الباب الأول
عظم شأن القرآن
اعلم أن الله تعالى عظم شأن القرآن، وفصل بيانه بالنظم العجيب والتأليف الرصيف على سائر الكلام، وإن وافقه في مبانيه، ومعانيه ثم أودعه من صنوف الحكم، وفنون الآداب والعذر، وجوامع الأحكام والسير، وطرائف الأمثال والعبر، ما لا يقف على كنهه ذوو القرائح الصافية، ولا في بعد فوائده أولو المعارف الوافية، وإن تلاحقت آلاتهم، وتوافقت أسباب التفهم والافهام فيهم، فترى المشتغل به المتأمل له، وقد صرف فكره إليه، وقصر ذكره عليه، قد يجد نفسه أحياناً فيه بصورة من لم يكن سمعه، أو كان بعد السماع نسيه استغراباً لمراسمه، واستجلاء لمعالمه، وذلك أنه تعالى لما أنزله ليفتتح بتنزيله التحدي به إلى الأبد، ويختتم بترتيله وآدابه البذارة إلى انقضاء السند، على ألسن الرسل، جعله من التنبيهات الجلية والخفية، والدلالات الظاهرة والباطنة ما قد استوى في إدراك الكثير منها العالم بالمقلد، والمتدبر، والمهمل.
وإن كان في أثنائه أغلاق لا تتفتح الأشياء بعد شيء بأفهام ثاقبة، وفي أزمان متباينة، ليتصل أمد الإعجاز به إلى الأجل المضروب لسقوط التكليف، ولتجدد في كل أوان بعوائده وفوائده ما يهيج له بواعث الأفكار، ونتائج الاعتبار، فيتبين ثتاؤه الراسخ المتثبت، والناظر المتدبر عن قصور الزائغ المتطرف وتقصير الملول الطرف. لذلك اختلفت الفرق، واستحدثت المذاهب والطرق، فكل يطلب برهانه على صحة ما يراه منه، وإن ضل عن سواء السبيل من ضل لسوء نظره وفساد تأنيه، وعدو له عن منهاج الصحابة والتابعين وصالحي الأسلاف، فلما كان أمر القرآن الحكيم على ما وصفت، وكان الله تعالى فيما شرع من دينه وحد عليه من عبادته، ودعا إليه من تبين صنعه وتنبه ما أقامه من أدلته. قال (خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين(، مبيناً أنه اخترعها بما يشتمل عليه حقاً لا باطلاً وحتماً لا عبثاً لتوفر على طوائف خلقه منافعها، ومثبتها من يصدق بالرسل، ويميز جوامع الكلم على بعد غورها في قضايا التحصيل وتراجع الأفهام، والأوهام عن تقصي مأخذها بأوائل التكليف.
ثم كرر ذكرها في مواضع كثيرة في جملتها ما يقتضي الكشف عن نظومها وتصاريفها لما يكشفها من الغموض، وكان مبنى التأليف الذي هو مبني على كتب لا يتم من دون الكلام عليها بترتيبه، بأن جعلتها مقدمة ثم تجاوزت إلى ما سواها والله المعين على تسهيل المراد منه بمنه. فمن ذلك قوله تعالى: )وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم يقول، وصف الله تعالى نفسه فيما بسط من كلامه هنا بفصول أربعة، كل منها عند التأمل جملة مكتفية بنفسها عن غيرها، ودالة على كثير من صفاته التي استبد بها.
فالفصل الأول قوله تعالى: )وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق(، والمعنى في قوله: بالحق، أن الحكمة البالغة أوجبت ذلك، ففطرها ليدل على نفسه بها ويظهر من آثاره العجيبة فيها ما تحقق إلهيته وتثبت قدمه، وربوبيته ويظهر أن ما سواه مدبر مخلوق ومسخر مقهور، وأنه الحق تتم له ما أحدثه، وأنشأه لا بباطل، ووجبت له العبادة من خليقته بقول فصل لا بهزل، فحجته بينة وآياته محكمة، لا تخفى على الناظر، ولا تلتبس على على المتأمل المباحث إذ كانت الأبصار لا تدركه، والحواس لا تلحقه، فعرف عباده قدرته، وألزمهم بما غمرهم من منافعه ونعمة عبادته، فلا مانع لما منح، ولا واهب لما ارتجع، أو حرم تسليماً لأمره ورضى بحكمه.(1/1)
والفصل الثاني قوله: )ويوم يقول كن فيكون قوله الحق(، سورة الأنعام، الآية: 73 قوله: ويوم نصب على الظرف، والعامل فيه ما يدل عليه قوله الحق، ولا يجوز أن يكون قوله: يقول لأنه قد أضيف اليوم إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وقوله: معطوف على يقول، وما بعد القول، وهو جملة تكون حكاية في كلامهم، وكن في موضع المفعول ليقول، وقد أبان الله هذا المعنى في قوله: )إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون( سورة النحل الآية: 4 لآن معنى الحكاية ظاهر فيه ومفهوم منه، وإذا كان الأمر على هذا فقوله: كن، حكاية، والمعنى فيه إيجاب خروج الشيء المراد من العدم إلى الوجود. وقوله: فيكون بيان حسن المطاوعة من المراد وتكونه، وليس ذلك على أنه مخاطبة المعدوم، ولكن الله تعالى أراد أن يبين على عادة الآمرين إذا أمروا كيف يقرب مراده أمراً، فأخرج اللفظ على وجه يفهم منه ذلك، إذ كان لا لفظ في تصوير الاستعجال، وتقريب المراد أحضر من لفظة كن فاعلمه. وتلخيص الآية وإذا كان يوم البعث والنشر والسوق إلى الحشر يوجب وقوع المكون بقولنا: كن، فيقع بحسب الإرادة لا تأخير فيه ولا تدافع لأن حكمنا فيه المحقوق الذي لا يبدل، ولأن الملك فيه للملك الذي لا يغالب ولا يمانع، فقوله في الفصل الأول: بالحق أي بما وجب في الحكمة وحسن فيها. وقوله في الفصل الثاني قوله الحق أي المحقوق الذي لا يحول ولا يغير إذ كان البدء لا يجوز عليه، وأوائل الأمور في علمه كأواخرها.
والفصل الثالث قوله: )وله الملك يوم ينفخ في الصور(، سورة الأنعام، الآية: 73، يريد به أنه في ذلك الوقت متفرد بتدبير الفرق والأمم وتنزيلهم منازلهم من الطاعة والمعصية، كما أبدأهم فكما كان تعالى الأول لقدمه يكون الآخر لبقائه، لا مشارك له، ولا مؤازر، وأبين منه قوله في موضع آخر: )ولمن الملك اليوم لله الواحد القهار( سورة غافر، الآية: 16، وهذا حال المعاد، والمعنى إذا أردنا سوقهم بعد الإماتة للنشر لم يخف علينا شيء من أحوالهم لأنا نملكهم، فأمرنا حتم لا تخير وفور لا تأخير، والإحصاء يجمعهم، والإدراك يعمهم. وقوله: )ويوم ينفخ في الصور( سورة الأنعام الآية: 73، لم يشر به إلى وقت محدود الطرفين ولكن على عادة العرب في ذكر الزمان الممتد الطويل باليوم، فهو كما يقال: فعل كذا في يوم فلان، وعلى عهد فلان.
الفصل الرابع: قوله: )عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير(، سورة الأنعام، الآية: 73 يريد أنه لا يخفى عليه ما فيه لأنه العالم لنفسه فلا يغرب عنه أمر، والغائب عنده كالحاضر والبعيد كالقريب وهو حكيم فيما يمضيه عليم فيما يقضيه. لا يذهب عليه شيء من أحوال عباده، ومن مواعيده فيحشرهم جميعاً، ويوفيهم مستحقهم موفوراً.
ومنه قوله تعالى: )وآية لهم الليل نسلخ منه النهار(، سورة يس الآية: 37 إلى يسبحون، قوله: نسلخ منه النهار أي نخرجه منه إخراجاً لا يبقى معه شيء من ضوء النهار، ألا ترى قوله في موضع آخر: )آتيناه آياتنا فانسلخ منها( سورة الأعراف، الآية: 175، وفي هذا دلالة بينة على ما تذهب إليه العرب من أن الليل قبل النهار لأن السلخ والكشف بمعنى واحد يبين ذلك أنه يقال: كشطت الإهاب، والجلد عن الشيء، وسلخته أي كشفته، والسلاخ الإهاب نفسه، وسلخت المرأة درعها نزعته، وسلخت الشهر: صرت في آخر يوم منه، وسلاخ الحية جلدها، وإذا كان ذلك، وكان الله تعالى قال: )الليل نسلخ منه النهار، والمسلوخ منه يكون قبل المسلوخ فيجب أن يكون الليل قبل النهار، كما أن المغطى قبل الغطاء قوله: فإذا هم مظلمون أي داخلون في الظلام يقال: أظلم الليل إذا تغطى بسواده، وأظلمنا دخلنا في ظلمات، وهذا كما يقول. أجنبنا وأشملنا أي دخلنا في الجنوب والشمال، وأنجدنا، وأتهمنا أي أتيناهم، ثم قال: (والشمس تجري لمستقر لها(، سورة يس الآية: 38 وهذا يحتمل وجوهاً من التأويل.
أن يكون المراد جريها لاستقرار يحصل له إذا أراد الله وقوفها للأجل المضروب لانقضاء وقت عادتها في الطلوع والأفول.(1/2)
أن يكون المراد بالمستقر وقوفها عنده تعالى يوم القيامة، والشاهد لهذا قوله في آية أخرى: (كلا لا وزر، إلى ربك يومئذ المستقر) سورة القيامة، الآية: 10 11 فهو كقوله في غير موضع: (ثم إليه مرجعكم(، (وإلى الله ترجع الأمور) سورة الحديد، الآية: 1 (وإليه ترجعون) سورة البقرة، الآية: 245.
أن يكون المعنى أنها لا تزال جارية أبداً ما دامت الدنيا تظهر وتغيب بحساب مقدر كأنها تطلب المستقر الذي علمها صانعها فلا قرار لها ويشهد لهذا الوجه قراءة من قرأ والشمس تجري لا مستقر لها، وذلك ظاهر بين يوضحه قوله تعالى بعقبه: (ذلك تقدير العزيز العليم) سورة يس الآية: 38، أي تقدير من لا يغالب في سلطانه ولا يجاذب على حكمته، قوله: (والقمر قدرناه) سورة يس الآية: 39، الآية. برفع القمر على، وآية لهم الليل وإن شئت على الابتداء، وينصب على، وقدرناه والعرجون عود لعذق الذي تسمى الكباسة تركبه الشماريخ مثله الأثكول والعثكول من العذق، فإذا جف وقدم دق وصغر وحينئذ يشبهه الهلال في أول الشهر وآخره.
وقال أبو إسحاق الزجاج: وزنه فعلول لأنه من الانعراج، وقال غيره: هو فعلول لأنه كالفثلول، ومعنى الآية وقدرنا القمر في منازله الثمانية والعشرين، وفي مأخذه من ضوء الشمس، فكان في أول مطلعه دقيقاً ضئيلاً، فلا يزال نوره يزيد حتى تكامل عند انتصاف الشهر بدراً، وامتلائه من المقابلة نوراً، ثم أخذ في النقصان بمخالفته لمحاذاة، وتجاوزه لها حتى عاد إلى مثل حاله الأولى من الدقة والضؤلة وذلك كله في منازله الثمانية والعشرين لأنه ربما استتر ليلة، وربما استتر ليلتين فمشابهة الهلال للعرجون في المستهل والمنسلخ صحيحة.
فأما قوله: حتى عاد فكأنه جعل تصوره في الآخر بصورته الأولى في الدقة مراجعة، ومعاودة. والقديم يراد به المتقادم كما قال في قصة يعقوب عليه السلام: (إنك لفي ضلالك القديم(، سورة يوسف، الآية: 95 وقال الفراء القديم يقال لما أتى عليه حول. وقيل أيضاً: معنى عاد صار، ويشهد لذلك قول الشاعر:
أطعت العرس في الشهوات حتى ... تعود لها عسيفاً عبد عبد
ولم يكن عسيفاً قط، وقال امرؤ القيس:
وماء كلون البول قد عاد آجناً ... قليل به الأقوات ذي كلأ مخل
أي صار، وقال الغنوي:
فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إلي فقد عادت لهن ذنوب
قوله: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) سورة يس الآية: 40 يعني ينبغي لها.
أي: لو كانت تطلب إدراك القمر لما حصلت لها بغيتها، ولا ساعدتها طلبتها يقال: بغيت الشيء، فانبغى لي. أي طلبته، فأطلبني، وإذا لم ينبغ لها لو طلبت، فيجب أن لا يحصل الفعل منها البتة، لأن الإدراك معناه اللحوق وسببه الذي هو البغاء ممنوع فكيف يحصل للسبب؟ وأيضاً فإن سرعة سير القمر وزيادته على سير الشمس ظاهر فهو أبداً سابق لها بسرعته، وتلك متأخرة لبطؤها، وقوله: (ولا الليل سابق النهار) سورة يس الآية: 40 محمول على وجهين.
الأول: أن يكون المعنى بالسبق أول إقباله وآخر إدبار النهار.
والثاني: أن يكون المعنى آخر إدبار النهار وأول إقبال الصبح، وسبق الليل النهار بإقباله أن يقبل أول الليل قبل آخر إدبار النهار وهنا ما لا يكون.
وأما سبقه إياه لإدباره، فإن سبق آخر إدبار الليل أول إقبال الصبح قبل كونه، وهذا أيضاً لا يكون، ولا يجوز كونه لأنهما ضدان يتنافيان ويتعاقبان فلذلك لم يجر سبق الليل النهار في شيء من أحواله.(1/3)
وقيل معنى: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) أي ليس لها أن تطلع ليلاً، ولا القمر له أن يطلع نهاراً لأن لكل منهما شأناً قدر له ووقتاً أفرد به، فلا يقع بينهما زاجر فيدخل أحدهما في حد الآخر قوله: )وكل في فلك يسبحون(، سورة يس الآية: 40 أي كل واحد منهما له فلك يدور فيه فلا يملك انصرافاً عنه ولا تأخراً إلى غيره، ولفظ الفلك يقتضي الاستدارة أي وكل له مكان من مسبحه مستدير يسبح فيه أي يسير بانبساط، ومنه السباحة، وقال تعالى لنبيه: )إن لك في النهار سبحاً طويلاً) سورة المزمل الآية: 7 ولا يمنع أن يكون يشير بقوله: في فلك إلى الذي هو فلك الأفلاك، وإذا جعل على هذا فهو أبهر في الآيات وأدل على اقتدار صانعه وإنما قال: يسبحون لأنه لما نسب إليها على المجاز والسعة أفعال العقلاء المميزين جعل الإخبار عنها على ذلك الحد، ومثله: )رأيتهم لي ساجدين) سورة يوسف، الآية: 4 وهذا كثير.
ومنه قوله تعالى: )وجعلنا الليل والنهار آيتتين) سورة الإسراء، الآية: 12 الآية نبه بهذه الآية، وبقوله إن عدة الشهور الآية على نعمه على خلقه فيما إن شاء حالاً بعد حال لهم، وابتدعه وما عرف مصالحه وقتاً بعد وقت، فيما قدر لهم فكر وذكر ونصب للحاضرة والبادية من الأعلام والأدلة بالمنازل والأهلة، ومطالع النجوم السيارة وغير السيارة حتى جعلت مواقيت وأجالاً، ومواعيد، وآماداً، فعرفوا حلالها وحرامها ومسالمها ومعاديها وذا العاهة منها مما لا عاهة معها، وتبينوا بطول التجارب أضرها أنواء، وأعودها أمطاراً، وأعزها فقداناً، وأهونها أخلاقاً، فأخذوا لكل أمر أهبته، ولكل وقت عدته، إلى كثير من المنافع والمضار التي تتعلق باختلاف الأهواء وتفاوت الفصول والأوقات، ومن تدبر قوله: )وجعلنا الليل والنهار آيتين) سورة الإسراء، الآية: 12 ثم فكر في تميز أحدهما عن الآخر باختلاف حالهما في النور والظلمة، والطهور والغيبة، ولماذا صارا يتناوبانه في أخذ كل واحد منهما من صاحبه، ويتعاقبان في إصلاح ما به مصالح عباده وبلاده؟ وكيف يكون نمو القمر من استهلاله إلى استكماله ونقصه، وانمحاقه من ليالي شهره وأيامه؟ وأنى يكون اجتماع الشمس وللقمر، وافتراقهما، وتساويهما، وتباينهما، ظهر من حكمة الله تعالى له إذا تدبره، ورد آخره على أوله، وولي كل فصل منه ما هو أولى به.
ثم سلك مدارجها، وتتبع بالنظر معالمها ومناهجها أداه الحال إلى أن يصير من الراسخين في العلم به تعالى وبمواقع نعمه، وآثار ربوبيته، ألا ترى أنه لو جعل الليل سرمداً، أو جعل النهار أبداً لانقطع نظام التعايش، وانسدت أبواب النمو والتزايد، وتأدى انقلاب التدبر إلى ما شرحه بتعذر فسبحانه من حكيم رؤوف بعباده رحيم.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نقصان القمر وزيادته، فأنزل الله تعالى أن ذلك لمواقيت حجكم، وعمرتكم، وحل ديونكم وانقضاء عدة نسائكم، وقوله تعالى: )آية الليل، وآية النهار(، إضافتهما على وجه التبيين والشيء، قد يضاف إلى الشيء لأدنى علاقه بينهما، قال تعالى: )فإن أجل الله لآت) سورة العنكبوت، الآية: 5. ولما كان هو المؤجل، وقال في موضع آخر: )فإذا جاء أجلهم) سورة الأعراف، الآية: 34 لما كان الأجل لهم، فكذلك قوله: )آية الليل، وآية النهار(، يعني الآية التي يختص بهما هذا في إضافة الغير إلى الغير.
فأما إضافة البعض إلى الكل فقولك: خاتم حديد، وثوب خز، فلا يمنع دخوله فيما نحن فيه، ويكون المعنى أن الآية الممحوة كانت بعض الليل، كما أن الخاتم، يكون بعض الحديد، كأن الليل ازداد بالمحو آيتها سواداً، ويقال دمنة ممحوة إذا درست آثارهما وآياتها، ويقال: محوت الشيء، أمحوه، وأمحاه وفي لغة علي محيته، وحكى بعضهم: محا الشيء ومحاه غيره، وكتاب ماح، وممحو ومحوة، اسم لريح الشمال لأنها تمحو السحاب، والمحوة المطرة التي تمحو الجدب ومن كلامهم تركت الأرض محوة إذا جيدت كلها.(1/4)
وقال بعضهم: يجوز أن يكون عنى بآية النهار الشمس، وبآية الليل القمر، وعنى بالمحو ما في ضوء القمر من النقصان، وحكي عن السلف أن المراد بالمحو الطخاء الذي في القمر قوله: )وجعلنا آية النهار مبصرة) سورة الإسراء، الآية: 12 هو على طريق النسبة أي ذات إبصار، وفي موضع آخر: )والنهار مبصراً) سورة يونس الآية: 67 أي مضيئاً وكما يقال هو ناصب أي ذو نصب، ويجوز أن يكون لما كان الإبصار فيها جعله لها، كما يقال رجل مخبت إذا صار أصحابه خبتاً، ونهاره صائم، وليله قائم.
وقال أبو عبيد يريد قد أضاء للناس أبصارهم، ويجوز أن يكون كقولهم: أصرم النخل أي أذن بالصرام، وأحمق الرجل إذا أتى بأولاد حمق وقوله: )ولتبتغوا فضلاً من ربكم لتعلموا عدد السنين والحساب) سورة الإسراء، الآية: 12 مثل قوله في موضع آخر: )جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً) سورة يونس، الآية: 67 ومثل قوله: )جعل الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً) سورة الفرقان، الآية: 47 وفي آخر: )وجعلنا النهار معاشاً) سورة النبأ، الآية: 11 ومثل قوله: )جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبغوا من فضله) سورة القصص، الآية: 73 وهذه الآي، وإن تشابهت في معانيها؟ فقد اختلفت تفاصيل نظومها، فقوله: )جعلنا الليل لباساً) أي يغشى كل شيء من الحيوان وغيره فيصير ذا دعة وسكون وانقطاع عما يعالجه في النهار لابتغاء الفضل فيه، )وجعلنا النهار معاشاً) أي وقت معاش، والمعاش، والمعيش ما أعان على الحياة به مما الحياة به، وليس الحياة قال أمية:
ما أرى من معيشي في حياتي غير نفسي
وقد قال أبو العباس محمد بن يزيد: ثم يرى تفسيرهما جملة ثقة بأن السامع يرد كلا إلى ماله يريد مثل قوله: )جعل لكم الليل والنهار) ثم قال: )لتسكنوا فيه ولتبتغوا) والسكون في الليل، والابتغاء في النهار، ومثله: )يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) سورة الرحمن، الآية: 22 وإنما هو من أحدهما، فإن قال قائل: ما تصنع على هذا بقول سيبويه لا يقول لقيته في شهري ربيع إذا كان اللقاء في آخره قال: وكذلك لا يجوز أن يقول في يومين، واللقاء في أحدهما. قلت: هذا الذي قال صحيح لأن ذكرك الشهر الذي لم يكن فيه اللقاء، فصل ولكن لو وصفت الشهرين بما يكون في واحد منهما فجمعت الصفة فيهما كان جيداً، وذلك قولك في الشتاء يكون المطر ويقعد في الشمس أي هذا وهذا، وكذلك شهري ربيع تأكل الرطب والتمر أي هذا في أحدهما، وهذا في أحدهما كما يقول: لو لقيت زيداً وعمراً لوجدت عندهما نحواً أو خطاً، إن كان النحو عند أحدهما، والخط عند الآخر فليس هذا بمنزلة الأول لأن اللقاء في أحد الشهرين والآخر لا معنى لذكره البتة.
قال أبو العباس: ومن ذلك قوله تعالى: )مرج البحرين يلتقيان(، سورة الرحمن الآية: 19، )بينهما برزخ لا يبغيان(، سورة الرحمن، الآية:20، ثم خبر بفضائلهما فقال: )يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) سورة الرحمن، الآية: 22، وإنما خرج من الملح لا من العذب ولكنه ذكرهما ذكراً واحداً فخبر بما يتضمنانه. وكذلك قوله: )ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله(، سورة القصص، الآية: 73، فالسكون في الليل والاكتساب في النهار، ولكن كما جمعهما في الذكر ابتداء جمعهما في الخبر انتهاء، افتناناً في النظم وتبحراً في السبك وثقة بأن اللبس عنه بعيد كيف رتب وفي قوله تعالى: )لتعلموا عدد السنين والحساب(، سورة الإسراء، الآية: 12، إشارة إلى التواريخ وضبط مبالغ الديون والمعاملات وآمادها ومواقيتها، وما فيه معاشهم ورياثهم وعليه تبتنى منافعهم ومصالحهم، وقد دخل تحت ما ذكرنا ما أشار تعالى إليه بقوله: )وكل شيء فصلناه تفصيلاً(، سورة الإسراء، الآية: 12، وإن كانت هدايته أبلغ، ومجامع بيانه من اللبس أبعد، فأما قوله تعالى من الآية الأخرى التي أوردتها مستشهداً بها جعل الليل لباساً أي للتودع والسكون يقال في فلان ملبس أي مستمتع.
قال امرؤ القيس شعراً:
ألا إن بعد العدم للمرء فنية ... وبعد المشيب طول عمر وملبسا
وقال ابن أحمر:
لبست أبي حتى تمليت عمره ... ومليت أعمامي ومليت خاليا(1/5)
ويجوز أن يريد باللباس الستر لأن الليل غطاء كل شيء وستره كما قدمنا، والأحسن، يدل على ذلك قوله تعالى: )أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) سورة البقرة، الآية: 187 وجعل العلة فيما أحل منهن لهم من الرفث إليهن الجميع لباساً أي مستمتعاً وقوله: )والنوم سباتاً أي راحة وأمناً ويقال: رجل مسبوت إذا استرخى ونام وسبت فلان العمل بالفتح إذا ترك العمل واستراح وانسبتت البسرة إذا لانت وقوله: )وجعل النهار نشوراً) سورة الفرقان، الآية: 47 مثل قوله: )إن لك في النهار سبحاً طويلاً(، سورة المزمل الآية: 7 أي ذهاباً وتصرفاً في طلب الرزق، ولما كان النشور في النهار جعله على المجاز نفسه، كقولك: فلان أكل وشرب على تقدير هو ذو أكل فحذف المضاف، أو لغلبة الفعل عليه، جعله كأنه الفعل على هذين الوجهين يحمل قوله شعراً:
ترتع مارتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
وهو يصف وحشية. قال بعض أصحاب المعاني النشور في الحقيقة الحياة بعد الموت بدلالة قوله شعراً:
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجباً للميت الناشر
وهو في هذا الموضع الانتباه من النوم والاضطراب من الدعة، وكما سمى الله تعالى نوم الإنسان وفاة بقوله تعالى: )الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) سورة الزمر الآية: 42 كذلك وفق بين إبقاء من الموت في التسمية بالنشور.
ومنه قوله تعالى: )ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) سورة الفرقان، الآية: 45 الآية قوله ألم تر لفظ استفهام وحقيقة البعث على النظر والمعنى انظر حتى تتعجب إلى ما مده الله من الظل وإنما قلنا هذا لأن المد مدرك متبين وتبين كيفيته يبعد في الوهم فكيف في الإدراك فلا يعلمه إلا الله وهذا على عادتهم في التفاهم بينهم يقولون: أرأيت كذا؟ والمراد أخبرني وأرأيتك وألم تر كذا وهل رأيت كذا، ولم تر إلى كذا، وألم تر كيف كذا؟ والفصل في أكثره أن تعق المخاطب على ما تجب منه من المدعو إليه، وقد استعمل هل رأيت معدولاً به من حيث المعنى على ظاهره أيضاً؟ وذلك كقول القائل: متى إذا جن الظلام، واختلط جاءوا بمذق؟ هل رأيت الذئب قط؟ ويسمى مثل هذا التصوير لأن المعنى جاؤوا بمذق أورق فصوروا الورقة بلون الذئب، فأما قوله تعالى: )ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) سورة البقرة، الآية: 258 فمعناه أرأيت كالذي حاجه بين ذلك ما عطف عليه من بعد لأنه تعالى قال: )أو كالذي مر على قرية) سورة البقرة، الآية: 259 لأن المعنى على ذلك، والكلام جار على التعجب، ولفظة إلى تأتي إذا حملت أرأيت على النظر.
فأما قوله تعالى: )ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) سورة الفيل، الآية: 1 فالمعنى ألم تعلم ولا يحتاج إلى ذكر إلى.
والمراد بالظل عند بعضهم الذي يكون بعد طلوع الفجر في انبساط وقبل طلوع الشمس وظهورها على الأرض، وقد قال أهل اللغة في الفرق بين الظل والفيء إن الظل يكون بالغداة والعشي، والفيء، لا يكون إلا بالعشي لأنه اسم للفيء فاء من جانب إلى جانب. ومنه قولهم فيء المسلمين للغنائم والخراج الراجعة إليهم. وقد جاء ما يفيد فائدته في صفة الظل في مواضع، منها أكلها دائم وظلها. ومنها قوله: )وظل ممدود، فجعل ما في الجنة ظلالاً فيئاً، وكان رؤبة يقول: الظل ما لم تنسخه الشمس، وهو أول والفيء ما نسخته الشمس، وهو آخر، وقالوا: الظل بالغداة والعشي، والفيء بالعشي، وقيل أيضاً: الظل يكون ليلاً ونهاراً، والفيء لا يكون إلا بالنهار، وما نسخته الشمس ففيء وكان في أول النهار فلم تنسخه الشمس، وقيل الظل لليل في كلام العرب قال:
وكم هجرت وما أطلقت عنها ... وكم ربحت وظل الليل دان
فجعل لليل ظلاً وقول الآخر وتفيئوا الفردوس ذات الظلال، اتساع أيضاً لأنه جعل للأفياء ظلالاً فأما قوله شعراً:
فلا الظل من برد الضحى نستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي نذوق(1/6)
فقد فصل بينهما قوله: )ولو شاء لجعله ساكناً) سورة الفرقان، الآية: 45 سئل عنه متى كان متحركاً فقيل: معنى السكون ها هنا الدوام والثبات، ألا ترى أنك تقول للماء الساكن الواقف ماء دائم وراكد ويمكن أن يقال: إن الساكن ها هنا من السكنى لا من السكون أي لو شاء لجعله ثابتاً لا يزول كما أن سكنى الرجل الدار يكون إذا قام وثبت. وقوله )ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً(، سورة الفرقان، الآية: 45 يراد به أنه لولا الشمس لما عرف الظل، فالله تعالى يقبضه ويبسطه في الليل والنهار، وعلى هذا يكون الدليل بمعنى الدال.
وقال بعضهم المعنى دللنا الشمس على الظل حتى ذهبت به ونسخته أي أتبعناها إياه قال ويدلك على ذلك قوله: )ثم فبضناه إلينا قبضاً يسيراً) سورة الفرقان، الآية: 46 أي شيئاً بعد شيء فعلى طريقته يكون دليلاً فعيلاً في معنى مفعوله لا في معنى الدال، وروي عن الحسن أنه كان يقول: يا بن آدم أما ظلك فسجد لله، وأما أنت فتكفر بالله.
وقال بعضهم: وقد أحسن ما قال: الظل من آيات الله العظام الدالة بإلزامه الإنسان منه ما لا يستطيع انفكاكاً عنه، فدل بذلك على لزوم القمر له ولسائر الخلق قال الله تعالى: )أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون) سورة النحل، الآية: 48 فظلال الأشياء تمتد عند طلوع الشمس من المشرق طولاً ثم على حسب ارتفاع الشمس في كبد السماء تقصر حتى ترجع إلى القليل الذي لا تكاد تحس وحتى يصير عند انتصاف النهار في بعض الزمان بمنزلة النعل للابسها، ثم يزيد في المغرب سيئاً شيئاً حتى تطول طولاً مفرطاً، قبيل غروب الشمس وإلى غروبها. ثم يدوم الليل كله ثم يعود في النهار إلى حاله الأولى، فالشمس دليل عليه لولا الشمس ما عرف الظل بقدرته القاهرة يقبضه ويبسطه في الليل والنهار. وإنما قال: )قبضاً يسيراً) لأن الظل بعد غروب الشمس لا يذهب كله دفعة واحدة، ولا يقبل الظلام كله جملة واحدة، وإنما يقبض الله تعالى ذلك الظل قبضاً خفياً وشيئاً بعد شيء، ويعقب كل جزء منه بقبضه بجزء من سواد الليل حتى يذهب كله، فدل الله على لطفه في معاقبته بين الظل والشمس والليل ومن كلامهم وردته والظل عقال وطباق وحذاء. وقال:
ولو احقت أخفافها طبقاً ... والظل لم يفضل ولم يكر
أي لم ينقص، ويقولون: لم يزل الظل طارداً أو مطروداً، ومحولاً، وناسخاً، ومنسوخاً وسارقاً، ومسروقاً، وكل الذي ذكرت عند التحصيل بيان وتفصيل لما أجمل فيما قدمته، وسيجيء من صفات الظل وأسمائه في بابه ما تزداد به أنساً بما ذكرناه.
وأما قوله تعالى: )أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء(، سورة النحل، الآية: 48 الآية فقوله: من شيء من دخلت للتبيين كدخولها مع المعرفة في قوله: )فاجتنبوا الرجس من الأوثان، سورة الحج، الآية: 30، والمعنى من شيء له ظل كالشخوص، ومن هذه قد تجيء مع النكرة فتلزم ولا تحذف تقول: من ضربك من رجل وامرأة فاضربه. هذا في الجزاء كقوله تعالى: )أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء) وإنما كرهوا حذف من لأنهم خافوا أن يلتبس الكلام بالحال. إذا قلت إلى ما خلق الله شيئاً، ومعنى الحال ها هنا بعيد فألزموه من ليعلم به أنه تفسير وتبيين لما قد وقع غير مؤقت يكشف هذا أنك لو قلت: لله دره من رجل، جاز أن يقول: لله دره رجلاً، ومن رجال فإنك قد أمنت الالتبالس بالحال إذا لم يكن ذلك موضعه.(1/7)
فأما قولك: لله درك قائماً، فإنما جاز سقوط من لأن الذي قبله مؤقت فلم يبال التباسه بالحال، قوله تعالى: )يتفيئوا ظلاله عن اليمين والشمائل) سورة النحل: الآية 48 معناه ما قدمته في بيان قوله تعالى: )كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً) سورة الفرقان، الآية: 45 وكشفه أن جميع ما خلقه عز وجل ظله يدور معه ويمتد لا ينفك منه حتى لو رام انسلاله من دونه لما قدر عليه يصحبه مقبلاً ومدبراً، وكيف مال زائداً عليه وناقصاً منه ليذكره عجزه، ويصور له أنه على تصرفه المتين في لزام أضعف قرين وذلك تفيؤة أي ترجعه يمنة ويسرة ومتنعلاً من تحت، ومعتلياً من فوق على حسب اختلاف الأحوال، فيكون للأشخاص فيء عن اليمين والشمائل إذا كانت الشمس على يمين الشخص، كان الفيء عن شماله، وإذا كانت على شماله كان الفيء عن يمينه، وقيل: أول النهار عن يمين القبلة، وفي آخره عن شمال القبلة، ومعنى قوله: )سجداً لله وهم داخرون) سورة النحل، الآية: 48 إنها بآثار الصنعة فيها خاضعة لله تعالى، وذكر السجود قد جاء في هذا المعنى في غير هذا الموضع قال: غلب سواجد لم يدخل بها الحصر، وقال آخر:
بجمع تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
والمراد الاستسلام بالتسخير والانقياد.
فأما قوله تعالى: )وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين) سورة الكهف، الآية: 17 بعد أن قال: )فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا) سورة الكهف، الآية: 11 فمعنى ضربنا على آذانهم أي امتناهم، ومنعناهم الإدراك، ويقال في الجارحة: إذا أبطلتها ضربت عليها، وفي الممنوع عن التصرف في شيء ضربت على يده، ومعنى تزاور، وتزور تنحرف عنهم، أي تطلع على كهفهم ذات اليمين ولا تصيبهم، والعرب تقول: قرضته ذات اليمين، وقرضته ذات الشمال، وقرضته قبلاً وقرضته دبراً، وحذوته ذات اليمين وذات الشمال إي كنت بحذائه من كل ناحية، وأصل القرض القطع أي تعدل عنهم وتتركهم.
وقيل: إن باب الكهف كان بإزاء بنات نعش فلذلك لم يكن الشمس تطلع عليه وإنما جعل الله تعالى ذلك آية فيهم، وهو أن الشمس لا تقربهم في مطلعها ولا عند غروبها. وقال الله تعالى: )والنجم والشجر يسجدان) سورة الرحمن، الآية: 6 وقد بين الله المراد بما ذكرنا في آية أخرى فقال تعالى: )ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال) سورة الرعد، الآية: 15 يريد الانقياد في الطاعة من الملائكة والمؤمنين في السماوات والأرضين، وأنه يستسلم من في الأرض من الكافرين كرهاً وخوفاً من القتل، وظلالهم بالغدو، والآصال يؤدي ما أودع من آيات الحكم وغرائب الأثر فسبحانه من معبود حقت له العبادة من كل وجه، وعلى كل حال فلا يتوجه إلا إليه وإن قصد بها غيره، ولا تليق إلا به دون من سواه والداخر: الصاغر، ويقال: تفيأت الشجرة بظلها إذا تميلت. فأما قوله شعراً:
تتبع أفياء الظلال عشية ... على طرق كأنهن سبوب
فإنما أضاف الأفياء إلى الظلال لأنه ليس كل ظل فيئاً، وكل فيء ظل، وتحقيق الكلام الكلام تتبع ما كان فيئاً من الظلال، ومثله في الاتساع قول الآخر:
لما نزلنا نصبنا ظل أخبية ... وفاز باللحم للقوم المراجيل
لأن المنصوبة هي الأخبية، ويقال: أظل القوم عليهم أي أوقعوا عليهم ظلالهم، وإنما قال: وهم داخرون، لأن المنسوب إليها من أفعال العقلاء، فأعيرت عبارتهم، وقد مضى مثل هذا.
ومنه قوله تعالى: )فسبحان الله حين تمسون(، سورة الروم، الآية: 17 إلى تظهرون.
اعلم أن قولك: سبحان مصدر كقولك: كفران، وغفران إلا أن فعله لم يستعمل، ولو استعمل لكان سبح مثل كفر وغفر، ومعناه التبعيد من أن يكون له ولداً، ويجوز الكذب عليه والتنزيه له، والبراءة من السوء وكل ما ينفي عنه إلا أنه التزم موضعاً ولم يجر مجرى سائر المصادر في التصرف والاستعمال. وذلك أنه لا يأتي إلا منصوباً مضافاً وغير مضاف، لكنه إذا لم يضف ترك صرفه فقيل: سبحان من زيد، قال الأعشى شعراً:
أقول لما جاءني فخر ... فسبحان من علقمة الفاخر(1/8)
فلم يصرفه لأنه معرفة في آخره ألف ونون زائدتان فهو كعثمان، وسفيان كأنه أجرى مجرى الإعلام في هذا، وهم يحملون المعاني على الذوات في تخصيصها بأشياء كالأعلام لها، وعلى ذلك أسماء الأفعال، فأما قولهم: سبح تسبيحاً، فهو فعل بني على سبحان، ومعنى سبح الله، أي قال: سبحان الله فهو عروض قولهم: بسمل إذا قال بسم الله، وقد أطلق سبح في وجوه سوى هذا.
منها الصلوة النافلة يشهد لهذا قوله تعالى: )فلولا أنه كان من المسبحين) سور الصافات، الآية: 143 أي من المصلين، وهو مستفيض أن السبحة هي النافلة، وكان ابن عمر يصلي سبحته في موضعه الذي يصلي فيه المكتوبة.
ومنها الاستثناء كقوله تعالى: )قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون) سورة القلم الآية: 28 أي لولا تستثنون. وقيل: هي لغة لبعض أهل اليمن وليس للكلام وجه غيره لأنه تعالى قد قال: قبل ذلك.: )إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، ولا يستثنون) سورة القلم، الآية: 1718 ثم قال: )قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون) سورة القلم، الآية: 28 فأذكرهم تركهم الاستثناء، والمراد من الله تعالى أن يعرفنا عبادته ويعلمنا حمده وما يستحق به إذا أقمناه وكأنه قال: سبحوا الله في هذه الأوقات وتذكروا في كل طرف منها ما يجدد عندكم من أنعامه، ثم قابلوا عليه بمقدار وسعكم من الحمد والتسبيح. قوله: حين تمسون وحين تصبحون أي إذا أفضيتم إلى الصباح والمساء وحق النظم أن يكون حين تمسون وحين تصبحون وعشياً وحين تظهرون، لكنه اعترض بقوله تعالى: )له الحمد في السموات والأرض) سورة الروم، الآية: 18 ومثل هذا الاعتراض إلا أنه أبين الفعل والفاعل قوله شعراً:
وقد أدركتني والحوادث جمة ... أسنة قوم لا ضعاف ولا نكل عزل
وفي القرآن: )فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم وإنه لقرآن كريم) سورة الواقعة، الآية: 757677 ففصل بين اليمين وجوابها كما ترى، وحسن ذلك لأن المعترض يؤكد المعترض في الأول، والحمد إذا اقترن بالتنزيه والتسبيح صار الأداء أوفر بهما وأبلغ، والصبح، والصباح، والإصباح كالمسي، والمساء، والإمساء، وهذا مما حمل فيه النقيض على النقيض، وعلى هذا المصبح والممسي، وجاء فالق الإصباح، ويعني به الصبح وصبحت القوم أتيتهم صباحاً، أو ناولتهم الصبوح، ويقولون: يا صباحاه إذا استغاثوا، والمصباح السراج، واصطبحت بالزيت، والصباح قرط المصباح الذي في القنديل والعشي آخر النهار، فإذا قلت عشية: فهي ليوم واحد، والعشي السحاب لأنه يغشى البحر بالظلام الذي يتلخص به الآية أن يعلم أن المساء منه ابتداء الظلمة كما يكون من الصبح ابتداء النور، والظهيرة نصف النهار، وفلان يرد الماء ظاهرة إذا ورد كل يوم نصف النهار يقول، فعلموا الله تعالى بما يدل عليه آياته في الصباح والمساء، والغدو، والرواح فإن في معنى كل لمحة من هذه الأوقات بما يحويه من غرائب صنع الله في تبديل الأبدال، وتحويل الأحوال وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل إيجاب شكره علينا معشر عبيده مؤتنف وإلزام حمده ببقاء الزمان متصل قوله تعالى: )وله الحمد في السماوات والأرض) سورة الروم، الآية: 18 يريد به في أهل السماوات والأرض، فهو على حذف المضاف كقوله تعالى: )واسأل القرية) والمراد أهلها، والمعنى أنه محمود في كل مكان وبكل لسان.
وذكر بعض المفسرين أن قوله: )فسبحان الله حين تمسون) سورة الروم، الآية: 17 الآية دالة على أوقات الصلاة، وهذا سائغ وإن كانت الفوائد فيما ذكرناه أعم وقد قال الله تعالى في موضع آخر: )أقم الصلاة لدلوك الشمس) سورة الإسراء، الآية: 78 الآية، منبهاً على أوقات الصلاة مجملاً، وتاركاً تفصيلها وبيانها للنبي صلى الله عليه وسلم والدلوك مختلف فيه فمنهم من يجعله الزوال ومنهم من يجعله الغروب، وهذا كما اختلفوا في الآية الأخرى وهي: )حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) سورة البقرة، الآية: 238 فمنهم من قال: أراد بالوسطى العصر، ومنهم من قال: أراد بها الفجر ويجوز أن يكون المفروض بقوله: )أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) سورة الإسراء، الآية: 78 أربع صلوات في النهار صلاتان: الظهر والعصر، وفي الليل صلاتان: المغرب والعشاء الآخرة.(1/9)
وقوله تعالى: )كان مشهوداً) سورة الإسراء، الآية: 78 أي يشهده الملائكة، ويجوز أن يكون المراد حقه أن يشهد، والغسق الظلمة. فأما اختصاص السموات والأرض بالذكر من بين الأشياء كلها فلشمولها لكل مخلوق، ومثله قوله تعالى: )وهو الله في السموات والأرض يعلم سركم وجهركم) سورة الأنعام، الآية: 3 والمعنى وهو الذي يحق له العبادة، وإذا كان كذلك فكل مذكور معلوم داخل فيهما، ويكون قوله: )يعلم سركم وجهركم) سورة الأنعام، الآية: 3خبراً ثانياً أي هو إله في الأرض كما هو إله في السماء لا يخفى عليه خافية.
ويحتمل أن يكون المراد وهو الله في السموات أي هو معبود فيها، وقد تم الكلام ويكون قوله: )وفي الأرض يعلم سركم وجهركم) سورة الأنعام، الآية: 3 على أنه خبر والمراد أنه معبود في جميع ذلك عالم بالسر والجهر. وقيل في قوله تعالى: )وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) سورة الزخرف، الآية: 84 أن الخلق يؤلهون إليه أي يفزعون في الشدائد إليه مستعينين به وأهل الأرض متساوون في حاجتهم إلى رحمته وجميل تفضله. فأما قوله: )في السماء إله وفي الأرض إله) سورة الزخرف، الآية: 84 فإله مشترك غير مخصوص وجاز فيه الجمع كما جاء: إجعل الآلهة إلهاً واحداً.
وكما قال: إجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وهو يعمل عمل الفعل، ألا ترى أن قوله: )وهو الذي في السماء إله) الظرف فيه متعلق بما في الإله من معنى الفعل وفي تقديره وإعرابه عدة وجوه: منها أن يقال: إن العائد إلى الذي محذوف كأنه قال: وهو الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله، وساغ حذف العائد بطول، وهي قوله في السماء إله وفي الأرض إله، وهذا كما حكى عنهم ما أنا بالذي قائل لك شيئاً، وقد قال الخليل: إني أستحسنه إذا طال الكلام فهذا وجه، ويجوز أن يقال: إنه مرتفع بالابتداء وخبره في السماء وفي الأرض والعائد إلى الذي هو الذي يعود إلى إله لأن الذي هو في المعنى والحمل على المعنى مذهب أبي عثمان، وقال مع ذلك لولا كثرته لرددته، ومثله قول القائل: أنت الذي فعلت، وقوله: أنا الذي سمتني أمي حيدره والقياس فعال، وسمته وقوله: )وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم) سورة الأنعام، الآية: 3 الظرف لا يتعلق بالأسم أعني لفظة الله على حد ما يتعلق بإله إلا على حد ما ذكره لك، وهو أن الاسم لما عرف منه معنى التدبير للأشياء وإبقائها بحفظ صورها في نحو: أن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا، ونحو: ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ونحو: أمن جعل الأرض قراراً، وجعل خلالها أنهاراً، صار إذ ذكر كأنه ذكر المدبر والحافظ فيجوز أن يتعلق الظرف بهذا الذي هو الاسم العالم بعد أن صار مخصوصاً وفي حكم أسماء الأعلام التي لا معنى فعل فيها، فهذا بمعنى الاسم، وما كان يدل عليه من قبل من معنى الفعل.
وعلى هذا تقول: هو حاتم جواداً، وهو أبو حنيفة فقيهاً، وهو زهير شاعراً، فتعلق الحال مما دخل في هذه الأسماء من معنى الفعل لاشتهارها بهذه المعاني، فلا ترى أنك لا تقول: هو زيد جواداً ما لم يعرف بذلك وعلى هذا تقول: هو حاتم كل الجواد، وهو أبو حنيفة كل الفقيه.(1/10)
ومنه قوله تعالى: )إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) سورة يونس الآية: 3 الآية، لما كان الله تعالى خالق الأشياء و مبتدعها، ومدبر الأفلاك ومسخرها، وكانت الأبصار لا تدركه، والأقطار لا تحده، وأراد مع ذلك أن يعرف نفسه إلى من يتعبده من خلقه لتسكن نفوسهم إلى مصطنعهم فيعتصموا به ويتمسكوا بدعائه أحالهم على مراده من ذلك بآثاره وآياته في أرضه وسمائه، إذ كان الطريق إلى معرفة الشيء أما أن يكون بما يؤدي إليه رواتب الحس، وهي الأجسام والأعراض، أو بما يبرهن عليه دلائل الصنع، وهو ما يكشف عند الاستدلال، فأعلم المشركين فيما أنزله أن الذي يجب تعظيمه ويحق ربوبيته هو خالق السماوات والأرض في ستة أيام، فتوصلوا إلى معرفة ما نصبه من أدلته، فسيشهد لكم من جلائل قوته وعزته ما يزيد في البيان على ما يصل إليه الواحد منكم بحاسته ويصور لكم النظر بما مهل في أوائل عقولكم ما تميز الشك من اليقين لكم وتخلص الصفو من الكدر في معتقداتكم فالآلة تامة والعله منزاحة، وما كلف بما كلفتم إلا بحكمة بينة، وطريقة في فنون الصواب ثابتة، وإنما خلقهما في ستة أيام ليعرف عباده أن الرفق في الأمور، وترك التعجل هو المرضى المختار في التدبير لأنه تعالى لو شاء أن يخلقهما في أدنى اللمحات، وأوحى الأوقات لما مسه فيما يأتيه إعياء ولا لغوب، ولا أعجزه كلال ولا فتور.
وإنما أراد أن يحدثه حالاً بعد حال لتدرك ثمرات عبرهم شيئاً بعد شيء، وليتأدب أولو البصائر بآياته، وحمله قرناً بعد قرن، يبين هذا أنه تعالى نهى نبيه عليه السلام فيما يتلقاه من وحيه، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه )وقل رب زدني علماً) سورة طه، الآية: 114 وقال أيضاً: )إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً) )فاصبر لحكم ربك(، سورة الإنسان، الآية: 2324 ثم جعل فيما نزله مجملاً ومطلقاً ولو شاء لجعل الكل مفسراً، ونعى على الكفار لما قالوا: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة. وقال: )كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً) سورة الفرقان، الآية: 32 وهذا أحسن.
وقال بعض مشائخ أهل النظر: لو أراد الله تعالى أن يخلقها ويخلق أضعافاً كثيرة معها لفعله، وهو عليها قادر لكنه جعلها في ستة أيام ليعتبر بذلك ملائكته الذين كانوا يشاهدونه، وهو يحدث شيئاً بعد شيء في هذه الأيام الستة عبرة مجددة، وبستدل بكل ما يحدث دلالة مستأنفة وليكون ذلك زيادة في بصائرهم، والحجة التي يقيمها عليهم، فقيل له في ذلك: إن كان ذلك حكمة فيجب أن يطرد في جميع ما خلقه وليس الأمر على هذا على أن ذلك ليس بسائغ لأن الملائكة لا يستغنون عن مكان يحويهم وإذا كان لا مكان في العالم إلا السماء والأرض فليس يعقل كون الملائكة قبل كونهما.
ويمكن أن يقال: في هذا والله أعلم أنه تعالى أعلمنا أنه أحدث شيئاً بعد شيء حتى وجدت عن آخرها في ستة أيام، وبين لنا بذكر الأيام الستة ما أراد أن يعلمنا إياه من الحساب الذي لا سبيل لنا إلى معرفة شيء من أمور الدنيا والدين إلا به، كما قال: )وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) سورة يونس الآية: 5 الآية. فأصل جميع الأعداد التامة ستة، ومنها: يتفرع سائر الأعداد بالغاً ذلك ما بلغ إذ كان ما عداها من الأعداد ناقصاً، أو زايداً.
ألا ترى أن لهذا النصف وهو ثلاثة والثلث، وهو اثنان، والشمس، وهو واحد، وإذا حسبت جميعها كانت ستة، وعند من يعتني بهذا الشأن أن نظير الستة من العشرات ثمانية وعشرون، وكذلك لها في كل من المئتين والألوف نظير واحد، فالستة أول الأعداد التامة كما أن التسعة منتهى الأنواع كلها الأحاد والعشرات والمئات والألوف لاشتمالها على الفرد، وهو واحد والزوج وهو اثنان والزوج والفرد، وهو ثلاثة والزوجين، وهو أربعة، وقد انتهى أن ما يجيء من بعد يكون مكرراً، وإذا حسبت الجميع كان تسعة، فكأنه سبحانه من حكيم أراد أن يكون انتهاء خلقه للعالم بأسره إلى عدد تام فيما يحصى كما أنه في نفسه تام لا بخس فيه ولا شطط فيما يروى ويتلى.
ونظير هذه الآية قوله تعالى في موضع آخر: وإن كان فيه زيادة بيان، وسنحكم القول في جميعه لأن ما فيه من زيادة بيان نقيضه إن شاء الله تعالى.(1/11)
وقوله تعالى: )قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) سورة فصلت الآية: 9 إلى )في أربعة أيام سواء للسائلين) سورة فصلت، الآية: 10 يريد ما أضيف إليه لولا ذلك لما كان لقوله سواء للسائلين معنى فكأنه قال في تمام أربعة أيام سواء لمن يسأل عن ذلك، ثم قال: )ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض) سورة فصلت، الآية: 11 إلى )في يومين) سورة فصلت، الآية: 12.
واعترض بعض الملاحدة فقال: هذا باطل إنكم وفقتم بين التفصيل في هذه الآية وبين الإجمال في الآية المتقدمة بأن تقولوا: قوله في أربعة أيام، يريد مع اليومين الذين خلق الأرض فيهما، فما قولكم في قوله: )ثم استوى إلى السماء) الآية. فدلت هذه الآيات على أنه خلق الأرض قبل السماء.
وقال في موضع آخر: )أم السماء بناها) إلى )والأرض بعد ذلك دحاها) سورة النازعات، الآية: 27،30 فدلت هذه الآية على أنه خلق السماء قبل الأرض.
والجواب أنه إنما كان يحد الطاعن متعلقاً لو قال: والأرض بعد ذلك خلقها، أو أنشأها وإنما قال: دحاها، فابتدأ الخلق في يومين، ثم خلق السموات وكانت دخاناً في يومين، ثم دحا بعد ذلك الأرض أي بسطها ومدها وأرساها بالجبال وأنبت فيها الأقوات في يومين فتلك ستة أيام وليس أحد أنه تعالى لها في ستة أيام إلا كتكوينه إياها في غير مدة ولا زمان لكن الحكمة التي دللها عليها أوجبت تقسيمها والإتيان بها على ما ترى.
وقال في موضع آخر: )خلق السموات والأرض في ستة أيام) سورة يونس، الآية: 3 وكان عرشه على الماء، وهذا أبلغ في الأعجوبة أن يكون العرش هذا البناء العظيم على الماء وإنما يراعى في أسباب الأبنية ووضع قواعدها أن يكون على أحكم الأشياء فهو مثل ابتداع أعيانها وإقامتها بلا عهد ولا علاقة. وقوله: )ثم استوى إلى السماء) سورة فصلت الآية: 11 أي قصد خلق السماء كما خلق الأرض سواء، وعمد إليها بعقب خلقها من غير حائل بينهما وذلك تكوينه لهما جميعاً كما أراد. وهنا كما يقال: فعلنا كما يقال ثم استوينا على طريقنا، أو استمررنا فيها سائرين ولم يشغلنا عن الامتداد شاغل. قال زهير في مصداق ذلك:
ثم استمروا وقالوا إن موعدكم ... ماء بشرقي سلمى فيداور كل
ويروى ثم استووا، وتنادوا، وقد كان الله تعالى قبل تسويته إياها على ما هي عليه خلقها دخاناً، فكون بعد ذلك من الدخان سماء وشمساً وقمراً وكواكب ومنازل وبروجاً وقوله: )استوى على العرش) سورة يونس، الآية: 3 يريد الاستيلاء، والملك يدل عليه قول بعيث
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
يعني بشر بن مروان لما ولي العراق، والعرش يحتمل أن يكنى به عن الملك وإن كان الأصل فيه ما يتخذه الملوك من الأسرة، ولهذا قيل لقوام أمر الرجل العرش، وإذا اضطرب قيل ثل عرشه، ويحتمل أن يراد به السماوات والأرض لأن كلها سقف عند العرب، ويقال: عرشت الشيء، وسمكت، وسقفت، وسطحته بمعنى، ويكون مجيء ثم على هذا النسق خبراً على خبر لا لترتيب وقت على وقت ومثل هذا قول الشاعر:
قل لمن ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد بعد ذلك جده
وذكر بعض شيوخ أهل النظر أن ثم إنما هو لأمر حادث، واستيلاء الله على العرش ليس بأمر حادث بل لم يزل مالكاً لكل شيء، ومستولياً على كل شيء فيقول: إن ثم لرفع العرش إلى فوق السماوات وهو مكانه الذي هو فيه فهو مستول عليه ومالك له فثم للرفع لا للإستيلاء، والرفع محدث، قال ويشبه هذا قوله تعالى: )ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم) سورة يونس، الآية: 31 لأن حتى يكون لأمر حادث وعلم الله ليس بحادث. وإنما المعنى يجاهد المجاهدون ونحن نعلم ذلك وإنما قال هذا لأنه لم يعرف ما ذكرناه من الوجه الثاني في ثم، ومعنى يغشى الليل النهار أي يغطي ضياءه ونوره، فهو كقوله: )يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) سورة لقمان، الآية: 29 قوله: يطلبه حثيثاً أي يطلب الليل النهار، والحثيث السريع، وذلك كما قال: )لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) سورة يس الآية:40 جعل التعاقب كالطلب وقد مر القول في ذلك مستقصى.
قوله تعالى: )مسخرات بأمره) سورة النحل، الآية: 12 أي بإرادته وانتصب القمر وما(1/12)
بعده بالفعل، وهو خلق، ومسخرات انتصبت على الحال أي سخرت بالسير، والطلوع والغروب. قوله تعالى: )ألا له الخلق والأمر) سورة الأعراف، الآية: 54 المراد بالخلق المخلوق وللأمر في اللغة وجوه تجيء ومعناه الإرادة والحال ومصدر أمرت، وتختص هنا بالإرادة على ذلك قوله تعالى: )لله الأمر من قبل ومن بعد) سورة الروم، الآية: 54 والمعنى الأمر كله له لا شريك معه في شيء ولا معين، ولا وزير، ولا ظهير. وإن إرادته هي النافذة لا ترتد ولا تبوء، ولا تتوقف، ولا تكبو، بل يحصل المراد على الوجه الذي يريده بلا تعب ولا نصب.
قوله تعالى: )تبارك الله رب العالمين) سورة غافر، الآية: 64 تمجيد وتجليل، وهذا تعليم من الله كيف يمجد كما أن قوله تعالى: )الحمد لله رب العالمين) سورة الفاتحة الآية: 2 تعليم كيف يحمد، والعالمين الخلائق. وقال بعضهم: هو من العلامة لأنه بآثار، الصنعة فيه يدل على الصانع فهو كالعلامة له في الأشياء، وقيل هو من العلم كأنه علم الصانع جرى مجرى قولهم الخاتم والطابع لأنه يختم بهما الشيء ويطبع، ثم اختير له جمع السلامة لغلبة العقلاء الناطقين. وقوله تعالى من الآية الأخرى: )ذلك رب العالمين) سورة فصلت، الآية: 9 بعد قوله: )لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) تبكيت للمخاطبين وإزراء بهم. وإن أمثال كيدهم لا يعبأ بها ولا تأثير لها مع خالق أصناف الأشياء كلها على اختلاف فطرها. وتلخيص الكلام أتكفرون بمن هذه آثاره، وتجحدون نعمه عليكم، مع إدعاء شركاء له ذلك رب الأرباب وخالق الأرض والسماوات، وهو لنا ولكم بمرصاد.
ومعنى قوله تعالى: )فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً) سورة فصلت، الآية: 11 بيان التكوين، وقوله تعالى: )قالتا أتينا طائعين) سورة فصلت، الآية: 11 بيان حسن الطاعة، وسرعة التكون لكنه لما جعل العبارة مبنية على الإبتداء والجواب بالألفاظ المستعارة والأمثال المضروبة لتمكن في نفوسهم وتعشش في صدورهم جرياً على عادتهم في أفانين الكلام، وأساليب التصاريف في الاستفهام والأفهام، وإخراجهم ما لا نطق له البتة في صورة الناطق حتى صارت أجوبة أسند لهم إذا واجهوها وإن كانت من عندهم كأنها من مخاطب إذ كان اعتبارهم يغني عن الجواب والمجيب، حتى قال بعضهم: إذا وقفت على المزارع المرفوضة والديار الدارسة المتروكة فقل: أين من شقق أنهارك وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ أين من بنى دورك وأسس ربوعك وعرش سقوفك؟ فإنها إن لم تجبك جواراً أجابتك اعتباراً. فعلى هذا الذي رتبنا الكلام صار ظاهر بناء الأمر بالإتيان طوعاً أو كرهاً إيجاباً لحصول الفعل حتى لا معدل عنه إذا كان وقوع الفعل من الفاعلين لا يقع إلا على أحد هذين الوجهين، وهذا كاف لمن تدبر.
قأما الطوع والكره والطائع والمكره واستعمال الناس لهما فيما يثقل أو يخف ويهون أو يهون يشتد فظاهر، وقد قال الله تعالى في قصة ابني آدم: )فطوعت له نفسه قتل أخيه) سورة المائدة، الآية: 3 أي سهلته عليه ودمثته. وأما التأنيث في قال لها وقالتا فللفظ السماء والأرض وكونهما في لغتهم مؤنثين، وأما جمع السلامة في طائعين فأما أجرى عليهما من خطاب المميزين، وقد مضى مثله. وروي في التفسير أن ابتداء خلق الأرض كان في يوم الأحد، واستقام خلقها في الإثنين، وبارك فيها وجعل فيها رواسي في تتمة أربعة أيام مستويات تامات للسائلين عنها )ثم استوى إلى السماء) سورة فصلت، الآية: 11 أي عمد فقضاهن سبع سماوات في يومين أي أحكمهما وفرغ منهما قال الهذلي:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع(1/13)
وقيل: اللام في للسائلين تعلق بقوله تعالى: )وقدر فيها أقواتها) سورة فصلت، الآية: 10والمعنى قدر الأقوات لكل محتاج إليها سائل لها، والأول أحسن في النظم وأجود، ويجوز أن يكون المراد بقوله تعالى: )ثم استوى إلى السماء) أي قصد لبنائها من غير فصل ولا زمان كما يقال لمن كان في عمل وأريد منه إتمامه وترك الانقطاع عنه استقم ما أنت عليه ومعنى: )جعل فيها رواسي) سورة فصلت، الآية: 10 أي جبالاً ثوابت تمسكها، وهذا كما قال تعالى: )ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا) سورة النبأ، الآية: 67 وقوله: )سواء) المنتصب على المصدر أي استوت سواء، واستواء، ويجوز الرفع على معنى وهي سواء أي مستويات. ويجوز الخفض على أن يكون صفة لقوله في: )أربعة أيام سواء) سورة فصلت، الآية: 10 والمعنى مستويات.
وقوله تعالى: )وأوحى في كل سماء أمرها) سورة فصلت، الآية: 11 المراد بالوحي الإرادة والتكوين، والمعنى أخرج كل واحدة من السمارات على اختلافها على ما أراد كونها وقدرها من مراده قال تعالى: )وكان أمر الله قدراً مقدوراً) سورة الأحزاب، الآية: 38 وكما جعل السماوات سبعاً شداداً كذلك خلق الأرض سبعاً طباقاً بدلالة قوله تعالى: )ومن الأرض مثلهن) سورة الطلاق، الآية: 12 وقوله: )وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً) سورة فصلت، الآية: 12 يريد جعلنا الكواكب زينة للسماء وحفظناها من مسترقة السمع، فالمصابيح يستضاء بها في الأرض ليلاً ونهاراً، وقال: )وحفظاً) لأنها بالليل رجوم للشياطين، وانتصب بفعل مقدر كأنه. قال: زينت بمصابيح، وحفظت بها حفظاً، ثم ختم القصة بأن قال: )ذلك تقدير العزيز العليم) سورة فصلت، الآية: 12 نبه على حكمته فيما فعل وقدرته وأنه العالم بعواقب الأشياء حتى تقع وفق إرادته.
ومنه قوله تعالى: )تبارك الذي جعل في السماء بروجاً) سورة الفرقان، الآية: 61 إلى )شكوراًً) أراد بالبروج الحمل، والثور إلى الحوت، فالفلك مقسوم بها، وكل برج منها ثلاثون قسماً، ويسمى الدرج وإنما قسم الفلك بهذه القسمة ليكون لكل شهر برج منها لأن القمر يجتمع مع الشمس في مدة هذه الأيام اثنتي عشرة مرة، فجعلت السنة إثني عشر شهراً، وهي التي تسمى الشهور القمرية، وجعل الفلك اثني عشر برجاً لأن الشمس تدور في هذا الفلك دوراً طبيعياً فمتى انتقلت من نقطة واحدة بعينها عادت إلى تلك النقطة بعد ثلاث مائة وخمسة وستين يوماً وقريب من ربع يوم ويستعد فيها فصول السنة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء. ولهذه العلة سميت هذه الأيام سنة الشمس.
فلما كانت العرب تراعي القمر ومنازله، وهي ثمانية وعشرون منزلاً في قسمة الأزمان والفصول والحكم على الأحداث الواقعة في الأحوال والشهور مراعاة عجيبة. ولهم في ذلك من صدق التأمل واستمرار الإصابة ما ليس لسائر الأمم حتى تستدل منها على الخصب والجدب، ويعتمد منها على ما تبنى أمورهم عليه في الظن والإقامة ذكرهم الله تعالى بنعمته عليهم فيها، وعلى جميع الخلق ودعاهم إلى إقامة الشكر عليها ليستحقوا المزيد، فقال تعالى في موضع آخر: )ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً) وقوله تعالى: )هو الذي جعل الشمس ضياء) فقوله: )تبارك) تعليم منه أي قولوا تبارك، والمعنى دام ذكره وثبت بركته عليكم ويمناً واستدامة الخير ونفعاً.(1/14)
وأصل البروج في اللغة الحصون، فاستعيرت على التشبيه وقوله تعالى: )جعل فيها سراجا(، أي الشمس وقد كرر ذكر الأنوار والظلم في عدة مواضع ولم يجعل لفظة السراج من بينها إلا للشمس، وذلك لشيء حسن وهو أن الضياء والنور والمصباح وما أشبهها من أسماء ما يستضاء به لا يقتضي شيء منها أن يكون في الموصوف به اتقاد وحمى إلا الشمس، فنبه تعالى على ذلك فيه بأن سماه سراجاً، ولا تسمى سراجاً حتى يكون محرقاً، وكشف الله تعالى عن المراد بقوله في موضع آخر: )وجعلنا سراجا وهاجا(، والوهج ضوء الجمر واتقاده، فلهذا خص الشمس بأن وصفت بالسراج وهذا بين قوله: )جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً(، أي مختلفة يجيء هذا خلف هذا، وهذا خلف هذا، . ويجوز أن يريد به أنها تجيء وبعضها يخلف بعضا لأنها لا تستقرء إلا بهذا بل تتابع وتختلف في قصورها ويكون شاهد هذا الوجه قوله تعالى: )إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب(، وانتصاب خلفة يجوز أن يكون على الحال، وقوله: )لمن أراد(، مفعولاً ثانياً لجعل، والمعنى صير الليل والنهار على اختلافهما لمن أراد تذكراً، أو تشكراً، واللام في لمن تعلق بجعلنا، ويجوز أن ينتصب خلفة على أنه مفعول ثان لجعل، واللام في لمن تعلق بها حينئذ أي صير خلفة لهم ومن أجلهم والوجه في تفسير خلفة حينئذ أن يكون من الخلافة لا من الاختلاف فاعلمه، وقوله تعالى: )لمن أراد أن يذكر(، روي عن الحسن فيه أنه قال: من فاته عمله من التذكر والتشكر كان له في الليل مستعتب ومن فاته بالليل كان له في النهار مستعتب.
وتلخيص الآية من أراد الاستدلال على الله، فتفكر في آلائه التي لا تضبط وتذكر أنعمه التي لا تحصى كانت أوقات الليل والنهار ميسرة له مهيأة، فليأت منها كيف شاء، والشكر كل ما كان طاعة وثناء على الله، ويكون بالفعل والقول جميعاً قال تعالى: )اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور(، قال تعالى: )ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر(، ومن تأمل هذا التوسيع من الله عليه حتى لا وقت من أوقاته إلا وله أن ينقطع فيه إلى الله من غير تضيق ولا مدافعة علم أن الله تعالى شكور كريم يقبل الإنابة كيف اتفقت، فنعمته عند إنعام من شكره مثل نعمته حين يبتدىء من صنيعه، فسبحانه من منعم في كل حال.
ومنه قوله تعالى: )انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون(، قوله تعالى: )انطلقوا(، لم يرد به الأمر بالانطلاق وإنما هو مقدمة يأس من أمور وبعث على الأخذ في غيره على هذا قوله تعالى: )وانطلق الملأ منهم أن امشوا(، وهذا في المعنى كقولهم: طفق يفعل كذا، وأقبل يأمر بكذا، وقم بنا نفعل وإن لم يكن، ثم اقبال وقيام ويقولون: ذهب يقول في نفسه وإن لم يكن منه ذهاب لأن المراد ما كان مهيأ لذلك وفي صورته وعلى هذا قولهم: تعال نفعل كذا وهلم نأخذ في كذا قوله تعالى: )إلى ما كنتم به تكذبون(، الذي كذبوا به في الدنيا هو البعث والنشور وملائكة الله وكتبه ورسله وشيء من ذلك لم يوجهوا إليه إنما المراد صيروا إلى ما كنتم. تحذرونه وتخوفون له فلا تعبأون به ولا تنزجرون لمكانه وهذا تبكيت وتقريع.(1/15)
قوله تعالى: )انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب(، ذكر أهل التسفير أنه يخرج لسان من النار فتحيط بهم كالسرادق، ثم تنشعب منه ثلاث شعب من الدخان فيظللهم حتى يفرغ من حسابهم ويساقون إلى النار ولا يمنع أن يكون المراد انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون من شدائد عقابه وأليم سخطه. ويكون انطلقوا الثاني شرحاً للأول، وكالتفسير له والمراد انطلقوا من العذاب إلى ما يلزمكم لزوم الظل ولا روح فيه ولا راحة من الحركة، كما كنتم الذيتموه في الدنيا عند الحرب من لفح الهاجرة ولهب الحرور إلى الظلال الثابتة بل يرمي بشرر يتطاير، وكأنها في عظمها جمالات صفر، والجمالات جمع جمالة، وزيدت التاء توكيد التأنيث الجمع. وهذا كما يقال: بحر وبحارة وذكر وذكارة، وقد قرأ ابن مسعود جمالة، وقرىء جمالات وهو أكثر في القراءة وأقوى ولا تمنع في قراءة ابن مسعود أنها الطائفة منها، ويراد بالجمالات الطوائف، ومفا كما يقال: جمال، وجمالان، قال: عند التفرق في الهيجاء جمالان، ويكون جمالات، وجمالى كحبال، وحبالات، وبيوت، وبيوتات للطوائف، وقد قيل: رجال ورجالة كرجالات في كلامهم يريدون ما فسرت وبينت لأن رجال نهاية الجمع ورجالة إذا جعلتها للطائفة فهي دونه، ومعنى صفر سود قال: هي صفر ألوانها كالزغب.
وقد قيل: جعلها صفراً لأن لون النار إلى الصفرة قوله تعالى: )بشرر كالقصر(، قيل فيه: واحد القصور والتشبيه بها لعظمها، وقيل: القصر بسكون الصاد جمع قصرة، وهي الغليظ من الشجر وقرئ كالقصر بفتح الصاد وهي أعناق الإبل. فأما تكرير التثبيه وجعلها أولاً كالقصر وفي الثاني كالجمالات فكأنه أراد بالقصر الجنس فتحصل الموافقة لأن الجنس كالجمع في الدلالة على الكثرة ث أو أراد تشبيه الشررة الواحدة بالقصر، فإذا توالت شرراً كثيراً فهي كالجمالات، فعلى هذا حصل التشبيه للواحد وللجمع والله أعلم.
وقوله تعالى: )لا ظليل(، فهو كقولهم: داهية دهياء، ونهار أنهر، وليل أليل، وليلة ليلاء يتبعون الشيء بصفة مبنية منه. والمراد المبالغة والتأكيد. وقال: )ظل ذي ثلاث شعب(، لأنها محيطة بأهلها من جميع الجوانب إلا القفاء لأنها لا تقفى نفسها وعلى هذا كل في ظل إذا تأملته ويشهد للإ حاطة قوله تعالى: )لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل) وقال تعالى: )يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم(، وقال بعض أصحاب المعاني: في ثلاث شعب المراد أنه غير ظليل، وأنه لا يغني من اللهب وأنها ترمي بالشرر كالقصر، وتحصيل هاذا ذي ثلات صفات.(1/16)
ومنه قوله تعالى: )فلا أقسم بمواقع النجوم(، إلى )العالمين) قوله: )فلا أقسم(، يجوز أن يكون قوله: )فلا) نفياً لشيء قد تقدم، وتكون الفاء عاطفة عليه وابتداء اليمين من قوله: )أقسم(، ويجوز أن تكون لا دخلت مؤكدة نافية كما جاء في قوله تعالى: )لئلا يعلم أهل الكتاب(، والمعنى لأن يعلم، وقال بعضهم: لا دخلت لنفي الأقسام، وقال لأن الإيمان يتكلفها المتكلم تأكيداً للإخبار، وإزالة لما يعترض فيها من التجوز والتسمح وإذا كان الأمر على هذا فقوله: )لا أقسم(، يجوز أن يراد به أن المحلوف له في الظهور وخلوصه من الشك أبين وأوضح من أن يتكلف إثباته بالإيمان. وعلى هذا يكون قوله: وإنه لقسم يراد به أن الحلف بمواقع النجوم عظيم ممن أقسم بها، وقوله: )لو تعلمون(، بعث على الفكر في المحلوف فيه وبما يتضمنه مما يعظم موقعه في الصدور عند تأمل الأحوال المبهجة للاستدلال وقيل: أراد بالنجوم الأنواء وما يتعلق بها من حاجات النفوس ومن المآرب والهموم على اختلاف المعتقدات فيها. وقيل: بل المراد بها فرق القرآن لأن الله تعالى أنزله نجوماً لما عرفه من مصالح المكلفين والمدعوين إلى الدين، ويكون الشاهد لهذا الوجه قوله: )إنه لقرآن كريم) ويكون الطريق فيمن جعلها الأنواء التنبيه على وجوه النعم في الأنداء والغيوث، وما به قوام الخلق في متصرفاته. قوله تعالى: )إنه لقرآن كريم) جواب اليمين. عند من أثبته يميناً و)في كتاب مكنون(، يجوز أن يريد به اللوح المحفوظ لأنه أودع التنزيل اللوح، ثم فرق منه نجوماً ويشهد لهذا قوله تعالى: )وإنه في أم الكتاب لدينا(، وذكر الأم كما قيل في المجرة أم النجوم، وكما قيل مكة أم القرى، ومعنى كريم أنه خلص من جميع الأدناس، وطهر من الشوائب، يشهد لهذا قوله تعالى في صفة المؤمنين: )وإذا مروا باللغو مروا كراماً(، وهذا كما يقال: في صفة الشيء العظيم الخطير هو مكرم علي أي يجل موقعه، والمراد بقوله تعالى: )لا يمسه إلا المطهرون(، الملائكة إذا جعلت الكتاب اللوح المحفوظ، والمعنى لا يصل إليه ولا يقربه غيرهم وذلك على حسب ما يصرفون فيه عند تنزيله، وإن جعلت الكتاب المكنون ما حكم الله به من قضاياه وتعبد به عباده من أصناف العبادات، وشاهد هذا قوله تعالى: )إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون(، وإن حفظ الشيء وصيانته وكنه واحد، والشاهد في أن الكتاب المكنون هو الحكم المفروض. قوله تعالى: )ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم(، وقوله تعالى: )كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم(، فحينئذ يكون معنى لا يمسه لا يطلبه كما قال:
مسسنا من الإباء شيئاً وكلنا ... إلى حسب في قومه غير واضع
وقد حكي أن اللمس والالتماس والمس متفقات، والحجة في أن اللمس مثل الإلتماس قوله تعالى: )وأنا لمسنا السماء(، وقول الشاعر:
ألام على تبكيه ... وألمسه فلا أجده
فقوله: لا أجده يشهد بأن المراد بالمس الطلب لا غير، وقد أحكمت القول في هذا: في شرح الحماسة، وقال بعض النظار: قوله تعالى: )لا يمسه إلا المطهرون(، لفظه لفظ الخبر، والمراد به النهي، والمعنى لا يتناولن المصاحف إلا المطهرون، فليس يجوز للجنب والحائض مس المصاحف، تعظيماً لها وإجلالاً. قوله تعالى: )تنزيل من رب العالمين(، تقصديق للننبي صلى الله عليه وآله وسلم في جميع ما دعا إليه من الإيمان بالله تعالى أو في إبطاله دعاويهم وشهاداتهم في القرآن وسائر العبادات، وارتفع )تنزيل(، على أنه صفة لقوله: )قرآن كريم(، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف.(1/17)
ومنه قوله تعالى: )قل لو كان معه آلهة(، كما يقولون إلى )حليماً غفوراً(، ذكر الله تعالى فيما وعظ من قبل قوله: ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم(، ثم أتبعه بقوله تعالى: )ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكر(، والإنذار بالتبكيت الشديد والوعيد الممض إلزاماً للحجة، وإظهاراً للعناد منهم، وأنه هداهم فلم يهتدوا، وذكرهم فلم يعبأوا إعجاباً برأيهم، وذهاباً عند التدبر، والنظر ليومهم وغدهم ودنياهم وآخرتهم، ثم أخذ عز وجل يحاجهم على لسان نبيهم فقال: )قل لهؤلاء الذين ضلوا عن الرشاد، وعموا عن الصواب، إن الله تعالى لو شركه في ملكه غيره كما تدعون لفسدت الأحوال، وتقطعت الوصل والأسباب. ولعلا بعضهم على بعض وكان يطلب كل الاقتسار، وتسليم الأمر له، كما قال هو: )لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا(، وكان لا ينفع الاستثناء فيما بينهم وترك الخلاف وإظهار الرضاء، لأن الاستبداد، أو طلبه وإن لم يظهر فعلاً من واحد منهم فلا مهرب من تجويزه عليهم وجوازه لن يحصل إلا عن تقدير استضعاف، ومن قدر فيه ضعف فإنه لا يكون إلهاً وهذا بين قوله تعالى: )إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً) أي لطلبوا إلى أخصهم بالملك، وأولاهم بالأمر منازعته ومجاذبته ومساواته ومسامته قوله: )ذي العرش) يجوز أن يريد به ذا السلطان والعز، ويجوز أن يريد به ذا السرير الذي حمله في السماء والملائكة يطوفون حوله. كما أن البيت المعمور في السماء الرابعة. وقال بعضهم: أي العرش، وأنشد قول الشماخ: فأدمج دمج ذي شطن بعيد. قال: يريد أدمج شطن، فزاد ذي، فكذلك قوله: إلى ذي العرش، يريد إلى العرش، والمعنى لطلبوا إلى الاستيلاء على العرش، والاستواء عليه طريقاً، قال ومثله لفظ حي أنشد أبو زيد:
يا قر إن أباك حي خويلد ... قد كنت خائفه على الأحماق
يريد أن أباك خويلد، فزاد قوله: حي، وقوله تعالى: )عما يقول الظالمون(، بمعنى علا، والمعنى جل، وارتفع عما يقول المشركون أكده بقوله: )علواً(، ووصف العلو بالكبر مبالغة في التبعيد. قوله تعالى: )وإن من شيء إلا يسبح بحمده(، يريد ما من شيء إلا وبما فيه من أثر الصنعة يدل على قدرة الله تعالى ويشهد بإلهيته، ويدعو إلى عبادته وينفي عنه مشابهة لخلقه، وجميع ما لا يليق بحكمته. ومعنى يسبح بحمده أي ينزهه، إما إعراباً باللسان، أو دلالة بواضح البرهان، وفائدة قوله: )يسبح بحمده(، أي فيما يظهر من حكمته في خلق ما خلق. والأنعام على من أنعم حمداً له إذا لم يكن إعداد الشكر في مقابلة النعم أكثر من إضافة النعم إلى المنعم، فإذا كان الحمد تولية النعمة ربها وإشادة ذكره ونسبتها إليه، فآثار النعم حامدة شاكرة لمسديها. ألا ترى إلى قول القائل: ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب. فنسبة الثناء إلى الحقائب كنسبة التسبيح بالحمد لله إلى الدال عليه والمقيم له. وهذا حسن بالغ. قوله تعالى: )ولكن لا تفقهون تسبيحهم) أي تجحدونه، أو تعرضون عنه فعل من لا يفهم وهذا كقوله تعالى: )لهم قلوب لا يفقهون بها) سورة الأعراف، ثم قال: )أولئك كالأنعام بل هم أضل) سورة الأعراف، قوله تعالى: )إنه كان حليماً غفوراً) سورة الإسراء، يريد هو حليم حين لم يعاجلهم فيما ادعوه بالعقوبة ولكن تركهم إمهالاً ورفقاً، وهو غفور لمن أناب وإن ارتكب كل منكر قبيح رحمة منه لعباده وحسن تفضل.(1/18)
ومنه قوله تعالى: )له ملك السموات والأرض يحي ويميت) سورة الحديد، إلى )عليم(، أثبت الله لنفسه أنه القادر الغالب، فهو يملك وجميع ما تحركه الأبصار والأوهام من أصناف العالم جليلها ودقيقها، خيرها وشرها، يتصرف فيها كما شاء: واختار تصرف الملاك، فهو ملك مالك يبدئ، ويعيد، ويحي ويميت، وقد أقرت له الصعاب. وتذللت له الرقاب. لا يمتنع عليه مراد وإن عز وشق. ولا يوجد عنه ذهاب فيما ثقل أو خف. إليه آماد الأعمار، والأرزاق، ومصارف البقاء والفناء فهو القادر الحكيم، والعالم ني، لا يخفى عليه معلوم وإن دق، ولا يعزب عن الظهور له مطلوب وإن رق، الأول في الوجود لقدمه لا عن ابتداء مدة، والآخر بعد فناء كل شيء خلقه في الدنيا لبقائه لا إلى غاية، لم يزل ولا يزال على ما هو عليه من ديموميته، وحكمته، وصواب فعله وقدرته، يحيي الأموات إذا شاء، ويميت الأحياء إذا شاء، ويفني المخلوقات إذا شاء، ويعيدها إذا شاء. الظاهر بما له من آياته التي لا تخفى، وعبره التي لا تفنى، والباطن لأنه لا تدركه الأبصار ولا تحصله الحواس، وهذا وجه في الآية. وقيل: أراد بالظاهر أنه غالب على كل شيء، بما دل به على نفسه، من أصناف صنعه كما قال تعالى: )فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين(، )سورة الصف، الآية: 14(، أي عالين غالبين، ويقال: ظهرت على الجلي الواضح الذي هو كالجمر. وقيل في الباطن التي هي في خفائها كالسر فهو بما تجلى منها ظاهر، وبما خفي منها باطن، وهذه آية لها جوانب تقتضي الكلام عليها وأنا إن شاء الله أبلغ الغاية بمقدار فهمي.
اعلم أن الله تعالى قال في موضع من كتابه: )كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) )سورة الرحمن، الآية: 26 27(، ما قال على الموت لأن الموت إنما نعدم به الحياة، والله تعالى قال: كل من عليها، ولم يقل حياة من عليها، وقال بعده: )ويبقى وجه ربك(، والميت جيفة تبقى، وإذا كان كذلك فلا فضيلة في البقاء مع الشركة فيه، وإذا سقطت الفضيلة فلا تمدح لرب العالمين، وقال تعالى في موضع آخر: )كل شيء هالك إلا وجهه) )سورة العنكبوت، الآية: 88). وذكر في صفات نفسه هو الأول، والآخر، والظاهر، والباطن. وكل هذه الآيات دالة على أنه تعالى يصير منفرداً بالوجود، كما كان منفرداً به من قبل أن يخلق الخلق وأنه تعالى يفني كل ما خلقه إفناء لا يبقى له أثر ولا رسم حتى يصير بالفناء في حكم ما لم يخلق ولم يوجد، وقال تعالى: )هو الذي يبدئ الخلق ثم يعيده) )سورة الروم، الآية: 27(، وفي آخر: )كما بداكم تعودون وهو يبدئ ويعيد) )سورة الأعراف، الآية: 29(، والمعاد هو وجود على صفة لا زيادة عليها، وهو أن يتقدم الوجود للشيء فيبطل، ثم يعاد إلى الذي كان عليه من الوجود، وإذا كان السمع قد أثبت معاداً، وحقيقة المعاد ما ذكرناه من أن ما سميناه في الأول إحداثاً ومحدثاً سميناه، وقد بطل واستجد الجادة في الثاني معاداً، ومستجداً فقد وضح معنى قوله: )كل من عليها فان) والآية التي معها.(1/19)
فإن قيل الذي يعرفه أهل اللغة من معنى الفناء هو نفاد المركب قليلا قليلا كنفاد الزاد والاضمحلال والهزال هوة تحلل الأجزاء؛ والاستحالة هو تغير مزاج الشيء. قلت: الفناء بطلان الشيء دفعة واحدة، وهو ضد الإنشاء والاختراع فإذا تجاوزت هذا الموضع فاستعماله على ضرب من التشبيه به فقوله تعالى: )كل من عليها فان) )سورة الرحمن، الآية: 26(، يريد أن جميع ما خلقه قبل الوقت الموعود للثواب والعقاب يبطله بمعنى يخزعه، إذا حصل أفنى به الأجسام، والأعراض كلها. فناء الضد بالضد، وليس ذلك المعنى بمقدور للعباد. والبقاء لا يجوز عليه، فإذا أفناهم بعزته الغالبة بذلك المعنى أعادهم بقدرته الواسعة كما كانوا قبل الفناء، ولا يصح ما أجمع عليه المسلمون من أمر المعاد والفناء إلا على ما ذكرناه، وهو اللغة والشرع، والناظر فيما ذكرناه بين له معرفة الفناء مثل ما بين له من معرفة المعاد. وحكمة وضع اللغة لأن الذي ينقطع وجوده بالموت كالحي منا ظاهر التميز عما لا ينقطع وجوده بالفناء، وما أشبهه من الأعراض. وإذا كان كذلك فإنا نثبته بالسمع كما ثبت جواز كونه وخلق الله له بالعقل ولكل معرفة حقيقة إلى الله تعالى، كما قال: )ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) سورة الإسراء، الآية: 85). ويكون من جملة ما استأثر بعلمه، وإذا أعادهم حشرهم النظر في أعمالهم في مواقف مختلفة، كما قال تعالى: )إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم) )سورة الغاشية، الآية: 25 26). وكما قال تعالى: )فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) )سورة إبراهيم، الآية: 47(، وكما قال تعالى: )إن يوم الفصل كان ميقاتاً )سورة النبأ، الآية: 17(، إلى )سرابا(، فإن سأل سائل عن معنى قوله: )فكانت أبواباً(، )سورة النبأ، الآية: 19). وعن وجه التشبيه بالسراب قلت: معنى قوله: أبواباً يريد كانت ذات أبواب مفتحة، وليس المعنى صارت كفها أبواباً، كما أن قوله: كانت فراخاً بيوضها صارت كلها فراخاً، لأنها إذا صارت كلها أبواباً عادت فضاء، وخرجت من أن تكون أبواباً.
وأما التشبيه بالسراب، فالمراد به بيان إلماعها، وتخلخلها في نفسها، والسراب هو الذي يتخيل للناظر نصف النهار كأنه ماء يطرد، ويقال: سرب الماء يسرب، إذا سال، والمراد ما يتداخل النفس من تغير المعهود، وقد أخرج الله تعالى صفة القيامة في معارض مختلفة لاختلاف أحوال المسوفين، وكرر ذكرها، وحذر منها، ونبه من أمرها على كثير مما يكون فيها ليبين فظاعتها فقال تعالى: )فإذا النجوم طمست) )سورة المرسلات، الآية: 8) إلى )يوم الفصل) وقال تعالى: )يوم تبدل الأرض) )سورة الحجر، الآية: 48(، الآية، فتبديل الأرضين والسماوات وإطفاء الضوء وتفريج السماء وتحليل عقدها حتى تصير أبواباً وطمس نجومها؛ وانتشار كواكبها، ونسف جبالها كل ذلك، أو أكثرها مما تؤكد حال الفناء، وإزالة معاقد الأرض والسماء. وقد عرج تعالى في هذه الصفات لأنه تعالى رددها متفننة في أوقاتها بين أوائلها، ووسائطها، وأواخرها فمن ذلك قوله تعالى: )يوم ترجف الراجفة) )سورة النازعات، الآية: 6(، إلى )بالساهرة). وقال تعالى: )ذلك اليوم الحق) أي الوعد به صدق، أو يراد به أنه يوم حق لا باطل معه إذا قام الأولون والآخرون، ويجتمع متفرق الأسباب، ومتمزق الأجلاد، ويعود غائب الأرواح، ويحشر الأفواج. وقد قال تعالى: )فإذا جاءت الطامة الكبرى) )سورة النازعات، الآية: 34(، والطامة هي العالية على ما قبلها.
وقال تعالى: )إذا السماء انفطرت) سورة الإنفطار، الآية: 1) إلى )وأخرت(، وقال تعالى: )إذا السماء انشقت) )سورة الانشقاق، الآية: 1) إلى )وتخلت) و )إذا الشمس كورت) )سورة التكوير الآية: 1) و )إذا النجوم انكدرت) و )إذا زلزلت الأرض زلزالها) )سورة الزلزلة، الآية: 1(، وقال تعالى: )يسألونك عن الساعة أيان مرساها(، سورة الأعراف، الآية: 187) إلى آخر السورة. وهذا السؤال، والجواب مثل سؤالهم عن الروح فقوله: )فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها) )سورة النازعات، الآية: 44(، مثل قوله تعالى: )قل الروح من أمر ربي) وقال تعالى: )إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد) )سورة البروج، الآية: 12) والإبداء إبداعه الخلق كله لا من شيء والإعادة ما وعد به من الإحياء بعد الإماتة، والبعث، والحشر، وإعداد الثواب والعقاب.(1/20)
وحكي عن الأصمعي أنه قال: إذا قال الرجل: أول امرأة أتزوجها فهي طالق لم يعلم هذا من قوله حتى يحدث بعدها أخرى، فإن ماتت لم تكن أول لكنه لا تشركها أخرى.
قال أبو العباس المبرد: وهذا خطأ لأن قوله: أول هو موقع لما بعده وذلك أن تأتي بعده بما شئت، ولا يكون آخر إلا لشيء قبله غيره، وإنما هو مأخوذ من آخره. وقيل: لما كان لا أول له. قال المبرد: ولا يجوز هذا إلا في صفة القديم تعالى، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن. وقال الفقهاء: إذا قال الرجل: أول عبد أملكه فهو حر، فملك عبدين جميعاً معاً لم يعتق واحد منهما، وإن ملك بعد ذلك عبداً آخر لم يعتق أيضاً لأنه ليس بأول، ولو قال: أول عبد أملكه فهو حر، فملك عبداً ونصف عبد عتق العبد ولم يعتق النصف لأن هذا أول عبد ملكه، والنصف لا يسمى عبداً واحداً، ولو قال آخر: امرأة أتزوجها من النساء فهي طالق، فتزوج امرأة، ثم تزوج أخرى، ثم طلق الأولى، ثم تزوجها، شم مات فإن الطلاق يقع على الثانية التي تزوجها وما يقع على التي تزوجها أول مرة وليست بآخر، والتزوج بها ثانياً لا يخرجها من كونها أول امرأة.
ألا ترى أنه لو نظر إلى امرأتين، فقال: آخر امرأة أتزوجها منكما فهي طالق، فتزوج إحداهما، ثم تزوج الأخرى طلقت الثانية حين يتزوجها لأنها آخر امرأة تزوجها منهما ولو تزوج الأولى بعد الثانية لم تطلق، وكان المبرد إنما قال: لا يجوز هذا إلا في صفة القديم لمكان الآخر لأنه لم يزل ولا يزال، أولا وآخراً، والواحد منا ليس كذلك فاعلمه.
ومنه قوله تعالى: )وأقم الصلاة لذكري) )سورة طه، الآية: 14(، وفي موضع آخر )أقم الصلاة لدلوك الشمس) )سورة الإسراء، الآية: 78) إلى مقاماً محموداً، وقوله تعالى: )وأقم الصلاة) يريد أدمها واثبت عليها فلان لا يقوم لكذا، وهذا يقوم علي بكذا، فله تصرف في الأمر واسع. قوله تعالى: )وأقم الصلاة لذكري) يحتمل وجهين: أحدهما أقم الصلاة لتذكرني بها أي الصلاة ذكرى لقوله تعالى: )إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر) سورة العنكبوت، الآية: 45(، وقوله تعالى: )وأقم الصلاة لذكري) أي إذا ذكرتني، فأقم الصلاة كأنه يرجع النسيان كالذكر في الوجه الأول تسبيح الله وتمجيده بصفاته الكريمة، وفي الوجه الثاني الرجوع إليه بعد ذهول يسبق ونسيان يلحق، واللام من قوله: لذكري أي عند ذكري، وكذلك قوله تعالى: )أقم الصلاة لدلوك الشمس) أي عنده ولام الإضافة يدخل في الكلام لوجوه.
التمليك: كقوله تعالى: )ولله ما في السماوات وما في الأرض) سورة النجم، الآية: 31). وكقوله تعالى: )وإن المساجد لله) )سورة الجن، الآية: 18).
أن يكون الشيء سبباً لغيره، وعلة له مثل قوله تعالى: )إنما نطعمكم لوجه الله) )سورة الإنسان) الآية: 9).
أن يكون دخوله لمعنى الإرادة كقولك: قمت لأضرب زيداً أي قمت إرادة لضربه ولكي أضربه أي قمت من أجل هذه الإرادة، وقد يحذف اللام من هذا وأشباهه.
أن يكون بمعنى في كقوله تعالى: )هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر(، سورة الحشر، الآية: 2(، أي في أول الحشر.
أن يكون لمرور الوقت على الشيء كقول النابغة شعراً:
توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام، وذا العام سابع
أي عرفتها وقد أتت عليها ستة أعوام، أو توهمتها لذلك، ويقال أتى للصبي سنتان عليه وكم سنة أتت لك؟.
أن يكون لمعنى بعد كقوله صلى أفه عليه وآله وسلم: :صوموا لرؤيته(، وقوله تعالى: )فطلقوهن لعدتهن(، )سورة الطلاق، الآية: 1(، والعدة هاهنا ظرف للطلاق وبمنزلة وقت له لا علة ولا سبب، كما لم يكن الحشر علة لإخراج الذين كفروا إنما كان علة إخراجهم كفرهم، والدليل على ما قلنا أنه قال: لأول الحشر جعل له أولاً.
أنه يدخل لما ذكرناه أولا، وهو قوله تعالى: )أقم الصلاة لذكري وأقم الصلاة لدلوك الشمس) أي لاصفرارها عند غروبها دلكت فهي دالك وقال ابن عباس: لدلوك الشمس لزوالها الظهر، والعصر وأنشد:
شادخة الغرة غراء الضحك ... تبلج الزهراء في جنح الدلك(1/21)
فجعل الدلك غيبوبة الشمس، وقال أبو حاتم: روي عن أبي عمرو أن دلوكها زوالها فعلى هذا يجوز أن يكون المفروض بالآية أربع صلوات الظهر والعصر، والمغرب، والعشاء بالليل. ويجوز أن يكون إلى غسق في موضع مع، فيحد على فرض صلاتين من الليل والنهار، وثالثة يدل عليها: )وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً) )سورة الإسراء، الآية: 78).
ثم سائر الصلوات يدل عليها بغير هذه من الآيات وقوله: )وقرآن الفجر) )سورة الإسراء الآية: 78(، يريد، وأقم قرآن الفجر، والمعنى أقم الصلاة بالقرآن، وهذا يدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة، فالضمير في به يرجع إلى القرآن، ومعنى أكان مشهوداً، أي حقه أن يشهد أي يخرج له إلى المساجد، ويقام مع الجماعة فيشاهد وقيل أراد تشهده الملائكة، وقوله تعالى: )ومن الليل فتهجد به نافلة لك(، )سورة الإسراء الآية: 17(، معنى تهجد أسهر يريد استيقظ، ومعنى به أي بالقرآن ويقال هجد أيضاً بمعنى نام.
قال:
هجدنا، فقد طال السرى ... وقدرنا أن خنا الدهر غفل
يريد يومنا ومثل هجد، وتهجد قولهم حنث وتحنث لأن معنى حنث لم يبر في اليمين، ومعنى تحنث ألقى الحنث عن نفسه.
وهذا الأمر اختص به النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفضيلا له على جميع الخلق. ومعنى نافلة لك عطاء لك وتكرمة لذلك أتبعه بقوله تعالى: )عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً، )سورة الإسراء، الآية: 79) أي افعل ذلك رجاء أن تثاب هذا الثواب العظيم.
وقيل في المقام المحمود إن المراد به الشفاعة للمذنبين، والذي عليه الناس أن الدلوك مغيب الشمس، ويذهب العرب لذلك إلى أن قول القائل:
هذا مقام قدمي رباح ... غدوة حتى دلكت براح
يدل على صحة قولهم وأصله أن الساقي يكتري على أن يسقي إلى غيبوبة الشمس، وهو في آخر النهار يتبصر هل غابت الشمس. قوله: براح أي يضع كفه فوق عينه ويتبصر، قال: ويسلم للحديث ما جاء أن ابن عباس قال: إن غسق الليل ظلمته الأولى للعشاء والمغرب، فإذا زادت قليلا، فهي السدفة، وقوله: )نافلة لك) ليست لأحد نافلة إلا للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه ليس من أحد إلا يخاف ذنوبه غيره فإنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فعمله نافلة.
ومنه قوله تعالى: )أقم الصلاة طرفي النهار) )سورة هود، الآية: 114) إلى )المحسنين(، وقوله تعالى: )أقم الليل إلا قليلا(، )سورة المزمل، الآية: 2(، الآية طرفا النهار الفجر والعصر وكما ثنى الطرف هنا جمع في قوله تعالى: )فسبح بحمد ربك(، )سورة الحجر، الآية: 39) إلى )وأطراف النهار لعلك ترضى(، سورة طه، الآية: 130) لذلك اختلف الناس فبعضهم جعله من أوقات الصلوات المفروضة، والقائل بهذا يكون عنده الفجر من النهار محتجاً بأنه ابتداء الصوم لقوله تعالى: )وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفخر ثم أتموا الصيام إلى الليل(، )سورة البقرة الآية: 178) والذين يخالفونه يجعلونه من الليل، ويدعون أن ابتداء النهار طلوع الشمس وانتهاءه غروبها، وإذا زالت الشمس انتصف النهار فأما قوله تعالى: )وأطراف النهار(، )سورة الحجر، الآية: 39(، فيجوز أن يجعل النهار للجنس حتى يصير له أطرافاً، ويجوز أن يجعل الجميع مستعاراً للتثنية لأن أرباب اللغة قد توسعوا في ذلك ألا ترى قوله: يا ناحة ودخيلا، ثم قال: طرفاً فتلك لهما تنمى، وكقوله تعالى: )فقد صغت قلوبكما(، )سورة التحريم، الآية: 4(، وليس مستنكر أن تسمى الساعات أطرافاً، كما قيل أصيلالة وعشيات في آخر الأصيل، والعشية.
قال أبو العباس ثعلب أطراف النهار قيل يعني صلاة الفجر، والظهر، والعصر، وهو وجه أن جعل الظهر، والعصر من طرف النهار الآخر، ثم يضم الفجر إليهما فيكون أطرافاً، قال أبو العباس المبرد: معناه أطراف ساعات النهار أي من الليل سبحه وأطعه في أطراف ساعات النهار الأناء الساعات واحدها أنى، ويكون من آنيت أي أخرت ومن قول الشاعر:
وأنيت العشاء إلى سهيل ... أو الشعرى فطال بي الإناء
وقال العجاج: طال الإناء، وانتظر الناس الغير من أمرهم على يديك، والتور طال الإناء وزايل الحق الأشر. وفي القرآن: )غير ناظرين أناه) فأما قوله تعالى: )وزلفاً من الليل(، سورة هود، الآية: 114(، فالزلف الساعات ومن أبيات الكتاب:(1/22)
طي الليالي زلفاً فزلفاً ... سماوة الهلال حتى احقوقفا
والزلفة واحدة الزلف، ويقال لفلان عندي زلفة، وزلفى، وهي القربة، وفي القرآن: )وزلفت الجنة للمتقين(، سورة الشعراء، الآية: 90(، أي قربت، وسميت المزدلفة لاقتراب الناس إلى منى بعد الإفاضة من عرفات، وانتصب سماوة على المفعول من طي الليالي، معنى أن الليالي طوت شخص الهلال، ونقصته شيئاً شيئاً حتى ضمر ودق.
قوله تعالى: )إن الحسنات يذهبن السيئات(، )سورة هود الآية: 114(، يجوز أن يريد أن الحسنات من أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمؤمنين يبطلن سيئات الكفار والمجرمين، وهذا بشارة من الله للمؤمنين بأنه سيعلي كعبهم، وينفذ كلمتهم كما قال: )بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) )سورة الأنبياء، الآية: 18) ويجوز أن يكون مثل قوله تعالى: )إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) )سورة النساء، الآية: 30(، ويكون هذا مثل قوله تعالى: )ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) )سورة التوبة، الآية: 33(، وقوله تعالى: )ذلك ذكرى للذاكرين) )سورة هود، الآية: 114) أي أخبرناك بما أخبرنا من ضمان النصرة، وقمع الباطل، وإعلاء كلمة الحق لكي تتذكر به فيزداد حرصاً على الادخار والإصلاح ولأنك إذا أقررت به والتزمته فتذكرته تيسير لك المطلوب وقد قال تعالى: )إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) سورة ق، الآية: 37) يريد أن المأمور بهذا، أو الموعوظ إذا قبله حصل لك بذلك ذكر في الذاكرين، وهذا ترغيب لأن ما يبقى به الذكر ليس كما يلغى وينسى. قال:
فقال له هل تذكرن مخبراً ... يدل على غنم ويقصر معملا
أي هل تعتد بهذا الخبر فتذكره به، فأما قوله تعالى: )قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا) )سورة المزمل، الآية: 2(، أي من النصف، أو زد عليه، فانتصاب الليل إلا قليلا أي قبله بقليل أو بعده بقليل لأن بيان أو انقص منه، أو زد عليه ذلك، والمعنى قم نصف الليل، أو انقص من نصفه حتى يرجع إلى الثلث، أو زد على نصفه حتى يبلغ الثلثين، وفي هذه الأشياء منها أنه جعل نصف الليل قليلا منه سواء جعلته بياناً للقليل المستثنى، أو جعلته بياناً للباقي الواجب لأن الكلام يقوم على الوجهين جميعاً ومنها أن قوله: أو انقص منه قليلا بمعنى إلا قليلا في التحصيل ولكته ذكر مع الزيادة، وكان كالمكرر، وكثير من أهل النظر يذهبون إلى أن القلة تقع على ما عون الثلث لقوله عليه السلام لسعد في الوصية: والثلث كثير، ومنها أن هذا التنويع يدل على أنه تعالى لم يفرضها عليه لكنه على سبيل الترغيب لأن الفرائض التي يفرضها الله على عباده ليس يجعل الأمر فيها إليهم فينقصوا ما شاءوا، ويزيدوا فيها ما شاءوا، وقد قيل: إن الله تعالى كان فرض على رسوله وعلى المؤمنين قيام الليل، ثم نسخه إذ كان شق عليهم فقال تعالى: )إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار(، )سورة المزمل، الآية: 20(، أي يعلم مواقيتها ويعلم أنكم لن تحصوه أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذاك والقيام فيه، فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن، قالوا: وهذا في صدر الإسلام، ثم نسخ بالمكتوبات الخمس.(1/23)
وقوله تعالى: )أدنى من ثلثي الليل) يجوز أن يكون من دنا الشيء إذا سفل، فنزل كما قال: )ثم دنا فتدلى) أي نزل، ومنه قوله تعالى: )يدنين عليهن من جلابيبهن(، )سورة الأحزاب، الآية: 59) أي يرسلن، وقال بعضهم: معنى أدنى أدون، لكنه قلب فقدم اللام وقوله تعالى: )إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) )سورة المزمل، الآية: 5(، يجوز أن يكون المعنى قولا يثقل العمل به، ويجوز أن يريد به قولا له وزن، وخطر بين الكلام إذا ميز أي ليس بالسفساف الدون، ومعنى يلقي ينزل فيتلقنه. ومنه قولهم: ألقيت على فلان مسألة كذا، فأعييته. وقوله تعالى: )ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تك في مرية من لقائه(، )سورة السجدة، الآية: 23(، فبعضهم يجعله من هذا أي لا تك في شك من نزول هذا الكتاب قبلك، وكان شيخنا أبو علي ينكر أن يكون ألقيت من لقيت، ويقول: إن لقي يتعدى إلى مفعول واحد يقول: لقيت زيداً فلو كان ألقيت من لقيت لوجب أن يتعدى إلى مفعولين. كما أنه إذا دخل على ما لا يتعدى إلى المفعول عداه إلى واحد يقول: خرج زيد وأخرجته وذهب زيد، وأذهبته.
وتقول في المتعدي: قرأ كذا وأقرأته أنا كذا، وسمع زيد شراً، وأسمعته أنا خيراً. وإذا كان كذلك، ووجدنا لقى يتعدى إلى مفعول واحد، وألقيت مثله يتعدى إلى مفعول واحد وعلمنا أنهما من أصلين فاعلمه. قوله تعالى: )إن ناشئة الليل) )سورة المزمل، الآية: 6(، يريد الساعة منشأ الحدوث ويقال فلان ناشئ ونشأت الشحابة من قبل البحر، ويجوز أن يكون ناشئة يراد بها الحدث لا الفاعل فيكون كاللاغية في قوله تعالى: )لا تسمع فيها لاغية) )سورة الغاشية، الآية: 11(، أي لغواً وكالكاذبة في قوله تعالى: )ليس لوقعتها كاذبة(، )سورة الواقعة، الآية: 2) أي كذب ومثل ذلك قم قائماً أي قم قياماً. قوله تعالى: )هي أشد وطئاً وأقوم قيلا) )سورة المزمل الآية: 6(، أي أبلغ في القيام وأبين في القراءة لما في الليل من السكون والقرار، ويجوز أن يريد أنها أشد على الإنسان وأشق لأن الليل للتودع والراحة. وقرئ وطاء بالواو والمد والمعنى أشد مواطاة للقلب إذا نقله السمع.
ومنه قوله تعالى: )فلا أقسم بالشفق) )سورة الانشقاق، الآية: 16(، إلى )لا يسجدون) أول السورة )إذا السماء انشقت) والانشقاق والانفطار، والانفتاح يتقارب في المعنى وذلك من أهوال القيامة، وما يتغير فيها من الأمور، ويتبدل. وقيل: المراد انشقت بالغمام كقوله تعالى في موضع آخر: )ويوم يشقق السماء بالغمام) )سورة الفرقان، الآية: 25). وجواب إذا محذوف لما يدل عليه ما عرف من أهوال القيامة وشدائدها وتخمر في النفوس وتقرر. والمراد إذا انشقت السماء كان من أشراط القيامة فيكم ما عرفتموه، وتكرر عليكم وصفه، وقيل جوابه في قوله تعالى: )إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) )سورة الانشقاق، الآية: 6(، وقيل جواب إذا مضمر مقدم، والمراد اذكر إذا حدثت هذه الحوادث. وقيل جوابه أذنت، والواو زائدة. والنحويون على اختلافهم يردون هذا وكأن قائله شبهه بقوله تعالى: )حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) )سورة الزمر، الآية: 71(، لأن المعنى عنده فتحت والأجود عندي يكون جواب إذا قوله تعالى: )يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك(، سورة الانشقاق، الآية: 6) أي في ذلك الوقت يكون ذلك حالك، ومعنى أذنت لربها أطاعت، واستمعت، وأجابت، وحقت أي وجب ذلك عليها، وكانت محقوقة بالانشقاق.
وقوله تعالى: )وإذا الأرض مدت(، )سورة الانشقاق، الآية: 3(، كأنه بسط مجموعها وأخرج مضمونها وموعدها حتى تخلت. قوله تعالى: )يا أيها الإنسان) )سورة الانشقاق، الآية 6(، عموم دخلت الكافة تحته، وقوله تعالى: )إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) )سورة الانشقاق، الآية: 6(، يشير إلى ما قاساه مدة حياته واكتسبه في متصرفاته ونيل فيه من سعادة وشقوة وحياة وإماتة، وما تزوده من دنياه وأعده لأخراه، أي تسعى سعياً قد أتعبك وتلاقي له كل ما قدمته من عملك وتصير من حميته إلى ما تستحقه بفعلك. قال:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح(1/24)
وقوله: )فملاقيه) من قولك: لاقيت من كذا جهداً وأذى، وقاسيت من كذا مكروهاً. والضمير في ملاقيه إن شئت جعلته للكدح والأجود أن تجعله للرب والمعنى تلاقي جزاءك منه فيكون على حذف المضاف. والشفق الحمرة تبقى من الشمس في المغرب إلى وقت العشاء. وقال بعضهم: هو البياض الذي إذا ذهب صليت العشاء الآخرة لأن الحمرة تذهب عند الظلام.
قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق وكأن أحمر. قوله تعالى: )والليل وما وسق) )سورة الانشقاق، الآية: 17(، أي جمع وأدرك من مقتضياته، وهوله ويجوز أن يكون وسق بمعنى، طرد يريد وما جاء به واحتمله، والوسيقة الطريدة. وقوله تعالى: )والقمر إذا اتسق) )سورة الانشقاق، الآية: 8) يريد استتب، واستوسق لثلاث عشرة وأربع عشرة، ويجوز أن يريد باتساقه استمراره في سيره وتناهيه في ازدياد ضيائه: )لتركبن طبقاً عن طبق) )سورة الانشقاق، الآية: 19(، كما قيل سادوك كابراً، عن كابر، والمعنى كبيراً عن كبير أي يترددون بعد أحوال مختلفة، ويخرجون من بعضها إلى بعض من نشر وحشر وفناء وإعادة والطبق الشدة قال: قد طرقت ببكرها أم طبق.
وقال:
فلو رآني أبو حسان وانحسرت ... عني الأمور إلى أمر له طبق
يقال: رغب، ورهب أنت بينهما حب الحياة، وهول الموت والشفق وفائدة القسم تأكيد الوعيد على المخاطبين بهذا الكلام، وهو قوله تعالى: )لتركبن طبقاً عن طبق) )سورة الانشقاق، الآية: 19(، وقرئ لتركبن جعل الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد لتركبن طبقاً من طباق السماء.
وقوله تعالى: )فما لهم لا يؤمنون) سورة الانشقاق، الآية: 20(، لفظة استفهام معناه الإنكار، والتبكيت يقول: ما الذي منعهم من الإيمان، وقد وضحت الدلائل والسبل، وتكررت الآيات والنذر، وضاقت المعفرة وحقت الكلمة. قوله تعالى: )وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون(، )سورة الانشقاق، الآية: 21(، إكباراً وإعظاماً وإيماناً، وإيقاناً وهو من المعجزات الباهرة والإلزامات المسكتة. وهل ذهابهم عن تدبره واشتغالهم إلا عناد فبشرهم بعذاب أليم. أصل البشارة من البشرة استبشر بشيء انبسط جلده، ونضر وجهه، وهذا وأمثاله إذا استعملت في غيره كقوله: تحية بينهم ضرب وجيع. أي يقيمون بدل التحية عند اللقاء ذلك، فأما قوله تعالى: )اقتربت الساعة وانشق القمر) )سورة القمر، الآية: 1(، فإنما معناه سينشق القمر، ومن أثبت ذلك دليلا لاختص به عبد الله بن مسعود، وإن سائر الناس لم يروه لأن الله حال بينهم وبين رؤيته بغمامة، أو غير ذلك. ويجوز أن يكون غير عبد الله بن مسعود قد رأى ذلك، فاقتصر في نقله على رؤية عبد الله، وعلى ما نطق به القرآن من ذكر، وكان الجاحظ ينفيه ويقول: لم يتواتر الخبر به ويقول أيضاً: لو انشق حتى صار بعضه في جبل أبي قبيس لوجب أن يختلف التقويمات بالزيجات لأنه قد علم سيره في كل يوم وليلة فلو انشق لكان وقت انشقاقه لا يسير.
ومنه قوله تعالى: )الذي خلق سبع سموات طباقاً) )سورة الملك، الآية: 3(، إلى )وهو حسير) أول السورة )تبارك الذي بيده الملك) )سورة الملك، الآية: 1(، وليس تفاعل هذا كتفاعل الذي يفيد التكلف للشيء عن غير موجب له نحو تخازر، وتعارج، وتساموا، وتجاهلوا لكنه بمعنى فعل وأصل البركة البقاء والزيادة، وكذلك لفظة تعالى في صفة الله، فهي بمعنى علا ومثله لعلا وتكبر بمعنى كبر وعلا، وهذا كما يقال: علا قرنه، واستعلاه وقال زهير: وكان أمرين كل أمرهما يعلو. ومثله قر واستقر، وهزأ، واستهزأ، ويشهد لما قلنا قول امرئ القيس: تجبر بعد الأكل فهو نميص. وإنما يصف نبتاً قد رعي ثم عاد منه شيء فتجبر بمعنى جبر من قوله: قد جبر الذين الإله فجبر.(1/25)
وقد كشف عن المراد بقوله: فهو نميص أي لقصوه كأنه ينمص بالنماص، وهو المنقاش، ومتى جعلت تجبر صار كالجبارة، وهي النخلة التي فاتت اليد طولا وأوقع آخر الكلام أوله لأن المنموص لا يتجبر ولا يطول. وعلى هذا قوله تعلى الندى في متنه وتحدرا يريد علا وحدر، وأنشد أبو عبيدة: تخاطأت النبل أحشاءه معناه أخطأت، فهذا شاهد تبارك وتعالى، ومثل هذا أجاب، واستجاب وقوله تعالى: )بيده الملك) سورة الملك، الآية: 1) أي يملك الملك الذي يمكن عباده منه، ويصرفهم فيه، فالبقاء له والقدرة والتمكن، والقمر بأمره وحكمه، وإضافة الفعل إلى اليد ضرب من التوسع يقال: وفي يدي وملكي وفي قبضي، وهو قبضي. قال تعالى: )والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) )سورة الزمر، الآية: 67(، أي يحكم فيها حكماً لا قصور فيه عن المراد، ولا تجاوز إلى أكثر من المرتاد، ففعله وفق إرادته ووفق قصده وإرادته، فخلق الحياة لمن يريد استبقاءه ليعبده، والموت إلى غير ما هو عليه إخباراً منه لطاعة المطيع منهم، فيثيبه ومعصية العاصي منهم فيعاقبه، وهو الحزيز فلا يفوته الهارب، القدير فلا يعجزه المغالب. قوله تعالى: )خلق سبع سموات طباقاً) أي بعضها فوق بعض وعلى حدة، فيطابقه، ويشابهه، ولا يخالفه فيباينه وقال الشاعر شعراً:
إذا نزل الظل القصير بنحره ... فكان طباق الخف أو قل زائداً
ويقال: طابق فلان فلاناً على كذا إذا وافقه عليه. ويقال: الناس طبقات أي بعضهم فوق بعض. ومنه قولهم: طابق البعير إذا وضع خفي رجليه في موضع خفي يديه. وقد قال تعالى: )ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) )سورة فصلت، الآية: 12(، فقوله الدنيا يدل على أن بين السماوات تقارباً، وتباعداً، وأن التي هي فوق هذه ليست بالدنيا منه، قوله تعالى: )ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) )سورة الملك، الآية: 3(، وقرئ من تفوت أي بنى ما خلقه على حكمه فلا يفوت بعضه بعضاً ولكنه يتعادل، وفي هذا المعنى قالوا: وجه مقسم إذا كان الحسن مقسوماً فيه فأعطى كل جزء نصيبه منه حتى لا استبداد فيه، وقالوا: ما أحسن قسمة وجهه وهذا بخلاف ما ذكرناه في عسير المتفاوت لأن المتفاوت ما يزيد على الاعتدال، أو يخرج عن القمر الملائم بالانتقاص، وذلك ضد التقدير وقوله تعالى: )فأرجع البصر هل ترى من فطور) )سورة الملك، الآية: 3(، المراد به أيها الإنسان قد أعطيت من الآلات، ورتب في عقلك وتحصيلك من البينات ما تدرك به حيناً، أو تقديراً تراكيب الأشياء وسلامتها مما يشينها إذ دخولها فيما يجتذب وجوه الفساد إليها، فتأمل ما صنعه الله واخترعه في هذا الخلق العظيم واقتف آثاره فيها، وردد طرفك وعقلك في ظواهرها وبواطنها ومفرداتها؛ ومركباتها وتأمل بعد تقصي وسمك واستفراغ جهدك، ورد المجمل على المفصل والمشاع على المقسوم، هل تجد فيه خللا، أو هل تتبين فيه عيباً؟ وقوله تعالى: )ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً) )سورة الملك، الآية: 4(، بعث على الكشف والبحث وتأكيد في المبالغة فيهما وإنما قال هذا لما يعتقده العرب من أن النظرة الأولى حمقاء فينبغي أن لا يكتفى بها في المزاولات، والتتبع في المستكشفات حتى أن بعضهم قال في صفة امرأة شعراً:
لها النظرة الأولى عليهم وبسطة ... وإن كرت الأبصار كان لها العقب
يقول لهذه المرأة، على من يستقري محاسنها النظرة الأولى، فإن لم يقنعهم ذلك، فأخذوا يستنبطون في المعاودة، ويحيلون الطرف في العين والأثر كان لها البسطة أيضاً، فإن أبوا إلا أن يكرروا الأبصار، ورددوا النظر حالا بعد حال كان لها العقب، وهو ما يسلم على التعاقب من أواخر البحث فقوله تعالى: )كرتين) تأكيد على ما ذكرناه، وحكي لي عن بعض أهل النظر أنه قال: إن الله تعالى أمر بكر البصر ثلاث مرات لأنه قال: ارجع البصر، ثم )ارجع البصر كرتين(، وهذا الذي ذكره وعول عليه من ذكر الكرتين لا يحصل له المراد، بل يفسد عليه ما اعتمده لأنه قال تعالى: )ارجع البصر هل ترى من فطور(، )سورة الملك، الآية: 3(، وهذا لا يقتضي إلا مرة واحدة، وقال من بعد: )ثم ارجع البصر كرتين) )سورة الملك، الآية: 4(، ولو اقتصر الكلام على فارجع البصر، ولم يأت بذكر المرتين لكان للسامع أن يتجاوز إلى ما فوقها من الكرات لأن ثم لا يقتضي الحصر، ولا يوجب الوقوف.(1/26)
فلما قال: كرتين علم أنه أكد به ما ذكر من الرجعتين على أن قوله تعالى: فارجع البصر) ليس قبله فعل مذكور فيكون الرجوع عن ذلك الفعل لأنه قال تعالى: )ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر) )سورة الملك الآية: 3) فكان المراد انظر، فارجع، ثم ارجع أي لا ترض بالنظرة الأولى ولكن راجع بعدها، ثم راجع، وإذا كان التكرار هو الرجوع إلى الأول، والأول هنا النظر المضمر فقوله تعالى: )فارجع البصر هل ترى من فطور) كرر أول إلى النظر المستدل عليه، وقوله: )ثم ارجع البصر كرتين(، وإذا كان الأمر على هذا لم تحصل ثلاث كرات فلذا اتبع الكلام بقوله كرتين وهذا جيد بالغ، وقوله تعالى: )هل ترى من فطور) أي من شقوق وصدوع.
وقوله تعالى: )ينقلب إليك البصر خاسئاً) )سورة الملك، الآية: 4) المعنى إنك إن أدمت النظر، واتبعت البصر تطلب العيب في حكمة الله والفطور في صنعه رجعت من مطلوبك خاسر الصفقة، صاغر الرجعة، خائب الطلبة بعيداً من البغية، والخاسيء من قولك خسأت الكلب إذا طردته وبعدته خسأ ولا تقل انخسأ، والحسير الكال المعي. ويقال: إبل حسرى لأن حسيراً فعيل بمعنى مفعول، فهو كجريح، وجرحى.
ومنه قوله تعالى: فإذا انشقت السماء) )سورة الرحمن، الآية: 37(، الآية، وقوله: )ويؤم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا) )سورة الفرقان، الآية: 25(، خضراء ملساء متصلة الجوانب والأكناف مرتبة الوسائط، والأطراف محفوظة من مسترقة السمع بما أعد لها من الأرصاد.
وتلخيص هذا يبين إذا ضم إلى قوله تعالى: )ويوم تشقق السماء بالغمام) وإلى قوله تعالى: )هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) )سورة البقرة الآية: 210) لأن المعنى يأتيهم أمر الله والسماء كالوردة وقد انفطرت بالغمام أي تنشق بها، والملائكة تنزل منها في الغمام فكأنها تنشق، وهم في تكاثفهم، وتراكمهم بما معهم كظل من الغمام وهذا كما يقال: رعف الباب بفلان أي جاه من قبله، وسال الوادي ببني فلان إذا خرجوا منه، وكقول الشاعر:
وسالت بأعناق المطي الأباطح
وكما قال:
ألا صرمت حبائلنا الجنوب ... ففرقنا ومال بنا قضيب
قضيب: واد باليمامة، والمعنى أنجدنا لما افترقنا، وانهمت هذه المرأة ويقال: نزل بقارعة الوادي أي أعلاه، وقوله: مال بها، كقوله: سالت الأباطح بأعناق المطي قوله تعالى: )فكانت وردة كالدهان) )سورة الرحمن، الآية: 37) يريد تحولها عما كانت، والورد الأحمر وليس بمشبع قال:
فهو ورد اللون في ازبئرار ... وكميت اللون ما لم يزبئر
وقال الفراشية: تلون السماء تلون الوردة من الخيل لأنها تكون في الربيع إلى الصفرة، فإذا اشتد البرد كانت وردة حمراء، فإذا كانت بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة قال عبد بني الحساس شعراً:
فلو كنت وردا أحمراً لعشقتني ... ولكن ربي شانني بسواديا
وقيل في الدهان: إنها جلود حمر، وقيل: هي جمع دهن أي تمور كالدهن صافية، والشاهد لهذا قوله تعالى: )يوم تمور السماء موراً) )سورة الطور، الآية: 9) أي تتميع. وقال تعالى: )يوم تكون السماء كالمهل) )سورة المعارج، الآية: 8) وهو الصفر المذاب، وكان التشبيه وقع الذوب، فيكون المور والذوب على طريقة واحدة، وقوله تعالى: )يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين) )سورة الفرقان، الآية: 22) وقوله تعالى في سورة الرحمن: عند ذكر وعيد الكفار، والإنذار من يوم الحشر، والمعاد وما يجري مجراه من الاقتصاص، والأمر بالعدل والإنصاف: )فبأي آلاء ربكما تكذبان) )سورة الرحمن، الآية: 13) سأل سائل: أي شيء في هذا من الآلاء حتى ذكره الله ممتناً به في جملة ما عنده من صنوف النعم، ووجوه القسم في الأولى والآخرة.
والجواب إن الله تعالى منعم في كل حال ومذكر بما يزيد المتعب استبصاراً في الأمر الأولى ونفوراً، وزهداً في الدنيا، وواعظ بما يكون السامع له أقرب إلى الطاعة فيما يعمله من الاستطاعة، وإذا كان الأمر على هذا فنعمه على خلقه في الإنذار والأعذار مثل نعمه في التبشير والتحذير إذ كان الصارف عن الشر بلطفه مثل الباعث على الخير بفضله، وقد توعد(1/27)
الله جاحدي نعمه والمهملين لآياته ونذره بالخسف والرجف والخزي الثابت، والبعث المفاجئ، والمسخ المرصد والريح العاصف والزلازل، والصواعق بعد أن أمضى بها بأكثرها الحكم على من حقت عليه الكلمة فمن سعد ووعظ بغيره فأجاب حين دعي، وأدرك لما بصر ونفعته المهلة والإملاء، واستسعد بالإعادة، والإبداء ونبهه ضرب الأمثال والمبالغة في الإبلاغ.
ثم عرف حال أولئك المستمرين في الضلالة والذاهبين عن طريق الهداية ومصائر أحوالهم، فإنه إذا راجع نفسه درى عظم نعم الله عليه فيما وفقه، أو يسر أخذه به من العدول عن سلوك مناهجهم، وأوجب على نفسه شكرين الأول لاهتدائه، والثاني لما زاده الله من الاستضاءة بنور الهدى وقربه من التقوى. ألا ترى قوله تعالى: حاكياً عن أهل الجنة وقد استقروا في منازلهم منها: )الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) )سورة الأعراف الآية: 43) قوله تعالى: )وقضي الأمر) )سورة البقرة الآية: 210) نصف عقبي حالهم) وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) )سورة يونس الآية: 10) وقال تعالى بين أحوالهم قبل ذلك: )فوربك لنحشرنهم والشياطين) )سورة مريم، الآية: 67) إلى )ونذر الظالمين فيها جثياً) )سورة مريم، الآية: 72) فعلى هذا الذي بنينا الكلام عليه قدر الله نعمه على الجن والإنس في دنياهم، وأخراهم، ثم قال: يأيها تكذبون وكل ما تتصرفون فيه من حياة وممات ونعمة ونقمة وتيسير وتعسير، وتقريب وتبعيد آثار إحساني فيها ناطقة وأعلام آلائي فيها سنة واضحة وهذا بمن الله ظاهر.
ومنه قوله تعالى: )إن في خلق السموات والأرض) )سورة البقرة، الآية: 164(، إلى )لقوم يعقلون) )سورة البقرة، الآية: 164(، الخلق هو الأحداث على تقدير من غير احتذاء مثال ولذلك لا يجوز إطلاقه إلا في صفة الله تعالى لأنه لا أحد جميع أفعاله على ترتيب من غير احتذاء أمثال إلا الله وإنما جمع السموات، ووحد الأرض لأن الأرضين لتشاكلها تشبه الجنس، والواحد كالرجل، والماء الذي لا يجوز جمعه إلا أن يراد الاختلاف، وليس يجري السموات مجرى الجنس المتفق لأنه دبر في كل سماء أمرها بالتدبير الذي هو حقها قوله تعالى: )واختلاف الليل والنهار) )سورة البقرة، الآية: 164(، يجوز أن يكون من الخلاف كالسواد والبياض لان أحدهما لا يسد مسد الآخر في الأحوال.
ويجوز أن يكون من الخلف لأن كل واحد منهما يخلف صاحبه على طريق المعاقبة والنهار في اللغة يفيد الاتساع أيضاً، ويقال: انهرت العنق إذ أوسعته، وذكر الله تعالى هذه الآيات مجموعة معظماً شأنها ليصرف بكريم عطفه وحسن نظره أوهام المخاطبين بها إليها، وإلى النظر في تراكيبها وابتداع خلقها مدرجاً إلى الاستدلال بها على خالق لا يشبه الأشياء ولا يشبه من جهة أنه لا يقدر على خلق الأجسام إلا القديم الذي ليس بجسم ولا عرض، إذ جميع ذلك محدث ولا بد له من محدث لاستحالة التسلسل، فتقديم السماوات والأرضين في الذكر لأنها المعظم في المشاهدات والأصل وما عداها تبع لها، ولتكون الحواس إلى تمييزها أسرع، والأذهان إلى تبحثها أميل، والنفوس في الكشف عن سرائرها أرغب، والعقول عنها أفهم، واختلاف الليل والنهار يدل على عالم مدبر لأنه متقن في الصنع محكم في التدبر قريب التحول بعيد التأخر، فهو أبلغ أداء وأبين مأخذاً، وأفصح برهاناً، )والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) )سورة البقرة، الآية: 164) لأنه فعل منعم عالم بما يكون قبل أن يكون هيأ الله لمنافع الناس ومن جرى مجراهم لكي يفكروا، مع كثرة بلواهم بها، ومع تعذر فعل مثلها عليهم منها وليعلموا بمواقع حاجاتهم وتيسر مرافقهم بها أن الله لهو الحكيم الرءوف المحدث لهم، والمنشئ والمصرف والمسخر.
فأما الماء المنزل من السماء، فيدل على الرازق المنعم المبدع لما شاء لا يعجزه شيء مروم، ويتكأده مطلوب، لا يخطئ تدبيره، ولا يقصر عن الحاجة تقديره آخر مراده وفق أوله لائق بآخره.(1/28)
وأما إحياء الأرض بعد موتها فتمثيل للحشر والبعث، وتنبيه على أنه تعالى تتجدد منحه حالاً بعد حال، ووقتاً بعد وقت ليكون للعائشين بها أهنأ، وفي إظهار القدرة عليها أحكم، ويجوز أن يقال: وصفت الأرض بالحياة لينشأ النبات عنها كنشوء النتاج عن الحيوان فقيل: إذا كانت عامرة حية، وإذا كانت هامدة ميتة، ويجوز أن يقال: وصفت بذلك لأنها تخرج ما تحيي به النفوس من الثمار والزروع قوله: )وما أنزل الله من السماء من ماء) )سورة البقرة، الآية: 164) يريد من جهة السماء ومن نحو السماء، وفي موضع آخر: )وأنزلنا من السماء ماء طهوراً) )سورة الفرقان، الآية: 48(، يجوز أن يكون بدلاً من الماء، أو تبييناً له وتفسيراً، أو يكون كالفطور وأمثاله فلا يدل على الكثرة، وإذا جاز ذلك فيه فليس لأحد من الفقهاء أن يتعلق بظاهر الآية فيقول: إن طهوراً فعول، وهو صفة للماء فيجب أن يدل على الكثرة والمبالغة في الحكم الذي يجب في فعول إذا كان صفة لأن فعولا قد يكون كالفطور فلا يدل على الكثرة، ولأنه قد يجوز أن لا يكون صفة للماء بل يكون بدلا وتفسيراً، ويسقط التعلق بظاهر الآية.
وأما قوله تعالى: )وتصريف الرياح) )سورة البقرة، الآية: 164(، فيستدل به على الاقتدار على ما لا يتأتى للعباد إن ميسرها لأوان فقرهم إليها إن شاء جعلها السبب في إهلاكهم بها، فهو مذكر واعظ ومبشر قادر، ومعنى تصرفها تحولها من حال إلى حال ومن جهة إلى جهة، وكذلك صرف الدهر تقلبه، وقال الحسن: الصرف النافلة، والعدل الفريضة.
قوله تعالى: )وبث فيها من كل دابة) )سورة البقرة، الآية: 164) أصل البث التفريق، ثم توسع فيه فقيل بث فيه الشراب والسم، ويريد بالفلك السفن إذا أصعدوا في البحر للتجارات وما يجري مجراها، ويقع على الواحد، والجمع قال تعالى: )في الفلك المشحون) )سورة الشعراء، الآية: 119) وإذا أنث فلأنه أريد به الجمع، وأصله الدوران، ومنه تفلكت الجارية إذا استدار ثديها، وإنما استوى الواحد، والجمع فيه لأن فعلا وفعلا يشتركان كثيراً كمثل قولهم: العرب العرب، والعجم، والعجم، والبخل، والبخل، فمن قال: في أسد أسد، قال: في فلك فلك، فجمعه على فعل، ومثل هذا قولهم: هجان لأن فعيلا وفعالا يشتركان في الجمع، كقولك: قضيب وقضب، وكتاب وكتب، فمن قال: كريم وكرام، وطويل، وطوال يلزمه أن يقول: هجين، وهجان. فإن قال قائل: لم جمعت القيل ولم جمع النهار. قلت: النهار بمنزلة المصدر، فهو كقولك: الضياء والظلام، فوقع على القليل والكثير، والليلة مخرجها مخرج الواحد من الليل على أنه قد جمع في الشذوذ على نهر قال:
لولا الثريد إن هلكنا بالضمر ... ثريد ليل وثريد بالنهر
وأصل التسخير: التذليل، والمراد إن الله يمسكه، وتسكين الأجسام الثقال بغير دعامة ولا علاقة فعل من لا شبيه له ولا نظير، فهو القادر الذي لا يعجزه مراد قوله تعالى: )لآيات لقوم يعقلون) )سورة البقرة، الآية: 164) يريد أن هذه البراهين على التوحيد، وبطلان التشبيه يستدل بها العقلاء، فيصلون إلى العلم بما يلزمهم، ثم العمل بها ففيه مدح المفسرين المتأملين، وذم لمن سلك غير طريقهم، فأهملوا جمع المهملين.
ومنه قوله تعالى في سورة النمل: )قل الحمد لله) )سورة النمل الآية: 59) إلى قوله: )بل هم منها عمون) )سورة النمل الآية: 66).
اعلم أن هذه الآية تشتمل على فوائد كثيرة ومسائل جمة عجيبة. فمنها بيان الفائدة في قوله تعالى: )قل الحمد لله) وكيف جعل قرآناً متلواً؟ والظاهر أنه من كلام جبرائيل مخاطباً للنبي صلى الله عليه وسلم عند أداء المنزل إليه، ومنها: كيف مورد قوله: )الحمد لفه وسلام على عباده) )سورة النمل، الآية: 59) والقصد إلى تبكيت المعاندين وإنذارهم وجمع الحجة عليهم وقل إنكارهم بدلالة قوله: )الله خير أما يشركون) )سورة النمل، الآية: 59) إلى غير ذلك مما سنبينه شيئاً بعد شيء إن شاء الله تعالى، فنقول وبالله التوفيق.(1/29)
أما لفظة قل: فحيث ما جاء في التنزيل مبتدأ كان، أو متوسطاً، فهو أمارة كونه من كلام الله خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم تبصيراً عند افتتاح القول، وتهذيباً، أو إسقاطاً للسؤال، يوجهه المعاندون نحوه امتحاناً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر في مثل هذه الأحوال ما يلقنه من وحي فيدفع به مضرتهم، أو يبطل به حجتهم، أو يتوصل به إلى تعجيزهم ورد كيدهم في نحورهم، أو يستظهر به داعياً عند طلب السلامة عليهم ظهر الابتداء المعقب بقل والله يمده بما يعلو به أمره، ويشتد به أزره فلا يجيء لفظة قل في القرآن إلا وهو تلقين للنبي صلى الله عليه وسلم وكموعد ينتظر إنجازه على هذا قوله تعالى: )يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) )سورة الإسراء، الآية: 85) وقوله تعالى: )ما كنت بدعاً من الرسل) )سورة الأحقاف الآية: 9(، وكقوله تعالى: )قل إنما أنا منذر) )سورة ص، الآية: 65) )وقل يا أيها الكافرون) سورة الكافرون الآية: 1) )وقل هو الله أحد) )سورة الإخلاص، الآية: 1) )وقل أعوذ(، )سورة الفلق، الآية: 1) وما أشبهها.
وأما قوله تعالى: )قل الحمد لله وسلام على عباده) فإن القوم لما تقرر الكلام عليهم واستمرارهم في لزوم الجحد ومباينتهم لنهج الحق جعل الله ابتداء الكلام خطبة على عادة العرب في مقاماتهم وعند تصرفهم في منافراتهم لأنهم يبدؤون في مقارضاتهم بحمد الله، والثناء عليه والصلاة على رسوله يأخذون في مآربهم ويستقرون في وجه القول مدارجهم لتكون طرق البيان بها أوسع، وبراهين الموجبات فيها أثبت فقوله تعالى: )قل الحمد لله) أي ابتدأ بالثناء على الله فيما آتاك من فضله واختصك به من كرامته، ثم اتبعه بالتسليم على أخوانك من الأنبياء الذين اصطفاهم الله كما اصطفاك، وحملهم من أعباء الرسالة مثل ما حملك، ثم سل هؤلاء الذين ينازعونك الأمر، ويرادونك فيما تدعو إليه القول، وقل الله خير أم ما تجعلونه شركاءه.
ومثل هذا من الكلام يستعمل مع من حقت عليه الشماتة ولزمت الحجة وتبرأت منه المعذرة فيقرع لسوء اختياره به ويرى بعدما بين أمريه فيه، ثم أخذ تعالى في إحصاء نعم الله التي تفرد بإنشائها يقررهم على ما يضطرون إلى تسليمها ونقص يد المنازعة فيها من خلق السماء والأرض وإنزال الغيث الذي تنبت به الحدائق، ويحيي به الموات، ويعيش منه الناس والأنعام كما قال تعالى في موضع آخر: )ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض) )سورة الزمر، الآية: 21) الآية. يقول: انظر كيف أنزل الغيث، وكيف أحيي به الأرض. ثم جعله فيها ينابيع إلى أن أخرج به المرعى فجعله غثاء أحوى.
ووجه التقرير بهذا تأنيسهم بما كانوا لا ينكرونه لأنهم كانوا معترفين بأن ما يدعونه من الشركاء لم ينبتوا شجرها، فكيف ما عداها، وأن مثل الشركاء في العجز عنها مثلهم في أنفسهم لا تباين ولا تمايز لتساوي أحوالهم وتقارب آماد قواهم، فقال ذات بهجة، ولم يقل ذوات لأنه لما كانت الجموع مؤنثة اكتفى بالتأنيث عن الجمع ومثله القرون الأولى، والأسماء الحسنى قوله تعالى: )أمن خلق السموات والأرض) )سورة النمل، الآية: 60(، أم فيه لتحول الكلام، عن حال إلى أخرى فهي أم المنقطعة لا المعادلة، وفي قوله تعالى: )الله خير أما يشركون) هي المعادلة والمفسرة بأي، وفي كل منهما تبكيت شديد وتعنيف بليغ وإن اختلف طريقاهما لأن قوله تعالى: )ءآله مع الله) )سورة النمل، الآية: 60(، ممتزج بوعيد وتعجيب. وقوله تعالى: )الله خير) )سورة النمل، الآية: 59) ممتزج بتسخير ولو قيل إلهاً لإضمار فعل جاز. ومثله:
أعبداً حل في شعبي غريباً ... ألؤ ما لا أبا لك واغترابا(1/30)
وقوله تعالى: )بل هم قوم يعدلون) )سورة النمل، الآية: 60) حكم بأن الكلمة حقت عليهم لعبادتهم ألا ترى أنه تابع بين البراهين الساطعة والإلزامات الدامغة، فأخذ يسألهم عن الأرض ومصيرها قراراً للخلق وما في خلالها من الأنهار، وما ثبت بها من الجبال، وعن البحرين والحاجز بينهما، وعن إجابة المضطر، وإغاثة الملهوف من يقيمها فيقول: من أنشأها وجعلها كذلك تكرر التفريع، ومثل هذا من القول مع المصر الجاحد أبلغ من كل وعيد، وأوعظ من كل نكير. قوله تعالى: )قليلا ما تذكرون) )سورة النمل، الآية: 62) يجري مجرى الالتفات في كلام البلغاء لأنه تعالى بعد تعداد آلائه عليهم وعلى جميع الخلق معهم، وبعد إظهار الآيات البينة وذهابهم عن المناهج المستقيمة وأنهم لا يرجون بالنذر ولا يرعون للعبر.
قال: بلغت المقال في نكوصهم إليهم ويقبح فيما يؤثرونه من صوابهم لديهم: )قليلا ما تذكرون) وهو لا يثبت بالقليل شيئاً وإنما هو نفي خالص فكأنه قال: لا تذكرون شيئاً، ويجوز أن يكون انتصاب قليلا على الطرف وعلى أن يكون صفة لمصدر محذوف قوله تعالى: )أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر) )سورة النمل، الآية: 63) يريد من يسيركم ويرشدكم إلى القصد والسمت في تلك الحال، )ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته) )سورة النمل، الآية: 63) أي أمام الغيث ناشرة، أو مبشرة، فقد قرئ نشراً بالنون، وبشراً بالباء، ومعنى النشر ضد الطي أي تفتح الأرض، وتعرج أطباقها للمطر والنبات كما قال تعالى: )وأرسلنا الرياح لواقح) )سورة الحجر الآية: 22) وختم الكلام بإعادة التبكيت لأن هذه المسائل لا أجوبة لها تعالى الله عما يشركون، ثم قال تعالى: )أمن يبدأ الخلق ثم يعيده) )سورة النمل، الآية: 64) جعل الخطاب في هذا الفصل، وفي فصلين قبله وهما: )أمن يجيب المضطر) )سورة النمل، الآية: 62) و)أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر) بلفظ المستقبل بعد أن ساق في أول الفصول الكلام على بناء الماضي فقال: )أمن خلق السموات والأرض) )سورة النمل، الآية: 60) )وأمن جعل الأرض قراراً) )سورة النمل، الآية: 61) لأن بعض أفعاله تعدم وحصل محصل المستكمل المفروغ منه، وفعل ما يساء في خلقه حالا بعد حال، فهو كالمتصل الدائم لذلك خالف الآخر الأول، وقال بعد المسائل التي رتبها معجزاتها: )قل هاتوا برهانكم) )سورة النمل، الآية: 64) على مقالتكم، واستأنف تعليم النبي صلى الله عليه وسلم بما يورده عليهم في إنكارهم البعث واستعجالهم من النشور بعد الموت لما قالوا: )أإذا كنا تراباً) )سورة النمل، الآية: 67) )وآباؤنا أئنا لمخرجون) )سورة النمل، الآية: 67) )لقد وعدنا هذا نحن وأباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين) )سورة النمل، الآية: 68) فقال تعالى: )قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) )سورة النمل، الآية: 65) فما غاب عنكم كيف تحكمون عليه بالبطلان والامتناع، وقد استوى المخلوقون في استبهام أمر الساعة عليهم فلا يشعرون متى يبعثون ألا تسمع قوله تعالى: )يسألونك عن الساعة أيان مرساها(، )قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو) )سورة الأعراف، الآية: 187) وإذا كان القيامة من الغيب الذي استأثر الله بعلمه لما تعلق بخفائه من مصالح المكلفين، فالمتكلم فيه أمن الكفار واقف من مطلوبه موقف الخزي والخيبة، والتراجع من مرتاد القيامة يفوت السلامة.(1/31)
قوله تعالى: بل أدرك علمهم في الآخرة استهزاء بهم جعل علمهم كالثمر المنتظر ينعه وتكامله، فإذا تم بلوغه قيل أدرك، وقرئ بل إدارك علمهم، والمعنى تدارك، وهو أبلغ في المعنى لأن تفاعل بناء لما يحصل شيئاً بعد شيء على هذا قولهم: تداعى البناء وتلاحق القوم وما أشبهه، ثم قال مرزياً بهم ومبطلا لظاهر ما أعطاهم: )بل هم في شك منها بل هم منها عمون) )سورة النمل، الآية: 66) فانظر كيف ارتجع منهم ما بذله وعلى أي ترتب رتبه لأنه قال: بل أدرك علمهم بلسان التهكم والهزء، ثم حطهم عن تلك الرتبة فقال: بل هم في شك منها فضعف علمهم وإدراكهم بالشبهة العارضة لهم إذ كان الشك لا يحصل إلا لعارض شبهة، ثم قال: يجهلهم ويردهم إلى أسوأ منازل الباحث، فقال: )بل هم منها عمون(، وقال بعض أصحاب المعاني: بلغني عن ابن عباس أنه قرأ: بلى إدارك يستفهم، ويشدد المال، وهو وجه جيد لأنه أشبهه بالاستهزاء بأهل الجحد كقولك للرجل بكذبه والعمى المذكور بإنما هو من الري دون البصر، وهذا بين والحمد لله.
ومنه قوله تعالى: )الله نور السموات والأرض) )سورة النور، الآية: 35) إلى )والله بكل شيء عليم) )سورة النور، الآية: 35) أراد بقوله تعالى: )الله نور السموات والأرض) أن الآيات الباهرة الدالة عليه وعلى أنه لا نظير له ولا شبيه، وأن العبادة لا تحق إلا له مبنية مضيقة لعذر من شبه بخلقه ظاهرة ظهور المصباح لذي وصفه في المشكواة التي بين أمرها إذا كان الله تعالى خالق الظلم والأنوار، ثم جعل المصباح في زجاجة صافية تشرق إشراق الكوكب المضيء الوقاد، وقد استصبح ذلك السراج بزيت من شجرة زيتون قد بورك في ثابتة على خط استواء لا شرقية، فيكون خطها منها العشيات فقط بل تستوفي قسطها مما ينميها ويربيها كل وقت حتى إن عصيرها إذا اعتصر يقرب من أن يشرق وإن لم تمسه نار، ثم قال: )نور على نور) )سورة النور، الآية: 35) يعني نور المصباح، ونور الزجاجة، ونور الزيت يدل على أن أسبابه متعاونة في الإضاءة فكل موادها نور مفرد لو اكتفى به في الإشراق لأغنى عن غيره، فيقول: إن هذه الأنوار المجتمعة المترادفة مثل لآيات الله في وضوحها والدلالة على وحدانيته، فلا شبهة تعرض لناظر ولا مرية يتسلط على خاطر فكل من ضل عما دعي إليه فإنما أتى من قبل نفسه وسوء تأنيه، أو من هو يجذبها إلى الضلال فيرديه. فإن قيل: هل تعرف في نظوم كلامهم مثل هذا التركيب، والتلفيق؟ أو هل تعرف في الأمثال المضروبة لتأكيد القصص والأخبار ما أسس هذا التأسيس؟ قلت: هم يقولون مثل هذا إذا قصدوا التنبيه على تناهي الشيء وبلوغه أقصى مأخذه حتى يستغرق أكثر أوصافه على ذلك قول الأعشى، وهو يهول أمره ويعظمه فيما قاساه في الغزل حتى بلي فيه بما لا مزيد على شأنه فقال:
علقتها عرضاً وعلقت رجلا ... غيري وعلق أخرى غيرها الزجل
وعلقته فتاة ما يخاف لها ... من قومها ميت يهذي بها وهل
وعلقتني فتاة ما تلا يمني ... فاجتمع الحب حباً كله تبل
فكلنا هائم يهذي بصاحبه ... فآب ودان مخبول ومختبل
فهذا من الباب الذي نحن فيه، وقد فعل الله مثل ذلك فيما ضربه من المثل للكفر والضلال فقال تعالى: )أو كظلمات في بحر لجي) الآية، فكما ضرب للهدى المثل بالنور على ذلك الحد من التأكيد ضرب للكفر مثله وعلى حده.
فأما قوله: )يهدي الله لنوره من يشاء) )سورة النور، الآية: 35) فإنه يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون مثل قوله تعالى: )أفمن شرح الله صدره للإسلام) )سورة الزمر، الآية: 22) وقوى بصيرته ونور منهاجه وقصده، ويجوز أن يريد بالنور الذي يهديه له ما يفعل الله بالمؤمنين من إرشادهم إلى طريق الجنة، كما قال في صفتهم: )نورهم يسعى بين أيديهم وبإيمانهم) )سورة التحريم، الآية: 8(، ومثل قوله تعالى: )الله نور السموات والأرض(، قوله تعالى في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: )إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً) )سورة الفتح، الآية: 8) الآية، وهذا واضح بين.(1/32)
قوله تعالى: )وأنا لمسنا السماء) إلى )شهاباً رصداً) )سورة الجن، الآية: 8) يقال لمس والتمس بمعنى طلب وحمل عليهما المس أيضاً، فالحجة في الأول قوله ألام على تبكيه فلا أجده يكشف ذلك قوله: فلا أجده، وفعل، وافتعل يتصاحبان كثيراً، وأما المس وخروجه إلى معنى اللمس فقد استشهد له بقوله:
مسسنا من الآباء شيئاً وكلنا ... إلى حسب في قومه غير واضع
فقيل المعنى طلبنا في نسب آبائنا هل فيه ما يقتضي ما أنكرناه من أخلاقهم لأن المس بالجارحة لا يتأتى في الأنساب، والأحساب، ثم حمل قوله تعالى: )لا يمسه إلا المطهرون) )سورة الواقعة الآية: 79(، وقيل معناه لا يطلب النظر في أدلة الله المنصوبة في كتابه العزيز للاقتباس من آدابه وحكمه، والاعتبار بأمثاله، وحججه إلا المطهرون من دنس الشرك ودغل الكفر، ويكون على هذا التأويل الكلام خبراً.
وقيل فيه أيضاً: إن المس هو التناول باليد، ويكون على هذا اللفظ لفظ الخبر، والمعنى معنى النهي كأنه نهى الحائض والجنب، ومن جرى مجراهما من تناول المصاحف تنزيهاً لها، وتعظيماً لشأنها، والوجهان قريبان، فأما الآية فهي إخبار عن الجن المسترقة للسمع وأنهم كانوا قبل الإسلام يقعدون من السماء مقاعد تقرب الاستماع إلى الملائكة وتسهله في السماء الدنيا، فكانوا يلتقطون من تجاورهم وتذاكرهم بما يوحى إليهم امتحاناً لهم ما يلقونه على ألسن الكهنة حتى يتصوروا للناس بصورة من يعلم الغيب، فيؤمنوا بهم وذلك من الإضلال، وفساد الأدلة ما لا خفاء فيه، فقالوا: قد كان هذا فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعنا من ذلك بما أرصد لنا من ثواقب النجوم.
وقد اعتقد قوم أن انقضاض الكواكب ظهر في الإسلام لأنها جعلت رجوماً للشياطين فيه، وقد جاء في الشعر القديم تشبيه المسرع من الخيل وغيرها بمنقض الكواكب، فالأقرب في هذا أنه كثر في الإسلام، ومن قبل كان يتفق نادراً، أو يكون جعلها رجوماً إسلامياً وفيما تقدم من الزمان لم يكن لذلك من الشأن فإنه تعالى قال: )وجعلناها رجوماً للشياطين) )سورة الملك، الآية: 5) وقوله تعالى لا يبدل ولا يدخل التسمح بل هو الوحي المحقق والخبر المصدق.
فإن قيل: من أين لك أن الملائكة كان يرد عليهم الوحي فيتدارسونه بينهم ويجاذبونه حتى توصلت الشياطين منه إلى الاستماع. قلت: يدل على مثل ذلك قوله تعالى: )وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها) )سورة البقرة، الآية: 30) الآية، فتبين أنه قدم إلى الملائكة خبر ما أراده من آدم عليه السلام وما كان من ذريته في الأرض امتحاناً لهم. قوله تعالى: )فوجدناها ملئت حرساً) )سورة الجن، الآية: 8) يعني الملائكة فدعاهم حرساً لما كان منهم من منع الشياطين من السمع. والحرس جمع حارس، ومثله غائب، وغيب. والشهب جمع شهاب، وهو النار ولولا فعل الله تعالى ذلك لكان الوحي إلى النبي يتخلله الفساد، بما يكون من الجن فله الحمد والشكر على نعمه في كل حال وسيجيء من الكلام من بعد فيه ما تزداد به هذه الجملة انشراحاً إن شاء الله تعالى.
ومنه قوله تعالى: )إن عدة الشهور عند الله) )سورة التوبة، الآية: 36) الآية، نبه الله تعالى على عدد الشهور العربية، وهي التي تسمى شهور القمر. وميزان السنة اثنا عشر شهراً لأن القمر يجتمع مع الشمس في مدة هذه الأيام اثنتي عشرة مرة، ألا ترى قوله تعالى: )هو الذي جعل الشمس ضياء، والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) )سورة يونس، الآية: 5) وكذلك فعلت الفرس بقسمة أيام السنة باثني عشر قسماً، وجعلوا أيام كل شهر ثلاثين يوماً، وزادوا في آخر ماه أبان خمسة أيام سموها اللواحق، والمسرقة، وسموها الكبيسة وإنما زادوا ذلك لتتم سنة الشمس.(1/33)
وكذلك زادت الروم في أيام شهورهم ونقصت، وكبست ليكون أيام سنتهم موافقة لأيام سنة الشمس، وهي ثلاث مائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم، وذكر بعضهم أن العرب كانت تعمل الكبيسة أيضاً لئلا تتغير أحوال فصول سنتهم، وكان شتاؤهم أبداً في جمادى الأولى، وجمادى الآخرة، ويجمد الماء في هذين الشهرين ولذلك سموهما بهذا الاسم، ويكون صيفهم في شهر رمضان، وشوال، وسموا رمضان بهذا الاسم لشدة الحر فيه، ووجدوا أيام السنة القمرية ثلاث مائة وأربعة وخمسين يوماً، وتنقص عن أيام السنة الشمسية نحو أحد عشر يوماً، وأحبوا أن تكون فصول سنتهم على حال واحدة لا تتغير، وكانوا يكبسون في كل ثلاث سنين شهراً، ويجعلون سنتهم ثلاثة عشر شهراً ويسمونها النسي إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله تعالى هذه الآية: )إنما النسيء) )سورة التوبة، الآية: 37 (، الآية فلم يكبس بعد ذلك، فصار شهر رمضان يتقدم في كل سنة نحو أحد عشر يوماً، ويدور على جميع فصول السنة في نحو ثلاثين سنة، ولا يلزم نظاماً واحداً، وهذا الذي حكاه هذا الإنسان يبطله ما ذكره الله تعالى، ورواته نقلة الأخبار، وسأبينه من بعد.
فقوله تعالى: )إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله) )سورة التوبة الآية: 36) فالكتاب ها هنا هو الحكم والإيجاب ألا ترى قوله تعالى: )كتب عليكم القتال) )سورة البقرة، الآية: 216(، و )كتب ربكم على نفسه الرحمة) )سورة الأنعام، الآية: 12(، والمعنى إن الواجب عند الله أن عدد الشهور على منازل القمر وأن أعياد المسلمين وحجهم وصلواتهم في أعيادهم وغير ذلك تدور وأنه أجراها على هذا المنهاج: )يوم خلق الله السموات والأرض) )سورة التوبة، الآية: 36 ) ثم قال تعالى: )منها أربعة حرم) يريد عن الأشهر، أي جعل لها حرمة كما جعل البلد الحرام، والبيت الحرام )ذلك الدين القيم) )سورة التوبة، الآية: 36 ) ، يريد دين الإسلام قوله تعالى: )فلا تظلموا فيهن أنفسكم) )سورة التوبة، الآية: 36 (، أي لا تدعوا مقاتلة عدوكم إذا قاتلوكم في هذه الأشهر، فتكونوا معينين على أنفسكم وظالمين لها بكشف هذا قوله تعالى: )يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) )سورة البقرة، الآية: 217(، والمعنى عن قتال في الشهر )قل قتال فيه كبير) )سورة البقرة، الآية: 217) وقد تم جواب السؤال لكن الله تعالى زاد في الكلام ما انشرحت به القصة وأتى من وراء القصة، فقال: )وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله) )سورة البقرة، الآية: 217 (، فقاتلوهم فإنكم معذورون، ومعنى قوله تعالى: )كافة) جميعاً، ومحيطين بهم ومجتمعين وانتصابه على الحال، ومثل كافة قولهم: قاموا معاً لا يدخلها الألف واللام، وكذلك قاموا جميعاً، وقال الزجاج: اشتقت من كفة الشيء وهي حرفه وكأنها مأخوذة من كف لأن الشيء إذا انتهى إلى ذلك كف عن الزيادة ولا يثنى ولا يجمع لأنها مصدر في الأصل كالعاقبة، وقم قائماً، وكقولهم: العامة والخاصة.
ومن هذا قولهم: لقبته كفة كفة، والمعنى كفة ككفة، أو كفة إلى كفة، قوله تعالى: )واعلموا أن الله مع المتقين) )سورة التوبة، الآية: 36 (، ضمان منه يقال لنصرة المؤمنين قوله تعالى )إنما النسيء زيادة في الكفر) )سورة التوبة، الآية: 37 ) النساء، التأخير، وقال: نسأ الله في أجله، ومنه النسيء في تأخير الذين يقول: فالذي يفعله الكافرون في تقديم الأشهر الحرم على أوقاتها التي جعلها الله لها وتأخيرها زيادة في كفر الكافرين، واستمرار في ضلالهم وذهاب عن الواجب عليهم وإنما كانوا يفعلون ذلك فيحلون الشهر من هذه الشهور في بعض الأعوام ويحرمونه في العام الآخر ليوافقوا بالتحليل تحريم الله تعالى فيحلوا الحرام ويحرموا الحلال.
قوله تعالى: )زين لهم سوء أعمالهم) )سورة التوبة، الآية: 37 (، أي استحسنوا من ذلك مما هو سيئ وأتى بلفظ الخبر، عن المفعول ولا فاعل، ثم ومثله قولهم: أعجب بنفسه، وعنى بكذا وهذا كان من عادتهم كما كانوا يفعلونه في البحيرة والسائبة، والوصيلة، والحامي حتى أبطلها الله تعالى بما أنزل فيه: والبحيرة كانت الناقة إذا انتجت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكراً شقوا أذنها، وامتنعوا من ركوبها ونحرها، ولا تمنع عن ماء وكلاء ولا يركبها المعي إذا لقيها.(1/34)
والسائبة: كان الرجل إذا نذر لقدوم من سفر، أو برء من علة يقول: ناقتي سائبة، أو عبدي سائبة فلا يستعان بعد ذلك به ولا يحادث عما يريده.
والوصيلة: هي الغنم إذا رضعت أنثى كانت لهم وإن وضعت ذكراً جعل لآلهتهم، وإن ولدت ذكراً، وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.
والحامي: كانوا إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: حمى ظهره فلا يحملون عليه ولا يمنعونه من ماء ومرعى.
؟فصل في بيان النسيء
فيما قاله الناس نقلة الأخبار والمفسرون ذكروا أنه كان قوم من بني كنانة يقال لهم بنو فقيم يتولون ذلك إذا اضطروا إليه عند اتفاق حرب عظيمة وداعية خطب قوية يرى في الواجب عليهم الاشتغال في المحرم به، فكان في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب لموسمهم يقوم مناد فينادي: الآن استنسانا، واستفرضنا إلا أن المحرم صفر، وأن صفر هو المحرم الأكبر، فكانوا يحلون في المحرم ما كان فيه من قتال وسفك دم واستباحة حريم، ويحرمون في صفر ما كان مباحاً عندهم وفي مذهبهم ليواطئوا العدة، ويبلغوا فيما رأوه من الإرادة، والمواطاة: الموافقة.
وحكى ثعلب أن الكناني كان يقال له: نعيم بن ثعلبة، وكان رئيس الموسم في الجاهلية فيقوم إذا أرادوا الصدر عن منى فيقول: أنا الذي لا أعاب ولا أخاب، ولا يرد لي قضاء فيقولون: صدقت انسينا شهراً، ويريدون أخر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر فيفعله، ولهذا ذكره أبو عبيدة معمر بن المثنى أن الأشهر الحرم كانت في الجاهلية عشرون، من ذي الحجة، ثم المحرم، ثم صفر، وشهر ربيع الأول، وعشر من شهر ربيع الآخر، وفي الإسلام هي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب ثلاثة متناسقة، وواحد منفرد، وكانت العرب تعظم رجباً، وتسميه منضل الأسنة، ومنضل الآل لأنهم كانوا ينزعون الأسنة من الحراب والرماح توطيناً للنفوس على الكف عن المحظور فيه في مذهبهم ويسمونه أيضاً شهر الله الأصم لأنه كان لا يسمع فيه تداعي القبائل ولا قعقعة السلاح.
قالوا: فلما قام الدين لمحمد صلى الله عليه وسلم أنزل الله في النسيء ما أنزل ولتأكيد الأمر فيه ذكره صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع فقال: )إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) ثم انتسب الناس بعد فراغه مما أراد تكيداً للقول فيه فقال: في أي يوم يخطب؟ ومن أي شهر هو؟ حتى أجابوه فأشهد الله على ما فعل فقال: )ألا هل بلغت اللهم فاشهد).
فهذا الأمر النسيء، ومعنى قوله عليه السلام: قد استدار كهيئته هو أنهم كانوا يحلون المحرم ويحرمون صفراً كما ذكرنا.
ثم كانوا يحتاجون في سنة أخرى إلى تأخير صفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم في المحرم فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يمكثون بذلك دعة، ثم يحتاجون إلى مثله، ثم كذلك، وكان يتدافع شهراً شهراً حتى دار التحريم على شهور السنة كلها. وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به وذلك بعد دهر متطاول، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أراد رجعة الأشهر إلى مواضعها وبطل النسيء.
وروي عن مجاهد أنه قال: كانت العرب في الجاهلية يحجون عامين في ذي القعدة، وعامين في ذي الحجة، فلما كانت السنة التي حج فيها أبو بكر رضي الله عنه كان الحج في السنة الثانية من ذي القعدة، وهي حجة قراءة براءة قرأها علي كرم الله وجهه على الناس، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم فلما كانت السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم عاد الحج إلى ذي الحجة، فذلك قوله: )إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض).(1/35)
ثم قال لما فرغ من خطبته: )أي يوم هذا). قالوا: يوم حرام، قال: )أي شهر هذا) قالوا: شهر حرام. قال: )أي بلد هذا) قالوا: بلد حرام، فقال: )ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا اللهم هل بلغت). ومراد النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد ثبت الحج في ذي الحجة على ما كان عليه في أيام إبراهيم عليه السلام، فهذا أبضاً طريقه، والأول أشبه وأشهر وجميع هذا، أو أكثره حكاه أبو عبيد القاسم بن سلام أيضاً. وقيل: إنما قيل رجب مضر لأنها كانت تعظمه، وتحرمه، ولم يكن يستحله العرب إلا حيان خثعم وطيء فإنهما كانا يستحلان الشهور، فكان الذين ينسؤن الشهور أيام الموسم يقولون حرمنا عليكم القتال في هذه الشهور إلا دماء المحلين.
فصل في تأويل أخبار مروية عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم والصحابة وبيان ما يحمد ويذم من معتقدات العرب في الأنواء والبوارح
وهذا الفصل لائق بما قدمناه من التنزيل، فلذلك جعلناه من تمامه. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: )ثلاث من أمر الجاهلية الطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالأنواء). فالاستسقاء بها منكر، كما قال صلى الله عليه وسلم إلا إن العرب مختلفون فيما يراعونه من قسمة الأزمان والفصول والحكم على الأحداث الواقعة في الأحوال والشهور، ولهم في ذلك من صدق التأمل، واستمرار الإصابة ما ليس لسائر الأمم، يدل على ذلك أن كل ما حكموا به قديماً عند طلوع هذا المنازل من تحت شعاع الشمس بالغدوات في ناحية المشرق وسقوط نظائرها في المغرب من أحوال فصول السنة، وأوقات الحر، والبرد، ومجيء الأمطار والرياح فإنها تجري على ما حكمت به إلى أن لا يتغير ولا يتبدل إلا على طريق الشذوذ، وعلى وجه لا يحصل به الاعتداد وعلى ذلك فهم مختلفون.
فمنهم من اعتقد أن تلك الحوادث من أفعال الكواكب، وأنها هي المدبرة لها والآتية بها حتى صارت كالعلل فيها والأسباب وأن للأزمنة تأثيراً في أهلها كما أن للأمكنة تأثيراً في أهلها ولذلك أخذ قرن عن قرن الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، قالوا: فتصاريف الأزمان تؤثر في الخلق والأخلاق والصور والألوان والمتاجر، والمكاسب والهمم والمآرب والدواعي والطبائع واللسن والبلاغات والحكم والآداب، فذم الله تعالى طرائقهم ونعي عليهم عقائدهم، وقال حاكياً عنهم: )إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما يهلكنا إلا الدهر) )سورة الجاثية، الآية: 24) الآية، وهذا تجهيل من الله تعالى لهم، وذكر بعضهم أن الذي يدل على أن شأنهم كان تعظيم الرجال والاستسلام للمنشأ والذهاب مع العصبية والهوى ما نجد من اعتقاد اكثر أهل البصرة وسوادهم لتقديم عثمان، واعتقاد أهل الكوفة لتعظيم علي، ومن اعتقاد أكثر الشاميين لدين بني أمية وحب بني مروان حتى غلط قوم فزعموا أن هذا لا يكون إلا من قبل الطالع، أو من قبل التربة، كما تجد لأهل كل ماء وهواء نوعاً من المنظرة والرأي والطبيعة واللون واللغة، والنشوء والبلدة ولو كان ذلك كما ظنوا لما حسن الأمر والنهي ولا كان لإرسال الرسل معنى، ولما جاز الثواب والعقاب بلى لاستمالة الناس بالترغيب والترهيب والاصطناع والتقريب والذهاب مع المألوف شأن عجيب.
وذكر بعض المفسرين وهو عبد الله بن عباس في قوله تعالى: )وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) )سورة الواقعة، الآية: 82) أنه القول بالأنواء وقرأ علي، وتجعلون شكركم أنكم تكذبون، فأما قوله تعالى: )إن هم إلا يظنون) )سورة البقرة، الآية: 78) فإن للآلف والعادة سلطاناً على النفوس والقلوب قوياً وأخذاً بالبصائر، والعيون عزيزاً. وكانوا إذا استهجنوا مستكرماً واستقبحوا مستحسناً، وعدلوا عن مألوف إلى متروك، وعن معمول إلى مرفوض وتنقلت بهم الأحوال وتبدلت لهم الأبدال طلبوا المعاذير والعلل، وصرفوا الفكر في الأسباب والدواعي من جوانب الألف والعادة لا من نواحي النظر والتدبر لطلب الإصابة، فرضوا بأن يعملوا الظنون، والأوهام، وتحملوا تلك الأفاعيل على الأسماء فضلاً عن الذوات ثقة بما يشاهدون واغتراراً بآرائهم فيما يحكمون لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلمه: )لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر) لأنه رآهم يقولون لذلك الاعتقاد الفاسد: أباد بني فلان الدهر، وأفناهم الليالي كقول بعضهم شعراً:(1/36)
يا دهر قد أكثرت فجعتنا إذا ... بسراتنا ووقرت في العظم
وسهلتنا ما لست تعقبنا به ... يا دهر ما أنصفت في حكم
وكقول الآخر:
وإن أمير المؤمنين وفعله ... لكا لدهر لا عار بما فعل الدهر
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر أي لا تسبوا الذي يفعل هذه الأشياء فإنكم إذا سببتم فاعلها فإنما يقع السب على الله تعالى. ومنهم من اعتقد أن تلك الحوادث من فعله تعالى لكنه أجرى العادة بأن يفعلها عند طلوع تلك النجوم، أو أفولها لأنهم مختلفون في ذلك أيضاً كأنهم يعدون تلك التغيرات أوقاتاً لها، وأمارات وسموها الأنواء باتفاق منهم لأن النوء يكون السقوط والطلوع، وهذا قريب في الدين والعقل لا إنكار فيه، وعلى هذا يحمل قول عمر للعباس حين استسقى: يا عم رسول الله كم بقي من نوء الثريا. فإن العلماء بها يزعمون أنها تعرض في الأفق سبعاً لأن هذا أمر عيان على مجار قائمة ومسير مركب، وقد جعل الله تعالى في علم هذا وما أشبه مما ضمنه هذا الفلك عبراً كثيرة، وآية مبصرة، ودلالة صادقة عم بجليله كثر هذا الخلق وخص بلطيفه خصائص منهم مدحهم حين تبينوه وأقاموا الشكر عليه فقال تعالى: )وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) أي مضيئة: )لتبتغوا فضلا من ربكم) )سورة الإسراء، الآية: 12) الآية، وقرأ بعضهم مبصرة فيكون مثل قول عنترة: والكفر مخبثة لنفس المنعم.
وإذا وضعت مفعلة في معنى فاعل كفت من الجمع والتأنيث يقولون: الولد مجبنة وهذا العشب ملينة مسمنة فاعلمه.
وقال في آية أخرى: )وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) )سورة الأنعام، الآية: 97) الآية، وقد علمنا أن خلقاً كثيراً هلكوا بتفويض التدبير إلى النجوم ولإفراطهم في الأنواء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )ما أنعمت على عبادي من نعمة أصبحت طائفة منهم بها كافرين يقولون مطرنا بنوء كذا فأما من آمن بي وحمدني على سقياي فذلك الذي آمن بي وكفر بالكواكب).
وروي عنه أيضاً من وجه آخر: )لو أن الله عز وجل حبس المطر عن الناس سبع سنين ثم أرسله لأصبحت طائفة بها كافرين يقولون مطرنا بنوء المجدح) ومما يدل على ذلك قول الشاعر شعراً:
يا سحم من نتج الذراعين أنأقت ... مسائله حتى بلغن المناجيا
المناجاة المكان المرتفع لا يبلغه السيل.
وقال آخر شعراً:
وأخلف نوء المرزم الأرض قرة ... لها شبم فيه شفيف وجالد
وقال آخر:
تربع من جنبي قنا فعوارض ... نتاج الثريا نوؤها غير مخدج
ولو كان مرادهم بقوله: مطرنا بنوئه كذا: أي مطرنا في نوئه على التشبيه بقول الناس: مطرنا في غرة الشهر لم يكن مكروهاً، وكذلك مذهبهم في تأمل الغيث أن لو كان على نحو توقع الناس أياماً للأوقات المعروفة بالمطر لم يكن به بأس، لأن الناس جميعاً يعلمون أن للحر والبرد والمطر والريح من السنة وقتاً جرت العادة بتقدير الله تعالى أن يكون فيه أكثر ما يكون، وإن كان الله تعالى يأتي به إذا شاء لولا ذلك ما عرفوا وقت حرث ولا بذر ولا ركوب بحر ولا بر، ولا انتظر حين لمجيء شيء ولا لانصراف شيء، ولكانوا ومن يعاملهم كذلك في أجهل الجهل فمما هو ظاهر في زوال المكروه عنه قولهم: إذا طلعت الشعرى سفراً ولم يروا مطراً فلا تعدون أمره ولا أمراً، لأنهم وجدوا ذلك مستمراً في العادة ومنه قول الشاعر شعراً:
إذا ما قارن القمر الثريا ... لخامسة فقد ذهب الشتاء
لأن مقارنة الثريا في الليلة الخامسة من مهله لا يكون أبداً إلا في قبل الدجفاء وكقول الآخر شعراً:
إذا كبد النجم السماء بشقوة ... على حين هر الكلب والثلج خاسف
لأنه موافاته كبد السماء في أول الليل يكون في صبارة الشتاء ومما يكون على العكس من هذا في موافقة المكروه قول الآخر شعراً:
هنأناهم حتى أعان عليهم ... عوافي السماك في السجال السواجم
قال أبو حنيفة الدينوري: هذا الشعر لجاهلي واتبع أثره بعض الإسلاميين فقال:
هنأناهم حتى أعان عليهم ... من الدلو أوعو السماك سجالها(1/37)
قال وهنوء القوم أن يكفهم مؤنة وقد يجيء من كلامهم ما يغمض، فيرد بالتأويل إلى كل واحد من الناس، وللقائلين بالأحكام في النجوم مضاهاة للقوم في إثباتهم السعد والنحس بمقتضيات الكواكب إلا من عصمه الله تعالى ولله الأمر والحكم يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد لا راد لأمره، ولا مناص من قضائه.
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم: )من تعلم باباً من النجوم تعلم باباً من السحر ومن زاد استزاد). كما روي عنه صلى الله عليه وسلم في بعض خطبه أنه قال: )ما بال أقوام يقولون إن كسوف هذه الشمس، وخسوف هذا القمر وزوال هذه النجوم عن مطالعها لموت رجال قد كذبوا) الزوال، والزولان بمعنى وهذا يمكن حمله على قوله: إن من البيان لسحراً، فيكون الكلام مدحاً لهذا العلم، وللمشتغلين به إذا تبرؤوا من الحول والقوة ومما يدخلهم في الإشراك بالله والتسليم إلى الكواكب.
وقال ابن عباس لعكرمة مولاه اخرج فانظر كم مضى من الليل؟ فقال: إني لا أبصر النجوم فقال له ابن عباس: نحن نتحدى بك فتيان العرب وأنت لا تعرف النجوم، وقال: وددت أني أعرف هفت، ودوازده يريد النجوم السبعة السيارة، والبروج الاثني عشر، وقال معاوية لدغفل بن حنظلة العلامة وقد ضمه إلى يزيد علمه العربية والأنساب والنجوم: أترى هؤلاء حضوا على الضلالة، ورغبوا في السفاهة، فتأمل ما ذكرته فإنه واضح.
فإن قيل: إذا كان القول في قضايا النجوم على ما ذكرته فما وجه قول إبراهيم عليه السلام مخاطباً لقومه وهم يعبدون الأصنام ليقربهم إلى الله زلفى: )فما ظنكم برب العالمين فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم فتولوا عنه مدبرين) )سورة الصافات، الآية: 97 90) قلت: قد تكلم الناس في هذا فقال بعضهم النجوم جمع نجم، وهو ما نجم من كلامهم لما سألوه أن يخرج معهم إلى عيدهم، ونظر نظرة معناه تفكر ليدبر حجة فقال: إني سقيم يريد سقيم من كفرهم وإيمانهم بغيره، وهذا كما يقال أنا مريض القلب من كذا وإنما تخلف عنهم لما أضمر من كيد أصنامهم لأن حجته عليهم في تعطيل عيدهم فلما غابت عيونهم جعلها جذاذاً.
وسئل ابن الأعرابي عن معنى قوله تعالى: )سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) )سورة الأنبياء، الآية: 60) معنى يذكرهم يعيب وأنشد:
لا تذكري فرسي وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
قال أبو إسحاق الزجاج: قال ذلك لقومه، وقد رأى نجماً فقال: إني سقيم يوهمهم أن به الطاعون، فتولوا عنه مدبرين فراراً من أن يعذبهم الطاعون، وإنما قال: إني سقيم لأن كل أحد وإن كان معافى لا بد له من أن يسقم ويموت. قال تعالى: )إنك ميت وإنهم ميتون) )سورة الزمر، الآية: 3) أي أنك ستموت فيما تستقبل فكذلك إني سقيم أي سأسقم لا محالة. وروي في الحديث لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا في ثلاث وإن هذه الثلاث وقعت فيها معارضة. وذلك قوله: )بل فعله كبيرهم هذا على معنى أن كانوا ينطقون) )سورة الأنبياء، الآية: 63) فقد فعله كبيرهم، وقوله في سارة: هي أختي في الإسلام. وقوله: )إني سقيم) )سورة الصافات، الآية: 89) على ما فسرناه، وقال أبو مسلم: عطف بالفاء هذا الكلام على ما تقدم من أمره في مخاطبة قومه بقوله: ماذا تعبدون، قال: ونظرة في النجوم هو الذي أخبر الله تعالى به عنه إذ يقول الله: )وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات) )سورة الأنعام، الآية: 70) إلى )وما أنا من المشركين) )سورة الأنعام، الآية: 79) فكانت نظرته تلك للتبين.
فلما أراه الله الآيات في نفسه، وفي الآفاق كما قال الله تعالى: )سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) الآية، قال لقومه: )أئفكاً آلهة دون الله تريدون) )سورة الصافات، الآية: 86) وذلك حين قال: )إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) )سورة الأنعام، الآية: 79) الآية، وكان قوله: )إني سقيم) قبل التبين، وأراد بالسقيم أنه ليس على يقين ولا شفاء من العلم ويقوله الرجل إذا سأل عن شيء فصدق عنه وبين له: شفاني فلان فلما كان العلم واليقين شفاء صلح تسمية الحال التي قبل كنه البيان سقماً.(1/38)
وقد قاله لله تعالى في قوم لم يكونوا على إيمان محض: )في قلوبهم مرض) )سورة البقرة، الآية: 10(، وهذه الحال التي انتسب فيها إبراهيم عليه السلام إلى السقم هي الحال التي فيها البلوغ، ووقوع التكليف من الله عز وجل ولزوم أمره ونهيه، والفاء في قوله تعالى: )فتولوا) فاء عطف أيضاً ينعطف بها ما هي معه من الكلام على قوله: )أئفكاً آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين(، فلما دعاهم إلى الله تعالى، وأنكر عليهم عبادة ما يعبدون دون الله تولوا عنه مدبرين.
وزعم قوم لا يعقلون أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات هي واحدة منها، وحاش للرسول الذي اتخذه الله خليلا أن يكذب، أو يأتي بالقبائح، والذي توجبه التلاوة وشهادة بعض القرآن لبعض، ويحسن في أوصاف أنبياء الله وصفوته من عباده هو ما ذكرناه، وتلخيص ما في هذه القصة منذ ابتداء ذكر إبراهيم إلى حيث انتهينا أن الله تعالى أثنى على إبراهيم بأنه وافق نوحاً في الإيمان والإخلاص حتى توفاه الله على ذلك سليم القلب لئلا يشرك به شيئاً وأنه نظر فيما خلق الله من النجوم فاستدل على خالقها بها وتبين له بالتأمل لها أن إلهاً والهة واحد ليس كمثله شيء وهو رب العالمين، وخالق الخلق أجمعين ودعا قومه إلى مثل ما أراد الله، وهداه له وزرى عليهم، وعاب اختيارهم في عبادة الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم ولا عن أنفسها شيئاً، فتولى القوم عنه مدبرين عند ذكره ربه كما قال تعالى في الكافرين من قوم النبي صلى الله عليه وسلم: )وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً) )سورة الإسراء، الآية: 46) وقال تعالى: )فما لهم عن التذكرة معرضين) )سورة المدثر، الآية: 49) الآية. وقال تعالى: )وإذا ذكر الله وحده) )سورة الزمر، الآية: 45) الآية. وقال بعض أهل النظر إنه عليه السلام رآهم يعتمدون فيما يعن لهم ويحدث وفيما يستأنفون من مبادئ الأمور، ومفاتحها على النظر في النجوم وأحكامها، فاقتدى بهم تأنيساً لهم وأخذاً بعادتهم ليسكنوا إليه بعض السكون وإن لم يركنوا كل الركون.
وقوله: )إني سقيم(، وإن قاله متأولا، ففيه استبناء، ورجاء رفق منهم إما لعلة، وإما للتربص به حتى يأمنوا شره، ويشهد لهذا قوله: )فتولوا عنه مدبرين) )سورة الصافات، الآية: 90) وهذا حسن قريب.
وقال بعضهم: قوله تعالى: )فنظر نظرة في النجوم) )سورة الصافات، الآية: 88) يعني به ما ينجم من نبات الأرض كأنه كان يقلب الأدوية متخيراً منها ما يقرب الشفاء عنده، وقيل أيضاً أراد نظر فيما كان ينزل عليه من نجوم الوحي كيف يتوصل إلى ما يهم به في آلهتهم وبماذا ابتدئ ومن أين مخلصه إذا أقدم ويكون قوله: )إني سقيم) اختداعاً منه لهم وإيذاناً منه بأنه مشغول بنفسه تارك لما كان لا يؤمن من مكائد، وهذا نهاية ما يقال. فأما قوله تعالى: )فراغ عليهم ضرباً باليمين) )سورة الصافات، الآية: 93(، يريد مال عليها بالضرب، كما تقول: التقى الفريقان فراغ أحدهما: أي عزل عن الحرب يقال دار فلان رائغة عن الطريق أي عدله، وقوله: باليمين قيل: بيده اليمنى، وقيل: هي يمين كان حلف بها، وهي قوله تعالى: )تالله لأكيدن أصنامكم) )سورة الأنبياء، الآية: 57) وقيل بالقدرة كما قال:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
وقيل: راغ معناه أقبل مستخفياً كروغان الثعلب، وكذلك قوله: )فراغ إلى أهله فجاء بعجل) أي لم يرد أن يشعروا به.
فصل آخر
وذكر أبو علي الفارسي فيما سمعته منه أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: )ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) )سورة الذاريات، الآية: 26) أن هذا ليس من الرؤية التي هي إدراك البصر بل هي بمعنى العلم وساغ حذف المفعول الثاني الذي تقضيه تلك لأن الكلام قد طال ما هو بمعنى المفعول الثاني لو أظهر، ألا ترى أن قوله: كم ترون القمر ليلة البدر تأكيد، وتشديد للتيقن، وتبعيد من اعتراض الشبه على العلم به تعالى، وإذا كان بمنزلة(1/39)
ما بمنزلة المفعول الثاني إذا جرى ذكره في الصلات نحو: علمت أن زيداً منطلق، وأحسب الناس أن يتركوا فلما سد ما جرى في الصلتين مسد المفعولين، ومن قال: إنه يضمر في الموصولين مفعولا ثانياً كان قياس قوله: أن يضمر هنا مفعولا ثانياً كأنه ترونه متيقناً، ونحو ذلك وأن يقال: إن ما ذكر سد مسد المفعول الثاني أقيس.
ألا ترى أن ما جرى في صلة أن بعد لو في قولك: إنك لو جئتني قد سد مسد المفعول الذي يقع بعد لو حتى لم يظهر ذلك الفعل معه، واختزل فكذلك المفعول مع الموصولين في هذا الباب، ومثل هذا قوله: أعنده علم الغيب فهو يرى لأن القول في يرى أنها التي تتعدى إلى مفعولين لأن علم الغيب لا يوجب الحسن حتى إذا علمه أحس شيئاً، وإنما المعنى عنده علم الغيب مثل ما يشهده لأن من حصل له علم الغيب يعلم ما يغيب كما يعلم ما يشاهد.
فإن قلت: فكيف حذف المفعولين جميعاً. قيل: المعنى أعنده علم الغيب، فهو يرى الغيب مثل المشاهد والمبتدأ والخبر قبل دخول رأيت عليه كان الغيب فيهما مثل المشاهدة، ثم حذفا للدلالة عليهما وقد قال الأعشى:
فأنبيت قيساً ولم أبله ... كما زعموا خير أهل اليمن
وقال الكميت: ترى حبهم عاراً علي وتحسب(، فالدلالة من الفحوى والمعنى في الآية على المفعولين المحذوفين كالدلالة عليهما في البيتين لجري ذكرهما فيهما وإنما ذكرنا ما قاله لغرابته.
فصل آخر
في جواب مسائل للمشبهة
من الكتاب والسنة مما تستدل به المشبهة
أنهم قالوا قال الله تعالى: )الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم) )سورة غافر، الآية: 7) وقال: )وترى الملائكة حافين من حول العرش) )سورة الزمر، الآية: 75) ثم قال: )الرحمن على العرش استوى) )سورة طه، الآية: 5) وقال: )ثم استوى على العرش) )سورة يونس، الآية: 3) كما قال: )ورفع أبويه على العرش) )سورة يونس، الآية: 100) ولا فصل بين الكلامين وقال أيضاً: )وسع كرسيه السموات والأرض) )سورة البقرة، الآية: 255) والكرسي والعرش بمعنى ومما جاء في الخبر قول النبي صلى الله عليه وسلم حيث حكم في بني قريظة: )لقد حمكمت بحكم الله من فوق سبع سموات) وعنه حين قال: )فأقوم على يمين العرش) ولا يكون يمين إلا لما له يسار، قالوا فقول الله: )ومن حوله) و)حافين من حول العرش) فيه دلالة على أن العرش مطاف يطاف به، ودوار يدار عليه وهذه المواضع وأشباهها عمدهم.
والجواب عنها أن للعرش مواضع عدة في كلام العرب منها الملك والعز وقوام أمر الرجل وملاكه ويشهد له قولهم ثل عرش فلان إذا أزيل وحطت رتبته ومنها سرير الملك ويشهد له قوله تعالى: )ولها عرش عظيم) )سورة النمل، الآية: 23(، وقوله: )أهكذا عرشك قالت كأنه هو) )سورة النمل، الآية: 42) ويجمع على العرشة والاعراش. ومنها سقف البيت وما يستظل به والعرش كذلك، ومنه قيل عرش المكرم فهو عرش وقالوا عرش السماك لكواكب أربعة تشبهاً به لأنه على صورة النعش. ومنها طي البير بالخشب بعدما يطوى موضع الماء منها بالحجارة، ويقولون عرشوا بيركم وإذا ثبتت هذه الوجوه حقيقة وتشبهاً في لفظة العرش، فالواجب حملها حيث جاءت على الأليق بالمعنى مع قرائنه والأقرب في الاستعمال والأشبه في قضية السمع والعقل وهذا الذي ذكرناه هو الميزان عند طلب الرجحان حيث حصل الاشتراك في الألفاظ وغيرها.(1/40)
فأما الخبر المروي وهو: )لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماوات) فقوله من فوق ظرف لقوله حكم الله ومتعلق به فهو كما يقال حكم الله العالي المكان الرفيع المحل والقدر وأنت تصف الحكم ولا يجوز أن يكون متعلقاً بلفظة الله لأنه تعالى لا تحويه الأماكن ولا تحيط به الأقطار والجوانب والمعنى بحكم يشبه حكم الله الذي محله ومكانه من الإصابة والغلبة والعلو فوق سبع سموات وقوله تعالى: )الذين يحملون العرش ومن حوله) )سورة غافر، الآية: 7) ومنهم من يطوف به وكلهم يسبح لله بالحمد له والاعتراف بنعمه والإيمان بجميع ما تعبد الله به خلقه ويستغفرون لمن في الأرض إلى الشفاعة التي قال الله تعالى ما حالهم )ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) وقوله تعالى: )ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) )سورة الحاقة، الآية: 17) )يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) )سورة الحاقة، الآية: 18) يريد أن جميع من خلق الله من البشر في ذلك اليوم يعرضون بأعمالهم وأقوالهم، وكل ما أعلنوه وأسروه أيام حياتهم فيحاسبون عليه، وذلك كما يستعرض السلطان جنده بأسلحتهم ودوابهم وآلاتهم، فأما العدد المذكور فهو مما استأثر الله به ومثله مما رأى الله تعالى إيهام الأمر فيه والكف عن بيانه كثير، وذلك لتعلق المصلحة بأن يكون حازماً وسائر ما سألوا عنه إذا أجملناه.(1/41)
فإنا نقول في جوابهم الشامل لمقالهم المسقط لكلامهم لما أن كال أسفل الأشياء الثرى وكان أعلى الأشياء السماء السابعة ثم الكرسي ثم العرش فكان الله تعالى قد جعل للأعلى في القلوب من التعظيم والقدر والشرف ما لم يجعل للأسفل، كما عظم بعض الشهور وبعض الأيام وبعض الليالي وبعض الساعات، وبعض البقاع وبعض المحال، وكان قد جعل للعرش ما لم يجعل للكرسي وجعل للكرسي ما لم يجعل للسماء السابعة ذكر العرش والكرسي والسماء بما لم يذكر به شيئاً من سائر خلقه فذكر مرة العرش والكرسي والسماء في جملة الخلق، وأنه عاد على جميعها بالسلطان والقدرة والقوة حيث قال تعالى: )وهو على كل شيء قدير) )سورة البقرة، الآية: 106) وحيث قال تعالى: )وكان الله على كل شيء مقتدراً )سورة الكهف، الآية: 45) وقد يقول الرجل فلان شديد الإشراف على عماله وليس يذهب إلى إشراف بدنه ورأسه، قد خبر الله أنه على كل شيء قدير ومقتدر وحافظ وظاهر، وقد قال: )هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) )سورة الحديد، الآية: 3(، والعرش شيء هو عال عليه بالقدرة، والظاهر عليه بالسلطان وإنما خصه بالذكر إذ كان مخصوصاً عندنا بالنباهة وأنه فوق جميع الخلق فذكر مرة في الجملة ومرة بالإبانة قال تعالى: )وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) )سورة البقرة، الآية: 255) فخبر أنه عال عليه وحافظ له ومانع له من الزوال وقوله )كرسيه) كقوله بيته ولو كان متى ذكر أن له كرسياً وعرشاً فقد أوجب الجلوس عليهما كان متى ذكر بيته فقد أوجب أنه ينزله ويسكنه وليس بين بيته وعرشه وكرسيه وسمائه فرق، ولو كنا إذا قلنا: سماؤه فقد جعلناه فيها كنا إذا قلنا أرضه فقد جعلناه فيها قال تعالى: )من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) )سورة البقرة، الآية: 98) فأدخلهما في جملة الملائكة ثم أبانهما إذ كانا بائنين من سائر الملائكة، وكذلك سبيل القول في العرش والكرسي والسماء والأرض والحوت، والثرى، لأن الكرسي إذا كان مثل السماوات والأرض والعرش أعظم منه فمتى ذكر أنه عال على العرش وظاهر عليه فقد خبر أنه على كل شيء قدير، وقد يكون العلو بالقدرة والاعتلاء، فمرة يذكر العرش، ومرة يذكر الكرسي دون العرش، ومرة يذكر السماء دون الكرسي ومرة يقول: )وهو الله في السموات وفي الأرض) )سورة الأنعام، الآية: 3) بعد أن قال: )أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور) وترك ذكر الأرض فلو كان إذا ذكر السماء دون الأرض كان ذلك دليلا على أنه ليس في الأرض كان في ذكره أنه على العرش، دليل على أنه ليس في السماء وقد قال: )أأمنتم من السماء) )سورة الملك، الآية: 17) ومرة يذكر معاظم الأمور، وجلائل الخلق، وكبار الأجسام وأعالي الأجرام، ومرة كل شخص كيف كان وحيث ما كان كقوله تعالى: )ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) )سورة المجادلة، الآية: 7) الآية. وقد قال أيضاً على هذا المعنى: )ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وقال: )نحن أقرب إليه منكم) )سورة الواقعة، الآية: 85).
فإن زعم القوم أنه إنما ذهب إلى معنى القدرة والعلم لأن قربه منهم كقربه من العرش قلنا: فقد صرتم إلى المجازات وتركتم قطع الشهادة على ما عليه ظاهر الكلام، فكيف نعيتم ذلك علينا، حين زعمنا أن تأويل قوله: )الرحمن على العرش استوى) )سورة طه، الآية: 5) ليس على كون الملك على سريره بل هو على معنى العلو والقدرة والحفظ والإحاطة والظهور بالسلطان والقوة وهذا بين والحمد لله.(1/42)
فإن قالوا: ما تأويل استوى؟ وما فائدة على؟ قلنا: قد زعم أصحاب التفسير عن ابن عباس وهو صاحب التأويل والناس عليه عيال، أن تأويل قوله: استوى استولى، وقد قال تعالى لنوح: )فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك) )سورة المؤمنون، الآية: 28) ولم يرد الله تعالى أنهم كانوا مائلين فاعتدلوا، وإنما معناه فإذا صرتم في السفينة فقل: كفا وكذا، وقد يقول الرجل: قلت كذا وكذا ثم استويت على ظهر الدابة بعد أن لم أكن عليها فقلت كفا وقال تعالى: )ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً) )سورة يوسف، الآية: 22) وإنما يريد: فلما انتهى وبلغ جعلناه حكيماً، وكما يقال للغلام المقدود: هذا غلام مستو فإن قالوا: قد عرفنا هذه الوجوه ولكن ما معنى قوله تعالى: )ثم استوى إلى السماء وهي دخان) )سورة فصلت، الآية: 11) قلنا معناه: ثم عمد إلى السماء فخلقها كما قال ابن مقبل شعراً:
أقول وقد قطعن بنا شرورى ... عوامد واستوين من الضجوع
أي خرجن، وقال الآخر:
استوت العير إلى مروان ... مسير شهر قبله شهران
ولفظة على تختلف مواقعها، فمنها قوله تعالى: )إن إلينا آياتهم) )سورة الغاشية، الآية: 25) )ثم إن علينا حسابهم) )سورة الغاشية، الآية: 26) وقوله تعالى: )إن علينا جمعه وقرأنه) )سورة القيامة، الآية: 17) )فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه) )سورة القيامة، الآية: 18 19) وقوله تعالى: )وعلى الله قصد السبيل ومنها جائز) والمراد في الجميع اللزوم والوجوب ومنها قول الفرزدق شعراً:
ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان علي للقدر الخيار
وإنما قال هذا حين ندم على تطليق امرأته نوار وأوله:
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار
والمعنى لو ملكت أمري فكان علي أن أختار للقدر، ولم يكن على القدر أن يختار لي، ومنها قوله تعالى: )فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك) )سورة المؤمنون، الآية: 28) وقوله تعالى: )وكان عرشه على الماء) )سورة هود، الآية: 7) وهذا كما أن السماوات بعضها على بعض، ويجوز أن يكون عليه على جهة الالتزاق. ومنها قوله تعالى: )وعلى الوارث مثل ذلك) سورة البقرة، الآية: 133) وهذا من قولهم: على فلان نذر، وعليه حتم وعليه يمين. ومنها قوله:
سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السلام
ومنها قول الآخر شعراً:
ولا الحي على الحدثان قومي ... على الحدثان ما تبني السقوف
يقول: لا ألوم قومي أن يحنوا علي وأن يحدثوا الأحداث. فعلي احتمال ذلك بنى بيت السؤدد. ومنها قوله تعالى: )أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) سورة البقرة، الآية: 159) فمعنى مر على قرية مر بجنباتها، ولم يرد أنه مر فوقها، وقوله: هي خاوية على عروشها: يريد وهي خالية على عروشها أي هي على ما بها من السقوف خالية كما يقال: زيد على كثرة محاسنه متواضع. وقال بعضهم: أراد بقيت حيطانها لا سقوف لها وما قلناه أشبه. وقال أبو عبيدة، هي الخيام وبيوت الأعراب، ومنها قولهم: عليك الجادة والطريق الأعظم في الإغراء بها وفي القرآن: )عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) )سورة المائدة، الآية: 105) هذا ما حضر من مواضع علي.
فصل آخر
وهو بيان قوله تعالى: )الله أعلم حيث يجعل رسالاته) )سورة الأنعام، الآية: 124) وبيان قول القائل: الله أعلم بنفسه من خلقه والفصل بينهما.
أما قوله تعالى: )الله أعلم حيث يجعل رسالاته) )سورة الأنعام، الآية: 124) فلا يجوز أن يكون انتصاب حيث على حد انتصابه إذا كان ظرفاً لأن علمه تعالى في جميع الأماكن على حد واحد لا يدخله التزايد والتناقص، وإذا لم يسقم حمل أفعل على زيادة علم في مكان فيجب أن يحمل على انتصابه انتصاب المفعول به، ويكون العامل فيه فعلا مضمراً يدل عليه قوله: )أعلم) ويحصل الاكتفاء بقوله: )الله أعلم) ثم أعلم يدل على يحلم مضمر أو التقدير الله أعلم العالمين يعلم حيث يجعل رسالاته فيختار لأدائها من يصطفيه ومثل هذا قول الشماخ شعراً:
وجلاهما عن ذي الأراكة عامر ... أخو الحضر يرمي حيث تكوى النواجر
فقوله: حيث مفعول لأنه هو المرمي إذ لم يجز أن يكون المعنى يرمي شيئاً في ذلك المكان وهذا مثل قول الآخر:(1/43)
كروا حمى للحقيقة منهم ... واضرب منا بالسيوف القوانسا
انتصب القوانس بفعل مضمر دل عليه قوله واضرب منا.
وأما قول القائل: الله أعلم بنفسه من خلقه حتى قيل: لم يزل معلوماً لنفسه فاعلم أن هذا الكلام له منصرفات بعضها يجوز ويحسن في وصفه تعالى، وبعضها يمتنع، فإن أردت بقولك نفسه صفة لأنه به حسن، وجاز ويكون هذا كقوله في صفة قدرته وتدبيره وعظمته وإرادته وكرمه ورحمته: )يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن) )سورة الرحمن الآية: 29) وكذلك إن أردت أن علم العبد قد يعترض فيه الشك ويتسلط عليه النسيان ويعتريه الآفات كالغشي والنوم والموت فتعطله وعلم الله يدوم ويثبت على حد واحد كان صواباً وقائماً وصحيحاً وإن أردت أن علمه بذاته متكامل فهو يسعها وعلم خلقه بها متناقص فيعز عن الإحاطة بها كان غير لائق به وممتنعاً من تجويزه فيه، وكذلك إن أجريت مجرى قول القائل إن جبرائيل أعلم بالله من الإنسان، تريد أن علمه أعلق به وألزم له كما يزداد حباً على حب، ويكون تعين أثبت من تعين امتنع أيضاً وذكر النفس ليس يثبت به شيء غير الذات وكذلك الوجه في قوله تعالى: )ويبقى وجه ربك) )سورة الرحمن، الآية: 27) وليس ذلك على ما ينسب إلى المحدثين من الأعضاء وكذلك العين إذا قلت عين الشيء ويصح أن يقال: الله أعلم بنفسه من خلقه ويراد أنه أذكر لوجوه القدرة وصنوف ما تدل عليه الحكمة والعظمة ولجميع صفاته العلى وأسمائه الحسنى فلا أمد لعلمه، ولا نهاية ولا غاية وشاهد هذا قوله تعالى: )ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) )سورة لقمان، الآية: 27) الآية وهذا لأن العبد لا يكون ذاكراً من وجوه القدرة والحكمة كلها إلا ما علم منها والله تعالى ذاكر لها كلها، ويكون هذا كما يقال فلان أعلم بالله من فلان، ويراد أنه قد عرف أن الدنيا محدثة من وجوه عدة، وأن الآخر لا يعرف ذلك إلا من وجه واحد، وقد ظهر بما بيناه للفصل بين ما يسأل عنه في الموضعين جميعاً.
فصل في تبيين المحكم والمتشابه
من قوله تعالى: )هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) والحكمة في إنزاله مقسماً بين الوجهين المذكورين والكلام في المعارف والمعجز.
اعلم أن الله تعالى لما ابتلى العقلاء بتكاليف الذين بعد إزاحة العلل وتسهيل السبل وبعث الرسل رتب في مراسمه مراتب، وجعل لكل مرتبة قدراً من الجزاء والمثوبة ترغيباً في الاستكثار من طاعته، وحضا كلى التنافس في أشرف المنازل لديه ومن أجل تلك المراسم ما ندب إليه من تدبر كتابه الحكيم الجامع للأوامر والنواهي وأصول الحلال والحرام والمندوب إليه والمباح، وقصص الأمم السالفة، وأخبار الأنبياء معهم، والمواعظ والأمثال والحكم والآيات والنذر والمثلات، والعبر والامتنان بأنواع النعم، والإخبار بالشيء، كونه والتنبيه على مغيبات الأمور وسرائر القلوب من دونه، هذا وقد أنزله علماً لنبيه يتحدى زمان الفصاحة، وأوان التبلغ بالبلاغة جعل بعضه جلياً واضحاً وبعضه خفياً متشابهاً، ليعمل من تسمو نفسه إلى أعلى الدرجات فكره، فيمتاز في العاجل بما يستنبطه ويثيره من العلم ودقيقه كن غيره ممن لم يسع سعيه، وإن جاهد في ربه ويجتاز في الأجل عند الله الزلفة وجزيل المثوبة ما يقرب من غايات الأنبياء وذوي العزم والنصيحة فلولا حكمة الله ذكرته لبطل التفاضل فيما هو أشرف وتدانت الأقدار فيما هو أفخم.
ألا ترى أن الصبر في أعمال القلب وأعمال الفكر وكد الروح لنتائج النظر ليس كالصبر في إتعاب الجوارح وإنصاب الأراب والمفاصل، لذلك قال تعالى: )والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) )سورة العنكبوت، الآية: 69) فأما ما روي من أن لكل آية ظهراً وبطناً ومطلعاً فالمعنى لكلها لفظ ومعنى، ومأتى أي طريق يؤتى منه فيتبين علمه من ذلك الطرب أيضاً فيه: الظهر للإخبار عن مخالفة الأمم وهلاكها والبطن يكون تحذيراً أي لا تفعلوا فعلهم فتهلكوا هلاكهم.
وحكى عن النظام أنه قال القرآن كله أو بعضه جاء على كلام العامة في أمثالهم إياك أعني فاسمعي يا جارة. وقد ظهر وجه الحكمة بما بيناه في تنزيله بعض الكتاب محكماً وبعضه متشابهاً فأما التنبيه على كل نوع منهما فإنا نقول وبالله التوفيق:(1/44)
اعلم أن المحكم من الآية هو الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً فيوافق ظاهره باطنه إذا تأول كأنه أحكم أمره ومنع متدبره من تسليط الشبهة عليه كما منع هو في نفسه من أن يتورده الاحتمال، وأصل الأحكام المنع. ومنه حكمة الدابة فإن قيل: إن الله تعالى قد وصف آيات القرآن كلها بمثل هذه الصفة لأنه قال تعالى: )آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) )سورة هود، الآية: 1) وإذا كان كذلك فالمتشابه محكم أيضاً ويؤدي ظاهر الآيتين إلى تناقض قلت: إن قوله: )أحكمت آياته) معناه أتقنت وأتي بها على حد من الوثاقة في النظم والإصابة في المواضع لا يتخللها اختلال، وهذا كما يقال للبناء الوثيق محكم. وقد قال الله تعالى في موضع آخر: )آلر تلك آيات الكتاب الحكيم) )سورة يونس، الآية: 1) فجعل الكتاب حكيماً بما تضمنه من الحكمة وإذا وضح ذلك فقد سلم ما قلناه ولم يحصل بحمد الله تناقض، ويشهد لما تأولنا عليه المحكم أنه جعل في مقابلة المتشابه.
وجوز بعض المتأولين أن يكون معنى أحكمت آياته أجملت من حيث جاء بعده، ثم فصلت إذ كان الإجمال والتفصيل يتعاقبان، وهذا الذي قاله لا يعرف في اللغة، والمتشابه هو الذي دخل في شبه غيره فيعتوره تأويلات أو أكثر، ومن شرطه أن يرد إلى المحكم فيقضي به عليه، لهذا قال تعالى في صفة ثمر الجنة: )وأوتوا به متشابهاً) )سورة البقرة، الآية: 25) فقيل المعنى يشبه بعضه بعضاً في الجودة والحسن. وقال المفسرون: يشبه بعضه بعضاً في الصورة ومختلف الطعوم وقد وصف تعالى الكتاب كله بالمتشابه كما وصفه بالحكيم، وكما وصف آية بالإحكام فقال: كتاباً متشابهاً والمعنى يصدق بعضه بعضاً فلا يختلف ولا يتناقض. وقل علي لابن عباس حين وجه به إلى الشراة قبل القتال لا تناظروهم بالقرآن، فإن القرآن حمال ذو وجوه، ولكن ناظروهم بالسنة فإنهم لا يكذبون عليها فقوله: حمال أي: يحمل عليه كل تأويل، وهذا يترجم عن معنى المتشابه ومثال المحكم نحو قوله تعالى: )أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) )سورة النحل، الآية: 145) وكقوله تعالى: )إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) )سورة النحل، الآية: 90).(1/45)
فأما وجوه المتشابه فمختلفة، منها اتفاق اللفظين مع تنافي المعنيين في ظاهر آيتين كقوله تعالى: )هل من خالق غير الله) )سورة فاطر، الآية: 3) فهذا محكم لفظه استفهام ومعناه نفي، والمراد لا منشئ إلا الله. ثم قال تعالى في موضع آخر: )فتبارك الله أحسن الخالقين) )سورة المؤمنون، الآية: 14) فقلنا الخلق في كلامهم يكون الإنشاء ويكون التقدير يقال: خلقت الأديم إذا قدرته قال: ولأنت تعزي ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يعزى، والآية النافية تقضي على المثبتة بأن الخلق يكون فيه التقدير لا غير لأن الذي يخلص لله تعالى من معنى الخلق فلا يشارك فيه هو الإنشاء ومثله قوله تعالى: )وأن الكافرين لا مولى لهم) )سورة محمد، الآية: 11) مع قوله تعالى: )ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) )سورة يونس، الآية: 30) لأن المولى في اللغة يقع على السيد والعبد والمعتق والولي والناصر وابن العم، فمعنى لا مولى لهم: لا ناصر، ولا ولي ومعنى مولاهم الحق الإله والسيد الذي لا شك فيه يوم يكون الحكم والأمر له وهذا بين. ومنها: التنافي بين المعنيين في ظاهر آيتين وإن لم يكن عن اتفاق لفظين مثل قوله تعالى: )يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم) )سورة الزلزلة، الآية: 6) مع قوله تعالى: )ونفخ في الصور فجمعناهم جمعاً) )سورة الكهف، الآية: 99) وهاتان حالتان إحداهما حالة الورود وهي عند البعث والنشور، والأخرى حالة الصدور والانسياق إلى المعد من الثواب والعقاب، وهذا معنى ليروا أعمالهم فالمحكمة التي يرد إليها يصدر الناس أشتاتاً قوله تعالى: )ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) )سورة الروم، الآية: 14) )فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون) سورة الروم، الآية: 15 16) وهذا واضح ومثله قوله تعالى: )ويوم نحشر من كل أمة فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون) )سورة النمل، الآية: 83) أي يدفعون ويستعجلون مع قوله تعالى: )وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) )سورة مريم، الآية: 95) ومعنى فرداً لا عدد معه ولا عضد ولا عده ولا ذخيرة والمحكمة التي ترد إليه هذه قوله تعالى: )ونرثه ما يقول ويأتينا فرادا) )سورة مريم، الآية: 80) وإذا كان كذلك انتفى التشابه.
ومنها استغلاق الآية في نفسها وبعدها باشتباهها عن وضوح المراد منها ومن جعل وجه التشابه هذا وما يجري مجراه استدل بقوله تعالى: )وما يعلم تأويله إلا الله) )سورة آل عمران، الآية: 7) وجعل وجه الأحكام ظهور المعنى وتساوي السامعين في إدراك فهمه ولذلك مثل كثير من أهل العلم المحكمات بالآية الثلاث التي في آخر الأنعام وهي قوله تعالى: )قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) )سورة الأنعام، الآية: 151) إلى )ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) )سورة الأنعام، الآية: 153) والمتشابهات بقوله تعالى: )آلم، وآلر، وكهيعص، وطه) وما أشبهها. ومنها ألا يعلم السبب الذي نزلت الآية فيه على كنهه وحقه لاختلاف قديم يحصل فيه بين الرواة، وادعاء بعضهم النسخ فيه ولغرابة القصة وقلة البلوى بمثلها والصواب عندي في مثل هذا أن يؤثر ما يكون لفظة الكتاب أشهد له وأدعى إليه، ومثاله قوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) )سورة المائدة الآية: 106) إلى )واتقوا الله واسمعوا) )سورة التغابن الآية: 16).(1/46)
ومنها أن يروى في تفسير الآية عن طرق كثيرة وعن رجال ثقات عند نقاد الآثار ورواتها، أخبار يختلف في أنفسها ولا يتفق ولا يستجاز مخبرها أو يستبعد، ثم تجد إذا عرضتها على ظاهر الكتاب لا تلائمه من أكثر جوانبها ولا توافقه وذلك مثل قوله تعالى: )هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) )سورة الأعراف، الآية: 189) إلى )فتعالى الله عما يشركون) )سورة الأعراف، الآية: 190) ومثل قوله تعالى: )وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) )سورة الأعراف، الآية: 172) إلى )أتهلكنا بما فعل المبطلون) )سورة الأعراف، الآية: 173) والوجه في الآيتين وأشباههما عندي أن يراعى لفظ الكتاب بعد الإيمان به ويبدل المجهود في انتزاع ما يتفق فيه أكثر الرواة من جهة الأخبار المروية وما هو أشبه بالقصة، وأقرب في الندين، ثم يفسر تفسيراً قصد لا يخرج فيه عن قصة الرواية واللفظ ولا يترك الاستسلام بينهما للجواز والانقياد للاستبشار لما عرف من مصالحنا فيما يمنعنا علمه أو يقنعنا عليه ألا ترى قوله تعالى فيما استأثر بعلمه: )يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) )سورة الإسراء، الآية: 85) وقوله: )وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا) )سورة الأعراف، الآية: 8) بعد قوله تعالى: )لواحة للبشر) )سورة المدثر الآية: 29) )عليها تسعة عشر) )سورة المدثر، الآية: 30) ومثل هذا الاستبشار ما فعل الله من الصرفة بيعقوب وبنيه حين انطوى عليهم خبر يوسف وكان بينه وبينهم من المسافة ما كان بينهم. ويشبهه الصرفة التي ذكرناها ما يفعل الله من سلب الانبساط من الكفار فيكون ذلك سبباً للتسلي فيما يبتلون به من العقاب وذلك قوله تعالى: )ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) )سورة الزخرف، الآية: 39).
ومنها الالتباس حال التاريخ أو ما يجرى مجراه في آيتين تتعارضان أو آية وخبر فتختلف في الناسخة منهما والقاضية على الأخرى وذلك كما روي عن مجاهد في قوله تعالى: )وأن احكم بينهم بما أنزل الله) )سورة المائدة الآية: 49) وهو أمر بالحكم فنسخت ما قبلها وهو: )فاحكم بينهم أو أعرض) )سورة المائدة، الآية: 42) وهو تخير. وروي السدي عن عكرمة في قوله تعالى: )فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) )سورة المائدة، الآية: 42) قال نسختها: )وأن أحكم بينهم بما أنزل الله) )سورة المائدة الآية: 49) وهذا قول أهل العراق ويرون النظر في أحكامهم إذا اختصموا إلى قضاة المسلمين والأئمة، ولما روي من رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهودية واليهود، وأما أهل الحجاز فلا يرون إقامة الحدود عليهم يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو من أعظم الحدود التي يأبون ويتأولون في رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين على أن ذلك كان قبل أن يؤخذ منهم الجزية والمقارة على شركهم وفي هذا القدر بلاغ للمتأمل.
فأما الكلام في المعرفة بالله تعالى ووجوبها وبيان فساد قول القائلين بالإلهام فإنا نذكر طرفاً منه ونقول: اختلف الناس في ذلك فزعم قوم أن المعرفة لا يجب على العاقل القادر وأنها تحدث بإلهام الله تعالى وكل من لم يلهمه الله المعرفة به فلا حجة عليه ولا يجب عليه وقالوا: إن الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا كفاراً وإنما قتلوا على سبيل المحنة، كما يقتل التائب والطفل ولا يجب على عقاب لأن الله تعالى لا يجوز أن يغضب على من لم يرد إغضابه.
وقال الجاحظ: إن المعرفة غير واجبة ولكنها تحدث بالطبع عند النظر، وقال: إن الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عارفين بالله معاندين واحتج بقوله تعالى: )وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) )سورة النمل، الآية: 14) وقال لا يأخذ الله الإنسان بما لم يعلم ولا بما أخطأ فيه ألا تراه يقول تعالى: )لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) )سورة البقرة، الآية: 125) واستدلوا على صحة مذهبهم بأن قالوا إلى الاعتقاد لا يعلم أنه حسن أو قبيح حتى يعلم أنه علم أو ليس بعلم فإذا علم أنه علم فقد علم المعلوم لأن العلم بالعلم علماً هو علم بالمعلوم فإذا علم المعلوم فقد استغنى عن اكتساب العلم به وإن كان لا يعلم أنه علم فإذا لا يجب على هذا الإنسان فعل ما لا يأمن أن يكون قبحاً.(1/47)
وقال أكثر أهل العلم إن المعرفة واجبة وهي من فعل الإنسان وإن أول المعرفة يقع متولداً عن النظر ولا يجوز أن يقع مباشراً ثم ما بعد ذلك لا يجوز أن يقع مباشراً وأن كل من أكمل الله عمله وعرفه حسن الحسن وقبح القبيح فلا بد من أن يوجب عليه المعرفة به، وأن يكلفه فعل الحسن وترك القبيح وبعضهم يضيف إلى هذه الجملة وقد جعل شهوته فيما قبحه في عقله ونفور نفسه عما حسنه في عقله.
ويستدل على وجوب معرفة الله فإنه لا يخلو من أن يكون قد كلفنا الله لحسنها وقبح الذهاب عنها أو لم يكلفنا وتركنا مهملين، فإن كان قد كلفنا فهو الذي يزيد، وإن كان قد تركنا سدى فإن الإهمال لا يجوز عليه ويقال أيضاً: نحن نرى على أنفسنا آثار نعم، ونعلم وجوب شكر المنعم، فإذا يجب أن نعرف المنعم لنشكره.
واعلم أن المعجز هو ما لا يقدر عليه في صفته أو في جنسه، فأما لا يقدر عليه في جنسه فهو مثل إحياء الموتى وأما ما لا يقدر عليه في صفته فهو فلق البحر لأنا نقدر على تفريق الأجسام المؤتلفة، ولكن على تلك الصفة وتلك الحالة لا نقدر عليه، فأما الخبر عن الغيوب فليس بمعجز ولا وقوع المخبر على ما أخبر به معجز إذ يجوز على الخبر عن الغيب أن يكون صدقاً أو كذباً وإذ قد ثبت أن يخبر الإنسان عن الشيء أنه يكون فيكون وليس يعلم في حال الخبر أن المخبر به يقع على ما أخبر به عنه ولا يعلم أنه معجز وإنما العلم بأن الشيء يكون قبل أن يكون يعجز بلى من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه سيكون كذا وكذا ويخبر عن الغيب ثم يبقى إلى الحالة يكون فيها ما ذكره فحينئذ يكون ذلك دلالة وحجة عليه، فأما من لم يبق إلى تلك الحالة فهو ليس تقوم عليه الحجة في وقت الإخبار ولا يصح الاستدلال بذلك بل يجب أن يدله الله بدليل أخر.
قإن قال قائل: كيف يصح أن يكون انقضاض الكواكب رجماً للشياطين ولا يخلو من أن يكون الذي يرمى به الشيطان ليحرقه كوكب فيجب أن يفارق مكانه وينقص من عدد الكواكب وقد علمتا منذ عهدت الدنيا لم تنقص ولم تزد أو يكون الذي يرمى به شعاعاً يحدث من احتكاك الكواكب واصطكاك بعضها ببعض فيفصل ذلك الشعاع من الكواكب ويتصل بالجني حتى يحرقه، إذ لو لم يتصل به لم يحترق وهذا أيضاً لا يجوز لأن الكواكب لا تحتك. قيل له: إن كل ما ذكرت غير ممتنع قد يجوز أن يكون هناك كواكب لا تلحقها للعين لصغرها كما قال قوم في المجرة إنها كلها كواكب ولا تبين، فيجوز أن يحتك بخاران عظيمان فيحدث الشعاع ويحترق الجني، وكل ذلك ليس بمستنكر وعلى هذا جاء في القرآن.
وأما انشقاق القمر فإن الجاحظ كان ينفيه ويقول: لم يتواتر الخبر به ويقول أيضاً لو انتشق حتى صار بعضه في جبل في قبيس لوجب أن نختلف التقويمات بالزيجات لأنه قد علم سيره في كل يوم وليلة، فلو انشق القمر لكان وقت انشقاقه لا يسير، فأما قوله تعالى: )اقتربت الساعة وانشق القمر) )سورة القمر، الآية: 1) فإنما معناه سينشق ونحن نثبته ونقول: يكون ذلك دليلا خص به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأن سائر الناس لم يرده لأن الله حال بينهم ويين رؤيته بغمامة أو غيرها ويجوز أن يكون غير عبد الله رآه، فاقتصر في نقله على رواية عبد الله وعلى ما نطق به القرآن من ذكره.
فصل الاستدلال بالشاهد على الغائب
لأنه الأصل في معرفة التوحيد، وحدوث الأجسام وصدق الرسل. قال الله تعالى: )ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) )سورة البقرة، الآية: 1 3) قيل معناه يؤمنون بما غاب عنهم من أمر الآخرة وقيل: يؤمنون بما غاب من البعث والنشور، وأخبرهم به النبي. وقيل: المراد يؤمنون بالله ورسوله وما أنزل إليه، يظهر الغيب لا كالمنافقين الذين يقولون للمؤمنين إنا معكم، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزئون، ومثله قوله تعالى: )ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) )سورة يوسف الآية: 52) وقوله تعالى: )الذين يخشون ربهم بالغيب) )سورة الأنبياء، الآية: 49).(1/48)
واعلم أن من لا يفعل ذلك لم يجز له أن يعرف شيئاً إلا من جهة المشاهدة أو ببداهة العقل، أو بخبر ممن شاهده ولو كان كذلك لسقط الاستدلال والنظر، ولما جاز أن يعرف الله ولا حدوث الأجسام، ولا صدق الرسل فيما أتت به من عند الله، لأنه يجوز أن يعرف الله بالمشاهدة ولا ببداهة العقل لأنه لا يشاهد، ولأنه لو عرف ببداهة العقل لاستوى العقلاء في معرفته، فوجب بهذا أن لا يعرف الله إلا بدلالة المشاهدة، وكذلك حدوث الأجسام، ولسنا نريد باستشهاد الشاهد أن يستدل به على ما لم نشاهده إلا بأن نشاهد نظيره، ومثله ألا ترى أنا لو شاهدنا في هذا البلد إنساناً لم نعرف بذلك أن في غير هذا البلد إنساناً آخر من غيرك نشاهده، ولكن هو أنا إذا وجدنا الجسم في الشاهد إنما كان متحركاً لوجود حركته، ثم وجدنا حركته لا توجد إلا فيه، ومتى بطلت حركته لم يكن متحركاً دلنا ذلك على أن كل جسم متحرك فيما لم نشاهده لم يكن متحركاً إلا لوجود حركته، ولا توجد حركته إلا فيه، ومتى بطلت حركته لم يكن متحركا؛ لأنه لو جاز أن يكون متحركاً في الغائب مع عدم حركته لجاز في الشاهد مثله، وكذلك إذا وجد الجسم في الشاهد إنما كان جسماً لأنه طويل عريض عميق ومتى عدم طوله أو عرضه أو عمقه لم يكن جسماً لزمه أن يعلم بدلالة الشاهد أن الجسم الغائب إنما كان جسماً لمثل ذلك.
وكذلك إذا وجد الجسم في الشاهد لا يكون في مكانين في وقت واحد لأن وجوده في أحد المكانين ينافي وجوده في المكان الآخر كان علينا أن نجري القضية في الغائب على حده. وكذلك القول في امتناع اجتماع الضدين، والحركة والسكون والسواد والبياض، والاجتماع والافتراق بحسب أن يراعى حالها في الشاهد فيحمل الغائب عليها وإذا كان الأمر كذلك وجب أيضاً أن يكون إذا وجدنا الفعل في الشاهد لا يوجد إلا من فاعل، ولا يحصل موجود إلا بفعله له، ثم وجدنا فعلا لم نشاهد له فاعلا أن نعلم بدلالة الشاهد أن له فاعلا وإن كنا لم نشاهده، ولا يجب إذا لم نجد إلا أجناساً من الأشياء أن لا يثبت في الغائب خلافاً لما شاهدنا، لأن الأعمى الذي لم يشاهد الألوان قط لا يجوز له أن يثبت شيئاً إلا من جنس ما شاهده بسائر جوارحه، إذ قد ثبت الألوان التي هي خلاف جميع ما شاهده، وإن كان هو لم يشاهد وكذلك الحياة والقدرة والعلم لا يشاهد ولا شوهد نظائرها ولا يجب مع ذلك أن لا نثبتها مع وضوح الأدلة عليها فلم يجب علينا لمن أراد منا نفي القديم إذ كنا لم نشاهد له مثلا ولا نظيراً أن ننفيه من أجل ذلك إذ كان يجوز أن نثبت بالأدلة ما لا نظير له كما مثلناه.
وإنما يجب تكذيب من وصف الغائب لصفة الشاهد ثم أزال عنه المعنى الذي استحق الشاهد به تلك الصفة، فأما متى أثبت في الغائب شيئاً مثبتاً من غير أن يكون بصفة المشاهد الذي وجبت له هذه الصفة لعلة، وقال مع ذلك: إنه غير مثبت لما شوهد لم يجز أن نبطل قوله بما شاهدنا، إذ كان يجوز أن يكون ما ادعاه خلافاً لما شاهدناه، كما لم يكن للأعمى إنكار الألوان إذا أخبرناه بها من حيث كانت مخالفة لما شاهده بسائر جوارحه، ولم يكن لأحد أن ينكر الحياة والقدرة لأنهما خلاف ما شاهده، ولكن يجب أن يطالب بالدلالة على صحة الدعوى، فإذا ثبتت ثبت مدلولهما، وإلا سقطت الدعوى، وهذا أصل القول في استشهاد الشاهد على الغائب فاعلمه.
فصل في أسماء الله وصفاته وأحكامه
وبيان الأصوات كيف تكون حروفاً، والحروف كيف تصير كلاماً.(1/49)
اعلم أن الأصوات جنس من الأعراض تحته أنواع تعلم، فإذا توالى حدوثها منقطعة بمخارج الفم وما يجري مجراها سميت حروفاً، لذلك قيل: الكلام مهمل ومستعمل. فالمستعمل ما تناولته المواضعة أو ما يجري مجراها من توقيف حكيم، فجعل عبارة عن الأعيان أنفسها وعنها بأحوالها. والمهمل ما خالف ذلك، وإنما قلنا هذا لأن جنس الصوت لا يقتضي كونه حرفاً ولا كلاماً متى لم تطرأ المواضعة عليها، وما جرى مجراها، والمواضعة لا تصح إلا مع القصد إليها لذلك قيل: ما ينقسم إليه الكلام من الخبر والأمر والنهي والاستخبار لا يكاد يحصل مفيد إلا بإرادة غير القصد إلى المواضعة، لهذا متى ورد الكلام من سفيه لم يفد السامع شيئاً، كما يفيده إذا ورد من الحكيم على المخاطب العارف بالمواضعات لما تعذرت معرفة قصده وصار الصدق والكذب يسوي حالاتهما وتقام صور أنواع الكلام بعضها مقام الآخر حتى يوجب ذلك التوقف عن قبول الأخبار وترك القطع على ما يسمح منها إلا مع البينة.
واعلم أن الحاجة إلى المواضعة بالأصوات هي البيان عن المراد لما كان الكلام المستعمل تنبهاً عليه، فلذلك يستغني الحكيم فيما عرف مراده عن الخطاب إلا عند كونه لطفاً في فعل المراد ومتى أمكنه بالإشارة والإيماء بيان غرضه عدل عن الخطاب إلا أن يكون لطفاً كما ذكرناه. ولما كان الأمر على ذلك اختلفت العبارات لاختلاف المراد واحتيج إلى التبين بعد ذلك، إذ كان الكلام بنفسه لا يدل على ما وضع له ولا بالمواضعة أو التوقيف.
فإن قيل: فما الفرق بين المهمل والمستعمل؟ حينئذ قلت: الفرق بينهما أن الحكيم متى تكلم بكلام مستعمل صح أن يعرف السامع لكلامه مراده بما يقارنه من الدليل غير الكلام، ومتى تكلم بكلام مهمل لم يجز أن يعلم مراده وإن قارنه ما قارنه وكان وجوده وعدمه بمنزلة، ولو كان الكلام دليلا يجوز الاستطراق منه إلى ما وضع له قبلها، لأن الدلالة لا تحتاج في كونها دلالة يجوز الاستطراق منها إلى مدلولها إلى المواضعة وإنما يحتاج في تسميتها دلالة إلى المواضعة لأنهم يسمونها دلالة إذا أراد فاعلها عند فعلها الاستطراق منها إليه ولذلك لا يجوز أن يسمى فعل اللص دلالة عليه، وكذلك فعل البهيمة، وإن جاز الاستطراق منها إليه، ولهذا جاز أن يعرف الله بدلائله من لا يعرف شيئاً من المواضعات.
واعلم أن الكلام لما وضع للإبانة عن مراد المخاطب للمخاطب، لأن الغرض فيه إعلامه حدوث الشيء إذ إعلامه أنه يريد منه إحداثه أو إعلامه أنه يكره منه إحداثه، والحدوث لا يكون إلا للذوات ولم يكن بد من إعلامه العبارات عن ذوات الأشياء ليجوز منه أن يفرق الحدوث بها على وجه المراد انقسم الكلام أربعة أقسام: الأولى: عبارة عن الأعيان أنفسها وهي الأسماء.
الثاني: عبارة عن حدوث الشيء وهو الخبر عنه.
الثالث: عبارة عن إرادة إحداثه وهي الأمر به.
الرابع: عبارة عن كراهية إحداثه وهي النهي عنه.
والأسماء على ضربين: الضرب الأول: اسم وضع لتعريف المسمى به وليكون علماً له دون غيره فيقوم مقام الإشارة إليه عند غيبته، أو لاشتمالها عليه، ويسمى هذا الضرب لقباً ولا يفيد في المسمى به شيئاً ولذلك لا يدخله الحقيقة والمجاز إذ كان لا يتعلق يفعله ولا بحاله ولا بشيء، مما يحله أو يحل بعضه، ولا يوجب الاشتراك فيها اشتراكاً في غيرها كما لا يوجب الاشتراك في غيرها اشتراكاً فيها وقال بعضهم هذا القبيل ثلاثة أقسام: القسم الأول: وضع تعريفاً لآحاد الأشخاص كزيد وعمرو.
القسم الثاني: وضع تعريفاً لآحاد أجمل الأشخاص وليقوم مقام تعداد ذكر جميعها كقولك: إنسان وأسد وحمار وطائر، ولفلك لا يتعلق بشيء من أوصافها ولا بما يحلها، ويوجب الاشتراك فيها اشتراكاً في الصورة دون غيرها وتسمية أهل اللغة الجسم جسماً من هذا لأنه وجب له هيئته وتركيبه ولذلك لم يجز إجراءه على الله تعالى.
القسم الثالث: وضع تعريفاً لآحاد جمل الأجناس المختلفة المشتركة في باب التعلق يغيرها على وجه واحد، ليقوم مقام ذكر جميع الأجناس الداخلة تحتها، وهذا كاللون والكون والاعتقاد والسهو وما يجرى مجراها، وهذا النوع يسمى جنس الفعل ويلزم الاشتراك قيها اشتراكاً في نوعيتها.
الضرب الثاني: على وجهين:(1/50)
الوجه الأول: اسم على المسمى به تعريفاً لجنسه وللتميز بينه وبين ما خالفه وإن شاركه في التسمية غيره من طريق القياس لاشتراكهما في الفائدة، ورسم بأنه اسم جنس لما كانت المسميات به أعداداً كثيرة مماثلة وهذا كالسواد والبياض والحمرة والخضرة والحلاوة وما جرى مجراها، يوجب مماثلة الموصوفين بها فلذلك استحال اشتراك المختلفين بالذوات في اشتقاق الوصف بها.
النوع الثاني: اسم جرى على المسمى ليفيد فيه ما يفارق به غيره مما لم يشاركه فيه من غير أن يكون افتراقهم في الوصف موجباً لمخالفتهم كما لم يوجب اشتراكهم في ذلك مما يليهم في اللفظ بل في المعنى أوجب ذلك لكونه جواهر ورسم بأنه صفة، وإذا قصد به الإكرام في التعلق قيل: إنها مدح كما إذا قصد بها الاستخفاف قيل إنها ذم، إذ كانت لا تخلو عن الحسن أو القبح وهي على وجوه: الوجه الأول: صفة تفيد في الموصوف معنى حالا فيه وذلك كقولك: متحرك وساكن، وأسود وأبيض، وحلو وحامض، ورسمت هذه الصفات بصفات المعاني لأنها علل في إجراء الوصف على محالها من طريق الاشتقاق، فلذلك أخذ الاسم من لفظها، والاشتراك في هذه الصفة يوجب الاشتراك فيما أفادته، ويقتضى مماثلة الموصوفين في المعنى لكونها جوهراً.
الوجه الثاني: صفة تفيد كون الموصوف فاعلا لمقدوره والاسم يجري عليه مشتقاً من لفظ اسم فعله، وهنا كقولك: ضارب وشاتم ومتكلم، ورسمت هذه الصفات لصفات الفعل ولا يوجب الاشتراك في هذه الصفة تماثل الموصوفين لا بالمعنى ولا باللفظ كما أوجب في الأولى.
الوجه الثالث: صفة تفيد الإضافة والنسبة وذلك كقولك: هاشمي وبصري ودار زيد، وغلام عمرو، فباتصال الياء المشددة بالاسم صار صفة بعد أن كان علماً أو غير صفة.
الوجه الرابع: صفة تفيد وجود الموصوف بها يجري عليه هذه الصفة ويرجع إلى غيره وهذا كوصف الاعتقاد بأنه علم أو جهل، أو تقليد أو ظن. ووصف العلم بأنه غم أو سرور. ووصف السهو بأنه نسيان، وكوصف الكون بأنه حركة أو سكون، أو مجاورة أو مفارقة، وكوصف الحروف بأنها كلام والكلام بأنه خبر أو أمر أو نهي. ووصف الإرادة بأنها عزم أو قصد أو خلق وكذلك جميع ما يجري. والاشتراك في هذه الصفات يوجب اشتراك الموصوفين بها فيما أفادته دون غيرها مما يجري مجرى تماثل ذواتها واختلافها.
الوجه الخامس: صفة تفيد كون الموصوف بها على حال من الأحوال وهذا كوصف الشيء بأنه معدوم أو موجود، أو حي، أو قادر أو عاجز أو معتقد، أو عالم أو جاهل، أو ساه أو مريد، أو كاره أو سميع أو بصير. وعلى الأحوال التي إذا كان عليها إدراك المدركات يسمى به الشيء لتهيأ ذكره والإخبار عنه وهو قولهم شيء ونفس وعين وذات. وكذلك الأسماء المضمرة والمبهمة نحو هو وأنت، وذلك وهذا والهاء في ضربته والياء في ضربته. وفرقوا في بعضها بين المذكر والمؤنث والواحد والجمع. وهذه الصفات والأسماء التي نوعناها وأشرنا إليها مقتسمة بين الحقيقة والمجاز، وسنبين كيفية وضعها واستمرارها أو انقطاعها في البابين إن شاء الله تعالى.
فصل آخر(1/51)
اعلم أن اللغة لا يجوز أن يكون فيها غلط وذلك أنه إن كان الله تعالى واضعها على ما يذهب إليه أكثر العلماء، وعلى ما أخبر به عند قوله تعالى: )وعلم آدم الأسماء كلها) )سورة البقرة، الآية: 31) فلا يجوز أن يكون فيها غلط لأن الحكيم الذي بينها لعباده لا يجوز عليه الغلط وإن كان يجوز أن يكون قد ذهب عنهم بعض ما بينه لآدم عليه السلام وأحدثوا أبدالا منه، أو زادوا عليه على حسب الدواعي والحاجة، ولو كانوا فعلوا ذلك لما جاز أن يعلم أحد تغيرهم لذلك إلا بخبر من الله ينزله على نبي من أنبيائه لأن اللغات لا تعرف إلا من جهة السمع ولا تعرف بدلالة العقل، ولو كانوا غيروها بأسرها لما أنزل الله القرآن بها على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان ابتداء اللغة من كلام العباد وتواضعهم على ما يقوله بعضهم فلا يجوز أن يقع فيها أيضاً غلط لأنهم إنما سقوا الأشياء بأسماء جعلوها علامات لها لتعرف بها وليكون التباين والتمايز منها، وإذا كان أصل كلامهم ولغتهم جروا فيه على ما بينا فلا يجوز أن يكون فيها غلط لأن الحكمة تلحقه ولا تفارقه في الحالتين جميعاً، وإذا ثبت ما بيناه من أمر اللغة ووجدنا انقسامها إلى الحقيقة والمجاز والحقيقة ما وضع من الأسماء للمسميات على طريق اللزوم لها، والاطراد فيها لأنها يحق لها عند التعبير عنها وأمثلتها ما قدمناه، والمجاز ما أجري على الشيء وليس له في أصل الوضع، تجوزاً على طريق الاستعارة، وتفاصحاً منهم وافتناناً ويكون قاصراً عن الأصل وزائداً عليه ومماثلا له، وكيف اتفق يكون مستفاده أبلغ من مستفاد الحقيقة ولذلك عدل إليه نظرنا فوجمنا طريق استحقاق الموصوفين من وجوه أربعة: الوجه الأولى: طريق الاختصاص والاستبداد وهو المرسوم لصفات النفس ليفيد في الموصوف أنه مستبد بها، ومستغن بكونه عليها عن غيره وأنه مختص بها من غير أن يجعل نفسه كالعلة الموجبة للعلل، ولا قائمة مقامها وهذا كوصف المحدث بأنه موجود وحي وقادر وعالم وسميع وبصير وما جرى مجراها، ولذلك رسمت بصفات التوحيد لما توحد الله بطريق استحقاقها فلم يشاركه فيها غيره مع جواز وصفهم بها لاستحقاقهم لها من غير هذا الوجه.
الوجه الثاني: طريق المعاني الموجبة لها وهو المرسوم بصفات العلل ليفيد في الموصوف بها أنه مستحق لها بالعلة الموجبة له عند تعلقها به دون غيره وهذا كوصف المحدث بأنه عالم وقادر وحي وسميع وبصير ووصف كل موصوف بأنه مريد وكاره، وكقولهم مشته ونافر النفس وما شاكل ذلك.
الوجه الثالث: من طريق القادرين وهو المرسوم بصفات الفعل ليفيد في الموصوف بها أنه مستحق لها بكون القادر قادراً عند فعله وإيجاده إياه دون غيره، وهذا كوصف المحدث بأنه موجود لما كان معدوماً ومقدور القادر عليه وليس في الأحوال ما يتعلق بالقادر غير المعدوم الموجود.
الوجه الرابع: من طريق استحالة ضدها على الموصوف بها ورسمت بالصفات اللازمة ليفيد في الموصوف بها أنه مستحق لها على طريق اللزوم له من غير أن يكون محتاجاً في ذلك إلى غير ما يوجبها له، كالعلة وما يجري مجراها ومن غير أن يكون مختصاً به كصفات النفس وهذا كوصف الشيء بأنه معدوم، ومعنى المعدوم أنه لا يجوز أن يحصل له من أحكامه التي تخصه وصفاته الجائزة عليه شيء، كما أن الموجود هو الذي يكون على حاله يلزمه جميع أحكامه به والموجبة له، فلذلك قلنا إنه لا يكون معدوماً بفاعل ولا بمعنى ولا بنفسه لما لم يكن له واسطة بين الوجود والعدم، فلذلك لزمه العدم عند استحالة الوجود عليه، فأما الأوصاف التي تتعلق بالأعيان مما لا يكون عبارة عن أحوالها بل هي إخبار عنها وعن غيرها لاختصاصها بها في باب الحلول أو التعلق أو ما يجري مجراهما فليس لها علة ولا ما يجري مجراها ولا يجوز أن يكون شيء من ذلك بالفاعل.(1/52)
واعلم أن أعم الأشياء قولنا شيء لأنه يتعلق بالمسمى لكونه معلوماً فقط ومستحيل أن يكون ذات غير معلومة أو ذات على حال غير معلومة عليها أو غير جائز أن يكونا معلوم، فإن كان العلم لا يحصل بالحال التي عليها لأن العلم بالذات هو الذي منه يصل إلى العلم بالحال، ولذلك كان الذات لا يخلو من الوجود والعدم معاً إذ لو لم يكن الذات معلومة في العدم للقديم تعالى لم يصح منه القصد إلى اختراعها وإيجادها وليس قولنا شيء مثل قولنا موجود، بدلالة أنك تقول هذا شيء زيد، فتضيفه ويمتنع أن يقال: هذا موجود زيد، وكان يجوز أن يحد القديم بأنه الشيء لم يزل والمحدث بأنه الشيء عن أول كما يقال هو الموجود لم يزل والموجود عن أول، وإذا كان قولنا معلوم غير متعلق بفائدة فيه وإنما تتعلق فائدته بغيره فالواجب أن لا يكون قولنا شيء مفيداً من هذا الوجه.
ويمكن أن يقال: إنه يفيد الذات فكل ذات يسمى شيئاً وكل شيء يسمى بذات، ويمكن أن يقال أيضاً إنه يفيد المعلوم، فصلا بينه وبين ما يسمى محالا كاجتماع الضدين لأن مثل ذلك لا يصح علمه، قال وليس يخرج الذات من أن يكون على حال مع كونه عليها يجوز أن يستحق غيرها ولا يجوز، فإن كان يجوز عبر عنها بأنها موجودة، وإن كان لا يجوز عمر عنها بأنها معدومة، فلذلك يسمى المعدوم بالشيء كما يسمى الموجود به لما كانا معلومين في الحالين جميعاً لذلك قلنا: المراد بقولنا موجود إفادة حال من أحواله أيضاً وحالة له أخرى وهي العدم. وفائدة قولنا معلوم أن عالماً علمه لذلك جاز أن يقال معلوم زيد للشيء الذي هو مجهول عمرو، والحال واحدة ويستحيل أن يقال للشيء إنه موجود زيد أو معدوم عمرو على الأحوال كلها.
واعلم أن الله تعالى لما أوجب في حكمته عند تكليف المكلفين مداواة دائهم بالرحمة لهم والعطف عليهم والحلم عنهم، وطلب صلاحهم من حيث لا يدرون ويؤلفهم من جانب لا يشعرون رسم لهم في تعبدهم الرجوع إليه في مهماتهم وسوغ لهم دعاءه في رفع مأربهم فقال: )ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) )سورة الأعراف، الآية: 180) )وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) )سورة البقرة، الآية: 186) الآية ثم أنزل في محكم كتابه من أسمائه ما بصرنا وهدانا ومن صفاته ما قوى إيماننا وإرشادنا، لولا ذلك والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله وقبول أقواله التي بها إبطال الضلال، وإذا كان كذلك فإن ما أثبتته التلاوة يضاف إليه ما دونته الرواية عن الصحابة والتابعين وما عدا ذلك مما لهج به ألسنة فصحاء الأمة والصالحين من أهل اللغة.
فقد روي في التفسر أن قوله تعالى: )ولله الأسماء الحسنى) )سورة الأعراف الآية: 180) أنه تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة، وجاء في الحديث أن: )اسم الله الأعظم الله) وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: )لله مائة اسم غير واحد من أحصاها دخل الجنة) فيجب أن ينظر فيه فيما سبكه التحصيل، وكما ذكرنا وينقى من درن الغباوة ويتلقى بالقبول فيما يجوز إطلاقه على القديم تعالى، والباقي يتوقف فيه والوصف والصفة جميعاً لا يكونان إلا كلاماً وقولا فهو كالوعد والعدة. وسمعت شيخنا أبا علي الفارسي يقول: أسماء الله تعالى كلها صفات في الأصل إلا قولنا الله والسلام لأن السلام مصدر، ولفظ الله بما أحدث من صفة ولزوم الألف واللام له، يعد من الصفات فصار متبوعاً لا تابعاً كالألقاب يريد يتبعه الصفات ويقدم به، ومعناه الذي تحق له العبادة، فإذا قلنا لم يزل إلهاً الذي حقت له العبادة من خلقه إذ أوجدهم. وقولنا إله نكرة ويجمع على الإلهة قال تعالى: )أجعل الآلهة إلهاً واحداً) )سورة القصص، الآية: 5(، واشتق منه تأله الرجل إذا تنسك، قال:
سبحن واسترجعن من تأله ... لله در الغانيات المبدره(1/53)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: )أن عيسى عليه السلام قال له رجل: ما الله؟ قال: الله إله الآلهة). وروي عن ابن عباس أنه ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. وروي في قوله تعالى: )ويذرك وآلهتك) )سورة الأعراف، الآية: 127) أن معناه وعبادتك، فالأصل إله حذفت الهمزة منه وجعل الألف واللام عوضاً منه لازماً وأدغم في اللام التي هي عين الفعل، فصار الاسم بالتعويض والإدغام مختصاً بالقديم حتى كأنه ليس من الإله في شيء، قال سيبوية: ومثله أناس والناس يريد في حذف الهمزة لا في التعويض بدلالة قوله:
إن المنايا يطلعن على الأناس الآمنينا
فجمع بين الألف واللام والهمزة، ولو كان عوضاً لما جاز الجمع بينهما، وقد قيل في قوله تعالى: )هل تعلم له سمياً) )سورة مريم، الآية: 65) إن الاسم الذي لا سمي له فيه هو قول القائل: الله بهذه البنية الصفية، وقولهم في صفات الفعل: يا غياث المستغيثين، ويا رجاء المرتجين، ويا دليل المتحيرين، موضوع موضع الاسم وكل فلك مجاز وتوسع، وكذلك قولنا: قديم إنما وجب له هذا لتقدمه لا إلى أول، فهو صفة لذاته وليس ثبت بهذا معنى يسمى قدماً. وقوله تعالى: )كالعرجون القديم) )سورة يس، الآية: 39) وفي آخر: )هذا إفك قديم) )سورة الأحقاف، الآية: 11) يراد به تقدم له وإن كان القصد إلى المبالغة.
فإن قيل: فهل يوجب إجراء لفظ القديم على الله تعالى وعلى الواحد منا كما ذكرت تشبهاً به؟ قلت: لا وذلك لأن الله تعالى قدم وتقدم لنفسه والمحدث يقدم بأن الفاعل فعله في الأوقات المتقدمة، وإذا كان كذلك فقد اختلف موجب الصفتين فلم يجب هما تشبيه، وعلى هذا قولنا: عالم في القديم والمحدث وقادر وسميع وبصير وحي وقدير وعزيز وملك ومالك ومليك، على أنه لو ساعدت العبارة لكان تفرد ما يستحق للذات بعبارة تلزمه، وخالف بها غيره وكانت الحيطة في ذلك، لكنهم استطالوا ذلك وكان يكتفي بعلم الذات من لا يعلم حالها المختصة بها، فاقتصدوا في العبارة كما اقتصدوا في الأخبار في بابي التذكير والتأنيث، فأجروا ما لا يصح وصفه بالتذكير الحقيقي ولا التأنيث الحقيقي مجرى غيره في العبارة.
وكذلك في الأخبار عن الله تعالى وإضمار أسمائه في الاتصال والانفصال إذ قلت هو وأنت وإياك ورأيته ورأيتك ومثل ذلك اقتصادهم في صفات ما غاب عنا من أمور الآخرة وأهوال القيامة وطي السماوات وتبديل الأرض غير الأرض إلى غير ذلك مما أخفيت حقائقه عتا فاقتصروا في بيانها على عبارات لا تستوفيها، وعلى كنهها لا يؤديها، وهي مما نستعمله عبرنا عما نشاهده.
فأما الفصل بين السامع والسميع حتى قيل: لم يزل الله سميعاً وامتنع لم يزل الله سامعاً فهو أن السميع لا يقتضي مسموعاً فيعم إليه والسامع لا بد له من مسموع، والمسموع لا يكون مسموعاً حتى يكون موجوداً وذلك يدافع قوله: لم يزل وهذا كما يقول: هو عالم وعليم في كل حال ثم تمنع من أن يقول: لم يزل الله عالماً بأنه خلق زيداً إذ كان ذلك يوجب وجود زيد في الأزل، وعلى ما ذكر من الاقتصاد والاقتصار تركوا العبارة عن أشياء وإن أدركها الفهم لقلة البلوى بها وذلك تركهم وضع في الصناعات المستجدة ما أحدث من الأسماء ووضع في الشرع أو نقل ما وضع ونقل.
وأما الأسماء المشتقة من الأعراض التي ليست مهيات كقولهم: فاعل ومحدث وعادل وجابر وصادق وكاذب ومريد وكاره فإنها لا توجب تشبهاً وذلك أن الإنسان قد يكون فاعلا لفعل لا يحل به، والفعل لا يختلف به هيئته عند أحد ممن يدركه، ألا ترى أن هيئته لا تختلف لما يفعل في غيره من الحركات والتأليف والافتراق والعدل والجور ولا الإرادة والكراهة ولا الأمر والنهي فلم يجب أن تكون تسميتنا بهذه الأسماء للمسمى بها إذ استحقها تشبهاً له، لأن التشبه في الشاهد لا يعقل إلا من وجهين اثنين، أحدهما: اشتباه بالهيئة كالأسود والأسود والطويل، أو يشبهان بأنفسهما وأن يكونا من جنس واحد نحو البياض والبياض، والتقدم والتقدم، والتأخر والتأخر، وما جرى هذا المجرى من الأجناس المتفقة بأنفسها، فلما كانت تسميتنا بالفاعل لا توجب جنسيته ولا هيئته لم يوجب تشبهاً وهذا كقولهم آمر وناه وقائل ومعلوم ومذكور، فأما رحيم ورحمن فهما من الرحمة وبناءان للمبالغة وحقيقة الرحمة النعمة إذا صادفت الحاجة.(1/54)
وذكر بعضهم أن الرحمن هو الاسم الذي لاسم القديم سبحانه فيه وليس كذلك لأنهم قالوا لمسيلمة رحمن، وقالوا أيضاً فيه رحمن اليمامة، وذكر بعضهم أنه لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن قالت قريش: أتدرون ما الرحمن؟ هو الذي كان باليمامة، وإذا كان كذلك فما بقي إلا أن يكون لفظة الله هي التي لا سقي فيها، فإن قيل: فقد نرى الفاعل هيئته يخالف هيئة من ليس بفاعل والقائل منا له هيئة الساكت، قيل له: لم تخالف هيئته هيئة الساكت بالقول وإنما خالفت هيئاتهما بالسكون الذي في شفتي الساكت وبالحركات التي في لسان المتحرك، لا بالكلام، فإذا كان الله يفعل الكلام والأمر والنهي من غير أن تحل فيه حركة صح أنه لا تكون تسميتنا إياه آمراً وناهياً أو متكلماً تشبيهاً.
وعلى هذا قولنا: العالم والحي والقادر والسميع والبصير لأن شيئاً من ذلك لا يوجب تجنيساً ولا تركيباً ولا هيئة، فإن قال: أليس العالم في الشاهد يحل العلم فيه أو في بعضه، وكذلك الحي فلم زعمتم أن الحيزين لا يشتبهان لحلول الحياة فيهما؟ قلت: إن الحياة ليست بهيئة لهما فيشتبهان بها عند حلولها فيهما ولو كانا مشتبهين بسائر هيئاتهما، فإن قال: فيلزمكم أن لا يكون من وصف الله تعالى بأنه يحله العلم والحياة مشتبهاً بخلقه، قيل: ليس هو بهذا القول مشتبهاً، ولكن بتجويزه حلول الأعراض فيه لكون مشبهاً لأن ذلك يرجع إلى الهيئة.
واعلم أن الصفة قد تجري على الموصوف من وجهين في أحدهما: يجب له عن اختصاص واستبداد فيكون للذات ويقترن بما لم يزل وفي الثاني: يقصر غايته فنقف دون موقف الأول، وذلك كقولنا: بصير ومبصر لأنهما للذات، إلا أن مبصراً يتعدى إلى مبصر موجود، ولذلك لم يجز أن يقال لم يزل مبصراً، كما قيل: لم يزل بصيراً وعلى هذا قولك رأى يتصرف على وجهين.
فإن أريد أنه عالم قلت لم يزل الله رائياً وإن أريد أنه مبصر للمبصرات امتنع منه، لأن المرئي المدرك لا يكون إلا موجوداً، وعلى هذا قولك الصمد إن جعلته بمعنى السيد قلت لم يزل الله صمداً، وإن قلت هو من الصمد إليه من العباد والقصد امتنع أن يقال لم يزل صمداً. ومثله كريم يراد به العز فيقال: لم يزل كريماً وهو أكرم علي، ويراد به الإفضال فيكون من صفات الفعل، ومثله حكيم يكون بمعنى عالم فيقال لم يزل حكيماً وإن أريد به أنه يحكم الفعل لحق بصفات الفعل، والصفات المستحقة من طريق اللغة الحقيقية والمجازية فإنها تجري عليه تعالى متى لم يمنع مانع من جهة العقول والشرع، فإن التبس الحال يختار الأكرم فالأكرم والأبعد من التشبيه فالأبعد، وذلك لمجانبتنا لأن نصفه بأنه يعقل أو يحس أو يفقه ويستبصر ويتيقن أو يفطن أو يفهم أو يشعر لما تتضمنه هذه الألفاظ من الأحوال التي حصولها لا يليق بالله تعالى.
فإن قيل: هو شاهد وشاهد كل نجوى وقريب مجيب ومطلع على الضمائر قلت: أجرينا عليه هذه الألفاظ مجازاً وتوسعاً ولأنها بكثرة دورانها في ألسنة السلف الصالح، والإشارة بها إلى ما لا يخيل ولا يلتبس من القصود السليمة انتفى عنها ما يلابس غيرها من كل موهم، ولمثل هذا أجرى قوي في صفة مجرى القادر وامتنع في شديد ومتين وما أشبهه من أن يجري مجراه، فأما قوله تعالى: )الله يستهزئ بهم) )سورة البقره، الآية: 15) و )سخر الله منهم) )سورة التوبة، الآية: 79) وما جرى مجراه فمثله في البلاغة يسمى المجانسة والمطابقة وهو ضرب من المجاز سمي الثاني فيه بالأول ليعلم أنه جزاؤه وقد أجرى إلى مثله، والمعنى يجازيهم جزاء الاستهزاء والسخرية ونحو قوله تعالى: )وجزاء سيئة سيئة مثلها) )سورة الشورى الآية: 40) والثاني لا يكون سيئة.(1/55)
فإن قيل: فهل يجري التهاتف والتهكم مجرى السخرية فتجيزه عليه اتساعاً؟ قلت: لا يجوز ذلك، لأن المجاز لا يقاس، ألا ترى أن أرباب اللغة مجمعون على أنه لا يجوز سل الجبل، وإن جاء سل القرية، ومثل هذا قوله تعالى: )الله نور السموات والأرض) )سورة النور، الآية: 35) وامتناعنا من بعد من أن تقول الله سراج السموات، أو شمسها أو قمرها إذ كانت المجازاة لها انتهاء لجاوزها إلى ما ورائها محظور، هذا مع توافق الصفات، فكيف إذا اختلفت؟ ويقارب هذا قولهم في الله لطيف ورحيم، والمراد به الإنعام، ثم امتنعوا فيه من رفيق ومشفق لرجوعهما إلى رقة القلب واستيلاء الخوف، فأما الغضب والسخط والإرادة والكراهة والحب والبغض والرضاء والطالب والمدرك والمهلك فمن صفات الفعل، والله يحدثها لا في مكان إذ كان جميعها لا يوجب تصويراً ولا تهيئة ولا تركيباً، وإنما تفيد عقاباً للمكلفين أو إثابة أو إيجاباً لإيقاع الفعل، أو نفياً له وإذا كانت كذلك انتفت عن المحال على أنه لو أحدثها في المحال لعادت المحال الموصوفة بها.
فإن قيل: فهل يجوز أن تقع منا إرادة لا في محل؟ قلت: لا وذلك أن أفعالنا تقع مباشرة، أو متولدة عن مباشرة، فلا بد لها من محل وأفعال الله تعالى بخلافها. فإن قيل: هل يجوز أن يوصف الله بأنه راع، وأنه خفير، وحارس كما وصف بأنه رقيب وحافظ؟ قلت: قد جاء رعاك الله وحرسك وحاطك في دعاء المسلمين ومعانيها صحيحة، لكن بناء اسم الفاعل منها في صفاته لم يجيء وهم يستغنون بالشيء عن شبهه في اللغة، فيذهب عن الاستعمال ومع ذلك فوصفه يجب أن يكون كريماً، ولفظة الحارس والراعي والحائط ليس مما يستكرم فيقرن بيا للاختصاص، فيقال يا حارس أو يا راعي، أو يا حائط ومما ينفر منه فيترك قول القائل في الله يا معلم وإن كان قد جاء )الرحمن علم القرآن) )سورة الرحمن، الآية: 1 2) لاشتهاره في صفات المحترفين به، على أن الفرق بين ما يجعل إخباراً وبين ما يجعل خطاباً ويصدر بحرف النداء ظاهر. وإذا كان كذلك فلفظ الخطاب بيا كالمترجم عن تواضع وفاقة فيجب أن يختار معه من الصفات ما يؤكد الحال ويحرر السؤال ويشبه ما نحن فيه أنهم قالوا في صفاته علام الغيوب.
ثم امتنعوا من علامة وإن كانت تاء التأنيث زائدة في المبالغة لما يحصل في اللفظ من علامة التأنيث ولا تنحط رتبته عن رتبة التذكير. ولأنهم جعلوا اللفظ مؤنثاً لاقتران علامة التأنيث فقالوا للبيضتين الاثنيان، ووصف بعضهم المنجنيق وهو مؤنث في اللغة فقال وكل أنثى حملت أحجاراً، فأما الخفير فمعناه لا يصح على الله لأنه من الستر ومنه خفرت المرأة. وقول القائل ثابت في صفة الله قليل الاستعمال ومعناه صحيح فيه وهو الكائن الذي ليس بمنتف، وقولهم: وتر، وفرد وفذ جميعه جائز عليه لأن معناه معنى التوحيد، إلا الفذ، لأن معناه القلة. وقولهم إبراهيم خليل الله فمعناه الاختصاص، ولا يقال الله خليل إبراهيم، لأنه يخص الله بشيء ولا يقاس الصديق ولا الوامق ولا العاشق على الخليل، ولا على المحب، ولا يوصف الله بالكامل، ولا الوافر لأن معناه الذي تمت أبعاضه وتوفرت خصاله ولا يوصف الله بالفرح، لأن الفرح إنما يجوز على من يجوز عليه الغم على أنه مع ذلك متناوله مذموم وليس كالسرور. يدل على ذلك قوله تعالى: )إنه لفرح فخور) )سورة هود، الآية: 10) ومما يقل استعماله وصفه بالسار والبار، وإن كان معناهما صحيحاً إذا كان تعالى يسر أولياءه ويبرهم سمعه وطوله.
فإن قيل: أفيجوز أن يقال في الله تعالى: إنه يمكنه أن يفعل، ويستطيع أن يفعل ويطيق أن يفعل؟ قلت: كل ذلك جائز إلا قولك: يطيق أن يفعل، لأن الطاقة استفراغ الجهد فيما يقصده الإنسان وقوله تعالى: )ذو الطول) )سورة غافر، الآية: 3) حسن جائز لأن معنى ذو الطول وله الطول واحد فاعلمه.(1/56)
واعلم أن قول القائل: ما زال زيد يفعل كذا من العبارات الداخلة على المبتدأ والخبر يفيد الزمان دون الحدث، وإذا كان كذلك فزيد هو الذي كان مبتدأ وهو المخبر عنه، والخبر ما بعده، ولا يستقل بنفسه كما أن المبتدأ لا يستقل بنفسه وما زال مثل كان وأصبح وأمسى في أنه أفاد الزمان، إلا أنه بدخول حرف النفي عليه عاد إلى الإثبات، لأن نفي النفي إثبات، ومما صدر بحرف النفي من أخوانه ما برح وما فتئ، وما انفك، وقال سيبويه: تقول زايلته مزايلة وزيالا والتزايل تباين الشيء، وزيلت بينهم فرقت.
فإن قيل: فهل يجوز أن يقال: ما زال زيد يقطع الكلام به، والمراد ثبت زيد. قلت: إن أخرجته من جملة العبارات الداخلة على المبتدأ والخبر وجعلته فعلا تاماً يستغني بفاعله، ويفارق ما لا يتم إلا بخبره، لم يمتنع ذلك فيه، وحينئذ يصير مثل كان الذي يفسر يحدث وجاء في القرآن: )وإن كان ذو عسرة) سورة البقرة، الآية: 280) وعلى هذا قوله تعالى: )فلن أبرح الأرض) )سورة يوسف، الآية: 80) لأن تقديره لن أبرح من الأرض لأن برح لا يتعدى مثل زال، والأرض مخصوص لا يكون ظرفاً، وهذا غير المستعمل في قولهم لم يزل الله واحداً سميعاً بصيراً، ومثله أصبح الذي يمثل باستيقظ، وأمسى الممثل بنام.
وقد فسر سيبويه ما برح بما زال، ولم يجعله من البراح إيذاناً بالفرق بين ما جعل عبارة وبين غيره، وقال تعالى: )لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى) )سورة طه، الآية: 91) وفي موضع آخر: )وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين) )سورة الكهف الآية: 60) والمعنى لا أزال أسير حتى أبلغ، ولو جعل من البراح لدافع قوله حتى أبلغ، لأن الثابت في موضعه لا يكون متبلغاً، ومما يشرح هذا الذي قلناه امتناعهم من قول القائل: ما زال زيد إلا كذا حتى ردوا على ذي الرمة قوله:
حراجيح ما تنفك إلا مناخة ... على الخف أو ترمي بها بلداً قفرا
وقالوا الاستثناء ممتنع هنا وإنما هو حراجيح ما ينفك مناخة أي لا يزال شخوصاً مجهودة وحمل إلا على الكثرة والجنس، ومنهم من قال: ما تنفك من قولهم فككته فانفك كأنه يخرجه من أن يكون مما يدخل على المبتدأ والخبر، ويجعله مستقلا بفاعله مثل كان التامة، ويكون المعنى لا ينخل قواه إلا في هذه الحالة وعلى هذا ما فتئ وفي القرآن: )تالله تفتؤ تذكر يوسف) )سورة يوسف، الآية: 85) أي لا تفتؤ ولا تزال.(1/57)
فإن قال قائل: فهل يجوز أن يوصف الله تعالى بأنه ذخر وسند؟ قلت: هذا لا يكون إلا مجازاً وما لا يجب من جهة الحقيقة لا يجوز عندنا وصف القديم به إلا إذا كثر في كلام أهل الدين وأخبار أرباب اللغة فيصير تبعاً فيه لهم، وذلك أن الذخر ما يذخره الإنسان ويحرزه لنفسه وليوم حاجته، ويكون في الوقت كالمستغني عنه فيقال: أذخر هذا لطوارق الزمان ونوائب الدهر والأيام وعلى هذه الطريقة لا يجوز ذلك على الله لأن الحاجة إليه دائمة فهذا في الذخر وكذلك السند في الحقيقة هو ما أسند الإنسان إليه ظهره والله متعال عن هذه الصفة. فإن قيل: فهل يجوز أن يوصف الله بأنه نجي وولي؟ قلت: النجي فعيل ويراد به الذي يناجي، ووصف به الجمع في قوله تعالى: )خلصوا نجياً) )سورة يوسف، الآية: 80) وإن كان على لفظ الواحد كما جاء فعول في قوله تعالى: )عدو لي) )سورة طه الآية: 39) وإذا كان كذلك فليس هو كالنكير والنذير لأنهما مصدران، ولكنه بمنزلة العلي والولي ونحوه مما يكون، والوالي والولي بمعنى واحد، قال تعالى: )الله ولي الذين آمنوا) )سورة البقرة، الآية: 257) قال تعالى: )ما لهم من دونه من وال) )سورة الرعد، الآية: 11) وكذلك النجي ومثله الصديق والخليط في أنه بلفظ الواحد ووصف به الجمع، وقوله: إني إذا ما القوم كانوا فأنجيه. فأنجيه كقولهم كثيب وأكثبة ورغيف وأرغفة شبه الصفة بالاسم فكسرت تكسيره وقوله تعالى: )وإذ هم نجوى) سورة الإسراء، الآية: 47) وصف بالمصدر كما وصف بالعدل والرضى، وإذا كان الكلام بياناً عن المعاني فعلى المتكلم أن يبين المعاني التي يخبر عنها بكلامه وإلا كان بمنزلة من يلغز ويعمي كلامه لئلا يفهم، وفاعل هذا مختار عابث فأما قولنا: وكيل علينا أي متول لأمورنا وقائم، بحفظنا ونصرتنا، ولا يجوز أن يقال: وكيل لنا لأن الوكيل لنا هو النائب عنا وخليفتنا فيما يليه لنا فأما قولنا: توكلنا على الله، فليس من الوكالة في شيء وإنما معنى يتوكل يلتجئ ويعتمد وإذا كان كذلك فإنا نقول: الله وكيل علينا، ولا نقول: متوكل علينا.
فإن قيل: كيف جاز مجيء تفعل وتفاعل في صفاته ومما من أبنية التكلف والتكلف لا تجيزه على الله. قلت: قوله المتكبر والكبير المتعالي في صفاته كالكبير والعالي والمباني كما يتفرد بالمعاني أو يكثر مجيئها لها فإنها قد تتداخل وتتشارك حتى لا تمايز ولا تباين، وإذا كان كذلك فقول القائل تعلى وتعالى وعلا بمعنى واحد قال: )تعلى الذي في متنه وتحدرا) بمعنى علا وحدر وقال شعراً:
ومستعجب مما يرى من إناتنا ... ولو زينة الحرب لم يترمرم
بمعنى عجب. وقال أوس:
وقد أكلت أظفاره الصخر كلما ... تعايا عليه طول مرقي توصلا
بمعنى أعيى، وهذا كثير ظاهر فأعلمه. ومنه قوله تعالى: )وإذ تأذن ربك) )سورة الأعراف، الآية: 167) بمعنى أذن. واعلم وقد انتهى هذا الباب وكمل بما ضم إليه من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها، جامعاً إلى الوفاء بما وعدته ومجيئه على المثال الذي خططته، أني لم آل جهداً في اختيار ما كانت الحاجة إلى بيانها أمس، والنفس إلى تبينها أتوق، حتى بلغ حداً يمكن الاستعانة به، مع أدنى تأمل على فتح كثير مما يستغلق من نظرائه، وكل ذلك بعون الله وحسن توفيقه، وأنا الآن مشتغل بالباب الثاني والكلام في حقيقة الزمان والمكان، والرد على من تكلم بغير الحق فيهما والله بحوله وقوته يعين على بلوغ ما نعرب منه وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الباب الثاني
في ذكر أسماء ومعان للزمان والمكان
ومتى تسمى ظروفاً، ومعنى قول النحويين الزمان ظرف للأفعال، والرد على من قال في بيانهما بغير الحق من الأوائل والأواخر وهذا الباب يشتمل على ما ذكر ماهية الزمان والمكان وحكاية أقوال الأوائل فيهما، فحقهم ومبطلهم وإبطال الفاسد منها وما يتعلق بذلك وفصوله أربعة:
فصل(1/58)
اعلم أن أسماء الزمان والمكان إنما تسمى ظروفاً إذا كانت محتوية لما هي ظروف لها فإن لم تكن محتوية فليست بظروف، بل هي أسماء تبين ما وقعت عليه من غيره كسائر الأسماء، كقولك: مكانكم طيب، وخلفك واسع، وأمامك الصحراء، ويوم الجمعة مبارك، وشهر رمضان شهر طاعة وإنابة، فإنما هذا كقولك: عبد الله كريم، وزيد مبارك، وموضع كونها ظروفاً أن تقول: سرت يوم الجمعة وضربت زيداً يوم السبت، فاليوم مفعول فيه. وسنذكر قطعة واسعة من الأزمنة تأتياً بأسمائها إلى أن نتمكن من شرح جملها وتفاصيلها، ونأتي على حقها وحقيقتها ويندس في أثنائها الكثير من مبهمات الأمكنة لأنها هي التي تكون ظروفاً دون محدوداتها، واتسع باب الأزمان، لأن الأحداث انقسمت بانقسامها فهي تتضمنها دون الجثث والأشخاص، ولذلك قال سيبويه: المكان أشبه بالأناس فلها صور تثبت عليها وحدود تنتهي إليها وتتباين بها.
فمن أسماء الزمان: اليوم والليلة والبارحة الأولى وأمس وأول من أمس، وأول من أول من أمس، وإذ مضافة إلى جملة كالفعل والفاعل والابتداء والخبر وقط وعصر وزمان ودهر ووقت في الزمان والمكان، وأسبوع وشهر وعام وسنة فيما مضى وحقب في المستقبل، وإذ مضافة إلى فعل وفاعل، وذات مرة، وذات المرار، ولا يستعملان إلا ظرفاً، وذات العويم وإبان وإفان وقبل وبعد، ولا يرفعان، وبعيدات بين، وكذلك، وليس قبل وبعد ولا بعيد من أسماء الزمان، ولا بعيدات بين، ولا من أسماء ساعاته.
وكذلك ذات مرة لأن قبل وبعد يفيدان التقدم والتأخر، وبعيدات، جمع بعد مصغراً، ولذلك ضعفن، وذو صباح، وذو مساء وحرى دهر وابنا سمير والملوان والجديدان والأجدان، وملء من الدهر، والمرة، كقولك: ضربه وما كان اسماً في الدهر للظمأ والرعي وغير ذلك مما يعتاد كالوجبة والغب والرفة والثلث والربع والخمس و السدس ما كان ممراً في اليوم، والليلة نحو سحر وبكر وغدوة وهو علم، وبكرة وهو مجهول على عدد، وغداة وضحوة وضحى والضحاء ممدود، ونصف النهار وسواء النهار والهجير والهاجرة والظهير والظهيرة ودلوك الشمس، وغسق الليل، والعصر وقصر العشي والأصيل، واستعمالهم إياه مصغراً تقريباً للوقت، نحو أصيل وأصيلال وأصيلان، وكذلك المغرب في قولك مغيربان ومغيربانات والعتمة والغداة ومقصر وظلام ووهن وهدا وهداة وهدو وصباح ومساء وصباح مساء مبنيين، وسير عليه ذا صباح وشطر الليل ويومئذ وهذا مما حذف منه وصار التنوين بدلاً من المحذوف فيه وحينئذ وساعتئذ ويوم وحين مضافة إلى متمكن وإلى غيره، والسدف والسدفة وأي حين، ومذ ومنذ ومتى وأيان، ودخول كم على متى للعدد، ودخول حتى وإلى للمنتهى على أسماء الزمن وقولك ربما للتقليل، وربما بما في ذلك من اللغات، وقد التي بمعنى ربما، والساعات وألقاب أيام الأسبوع وتسمية العرب لها وذلك قولهم للأحد أول وللاثنين أهون، وللثلاثاء جبار للأربعاء دبار، وللخميس المونس وللجمعة العروبة، وللسبت شيار وقولهم الوهن والموهن، وتسميتهم سير الليل لا تعريس فيه إلا ساد، وسير النهار لا تعريج فيه التأويب.
وقولهم: لا أكلمك السمر والقمر، واختلاف الأزمنة كالضيف والخريف والشتاء والربيع وما ينسب إليها من نتاج أو عشب، وتسميتهم بالحر شهري ناجر، والشهرين الموصوفين بالبرد شهري قماح وقماح، وما نفع من المصادحينا نحو: مقدم الحاج، وخقوف النجم، وخلافة فلان، ووقعة فلان، والتواريخ، وتقديمهم الليلة على اليوم، وقولهم بعد فنك من الليل، وهزيع والأناء وما واحدها، وأيام الأسبوع والفصل بينهما والأوان والآن.
وصفات الزمان: كقولهم حول كريت وقميط ومجرم وفعله قليلاً وكثيراً وطويلاً وقصيراً، وقولهم النسيء في الأزمنة والنسيئة في الدين واليمين والشمال وأعلى وأسفل وخلف وقدام وأيام العجوز، وهذه تجري مجرى المقدمات وسيأتي التفسير عليها منوعة.
فصل في ماهية الزمان(1/59)
ذكر بعض القدماء أن الزمان هو دوران الفلك، وقال أفلاطون: هو صورة العالم متحركة بعد صورة الفلك. وقال آخر: هو مسير الشمس في البروج حكى جميع ذلك النوبختي، ووجوه هذه الأقوال تتناسب. وحكى أبو القاسم عن أبي ا لهذيل أن للزمان مدى ما بين الأفعال، وأن الليل والنهار هما الأوقات لا غيره. وزعم قوم أنه شيء غير الليل والنهار، وغير دوران الفلك، وليس بجسم ولا عرض، ثم قالوا: لا يجوز أن يخلق الله شيئاً إلا في وقت، ولا يفنى الوقت فيقع أفعال لا في أوقات، لأنه لو فني الوقت لم يصح تقدم بعضها على بعض، ولا تأخر بعضها عن بعض، ولم يبين ذلك فيها وهذا محال.
وقال بعض المتكلمين: الزمان تقدير الحوادث بعضها ببعض، ويجب أن يكون الوقت والموقت جميعاً حادثين، لأن معتبرهما بالحدوث لا غير، ولذلك لم يصح التوقيت بالقديم تعالى ثم مثل، فقال: ألا ترى أنك تقول: غرد الديك وقت طلوع الفجر، وتقول: طلع الفجر وقت تغريد الديك، فيصير كل واحد من طلوع الفجر وتغريد الديك وقتاً للآخر ومبيناً به للمخاطب حدوثه وهذا على حسب معرفته بأحدهما وجهله بالآخر، لأن ذلك في التوقيت لا بد منه. وقال المحصل من النحويين الزمان ظرف الأفعال وإنما قيل ذلك لأن شيئاً من أفعالنا لا يقع إلا في مكان وإلا في زمان وهما الميقات.
قال الخليل: الوقت مقدار من الزمان وكل شيء قدرت له حينا فهو موقت، وكذلك ما قدرت له غاية فهو موقت، قال تعالى: )إلى يوم الوقت المعلوم) سورة الحجر، الآية: 38 والميقات مصير الوقت قال تعالى: )فتم ميقات ربه أربعين ليلة) سورة الأعراف، الآية: 142 والآخرة ميقات الخلق ومواضع الإحرام مواقيت الحج وفي التنزيل: )يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) سورة البقرة، الآية: 189 والإهلال ميقات الشهر وفي القرآن: )وإذا الرسل أقتت لأي يوم أجلت) سورة المرسلات، الآية: 11 12 وإنما هي وقتت ويقال: وقت موقوت وموقت. والزمان قد يعلم باسمه. وقد يبين بصفاته، فالأول كالسبت والأحد ورمضان وشوال، والثاني كقولك الخميس الأدنى، والجمعة الآتية، وقد يبين بقرينة تضاف إليه كقولك: عام الذيل، ووقت ولاية فلان. وقد يقصد المتكلم بيان قدر الوقت أو صورته أو اتصاله أو انقطاعه بما يكون نكرة كقولك فعلته ليلاً وثابرت عليه حولاً وأقمت عنده شهراً.
وفي الاتصال والانقطاع يقولون: فعلته ليلاً ونهاراً أو غدواً وعشياً وزرته ذات مرة وبعيدات بين. فأما قول من قال: هو الفلك بعينه فقد أخطأ، لأن الأفلاك كبيرة في الحال وليست الأزمنة كبيرة في الحال، لأن الزمان ماض ومستقبل وحاضر، والفلك ليس كذلك وهذا ظاهر، وذلك قول من قال: حركات الفلك هي الزمان لأن أجزاء الزمان إذا توهمت كانت زماناً، وأجزاء الحركة المستديرة إذا توهمت لم تكن حركة مستديرة، ولأن الحركة في المتحرك وفي المكان الذي يتحرك إليه المتحرك، والزمان ليس هو في المتحرك ولا في المكان الذي يتحرك إليه المتحرك، بل هو في كل مكان ثم قد يكون حركة أسرع من حركة، ألا ترى أن حركة الفلك الأعلى أسرع من حركة زحل والبطء والسرعة لا يكونان في الزمان لأن الحركة السريعة هي التي تكون في زمان يسير والبطيئة هي التي تكون في زمان كثير.
وحكى حنين بن اسحاق عن الاسكندر أنه قال في حد الزمان: إنه مدة بعدها حركة الفلك بالمتقدم والمتأخر. قال والعدد على ضربين: عدد يعد غيره وهو ما في النفس، وعدد يعد بغيره، والزمان مما يعد بغيره وهو الحركة لأنه على حسبها وهيئتها وكثرتها وثباتها، وإنما صار عدداً من أجل الأول والآخر الموجودين في الحركة، والعدد فيه أول وآخر فإذا توهمنا الحركة توهمنا الزمان، وإذا توهمنا الزمان توهمنا الحركة، وإنما صار عدد حركة الفلك دون غيرها لأنه لا حركة أسرع منها، وإنما يعد الشيء ويذرع ويكال بما هو أصغر منه. قال: والزمان عدد وإن كان واحداً لأنه بالتوهم كثير فيكون أزمنة بالقوة والوهم لا بالوجود والعمل.(1/60)
وهذا يقارب ما حكاه أبو القاسم عن أبي الهذيل في حد الزمان، لأن قوله: مدى ما بين الأفعال، وإن الليل والنهار هما الأوقات إذا حصل يرجع إلى معنى قوله مدة بعدها حركة الفلك بالمتقدم والمتأخر، وإن كان لفظ أبي الهذيل أجزل وأغرب، ألا ترى أن الاسكندر قال: والبرهان على أن الزمان ليس بذي كون ولا ابتماء ولا انتهاء والفرقة التي زعمت أن الزمان شيء غير الليل والنهار، وغير دوران الفلك، وليس بجسم ولا عرض إلى آخر الفصل، فإنا سنتكلم به على الملاحدة والخارجين من التوحيد إلى وراء التشبيه إن شاء الله تعالى.
اعلم أن العبارة عن الوقت قد حصلت من القديم تعالى ولا فلك يدور ولا شمس في البروج تسير، وعبر أيضاً عن أوقات القيامة فمرة قال تعالى: )في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة(، سورة المعارج، الآية: 4 ومرة قال تعالى: )فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) سورة السجدة، الآية: 5 وقال تعالى: )خلق السموات والأرض في ستة أيام) سورة الحديد، الآية: 4 وقال تعالى في صفة أهل الجنة: )ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً(، سورة مريم، الآية: 62 ولا بكرة ثم ولا عشية، فجميع ذلك أجري لأوقات مؤقتة لمعاني قدرها الله تعالى على أحوال رتبها ومراتب صورها فمنها ما هو أطول، ومنها ما هو أقصر، على حسب آماد الأمور المقدورة فيها، فمثل كلاً بما تقرر به النفوس غايته وأمده ومقداره وموقعه مما كنا نعرفه ونألفه ونشاهده ونتصرف فيه، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا وحصل من ا لحكيم التوقيت على ما بينا ظهر كثير من عاداتهم فيه وأنهم تخيروا ما كان في الاستعمال أبين وفي العرف أمتن، وعلى المراد أدل، وفي التمثيل أنبه وأجل.
واعلم أن الحادث متى حصل فقد حصل في وقت، والمراد أنه يصح أن يقال فيه: إنه سابق لما تأخر عنه، وإن وقته قبل وقته، أو متأخر عما تقدمه لإن وقته بعد وقته أو مصاحب ما حدث معه، وإن وقته هذا هو المراد فقط، ولسنا نريد أنه حدث معه شيء سمي زماناً له، أو سبقه أو احتاج في الوجود إليه، فلو تصورنا أول الحوادث وقد اخترعه الله مقدماً على المحدثات كلها لصلح أن يقال فيه: إنه سابق لها وإنه أول لها، وهذا توقيت، ولو تصورنا أنه بقي مفرداً بعد حدوثه لم يتبع بغيره لكان يصح تقدير هذا القول فيه وتوهمه إذ كان الله تعالى قادراً على الإتيان بأمثاله وأغياره معه وقبله وبعده.
وهذا معنى قول النحوي: الفعل ينقسم بانقسام الزمان ماض ومستقبل وحاضر، وإذا كان الأمر على هذا فقد سقط مؤنة القول في أن الوقت حادث لا في وقت، وأنه لو احتاج الوقت إلى وقت لأدى إلى إثبات حوادث لا نهاية لها. وأما من قال: إن الزمان تقدير الحوادث بعضها ببعض وتمثيله بأن القائل يقول: غرد الديك وقت طلوع الفجر، وطلع الفجر وقت تغريد الديك فإن كل واحد من التغريد صار وقتاً للآخر، فإنه جاء إلى فعلين وقعا في وقت واحد، فعرف الوقت مرة بالإضافة إلى هذا، وجعل ذلك الآخر مؤقتاً به، ومرة بالإضافة إلى ذلك، وجعل هذا مؤقتاً به، ولم يتعرض للزمان وكشف حده وضبطه وهذا كما يقال: حججت عام حج زيد وحج زيد عام حججت.
ومن الظاهر أن العام غير الحجين وأنهما إنما وقعا فيه، وهذا بين على أن ما أتى به واشتغل بتمثيله هو من قبيل ما يكون زماناً وهو ما يصلح أن يكون واقعاً في جواب متى ولم يستوفه أيضا، وترك ما يخرج في جواب كم رأساً، وذلك كقولهم: يصوم زيد النهار ويقوم الليل، وما فعلته قط، ولا أفعله أبداً، وأقمت بالبلد شهراً وهجرت زيداً يوماً إلى كثير مما ستراه في أبواب هذا الكتاب وفصوله.(1/61)
واعلم أن الزمان وإن كان حقيقة ما ذكرنا، فإن الأمم على اختلافها أولعوا في التوقيت بذي الليالي والأيام، والشهور والأعوام، لما يتعلق به من وجوه المعاملات والآجال المضروبة في التجارات، ومن تقرير العدات، وإدراك الزراعات، وآماد العمارات، ومن فعل أهل الوبر في المحاضر والمزالف والمناجع والمجامع، وإقامة الأسواق، وتوجيه المعاش، ومن اشتغال أرباب النحل بما افترض عليه عندهم من تقرب وعبادة، ودعوا إلى الأخذ به في دينهم من فرض ونافلة، وأمروا بالتوجه إليه من سمت وقبلة، ولما أجرى الله تعالى العادة به فيه من حدوث حر وبرد، وجزر ومد، وتبدل خصب وجدب، ورخاء عيش وبؤس، ومن ظهور نبات وأوان لقاح، أو ولاد وصبوب أمطار وهبوب أرواح لذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم: )تعلموا من النجوم ما تعرفون به ساعات الليل والنهار، وهداية الطرق والسبل) فقدر أكثر الناس أن الزمان لا يكون غيرها ولا يعدوها إلى ما سواها، ولهذا الذي تبينته، أو أشرت إليه ذكر أبو الهذيل بعد تحديد الزمان الليل والنهار هما الأوقات لا غير.
واعلم أن الذين زعموا أن الزمان شيء غير الليل والنهار، وغير دوران الفلك وليس بجسم ولا عرض، ثم قالوا: لا يجوز أن يخلق الله شيئاً إلا في وقت ولا يفنى الوقت، فيقع أفعال لا في أوقات لأنه لو فني الوقت لم يصح تقدم بعضها على بعض ولا تأخر بعضها عن بعض، ولم يتبين ذلك فيها، وهذا محال قولهم داخل في أقوال الذين يقولون: إن الزمان والمكان المطلقين، ويعرب عنهما عند التحقيق بالدهر والخلاء جوهران قائمان بأنفسهما، والكلام عليهم يجيء بعد تنويع فرقهم وبيان طرقهم فنقول: بالله الحول والقوة من زعم أن الأزلي كثر من واحد أربع فرق: الأولى: الذين يقولون هما اثنان الفاعل والمادة فقط ويعني بالمادة الهيولى.
الثانية: الذين يدعون أن الأزلي ثلاثة الفاعل والمادة والخلاء.
الثالثة: الذين يدعون أنه الفاعل والمادة والخلاء والمدة.
الرابعة: الفرقة التي زعيمهم محمد بن زكريا، المتطبب لأنه زاد عليهم النفس الناطقة، فبلغ عدد الأزلي خمسة بهذيانه.
وشرح مذهبهم أنه لم يزل خمسة أشياء، اثنان منها حيان فاعلان وهما: الباري والنفس، وواحد منفعل غير حي وهو الهيولى الذي منه كونت جميع الأجسام الموجودة، واثنان لا حيان ولا فاعلان ولا منفعلان وهما الخلاء والمادة، إلى خرافات لا تطيق اليد بيانها بالخط، ولا اللسان تحصيلها باللفظ، ولا القلب تمثيلها بالوهم، فمما يزعمه أن الباري تام الحكمة لا يلحقه سهو ولا غفلة، وتفيض منه الحياة كفيض النور عن قرصة الشمس، وهو العقل التام المحض، والنفس تفيض منه الحياة كفيض النور، وهي مترجحة بين الجهل والعقل كالرجل يسهو تارة، ويصحو أخرى، وذلك لأنها إذا نظرت نحو الباري الذي هو عقل محض غفلت وأفقت، وإذا نظرت نحو الهيولى التي هي جهل محض غفلت وسهت، وأقول متعجباً لولا الكرى لم يحلم وهذا كما قال غيري، أليس من العجائب. هذيانه في القدماء الخمسة، وما يعتقده من وجود العالم لحدوث العلة وما يدعيه من وجود الجوهرين الأزليين أعني الخلاء والمدة لا فعل لهما ولا انفعال، فلولا خذلان الله إياه، وإلا فماذا يعمل بجوهر لا فاعل ولا منفعل؟ ولم يضع الأرواح المقدمة قبالة الأرواح الفاسدة ولم يحدث العلة من غير نقص ولا آفة ولم يذكر شيئاً ليس قيه جدوى ولا ثمرة وهذا الفصل إذا أعطي مستحقه من التأمل ظهر منه ما يسقط به سخيف كلامهم، وإن لم يكن مورده مورد الحجاج عليهم.(1/62)
ألا ترى أن من لم يثبت القديم تعالى فيما لم يزل واحداً لا ثاني له، وعالماً بالأشياء قبل كونها وبعده، وقادراً على كل ما يصح أن يكون مقدوراً، وحياً لا آفة به، و غنياً لا حاجة به إلى غيره في شيء من إرادته، وحكيماً لا يبدو له في كل ما يأتيه ويفعله، فننقل إلى ما هو أعلى منه، بل لا يفعل إلا ما هو حسن وواجب في الحكمة والصواب، فقد جعله قاصراً ناقصاً، تعالى الله وجل عن صفات المخلوقين، وهذا كما أن من الواجب أن يعلم أن القديم لو لم يبدع العالم أصلاً لاستحال أن يتوقف على وجوده، أو يتوصل إلى إثباته، لأن ذاته لم تكن ظاهرة للعيان، ولا مستدركاً بالحواس، وأن الشيء قد يصح إثباته من طريق أفعاله يصح إثباته من جهة ذاته، والأسباب وإن كانت متقدمة لمسبباتها بالوجود فلا يمتنع أن يكون في العقول أسبق إلى الوضوح.
وإذا كان كذلك فالعالم بثبات هذا العالم المحسوس موصول إليه من طريق الإدراك والمشاهدة، والعلم بصانعه من طريق النظر والمباحثة، وقد تكلم الناس في المعرفة بالله تعالى واختلفوا فزعم قوم أن المعرفة لا تجب على القادر العاقل وأنها تحدث بإلهام الله فكل من لم يلهمه الله المعرفة فلا حجة عليه، ولا يجب عليه عقاب، لأن عذر من ترك الشيء لأنه لم يعلم كعذر من ترك الشيء لأنه لا يقدر عليه، والذي يدل على أن المعرفة تكون ضرورة لأنا يمكننا التشكك فيه. ألا ترى أنه كلما اعتقدنا الشيء بدليل فاعترضت شبهة في أصل الدليل يخرج من العلم بذلك الشيء حتى تثبت حجة بمحل تلك الشبهة، ولو كانت بالضرورة لم يكن الثشكك، وكان العقلاء كلهم شرعاً واحداً في العلم، كما صاروا شرعاً واحداً في أخبار البلدان المتواترة عليهم، فبان بذلك أنها ليست بضرورة، وأكثر الناس على أنها واجبة وهي من فعل الإنسان، وإنما يقع أولها متولداً عن النظر.
قال البغداديون مستدلين: لا يخلو من أن يكون قد كلفنا الله معرفته أو لا يكون كلفنا وتركنا مهملين، وتركنا سدى، وإهمالنا لا يجوز عليه ويقال لهم في ذلك: إن الإهمال هو تضييع ما يلزم حفظه، وترك مراعاة ما يجب مراعاته، ألا ترون أن من لم يحفظ مال غيره لا يقال أهمله، لما كان لا يلزمه حفظه فثبتوا أولاً أن المعرفة بالله واجبة، ثم ادعوا الإهمال إذا لم يكلفناها. وقالوا أيضاً: نحن نرى على أنفسنا آثار نعم ونعلم وجوب شكر المنعم، فإذا يجب أن يعرف المنعم لشكره.
فإن قال قائل: فهل يجوز أن نعلم القديم تعالى من طريق الخبر؟ قلت: لا، لأن الخبر على قسمين: فمنه ما يضطر السامع إلى العلم بالمخبر به كالخبر عن البلدان والأمصار، وقد علمنا أنه لا يجوز أن نعلم الله من هذه الجهة، لأنا وجدنا العقلاء يشكون من أن لهم صانعاً مع إخبار المخبرين به، ولو كان يعلم من طريق الخبر لكان لا فرق بين خبر من زعم أن الصانع واحد وبين من قال اثنان أو ثلاثة، على أن الخبر إنما يضطر إذا كان المخبر يخبر عن مشاهدة، لأنه لا يجوز أن يكون حال المخبر يعلم ضرورة ومن الخبر ما يعلم من طريق الاستدلال، كخبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يعلم الله من هذه الجهة، لأن القائل بهذا القول أحد رجلين، إما أن يقول لا يعلم الله إلا من جهة الخبر، فيلزمه أن يكون النبي لا يعرف الله إلا بنبي آخر وذلك يوجب التسلسل إلى ما لا نهاية، وإما أن يقول: إنه يعلم من جهة النبي ومن جهة أخرى أيضاً، وهذا فاسد لأنه ليس في النبي أكثر من إظهار المعجزات والمعجزات لا تدل على حكمة فاعلها، فكيف يكون خبر النبي طريقاً إلى العلم بالله وإذ قد ذكرنا وجوب معرفة الله تعالى والطريق إليه ها هنا، ومما تقدم فإننا ننكر الكلام على الملحدة والمتحيرين.
فصل
اعلم أن أنواع الضلال ثلاثة: المعاندة والحيرة والجهالة.
فالمعاندة على الإطلاق ينبغي أن لا يحصل لأحد منا علم حقيقي ولا معرفة تفضي إلى يقين، وإنما هي ظنون وخواطر لا تسكن النفس إليها، وتسميتنا لها ولأمثالها بالعلوم توسع ومجاز. والوجه في مدافعتهم أن يقال لهم: أتقولون ما ذكرتم عن خلوص علم، أو تسلط ظن؟ فإن ادعوا العلم فقد ناقضوا، وإلا حصلوا على عناد، وقد ذكر أبو عثمان الجاحظ في الكفار الذين قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا عارفين بالله معاندين.(1/63)
واعترض عليه فقيل: إن العناد يجوز على العدد اليسير، فأما الجماعة الكثيرة فلا يصح عليها ذلك، ونحن نعلم من أنفسنا وقد كنا على مذاهب فتركناها لفسادها أنا لم نكن في حال اعتقادنا معاندين ولا كاذبين لأنفسنا، وإنما تركنا الاستدلال، فكذلك أولئك الكفار قد علموا فيما أظهره النبي صلى الله عليه وسلم أنها معجزات، لكنهم تركوا الاستدلال بها على ثبوته وصدقه.
والمتحيرون هم الذين يزعمون أن العلم بالمحسوسات قد يصح، ولكن ما عداها مما يحال فيه على العقل نحن شاكون فيه ومتوقفون، والكلام عليهم طريقه أن تقلب عليهم نفس ما أوردوه فيقال: تدفعون مقتضيات العقول بالمشاهدات أو بحجج العقول ولا فلاح لهم أي الطريقين سلكوا.
والجاهلون الملاحدة والخارجون من نور التوحيد والاستقامة إلى ظلمة الشرك فرق، والضلالة في عددهم في ازدياد ووفور، وإفسادهم وجوه وفنون وقد فسرت فقيل: ربما كانت من الحضانة والتربية وقلة الخواطر وغباوة الخليط وجهد المجاورة، وربما كان من تعظيم الأسلاف، أو من وجه الآلاف، أو من غباوة الداعية ونسل صاحب المقالة، وكونه صاحب سن وسمت وإخبات وطول صمت، ولله تعالى الحجة البالغة عليهم، وعلى طوائف المبتدعة من أهل الصلاة على اختلاف أهوائهم، وسيعلم الجافي على نفسه كيف ينقلب وقد فاته الأمر. ذكر بعضهم حاكياً عن قوم من الأوائل، أن الدهر والخلاء قائمان في فطر العقول بلا استدلال، وذاك أنه ليس من عاقل إلا وهو يجد ويتصور في عقله وجود شيء للأجسام بمنزلة الوعاء والقراب، ووجود شيء يعلم التقدم والتأخر، وأن وقتنا ليس هو وقتنا الذي مضى، ولا الذي يكون من بعد بل هو شيء بينهما، وأن هذا الشيء هو ذو بعد وامتداد.
وقال: قد توهم قوم أن الخلاء هو المكان، وأن الدهر هو الزمان، وليس الأمر كذلك بإطلاق، بل الخلاء هو البعد الذي خلا منه الجسم، ويمكن أن يكون فيه الجسم، وأما المكان فالسطح المشترك بين الحاوي والمحوى، وأما الزمان فهو ما قدرته الحركة من الزمان الذي هو المدة غير المقدرة، فصرفوا معنى الزمان والمكان المضافين إلى المطلقين، وظنوا أنهما هما والبون بينهما بعيد جداً، لأن المكان المضاف هو مكان هذا المتمكن وإن لم يكن متمكناً لم يكن مكاناً، والزمان المقدر بالحركة يبطل أيضاً ببطلان المتحرك ويوجد بوجوده، إذ هو مقدر حركته، فأما المكان بإطلاق فهو المكان الذي يكون فيه الجسم وإن لم لم يكن والزمان المطلق هو المدة قدرت أو لم تقدر، وليس الحركة فاعلة المدة بل مقدرته، ولا المتمكن فاعل المكان بل الحال فيه، قال: فقد بان أنهما ليسا عرضين بل جوهرين لأن الخلاء ليس قائماً بالجسم لأنه لو كان قائماً به لبطل ببطلانه، كما يبطل التربيع ببطلان المربع.
فإن قال قائل: إن المكان يبطل ببطلان المتمكن قيل له: أما المضاف فإنه كذلك لأنه إنما كان مكان هذا المتمكن، فأما المطلق فلا، ألا ترى أنا لو توهمنا الفلك معدوماً لم يمكنا أن نتوهم المكان الذي هو فيه معدوماً بعدمه، وكذلك لو أن مقدراً قدر مدة سبت كان، ولم يقدر مدة يوم آخر، لم يكن في ترك التقدير بطلان مدة ذلك اليوم الذي لم يقدر، بل التقدير نفسه، فكذلك ليس في بطلان الفلك أو في سكونه ما يبطل الزمان الحقيقي الذي هو المدة والدهر، فقد ينبغي أنهما جوهران لا عرضان، إذ كانا ليسا بمحتاجين إلى مكان ولا إلى حامل فليسا إذاً بجسم ولا عرض، فبقي أن يكونا جوهرين.
وزاد على هذا الوجه الذي حكيناه بعضهم فقال: طبيعة الزمان من تأكيد الوجود في ذاتها وقوة الثبات في جوهرها، بحيث لا يجوز عدمها رأساً ولم تكن قط معدومة أصلاً، فلا بدء لها، ولا انتهاء، بل هي قارة أزلية.
ألا ترى أن المتوهم لعدم الزمان لم يخلص له وهمه إلا إذا ثبت مدة لا زمان منها، والمدة هي الزمان نفسه، فكيف يوهم عدم ما تأكد لزوم جوهره؟ ويفني العقل الصحيح تصور عدمه وتلاشيه؟ أو كيف يسوغ إلحاق عدمه بالممكنات؟! ووجوده من الواجبات الأزليات؟ فهذا ما حكي عن الأوئل. وابن زكريا المتطبب يحوم في هذيانه عند حجاجه حول ما ذكرناه عنهم ولم يبين بيانهم ولا بلغ غايتهم، فلذلك جعل تابعاً لهم وإذ قد أتينا على مآلهم بأتم استقصاد، فإنا نشتغل بالكلام عليهم، وإن كان فيما قدمناه قد صورنا خطأهم تصويراً يغني عن مقايستهم ومحاجتهم.(1/64)
ذكر بعض المنطقيين أن الزمان في الحقيقة معدوم الذات، واحتج بأن الوجود للشيء إما أن يكون بعامة أجزائه كالخط والسطح أو بجزء من أجزائه كالعدد والقول، وليس يخفى علينا أن الزمان ليس يوجد بعامة أجزائه إذ الماضي منه قد تلاشى واضمحل، والغابر منه لم يتم حصوله بعد وليس يصح أيضاً أن يكون وجوده بجزء من أجزائه إذ الآن في الحقيقة هو حد الزمانين وليس بجزء من الزمان، وكيف يجوز أن يعد جزءاً ولسنا نشك أن حقيقة الجزء هو أن يكون مقداراً له نسبة إلى كله، كأن يكون جزءاً من مائة جزء، أو أقل أو أكثر، فأما أن يتوهم جزء على الإطلاق غير مناسب لكله فممتنع محال وليس الآن في ذاته بذي قدر مناسب لما يفوض من الزمان الآتي والماضي، ولو وجد له قدر ما لصلح أن يجعل قدره عياراً يمسح به الكل حسب جواز ذلك على كافة ما يعد جزءاً من الشيء وإذا لم يكن الآن في جوهره ذا مقدار أصلاً، والجزء من الشيء لا يجوز أن يعرى من المقدار، فليس الآن بجزء من الزمان، وإذا كان الأمر على ذلك فالزمان إذا ليس يصح وجوده لا بعامة أجزائه ولا ببعض أجزائه، وإن شيئاً يكون طباعه بحيث لا يوجد بأجزائه كلها ولا ببعض منها فمن المحال أن يلحق بجملة الموجودات، وإذا كان ذات الزمان غير موجود أصلاً فليس بجائز أن نعده في الكميات، فإن ما لا وجود له لا آنية له، و الذي لا آنية له لا يوصف بوقوعه تحت شيء من المقولات.
وقولهم في الزمان هو المدة التي تفهم قبل وبعد أجلها، فإن كان المراد أن قول القائل: قبل وبعد يفيد أن تقدم المذكور وتأخره من غير أن ثبت بهما جوهران ليسا بجسم، ولا يفنيان ولا يجوز أن يخلق الله شيئاً من دونهما فهو صحيح، ويكون سبيلهما سبيل لفظ مع إفادتهما معنى الصحبة إذا قلت زيد مع عمرو، وكما تقول للأعيان أحوال ثم لا تصفها بأكثر من تميز بعضها عن بعض بها، وإن أريد بقبل وبعد غير ذلك فقد تقدم القول في بطلانه وبطلان ما قالوه في الخلاء والمكان، على أنا نقول معيدين عليهم إن أردتم أن المكان يكون المتمكن وإن لم يوجد الجسم لم يوجد المكان لأنه قائم بالجسم، وليس بشيء ذي وجود في نفسه فهو صحيح، وإن أردتم للمكان جوهراً يبقى إذا ارتفع المتمكن، وأن الذي بطل بارتفاعه هو النسبة إليه والإضافة، ويبقى المكان المطلق مكاناً كما كان وهو الخلاء الفارغ وليس فيه جسم فهذا إحالة على شيء لا الإدراك يثبته ولا الوهم يتصوره. فإن قالوا: المكان حينئذ يكون مكان ما يمكن أن يكون فيه كالزق الخالي من الشراب، فإنه مكان الشراب الذي يمكن أن يكون فيه.
قلنا: صور في وهمنا من الخلاء مثل ما نتصوره إذا توهمنا الزق والشراب وذلك مما لا يقدرون عليه، لأن كلامهم فارغ لا يفضي إلى معنى محصل، وأيضاً فإن الأجسام لا يخلو من أن تكون ثقيلة فترسب، أو خفيفة فتطفو، والخلاء عندهم ليس بثقيل ولا خفيف، فيلزمهم أن يكون النقطة هي الخلاء لأنها ليست بثقيلة ولا خفيفة، ويلزمهم على قولهم بأن المتحرك لا يتحرك إلا في الخلاء أن يتحرك أبداً ولا يستقر إذا لم يوجد شيء يضاده أو يسكن دائماً فلا يتحرك إذ لا سبب هناك يوجب تحركه، أو إذا تحرك في الخلاء أن يتحرك إلى جميع الجهات ولا يختص بجهة دون جهة لأن الخلاء كذلك. فإن قالوا: إن الذي تسميه خلاء هو الهواء، أسقط قولهم بأن الهواء يقبل اللون ويؤدي الصوت والخلاء ليس كذلك وهذا بين.
وأعجب من هذا أن الباري مخترع لجميع ما خلقه وأنه لا يعجزه مطلوب ولا ينكاده معلوم، ثم أقاموا معه في الأزل الهيولى وهو المادة، ورتبوا معه الصورة ليكون جميع ذلك كالنجار والخشب والنجارة والله تعالى يقول: )قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) سورة فصلت، الآية: 9 إلى قوله: )ذلك تقدير العزيز العليم) سورة فصلت الآية: 12 ولم يقل ذلك إلا وأهل العلم إذا فكروا فيه أدركوا منه الآية البينة والحجة الواضحة، وبينوا أنه ليس في العالم شيء إلا وهو منتقص غير كامل، وذلك هو الدليل على أنه مقهور لا يستغنى به، ولا بد له من قاهر لا يشبهه ولا يوصف بصفاته على حدها، لأن ذلك آية الخلق وآية الخلق لا تكون في الخالق.
فصل آخر يزداد الناظر فيه والعارف به استبصاراً فيما وضع الباب له(1/65)
اعلم أن الاستدلال بالشاهد على الغائب هو الأصل في المعرفة بالتوحيد وحدوث الأجسام لا يعرف ببداهة العقل ولا بالمشاهدة لأنه لو عرف ذلك لاستوى العقلاء في معرفته كما استووا فيما شاهدوه، وإنما يتهيأ أن يعرف بما علم من تعاقب الأعراض المتضادة عليها، وإنما لا تنفك منها على حدوثها إلا بمشاهدة الأجسام وإذا ثبت حدوث الأجسام فلا بد لها من محدث لا يشبهها، وإذا ثبت ذلك صح أن الفاعل للأجسام لا تحله الحوادث وأنه سابق لها غير مشبه لها والحوادث غير مشبهة له.
ثم دل خلقه للأجسام أنه قادر حي كما دلت أفعال الأجسام في الشاهد أنها حية قادرة عالمة وأنها لو لم تكن كذلك لم تكن فاعلة فلما لم يدلنا على أن الأجسام حية قادرة إلا أفعالها، إذ كانت حياتها وقدرتها لا تشاهد، دلتنا أفعال الله تعالى أيضاً على أنه حي قادر، ووجب أن يكون عالماً لوجود أفعال محكمة، إذ كانت أفعال الأجسام في الشاهد إذ كانت محكمة دلت على أنها عالمة ولا يدل على علمها غير أفعالها، إذ كان العلم لا يدرك ولا يشاهد.
ولما دلنا جواز الموت على الأجسام نفي الشاهد والعجز والجهل دلنا ذلك على أنهم إنما كانوا أحياء قادرين بحياة وقدرة، وعالمين بعلم، وهذه الأشياء هي غيرهم فلهذا جاز زوالها عنهم وحدوث أضدادها بدلاً منها فيهم. ولما كان القديم تعالى لا يجوز شيء من ذلك عليه وجب بدلالة الشاهد أنه حي بنفسه عالم ولما كان الجسم في الشاهد بالتأليف يصير جسماً، ونعلمه جسماً لم يجز أن يكون جسماً فصح بهذا أن التوحيد لا يعرف إلا بدلالة الشاهد، وكذلك طريق صدق الرسل لأنه لا يعرف بالمشاهدة ولا ببداهة العقل، ولو عرف بذلك لاستوى الناس جميعاً فيه، وإذا كان كذلك فإنما يعرف بالآيات المعجزات، ولا يعرف ذلك إلا باعتبار أمر الشاهد وحمل الغائب عليه فاعلمه واستدل أبو القاسم البلخي على أن القديم واحد بأن قال: قد ثبت أن المحدثات لا بد لها من محدث، فمن هذا الطريق قد بان أن ها هنا صانعاً لا بد منه ولا أقل من واحد فلذلك نعلمه يقيناً وأنه واحد، وأما ما عداه مشكوك فيه فلا يتخطاه إلا بدليل وهذا قريب صحيح. انتهى الباب والله محمود على ما سهله ووفقنا له من تحقيق ما أردنا تحقيقه من شرح فضائحهم وإثارة مقابحهم، والرد عليهم في أصول دعاويهم وفروعها ومسؤول إيزاعنا شكر نعمته وصلة سعينا بمرضاته.
الباب الثالث
ويشتمل على بيان الليل والنهار
على فصول من الأعراب يتعلق بهما وهي ظروف
الفصل الأول
قال الأصمعي أتيته ليلاً وقعلته نهاراً. قال تعالى: )وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل) سورة الصافات، الآية: 137فقوله: بالليل خلاف الإصباح. واعلم أن قوله: )وبالليل(، موضعه نصب على الحال كأنه قال: تمرون عليهم مصبحين ومظلمين أي داخلين في الظلام، فأوقع الليل على الجزء الذي فيه الظلام من الليل، وإن كان في الحقيقة للجنس. واليوم بإزاء الليلة يقال: جئتك اليوم وأجيئك الليلة ويقال: أتيته ظلاماً أي ليلاً ومع الظلام. وقال يعقوب: الظلام أول الليل وإن كان مقمراً. وحكى بعضهم أتيته ظلاماً أي عند غيبوبة الشمس إلى صلاة المغرب وهو دخول الليل، وهذا يؤيد ما حكاه يعقوب وكأنه جعله الوقت الذي من شأنه أن يظلم، ويقولون: عم ظلاماً، كما يقولون: عم صباحاً ويقال: نهار أنهر وليل أليل وليلة ليلاء وقال الفرزدق: والليل مختلط الغياطل أليل. وأنشد المفضل:
مروان مروان أخو اليوم اليمي
قال سيبويه: أراد اليوم فقلب وقدم الميم وقيل: بل حذف العين تخفيفاً وأطلق الميم إطلاقاً.
وقال شيخنا أبو علي الفارسي: وقت قراءتي عليه هذا الموضع من الكتاب وفي حاشية نسختي: أخي اليوم اليوم، فاستغربه وقال: يريد أنه بطل يبارز أقرانه ويقول لهم: اليوم اليوم أو هو صاحب هذا اللفظ في ذلك الوقت وفي هذا الوجه قلب أيضاً وقولهم: يوم في أبنية الأسماء غريب نادر، لأن فاءه ياء وعينه واو ومثله في المباني يوح اسم للشمس وباب اليون بالشام.(1/66)
وقد ذكره ابن الرقيات في قصيدة يمدح بها عبد العزيز بن مروان أعني ابن ليلى عبد العزيز. بباب اليون تغدو جفانه ردماً. وقال هميان بن قحافة: فصدقت تحسب ليلاً لأيلا. فقال لأيل وإنما يصفون بما يشتق من لفظ الموصوف بياناً للمبالغة وتنبهاً عليها على ذلك قولهم ظل ظليل، وداهية دهياء وما أشبهها. وبقال استأجرته مياومة وملايلة إذا قدر أجرته يوماً يوماً وليلة ليلة.
وحكى أبو عبيدة أن العرب لا تقول إلا مشاهرة، فأما معاوية ومياومة وما أشبههما فليست من كلام العرب، وإنما هي قياس على المسموع منهم، ويقال: يوم وأيام، والأصل أيوام لكن الواو والياء إذا اجتمعا فأيهما سبق الآخر بالسكون يقلب الواو ياء ويدغم الأول في الثاني، إلا أن يمنع مانع على ذلك قولهم سيد وميت لأنهما فيعل من ساد ومات، والأصل سيود وميوت هذا فيما السابق فيه ياء ومما السابق فيه واو قالوا كويته كياً، ولويته لياً لأن الأصل كوى ولوى وكذلك قولهم أمنية وازبية وقولي إلا أن يمنع مانع احتراز من مثل قولهم: ديوان لأن أصله دووان، ففروا من التضعيف وأبدلوا من إحدى الواوين ياء فلو طلبوا الإدغام للواو لعادوا من التضعيف مثل ما فروا منه، ومثله سوير وبويع ومثله لوى ورويه إذا خفف همزتاهما، لأن الواو في جميعها لا يلزم، فلم يعتدوا بها واواً.
ألا ترى أنها سوير، وبويع منقلبة عن الألف في سائر وبائع. وفي رويه ونوي مبدلتان من همزة وتلك الهمزة ثابتة في الذية، وإذا كان كذلك فحكم الواو فيها حكم الألف والهمزة، فأما ضيون وحيوة فشاذتان عن الاستعمال ومنبهتان على أصل بالباب المرفوض على عادتهم في أمثالها والنهار والليل لا يجمعان إلا أن يذهب إلى بياض كل يوم، وسواد كل ليلة، فتصورت بينها خلافاً لأنك حينئذ تجمع للاختلاف الداخل في الجنس فيقال: أليال وأليل وأنهر ونهر وعلى هذا قول الشاعر شعراً:
لولا الثريدان هلكنا بالضمر ... ثريد ليل وثريد بالنهر
والذي يكشف لك أن الليل والنهار لا يجمعان أن سيبويه قال: لا يجوز أن يقول لقائل: إذا كان الليل فاتني ولا أن يقول: إذا كان النهار فاتني لأنهما لا يكونان ظرفين إلا أن يعني بهما كل الليل والنهار. وإذا كانا كذلك فسبيلهما سبيل الدهر فكما لا تقول: إذا كان الدهر فاتني كذلك يمتنع في الليل والنهار ويقال: رجل ليلي ورجل نهاري إذا نسبت، ونهري أيضاً وهذا كما بنوا للنسبة فاعل وفعال مثل تاجر ولابن وبزاز وثمار وأنشده:
لست بليلي ولكني نهر ... متى أتى الصبح فإني منتشر
لا أدلج الليل ولكن أبتكر
ويقال: ليلة وليال فكأنها جمعت على ليلات وإن لم يستعمل ومثله أهال في جمع أهل وإنما هو في تقدير أهلي، وعلى هذا قالوا في التصغير ليلية والقياس في جمع ليلة ليلاء ليال ليل والأصل لول لأنه فعل مثل حمراء وحمر، لكنهم حاموا على الياء لئلا يلتبس بنات الياء ببنات الواو، ومثله قولهم بيض وعين في جمع بيضاء وعيناء وما أنشده الكسائي من قول الكميت:
ولدنك والبدر ابن عائشة التي ... أضاء ابنها مستحلكات الليايل
فإنه أراد الليالي، فقلب، وقدم الياء فلما وليت الألف همزت كما قيل: صحايف ومثله فيما قلبوه ترقوة وترائق والأصل تراقي.
واعلم أنهم يتوسعون في ذكرهم اليوم، والليلة ألا تراهم يقولون: فلان اليوم يعد من الرؤساء وكان في الدهر الأول على كذا، واليوم هو خلافه، وإنما يعنون الزمان وكما قال تعالى: )في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) سورة السجدة، الآية: 5يعني القيامة، وليس ما أشار إليه من صورة ما نعده في شيء وقال الشاعر:
يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب
فقسم دهره يومين، ويقال: الناس أغراض الليالي ويراد الأحداث ومثله من الذي يسلم على الليالي والأيام فأما قوله تعالى: )ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً(، سورة الأنفال، الآية: 16 ، فاليوم يعم أجزاء الليل والنهار، والزجر به حاصل في كل جزء من أجزاء الزمان وعلى هذا قوله:
يا جبذا العرصات ... يوماً في ليال مقمرات(1/67)
يريد وقتاً وزماناً في ليال وكذلك قوله تعالى: )وتلك الأيام نداولها بين الناس(، سورة آل عمران الآية: 140، أي نجعل الدول في الأزمان فتحول وتنقل بين الناس على حسب استحقاقهم أو سبباً لأمتحانهم. وقد سمت العرب وقعاتها أياماً فيقولون لنا: يوم كذا ويوم كذا، وساغ ذلك لوقوعها فيها.
؟فصل آخر
يقال: الليلة لليلتك التي أنت فيها، والبارحة لليلة يومك الذي أنت فيه، وقد مضت وهي من برحت أي انقضت، ومنه ما برحت أفعل كذا، وأصله البراح، من المكان وقال الفراء: برحت بالفتح مضت ويقال: برح الخفاء أي زال ومنه البارحة وقال قطرب: لا يقال بارحة الأولى لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، ولا إلى نعته والجمع البوارح.
وذكر بعض شيوخنا أن قوله: لا أبرح بمعنى لا أنال ولا يجوز أن يكون أصله من البراح من المكان بدلالة قوله تعالى: )وإذا قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين) سورة الكهف، الآية: 60 ، ألا ترى أنه محال أن يبلغ مجمع البحرين وهو لم يبرح من مكانه قال: وإذا لم يستعمل أبرح إلا على أحد هذين الوجهين وبطل أحدهما ثبت الآخر، ويمكن أن يقال في جوابه معنى لا أبرح حتى أبلغ أي لا أتجاوز هذا الطريق ولا أعدل عن سلوكه وسمته حتى أبلغ هذا المكان، فحذف الطريق وهذا كما يقال: لم أبرح بلد كنا حتى فعلت كذا وإن كان ينقل في البلد لأن المعنى لم أتغيب ويشهد لهذا أنه لا يستعمل ما برح في الله تعالى لأنه لا يقال: لم يبرح الله قادراً فلو كان لم يبرح بمعنى لم يزل حتى لا فرق بينهما لما امتنع مما دخله، وإذا قد امتنع فلأنه لا يجيء إلا وأصله البراح من المكان ذكر أو لم يذكر وذلك لا يجوز على القديم تعالى.
واعلم أن هذه الكلمة في اللغة مدارها الأكثر على التجاوز، من ذلك قال الأعشى: أبرحت رباً وأبرحت جاراً أي جاوزت ما عليه أمثالك في الخلال المرضية، والبارحة الأولى التي قبل البارحة، وجمع البارحة البوارح، ولم يتجاوزوا ذلك. وأما الفائدة فما يستقبل بعد ليلتك التي أنت فيها وكأنها مأخوذة من الاستقبال ويقال: قبلت الوادي أقبله إذا استقبلته ويقال: آتيك القابلة والمقبلة كما يقال: عام قابل ومقبل وأنشد:
أقبلتها الخل من حوران مجتهداً ... إني لأزري عليها وهي تنطلق
ويقال فعلته ليلاً ونهاراً أي ضياءً وظلاماً، غير مخصوص بوقت معلوم، وفعلته يوماً وليلة يريد أن من جملة الزمان ما تنحصر بهذا القدر وربما جعل بعض أحزاء الليلة ليلاً وجعل الليل لليلة واحدة قال:
وود الليل زيد إليه ليل ... ولم يخلق له أبد النهار
ولم يرد الجنس لأن الجنس يستوعب الأوقات، فلا يزاد للأمثلة وكذلك قوله: إني إذا ما الليل كان ليلتين، أراد كل واحد من الشاعرين ليلة واحدة وأنها في طولها كانت أوقاتها وساعاتها لتطاولها وامتدادها ومقاساة ما يعاني منها كليلتين. وغرض الشاعر أن يصف طول ليلته أي كأنها في طولها مضاعفة متزايدة، وإذا جعل الليل جنساً فسد المعنى أيضاً، لأن الليل المستوعب لأجزاء جنس الليل إذا قيل فيه كان ليلتين وحصر بما يقع فيه التنبيه من أجزائه عاد نقصاناً لا تضعيفاً وقوله تعالى: )وسبحه ليلاً طويلاً(، سورة الإنسان، الآية 26، المراد به أجزاء ليلة طويلة من الليل لأنه لو أريد الجنس لما صح فيه ذكر الطول وللزم التسبيح ليلة طويلة دون ليلة قصيرة، وإذا أريد الجزء من الليل في كل ليلة فهو أمر بالتسبيح جزءاً طويلاً وأجزاء طوالاً.(1/68)
وقال بعضهم في قوله تعالى: )وذكرهم بأيام الله) سورة إبراهيم، الآية: 5، أي بنعمه، والكوفيون رووا الليل ليلك، واليوم يومك، ويراد به الوقت وقتك، ويقال: الليل ليلك واليوم يومك، فيجعلون الأولى ظرفاً للثانية، وجعلوا الثاني جزءاً منه لأن الظرف وعاء مستوعب، فيجب أن يكون أوسع من في الظرف ليوعبه ويشتمل عليه كما يحوي الوعاء ما ضمنه، وأما قوله تعالى: )فأسر بعبادي ليلاً) سورة الدخان الآية: 23، وقد علمنا أن السرى لا يكون إلا ليلاً، فالمراد في جوف الليل، ولو قال: فأسر بعبادي، ولم يقل ليلاً لكان مطلقاً في أول الليل وآخره وما بينهما، ألا ترى أنك تقول: جاءني فلان البارحة بليل، فيكون المعنى في استحكام الليل، وقد يجيء ما لا يحتاج فيه إلى تأكيد، تقول: أدلجت فيكون المعنى سرت في أول الليل، ولو قال: أدلجت في أول الليل لساغ فيكون تكيداً كتكرير الاسم أو الفعل قال زهير شعراً:
بكرن بكوراً واستحرن بسحرة ... فهن لوادي الرس كاليد للفم
فقوله بسحرة بكور على وجهين: أحدهما أن يكون الإدلاج لآخر الليل وبكرن للسحر وغيره، فإذا قال بسحرة فقد بين أي الوقت من آخر الليل، ويكون توكيداً محضاً قال تعالى: )فأسر بأهلك بقطع من الليل) سورة هود، الآية:81، على هذا والعرب يقول: أتيتك بقطع من الليل، وبعد وهن من الليل إذا دخلت في استحكامه، فأفا قول ضمرة شعراً:
بكرت تلومك بعد وهن في الندى ... سهل عليك ملامتي وعتابي
فقال: بكرت ثم قال بعد وهن، والوهن لا يكون إلا ليلاً فالمعنى أول ذلك الوقت وقولهم: بكر عليه إذا لم يسم الوقت فإنما يعني جاء في أوله ليلاً كان أو نهاراً، وبها سميت الباكورة من الثمر وإن لم تذكر وقتاً، وقلت أتانا بكرة فإنما تأويل ذلك أول النهار لا غير، هذا المستعمل بلا شرط، وما تقدم فإن تذكر ما يدل عليه وكذلك اليوم إذا كان مطلقاً إنما تعني به النهار دون الليل والألف واللام يدل على يومك، إلا أن تصله بغيره فتقول: رأيته اليوم الذي مضى.
فصل آخر
قوله تعالى: )ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً) سورة مريم، الآية: 62، يريد على ما اعتادوا في الدنيا والبكرة ما اتصل بما قبله من الليل، والعشي ما يتصل به الليل ولا ليل في الجنة ولكن على ما ألفوا في الدنيا وتعودوه من الأوقات ومثله قوله تعالى: )كلما خبت زدناهم سعيراً) سورة الإسراء، الآية: 97، ولا خبو لنار المعاد ولكن عندما علم من خبو نار الدنيا وانقضاء تصرمها يجدد لأولئك العذاب، فأما قولهم المبكر فهو ما جاء في أول الوقت وليس هو من بكور الغداة. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: )بكروا بصلوة المغرب) والتبكير أول أوقات الصلوة. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: )من بكر وابتكر) فبكر يكون لأول ساعات النهار ويكون لأول وقت من الزوال وابتكر لا يكون لأول ساعات النهار.
قال أبو العباس ثعلب: يجوز في قوله: ابتكر أسرع إلى الخطبة حتى يكون أول دان وسامع، كما تقول ابتكرت الخطبة والقصيدة أي اقتضبتها وارتجلتها ابتداء لم أرد فيه وقول الفرزدق: إبكار كرم تقطف فالمراد حملت أول حملها وأنشدني شيخنا أبو علي، قال أنشدني أبو بكر السراج لعنترة العبسي:
إن كنت أزمعت الفراق فإنما ... زمت جمالكم بليل مظلم
قال يقول: إنك ابنة ملك فلا يرحل بك إلا ليلاً فلذلك خفي. قال: ويجوز أن يكون المعنى إن كنت أظهرت رحلتك الآن فإنما وقع العزم عليه ليلاً، كما قال الحارث بن جلزة شعراً:
أجمعوا أمرهم بليل فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
كان المراد أمرهم في الارتحال دبر بليل ولم يكن فلتة. وقول الشاعر عمرو ابن كلثوم شعراً:
وأيام لنا غر طوال ... عصينا الملك فيها أن ندينا
أراد الأوقات لأن معصيتهم للملك كانت في الليل والنهار، فإن قلت: كيف تكون الليالي غراً إلا ما يذكر من ليالي الشهر يقال ثلاث غرر وذلك لبياضها بدوام القمر فيها، قيل: لم يرد بالغر بياض الوقت ووضوحه بضياء شمس أو قمر إنما أراد إسفاره وإشراقه وأشتهاره في مواطن الشرف والمجد والسنا والافتخار، وحميد البلاء، وحسن الآثار ولقاح الغرة وامتناع الجانب على من يأتيهم وكذلك قول القائل شعراً:
وأيامنا مشهورة في عدونا ... لها غرر معلومة وحجول(1/69)
وبجوز أن يريد في الأول بالغر أيضاً بياض المقاديم كغرة الفرس، فأما قولهم: أيامنا طابت ببلد كذا والمراد لياليها، فهو من هذا ولذلك قيل: لو أن إنساناً قال: عبدي حر لوجه الله يوم يقدم علينا فلان أنه يعتق وإن قدم ليلاً، وعلى هذا قوله تعالى: )اليوم أكملت لكم دينكم) سورة المائدة، الآية: 3، قيل: أراد يوماً بعينه وقيل: أراد زمناً ووقتاً قال الدريدي: والعرب تقول: كيف أصبحت من نصف الليل الآخر إلى نصف النهار؟ وكيف أ مسيت من الزوال إلى نصف الليل؟ ويقولون: في يومك كان الليلة كذا إلى الزوال، فإذا أزالت الشمس قالوا كان البارحة. وحدث الجمحي قال: تقول العرب: صبحتك الأنعمة بطيبات الأطعمة. وحدث أبو العباس المبرد قال: أنشدني المازني عن أبي زيد:
كيف أصبحت كيف أمسيت مما ... يثبت الود في وداد الكريم
قال: المعنى وكيف أمسيت قال: ويقول العرب في مثله: ضربت زيداً عمراً لا يريدون بدل الغلط ولكن يريدون الواو. قال: ولو طال الكلام لكان أحسن مثل ضربت زيداً وأحسنت في ذاك عمر، أو معنى البيت أن كل واحدة من هاتين اللفظتين والتحيتين تغرس الود للمحيي بهما في قلب المحيي، ومما استعمل من هذا الباب ظرفاً ولم يستعمل اسماً قولهم: إنه ليسار عليه صباح مساء معناه: صباحاً ومساء وهذا عكس قولهم ا لليل إذا أرادوا به ليل ليلة، لأن الليل أوقع فيه اسم الجنس على الواحد منه، وهذا أوقع فيه الواحد موقع الجنس والكثرة.
الباب الرابع
في ذكر ابتداء الزمان وأقسامه
والتنبيه على مبادئ السنة في المذاهب كلها وما يشاكل ذلك من تقسيمها على البروج
يقال: إن الله تعالى خلق الخلق كله والشمس برأس الحمل والزمان معتدل والليل والنهار مستويان، فأول الأزمنة فصل الصيف، وهو الذي يدعوه الناس الربيع ومنه ابتداء سنة الفرس فكلما حلت الشمس برأس الحمل فقد مضت للعالم سنة عندهم، قال ابن قتيبة: ولذلك قال أبو نواس شعراً:
أما ترى الشمس حلت الحملا ... وقام وزن الزمان فاعتدلا
وغنت الطير بعد عجمتها ... واستوفت الخمر حولها كملا
لأن مراده استوفت الخمر حول الشمس كملاً فالهاء في قوله: حولها كناية عن الشمس قد مضى ذكرها، قال ثعلب: حولها تقلبها من حال إلى حال.
وقال المبرد: من ابتداء إبراق الكرم إلى استحكام العنب ستة أشهر، ومن استحكام العنب إلى استحكام الخمر ستة أشهر، وذلك عند حلول الشمس برأس الحمل فلذلك حول. وقال بعضهم: حول الخمر ستة أشهر والضمير لها فهذا ما في هذا وقد قال أبو نواس في قصيدة أخرى أولها شعراً:
أعطتك ريحانها العفار ... وحان من ليلك السفار
ثم قال:
تحيرت والنجوم وقف ... لم يتمكن لها المدار
وفي هذا البيت معنى لطيف مليح وذلك أن أصحاب النجوم والحساب يقولون: إن الله تعالى حين خلق النجوم وجعلها واقعة في برج، ثم سيرها من هناك، فيريد أن هذه الخمرة تخيرت في وقت خلق الله تعالى الأفلاك، والروم تجعل ابتداء سنتها من الخريف، وهو زمان الاعتدال والاستواء أيضاً، فكلما حلت الشمس برأس الميزان فقد مضت سنة للعالم عندهم، والعرب تجعل السنة نصفين شتاء وصيفاً وتبدأ بالشتاء فتقدمه على الصيف كأنها تعمد على أن مبادىء الأقوات فيه وأوائل النماء في العالم منه، ثم أول الصيف داخل عليه واصل وما بعده مزلق منه وفيه يستقبل الأمور ويفتح لأنواع الخلق التدبير ويزدوج الأسباب وتلقح السحاب ويحيي الأرض بعد موتها وينشر النبات غب اندفانها وإلى هذا أشار أبو تمام في قوله:
لم تكن غرس الشتاء بكفه ... لاقى المصيف هشايماً لا تثمر
ويشهد لذلك تقديم الله تعالى الشتاء على الصيف حين ذكر رحلتي قريش للتجارة وامتن عليهم بما مكن لهم في النفوس من الإجلال والمهابة لكونهم قطان الحرم وأرباب الأشهر الحرم، حتى أمنوا الزمان، وكانت العرب من غلب سلب فقال: )لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف) سورة قريش، الآية: 12.(1/70)
فابتداء الشتاء وهو النصف الأول من السنة من حين ابتداء النهار في الزيادة، وذلك لحلول الشمس برأس الجدي وفي برجه إلى انتهائه في الطول وذلك لحلول الشمس في برج السرطان، وابتداء الصيف وهو النصف الثاني من السنة من حين ابتداء النهار في النقصان، وذلك لحلول الشمس في برج السرطان إلى حين انتهائه في القصر، وذلك لحلول الشمس في برج الجدي ويقسمون الشتاء نصفين.
والصيف أيضاً نصفين، ومنتصف كل واحد منهما استواء الليل والنهار والاستواء الذي يكون في نصف الشتاء يسمى الاستواء الربيعي وهو لحلول الشمس في برج الحمل، لأن الشتاء كله ربيع عندهم من أجل الندى، ولذلك تسمية الربيعين الأول ربيع الماء والثاني ربيع النبات، والاستواء الذي يكون في نصف الصيف يسمى الاستواء الخريفي، وذلك لحلول الشمس في الميزان فهذه أرباع السنة وفصولها الشتاء والربيع والصيف والخريف، ولكل فصل من فصول السنة ثلاثة أبراج من البروج الأثني عشر لأنها ثلاثة أشهر.
فبروج الشتاء الجدي والدلو والحوت، وبروج الربيع الحمل والثور والجوزاء، وبروج الصيف: السرطان والأسد والسنبلة. وبروج الخريف: الميزان، والعقرب والقوس. وأوائل بروج هذه الفصول تسمى منقلبة وهي الجدي والحمل والسرطان والميزان، لأن في أوائل هذه الفصول ينقلب الزمان من طبيعة إلى طبيعة. وأوساطها وهي الدلو والثور والأسد والعقرب تسمى ثابتة لأن في أوساط الفصول تثبت طبائع الزمان على حدها وأواخرها وهي الحوت والجوزاء والسنبلة والقوس تسمى ذوات جسدين لامتزاج طبيعة كل فصل بطبيعة الفصل الذي يليه. وذكر بعضهم أن أهل الحجاز يجعل للسنة ستة فصول وسميا وشتاء وربيعاً فهذه أزمنة الشتاء وصيفاً وحميما وخريفاً فهذه أزمنة الصيف.
واعلم أنهم يبدئون من الأوقات بالليل كما يبتدئون من الزمان بالشتاء ولذلك صار التاريخ به من دون النهار، وإنما كان عندهم كذلك لأن الظلمة الأول والضياء داخل فيه وكل معتبرهم بمسير القمر فمستهله جنح العشاء وطلوعه تحت البيات. فلولا أن نوره ونور الشمس يجلوان الهواء لكان الظلام راكداً فهو أقدم ميلاداً وأسبق أواناً، وألذ استمتاعاً، وأوثر مهاداً وأغزر مطراً، وأروى سحاباً، وأندى ظلاً، وأهول جناناً، وأطيب نسيماً، وأفضل أعمالاً. ولذلك قدمه الله تعالى في رتبة الذكر ورتبة الوصف فقال تعالى: )وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً سورة النبأ، الآية: 1011، فرتبة الذكر ظاهرة من التلاوة كما ترى، ورتبة الوصف أن السكن واللباس مقدمان على السبح والمعاش في متصرفات الأنام.
ثم بعد ذلك هما أخو الهدو والقرار اللذين منهما يبتدىء النشاء والنماء. وقال تعالى عند الأقسام بالزمان: )والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى) سورة الليل، الآيتان: 12 )وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) سورة الإسراء، الآية: 12 فلا موضع أجرى ذكرهما إلا والليل مقدم، ثم فضل تبتيل المجتهد وترتيل القارىء، وابتهال المستغفر فيه على ما يكون منها في غيره فقال تعالى: )والمستغفرين بالأسحار) سورة آل عمران، الآية: 17 ، وفي موضع آخر: وبالأسحار هم يستغفرون سورة الذاريات، الآية: 18 ، )إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً) سورة المزمل، الآية: 6 كل ذلك لأنه الأول المقدم، والأصل الموصل، والأوان الممهد للراحة والوقت الموجه للرفاهية، وكذلك قالوا عند المدح: ما أمره عليه بغمة ولا ليله عليه بسرمد. وقال النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
فقال: كالليل ولم يقل كالصبح وانكان المغر من كل لا يطاق وقال بعضهم: إنما قال كالليل لأنه كان عليه غضبان. وقد قيل الليل أخفى للويل وأخذ الفرزدق قول النابغة هذا شعراً:
ولو حملتني الريح ثم طلبتني ... لكنت كشيء أدركته مقادره(1/71)
جعل الريح بإزاء الليل والليل أعم، والمستحسن قول النبي صلى الله عليه وسلم: )نصرت بالرعب وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل) يعني الإسلام، وكما ندب المتعبد إلى التقرب فيه إليه. وقال الله تعالى للنبي: )ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً(، وسورة الإسراء، الآية: 79 ، أنبأ عن نفسه تعالى بمثله فيما يبرمه، ويقضيه، فقال تعالى: )فيها يفرق كل أمر حكيم) سورة الدخان، الآية: 4 يعني في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
ثم قال الناس: هذا أمر دبر بليل، وثبت الرأي، وهذا رأي مبيت وليس القصد تفضيل الليل على النهار، وإنما المراد التنبيه على سبقه وعلى إصابة العرب في تقديمه، وقد تكلمنا في تصحيح طريقة العرب فيما قدمناه من الآي التي شرحناها عند قوله تعالى: )وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون) سورة يس، الآية: 37 ، وما يقتضيه لفظة السلخ بكلام بين، وذكر أبو حنيفة الدينوري عن غير واحد من علماء الرواية أن العرب تبدأ فتقسم السنة نصفين شتاءً وصيفاً، وتقدم الشتاء على الصيف وتجعله أول القسمين وهذا ضد صنيع الجمهور من أهل القرار وعلماء الحساب، لأنهم يقدمون الصيف على الشتاء.
وقد كان بينما أهل العلم اختلاف قديماً في أنه أي أرباع السنة أولى بالتقديم حتى رأوا أن ربع الربيع الذي أوله حلول الشمس برأس برج الحمل أولى بالتقديم فأطبقوا على تقديمه باتفاق، ولذلك أجمعوا في عد البروج على الابتداء ببرج الحمل. وفي عد المنازل على الإبتداء بالشرطين، حتى لا تجد في ذلك مخالفاً. هذا صنيعهم في الأزمنة، فأما إذا صرت إلى سني الأمم وجدتهم فيها مختلفين. فمنهم من يفتتح السنة في ربع الشتاء، ومنهم من يفتتحها في ربع الخريف، ومنهم من يفتتحها في ربع الربيع كل ذلك قد فعلوا.
وممن افتتحها في الخريف أهل الشام من السريانيين، ألا ترى أول سنتهم تشرين الأول وأنه صدر الخريف وابتداء الوسمي، ولعل العرب أيضاً كانت قد ابتدأت السنة في بدء الأمر على مثل ذلك، فجعلوا مفتتحها في أول الوسمي كما أنه يقدمه في قسمة الأزمان والأنواء. فثبتوا على أمرهم الأول في تقديم الوسمي، وانتقل مدخل السنة عن موضعه الأول ثمانين عدد أيام سنة القمر وسنة الشمس من التفاوت والفصول إنما تتفضل بمسير الشمس لا بمسير القمر.
وإنما توهمت هذا من صنيع العرب من أجل أن كثيراً من علماء الرواة يزعمون أن شهري ربيع إنما سميا للربيع، وأن جماديين إنما سميتا للشتاء ووجود الماء. وأن شعبان إنما سمي شعبان لاشتعاب الظعن إياهم عن المرابع للمحاضر وأن شهر رمضان إنما سمي رمضان لشدة الحر والرمض وأن صفر أنسب إلى الزمان الذي يسمى الصفري، وهذا الذي ذكروا أمر قريب لا يبعد في الوهم، لأنا على هذا الترتيب نجد أزمان السنة عندهم، ومما يقوي هذا القول ما حكي عن الغنوي الأعرابي وعن غيره فإنه قال: جمادى عند العرب الشتاء كله قال: ويقال للحر كله شهر ناجر، كما يقال للشتاء كله جمادى، وكان ينشد بيت لبيد في الجزء شعراً:
حتى إذا سلخا جمادى ستة ... جزءاً فطال صيامه وصيامها
بخفض ستة على إضافة جمادى إليها وقال أراد ستة أشهر الشتاء، وهي أشهر الندى والجزء، وكذلك كان ينشده أبو عمر والشيباني خفضاً ويقول: أراد جمادى ستة أشهر فعرف بجمادى. قال أبو حنيفة، ويشهد للغنوي كثرة ذكر العرب جمادى إما ببرد الزمان وإما بكثرة الأنداء والأمطار، وهذا كله من أوصاف الشتاء ولو كان قصدهم إلى ذكر الشهر لما تطاول لسرعة انتقال الشهر.
ألا ترى أنه يكون مرة في صبارة الشتاء ومرة في حمارة القيظ وإنما حاله في ذلك كحال سائر الشهور، وأنت لا تجد جمادى موصوفة بالحر كما تجدها موصوفة بالبرد. قال الشاعر شعراً:
في ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا(1/72)
قال أبو حنيفة: وزعم بعضهم أنهم إنما قدموا الشتاء على الصيف لأنه ذكر. وأن الصيف أنثى، ولم يذكروا علة تذكير الشتاء، وتأنيث الصيف، ولا أظنه إلا لقسوة الشتاء وشدته ولين الصيف وهونه، ألا ترى أن من عادتهم أن يذكروا كل صعب من الأمور قاس شديد، حتى قالوا: داهية مذكار، وإن كانت أنثى فصعبوها بأن تكون تنتج ذكوراً وحتى قالوا أرض مذكار إذا كانت ذات مخاوف وأفزاع، وقالوا: يوم باسل ذكر في شره وشدته حتى قال الشاعر شعراً:
فإنك قد بعثت عليك نحساً ... شقيت به كواكبه ذكور
فجعلها مع نحوستها ذكوراً ليكون شرها أفظع وأصعب والصيف وإن تلظى قيظه وحمى صلاه فهو هين عندهم إلى جنب الشتاء، والشتاء يبرح بالقوم ولذلك قالت بنت الحسن وقد سئلت عنهما: أيهما أشد فقالت: وما جعل البئيس من الأدية تقول من يقيس البؤس والضر إلى أذى فقط أي الشتاء أشد: والبئيس والبؤس واحد قال الفرزدق في نعت امرأة بيضاء من أهل المدينة لم تذق بئيساً ولم تتبع حمولة مجحد ولذلك لا تجدهم يشتكون الضر وسوء الحال والهزال في الضيف ولا يعدون أن يصفوا أواره وصخده وعطشه وإذا صاروا إلى الشتاء عجوا من وطئه ونوهوا باسم من آسى فيه، واحتمل الكل وأطعم المصرور.
قال الشيخ الذي قاله أبو حنيفة في تعليل تذكير الشتاء حسن وأقرب منه أن يقال لما كان إدراك الثمار في الربيعين ووضع الأحمال من الملاقيح ونتائج الخير في أصناف المعاشر من الزرع والضرع في الصيف، وإن كانت مبادئها في أوائل الشتاء ثم تمت حالاً بعد حال فكانت تنتظر في آجالها وقتاً بعد وقت انتظار ما في بطون الحاملات، فجعلوا الشتاء ذكراً والصيف أنثى. وهذا شرح ما رماه الشاعر في قوله:
لولا الذي غرس الشتاء بكفه ... لاقى المصيف هشايماً لا تثمر
وذكر أن منهم من يجعل الشتاء نصفين الشتاء أوله والربيع آخره، وكذلك يجعل الصيف نصفين الصيف أوله والقيظ آخره.
وذكر ابن كناسة أبو يحيى أن العرب تسمي الشتاء الربيع الأول والصيف الربيع الآخر وأن أحداً منهم لم يذكر الخريف في الأزمنة لأن الخريف عند العرب اسم لأمطار آخر القيظ، وهذا إذا تؤمل أسفر عن أنهم يجعلون الربيع اسماً للندى والجزء، لكنهم فصلو بالشتاء لشدة برده ثم اشتهر الربيع اسماً لما لان من طرفي الوقت.
حكى ابن الأعرابي عن الغنوي أنه قال: يلقى الراعي صاحبه فيقول: أين تربعت العام إذا سقطت الصرفة؟ وسقوطه عند انصرام نصف السنة الشتوية. وقال الفراء ربعية القوم ميرتهم في أول الشتاء، وأبين من جميع ما ذكرنا أنهم يسمون الفرع المؤخر فرع الربيع وهو من الشتاء. وقال النابغة وقد جعل الحرب كالميرة:
وكانت لهم ربيعة يحذرونها ... إذا خضخضت ماء السماء القنايل
الباب الخامس
في قسمة الأزمنة ودورانها
واختلاف الأمم فيها
اعلم أن الشمس تدور في الفلك دوراً طبيعياً، وهي لازمة له وعليها طريقها والقمر والكواكب الخمسة، وهي: عطارد والزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل. ربما كانت على هذا الفلك، وربما مالت إلى الشمال، والجنوب، ويسمى هذا الميل عرض الكواكب، ويسمى هذا الفلك فلك البروج، وهي اثنا عشر: الحمل، و الثور، و الجوزاء، و السرطان و الأسد، و السنبلة، و الميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، وإنما انقسم هذا الانقسام لأن الشمس متى انتقلت في دورانها من نقطة بعينها عادت إلى تلك النقطة بعد ثلاث مائة وخمسة وستين يوماً وربع يوم. وفي دورها تستوفي فصول السنة التي هي الربيع، والصيف، والخريف ، والشتاء.
ولهذه العلة سميت هذه الأيام سنة الشمس، والقمر يجتمع مع الشمس في مدة هذه الأيام اثنتي عشرة مرة فجعلت الشمس اثنتي عشر شهراً وسميت الشهور القمرية، كما جعل الفلك ائني عشر برجاً ليكون لكل شهر برج.
وأسماء شهور العرب: المحرم، وصفر، والرييع الأول، والربيع الآخر، وجمادى الأولى، وجمادى الأخرى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
قال الشيخ: اختلف الناس في أعداد أيام سنيهم، وهم متفقون في عدة الشهور واعتماد العرب فيها خاصة على الأهلة، فكل اثني عشر هلالاً عندهم سنة، فتكون عدد أيامها ثلاث مائة وأربعة وخمسين يوماً.(1/73)
قال أبو الحسن المعروف بالصوفي: بين أصحاب الحساب من الروم، والهند خلاف يسير في مقدار هذا الكسر، فكان الأوئل من أهل الروم متفقين في القديم على ربع يوم فقط، ثم استدركوا فيه شيئاً حقيراً.
وقال أبو حنيفة: ليس في الأمم أحفظ للفصول، وأوقات الأنواء والطلوع من الروم، ولذلك من حل من العرب في شق الشام أعلم بها من غيرهم، ثم أنشد لعدي بن الرقاع:
فلا هن بالبهمى وإياه مذ نشا ... جنوب لراش فاللها له، فالعجب
شباطاً وكانونين حتى تعذرت ... عليهن في نيسان باقية الشرب
وإنما نصف عيراً وأتناً ... رعين البقل في إبانه
وإنما نصف عيراً وأتنا رعين البقل في إبانه إلى أن هاج، ونضبت المياه. وهم يبدؤون فيجعلون أول السنة تشرين الأول، ويجعلونه أحداً وثلاثين يوماً. ثم تشرين الثاني ثلاثين يوماً، ثم كانون الأول واحداً وثلاثين يوماً، ثم كانون الثاني واحدا وثلاثين يوماً وربع، ثم شباطاً ثمانية وعشرين يوماً، غير أنهم يجعلونه ثلاث سنين كل سنة منها ثمانية وعشرين يوماً وفي السنة الرابعة تسعة وعشرين يوماً، وتلك السنة تكون في عددهم ثلاث مائة وستة وستين يوماً، ويسمونها الكبيسة.
وقال الخليل: يكون في شباط فيما تزعمه الروم تمام اليوم الذي كسوره في السنين فإذا تم ذلك اليوم في ذلك الشهر، سمى أهل الشام تلك السنة عام الكبيس، قال: وهو يتيمن به إذا ولد في تلك السنة، أو قدم فيه إنسان. ثم آذار واحداً وثلاثين يوماً، ثم نيسان ثلاثين يوماً، ثم أيار واحداً وثلاثين يوماً، ثم حزيران ثلاثين يوماً، ثم تموز واحداً وثلاثين يوماً، ثم آب واحداً وثلاثين يوماً، ثم أيلول ثلاثين يوماً، فتكون الزيادات من الأيام خمسة أيام على ثلاث مائة وستين يوماً.
ثم أحبوا أن لا تغير أحوال فصول سنتهم على السنين الكثيرة والدهور المتابعة، فزادوا في آخر شباط ربع يوم لتصير أيام سنتهم موافقة لأيام سنة الشمس، وهي ثلاث مائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم، ويكون ثلاث سنين متوالية كذلك فإذا تمت الأرباع في أربع سنين تصير سنتهم في السنة الرابعه التي تليه ثلاث مائة وستة وستين يوماً، ويصير شباط في تلك السنة تسعة وعشرين يوماً، وتسمى تلك السنة الرابعة سنة الكبيسة، فكرهت الفرس أن يزيد في سنتهم ربع اليوم لأنهم لو فعلوا ذلك لاضطروا إلى الكبيسة في كل أربع سنين يمكنهم ذلك لأنهم سموا أيام الشهر بأسام.
زعموا أنها أسامي الملائكة الذين يديرون أيام الشهر وأسامي الأيام، هرمز، بهمن اردى بهشت، شهرير، اسفندار، مذخر داد، مرداد، يبا، ذر، آذر، أبان، حوزماه، تير جوش، ديبمهر، مهر، سروش، رشن، فروردين، لوهرام، رام باذ، دنيدين، دين ارد، اشتاذ اسمان، زا مياذ، ماراسفند، انيران.
وأسماء الشهور اعتقدوا فيها مثل ذلك وهي: فروردين ماه، ارد بهشت ماه، خردادماه، تيرماه، مردادماه، شهريرماه، مهرماه، ابان ماه، آذرماه، دي ماه، بهمن ماه، اسفنديار مذماه.
وزعموا أنّ هرمز هو اسم الملك الذي يدبر أوّل يوم من الشّهر، وبهمن اسم الملك الذي يدبر اليوم الثّاني.
وكذلك الأسامي كلها وسمّوا أيضاً الأيام اللواحق بأسماء الملائكة الذين زعموا أنهم يدبرونها وهي: خونو ذكاه، واستوذ كاه، واسفيذ كاه، ومشتحز كاه، وشتكاه. وقالوا إن كبسنا في كلّ أربع سنين يوماً فجعلنا اللواحق ستة أيام في هذا اليوم بلا مدبر، وسقط أول يوم من آَذرماه واستوحش هرمزد وقدر أنهم يقصدونه ثم كانوا يكبسون في كلّ مائة وعشرين سنة شهراً واحداً ليسوّوا بين الملائكة، ولا يستوحش أحد منهم وتصير سنتهم في تلك السنة ثلاث مائة وخمسة وتسعين يوماً وكانوا على ذلك إلى أنْ انقضت دولة الفرس ولم يكن فيهم من يمكنه فعل ذلك إلى أن كبس المعتضد مقدار ما كان قد مضى من سنة الكبيسة لكل أربع سنين يوماً واحداً وجعل النيّروز اليوم الحادي عشر من حزيران وفيه يقول الشاعر مادحاً له شعراً:
يومُ نيروزكَ يوم ... واحد لا يتأخر
مِن حُزيران يوافي ... أبداً في أحدَ عشَر
ووضع الكبيسة على رسم الروم ولا يعمل ذلك إلا ببغداد، فإنهم يجعلون أوّل سنتهم في التقويم يوم النيروز المعتضدي، ويستعمل في سائر البلدان النيروز القديم.(1/74)
وذكر هذا الإنسان وهو أبو الحسين الصِّوفي أنّ العرب كانت تكبس أيضاً. ثم ذكر النسيء من قول الله تعالى: )إنما النسيء زيادةٌ في الكُفر) سورة التوبة، الاَية: 37، وقد تقدَم القول على ما قاله فيما مضى وبينّا من تفسير الاَية والأخبار المروئة ما أغنى.
واعلم أنَّ العرب لا تذهب في تحديد أوقات الأزمنة إلى ما يذهب إليه سائر الأمم، وتجعل أول عدد الأزمنة في تحديد أوقاتها، إلى ما يعرف في أوطانها من إقبال الحر والبرد، وإادبارهما، وطلوع النبات واكتهاله وهيج الكلاء ويبسه، ويذهب في عدد الأزمنة إلى الابتداء بفصل الخريف وتسميّة الربيع لأن أول الرّبيع وهو المطر يكون فيه ثم يكون بعده فصل الشتاء ثم يكون بعده فصل الصّيف وهو الذي يسميه النّاس الربيع ويأتي فيه الأنوار. وإنما سمّوه صيفاً لأن المياه عندهم تغل فيه والكلأ يهيج، وقد يسميه بعضهم الربيع الثاني يكون بعد فصل الصّيف فصل القيظ، وهو الذي يسميه النّاس الصيف فأول وقت الربيع الأول عندهم وهو الخريف ثلاثة أيام تخلو من أيلول. وأول الشتاء عندهم ثلاثة أيام تخلو من كانون الأول، وأول الصّيف عندهم وهو الربيع الثاني خمسة أيام من آذار، وأول الصيف عندهم أربعة أيام تخلو من حزيران. والخريف المطر الذي يأتي في آخر القيظ ولا يكادون يجعلونه اسماً للزّمان.
وقال عدي بن زيد فجعله اسماً للزمان في خريف:
سقاه نوء منَ الدلو تَدَلّى ... ولم يوليني العراقي
وسماه خريفاً، لاختراف الثمار فيه والحطيئة ممن يجعله المطر وذكر امرأةً فقال: وتبدو مصاب الخريف الجيالا. يريد أنها تنقل إلى البدو لِمُصاب هذه المطرة، فهذه حدود الأزمنة عندهم، ثم يجعلون لكل زمان صميماً يخلص فيه طبعه فيذكرون منه شهرين ويدعون شهراً لأن نصف شهر من أوله مقارب لطبع الزمان الذي قبله، ونصف شهر من آخره مقارب لطبع الزمان الذي بعده، فالخالص منه شهران فيسمون شهري الشتاء بالخالص شهري قماح قال الهذلي:
فتى ما ابن الأغر إذا شتونَا ... وحيث الزاد في شهري قماح
وسميا يذلك لأن الإبل فيهما ترفع رؤوسها عن الماء لشدة برده والإبل القماح هي التي ترفع رؤوسها. وقال بشر يصف سفينةً:
ونحنُ على جوانبِها قُعودُ ... نغض الطَرفَ كالإبلِ القِماح
والإبل إذا رفعت رؤوسها عن الماء غضّتْ أبصارَها، ويدعون هذين الشهّرين ملحان وشيبان لبياض الأرض بالصقيع والجليد. وقال الكميت:
إذا أمستِ الافاقُ حمَراً جلودُها ... لِملحأن أو شيبان واليوم أشهب
فهذان شهر الشتاء فشيبان من الشيب وملحان من الملحة وهي البياض وقيل كبش أملح منه.
وقال قطرب: يقال لجُمادى الأولى والآخرة شيبان وملحان من أجل بياض الثلج قال: وقولهم مات الجندب وقرب الأشيب أي الثلج، ويسمون شهري القيظ اللذين يخلص فيهما حره شهري ناجر وسميا بذلك لأن الإبل تشرب فلا تكاد تروى لشذة الحر، والنجر والبغر متقاربان وهو أن يثرب فلا يروى من الماء يقال نجر من الماء إذا امتلأ منه فكظمه وهو على ذلك يشتهيه قال ذو الرمة يصف ماء شعراً:
صرى أجن يروي له المر وجهه ... ولو ذاقه ظمآن في شهر ناجر
وقال الشماخ شعراً:
طوى ظمأها في بيضة القيظ بعدما ... جرت في عنان الشعر بين الأماغر
فهذان شهرا القيظ ولا أعلم أنهم سموا شهري ربيع الثاني باسم، إلا أنهم يقولون: حللنا ببلد كذا في حد الربيع يريدون شهريه وقال أبو ذؤيب شعراً:
بها أبلت شهري ربيع كليهما ... فقد مار فيها نسؤها واقترارها
النسو بدو السمن والاقترار أن تحثر بولها وهو من علامات السمن، قال رؤبة:
شهران مرعاها بقيعان الصلق ... مرعى أنيق النبت مجاج الغدق
وقال ابن مقبل شعراً:
أقامت به حد الربيع وحازها ... أخو سلوة مسى به الليل أملح
يريد بأخي السلوة الندى لأنهم في رخاء وسكون ما دام الندى عندهم وقولهم: مسى به الليل: أي جاء عند مجيء الليل، والأملح الأبيض، ربما ذكروا استيفاءها شهور الربيع الثاني كلها. قال حميد شعراً:
رعين المراز الجون من كل مذنب ... شهوراً جمادى كلها والمحرما(1/75)
قال: شهورا جمادى كلها وهما شهران كما قال تعالى: )فإن كان له إخوة فلأمه السدس) سورة النساء، الآية: 11 يريد أخوين فصاعدا ولم يفعلوا ذلك في زمن الخريف فيذكروا منه شهرين فيما علمت. ولا أحسب ذلك إلا لأنه لم يدعهم إلى ذكره شيء كما دعا إليه شدة البرد في الشتاء، وشدة الحر في الصيف والقيظ، ووقت الجزء في الربيع.
قال أبو حنيفة: الناس مجمعون من تقديم البروج على برج الحمل. ومن تقديم المنازل على الشرطين، وفي ذلك دلالة على تقديم فصل الربيع، وذكره قبل سائر الفصول وهو لحلول الشمس برأس الحمل، قال: والفصل اسم جرى في كلام العرب وجاءت به أشعارهم، قال الشاعر يصف حمير وحش شعراً:
نظائر جون يعتلجن بروضة ... لفصل الربيع إذ تولت صبائنه
وسمي فصلاً لانفصال الحر من البرد، وانقلاب الزمن الذي قبله، ويقال للفصول أيضاً: الفصيان والواحدة فصية، وهي الخروج من حر إلى برد، ومن برد إلى حر. والفصية تصلح في كل أوقات السنة متى خرجت من أذى إلى رخاء فتلك فصية، ولا يستعمل الفصل إلا في حينه، فأما الأصمعي فإنه قال: الفصية: أن يخرج من برد إلى حر، ويقال: أفصى القوم وهم مفصون، ويقال: لو أفصينا لخرجت معك. والشمس تحل برأس الحمل لعشرين ليلة تخلو من آذار وعند ذلك يعتدل الليل والنهار، ويسمى الاستواء الربيعي.
ثم لا يزال النهار زايداً، والليل ناقصاً إلى أن يمضي من حزيران اثنتان وعشرون ليلة وذلك أربع وتسعون ليلة، فعند ذلك ينتهي طول النهار وقصر الليل، وينصرم ربع الربيع ويدخل الربع الذي يليه، وهو الصيف، وذلك لحلول الشمس برأس السرطان، ويبتدئ الليل بالزيادة، والنهار بالنقصان، إلى ثلاث وعشرين ليلة تخلو من أيلول، وذلك ثلاث وتسعون ليلة، وعند ذلك يعتدل الليل والنهار ثانية، ويسمى الاستواء الخريفي، وينصرم ربع الصيف ويدخل ربع الخريف، وذلك لحلول الشمس برأس الميزان، ويأخذ الليل في الزيادة والنهار في النقصان، إلى أن يمضي من كانون الأول إحدى وعشرون ليلة، وذلك تسع وثمانون ليلة، وعند ذلك ينتهي طول الليل وقصر النهار، وينصرم فصل الخريف، ويدخل فصل الشتاء، ويبتدىء النهار في الزيادة، وذلك لحلول الشمس برأس الجدي إلى مصيرها إلى رأس الحمل، وذلك تسع وثمانون ليلة وربع الشتاء فعندها ينصرم ربع الشتاء، ويدخل فصل الربيع، فعلى هذا دور الزمان فاعلمه.
الباب السادس
في ذكر الأنواء واختلاف العرب فيها
ومنازل القمر، مقسمة الفصول على السنة، وأعداد كواكبها وتصوير مأخذها ضارة ونافعة اعلم أنا نذكر من أمر الأنواء ومذهب جهال العرب فيها، ومن صفة المنازل والبروج ما يحتاج إليه هذا الكتاب، والداعي إليه أنهم كانوا ينسبون الأوقات إليها كثيراً، وكذلك ما نذكره من أحوال الشمس والقمر، وكان في العرب من يسرف في الإيمان بها ونسبة الحوادث إليها، حتى أوهم كلامهم وإفراطهم أن السقيا وجميع ما يحمد منها، أو يذم إلى جميع ما ينقل فيه الأيام من خير وشر، ونفع وضر، وكل ذلك من الأنواء وبها. وهذا كإضافتهم إلى الكواكب أفعال صانعها، وتطابقهم في التيمن والتشاؤم بها، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )من آمن بشيء من ذلك فقد كفر بما أنزل علي).
وقد مر فيما تقدم من الكتاب فصل كثير بين فيه فساد طريقتهم، وأن من عدل عنها وجعلها آيات يقيمها الله تعالى، تنبيهاً على حكمته فيها، ليعتبر المعتبرون بها ويشكروا نعمه فيها، فقد برئت من الذم ساحته، وتباعد عن الإثم منهجه، على مثل ذلك يحمد قول عمر بن الخطاب حين خرج إلى الاستسقاء، فصعد المنبر ولم يزد على الاستغفار، ثم نزل فقيل: إنك لم تستسق، فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء. قال أبو عمر والمجاديح واحدها مجدح، وهو نجم من النجوم كانت العرب تقول: إنه يمطر به لقولهم في الأنواء. قال أبو عبيد فسألت عنه الأصمعي، فلم يقل فيه شيئاً وكره أن يتأول على عمر مذهب الأنواء، وقال الأموي: يقال فيه أيضاً: المجدح بالضم وأنشد فيه قوله شعراً:
وأطعن بالقوم شطر الملوك حتى إذا خفق المجدح
قال أبو عبيد: والذي يراد من هذا الحديث أنه جعل الاستغفار استسقاء يتأول قوله تعالى: )استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً) سورة نوح، الآية 1011(1/76)
وإنما نرى أن عمر تكلم بهذا على ألسنة العرب ليس على تحقيق الأنواء، ولا التصديق بها، وهذا شبيه بقول ابن عباس في رجل جعل أمر امرأته بيدها، فطلقته ثلاثاً، فقال خطأ الله نوءها ألا طلقت نفسها ثلاثاً. ليس هذا منه دعاء عليها أن لا تمطر، إنما هو على الكلام المنقول. ومما بين لك أن عمر أراد إبطال الأنواء والتكذيب بقوله: لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها الغيث. فجعل الاستغفار هو المجاديح لا الأنواء، وهذا القدر إذا ضم إليه ما تقدم في فصل يشتمل على تأويل الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان معتقدات العرب في الأنواء والبوارح، أغنى وكفى في عذر من يعذر، وذم من يذم منهم والسلام.
قال أبو حنيفة يقال: ناء الكوكب ينوء نوأ ونوء، أول سقوط يدركه في الأفق بالغداة قبل انمحاق الكواكب بضوء الصبح.
والكوكب إذا وافاه الصبح وهو مرتفع عن أفق المغرب لا يزال الصبح يوافيه كل غداة، وهو إلى الأفق أقرب، حتى يوافق موافاته الأفق انمحاق الكوكب لضوء الصبح، ثم يكون سقوطه بعد ذلك، والكواكب ظاهرة فلا يزال سقوطه يتأخر كل ليلة إلى أن يكون في أول الليل، فتراه على الأفق غارباً مع ظهوره للأبصار، ثم يستسر فلا يرى مقداراً من الليالي ثم يكون أول رؤيته غامضاً في ضياء الصبح حين يبدو للأبصار. فالواجب أن يغرق ما بين الغروب الذي هو أول وبين الغروب الذي له النوء لأن الذي له النوء سقوط النجم بالغداة في المغرب بعد الفجر وقبل طلوع الشمس وطلوع رقيبه في المشرق في ذلك الوقت، ولا يكون هذا إلا في غداة واحدة من السنة للكوكب الواحد.
وأما السقوط الذي هو أفول واستسرار، فإنه يكون من أول الليل وذلك أن هذا النجم الساقط بالغداة في أفق السماء يرى بعد اليوم الذي يسقط فيه متأخر السقوط عن ذلك الوقت، فيسقط قبله ولا يزال يتأخر في كل يوم حتى يكون سقوطه في الليل، ثم يتأخر في الليل إلى أن يسقط في أول الليل في المغرب، ثم يستسر بعد ذلك فلا يرى ليالي كثيرة ثم يرى بالغداة طالعاً في المشرق خفياً، فهذا سقوط الأفول، وقد أحسن الشاعر في تحديد ذلك حين قال شعراً:
وأبصر الناظر الشعرى مبينة ... لما دنا من صلوة الصبح ينصرف
في حمرة لا بياض الصبح أغرقها ... وقد علا الليل عنها فهو منكشف
تهلهل الليل لم يلحق بظلمته ... قوت النهار قليلاً فهي تزدلف
لا يبأس الليل منها حين تتبعه ... ولا النهار بها للليل يعترف
فهذا وقت الطلوع والسقوط ومعنى قوله: تهلهل الليل أي تصير في مشرقه حيث امتزج سواده بياض الصبح فهي فوت النهار، لأنه لم يطمسها بضوئه، ولم يلحق بظلمة الليل الخالصة، فهي بينهما، والليل لا يبأس منها، لأنها في بقية منه، ولا النهار يسلمها لليل لأنها في ابتداء منه، ومراد الشاعر بهذا الوصف أن الأمر الذي وقته كان في حمارة القيظ، لأن الشعرى تطلع بالغداة في معمعان الحر.
قال الشيخ: أظن هذا الشاعر سلك في تحديده للاستسرار طريقة زهير حين قال يصف شاهيناً وحمامة شعراً:
دون السماء وفوق الأرض قدرهما ... فيما تراه فلا فوت ولا درك
فقوله: لا فوت ولا درك، كقول ذاك لا يبأس الليل منها، ولا النهار يعترف الليل بها، قال: وقال الكميت في تحديد وقت الطلوع شعراً:
حتى إذا لهبان الصيف هب له ... وأفغر الكالئين النجم أو كربوا
وساقت الشعريان الفجر بعضهما ... فيه وبعضهما بالليل محتجب
فجعل طلوعها بين الليل والنهار كما جعله الأول. ومعنى أفغر النجم: يريد إذا صارت الثريا في وسط السماء، فمن نظر إليها فغر فاه، أي فتحه، ومعنى كربوا: قربوا وطعن قوم على الكميت في هذا البيت، وحسبوا أنه أراد أن إحداهما طلعت قبل الفجر، فهي في الليل وأن الأخرى طلعت مع الفجر، فهي فيه، فقالوا: لا يجوز ذلك إلا في ثلاثة فصاعداً، قال أبو حنيفة: والذي قالوا كما قالوا، غير أنهم ذهبوا إلى غير مذهب الكميت، ولو أراد الكميت ما توهموا لكان قد أخطأ في المعنى أيضاً مثل ما أخطأ في اللفظ، وذلك أنه قال: وساقت الشعريان الفجر.(1/77)
فاعلم أن الفجر طلع قبلهما، فكيف يعود فيجعل إحداهما طالعة قبله، هذا بتعجيل، وبعد فإن الشعريين تطلعان معاً. وإنما أراد أن بعضهما كلتيهما في الليل وبعضهما كلتيهما في النهار إذا كانتا بين الليل والنهار، قال الشيخ الأكشف في بصرة الكميت أن يقال أراد أن بعضيهما في الليل وبعضيهما في النهار، فيخرج البعض بالثنية من أن يكون بمعنى أحد، ويستفاد منها أن الشعريين تطلعان معاً، وأن القصد في ذكرهما للتحديد، إلى أن تكونا بين الليل والنهار، ومع ذلك فقد ضيق على نفسه تضييقاً شديدا، فأفرط في التحديد إفراطاً بعيداً، فإذا سمعتهم ينسبون إلى الطلوع والسقوط مرسلاً غير مضاف إلى وقت، فاعلم أنهم إنما يريدون الطلوع والسقوط للذين يكونان بالغداة، وذلك مثل قولهم إذا طلعت العقرب: حمس المذنب، ومثل قولهم إذا طلعت الشعرى: جعل صاحب النخل يرى، ومثل قول الشاعر شعراً:
فلما مضى نوء الثريا وأخلفت ... هواد من الجوزا، وانغمس الغضر
ومثل قوله:
هنا ناهم حتى أعان عليهم ... عزالى السحاب في اغتماسه كوكب
فهذه السقوط وما أشبهه هو بالغداة، وإذا ذكر ذلك من نجوم الأخذ خاصة فهو النوء ألا ترى أنهم لما أرادوا الطلوع بالغداة قالوا: إذا طلع النجم فالحر في خدم، فجاء مرسلاً غير مضاف. ولما أرادوا طلوعه لغير الغداة قالوا: إذا طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء فجاء مضافاً إلى الوقت. وأما قول القائل: حين البارحة حين غاب النجم وذهبن ليلة كذا حين طلع السماك فإنما المراد بذلك، وقت المجيء والذهاب من تلك الليلة بعينها، وليس من الأول في شيء، ومنه قول الشاعر شعراً:
حتى إذا خفق السماك وأسحرا ... ونبا لها في الشد أي نبال
ومثل قول الآخر:
فعرسن والشعرى تغور كأنها ... شهاب غضا يرمى به الرجوان
وإذا جاء ذكر المغيب مرسلاً، فالمراد حينئذ الغيبوبة التي هي ابتداء الاستسرار وذلك قولهم: غرب الثريا أعوه من شرفها، وكقولهم: مطر الثريا صيف كله وهذا الغرب غير السقوط الذي هو النوء، ومطر نوء الثريا وسمي ومن هذا الجنس قول الشاعر:
فيممت سيراً سريع الرجاء مائل من راجل يركب
مغيب سهيل صدور الركاب سيراً يشق على المعتب
فهذا كله غيبوبة الاستسرار، ولا يكون إلا بالعشيات على أثر مغيب الشمس ثم لا تراه بعد ذلك حتى يتم استسراره ثم يكون أول ظهوره بالغدوات وقد اختلف الناس في معنى النوء: فبعضهم يجعله النهوض قال: لأنه سمى نوى الطلوع الرقيب لا لسقوط الساقط وهذا ليس بمنكر في اللغة، لأن هذه اللفظة تعد في الأضداد، قال أبو حنيفة: هو النهوض ولكنه نهوض الذي كأنه يميله شيء فيجد به إلى أسفله، وزعم الفراء أن النوء السقوط والميلان، وأن أبا ثروان أنشده في صفة راع نزع في قوس:
حتى إذا ما التأمت مفاصله ... وناء في شق الشمال كاهله
قال: يريد أنه لما نزع مآل إليها، وقوله: التأمت مفاصله فإنه يعني أنه لزم بعضه بعضاً لشدة النزع. قال: ونرى أن قول العرب ما ساءك وناءك من هذا، ومعناه أناءك فألقى الألف للاتباع كقولهم: هنأني الطعام ومرأني، وكان ينبغي أن يكون أمرأني.
قال أبو حنيفة: فأما من ذهب إلى أن الكوكب ينوء ثم يسقط، وإذا سقط فقد تقضى نوؤه، ودخل نوء الكوكب الذي بعده، فتأويله أن الكوكب إذا سقط النجم الذي بين يديه أطل هو على السقوط، وكان أشبه شيء حالاً بحال الناهض ولا نهوض به، حتى يسقط، لأن الفلك يجره الغور، فكأنه متحامل عليه، يعني قد غلبه. ويجمع النوء أنواء ونوانا. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه شعراً:
ويثرب تعلم أنابها ... إذا قحط القطر نواتها
وقال بعضهم: الحق في ذلك مذهب الخليل الذي حكاه عنه مورج، وهو أن النوء اسم المطر الذي يكون مع سقوط النجم، لأن المطر نهض مع سقوط الكوكب، واسم الكوكب الساقط النوء أيضاً، فالشيء إذا مال في السقوط يقال: ناء، وإذا نهض في تناقل يقال ناء به، قال ذو الرمة في وصف الرياك:
ينون ولم يكسين إلا قنازعاً ... من الريش تنواء الفصال الهزائل
وينوء الحمل الثقيل إذا مال بالبعير، ويقال: المرأة تنوء بها عجيزتها، قال الشاعر:
لها حضور وأعجاز تنوء بها ... إذا تقوم يكاد الخصر ينخزل(1/78)
وفي القرآن: )ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) سورة القصص، الآية: 76.
فصل
في ذكر أسماء المنازل وصفاتها، وهي نجوم الأخذ، قال الله تعالى: )والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) سورة يس الآية: 39.
وهي ثماتية وعشرون منزلاً لا اختلاف في ذلك، وتسمى نجوماً، وإن كان منها ما هو كوكب واحد، وكان منها ما هو أكثر، وقد قيل للثريا: النجم، وهو كالعلم لها وهي ستة كوكب. والنجم إن كان كالعلم، وقد شهرت به، فقد يقولون في النسبة هذا النجم الثريا إذا جعلوه اسماً لجماعة كواكبها، ويقولون: هذه نجوم الثريا إذا جعلوا كل كوكب منها نجماً، ثم جمعوها. قال ذو الرمة:
لعالية في الأدحى بيضاً بقفرة ... كنجم الثريا لاح بين السحائب
وقال الأعشى فجعله جمعاً:
يراقبن من جوع خلاء مخافة ... نجوم الثريا الطالعات الشواخصا
وقال أبو عبيدة: يقال النجم، فيفرد اللفظ والمعنى للجمع، وأنشد قول الراعي:
فباتت تعد النجم في مستجيرة ... سريع بأيدي الآكلين جمودها
يعني ضيفة قراها جفنة، قد استجار فيها الدهم، فهي ترى نجوم الليل فيها. وأما الكوكب فلا نعلمه يقع إلا على واحد فقط، وقال الآخر في منازل القمر فسماها نجوماً:
وأخوات نجوم الأخذ إلا أنضة ... أنضة محل ليس قاطرها يثري
قال أبو عبيدة: نجوم الأخذ: منازل القمر، سميت نجوم الأخذ، لأخذه كل ليلة في منزل. وقال أبو عمرو الشيباني: الأخذ: نزول القمر منازله، يقال: أخذ القمر نجم كذا إذا نزل به. وأنشد أبو عمرو شعراً:
وأمست نجوم الأخذ غبراً كأنها ... مقطرة من شدة البرد كسف
وقال: مقطرة من القطار، أراد تناسقها، ومراد الشاعر كسوفها، لأنها متناسقة في الخصب والجدب. وكان على كل حال، وكسوفها ذهاب نورها لشدة الزمان وذلك لما يعرض في الهواء من الكدر ولا يجلوه، قال أبو الطمحان القتبي: تذكر حميراً وردت عيوناً
وتراها نجوم الأخذ في حجراتها ... وتنهق في أعناقها بالجداول
وقال أبو حنيفة: أول ما تبتدئون به من المنازل السرطان، ولما كانت العرب تقدم الشتاء كان أول أنوائها مؤخر الدلو، وهو الفرع المؤخر، ونوؤه محمود الوقت، عزيز الفقد، وهو أول الوسمي، ثم بطن الحوت وهو الذي يسميه الرشاء ولا يذكر نوؤه لغلبة ما قبله عليه.
واعلم أن المنازل تبدو للعين منها في السماء أبداً نصفها، وهو أربعة عشر، وكذا البروج يبدو نصفها، وهو ستة لأنه كلما غاب واحد منها طلع من المشرق رقيبه وسقوط كل منزل فيه ثلاثة عشر يوماً سوى الجبهة، فإن لها أربعة عشر يوماً لأنها خصت بالليلة الباقية من أيام السنة الثلاث مائة والخمسة والستين، وفضلت بذلك على سائرها، لغزارة نوئها وكثرة الانتفاع بها، ويكون انقضاء الثمانية والعشرين، وانقضاء الاثني عشر مع انقضاء السنة.
ولما كانت السنة أربعة أجزاء صار لكل ربع منها سبعة منازل، وهي الأنواء وأسماؤها: الشرطان البطين الثريا الدبران الهقعة الهنعة الذراع النئزة الطرف الجبهة الزبرة الصرفة العواء السماك الأعزل الغفر الزباني الإكليل القلب الشولة النعايم البلدة سعد الذابح سعد بلع سعد السعود سعد الأخبية الفرغ الأول الفرغ الثاني الرشا فهذه ثمانية وعشرون نجماً هن أمهات المنازل.
قال أبو حنيفة: وقد يعدون معها نجوماً آخر إذا قصر القمر أحياناً عن هذه المنازل نزل ببعض تلك، وذلك لأن القمر لا يستوي سيره فيها، لأنك تراه بالمنزل ثم تراه وقد حل به في الشهر الآخر، فتجد مكانيه مختلفين فيه، إذا أنعمت حفظه وضبطه، ولهذه العلة يخلطونها بالمنازل، حتى ربما جعل لبعضها في الأنواء حظاً.
أما الشرطان فهما كوكبان على أثر الحوت مفترقان شمالي وجنوبي بينهما في رأي العين قدر ذراع، وإلى جانب الشمالي منهما كوكب صغير ذكر أنهما به سميت الأشراط، والواحد منهما شرط متحرك، وقد ذكر عن العرب شرط بالإسكان قال كثير في جمعهما شعراً:
عواد من الأشراط وطف نقلها ... روائح أنواء الثريا الهواطل
وقال الكميت في الإفراد:
من شرطي مرتعن تجللت ... عزال بها منه بتجاجة سحل(1/79)
وليس يمنع تحريك في النسبة من أن يكون الواحد شرطاً بإسكان وإذا نسبت إليها لم ينسب إلا بالجمع، الإفراد، فأما مثنى فلم نجدهم قالوا شرطاي. قال العجاج في الجمع: من باكر الأشراط أشراطي. وهذا قليل.
قال الشيخ: الجمع قد نسب إليه إذا جعل علماً أو أجري مجرى العلم، فالعلم كقولهم: كلابي وأنماري ومدايني وما أجري مجرى العلم أشراطي، قال ويقولون: الشرطان قرنا الحمل، ويسمونها النطح أو الناطح، وبين يدي الشرطين كوكبان شبيهان بالشرطين، يقال لهما الأنثيان. قال أبو حنيفة: ذكر الرواة أن العرب تجعلهما مما يقصر القمر، فينزل به ويجعلون لهما في الأنواء حظاً.
وأما البطين فتلقبه كواكب خفية كأنها نقط الشاء، وهو على أثر الشرطين يين يدي الثريا، وقد يتكلمون به مكبراً، فيقولون: البطن، ويزعمون أن بطن الحمل.
وأما الثريا فهي النجم لا يتكلمون بها مكبرة، وهي تصغير ثروي، مشتقاً من الثروة، وكأنه تأنيث ثروان، والنجم كالعلم له يقال له: طلع النجم، وغاب النجم وأنشد للمرار شعراً:
ويوم من النجم مستوقد ... يسوق إلى الموت نور الظبا.
وقال شعراً:
إن النجم أمسى مغرب الشمس طالعاً ... ولم يك في الآفاق برق ينيرها
قال الشيخ: هذا كما اشتهر عبد الله بابن عباس وصار كالعلم له، وكان له إخوة، قثم وغيره، فلم يشتهروا به، ويقولون: الثريا إليه الحمل.
وأما الدبران فالكوكب الأحمر الذي على أثر الثريا بين يديه كواكب كثيرة مجتمعة من أدناها إليه كوكبان صغيران يكادان يلتصقان، يقول الأعراب: هما كلباه، والبواقي غنمه، ويقولون: قلاصه، قال ذو الرمة شعراً:
وردت اغتشافاً والثريا كأنها ... على قمه الرأس ابن ماء محملق
يدف على آثارها دبرانها ... فلا هو مسبوق ولا هو يلحق
لعشرين من صغرى النجوم كأنها ... وإياه في الخضراء لو كان ينطق
قلاص حداها راكب متعمم ... إلى الماء من قرن التنوفة مطلق
قرن التنوفة أعلاها والمطلق الذي يطلب ليلة الماء وبعده القرب للورد، ويسمى دبراناً لدبوره الثريا، كما قيل: إيبان وصميان، وسمى تالي النجم، وتابع النجم. وقد يطلق فيقال: التابع، ويقال أيضاً حادي النجم، ومن أسمائه المجدح بالضم والكسر فالضم حكاه الشيباني، والكسر حكاه الأموي، والمنجمون يسمونه قلب الثور وقولهم: الدبران مما اختص وجرى مجرى العلم.
وأما الهقعة فهي رأس الجوزاء ثلاثة كواكب صغار مثفاة، وتسمى الأثافي تشبهاً بها.
حكي عن ابن عباس أنه قال لرجل: طلق عدد نجوم السماء يجزئك منها هقعة الجوزاء، وقد يقال للدابرة يكون الشق الفرس الهقعة، وهي تكره، يقال فرس مهقوع.
وأما الهنعة: فكوكبان بينهما قيد سوط، وهما على أثر الهقعة ولتقاصرها عنها سميت الهنعة. والذراع المبسوطة بينهما منحطة عنهما ويقال: أكمة هنعاً إذا كانت قصيرة، وتهانع الطائر إذا كان طويل العنق فقصرها.
وقال ابن كناسة: يقال للهنعة الزرق الميسان، فإنما ينزل القمر بالتخاي وهي كواكب ثلاثة بازاء الهنعة والواحدة منها تخياة.
وأما الذراع فهي ذراع الأسد المقبوضة، وللأسد ذراعان مقبوضة ومبسوطة، المقبوضة منهما هي اليسرى، وهي الجنوبية، وبها ينزل القمر وسميت مقبوضة لتقدم الأخرى عليها، والمبسوطة منهما هي اليمنى وهي الشمالية، وكل صورة من نظم الكواكب فميامنها مما يلي الشمال ومياسرها مما يلي الجنوب لأنها تطلع بصدورها ناظرة إلى المغارب فالشمال على أيمانها، والجنوب على أيسارها. وقد فهم ذلك القائل والنجوم التي تتابع بالليل وفيها ذات اليمين، أزورارها على أيمانها إطافة منها بالقطب.
وقال أبو حنيفة: أنت ترى الكوكب يدرأ من مطلعه من الأفق الشرقي فلا يستقيم مضيئه إلى مقابل مطلعه من الأفق الغربي في المنظر، ولكن تراه يتجانف إلى القطب، ولذلك قال الشاعر شعراً:
وعاندت الثريا بعد هدء ... معاندة لها العيوق جار
لأنها تركت القصد في المنظر، فذلك معاندتها، وعلة ذلك ما بينه الكميت في قوله:
مالت إليه طلانا واستطيف به ... كما تطيف نجوم الليل بالقطب(1/80)
وأحد كوكبي الذراع المقبوضة هي الشعرى الغميصاء، وهي تقابل الشعرى العبور، والمجرة بينهما وقد تكبر يقال الغمصاء، قال أبو عمر وهي الغميصاء والغموص ويقال لكوكبها الأحمر الشمالي المرزم، مرزم الذراع وهما مرزمان هذا أحدهما، والآخر فى الجوزاء قال:
ونائحة صوتها رابع ... بعثن إذ أخفق المرزم
ويروى إذا ارتفع المرزم فهذا المرزم هو الذي في الذراع، لأن مرزم الجوزاء لا نوء له وليست من المنازل، وقد ذكرا جميعاً بالنوء على ذكر الشعريين والسماكين. قال جدار:
أحتبك جد المرزمين متى ... ينجدا بنوال تغورا
وقال ابن كناسة: الذراع المقبوضة بأسرها هي المرزم.
وحكي مثل ذلك عن الغنوي، ومن أحاديثهم: كان سهيل والشعريان مجتمعة فانحدر سهيل فصار يمانياً، ونعته العبور عبرت إليه المجرة وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل، حتى غمصت، والغمص في العين ضعف ونقص، وقالوا: ربما عدل القمر فزل بالذراع المبسوطة.
وأما النثرة فثلاثة كواكب متقاربة، أحدها كأنه لطحة، يقولون: هي نثرة الأسد، أي أنفه، قال ذو الرمة شعراً:
مجلجل الرعد عراصاً إذا ارتجست ... نوء الثريا به أو نثرة الأسد
أنث: فعل النوء وهو ذكر، لأنه أضافه إلى الثريا، وليس بمنفصل منها، ويسمى اللطحة اللهاة. وقال الآخر:
فهدم ما قد بنته اليدان ... حولين والأنف والكاهل
وذكر الهدم والبناء ها هنا كقول الآخر:
على كل مواز الملاط تهدمت ... عريكته العلياء وانضم حالبه
رعته الغيافي بعدما كان حقبة ... رعاها وماء الروض ينهل ساكبه
فأضحى الغلاقد جد في برء قصبه ... وكان زماناً قبل ذاك يلاعبه
وأما الطرف: فكوكبان يبتدئان الجبهة بين يديها يقولون: هما عين الأسد.
وأما الجبهة: فجبهة الأسد، قال: إذا رأيت انجماً من الأسد جبهة أو الخراة والكتد، وهي أربعة كواكب خلف الطرف معترضة من الجنوب إلى الشمال، سطراً معوجاً، وبين كل كوكبين منها قبس الذراع، والجنوبي منها هو الذي يسميه المنجمون: قلب الأسد.
وأما زبرة الأسد: فهي كوكبان على أثر الجبهة، بينهما قيد سوط والزبرة كاهله، وفروع كتفيه، ويسميان الخراتين الواحدة خراة.
وأما الصرفة فكوكب واحد نير على أثر الزبرة، يقولون: هو قنب الأسد، والقنب وعاء القضيب، وسميت صرفة لانصراف الحر عند طلوعه غدوة، وانصراف البرد عند سقوطه غدوة.
وأما العواء فإن ابن كناسة جعلها أربعة أنجم، وهي خمسة لمن شاء ومن شاء ترك واحداً إلا أن خلقتها خلقة كتاب الكاف غير مشقوقة، وليست نيرة وهي على أثر الصرفة، وزعم أبو يحيى أنها سميت العواء بالكوكب الرابع الشمالي منها، وإذا عزلت عنها هذا الكوكب الرابع كانت الباقية مثفاة الخلقة وهم يجعلون العواء وركي الأسد، وأحسب، هؤلاء تأولوا اسمها، والمحاش حشوة البطن والعواء تمد وتقصر، قال الراعي:
ولم يسكنوها الجزء حتى أظلها ... سحاب من العوا وثابت غيومها
ويقال لها عواء البرد، يزعمون أنها إذا طلعت أو سقطت أتت ببرد.
وأما السماك فهما سماكا الأعزل، والقمر ينزل به ولا ينزل بالآخر وهو الرامح وسمي رامحاً لكوكب صغير بين يديه يقال له: راية السماك وبه سمي رامحاً، ويسمى الآخر الآعزل، لأنه لا شيء بين يديه كأنه لا سلاح معه وقال كعب بن زهير شعراً:
فلما استدار الفرقدان زجرتها ... وهب سماك ذو سلاح وأعزل
وقال الطرماح:
محاهن صيب نوء الربيع ... من الأنجم العزل والرامحة
وهم يجعلون السماكين ساقي الأسد، وأحد السماكين جنوبي، وهو الأعزل والآخر وهو الرامح شمالي، وقال ابن كناسة: ربما عدل القمر فنزل بعجز الأسد، وهي أربعة كواكب، بين يدي السماك الأعزل، منحدرة عنه في الجنوب، وهي مربعة على صورة النعش، ويقال لها: عرش السماك، وتسمى أيضاً الأحمال، وتسمى الجناء، وهم يجعلون حظاً في الأنواء، قال ابن أحمر يصف ثوراً:
باتت عليه ليلة عرشية ... شربت وبات إلى نعي متهددا
شربت لجت، والمتهدد المتهدم، لا تماسك لمحضره وكان المنجمون يسمون السماك الأعزل السنبلة لسموكه، سمي سماكاً وإن كان كل كوكب قد سمك فهو كقولهم الدبران.(1/81)
وأما الغفر: فثلاثة كواكب بين زباني العقرب، وبين السماك الأعزل خلفه العواء. قال ذو الرمة:
فلما مضى نوء الثريا وأخلفت ... هواد من الجوزاء وانغمس الغفر
والعرب تقول خير منزلة في الأيد بين الزباني والأسد، يعنون الغفر، لأن السماك عندهم من أعضاء الأسد، فقالوا: يليه من الأسد ما لا يضر الذنب يدفع عنه الأظفار والأنياب، ويليه من العقرب ما لا يضر الذنابي يدفع عنه الحمة.
وأما الزباني وهما زبانيا العقرب: أي قرناه، وهما كوكبان مفترقان بينهما في المنظر أكثر من قامة الرجل، ويقال لهما: زباني الصيف لأن سقوطهما في زمان الحر، قال ذو الرمة:
يا قد زفت للزباني من بوارحها ... هيف أنست بها الأصناع والخبر
الأصناع محابس الماء والواحد صنع، والخبر جمع خبرة وهي أرض يكون بها السدر، ويدوم فيها الماء يريد أن رياح الزباني أنضبت المياه، وقيل: يسمي أهل الشام زباني العقرب يديها.
وأما إكليل العقرب رأسها، وهي ثلاثة كواكب معترضة بين كل كوكبين قيد ذراع، قال جران:
العود بمطرقين على مثنى أيامنهم ... راموا النزول وقد غار الأكاليل
جعل كل كوكب منها إكليلاً.
وأما القلب، قلب العقرب والكوكب الذير الأحمر الذي وراء الإكليل سيرة كوكبان، وهم يستحسنونه. قال شعراً:
فسيروا بقلب العقرب اليوم إنه ... سواء عليكم بالنحوس وبالسعد
وأما الشولة فإبرة العقرب، كذلك يسميها أهل الشام، وهي كوكبان مضيئان صغيران متقاربان في طرف ذنب العقرب، وقالوا: ربما قصر القمر فنزل بالغفار فيما بين القلب والشولة. والغفار أحد كواكب ذنب العقرب، يجعلون كل كوكب منها فقرة، وهي ست فقر، والسابعة الإبرة. قال ابن كناسة: الشولة التي ينزل بها القمر: حذاء القلب في حاشية المجرة، وليس هناك شولة، ولكن القمر إنما ينزل بالشولة على المحاذاة ولا ينحط إليها لأنها منحدرة عن طريقته وها هنا يقطع القمر المجرة إذا هو فارق العقرب، ومضى نحو السعود لأن المجرة تسلك بين قلب العقرب وبين النعايم، منقطع نظام المنازل في هذا الموضع.
وفي موضع آخر وهما بين الهقعة والهنعة، لأنها تسلك أيصا بينهما فيعترض نظام المنازل اعتراضاً، وها هنا أيضاً يقطع القمر وسائر الكواكب المحاذية للمجرة، وذلك حين ينحدر عن غاية تعاليها إلى ذروة القبة في الهبوط، فأما قطعها إياها عن السعود فذلك حين يبتدىء الصعود بعد غاية الهبوط، ويسمى الشولة شولة الصورة، وهي منغمسة في المجرة.
وأما النعايم فثمانية كواكب، أربعة في المجرة وهي النعايم الواردة، وأربعة خارجة عن المجرة وهي النعايم الصادرة، وهي منحدرة، وكل أربعة منها على شبه بالتربيع، وفوقها كوكب إذا تأملته مع كوكبين من النعايم الوارد شبهتها به قبة، وإنما قيل: وارداً لشرعه في المجرة، وقيل: الصادر لمجيئه عنها.
وأما البلدة فرقعة من السماء لا كوكب بها بين النعايم وبين سعد الذابح، ينزلها القمر، ويقولون: ربما عدل القمر أحيانا فنزل بالقلادة وهي ستة كواكب صغار، خفية فوق البلدة، مستديرة تشبه بالقوس، ويسميها العامة القوس ويسمى موضع النعايم الوصل.
وأما سعد الذابح: فكوكبان غير نيرين، وكذلك السعود كلها وبينهما في رأي العين قيس الذراع و ذبحه كوكب صغير قد كاد يلزق بالأعلى منها، تقول الأعراب: هو شاته التي تذبح. قال الطرماح شعراً:
ظعائن شمن قريح الخريف ... من الفرغ والأنجم الذابحة
قريحه: أوله.
وأما سعد بلع: فنجمان نحو من سعد الذابح أحدهما خفي جدا، وهو الذي بلعه أي جعله بلعاً كأنه مسترط، وذكر أنه سمي بلعاً لأنه طلع حين قيل: )يا أرض ابلعي ماءك) سورة هود، الآية: 44 وهذا لست أدري ما هو.
وأما سعد السعود: فكوكبان أيضاً نحو من سعد الذابح، وسمي سعد السعود بالتفضيل عليهما، ولأن الزمان في السعدين اللذين قبله قسا، وطلوع سعد السعود يوافق منه ليناً في برده، قالوا: وربما قصر القمر، فينزل بسعد باثره، وهو أيضاً كوكبان أسفل من سعد السعود. قال الكميت شعراً:
ولكن بنجمك سعد السعود ... طبقت أرضي غيثاً درودا
وأما سعد الأخبية: فثلاثة كواكب متحاذية، فوق الأوسط منها كوكب رابع، كأنها به في التمثيل رجل بطة.(1/82)
وقيل: إن السعد منها واحد، وهو أنورها وإن الثلاثة أخبية، وقيل: سمي بالأخبية لأنه إذا طلع انتشرت فخرج منها ما كان مختبئاً في البرد، لأن طلوعه في وقت الدفاء، والسعود متناسقة بعضهما على إثر بعض.
وأما الفرغ الأول: فهو فرغ الدلو، والدلو أربعة كواكب مربعة واسعة، بين كل كوكبين قدر قامة الرجل، أو أكثر في رأي العين، فهم يجعلون هذه الكواكب الأربعة عراقي الدلو. قال عدي بن زيد في خريف شعراً:
سقاه نوء من الدلو تدلى ولم يوار العراقي
وفرغ الدلو: مصب الماء من بين الراقي وقد يقولون لهما العرقوة العليا والعرقوة السفلى. قال: )قد طال ما حرمت نوء الفرغين).
وأما الفرغ الثاني: وهو العرقوة السفلى فكمثل الفرغ الأول، وقد يقال للفرغ الأول: ناهزا الدلو المقدمان وللفرغ الأسفل: ناهزا الدلو المؤخران. والناهز الذي يحرك الدلو ليمتلىء، وقالوا: يقصر القمر أحيانا فيتزل بالكرب، والكرب الذي وسط العراقي الأربع، والكرب من الدلو ما شد به الحبل من العراقي. وقالوا: ربما نزل ببلدة الثعلب، وهو بين الدلو والسمكة من عن يمين المرفق.
وأما الرشاء وهو السمكة: فكواكب في مثل حلقة السمكة، وفي موضع البطن منها من الشق الشرقي نجم منير ينزل به القمر يسمونه بطن السمكة. والمنجمون يسمونه: قلب الحوت. ويقال لما بين المنازل: الفرج. فإذا قصر القمر عن منزلة واقتحم التي قبلها فنزل بالفرجة، بينما استحبوا ذلك إلا الفرجة التي بين الثريا والدبران، فإنهم يكرهونها ويستخشونها، ويقال لها الضيقة. قال:
فهلا زجرت الطير ليلة جئته ... تضيقه بين النجم والدبران
وسميت ضيقة لضيقها عندهم، فإنهم يتواضعون قصر ما بين طلوع النجم وطلوع الدبران. ذكر عن يزيد بن قحيف الكلابي، أنه قال: ما بينهما إلا سبعة أيام وإنما هذا نحو نصف ما قدر لما بين المنزلين.
قال أبو حنيفة: فهذا ما حكي لنا، وأما نحن فلم نجدها أقصر المنازل كلها مدة في الطلوع ولا فرجة في المنظر، وأن الذي نير الطرف والجبهة لأقل من ذلك ولكن قد وجدناهما في الغروب عندهم متقاربين جدا، حتى لا نكاد نثبت بينهما شيئاً ما هو الآن إلا أن يسقط النجم، فما يستقيم السقوط حتى يسقط الدبران وأحسب الذي اشتهر أمرهما في هذا الباب حتى يوصفا من بين المنازل كلها شهرتهما وكثرة استعمالهم إياهما، ولا سيما النجم، فان تفقدهم له شديد، وذكرهم إياه كثير، وإذا لم يعدل القمر عن المنزل قيل: كالح مكالحة والمكالحة: مثل المكافحة كأنه إذا لاقاه دافعه من غير حاجز بينهما.
فصل
في بيان الاختلاف الواقع بين العرب
في أوقات الأنواء والكلام في الضيقة
قال أبو الحسين الصوفي هذا الذي يذكرونه في الضيقة وأن القمر ربما قصر فنزل بها غلط، لأن كواكب الثريا في خمس عشرة درجة من الثور، وهذان الكوكبان في أربع وعشرين درجة ونصف منه، ويين الثريا وبينهما نحو تسع درجات، وأبطأ ما يكون سير القمر في يوم و ليلة، وأبعده نحو إحدى عشرة درجة، وإنما سميت الفرجة التي بين الثريا والدبران الضيقة، لأنهم يستعملون طلوعها وسقوطها في المغرب بالغدوات عند طلوع رقبائها، وظهورها من تحت الشعاع، ورقيب كل واحد منهما هو الخامس منه، ولا يستعملون طلوعهما. ووسط الثريا في خمس عثرة درجة من الثور والدبران في خمس وعشرين درجة منه وبينهما بدرجات البروج عشر درجات، لكن عرض الثريا في الشمال عن درجتها أربع درجات ودقائق. وعرض الدبران في الجنوب خمس درجات.
ومن شأن الكواكب الشمالية أن تطلع قبل طلوع درجتها وتغيب بعد مغيب درجتها، والجنويية تطلع بعد طلوع درجتها، وتغيب قبل مغيب درجتها، فتطلع الثريا كذلك مع ثلاث عشرة درجة من الثور بالتقريب ويطلع الدبران مع سبع وعشرين درجة منه، فيكون بين طلوع الثريا وطلوع الدبران أربع عشرة درجة بالتقريب، وتغيب الثريا مع سبع عشرة درجة من الثور لا تغيب بعد درجتها. ويغيب الدبران مع ثلاث وعشرين درجة منه، لأنه يغيب قبل درجة، فيكون بين مغيب الثريا ومغيب الدبران ست درجات بدرجات البروج.(1/83)
فلما وجدوا بين غروب الثريا وغروب الدبران هذا القدر، سموا الفرجة يينهما بضيقة، وااستخشوها واستخشوا الدبران أيضاً مفرداً وتشاءموا به حتى قالوا: إن فلاناً أشام من حادي النجوم، ويتشاءمون أيضاً بالمطر الذي يكون بنوئه ويزعمون أنهم لا يمطرون بنوء الدبران إلا وتكون سنتهم جدبة.
قال أبو زيد وقطرب جميعاً: وهذه حكاية عن القشريين، قالوا: أول المطر الوسمي، وأنواؤه العرقوتان،، المؤخرتان من الدلو ثم الشرط بتسكين الراء، ثم الثريا وبين كل نجمين نحو من خمس عشرة ليلة ثم الشتوي بعد الوسمي وأنواؤه الجوزاء ثم الذراعان ونثرتهما ثم الجبهة وهو آخر الشتوي وأول الدفيء، ثم الدفيء وأنواؤه آخر الجبهة، ثم الصرفة وهي فصل بين الدفيء والصيف وأنواؤه السماكان الأول الأعزل والآخر الرقيب، وما بين السماكين صيف أربعين ليلة. ثم الحميم وهو نحو من خمس عشرة ليلة إلى عشرين عند طلوع الدبران وهو بين الصيف والخريف وليس له نوء. ثم الخريف وأنولؤه النسران، ثم الأخضر ثم عرقوتا الدلو الأوليان ولكل مطر من الوسمي إلى الدفيء ربيع.
وإنما هذه الأنواء في غيبوبه هذه النجوم. قالوا: فأول القيظ طلوع الثريا وآخره طلوع سهيل. وأول الصفرية طلوع؟ وأخره طلوع السماك. وفي أول الصفرية أربعون ليلة يختلف حرها وبردها، وتسمى المعتدلات. ثم أول الشتاء طلوع السماك وآخره. وقوع الجبهة، وأول الدفيء وقوع الجبهة وآخر الصرفة، وأول الصيف السماك الأعزل وهو الأول وآخر الصيف السماك الآخر، الذي يقال له الرقيب، وبينهما أربعون ليلة أو نحوها انتهت الحكاية.
قال ابن كناسة: أعلم العرب بالنجوم بنو مارية من كلب، وبنو مرة بن همام من بني شيبان، وذكر عنهم أن أول الأنواء الدلو، ونوؤه محمود، وهو أول الوسمي ثم بطن الحوت ولا يذكر نوؤه لغلبة ما قبله عليه، ثم الشرط محرك الراء ويثنى ويجمع عرفها يونس وغيره وقال:
ولا روضه غناء غض نباتها ... يجود بشتياها لها الشرطان
وقال العجاج في الجمع:
من باكر الأشراط أشراطي ... من الربيع انقض أودلوي
وقال ذو الرمة:
قرحاء حواء أشراطية وكفت ... فيها الرياب وحفتها البراعيم
قوله: حواء يريد هي من الخضرة سوداء، وجعلها قرحاء لأنوارها، جعلها كقرحة الفرس، ونوؤه محمود. ثم البطن وبعضهم يقول: البطين ونوؤه غير محمود، ولا مذكور، ثم الثريا ونوؤه مقدم في الحمد، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: )إذا طلعت الثريا ارتفعت العاهة). ولذلك لا يقبل بالحجاز قول من ادعى عاهة في ثمرة اشتراها بعد طلوع الثريا. ثم الدبران وهو مكروه النوء؟ ثم الهقعة ولا يذكر نوؤه منفرداً، فهذه منازل كل الوسمي وهي خمسة فليس قبل الفرغ المؤخر وسمي، ولا بعد الثريا وسمي، وهي أول أنواء الخريف. وسموا النوئين الباقيين وليا، وهما الدبران والهقعة.
ثم أول الربيع وأنواؤه سبعة: الأربعة الأولى شتية وهي الهنعة ونوؤه لا يذكر، والذراع ونوؤه مقدم مذكور، والنثرة ونوؤه محمود، والطرف ونوؤه لا يفرد بالذكر، والثلاثة الباقية دفيئة، ويقال الدثية وهما بمعنى كما يقال اللغام واللثام، وسميت بذلك لأنها في دبر الشتاء. وابتداء الدفء وهي الجبهة ونوؤها من أذكر الأنواء وأشهرها وأحبها إليهم وأعزها فقداً. والزبرة وقلما يفرد نوؤه، والصرفة وغلبت أنواء الأسد عليها وإنما سميت صرفة لانصراف الشتاء فهذه منازل كل الربيع.
ثم الصيف وأنواؤه سبعة: فالخمسة الأولى منه صيف، والنوءان الاخران الباقيان حميم وسمي حميماً لأن أمطارها تجيء وقد تحرك الحر، فأولها العواء وبعض العرب يمده فيقول العواء، ونوؤها ليلة. ثم السماك ونوؤه من الأنواء المذكورة المحمودة، ولذلك قال الشاعر: أجش سماكي كان ربابه، ثم الغفر ولا يذكر نوؤه وقيل لا يعدم نوؤه. ثم الزباني، ثم الإكليل، ثم القلب، ثم الشولة وأربعتها لا تذكر أنواؤها، وربما ذكرت العرب مجملة، فهذا كله الصيف.(1/84)
ثم الخريف: وهو فصل القيظ وأنواؤه سبعة والأربعة المتقدمة رمضية وشمسية لشدة الحر، والثلاثة الباقية خريفية، وأول أمطاره في كلام أهل الحجاز وتميم الحميم، فأوله النعايم ثم البلدة ثم سعد الذابح ثم سعد بلع ثم سعد السعود ثم سعد الأخبية. وهذه الستة لا ذكر لأنوائها ولا مبالاة لأخواتها. وسميت خريفية لأنها تجيء والثمار تخترف في أيامها. ثم مقدم الدلو ونوؤه من الأنواء المشهورة ويقال: الفرغ المقدم أيضاً لأنها مقدمة ما بين الوسمي وموطىء له وفرط، فهذه منازل كل الحميم.
وبعد هذه الأربعة ستة سعود متناسقة في جهة الدلو، وليست هي من المنازل. أولها سعد ناشره وهو أسفل من سعد الأخبية ويطلع مع الشرطين. ثم سعد الملك، ثم سعد الهمام، ثم سعد البارع، ثم سعد مطر، وكل سعد منها كوكبان في رأي العين قدر ذراع كنحو ما بين سعود المنازل.
فصل
واعلم أن ما ذكرته من الطلوع والغروب يختلف فيهما أحوال البلدان فربما طلع النجم ببلد في وقت وطلع في غير ذلك البلد، في وقت آخر، إما قبله إما بعده بأيام، فهذان النسران وهما النسر الواقع، وقلب العقرب يطلعان معا بنجد، ويطلع النسر الواقع على أهل الكوفة، قبل قلب العقرب بسبع. ويطلع قلب العقرب على أهل الدبرة قبل النسر بثلاث، وربما طلع النجم ببلد ولم يطلع ببلد آخر كسهيل، فإنه يظهر بأرض العرب وباليمن ولا يرى بأرمينية، وبين رؤيته بالحجاز ورؤيته بالعراق بضع عشرة ليلة، وبنات نعش تغرب بعدن ولا تغرب بأرمينية.
قال أبو محمد القتبي: بلغني أن كل بلد جنوبي فالكواكب اليمانية فيه تطلع قبل طلوعها في البلد الشمالي. وكل بلد شمالي فالكواكب الشامية فيه تطلع قبل طلوعها في البلد الجنوبي، وفي الكواكب الشامية ما يكون في الليلة الواحدة غروب من أولها في المغرب وطلوع من آخرها في المشرق كالعيوق والسماك الرامح والكفة والعوايذ والنسر الواقع والغوارس والردف والكف الخضيب، ومددها في ذلك تختلف، فمنها ما يرى كذلك أياماً ومنها ما يرى شهراً ومنها ما يرى أكثر من شهر.
وإذا نزل القمر في استوائه ليلة أربع عشرة، وثلاث عشرة بمنزل من المنازل فهو سقوط ذلك المنزل، لأن القمر يطلع من أول المشرق ليلة أربع عشرة مع غروب الشمس، ويغيب صبحاً مع طلوع الشمس، فيسقط ذلك النجم الذي كان نازلاً به. وقال ابن الأعرابي بين طلوع الثريا مع الفجر وبين عوده إلى مثله ثلاث مائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم، فالقمر ينزل بها ثم بسائر المنازل يأخذ كل ليلة في منزل، فذلك ثمانية وعشرون منزلاً ينزل بها القمر إذا كان كريتاً، ويعود للنجم الذي استهل به لتسع وعشرين، وإذا كان حثيثاً تخطرف منزلة والكريت: التام، والحثيث: الناقص، وينزل لثمان وعشرين ليلة بمستهله، فمن ثم صار ما بين حول الأهلة وبين حول طلوع الثريا مع الفجر إلى مثله فصل أحد عشر يوماً وربع يوم. قال والخطر فيه أن يجعل الخطوتين خطوة، والمنزلتين منزلة، فربما استسر ليلة، وربما استسر ليلتين أو نحوهما.
الباب السابع
في تحديد سني العرب والفرس والروم
وأوقات فصول السنة
قد عرفتك فيما تقدم أن العرب تبدأ بالشتاء بعد أن تجعل السنة نصفين شتاءً وصيفاً ثم يقسم الشتاء نصفين فتجعل الصيف أوله والقيظ آخره وأنها تفارق سائر الأمم في تحديد الأوقات، فأول وقت الربيع الأول عندهم وهو الخريف ثلاثة أيام تخلو من أيلول، وأول الشتاء عندهم ثلاثة أيام تخلو من كانون الأول، وأول الصيف عندهم وهو الربيع الثاني خمسة أيام، تخلو من حزيران، والخريف عندهم اسم للمطر الذي يأتي في آخر القيظ من دون الزمان. وذكر المراد الفقعسي أنه يكون حلول الشمس بأعلى منازلها في شدة الحر، وذلك إذا حلت بأول السرطان فقال شعراً:
إذا طلعت شمس النهار فإنها ... تحل بأعلى منزل وتقوم
يريد أن الشمس في منتهى صعودها في القيظ، فإذا طلعت حلت بأول منها، وإذا انتصفت قامت على قمة الرأس. وهنا يدل على معرفتهم بحلول الشمس رؤوس الأرباع، وإن كان حساب فصولهم على غير ذلك.(1/85)
وأما أصحاب الحساب فيحدون فصول السنة بحلول الشمس بنجم من هذه النجوم الثمانية والعشرين، ويجعلون لكل زمان من الأزمنة الأربعة سبعة أنجم منها. ويبدؤون من الأزمنة بالفصل الذي تسميه العامة: الربيع وهو عند العرب الصيف، ونجوم هذا الفصل الشرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع، والشمس تحل بالشرطين بالغداة لعشرين ليلة تخلو من آذار فتسترهما وتستر المنزل قبلهما، فلا يزال الشرطان مستورين بها إلى أن يطلعا بالغداة، لست عشرة ليلة تخلو من نيسان فيكون بين حلول الشمس بها وطلوعها سبع وعشرون ليلة.
وإذا حلت الشمس برأس الحمل اعتدل الليل والنهار، فصار كل واحد منهما اثنتي عشرة ساعة يوماً واحداً وليلة واحدة، ثم يزيد النهار وينقص الليل إلى أن يمضي من حزيران اثنتا وعشرون ليلة، وذلك بعد أربع وتسعين ليلة من وقت اعتدالهما فينتهي طول النهار، و ينتهي قصر الليل، وينقضي فصل الربيع، ويدخل الفصل الذي يليه وهو الصيف، ودخول الصيف بحلول الشمس برأس السرطان ونجومه النثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك.
ثم يأخذ الليل في الزيادة والنهار في النقصان إلى ثلاث وعشرين تخلو من أيلول، وذلك ثلاث وتسعون ليلة، وعند ذلك يعتدل الليل والنهار ثانية ويكون كل واحد منهما اثنتي عشرة ساعة، يوماً واحداً وليلة واحدة، وينقضي فصل القيظ ويدخل فصل الخريف، ودخول فصل الخريف بحلول الشمس رأس الميزان ونجومه الغفر والزباني والإكليل والقلب والشولة والنعايم والبلدة.
ثم يأخذ الليل في الزيادة والنهار في النقصان، إلى أن يمضي من كانون الأول واحد وعشرون يوماً، وذلك تسع وثمانون ليلة، وعند ذلك ينتهي طول الليل وينتهي قصر النهار ينقضي فصل الخريف، ودخول فصل الشتاء بحلول الشمس رأس الجدي ونجومه: سعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرع المقدم والفرع المؤخر وبطن الحوت. ويأخذ النهار في الزيادة والليل في النقصان إلى أن تعود الشمس إلى رأس الحمل و يعتدل الليل والنهار، وينقضي فصل الشتاء وذلك تسع وثمانون ليلة وربع، فجميع أيام السنة على هذا العدد ثلاث مائة وخمسة وستون يوماً وربع، لا يتغير ولا يزول على مر الدهر.
وقد بينا فيما مضى أن السيارات سبعة وأخبرنا أنها هي التي تقطع البروج والمنازل فهي تنتقل فيها مقبلة ومدبرة، لازمة لطريق الشمس أحياناً وناكبة عنها أحياناً، إما في الجنوب وإما في الشمال، ولكل نجم منها في عدوله عن طريقة الشمس مقدار إذا هو بلغه عاود في مسيره الرجوع إلى طريقة الشمس، وذلك المقدار من كل نجم منها مخالف لمقدار النجم الآخر.
فإذا عزلت هذه النجوم السبعة عن نجوم السماء سميت الباقية كلها ثابتة، تسمية على الأغلب من الأمر لأنها وإن كانت لها حركة مسير فإن ذلك خفي يفوت الحس، إلا في المدة الطويلة، وذلك لأنه في كل مائة عام درجة واحدة فلذلك سميت ثابتة.
واعلم أن الطلوع والغروب، وتفصيل الليل والنهار، والمشارق والمغارب قد قال الله تعالى: )رب المشرقين ورب المغربين). سورة الرحمن، الآية: 17 و) رب المشارق والمغارب(، سورة المعارخ، الآية: 40 والمشرقان مشرقا الشتاء والصيف، وكذلك المغربان مغرباهما، والمشارق مشارق الأيام، وهي جميعاً بين المشرقين، وكذلك المغارب هي مغارب الأيام وهي بين المغربين، فمشرق الصيف مطلع الشمس في أطول يوم من السنة.
قال أبو حنيفة: وذلك قريب من مطلع السماك الرامح، بل مطلع السماك الرامح أشد ارتفاعاً في الشمال منه قليلاً. وكذلك مغرب الصيف هو على نحو ذلك من مغرب السماك الرامح، ومشرق الشتاء مطلع الشمس في أقصر يوم من السنة، وهو قريب من مطلع قلب العقرب، بل هو أشد انحداراً في الجنوب من مطلع قلب العقرب قليلاً، وكذلك مغرب الشتاء على نحو ذلك من مغرب قلب العقرب. فمشارق الأيام ومغاربها في جميع السنة بين هذين المشرقين والمغربين.
فإذا طلعت الشمس من أخفض مطالعها في أقصر يوم من السنة لم تزل بعد ذلك ترتفع في المطالع، فتطلع كل يوم من مطلع فوق مطلعها بالأمس، طالبة مشرق الصيف فلا تزال على ذلك حتى تتوسط المشرقين، وذلك عند استواء الليل والنهار في الربيع، فذلك مشرق الاستواء، وهو قريب من مطلع السماك الأعزل، بل هو أميل منه قليلا إلى مشرق الصيف من مطلع السماك الأعزل.(1/86)
ثم تستمر على حالها من الارتفاع في المطالع إلى أن تبلغ مشرق الصيف الذي هو منتهاه، فإذا بلغته كرت راجعة في المطالع منحازة نحو مشرق الاستواء، حتى إذا بلغته استوى الليل والنهار في الخريف، ثم استمرت منحدرة حتى تبلغ منتهى مشارق الشتاء الذي هو منتهاه. فهذا دأبها، وكذلك شأنها في المغارب على قياس ما بيناه في المطالع.
فأما القمر فإنه يتجاوز في مشرقيه ومغربيه مشرقي الشمس ومغربيها، فيخرج عنهما في الجنوب والشمال قليلاً، فمشرقاه ومغرباه أوسع من مشرقي الشمس ومغربيها، وإذا أهل الهلال في منزلة من المنازل أهل في الشهر الثاني في المنزلة الثالثة، ثم لا يزال بعد مهله ينقل كل ليلة إلى منزلة، حتى يستوفي منازله في ثمان وعشرين ليلة ثم يستسر، فلا يرى حتى يهل.
فربما كان حلوله المنازل بالمقارنة لها إما بالمجامعة، وإما بالمحاذاة من فوقها أو أسفل منها، وذلك المكالحة، يقال: كالح القمر وربما قصر واقتحم فنزل بالفرج والفرجة ما بين المنزلين، ويقال له الوصل أيضاً، وهو يغيب في ليلة مهله في أدنى مفارقته الشمس لستة أسباع تمضي من الليل.
ثم يتأخر غروبه كل ليلة مقدار ستة أسباع حتى يكون غروبه في الليلة السابعة نصف الليل، وفي ليلة أربع عشرة مع طلوع الشمس، ويكون طلوعه فيها مع غروب الشمس، وقد يتقدم ذلك أحيانا ويتأخر على قدر تمام الشهر ونقصانه ثم يتأخر طلوعه كل ليلة مقدار ستة أسباع ساعة، حتى يكون طلوعه ليلة إحدى وعشرين نصف الليل، ويكون طلوعه ليلة ثمان وعشرين مع الغداة.
قال أبو حنيفة: وكل هذا تقدير على مقارنة، ولا يكون أن يرى الهلال بالغداة في المشرق بين يدي الشمس وبالعشي في المغرب خلف الشمس في يوم واحد ولا يمكن ذلك، ولكن يمكن ذلك في يومين، فأما في ثلاثة فلا شك فيه، فإذا كان ذلك في يومين فهو حين يستسر ليلة واحدة وإذا كان في ثلاثة فهو حين يستسر ليلتين.
الباب الثامن
في تقدير أوقات التهجد
التي ذكرها الله تعالى في كتابه عن نبيه والصحابة ويبين ما يتصل بها من ذكر حلول الشمس البروج الاثني عشر
قال تعالى: )أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر(، سورة الإسراء، الاية: 78 وقال ثعلب: يذهب العرب بالدلوك إلى غياب الشمس وقول الشاعر شعراً:
هذا مقام قدمي رباح ... غدوة حتى ذهبت براح
يدل على هذا وأصله أن الساقي يكتري على أن يستقي إلى غيبوبة الشمس وهو في آخر النهار يتبصر هل غابت الشمس، وقوله براح أي تجعل راحته فوق عينيه ويتبصر، قال: وما روي عن ابن عباس من أنه زوالها للشمس يسلم للحديث، وغسق الليل ظلمته، فإذا زادت فهي السدفة، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: )ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) سورة الإسراء، الآية: 79 ، قال أبو العباس ثعلب: قوله نافلة لك: يريد ليس لأحد نافلة إلا للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه ليس من أحد إلا يخاف على نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فعمله نافلة. فأما التهجد فإنه يجعل من الأضداد، يقال: هجد وهجد وتهجد إذا صلى بالنهار، وهجد وهجد وتهجد إذا صلى بالليل قائما وقاعداً وأنشد في النوم قال:
هجدنا فقد طال السرى ... وقدرنا أن خنا الدهر غفل
أي نومنا، وأنشد ابن الأعرابي في النوم:
ومنهل من القطا مورود ... وردت يين الهب والهجود
قال: الهجود: النوم كأنه أتاه في السحر وهو بين النوم والانتباه. وقال تعالى: )يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو أنقص منه قليلاً أو زد عليه(، سورة المزمل، الآية: ا3، وقال تعالى: )إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل) سورة المزمل، الآية: 20 ، إلى قوله: فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة(، سورة المزمل، الآية: 20 .
اعلم أنه قد مر القول في شرح جوانب هذه الآي بما تقدم في الباب الاول من هذا الكتاب وبقي تحديد الأوقات.
الحمل(1/87)
تحديد الأوقات وذكر البروج: فيقول: إذا حلت الشمس برأس الحمل وفغربت، طلع السماك الرامح وزاغت الشعرى العبور عن وسط السماء، وقارب أن يتوسط الشعرى الغميصاء فصار خط نصف النهار بينهما، وخط نصف النهار هو الاخذ من نقطة الجنوب إلى نقطة الشمال، فعليه يكون زوال الشمس وزوال جميع الكواكب مما صار بينه وبين الأفق الجنوبي، وبين سمت الرأس، وعادتهم أن يسموه خط نصف النهار.
وما كان منه في الحاشية بين سمت الرأس وبين نقطة الشمال التي من عادتهم أن يسموه خط نصف الليل، وعليه يكون زوال الكواكب الشمالية. فإذا كان ثلث الليل طلع النسر الواقع وقلب العقرب، وغرب الناجذ وهو رجل الجوزاء وإذا كان نصف الليل طلع الردف وهو الكوكب الذي يسميه المنجمون ذنب الدجاجة، وطلع النسر الطائر على أثره بقليل، وجنحت الشعرى، وجنوحها أن تميل للغروب، وسقط العيوق، وسقوطه غيبته، فإذا كان ثلث الليل قاربت الفكة أن تتوسط السماء وزاغ السماك الرامح عن وسط السماء فأدبر، والإدبار كثر من الزيغان، وضجع الكوكب الفرد، فيصير على خط نصف الليل.
وإذا حلت الشمس بوسط الحمل فغابت طلعة الفكة، وزاغت الشعرى الغميصاء فأدبرت، فإذا كان ثلث الليل استقل قلب العقرب والنسر الواقع. واستقلال الكوكب أن تراه قد ارتفع قدر القامة في رأي العين، وكثر شيئاً وغابت الشعرى العبور قبل ذلك، وغاب المرزم، وهو يد الجوزاء، وجنح العيوق، فإذا كان نصف الليل استقل النسر الطائر وسقطت الغميصاء، وسقط العيوق قبل ذلك، وتوسط السماك الرامح أو هم بالتوسط، فإذا كان ثلثا الليل قلب العقرب بالتوسط ومنكب الفرس بالطلوع، وزاغت الفكة وجنح قلب الأسد.
الثور
فإذا حلت الشمس برأس الثور فغابت، توسط قلب الأسد وجنح رأس الغول والناجذ والدبران، وزاغ الفرد، فإذا كان ثلث الليل غاب العيوق وقارب السماك الرامح أن يتوسط وقرب طلوع النسر الطائر، وطلع الردف، وإذا كان نصف الليل قاربت الفكة أن تتوسط، وزاغ السماك الرامح وجنح الفرد. فإذا كان ثلثا الليل طلعت الكف الخصيب، وهي الكوكب الشمالي من كوكب الفرع الثاني، وغاب قلب الأسد، وزاغ قلب العقرب فأدبر.
وإذا حلت الشمس بوسط الثور فغربت طلع النسر الواقع وقد غاب الدبران قبيل ذلك، وطلع العيوق وقلب العقرب، وزاغ قلب الأسد فأدبر. فإذا كان ثلث الليل توسط السماك واستقل النسر الطائر، فإذا كان نصف الليل طلع منكب الفرس و توسط قلب العقرب، وجنح قلب الأسد، وإذا كان ثلثا الليل استقلت الكف الخضيب، وزاغ قلب العقرب فأدبر منصباً وانصبابه: إمعانه في الزيغان.
الجوزاء
فإذا حلت الشمس بأول الجوزاء فغربت استقل قلب العقرب والنسر الواقع، وجنح العيوق وغاب المرزم، فإذا كان ثلث الليل توسطت الفكة وهمت وهي إذا توسطت السماء، فصارت على خط نصف الليل ببلد الدينور، كانت على قمة الرأس، سواء أعني أنها تكون فوق رأس القلم، وقارب قلب العقرب التوسط وغاب الفرد، وإذا كان نصف الليل طلع الكف الخضيب وسقط قلب الأسد، وزاغ قلب العقرب فأدبر، وإذا كان ثلث الليل طلع رأس الغول و توسط النسر الواقع.
فإذا حلت الشمس بوسط الجوزاء فغرب، طلع الردف وجنحت الغميصاء وقارب طلوع النسر الطائر، فإذا كان ثلث الليل زاغ قلب العقرب سقط قلب الأسد، وطلع منكب الفرس، فإذا كان نصف الليل قارب النسر الطائر التوسط وقارب قلب العقرب خط القبلة، فإذا كان ثلثا الليل زاغ النسر الطائر وأدبر النسر الواقع، وإدباره أن يبعد عن خط نصف الليل، وطلع العيوق وتبعته الثريا وطلعت.
السرطان
وإذا حلت الشمس بأول السرطان فغربت توسط السماك الرامح واستقل النسر الطائر، فإذا كان ثلث الليل استقلت الكف الخضيب وزاغ قلب العقرب فأدبر، فإذ كان نصف الليل زاغ النسر الواقع وهم النسر الطائر بالتوسط وطلع رأس الغول، وإذا كان ثلثا الليل طلع العيوق وتبعته الثريا وهم الردف بالتوسط، وغور قلب العقرب وتغويره: أن يقع في الغور فلا يلبث أن يغيب. وضجع السماك الرامح، وضجوعه أن يميل للمغيب وهو قبل التغوير، والجنوح قبل الضجوع والانصباب قبل الحنوح.(1/88)
فإذا حلت الشمس بوسط السرطان فغربت همت الفكة وقلب العقرب بالتوسط، وغور الفرد، وإذا كان ثلث الليل توسط النسر الطائر وطلع رأس الغول، وإذا كان نصف الليل طلع العيوق وطلعت الثريا على أثره، وزاغ النسر الطائر، وجنح قلب العقرب، فإذا كان ثلثا الليل طلع الدبران، وغاب السماك الرامح .
الأسد
وإذا حلت الشمس بأول الأسد فغريت، طلع منكب الأسد وتوسط قلب العقرب، وضجع قلب الأسد فإذا كان ثلث الليل استقل رأس الغول، وتوسط النسر الطائر وزاغ النسر الواقع فأدبر، وإذا كان نصف الليل توسط الردف وضجع السماك الرامح، وغاب قلب العقرب، وإذا كان ثلثا الليل توسط منكب الفرس وغورت القكة.
وإذا حلت الشمس بوسط الأسد غفربت، طلعت الكف الخصيب وزاغ قلب العقرب فأدبر، وغاب قلب الأسد، فإذا كان ثلث الليل طلع العيوق والثريا، وضجع قلب العقرب، وقارب الردف التوسط، فإذا كان نصف الليل استقل الدبران، وقارب منكب الفرس أن يتوسط. وإذا كان ثلثا الليل طلع الناجذ، وتوسط الكف الخضيب واستقل المرزم.
السنبلة
وإذا حلت الشمس بأول السنبلة فغربت، استقل الكف الخضيب فإذا كان ثلث الليل طلع الدبران وزاغ الردف، وغاب السماك الرامح، فإذا كان نصف الليل زاغ منكب الفرس، وغربت الفكة وطلع المرزم، وإذا كان ثلثا الليل طلعت الشعرى الغميصاء، وهمت الشعرى العبور بالطلوع.
وإذا حلت الشمس بوسط السنبلة فغربت، قارب أن يطلع رأس الغول وقرب توسط نسر الواقع، فإذا كان ثلث الليل استقل الدبران وقارب منكب الفرس التوسط، وجنحت الفكة، فإذا كان نصف الليل استقل الناجذ وزاغت الكف الخضيب، واستقل المرزم، وإذا كان ثلثا الليل غاب النسر الطائر واستقلت الشعريان، وجنح النسر الواقع.
الميزان
وإذا حلت الشمس برأس الميزان فغربت، طلع رأس الغول وزاغ النسر الواقع، فإذا كان ثلث الليل قارب المرزم الطلوع، وزاغ منكب الفرس، وغابت الفكة، فإذا كان نصف الليل طلعت الشعريان وانصب النسران، وانصبابهما: تدليهما للغروب، فإذا كان ثلثا الليل طلع قلب الأسد والكوكب الفرد بأثره ورأس الغول وغاب النسر الواقع.
وإذا حلت الشمس بوسط الميزان، وغربت هم العيوق بالطلوع وتوسط النسر الطائر، فإذا كان ثلث الليل طلع الناجذ واستقل المرزم، وزاغت الكف الخضيب، فإذا كان نصف الليل استقلت الشعريان، وغاب النسر الطائر، فإذا كان ثلثا الليل استقل قلب الأسد والكوكب الفرد، و توسط الدبران.
العقرب
وإذا حلت الشمس بأول العقرب فغربت، طلع العيوق وتبعته الثريا وزاغ النسر الطائر، وانصب السماك الرامح ، وإذا كان ثلث الليل استقل الناجذ، وقرب طلوع الشعريين، وانصب النسر الطائر، وإذا انتصف الليل طلع قلب الأسد، وزاغ رأس الغول، وغاب النسر الواقع، وإذا كان ثلثا الليل توسط الناجذ وزاغ العيوق، وضجع منكب الفرس وغاب الردف.
إذا حلت الشمس بوسط العقرب توسط الردف وضجع السماك الرامح فإذا كان ثلث الليل أقتربت الشعريان، واقترابهما دون الاستقلال، وضجع النسر الطائر، فإذا كان نصف الليل استقل قلب الأسد والكواكب الفرد، وهم الدبران بالتوسط، فإذا كان ثلثا الليل همت الشعرى العبور بالتوسط، وغاب الردف قبل ذلك، وزاغ المرزم، وانصب الكف الخضيب.
القوس
وإذا حلت الشمس بأول القوس فغربت، طلع الدبران وغاب السماك الرامح اتفاقاً، فإذا كان ثلث الليل توسط رأس الغول، وهم قلب العقرب بالطلوع، فإذا كان نصف الليل هم الناجذ بالتوسط، وزاغ العيوق قليلاً، وغور الردف، فإذا كان ثلثا الليل أشخص السماك، وإشخاصه: إقرانه، وهو نهوضه في المطلع قليلاً، و توسط الشعرى الغميصاء، وزاغت العيوق.
فإذا حلت الشمس بوسط القوس فغربت، توسط منكب الفرس وغورت الفكة، فإذا كان ثلث الليل استقل قلب الأسد، وقارب الدبران التوسط، وطلع الفرد، فإذا كان نصف الليل زاغ المرزم، وغرب قبل ذلك منكب الفرس، وقاربت الشعرى العبور التوسط، فإذا كان ثلثا الليل طلعت الفكة.
الجدي(1/89)
وإذا حلت الشمس بأول الجدي فغربت، طلع الناجذ واستقل المرزم، وتوسطت الكف الخضيب، فإذا كان ثلث الليل زاغ الدبران، وهم الناجذ بالتوسط، وضجع، الردف، فإذا كان نصف الليل طلع السماك الرامح، وغابت الكف الخضيب، وهمت الشعرى الغميصاء بالتوسط، فإذا كان ثلثا الليل هم قلب الأسد بالتوسط، وجنح رأس الغول وتوسط الفرد.
فإذا حلت الشمس بوسط الجدي، فغربت، طلعت الشعريان، وجنح النسر الطائر، فإذا كان ثلث الليل زاغ المرزم، وغاب منكب الفرس، وغاب قبل ذلك الردف، فإذا كان نصف الليل طلعت الفكة، وزاغت الشعرى الغميصاء، فأدبرت فإذا كان ثلثا الليل هم الهراران بالطلوع وغاب الناجذ والدبران ورأس الغول.
الدلو
فإذا حلت الشمس بأول الدلو فغربت، قارب رأس الغول التوسط، واستقلت الشعريان فارتفعتا فإذا كان ثلث الليل طلع السماك الرامح وغابت الكف الخضيب وزاغت الشعرى العبور، فإذا كان نصف الليل قارب قلب الأسد التوسط، فإذا كان ثلثا الليل، طلع الهراران، وهما قلب العقرب والنسر الواقع، وضجعت الشعرى العبور والمرزم.
وإذا حلت الشمس بوسط الدلو فغربت أشخص قلب الأسد، وطلع الفرد وقارب الدبران التوسط، فإذا كان ثلث الليل طلعت الفكة وزاغت الشعرى الغميصاء، فأدبرت بعيداً، فإذا كان نصف الليل غاب رأس الغول، ورجل الجوزاء، وزاغ قلب الأسد، فإذا كان الليل طلع الردف وغور العيوق.
الحوت: وإذا حلت الشمس بأول الحوت فغربت، زاغ الدبران وتوسط العيوق وغور الردف، وهم الناجذ بالتوسط، فإذا كان ثلث الليل قارب الأسد التوسط، واستقلت الفكة فارتفعت، فإذا كان نصف الليل طلع الهراران وجنحت الشعرى اليمانية، فإذا كان ثلث الليل طلع النسر الطائر وغورت الشعرى الغميصاء، وغاب العيوق .
فإذا حلت الشمس بوسط الحوت فغربت، زاغ المرزم، وغاب منكب الفرس قبل ذلك، وهمت الشعرى العبور بالتوسط، فإذا كان ثلث الليل زاغ قلب الأسد، وغور رأس الغول، ورجل الجوزاء، فإذا كان نصف الليل غاب المرزم والشعرى العبور قبيل ذلك، واستقل النسر الواقع، وقارب طلوع الردف، فإذا كان ثلثا الليل توسط السماك الرامح واستقل النسر الطائر.
الباب التاسع
في ذكر البوارح والأمطار
مقسمة على الفصول والبروج، وفي ذكر المراقبة
اعلم أن جميع أمطار السنة ثمانية أصناف، وهي الوسمي والولي والشتيء والدفيء والصيف والحميم والرمضي والخريفي ولكل صنف منها وقت عرفته العرب بمساقط منازل النهار الثمانية والعشرين التي ذكرها الله تعالى في كتابه فقال: )والقمر قدرناه منازل النهار) سورة يس الآية: 39، وبالبروج الاثني عشر لأن كل برج منزلان وثلث من هذه الثمانية والعشرين، وذلك حكم منهم على مناجعهم ومزالفهم بالتجارات، وهو إلى الآن على ذلك، وإن كان كثير من أطراف الأرض وأوساطها يختلف، فقد قيل: إن أهل اليمن يمطرون في الشتاء ويخصبون في الصيف.
قال أبو حنيفة: إذا أحببت أن تستيقن ذلك فانظر إلى زمان مد الذيل، فإنه في صميم القيظ، وإنما يمد من أمطار البلاد التي منها يقبل، وقال بعض أصحاب الخليل، وقد صنف أبواب الانتفاع بالمطر: إن من المغرب من مطره الذي يغيثه وينفعه الخريف، ويكون أكثر مطرهم وأغزره وأنفعه لهم.
وقال أكثرهم: إن مطر الربيع ضار، وهم أهل اليمن ومن يليهم من تهامة. ومنهم من يحسبه الوسمي، وهو مطر الشتاء، ومجيئه الربيع، ويكون الخريف ضاراً يفسد كلأهم ويلبده ، وهم أهل العراق ومن قاربهم من نجد، ومنهم من يصيبه مطر السنة كلفها وهم أهل نجد الذين تاخموا نجدا، أي حاذوهم، وأهل العراق، ومن قاربهم من الشام ونجد، وما بينهما وبين خراسان مطرهم الشتوي والربعي، ومطر اليمن وما قاربها من تهامة الصيفي، والخريفي. قال: ومن تهامة ونجد ما تعمه هذه الأمطار كلها، وكذلك طبرستان والديلم وأرمينية وجبلان وجبل القيق. والعرب تقول: إنه ما اجتمع مطر الثريا في الوسمي ومطر الجبهة في الربيع إلا كان تام الخصب ذلك العام، كثير الكلأ.
وهذا كما حكوا عن الحرم أنه إذا أصاب المطر الباب الذي من شن العراق كان الخصب في تلك السنة بالعراق، وإذا أصاب شق الشام كان الخصب والمطر في تلك السنة بالشام، وإذا عم جوانب البيت كان المطر والخصب عاماً في البلدان.(1/90)
واعلم أنه كما أن لكل نجم نوء فله بارح أيضاً وهي البوارح وهي الرياح. والعرب تقول: فعلنا كذا أيام البوارح، وهي رياح النجم والدبران والجوزاء والشعرى والعقرب وأنشد الأصمعي:
أيا بارح الجوزاء مالك لا ترى ... عيالك قد أمسوا مراميك جوعا
وقال آخر شعراً:
أيذهب بارح الجوزاء عني ... ولم أذعر هوامك بالسنار
وقال آخر شعراً:
أيا بارح الجوزاء مالك لا تجي ... وقد فني مال الشيخ غير قعود
وأحبوا أن تهب رياح الجوزاء حتى إذا طردوا إبلاً وسرقوها عفت الرياح آثارها وآثارهم، فأمنوا أن يقتفى أثرهم، واسم ما يحدث من ريح أو حر بارح على التشبيه بالبارح من الوحش، لأنه قد يطلع مما يلي شمال الناظر، ويأخذ على يمينه كالوحش.
وقال أبو حنيفة: زعم قوم لا معرفة لهم باللغة، أن البارح ضد النوء، وأنه طلوع الرقيب فيقولون: برح الكوكب: إذا طلع، قالوا وذلك لأنه ييامن البيت الحرام إذا طلع ويياسره إذا غرب، وإن قال: خذ من يمينك إلى يسارك فهو بارح. والذي قالوه ليس بمدفوع، لكنا لم نجد. العلماء يعرفون ما قالوه في الكوكب، ولا رووا ذلك عن العرب، قال أبو زيد: البارح: الشمال الحارة يكون في الصيف. وقال الفراء: البوارح: الرياح الصيفية، وسميت بذلك لأنها هي السموم التي تأتي من الشمال، وأنشد لذي الرمة شعراً:
تلوث على معارفنا ونرمي ... محاجرنا شآمية سموم
وقال أبو عمرو: وهي ريح السموم، وقال يزيد بن القحيف: البارح: شدة الريح في الحر، وقال مرار في صحة ما قالوا شعراً:
تراها تدور لغيرانها ... ويهمجها بارح ذو عما
يهمجها: يرمي بها في كنسها، وهي غيرانها، وجعلها ذا عماء لعرئه والعماء أصله في السحاب، وقال الأخطل شعراً:
شرقن إذ عصر العيدان بارحها ... وأيبست عن مجرى السنة الخضر
يقول: جف كل شيء أخضر فلم يبق إلا من درع يسقى. والسنة سنة الحراث، ومجرى السنة الحرث، وقال بعضهم: قيل له بارح: لأنه يبرح بالتراب أي يذهب به، وقيل أيضاً: البارح البين، كما يقال برح الخفاء إذا بان بما كان يخفى. ويجوز أن يكون من البرح، وهو الشدة لما كان ينسب البرد والأمطار والسموم والحرور إلى نوئه معه. ومنه البرح وبرحين وبنات برح وبنت برح. وقال أبو زيد: إذا هبت الجنوب بعد دوام الشمال في ذلك فرسخ أي راحة وفرجة. والرياح أربع بإجماع من الأمم. وإنما اختلفت باختلاف مهابها في أقطار الأرض الأربعة، وهي: مطلع الاستواء ومغربه وجهة القطب الجنوبي وجهة القطب الشمالي، فالتي تهب من مغرب الاستواء هي الغربية وتسمى الدبور، وهي التي سماها الله عقيماً.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: )نصرت بالصبا وأهلكت العاد بالدبور) والتي تهب من جهة القطب الجنوبي هي الجنوب وتسمى الأزيب. والنعامي وهي تهب من جهة القطب الشمالي وتسمى الشمال، وهي الجريباء، ومحوة لأنها تبدد السحاب وتمحوه، ونسعاً ومسعاً وهي الشامية. وقال ابن الأعرابي: مهب الجنوب من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا، ومهب الصبا من مطلع الثريا إلى بنات نعش، ومهب الشمال من بنات نعش إلى مسقط النسر الطائر، ومهب الدبور من مسقط النسر الطائر إلى مطلع سهيل، والجنوب والدبور لهما هيف وهو الرياح الحارة الصيفية، والصبا والشمال لا هيف لهما. والعرب تجعل أبواب بيوتها حذاء الصبا ومطلع الشمس.
وقال الأصمعي: ما بين سهيل إلى طرف بياض الفجر وما بإزائها مما يستقبلها شمال وما جاء من وراء بيت الله الحرام، دبور، وما كان قبالة ذلك فهو صبأ وقال غير الأصمعي وابن الأعرابي: الجنوب التي تهب عن يمين القبلة شتاء والصبا بإزائها، وقالوا كلهم كل ريح تهب بين مهبي ريحين فهي نكباء، لتنكبها عن المهاب المعروفة، والجمع نكب، وتميل في طبعها إلى الريح التي في مهبها أقرب إليها.(1/91)
وقال أبو زيد: النكباء التي لا يختلف فيها: هي التي بين الصبا والشمال والنكباء ذات ثمان، لأن بين كل ريح وأختها ريحين، وكل واحدة إلى جنب صاحبتها وهبوبها في أيام الشتاء أكثر، ومن رياح الشتاء الحرجف والبليل، ومن رياح الصيف الهيف والسموم والحرور، فإن هبت ليلاً في ابتداء الربيع فهي الخاسة. وسيجيء القول في أجناس الرياح مستقصى في موضعه، واللواقح تهب في الربيع لا غير، وهي الجنوب، والصبا والشمال وتسمى المستثابات، ومعناه المستنقعات من الثواب، ويجوز أن يكون المسؤولات النؤب أي الرجوع. وروى ابن الأعرابي أنه قل ما تهب الشمال إلا وإذا جاء الليل ضعفت أو سقطت ولذلك قالوا في أحاديثهم: إن الجنوب قالت للشمال إن لي عليك فضلاً أنا أسري وأنت لا تسرين، فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بالليل وهذا كما ترى.
وقال أبو زيد: إن أكثر هبوب الشمال بالليل، وأنه قلما ينتفج من الرياح بالليل إلا الشمال، وربما انتفجت على الناس بعد نومهم، فتكاد تهلكهم بالقر من آخر ليلهم وقد كان أول ليلهم دفيئاً، وهذا الخلاف فيما أتين لاختلاف البقاع، وتفاوت الأزمان والله أعلم. وأنشد الأصمعي يصف الناس:
تصيفين حتى أوجف البارح السفا ... ونشت جراميد اللوا والمصانع
فالمصانع وإيجاف البارح السفا: مر به على وجه الأرض، وهو من الوجيف وهو السرعة، والسفا ماتساقط من يبيس البقل، وقال أيضاً:
ألفن اللوى حتى إذا البروق ارتمى ... به بارح راح من الصيف شامس
والبروف من دفيء النبت: وفي المثل: أشكر من البروق، لأنه ينبت بالغيم والراح الشديد من الريح، ويشبه هذا قوله:
أقمن على بوارح كل نجم ... وطيرت العواصف بالتمام
والبارح مذكر، وإن كانت الريح مؤنثة.
قال أبو حنيفة: قد حكى بعضهم أن العرب كانت تقول لا بد لنوء كل كوكب من أن يكون فيه مطر أو ريح أو غيم أو حر أو برد ثم كانوا ينسبون ما كان فيه إليه، والأعم الأشهر أن الأمطار مقصور ذكرها على الأنواء خاصة فما يكاد يسمع بشيء منها منسوباً إلى طلوع ولا يحفظ، وأما البوارح فأكثر الأمر فيها أن ينسب إلى طلوع نجوم الحر خاصة لأنها رياح الصيف، وربما نسب شيء منها إلى النوء وذلك قليل.
وقال ذو الرمة:
حدا بارح الجوزاء أعراف موره ... بها وعجاج العقرب القناوخ
الأعراف: الأوائل، المور: الغبار وأراد بعجاج العقرب: عجاج بارح العقرب كقوله: شفها هبوب الثريا والتزام التنائف، أراد هبوب بارح الثريا فهذا ذكر البوارح.
فصل
في المراقبة والمطالعة
واعلم أن لكل برج ومنزل رقيباً من المنازل والبروج، فرقيب كل برج البرج السابع، ورقيب كل منزل المنزل الخامس عشر، ومعنى الرقيب الذي في غروبه طلوع الآخر، وهو مأخوذ من المراقبة، لأنه يراقب بالطلوع غروب صاحبه. قال شعراً:
أحقا عباد الله أن لست لاقياً ... بثينة أو تلقى الثريا رقيبها؟
والمعنى لست لاقيها أبداً، لأن هذا لا يكون أبداً، وكيف يلقيان وأحدهما إذا كان في المغرب كان الآخر في المشرق. وقال:
قدورهم تغلي أمام قبابهم ... إذا ما الثريا غاب قصراً رقيبها
فمراقبة الأبراج للأبراج والمنازل للمنازل، على ما ذكرناه، ومن هذه البروج ما يشاكل اسمه صورته كالعقرب والحوت، ومنها ما لا يشاكل اسمه صورته، والبروج الاثنا عشر سمي بعضها بأسماء. فالحمل يسمى: الكبش، والجوزاء: التوءمين، والسنبلة: العذراء، والعقرب: الصورة، والقوس: الرامي، والحوت: السمكة. ويسمى أيضاً الرشاء، ولكل برج منزلان وثلاثة من منازل القمر، حتى يستوفيها. فالحمل رقيبه الميزان، والثور رقيبه العقرب، والجوزاء رقيبه القوس، والسرطان رقيبه الجدي، والأسد رقيبه الدلو، والسنبلة رقيبه الحوت.
والمطالعة هو أن يطلع نجمان معاً، أو متقاربين، ولا يكون ذلك في نجوم الآخذ ولا يطلع نجمان منها معاً، ولكن يكون في غيرها، وفيها مع غيرها وذلك كمطالعة الثريا بالعيوق ولذلك يقول شاعرهم:
فإن صديا والمدامة ما مشى ... لكالنجم والعيوق ما طلعا معاً
ومطالعة الشعرى الغميصاء الشعرى العبور، ومطالعة الأعزل للرامح، ومطالعة النسر الطائر للعنا، ومطالعة الجبهة سهيلاً، فإن كل نجم إذا طلع معه الآخر أو قريباً.(1/92)
وأنشد أبو العباس أحمد بن يحيى:
وصاحب المقدار والرديف ... أفنى الوفا بعد ألوف
الرديف النجم الذي إذا نأى من المشرق انغمس رقيبه في المغرب، وإنما يعني أن تعاقب النجوم على مر الدهور ولا يبقى أحد.
الباب العاشر
في ذكر الأعياد والأشهر الحرم
والأيام المعلومات، والأيام المعدودات، والصلاة الوسطى
حكى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: سألت أعرابياً فصيحاً فقلت: ما الأشهر الحرم؟ فقال: ثلاثة سرد، واحد فرد. قال ثعلب: فالسرد المتتابعة وهو ذو القعدة وذو الحجة والمحرم والفرد: رجب. وهذا قول ابن عباس ويكون من سنتين، وقال غير ابن عباس: هي من سنة واحدة فعددها المحرم وهو أولها والثاني: رجب والثالث: ذو القعدة والرابع: ذو الحجة، واحتج هذا بأنه قال تعالى: )منها أربعة حرم) سورة التوبة، الآية: 36 يعني من الاثني عشر، فجعلها من سنة واحدة.
قال ثعلب: والاختيار عندي قول ابن عباس وهو كلام العرب، وإن كان لفظها من سنتين فهي تعود إلى الاثني عشر إلى سنة واحدة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: )دخلت العمرة في الحج) أي في أشهر الحج ولم تكن العرب تعرف العمرة في أشهر الحج، بل كانت العمرة فيها عندهم من أفجر الفجور، وكانوا يقولون: إذا انسلخ صفر، ونبت الوبر، وعفا الأثر وبرأ الدبر، حلت العمرة لمن اعتمر. فلما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: في أشهر الحج دخلت العمرة في الحج، أي في أشهرها، وروى سفيان بن عيينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتب لآل حزم: )إن العمرة الحج الأصغر(، فدل كلامه على أن ثم أكبر.
وروي عن عطاء أنه قال: من اعتمر ثم مات ولم يحج أجزأت عنه حجة الإسلام، يذهب إلى قوله تعالى: )ولله على الناس حج البيت) وروي عن علي كرم الله وجهه: الحج الأكبر يوم النحر، محتجاً بقوله تعالى: )فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) سورة التوبة، الآية: 2 وهي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر قال: فلو كان يوم عرفة لكان أربعة أشهر ويوماً، وكان ابن عباس يقول: الحج الأكبر يوم عرفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم: خرج مهلاً بالحج ويقول بعضهم: خرج لعمرة، وقال بعضهم خرج قارناً وإنما خرج ينتظر أمر الله، وعلم الله أنها حجة لا يحج بعدها فجمع ذلك كله له في شهر واحد، ليكون جميع ذلك سنة لأمته فلما طاف بالبيت ثم رأى أن يجعلها عمرة، وحبس من كان معه على هدي، لقوله تعالى: )حتى يبلغ الهدي محله) سورة البقرة، الآية: 196 فجمعت له العمرة والحج.
وقد قال قوم: إن الأربعة الحرم هي التي أحلها رسول الله صلى الله عليه وسلم: للمشركين فقال: )فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) سورة التوبة، الآية: 2 وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. ثم قال: )فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) سورة التوبة، الآية: 5، وقالى: إن الأربعة التي جعلت حلاً من عشر ذي الحجة إلى عشر من ربيع الآخر، وجعلها حرماً، كما قال: مكة حرم إبراهيم، والمدينة حرمي. وروي أيضاً أنه حرم ما بين لابتي المدينة يعني حرتيها، وفي آخر حرم ما بين عير إلى ور وهما جبلان. فأما قوله تعالى: )الحج أشهر معلومات) سورة البقرة، الآية 197 فإنه يريد أوقات الحج أشهر، أو أشهر الحج أشهر. وهذا خطاب يدل على معرفة العرب بشهور معلومة كانوا فيها يحجون، فأقر الله أمرها في الإسلام على ما كانت عليه ودعا إلى إقامة الحج فيها.
واعلم أنها أوقات الحج دون غيرها، وأن من فرض على نفسه فيها الحج فمن السنة أن يترك الرفث والفسوق والجدال، ومعنى فرض الرجل على نفسه الحج إهلاله به، والإهلال التلبية، وأصله رفع الصوت. وروي عن الشعبي وابن عمر أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة وقال بعضهم: له من ذي الحجة عشر ليال، فكأنه جعل الشهرين وبعض الثالث أشهراً، وهذا في القياس قريب لأنه كما جاز أن يسمى الشهر ذا الحجة، وإن كانت الحجة في بعض أيامه، كذلك يجوز أن يسمى شهر الحج، وإن لم يكن جميع أيامه مصروفاً إليه.(1/93)
وحكي عن ابن عباس أنه قال: الأيام المعدودات أيام التشريق، والأيام المعلومات الأيام العشرة من أول ذي الحجة. وقال عطاء: الأيام المعدودات أيام منى ويوم التروية، سمي بذلك لأنهم كانوا يتروون من الماء، ويتزودونه معهم، ويوم عرفة لا يدخله الألف واللام، وإنما سمي عرفة وعرفات، لأن من حضرها كانوا يتعارفون بها. وقال بعضهم: بل لأن جبرائيل عليه السلام طاف بإبراهيم صلوات الله عليه يديره على المشاهد، ويوقفه عليها، ويقول له: حالاً بعد حال عرفت عرفت، والعروف الحدود، والواحد عرفة. وقيل: سميت عرفة بذلك كأنه عرف حده لتميزه عن غيره من الأرضين، ولكونه معرفة امتنع من دخول الألف واللام عليه. وحكي؟ طار القطا عرفاً عرفاً، بعضها خلف بعض.
وأما الأعراف: فكل موضع مرتفع عند العرب ومنه قوله تعالى: )وعلى الأعراف رجال(، سورة الأعراف، الآية: 46 ولا يمتنع أن يكون عرفة وعرفات مشتقاً من جميع ذلك والتعريف: الوقوف بعرفات، وتعظيم يوم عرفة إن نصب الضالة فتنادي عليه وإن سميت رجلاً بعرفات صرفته، ولم يكن التاء فيه كالتاء من عرفة لو سميت بها، وذلك أن التاء من عرفات بإزاء النون في المسلمين، إذ كان هذا الجمع من المؤنث بإزاء جمع المذكر الصحيح، ولذلك لما كان ذاك في موضع النصب والجر بالياء، جعل هذا في موضع النصب والجر بالكسرة، لأن الكسرة أخت الياء، فلما كان الأمر على ذلك لم يكن كالتاء التي يبدل منها فى الوقف هاء كالتي في طلحة وعزة، وكان يمتنع الصرف في المعرفة. وفي القرآن: )فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) سورة البقرة، الآية: 198 فصرفه وإن كان معرفة.
ومشاعر الحج واحدها مشعر وهو في موضع المنسك، وكذلك الشعيرة من شعائر الحج وهي علاماته وأفعاله المختصة به، كالسعي والطواف والحلق والذبح، وكل ذلك يجوز أن يكون من شعرت، وليت شعري، فيرجع إلى العلم كما أن عرفة وعرفات في تصاريفه يرجع إلى المعرفة، وفي القرآن: )والبدن جعلناها لكم من شعائر الله(، سورة الحج، الآية: 36 وقال الخليل: يقال: أشعرت هذه البدنة لله نسكاً أي: جعلتها شعيرة تهدى، قال: وقال بعضهم: إشعارها أن يوجأ سنامها بسكين فيسيل الدم على جنبها فيعلم أنها هدي. أو يعلم بعلامة تشد في سنامها. وكره قوم من الفقهاء تدميتها، وقالوا: إذا قلدت فقد أشعرت.
وقوله تعالى: )يوم الحج الأكبر) سورة التوبة، الآية: 3 قيل: هو يوم النحر، وقيل: هو يوم عرفة وكانوا يسمون العمرة: الحج الأصغر.
ويوم النحر: سمي به لأنهم كانوا ينحرون البدن.
ويوم القر: بعده، وهو الذي يسميه العامة يوم الرؤوس وسمي بذلك لأن الناس يستقرون فيه بمنى لا يبرحونها.
ويوم النفر: سمي به لأن الناس ينفرون فيه متعجلين.
ويقال: عيد الفطر، وعيد الإفطار، وعيد الضحى والعيد أصله من عاد يعود لعوده كل سنة، لكن واوه انقلبت ياء لانكسار ما قبلها، ثم جعل البدل لازماً حتى كأنه اسم وضع لليوم، لا مناسبة بينه وبين المشتق منه، وهم يفعلون مثل هذا إذا أرادوا التخصيص، لذلك قيل في تصغيره: عييد، وفي جمعه: أعياد ولم يجر مجرى قوله: ريح ورويحة وأرواح، ومما يشبه هذا قوله: يا دارمية بالعلياء فالسند هو من العلو، فقلب الواو ياء، وقوله: فما أم خشف بالعلاية مشدن. مثله وليس قبل واحد منهما ما يوجب القلب، لكنهم يفعلون ذلك كثيراً في الأعلام وما يجري مجراها، وقد قالوا: الشكاية وحبيت الخراج حباوة ونحو منها، ما حكاه سيبويه من القواية قال عمرو بن براقة:
ومال بأصحاب الكرى عالياتها ... فإني على أمر القواية حازم
وهو فعالة من القوة، وأصلها قواوة وكأنه كره اكتناف الواوين للألف.
والأضحى، إذا ذكر: يراد به اليوم، وإذا أنت أريد به الساعة، والتأنيث أجود.
ويقال: دنت الأضحى، وقيل: سميت الأضحية لأنها تذبح ضحوة.
والفطر: من فطرت الناقة إذا حلبتها فانفتحت رؤوس أخلافها لأن الأفواه تنفتح با لأكل والشرب، ويقال: أضحاة وأضحى وضحية وضحايا والأضحى يذكر ويؤنث، فمن ذكر ذهب إلى اليوم، وأنشد الأصمعي:
رأيتكم بني الحدواء لما ... دنا الأضحى وصللت اللحام
وأنشد الثوري في تأنيثه:
قد جاءت الأضحى ومالي فلس ... وقد خشيت أن تسيل النفس(1/94)
وقال هشام بن معاوية: حكى الأصمعي: أضحاة وسمي الأضحى بجمع أضحاة فأنث لهذا المعنى وجاء في الحديث: على كل مسلم عتيرة وأضحاة. وقال هشام: التأنيث في الأضحى أكثر من التذكير، وجمع الأضحية أضاحي، وجمع الضحية ضحايا.
وأيام التشريق سميت بذلك لأن لحوم الأضاحي تشرق للشمس، وقيل: بل سميت بذلك لقولهم: أشرق ثبير كيما نغير، وقال ابن الأعرابي: سميت بذلك لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس.
وقال أحمد بن يحيى: أنا أذهب إلى أن الأيام المعلومات في الأيام المعدودات لأنه جاء في كتاب الله تعالى: )ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام(، سورة الحج، الآية: 28 فدل على أنها أيام نحر.
ويوم عاشوراء في المحرم، ويقول الفقهاء: يوم عاشوراء التاسع من المحرم، وحكى بعضهم أنه سئل النضر بن شميل عن التشريق، فقال: هو من قولهم أشرق ثبير: أي لتطلع الشمس، وقيل: أيام التشريق: لأنهم يشرقرن اللحم، قال: فقلت له: إن وكيعاً حدثنا عن شعبة عن سيار عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )لا ذبح إلا بعد التشريق) فقال وكيع التشريق الصلوة، قال: هذا حسن. قال النضر: وقد جاء في الحديث: )لا جمعة ولاتشريق إلا في مصر جامع، والتفسير موافق للحديث، فأما قول أبي ذؤيب بصفا المشرق كل يوم يقرع فقد حكى عن أبي عمرو الشيباني أنه أنشد بصفا المشقر فأنكره، وقال: المشقر حصن بالبحرين، والصفا موضع، فما لأبي ذؤيب والبحرين، إنما هو المشرق، وكان الأعرابي يرويه المشقر، وحكي عن الأصمعي أنه أنشد كل يوم، فقال الله أكرم من ذاك هو كل حين. ذهب الأصمعي إلى أن الحج يقال: كل سنة لا كل يوم، والحين يقع في كلامهم على المدة الطويلة والسنين الكثيرة. وقال الأصمعي: المشرق المصلى، ومسجد الخيف هو المشرق. وقال شعبة بن الحجاج: خرجت أقود سماك بن حرب في يوم عيد، فقال: امض إلى المشرق يعني المصلى. وقيل: يعني مسجد العيدين، وقال أبو عبيدة: المشرق سوق الطائف، وقال الباهلي: جبل البرام.
بيان الصلاة الوسطى
فأما الصلاة الوسطى: فقد اختلفوا فيها: فروي عن علي كرم الله وجهه أنه الفجر وقال غيره: هي العصر، وقد جاء القرآن في توكيد أمر الفجر بما يصحح قول علي فيه قال تعالى: )أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً(، سورة الإسراء، الآية: 78 وكلتا الصلاتين متوسطة لسائر الصلوات، فإذا جعلت صلوة الفجر الوسطى فهي بين صلوات الليل والنهار والنهار: الظهر والعصر، واليل العشاء أن الأولى والآخرة. وإذا جعلت العصر هي الوسطى: فهي متوسطة بين الفجر والظهر صلاة النهار. والعشائين الأولى والآخرة من صلوات الليل، وقوله تعالى: )الصلاة الوسطى) سورة البقرة، الآية: 238 مؤكد للدلالة على أن الصلوات المفروضات خمس لا زيادة فيها، ويزيل الئأويل فيما ذهب إليه بعض المتفقهة من فرض الوتر، بالخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إن الله زادكم صلوة وهي الوتر) وقد يزيد الله الناس مما يدعوهم إليه أعمال البر مما هو فضيلة لفاعله، ونافلة للمتقرب به ولا يكون في قوله: )زادكم صلاة) ما يوجب الفرض، ولو كان الوتر فريضة لكانت عدة الصلاة المفروضات ستاً، والست لا أوسط لها، ولا وسطى، وإنما الوسط للإفراد، لأنها تكون منها واسطة وحاشيتان متساويتان، كالخمس فإنها اثنان في أحد الطرفين، واثنان في الآخر، وواحد في الوسط ويجوز أن يكون معنى الوسطى: العظمى والكبرى، يراد بذلك فضل محلها، وزيادة ثوابها والله أعلم أي الوجهين هو المراد. وقوله تعالى: )الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص) سورة البقرة، الآية: 194يقول: حرمة الشهر تجب على الفريقين في الكف عن القتال لكن الكافر إذا اعتدى، فليس على المؤمن أن يقبض يده، ويلقي بها إلى التهلكة، بل إذا قوتلوا في الأشهر الحرم كان مطلقاً لهم، ومفروضاً عليهم قتالهم فيها.(1/95)
وقوله تعالى: )الحرمات قصاص) سورة البقرة، الآية: 194 معنى القصاص: أن تفعل بصاحبك مثل الذي هو فعل بك، فإذا قاتلت الكافر في الشهر الحرام كما قاتلك فقد قاصعته وفعلت مثل فعله، وقوله تعالى: )فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه(، سورة البقرة، الآية: 194 معناه: جازوه جزاء الاعتداء، فسمى الجزاء باسم الاعتداء، طلباً للمطابقة في اللفظ، وإيذاناً بأن الثاني كالفرض المؤدى، فالمواصلة فيه مرعية.
فصل
حكى الأصمعي أن العرب ربما تذكر اسماً تعلق الأحداث بها فيخرجونها مخرج الصفات والأفعال منسوبة، ولشهرتها وظهور الفرض منها استجيز معها ما لم يستجز في غيرها، ولا يتقايس، فمن ذلك: لا آتيك مغرى الغرر، أي حتى يجتمع وذلك لا يكون أبداً ولا آتيك أبي هبيرة، قال: وأبو هبيرة هو سعد بن زيد مناة بن تميم، ولا آتيك هبيرة بن سعد، ولا آتيك القارظة الغزى، وقولهم: زمن الفطحل: أي حين كانت الحجارة رطبة قال:
لو أنني عمرت عمر الحسل ... أو عمر نوح زمن الفطحل
كنت رهين هرم أو قتل
جعل الموت حتف الأنف والقتل سواء، أو عام الفتق قال رؤبة: لم ترج رسلاً بعد أعوام الفتق، يشيرون بذلك إلى زمن الخصب والخير كأن جلود الأكلة والراعية لسمنها فتقت فتقاً، وكأن ظواهر الأرض وبطنانها فتقت بالنبات، ويقال: آتيه قيظ عام أول، وما تركت من أبيه مغداً ولا مراحاً ولا مغداة ولا مراحة، يعني من الشبه به، وبعضهم يقول: ولا رواحا ولا رواحة ولا أكلمك آخر المنون، وأخرى المنون، ولا أكلمه آخر ما خلقي، يريد آخر عمري أي ما بقيت.
وقال يعقوب: يقال: آخري ما خلقي، ومنهن أزمان الجنان، وهذا يشيرون به إلى الشر والآفات وأنشد:
فمن يك سائلاً عني فإني ... من الفتيان أعوام الخنان
يقال: خن الرجل وهو مخنون: إذا ضاقت خياشيمه حتى يجيء كلامه غليظاً لا يكاد يفهم، وقال جرير: وأكوي الناظرين من الخنان، والخنان داء يعتري العين، وقال الخليل: الخنان في الإبل كالزكام في الناس، وقال الدريدي: زمن الخنان معروف، ولم أسمع من علمائنا تفسير أو ذكر بعضهم أنه يضرب بالخنان المثل في البلاء والشدة لأن البعير إذا خن كوي ناظراه وهما عرقان. قال:
قليلة لحم الناظرين يزينها ... شباب ومخفوض من العيش بارد
يصف امرأة وعلى هذا تفسير بيت جرير: وأكوي الناظرين من الخنان: أي من داء الكبر، ويكون كقوله: يداوي به الصاد الذي في النواظر.
وذكر بعضهم: خن في الأكل: أسرف، ونحن في خنان من العيش، وسنة مخنة أي مخصبة، وقد أخنت، وعشب أخن أي ملتف. قال الشيخ: وهذا الذي فسرناه أخيراً يصلح أن يصرف زمن الخنان إلى الخير والسعة أيضاً، إلا أن ما أنشده الأصمعي ورواه يدل على خلافه، وذكر بعضهم أن الخنان أصله أن رجلاً من العرب غزا قوماً في الجاهلية، فلما فرق الغارة فيهم قال: خنوهم بالسيوف، فشهر يومه بزمن الخنان، وفسر خنوهم، على نذودهم.
واعلم أن القبائل مختلفة ولم أذكرها لقلة فوائدها، وإن كان قطرب وغيره دونوها في كتبهم في الأزمنة وأسماء آلهتهم كيغوث ومناة ويعوق ونسر وهبل وما أشبهها، وذكر مطافهم ودورهم وما يتعلق بأيامهم وأعيادهم وأسواقهم تجاوزتها لأن ما نعيد منها لا تحل به في موضعه من الكتاب وتطويل الكلام بما ليس من الموضوع في الأصل مرفوض في مصنفاتنا.
الباب الحادي عشر
في ذكر سحر وغدوة وبكرة وما أشبهها
والحين والقرن والآن وإيان وأوان والحقبة والكلام في إذ وإذا وهما للزمان وما أشبهها قال أبو العباس محمد بن يزيد: اعلم أن المعرفة إذا أخبر عنها بنكرة فإنها توجب فيها مثل ما يكون لها لو كانت معرفة بنفسها، وكذلك النكرة إذا أسند إليها معرفة، والذي جعلها على هذا كونها خبراً عن معرفة، ولو انفردت عنها لم يكن كذلك، يقول: زيد منطلق فالعلم أن المنطلق هو زيد جعله مختصاً كزيد، ولو انفرد لكان شائعاً، وعلى هذا ما يقرب من النكرات بالصفات وما يجري مجراها كقولك كان عند رجل من آل فلان، وويل لزيد، لذلك يستفاد منه ما يستفاد من المعارف، أو تقاربه، فعلى هذا ما سمعنا بقول: سير عليه عشية أو غدوة أو ضحوة وكل ذلك نكرة لا يكون واحد من أمته أولى به من الآخر، ولا يوم من الأيام أحق بتعلقه به.(1/96)
فإذا قلت: سير عليه يوم الجمعة عشية، أو ليلة الجمعة عتمة، وأنت تريد ذلك من يومك وليلتك، لم يكن عشية ولا عتمة وما كان مثلهما إلا نكرات في الأصل ولوصفك إياهن موضع المعرفة ضعفن وامتنعن الصرف، فلم تكن إلا ظروفاً منصوبة بوقوع الفعل عليها، ولم يقمن مقام الفاعل، كما كان يجوز فيهن إذا قلت: سير عليه عشية من العشيات، وضحوة من الضحوات، لأن الظروف إذا قوين في أبوابه فعلن مفعولات على السعة، وأقمن مقام الفاعل، ووضعن موضع الخبر مرفوعات، كقوله تعالى: )موعدكم يوم الزينة(، سورة طه، الآية: 59 وكقولهم: أقمنا ثلاثاً لا أذوقهن طعاماً ولا شراباً، وسير به يوم الجمعة، وكقول لبيد شعراً:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها
فعلى هذا يدور أمرهن، وإذا هن نكرات، أو كن معارف بأنفسهن فأما إذا وضعن وهن نكرات في موضع المعارف، فقد أزلن عن بابهن وعرفهن غيرهن فلم يجز أن يخرجن من الظروف إلى غيرها إذ كن قد أزلن عن أصولها فإذا قلت: آتيك ضحوة يومك وعشاءه، لم يكن سبيله سبيل ما هو عام فيما وضع له، فلا يحصل به اختصاص، بل هو موضوع موضع الضحوة بالعرف، فصار يجري مجرى المعهود للمخاطب، أو المضاف نحو قولك: ضحوة يومي وإذ كان كذلك بان الفرق بين الموضعين، لأن حكم اسم الجنس أن يكون شائعاً في الأصل.
ثم يحصل التعريف فيه بوجه من الوجوه المعروفة وقولهم: عتمة مصدر مثل الغلبة ومعناه الإبطاء والتأخر قال:
يذكرني ابني السماكان موهناً ... إذا طلعا خلف النجوم العواتم
إلا أنه يستعمل ظرفاً كما استعمل غيره من المصادر ظرفاً، كخفوق النجم، وخلافة فلان، وغير ظرف أيضاً يقول: سير عليه عتمة فينتصب انتصاب اليوم والليلة ويجوز أن يسند إليه الفعل، فيقال: سير عليه عتمة من العتمات، فيدخل الألف واللام وقد يلزم الظرفية فلا يتتقل وذلك إذا أردت به عتمة ليلة، هذا مذهب سيبويه وكان الأخفش يقول: ضحوة وعتمة إذا كان في يومك لرفعهما أيضاً، حتى أخذ العرب تمنع منه.
فأما غدوة فإنه اسم مشتق من قولك: غداة، فلفب به الوقت، فصار علماً له كما وضع زيد علماً للرجل، فلذلك منع الصرف، إذا قلت سيرته غدوة، لأنه معرفة، وجاز فيه ما جاز في يوم الجمعة وأشباهه، لأنه معرف من جهة التعريف، يقول: سير بزيد غدوة وإن شئت نصبت على أصل الظرف، ويكره فيها مثل ذلك إذا حملتها على غدوة، لأن المعنى واحد، وإن أردت أن تجعلها كعشية وضحوة، فجيد، وإنما جعلوها معرفة تشبيهاً بما كان في معناها وهي غدوة، لأنها غيرت بالتعريف كما غيرت غدوة وامتنعت من الألف واللام، ونظير جعلهم نكرة بمنزلة غدوة، إذ كانت في معناها رفع الاسم ونصبهم بها الخبر وإجراءها مجرى ليس، إذ كانت في معنى ليس وإن ثبت تركها غير مشبهة فرفعت ما بعدها، وكذلك قولك: ودع يدع إنما كان الكسر نحو يعد ويزن، ولكن تعين فتحها وأجريت يذر مجراها لأنها في معناها ولأن الفتحة أخف ولهذه نظائر.
فإن قلت: قد قرأ أبو رجاء المطاردي بالغدوة والعشي، فجعلها شائعة كما تقول: جاءني زيد وزيد، تريد جماعة اسم كل واحد منهم، فيقول المجيب: ومن الزيد الأول والزيد الآخر. وهذا الزيد أشرف من ذاك الزيد، وعلى ذلك كانت تثنية المعرفة وجمعها إذا كانت غير مضافة يخرجها إلى النكرة، لأن كل واحد يصير مرامه لكل واحد منها مثل اسمه، وتضيف زيداً وما أشبهه كما تضيف النكرة لأنه يصير معرفة بما أضيف إليه، كما قال الشاعر:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... بأبيض من ظامي الحد يديمان
فإن تقتلوا زيداً بزيد فإنما ... أقادكم السلطان بعد زمان
وأما قوله تعالى: )ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً) سورة مريم، الآية: 62، فإن ذلك نكرة ليس يريد كل بكرة وكل عشية، وإنما تأويله والله أعلم: أن الجنة لا ليل فيها يفضي إلى نهار، ولا نهار يتصل بليل، ولا شمس، ولا قمر إنما هو في مثل مقادير العادة في الدنيا.(1/97)
وعلى هذا جاء الحديث: )نهار الجنة سجسج): إنما المعنى أنه أبداً كالنهار وقوله: سجسج أي معتدل لا برد فيه ولا حر. فإن قلت: كيف جاز أن يصير ما حكمه أن يكون شائعاً فيما يصلح له مختصاً ببعضه، حتى زعمت في هذه الأسماء ما زعمت. قلت: ذلك لا يمتنع في عادتهم وطرقهم، ألا ترى أن قولهم: ابن عباس يختص بعبد الله حتى لا يعلم منه غيره، وإن للعباس أولاداً دون عبد الله، وكذلك قولهم: ابن الزبير اختص به عبد الله فيما استمر من العادة.
فأما سحر: فإنك تقول: سير عليه سحر، فلا ينصرف ولا يتصرف إذا أردت سحر يومك، ومعنى لا يتصرف لا يتمكن تمكن أسماء الأزمان في أبوابها. ومعنى لا ينصرف: لا يدخله الجر والتنوين. فأن أردت سحراً من الأسحار وهو في موضعه نكرة، فلا مانع له من الصرف والتمكن، ونقول: إن سحراً جزء من آخر الليل، وفي سحر وقع الأمر. وقال الله تعالى: )إلا آل لوط نجيناهم بسحر) سورة القمر، الآية: 34، وعلى هذا إن أدخلت الألف واللام تقول: سير به السحر المعروف، وإنما منع الصرف حين قلت: آتيك سحر، وأنتظر سحر لأنه معدول عما فيه الألف واللام.
وكان شيخنا أبو علي الفارسي يختار أن يقال: إنه معدول عن أحوال نظائره ألا ترى أن أخواته إذا عرفت جاءت بالألف واللام فهو جار مجرى أخر، وجمع في العدل وإن كان آخر نكرة وسحر وجمع معرفتان، وقد بينا الكلام فيه فيما يجري ولا يجري، وإنما لم ينصرف لأنه بلفظ النكرة موضوع موضع المعارف من غير أن جعل علماً، فهو مناسب لضحوة وعتمة إذا جعلا من يومك الذي أنت فيه.
قال أبو علي الفارسي: دخول الألف واللام في عتمة إذا أردت عتمة ليلة لا أعلمه استعملت الكلمة بهما. وسيبويه لم يذكره ولا يجوز حمله على ضحوة وغدوة وبكرة قياساً كما يقوله الأخفش، فيرفع وينصب. قال: ويقوي ما ذهب إليه سيبويه من أن عتمة لا يستعمل إلا ظرفاً إذا أردت به عتمة ليلتك، أن ما أشبهها من الظروف لم يستعمل إلا ظروفاً. فمن ذلك: سير عليه ضحى وصباحا ومساء وعشية وعشاء، إذا أردت بجميعها ما ليومك وليلتك، وكذلك سير عليه ليلاً ونهاراً، أشبه بالمصادر وقد جعلت ظروفاً.
فإن قيل: إن ضحى إذا أريد به ضحى يومه مثل عتمة، وقد دخله لام التعريف في قوله: أبصرته في الضحى يرمي الصعيد به.
وفي قوله: نؤوم الضحى قلت: إن هذا قد خرج من أن يكون ظرفاً لمكان الإضافة إليه، ودخول حر ف الجر عليه فاعلمه، فإن قيل: لم خص بعض أسماء أوائل النهار بأن جعل علماً وبعضها بأن جعل معدولاً من دون أسماء أجزائه الباقية. قلت: لما كانت المواعد والحاجات استمرت العادة في أنها أكثر ما تعلق تعلق بأوائل النهار دون أوساطه وأواخره. وكثر الأستعمال فيها لذلك استيجز فيها ما لم يستجز في غيرها من التغيرات، يشهد لهذا أنهم أقاموا مقام الأزمنة ما ليس منها، وذلك كالمصادر نحو خفوق النجم، وخلافة فلان، وكصفات الزمان نحو: قليل وكثير وقديم وحديث. وهذا ما حضر في قولهم سحر وغدوة وبكرة ونظائرها وفيه كفاية.
فصل
في المحدود من الزمان وغير المحدود
قال أبو عمرو وغيره: الزمان ستة أشهر، والحين ستة أشهر، قال الله تعالى: )تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي: الزمان عندهم أربعة أشهر ويقال: شيء مزمن أي أتى عليه زمان، وكان الزمانية فيه لامتدادها.
وقال ابن الأعرابي: يقال من الزمان زمنة، وزمن ومن الزمانة أيضاً يقال: به زمنة وزمن، ويقال: لقيته في الزمن بين الزمنين، ألا تراه قد حد للقاء وقتاً، وللفراق وقتين، وكل قريب، ويقال: لقيته زامت الزمين أي ساعة في مدة من الدهر يسيرة. وقال غيرهم: الحين الوقت في كل عدد، والملا غير مهموز مثله، ويقال: الحين سبع سنين، واحتج بقول تعالى: )ليسجننه حتى حين(، وقيل هو أربعون سنة لقوله تعالى: )هل أتى على الإنسان حين من الدهر(، سورة الإنسان، الآية: 1 وذاك أنه روي في الخبر أن آدم عليه السلام أتى عليه بعد خلق الله إيهاه وهو طين أربعون سنة ثم نفخ فيه ولم يدر ما هو.(1/98)
وقيل: الحين ثلاثة أيام لقوله تعالى: )إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين(، سورة الذاريات الآية: 43 فكان فيما روى ذلك القدر. وقال آخرون: ثلاث مرات في اليوم لأنه تعالى قال: فسبحان الله حين تمسون(، سورة الروم، الآية: 17 إلى و )حين تظهرون) سورة الروم الآية: 18 قالوا: وهذا يقتضي أن يكون في قوله تعالى: )ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون(، سورة النحل، الآية: 6 غدوة وعشية قال الثسيخ: المحصل الصحيح أن قولهنم: الحين لما يتطاول من الزمان ويتقاصر ويكون محدوداً أو غير محدود.
وقد حكي عن أبي زيد وأبي عبيدة ويونس أن الدهر والزمان والزمن والحين يقع على محدود، وعلى عمر الدنيا من أولها إلى آخرها. قال الأعشى شعراً:
لعمرك ماطول هذا الزمن ... على المرء إلا عناء معن
يريد به الوقت الممتد وقيل في قوله تعالى: )ولتعلمن نبأه بعد حين) سورة ص، الآية: 88 أراد يوم بدر وقيل: أريد به القيامة. وجميع ما حكيناه عند الفحص يدل على أن المراد به تبع لمقصود المتكلمين. فإذا قال: لم ألقك منذ حين وهو يريد تبعيد الوقت، علم ذلك بالحال أو القرينة، وكذلك لو قال: أعطيك حقك بعد حين، وأراد: تقريب الوقت. وإذا حلف الحالف على حين، فإن كان من أهل المعرفة بالحين أخذ بقوله، وان لم يكن من أهلها حمله الإمام على أعرف الأوقات فيه عند العامة، واستظهرنا بعد الحالين في الوجود. وقال شرقي الزمن عندهم شهران والزمين شهر واحد. وقيل: الزمان ستة أشهر والزمن أربعة أشهر والزمين شهران والحرس كمال السنة ما بين أولها إلى آخرها. وقال غيره: الحرس ما بين الحين إلى السنة. وقال الخليل: الحرس وقت من الدهر دون الحقب. قال شعراً:
وعمرت حرساً دون مجرى داحس ... لو كان للنفس اللجوج خلود
ويقال: شيء محروس، أي عليه حرس، ويقال: أحرس بالمكان، أقام حرساً. قال: وعلم أحرس فوق عنز والعنز أكمة صغيرة.
والبرهة عشر سنين. وقال الخليل للبرهة: حين من الدهر طويل والعصر عشرون سنة. وقيل: العصر لا يكون إلا لما سلف. وقوله تعالى: )والعصر إن الإنسان لفي خسر(، سورة العصر، الآية: 12 قال ابن الكلبي: هو الدهر كله الماضي والمؤتنف، وقد قيل: عصر وأعصر وعصور. قال: كر الليالي واختلاف الأحصر. وقال آخر: أبعصور من بعد تلك عصور، والعصران الغداة والعشي.
والأشد ثلاثون سنة، وقيل: هو لما بين ثلاث وثلاثين إلى تسع وثلاثين. قال الشيخ: تحقيقه بلوغ نهاية القوة والشباب. واختلف في بنائه، فمنهم من يقول: هو جمع وواحدة شد ومثله ضب واضب. ومنهم من يقول هو واحد ومثله من الأبنية قولهم آنك وهو الأسرب وقولهم آجر. وقال سيبويه: افعل ليس من أبنية الواحد. وهذان أعجبان عند أصحاب العربية.
والسبت من الدهر ثلاث مائة سنة، وقال بعضهم: السبت أربعون سنة وأنشده:
وقد نرتعي سبتاً ولسنا بحيرةمحل الملوك تفده فالمغاسلا والحقبة من الستين إلى الثمانين. وقال بعضهم: من السبع إلى العشر. وقال الخليل الحقبة زمان من الدهر لا وقت له والجمع الأحقاب. وقيل الحقب: السنون واحدها حقب والحقب: الدهر والجمع الأحقاب. وقيل: في قوله تعالى: )لابثين فيها أحقاباً) سورة النبأ، الآية: 23 واحدها الحقب ثمانون سنة، كل سنة اثنا عشر شهراً، كل شهر ثلاثون يوماً كل يوم منها مقداره ألف سنة من سني الدنيا. وذكر قطرب أن الحقب بلغة قيس مائة سنة.
والقرن من الثمانين إلى المائة، وقالت طائفة منهم القرن ثلاثون سنة وقيل القرن أربعون سنة. وقال أبو عمرو غلام ثعلب: الصحيح عندي أن القرن مائة سنة، وذاك أن النبي صلى الله عليه وسلم: ) مسح يده على رأس صبي وقال له: )عش قرناً) فعاش مائة سنة. وقد احتجوا أيضاً بقوله عليه السلام: )خير الناس قربي ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). وهذا يدل على أن القرن ثلاثون إلى الأربعين.(1/99)
وقال ابن الأعرابي: الهنيد مائة سنة، والهند مائتا سنة والدهر ألف سنة. وقول تعالى: )بضع سنين(، سورة يوسف، الآية: 43 قيل: إنها سبعة. وقال أكثر أهل اللغة: إن البضع لما بين الثلاثة إلى العشر. وحكي البضع بفتح الياء وقال المبرد: هو ما بين العقدين إلى الواحد، وإنما جاز في الاثنين أيضاً عنده لأنه جمع، وبضع اسم الجماعة المحظورة بالعقود. وقال أحمد بن يحيى: البضع من ثلاثة إلى سبعة وأكثره تسعة، ويقال: بضع عشرة وبضعة عشر شهراً، وبضع وعشرون إلا أنه مع العشرة أكثر وأصله من القطع، يقال: بضعة بضعاً والمقطوع بضع، فهو مثل الطحن والطحن.
وذكر أبو عبيد الوقص ما زاد من السنين على العشر، وإحدى عشرة وقص وكذلك المياه التي لا تورد بين المائين المورودين وقص قال والشنق في الدية خاصة، وقيل: الوقص والبضع اسمان للعدد فهما يستعملان في كل معدود وهذا هو الصحيح.
والذيف يجيء بعد العقود يقال: نيف وعشرون، ونيف وتسعون، ولا يقال: نيف وعشرة، ويجوز عشرة ونيف لأنه اسم لما يزيد على العقد ووزنه فيعل وأصله من ناف ينوف إذا ارتفع وأشرف وانبسط، ويقال: ناف النفس ينوف نوفاً إذا تحرك ونسم بعد خفوضه وهموده. ويقال في الدنف الحرض قد نافت له نفس ترجوه معه وإذا حمحم الفرس للقضيم، قيل: ناف نوفاً، ويقال: أناف على الشيء أي أشرف، نافه يناف. والنوف السنام لإشرافه والبطر لزيادته في ذلك الموضع والعلم قال شعراً:
يخب به العطاف رافع نوفه ... له زفرات بالخميس العرمرم
فأما الآن: فقد قال أبو العباس: يشار به إلى حاضر الوقت، وتلخيص هذا أنه الزمان الذي يقع فيه كلام المتكلم فهو آخر ما مضى وأول ما يأتي من الأزمنة، وهذا مراد قولهم: الآن حد الزمانين، والذي أوجب بناءه أنها وقعت في أول أحوالها بالألف واللام. وحكم الأسماء أن تكون منكورة شائعة في الجنس. ثم يدخل عليها ما يعرفها من إضافة، وألف ولام فخالفت الآن سائر أخواتها من الأسماء، بأن وقعت معرفة في أول أحوالها، ولزمت موضعاً واحداً كما تلزم الحروف مواضعها التي وقعت فيها في أوليتها غير زائلة عنها، ولا نازحة منها واختيرت الفتحة لآخرها لخفتها ولمشاركتها للألف التي قبله. وقال الفراء فيه قولان: الأول: أن أصله أن الشيء يئين إذا أتى وقته، كقولك: آن لك أن تفعل كذا وإني لك، ثم أدخلوا الألف واللام عليه، وإن كان فعلاً كما يروى أنه نهى النبي صلى الله عليه وسلم: )عن قيل وقال فعلان ماضيان وأدخل عن الجارة عليهما وتركا على ما كانا.
الثاني: إن الأصل فيهما أوان، ثم حذف الواو فبقي آن، كما قالوا: رواح وراح، والكلام عليه قد مضى في غير هذا الموضع من كتبنا.
وقولهم أيان فإنه يقوم مقام متى، فهو يتضمن معنى الألف وكان حكمه أن يكون ساكن الآخر، لكنه حرك لالتقاء الساكنين، واختيرت الفتحة لخفتها ولأن قبلها ياء مشددة، وهما بين الياء والنون، ليس بحاجز حصين وهو الألف.
وحكى الكسائي أن أبا عبد الرحمن السلمي قرأ: )أيان يبعثون) سورة النحل، الآية: 21 بكسر الألف.
وإبان وأفان فهما معربان متمكنان وتضيفها فتقول: جئت على إبان فلان وإفاته أي في وقته، وتفردهما بنزع الجار منهما، فتقول: جئت إبان ذلك وإفاته، وانتصابهما على الظرف.
وأما قولهم أوان فمعناه الوقت ويجمع على آونة قال ابن أحمر شعراً:
يؤرقنا أبو حنش وطلق ... وعمار وآونة أنالا
وقد جاء مبيناً منوناً في قول الشاعر:
طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء
وإن كان متمكناً في جميع الكلام تقول: هذا أوان طيب، وأدركت أوان فلان، قال أبو العباس: إنما بني من قبل أن الأوان من أسماء الزمان، وأسماء الزمان قد تكون مضافات إلى الجمل، كقولك: هذا يوم يقوم زيد، وأتيتك زمن عمرو أمير. فإذا حذفت الجملة من قولك أوان، وقد يضم معناها وهو في حكم المعرفة بها استحق البناء ثم عوضت منها التنوين كما فعلت ذلك بقولك: حينئذ وساعتئذ وفارق قولك: أوان الغايات، لآن الغايات مضافة إلى المفردات في التقدير، وأوان مضافة إلى جملة فهو كاسم حذف بعضه وبقي بعضه وقد عوض مما حذف فيه والغايات لم يؤت فيها بما يكون عوضاً، ونية الإضإفة فيه أقوى إذا كانت إلى المفرد لا إلى الجملة، واختيرت الكسرة في أوان لما بني لالتقاء الساكنين.(1/100)
وذكر بعض الكوفيين أن لات جارت لأوان بمنزلة حرف من حروف الخفض، ولو كان كذلك لفعل به مثل ذلك في قوله تعالى: )ولات حين مناص) سورة ص، الآية: 3.
وأما إذ وإذا فهما اسمان مبهمان. فإذ لما مضى وإذا للمستقبل، فهما كالأسماء الناقصة المحتاجة إلى الصلات، لأن الأسماء موضوعها أن تدل على مسمياتها في الأصل، فإذا صار بعضها لا يدل بنفسه على ما هو المطلوب منه واحتاج إلى ما يكشفه، ويوضح معناه حل بما بعده من تمامه محل الاسم الواحد، وصار هو بنفسه كبعض الاسم، وبعض الاسم مبني. فإذ يوضح بالابتداء والخبر، والفعل والفاعل تقول: جئتك إذ قام زيد، وإذ زيد قام، وإذ يقوم زيد وإذ زيد يقوم، فإذا كان الفعل مستقبلاً حسن تقديمه وتأخيره. وإذا كان ماضياً قبح التأخير، لا يقولون: جئتك إذ زيد قام، إلا مستكرهاً من قبل، أن إذ للماضي، فإذا كان في الكلام فعل ماض اختير إيلاؤه إياه لمطابقتهما ومشاكلة معناهما. وإذ عند أصحابنا اسم مضاف إلى موضع الجملة التي بعدها، ولا يجازي بها، لأنها مقصورة على وقت بعينه ماض.
وإذا من أسماء الزمان أيضاً ويقع بعدها الأفعال المستقبلة، وهي موضحة بما بعدها كما كانت إذ غير أنها لا يليها إلا الأفعال مظهرة كانت، أو مضمرة كقولك: أجيئك إذا قام زيد، يعني الوقت الذي يقوم فيه، وفيها معنى المجازاة فلذلك لا يقع بعدها إلا الأفعال.
فإذا رأيت الاسم بعدها مرفوعاً فعلى تقدير فعل قبله، لأنه لا يكون بعده الابتداء والخبر وإنما لم يجازيها لأنها تقع محدودة، والمجازاة معتودة على أنها يجوز أن يكون، وألا يكون تقول أجيئك إذا احمر البسر، ولا يجوز أن تقول: إن احمر البسر، فلما كان إذا لوقتا معلوم يجاز بها، وإن كان فيها معنى المجازاة، إلا أن يضطر شاعر قال الفرزدق:
ترفع لي خندق والله يرفعنا ... نار إذا ما خبت نار لهم تقد
ومعنى المجازاة أن جوابها يقع عند الوقت الواقع كما يقع المجازاة عند وقوع الشرط. وإذا موضع آخر يكون فيه اسماً لمكان وذاك من ظروفه وسيجيء الكلام فيه في الباب الذي يليه.
الباب الثاني عشر
في لفظ أمس وغد والحول والسنة والعام
وما يتلو تلوه، ولفظ حيث وما يتصل به والغايات كقبل وبعد وذكر أول وحينئذ وقط ومنذ ومذ وإذ المكانية.
ومن عل يقال: اليوم ليومك الذي أنت فيه، وأمس لليوم الذي يليه يومك الذي أنت فيه وقد مضى. وقال قطرب وغيره: يقول: رأيته أمس فتكسر، كما قالوا: قال الغراب: غاق يا هذا في حكاية صوته، وتميم يرفعون أمس في موضع الرفع فيقولون: ذهب أمس بما فيه فلا يصرفونه لما دخله من التغيير وقال الراجز:
لقد رأيت عجباً مذأما ... عجائزاً مثل السعالى خمسا
فكأنه ترك صرفه في لغة من جر بمذ. وقال عدي بن زيد:
أتعرف أمس من لميس طلل ... مثل الكتاب الدارس المحول
قال الشيخ: اعلم أن أمس اسم معرفة لما مضى وشوهد. وغد بخلافه لأنه وإن كان اسماً لليوم الذي يلي يومك الذي أنت فيه، ولم يجيء فهو نكرة. ومثلهما قط وأبداً لأن قط معرفة وأبداً نكرة، وفي بناء أمس طريقتان: الأول: ما ذكره أبو العباس المبرد وهو أن شرط الاسم أن يلزم مسماه، ولا سيما ما كان معرفة ليكون علماً باقياً له. وأمس ليس يلزم مسماه لأنه اسم لليوم الذي يليه يومك الذي أنت فيه وقد مضى، فكلما مضى يومك انتقل لفظ أمس عما كانت له إلى ما كانت بعده، فلما كان كذلك أشبهه الحروف في أنه لا لزوم لها وإنما ينقل إلى ما ينقل إليه كمن وفي وإلى، فيفيد معناها فيه فبني لذلك.
الثاني: إنه كان حق تعريفه أن يكون بالألف واللام ليؤدي العهد فيه فلم يدخلا عليه، بل ضمن معناهما، والاسم إذا تضمن معنى حرف، يجب أن يبنى، فهذا وجه بنائه فأما من منعه الصرف فإنه يجعله معدولاً عما فيه الألف واللام كأنه لا يأتي بهما وهو يريد معناهما في الاسم كما أن قولك: سحر كذلك وقد مضى القول فيه، فإن نكرته وجعلته شائعاً صرفته به وصرفته فقلت: مضى أمس وكذلك إن أضفته أو أدخلت عليه ألفاً ولاماً، لأنه يصير مؤقتاً محدوداً تقول: مضى أمسك، وكان أمساً أطيب من يومنا، ومضى الأمس.(1/101)
فإن قال: ما بال غد لا يكون مبنياً قلت: أمس معرفة مشاهد معلوم، وغد ليس بمعلوم ولا مشاهد، لأنه لم يأت قبيلهما سبيل قط المشددة وأبداً، لأن قط للقائل من لدن قوله أي ابتداء كونه فهو معلوم، يقول: ما رأيته قط، تحركت الطاء الأخيرة لأنه لا يلتقي ساكنان ويضمها كما يضم آخر الغايات، وسنبين القول فيها كلها، وإذا قلت: لاأكلمه أبداً، فالأبد مذ لدن تكلمت إلى آخر عمرك، فهو غير معلوم، وجار على أصله الذي له وصار مصروفاً صرفاً لم يعرض فيه ما يوجب تنيراً.
قال قطرب: وأظنه حكى عن الخليل أنهم أرادوا بأمس حين حفظوا رأيته بالأمس، فحذفوا الباء والألف واللام كما قالوا خير عافاك الله في جواب: كيف أصبحت؟ يريدون بخير، وكما قالوا: لاه أبوك الله أبوك. وقال ذو الأصبع شعراً:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... دوني ولا أنت دياني فتجزوني
فحذف لام الإضافة ولام التعريف وهذا تقوية لقول الخليل، ومثله قول الآخر:
طال النواء وليس حين تقاطع ... لاه ابن عمك والنوى لعدو
انتهى كلامه. قال الشيخ: هذا الذي حكاه لا يكون بناء بل يكون الحركة في أمس إعرراباً كما أنها في حين وفي لاه أبوك شاذ، فلا يجعل أصلاً لغيره. قال قطرب: فإذا دخلت الألف واللام في أمس، فبعض العرب ينصبه، ويقول: رأيته الأمس وبعضهم يخفضه كحاله قبل الألف واللام، ويقول: رأيته بالأمس وقال نصيب شعراً:
وإني حبست اليوم والأمس قبله ... ببابك حتى كادت الشمس تغرب
انتهى كلامه.
قال الشيخ: الوجه في إدخال الألف واللام أن ينكر أولاً ثم يعرف بهما، فأما من نصب بعد إدخال الألف واللام فهو القياس، لأن الألف واللام والتنكير يرددان اللفظ إلى ما كان يجب عليه في الأصل.
وأما ما حكاه عن يونس أنه سمع الكسر مع دخول الألف واللام، فالمتكلم بذلك يجب أن لا يكون قد اعتد بالألف واللام، ولم ينكر قبل دخولهما، وبقي الكسر إيذاناً بفعله ذلك، ويكون هذا كقوله شعراً:
ولقد جنيتك أكمؤا وعاقلاً ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
فأدخل الألف واللآم على الأوبر وهو معرفة، لأنه لم يعتد بهما، أو يكون أجراه مجرى الخازياز وخمسة عشر وأخواته في العدد، لأن الألف واللام لا يزيلان بناءهما ولا يردانهما إلى أصلهما، والأول أجود وأكثر نظيراً في الوجود. قال قطرب: وإذا جمعت أمس في القياس قلت: ثلاثة آماس، لأنه مثل فرخ وأفراخ، وفلس وأفلاس، وقال الراجز شعراً:
مَرّت بنا أوّل مِن أموس ... تميس فيه مشية العروس
فجمعه على فعول مثل فروخ وفلوس، وقال بعض الأعراب:
مرت بنا أول من أمسيه ... تجر في محفلها الرّجليه
فبنى أمس انتهت الحكاية. قال الشيخ: الياء في أمسيه لبيان الحركة، وكذلك في الرجليه، وكأنه أراد أول من أول من أمس فثنى أمس بدلاً من تكرير أول، وهذا كما قال أبو العباس قيما حكى عن الحجاج أنه كان يقول: يا حرسي اضربا عنقه. والمراد: اضرب اضرب فأتى بدل التكرير بلفظ التثنية، فأما أول من قولك أول من أمس فهو صفة كان المراد به يوماً أول من أمس، وقالوا: بعد غد، ولم يقولوا: قبل أمس، فكان أول بدل قبل، وبعد غد في موضع الصفة أيضاً.
قاله قطرب فإن أضفته فإن بعضهم يجزه كحاله قبل أن تضيف، كما كأن ذلك في الألف واللام قال الشيخ: الوجه في أمس إذا أضيف أن يعرب ويصرف كما قلناه في الألف واللام، فأما من بناه مع الإضافة فإنه شبهه بخازباز وخمسة عشر وأخواته، لأنها بنيت، وإن أضيفت، ورجوع أمس في التنكير إلى أصله هو الذي يدل على مخالفته لباب خازباز وخمسة عشر وأخواته. وقد قال قطرب في أمس: إذا جعلته نكرة فإنه يجري فيه الإعراب وكل ما يرده التنكير إلى أصله ترده الإضافة والألف واللام إلى أصله، وخمسة عشر وأخواته بنيت نكرات، وإن كان كذلك كان الضعف والبعد في بناء أمس عند الإضافة ومع الألف واللام ظاهرين فاعلمه، وتقول: آتيك غداً أو شيعه، وآتيك الجمعة أو شيعه والمراد اليوم الذي يليه قال عمر بن أبي ربيعة شعراً:
قال الحييب غداً يفرقنا ... أو شيعه أفلا تودعنا
قكان هذا من الاتباع، وفي الحديث: شاعه أبو بكر أي اتبعه، فيقال على هذا النبي صلى الله عليه وسلم: وشيعته، أي مصدقه وصاحبه ومن هذا الشيعة.(1/102)
وقال ابن الإعرابي: يقع الشيعة على كل من أحدث وصدق وحض على الاتباع أو حرض تأخر عن المتبوع أو تقدم عليه. ألا ترى قوله تعالى: )وإن من شيعته لإبراهيم) سورة الصافات الآية: 83 يعني من شيعة محمد فأما قوله:
كأن أمسياً به من أمس ... يصفر ليس اصفرار الورس
فإنه يعني عرق الإبل، وهو يصفر إذا يبس ومعنى أمسياً به: يريد عرقاً ظهر منذ ثلاثة أيام، ومعنى من أمس: منذ، كما قال: أقوين من حجج ومن دهر وعرق الخيل إذا يبس أبيض قال بشر:
تراها من يبس الماء شهباً ... مخالط دره فيها اقورار
والحول: السنة بأسرها، وجمعه أحوال، وقد حال الحول يحول حولاً وحؤلاً واحتال الشيء وأحول: أتى عليه حوال أو أحوال، وأحال بالمكان: أقام فيه حولاً، وقال الخليل: أرض مستحالة تركت أعواماً من الزراعة.
والسنة اسم لاثني عشر شهراً، وهو اسم منقوص والذاهب منه قي لغة كثير منهم الهاء، كان الأصل سنة، فحذف الهاء لمناسبتها لحروف المد واللين وعلى هذه اللغة تصغر سنيهة، ويقال منه: هو يعمل مسانهة، كما يقال: معاومة ونخلة سنهاء: تحمله عاماً وتحول عاماً قال:
ليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح
وفي لغة غير هؤلاء الذاهب منه الواو، كان الأصل سنوة، فحذف الواو تخفيفاً ثم جمعت على سنين جبراناً بالنقيصة لأن جمع السلامة إذا حصل في غير الناطقين ومن جرى مجراهم يكون للتفخيم والتعظيم أو جبراً لنقص داخل على الاسم، والأسماء المنقوصة تجد الذاهب منها في الأعم الأكثر الواو والياء لاستثقالهم إياهما، وكما يحذفونهما حذفاً يعلونهما بالقلب والإبدال، لأن كل ذلك يؤدي إلى التخفيف، وعلى ذلك هذه اللغة يصغر سنية وتجمع سنوات ويقال: هو يعمل مساناة، ويقال: أسنى القوم وهم مسنون إذا أتت عليهم سنة، وقد جعل السنة اسماً للجدب، فيقال: أصابتهم السنة، وجعل الفعل منه أسنت، فرقاً بين هذا المعنى وغيره، يقال: أسنت القوم وهم مسنتون، وعلى هذا لغة من جعل لامه واواً دون اللغة الأخرى، وهم يفعلون ذلك بما فيه لغتان ويقال أيضاً رجل سنت: أي قليل الخير، وقوم سنتون، والتاء من أسنت هو بدل من الواو، وهذا كما فعلوا في بنت وأخت، ثم جعل البدل في أسنت لازماً كأنهم أرادوا أن يختص بالجدب، حتى كأنه وضع له، فلا مناسبة بينه وبين ما للوقت وهذا كما جعل البدل في قولهم: عيد، لازماً فقميل: عييد وأعياد في تصغيره وجمعه ولم يردوه إلى أصله، وإن كان من عاد يعود لقصدهم إلى أن يختص بما يفيده بعد الإبدال العارض فيه كأنه بناء آخر له وليس بمشتق.
فأما قولهم: العام، فيقال منه: عاومت النخلة إذا حملت سنة وحالت أخرى، وعنب معوم: كثر حمله سنة وقل أخرى. وفي الحديث نهى عن المعاومة، وهو: أن تبيع الزرع عامك بما يخرج من قابل، وهو أن يزيد على الذين، ويؤخر في الأجل، ويقال: أتيته ذات عويم: أي العام، ويقال: أعوام عوم وعام عايم على التوكيد، كما يقال: شعر شاعر، وهو عامي إذا أتى عليه عام. قال العجاج: من أن شجاك طلل عامي.
فصل
قال قطرب: العام لما أنت فيه، وقابل للثاني لأنه يستقبلك، وجمعه قوابل وقباقب للعام الثالث، ومقبقب للعام الرابع. قال: وكان أبو عمرو بن العلاء يعرف مقبقباً في العام الرابع، وجمعه القباقب بفتح أوله، وهذا كما قيل: عذافر وعذافر وجوالق وجوالق، وأنشدنا أبو علي في قابل وهو من أبيات الكتاب:
فقال: امكثي حتى يسار لعلنا ... نحج معاً قالت أعاماً وقابله.
ومما يسأل عنه أن يقال: من أين جاز أن يقال عاماً أول، ولا يوماً أول، ولا سنة أولى. والجواب: أن قولهم عاماً أول مما عمدوا فيه إلى تخصيصه بشيء لا يكون في غيره، اعتماداً على التعارف، لأن المعنى: عاماً أول من عامي، فلما كانت الكلمة متداولة وكانت الحاجة إلى كثرة استعمالها ماسة حذفوا وأوجزوا معتمدين على علم المخاطب، والذية الإتمام، ومثل هذا الاختصاص قولهم: اليوم فعلت كذا، جعلوه ليومك الذي أنت فيه، ولا يقولون: لقيته الشهر، ولا السنة، وقد قالوا أيضاً: لقيته العام وإن كان العام بمعنى السنة قال:
يا أيها العام الذي قد رابني ... أنت الغداء لذكر عام أولا(1/103)
فإن قيل: ولم احتج إلى من حتى قدرت في قولك: عاماً أول أن أصله عاماً أول من عامي. قلت: إنما افتقر الكلام إلى من لأنهم أرادوا أن يبينوا في أفعل ابتداء الزيادة من أي شيء كان ليعرف حده ومبتدؤه. ألا ترى أن معنى قولك: زيد أفضل من عمرو أن ابتداء زيادة فضله من فضل عمرو، فهو حده. وأوله، فكذلك قولهم: عاماً أول فاعلمه.
واعلم أن حيث في الأمكنة بمنزلة حين في الأزمنة، بدلالة أنه يقع على كل مكان، لا جهة من الجهات الشت إلا ولإبهامه يقع عليها، واحتاج في الاستعمال إلى جملتين: جملة يضاف إليها، وجملة تفيد حدثاً يقع فيه، كما أن حين يقع على كل زمان. ولذلك أضيف إلى الجمل الخبرية من الابتداء، والخبر والفعل والفاعل والشرط والجزاء، كما فعل ذلك بإذ وأخواته وإن كان ذلك خارجاً من شروط الأمكنة، لأن المكان إذا جاء بهما حكمه أن يضاف إلى مفرد يخصصه، فلما تناهى حيث في الإبهام لانتظامه جميع الجهات، ولم يضف إلى مستحقه من مفرد يخصصه بل أضيف إلى جملة، صار هو مضافاً إليها في حكم المفرد فأشبه الغايات من نحو: قبل وبعد وما أشبههما، لأنها هي مفردة تضمنت معنى المضاف إليه وهو معرفة فبنيت جميعاً لذلك، إلا أن الغايات وجب أن تبنى على حركة لأنها مما قد يتمكن في غير هذا الموضع، فصارت لها مزية على ما لا يتمكن البتة، فبناؤها لما لها في أول أمرها وحيث وجب أن تبنى على سكون لعدمها تلك المزية، لكنه حرك آخره لالتقاء الساكنين.
وفى حيث لغات أربع: حيث وحيث وحوث وحوث، فالضم لدخوله في شبه الغايات مما ذكرنا والفتح لخفته. وحكى الكسائي عن بعضهم أنهم يكسرون حيث فيقولون: من حيث لا يعلمون كسرة إعراب، ويمكن في هذا أن يقال فيه: إنه شبه باسم الزمان إذا أ ضيف إلى غير متمكن، نحو من خزي يومئذ ويومئذ وعلى حين عاتبت وحين عاتبت.
والغايات أصلها الظروف وإعرابها في الأصل: للنصب والجر، وكان تمامها بما كانت تضاف إليه، فأفردت عنه اعتماداً على علم المخاطب به وجعلت في نفسها غاية الكلام ونهايته، حتى كأنه لا افتقار فيه إلى غير هذا، وقد ضمن معنى ما كان مضافاً إليه ويصير به معرفة، والاسم إذا تضمن معنى حرف فحقه أن يبنى، وإنما قلنا: ويصير به معرفة أنك لو نكرته لأعرب وأجري على أصله، تقول: جئت قبلاً وبعداً كما تقول: أولاً وآخراً كما أنك لو أضفته، فقلت: من قبل كذا، ومن بعد كذا لأعرب ولم يبن.
وقال أبو العباس: يقول في الجملة: إن كل ما كان حقه الإضافة فحذفت منه استغناء بعلم المخاطب فإنه معرفة من غير جهة التعريف وحقه البناء، فمن ذلك: قبل وبعد وأول ومنذ وليس وغير يدلك على حذف المضمر ما يحذفه بعد حرف الأستثناء إذا قلت: عنده درهم ليس إلا، حذفت ما بعد إلا استغاء ومنها: من عل ويا زيد، ومنها: قط وهو لما مضى من الدهر وحسب وهي للاكتفاء ومعنى قط فيما مضى فانقطع، والقط القطع عرضاً، والقد القطع طولاً، فهو معرفة لا يدخله الألف واللام ولا الإضافة.
وقال شيخنا أبو علي: قط اسم ينتظم أول وقت، ذي الوقت إلى آخر ما بلغه منه، فهو عبارة عن أمده ومدته، فوجب لذلك أن يكون مضافاً إلى ذي الوقت كما أضيف إليه قبل وبعد، فلما اقتطع عن الإضافة بني على الضم كما بنيا، ومثل قط في انتظامه أول الوقت إلى آخره، منذ: إذا أريد به تعريف أمد الشيء وذلك نحو أن تقول: لم أر زيداً، فيقال: ما أمد ذلك، وما مدته، يعني انقطاع الرؤية فتقول: منذ عشرون يوماً فابتداء الوقت وانتهاؤه هذا في انتظام الاسم الذي هو مدة لهما، ومن ثم بني منذ أيضاً على الضم حيث كان غاية مثل قط ويجوز في جوابه المعرفة والنكرة وأبداً يدخله الألف واللام لأنه نكرة ومعنى أبداً فيما اتصل وامتد من الوقت، ومنه الأبدة والأوابد. ومعنى قط مخففة مسكنة إذا قلت: قطك ليكفك واكتف ومثه قدك وحسبك ولتضمنهما معنى الأمر في أول أحوالهما، استحقا البناء، ومثل قط وقطك في أنه يستعمل مثقلاً ومخففاً قولهم: بخ وبخ.
قاله محمد بن زيد: يقال: بخ بخ، ويثقل أيضاً كما قال في حسب بخ وعزاقس وأنشد غيره شعراً:
بين الأشج وبين قيس باذخ ... بخ بخ الوالدة والمولود(1/104)
وقال أبو إسحاق الزيادي: الدليل على أن مه ليس من قولك مهلاً أنه ليس في الدنيا اسم انصرف وهو تام وامتنع من الصرف وهو ناقص. فقال أبو عثمان المازني: بلى فط المخففة، زعم سيبويه أنها مخففة من قولك قططته قطا، قال: والدليل على ذلك أن معنى قط معنى حسب فهو لقطع الشيء يقوي ما ذهب إليه أبو عثمان في هذا المعنى قولهم في حسب: بخ فأعربوه مثقلاً وبنوه مخففاً وتقول: جئت من فوق، ومن تحت، ومن أمام ومن دون، فالضم في جميع ذلك مستعمل على الوجه الذي بينته.
قأما قولك: من عل فمعناه من فوق، وفيه عدة لغات ذكرها أهل اللغة وسبيلها سبيل ما قدمناه من أن جميعها في تقدير الإضافة، فإذا حذفت المضاف إليه لم يخل من أن يكون معرفة أو نكرة، فإن كان المحذوف نكرة تنكرت وأعربت وإن كان معرفة بنيت لأنها بمنزلة أسم قد اكتفي ببعضه عن جميعه، وبعض الاسم يبنى وهو ظاهر.
واعلم أن ل: إذ موضعاً آخر غير ما ذكرنا، وهو قولك: بينا زيد قائم إذ رأى عمرواً.
وبينما زيد قائم جاء عمرو، فبينما عبارة عن حين، والمعنى وقت أنا قائم جاء عمرو، إلا أن يينما متمكنة فلها صدر الكلام بمنزلة مذ الذي يرفع الخبر. وكان الأصمعي يجر بها المصدر خاصة وينشده بينا تعتقه الكماة وروغه، يريد حين يعتقه والنحويون يخالفونه لأنها مبهمة لا تضاف إلا إلى الجمل التي بينتها. وقال سيبويه: إذ يكون للمفاجأة إذا قلت: بينا أنا جالس إذ حضر عمرو، وبينا أنا أكلم عمرو إذ طلع زيد.
وكان الأصمعي وكثي من النحويين يأبون وقوع إذ في هذا الموضع، لأن معنى بينا الحين، فإذا قلت: حين زيد قائم إذ طلع عمرو، فلا معنى له إنما الكلام حين زيد قائم طلع عمرو، وإذ فضلة. قال أبو العباس: أشعار العرب على ذلك قال:
بينا نحن نرقبه أتانا ... معلق وفضة وزنا دراع
وقال امرؤ القيس:
فبينا نعاج يرتعين خميلة ... كمشي العذارى في الملاء المهذب
فكانا ينادينا وعقد عذارة ... وقال صحابي قد شأونك فاطلب
فأما ما قاله سيبويه فغير بعيد، وقد أجازه قوم وأنشد سيبويه شعراً:
بينما هن بالكثيب ضحى ... إذ أتى راكب على جمله
وقولك: خرجت فإذا زيد قائم، يجوز أن يقال: فإذا زيد قائم خرجت كما تقول: خرجت فإذا زيد، لأن إذا ظرف مكان وسمي الاسم به والمعنى: فحضرني زيد وإذا إذا جعل للمفاجأة كان في مثل معناه وأما مذ ومنذ فقد قال أبو العباس: أول ما يذكر من أمرهما أنه يجوز أن يكون كل واحد منهما اسماً وحرفاً جاراً ولذلك قال سيبويه: إن مذ فيمن جر بها بمنزلة من في الأيام ومذ ومنذ شيء واحد إلا أن الأغلب على مذ أن يكون اسماً وعلى منذ أن يكون حرفاً لأن النقصان إنما يكون في الأسماء والأفعال دون الحروف، وذلك في نحو: دم ويد وخذ وكل.(1/105)
والدليل على أن مذ قوصة من منذ أنك لو سميت إنساناً أو غيره بمذ ثم صغرته لقلت منيذ، فرددت ما ذهب فإنما هو بمنزلة لد ولدن ومن عل ومن علا وآتيك غداً وغدواً، فإن أردت في منذ أن يكون حرفاً قلت: لم أرك منذ يومين، ومذ يوم الجمعة ومعناه من هذه الغاية، وكذلك سرت من مكان كذا، وإذا أردت أن يكون اسماً قلت: لم أر ذاك مذ يومان أي أمد ذاك يومان وهذا ابتد ء وخبر والرفع في مذ أكثر. وإذا قلت: أنت عندنا مذ الليلة أو مذ اليوم صارت بمنزلة منذ التي غلب عليها الحرفية، وذاك لأن العلة التي يوجب منها الاسمية قد زالت لأنك إذا قلت: لم أرك منذ يومان، فالمعنى بيني وبينك يومان وإذا قلت: أنت عندنا مذ الليلة، فليس معناه بيني وبينك الليلة، إنما هو في الليلة فإنما المعنى فإذا قال: رأيت زيداً مذ يومان، فيجوز أن تكون الرؤية متصلة، ويجوز أنه يكون رآه ذلك الوقت، ثم لم يره بعده، وإنما هذا على قدر ما تقدم، يقول القائل: إن زيداً يأتيك مذ مدة، فأقول: أنا رأيته مذ يومان أو شهران، وتأويل هذا إنما حدثت هذه الرؤية في هذا الوقت، أو يقول القائل: زيد أيأتيك في كل يوم؟ فأقول: ما رأيته مذ يومان، أي قد انقطع عني بعدهما، ولو قال القائل مبتدئاً: رأيت زيداً مذ يومان، ثم لم يصله بكلام؟ ولم يعطفه على كلام، لم يحكم فيما بعد الوقت بشيء ويتصل بهذا أن تقول: رأيت زيداً مذ يومان. يختلف إلى عمرو، ورأيت زيد مذ يومان يضرب عمراً، فإنما خبرت بوقت الضرب ولم تعرض لما بعده وتقول: رأيت زيداً يوم الجمعة أي أول ما فقدته أول يوم الجمعة، فيقع النفي على جميع اليوم كما كانت الرؤية في جميعه. ويجوز أن يكون النفي واقعاً على بعض اليوم فيكون حد الرؤية منه مجاوز الأول الفقدان، وقول القائل: لا كالمشية زائر ومزورا معناه: لم أر زائراً كزائر رأيته اليوم، قال: ولا يقولون فى سائر الصفات، يعني الظروف لا يقولون لا كنصف النهار ولا لا كهذه السنة قال الشاعر شعراً:
روحوا العشية روحة مذكورة ... إن متن متن وإن حيين حيينا
إن متن متن وإن حيين فلا أرى ... لا كالعشية أن بقين بقينا
واعلم أن قول القائل: ما برحت أفعل كذا براحاً. أي أقمت على فعله مثل ما زلت أفعله، وهذا في الزمان ولا بد له من خبر. فإن قلت: ما برحت من مكان كذا، فالمعنى ما زلت براحاً وبروحاً، وهذا في المكان كالأول في الزمان وقد مضى القول فيه، ويمضي في غير موضع من هذا الكتاب.
وقد قيل: إن براح اسم للشمس معدول عن البارحة الزايله مثل قطام وقولهم جبل براح يوصف به الأسد والشجاع، لأن زواله معتذر كأنه شد بالجبال، وهذا غريب فيما يشتق، ومثله قول القائل: البارح من الظبا والطير هو المنحرف عن الرامي إلى جهة لا تمكنه من الرمي، والسانح المقبل المتعرض في جهة تمكن. قال: ولذلك يتشاءم بالبارح، ويتيمن بالسانح، قال: فأما من تيمن بالبارح، فلأنه نجا، ومن تشاءم بالسانح لأنه هلك، وقول ابن الأحمر:
غدوا وأعدوا الحي الزيالا ... وشوقاً لم يبالوا العين بالا
الغدو يحتمل أمرين: يجوز أن يكون مصدراً، ويجوز أن يكون اسم اليوم الذي يلي يومك، فإن جعلته مصدراً يكون مثل غداً غدواً، ويكون مفعولاً وواعدواً الزيال المفعول الثاني، وينعطف عليه شوقاً كأنهم لما وعدوا بالزيال المهيج للشوق فقد وعدوا بالشوق.
ومثله الغدو في القرآن: )غدوها شهر ورواحها شهر) سورة سبأ، فالغدو: مصدر بدلالة أنه قابله بالرواح، والتقدير مسيرة غدوها مسيرة شهر، وإن جعلته اسم اليوم فمثله قوله: بها يوم حلوها وغدوا بلاقع. والمعنى في غدو: أعدوا الحي الزيال وشوقاً، ويكون المفعول الثاني محذوفاً، وأما قوله تعالى: )وظلالهم بالغدو والآصال) سورة الرعد، فيجوز أن يكون الغدو: جمع غد مثل نحو ونحو، ويقوي ذلك أنه قوبل به الجمع الذي هو الآصال، ويجوز أن يكون المصدر، ويقويه قوله: )بالعشي والأبكار) سورة آل عمران، وقال:
أفد الرحيل وليته لم يأفد ... فاليوم عاجله ونعذل في غد
أي اليوم عاجل البين، ونعذل في غد أي في أخبار غد يضيف المصدر إلى المفعول به لأنه خرج بانجراره من أن يكون ظرفاً، فهو مثل: من دعاء الخير، وبسؤال نعجتك، وقال: وليس عطاء اليوم مانعة غداً. أي مانعه عطاء غد فحذف المضاف.(1/106)
الباب الثالث عشر
فيما جاء مثنى من أسماء الزمان والليل والنهار
ومن أسماء الكواكب وترتيب الأوقات وتنزيلها
يقال: اختلف عليه العصران أي الليل والنهار وقد يراد بهما الغداة والعشي، لأن العصر من أسماء العشي، ولذلك قيل: صلوة العصر، ثم يسمى الغداة أيضاً عصراً، ويثنى كما يقال: القمران في الشمس والقمر، وقد تصرفوا هذه اللفظة فقالوا: ألم يجيء فلان لعصر بضم العين أي لم يجيء حين مجيء.
وفي العصر لغتان: الضم والفتح واستعمل في هذا أحدهما، وكذلك قالوا: أما نام لعصر أي لم ينم حين نومه، وما نام عصراً، وكل ذلك بالضم ويقال: أعصرت الجارية أي بلغت حين إدراكها. قال: قد أعصرت أو قد دنا إعصارها. وهذا كما يقال: أحصد الزرع وأجذ النخل، كأنها بلغت عصر شبابها وعصور شبابها وعصر شبابها، فإذا فعل كذا عصرة أي مرة، فيجوز أن يكون من ذلك أيضاً.
وحكى بعضهم أن العصر لما قد سلف، ولم يجىء في شعر الفحولة إلا كذلك جاء في شعر من دونهم، وقال ابن الكلبي: هو الدهر كله الماضي والمؤتنف، ويقال لا أكلمك العصرين، وما اختلف العصران، وهما القرنان والطفلان. قال لبيد: وعلى الأرض غيابات الطفل. وقال: يسعى عليها القرنين غلام، وهما العصران والبردان والأبردان والبردتان، ويجمع فيقال: الأبارد. ويراد بها أطراف النهار.
وقال أبو سعيد الضرير: العيوق ما دام متقدماً على الثريا، ففي الزمان بقية من الأبارد، وإذا استوى العيوق مع الثريا فقد بقي منها شيء قليل، وقال ذو الرمة:
وماج السفا موج الحباب وقلصت ... مع النجم عن أنف المصيف الأبارد
ويقال: اختلف عليه الملوان: أي الليل والنهار. قال ابن مقبل:
ألا يا ديار الحي بالسبعان ... أمل عليها بالبلى الملوان
وهذا تثنية ملا، وفسر أمل عليها: طال عليها. قال الشيخ: ويجوز عندي أن يكون أمل من إملال الكتاب، يقال: أمل الدروس والخلوقة عليها الملوان، ويكون الباء في قوله: بالبلى: إن شئت زائدة للتأكيد، وإن شئت قلت: أراد بسبب البلى ويكون مفعول أملى محذوفاً.
وذكر بعض النظار أن قولهم: ملوان لا يكون الليل والنهار بدلالة قول ابن مقبل نهار، وليل دائم ملواهما. والشيء لا يضاف إلى نفسه ولكنه المتسع من الدهر، ولو قيل: غدوهما وعشيهما كان أشبه. وقال ابن أحمر شعراً:
ليهنكم أنا نزلنا ببلدة ... كلا ملوة بها ميبس غير منعم
وقد تصرفوا في هذه اللفظة على أبينة مختلفة فقالوا: لقيت عنده ملوة من الدهر وملوة وملياً. قال الله تعالى: )واهجرني ملياً(، ومضت ملاوة من الدهر ملاؤة وملاوة. قال أبو ذؤيب شعراً:
حتى إذا جزرت مياه رزوبة ... وبأي حز ملاؤه يتقطع
ومن هذا قوله تعالى: )فأمليت للكافرين) أي أخرت النقمة منهم يقال: أملى الله لفلان العمر: أي آخر عنه أجله، وقوله: بأي حز ملاوة، لفظة استفهام المعنى معنى الخبر أي: تنقطع تلك المياه في حين، وأي حين، والمراد في أشد ما كان حاجة إليها عند انتهاء الحر وذهاب الرطب، وانتشاف الغدران، وهذا كما تقول: في أي حين ووقت زيدا حين تمكن العدو منه، وضاقت المسالك به، ويقال: على أي حزة أتانا، فلان أي أي ساعة وحين، وجئتنا على حزة منكرة، وكأنه يعني ما حز من الدهر أي قطع، إنما أضاف الحزة إلى الملاوة، وهما اسمان للوقت، لأن المراد بأي ساعة من الدهر، فالحز اسم للجزء إليسير. والملاوة: للممتد المتصل، وهذا كإضافة البعض إلى الكل، ويقال: تمليت حبيباً: أي عايشته طويلاً ملاوة وحيناً، وملاك الله نعمة أي أدامها وأطال وقتها، وقال الأسود بن يعفر:
آليت لا أشريه حتى يملني ... وآليت لا أملاه حتى تعارقا
قال قطرب: قوله: أملاه أتى به على مليه: بلاه وقالوا: أملاك الجديدان والأجدان والفتنان: أي الليل والتهار، وابنا سمير، وكل ذلك اشتقاقه وطريقته ظاهر، قال:
لم يلبث الفتنان أن عصفا بهم ... ليل يكر عليهم
وقال آخر:
غدا فينا دهر وراحا عليهما ... نهار وليل يكثران التواليا(1/107)
ومن هذا الباب قولهم: لا أفعله ما اختلف الصرعان أي الغداة والعشي، ويقال: الصرعان: أي الغداة، وبالفتح أيضاً ويقال: أتيته صرعي النهار أي طرفيه من طلوع الشمس إلى الضحى، وبالعشي بعد العصر إلى الليل، ثم قالوا: هما صرعان: أي مثلان، فعلى هذا يراد باختلافهما تصرفهما، ويقال أيضاً: هو ذو صرعين: أي لونين ويجمع على الصروع، وما أدري على أي صرعى أمره وقع، أي حاليه وتركهم صريعين: أي ينتقلون من حال إلى حال، وهو يفعله على كل صرعة، أي على كل حالة.
وحكى ابن الأعرابي: لا أكلمك ما اختلف الصرعان: الحينان غدوة وعشية، ومن كلامهم: عندك ديأ يلتقط الحصى صرعيه، يقال: هذا مثلاً للنمام، قال: وعلى هذا: يراد الاختلاف الذي هو ضد الوفاق. فأما قولهم: المصراعان في الأبواب وأبيات الشعر فيجوز أن يكون من التماثل، ويجوز أن يكون من قولهم: هو صرع كذا أي حذاءه. الزيادي اختلف عليه الفتنان، أي الغدوة والعشية من الفتون وهو الضروب.
وقال أبو سعيد في قول الله تعالى: )وفتناك فتوناً(، أي فتونا في اليم وفي مدين وحيث قيل: )اخلع نعليك(، وذكر يعقوب زرته: البردين والقرنين أي طرفي النهار. وزرته الغربين أيضاً: أي غدوة وعشية. الأصمعي اختلف إليه الردفين أي الغداة والعشي والغداة ردف الليل والعشي ردف النهار.
ويقال: لقيته بأعلى سحرين وبأعلى السحرين أي وقت السحر الأعلى وهو قبيل الصبح. قال: غدت بأعلى سحرين تذال. وبأعلى سحر. قال العجاج: غدا بأعلى سحر وأجرسا. رد بعضهم بيت العجاج وقال: كان ينبغي أن يقول: بأعلى سحرين لأنه أول تنفس الصبح، ثم الصبح وتقول: أسحرنا كما تقول: أصبحنا وتسحرنا أكلنا سحوراً وجئتك بسحر وبسحرة وبالسحر وسحيراً.
وقال أحمد بن يحيى: الأسحار: الأطراف وبه سمي سحر، وأنا أراك منذ سحر.
وقال قطرب: أتيتك سحرية وسحرياً وسحر، ويقول: سحرى هذه الليلة أيضاً. قال في ليلة لا نحسق في سحريها وعشائها.
ويقال: صبح ولا جمع له، وصباح وصبيحة وأصبوحة وإصباح، لأن العرب تجعل الإصباح لنفس الليل، فيقول: أصبح قال فبات يقول: أصبح ليل حتى تجلى عن صريمة الظلام. والصبح صبحان، كما أن السحر سحران. ويقال: ابنا جمير اليومان اللذان يستسر القمر فيهما في المحاق قبل البحيره، وابن حمير أيضاً.
وحكى أبو العباس المبرد أنه يقال للشتاء والصيف: العصران وكذلك لكل مختلفين معناهما واحد. قال الربيع بن صبيع:
أصبح منا الشباب قد بكرا ... إن بان منا فقد ثوى عصرا
يعني سنين كثيرة، والقارنان الليل والنهار وأنشد للكميت شعراً:
يا من عذ يرى من ذواله ... كم ذا يزيد على إباله
يغدو علي مقارناً ... كالقلونين مع الغزالة
فلا جبانك مشقصاً ... أوساً أويسى من الهباله
قوله: على إباله، مثل يقال للرجل إذا جاء بمكروه ئم أعقب بعده بمثله ضغث يزيد على إباله، والإبالة الحزمة الكبيرة. قوله فلا جبانك يريد لأرمينك بسهم حبالك. والأوس العطية، وأويس تصغير أوس وهو الذئب. والهبالة من الاهتبال وهو الاغتنام، وقال بعضهم: الهبالة اسم ناقة. يقول من يعذرني منه مقارناً غدوة وعشية وقيل في القارنين هما الليل والنهار. ويقال للشمس والقمر القمران. قال: لنا قمراها والنجوم الطوالع. ويقال لهما السراجان من قوله تعالى: )وجعل الشمس سراجاً، والذيهران ومما جاء مثنى من أسماء الكواكب السماكان الرامح والأعزل والنسران: الطائر والواقع والفرقدان والشعريان العبور والغميصاء والمرزمان وهما مرزما الشعريين والهراران قلب العقرب والنسر الواقع والخراتان في الأسد والغميصاوان والوزنان حضار والوزن والمحلفان وهما حضار والوزن أيضاً.
وقال ثعلب الهراران النسران لأنهما إذا طلعا في المشرق فهو نهاية البرد وهذا كما قيل: سهيل لأن الحر يسهل عند طلوعه، وقيل للدبران الحادي والدابر والتابع ويقال: ما رأيته منذ أجردان وجريدان وأجدان وجديدان أي يومان أو شهران. وابنا سمير الليل والنهار والسمر الدهر وابنا سبات الليل والنهار، وقيل ابنا سبات رجلان وأنشده شعراً:
وكنا وهم كابني سبات تعزفا ... سوى ثم كانا منجداً وتهاميا(1/108)
وعرقوتا الدلو والفرغان للمقدم والمؤخر، وحكى أبو العباس ثعلب: الأثرمان: الدهر والموت وأنشد شعراً:
ولما رأيتك تنسي الذمام ... ولا قر عندك للمعدم
وتجنو الشريف إذا ما أخل ... وتثني الدنيء على الدرهم
وهبت أخاك للأعجمين ... وللأثرمين ولم أظلم
أخل: احتاج من الخلة والأعجمان: السيل والحريق، وحكى أبو عمر وغلام ثعلب مرزم السماك ومرزم الجوزاء.
فصل
في ترتيب الأوقات وتنزيلها
قال أبو نصر: تكوير الليل على النهار والنهار على الليل أن يلحق أحدهما بالآخر.
وإيلاج النهار في الليل، والليل في النهار، دخول أحدهما في الآخر. وقال الخليل: التكوير تغشية الليل النهار والنهار الليل. ومنه كارة القصار. وقال الدريدي: الكور كور العمامة والقطعة العظيمة من الإبل، وفي المثل: نعوذ بالله من الحور بعد الكور، أي النقصان بعد الزيادة، وكرت العمامة كوراً، وكذلك الكارة وكار الرجل، واستكار: أسرع في مشيته يكور كوراً، وزلف الليل من النهار والنهار من الليل ساعات كل واحد منهما يأخذه من صاحبه، والواحدة زلفة. قال تعالى: )وأقم الصلوة طرفي النهار وزلفاً من الليل(، ومنه المزالف والزلفى ومزدلفة.
وقال الخليل: مزدلفة: سميت بهذا الاسم لاقتراب الناس إلى منى بعد الإفاضة من عرفات، قال الأصمعي: إذا طلع الفجر فأنت مفجر حتى تطلع الشمس فإذا طلعت فأنت مشرق إلى ارتفاع النهار، ثم أنت مضح. وفي القرآن: )فأتبعوهم مشرقين(، في وقت طلوع الشمس، والإشراق والتشريق انبساطها، والشروق طلوعها. ثم أت مضح حتى تزول الشمس، فإذا زالت فأنت مهجر ومظهر إلى أن تصلي العصر، ثم أنت معصر ومقصر وموصل إلى أن تحمر الشمس، ثم أنت مطفل إلى أن تغيب، فإذا غابت فأنت مغيب ومغرب وموجب ومشفق ومسدف، فإذا غاب الشفق فأنت مظلم ومفحم.
قال أبو العباس ثعلب: يقال: رجل نهر وسابح إذا كان يتصرف في النهار دون الليل، فإذا كان بالليل دون النهار قيل: هو ليلي لابس، وهذا أخذه من قوله تعالى: )وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً(، وقوله تعالى: )إن لك في النهار سبحاً طويلاً(، وقد قيل: سبحاً أي: عملاً وتقلباً ومنه سمي السابح لتقلبه بيديه ورجليه ولباساً: أي استمتاعاً من قوله:
لبست أبى حتى تمليت عيشه ... ومليت أعمامي ومليت خاليا
وذكر بعض أصحاب المعاني أن العيشة والعيش ليسا بالحياة، ولكن ما يستعان به على الحياة واستدل بقوله تعالى: )وجعلنا النهار معاشاً(، قال: وهذا كما قال في الآية الأخرى: )ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله(، وقال في موضع آخر: )جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً(، أي ما ألبسهم من ظلمته فلبسوه لباساً، والنوم سباتاً أي سكوناً وأنشد لأمية:
ما أرى من يعشني في حياتي ... غير نفسي إلا بني إسرال
وقال: المراد بقوله: يعشني يعينني على أمر الحياة، والسكون إنما هو في الليل والابتغاء من فضله بالنهار، ولكن لما عطف أحدهما على الآخر خرجا مخرج الواحد الجامع للشيئين، ونظير هذا من الكلام: لئن لقيت زيداً وعمراً لتلقين منهما شجاعة وفصاحة، على أن الفصاحة لأحدهما والشجاعة للآخر، وهذا بمنزلة ما يقع في الجمع إذا قلت: في بني فلان خير وشر، لأن الدعوة قد ضمتهم جميعاً فانطوت على الخير والشر، وإن كان الخير في جماعة والشر في آخرين، وكذا كل تثنية وجمع تعلق الخبر به على الإجمال، لأنه يصير كالواحد.
وقال تعالى في موضع آخر: )وجعل النهار نشوراً(، أي: ينشرون فيه عن نومهم بالليل، والانتشار التصرف. وقال في موضع آخر: )قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً(، أي دائماً، يقال: هو يسهر سهراً سرمداً إذا لم يكتحل فيه بغمض ولا يكون السرمد ما يقع فيه فصل، وقوله تعالى: )تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله(، أي تحالفوا، وكل عمل بالليل تبييت. ويقال: هو أمر دبر بليل. ويقال للصقيع: البيوت، لوقوعه بالليل، وفي القرآن: )إذ يبيتون ما لا يرضى من القول(، وأنشد أبو عبيدة شعراً:
أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر(1/109)
وقوله تعالى: )وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة) سورة الفرقان، الآية: 62) الخلفة ما خلف بعضه بعضاً أي كل واحد يخلف صاحبه، قال زهير:
بها العين والأرآم يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
ومعنى لمن أراد أن يذكر، يريد لمن أراد أن يتذكر ويستدل على نعم الله على خلقه وعلى أنواع لطفه فيما تعبدهم به وتظاهر حججه وتبيانه فيما ندبهم إليه، وهذا كما قال تعالى: )ولقد يسرنا القرآن للذكر) )سورة القمر، الآية: 32) وكقوله تعالى: )إنما يتذكر أولو الألباب) )سورة الرعد، الآية: 19) وقوله تعالى: )أو أراد شكورا) )سورة الفرقان الآية: 62) يريد أو يتأمل ما ينقل فيه حالا بعد حال من صنوف آلائه، ووجوه إحسانه، فيضم الشكر فيه. قوله: خلفة فيما يؤديه من المعنى كما حكاه أبو زيد من قولهم: ولد فلان شطرة، المراد ذكورهم بعدد إناثهم، فهذا من الشطر، كما أن ذاك من الخلافة. والنشئة والناشئة أول ساعات الليل.
وقال ابن الأعرابي: إذا نمت من أول الليل نومة ثم قمت، فتلك الناشئة والنشئة حجر يكون على الحوض. قال ومنه قوله: هرقناه في بادي النشيئة داثر والنشيئة الجارية. ومنه قول الشاعر شعراً:
ولولا أن يقال صبا نصيب ... لقلت بنفسي النشأ الصغار
قال أبو العباس المبرد: إذا قال القائل: ما رأيته مذ مدة من يومي علم أن ذلك ساعة أو ساعات. وإذا قال: مذ مدة من عمري علم أن ذلك سنة أو سنون أو ما يدانيه.
ومن ظروف المكان مني فرسخين: وكان شيخنا أبو علي يقول: هذا كان يقوله الدليل لمن يستهديه، أي: إني أرشدك في فرسخين، ومعنى من شأني وأمري كما قال: فإني لست منك ولست متي ويجوز أن يقول: أنت مني فرسخان، كأنه جعله نفس الفرسخين. والمعنى: بيننا هذه المسافة، فأما قولهم: هو مني معقد الإزار ومقعد له لقابلة، ومناط الثريا فإنما ساغت أن تكون ظروفاً وإن كان المحدود من الأماكن لا يجعل ظروفاً لأنها أزيلت عن مواضعها، فوضعت موضع القرب والبعد، فدخلها بذلك الإبهام، وتقول: اليوم الجمعة واليوم السبت، وجعلت الثاني هو الأول، فرفعت لكونه مبتدأ أو خبراً، وإن نصبت فقلت: اليوم السبت واليوم الجمعة جاز. وتجعل الثاني كالحدث لتضمنه معنى الفعل، فيصير كقولك: اليوم الخروج، وغداً الارتحال، ولو قلت: زيد اليوم لم يجز، لأن ظروف الأزمنة لا تتضمن الأشخاص والجثث، لأنها لا تخلو منها على كل حال، فلا يحصل في الكلام فائدة، وكذلك إذا قلت: حضرت يوم الجمعة، كان يوم الجمعة ظرفاً لا غير، لأنك إن جعلته مفعولا لم يكن فيه فائدة، لأنه لا يغيب عنه أحد وعلى هذا قوله تعالى: )فمن شهد منكم الشهر فليصمه) )سورة البقرة، الآية: 185) ويقول: الصيام عشرة أيام إلا يوماً، ظ يجوز إلا الرفع لأنه يريد الوقت كله فهو كقوله تعالى: )غدوها شهر ورواحها شهر) )سورة سبأ، الآية: 12) وتقول: اليوم عشر من الشهر والاختيار النصب، وكذلك إذا قلت لك: اليوم شهران أو سنتان نصبت اليوم، وإن سقط من الشهر شيء لأن الاسم يستحق منه على نقصانه، وتقول: لا أكلمك أخرى الليالي ذكر أخرى ليصلها بما قد مضى، وكذلك غابر الدهر. أي باقيه وقوله: رآها مكان السوق أو هو أقربا، مثل قوله تعالى: )والركب أسفل منكم) )سورة الأنفال الآية: 42) أي في مكان أقرب أو أسفل ويقول: هو مني قدر أن تناوله يدي، وفوق أن يناوله يدي، وبعضهم يرفعه والوجه النصب وعلى هذا قوله شعراً:
وقد جعلتني من خريمة إصبعاً ... ويقول: لقيته من قبل قبل
على التكرير، غاية ولقيته من قبل قبل تضيف الأول ولا تضف الثاني، والنية في الإضافة أن تكون إلى نكره، وإن كانت النكرة في مثل هذا المكان تفيد فائدة المعارف، بدلالة قوله آتيك غداً، لأنه نكرة كالمعرفة، وقبل الذي لم تضفه معرفة لكونه غاية بما ضمن، وهو في حكم البدل من قبل الأول، لأن إبدال المعرفة من النكرة هو الأصل، وإن شئت قلت لقيته من قبل قبل، تنوي الإضافة فيهما على ما بينته ومثله قولهم: من وراء وراء في الوجوه كلها. وقد ذكر سيبويه في قولهم: من عل أنه مضارع لقولهم: عن عل لأنهما لما وقعا لمعنى وأحد على تقديرين مختلفين سماه مضارعه، فأما قوله: وقد علاك مشيب حين لا حين، فالمراد حين غير حين أي جاء المشيب في غير أوانه، فأدخل النفي على حد ما كان موجباً.
فصل(1/110)
في قوله تعالى: )ماذا قال آنفاً) وفي أحرف سواه يكثر البلوى به.
قال أبو زيد: يقال: أيتنفت الكلام إيتنافاً وابتدأته ابتداء أو هما واحد، وأنشد:
وجدنا آل مرة حين خفنا ... جريرتنا هم الأنف الكراما
ويسرح جارهم من حيث أمسى ... كأن عليه مؤتنفاً حراما
قال السكري: الأنف: الذين يأنفون من احتمال الضيم. قال شيخنا أبو علي: فإذا كان كذا فقد جمع فعلا على فعل، لأن واحد أنف أنف بدلالة قوله:
وحمال المئيين إذا ألمت ... بنا الحدثان والأنف النصور
ووجه هنا أنه شبه الصفة بالاسم، فكسرها تكسيره، فقالوا في جمع نمر: نمر وأنشد سيبويه: فيها عياسل أسود ونمر. وليس الأنف والأنف في البيتين مما في الآية في شيء، لأن ما في الشعر من الأنف، وما في الآية في معنى الابتداء ولم يسمع أنف في معنى ابتداء وإن كان القياس يوجبه.
وقد يجيء اسم الفاعل على ما لم يستعمل من الفعل نحو: فقير جاء عن فقر والمستعمل افتقر. وكذلك شديد، والمستعمل اشتد، فكذلك قولك آنفاً والمستعمل أيتنف، فأما قوله: كان عليه مؤتنفاً حراماً، فالمعنى كان عليه حرمه شهر مؤتنف حرام فحذف المضاف وأقام الصفة مقام الموصوف، والتقدير: أن جارهم لعزهم ومنعتهم لا يهاج ولا يضام، فكأنه في حرمة شهر حرام وقوله: ويأكل جارهم أنف القصاع، فإنه يريد أنهم يؤثرون ضيفهم بأفضل الطعام وخيره فيطعمونه أوله لا البقايا، وما أتى على نقاوته، فهذا جمع على أنف مثل: بازل وبزل قابل وقبل. وإذا كان كذلك قرئ قراءة من قرأ: )ماذا قال آنفاً) )سورة محمد، الآية: 16) وأما ما روي عن ابن كثير من قوله: أنفاً فمجوز أن يكون توهمه مثل حاذر وحذر، وفاكه وفكه والوجه الرواية الأخرى آنفاً بالمد كما قرأ عامتهم.
وقال بعض أصحاب المعاني: لا يمتنع أن يكون الباب الذي قسمه كله من أصله واحداً وهو التقدم، وتكون الأنفة من الأنف الذي هو الجارحة، وسميت به لتقدمه في الوجه. ثم جعل ما يؤنف منه من الذل، كإضافة الأنف وجدعه يبين هذا ويشهد له قولهم: بعير أنف ومأنوف: إذا عقره في الخشاش فانقاد لما يراد منه، وفي الحديث: )المسلم هين لين إن قيد انقاد) وقد نسب الذل إلى الأنف في كلامهم حتى قيل: هو يحمي أنفه من كذا وهو حمي الأنف، والشاعر قال:
ولا نال أنفاً منه بالذل نائل
وقال أبو إسحاق في قوله تعالى: )ماذا قال آنفاً) )سورة محمد، الآية: 16) أراد في أول وقت يقرب منا، وقال الخليل: أنفت فلاناً أنفاً، كما تقول: الذي قبل أي قبل كأنه أراد أنفته فأنف أنفاً، والمعنى حركته من أقرب وقته فابتداء هذا بيان ما رمى به الخليل. ويجوز فيه وجه آخر: وهو أن يريد ماذا قال فيما أنفه وأنفاً ويكون أنفته وأنفاً من باب قم قائماً وأشباهه. ويكون اسم الفاعل نائباً عن المصدر، قال: وأيتنفت ايتنافاً أول ما يبتدأ فيه، والمستأنف من الكلام والأمر كذلك.
قال أحمد: وعلى ما حررناه من كلام المعترض وحكاية الخليل، صح قراءة ابن كثير وتوجه اختياره أنفاً غير ممدود قياساً وسماعاً، ولم يكن متوهماً فاعلمه.
ومن الأحرف التي نداولها قوله تعالى: )وأدبار السجود) سورة ق، الآية: 40) هو مصدر والمصادر تجعل ظروفاً على إرادة إضافة أسماء الزمان إليها وحذفها كقولك: جئتك مقدم الحاج، وخفوق النجم، وخلافة فلان، يريد في ذلك كله وقت كذا فحذفه فكأنه قال: وقت أدبار السجود، إلا أن المضاف المحذوف في هذا الباب لا يكاد يظهر وهذا أدخل في باب الظروف من قولك أدبار السجود إذا فتحت وكأنه أمر بالتسبيح بعد الفراغ من الصلاة.
وقد قيل: أريد به الركعتان بعد المغرب، وأدبار جمع دبر ودبر وقد يستعمل ظرفاً نحو: جئتك في دبر الصلاة، أي في أدبار الصلاة، وقال شعراً:
على دبر الشهر الحرام لأرضنا ... وما حولها جدب سنون تلفع
وقوله تعالى: )ولما بلغ أشده) )سورة يوسف، الآية: 22) أي منتهى شبابه وقوته واحدها شد مثل فلس أو شد مثل فلان ودي، والقوم أودى، أو شد مثل نعمه وأنعم، ومعناه قال مجاهد: ثلاثاً وثلاثين سنة واستوى معناه أربعين سنة، قالوا: وأشد اليتيم ثماني عشرة سنة. قال أبو زيد: يقال: هو الأشد وهي الأشد، وفي القرآن: )حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) )سورة الأحقاف، الآية: 15).(1/111)
قال الفراء: الأشد هنا هو الأربعون أقرب إليه في النسق، وأنت تقول: أخذت عامة المال، إذ كله لا يكون أحسن من أن يقول: أخذت أقل المال، أو كله وأنشد المفضل في شد:
عهدي به شد النهار كأنما ... خضب اللبان ورأسه بالعندم
وعند أكثر أصحابنا البصريين أن الأشد واحد، وأنه شاذ لأنه لم يجيء أفعل في الواحد.
وقوله تعالى: )أحسن مقيلا) )سورة الفرقان، الآية: 24) من القائلة وهو الاستكنان في وقت انتصاف النهار، وجاء في التفسير لا ينتصف النهار يوم الجمعة حتى يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، فتحين القائلة، وقد فرغ من الأمر فيقيل كل من الفريقين في مقره.
السنون التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم فيها على مضر وقال: )اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف) يقال: كان الناظر منهم يرى بينه وبين السماء دخاناً من شدة الجوع، ويقال: بل قيل للجدب دخان، حتى قيل في قوله تعالى: )بدخان مبين) )سورة الدخان، الآية: 10) أي جدب، ليبس الأرض، وارتفاع الغبار، فشبه ذلك بالدخان، ومن مجازهم واتساعهم: ارتفع له دخان إلى السماء هذا لبشر وذلك إذا علا.
الباب الرابع عشر
في أسماء الأيام على اختلاف اللغات
ومناسبات اشتقاقها وتثنيتها وجمعها
قال قطرب: أسماء الأيام: السبت والأحد والاثنان والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة. فالأحد هاهنا اسم وأصله: وحد وقد يكون صفة مثل قوله: بذي الجليل على مستأنس وحد. ومعنى الواحد الذي لا ثاني له وإنما لم يثن وهو اسم لأنه متى ثني خرج من أن يكون واحداً، فلذلك لم يقل: وحدان وإبدال الهمزة من الواو المفتوحة جاء في أحرف معدودة. والاثنان من ثنيت الشيء إذا ضعفته ثنيا ثم يسمى المثنى ثنياً، ولا يقال في أحد اثن، لأنه إذا أفرد عما يثنى به لم يستحق هذا الاسم. فإذا الثلاثاء والأربعاء والخميس فإنها وإن أريد بها ما يراد من أسماء العدد إذا قلت ثلاثة وأربعة وخمسة، فإن في تغير الأبنية لها قصد. وسيبويه قال: أحبوا في الأوقات أن يحصوها بأبنية تلزمها من بين سائر المعدودات، وشبهها بقولهم: عدل وعديل ووزين ووزان في الفصل بين الأجناس. وحكى سيبويه: هذا يوم اثنين مباركاً فيه. واستدل على تعريفه بانتصاب الحال بعده، وفيه على هذا تعريفان.
الأول: باللام تعريف الحارث والعباس.
الثاني: تعريف العلمية والوضع، كما أن عروبة، والعروبة للجمعة كذلك، والسبت سمي به قيل: للراحة، ومنه السبات النوم، ويقال: انسبت الرجل إذا اعترته سكتة. وقيل أصل السبت القطع. ومنه السبات لأنه يحول بين التمييز وصاحبه، ويقطعه عن عادته وتصرفه، ويقال: سبتوا عنقه إذا قتلوه. والمنسبت من النخل: ما يجري الإرطاب في جميعه، فكأنه انقطع من حد البسر، ويقال لضرب من النعال: السبت، وإنما هي التي قد نثر شعرها. ويقال: إن السبت إنما سمي لما أخذ على اليهود في السبت ونهوا عنه في هذا اليوم مما هو مباح في غيره، وانقطاع حكمه من حكم غيره، ومن جعل السبت إنما يسمى به للراحة، يقول قوله تعالى: )ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) )سورة ق، الآية: 38) هو رد على اليهود في قوله تعالى: )خلق الله السموات والأرض في ستة أيام) آخرها يوم الجمعة واستراح في يوم السبت فرد الله ذلك عليهم وأبطل قولهم. وسمي السبت: شيارا واشتقاقه من شيرت الشيء إذا أظهرته وبينته، ويقال: شيراي حسن الشيارة وهي ظاهر منظره، ومن هنا قيل: القوم يتشاورون أي يظهرون آراءهم كأن كل جماعة منهم يظهرون ما عندهم ويعرضونه. ويجوز أن يكون قولهم لخيار الإبل الشيار من هذا الذي ذكرناه. وقيل للأحد: أول لأنهم جعلوه أول عدد الأيام. وقالوا للاثنين: أهون وأوهد فأهون من الهون وهو السكون من قوله تعالى: )يمشون على الأرض هوناً) )سورة الفرقان، الآية: 63) وأوهد يدل على هذا المعنى لأن الوهدة الانخفاض كأنهم جعلوا الأول أعلى ثم انخفضوا في العد. وقالوا للثلاثاء الجبار أي جبر به العدد، وأعظم به العدد وقوي، لأنه حصل به فرد وزوج.(1/112)
وقال الخليل: سمي به في الجاهلية الجهلاء، وفي الخبر العجماء جبار والمعدن جبار. أي يهدر الأرش فيه، فهو يخالف المعنى الأول. وقولهم للأربعاء: دبار لأنه عندهم آخر العدد وقد تم بإجرائه العقد الأول. ودبر كل شيء مؤخره، وإنما كان كذلك لأن الخميس والجمعة والسبت سموها بأشياء تصنع فيها فاستغنوا بها عن عددها. وقيل للخميس: مؤنس لأنه يؤنس به لقربه من الجمعة وفي الجمعة التأهب للاجتماع. وقيل للجمعة: العروبة لبيانها عن سائر الأيام، والإعراب في اللغة الإبانة والإفصاح، والعرب شوك البهمي والواحدة عربة، سمي بذلك لأن الورق يسقط منه فيظهر الشوك. فالتأويل أنه قد بان من الورق والعرابة عسل الخزم، سمي به لأنه يقال لثمرة العراب، والواحدة عرابة، وقد أعربت الخزم، ويقال للمرأة الغزلة هي عربة وعروبة أيضاً. ومنه قوله تعالى: )إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً عرباً أترابا) )سورة الواقعة، الآية: 35 36) وقيل: العروبة المتحببة إلى زوجها، ويقال للمتهلل الوجه: عرابه. وبير عربة: كثيرة الماء. وقد قيل: العروبة بالألف واللام وبغير الألف واللام كأنه جعل علماً، وأنشد فيه شعراً:
وإذا ترى الرواد ظل بأسقف ... يوماً كيوم عروبة المتطاول
يروى يوماً كيوم، ويوماً كيوم، قال: ولم يزل أهل كل دين يعظمونه وجعله متطاولا للعبادة فيه، والمعنى وإذا ترى هذا الحمار الوارد ظل له يوم طويل وطوله طول مكثه يميل بين الورود وتركه. وإذا نصبت اليوم: فالمعنى ظل الحمار يوماً طويلا في هذا الموضع، وإذا رفع فالمعنى ظل بأسقف يوم له، وروي الأرواد فكأنه جمع ورد والمعنى: أهل الأوراد أو يجعل الورد للواردين. وقال القطامي: فأتى بالألف واللام شعراً:
نفسي الفداء لأقوام هم خلطوا ... يوم العروبة أوراداً بأوراد
وتسمى الجمعة حربة أيضاً، سميت بذلك لبياضها ونورها فهي في الأيام كالحربة.
وذكر أصحاب السير أن أولاد نوح عليه السلام عزموا على المسير في الأرض ليروها، ويختاروا منها لمطافهم وأوطانهم فبدؤوا بمسيرهم في يوم الأحد فسمي الأول. ثم لما كان اليوم الثاني كان السير الذي شق عليهم في الأول أخف فسمي الاثنين أهون. وفي الثالث جبروا ما تشعث من أحوالهم بعد ما نزلوا سمي لذلك الثلاثاء جباراً، ولأنهم جبروا ما كانوا خففوه من سيرهم فيما قبله فسموه جباراً. وفي الرابع انتهوا إلى عقاب وجبال فحجزتهم ومنعتهم فأدبروا وغيروا الطريق فسمي الأربعاء دباراً. وفي الخامس تسهل الطريق ورأوا ما أنسهم فسمي الخميس مؤنساً. وسميت الجمعة العروبة لأن كلمتهم اجتمعت وبان لهم من الرأي ما كان خافياً فتعربوا واتفقوا. فإذا جمعت السبت فيما دون العشرة أسبت والكثير سبوت. وإذا جمعت الأحد قلت في القليل: آحاد وفي الكثير أحود مثل جمل وأجمال وجمال وأسد وأسود وآساد. والاثنان لا يثنى فإنه مثنى، فإن أردت تثنية جئت بالمعنى فقلت: هذان يوما الاثنين ولا يحسن مضى الاثنانان، فيحصل الإعراب مرتين. قال قطرب: ومع ذلك قد حكي. وفي الجمع أيضاً تقول: مضت أيام الاثنين، إلا أنهم قد قالوا: اليوم الثني فلا بأس على هذا أن يجمع فيقول: مضت أثناء كثيرة.
وحكي عن بعض بني أسد: مضت آثان كثيرة، كأنه جمع أثناء مثل: قول وأقوال وأقاويل، وأسماء وأسامي، فلا بأس بذلك. قال: وحكيت لنا مضت أثانين، ولا وجه لهذا لأنه من ثنيت الشيء، فالنون الأخيرة لا مدخل لها، فأما جمع الثلاثاء والأربعاء فثلاثاوات وأربعاوات بالألف والثاء، لأن فيها علم التأنيث وهو الهمزة بعد الألف كألف حمراء وصفراء.
وزعم يونس أنه يقال: مضت ثلاث ثلاثاوات، وأربع أربعاوات، على تأنيث اللفظ ويقال: ربعت الجيش إذا أخذت ربع القسمة منهم ولم يأت على وزن المرباع في تجزئة الشيء غير المعشار والمرباع المكان الباكر بالنبات. ومنه قوله: رزقت مرابيع النجوم، وفي الأربعاء لغات أربعاء بفتح الباء وأربعاء بكسر الباء والهمزة، ويجمع على أربعاوات وأرابيع تقول أيضاً: ثلاث ثلاثاوات وأربعة أربعاوات على معنى التذكير، لأن اليوم مذكر وقال الشاعر شعراً:
قالوا: ثلاثاؤه خصب ومأدبة ... وكل أيامه يوم الثلاثاء(1/113)
وحكى المفضل في الثلاثاء الأثالث في الكثير. وحكى في جمع الأربعاء الأرابيع أيضاً، وأما الخميس فإذا جمعته على أقل العدد كان على أفعلة تقوله: ثلاثة أخمسة، كما قالوا: جريب وأجربة وكثيب وأكثبة، ويجوز في القياس جمعه على فعلان نحو خمسان، كما قيل: كثيب وكثبان ورغيف ورغفان.
وقال يونس: أخمسة في الأيام، وأخمساء في الخمس، تقول: إذا أخذ الخمس قد أخذ أخمساء في ماله. فأما الجمعة فإنها إذا جمعتها لأدنى العدد كانت بالتاء: ثلاث جمعات، أتبعت الضمة مثل ظلمات، وإن أسكنت فقلت جمعات وظلمات كما أسكن عضد وعضد وعنق وعنق جاز وإن شئت فتحت فقلت ثلاث جمعات وظلمات. وقال النابغة:
ومقعد أيسار على ركبانهم ... ومربط أفراس وناد وملعب
وإن شئت قلت ثلاث جمع كما تقول: ثلاث ظلم وثلاث برم. وإن شئت كان ذلك لكثير. وأيام العجوز سبعة كما قال:
كسع الشتاء بسبعة غير ... أيام شهلتها من الشهر
فبآمر وأخيه مؤتمر ... ومعلل ومطفي الجمر
فإذا مضت أيام شهلتها ... بالصن والصنبر والوبر
ذهب الشتاء مولياً هرباً ... وأتتك واقدة من النجر
قال أبو سعيد: سميت هذه الأيام غبراً للغبرة والظلمة. والشهلة العجوز. وآمر سميت بذلك لأنه يأمر الناس بالحذر منه، وسمي مؤتمر لأنه يأتمر بالناس أي يرى لهم الشر ويؤذيهم. ومنه قول امرئ القيس:
أجاز ابن عمر وكأني خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر
وسمي صناً لشدة البرد. والصن البرد. وسمي صنبراً، لأنه يترك الأشياء من البرد كالصرة في الجمود، وكل ما غلظ فقد استصبر. وسمي وبراً لأنه وبر آثار الأشياء أي عفا. والتوبير المحو والإخفاء، كتوبير الأرنب، وهو أن يمشي في حزونه لا يوقف على أثره، وسمي مطفي الجمر، بذلك لأن شدة البرد تطفئ الجمر. ومعلل سمي بذلك لأنه يعلل الناس بتخفيف البرد. والنجر وقدة الحر، ومنه قيل شهر ناجر. فهذا ما قاله أبو سعيد الضرير، ومن الناس من يقول في أيام العجوز هي: المسترقة في أول الشتاء. ومنهم من يجعلها في آخر الشتاء ويسميها أيام الشهلة. ومنهم من يعدها خمسة، ومنهم من يعدها سبعة على ما تقدم. وحكي أن الكسائي سأله الرشيد عن سببها، فقال: كانت امرأة من العرب قد اهترمت، وكان لها سبعة أولاد فقالت لهم: زوجوني زوجوني زوجوني وهم يضربون عنها ولا يكترثون لها فأنشأت تقول شعراً:
أيا بني إنني لناكحه ... فإن أبيتم إنني لجامحه
هان عليكم ما لقيت البارحه ... من الهياج وحكال الوامحه
ويروى الفاضحة. وقيل: أرادت بالوامحة الواحمة أي المشتهية من قولهم: وحمت المرأة توحم وحما وهي امرأة وحمى، فقالوا لها: بيتي لنا سبع ليال على ثنية هذا الجبل لكل ابن ليلة لنزوجك بعد ذلك، فجاءوها بعد السابعة وقد انقضت.
فمن عدها سبعة فقال: هي: صن وصنبر ووبر وآمر ومؤتمر ومعلل ومطفي الجمر ومن عدها خمسة قال هي: صن وصنبر وأختهما وبر ومطفي الجمر ومكفي الظعن.
وقال أبو سعيد الضرير: سميت أيام العجوز لأن العرب جزت الأصواف والأوبار مؤذنة بالصيف، وقالت عجوز منهم لا أجز حتى تنقضي هذه الأيام فإني لا آمنها، فاشتد البرد لها، وأضر بمن قد جز وسلمت العجوز بما لها.
وقال أحمد بن يحيى: الصحيح أن العجوز عجلت بجز صوفها لحاجتها إليه وثقتها بالحر، فجاء البرد وموتت غنمها، وكانت سبعة فماتت كل يوم واحدة فمن جعلها سبعة فلهذه العلة، وإلا فبرد العجوز ربما بقي عشرة أيام أو أكثر.
وقال أحمد بن يحيى: معتدلات سهيل بازاء برد العجوز والكسع ضرب الضرع بالماء البارد حتى لا يدر، وكسع الشتاء ضرب آخره بهذه الأيام. والشهلة العجوز، وتشهل الغلام إذا تغير بخروج لحيته أو لغير ذلك. قوله بآمر أي بيوم استعد فيه للبرد كأنه أمر بذلك. ومؤتمر أي ايتمر للذي أمره بذلك فقبله وقوي برده. ومعلل من العلل وهو شرب بعد شرب كأنه جاء ببرد بعد برد ومطفي الجمر أي لشدة البرد لا يكون للجمر ثبات. والصن المتكمر برد شديد، والصنبر مثل ذلك. والوبر يكون من الوبر الذي احتيج إليه من البرد. والوقدة شدة الحر من الوقود وهو النار. والنجر شدة العطش. وشهراً ناجر تموز وحزيران.(1/114)
وقال الضرير في قول أبي عبيدة في الكسعة إنها الحمير إنه خطأ، لأن الكسعة تقع على الإبل والبقر العوامل والحمير والرقيق لأنها تكسع بالعصا، أي تساق أو بالخب، فكيف جعلها حميراً وحدها؟ ومما يصدق ما قلنا قول الشاعر في أيام العجوز كسع الشتاء، يريد كسعت أيام العجوز الشتاء كما تكسع السيقة إلى حيث يراد بها، ويقال: إن يومنا لصنبر، وهو القر. وقال غيره في شدة البرد: الخرص والصنبر والزمهرير. وقال بعضهم: أيام العجوز: الصن والصنبر وابن عمهما الوبر والمضوضى في القبر والمسند اللامة الجمر والمدخل الفتاة في الخدر والمسلخ العجوز في الوكر.
وقد سمت العرب الأيام الخمسة بأسماء كما خصت أيام العجوز بأسماء وهي الهنبر والهنزير وقالب القمر وحالق الظفر ومدحرج البعر. قال أبو حنيفة: أما أيام العجوز فهي عند علماء الحضر في نوء الصرفة بعد انقضاء الجمرات وهي خمسة.
وقال الكلابي: هي بالبادية عند ثلاثة بعد سقوط الجمرة الآخرة من الجبهة بنحو من سبع ليال، قال: وهذه الأيام تسمى صفوان. والثاني الصافي وهو أشدها قراً، والثالث صفى وهو آخرها، وأزل نهاره يشبه الأولين، وآخر نهاره يتباشر الناس بلينه. وروى غيره عن العرب أول يوم صفي. والثاني صفوان. قال وذلك إذا اشتد البرد. والثالث همام لأنه يهم بالبرد ولا برد له. وقال أبو زياد: فيها يقولون: أيام العجوز ثلاثة، وقد كان أيام العجوز لنا شهراً. قال: وأيام العجوز عند الجمهور سبعة، وسقوط الجمرة الأولى عند العوام لسبع من شباط. وسقوط الجمرة الوسطى لأربع عشرة من شباط، وسقوط الأخيرة لإحدى وعشرين من شباط. وأول أيام العجوز عندهم لخمس وعشرين من شباط، وآخرها لثلاث من آذار.
الباب الخامس عشر
في أسماء الشهور
على اختلاف اللغات وذكر اشتقاقاتها، وما يتصل بذلك من تثنيتها وجمعها
وهو فصلان:
فصل
معنى الشهر أن الناس ينظرون إلى الهلال فيشهرونه يقال: محرم ومحرمان ومحاريم ومحرمات وإنما سمي محرماً لأنهم كانوا يحرمون القتال فيه وصفر وصفران وأصفار وسمي صفراً لأنهم كانوا يغزون الصفرية وهي مواضع كانوا يمتارون الطعام منها، وقيل: لأنهم كانت أوطانهم تخلو من الألبان ومن كلامهم: نعوذ بالله من صفر الإناء وقرع الفناء. ويقال: صفرت عيبة الود من فلان أي خلت قال شعراً:
وإذ صفرت عياب الود منكم ... ولم يك بيننا فيها ذمام
ويقال شهر ربيع الأول والأول فمن خفض رده على ربيع ومن رفع رده على الشهر. وكذلك شهراً ربيع الأولان والأول وشهور ربيع الأوائل والأول وحكي ربيعاً الأول وأربعة الأول وقالوا: أربعة الأوليات والأول وربيعاً الآخر وأربعة الأواخر والآخر. وسميا ربيعين لارتباع القوم أي إقامتهم. وجمادى الأولى وجماديان وجماديات وجماديا الأولى وقالوا: الأوليين وجماديات الأولى والأول والأوائل وجمادى الأخرى والأخريين وجماديات الأخرى والآخر والأواخر. قال الشاعر:
إذا جمادى منعت درها ... زان جنابي عطن مغضف
ويروى قطرها، وإنما يصف نخلا فيقول إذا قلت الأمطار ولم يكن عشب فزين الإبل أعطنة الناس، فإن جنابي يزينه النخل، فجعل أعطانها منابتها والمغضف يقال نخلة مغضفة إذا كثر سعفها. ورواه بعضهم: معصف بالعين والضاد، يقال: مكان معصف أي كثيرة العصف وهو التبن، والأجود الأول والأصح.
وقال البصريون والكوفيون جميعاً الشهور كلهما ذكران إلا جمادى: لجمود الماء فيها. ويقال: رجب ورجبان وأرجاب وأراجيب وأرجبة وسمي رجباً لترجيبهم آلهتهم فيه، والترجيب: أن يعظموها ويذبحوا عنها، وكانوا يعظمون الشهر أيضاً وقال الشاعر: لإبل من أجل وأرجب. ويقال له: شهر الله الأصم، ومنصل الال بعدما مضى غير دأداء، وقد كاد يذهب، وذلك لقعودهم فيه عن الغزو والكف عن الغارة فلا يسمع فيه قعقعة سلاح، ولا تداعي أبطال، ولا استصراخ لغارة، ولقال: رجبت الأمر إذا هبته وعظمته، ومنه قيل في المثل: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب.
وقال أبو داود: صادفن منصل آلة في فلتة فجرين سرجاً. ويقال لليلة التي لا يدري أهي من الشهر الحرام أو الحلال فلتة. وشعبان وشعبانات وشعابين وسمي شعبان لتشعب القبائل فيها واعتزال بعضهم بعضاً.(1/115)
ورمضان ورمضانات ورماضين وسمي رمضان لشدة وقع الشمس وتناهي الحر فيه ويقال: هذا شهر رمضان وهذا رمضان وقال شعراً:
جارية في رمضان الماضي ... تقطع الحديث بالإيماض
أي إذا ابتسمت: قطع الناس حديثهم ناظرين إليها وإلى ثغرها ومستملحين كلامها ومثل هذا قول الآخر:
ديار التي كادت ونحن على منى ... تحل بنا لولا نجاء الركائب
والمعنى: كادت تصرفنا عن مقصدنا اشتغالا، لولا استعجال الناس، قال الفراء: وكان أبو جعفر الفارسي يروي عن المشيخة أنهم كرهوا جمع رمضان يذهبون إلى أنه اسم من أسماء الله تعالى، والله أعلم بهذا.
وشوال وشوالان وشوالات وشواويل وسمي بذلك لشولان الإبل بأذنابها عند اللقاح، ويقال سمي بذلك لأن الألبان تشول فيه وتقل. ويقال: شال اللبن وشال الميزان إذا خفا.
وذو القعدة وذواتا القعدة وذوات القعدة، سمي بذلك لقعودهم في رحالهم لا يطلبون كلأ ولا ميرة.
وذو الحجة وذوات الحجة لحجهم وقالوا: ذواتا القعدتين، وذوات القعدات وكذلك قيل في ذي الحجة، ويقال: شهر ناجر لشدة الحر، ومنه نجر من الماء إذا جعل يشرب فلا يروى وأنشد شعراً:
ويوم كأن الشمس فيه مقيمة ... على البيد لم تعرف سوى البيد مذهبا
ويوم على قوسين في شهر ناجر ... سعيت لأصحابي وراءه منشبا
شبه وشي ردائه بأفواق النشاب وهي السهام. وقال الأصمعي: شيبان وملحان اسمان لشهري قماح وهما الشهران اللذان يشتد فيهما البرد، سمي شيبان لابيضاض الأرض بالثلج كذلك ملحان مأخوذ من الملحة وهو البياض.
وقال قطرب: يقال لجمادى الأولى وجمادى الآخرة شيبان وملحان من أجل بياض الثلج وقال قولهم: مات الجندب وقرب الأشيب أي قرب الثلج. وقال الكميت:
إذا أمست الآفاق حمراً جنوبها ... لملحان أو شيبان واليوم أشهب
وذكر المفضل: أن من العرب من يسمي المحرم المؤتمر والجمع مآمير ومآمر. قال الشاعر:
لولا ايتماري بكم في المؤتمر ... عزمت أمري للفراق فانتظر
وقال آخر:
نحن أجزنا كل ذبال فتر ... في الحج من قبل وادي المؤتمر
واشتقاقه يجوز أن يكون من شيئين. أحدهما أنه يؤتمر فيه الحرب قال: ويعدو على المرء ما يأتمر. والآخر: أن يكون من أمر القوم إذا كثروا فكأنهم لما حرموا القتال فيه زادوا وأكثروا. ويسمى صفر ناجراً والجمع نواجر. قال:
صبحناهم كأساً من الموت مرة ... بناجر حين اشتد حر الودائق
وقال الكميت:
قطع التنائف عائداً بك ... في وديقة شهر ناجر
وتكون تسميتهم إياه بذلك من شيئين: أحدهما أن يكون من النجر والنجار وهو الأصل، فكأنه الشهر الذي يبتدأ به الحرب، ومنه قيل لجادة الطريق: المنجر. قال: ركبت من قصد الطريق منجره. والآخر أن يكون من النجر وهو شدة الحر فيكون وقوع حرارة الحرب والحديد فيه. ومنه قوله: كل نجار إبل نجارها وكل نار المسلمين نارها، ويسمى ربيع الأول خوان مخفف. وقال الفراء: بعضهم يقول خوان والجمع أخوية وخوانات قال لقيط الإيادي:
وخاننا خوان في ارتباعنا ... فانفذ للسارح من سوامنا
وقال الآخر:
وفي النصف من خوان ود عدونا ... بأنه في أمعاء حوت لدى البحر
واشتقاقه من الخون وهو النقص، لأن الحرب يكثر ويشتد فيه فيتخونهم أي ينتقصهم ويسمى ربيع الآخر ويصان مضموم خفيف وقال الفراء: بعضهم يقول: بصان، وبعضهم يجعل الواو أصلا فيقول: وبصان فيجزم الباء والجميع بصانات وابصة. قال:
وسيان بصان إذا ما عددته ... ويرك لعمري في الحساب سواء
واشتقاقه من الوبيص وهو البريق، أو من البصيص. وأنشد شعراً:
ويوم كأن النار يوقدها له ... هواجر وبصان عسفت به الحرقا
على ما يرى الضبعين يشبه دالجاً ... أحال بدلويه على حوضه دفقا
ويسمى جمادى الأولى: الحنين وبعضهم يقول الحننين، والجمع أحنة. قال المهلهل:
أتيتك في الحنين فقلت رنى ... وماذا بين رنى والحنين؟
وقال:
وذو النحب يؤويه فيوفي بنذره ... إلى البيض من ذاك الحنين المعجل
واشتقاقه من الحنين لأن الناس يحنون فيه إلى أوطانهم.(1/116)
ويسمى جمادى الآخرة: رنى وورنة بجزم الراء. قال الفراء: هكذا السماع لبعضهم وغيره يقول: رنة مثل ورنة، والجمع ورنات. قال:
وأعددت مصقولا لأيام ورنة ... إذا لم يكن للرمي والطعن مسلك
ومن قال: رنة قال في جمعه رنات مثل زنة وزنات، فأما رنى فسمي به لأنه يعلم فيه ما نتجت حروبهم. والرني الشاة الحديثة النتاج، وأما رنة وورنة فمشتق من أرن يأرن، إذا نشط وتحرك فأبدل الواو من الهمزة، وكأنه أريد الوقت الذي يتحركون فيه للغزو، فورنة مثل وجهة، ورنة مثل جهة وقال:
مدرج الريح تربعن ورنة ... إذا عاقل وصغن برومان
فالماير فلما ثنا لهبان الشتاء يممن أحرجة الحاجر.
ويسمى رجب الأصم والجمع صم. قال:
يا رب ذي خال وذي عن عمم ... قد ذاق كأس الحتف في الشهر الأصم
وإنما سمي به لتركهم الحرب حتى لا يسمع فيه صلصلة حديد.
ويسمى شعبان وعلا بكسر العين والجمع أوعال. قال الفراء: وبعضهم يقول وعلان. ويقال وعل أيضاً، وهو الملجأ، يقال: مالي عنه وعل: أي ملجأ، ولم أجد إليه وعلا، أي سبيلا، وكأنه سمي الشهر به لأن الغارة كانت تكثر فيه فيلتجئ كل قوم إلى مما يتحصن به. والتوغل التوقل ومنه اشتق الوعل والمستوعل من الحمير المحترز.
قال ويسمى رمضان ناتق والجمع نواتق. قال:
وفي ناتق أجلت لدى حومة الوغا ... وولت على الأدبار فرسان خثعما
وإنما سمي بذلك لأنه كان مكثراً لهم الأموال، يقال: نتقت المرأة: إذا كثرت الولد، والنتق الجذب أيضاً، كأنه كان يجذب الناس إلى غير ما هم عليه. قال الراعي:
وفي ناتق كان اصطلام سراتهم ... ليالي أفنى القرح جل إياد
نفوا أخوة ما مثلهم كان أخوة ... لحي ولم يستوحشوا لفساد
ويسمى شوال عاذلا، والجمع عواذل. قال تأبط شراً:
شعب الوصل عاذلي بعد حجري ... حبذا عاذل أتى خير شهر
يا ابنة العامري جودي فقد عيل ... على القرب والنوى منك صبري
وقال:
أبوتا الذي أنسى الشهور لعزه ... فعاذل فينا عدل وعلان فاعلم
وهذا البيت شاهد لشعبان وشوال جميعاً. وقال زيد الخيل في وعل:
هيهات هيهات بزيات الكلل ... قد كان أدنى متوعد منك وعل
قد مر شهران ولم يأت الرسل
وكأنه سمي بذلك لأنه كان يعذلهم على الإقامة، وقد حلت الحرب والغارات.
ويسمى ذو القعدة: هواعاً، والجمع أهوعة، وإن شئت هواعات. قال شعراً:
وقومي لدى الهيجاء أكرم موقعاً ... إذا كان يوماً من هواع عصيب
وقيل له ذلك: لأنه كان يهوع الناس أي يخرجهم من أماكنهم إلى الحج. ويقال: هاع فلان يهوع هوعاً إذا قاء، وتهوع وما يخرج من حلقه هواعة.
ويسمى ذو الحجة برك وجمعه بركات، ولك أن تفتح الراء. قال:
أعن لي على الهندي مهلا وكرة ... لدى برك حتى تدور الدوائر
يعني بالهندي سيفه والمهلل دردى الزيت، والكرت البعر، أي أحفظ سيفي من الصدأ واصقله بذلك، وكان الشهر سمي بذلك، لأنه معدول عن بارك وكأنه الوقت الذي يبرك فيه الإبل للموسم، وجائز أن يكون مشتقاً من البركة لأنه وقت الحج، فالبركات تكثر فيه، وأصل البركة من الثبات ومنه برك البعير.
أسماء الشهور العربية
غير الأسماء المشهورة
وقال الدريدي: والمشهور أسماء غيرها بلغة العرب العاربة، وهم كانوا يسمون المحرم موجباً، وصفراً موجزاً، وربيع الأول مورداً، وربيع الآخر ملزجاً وجمادى الأولى مصدراً، وجمادى الآخرة هوبراً، ورجباً مويلا، وشعبان موهباً، ورمضان ذيمراً، وشوالا جيفلا، وذا القعدة محلساً، وذا الحجة مسبلا، وكانوا يبدؤون من السنة برمضان وقد نظم بعضهم المحدثين أسماء الشهور فقال شعراً:
أردت شهور العرب في جاهلية ... فخذها على سرد المحرم يشترك
فهو تمر يأتي ومن بعد ناجر ... وخوان مع وبصان يجمع في شرك
حنين ورني والأصم وعاذل ... وناتق مع وعل وورنة مع برك(1/117)
وقال أحمد بن يحيى: إنما خصت العرب شهر ربيع وشهر رمضان بذكر شهر معهما من دون غيرهما من الشهور ليدل على موضع الاسم، كما قالت العرب: ذو يزه، وذو كلاع، فزادت ذو ليدل على الاسم، والمعنى صاحب هذا الاسم. قال ويصغر جمادى على جميدى وجميدى وجميدية وجمادية وجمادية، كما قالوا: حبارى وحبيرة، وكان الحكم أن يقال في هذا: شهر الربيع الأول، وشهر الربيع الآخر، إلا أنه مما أضيف فيه المنعوت إلى النعت مثل دار الآخرة، وحق اليقين وصلاة الأولى، ومسجد الجامع، حكى ذلك الكسائي واللحياني.
وحكى أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي أن جمع ربيع المطر: أربعة، وربيع النهر أربعاء. وجمادى الأولى والآخرة على ما يجب لأنه أتبع فيه النعت المنعوت ولم يضف إليه، ومنهم من يجيز جاء رمضان، ولا يذكر الشهر ولفظ القرآن شهر رمضان وحكى الخارزنجي أنه يقال في جمع ربيع الأول وربيع الآخر: هذه الأربعة الأوائل، والأربعة الأواخر، والربعة أقصى غاية العدد، وأنشد فيه:
أم الفوارس بالديداء والربعة
فصل
اعلم أن سرار الشهر: آخره، وفيه لغات: يقال سرار الشهر، وسراره وسره وسرره.
ويزيد النوء عندهم غرارة وحمداً إذا كان في سرار الشهر. لذلك قال الراعي:
تلقى نوؤهن سرار شهر ... وخير النوء ما بقي السرار
وقال الكميت:
هاجت له من جنوح الليل رائحة ... لا الضب ممتنع منها ولا الورل
في ليلة مطلع الجوزاء أولها ... دهماء لا قرح فيها ولا رجل
قوله: لا الضب البيت يعني السيل يدخل عليهما فيستخرجهما لبلوغه النجوات وذلك أن الضب والورل يرفعان مكانهما عن مجرى السيول. وقوله: لا قرح يريد أنها من السرار فلا ضوء في أولها ولا في آخرها. وقال الحطيئة شعراً:
بانت له بكثيب حرية ليلة ... وطغا بين جماديين درورا
وهي الليلة التي لا يدرى من أي الشهرين يكون مشكوكاً فيها، وقد يحمد أن يكون أول الشهر أيضاً. قال الكميت:
والغيث بالمتألقات ... من الأهلة في النواحر
النواحر: جمع ناحرة وهي الليلة التي تنحر الشهر، ويقال لها أيضاً: النحيرة. أبو حنيفة: واختلف فيها فزعم بعض أهل العلم أنها أول ليلة من الشهر يذهب إلى أنها في نحره، وزعم غيره: أنها آخر ليلة من الشهر لأنها تنحر الشهر الداخل، قال: ولا أظنه قال هذا إلا لأن يجعل الاختيار في السرار، لأنه أشهر لكنه قد جاء بالمتألقات من الأهلة وجاء أيضاً وافق غر شهر نحيراً، ولا يقال غرة إلا وهي ليلة الهلال، وقد قال الفرزدق: في ناحرات سرار بعد إهلال. فجعلها من السرار وجعلها ناحرة وجعلها بعد الإهلال. قال: فإن كانت هذه الرواية صحيحة فلا أعلم لها وجهاً، إلا أن الليلة دخلت وهي من السرار لأن ما بين استسرار القمر إلى أن يرى الهلال سرار، كله، فدخلت وهي من السرار، ثم رؤي فيه الهلال فصارت نحيرة، وصار ما فيها من غيث بعد الإهلال، هذا أقرب ما أعرف منها. وإن كانت الرواية كما يزعم آخرون أنها قبل الإهلال، فهذا ما لا كلام فيه. ويكون حينئذ مثل قول الراعي شعراً:
ومردة وطغا وافق نوؤها ... قبل الهلال بديمة ديجور
ويكون حينئذ في السرار المحض. فأما قول ابن أحمر:
ثم استهل عليها واكف همع ... في ليلة نحرت شعبان أو رجبا
فإنه. يحتمل المعنيين جميعاً، هذا إن كانت النحيرة معروفه عند الحرب أنها أول ليلة من الشهر. وقيل في قول الشاعر:
كان ابن مزنتها جانحاً ... قسيط لدى الأفق من خنصر
مثل قول الكميت لأن ابن المزنة هو الهلال وقول أبي وجزة: جيران دان من الجوزاء منحور. فليس هو من النحيرة بل هو مثل قول الراعي:
فمر على منازلها فألقى ... بها الأثقال وانتحر انتهارا
أي يشقق بالماء وتعشق فعلى هذا مذهب العرب في اختيار السرار والغرة، قال أبو حنيفة: وقد قال أبو وجرة في ليلة لتمام النصف من رجب: خوارة المزن في أقتادها طول. فلا أعرف أحداً وافقه على هذا الاختيار ولا أعلمهم حمدوا المحاق بليلة، فكان محاقاً كله ذلك الشهر. وقال الأخطل شعراً:
فإن يك كوكب الصمعاء نحساً ... به وافت وبالقمر المحاق(1/118)
وتزعم الهند فيما يحكى عنها أن النحوسة أبلغ في الأمطار، وإنما النحوسة عندهم ما دام القمر مستسراً محترقاً، فإذا فارق الشمس ذهبت عنه النحوسة لأنه قد خرج عندهم من الاحتراق، والعرب تقول: إذا نأت النجوم بغير مطر: خوت تخوي خياً وخوياً وأخوت تخوي إخواء. فإذا أمحلت فلم يكن فيها مطر فذلك الخي والأخلاف، فإذا لم يخلف قبل صدقت وقد صدق النوء إذا كان فيه مطر وما كان فيها من أمطار أو بوارح: فهي الهيوج والواحد هيج. قال الأصمعي: يقال: هذا في الهيج المتقدم. وقال ذو الرمة:
فلما رأين القنع أسغى وأخلفت ... من القصر بيات الهيوج الأواخر
القنع المكان الذي انخفض وسطه وارتفع جوانبه، وإنما وصف نساء دفعن إلى بوارح. وقال آخر:
ونار رديقة في يوم هيج ... من الشعرى نصبت لها الجبينا
قال ابن الأعرابي: العرب تسمي نجوم الأسد كواكب النحوس لشدة بردها. وقال عمر بن اللجاء شعراً:
لما خشيت كبه التنكيس ... وقحم السير بمرمريس
خنست في الباقل والخليس ... واقتحمت كواكب النحوس
والكيس أحياناً مع الخنوس ... حتى وضعت غدوة دريس
أخبر أنه اقتحمت كواكب النحوس فسقطت فوضع ثوبه غدوة، ولم يخف البرد، وقوله: خنست في الباقل أي لم أنتجع، والباقل البقل والخليس من نبات البقل فيه رطب ويابس ومنه قولهم: أخلس الإنسان: إذا خالطه شيب، وأنشد:
قوم أبا الجهم صدور العيس ... أما ترى البرق على خليس
رأى أن يقع الندى والعرب تقول إذا سبق الندى للقر، فلذلك عام خصب يستحبه العرب، ويقولون: أجدحت السماء ويزعمون أنه من علامات الحياء. قال سهيل المدلجي: وأسد الشتاء عنها محدج. وإذا سبق القر الربيع خشوا أن يكون ذلك العام جدب.
الباب السادس عشر
في أسماء الدهر وأقطاعه وما يتصل بذلك
وهو فصلان:
فصل
قالوا: الأزلم الجذع والأزنم الجذع حكي باللام والنون، وأنشد قطرب:
إني أرى لك أكلالا يقوم له ... من الأكولة إلا الأزلم الجذع
قال: وبعضهم يرويه الأزنم بالنون، فمن قال الأزنم أراد أن الأوقات التي يعرض فيها كالزنمات له، تشبيهاً بزنمات الشاة، وهي الزوائد المعلقة من حلقها ومن تحت حنكها. ومن قال: الأزلم أراد أنه سريع المر والتقلب، يقال: ازلأم به إذا أخذه وعدا به مسرعاً. ومنه قوله: أم قيد فأزلم به شاء والعنن. أراد أنه لا يسمع أن قد فات به الموت وسبق وطار. ومنه قيل للقدح: الزلم لخفته في جولانه، وهنا كما قيل في صفاته قدح زلول ودروج، ومعنى الجذع أنه لا يهرم.
وزعم الفراء أن الأصل هو الأزنم من الزنمة، وأن اللام مبدلة من النون، وحكى الخليل: أن الزلم: تكون زائدة في حلق المعز فإن كانت في الأذن فهي زنمة، والنعت إزلم وإزنم، فعلى هذا يكون المعنى فيهما على طريقة واحدة وهو ما ذكرناه من تشبيه الحوادث بالزنمات. ويجوز أن يكون سمى الدهر إزلم تشبهاً بالزلم يكون من القداح لأنها على غرار واحد. وكذلك الليالي والأيام تجيء على مثال واحد، ولذلك جاء في المثل: ما أشبه الليلة بالبارحة، فكأن الزلم هي القطع والقد. ولذلك قيل: هو العبد زلمة أي: قده قد العبيد، ويقال: رجل مزلم أي يشبه القدح في الخفة والنفاقة.
ومن أسمائه المسند ويقال: لا أفعله آخر المسند ويد المسند ويد المسط والمعنى إلى أن يسند الدنيا إلى الآخرة، كان المراد آخر الوقت المسند، وإلى الوقت المسند، ويجوز أن يكون لما أسندت الحوادث إليه لاعتقادهم به الجالب لها والسابق سمي مسنداً، وكان يجب أن يقال: المسند إليه فحذف إليه تخفيفاً. ومن أسمائه: عوض، يقال: لا أفعله عوض العايضين ودهر الداهرين، قال الأعشى:
رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ... بأسحم داج عوض لا يتفرق
وعوض لا يتفرق يفتح ويضم، وقد جاء عوض كلمة يقسم بها يقال: عوض لا يكون ذلك أبداً. وروي بيت الأعشى: بأسحم داجي العوض وفسر على أن عوض كل شيء جوفه. ويستعمل في الزمان، فيقال: عوض الليل أي مثناه.(1/119)
وحكى بعضهم أن عوض اسم للضم وأنشد: حلفت بمايرات حول عوض وقال بعضهم: يجوز أن استعمال إياه في القسم من حيث كان في الأصل اسماً للضم، فأما استحقاقه للبناء فمن حيث كان متضمناً معنى لام التعريف، فمن فتحه فلأن الفتح أخف الحركات، ومن ضمه فلأنه شبه بقبل وبعد.
قال الشيخ: ويجوز أن يكون عوض في الأصل مصدر عاضه يعوضه عوضاً وعياضاً. وجعل اسماً للزمان، والمعنى ما عوض الدهر الناس من أيامه لأن الدهر ليل ونهار يتعاقبان ويتعوضان، والعوض والعياض والعوض البدل، ويقال: هو عوض لك وعياض لك أي عوض.
والمصادر تقام مقام أسماء الفاعلين والمفعولين. ومعنى العايضين الناس المقيمون في العوض فأما قوله: وهل عائض مني وإن جل عائض. فالمراد به هل معط للعوض مني بمعط وإن جل أمره وعظم شأنه. والمعنى لا يفي عوض من الأعواض بي وإن جل، لأني أكون أفضل من كل عوض. ويقال: عضته كذا فاعتاضه، كما يقال: وهبت له كذا فاتهبه، وقضيته الدين فاقتضاه، وعلى هذا قيل في الشيء: هذا لا يعتاض منه، وأنشد صاحب العين شعراً:
يا ليل أسقاك البريض الوامض ... والديم الغادية الفضافض
هل لك والعارض منك عائض ... في هجمة يعذر منها القابض
سدس وربع تحتها فرائض
أي هل لك في العارض منك على الفضل، قال: كان من قصته أن رجلا خطب ليلى، فقال: أعطيك مائة من الإبل يدع السائق منها إذا ساقها بعضاً لكثرتها فلا يطيق شلها وأنا معارضك، أي معطيك الإبل مهراً، وأنا آخذ نفسك، فأنا عائض قد عضت أي صار العوض كله لي، فالفضل في يدي. ومنه قولهم: لا أفعله يد الدهر، وجدى الدهر، فمعنى يد الدهر أي ما كان للدهر يد أي حكم، كما تقول: لفلان في هذا يد أي ملك وأمر، ومعنى جدى: أي ما كان للدهر جدى أي عطية.
ومن أسمائه الأبض وقال: في سلوة عشنا بذاك أبضاً. أي دهراً. وقال بعضهم: الأبض في الأصل جمع أباض، ويخفف ويثقل: وهو الحبل يعقل به البعير فإذا قلت لا أفعله أبضاً. فالمعنى ما كان للدهر سبب. قال الشيخ: أقرب من هذا أن يكون من الأبض وهو العقل والشد كان المراد في زمان عقد علينا لا انفكاك منه. ويكون الأبض في أنه مصدر، والأبض في أنه المأبوض كالسد والسدة والعقد والعقدة. ويجوز أن يكون سمي بذلك لأنه يضعف وبقيد بالهرم، ويقال للدابة والطير إذا أصابه عقال فلم يسلس: انه لموتبض النسا وأبوض النسا قال:
وظل غراب البين مؤتبض النسا ... له في ديار الجارتين نعيق
وقال أبوض النسا بالمسمين خسوف، ولا أقبله ما اختلف الجرة والدرة أي أبداً، لأن الدرة إلى أسفل، والجرة إلى فوق.
ومنه: الأبد والأبيد. ويقال: لا أقبله أبداً لأبيد، وأبد الآباد، وأبد الآبدين وأبد الأبد، وأبد الأبدية، والمعنى إقامة الدهر ومكثه، والإضافة فيه على طريق التأكيد. والأبد المقيم الذي لا يبرح، وأوابد الشعر، سميت أوابد لبقائها على مر الأيام وأنشد شعراً:
صار لطول الدهر من آباده ... كمهرق لم يبق من مداده
غير بقايا نونه وصاده
قولك: أبد الآباد كقولك: دهر الدهور، وأبد الآبدين، كدهر الداهرين أي دهر الناس المقيمين في الدهر، وأبد الآبد كدهر الداهر، ومن أمثالهم أتى أبد على لبد للشيء، وقد مضى وانقطع، ولبد اسم لنسر لقمان.
ومن أسمائه: الطيل والطول قال: وإن بليت وإن طالت بك الطيل.
ويروى الطول، وإنما أخذ من الطول، وبقال: لا أكلمك طول الدهر، وإنما أنث الشاعر الطيل رداً على المعنى، كما يؤنث الألف إذا أريد به المعدودة.
ومن أسمائه: المنون، وهو من مننت أي قطعت ويقال: حبل منين: أي مقطوع، قال أبو ذؤيب:
أمن المنون وريبة تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
فإن قيل: ما باله ذكر المنون وهو والمنية سواء، وأنت إذا رويتها وريبها قلت: أنثه لأنه أريد المنية. قلت: المنون ويراد به الدهر يشبه أسماء الأجناس ولذلك لا يجمع، وكما لم يجمع لم يؤنث أيضاً، وإذا أريد به المنية أشبه اسم الفاعل فأجري مجراه في التأنيث به لمعناه، ويقال: ما فعلته قط.(1/120)
قال ابن السكيت: فيه ثلاث لغات: قط بالفتح والتشديد وضم القاف والتشديد وفتح القاف وتخفيف الطاء إذا كان بمعنى الدهر. وإذا كان بمعنى حسب فهي مفتوحة ساكنة وأصله من قططت أي: قطعت والمعنى ما فعلته قطع دهري كله، وأبداً في المستقبل: بمعنى قط في الماضي. ويقال: لا أفعل كذا ما سمي ابنا سمير، يعني الليل والنهار، ولا أفعله ما سمر السمير، وهم الناس يسمرون بالليل وما اختلف ابنا سمير، ولا أفعله السمر والقمر أي أبداً. وحكي: جاء بالسمر والقمر أبو سعيد وقال: معناه بالنور والظلمة، كما يقال: جاء بالضيح والريح، ويقال: السمير الدهر، وابناه الليل والنهار. وقيل: الغدوة والعشي. وقيل في السمر: إنه ظل القمر فضم النهار إلى الليل. وقيل: السمر الظلمة والمقيم فيه سامر. ومنه السامرة والسمر: حديث القوم بالليل.
وقالوا: لا أفعله حرى وحارى دهر وحيرى دهر، بتسكين الياء. والمعنى ما حار الدهر: أي رجع، ويجوز أن يكون من حار الدهر يحير: أي أقام، ويقال: حيروا بهذا الموضع، أي أقيموا. قال بعضهم: ومنه سميت الحياة. وحكي حير الدهر جمع حيرى، كما قيل: زنجي وزنج، وعربي وعرب.
ويقال: لا آتيك سجيس عجيس، أي الدهر، قد يصرف فيقال: عجيس أي الدهر، فقوله: عجيس يجوز أن يكون من عجسه أي قبضه وحبسه، ومنه معجس القوس أي مقبضه، وعجاساء الليل: ظلمته، لأنها تحبس الناس ويكون المعنى ما بقي الدهر وحبس على أهله. ويجوز أن يكون من عجس الليل وعجيسه أي آخره، ومنه تعجس عن القتال وعجس: أي تأخر فيكون المعنى: آخر الدهر. وسجيس فعيل ويفيد الامتداد على حاله، وسج وسجسج وسجس في طريق. وفي الحديث: )نهار أهل الجنة سجسج) أي معتدل متصل لا آفة فيه. وقال الأعشى:
قيس سجسج ساب إذا هبطت ... به السهل وفي الحزن مرجلا عجلا
قال أبو عبيدة: السجسج: اللين المروض، والشاب من الأرض مسايل صغار، وكذلك السيب وروى أبو عمرو الشيباني سجساً مسجاً: إذا هبطت، وقال: السجس السلس المنقاد لا يتغير، والمعنى: أن هذا البعير إذا سار في السهل امتد في السير على حاله وهو في الحزن مرجل، أي رجيل قوي المشي ويروى مرجماً ومرجلا، فعلى هذا جعل سجيس الدهر لامتداده وسلاسته في الاتصال والاستمرار. ومن قال: سجيس عجيس: جعل لأول مع الثاني كالشيء الواحد وبناءهما لتضمن معنى حرف الجر، كان الأصل سجيساً لعجيس، فحذف حرف الجر وضمن الأول والثاني معناه، ومن أضاف الأول إلى الثاني كان أمره ظاهراً وقالوا: لا أكلمك آخر الأوجس، وسجيس الأوجس، أي آخر الدهر، وسجيس الليالي. قال تأبط شراً:
هنالك لا أرجو حياة تسرني ... سجيس الليالي مسبلا بالجراير
أي ما اتصل الليالي وانقادت على حالة. والأوجس: جمع وجس وهو ما يحصل في النفس من ذعر وفزع لصوت أو حركة، ومنه ترجس الوحشى، وفي القرآن: )فأوجس في نفسه خيفة موسى) )سورة طه، الآية: 67) فكأنه سمي الزمان بالحوادث المفزعة فيه أو جعل إقطاع الزمن يجس ويحدث بمنكرات الأمور حالا بعد حال.
وذكر بعضهم الحوب في أسماء الدهر، قال: يجمع على أحوب وأحواب وحوبة كما قالوا: عصر وعصرة، ودهر ودهرة، وعصن وغصنة، وقرد وقردة وكأنه من الشدة والعظم لأن الحوب الإثم الكبير، ويقال: يحوب الصائح إذا اشتد صياحه. قال الخليل: الحوبا روح القلب، لأنه ملاك الحي.
ومن أسماء الدهر: التخبيل، والتخبيل الزمانة، والخبل الفساد ويقال : خبل خابل. قال: فأبلغ سليط اللوم خبلا خابلا. فالخابل المفسد، وإنما سمي الدهر مخبلا، لأنه إذا يهرم، وإما يقتل. قال الحارث بن حلزة:
فضعي قناعك إن ريب مخبل أفنى معدا
ويقال: لا أفعله سن الخبل: أي دوامه وبقاؤه، لأن سنه من لحيه وليس بمركب فيه، فلا يسقط، ولا أفعله مالات العفراء بأذنابها، ويقال: الفور وهي الظباء وما مصع الظبي بذنبه، وقال الأصمعي: الفور لا واحد له من لفظه، ولا أفعله ما جنح ابن أنان، ويقال: لقيته أول ذات يدين أي أولى شيء، وأما أول ذات يدين: فإني أحمد الله، وآثر ذي يدين، وذوات يدين أي أول ما يأذن.
والفطحل: يقال للزمن القديم قال أبو عمر نوح زمن الفطحل، ويقولون: حين كانت الحجارة رطبة وقد مضى ذكره.(1/121)
ولا آتيك هبيرة بن سعد وأبوه ابن هبيرة: أي أبداً، وقال الأصمعي: يقال في مقابلة أغببت الزيارة، اغتمت الزيارة بالغين المعجمة، أي: أكثرت، قال: وقالوا كان العجاج يغتم أي يطيل الشعر، ويكثر ويقال: أشوى الدهر كذا أي تركه وهو من قولهم: فلان كثر الناس شواية أي بقية من قومه، وما أشوى لنا الدهر له.
وحكى الدريدي: لا آتيك حد الدهر وعجيس الدهر، وسجيس الأوجس وسجيس الحرس، وسجيس الأبض.
وحكى غير واحد جير مبنية على الكسر، يراد به الدهر وربما أجروها مجرى القسم، يقال جير لأفعلن كذا أي حقاً لأفعلن وأنشد شعراً:
ابني جير وإن عز رهطي ... بالسويداء الغداة غريب
ومن أسماء الدهر الخز والملاوة وقد تقدم القول فيه، وذكر ابن الأعرابي قال أنشدني المفضل شعراً:
وفي بني أم زبير كيس ... على الطعام ما غبا غبيس
قال: الغبيس الدهر وغبا: بقي.
الأصمعي: لا أفعل ذلك بأسوس الدهر، أي: أبداً، وهذا كأنه من قولهم في ترك اللقاء: لا آتيك ما أيس عبد بناقة، وهو أن يقول: بس بس يسكن منها للحلب، ويقال: ما زال على أست الدهر محنوناً، وعلى أسن الدهر. ويقال: تركته بأست الدهر، أي ولا شيء معه، وتركته بأسمر المتن: وهو متن الأرض: أي الصحراء الواسعة. ولقيت منه أست الكلبة أي: ما كرهته، وهو أمنع من أست النمر: للذي لا يطلق الدنو منه لمناعته.
قال أبو حاتم: الدهر سبات: أي أحوال مختلفة: سبة حر، وسبة برد، وسبة روح، وسبة دفيء. ويقال: أصابتنا سبة من برد أي لأشد ما يكون من القر فإن أصابك برد في آخر الربيع قلت: أصابتنا سبة من الربيع وأصابتنا سبة من حر وهي مثل الوقدة في نحو من عشرة أيام أو أكثر.
وحكى بعضهم: الأعرم: الدهر، لأن فيه نوائب وصروفاً متلونة، ويقال: عرم الصبي: يعرم إذا أتى بألوان من الغيث، ويقال للأفاعي: العرم، لأن فيها نقطاً تخالف لونها وأنشد: رؤوس الأفاعي فتي مساربها العرم.
فأما قوله: حياكه وسط القطيع الأعرم، فإنما يعني أن بعضه ماعز وبعضه ضأن، ويقال: لا أفعل ذاك حتى لحن الضب في إثر الإبل الصادرة، ولا أفعله حتى يبيض القار، ولا أفعله ما أبس عبد بناقة، وإبساسه: تحريك شفتيه. ولا أفعله ما هدهد الحمام. ولا أفعله ما صلى على النبي مصل، وما دعا الله داع. ولا أفعله ما حلب حالب أضرع الدهر.
فصل
فيما يجري من التأكيدات في أوقات الدهر
يقال: دهر داهر، وأبد آبد وآبيد وحين حاين، ومحين، ومدة مادة ومديدة، وليل لايل.
قال هميان بن قحافة: فصدرت تحسب ليلا لائلا. وقيظ قائظ وصيف صائف، وشتاء شات. وربيع رابع: أي مخصب، ويوم قائظ، ويقال عام أعوم ومعيم وأعوام عوم، قال: من مر أعوام السنين العوم، وحول محيل، وسنة سنهاء وشهر أشهر، ويوم كريت وقميط قال شعراً:
أقامت غزالة سوق الضراب ... لأهل العراقين حولا قميطا
وشهر أجرد وأقرع وأصلع، وسنة جرداء وقرعاء وصلعاء. وقال قطرب: نهار أنهر وليل أليل، وليلة ليلاء: لتأكيد شدتها. وقال غيره: نهار ونهر، ويوم يوم ويم لآخر يوم من الشهر، وقيل: الأيوم في الشديد. قال مروان: مروان أخو اليوم اليمي، وقيل: اليمي أريد الشديد في حرب أو قتال. وإذا ذكر أمر عظيم حدث في يوم قيل: أيوم يوم، وإن كان ليلا قيل: ليل أليل، وإن كانت ليلة مشهورة قيل: ليلى وليلاء، قال في ليلة ليلى، ويوم أيوم. وقال:
كم ليلة ليلاء مدلهمة ... كابدتها لحاجة مهمة
وآخر ليلة في الشهر لظلمتها ليلى مقصورة، وليلاء ممدودة، وليل ليلي. قال: لما أرجحن ليلة الليلى. ويقال: أتانا فلان حين هراق الليل أوله إذا مضى بعضه وقال ابن أحمر:
ثغمرت منها بعدما نفد الصبي ... ولم يرو من ذي حاجة من تغمرا
فبت أعاطيها الحديث بمسنن ... من الليل أبقته الأحاديث أخضرا
ثغمرت أي أصبت شيئاً يسيراً، ومن ذي حاجة أي من حاجة، وذي زائدة. والمسنف المتقدم، وأبقته الأحاديث أي انقطع الأحاديث قبل أن يتغد الليل، وقوله: أخضر يحتمل ضربين: يكون صفة مسنف لأنه نكرة مثله ويجوز أن يكون حالا من الهاء في أبقته، ومثله من الحال قوله: ومال لقنوان من البسر أحمرا.(1/122)
والحرس: الزمان والدهر، قال الكاتب: واختاره من سائر الأمثال في حرسه أي في زمانه، وفي كتاب الخليل: الحرس وقت من الدهر دون الحقب. قال بعض أصحاب المعاني من هذا قولهم: بناء أحرس. للأصم من البنيان.
الباب السابع عشر
في أقطاع الدهر وأطراف النهار والليل
وطوائفهما وما يضارعهما من أسماء الأمكنة أو يداخلها من ذكر الحوادث فيها
وهو ثلاثة فصول.
فصل
قال الأصمعي وغيره: يقال: غبر برهة من دهره وبرهة وزمنة وطرقة وطرقة وحقبة هبة وسبة أي زمان. قال أبو ذؤيب:
بقرار قيعان سقاها صيف ... واه فأنجم برهة لا يقلع
وأقام درجاً من دهره، وحرساً من دهره لا يفعل كذا أي زماناً، ومضت سنبة من الدهر وسنبية أي قطعة، وذكر سيبويه في زيادة التاء هذه اللفظة، واستدل على أنه فعلية لسنبة وأنشد الأصمعي:
رب غلام قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان سنبة
ويروى شرته.
وغير مهوان من الدهر وهو مفعال من الهون، ويقال أيضاً: بيني وبينه مهوان الأرض: أي بعد ومهون أيضاً. ويقال: بقي سبتاً يفعل كذا قال شعراً:
لقد نرتعي سبتاً ولسنا بجيرة ... محل الملوك نقدة فالمغاسلا
والسبت القطع، كان المراد به قطعة، كما يقال: الخلق في المخلوق.
ويقال: إني لآتيه الغينة بعد الغينة، وفينة بعد فينة. قال:
لك البيت إلا فينة تحسنينها ... إذا حان من ضيف علي نزول
وحكى أبو عمرو غلام ثعلب: فإن يفين فينة: إذا زار وقتاً بعد وقت، ويقال لقيته فينة يا هذا، فجعلوه كالعلم، ولم يفعلوا ذلك برهة، وهذا كما قالوا للغراب: ابن داية ولم يفعلوا ذلك في الظهر. ويقال: أتيته آينة بعد آينة، بوزن عاينة أي تارة بعد تارة وكأنه اسم مبني على فاعلة من الأوان كاللايمة من اللوم وللناظرة من الأنظار. وقرئ فناظرة إلى ميسره والنائل من النوال، ولا يجعل آينة جمعاً لأوان مثل الآونة وأنشد:
ترى قورها يغرقن في آل مرة ... وآينة يخرجن من غامر نخل
أي وتارة يخرجن، وأوان كزمان وأزمنة. قال ابن أحمر:
أبو عمرو يؤنسنا وطلق ... وعمار وآونة أثالا
قال أبو عبيدة: لقيته أدنى ظلم ومعناه القرب. وقال الأحمر: فإن كنت تلقاه في اليومين والثلاثة فصاعداً قلت: لقيته أفرط في الفرط، ولا يكون الفرط في أكثر من خمس عشرة ليلة. ويقال: فلان تفارطته الهموم: أي لا تصيبه الهموم إلا في الفرط.
قال أبو زيد: فإن لقيته بعد شهر أو نحوه قلت: لقيته عن عفر. قال: فإن لقيته بعد الحول أو نحوه قلت: لقيته عن هجر. قال: وإذا كان الرجل يمسك عن إتيان صاحبه الزمان ثم يمسك عنه نحو ذلك أيضاً ثم يأتيه قال: لقيته بعيدات بين.
قال الأصمعي: فإن لقيته بين الأعوام قلت: لقيته ذات العويم، قال أبو عبيدة: فأما الغب في الزيارة فمعناه الإبطاء والتقليل على غير وقت معلوم، وأحسب الأصل كان فيه من غب وهو أن ترد الإبل الماء يوماً وتدع يوماً. ومثله غب الحمى ثم انتقل المعنى من هذا في الزيارة خاصة إلى ما فوق وقت الورد ووقت الحمى. قال: ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: )زر غبا تزدد حباً) فقد علم في هذا أنه أراد الإبطاء في الزيارة. قال: وكذلك الإلمام نحو الغب، إنما معناه الأحيان على غير مواظبة ولا وقت محدود، فهذا ما قاله، والإلمام للزيارة لا للوقت، كما أن الاعتمار اسم لها متى كانت لا للوقت. ويقال: رأيته عين عنة أي: الساعة من غير أن طلبته وقيل: أول عاينة أيضاً. ويقال: أتيته على حبالة ذاك أي على حين ذاك.
وحكى الخليل: أقمت عنحه في ضغيغ دهره، أي قدر تمامه. ابن الأعرابي فعلنا كذا وكذا والدهر إذ ذاك مسجل. والمعنى لا يخاف أحد أحداً. ويقال: لهذا دهر حول قلب إذا كان كثير التبديل، كما يقال: رجل حول قلب. ابن الأعرابي يقال: حول كميل ودكيك وقميط وكريت أي تام وأنشد في الكميل شعراً:
على أنني بعدما قد مضى ... ثلاثون للعجر حولا كميلا(1/123)
أي فصل بين الثلاثين وبين الحول ضرورة ويقال: في ضد الكميل حول ختت أي ناقص ويقال: فعلته أياماً حسوماً أي متتابعة، وقيل: تامة وهو من قولك: حسمت الشيء أي فصلته من غيره، وفي القرآن: )سبع ليال وثمانية أيام حسوماً) )سورة الحاقة، الآية: 7) أي نحوساً والأول أصح. ويقال: أرمى فلان على الخميس وذرف وأربى وأوفى.
وحكى الفراء فيه ودى وهذا وإن كان أصله في الزيادة في السنين فقد استعمل في الزيادة في غيرها وأنشد:
وأسمرخطيئاً كأن كعوبه ... نوى القسب قد أربى ذراعاً على العشر
وقد ظلف على الخمسين وقد أكل عليها وشرب، وقد طلع على الخمسين وقد ولاها ذنباً. قال: وسمعت الطوسي يقول: قيل لبعض الأعراب: كم سنة أتت لك؟ فقال: ولتني الأربعون ذنبها. وقيل لآخر مثل ذلك فقال: أنا في قرح الثلاثين، أي في أولها وفي أول شهر منها، والأقراح أوائل الأشياء، واقترح فلان على كذا. وقال ابن الأعرابي في قول أوس:
على حين أن حد الذكاء وأدركت ... قريحة كحسي من شريح مغمم
جعل شباب شريح حين بدا كحسي الماء لا ينقطع ماؤه، ومغمم أي ملأ كل شيء، وغمه غرقه. ويقال: سند في الخمسين، وارتقى فيها هذا عن بعضهم. وقال أبو صاعد: ارتقى فيها فحسب.
وقال ابن الأعرابي: قلت لأبي الجماهر: ابن كم أنت؟ فقال: قد ولتني الخمسون ذنبها. وقلت لآخر مثله فقال: حبوت إلى الستين. وقال بعضهم: أخذت بعنق الستين. وقال آخر: راهمت الثمانين. وهذا مأخوذ من الرهام وهو العدد الكثير. ويقال: ساعة طبقة أي طويلة. وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: منحت الأعقد الخمسة بالخاء المعجمة وبالحاء أيضاً يعني خمسين سنة ومعنى منح قطع. أبو يوسف يقال للجارية التي قد استقمت عصر شبابها: معصر وهي كاعب أولا إذا كعب ثديها ثم يخرج فيكون ناهداً، ثم استوى نهودها فتكون معصراً. قال الراجز:
أوانساً كالربرب الربايب ... من ناهد ومعصر وكاعب
ويقال: لقيت فلاناً بادئ بدء وبادي بدأ قال:
وقد علتني ذراة بادي بدي ... وريثه ينهض في تشددي
ويقال: كشفت الناقة وأكشفت إذا نتجت في كل عام وإذا ألقت الناقة أو الشاة ولدها لغير تمام قيل خدجت. وإن كان تام الخلق وأخدجت إذا ألقته ناقص الخلق وإن كانت أيامه تامة. ويقال شجرة مبكار وبكور إذا أدركت حملها في أول السنة، وشجرة منجار إذا أدركت حملها في آخر السنة. وشجرة معوام إذا حملت سنة وحالت سنة. ويقال: عاده الوجع عداداً إذا عاوده في الشهر أو في السنة لوقت معلوم وأنشد:
أصبح باقي الود من سعادا ... علاقة وسقماً عدادا
إذا أقول قد برأت عادا
وقال آخر:
تلاقي من تذكر آل سلمى ... كما يلقى السليم من العداد
ويحل الهدي يوم النحر بمنى ويبلغ محله. والمحل الموضع الذي يحل فيه نحره، وهو يوم النحر إذا رميت جمرة العقبة. معنى يحل يجب وقرئ قوله تعالى: )يحلل عليه غضبي) )سورة طه، الآية: 81) والمعنى يجب وإذا قرئ يحلل فمعناه ينزل، ويقال: بيننا وبينهم ليال آبيات: أي هينات السير. والأوان الدعة. ويقال: تعاملنا من آمنة ومعاومة ومساناة ومسانهة ومشاهرة ومسابعة ومعاشرة ومياومة ومواضحة من وضح النهار ومناصغة ومباكرة ومغاداة ومظاهرة ومراوحة ومعاصرة وملايلة ويقال: أسقينا مغارطة أي للسابق ومناوبة ومعاقبة ومداولة ومراقبة يرقب حتى يفرغ الغارطة ومقالدة ومواضحة ومساجلة ومكابلة أي دلوا فدلواً ومساوقة أي مرة أسوق عليه السانية مرة يسوق علي وموالبة أي يألب الدلو إلي. قال:
يبشرني بماتح ألوب ... مطرح شبه غضوب
ومعارضة ومرافضة ومباينة يبين له الدلو عن الحجاف ومعالاة أي يعلي وهو أن يجذب الحبل عن حجر ماء في جانب البير. قال:
لو أن سلمى شهدت مظلي ... أمتح أو أدلج أو أعلي
إذن أراحت غير ذات دل(1/124)
ومطاردة ومطاوحة ومناوشة أي يأخذ علي الدلو وآخذ عليه ومدالجة أي أدلج بالدلو إلى الحوض ويدلج وهو المناقلة ومعاطفة يريد عطف السانية وملاطفة وهو أن يحتمل أحدهما لصاحبه فوق الشرط عليه إيجاباً له ولطفاً به. ومراواة أي يرتوي إبلي ثم يستقي ومراوحة وملاطمة ينزل فيخرج الطين ومداومة ومثابرة ومجاحفة إذا نقص الماء نزل وغرف في الدلو. ويقال سقينا إبلنا رفهاً ومرافهة وظاهرة وزعزعة أنصاف النهار وعريحاً مرة بالغداة ومرة بالعشي وغبا ومغابة وربعاً ومرابعة وعشراً ومعاشرة ومطاردة. ابن الأعرابي يقال:
سال واديك من غير مطرك ... وأطرد عيشك في جداول دهرك
لمن عاش في غيره وأنعش بحد سواه. ويقال للسيل إذا سال واديه من مطر وإذا خر سال دراو وإذا سال من مطرك قيل سال ظهراً. يقال: مضى لذلك دهر داهر ودهر دهاهير والمراد التطاول. قال الشاعر:
والدهر أينما حال دهاهير
وقال آخر:
أنا الدهر يفنى الموت والدهر خالد ... فجئني بمثل الدهر شيئاً يطاوله
وقيل: الدهر تكرار الليل والنهار، والزمان: الليل والنهار، وصرف الدهر ما يتصرف بالشيء من أحوال تختلف، ولهذا قال الشاعر: والدهر بالإنسان دوارى. والحين يصلح كل وقت طال أو قصر، لأنه اسم كل زمان، ومنهم من يجعل الجزء والجزئين من الزمان حيناً ويستدل بقوله. تطلقه حيناً وحيناً تراجع. ويقال: مضى هذا الأمر لحين أوان: أي لوقته. قال شعراً:
لأركب صعب الأمر إن ذلوله ... بنجران لا يقضي لحين أوان
وقد حان يحين حيوناً وحينونة وحينت الشيء جعلت له حيناً والتحين في الحلب من هذا، وهو أن يجعل له وقتاً معلوماً يحلب المحلوبة فيه لا يستنقص ولا يستقصي، وهو خلاف الأفن وهو الاستقصاء والامتحاق والانقصاح وهو ذهاب اللبن أجمع. ومنه قيل للقمر: امتحق وانتصح. وذلك في ليالي المحاق إذا لم يبق ضوء. وشيء متأبد أتى عليه أبد. ولا أفعله حتى يفنى الأبد. قال حسان شعراً:
واللوم فيك وفي سمراء ما بقيت ... وفي سمية حتى ينفد الأبد
ولا أفعله آخر كل ليلة وأبد الله وطوال الدهر وطوال الله وطوال الليالي وسجيس الأوجس وسجيس الأعجس وأوجس أعجس وأحنى أقوس، وأحنى أشوس وسجيس المسند ولا أفعله ما أن في السماء نجماً وما أن في السماء نجم يريد: ما عن أي عرض. ويقال: مضى له أمة، وهي مدة من الزمان طويلة ولا تجمع. وقال أبو العباس ثعلب: الأمة مائة سنة فما زاد. ويقال: إن الملوين الليل والنهار. ومنهم من يقول هما اختلافهما وأنشد شعراً:
نهار وليل دائم ملواهما ... على كل حال المرء يختلفان
قال أحمد: لو كان الملوان الليل والنهار لم يضافا إلى ضميرهما من حيث لا يضاف الشيء إلى نفسه، ولكن يريد تكثر الدهر واتصاله بهما. ومضت ملوة من الدهر وملوة وزمنة ومدة طبقة وساعة طبق ومدة طبق والمراد من كله الطول وجمع مليء إملاء وجمع طبق أطباق. ويقال: انتظرته ملياً من الدهر أي متسعاً منه فهذا صفة استعمل استعمال الأسماء. ويقال تمنيت حيناً أي عشت معه ملاوة وقال التوزي: يقال: ملاوة وملاوة وملاوة والملأ المتسع من الأرض. قال: الأغنياني: وارفعا الصوت بالملاء. وفي القرآن: )وأملي لهم إن كيدي متين) )سورة الأعراف، الآية: 183).
وقال ثعلب: الحقب واحد وهو بلغة ليس سنة. وقال غيره: الحقب ثمانون سنة والحقبة السنة. وقال يونس في قوله:
إني أرى لك أكلا لا يقوم له ... من الحليفة إلا الأزلم الجذع
وبعض يقول الأزنم ويقال: الأزلم المتجاذع. ويقال: خروف متجاذع إذا كرب يجذع. وقال:
ما زال ذاك الداب حتى رأيتهم ... يعزون سن الأزلم المتجاذع
وإنما سمي جذعاً لأنه أبداً جديد. ولذلك قال بعضهم: سن الدهر سن الحسل أي: لا يزال جذعاً لا يطري عليه سن أخرى فينتقل إليها ويقولون: لا أفعله سن الدهر وسن الضب وسن الحمل والمعنى واحد. وقوله: الأزلم والأزنم يراد به ما يتعلق به من الحوادث بممره ومتصرفاته، ويقال: أفعل ذلك غداً أو سلعة إذا كان بعد الغد أو قريباً منه.
فصل(1/125)
ذكر ابن الكلبي أن عاداً سمت الشهور بأسماء، وجاء عن أبي عمرو الشيباني والفراء وقطرب والأصمعي وابن الأعرابي وغيرهم من العلماء وفاق في بعضها واختلاف في بعضها، وربما كان الاختلاف في الترتيب، وربما اختلفوا في بناء الكلمة ووضعها وصرفها وترك صرفها، كتركهم الصرف للشمس والشمال فقالوا: هذه شمس بازغة، وهذه شمال باردة. وقال الشاعر حالفاً:
أما وشمس لتحصنهم دماً
وقال:
إذا هبت شمال غدرت فيها ... بلفظ بين مقرحة وآن
فمن ذلك قالوا للمحرم: مؤتمر إجماع منهم. ولصفر: ناجر ومنهم من لا يصرف فيقول ناجر. ولربيع الأول قال قطرب: خوان وخوان مخفف وقال غيره: خوان بالضم والتشديد، ولربيع الآخر: قال قطرب: وبصان وبصان وقال غيره بصان بالتخفيف والضم ووبصان ووابصه وجمادى الأولى: قال قطرب: حنين وقال ابن الكلبي: ربي بالباء ودال ابن الأعرابي: رني بالنون وقال ابن ثريد حنين وجمادى الآخرة قال قطرب: ربي وربه قال ابن الكلبي: حنين وقال الشيباني والفراء: حنين وأنشدا شعراً:
وذو النحب ينويه فيوفي بنذره ... إلى البيض من ذاك الحنين المعجل
رجب قال قطرب: الأصم وهو إجماع منهم شعبان عاذل ابن الكلبي وابن الأعرابي وعل الفراء، وعل مثل فخذ شهر رمضان قطرب: ناتق وغيره نتق شوال: وعل ابن دريد وعل ابن الكلبي وابن الأعرابي عاذل غيرهم معتدل. ذو القعدة: قطرب: ورنه غيره ورنه أخررنه غيره رنة الشيباني يقال له: هواع قال:
وقومي لدى الهيجاء أكرم موقعاً ... إذا كان يوم من هواع عصيب
ذو الحجة: برك بإجماع منهم وروى الصولي عن أحمد بن يحيى في أماليه زعم ابن الكلبي أن العرب كانت تسمي المحرم مؤتمراً وصفراً ناجراً وشهر ربيع الأول خوان. وشهر ربيع الآخر وبصان وجمادى الأولى ربى وجمادى الآخرة حنين ورجب الأصم وشعبان عاذلا ورمضان عاذلا وشوال وعلا وذو القعدة ورنه وذو الحجة برك.
فصل.
استخرجناه من كتاب سيبويه يستغرب أكثر ما فيه ونختم به الكلام في الأماكن والأوقات ويتصل به ذكر شيء من الخلاف بيننا وبين الكوفيين إذا تأمل انشرح به كثير من هذا الباب.
قال سيبويه: يقول هو ناحية من الدار وداره ذات اليمين وأنشد لجرير:
هبت حنوناً فذكرى ما ذكرتكم ... عند الصفاة التي شرقي حورانا
قال: وسمعت بعض العرب ينشد:
سرى بعدما غار الثريا وبعدما ... كأن الثريا حثة الغور منخل
فانتصاب هذه الأحرف كانتصاب قولك هو قصدك قال: وسمعنا ممن يوثق به من العرب هما خطان جنابتي أنفها يعني الخطين اللذين اكتنفا جنبي أنف الظبية. قال الأعشى:
نحن الفوارس يوم الحنو ضاحية ... جنبى فطيمة لا ميل ولا عزل
ويقال: زيد جنب الدار، وجانب الدار، وقالوا: هم حوله وأحواله وحياله وحواليه وهم جنابه وجنابيه وقطريه وأقطاره. وأنشد لأبي حية النميري:
إذا ما تغشاه على الرحل جنبتي ... مساليه عنه من وراء ومقدم
يعني بمساليه عطفيه فهو بمنزلة جنبي فطيمه. وكقولهم: هو وزن الجبل أي ناحية منه، وهو زنة الجبل، وقولك أقطار البلاد فإن جعلت الآخر هو الأول رفعته وأردت به الثقل أعني الوزن والزنة. ومن ذلك قول العرب: هو موضعه أي في موضعه كما قالوا: هو صددك وسقبك أي قربك. وتقول كيف أنت إذا أقبل قبلك ويجيء نحوك قال: كيف أنت؟ إذا أريدت ناحيتك، وكيف أنت إذا أقبل التعب الركاب جعلهما اسمين. والنقب الطريق في الجبل والمراد بقوله جعلهما اسمين، أي لم يجريا على المصدر فهو بمنزلة قولهم هو قريب منك، فإن شئت قلت: هو قريباً وهل قريباً منك أحد. قال: ومما لا يحسن أن يكون ظرفاً قولك: جوف المسجد، وداخل الدار، وخارج الدار وذلك لمفارقتها خلف وقدام وما أشبههما مبهمة. والمختص من أسماء الأماكن لا يكون ظرفاً. قال ومما شبه من الأماكن المختصة بالمكان قولهم: هو مني منزلة الشغاف وهو مني مزجر الكلب وأنت مقعد القابلة. قال فوردن والعيوق مقعد رأي الضربا.
وقال آخر:
وإن بني حرب كما قد علمتم ... مناط الثريا قد تعلت نجومها
وقال: هو مني معقد الإزار، وهم درج السيل قال ابن هرمة:
انصب للمنية لقربهم ... رجالي أم هم درج السيول(1/126)
وكل هذا وأشباهه وضعت مواضع القرب والبعد فلذلك استجيز فيها على اختصاصها وقوعها ظرفاً قال: فاستعمل هذا ما استعمله العرب وأجيز منه ما أجازوه قال: وزعم يونس أن بعضهم قال: هو مني مزجر الكلب، فرفع جعله بمنزلة مرأى ومسمع. ويجعل الآخر هو كالأول. فأما قولهم: داري خلف فرسخاً فكأنه لما قال داري خلف دارك، وهو مبهم فلم يمر ما قدر ذلك فقال: فرسخاً وذراعاً.
وزعم يونس أن أبا عمرو كان يقول: داري من خلف دارك فرسخان، كما تقول: أنت مني فرسخان وفرسخين. قال فإذا قولهم: اليوم الأحد واليوم الاثنان وكذلك إلى الخميس فلأنها ليست يعمل فيها أراد أن يفرق بينها وبين السبت والجمعة فتقول اليوم خمسة عشر من الشهر، إذا أردت أن اليوم تمام خمسة عشر ومن العرب من يقول: اليوم يومك فيجعل اليوم الأول بمنزلة الآن، لأن الزجل قد يقول: أنا اليوم أفعل كذا ولا يريد يوماً بعينه.
واتفق الكوفيون والبصريون على أن قول القائل: خلفك وقدامك وما أشبههما من الأماكن العامة ظروف في الإضافة، واختلفوا فيها إذا أفردت، فقال البصريون: هي ظروف على ما كانت في حال الإضافة.
وقال الكوفيون: إذا أفردت صارت اسماً فقولك زيد خلفاً وقداماً عند البصريين ظرف. وعند الكوفيين زيد خلف على معنى متأخر، وقدام بمعنى متقدم، وكذلك إذا قلت: قام زيد خلفاً نصبته على الظرف عند البصريين. والكوفيون يقولون: تقديره تقدير الاسم الذي هو حال كأنه قال: قام متأخراً وكذلك إذا قلت: قام مكاناً طيباً يكون ظرفاً.
والكوفيون يقولون: ناب عن قولك مترفاً ومعتبطاً، وإنما يحتاج إلى الإضافة عندهم لأنه يكون خبراً عن الاسم، كما يكون الفعل خبراً في الوقت، زيد يذهب فلما كان الفعل يحتاج إلى فاعل ويتصل به أشياء يقتضيها من المصدر والمكان والزمان والمفعول ألزموا المحل للإضافة ليسد المضاف إليه مسد ما يطلبه الفعل ويدل عليه.
وقال البصريون: إنما الإضافة لتعيين الجهة والتعريف. والأصل هو التنكير وإنما التعريف داخل عليه. وأجمع الفرقتان على أن الوقت يرفع وينصب إذا كان خبر المرفوع مبتدأ في حال تعريف الوقت وتنكيره. فالتعريف قولك: القتال يوم الجمعة واليوم. شئت قلت: اليوم ويوم الجمعة. والتنكير كقوله: زعم البوارح أن رحلتنا غداً وغد فالتقدير في الرفع وقت القتال اليوم فحذف المضاف والنصب بإضمار فعل كأنك قلت: القتال وقع اليوم، وإذا كان الفعل مستغرقاً للوقت كله فالبصريون يجيزون فيه النصب الطرف، كما يجيزونه في غير المستغرق ويدخلون عليه في.
والكوفيون لا يجيزون فيه النصب وهذا غلط، ويجعلونه خبراً هو الأول، ولا يدخلون في تقول صيامك يوم الخميس، والصوم يستوعب اليوم ويجوز في قولهم: صمت في يوم الخميس، والكوفيون لا يجوزون النصب ويمنعون من إدخال في لأنها عندهم: توجب التبعيض، والصوم يستوعب اليوم. وقولهم فاسد لأن في لا يمتنع دخولها على زمان الفعل وإن قل، ويقول: كلمت في القوم أجمعين، فيدخل في وقد استوعبتهم الكلام، وامتنع الكوفيون من زيد خلفك أشد منع حتى قال بعضهم في قوله: ألا جبرائيل أمامها إن ذلك إنما جاز لأن جبرائيل لعظم خلقه يملأ الأمام كله، وهذا في التحصيل خطأ لأن الأمام لا نهاية له وكذلك سائر الجهات. وأجازوا ذلك في أخبار الأماكن فقالوا: داري خلفك ومنزلي أمامك وعلى هذا حمل ثعلب قول لبيد: خلفها وأمامها وإذا تأملت فلا فصل.
الباب الثامن عشر
في اشتقاق أسماء المنازل والبروج وصورها
وما يأخذ مأخذها والكواكب السبعة
وهو فصلان:
فصل
العواء يمد ويقصر، والقصر أجود وأكثر، وهي خمسة كواكب كأنها ألف معطوفة الذنب وأنشد:
فلم يسكنوها الجزء حتى أظلها ... سحاب من العوا وتابت غيومها
وسميت العواء: للانعطاف والالتواء الذي فيها، والعرب تقول: عويت الشيء إذا عطفته، وعويت رأس الناقة إذا لويته، وفي المثل: ما ينهي ولا يعوي وكذلك عويت القوس والشعر والعمامة إذا عطفته. ويجوز أن يكون من عوى إذا صاح كأنه يعوي في أثر البرد، ولهذا سميت طاردة البرد، ويقولون: لا أفعله ما عوى العواء ولوى اللواء. وقال بعضهم: إنما سميت العواء لأنها خمسة كواكب كأنها خمسة كلاب تعوي خلف الأسد ونوؤها ليلة.(1/127)
السماك وسفي السماك الأعزل لأن السماك الآخر يسمى رامحاً لكوكب تقدمه، يقولون: هو رمحه وقيل: سمي أعزل لأن القمر لا ينزل به، وقال صاحب كتاب الأنواء، ينزل القمر بهذا دون الرامح وأنشد:
فلما استدار الفرقدان زجرتها ... وهب سلاح ذو سماك وأعزل
والعرب يجعل السماكين ساقي الأسد ونوؤه غزير، لكنه مذموم وهو أربع ليال وسمي سماكاً لأنه سمك أي ارتفع، وقال سيبويه: السماك أحد أعمدة البيت. قال ذو الرمة:
كأن رجليه سماكان من عشر ... ثقبان لم يتفش عنهما النجب
وبين يدي السماك الأعزل أربعة كواكب على صورة النعش يقال لها: عرش السماك ويسمى الخباء. وقال بعضهم: هو عرش الثريا يقال: باتت عليه ليلة عرشية قال ابن أحمر شعراً:
باتت عليه ليلة عرشية ... شريت وبات إلى نفا متهدد
شربت أي لجت في المطر ومتهدد أي متهدم لا يتماسك.
الغفرة وهي ثلاثة كواكب بين زباني العقرب وبين السماك الأعزل خفية على خلقه العواء. والعرب تقول: خير منزلة في الأبد بين الزباني والأسد تعني الغفرة، لأن السماك عندهم من أعضاء الأسد، فقالوا: ثلاثة من الأسد ما لا يضره الذئب يدفع عنه الأظفار والأنياب، وثلاثة من العقرب ما لا يضر الزباني لدفع عنه الحمة، وهو من الغفرة وهو الشعر الذي في طرف ذنب الأسد. وقيل سميت الغفرة لأنها كأنها ينقص ضوؤها، ويقال غفرت الشيء إذا غطيته فيكون على هذا في معنى مفعول، ويقول: شر النتاج ما كان بعد سقوط الغفرة، ويعدون ليلة نزول القمر به سعداً، ونوؤه ثلاث ليال، وقيل بل نوؤه ليلة وأنشد:
فلما مضى نوء الثريا وأخلفت ... هواد من الجوزاء وانغمس الغفر
الزباني وسمي زباني العرب وهما قرناها، كوكبان وهو مأخوذ من الزبن وهو الدفع وكل واحد منهما عن صاحبه غير مقارن لها ونوؤها ثلاث ليال وتهب معه البوارح وأنشد:
ورفرفت الزباني من بوارحها ... هيف أنشت به الأصناع والخبر
الأصناع محابس الماء والخبر جمع خبرة وهي أرض بها السدر ويدفع فيه الماء.
الإكليل وهي ثلاثة كواكب مصطفة على رأس العقرب ولذلك سميت الإكليل وكأنه من التكلل وهو الإحاطة، ومنه الكلالة في النسب ونوؤه أربع لياد، وهو من العقرب وأنشد نجران العود يصف رفقاءه:
طرفين على مثنى أيامنهم ... راموا النزول وقد غاب الأكاليل
جمع الإكليل كأنه جعل كل كوكب إكليلا ثم جمعه.
القلب: وهو كوكب أحمر نير سمي القلب لأنه في قلب العقرب، وأول النتاج بالبادية عند طلوع العقرب، وطلوع النسر الواقع ويسميان الهرارين لهرير الشتاء عند طلوعهما ونوؤها ليلة، ثم يستحسنونها قال:
فسيروا بقلب العقرب اليوم إنه ... سواء عليكم بالنحوس وبالسعد
والقلوب أربعة قلب العقرب وقلب الأسد وقلب الثور وهو الدبران وقلب الحوت.
الشولة وسميت بذلك لأنها ذنب العقرب. وذنب العقرب شايل أبداً، وأهل الحجاز يسمون الشولة الإبرة، وبعدها إبرة العقرب وهي سميت فقر يجعلون كل كوكب فقرة، والسابعة الإبرة. والمجرة تسلك بين قلب العقرب وبين النعايم فتقطع نظام المنازل في هذا الموضع. وفي موضع آخر وهو ما بين الهقعة والهنعة فإنها تسلك بينهما، فتعترض نظام المنازل اعتراضاً، وها هنا تقطع القمر وسائر الكواكب الجارية في المجرة، وذلك حين تنحدر عن غاية تواليها إلى ذروة القبة فتأخذ في الهبوط، فأما قطعها إياها عند السقوط فذلك حين يبتدئ الصعود بعد غاية الهبوط، ويسمى الشولة شولة الصورة وهي منغمسة في المجرة فإذا لم يعدل القمر عن منزله قيل: كالح القمر مكالحة. ومعنى شال ارتفع، ويقال: ناقة شائلة إذا ارتفع لبنها. وجمعها شؤل وناقة شايل: إذا شالت بذنبها وجمعها شؤل وأنشد:
كأن في أذنابهن الشول ... من عبس الصيف قرون الأيل
ونوؤها ثلاث ليال وهي كوكبان مضيئان.
النعايم وهي ثمانية كواكب أربعة منها في المجرة تسمى الواردة لأنها شرعت في المجرة كأنها تشرب وأربعة خارجة منها تسمى الصادرة وإنما سميت نعائم تشبهاً بالخشبات التي تكون على البئر، أو تحت مظلة الرئية فكأنها أربع كذا وأربع كذا كما قال:
لأظل في يدها إلا نعامتها ... منها حزيم ومنها قائم باق
ونوؤها ليلة.(1/128)
البلدة وهي فرجة بين النعايم وبين سعد الذابح وهو موضع خال ليس فيه كوكب، وإنما سميت بلدة تشبهاً بالفرجة التي تكون بين الحاجبين اللذين هما غير مقرونين ويقال: رجل أبلد إذا افترق حاجباه، ونوؤها ثلاث ليال وقيل ليلة.
سعد الذابح وسمي بذلك لكوكب بين يديه يقال هو شاته التي تذبح ونوؤه ليلة.
وأنشد:
ظعائن شمس قريح الخريف ... من الفرغ والأنجم الذابحة
سعد بلع سمي بذلك لأن الذابح معه كوكب بمنزلة شاته وهذا لا كوكب معه فكأنه قد بلع شاته. وقال بعضهم: سمي بلع لأن صورته صورة فم فتح ليبلع. وقال غيره: بل لأنه طلع حين قال الله تعالى: )يا أرض ابلعي ماءك) )سورة هود، الآية: 44) كأن انكشاف ذلك الطوفان في يومه ونوؤه ليلة.
سعد السعود وسمي بذلك لأن في وقت طلوعه ابتداء ما به يعيشون وتعيش مواشيهم ونوؤها ليلة وقيل: إن السعد منها في واحد وهو نهارها وأنشد:
ولكن بنجمك سعد السعود ... طبقت أرضي غيثاً درورا
سعد الأخبية وسمي بذلك لكوكب في كواكبها على صورة الخباء وقيل: بل لأنه يطلع في قبل الدفء فيخرج من الهوام ما كان مختبئاً، ونوؤه ليلة وليس بمحمود.
فرغ الدلو المقدم ويقال: الأعلى، وبعضهم يقول: عرقوة الدلو العليا وعرقوة الدلو السفلى. وذكر بعضهم: إنما سمي فرغ الدلو لأن في وقت الأمطار تأتي كثيراً فكأنه فرغ دلو وهو مصب مائها. وقال بعضهم: إنما سمي بالعرقوة والفرغ تشبهاً بعراقي الدلو، لأنها على هيئة الصليب ونوؤه ثلاث ليال، وأنشد في خريف:
سقاه نوء من الدلو تدلى ولم يوار العراقي
وأنشد:
يا أرضنا هذا أوان تحيين ... قد طال ما حرمت بين الفرغين
ويقال للفرغ الناهز وهو الذي يحرك الدلو لتمتلئ.
فرغ الدلو المؤخر: ونوؤه أربع ليال وهو محمود.
الرشا: وهو السمكة ويقال: بطن السمكة وقلب الحوت ويقال لما بين المنازل الفرج فإذا قصر القمر عن منزلة واقتحم التي قبلها نزل بالفرجة ويستحسنون ذلك إلا الفرجة التي بين الثريا والدبران، فإنهم يكرهونها ويستحسونها ويقال لها الضيقة. قال:
فهلا زجرت الطير ليلة جئته ... لضيقه بين النجم والدبران
الشرطان: وسمي بذلك لأنهما كالعلامتين أي سقوطهما علامة ابتداء المطر، والشرط العلامة ولهذا قيل لأصحاب السلطان: الشرط لأنهم يلبسون السواد كأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها ويقال: شرطي في كذا ويقال: إنهما قرنا الحمل، وهما أول نجوم فصل الربيع، ونوؤه ثلاثة أيام وهو محمود غزير.
البطين وسمي بذلك لأنه بطن الحمل ونوؤه ثلاث ليال وهو شر الأنواء وأنزرها وقلما أصابهم إلا أخطأهم نوء الثريا.
الثريا ويسمى النجم والنظم وهو تصغير ثروى من الكثرة وقيل: سميت بذلك لأن مطرها يثري ويقال: ثرى ونوؤها خمس ليال غير محمود.
الدبران ويسمى التابع والثاني والتبع والفتيق وحارك النجم وسمي الدبران لأنه دبر الثريا أي صار خلفها، ويسمى المجدح والمجدح حكاهما الشيباني وقال الأموي هو المجدح ونوؤها ثلاث ليال وقيل: بل هو ليلة وهو غير محمود.
وقد فسر بعضهم ورد القطاة إذا استمال التبع على أنه الدبران ومما يحكى عنهم من كلامهم: كان كذا حين خفق المجدح يعنونه. وقال بعضهم: إنما قال: مجدح إذا اتصل نوؤه بنوء الثريا فغزر ويقولون: سقيت بمجاديح السماء وأرسلت السماء مجاديح الغيث. فإنه قيل: أتقول لكل ما دبر كوكب الدبران. قلت: لا أقول ذلك لأنه قد يختص الشيء من بين جنسه بالاسم حتى يصير علماً له، وإن كان المعنى يعم الجمع على ذلك قولهم النابغة في الجعدي والذبياني وابن عباس في عبد الله وأنشد:
وردن اعتسافاً والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماء محلق
يدف على آثارها دبرانها ... فلا هو مسبوق ولا هو يلحق
الهقعة وسميت بذلك تشبيهاً بهقعة الدابة: وهي دائرة تكون على رجل الفارس في جنب، ويقال فرس مهقوع وكانوا يتشاءمون بها وهي ثلاثة كواكب تسمى رأس الجوزاء ونوؤه ست ليال، ولا يذكرون نوؤها إلا بنوء الجوزاء وهي غزيرة مذكورة وتسمى الأثافي لأنها ثلاثة صغار متعينة. وقال ابن عباس لرجل طلق امرأته عدد نجوم السماء يكفيك منها هقعة الجوزاء. وهي ثلاث.(1/129)
الهنعة وهي منكب الجوزاء الأيسر وسميت بذلك الأيسر من قولهم: هنعت الشي إذا عطفته وثنيت بعضه على بعض فكأن كل واحد منهم منعطف على صاحبه. ومنه الهنع في العنق، وهو النواء وقصر ونوؤها لا يذكر وهو ثلاث ليال إنما يكون في أنواء الجوزاء ويقال: سميت الهنعة لتقاصرها من الهقعة والذراع المبسوطة وهي بينهما منحطة عنهما ويقال: أكمة هنعاء إذا كانت قصيرة وتهانع الطائر الطويل العنق مقاصرة عن عنقه.
الذراع: ذراع الأسد وله ذراعان مقبوضة ومبسوطة ونوؤها خمس ليالي وقيل ثلاث ليال، وهو أقل أنواء الأسد محمود غزير. والمقبوضة هي اليسرى سميت مقبوضة لتقدم الأخرى عليها، وهي الجنوبية وبها ينزل القمر وكل صورة من نظم الكواكب، فميامنها مما يلي الشمال، ومياسرها مما يلي الجنوب لأنها تطلع بصدورها ناظرة إلى المغارب فالشمال على أيمانها، والجنوب على أيسارها وقد فهم ذلك القائل، والنجوم التي تتابع بالليل وقتها ذات اليمين ازورار وإنما أزورارها على أيمانها إطافة منها بالقطب لذلك قال:
وعاندت الثريا بعد هدء ... معاندة لها العيون جار
وأحد: كوكبي الذراع الغميصاء وهي التي تقابل العبور والمجرة بينهما. قال أبو عمر: وهي الغميصاء والغموص وقد يكبر فيقال: الغمصاء ويقال لكوكبها الآخر الشمالي المرزم مرزم الذراع والآخر في الجوزاء قال:
ونائحة صوتها رابع ... بعثت إذا خنق المرزم
ويروى إذا ارتفع المرزم. ومرزم الجوزاء لا نوء له، وقد ذكر بالنوء على سبيل الشعريين قال:
جرى راحتاك جري المرزمين ... متى تنجدا بنو لي ثغور
ومن أحاديثهم: كان سهيل والشعريان مجتمعة، فانحدر سهيل فصار يمانياً وتبعته العبور عبرت إليه المجرة، وأقامت الغميصاء، فبكت لفقد سهيل حتى غمصت والغمص في العين نقص وضعف.
النثرة: وهي ثلاثة كواكب وسميت النثرة لأنها مخطة يمخطها الأسد كأنها قطعة سحاب، ويقولون: بسط الأسد ذراعيه ثم نثر ويجوز أن تكون سميت بذلك لأنها كأنها من سحاب قد نثر والنثرة الأنف ونوؤها سبع ليال.
الطرف: سميت بذلك لأنهما عيناً الأسد ويقال: طرف فلان أي رفع طرفه فنظر.
قال: إذا ما بدا من آخر الليل يطرف ونوؤه ثلاث ليال.
الجبهة: جبهة الأسد ونوؤه محمود سبع ليال، ويقولون: لولا نوء الجبهة ما كانت للعرب إبل.
الزبرة: زبرة الأسد أي كاهله، وقيل: زبرته شعره الذي يزبئر عند الغضب في قفاه أي ينتعش، وهذا ليس بصحيح، لأن ازبأز من الزباعي والزبرة من الثلاثي وسميت الخراتان من الخرت، وهو الثقب كأنهما تنخرتان إلى جوف الأسد وهذا غلط لأن رأي العين يدركهما في موضع زبرة الأسد. ونوؤها أربع ليال.
الصرفة: وسميت بذلك لأن البرد ينصرف بسقوطها، وقيل: أرادوا صرف الأسد رأسه من قبل ظهره، ويقال: الصرفة ناب الدهر لأنفا تفتر عن فصل الزمان، وأيام العجوز في نوئها، وهو ثلاث ليال، وحكي عن بعض الأعراب أنه قال: الخراتان مع الأسد تجريان معه وليستا منه. قال: ومعنى قول الشاعر:
إذا رأيت أنجماً من الأسد ... جبهة أو الخرأة والكتد
وإن رأيت الخرأة من غير أن يكون جعلها شيئاً من خلقه، ثم قال والكتد فرجع إلى ذكر ما هو من خلقه فهذه المنازل.
فصل
في بيان الكواكب السبعة
وأما النجوم الخنس الجواري الكنس: فمعنى الخنس أنها تخنس أي ترجع ومعنى الكنس أنها في بروجها كالوحش تأوي إلى كنسها، وهي سبعة مع الشمس والقمر سيارة غير أن بعضها أبطأ سيراً من البعض، فكل ما كان فوق الشمس فهو أبطأ من الشمس، وما كان دون الشمس فهو أسرع من الشمس بينا ترى أحدها آخر البروج كر راجعاً إلى أوله ولذلك لا ترى الزهرة في وسط السماء أبداً وإنما تراها بين يدي الشمس أو خلفها، وذلك أنها أسرع من الشمس، فتستقيم في سيرها حتى تجاوز الشمس، وتصير من ورائها، فإذا تباعدت عنها ظهرت بالعشاء في المغرب فترى كذلك حيناً ثم تكر راجعة نحو الشمس حتى تجاوزها فتصير بين يديها، فتظهر حينئذ في الشرق بالغدوات. وهكذا هي أبداً، فمتى ما ظهرت في المغرب فهي مستقيمة، ومتى ما ظهرت في المشرق فهي راجعة وكل شيء استمر ثم انقبض: فقد خنس، كما أن كل شيء استتر فقد كنس.(1/130)
زحل: واشتقاقه من زحل مزحلا إذا بعد، ويقال: زحلت الناقة إذا تباطأت في سيرها وتأخرت وهو معدول عن زاحل وزاحل معرفة.
المشتري وهو من شرى البرق إذا استطار لمعاناً، ويقال: شرى وشرى ومنه استشرى غيظاً ويقال: شرى يشرى إذا لج وتشدد ومنه سميت الشراة لتشددهم في الدين. وقال بعضهم: إنما تسموا بالشراة ذهاباً إلى قول الله تعالى: )إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) )سورة التوبة، الآية: 111) المريخ: فقيل من المرخ كأنه يوري ناراً لأن المرخ شجر سريع الوري ومن أمثالهم: في كل شجر نار. واستمجد المرخ والعفار، ويجوز أن يكون سمي به لبعد مذهبه، ومنه المريخ السهم الخفيف الربع قذذ يجعل للغلاء وهو بعد الرمي ويقال: هو من غلوة السهم.
الشمس: قال الخليل: الشمس عين الضح. وبه سميت معاليق القلادة وقيل هو من المشامسة لأنها نحس في المقارنة وإن كانت سعداً في النظر ومنه شمس لي فلان إذا ظهرت عداوته.
الزهرة: بفتح الهاء من الشيء الزاهر، ويكون من الحسن والبياض جميعاً. والزهور تلألؤ الشمس. ومنه قولهم: زهرت بك زنادي.
عطارد: من الاضطراب: لأنه في مرأى العين كأنه يرقص وهو من قولهم: شاء عطرد أي بعيد وكذلك سفر عطرد، ويجوز أن يكون سمي به لأنه لا يفارق الشمس فكأنه عدة لها، والعطردة العدة يقال: عطرد هذا عندك، أي عدة.
القمر: من القمرة وهي البياض، ويقال: تقمرت الشيء إذا طلبته في القمراء. وقال أحمد بن يحيى: إنما سمي القمر ساهورا لأنه يخسف بالساهرة، والساهرة الأرض، قال تعالى: )فإذا هم بالساهرة) )سورة النازعات، الآية: 14) أي أرض القيامة، وذلك أن القمر خسوفه بظل الأرض وحجزها بينه وبين الشمس. وقال قطرب: بهور القمر علوه في الظهور وأنشد:
إذ فارس الميمون يتبعهم ... كالطلق يتبع ليلة البهر
والكوكب الدري منسوب إلى الدر لضيائه، وإن كانت الكواكب أكثر ضوءاً من الدر كأنه يراد: يفضل الكواكب لضيائه كما تفضل الدر سائر الحب ودري بلا همزة وبكسر أوله حملاً على وسطه وآخره لأنه تثقل عليهم ضمة بعدها كسرة. وما آن كما قيل كرسي في الكرسي ودري فقيل من النجوم الدراري التي تدرأ: أي ينحط ويسير متدافعاً. يقال: درأ الكواكب إذا تدافع منقضاً فيضاعف ضوؤه ولا يجوز أن يضم الدال ويهمز، لأنه ليس في الكلام فعيل.
ومثال: دري فعلي منسوباً إلى الدر ويقال: درأ بضوئه يدرأ درأ ودرواً ودرأت له بساطاً: أي بسطته، ويجوز دري إذا جعلته منسوباً إلى إندر، فيلحقه تغير النسبة، لأن النسبة لها الكلمة كثيراً، ويقال: كسفت الشمس وكسفها الله وخسف القمر وخسفه الله، طلعت الشمس، ونجم النجم وغربت الشمس وصغا القمر وخفق النجم وصغا أيضاً ويقال: تعرضت الثريا في السماء: إذا زالت عن كبد السماء إلى ناحية المغرب، وجنحت الثريا قال: وأيدي الثريا جنح في المغارب. وقال آخر:
وكأن غالية تباشرها ... بين الثياب إذا صغا النجم
الباب التاسع عشر
في أقطاع الليل وطوائفه
وما يتصل به ويجري مجراه
قال يعقوب: يقال: فعلته أول الليل وهو من عند غيبوبة الشمس إلى العتمة والعشاء من صلاة المغرب إلى العتمة، ويقال: أتيته ظلاماً وعشاء وبعد عشوة من الليل، والعتمة: وقت صلاة العشاء الآخرة.
قال الخليل: العتمة ويقال العتمة بسكون التاء: الثلث الأول من الليل بعد غيبوبة الشفق، وله قبل صلاة العتمة، والعتوام التي تحلب في تلك الساعة، وإنما سموها العتمة من استعتام نعمها، ويقال: حلبناها عتمة وعتمة والعتمة بقية اللبن يغبق به تلك الساعة يقال: أفاقت الناقة إذا جاء وقت حلبها، وقد حلبت قبل ذلك.
وقال الأصمعي: عتم يعتم إذا احتبس عن فعل الشيء يريده وقد عتم قراه وأعتمه وإن قراه لعاتم أي بطن محتبس، وصف عاتم، وعتم أورد إبله في تلك الساعة وأعتم صار فيها. قال أوس: أخو شركي الورد غير معتم.(1/131)
وحكى ابن الأعرابي: قالت الينمة: أنا الينمة أعبق الصبي قبل العتمة، وأكب النمال فوق الأكمة. والينمة: بقلة تشبه الباذروج، قال: وكلما كثرت رغوة اللبن كان أطيب لبناً من المضارع، يقول دري يتعجل للصبي وذلك أن الصبي لا يصبر والمراعي أطيب، وأما فورة العشاء فعند العتمة، يقال: أتيته فورة العشاء وعند فورة العشاء، وإنما هو من فار النهلام إذا علا وارتفع. أبو عبيدة: أتيته ملس الظلام أي حين يختلط الظلام بالأرض، وذلك عند صلاة العشاء وبعدها شيئاً، وفعلته عند ملس الظلام، وهو مثل الملث، وعند غلس الظلام أيضاً، ودمسه وجنحه وغسقه. وأتيته في غسق الليل، وحين غسق الليل أي في اختلاط وحين اختلط. ثم الشميط وهو مشبه بالشيب لبياض الفجر في سواد الليل كالشيب في الشعر الأسود، ويقال: غسق يغسق غسوقاً وغسقاً. قال تعالى: )ومن شر غاسق إذا وقب) )سورة الفلق، الآية: 3).
وقال كعب: حتى إذا ذهب الظلام والغسق. ويقال: تحندس الليل من الحندس وهو شدة سواد الليل وظلمته، والجمع حنادس وحناديس. قال: وأدركت منه بهيماً حندساً، وليلة مدلهمة وملطخمة وخدارية. وقالوا: القترة: الظلمة مع الغبار، وفي القرآن: )ترهقها قترة) )سورة عبس، الآية: 41) ويقال: مضى جرس من الليل بالسين غير معجمة، والجميع اجراس وجروس قال:
حتى إذا ما بركت بجرس ... أخذت عشي ونفعت نفسي
ومضى عنك من الليل، وعنك والجمع أعناك قال:
فقاموا كسالى يلمسون وخلفهم ... من الليل عنك كالنعامة أقعس
أي طال، وانحني: أقعس.
قال يعقوب: وسمعت أبا عمرو يقول: العنك ثلث الليل الباقي، وأعطيه عنكاً من مال أي قطعة، ويقال: سجا الليل وأسجى، قال تعالى: )والضحى والليل إذا سجى) )سورة الضحى الآية: 1 2). ويقال: يوم أسجى، وليلة سجواء، وهي اللينة الساكنة، وبعير أسجى، وناقة سجواء أدمة، ويقال: مضى ملي من الليل والجميع أملاء، ومضى هدء والجمع هدوء ومضى بضع من الليل، وهنيء من الليل: قطعة، ومضى هزيع من الليل أي ساعة والجميع هزع. وقال بعضهم: الهزيع من الليل النصف، ويقال: اهتزعوا أي خرجوا بهزيع من الليل. وجرش من الليل بالشين المعجمة.
قال يعقوب: وحكى الفراء: جئته بعد جوش من الليل، وجوشن من الليل. قال إذ الديك في جوشن من الليل أطر. وقال بعضهم: الجوشن: وسط الليل. قال ذو الرمة:
تلوم نهياه بياه وقد مضى ... من الليل جوش واسبطرت كواكبه
وقال ابن أحمر شعراً:
يضيء صبيرها في دي حي ... جواش ليلها بينا فبينا
أي قطعة من الأرض بعد قطعة، وقال: جواشن هذا الليل كي يتمولا. وبقيت جهمة من الليل، وجهمة أيضاً، والجهمة: بقية من سواد الليل في آخره. قال الأسود شعراً:
وقهوة صهباء باكرتها ... بجهمة والديك لم يتعب
وحكى: جهنة من الليل بالنون، وقال بعض أهل اللغة: جهينة اسم الخمرة منها يشتق. وقال بعضهم: الجهمة السحر. وحكى أبو حاتم، والهجمة لغة فيها الهاء قبل الجيم والفعل عنها اجتهم واهتجم واجتهن، ومضى وسع من الليل يكون من أوله إلى ثلثه أو ربعه. وجوز من الليل أي نصف من الليل، والجميع: أجواز، وقال: النضر جوز الليل: وسطه. ويقال: انطلقنا فحمة العشاء، والجميع فحمات أي في أول الظلمة. وقال بعضهم: فحمة العشاء شدة الظلمة، ويقال: فحموا من الليل أي لا تسيروا في أول الليل حتى تذهب فحمته، وأفحموا أيضاً وكأنه مأخوذ من الفحم.
وقال ابن الأعرابي: الفحمة ما بين غروب الشمس إلى نوم الناس، سميت فحمة لحرها وأول الليل أحر من الآخر. قال: ولا تكون الفحمة في الشتاء وذلك لأنه لا حر فيفحمهم، وإنما يفحمون ليكن الحر عنهم فيسيرون ليلتهم وقيل: فحمة العشاء من لدن المغرب إلى العشاء الآخرة.
وقال أبو صالح الفزاري: فحمة العشاء: من لدن العشاء إلى نصف الليل، يقال: أفحم القوم إذا أناخوا فحمة الليل. وجاءنا بعد هجعة من الليل أي نومة، ومضت جزعة من الليل أي ساعة من أوله، وصبة من الليل نحو جزعة وكما استعملا في أول الليل استعملا في آخره أيضاً فقيل: بقيت جزعة من الليل وبقيت صبة من الليل.(1/132)
وحكى النضر: أتيته بسدفة من الليل. ومضى طبق من الليل: أي هوى منه وجاء بسحرة بدهمة وجاء سحيراً: أي في آخر الليل وجاء بأعلى سحرين أي: بالسحر الأعلى. قال الدريدي: العرب تقول: جئتك بالسحر بالألف واللام، وجئتك بسحر وبسحرة، وبأعلى السحرين، وجئتك سحر، ولم ينونوا فيقولون: سحراً أصلا، والكلام في هذا وأشباهه قد مضى مستقصى.
وحكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: ليس في كلام العرب: أتانا سحراً إنما يقولون: أتانا بسحر. ويقول: جئتك تنفس الصبح أي عند أوله. وفي القرآن: )والصبح إذا تنفس) )سورة التكوير، الآية: 18) وقد جشر الصبح يجشر جشوراً أي: بدا لك. ومنه سميت الجاشرية للشرية عند الصبح، ويقال: جئتك في غبش الليل والغبش حين تصبح.
قال: منظور الأسدي:
موقع كفي راهب يصلي ... في غبش الليل أو النثلي
وقيل الغبش: بقية لم يفضحها نهار، قبيل الفجر، ويقال: أتيته بغبشي من الليل ويقال: غبش الليل وأغبش. وغطش وأغطش، فأما العسعس والعسعسة فهما تنفس الصبح وقالوا: عسعس الليل عسعس الليل عسعسة إذا أظلم.
وقال بعضهم: عسعس ولى فهذا من الأضداد، وهو قول ابن عباس قال: عسعسع أدبر. وقال علقمة بن قرط:
حتى إذا للصبح لنا تنفسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا
وقال آخر:
وردت بأفراس عتاق وقتبة ... قوارط في أعجاز ليل معسعس
كأنه أراد هاهنا الظلمة، ومثله في المعنى:
قوارباً من غير دجن نسا ... مدرعات الليل لما عسعسا
والبلجة: في آخر الليل عند الصبح، والقوير: عند الصلاة قال:
طال ليلي أراقب التنويرا ... أرقب الصبح بالصباح بصيرا
قال النضر: جئته بعدما مضى وهن من الليل أي ساعة، وبعد هدء من الليل. وقال بعضهم: الموهن حين يدبر الليل. وأوهن الرجل: صار في تلك الساعة. وبعد هدأة من الليل وبعدما هدأت الرجل. وبعدما هدأت العيون، وقالوا: تعجس من الليل وهو الفريع والسعواء بعد الوهن، قال: وقد مال سعواء من الليل أعوج. ويقال: مضى هيتاء من الليل، وقطع. قال: سرت تحت إقطاع من الليل ظلتي. والساعة الطويلة ملأ، ويقال: أتيته غطشاً ويغطش. ومضى سبج من الليل أي: قريب من وسطه ونصفه. أبو زيد: مضى الليل عشوة وهو ما بين أول الليل إلى ربعه. الكسائي: مضى سعو من الليل وسعواء من الليل أي: ساعه. ومضى هتأ من الليل، وحكى الأحمر: هتى وهتأ من الليل.
وحكى قطرب وغيره: ذهب هيتاء من الليل، ويقال: ما بقي إلا هتأ عن غنمهم أو إبلهم، وهو الأول من الأقل من الباقي أو الذاهب. ويقال: مضى دهل من الليل أي صدر، وأنشد لأبي هجيمة شعراً:
مضى من الليل دهل وهي واحدة ... كأنها طائر بالدود مذعور
ويقال: مضى مهواء من الليل أي طائفة منه. ومضى مهوان من الليل: أي هوى منه. ويقال في واحد الإناء من قول الله تعالى: )آناء الليل) )سورة آل عمران، الآية: 113) مضى آنى وآني وإني وإنى. قال الهذلي شعراً:
حلو ومر كعطف القدح مرته ... في كل آنى قضاه الليل ينقل
ويقال: تصبصب الليل وهو أن يذهب إلا قليلا. وفعلته عند تصبصب الليل. وكذلك أبهار الليل إذا ذهب عامته. وبقى نحو من ثلثه. قال الأصمعي: أبهار الليل انتصف. والبهرة: الوسط من كل شيء. وبهرة الصدر ما ضم الصدر من الزور وجمعها بهر. وقيل: ابهيراره طلوع نجمه، وذهاب فحمته، حتى بهرت نجومه سواده. والشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها من أول إلى قريب من العتمة، ويقال: فعلته عند غيبوبة الشفق، وهما شفقان من أول الليل كما أن الفجر فجران من آخر الليل. والهبة الساعة يبقى من السحر ويقال: ثرنا بهبة من الليل. قال أبو نصر حكاية عن الأصمعي: الفجر أول ضوء تراه من الشمس في آخر الليل كما أن الشفق آخر ضوء منها في أول الليل. ويقال: فجر الصبح يفجر أو فعلت هذا حين انفجر الصبح وانفلق. وسطع سطوعاً والساطع أسنى من الطالع. يقال: أدلجنا عند الفلق والفرق، وعند الانفلاق، وفي القرآن: )أعوذ برب الفلق) )سورة الفلق، الآية: 1).(1/133)
وقال قطرب: تميم تقول: فرق الصبح، وغيرهم فلق الصبح، والفلق أيضاً الطريق بين الجبلين، وناشئة الليل: ما ينشأ منه، ومن ذلك قولهم: غلام ناشئ ونشأت سحابة، وفي القرآن: )إن ناشئة الليل هي أشد وطأ) )سورة المزمل، الآية: 6) أي أشد مكابرة، ومن قرأها وطاء أي مواطأة من قولك تواطأ القوم: إذا اجتمعوا على أمر كان أحدهم يطأ حيث يطأ صاحبه. والنشيئة مثل الناشئة، ويقال في الجارية: نشيئة أيضاً أحوالها في النشاء والنشية أيضاً حجر يكون على الحوض من قوله: هرقناه في بادي النشية داثر. وعمود الصبح نفسه والصديع الصبح. قال: كأن بياض لبته صديع. وإيضاح الفجر وإيضاحه إضاءته واستنارته وأصله: الانشقاق ومنه: انضاحت العصا أي انشقت، وأدلجنا ببلجة أي سرنا بسدف قبل طلوع الفجر، وتبلج الصبح وانبلج، وفي المثل تبلج الصبح لذي عينين، وجئتك عند البهر أي حين بهر الصبح ضوء القمر، ويقال: قمر باهر وأنشد:
وقد بهرت فما تخفى على أحد ... إلا على أحد لا يعرف القمرا
والأسفار أن يرى موقع النبل، ويقال: أتيته في سفر الصبح والفجر، وأتيته سحرية ويقال: وردت الماء بالغطاط أي: قبل طلوع الفجر. وفعلت كذا عجيس الليل وعجاساء الليل، وعحبس الليل أي آخر الليل. ومنه قيل: تعجس عن كذا أي تحبس وتأخر. ويقال: جئتك غلساً وجئتك جنح الليل، وقد جنح جنوحاً. وجئتك عند تهور الليل وتوهره. وذلك إذا مضى إلا قليلا. والتهور في الليل: كالمثل والتشبيه. قال يعقوب: مضت قويهة من الليل، أي قطعة وهذا من قولهم: قوه الصيد إذا جاشه إلى مكان. ومضى سهواء من الليل أي بعدما مضى صدره، وأصله الانبساط والاتساع، ومنه السهوة الصفة. والساهية ما اتسع واستطال من غير حمر برد العين. والروية الطائفة من الليل. وقالوا: الصريم أول الليل وآخره جميعاً لأنه من الأضداد. وقال بعضهم: إنما وقع عليهما لأنه اسم لما يتصرم من كل واحد منهما عن صاحبه قال:
فلما انجلى عنها الصريم وأبصرت ... هجانا تسامى الليل أبيض محلما
وقال آخر:
علام تقول عاذلتي بلوم ... يؤرقني إذا انجاب الصريم
والديسق: النور والبياض ويقال: انشق الصبح عن ريحانة الفجر أي نسيمه. ويقال: صبح مكذب وهو عجز الليل أي آخره، وذلك إذا نهض بياض في عجز الليل ثم ينمحي ويندجي عجز الليل، ثم يمهل ساعة، ثم يظهر شميط الصبح وهو بياض في سواد آخر الليل، وذلك الصبح المسدف وقال أبو ذؤيب:
شغف الكلاب الضاريات فؤاده ... فإذا ترى الصبح المصدق يفزع
والخيط الأسود هو عجز الليل ثم يشق خيط الليل عن خيط النهار، فيقال: هذا خيط الصبح وفي القرآن: )حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) )سورة البقرة، الآية: 187) ومن ذلك قول الراجز: مرت بأعلى سحرين تذأل وأعلى سحرين هو قبل الصبح. أبو حاتم يقال: قد شق الصبح وصدع وسطع وانفلق وتنفس وجشا جش وذلك إذا طلع ووضح، ويقال: شق حاجب الصبح، وإذا طلع حاجبه وهو أوله فذلك تباشير الصبح، ويقال: أذن الصبح ومناذي الصبح وهما الصبح بعينه. وبعضهم يقول: بل هو الطائر إذا نطق لا بان الصبح والصبح والفجر والصريم واحد ويقال كشط الليل عنا غطاءه ورفع الليل عنا اكتنافه. والاهتجام من آخر الليل. وقال بعضهم: هي الهجمة. وقال بعضهم: الجهمة الجيم قبل الهاء، وذلك الاجتهام والجهمة والعسجة سواء وهما من السحر. ويقال: أتيته بأغباش السواد والواحد غبش قبيل الصبح قال ذو الرمة:
أغباش ليل تمام كأن طارقه ... تطخطخ الغيم حتى ماله جوب
وقال ابن الأعرابي: علباء مضر تقول ولدته لتمام، فتفتح التاء وتميم تكسر، ويقال: في كل لغة ليل التمام بالكسر، وذكر الأصمعي أنه لا يكسر التاء إلا في الحمل والليل، وعقب الليل بقايا آخره ويقال: أتيته وقد بقيت علينا عقب من الليل وأفراط الليل أول تباشيره، والواحد فرط، ومنه الفارط الذي سبق القوم إلى الماء فأما قول الهمداني:
إذا الليل دجى واستقلت نجومه ... وصاح من الإفراط هام جواثم(1/134)
فقد اختلفوا فيه فقال بعضهم: إفراط الصبح: لأن الهام إذا أحس بالصباح صرخ. وقال غيره: الفرط العلم المستقدم من أعلى الأرض، الذي يكون شرعاً بين أحياء فمن سبق إليه كان له. وذكر قطرب: يقال لما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سجسج. ومن الزوال إلى العصر يقال له: الهاجرة. ومن العصر إلى الأصيل: غروب الشمس، ويقال العشي. ثم هو القصر والعصر إلى تطفيل الشمس وهو الطفل. والجنوح: إذا جنحت الشمس للمغيب. ثم الليل من وقت غروبها إلى انتصاف الليل. الجنح ثم السدف والملس والملث وأتيته بمسى الليلة أي عند المساء، وأتيته ممسياً ومساء. وحكى الفراء: أتيته ممسى خامسة ومسى خامسة ومساء خامسه، وحين ألقى الليل علينا رواقة وكنفيه وحين ألقى علينا سدوله وسدوره وسقطيه وجلبابه، ودخلنا في جنان الليل وهو ما وراءك. وقال:
جنان المسلمين أو دميسا ... وإن جاورت أسلم أو غفارا
وأسطمة الليل وسطه، وكذلك أصطمة القوم والبحر للوسط، والأكثر، ويقال: اصطم بغيرها، وسوق الليل ما دخل فيه وصم من شيء. وفي القرآن: )والليل وما وسق) )سورة الانشقاق الآية: 17) ويقال: أتانا حين هدأت القدم، وحين هدأ السامر، وجئتك بغطاش من الليل. قال أبو حاتم: هو من قوله تعالى: )وأغطش ليلها) )سورة النازعات، الآية: 29) وثبج الليل وحومته ولجه معظمه.
وحكى الدريدي: خرجنا بدلجة ودلجه وبلجة وبلجه وسدفة وسدفه ويقال: دبر وأدبر وقبل النهار وأقبل وحكى أبو عمرو عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال: يقال هو الليل والأيهم والسد والأبهم والجمير والأعمى والأدهم قال: ومن نعوته ونعوت ظلمته: الغاضي والمغضي والأسود والأدلم والأخضر والأصبغ والأقتم والأكلف والبهيم والديجور والدجوجي والغيهب والمخم وأطلس وأطحل والأسجع والساجي والغيهبان والحذاري والحندس والأغضف والأغلف والأغطش والغاسق والكافر والعافي والرويزي والسمر والأغم والأسهم والساهم والأحلس والأغدف والمغدف.
ومن أسمائه: الغشي والأروق والأخطب والألمى والأحوى والمدلهم والأحم والغاطي والجان والمخب والأقوس والجول والعمس والعكامس والعكس والعكابس والحلبوب والحلكوك والدامس والداماء وهو من أسماء البحر يشبه الليل به وذو السدود والأغبس والأسحم والأعشى والأغشى والغطاط والأغطى ويقال: الغطاط عند السحر الأعلى ويقال أيضاً: أتيته بغطاط أي بشيء من سواد الليل والمعلنكس والمعرنكس والعسكرة للظلمة والمطخطخ وقسورة الليل شدته وغسوه والطرمساء والطلمساء للظلمة في السحاب وهي من الضباب أيضاً. وقالوا: غباشير الليل والنهار لما بينهما من الضوء. والتباشير العمود نفسه ويقال: أدمس الليل أي أظلم، ويقال للظلمة: الغيطلة. قال القرزدق: والليل مختلط الغياطل أليل.
ابن الأعرابي: قيل في مثل يا هادي الليل جرت فالبحر أو الفجر يرفعان وينصبان، والمعنى إنما هو الهلاك أو يرى الفجر كنى عن الهلاك بالبحر. ويقال: اغتمد ليلتك أي سر واجعلها غمداً لك. وهذا كما يقال: اتخذ الليل جملا وامتطاه. ويقال: اغتمد أيضاً. والطراق أيضاً الليل وتطارقه تراكمه. ويقال: آتيتك طوى من الليل أي بعدما مضت ساعة وكذلك أتيتك قويمة من الليل.
الباب العشرون
في أقطاع النهار وطوائفه
وما يتصل به ويجري مجراه
قال لنضر: النهار من طلوع الشمس ولا يعد ما قبل طلوعها من النهار وجمعه أنهرة ونهر. وقال الخليل: هو ضياء ما بين طلوع الشمس يحديه حتى تحل صلاة الضحى. وغزالة الضحى أولها يقال: أتانا في غزالة الضحى وهو أول الضحى أي مد النهار الأكبر فأما رأد الضحى فحين يعلوك النهار حتى يمضي منه نحو الخمس، ويقال: أتيته ضحياً وراداً وقد تراددت الضحى وترادها وتزيلها وارتفاعها وجئتك في فوعه النهار وهي أوله.
وحكى بعضهم فوعة كل شيء أوله وفوعه، وكذلك فيعته وفيعه. ومنه كان ذلك عند أول فوعة أول شيء، وأتيته مد النهار، وهو بعد الرأد وأتيته مد النهار الأكبر. وجئته حين ذر قرن الشمس، وحين بزغت وشرقت وأشرقت، فالشروق الطلوع، والإشراق الانبساط والإضاءة وفعلته حين ترجلت الضحى، والنهار وهو علوه واختلاطه.(1/135)
وأتيته غدوة وبكرة، وهما لا يصرفان لأن غدوة علم، وبكرة نحوها: وإني لآتيته في البكرة وآتيه بكراً وآتيه غدوة بكراً، وأتاني غدوة باكرة والمبكر ما جاء في أول وقت وكذلك الباكر. قال:
ألا بكرت عرسي بليل تلومني
وفي الحديث: )بكروا بصلاة المغرب) ويكون الغداة أصله ذاك أيضاً. ومنه باكورة الربيع والتبكير أول الصلاة. وفي الحديث: )من بكر وابتكر) فبكر يكون لأول ساعات النهار. وقال ثعلب: ويجوز في قوله ابتكر أي أسرع إلى الخطبة حتى يكون أول دان وسامع، كما يقال: ابتكرت الخطبة والقصيدة أي اقتضيتها وارتجلتها ابتداء لم أرو فيها وقول الفرزدق شعراً:
إذا هن باكرن الحديث كأنه ... جنى النخل أو أبكار كرم تعطف
أراد أنها حملت أول حملها. ويقال: أتانا بعدما متع النهار الأكبر، يريد بعدما علا النهار واستجمع النهار. وذكر بعضهم: متع النهار متوعاً إذا ارتفع، وذلك قبل الزوال. وانتفح النهار وذلك قبل نصف النهار، وفي قبل النهار أي في أوله وفي الضحاء الأكبر. وأتيته شد النهار، وذلك حين ارتفع النهار. قال عنترة:
عهدي به شد النهار كأنما ... خضب الليان ورأسه بالعظلم
بالعندم. ويروى مد النهار. وأتيته كهر النهار. وقال الشاعر:
وإذا العانة في كهر الضحى ... دونها أحقب ذو لحم زيم
وقال ابن أحمر في نحر النهار:
ثم استهل علينا واكف همع ... في ليلة نحرت شعبان أو رجبا
وحكى قطرب: الجون النهار. قال والجون في لغة قضاعة الأسود وفيما يليها الأبيض. وفعلته في شباب النهار وفي نحر النهار وفي وجه النهار وفي هادي النهار، وهادي كل شيء مقدمه وفي القيظ الهاجرة وهو قبل الظهر بقليل، وسميت هاجرة، لأن السير يهجر فيها، وجعل الهجران للوقت على المجاز، ويقال: هجر القوم وتهجروا أي ارتحلوا بالهاجرة. وأهجروا دخلوا في الهاجرة. والظهيرة نصف النهار في القيظ حتى تكون الشمس بحيال رأسك فتركد. وركودها أن تدوم حيال رأسك كأنها لا تريد أن تبرح.
وأتيته في فرع النهار: أي في أوله، وحكى: بئس ما أفرعت أي ابتدأت. والفرعة أول نتاج الناقة. ويقال: أفعل هذا في تلع الضحى أي في ارتفاعها. ويقال: تلع النهار: أي ارتفع. وتلع الظبي أخرج رأسه من الكناس وأتلع رأسه فنظر. كما يقال: طلع وأطلع. وأتيته حد الظهيرة وفي نحر الظهيرة قال:
حد الظهيرة حتى ترحلوا أصلا ... إن السقاء له رم وتبليل
وجئته في الظهيرة وعند الظهيرة وبعضهم يجعله على تصرفه من الظهور وبعضهم من الإظهار وهو شدة الحر، وحكى أبو سعيد السكري يقال: صلينا عقب الظهيرة، وأعقاب الظهيرة أي تطوعاً بعد الفريضة. وجئت في عقب النهار إذا جئت وقد مضى وكذلك عقبانه، وجئت في عقبه ومعقباً إذا جئت وقد بقيت منه بقية.
وأتيته عند اصمقرار الظهيرة: أي حين اصمقرت الشمس وصخدت. وزرته بالهجير، وعند آخر الهجير قال العجاج شعراً:
كأنه من آخر الهجير ... قرم هجان هم بالغدور
والهجير فعيل بمعنى المفعول وكما قالوا: هاجرة على المجاز قبل هجير على التحقيق أيضاً. فأما تأنيث الهاجرة فكان المراد بها، وبأمثالها الساعة. وأما التذكير حيث جاء فلان: المراد به الوقت وقولهم: الهجير لو أريد به الساعة لألحقوا به الهاء بعد أن قطع عن الموصوف، وسلك به طريق الأسماء كما لحق بقوله البينة وهي الكعبة واللقيطة وما أشبههما.
وأتيته بالهجير الأعلى، وفي الهاجرة العليا: يريد في آخر الهاجرة. وأتيته بالهويجرة وذلك قبل العصر بقليل، وأتيته هجراً. قال الفرزدق:
كأن العيس حين أنخن هجراً ... مغقاة نواظرها سوام
ويقال: أتيته حين قام قائم ظهر، أي في الظهيرة، وأتيته حمى الظهيرة وحين صخدت الشمس وأزمعت بالركود، وأظهر فلان وخرج مظهراً أي داخلا في الظهيرة وظهر فلان: نزل في الظهيرة وبه سمي الرجل مظهراً.(1/136)
وأتيته صكة عمى وأعمى: أي نصف النهار إذا كادت الشمس تعمي البصر وقد يصرف فيقال: عمى. ورواه أبو عمرو عمي على فعيل، وهذا على أنه تصغير أعمى مرخم مثل زهير وسويد، من أزهر وأسود. ومعنى صكه أي كأن الشمس تصك وجه ملاقيها، ولو قيل: صكة أعيم لكان على الأصل. الأصمعي القائلة النزول والحط عن الدواب والاستظلال ويقال: أتانا عند القائلة وعند مقيلنا، وعند قيلولتنا، ورجل قائل وقوم قيل. قال العجاج:
إن قال قيل لم أكن في القيل
والغائرة: الهاجرة عند نصف النهار وغور القوم: نزلوا في الغائرة، ويقال: أتيته عند الغايرة: يريد عند آخر القائلة. وحكى الأصمعي: غوروا بنا فقد رمضتمونا، ويقال: ارتحلوا فقد غورتم أي أقمتم ونمتم، والأصل الحط عن الدواب والنزول. ونزلنا دلوك الشمس وذلك حين تزول عن كبد السماء ودلكت أيضاً غابت، وقال الله تعالى: )أقم الصلاة لدلوك الشمس) )سورة الإسراء، الآية: 78) فهذا حجة في الزوال، وأنشد الدريدي حجة في الغيبوبة:
هذا مقام قدمي رباح ... غدوة حتى دلكت براح
أي غابت الشمس فصارت في المغرب فستر عنه براحته، قال أبو بكر: هذا قول الأصمعي، واحتج بقوله: ادفعها بالراح كي تزحلفا. يقال: نزلنا سراة النهار أي: ارتفاعه ونزلنا عند مدحض الشمس وقد دحضت الشمس تدحض دحوضاً ودحضاً وذلك إذا كان بين الظهر الأولى والعشي ما سفل من صلاة الأولى وبعد العصر الأصيل.
وأتيتك عشية أمس آتيه العشي ليومك الذي أنت فيه وسآتيه عشي غد بغير هاء، وكنت آتيه بالعشي والغداة وغدواً وعشياً أي كل غداة وعشية وآتيه عشاء طفلا وذلك عند مغيب الشمس، حين تصفر وينقص ضوؤها.
قال لبيد: وعلى الأرض غيابات الطفل، وقد طفلت الشمس إذا دنت للمغيب.
ويقال: أتيته مرهق العشاء أي حين أتانا، وقد أرهق الليل وأرهقنا القوم لحقونا، وأرهقتنا الصلاة: أي استأخرنا عنها. وقال أبو زيد: أرهقنا الصلاة أي: أخرناها حتى يدنو وقت الأخرى.
وزرته قصراً ومقصراً: أي عشياً، وقد أقصرنا: أي أمسينا. قال:
فأدركهم شرق المرورات مقصراً ... بقية نسل من بنات القراقر
وقد أصلنا وأتينا أهلها موصلين.
وقال الأصمعي: أتيته أصلا وأصيلا وأصيلة والجمع أصائل وآصال.
قال أبو ذؤيب:
لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل
وقال الأسدي: من غدوة حتى دنا في الأصل قال تعالى: )بالغدو والآصال) )سورة الأعراف الآية: 205) )سورة الرعد الآية: 15) )سورة النور، الآية: 36). وقال يعقوب: أتيته أصيلاناً وأصيلاناً وهو تصغير أصيل على غير القياس كما صغروا عشية عشيشية وعشية وعشيشياناً وعشياناً كل هذا بمعنى العشية قال:
عشيشية والليل قد كاد يستوي ... على وضح الصحراء والشمس مطرف
وقد قالوا: أتيته مغيربان الشمس ومغيربانات. وقال بعضهم: كأنهم جمعوا أصيلا على أصلان كما تقول: بعير وبعران ثم صغروا أصلان فقالوا: أصيلان ثم أبدلوا من النون لاماً فقالوا: أصيلال، والتصغير في الأزمان على طريق التقريب على ذلك قولهم: قبيل الزوال والعصر وبعيدهما. وكذلك يجيء فيما يكون من الأماكن ظرفاً نحو: دوين وفويق وتحيت. فأما الجمع فمردود على أجزائه كأنه يجعل كل جزء من أجزاء العشية عشية، ولا يمتنع أن يكون جمعه على ما حوله من الأوقات كما قالوا: ضخم العشاءين وكما أنهم يقصدونه بما حوله من الأوقات فيجمعونه كذلك يقصدونه مجرداً من غيره فيقولون: جئته ذات العشاء، يريدون الساعة التي فيها العشاء لا غير، وهذا حسن، ويقال مسى خامسة وممسى خامسة، ومساء خامسة، ومسيان أمس، ومسى أمس وجئته صبح خامسة ومصبح خامسة، وآتيك ممسى الليلة أي عند المساء قال:
يا راكباً إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق
وحكى يعقوب: لقيته بالضمير وهو غروب الشمس من قوله:
ترانا إذا أضمرتك البلاد ... يخفى ويقطع منا الرحم
ومن قول الآخر: أعين لابن مية أو ضمار.(1/137)
ويقال: جئته مرمض البحير، وهو من قولهم: رمضت الغنم رمضاً: إذا رعت في شدة الحر فتحين رئاتها وأكبادها فتقرح، ورمض الرجل أحرقته الرمضاء، وهم يرمضون الظباء أي يأتونها في كنسها في الظهيرة فيسوقونها حتى تفسح قوائمها فتصاد. وفي الحديث: )صلها إذا رمضت الفصال) وهو وقت تقوم من مواضعها لتؤذيها بالحر. ويقال: فعلته عند متضيف الشمس للغروب.
وفي الحديث: )يؤخرون الصلاة إلى شرق الموتى) وفسر على أنه إذا ارتفعت الشمس عن الحيطان وصارت بين القبور كأنها لجة وقيل: هو أن يمص الإنسان بريقه عند الموت كأنه يريد لا يبقى من النهار إلا مقدار ما بقي من نفس ذلك. ويقال: أتيته بشفا أي بشيء قليل من ضوء الشمس. قال الراجز:
أشرقته بلا شفاء أو بشفا ... والشمس قد كادت تكون دنفا
وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي: القصر بعد العصر، والقصر أيضاً فإذا كان بعد ساعة فهو الظهيرة، فإذا كان بعد ذلك فهو الأصل، فإذا كان بعد ساعة وهو الطفل فإذا كان بعد ذلك فهو العرج حتى إذا ما الشمس همت بعرج والتضمير الدخول في الضمير، يقال: ضمرنا وأضمرنا وضمرنا وقصرنا وأقصرنا وقصرنا، وعرجنا وأعرجنا وعرجنا فإذا كان بعد ذلك فهو التضيف. فإذا كان بعد ذلك فهو الشفق وهو الأحمر، فإذا غابت الشمس وظهر البياض في تلك الحمرة فهو الملث، فإذا اسودت الدنيا قليلا فهو المقسورة. فإذ اسود أشد من ذلك فهي الفحمة، فإذا جاءت العتمة فهي العتم.
وذكر الدريدي الريم من آخر النهار واختلاط الظلمة، وهنا يجوز أن يكون من ريم الجزور، لأنه آخر ما يبقى منه ويأخذه الجارز. قال:
وكنت كعظم الريم لم يدر جازراً
وحكى ابن الأعرابي: انصرفوا برياح من العشي، وأرواح من العشي إذا انصرفوا وعليهم بقية من النهار وأنشد لرفيع الوالبي الأسدي:
ولقد رأيتك بالقوادم نظرة ... وعلي من سدف العشي رياح
وبيان هذا الذي قاله أنه يقال: هبت لفلان ريح الدولة، والسلطان فكان المراد: وانصرفوا وللعشي سلطان. فأما الشاعر فإنه جعل السدف كناية عن الشباب والسواد بدلالة أنه قال بعد هذا البيت:
خلق الحوادث لمتي فتركن لي ... رأساً يصل كأنه جماح
وقال بعض أصحاب المعاني: يقال: إني على بقية من رياح: أي أريحية ونشاط وهذا يقرب ما قلنا.
وفواق من الزمان مقدار ما بين الحلبتين وفي القرآن: )ما لها من فواق) )سورة ص الآية: 15).
والصريم: يقع على الليل والنهار لأن كل واحد يتصرم عن صاحبه وقوله تعالى: )قأصبحت كالصريم) )سورة القلم، الآية: 20) قيل: كالليل المظلم وقيل: كالنهار أي لا شيء فيها كما يقال سواد الأرض وبياضها، فالسواد الغامر، والبياض الغامر، وقيل: كالصريم: أي المصروم المقطوع ما فيه ويقال: ما رأيته في أديم نهار ولا سواد ليل.
ويقال: ابتلجا ببلجة وبلجة وذلك قبل الفجر، وقد تبلج الصبح. وفي المثل: تبلج الصبح لذي عينين. وأنبلج أيضاً. أبو زيد يقال: انتصف النهار ولم يعرفوا الأنصاف، وقد أباه الأصمعي، وقال: لا يقال الأنصف، وأنشد للمسيب بن علبس شعراً:
يمد إليها جيده رمية الضحى ... كهزك بالكف البري المدوما
يعني بالبري القدح إذا سوى ولم يرش وتدويمه ثباته في الأرض.
وحكى الفراء عن المفضل قال: آخر يوم من الشهر يسمى ابن جمير بضم الجيم، وقال ابن الأعرابي: هو ابن جمير بالفتح، قال الفراء وأنشدنا المفضل:
وإن أغاروا فلم يحلوا بطائلة ... في ظلمة من جمير ساوروا العظما
يعني الذئب والعظما جمع عظيم وأنشد الأصمعي:
نهارهم ليل بهيم وليلهم ... إن كان بدراً فحمة بن جمير
ويقال: هو الليلة التي لا يطلع فيها القمر، وروى بعضهم بيت الأعشى:
وما بالذي أبصرته العيون ... من قطع بأس ولا من فنن
وقال: معناه ولا من قرب يقال: سعى فنناً وفناً أي ساعة.
ومما حكى لا يبيتن أحدكم جيفة ليل قطرب نهار. القطرب: دويبة تقطع نهارها بالمجيء والذهاب.
ومن أمثالهم: دلهمس الليل برودا المنتجع، يقال لمن يغيب عن فراشه في غارة أو ريبة وما يجري مجراها، برودا المضجع: أي لو كان أويا الفراش لكان سخناً، وكذلك قوله: دلهمس أي ليلة أبداً مظلم لأنه لص.(1/138)
ويقال: أقصر الرجل كما يقال: أمسى وأقصر إذا آخر أمره إلى العشي، أو جاء في ذلك الوقت. قال: حتى إذا أبصرته للمقتصر، وقصر الشيء غايته هو الأصل. قال: كل من بان قصره أن يسيرا.
ويقال: بات فلان بليلة القد بالدال والذال جميعاً، وهو القنفذ، ويقال: إنه لا ينام لذلك قال شعراً:
قوم إذا دمس الظلام عليهم ... حدجوا قنافذ بالنميمة تمزع
ويقال: ما بقي من النهار إلا نوة حتى كان كذا أي ساعة. ومنه ذهب تواً أي: منفرداً. ومما يجري مجرى المثل قوله: أسائر اليوم وقد زال الظهر. أي: أباقي اليوم من سير يسير وسار يسير أي بقي فكأنه قال: أتنتظر حاجتك غابر يومك وقد مضى أكثره ولم يقض لك. ويقال: لقيته غارضاً باكراً من الغريض الطري.
ويقال: لقيته غدوة غدوة وبكرة بكرة، وإنه ليخرج غديه وبكيرة غير مصروف وأتيته في سفر الصبح، وفلقه وفرقه، ولقيته عند التنوير والإنارة، وأتيته حين الصبح وحين صدع.
ويقال: أتيته أمسية كل يوم، وأصبوحة كل يوم، وصبحة كل يوم وصباحة كل يوم، وأتيته في فناء النهار وذكائه، وروق النهار، وفي ريقه وأنشد ابن الأعرابي:
والله لا وبيض دمج ... أهون من ليل قلاص تمعج
مخارم الليل لهن بهرج ... حتى ينام الورع المزنج
وقد يقال: محارم الليل بالحاء غير معجمة، وهي مخاوف الليل يحرم على الجبان أن يسلكها. والدمج: والمدجة الخلق. وتمعج: تغدو، يهرج أي يقطمه ويبطله والمزنج النسل: الذي ليس بتام الحزم.
وقال ويقال: أتيته بالغدايا والعشايا، وجاز الغدايا لاقترانه بالعشايا، وجمع غداة: أغدية وأغديات، وعشاء وأعشية وأعشيات. ويقال: غلية وغديات، وعشية وعشيات، وضحية وضحيات. قال:
ألا ليت شعري من زيارة أمسيه ... غديات صيف أو عشيات أشتيه
كذا رواه ابن الأعرابي، وغيره يرويه غديات، ويقال: أتانا عشوة وعشاوة وذلك عند غروب الشمس.
تم الجزء الأول ويتلوه الجزء الثاني، وأوله: الباب الحادي والعشرون في أسماء السماء والكواكب والفلك والبروج.
الجزء الثاني
الباب الحادي والعشرون
في أسماء السماء والكواكب والفلك والبروج
وهي ثلاثة فصول.
فصل
قال قطرب: السماء مؤنثة وتصغيره سمية. وزعم يونس أن سماء البيت يذكر ويؤنث وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: السماء سقف البيت يذكر وينشد لذي الرمة:
وبيت بمهواة خرقت سماءه ... إلى كوكب يروي له الماء شاربه
فإن قيل: لم ألحق بمصغره الهاء وهو على أربعة أحرف، فقيل: سمية ومن شرط ما كان على أربعة أحرف من المؤنث أن لا يلحق بمصغره الهاء قلت: كان مصغره يجتمع في آخره ياءات استثقل وخفف بما حذف منه فعاد يصغر من حيث اللفظ به تصغير الثلاثي وقال بعضهم: يجوز أن يكون الواحد سماءة وهي السماءة أعلى كل شيء، وقال رجل من بني سعد:
زهر تتابع في السماء كأنما ... جلد السماء لؤلؤ منثور
وعلى هذا يذكر ويؤنث لأن ما ليس بينه وبين واحده إلا طرح الهاء كالنخل والنخلة يذكر ويؤنث. قال تعالى: )السماء منفطر به) )سورة المزمل، الآية: 18) فذكر، ويقال جمعه: إسمية وهذا إنما يجيء على جمعه مذكراً لأن أفعله من جمع المذكر كالغطاء والأغطية والرداء والأردية، والمؤنث يكون على أفعل مثل ذراع وأذرع. قال العجاج: بلغه الرياح والسمى، وهذا جاء التأنيث كعناق، وعنوق. قال سماء وسمي ليس كعناق وعنوق لأن عناقاً مؤنث، وسمي الذي هو المطر مذكر على أن المطر سمي سماء لنزوله من السماء فأما قوله لنهدر كان من أعقاب السمي فإنما خففه وإن كان فعولا للقافية مثل من سر ضر وقوله:
كأنما قد رفعت سماؤها ... فصار لون تربها هواؤها
معنى رفعت سماؤها: لم يصبها مطر، ومثل لون تربها قول الآخر: كأن لون أرضه سماءه، أي لون سمائه للقتام الذي يغشى الجو، قالوا: هذا بطن السماء، وهذا ظهر السماء لظهرها الذي تراه. قال تعالى: )رواكد على ظهره) )سورة الشورى، الآية: 33) وقالوا: الظهر الوجه، وكذلك ظهر النجوم والسماء، وقال تعالى: )بطائنها من استبرق) )سورة الرحمن، الآية: 54) البطائن: هاهنا الظواهر، وجاء على هذا الضد فهو كقولهم: أمر جلل للشديد والهين. وقال جندل الطهوي: يا رب رب الناس في سمائه، فقصرها وأدخل الهاء.(1/139)
وقال أبو حنيفة: يقال سماء البيت، وسماوته وأنشد لامرئ القيس:
ففئنا إلى بيت بعلياء مردح ... سماوته من الحمى معصب
وقال أبو حنيفة: يجمع السماوة سماوات، وسماوي: قال: وروي بيت ذي الرمة مسموعاً من العرب:
وأفصم سيار مع الحي لم يدع ... يروع حافات السماء له صدرا
يعني بالأفصم الحلال الذي تحل به الأعراب مواضع الفتوق في آنيتهم، وجعله أفصم لانكسار فمه من طول اعتماله، ثم يجعل الواو في سماء همزة لما وقعت بعد ألف زائدة فقيل سماء، فأما قول أمية: سماء الإله فوق سبع سمائنا فإنه أتى بثلاثة أوجه من الضرورة.
منها أن سماء ونحوها يجمع على سمايا كما يجمع مطية على مطايا، فحمله على الصحيح لا على المعتل، وجمعه على سماي كما يقال: سحابة وسحائب.
والثاني: أنه حرك التاء في حال الخبر وكان يجب أن يقول: سبع سماء كما يقال جرار.
والثالث: أنه جمع سماءة على سماي، وكان يجب أن يقول: سماءة، وسماء كما يقال: سمامة وسمام قوله:
فصبحت جابيته صهارجا ... كأنه جلد السماء خارجا
فإنه أراد بجلد السماء الخضرة التي تظهر، فشبه صفاء الماء بصفائه فهو مثل قوله: رزقاً جمامة والتقدير: كأن لون مائه لون جلد السماء.
ومن أسماء سماء الدنيا برقع بكسر القاف، وقد جاء في شعر أمية:
وكأن برقع والملائك حولها ... سدر تواكله القوائم أجرد
ومن أسمائها: الجرباء، والخلقاء وكأنها سميت خلقاء لملاستها كالخلقاء من الحجارة قال:
وخوت جربة السماء فما ... لشرب أرويه بمري الجنوب
وخوت: أخلقت، وقال الهذلي:
أرته من الجرباء في كل منظر ... طبابا فمثواه النهار المراكد
ويقال في الجربة ما زرع من الأرض، وكأنها إنما سمت جرباء لما فيها من آثار المجرة كأنها الجرب.
ومن أسمائها: الكحل والمشهور في الكحل أنها السنة المجدبة. قال:
قوم إذا صرحت كحل بيوتهم ... عز الذليل ومأوى كل قرضوب
وقال يونس: يشهد للكحل أنها السنة قوله:
بات عرار يكحل فيما بيننا ... والحق يعرفه ذووا الألباب
وهذا مثل وقيل: أصله أن عرار يراد به ما يعر من الشر، وكحل: سنة شديدة، والمعنى استوينا فيما أصاب به بعضنا بعضاً من الشدة والمكروه، ويقال: اركب عرعرك أي صعب أمرك.
وحكي عن الأعراب أن عراراً وكحلا بقرتان كانتا في مرج، فقتلت كحل عراراً فجاء صاحبها فقتل كحلا ووقع الشر بين صاحبيهما وناديا إلى القتال، فقال الناس: بات عرار بكحل فما القتال؟ أي في كل واحد ما يبوء بدم الآخر.
وعنان السماء: نواحيها والواحد عنو. وقال الدريدي: لا أعرف أعناناً، وعنان السماء ما عن لك أي عرض، ويقال: بلغ فلان عنان السماء للعالي المحل، ومنه قولهم: جمعتهم في عنن أي في سنن. وقول الشماخ بعدما جرت في عنان الشعريين الأماعز، هو معانتها لهما يصف شدة الحر. وأما قول الآخر: عنان الشمال لا يكونن أضرعاً، فالمراد معانة الشوم وهو التعرض.
ومن أسماء السماء: الرقيع يقال: ما تحت الرقيع أرقع من فلان وهو علم كزيد وعمرو. وذكر بعضهم أنه إنما سمي السماء الرقيع لأنها الشيء الذي رقعت به الأرض: أي جعلت مشتملة على الأرض. وجاء في الحديث: )من فوق سبعة أرقعة).
قال: وسميت خلقاء: لأنها ملساء. فإنه قيل: كيف تكون جرباء وتكون ملساء. قيل: إنما سميت بالصفات على حسب أحوالها، فإذا اشتبكت نجومها فهي الجرباء، وإذا غابت النجوم فهي الملساء، وهذا كما سمي البحر المهرقان فعللان من المهرق، وهو فارسية مهره، وإنما أريد به ملاسته واستواؤه إذا انقطع عنه الموج على أن قولهم الخلقاء لا ينافي الجرباء إن كان المراد بالجرباء: النجوم التي فيها.
وذكر بعضهم أن قولهم للبحر: مهرقان وهو من هرقت الماء وزنته مفعلان كأنه يهرق الماء إلى الساحل ثم يعود. والصحيح ما قدمته وأنشدت لابن مقبل:
يمشي به شول الظباء كأنها ... جني مهرقان سال بالليل ساحله
ويريد بجني مهرقان الودع، وشبه الظباء به.(1/140)
والمجرة قيل: هي باب السماء وافتخر أعرابيان فقال أحدهما: بيتي بين المجرة والمعزة وقيل: المعزة وما وراء المجرة من ناحية القطب الشمالي سميت معزة لكثرة النجوم فيه، وأصل المعزة موضع العر، وهذا كما يسمون السماء الجرباء.
ويقال: أتيتك حين ازمهرت الكواكب في السماء أي، أضاءت.
ويقال: أجهر لك الفجر إذا استبان ووضح.
وحكى الخليل الصاقورة: وقال: هو اسم السماء الثانية في شعر أمية بن أبي الصلت:
وبنى الإله عليهم صاقورة ... صماء ثالثة تماع وتجمد
وذكر الحافورة في شعر أمية وقيل هو اسم السماء الرابعة وقد ذكره الخارزنجي أيضاً.
وذكر الدريدي أن البرجس والبرجيسن نجم من نجوم السماء قال هو بهرام: والجبار: اسم للجوزاء والشعرى العبور تلو الجوزاء ويسمى: كلب الجبار أيضاً وفي المثل: أتلي من الشعرى ومن أسماء السماء اللاهة وسميت اللاهة تعظيماً لها، وهو مشتق من لفظ الإله لأنه المعبود المعظم.
ويقال: شنع النجم إذا ارتفع وهو من تشنعت الفرس إذا ركبته وتشنعت الغارة إذا تثبتها.
فصل
الفلك أصله الدوران والفلك السفينة يذكر ويؤنث قال تعالى: )واصنع الفلك بأعيننا ووحينا) )سورة هود، الآية: 37) ثم قال تعالى: )فاسلك فيها) )سورة المؤمنون، الآية: 27) فأنث. وقال في موضع آخر: )في الفلك المشحون) )سورة الشعراء، الآية: 119) فذكر، والفلك جماعة السفن وقد فلكت الجارية إذا تفلكت ثدياها وذلك عند استدارة أصلها قبل النهود قال: لم يعد ثدياها أن تفلكا. ويقال: فلكت الجدي، وهو قضيب يدار على لسانه لئلا يرضع، والفلكة أكمة من حجر مستديرة كأنها فلكة مغزل، والجميع الفلك والفلكات. قال الخليل: وهو على تقدير النبكة في الحلقة إلا أن النبكة في ذلك أشد تحديداً من رأس الفلكة، وقال النحويون: الفلك اسم للسفينة ويجمع على أفلاك، وعلى فلك فيصير الفلك اسماً للجميع، وذلك لأن فعلا وفعلا يكثر اعتوارهما الشيء الواحد نحو: العجم والعجم العرب والعرب، فمن قال: جمل وأجمال، قال فلك وأفلاك. ومن قال في مثل: خشب خشب قال: في ذلك إذا جمع فلك. وقال الكميت:
والدهر ذو فلك والناس دوار
قال أبو حنيفة: وليس قول من قال هو القطب بشيء لأن القطب لا يزول من قطب الرحى والفلك دوار يدور بدورة كل ما فيه فدور الكواكب كلها حول القطبين وهما نقطتان من الفلك متقابلان أحدهما في الشمال والآخر في الجنوب، وليس يظهر القطب الجنوبي في شيء، من جزيرة العرب، وقال أبو عمرو الشيباني: هو القطب والقطب بالكسر والضم للسماء آفاق وللأرض آفاق.
فأما آفاق السما فما انتهى إليه البصر منها مع وجه الأرض من جميع نواحيها وهو الحد بين ما بطن من الفلك وبين ما ظهر قال الراجز: قبل دنو الأفق من جوزائه. يريد قبل طلوع الجوزاء لأن الطلوع والغروب هما على الأفق قال:
فهو على الأفق كعين الأحول ... صفواء قد كادت ولما تفعل
شبهها بعين الأحول في أحد الشقين، والصفواء المائلة للمغيب وقال آخر:
حتى إذا المنظر الغربي حار دماً ... من حمرة الشمس لما اغتاله الأفق
واغتياله إياها تغتبه لها: وأما آفاق الأرض: فأطرافها من حيث أحاطت بك. قال الراجز:
يكفيك من بعض ازديار الآفاق ... سمراء مما درس ابن محراق
يعني بالسمراء الحنطة، ودرس وداس بمعنى ويقال للرجل إذا كان من أفق من الآفاق أفقى وأفقي، وكذلك السماء وسطها آفاق عينها فإن الفراء قال: تقول العرب: مطرنا بالعين، ومن العين: إذا كان السحاب ينشأ من ناحية القبلة.
قال ابن كناسة: عين السماء ما بين الدبور والجنوب عن يمينك إذا استقبلت القبلة قليلا، قال أبو نصر: العين من عن قبلة العراق وهذه الأقاويل قريب بعضها من بعض، وفي تثبيت عين السماء قول العجاج:
سار سرى من قبل العين فجر ... عبط السحاب والرابيع الكبر
وقال أيضاً: فثارت العين بماء بجس. وقال أبو عبيدة في العين مثل ذلك، وقال الأصمعي: العين المطر يقيم خمساً أو ستاً لا يقلع، قال: ويقال: أصابتنا عس غزيرة واحتج بقول المتلمس:
فاجتاب أرطات فلاذ بدفئها ... والعين بالجون المثالي ترجس
ويؤكد قول الأصمعي:
وأنا حي يحب عين مطيرة ... عظام البيوت ينزلون الروابيا(1/141)
وقول ذي الرمة:
وأردفت الذراع أرى بعين ... سجوم الماء ينسجل انسجالا
وقوله أيضاً:
سقى دارها مستمطر ذو غفارة ... أجش تحرى منشأ العين رائح
يريد أن هذا السحاب تحرى أن يكون منشؤه من حيث نشأ للعين غير أنه ثبت أن هناك منشأ هو أحمد المناشئ وبينه الكميت بقوله:
راحت له بين صيفي وأولية ... من الربيع سحاب المغرب الهضب
وإذا كان السحاب مغربياً فمنشؤه من حيث وصف وليس يمتنع أن يقال: عين وإن كان الأصل في العين عين السماء، كما يقال للمطر: سماء ألا ترى أنهم يقولون: أصابتنا سماء غزيرة، وكلا المذهبين صحيح.
فصل
في بيان أمر المجرة
وشرح بعض أحوالها وفي السماء مجرتها
وجاء في الأثر أنها شرج السماء، كأنها مجمع السماء كشرج القبة وسميت مجرة على التشبيه لأنها كأثر المستجب والمجر وتسميها العرب: أم النجوم لأنه ليس من السماء بقعة أكثر عدد كواكب منها كما قيل: أم الطريق لمعظمها. قال:
ترى الواحد الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك
وقال أبو حنيفة: المجرة دائرة متصلة اتصال الطوق وهي وإن كانت مواضع منها أرق ومواضع أكثف، ومواضع أدق، ومواضع أعرض فهي راجعة في خاصتها إلى الاستدارة وأكشف قناعها وأوسعها هو ما بين شولة العقرب فإلى النسرين، فإلى الردعف، والشولة والردف كلاهما في نطاقها الأوسط أو قريب.
فإذا كانت الشولة مشرفة على الثور رأيت حينئذ من فوق الثريا مستقداً في المشرق ورأيت المجرة قد أخذت من عند شولة العقرب فمضت حتى سلكت بين النسرين. ثم مضت حتى غشيت كواكب الكف الخضيب رفت واستدفت إلى أن تبلغ العيوق فتكشف هناك. فإذا بلغت العيوق سلكت بين الكوكبين الجنوبيين من كواكب الأعلام الثلاثة المعروفة بتوابع العيوق. ثم مضى قدماً حتى تسلك بين الهقعة والهنعة وحاك بحاشيتها الشرقية كوكبي الهنعة. ثم مضت حتى تسلك بين الشعريين، ثم تمضي وتغشى الغدرة بجاشيتها الغربية فتكشف هناك، ثم تمضي عند العذرة حتى تسلك أسفل من كواكب الحمل، ثم تمضي من هناك حتى تشتمل على الشولة، ومنها كنا بدأنا بالوصف، فتجدها دائرة متصلة.
ألا ترى أنا بدأنا بوصفها من عند الشولة ثم لم تزل تستقر بها حتى عدنا إلى الشولة فهذا الإيضاح عن استدارتها واتصال بعضها ببعض اتصال الطوق، وفي تحولها من جهة إلى جهة يقول ذو الرمة وهو يذكر رفقاءه:
بشعب يشجون الغلاء في روسه ... إذا حولت أم النجوم الشوابك
إما أن يريد زماناً من الأزمنة لأن المجرة تتغير مواضعها في الأزمنة فتراها في الشتاء أول الليل في خلاف موضعها من السماء، وفي الصيف أول الليل وكذلك من آخر الليل في الشتاء والضيف ولذلك قيل: سطى هجر نرطب هجره وذلك أن أول ظهور المجرة عشاء من المشرق، هو في ابتداء القيظ وأيام طلوع الثريا فيبدو منها عشاء قوس في المشرق أخذ من شرقي الشمال إلى شرقي الجنوب مضجعه في الأفق، ثم يزداد كل عشاء ارتفاعاً وتوسطاً إلى أن يسترق القيظ ويطلع السهيل عشاء قد كبدت السماء، فتوسطتها فصار أحد طرفيها في قبلة العراق، وطرفها الآخر في فقاء المصلى، ووسطها على قمة الرأس، وذلك زمان يكثر فيه الرطب. والمجرة بهذه الصفة سواء آخر الليل أيام طلوع الثريا فإما أن يكون ذو الزمة أراد هذا المعنى، أو يكون أراد وقتاً من الليل، لأن المجرة تراها في آخر الليل في غير موضعها من أوله وذلك في جميع ليالي الدهر على ذا وليس ما ترى من هذا المفاز منها الذي وضعت له من الفلك، ولكنها وضعت فيه على انحراف، فأنت ترى ذلك منها لدور الفلك بها.
وقولهم في المجرة أم النجوم كقولهم في السماء جربة النجوم. قال الشاعر:
وخوت جربة النجوم فما ... تشرب أروية لمري الجنوب
قوله خوت يريد لم يكن معها مطر وأصل الجربة القراح من الأرض. قال الأشعر بن حمران:
أماذا يعدو فثعلب جربة ... أو ذيب عادية يعجرم عجرمة
العجرمة سرعة في خفة.(1/142)
ويقال: للسماء الخضراء للونها كما قيل للأرض الغبراء، والهواء ممدود وهو الفتق الذي بين السماء والأرض في كل وجه وهو السكاك والسكاكة واللوح والسحاح، وأعنان السماء نواحيها. ويقال: لا أفعل كذا ولو نزلت في اللوح والسكاك. وقال بعض أصحاب المعاني أصله من الضيق على هذا قولهم بيرسك وقوله: استكت المسامع من كذا أي ضاقت فلم ينفتح للاصغاء إليها والصبر عليها كأن الهواء وهو ما بين السماء والأرض يمتلئ منها كل شيء فلا مجوف إلا ويتخاله حتى يضيق عنه وهذا حسن.
الباب الثاني والعشرون
في برد الأزمنة ووصف الأيام والليالي به
قال أبو نصر: كبة الشتاء شدته ودفعته كالكبة في القتال، ويقال: شتاء الشتاء، إذا اشتد برده، وهذا شتاء شات، وكلاب الشتاء نجوم أوله وهي الذراع والنثرة والطرف والجبهة.
قال أبو حاتم: البرد والقر ولا يقال: القر إلا في شدة البرد ويقال: يوم قر، وليله قرة وقد قر يومنا، وكان روية تقر، ولقد قررت يا يومنا قرة وقروراً. ومن أمثالهم: حرة تحت قرة إذا عطش الإنسان في اليوم البارد فأكثر شرب الماء ويوم قر. قال: تحرقت الأرض واليوم قر. وقر الرجل وهو مقرور وهرئ فهو مهروء وأصابته قرة وأصابت المحموم قرة فانتفض ويقال لذلك العروراء وقد عري فهو معروء: وصرد الرجل وأصردنا إذا صرد ماؤنا. والصراد الواحدة وصرادة غيوم تهيج ببرد شديد ولا يكاد يكون معها مطر.
وقال أبو زيد: النافجة: شدة البرد والريح، قال: والحرجف والشهباء والبليل نحوها والبليل يكون معه بلل وندى. والقرقف البرد في قبل الليل. وقال الأصمعي: قيل للحمى قرقف لأن صاحبها يقرقف عنها أي يرعد.
والهريئة: مهموزة شدة البرد، وقيل للأعرابي: إن الجنوب إذا هبت دفئت الأرض، فقال: رب هريئة إذا هبت تذري الشجر، يقول: إنها وإن كانت كذلك فربما كان تحتها البرد. قال أبو حاتم: إذا رأوها تدهدئه وتطيره. ويقال للأحمق: وما هو إلا هراءة على فعالة والهراء والخطل وأنشد:
ومنطق رخيم الحواشي لا هراء ولا بزر
قال الأصمعي: يقال: قر حمطير بالحاء مثل الزمهرير وقال النميري: بالقاف قمطرير وقال التميميون: من أسمائه الصر والصنبر والزمهرير والنوافج والكلب واليبس والقعقع.
فأما الصنبر فالقر الشديد في ريح أو غير ريح. ويقال: إن يومنا لصنبر القر. قال طرفة شعراً:
يجفان تعتري مجلسنا ... وسديف حين هاج الصنبر
كسر الباء للحاجة.
ويقال: يوم ذو صر ويومنا يوم صر ومن أمثالهم: صر وصنبر، والمرقي في القر، والزقاء الصياح .
ويقال: يوم زمهرير على النعت وأيام زمهريرة.
والنافجة: الريح تهب في برد وقد نفجت نفجاً ويقال: ازمهر يومنا وهذا قر زمهرير، وقمطرير. وأنشد:
ويوم قتام مزمهر شفيفه ... جلوت ترباع تزين المثاليا
والكلب: الزمان الشديد القر القليل المراعي ويقال: زمان كلب وعام كلب إذا قل خيره وكثر ضيره. قال: وعض السلطان وشره وغلاء السعر، وقلة المرعى هذا كله كلب.
واليبس: شدة الحال في القر وغيره يقال: زماننا يابس.
والقعقع مثل اليبس وتقعقع زماننا: وهو أن يكون شديداً مع قر ومن دون الشعر فتعذر التجارات ويجور السلطان.
والخشيف: شدة البرد يقال: أصابنا خشيف وقد خشفت ليلتنا، والماء الجامس خشيف.
والصقيع: أن يرى وجه الأرض بالغداة كالماء اليابس، وترى الشجر والبقل كأنما نثر عليه دقيق. وقد صقعت السماء بصقيع كثير وضربتنا السماء الليلة بصقيع وليلتنا ذات صقيع. والجليد شدة البرد جمس الماء أو لم يجمس، ويقال: جلدتنا السماء الليلة بجليد شديد، وضربتنا بجليد منكر وهو أشد القر وأيبسه.
ويقال: جمس الماء وجمد والجموس: كثر على ألسنة العرب من الجمود.
والأرين: القر الشديد يحصر منه الإنسان والمال وهو شبيه بالصقيع وليلة ذات أرين ولا يقال يوم ذو أرين.
قال أبو زيد يقال: أرزت ليلتنا تأرزاً أريزاً وهي أرزة إذا اشتد بردها وأكثر ما يكون ليلاً.
ويقال: ليلة جاسية: إذا كان بردها شديداً، ويوم جاسئ وقد جسأ جسوأ ويقال: برد البرد على ثيابي أي تركها باردة. وقيل: نحن مبردون في شدة البرد. وأنشد ابن الأعرابي:
ها إن ذا ظالم الديان متكئاً ... على أسرته يشفي الكوانينا(1/143)
الديان بن قطن كان شريفاً فشبه ظالما به وترك التنوين كما قال: وحاتم الطائي وهاب المسمى قوله: يشفي الكوانينا أي يشفي في البرد الشديد، أراد أنه صاحب نعمة فانتصب الكوانين على الظرف، أي في هذا الوقت الشديد البرد والعرب تشبه الثقيل من الرجال بالكانون. قال الحطيئة يهجو أمه:
أغربالاً إذا استودعت سراً ... وكانوناً على المتحدثينا
قال أبو حاتم: لا أعرف هذا ولكن يقال في القيظ: أبرد القوم فهم مبردون والابراد أن يصيبهم الروح آخر النهار في القيظ وفي غير هذا البرد النوم وفي القرآن: )لا يذوقون فيها برداً ولا شرابا) )سورة النبأ، الآية: 24) أي نوماً، ومن كلامهم منعنا البرد من البرد أي القر من النوم. وأنشد:
بردت مراشفها علي فصدني ... عنها وعن قبلاتها البرد
أي النوم ويقال: أصابتنا سبة من برد، وهو أن يصيبك من القر أشد مما كنت فيه أياماً وإن أصابك برد في آخر الربيع قلت: أصابتنا سبة والدهر سبات أي أحوال حال هكذا وحال هكذا، أصابتنا سبة حر، وسبة برد، وسبة روح، وسبة دف، وقالوا: الصحو في الشتاء ذهاب القر ويقال: ليلة مصحية إنا ذهب قرها وإن كانت متغيمة وإن طلعت الشمس نهاراً واشتد القر فليس بصحو.
قال أبو حاتم: العامة تظن أن الصحو لا يكون إلا ذهاب الغيم وليس كذلك لأن الصحو ذهاب البرد وتفرق الغيم، ويقال: تقشعت السماء إذا ذهب غيمها، ويقال: صحو على النعت وليلة صحوة وأيام صحوات الهاء ساكنة، ويوم مصح، وليلة مصحية وقد أصحينا من القر. وقال أبو أسلم: يوم فصية وليلة فصية.
أما الطلقة فمثل الصحوة ويقال: كانت اليوم فصية وطلقة ويوم طلقة وفصية ويوم طلق وليلة طلقة ويقال: أفصينا من ذلك القر أي خرجنا منه وأصابتنا فصيات، أي أيام دفيات طيبة، ويقال: انفسخ القر وانفسخ الشتاء إذا انكسر وضعف، والحضر شدة البرد في الأطراف والسبرة يكون غدوة وعشية في البرد قبل طلوع الشمس وبعدها قليلا، وحين تجنح الشمس للغروب والجميع السبرات، وفي الحديث: )وإسباغ الوضوء في السبرات).
وقال بشر بن برد: الماء في السبرات أي بارد الماء، وقال قطرب: السبرة برد الغداة خاصة، والعرواء: البرد عنب اصفرار الشمس، وقال: يوم شبم وماء شبم.
وحدث الأصمعي أن أعرابياً قال: موسى خدمة. في جزور سنمة. في غداة شبمة، وقد شبم الماء. قال أبو حاتم: ولو وجدت في شدة القيظ ماء بارداً لقلت: هو شبم. وأنشد جرير:
تعلل وهي ساغبة بنيها ... بأنفاس من الشبم القراح
ويقال: هرأ القر أموالنا أي: تجتلها وأهلكها هرأ. قال ابن مقبل يرثي عثمان رضي الله عنه:
وملجأ مهروين يلقي به الحيا ... إذا حلقت كحل هو الأم والأب
وقالوا: تصيب النافجة الناس، والقر الشديد، وهتم مرقون مبصرون فيقتل أموالهم، يقال: هو مرق في الرقيق المال والحال، وقد أهرأ بنو فلان إذا أصابهم القر في الجرز، وهي الأرض التي ليس بها شجر ولا دفء فماتت مواشيهم.
وقال أبو أسلم أهرأوا في هذه القرة، وهرأوا فيها، سواء إذا ماتت أموالهم. وقال أبو حاتم أهرؤوا إذا أصاب أموالهم لهرؤ هرؤاً لا أدري في هذا المعنى هو أم لا.
ويقال: مرت بنا صناديد من البرد أي بابات منه ضخام، وصناديد الغيث كذلك، ويقال: غيث صنديد. وأنشد لابن مقيل:
عفته صناديد السماكين وانتحت ... عليه رياح الصيف غبراً محاوله
يعني أمطاراً تقشر وجه الأرض وقد جاءت بنو السماكين.
وحكى ابن الأعرابي يوم صفوان: لا غيم فيه، ولا كدر، شديد البرد صاف، ويوم شيبان: بارد فيه غيم صراد.
ويقال: شهري الشتاء شيبان وملحان، لبياض الأرض فيهما والأبيض الأملح، وقيل: هما الكانونان وأنشد الأصمعي شعراً:
تخول لوناً بعد لون كأنه ... بشفان يوم مقلع الوبل يصرد
يقال: أصردنا وصردنا وشفان الريح بردها، وكذلك شفيفها: يريد أن السحاب قد أقلع وانقشع فهو أشد لبرده.
حكى الأصمعي قال: قلت لأعرابي: ما أعددت للشتاء فقال قرموصاً دفئاً وشملة مكوذة، وصيصية سلوكاً المكوذة التي يبلغ الكاذنين والصيصية التي يقلع بها الثمر من الجلال والقرموص شبه بير يحفره فيأوي من البرد إليه. وأنشد:
جاء الشتاء ولما اتخذ ربضاً ... يا ويح كفي من حفر القراميص(1/144)
والربض قيل: هو المرأة لأنها تربض البعل أي تخدمه. وقيل: الربض القيم. ومنه قيل: منك ربضك وإن كان سمارا: أي منك: قيمك وإن كان قيم سوء، وهذا كما قيل: منك عيطك وإن كان أشياً. وقال ابن الأعرابي: الربض في هذا المثل: ما يقيم الإنسان من القوت ويربضه أي يكفيه. وقد قيل: منك محضك، ومنك ربضك وان كان سماراً. والسمار الذي قد أكثر ماؤه، وهو نحو الضياح وهذا يدلك على معنى الربض في المثل وما سواه من التفسير، فهو محمول على المعنى لا على اللفظ، كما قيل: منك أنفك وان كان أجدع، فيحمل تفسير الأنف على العشيرة والأنف في الحقيقة المشم الذي قد عرف.
وربض البطن أمعاؤه والربيض جماعة الغنم. قال الدريدي: الربض القطعة العظيمة من الثريد، فإذا قالوا: جاءنا بثريد كربضة أرنب كسروا الراء.
قال الزهري: حجرت المطار العام، حجرت: امتنعت والمطار: جمع مطر مثل جمل وجمال. وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: يقال: هو الحسب والبرد والقر والقرس والصر والعرقف والهلبة والكلبة والعنبرة والصرة. هذا كله حدة الشتاء وكلبه والزمهرير والأريز.
وقال الكلابي: العثية: الهلباء الباردة القرة ترميهم بالقطقط وهو القطر الصغار من المطر والثلج واليوم الأهلب: الشديد البرد وغداة هلباء وقالوا: الشهر الآخر من الشتاء يسمى الأهلب، ولا يسقى غيره من شهوره أهلب، وذلك لشدة صفق رياحه، مع قر وعواصف.
وحكى اللحياني: هلبة الشتاء وكلبه مثقلان وحكى أيضاً يوم هلبة ويوم كلبة. وحكى قطرب مثل ذلك، ويقال: أرزت ليلتنا أريزا، وليلة أرزة، وأتت الليلة تأرزهم أشد الأرز. وأنشد عن المفضل في شدة البرد بعد أن حكى المثل السائر أبرد من غب المطر أي من غب يوم المطر شعراً:
طوينا يجمع والنجوم كأنها ... من القر في جو السماء كواسف
وقال آخر: العابط الكرم للأضياف إن نزلوا في يوم صر من الصراد. هرار الصراد الجهام: وهو السحاب الذي لا ماء فيه مع الشمال والجليد والضريب والشقيط والجليب والصقيع والسقيع والسميخ ما ينزل من السماء ومن الثلج وأنشد شعراً:
نعاء ابن ليلى للسماخ وللندى ... وأيدي شمال باردات الأنامل
نعاء مثل دراك أي أنع وأنشد ثعلب شعراً:
ويوم بليل الحمار الصديد ... محمرة شمسه بارد
سقيت رغيباً وأطعمته ... فليس بحاز ولا جامد
قال ابن الأعرابي: الفصية: ما بين الحر والبرد، وهو من فصيت الشيء إذا أنبته من غيره. وزعم أن قولهم أفصى برد عمى اشتقاقه من هذا.
وضبارة الشتاء صميمه، الراء مشددة، وقد يخفف فيقال: ضبارة ذكر ذلك عن غير واحد من العلماء.
ويقال: من الكلبة: كلب البرد إذا اشتد كلباً وأنشد الفراء:
أنجمت قرة الشتاء وكانت ... قد أقامت بكلبه وقطار
وفال العكلي: جئتك في صنبر الشحاء وفي بركته، وقد استعمله بعضهم في الحر وحكى غداة صنبرة. وقال جران العود:
والذين فوقي شر ثوب علمته ... من البرد في شهر الشتاء الصنابر
وقال طرفة: وسديف حين هاج الصنبر وقال أبو حنيفة: بلغني عن بعضهم أنه حكي عن العرب في الصبارة مثل ذلك يجعلونه في شدة الحر أيضاً.
والصرصر: الريح الشديدة الباردة وفي القران: )إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً) )سورة القمر، الآية: 19) وقيل: مذاكوء الصر ازدحامها. وأنشدني حمزة بن الحسن قال: أنشدني علي بن سليمان عن المبرد:
فذاك نكس لأبيض حجره ... مخيرق العرض لئيم مطره
في ليل كانون شديد حضره ... عض بأطراف الزباني قمره
يقول: هو أقلف ليس بمختون إلا ما قلص منه القمر وشبه قلفته بالزباني. وقال آخر: إنك أقلف إلا ما جنى القمر ويقال: من ولد والقمر في العقرب فهو نحس. وقال الأصمعي: إذا عض أطراف الزباني القمر: فهو أشد ما يكون من البرد.
فصل
فيما وضع على ألسنه البهائم
الأصمعي قال: قيل للضانية: كيف أنت في الليلة القرة الباردة. قال: أوله رخالاً وآخره جفالا وأحلب كثباً ثقالا ولم تر مثلي مالا الرخال الإناث من أولاد الضأن الواحد رخل، والكثبة البقية من اللبن، قال ابن الأعرابي: لا أعلم جمعاً على فعال إلا خمسه أحرف: رخال وفرار وتوام وظار ورباب.(1/145)
قال الأصمعي: إنما قيل ذلك لأن الإناث أعجب إلى أصحاب النتاج من الذكور لأن الإناث تحبس للغنية، والذكور تذبح وتباع، وحكي أنهم يقولون: إذا نتجت أحلبت أي أذكرت أم أنأثت، ويقال: للمبعوث في الههم أحلبت.
وقال الأصمعي: العرب تقول المحق الخفي إذكار الإبل، وقال ابن الأعرابي: ويقولون: الضأن تمشي عجالا وتحتلب علالا وتجز جفالا وتنتج رخالا. وحكي أيضاً الضأن تكسوك وهي رابضة أي لها سمن ولبن وصوف وهي مقيمة، قال: ويقال: الماعز لبنها رغوة وشعرها عروة وقيل: النعجة مساء أي لا تقدر على احتباس بولها.
قال الأصمعي: تقول العرب: الغنم إذا أقبلت أقبلت وإذا أدبرت أقبلت وتقول في الإبل: إذا أقبلت أدبرت وإذا أدبرت ذنبت رأساً.
وقيل للمعز: لك الويل: جاء البرد، فقال: أست حجواء وذنب ألوى والذئب جفاء أست حجواء وجحواء: أي بارزة لا يسترها شيء. وروي قيل: للمعز: جاء البرد قالت: أستي جحوى، والذنب يعوي، فأين المأوى، والبيت الأجهي الذي لا ستر عليه وقيل للمعز: كيف أنت في الليلة الباردة. قالت: الإهاب رقاق والشعر دقاق والذئب جفاء. ولا بد لي من الكن. وقيل للناقة: كيف أنت في الليلة الباردة. قالت أبرك بالعرى وأولها الذرى ويروى: أبرك بالنحى وأولاها الذرى ويحمى وزيمة عن أخرى وقيل أطابق شحمه فوق أخرى والوزيمة البضعة. وقيل للكلب: أنت فيها قال: أحوي نفسي: أجعل أنفي عند أستي، ويقال: إنه قال: أحويه أي أجمعه وأكويه وأجعل طرفه عند فيه ويقال: إنه حكي هذا عن الضب، لأنه يلوي جحره حتى يرد آخره إلى ابتدائه، ويجعل أقصاه عند أدناه. اللهم اجعلني أحويه وألويه حتى أجعل قعره عند فيه.
ويقال: إن الضانية والمعز خيرتا فقيل للضانية أيما أحب إليك إليك الستارة أم الغزارة فاختارت الستارة، فسترت وقل لبنها وصارت الغزارة للمعز وهتك سترها وكشف فرجها، ومما حكي عن البهائم وإن لم يكن من هذا الباب، قالت الأرانب: اللهم اجعلني حذمة لذمة أسبق الأكف بالأكمة الحذمة واللذمة التي تلزم الأشياء، وقولها أسبق الأكف بالأكمة: فإنها قصيرة اليدين، فإذا صعدت فأنت وإذا هبطت أدركت. ومما يحكى أن الأرنب قال للشاة: لا عفطت ولا نغطت، فقال العنز: لا مررت إلا على حاذق قاذق.
الباب الثالث والعشرون
في حر الأزمنة ووصف الليالي والأيام به
قال أبو حاتم: الحر والحرارة وحر يومنا يحر بكسر الحاء حراً وحرارة. قال أبو نصر: قد قيل: يحر ولم أسمعه من الأصمعي. وفي القيظ: قاظ يومنا يقيظ قيظاً وقد قظنا أي صرنا في القيظ.
وقالوا: أصفنا نصيف صيفاً، ويوم صائف ويوم قائظ، والحرة العطش وفي الأمثال: حرة تحت قرة.
ويقال: صمخة الشمس الخاء معجمة، وصمخة الحر أشد الصمخ ودمغته الشمس بحرها أي أصابت دماغه فهي دامغة، والدامغة أيضاً: الجلدة التي فيها الدماغ، وتدعى أم الدماغ، والجميع الدوامغ، وأنشد للعجاج شعراً:
لهامهم أرضه وأفتخ ... أم الصدى عن الصدى وأصمخ
وفتخته الشمس فتخاً مثل دمغته.
ووغيرة الغيظ أشد الغيظ حراً.
والوقدة: سكون الريح واشتداد الحر، ويقال: يوم ومد وليلة ومدة وأنشد أبو زيد:
قد طال ما حلأتمونا لا نزد ... فخلياها والسجال تبرد
من حر أيام ومن ليل ومد
قالوا: والوغرة عند طلوع الشعرى، وقد وغرنا وغرة شديدة، وغرنا أيضاً وغراً، وأوغرنا أصابنا الحر الشديد وأصابتنا وغرات.
وأصابتنا أكة من حر والأكة الحر المحتدم الذي لا ريح فيه، ويقال هذا يوم آكة بالإضافة، ويوم ذو آكة، وذو آك، وقد أكت يومنا وأنشد:
إذا الشريب أخذته آكة ... فَخَله حتى يبك بكة
وقالوا في آكة: شيء قليل من سدى.
والعكة: الريح الشديدة مع السدى واللثق الكثير، وهذا يوم عكة بالإضافة ويوم ذو عكيك، وأنشد أبو زيد:
يومٌ عكيك يعصر الجلمود ... يتركُ حمرانَ الرجال سودا
وقد عَك يومنا يعك عكاً ويوم عك على الإضافة. وليلة عك، ويوم عك على النعت، وليلة عكة كل هذا يقال.
والأجة: مثل الوغرة ومنها الأجيج والناجج من النار وَأوارُ الحَر صلاؤه، وشدته، وكذلك أوار النّار، ويوم ذو أوار وإن الحر الشديد الأوار.(1/146)
وإذا دنوت من النّار فوجدت حرها في وجهك فذاك أوارها وأوار الهاجرة والسّموم، وهو ما يصيب وجهك من الحر الشديد، وأنشد القحيف العامري:
ولا اسْتَقبلتُ بينَ جبال بَم ... وإسبيذ لها جَرة أوارُ
فأما قول لبيد:
أسبّ الكانِسُ لم يُؤرِ بها ... شعبة الساق إذا الطل عَقَل
قوله: يؤر من الإرة وهو مستوقد النار تحت القدر وغيرها، ويجمع على الأرات والأرين، وروي لم ياور، بها، مثل يعوت ويكون من الأوار إلا غيره.
وحمّارة القيظ أشد ما يكون منه يقال: أتيته في حمارة القيظ، وفي حمر القيظ وفي حمرة القيظ، وحمر كل شيء أشده. قال أبو حاتم: وسألت الأصمعي، هل يقال: حمرة الشتاء فقال: حمرة القيظ يعرف، وهاب أن يقال: حمرة الشّتاء والوديقة: شَر الحر.
يقال: أصابتنا وديقةُ حَر، وبوم ذو وديقة بالإضافة، وكذلك إذا عنت الشّمس من الأرض فيقال: ودقَت الشمس، وفلان يأتينا في الودائق أي في أنصاف النهار في القيظ وأنشد:
ألم يكن حقاً أنْ يَتَول عاشق ... يكلفَ إدلاجَ السرى والودائِق
وصخدان الشمس: محرك الخاء ومسكنه: شدة الحر، ويوم صخدان وليلة صخدانة، وقد صخد يومُنا بفتح الخاء، ويوم صاخد، وليلة صاخدة، والصخد مثل الوَسد، ويقال: السّخد بالسين.
واللهبة: لهبة القيظ، ويوم ذو لهبان، ويقال: يوم وهجار، وليلة وهجانة وأتيتك في وهجان الحَر، وإن يومنا لوهج، وقد وهج يومنا وهجاً وتوَهجَ ووهج الحر وتوهج الحر وأنشد:
لقد رأيت الطعن الشواخِصا ... على جبالٍ تَهِصُ المَراهِصا
في وهجان بلح له الوَصاوِصا ... يوماً ترى حرباءه محاوِصا
لِطلبُ في الجنفل ظلاً قالِصا
الجنفل: ما يحفل من السحاب والظل أي أسرع ويروى الجيفل وهو ما تناهى من كل شيء، والوصاوص: خرق البرقع الصغير وإنما يفعل ذلك نساء بني قيس، فأما نساء بني تميم فتحل المرأة برقعها، ومنه قول الشاعر شعراً:
لهو لا بمنحول البراقع حقبةً ... فما بال دهر لزنا بالوَصاوص
ويقال: قابت المرأة برقعها قوباً إذا جعلت لها عيناً.
والوقدة أن يصيبك حر شديد في آخر الحر بعد ما يقال: قد أبردنا، ويستنكر الحر فيصيبك الحر بغير ريح ولا سمى فتلك الوقدة والوقدان وقيل الوقدة نصف شهر وعشرة أيام، وأقلها سبعة أثام، فأما اليوم واليومان فلا يعدونه وقدةً.
ويقال: أصابتنا سبة من حر والسبة نحو من شهر، ونصف شهر، وعشرة أيام.
ويقال: احتدم علينا الحرّ والاحتدام شدة الحرّ مع همود الريح، ولا يقال مع الريح احتدم، ويقال: اسم يومنا وأحر إذا كان ذا سموم وحرور.
واللَفحة: إذ تحرق جلده، وقد سفعت لونه السموم.
وألفحته: وكافحته أي قابلت وجهه ليس بينهما سترة. ومنه قيل: كافحت الرجل وكلمته كفاحاً وأنشد: ولا كافحوا مثل الذين يكافحُ.
ويقال: أتيته في معمعان الصيف ومعمان الصيف، وفي معمعان الحر، ويوم معمعان وليلة معمعانة ومعمعاني ومعمعانية، قال ذو الرمة:
حتى إذا معمعان الضيف هب له ... ياجة نش عنها الماء والرطب
والرمض: شدة الحر على الأرض، وقد رمض التراب ورمض الإنسان إذا أصاب جلده الرَمض، وقد رمضت الفصال إذا احترقت أخفافها بحر الأرض، وزعموا أن رمضان سمي بذلك: لأنهم حين سموا الشّهور اشتقوا أسماءها مما يكون فيها، فسموا جمادى لجمود الماء فيها، ورمضان لأن الفصال كانت ترمض فيه. وأنشد:
المستغيثُ بعمرو عند كربتِه ... كالمستغيثِ من الرمضاء بالنار
وقيل: الرمضاء: التراب الحامي، ويقال: يوم ذو سموم ويوم سموم بالإضافة، ويوم سموم على التعت. وقد اختلفوا في السموم والحرور، فمنهم من يجعل السموم بالنهار والحرور بالليل، ومنهم من يجعلهما على العكس من ذلك.
والدفاءة: مهموزة مثل الومدة وقد دفئ يُومنا دفاء، والمعتدلات بالدال غير معجمة شديدة أيام الحر. وكان الأصمعي يقول بالذال المعجمة، وكان ينشد بيت ابن أحمر:
حلوا الربيع فلما أنْ تجللهم ... يوم من القيظِ حامي الودقِ معتدل
بالذال والمعتذلات نحو من خمسة عشر يوماً، وهي أيام الفصل في دبر الصيف عند طلوع سهيل.(1/147)
وقال أبو زيد: السكنة مثل الوقدة، وكذلك السختة، وقال أبو حاتم: هي فارسية. قال رؤبة: وأرض جسر تحت حر سخت قال أبو زيد: يقال: باض علينا الصيف، فإن: القيظ والصيف واحد، قيل: النجم والكوكب واحد ولا يجوز أن يقال: في عين فلان إنما يقال: في عين فلان كوكب. وكلام العرب لا يختلف، والحرة شدة العطش في الشتاء والصيف، ومَثَلُ العرب: حرة تحت قرة فهذا في الشتاء وأنشد شعراً:
كان من سوقه أسْقى على ظمأ ... خمراً بماءٍ إذا ما جودها برَدا
من ابن مامةَ كعبٍ ثم عى به ... زؤ المنية إلا حرة وقَدىَ
زؤ المنية: قدرها. وقدى: نعت للحرة على فعلى وهو من التوقد، ومن أمثالهم: برد غداه حر غد من ظماء وأصله رجل أراد سفراً فأصبح فرآها باردة فقال: لا أحتاج إلى الماء، فصب ما كان معه فلما توقدت الحران عطش، فقال: هذا لقيتُ منه ما يصر الجندب، أي حراً شديداً، وفي المثل: عَلقت معالقَها وَصَر الجندبُ للشدة، ومن أمثالهم: للجندب: ما يصرك؟ فقال: أصُر مِن حَر غدٍ يضرب لمن يخاف ما لم يقع فيه. ويقال: يوم في شربة أي يشرب فيه الماء الكثير من شقة الحر، ويقال: يوم ومد مصمقر وأنشد للمرار العدوي:
خبطَ الأرواث حتى هاجَه ... من يد الجوزاء يوم مُصْمَقِر
ويقال: يوم أبت وأمت وحمت وهو مثل الومد وقد أبتَ يومنا وأمت وحمت وأتيته حمراء الظهيرة والظهيرة الخوصاء أشد الظهاير حراً وأصله في النجوم، يقال: تخاوَصَتِ النجوم إذا صَغت للغروب، ويقال: ظهيرة شهباء لبياض غمسها وشرابها. قال عدي بن الرقاع شعراً:
ودنا النجم يستقل وحارَت ... كل يوم ظهيرة شهباءُ
وَرَدَدن بالسماوة حتى ... كذبتهن غمرها والنهاء
وقال أيضاً: ظهيرة غراء، ويقال: هذا يوم يرمح فيه الجندب: أي يضرب الحصى برجله، لارتماضه. قال: ويشتهون الشيء القليل اللبث بسحابة الصيف. قال ابن شبرمة الضبي:
أراها وإن كانت تحب كأنها ... سحابةُ صيفٍ عن قليل تَقَشعُ
قال الدريدي: أفرة الصيف: شدة حر، وأنشد في شدة الحر:
لَدن غدوةً حتى ألاذ بخفها ... بقية منقوص من القيل صائف
يصف ناقة ركبت في الهاجرة، والظل تحت أخفافها إلى أن صار الظل كما وصف ويقال: لاذ وألاذ بمعنى. وذكر صاحب العين يوم خمر شديد الحر، وأنشد لطرفة:
ومكانٍ رعلو ظلمانه ... كالمخاص الجرب في اليوم الخَدر
ويقال: خمر النهار إذا لم يتحرك فيه ريح، ولا يوجد فيه روح. وقوله: وإن كان يوماً ذا كواكب أشهبا. قال: كان اليوم ذا كوكب من السلاح وأشهب أي يوم شمس لا ظل فيه. قال آخر: ويوم كظل الرمح والشمس شامس، أي طويل لا ظل فيه لشدته، وظل الرمح يطول جداً في أول النهار. وأنشد:
ويوم ضَرَبنا الكبشَ حتى تساقطَت ... كوكبه مِن كل عضب مُهَند
قوله: تساقطت كوكبه: يعني به معظم الحر. وأنشد ابن الأعرابي:
قد شربنا بالثريا حقبةً ... ورقينا في مراقي السحق
قال: يطلع الثريا في أول حد القيظ وفي آخر مطر الصيف، فربما رؤيت في الفدين من الماء، فشربنا بالثريا واستقصينا الجزء إلى آخره، وطلوع الثريا أول الجزء، وطلوع الجوزاء آخر انقطاع البقل، وقال: في مراقي السحق يريد به: الضياع. قال الأصمعي: وتقول العرب: استقبال الشمس لحاء واستدبارها دواء وأنشد:
إذا استَدبرتنا الشمسُ درت متونُنا ... كأن عروقَ الجوفِ ينضَحنَ عَندما
البابُ الرابع والعشرون
في شِدة الأيام ورخائِها وخصبِها وجدبها
وما يتَّصل بها
الأصمعي: جداع: اسم للسنة المجدبة على مثال خدام. وقال أبو حنبل الطائي:
لقد آليتُ أغدر في جداع ... وإن منيت أمات الربّاع
لأن الغدر في الأقوام عار ... وإن الحرّ يجزعُ بالكراع
وأنشد غيره في صفة الجدب:
إلى الله أشكو هجمةً عربيةً ... أضَر بها مَر السنين النَوائر
فأضحتْ رذايا تحمل الطين بعدما ... تكون غياثُ المقترين المفاقر
يصف نخلاً أيبسها الجدب، فسقف بها البيوت بعد أن كان غياثاً للفقراء والمحاويج. ومفاقر جمع فقير على غير قياس، مثل مطائب الجزور. وأنشد:(1/148)
يا وَيْحها مِنْ ليلها ما ضَما ... ضَم إليها هقماً هقما
أجهدُ من كلب إذا ما طَما
يصف امرأة نزل بها ضيف في ليلةِ مجدبةٍ. والهقم: الجائع وانهقم جاع وخمصَ والهقم: الكثير الأكل الواسع الجوف. ويقال: بحر هقم أي بعيد القعر، وهو يتهقم الطعام أي يتلقمه لقماً عظاماً وأجهدُ من كلب: أي أجوع، ورجل جاهد: أي جائع شهوان وطم الكلب الشيء أي اختلسه ومَر به. وأنشد ابن الأعرابي:
في روضةٍ بَذَلَ الربيع لها ... وسُمي غيثٍ صادق النجم
وقال في صادق النجم: أراد أن نؤه لم يخلف بل وفى بوعده، وقيل: أراد به ما نجم النبات يعني موضعاً معشباً حسن النّبت. وقال أبو عمرو: الهتأة على وزن الهتعة ستة أهلكَتْ كلُ شيء ويقال: هتأت الثوب إذا خرقته.
ويقال: أرمتهم السّنة والأرم القطع، ويقال: اقتحمتهم السنة أي حطّهم الجدب إلى الأمصار، وقال آخر:
يا دهرُ ويحكَ فأولى مما ترى ... قد صرتَ كالقب الملح المعقر
ويقال: دفت دافة وهفت هافة، وهفت هافية، وقفت قاذية إذا أتاهم قوم قد أقحمتهم السنة من البدو، قوله في البيت: فأولى مما ترى: أي ارحمني، يقال: أويت له ماوية وأية أي: رفقت، قوله: مما ترى أي مما يوجبه ويذهب إليه. وأنشد:
ظلم البطاح له انهلالُ حريصة ... وصفا النّطاف له بعيد المناح
هذا رواية المفضل وغيره، وفي رواية ابن الأعرابي: ظلم البطاح له هلال حريصة. قال: وهو مقلوب، أراد حريصة هلال أي سحابة نشأت في أول ليلة من الشهر. والحريصة: سحابة تحرص وجه الأرض: أي تقشر، ومعنى انهلال حريصةٍ انصبابها، وظلمة البطاح أن تحرف إليها الطين من غيرها وأنشد:
وله مكارمُ أرضها معلومة ... ذات الطّوى وله نجومُ سمائِها
ذات الطوى: سنة جدبة والطوى الجوع، ورجل طيان وانتصب ذات الطوى على الطرف. وقوله: وله نجوم سمائها. إذا أخلفت النجوم فلم تمطر جار هذا الرجل فكأنه الأنواء، وكأن الأنواء له، وأنشد الطوسي:
سقى المتدليات من الثريا ... نوءُ الجوزاء أختِ بني عُدي
المتدليات سحابات دنت من الأرض، ومطرها كثر، وَصَوبُها أغزَر.
قال الآخر: يكاد يدفعه من قام بالراح، والجوزاء قيل: امرأة، ونوؤُها موضعها الذي سارت إليه يريد سقى هذا المطر الآتي بنوء الثريا نوء الجوزاء أخت بني عدي ونوؤها: وجهتها التي تنوء بها، وانجر أخت على البدل من الجوزاء والصفة.
ويقال: اغتفت السّنة بني فلان، والغفة البلغة من العيش وأنشد الأصمعيُ إذ بعضهم يغتف جاره. والجلبة: السنة المجدبة وهي الجوع أيضاً قال الهُذلي: من جلبة الجوع جيار وأرزيز، أبو عبيد خطر به الضيق في المعاش والرفاغة والرفاغية والرفاهية والرفهنية مثل البلهنية.
ويقال: هو في عيش أغضف وأغزل وأرغل وأوطف وأهدب وأزبوهلوف يعني واسعاً وزمانه زمان سلوة وخفض.
ويقال: هو في رخاخ من العيش، وعيش دغفل ودغفق ومدغفق ورفيغ أي واسع. قال الدريدي: المدغفق اشتقاقه من دغفق الماء إذا صَبه صباً واسعاً.
قال العجاج: وإذا زمان الناس دغفل، فأضافه. قال أبو عبيدة: هو في عيش أوطف وأغضف وغاضف ورافع وعفاهم إذا كان واسعاً.
يقال: نحس في ربيلة من العيش أي في عيش متربل ند. وفي المثل، ليس المتعلق كالمتأنق، يقول ليس من عيشه ضيق يتعلق به، كمن عيشه لين واسع يختَار منه ما شاء. والعلقة ما يبلغ به. وفي الحديث: إن عبد الله بن مسعود كان يقول: إذا قرأت آل حاميم صرتُ في روضاتٍ أتأنق فيهن أي يعجبني.
ويقال: عش طان ذو رزغة أي كثير الندى، وقولهم: طان كقولك: رجل مال. ويقال: إنهم لفي غضراء من العيش، وغضارة وقد غضرهم الله، وإنه لذو طرة وكل ذلك من السعة.
أبو عمرو: نشأ فلان في عيش رقيق الحواشي وفي زمان مخضم لا مقضم.
ويقال: نبتت في زماننا نابتة، أي نشأت فيه نشوء صغار. وما أحسن نابتة بني فلان لأولادهم، وأولاد أولادهم، إذ تناسقوا في الحسن والرضا. ومما يشبه هذا قولهم: بت بليلة النابغة يراد قوله:
فَبِت كأني ساوَرَتْني ضئيلة ... مِنَ الرقشِ في أنيابها السمُ ناقعُ
وقوله في موضع آخر:
فَبِت كأن العائداتِ فَرَشْنَ لي ... هراساً به يُغلى فِراشي ويُقُشَبُ(1/149)
وهذا كما ضرب المثل بصحيفة المتلمس لقوله: وكذلك افتوا كل قط مضلل.
ويقال لليلة التي لا نوم فيها: مات بليلة انقذ يراد به القنفذ، لأنه لا ينام ليلة بدلالة قول الآخر:
قوم إذا دمس الظلام عليهم ... جدحوا قنافذ بالنميمة تمرع
ويقال: زمان غزير، وعيش غزير أي لا يفزع أهله.
ويقال: عيش رغد مغد. ويقال: عام غيداق، أي كثير الخير، وسيل غيداق وماء غدق.
الفراء: عام أزِب: أي مُخصِب. أبو عبيدة: عيش خَرِم: أي ناعم وهي عربية ومعيشية رفلة.
ويقال: أنت في عام رخي اللبن، عريض البطان، أي واسع الخصب وهذا كما يقال: أصاب فلان قرن الكلأ، أي أنفه الني لم يؤكل منه شيء، ووقع في الأهيفَيْنِ أي الطعام والشراب، وزمانه زمان الأهْيَفَيْنِ. والمعصب الذي عَصَبَتِ السنون ماله. ويقال: في عيشة شظفٍ: أي يبس وشدة، وقد شظفتْ يده إذا خشنت.
الأصمعيُ يقال: موت لا يجر إلى عار خير من عيشٍ في رماقٍ، أي قدر ما يمسك الرمق.
ويقال: أصابتهم من العيش والزّمان ضعف وحفف وقشف وريد كل هذا من شدة العيش.
وقال يعقوب: بنو فلان في ويد أي في ضيق، وكثرة عيال، وقلة مال، وهو في رتب من العيش: أي غلظ. الأصمعي: عيش مزلج أي مدنق.
ويقال: أصابتهم الضّبع أي السنة، وقد كحلتهم السنون: أي اشتدت عليهم وأنشد:
لسنا كأقوام إذا كَحَلت ... إحدى السنين فجارُهم تمرُ
أي يكلون جارهم. وقال سلامة بن جندل:
قوم إذا صَرحت كُحل بيوتهم ... عَز الذليل ومأوى كل قرضوبِ
وأصابتهم أزمة وأزبة ولزمة. وحكى الأصمعي: أزمت أزام وأنشد:
أهان لها الطّعام فلم تصفه ... غداة الروع إذا زُمَت أزامُ
ودعاء النّبي صلى الله عليه وسلم: )أشدد وطأتك على مضر واجعل سنين كسني يوسف) فاستجاب الله دعوته حتى أكلوا العلهز.
والسنة: الشهباء البيضاء من الجدب. وقال ابن الأعرابي: التي ليس فيها مطر، وقال هي الشهباء ثم البيضاء ثم الحمراء، فالشهباء أمثل من البيضاء والحمراء شر من الجميع. وسنة غبراء: وقماء وكهباء والكهبة كدرة في اللون. وعام مجوعة ومجاعة، وسنة جداء، وحجرة ورملاء. وعام الرّمادة: وسنة وسنة وعام سنيت ومسنت وسنة جالفة بالمال.
والرمادة: سنة المحل، وقد أرمدوا. وسنة محاردة: من حراد الناقة إذا قَل لبنُها.
ويقال: عام أرمد في قلة الخير، وأبقع أي بقع فيه المطر في مواضع ولا يعم. وأحرج وأسهب، وكل هذا في قلة الخير. قال أبو يوسف: سمعتهم يقولون: حراميس واحدُها حرمس. ويقال: هذه السنة ذات فحم عظام، ويقال: أزمتهم السنة أي دقتهم، والأزم العض.
وسنة حصاء: لا نبت فيها، وامرأة حصاء لا شعرَ عليها.
الفراء: عام أرشم: قليل النبات. والبوازم الشدائد الواحدة بازمة، وأنشد:
ونحن الأكرمون إذا غشينا ... عياذاً في البوازم واعتِزازا
وقال:
وما أخذ الديوان حتى تصَعلكا ... زماناً وَحَت الأشهبان غناهما
في سنتين لا خير فيهما. وقال آخر:
رأت مر السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار مِن الهلال
ويقال: ثلمة ثلم المحاق جانب الهلال، ويقال: مطر مريع، وأنشد متمم بن نويرة:
تقى الله أرضاً حَلها قبرُ مالِكِ ... فعاب الغوادي المدجنات فأمرَعا
وقال آخر:
ويُقيمُ في دار الحفاظِ بيوتَنا ... زمناً ونظعن غيرنا للأمرع
وحكى ابن الأعرابي: ألا صبحته صباحاً حازراً. والأصل في الحازر: اللْبن الحامض.
يقال: أمدُ الخصب قريب على النعال. قال: وسأل الحجاج بن يوسف الحسن عن أشياء، فأجابه ثم قال له: كم أمدك؟ قال: سنتان من خلافة عمر، يعني عمر بن الخطاب، فقال: والله عينك كبر من أمدك. الأمد العمر أي ما بدا منك أكثر مما غاب. وأنشد:
لنا في الشتاء جنة يثربية ... مسطعة الأعناق بُلْق القَوادم
قوله: مسطعة من السطاع سمة على عنق البعير، يقول: إذا كثرت الرياح ظهر السواد وإذا كثرت الأمطار ظهر البياض، يعني اللبن والتمر. وأنشد:
أغِث مُضَراً إنَّ السنينَ تتابعتْ ... علينا بدهرٍ يكسرُ العظم جابِره
يقول: نحرنا إبلنا بعد أن كنا نثمرها ونرعاها، وأنشد يعقوب:
إن لها في العام ذي الفتوق ... وزلل النية والتصفيق(1/150)
رعية رب ناصحٍ شفيق
الزلل التباعد والنخعة ويقال: أفتقنا إذا لم يمطر بلادنا ومطر غيرها. ابن الأعرابي: يقال للزمان السليم من الآفات ركوض في غير عروض وأصله ناقة لا عرضة في مرها، قال: ويقال هذا في الطاعة الحسنة التي لا يَثُبْتها ما يفسدها. ويقال: وقره الدهر وقرة: استكان منها وأنشد:
حياء لنفسي أن أرى متخَشعاً ... لو قرة دهرٍ يستكين وقيرُها
وقال آخر:
وخِفت بقايا العفي إلا قَصيةً ... قصيد السلامي أو لموساً سنامها
يصف زمن جدب والقصية من الإبل: التي تقصى عما يفعل بالإبل والقعية أيضاً: الخيار الكريمة والقصد السمينة، ويقال: كذا وكذا حين لعق اللبن بالصوف، وهذا كناية عن الجدب، لأنه إنما يلعق اللبن بالصوف فلا يمكن شربه. قال:
فلا تحسَبَنَ الغزَو لعقاً بِصوفةٍ ... وشريُك ألبان الجِداد الغوابرِ
والجداد: جمع جدود وهي من الغنم والحمير التي بها بقية من اللبن غير كثير، ومثل الجداد الجدايد، قال أبو ذؤيب:
والدهر لا يبقى على حَدثانه ... جون السراة له جدايد أزبَعُ
ويقال: كان في الأرض تقاطير غيث إذا كانت بها أمطار قليلة في كل ناحية قال أبو علي: قال الضبي والغنوي: يقال: أقاطير وتقاطير من الربيع، وقال طفيل:
أرى إبلي تأتي الحياضَ وآلفت ... تقاطير وسمي وإحْناء مكرع
يقال للرجل إذا ظهر بوجهه بثور، ظهر به تقاطير الشباب، وحكي أنه سئل أبو العباس ثعلب عن قول بشار:
إذا ما غَضِبْنا غَضْبَةً مضرية ... هَتَكْنا حِجاب الشمس أو قَطَرَتْ دما
فيقال: معناه حاربنا حتى لم يكن حرب، فلم يكن للشمس حجاب، وحجابها الغبار قال السائل: فرددته على أبي العباس المبرد فقال: ما يدري الخرنوبي ما هذا إنما يُقال: اشتدت الحرب أولاً، ثم سَعينا بينهم فأصلحنا ما فسد فسقط الغبار فكأنهم هَتكوا حجاب الشمس قال فعدتُ إلى ثعلب فأوردتُ عليه، فقال: ما للخلدي ولهذا، خُذ ما أقول، قال أبو عبد الله الطوال والأموي هتكنا حجاب الشّمس معناه خلينا عن أنفسنا وتركناها لها ذكراً واضحاً كوضوح الشمس بفعلنا، وقوله: أو قَطَرت دماً، كما يقال: كان ذلك فيما مطرت السماء دماً أي لم يكن يلتفت إليه، قال: وما سمعته في الأبيات إلا من ابن الأعرابي ما سمعت كان ذلك، فمطرت السماء دماً إنما يقال في النعي، فرجعت إلى المبرد، فقال: هؤلاء أعلم منه وحقط وحقل حين عدت إليه وتركني، ودخل داره، ويقال: بات بليلةٍ سوءً من الليالي الشوامت. قال النابغة:
مِنْ صوت كلابٍ فباتَ له ... طوع الشوامت من خوفٍ ومِنْ صَرَدِ
أي ما أطاع الأعداء وسرّها وفسر بعضهم على أن الشوامت في البيت هي القوائم ، والمعنى بات له ما أطاع الشوامت لأنها عبدت طول اللّيل.
وقال أبو زيد: يوم أرونان وقسقاس وقسي وعصبصب وعصيب وقماطر ومقمطر وعماس وقال الأصمعي: من العماس قولهم: أتانا بمعمسات أي أمور علويات خفيات، وقال الخليل: العماس كلّ ما لا يقام له، ويوم عماس وعموس وقد عمس عماسة وعموساً. ويقال: يوم باسل: ومفلق وفلق وذكر ومذكر وأشتع وأشهب ومظلم وذو كواكب، ويوم معمعاني وأروناني بعيد ما بين الطرفين، وقال بعضهم: يوم أرونان شديد صعب ولا فعل له وليلة أرونانة. قال الجعدي:
وظل لنسوةِ النعمان منا ... على سفوانَ يوم أرونان
ويقال: يوم أرواني وليلة أروانية، وقال أبو عبيدة وأبو يزيد: كل هذا بوصف الشديد من القتال والبرد والبلاء والخوف.
ويقال لهم، يوم عربسيس، وأخذ القوم طريقاً عربسيساً لما فيه من الخوف والعطش والمشقة، وإذا عظموا الأمر على إيهام في الوصف، قالوا: كان ما لا يحد يوم أيوم، وذا كان ذلك ليلاً قالوا: ليل أليل، ويقال: أطول الليالي يدعى ليل التمام.
ويقال: جاء من الطيخة أي الفتنة والحرب المطيخ الفاسد.
ويقال: هذا دهر حول قلب أي كثير التحول والتقلُب.
ويقال: ليل ذو كؤود قال: يدر عن الليل ذا الكؤود.(1/151)
قال أبو زيد: سمعت أعرابياً فصيحاً يقول: إذا أجدب الناس أتى الهاوي والعاوي. الهاوي: الجراد، والعاوي: الذئب. قال الدريدي: الخجل سوء احتمال الغني، والدقع سوء احتمال الفقر. وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء: )إنكُن إذا جعتن دقعتن وإذا شبعتن خجلتنَّ) وأنشد:
ولم يدقعوا عندما نابهم ... لصرفِ الرمان ولم يخجلوا
ويقال: جاحه الدهر واجتاحه وعسره الزمان أي اشتد عليه ومثله: استحصف ويقال: أشاربهم لمع الأصم، وحكى بات فلان ليلة ابن أفلس أي ليلة شديدة، قال ومثله وليلة دعشقة.
ويقال: ما رأينا العام قابةً من المطر، والإرعفاء أي مطراً، وهذا مأخوذ من الرعاف، قال أبو العباس ثعلب: لم يأت برعف، غير ابن الأعرابي ويقال في شهرة اليوم: يوم أغر محجل.
قال أوس:
وأنتَ الذي أوفيتَ فاليوم بعده ... أغَر ممس باليدين محجل
ويقال: سنة قاشورة أي تقشر كل شيء ويقال: أصاب الناس شراسيف أي أصابهم أول الشدة، فأما قولهم: بات فلان بليلة انقد فالمراد الشدة قال الطرماح:
وبات يقاسي ليلَ انقد دائباً ... ويحذر بالحقف اختلاف العجاهن
وانقد الشيهم وفي المثل: أسرى من انقد ويقال: ابن انقد أيضاً، والعجاهن قال: ابن السكيت: هو الطباخ، وقال الأعشى:
لعمري لئن جَدت عداوة بيننا ... لترتحلن مني على ظهر شيهم
وقال عمرو بن قميئة:
إني من القوم الذين إذا ... لزم الشتاء ودوخِلَت حُجَرُه
ودنا ودونيَتِ البيوتُ له ... وَثَنى فثنى ربيعهُ قدره
وضع المنيحَ وكان حظّهم ... في المنقيات يقيمها يُسره
وأنشد أبو العباس ثعلب عن الأصمعي وغيره:
سقى سكراً كأسَ الذعاف عشيةً ... فلا عاد مخضر العشب جوانبه
قال والسكر اسم جمله، وإنما يدعو على واد، رعاه جمله فأصاب من النشر فمات وقال الهذلي:
وحبسنَ في هزمِ الضّريع فكلها ... حدباء دامية اليدين حَروذ
يصف إبلاً بسوء حالٍ ، والهزم ما يهزم من النبات ويحطم، والضريع نبات غير طايل. أبو عبيدة: الضريع عند العرب: يابس العشرق، وهو يؤكل ولكنه كما قال الله تعالى: ) لا يُسمِنُ ولا يُغني مِن جوع) سورة الغاشية، الآية: 7، وهو من نبات الحجاز، والشبرق ما دام غضاً نوره حمراء. قال الهذلي يصف قوماً قتلوا:
ترى القوم صرعى حثوة أضجعوا معاً ... كأن بأيديهم حواشي شبرقُ
وقيل: الخيف الحناتم ماء النشر. قال ندى السماك في قصب الوسمي. وذلك أنَّ السماك يسقط وقد انفسخ القَر، وهاجت الأرض في بلاد العرب، وفي عروق الشجر بقية من ثرى الوسمي، فيسقط السماك لتسعٍ خلون من نيسان، فيصيبه مطر السّماك فيخير نبته، ونبت الرطب، فذلك النشر تراه خضرة على بياض، وهو السّم الرغاف. قال أبو محلم: سمعت أبا زيد العكلي يقول: هو السم السّاكت.
البابُ الخامس والعشرون
في أسماء الشمس وصفاتها وما يتعلق بها
قال أبو حاتم: يقال للشمس الجونة والجارية والعين والماوبة وهي من التأويب وهو سير النهار كله يقال: آب وتأوب بمعنى. قال النابغة:
تطاوَلَ حتّى قلتُ ليسَ بمنقَضٍ ... وليس الذي يتلو النجوم بآيِب
فسره ابن الأعرابي على ذلك، لأنّها تسير آيبة أبداً ما بينها ما بين المشرق إلى المغرب تدأب يومها فتؤوب المغرب مساءً.
ويقال لها السّراج والضح وذُكاء وقد أشمَسَ يومُنا: إذا اشتد حر شمسه، ويوم مشمس وشامس وشمسَ لي فلان إذا بدت عداوته. وقال الخليل: الشّمس عين الضّح وبه سُميت معاليق القلادة، وقيل هو من المشامسة لأنها نحس في المقارنة وإنْ كانت سعداً في النظر.
وقال التميميون: الجونة الشمس حين تسوَد وتدنو من الغيوب لا يقال لها الجونة إلا على هذه الحال وأنشد أبو حاتم:
تبادر الآثار أن تدأبا ... وحاجب الجونة أن تغيبا(1/152)
وأما الجارية فمن قول الله تعالى: )والشَمسُ تجري لِمُسْتَقَرها) سورة يس، الآية: 38، وهي تجري من المشرق إلى المغرب والسراج من قوله تعالى: )وجَعَلَ فيها سِراجاً) سورة الفرقان، الآية: 61، وقال: )وجعلَ الشمسَ سِراجاً) سورة نوح، الآية: 16،. ويقال: دلكت الشمس دلوكاً ودلوكها: اصفرارها عند غيوبها. وقال ابن عباس: لدلوك الشمس أي لزوالها الظهر والعصر. قال:
شادخة الغرة غراء الضحك ... تبلج الزًهراء في جنح الدلك
فجعل الدلك غيبوبة الشمس. وروي عن أبي عمرو أن دلوكها زوالها والله أعلم.
ويقال: رهقتنا الشمس إذا دنت. ومنه غلام مراهق: إذا عنا الاحتلام.
ويقال للسيد وهو مرهق النيران: أي يغشاه الأضياف. وغلام فيه رهق أي كرامة وفي القرآن: )فَزادوهم رَهَقاً) سورة الجن، الآية: 6، أي مكروهاً.
وقال أبو زيد: بَراح بفتح الأول وكسر الآخر اسم للشمس مثل: قَطام وأنشد:
هذا مقامُ قدمي رَباحِ ... غدوةً حتى دلكتْ براحِ
وقال الأصمعي: ليس الرواية كذلك إنما الرواية دلكت براح بكسر الباء، وهو جمع راحة وهو أن ينظر إليها عند غيوبها يستشفها، يضع يده على جبينه يستكف بها حتى ينظر تحتها. وقال العجاج:
أدفَعُها بالراح كي تَزحلفا ... رحاه عان تحتها تَصَدفا
وزعم أنه يطلب أسيراً له وقال: وسُميت بذلك لأنها تسود حين تغيب والجون الأسود، هنا قول الأصمعي، وقال غيره: الجون يكون الأبيض أيضاً قال: وعرض أنيس الحرمي على الحجاج بن يوسف درعَ حديد وكانت صافية، فجعل الحجاج لا يرى صفاها، فقال له أنيس: إن الشًمس جونة أي شديدة الضوء قد غلب ضوؤها بياض الدرع والجونة اسم للدرع ذكره الأحمر وغيره. قالوا: ويقال لا أفعله حتى تغيب الجونة.
وقال بعضهم: معنى براح أي أستريح منها فذهبت، وقيل أيضاً: راح ها هنا موضع. وحكى قطرب: دلكتُ براح بالضم ولعاب الشمس أن يرى في شدة الحر مثل نسج العنكبوت أو السراب ينحدر من السماء وإنما يرى ذلك عند نقاء الجو، وسكون الأرواح . واشتداد الحر. وأنشد شعراً:
هممن بتغويرٍ وقد وَقَدَ الحصى ... وذاب لُعاب الشَمس فوقَ الجماجمِ
وأنشد ابن الأعرابي:
وذاب للشمس لعاب فنَزَل ... واستوقدت في غرفاتٍ كالشعَل
قال الدريدي: لعاب الشمس بلغة اليمن الوهر. ويقال: وهر يومنا يوهر وهراً فأقرنَ الشمس فحد ذرورها حين تذر قرونها وقرونها: نواحيها، ويقال: طلع قرن من قرونها أي: ناحية من نواحيها. وعين الشمس شعاعها الذي بهرك إليه. وقال ابن السكيت: عين الشمس رأسها وَوجهها وقرونها نواحيها. قال:
فما أن ذر قرنُ الشَمس حتى ... طرحن سخالَهُنَ وصِرن آلا
والضّح: الشمس يقال: لا تجلسوا في الضح أي في الشمس، وقد ضحى فلان في الضح أي برز للشمس يضحي ضحواً، ويقال: شد ما ضحوت للشمس أي طال بروزك لها ويقال: ضحى الريح وضحى لي إذا خرج من بيته فبرز لك. قال أبو حاتم: لا ثبت عندي ضحيت للشمس وليس في قوله تعالى: )وأنك لا تظمأ فيها ولا تَضحى) سورة طه، الآية: 119، بيان ضحيت من ضحوت لأن قوله: تَضحى يجوز أن يكون مستقبل ضحا. وقد قال قائل:
ضحيت له كي أستظل بظله ... إذا الظل أضحى في القيامة قالصا
فقال أبو حاتم: الذي يقول هذا لا يجوز قوله قمة رأسه، ومن كلامهم جاء بالضَح والريح، أي جاء بالشيء الكثير أي ما طلعت عليه الشمس وبزغت. والذرور: أول طلوعها وبزوغها وطلعت تطلع طلوعاً ومطلع الشمس بالكسر المكان الذي تطلع منه.
وقال الأصمعي: شرقت الشمس تشرق شروقاً إذا طلعت، فإذا أضاءت جداً قلت: أشرقت، قال الله تعالى: )وأشْرَقَتِ الأرضُ بنور رَبها) سورة الزمُر، الآية: 69، ويقال: أشرق وجهه: إذا أضاء واستنار.(1/153)
ويقال: آتيك كل يوم طلعتْ فيه الشمس، وشرقت، وآتيك كلٌ شارقٍ والشرق زعموا أنه الشمس، يقال: آتيتك كل يوم طلع شرقه، وقد طلع الشرق ولا يقال غاب الشرق. والمشرق: المطلع. قال أبو يوسف: شرقة الشمس موقعها في الشتاء، فأما القيظ فلا شرقة له. والشعاع: ضوء الشمس والمطلَع بفتح اللام الطلوع، لذلك قرأ القراء: )حتى مطلَعِ الفجرِ) سورة القَدر، الآية: 5، ومغربها حتى تغرب فيه غروباً، ويقال: غابت الشمس غيبوبة وغيوباً، وقد وجبت الشمس وجوباً إذا غابت، وكسفت الشمس كسوفاً وذلك ذهاب ضوئها وشرقة الشمس: موقعها في الشتاء ودفوؤها ولا يقال لموقعها في القيظ: شرقة، ويقال: أقعد في الشرق وفي الشرقة وفي المشرقة سواء.
وحكى أبو عمرو: الشرق الشمس، والشرق بالكسر: الضوء الذي يدخل من شق الباب. ومنه خبر ابن عباس أنْه قال: في السماء باب للتوبة يقال له الشريق وقد رد حتى ما بقي منه إلا شرقة. وحكى بعضهم: الشرق الشمس التي تكون في المقابر بعد العصر، وجاء في المسند: أنه ذكر الدنيا فقال صلى الله عليه وسلم: )إنه بقي منها كشرق الموتى).
قال ابن الأعرابي: يحتمل وجهين: أحدهما: أن الشَمس في ذلك الوقت إنما تلبث ساعةً ثم تغيب، فشبه ما بقي من الدنيا بذلك. والوجه الآخر: يشرق الميت بريقه عند خروج نفسه، فشبه قلة ما بقي من الدنيا بما بقي من حياة الشرق بريقه.
ويقال: ما بقي من النهار إلا شفا، والشفاء بقية الشيء، وأتيته بشفا أي بشيء من ضوء الشمس، ويقال: شفت الشمس بالتشديد أي غابت إلا يسيراً منها.
وقد طفلت الشمس: إذا دنَت للغروب، وأتيتك طفل الشمس، وفي طفل الشمس، وقال أبو حاتم وأنشدنا أبو زيد شعراً:
قد ثكلتْ إحدى بني عدي ... أحبها في طُفل العَشيَ
إن لم يثبت وصل قبل الروي وطفلت الشمس أي جنحت ومالت للغروب وقد صغت لشمس إذا أصفرت كان لها صلابة.
وأدنَفَتْ: وازدنفت ودنفت وهنه وحدها عن أبي عبيدة إذا همتْ بالمغيب، وغارت وآبت وألقت يَدَاً في كافر ورجفت. ويقال: مغرب الشمس ومغربان الشمس ومغيربان الشمس. ويقال: على الأرض غيابات الطفل وقد أرهقت أي دنت للمغيب. وأنشد في قوله:
دنفت والشمس قد كادت تكون دَنَفا
وحكي الغزالة في أسماء الشمس لدوران قرصها في مرأى العين. ومنه المغزل ومغازلة النساء لأنَهن عند المراودة كأنهن يدرن في أفانين الحديث. وقال أبو حاتم: ليست الغزالة من أسماء الشمس، إنما الغزالة الضحوة وأنشد لذي الرمة شعراً:
فأشرقتِ الغزالةُ رأسَ حَوضي ... أراقبهم وما أغنى قبالا
أراد أشرقت في الغزالة أي في ذلك الوقت وأنشد أيضاً:
أسوق بالقوم غزالاتِ الضحى
ويقال: أتيتك بوجه النهار وبشباب النهار وهي الغزالة الكبرى. قال ذو الرمة:
توضحن في قرن الغزالة بعدما ... ترشَفَن ذرات الرهام الركايكِ
وهذا حجة في تثبيت الغزالة اسماً للشمس. وكذلك رأد الضحى ورونق الضحى وفي تَلَع الضحى. وأتيتك حين تَلَعتِ الضحى وأتيتك مَد النهار.
وكذلك ضحوة وضُحى والضحاء الأكبر ممدود مفتوح مَد النهار الأكبر، وذكاء: اسم للشمس معرفة غير منونة، وطلعت ذكاء، ومن أمثالهم، أضاءت الذكاء وانتشر الرعاء.
قال الشيخ: وحكي عن المبرد أنه قال: ابن ذكاء هو القمر، لأن له بَصيصاً كبصيص الشمس، وروي عن ثعلب أنه قال: بعض العرب يجعل ابن ذكاء النهار ونبت ذكاء الشرقة، وهو ضوء الشمس، ويقال للصبح ابن ذكاء وأنشد فيه:
وابن ذكاء كامِن في كفر. أي في ليل يستره
وأنشد:
في ليلة كفر النجوم غمامها. أي غطاؤها
ويقال لحسنها: عب الشمس، عب مخفف مثل دم، وقال الذيري:
وليس بموتيك الذي أنت مغرم ... بِتسآلِهِ ما أبرق ابن ذُكاء
وإياء الشمس: بياضها والإياء أيضاً أيا النبت حسنه وزهرته، وقال الشاعر، فَمَد الإياء وكسر الألف شعراً:
تنازعها لونان وَرد وحوة ... ترى لإياء الشمس فيه تَحَدرا
وقالوا: إياء الشمس: شعاعها. قال طرفة: سقه إياة الشمس إلا لثاثه. قال الشيخ: بعضهم يثقل عب الشمس فيقول: هذه عب الشمس، والعب أيضاً البرد، وفي المثل أبرد من العب، فمن شدد الباء يجعله من العباب، وهو معظم الشيء أي أعظمه. ومن خفف الباء جعله منقوصاً كَدَدٍ من ددن.(1/154)
ويقال للصبح: ابن جلا، كما قال: أنا ابنُ جلا وطلاع الثنايا. أي أنا منكشف الأمر، وجلا فعل في الأصل وحكي لقباً كما قيل: تأبط شراً وقد جعل لقباً فحكي.
وقال قطرب: العب مثل الدم بتخفيف الباء وهو ضوء الشمس وحسنها يقولون عب شمس ومن ثقل قال هذه عب الشمس ورأيت عب الشمس يريد عبد الشمس فأدغم الدال في الشين كما قيل ثلث الدرهم، فيدغم الثاء في الدال، وقال بعضهم: يقول هو عب الشمس فيفتح في كل وجه وقال:
إذا ما رأت شمساً عب الشمس شمرت ... إلى رملها والجلهمي عميدها
وشعاع الشمس وشعاعتها وشعها ضوؤها وأشعت الشمس انتشر شعاعها، فإذا طال النهار وقيل: تمطى النهار وامتد وامعط ومتعَ متوعاً.
ويقال: بقي علينا ريم من النهار للساعة الطويلة ونهار ريم أيضاً فإذا انتصف النهار فهي ظهيرة، وظهر وهجير وهجر، ووديقة حين هجم المقيل وانحنى للتغوير. والشمس في كبيدات السماء إذا توسطت وعوّمت ودومت وحلقت.
ويقال: زالت الشمس زوالاً وزالوا في التفرقة زيالاً قال:
نعى حجشانُها نجم دفوءٌ ... خليط لا ينامُ على الزّيالِ
والظل: يكون ليلاً ونهاراً، ولا يكون الفيء إلا بالنهار، وهو ما نسخته الشمس ففاء أو كان من النّهار فلم تنسخه الشمس، والفيء هو التبع أيضاً. قالت الجهينة:
ترد المياه خصيرةً وبقيضةً ... وِرْد القطاة إذا استمال التبع
وإذا لم يكن فيء ولا ظل قيل: الظل طباق الخف وإذا ارتفع إلى موضع العقال من ساق الشجرة فنسخ الفيء إلى ذلك الموضع قيل: قد عقل الظل فإذا صفا، أي زاد على طول الشخص قيل: قد فاء الفيء والظل الضّافي الطويل، ويقال للظل الكثيف ظل المي. ويقال للمكان الذي لا تقع فيه الشمس: مقناة ومقان جمع، والذي تصيبه الشّمس مضحاة والجمع مضاح. ويقال للشمس المهاة. قال أمية بن أبي الصلت شعراً:
تم يجلو الظلام رب رَحيمٍ ... بمهاة شُعاعُها مستنيرُ
وأصل المهاة البلوة. ويقال للشمس الإلهة. قال التميمي:
تروّحنا من اللعباء قصراً ... وأعجلنا الإلهة أن تؤوبا
ويقال: الآهة فيصير كالعلم، وذكر قطرب أنَ الإلهة من أسماء السماء والفتح في همزتها لغة واشتقاقه من لفظ إله لأن كل ما رغب فيه إلى الله تعالى يطلب من جهة السماء. ويقال للشّمس البيضاء وطلعت البيضاء ولقيته في الصفراء أي حين اصفرت الشمس. وقال الأصمعي: رُوي عن ابن الزّبير أنّه قال في كلام له: البوح يعني الشمس قال: ولم أسمع البوح إلا في كلامه. قال ابن الأعرابي: العرب تقول استدبار الشمس مصحة. وأنشد:
إذا استَدَبرتنا الشَمسُ درت متونُنا ... كأنَ عروقَ الجوف ينضحْنَ عَنْدَما
درتْ يعني لانت، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )استدبروا الشمس ولا تستقبلوها فإن استدبارها دواء، واستقبالها داء).
ويقال: ضَرعت الشمس إذا غابت، وزبت وأزبت إذا دنت للمغيب. قال الدريدي صرعت غير معجمة. ويقال: سقط القرص. ويقال: ما بين المشرقين مثل فلان أي بين المشرق والمغرب.
وحكى بعضهم: التغوير بالنهار من آخره بإزاء التعريس وهو النزول بالفيل من آخره والقسطلانية نداءة الشفق أو نداءة قوس قزح. ويقال للذي يسمى قوس قزح القُسطلاني بالضم.
وقال الدريدي: أهل المدينة يسمون الهباء الذي يدخل من ضوء الشمس إلى البيت خيط باطل. قال الشّيخ: أخبرني أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري قال: أخبرني أبو عمرو غلام ثعلب عن ابن الأعرابي وعن عمر بن أبي عمرو عن أبيه وابن نجدة عن أبي زيد قال: يوح اسم للشمس ومن رواه بالباء فقد صحف وذكاء والعروج والمهاة والعبورية والبتيراء والجونة والفين والمأوبة لأنها آئبة أبداً وتأويبها: سيرها من المشرق إلى المغرب والسراج والضح والأُهة بالضم والأَهة بالفتح وروى قطر الإهة بالكسر والأهة بالضم. قال ثعلب: الضم أفصح والعمل عليه.
ومن أسماء الشمس: الغورة لأنها تغور وأم شعلة وأم النجوم والغراه والهالة وأنشد:
منتجب كأن هالة أمه ... ضعيفُ الفؤادِ ما يعس بمعقولِ
منتجب ها هنا مفتخر أي يتخير وينتجب ما يفتخر به علينا وهو جبان في نفسه وحكى المفضل: الحومانة الشمس. ويقال: سفرت الشمس طلصت، وأسفرت أضاعت مثل وأشرقت وقيل هما لغتان وأنشد ابن الأعرابي:(1/155)
بيضاء شطت مزارها ... بلسنا إن سفرت أسفارها
فأتى باللغتين جميعاً وأنشد أيضاً:
كأنها الشمس إذا ما تسفرُ ... والشمس منها يوم دَجنٍ أسفر
أي تضيء منها الشمس يوم الدجن. وأنشدنا أبو أحمد العسكري قال: أنشدني أبو عمر الزاهد عن ثعلب عن ابن الأعرابي:
وجاريةٍ رفعتها لأنالها ... يكفي عن خرجاء يهفو رواقُها
قال: الجارية ها هنا الشمس، والخرجاء: عين الشاعر لأنها ذات لونين. وأنشد عن ثعلب عن ابن الأعرابي:
ومعمولة إن زدت فيها نقصتها ... وإن نقصت زادت على ذاك حالها
قال: يريد الكوة التي تكون في السقف مدخلها ضوء الشمس كأنه حبل ممدود ولذلك سمي ذلك الضّوء خيط باطل، لأن ما تراه فيه إذا قبضت عليه لم يحصل في يدك منه شيء، وقوله: إن زدت فيها نقصتها أي إنَ زدت في جسمها نقصت من ضوئها فهكذا حَالها. وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي:
والشمس معرضة تمور كأنها ... ترس تغلبه كمي رامحُ
قال الشيخ: أظن أن ابن المعتز أخذ قوله من هذا:
ومصباحنا قمر مشرقْ ... كتُرس اللجين يشق الدجى
مخاط الشمس، ومخاط الشيطان جميعاً.
ويقال: ركدت الشمس وهو غاية زيادتها، وقسبت الشمس تقسب وصفحِت تصفو صفواً، وكل هذا في معنى الرسوب. وقال أبو النجم: صفواء قد همت ولما تفعل.
ويقال: قنب يقنب قنوباً وذلك إذا لم يبق منها شيء وأنشده شعراً:
مصابيحُ ليست باللواتي تقودها ... نجوم ولا بالآفلاتِ الدوالكِ
يقال: أفلتِ الشمس: إذا غابت، والأفول يستعمل فيها وفي غيرها، وكذلك البزوغ وهو الطلوع قال الله تعالى: )فلما أفلَت) سورة الأنعام، الآية: 78، في الشمس وفلما أفلَ في القمر.
وحكى قطرب: جئتُك غبة الشمس أي عند مغيبها كأنه قلب، فقدم الباء قال: وقالوا: شمسنا وشمسنا أي أوذينا بحرها وأشمسنا صرنا في حَر الشمس وشمس يومنا وشمس وأشمسَ. يقال: أزبت الشَمس وزببت وزبت إذا دنت للمغيب.
ويقال: انصلعت. انصلاعاً وهو تكبدها وسط السماء، وصلاع الشمس حرها، وقال: خر الظهيرة تحت يوم أصلع، وحكى أبو عمرو: العباء أنوار الشمس.
يقال: قصبت الشمس وذلك إذا بدا قصبها في عين الناظر إليها، وذكر في أسماء الشمس قطيفة المساكين وما أظنه إلا من وضع العامة. وحكى أبو حنيفة: الشرق الشمس، ويقال أتيتك كل يوم شرقه أي شمسه وطلع الشرق، ولا يقال: غاب الشرق. وفكر قوله: وهمت الجونة أن تصوما، ومعنى صوم النهار أن الشمس إذا توسطت السماء نصف النهار كأنها تقف ألا تسمع قوله:
والشمسُ حَيرى لها في الجو تدويمُ.
وحكى أبو حنيفة أن الإلهة تأنيث إله، وأحسب أن الشمس سُميت بها لأنه كانت تعبد.
قال: والنداءة قرس المزن وأكثر ما يكون في الوسمي والصيف وقيل: بل هي الحمرة العارضة في مطلع الشَمس ومغربها إذا عَرَضَتْ.
ويقال: سبأته الشمس والنار والحمى إذا غيرته، وكذلك السفر يَسبَأ الإنسان. وحكى ابن الأعرابي أنك لتريد سَبَأة أي سَفَراً، وقال سربد مثلها: والسبأة البُعد فكان السربد السفر القريب. ويقال: جاءني فلان قمة إي حين غابت، وقال أبو عمرو وما قِمستَه وقامَستُه بمعنى والمقامَسة المقاطة قال الهذلي:
قلو رجلاً خادعته لخدعتُه ... ولكنما حونا برِحنا أقامس
سبته الشمس وَسَبأته إذا أحرَقَتهُ.
البابُ السادس والعشرون
في أسماء القمر وصفاته وما يتصل بها من أحواله
فصل
قال أبو حاتم: قال أبو زيد: يقال الهلال: ما عام ابن ليلة أو ابن ليلتين، فإذا استدار وعظم قبل أن يستدير فهو: القمر المستقبل، فإن غطاه سحاب أو قوة فلم ير إلا بعد ثالثة من أول الشهر فهو قمر، وإلا يدعى هلالاً. وأما القمر: فهو ضوء القمر، ويقال: طلع القمر، ولا يقال طلعت القمراء ولكن يقال: أضاءت القمراء، كما يقال أضاء القمر.
ويقال: قمر الليل، ولا يقال: قمر القمر، ويقال: قمرنا ونحن مقمرون، ويقال: تقمرت فلاناً إذا قصدته في القمراء.
وروى الشعبي أن شيخاً تقمر جاريةً ولم يبلغ منها ما أراد فرفعا إلى عمر فعزره وأراد تعزيرها أيضاً فشهدوا لها أنها أنكرت قربه وصاحت فخلى سبيلها. ويقال: وضح القمر وضوحاً. ويقال استهل الهلال وأتيتك عند مستهل الشهر.(1/156)
ويقال: أهللنا الهلال، وأهلُ الهلال، قال أبو حاتم: بالبصرة يقولون هَل الهلال، ولا يجوز ذلك، قال أبو حنيفة: حكي عن الثقة أنه يقالُ: هَل الهلال نفسه أي طلع وأهللناه نحن رأيناه، وإذا كان الهلال منبسطاً قيل: هلال أوفق.
ويقال: أتيته عند إهلاله واستهلاله وهلة وهله وهلوله، وأتيته تيفاق الهلال وتوفاقه وميفاقه.
قال الفراء: يقال إذا عاينْتَ الهلال رأيته قَبلاً، وإن استقبلك قبل: رأيته قبلاً، قال: وكل ما قابلك فهو قبل منك، وقال غيره: رأيت الهلال وهو أول ما يرى ولم ير قبل ذلك، وتكلم فلان قبلاً، إذا تكلم بكلام لم يكن قد استعد له.
ويقال: سلخت الشٌهر سلخاً وسلوخاً وسلخ هو وانسلخ.
ويقال: نَصَفَ الشهر وأنصف ونصف وكذلك كل شيء يؤول إلى النصف. قال الفراء: طرح الألف أجوده، وحكى الجرمي عن الأصمعي: أنصفَ النَهار ولا يقال: نصف ولكنْ يقال: نصف الماء القدح، هذا وما أشبهه مما يبلغ نصف غيره. قال:
ترى سَيفه لا ينصفُ الساق نعله ... أجل لا وإنْ كانَت طِوالاً محامِله
وقال الفرزدق:
وإنْ يقنهبن الولايد بعدما ... تعالى نهارُ الصيف أو كادَ ينصف
وقال ابن علس:
نصفَ النهار الماءَ غامرة ... وشريكه بالغيبِ ما يَدري
فكلتا اللّغتين صحيحة، وقال العجاج في نصف:
حتى إذا اللّيل التمام نَصفا
وقال أبو زيد: يقال: انتصف النهار انتصافاً، وأنشد:
فانتصف النهار والنعام ... والمهر مُزدَم له قتامُ
يعني أنه عقر نصف النعام على الفرس إلى نصف النهار. ويقال: وسط النهار حكاه أبو زيد يقال: قمراء أضحيان، وهو ضَوء القمر من أول الفيل إلى الصباح.
ويقال: أضحيان لكل ليلةٍ من العشر الوسط، ويسمون القمر في أول الفيل وآخره قميراً يصغرونه لِصغره. قال ابن أبي ربيعة:
وقمير يد الخمس وعشرين ... له قالت الفتاتان قوما
يريد قومَن وأنشد في القمراء:
يا حبّذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النساج
والقمر الباهر في الليالي البيض ومعنى الباهر الذي يملأ كل شيء بضوء بَهَر بهوراً، قال أبو حاتم: والبهر: الني يصيب الإنسان من ذلك لأن المتنفس يمتلئ ويتردد فيه النفس فيستبهر. وقال:
عَم النجوم ضوؤُه حين بَهَر ... فغمض النجم الذي كان ازدهر
وقال:
والقمر الباهر السماء لقد ... زرنا كلانا بحجفل لجب
ليلة عقراء: ليلة ثلاث عشرة. ويقال لها أيضاً: ليلة السواء، وقال بعضهم: تسمى بذلك لأن القمر يستوي فيها، وهو قول الأصمعي، وقال آخرون: لأنه يستوي ليلها ونهارها. وقال: هي السواء والغراء.
ويقال: أسفَرَ القمر في أول ما يرى ضَوؤُه، ولم يظهر بعد، وأضاء القمر، وقالوا: ليل أسفر، وقالوا: امتحق القمر، ولم يعرفوا فيه فعل يعني مَحَق، والاسم المحاق والمحاقة غداة يخفى عليك، لأن الشمس تغيبه عنك من أول نهارك قبل طلوعها ثم الاستسرار إلى أن يهل الهلال.
قال الأصمعي: المحاق أن يطلع القمر قبيل الشمس في ضوئها فلا يزال ينمحق حتى يذهب. والسرار: أن يطلع خلفها. وقال أبو عبيدة: العرب تقول: لِلَيلَةِ ميلاد القمر: ابن ليلته وأنشد:
كأن ابن ليلة طبع جانحا ... قسيط لدى الأفق من خُنصر
وكال أبو عبيدة: إنما فيل: ليلة البدر لأن القمر يبادر الشمس أن يطلع، قال الله تعالى: )لا الشمس ينبغي لها أن تُدرِك القَمَرَ ولا الليل سابِقُ النهارِ وَكُل في فَلَكٍ يَسبحون) سورة يس، الآية: 40، أي يجرين في قطب المدار. وقال زهير:
لو كنت عن شيء سوى بشرٍ ... كنت المنور ليلةَ البدر
قال أبو حاتم: قد روي عن أبي عباس هذا القول: إن القمر إنتا سُمي البدر لأنه يبادر أن يطلع، ولا أظنه إلا غلطاً عليه، إنما البحر الممتلِئ. ويقال: ليلة البدر، وقمر بدر وأبدرَ القمر صار بدراً. قال الشاعر:
ثم كشعة القمر البدر ... حقوق الأحشاء والكَبد
ويقال: غلام بدر إذا امتلأ شباباً قبل الاحتلام، وجاء ببدرة أي سقاء ممتلئ لبناً.(1/157)
قال أبو عبيدة: ثم سموا ليلة البدر، وليلة النصف، وليلة التواء وهي ليلة ثلاث عشر البيض قال: ولم أسمع عربياً سمى شيئاً منهن ولكن عدوهن فلما بلغوا آخر الشهر سمو ثلاثاً منهن الدادي صفاة لِشدة ظلمتهن.
وقال أبو نصر: الدأداء: هي الغلبة إذا كنت تشك في الليلة هي مِما أنت فيه أو من المقبل، يدل على هذا قوله:
هاجت عليه من الأشراط نافحة ... بغلته بين أظلام وأحفار
وقال:
تداركه في منضل الآل بعدما ... مضى غير ما دأدأ وقد كاد يذهب
ثم قالوا: سرار الشهر. قال جرير:
رأت مر السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار مِنَ الهلال
ويكون سرار الثلاثين من آخر الشهر إذا تم الشهر، فإذا نقص فهو سرار ليلة. ويقال: أتيته عند سرار الشهر وعنْد سرار القمر. قال:
تلقى نوؤهن سرار شهرٍ ... وخيرُ النوء ما لقي السرارُ
وِقال الكسيائي: آخر ليلة من الشهرِ. قال كثير:
هلال عشية لشفا غروبٍ ... تسر وليلة بعد المحاقِ
وقال الراجز:
نحن صِبحنا عامراً في دارها ... عشية الهلالِ أو سرارها
والسرارة يفتح ويكسر والفتح أعرف، وقال بعضهم: المحاق ثم السرار لأن ضوءه يمتحق ثم يستتر. وِقال غيره: امتحاق القمر: احتراقه واحتج ببيت ساعدة:
في ماحق من نهار الصيف محتدم
ويقال: محاق القمر، ومحاق الشهر. قال:
بَنيتُ بها قيلَ المحاقِ بليلة ... فكان محاقاً كله ذلك الشهر
وقال آخر:
فإن تك كوكبُ الصمعاء نحساً ... به ولدت ويالقمر المحاق
ويقال: حجر القمر، وقمر القمر: إذا استدار بخطٍ دقيق. ويقال: لحف القمر فهو ملحوف: إذا جاوز النصف وأخذ في النقصان. والبراء: آخر ليلة في الشهر لتبرأ القمر مِنَ الشمس.
ويقال: طفاوة القمر: إذا حجه وأنشد: كأنه البدر في طفاوته. وبعضهم يفتح الطّاء فيقول طَفاوة. ويقال: أفتق القمر: إذا خرج من السحاب لفُرجة يجدها، والفرجة الخصَاصة. قال ذو الرمة شعراً:
تريك بياضَ لبَّتها وَوَجْهاً ... كقرز الشمس أفتقَ ثئم زالا
أصاب خصاصة فبدا كليلاً ... كلاً وانفَل سائرُه انفِلالا
وقال بعضهم: يسقى القمر: الزّبرقان وهو من قولهم: زبرق عمامته: إذا صَفرها. قال أبو حاتم: وزعم من لا أسكن إلى قوله أن القمر يسمى في الدادي السّاهور. قال أمية بن أبي الصلت:
والشهر بين محاقه وهلاله ... أجل لعلم الناس كيف يعدد
ولا نقْص فيه غير أنَ خبيئَه ... قَمَر وساهور يُسَل ويُغمَدُ
وزعم أن الساهور بالنّبطية أو السريانية، وقال بعضهم: هو غلاف القمر يخرج منه أول حتى يبرز كله، فإذا انتصف الشهر ارتد فيه.
وحكى بعضهم: ليالي السّاهور التسع البواقي كلها. وحكى الحارزنجي: الساهور الشهر، قال: ويقولون: لقوا الشر في ساهوره، أي في كثرته. قال: والساهور من أسماء القمر وهو السحاب أيضاً، والسّاهرة الأرض العريضة البسيطة.
وقال شيخنا أبو علي: الساهرة وجه الأرض من الشهر، ومعناه أنه إذا سهر قلق جنبه، فَقَل حظه من الأرض، إذا بالقيام، وإمّا بالقعود، وإما بالقلق والحركة فتأويله أنه سلب ملابسة الأرض، وكذلك قولهم: سهروا والمعنى واحد والأخذ منزله كل ليلة والركس منزله الذي ينكسف فيه. ويقال للسواد الذي في القمر: المحو والشامة. والهالة دارة القمر. ويقال: طمس القمر والنجم إذا ذهب ضوؤهما. ويقال: القمر الفيلة في الهالة قال: في هالة هلالها كالإكليل يعني دارته أنشد في الهالة:
فَمَن يسع مِن حَيَّ الأراقم جاهداً ... ليدرك مسعاة ابن هالة يسبقُ
ويقال: سُميت هالة لحسنها وجمالها كأنهم شبهوها. وقال قطرب: الفخت ضوء القمر والشمس، وهي أيضاً: ثقوب مستديرة في السقف، وقد انفخت وقال ثعلب: الذي يدل على أن الفخت الضوء لا الظل أنه الفاختة سُميت لفخت القمر ومنه الصبغ الفاختي. وكذلك ذكره أبو عبيدة والكسائي، ويقال: جاء تيفاق الهلال، وتوفاق الهلال، وتوفق الهلال، وميفاقه أي لوقتِه، وحين وجاء على نفته ونافَته وعلى أفاته أي لوقته.(1/158)
وأخبر أبو عمر بن ثعلب عن ابن الأعرابي قال: هو القمر والطوس والجلم والجيلم والأرسلم والباهر والزْبرقان والرباض والبدر والسمار والمتسق والبارد والغاسق.
قال ابن الأعرابي: ويقال للهلال: الأزميم وابن ملاط وابن مزنة قال شعراً:
كأن ابنُ مزنة طلع جانحاً ... فسيط لدى الأفق من خُنصر
قال: ويقال له الأزميم إذا دفق. قال: كأنما شخصها في الآل أزميم وزعموا أن أعرابية قالت لزوجها: لقد رأيت الأزميم بوجهك فما رأيت خيراً. ويقال: قمر سنمار إذا كان مضيئاً، وقمر سنمان بالنون أيضاً.
قال أبو عمرو: أخبرني السياري عن قوله في الغاشق أنه القمر. وقَلب الغسق العرب السواد، قال: إنما قال: تعوذي بالله من شَر هذا الغاسق أي من شره إذا انكسف فهو آية ويسود، فمعناه يا عائشة افزعي إلى الصلوة واستعيذي بالله من شر هذه الآية إذا رأيتها قال ابن الأعرابي وأنشد نصر والأسديون شعراً:
ومستنبتٍ لا بالهلالِ نباته ... وما أن تلاقَت باسمه الشفتان
له شامة سوداء في حَر وجههِ ... مجللة لا يقضي لأوان
ويدرك في تسع وست شبابه ... ويهرم في سبعِ معاً وثمان
قال: هو الهلال لأنه ثبت بلا سقي ذكر الشفتان لأنه ليس في اسم الهلال من الحروف التي ينضَم عليها الشفتان شيء وحَر الوجه ما بدا منه ومنه قوله:
كريمة حر الوجه غير المحسر
وحكى ثعلب عن أبي مسجل عن الكسائي أهَل الهلال واستهل، ولا يقال: هَل ولا أهللنا الهلال. والحمرة التي يغيب فيها القمر يقال لها: الندأة. قال الفزاري والجمع ندى ثلاثة، أخط أحمر بين أخضرين، فإذا رأيتها فتق بالمطر من غرب أو شرق بإذن الله عز وجل. قال ثعلب: الأخط جمع خط كما يقال: صل وأصل وشد وأشد. وغرة الشهر أول ليلة، لأن الهلال في أوله كالغرة في وجه الفرس. وتقول العرب للحجر البراق: هو بصاقة القمر، وقيل بصاق وبصق. والبلماء ليلة البدر.
ويقال: وجه مسلم إذا امتلأ نوراً واستكمل حسناً، وقال بعضهم: يقال كذلك طفاوة القمر.
فصل
في أسماء ليالٍ من أول الشهر الغرر
ويقال الغر أيضاً لأنها كالغرة في الوجه البهيم من الخيل.
ويقال أيضاً: القرح لأنَّها كالقرحة فيها. ولثلاث يليها السبع، وقيل لها: الزهر بفتح الهاء وقد سكنت أيضاً، وقد أزهر القمر والزهرة البياض والنجم المعروف الزهرة، أبو عبيدة يبطل التسع والعشر ورواه غيرهما. ومن قال الغرر جعلها جمع غرة. ومن قال غر جعلها جمع غراء. وقيل بعد الغر ثلاث شهب، لأن ضوء. القمر فيها غير باهر، وقيل: ثلاث بهر لأن ضوء القمر بهر كل ظلمة أي غلب، وقيل قي التّسع: إنها سمّيت بها لأن فيها الليلة التاسعة، كما سقيت الغرر لأن فيها الغرة، وهي ليلة واحدة ليلة الهلال.
وكذلك العشر: لأن فيها الليلة العاشرة، ولثلاث يليها التسع، وقيل لها: الدرَع بفتح الرّاء، ويجعل درعة مثل ظلمة وظلم وقيل الدرع بسكون الراء جعل جمع درعاء. وقيل: صبح أدرع: لاختلاط الضوء بالظلمة. وشاة درعاء إذا اسود مقدمها وابيض سائرها. ويقال: أدرع الشهر إذا جاوزت النصف منه والدرع والظلم والزهر وقد حركت الثاني منها كلها وجاءت على غير قياس. قال ابن أبي ربيعة:
قالت له شَفَقاً لا تَأْت في قمَرٍ ... إن كنتَ تأتي بليل وأحذرِ الدرعا
ففتح الراء والقياس إسكانها. قال أبو حاتم: لم أسمع في الظلم أنها جاءت على القياس. وقال بعضهم: أتيت وثوب السماء مجزع، لأن أولها أبيض وآخرها أسود.
وقال الأصمعي: عن العرب: الليالي البيض: ثلاث ليال: ليلة السواء وليلة البدر، وليلة خمس عشرة. قال: ولا يقال أيام البيض إنما يقال: ليالي البيض، وتُسمى هذه الليالي المحمقات، وذلك أنه إذا كان في السماء غيم رقيق وطلع القمر من أوله إلى آخره خفي على الإنسان ضوء الصبح، فيظنّ أنَه قد أصبح وعليه ليل قيسمين محمقات لذلك. ويقال: غر فلان غرور المحمقات.(1/159)
وقد قيل لما يلي التسع إلى اثنتي عشرة: الجزع، ثم ثلاث عشرة السواء والعفراء وأربع عشرة البدر، وخمس عشرة ميسان، وإلى العشرين الذرع، وقد تقدم القول في جميعه، والتسع البواقي الدادي، وآخر ليلة في الشهر ليلى مقصوراً لظلمتهما. وحكي المد فيها. وميل للثلث الأواخر محاق، لأنه يمتحق القمر فيها كأنه يخترق عند طلوع الشمس فلا يرى.
ويقال: ليلة المحق ويقال: أتيته في المحاق أي في امتحاق القمر.
ويقال: من البحر قد أبدرنا، ومن التواء قد أسوينا، ومن نصف الشهر قد أنصفنا. ويقال: ليلة ضحيان وضحيانة، وليلة قمراء، وليلة بيضاء، وليلة ضحياء، وليال ضحيانات، وليله طلقة، وليال طلقات، وطوالق إذا كن مقمرات.
ويقال: ثلاث دادي، وثلاث ظلم، وثلاث حنادس. قال شعراً:
تداركه في متصل الآل بعدما ... مضى غير دأداء وَقَد كادَ يُسحَبُ
وقيل: الليالي النحس والدهم. وقيل أيضاً: ثلاث قحم: لأن القمر قحم في دنوه إلى الشمس.
ويقال لليلة ثمان وعشرين: الدعجاء، وليلة تسع وعشرين الدهماء، ولليلة ثلاثين الليلاء، ويجوز أن يكون القحم أخذ من افتحام في السير، وقال الأصمعي في الحنادس: كل ظلماء من الليالي حندس، وقال أبو عمرو: قول الناس العشر والنفل لا تعرفه العرب. قال الجعدي في الظلم: كالليلة المباركة القمراء تهدي أوائل الظلم. وقال المسيب بن علس: كالطلق يتبع ليلة البهر.
البابُ السابع والعشرون
في ذكر أسماء الهلال
مِن أول الشهر إلى آخره وما ورد عنهم فيها من الأسجاع وغيرها
قال أبو زيد: الأعراب يقولون للقمر لأول ليلة، رضاع سخيلة حل أهلها برميله. ولابن ليلتين: حديث أمتين يكذب ومين، ولابن ثلاث: حديث فتيات غير جد مؤتلفات، ويروى ما أنت ابن ثلاث، فقال: قليل اللبات، ولابن أربعة: عتمة ربع غير حبلى ولا مرضع. ويروى غير جابع ولا مرضع. وقال بعضهم: عتمة أم رب؟ع غير حبلى ولا مرضع. ولابن خمس: عشاء خلفات قعس وزعم غير أبي زيد أنه يقال لابن خمس: حديث وأنس. قال أبو زيد: ويقال لابن ست: سر وبت. وقال غيره: أسر وبت. قال أبو حاتم: لأنه يقال: سرى وأسرى بمعنى. وقال أبو زيد: لابن سبع دلجة الضبع، وقال غيره: حد والأنس ذو الجمع. وقال أبو زيد لابن ثمان: قمراء أضحيان. قال أبو حاتم: أضحيان.
قال أبو زيد: ولابن تسع: انقطع الشبع. وقال غيره: ملتقط ماء الجزع وقيل مثقب الجزع.
وقال أبو زيد لابن عشر: ثلث الشهر. وقال غيره: محنق الفجر. وقال غير أبي زيد قيل للقمر: ما أنت لإحدى عشرة قال: لدى عشاء وأرى بكرة. قيل: فما أنت لاثنتي عشرة؟ قال: موثق للشمس بالبحر والحضر. الذي حكاه أبو حاتم موثق للشمس. وقيل: ينبغي أن يكون موثق للخلق. قيل: فما أنت لثلاث عشرة؟ قال: قمر باهر يعشى له الناظر. قل: فما أنت لأربع عشرة؟ قال: مقتبل الشباب أضيء مدجنات السحاب. قيل: فما أنت لخمس عشرة؟ قال: تَم التمام ونفدت الأيام. قيل: فما أنت لست عشرة؟ قال: نقص الخلق في الغرب والشرق. قيل: فما أنت لسبع عشرة؟ قال: أمكنتُ المغتفر الغفرة. قيل: فما أنت لثماني عشرة؟ قال: قليل البقاء سريع الفناء. قيل: فما أنت لتسع عشرة؟ قال: بطيء الطلوع بين الخشوع. قيل: فما أنت لعشرين؟ قال: أطلع بسحره وأرى بالبهرة، قيل: فما أنت لإحدى وعشرين؟ قال: كالقبس أطلع في غلس. قيل: فما أنت لاثنتين وعشرين؟ قال: أطيل السرى ألا رأيت ما أرى. قيل: فما أنت لثلاث وعشرين. قال: أطلع في قتمة ولا أجلي الظلمة. قيل: فما أنت لأربع وعشرين. قال: أرى في تلك الليالي لا قمر ولا هلال. قيل: فما أنت لخمس وعشرين. قال: دنا الأجل وانقطع الأمل. قيل: فما أنت لست وعشرين؟ قال: دنا ما دنا فليس يرى لي سناء. قيل: فما أنت لسبع وعشرين؟ قال: أطلع بكراً وأرى ظهراً. قيل: فما أنت لثمان وعشرين. قال: أسبق شعاع الشمس، وقيل: فما أنتَ لتسع وعشرين. قال: ضئيل صغير لا يراني إلا البصير. قيل: فما أنت لثلاثين؟ قال: هلال مستقبل.
ويقال: جئت لعقب الشهر وعقباله أي بعدما يمضي، وفي عقبه وعقبه إذا بقيت منه بقية.
ويقال: لا يفعل كذا إلا عقبة القمر. وذلك إذا قارن الثريا وبقارنها في السنة مرّة وهو من المعاقبة، وذلك إذا استوى الليل والنهار، وقيل: هو عودته إنا غاب وقال بعضهم في العقبة:(1/160)
لا يطعمُ العسَلَ والخطْميَ لمتَهُ ... ولا الزريرة إلاّ عقبة القمر
وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي عن المسروحي قال:
لما رأيت الشعراء أبدوا ... وكل شيء جمعوه عددوا
حاجتهم ما ذو عصا مسندُ ... حي كميت عينه توقدُ
سيدٌ جمعَ حولَه لم يولد
سيد جمع: يعني القمر والنجوم حوله وذو عصا قال جعل عصاه المجرة ومسند: أي في السماء، وقيل أيضاً: يسند إليه الشهور والأيام وحي كميت أي يسير ولا روح له ومعنى أبدوا أتوا بالأوابد والدواهي. وأنشد أبو زيد عن المفضل لرجل من بني سعد شعراً:
مهما يكن ريبُ المنون فإنني ... أرى قمر الليل المعذب كالفَتى
يهل صغيراً ثم يعظم قدره ... وصورته حتى إذا هو ما استوى
يقارِبُ يخبو ضوؤه وشعاعُه ... ويمصحُ حتى يستسر فلا يُرى
كذلك زيدُ المرء ثم انتقاصُه ... وتكرارَه في إثره بعدما مَضى
زيد المرء زيادته. وقال آخر:
يدان بنا وابن اللّيالي كأنه ... حُسام جلت عنه العيونُ صقيلُ
فما زال يغلو كل يوم شبابه ... إلى أن أتتك العيسُ وهو ضئيلُ
والمعنى سرنا من أول الشهر إلى آخره حتى انتهينا إليك. وأنشد ابن الأعرايي:
فلو كنتِ ليلاً كنتِ ليلةَ صيفٍ ... من المشرقاتِ في موسطة الشهر
ولو كنتِ ظلاً كنتِ ظل غمامة ... ولو كنتِ عرشاً كنت تعريشة الفَجرِ
ولو كنتِ يوماً كنتِ يومَ سعادةٍ ... يرى شمسه والمزنُ يهضبُ بالقطر
وأنشدت عن نقطويه، قال: أنشدني ثعلب عن ابن الأعرابي شعراً:
لو كنت ليلاً من ليالي الشهرِ ... كنت عن البيض تمام البدرِ
بيضاء لا يشقى به من يسري ... أو كنت ماءً كنت غير كدرٍ
ماء سماءً في صفاءً من صخر ... أظله الله بِعيضِ السدر
فهو شفاء من غليل الصدر
وأنشدني حمزة بن الحسن قال: أنشدني بن سليمان عن المبرد:
وليل في جوانبه فضولُ ... على الآفاق أبهمَ غيبهانِ
كأن نجومه دمع حبيس ... تَرقرَق بين أجفانِ الغواني
قال أبو عمر الزاهد: عرضت هذين البيتين على ثعلب، فقالَ: البيت الثاني مضاف إلى شعر الشاعر وليس له. وقال جرير في قصة الأيام:
ويوم كإبهام القطاةِ مزينٍ ... إلى صباه غالب لي باطلُه
وأنشدَ في مثله:
ظلَلنا عند دار أبي نعيم ... بيوم مثل سالفة الذيابِ
وأنشد أبو العباس ثعلب:
وسيارة لم تسرِ في الأرض تبتغي ... محلاً ولم يقطع بها البيدُ قاطعُ
سَرَت حيثُ لا تسري الركاب ولم ينخْ ... لِورد لم يقصر لها القيد مانعُ
تفتح أبوابُ السماء ودونها ... إذا ما ارتجت عنها المسامعُ سامع
يعني دعوة مظلوم دعا الله تبارك وتعالى وأنشد في مثله شعراً:
خدتان لم يريا معاً في منزل ... وكلاهما يجري به المِقدارُ
لونان شتى يغشيان ملاءةً ... تسفي عليه الريح والأمطار
الخدنان: الليل والنهار والملاءة يعني بها الأرض. وقال آخر في المحاجاة:
ما جملي قهقرني وإبلي يعذرني ... وقربتي روية وكلبتي حمية
جَمَله القمر، والقهقر الشديد وإبلي يعذرني: يعني النجوم، وقربته السماء تمطر وكلبته حمية يعني الشمس. وأنشدني العسكري أبو أحمد، قال: أنشدني المفجع الكاتب:
وما واضح بعد الغياثِ مصورٌ ... له خِلَع شتى وما هو لابسُ
يعني: قوس قزح، والغياث المطر. قال وأنشدني الآخر:
أكلتُ النهار فأفنيتُه ... فهل في لياليك من طمع
النهار: الذكَر من الحبارى والليل: فرخ الكَرَوان، قال: وأنشدني عن ثعلب:
ألا ليتني أصبحتُ يوماً بمنزلٍ ... بعيد من اسم الله والبَركاتِ
هذا رجلٌ طال سفره، فكان إنا ارتحل أصحابه قالوا: اسم الله. وإذا نزلوا قالوا: على بركة الله، قيل: طول السفر، وقال ذلك. وقال آخر في ضده:
ليتني في المسافرين حياتي ... لا لِحُب الحلول والترحالِ(1/161)
بل لخمسٍ تحط منهن ست ... وثلاثين لا تكون ببالي
يعني خمس صلوات، يحط منها ست ركعات وهي: صلوات المسافر، وأنشدني أبو أحمد العسكري:
رَمَتني بنجلاوَين مَن ترمياته ... بسهمها شدت عليه التمائم
وشفت سحاباً فيه سبعون أنجماً ... وشمس تولتهن عشر نواعم
النجلاوان: العينان يقول من أصابته بطرفها جن، والسحاب: أراد به أنها حلت أزرارها جعل الغطاء كالسحاب والأنجم اللآلئ، والشمس منه كالقلادة من فضة أو ذهب وأراد بالعشر النواعم الأصابع وأنشد:
ستة إخوة وأختْ شريفة ... هي في دارنا ودار الخليفة
يعني أيام الأسبوع.
؟؟البابُ الثّامن والعشرون
في ذكر أسماء الأوقات
لأفعالٍ واقعة في اللّيل والنهار وأسماء لأفعال مختصة بأوقات في الفصول والأزمان
يوم العداد: يوم العطاء والفرض. لذلك قيل: عداد فلان في بني فلان أي ديوانه.
قال ابن الأعرابي: العداد: الوقت الذي تتهيج فيه أوجاع البطن. والعداد الربع من الحمى وأنشد:
يلاقي من تذكر آل ليلى ... كما يلقى السليم من العداد
وفي الحديث: وما زالت آكلة خيبر تعادني فهذا أوان قطَعت أبهري أي يأتيني الأذى منها لوقتٍ معلوم. والعداد: الليلة التي يناح فيها على الميت من كل أسبوع. وعدة المرأة: أيام قَرئها.
والصبوح: ما يشرب صباحاً. والغبوق: ما يشرب عشاءً. ومن أمثالهم: جاء فلان وقد أحيل صبوحه على غبوقه، إذا صرف عن رأيه وأمره. ومثله: جاء فلان وقد فتلت ذوائبه وفت في عضده. وفي الحديث: )ما زال يفتل في الذروة والغارب) وأنشد:
ما لي لا أسقى على علاتي ... صَبائحي غبائقي قيلاتي
والنحويون يحتجون بهذا في حذف حروف العطف من الكلام. والقبيل: شرب نصف النهار، وفي قصة تأبط شَراً: شروب للقبيل يضرب بالذيل كمغرب الخيل وأنشد:
يا رب مهر مزعوق... مقيل أو مَغبوق... مِن لَبَنِ الدهم الروقِ.
مزعوق: أي نشيط. والجاشرية: شرب السحر. يقال: أسحرنا فتجشرنا فنحن مسحرون متجشرون من جَشَرَ الصبح. وأنشد:
إذا ما شربنا الجاشِرية لم نبل ... أميراً وإنْ كان الأميرُ مِنَ الأزدِ
وما يؤكل فيه اسمه السحور والطائر المسحر: إذا غَردَ سحراً. والسحَر والسحرة واحد. ويقال: صبحناهم وغبقناهم وغشيناهم وغديناهم قال عدي:
بينك فلم يلقهم حقباء
والضحاء للإبل: كالغداء للناس، وأول وقت الغداء قبل الفجر الثاني، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للعرباض حين دعاه إلى السحور: )هلم إلى الغداء المبارك). فالغداء والعشاء مأخوذان من الغداة والعشي. ويقال لمن خرج في هذا الوقت: قد غدا منه، فإن يقدم في هذا الوقت لم يقل غداً، ولكن يقال: دلج إذا خرج في نصف الليل، أو في أوله وأدلج إذا خرج في آخره، فإذا انبسطت الشمس فإن شئتَ سميتَ الغداء ضحاء. ويقال: ضح إبلك، أي غدها وسمى ضحاء لأنهم يضحون للشمس وفي القرآن: )لا تَظمَأ فيها ولا تَضحَى) صورة طه، الآية: 119، أي لا تعطش ولا تصيبنك الشمس. وبناء الفعل من هذه الأفعال قياسه مطرد وفي أظمأ الفعل والظماء ما بين الوردين، يقال: وردت الإبل الربع والخمس إلى العشر ومن هذا قول الكُميت:
وذلك ضَربُ أخماس أريدَت ... لإسداس عسى ألا تكونا
هذا مَثَل يُضرب للرجل يتعلل بغير علةٍ يُظهر لك شيئاً ويريد غيره، والذي يريد شيئاً يتوصل إليه بغير وجهه، ويخيل عنه صاحبه. ووردت الماء ظاهره أي وردتُ كل يرم نصف النهار.
والغِب: أن يَرِدَ يوماً وَيدع يوماً، وكذلك الغِب في الزيارة. وفي الحديث: )زُر غباً تَزدد حباً(، ومنه قيل: أغب اللحم أغباباً، وغب غبوباً إذا أروح ولحم غاب ومغب. وحكى أبو زيد: لأضربنك غب الحمار وظاهره الفرس. وغب أنه يرعى يوماً ويشرب يوماً. والظاهر أنه يشرب الفرس كل يوم.
ويقال: أفضينا اليوم: إذا شربت الإبل قليلاً قليلاً، وأشربنا إذا رُويت إبلنا. والغِب في الورود: معروف، ولا يقال: بَدَله الثلث، كما قيل الربع. والورد يوم الحمى، ويقال: هو مورود. والقلد: يوم يأتي فيه المثلثة. والقد أيضاً أن يمطَر الناس من الأسبوع في يوم معلوم ثلاثاً أو أربعاً أو أحد الأيام. ويقال: هو مربع ومربوعَ في حمى الربع. قال الهذلي:(1/162)
مِنَ المربعين ومِن آزلٍ ... إذا جنه الليل كالناحظ
والقلع: وحواذها أن يعاود وينقطع مرةً بعد أخرى، وهذا كما قال النابغة في صفة السليم: تطلقه طوراً وطوراً تراجع. والسرح: المال يسأم في المرعى.
يقال: سرح القوم إبلهم سرحاً وسرحت الإبل، والمسرح مرعى السرح ولا يُسمى سرحاً من المال إلا ما يُغدى به ويراح، والجميع السروح ويكون السارح اسماً للقوم الذين لهم السرح، نحو الحاضر والسامر وهما للجميع. وأنشد في ذلك:
سواء فلا جدب فيُعرفُ جدبُها ... ولا سارح فيها على الرعيِ يَشبع
وقال: أم حصان لم تكن أمة فيَ الحي ترعى سارح الغنم. قال أبو بكر الدريدي، وفي دعاء الاستسقاء: قلدتنا السماء قلداً قلداً أي: ورداً ورداً، ويقال: صارت الحمى تحاوذنا بالزيادة، أي يتعهدنا بين الأيام.
والغداء والعشاء معروفان. وقيل لبعضهم: ما المروءة؟ قال: إصلاح المال والرزانة في المجلس. والغداء والعشاء بالأفنية. وما يتعلل به قبل الغداء السلفة والعجلة واللّهنة. قال: عجيز عارضها، منفل، طعامها اللهنة أو أقل. ويقال: لَهِنوا ضيفكم أي قدموا إليه ما به يتعلل به قَبل إدراك الغداء. والقيلولة: نوم نصف النهار، ويقال: فلان يعشو إلى نار فلان: إذا جاءها ليلاً وذلك لما يغطي بصره من الظلمة. وقال:
متى تأتِه تعشو إلى ضَوء نارِهِ ... تَجِد خَيرَ نارٍ عندها خَير مَوقِدِ
ومنه: أوطانه العشوة إذا حربه بالباطل، وهذا كما قال تعالى: )أغشِيَت وجوهُهُم قِطَعاً من الليل مظلِماً) سورة يونس، الآية: 27، ويقال للأكلة في اليوم والليلة: الوَجبة والوزمة، وقد وجب والوزمة: وقد وجبَ نفسه وعياله وتوجب بنو فلان، وما يجلب جمنر فلان إبلهم وغنمهم الأوجبة والأوزمة وأنشد:
علقت عجوزُهم إذا هي أظلمَت ... بالجاشِرية مثل وزمةِ درهمٍ
والجاشرية: شربة في السحر على غير طعام ومنه قوله:
وندمان يزيد الكأسَ طيباً ... سقيت الجاشرية أو سقى لي
ومن كلامهم: مَن كل الوجبة أو الوزمة لم يمعد، والممعود: الذي يشتكي معدته ويقال: أتيته آينة بعد آينة، على وزن عاينة أي تارة، وأتيته بعد أين ويهمزون الأين ولا يهمزون وأنشد:
ترى قورها يغرقنَ في الآلِ مرةً ... وآينةً يخرجنَ مِن عام ضحل
وحكى الأصمعي قال: قيل للرجل أسرع في مشيه: كيف كنتَ في سيرك؟ قال: كنتُ آكل الوجبة وأنجو الوقعة وأعرس إذا أفجرت وأرتحلهُ إذا أسفرتُ وأسير الوضع وأجتنب الملع فجئتكم لمسي سبع قوله: أنجو الوقعة: أي أقضي الحاجة في اليوم مرةً يعني إتيان الخلاء. ويقال: أنجا ونجا جميعاً. والملع ضرب من السير وهو أشَد من الوضع، واختار الوضع على الملع لئلا ينقطع سيره. وقد قيل: شر السير الحقحقة ويقال: جزم حزم إذا أكل أكلة في اليوم والليلة. ويقال: ما زال يتمهق إذا شرب يومه أجمع. ويقال: تهقعوا أوْرِداً: أي وروداً كلهم. والتحيين: حلب الناقة مرةً في اليوم والليلة. وأنشد:
إذا أفنت أرمي عيالك أفنها ... وإن حينتْ أربي على الرطبِ حينَها
قال: الأصل الحينة، وهو أن يأكل في اليوم مرةً.
ويقال للعروس إذا غشيها زوجها: هذه ليلة فضها أي ليلة اقتراعها. الكسائي يقال: أمرجت الدابة في لغة بني تميم وغيرهم، يقول: مَرَجتها قال العجاج: رَعى بها رَعيَ ربيع ممرجاً، وعبهلتَها وأسمتها، كل ذلك إذا أهملها في المرعى نهاراً، فإذا كان بالليل قيل أنفشها. قال:
أجرش لهاباً بن أبي كباش ... فما لها الليلة مِن أنفاشِ
غير السرى وسائق نجاش
والفعل لها نفشت، ولا يستعمل إلا بالليل، وفي القرآن: )إذ نَفَشَت فيه غَنَمُ القَومِ) سورة الأنبياء، الآية: 78،. وكذلك النشر أن ينشر الغنم بالليل فترعى، وإذا أرسَلَت فرعت قيل: صبتِ الإبل تصبو. قال شعراً:
إذا تروحنَ مِن الإعياء ... بالليل لا يَصبون في عشاء
ويقال: فلان قنفذ ليل: أي يدور في الليل ولا ينام، والقنفذ لا ينام. وهذا كما أن القطرب دويبة تقطع نهارها بالمجيء والذهاب. وفي الحديث: )لا يبينّ أحدكم جيفةَ ليل وقطربَ نهارٍ ) قال:
قوم إذا دَمِس الطلام عليهم ... حدجوا قنافِذَ بالنميمة تمزَع(1/163)
والدلجة: السرى مِن أول الليل إلى آخره، وقيل: دلج الليل: سار مِن أول الليل، وأدلج: سار من آخره. قال أبو حاتم: أو بعدَ نومة ينامها. والتعريس: النزول في آخر الليل، كما أن التغوير في آخر النهار. وهذا كما أن الاقتحام مِن أول الليل، والاهتجام في آخره.
ويقال: بلغ الأمر نياه: أي وقته. ثم قيل: طال به الأناء مقصوراً، فإنْ فتحتَ مددت الألف، وأنشد الحطيئة:
وأتيتُ العشاء إلى سهل ... أو الشعرى فطالَ بي الأناء
وحكى أبو نصر عن الأصمعي: آن آنه: أي حان حينه، وأنى له أن يفعل كذا يأني أنياً.
وآن يئين أيناً. وأنشد الدريدي: قال أنشدني أبو حاتم عن الأصمعي: أونوا فقد آن عليها الطلح. وقال: وهذا عن الأون الرفق يقال: إن يُؤنَ أوناً، وكان الواجب أن يقول: أونوا على الطلح فقد آن، أي ارفقوا بها فقد أعيينَ.
والتأويب: للسير عن غدوة إلى الليل. قال الراجز:
كأن غَر مَتنهِ إذ نجتبه ... سير صنايحِ في حزير نكلبه
من بعد يوم كامل نؤوبه
غر المتن: طريقته. يقال: إنها تبرق كأنها سير في حزر. ويقال: فلان على جول فلان إذا كان على سنه، وهو سوغه أي طريده، وُلدَ بعده ليس بينهما وَلَد، وهم أسواغه.
يقال: هو صنه وتنه: أي مثله وقرنه.
والملى والمعك والمدالك والمطل: تأخير قضاء الدين عن رقته ومطله.
ويقال: لقيته أولى وهلة وواهلة ووهلة وأول في أول وأول صوك وبوك أي قبل كل شيء وقبل كل أحد.
وقال يونس: قامت امرأة فلانٍ عنده: يعني امرأة العنين رَبَضتها إذا أقامت عنده حولاً ثم فرق بينهما ويوم الطلق ويوم القرب. قال الأصمعيُ: سألت أعرابياً عن القرب، فقال: سَيرُ الليل لِوُرود الغَد، وبقال: ناقة طالق: مِنَ الطلق، وقارب من القرب.
قال: أسد وكلب: يسمون صلوة المغرب صلوة الشاهد، وغيرهم من العرب يُسمي الفجر: صلوة الشاهد وأنشد:
فصبحتُ قبل الأذان الأول ... تيماءَ والصبح كَسَيفِ الصيقَل
قبل صلوة الشاهدِ المستَعجِل
وأنشد غيره: بين الظلام وصلوة الشاهد. وأنشد ابن الأعرابي:
يا حبذا قولهم أبيلوا ... وعَرسوا فقد دنا المقيلُ
يقول: إذا أبالوا الإبل اجتمعت فأمكن السلام والمصافحة، واستراح العسيف.
قال الأصمعي: المستمي: الطّالب للصيد نصف النهار، والسامي مثله. وقال الأصمعيّ: هو الطالب الصيد وغيره في أي وقت كان، وأنشد:
إذا بكَر العواذلُ أستميت ... وهل أنا خالد أما ضحوت
قال: أستميت أي طلبت بكراً. وأنشد أبو عبيدة شعراً:
وليس بها ريح ولكنْ وديقُه ... يظَل بها الشامي يهل وينقَع
يهل: يستحلب ريقه ينفعه تحت لسانه من العطش. وقال جرير:
بقر أوانسُ لم يصب غرَاتها ... نبلُ الرماةِ ولا رماحُ المُستَمي
أبو عمرو: ليلة شيباء: هي الليلة التي يقترع الرجل امرأته فيها وأنشد:
كليلة شيباء التي لستُ ناسياً ... وليلتنا إذ مر في اللهو قرملُ
قال: الشيباء الضعيفة، والأشيب: الضعيف، وقال قطرب: ليلة الشيباء التي يفتض الرجلُ فيها أهلَه ثم أنشد شعراً:
وكنتُ كليلةِ الشيباء همت ... بمنع الشكر أتمها القبيلُ
آتمها: صيرها أتوماً، وهي المفضاة التي صارت شيئاً واحداً. وللقبيل: الذي يقابلها في الجماع. وقد قيل: الشيباء يمد ويقصر، وقال الأسدي: باتت بليلة شيباء على الإضافة وبليلة شيباء بالتنوين، وضدها ليلة حرة.
وحكى ابن الأعرابي: قال سألت أبا المكارم عن الصوص، فقال: هو الذي ينزل وحده، ويأكل وحده بالنهار، فإذا كان الليل أكل في القمراء لئلا يراه الضيف. وأنشدني: صوص الغني سَد غناهُ فقرُه. سد غناه فقره: يعني فقر النفس يمنعه من الكرَم. وأنشد أيضاً شعراً:
يا رب شيخٍ من بني قلاص ... يأكلُ تحتَ القمرِ الوباص
باهرةً باتَت على أدراصِ
الأدراص: ولد الفأر، ويقال: فصيل صيفي، وفصيل ربعي، وما تنج بعد سقوط الغفر إلى أن يمضي، يقال له هبع وسمَّي هبعاً لأن الصال الربعية أكبر منه وقد قويت، فهو لا يلحقها إذا مشت لأنها أدرع منه فيهبع في مشيه، والهبع والهبعان شبيه بالإرقال.(1/164)
وقال ابن قينة: الشرب في نصف النهار: القيل، ولم يبلغني عنهم اسم للطّعام في هذا الوقت، فإذا زالت الشمس وصار الظل فيئاً فهو إرواح. ولهذا قيل في يوم الجمعة: راحوا إلى المسجد، ويرى أهل النظر أن الرواح مأخوذ من الروح لأن الرّيح تهب مع زوال الشمس. قال لبيد: راح القطين بهجر ما ابتكروا، فجعل الرواح في الهاجرة. ثم يكون الأكل بعد الهجير عشاء لأنه يكون بالعشي. والعشي إلى سقوط القرص. ثم يكون المساء بعده إلى عتمة الليل. وليس يزيل المساء العناء. قال شعراً:
وأنيئَت العشاءُ إلى سهيل ... أو الشعري فطالَ بي الأناء
وقال أحمد بن يحيى: التعريس: بالليل والنّهار. والتهويم: بالفجر وفَعوا وَفعَةً: ناموا نومةً.
وحكى ابن الأعرابي أن أحدنا يجزم الجزمة أي يأكل في النهار مرةً.
وحكى أيضاً: أن أحدنا ليُدِغلج دعلجة الجرد، والدعلجة الذهاب والمجيء في الأكل. قال: يأكل دعلجة ويشبع من عفاء. ويقال: ناقة مسحقة: إذا أسحَقَت أيام سنتها منذ يوم ولدت، وناقة مسحقة إذا استحقت سمناً، واستبان ذلك فيها، ومستحقة لإرسال الفحل عليها.
ويقال: أرح إبلك عليك: أي بيتها عندك وأغربها بيتها في الكلأ. ويقال: في معنى أرح روح أيضاً، قال كعب بن سعد شعراً:
وَقور فاه حِلمُهُ فمَروح ... علينا وأما جهلُه فغَريبُ
وهذا من كلامه مثل، يريد أن حلمه يعطف عليهم، وجهله يغرب عنهم، والمعنى لا جَهل.
ثم قال الأصمعي: التجمير: طول الإقامة في الثغور، قال ولا لغاز إن غزا لجمير. قال أبو عمر: والتغمير: أن يدب الأعرابي في الليلة المقمرة إلى النساء. والتأطير: أن تبقى المرأة في دار أبويها زماناً لا تتزوج. وأنشد المفضل:
تأطرنَ ححى قيل لسنَ بوارِحاً ... وذبنَ كما ذابَ السديفُ المسرهَدُ
ويقال: باتت المرأة: إذا تحولت من دار أبويها إلى دار زوجها. وأنشد لكثير عزة:
وإني لأستأني ولولا طماعة ... لعزةَ قد جمعت بين الضرائر
وهمت بناتي أن يَبتِنَ وحمَمَت ... وجود رجالٍ مِن بني الأصاغرِ
فإذا تحولت يقال لها عانق وقد عنقت. وأنشد ابن الأعرابي:
ضح قليلاً يلحق الداريون. ويقول: ارع إبلك ضحى، وهذا مثل أي كُف عن الطرد حتى يلحقك أصحاب الدور، وهذا تفسير ابن الأعرابي.
البابُ التاسع والعشرون
في ذكر الرياح الأربع
وتحديد مهابها وما عدل عنها
وهو فصلان
الفصل الأول
قال أبو سعيد: أخبرنا أبو الحسن الطوسي: حدثنا ابن الأعرابي عن الأصمعي وغيره. قالوا: الرياح أربع: الجنوب والشمال والصبا والدبور قال ابن الأعربي وكل ريح بين ريحين فهي نكباء والجمع نكب.
فأما مهبهن: فابن الأعرابي قال: مهب الجنوب من مطلع سُهيل إلى مطلع الثّريا.
والصيا: عن مطلع الثريا إلى بنات نعش.
والشمال: من بنات نعش إلى مسقط النسر الطائر.
والدبور: من مسقط النسر الطائر إلى مطلع سهيل.
والنكب: كلها داخلة في هذا القول في الأربع.
قال: والجنوب والدبور لهما هيف. الهيف: الريح الحارة. قال: والصّبا والشمال لا هيف لهما، والعرب تجعل أبواب بيوتها حذاء الصباء ومطلع الشمس.
وقال الأصمعي: ما بين سهيل إلى حرف بياض الفجر جنوب، وما بإزائها مما يستقبلها من الغرب شمال. وما جاء من وراء البيت الحرام: فهو دبور، وما جاء قبالة ذلك فهو صباء والصباء القبول. قال: وإنما سميت قبولاً لأنها استقبلت الدبور. وقال المبرد: سقيت قبولاً لأنها لطيبها تقبلها النفوس.
وذكر أبو يحيى بن كناسة أن خالد بن صفوان. قال: الرياح أربع: الصبا ومهبها ما بين مطلع الشرطين إلى القطب. ومهب الشمال ما بين القطب إلى مسقط الشرطين. ومهبّ الدبور ما بين مسقط الشرطين إلى القطب الأسفل. ومهب الجنوب ما بين القطب الأسفل إلى مطلع الشرطين.
وحكي عن جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب أنه قال: الرياح ست: القبول، وهي: الصبا والدبور والشمال والجنوب والنكباء وريح سادسة يقال لها محوة.(1/165)
ثم فسر ذلك فجعل ما بين المشرقين مخرج القبول وهي الصبا. وجعل ما بين المغربين مخرج الدبور. وجعل ما بين مشرق الصيف إلى القطب مخرج النكباء. وجعل ما بين القطب إلى مشرق الصيف مخرج الشمال، وجعل ما بين مغرب الشتاء إلى القطب الأسفل مخرج الجنوب. وجعل ما بين القطب الأسفل إلى مخرج الشتاء مخرج محوة.
قال أبو يحيى: الناس على قول خالد: فالقبول هي المشرقية لأنها مِنْ قبل المشرق تجيء. قال:
إذا قلت هذا حين أسلو يشوقُني ... نسيم الصبا من حيثُ يطلع الفجرُ
والدبور: تناوحها وهي المغربية. قال أبو حنيفة، وهاتان الريحان على ما ذكرنا في جميع الأرض. فمهب الصبا بكل بلدٍ من قبل مشرقه. ومَهَب الدبور مِن قبل مغربه.
وكذلك الريحان الآخران مَهَبهما بكل بلدٍ من جهة القطبين. فأما قولهم للجنوب اليمانية وللشمال الشامية فَلأن مهبهما كذلك هو بالحجاز ونجد فالشمال تأتيهم من قبل الشمال. والجنوب من قبل اليمن.
وليس ذلك بلازم لكل بلد لا يكون الشمال ببلاد الروم شامية ولا الجنوب ببلاد الزنج يمانية، فاعلموا ويقال: هبت الريح تهب هبوباً.
وحُكي عن بعض العرب: أن الرَيح لشدة الهبوب. ويقال: جنبت الريح تجنب جنوباً. ومن الشمال شملت الريح تشمل شمولاً. وصبت تصبو صبواً وصياً. وقبلت تقبل قبولاً وقبلاً. ودبرت تدبر دبوراً.
ويقال في الشمال: شمال وشامل وشمل وشميل وشمولا، ويقال: هبت الشمال وهبت شمالاً، وهبت ريح الشمال، وهبت ريح شمال. قال جرير شعراً:
هَبت شِمالاً فذكرى ما ذكرتكم ... إلى الصفا إلى شَرقي حَورانا
وجعل قوله شمالاً صفةَ، ونصبه على الحال.
وقال:
وهبتِ الشمال البليلُ وإذ ... باتَ كميعِ الفتاةِ ملتَفعا
ويسمى الجنوب: الأزيب، ويسمى النعامى، قال أبو ذؤيب:
مَرَته النعامى فلم يعترف ... خلافَ النعامى من الشام ريحا
وتسمى الشمال محوة، ويقالِ: هاجت محوة غير مجراه، وتسمى الجريباء. قال ابن أحمر:
بوادِ مِنْ قسا ذفر الخُزامي ... تداعى الجريباءُ به الحنينا
وإنما سُميت محوة لأنها تمحو السحاب: تكشفه وتذهب به، ويقال: أصبحت السماء صحوةً محوةً إذا انمحى ما عليها من السحاب.
قال أبو زيد: من أسماء الدبور: محوة والقفواء. وعند الأصمعي: محوة اسم للشمال ويسمى أيضاً مسعاً ونسعاً. قال شعراً:
قد حال دونَ دريسيه ماؤبه ... تسع لها بعضاةِ الأرض تهزيز
ويقال: أجنبنا وأشملنا وأدبرنا وأصَبينا أي دخلنا فيها، وكذلك أرحنا فإنْ أردت أنها أصابتنا قلت: قبلنا وصبينا، فنحن مصبؤون ومصبيون وجنبنا ودبرنا ورحنا فنحن مريحون. قال:
غير درست غير رماد مكفور ... مكتَئب اللون مريحٍ مَمطور
وقال آخر: مجنوبة الدل مشمولٌ خلائِقها. وخالف الطرماح أكثر العرب فجعل الهيف في البردِ فقال:
وطفأ سارية وهَيف مبرد
وقال أبو زياد يقول: إذا كان يوم ريح هذا يوم هائف طيب، ومن أمثالهم: ذهبت هيف لأديانها. وقال ذو الرمة:
أهاضيب أنواء وهيفان جرتا ... على الدار أعراف الجبال الأفاعر
وثالثة تهوي من الشام حرجت ... لها سنن فوق الحصى بالأعاصير
ورابعةمن مطلع الشمس أجفلت ... عليها بدقعاء المعا فقراقر
فذكر الرياح الأربع كلها فجعل الجنوب والدبور منها يحيي الخير، وهما الهيفان وقال الراعي: وذكر رياح الشتاء فغلب عليها الشمال لأنها أشد ريحي الشتاء برداً:
وهبت بأرواح الشتاء عليهم ... شمال يؤدي الرائحات نسيمُها
وقال أوس في مثله:
وعزت الشمال الرياح وإذ ... بات كميعِ الفتاةِ مُلَتفِعا
وقال أيضاً:
وغداةَ ريحٍ قد وزعت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زِمامُها
ومن صفاتها عند هبوبها وقد اشتَد خزيق قال جميد:
بمثوى حرام والمطي كأنها ... قنا مسندٍ هَبت لهن خَزيقُ
والنافجة: أؤل كل ريح إذا اشتدت. قال ذو الرمة:
يستن في ظل عراص ويطرد ... حفيف نافجة عُثنونها خُضبُ
وريح نوج: شديدة، قال العجاج: واتخذته النافجات مناجاً.
وريح سيهواء وسيهوج: سريعة المر، شديدة القشر للأرض. وقال رجل من بني سعد شعراً:(1/166)
يا دار سليمى بين دارات العَوج ... جرت عليها كل ريحٍ سيهوج
وقال ذو الرمة:
وصوح البَقل ناحَ يجيء به ... هيف يمانية في مرها نكبُ
وريح زفزف: لها صوت كزفزفة الظليم. وريح هدوج تسمع لها هدجة، وريح هفافة والهفهفة سرعة المر. وريح ريدة رادة وريدانة من راد يرود. قال ابن ميادة:
أهاجَكَ المنزلُ والمحضرُ ... رادَت به ريحانةُ صرصرِ
وقال آخر: جرت عليها كل ريحٍ ريدة. وقال ابن أجمر:
ولهت عليها كل معصفة ... هو جاء ليس للبها زبرُ
قوله ليس للبها زبر: مثل يقال للرجل إذا كان ذا رأي وحجى إنه لذو زبر وذو جول والزبر طي البير بالحجارة.
والسموم: الريح الحارة بالليل والنهار. والحرور مثلها. والسمام الريح الحارة وهي السموم. ويقال: يوم ذو سمائم، ولا يقال: يوم ذو حرائر وليلة سموم وليلة ذات سموم. وحكى ابن الأعرابي: يوم سام ومسم. ويقال: حر يومنا، وحَرت ليلتنا وهو يحر ويحر حكاهما جميعاً ابن الأعرابي واللحياني، وقد حررت يا يوم وحررت يا رجل. وأنت تحر حرارةً وحرةً. ورجل حران، وامرأة حرى من العطش. وقوم حراري وحرارى وحرار. ونسوة حريات وحرارى. وقد قُر يومنا، وهو يقر مرفوعة القاف ولغة قليلة يَقر. واللجوج: الدائمة الهبوب لا تكاد تسكن.
والرياح: اللواقح تثير السحاب بإذن الله وتلقح الشجر. والذاريات التي تذر التّراب. والعقيم: التي لا تلقح السحاب. والزهاء والزهو: جميعاً اللينة، وقد رهت ريحها أي سكنت بعد شدة. والشفان: الريح الباردة، وإنَ ريحها لذات شفان، وأمست ريحها تشف شفيفاً إذا اشتد بردها، ويقال: ليلة شفان. وقال:
وليلة شفان بأرضٍ كريهةٍ ... أقَمتُ بها صَحبي ولَما أعرس
أي أقمتهم على السير
والحرجف: الباردة. ويقال: ليلة حرجف وريح حرجف للشديدة الهبوب. والجيلان: التي تجيل الحصى. ويقال: ريح ذات جيلان وريح جائلة. والعجاج: الغبار وعج يومنا بعجاج، وريح عجاجة وذات عجاج. والإعصار: التي ترفع التراب لشدة هبوبها بين هبوبها بين السماء والأرض، وإنما هي في مكان واحد. وقد عصرت الريح بأعاصير وريح معصر.
والهباء: التراب الذي تطيره الريح، تراه على وجوه الناس وثيابهم والهبوة: الغيرة تراها في السماء. ويقال: إن يومنا ذو هبوة ولا يقال: أرى في السماء هباءً، ولا يومنا ذو هباء، ولكن ذو هبوة إذا كانت الرياح تجيء بتراب مثل الزريرة. والغبرة: الغبار وقد اغبر يومُنا، ورجل مَغبر في حاجته إذا قصد لها وَجَد فيها. وقد أقتمَ يومُنا، ويوم ذو قتام، وفي السماء قتمة وغبرة ويقال: قتمة أيضاً.
قال الأصمعي: والحرجوج: الدائمة الهبوب المتمادية، والصر: القر بلا ريح. ويقال: يوم صر، وليلة صر وليلة صر. والهوجاء: الشديدة كأن فيها هوجاء. والنسيم: الرويد وقد نسمتْ وتنسمها وريح ذات نسيم. والرامسات: التي تعفي الآثار، وترمى الحجرة، أي تدفنها. والشافية: التي تسفي التراب ويوم ذو سافياء، وريح قاصف تكسر ما تمر به. والمجافيل: الشداد يجفلن الشجر وريح جافلة: والمور، العجاج والحاسة الباردة تحرق النبات.
والبارح: الشديدة تجيء في القيظ. ويقال: إن يومنا لبارح. وريح حاصبة وضَرَبتنا بحاصب.
والنافجة: ينتفج برد. والخجوج: الشديدة الهبوب ولا تكون إلا في القيظ، وقد خجتِ الريح خجيجاً. والهارية: الشديدة البرد. قال الكُميت:
نُباري الريح ما هَرأتْ وَفِئْنا ... لأموال الغَرائب ضامنينا
نصب ضامنينا بفئنا، ومعنى: فِئنا: رجعنا ويروى وقئنا كأنه قال: وقئِنا لأموال الغرائب وينتصب ضامنين على الحال كما يقول: وقينا السماحة والهارية.
والبليل: والحاسة في الشتاء ويقال: أصابتنا ريح بليل، ويوم بليل، وليلة بليل أي باردة، وإن لم يكن فيها ريح.
والنعور: التي تفجأك ببردٍ وأنتَ في حَر، أو بحَر وأنتَ في برد . والهدوج: التي تزعزع كلّ شيء. ويقال: راح يومنا يراح: إذا اشتدت ريحه، ويوم راح وريح. ويقال: سكنت الريح وفترت وسجت. فأما قول ذي الرمة وهو يصف قفراً شعراً:
إذا هبت الريحُ الصبا دَرَجَتْ بِهِ ... غَرائِبُ مِنْ بيضٍ هجائن دردقُ(1/167)
فإنما اكتفى بذكر هبوب الصّبا لأنه علم أن ذلك يكون في الشتاء فكأنه قال: إذا كان الشتاء درجَتْ بهذا البلد خفان النعام، والنعام لا توطن إلا القفر البعيد من الأنس. وكل مواطنه النْعام. فالخفان فيه في الشتاء موجود لأنها تبتدئ البيض في الوسْمي. وقيل: الشتاء أكثر ذلك، ولهذا قال ذو الرمة:
حتى إذا الهيقُ أمسى شأم أفرخِهِ ... وهنَ لا مؤيس نابا ولا كتبُ
يرقد في ظلٌ عراصٍ ويطردهُ ... حفيفُ نافجة عثنونها خُضبُ
تبرى له صلعةً خرجاء خاضعةٌ ... فالخرقُ دون بياضِ البيتِ منتهبُ
ويل أمها روحةٌ والريح معصفة ... والويل مرتجز والليل مُغتربُ
لا يأمنان سباعِ الليل أو بردا ... إنْ أظلما دون أطفال لها لُجُب
ويقال: عصفتِ الريح وأعصفت، وفي القرآن: )في يوم عاصف) سورة إبراهيم، الآية: 18، فهذا شأن الرياح والبلاد والمواطن من بعد يختلف، فربّ بلدٍ يكون تأذي أهلُه بإحدى الرياح أشد من تأذيها بسائرها، ويكون بعضها أوفق لهم وإن كانت أكرهها إلى غيرهم، كالذي يذكر من أن الجنوب أحب الرّياح إلى أرض الحجاز في الشتاء والصيف، ذكر ذلك أبو الحسن الأثرم. وعكاك: الجنوب يتعوذ غيرهم منها قال ذو الرمة شعراً:
إلى بلدٍ لم ينتجعهُ بعكة ... جنوب ولم يغرس بها النْخل غارسُ
وكالذي ذكره ابن الأعرابي عن الروحي مِن تأذى أهل سابة والشارة ونواحيها بالصبا، وكراهتهم لها، وأنها إذا اشتد هبوبها عندهم طوى الناس وطابهم، لأن الألبان تقل، والرطاب تجف لأنها ترضع في ضروع الغنم أي ينشفه، ومنزلهم بين مكة والمدينة، هذا وإن كان الآخر قال: فإن الريح طيبة قول. وقال طرفة:
وأنت على الأقصى صبا غير قرة ... تذابُ منها مزرع ومسيلُ
وقال آخر:
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمَتْ ... على كبد حرى تَجَلت غمومُها
وزعم ابن الأعرابي أن الجنوب إنما يشتد حرها بالعراق، فأما بالحجاز فلا. وأنشد قول كُثَير:
جنوب تسامى أوجه الركب مَسها ... لذيذ ومسراها من الأرضِ طَيبُ
وهذا من حال الرياح في دارنا وأوطاننا متعالم أيضاً، وكما اختلف في هذا الباب اختلف في الأمطار أيضاً، ولا زعم من ذلك ما ذكر عن أبي عبيدة أنه قال: الشمال: عند العرب للروح، والجنوب: للأمطار، والأنداء واللّثق والغمق والدبور للبلاء، وأهونه أن يكون غباراً عاصفاً تقذي الأعين وهي أقلهن هبوباً، والصبا لإلقاح الأشجار.
ويقال: إذا كان النشأ من العين ثم ألقحته الجنوب وأبست به الصبا واستدرته الشمال فذلك أجود ما يكون من المطر، وأنشد في ذلك:
لتلقيحها هيج الجنوب ... ويقبل الشمال نِتاجا
والصبا جالب بمرى. وقال آخر:
مَرَته الصبا وزهَته الجنوب ... وانتَجَفَته الشمال انُتجافا
والانتجاف: استخراج أقصى ما فيه.
فصل
في تبيين ما ذُكِر من كلام الأوائل في ذلك
قالوا: إن الشَمس إذا مرت على الأرض رفعت منها بخارَين: بخاراً رطباً وبخاراً يابساً، وكل واحد من البخارين قد يخالط البخار الآخر، إلا أنه يسقى بالأغلب عليه منهما. فأما البخار الرطب: فهو مادة الأمطار والأنداء كلها. وأما البخار اليابس فهو مادة الرياح كلها، وإنما يختلف هذان البخاران لاختلاف مواضعهما التي ثارا منها. وأقل ما يكون هيج الريح بعد المطر وذلك أنَ الأرض تبتل بالمطر، فلا يثور منها البخار اليابس الذي هو مادة الريح وكذلك يكون سكون الرياح عند المطر وعند انقضائه. فأما حرارة ريح الجنوب: فمن قِبَل أنها تأتي من ناحية ممر الشَمس من بلاد حارة فتسخن قبل أن تبلغ إلينا.
وأما برودة ريح الشمال فلأنها تأتي من بلاد الشمس عنها غائبة فهي تبرد من قبل أن تبلغ إلينا، وتمر أيضاً بثلوج كثيرة.
وأم كثرة ريح الجنوب فلتحلل البخارات من ناحية الجنوب. والبخار مائة الريح. وأمّا كثرة ريح الشمال في الصيف، وقلة ريح الجنوب، فلأنَ الشَمس يكون مرورها في الصيف بناحية الشَمال، فتذيب الثلوج الكثيرة، وتهيج البخارات من ناحية الشّمال.(1/168)
وأمّا احتباسُ الريح وقلتها فَلِعلتين. إحداهما: كثرة البرودة فإن البرودة تجفف الأرض وتصلبها فلا يخرج منها بخار. والثانية: كثرة الحر، فإنَ الحر يجفف الأرض وييبسها ويحرقها فينقطع لذلك الريح، وربما تتابع ذلك سنين فيكون القحط منه فإذا كثر ذلك وصلب وجه الأرض اجتمعت البخارات في جوف الأرض، فلم تقدر على الخروج وأحدثت الزلازل فإذا كَثرتْ تلك البخارات وقويتْ وظهرتْ ذهب القحط وعاد الخصيب.
وأما كثرة ريح الشمال في الربيع: فلأنَ النهار يمتد بعد القصر وتدنو الشمس من الناحية الشمالية فتذيب الثلوج هناك، فتحدث هذه البخارات التي منها يكون الغيوم والرياح الشمالية.
وأما كثرة هبوبها آخر الصيف فلأن النهار يقصر ويبرد الهواء فيحتقن البخارات في جوف الأرض.
فإذا كثرث قويتْ فظهرت رياح الشمال، وإنما تقوى البخارات على الظهور لأنَ البرد ضعيف في تلك الأيام، فلا يقوى على منع البخارات من الخروج. وأما كثرة ريح الشمال والجنوب وقلة ريح الصبا والقبور: فلأن الشمس لبثها في هاتين الجهتين أكثر من لبثها في خط الاستواء.
وإذا كثر لُبثها في مكان عملت عملاً قوياً فأثارت بخارات كثيرة. وإذا قل لبثها في مكانٍ عملت عملاً ضعيفاً، ومع ذلك أيضاً فإن الشمس تصادف في هاتين الجهتين مياهاً وثلوجاً لبعد ما بين الجهتين عن طريقة خط الاستواء، ولستُ أعني بالشمالَ والجنوب اللذين بالإضافة فإن كل قوم يُسمون ما يلي أيمانهم إذا كانوا متوجهين إلى المشرق جنوباً، وما يلي شمائلهم شمالاً، ولكني أعني بالشمال والجنوب اللذين عن جانبي خط الاستواء الذي هو مدار رأس الحمل والميزان.
البابُ الثّلاثون
في أسماء المطر وصفاته وأجناسه
وهو فصلان
فصل
قال أبو زيد سعيد بن أوس: قال القبسيون: أول المطر الوسْمي وأنواؤه العرقوتان المؤخرتان ثم الدلو ثم الشرط ثم الثريا وبين كل نجمين نحو من خمس عشرة ليلةً. ثم الشتوي بعد الوسمي، وأنواؤه الجوزاء ثم الذراعان ونثرتهما ثم الجبهة وهي آخر الشتوي وأول الدفئي ثم الدفئي وأنواؤه آخر الجبهة والعواء.
ثم الصرفة وهي فصل بين الدفئي والصيف وأنواؤه: السمكان الأول الأعزل والآخر الرقيب. وما بين السماكين صَيف، وهو نحو من أربعين ليلة ثم الحميم وهو نحو من عشرين ليلة، وسُمي حميماً لكون مائه حاراً ويختار أن يكون رعدها غير قاصفٍ ، وبرقها غير خاطف، لذلك قال الشاعر:
إذا حَركَته الريح أرأمَ جانب ... بلا هزقٍ منه وأومض جانبُ
كما أومضت بالعين ثم تبسمت ... خريع بدا منها جبين وحاجبُ
وحكي عن أبي الوجيه أنه قال: أحب السحاب إلي الخرساء، والحميم نحو من عشرين ليلةً إلى خمس عشرة ليلةً عند طلوع الدبران، وهو بين الصيف والخريف ليس له نوء. ثم الخريف وأنواؤه النسران ثم الأخضر ثم عرقوتا الدلو الأوليان وكل مطر من الوسمي إلى الدفيء ربيع، وإنما هذه الأنواء في غيوبه. وغيوب هذه النجوم أول القيظ عند طلوع الثريا وآخره طلوع سهيل.
وأوّل الصّفرية طلوع سهيل، وآخره طلوع السّماك. وفيء الصفرية أربعون ليلةً يختلف حرها وبردها وتسمى المعتدلات.
ثم أول الشتاء طلوع السّماك وآخره وقوع الجبهة فهو أول الدفيء وآخره الصرفة. وأول الصّيف السّماك الأعزل وهو الأوّل وآخر الصيف السماك الآخر الذي يقال له: الرقيب وبينهما نحو من أربعين ليلةً.
وأول أسماء المطر القطقط وهو أصغر المطر والرّذاذ: فوق القطقط. ويقال: قططت السماء وأرذَت. ومنه الطّش وهو فوق القطقط والرذاذ والفعل طشت.
ومنه البغش وهو فوق الطش، والفعل: بغشت والغبية فوق البغشة. وكذلك الحلبة والشحذة. ويقال: أغبت السّماء فهي مغبية وحلبت حلباً وشجذت شجذاً وهو فوق البغشة. ومنه: الحفشة وهو مثل الغبية ويقال: خفشت خفشاً. والحشكة مثلها. ويقال: حشكت.
ومن المطر: الدّيمة وهي الدائم لا رعدَ فيه ولا برق، أقلها ثلث النّهار وثلث الليل، وأكثرها ما بلغت من العدة. والتَّهتان: نحو الدّيمة قال:
يا حبذا تضحك بالمشافرِ ... كأنه تهتانُ يوم ماطِرِ
ومن الديمة الهضب والهطل، هضبت هضباً، وهطلت هطلاً وهطلاناً قال الشاعر:
نمى الرضم من ذات المزاهر إذْ جَنَتْ
عليها هضابُ الصّيف تهضبها هضبا(1/169)
ويقال: سحابة داجنة ومدجنة وقد دجنت دجناً والدجنة من السحاب المطبق الريان الذي ليس به مطر. ويقال: يوم دجن ويوم دجنة. وكذلك الليلة توصف بهذا أو تضاف كاليوم، والداجنة الماطرة المطبقة نحو الدّيمة. والدّجن: المطر الكثير.
ومن الديمة: الرهمة وهي أشد وقعاً من الديمة وأسرع ذهاباً، يقال: أرهمتِ السماء إرهاماً وجماعتها الرهم والرهام.
ومنها: الهفاء واحدها هفأة وهي نحو الرّهمة، وقال الغبري: إذا وإفاءة.
ومنها: الدثة وهي المطرة الخفيفة. والهدمة مثلها، وجماعتها الهدم والهدام والدثّ والدّثاث. ويقال: أرض مدثوثة ومهدومة. والوطفا: الدائمة السح، الحثيثة طالَ مطرها أو قَصُرَ.
ومنها القطر: وهو في كلّ مطر ضعيفهُ وقويه.
ومنها: الذهاب وهو اسم للمطر كله ضعيفه وشديده، والرش المطر القليل الخفيف. والملبد تلبيداً نحو الرّش، وارشَّت السّماء وجمع الرش الرشاش وأرض مجوبة ومقوبة إذا أصاب المطر بعضها ولم يصب بعضها، وكحلتْ السنة اشتدت تكحل كحلاً، وسنة كحل، وأرض ميتة وميتة وسنة خداعة وقشر. ومنها الوابل: وهو أغزرُ المطر وأعظمُه قطراً، ويقال: وَبَلت الأرض وبلاً ووبلت توبل وبلاً. والجود من المطر الكثير العام وهو في كل زمان. قال شعراً:
أنا الجواد بنُ الجواد بن سَبَلْ ... إن ديموا جادوا وإنْ جادوا وبل
والمدرار والدرة التي يتبع بعضها بعضاً وجمع الدرة الدرر.
والرك من المطر الضعيف الذي لا ينفع إلا أن يكون له تبعة والتّبعة المطر بعد المطر. ويقال: أرض مرككة وجمع الرك الرّكاك.
ويقال: وابل ساجية وهو المطر الذي يسجى ما يقع عليه فيسيل به.
ويقال: أرض مشجورة، وهي التي يأخذها المطر الجود فلا يزال بها حتى تقلب نباتها وتقلعه من أصوله، ويقلب ظهر الأرض لبطنها، وقد شجرت الأرض شجراً. ويقال للمطر الذي لا يدع شيئاً إلا أساله: جار الضبع، وذاك أنَه يكثر سيله حتى يخرج الضبع من جحره والمحتفل: الذي يتدارك حثيثاً، والسح: مثله غير أن السح ربما لم يتبين قطره. والمنهمر: مثل السح والوبل والقطر والضرب: المطر الضعيف.
والدهان مثل ذلك، والواحد دهن، ويقال: دهنها أولى فهي المدهونة.
والمروية التي تروي الأرض. والمبلد: الذي يندي وجه الأرض ويسكن التراب.
والجلباب المطر الكثير والساجية الساكنة والأهاضيب: جمع أهضوبة وهي مثل الهضاب، واحدها هضب، وهي جلباب القطر. والهلل: أول المطر. والمتفخّر والمسحنضر: السيل الكثير. والولي: المطر بعد المطر في كل حين. والعهد: المطر الأول وجمعه عهاد وأرض معهودة، وقيل العهدي الندي يجيء وعهد ما قبله جديد لم يدرس، ويقال: أرض معهدة للتي يصيبها النَفضة.
والنّفضة المطر يصيب القطعة من الأرض ويخطئ القطعة، ويقال: أرض منفضة. والخطيطة: الأرض لم يصبها مطر، وكذلك الفوائد والخوبة.
ويقال للخطيطة: أرض خط، وأرض مجروزة، وأرض جرز وجرز وأجرزتِ الأرض.
يقال أيضاً: أجرزت الناقة إذا هزلَتْ.
والشؤبوب: المطر يصيب المكان ويخطئ الآخر وجمعه شآبيب.
ومثله النجو والجمع النجاء والأرض المنضوحة وهي المجودة نضحت نضحاً.
والغيث: اسم للمطر كله وأرض مغيثة ومغيوثة.
ويقال: استهلت السّماء وذلك في أوَّل المطر والاسم الهلل، وأسبلت: والاسم السبل وهو المطر بين السحاب والأرض حين يدل يخرج من السحاب ولم يصل إلى الأرض.
ويقال للمطر القليل: العرض وهو مثل الشُؤبوب ومثل السبل. العضانين: وهو المطر بين السحاب والأرض ويقال: هو الضريب والصقيع والجليد ولا يكون إلاّ بالقيل، والثلج بالليل والنهار في الغيم وهو لا يكون إلا في الصحو. ويقال: أرض ضربة إذا أصابها الجليد فأحرَقَ نباتها، وقد ضربت الأرض ضرباً وأضربها الضريب إضراباً. وصقعت صقعاً إذا حرقَ الصقيع نباتها. وثلجت ثلجاً وهي مثلوجة. والطل أثر الندى في الأرض من كل ذلك. ويقال للندى الذي يخرجه عروق الشجر إلى غصونها: طل.
وقيل: الضريب والصقيع والجليد والسّقيط يخرج من جردة السماء جرداً إذا لم يكن بها غيم. وقد جردت السماء والاسم الجردة.
ويقال: تصلعت السماء إذا انقطع غيمها حتى تتجرد وحكى الأصمعي قال: قلت: لأعرابي: ما أوقع الأمطار؟ قال: صوب غادية عن مرى حادية لا بل بادية مرى حادية، أي استخراج سحابة تحدو ما يتأخر دونها. والبادية: السّاكنة للبدو.(1/170)
ويقال: أصحت السماء والاسم الصحو. ويقال: أقصر المطر وأقلع وأقشع إذا أنقطع. ويقال: طل القوم وهم مطلولون.
ويقال: من المطر الرثاث وهي القطار المتتابعة يفصل بينهن أقل ما بينكنّ ساعةَ، وأكثر ما بينهن يوم وليلة. ويقال: أرض مرثة ترثيثاً.
ويقال: أرهجتِ الأرض إرهاجاً وأضبَتْ إضباباً ومن الرهج السيّق من الغمام الذي يسوقه الرّيح. والإغصان المطر الدائم الذي ليس فيه فرج، والفرج اليوم والليلة أو أكثر من ذلك قليلاً. ومثله الإلثاث.
الفصل الثاني
في علة ما ذكرنا من كلام الأوائل: قالوا: إن العلة في المطر والثلّج والجليد والريح واحدة وهي أنَ الشَمس إذا مرت بموضع ندى أثارت بخاراً بحرارة مرورها فيكون كيفية ذلك البخار على طبيعة الموضع الذي يثور منه البخار. فأما كمية فعلى قدر كبر ذلك الجسم المهيأ للثوران إن كان كثيراً وكانت الشمس قوية عليه أثارتْ بخاراً كثيراً من ذلك الجنس الذي هو طبيعة ذلك الموضع. فإذا أشرقت الشمس بدورانها على موضع ندي إذا سخن ثار منه بخار وذلك أن الحرارة إذا خالطت الرطوبة لطفت أجزاؤها فصيرتها هواءَ. فإذا كثر ذلك البخار وتباعدت الشمس عن ذلك الموضع الذي ثار منه البخار استقبل ذلك البخار البرد الذي هو فوق الأرض الذي يرد الهواء فَرَده إلى الأرض، فتكاثف بالعصر فصار ماءً فانحدر. فإن كان ذلك المنحدر شيئاً يسيراً صغير الأجزاء سُمي ندى. ولذلك تكون الأنداء في الشتاء أكثر لكثرة برودة الهواء وضغطها البخار الرّطب إلى الأرض ولذلك تكون الأنداء باللَيل أكثر منها بالنهار.
وإنْ كان المنحدر كثيراً كثير الأجزاء سُمي مطراً، فهذه علة الندى والمطر وإن كان الذي يصعد من البخار يسيراً، وكان اثني هجم عليه من فوق شديداً جداً، صير ذلك البخار جليداً، وإن كان ذلك البخار الصاعد كثيراً وكان الذي هجم عليه شديداً جداً، صار ذلك البخار ثلجاً، ففرق بين الثلج والجليد خلتان، إحداهما: كثرة البخار وقلته، كما فرق بين الندى والمطر كثرة البخار وقلته. والخصلة الأخرى: أن الجليد إنما هو بخار جمد في الهواء لا في السحاب، والثْلج إنما هو بخار جمد في السحاب.
وكذلك الفرق أيضاً بين الندى والمطر، هذا لاختلاف أن الندى إنما هو بخار انحدر إلى الأرض من دون السحاب، وأن المطر انحدر من السحاب ولكن البخار الذي يصعد من الأرض تمتز منه اللّطيف فصار هواء، والغليظ هو الذي يكون منه الندى والمطر.
وقال أبو زياد الكلابي: إذا احتبس المطر اشتد البرد. فإذا مطر الناس مطرةً كان البرد بعد ذلك فرسخ، أي سيكون من قولهم تفرسخ عني المرض وإنما سُمي الفرسخ فرسخاً لأنَه إذا مشي صاحبه استراح عنه وجلس.
وروى الأصمعيُ عن المنتجع بن نبهان أنَ شيخاً من العرب كان في غنيمة له، فسمع صوت رعد فتخوت المطر، وهو ضعيف البصر، فقال لأمَةٍ ترعى معه: كيف ترين السماء؟ فقالت: كأنها ظعن مقبلة، فقال: ارعي. ثم قال: كيف ترين السماء. قالت: كأنها بغال دهم تجر جلالها، قال: ارعي. ثم قال: كيف ترين السَّماء. قالت: كأنها ثروب مغزى هزلى، فكأنها بطون حمير صحر. قال: انجي ولأنجأ بك، فلجأ إلى كهف وأدخل غنمه، وجاءت السماء بما لا يقام ليلة، فقال الشيخ: هذا والله كما قال عبيد:
فمن بنجوته كَمَن بعقوتِه ... والمُستَكِنّ كمَن يمشي بقُرواحِ
البابُ الحادي والثلاثون
في السَّحاب وأسمائه وتحلّيه بالمطر
وهو فصلان قال الله تعالى في ذكر ما عدد من نعمِه على خلقه فيما نصبه من الأدلة على وحدانيته في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار فقال تعالى: )وتَصريفِ الرياح والسحاب المسخر بَين السماء والأرضِ) سورة البقرة، الآية: 164، والمراد أن في تعاقب الظلم والأنوار وما ينشئه تعالى جده من أنواع السحاب بين السماء والأرض وينزّله من الأمطار ويخرجه من النبات أعظم الأدلة على حدوثها لما فيها من إحكام الصّنعة وثباتها على ما ثبت عليه من العبرة، إذ لا تفاوتَ فيها ولا اضطراب، ولا تناقض، ولا فساد فمن تدبرها وتأمل الأحوال التي تعتورها من الحركة والسّكون، والزّيادة والنّقصان، والانكشاف والتروية والإقلاع، أداه الاعتبار إلى أنه واحد ليس كمثله شيء، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.(1/171)
ورُوي في الحديث: )السحاب غربال المطر، لولا ذلك لتهدم البنيان) ويقال: سحاب، واحِده سحابة ومثله الغيم والغيوم. ويقال ذلك في القليل والكثير والغمام والواحدة غمامة وهي الغراء البيضاء والمجمع غر وبيض.
ويقال: المزن والواحدة مزنة. ومنها الغماء وهي السحابة السوداء.
ومن دلائل الغيث أن يتقدمه هبوب المبشرات ثم يكون النشأ من قبل العين فيحسن خروجه والتئامه. ثم استكشافه حتى لا ترى فتقاً، وذلك التطختطخ وشد الآفاق. ثم يكفهر ويرجح فيتدانى ويستأرض أركانه ويتمكن رجاءه وتنوس هيادبه، وتهمى أكفته، ويعلم ريانه، ويتدحى عفا يده ويحمومي. ثم يصحار ويرج الرعد رجاً. ويتم البرق أتاماً، وهو الوكيف من البرق. ثم ينفل ولا يزدهيه الريح حتى يتحيّر ويلين رعده، وبرقه يتعاون عليه الجنوب والصبا بالإلقاح والإبساس. ثم ينتجفه الشمال حتى يستقصى ما فيه، وهذا نهاية ما جاءت أوصافهم وأخبارهم وأشعارهم.
ومنها السيّق وهي كل ما طردتَه الريح وافتَرزتْه من السحاب كانَ فيه ماء أو لم يكن. والخلق ما يرجى أن يكون فيه مطر والواحدة خلقة. والصبير من السحاب الذي تراه متركباً في بياض والجمع الصبر. والسد النشأ الأسود ينشأ من أي أقطار السماء شاء. قال:
تبَصر هَل ترى ألواحَ بَرق ... أوائله على الأفعاة قودُ
قعدتُ له وشَيعني رجال ... وَقَد كَثُرَ المخايلُ والسدودُ
المخايل: واحدتها مخيلة، ويقال سحابة مخيلة وسحابة ذات مخيلة: إذا كانت خليقةً بالمطر. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى مخيلةً أقبل وأدبَر وتَغير، قالت عائشة: فذكرتُ ذلك له، فقال: )ما يُدرينا لعله كقوم ذكرهم الله تبارك وتعالى) )فَلَما رأوْهُ عارِضاً مسَتْقبل أوْديتهم قالوا هذا عارِض مُمِطرُنا بَلْ هُوَ ما اسْتَعجَلْتِم به ريح فيها عذاب أليم) سورة الأحقاف الآية: 24،.
ويقال للسحاب أيضاً: الخال، فإذا أرادوا أن السماء قد تغيمت، قالوا وقد أخالت فهي مُخيلة بضم الميم.
ومنها الحماء وهي السواد. والعارض: السحابة تراها في ناحية السماء وهو مثل الجلب، إلا أنَ الجلب أبعد وأضيْق من العارض. والعارض الأبيض والجلب أكثر ما يكون إلى السواد. وفي السحاب النضد وهي مثل الصبير وجمعه الأنضاد. والركام: ما تراكم بعضُه على بعضٍ، وهو مثل النّضد. ومنه الرباب: ولا يقال لها ربابة واحدَتها ربابة: وهي السحابة الدقيقة السوداء يكون دون الغيم في المطر، ولا يقال لها ربابة إلا في مطر.
ومنها الريف: وهو أول السحاب الممطر. والكنهور: السحاب الضخام البيض، ويقال: غمامة كنهورة وغيم كنهور. ومنه الطخاء: وهو السحاب الرقاق والواحدة طخاة. ومنه القزع: وهو السحاب الصغار والمتفرق منه واحده قزعة. ومنه: نمرة: وهي الغيم الذي يرى في خلله نقاط، الواحدة نقطة والجمع نمر، ومن أمثالهم: أريتُها نمرة أريكها مطرة. ومنه الجفل: وهو كل سحاب ساقَته الريح قد صَب ماءَه. والجهام: مثل الجفل واحدته جهامة. ويقال للسحاب الذي هراق ماءه السيقة لأن الريح تسوقه لخفته، وهذا كما يقال لما تستلينه وتستهينه: ليّن وهين. والصراد واحِدتها صرادة، وهو مثل الجفل. ومثله الرهج: من للغيم.
ومنه السيق والجيء: وهو الغيم في عرض السماء الغريب الحسن. ومنه الحير وهو الغيم ينشأ مع المطر فتحير في السماء.
ومنه بنات نحر ونجر وهي سحائب يخرجن في السحر، بينَ الخريف والربيع وهُن سحائب غُرٌ طوال مشمخِرات.
ومنه الزبرج: وهو مثل الرهج والسيق.
ومنه الغماء: وهو شبه الدكان يركب رؤوس الجبال. قال:
ليلة غفاء طامس هلالُها
ومنه الضباب، وهو شبه الدخان والندى يظلل السماء، واحِدَتُه ضبابة، ويقال: أضبت السماء فهي مضبة. ومنه الظلة وهي أول سحابة تظلل.
ومنه الطخارير، واحدها طخرور وهو السحاب الصغار. والغياية: ظل السحابة وقال بعضهم غياءة. قال الشَاعر:
كساعٍ إلى ظل الغياية يبتغي ... مقيلاً فلما أن أتاها اضْمَحَلتِ
وقال: ولغة الكلابيين امضحلت والمكفهر: السحاب الضخام الركام ويقال: عجاجة مكفهرة، وطرة الغيم: أبعد ما يرى من الغيم، ويقال: طرة الكلأ وطرة القف وهي ناحيتها. ومنها: النشاص: وهي الطوال والواحدة نشاصة وهي الطويلة البيضاء، وأكثر ما ينشأ من قبل العين. قال:(1/172)
بل البْرقُ يَبدو في ذرى مِنْ دفائِهِ ... يضيء نشاصاً مكفقَر الغَواربِ
وفي الحديث: أنَ رسول الله في قال: )إذا نشأت السحابة بَحْرِيه ثم تشامَتْ فتلك عينٌ غديقة(، يريد إذا ابتدأت من ناحية البحر، ثم أخذت نحو الشام فتلك عين غديقة أي: مطر جود. والغَديق: الكثير الماء من قول الله تعالى: )لأسْقَيناهُمْ ماءً غَدقاً) سورة الجن، الآية: 16،.
وكذلك إذا كانت السحابة سوداء فتلك من علامات الغَيث، وفي الحديث الذي سأل فيه النبي صلى الله عليه وسلم: )أجَوْن هو أم غبره؟ فقالوا: جون، فقال: جاءكم الحياء(، وكذلك إذا رأى الرباب دوين السحاب قال:
كان الرباب دوينَ السحاب ... نعام تعلّق بالأرجل
وأنشد:
ومالي لا أغزو للدهرِ كرة ... وقد نبحتْ نحو السحاب كِلابيا
يقول: كنتُ لا أغزو مخافةَ العطش على الخيل والأنفس، فما عُذري اليوم، وقد كثُر المطر، واتصل العشب وامتلأت الغدران. ولبعضهم:
أغر سِماكي كأن نشاصَهُ ... قطار يخات أو جبال تقلع
تلألؤ غورياً كأنَّ وميضَهُ ... حريق بجزلٍ في ضِرام تشيّعُ
رأته عيونُ ممحلات تتابعتْ ... له سنوات فهو للغيث جوعُ
ملث دنا دون السحاب سحابة ... من الأرض حتى كاد بالراح يُدْفَعُ
ويقولون: إذا رأيت السماء كأنّها بطن أتان قمراء فذلك الجود. قال الهذلي:
يمد له جوالبُ مشعلاتٍ ... تخللهن أقمرُ ذو انْغطاطُ
ويقال: إن معقر بن حماد البارقي قال لابنته، وقد سمع صوت رعدٍ : أي شيءً تريْن؟ قالت: أرى سحابةً عقاقة كأنها حولاء، ناقة ذات هيدبٍ دانٍ وسيروان. قال:
وابلي بي إلى جنب قفله فإنها ... لا تنبت إلا بمنجاة من السيل
وإذا كانت السحاب نمرة فهي كذلك. وقال آخر في المخيلة:
دانٍ مِسَفٍ فويقَ الأرض هيدبهُ ... يكادُ يَدْفَعه مَنْ قامَ بالراح
من بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن كمن يمشي بقُرواحِ
أي طبق الأرض، فمن كان في الارتفاع كمن هو في الاستواء، ومن كان في ظهر الصحراء كمن في بطنها، وإذا كان السّحاب أصهب إلى البياض فذاك إمارة الجدب، ويقولون: هو هف أو جلب إذا حمر الأفق. قال:
وسودْت شمسهم إذا طلعتْ ... بالجلب هفاً كأنه الكَثَمُ
وقال الكُميت:
إذا أمستِ الآفاقُ حُمراً جنوبُها ... لشيبان أو ملحان واليوم أشهبُ
وقال الفرزدقُ يذكر قوماً مسافرين:
يغضّون أطرافَ العِصي تلفُهم ... من الشام حمراءُ الضحى والأصائلُ
ومن أمثالهم: ما يضرّ السحاب نباحُ الكلاب، وزعموا أنَ الكلاب تنبح السحاب من كثرة المطر والحاجة. وفي صفة غيم المحل:
وهاجَ غمامٌ مقشعرٌ كأنه ... بنيله نعل بان منها شريحُها
الفضل بن عباس:
كأن سيوفَ فارسَ في ذراهُ ... وغرفاً من قيانٍ مسمعاتِ
أقام على معاهدهن شهراً ... فأقلع وهو مهتزَ النَبات
وقال حسين بن مطير يصف المطر والسحاب، ورواه الأصمعي شعراً:
كَثُرَتْ لكثرة قطره أطباؤه ... فإذا تحلب فاضَتِ الأطباءُ
وكجوف ضرته التي في جوفه ... جوف السماء سجلة جَوفاء
وله رباب هيدبٌ لرفيقه ... قبل التعنق ديمة وطفاءُ
وكأن ريعه ولما يحقل ... ودقُ السحاب عجاجة كدراء
وكأن بارقه حريق يلتقي ... وهجٌ عليه عرفج وألاء
مستضحك بلوامعٍ مستعبر ... بمدامعٍ لم يمرِها الأنداءُ
فله بلا حزن ودون مسرة ... ضحك يؤلف بينه وبُكاءُ
حيرانُ منبعق صباه يقوده ... وجنوبه كنف له وكفاءُ
ودنت له نكباؤه حتى إذا ... من طول ما لعبتْ به النكباء
غاب السحاب فصار بحراً كله ... وعلى البُحور من السحاب سجاءُ
ثقلت كلاهُ فبهرت أصلابه ... وتعجبت مِن مائِه الأحشاءُ(1/173)
غدقٌ يسبح بالأباطح قد غدت ... بلد السيّول وما له أفلاءُ
غر محجلة دوالحَ ضمّنت ... حمل اللّقاح وكلها غدراء
سجم فهن إذا كظمنَ أواجم ... وإذا ضحكنَ فإنهن وضاءُ
لو كان من لجج السّواحل ماؤه ... لم يبقَ في لجج السواحل ماءُ
وحكى أحمد بن يحيى قال: أخبرني ابن الأعرابي، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالس مع أصحابه إذ نشأت سحابةٌ فقيل: يا رسولَ الله هذه سحابة فقال عليه السلام: )كيف ترون قواعدها) قالوا: ما أحسنها وأشَد تمكنها. قال: )وكيف ترون رحاها). قالوا: ما أحسنها وأشد استدارتها. قال: )فكيف ترون بواسقها)؟ قالوا: ما أحسنها وأشد استقامتها. قال: )فكيف ترونَ برقها أوميضاً أم خفياً أم يشق شقاً(، فقال عليه السلام: )الحياء الحياء(، قال: فقالوا: يا رسول الله ما رأينا أفصح منك، فقال: )وما يمنعني وإنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين) قواعدها أسافلها، ورحاها وسطها، ومعظمها، وبواسقها: أعاليها. وإذا استدار فيها البرق من طرفها إلى طرفها فهي أعاليها وهو الذي لا يشك في مطره وجوده، وإذا كان البرق في أسافلها لم يكد يصدق. قال ابن الأعرابي: وقال رجل من العرب وقد كبر وكان في داخل بيته، وكان بيته تحت السماء: كيف تراها يا بني؟ قال: أراها وقد نكبت وتبهرت، وأرى برقها أسافلها، قال: أحلقت يا بني. معنى نكبَت: عدلت عن القصد، وتبهرت: تقطعت. والبهر حفر يكون في الأرض، والومض: أن يومض إيماضةَ ضعيفةً ثم يخفي، ثم يومض ثم يخفي ثم يومض، وليس في هذا يأس مطر قد يكون ولا يكون. وأما المسلسل في أعاليها فلا يكاد يخلف. ويقال: خفي كأقيد الطير واقيد الطير: نظره ثم إغماضُه ينظر نظره ثم يغمض ثم ينظر نظرةً ثم يغمض. قال حميد بن ثور يصف البرق:
خَفيُ كأقيد الطير والفيل ملبسن ... بجسمائهِ والصبح قد كادَ يَسطَعُ
قال الهُذلي شعراً:
فَسائل سبْره الشجعي عنا ... غداةَ يخالُنا نجوا خَبيا
فصل
في كلام الأوائل
يتبين منه حال الأندية والأمطار والعيون والأنهار وغيرها قالوا: إن المطر إذا وقع على الأرض اجتمعت منه المياه، فإذا صادفت مكاناً إلى الانصباب ما هو جرَت منه الأودية والأنهار، لأن المياه من شأنها طلب الحدور، فإن صادفَت حواليها أرضين مرتفعة بقيت فلم تجر، فإنْ كانت تحتها أرض رخوة غارت أبداً إلى أن ينتهي إلى أرض أو جبل فلا يقدر على النفوذ فيقف فإذا كثرت المياه أكلت ما حولها من الأرضين اللينة حتى ينقب موضعها، فيخرج منه فيسقى ذلك الموضع عَيناً.
وربما انتقبَت من ذلك الموضع الواحد مواضعُ كثيرة، فجرت أنهار كثيرة وكلها كانت أغزراً لتلك العيون. وإن كانت المياه المستنقعة كثيرةً جداً لم تنقطع تلك العيونُ في أول الصيف، وانقطعت في آخره على قدر القفة والكثرة. وربما كانت تلك العيون غزيرةً سنين كثيرة، ثم ينقص ماؤها غير نقصان المطر وذلك أن ينتقب في جهة هذه العيون، فيخرج بعض تلك المياه إلى تلك الجهة فإن كانت تلك الجهة منفسحة المذهب دام ذلك النقصان. وإذا كانت تلك الجهة ليست بمنفتحة بل استقبلَ الماء مكاناً عالياً أو جبلاً تراجع الماء، ورجعت تلك العيون الأولى إلى ما كانت عليه، وربما جرت الأودية والأنهار من ثلوج تقع على جبالٍ ، فإذا أصابها الحر ذابت قليلاً قليلاً، فجرتْ منها الأودية والأنهار، فإن كان ذلك الثلج كثيراً لم تنقطع تلك الأودية والأنهار، وإن كان قليلاً انقطعت.
وأما الأبحار فإنما هي من مواضع عميقة في الأرض والماء من شأنه يطلب العمق، فالمياه تنصب إلى تلك المواضع العميقة من الأنهار والأودية والسيول، يستنقع فيه فما كان من ذلك الماء عذباً فإنه يصير فوق لخفة العذوبة وما كان منه مراً وملحاً صار إلى أسفل لثقله، فإذا مرت الشمس عليه رفعت ما كان منه عذباً لخفته ولطافته، وما كان منه لطيفاً جداً صار هواء وما كان منه في اللطافة دون ذلك صار ندى ومطراً.(1/174)
فأما ما يقال: لم لا تستبين الزيادة في البحار مع كثرة ما يجري فيها من الأنهار والأودية، فذلك لكثرة سعتها وإنها لا تبقى بل ترفع الشمس لطيغها فيصير منها الذرى والأمطار، وكذلك أيضاً لأن الذي يعود إليها في الأودية والأنهار وربما نقص بعض البحار في طول الأزمان أو زاد بعضها، ولكن ذلك لا يستبين لطول الزمان الذي يحتاج فيه إلى أن يستبين، لأن ذلك لا يستبين في قدر عمر إنسانٍ أو إنسانين.
قالوا: وإن قلنا: إنها تزداد وتنقص، لم يبعد من قبل أنه ليس من الواجب أن يكون البخار الصاعد منها سواء مثل الأودية والأنهار السائلة فيها، بل قد يكون أحمدهما أكثر من الآخر، فلذلك قلنا: قد تزيد البحار وتنقص.
وأما ملوحة ماء البحر ومرارته، فلكثرة مرور الشمس عليها فإن الرطوبة إذا خالطتها الحرارة صارت مالحة، فإن أفرطت الحرارةُ عليها صارت مرةً، ومثال ذلك العَرق والبَول، فإنهما مالحان جميعاً لعمل الحرارة فيهما.
البابُ الثّاني والثلاثون
في الرعد والبرق والصواعق
وأسمائها وأحوالها
وهو فصلان
فصل
قال الله عز وجل: )ويسَبح الرعدُ بحمده والملائكةُ مِنْ خِيفَتِه وُيرسِلُ الصواعِقَ) سورة الرعد، الآية: 13، الآية. وفي موضع آخر: )أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السماء فيه ظُلمات ورعدٌ وبرق يجعلون أصابعَهم في آذانهم مِنَ الصواعِقِ) سورة البقرة، الآية: 19، الآية. قوله: أو كَصَيب تشبيه بعد تشبيه وذلك أن الله تعالى شبه أعمال المنافقين واغترارهم بما اعتقدوه من مخادعة المؤمنين في إظهار موافقتهم وإبطان مخالفتهم، وأنّ ذلك يقضي لهم بالفلاح والنجاح فقال: مَثَلُهم في ذلك وإنْ كان لا ينفعهم ولا يدفع السّوء عنهم، بل يرجع بالوَبال عليهم، كَمَثَل رجل أوقد ناراً وهو يظن استبانة الطريق بها، فجاءت ضعيفةً في إنارتها، ولما أضاءت ما حولها وقدر بقاها على ما بها، خمدتْ فعاد وهو أسوأ حالاً وأشد عمى لأنَ الناظر في ظلمةٍ بعد ضياءً أضعف تبيناً أو مثل قوم أصابهم صيب استصحب رعداً وبرقاً ونكداً وخوفاً فخشوا رهبةً من صاعقة تحرقهم، وتنزل البلاء بهم وهذا القدر كافٍ ههنا.
ورُوي أنه سئل ابن عباس عن البرق، فقال: مخاريق الملائكة. وأصل المخراق خشبة في رأسها سنان عريض تحته عذبة، وكان القوم إذا انصرفوا من حربٍ ظافرين قدموا بشيراً معه مخراق، ليعلم الحال به وكان يوفي على نشزٍ بقرب منهم، ويلوح بالمخراق، فيجتمع وِلدان الحي فرحين ويقولون: مخرق المخراق في رأس اليضع، فالجيش لا شك كما بدا رجع، فلا يزالون كذلك حتى تطلع عناق الخيل، فيستقبلونها مصفقين، وإذا انصرف الخيل مغلوبين، أو طلبوا مدداً بعثوا رجلاً وأعطوه سيفاً فأوفى على النشز وألاح بالسيف وصوتَ، ليعلم الحي بالحال فاجتمع الصبيان باكين ويقولون: رأى حتفاً وألاح سيفاً، وهذا رواه أبو نصر عن الأصمعي رأى حيفاً، قال ثعلب هذا تصحيف ما يروي الرّاوون الأجنفا، ومنه قول تأبط شراً:
يا نار شبت فارتفعت لضوئها ... كالسيف لاحَ مَع النذير المقبل
وأنشد ابنُ الأعرابي شعراً:
إني إذا ما علقتْ علاقِ ... وشمرت أولادها عَن ساقِ
شمطاءَ ذاتِ مضحكٍ براقِ ... كريهةِ المنظرِ والمذاقِ
وصافحتْ بكفها حلاّق ... صار به يطعن للأرواقِ
أعمل خلقِ الله بالمِخراق ... وبالشهاب اللامع الخفاقِ
وبينات جشأٍ دقاقِ ... وأبسط الكفين للعناقِ
وإنما الدولة بالأرزاقِ
فسر المخراق منها على أنه السّيف وعنى ببنات جشاء: النبل، ويقال: رعدت السماء وبرقت، ويقال: أرعدت وأبرقت أيضاً، وبعضهم ينكره وينشد:
أبْرِقْ وأرعِدْ يا يَزيدُ فما وعيدك لي بضائرُ
ويقال: أرعد القوم إذا أصابهم الرعد، وفي الرعد الأرزام وهو صوت للرّعد غير شديد، ويقال: أرزم الرعد. وفيه انهزم وهو اسم صوت الرعد شديدة وضعيفة، وهو الهزيم. ويقال: تهزم الرّعد تهزماً وانهزم الرعد انهزاماً. وفيه القعقعة وهو تتابع صوت الرعد في شِدة، وجمعه القعاقع. وفيه الرجس والرجسان وهو صوت الرعد الثقيل. يقال: رجس الرعد والسماء يرجس. وفيه الصاعقة وجماعة الصواعق، وهي نار تسقط من السماء في رعد شديدٍ، ويقال: أصعقَتْ علينا إصعاقاً، ويقال: صاعقة أيضاً. وقال:(1/175)
يحكون بالمصقولة القواطع ... يشقق البرق عن الصواعِق
وذكر بعضهم البرق فقال: يلتمع الأبصار، ويهلك الغض من الثمار، ويكنع بعاع البقل، وقيل: لا يكون برق لا رعد معه إلا أن يكون رزالاً يعنق السحاب أو يكون خفواً لا يشنق، ووصف بعضهم الرعد فقال: يرج الأرض، ويحرق الطير، ويمرق بيضها، ويصم السمع، ويسقط الأحبال، ويصدع القلوب. وفيه الأريز يقال: إن الرعد تأرز تأرزاً وترززت السماء ترززاً. قال:
جارتنا من وابل الأسلمي ... ترزرزاً من وراء الأكم
رزَ الزوايا بالمزاد المعِصم
ويقال: جلجل الرعد جلجلةً وهو الصوت ينقلب في جنوب السحاب وتهزج الرعد تهزجاً وهو مثل الجلجلة، وزمزم زمزمةً وهو أحسنه صوتاً وأثبته مطراً، وأرنَتِ السماء إرناناً: وهو صوت الرعد الذي لا ينقطع، يقال: رنّ وأرن بمعنى واحد وجمع.
البروق ويقال: برقت السماء وبرق البرق، وبرق برقاً وأبرق القوم إبراقاً إذا أصابهم البرق، وتكشف البرق تكشفاً، وهو إضاءتُه في السماء، واستطار استطارةً مثل التكشُف. ولمع البرق يلمع لمعاً ولمعاناً وهي البرقة. ثم الأخرى المرة بعد المرة. ولمح يلمح لمحاً ولمعاناً مثل اللمع غير أن اللمع لا يكون إلا من بعيد. وتبسم البرق تبسماً مثل التكشف، واستوقد البرق الذي يملأ السماء والسلسلة برق النهار أو برق السحاب، وهي البرقة الضعيفة، قال:
تربعت والدهر عنها غافلُ ... آثار أحوى برقة سلاسِلُ
ويقال: هنا برق الخلب، وبرق خُلب، وهو الذي ليس فيه مطر.
ويقال: خفق البرق خفقاً وخفقاناً وهو تتابُعُه، وخفا البرق يخفو خفواً وهو أن تراه من بعبدٍ خفياً، ويقال: هو أخفى ما يرى من البرق.
ويقال: أومض البرق إيماضاً، وهو الوميض وهو الضعيف من البرق.
ويقال: سنا البرق وهو ضوؤه تراه من غير أن ترى البرق أو ترى مخرجه في موضعه، وإنما يكون السنا بالقيل دون النّهار، وربما كان بغير سحاب، والسماء مصحية وضوء البرق مثل سناه.
وتشقق البرق تشققاً وهو أن تبرق البرقة فتتسع في النشر. وتَألقَ البرق تألُقاً مثل التشقق. وتكلح البرق تكلحاً: وهو دوامه وتتابعه في الغمامة البيضاء وتلألأ تلألؤاً وهو السريع الخفيف المتتابع. ومَصَع البرقُ يمصع مصعاً: ورمح يرمح رمحاً وهما سواء وهو البرق السريع الخفيف المتقارب. وألهب إلهاباً: وهو سرعة رجعته وتداركه، وليس بين البرقين فرجة. والعراص: الذي يلمح ولا يفتر نحو التبسم.
وقد عرصت السماء: تعرص عرصاً إذا دام برقُها ورأيت السماء عراصة.
وفرى البرق يفري: وهو تلألؤه ودومه في السماء وكانوا يسقون البرق، فإذا لمعت سبعون برقة انتقلوا مستغنيين عن الرواد لاستحكام ثقتهم.
ويقال: برق وليف إذا لمع لمعتين، وقد شبه ذلك بلمع يدين. قال امرؤ القيس شعراً:
أصاح ترى برقاً أريكَ وميضهُ ... كلمع اليدين في جبي مكلل
وقال الهذلي:
تبسم بعد شتاتِ النوى ... وقد بت أخيلت برقاً وليفا
وارتعج البرق إذا تتابع لمعانه. قال أبو عبد الله: سئل بعضهم عن البرق فقال: مصعة ملك أي يضرب السحاب ضربةً فترى النيران وأنشد:
وكانَ المصاعُ بما في الجون
ويقال: أزعج البرق وبرق مزعج قال:
سحا أهاضيب وبرقاً مزعجاً ... تجاوب الرعد إذا تبوجا
والتبوج: مثل التكشُف، ويقال: تبوج تَبوجاً. ويقال: أخفا البرق كأقيدَ الطير قال:
خفا كأقيدِ الطير وهناً كأنه ... سراج إذا ما يكشف الليل أظلما
وقال عمرو بن معدي كرب: يلوح كأنه مصباح باز. قال أصحاب المعاني: أراد مصباح رجل من بني باهلة فمصباح لا يطفأ.
فصل
في الرعد والبرق والسحاب
من كلام الأوائل
قالوا: إذا علا البخار الرطب وبلغ إلى الموضع البارد والجبال دفعه البردُ إلى أسفل، فاحتقن هناك، وصارت الجبال القريبة له كالمغارات، وتكاثفت أجزاؤه فيكون منه السحاب والضباب والنجدى، على قدر اختلاف البخار الذي يصعد.(1/176)
فإذا اجتمع ذلك البخار الرطب هناك حصر ما فيه من البخار اليابس الصاعد من الأرض معه، وإذا كان ذلك اضطرب البخاران اليابس الحار والبارد الرطب في جوف السحاب، فقرع السحاب وصدعه فيكون من ذلك القرع صوت يسمى الرعد، ويكون من ذلك التصدع تلهب، يقال له: البرق، وهما يكونان في وقتٍ واحدٍ ، ولكن البصر ترى الألوان بلا زمان والسمع لا يدرك الصوت إلا بزمان، وذلك الزمان على قدر بعد السحاب من الأرض.
فإذا كان ذلك السحاب من الأرض قريباً تبين رؤية البرق، وسمع الرعد في زمانين متقاربين. وإذا كان السحاب بعيداً من الأرض كان بين رؤية البرق وسماع الرعد زمان طويل. وشبه ذلك الصوت الذي يكون من السحاب بالحطب الرطب الذي تشتعل فيه النار فيسمع له صوت وقرقعة، فعلى قدر كيفية السحاب وكيفية البخار الحار اليابس المختنق فيه، يكون ذلك الصوت الذي هو الرّعد والضوء الذي هو البرق.
فأما اختلاف ألوان السحاب فعلى قدر عمل الحرارة: فإن كانت الحرارة قد عملت فيه عملاً شديداً رؤي لون السحاب أسود، وإن كانت قد عملت فيه عملاً قليلاً رؤي السحاب أبيض، وإن كان فيما بينهما رؤي أحمر أو أصفر على قدر عمل الحرارة فيها لأنَ الحرارة تحرق الأجسام فتكون ألوانها على حسب إحراقها.
وأما صِغر قطر المطر وكِبره: فعلى قدر شدة دفع الريح السحاب وضعفه: فإنْ دفعته دفعاً شديداً اجتمعت أجزاؤه، فكان منه قطر كبار. وإن دفعته دفعاً ضعيفاً كان منه قطر صغار..
وأما اختلاف ألوان البرق فعلى قدر السحاب الذي يتصدع، فإنَّ البرق أيضاً مختلف اللون، فربما كان إلى السواد ما هو، وربّما كان إلى الصّفرة ما هو، وإلى الشقرة، وذلك كله على قدر كيفية السحاب، فهذا ما في الرعد والبرق والسحاب.
فأما الصاعقة في اللغة فهي الواقع الشديد من صوت الرعد يسقط معه قطعة من نار، وصوت العذاب أيضاً. وقد صعقتهم السماء وأصقعَتْهم، ويقال: صعقَ إذا أُغميَ عليه من صوتٍ يسمعه ومات أيضاً، ويقال: صعق وهو صعق الصوت أي شديده، والمصدر الصّعق والصعاق. قال إذا ائتلاهُن صلصال الصعق. وفي القرآن: )وخَر موسى صَعِقاً) سورة الأعراف، الآية: 143، أي مغشياً عليه بدلالة قوله: فلما أفاق.
وقال الخليل: الصاعقة: صوت العذاب. وقال بعضهم: نار ريحية وريح نارية وذلك أنها إذا وقعت في الخشب أحْرَقَتْهُ وأشعَلَتْه. وإذا وقعتْ على ذهبٍ أو فضةٍ أحمته وأذابَتْهُ. وهذا الفعل من أفعال النار. قال: فيقول: إنَها وإن كانت ناراً فليست بالنار الحرية بل هي نار لهبانية. وذلك أنها إذا سقطت على الأرض لم يوجد جمرها بل يُرى ذلك الموضع الذي تقع فيه الصّاعقة كثير الدّخان متصدعاً. وهذه من خواص النار والريح، والصاعقة أيضاً ألطَفُ من جميع النار اللهبانية التي عندنا، وذلك أن النار التي عندنا لا تنفذ في الحيطان ولا في الأرضين. والصاعقة تنفذ في كل جوهر محسوس، وهي لا تبصر لأنها بِلطافتها تفوت أبصارَنا، لكنّ أفعالها تبصر، ولسرعة حركتها تجاوز الوقت الذي يمكن أن يكون فيه البصر. والصاعقة تكون لعلتيْن: إمّا لاكتمان النار في الغمام وإفلاتها بَغْتَةً، وإما لاكتمان الريح في الغمام واحتكاكها به وشدة خروجها بغتةً، وفي مجيئها إلى الأرض تصير ناراً، كما ترى ذلك في الرصاص إذا رُمِيَ بالمقلاع، فإنه يسخن بمحاكَة الهواء ويلتهب ويذوب.
البابُ الثالثُ والثّلاثون
في قوس قُزح
وفي الدّائرة حول القمر وفي البرد
في قوله تعالى: (ألَم تَرَ أن الله يُزجي سحاباً ثُمَّ يؤَلِّفُ بَينه ثُمّ يجَعلُهُ رُكاماً فترى الوَدقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِه وَيُنَزّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جبالٍ فيها مِنْ بَرَدٍ) سورة النور، الآية: 43، الآية وهو ثلاثة فصول:
فصل
قال الخليل: قوس قُزح طريقة مستوسقة تبدو في السّماء أيام الربيع. وفي الحديث عن ابن عباس أنَه قال: لا تقولوا قوس قُزح، فإن قُزح من أسماء الشياطين ولكن قولوا: قوس الله عزَّ وجل وقال أبو الرّقيش: القزح الطرائق التي فيها والواحدة قزحة والتّقزيح إذا اتسع رأس الشَجرة أو النّبت شعباً مثل بُرثن الكلب. وفي الحديث: )نهى عن الصلوة خلف الشجرة المقزحة) فأمَّا قول الأعشى شعراً:
جالساً في نفرٍ قد يئِسوا ... في مَحلِّ القَد من صحبٍ قزَح
فقزح لقب رجل.(1/177)
وأما الهالة: فهي الدارة حول القمر، وقد مر القول فيه في باب القمر ومن كلام الأوائل فيها: أنّ رؤيتها لحالةٌ على مجيء المطر، وكينونته، واضمحلالها وتحللها يدل على حدوث الصّحو لكونه دالاً على يبس الهواء، وكما يدل على المطر يدل على هبوب الرياح، لأن المحلل لتلك الرطوبة إنمّا هو البخار الحار اليابس الذي هو مادة الريح، والندأة تكون في أيام الغيوث وهي عندهم وعند بعض العجم من إمارات المطر، ومما يصفون به صدقَ مخيلة السحاب أن يروا القواري تكثر الطيران في الدّجن. قال الجعلي شعراً:
فلا زالَ يسقيها ويسقي بلادها ... من المُزنِ رخاف يسوقُ القَوارِيا
وكذلك المرع: ضربٌ من الطيَّر يظهر في المطر، وهي طويلة العنق مشرّبة صفرة، قال أبو زياد: الناس يستبشرون برؤية القواري.
ومن أسماء القوس: الداح ومن أمثالهم: لا يعرف الماح من الداح. فالماح: صفرة البيض. والداح: الذي يسمى قوس قزح. وهذه الدائرة أكثر ما ترى بالليل، وقد ترى بالنهار أحياناً، وأكثر ذلك نصف النهار وبالعشي. فإما عند طلوع الشمس وعند غروبها، فقلما ترى. وعلة هذه الدارات كلها واحدة وذلك أن البخار الرطب إذا كثر في الجو وأشرقتِ الشمس أو القمر والكواكب المنيرة فيها سطع نورها في الهواء. ثم عطف ذلك النور راجعاً من الهواء على البخار الرطب فترى تلك الدارة كذلك.
وقالوا في قوس قزح: إنها لا ترى دائمة، وأكثر ما ترى بالغداة والعشي فأما نصف النهار فلا ترى، وأكثر ما ترى في الخريف. فأما في الصيف فلا ترى وربما رؤيت قوسين، فأما عِلة كونها فهي من شعاع الشمس الراجع إلى البخار الرطب كمثل ما يشرق في الماء.
ثم يرجع إلى الحائط وربما يُرى قوس قزح بالليل من ضوء القمر، وقلما يُرى ذلك، وإنما يُرى إذا رأيتَ في مثله ليلةَ البدر إذا كمل ضوء القمر.
فأما كدورة قوس قزح وصفاؤها فعلى ما تغلب. عليها الرطوبة كان اللون إلى الصفا، والبياض، لأن صفاء الهواء وكدورته من قبل هاتين العلتين الرطوبة واليَبس، وقياس ذلك النار فإنها إذا كانت في حطب رطب كان لون النار أحمر كدراً، وإذا كانت في حطب يابس كان لون النار أصفر صافياً، فكذلك لون قوس قزح أيضاً.
أما الحمرة التي تُرى أحياناً في أيام الصحو في الهواء: فمن قولهم فيها: إن الهواء إذا تكاثفت أجزاؤه وغلظ ثم سطع ضوء الشمس أو الكواكب في موضعٍ من الأرض، رجع ذلك ضوء إلى الهواء كالضوء الذي يرجع من الماء إلى الحائط، فكذلك الهواء إذا رجع إليه الضوء من الأرض، أو من المياه قبله على قدر مشاكَلَته، لقبوله فيرى لون الهواء أحمر أحياناً، وعلى الهواء القابل لذلك.
والقول في الآية بدأ الله تبارك وتعالى يُذَكر بنِعَمِه على خلقه، حالاً بعد حال ووقتاً بعد وقت، وبكمال تدبيره، مجملاً ومفضلاً، ومقدماً ومؤخراً وكيف سَببَ الأسباب ورتب الأقدار فيما هَيأ من درور رزق ودرج من نزول غيثِ فقال: انظروا كيف جمع فرق السحاب بعد إنشائها، وكيف ألف سياقها على تباينها، وفي أي حالٍ كشفها عقب رِقتها وتخلخلها، حتى صار مع تراكمها يؤدي ما أودع وينخرق بما ضمن، فيخرج من خلاله الماء، مرافقاً للنار، جامداً وذائباً، ومتخلخلاً ومتماسكاً.
ثم يقسمه سحابةً بين منتظريه وطالبي الانتفاع به، كما يشاء فيُعطي كما يحرم ويَهَب كما يمنع، مقلباً الليل والنهار، ومبدلاً الظلم والأنوار، واعتبروا ففي ذلك عبرة لأولي الأبصار.
قوله: يزجي يعيد سوفاً على رفق، لذلك قال عمي: وُيزجي بعد الهذين جهة شمال كما يُزجي الكسير. لأن الكسير يرفق به. والركام: الغليظ المتلبد المتطارف، والودق: الماء والفعل منه ودق.
وقوله: )مِنْ جبالٍ فيها مِنْ بَرَدٍ(، سورة النور، الآية: 43، فكل مستحجر صلبٍ غليظٍ يوصف بأنه جبل وجبال. ومنه قوله تعالى: )والجِبلة الأولين) سورة الشُعراء، الآية: 184، وقوله تعالى: )مِن جبالٍ فيها مِن بَرَدٍ) سورة النور، الآية: 43، أراد من جبال بردٍ فيها، وهذا على التكثر كما يقال: عند فلان جبال من المال. والمراد أنَ ما ينزله من الغيث يكون ذائباً وجامداً فيقسمه بين الخلق على ما يرى من مصالحهم وإنما قال تعالى: )يكادُ سنا برقه يذهبُ بالأبصار) سورة النور، الآية: 43، لأن الضوء الباهر إذا أديم التظر إليه أضَر بالعين، وكذلك الشيء الأبيض كالثلج وما أشبهه.(1/178)
فصل
من كلام الأوائل في البرد والطل والدّمق
قالوا: إن البَرَد إنما يكون في البخار الحار إذا أصابه برد الهواء وذلك لتنافر الحرارة والبرودة. فإذا أصاب البَرْد السحاب انقبض الماء في داخل السحاب من كثرة حرارة ذلك البخار، فيجمد في جوف السحاب، وذلك لمضادة الحر للبرد ولذلك إنما يكون البَرَد في الأيام الحارة لمضادة الحر البرد.
فأما في الأزمنة الباردة والبلاد الشديدة البرد وإنْ كان البرد منتشراً في جميع الأماكن، فليس يقع هناك مضادة الحر للبرد فلا يكون بَرَداً. فأما اختلاف خَلقها فمن قبل بُعلده وقُربه من الأرض: فإن كان بعيداً منَ الأرض كان صغير الحب وذلك لأنه يذوب فيما بين مخرجه وبلوغه إلى الأرض، فيصغر قدره ويستدير.
فأما ما كان قريباً من الأرض فإنه ينزل سريعاً فلا يستدير لكن يبقى كثيراً مختلف الشكل، وإنْ كان الصغر والكبر فيه تبع قدر الماء، وكونه مضغوطاً في السحاب، وربما كان علة كبر القُطر من قِبَل قوة الريح فيضغط أشد ضغط فهذا ما في البَرَد.
فصل
في أسباب الطل
فأما أسباب الطل: فيكون إذا كان في الموضع السفلي واجتمع أو تصاعدت بخارات فغلظت من البرودة ينزل الشيء الذي يغلظ لما فيه من الثّقل، لأنه ليس تحته من الهواء كثير فيمنعه من النزول كما يمنع الهواء فوق لكثرة الغمام من النزول والقطع الصغار. والدمق: يكون إذا جمد الطل بالبرودة، قالوا: والسبب في بياض الدمق ما تَداخَلَه من الهواء لأن الشَيء الذي هو فوق ثلج، هو أسفل دمق والشيء الذي هو فوق مطر هو أسفل طل، ومن أجل ذلك قيل: إن الدمق يكون من جمود البخار قبل أن يجتمع فيصير ماءً.
البابُ الرَّابع والثلاثون
في ذكر المياه والنبات
ممّا يحسنُ وقوعه في هذا الباب
وهو ثلاثة فصول
فصل
الأصمعي يقال: وقع الغيث بمكان كذا إذا مطر، ولا يقال: سقط. قال الشاعر:
وقع الربيع وقد يقاربُ خَطوهُ ... ورأى بعقوتِه أزَل نسولا
يعني بالأزل الذّئب. وقال آخر:
حتى إذا وقع السماك وعشرت ... عين فمنبعُهُ وأخرى مقربُ
يريد وقع غيثُ السماك، ولو أراد السماك نفسه لقال سقط ولم يقل وقع، إنما الوقع للغيث، والسقوط للنجم، قال الساجع: إذا النجم هبط، وإذا النسر سقط، وإذا وقع الغيث قيل: نصرتِ الأرض فهي منصورة، وإذا وقع الغيث فابَتَل التراب فهو ثرى والأرض ثرية ما دامت رطبة، فإذا جفَ قيل: بلح ومصح. قال يصف إبلاً:
وبلح الرب لها بلوحا ... وأصغر في الأرض الثرى مصوحا
وإذا اشتد ندى الثرى حتى يلزم بعضه بعضاً: فهو الثرى الجعد، فإذا زاد فهو كباب، فإذا ارتفع عنه فهو عمد.
قال الغنوي: فإذا أصاب المطر وكان ثراه في الأرض إلى الربيع فهو المرسغ وهو ربيع، وخير ما يكون من المرسغ إذا كان في شحاح الأرض، وهو ما صلب منها، والرسغ موصل الكف في الذراع. وعن غيره إذا كان الثرى في الأرض مقدار الراحة فهو المرحى، قال أبو حنيفة: هكذا روي بتقديم الحاء يريد أنه يجيء من الراحة مروح. قال الغنوي: وإذا كان الثَرى إلى مستحل الذراع، ومستحلَها ما غلظ منها مما يلي المرفق فهو الرسغ المنبت النافع. وإذا كان إلى المرفق فهو المطر الجود وهو يجزي الأرض شهراً من المطر. فإذا بلغ الثرى نصف العضدين قيل: حيا. فإذا بلغ المنكب فهو حيا عند جميع الناس لما بعده. فإذا حفر الحافر الثرى فذهبت يده حتى يمس الأرض باذنه وهو يحتفر. والثرى جعد. فقد اعتقدت الأرض حيا سنتها. ويقال: غيث جداً، لا يحفره أحد ولا سكفه، أي لا يعلم أحد أين أقصاه.
وقاك الأصمعي: إذا التقى الثريان فهو الجود يعني أن يتصل الندى الطاهر بالندى الباطن المستكن في جوف الأرض. وحكى الأصمعي عن رؤبة: شهر ثرى وعشر ثرى وشهر مرعى وشهر استوى. وقال ابن الأعرابي: قيل لابنة الخنسي: كم يعقد المطر في الأرض ولا يخرج؟ فقالت: عشر ثرى وعشر ثرى وعشر مرعى. أرادت أن الماشية تشبع في ثلاثين. فهذان القولان متفقان، ومعنى استوى: اكتهل في الشهر الرابع ثم يشبع المعزى.(1/179)
واعلم أن البلاد تختلف في ذلك: فإن منها الأنبت الممراح فلا يبطئ نباته، ومنه المصلاد النكد الجحد الإنبات. ويختلف أيضاً من قبل الزمان، فإن الأرض إذا جيدت والزمان لين كزمان الصّفوى والدفيء والخريف لم تلبث الأرض أن تعشب. وإذا جيدت والزمان قسيء بارد منعها البرد من الإعشاب فأبطأتْ به.
وقال ابن الأعرابي: قال أبو المجيب أعرابي من بني ربيعة: لقد رأيتنا في أرض عجفاء، وزمانٍ أعجف، وشجر أعشم في قف غليظ، وجادة مدرعة غبراء فبينا نحن كذلك، إذ أنشَأَ الله من السماء غيثاً مستكفاً نشوؤه، مسبلةً عزاليه عِظاماً قطره جواداً صَوْبُه زاكياً ودقه أنزله الله رزقاً لنا فتنعش به أموالنا ووصل به طرقاً فأصابنا. وأما السوطة بعيدة بين الأرجاء فاهر مع مطرِها حتى رأيتنا وما نرى غير السماء والماء، وصهوات الطفح فضرب السيل النجاف.
وأما الأودية فرعها فما لبثنا إلا عشراً حتى رأيناها روضةً تندى، فهذا اجزأنها روضت في عشر وهو دون ما قدمناه من قبل. والعلة فيه الزمان، وإذا اتفق الزمان اللين والأرض الممراح كان هذا ونحوه. وإذا وقع الغيث: فنجع ورؤي تباشير خيره قيل: رأينا أرض بني فلان غب المطر واعدة حسنة. حكاه الأصمعي، فإذا أبصرت شيئاً من النبات فذاك الإيشام والطرور والبقول والإيفال.
أوشَمَتِ الأرض توشم إيشاماً، وطر النبت طروراً كما يطر الشارب، فإذا تطررت الخضرة لعينك فقد خصبت الأرض تخصب خصباً وخصوباً ودست وتودست حسناً، والتربص مثل التّودس.
وكذلك الإبشار يقال: أبشرت الأرض، وما أحسن بشرتها ودشها وكنأ النبت إذا طلع. وإذا اتصل قيل: وصت الأرض فهي واصية قال: وصي لها غراد وجاد ملبس كلّ أجرعا. فإذا بلغ اتصاله أن يغطي الأرض قيل: استحلست الأرض. قال ذو الرَمة:
حتى كسا كل مرتادٍ له خضل ... مستحلس مثل عرضِ الليل يحموم
وحينئذ ترى الأرض مُدْهانَةً.
وإذا رأيتها كذلك فذاك الوراق، فإذا نهض البقل قليلاً وهو أغَض ما يكون وأنعمه، فذلك اللّعاع والنعاع وقد ألعت الأرض إلعاعاً حسناً. ويقال: تركت المال يتلقى أي يرعى اللعاع، والشعتد نحو من اللعاع، وإذا ارتفع عن ذلك حتى يشتد قيل: عرد يعرد عروداً. والنقاء: القطع المتفرقة من النبات والواحدة نقأة. قال:
جادتْ سواريه وإذا رنبة ... نقاء من الصفراء والزياد
وكذلك الثجر والواحدة ثجرة فإذا نهض حتى يملأ أفواه المال فهو جميم، أخذ من الجِمة على التّشبيه. فإذا ارتفع عن ذلك فهو عميم. ويقال: اعتم التبت. قال ساعدة:
يرتدن ساهرةً كأن جميمها ... وعميمها أسدافُ ليل مظلمٍ
ويقال: جادت الأرض بالنبات وغيث جود، وذلك إذا طال وارتفع وقد غلا يغلو غلواً واغلولب. ويقال: استل وذلك حين لا يرى فرجة لطوله وانتشاره.
ويقال: أغنت الأرض: وذلك إذا سمعت لها غنة لالتفاف النبات وكثافته وحينئذ يقال: استأسَد، وقد يكون ذلك من أصوات الذبان. قال شعراً:
مستأسد ذبانُهُ في غَيطل ... تُعلنُ للدايدا عشبت أنزلُ
فإذا ظهرت أكمامه وهي غلف النور فذلك البراعيم والواحدة برعومة. والكعابر والواحدة كعبرة حتى يتفتح ثم ينشق عن النور فتخرج زهرته وذلك التقصيح، والنور حينئذ فقاح والبراعيم من قبل ذلك صمع واحدها صمعاء.
ويقال حينئذ: جَن النبت جنوناً وأخذ زخرفه وزخاريه وألفى بهجته. قال ابن مقبل:
زخارى النّبات كأن فيه ... جياد العبقريّة والقطوع
ويقال: اقتانَ النّبت اقتاناً إذا تزيَّن وظهر حسنه وهو مأخوذٌ مِن التَّقين. ومنه قيل للماشطة: مقينة. قال:
وَهُن مناخات تحللن رمة ... كما قتلن بالنبت العهاد المجوز
ويقال: أزهر النبت إذا ظهرت زهرته وزهر وهو ألوان نوره. ويقال: نور النور ونواره وزهرته سواء. وكذلك الفغو والفاغية. ويقال: أفغى النبت إذا نور. فأما الأصمعيّ فإنّ الفغو والفاغية عنده ورد كل ما كان من الشّجر طيب الرائحة.
وغير الأصمعي يجعل الجنون طوله يقول جن إذا طال فهو مجنون. قال الراجز يصف نخلاً: ينقص ما في السّحق المجانين. وقال ابن أحمر:
تنفقأ فوقه القلع السواري ... وجُن الخاز باز به جنونا
فإذا انتهى وبلغ فهو مكتهل، وكل ما انتهى منتهاه فهو كهل. قال ابن مقبل:(1/180)
وقوفاً به تحتَ أطلاله ... كهول الخزامى وقوفَ الظعن
وهو في جميع هذا الأحوال خلا وعشب، ويقال: أعشبتِ الأرض واعشوشبت وأعشبت الإبل أصابت العشب. وكذلك أخلت الأرض إذا نبت خلاها، فإذا جززته قلت: اختليته. قال: سوف المعاصير خزامى المختلى. وهذا كلّه ما دام رطباً رطب وخضر. فأما الشّجر: إن أول توريقه النضح يقال: نضح الشجر نضحاً إذا تقطر بالورق وهو اليغط والفقح يقال: فقح الورق إذا أنفتح.
فإذا اكتسى خضرةً من الإبراق قيل: قد تمشر وأمشر إمشاراً وظهرت مشرته ومشرته بالتحريك والإسكان، والمشرة من الشجر كاللعاعة من البقل. قال: وقصارها إلى مشرة لم تعتلق بالمحاجن.
ويقال: أورق الشجر إيراقاً وورق توريقاً، ولا يُسمى ورقاً إلا ما عَرضَ وتبسط.
فإذا طال طولاً شديداً مع بعض التبسطُ فهو خوص والواحدة خوصة. فإذا طالت مع اندماج، فلم يكن فيه تبسط فهو الهدب، والعبل نحو منه، عن أبي عبيدة وأبي عمرو يقال: قد أعبلَ الأرطيّ إذا ورق.
وللإعبال موضع آخر: وهو أن يقال: قد أعبل الشجر وذلك إذا تساقط ورقه في قبل الشتاء وكأنه من الأضداد. فإذا نقصت غضاضة النبات واشتد عوده قيل عسا يعسو عسواً.
فإذا وَلَت بلولته وأخذ يتهيأ للجفوف قيل: ذوى يذوي وذأى يذأى أي فهو ذا وفي كلتا اللغتين: وألوى إلواءً وذلك نحو الذوي فيكون النبات حينئذ لوياً.
فإذا تجاوز ذلك قيل: قد أقطَرَ اقطراراً وإقطاراً أيضاً.
فإذا شعفه اليبس قيل: هاج يهيج هياجاً وهيجاً وهو حينئذ يبس الباء ساكنة ويبس وقفل.
قال أبو ذؤيب: فحزت ما تتابع الريح بالقفل وهو الحفيف والغفيف والقف قال: كشيش أفعى في يبس قف.
وقد قَفَت الأرض قفوفاً وهو في هذه الحال حشيش، وفي كل حال كلأ ولا يقال له قبل أن يجف حشيش، فإذا تمَ فيه اليبس لوى، فإذا تكسر بعد اليبس فهو حطام وهشيم. وقال الكلابي: إذا يبس النبت فما دام قائماً فهو ألقف. فإذا تكسر وسقط إلى الأرض فهو الحبة، قال أبو النجم: في حبة جرف وحمض هيكل. فأما الأصمعي فالحبة عنده: حبّة ماله حب من النبات، قال ويقال: الإبل في حبة ما شاءت، فإذا ركب بعضه بعضاً فهو ألثْن، قال: وأقام بعد الحدبِ في ثنِ، فإذا اسود من القَدم فهو الدّندن. قال: كالسيل يغشى أصول الدّندن البالي. والدرين حطام جميع النبت، والسفا شوك البهمي خاصةً، والسفير ما تساقط من الورق لأن الريح تسفره أي تكنسه وإذا أخذ النبت يجف وأصوله حيّة ثم جاء المطر عليه فعاد أخضر فذلك النشر. قال شعراً:
وفينا وإنْ قيل اصْطَلحنا تضاغُنُ ... كماطر أوبارِ البعير على النشر
وهو مطر يأخذ عنه الإبل إذا رعته السمام، والهرار ثم تشلح عنه فتهلك وأنشد:
كما نشأتْ في الجزء مزنةُ صيفٍ ... وضمنت الأكوار عاقبةَ النشر
فأمّا ما نبت في أصول فهي الغمير.
والرّبل: ما ينبت من غير مطر ببرد الليل ويقال: أربلت الأرض وأربل الشجر، ويقال له الخلفة كأنه يخلف ما يقدم.
ويقال: راح النبت وتروح إذا اكتسى ورقاً. وحُكي عن الكلابي أنه قال: الربل والخلفة والريحة واحد، وكل هذا نبت مع طلوع سهيل وضروب من النبات تدوم خضرتها الصيف فلا يهيج مع هيج النبات.
يقال لها: الربب والواحدة ربة والنبات كله يجمعه الشجر والعشب. فالشجر ما قام على ساق، والعشب ما خالف ذلك ثم ينقسم العشب قسمين: بقلاً وجنيةً، فالجنية ما له أرومة فهو أقوى من البقل، والبقل أحرار وذكور فأحراره ما رَق وعنق، وذكوره ما غلظ منه.
البابُ الخامسُ والثلاثون
في ذكر المراتع المخصبة والمجدبة
والمحاضر والمبادي
وهو فصلان
فصل
قال الأصمعي: إن الأوطان والمراتع تختلف في هذا الباب اختلافاً شديداً لأن منها ما يطول بقاء الرطب ودوام الماء فيه. ومنها ما يقصر ذلك فيه.(1/181)
ومن المراتع أيضاً مسهفة معطشة. ومنها مرواة، ولذلك تراهم يختلفون في ذكر هيج النبات وفناء المياه، فيأتي توقيت زمانه مقدماً ومؤخراً، ويحضر قوم ويبقى قوم في النجعة، وربما وجدت السائمة متعلفاً من بقايا الرطب في مثاني الأرض، ومحاني الأودية، وأعماق البطون، وأقام الحي يستحلف لهم من الأعداد على الزوايا فيؤتون بالماء إلى مباديهم حتى يستنفدوا الرطب فيكون حضورهم إذا لم يجدوا له مدفعاً، ولا يجدون إلى الأجزاء سبيلاً.
واعلم أن المراعي تنقسم قسمين: خلة وحمضاً، فالحمض ما كانت فيه ملوحة والخلة ما لا ملوحة فيه. والحمض: يرخي بطون الإبل ويعنق لحومها، ويطيل أوبارها وينفشه، ويغلظ ويكثر عليه شربها.
والخلة على خلاف ذلك، والخلة للإبل كالجز، والحمض كالأدم، فإذا عافيت بينهما كان ذلك أفضل ما يكون. وإذا أخضَبَ الناس قيل: أحيوا الحيوان أحياء والحياء الخصب، وجمع الخصب أخصاب، وجمع الحياء أحياء، وأنشد الأصمعي في جمع الخصب:
كأنما يزينه الإخصاب بالمعر الحمر.
وهذا عام: حياء وعام أوطف وأعزل وأقلف وغيداق وعام فنق وكل ذلك معناه الخصب قال. لم ترج رسلاً بعد أعوامِ العنق. فإذا كان عاماً مشهوراً بالخصب قيل له: عام المال. قال:
رآني تجاذيبَ الغَداة ومَن يَكُن ... فَتى قبلَ عام الماء فهو كبيرُ
ويقال: ربع الربيع، ونحن في ربيع رابع، والناس في الرغد، والرغد وقد أرغدوا وهم في رفاهة ورفاهية ورفهفية، وبلهنية، ورخاخ من العيش، ورخاء ورفاغة وفي عيش دغفل، وغدفل وأغضف وغاضف، وهم في مثل حدقة البعير وفي مثل الحولاء.
وذلك إذا كانت الأرض مخصبةً معشبةً وفي عيش إبله وأهيغ كل ذلك الخصب وهذا بلد خصيب وخصيب وخصب. وإذا كان ذلك عادته فهو مخصاب.
ويقال: أرتع القوم إذا رتعوا في خصب وتحقيقه: نالوا مرتعاً. وأفتَقَ القوم إذا أعشبوا، وأسمنوا وإذا أجدب الناس قيل: أسنَتوا وهذا عام سنة. ومما حكي: الأرض وراءنا سنة، وأرضون سنون أي مجدبات.
وكذلك مُحول وأرض محل ومُمحلة وأمحلتْ ومحلت، وبلد ممحل وما حل وأصابتهم أزبة وأزمة ولأواء ولولاء وشصاصاء وفحمة وحجرة. ويقال: أحجر عامنا إذا قَل مطره قال:
إذا الشتاء أحجرَتْ نجومُه ... واشتد في غيرِ ثرى أزومهُ
ويقال: أصابتهم كلبةُ الزمان، وهلبة الزمان، والسّنة القاوية القليلة الأمطار وقد قوي المطر، والعام الأبقع الذي قَل مطرهُ.
ويقال: سنة سنواء، وأرض بني فلان جُرُز، ومجروزة وجرزات وفل ومخرجة وبقعاء.
ويقال: لم يصبها قابة أي قطرة، وإذا أخطأ الأرض الوسمي كله وصدر الولي ففي ذلك الشتاء بكلبه وإصراده، فذلك المحل لا شك فيه المجلى، وهذا المعنى عبر عنه الشاعر في قوله:
إذا غرد المكاء في غيرِ روضةٍ ... فَوَيل لأهل الشاء والحمرات
وذلك أن المكاء لا يعدن بغير الرياض، ولا يقيم إلا في معاشيب الأرض وفيها تبيض وتفرخ وتزقو وتغزد. وقد بتين الراعي، فقال: يفضلُ الإبل على المعزى والحمر.
إنا وجدنا العيس خيرَ بقيةٍ ... من الفقْعِ أذناباً إذا ما اقْشَعَرتِ
ينال جبالاً لم ينفها جبالها ... ودوية ظمآى إذا الشمس ذرتِ
مهاريس في ليل التمام نهته ... إذا سَمِعَت أصواتها الجن فرتِ
يعني بالفقع أذناب المعزى، يقول الإبل: تستطيع أن تنال من البلاد ما لا تستطيعه الغنم، ويصبر على الظمأ وقال جندل الطهوي يصف عيراً:
رعى جماد ثادق فالقر قره ... أزواج مزه زخري الزهرة
حتى إذا ما الهيفُ حت تمرُه ... وأسبلَت بعد الجناه الهَيشَرة
وودع العشقَ فراخَ الحمرة ... ونشر اليسروع بردي حبرة
وظهرت ذات العشاء الحشَرة ... ونقض الفَقع فأبدى بَصرة
وقام للجندب ظهراً صرصرة ... شَد على أهل الوردِ ميزَرَة(1/182)
أراد بالأزواج الألوان من النبات والمزهي: ذو الزهر والهيشرة نبت، ويعني ببُرَدي حبرة جناحيه لأَنه يسلخ فيصير فراشة في آخر الربيع وإنما ظهرت الحشرة ذات العشاء لبرد الليل. وإن حر النهار كان مانعها من الانتشار، والفقع ضرب من الكماة أبيض، فإن استبشر في أول الزمان، وإلا شَق الأرض عن نفسه، وظهر ثم يصفر إذا تطاولت به الأيام واشتد الحر. لذلك قال الساجع: إذا طلعت الهقعة أدرستِ الفقعة، وتعرض الناس للقلعة ورجعوا عن النجعة، وقال الراعي في ظهور الفقعة من تحت التراب:
بأرضٍ يبن الفقعُ فيها قناعَه ... كما أبتنَ شيخ من رفاعةَ أجلحُ
شبه الفقعة برأس الشيخ لتجردها. وقال الساجع أيضاً في الظعن عن البدو والرجوع إلى الحضر: إذا طلع الشرطان خضرت الأعطان، وطلوع سهيل وقت لأول التبدي وغيبوبته وقت لأول الحضور، وهو يطلع إذا ناء سعد السعود ويغيب قبل أن ينوء الغفر. فمدة طلوعه نحو من ثمانية عشر نوْءاً وذلك قريب من ثلثي السنة، ومدة غيبوبته نحو من عشرة أنواء، وهو قريب من ثلث السنة. وقال ذو الرمة يصف امرأةً ويذكر وقت مبدئِها ومحضرها شعراً: غراء أنسة تبدو بمعقلِهِ إلى سُويقة حتى يحضرَ الحضرا
تشتو إلى عجمة الدهنا ومربَعُها ... روض يناصي على ميثه العفرا
حتى إذا هزت البهمى ذوائبها ... في كل يوم يشهي البادي الحضرا
وزفزفت للزباني من بوارحها ... هيف أنشت به الأصناع والخبرا
ردرا لأحداجِهم بزلاً مخيسة ... قد هرْمَل الصيف عن أكتافها الوبَرا
وواحد الأصناع صنع، وهو محبس الماء وزفزفة الريح سوقه لحطام النبت فيسمع جرسها ومعنى أنشَت أيبست، والخبرة القاع نبت السدر، والجميع الخبر فهذا ابتداء ذكر المبدأ والمحضر وسنحكم القول فيه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فصل
في ذكر ما كانت العرب تفعله
وقت إمساك القطر في الجاهلية الجهلاء
قال أبو المنذر هشام بن محمد الكلبي: كانوا إذا استمطروا عمدوا إلى السلع والعشر فعقدوهما في أذناب البقر، وأضرموا فيهما النار، وأصعدوها في جبل وعر وتبعوها يدعون الله عز وجلّ يستسقونه. قال ابن الكلبي: وكانوا يضرمون تفاؤلاً للبرق قال لمية في ذلك:
سنة أزمة تخيل للناس ... ترى للعضاة فيها صَريرا
لا على كوكبٍ ينوء ولا ريح جنوب ولا ترى طُخرورا
ويسوقون باقر السهل للطود مها زيل خشية أنْ تبورا
عاقدين النيران في تكن الأذنابِ منها لكي يهيج البُحورا
سلع ما ومثله عشر ما ... عايل ما وعالت البيقورا
بيقور: جماعة بقر، يقال: بقر وباقر وبيقور وغلط في هذا عيسى بن عمرو والأصمعي جميعاً، فأما الأصمعي فإنه روى وغالت البيقورا، واحتج لتصحيفه بأنه ذهب إلى المرارة من أجل السلع، فقال: يقال: ما أبقره وأمقره. وقال عيسى: لا معنى لقوله: سلع ما. وقال ابن السّكيت: معنى قوله: وعالت البيقورا أن السنة الجدبة بقلت البقر، مما حملت من السلع والعشر، وأنشد أبو عثمان الجاحظ للوَرل الطّالي شعراً:
لا دَرَّ در رجالٍ خابَ سعيُهم ... يستمطرون لدى الأزمات بالعشرِ
أجاعل أنتَ بيقوراً مسلعةً ... ذريعةً لك بينْ الله والمطرِ؟!
قوله مسلعة يعني ما عقد في أذنابها من السّلع. وقال أبو حنيفة: وكانوا إذا فعلوا ذلك توجهوا بها نحو المغرب من بين الجهات قصداً إلى العين، يعني عين السماء. وهذا الذي ذكرناه عن العرب من الزّمن تشاركها الأمم في أمثاله كَنيرِنجات الفُرس، ووهم الهند، وعقد الروم.
وقالت الفلاسفة: رموز النفس تنقسم ثلاثة أقسام: قسم منها رمز فوق الطبيعة كالرقي والوهم، وقد قال بعضهم: إن للنّفس كلمات روحانية من نحو ذاتها. وقسم منها رمز نحو الطّبيعة كتعليق الحرز وما أشبهها. وقسم منها دون الطبيعة كالتماثيل واستعمالها، فهذا كما ترى وإنْ عرض فيما يعمله ما يقتضي القول في شيء من الرموز أعدنا القول فيها إنْ شاء الله تعالى.
البابُ السّادس والثلاثون
في ذكر أحوال البادين والحاضرين
وبيانِ تنقلهم وتَصَرف الزّمان بهم(1/183)
قال الأصمعيُ: للعرب ظعنان: أحدهما ظعن للتبدي وذلك إذا أخرفوا وميمَاته ما بين طلوع سهيل إلى سقوط الفرغ المؤخر، فإذا أخرفوا تَصَدعوا عن المحاضر ولقسمتهم المناجع، وحجروا الأعداد، واستبدلوا بها الأوراد، فظعنوا عن دار المقيظ.
والطعن الآخر: يكون عند انصرام الرطب وهيج الأرض ونضوب الماء، وهجوم الصيف كما قال: حتى إذا العود اشتهى الصبوحا يعني شدة الحر، والعود أصبَر على العطش من غيره، فإذا اشتهى الماء في أول النهار فهو أشد الحر، وقد كثر متصرفاتهم في وصف المحلين، والتردد في الرحلتين، ومفارقة الحضارة، ومراجعة البداوة. وذلك أنهم يقيمون على مياههم ما أقامت وقدات الحر، وعزات القيظ، فإذا سكنت نائرتها وأذنت بتوليها، فباخَت سورتها وأمكَنَ مَد إظمائها، وأقبلت الأرض تربل، والعضاه تتروج ابتدؤوا يبدون.
وقد أخبر بعضهم عن ذلك قال:
قد تشكى النساء وأظلَمَ الأمعوذُ واخْضَر جيبُ أمر قسيم
أي اتخذن الشكاكين، وأظلم أراد أن الظباء سمنت وأَشِرت، فهي تتناطح، وأمر قسيم: إذا خرجَت زهرتها من النبات فمن متبطئ ومتعجل، وذلك على حسب مساعدة الأحوال ومداورة الأزمان لأنها كما تستنهض تستوقف، وعلى ما تقدم قد تؤخر، فبكاؤهم للظاعنين وجزعهم في أثر المفارقين، وحنينهم على الخُلَطاء، والمجاورين للعارض المغير، كما أن مداناة المزالف ومراجعة المالف والمخالف لحادث آخر مُبَدل، فتارةً يبنون عرش الشجر وهو الخيام مظللة بالثمام وتارةً يسكنون بيوت الصوف والوبر منصبة بالعُمُد والحبال. فمن ذلك قول ذي الرّمة شعراً:
ألا حَي المنازلَ بالسلامِ ... على نحل المنازلِ بالكلام
لميةَ بالغا درجت عليها ... رياحَ الصيف من عام فعامِ
سَحَبن ذيولَهن بها فأضحتْ ... مصرعةً بها دعم الخيام
أقمنَ على بوارحِ كل نجمٍ ... وطيرتِ العواصف بالتّمام
قال ذلك لأنهم إذا ظعنوا عن المحاضر تركوا الخيام على حالها أو نزعوها ونضدوهما استعداداً للعودة، فتزعزعها الرياح إذا تقادم العهد بها. ومن ذلك قول امرئ القيس:
أمرخ خيامهم أم عشرُ؟ ... أم القلب في إثرهم مُنحدر.
قصده أنْ يعلم بأي الماء نزلوا خيامهم من شجرها والمعنى أنجدوا أم غاروا أم اتهموا فأحدر القلب بانحدارهم، وهذا كما قال: ففرعنا ومال بها قضيب. لأن قضيباً من تهامة، وكما قال الآخر: وسالَتْ بأعناقِ المطيّ الأباطحُ.
وقال ابن الأعرابي: الحنتمة ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام يستظل بها في الحر، والمظلة لا يكون إلا من النبات، وتكون كبيرة، ويكون لها رواق وربما كانت شقة أو شقتين أو ثلاثاً. وربما كان لها كفاً وهو مؤخّرها. قال: والخباء من شعر أو صوف، والقبّة: تكون من أدم. وكذلك الطراف، وقال: المَظلة بفتح الميم لا غير. قال زهير:
تبَصرْ خليلي هَل ترى مِن ظعائِنٍ ... تَحَملْن بالعلياء منْ فوقِ جُرثُمِ
جعلنَ القنانَ عن يمينٍ وحزنه ... وكم بالقنان مِنْ محل ومحرمِ
فلمّا وَرَدنَ الماءَ زرقاً جمامُهُ ... وضعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المتَخَيِم
فهذا الظّعن للبداوة فأما قول طفيل شعراً:
على اثر حي لا يرى النجم طالعاً ... من الليل إلا وهو قفر منازِلُه
فإنَ مَن تبدى أراق التبدي من الخريف لم ير الثريا طالعة أول الليل إلا وهو نازل بالقفر لأن أول طلوع الثّريا عشاءً هو لطلوع السماك الأعزل بالغداة وسقوط الرّشاء، وذلك في الوسَمي وبعد طلوع سهيل. وأما قول ذي الرمة:
إذا عارضَ الشعرى سهيلُ بجهمةٍ ... وجوزاؤُها استغنينَ عن كُلِّ منهلِ(1/184)
فهو يصف إبلاً واستوثق لها، لأن سهيلاً إذا طلع بقيةً من الليل وهي الجهمة، فذاك قبل الوسمي، ودبر القيظ. والزمان زمان ندى، وروح وطل وغيث. وقد قال ساجعهم: إذا طلعتِ الصّرفة أميز عن الماء زلفة، لأنها إذا طلعت ناء الفرع المقدم وهو آخر أنواء الخريف، وفي أثره الفرع المؤخر وهو أول أنواء الوسمي فلا يزالون يتبعون مواقع الغيث ويتحولون في معاشيب الأرض ويشربون ماء السماء ويجتزون بالرطب عن الورد وهم في سلوة من العيش، ورغدٍ من الخفض يرمي النوى بهم المرامي، فمن شعبٍ يلتئم إلى شعب، ومن جمع يلتئم مع جمع ومزار تقرّب بعد بُعدٍ ، ومطاف يسهل عقيب وعرٍ ، ومواعيد بين الأحبة أنجزتْ وعقود من حبالٍ جرار ووصال أوثقت حتى إذا تحرك الهيف وهو أول الحر ومبدؤ البوارح، بدّلت الأرض والدهر ذو تبدل، فمن بقل ذابل وماءً غايضٍ ونهي ناضبٍ ، وصيفٍ صائفٍ ، وهيج يشتد وورد يمتد، وكبد من الماء تحر، وصَبْر على بلواه ينفد ويقل، حينئذ ترى ذا الراحة يتعب، والمتأخر يلحق، متصدّعين عن مباديهم، سعياً ومفترقين عن مقارهم شفقاً فكم قلبَ لفراق الأحبة جزع، ودمع لوداعهم همع، وأنسِ لبيتهم يقطع، ووجد ببُعدهم تجدد. وكل هذا أتتْ به الأشعار وترادفت بأمثالها الأخبار، فمن ذلك قول جرير يذكر سائرةً ضمتها إليهم النجعة ثم تفرقوا فأسِفَ لفراقهم. قال شعراً:
ألا أيُّها الوادي الذي ضَمَّ سيلُه ... إلينا نوى ظمياء حُييت واديا
فقد خِفْتُ ألا تجمع الدّار بيننا ... ولا الدهر إلا أن نجدَّ الأمانيا
وقولا لواديها الذي نَزَلَتْ به ... أوادي ذي القيصوم أُمرعْت وأديا
وقال ذو الرمة:
حتى إذا ما اسْتَقَلَّ النَجمُ في غَلَسٍ ... وأحصدَ البقلُ أو ملو ومحصود
ظللتَ تخفقُ أحشائي على كبدي ... كأنني من حذار البَيْن مورودُ
من ورد الحمى، وقال الجعدي يذكر امرأةً جاورتهم في مرتع شعراً:
أقامتْ به حد الرّبيع وجارها ... أخو سلوةٍ مسى به الليل أملح
فلما انتهى في المرابيع أزمَعَت ... حفوفاً وأولاد المصانيف رُشحُ
وحب السفا واعترها القيظ بعدما ... طباهُنَ روض من زبالة أفْيَحُ
وحاربت الهيفُ الشمال وآذنت ... مذانب منها اللدنُ والمتصوح
وقمنَ يزورن الهوادج بعدما ... مضى بين أيديها نعام مسرحُ
يريد بأخي السلوة: الندى لأنّهم في سلوة ورخاء ما أقام لهم، وهو الأملح لبياضه. وقوله: مسى به الليل: لأن الندى بالليل يسقط. وقوله في المرابيع: يريد سمنها. والمرابيع: جمع المرباع وهي التي من عادتها أن تنتج في أول النتاج. والمصانيف: التي تنتج في آخر النتاج. والرّشح: جمع راشح وهي التي تمسكها أمها لئلا تسقط وهو الترشح. ويقول الرّجل لصاحبه: لقيت فلاناً يرشح وَلد ناقته إذا فعل بها وقوله: وحاربت الهيف الشمال، لأن الشمال والصّبا ريحا البرد. والجنوب والدبور ريحا الحر. والمتصوح: اليابس المتشقق، قال ذو الرمة:
وصوح البقل ناج تجيء به ... هيف يمانية في مرها نكبُ
فجعلها النكباء التي تلي الجنوب. وقال الكعبي المنقري:
تمرع إذ تسعى بها ذو إيالةٍ ... من الحر ما كانت مذانبهُ خُضرا
يصف راعياً تمرع طلب مريع الكلأ. تسعى بها: تتمادى في الطلب. ذو إيالة: حاذقاً بمعالجة الإبل والقيام عليها. والمذانب: المشارب وذلك أن الثريا إذا طلعت سحراً تحول جميع أهل المراتع إلى المحاضر ليبس الكلاء، ونضوب الماء، وذهاب الجز، فلا يبقى في المراتع إلا مَن يتولى رعيه الإبل بنفسه، ويتشيع سرار الغيطان، وبطون الأودية. والعلان: التي فيها بقايا الرطب، ولا يكون ذلك التخلف إلا شهراً وبعض آخر، وهو من وقت طلوع الشرطين، لست عشرة ليلةً نحو من نيسان إلى وقت طلوع الثريا يخلو من أيار إلى طلوع الدبران وهو لليلة من حزيران وأنشد:
أقمن شهراً بعد ما تَصيفا ... حتى إذا ما طرد الصيف السفا
قَرَينَ بَزلاً ودليلاً محشِفا ... وبُدلت والدهْرُ ذو تبدُل
هيفاً دبوراً بالصَّبا والشمأل(1/185)
فلم تزل الشمال عاليةً زمان العشب ووقت الحركة، حافظة لبلولة النبات لروحها حتى إذا انقضت أيامه، ودخل الصيف ذهب سلطانها وهبت الجنوب فَدافَعَتْها.
وإنما سُمي الهيف لِحَرها ويَبسِها، ولذلك قيل للسريع العطش: المهياف ورجل هاف، وامرأة هافة، وقد هاف الرجل إذا عطش.
وقال الكلابي: الهَيف أول السموم وقد يجعل كل ريح هبت بحر هيفاً وإن كانت الشهرة في ذلك للجنوب والدبور. والنكباء التي بينهما. هذه أغلب الرياح على الهيف وقال ذو الرمة يصف عيشاً ونساءاً انتجعنه شعراً:
ألقى عصى النوى عنهن ذو زهرٍ ... وحَف على ألسِن الرواد محمودُ
حتى إذا وجفت بهمى لوى لبن ... واصفر بعد سوادِ الخضرة العودُ
وغادر الفرخ في المثوى تريكتَه ... وكان من حاضر الرجلين تَصعيدُ
ظللت تخفق أحشائي على كبدي ... كأنني من حذار البَين مورودُ
قوله: ذو زهر يريد بها نباتاً ثم واكتهل فظهرت زهرية يريد استغنى به عن انتجاع. وقوله: وحفت: أي يبست فطيرته الريح، وقوله: غادر الفرخ تريكته أي بيضته التي خرج منها، وهذا باب واسع. فأمّا قول الآخر:
ونقيم في دار الحفاظِ بيوتنا ... زمناً ويظعن غيرنا للأمرع
فإنما تبجح بحسن صبره في دار المحافظة على العز والمنع عن الحريم، إلا أنه عد الظعن عيباً يدل على ذلك قوله من بعد:
يسيل تغر لا يسرح أهله ... اسقم يُشار لقاؤه بالأصبعِ
وأنشد الأصمعي:
إذا الجوزاء أردفت الثريّا ... ظننتَ بآل فاطمة الظنونا
وهذا يحتمل وجهين: يجوز أن يكون جمعهما المربع، وكان ساكن النفس لاستمتاعه بها وامتداد الوصال معها، حتى إذا رأى الجوزاء طالعة علم أنها تظعن وينقطع ما بينهما، فترجع إلى بعض محاضرها، لأنَ ذلك وقت الانصراف عن البدو، فلذلك ظن الظنون السيئة لا سيما وقد كان أبهم عليه منصرفها.
وأما أن يكون مبدؤه كان مخالفاً لمبدئها، فهو لا يدري مقرَّها، لأنهم ما داموا منتجعين فدارُهم حيث يصادفون الكلأ والماء فلما طلعت الجوزاء علم أنه لا بدّ لها من الحضور، وقد عرف لها محاضر شتى، فالظنون تردّعه بينهما وتخالجه فلا يتملّك متيقناً. قال أبو ليلى: يفارق القمر الثّريا في زمن الوسْمي كله، وهو شهران، وشهر من الدفيء ثم تأفل الثريا أربعين ليلةَ شهراً من الدفيء وعشر ليالٍ من الصيف. ثم تطلع صلوة الغداة إلى أن تأفل ثانيةً من العام المقبل.
قال أبو حنيفة: وربما اعتاد الحيان مبدأ بعينه، فلا يزال الربيع يجمعهما فيه ثم يصرفهما الصيف ولذلك قال ذو الرمة شعراً:
إذا الصيف قد أجلى نساءً من النوى ... أمِلْت اجتماعَ الحي في عام قابلِ
وقال أيضاً وهو يصف نساء أخرن الظعن عن مرتعهنّ حتى تصيفن:
تصيفن حتى اصفر أقواعُ مطرق ... وهاجت لأعداد المياه الأباعرُ
ولم يبق أنواءُ الثماني بقيةً ... من الرطب إلا بطنُ وادٍ وحاجرُ
فلما رأين الصنع أسعى وأخلقت ... من العقربيات الهيوج الأواخرُ
جذبن الهوى من سقط حوضي بسدفهِ ... على أمر ظعان دعته المحاضرُ
نسب بوارح هذا الزمان إلى سقوط رقيب الهقعة، لذلك قال: الهيوج الأواخر وقد أكثر الشعراء في إشراط هذه الأوقات التي حددناها بما ذكرنا من أوصافها وبينا كثيراً من أحوال الحاضرين والبادين فيها وفي القدر الذي أوردناه كفاية.
البابُ السابع والثلاثون
في ذكر الرواد وحكاياتهم
وهو فصلان
فصل
قال ابن الأعرابي: يقال: ماء مدرع: إذا أكل ما حوله من الكلأ وماء قاصر: إذا كان المال حوله يرعى.(1/186)
وحكى الأصمعي في صفة رائد: هو شديد الناظر سديد الخابر، ينظر بملء عينه لنفسه وغيره. قال: وزعم أبو صالح التميمي أن رجلاً من العرب سأل أعرابيين، فقال: أين مُطرتما؟ قالا: مطرنا بمكان كذا وكذا. قال فماذا أصابكما من المطر؟ قالا: حاجتنا. قال: فما سيل عليكما؟ قالا: ملنا الوادي كذا وكذا فوجدناه مكسراً، وملنا الوادي كذا فوجدناه مشطياً. قال: فما وجدتما أرض بني فلان؟ قالا: وجدناها ممطورةً قد ألس غميرُها وأخوص شجرُها وأخلس نصيصُها، وأليث سخيرها وأحلس حليها ونببت عجلتها. قوله: مكسراً يعني سالت جرفته وشعابه ومعنانه أي جوانبه، ومعنان لا واحد لها من لفظها ومعنى مشطياً سال شاطياه، ومعنى نببت صارت لها أنابيب. وأحلس حليها أي قد خرج فيه خضرة والخضرة الطرية. ويقال: قد أخلس وأليث سخيرها يعني اشتعل ورقاً.
قال: وقيل لآخر: كيف كلأ أرضك؟ قال: أصابتنا ديمة بعد ديمةِ على عهادٍ غير قديمة. فالتاب يشبع قبل العظيمة. وقيل لابنة الحسن: ما أحسن شيء؟ قالت: غادية في اثر سارية في تنجاء قاوية. التنجاء: أرض مرتفعة لأن النبت في أرض مشرف أحسن. وقد قالوا. نفخاء رابية. قال: ليس فيها رمل ولا حجارة. والجميع نفاخى ونبت الرابية أحسن من نبت الأودية. لأن السيل يصرع الشجر فيقذفه بالأودية فيلقي عليها الدمن.
وقالت أيضاً: أحسن شيء سارية في إثر غادية، في روضةٍ أنفٍ ، أكل منها وترك.
وقيل لأعرابي: أي مطر أصابك؟ قال: مطيرة يسيل شعاب السخبر. وتروي التلعة المحلة شعاب السخبر. عرضها ضيق وطولها قدر رمية الحجر. والتلعة المحلة التي تحل بيتاً. وقد حنأت الأرض تحنأ وهي حانية أي اخضرت والتفَّ نبتها وإذا أدبر وتغير نبتها قيل: اصحامَتْ فهي مصحامة.
وقال أبو داود الأعرابي: تركنا بني فلان في ضفيغة من الضفائغ وهي الكلأ والعشب الكثير.
ويقال: وعبنا رقة الطريقة وهي الصليان والنصى. والرقة أول خروج نبتها رطباً. وحكوا عن الينمة أنا الينمة أغبق الصبي قبل العتمة أكب الثمال فوق الأكمة، كهيئة زيد الغنم يقال: ثمال لبنها كثير، وكلما كثرت رغوة اللبن كان أطيب له، يعني دري بعجل للصبي لأن الصبي لأبصر والمراغي أطيب لبناً من المصاريح. والينمة بقلة يشبه الباذروج وقيل لأعرابي: هل لك في البدو؟ فقال: أما ما دام السعدان مستلقياً فلا قال، وهو أبداً مستلق كره البادية.
وعن غير ابن الأعرابي قال: خرج الحجاج إلى ظهرنا هذا فلقي أعراباً وقد انحدروا في طلب الميرة، فقال: كيف تركتم السّماء وراءكم. فقال: متكلمهم: أصابتنا السماء هي بالمثل، مثل القوايم حيث انقطع الرمث يضرب فيه تفتير وهو على ذلك يعضد ويرسغ ثم أصابتنا سماء أمثل منها يسيل الدماث والتّلعة الزهيدة القليلة الأخذ فلما كنا حذاءَ الجفر أصابنا ضرس جود ملا الآخاذ. واحدها أخذ وهي المصانع. فأقبل الحجّاج على زياد بن عمرو العتكي، فقال: ما يقول هذا الأعرابي؟ قال: وما أنا وما يقول إنما أنا صاحب سيف ورمح. قال: بل أنت صاحب مجذافٍ وقلس أسج، فجعل يفحص الثرى ويقول: لقد رأيتني وإن المصعب يعطيني مائة ألف، فها أنا أسبح بين يدي الحجاج.
قال: وسئل أعرابي عن المطر فقال: أصابتنا السماء بدثٍ ، وهو المطر القليل لا يُرضي الحاضر ويؤذي المسافر ثم رككت ثم رسغت ثم أخذنا جار الضّبع فالأرض اليوم لو يقذف بها بضعة لم تقض بترب، أي لم يقع إلا على عشب قضت وأقضت إذا أصابها القضض أي كثر المطر، حتى لم يوجد القضض ورسغت، أي كثر المطر حتى يغيب الرسغ، والرك أكثر من الدث.
وقيل لأعرابي: ما أشد البرد؟ قال: إذا كانت السماء نقيةً والأرض ندية والريح شامية، وقيل لآخر: ما أشد البرد. فقال: إذا صفت الخضراء، وندبت الدقعاء، وهبت الجربياء. وقيل لآخر: ما أشد البرد؟ قال: إذا دمعتِ العينان وقطر المنخران، ولجلج اللسان.
وقال أعرابي: ليس الحياء بالسجيّة يتبع أذناب أعاصير الريح، ولكن كل ليلة مسبل رواقها، منقطع نطاقها، نبيث أذان ضأنها تنطف إلى الصباح.(1/187)
وحُكي عن أبي عبيدة قال: قلت لأعرابي: ما أسح الغيث قال: ما ألقحَته الجنوب ومرته الصبا ونتَجته الشّمال. ثم قال: أهلك والليل ما يرى إلا أنه قد أخذه. وقال الأصمعي: قيل لرجل: كيف وجدت أرض بني فلان؟ قال: وجدتها أرضاً شبعتْ قلوصُها، ونسيت شاتُها يعني لا يذكر. قال: فهل مع ذلك خوصة؟ قال: شيء قليل كل ما خرج عود ثم قوي فهي خوصة. قال والله ما أحمدت وإن كان القوم صالحين.
قال ابن الأعرابي: أخصب الخصب عند العرب فيما ذكره أبو صالح إذا كان الخوص وافراً، وقال رايد مرةً: تركتُ الأرض مخضرةَ كأنما حولانُها قصيصة رقطاً وعرفجة خاصبة، وقنادة مزيدة، وعوسج كأنه النّعام من سواده مزيدة أي قد أورقَتْ.
وحُكي عن أبي المجيب ووصف أيضاً جدبةً فقال: قد اغبرتْ جادتها ودرع مرتعها وقضم شجرها وألقى سرحاها ورقت كربتها وخوّر عظمها وتميز أهلها، ودخل قلوبهم الوهل وأموالهم الهزل. قال: الجادة الطريق إلى الماء. قوله: وألقى سرحاها: هو أن يأكل كل سرح مذيلها، حتى يلتقيا من الجدب، قال: وإذا لم يكن للمالِ مرعى إلا الشجر رقت أكراشه، وخور عظمه. قوله: درع مرتعها: أكل ما عليه حتى لم يبق شيء وهو مأخوذ من الشاة الدرعاء.
وقال أبو المجيب يصف أرضاً قد أحمدها، فقال: خلع شيحها وأبقل رمتها وخضب عرفجها واتسق نبتُها واخْضَرت قرياها وأخوصَت بطنانها،. وأحلت آكامها واعَتمَ نبت جراثيمها وأحزت بقلتها وذرقتها وخبازتها وخورَت خواصر إبلها وشكرت محلوبتها وسمنَتْ قتوبتها وعمد تراها، وعقدت تناهيها، وأماثت ثمادها ووثق الناس بصايرتها.
قوله: خلع شيحاً إذا أورق، والمخالع من العضاة: الذي لا يسقط ورقه أبداً. ويقال: كلح الشجر إذا انحرد. قوله: خضب عرفجها: أي اسود الثبات قبل أن يطلع، والرمث من الحمص مخصب ثم عاد ثم سقد ثم يرمس يقال: أطلع الشجر إذا أورق وتفطر واتقد وأربس وأرمس وأرى العرفجَ وبقل الرمث خاصةَ وأجدر الشجر إذا طلع ثمره حتى كأنَّه الجدري.
قوله: أخوصت: أي نبت فيها عيدان رطبة فهي خوصة ما دامت رطبة فإذا يبست فهي شجر، ولا يخوصُ من الشجر إلا ما لم يكن له شوك. قوله: أحزت لفلتها أي نبتَ فيه الحزا، وهو نبات يُسمى الحزا كما تقول العلقة والحيلة والفتلة فالحيلة للسلم والعلقة للطلح والفتلة للسّمر والذرق الحندفوق. قوله: خورَت خواصرُها: هو أنْ يُؤخذ جنبها فيضرب على خواصرها خوف أن يحبط فيبعد أفقها والأفق الخواصر. قوله: عمد ثراها العمد أن يجاوز الثّرى المنكب.
ويقال: إنَ ذلك حيا سنتين. قوله: عقدت تناهيها: فالتناهي حيث يتناهي السيل فيستقر فعقدها أن يمر السيل مقبلاً حتى إذا انتهى منتهاه. دار بالأبطح حتى تلتقي طرفا السيل، ووثقوا بصائرتها: يراد بها ماؤها وكلأؤها.
وقال الأصمعي: وصفَ بعض الأعراب جدباً وعيشاً، فقال: بينما نحن في زمن أعجف وأرض عجفاء وقف غليظ وجادة مدرعة إذ أنشأ الله سحاباً مستكفاً نشوءه ضخاما قطره، مسبلةً عزاليه جعود صوبه فاهر مع المطر حتى ملأ الأودية، فرعبها وبلغ السيل النجاء حتى لم ير إلا الماء. وصهوات الطلح فلم يمكث إلا عَشراً حتى رأيتها يندى فنعش الله به أموالنا، ووصل به طرقنا وكنا بنوطة بعيدة بين الأرجاء. قوله: الجادة: يعني الطريق إلى الماء ومستكفاً أي مستديراً. ونشوؤه ما نشأ إليه. وعزاليه أفواه مخارجه. وصَوبه ما سال منه وانصب. واهرمع اشتد. ورعبها ملؤها. والنجاء جمع نجوة وهو الموضع المرتفع لا يكاد يبلغه السيل. والصهوات عالي الطلح. والنوطة البعد. والأرجاء: النواحي.
وقال ابن الأعرابي: بعث قوم رائداً لهم فقالوا: ما رأيت؟ قال: رأيت جراداً كأنه نعامة جاثمة، جراد جبل. قوله: نعامة جاثمة يقول: فيه من الخصب والعشب الكثير حتى كأنه نعامة، وإنما أراد سواد العشب وأعلى النّعامة أسود. وبعث آخرون رائداً لهم فقالوا: ما رأيت. قال: رأيت عشباً ينجع له كبد المصرم إذا رأى هذا، وجعت له يعني أنه لا مال له أي إبلاً ترعى هذا العشب حسرةً على ما رأى. ويقولون: وردنا على كلأ الحابس فيه كالمرسل يعني يستويان فيه لكثرته والتفافه. ويقولون: ورَدنا على كلأ لا يكتمه البغيض. وقال طرفة:
يرعينَ وَسميا وصى نبتُه ... فانطَلقَ اللون وَدق الكشوحُ
وصى نبته اتصل واكتهل. وأنشد أبو العباس ثعلب شعراً:(1/188)
دفاء عليه الليث أفلاذ كبده ... وكهله قلد من البطن مردمُ
يريد أنه مطر بنوء الأسد، ومن نجوم الأسد النثرة والجهة ونوؤهما غزير تسقط النثرة لاثنين وعشرين تخلو من كانون الثاني، وتسقط الجبهة في ثماني عشرة تخلو من شباط. والقلد النوبة يقال: القوم يتقالدون الماء أي يتصافيونه ويقتسمونه. قال: والماء لا قسم ولا أفلاذ.
فصل
في ذكر مواقعهم ومسارحهم
قال النَبي صلى الله عليه وسلم لأصَيل الخزاعي حين قدم عليه المدينة: كيفَ تركت مكة يا أصيل؟ قال: تركتها وقد أحجن تمامها، وأغدق أذخرها، وأمشر سلمها، فقال: يا أصيل دع القلوب تقر). وروي أنه لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب القوم وعك فدخل عليه السلام على أبي بكر رضي الله عنه فقال: كيف تجدك فقال شعراً:
كل امْرِئ مصبحٌ في أهله ... والموتُ أعنى من شراك نعلِهِ
ثم دخل على عامر بن فهيرة فقال: كيف تجدك فقال شعراً:
وجَدْتُ طَعَم الموتِ قبلَ ذوقِهِ ... إن الجبانَ حَتْفُه مِن فوقِهِ
والثور يحمي أنفَه بِروقه
ثم دخل على بلال رضي الله عنه فقال: كيف تجدك فقال شعراً:
ألا ليتَ شعري هَلْ أبيتَنَّ ليلةً ... بفج وحولي أذخر وجليلُ
وهَل أرِدَنْ يوماً مياه مَجَنةٍ ... وهل يبدونَ لي شامة وطفيلُ
فقال صلى الله عليه وسلم: )طرب القوم إلى بلادهم: اللهم حبب إلينا المدينة كما حببتَ إلينا مكة) وقال الراجز: جاء بنو عمك رواد الأنق. وقال رؤبة من طول بعد الربيع في الأنق. وقال بعض الرواد وسئل عما وراءه فقال: هلم أظعنكم إلى محل تطفأ فيه النيران، يعني لا يوجد عود يابس يوقد عليه. وقيل لأعرابي: كيف كان المطر عندكم؟ فقال: مطرنا بعراقي الدلو وهمي ملي.
وقال أبو زياد: بعث شيخ أبنين له يرتادان، فانصرف إليه أحدهما فقال الشيخ: خل على ما وجدتَ، فقال: ثاد ماد، مولى عهد، يشبع منه الناب، وهي تعدو أقفر، يعني مكاكية فَلَبِثَ ولم يظعن، حتى أتاه الآخر فقال: كيف وجدتَ الحياء؟ قال حياء ماذا؟ قال: العام وعام مقبل؟ فقال له الشيخ: خَل على ما وجدت. قال: وجدت بقلاً وبقيلاً وسبلاً وسبيلاً، خوصه مثل الليل، قد دب ما تحث هنها كم السيل قال: هل به أحد؟ قال: نعم به بنو الرّجل لا يوجد أثرهم.
قال أبو زيد: بقلاً أي وسمياً كان مطره قبل الشتاء. وبقيلاً كان مطره بعد ذلك. وسبلاً كان من الوسمي. وسَبيلاً كان بعد ذلك وهو الذي نبت منه البقيل، قال: وعنى بالخوصة العرفج والثمام والسبط وما كان في أصل، قال: فلم يشك بنوه أن الشيخ ظاعن إلى ما أخبر به ابنُه الأول، فلما أصبح تحمل جهة ما أخبر به الأخير ابنه، ففزع بنوه وقالوا: اهتز الشيخ فقالوا: تذهب إلى أرض بها النّاس وتدع أرضاً قفراً لا يرعاها أحد معك؟ قال: أن تلك طغوة لا وأخيك وقد وجد أخوكم هذا الأخير حياء العام وعام مقبل ما يبقى من هذا العام، قال: فمضى واتبعوه قوله: يشبع منه الناب وهي تعدو، ويعني لطوله واتصاله لا تحتاج أن تقف عليه ولا أن تتبعه. قال: وقال رائد مرة، تركت الأرض مخضرةً كأنها حولاء بها بصيصة رقطاً، وعرفجة خاصبة، وعوسج كأنه النعام من سواد، وهذا كما قال الآخر: وجدت جراداً كأنه نعامة باركة، يريد كثرة العشب وسواده وشدة الخضرة سواده، قال: وسأل أبو زياد الكلابي صقيلاً العقيلي حين قدم من البادية عن طريقه، فقال: انصرفت من الحج فأصعدت إلى الرّبذة في مقاط الحرة، فوجدت بها صلالاً من الربع من خضمة وصليان وقرمل حتى لو شئت لأنختُ الإبل في أزراء القفعاء، فلم أزل في مرعى لا أحس منه شيئاً حتى بلغت أهلي. الصلال: أمطار متفرقة. والقفعاء نبت من الذّكور يقول: أخصبت حتى صارت تستر البعير البارك.(1/189)
وقال آخر: رأيت ببطن فلجٍ منظراً من الكلأ لا أنساه، وجدت الصفراء والخزامى يضربان نحر الإبل، وتحتها قفعاء، وحريث قد أطاع وأمسك بأفواه الإبل أغناها عن كل شيء وإذا نقع الجوذان في الاجارع فذلك غاية ري الأرض لأن الإجارع أشْرَبُ للماء، وإذا نقع الماء في الإجارع غرقت الأجالد، وقال ابن كناسة: بعث قوم رائداً فقيل: ما وراءك. فقال: عشب وتعاشيب وكماة متفرقةً شيب تندسها بأخفافها النيب، فقيل: هذا كذب. فأرسلوا آخر، فقالوا: ما وراءك؟ فقال: عشب ثاد ماد، مولى عهد، متدارك جعد، كأفخاذ نساء بني سعد، تشبع منها الناب وهي تعدو. وقد مضى تفسير ما فيه من الغريب.
وبعث رجل بنين له يرتادون في خصب فقال أحدهم: رأيت ماءً غللاً يسيل سيلاً وخوصه يميل ميلاً، يحسبها الرائد ليلاً. وقال الثاني: وجدت ديمةً على ديمةٍ في عهادٍ في قديمة، يشبع منها النّاب قبل العظيمة. الغلل: الماء يجري في أصول الشجر. وقال بعضهم: إذا أحيي الناس قيل: قد أكلأت الأرض، واجرَنْفَشَت العنز لأختها، ولحسَ الكلب الوضر اجرنفاشها، آزييرارها، وزفيانها في أحد شِقيها لتنطح صاحبتها، وإنما ذلك من الأشر حين سمنت فأخضبت. ولحسس الكلب: يعني أنه يجد وضراً ويلحسه، وإذا كانوا مجدبين لم يتركوا للكلب شيئاً. وقيل لرجل منهم: ما أخصب ما رأيت البادية. قال: رأب الكلب يمر بالخصفة عليها الخلاصة فيشمها ويتركها. وقال أعرابي: وقد قيل له: ما تركت وراءك؟ قال: خلفتُ الضأن تظالم معزاها، يعني أنّها لنشاطها تنطح بعضها بعضاً.
وقال أبو زياد: بعث قوم رائداً لهم، فلمّا رجع إليهم قالوا له: ما وراءك؟ قال: رأيت بقلاً يشبع منها الجمل البروك، وتشكت منه النساء وَهم الرجل بأخيه. قال أبو زياد: لم يطل العُشب بعد، فإذا أقام البَعيرُ قائماً لم يتمكن منه.
وتشكت النساء اتخذن الشكاء الصغار، لأن اللبن لم يكثر بعد. وقوله: وهَم الرجل بأخيه: أي هَم أن يدعوه إلى منزله، ولم يتسع له، ويحتمل من التفسير وجهاً آخر، وهو أن الجمل إذا برك شبع مما حوله من مبركه ولم يحتج إلى أكثر منه. وقوله: وَهَم الرجل بأخيه: يجوز أن يكون مثل قوله شعراً:
وأحياناً على بكرٍ أخينا ... إذا ما لم نَجِد إلا أخانا
ومثل قوله: يا بن هشام، أهلك الناس اللبن، لأن الجدب يشغلهم عن طلب الطوائل، وفي الخصب يتفرغون للضغائن. ومثل قوله شعراً:
ثعالبُ في السنين محصصات ... وأسنا حين يَمتلِئ الوطابُ
ومثل قوله:
قوم إذا اخْضَرت نِعالُهم ... يتناهقونَ تناهُقَ الحمُرِ
وقيل في تشكي النساء ما رواه الشعبي عن برد وردوا على الحجاج وهو حاضر.
رواه عنه أبو بكر الهذلي قال: جاءه الحاجب فقال: إن بالباب رسلاً، فقال: ائذن لهم، فدخلوا وعمائمهم في أوساطهم، وسيوفهم على عواتقهم، وكتبهم بأيمانهم، قال: فتقدم رجل من سليم يقال له سيابة بن عاصم فقال الحجاج له: مِن أين أقبلت؟ قال: أقبلت من الشام. قال: هل كان وراءك من غيث؟ قال: نعم أصابتني ثلاث سحائب فيما بيني وبين أمير المؤمنين، قال: فانعتهُنَّ لي، قال: أصابتني سحابة بجودان فوقع قطر صغار وقطر كبار، فكأن الصغار لحمة الكبار ووقع بسيط متدارك وهو السح الذي سمعت به، فرَادٍ سائح، ووادٍ بارح، وأرض مقبلة، وأرض محبرة أي أخذ السيل في كل وجهٍ ، وأصابتنا سحابة بسواء، فلبدت الدمات وأسالت الغراز، وأدحضت التلاع وصدعت عن الكماة أمكنها. وأصابتني سحابة بالقريتين، فقاءت الأرض بعد الري وامتلأت الآخاذ وأنعمت الأودية وجئتك في مثل مجر الضبع.
ثم قال: ائذن فدخل رجل من بني أسد، فقال: هل كان وراءك من غيث؟ فقال: لا، كثُرت الأعاصير، واغبرت البلاد، وأكل ما أشرف من الجنبة، فاستيقنا أنه عام سنة، فقال: بئس المخبر أنتَ، قال: خبرتُك بما كان.(1/190)
ثم قال: ائذن فدخل رجل من أهل اليمامة فقال: هل كان وراءك؟ قال: نعم سمعت الرواد تدعو إلى ريادته، وسمعت قائلاً يقول: هلم أظعنكم إلى محلة تُطفأ فيها النيران وتشكى منها النساء، وتنافس فيها المِعزى. قال الشّعبي فلم يدر الحجّاج ما يقول: فقال: إنما تحدث أهل الشام فأفهمهم، قال: نعم أصلح الله الأمير أخصبَ النّاس فكان السمن والزبد واللبن فلا توقَدُ نار يختبر بها. فأما تشكي النساء فيحتمل وجهاً آخر من التفسير سوى ما تقدم، وهو أن المرأة تظل ترتقُ بهمها وتمخض لبنها، فتبيتُ ولها أنين من التَّعب، ويكون التشكي من الشكوى لا مِنَ الشكوة.
وحكى أبو عبد الله قال: قدم رجل من سفر كان فيه، فقالت له ابنته: كيف كنتَ في سفرك؟ فقاله: تقسمتني الأداوي والنجم، قال: يعني بالنجم طلب الهداية بالليل أن لا يضل. والأداوي يريد أن ينظر كم فيها من الماء أقليل أم كثير يشكو جزعه واهتمامه وخوفه من المتالف، وأنشد للمرار بن سعيد شعراً:
له نظرتان فمرفوعة ... وأخرى تأملُ ما في السقاء
قوله: مرفوعة أي ينظر إلى السماء يسأل ربه النجاة، وأخرى إلى السقاء هل فيه ما يبلغه إلى الماء. ولقي أعرابي آخر فسأله عن المطر فقال: أصابتْنا أمطار غزيرة واشتد لنا ما استرخى من الأرض، واسترخى لنا ما اشتد من السماء، أي استرخى لنا جلد السّماء، واشتد الرمل الذي ندي، وهذا مثل قول العجَاج شعراً:
عزز منها وهي ذات إسهال ... ضرب سوارى ديمةٍ وتهطال
وقال أعرابي ونظر إلى السَّماء فوجدها مخيلة: هذا صيب لا يؤْمَنُ معه الدوافع أن تدرأ عليكم بسيولها فتَحولوا بأخبيتكم، ولن تنجوا من الموت، وأنشدني بعضهم للكُميت في المخيلة شعراً:
فإياكم واداهية ناد ... أظلتكم بعارضِها المخيلُ
البابُ الثامن والثلاثون
في ذكر الوّراد
ومَنْ جرى مجراهم من الوفود
قال: العريجاء أق ترد غدوة وتصدر عن الماء فيكون سائر يومها في الكلأ وليلتها ويومها من غدها، ثم ترد ليلاً ثم تصدر عن الماء، ويكون بقية ليلتها في الكلأ ويومها من الغد وليلتها ثم يصبح الماء غدوةً، فهذه العريجاء، وهي من باب صفات الرفه. وفي الرفه ظّاهرة والضاحية والآئبة والعُريجاء وظاهرة الغب، وهي للغنم لا تكاد تكون للإبل، والظاهر أن ترد كل يوم ضحوةً والآئبة أن ترد كل ليلة، وظاهرة الغب أقصر من الغب قليلاً، وقال: أقصى ظمأ الغنم في الشتاء سدس، وفي الصيف ترد كل يوم، والإبل أقصى ظمئها ثلاثة أعشار في غير الجزء، والجزء أن يكتفوا بالرطب عن الماء، وأقصى ظمأ الحمار الأهلي غب في الشتاء والرفه أن يرد كلما أراد وأقل ظمأ الإبل الغب، وكل هذا حكاه ابن الأعرابي.
قال: ودخل رؤبة على سليمان بن علي فقال: ما بقي من باتك؟ فقال: إني لأظمي فأورد فأقصب، قال: أقصَبَ الرجل: إذا أوردَ فلم يشرب إبله إلا شرباً ضعيفاً وقصبَت هي. ودخل عليه مرةً أخرى، فقال: ما عندك؟ فقال: يمتد فلا يشتد، فإذا كرهته يرتد، فقال: إني لأجد ذلك.(1/191)
وحكى غير واحد من الرواة أنَّه لما ورَدت وفود العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قام طهفة بن أبي زهير، فقال: أتيناك يا رسول الله من غور تهامة بأكوار الميس، ترتمي بنا العيس، نستحلب الصَبير، ونستخلب الخبير ونستعضد البرير، ونستخيل الرهام، ونستجيل الجهام، من أرض غائلة النطأ، غليظة الموطأ قد نشف الدهن، ويبس الجعتن، وسقط الأملوج، وماد العسلوج وهلك الهَدي، ومات الودي، بَرِئنا يا رسول الله من الوثن والعنَن، وما يحدث الزّمن لنا دعوة السلام، وشريعة الإسلام ما طما البحر، وقام تعار، ولنا نِعمَ هملْ إغفال، ما تبض ببلالَ ووقير كثير الرسل، قليل الرسل، أصابتها سنة حمراء موزلة ليس لها علل ولا نهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )اللهم بارِك لها في محضها ومخضها ومذقها، وابعث راعيها في الدثر يبالغ الثمر، وبارك له في المال والولد من أقام الصلوة كان مسلماً، ومَن آتى الزكوة كان محسناً، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصاً لكم، يا بني نهد ودائع الشرك ووضائع الملك، لا تلطط في الزكوة ولا تلحد في الحياة، ولا تثاقل في الصلوة.) وكتب معهم كتاباً إلى بني نهد: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمدٍ رسول الله إلى بني نهد بن زيد: السلام على من آمن بالله ورسوله لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة، ولكم القارض والفريش وذو العنان الركوب والفلو الضبيس، لا يمنع سرحكم ولا يعضد طلحكم، ولا يحبس دركم ما لم تضمروا الآماق، وتأكلوا الرباق، مَن أقَر بما في هذا الكتاب فله من رسول الله الوفاء والعهد والذمة، وعَن أبى فعليه الرّبوة.
تفسيره قوله: نستحلب الصبير: يريد الغيم الأبيض المتراكم أي نتطلب منه الغيث ونستخلب الخير: أي نحصده والخلب القطع ومنه المخلب والخبير: النبات، ومنه المخابرة في الزراعة، ومعنى نستخيل الرهام: أي الأمطار والواحدة الرهمة ونستخيل من قولك سحابة مخيلة وخيلت وتخيلت ومعنى: نستجيل الجهام أي نجده جائلاً في الأفق، والجهام السحاب الذي قد أراق ماءه.
قال الهذلي: ثلاثاً فلما استجيل الجهام واستجمع الطفل منه رشوحاً. ويروى نستحيل بالحاء، ويكون من استحلت الشخص: إذا نظرت إليه هل يتحرك. وقوله: من أرض غائلة النطا يريد من أرضٍ مغنية البعد، أي من ركبها أهلكته، يقال: غالته غول والنطاء البعد قال، وبلدة يناطها نطي. وقوله: نشف المدهن أي انتشف القارات ما تقع فيها عن ماء المطر، وقوله ويبس الجعثن يعني أصول النبات.
ويقال: جعثنه أيضاً وجمعها جعاث. وقوله: وسقط الأملوج، الأملوج ورق لبعض الأشجار مقتول كالعبل. وقوله: وماد العسلوج أي مالت الأغصان وأنبثت. ويقال: عسلوج وعسلج قال: أنبتَ الصيف عساليج الخضر.
وقوله: هلك الهدي يراد به الإبل وأصله فيما يهدى من القرابين، وفي القرآن: )حتّى يبلغَ الهَديُ مَحله) سورة البقرة، الآية: 196، والهدي.
وقوله: وملت الودي يراد به فَسيل النخل.
وقوله: من الوثن والعنن، فالعنن الاعتراض والمخالفة، يريد برئنا إليك من المشافة وكل معبود من دون الله. وقام تعار: اسم جبل يريد الأبد.
وقوله: نعم إغفال أي لا ألبان لها. والغفل الذي لا سمة له.
وقوله: ما تنبِض ببلال: أي لا تنطف ضروعها بما يبتل.
وقوله: وقير كثير الرسل. فالرسل اللبن، وإنما وصف السّنة بالحمرة للجدب الشّامل لذلك. قال: إذا احمر آفاق السماء من الفرس.
ويقال: جوع أغبر وموت أحمر. وقوله: موزلة من الأزل وهو الضيق. ويقال: أزل أي صار في أزل، كما تقول أسهل وأحزن. والدثر: المال الكثير.
وقوله: ودائع الشّرك ووضائع الملك. الوديع: العهد. يقال: توادع الجيش إذا عاهد كل واحدٍ منهما صاحبه أن لا يرى له إلا ما يراه لنفسه، فكان بينهما تشارك ولا عرو بينهما ولا شر. ويقال: أعطيته وديعاً أي عهداً. والوضائع جمع الوضيعة: وهي ما وضع على المسلمين في أموالهم وأملاكهم. والمعنى: أنهم يساوون المسلمين فيما يلزمون لا زيادة عليهم ولا عتب، متى لم يَلِطوا الحق أو لم يلحدوا في حياتهم عن واجب، ولم يتثاقلوا فيما اشترع من فرائض الدين. والإلطاط: المنع ويقال: لط وألط بمعنى. والإلحاد: العدول. وقوله: لكم في الوظيفة الفريضة، فالفريضة الهَرِمة، وكذلك الفارض والمعنى: لا يُعَد عليكم في الصدقة مثله.(1/192)
وكذلك العارض: هي الكبير وذات الآفة، من كلامهم: بنو فلان أكالون للعوارض.
والفريش من الخيل: التي وضعتْ حديثاً فهي كالنفساء من الناس والركوب الذلول والفلو الضييس: الصّعب، وهذا كما روي: )عفونا لكم عن صدقة الخيل).
وقوله لا يمنع سرحكم: يريد ما تسرحونه في مراعيكم لا تمنعون منها ولا تزاحمون فيها. ولا يعضد أي لا يقطع.
وقوله: يمنع دركم هو على حذف المضاف أي ذوات الدراي لا يمنع من الرعي، ويحشر أي إلى المصدق. والأماق العَتَه والغِل، يُقال في فلان ماقة.
وقوله: وتكلوا الرباق: يعني العهود التي صارت كالأرباق في الأعناق.
وقوله صلى الله عليه وسلم: )من أبى فعليه الربوة) أي: الزّيادة، يريد أن الخارج من الطاعة يتضاعف عليه ما يلزمه، وهذا كما روي عنه صلى الله عليه وسلم وقد قيل له: إن فلاناً قد منع الصدقة، فقال: عليه ومثلها.
حديث قيلة: روت قيلة: قالت وردتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فصليت معه الغداة إذا حتى طلعت الشمس دنوتُ وكنتُ إذا رأيت رجلاً ذا رواء، وذا قشر طمح بصري إليه، فجاء رجل فقال: السلام عليكِ يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )وعليك السلام(، وهو قاعد القرفصاء، وعليه أسمال مليتين، ومعه عسيب نخل مقشو غير خوصتين من أعلاه، قالت: فتقدم صاحبي فبايعه على الإسلام ثم قال له: يا رسول الله اكتُب لي بالدهناء، فقال: )يا غلام اكتب له) قالت: فشخص بي وكانت وطني وداري، فقلت: يا وسول الله الدهناء مقيد الجمل، ومرعى الغنم، وهذه نساء بني تميم وراء ذلك فقال: )صدقت المسكينة المسلم أخو المسلم بينهما الماء والشجر، ويتعاونان على الفتان). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )أيلامُ ابن هذه أن يفصل الخطة وينتصر من وراء الحجرة). يقال شخص بفلان: إذا أتى ما يقلقله ويحره.
والفتان جمع فاتن وهم الشياطين يفتنون ويفتح فاؤه فيقال: فتان، على المبالغة والرواء: المنظر، والقشر: اللباس، والقرفصاء: جلسة المحتبي، والعسيب: جريد النخل والمقشو: المقشور.
ومما روي من أخبار الوفود أن معاوية بن ثور وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن مائة سنة، ومعه ابنه بشر، فقال معاوية للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أتبرك بمسك وقد كبرت وابني هذا بربي فامسح وجهه، فمسح صلى الله عليه وسلم وجه بشر، وأعطاه أعنزاً عفراً، وبرك عليهم، قالوا: وكانت السنة ربما أصابت بني البكاء ولا يصيبهم فقال محمد بن بشر شعراً:
وأبي الذي مسحَ النبي برأسِه ... ودعا له بالخيرِ والبَرَكات
أعطاهُ أحمدُ إذ أتاهُ أعنزاً ... عفراً نواحلَ لسنَ باللجبات،
يملأنَ رفدَ الحي كل عشية ... ويعود ذاك المُلءُ بالغَدوات
بوركنَ من مِنَحٍ وبوركَ مانحاً ... وعليه مني ما حييتُ صَلاتي
وهنا باب له جوانب، ووراد العرب مختلفة الطرق، فمنهم من قال:
ولقد وردت الماءَ لونَ حمامة ... لون الفريقةِ صفيت للمدنَفِ
فصدرتُ عنه طامياً وتركتُه ... يهتزُ علفَته كأنْ لم يُقشَفِ
وقال آخر:
وماء قد وردتُ أميمَ طام ... على أرجائِهِ زجلُ القِطاط
فبت أنهتِهُ السرحانَ عنهُ ... كلانا واردُ حرانَ ساطِ
وقال لبيد:
فوردنا قبلَ فراطِ القَطا ... إن مِن وِردي تغليس النهل
طامي العرمض لا عهد له ... بأنيس بعد حولٍ قد كمل
فَهرقْنا لهما في داثرٍ ... لِضواحيه نشيش بالبلل
وقال العجاج:
وردته قبلَ الذباب العسال ... وقبل إرسال قطا فإرسال
بالقوم عبداً والمطي الكلالِ
وقال امرؤ القيس:
فأوردها من آخر الليل مَشرَباً ... بلالقَ خضراً ماؤُهُن قليصُ
يعني: عِيراً وأتناً، فرئما قصدوا التحج بركوب الفلوات التي لم تسلك، والمياه التي لم تورد أبعاداً في الغزو، واقتحاماً على المهالك. وربما ذكروا التوحش ومجاورة الوحوش ذلك قال الشنفري:
طريد خبايات تياسَرْن لحمه ... عقيرته لا بأيماحن أول
بجناياته في القبائل حتى أسلمه ذووه وتبرؤوا من موالاته.
وقال:(1/193)
ويشرب أسارى القط الكدر بعدما ... سرت قربا أحياؤها يتصلصَلُ
وربما قصدوا الافتخار فيه بورود أبواب الملوك ومنافرة الخصوم بها والسعي في حفل الدّيات وإصلاح ما بين العشائر. وجعل المياه فراطة لهم لسبقهم كل الإغراء إليها يدل على هذا قوله:
ولا يردن الماء إلا عشية ... إذا صدر الوارد عن كل منهل
وذكر بعضهم هذا فقال: خير الورد ما كان أول النهار وشره ورد العشي حتى أنهم يتعايرون به، وذكر البيت وخالفه آخر فقال: خير الوِرد ما رافق الحاجة ثم أنشد:
أوردها مهجراً يسار ... يسار لا يروي يدا العشار
ليس بإيراد العشي عارُ
قال أبو عبد الله: والذي بسط له النبي صلى الله عليه وسلم رداءه أشج عبد القيس واسمه عائذ بن عمرو، وقال له: )فيك خصلتان يحبهما الله: الحلم والأناءة) قال: هما فيَ أو شيء جبلني الله عليه، فقال: )جبلك الله عليه) فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما أحب أو نحو ذلك. وحكى هشام عن أبيه أنه أخبره رجل من رحبة حمير قال: كنت في جمة فبينا نسير في بعض مفاوز اليمن فأضلّلهم بعارض عرض وقد سرت ثلاثاً لا أرى أنيساً إذ دفعتُ إلى شجر وظل وماءً معين. وقد ظمئت وأكللتُ فإذا أنا بشيخٍ له غديرتان بيضاوان كأنهما ينطفان بالدهان، وعليه حلة كأنّها فارقت من يومها الصبيان، وبين يديه بغلان حضر ميتان كأنْ لم تنالا بوطء، وهو قائم يصلي بقراب ما بين شجرات عم، فدنوتُ وسلمْت، وإن رأسه ليحاذي قمة رأسي وإنّي لعلى نجيب ساف عليك. ثم أنختُ وشربتُ من الماء وسقيتُ بعيري وجلست وراءهما، فلما أحس بجلوسي ركع وسجد ثم رد عليَ سلامي.
ثم قال: مِن أين وضح الراكب. فقلت: من رمع فقال: ما بالك على غير سمت؟ فقلت: ما زلتُ على لقم بهجم أؤم أطرافَ قوادم الفجر الأشمل، ومنكب الأريب الأيمن حتى هبطتُ بالأمس غوطاً ملطاطاً، حين طفلَ الأصيل فبثُ حيثُ طخطخَ اللّيل بصري، فلما تَهور اللّيل شبه لي ثائبة رعاء فثاء ذلك عني بعض ما كان يشيزني، ثم ثبت فحله أن قد استثبت فقمت إلى بعيري فغيرت عليه.
ثم ركبتُ أؤم الأصوات وكأنني في أكساء أهلها، وما يزداد إلا بعداً فتفزع عنّي سربال اللّيل، بين نعاف متواصية، فزلت أخبطها سحابة يومي متوسماً تارةً ومتعسفاً أخرى، حتى رفع لي هذا السّواد، حينه نجهت من نقب، ذلك القف فرمته حتى أضافني إليك هذا الضوح، فقال: حسبُك بواقيه الموقى جنه ولو كنت ذا خبر تكنه، خطر ما هجمتَ عليه ما رأيت للنوم سميراً، فقابل النعمة بالسلام بشكرها، فقال: يا بن أخي السماء غطاء، والأرض وطاء. وأما موطن وراء هذا الضراء فقد أخذَتْني منه وحشة، وقلت: يا عمي هل أنت بمخبري عما رأيت من عجائب الدهر في مدة أيامك؟ فقال: نعم أرأيت النّعاف المتقابلات والغطان المتواصيات اللّواتي جرعتهن سائر اليوم؟ قلت: نعم. قال: هل أحسسْتَ هنالك رسماً واضحاً، وأثراً ماضحاً؟ قلت: لا. قال: والله يا بن أخي لقد عهدت بتلك البيضة الفيحاء مجادل كالشناخيب مشرفات المحاريب، يرى الراكب شعافها من منزلة ثلاث محفوفة بالجحافل الململمة، والكتائب المسومة، ينم على أبوابها الأحبوش، وتهز الآل ينم الأسد على الأشبال، وتحوص لربها الآمال، في الأموال، فتأذى ثات، وماذ وثات الأسد للضرغام، الأبلح القمقام الملك الهمام، يخضع لبيته الأذقان، وتذعر لهيبته الجنان، عطاؤه غمر، وأخذه قهر، وسلامه إنعام، ومحاله اصطلام، عمل بذلك سجعين خريفاً، وأعيَنُ الحوادثِ عنه مُغضِية، ثم شصاءه إليه يوم من الدهر، كدر المعاش، وبدد شمل الرياش، ثم اقتعد مطيُ تلك النعمة، ذو هلاهلة تقمع الأضداد، وغمر الأنداد، وأنشأ المصانع وبث الصنائع، فغيَر بذلك أربعين حجة وسبعاً، لا تروعه حادثة ولا يعتن له عاتنة، ولا تعرض له هاتنة.
ثم كَشرتُ له عن أنيابها أم اللميم، فرمته بأقصَدِ سهامها، ورهقهتم بأفظع أيامها فحطتهم عن وثابه، دون حجابه، ومصارع أبوابه، ولم يمنعه العز الصم، ولا العدير الدهم، ثم سحب والله الزمان على آثارهم ذيول البلاء، وطحنهم بِكلاكِل الفناء فأصبحتِ الآثار بائدةً والعزة هامدةً وفي ذلك يقول شاعر من غابرهم:
خُلِقَ الناسُ سُوقةً وعبيدا ... وخُلقنا الملوكَ والأربابا(1/194)
كان ذو ثلت الهُمام ربيعاً ... يحسبُ الناسَ سيبُه أحسابا
وطئ الأرضَ بالجنود اقتِدارا ... واقتِساراً حتى أذَل الصعابا
حوله الصهبُ والجعاد يخالونَ لدى بابِه الليوثَ الغضابا
وتغض العيونُ من دونه الأملاك ما يدا وتحنو الرقابا
فرماني الزمان منه بيوم ... غادر المعمر الخصيب يبابا
فكأن الجموع والعدد الدهم ... وذاك النعيم كان ترابا
ثم قال لي: عليك تلك الثنية فأسند فيها، فإذا فرعتها فمثلت لك الخورمات على المازم، فتنكبها ذات اليمين، فهناك الطريق ثم غاب عني فلم أره بعد.
تفسيرُ الألفاظ الغريبة
الماء المعين الظاهر وينتعان: يقطران. ويقال: وضح الراكب: وأوضح أي طلع، واللهجم: البين، واللقم: الطريق، والأريب: ريح تهب متنكبة بين الصبا والجنوب، فإذا هبت من تحت مطلع سهيل فهي الجنوب الخالصة. وقوله: قوادم الفجر: يعني جناحه، والغوط للملطاط ما اعترض منه الأرض في الغائط وحجب ما وراءه، وطفل الأصيل: أي أقبلت في الظلمة، وطخطخ الليل بصري: أي سَتَرتِ الظلمة عيني، تهور الليل أدبر، والثائبة: الزحر، فثاء سكن، تشيزني تقلقني، والإكساء الماخير الواحد كسوء، والمتواصية: المتواصلة. نجهت: بدوت، النقب: الطريق الضيق، الضوح منعطف الوادي، الأثر الماصح: الدارس، البيضة الفيحاء: الأرض الملساء، والشناخيب أعالي الجبال، الواحد شنخوب. المحاريب: الغرف بلغة حِمير وغيرهم، ذوثات: قيل من أقيال حمير دون الملك المتوج. قوله: وسلامه إنعام، يريد أنه يسالم منعماً لا مضطراً والمحال: الكيد والعقوبة، يقال: شصا بصره: أي شخص، وشصا برجله دفعه والرياش: الهيئة، وثروة لا يعتن: لا يعترض. الهايثة: الداهية وكذلك: أم التميم الوثابة السرير بلغة حمير، الصم: الشديد الثابت.
قال الأصمعي: كانت حمير تسمي الملك إذا لم يغز موثبان قال: وكانت ملوك حمير قد رتبوا المملكة أن يختار الملك ثمانية من أبناء الملوك، يسميهم المثامنة يخدمونه فإذا مات الملك انتخب أهل المملكة من المثامنة رجلاً إن لم يكن له ابن أو ابن أخ، ثم أخذ من الأقيال رجل يجعلونه بدل ذلك من المثامنة لتمام الثمانية وأخذ من أهل البيت رجل فجعل قيلاً. والأقيال: ثمانون رجلاً، وأهل البيت أكثر من أن يحصوا، والخورمات: ثنايا الجبال، والمآزم المضائق.
الباب التّاسع والثلاثون
في السير والنعاس والميح
والاستقاء وورود المياه
قال لبيد شعراً:
ومجودٍ صن صبابات الكَدى ... عاطف النمرق صدق المُبتَذِل
قال: هجدنا فقد طال السرى ... وقدرنا إن خنا العيشُ غَفَلْ
قل ما عرس حتى هجتَه ... بالتباشير من الصبح الأول
يلمس الأحلاس في منزله ... بيديه كاليهودي المصل
يتمارى في الذي قلت له ... ولقد يسمع قولي حين هل
المجود: أصله الذي قد مطر جوداً وجعله عاطف النمرق لانثنانه في النّعاس وتمايل، ومعنى صدق المبتذل: إذا أبتذل نفسه للعمل كان صلباً، ومعنى هجمنا: نومنا يريد أنَّ السير قد امتد واتصل وأنهم مالكون لورود المقصد إن سلموا من آفات العيش، وجعله لامساً لحلسه كاليهودي في صلوته لزوال تماسكه، وغلبة التوابد قوله: يتمارى يبين به زوال تحصيله فهو شاكٍ فيما يدركه بسمعه وإن كان مميز الماء يخاطب به أبا حية النميري:
وأغيدَ من طول السرى برحَتْ به ... أفانينُ مضاء على الأس مرجم
سريتُ به حتى إذا ما تمزقت ... توالى الدجى عن واضح اللون معلم
أنخنا فلما أفرغت في لسانه ... وعينيه كأسُ السحر قلت له قم
يود بوسطى الخمس منه لو أننا ... رحَلنا وقلنا في المناخ له نم
حظاء الكره مغلوباً كأن لسانه ... بمارِد من رجع لسان مرسم
ذكر ابن الأعرابي أن عقيل بن علقة خرج في صفرٍ ومعه ابنه عملس وابنته الحرباء فقال شعراً:
قضت وطراً من دير أروى وربما ... على عجل ناطحته بالجماجِمِ
فقال لابنه: أجز، فقال:
أصبحن بالموماة يحملْن فينةً ... تَشاوى من الإدلاجِ ميل العمائِم(1/195)
ثم قال لابنته أجيزي فقالت شعراً:
كأنَ الكرى يسقيهم صر خَدَيه ... عقاراً تمشَت في الطلى والمعاصم
فقال: والله ما وصفتها حتى شربتها وضربه ابنه بسهم فاختل ساقه وقال شعراً:
إن بني رملوني بالدم ... من يلق أبطال الرجال يُكلَمِ
وما يكن من صعرِ يقوم ... شنشنة أعرفها من أخزَمِ
قال ذر الرمة:
وليل كجلباب العروس أدرَعتُه ... بأربعةٍ والشَخصُ في العين واحدُ
أجم غدافي وأبيض صارم ... وأعسر مهري وأشعث ماجد
أخو ثقةٍ جاب الفلاةَ بنفسِهِ ... على الهول حتى لوحَته المطارد
وأشعث مثل السيف قد لاح جسمُه ... وحيف المهاري والمهوم الأباعد
سقاه الكرى كأسَ النعاس برأسِهِ ... لدين الكرى من آخر الليل ساجدُ
أقمت له صدر المطي وما درى ... أجائرةُ أعناقُها أم قواصد؟
ترى الناشئ الغريد يضحى كأنه ... على الرّجل مما منه السير عاصد
قوله: كجلباب العروس: في التشبيهات الظريفة لأن الليل لا يثبه جلباب العروس إلا في سبوغه واتساعه وقلة فرجه وتمامه ومثله قول الآخر شعراً:
إذا ما الثريا طلعَتْ في سنائِها ... طلاع العروس في ثياب جَلاء
تنفست من علمي بما البين صانع ... وإن ردائي ليس لي برداء
وإنما ذكر الثريا لطلوعها في أطول ما يكون، وحينئذ تطلع في وقت غروب الشمس وذلك في أزَل الشتاء، فإذا طلعتْ طلعت في حمرة الأفق، فشبهها في تلك الحالة بثياب العروس في حمرتها وسبوغها. قوله: تنفست: أي علمت أن الزمان قد تغير عن هيئته، وأن الإنسان لا يكتفي من الكسوة بما كان يكتفي به قبل ذلك لتحرك البرد، وأن الأحياء تتفرق فيطلبون المحاضر ويهجرون البوادي ولابن أم صاحب:
وفِتية أرقتهم من مهجع ... والنوم أحلى عندهم من العَسَل
لا يطعمون النوم إلا قللاً ... حسواً كحسو الطير من ماء الوسَل
قلت لهم: أصبحتم فارتحلوا ... والليل ملق حلسه داني الظّلل
فنهضوا مائلةً أعناقُهم ... كأنهم من الكلالِ والثمْل
شَرب تساقوا قرقفاً حمصية ... كرت عليهم عللاً بعد نهَل
وأنشد أحمد بن يحيى:
إني إذا ما الليلُ كان ليلَين ... ولجلَج الحادي لسانيْن اثنين
لم تلفتي الثالث بعد العدلين ... ساد الرقئين منهم ذو البردين
الرقئين: المكابس، وقد يعد من هذا الباب قوله:
إني إذا ما القوم كانوا أنجية ... واضطرب القوم اضطرابَ الأرثيه
وشد فوق بعضهم بالأردِية ... هناك أوصيني ولا توصِي بِيه
وقال آخر:
يقولُ وقد مالت به نشوةُ الكرى ... نُعاساً ومن يعلق سرى اللّيل يكسل
أنِخْ نعطَ أنضاء النعاس دواؤُها ... قليلاً ورقة عن قلائصَ ذبل
فقلت له: كيفَ الإناخةُ بعدَما ... حدا الليلُ عريانَ الطريقةِ منجلِ
وقال العجاج وذكر ماء:
كأن أرياش الحمامِ النسل ... عليه ورقان القِران النصل
فويقَ طامي مائِهِ المجلل ... جفالة الأجن كحمر الجمل
يريد بالنسل: الساقطة، والقران: نبل صيغت صيغة واحدة وجعلها ورقاً لأنّها إذا عرضت على النَار تسود فتصير ورقاً، والنصل: التي قد نصلت: أي خرجت من مواضعها، والمجلل: المغطى بالعرمُض وهو الطحلب. قوله: جفالة: انتصب بالمجلل وجفالة كل شيء ما أخِذَ منه، وقلع من أعلاه، يريد أنَ الماء قد يبس مثل العباية مما لا يورده، فَعَلاه مثل الحمر: وهو بقية الإلية إذا أذيبت. والجمل: الذين يذيبون الشَحم يقال: جملت الشحم وأجملته، والجميل الودك المذاب ومثل هذا قوله:
يتجفل عن جمانه دلو الدالي ... عانه غشراء من آجن طال
الغشراء: للبيضاء إلى الدسمة، والآجن: المتغير والطالي: الذي عليه طلاوة وهو ما يلبسه. وأنشد في الاستسقاء:
قد علمت إن لم أجِد مُعينا ... لاخلطَن بالخلوق طينا(1/196)
يعني امرأته، أي استعملها في الاستسقاء إن لم أجد غيرها. وقال آخر يخاطب الدلو:
تملئي ثُم هلمي حَي ... إلى سواد نازعٍ مكب
يقول: ارتفعي إلى شخص المستقي وهو سواده والنازع بالدلو: هو المكب وقال آخر:
لتروين أو لتبيدن السجل ... أو لأروحن أصلاً لا أشتمل
أي لا أقدر على الاشتمال من إعيائي وضعفي. وقال الآخر:
إن سَرك الريُ أخا تميم ... فاجعل بعبدين ذوي وزيم
بفارسي وأخي الروم
الوزيم: القوّة ورجل متوزم: أي شديد الوطء، أي اجعل الساقين من جنسين ختلفين، لأنهما إذا كانا كذلك لم يفهم أحدهما كلام الآخر وكان أحَث للعمل لقلة الإنس بينهما. وأنشد في معناه:
وساقيان سبط وجعدٍ ... وفارطان فارسن وبعد
وأراد وعاد فجعل الفعل بدله. وقال: وأنشده الأصمعي:
إذا بلغتِ قعرها فانشَقي ... واغتَرفي من تربها الأدق
انشقي: انفتحي واجر ما فيها. ويقال: بل دعا عليها كأنه قال: انشقي وحسبي أن يكون حظك التراب. وقال وذكر إبلاً:
فوردَتْ عذباً نقاحاً سمهجا ... فأعجلت شفتها أن تنفُجا
نقاح عذب وسمهج: مثله يعني أن الإبل جاءت عطاشاً، فلم يتظروا بها أن يبلوا الدلاء فألقوها كما هي يابسة. قوله وردت: قد تكلم الناس فيه من قوله تعالى: )ولما ورد ماءَ مَديَن) سورة القصص، الآية: 23، الآية ومن قوله تعالى: )وإن منكم إلا وارِدها) مريم، الآية: 71،.
فمنهم من يقول: إن الورودَ يقضي الاختلاط بالمورود ومشافهته والدخول فيه بدلالة قوله تعالى: )ثم نُنجي الذين اتقوا) سورة مريم، الآية: 73، فكيف ينجيهم منها لم يأتبسوا بها، فعلى قولهم يجب أن يكون قد حتمَ على نفسه إيراد للخلق جميعاً النار، ثم ينجّي منها المتقين ويذر فيها الظالمين. والحكمة في ذلك أن يشاهد المؤمنون موضع الكفار، فتكثر لديهم مواقع النعم ويزداد اعتداداً وفرحاً بما منحهم الله تعالى، قالوا: وتصير النّار عليهم برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم عليه السلام في الدنيا وإن كانت على الكفار عقوبة وعذاباً، واستدلوا على ما قالوا بقوله تعالى: )ونَذرُ الظالمين) سورة مريم، الآية: 72، فإنه لم يقل ويدخل الظالمين.
وقال بعضهم: إنَّ هذا يعني به الكفار خاصةً، واحتجوا بقراءة بعضهم: )وإن منهم إلا واردها) سورة مريم، الآية: 71، مسوقاً على قوله تعالى: )ثُمَ لننزعَنَّ مِنْ كل شيعةٍ) سورة مريم، الآية: 69، الآية. ويكون على هذا التأويل وفي هذا المذهب قوله تعالى: )ثم ننجي الذين اتقوا) سورة مريم، الآية: 72، يراد به يخرج المتّقين من جملة من يدخل النّار فكأنَ الخلق على اختلاف طبقاتهم، يردون عرصة القيامة ثم يفترقون فِرقاً على ما بيّن الله تعالى في غير هذا الموضع.
وقال أهل النظر وكثير من المفسّرين منهم الحسن وابن مسعود وقتادة: ليس الورود من الدّخول في شيء. ألا ترى أن الأصل في ذلك قصد المشارع والمناهل وقصدها ليس بالخوض فيها يدل على ذلك قوله تعالى: )ولما وردَ ماءَ مَدْين) سورة القصص، الآية: 23، فالورود البلوغ إلى الماء ثم توسع فيه فاستعمل في بلوغ كل مقصد يقولون: وردنا بلد كذا وكذا.
وقال الخليل: الورد، يوم وقت الورود بين الظمائين، يقولون: وردت الطيّر الماء ورداً ووردته أوراداً وقال تعالى: )ونسوقُ المجرمينَ إلى جهنم وِرْداً) سورة مريم، الآية: 86، وقالوا: أرنبة واردة وهي المقبلة على السبلة وقال تعالى: )فأرسلوا وارِدهم) سورة يوسف، الآية: 19، يراد طالب الماء منهم وبالغه. وقال زهير:
فلما وردن الماءَ زَرُقاً جمامُهُ ... وضعنَ عصيَ الحاضِرِ المتَخَيم
وهذا أصدق شاهدٍ على أنَ الورود ليس بالدخول، والحجة القاطعة في أنَ المؤمنين وإنْ حضروا حول جهنّم مع الإنس والجن للحتم المقضي، والوعد من الله الزكي، فإنهم مُبعدون عن النار قال الله تعالى: )إنَ الذين سبَقتْ لهم مِنا الحُسنى أولئك عنها مُبعدون) سورة الأنبياء، الآية: 101، ونرجع إلى إتمام الباب لأن هنا عارض عَرَض. وقال عجيز السلولي:
ولي مائح لم يورد الماء قبله ... معلى وأشطان الطوى كثير
المائح: الذي يصير في البئر فيملأ الدلو من الماء إذا قل الماء. قال:(1/197)
يا أيها المائح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا
واستعارة العجز لمن كان يمنحه عند السلطان ويستخرج له ما عنده ويعينه.
والمعلى الذي رشاؤه فوق الأرشية. ويقال: هو الذي إذا زاغ الرشاء عن البكرة علاه فأعاده إليه. وأنشد الأصمعي شعراً:
ما ليلةُ الفقيرِ إلا شيطان ... مجنونة تولي بروح الإنسان
يُدعى بها القومُ دُعاءَ الصّمان ... وهناً مِن الأنفسِ غيرَ عِصيان
الفقير: بئر قليلة الماء ورودها وجعلها شيطاناً لما يلقون فيها من التعب، المعنى أنهم فتروا وضَعُفوا فكأنّهم صمٌ من النعاس، وإنَما وصف قوم وردوا وسقوا وَهْناً من الأنفس: أي ضعفاً من الأنفس لا عصياناً للرّاعي. ومثله لذي الرمة:
كأني أنادي مائحاً فوق رحلها ... وفي غرفة والدلو ناءً قليبُها
وقال الراعي:
حتى وردن أتم خمس بايصٍ ... جمراً تعاوِرُه الرياح وبيلا
سدماً إذا التمسَ الدلاءُ نطافَه ... صادفْن مشرقه المثاب دحولا
البايص: السّابق، والبوص: الفوت والسبق أي أتم خمس وبعده. والجدر: البئر الجديدة الموضع من الكلأ، والوبيل: الثقيل غير المريء. سدم: مندفنة، والنطاف: المياه. والمثاب: ها هنا الموضع الذي يثوب منه الماء، يقال: هذه بئر لها ثائب، والمثاب في غير هذا الموضع قد يكون مقام السّاقي، والدحول: بئر لها إرجاف. وأنشد الأصمعي:
أعددتُ للوردِ إذا الورد خَفَز ... عرياً حروراً وجلاً لا خزخز
وما دحا لا ينثني إذا احتجز ... في كل عضوٍ جرذانٌ وخزز
شبه عضل المائح ولحمه المتفرق في أعضائه بالجرذان. والخزز: هو ذكر اليرابيع هنا وفي مثله قال أبو النجم شعراً:
في لحمه بالقربِ كالتزيل ... ينماز عنه دخلٌ عن دخلِ
أي تنفرج أعضاؤه من ثقل الدّلو وينماز: يصير كل قطعة لحم منه على حدة إذا تمطى عن ثقل الدلو: يريد أن لحمه صار كتلاً.
الباب الأربعون
في أسواق العَرب
قال أبو بكر محمد بن الحسن بن ثريد الأزدي، في إسناد ذكره أن أسواقَ العرب الكبيرة كانت في الجاهلية ثلاث عشرة سوقاً.
فأولها قياماً: سوق دومة الجندل: وهي على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة، وعلى عشر مراحل من الكوفة، وعلى عشر مراحل من دمشق، حصنها ممرد وبها التقى الحكمان، ثم صار ثم دبا ثم الشحر ثم رابية حضرموت ثم ذو المجاز ثم نطاة خيبراً، ثم المشقر ثم حجر باليمامة ثم منى، ثم عكاظ ثم عدن ثم صنعا.
وكانت هذه الأسواق منها ما يقوم في الأشهر الحرم ولا يقوم في غيرها، ومنها ما لا قوم في الأشهر الحرم، ويقوم في غيرها. لكنه لا يصل أحد إليها إلا بخفير ولا يرجع إلا بخفير.
دومة الجندل قال أبو المنذر: كان أول هذه الأسواق قياماً دومة الجندل: يوافيها العرب منٍ كل أوبِ، وقيامها أول يوم من شهر ربيع الأول إلى النصف منه، ثم ترق ولا تزال قائمة على رقتها إلى آخر الشهر ثم يفترقون منها إلى مثلها من قابل. قال: وكانت كلب وجميلة طيء جيرانها، وكان ملكها بين اكيدر العبادي من السكون وبين قنافة الكلبي، وكان غلبة الملكين عليها أن يتحاجبا فأتهما غلب صاحبه بما يلقي عليه تركه، والسوق يفعل بها ما شاء ولم يبع فيها أحد من الشام ولا أهل العراق إلا بإذنه، ولم يشتر فيها ولم يبع حتى يبغ الملك كل شيء يريد بيعه مع ما كان إليه من مكسها، وكان للكلب فيها قن كثير في حوانيت من شعر، وكانوا يُكرهون فتياتهم على البغاء، فكانوا أكثر العرب قناً، وكانت مبايعة العرب بها بإلقاء الحجارة، وذلك أنهم كانوا يجتمع النّفر منهم على السلعة يساومون بها صاحبها فأيُهم رضي ألقى حجره، وربما اتفق في السّلعة الرهط فلا يجدون بداً من أن يشتركوا وهم كارهون، وربما ألقوا الحجارة جميعاً فيوكسون صاحب السلعة بلا تظاهروا عليه، وكانت قريش تخرج قاصدة إليها من مكة فإن أخذت على الحزن لم تتخفر بأحدٍ من العربِ حتى ترجع، وذلك أن مضر عامتهم لا تتعرض لتجار قريش، ولا يهتجمهم حليف مضري، مع تعظيمهم لقريش ومكانهم من البيت.(1/198)
قال: وكانت مضر تقول: قد قضت عنا قريش مذمة ما أورثنا أبونا إسماعيل من الذين، وكانوا إذا خرجوا من الحزن أو على الحزن، وردوا مياه كلب، وكانت كلب حلفاء بني تميم، فلا يهتجمهم كلب، فإذا سفلوا عن ذلك أخذوا في بني أسد حتى يخرجوا على طيء، فتعطيهم وتدلهم على ما أرادوا لأن طيئاً حلفاء بني أسد، فإذا أخذوا طريق العراق تخفروا ببني عمور مرثد من بني قيس بن ثعلبة فيجيز لهم ذلك ربيعة كلها.
المشقر
ثم يرتحلون منها إلى المشقر بهجَر، فيقوم لهم سوقها أول يوم من جمادى الآخرة إلى آخر الشهر، يوافي بها أهل فارس يقطعون إليها تبعاً لعادتهم ثم يتقشعون عنها من مثلها إلى مثلها من قابل، وكانت عبد القيس وتميم جيرانها وكانوا ملوكها من بني تميم، من بني عبد الله بن زيد رهط المنذر بن ساوي وكانت ملوك فارس تستعملهم عليها كما يستعملون بني نصر على الحيرة وبني المستكبر على عمان، وكانوا يصنعون فيها ما يريدون، ويسيرون بسيرة الملوك بدومة في البيع، وكانوا يعشرونها أي يمكسونها، وكان جميع من يأتيها لا يقدر عليها إلا بخفارة من سائر الناس، وكانت أرضاً معجبة لا يراها أحد فيصبر عنها، وكانت لا يقدمها لطيمة إلا تخلف بها منهم ناس، فمن هناك صارت بِهَجَر من كل حي من العرب وغيرهم، وكان بيعهم فيه الملامسة والهمهمة والإيماء يومئ بعضهم إلى بعض فيتبايعون ولا يتكلمون حتى يتراضوا، وإنما فعلوا ذلك كيلا يحلف أحدهما على كذب أن يزعم أنه بذل له صاحب السلعة.
صحار
ثم يرتحلون منها إلى صحار أول يوم من رجب، في غير خفارة فيقدمونها لعشرين يوماً تمضي من رجب، فيوافيهم بها مَن لم يشهد ما قبلها من الأسواق، ومَن شُغل بحاجة ولم يكن له إرب فيما يباع في الأسواق التي قبلها، فينشرون من بَزها وبياعاتها أو يبيعون بها خمساً، فكان الجلندي يعشرهم فيها وكان بيعهم فيها بإلقاء الحجارة.
دبا
ثم يرتحلون منها إلى دبا، وكانت إحدى فرص العرب يجتمع بها تجار الهند والسند والصين وأهل المشرق والمغرب فيقوم لها سوقها آخر يوم من رجب، فيشترون بها بيوع العرب والبحر، وبيعهم مساومة وكان الجلندي يعشرهم فيها، وكان يصنع في ذلك فعل الملوك في غيرها.
الشحر
ثم يسيرون بجميع من فيها من تجار البحر والبر إلى الشحر شحر مهرة فيقوم سوقهم تحت ظل الجبل الذي عليه قبر هود النبي عليه السلام ويبيعونهم بما ينفق بها من الأدم والبز وسائر المرافق ويشترون بها الكندر والمر والصبر والدخن ولم يكن بها عشور، لأنّها ليسِت بأرض مملكة وكان جميع من يختلف إليها من العرب بتجارة يتخفر ببني يثرب وهي تقلل من مهرة، وكانت سوقهم تقوم للنصف من شعبان وبيعهم بها بإلقاء الحجارة.
عمن
ثم يرتحلون منها إلى عدن إلا تجار البحر، فإنه لا يرتحل منهم إلا من بقي من بيعه شيء ولم يبعه، فيوافي الناس بعدن من بقي معه من تجار البحر شيء ومن لم يكن شهد الأسواق التي كانت قبلها وكانت تقوم أول يوم من شهر رمضان إلى عشر يمضين منه.
ثم ينقشع الناس منها إلى مثلها من قابل، وكانوا لا يتخفرون بأحدٍ ، لأنها أرض مملكة وأمر محكم وكانت تعشرهم ملوك حِمير ثم من ملك اليمن من بعدهم.
وآخر من عَشرهم الأبناء من فارس غلبوا على اليمن وكان لا يشتري في أسواقهم ولا يبيع، وكان طَيب الخلق جميعاً، بها يعبأ ولم يكن أحد يحسن صنعه من غير العرب، حتى أن تجار البحر لترجع بالطيب المعمول تفخر به في السّند والهند وترتحل به تجار البر إلى فارس والروم، وإنّ بالناس على ذلك اليوم ما يحسن اليوم عمله إلا أهل الإسلام بعدن.
صنعاء
ثم يرتحلون إلى صنعاء فيأتونها بالقطن والزعفران وَالأصباغ وأشباهها مما ينفق بها، ويشترون بها ما يريدون من البز والحديد وغيرهما. وكانت تقوم في النصف من شهر رمضان إلى آخره، ثم تنقشع إلى مثلها من السنة المقبلة وبيعهم بها الجس جس اليد ولم يكن أحد من أهل هذه الأسواق يريد السوق الأخرى إلا إذا اشترى رجل من أهل بلده فإنه كان يشتري منه كما يتبايعون بتلك البلاد.
ثم رابية حضرموت وعكاظ
ثم يصدر النّاس عنها إلى سوقيْن. أحدهما: رابية بحضرموت والأخرى عكاظ في أعلى نجد وعكاظ قريب من عرفات.(1/199)
فأما الرابية فلم يكن يصل إليها أحد إلا بخفارة لأنها لم تكن أرض مملكةٍ وكان من عز فيها بز صاحبه، فكانت قريش تتخفّر ببني أكل المرار من كِندة، وسائر النّاس بآل مسروق بن وائل الحضرمي، فكانت مكرمة لأهل البيتين، وفضل أحدهما على الآخر كفضل قريش على سائر الناس، فكان يأخذ إليها بعض الناس وبعضهم إلى عكاظ، وكانتا تقومان بيوم واحد في النصف من ذي القعدة.
وكانت عكاظ من أعظم أسواق العرب، وكانت قريش تنزلها وهوازن وغطفان وخزاعة والأحابيش وهم الحارث بن عبد مناة وعضل والمصطلق وطوائف من أفناء العرب ينزلونها في النصف من ذي القعدة فلا يبرحون حتى يروا هلال ذي الحجّة. فإذا رأوه انقشعت ولم يكن فيها عشور ولا خفارة، وكانت فيها أشياء ليست في أسواق العرب كان الملك من ملوك اليمن يبعث بالسيف الجيد والحلة الحسنة والمركوب الفارِه فيقف بها وينادي عليه ليأخذه أعز العرب، يراد بذلك معرفة الشّريف والسّيد فيأمره بالوفادة عليه ويحسن صلته وجائزته، وكان بيعهم بها السرار، فإذا وجب البيع وعند التاجر ألف رجل ممن يريد الشراء ولا يريده فله الشركة في الربح.
ذو المجاز ونطاة خيبر وحجر اليمامة
فإذا أهلوا هلال ذي الحجة ساروا بأجمعهم إلى ذي المجاز، وهو قريب مِنْ عكاظ وأقاموا بها حتّى يوم التروية، ويواتيهم حينئذٍ حجاج العرب ورؤوسهم ممن أراد الحج ممن لم يكن شهد الأسواق، وكانت العرب في أشهر الحج على ثلاثة أهواء: منهم من يفعل المنكر وهم المحلون الذين يحلون الحرم فيغتالون فيه ويسرقون، ومنهم مَن يكف عن ذلك ويحرمون الأشهر الحرم، ومنهم أهل هوى شرعه، لهم صلصل بن أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف من بني عمرو بن تميم فإنه أحل قتال المحليّن.
قال أبو المنذر عن أبيه وخراش: هذا قول بني تميم، فأما الثبت عندنا فهو القملس الكناني وأجداده من قبله وهو الذي نسأ الشهور والمحلون طيئ وخثعم وناس من بني أسد بن خزيمة. وكان أشراف العرب يتوافون بتلك الأسواق مع التّجار من أجل أن الملوك كانت ترضخ للأشراف، لكل شريفٍ بسهمٍ من الأرباح، فكان شريف كل بلدٍ يحضر سوق بلده، إلاّ عكاظ فإنهم كانوا يتوافون بها من كل أوبٍ ولا يوافيها شريف إلا وعلى وجهه برقع، مخافة أن يؤسَر يوماً، فيكبر فداؤه، فكان أول مَن كشف القناع طريف العنبري لما رآهم يطلعون في وجهه ويتفرسون في شمائله، قال: قبح مَن وطن نفسه إلا على شرفه، ورمى بالقناع وحسر عن وجهه، قال يذكر قصته وعذره في مخالفة من قبله. شعراً:
أو كلّما وَرَدَتْ عكاظ قبيلة ... بعثوا إلى عريفهم يتوسمُ
قال أبو المنذر عن أبيه: كان الرجل إذا خرج من بيته حاجاً أو داجاً والداج التاجر في الشهر الحرام، أهدى وأحرم، ثم قلد وأشعر، فيكون ذلك أماناً له في المحلْين. وكان الداج إذا انفرد وخشي على نفسه ولم يجد هَدياً قَلد نفسه بقلادة من شعرٍ أو وبرٍ ، وأشعر نفسه بصوفة، فيأمَن بها، وإذا صدر من مكة تقلد من لحاء شجر الحرام. وكان الداج وغيره إذا أم البيت وليس له علم بذلك ولا هو في سيماء المحرم أخذ المحلون ما معه، وكانت العرب جميعاً تنزع أسِنَتها في الأشهر الحرم غير المحلين والذين يقاتلونهم، فإنهم كانوا يقاتلونهم حتى الأشهر الحرم.
وكانت الخمس تدع عرفات تهاوناً بها وإخلالاً، وتدع الصفا والمروة فأنزل الله تعالى: )إن الصفا والمروةَ من شعائِرِ الله) سورة البقرة، الآية: 158، الآية وأنزل: )يا أيُها الذين آمنوا لا تُحِلوا شعائِرَ الله ولا الشَهر الحرام) سورة المائدة، الآية: 2، الآية. هذا للمسلم: )وإذا حللتم فاصْطادوا) سورة المائدة، الآية: 2، فأذن لهم في الصيد بعد أيام التشريق وحرم عليهم الذي أهلَّ لغير الله به مع المنخنقة بالحبل إذا لم تدرك زكاتها، فهي حرام، والموقوذة كانوا يَقِذون الذابة العضل من الإبل والبقر والغنم ليرخص لحمها. والمتردية التي تردى في بئر أو من جبل والنطيحة التي تنطحها شاة أخرى فتموت. وما أكل السبع إلا ما زكَيتم أدركتموه وبه حياة. وما ذبح على النصب يعني آلهتهم التي كانوا يعبدون من دون الله.(1/200)
قال أبو المنذر: وتزعم مُضَر أن أمر الموسم وقضاء عكاظ كان في بني تميم، يكون ذلك في أفخاذهم الموسم على حدة وعكاظ على حدة وكان من اجتمع له ذلك منهم بعد عامر بن الظرب العدواني وسعد بن زيد مناة بن تميم وقد فخر المخبل بذلك في شعره فقال:
ليالي سعدٍ في عكاظٍ يسوقها ... له كل شرقٍ من عكاظٍ ومغرب
ثم وليه حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. ثم وليه ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم، ثم وليه مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، ثم وليه ثعلبة بن يربوع بن حنظلة، ثم وليه معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، ثم وليه الأضبط بن قريع بن عوف بن سعد بن زيد مناة بن تميم. ثم وليه صلصل بن أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم. فكان آخر من اجتمع له الموسم والقضاء بعكاظ. ثم قتل رجل من محارب بعكاظ فادعى واحد قتله في قوله:
فإن فخرتْ يوماً رجالُ محاربٍ ... فيا طعنة ما قد طعنتُ أخا حُر
فشد عليه رجلٌ من محارب بعكاظ فقتله، فقال: بؤباخي حر. وقد ذكر ذلك شعراؤهم ثم وليه سفيان بن مجاشع بن دارم، فمات فافترق الأمر فلم يجتمع القضاء والموسم لأحد منهم حتى جاء الإسلام، فكان يقضي بعكاظ محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم، فمات فصار ذلك ميراثاً لهم.
وكان آخر من قضى منهم ووصل إلى الإسلام الأقرع بن حابس.
وأجاز بالموسم أحد بني عوافة بن صعد بن زيد مناة بن تميم. وكان آخر من أجاز منهم كرب بن صفوان بن حباب بن شجنة بن عطارد بن عوف وهو الذي قام عليه الإسلام. قال أبو بكر الدريدي: لم يكن حديث الأسواق في كتاب أبي عبيدة وإنما ألحقه أبو حاتم فنقلناه من كتابه.
فلما دخلت سنة خمس وثلاثين من عام الفيل وذلك قبل المبعث بخمس سنين حضر السوق من نراز واليمن ما لم يروا أنه حضر مثله في سائر السنين فباع النّاس ما كان معهم من إبل وبقر ونقد وابتاعوا أمتعة مصر والشام والعراق وفيمن حضر السَوق عمرو بن شريد السلمي وابناه معاوية وصخر، وحضر معمر بن الحارث بن الخيبري بن ظبيان بن حن بن حزام بن كثير بن عذرة جد جميل بن عبد الله الشاعر، فلما نظر إلى عمرو صافنه وأمر ولده أن يخدموه، ففعلوا فلما تقوضت السوق دعا عمرو بن الشريد أبنيه صخراً ومعاوية فقال لهما: لمن سراً قد طوقني ما لم يطوقني أحد من العرب، وقد أحببت أن أكافئه، فقالا: افعل ما بما لك، فدعا بكاتب وصحيفة فكتب: هذا ما منح عمرو بن الشريد السلمي معمر بن الحارث بن الخيبري بن ظبيان بن حن بن حزام العذري منحه ماله بالوحيدة من أخلاف يثرب أطلال ذلك ومغانيه ورسومه وأعراصه ودواويه وزحاليفه وقريانه وبرادغه وقسوره وجرمه وبشامه وينعه وتاليه وحماطه وشبحه وأراكه. وأجزته وحذارله وآكامه وبرقه وعلجانه وكل ما صاء وصمت فيه وبكت السماء عليه وضحكت الأرض عنه فهو لمعمر دون عمرو، وممنوح به من نيات الصدر لا يشوبه كدر الامتنان ولا أمارات الامتهان مستنزل من هضاب الجندل وجرثومة ود بعيد المحل، لا تخلق الأيام جدته ولا يركد لمتنسم بارحه ما دام الزمان وتوقِّد الحران وسمر ابنا سمير، وأقام حراء وثبير. وكتب لخمس وثلاثين عاماً خلت من عام الفيل. ثم بعث بالكتاب مع طرف من طرائف اليمن وعدد إلى معمر. قال الأصمعي: فهي باقية إلى الآن يفض على ولده دخلها وذلك في أيام الرّشيد رحمه الله تعالى.
وقال ابن كناسة: إذا غابت الثّريا مع غيوب الشّمس لم ترها أربعين يوماً وذلك أفولها، قال: وأهل الشّام يطلعونها لخمس وعشرين من غير أن تطلع أو يروها، فيقيمون أسواقهم فتقوم سوق دير أيوب وهي أول أسواقهم المذكورة، فإذا انقضت اعتدوا سبعين يوماً.
ثم تقوم سوق بصرى قال فأدركتُها تقوم خمساً وعشرين ليلةً، وأُخبرْتُ أنها كانت تقوم بولاية بني أمية ثلاثين إلى أربعين ليلةً، فإذا انقضت اعتدوا سبعين ليلةً.
ثم تقوم سوق إذرعات وهي اليوم أطولها قياماً، وربما لقيت النّاس صادرين منها وأنا وارد. ثم أصدر قبل أن تقلع، يقال: قلعت السوق خفيفة.
قال: وزاد بعضهم في الأسواق المجنة وهو قريبٌ من في المجاز والأسقى خلف حضرموت.(1/201)
قال أبو المنذر: كانت بعكاظ منابر في الجاهلية يقوم عليها الخطيب بخطبته وفعاله وعَد مآثِرِه، وأيّام قومه من عام إلى عام، فيما أخذت العرب أيامها وفخرها وكانت المنابر قديمة يقول فيها حسّان رضي الله عنه شعراً:
أولاء بنو ماء السماء توارثُوا ... دِمشْقَ بملْكٍ كابراً بعد كابرِ
يؤمّون ملك الشام حتى تمكَنوا ... ملوكاً بأرض الشّام فوق المنابر
وكانوا إذا غدر الرجل، أو جنى جنايةً عظيمةً انطلق أحدهم حتى يرفع له راية غدر بعكاظ، فيقوم رجل يخطب بذلك الغدر فيقول: ألا إنَ فلان ابن فلان غدر فاعرفوا وجهه، ولا تصاهروه، ولا تجالسوه، ولا تسمعوا منه قولاً فإنْ أعتَبَ وإلاّ جعل له مثل مثاله في رمح، فنصب بعكاظ فلعن ورجم وهو قول الشماخ شعراً:
ذُعِرتْ به القَطا ونفيتُ عنه ... مقام الذئبِ كالرجل اللعينِ
وإن عامر بن جوين بن عبد الرضى رفعت له كندة راية غدرٍ في صنيعه بامرئ القيس بن حجر في وجهه إلى قيصر، ورفعت له فزارة راية وفاء في صنيعه بمنظور ابن سيار، حيث اقحمته السنة فصار بماله وإبله وأهله إلى الجبلين، فأجاره ووفى وصار النّاس بين حامدٍ له، وذام فذَهَبتْ مَثَلاً.
البابُ الحادي والأربعون
في ذكر مواقيتِ الضِّراب والنتاج
وأحوالِ الفحول في الإلقاح والغرور وما يتسبب مِن جميع ذلك، حالاً بعد حالٍ بقدرة الله وإرادته.
قال الله تعالى: )واللهُ خَلَقَ كل دابةٍ مِنْ ماءً فَمِنْهم مَنْ يمشي على بَطْنِهِ) سورة النور الآية: 45، الآية. وقال تعالى: )يخلُقكُمْ في بُطون أمهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعدِ خَلق في ظلمات ثلاثٍ) سورة الرمز، الآية: 6، ودخل تحت قوله تعالى: )كل دابة) أصنافَ ما خلقه الله تعالى وسيفصّل إن شاء الله تعالى.
قال ابن كناسة: إذا أنزي على الشاة عند إطلاع نجم من النجوم بالغداة جدت حين ينوء، والنخلة مثل الشاة سواء. وقال الغنوي: وقت إرسال الفحول في الإبل حين يسقط الذراع اليُسرى، على أي حالٍ من جدب أو حياء، فأما إذا كان الحياء فإنهم يرسلون الفحول قبل ذلك لسمنِ المال فهذا هو الوقت الأوسط للضراب، وكذلك الوقت الأوسط العام للنتاج، لأن الميقات في حمل الناقة سنة.
وقال أبو عبيدة: سمعتُ الأصمعي يقول في نتاج الإبل قال: أجْود الأوقات عند العرب فيه أن تترك الناقة بعد نتاجها سنة لا يحمل عليها الفحل ثم تضرب إنْ أرادت الفحل ويقال لها عند ذلك: قد ضبعت. فإذا أورم حياؤُها من الضّبعة قيل: أبلمت. فإذا اشتدت ضبعتها قيل: قد هرمت. فإذا ضَربها قيل قعا عليها وقاع والعيس الضراب. فإذا ضرب الفحل الإبل كلها قيل: أقمها إقماماً، فإنْ كل عليها سنتين متواليتين فذاك الكشاف والبسر: أن يضربها على غير ضبعة، واليعارة: أن يعارضها الفحل فتحمل. قال الرّاعي:
قلائص لا يلحقن إلا يعارة ... عِراضاً ولا يشريْن إلا غواليا
قال: ومن الإبل جرر يزيد على ذلك، فإذا أتت النَاقة على مضربها وهو الوقت الذي لقحت فيه لقد أتت على حقها ولدت أو أدرجت.
وقال ابن كناسة: أقل النّتاج بالبادية مع طلوع الهراريْن، وهو نتاج سيئ الغذاء لشدة البرد وقلة اللّبن والعشب.
وقال الغنوي: إذا تصوبَ المرزم وهو الذّراع قبل سقوطه أُرسلت الفحولُ في النعم فضربت خيار الإبل ومتعطراتها، وهي التي تحسن للفحل بنقيها وحسن حالها، وهذا نحو قول أبي يحيى في طلوع الهرارين، لأنَ طلوعهما مع سقوط الدبران.
وإذا سقط الدبران: فالمرزم منصوب لأنَ بينه وبين الأفق نجمين، وهما الهقعة والهنعة، وقول الساجع إذا طلع القلب: هَر الشّتاء كالكلب ولم تمكن الفحل إلاّ ذات شرب شاهد لما قالاه.
ألا ترى أنَه جعله وقتاً لأول الضراب فكذلك يكون وقتاً لأول النّتاج وإذا كانت الأنثى مخصبة حسنة الحال أسرعت الضبعة واحتملت الضراب فيقدم الفحل في إلقاحها، وإذا كانت هزيلة لم تضبع ولم تمكن الفحل إلا أخيراً والوقت الذي ذكره الغنوي من سقوط المرزم هو وقت يتحرك فيه النبت لذلك قيل: إذا طلعت البلدة حممت الجعدة، وزعلت كل تلدة، وقيل للبرد: اهده. وزعل التلدة نشاطها يعني تلاد المال.(1/202)
وقال الغنوي: فإذا سقطت النثرة استحق ضراب الإبل، وعفصت الفحول في النعم، فإذا سقطت الجبهة أقْمتِ الفحول النعم. والإقمام أن تلقح جميع النوق. فإذا سقطتِ الصرفة: جفرت الفحول كلها إلا القليل إذا الفضل على الفحول في الهباب والقوّة، والهباب: شدة الهيج.
قال ابن كناسة: وأفضل النتاج الربعي ولا يزال ما نتج فيه قوياً حسن الحال إلى سقوط الصرفة، وهي آخر نجوم الربيع، ثم ينتجون في أول الصيف إلى سقوط الغفر وذلك صالح. ويقال للذي ينتج بعد سقوط الغفر إلى أن يمضي الخريف يقال له: هبَع، ويكون ضعيفاً لذلك سمي هبعاً لأن الفصال الربعية أكبر منه وقد قويت فهو لا يلحقها إذا مشتْ لأنها أذرع منها فهَبَعَ في مشيه. والهبع والهبعان شبيه بالإرقال. وإذا نتجتِ الإبل تركت بواهل على أولادها إلى أن تبْرك، فإذا بركَت وأعتمتْ وذهبتْ فحمةُ العشاء حُلبتْ، فتلك حلبة العتمة وتكون للحي.
ثم لا تزال بواهل على أولادها حتى يحضروا المياه، فإذا حضروا حلبت كل يوم عند الظهر، ثم لا تزال بواهل، ثم لا تصر، ثم تعنق بين الصلوتين الظهر والعصر فترضعها، ثم تصر وذلك الفواق حتى تحلب تلك الساعة من الغد وربما قالوا: ثلث بها وذلك أن تيصروا ثلاثة أخلاف ويدعوا للفصيل خلفاً واحداً يرضعه وربما تركوها ترضع أمهاتها من أول النهار، ثم تصر وإنما فعلت هذه الأشياء بالفصال حيث حضروا لأنها أعانت على نفسها وتناولت الشجر، فلا يزال للفصيل في أمه حظ حتى يطلع سهيل. فإذا طلع سهيل خللت وهو أن يدخل عود في أنفه، فإذا أراد أن يرضع نخس الخلال ما ثنا منه فأوجَعَه فتزيفه، وربما أجروه، وهو أن يشق لسانه فلا يقدر أن يمص خلفَ أمهِ فإذا فطمتْ أولادها واشتد البرد حلبت الضرعين غدوةً وعشيةً.
والكِفاتان: وقد يفتح الكاف منه: أن يكون للرجل إبل يراوح بينها هذه تنتج وتحمل هذه.
والمخاض: إذا طلع سهيل مال وقال: إذا طلع سهيل أخذ أحدهم بأُذن الفصيل ثم استقبل به مطلع سهيل يريه إياه يحلف أنه لا يرضع بعد يومه قطرةً، ويفصله من أمهِ، وقد وصف أبو النجم ما ذكرناه فقال: يذكر عيراً رعتْ الرطب إلى أن تخرم وقته:
كان رعي الأنواء في تبكيرها ... دلوبها الأول من ظهيرها
حتى إذا ما طارَ من خبيرها ... وبانت العيدانُ من عصيرها
ولجت القروم في نذورها ... واصفرتِ الأعجاز من جفورها
بعد الثرى الملبد من خطيرها ... واختارت الماءَ على هديرها
واعلم أن الرطب لما تصرم وحاجت الأرض لجت الفحول في الغدور وتركت الخَطَران والتهدار، وطلبتِ الورود. وقوله: بعد الثرى الملبد من خطيرها مثل قول ذي الرمة:
وقربن بالزرق الحمائل بعدما ... ثقوب عن غِربان أوراكِها الخطر
وإنما يصف نساءً أقمن في مربع ما أقمن ثم قربن الفحول ليرتحلن عليها إلى المحاضر، وذلك أنها لما جفرت استغني عن ضرابها. وثقوب الخطر تقلع ما لصق بأعجازها من أبوالها في أيام هبابها لأنها كانت تبول في أذنابها، ثم تخطر بها فتضرب أوراكها فتلبد. قال: وقد وقتوا وقتاً آخر للضراب وهو إدبار الحر وإقبال البرد من آخر الخريف، وذلك قبل الوسَمي يَشهد بذلك قولُ الراجز ينعت إبلاً شعراً:
مدالقُ الوردِ مكيثاتُ الصدر ... عنابلُ الخلق نجيباتُ الخيرْ
جوف لهن بجر فوقَ بجر ... حتى إذا شال سهيل بسحر
كعشوة القابس يرمي بشرَر ... أرسل فيها مقرماً غير قفر
أصهب ذيالاً غلافي الوبر ... فَفِئْن تعسرنَ بأذناب عسر
فجعل الزْمان الذي يرى فيه سهيل سحراً شايلاً مرتفعاً وقتاً لإرسال الفحول في النعم، وأدنى ذلك أن يكون الطّالع بالغداة الصرفة، وذلك لانصراف الحر وانصرام القيظ، وآخر الخريف وقبل الوسمي. وقال ذو الرمة يصف فحلاً، قال شعراً:
إذا شَمَ أنف البردِ ألحق بطنه ... مراس الأوابي وامتحان الكواتِمِ(1/203)
أنف البرد: أوّله فأخبر أن هذا الفحل في الوقت الذي ذكره متعب بطروقته يمارس أوابيها، وهي التي لا تمكن من الضراب، وبامتحان كواتمها، وهي التي يظن أنها قد لقحت وليست بلاقح، فيسرها ليعلم حقيقة اللقح، وذلك أن الناقة ربما تلقحت وليست بلاقح، وتلقحها أن تشول بذنبها وتوزع ببولها وتستكبر، ويقال: لا يمكن شيء من الحيوان الأنثى منها إذا كانت حاملاً الفحل ولا يطلبها الفحل إذا حملت، وذلك أنه يجيئها ويتشممها، فيعرف أحامل هي أم لا فيولي عنها، فلا هي تمكّنه ولا الفحل يطلبها، وذلك في الإبل والخيل والحمير والبقر والشاة، قال الشماخ.
شج بالريق إذ حرمتْ عليهِ ... حصانُ الفرج واسقةُ الجنين
قال: يقول شجى هذا الحمار بريقه حيث لا يقدر أن يضربها لما حملت واسقة يقول: اتسق يعني اجتمع جنينها في رحمها. والاتساق: الاستدارة والاجتماع، وفي التنزيل: )والقَمر إذا اتسَق) سورة القمر، الآية: 18،. وقال شعراً:
إن لنا قلائصاً حقائقا ... مستوسقاتٍ لو يجدنْ سائقا
وقال أعشى عكل:
حتى إذا لَقِحَتْ وآخر حَوْلها ... وضعَ الغيار وأحرزَ الأرحاما
أي لما وجدها حولاً ترك الغيرة وأحرز أرحامها، ويقال لها في أول ما تضرب أيضاً: هي في منيتها، وذلك ما لم يعلموا أبِها حمل أم لا، فمنية البكر عشر ليال، ومنية العقبنى وهو البطن الثاني خمس عشرة، وهي منتهى الأيام. وقول ذي الرمة: إذا شم أنف البرد يريد أنَ الناقة تتلقح له وليست بلاقح، فقد أنضبه ذلك حتى ألحق بطنه بظهره فجعل ذلك في إقبال البرد.
وقال الكلابي: إذا طلع سهيلَ من آخر القيظ ثم لأول ما لقح من المخاض عشرة أشهر فسميت العشار، وانقطع عنها ذكر المخاض. وقول الساجع: طلع سهيل. وبرد الليل، وللفصيل الويل. ويروى: ولأم الفصيل الويل. والفصل بين الروايتين أنه إذا جعل الويل للأم فلأن الفصال إذا فطمت في هذا الوقت أسرع إلى ضعافها الفساد، فكثرت موتاها، وكذلك قيل: إذا طلعت الجبهة تحانت الولهة، وطلوع الجبهة مع طلوع سهيل. وإذا جعل الويل للفصيل فذكر الأم كما يقال للإنسان: لأمك الويل، وإنما يراد به هو، وكما قيل هَوت أمّه وفي القرآن: )فأمه هاويَة) سورة القارعة، الآية: 9،.
وإنّما يعم الفِصال في هذا الوقت بالفطام، لأن الأجواف تبرد فيه، وتكثر الأفياء والظلال، ويطيب الوقت، فتقوى على الفطام. قال ويقال: امرأة نفساء وشاة ربي، وفرس عايذ وأتان فريش: وهو أيام نتاجها، قال والعرب تقول: أحسن ما تكون المرأة غب نفاسها وغب نباتها وغب السماء وغب النوم وأحسن ما تكون الفرس والناقة غب نتاجها.
وحكى ابن الأعرابي قال: قالت هند بنت الحسن بن حابس الإيادية لأبيها: يا أبتِ مخضتِ الفلانية الناقة لأبيها. قال وما علمك. قالت: المصلاراج والطرق لاج. وتمشي وتفاج قال: أمخضت يا بنية فاعقلي، قال فلم تصبح في مبركها. فقال أبوها لها: ما أراك إلا وقد ضيعت، قالت: أما أنا والله فقد رأيت عقدتي واجتهدت، منتي ونقضت عذرتي. قال: استوثقت إذا قال، ويقال: قالت شددتها شداً اهتزت منه عُذرتي، وانقضتْ منه أزرتي. قال: حركت يد ناقتك. فقضوها فوجدوها تفحص في مثبرها. راج يرتج: لاج يلج في سرعة الطرف. تفاج: تباعُد ما بين رجليها، مثبرها: منتجها.
وحكى ابن الأعرابي عن بعضهم: أيُهم أحبّ إليك من الإبل: المعشار أم المشِكار أم المغبار. قال: فالمعشار: التي تغزر أيام تنتج، والمشكار: التي تغزر في أوّل الربيع صيفتها ثم ينقطع، والمغبار: الباقية الغبر التي تدوم على محلبها وهي الرفود المكود، والمجالح التي تقضم عيدان الشجر اليابس في الشتاء، فيبقى لبنها لذلك.
وحكي أيضاً ناقة مِقراع مضباع مسناع مرباع. قال: والمقراع: التي تلقح لأول قرعة والمضباع: التي تعجل ضبعتها، والمنساع: السنية العظمة القدر، والمرباع: التي تلقح في أوّل الربيع وهي خيار الإبل. وأنشد: طبْ بإظهار المرابيع الشور يصف فحلاً بأنّه عالم بأحوال النوق والشور: جمع شورة يقال: ناقة شورة: إذا كانت خياراً وناقة شيار: إذا كانت سمينة، وأنشد ابن الأعرابي لغيره شعراً:
قامَتْ تريكَ لقاحاً بعد سابعةٍ ... والعينُ ساجية والقلب مستورُ
كأنما بصلاها وهي عاقدة ... كور خمارٍ على غدراءَ معجورُ(1/204)
البكر من الإبل يسقى بعد أربع عشرة وإحدى وعشرين. والمسنّة: بعد سبعة أيام، والاستماء: أن يأتيها صاحبها فيضرب بيده على صلاها وينقر بها فإن اكتارَت بذنبها، وعقدت رأسها، وجمعت بين قطريها رأسها وذنبها، علم أنها لاقح، وقوله مستور: إذا لقحت ذهب نشاطها.
ويقال: مسيت الناقة إذا سطوتَ عليها وهو إدخال اليد في الرحم، والمسي: استخراج الولد، والمسط: أن تدخل اليد في رحمها فتستخرج وثرها وهو ماء الفحل يجتمع في رحمها ثم لا يلقح منه، يقال: قد وثرها الفحل يثرها وثراً إذا أكثر ضرابها فلم تلقح.
فأما قوله تعالى: )واللهُ خَلَقَ كُل دابةٍ مِن ماء) سورة النور، الآية: 45، وما تضمنه من تنويع الخلق فقد قيل فيه: إن ما مشى على رجلين فركبتاه في رجليه مثل الإنسان والنعام والطير كلها، وما كان من الخلق كله يمشي على أربع فركبتاه في يديه خلافاً لما يمشي على رجلين مثل الإبل والبقر والخيل والحمير، وما كان في الرجلين فهو عراقيب ولا يقال ركب. وكل حيوان مصمَت لا شقَّ في قوائمها مثل الخيل وذواتها فليس لها أكراش، ولا تجتر ويكون لها أعفاج. الواحد: عفج وإنمَّا تجتر ما كان لها كرش، وهو من ذوات الأربع من الذوات التي في قوائمها خف كالإبل والبقر والغنم فهي ذوات الأكراش وتجتر.
وما كان من الخلق له أفنان ناتئتان فغرموله ناتئ ظاهر وكذلك مذاكيره ظاهرة بينة ترى. فما كان كذلك تلد ولادة مثل الإبل والخيل والسباع والفأر والخفاش فإن أذنيه ناتئتان وغرموله ناتئ وهو يلد وإنْ كان من الطّير.
وما كانت أفناه ممسوحتيْن لا تظهران فكذلك ذكره لا يظهر وهو يبيض مثل الطير كلها والحيات والسمك وجوارح الطير.
وأما من كان من الطير يغر فراخه أي يزفها فليس يزيد على فرخين لِعظم مؤونته على أبويه مثل الحمام الأهلي والطّوراني والورشان والفواخت والقمارى والدياسى وما أشبهه.
وما كان يطعم إطعاماً، ولا يغر غَرا فهو أخف مؤونةَ على أبويه إذ كانا إنما يطعمانه إطعاماً فهو يفرخ الثلاثة والأربعة إلى السبعة مثل البازي والعقاب والصقر والهدهد والغراب والسوداني والبلبل والفتير والعقعق والعصفور فلخفة مؤونته زاد على الإثنين، وما كان لا يغر، ويطعم فهو أخَف مؤونة من هذين وهو يلتقط التقاطاً، وبفرخ العشرة والعشرين وأقل وأكثر لخفة مؤونته، لأنه يأكل بنفسه مثل الدجاج والنعام والقبج فهو يلتقط التقاطاً ليس له مؤونة على أبويه وهذا القدر في التنبيه على آثار صنعته كافٍ في هذا الموضع سبحان ربنا من خبير.
البابُ الثاني والأربعون
فيما رُوي من أسجاع العرب
عند تجدّد الأنواء والفصول وتفسيرها
وهو فصلان:
فصل
اعلم أن العرب أحفَظُ الأمم لما أدت إليه تجاربُهم من أحوال الزمان - وتعاقب الشهور والأيام واختلاف الفصول والأعوام بما يتجدد فيها من الأحداث ويتغير من تدبير المعاش فهم على اختلاف ديارهم وتباين، أوطانهم وتفاوت هممهم يراعون من هبوب الرياح وطلوع الكواكب وتبدلِ الأوقات ما لا يراعيه غيرهم من سكان المدر والوبر وقطان البدو والحضر وليس ذلك مستحدثاً فيهم. وإنما هو عادة منهم يتوارثونه الخلف عن السلف والغابر عن الماضي ومقياسهم طول الدربة وعوام التفقد فلهم اعتبار في كل ما يتجدد في الجو من طلوع كوكب أو أفوله وهبوب بارح أو سكون يؤديهم إلى ما يبنون عليه أمرهم في مقامهم وظعنهم ومزالفهم، ومحاضرهم ويعتمدونه في مكاسبهم ومعايشهم ومناتجهم وملاقحهم وسائر متصرفاتهم من غزو واستباحة وانتجاع وملازمة استغنوا به عن نظر أصحاب الحساب.
وتوغلهم من لطائف البحث والاستقصاء، فهم أتباعُ ما اعتادوا من البرق إذا لمع، والغيث إذا أصاب ووقع، والحر إذا أقبلَ وأدبر، والبرد إذا خف واشتد، لا يغفلون ولا يضيعون، فسبحان من جعل لكل أمة خصائص صاروا لها بمنجاة من الشر، وعوائد أصبحوا فيها على شفا الخير، وقد سجع حكماؤهم أسجاعاً أبانوا بها فوائد يحبهم، أنا ذاكر ما يحضرني مفسراً.(1/205)
قال أبو حنيفة: وجدتهم بدؤوا بالثريا وإن كان الشرطان قبلها في نسق المنازل، ولم أجد العلة في ذلك إلا تعطل الأنواء وانصرام الرطب، وهجوم الحر وقوة البوارح، فجعلوا الشغل بما هم فيه، وطلوع الثريا هو أمارة قوة الحر عند الجميع لا اختلاف فيه، فقال فقيههم: إذا طلع النّجم ويراد به الثّريا تقي اللحم وخيف السقم وجرى السراب على الأكم. وقيل أيضاً: إذا طلع النجم جعلت الهواجر تحتد، والعانات تكتدم، وقيل: طلع النجم غديه، وابتغى الراعي شكيه، وحكى الكلابي طلع النجم غدياً وابتغى الرّاعي شقياً، يجوز أن يكون شقوى لغة في شكوى، ويكون الشكوى بمعنى الشكوة، وقيل أيضاً: طلع النجم عشاء، وابتغى الراعي كساءً، وقيل أيضاً: إذا الثريا طلعتْ عشاءً قبع الراعي الغنم كساءً.
وحكى أبو زياد: إذا أمسى النجم يقبل فشهر فتى وشهر جمل. وقيل أيضاً: إذا أمسى النجم يدبر فشهر نتاج وشهر مطر، وإذا أمسى الثريا قم رأس. فليلة فتى وليلة فاس ومما يحفظ من كلام لقمان بن عاد: إذا أمستِ الثريا قم رأس ففي الدثار فاحنس، وعظاماها ، فأحدس وأنهس بليل وأنهس، وإن سئلت فاعبس ومما سير فيها قوله:
إذا ما قارن القمر الثّريا ... بخامسةٍ فقد ذهب الشتاءُ
وحكى النّضر في صدر هذا الباب: أضاءت ذكاء وانتشر الدّعاء وإذا طلعت العقرب، وهي أول بروج الشتاء جمس المذنب ومات الجندب وفرفر الأشيب.
إذا طلع الدبران توقدت الحزان، وهي ظواهر صلبة من الأرض ليست بجبال، ويبست الغدران واستعرت النيران، واستنعرتِ الذيان ورمت بأنفسها حيث شاءت الصبيان.
وإذا طلعت الهقعة تقوض النّاس للقلعة ورجعوا إلى النجعة وأورست الفقعة وأرذقنها المنعة.
وإذا طلعت الجوزاء توقدتِ المغراء وأوفى على عوده الحرباء، وكَنَست الظباء، وعرقَتِ العلباء وطاب الخباء. ويروى انتصب العود في الحرباء، وإنّما ذكرت الجوزاء مع الهقعة لأنها رأسها. وإذا طلعتِ الذراع حسرت الشمس القناع، وأشعلت في الأفق الشّعاع، وترقرق شراب بكل قاع.
وإذا طلعتِ الشعرى نشف الثرى، وأجَن الصرى، وجعل صاحب النخل يرى. وقال بعضهم: إنما ذكر الشعرى مع الذّراع لأنها أحد كوكبيها وقيل: إذا طلعت الشعرى سقراً، ولم تر مطراً، فلا تغدون إمرة ولا أمراً. وأرسل العراضات ببغيتك في الأرض معمراً.
وإذا طلعت النثرة قنأتِ البسرة، وجنى النخل بكرة، وأدت المواشي حجره ولم تترك في ذات در قطرة.
وإذا طلعت الصرفة بكرتِ الخرفة وكثرتِ الطرفة، وهانتْ للضيف الكلفة.
وإذا طلعتِ الجبهة تحانت الولهة، وتنازَت السفهة، وقلت في الأرض الرفهة، وقيل أيضاً:
وإذا طلعت الجبهة تزيّنت النّخلة ... وإذا طلعتِ النثرة تشفحت البسرة.
وإذا طلعت العذرة فعكة بكرة على أهل البصرة، وليست بعمان بسرة، ولا لأكاريها بذرة، وإنما ذكرت العذرة ها هنا لأنها تطلع مع الطرف أو قريباً منه.
وإذا طلعت الصرفة احتال كل ذي حرفة وجفر كل ذي نطفة، وامتيز عن المياه زلفة.
وإذا طلع سهيلٌ خيف السيل، وبرَد الليل، وامتنع القَيل، ولام الحوار الويل، القيل يريد القايلة يقال: قال يقيل قيلاً وقايلةً ومقيلاً وقيلولةً. وقيل أيضاً: إذا طلع سهيل طاب الثرى وحار اللّيل، وكان للفصيل الويل، ووضع كيل، ورفع كيل. قال بعضهم: ذكر سهيل لأن طلوعه مع طلوع الجهة قال: وأهل البادية يعظّمون الفِصال عند طلوع سهيل، وقيل: إذا طلعت الصّرفة احتال كل ذي حرفة، وقيل: احتال كل ذي جرفة، وجفر كل ذي نطفة، وامتزْ كن المياه زلفة.
وإذا طلع العواء ضربتِ الخباء وطاب الهواء وكره العراء وشنن السقاء.
وإذا طلع السماك فصب الحر والعكاك، واستفاهتِ الأحناك، وقَل على الماء العراك.
وإذا طلع الغفر اقشعر السفر، وتزيل النضر وحس في العين الجمر.
وإذا طلع الزبانى أحدثت لكل ذي عيال شباناً، ولكلٌ ماشية هواناً وقالوا: كان وكانا. وبردت الثنايا فاجمع لأهلِكَ ولا تتوانى.
وإذا طلع الإكليل، حاجت الفحول، وشمرت الذيول تخوفت السول.
وإذا طلع القلب، جاء الشتاء كالكلب، وصار أهل البوادي في كَرب ولم تمكن الفحل إلا ذات ثرب.
وإذا طلعت الشولة أعجلت البولة، واشتدت على العيالِ العولة، وقيل: شقوة وزولة.(1/206)
وإذا طلع الهراران هزلت السمان واشتد الزمان ووحوح الولدان. والهراران: قلب العقرب والنسر الواقع وهما يطلعان معاً.
وإذا طلعت النّعايم توسقت البهايم، وقيل أيضاً: إذا طلع النعام، كثر الغمام وذلك ليل التّمام، وقيل أيضاً: إذا طلعت النعايم ابيضت البهايم من الصقيع الدايم، وأيقظ البرد كل نايم. وروي خلص البرد إلى كل نايم، وتلاقت الرعاء بالنمايم.
إذا طلعت البلدة حممت الجعدة وأكلت القشدة وزعلت كل ثلدة وقيل للبرد اهده، والقشدة والقلدة والخلاصة: ما يُسْلأ به السمن.
وإذا طلع سعد الذّابح حمى أهله الناتج، ونفع أهله الرّائح، وتصبح السارح وظهر في الحي الأنافح.
وإذا طلع سعد بلع اقتحم الربع ولحق الهبع وصيد المرع )وصار في الأرض بقع أولمع وقيل تشكّى كل ربع.
وإذا طلع سعد السعود: مضر العود، ولانت الجلود، وكره الناس في الشمس القعود.
وإذا طلع سعدُ الأخبية: ذهبت الأسقية، ونزلت الأحْوية، وتحاورت الآنية، وقيل إذا طلع السعد كثر الثعد.
وإذا طلع الدّلو ينيت الجزو، وانسل العفو، وطلب اللهو الحلو، وقيل أيضاً: إذا طلع الدٌ لو فهو الرّبيع والبدو. والقيظ بعد الشتو وكان فيه كل نوء أي مطر.
واذا طلعت السمكة: أمكتت الحركة وتعلقت الحسكة ونصبتِ الشبكة وطاب الزّمان للنسكة.
هاذا طلع الشّرطان استوى الزمان وحضرت الأعطان وتوافت الأسنان وتهاددً الجيران وبات الفقير بكل مكان، وألقيت الأوتاد في الأبطان وقيل أيضاَ: إفا طلع الشرطان ألقت الإبل أوبارها في الأعطان.
وإذا طلع البطين اقتضى الذين وامتيز بالعين واقتفى العطار والقين. ومن هذا قول الشاعر شعراٌ :
فإن كنتَ قيناً فاعترف بنسيه ... وإنْ كنتَ عطاراً فأنتَ المخئبُ
أفينا تسومُ الشاهرية بعدما ... بدالك من شهر المليساء كوكب
المليساء: تصغير الملساء، والساهرية: جنسى من الطيب، والاقتفاء: الكرامة وقيل أيضاً: إذا طلع البطين تزينت الأرض بكل زين. وقيل: إذا طلعت الهنعة تحمل الناس للقلعة.
واذا طلع الئراع: هرأت السناسن والكراع، وهرأت: نضجت من تولهم: لحم مهراء. والسناسن فقار الظّهر والواحد سنسن.
وإذا طلعت النّثرة التقط البلح بكره، هاذا طلع الطّرف شقح الطّرف.
وإذا طلعت الجبهة تزينت البنهه، وهو ضرب من النخل.
وإذا طلعت الخرأتان: طابت أم الجرذان لضرب من التمر.
وحكى ابن الأعرابي: إذا طلع سهيل أخذ أحدهم بإذن الفصيل، ثم استقبل به مطلع سهيل، يريه إياه ثم يحلف أنه لا يرضع بعد يومه ذلك قطرة ويفصله من أمّه.
وقيل: إذا طلع سعد الذابح انحجرت الضوابح ولم تهرّ النّوابح من الشتاء البارح.
وقيل: طلع الحوت وخرج الناس من البيوت وقيل: طلعت الأشراط، ونقصت الأنباط.
تفسير ما فيه إشكال من ألفاظ هذه الأسجاع: الاحتدام: الذكاء ويقال: احتدم الرجل: إذا تلظى غضباً. والحطم: الكسر. والشكوة: السقاء الصغير من مسك السّخلة قبل أن يقرم. وقرمه: أكله الشجر، والقبل: أصله النشر من الأرض يستقبلك.
وقال أبو زياد: إذا أمسى النجم مقابلك من المطلع على قمر رمح أو رمحين قال:والدبران تراه قد انصب عن وسط السماء حين تبدو النجوم قم الرأس، بأنْ تكبد السماء حتى إن سقط لسقط على رأس القايم، وقوله: عظاماها يريد عظمي إبله وغنمه والمراد الجنس.
والحدس: الصرع يقال: ححس بناقته فَوَجأها في سبلتها: إذا أناخها فوجأها في نحرها.
وحكي عن بعضهم حدس لهم بمطفئة الرضف، إذا ذبح لهم شاة يطفىء الرضف من سمنها. والرضف: الحجارة المحماة. واستفار: الذبان شدة أذاها ومعرتها والإيراس الاصفرار. وأردفتها: جاءت بعدها يقال ردفته وأردفته لراذا جعلته خلفك فليس إلاّ أردفته. وقال يزيد بن القحيف الكلابي: يقول الرجل للرجل يلقاه: هل لك علم برفقة بني فلان؟ فيقول: نعم ها هي ذه مردفتنا أي وراءنا.
ويقول: حسرت الشمس القناع، وهو مَثَل، والمعنى أنها لم تدع غاية في الذكو.
ويقال للشمس إذا اشدت حرها ولم يحل من دون شعاعها شيء: انصَلَعتْ ويوم أصلع أي حام وأنشد:
يا قردةٌ خشيتْ على أظفارها ... حز الظهيرة تحتَ يوم أصلع
والخرفة: ما لقط من الرطب وخرفت فلاناً وأخرف لنا أي اجتنى.
وتشقيح البسرة أن تحمر: يقال شقح بسر وأشقح إذا تلون بحمرة.(1/207)
قال الأصمعي: الأمر والقميد الصغير من أولاد الضأن، قال أبو عمر وهو السائمة كلها. والعراضات: الإبل العراض واحدتها عراضة، لأن آثار أخفافها في الأرض عراض. والولهة: جمع والهة وهي ما بقي في المداوس من التبن بعد تنقيته من الحب. ومِن أمثالهم: هو أغنى عن ذلك من التّفه عن الرّفه. والتّفه عناق الأرض وهو لا يقتات التبن لأنّه سبع. وأم جرذان: نخلة بالحجاز يتأخر إدراكها.
قال الأصمعي: هو المشان بالعراق، والجفور: الانتهاء من الضراب والامتياز التنحي. واستفاهة الاحناك: شهوة الطعام، يقال: رجل فيه للجيد الأكل، واللكاك: التّدافع والتزاحم، والنضر: الخضر من كل نابتة، والوحوحة: حكاية صوت الولدان من البرد، والزولة: المنكرة. وقوله قرب الأشيب أوقر الأشيب يعني الثّلج والجليد، وابيضاض البهائم من السقيط الواقع على ظهورها. قال شعراً:
وأصبح مبيض الصقيع كأنّه ... على سرواتِ النيب قطن مندفُ
والتوسف: التقشر. قال:
وأوقدتِ الشعرى مع الليل نارَها ... وأمستْ محولاً جلدها يَتَوسفُ
وتحميم الجعدة: أن تراها قد همت باطلاع كما تحمم وجه الغلام إذا هَم بالبقول. وقوله: كل تلدة فهو من التلاد والزعل والنشاط، والبلدة: من التلبيد، واقتحام الرباع إسراعه في عدو لأنه قوي، والمرعة طائر سمين طويل العنق يملأ كفي الإنسان، وأكثر ما يرى في الخضرة والعشب. وأنشد:
له مرع يخرجن من تحت ودقة ... مع الماء جون ريشُها يتصَببُ
ويقال: هو أحرص شيء على الطيران في المطر، وهي خضراء، أشْربت صفرة، والثْعد: العشب والغض: الرطب. ومن الأسجاع: كلأ ثعد ماد يشبع منه الناب، وهي تعدو، والماد: الناعم والحواء قطعة من بيوت الأعراب. والحسكة: ثمرة السعدان وهي بقلة تتسطح على الأرض إذا نبتت، والأنباط: المياه المظهرة نحو الآبار. والقني: ما أنبطته فهو نبط وفي المثل: لتجدن نبطه قريباً، والجزء الاجتزاء بالرّطب عن الماء، وإنما قيل: هيب: لأنَّه يخاف انقطاعه و العفو ولد الحمار، يقال: نسل وأنسل بمعنى إذا ألقى وَبْرَه.
فصل
واعلم أن الفصل اسم قد جرى في كلام العرب وجاءت به أشعارهم قال يصف حميراً شعراً:
نظائر حونٍ يعتلجْنَ بروضةٍ ... بفصل الربيع إذْ تولت ضبائبُه
وسُمي فصلاً لانفصال الحر من البرد، وانقلاب الزمن عن الزمن الذي قبله.
ويقال للفصول: الفصيات، الواحدة فصية وهي الخروج من حرّ إلى بردٍ ومن بردٍ إلى حر، والفصية تصلح في كل أوقات السّنة متى خرجت من أذى إلى رخاء، فتلك فصية، ولا يستعمل الفصل إلا في حينه. فأمّا الأصمعي فإنه قال: الفصية: أن تخرج من بردٍ إلى حر، وأفصى القوم وهم مفصون ويقال: لو أفصينا لخرجت معك.
البابُ الثالثُ والأربعون
في ذكر العيافة والقيافة والكَهانة
وهو ثلاثة فصول
فصل
حكى ابن الأعرابي قال: أضل رجل ذوداً له وأمة، فخرج في طلبها فمر برجل من بني أسد يحلب ناقة فسأله هل أحسست من ذود فيه أمة سوداء. فقال: لا ولكن ادن مني أحلب لك فتشرب ثم أدلك على ذودك وأمتك فمنا فحلب له فسقاه، ثم قال له: ما سمعت حين خرجت من أهلك قال: نباح الكلب وثغاء الشاء ورغاء البعير قال نواة تنهاك. قال ثم رأيت ماذا؟ قال: ثم عرض لي الذئب فقال: كسوب ذو حيلة، قال ثم رأيت ماذا. قال: عرضت لي النعامة، قال: ذات ريش واسمها حسن، هل تركت في أهلك مريضاً يعاد؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى أهلك فإن ذودك وأمتَك في أهلك فرجع، فوجد ذلك كما قال. قال: وإنما قال هل في بيتك مريض يعاد من قوله شعراً:
صعل يعوذُ بني العشيرة بيضةً ... كالعبد ذي الفَروِ الطويل الأصلمِ
فصل(1/208)
وقال هشام الكلبي: حدثني أبي عن أبي الذيال بن نغر عن الطرماح بن حكيم الشاعر، قال: خرج خمسة نفر من طيء من ذوي الحجى والرأي منهم برج بن مسهر وهو أحد المعمرين وأنيف بن حارثة بن لام وعبد الله بن سعد بن الحشرج أبو حاتم طيء وعارق الشاعر ومرة بن عبد رضا يريدون سواد بن قارب الدوسي وكان كاهناً ليمتحنوا علمه، فلما قربوا من السراة قال ليخِبئ كل واحدٍ منكم خبيئاً، ولا يخبر به صاحبه، لنسأله عنه، فإن أصاب عَرَفنا علمه، وإن أخطأ ارتحلنا عنه وأحلَلْنا عنه، وأحللناه محله، فخبأ كل واحدٍ منهم خبيئاً.
ثم صاروا إليه فأهدوا له طرفاً من طرف الحيرة وإبلاً فضرب عليهم قبة ونحر لهم، فلما مضت ثلاث دعاهم فدخلوا عليه فتكلم برج وكان أسَنهم فقال له: جادك السحاب وأمرع لك الحباب وضفت عليك النعم الرغاب نحن أولو الآكال والحدائق والأغيال والنعم الجفال ونحن أصهار الأملاك وفرسان العراك يُوري عنه أنه من بكر بن وائل. فقال سواد والسماء والأرض والغمر والبرض والقرض والفرض إنكم لأهل الهضاب الشم والنخل العم والصخور الصم من أجاء العيطاء وسلمى ذات المرقبة السطعاء فقالوا: إنا لكذاك، وقد خَبأ كل رجل منا خبيئاً لتخبر الرجل باسمه وخبيئه. فقال لبرج أقسم بالضياء والحلك والنجوم والفلك والشروق والدلك في أسنخة الفلك لقد خبأت برثن فرخ في إعليط مرخ تحت أسرة الشرخ. قال: ما أخطأت شيئاً، فمن أنا؟ قال: أنت برج بن مسهر عصرة المعور وثمال المحجر.
ثم قام أنيف بن حارثة فقال: ما خبيئي وما اسمي. فقال سواد والسحاب والتراب والأسباب والأحداب والنعم الكتاب ويروى الكباب لقد خبأت قطامة فسيط وقذة مريط، في مدرة من مدى مطيط فقال: ما أخطأت شيئاً فمن أنا. فقال: أنت أنيف قاري الضيف ومعمل السيف وخالط الشتاء بالصيف.
ثم قام عبد الله بن سعد فقال: ما خبيئي ومن أنا؟ فقال سواد أقسم بالسوام العارب والوقير الكارب والمجد الراكب والمشيح الجادب لقد خبأت نغاثة فنن في قطيع قد مرن من أديم قد جرن فقال: ما أخطأت حَرفاً فمن أنا؟ قال: سعد النوال عطاؤك سجال وشرك عضال وعمدك طوال وبيتك لا ينال.
ثم قام عارق فقالى: ما خبيئي وما اسمي. قال سواد أقسم بنقف اللوح والماء المسفوح والفضاء المندوح لقد خبأت زمعة طلى أعفر في زعنفة أديم أحمر. تحت حلس نضؤ أدبر قال ما أخطأتَ شيئاً فمن أنا؟ قال: أنت عارق ذو اللسان الغضب والقلب الندب مضاء الغَرب مناع السرب مبيح النهب.
ثم قام مرة بن عبد رضا قال: ما خبيئي وما اسمي؟ قال سواد: أقسمُ بالأرض والسماء والبروج والأنواء والظلمة والضياء لقد خبأت دمة في زمة سيط لمة قال: ما أخطأت حرفاً فمن أنا؟ قال: أنت مرة السريع الكره البطيء الغرة الشديد المرة القليل الغرة.
قالوا فأخبرنا بما رأينا في طريقنا إليك، فقال سواداً: أقسم بالناظر من حيث لا يرى والسامع من قبل أن يناجي والعالم بما لا يدري لقد عفتْ لكم عقاب عجزاء على شناغيب دوحة جرداء تحمل جذلاء فتماريتم إما يَداً وإما رِجلاً، قالوا: كذلك كان ثم مه قال:
سنح لكم قبل ترجل الشروق ... سيداً مق على ماء طروق
قالوا: ثم ماذا؟ قال: ثم تيس أفرق فسند في إبرق فرماه الغلام الأزرق فأصاب بين الواهلة والمرفق قالوا: صدقت وأنت أعلم من تحمل الأرض ثم انصرفوا فقال عارق شعراً:
ألا لله علمٌ لا يُجارى ... إلى الغايات في جنبي سَوادِ
أتيناه نُسائله امتحاناً ... ونحسب أنْ سيبعل بالعناد
نسائل عن خفي مخبئات ... فأضحى سرها للناس باد
حسام لا يليق ولا تثاثا ... عن القصد الميمم والسّداد
كأن خبيئنا لمّا انتخبنا ... بعينيه يُصرح أو ينادي
فأقسم بالعشائر حيث قيس ... ومن نسل الأقيصر باللباد
لقد جزت الكهانة عن سطيحٍ ... وشق وكم فل من الإياد(1/209)
تفسير ما يشكل منه، النّعم: الرغاب هي الكثيرة منه وأولو الآكال: يريد القطائع وكانت ملوك الحيرة تقطع بكر بن وائل ولم يكن ذلك لغيرهم. والأغيال: جمع الغيل: وهو الماء الجاري وبطن الوادي. وقوله: نحن أصهار الأملاك: يريد بنت عمرو بن الحارث الملك الكندي أم أناس منهم وهم أصهار ملوك لخم أم عمرو بن أمرئ القيس الذي كان يقال له: ابن ماء السماء وابن ماء المزن. والغمر: الماء الكثير، والبرض: الماء القليل والنخل العم: الطّوال، والعيطاء: الطويلة، والسّطعاء: الطويلة العنق، وأجاء وسلمى: جبلان. الحلك: الظلمة، الدلك: السّواد، البرثن الإصبع، والشرخ: من الرجل بمنزلة القربوس من السّرج، والإعليط: وعاء تمر. المرخ: مثل وعاء الباقلي، والمرخ: ضجر، والعصرة: الملجاء والمعور: الذي قد ظهرت عورته، والثمال: العصمة والمحجر: الذي قد احجرته السنة. والأصباب: جمع الصبب وهو المنحدر من الأرض، والأحدب: جمع حدب وهو المرتفع من الأرض، الكتاب: المجتمع والكباب الكثير، والقطامة: ما قطعته بأسنانك، والفسيط: قلامة الظفر، والمريط: سهم تمرط ريشه، والمدى: ما سال من الحوض من الماء، والمطيط: الخاثر بما بقي في الحوض من الماء، والوقير: القطيع من الغنم برعائه، والعازب: البعيد في المرعى، والقارب: القريب، والجادب: العايب، والنغاثة: ما ترميه من السواك، والنفنف: الهواء بين السماء والأرض، وجرن ومرن: بمعنى لان، واللّوح: الهواء، والعفرة: حمرة أشربت غبرة، والزعانف: أطراف الأدم، و الحلِس: البرذعة والكساء، والنضو: الذي أنضاه السفر، والأدبر والحرب والسرب: المال الرّاعية، والندب: الخفيف، والدمة: النملة الصغيرة، والرمة: العظم البالي، والمشيط: ما سقط من الشعر عند المشط، وإذا كانت الرّيشة البيضاء ظاهرته فالعقاب عجزاء. وإذا بطنت فهي كسعاء. والجذل: العضو بكماله، والشناغيب: أطراف الغصون العلى، والأمق: الطويل، والراملة: رأس العضد الأعلى، والأبرق: حجارة اختلط بها طين، والبعل: والبقر الدهش ويقال تثأثأ الرجل عن المكاره، إذا زال، واللّباد: موضع.
ومما رواه محمد بن إسحاق قال: ذكر وقع باليمن من الحبشة فيما بلغني عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس وغيره من علماء أهل اليمن ممن يروي الأحاديث ويرغب في جمعها يحدث بعضهم عن بعض الحديث، وبعضهم يحدّث بعضاً كل ذلك قد اجتمع فيما أذكره، أن ملكاً من لخم كان باليمن فيما بين التبابعة من حمير يقال له ربيعة بن نصر، وكان قبل ملكه باليمن ملك تبع الأول ثم كان بعد تبع شمربن عش بن ياسر بن ينعم الذي غزا الصين وبنى سمرقند وحير الحيرة وهو الذي يقول:
أنا شمرٌ أبو كربٍ اليماني ... جلبتُ الجندَ من يمنٍ وشامِ
لناتي أعبداً مردوا علينا ... وراء الصين في غيمٍ ويام
وإن الملك ربيعة بن نصر رأى رؤيا هالَتْه، فبعث إلى الخيرة من أهل أرضه والكهان والسحار والعراف والمنجمين ثم جمعهم فقال لهم: إنّي قد رأيت رؤيا أفزعَتْني وهالَتني فأخبروني بها، فقالوا: أقصصها علينا نخبرك بتأويلها، فقال: إنْ أخبرتكم بها لم أطمئِن إلى خبركم عنها أنه لا يصيب تأويلها إلا الذي يخبرني بها قبل أن أخبره، فلما قال لهم ذلك، قال رجل من القوم: إنْ كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق، فهما يخبرانه عما رأى من ذلك وهما أعلم مَن بقي، وكان سطيح رجلاً مِن غسان يقال له: سطيح الذئبي نسب إلى ذئب بن عدي بن مازن بن غسان وكان شق رجلاً من قسر بن عبقر بن أنمار، وكانا كاهني اليمن في ذلك الزّمان وإليهما انتهت الكهانة، فأرسل الملك ربيعة بن نصر إليهما، فقدم عليه سطيح قبل شق، فدخل عليه فقال له الملك: يا سطيح إني قد رأيت رؤيا هالَتني وفظعت بها حين رأيتُها وإنّك إن تصبْها قبل أن أخبرك عنها أصبت تأويلَها.(1/210)
قال: رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت تهمة وفي رواية فوقعت بين روضة وأكمة. فقال الملك: ما أخطأت من رؤياي وسمه، فما عندك في تأويلها يا سطيح. قال: أحلف بما بين الحرتين من حنش لتنزلن أرضكم الحبش وليملكن ما بين أبين إلى جرش. قال له الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ وموجع فمتى هو كائن يا سطيح؟ أفي زمني أم بعده. قال: لا بل بعده بحين أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين. ثم يقتلون فيها أجمعين أو يخرجون منها هاربين. فقال له الملك: ومن الذي يقتلهم، ويلي ذلك من إخراجهم. قال الذي يليه ابن ذي يزن يخرج عليهم من عدن فلا يترك أحداً منهم باليمن. قال الملك: أيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال سطيح: بل ينقطع. قال ومن يقطعه. قال: نبي مكي يأتيه الوحي من قِبَل العلي. قال: ومن هذا الذي يا سطيح؟ قال: رجل من دار غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. قال له الملك: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم يوم يجمع فيه الأولون والآخرون يشقى فيه المسيئون ويسعد فيه المحسنون. قال له: أحَق ما تقول يا سطيح. قال له: نعم والشفق والغسق والقمر إذا اتسق إن ما نبأتك لَحَق.
فلما فرغ من مسألته خرج من عنده وقدم عليه شق فقال له الملك مثل ما قال لسطيح، فقص عليه الرؤيا على ما قصها سطيح، فقال الملك: ما تأويلها يا شق. قال: احلف بما بين الحرتين ليغلبن على أرضكم السودان وليملكنْ كل طفلة البنان ولينزلن ما بين أبين إلى نجران قال الملك: وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ فمتى هو كائن. أفي زماني أم بعده. قال بل بعده بزمان ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، فيذيقهم أشد الهوان. قال له الملك: ومن هذا العظيم الشان يا شق؟ قال: غلام ليس يدني ولا مدن يخرج من بيت ذي يزن قال: فهل يدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع. قال: بل ينقطع برسولٍ مرسل يأتي بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل قال له لملك: وما يوم الفصل يا شق؟ قال: يوم يجزي فيه الولاة ويدعى فيه من السماء دعوات، يسمع فيه الأحياء والأموات، ويُجمع الناس فيه للميقات، فيكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات. قال له الملك: أحَق ما تقول يا شق؟ قال: إي وَرب السماء والأرض وما بينهما من رَفْعٍ وخفضِ إن ما نبأتك به لَحَق ما فيه من أمض فلما فرغ من مسألتهما وقع في نفسه أن ما ذكرا له كائن من أمر السودان فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم وكتب لهم إلى ملك من ملوك الفرس يقال له سابور بن خرزاد فأنزل الحيرة. وفي غير هذا أنه قال للمنجمين والكهنة لما سألوه أن يقص عليهم رؤياه أنها انسلخت مني فقالوا: ما عندنا علم المنسلخ ولكنا ندلك على من يعلم.
قال الدال على الفعل كفاعله فأرسل مثلاً فقالوا: أرِسل إلى سطيح الغساني فإنه يخبرك، فدعا سطيحاً فأَتي به محمولاً ولم يكن له عظم كان مستلقياً دهره يُفتي الناس يأتيه رُئي من الجن بأخبار السماء، وما يحدث في الأرض ولم تكن الشياطين ممنوعة من الاستراق إذ ذاك، وإنما رجمت بالنجوم وحجبت بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فالمسترق للسمع الآن يرمى بنجم فيصيبه ولا يقتل بل يبقى مخبولاً إلى يوم القيامة. وفي حديث إن الشيطان إذا رُجم وخاف الاحتراق رمى بنفسه في البحر.
وفي هذا الحديث أن سطيحاً قال: أحلف بآله ما بين الحرتين إلى جرش وما بينهما من ذي ناب وحنش ليقطعن أرضَكم الحبش فليقتلن من دب وانكمش. وفي رواية الشرقي ابن القطامي أنه قال: فمن يلي قتل الأحبوش. قال: غلام من ذي يزن يأتي ببني الأحرار من قبل عدن فلا يترك منهم أحداً باليمن. قال: فهل يدوم ملك بني الأحرار أو ينقطع. قال: يقطعه نبي زكي يأتيه الوحي مِن قبل العَلي. قال ومن هذا النبي الزكي؟ قال: رجل من ولد النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر.
قال الكلبي: اسم سطيح ربغ بن ربيعة بن مسعود بن عدي بن الذئب بن الحارث. وقال الشرقي: أخذته ذئبة وهو طفل فذهبت به إلى غيضة فجعلت تغذوه بأنواع الثمار حتى أدرك واشتد فهرب منها وأتى قومه فخبرهم بقصتها، وأقبلت في أثره كالأم الثكلى تطلب ولدها فرموها حتى قتلوها.
قال هشام: وشق بن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن نذير بن قسر بن عبقر بن أنمار.(1/211)
قال: وحدثنا أبو يحيى زكريا بن يحيى الساخي في إسنادِ ذكره ينتهي إلى سعيد بن مزاحم. وحدث أبو الحسن علي بن حرب الطائي في إسناد ذكره ينتهي إلى مخزوم بن هانئ المخزومي، فقال: حدثني أبي وقد أتت له خمسون ومائة سنة قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى فسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادي السّماوة وكان منقطعاً قبل ذلك بألف عام.
ورأى مؤبد المؤبذان إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك وتصبر عليه. ثم رأى أن لا يستر ذلك عن وزرائه ومرازبته فلبس تاجه وقعد على سريره وجمعهم إليه فأخبرهم بالذي رأى فبينا هم كذلك، إذ وَرَد عليهم كتاب بخمود النار فازداد غماً إلى غَمه.
قال مؤبذ الموبذان: وأنا أصلحَ الله الملك، فقد رأيت في هذه اللّيلة ثم قص عليه رؤياه في الإبل، فقال كسرى: أيُّ شيء يكون هذا يا مؤبذان؟ قال: حادث يكون من ناحية العرب، فكتب عند ذلك من كسرى ملك الملوك إلى النّعمان بن المنذر، أمّا بعد فَوَجه إليَ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه، فوجَه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغساني، فلما قدم عليه قال: هل عندك علم بما أريد أن أسألك قال: ليخبرني الملك فإن كان عندي منه علم وإلا دللته على مَنْ يعلمه ويخبره فأخبره بما رأى. فقال: علِم ذلك عند خال لي يسكن بمشارف الشام يقال له سطيح، قال: فأته فاسأله عما سألتك عنه، ثم ائتيني بجوابه، فخرج عبد المسيح حتى ورد على سطيح، وقد أشفى على الموت، فسلم عليه وحياه فلم يرد عليه سطيح جواباً فأنشأ عبد المسيح يقول شعراً:
أصَمُ أم يسمعُ غطريفُ اليمن ... أم فاظ فأزلم به شاء والعنن
يا فاضلَ الخطة أعيتْ مَنْ ومَن ... وكاشف الكربة في الوجه الغضن
أتاك شيخُ الحي من آل سنن ... وأمُّه من آل ذئب بن حَجن
أزرق جهم الوجه صرار الأذن ... أبيض فضفاض الرداء والبدَن
لا يرهبُ الرعب ولا ريبَ الزَمن ... وهو رسول العجم يسري للوسَنْ
يجوب في الأرض علندن ذو فرن ... بلغه في الربح يوغاء الدمن
كأنما حثحث من حضني ثكن
فلمّا سمع سطيح شعره فتح عينيه، ثم قال: عبد المسيح على جمل طليح ويروى مشيح يخب إلى سطيح وقد أوفى على ضريح، بعثك ملك بني ساسان لارتجاس لإيوان، وخمود النيران، ورؤيا المؤبذان، رأى إبلاً صعاباً، تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة وانتشرت في البلاد، يا عبدَ المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادي السماوة، فليست الشّام لسطيح شاماً، يملك منهم ملك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت، ثم قضى سطيح مكانه، فثار عبد المسيح إلى رحله وقال شعراً:
شمر فإنِّك ماضي الهم شمير ... لا يفزعَنك تفريق وتغيير
إنْ يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإنما الدّهر إفراطُ دهاريرٌ
فربما أصبحوا يوماً بمنزلةٍ ... تهابُ صولتهم أسْدُ مُهاصيرُ
ورب يوم له ضحيان ذي أمرٍ ... سارت بلهوهم فيها المزاهيرُ
وأسعدتها أكف غير معرفةِ ... بحّ الحناجر تثنيها المعاصيرُ
من بين لاحقه الصّقلين أسفلها ... وغث وعسلوج بادي المتن محصورُ
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وسابور
والنّاس أولادُ علاتٍ فمن علموا ... أنْ قد أقَل فمحقور ومهجورُ
وهم بنو أم من رأوا له نشباً ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصورُ
والخير والشر مقرونان في قرنٍ ... فالخيرُ متبع والشَر محذور(1/212)
وفي غير هذا أن الملك قال لعبد المسيح: هل بقي في العرب أحد يخبرنا عما نسأل عنه؟ قال: نعم ابن عم لي بباب الجابية يقال له سطيح، وكان سطيح لحماً يحمل في جلد لم يخلق له عظم، وإذا أرادوا تحويله من موضع طُوي كما يُطوى القرطاس، فإذا أرادوا أن يتكهن مخض كما يمخض الزَّق ثم علاه بهر وعرق، وعَلَتْه برحاء ثم تكهن وفيه فلما قدم على كسرى أخبره بالخبر، فقال كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً يذهب دهر طويل، وكان الرجل منهم ربّما ملك مائة سنة فهلك منهم تسعةً في أربع سنين، وظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدث أبو المنذر عن شيوخه عن زفر بن زرعة قال: خرجت مع نفرٍ من قومي في الشهر الحرام في بغيةٍ لنا فسرنا ثلاثاً حتى إذا انخرقت لنا الفلاة نزلنا وادياً موحشاً فعقلنا رواحلنا. وقام رجلٌ منّا فنادى بأعلى صوته: أعوذ بعزيز هذا الوالي من شر من فيه، وكذا كنّا نفعل في الجاهلية. وذلك قوله عز وجل: )وأنه كان رِجال مِنَ الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رَهَقاً) سورة الجن، الآية: 6، قال: فلما أبهار الليل وقد نام أصحابي وقعدت أكلؤهم وقد كنا تحدثنا بخروج النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وشاع خبره في العرب، سمعت هاتفاً يقول: يا وزر بن خوتع بن غزوان هل راعك اليوم حديث الركبان. عن نبأ أيقظَ كل وسنان فأجابه آخر شعراً:
أربت يا هوبر من داعٍ دان ... روعت معمود الفؤاد روبان
أربت قطّعت إرباً، والمعمود: الذي قد عمد المرض فؤاده، وروبان ناعس ثقيل مسترخ من النعاس جل فقد أشأزت قلبي الحيران وقال الأول: قد لفظت مكة ذات أشبره. جمع شبر وهي أربعة آمار ما كان أبونا أثره امار علامة أثره. رواه أن امرأ بين المنطباح الضفر، أي متداخل بعضها في بعض قد نجم القول الذي قد أظهر. فقال الثاني:
إن كان يابن نعجة بن صبره ... ما قيل حقاً فابعثَن حَبشرة
في آل زلقومٍ وآل سجَره ... إنْ التي بنخلة المستغفرة
حلت بها أم اللميم القشرة
العرب كانوا يستنفرونها فإذا صوت كصوت الرعد من أحد أعداء الوادي يقول:
إنْ كان ما أنبأتما قد كانا ... فَقَد أقم القلت الأوثانا
ولم تزو جنانها الكهانا ... وصادفت دون العلى شهبانا
يمنعها أن تغرب الأغنانا
أقم الفحل: شوله. إذا ضربها كلها والأعنانا: نواحي السماء. ثم صرخ صرخةً اشتعل منها الوادي ناراً، فخررت صعقاً، فما استيقظت إلا بأصوات أصحابي فاظ واللات فاظ ذللاً فانتبهت، واقتصصت عليهم قصتي ورجعنا من سفرنا وقد شاع خبر النبي صلى الله عليه وسلم في العرب.
وحكى الهيثم بن عدي عن شيوخه قال: انطلقَتْ أمُ مالكٍ وطيئ ابنا سبأ وهما ابنا أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان حين ترعرعا إلى كاهنة يقال لها: شهيرة بأرض سبأ بموضع يقال له: بلخع لتنظر إليهما وتقول فيهما، وساقَتْ معها إبلاً فوجدت في طريقها سحق نعل، فجعلتها في كرية نخل، ثم دفعتها إلى رجل معها من قومها يقال له: صعل، فقالت: أخْبئ هذا معك حتى نثور الكاهنة بشيء قبل المسألة، فلمّا انتهت إليها عقلت ببابها ثم قالت: يا شهيرة إني قد خبأت لك خبئاً فأخبريني به قبل المسألة، فقالت: أقسمُ بالشمس والقمر، والكثكث والحجر والرياح والمطر، لقد خبأتِ لي جلد بقر أشعر، وما به شعر محضر، أو ما به حضر. قالت أحلفُ بالسهل والجبل والجدي والحمل، والقمر إذا أفَل، وما حَن بنجدٍ مِنْ جمل، أنْ قد خبأتِ لي فردَ نعل، في كرنافة نخل مع رجل يدعى صعل رب شاةٍ وحقل، قالت: صدقتِ فأخبريني عما جئت أسألكِ عنه، قالت: تسألين عن غلامين ولدا في يومين في بطن توأمين، أحدهما: ربعة جعد، تعني طياً، والآخر: سبط نهد تعني مالكاً. قالت: صدقتِ، فأخبريني عنهما، قالت: أهما معك؟ فأراهما أم نسجَعُ نبقت عنهما. قالت: هما معي فنظرت إليهما ثم أقبلتْ على مالكٍ فقالت: يكون من ولده قبائل وعدد ومصاليت نجد، ورأس وكتد وحق وفند، يصيبون ويصابون، ويلحم عليهم ويلحمون الحق لا المين.
ثم نظرتْ إلى طيء فقالت: يكون في ولده سماح وجلد وإباء ونكد وعرام وسدد يأكلون ولا يؤكلون، شديدو الكلب، قليلو السلب، الحق لا الكذب.(1/213)
فهذا عنوان ما يحكى عن كهانتهم وغيض من فيض ما يتلى من آياتهم وعِبَرهم وكل ذلك كان قبيل ما أراد الله تعالى اطلاعه من شأن النبوة بعد الفترة الممتدة، لأنه هو الحكيم العالم يُسبب الأسباب لما يقضيه ويهيئ الآراب والدواعي لإتمام ما يمضيه، ويزيح العلل عما يتعبد به، ويسهل الطرق إلى ما يدعو إليه حتى تصير المدارج صاحبة للسّالكين والدلائل متوافية للنّاظرين والمراصد ظاهرة للمعتبرين، وأبواب الفلاح مفتتحة للمسترشدين.
فلما دنا وقت خلقِ النبي صلى الله عليه وسلم واصطفائه إياه لبعثه ورسالته وكان في الجنّ من يقعد للسمع إلى سكان السماء والمتصرفين فيما يجري عليه أهل الأرض من خيرٍ وشرٍ ، ورفع ووضع فيؤدي ما يدركه إلى الكهنة، فيتسوقون به ويدعون علم الغيب فيه، حكى الله تعالى أمرهم في ذلك في غير موضع، وبين أن الجن عُزِلوا عما كانوا يتولونه من التقاط الأنباء مِن أهل السماء وبثها فيمَنْ كان يعبدهم من السحرة والكهنة.
فقال عز وعلا: )وأنا لمسنا السَّماء فَوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شديداً وشُهباً) سورة الجن، الآية: 8، )وأنا كنَا نقعُدُ منها مَقاعِدَ للسّمع فَمَنْ يستمِعَ الآن يَجِذ له شِهاباً رَصداً) سورة الجن، الآية: 9، يريد أنا طلبنا السماء جرياً على عادتنا من قبل في التسمع إلى أهلها وقد حجبنا الآن دونها ومُلئت بمن يحرسُها منا ويرمينا بالنار إذا تعرضنا له.
ثم ختم الكلام في الحكاية عنهم بأنهم قالوا: لا نعلم ماذا أريد بما فعل لأهل الأرض من الغَي أو الرشد أو الصّلاح، أو الفساد يريدون ما خفيَ عليهم من ايتناف الرسالة واستحداث الشريعة والدلالة على أن لمسنا طلبنا قول الشاعر وهو يرثي ابناً له:
هوى ابني مِنْ أشرفٍ ... يهول عقابُه صعده
ثم قال:
أُلامُ على تَبَكيه ... وألْمَسه فَلا أَجِده
فاقتران الوجدان بقوله ألمسه: يدل على أن المراد به أطلبه فلا أجده، وقال تعالى في موضع آخر: )وما تَنزلْت به الشياطينُ، وما ينبغي لهمْ وما يستطيعون إنَهم عنِ السمع لمعزولون) سورة الشعراء، الآية: 210 212، يريد تنزيه وحْيه وتثبيت رسالته على لسان نبيه.
فإنْ قيل: إذا كان أمر الكهان مع شياطين الجن على ما ذكرت ومؤدى الغيب على ألسنتهم من نقلهم كما اقتصَصْت، فما الفرق بين أخبار النبي وأخبارهم؟ وبماذا يتميز ما مبناه على الحق والصدق لا تبديل يصحبه ولا خلف يعترض فيه مما هو بخلافه، ومبناه على التمويه والتشبيه والمخرفة والتزويق.
قلت: إنّ أولئك الكهان إنما تكهنوا في أثناء أيام الفترة المتأخرة، وقبل طلوع سوابق المعجزة، واستقام لهم ذلك لما أراد الله تعالى من تمرين الناس على ما يريد إظهاره من إعلام النبوة يدل على هذا أنه لم يحكِ ما يثبه بلاغاتهم عند الإخبار والاستخبار فيما تقادم من أخبار ملوك قحطان وعدنان والذوين والتبايعة وفيما ذكر قبلهم من أخبار طَسَم وجديس، ومن كان في الجاهلية الجهلاء، وإنّما قامت أسواقهم في أيام النعمان والمنذر ابن ماء السماء وأشباههم.
وإذا كان الأمر على هذا فكما تناهَت البلاغة نظماً ونثراً على ألْسن فصحاء العرب لتعقبها التحلي بالقرآن، فبين شأْن الإعجاز، كذلك تعالَتْ أشواطهاَ الكهّان والحزاة فيما تهاذوا به وادَّعوه في أوقاتهم من علم مكتمن الأخبار ليعلوها شأن النبي عليه الصلوة السّلام في إعلان المغيبات وسائر ما أتي به من البيّنات.
هذا وقد كان امتلكتهم صرفة من قبل الله تعالى تمنعهم فيما يأتونه من ادعاء نزول الوحي عليه.(1/214)
فإن قيل: بماذا يتفصّل، مما قال لك إن التحدي بالقرآن وعجز مَن في زمانه عن الإتيان بمثله وبأقَل سورةٍ منه ضِمْن تصوير المراد مِن تباري الخطباء والشعراء، والوّصاف والبلغاء؟ إذ كان انبعاث هممهم وتحرّك شهواتهم واهتياج طبائعهم له لا داعي إليها، ولا مسبّب لها عند الفحص والتأمل إلاّ ذلك ويكشفه ما تراه من مساعدة دخلائهم مِن غيرهم وتعاونهم عند الأخذ عنهم في طلب الزّيادة عليهم كلّ ذلك لتصير المعجزة في كلّ أوانٍ مجددةً كما كانت في زمانهم محققةً فما العذر في الكهانة؟ وكيف ينماز حالها عما خلدته النبّوة؟ قلت: إنّ النّبوة غايتها لا تدرك لأنَّها محفوفة بالصّدق والنزّاهة والآيات البينة وعليها واقية من قبل الله تعالى يبعدها من الرّيبة، ويحفظها من درَن الشبهة والظّنة، والكاهنين قد بين الله تعالى حاله في محكم كتابه فقال: )هل أنبئكُمْ على مَنْ تَنزَل الشّياطين تَنزل على كل أفاكٍ أثيمٍ يُلْقون السمع وأكثرهم كاذِبون) سورة الشعراء، الآية: 221 223، فحالهم حال المنجم فيما يحكم به وهو يردّد بين مصدّقٍ ومكذّبٍ ومؤمن به ومبطل، وإذا كان الأمر على هذا انسدت طرق المعارضات فالاكتفاء في تبيّن أمرهم بما ذكرته واجب.
فصل
في القيافة والعيافة فأمّا القيافة: فقد خص بها قوم من العرب، وإنما هو في الأنساب خاصةً وقد ثبتها النبي صلى الله عليه وسلم، ويحكم بها الشافعي وأصحابه، ويلحقون بها الولد وهذه فضيلة خُصت بها العرب. روى سفيان بن عيينة عن الزّهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عَلَي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرِفُ السّرور في وجهه، فقال: ألَم تَري أن مجزز المدلجي نظر إلى أسامة وزيد وعليهما قطيفة وقد غطيا رأسيهما وبدَت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، وهذا استدل به الشافعي وفكره المزني فيما حكى من مذهبه.
وروي أنَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعا قائفاً لرجلين ادعيا ولداً فقال: لقد اشتركا فيه، فقال عمر للغلام: والِ أيهما شئتَ. ورُوي أن أنساً شَك في ابن له فدعا القافة للنّظر في أمره. وهذه الأدلة تسوّغ في الدّين القيافة، وإنّما هي علم يتتبع أثراً أرشدَ الله له قوماً خصَّهم بفضيلته ويقال: قفاه وقافه واقتافه واقتفاه بمعنى. وفي القرآن: )ولا تَقْف ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلم) سورة الإسراء، الآية: 136.
وأمّا العِيافة ففعل الزّجار. قال الأعشى:
ما قعيفُ اليومَ مِنْ طيرٍ روحٍ ... من غراب البَين أو تَيْس بَرح
فقال في الإجمال: ما تعيف من طير روح، وفي التّفصيل قال: من غراب البين أو تيس برح، فجعل التّيس من تفسير الطير لأنَهم يقولون في تعارفهم: جرى طائره بَكذا وحكى أبو زيد عنهم: سألت الطّير، وقلت للطّير، وإنما هو زجرانها. وفي القرآن: )قالوا طائِرُكم معكُم) سورة يس، الآية: 19، و)قال طائِركُمْ عنِدَ الله) سورة النمل، الآية: والأمم على اختلافها تفعلها. فمن ذلك قول الهذلي:
أتيح له من الفتيان خِرق ... أخو ثقةٍ وخريقٌ حشوفُ
فبيتا يمشيان جَرَتْ عقابٌ ... من العقبان خاسئةٌ دفوفُ
فقال له: وقد أوحَتْ إليه ... ألا لله إنك ما تعيفُ
فقال له: أرى طيراً ثقالاً ... تبشِّر بالغنيمة أو تخيفُ
ففي هذا الذي قاله بيان، إنَ ذلك رجم ظن، وفي العرب من يشتق من اسم ما يعن له عند الطيرة، فيبني قصّته عليه كقول القائل: قالوا: حمام قلت: هم لي اللقاء. وقالوا: غراب قلت: غرب من النوى. وقد اشتق أبو تمام على ضد هذا فقال شعراً:
لا تشجيَنَ لها فإنَّ بكاءَها ... ضحك وإنَ بكاءَك استِعقامُ
هنَ الحمامُ فإنْ كسرت عيافةَ ... من جابهنَ فإنَهنَ حمامُ
فأما ما يقولون في الغراب والظباء وهي: السانح والبارح والنّاطح والقعيد والجابه وغراب البين فقد اختلفوا في السّانح والبارح فمن العرب من يتشاءم بالسانح ويتيمَّن بالبارح على ذلك قول زهير:
جَرَتْ سخَّا فقلتُ لها أجيزي ... نوى مشمولةً فمتى اللقاء
وقال النابغة:
زعم البوارحُ أن رحلَتنا غداً ... وبذاكَ خَبرنا الغُدافُ الأسود(1/215)
فما تطير به زهير تبرك به النّابغة، فالسّانح: ما جاء من ميامنك فَوَلاّك مياسره، والبارح ما جاء من مياسرك فولاك ميامنه، فأحدهما راعى من نفسه ما كرهه والآخر راعاه من الماربة، فأما الناطح فما يلقاك والقعيد ما استدبرك والجابة ما جاء من أعلاك وقوله: أجيزي نوى مشمولة معناه اقطعي نوى هبتْ عليها ريح الشّمال فبددت شملها وقوله: فمتى اللقاء: استبعاد لوقوعه.
وحكى أحمد بن يحيى عن أبي المنهال المهلبي عن أبي زيد الأنصاري أن ما مر من ظبي أو طائر أو غيره فكل ذلك عندهم طائر. وأنشد في ذلك لِكُثَير:
فلستُ بناسيها ولستُ بتاركٍ ... إذا عرضَ الأدم الجواري سؤالها
ثم خبر بعد أن قال الأدم الجواري أنه طائر فقال:
أدرك مِن أمّ الحكيم غبطةَ ... بها خبرتْني الطير أم قد أتى لها
وقد فسَّر قوله تعالى: )وكُل إنسان ألزمْناهُ طائرهَ في عنُقه) سورة الإسراء، الآية 13، الآية على أن معناه حظه، وقيل: عمله وما قدمه من خير أو شرٍ . ويكون ذلك في الكتاب الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها. وقال تعالى فيه: )هُنالك تبلو كل نفسٍ ما أسلَفَتْ) سورة يونس، الآية: 30، وفي موضع آخر: )هاؤُم اقْرؤوا كِتابَيِه) سورة الحاقة، الآية: 19، وقال الكُميت في تصديق ما ذكرناه شعراً:
وما أنا ممنْ يزجرُ الطير همهُ ... أصاحَ غراب أم تعرَضَ ثعلبُ
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ذريني وعلمي بالأمور وسيرتي ... فما طائري فيها عليك مخيلا
رواه أبو زيد وفسره على أنَ المراد ليس رآني بمشؤوم. وأنشد لكُثير:
أقول إذا ما الطير مرتْ مخيلةً ... لعلك يوماً فانتظر أن تنالها
مخيلة: مكروهة من الأخيل، وأنشد: ولقيتُ من طير العراقيب أخيلاً. ومن المأثور قولهم: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طيراً إلا طيرك، ولا رب غيرك، وقال خثيم بن عدي في ضد ما تقدم:
ولستُ بهيابٍ إذا شَد رحله ... بقول عداني اليوم واقِ وحاتم
قال:
فإذا الأشائمُ كالأيامِن ... والأيامِنُ كالأشائمِ
وكذلك لا خير ولا شر على أحد بدائم، ويشبه هذا المعنى ما أنشده أبو عبيدة عن أبي عمرو:
يا أيُها المزمع ثم انسني ... لا يثنك الحادي ولا الشّاحجُ
ولا قصيد أعْضَبَ قرنه ... هاج له من مزبع هائج
هذا الفتى يسعى ويسعى له ... تاجٌ له من أمره خالج
يترك ما رقح مِن عيشه ... يعيثُ فيه همجٌ هامجُ
لا تكسع الشول بإغبارها ... إنك لا تدري مَن الناتجُ
واصْببْ لضيفانِك ألبانها ... فإن شَرّ اللبنِ الوالجُ
البابُ الرابعُ والأربعون
في ذكر ما أبهم من الأوقات
حتى لا يتبيّنَ للسامع حالَه وما شرحَ منها
اعلم أنَ مذاهب العرب في التنبيه على أوقات الأفعال مختلفة وذلك لاختلاف أحوالهم فيما يقصدونه من البيان، فربما بالغوا في التعين والشّرح حتى يصير المستدلَ عليه كما يشار باليد إليه، وربما أبهموها اعتماداً على القرائن لأنها قد تنوب عن الأوصاف المخصصة فيعتمد في الإبانة عليها أو ربما أبهموها حتى لا يكاد يتحصل للسامع منها تفقه على واحد منها بعينه لشمول صفاته للأوقات كلها وجميع ذلك موجود في أشعارهم، فمن ذلك قوله يصف امرأةً:
ساهَرْتُ عنها الكالِئين فلم أنَمْ ... حتى التَفت إلى السماك الأعزَلِ
والسماك قد يطلع في كل آناء اللّيل ومثله:
ونائحةٍ صوتها رائِعٌ ... بعثت إذا ارتفعَ المِرزَمُ
وارتفاع المرزم ليس مما يكون وقد لا يكون، ويروى إذا خفق المرزم، وحينئذٍ يقرب التحديد به، ومثل هذا قول الآخر:
حتى رأيتُ عراقي الدلو ساقطةً ... وذو السلاح مصوحَ الدلو قَد طَلَعا
قوله: وذو السّلاح مصوح الدلو: هو مما يكون على حالة واحدة أبداً، وذلك أن السماك الرامح متى طلع سقطت عراقي الدّلو، والمصوح الغيبوبة وقد جاء في المصيح والفعول والفعيل يجتمعان في فعل واحد مصدرين، ومثله الوكوف والوكيف، ومثل قول الآخر:
قلتُ له والجدي فوق الفرقد ... إنك إنْ ضجْ بهذا المرقدِ
لا تَرِد الأمواه إلا من غَدِ(1/216)
ومثله الوكوف والوكيف.
فلما استدارَ الفرقدان زجرتُها ... وهبت شِمال ذو سلاح وأعزلِ
ومعنى هب طلع، فهذه أمثلة المبهمات، ومن المحمود قوله:
فلما أن تَغَمر صاح فيها ... ولما يغلب الصبحُ المنيرُ
والتغمر: شرب دون الري وذلك من خوف الرماة والصبح المنير: الواضح أي كان ذلك سَحَراً قبل استنارة الصبح. وقال الراعي في مثله:
فصبحنَ مسجوراً سقته غمامة ... دعاك القطا ينفضنَ فيه الخوافيا
وقال ذو الرمة:
ففسلتُ وعمودَ الصّبحِ منصدعَ ... عنها وسائرُها بالليل محتجبُ
فهذه الأبيات كلها وقتت آخر الليل. ومما يستدل بالقرينة على حده قول امرئ القيس:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تَعَرضَ أثناء الوِشاح المفضل
ألا ترى أن هذا الوصف وإن كان يتفق في كل آناء الليل فقد حظره بقوله:
فجئتُ وقد نَضتْ لنوم ثيابَها ... لدى الستر إلا لُبسةَ المَتَفَضل
فلما علم أنَّ الموقت يكون من أول الليل وأنَّ الذي وصف من تعرض الثريا إنما يكون عند انصبابها للمغيب، علم أن الزمان زمان الدفيء، فباجتماع هذه الأدلة عاد محظوراً بعد أن كان مرسلاً، ومثله قول حاتم:
وعاذلة هبتْ بليل تلومني ... وقد غاب عيّوقُ الثريا فَغَردا
فغيبوبة العيوق: وإن كان قد يكون في كل آناء الليل ففي ذكره العاذلة دليل على أنه في آخر الليل، لأنه وقت العواذل بدلالة قول زهير شعراً:
غَدَوتُ عليه غدوةَ فوجدتُه ... قعودًا لديه بالضريم عواذِلُهُ
والصريم: بقية من الليل لأنهن يأتين بعد نومهن وبعد إفاقة المعذول.
وإذا علم أن هذا الوقت الذي عنى الشاعر هو في آخر الليل معلوم وهو زمنُ الشتاء وليالي التمام، فقد صار الزمان معلوماً والوقت محظوراً بالأدلة، والتغريد: العدول إلى الغرد، وأصله الغراد والخص، وفي الكلام تقديم وتأخير كأنه قال: وقد غردَ عيوق الثريا فغاب. وكذلك قول أبي ذؤيب شعراً:
فوَردْنَ والعيوق مقعد رأى ... الضربا خلفَ النجم لا تَتبلعُ
لأن العيّوق والنجم يكونان كما وصف، إذا توسطا السماء وتوسطهما السماء آخر الليل إنما يكون في حمارة القيظ. وقوله: مقعد رأى الضربا في حمارة القيظ. وقوله: مقعد رأى الضّربا في إعرابه كلام وقد بينته فيما شرحته من شعر هذيل ومثله قول الآخر. كمقاعد الرقباء للضرباء أيديهم نواهد. قوله: لا تتبلع: أي لا تتعدم، وذلك أن النجوم إذا توسطت السماء خيل إليك أنها تتحير، فلا تبرح لذلك قال: والشمس حَيرى لها في الجو تدويمُ، وليس قول امرئ القيس:
فيا لَكَ مِن ليل كأن نجومَهُ ... بِكُل مغارِ الفَتل شُدت بيذبلِ
من هذا إنما يريد أن يصف الليل بالطول فكأن كواكبه لا تسير، والأول يريد ركود النجوم إذا توسطت السماء خاصة، وقد أحسنَ لبيد في قوله وهو يصف الكواكبَ:
عِشتُ دهراً وما يدوم على ... الأيامِ إلا برمرم وتعارُ
والنجوم التي تتابع بالليل ... وفيها ذات اليمين ازورارُ
دائباً مَورُها ويصرفُها الغَورُ ... كما يَصِرفُ الهجانَ الدوارُ
وإنما ازْوِرارها ذات اليمين عطفاً إلى القطب لأنها جميعاً تدور على القطب الشمالي مرتفع فإذا توسط كوكبٌ ثم انصب فقدرت له في نفسك مغرباً على أم قاصد عدل عن السمت الذي توهمته. وتزاور ذات اليمين حتى يغيب فوق الذي قدرته حتى ربما كان البعد في ذلك بعيداً وعلى هذا حال جميع الكواكب في مدارها، ولازورارها إلى القطب. قال الشاعر يمدح رجلاً:
مالت إليه طلاها واستُطيفَ بهِ ... كما يطيف نجوم الليل بالقطبِ
ولعلة ذلك قال بشر:
وعاندتُ الثريا بعد هَدء ... معاندةً لها العيوق جار(1/217)
لما تدانيا في رأي العين حين توسطا السماء وقد كان أحدهما بعيداً من صاحبه في المطلع جعل ذلك تركاً من الثريا لطريقها، وعدولاً إلى العيوق وليس ذلك بمعاندة، ولكن لما بينته من ازورار النجوم كلها في مدارها إلى القطب، إذ كانت عليه تدور، لأن الكواكب إذا كانت في آفاق السماء كانت أعظم في المنظر، وكان البعد الذي بينها أوسع في الرأي، فإذا توسطت كانت في العين أصغر ورأيت أيضاً أشد تقارباً.
قال أبو حنيفة: لذلك أيضاً يرى الكوكب من الكواكب إذا طلع متقدماً لكوكب آخر، حتى إذا تدليا من وسط السماء يطلبان الغور صار المتقدم متأخراً منهما، والمتأخر متقدماً، وحتى يغيب أبْطَؤُها طلوعاً ويبقى صاحبه بعده مدةً كالسماك الرامح، فإنه يطلع بين يدي الفكة بزمَنٍ ، حتى إذا هما تصوبا للمغيب تقدم السّماك فغاب قبلها بمدة، وكالعيوق فإنه طلع قبل الدبران بزمَن ثم يغيب بعده بحين.
وكذلك الردف يطلع قبل النسر الطائر بقليل، ويغيب بعده بزمَن. وقول لبيد دائب مَورها يعني جريها. وأما قوله: يصرفها الغور كما يصرف الهجان الدوار، فقد أحسن التشبيه لأن النجوم إذا غابت ردها الفلك إلى الطلوع كما يفعل الطائفون بالدّوار، فإنهم إذا قضوا طوافاً استأنفوا طوافاً، والدوار: أنصاب كانت لأهل الجاهلية يطوفون حولها كما طاف بالكعبة.
قال أبو حنيفة: ولازورار الكوكب ذات اليمين قال الشاعر شعراً:
ألا طرقَت دهقانة الركب بعدما ... تقوض نصفُ الليل واعترض النسرُ
يعني النسر الطائر وإنما اعتراضه من قبل ازوراره في السير وأنت تراه في وسط السماء باسطاً جناحاً في جهة الجنوب، وجناحاً في جهة الشمال حتى إذا تصوب للمغيب اعترض فصار أحد جناحيه في جهة المغرب والآخر في جهة المشرق على خلاف الضفة الأولى، مِن هذا النحو قول امرئ القيس شعراً:
إذا ما الثريا في السماء تَعَرضَتْ ... تَعَرضَ أثناء الوشاحِ المفضَل
لأنها تتلقاك في مطالعها بأنفها، وهو أدق طرفيها، حتى إذا تصوبت للمغيب اعترضت فكانت أشبه شيء بانظام جمع طرفاها ثم طرح وتلقاك بعرضه وذلك أن الثريا سطران فهي كانظام مثنى مثنى ومنه قول المرار شعراً:
وبناتِ نعشٍ يعترضْنَ كأنَما ... تمسي الركاب معارضات صواريا
وبنات نعش: من أشد الكواكب اعتراضاً لأنها لا تغيب إلا في بعض المواضع فإذا دار الفلك بها بحيث لا تغيب، نظرت إليها بكل منظر معترضات ومنتصبات ومنقلبات، وكذلك جميع الكواكب المنتظمة على أشكال مما قارب القطب كذلك حالها حيث لا تغيب، فأما تشبيهه إياها بالصوار فإن من عادة الشعراء تشبيه الكواكب بالبقر والظّباء، وإذا رأيتَ الوحش سوارب في مراتعها رأيتَها يضاء تلوح كأنها نجوم.
الباب الخامسُ والأربعون
في الاهتداء بالنجوم
وجودةِ استدلال العرب بها وإصابتهم في أمهم
اعلم أن الاهتداء بالنجوم يحتاج إليها صنفان من الناس: سيارة البحر وسائلة الإغفال والقفر، ولذلك مَهر الهداية بالنجوم الصراريون والأعراب وقد ذكره الله تعالى في جملة ما عدد من نِعَمه على خلقه فقال: )جَعَلَ لكُمُ النجومَ لِتهتَدوا بها في ظُلُماتِ البَر والبَحرِ) سورة الأنعام، الآية: 97، وقال تعالى أيضاً: )وجَعَلنا الليل والنَهار آيتين فمَحْونا آية الليل) سورة الإسراء، الآية: 12، الآية. ثم قال تعالى: )قَدْ فَصلنا الآيات لقوم يَعْلمون) سورة الأنعام، الآية: 97، وهؤلاء الذين فصَّل لهم هذه الآيات واختَصهم بفضل عليها هم الذين عنى بقوله تعالى: )وَبِالنَجم هُمْ يَهتدون) سورة النحل، الآية: 16، فافهم عن الله قوله.(1/218)
ثم اعلم أنه لا يجد من أحب علم الاهتداء بالنجوم بدأ من التقدّم بمعرفة أعيان ما يحتاج إليه منها، واعتبار النظر إليها في جميع آناء الليل حتى يعرفه كمعرفة خلطائه، لئلا يلتبس عليه إذا اختلفت أماكنها في أوقات الليل، فإن كثيراً ممن يعرف النّجم من النّجوم إذا كان في جهة المشرق حتى إذا دار به الفلك فنقله إلى جهة أخرى عَمِي عليه حتى لا يعرفه، ويتحير حتى لا يهتدي إليه، ويحتاج بعد الاستثبات في معرفة أعيانها إلى معرفة مطالعها ومغاربها، وحال مجاريها من لدن طلوعها إلى غروبها، لأنَ ذلك مما يبدل أعيان الكواكب في الأبصار، ويدخل على القلوب الحيرة ويورث الشبهة ويحتاج أيضاً إلى أنْ يعرف سموت البلدان التي تقصد، وجهات الآفاق التي تعمد لئلا يعلم بأي كوكبٍ ينبغي له أنْ يأتمَ.
والتوجه إلى القبلة في كل بلد هو من هذا الجنس أيضاً، وعِلْم ذلك ليس بصغير القدر في خاصة الدين، لأنه أمر أمَرَ الله به عباده فقال تعالى: )مِنْ حيثُ خَرَجت فَوَل وجهكَ شَطْر المسجِدِ الحرامِ وحيثُ ما كنتُم فَوَلُوا وجوهَكُم شَطْره) سورة البقرة، الآية: 150،.
وليس بعد أدلَة الحساب دليل أدَل من أعيان النجوم، فليس الشمس بخارجة منها بل هي أعظم النجوم خطراً وقدراً. وهل الدليل في وضع النهار إلا هي مع ما استعان به الإنسان من هبوب ريح، وكلّ ذلك في الدلالة دونها فإذا تقدّم المرء فأحكم عِلمٍ ما وصفت، ثم كان ثبْتاً في النظر، فَطِناً في العِبر، أدرَكَ علمَ الهداية.
وذكر جبار بن مالك عامر بن الطفيل فقال: كان لا يضل حتى يضل النجم ولا يعطش حتى يعطش البعير، ولا يهاب حتى يهاب السيل، كان والله خير ما كان يكون، حتى لا تظن نفس بنفس خيراً. والعرب تقول للدّليل إذا كان هادياً إنّه لدليل ختع وخوتع، وإنه لبرت وإنه لخريت، وإنه لدليل مخشف.
وذكر اللغويون: أنه إنّما سُمي خرّيتاً لأنه كان يهتدي بمثل خرت الإبرة وقال الشاعر في البرت:
وَمَهمهٍ طعنتُ في مغبرة ... تَلْه عينِ البْرت من ذي شره
تله: من الوله وهو ذباب العقل، وقال رؤبة يصف أرضاً مجهلاً. ينبو بإصغاء الذليل البرت. يعني إذا توجّس، وقال ذو الرمة في الختع فجاء به على فوعل ووصف فلاة:
يهماء لا يحنا بها المغزرُ ... بها يضل الخوتعُ المشَفرُ
يريد بالمشهر المعروف المشار إليه بالهداية وقال الخطفي:
حتّى إذا ما طرد النيف السّفا ... قرين بزلاً ودليلاً مخشفا
قال أبو عبيدة: وللعرب في حسن الاهتداء في المعامي المضال، والمجاهل الاغفال أحاديث عجيبة في جاهليتها وإسلامها، كان الرجل منهم يعدو على الإبل ببلاد لخم وجذام وهي واغلة في الشام أو بسماوة كَلب فيقطعها ثم يطردها متنكراً بها أوطان الانس متتبعاً بها بلاد الوحش، حتى يلقى بها الأسواق إما بصعدة من اليمن، أو بحجَر من اليمامة، فيتبعهن ويفعل مثل ذلك باليمن. ثم يَرِدُ سوق بصرى أو اذرعات ونحوهما من أسواق الشام، وكان الواحد من الرابيل وهم الذين يغزون فرادى، وذو السّرية وهو الذي يغزو في شيعته فيمضي في تلك المعامي وفي مناقع المياه فيأخذ بيضَ النعام فينقعها ويملؤُها ماءً ويدفنها، فإذا بلغ غاية مراده وجاء الوقت الذي ينتظره، ولعل ذلك يكون في مدة شهر في مسيره، حتى إذا نضبَت المياه، وانقطع الغزو وأمِنَ النّاس اعتمد مغزاه فلا يُخطِئ السمت ولا يضل عن تلك الدفائن، فيمضي معتسفاً على غير هدى، مستثيراً ذلك البيض، ومعتمداً عليه في شراء به ثم يرجع عَودَهُ على بَدْئه لا يستدل إلا بالشمس أو الكوكب.
قال: وممن فعل ذلك وعلة الجرمي في الجاهلية، وله قصة، وكان السليك بن السلَكة السعدي، ثم أحد بني مقاعس ممن يفعل ذلك، وكان أول الناس بالأرض ومن هداتهم المشهورين في الجاهلية وله قصة دعميص الرمل العبدي يزعمون أنه ورد الديار التي يزعمون أن بها إرَمَ ذات العماد، ولم يردها أحد قط غيره وخبره مشهور. وسُمي دعميص الرّمل تشبيهاً بدعموص الماء.
وقال الأصمعي: يقال للدخال الخراج، حيث لا يرام دعموص، قال الشاعر يصف رجلاً:
دعموص أبواب الملوكِ وجائب للخرقِ فاتِح(1/219)
يعني أنَه يلج أبواب الملوك ولا يحجب عنهم. وقال الأصمعي: حدثني شيخِّ مِنْ غطفان قال: أرسل زياد بن سيارة أخاه من أرض بني عامر فقال: إني أسير عشراً ولا أدله، أي لا عِلمَ لي بالهداية، قال: ادخل تحت هذا الكوكب حتى تبلغ.
وحكى ابن الأعرابي قال: يقال: دل يدل من الدلالة أي صار دليلاً، ودل غيره يدله دلالةٌ ودلالة، ودلت المرأة تدل دلالاً، وأدل يدلٌ من الإدلال.
وممن شهر بالهداية: عبد الله بن أريقط دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرِ رضي الله عنه، حيث هاجر وهما مطلوبان فتخلل الطرق حتى أوردها المدينة.
ومن المشتهرين منهم في الإسلام بالهداية: رافع بن عميرة الطائي دليل خالد بن الوليد رضي الله عنه حين توجه من العراق يريد الشام، فخادعن جيش الروم وهم على طريقه ببلاد الجزيرة، فامتد رافع مفوزاً به مِن قراقر إلى سوى وبينهما فلاة مجهل فقال فيه الشاعر:
لله عينا رافعٍ أنى اهتدى ... فوز من قراقر إلى سوى
خمساً إذا ما ساره الجيش بكى ... ما سارَها من قبله إنس يرى
وممن شهر منهم أيضاً بصَدق الأم: عبد الجبار بن يزيد الكلبي دليل بني المهلب حين فروا من يد الحجاج إلى سليمان بن عبد الملك، وكانوا محتبسين بلعلع فهربوا ولحقوا بالشّام، فتنكب بهم عبد الجبار جواد الطرق وتتبّع معامي الأرض فتحير يوماً وهم بالسماوة، وارتبك، فاتهمه يزيد وأراد قتله، فقال له عبد الجبار: أنت على قتلي إذا شئتَ قادر، ولكن دعني أنم نومةَ فنام ثم انتبه، وقد تجلت حيرته فَسَمَت بهم السمت المصيب حتى نفد فقال شعراٌ :
ورهط من أبناء الملوك هديتَهم ... بلا علم بادٍ ولا ضوء كوكبِ
ولا قمرٍ إلا ضئيل كأنه ... سوار جلاه صانع السّور مذهبِ
على كل خرجوجِ كأن ضلوعها ... إذا حُل عنها الكورُ أعواد مُشجبِ
قوله: ولا ضوء كوكب: يعني أن الكواكب غمت في القتام فهداهم بالقمر ثم أخبر أن القمر أيضاً ضئيل لما دونه من القتام، فكأنه في تلك الحالة سوار ذهب.
وذكر ابن الأعرابي وهو يعد أدلاء العرب في الإسلام، فقال: هم ثلاثة فذكر رافعاً وعبد الجبار وزاد في شعره:
تفرُ فِرارَ الشمس ممن وراءَنا ... ونُمسي بجلباب من الليل غيهبِ
فإلا تصبح بعد خمس ركابنا ... سليمان مِنْ أهل الملاء تناوب
قوله: نفرِّ فرار الشمس يريد أنا نتوجه إلى المغرب كما تغرب الشمس.
وجعل الثالث منهم خالد بن دثار الفزاري دليل ابن فزارة على بنات قين حين قتلت كليباً. وقال أبو ذؤيب: يشبه النجوم بالوحش وهو يذكر امرأة:
بأطيبَ منها إذا ما النجومُ ... تعانقْنَ مثلَ توالي البقر
وقال آخر:
وَرَدتُ وأرادفَ النجوم كأنَّها ... مهاة علت من رمل يبرين رائباً
وقال ذو الرمة يشبه الوحش بالكوكب شعراً:
كأن بلادهن سماءٌ ليل ... تكشف عَنْ كواكِبها الغيومُ
وقال آخر:
وردتُ وآفاقَ السماء كأنها ... بها بقر أقناؤُه وهراقبه
الهراقب: المسان شبه الكبار بالهراقب، والصغار بالأقناء. وقال ابن كناسة وفي الاهتداء بالنجوم يقول الشاعر:
نَؤُتمُ بآفاق السماء وترتمي ... مغانيها أرجاء دوايةِ قفر
وقال أبو حنيفة قول الشاعر:
رأت غلامي سفر بعيد ... يدرِعان الليل ذا السدودِ
إما بكل كوكب جريد
إنما اختص الفرد الحريد لأن الجماعة يتغير حالها في المطالع والمغارب والمجاري فتلتبس، وضبط السير بالحريد أسهل، ومَن لم يكن مدرباً بمعرفة أعيان الكواكب التبس عليه الحريد أيضاً إذا تغير مكانه.
وروي عن شيخ من العرب أنه سرى برفيق له فتعب، فقال لرفيقه: هذا الجدي جِداه كثيرة فلم أدرِ أيُها هو، ولذلك قال الآخر شعراً:
بصباصَةُ الخمس في زوراءَ مهلكة ... يهدي الأدلاء فيها كوكب وَحِد(1/220)
وقال الفرزدق يهجو عاصماً العبدي، وكان أدل العرب وأعرفهم بالنجم وأقدمهم على هول الليل بالليل، وأراد أن يضل الفرزدق ويقتله غِشاً وذاك أنه استصحبه إلى المدينة ليلقى سعيد بن العاص، ورغبه في جعله، فلما ركب الفلاة أراد أن يغتال الفرزدق ليحظى به عند زياد ويحبوه ويعطيه، فلما كانا في اللّيل وأمعنا في السير انتبه الفرزدق فإذا النجم على غير الطريق، فصاح بالعنبري إنك على غير الطريق، فانتبه فقال: أنت على الطريق، ناولني إداوتك فإني عطشان وخبأ اداوته، فقال الفرزدق: والذي أحلفُ به لتموتَن قبلي، وشهرَ السيف عيه فأقامه على الطريق، وعرض لهما الأسد على الطريق، فقال العنبري هذا الأسد على الطريق، فأناخ الفرزدق ناقته وأخذ سيفه وجحفته وأقبل إلى الأسد وهو يقول:
فلأنتَ أهونُ من زياد شَوْكةً ... اذْهَبْ إليكَ محزم الشغار
فتنحى الأسد عن الطريق ومضيا، فقلب الفرزدق هذا المعنى كله ونسب العنبري إلى الجبن وأنه ليس بالخزيت راعٍ لا يصلحُ إلا لرعي الغنم وطعن في نسبه. فقال شعراً:
ما نحن إنْ جارَتْ صدوُر ركابنا ... بأول مَن عزت هدايةُ عاصِمِ
أراد طريق العنصلين فياسَرَت ... به العيسُ في ناي الصوى متشايم
العنصلين على طريق مكة، وياسَرَت: أخذت يساراً والمتشايم الآخذ إلى الشام، قال: وسمعتُ فصيحاً يقول: توصلوا أتوا الموصل فأسقط الميم.
فكيف يضل العنبريُ ببلدةٍ ... بها قطعتْ عنه سيورُ التمائِمِ
أي لو كان عنبرياً لعرف بلاده.
فإن امرؤ ضل البلاد التي بها ... تغبر ثديي أمه غير حازمِ
تغبر: أي أتم رضاعه، والغبر بقية اللبن.
بلاد بها ذلت يديه ورأسه ... ورجليه من جار استِها المتضاجِمِ
يعني بالجار الفرج وأصل الضجم العوج في شفتي الرجل.
شعر:
ولو كانت في غير الفلاة خنوعاً ... خنوعاً بأعناق الجداء التوائم
أي لو كان في رعي الجداء لأحسن رعيها وأخذها بأعناقها ففصلها عن أمهاتها.
شعر:
وكنتُ إذا كلفتُ صاحب ثلةٍ ... سرى الليل دنا أم فروج المخارِم
الثلة: القطيع من الشاء والثلة الجماعة من الناس ودنا قصر والفروج الطرق.
رأى الليل داغول عليه ولمْ يكن ... يكلفه المِعزى عظام المجاشِم
الغول الموت ومنه غالته غول.
أنخنا بهجرٍ بعدما وَقَد الحصى ... وذابَ لُعابُ الشَمسِ فوقَ الجماجم
ونحنُ بِذي الأرطي يعيس ظماؤنا ... لنا بالحصى شرباً صحيحَ المقاسم
أي ليس فيه ضيم، أي لا يفضل فيه أحد على أحدٍ . شعر:
فلما تضاما في الإداوة أجهشَت ... إلى غضون العنبري الجراضِم
تضافى غضونه عروق حلقه وثنيه، والجراضم الشديد الأكل، ويروى: فلما تصافنا الإداوة، والتصافن: التقاسم على الماء عند قلته وضيقه في المفاوز.
وجاء بجلمودٍ له مثل رأسِهِ ... ليسقي عليه الماء بين الصرايِمِ
تشنع عليه بهذا لأنَ المقلة حصاة صغيرة يقسم عليها.
فضاقَ عن الأثفية القعب إذ رمى ... بهما عنبري مفطر غير صائم
يريد أن القعب لم يسع الجلمود لِعَظَمه.
ولمّا رأيتُ العبري كأنَه ... على الكفل حران الضباع القشاعِمِ
أي المسان، وقيل الضّبع لا صبرَ لها على العطش.
صدى الجوف يهوي مسمعاة قد التظى ... عليه لَظى يوم من القيظِ جاحم
جاحم: شديد، يهوي أي يجدد ما في رأسه من العطش.
شددتُ له أزري وخضخَضْت نظفةً ... لِصديان يرمي رأسه بالسمايم
أي تحيات لأوثره على نفسه خوفاً من أن يموت.
وقلتُ له ارفع جلد عينيك إنما ... حياتك بالدهنا وحيف الرواسم
أمر صاحبه أن يشمر للسير أي حياتك في قطع الطريق. شعر:
عشية خمس القوم إذ كان فيهم ... بقايا الأداوي في النفوس الكرائم
فآثرتُه لما رأيتُ الذي به ... على القوم أخشى لا حقاتِ الملاوم
حفاظاً ولو أن الأداوة تشترى ... غلت فوق أثمان عظام المغارِمِ
على ساعة لو كان في القوم حاتماً ... على جوده ضَنت بها نفسُ حاتم(1/221)
وكان كأصحاب ابن مامة إذ سقى ... أخا النمر العطشان يوم الضجاعم
الضجاعم: من منازل الفرزدق، شبه الفرزدق بنفسه بكعب بن مامة الإيادي لما آثر العنبري على نفسه، وذلك أن كعباً نزل بموضع يقال وهب أو وهبين وقد اتقد القيظ، وكان صديقه ورفيقه التمري في سفرته فعطش القوم فاقتسموا وكاد النمري يهلك عطشاً، فقال لساقي القوم: اعط أخاك النّمري يصطبح، فجعل له الماء صبوحاً لعزه، وإنما يكون الصبوح في اللبن والنبيذ، ثم أعاد القوم القسم فنظر كعب إلى النمري قد غلبه العطش، ودارت عيناه في رأسه، فقال لصاحب القسم: اعط أخاك النمري يصطبح، فآثره بشربته، ثم ثلثَ الساقي فآثره، وارتحل القوم، فلما ركبوا الفلاة أناخ كعب ناقته وقال: يا قوم النجاء ألا ماء معكم فإني أحسّ الموت، فمات كعب وارتحل أصحابه، ومعهم نجيبته وسلاحه ومتاعه فأوردوه أهله فقال أبوه وقد كتم بعض الخبر شعراً:
أمِن نطفِ الدهنا وقلة مائِها ... ذواتِ الرمالِ لا يكلمني كعبُ
فلو أنني لاقيتُ كعباً مكسراً ... بأنقاء وهب حيثُ ركبها وهبُ
لآسيت كعباً في الحياة التي ترى ... فعشنا جميعاً أو لكان لنا شربُ
وقال فيه:
ما كان من أحدٍ أسقى على ظمأ ... خمراً بماء إذا ناجورُها برداً
من ابن مامة كعبٍ ثم عى به ... زوء المنيّة إلا حرة وقدا
يروى وقذا فيه:
أوفى على الماء كعب ثم قيل له ... يا كعبُ إنك وراد فما وردا
ويروى ورد كعب. وأما التعاقب بها فمنه قول الفرزدق شعراً:
أقولُ لمغلوب أماتَ عظامَهُ ... تعاقُبُ أدراج النُجوم العَوايمِ
سَتُدنيك مِنْ خير البرية فاعتدِلْ ... سأقِل نص اليعمَلات الرواسم
وتعاقب النجوم: أن يؤقت القوم لمقدار مسيرهم وقتاً فتلك عقبتهم فإذا قضوها ودخلوا في غيرها من أمثالها فتلك عقبة ثانية، فإن دام ذلك منهم فذلك تعاقب أدراج الكوكب، ومن ذلك سَقوا الطريق مدرجة، ومِن هذا قول الراجز يخاطب ناقته:
سامي سمامات النهار واجعلي ... لفلكِ ادراج النجوم الأفل
ويقال للكوكب الذي يعاقب به: معقب. فقال ذو الرمة يذكر المطايا ودوام سيرها
إذا اعتقَبت نجماً وغاب تسحرَتْ ... علالةُ نجم آخرَ الليل طالع
جعل السير سحوراً لها في الآخر، كما جعلها غبوقاً لها في الأول. وقال الراعي وذكر إبله:
أرى إبلي تكالأ راعياها ... مخافةَ جارها طبق النجوم
تكالأ: تحارس وقوله: طبق النجوم أي الليل كلّه فتكالؤها طبق النجوم ودرج النجوم. ومِنْ هذا قول الآخر:
ولا العسيفُ الذي يشتد عقبةَ ... حتى يبيتَ وباقي نعلِهِ قِطَع
وقال بعضهم:
فأصبحن لا يتركْن من ليلةِ السرى ... لذي الشوق إلا عقبة الدبران
كأنهم جعلوا لمدى سُراهم طلوع نجوم معلومة، وكان الدبران آخرها، فقضوا عقب تلك النجوم كلها إلا عقبة الدبران، فإنهم قطعوا السير حين بلغوه، وكان المشتاق يهوى ألا يقطعوه وقال حميد بن ثور شعراً:
قد لاحَه عقبُ النهار وسيره ... بالفرقدينِ كما يُلاحُ المِسعر
البابُ السادسُ والأربعون
في صفة ظَلام اللَّيل واستحكامه وامتِزاجه
قال النضر: سدف الليل: ظلماؤه وستره، وقد أسدفَ علينا الليل أي أظلم، وقال غيره: السدف والسدفة بقيّة من سواد اللّيل في آخره مع الفجر. وقال الأصمعي: السدف الظلمة. قال العجّاج: وأقطعُ الليلَ إذا ما أسدَفا. والسدف: الضوء أيضاً. قال أبو داود:
فلما أضاءت لنا سدفة ... ولاحَ مع الصبح خيط أنارا
وقال الدريدي: كل العرب يسمي الظلمة سدفاً إلا هوازن فإنها تقول: أسْدفي لنا أي أسرجي لنا، فكأن السدفة عندهم اختلاط بياض الصبح بباقي سواد الليل وذلك عند سائر العرب الغطاط والغبش بقية من سواد الليل في آخره والجميع أغباش. قال ذو الرمة:
أغباش ليل تمام كان طارقه ... تطخطخَ حتى ماله جوب
ويقال: غبش الليل وأغبش.
ويقال: غسا الليل غسواً وغسي غساً، وأغسى الليل أيضاً إذا أظلم. ويقال لمن أراد السفر أغس من الليل شيئاً ثم ارتحل أي أقم ساعةً.(1/222)
ويقال للظلمة والآمر غير الرشيد عشوةً وعشوة وعشوة وتعشيتني أوطأتني عشوة، وأعشينا دخلنا في الظلمة، والعشواء بمنزلة الظلماء، ويقال: هو في عشواء من أمره. والغطش السدف وقد أغطش الليل وغطش أيضاً.
وأغسينا: أمسينا. قال الأصمعي: أغسى الليل وغسى يغسى وغسا يغسو، غسواً، وهو مساؤه واختلاطه. وحكى أبو بكر الدريدي عن الأصمعي قال: قلت لأبي عمرو أتقول غس الليل يغسي؟ فقال: سمعت أعرابياً منذ ستين سنة ينشد:
كأن الليل لا يغسى عليه ... إذا زجر السبنداة الأمونا
وهذا من غسى يغسى، وسمعت بعد ذلك لسنين منشداً ينشده شعراً:
فلما غسي ليلي وأيقنتُ أنها ... هي الأرباء جاءت بأم حبو كرا
فهذا من غسى يغسو. ثم سمعت رويتكم ينشد. ومر أيام وليل مغس فهذا من غسى يغسى.
ويقال: ليل دامس: وهو الأسود الذي ألبس كل شيء وقد دمست ليلتك تدمس دموساً. وأنشد:
لو كنتُ أمسيت طليحاً ناعسا ... لم يلق ذا رواية درابسا
يسقى عليها أغنماً خوامسا ... يحتابُ موماةً وليلاً دامسا
وشركاً من الطّريق دارسا ... يحمل سوطاً أو وبيلاً يابسا
الوبيل: الهراوة وأصل الدّمس: التّغطية. وأنشد الفراء عن الكسائي شعراً:
إذا ذقتُ فاها قلتُ علق مدمس ... أريدَ به قيل فغودرَ في سأب
أراد بالعلق الخمر والمدمس المغطى والقيل الملك والسأب الزّق.
ويقال: غلسنا الماء أي أتيناه قبل الصبح بسوادٍ من الليل وجنوح القيل إذا ذهب معارف الأرض لظلامه.
وجنون الليل إظلامه، ويقال: جنَ علينا الليل. النضر يقال: تطخطخ الليل وأظلم في غيم وغير غيم إذا لم يكن فيه قمر، فمانْ كان فيه قمر فجاء غيم وذهب بضوئه فقد تطخطخ أيضاً، وليلة طخياء، وقد طخطخ الليل على فلان بصره أي تركه لا يبصر من ظلمته، وتطخطخ بصر فلان: أي عمي.
ويقال: تدحرج الليل أيضاً: وهو اختلاطه وظلماؤه كان فيه غيم أو لم يكن وتدحرجت الظلماء وأنشد:
حتى إذا ما ليله تدحرجا ... وانجابَ لونُ الأفقِ البرندجا
ويقال: ليلة غمرة ومغمرة: بينة الغدر إذا كانت شديدة الظلمة، وفي الحديث: )المشي إلى المسجد في اللّيلة المغدرة يوجب كذا وكذا).
وليلة دامجة وليل دامج وخداري قال يعقوب: الخدارية الظلماء الشديدة السواد البهيم، ويقال: ليلتك هذه خدارية قال العجاج:
وخدر الليل فيجتاب الخدر
ويقال: غطا الليل يغطو إذا ألبس كل شيء. وكل شيء ارتفع فقد غطا. وكذلك: دجا الليل يدجو إذا ألبس كل شيء، وتدجى أيضاً وأدجى. قال يعقوب: وليس هو من الظلمة إنما هو من الاشتمال. وقال الأصمعي: ودجا شعر الماعزة: إذا ألبس بعضه بعضاً. وأنشدني أعرابي أبى مذ دجا الإسلام لا يتجنفُ. وقال: وتدَجى بعد نور، واعتدل، وقال غيره: ليلة داجية سوداء. وأنشد في أدجى شعراً:
إذا الليلُ أدجى واستقلت نجومُه ... وصاح من الإفراط هائم جواثمُ
وقال نضر: الدجى دجى الغيم وهو أن لا ترى قمراً ولا نجماً، لأن السحاب يواريه ولا يكون الدجى إلا بالليل، وهذه ليلة دجى، وما زلنا نسير في دجى حتى أتيناكم أبو زيد غمى مثل كسلى إذا كان على السماء غمى مثل رمى، وغم وهو أن يغم عليهم الهلال، وليل دجوجي قال:
وليل دجوجي تعسفتُ هوله ... بلا صاحبٍ إلا الحسامُ المذكرُ
غيره: ليلة مدلهمة: مظلمة، وديجور وديجوج. والطرمساء الظلمة. يقال: أطرمس الليل أي أظلم. وقال الدريدي: الطرمساء تراكب الظلمة والغبار. ومنه طرمس الليل وطرسم. ويقال: الطلمساء أيضاً. وأنشد في ليلةٍ طخياء طرمساء. والطرمسة والطلمسة ومَر طرمساء من الليل: أي قطعة عظيمة. وحكى أبو حاتم طرفساء أيضاً.
والغيهب نحوه، والعلجوم الظلمة وكل شيء أسود. قال ذو الرمة: ظلماء علجوم: أي التي لا ترى معها من سوادها شيئاً. والمسحنكك الأسود، والملطخم مثله، الأموي ليلة غاضية شديدة الظلمة. يقال: ليل طيسل: مظلم، عن أبي عمرو ليل دحمس، قال أبو نخيلة:
وادرعي جلبابَ ليل دحمسِ ... أسود داجٍ مثل لون السندس
والغردقة: إلباس الليل، يقال: غردقت سترها إذا أرسلته، وتأطم الليل ظلمته. وليلة مطلخمة: وقد اطلخمت علينا الظلمة فما يبصر منها شيئاً.(1/223)
يقال: ليلة بهيم لا يبصر فيها شيء، وليال بهم. والحندس: الليل الشديد الظلمة. يقال: حندس الليل وليال حنادس قال شعراً:
وليلة من الليالي حُندس ... لونُ حواشيها كَلَون السندس
ويقال: ليلة طخياء: بينة الطخاء، وذلك إذا كان السحاب بعد قمر، فاشتدت الظلمة فطخا الليل، وسرنا إليكم في ليالٍ طخى، قال الراجز:
وليلة طخياءَ ترَمعِلُ ... فيها على الساري نديُ مخضِل
ترمعل: يسير يقال أرمعل دمعه: سال.
ويقال: ظلمة ابن جمير، وفحمة ابن جمير: لليلة التي لا يطلع فيها القمر.
قال: نهارهم ليل بهيم، فإن كان بحراً فحمة ابن جمير رماهم بالتلصص والتغيب بالنهار، وقال ابن زهير:
وإنْ أغارَ فلم يحلى بطائلةِ ... في ظلمة ابن جميرٍ ساورَ القُطما
قوله: لم يحلى: أتى بالفعل على التمام. وذكر بعضهم أن ابن جمير: الليل المظلم لاجتماع الناس إلى منازلهم. وابن ثمير: الليل المقبل، لأنه يثمر انبساط الناس للحديث وغيره من التصرف. قال: وهذا من قولهم: هذا جمير القوم أي مجتمعهم وشعر مجمر أي مضغور ومجمور، وأجمروا على الآلاء أي أجمعوا.
وليلة معلنكسة، أي مظلمة، وليلة ظلماء ديجور، وهي الدياجير أي الظلّمة وليل عظلم أي مظلم. قال:
وليل عظلم عرضْتُ نفسي ... وكنتُ مشيعاً رحبَ الذراعِ
ويقال: أغضن الليل وأغضى وأغضف وطلخم وادلهم وروق.
ويقال: أرخى رواقيه وسجوفه وسدوله.
وغسق الليل: ظلمته، ومنه قول عمر حين غسق الليل على الضراب أي انصب.
وسجو الليل إذا غطى الليل النهار، ويقال: هو من التسجية، كقولك سجية بالثور. قال:
يُؤرقُ أعلى صوتِها كل فائح ... حزين إذا ليلُ التمام سجالها
وحكى قطرب الغبس بعد الفحمة. وقال الخليل: هو لون الذئب، يقال: ذئب أغبس وليل أغبس، وغبس الليل وأغبس. وعسعس الليل إذا أظلم وإذا أدبَرَ.
قال قطرب: هي من الأضماد، وحقيقة ذلك أنها طرفاه، فهذا ما ذهب عن معظمه. وقال. ابن عباس: والليل إذا عَسعَسَ أي أدبَر. وقال علقمة:
حتّى إذا الصبح لنا تنفسا ... وانجاب عنها ليلُها وعسَعسا
وقال آخر:
وردَتُ بأفراس عِتاقٍ وَفية ... فَوارطَ في أعجازِ ليل مُعسعَس
وقال آخر:
قوارب من غير دجنٍ مسسا ... مدرعاتِ الليل لما عسَعَسا
والشميط: بياض الصبح في سواد الليل وهو عندنا مشبه بالشيب، وقد قيل في الثلاث من آخر الشهر الدادي، ثم جعل دادي صفة لشدة ظلمتهن كما قيل: حنادس ثم قالوا: أسود حندس.
ويقال: إن عليك ليلاً أغضف، وهو الذي علا كل شيء، وألبسه، وقد تضغفَ علينا الليل أي ألبسنا وأظلم علينا.
ويقال: إن عليك ليلاً مرحجناً، وهو المجلل والملبس وقد أرْحَجنَ الليل.
وليل اثجل: أي واسع وليلة ثجلاء، ويوم اثجل. وعكمس الليل: أظلم، وهو عكامس وعكمس متراكم الظلمة كثيفها. وأدلمس الليل: وليل دلامس: مظلم.
وحكى الدريدي: طرشم الليل وطرمَش أظلم، وغطرش الليل بصره وغرطش: أظلم عليه.
والغيطل: اختلاط ظلمة الليل واختلاط أصوات الناس واشتقاقه من الغطل: وهو تغطية الشيء، يقال: غطلت السماء يومنا وأغطلت إذا أطبق دَجنها.
ويقال: أتانا حين وارى دمس دمساً وحين سد الليل كلّ خصاص ودارى كل جداد. وأنشد:
والليل غامر جدادها دُجا ... حين قلت أخوك أم الذئب
ويقال: ليل أدعج، ويقال: التفت غياطل الليل، واسحنككَ عساكر وتَلاَحَزَتِ المسالك به، وذلك تراكم الظلمة ومعنى تلاحزت: تضايَقَتْ.
وشجيج لحز: أي ضيق. والفتل إظلام الأرض من النخل والشجر.
ويقال: غتل يغتل غتلاً حكاه الدريدي. وقال أبو مالك: السديم الرفيق من الضباب. وأنشد شعراً:
وقد حالَ رُكْن مِنْ أحَيْمرٍ دونَهم ... كأنَّ ذراهُ جللَت بسِديم
والجنان ذكر بعضهم في أسماء الليل. وأنشد:
وساري جنان مُقفَعِل بناتُه ... رفعت بِضوءً ساطعٍ فاهْتَدى ليا
يعني رجلاً أقوى فاستنيخ فأوقَدَ له ناراً ليهتدي بها، وقال غيره: جنان الليل وأنشد:
ولولا جنانُ الليل أدرك ركضنا ... بني الأثل والأرطي عياض بن ناشب(1/224)
وحكى عمرو عن أبيه قال: سمعت أعرابياً يقول: ما زلتُ أتعسف الهولول حتى سطع الفرقان، قلت: ما الهولول. قال: ظلمته. قلت: وما الفرقان. قال: الصبح.
وحكى سلمة عن الفراء عن الكسائي قال: لم يسمع في الألوان فعلول إلا هذا، وحلكوك، قال ثعلب: قلت: ذلك لابن الأعرابي فوافقه. ويقال: أطم الدجى وأقفل باب النور بالظلمة قال:
بدالي كملتاح الجناحيْن والدجى ... مطم وباب النور بالليل مقفل
وقالوا: قسورة الليل: شدّته، وقسوره، وقال توبة بن الحمير: وقسورة الليل الذي بين نصفه وبين العشاء قد أذابت أسيرها، وقيل في قوله تعالى: )فَزَتْ مِنْ قَسَورة) سورة المدثر، الآية: 51، إنه الأسد، وقيل: أريد به الرماة وأنشد:
وقسورة أكتافهم في قسيهم ... إذا ما مشَوا لا يغمزون مِنَ النساء
ويقال: دبر الليل ثبوراً وأدبَر فدبر: ذهب وأعبر ولى، وقيل: أدبر أخذ به في النقص وكما قيل: ثبر وأدبر بمعنى قبل قبل وأقبل. وقال ابن عباس: إنما هو واللّيل إذا أدبر فأما أدبر: فإنما يقال: أدبر: ظهر البعير وقرأه زيد إذا أدبر، ويقال: دبرني أي جاء من خلفي.
البابُ السّابع والأربعون
في صِفة طولِ الليل والنّهار
وقصرهما وتشبيه النجوم بها
ويقال: متح الليل وهو يمتح متحاً إذا طال وكذلك النهار.
ومنه قولهم: بيننا وبينهم كذا فرسخاً متحاً أي مدا وفرس متاح مداد.
وسرنا في ليلة عكامسة وعكمسة أي طويلة، حكاه أبو حاتم قال: ويقال: عكر عكامس أي كثير من الإبل. ويقال: يوم اثجل أي واسع وليلة ثجلاء، ومنه الثجل في الخاصرة وليل التمام في الشتاء أطول ما يكون الليل، ويكون لكل نجم أي يطول الليل حتى تطلع النجوم كلها في ليلة واحدة. قال: وسمعتُ أبا عمروٍ يقول: إذا كان اثنتي عشرة ساعة فما زاد فهو ليل التمام. وأنشد:
لقد طرقت دهماء والبعدُ دونها ... وليل كأثناء اللقاع بهيم
على عجل والصبح تالٍ كأنه ... بأدعجَ مِن ليل التمام بريمُ
فجعل ليل التمام للطويل من الليالي خاصةَ آخر.
كأن شميطَ الصّبحِ في أخرياتِهِ ... مَلاء تجلى عَن طيالِسَة خُضر
تخالُ بقاياها التي أسأر الدجى ... تمد وشيعاً فوق أردية الفجر
ويقال: أغضب وهو انثناؤه وطوله واجتماعه وإقباله.
وحكي أن عليك لِيلاً أغضف، قال العجاج: فانغضفت بمرحجن أغضفا. والمرحجن: الطويل الثّقيل، وقال الدريدي: ذكر أبو عبيدة أن المتلهب والمتمهل مثل المسجهر وهو امتداد الليل وغيره. وحكى ثعلب عن رجاله قالوا: ليل التمام في الشتاء أطول ما يكون لكل نجم طويل أي يطول الليل حتى تطلع النجم كلها وقال أبو عمرو الشيباني وحده إذا كان ظلمته خالصةً فهو الخيط الأسود، وإذا خلص ضوؤه فهو الخيط الأبيض. والبريم والشميط إذا اختلط، وفي القرآن: )وكُلوا واشْرَبوا حتى يتَبينَ لكُم الخيطُ الأبيضُ مِنَ الخيطِ الأسود) سورة البقرة الآية: 187،.
وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: ما كان من الأجسام والمعاين من الأشياء فهو التمام بالكسر الفصيح العالي، ويجوز التمام بالفتح وما كان من الكلام والأفعال وما شاكلها فهو التمام بالفتح لا يجوز غيره، يقال: ليلُ التمام والتمام وقمر التمام والتمام وولدته للتمام والتمام. فإذا جئتَ إلى الأفعال والكلام قلت: تَم الكلام تماماً، وتتم الأمر تماماً، وإذا أردت أن القمر تَم في نفسه قلت: تم تماماً وتم النهار تماماً وتم الليل تماماً. وقال الأصمعي: لا يكسر التاء منه إلا في الحمل والليل وما يجري مجرى المثل طال عَلَي الليل ولا أسب له أي لا أكُن كالتسبي فأستطيله يدعو لنفسه أن لا يبتلي بما يطيل الليل عليه.
الأصمعي شهر المليساء أطول الشهور عليهم، وأتعبها لهم، ويكون على أثر الصفرية وهو نجمان السماك والغفر، فهم يشتغلون في أيام المليساء بأنفسهم ومواشيهم ومسيرهم، لأنهم يحتاجون إلى إعداد المثاوي والبيوت ومأوى الإبل والغنم والعنز والحظائر، والضرب في الأرض استعداداً للشتاء.
وحكى الدريدي: اجْرَهدَ النهار أو الليل طال، واجرهد بالقوم السير: إذا امتد بهم ظلام وشدة. وأنشد:
وليلؤ داجية طخياءَ ... حالكةٍ الإهاب والرداء
يضرب بالذاهب وجه الجائي
ابن المعذل:(1/225)
أقول وجنح الدجى ملبد ... ولليل في كل فج يَدُ
ويقال: عجبتُ من سرع ذلك الوقت، ومن سريحه في الليل والنهار جميعاً قال: فيقولون: أدرِكْ يومك أو ليلتك بربغة أي: بجنة وحدثانة، وهذا كما يقال: اتق الناقة بجن ضراسها أي بحدثان نتاجها وسوء خلقها، ويدخل في هذا الباب قول الشاعر:
يكون بها دليلُ القوم نجم ... كعينِ الكلب في هَبيء قباع
يعني أن الكوكَب بالظلام تعصب وبالقتام انتقب، فليس يظهر منه إلا شفا وشبهه بعين الكلب: لدوام إغضائه واتصال نعاسه. والهبي جمع هاب وهو الذي حال دونه الهباء والقباع: الدواخل في الظلام.
ويقال: قبع القنفذ إذا أدخل رأسه في قرونه قبوعاً، وعلى هذا يقولون: تخاوَصت النجوم وتخازَرت. أبو تمام:
إليكَ هَتَكْنا جَنْحَ ليل كأنه ... قد اكتحَلَت مِنه البلاد بإثْمِدِ
أبو نواس:
أبِنْ لي كيفَ صِرْت إلى حريمي ... ونجمُ الليل مكتحل بغار
فأمّا تشبيه النجوم فبابه واسع إلا أنا نذكر منه ما يستحسن من شعر القدماء أو يستغرب من ذلك قول مهلهل:
ألَيلَتَنا بذي جسمٍ أنيري ... إذا أنتِ انْقَضَيتِ فلا تحوري
فإنْ يكُ بالذنائِب طالَ ليلي ... فقد أبكى مِنَ اللّيل القَصيرِ
وأنقذني بياضُ الصبح منها ... لقد أنقذتُ مِنْ شَر كبيرِ
كأن كواكبَ الجوزاء عوذ ... معطفة على ربعِ كسيرِ
كأن بناتِ نعشٍ ثانيات ... وفرقدهن مجتنبُ الأسيرِ
تتابع مشية الإبل الزهارى ... لتلحق كل تالية غيورِ
وتحنو الشعريان إلى سُهيل ... يلوحُ كقمةِ الجمل الغريرِ
كأن الغدرتين مكِفّ ساع ... ألح على تمايله ضريرِ
كأن التابع المسكينَ شيخ ... يُزَجي أعنزاً خلف الوَقيرِ
كأن النَجم إذ ولى سحيراً ... فصال جلن في يوم مطيرِ
كأن الفرقدين يدا مغيض ... يكب على مقاسمة الجزورِ
كأن مجرة النسرين نهج ... لكل طريقة تحدى وغيرِ
وعارضَهنَ ناحيةً سهيل ... عراضَ مجرب شكسٍ غيورِ
كأن الجدي جدي بناتِ نعشٍ ... يكب على اليدين كمستديرِ
كأن المشتري حسناً ضياءً ... بنيق قاهرٍ من فوق قورِ
وقال مضرسُ بن لقيط:
وليل يقول القومُ مِن ظلماته ... سواء بصيرات العيون وعُورِها
كأن لنا منه بيوتاً حصينةً ... مسوحاً أعاليها وساجاً كسورها
قال ابن هومة:
وبناتِ نعشٍ يبتدرْنَ كأنها ... بقراتُ رمل خلفهن جاذر
والفرقدان كصاحبيْن تعاقدا ... تالله تبرح أو تزول عتايرُ
والجدي كالرجل الذي ما إن له ... تالله وليس له حليفْ ناصر
وتزاور العيوق عن مجداته ... كالثور يضربُ حين عاف الباقرُ
وترفع النسران هذا باسط ... يهوي لسقطتِهِ وهذا كاسِرُ
والنطح يلمع والبُظَينُ كأنه ... كبش يطرده لحتفٍ ثائرُ
والحوت يسبح في السماء كسبحه ... في الماء وهو بكل سَبْح ماهرُ
وكواكبُ الجوزاء مثلُ عوائد ... تمرى لهن قوادم وأواخرُ
وكأنَّ مرزَمها على آثارها ... فحل على آثار شولٍ هادرُ
وتعرضَت هادي السّعود كأنها ... ركب تأوبَ بطنَ تبع مايرُ
وبدا سُهيل كالشهاب مشبه ... راعٍ على شرفِ العرينةِ سايرُ
وبدت نجومٌ بين ذاك كأنها ... عز تقطع سلكُه متناثِرُ
وقال أبو الأشهب الأسدي:
ولاحَتْ لساريها الثريا كأنّها ... لدى الأفق الغربي قرط مسلسلُ
قال الهيثم بن عُدي: قال لي صالح بن حسان: أنشدْني أحسن بيتٍ قيل في الثريا، قال قلت: بيت عبد الله بن الزبير الأسدي رضي الله عنهما:
وقد خرَم الغربُ الثريا كأنها ... به راية بيضاءُ تخفقُ للطعن(1/226)
قال: أريد أحسن منْ هذا، قلت بيت امرئ القيس:
إذا ما الثريا في السماء تَعَرضَتْ ... تَعَرضَ أثناء الوِشاح المفصلِ
قال: أريد أحسنَ مِنْ هذا، قلت: بيت ذي الرمة:
وَرَدتُ اعتسافاً والثريا كأنها ... على قمةِ الرأس ابن ماءً محلقُ
قال: أريد أحسن من هذا، قلت: بيت يزيد بن الطثرية:
إذا ما الثريا في السماء كأنها ... جمان وهي من سلكِهِ فتبددا
قال: أريد أحسن مِن هذا، قلت: قول أبي قيس بن الأسلت:
وقد لاح في الصبح الثّريا لمنْ يرَى ... كعُنقودِ ملاحية حين نوّرا
وقال الفرزدق:
كليل مهلهل ليلى إذا ما ... تمنى الليل ذو الليل القصيرِ
تهامى كأن شاَمياتٍ ... جنحن لجانبيه إلى الغثورِ
كأن الليل يعطفه علينا ... ضراراً أو يكر إلى نذورِ
كأن نجومَه ليل تثنى ... لأزهر في مباركه عقيرِ
وكيف بليلةِ لا شومَ فيها ... ولا ضوء لساريها منيرِ
وأنشد المبرد:
إذا ما الثريا في السماء تعرضتْ ... يراها الحديد العين سبعةَ أنجمِ
على كبدِ الجرباء وهي كأنها ... جبيرةُ در ركبتْ فوق معصم
الجبيرة: الدستبنج العريض وشبه ابن الرومي الثريا فقال: وذكر شعر امرأة:
يغشى غواشي قرونها قدماً ... بيضاء للناظرين معتذره
مثل الثريا إذا بدت سحراً ... بعد غمام وحاسرٍ حسرْه
فأخذه ابن المعتز فقال:
وأرى الثريا في السماء كأنها ... قدم تبدت من ثياب حِداد
وقال كعب الغنوي في الجوزاء:
وقد مالت الجوزاءُ: حتى كأنها ... فساطيطُ ركب بالفلاةِ تزولُ
ولابن المعتز:
كأنما الجوزاءُ في أعلى الأفق ... أغصان نورِ أو وشاح مِن وَرَقْ
وله:
كأن نجومَ الليل في فحمةِ الدجى ... رؤوس مدارٍ رُكبَت في معاجِرِ
وله:
كأن سماءَنا لما تَجَلت ... خلالَ نجومها عِنْدَ الصباحِ
رِياضُ بنفْسَجٍ خضل نداهُ ... تَفَتحَ بينَها ورد الأقاحي
وله:
ورَنا إلي الفرقدانِ كما رَنَتْ ... زرقاءُ تنظرُ مِن نقاب أسودِ
وله:
تَظَل الشمس ترمقُنا بلحظ ... مريض مدنفٍ من خلفِ سِترِ
تحاول فتح غيم وهو يأبى ... كعنين يحاول فض بكر
آخر:
ما ذقتُ طعمَ النوم لو تدري ... كأنَّ جنبي على جَمْرِ
في قمرٍ مسترقٍ نصفَه ... كأنه مجرفةُ العِطرٍ
وآخر:
والبدرُ يأخذه غيم ويتركُهُ ... كأنه سافِر عن خذ ملطومِ
وقال امرؤ القيس:
نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيحُ ركبانِ تشب لقفالِ
وقال محمد بن يزيد بن مسلمة:
لما تراءى رخل ... ذاتَ عشاءً فَمَتْع
وأخمس النسرْين شخص ... الردفِ بالحمل الذرعْ
أطار نسراً واقعاً ... وطائر النسر يقع
فرداً ووافى سيره ... وسار هذا اقشع
وعن سعد ذابحٍ ... يتبعه سعدُ بلعْ
وسعد سعد بعده ... يسعد سعدِ ذو تبعْ
دافع ذا ذاك وذا ... دافع هذا فاندنَعْ
أما مهار أم إذا ... أعرقَ في فوقٍ نزعْ
يتلو نعاماً وارِداً ... وصادراً حيثُ سَكَع
يطيرُ ما طردْنَ فإن ... وقعْنَ في الأرض وَقعْ
وعقرب يقدمُها ... كليلُها حيثُ دسَعْ
لها مصابيحُ دُجى ... تحكي مصابيحَ البِيعْ
يتلو الزبانى فإذا ... جد بها السير طَلَعْ
ووارنَ الكف التي ... فيها خضاب قد نصِع
قال الدليل عرسوا ... فليس في صبحٍ طَمَعْ
هذا ظلام راكد ... ما للسرى فيه نجعْ
والعيسُ في دويه ... تعملُ فيها وَتَدَع
ممتدة أعناقُها ... للوردِ عن غب التسع(1/227)
فإنها سَفائن ... يولج في الموج الدفع
فقلت سعد قصدها ... لا كنت من نكس ورعْ
أما ترى غفرَ الزباني ساجداً أو قد رَكَعْ
وقبل ذاك ما لحا ... ضوء السماك فخشع
وانتشرت عواؤُه ... تناثرَ العقد انقطعْ
حتّى إذا الكبش ارتعى ... رغاؤُه ثم نقع
تتابع الخيلُ جرتْ ... فيها مذك وجذع
يعيد في خافاتها ... هينمة ثم سَطَع
شعر:
كلمعةِ البرق اليَماني إذا البَرقُ لَمَعْ
أو سلةِ السّيفِ انتضى ... سلته القْينُ الصنع
في نقبهِ ينسُجُها ... بيضاء ما فيها لمع
وانهزَمَتْ خيل الدجى ... تركض من غير فَزَعْ
والصّبح في أعراصِها ... يخب طوراً ويضَع
فقلتُ إذ طار الكَرى ... عن العيون وانقَشَعْ
لما بدا في رحلِهِ ... نشوانَ مِنْ غير جَرعْ
ليس المذَكَي سنة ... في الحرب كالغمر الضرعْ
قال أبو الحسن العلوي الأصبهاني:
كأن سهيلاً والنجومُ أمامَه ... يعارِضُه راعٍ وراع قطيع
إذ قام من ربائه قلتَ راهب ... أطال انتصاباً بعد طول ركوعِ
قال آخر:
فإذا كانت الشعرى العبورُ كأنَها ... معلقُ قنديل عليه الكَنَائسُ
ولاحَ سهيلٌ من بعيدِ كأنه ... شهاب ينجيه عن الرّيح قابسُ
وقال آخر:
سَرَيتُ على الجوزاء وهي كأنها ... شمائلُ رقاصٍ تميلُ مناطِقُه
قال محمد بن عبد الملك:
كأن كواكبَ الجوزاء لما ... سمعت تَعَرضَت بالمنكبين
أخو حربِ تقلد قوسَ رام ... وقلد خصره بقلادتَيْن
قال العلوي الأصبهاني في النسر شعراً:
وركب ثلاث كالأثافي تعاوروا ... دجى الليل حتى أومضَت سنةُ الفجر
إذا جمعوا سميتهم باسم واحدِ ... وإن فرقوا لم يعرفوا آخر الدهرِ
وقال أبو النجم في إصغاء الشمس للمغيب:
صب عليه قانصُ لما عقَل ... والشمس قد صارَتْ كعينِ الأحولِ
ولابن الرومي في طلوع الشمس من خَللِ السحاب:
ظلتْ تسترنا وقد بعثتْ ... ضوءاً يلاحِظُنا بلا لهبِ
قال ذو الرمة في مثله وهو يصف امرأةً:
تريك بياضَ لبتها وَوَجهاً ... كقرنِ الشّمس أفتقَ ثم زالا
أصاب خصاصةً فبدا كليلاً ... كلاً وانفل سائره انِفلالا
قال آخر في دارة الشمس:
والشمس معرضة تمورُ كأنَها ... ترس يقلَّبه كمي رامِحُ
وأنشد ثعلب:
كأنَ ابن مزنتها جانحاً ... فسيط لدى الأفقِ مِن خُنْصرِ
وقد تركنا تقَصي الباب لأن في هذا القدر كفاية.
البابُ الثامن والأربعون
في ذكر الشراب ولوامع البروقِ
ومتخيلات المناظرِ ووصفِ السحاب
السراب: هو الذي يتلألأ نصف النهار كأنه ماء، لازقاً بالأرض وهو الآل وقيل الآل يكون ضحوة، والسراب نصف النهار. وفي القرآن: )كَسَرابٍ بقيعة يحسُبُه الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءَهُ لَمْ يَجْده شَيئاً) سورة النور، الآية: 39، وقيل في الفرق بينهما: إن الآل هو الذي يرفع كل شيء، وسُمي الآل لأن الشخص هو الآل، فلما رفع الشخص قيل هذا آل. قال الأعشى:
حتى لحقناهم تَعدى فوارِسُنا ... كأننار عن قف يرفع الآلا
وقيل: هذا من المقلوب، أراد كأننار عن قف يرفُعه الآل، والآل يرتفع عن وجه الأرض، واللعاب الذي يتساقط من السماء كأنَه زبد في مرأى العين ويسمى ريق الشّمس. قال:
يثرنَ الثرى حتى يباشرنَ برده ... إذا الشَمسُ مَجتْ ريقَها بالكَلاكِل
ويلمع اسم السراب، وفي المثل: إنما أنتَ يلمع. ويقال لبرق الخلب: يلمع أيضاً ولذلك قيل: كذب مِن يلمع، واليلامع من السلاح: ما بَرق نحو البيضة، ولامعا المفازة جانباها.
ويقال: ما بها لامع أي أحد، والرقراق مثل السراب وقيل رقراق السراب ترقرقه.
قال الشاعر:(1/228)
يدومُ رقراقُ السراب برأسِهِ ... كما دوَّمتْ في الأرض فلكةُ مِغزل
وقد صحا السراب أي انكشف ومصح الآل وتسعسع والذي تراه في الشمس كأنه خيط ممتد يقال له مخاط الشيطان. وقد كُني عن السراب بأبوال البغال قال شعراً:
وحميرِ أبوالِ البغالِ بأنني ... تسديتُ وهناً ذلك البينا
قال بشر يصف إبلاً:
فقد جاوزْنَ مِن غمدانَ أرضاً ... لأبوالِ البِغال بها وقيع
يطانَ بها فروث مقصرات ... بقاياها الجماجمُ والضلوعُ
وإنَّما قالوا ذلك لأنَ البغال لا تتناسل فلا ينتفع بأبوالها كما لا ينتفع بالسراب.
ويقال: فلانٌ كثير البول إذا كان كثير، والوقيع الخضر تكون في الأرض. وقال ابن الأعرابي: البغال باليمن، فبين أنَ هذه الأرض تكون باليمن. قوله بطان: يعني قوائم الناقة، والمراد بالأرواث كروش إبل قصرن عن السير فتركت مخلفات فأكلهن السباع.
ويقال للسراب المسجهر الكذوب اللّون. وقال ذو الرمة يصف الأظعان:
توارى وتبدو لي إذا ما تَطاوَلَتْ ... شخوصُ الضحى وانشَق عنها غَديرُها
الشّخوص: تطاول في وقت الضحى لأن السراب يرفعها يقول تبدو لي الأظعان في ذلك الوقت إذا رفعها الآل وتواري إذا انشق عنها غديرها، يعني السراب، وهنا الذي يشير إليه لتخيل الشخوص في المناظر، لذلك قال ابن أحمر:
وازدادَتِ الأشباح أخيلة ... وتعلّل الحرباء بالثغرِ
وقال جرير:
ومن دونه تيه كأن شخوصها ... يحلْن بأمثالٍ فهنَ شوافِعُ
وقال ذو الرمة في بيان السّراب يصف فلاةً:
بها غُدر وليسَ بها بلال ... وأشباح تحولَ وما تريمُ
تموت قطا الفلاةِ بها أواماً ... ويحسر في مناكبها النسيم
قوله: أشباح تحول: أي تتحرك ولا تبرح بل يخيل ذلك إليك. وقال الشماخ وذكر ناقة:
إذا شرفات الآل زالَتْ ونَصفَتْ ... تناطَحَ ضَبعاها به وَيدَاهُما
قوله: نصفت: صار السراب إلى أنصافها، وقوله: ويداهما: جعل اليدين للضبعين وقال:
وحومانة زرقاء يجري سرابُها ... بمنسجة الآباطِ حدب ظهورُها
حومانة: أرض عليظة، والمنسجة. المنصبة أي ليست بضيقة الفروج وقال الكُميت:
إذا ما الآلُ أعرضَ لم يجمح ... إليّ بأعْيُنِ الخوفِ الغيوبِ
يجمح: ينظر نظراً شديداً، والغيوب: جمع الغيب وهو المتخفض. وقال ذو الرمة:
ترى الرْيعةَ القوداءَ منه كأنَّها ... مُنادٍ بأعلى صوتِهِ القوم لامع
الريعة: هضبة وهي الجبل الصّغير المفترش مع الأرض، أي كأنها في السراب، مناد: يلمع بثوبه، وقوله يصف قنه. قوداء طائقها في الآل محزوم الطائق حرف شاخص في القنة وقوله: كأنما الأعلام فيها سير. أي كأنها تسير في السراب. قال جران العود وذكر أرضاً:
ببلقعةٍ كأنَ الأرض فيها ... تجهز للتحمل والبُكُور
يريد أن الشَراب يطردُ فيها فكأنها تجهز. وقال ابن الدمينة:
برماحة الأنضادِ فماصة الصوى ... تداوي المطايا من مروحِ العجازِفِ
الأنضاد: جمع النضد وهو ما تراكم من الجبل. والضوى: الأعلام وتقصمها في السراب.
قال أبو النّجم:
بمهمةٍ سابغةٍ جلاله ... ينفضُ في العينِ الضحى أسمالَهُ
أراد ينفض الضّحى أسمال السراب فيما ترى العين وقال:
حتى إذا الأكمُ طفَتْ في آلها ... مثلَ طفوِ الحُمَ في آهالها
إذا السراب استشخصَ الأجذالا ... واطَردَت دياسقاً أسمالا
واستنسج الآرام والتلالا
الأجذال: أصول الشجر، واطردت دياسقه: وهو الشَراب الأبيض وشبهه بأسمال الثياب. قال ابن مقبل:
ويوم يقسم ريعانُه ... رؤوسَ الأكام يُغشين آلا
ترى البيد تهدجُ مِن حره ... كأن على حزمِ راء بغالا
بغالاً عقارى تغشينه ... وكل تحمل منه فزالا
جعلها عقارى: لأنّها لا تلد، وريعانه: أوله، تهدج: تتحرك يعني أن الآل يتحرك فكأن بغالا على كل شرف توجف. ولأبي ذؤيب:
يستن في عرص الصحراء فائزهُ ... كأنه سبط الأهدابِ مملوجُ
وأنشد:(1/229)
ونسجَتْ لوامعُ الحرورِ ... سبائياً كسرقِ الحرير
فالمراد به السراب يستدل من هذا البيت على أنَّ السرق يقع على الحرير الأبيض دون غيره. قال ذو الرمة:
إذا تنازع جالا مجهل قذفٍ ... أطراف مطردٍ بالحر منسوج
تلوى الشنايا بأحقيها حواشيه ... لي الملأ بأطرافِ التفاريجِ
جعل أطراف السراب المنسوج بالحر يتنازعها جانبا المفازة، وقد بالغ في الإبانة والتصوير. وهذا كما قال الرّاعي:
وإذا ترقصت المفازةُ غادرَت ... زبداً يُبَغل خلفَها تَبغيلا
ويعني بالزّبد حادي الإبل، وما أوردناه في السراب ووجوه تشبيه كافٍ في هذا الموضع.
فأما البرق: فإن الأصمعي قال: أحسنُ ما قيل في وصف البرق والغيث قول عدي بن الرفاع:
فقمتُ أخبره بالغيبِ لم يَرهُ ... والبرقُ إذانا محزون له أرقُ
قال أبو نصر: كذا رويناه عن الأصمعي، وهذا مما يعد من تصحيفه. ورواه أبو عمر والشيباني وابن الأعرابي وأبو عبيدة. والبرق إذانا محزوله أرق: أي مشترف مراقب وتصحيح رواية الأصمعي:
لا كلفته فيه وبعده مرنُ ... يسبح في ريحٍ شاَمية
مكلل بعمأ ألماه منتطقُ
معنى يسبح: يعرض وروى يسبح أي الرعد. وقال:
ألقى على ذاتِ أحقادٍ كلاكلَه ... وشت نيرانه وانجابَ يأتلق
ناراً يعاود منها العودُ حدته ... والنار تسفعُ عيداناً فتحرق
وبات تجتلبُ الجوزاءَ درتها ... بِنَوئِها حين هاجَت مربع نعق
يبكي ليدرك محلاً كان ضيعه ... يريق منبسط منه ومندفقُ
جونُ المسارب رقراق تظل به ... شم المخارم والأثناء تصطفقُ
يكاد يطلعُ ظلماً ثم يغلبه ... عز الشواهق والوادي به شَرَقُ
ويقال في البرق: يشرى ويومض ويعن ويعترض ويوبض ويستطير ويسطيل ويلمع ويتبوج ويخطف ويخفو ويبرق ويتألق ويتلألأ ويستشري وينيض ويخرق ويسلسل ويشتن ويبتسم ويضحك ويبعق وينشق ويرتعص ويقري ويهص ويثقب ويلوح ويتهلل ويتكلل. ومما يستحسن في وصف البرق وخفائه، والرعد في حدائه، والثلج ولألائِه قول بعضهم:
بنبض نبضَ العرقِ في استخفاء ... كأنه في البعد والخفاء
شرارةُ تطرفُ من قصباء ... أو طرف طيرهم باقتداء
حتى إذا امتدت على السواء ... ورجفتْ بزجلِ الحداء
وقعقعت بالرعد ذي الضوضاءِ ... كأن بينَ الأرضِ والسماء
رجل جرادٍ ثار في عَماء ... أو سرعانا من دبا غوغاء
وكرسفاً ينذف في الهواء ... تطيره الريح على قواء
أو حلباً ينطف من أطباءَ ... أو رغوة تنقش من غرلاء
أو كتفي الفضّةِ البيضاء ... أو كانتثار الدر ذي اللألاء
أو كانتظام الودع في الإخفاء ... فأشمطت الأرض على فتاء
واستوفت الآكام بالصواء
وقال آخر:
وأرض أنستُ بأهوائِها ... وغيثٍ سرَيتُ له إذ سَرى
وشمت بوارق أقطارُه ... فبرق يلوحُ وبرقُ خبا
وبات يعج عجيجَ القَطا ... وباتت بجوالِقها تمترى
وقد هدأ الصوتُ من غيره ... ودارك بينَ البكا والفنا
وقلتُ له حين أبصرته ... يراوح بينَ الخسا والزكا:
أأنتَ القطار أم أنت البحارُ أم أنت قاسمُ المرتجى؟
فأنبتَ ما لم يكن نابتاً ... وقلع من نبته ما عفا
ولم تلبثِ الأرض أنْ صرحت ... عن النور واخصرا على الضفا
وصار على الأرض من وبله ... قناعُ السيول وإزر الربى
شعر:
تأزرتِ الأرضُ ثم ارتَدَت ... من النور حلياً كساها الحيا
وصارَ سواء إذا جُبتَها ... مَفاوِز بربها والقرى
قال العتابي:
أرقتُ للبرقِ يخبو ثم يأتلِق ... يخفيه طوراً ويبديه لنا الأفقُ
كأنها غرة شهباء لامحة ... في وجه دهماءَ ما في جلدها يَلقُ(1/230)
أو ثغر زنجيةٍ تَغْتَرُ ضاحكةً ... تبدو مشافرها طوراً وتنطبقُ
أو غرةُ الصبح عند الفجر حين بدَتْ ... أو في المساء إذا ما استعرضَ الشفقُ
له بدائع حمرُ اللون هائلة ... فيها سلائل بيض مالها حَلَقُ
والغيمُ كالثوب في الآفاق مُنَتشِر ... من فوقِه طبق من تحتة طَبَقُ
تظنه مصمتاً لا فتقَ فيه فإن ... سالت عزاليه قلت الثوب مُنفَتِقُ
إن قعقعَ الرعد فيه قلت ينخرق ... أو لألأ البرقُ فيه قلت تحترقُ
تستك من رعده أذُن السميع كما ... يغشي إذا نظرَتْ في برقه الحدقُ
فالرعد صهصلق والريح مختزق ... والبرقُ موتلق والماء منبعقُ
غيث أواخره تحدو أوائله ... أرب بالأرض حتى ماله لثقُ
قد حاك فوق الربى نوراً له أرج ... كأنه الوَشْيُ والديباج والسرقُ
فطار في الأنفِ ريح طيب عبق ... ونار في الطرف لون مشرق أنِقُ
من خضرة نبتها حمراء قانية ... أو أصفرِ فاقع أو أبيض يقِقُ
ولبعض بني مازنة:
إذا الله لم يسق إلا الكرام ... فاسق ديارَ بني حَنبل
ملثا مرباله هيدب ... صخورُ الرواعِد والأزمل
تكركره حصحصات الجنوبِ وتفزغه هزةُ الشمألِ
كأن الربابَ دوينَ السحاب ... نعامُ تعلقُ بالأرجل
كأن الركية من فيْضه ... إذا ما بدا فلكة المغزلِ
قال علي بن الجهم في السحاب شعراً:
وسارية ترتادُ أرضاً تجودها ... شغلتُ بها عيناً قليلاً هجودها
أتتنا بها ريحُ الصبا وكأنها ... فتاة ترجيها عجوزا تقودها
تميسُ بها ميساً فلا هي إنْ دنت ... نهتْها ولا إنْ أسرعَت تَستعيدُها
تقاربها في كل أمرٍ تريده ... ليسرحَ في أكنافها من يريدُها
إذا فارقَتْها ساعةً ولهِتْ له ... كأم وليدٍ غاب عنها وليدها
فلما أضرت بالعيون بروقها ... وكادَت تصم السّامعين رعودها
دعتها إلى حل النّطاق فأرعشتْ ... يداها وخرتْ سمطَها وعقودها
وكادت تمسّ الأرضَ إما تلهفاً ... وإما حذاراً أنْ يضيعَ فريدها
فلما رأتْ حر الثرى متعقداً ... بمازَل عنها والربى تستزيدها
وأنَ أقاليمَ العراقِ فقيرة ... إليها أقامتْ بالعراقِ تجودُها
فما برحتْ بغدادَ حتى تفجرتْ ... بأوديةٍ ما تستفيقُ مدودُها
وحتى رأينا الطير في جنباتها ... تكاد أكفُ الغانيات تصيدُها
وحتى اكتسَتْ من كل نورٍ كأنها ... عروش عليها وَشْيها وبرودها
ودجلة كالدرع المضاعفِ نسجُها ... لها حَلَق تبدو وتخفي حديدها
فلما قضَت حقّ العراق وأهلَه ... أتاها مِنَ الريح الشمال يريدُها
فمرت تفوت الطير سبقاً كأنها ... جنودُ عبيد الله وَلَتْ بنورُها
الباب التاسعُ والأربعون
في تَذَكُر طبّ الزمان والتهلف عليه
والحنين إلى الألاّف والأوطان
كنا قد ذكرنا فيما صدرنا به هذا الكتاب ما أنشأ الله عليه الخليقة من حب الوطن والسكن، وما درج إليه أولي النحَل السَّليمة والعقد الصحيحة من الولوع بحفظ متقادم أعصارهم، بما اتفق مِنْ سِيَرٍ وحكم نخبهم وأنه حبب إليهم ما يأثره القرن بعد القرن، منهم ليظهر من جلائل صنعه في كل حينٍ وفوائِد منحه على كل حال ما توافقَ فيه الرواة وتلاحق به المدد والأوقات.
وذكرنا أيضاً شيئاً صالحاً من علة الحنين إلى الألاف والأوطان، وما تأسسَ عليه أسباب التنافس والتحاسد بين الرجال، إلى انكشاف الأحوال عن التراضي بينهم بمختلفات الأقسام، وإن جميع ذلك حكمة بالغة من الله جل جلاله في الأنام، فأحببنا أن نجدد هنا ما يتأكّد به ما تقدم، أنشد المبرد شعراً:(1/231)
لعمري لئن خليتُ عن مَنْهَلِ الصبا ... لقد كنت وراد المشربة العذب
ليالي أعدو بينَ بردينِ لاهِياً ... أميس كغصن البانةِ الناعمِ الرطب
سلام على سير القلاصِ مع الركب ... ووصل الغواني والمدامة والشرب
سلامُ امرئ لم تبقَ منهُ بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب
قال أبو تمام:
إذا لا صدوفَ ولا كنود اسماهما ... كالمعنين ولا نوار نوار
إذ في القتادة وهي أنْجلُ أيكة ... نمر وإذ عودُ الزمان نضارُ
قال دريد بن عبد الله:
حَنَنْت إلى ريا ونفسك باعَدَتْ ... مزارك مِنْ ريا وشعباكما معا
وأذكر أيامَ الحمى ثم أنثَني ... على كَبِدي مِنْ خشية أنْ تقطعا
تلقت نحو الحيّ حتّى وجدتني ... وجعتُ من الإصغاء ليتاً وأخدعا
وليسَتْ عشياتُ الحمى برواجعٍ ... عليكَ ولكِنْ خل عينيكَ تدمعا
أنشد أبو صالح الآمدي عن الأخفش:
سقى الله أياماً لنا ليس رُجعا ... إلينا وعصرَ العامرية مِنْ عَصرِ
ليالي أعطيتُ البطالةَ مقودي ... تمر الليالي والشهور ولا أدري
مضى لي زمان لو أُخَير بينَه ... وبين حياتي خالداً آخر الدهرِ
لقلتُ دعوني ساعةً وحديثها ... على غفلةِ الواشين ثم اقطعوا عمري
وقال آخر:
أقول لصاحبي والعيسُ تهوي ... بنا بينَ المنيفةِ فالضمارِ
تمتع مِنْ شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عِرارِ
ألا يا حبذا نفحات نجدٍ ... وَريا روضَه بعد القِطارِ
وأهلك إذا يحل الحيّ نجداً ... وأنت على زمانك غير زارِ
شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصافٍ لهنَّ ولا سرارِ
قال ابن الرومي:
بكيت فلم تتركْ لعينكَ مدمعاً ... زماناً طوى شرخَ الشباب فودعا
سقى الله أوطاراً لنا ومآرباً ... تقطَعَ من أقرانها ما تقطعا
ليالي ينسين اللّيالي حسابها ... بلهنيةً أقضي بها الحول أجمعا
على غرةٍ لا أعرف اليوم باسمه ... وأعمل فيه اللهو مرأى ومسمعا
قال معن بن زائدة:
تَمَطى بنيسابور لَيْلي وربما ... يرى بجنوبِ الديرِ وهو قَصيرُ
ليالي إذا كلّ الأحبةِ حاضرٌ ... وما كحضور مَنْ يحب سرورُ
فأصبحتُ أما من أُحِبّ فنازح ... وأما الألى أقليهم فحضورُ
وإذ لا أبالي أن يضيع سائسٌ ... ويشقى بما جرتْ يداه وزيرُ
يحنّ إلى الأُلاّفِ قلبي وقلبُه ... إذا شاء عن أُلافِه لصبورُ
أبيتُ أناجي النّفس حتى كأنَّما ... يشير إليها بالبنانِ مشيرُ
لعلَ الذي لا يجمع الشمل غيره ... يدير رحى جمع الهوى فتدورُ
فتسكنُ أشجاناً وتلفي أحبة ... ويورق غصن للشباب نضيرُ
أراعي نجومَ الليل حتى كأنني ... بأيدي العداة الثائرين أسير
وله:
باد الهوى وتقطعت أسبابُه ... وصبا فعاودَ قلبه أطرابُهُ
ذكر النميريُ الغواني بعدما ... نزلَ المشيبُ وبان منه شبابُهُ
وتذكر اللهو القديم فساقَه ... أن شَط بعد تقارب أحبابُه
غشيَ المنازل بالسليل فهاجَهُ ... ربعٌ تبدلَ غيره أربابُه
بانوا وما مِن بين حي راحل ... إلا له أجل يلوحُ كتابهُ
ولقد نراه للقتول وأهلها ... جارا تَمَس بيوتهم أطنابُه
صافت بوج في ظلال كرومه ... حتى شتا وتصرمت أعنابُه
وتذكَرت متربعاً من أرضِهِ ... بردَت شمائمُه وجالَ صحابُه
كم قد أرب بجوه من معذقٍ ... متهزم قردِ يطير ربابُه
فمحلها منه رواء مبقل ... هزج إذا ارتفع النهار فبابُه(1/232)
حل به ثَمَد ومحضرُ بهجةٍ ... حرماً وأمناً حوله أنصابه
يهوي إليها العالمون كأنهم ... قطعُ القطا متواتراً أسرابُه
إن الذي يهوى فؤادك قربَهُ ... قد سد بالبلد الحرام حجابُهُ
أنى ينال إذا انتمت في مشرف ... دون السماء حصينة أبَوابُهُ
لج المتيمُ في البعاد سفاهةً ... والبينُ ينعبُ ظبيهُ وغرابُه
حتى إذا احتمل الحبيبُ تبادرت ... عيناه دمعاً دائماً تسكابُه
إن امرأ كلِفاً بذكرك موزعاً ... حق عليكم وصله وثوابُه
قد طالا ما انتظر النوال لديكم ... حتى استمل ولامَه أصحابُه
لو تنطق العيسُ اشتكت ما عالجت ... من حبسها عند القتول ركابُه
قال ابن ميادة:
ألا ليتَ شعري هَلْ ابيتن ليلةً ... بحرة ليلى حيثُ رببني أهلي
بلاد بها نيطَتْ عليَ تمائمي ... وقطعن عني حين أدركني عقلي
قال ابن الرومي:
ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعَهُ ... وألا أرى غيري له الدهر مالكا
عهدتُ بها شرخَ الشباب ونعمةً ... كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
وقد ألفته النفسُ حتى كأنه ... لها جسدٌ إن غاب غودرتُ هالكا
وحبب أوطانَ الرجال إليهم ... مآربُ قضاها الشبابُ هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهودُ الصبا فيها فحنوا لذالكا
اعتل رجل في غربته فتذكّر أهله فقال:
لو أنَ سلمى أبصرت تحدّدي ... ودقةً في عظم ساقي ويدي
وبُعد أهلي وجفاءَ عودي ... عضت من الوجد بأطراف اليدِ
قال أبو عنية:
ألا خَبروا إنْ كان عندكم خبر ... أتقفل أم نثوي على الهمَ والضجرِ
شعر:
نفى الثوم عن عيني تغوّضَ رحلةٍ ... لها الهمّ واستولى بها بعدها السخرِ
فإنْ أشك من ليلى ليلى طوله ... فقد كنتُ أشكو منه بالبصرة القصر
فيا حبذا بطنُ الحزير وظهره ... ويا حسنَ واديه إذا ماؤُه ذخرِ
ويا حسنَ تلك الباسقاتِ إذا غدتْ ... مع الماء تجري مصعدات ومحدرِ
ويا حبذا نهرُ الإبلة منظراً ... إذا مد في إبانه النهر أو جزرِ
وفتيانُ صدقٍ همّهم طلب العلى ... وسيماهم التّحجيل في المجد والغررِ
لعمري لقد فارقتهم غير طائعٍ ... ولا طيب نفساً بذاك ولا مقر
وقائلة ماذا نآي بك عنهم ... فقلتُ لها لا عِلمَ لي فسلي القدر
فيا سفرا أووى بلهوي وأنثي ... ونغّصَني عيشي عدمتك من سفرِ
وقال آخر:
أعلى اليأس أنت أم أنت راج ... كلّ هم مصيره لانفراجِ
ما تغنى القمري إلا شجاني ... وغناءُ القمري للقلب شاجِ
فلنوْح الحمام يهتاجُ قلبي ... يا لقوم لقلبي المهتاج
وخليل سرى إليَّ ودوني ... سير شهرين للبغال النواجِ
عامداً ما تراه يقظان عيني ... وهو في النوم لي ضجيع مناجِ
جعلت نفسه لنفسي على البعد ... مزاجاً أحبِبْ به من مزاجِ
كم بجرجانَ ليت شعري مقامي ... ومتى من غمومها أنا ناجِ
إنَّ أشهى إلي منها مقام ... بين دار المنجاب والحجاجِ
في فتومن كل أيلج يكفي ... وجههَ في الظّلام فقد السراجِ
رَب فاحفظُهم ورد إليهم ... غرابتي يا مؤلفَ الأزواجِ
وقال آخر:
ألا ما لعينكَ لا ترقُدُ ... وما لدموعكَ لا تجمدُ
وما بالُ ليلك ليل السليم ... ساوره الحيةُ الأربد
وخلاك صَحبُك في زفرةٍ ... وهم عنكَ في غفلة هجد
فما لك من وحشةٍ مؤنسٌ ... وما لك عند البكا مسعدُ(1/233)
فقاس الهوى وتقرد به ... فأنتَ الوحيد به المفرد
مللت بجرجان طول الثوى ... وبالبصرةِ الدارَ والمولدُ
وكم لي بها من أخٍ أصيدٍ ... نماه لمجد أبٍ أصيدُ
مصابيحُ ليل إذا أشرقَتْ ... يفرجُ عنه الدجى الأسودُ
إذا الناس غمتهم أزمةٌ ... فلم يبق كهل ولا أمردُ
يؤمّل أو يرتجى رفده ... يعود بخيرٍ ولا يرفدُ
ولم يحر حران ذو دريةٍ ... إلى من بكربته يقصدُ
سواء إذا ازدحم الواردون أقربهم فيه والأبعد
إذا ما التقوا وثقوا عنده ... بأن لن يُزادوا ولن يطردوا
ويغشون في الحرب حوماتها ... إذا شب نيرانها الموقدُ
وأعرضت الخيلُ مزورةً ... سرابيلُها العلقُ المجسدُ
إذا وعدوا أنجزوا وعدهم ... وإن أوعدوا حان من أوعدوا
مواريث آباء آبائهم ... يورثها سيدٌ أسيد
فلو كان يخلد أهل الندى ... وأهل المعالي إذا خلدوا
متى ألقهم بعد طول المغيب ... أجدهم على خير ما أعهدُ
ألا ربما طاب لي مصدري ... لديهم وطابَ لي المورِدُ
شعر:
وإنْ يقدرِ اللهُ لي رجعةً ... فجدي بقربهُم الأسعدَ
وإلا فلا حزني منقض ... ولا حَر نيرانِه يبردُ
فيا سادة الناس أنتم مناي ... على بعد داري فلا تبعدوا
وأقسمُ ما طاب لي بعدَكم ... مقام ولا طابَ لي مقعد
يغورُ هوايَ إذا غرتُمُ ... وإن تنجدوا فالهوى مُنجِدُ
ألا ليتني جاركم بالعراق ما جاور الفرقد الفرقد
ألا أيها الناس إنّي لكم ... على خالدٍ مشهد فاشهدوا
بكى مِن عِتابٍ توالت به ... قوافٍ يُردّدها المنشدُ
فكيف إذا ما استحر الهجاء ... إذاً لا يقوم ولا يقعدُ
قال محمد بن عبد الله بن ظاهر:
يا جبَلَ السماق سُقياً لكا ... ما فعل الظّبي الذي حلكا
فارقتَ أوطانك لأنه ... فارقك الخِل ولا ملكا
فأي أوطانِك أبكي دما ... ماءك أو طينك أو ظلكا
أو نفحات منك تأتي إذا ... دمعُ الندى تحتَ الدجى بلّكا
حدث الزيدي قال: أخبرنا الزبير بن بكار قال: كانت ظبية تحت محمد بن أبي بكر بن مسور وكانت ذات مال ولا مال له، فخرج يطلب الرّزق فلما كان في موضع يقال له: بلكثة، انصرف راجعاً فدخل إليها فقالت: الخير رجعت فقال شعراً:
بينما نحنُ بالبلاكثِ فالقاع سراعاً والعيسُ تهوي هَوّيا
خطرتْ خطرة على القلبِ من ذكراكِ وهناً فما استَطَعْتُ مُضِيا
ولو أن ما أهدَين لي كان شربةَ ... ببطن اللوى من وطب راع شفانيا
وأنشد أبو بكر بن دريد قال: أنشدني عمر أن الكلابي لرجل من قومه قال شعراً:
يحن إلى الرمل اليماني صبابةً ... وهذا لعمري لو رضيتُ كثيبُ
فأين الأراك الدّوح والسدر والغَضا ... ومستنجز عما يحب قريبُ
هناك تغنينا الحمامَ ويجتني ... جنا اللهو يحلو لي لنا ويطيبُ
قال أعرابي:
أيا أثلاثِ القاع من بين توضحٍ ... حنيني إلى أظلالِكُن طويلُ
ويا أثلاثِ القاع قد مل صاحبي ... ثوائي فهل في ظلَكن مقيلُ
ويا أثلاث القاعِ ظاهر ما بدا ... على ما بقلبي شاهد ودليلُ
ويا أثلاث القاعِ قلبي موكل ... يكن وجدوى خَيْركن قليلُ
ألا هَلْ إلى شَمَّ الخزامى ونظرة ... إلى قرقري حتى الممات سبيلُ
قال أعرابيٌ :
ألا حبَّذا والله لو تعلمانِه ... ظلالكما يا أيها الطَّللانِ
وماءكما العذب الذي لو شربتُهُ ... وبي صالبُ الحمى إذاً لشفاني
وأنشد الأحنش علي بن سليمان:(1/234)
اقرأ على الوشل السلام وقُلْ له ... كل المشاربِ مُذ هجرتَ ذميمُ
سُقياً لظلك بالعشي وبالضحى ... ولبردِ مائِك والمياهُ حميمُ
لو كنتُ أملك منع مائك لم يذقْ ... ما في فلاتك ما حييتُ لئيمُ
قال الرياشي أنشدني أعرابي:
سلم على قطنٍ إنْ كنتَ تاركه ... سلامُ من يهوى مرةً قَطنا
قلتُ لبيكَ إذ دعاني لكَ الشوق ... وللحاد بينِ كرا المطيا
ثم كروا صدورَ عيسٍ عتاقٍ ... مضمرات طوينَ السير طيا
ذاك مما لقينَ من دلج الليل ... وقولِ الحداةِ باللّيل هيا
فقالت: لا جرم والله لأشاطرنك ملكي فشاطرته.
قال أبو تمام:
وما سافَرتُ في الآفاق إلا ... ومِنْ جدواكَ راحلتي وزادي
مقيمُ الظن عندكَ والأماني ... وإن تَلِفَتْ ركابي في البلادِ
معاد البعثِ معروفٌ ولكنْ ... ندى كفيك في الدنيا معادي
وأينَ تجورُ عن قصدٍ لساني ... وقلبي رائح برضاكَ غادِ
ومما كانتِ الحكماءُ قالتْ ... لسانُ المرء من خدم الفؤادِ
قال البحتريُ:
أملي فيكم وحقي عليكم ... وَرَواحي إليكم وابْتكاري
واضطرابي في الناس حتى إذا عدتُ ... إلى حاجة فأنتم قصاري
قال أبو تمام:
كل شعبٍ كنتم به آل وهْبٍ ... فهو شعبي وشعبُ كل أديبِ
إنّ قلبي لكم لكالكبدِ ... الحرى وقلبي لغيركم كالقلوبِ
أبو عبد الله بن الأعرابي قال: أنشدتني امرأة من أهل اليمامة لنفسها وكانت مرضت بمصر شعراً:
تحاشدَ جاراتي فَجِئنَ عوائداً ... قِصار الخُطى تجر البطونِ حواليا
وجئن برمانٍ وتينٍ وفرسك ... وبقل بساتين ليشفين دائيا
شعر:
أحبه والذي أرسى قواعِده ... حُباً إذا ظهرت أعلامُه بطنا
فليتنا لا نريم الدهر ساحتَه ... وليته حين سرنا غربةً معنا
ما مِن غريبٍ وإن أبدى تجلده ... إلا سيذكر عند الغربةِ الوطنا
قال أعرابي:
والذي إن كذبتُ اليومَ عاقبني ... وإن صدقتُكم ربي فعافاني
ما قرت العينُ بالأبدال بعدكم ... ولا وجدتُ لذيذَ النوم يغشاني
ومن المستحسن في هذا المعنى قوله:
شيبُ أيامٍ الفراقِ بمفارقي ... وانشرن نفسي فوق حيث يكونُ
وقد لان أيام اللوى ثم لم يكد ... من العيش شيء بعدهنّ يلينُ
يقولون: ما أبلاكَ والمالُ غانم ... عليك وضاحي الجلد منك كثينُ
فقلتُ لهم: لا تعذلوني وانظروا ... إلى النازع المقصورِ كيف يكونُ
يعني بالنازع المقصور: بعير حَن إلى وطنه فقيد مخافة أن يهيم على وجهه وهذا في الإبل معروف لذلك قال القائل:
لا تصبر الإبل الجلادُ تفرقت ... بعد الجميع ويصبر الإنسانُ
قال:
هبت وما في الأفق منه قزعة ... وليس منه أحد على أملْ
فأنشأته قطعاً قمت ما ... زال وما زالت به حتى اتصَلْ
وطأطأت بالأرض من أكتافه ... وسددت منه الفروج والخللْ
حتى إذا كان بعيداً فدنا ... وكان في السير خفيفاً فثقل
وأسمع الأصمَ صوتَ رعده ... ووقَر السمع الصحيح وأعلْ
وأبصرَ الأكمهُ ضوءَ برقِهِ ... وخطفَ الطرفَ الحديدَ وأكَل
وصر حتى قيلَ هذا حاصب ... من السماء وعذاب قد أظل
ونحنُ مصنوعُ لنا مدبر ... فيه ولكلنا خلقنا من عَجَل
حلت عزاليه بسر من رأى ... فلم تزل تعلها بعد النهل
إذا تلكا هتف الرعد به ... وأومضَت فيه البُروق فَهَطَل
ليلَ التمام والنهار كله ... متصلاً مذ غدوةً حتى الأصل
فما دنا حتى اتّقى الناس أذى ... إفراطه وقالتِ الأرض بجل(1/235)
شرقت فيما ضر منه أهله ... وما شركتُ في السرور والجذل
ولا نقعت غلةً بمائِه ... في معشر قد نقعوا به الغلل
ولا أجَلْتُ الطرف في رياضِهِ ... ولا أسمتُ الشرح في الوادي البقل
ولا تحملتُ له صنيعةً ... يشملني مرفقها فيمن شمل
إلا بتحميل السلام سيله ... إلى مدينة السلام إن حمَل
إلى بلادٍ جل إخواني بها ... ومَن أعز مِن صديق وَأجَل
خرج عوف بن محلم مع عبد الله بن طاهر إلى متصيد، فكان عبد الله يحدثه وسمعه يثقل عن الاستماع فانبرى يقول شعراً:
إن الثمانين وبُلغتُها ... قد أحوجَت سمعي إلى ترجمانِ
وأبدلَتني بشطاط الخنا ... وكنتُ كالصعدة تحتَ السنان
وعوضتني من زماع الذي ... وهمّه هم الدثور الهدانِ
فتهتُ بالأوطان وجداً بها ... وبالفواني أين مني الفَوان
وصرتُ ما في لمستمتعِ ... إلا لساني وبحسبي لسان
أدعو به الله وأثني به ... على الأمير المصعبي الهجانِ
وقرباني بأبي أنتما ... من وطني قبلَ اصفرار البَنانِ
وقيل ينعاني إلي نسوة ... أوطانها حران فالرفتانِ
سقى قصورَ الشاذياخ الحيا ... من بعد عهدي وقصور الميانِ
البابُ الخمسون
في ذكر أنواع الظل وأسمائِه ونعوته
ويقال: ظلّ وفيء وتبع فجمع ظل ظلال وظلول وجمع الفيء أفياء وفيوء.
تتبع أفياء الظلال عشيةً ... على طرقٍ كأنهن سبوتُ
وقال آخر:
فسلامُ الإله يغدو عليهمْ ... وفيوء الفردوسِ ذاتِ الظلال
وإنما قال: أفياء الظلال، فأضاف الفيء إلى الظل، لأنه ليس كل ظل فَيء وكل فيء ظل وكان رؤبة يقول: الظل ما نسَخَته الشمس وهو أول، والفيء ما نسخته الشمس وهو آخر.
وقالوا: الظل بالغداة والعشي، والفيء بالعشي. وقال أبو حاتم: الطل يكون ليلاً ونهاراً، ولا يكون الفيء إلا بالنهار، وهو ما نسخته الشمس ففاء وكان من أول النهار ولم تنسخه. قال الشاعر:
فلا الظل من بردِ الضحى نستطيعه ... ولا الفيء من برد العَشي نذوقُ
وقال:
لعمري لأنتَ البيتُ كرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائِل
والتبع: الظل بالغداة والعشي. قال الشاعر:
نردُ المياه حضيرةً ونفيضَه ... وِردَ القطاة إذا استمالَ التبعُ
وإذا كان الظل تاماً لم ينقص ولم تنسخه الشمس قيل: ظل دوم ودايم. قال: شتان هذا والعناق والنّوم والمشرب البارد والظل الدوم.
وهذا كقوله تعالى: )إنْ أصبَحَ ماؤكُمُ غَوْرا) سورة المُلك، الآية: 30، أي غائراً وظلّ رفق ومسترفق، وجلس في أرفق الظل وظل ممدود ومديد، وظل واصب وظل ساكن وظل راتب راسب ومعتد وعتيد. وظل أمم وعمم، فإذا كان كشيفاً ثخيناً لم تنسخه الشمس أو نسخته ووفرته. قيل ظل قوي وكشيف وثخين رصين وسجس ووارف ووريف. قال:
غدا تحت فينانٍ من الظل وارف
وظل واف ضاف وظل سابغ وظل وحف نعف وظل واعد وصادق وموثوق وظل مظل وظليل وظل فينان وذو فيون وظل مغطال ومغطئيل.
وإذا كان ضعيفاً شفا قيل شف هف. وشفيف هفيف وشفشف وشفشاف وهفهف هفهاف وشعشع وشعشاع وخا دع وخداع وخدوع وكاذب وكذاب وكذوب وظنون وحتيفور وملذان وملان وخفاق.
فإذا أكلَته الشمس وتحيفته قيل أخذ الظل يتراجع ويتراد ويزحل وينحل ويضهل ويذبل وينحف ويهرد وينزل ويأفل وينشل ويشل ويليح ويلق ويدق ويموت ويأزي ويحسر ويقصر ويمصح ويهرب ويجنح ويرزح وينفق ويحول ويزول ويصيف ويضيف ويقلص ويضحي ويكري. قال ابن أحمر:
وتواهَقَتْ أخفافُها طبقاً ... والظل لم يفضل ولم يكثر
ويتأزف ويتجارف ويتأزى ويتقاصر ويسمئيل ويضحمل ويغيب وظل منقوص.
وإذا ضاق كل ضيق قيل: أخذ يضيق ويقع ويسقط وينصب وكرب يغيب ويرزأ ويفيء ويبلى ويموت وقد عاد ولاذ وعاوذ ولاوذ، والأذ واسترق وانحمق وانغفق، وانسرب وانبتر.(1/236)
والظل: ضيق وضيق وزناء وأحمق ومحمق وضهل وواشل ناشل وشعى ولقي وهزيل ونحيف وحرض ودنف وهالك وساقط ومتكرس ومتزرب وخانس كانس وأعجف ومحيف مذيق وصحصاح.
فإذا أسرع الزوال وتعجل في الانفتال قيل ظل مستوفز ومستقلص ومستطرد ومالح وراغش ووالق ودالق.
فإذا أخذ يترجح قيل يترجح ويميد ويمور ويتراد ويتغيف فإذا وقف قيل قد وقف وصام وقام ومكد وركد ومصد وحار وتحير ودوم وتلدد وتبلد وعقل واعتقل ونخبس وتصبر وظلّ حيران ثابت لا يزول.
ويقال: وردته والظل عقال وحذاء وطباق وطراق قال الشّاعر:
وكان طرّاق الخف أو قل زائدا
وشعار ودثار ورداء وخف ونعل وجورب.
قال: وانتعل الظل فصار جورباً. وساق وظل مثارب من الأرومة ومتجعثن من الجعثنة ومُتَجرثم من الجرثومة.
فإذا حول قيل حول وفاء وراع ونسخ وانتقل وبدل واعتدب.
ويقال: يزل الظل محولاً ومحولاً وطارداً، ومطروداً وناسخاً ومنسوخاً وسارقاً سروقاً ولاحقاً وملحوقاً.
ويقال: له أول ما يظهر في فيئه نبت الظل ونجم ونسم وعسم وبدا وتولد وظهر وأنتج ونبع ونبغ وانتعش وانتقش وأحنى وطلع ونسغ وجلس في نسيغ الظل ورسيغه. وموكده ومنتجه ومنبته ومستنبته ومستنبطه ومستوشاه ومستعلقه ومستذاقه ومستطعمه ومسترفقه ومستحلقه ومستودقه ومستمتعه ومسترفده وملتقطه ومستفاه ومشتفه ونفاشه وجناه.
فإذا انبسط شيئاً في فيئه قيل: حي وربا ونبت وسعى ومشى وحبا وثار وسار وجسم ومسمن واستطال وفضل ونمى.
ويقال: ظل شاب وجذع وقيان وشارخ وغض. قال قد صبحت والظل غض ما زجل وظل دوم ودايم وروح ورايح وثمل وهايل وظلال ثمل وثملة وثوامل وجاءنا في ثميلة الظل وثامله ومشتمله وثمله وثمده وضجرة مثملة وقد استبرد في الظل واستروح واستدفأ وظل مدفئ ودفيء على فعيل وسخن وساخن وسخاخين وظل بارد وكريم وأدفأت الشجرة بظلالها ودفأت وأبردت وأروحت وأراحت وأطابت وأطيبت وتفيأت الشجرة بظلها وأفاءت ظلالها وقد فاء الظل بفيء وفيؤاً.
ويقال: ظل مومن ومشمل وموسر وميامن ومياسر وقد أيمنت ويامنت وأيسرت وياسرت وأشملت ووقع ذات اليمين وذات الشمال وإذا تحرك خلال الشجر قيل رمح الظل وركض وارتكض وصرخ ورقص ورنق.
ويقال: ركض الماء في المجمر أيضاً. ويقال: ظل أبيض وأشهب وأسمر ليس بشديد السواد والعس وأدعج وأظمئ وألمى وأحمر وأحوى قال في ظل أحوى الظّل رفاف الورق ويحموم وأدهم وأدلم شديد السواد وأتيته في دلمة الليل وظلمته أي في شدة سواده.
ويقال: ظِلٌ يقق رقق وازغاز وناضب غائب ومنسرق منحمق ومخنق مدنق وحاسر وقاصر وعادل مائل وزائل حايل وناحل ضاهل وجانح أو ماضح ومنتقل أو معتقل وماكد راكد ومشفش وناسم أو جاسم وساه واه وعائذ لايذ ومعاوذ ملاوذ ومعافر أو منافر ومضمحل ومسمئل ووالق دالق وملس محلس وهفهف شفشف وهف شف وهفهاف شفشاف وهفهف أو رفرف وساج داج ومتجارف متأزف وصايم قايم وثخين رصين وناحل أو زاحل ووحف نغف وأمم أو عمم وزائل آفل وناشل واشل ومكر مجن ومتبلد ومتلدد ونافق عافق وشارخ أو مالخ وخانس كانس وسقيط أو لقيط وراتب راسب ومنزب منسرب.
قال أبو عمرو ما يجري مجرى التفسير وهو أكثر سماع من أبي العباس ثعلب.
يقال: سجس الظل فهو سجس إذا دام وسكن. ومنه سجس الماء علاه الطّحلب فواراه. وكذلك لا أفعله سجيس الليالي وهو باقيها ودائمها. وظل ساج: أي ساكن. وقد سجا سجواً. وظل داجٍ ملبس، وقد دجا دجواً وهو من قولهم دجا الإسلام أي ظهر وانتشر. قال شعراً: قال شعراً:
وما مثل عمرو غير أعتم فاجر ... أبي مذْ دجا الإسلام لا يتجنف
ويقال: دجت شعرة الشّاة: ضفت وسبغت. ورفق الظل ما تسترفق به منه. ويقال: ماء رفق قليل للغشاء قريب الرشاء. وظل ماتع طويل. قال:
ماتعة رأدَ الضحى أفياؤها ... وقد متع الظل ومتع النهار ومتع النبات
قال ابن مقبل: وعاد لويه بعد المتوع، وظل وحف كشف وشعر وحف وقد وحف وحوفة ووحافة. وولغف مثله، وقد ألغف قناعه، وأغدفه، وظل واعد يعد بسكون، ودوام وسحاب واعد يعد يمطر، وفرس واعد يعد بجري. قال:
حتى إذا أدرك الرامي وقد عربتْ ... عنه الكلابُ فأعطاها الذي يعدُ
يصف ثوراً دافع كلباً بقرنه.(1/237)
وظل مظل وظليل وقد أظل يومنا وظل مغطال ومغطئل قال وأغطال شكيرها وشف هف من قولهم: شف الثوب إذا أدى ما وراءه، وهف رقيق.
ويقال: سحاب هف رقيق وشهدة هف لا عسل فيه وثوب هفهف رقيق وهفهاف كذلك.
ويقال: ظل مشعشع أي رقيق. وشعشع كذلك وهما غير الظليل. قال الهُذلي: والظل بين مشعشع ومظلّل. وشعشع الشراب: أرثه بالمزج.
ورجل شعشاع طويل دقيق ... إلى كل شعشاعٍ وأبيض فادعم
وخادع وظنون لا يوثق بدوامه.
ويقال: سنون خداعة لا زكوة فيها، وكل شيء لا دوام له ولا بقاء فهو خيتعور، والدنيا خيتعور، وحب المرأة خيتعور. قال شعراً:
كل أنثى وإنْ بدا لك منها ... آية الحب حبها خيتعورُ
والغول خيتعور وشيء يظهر على وجه الأرض، فلا يثبت خيتعور والملذان الكذوب.
ويقال: زحل الظل أي سار. قال: والظل غض ما زحل. وضهل قل: يقال ماء ضهل وضاهل وظل ضهل. وهرب الظل: غاب. قال: من هارب الوتد. وأفل غاب وأفلت الشمس تأفل أفولاً وأفلت السحاب صحت، وأفِل لبنُ الناقة، قل، والأفيل والإفال صغار الإبل لأنها تغيب في جلتها وكبارها.
ويقال: نشل الظل قل ويدنا شلة نحيفة ضئيلة، ووشل اللبن ووشل حظ الرجل وولق يلق أسرع. قال: جاءت به عنس من الشّام تلق.
وودق: دنا من السقوط، ويقال: ودقت الأتان وأودقت واستودقت فهي وديق ومودق ومستودقة إذا اشتهت الفحل فمنت منه، وودقت السرة تدلت إلى الأرض، والوديقة الهاجرة لأن الشمس تنزل إلى الأرض بِحَرها.
ويقال: أزي الظل يأزى أزيا وأزياً إذا قصر وصار نعلاً، وتأزى القوم في حلتهم إذا تقاربوا، وفلان أزء مال يلازمه فلا يبرحه. وأسمأل الظّل لاذ بأصل الشجر واسمأل الثوب أخلَق، وكل ضعيف مسمئل وكلّ قوي مضمئل.
ويقال: قلص الظل قلوصاً وضحى يضحى ضحواً. ومصح مصوحاً، وجنح جنوحاً، ورزخ رزوخاً، ونضب الظل ونضب الماء ونضب البرق. وأنشد أبو زيد في عماء ناضب. وزنا الظل وهو زناء. قال شعراً:
وتدخل في الظل الزناء رؤوسها ... وتحسبها هيماً وهن مصائِحُ
وعادنا الشجر وجلست في عوذ الظل، وانسرق الظل. ويقال: قواه منسرقة أي ضعيفة، وغزال منسرق، وانغفق: ضعف وكاد ينتقل. ويقال: تغفق بظلّ الشجرة. قال:
تغفق بالأرطي لها وأرادها ... رجال فبذت نبلهم وكليب
وانسرب: دخل في الشرب وانزرب دخل في الزرب وكنس وجنس وظل لقا وظلال القاء وملخ الظّل أسرع ملخاً. قال: تمير في الباطل مراً مالخاً. وداغش لاوذ وقد داغش الورد. قال عطشان عاغش ثم عاد يلوب.
وقال: أما تراهن يداغشن السرى: ويروى يواغشن وعقل الظل.
قال شعبة الساق إذا الظل عقل، والظل بالغداة محول وبالعشي محول. قال شعراً:
إذا حوّل الظل العشي رأيته ... حنيفاً وفي قرن الضحى يتنصر
ويقال: جلس في نسيغ الظل ورسيغه. قال: وفي نسيغ الظّل أو رسيغه. وظّل رقق ورقيق ونفق سريع الزوال واز قصير وغاز وقد غزا وطنه فقصر. ويقال: غزا الماء أوطانه: إذا لحق بقرارة من الأرض وحسر عنه المدد. ويقال: ساه راهٍ وظلال أرهاء. قال شعراً:
واستكَنَ العصفور كُرهاً مع الضبِ ... وأوفى في عوده الحرباء
فنفى الجندبَ الحصا بذرا ... عيه وأودت بأهلها الإرهاء
والمعافر لم يفسر، وقالت امرأة لابنتها: لا تأتيني إلا معافرة أو منافرة. ويقال: شجر المي الظل قال:
إلى شجر المي الظلال كأنه ... رواهب أحلى من الشراب عذوب
يقال: أخذ الظل يموت وقد مات وماتت الريح، قال: إني لأرجو أن تموت وأقعد اليوم وتستريح. وقوله مشتفة من قولهم: اشتف الشراب: إذا أخذ يتجرعه وأشف جوز الفرس الحزام إذا استوفاه، قال: ودفان يشتفان كل ظفان بمنزلة الحرام.
البابُ الحادي والخمسون
في ذكر التّاريخ وابتدائِهِ
والسّبب الموجب له وما كانتِ العرب عليه لدى الحاجة إليه في ضبطِ آماد الحوادثِ والمواليد
وهو فصلان:
فصل
تاريخ كل شيء في اللغة
غايته ووقته الذي انتهى إليه
ومنه قولهم: فلان تاريخ قومه في الجود: يريدون الذي انتهى إليه ذلك، وسئل بعض أهل اللغة ما معنى التاريخ؟ قال: معنى التأخير. وقال آخر: بل هو إثبات الشيء.(1/238)
ويقال: ورخت الكتاب توريخاً هو لغة بني تميم وأرخته تأريخاً لغة قيس وتأريخ وتاريخان وتواريخ.
ويقال: أرخ كتابك وورخه. قال أحمد: جميع ما ذكرنا فيه من اختلاف اللغات وما ثارت عليه الكلمة في التصاريف يدل على أنها جارية مجرى ما أصله العربية دون ما نقل إليه من العجمية، ولكل نبوة ومملكة تاريخ، فأما العرب فكانوا يؤرخون بالنجوم قديماً وهو أصل، ومنه صار الكتاب يقولون: نجمت على فلان كذا حتى يؤديه في نجوم ويجمع النجوم أنجمه.
ويقال: نجم له رأي أي ظهر، واشتهر لفظة النجم بالثريا فأما قوله تعالى: )والنَجم إذا هوى) سورة النجم، الآية: 1، كان الكلبي يقول: والقرآن إذا نزل نجوماً أو شيئاً بعد شيء وقال غيره: النجم ها هنا الثريا أقسَمَ الله تعالى به على المعنى الذي فسرناه كأنه قال: وخلقي الذي لا يقدر أحد أن يخلقَ مثله، وعلى أقسامه بالطور والتين وما أشبههما، وفسروا قوله تعالى: )فلا أقِسمُ بمواقِع النجومِ )سورة الواقعة، الآية: 75، على النجوم الطوالع لقوله: )إنه لقرآن كريم) سورة الواقعة، الآية: 77، وعلى نجوم القرآن أيضاً، وقيل في قوله: )والنجم والشجر يسجدان) سورة الواقعة، الآية: 77، إن النجم ما نجم من النبات ولا ساق له ويقال لواحد: هذا النجم نجمة. قال الحارث بن ظالم شعراً:
أحصي حمار باتَ يكدم نجمةً ... أتوكِلُ جيراني وجارُكَ سالمُ
صغر أمره وشبهه بحمارِ سوء، وكانت العرب تؤرخ بكل عام ينفق فيه أمم جليل مشهور متعارف كتاريخهم بعام الفيل، وفيه وُلد النبيُ صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في السنة الثامنة والثلاثين من ملك كسرى أنو شروان.
ورُوِي لنا عن أبي العيناء في إسناد يرفعه إلى أبي جعفر محمد بن علي قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاثنين لعشر ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول، وكان الليل في النّصف من المحرّم بينه وبين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس وخمسون ليلةً. وبذلك الإسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتت أمه وله ست سنين.
وروى جبير بن مطعم أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتذكر موت عبد المطلب؟ قال: أنا يومئذ ابن ثمان سنين. ورُوي عن الزهري أنَ أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه إلى الحجاز ممتاراً فمات ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل.
ورُوي أن آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتت وتركَت أم أيمن وهي أم أسامة بن زيد، فأرثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا رآها قال: بقية أمي. فهكذا كان يجري أمر التاريخ، وكما أرخوا قبله بعام الخنان لأنهم تماوتوا فيه، وعظم أمره عليهم. قال النابغة شعراً:
فَمَن يكُ سائلاً عنّي فإني ... من الشبان أيام الخنانِ
مضتْ مائة لعام ولدت فيها ... وعشر بعد ذاك وحجتانِ
فقد أبقتْ صروفُ الدهر مني ... كما أبقتْ من السيف اليماني
وروي من غير وجه أنه كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان الأقرع بن حابس يحكم العرب في كل موسم، وكانت العرب تتيمن وهو أول من حرم القمار، فانقادوا له لذلك قال البعيث:
وعمي الذي انقادَتْ مَعد لحكمه ... فألقوا بأرسلان إلى حكم عدلِ
قوله: القوا بأرسلان: كما قيل: ألقيت إليك المقاليد، وما أقل من أرخ في شعره على أنه يروى للمستوعز بن ربيعة وهو من المعمرين:
ولقد سَئمتُ مِنَ الحياةِ وطولها ... وازددت مِن عددِ السنين سنينا
مائة أتتْ من بعدها مائتان لي ... وأردتُ مِنْ عددِ الشهورِ مئينا
هل ما بقي إلاّ كما قد فاتَنا ... يوم يكر وليلة تحدونا
قال أكثم بن صيفي:
إن امرأ َقد سارتسعينَ حِجة ... إلى مائة لم يسأم العيش جاهلُ
أتت مائتان غير عشر وفاءها ... وذلك من مر اللّيالي قلائل
أنشد المازني:
هَزئَتْ زينبٌ وإنْ رأتْ يرمي ... وإن الخنى ليقال من ظهري
من بعدماعهدت فأدلفَنَي ... يومٌ يجيء وليلة تَسري
حتى كأني خاتلٌ قنصاً ... والمرءُ بعد تمامِهِ يجري
لاتهزئي مني زينبٌ فما ... في ذاك من عجبٍ ولاسِحر(1/239)
أوَلم تري لقمانَ أهلكَه ... ما اقتأتَ من سنةٍ ومن شهرِ
وبقاء نسرِ فلمّا انقرضَتْ ... أيامُه عادت إلى نسرِ
ماطال من أبدٍ على لبدٍ ... رجعت محورته إلى قصرِ
ولقد حلبتُ الذَهر أشطرَهُ ... وعلمتُ ما أتى مِنَ الأمرِ
وأرخت العربُ بموتِ هشام بن المغيرة المخزومي لجلالته فيهم، ولذلك قال الشاعر:
وأصبرحمه الله تعالى بطنُ مكَّةَ مقشَعِرا ... كأنَ الأرض ليسىَ بها هِشامُ
ومات زهير بن أبي سلمى قبل مبعث النّبي صلى اله عليه وسلم بسنة، ومات النابغة قبله فقال زهيرلبنيه: رأيت رؤيا وليحدثَن أمر عظيم ولست أدركه رأيت كأني أصعدتُ إلى السماء حتى إذا كدت أنا لها انقطع السبب، فهويتُ فمن أدركه منكم فليدخل فيه فأتى ابنه بحير النبي صلى الله عليه وسلم وكان زهير يكنى بحير فأسلم وأبي كعب أن يسلم حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فقدم وأسلم، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدته اللامية واعتذر مما كان فيها.
وروى الزهري والشعبي أن بني إسماعيل أرّخوا من نار إبراهيم إلى بنائه البيت حين بناه مع إسماعيل فإن بني إسماعيل أرخوا من بنيان البيت إلى تفرق معد، ثم أرّخوا بشيء إلى موت كعب بن لؤي، ثم أرٌخوا بعام الفيل إلى أن أرخ عمر بن الخطاب من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وكان سبب ذلك أن أبا موسى كتب إليه أنه يأتينا من قبل أمير المؤمنين كتب ليس لها تاريخ، فلا ندري على أيها نعمل.
وروي أنه قرأ صكاً محله شعبان، فقال الشّعابين الماضي أم الآتي؟ فكان ذلك سبب التّاريخ من الهجرة بعد أن أرادوا أن يؤزخوا من المبعث، ثم اتّفق الرأي على الهجرة وقالوا: ما نجعل أوّل التّاريخ؟ فقال بعضهم: شهر رمضان وقال بعضهم: رجب، فإنّه شهر حرام، والعرب تعظمه، ثم اجمعوا على المحرّم فقالوا: شهر حرام وهو منصرف النّاس عن الحج، وكان آخر الأشهر الحرم فصتروه أولاً لأنها عندهم ثلاثة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب فكان الأربعة تقع في سنتين. فلما صار المحرم أولاً اجتمعت في سنة، والتاريخ لغة قيس، وعليه استعمال الناس والتوريخ لغة تميم وما استعماله كاتب قط، وإن كان التكلم به كثيراً في ألسِنَةِ العرب.
وقال بعض الكتاب: التاريخ عمود اليقين مبيد الشكوك به تثبت الحقوق وتحفظ العهود.
قال أبو بكر الضولي: وكان لا يقع التاريخ في شيء من الكتب السلطانية من رئيس أو مرؤوس إلأ في أعجاز الكتب، وقد يؤرخ النظر والتابع ما خص من الكتب في صدورها. وقال إبراهيمُ بن العباس: الكتابُ بلا تاريخ نكرة بلا معرفة، وغفل بغير سمة.
قال أبو عبد الله: وكتَبَ عمر بن الخطاب إلى الأمصار أن يبعثَ إليه من كل مصر برجله، فوفد عليه عتبة بن فرقد السلمي من الكوفة ومجاشع بن مسعود السلمي من البصرة وأبو الأعور السلمي من الشام ومعن بن يزيد السلمي من مصر فتوافوا عنده كلهم من بني سليم.
قال أبو الحسن علي بن سليم: قال بعض الشعراء في صاحب توفي وكان يؤزخ علم القرون فها هو اليوم أرخاء.
وذكر الصولي أنه كاتب أبا خليفة الفضل بن الحباب القاضي في أمور أرادها، قال فأغفلتُ التاريخ، فكتب بعد نفوذ الثاني: وصل كتابك مبهم الألوان مظلمٍ البيان، فأدى جراماً القرب فيه بأولى من البعد، فإذا كتبت أعزك الله فلتكن كتبك موسومة بتاريخ لأعرف به أدنى آثارك، وأقربَ أخبارك إن شاء الله قال: فكتبت إليه كتاباً جعلتُ التاريخ في صدره وقلت معه: قد قبلنا دلائلَ البرهان واعترفنا بالبر والإحسان وجعلت التاريخ بعد دعاء لائحاَ للعيون كالقنوان.
شعر:
حبذا أنتَ مِنْ مفيد علوم ... وافداتِ بحكمة وبيانِ
هي أسنى ذكراً وكثر نفعاً ... من كنوز اللجين والعقيان
فكتابي إليك يا زينةَ الدنيا ... لخمسٍ خلونَ من شعبانِ
قال أبو العباس: آخر من مات بالكوفة من الصحابة من الأنصار عبد الله بن أبي أوفى وبالبصرة أنس بن مالك، وبالشام أبو أمامة الباهلي، وبالمدينة سهل بن سعد، وبمكة عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وممن ذكر سنه في شعره وأرّخه زهير بن خباب الكلبي في قوله:(1/240)
ونادمتُ الملوكَ مِن آل عمرو ... وبعدُهُم بني ماء السَّماء
وحقّ لمن آتتْ مائتان عاماً ... عليه أن يمل مِن الشواء
قال الصولي: وكنّا يوماً عند المغيرة بن محمد المهلبي، فقال له رجل: كم كان سن يزيد بن المهذب يومئذ. فجعل جوابه إنشاداً بمبلغه فقال: أنشدني التّوجي لحمزة بن بيض الحنفي فيه يرثيه:
أغلق دونَ السّماح والنَجدة ... والمجدُ باب خروجُه أشِبُ
يانَ ثلاثٍ وأربعين مضَتْ ... لا صريحَ واهن ولا ثلبُ
لا بطر إن تتابعتْ نِعَم ... وصابر في البلاء محتسبُ
برزت سبق الجواد في مهل ... وقصرَتْ دون سبقك العربُ
فصل
في حكام العرب في الجاهلية
قال أبو عبد الله: حكام العرب في الجاهلية عبد المطلب بن هاشم وأبو طالب بن عبد المطلب والعاصي بن وائل والعلاء بن حارثة الثقفي. وحكام كنانة: يعمر بن الشّداخ وصفوان بن أمية بن الحارث، وسلم بن نوفل أحد بني الديك بن بكر. ومن بني أسد: ربيعة بن حمار أحد بني سعد بن ثعلبة بن دودان وله يقول الأعشى:
وإذا طلبتَ المجد أين محلهُ ... فاعمد لبيت ربيعةَ بن حدارِ
يهبُ التحيةَ والجوادَ بسرجِهِ ... والأدمَ بين لواقحٍ وعِشار
وهو الذي حكم بين حاجب بن زرارة وخالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل فنفر حاجباً على خالد.
وحكام قيس: عامر بن الظرب وسنان بن أبي حارثة المري، وغيلان بن سلمة الثقفي، وكانت له ثلاثة أيام: يوم ينشد الناس بشعره، ويوم يحكم فيه بين الناس ويوم يقعد فيه للناس فيزار وينظر إلى سرره وجماله. وجاء الإسلام وعنده عشر نسوة فخيره النبي صلى الله عليه وسلم فاختار منهن أربعاً فصارت سنة. قال: وقتلت بنو أسد من الأشراف حجر بن عمرو بن الشريد السّلمي، وربيعة بن مالك الجعفري أبا لبيد الشاعر، وعتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي. وزعموا أنهم قتلوا شهاباً جَد عتيبة، وبدر بن عمرو بن جوية بن لوذان بن عيسى الفزاري وهو جد عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر.
فصل
في أوقات التواريخ
في أوقات التاريخ إنما غلبت العرب الليالي على الأيام في التاريخ، فقيل: كتبت لخمس بقين، وأنتَ في اليوم لأنَ ليلة الشهر سبقت يومه، ولم يلدها وولدته ولأنَ الأهلّة للليالي دون الأيام، وفيها دخول الشّهر، ولذلك ما ذكرهما الله تعالى إلا وقدمَ الليالي على الأيام قال تعالى: )سَبْعَ ليالٍ وثمانيةَ أيام حُسوماً) سورة الحاقة، الآية: 7، وقال تعالى: )يولج الليلَ في النَهار) سورة فاطر، الآية: 13، وقال تعالى: )سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين) سورة سبأ، الآية: 18، والعرب تستعمل الليل في الأشياء التي يشاركها فيها النهار دون النهار، وإن كانت لا تتم إلا به قال تعالى: )وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً وأتممناها بِعَشرٍ) سورة الأعراف، الآية: 142، وقال الفرّاء: ولقد دعاهم تغليب الليل على الأيام إلى أن قالوا: صمنا عشراً من الشهر. قال: وقال أنو شروان: اليوم عشر من الشهر ويقولون: عندي عشر من الإبل وإنْ كانت ذكوراً، وعشر من الشّاء وإن كانت كباشاً، ويقولون: أدركنا الليل بموضع كذا لأنّه أول ألا ترى قول النّابغة:
فإنكَ كالليلِ الذي هو مُدرِكي ... وإن خِلْتُ أن المنتأى عنك واسِعُ
ولم يقل كالنّهار. وحكى بعضهم أن العرب تقول في اللحم: ابن يومه، وفي الخبز ابن ليلة، وفي النبيذ ابن سنة وأنشد:
وفتيان صِدقٍ لا تغب لحامُهُم ... إذا شبه النجم الصوار المنفرا
ومدح حميد الطوسي علي بن جبلة بمثل قول النابغة، فقرن إلى الليل النهار فقال:
وَمَا لامرئ حاولتُه منكَ مهرب ... ولو رفعته في السماء الطوالِعُ
بل هارب لا يهتدي لمكانِهِ ... ظلام ولا ضوء من الصبحِ ساطِعُ
وقال عبيدُ لله بن عبد الله في معنى قول النابغة:
إني وإن حدثتُ نفسي أنني ... أفوتكَ إن الرأيَ منّي لعاذِبُ
لأنك لي مثل المكانِ المحيط بي ... من الأرض أنى استَنهضَتني المذاهبُ(1/241)
فجعل مكان الليل من قول النّابغة، لأنك لي مثل المكان إذ كان لا بد للمخلوق من مكان وزمان، وقالوا: صمنا عشراً من رمضان، وأنشد أبو عبيدة:
فصامَت ثلاثاً لا مخافةَ بينها ... ولو مكَثَت خمساً هناك لصَلتِ
والشهور كلها مذكرة سوى جماديين، ولا يُذكرون من شهر كذا إلا في ثلاثة أشهر: شهر رمضان وشهرا ربيع، لأن الربيع وقت من السنة فخافوا إذا قالوا من ربيع أن يظن أنه من الربيع الذي قبل الخريف، وقال الراعي:
شهري ربيعٍ لا يذوقُ لبونهم ... إلا حموضاً وخمة ودويلا
الدويل كسار الحلى ينبت مجتمعاً، وكل ما يكسر من النبات وأسود فهو دويل ولو كتب كاتب في ربيع الأول وفي رمضان، ولم يذكر الشهر لجاز وليس بالمختار كما قال:
جارتُهُ في رَمضانَ الماضي ... تقطعُ الحديثَ بالإيماضِ
واعلم أنه لا يكتب لليلة مضت لأنهم يعدون في الليلة، فإذا أصبحوا كتبوا لليلة خلت، ويكتب أول يوم من كذا، ولا يكتب مهل كذا، ولا مستهل كذا لأن الهلال إنما يرى بالليل وأنشد الأصمعي والشِّعر لنابغة بني جعدة، وعاش ثمانين ومائة سنة:
قالت أمامةُ كم عمرت زمانَه ... وربحت من عِز على الأوثانِ
ولقد شهدت عكاظَ قبلَ محلها ... فيها وكنتُ أعد في الفتيان
والمنذر بن محرقٍ في ملكه ... وشهدت يوم هجا بنِ النعمان
وعمرتُ حتى جاء أحمدُ بالتقى ... وقوارع يتلى من الفرقانِ
فلبستُ بالإسلام ثوباً واسعاً ... من سيبِ لا حردٍ ولا منانِ
وقالا حين أتت عليه مائة واثنتا عشرة سنةً:
مضَت مائة لعام ولدتُ فيه ... وعشر بعد ذاك وحجتانِ
أبقى الدهرُ والأيامُ مني ... كما أبقى من السيفِ اليَماني
يصمم وهو مأثور جراز ... إذا اجتمعتْ بقائمةِ اليَدانِ
قال أبو عبد الله فتاك الجاهلية: الحارث بن ظالم المزي والبراض بن قيس الضمري وتأبط شراً واسمه جابر بن سفيان الفهمي وحنظلة بن فاتك أحد بني عمرو بن أسد. وفتاك الإسلام: مالك بن ريب المازني وعبيد الله بن الحر الجعفي وعبد الله بن سبرة الجرشي وعبد الله بن خازم السّلمي والقتال الكلابي ومرار بن يسار الفقعسي وعتيبة بن هبيرة الأسدي ومن باب التاريخ قولُ الشاعر:
ها أنا ذا أمل الخلودَ وقد ... أدركَ عمري ومولدي حجرا
أيا امرأ القيس هَلْ سمعت به ... هيهاتَ هيهاتَ طال ذا عمرا
وما يجري مجرى التاريخ بما يتضمن من التشبيه ما أنشده ابن الأعرابي وأظن بعضه قد مضى، وإن كان يسيراً، وأنشد أبو هفان وزعم أنْه من أحسن أشعارهم شعراً:
منعمَّة لم تلقَ بُؤساً ولم تَسُق ... بعيراً ولم تضمم وليداً إلى تحرِ
ولم تدرِ أي النّاس أعداء قومِها ... وتمضي الليالي والشهورُ ولا تدري
سوى أن تصوم الشهر فيمن يَصومه ... وتسأل عن يومِ العروبة والفطرِ
فلو كنتِ ماءً كنتِ صوبَ غمامة ... ولو كنت مزناً كنتِ ثرة من بَكر
ولو كنتِ لهواً كنتِ تعليل ساعة ... ولو كنتِ نوماً كنتِ تعريسة الفجرِ
كلفتُ بها عمري فلما تقطعت ... وسائلنا ودعتُ ما قاتَ مِن عمري
وأنشد نفطويه عن أبي العباس ثعلب:
فلو كنتِ ليلاً كنتِ ليلةَ صيفٍ ... من المشرقاتِ البيضِ في وَسَطِ الشهر
ولو كنتِ ظلاُّ كنتِ ظل غمامة ... ولو كنتِ نوماً كنتِ تعويسة الفجرِ
ولو كنتِ يوماً كنتِ يوم سعادةٍ ... ترى شمسَه والمزنُ يهضبُ بالقَطر
وفي هذه الطريقة ما أنشد به أحمد لجأ ويروى للعين المنقري:
فَقَيمْ يا شر تميم محتداً ... لو كنتمُ ماءً لكنتم زبدا
أو كنتم ليلاً لكنتم صَرَداً ... أو كنتم شاءً لكنتم نقدا
أو كنتم صوفاً لكنتم فرداً ... أو كنتم عيشاً لكنتم جحدا
وأنشد:
لو كنتَ لحماً كنتَ لحم كَلْبٍ ... أو كنتَ ناراً لم تحلُ في عَطَبِ
أو كنتَ ماءً لم تسعَ لشربٍ ... أو كنتَ سيفاً لم تكن بعضبِ(1/242)
وروى أبو عمر عنه أيضاً قال: أنشدني أبو عبد الله:
لو كنتُ مِن مالِ امرئٍ ذي نيقة ... لكنتُ خيرَ ناقة مُسَوقة
من ناقة خوارة رقيقة ... ترميهم ببكراتٍ رُوقة
وحكى ابنُ الأعرابي قال: غزا خالد بن قيس بن المضلل فيمن تبعه من بني أسد فغنم وسبا فمرت به جارية أعجبته فقال لها: كيفَ كان أبوك يطبخ اللباء؟ قالت: كان يهنيه ويمنيه حتى يستقر، ورضفه فيه، فأعرضَ عنها ثم دعا بأخرى فسألها عن مثل ذلك، فقالت: كان يهذره ويمذره، ويطحن الفارس فينثره، فاتخذها لنفسه، فجاءت بعاصم بن خالد، وكان يقال له: البر من بره بأبيه وله يقول أبوه شعراً:
أرى كل أمر إلى عاصم ... فما أنا لو كانَ لم يُولَدِ
فلو كنت شيئاً مِن الأشرباتِ لكنتُ من الأسوغ الأبرد
قول الأولى: يهنيه ويمنيه: أي يحسن علاجه وهذا مما يوصف بها الرعاة.
وقول الثانية: يهذره ويمذره: أي يفسحه فإذا طعن الفارس أشرقه بدمه فأنثره، ويشبه هذا عندي قول الآخر:
إن عليها فارساً كعشرة ... إذا رأى فارسَ قوم أنثره
أورَده منكفياً أو أشْعَرَه
معنى أشعره: رماه بسهم جعله شعاراً له، وهذا شبيه بقول الجُعدي:
فَتانا بطرير مُرْهفِ جفرة ... المخرم مِنهُ فسعل يريدُ
لما جافهُ بالطعنة أشرقه بدمه فسعل به، وأنشِدْت عن نفطويه، قال: أنشمني ثعلب عن الأعرابي:
لو كنت ليلاً من ليالي الشهرِ ... كنت من البيضِ تمامَ البَدرِ
بيضاء لا يشقى به مَن يَسري ... أو كنت ماءً كنت غيرَ كَحرِ
ماء سماءً في صَفاتي صخر ... أظله اللهُ بعيص الصدرِ
فهو شفاء من غليلِ الصدرِ
وأنشدتُ عنه أيضاً قول الآخر:
فلو كنت يوماً كنت يومَ تَواصُل ... ولو كنت ليلاً كنت لي ليلةَ القَدرِ
ولو كنت عيثاً كنتَ نعمةَ جنةٍ ... ولو كنت نوماً كنت تعريسة الفجرِ
وأنشده من غير هذا الوجه:
لو كنت من شيءً سوى بشرٍ ... كنت المنور ليلةَ البَدرِ
وأنشد أبو العباس المبرد في الذم والإزراء:
لو كنت ماءً لم تكن بعذبٍ ... أو كنتَ عاماً كنت عام خصبِ
أو كنت سيفاً لم يكن بعضبٍ ... أو كنت غيراً لم يكن بندبِ
أو كنت لحماً كنتَ لحمَ كَلبِ
وأنشد ابن الأعرابي:
لو كنت ماءً كنت لا ... عذب المذاقِ ولا مسوسا
ملحاً بعيدَ القعر قد ... فَلت حجارتُه الفؤوسا
قال المسوس: كل ما شفى الغليل، لأنه مس الغلة وأصابها وأنشد:
يا حبذا ريقتُك المسوس ... وأنت خودبادن شموس
ويقال: ماء قعاع، وزعاق وحراق وليس بعد الحراق في الملوحة شيء لأنه إذا شرِبت الإبل أحرقت أكبادها.
وروى لنا أبو الحسن البديهي قال: سمعتُ أبا عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي يقول: سأل بعض أهل العلم أصحابه فقال: أتعرفون رجلاً من الصحابة يُروى عنه الحديث، ويقال له أسد بن عبد مناف بن شيبة بن عمرو بن المغيرة بن زيد. قالوا: لا. قال: علي بن أبي طالب: سفته أمه فاطمة أسداً وهي بنت أسد باسم أبيها، وعبد مناف اسم أبي طالب، وشيبة اسم عبد المطلب وعمرو اسم هاشم، والمغيرة اسم عبد مناف، وزيد اسم قصي.
وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم تولى دفن فاطمة بنت أسد وكان أشعرها قميصاً له، فسُمع وهو يقول: ابنك، فسُئل صلى الله عليه وسلم فقال: إنَها سُئلت عن ربِّها فأجابت، وعن نبيها فأجابت، وعن إمامها فلَجلَجت، فقلت: ابنك ابنك.
البابُ الثّاني والخمسون
فيما هو متعالم عند العَرب
ومن داناهم، وأدركوها بالتفقد وطول الدربة، ولم يدخل في أسجاعهم.
قال أبو حنيفة: يقولون إذا طلع فرغ الدلو المؤخر، وذلك أول الربيع اختال العشب، وأدرك الباقلي والفاكهة المنكرة بالعراق، وظهرت الهوام. وإذا طلع يطنُ الحوت حصد أول الشّعير بالعراق، وزعموا أنَ النوءَ الذي فيه هو نوء السماك قَل ما يخلف.
وإذا طلع الشرطان كل فريكُ الحنطة.(1/243)
وإذا طلعَ البطين: فرغ من حصاد الشّعير، وابتدئ بحصاد الحنطة والقطابي وهي الجنوب، وكثرتِ الفاكهة بالعراق والشّام، وقيل: إنه قَل ما يعدمه سحاب.
وإذا طلعت الثريا عم الحنطة الحصاد، وأدرك التفاح، ومد في آخره النيل.
وإذا طلع الدبران: هبتِ السمائِم وأسود العِنب.
وإذا طلعت الجوزاء فيها الهقعة أدرك البطيخ والفاكهة.
وإذا طلعت الهنعة: أدرك البسر والتين، وفيه تنقصُ المياه.
وإذا طلعت الذراع وفيها الشّعرى: أدرك الرمان، وحصد القصيب النبطي.
وإذا طلعتِ العذرة وفيها النثرة: قُطِف العنبُ بالعراق، وكل الرطب وبلح النخل بالحجاز وأدرك جميع الفاكهة بالعراق والشام.
وإذا طلع الطرف كثر الثمر في ذلك الوقت، واللّبن الذي يستقضونه من الضروع، لفصال الأولاد عن الأمهات، ويطوف أهل مصر. ونوؤه ستّ ليالٍ وينسب في الشعر إلى الأسد.
وإذا طلعت الجبهة: كثر الرّطب وسقطَ الطل.
وإذا طلعت الزّبرة وطلع معها سهيل بالعراق: برد اللّيل والماء وولى القيظ.
وإذا طلعت الصرفة بردَ الليلُ واختلفت الرياح وتحرّك أول الشمال وقطعت العروق، وشربت الأودية، وجدَّ النَخل بالحجاز، وبكل غور ويشتار العسل.
وإذا طلعتِ العواء وطلع معها السماك الرامح: أخذ الناس في صرام النخل وقطفِ الرمان والسفرجل، وفيه، ينتهي غور المياه وتهيج الصبا.
وإذا طلع الغفر: زرع أول زرع الحنطة وزرع الرطاب وحصد القصب الفارسي وجد النخل وفي النوء الذي فيه وهو نوء الشرطين أول مطر ينتفع به.
وإذا طلعتِ الزباني دخل الناس البيوت، ويسقط الربل: وهو الورق الذي نبت في دبر القيظ ببرد الليل.
فإذا طلع الإكليلُ لم يكد يخطئ النوء الذي فيه وهو نوء الثريا السحاب والغيوم، وقطعت الحداء والخطاطيف والرّخم إلى الغور.
وإذا طلع قلب العقرب: هبت رياح الشتاء الباردة.
وإذا طلعت الشولة سقط الورق كله وكثر الرذاذ والمطر.
وإذا طلعتِ النعايم وطلوعها لاثنين وعشرين ليلةً من كانون الأول وسقوطها لاثنين وعشرين يخلو من حزيران، يتشعب الرعاء ويتلاقى التمايم لأتهم حينئذ يفرغون، ولا يشغلهم رعي فيلاقون ويحس بعضهم إلى بعض الأخبار.
وإذا طلعتِ البلدة نقى البساتين وكرب الكروم.
وإذا طلع مسعد الذابح لم يكد يخطئ النوء الذي فيه وهو نوء النثرة مطر وإن أخلف فريح.
وإذا طلع سعد بلع نقت الضفادع، وباضت الهداهد، وتزاوجت العصافير وهبت الجنوب، وأعشبت الأرض.
وإذا طلع سعد السّعود وتحرك أول العشب، وأورق الشجر وزقأ المكاء وجاءت الخطاطيف، وقلما يخطئ النوء الذي فيه، وهو نوء الجبهة المطر الجود.
وإذا طلع سعد الأخبية لم يكد يخطئ النوء الذي فيه، وهو نوء الزبرة مطراً شديداً وقلما أخلَفَ المطر وفيه يُورق الكرمُ.
وإذا طلع فرغ الدلو المقدم: يسلم الناس من الحاسة في النوء الذي فيه وهو نوء الصرفة فقد أمنت بإذن الله من الحواس إلى آخر السنة، وفيه يقول القائل: إذا دخلَ آذار أخياء وآبار، لما يتخوّف الناس من الآفات في هذا النوء وفيه يعقد الفوز والتفاح، وهذا الذي ذكره أبو حنيفة خرجه غيره على الشهور الرومية، فقال زائداً عليه:
تشرين الأول
سلطان المرة السّوداء وهو ثلاثون يوماً آيته واحد، وهو بالفارسية شهريرماه وآيته أربعة، وهو أوسط الخريف وله من البروج الميزان وهو هوائي مؤنّث نهاري شمالي. ربه بالنهار زحل وباللّيل عطارد، والشّريك المشتري وهو بيتُ الزّهرة، وشرف زحل هبوط الشمس فيه. والإقليم الروم إلى إفريقية مصر، وله من المنازل الغفر والزبانى وثلث الإكليل، وفي أوله يبتدئ أهل الحجاز بالزّراعة وفي عشر منه تزرع الحنطة والشعير والرطاب ويقوم سوق القادسان بسوق الأسواق أسبوعاً. وفي خمس عشرة منه يبرد الزمان وتكثر الرياح بإذن الله، وفي إحدى وعشرين يطلع الغفر ويسقط، وفيها يغلظ الشّجر ويكون أول مطر، فإنْ أخطأ فريحٌ شديدة، وتريح نيل مصر، ويقوم سوق حلب، وفي خمس وعشرين منه يطلع الزّبانى ويسقط البطين، وفيها يدخل النّاس البيوت واستقبل الوسمي ويقوم سوق ماسرجسان.
تشرين الآخر(1/244)
سلطان المرّة السوداء: ثلاثون يوماً آيته أربعة، وهو بالفارسية مهرماه آيته ستة، وهو آخر شهور الخريف. وله من البروج العقرب، وهو من بروج الماء وهو بيت بهرام، وبهرام هو المريخ، ومنزله فوق قلب العقرب وهبوط القمر فيه. ربه باللّيل الزّهرة وبالنّهار المريخ، والشريك القمر، والإقليم مكة. وله من المنازل ثلثا الإكليل والقلب وثلثا الشولة، في أول يوم تهب الجنوب وفي الثّاني يطلع الزبانيان ويسقط البطين وتقوم سوق عند كنيسة الرقة ويبرد الماء ويبتدئ أهل الشام بالزّراعة، ويذهب زمان المن والسلوى، ويلقط الزيتون ويدخل النمل ذوات الأجنحة بالشّام وبكل أرض باردة جوف الأرض ويخرج الحداء والرخم من كل أرض باردة، وعند ذلك يعرف الشتاء من الصيف، وفي خمس عشرة منه يطلع الإكليل ويسقط الثريا وهو آخر الخريف ويكون المهرجان عيد المجوس، وفيها يبتدئ البرد ويرتج البحر ويجيء شيء من المطر، فإن لم يجئ هاجت الرياح، وتهلك كل دابة ليس لها عظم مثل الدود والدباء والجراد واليعاسيب، ويسقط ورق الشجر، وما قطع فيه من الخشب لم يقع فيه أرضة، ويقع الجليد فوق الأرض وتتحرك فحولة الغنم. وفي أربعة وعشرين منه يكون النهار عشر ساعات، والليل أربع عشرة ساعةً، ولخمس وعشرين منه تعلق البحر فلا يركبه أحد. ولثمان وعشرين منه يطلع القلب، ويسقط الدبران ويطلع النسر الواقع ويشتد القر، ويختار النّاس ما يقل من الثياب ويشتد موج البحر ويقل صيده ويعصر الزيت ويلقط الجوز.
كانون الأوَّل
سلطان البلغم، آيته واحد، وهو أول شهور الشتاء وله من البروج القوس وهو من بروج النار ذو جسدين، وهو بيت المشتري. ربه بالنَهار الشّمس وبالليل المشتري والشريك زحل. الإقليم بابل وله من النجوم ثلاثة، الشولة والنْعايم والبلدة. وفي أول يوم منه يقوم سوق دمشق، ولإحدى عشرة منه يطلع الشولة وهي ذنب العقرب، تسقط الهقعة ويجيء مطر، وتهيج رياح ويخرج النمل ذوات الأجنحة فتجيء القواري من الطير فتصطادها وتولد الضأن. ولاثنتي عشرة منه يرى أول الطلع، ولخمسٍ وعشرين منه تطلع النعايم وتسقط الهنعة وهو حمية الشّتاء، وفيه ميلاد المسيح عليه السلام وهي أطول ليلة في السّنة وأقصر يوم يكون يومه تسع ساعات، وليله خمس عشرة ساعة. وهو عيد النصارى، يكون الميلاد الدّهر كله في خمسٍ وعشرين من كانون الأول وتطلع البلدة، ويسقط الذراع، وذلك أشد ما يكون من القر وقت السحاب والمطر ويطلع النّسر الطائر.
كانون الآخر
سلطان البلغم واحد وثلاثون يوماً، آيته اثنان، وهو بالفارسية آذرماه آيته ثلاثة، أوسط شهور الشّتاء، له من البروج الجدي، وهو برج منقلب من بروج الأرض وهو بيت زحل وشرف المريخ وهبوط المشتري. ربّه بالنهار الزهرة وبالليل المريخ، والشريك القمر. وللجدي من النّجوم سعد الذابح وسعد بلع وثلث سعد السعود. وفي اليوم الثّاني منه عيد النصارى يقال له القليدس، وتهب فيه ريح عاصفة، وَلسِت خَلَونَ منه تطلع البلدة ويسقط الذراع وهو ميلاد عيسى عليه السلام، الأخير يقال له الرّيح وهو حد الشتاء يكون الريح الدهر كله في سبع من كانون الآخر. وفيه تفقأ عيون الحيات وتموت الذبان ويغمس النصارى أولادهم في الماء، يزعمون أنَّ في تلك الليلة تعذب المياه المالحة ويطلع النسر الطائر. وفيه يبدأ بكراب الكرم، وفي أربع عشرة تكون الثلوج والأمطار ويكون آخر القر. وفي تسع عشرة منه يطلع سعد الذابح وتسقط النثرة ويشتد البرد، وهو حد الشتاء، وفيه البرد وفيه يبتدئ أهل الروم بالكراب وغرس الأشجار، وذلك وقت دوام المطر، ويجري الماء في فروع الشجر، وفيه تقطع الزرة بتهامة ويزرع القطاني والبطيخ، وهو وقت رذاذ وطل ويكون معه الضباب، وفي أربع وعشرين منه يطلع سعد بلع ويسقط الطرف. والليل أربع عشرة ساعةً، والنهار عشر ساعات.
شُباط(1/245)
سلطان البلغم ثمانية وعشرون يوماً، آيته خمسة، وهو بالفارسية ديماه آيته خمسة، وهو آخر شهور الشتاء وله من البروج الدلو وهو برج الرياح ثابت مذكر مغري وهو بيت زحل، ربه بالنهار وبالليل عطارد، والشريك المشتري والإقليم الشام، وله من المنازل ثلثا سعد السعود وسعد الأخبية وثلثا مقدم الدلو. وفي اليوم الأول منه يطلع سعد بلع ويسقط الطرف وينكسر البرد، ويرى الحداء والرخم. وفيه ينسك النصارى، وهو وقت كثرة الأمطار. وفيه يورق الشجر، ويخرج النمل وينبت العشب وتكثر الذباب، ولسبع منه تهب الرياح اللواقح وتغرس الكروم. واليوم العاشر والحادي عشر والثاني عشر صوم قوم يونس عليه السلام حين صرف الله تعالى عنهم العذاب. وفي أربع عشرة منه يطلع سعد السعود وتسقط الجبهة، وفيه يسخن جوف الأرض وتؤكل الكمأة والفطر والهليون وتسقط الجمرة الأولى، ويخرج النمل ذوات الأجنحة والذر ويجري الماء في العود، وتسقي الدروع ويخرج بقول الفرس، والورد والياسمين وتنشر ثواب الأرض، وتزرع بقول الصيف، ولتسع عشرة منه أول يوم من أيام العجوز، وفي أربعٍ وعشرين منه يكون النهار إحدى عشرة ساعةً واللّيل ثلاث عشرة، ولسبع وعشرين منه يطلع سعد الأخبية ويسقط الخرأتان، وتقع الجمرة الوسطى، ولا يغرس فيه إلى أربع من آذار لا غرس ولا كرم، فإنه يفسده السوس وفيه تتزاوج الطيور ويتوالد الوحش. آذار
سلطان البلغمُ واحد وثلاثون يوماً، آيته خمسة، وهو بالفارسية بهمن ماه آيته سبعة، وهو أول شهور الصيف، وله من البروج الحوت، وهو ذو جسدين مؤنث من بروج الماء، فيه هبوط عطارد وشرف الزهرة، وهو بيت المشتري، ربه بالنهار زحل، وبالليل عطارد، والشريك المشتري، والإقليم الصين وله من النجوم ثلاثة: الفرغ المقدم والفرغ المؤخر وبطن الحوت. وفي أول يوم منه يطلع الدلو وتسقط الصرفة وهي الحمرة الأخيرة، ويلقى حر السماء وحر الأرض وتخرج كل دابة ليس فيها عظم، وفي اليوم الثاني يزرع قصب السكر بالأهواز، والبطيخ ويلقح النخل. وفي اليوم الخامس يطلع الغفر، وهو وقت ذهاب الحواس وأول الصيف وتختلف الرياح، وتجري السفن في البحر، وتفتح عيون الحيّات. وذاك أنها تغمضها في الشتاء، وفيها ترى معالم الصيف ويستبل الزْرع. وفي أربع وعشرين منه يطلعُ مؤخْر الدلو، ويسقط العواء ويستوي الليل والنهار. وفي سبع وعشرين منه يسخب جنان، وتخرج الهوام ويكثر موج البحر ويُبذر الأرز بالأهواز.
نيسان
سلطان الدم ثلاثون يوماً، آيته واحد، وهو بالفارسية اسفنمارمذماه، آيته اثنان، وله من البروج الحمل، وهو بيت المريخ، برج منقلب مذكّر من بروج النار، وللحمل من النجوم الشرطان والبطين وثلث الثريا، وهو شرف الشّمس وهبوط زحل. ربه بالليل المشتري وبالنهار الشمس، ويشاركه بالليل والنهار زحل، والإقليم بابل، في أول يوم منه قام يوحنا وهو غداة يوم الأحد بعد ثلاثة من نزول المريخ. ولست منه تأْفُلُ الثريا، فلا تُرى أربعين ليلةً. ولسبع منه يطلع الحوت، ويسقط السماك، وقلما يخطئ المطر فيه بإذن الله تعالى، ويبدأ بحصاد الشعير، وتفيض العيون والأنهار، وتقوم سوق الدبر بأرض سوارت من سوق الأهواز ستة أيام، ولعشر منه توفي آدم عليه السلام، وفي ثلاث عشرة منه يطلع الشرطان ويسقط الغفر، ويظهر ما استخفى من الهوام، وهو فيهما ظل وغيوم ويمد الفرات المد الأعظم، وتهبّ الرياح الشّريفة كالصبا، وفيها يفرخ الطّير. وفي ستّ بقين منه يطلع البطين، ويسقط الزبانيان، ويقوم سوقٍ كرو بفلسطين سبعَ ليالٍ ، ويكون النهار فيه ثلاث عشرة ساعةً، والليل إحدى عشرة ساعة.
أيار(1/246)
سلطان الدم واحد وثلاثون يوماً، آيته ثلاثة، وهو بالفارسية فروردين ماه آيته واحدة، وهو من شهور الصيف وهو النيروز رأس سنة القمر، وهو عيد المجوس الأكبر ثمانية أيام، له من البروج الثور وهو برج أنثى من بروج الأرض وهو بيت الزهرة وشرف القمر، ربه بالنهار الزَهرة وبالليل القمر، ويشاركه باللّيل والنهار المريخ، الإقليم الترك والخزرج. وله من النجوم ثلثا الثريا والدبران وثلثا الهقعة. وفي ثلث منه يطلع البطين ويسقط الزبانيان. وفي اليوم السابع تطلع الغميصاء، ويكون فيه ريح ومطر، وفي اليوم الرابع عشر يجري الماء في منتهى العيون، وفي ستة عشر منه تطلع الثريا ويسقط الإكليل وهو أول يوم من الصيف وآخر الربيع، وبطلوعها يطيب ركوب البحر، ويبدأ أول السمائم ويفرك القمح ويبرد نيل مصر، وتغور المياه، ويخرج الجراد وتهيج الصبا. وفي أربع وعشرين منه يكون النهار أربع عشرة ساعةً، والليل عشر ساعات، ينقص ساعةً لتمام ثلاثين يوماً. وتزرع الذرة والدخن بأرض تهامة واليمن وأرض النوبة. وفي سبع وعشرين منه يرتفع الطاعون بإذن الله تعالى من كل أرض، ولتسع وعشرين منه يطلع الدبران ويسقط القلب وتهيج فيها البوارح والسمائم، ويسود أول العنب وتستبين زيادة نيل مصر وتهب الشمال.
حزيران
سلطان المرة الصفراء ثلاثون يوماً، آيته ستة، وهو بالفارسية ارد بهشت ماه، آيته ثلاثة وهو أول شهور القيظ، وله من البروج الجوزاء، وهو ذو جسدين وهو التوأمان من بروج الرياح، برج مذكر مغربي شرف رأس التّنين، ربه بالنهار زحل وبالليل عطارد. ويشاركه بالليل والنهار المشتري. الإقليم بربر وإفريقية، وله من النجوم ثلاثة: الهقعة والهنعة والذراع وفي إحدى عشرة منه تطلع الهقعة وتسقط الشولة، وفي أربع وعشرين تطلع الهنعة ويسقط النعايم، ويرجع الشّهر، ويهبط من صعودها الأعلى، وهو أطول يوم في السنة، وهو اليوم الذي ولد فيه يحيى بن زكريا عليهما السلام فيما زعموا ويزعم أهل العلم أن داود النبي عليه السلام فيه افتتن، وفي ثلاثين منه يطلع الذراع ويسقط البلدة، وفيه تسكن الرياح ويشتدّ الحر.
تموز
سلطان المرة الصفراء واحد وثلاثون يوماً، آيته واحدة، وهو بالفارسية خرداد، آيته خمسة، وهو أوسط القيظ، وله من البروج السرطان برج منقلب أنثى من بروج الماء، وهو شرف المشتري وهبوط المّريخ، ربّه بالنهار المريخ وبالليل الزهرة، ويشاركه بالليل والنهار القمر. والإقليم الشام والجزيرة والروم، وله من النجوم النثرة والطرف وثلث الجبهة ويشتد الحر فيه، ولسبعٍ منه يطلع الذراع وتسقط البلدة. ويقوم سوق سليمة جمعتين، ويرتفع الطاعون بإذن الله تعالى، وفيه يحرث ما يصلح في تلك السنة من الزرع، وما يفسد منه، ويؤخذ لوح قبل أن تطلع الشعرى بتسع ليالٍ ، فيزرع عليه من كل صنف حتى إذا كان ليلة تطلع الشعرى وضع ذلك فوق بيتٍ على مكان مرتفع لا يحول بينه وبين السماء شيء فما أصبح منه مخضراً فإنه يصلح بإذن الله تعالى، وتطلع الشعرى الغامضة في خمسٍ منه. وفي عشرين منه تطلع النثرة ويسقط سعد الذابح، وفيه مولد السنة أبداً، فاحفظ منه أعلام الشتاء، ويزرع البطيخ الشتوي في أرض اليمن.
آب(1/247)
سلطان المرة الصفراء واحد وثلاثون يوماً، آيته أربعة، وهو بالفارسية تيرماه، آيته سبعة، وهو آخر شهور القيظ. وله من البروج الأسد، وهو برج ثابت مذكر مشرقي من بروج الملوك توافقاً، وهو بيت الشمس، ربه بالنهار الشمس وبالليل المشترْي، ويشاركه بالليل والنهار زحل، الإقليم بابل. وللأسد من النجوم ثلثا الجبهة والخراتان وثلثا الصرفة في يومين منه يطلع الطرف ويسقط سعد بلع ويقوم سوق بيت جبرين ويطلع سهيل ولا يرى بالعراق. وفي خمس عشرة منه تطلع الجبهة، ويسقط سعد السعود وفيها يبرد آخر اللّيل ويرتفع سهيل، حتى يرى بالعراق وتطيب البوارح وإنْ تخللها السمايم ويهيج الزكام، ويكون فيه عيد عسقلان، وهو عيد كبير جامع للنّصارى. وهو يوم ماتت مريم بنت عمران فيما يزعم أهل الكتاب. ويبرد جوف الأرض، ويُرجى فيه المطر بالسند. وفي أربع وعشرين يكون النهار ثلاثَ عشرةَ ساعةً، وهو أول الشتاء، والعرب تسمي ذلك الزّمان الخريف. وفي ثمانٍ وعشرين منه يطلع الخراتان، ويسقط سعد الأخبية، وتهب الشمال، وهو فيما يذكرون يوم قتل يحيى عليه السلام، وهو آخر يوم من القيظ، وفيه تسقط المن والسلوى بأرض الشام وأرض بني إسرائيل.
أيلول
سلطان المرة السوداء، ثلاثون يوماً، آيته سبعة، وهو بالفارسية مردادماه، آيته اثنان، وله من البروج السنبلة برج ذو جسدين أرضي أنثى، وهو بيت عطارد وشرفه وهبوط الزهرة، وربه بالنهار الزهرة، وبالليل القمر ويشاركه بالليل والنهار المريخ. الإقليم الشام والجزيرة، وله من النجوم ثلث الصرفة والعواء والسماك. في ثلث منه تُوقد النار بآذربيجان وبكل أرضٍ باردة. ويقوم سوق منيح بالجزيرة، وسوق هرمردان بجند نيسابور. وهو رأس سنة اليهود، وتزرع فيه البقول الشتوية، ويسقط الندى، وتتحرك أول الشّمال. ولعشرٍ منه يطلع الغفر ويسقط مقدم الدلو. ويزرع أهل مصر والجزيرة. ولثلاثَ عشرةَ منه يكون عيد الصليب وهو الصوم الأكبر. وتجري فيه ريح شديدة الهبوب، يتقى فيها على السفن، ولإحدى وعشرين يبني النصارى في كنائسهم، يريدون بذلك تقويم قبلتهم، وفيه يقوم سوق رحبة بالجزيرة وسوق بردرايا بالسوس، ويقوم سوق اسبايريار بتستر أسبوعاً. ولأربع وعشرين تطلع العواء ويسقط مؤخر الدلو، ويستوي الليل والنّهار، ويجري الماء في فروع الشجر، وهو آخر القيظ وأول الخريف وأول الصرام بالبصرة. وقال أبو عبد الله أول نجوم القيظ والبوارح الثريا، وسهيل، وإذا مضى سهيل آخرها وإذا مضى سهيل طالت الأظماء، وبرد الليل، فإذا طلعت الجبهة انكسر الحر وامتد الظماء، وتباعدت الإبل في مراعيها، ويكثر الكرش ويغلظ فيمسك الماء ويطول لذلك ظمؤها، وإذا قصر الظّماء رعت حول الماء، فإذا طلعت الصّرفة فهو انقطاع الحر وتحرك ريح الشتاء، ثم نجوم القر الشديد وأولها سقوط الذراع، فإذا سقطت الجبهة سخفت الأرض ولانت على الماشي وأطلعت الأرض ذخائر وسمِيها من النبات، واختلفت الإبل في مراعيها يعني تباعد بعضها من بعض. ونظرت الأرض بإحدى عينيها فإنْ كان في ذلك الوقت كان مخصباً بإذن الله تعالى، وكان أنفع مما قبله وما بعده، ويقال: ما امتلأ وادٍ من نوء الجبهة إلا امتلأ بَقلاً، وهي أنفع النجوم للأرض إذا صدق نوؤها وهي من نجوم الشتاء وأنفع نجوم الوسمي مطر الثّريا، فإن صدقَ نجمها حمد الوسمي في ذلك العام، فإن ولتها الجبهة في وقتها كان عاماً حياء، وخير بإذن الله تعالى، فإن ردفها السماك في الصيف، وهو أحد نجوم الصيف فهو حياء تلك السنة، فإذا سقطتِ الصرفة نظرتِ الأرضُ بعينها وأخرجت كل ذخيرتها، وانصرف القر وصفت فأول الضيف العواء وآخرها سقوط الشولة وطلوع الهنعة.
البابُ الثالث والخمسون
في انقلاب طبائع الأزمنة وثباتها
وامتزاجها والاستكمال والامتحاق وأزمان مقاطع النّجوم في الفلك، ومعرفة ساعات اللّيل من رؤية الهِلال، ومواقيت الزوال على طريق الإجمال.(1/248)
اعلم أنه قد تقدم القول في أنه متى انتقلت الشّمس إلى أول نقطة الحمل اعتدل الليل والنهار، وأخذ النهار في الزيادة على الليل، وذهب برد الشتاء، ورطب الهواء ومالت الشمسُ إلى الشمال، وفي الارتفاع إلى سمت الرؤوس في البلدان الشمالية ومواضع العمارة في الصّعود إلى ذروة فلكه الخارج المركز وابتداء النشوء والنمو في النبات والحيوانات والمعادن والمياه وتورقت الأشجار.
وإذا انتقلتْ إلى أول السرطان صار النهار في نهاية الطول والزيادة على الاعتدال واشتد الحر وسلس الهواء، وأخذ النهار في النقصان.
وإذا انتقلتْ إلى أول الميزان اعتدل الليل والنهار ثانياً، وأخذ الليل في الزيادة على النَهار ويغلب اليبس على الهواء مع ابتداء البرد، وكل شيء من أحواله يخالف أحوال الربيع، وتأخذ الشمس في الميل إلى الجنوب وتتباعد عن سمت الرؤوس ويكون في انحطاط من الارتفاع، وانحدار إلى حضيض فلكه الخارج المركز.
وإذا انقلب إلى أول الجدي يصير النهار في نهاية القصر، واللّيل في نهاية الزيادة والطول. واللَيل في النقصان إلى أن تعود الشمس إلى أول الحمل وقد بان بما وصفنا أن ابتداءهم بالحمل دون سائر البروج للأحوال التي ذكرنا.
ولكل فصل مِن هذه الفصول ثلاثة أبراج من البروج الاثني عشر. فبروج الربيع: الحمل والثور والجوزاء. وبروج الصيف: السرطان والأسد والسنبلة. وبروج الخريف: الميزان والعقرب والقوس. وبروج الشتاء: الجدي والدلو والحوت.
ولذلك سمّيت الحمل والسرطان والميزان، والجلي منقلبة لأنهَا متى نزلت الشمس أول الحمل انقلب الرمان من طبيعة فصل الشتاء وأحواله إلى طبيعة فصل الربيع، وإذا نزلت السرطان انقلب الزمان من طبيعة فصل الرّبيع إلى طبيعة فصل الصيف وأحواله. وإذا نزلت الميزان انقلب الزمان من طبيعة فصل الصيف وأحواله إلى طبيعة فصل الخريف وأحواله.
وإذا نزلت الجدي انقلب الزمان من طبيعة فصل الخريف إلى طبيعة فصل الشتاء وأحواله، وسميت الثور والأسد والعقرب والدّلو ثابتة لأنه إذا نزلت الثور ثبتت طبيعة فصل الربيع، وإذا نزلت الأسد ثبتت طبيعة فصل الصّيف، وإذا نزلت العقرب ثبتت طبيعة فصل الخريف، وإذا نزلتِ الدلو ثبتت طبيعة فصل الشتاء، وسُميت الجوزاء والسنبلة والقوص والحوت ذوات جسدين، لأنه إذا صارت الشمس في النّصف من الجوزاء تمتزج طبيعة فصل الربيع وطبيعة فصل الصيف، وإذا صارت في النّصف من السنبلة تمتزج طبيعة فصل الصيف بطبيعة فصل الخريف، وإذا صارت في النصف من القوس تمتزج طبيعة فصل الخريف بطبيعة فصل الشتاء. وإذا صارت في النّصف من الحوت تمتزج طبيعة فصل الشتاء بطبيعة فصل الرّبيع.
واعلم أن الشهر إذا تَمَ فكانَ ثلاثين يوماً طلع الهلال بعدما تجاوز.
الشّمس بمنزلة ونصف ويرى عظيماً فيدخل تلك المنزلة في مسيره حتى يستتر في ثمان وعشرين ونصف، فيكون استتاره في ذلك الشّهر يوماً ونصفاً ويطلع وهو خفي، ويكون ذلك الشهر تسعة وعشرين يوماً، ويكون استهلاله بعد ما تجاوز الشمس بمنزلة فإذا رُؤي على رأس منزلة من الشهر كان أدق ما يكون وأخفاه لقربه من الشمس، ويكون ذلك الشهر ثلاثين يوماً. وإذا رُؤي على منزلة ونصف من الشهر كان أعظم ما يكون وأبينه لبعده عن الشمس، ويكون ذلك الشهر الذي يعظم فيه الهلال تسعة وعشرين يوماً فأقل ما يستتر يومان.(1/249)
واعلم أنك إذا رأيتَ الهلال لليلةٍ فإنه يمكث في الشتاء ستة أسباع الساعةوإذا كان لليلتين فإنه يمكث ساعةً وخمسة أسباع الساعة، وإذا كان لثلاثٍ فإنه يمكث ساعتين وأربعة أسباع السّاعة. وإذا كان لأربع فإنه يمكث ثلاث ساعات وثلاثة أسباع الساعة، وإذا كان لخمسٍ فإنه يمكث أربِع ساعات وسُبعي السّاعة، وإذا كان لِست فانه يمكثُ خمس ساعات وسبع الساعة، وإذا كان لسبع فإنه يمكث ست ساعات وإذا كان لثمانٍ فإنه يمكث ست ساعات وستة أسباع الساعة، وإذا كان لتسع فإنه يمكث سبع ساعات وخمسة أسباع وإذا كان لعشرٍ فإنه يمكث ثمان ساعات وأربعة أسباع الساعة، وإذا كان لإحدى عشرة فإنه يمكث تسعَ ساعات وثلاثة أسباع الساعة، وإذا كان لاثنتي عشرة فإنه يمكث عشر ساعات وسبعي السّاعة، وإذا كان لثلاثَ عشرةَ فإنه يمكث إحدى عشرةَ ساعةً، وسبع الساعة وإذا كان لأربع عشرة فإنه يمكث اثنتي عشرة ساعةً، وذلك ساعات الليل كله، وإذا كان لخمس عشرة فإنّه يطلع بعد ستةِ أسباع الساعة. وإذا كان لست عشرة ليلة فإنه يطلعُ بعد ساعة وخمسة أسباع الساعة، وكذلك ينقص في كل ليلة ستة أسباع الساعة حتى يستتر تحت الشعاع ليلة ثمانٍ وعشرين.
واعلم أنَ الشمس تقطع البروج الاثني عشر التي هي جماع الفلك على ما ذكر بعض المتقدمين في ثلاث مائة وخمس وستين يوماً وست ساعات وخُمسي الساعة، وتسير في كل برجٍ ثلاثين يوماً وعشر ساعات.
ويقطع القمر البروج في ثمانيةٍ وعشرين يوماً، ويصير في كل. برجٍ يومين وثمان ساعات.
ويقطع زحل البروج كلها في ثلاثين سنةً، ويصير في كل برجٍ خمسةً وأربعين يوماً. ويقطع المشتري في اثنتي عشرة سنةَ، ويصير في كل برجٍ اثني عشرَ شهراً. ويقطع المريخ في سبعة عشرَ شهراً يصير في كل برج خمسةً وأربعين يوماً.
وتقطع الزهرة في عشرة أشهر وتصير في كل برج خمسةً وعشرين يوماً.
ويقطع عطارد البروج كلها كما يقطع الشمس سواء ويسير في كل برج كما تسير الشمس لأنه معها لا يفارقها.
وتقطع الجوزاء البروج في ثماني عشرةَ سنةً ويصير في كل ثمان عشرَ شهراً.
فأما الكلام في مواقيت الزّوال في الشتاء والصيف ونقصان ذلك وزيادته في كل شهرٍ من شهور الفارسيّة، والداعي إليه ضبط أوقات الصلوة المفروضة والاحتياط في إقامتها سننها وفي أوقاتها.
ولما كان يختلف في السنين والبلدان من أجل اختلاف العروض والسماوات، عمدت إلى حلول الشمس أوائل البروج وقسمت عليها أقدام الظل ببلدنا الذي هو أصبهان سنة ثلاث مائة واثنتين وتسعين ليزدجرد إذ كان أبعد من الاختلاف وأقرب إلى الدوام والثبات، ولئلا يجب أن يغير في كل سنةٍ عند تحوّلها، وعلمت أن من يكمل للنّظر في هذا الكتاب يكون متمرناً بمعرفة حلول الشمس أول كل برج، ومتدرباً بعلم وقته والله الموفّق.
فأول حلول الشمس برج الحمل يكون الظل عند الزوال أربعة أقدام ونصف العشر، وإذا سار عشرَ درجاتٍ منه يكون ثلاثة أقدام وربع وخمس، وإذا سار عشرين درجةً منه يكون قدمين ونصف وثلث وعشر.
وأول حلولها برج الثور يكون الطل قدمين وثلثي قدم وثلثي عشر. وإذا سار عشرَ درجاتٍ يكون قدمين، وإذا سار عشرين درجةً يكون قدماً وثلثي قدم.
وأول حلولها برج السّرطان يكون الظل ثلثي قدم وخمساً وعشراً وإذا سار عشر درجاتٍ يكون قدماً وعشراً ونصف العشر.
وأول حلولها برج الأسد يكون الظْل قدمين وربعاً وسدساً. وإذا سار عشرَ درجاتٍ يكون الظلً قدمين وثلثين وربعاً. وإذا سار عشرين درجةً يكون ثلاثة أقدام ونصف قدم. وأول حلولها برج الميزان، يكون الظل أربعة أقدام وعشراً، وإذا سار عشر درجات يكون أربعة أقدام وخمس وسدس وعشر قدم.
وأول حلولها برج العقرب يكون الظل ستة أقدام وسدس قدم. وإذا سار عشر درجات يكون سبعةَ أقدام، وإذا سار عشرين درجةً يكون سبعة أقدام ونصف وربع.
وأول حلولها برج القوس يكون الظل ثمانية أقدام وربع وخمس قدم. وإذا سار عشر درجات يكون تسعة أقدام، وإذا سار عشرين درجةً يكون تسعة أقدام وربع وعشر قدم.
وأول حلولها برج الجدي يكون الظل تسعة أقدام ونصف قدم. وإذا سار عشر درجات يكون تسعة أقدام وثلث قدم، وإذا سار عشرين يكون ثمانية أقدام ونصف وثلث وعشر قدم.(1/250)
وأول حلولها برج الدلو يكون الظل ثمانية أقدام وثلث قدمٍ ، وإذا سار عشر درجات يكون سبعة أقدام ونصف وخمس قدم، وإذا سار عشرين درجة يكون ستة أقدام ونصف وثلث وعشر قدم.
وأول حلولها برج الحوت يكون الظل ستة أقدام وسدس قدم وإذا سار عشر درجاتٍ يكون خمسة أقدام وثلث وعشر قدم، وإذا سار عشرين درجةً يكون أربعة أقدام وثلثي ونصف عشر قدم.
البابُ الرّابع والخمسون
في اشتداد الزمان بعوارض الجدب
وامتداده بلواحق الخصب
يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال في دعائه على الكفار: اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلْ عليهم سنين كسني يوسف) فدعاهم جهد البلاء إلى أن أكلوا العلهز وهو المعجون من الوبر بدم القراد أعاذنا الله تعالى من السوء برحمته ومن ذلك قول الشاعر شعراً:
هلاّ سألتَ بني ذبيانَ ما حسبي ... إذا رعائي راحتْ قبل حطابي
وذلك إذا اشتدّ البرد فراح الرّاعي بإبله قبل الحطاب، لقلة المرعى ولأن المحتطبين يحتبسون مستكثرين من الحطب لشدة البرد، وقال النابغة في مثله:
هلا سألت بني ذبيانَ ما حسبي ... إذا الدّخان تغثى الأشمط البرِما
ويقال: أتانا فلان من الطيخة إذا في فتنة وإما في جدب وبلاء، وأنشد:
وكنابها بعد ما طيخَتْ عروضهم ... كالبهرقية يبغي ليطها الدسما
والمطيخ: الفاسد وقال ابن مقبل:
ألم تعلمي أن لا يذم فجاءني ... دخيلي إذا اغبر العضاة المجلح
يريد أن الدخيل لا يذمه إذا غشيه في وقت لم يكن مستعداً للاحتفال به والمجلح الذي أكلته الإبل حتى ذهبت بغصونه، وصار كالرأس الأجلح، ومثله قول الأعشى:
وإني لا يشتكيني الألوكُ ... إذا كان صحو السَّحاب الضريبا
أراد بالألوك ذو الألوك وهي الرسالة، يريد لا أرد صاحبها بغير شيء فيشكوني في هذا الوقت البارد الجدب، وبيَّن هذا المعنى لبيد وبسَطَه فقال:
وغلام أرسلته أمه ... بألوك فبذلْنا ما سألْ
أو نهته فأتاه رزقُه ... فاشتوى ليلةَ ريحٍ واجْتَمَلْ
زاد على الأول لأنه قال: تطلب إذا طلب ونبتدئه إذا أمسك، وقال الكُميت يذكر سنة جدب.
وكأن السوفَ للقيناتِ فوقاً ... تعيش به وهنيت الرقوبُ
وصار وقودهم للنار أماً ... وهان على المخبأة الشحوب
قال أيضاً:
وأنت ربيعنا في كل محل ... إذا المهداء قيل لها العفيرُ
المهداء: الكثيرة البر على الجيران، والعفير الذي لا يهدي من الجدب، والأصل في التعفير أن يعلّل العظيم بالشيء ليستغني به عن اللبن ويشهد للمهداء قوله:
وإذ الجراد اغبررن من المحل ... وكانت مهداؤُهُن عفيرا
وقال لبيد:
يكبون العشارَ لمن أتاهم ... إذا لم تسكت المائةُ الوليدا
أي لا يوجد في المائة من اللّبن ما يعلل به صبي إذا بكى وقال أوس في مثله:
وذاتِ هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولباً جدعا
الهدم: الخلق، والتولب: ولد الحمار، واستعاره للعظيم والجدع السيئ الغذاء.
وقال الفرزدق: وعام تمشي بالفراع أرامله، الفراع: الجرب، وإنما يتمشى بها تسأل الصدقة وقال الهذلي:
وليلة يصطلي بالفرثِ جارزها ... يختص بالنضرى المثرين داعيها
يريد أن الجارز لشدة البرد يدخل يده في الكرش ليدفأ وقال الفرزدق:
إذا السنةُ الشهباء حل حرامها
أي: يكلون فيها الميتة والدم، وقال رؤبة جدباء فكت أسر القعوس. والقعس: الهودج أي فكوها وأوقدوا بها من شدة البرد، وقال الكميت:
فأي عمارةٍ كالحي بكرٍ ... إذا اللزياتُ لقيتَ السنينا
أكرُ غداةَ أبساسِ ونقرٍ ... وكشفُ بالأصايل إذ عرينا
اللزيات: الشدائد، واللزية تلقب بالسّنة حتى بني منه الفعل، فقيل: أسنت القوم أصابتهم السنة، والتّاء في أسنت قال أصحابنا: هي بدل من الواو الظاهرة في الجمع، إذا قيل سنوات، ومثله التاء في قولهم أخت.
ويقال هذا عام سنة والأرض وراءنا سنة. ومِن ألقاب الجدب قولهم: كحل وتحوط.
قال: والحافظ الناس في تحوط إذا لم يرسلوا تحت عائد ربعاً. ويروى في تحيط.(1/251)
ويقال: أصابتهم لزية وحطمة وأزمة ولأواء ولولاء وقحمة وحجرة وشصاصاء وأكلتهم الضبع والفاشورة قال:
قوم إذا صرحت في كحلُ بيوتهم ... عَز الذليلُ مأوى كلّ قرضوبِ
وأحجرنا عامنا وهي الحجرة قال:
إذا الشتاء أحجرت نجومُهُ ... واشتَد في غير ثرى أزومَهُ
والسنة القاوية، وقد قوي المطر إذا قحط، ويقال: حقد المطر: إذا احتبس وقوله: إذا عرينا: يريد بردن، ويقال: ليلة عرية ويوم عرى أي بارد، يقول: يكشفون تلك الأصائل بالإطعام وتفقد الناس، وقال الكميت يصفُ زمن الجدب شعراً:
وجالتِ الريح من تلقاء مغربها ... وضَن من قدرِه ذو القدرِ بالعقَبِ
وكَهكهَ المدلجُ المقرورُ في يده ... واستدفأ الكلب في الماسورِ في الذئب
العقبة: شيء كان يرفُه مستعير القِدر من المرقِ في القدر وهو العافي. وكهكه: نفخ في يده من شدة البرد. وأنشد الأصمعي في العافي:
إذا ردَ عافي القدر من يستعيرها
وقال الفرزدق:
وهتكت الأطناب كل ذفرة ... لها تامك من عاتق التي أعرفُ
التامك: السنام، والأعرف: الطويل العرف، يقول: إذا أصابها البرد دخلت الخباء فقطعت الأطناب. وقال الكُميت:
فأي امرئ أنت أي امرئ ... إذا الزجر لم يَستَدر الزجورا
ولم يعط بالعصب منها العصوب لا النهيت وإلا الطخيرا
النهيت: الصياح والرغاء، والطخير: الضرب بالرجلين والزجور: التي لا تدر حتى تزجر، وهذا في شدة الزمان. وقال أيضاً:
بعام يقولُ له الموكفون هذا المعيمُ لنا المرجِل
وكان سواء لنا تجين ... تمام الحوارين والمعجِل
والمرجل أي جعلهم رجالاً، وقوله: وكان سواء أي ليس للأمهات لبن، فالتمام يموت أيضاً، قال أبو عمر: وهما حواران أحدهما، تمام: والآخر معجل.
وحكى ابن الأعرابي: هذا عام صار الروم فيه علوقاً، والرفود زجوراً، فالرؤوم العطوف على ولدها، والرفود التي تملأ رفدين في حلبة أي قدحين والعلوق التي ترأم بأنفها وتمنع درها والزجور التي لا تدر حتى تزجر، وكل ذلك الانقلاب للصر والشدة وكلب الزمان وقال ابن مقبل شعراً:
ولا اصطفى لحمُ السنام ذخيرةً ... إذا عز ريحُ المسكِ بالليل قاتِرُه
قاترة من القتار، عزه غلب عليه، يقول في زمان الجدب: يكون ريح القتار أطيب من ريح المسك وقال:
بلى إن الزمان له صروف ... وكل من معاركِه السنين
فيسمَنُ ذو العريكة بعد هزلٍ ... ويغتر الهزيلة بالسمينِ
العريكة من قولهم ناقة عروك إذا لم يكن في سنامها إلا شيء يسير والمعنى إن صروف الدهر تقلب: فيسمن المهزول ويهزل السمين والهزال من الشحم والهزل من الجدب والموت وقال عروة شعراً:
أقيموا بني أمي صدورَ قناتِكم ... فإن منايا الناس شر من القتل
ويقال عام: مجرنمز إذا كان المطر وسطه دون أوله، والمجداب الأرض لا تكاد تخصب، والرمد القحط وأرمد القويم هلكوا جدباً.
ويقال: سنة سنواء وحصاء وشهباء وغبراء وأرض بني فلان جرز والجمع أجراز ومجروزة، وأنشد ابن الأعرابي الأسودان أبردا عظامي. الأسودان الفث والماء، والفث حب يطحن ويخبز منه خبزاً أسود، وهذا كما قيل في التمر والماء الأسودان ومعنى: أبردا عظامي أي أذهبا مخي، والفث يكله الضركاء. قال الطرماح:
لم يكل الفث والدعاع ولم ... يَتَعف هبيداً بجنبه مهتبَدهُ
الهبيد: حب الحنظل، قال حسان رضي الله عنه:
لم يعللن بالمغافيرِ والصمغِ ... ولا شرى حنظلُ الحظبان
المغافير: جمع المغفور وهو شيء ينضجه التمام.
ويقال: عيس عزير وزمان عزير: أي لا يفزع أهله وعام غيداق. وسيل غيداق، وماء غداق. ويقال: زمن مخضم لا مقضم. وحكى الفراء عام أزب.
قال أبو عبيدة: عيش حزم وهي عربية وأنشد لأبي عيينة:
وجنةٍ فاقَت الجنانَ فما ... تبلغها قيمة ولا ثَمن
ألِفتُها فاتخذتُها وَطَناً ... إن فؤادي لأهلها وطَنْ
زوج حيتانها الضباب بها ... فهذه كنة وذا خَتَنْ
وانظر تفكر فيما يطوفُ به ... إنَ الأريبَ المفكر الفَطِنْ(1/252)
من سفنِ كالنعام مقبلة ... ومِن نعام كأنها سُفن
أخذ هذا من قول الخليل بن أحمد شعراً:
زُرْ وادي القصر نِعمْ القصر والوادي ... لا بد من زورة من غير ميعادِ
يرفى بها السفن والظمآنُ واقفة ... والضب والنون والملاح والحادي
وقال بعضهم: سقياً لزمن حضَنتني أحشاؤُه وأرضَعَتْني أحساؤه فما هو في الأزمان إذا قيس حاله واعتبر نشوه ونماؤه ألا أخ عرفت مذاهبه وجزت خلائقه فصح لك غيبه وبعد عنك عيبُه فهو شقيق روحك وباب الروح إلى روعك.
وقال بعض البلغاء: من أتى قصرَ أنس بن مالكٍ ظهراً يرى أعرابياً يحدو بزوملته ورأى ملاحاً يغتني على سكانه ورأى صياداً قد طرح شبكته ورأى غلاماً عند جحر ضب يريغ صيده ثم رأى أرضاً كان ترابها الكافور ولا تسفيه الريح لأنّها تربة فمتى شئت رأيت بساطاً موشياً ومتى شئتَ رأيتَ جنةً وحريراً وقال أبو عيينة شعراً:
تذكرني الفرودسَ طوراً فأرعَوي ... وطوراً تُواتيني على القَصْب والفَتْكِ
بغرسٍ كأبكارِ الجواري وتربةٍ ... كأن ثراها ماءُ وردٍ على مسكِ
فيا حسن ذاك القصر قصراً ومنظراً ... بأفيحِ سهل غير وعرٍ ولا ضَنكِ
كأن قصوراً لقوم ينظرن حوله ... إلى ملكٍ موف على منبر المُلكِ
يدل عليها مستطيلاً بحسنه ... ويضحكُ منها وهي مطرفةُ تبكي
وأنشد ابن أبي ناظرة، قال أنشدني الرياشي عن الأصمعي:
إنما يتم الفؤاد غزال ... ذو دماليج يومَ سال العَقيقُ
مالئ الطرف من بعيد عميمِ ... ومليح إذا دنوتَ عتيقُ
لو رآه رهبان مَدْين طاروا ... واستخف المطران والجاثليق
ولها مربع بطيبة لَذ ... ولها بالحمى مبدي أنيقُ
سلوةُ العيش والندى فإذا ... ما وَدَّعتُها رواعد وبروقُ
سَكَنَتْ دسكراتها وأطبْاها ... ظل عيشٍ نضر العيون وريقُ
في رياضٍ تحفُهن نخيل ... باسقات تعلى عليها الوُسوقُ
وإذا أهل جنةَ حصنوها ... حين تعرو نوائب وخفوق
ثلموها لابن السبيل وللعافي ففيها للمعتقينَ طَريقُ
ومن كلامهم: وقع في الأهيَفَيْن: أي الطعام والشّراب. وسئل بعضهم ما أطيب العيش أو الأوقات؟ فقال: ما قَل أذاه. وكَثُرَ جداه، أيام تربيع الحِمى وقصيفه، ويريح مِنَ الهوى ظل المنى وريفه. وحكى الأصمعي: موت لا يجرُ إلى عار خير من عيشٍ في رماقٍ : أي قدر ما يمسك الرمق. وقال طرفة:
نحنُ في المشتاةِ يدعو الجفَلى ... لا ترى الآداب فينا يَنتقر
ويقال: فلان يدعو الجفلى والأجفل إذا عَمَ بدعائه، وفلان يدعو النّقرى إذا خص قوماً دون قوم، وقال كل الطعام يشتهي ربيعة: الخرس والنقيعة. الخرس: للولادة والأعذار: للختان والوليمة للعرس، والنقيعة: طعام القادم من سفره والمأدبة كل طعام صنع ودعي إليه والوكيرة الطعام يصنع عند بناء البيت وقال الشاعر:
فظللنا بنعمةٍ واتكأنا ... وشرِبْنا الحلالَ مِن قَلله
اتكأنا طعمنا: ومنه قوله تعالى: )واعْتَدَتْ لَهُن مُتكئاً) سورة يوسف، الآية: 31، أي طعاماً القلل جمع قلة، وقال حرملة بن حكيم:
يا كعبُ إنك لو قصرت على ... حُسنِ الندام وقلة الجرمِ
وسماع مدجنةٍ تعللنا ... حتى نؤوبَ تناوم العجمِ
لصحوتُ والتمري يحسبُها ... عمَ السماك وخالة النَجمِ
ويروى على شرب المدام المدجنة الداخلة في الدجن وهو اليوم المطير، وأراد حتى نؤوب نتناوم تناوم العجم، وكانوا لا ينامون إلاّ على ضرب الأوتار وشرب الرّحيق.
وقال ابن الأعرابي: يقول لو أحسنتَ المنادمة لنادَمْتُك حتى الصبح إلى صياح الديكة، قال: والنمري: هو كعب نفسه، أي لصحوتُ وأنت تحسب هذه المسمعة. كذلك في عظم القدر، وهذا كقولك ما يحسبه إلا ابن ماء السماء وقال لبيد:
يثني ثناءً من كريم وقومِهِ ... ألا انعم على حُسن التحية واشرَبِ
قوله: يثني ثناءً أي يديم ما كان عليه من الثناء. وقال آخر:(1/253)
كرامُ إذا نابَ البحار ألذه ... مخاريقُ لا يزجون في الخمرِ
وألذه مخاريق أي يخرقون في العطاء كما قال:
فتى إذ هو استغنى تخرق في الغِنى ... وإن قَل مالاً لم يضع متنُه الغقرُ
البابُ الخامسُ والخمسون
في حَدّ ما يشتمل على ذكر
ما في إعرابه نظر من حديث الزّمان
قال ذو الرمة شعراً:
فلما نصفن اللّيل أو حينَ نصَبَت ... له من خذي آذانها وهو جانح
يروى لبسن الليل يعني الحمر، ونُصبت للتوجه إلى الماء، وقال بعضهم حين فعل من الحينونة والمراد أو حين دنا الليل للنصف فحذف وأنشد سيبويه:
أرواحٌ مودع أو بكورُ ... لكَ فاعمْد لأي حال تصير
وقيل: جعل الرواح هو المودع على السعة، وقيل: أراد ذو رواح أنت أم بكور فحذف.
وروى سيبويه: أنت فانظر ومعناه انظر أنت، فانظر، وقال هذا يرتفع على الحد الذي ينتصب به عبد الله إذا قلت عبد الله ضربته، وقال: أي حال ووجه الكلام أية حال لكنه حمله على لفظة الحال. وقال ابن أحمر شعراً:
ألا فالبثا شهريْن أو نصفَ ثالثٍ ... إلى ذاكما ما غَيبتني غيابيا
أراد شهرين أو شهرين ونصف ثالث، وقيل: أراد بل وأو يكون بمعنى بل وقيل أو بمعنى الواو كأنه أراد ونصف ثالث، قوله: ما غيبتني غيابياً أراد بالغياب الغيابة، لذلك أنث كما قال تعالى: )في غيابَة الجُب) سورة يوسف، الآية: 10، إنه حذف الهاء مع الإضافة لأن المضاف إليه كالعوض مثل: ليتَ شعري وهو أبو عذرها.
ويجوز أن يكون غيابة وغياب مثل قتادة وقتاد، فحمله على التأنيث مثل نخل خاوية وقالت أمية بنت عتيبة بن الحارث:
تروحنا من اللعباء قصراً ... وأعجلنا الإلهة أن تَؤُوبا
ويروى: وأعجلنا الحمائِل أن تؤوبا. يُريد به الشمس أي استعجلناها مخافة أنْ تئوب ولئلا تئوب ومعنى تئوب: تغيب كما قال:
وليس الذي يتلو النُجوم بآيبِ
ويروى: وأعجلنا الإهة وقيل الإهة اسم للشمس، لأنه كانت تعبد. وقال الفرزدق:
فَسَد الزَمانُ ومِن تغير أهلِه ... حتى أميةَ عن فزارةَ تنزعُ
أي ومِن تغتر أهله فسد، فحذف وقيل: ومن تغير أهله أمية تنزع، وقيل: بل أراد أن يجعل حتى معلقة لا تعمل في شيءً، ويكون بمعنى الواو. سبب هذا الشعر أنَ أمية بن خالد بن أسد عزل عن عمله لعمر بن هبيرة، ويُشبه هذا قوله شعراً:
فيا عَجَباً حتى كُلَيب تَسبني ... كأن أباها نهشَل أو عطاردُ
وقال عبد العزيز بن وديعة المزني:
نسأتُ القلوص على لاحبٍ ... ومرُ الليالي يزلنَ النعيما
مرُ الليالي: هو الليالي، لذلك قال يزلن ومثله لجرير:
رأتْ مرَ السنين أخذنَ مني ... كما أخذ الشرار من الهِلالِ
وأنشد سيبويه في مثله:
لما أتى خبر الزبير تواضَعَتْ ... سورُ المدينة والجبالُ الخشَعُ
وقال الفرزدق:
على حين وَلى الدهرُ إلا أقله ... وكاد بقايا آخرُ العيشِ تذهبُ
جعل لآخر العيش بقايا، والبقايا من العيش لا مِن آخره، والمعنى كادت بقايا ذلك الأقل تذهب أيضاً. وقال وعلةُ الجرمي:
ولما رأيتُ الخيلَ تَتْرى أتايِجا ... علمتُ بأن اليومَ أحمسُ فاجرُ
يروى حاذر وحاذر، أي: محذور. وقال الفرزدق:
مثل النّعام يدينها تنقلَها ... إلى ابن ليلى بها التهجرُ والبكرُ
ارتفع التهجر والبكر على أنْ يكون فاعل يدينها وانتصب تنقلها على البدل من المضمر في يدينها. وقال حميد بن ثور:
تعللتُ ريعانَ الشباب الذي مضى ... بخمسة أهلين الزمان المذبذب
الزمان: بدل من الشّباب، وجعلهُ مُذبذباً استقصاراً لوقته، وقال أيضاً شعراً:
فإما تريني اليوم أمسكْتُ بعدما ... ترديتُه بردَ الشباب المجر
انتصب برد على البدل من المضمر في ترديته، يريد بعدما لبست برد الشباب أي استمتعت به. وقالت امرأة منهم شعراً:
صاحَ الغرابُ بدارِ هندٍ سدفةً ... صم الغرابِ وخَرس ماذا ينثُر
دعَتْ عليه بالصّم والخرس. ومر القول في السدفة. وأنشد ابن الأعرابي لبعض بني أسد:
ولقد رأيتُك بالقَوادِم مرةً ... وعَلَي من سدفِ العَشي رياحُ(1/254)
أي أريحيةً وخُيلاً من الشباب. فقال رياح وأنشد سيبويه لعمر بن قمية:
لما رأتْ ساتيدُ ما اسْتعبَرَتْ ... لله در اليومِ مِنْ آلامِها
فرق بين المضاف والمضاف إليه بالطرف كما يفرق بينهما بالقسم. وقال عمر بن ربيعة:
أما الرحيلُ فدون بعد غدٍ ... فمتى تقولُ الدّارُ تجمُعنا
أجرى: تقول مجرى تظن في الاستفهام، أعملَه عمله. وإذا كان كذلك فانتصاب الدّار على المفعول الأول، وتجمعنا مفعول ثان: المعنى متى تظن الدار جامعةً لنا تقول. وأنشد سيبويه:
أكُل عام نعم تحوونه ... يلقحه قومٌ وتنتجونُه
قوله: تحوونه صفة للنعم كأنه قال: نِعَم محوية، فكونه صفة منع من أن يكون عاملاً فيما قبله. وأنشد للهذلي:
حتى شاءَها كليل موهناً عمل ... بانَت ظراباً وبات الليل لم يتم
جعل سيبويه كليلاً يتعدى إلى موهنٍ كما يتعدى ضارب إلى مفعوله، وخالفه جمع النحويون كلهم، وجعلوا موهناً ظرفاً وقد تكلمت له وعليهم فيما عملته من شعر هذيل وأنشد سيبويه لعدي بن زيد:
أرواح مودع أم بكورُ؟ ... أنتَ فانظر لأي حال تصيرُ
قال: أراد ذو رواح أنت أم بكور فحذف. وقال سيبويه: معناه: انظر أنت فانظر وقال هذا يرتفع على الحد الذي ينتصب به على شيء ما بعده تفسيره، ومثال ذلك المنصوب إذا قلت زيد أضربته لأن المعنى أهنت زيداً ضربته. وقال شعراً:
ذكرتُك لما أتلعَت من كناسها ... وذكرك سبات إلى عجيب
قال: إلى بمعنى عند والسبة القطعة من الدهر. وقال آخر:
أرى كل يوم زرتها ذو بشاشة ... ولو كان حولاً كل يوم أزورها
يقول: أراد ولو كانت زيارتي كل يوم حولاً. قال:
على حين عاتبتُ المشيبَ على الصبا ... فقلتُ ألما أصحُ والشيبُ وازعُ؟!
قوله: على حين بناه على الفتح أي في حين وأراد عاتبني المشيبُ فجعل الفاعل مفعولاً. وقال الأصمعي في قول سحيم بن وثيل:
وإني لا يعودُ إليَ قرني ... غداة الورد إلا في قريني
أراد: مع قرين أي مع أسير آخر أقرنه إليه، وقال غير الأصمعي: أراد بالقرين الحبل. وقال متمم بن نويرة:
فلما تَفَرقنا كأني وَمالِكاً ... لِطولِ اجتماعٍ لم نبت ليلةً معاً
قال: أراد مع طول اجتماع، وقيل: أراد كأن طول الاجتماع كان سبب التفرق، لأن الشيء إذا تناهى عاد ناقصاً. وقال آخر:
إن الرزية لا رزيَّة مثلها ... أخواي إذ قُتِلا بيوم واحد
أي في يوم واحدٍ. ومن القلب والإبدال قوله: كان لون أرضه سماؤُه، أراد كان لون سمائِه أرضه. قال الأعشى:
لقد كان في حولٍ ثواء ثويةً ... تُقضي لباناتٍ ويسأمُ سائِمُ
أراد في ثواء: حول ثوية، وقوله: ويسأم سائم: أراد سأمة سائم وقال:
مروانُ مروانُ أخو اليَوم اليمي
قال: أراد اليوم اليوم فأخر الواو وقدم الميم، ثم قلب الواو حين صار ظرفاً كما يقال في جمع دلو: آدل، وقيل: بل أراد أخو اليوم اليوم كما يقال في الحرب عند التداعي اليوم اليوم، أي هو أخو هذا المقالة. وأنشد الأخفش بيتَ الفرزدق:
كم عمة لك يا جريرُ وخالة ... فدعاء قد حَلَبت علي عشاري
قال: يجوز في عمة الرفع والنصب والخفض. قال فرفعه على الابتداء وبجعل كم ظرفاً وخالة، ونصبه على نية التنوين في كم فشبه بعشرين درهماً وما أشبهه، والخفض على الإضافة، كما يقول كم رجل قد رأيت لأنه أجريَ مجرى عدد لا تنوين فيه، نحر ثلاثة أثواب. وقال عمرو بن معديكرب ويروى لغيره:
وَكل أخٍ مُفارقُه أخوهُ ... لعمرُ أبيك إلا الفرقدانِ
ارتفع الفرقدان عند أصحابنا البصريين على أنه بدل من قوله: كل أخٍ والكوفيون يجعلون إلا بمعنى الواو، كأنه قال: والفرقدان أيضاً. وقال جرير شعراً:
لقد لمتنا يا أم غيلانَ في السرى ... ونمتُ وما ليلُ المطي بنائمِ
ومثل هذا كثير. قال سيبويه: جعل النّوم لليل كما جعل النابغة الدهر له في قوله:
كتمتُك سراً يا لجومينِ ساهراً ... وهمينِ هما مُستكِناً وظاهِرا
والتحقيق ما ليلُ المطيً بذي نوم، وقال غيره: أراد لا ينام من قاساه، فحذف لأن المعنى معروف. وقال وعلة الجرمي شعراً:(1/255)
ولما رأيتُ الخيلَ تترى أتايجاً ... علمتُ بأن اليومَ أحمسُ حاذرُ
قالوا: أراد بالحاذر المحذور، وروي فاجر أي سديد ذو فجور، وكانوا يسمون من يغزو في الأشهر الحرم فاجراً، قالت ليلى الأخيلية: على تقاها دائماً وفجورُها. وأنشد:
بني أسدٍ ما تعلمون بَلاَءَنا ... إذا كان يوم ذو كواكب أشنَعا
جعل أشنعا حالاً ولعنترة:
أمِن سمية دمعُ العينِ مَذروفُ ... لو كانَ ذا منكَ قبلَ البَيْنِ معروفُ
قال: أراد لو كان القصة، وقال الفراء: لو كان ذا في موضع نصب. وقال أحمد بن يحيى في الأمر وكان جهول، وهذا يقارب طريقة أصحابنا. قال: ومِن العرب من يجعل الفعل للصفة فيرفعه كما قال: قلت أحبي عاشقاً يحبكم مكْلَفُ: أي هو مكلف. قال لأعشى:
أسرى وقصر ليلةً ليزودا ... ومَضى وأخلف مِن قتلِه موعدا
أخلف: أي وجده كذلك كما قال: وأهيج الخلصاء من ذاتِ البرق: أي وجده هائجة النَبت، وكقول العباس:
لعمرةَ رَسم أصبح اليومَ دارِساً ... وأفقر مِنها رَحرحان وراكِسا
أي وجدهما قفراً. وقال جرير:
إذا خِفتُ يوماً أن يلج بكَ الهوى ... فإن الهوى يكفيكَه مثله صبرا
أراد: فإن الهوى يكفيك هوى مثله، أي هوى آخر، وتم الكلام ونصب صبراً على معنى فاصبر صَبْراً. وقال آخر: أراد يكفيكه أن تصبر صبراً. وقال الأعشى:
هذا النهار بدا لها مِنْ هَمِّها ... ما بالُها باللّيل زالَ زوالها
نصب النهار: أي في النهار ونصب، زوالها: كأنه دعاء على الليل فقال: زال زوالها: أي مع زوالها، فلا يكون ليل إذ زالت أتارق فيه وأسهر. قال أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء: زال زوالها: كلمه تقال بالرفع فتركها على حالها، ولم يلتفت إلى القافية، وقال الأصمعي: لا أدري ما هو. وقال الأخفش: أزلتُه عَنْ مكانه وزِلته لغة، فأراد أزال الله زوالها بزوال زال. قال أبو صخر الهذلي شعراً:
أرائح أنتَ يوم اثنينِ أم غاد ... ولم تُسَلم على رَيْحانةِ الوادي
العرب تقول: هذا يوم اثنين بغير ألف ولام، وكان أبو زيد يقول: مضى الإثنان بما فيها، ومضت الجمعة بما فيها، ومضى الثلاثاء بما فيهن. وقال جرير:
فالشمسُ طالعة ليستْ بكاسفةٍ ... تبكي عليكَ نجومُ الليل والقَمرا
أراد الشّمس طالعة وليست بكاسفةٍ نجوم الليل، والقمر، لأنها طلعت لفقدك ضعيفة النور. وقيل: انتصب القمر لأنه مفعول معه أراد مع القمر. وروي: تبكي عليك نجوم الليل على أن تكون نجوم الليل مفعول تبكي، يقال: باكيته فبكيته، أبكيه ويكون من أفعال المبالغة، كأن الشَمس تغالبُ في البكاء النجوم والقمر فتغلبها وأفعال المبالغة تجيء في الماضي على فاعَلْتُه أفعله بضم العين، يقول: طاوَلْتُه فطِلتُه أطوله، إلاّ ما كان من بنات الياء، فإنه يحامي على الياء منه لئلا يختلط بنات الياء ببنات الواو. هذا الباب المعتمد فيه على السّماع فاعلمه. وقال الطرمّاح شعراً:
فإني وإياكم وموعد بَيْننا ... كيوم لبيدٍ يومَ فارَقَ أربَدا
يريد: أن يومنا ويومكم ويوم ميعاد بيننا كيوم لبيد، والأجود في تفسير البين أن يكون المصدر لا الظرف. وقوله: يوم فارق العامل فيه معنى الفعل الذي دلّ عليه قوله: يوم لبيد لأنه يريد به الشدة والصعوبة. وأخبره أن السبيل ثنية صعوداً ينادي كل كهل وأمردا، صعود فمن يعمل يلمع به اليوم بأنها، ومَن لا يلهي بالضحاء فأوردا. أربد أخو لبيد مات فقال:
وأرى أربد قد فارَقني ... ومِنَ الأرزاء رزءُ ذو جَلَلْ(1/256)
والمعنى: فجعتُ بكم وأنا أتبعكم فما الخلق فيما كتب من آجالهم إلا سابق ولاحق، على ذلك نحن ومن تقدمنا في تواعدنا، والسبيل يريد به سبيل الموت وأنّ الإقدام تتساوى فيه فمن دُعِيَ أجاب، وقوله: فمن يلمع به الصّعود يأتها، يريد إذا أشارت إليه أولاً، وهذا كما قال أوس: أشاربهم لمع الأصم. وقوله: ثنية صعود يريد أنَها عقبة شاقة. وقوله: ومن لا يلهى بالضحاء، وضع الماضي موضع المستقبل أراد ومن لا يلمع به في أول النهار يلمع به من بعد، والضحاء للإبل وهو وقت الغذاء للناس، يريد به قرب ما بين الأحياء والأموات في الموت ومثل قوله: ومن لا يلهى به في حذف الشرط منه قول الآخر: وألا يقيموا صاغرين الرؤسا. لأن المعنى: الا تقيموا تقيموا كما أنَ التقدير في هذا لا يلمع به يلهى. وقوله: فأوردا. في موضع الجزم لأنه معطوف على من لا يلهى. والمعنى من لم يتله فيورد وفيه وجه آخر. قال زهير:
إن الرّزية لا رزيةَ مثلَها ... ما يبتغي غطفانُ يومَ أضَلتِ
لا رزية: مثلها في موضع الصفة للرزية وما ينبغي في موضع الخبر. شعر:
إن الركاب ليبتغي ذا مرة ... بجنوب نخل إذا الشُهور أحَلتِ
يعني: إذا انقضت الأشهر الحرم. وقال آخر:
وبادَ الشباب ولذاتُه ... وما كانَ للدهرِ الأخِلا
أي كلها كلَ الحشيش وفي طريقته قوله: فلست خلاةً لمن أوعدن. قال حميد بن ثور:
أتنسى عدو إسارٍ نحوك لم يزل ... ثمانينَ عاماً قبضَ نفسِك تطلُبُ
وتذكر سِرداحاً من الوصل باقياً ... طويل القرى أنضبتَه وهو أحدبُ
تقعدته عصراً طويلاً أروضه ... يلينُ وينبو تارةً حين أركبُ
أراد بالعدو الدّهر، والسرداح الطويل من الإبل، ضربه مثلاً للعيش الذي قضاه قوله: يلين وينبو أي: يأتي مرةً بالبؤس ومرةً بالنعم. قال آخر:
وصاحب المقدار والرديف ... أفنى ألوفا بعده ألوف
يعني بالرديف النجوم التي تتعاقب، يقول: يعاقبها على مر الدهور لا يُبقي أحداً. أنشد أبو العباس:
أجَدكَ لن ترى بثعيلباتٍ ... ولا بيداءَ ناجيةً ذمولا
ولا متدارك والشّمس طفل ... ببعض جوانبِ الوادي حمولا
قال لك: إن تقول ما زيد قائماً ولا قاعداً، ولا قائم ولا قاعد. من رفع توهم أنَ الأول مرفوع. وكذلك الخفض، ولو خفض الأول جاز في المنسوق عليه ثلاثة أوجه. وكذلك لو كانت صفة قلت ما زيد خلفك ولا محسن ولا محسناً ولا محسن، يتوهم أن المقدّم فعل ويجوز ما زيد بقائم ولا بقاعد، وأنشد: بطعنه لاغس ولا بمعمر. وأنشد الكسائي: أما ترى حيث سهيل طالعاً.
قال: رفع حيث وأضافها وخفض بها، وإذا خفض بها فينبغي أن ينصب ووجه الكلام عبد الله حيث زيد نصبت حيث، وأضفتها. وأنشد للنابغة شعراً:
تبدو كواكبُها والشمسُ طالعةٌ ... لا النورُ نور ولا الإظلامُ إظلامُ
قيل: أراد شدة الأمر بقوله: تبدو كواكبه كما قال: ويريه النجم يجري بالظهر. وكما يقال: لأرينك الكواكب، وقيل بل أراد لمعان السيوف وبريق البيض ذهباً بظلمة الغبار. وإن الغبار غطى الشعاع الساطع منهما، فلذلك حال كل عن المعهود. وأنشد أبو الحسن عن يونس:
إذا لم أومَن عليكَ ولم يكن ... كلامُكَ إلا مِن وراءُ وراءُ
وراء من أسماء الزمان. قال الشعر مرفوع. وقد جَوز فيه غير وجه منها الضم فيها ويكون الثاني بدلاً من الأول، وقد جعل غايته وجوز إلا من وراء وراء يريد ورأى فحذف ياء الإضافة، وترك الكسرة عليها، وتكون الثانية بدلاً أو تكريراً ويكون من وراء وراء على أن جعل وراء معرفة فلا يصرفها للتأنيث والتعريف، وتكون الثانية تكريراً وروى ابن حبيب عن أبي توبة إلا وراء وراء أضاف وراء إلى وراء فجره لإضافة ووراء المضاف إليه بني على الضم مثل تحت ودون ويجوز إلا من وراء وراء تضيف وراء الأول إلى الثاني. وقد جعلته لا ينصرف للتأنيث والتعريف، ووراء الأول التقدير فيه الإفراد كما يقدر في سائر ما يضاف. قال زهير شعراً:
لَعِبَ الرّياحُ بها وَغَيرها ... بغدي سوافي المورَ والقطرِ
القطر: لا يسفي. فقال الأخفش: هذا الباب يشير إلى مثل قوله:
متقلد أسفاً ورمحاً ... وعلفتها تبناً وماءً بارداً(1/257)
وقول جرير شعراً:
تبين في أنف الفرزدق لؤمُهُ ... يقبح ذاك الأنفُ أنفاً ومشفَرا
كله إنما جاز بإضمار فعل آخر كأنه قال: وحاملاً رمحاً وسوافي المور، وصَوْب القطر وقال:
ما كان مثلُك يستخِف لنظَرة ... يوم المطي لغربةٍ مر حولِ
وهذا مثل أتيتك زمن الحجاج أمير. وقال حميد الأرقط:
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليسَ كل النّوى يلقى المساكينُ
قال سيبويه: أضمر القصة أو الأمر وقدم مفعول الخبر، وهذا لا يجوز لو لم يكن فيه إضمار كأنه قال: وليس الأمر كل النوى يلقى المساكين، لأنه لا يَلي ليس ولا كان ما يعمل فيه فعل آخر، لا يجوز أن يقول: كانت زيداً الحمى تأخذ فيفرق بين كان واسمها بمفعول غيرها، ولو كان مفعولها لجاز كقولك: كان زيد قائماً لأن قائماً مفعول كان. وأنشد سيبويه لعمر بن أبي ربيعة شعراً:
مُعاوي إِننا بشر فأسجِح ... فلسنا بالجِبال ولا الحديدا
وقال: هذا مما يجري على الموضع لا على الاسم الذي قبله لأن المعنى فلسنا جبالاً ولا حديداً. وقيل: إن سيبويه دس هذا البيت لأن القصيدة مجرورة، وفي هذا كلام. وقال آخر:
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتُها ... ومِن بعد أرض بينَنا وسماء
من قولك: أوه وأراد من بعد أرض، ومن بعد سماء، فجعله للصفتين ونحوه قول القطامي:
ألم يحزنْكَ أن جبالَ قَيس ... وتغلبَ قد تباينتِ انقطاعا
يريد: وجبال تغلب. وقال النابغة الجعدي شعراً:
غدا فتيا دهرٍ وراحاً عليهم ... نهارٌ وليل يكثران التواليا
وإنما يغدو واحد ويروح آخر، ويجوز على هذا أن يقول: غلامان قد طبخا خبزاً وأحدهما طبخ والآخر خبر. وقال آخر:
تعلمن واللهِ ما أبالي ... تعودُ عندَ آخر الليالي
أراد أن يقول: أخرى الليالي، وهو وجه الكلام. وقال جرير شعراً:
مطاعيم الشتاء إذا استحَنَتْ ... وفي عرواءَ كل صبا عقيمُ
قال ابن الأعرابي: استَحنت بفتح التاء بمعنى حنت يعني الشمال، وقال عمارة: بضم التاء، وقال: أراد استحن الشتاء الشمال أي هيجها، والشمال: مستحنة فلذلك روى استحنت.
سَبَقنا العالمينَ بِكُل نجمٍ ... وبالمستَمْطِراتِ مِنَ النجومِ
وقوله: وليست يعني النّجوم وأضمر لأنَّ في الكلام دليلاً عليه. وقال جرير شعراً:
يأوي إليكَ فلا مَن ولا جَحَدُ ... من ساقتِ الضيع الحصا والذئبُ
فاعل يأوي من ساقت، وأراد بالضَّيع الحصا السنة الجدبة لا تبت فيها، قوله: والذّئب يريد أن الذئب تطمع في الناس لضعفهم. ورُوي أنَه سئل السنة: أي الجدب ما عوانك، فقال الحرب والذئب. وقال الفرزدق شعراً:
يَداكَ يَد ربيع الناس فيها ... وفي الأخرى الشهورُ مِن الحرامِ
أراد في إحدى يديك ربيعُ الناس، يعني إنه يغنيهم، والأخرى كالأشهر الحرم يعني عقد جوارح، فأخرج الكلام كما ترى. وأنشد ثعلب:
ولعل خيراً منكَ قرماً ماجداً ... ضَحاك ساعات النجوم سُمَيدَعُ
يعني طلاقة وجهه في الجدب إذا خوت النجوم، واللفظ على ما يشاهد وفي طريقته قال شعراً:
قفار إذ العامُ المسمى تزعزعت ... بشيفائِه هوجُ الرياح العقائمُ
قوله: المسمّى. يعني المشتهر بصفاته. وأنشد للعجاج أو رؤبة:
كأنه لو لم يكن حماراً ... بهنَ تالي النجم حيثُ غارا(1/258)
يجوز أن يكون المراد بقوله: بهنّ بطردهِن فحذف المضاف، ويجوز أن يريد كأنّه باجتماعه معهن، ويكون في الباء تقديران: أحدهما: أن يكون العامل فيه ما في كان من معنى الفعل، أي يشبه العير تطرده الأتنُ تالي النّجم، والآخر: أن تعلقه بكان أي لو لم يكن حماراً بطردهنَ أو بالاجتماع معهن، والمعنى أن كونه حماراً يمنعه أن يكون كتالي النجم على الحقيقة، وإن كان كونه خلفها، يطردها ككون الدبران خلف الثريا وقال: مرت على آثارها لدبرانها. يشبه هذا ما أنشده أبو زيد. كوني بالمكارم ذكريني. قولهم زيداً ضربه، وزيد ليقم، فبالمكارم متعلق بذكريني فكأنه قال: أنت ذكرتني فرفع أنت بالابتداء ثم دخل الفعل عليه، ويشبهه قول الجميح: إن الرياضة لا ينصبك للشيث. فإن قلت: بيت الجميح أحسن في القياس أو ما أنشده أبو زيد، قيل: جهة قياسهما في الارتفاع بالابتداء واحد. وقوله: لا ينصبك أحسن من كوني بالمكارم ذكريني لأن قوله ذكرتني يدل على كوني، ونظيره قولهم: كان زيد قام، وقد أجازه النحويون إجازة حسنة وزعموا أن أخوات كان ليس في ذلك لكان والله أعلم.
البابُ السّادس والخمسون
في ذكر الكواكب اليمانية والشّامية
وتميز بعضها عن بعض وذكر ما يجري مجراه من تفسير الألقاب.
واعلم أن القوم لما أرادوا تميز الكواكب قسموا الفَلَك قسمين، وسموا أحد النصفين جنوبياً، وهو الذي يلي الجنوب، وسمو النصف الآخر شمالياً وهو الذي يلي الشمال، وسموا كل ما وقع في النصف الجنوبي من البروج والكواكب جنوبية، وسموا ما وقع في النصف الشمالي من البروج والكواكب شماليةً، وسمتِ العرب تلك الشمالية شاميةً، والجنوبية يمانية، والمعنيان واحد، لأن مهب الشّمال عندهم من جهة الشام، ومهب الجنوب من ناحية اليمن ولذلك جعلوا ما بين رأس الحمل إلى رأس الميزان من البروج شاميةً. وجعلوا ما بين رأس الميزان إلى رأس الحمل من البروج يمانيةَ. وكذلك جعلوا ما بين الشرطين من المنازل إلى الشمال شاميةً، وجعلوا ما بين الغفر إلى الرشاء يمانيةً. فكل كوكب مجراه ما بين القطب الشمالي إلى ما بين مدار السماك الأعزل أو فُويقَه قليلاً فهو شامي، وكل كوكبٍ مجراه دون الفلك إلى ما يلي القطب الجنوبي فهو يماني. والنسران أحدهما الطائر والآخر الواقع وهما شاميان. فأما الواقع فهو منير، وخلفه كوكبان منيران، يقولون: هما جناحاه، وقدامه كواكب يقال لها: الأظفار. وأما الطائر فهو إزاء الواقع، وبينهما المجرة، ولا يستتر إلا خمس ليالِ. وأما قول ذي الرمة شعراً:
يُحِب امرؤُ القيس العُلى أن ينالَها ... وتأبى مقاريها إذا طَلع النسرُ
فإنما يذمهم بأنهم لا يطعمون في الشتاء، والمقاري الجفان.
قال أبو حنيفة: وكذلك مدار الكوكب الذي تسميه العرب: الفرد وهو قريب من الفصل بين شاقي الكواكب ويمانتها. وقولُ عمر بن أبي ربيعة في سهل بن عبد الرحمن: وتزوجه الثريا العبلية من بني أمية، يضرب لهما كوكبي سهيل والثريا مثلاً فقال:
أيها المنكِح الثُريا سهيلاً ... عمركَ اللَّه كيفَ يلتَقيان
هي شاميةً إذا ما استَقَلت ... وسهيل إذا استقل يمان
وقال آخر في نعتِ سهيل إذا طلع صباحاً:
أراقِبُ لمحاً من سهيل كأنه ... إذا ما بدا مِنْ آخرِ الليل يطرف
وقيل: هو كوكب ذكر نكاح، حريص عليه، وربما طلع في الليلة الواحدة مرتين ويغيب مرتين. ويقال: غيبته بعد طلوعه لدنوه من كوكبتيه وصاحبتيه.
وحكي عن بعض علماء العرب: النظر إلى سهيل يشفي من البرسام، ولذلك يقول مالك بن الريب:
أقول لأصحابي ارفعوني فإنني ... يَقَر بعيني أن سهيل بدا ليا
ويقال: سهيل أشفق الكواكب على الغرباء وأبناء السبيل، وبين رؤية سهيل بالحجاز وبين رؤيته بالعراق بضع عشرة ليلةً، وقالت الهند: إذا نظر ناظر إلى سهيل عند نهيق الحمار وبه صداع عوفي. من خُرافات العرب: أن سهيلاً طلع بأرضِ العراق وقابل الزهرة، فضحكت إليه وقالت: ألسْتَ الذي يقال فيك إنك كنت عشاراً فمسخك الله شهاباً، عقوبة لك؟ فأجابها وقال: ليس كل ما يقوله النّاس حقاً، فقد قالوا فيك: إنك كنتِ امرأة فاجرة فمسخك الله كوكباً مضيئاً يحكم في خلقه.(1/259)
فأما معرفةُ الشّرقيّ منٍ الكواكب والغربي فيجب أن تعلم أن الكواكب إذا كانت خلف الشّمس بخمسَ عشرةَ درجة فهي شرقيةٌ في ذاتها إلى ما تباعدَتْ. وإذا كانت قُدام الشمس بخمسَ عشرة درجةً فهي غربيةٌ في ذاتها إلى ما تباعدَتْ. والكوكب الشمالي إذا جاز رأس جو زهرة إلى أن يبلغ فنبه، والجنوبي إذا جازَ فنب جو زهرة إلى أن يبلغ إلى رأسه.
وأما معنى اقتران الكوكبيْن فهو مسامتَة أحدهما الآخر، لأنَ أحدهما أعلى من صاحبه، وفلكه خلاف ذلك الآخر، فيُسامِتُ أحدهما صاحبه فيحاذيان موضعاً واحداً من ذلك البرج، ويتحركان على سمت واحد، فيراهما الناظر مقترنين لبعدهما من الأرض، وبين أحدهما وصاحبه في العُلو بُعد كثير فبهذه العبة صار اقتران الكوكبين، وهذا كما يقال البروج المتصادفة إذا اتفقتْ في جميع الجهات، كالبروج النارية مثل الحمل والأسد والقوس والجوزاء والميزان والدلو. والبروج المتعادية: وهي المتضادة في كل وجه كالحمل والسّرطان لأن أحدهما ناري والآخر مائي. ومن هذا النوع قولهم: البروج الجامعة إذا دلَت على صلاح الحال. والبروج المبدّدة إذا دلت على التبدد والبروج المعطية: تدل على اليسار والإحسان. والبروج الآخذة تدل على خلافه ومما يبين ما ذكرناه في سهيل قوله:
إذا ما نجومُ اللّيل آضت كأنَها ... هجأينُ يطلعنَ الفلاةَ صوادرُ
شاميةٌ إلا سهيلاً كأنَّه ... فنيقٌ غدا عن شوله وهو جافِرُ
ألا ترى أنّه جعل يمانياً إذ كان مداره في شق اليمن. وجعل الثريا شامية إذ كان مدارهما في شق الشّمال. وقال آخر في سهيل:
فمنهن إدلاجي إلى كل كوكبٍ ... له من عماني النّجوم نظيرُ
فجعله عمانياً إذ كان مجراه في ذلك الشق، كما جعل الأول يمانياً وفي معنى قوله: فنيق غدا عن شوله وهو جافِرُ. يقول الآخر شعراً:
وقد لاح للساري سهيلٌ كأنه ... قريعُ هجانٍ يتبعُ الشَول جافِرُ
شُبه في انفراده بفحل انقطع عن الضِّراب فتنحى عن الإبل وتركها. وقال آخر:
إذا سهيل لاح كالوقودِ ... فرداً كشاةِ البقرِ المطرودِ
فها يريد وبيصه وشعاعه وانفراده كما قال غيره يريد التهيج، قال شعراً:
حتى إذا لاح سهيلٌ بسحَر ... كعشوةِ القابِس ترمي بالشروْ
وقال آخر يصف ثور وحش:
فباتَ عذوباً للسّماء كأنه ... سهيلٌ إذا ما أفردَتْهُ الكواكبِ
العذوب: القائم الذي لا يطعم. وقال آخر في انفراده:
مَن يكُ ذا مالٍ يكاشِرْ لِمالِهِ ... وإنْ كان أنأى من سهيلِ الكوكبِ
يعارضُ عن مجرى النجوم وينتَحي ... ويَسري إذا يسرينَ غير مصاحِب
وقال آخر يصف رفقاءَ تجمعوا:
وفتيةٍ غيدٍ مِنَ التسهيدِ ... نبتهمْ مِن مهجع مورودِ
والنجمُ بين الغَم والتّعريد ... إذا سهيل لاح كالوقودِ
فرداً كشاهِ البقرِ المطرود ... ولاحتِ الجوزاءُ كالعُنقودِ
كأنها من نظرٍ ممدود ... بالأفق إنظامان من فريدِ
الإنظام: القلائد ينظم فيها، والفريد: الشذر، وإذا نظرتَ إلى الجوزاء وهو على الأفق فتأملت نظمها رأيتها أشبه شيء بما وصف. وهذا من حسن التشبيه، وهذا كما شبّهوا الكوكبيْن المتدانييْن اللَّذيْن على منطقة الجوزاء بالعذبة، والعذبة في اللغة طرف السوط، وما أرسل من شراك النعل، وكذلك عذبة العمامة والغصن، والعذبة الطرادة أيضاً. وكما قال بعضهم: راية السماك يعني رمحه، وُيسمى السماك وحده حارسَ السماء، لأنّه يرى أبداً لا يغيب تحت الشّعاع فلا طلوع له ولا غروب.
البابُ السِّابع والخمسون
في ذكْر الفجر والشَّفقِ والزّوالِ
ومعرفة الاستدلالِ بالكواكب وتبيين القبلة.(1/260)
روي عن عُدي بن حاتم قال: لما نزلت: )وَكُلُوا واشْرَبُوا حَتى يَتَبينَ لكمُ الخَيطُ الأبيض مِنَ الخيطِ الأسودِ مِنَ الفَجِرِ) سورة البقرة، الآية: 187، قال: عمدتُ إلى عقاليْن أحدهما أبيض، والآخر أسود، فجعلتهما تحت وسادي، فلما تقارب مَر الليل جعلتُ أنظرُ إليهما فلم يتبيّن لي شيء، فلما أصبحتُ غدوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فضحك وقال: )وسادتَك إذن لعريض الليل والنهار، إذن تحت وسادتك إنما ذلك الليل والنهار).
ورُوي عن علي رضي الله عنه أنّه صلّى الفجر ركعتين ثم جلس على مجلس له ثم قال: هذا حين تبين لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود.
واعلم أنَ الفجر فجران: أحدهما قبل الآخر: فالفجر الكاذب يستدق صاعداً في غير اعتراض، ويسمى ذنب السرحان لدقته، ولا يحل شيئاً ولا يحرمه، وإنما يؤذن بقرب النهار وقال الخليل: الفجر ضوء الصباح وقد انفجر الصبح، والفجر المعروف منه. يقال: ما أكثر فجره وفي التنزيل: )فانَفجَرَتْ مِنة اثنتَا عَشْرَة عَيناً) سورة البقرة، الآية: 60، لأن كان يفجر منه الماء في اثني عشر موضعاً عند نزولهم، فإذا ارتحلوا غارت مياهها. والفجر الثاني: هو الصادق والمصدق، قال أبو ذؤيب يذكر الثور والكلاب شعراً:
شغف الكلاب له الضاريات فؤاده ... فإذا يَرى الصبح المصدق يَفزعُ
وإنما قال: يفزع لأنه وقت القائض الفجر الثاني هو المستطير المتنشر الضوء ومع طلوعه يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. قال أبو داود:
فلما أضاءَت لنا سدفةَ ... ولاحَ من الصبح خيطُ أنارا
قال آخر:
نميتُ إليها والنجوم شوابِك ... تداركها قدام صبح مصدق
والصبح والصباح والإصباح واحد. وفي التنزيل: )فالِقُ الإصباحِ) سورة الأنعام، الآية: 96، والصبيح: الحسن الوجه. وكذلك الصبحان، وقد صبح صباحة والحق الصابح البين، وقد صبح الحق يصبح صبحاً. والمِصباح السراج وكما قيل: وجه صبيح قيل أيضاً وجهْ مسرج. قال: وفاحماً ومرسناً مسرجاً.
وكذلك الشفق شفقان: أحدهما قبل الآخر، ومثالهما مِن أول الليل مثال الفجرين من آخره، فالأول هو الأحمر وإذا غاب حلت صلوة العشاء الآخرة. والثاني: هو الأبيض والصلاة جائزة إلى غروبه وهو يغرب في نصف الليل وآخر أوقات العشاء الآخرة نصف الليل.
والزوال: يشار به إلى ما دل الله تعالى عليه بقوله: )أقِم الضلوة لِدُلوكِ الشمسِ إلى غَسقِ الليل) سورة الإسراء، الآية: 78، ودلوك الشمس: غروبها وزوالها، فدل بالدلوك على صلوة الظهر، وعلى صلوة المغرب، ودلّ بقوله: إلى غسق وهو الظلام على صلوة العشاء الآخرة. وقال تعالى: )حافِظُوا على الصلواتِ والصلوة الوُسطَى) سورة البقرة، الآية: 238، وهي العصر، وجعلها الوسطى لأنَها بين صلوتين في النهار وصلوتين في الليل. وقال تعالى: )وقُرآن الفجرِ إن قرآن الفجرِ كان مشهودا) سورة الإسراء، الآية: 78، فدل على صلوة الصبح. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا دحضت الشمس. يراد إذا زالت، وأصل الدحض الزلق وذاك أنها لا تزال ترتفع حتى في جو السماء فتراها تقف شيئاً ثم تنحط، فحينئذٍ تزول وتحول الظل من جانب إلى جانب، ويسمى فيئاً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )أمني جبرائيل مرتين فصلى الظهر حين مالت الشمس قيدَ الشراك، وصلى العصر وظله مثله، وصلى المغرب حين رفعت الشمس وصلى العشاء حين غاب الشفق، وصلى الصبح حين طلع الفجر، فلما كان الغد صلى الظهر وظله مثله، وصلى العصر وظله مثلاه، وصلى المغرب حين رفعت الشمس، وصلى العشاء حين ذهب ثلث الليل، وصلى الغداة فأسفر بها وقال: الوقت ما بين هذين). ويروى أنه قال: إن الصلوة فيما بينهما. فقوله صلى الله عليه وسلم حين مالت الشمس قيدَ الشراك: يريد أنها زالت، فصار للشخص فيء يسير قدر الشراك، وليس يكون هذا في كل بلد إنما يكون في البلد الذي يتنقل فيه الظل عند الزوال، فلا يكون فيء أصلاً. وقال الراجز:
إذا زقا الحادي المطي اللغبا ... وانتقلَ الظلُ فصار جَوربا
وقال ابن مقبل وذكر فرساً:
يبني على حامييه ظل حاركه ... يوم توقده الجوزاء مسمرمُ(1/261)
والحاميان: جانبا حافره. والحارك: فروع كتفيه وإذا قام ظلّ كل شيء تحته صار ظل الحارك على حاميي حافره، فالحجاز وما يليه يتنقل فيه الظل، فأما البلد الذي تزول فيه الشمس، وللشّخص ظل فإنه يعرف به قدر الظل الذي زالت عليه، فإذا زاد عليه مثل طول الشخص فذاك آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر، فإذا زاد عليه مثلاً طول الشّخص فذلك آخر وقت العصر، على ما روي في الحديث. فأما قول الشاعر:
إني على أوني وانْجِراري ... أؤُم بالمنزلِ والدراري
فالأوان: الرفق والانجرار: سير الإبل وعليها أحمالها وهي ترعى وأؤم: يريد أقصد بمنازل القمر وكبار الكواكب فأهتدي. وقال ذو الرّمة وذكر الإبل:
تياسرن عن جَري الفراقد في السرى ... ويَامَن شيئاً عن يمينِ المغاورِ
يعني: أنهن قصدن وسطاً فيما بين الفرقديْن وبين المغاور، وهي المغارب وذلك أنَ ابتداء المغارب قريب من منحدر بنات النعش وقال لناقة:
فقلت اجعلي ضَوءَ الفَراقِد كلها ... يميناً ومَهوى النّسر مِنْ عَن شِمالَكِ
فإنما يصف سمتَ جهة وأجراها أنه يريد في مسيره ما بين منحدر النسر للمغيب وبين الفرقدين إذا أردت الاهتداء بالنّجوم فاعرف البلد الذي تؤمه وفي أي أفق هو، فإن كان في ناحية المشرق كخراسان وما صاقبها، استقبلت منازل الشّمس والقمر، إنْ كان مسيرك ليلاً والسماء مضحيةً وجعلت الجدي وبنات النعش على يسارك والشعريين وسهيلاً عن يمينك، وإن كنت ناحية المغرب استدبْرت منازل القمر وجعلت الجدي، وبنات نعش وراءَك والشعريين وسهيلاً عن يسارك. وإنْ كان في ناحية اليمن جعلتَ منازلَ القمر على يمينك وجعلت الجدي وبنات نعش أمامك، وسهيلاً وراءك، فإذا أنت فعلتَ ذلك فأنت على سمتِ الوجه الذي تريد إن كنتَ على الطريق غير راجعٍ ولا جائز وإنْ كان مسيرك ليلاً والسماء غائمة استدللتَ أيضاً بالمشرق والمغرب، فإن اشتبها عليك استدلَلتْ على المشرقِ بنسيم الصبا وروحها، فإنها تأتي من ناحيته وعلى المغرب بريح الدبور وحرها في الصيف.
وأما القبلة فالاستدلال عليها بالجدي: وذلك أن تجعله حذاء منكبكَ الأيمن، أو أخدعك، وإنْ كان مسيرك نهاراً، فَبِالشَمس، فإنَّ ما بين المشرق والمغرب قبلة المسافر. وقال محمد بن كناسة: إذا سقط منزل من منازل القمر بالغداة عند نوئه فَعُد مِنها سبعة أنجم موالاة العدد، فالسابع هو القبلة إلى أن يسقط العقرب. فإذا سقطت العقرب فالنعائم قبلة. والبلدة بعد تلك الساعة قليلاً قبلة. ثم يعود الحساب فإذا سقط سعد الذابح فالحوت قبلة وهو السابع. ومثال ذلك أنه إذا سقط الشّرطان كان السابع منه الذراع وهو القبلة. وإذا سقط البُطين فالنثرة قبلة. وإذا سقطت الثريا فالطرف قبلة. وإذا سقطت الدبران فالجبهة قبلة. وإذا سقطت الهقعة فالزبرة قبلة، وإذا سقطت النثرة فالسماك قبلة، وإذا سقط الطرف فالغفر قبلة، وإذا سقطت الجبهة فالزباني قبلة. وإذا سقطتِ الزبرة فالإكليل قبلة، ثم يقع الشك في القبلة عند سقوط الصرفة والعواء والسّماك والغفر والزباني والإكليل والقلب والشولة والنعايم والبلدة.
وذلك لأنَ العقرب تسقط جميعاً فلا يستقيم الحساب على سبعة أنجم، غير أنَّه إذا سقطت العقرب كلها كانت النعايم قبلة. ثم البلدة قبلة والقبلة قريب منها. ثم يسقط سعد الذابح فيكون رأس الحوت قبلة. وهو مذموم بالكف الخضيب ويرجع الحساب إلى السابع. وقال ابن كناسة في ذلك وذكر طريق مكة، قال شعراً:
يوم النجوم السّابعات من الّتي ... تأوّب إلا أنْ تأوب عقرب
فإن هي آنت فالنعايمُ آبها ... وبلدتُها ثم السوابع أصوَبُ
قال: وكواكب العقرب أربعة: منازل تطلع في الأوقات التي بينت وتسقط كلها في وقت واحد.
فصل
مفي صَرف القبلة مِن بيتِ المقدس إلى الكعبة(1/262)
ذَكَر الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: )ولله المَشرِقُ والمغربُ فأينما تَوَلوا فَثمَ وجه الله) سورة البقرة، الآية: 115، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريةً فأتتهم ضبابةٌ ، فصلوا لغَيْر القبلة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأمرهم بالإعادة، وكانوا يصلَون نحو بيت المقدس فنزلت: فأينما ولوا فثم وجه الله، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لجبرائيل: )وددتُ أن ربي جل جلاله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها(، فقال جبرائيل: إنما أنا عبد مثلك، فادع ربك وسلْه ثم ارتفع جبرائيل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه بالذي سأل، فأنزل الله تعالى: )قد نرى تَقَلب وجهكَ في السماء) سورة البقرة، الآية: 144، الآية. قال: فنسخت هذه الآية ما كان من الصلوة قبلها نحو بيت المقدس، قال: وكانوا يصلون نحو صخرة بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، بعد أن قدم المدينة ثم حول إلى الكعبة إلى الميزاب قبل بدر بشهرين.
وروي عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذين ماتوا وهم يصلون إلى البيت المقدس فأنزل الله تعالى: )وما كانَ الله ليضيع إيمانكم) سورة البقرة، الآية: 143، وذكر سعيد بن المسيب أنَ قوله تعالى: )والسَابقون الأولون مِن المهاجرين والأنصار) سورة التوبة الآية 100، هم أهل القبلتين واعلم أنّ الذي لا غنى لمؤمن عنه ولا يتم إيمانه إلا به هو: العِلم بأنَّ اللّه ليس بناسخ مديحه، ولا حسن الثناء عليه، ولا أسماءه الحسنى، ولا ما أضيف من الصّفات العلى إليه، ولا ينسخ شيئاً من أخباره عمّا كان أو يكون، لأنَ نسخ المديح ذم وتقبح ونسخ الأسماء الحسنى إثبات الأسماء السوءى، ونسخ الصّفات العلى إيجاب للصفات السّفلى، ونسخ الأخبار انصراف المخبر من الضدق إلى الكذب وعن الحق إلى الهزل واللّعب. وهذا من جوَّزه على اللّه تعالى فيما مدح به نفسه، وأخبرَ به عباده الحد في أسمائه واللّه تعالى يقول:)ولله الأسماء الحسنى فادعوهُ بها وذَروا الّذين يُلحِدون في أسمائه) سورة الأعراف، الآية: 185، يقول أيضاً: )وَتَمَّتْ كلماتُ ربِّكَ صِدقاً وعدلاً لا مُبَدِّلَ لكلماته) سورة الأنعام، الاَية: 115، وهذا كافٍ ، والاقتصار عليه واجب، لأن الكتاب لم يوضع لذلك فاعلمه إن شاء الله تعالى.
البابُ الثّامن والخمسون
في معرفةِ أيام العرب في الجاهلية
وما كانوا يحترفونه ويتعايشون منه
وذكر ما انتقلوا إليه في الإسلام على اختلاف طبقاتهم.
اعلم أنَّ احتراف العرب في الجاهليّة وقرب الإسلام على وجوهٍ خمسة: قود الكتائب وجَر الغارات وشَئها على القبائل حين كان الزّمان من عزيز وأخذ الرؤساء منهم المرباع وما يجري مجراه من الصفية والفضول والنّشيطة، وصنوف الاحتكام منهم. ثم الوفادات على الملوك في فك الأسرى وحقن الدماء وحمل الدّيات وإصلاح ذات البين وغيرها، ثم ترقيح العيش من ظهور الإبل وبطونها ونتاج الخيل، ثمَّ غراس النّخل لذلك روي عنه عنه صلى الله عليه وسلم )خير المالِ مهرةٌ مأمورة أو سكةٌ مأبورة).
وروي أيضاً: الخيرُ معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة) إلى كثيرٍ تركناه لشهرته، كقوله صلى الله عليه وسلم لا ارتبطوا إناث الخيل، فإن ظهورها حرزٌ وبطونها كنز). وكقوله صلى الله عليه وسلم )الخيل تعدو بأحسابها فإذا كان يوم الرهان عَدت بحدودِ أربابها أ وكقوله: )جعل رزقي في أطراف الأسنة) يعني من الغزو، ثم طَبَقة العسفاء والجمالين وهذه حرفةٌ يرغب عنها كرامهم وصرحاؤهم فهذه وجوهُ مكاسبهم، ومعالم حرفهم عليها تدور أزمنتهم قبل الإسلام وبها شافهت ما داناه.
ثم صارت في الإسلام على أربع طبقات: الأولى: مهاجرون يقبضون الدّواوين ويحفظ بهم البيضة فيغزون الثغور ويقاتلون العدو. حكُي عن جعفر بن محمد قال: قال علي رضي اللّه عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الخيرُ في السَّيف والخير مع السيفِ والخير بالسيف ).
والثانية: مقيمون يعتملون سوارح الإبل وروائحها، ويتبعون مساقط الكلام، ومدافع المطر، ويكرون عواملهم إلى الأمصار والكور ويتواردون الأرياف وجوانبه الخضر.(1/263)
والثالثة: طبقة مقيمة في مياهها ومحاضرها ومرابعها ومزالفها، راضيةً من العيش بما يحفظ عليهم التّجمل وينفي عنهم التقشّف والتبدل، فيتجِرون فيما يعتنون جلباً، وينقلون ما به يقضون أرباً.
والرابعة: العسفاء والأجراء ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: )إن الخيلَ العراب تراث أبيكم إسماعيل فاقتنوها واركبوها، وكان أول من ركبها إسماعيل وبنوه، وكانوا اثني عشرَ رجلاً يسمون الفوارس). قال أسد بن مدركة منتمياً في شعره إلى إسماعيل عليه السلام.
أبونا الذي لم يركب الخيلَ قبله ... ولم يدرِ شيخ قبله كيفَ يركبُ
وعودنا فيما مضى من ركوبها ... فصِرنا عليها بعده نتلقبُ
لعمرك ما عماي شمر ويبهسٌ ... ولكنَما عماي بكر وتغلبُ
فإنْ يكُ أقوامٌ أضاعوا أباءهم ... سفاهاً فما ضَلت ربيعةُ أكلبُ
وروي عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إن هذه الخيل كانت وحشاً في الفلوات، لها أجنحة في مواضع أكتافها) قال: وكان في ثور العجم مثل خلق الخيل صوراً لها كالأجنحة في مواضع أكتافها تسمى بالفارسية درواسف وتفسيرها بالعربية ذو الأجنحة من الخيل، فلم أعرف معناه حتى سمعت هذا الحديث، قال ثم ذللت لإسماعيل وكانت معه في جُرْهُم فلما توفاه الله عادت وحوشاً إلى مواضعها، حتى جاء زمن داود فذللت له ثم ورثها سليمان، وكان يعجب بها وهي التي ذكرها الله تعالى في قوله: )إذ عرض عليه بالعَشي الصافناتُ الجياد) سورة ص، الآية: 31، وكان أصحاب النخل أكثر دعةً وأرفع عيشاً، وأندى جناباً وأحضر نفراً من أرباب الإبل، إذ كانت الإبل أشد امتهاناً لأهلها وابتذالاً لمتخذيها مع ما يلحقها عند سقوط الغيث، ونبات البقل، ودرور الألبان من الفارة والندود والشرود مع الكلف اللاْحقة من لوازم الرعاء والتّحفظ من الحزابة والسلة ومع ما ينالها في شهب السنين من السواف وسائر العاهات، وفي استقبال بارد الرياح من الأدواء المهلكة، وتلحقها من عدوة السباع الضارية، حتى أنَ ربها يمسي غنياً مكثراً ويصبح فقيراً مدقعاً.
والخيل ثلاثة أصناف: فمنها ملوك الخيل التي لا تُجارى، وهي تسبق بعُنقها وكرَمها وحسبها مع حسنها وتمام خلقها واستوائها وهي الروابع. والصنف الثاني المضامير: وهي سباع الخيل المتعالية اللحوم، وخلقتها غير خلقة الأولى لكنها أخفتُ وأرق منها. والصنف الثالث: ضباع الخيل قوية شديدة تحمل الزّاد والمزاد في السهل والجبل، وهي الغلاظ الشداد، مع جودة الأنفس، لأن الغليظ أحوج إلى شدة النفس من غيره.
وقال أبو داود الإيادي يصف الجواد من الخيل بصفةٍ جامعة يُستغنى بها عن تخصيص المفردات بما يحمَدُ منها:
وقد أغروا بطرفِ هيكل في ميعةِ سكْب
ذو ميعة، أي جَري سائل، وكذلك السكب، ويقال: فرس سكب وبحر وحت.
أسيل سلجم المقبل لا شخت ولا جأب
السلجم: الطويل والشخت: الدقيق، والجأب: الغليظ يريد أنه بين وصفين.
طويل طامحُ الطرف إلى مفزعةِ الكلب
يريد أنه يسمو بطرفه إلى حيث يفزعه الكلب من الصيد إذا طلبه.
مسح لا يواري العير مِنْه عصرَ اللّهب
اللهب: شق في الجبل أي من إشراقه يراه، وإن كان مستسراً فيه بشيء.
مكر سبط العذرة ذي عفوٍ وذي عقبِ
العذرة: شعر الناصية، والعقب: آخر الجري.
كشخصِ الرجل العريانِ فعم مدمج العصبِ
العصب: إدماج الخلقة.
له ساقا ظليمٍ خاضبٍ فوحى بالرعب
الخاضب: الذي قد رعى الربيع.
وقصري شبح الإنسان بناح من الشعب
الشعب: الملتوية القرون.
ومتنان خطانان كزحلوقٍ من الهضبِ
الزحلوق: الأملس وكذلك الزحلوف.
يهز العنق الأجردِ في مُستأمقِ الشعبِ
الأجرد: يريد به المحكم الأمر.
من الحاركِ مخشوش بجنبِ مجفرِ رحبِ
أي أدخل: في الجنب. والجفر: الواسع.
ترى فاه إذا أقبلَ مثل الساقِ الجدبِ
السلق: الأرض المتجرّدة من النبات.
نبيل سلجم اللحيين صافي اللون كالقلبِ
القلب: السوار.
جواد الشّدّ والإحضار والتقريب والعقبِ
عريضَ الخَد والجبهة والصهوة والجنبِ
يخد الأرض خَذ الصمل سلط وأب(1/264)
الصّهوة: مقعد الفارس، والصمل: الشديد من الحوافر، والوأب: التعب.
صحيح النّسر والحافر مثل الغمر القعبِ
لهُ بين حواميه نسور كنوى القسبِ
القسب: التمر الرّديء.
وأرساغ كأعناقِ ضباعٍ أربعٍ غلب
والمستفرغ: الميعة بعد النزع. والجذب: الميعة النشاط.
يعني الخاضب الأخرج في ذي عمدٍ صهبِ
وعير العانة القب الحماص النحص الحقب
يزيز البيت مربوطاً ويشفي قرمَ الركبِ
فبهذه الصفات وما يشبهها يختار جيادَ الخيل. وقال مرار بن منقذ يفضل النخل على سائر ما يحترف منه إذا أخرج الحقوق منها، قال شعراً:
كأتن مِن فتى سوءٍ تراهُ ... يعلكُ هجمة حمراً وجونا
يَضن بحقها ويذم فيها ... ويتركها لقوم آخرينا
وإنَك لن ترى إبلاً سِوانا ... وتصبح لا ترين لنا لبونا
فإن لنا حظائر ناعمات ... عطاء الله رب العالمينا
طلبنَ البحرَ بالأذناب حتى ... شربْن جمامةً حتى روينا
تطاول محزمي صددي أشتى ... بوايك لا يبالينَ السنينا
كأنَّ فروعها في كل ريح ... جوار بالذوائب ينتصينا
بنات الدهر لا يحفلنَ محلاً ... إذا لم تبق سائمة يقينا
يسير الضيفُ ثم يحل فيها ... محلاً مكرماً حتى يبينا
فتلك لنا غنا والأجر باقٍ ... فغضى بعضَ لومِك يا ظعينا
بنات بناتها وبناتِ أخرى ... صَوادٍ ماصحينَ وقد رُوينا
ولأحيحة بن الجلاح في مثله:
لقد لامني في اشْتراء النخيلِ ... قومي فكلهم يعذل
وأهل الذي باعَ يلحونه ... كما عُذِل البائعُ الأول
هو الظل في الصّيف حق الظليل ... والمنظرُ الأحسنُ الأجمل
تغشى أسافِلها بالجنوب ... ويأتي حلوبتها من عَل
وتصبحُ حيث تبيتُ الرعاءُ ... وإنْ ضيعوها وإن أهملوا
ولا يُصبحون يبغونها ... خلال الملا كلهم يسأل
فَعم لعميكم نافع ... وطفل لطفلكم يؤمل
وقال كعب بن زهير يذم الغنم، وقد اتخذ مالاً ومعيشةً، شعراً:
يقولُ حيان من عوف ومن جشم ... يا كعبُ ويحكَ لم لا تَشتري غنما
من لي منها إذا ما جلبةٌ أزمتْ ... ومن أويس إذا ما أنفُه رذما
أخشى عليها كسوباً غيرَ مدخَرٍ ... عاري الأشاجع لا يشوي إذا ضغما
إذا تولى بلحمِ الشاة نبذها ... أشلاء بردٍ ولم يجعلْ لها وضما
إنْ يَغْدُ في شيعةٍ لا يثنهِ نهر ... وإنْ غدا واحداً لا يتَّقي الظلما
وإنْ أغارَ فلا يحلى بطائِلةٍ ... في ليلةِ ابن جميرٍ ساور العظما
إذ لا يزالُ فريش أو مغيبةُ ... صيداء تنشجُ من دونِ الدماغ دما
الكسوب: يعني به الذّئب. لا يشوي: أي لا يصيب غير المقتل وقوله: لا يثنيه نهر: أي نهار، يقال: ليلة نهرة أي مضيئة. وقوله: في شيعة: يعني أصحابه من الرّباب، وابن جمير: أظلمُ ليلةٍ في الشهر، وهي التي لا يطلع القمر فيها من أولها إلى آخرها والعظم السخال التي قد فطمت، يقول: جاء يطلب الكبار فلما لم يجدهن ساور الصغار والمغيبة التي قد دنت من الموت، وفيه بقية. والصيداء: التي قد التوت عنقها وتنشج: أي ما لها نشج وصوت من الدم.
قد ذكر بما اقتص كيف كان أصل خيل العرب، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فكان له خمسة أفراس: الظرب والسّكب واللزار واللجاف والمرتجز، سُمي به لحسن صهيله.
ثم خيل أصحابه كان لجعفر بن أبي طالب فرس أنثى يُسمى سبحة يقال! أسمها سمحة، وكان عرقبها يوم استشهد وهو أول من عرقب الخيل في الإسلام، كانت تحته يوم استشهد في غزوة مؤتة. ولحمزة بن عبد المطلب فرس من بنات العقال قال فيه شعراً:
ليس عندي إلا السلاحُ وورد ... فارح من بناتِ ذي العقال
أتقي دونه المنايا بنفسي ... وهو دوني تغشى صدور العوالي
وفي هذا ألمَ بقولِ الآخر:(1/265)
أقيه بنفسي في الحروب وتقي ... بها دية إني للخليل وصولُ
وكان تحت الزبير بن العوام يوم بدر فرس يُسمى اليعسوب. وتحت المقداد بن الأسود فيه فرس يقال له: ذو العنق، ولأبي ذر فرس يسمى الأجدل، ولمحمد بن مسلمة فرس يسمّى ذا الجناح، ولعباس بن مرداس فرس يسمى العتيد، ولعكاشة بن محصن فرس يقال له: أطلال كانت تحته يوم القادسيّة، وتحدث أنَ الناس أحجموا عن عبور نهرها أو خندقها، وكان عرضها أربعين ذراعاً، فصاح بها فخلفته وثباً، حتى قال أهل النظر: ذلك من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.
وسباق: خيل العرب مشاهير. كأعوج الكبير، وأشقر مروان. والزعفران فرس بسطام بن قيس، وثادف واليحموم وزهدم وإنما المراد التنبيه على مكاسب صميم العرب وفضلائهم، والإشارة إلى ما تنطوي عليه أيامهم في الجاهلية وقبيل الإسلام، وفيمن صحب النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما فرسان العجم فلم يذكر لهم خيل ولا فرس سابق إلا أدهم اسفنديار وشبديز كسرى ورخش رستم وذكروا عنها أحاديث ظريفة.
فأما الشجاعة والصبر على المجاهدة فناهيك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما حكي عن قول القائل: كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قاله عبد الملك بن مروان في حديث عمرو بن ود. خرج عمرو يوم الخندق معجباً بخيلائه، فبرز له أبو الحسن فضربه ضربةً سطحه بها، وكان لمثلها فعالاً. وقيل لعلي: هل رأيتَ أحداً؟ قال: نعم الوليد بن عتبة كان حدثاً، فضربته ضربةٌ على رأسه فبدرَت منه عيناه.
ومما يشهد لما آثرناه عن العرب من حسن تفقدهم للخيل، واشتغالهم بمصالحها واشتراكهم في إيثارهم إياها على أنفسهم، والتوفر على مناقبها ومنامها لما يرجونه من جميل العقبى، منها: ما روي عن امرئ القيس وعلقمة بن عبدة العجلي وذكر أنهما تنازعا في الشعر واحتكما إلى أم جندب، امرأة امرئ القيس، وادعى كل منهما أنه أشعر من صاحبه، فقالت قولاً شعراً في صفةِ الخيل على رَوِي واحدٍ ، فقال امرؤ القيس في قصيدته:
خَليلي مرا بي على أمّ جندب ... لتقضيَ حاجات الفؤادِ المعذب
فللسّوط الهوب وللساق درة ... وللزّجر منه وقعُ أخرج متعب
وفي نقيضها قال علقمة:
فولّى على آثارهن بحاصبٍ ... وغيبةِ شؤبوب من الشَد مهلب
فأدركهن ثانياً من عنانه ... تمرُ كمر الرائح المتحلب
فحكمت لعلقمة على امرئ القيس، وقالت: أما أنت فحمدت نفسك بسوطك وزجرك ومريك إيّاها بساقك. وأما هو فإنه أدرك فرسه الطّريدة ثانياً من عنانه لم يمره بساق، ولم يضربه بسوط، ولم يزجره بنده، فقال امرؤ القيس: ما هو أشعر مني ولكنك تعشقينه فطلقها. وقال طفيل شعراً:
وللخيل أيامٌ فمنْ يصطبْر لها ... ويعرفْ لها أيامها الخير يعقب
وقال مالك بن نويرة شعراً:
جزائي دوائي ذو الخمار وصنْعتي ... بما باتَ مطويّاً بنّي الأصاغر
رأى أنني لا بالقليل أهورُه ... ولا أنا عنه بالمواساة ظاهر
أهوره: أي لا أظنّ القليل يكفيه، يقول: هو يهار بكذا ويهابه: أي يتهم ويزن قوله: ولا أنا عنه ظاهر: من قولك: ظهرت لجاجة فلان إذا لم يعن بها. وقال عنترة لامرأة:
لا تذكري مهري وما أبليتُه ... فيكون جلدك مثلَ جلدَ الأجرب
يعني: أنه إن آذته ضربها حتى يظهر عليها أثر الضرب. شعر:
إنَ الغبوق له وأنتِ مسوءة ... فتأوهي ما شئت ثم تحوبي
فذوقوا كما ذقنا غداة محجرِ ... من الغيظ في أكبادنا والتحاوب
كذب العتيق وماء شن باردٌ ... إن كنت سائلتي غبوقاً فاذْهبي
إن الرجال لهم إليك وسيلةٌ ... إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
ويكون مركبك القعود ورجلَه ... وابن النعامة يومَ ذلك مركبي
وأنا امرؤ إنْ يأخذوني عنوةً ... أقرن إلى شر الركاب وأجنب
وقد قال بعض الرواة: لم يكن قوم أشد عجباً بالخيل، ولا أعلم بها، ولا أصنع لها ولا أطول لها ارتباطاً، ولا أهجى لمن لم يتّخذها، أو اتخذها وأهزلها، ولا أمدح لمن اتخذها وأكرمها منهم.(1/266)
وكذلك أضيفت إليهم بكل لسانٍ ونسبَتْ إليهم بكلِّ مكان وفي كلِّ زمان حتى قالوا: هذا فرس عربي، ولم يقولون: رومي، ولا هندي، ولا فارسي فحصنوها تحصين الحرم، وصانوها صونَ المهج، ليبذلوها يوم الرّوع ويأمنوا بها أوان الخوف، وليجعلوها درية يومَ اللقاء، ووصلةً إلى درك الثّأر حتىَ قالوا: إنّ الحصونَ الخيل، لا مَدَرَ القرى، كما قال الآخر شعراً:
ولمَّا نأتْ عنّا العشيرةُ كلّها ... أنخنا فخالفنا السُّيوفَ على الدهر
وكانوا يصبرون على مؤنتها في الجدب، ويغتبقون الماء القراح في الأزَل ويؤثرونها على العيال بالصنيعة، ليكافئ عند الطلب، أو الهرب، ولذلك قال الأشعري مالك الجعفي:
لكن قعيدةُ بيننا محفوة ... بادٍ جناجنُ صدرِها ولها غِنى
تقفي بعيشةِ أهلها وثابةً ... أو جرشع عبل المحازم والشوى
وقال خالد بن جعفر الكلابي:
أريغوني أراغتكم فإنّي ... وحذفة كالسجى تحتَ الوربدِ
أُسَويها بنفسي أو بحر ... وألحفها ردائي في الجليدِ
أمرتُ الراغبين ليؤثروها ... لها لبنُ الحلوبةِ والصعودِ.
البابُ التاسع والخمسون
في ذكر أفعال الرياح
لواقِحها وحوائلها وما جاء من خواصها في هبوب وصنوفها
قال مؤرخ من خواص الجنوب: أنَها تثير البحر حتى يسودَ، وتظهر كلّ ندى كائن في بطن الوادي حتى يلتصق الأرض، وإذا صادفتَ بناءً بُني في الشتاء والأنداء أظهرت نداه وحسنه، حتى يتناثر ويطيل الثوب القصير، ويضيق الخاتم في الإصبع، ويسلس بالشمال والجنوب تسرى بالليل. تقول العرب: إن الجنوب قالت للشمال: إن لي عليكِ فضلاً أنا أسري، وأنتِ لا تسرين. فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري وقال الهذلي:
قد حال دون دريسةٍ ماوية ... مسع لها بعضاةِ الأرض تهزيزُ
الماوية: التي تهب بالنهار كله إلى الليل ثم تسكن، قال الله تعالى: )يا جبال أوبي مَعَه والطير) سورة سبأ، الآية: 10، أي: سبحي النهار كله. ومسع الشمال والدريس: الثوب الخَلِق، والشمال تستذري منها بأدنى شيء، ويسترك منها رحلك، وذرى الشجرة والجنوب لا يستر منها شيء، وربما وقع الحريق بالبادية في اليبيس، فإنْ كانت الريح جنوباً احترق أياماً وإن كانت شمالاً فإنما يكون خطأً لا يذهب عرضاً. وللشمال ذرى الشجرة، وذلك أن يجتمع التراب من قبلها فيستذري بالشجر، فإنْ كان الشجر عِظاماً كانت لها جراثيم، وإن كانت صغاراً ساوى التراب غصونها، ولا ذرى للجنوب ترى ما يلي الجنوب منها عارياً مكشوفاً والشمال تذم بأنها تقشع الغيم وتجيء بالبرد، وتحمد بأنها تمسك الثرى وتصاحب الضباب، فتصبح عنها كأنها ممطورة، وتصبح الغصون وتنظف وأكثر ما يكون عن غب المطر، فإذا ارتفعت الشمس ذهب الندى وتقطع الضباب وانحسر، وليس من الرياح أدوم في الشتاء والصيف من الشمال، كما أنَه لا شيء منها أكثر عجاجاً وسحاباً، لا مطر فيه وهي هيفٌ، تقشرُ الأرض، ويحرق العود من النكباء التي بين الجنوب والقبور التي تهب من مغيب سهيل.
وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: )وأرْسلنا الرياح لواقِح) سورة الحِجر، الآية 22، جمع ملقحة على لواقح. قال: ورأيت العرب تجعل الرّياح لقاحاً للرياح لأنها تنشئ السحاب وتقلّبه وتصرفه وتحله. قال الطَرماح وذكر برداً استظل به:
قَلِقٌ لأفنانِ الرِّياحِ للاقح منها وحائلِ
فاللاقح: الجنوب لأنها تلقح السحاب، والحائل: الشمال لأنها لا تنشئ سحاباً، وكما سموا الجنوب لاقحاً سموا الشمال عقيماً، لأنَها عندهم لا تحمل كما تحمل الجنوب. وقال كثير: ومَرَّ بِسَفسافِ التّراب عقيمُها. وقال أبو وجزة:
حتّى سلكْنَ الشّوى منهن في مَسَد ... من نسلِ جَوّابةِ الآفاق مهداجِ
يذكر حميراً وردتْ ماءً يقول: أدخلتْ قوائمها في الماء، وهذا الماء من نسل جوابة الآفاق، أي ريح تجوب البلاد، أي هي أخرجتْه من الغيم واستدرَته، فجعل الماء لها نتاجاً ولداً، فالرّياح على هذا هن اللّواقح.
وأكثر العرب تجعل الجنوب هي التي تنشئ السّحاب، وتسدده وتصفُ بواقي الرياح بقلة المطر، والهبوب في سني الجدب. قال أبو كثير الهذلي:
إذا كان عام مانع القطر ريحُه ... صَبا وشمال قرة ودبورُ(1/267)
فأخبر أنَّ هذه الثلاثة لا قطر معها، وأن القطر مع الجنوب. وقال طرفة:
وأنتَ على الأدنى شمالٌ عريةٌ ... شاميّة تزوي الوجوه بليلُ
وأنت على الأقصى صبا غير قَرةٍ ... تدأب منها مزرعٌ ومسيل
فأخبر أنها إذا لم تكن باردةً كان معها القطر، ولعل الهذلي أراد مثل هذا فاكتفى بذكر الشمال ووصفه. وقال آخر:
فسائلْ سبرة الشجعي عنّا ... غداة تحاليا نجوا جنيبا
والنجو: السحاب، والجنيب: الذي أصابته جنوب، فشبه حفيفهم في القتال بحفيف المطر، وقال المسحل:
حارَ وَعَقتْ مزنةُ الريح ... والعارية العرصِ ولم يَشْمل
حار: تحير وتردد، وعقت: قطعت، ولم يشمل: أي لم تصبه الشمال فيقشعه. وقال أبو كثير:
حتى رأيتهم كأنَ سحابةً ... صابت عليهم لم يشملْ ودْقُها
وقال آخر من هذيل:
مرتها النعامى ولم تعترِفْ ... خلافَ النعامى من الشام ريحا
النعامى: الجنوب، ومَرَتْها: استخرجَتْ مطرها، ومِن الشام: يريد الشمال، فهذه كلها تجعل العمل في المطر للجنوب، وتجعل الشّمال يقشع السحاب، ويسمونها محوةً، لأنَها تمحو السحاب.
قال العجاج:
سغرُ الشَمال الزبرج المزبرجا ... قد بكَرَتْ محوةُ بالعجاجِ
فدمرتْ بقيةَ الزجاجِ
السغر: القشر، والزبرج: السحاب.
وكان الأصمعي يحكي عن العرب: أنَّ ما كان من أرض الحجازة فالجنوب هي التي تمري السحاب فيه والشمال تقشعه. وما كان من أرض العراق، فالشمال تمري فيه السحاب ويؤلفه، ولم يقل إن الجنوب تقشعه، ولا أنه لا عمل لها فيه. قال: وأحسبه أراد أنَ الشمال والجنوب تفعلان ذلك جميعاً بأرض العراق دون الحجاز، وعلى هذا وجدتُ بعضَ الشعراء. قال الكُميت، وكان ينزلُ الكوفة:
مَرَتْه الجنوبُ فلما اكْفَهَر ... حَلتْ عزاليهِ الشمالُ
فجعل الجنوب تستدره والشمال تحله. وقال عمي وكان ينزل الحيرة وينتقل في أرض العراق: وجيء بعد الهدو يزجيه شمالُ كما يُزجي الكسير فاستدرتْ به الجنوب على الحرير، فالجنوب سيرُه مقصور، يريد لثقله وجعل الشمال تسوقه والجنوب تستدره، لأن الجنوب عند أهل الحجاز وما يليه هي التي تأتي بالغيث حتى جعلوها مثلاً للخير. قال حميد:
ليالي أبصار الغواني وَسَيْرها ... إليّ وإذ ريحي لهن جنوبُ
وعلى حسب تيمنهم بالجنوب وتصييرهم إياها مثلاً للخير، تشاؤمهم بالشمال وتصييرهم إياها مثلاً للشر. قال أبو وجزة يذكر امرأةً:
مجنوبةُ الأنس مشمول مواعِدها
جعلها لا تفي بوعدها كالشمال لا تأتي بالغيث. قال زهير شعراً:
جَرَتْ سَحّاً فقلتُ لها أجيزي ... نوى مشمولةً فمتى اللقاءُ
وقال بعضهم: أراد جرت الطير بها من ناحية الشمال، ولذلك قيل: اليُمن والشؤم، فاليُمن من اليَمَن، والشُؤم من اليد الشؤمى، قال: وقد يتشاءمون بها من جهة البرد، قيل لبعضهم: ما أشد البرد؟ فقال: ريح جربياء في أثر عماء، في غب سماء. والجربياء: الشمال والعماء: السحاب يريد شمالاً هبّت بعد مطر، وقيل لآخر: أي الأيام أقر فقال: الأحصُ الوَرد، والأزب الهلوف.
قال أبو عمرو: الأحص الورد: يوم تطلع شمسه، وتصفو شماله، ويحمر فيه الأفق، ولا يجد لشمسه مساً. والأحص: التي لا سحاب فيه كالرأس، والأحص: الذي لا شعر عليه، قال والهلوف: يوم تهبّ فيه النكباء تسوق الجهام والصراد لا تطلع شمسه، والأزب: من الإبل الكثير الوبر.
يقال: لحية هلوفية إذا كانت كثيرة الشعر، واليوم إذا كان بهذه الصفة كان ذا زمهرير، وكانوا يقولون مع هذا: إذا كثرتِ المؤتفكات زكتِ الأرضُ وإذا ذخرتِ الأودية بالماء كثرتِ الثمر، والمؤتفكات: الرياح البَوارح وهي شمال حارة في الصيف، وذات عجاج، سميت لتقلبها العجاج، مؤتفكات ولا أحسبهم أن لها عملاً في ذلك، وإنما يريدون أن عضوفها، إذا اشتد وكثر كان ذلك إمارة الزكاء، ويجوز أن يكونوا أرادوا بالمؤتفكات الرياح كلها إذا اشتدت.
قال بعض الحكماء: الرّياح على ثلاثة أضرب: منها ما هي من الملائكة وصِفتها أن تكسح من الأعلى إلى الأسفل، وتهب صافيةً ثم تنقطع، ومنها ما هي حركةُ الجو، وصفتها دوام هُبوبها صافيةً، وكدرةً سفلاً وعلواً.(1/268)
وروى طاوس في خبر يرفعه: لا تَسبوا الرياح ولا المطر ولا الرعد ولا البرق، بعثن رحمةً للمؤمنين وعذاباً على الكافرين. وفي حديث آخر: لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن. وفي آخر: ما هلكَ قوم ولا عاش آخرون إلا بهبوب الرياح ودرور السحاب.
وذكر بعضهم أن الروم تسمي الأمطار والرياح نقالات الدول. وعن سفيان الثوري: الدعاء عند هبوب الرياح وتحت المطر لا يُرد.
وقال بعضهم: النسيم الطيب صديق الروح، قال: والرخاء: ريحُ سُليمان وكانت حمل عرشه، وقيل: النسيم بدو كلّ ريح، يقال: نسمت الريح.
ويروى عن عبد الله بن عباس أنه قال: الرياح في كتاب الله ثمان: أربع منها رحمة: النّاشرات والمبشّرات والذّاريات والمرسلات، وأربع منها عذاب: القاصِف والعاصِف والعقيم والصَّرصر. وقال الحكماء: الجنوب ريح، ذكر سعد شرقي حار لاقح يقوّي السحاب ويفجر الأمطار، ويلقح الأشجار. وقال: راح تمر به الصَّبا ثم انتحى فيه شؤوب جنوب، منفجرٌ ويُسمى الأرنب والنّعامي.
ويروى عن جعفر بن محمد أنّه قال: إنَ الجنوب تخرج من الجنة وتمر بالنّار فيصيبها وهجها، فما فيها من حَر فمن ذاك، وهي ريح بروج الربيع، كما أن الشمال ريح بروج الصّيف، وهي أبرد الرّياح.
ويروى عن جعفر بن محمد الشّمال: تمر بالجنّة جنّة عدن فتأخذ من طيب عرفها، فتمرّ بها على أرواح الأبرار والصديقين. والدّبور تهيج الرياح وتثيرها وهي أشد الرياح على ركاب البحر، ولا تهب إلا عاصفاً، وهي التي أُرسلت على قوم عاد.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: )نُصِرتُ بالصبا وأهلكتْ عاد بالدبور) وهي ريحُ بروج الخريف. والصبا لطيب نسيمها وهبوبها لقبتْ بريح العشّاق. وقال ابن دمية:
ألا يا صبا نجدٍ متى هِجْتَ مِنْ نجدِ ... فقد زادني مَسراكَ وجداً على وَجْدِ
وقال امرؤ القيس:
إذا قامتا يضوعُ المِسكُ منهما ... نسيمُ الصبا جاءتْ بريح القَرَنْفُلِ
وقال آخر:
أريد لأنسى ذكرها فيهيجُني ... نسيمُ الصبا من حيثُ ما يطلعُ الفجْرُ
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: )فأرسَلْنَا عليهِمْ ريحاً وَجنوداً لَم تَرَوْها) سورة الأحزاب، الآية: 9، هي الصبا. وقالت العرب: عصفَ الجنوب في الخريف دليلُ النّقمة، وعصفُ الدبور في الربيع دليل العذاب، وعصفُ الشمال في الشتاء دليل الوفاء، وعصْف الصبا في الصيف دليل البؤس. وقيل في الدبور: هي ريح بروج الشتاء. وقالت الحكماء: مهب الجنوب من مطلع الشمس إلى زوالها، ومهبّ الشمال من مطلع الشّمس إلى غروبها. ومهب القبور من مغرب الشمس إلى شطر الليل. ومهب الصبا من شطرِ اللّيل إلى طلوع الشمس، لا تطلع هذه في هذه ولا هذه في هذه.
البابُ السِّتّون
في ذْكر الأوقات المحمودة للنَّوءِ والمطرِ
وسائر الأفعال وذكر ما يتَطَيّرَ منه أو يستدفع الشَر به
اعلم أنَ العرب تحمد الولد إذا وُلد في الهلال، فإنْ حملته في قبل الطهر كان ذلك أعجب إليها، ولذلك قالت الفارعة أخت لقمان بن عاديا لإمرأة إني امرأة نزور وزوجي رجلٌ محمق، وأنا في ليلة طُهري، فهي لي ليلتك، واسميني على فراشك فإذا رجع لقمان، من عند الشّرب ثملاً، فوجدني على فراشك وقع عَلَي، وهو رجل منجب فعسى أن ألِد منه ابناً نجيباً، فأجابتها إلى ذلك، فوقع عليها لقمان فحبلت بلقيم بن لقمان. ولذلك قال النمر بن تولب لقيم بن لقمان: فإنْ ولدته قبلَ النهار كان ذلك الغاية. قال:
ولدتُ في الهلالِ مِنْ قبلِ الطهر ... وقد لاحَ للصباح بشيرُ
وقال الراعي:
وما أم عبد الله إلاّ عطيةٌ ... من الله أعطاها امرأً فهو شاكِرُ
هي الشَمسُ وافاها الهلال فنسلُها ... نجوم بآفاقِ السماء نظائرُ(1/269)
والمنجمون يزعمون أن الهلال نحس، ونحن نجد عامة حاجات النّاس إنما تجزئ مع الأهلة منها التاريخات كلها، ومحل الدّيون، وفراغ الصناع والتّجار، ويوم الفطر، وآجال المستغلات، وقدوم الولاة، وزيادة المد، ونقصان الجزر، ما بين الصّيبين إلى المزار، والمواعيد، والإجارات، وأكثر الحيض الذي جعله الله مصحة أبدان النساء. ثم نزول الغيث الذي نشر الله به رحمته فأحيا به الأرض بعد موتها، وفي حياتها حياة مَنْ عليها ولأسد بن ناغضة جاهلي في شأن عبيد بن الأبرص شعرٌ :
غداة توخّى الملك يلتمسُ الحيا ... فصادف نحساً كانَ كالدبرانِ
وللأسود بن يعفر يهجو رجلاً:
ولدتَ بحادي النّجم يحدو قرينَه ... وبالقلبِ قلبِ العقربِ المتوفِّر
وقال آخر جاهلي:
فسيروا بقلب العقربِ اليومَ إنه ... سواء عليكم بالنحوسِ وبالسعدِ
وقال آخر:
فإنك قد بعثتَ عليك نحساً ... شقيت به كواكبُه ذكورُ
وقال آخر:
فإن يكُ كوكب الصمعاء نحساً ... به ولدت وبالقمر المحاقُ
وقال الأصمعي: إذا كان المطر عندهم في سرار الشّهر كان محموداً، ورجوا غزارته، وكثرة الخيرات به. وأنشد للرّاعي:
تلقى نوءَهن سرارُ شهرٍ ... وخيرُ النَوء ما لقيَ السرارُ
وقال الكميت:
هاجَتْ له من جنوح الليل رائحة ... لا الضب ممتنع منها ولا الوَرْلُ
في ليلةِ مطلعِ الجوزاء أوّلها ... دهماءُ لا قرحُ فيها ولا رجُل
يريد إنّ هذه الليلة مِنَ السّرار، فلا ضوء في أولها، وهو القرح، والقرح: بياض وجه الدابة. وقوله: مطلع الجوزاء أولها يريد أنها من الشتاء، والجوزاء في الشتاء يطلع أول الليل.
وقال الحطيئة:
باتَتْ لها بكِسيبٍ حريه ليلة ... وطغاءُ بين جُماديَيْن درورُ
قوله: بين جماديين يريد أنها ليلة لا يدري أهي آخر من الشهر الأول، أو أوِّل ليلةٍ من الشهر الثاني. وأراد أنّ المطر كان في السّرار أو في الغزة. وإذا كان أيضاً في الغرة كان محموداً.
قال الكُميت:
والغيثُ بالمتألقاتِ ... من الأهلة في النّواحرِ
النّواحر: جمع ناحرة وهي الليلة التي تنحر الشهر، أي تكون في نحره. وقال ابن أحمر:
ولا مكللة راج بها ... في ناحرات سرار بعد إهلال
وقد توافقوا كلّهم على هذا إلا أبا وجزة، فإنه ذكر نصف الشّهر فقال:
في ليلةٍ لتمام النصف من رجبٍ ... خوارة المحزنِ في أقتارها طولُ
وليس يحمدون المحاق إلا في المطر وحده، وقال جران العود، وذكر امرأةً تزوَّجها فلم يستوفِقْها: قال شعراً:
أتوني بها قبلَ المحاق بليلةٍ ... وكان محاقاً كلُه ذلكَ الشهرُ
وحكى المفضّل أنَّ زبَّان بن سيار خرج غازياً ومعه النّابغة فرأى جراداً، فقال النابغة: جرادة تجرد ذات ألوان. فانصرف متطيّراً، ومضى زبان فغنم وسلم فلما قفل قال شعراً يخاطب به النابغة من ذلك قوله شعراً:
تَعَلم أنَّه لا طيرَ إلاّ ... على مُتطير وهو الثبورُ
بلى شيء يوافقُ بعض شيء ... يفاجئنا وبَاطلُه كثيرُ
ومن يبرحْ به لابُد يوماً ... يجيء به نعي أو بَشيرُ
وقال الكميت:
اللورق الهواتف أم لباكٍ ... عَمّ عما يزنّ به غَفولُ
الباكي: الغراب يقول: يزن بأنه ينعب بالفراق وهو غافل عن ذلك. وقال الكميت لجذام في انتقالهم إلى اليمن شعراً:
وكان اسمكم لو يزجرُ الطيرَ عائف ... لبينكم طيراً منبئةَ الفألِ
أي اسمكم جذام، والزجر فيه الانجذام، وهو الانقطاع. وقال أيضاً يمدح زياداً:
واسمُ امرئ طيره لا الظبيُ معترضاً ... ولا النعيق من الشّحاجة النعبِ
فقال اسمه زياد، فالزجر فيه الزّيادة والشحاجة الغربان. وقال آخر:
دعا صردٌ يوماً على ظهر شوحطٍ ... وصاح بذاتِ البين منها غُرابُها
فقلتُ:
أتصريدٌ وشحط وغربةٌ ... فهذا لعمري نأيها واغترابُها
وقال في مخالفته آخر:
وقالوا: عقابٌ قلتُ: عقبى مِنَ النّوى ... دنَتْ بعد هجرٍ منهم ونزوحُ
فزجر في العقاب الخير ثم قال:(1/270)
وقالوا حمام قلت حمِّ لقاؤُها ... وعادَتْ لنا ريح الوصال تفوح
وقالوا تغنى هدهد فوق ليلة ... فقلت هدى نغدو به ونروحُ
قال أبو العباس المبرد: ولم أرهم زجروا في الغراب شيئاً من الخير لكني سمعتُ بيتين أنشدهما بعضهم في المدح والتفاؤل به أحدهما:
نعبُ الغراب فَرَق بالمشتاق ... فدنا وصاحَ بِرُؤية وتلاقِ
لا سُل ريشُك إذا نعبت بقربهمْ ... ووقاكَ من ريبِ المنية واقِ
والآخر:
نعب الغراب برؤيةِ الأحبابِ ... ولذاك صرتُ أحب كل غرابِ
لا سُل ريشُك إذ نعبت بقربهم ... وسقيتَ من نام صبيب سحاب
وسكنتَ بين حدائق في جنةٍ ... محفوفةٍ بالنخل والأعناب
ولم أسمع غير ذلك، ويقال للعائف الحازي، وكان أصل التّطير في الطير، وكذا الرجز بأصواتها وعددها والتغلي والتنسف، ثم صاروا إذا عاينوا الأعور والأعضب والأبتر زجروا وزجروا بالسنوح والبروح. وقد تقدم فيه كلام وقال رؤبة:
يشقى به العرانُ حتى أحسبا ... سيداً مغيراً أو لياحاً مغربا
اللياح: الثور الأبيض، وكانوا يتشاءمون بالمغرب وقال:
قد علم المرهتون الحمقى ... ومن تجزي عاطساً أو طرقا
ألا نبالي إذ بدرنا الشرقا ... أيوم نحسٍ أم يكون طلقا
وقال:
وقد أغتدي قبلَ العطاسِ بهيكل ... سديدِ مسكٍ الجنْب فَعْم المنطِقِ
وقال:
وخِرْق إذا وجهتُ فيه لِغزوة ... مضيتُ ولم يحبسْك عنه الكَوادسُ
الكداس: العطاس وكانوا يتطيرون منه. وكانوا إذا عطس العاطس قالوا: قد أنجمنا أي منعنا. وقال ابن الأعرابي: يقال: عطست فلاناً النجم أي أصابه الهلاك الذي يتطير فمات قال والنجم أيضاً دويبة صغيرة. وقال ذو الرمة:
ولا أبالي النجم العواطسا
وقال طرفة:
لعَمري لقد مَرت عواطسُ جمةٌ ... ومرَ قبيلَ الصبح ظبي مصمعُ
قال عواطس لأنه رأى أشياء مما يتشاءم بها، فجعل كلّ واحد كالعاطس وجعل الطبي مصمعاً: وهو الصغير الأذن استقباحاً له. وقيل: المصمع: المسرع. قال:
وعجراءُ دفثٍ بالجناحِ كأنه ... مع الفجر شيخ في بجادٍ مُقنّع
فإنْ تمنعي رزقاً لعبدٍ يصيبه ... ولن تدفعي بُؤسي وما يتوقعُ
قال الفرزدق:
إذا وطناً لمغتنيه ابن مدركٍ ... فلقيتُ من طيرِ العراقيبِ أخيلا
ويقال: صبّحهم بأخيل: أي بشؤم. ويقال: بَعير مخيول: إذا وقع الأخيل على عجزه فقطعه. وقال الأعشى:
انظر إلى كفٍ وأسرارها ... هل أنت إنْ أوعدتني صابِرُ
جعله مثلاً لأنَهم كانوا ينظرون إليها يستدلون بها. وقال جرير في طريقته:
وما كانَ ذو شغبٍ يمارس عيصَنا ... فينظر في كفيه إلا تندما
العيص: الأكمة شبّه حسبهم بها، ومعنى ينظر في كفيه أي إذا تعيف علم أنه لاقٍ شراً.
وقال المرقم السدوسي مخالفاً لهم شعراً:
ولقد غدوتُ وكنتُ لا ... أغدو على واقٍ وحاتمٍ
فإذا الأشائم كالأيامِن والأيامنُ كالأشائمِ
الواق: الصرد، والحاتم: الغراب. وأنشد الجاحظ:
ولستُ بهيابٍ إذا شد رحلُه ... يقول: عداتي اليوم واقٍ وحاتمُ
ولكنه يمضي على ذاك مقدماً ... إذا صد عن تلك الهناتِ الخثارِمُ
الخثارم: المتطهر من الرّجال.
قال الجاحظ: ولإيمان العرب بباب الطيرة والفأل عقموا التمائم والرتائم وعشروا إذا دخلوا القرى كتعشير الحمار، واستعملوا في القداح الآمرة والناحية والمتربص، وهي غير قداح الإيسار ويشتقّون من اسم الشيء المعاين أو المسموع ما يقيمون به العادة في ذلك، فجعلوا الحمام مرةً من الحمام ومرةً من الحميم، ومرةً من الحمى. وجعلوا البان مرةً من البين، ومرةً من البيان.
وقال الحارث بن حلزة، وكان ينكر الطّيرة: يا أيها المزمع ثم انثنى. الأبيات وقد مرّتْ في باب العيافة والقيافة. وأنشد المفضّل شعراً:
تغتالُ عرضَ الرّويَّةِ المذالة ... ولم ينطعها على غلاله
إلا بحُسْن الخلق والنّباله ... آذَن بالبين صريدُ الصّاله(1/271)
فبات منه القَلبُ في البلباله ... ينزو كنز والطّير في الحباله
صريد: تصغير صرد، وأضاف إلى الصّالة، وهذا كما يقال: غراب البين.
ولقي النبي صلى الله عليه وسلم حضرميّ بن عامر في ناس من قومه فنسبهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من أنتم؟ فقيل: نجن بنو الزنية فقال عليه السلام: بل أنتم بنو الرشدة فقالوا: لا نرغب عن اسم أبينا، ولا نكون مثل بني محوله، يعنون بني عبد الله بن غطفان. قال: )بل أنتم بنو عبد الله فسُموا بني محوله).
وما ذكرناه في هذا الباب كافٍ في موضعه، وقد استقصيتُ الكلام في فنونه وشعبه في كتابي المعروف بعنوان الأدب وذلك في الباب الجامع لذكر الرموز والعادات. وهو باب كثير الفوائد، غريب الموارد.
وفي الحديث: أنه كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة، واعترض بعضهم عليه فقال: إذا كان الفأل لا يوجب إلاّ مثل ما توجب الطيرة فيما يرجى أو يخاف، فلا فصل بينهما وذاك أن قول القائل يا واجد وأنت باغ، لا يوجب أمراً بخلاف ما يوجبه قوله: يا مضلّ، لأن مطلوبك على ما كان عليه لا حقيقة تبدله، ولا مجاز يغيره، فيؤدي الحالتين على طريقة واحدة. قلت: إنْ تسمع كلمة في نفسها مستحسنة وتكون قد أحدثت من قبل طمعاً في أمرِ من عند الله تعالى فيعجبك سماعك لها إذ كان الطّمع خلاف اليأس، ولأنَ الكلمة واقفته. ومثاله أن تسمع وأنت خائف يا سالم، فالفأل لا يوجب السّلامة، ولكن كأنّه يبطل اليأس، ويدفع سوء الظن، والرجاء بالله وحسن الظّن به محمود مندوبٌ إليه، وإذا ظن أن المرجو من حيث وافقَ تلك الكلمة كالأقرن، ففرح بذلك فلا بأس عليه. وإذا كان الأمر على هذا فالطِّيرة بعيدة من هذا، وكذلك المتطير فيما يأتيه أو يذرُهُ وهذا ظاهر.
وحكى الجاحظ عن الأصمعي، قال: هربَ بعضُ البصريين من بعض الطّواعين فركب حماراً ومضى بأهله نحو سفوان، فسمع غُلاماً له أسود يحدو خلفه ويقول: لن يسبق الله على حمار، ولا على في ميعةٍ مطار أن يأتي الحتف على مقدار، قد يصبح الله أمام السّاري، فلما سمع ذلك رجع بهم، ومن أعجب ما لهم قول الشاعر:
فإنْ يبرأ فلم أنفثْ عليه ... وإنْ يفقد فحقَّ له الفقودُ
وقول آخر:
فلم أرقْه إنْ ينجُ منها وإنْ يمتْ ... فطعنةُ لاغسٍ ولا بمغمر
لأن ظاهر هذا الكلام يقتضي أنهم كانوا إذا شكوا سلامة رميهم رقوا نبالهم برقية، ونفثوا فيها نفث السواحر في عقد ما يبرمونه من سحرها. وهذا كما اعتُقد في النيران وهي كثيرة ينسب بعضهم إلى العجم، وبعضهم إلى العرب وفي أثنائها نيران الديانات حتى عبدت. ويذكر هنا ما يأخذ كتابنا هذا منه بحظ، فقد استقصى الجاحظ القول فيها، وذكر أحوال المعظمين لها والمستهينين بها وقد قال الله تعالى في ذكر الثقلين: )يُرسل عليكما شواظ مِنْ نارٍ ونُحاس فلا تنتصِران فَبِأي آلاء ربكما تكذبانِ) سورة الرحمن، الآية: 35 36، وليس يريد أن التعذيب بالنار نعمة يوم القيامة، ولكنه أراد التحذير بخلقه لها والوعيد بها غير إدخال الناس فيها، وإحراقهم بها، وفي ذلك نعمه من الله مجددة، إذ كان حال من حذر مخالفاً بحال من أهمل وترك وما يختاره. وقال الشاعر يد الخصب شعراً:
في حيثُ خالطَتِ الخزامي عُرفُجاً ... يأتيكَ قابس أهله لم يقبُس
ومن أمثالهم: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار. وفي الجاهلية الأولى إذا تتابعت عليهم الأزمات، وركد البلاء، واشتدّ الجدب، واحتالوا إلى استمطار جمعوا ما قدروا عليه من البقر، ثم عقدوا في أذنابها وبين عراقيبها السلع والعشر ثم صعدوا بها في جبل وعرٍ وأشعلوا فيها النار وضجوا بالدعاء والتضرع، وكانوا يرون أنَ ذلك من أسباب السقيا. لذلك قال أمية بن أبي الصلت:
سنة أزمة تخيل بالناسِ ... ترى للعضاةِ فيها صَريرا
سلع ما ومثله عشر ما ... عايل ما وعالت البيقورا
ويقال: بقر وباقر وبيقر وبيقور وبقير. وقال بعضهم: تقرَبوا بذلك، كما تفرد بعضهم بقربان تأكله النار فإنهم كانوا يأتون بالقرابين ويوقدون ناراً عظيمةً وتدنى تلك القرابين في لحلف منها وهم يطوفون حولها ويتضرعون، فإذا أكلت النار وقد أشعلوها تلك القرابين عدوا ذلك قبولاً لها، وإسعافاً بالمطالب منها. وأنشد القحذمي للورل الطائي في لاستمطار:(1/272)
لا در در رجالٍ خابَ سَعيهم ... يستمطرون لدى الأزماتِ بالعَشُر
أجاعل أنتَ بيقوراً مسلعةً ... ذريعةً لكَ بينَ الله والمطرِ
وعلى ذكِر النار فللعرب منها ما يذكر في الرموز ومنها ما يجعل علامة لحوادث تحذر. نها ما يضرب بذكره مثل، أو يعقد به ديانة، أو يقام به تشبيه وسنة، والجاحظ قد أثار الرّهج في جمعها ووصفها، والكلام عليها وعلى المتدينين بعبادتها، وأنا أذكر منها هنا ما يكتفي به إن شاء الله تعالى.
قال الجاحظ: قال الله تعالى: )الَذي جَعَلَ لكُم مِنَ الشَجرَ الأخضرَ ناراً فإذا أنتم مِنهُ توقدون) سورة يس، الآية: 80، النار من أكبر الماعون، وأعظم المرافق، ولو لم يكن فيها إلا أن الله تعالى جعلها الزّاجرة عن المعاصي، لكان في ذلك ما يزيد في قدرها ونباهة ذكرها وقال تعالى: )نحنُ جعلناها تذكرةً ومتاعاً لِلْمُقوين) سورة الواقعة، الآية: 73، فالعاقل المعتبر إذا تأمل قوله تعالى: )نحن جعلناها تذكرة) تَصَوَّر ما فيها من النَعم أولاً ومن النقم آخراً. وقد عذّب الله تعالى الأمم بأنواع العذاب ولم يبعث عليهم ناراً لأنه جعلها من عذاب الآخرة.
قال: ومن النيران بعدما ذكرها من أنَ العرب في الجاهلية كانت تستمطر بالنار التي كانوا يوقدونها عند التحالف، فلا يعقدون حلفهم إلا عندها، وكانوا يقولون في الحلف: الدم الدم والهدم الهدم لا يزيده طلوع الشّمس الأشدا، وطول الليالي الأمدا، وما بل البحر صوفة، وما أقام رضوى في مكانه، إذ كان جبلهم رضوى أو ما أنفق من مشاهير بلادهم يؤكدون العقود بمثل ذلك، وعلى هذا ما ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار لما أرادوا أنْ يبايعوه، فقال أبو الهيثم بن التيهان: إنّ بيننا وبين القوم حبالاً نحن قاطعوها ونخشى إن الله أعزك وأظهرك أن ترجع إلى قومك، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمِ قال: )لا بل الدم الدم، والهدم الهدم، واللدم اللدم) أي حرمتي مع حرمتكم أطلب الدم بطلبكم، وأعفو بعفوكم، فأجرى الكلام صلى الله عليه وسلم على ما كان يجرونه حينئذٍ عند التحالف وقال الشاعر: ثم الحقي بهدمي ولَدمي: أي أصلي وموضعي. والهدم متحركاً المهدوم. وقال أوس يصف عيراً:
إذا استقبلَته الشمسُ صَد بوجهه ... كما صَد عن نارِ المهولِ حالفُ
وكان قوم اختلقوا عند نار فغشوها حتَى محشتهم النار، فسموا المحاش. لذلك قال التابغة يخاطب رئيسهم.
جَمع محاشَك يا يزيدُ فإنني ... جَمعتُ يربوعاً لكم وتميما
ونار أخرى: وهي التي كانوا يوقدونها خلفَ المسافر والزائر الذي لا يريدون رجوعه.
لذلك قال بشار:
صحوت وأوقدتَ للجهل ناراً ... ورد عليك الصبيُ ما استعارا
ونار أخرى توقد لجمع الناس للحرب، وتوقع جيش عظيم. قال عمرو بن كلثوم:
ونحن غداة أوقد في خزازى ... رفدنا فوق رفد الرافدينا
ونار أخرى: وهي نار الحرتين وهي نار خالد بن سنان، ولم يكن في بني إسماعيل نبي قبله، وهو الذي أطفأ الله تعالى به نار الحرّتين، وكان حرة ببلاد عبس، فإذا كان اللّيل فهي نار تسطع في السماء، وكانت طيّء ينفش بها إبلها من مسيرة ثلاث، وربّما ندرت منها العنق فتأتي على ما تقابله فتحرقه. وإذا كان النهار فهي دخان يفور فبعث الله تعالى خالد بن سنان عليه السلام، فأطفأها وله قصة مرويّة. وروي أن ابنته قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسط لها رداءه وقال: )هذه ابنة نبي ضيعه قومه) وأنشدوا شعراً:
كنار الحرّتين لها زفير ... تصم مسامَع الرّجل البصيرِ
ونار أخرى وهي التي أطفأها خالد بن الوليد لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، وكان السادن احتال حتى رماه بِشَررٍ يوهمه أنّه لتعرضه لها فقال: كفرانك لا سبحانك إني رأيتُ الله قد أهانك، فكشف الله تعالى ذلك الغطاء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما نيران السعالي والجن والغيلان فلها شأن آخر. والنار التي توقد للظباء وصيدها معلومة.
ومن النيران المذكورة نار أبي حباحب، ونار الحباحب أيضاً، وقيل أبو حباحب رجل كان لا ينتفع به في ماعون ولا في موقد نار، فجعل ناره مثلاً لكل نار تراها العين، ولا حقيقة لها عند التماسها ونسبت إليه. وقال القطامي:(1/273)
ألا إنّها نيرانُ قيسٍ إذا شَتَوا ... لطارق ليل مثل نارِ الحباحِبِ
ويشبه نار الحباحب نار البرق.
ونار اليراعة، واليراعة: طائر صغير يصير بالليل كأنها شهاب قذف أو مصباح يطير. وكانوا ربّما أوقدوا ناراً واحدة وربّما أوقدوا نيراناً عدة، وربّما أوقدوا نارين. فالواحدة توقد للقرى، ويستدل بها الضالُّ والمتحيّر في الظلمة في الليل البهيم. والمطعام يوقد اللّيل كلّه في الشتاء. ولذلك قال الشّاعر شعراً:
له نار تشبُّ بكلّ وادٍ ... إذا النيران أُلْبست القناعا
وما أن كان أكثرهم سواماً ... ولكن كان أرحبهم ذراعا
وقال مزرد:
وشبت له ناران نارٌ برهوةٍ ... ونار بني عبد المدان لدى الغَمر
فأمّا الإكثار من النيران في مجمعهم فكما يكثرون من الذبح فيه مخافة أن يجزرهم جازر، فيستدل بقلة الذبح والنيران على قلة العدد وضعف العمد، وهذا من مكائدهم. ومن أحسن ما قيل في نار الضيافة قول الأعشى:
لعمري لقد لاحث عيون كثيرة ... إلى ضوء نارِ في بقاعٍ يحرق
تشُب لمقرورين يصطليانها ... وباتَ على النار الندى والمحلق
رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ... بأسحم داجِ عوض لا نفرق
وقول الحطيئة أحسن منه وهو:
متى تأته تعشو إلى ضَوء نارِهِ ... تجِدُ خير نارٍ عندها خيرُ موقد
ونار أخرى وهي نار الميسم: ويقال: ما نارك؟ فيقول: علاطة أو خباطة، أو كذا لذلك قال بعض الحزاب:
تساكني الباعة أين دارُها ... إذ زعزعوها فسَمَت أبصارُها
فكلّ دارٍ لأناسٍ دارها ... وكل نار المسلمين نارُها
قد وفرنا قسط هذا الباب لفوائده، وقد أتى الجاحظ على ذكر نيران العرب والعجم ونيران الديانات، فبلغ الغاية، ولم يترك لمتتبع مقالة، وإنْ كان أخَل بذكر نارين، إحداهما نار الغدر، وهي التي أرادها زبير في قوله شعراً:
وتوقد ناركم شرراً ويرفع ... لكم في كل مجمعة أواء
والثانية: نار الوشاة: وهي التي أرادها أبو ذؤيب في قوله:
أبى القلب إلا أم عمروٍ فأصبَحَتْ ... تحرق ناري بالشكاةِ ونارها.
البابُ الحادي والستون
في ذكر الاستدلال بالبرق
والحمرة في الأفق، وغيرهما على الغيث
قال أبو عمرو تقول العرب في السّحابة: تنشأ إن تبهزت متنكبة ووميضها ضعيف يخفى مرةَ ويظهر أخرى، فقد أخلفت ومعنى تبهزت: تقطّعت والبهز حُفَر تكون في الأرض، ومعنى تنكبت: عدلت عن القصد، ومنه النكباء في الرياح.
وحُكي عن أبي عبيدة قال: قلت لأعرابي: ما أسحّ الغيث. قال: ما ألقحته الجنوب ومرته الصبا، ونتجه الشمال، وإذا كان السحاب أبيض يبرق بضوء فذاك دليل مائه، ويقولون: إذا رأيت السماء كأنه بطن أتان قمراء، فذلك الجود. قال الشاعر:
وأضحى يحط المعصمات حزيرة ... وأصبح رجّاف اليمامة أقمرا
الرجاف: ما رجف من السّحابة. وقال آخر: وهو المتنخل الهذلي يذكر مطراً شعراً:
تمدّ له حوالبُ مشعلاتٌ ... تجللهن أقْمر ذو انعطاطٍ
قالوا: وإذا كانت السّحابة تبرق كأنها حولاء ناقة، وهو ما يخرج مع الولد فذلك من علامات.
وإذا كانت السحابة نمرة فهي خليقة بالمطر لذلك قال قائلهم: أرينها نمرةً أركها مطرةً. والنمرة التي ترى سحابها صغاراً بِتَداني بعضها من بعض، ويكون كلون النّمر، وإذا كان السحاب بطيئاً في سيره، فذاك دليل على كّثرة مائه ولذلك قال الهذلي يصفه:
وأقبلَ مرّاً إلى بحدلِ ... سباق المقيدِ يمشي رسيفا
وقال عبيد:
دانٍ مسف فويقَ الأرض هَيْدَبُهُ ... يكادُ يدفعه مَن قام بالراحِ
جعل له هدباً يتدلّى لثقله ودنّوه من الأرض. شعر:
فمَن بنحوتِه كَمَن بعقوتِهِ ... والمُستِكن كمن يمشي بقِرواح
ومثله قول الآخر:
أسدف مُنَشق عراه فذو الأدماث ... ما كان كذي الموئل
الأسدف: الأسود وجعل عراه ينشقّ بالماء والدمث: السهل اللين، والموئل: المكان المرتفع الذي يئل النّاس إليه من السيل.(1/274)
وروي أن المعقر البارقي سأل ابنته عن السحابة رقد كف بصرُه، وإنما سمع صوت رعدة فقالت: أرى سحماً عفاقة، كأنها حولاء ناقة ذات هيدبٍ داني وسيرٍ وانٍ فقال: يا بنية وائلي بي إلى جنب قفلة، فإنها لا تنبت إلا بمنجاةٍ من السيل. القفل: ضرب من الشجر لا ينبت إلا مرتفعاً من السيل وإذا كان السحاب أصهب إلى البياض فذاك دليل على أنه لا ماء فيه وعلى الجدب. قال النابغة شعراً:
صهباءُ ظماء أبينَ البينِ عن عَرَضٍ ... يزجين كيماً قليلاً ماؤُه شِبَما
وقال أمية بن أبي الصلت يذكره شدة الزمان في الشتاء:
وشوذت شمسُهم إذا طلعتْ ... بالجلْبِ هفاً كأنه الكتمُ
شوذت: عليت وعممت، ويقال للعمامة المشوذ والجلب: سحاب لا ماء فيه، والهف: الرقيق. وذلك من علامات الجدب. وقد يعترض في الأفق حمرة بالغداة والعشي من غير سحاب في الشتاء فيستدل به على قلة الخير وشدة الزمان. وقال النابغة شعراً:
لا يبرمون إذا ما الأُفق جلله ... صر الشتاء منَ الإمحالِ كالآدمِ
يريد: لا يخلون في هذا الوقت، والبرم: الذي لا يدخل مع القوم في المسير. وقال الكميت:
إذا أمستِ الآفاقُ حُمراً جنوبُها ... لشيبان أو مِلحانَ فاليومَ أشهبُ
وقال الفرزدق:
يغضون بأطرافِ العِصي تلفهم ... من الشام حمرُ الضحى والأصائِلُ
يريد حمر الآفاق: أوّل النّهار وآخره، فهذه الحمرة التي بينتها ودللت عليها بشواهدها من الشعر وغيره هي التي تدل على الجدب.
وقد يستدلّ بالحمرة إذا اشتدَّت جداً في السحاب المخيّل وإنَّما تكون من شعاع الشَمس عند الطّلوع وعند الغروب على المطر. والفرق بينهما أن تلك تكون بغير سحاب أو تكون مع شيء رقيق منه، وحمرة الغيث تكون شديدةً عند الطلوع وعند الغروب في سحابٍ متكاثفٍ مخيل. والحمرة التي يشير إليها إنما هي من قرص الشمس لأنك تراه في المشرق والمغرب للغبار والبخار، والضباب المعترض بينك وبينها أحمر وأصفر للهواء الملابس لها، وقد توجد النار تختلف على قدر اختلاف النعظ الأزرق والأبيض والأسود.
وذلك كله يتغير في مرأى العين بالعرض الذي يعرض للعين، وعلى قدر جفوف الحطب ورطوبته، وعلى قدر أجناس العيدان والأدهان تجدها حمراء أو صفراء أو خضراء. ولذلك يوجد برقُ السحاب مختلفاً في الحمرة والبياض على قدر المقابلات والأعراض، وتجد السّحابة بيضاء، فإذا قابلت الشمس بعض المقابلة فإنْ كانت السحابة عْربيةً والشّمس منحطة، رأيتها صفراء ثم حمراء ثم سوداء تعرض العين لبعض ما يدخل عليه، وقال الفلتان الفهمي في النار:
ويوقُدها شقراء في رأس هضبةٍ
وقال مزرد:
فأبصر ناري وهي شقراءُ أوقدتْ ... بعلياء يشز للعيونِ النَواظِرِ
وقال الراعي وهو يريد أن يصف لون ذئب:
كدخانِ مرتجل بأعلى تلعةٍ ... غرثان حزم عرفجاء ميلولا
المرتجل: الذي أصاب رجلاً من جراد وهو يشويها وجعله غرثان لأنه لِغرثه لا يميز الرطب من اليابس، فهو يشويها بما حضره، وأدلة هذا الكلام كله ليكون لون الدخان ولون الذئب الأطحل متفقين، فأما شيم البروق فكانوا يقولون: إذا بلغت سبعون برقةً انتقلوا ولم يبعثوا رائداً لثقتهم بالمطر، وإذا كان البرق عندهم وليفاً وثقوا بالمطر. والوليف: الذي يلمع لمعتين. قال الهذلي شعراً:
لشمّاء بحد أشتاب النوى ... وقد بثُ أجنبت برقاً وليفا
وإذا تتابع لمعانه كان مخيلاً للمطر. ويقال: ارتعج البرق إذا كثر وتتابع. وقال الراجز شعراً:
سحّاً أهاضيب وبرقاً مرعجاً ... يجاوبُ الرعد إذا تبّوجا
وإذا تتابع بلمعتين لمعتين شَبّه بلمع اليدين. قال امرؤ القيس شعراً:
أصاح ترى برقاً أريك وميضَه ... كلمع اليديْن في حَبي مكلل
الحبي: السّحاب المشرف، مكلل بعضه على بعض.
ويقال: مكلل بالبرق وإذا كان خفواً كان دليلاً على الغيث. وقال حميد بن ثور شعراً:
خفا كاقتذاء الطّير وَهْناً كأنه ... سراج إذا ما يكشفُ الليل أظلما(1/275)
واقتذاء الطّير: تغميضها أعينها وفتحها إياها، كأنها تلقي القذى منها، وكلّهم يجعل البرق يمانياً ولا يجعله أحدٌ شامياً، لأنَ الشامي أكثره خلب عندهم، وهذا يدل على أن المطر للجنوب لأنها يمانية. وقال آخر شعراً:
ألا حبَّذا البرقُ وحبّذا ... جنوبٌ أتانا بالعشيِّ نسيمُها
ويقال: أوسم البرق إذا بدا وألاح إذا أضاء ما حوله. وأنشد لأبي ذؤيب شعراً:
رأيتُ وأهلي بوادي الرجيع ... مِنْ آل قيلةَ برقاً مليحا
ويقال: أوْسمت المرأة، إذا بدا ثديها ينوء. قال أبو عبد الله وقال العقيلي: إذا رأيت السّماء قد أصحامت فكأنها بطن أتان قمراء. ورأيت السحاب متدلياً كأنه الفحم الثنت مستمسك منه ومنهرت، فحينئذٍ الغياث. وقال أبو صالح الفزاري: كنا نقول: إذا رأيت البرق في أعلى السحابة أو في جوانبها فهي بإذن الله ماطرة غير مخلفة، وإذا رأيت البرق في أسافلها فقد أخلفَت.
البابُ الثّاني والستون
في الكواكب الخُنس وفي هلال شهر رمضان
قال الله تعالى: )فلا أقسِمُ بالخُنس الجوارِ الكُنسِ) سورة التكوير، الآية: 15 16، قد تقدم القول في أنها خمسة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد. وأنّها سيارة كالشمس والقمر. وقد يسمى بعضها بغير هذه الأسماء المريخ بهرام. ويسمى مشتري البُرجيس ويسمى الزهرة أناهيد ويسمى زحل كيوان ويسمى القمر ماه تسمى الشمس مهر ويسمى عطارد نير وقال رؤبة:
أسقيه نضاح الصبا بجيسا ... كافح بعد النثرة البرجيسا
البجيس: المتفخر، وفي القرآن: )فانبَجَسَتْ منه اثْنَتا عَشْرَة عيناً) سورة الأعراف، الآية 160،.
ويقال: هذه أرض تنبجس عيوناً، وكافح: واجه. والنثرة: من ذوات الأنواء، والبرجيس: هو المشتري، ولا حَط له في المطر عندهم، وظن رؤبة أنه من ذوات الأنواء، وهذا كما أن الكميت قال وهو يصف ثوراً بشدةِ العدوِ شعراً:
ثم استمر وللأشباه تَذكِرة ... كأنه الكواكبُ المريخُ أو زحل
أراد أن يشتهه بكوكبٍ منقض، فظن أن المريخ وزحل ينقضان، وقيل في عذر رؤية: أنه كان سمع البرجيس وإنه اسم كوكب، وخفي عليه أنه اسم المشتري في لسان غيرهم. وقيل في عذر الكميت: إن انقضاض الكوكب إسلامي رجم به مسترقة السمع، ولم يعرف قبل الإسلام فلذلك خفي عليه أن المريخ وزحل ليسا من الرجوم. وإنما سميت هذه الكواكب خُنساً لأنها تسير في الفلك ثم ترجع، بينا أحدها في آخر البروج كَر راجعاً إلى أوله، ولذلك لا ترى الزهرة في وسط السماء أبداً، وإنما تراها بين يدي الشمس أو خلفها. وذلك أنها أسرع من الشمس، فتستقيم في سيرها حتى تجاوز الشمس فتصير من ورائها، فإذا تباعدت عنها ظهرت بالعشاء في المغرب، فترى كذلك حيناً ثم تكر راجعةً نحو الشمس حتى تجاورها، فتصير بين يديها فتظهر حينئذٍ في المشرق بالغداة، هكذا هي أبداً، فمتى ظهرت في المغرب فهي مستقيمة ومتى ظهرت في المشرقٍ فهي راجعة، وكل شيء استمر ثم انقبض فقد خنس، ومنه سُمي الشيطان خناساً لأنه يوسوس في القلب، فإذا ذكر الله خنس، وسُميت كُنساً بالاستسرار كما تكنس الظباء. وصفات الخنس الزهرة أعظمها في المنظر، وأشدها بياضاً ثم المشتري في مثل هيئتها. وفي زحل كمودة. وفي المريخ حمرة وفي عطارد صفرة. وقد تقدّم القول في استسرار القمر، وأنه يقطع المنازل في استسراره كمما يقطع في ظهوره. وأنهم يسمّون آخر ليلة في الشهر البراء لتبرؤ القمر من الشهر فيه. وأما قول الشاعر شعراً:
يا عينُ بكي عامراً وعبسا ... يوماً إذا كان البراءُ بخسا
فالمراد إذا لم يكن فيه مطر، لأن المطر يُستحب في سرار القمر.
فأما هلال شهر رمضان فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إذا غَم عليكم فاكملوا العدة) وهذه رواية ابن عباس رضي الله عنهما.
وفي حديث آخر: )إذا غَم عليكم فاقدروا له) رواية ابن عمر رضي الله عنهما. ومعنى أقدروا له: قَدروا له المسير والمنازل.(1/276)
يقال: قدرت الشيء وقدرته بمعنى، والتقدير له يكون إذا غَم على الناس ليلة ثلاثين في آخر شعبان لليلة ويعلم أنّه يمكث ستة أسباع ساعة من أولها ثم يغيب وذلك في أدنى مفارقته للشمس، ولا يزال يزيد في كل ليلةٍ على مكثه في الليلة قبلها ستة أسباع ساعة، فإذا كان في الليلة السابعة غاب في نصف الليل، وإذا كان في ليلة أربع عشرة طلع مع غروب الشّمس، وغرب مع طلوعها ثم يتأخر طلوعه عن أول ليلة خمس عشرة ستة أسباع، ولا يزال يتأخر طلوعه ليلة ثمان وعشرين مع الغداة فإن لم ير صُبْحَ ثمان وعشرين، عُلم أن الشهر ناقص وعدته تسعةٌ وعشرون يوماً.
وإن رؤي عُلم أن الشَهر تام وعدته ثلاثون، وقد يُجوف أيضاً بمكث الهلال في ليالي النّصف الأول من الشهر ومغيبه، وأوقات طلوعه ليالي النصف الآخر من الشهر، وتأخره عن أول الليل، ويتعرف مش المنازل بأن الهلال إذا طلع في أول ليلة من شعبان في الشرطين، وكان شعبان تاماً طلع في أول ليلة عن شهر رمضان في الثريا، وإنْ كان شعبان ناقضاً طلعُ في البطين، وهذا أمر يضيق ويصعب على الناسَ ويكثر فيه التنازع والاختلاف، فنسخه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: )إذا غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) ولا يمكن أن يُرى الهلال بالغداة في المشرق بين يدي الشمس بالعشي في المغرب خلف الشمس في يوم واحدٍ ، ولكن يمكن ذلك في يومين فهو حين يستسر ليلةً واحدة وإذا كان في ثلاثة فهو حين يستسر وأما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: )صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) فإن اللام فيه بمعنى بعد ومثله قوله تعالى: )فَطلقوهُن لِعدَّتِهن) سورة الطلاق، الآية: 1، واللام لإضافة عدة مواضع. وقد ذكرتها أو أكثرها في غير هذا الموضع، وقال بعض أهل النظر: المراد صوموا لما أقبل من رُؤيته.
وكذلك طلقوهن لما أقبل من عدتهن. قال وقِتل كلٌ شيء وجهه وأوله، كما أن دبره آخره، وكلما يؤقت فله أول وآخر، فما عام زائداً فهو مقبل، فإذا أخذ في النقصان فهو مدبر مثل النهار فهو مقبل من الفجر إلى الاستواء لأنه في الزيادة ثم مدبر، لأنه في النقصان إلى الليل، ولا يقال: هو مقبل وقد أقبل إلا عند دخول وقته. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: )إذا أقبلَ الليل وأدبر النهار فقد أفطر الصائم). ولا يجوز أن يقال: أقبل الليل إلا بعد مغيب الشمس، لأن الصائم لا يعود مفطراً إلا به لقوله: فقد أفطر الصائم. أي انقضى صومه لذهاب وقته ودخول وقت آخر لا يكون الصوم فيه ويؤيد هذا الذي ذكرناه قول الراجز شعراً:
وقلة الطعم إذا الزاد حَضَر ... وتركي الحسناء في قَبل الطهر
لأن المراد أول طهرها لا ما قبله من الحيض، فمراد الشاعر فيه مثل مراد الأخطل حين قال شعراً:
قوم إذا حاربوا شَدوا مآزرهم ... دونَ النساء ولو باتت بإطهارِ
وقد بتين غيره بأتم من هذا الذي قال:
أفبعدَ مقتلِ مالكِ بن زهير ... ترجو النساء عواقبَ الأطهار
وهذا ظاهر ولو جاز أن يكون إقبال شيء في إدبار غيره الذي هو ضده لكان الصائم مفطراً قبل مغيب الشمس، إذ الليل عنده يقبل في إدبار النهار، وقبل انقضائه كله وهذا لا يقوله أحد. وإذا كان الأمر على هذا فأذِنَ الله تعالى في الطلاق بقوله: )فَطَلقوهُن لِعدتِهِن) سورة الطلاق، الآية: 1، لا يكون واقعاً إلا بعد دخول وقت العدة التي أذن الله في الطلاق له، والطهر وبعد انقضاء إدبار الوقت الذي منع من الطلاق فيه وانتهائه وهو الحيض، فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: )صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) يعني الهلال والصوم لا يكون إلا بعده بساعات ووقت مديد، ومن مواضع اللام قوله تعالى: )أقم الصلوة لِذِكري) سورة طه، الآية: 14، لأن المعنى أدِم الصلوة لتسبحني وتمجدني، وذلك هو الذكر إذ كان علةً له وسبباً، وهذا يخالف: )أقم الصلوة لِدلوكَ الشمس) سورة الإسراء، الآية: 78، لأن دلوكَ الشمس بيان وقت، ومثله قوله تعالى: )هُوَ الذي أخْرجَ الذين كَفروا مِنْ أهل الكتابِ مِن ديارِهِمْ لأولِ الحَشْرِ) سورة الحشر، الآية: 2، في أنه بيانُ وقتٍ ، ألا ترى أن الحشر لم يكن علةً لإخراجهم، بل كان علة إخراجهم كفرهم وإباؤهم الإسلام.
البابُ الثالثُ والستون
في ذكر مشاهير الكواكب التي تُسمى الثابتة(1/277)
وهذه التّسمية على الأغلب من أمرها إذ كانت حركة مسيرها خافية غير محسوسة.
قال أبو حنيفة: اعلم أن سير هذه الكواكب على خفائه مستمر على تأليف البروج الاثني عشر لا يعرض لشيء منها رجوع، فقد مَيز قدماء العلماء كواكب السماء على وجه الدهر وصنفوها فجعلوها منزلةً في منازل سبعةٍ من الأقدار فجعلوا كبارها في القمر الأول، وهي التي يسميها العرب الدراري، والواحد دري منسوب إلى الدر في الصفاء والحسن، وفي التنزيل: )كأنها كوكب دري) سورة النور، الآية: 35، وقال الراجز:
أنّى على أوني وانجراري ... أؤم بالمنزلِ والدراري
الأون: الثقل، والانجرار: أن يترك الإبل في مسيرها وعليها الأحمال ترى. يقال: جر الإبل يجرها جراً ويعني بالمنزل والقراري منازل القمر ودراري الكواكب وهي مشبوباتها ذوات السطوع والتوقد. قال الشماخ:
وَعنْسٍ كألوان الأران لضاتها ... إذا قيل للمشبوبتين هماهما
لضاتها ونساتها بمعنى أي زجرتها وهيجتها. وقيل: أراد بالمشبوبتين الشعريين. وقيل الزهرة والشعرى العبور وهما أنور نجوم السماء. فالذي أحصى العلماء من دراري النجوم سوى الخمسة المتحيرة خمسة عشر كوكباً، وهي في القمر الأول من العظم وير الشعريان وسهيل والمحنث العيوق والسماكان واليمان وقلب الأسد والنسر الواقع والصرفة ومنكب الجوزاء ورجلها وأضوأ كواكب الفرعين.
والذي أحصوا مما هو دون هذه وهي في القدر الثاني من العظم خمسة وأربعون كوكباً: كالفرقدين وبنات نعش الكبرى وقلب العقرب والردف والنسر الطائر، ورأس الغول والعناق وقلب الحوت وأشباهها مما ترك ذكر سائرها للأقدار الباقية لأن مواضعها غير كتابنا هذا. وقد ميَّز أصحاب الأحكام من المنجمين من هذه الكواكب السنين ثلاثين كوكباً وجعلوا لكل كوكب منها خراجاً من طبائع الكواكب الخمسة المتحيّرة ووضعوها أساساً للأقضية التي يحلفونها والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
فإن قيل: كيف تميز للعلماء مواضع هذه الكواكب ومقاديرها في سيرها على خفائها وعجز الحس عن إدراكها؟ قلت: أدركوا ذلك في الأزمنة المتعاقبة والدهور المترادفة، فكان أحدهم يقف في عمره مع تفقده البليغ لها على بعض أحوالها، ثم يرسم ما يقف عليه لمن يخلف بعده، وقد شاركه فيما مضى ثم قاس الأخلاف بعدهم قرناً بعد قرن، فوجدوها وقد تقدمت عن تلك الأماكن الأول، وكذلك فعل الأخلاف للأخلاف، وقد ضبطوا تواريخ تلك الأزمنة معتبرين فوجدها تتحرك بأسرها معاً حركةً واحدةً، فتقطع في كل مائة عام درجةً واحدةً، حينئذ حكموا بما قالوا، فهذه حال هذه الكواكب المسماة ثوابت، إلا كوكباً واحداً، فإنه سيار خلاف سيرها، وخلاف سير السّيارات كلها وهو الكوكب الذي سماه المنجمون ذا الضفيرة وذا الذؤابة وهو الذي تسميه العامة كوكب الذنب، وإنّما يظهر في الزمان بعد الزّمان ولأصحاب الملاحم فيه روايات. فعلى هذا عرف العلماء مواضع هذه الكواكب من الفلك وحكموا بما حكموا في كتبهم من شأنها.
ولما أرادوا تميز كواكب السماء قسمّوا الفلك قسمين، فسموا أحد القسمين جنوبياً، والنصف الآخر شمالياً، ولذلك سموا ما وقع من البروج والكواكب فيهما، وسمت العرب تلك الشمالية شامية والجنوبية يمانية، ولا فرق بين المقصودين، ولذلك جعلوا ما بين رأس الحملَ إلى رأس الميزان من البروج شامية، وما بين رأس الميزان إلى رأس الحمل من البروج يمانية.
وكذلك جعلوا ما بين لمشرطين من المنازل إلى السّماك شاميةً، وجعلوا ما بين الغفر إلى الرشاء يمانية، وجميع ذلك قد تقدم القول فيه، فأقرب مشاهير الكواكب إلى القطب بنات النعش الصغرى وهي شامية سبعة كواكب في نظم بنات نعش الكبرى، أربعة منها نعش وثلاث بنات، والمنجمون يسمونها ذنب الذب الأصغر. فمن الأربعة الفرقدان وهما المتقدمان المضيئان، والآخران وراءهما خفيّان. ومن البنات وهي ثلاث أولها: الكوكب الذي يسمى الجدي وهو الكوكب الذي يتوخى الناس بها القبلة، لأنه لا يزول وتسميه العرب جدي بنات نعش، يكب على اليدين فيستدير. وقال الأخطل وذكر بني سليم شعراً:
ولا يلاقون فرَاضاً إلى نسبٍ ... حتى يلاقي جدي الفرقد القمر
نسب الجدي إلى الفرقد كما نسبه الآخر فقال يذكر المطايا:(1/278)
تياسرنَ عن جدي الفراقد في السرى ... ويامَنَ شيئاً عن يمين المغاور
وهذا الجمي ليس من البروج ولا منازل القمر فهو لا يلقى القمر أبداً وكذلك بنات نعش، لذلك قال بعضهم وهو يهجو:
أولئك معشر كبناتِ نعشٍ ... خوالف لا تسير مع النجوم
خوالف: أي متخلفة عن النجوم، والخالفة ما لا خير فيه فيقول: لا نفع عندهم ولا فائدة من جهتهم. ويروى: ضواجع ومعناه: رواكد لا غناء عندهم، كما أن بنات نعش لا نواء لها ولا نسب شيء إليها. وقال بشر بن أبي حازم في دورانها حول القطب:
أراقب في السماء بنات نعشٍ ... وقد دارَت كما عطفَ الظوار
يريد أنه سهر ليلته كلها إلى أنه دارت بنات نعش وهي تنقلب في آخر الليل وخص بنات نعش لأنها لا تغيب لذلك لا يجعلون الاهتداء بها وبالفرقدين وقال الراعي شعراً:
لا يتخذَن إذا علونا مفازةً ... إلا بياض الفرقدين دليلا
قال أبو حنيفة: فالكواكب الثلاثة التي هي البنات وكوكبان من النعش فيهما أحد الفرقدين، هؤلاء الخمسة في شطر فيهما واحد كقوس، وقد قابله شطر آخر مثله فيه كواكب خفية متناسقة، أخذت من الجلي إلى الفرقدين حتى صار هذان الشطران متشابهان بخلقة السمكة، والناس يسمونها بالفأس تشبهاً بفأس الرحى التي للقطب في وسطها، يظنون أن قطب الفلك في وسط هذه الصورة. قال: وليس كذلك بل القطب بقرب الكواكب الذي يلي الجدي من هذا الشطر الخفي الكواكب فوجدت هذه الكواكب أقرب كواكب السماء كلها من هذا القطب، لم أجد بينه وبين القطب إلا أقل من درجةٍ واحدةٍ . وليس القطب بكوكب بل هو نقطة من الفلك.
ومن الشامية بنات نعش الكبرى، وهي أيضاً سبعة كوكب على عدد الصغرى وفي شبيه تنظمها ثلاث بنات وأربعة نعش، والعرب تسمي الأول من البنات، وهو الذي في الطرف القائد: وتسمي الأوسط العِناق: وتسمي الثالث الذي يلي النعش، الجون: وإلى جانب الكواكب الأوسط منها كويكب صغير جداً يكاد يلزق به ويسمى السهى وبه جرى المثل في قولهم: أريه السهى ويريني القمر، ويقال له: الصّيدق ويعيش والناس يمتحنون به أبصارهم فمن ضعف بصره لم يره.
ويروى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يفعلون ذلك، وتقول العرب لبنات نعش بنو نعش وآل نعش. قال:
تمزَزتُها والدّيكُ يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعشٍ دنوا فتَصوبوا
وإنما قال: دنوا فتصوبوا لأنّه لما أخبر عنها كما يخبر عن العاقلين جعل ضميرها ضمير العاقلين. وقال الشاعر:
فنيتُ وأفناني الزمان وأصبحتُ ... لداي بنو نعشٍ وزهرِ الفراقدِ
وقال آخر:
وَهَلْ حَدثْتُ عن أخوين داما ... على الأيام إلا ابني شمامِ
وإلاّ الفرقديْن وآل نعشٍ ... خوالدَ ما تحدث بانهدامِ
وقال آخر يذم قوماً:
وأنتم كواكبُ مسحولة ... تُرى في السماء ولا تُعْلم
فهذا في طريقة قوله:
أولئك معشر كبناتِ نعشٍ
والمسحولة: المرذولة. وبالقرب من الفرقدين كوكبان مقترنان بينهما في رأي العين بعد القامة، إذا اعترض الفرقدان انتصبا، وإذا انتصب الفرقدان اعترضا، يسميها العرب: الحرين ويسميان أيضاً: الذّنبين، ويسميان أيضاً: العوهقيْن. وقال الراجز:
بحيث بارى العوهقيْن الفرقدا ... عند مَسد القطب حيثُ اسْتوسقا
وقال أبو زيد الكلابي: الحران كوكبان أبيضان بين العوائذ، والفرقدين بينهما قدر ثلاثة أذرع في رأي العين، ويسمّيان الذنبين، وقدامهما كواكب صغار تسمى: أظفار الذئب، وهناك كوكبان أوسع من كوكبي الحرين يقال لهما: كوكبا الفرق وعند الأعلى منهما كواكب صغار خفية مستديرة تسمى: القدر والقرحة كوكب أسفل من كوكبي الفرق كموضع قرحة الدابة من الأذنين. وزعموا أن القرحة إذا طلعتْ استقبلت قبلة الكوفة وفيما هنالك الهلبة: وهي كواكب ملتفة يظن من لم يتثبت من تأملها أنها الثريا، والعامة تسميّها السنبلة ومعنى الهلبة الخصلة من الشعر. والعرب تسمي هلبة الأسد، وهي فيما بين البنات من بنات نعش الكبرى.
وأما الصرفة فهي الكوكب النير المنفرد الذي على أثر الزبرة، والعرب تقول: ضرب الأسد بذنبه فنغزت الظبأ، ونغزات الظبأ ثلاث: كل نغزة منها كوكبان متقاربان كأثر ظلفي الظّبي.(1/279)
ويقال لها أيضاً: النوافز والفقرات ويسمّى أيضاً القراين وأشعيلبات، والظبا كواكب خفية مستطيلة مثل الحبل الممدود من عند الهلبة إلى العيوق، وأولاد الظبأ كواكب صغار فيما بين الظبأ والفقرات. وفيما هنالك الحوض وليس بمتصل الاستمارة والعوائذ وهي كواكب أربعة مربعة غير متباعدة في وسطها كوكب كأنه لطخة غيم يسمى الربع شبههن بأنيق أربع، عطفن على ربع وهي من الشامية عن يسار النسر الواقع فيما بينه وبين بنات نعش.
ومن الشامية الفكة: وهي كواكب مستديرة فيها مرجة، والعامّة تسميها قصعة المساكين من أجل الثلمة التي فيها. ومن كواكبها كوكب هو أنْورها يقال له: منير الفكة والأوائل من المنجمين سمّوا الفكة الإكليل الشمالي وإذا توسطت الفكة السماء أو قاربت فنظرت إليها رأيت السماك الرامح بين يديها، ورأيت رأية السّماك خلفه بينه وبين الفكة وهو كوكب منتبذ عنه، يعارضه كوكب بالقرب منه كأنه عذبة في رمح. ولذلك قيل له: الرامح وذو السلاح وقيل للسماك الآخر الأعزل.
والنسقان: شطران ابتدأ أحدهما إلى قرب النسر الواقع، وهو النّسق الشامي، والآخر إلى جهة النعام الوارد حتى شرع في المجرة وهو النسق اليماني.
ويقال لما بين النسقين الروضة، وفي داخل الروضة كوكب أبيض منفرد يقال له الراعي. وبالقرب منه كواكب صغار، ويقولون هي غنمة يرعاها في الروضة، وفي أضعاف تلك الكواكب كوكب وباض صغير، يقولون: هو كلبة ويقال للنسق النسيق أيضاً.
ومن الشامية النسر الواقع، وإليه ينتهي النّسق الشامي وهو كوكب أزهر خلفه كوكبان منه كأنهما وإياه أثافي قِدْر؟ وكذلك تسميها العامة، وإنما قيل له: الواقع لأن الكوكبين اللذين معه بمنزلة جناحيْه قد ضمهما إليه، ولأنَ هناك نسراً آخر يقال له: الطائر، وسمى القدماء من المنجمين النسر الواقع الاوزة.
وبإزاء النسر الواقع مما يلي الجنوب النّسر الطائر ثلاثة كواكب مصطفة والأوسط منها هو أنورها، وهو النسر والآخران جناحاه، وقد بسطهما ولذلك قيل له الطائر، والعامة تسميه الميزان، لاستواء كواكبه في اصطفافه واعتدال الأوسط منها بين الآخرين.
ووراء النسر الواقع كواكب أربعة على اختلاف قد قطعت المجرة عرضاً ويسميه العرب الفوارس، تشبيهاً بفوارس أربعة يتسايرون.
ووراءها بالقرب كوكب أزهر منفرد في وسط المجرة تسميه العرب الردف كأنه ردف الفوارس يتبعها، والمنجمون يسمّون هذا الكوكب: ذنب الدجاجة، وقد وضعوه في الأصطرلاب للقياس به، ويسقط الفوارس والردف مع طلوع النثرة وتطلع مع طلوع الشولة. وكذلك النسران وهما من الكواكب الشامية، وعلى أثر النسر الطائر كواكب أربعة مصلبة النظم تسميها العامة الصليب، وتسميها العرب القعود ويسقط الصليب مع طلوع سهيل، وتطلع مع سقوط الشعرى.
ووراء الردف في حومة المجرة كف الثريا الخضيب، وهي كوكب خمسة بيض مختلفة النظام وهي أيضاً سنام الناقة، والناقة في مثل خلقة النجيب الضامر الدقيق الخطم، وخطمها في جهة الجنوب، وعنقها كراكب تتابَعَت من عند الرأس، فانحدرَت انحدار العنق، ثم ارتفعت إلى سنامها، وهنالك لطخة سحابية في مثل موضع الفخذ، يقولون: هي وسم الناقة، وهذه اللطخة هي معصم الثريا ورأس الحوت في لبة الناقة، وهو في مثل صورة السمكة غير أنها عظيمة.
وفي جملتها كوكب هو أضْوَؤها يقال له: قلب الحوت. وفوق رأس الناقة حوت آخر، ورأس الناقة ذنبه وهو أقصر من الحوت الأسفل وأعرض.
ووراء الكف الخضيب العيوق، وهو كوكب عظيم نير في حاشية المجرة التي تلي الشمال يقال له: عيّوق الثريا، وذلك كأنهما يطلعان معاً، وإذا توسطا السماء تدانيا في رأي العين. قال الشاعر شعراً:
كأن صديا والملامة ما سقَى ... لكالنجم والعيوقُ ما طلعا معا
يقول: لا يتخلف النوم عن صدى كما لا يتخلف واحد من الثريا والعيوق عن صاحبه، وفي إضافة العيوق إلى الثريا قال الشاعر:
وعاذلةٍ هبت بليل تلومُني ... وقد غاب عتوقُ الثريا فغردا
ولتدانيهما إذا توسطا السماء قال بشر:
وعاندتِ الثّريا بعدَ هَذءً ... معاندةً لها العيوقُ جارُ(1/280)
ظن أن الثريا تركت طريقها وعاندت إلى العيوق وذلك من أجل البعد الذي بينهما في المطلع والقرب الذي بينهما في وسط السماء، وهو فيعول من العوق والعيق جميعاً والعوق الذي لا حَر فيه.
ويقال: العيق وهو من قولهم ما يعيق به حَر ولا يليق. ووراء العيوق غير بعيد كواكب ثلاثة: زهر مصطفّة متقوسةٌ قد قطعتِ المجرة عرضاً ويسمى: توابع العيوق. ويقال لها: الأعلام أيضاً. ويقال للذي تحته: رجل العيوق.
ومن أمثالهم فيما يبعد من الطمع: هو أبعد من العيوق، كما يقولون: هو أبعد من الثريا. وهناك سطر من كواكب امتدت في الشمال على انعطاف تسمى: الكف الجذماء لِقصرها، ويقولون للثّريا: الرأس فيما بين اليدين وفي اليمنى كواكب هي أنورها فيها العاتق وهو أقربها إلى الثريا، ثم المنكب بعده، ثم المرفق كُويكبُ صغير يقال له: إبرة المرفق، وهنالك أيضاً المابض.
أما إبرة المرفق من الإنسان فهو طرف عظم الساعد وهو الذي يذرع بذراع والطرف الآخر الذي يثنى إذا قبضت ذراعك إليك يقال له: القبيح. حيث تلاقي الإبرة القبيحا.
ويقال لما بين المرفق والمعصم الساعد ويُصغر فيقال: السويعد. ويقال ما بعد المعصم وهي الكف، الخضيب كف الثّريا. وهناك كوكب نير قدر كوكبي المِرفق والعضد فهو معهما في صورة مثلثة واسعة كلّ كوكب في زاوية من زواياها والمنجمون يسمون هذا الكوكب: رأس الغول. وقريب منه كوكب نير فيما بين قلب الحوت ومرفق الثريا يسمّى: عناق الثريا وهي غير العناق الذي في بنات نعش.
روى ابن الأعرابي عن العرب: قال عند بنات نعش كوكب يقال له: رأس الحية ورأس الحية مثل رأس الخلخال، والتنين فيما وصفه المنجمون هناك عند رأسه.
ويوجد من بنات نعش كوكب أحمر يُقال له: القبح. وهو ذكر الضباع. وهناك كواكب صغار فيما بين القرحة والجدي. والراعي كوكب من كواكب الشاء. وكلب الراعي: كوكب صغير قريب منه. وأسفل من بنات نعش كواكب كثيرة مختلطة يقال لها الضباع.
ويوجد كواكب صغار عن يمين الضباع بينها وبين بنات نعش. والخباء كواكب في مثل هيئة الخباء أسفل من أولاد الضباع. وخلف العاتق كوكبان بينه وبين العنق يسميان: المرجف والبرجس. وقال عن يمين الكف الجذماء البقر أسفل من الكف الجذماء متصلة بالثريا فهذه مشاهير الكواكب الشامية.
ونذكر الآن الكواكب اليمانية فمنها: منكبا الجوزاء وهما أيضاً يداها. والأيمن منهما كوكب أحمر، وقد وضع في الاصطرلاب، والعرب تسميه مرزم الجوزاء، والهقعة بين المنكبين وهي عند العرب رأس الجوزاء لأن الجوزاء في المنظر شبيهة بصورة الإنسان. وربما سمّوا المنكب الأيسر الناجذ.
وأما الكواكب البيض المستعرضة في وسط الجوزاء الوباضة فإن العرب تسميها النظم وتسميها أيضاً: نطاق الجوزاء وفقار الجوزاء. ويسمون الكواكب الثلاثة المنحدرة من عند هذه الأولى الجواري وكأنها في موضع الرجل من ظاهر الصورة.
وهناك كوكب أبيض وباض في مثل القدم يقال له: رجل الجوزاء اليُسرى وقد وضعه المنجمون للقياس، ورجلها اليمنى كوكب أبيض أصغر من الأول وقال الشاعر:
فلما رأى الجوزاء أول صابحٍ
وضَرتها الكواكب التي معها. وقال الآخر فيهما جميعاً. وفتية غيدٍ من التسهيد. الأبيات. وقد مضت في الباب السادس والخمسين، ومَن نظر إليها وهي على الأفق بان له حسنها.
وتحت كل واحدة من رجل الجوزاء كواكب أربعة تسمى كرسي الجوزاء، وأحد الكرسييَن أبينُ من الآخر، ويسمى كرسي الجوزاء النهل.
وفوق رأس الجوزاء كواكب صغار كالعقد الموزج يسمى تاج الجوزاء ويسميها العرب أيضاً ذوائب الجوزاء. وأسفل من الجوزاء على يسارك إذا نظرتَ إليها الشعرى العبور، وهي الكوكب العظيم الوباض، وقد ذكرنا الأخرى في منازل القمر، وإن المجرة تمر بين الشعريين وأسفل من كرسي الجوزاء.
ومن الشعرى العبور ثلاثة كواكب بيض مختلفة التثليث تشبهها العرب عذرة الجوزاء وقد يجعلها قوم خمسة كواكب. وهناك كواكب إنْ ضُم بعضها إلى الثلاثة صارت خمسة، وقد تسميها العرب: العذارى وهي في حاشية المجرة الغربية.(1/281)
وإذا انحطتِ الجبهة عن كبد السماء فنظرت رأيتَ بينها وبين الشعرى الغميصا أربعةَ كواكب مربعةً فيها استطالة كهيئةِ وجهِ الفرس، تسمى رأس الحية، وقد امتدت من عنده كواكب متناسقة على تعريج، حتى قربتْ من عرش السماك الأعزل، وهذه الكواكب هي بدن الحية، وفيها كوكب هو أضوأ كواكبها يسميها المنجمون: عنق الحية، ومنهم من يسميه فقار الحية، لأنه بعيد من الأول، وقد وضع هذا الكوكب في الاصطرلاب، والعرب تسميه الفرد، وإياه عنى الشاعر بقوله:
وقَد مالتِ الجوزاءُ بالكوكَبِ الفَردِ
وسُمي فرداً لانفراده عن أشباهِه. والخيل كواكب كثيرة أكثر من العشرة نيرة، وفيها ستّة كواكب في ثلاثة أمكنة متفرقة في كل مكانٍ منها كوكبان. وفيما بين كواكب الخيل كواكب صغار تسمى أفلاء الخيل وهي كلها بين يدي الشولة فوق المجرة وأسفل مِن الخيل.
ومن شولة العقرب كواكب يقال لها: القبة، وإذا رأيتَ الزبانيين مرتفعتين عن أفق المشرق رأيت فيما بينهما وبين عرش السّماك أسفل منها كواكب مجتمعة نيرة مختلطة على غير نظم، تسمى الشماريخ، لأنها كأنها شماريخ كباسة.
وإذا توسطتِ الشّعرى العبور السماء ثم نظرتَ على سِمتها قريباً من الأفق رأيت سهيلاً قد توسط مجراهُ أو قريباً وذلك أرفع ما يكون في السماء وهو قليل العلو، قريب المجرى من الأفق، وهو عند المنجمين طرف سكان السفينة، وهو كوكب منير عظيم أحمر منفرد عن الكواكب، وأقرب مجراه من الأفق تراه أبداً يضطرب، ولما يعرض لسهيل من ذلك ولانفراده قال الشاعر:
أراقبُ لوحاً مِنْ سهيل كأنَه ... لذا ما بدا مِن آخر الليل يطرف
يعارِض عن مجرى النجوم وينتحي ... كما عارضَ الشول البعير المؤلف
ولو بيضِه وشعاعِه وانفراده. قال الآخر يصف ثوراً شعراً:
خَبأتُ عذوباً للسماء كأنه ... قريغ هِجان يتبع الشول جافر.
شبهه في انفراده بفحل انقطع عن الضراب فتنحى عنِ الإبل ولتوهُّجِهِ قال الآخر:
حتى إذا شال سهيل بسَحَر ... كعشوة القابس ترمي بالشرر
وطلوعه بالعراق لأربع ليالٍ بقين من آب وذلك مع طلوع الزبرة، ويطلع بالحجاز لأربع عشرة ليلةً تمضي من آب مع طلوع الجبهة. قال الشاعر شعراً:
إذا أهل الحجاز رأوا سهيلاً ... وذلك في الحسابِ بشهر آب
ويُسمى سهيل كوكبُ الخرقاء. قال الشاعر.:
إذا كوكبُ خرقاء لاحَ بسحرِة ... سهيل أذاعتْ غزلها في القرائب
يريد أن الخرقاء لعبت صنْعها، وضيعَتْ وقتها، ولم تغزل، فلما طلع سهيل وجاء الشتاء وضاق الوقت استغزلت قرابها، وفي نحوه قال الآخر شعراً:
علكِ أن تنسجي وَتَدأبي ... إذا سهيل فاقَ كل كوكب
فتعلّمي قرضك غير معجب
وإذا طلع مغربَ الشّمس استبدلت الإبل الأسنان قال:
إذا سهيل مغربَ الشمس طلع ... فابنُ اللبون الحق والحق جَذَع
وفي مجرى سهيل كوكبان يقال لهما: حضار والوزن وهما يطلعان قبل سهيل ومن كلامهم حضار والوزن محفان.
وذلك أنه إذا طلع أحدهما فرآه الرائي قال لصاحبه: طلع سهيل فيقول صاحبه: ليس بسهيل فيتماربان حتى يحلفا، فلا بد من حنثِ أحدهما، وإذا كان الشيء يعرض فيه الشك كثيراً قيل: إنه لمحلف ومحنث، ولذلك قيل كميت محلف قال:
كميت غير محلفة ولكنْ ... كلونِ الصرف غل به الأديمُ
وهنالك أيضاً الفرود وهي كواكب صغار عند حضار. قال الشاعر:
أرى نارَ ليلى بالعقيق كأنها ... حضار إذا ما أعرضَت وفرودها
وذكر ابن الأعرابي أن في مجرى قدَمي سهيل من خلفهما كواكب زهر ألا ترى بالعراق يسميها أهل تهامة الأعيار.
وبعد السّعود الأربعة المذكورة في منازل القمر، سعود ستة متناسقة في جهة الدلو كل سعد منها كوكبان، بينهما كنحو ما بين سعود المنازل، وهي أربعة، وهي كواكب خفية غير نيرة، فأولها سعد ناشرة، وهو أسفل من سعد الأخبية وهو يطالع الشرطين أي يطلع مع طلوعه. وعلى أثره سعد الملك ثم سعد لبهام، ويقال له: مِربق البهام، وأسفل منه كواكب صغار تسمى: الربق، والربق: حبل يمد بين وتدين يربق إليه البُهم، وعلى إثره سعد البارع ثم سعد مطر.(1/282)
وروى ابن الأعرابي عن العرب في الكواكب اليمانية أشياء، قال: سهيل اليمن وتحته سهيل بلقين وهو غير حضار وغير الوزن، وقال: فيما بين الفرد وبين زباني العقرب الخباء. قال أبو حنيفة: إن كان عنى بالخباء عرش السماك فذاك، وإلا فليس هناك خباء غيره، وقال: على أثر الخباء كواكب يقال لها: الشراسيف وهي كواكب مستطيلة مثل الحبل.
وقال: بين الشراسيف والخباء كواكب مستديرة متبددة على غير نظام يقال لها: المعلف. قال: وبعد المعلف: الشماريخ.
ووراء القبة الصردان، أحدهما يجري قريباً من الأفق والآخر فوقه بحياله. قال: وخلف الضرد الأعلى اليمامتان: وبينهما وبين الضردين في رَأي العين نحو من عشرين ذراعاً. قال: وهنالك: القطا، وهي كواكب متقاطرة كتقاطر القطاء وهي كواكب غير نيرة إلا كوكبان.
قال: وثم الظليمان فوق ذلك وهما كوكبان نيران بينهما في رأي العين إذا استويا في السماء قدر مائة ذراع وبينهما الرال.
وقال السفينة كواكب خفية متتابعة متقدمها عند سعود البهائم ومؤخرها السمكة.
وقال: في مقدمها الضفدع الأول في مؤخرها الضفدع الآخر.
فهذا ما أردنا ذكره من مشاهير الكواكب.
تم الباب وتمام هذا الباب تم الكتاب ولله الحمد بلا عدد. وعلى المصطفى وآله وأزواجه وذرياته وأصهاره وأصحابه وأنصاره أبد الأبد صلوات ورضوان وسلام وغفران.
فرغت منه ضحوة يوم الخميس ثالث عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، حامداً الله تعالى على نِعَمه وأياديه الظاهرة والباطنة، ومصفياً على أنبيائه ورسله ومُسلماً.
قال الشيخ أبو علي المرزوقي رحمه الله هذا الفصل خاتماً به كتابه حرس الله ما خولك من الشتات، وحفظ ما نولك من عارض الانبتات، وأعانك في طلب الأدب الازدياد. ووفقك في سائر متصرفاتك لصلاح البدء والمعاد.
قد سهل الله تعالى وله المن ما تمنيت بلوغه من الفراغ من كتاب الأزمنة فجاء على حد من الكمال، طاب له العيش وخص على النفس فيه التعب، وما أذاني إلى ذلك إلا لطيف هداية الله تعالى جده وكريم كفايته، فبهما اشتد أزري واستبد ما اختل من خاطري وذهني فأما ما كنتُ أشكوه من قبل حتى استطيلت مدة الانتظار في عمله، فلما ألزم حواملي وجوارحي من الضعف العارض والوهن الحادث، وقد أبدل الله تعالى على كريم عادته به استجمام الأمل في زواله واستحكام الطمع في انحسامه على تطول الله المعول في تحقيق المرجو وهو حسبُنا وحده ونعم الوكيل.
واعلم أن هذا الكتاب ينقسم أقساماً ثلاثةً وهذا الحكم يتناول جماهير أبوابه وفصوله لا يختص به بعض دون بعض.
أحدها: التنبيه على نِعم الله جل جلاله فيما نصب للمكلفين في آناء الليل والنهار من الأدلة الواضحة والحكَم البالغة، وأفادهم فيما سخره لهم وأعانهم به في جوانب البر والبحر من النِعم الظاهرة والباطنة قولاً وفعلاً وجملاً وتفصيلاً في بداهة العقل، وعلى ألسنة الرسل فإن صِلة إحدى النعمتين بالأخرى فيهما كصلة الإبصار بالضّوء والأنفاس بالجو وكما هدى إلى الاستدلال بالشاهد على الغائب وبالجَلي على الخفي، وكثر ما أشرت إليه يمر عليه المازون، وهم عنها معرضون.
والثاني: التذكير بحكم العرب في لغاتهم وآدابهم وعاداتهم ومآربهم مع تلاحق أقطارهم وتضايق أوطانهم ورضاهم بالعفو من مقاماتهم ومآبهم على اختلاف أسبابهم وطرقهم، واقتنان هممهم ووجههم هذا إلى ما خصوا به من الفضائل دون الأمم، وتَوَحدوا به من جلائل المِنحَ والنعم، وفوائد هذين القسمين في الاتساع كالشمس في ضيائها والريح في هبوبها يتكافأ في نيل الحظ منهما المحب والكاره، ويعترف بهما إذا أنصف المسلم والمعاند.
والثالث يحوي لمعاً مِنَ الأشعار وغرراً من النوادر والآثار اقتضى ذكرها مناسبتها للأزمان التي هي من همنا وفَرَضنا على أنفسنا الوقوف تحت ظلها، ولو تقصينا أبوابها لفني العمر وبقي منه الكثير فتطرفنا منها ما تطرفنا إيذاناً بأن الغفلة لم تحل دونها ولئلا تخلو تضاعف الأبواب من بعضها فليعذر الناظر فيه هذا الكتاب. إذا انتهى إلى المواضع التي أشرنا إليها متصوراً حالنا، وليحذر إلحاق الغائب بنا، ففي مستحسنه إن شاء الله ما يشغل عن مستهجنه، والشمس يطمس نورها ما أحاط من الكواكب بها وقد قيل: لكل حسناء ذام.(1/283)
واعلم أن مِنْ حقّ المصنف إذا جمع الأصول بحقائقها واستوفى الفروع بلواحقها أن يمنع الخاطر من تجاوز الأنس بالميسور، إلى وحشة المعسور، ويدفع الهاجس من الخروج عن مساعدة الألوف إلى مشامسة الثغور، حرصاً على بلوغ غاية شأره لا يلحقها، ودفعاً في وجه ممكنة جهده لا يحيط إلا بها، لأنَ التحفظ مع الإقلال أقرب وهو مع الإكثار أبعد ونصرة الرأي في مجاذبة الهوى حصن من الندامة وأمن من الملامة، ولأن البليغ وإنْ كان مؤيداً في خصله مسدداً في نقده، يصحب التثبت ويجتنب التجوز لا يعجزه ما غاب ولا يغلبه ما راب، فمن الواجب عليه أن يجتنب الاستبداد عند الاستعداد ويحاذر الملال قبل حصول الكلال، لأن من عاف مصادر الغرور لم يركن إلى موارد الحبور فتراه يصافح المذموم بيد الاحتقار مُتهاتِفاً فيطرحه، ويكافح المرذول بسيف القباحة متأنفاً فيتنزه عنه وترك الشر قبل الاختيار أفضل من ملابسة على الاغترار والأدب حبس العمول، والتأذب اكتساب القلوب والاستنباط جوالب الأفكار، والبحث عن المكامن بأداة البصائر والأبصار، ولكل منها أسباب مكرمة وأعلام مرفعة يسيره كاسب الجمال وكثيرة كاسي الجلال ولا غروَ فإن السجايا تدخلها المتاجرة والمرابحة، فمنها ما هو أمحض من الكرم وأنزه من الدنس وفي الثناء الباقي الدهر خلف من نفاد العمر.
تقريظِّ وجد آخر الأصل
بسم الله براعة الاستهلال، والتخلص بالصلاة على محمدٍ رسوله والآل. ثم براعة الختام عليه وعليه وعلى آله وصحبه السّلام، وبعد فمن قابل أبواب هذا الكتاب وسلك أرجاءه المطرزة بالآداب وجد حديقةً موشّحة ببديع الطريقة، مرضعةً بدراري البيان موشعة بلوامع التّبيان، مرشحةً بعقود اللآلئ، مدبجةً كالغزالي، منسجمة الألفاظ والمعاني موزونة الأركان والمباني، مطيبةً بأفواه البلاغة، مسورةً بلجين لا لجين الصناعة، فكأن بانيها قد خطها في ذهنه الوقاد قبل الشروع، ومهد أصولها لاستنباط الفروع ثم أسّسها بأساس التحقيق، ورفعها بلبن التدقيق، وزَينها بمصابيح الفصاحة، وأنارها بثوابت السّماحة حتى أتت جنةً عالية، قطوفها دانية، فيها أعين فوائد جارية، وحور خرائد لقلوب المدنفين فارية، وموائد للمعاني وللمعاني قارية، وغرائب لم تكن على الأفئدة طارئة وطرائق للسالكين واضحة كافية، ودبارق لقلوب العاشقين فنون البلاغة شافية، بيد أنها جامعة للغة الغريبة، والنكت العجيبة وخرائد الأذهان الحِصان، التي لم طمثهن أنس قبله ولا جان فبخ له من لوذعي نحرير، وألمعي تنقيح وتقرير، ما أرشق براعة استهلاله وتخلصه، وما أوفق حسن مقطعة وتربصه، إلى أن حافَظَ على براعة الختام، بأوقات الصلوة بخيم وجعلها تذكرةً مدة الأعوام والأيام، وها أنا أختمُ بالسلام على سيدنا محمد خيل الأنام وعلى آله الأعلام وخير صحبه الماسكين زمام الإسلام.(1/284)