ترجمة الإمام تقي الدين السبكي هو الإمام العلامة الحافظ الفقيه المجتهد النظار الورع الزاهد قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي الكبير رحمه الله
ولد بسبك بضم فسكون من قرى المنوفية بمصر سنة 683 هـ
تفقه على ابن الرفعة وأخذ التفسير عن العلم العراقي والحديث عن الشرف الدمياطي والقراءات عن التقي الصائغ والأصلين والمعقول عن العلاء الباجي والخلاف والمنطق عن السيف البغدادي والنحو عن أبي حيان
ورحل في طلب الحديث إلى الشام والإسكندرية والحجاز وسمع من شيوخها كابن الموازيني وابن مشرف وابن الصواف والرضي الطبري وآخرين يجمعهم معجمه الذي خرجه له الحافظ أبو الحسين بن أيبك في عشرين جزءا
قال الحافظ أبو المحاسن الحسيني في ذيل تذكرة الحفاظ عني بالحديث أتم عناية وكتب بخطه المليح الصحيح المتقن شيئا كثيرا من سائر علوم الإسلام وهو ممن طبق الممالك ذكره ولم يخف على أحد عرف أخبار الناس أمره وسارت بتصانيفه وفتاويه الركبان في أقطار البلدان وكان ممن جمع فنون العلم مع الزهد والورع والعبادة الكثيرة والتلاوة والشجاعة والشدة في دينه
ا هـ
وقال الجلال السيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ وغيره أقبل على التصنيف والفتيا وصنف أكثر من مائة وخمسين مصنفا وتصانيفه تدل على تبحره في الحديث وغيره وسعة باعه في العلوم وتخرج به فضلاء العصر وكان محققا مدققا نظارا جدليا بارعا في العلوم له في الفقه وغيره الاستنباطات الجليلة والدقائق اللطيفة والقواعد المحررة التي لم يسبق إليها وكان منصفا في البحث على قدم من الصلاح والعفاف ومصنفاته ما بين مطول ومختصر والمختصر منها لا بد وأن يشتمل على ما لا يوجد في غيره من تحقيق وتحرير لقاعدة واستنباط وتدقيق ا هـ
____________________
(1/3)
وقال الحافظ ابن حجر ولي قضاء دمشق سنة 739 بعد وفاة الجلال القزويني فباشر القضاء بهمة وصرامة وعفة وديانة وأضيفت إليه الخطابة بالجامع الأموي فباشرها مدة وولي التدريس بدار الحديث الأشرفية بعد وفاة المزي وما حفظ عنه في التركات ولا في الوظائف ما يعاب عليه وكان متقشفا في أموره متقللا من الملابس حتى كانت ثيابه في غير الموكب تقوم بدون ثلاثين درهما وكان لا يستكثر على أحد شيئا حتى أنه لما مات وجدوا عليه اثنين وثلاثين ألف درهم دينا فالتزم ولداه التاج والبهاء بوفائها وكان لا تقع له مسألة مستغربة أو مشكلة إلا ويعمل فيها تصنيفا يجمع فيه شتاتها طال أو قصر ا هـ
وقال الزين العراقي تفقه به جماعة من الأئمة وانتشر صيته وتواليفه ولم يخلف بعده مثله ا هـ
وقال الإسنوي كان أنظر من رأيناه من أهل العلم ومن أجمعهم للعلوم وأحسنهم كلاما في الأشياء الدقيقة وأجلدهم على ذلك وكان في غاية الإنصاف والرجوع إلى الحق في المباحث ولو على لسان آحاد الطلبة ا هـ
وقال الصلاح الصفدي الناس يقولون ما جاء بعد الغزالي مثله وعندي أنهم يظلمونه بهذا وما هو عندي إلا مثل سفيان الثوري ا هـ
وقال الحافظ الذهبي فيه ليهن الجامع الأموي لما علاه الحاكم البحر التقي شيوخ العصر أحفظهم جميعا وأخطبهم وأقضاهم علي وفي شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الإمام تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام بن حامد بن يحيى بن عمر بن عثمان بن علي بن مسور بن سوار بن سليم السبكي الشافعي المفسر الحافظ الأصولي اللغوي النحوي المقرئ البياني الجدلي الخلافي النظار البارع شيخ الإسلام أوحد المجتهدين
قال السيوطي ولد مستهل صفر سنة ثلاث
____________________
(1/4)
وثمانين وستمائة وقرأ القرآن على التقي بن الصائغ والتفسير على العلم العراقي والفقه على ابن الرفعة والأصول على العلاء الباجي والنحو على أبي حيان والحديث على الشرف الدمياطي
ورحل وسمع من ابن الصواف والموازيني وأجاز له الرشيد بن أبي القاسم وإسماعيل بن الطبال وخلق يجمعهم معجمه الذي خرجه له ابن أيبك وبرع في الفنون وتخرج به خلق في أنواع العلوم وأقر له الفضلاء وولي قضاء الشام بعد الجلال القزويني فباشره بعفة ونزاهة غير ملتفت إلى الأكابر والملوك ولم يعارضه أحد من نواب الشام إلا قصمه الله وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية والشامية البرانية والمسرورية وغيرها
وإن كان محققا مدققا نظارا له في الفقه وغيره الاستنباطات الجليلة والدقائق والقواعد المحررة التي لم يسبق إليها وكان منصفا في البحث على قدم من الصلاح والعفاف وصنف نحو مائة وخمسين كتابا مطولا ومختصرا المختصر منها يشتمل على ما لا يوجد في غيره من تحرير وتدقيق وقاعدة واستنباط منها تفسير القرآن وشرح المنهاج في الفقه
ومن نظمه إن الولاية ليس فيها راحة إلا ثلاث يبتغيها العاقل حكم بحق أو إزالة باطل أو نفع محتاج سواها باطل وله إذا أتتك يد من غير ذي مقة وجفوة من صديق كنت تأمله خذها من الله تنبيها وموعظة بأن ما شاء لا ما شئت يفعله بقي على قضاء الشام إلى أن ضعف فأناب عنه ولده التاج وانتقل إلى القاهرة وتوفي فيها بعد عشرين يوما سنة 756 ودفن بسعيد السعداء بباب النصر أغدق الله على ضريحه سحائب رحمته ورضوانه بمنه وكرمه
____________________
(1/5)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله جامع الشتات وفاتح سبل الخيرات
أحمده حمدا يليق بجلاله وأصلى وأسلم على نبيه محمد وصحبه وآله
وبعد فهذه آيات متفرقة وفتاوى في مسائل من الفقه متعددة من كلام شيخ الإسلام الشيخ الامام تقي الدين آخر المجتهدين ابي الحسن على بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الشافعي تغمده الله برحمته
منقولة من خطة حرفا حرفا فإذا قلنا قال الشيخ الإمام إلى أن نقول انتهى فاعلم أن ذلك كله كلامه نقل من خطة ولم ينقل عنه شيء بالمعنى بل بالعبارة وكذلك إذا أطلقنا وكذا المسألة فاعرف أنها منقولة من خطه حرفا حرفا
وهذه الفتاوى والآيات غير ما خصه بالتصنيف فانا لم نذكر من الآيات والفتاوى إلا ما وجدناه في مجاميعه أو بخطه في جزازات متفرقة أو على فتاوى موجودة في أيدي الناس وبعضها وجد بخطه على ظهور كتبه
فهذا القدر هو الذي خشينا عليه الضياع فأردنا أن نجمع شمله في مجموع مرتب على الأبواب
ولم نذكر شيئا مما خصه بالتصنيف إلا قليلا من مسائل مهمات صنف رحمه الله فيها تصانيف مبسوطة ومختصرة فذكرنا المختصر من المصنفين وربما كانت له في مسئلة واحدة سبعة مصنفات كمسألة تعدد الجمعة ومسئلة التراويح ومسئلة هدم الكنائس فذكرنا أخصر تلك المصنفات روما للتسهيل والله المسئول أن يعين على هذا المقصد الجميل وليس في هذا الكتاب إلا ما هو منقول من خط الشيخ الإمام رحمه الله وفلان
الناسخ المحرر غير متصرف بشيء
وما كان منسوبا إلى ولده شيخ الإسلام آخر المجتهدين تاج الدين عبد الوهاب سلمة الله من الآفات نبهنا عليه في موضعه والله حسبي ونعم الوكيل
____________________
(1/6)
^ سورة فاتحة الكتاب ^ مكية وقيل مدنية وهو ضعيف وقيل مكية ومدنية تسمى أم القرآن لاشتمالها على المعاني التي في القرآن وسورة الكنز والواقية والحمد والمثاني وسورة الصلاة وسورة الشفاء والشافية والرقية والاساس والنور وسورة تعليم المسئلة وسورة المناجاة وسورة التفويض وهي سبع آيات بإجماع الأكثر وقيل ست وقيل ثمان وهما شاذان ضعيفان وجمهور المكيين والكوفيين عدوا بسم الله الرحمن الرحيم آية ولم يعدوا أنعمت عليهم وجمهور بقية العادين على العكس
والباء متعلقة بمحذوف تقديره باسم الله أقرأ أو أتلو لأن الذي يتلو التسمية مقروء وقدر متأخرا لأنه الأهم هنا وجاء متقدما في أقرأ باسم ربك لأن القراءة هناك أهم وعلقه الكوفيون بفعل متقدم والبصريون باسم متقدم هو خبر لمبتدأ تقديره ابتدائي كائن باسم الله ومعنى الباء هنا الاستعانة وقيل الإلصاق قال الزمخشري وهو أعرب وأحسن والمراد تعليم العباد كيف يتبركون باسمه ويحمدونه والاسم فيه خمس لغات اسم بكسر الهمزة وضمها وسم وسما كهدى وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال ولذلك أثبتت في أقرأ باسم ربك والاسم إذا أريد به اللفظ والمسمى مدلولة والتسمية جعل اللفظ دليلا عليه فلا شك إنهما متغايران والله علم على المعبود مرتجل وقيل مشتق ومادته من أله بمعنى فزع أو عبد أو تحير أو سكن وقيل من لاه يليه إذا ارتفع وقيل من لاه يلوه إذا احتجب وقيل من وله أى طرب وهو ضعيف فعلى الأول أصله أله حذفت الهمزة اعتباطا أو حذفت للنقل مع الإدغام وأل فيه زائدة لازمة وشذ حذفها في قولهم لاه أبوك وقيل إن ال من نفس الكلمة ورد بامتناع تنوينه لأنه حينئذ يكون وزنه فعالا
وتفخيم لأمه سنة إذا لم يقع ما قبله مكسورا وقيل أنه اسم أعجمي معرب أنه صفة وإضافة اسم إلى الله كما في قولك بدأت باسم زيد فالمراد بالاسم المضاف اللفظ ويزيد المضاف إليه مدلوله
فاسم زيد المبدوء به هو لفظ زيد ولو قلت بدأت بزيد لكان المعنى أنك بدأت بذاته هكذا المعنى هنالك بجعل
____________________
(1/7)
اسم الله مذكورا في أول الأشياء
وهذا يدلك على أن معنى الإلصاق في الباء أحسن من معنى الاستعانة كما قاله الزمخشري
ولو قلت بدأت بالله كان المعنى على الاستعانة دون الإلصاق
فافهم هذا المعنى فقد تكلم الناس في ذلك بما لا أرتضيه
و الرحمن الرحيم قيل دلالتهما واحدة
وقيل الرحمن أبلغ والصحيح أن مبالغة رحمن من حيث الاعتلاء والغلبة كغضبان
ولذلك لا يتعدى
ومبالغة رحيم من حيث التكرار والوقوع بمحال الرحمة
ولذلك تتعدى
قالت العرب حفيظ علمك وقيل مرفوعا الرحمن رحمن الدنيا والآخرة والرحيم رحيم الآخرة وقيل رحمن الدنيا ورحيم الآخرة
وقيل رحمن الآخرة ورحيم الدنيا
وفي صرف الرحمن قولان يسند أحدهما إلى أصل عام وهو أن أصل الاسم الصرف والآخر إلى أصل خاص وهو أن أصل فعلان المنع لغلبته فيه وقال الزمخشري في تعليله لما لم يكن له مؤنث على فعلى ولا على فعلانة وجب الرجوع إلى الأصل وهو القياس على نظائره نحو عريان وسكران
ووصف الله تعالى بالرحمة مجاز عن إنعامه
فيكون صفة فعل وقيل إرادة الخير لمن أراد الله تعالى به ذلك فيكون صفة ذات
وإنما قدم الرحمن على الرحيم ولم يسلك طريق الترقي لأن الرحمن تناول جلائل النعم وعظائمها وأصولها فأردفه الرحيم كالتتمة والرديف ليتناول ما دق منها ولطف وهذا تنبيه على وجه آخر من المغايرة بين مدلول الرحمن والرحيم والرحيم فعيل بمعنى فاعل وفي إعراب الرحمن الرحيم خلاف فالجمهور على أنه صفة لأنه يراد به البيان وأن كان يجري مجرى الأعلام
وقال الأعلم بدل ورد بأن الاسم الأول لا يحتاج إلى تبيين
الحمد الثناء على الجميل من صفة أو نعمة باللسان وحده ونقيضه الذم
والشكر الثناء على النعمة وآلته اللسان أو العمل فبينهما عموم وخصوص من وجه فيكون الحمد بدون الشكر في الثناء على الصفات التي في المحمود ويكون الشكر بدون الحمد في الثناء على النعمة الصادرة منه بالعمل ويجتمعان فيما إذا أثنى على المنعم باللسان وقيل هما بمعنى واحد
وقيل الحمد أعم
وهما ضعيفان وقولنا على الجميل وعلى
____________________
(1/8)
النعمة أي بسببهما فالثناء على المحمود والمشكور وبسببهما
والحمد مصدر والتعريف إما للعهد أى الحمد المعروف بينكم أو لتعريف الماهية أو للاستغراق وقد أجمع السبعة على قراءته بالرفع ولا حاجة إلى ذكر الشواذ
لله اللام للاستحقاق رب مصدر وصف به أو اسم فاعل حذفت ألفه كبار وبر
ولا يطلق من غير قيد إلا على الله تعالى ومعناه هنا إما السيد وإما المالك أو المعبود أو المصلح ال في العالمين للإستغراق وجمع العالم شاذ لأنه اسم جمع وجمعه بالواو والنون اشذ لاختلال الشروط وحسنه معنى الوصفية
والعالم اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين
وقيل بل ما علم به الخلق من الأجسام والأعراض
وقيل المكلفون لقوله تعالى ! ( إن في ذلك لآيات للعالمين ) ! ولا دليل فيه بل يدل للأول قرأ مالك بالألف عاصم والكسائي وخلف في اختياره
وقرأ ملك باقي السبعة
والكاف مكسورة فيهما في المتواتر
وبين الملك والمالك عموم وخصوص من وجه لكن الملك بضم الميم أمدح وقيل عكسه
ويشهد له لمن الملك اليوم لله وفي ملك ثلاث عشرة قراءة لم نرد ذكر الشاذ منها قال اللغويون والملك والملك راجعان إلى الملك وهو الشد والربط ومنه ملك العجين وقيل ملك ومالك بمعنى كفره وفاره اليوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ويطلق على مطلق الوقت ولم يأت مما فأوه ياء وعينه واو إلا يوم ويوح اسم للشمس
والمراد به فيها زمان ممتد إلى أن ينقضى الحساب ويستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار الدين الجزاء والحساب وهذه الإضافة إضافة اسم الفاعل إلى الظرف على سبيل الاتساع وقيل إلى المفعول على الحقيقة وفي إضافة مالك أشكال لأنه اسم فاعل بمعنى الاستقبال فهى غير محضة فلا تتعرف بالإضافة فلا تكون صفة للمعرفة ولا بدلا
لان البدل بالصفات ضعيف فقيل في جوابه إن الإضافة بمعنى الماضى وهو حق لان الملك متقدم وإن تأخر المملوك
وقيل لان في اسم الفاعل بمعنى الحال أو الاستقبال وجهين
أحدهما ما قدمناه والثاني أنه يتعرف بما أضيف إليه إذا كان معرفة
فيلحظ فيه أن الموصوف صار معروفا بهذا الوصف وكان تقييده بالزمان غير معتبر
وهذا الوجه غريب وهو موجود في كتاب سيبويه وهذه الأوصاف التي أجريت على الله تعالى من كونه ربا مالكا للعالمين لا تخرج منهم يعني عن ملكوته وربوبيته منعما بالنعم كلها الظاهرة والباطنة الجليلة
____________________
(1/9)
الدقيقة مالكا للأمر كله في العاقبة يوم الثواب والعقاب بعد الدلالة على اختصاص المد به وأنه به حقيق في قوله الحمد لله دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق بالحمد والثناء عليه بما هو أهله إيا ضمير نصب منفصل والكاف للخطاب لا محل لها وليس بمشتق عند الجمهور وتقديمه للاعتناء أو للاختصاص عند بعضهم
والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل ومعناه بالتشديد عين معناه بالتخفيف عبدت بنى إسرائيل ذللتهم وعبدت الله ذللت له
وفسرت أيضا بالتوحيد أو الطاعة أو الدعاء
وإياك التفات من الغيبة إلى الخطاب ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لذلك التمييز بالصفات العظام فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات وتوطئه للدعاء
والنون في نعبد لافادة أن العبادة تستغرق المتكلم وغيره كما أن الحمد يستغرقه
وكرر إياك ليكون كل من العبادة والاستعانة نسقا في جملتين وكل منهما مقصود وللتنصيص على طلب العون منه بخلاف ما لو قال إياك نعبد ونستعين فإنه يحتمل قالوا وفي نعبد رد على الجبرية وفي نستعين رد على القدرية
وفي إياك رد على الدهرية والمعطلة والمنكرين لوجود الصانع
وتقديم العبادة على الاستعانة كتقديم الوسيلة بين يدي الحاجة وأطلقا لتتناول كل عبادة وكل استعانة والأحسن أن يراد الاستعانة به على أداء العبادة
ويكون قوله إهدنا بيانا للمطلوب من المعونة كأنه قيل كيف أعينكم فقالوا ! ( اهدنا الصراط المستقيم ) ! والهداية الارشاد والدلالة أو التبيين أو التقديم أو الالهام أو السبب
والأصل في هدى أن يتعدى إلى ثاني مفعولية بالحرف ثم اتسع فيه فعدى بنفسه إليه
والصراط جادة الطريق وأصله بالسين من السرط وهو اللقم وقرأ بالسين على الأصل قنبل ورويس وبإبدال السين صادا الجمهور وهي لغة قريش
وبها كتبت في الإمام وباشمامها زايا حمزة بخلاف وتفصيل عن رواته وروى عن أبي عمرة بالسين وبالصاد والمضارعة بين الزاي والصاد والزاي خالصة وأنكرت عنه والصراط يذكر ويؤنث ويجمع في الكثرة على صرط
وفي القلة قياسه أصرطة إن ذكر وصرط أن أنث
والمراد هنا طريق الحق وهو ملة الإسلام أو القرآن أو الإيمان وتوابعه أو الإسلام وشرائعه أو السبيل المعتدل أو طريق النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/10)
وأبي بكر وعمر أو السنن أو طريق الجنة أو طريق السنة والجماعة أو طريق الخوف والرجاء أو جسر جهنم
ورد بعض الأقوال المتقدمة بان المراد صراط الذين أنعمت عليهم وهم متقدمون وفي تفسير الذين أنعمت خلاف سيأتي وبه يتضح الرد أو عدمه
المستقيم المستوى من غير اعوجاج
النعمة لين العيش وخفضه
والهمزة في انعم لجعل الشيء صاحب ما صنع منه إلا أنه ضمن معنى التفضيل فعدى بعلي
وأصله التعدية بنفسه
وهذا أحد المعاني التي لأفعل وهي أربعة وعشرون معنى
عليهم على حرف عند الاكثرين إلا إذا جرت بمن
ومذهب سيبويه أنها إذا جرت ظرف وقرأ حمزة بضم الهاء وإسكان الميم والجمهور بكسرها واسكان الميم وابن كثير وقالون بخلاف عنه بكسر الهاء وضم الميم بواو بعدها
ومن غريب المنقول أن الصراط الثاني ليس الأول
وكأنه نوى فيه حرف العطف وفي تعيين ذلك اختلاف قيل هو العلم بالله والفهم عنه وقيل التزام الفرائض واتباع السنن وقيل موافقة الباطن للظاهر والمنعم عليهم هنا الأنبياء والملائكة وأمة موسى وعيسى الذين لم يغيروا أوامر الأنبياء صلى الله عليه وسلم أو النبيون والصديقون والشهداء والصالحون قاله الجمهور أو المؤمنون أو الأنبياء والمؤمنون ولم يقيد الانعام ليذهب الذهن كل مذهب واختلف هل لله على الكفر نعمة فأثبتها المعتزلة ونفاها غيرهم
وبناء أنعمت للفاعل استعطاف لقبول التوسل بالدعاء في الهداية وانقلاب ألف على مع المضمر هي اللغة الشهرى
غير وصف عند سيبويه
وبدل من الذين عند أبي على ومن الضمير عند قوم على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وبين الإيمان وبين السلامة من غضب الله والضلال
وأصل غير الوصف ويستثنى به ولا يتعرف
ومذهب ابن السراج إذا كان المغاير واحدا تعرف باضافته إليه
وتقدم عند سيبويه أن كل ما أضافته غير محضة قد يقصد بها التعريف فتصير محضة فتتعرف إذ ذاك غير بما تضاف إليه إذا كان معرفة
واعتذر الزمخشري عن الوصف بغير بأن الذين أنعمت عليهم لا توقيت فهو كقوله ولقد أمر على اللئيم يسبنى وهو ضعيف لأن المعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة وبأن المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم فليس في غير اذن الإبهام الذي يأبى عليه إن يتعرف
و لا في ولا الضالين لتأكيد النفي الذي في غير ولئلا يتوهم بتركها عطف الضالين على الذين
والغضب من الله تعالى ارادة الانتقام من
____________________
(1/11)
العاصي
وقيل إرادة صدور المعصية منه فيكون من صفات الذات او إحلال العقوبة به فيكون من صفات الفعل
وقدم الغضب على الضلال وان كان الغضب من نتيجة الضلال لمجاورة الأنعام لأن الأنعام مقابل بالانتقام فبينهما طباق معنوي وليناسب التسجيع في آخر السورة والله أعلم وله رحمه الله كلام في قوله تعالى ! ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ! ونحوهما فيما يقدم فيه ذكر المعمول
قد اشتهر كلام الناس في أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص ومن الناس من ينكر ذلك ويقول إنها تفيد الاهتمام
وقد قال سيبويه في كتابه وهم يقدمون ما هم به أعنى والبيانيون على إفادته الاختصاص والحصر فإذا قلت زيدا ضربت نقول معناه ما ضربت إلا زيدا
وليس كذلك وإنما الاختصاص شيء والحصر شيء آخر والفضلاء لم يذكروا في ذلك لفظه الحصر وإنما قالوا الاختصاص
قال الزمخشري في قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين وتقديم المفعول لقصد الاختصاص لقوله تعالى ! ( قل أفغير الله تأمروني أعبد ) ! معناه أفغير الله أعبد بأمركم
وقال في قوله تعالى ! ( قل أغير الله أبغي ربا ) ! الهمزة للإنكار أي منكر أن أبغي ربا غيره وقال في قوله تعالى ! ( قل الله أعبد مخلصا له ديني ) ! أنه أمر بالإخبار بأنه يختص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه
وقال في قوله تعالى ! ( أفغير دين الله يبغون ) ! قدم المفعول الذي هو غير دين الله على فعله لأنه أهم من حيث أن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل وقال في قوله تعالى ^ أإفكا آلهة دون الله تريدون ^ إنما قدم المفعول على الفعل للعناية وقدم المفعول له على المفعول به لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم
ويجوز ان يكون إفكا مفعولا به يعني أتريدون إفكا ثم فسر الإفك بقوله ! ( آلهة دون الله ) ! على أنها إفك في أنفسها ويجوز أن تكون حالا فهذه الآيات كلها لم يذكر الزمخشري لفظة الحصر في شيء منها ولا يصح إلا في الآية الأولى فقط والقدر المشترك في الآيات الاهتمام ويأتي الاختصاص في أكثرها ومثل قوله تعالى أإفكا آلهة ^ وقوله تعالى ^ أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ^ وما أشبههما لا يأتي فيه إلا الاهتمام لأن ذلك منكر من غير اختصاص
وقد يتكلف بمعنى الاختصاص في ذلك كما في بقية الآيات
وأما الحصر فلا
فإن قلت ما الفرق بين الاختصاص والحصر قلت الاختصاص افتعال من الخصوص والخصوص مركب من شيئين أحدهما عام مشترك بين شيئين
____________________
(1/12)
أو أشياء والثاني معنى منضم إليه يفصله عن غيره كضرب زيد فإنه أخص من مطلق الضرب فإذا قلت ضربت زيدا أخبرت بضرب عام وقع منك على شخص فصار ذلك الضرب المخبر به خاصا لما انضم إليه منك ومن زيد
وهذه المعاني الثلاثة أعني مطلق الضرب وكونه واقعا منك وكونه واقعا على زيد قد يكون قصد المتكلم بها ثلاثتها على السواء وقد يترجح قصده لبعضها على بعض ويعرف ذلك بما ابتدأ به كلامه فإن الابتداء بالشيء يدل على الاهتمام به وأنه هو الأرجح في غرض المتكلم فإذا قلت زيدا ضرب علم أن خصوص الضرب على زيد هو المقصود ولا شك أن كل مركب من خاص وعام له جهتان فقد يقصد من جهة عمومه وقد يقصد من جهة خصوصه فقصده من جهة خصوصه هو الاختصاص وإنه هو الأعم الأهم عند المتكلم
وهو الذي أفاد به السامع من غير تعرض ولا قصد لغيره بإثبات ولا نفي وأما الحصر فمعناه نفي غير المذكور وإثبات المذكور ويعبر عنه بما وإلا أو بإنما فإذا قلت ما ضربت إلا زيدا كنت نفيت الضرب عن غير زيد وأثبته لزيد وهذا المعنى زائد على الاختصاص وإنما جاء هذا في إياك نعبد وإياك نستعين ^ للعلم بأنه لا يعبد غير الله ولا يستعان غيره ألا ترى أن بقية الآيات لم يطرد فيها ذلك فإن قوله ^ أفغير دين الله يبغون ^ في معنى ما يبغون إلا غير دين الله وهمزة الإنكار داخلة عليه فلزم أن يكون المنكر الحصر لا مجرد بغيهم غير دين الله ولا شك أن مجرد بغيهم غير دين الله منكر وكذلك بقية الآيات إذا تأملتها ألا ترى أن أفغير الله تأمروني أعبد وقع الإنكار فيه على عبادة غير الله من غير حصر وأن أبغى ربا غيره منكر من غير حصر ولكن الخصوص وهو غير الله هو المنكر وحده ومع غيره وكذلك إياكم كانوا يعبدون عبادتهم إياهم منكرة من غير حصر وكذلك قوله ^ آلهة دون الله تريدون ^ المنكر إرادتهم آلهة دون الله من غير حصر فمن هذا كله يعلم أن الحصر في ^ إياك نعبد وإياك نستعين ^ من خصوص المادة لا من موضوع اللفظ بل أقول إن المصلي قد يكون مقبلا على الله وحده لا يعرض له استحضار غيره بوجه من الوجوه
وغيره أحقر في عينه من أن يقصد في ذلك بنفي عبادته وإنما قصد الأخبار بعباده الله وأول ما حضر في ذهنه عظمه من هو واقف بين يديه فقال ^ إياك نعبد ^ ليطابق اللفظ المعنى ويتقدم ما تقدم حضوره في القلب وهو الرب سبحانه وتعالى ثم بني عليه ما أخبر به من عبادة وكمعنى اختصاصه بالعبادة اختصاصه بالأخبار بعبادته وغيره
____________________
(1/13)
من الأكوان لم يخبر عنه بشيء بل هو معرض عنها وإذا تأملت مواقع ذلك في الكتاب والسنة وأشعار العرب تجده كذلك
ألا ترى قول الشاعر ** أكل إمرئ تحسبين إمرأ ** ونار توقد بالليل نارا ** لو قدرت فيه الحصر بما وإلا هل يصح المعنى الذي أراده وقد قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى ** وبالآخرة هم يوقنون ^ وفي تقديم الآخرة وبناء يوقنون على هم تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته وان قولهم ليس بصادر عن إيقان وان اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك
وهذا الذي قاله الزمخشري في غاية الحسن وقد اعترض بعض الناس عليه فقال تقديم الآخرة أفاد أن إيقانهم مقصور على أنه إيقان بالآخرة لا بغيرها وهذا الذي قاله القائل بناه على ما فهمه من أن تقديم المعمول يفيد الحصر وليس كذلك لما بينا ثم قال هذا القائل
وتقديم هم أفاد أن هذا القصر مختص بهم فيكون إيقان غيرهم بالآخرة إيمانا بغيرها حيث قالوا ^ لن يدخل الجنة ^ و ^ لن تمسنا النار ^ وهذا من هذا القائل استمرار على ما في ذهنه من الحصر أي أن المسلمين لا يوقنون إلا بالآخرة وأهل الكتاب يوقنون بها وبغيرها
وهذا فهم عجيب ثم قال هذا القائل وأما قوله وان اليقين الخ مشكل لأنه ليس فيه تعريض بأن اليقين ما عليه من آمن بل تصريح قلت مراد الزمخشري أن التصريح بأن من آمن يوقنون تعريض بأن أهل الكتاب لا يوقنون فكيف يرد عليه هذا ثم قال هذا القائل فالوجه أن يقال وإن اليقين عطف على قوله تعريض لا على معمولاته من ^ يا أهل الكتاب ^ وكأنه قال وفي تقديم الآخرة وبناء يوقنون على هم أن اليقين قلت مراد الزمخشري أنه تعريض بنفي اليقين عن أهل الكتاب فكأنه قال دون غير من آمن فلا يرد عليه ولا يحتاج إلى تقدير العطف على ما ذكره هذا القائل وهو إما أن يقدر دون غيرهم أو لا فإن قدر فهو تعريض لا تصريح وإن لم يقدر فلا يحتاج إلى بناء يوقنون على هم فحمل كلام الزمخشري على ما زعم هذا القائل لا يصح بوجه من الوجوه وهذا القائل فاضل وإنما ألجأه إلى ذلك فهمه الحصر وهو ممنوع وعلى تقدير تسليمه فالحصر على ثلاثة أقسام أحدها بما وإلا كقولك ما قام إلا زيد صريح في نفي القيام عن غير زيد ويقتضي
____________________
(1/14)
إثبات القيام لزيد قيل بالمنطوق وقيل بالمفهوم وهو الصحيح لكنه أقوى المفاهيم لأن إلا موضوعه للاستثناء وهو الإخراج فدلالتها على الإخراج بالمنطوق لا بالمفهوم ولكن الإخراج من عدم القيام ليس هو عين القيام بل قد يستلزمه فلذلك رجحنا أنه بالمفهوم والتبس على بعض الناس لذلك فقال أنه بالمنطوق والثاني الحصر بإنما وهو قريب من الأول فيما نحن فيه وإن كان جانب الإثبات فيه أظهر فكأنه يفيد إثبات قيام زيد إذا قلت إنما قام زيد بالمنطوق ونفيه بالمفهوم القسم الثالث الحصر الذي يفيده التقديم وليس هو على تقدير تسليمه مثل الحصرين الأولين بل هو في قوة جملتين إحداهما ما صدر به الحكم نفيا كان أو إثباتا وهو المنطوق والأخرى ما فهم من التقديم والحصر يقتضي نفي المنطوق فقط دون ما دل عليه من المفهوم لأن المفهوم لا مفهوم له فإذا قلت أنا لا اكرم إلا إياك أفاد التعريض بأن غيرك يكرم غيره ولا يلزمك انك لا تكرمه وقد قال تعالى ! ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ) ! أفاد أن العفيف قد ينكح غير الزانية وهو ساكت عن نكاحه الزانية فقال تعالى بعده ! ( والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) ! بيانا لما سكت عنه في الأول فلو قال بالآخرة يوقنون أفاد بمنطوقه إيقانهم بها وبمفهومه عند من يزعم أنهم لا يوقنون بغيرها وليس ذلك مقصودا بالذات والمقصود بالذات قوة إيقانهم بالآخرة حتى صار غيرها عندهم كالمدحوض فهو حصر مجازي وهو دون قولنا يوقنون بالآخرة لا بغيرها فاضبط هذا وإياك أن تجعل تقديره ولا يوقنون إلا بالآخرة إذا عرفت هذا فتقديمهم أن غيرهم ليس كذلك ولو جعلنا التقدير لا يوقنون إلا بالآخرة كان المقصود المهم النفي فيتسلط المفهوم عليه فيكون المعنى إفادة أن غيرهم يوقن بغيرها كما زعم هذا القائل ويطرح إفهام أنه لا يوقن بالآخرة ولا شك أن هذا ليس بمراد بل المراد إفهام أن غيره
لا يوقن بالآخرة فلذلك حافظنا على أن الغرض الأعظم إثبات الإيقان بالآخرة ليتسلط المفهوم عليه وأن المفهوم لا يتسلط على الحصر لأن الحصر لم يدل عليه بجملة واحدة مثل ما وإلا ومثل إنما وإنما دل عليه بمفهوم يستفاد من منطوق وليس أحدهما متقيدا بالآخر حتى يقول أن المفهوم أفاد نفي الإيقان المحصور بل أفاد نفي الإيقان مطلقا عن غيره وهذا كله إنما احتجنا إليه على تقدير تسليم ما ادعاه هذا القائل من الحصر وقد سبق إلى فهم كثير من الناس ونحن قد منعنا ذلك أولا وبينا أنه لا حصر في ذلك وإنما هو اختصاص وفرقنا بين
____________________
(1/15)
الاختصاص والحصر وقول هذا القائل تقديم هم من أين له أن هذا تقديم فإنك إذا قلت هو يفعل احتمل أن يكون مبتدأ خبره فعل واحتمل أن يكون يفعل هو ثم قدمت وأخرت والزمخشري لم يصرح بالتقديم وإنما قال بناء يوقنون على هم ولكن مشينا مع هذا الفاضل على كلامه وكل ذلك اوجبه الوهم والتباس الاختصاص بالحصر والله أعلم انتهى
! ( آية أخرى ) ! قال الشيخ الإمام رحمه الله قوله تعالى ! ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ! قال الزمخشري فإن قلت هلا قيل تعبدون لأجل اعبدوا أو اتقوا لمكان تتقون وأجاب بأن التقوى قصارى أمر العابد وليست غير العبادة وترك الزمخشري وجها آخر محتملا فإنه بنى كلامه على أن لعلكم متعلق بخلقكم وحينئذ يكون من الله تعالى وينصرف عن حقيقة الترجي إلى مجازه ويحتمل أن يجعل لعلكم متعلقا باعبدوا أو يكون الترجي أما من الآمر فيصرف إلى المجاز أيضا وتكون التقوى تقوى النار المسببة عن العبادة وأما من المأمور فتكون التقوى على بابها أيضا الذي ذكرناه آنفا والترجي على حقيقته وحينئذ تكون صفة في العبادة المأمور بها فإذا فرض الأمر ممن يعتقد الترجي بالمأمور به والمأمور يعتقد خلافه كما لو قلت لزيد اضرب عمرا لعله يتأدب وأنت تترجى ذلك منه والمأمور قاطع بأنه لا يتأدب بذلك احتمل أن يقال لا يجب الضرب لأن الضرب المأمور به هو المترجي معه والفرض خلافه واحتمل أن يجب ويكون المعتبر ترجى الأمر والأول أظهر لأن الكلام على تقدير جعل الترجي للمأمور لا للآمر والله أعلم انتهى ! ( آية أخرى ) ! قال رضي الله عنه قوله تعالى ! ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) ! قال الزمخشري من مثله متعلق بسورة صفة لها أي بسورة كائنة من مثله وليس مراده التعلق الصناعي لأن الصفة إنما تتعلق بمحذوف وقد صرح هو به أو مراده أنه لا يتعلق بقوله فأتوا ثم قال والضمير لما نزلنا أو لعبدنا قال الشيخ الإمام الأحسن عندي أن يتعلق بعبدنا وان علق بما نزلنا فيكون بالنطر إلى خصوصيته فيشمل صفة المنزل في نفسه والمنزل عنه وإنما قلت ذلك لأن الله تعالى تحدي بالقرآن في أربع سور في ثلاث منها
____________________
(1/16)
بصفته في نفسه فقال تعالى لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وقال تعالى أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وقال تعالى أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله والسياق في ذكر القرآن من حيث هو هو ولذلك لم يذكر في هاتين الآيتين لفظة من المحتملة للتبعيض ولابتداء الغاية فتركها يعين الضمير للقرآن وفي سورة البقرة لما قال وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا قال فأتوا بسورة من مثله فتكون من لابتداء الغاية والضمير في مثله للنبي صلى الله عليه وسلم ويكون قد تحداهم فيها بنوع آخر من التحدي غير المذكور في السور الثلاث وذلك أن الإعجاز من جهتين إحداهما من فصاحة القرآن وبلاغته وبلوغه مبلغا تقصر قوى الخلق عنه وهو المقصود في السور الثلاث المتقدمة المتحدي به فيها والثانية إتيانه من النبي صلى الله عليه وسلم الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب وهو المقصود المتحدى به في هذه السورة ولا تمتنع إرادة المجموع كما قدمناه فإن أراد الزمخشري بعود الضمير على ما نزلنا المجموع بالطريق التي أشرنا إليها فصحيح وحينئذ يكون ردد بين ذلك وعود الضمير على الثاني فقط وإن لم يرد ذلك فما قلناه أرجح ويعضده أنه أقرب وعود الضمير على الأقرب أوجب ويعضده أيضا أنهم قد تحدوا قبل ذلك وظهر عجزهم عن الإتيان بسورة مثل القرآن لأن سورة يونس مكية فإذا عجزوا عنه من كل أحد فهم بالإتيان بمثله ممن لم يقرأ ولم يكتب أشد عجزا فالأحسن أن يجعل الضمير لقوله عبدنا فقط وهذان النوعان من التحدي يشتملان على أربعة أقسام لأن التحدي بالقرآن أو ببعضه بالنسبة إلى من يقرأ ويكتب وإلى من ليس كذلك والتحدي بالنبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى مثل المنزل وإلى أي سورة كانت فإن من يكتب لا يأتي بها فصار الإتيان بسورة من مثل النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع كانت من كاتب قارئ أم من غيره
فظهر أنها أربعة أقسام ثم قال الزمخشري ويجوز أن تتعلق بقوله فأتوا والضمير للعبد
قال الشيخ الإمام هذا صحيح وتكون من للابتداء ولم يذكر الزمخشري على هذا الوجه احتمال عود الضمير على ما نزلنا ولعل ذلك لأن السورة المتحدى بها إذا لم يوجد معها المنزل عليه لا بد أن يخصص بمثل المنزل كما في سورتي هود ويونس فإذا علقنا الضمير هنا في سورة البقرة بقوله فأتوا وعلقنا الضمير بالمنزل كانوا قد تحدوا بأن يأتوا بسورة مطلقة ليست موصوفة ولا من شخص مخصوص
____________________
(1/17)
فليست على نوع من نوع التحدي فإن قلت من على هذا التقدير للتبعيض فتكون السورة بعض مثله يقتضي مماثلتها قلت المأمور به السورة المطلقة و من يحتمل أن تكون لابتداء الغاية وإن سلم أنها للتبعيض فالمماثلة إنما يعلم حصولها للسورة بالاستلزام فلم يتحدوا ولم يؤمروا إلا بها من حيث هي مطلقة لا من حيث إن مقتضاه الاستلزام من المماثلة فإن المماثلة بالمطابقة في الكل المبعض لا في البعض فإن لزم حصولها في البعض فليس من اللفظ
وبهذا يعرف الجواب عن قول من قال ما الفرق بين فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلنا وفأتوا من مثل ما نزلنا بسورة فنقول الفرق بينهما ما ذكرناه فإن المأمور به بخصوصه في الثاني سورة مطلقة من حيث الوضع وإن كانت بعضها من شيء مخصوص انتهى والله أعلم
قال الشيخ الإمام رحمه الله قوله تعالى ولهم فيها أزواج مطهرة قال الزمخشري هلا جاءت الصفة مجموعة كما في الموصوف وأجاب بأنهما لغتان فصيحتان يقال للنساء فعلن وهن فاعلات وفواعل والنساء فعلت وهي فاعلة ومنه بيت الحماسة وإذا العذارى بالدخان تقنعت واستعجلت نصب القدور فملت والمعنى وجماعة أزواج مطهرة وقرأ زيد بن علي مطهرات أقول ما ذكره من اللغتين صحيح والأفصح في العاقلات أن يأتي بالجمع سواء فيهن جمع القلة وجمع الكثرة وفي غير العاقل الأفصح في جمع القلة الجمع كالأجذاع انكسرن وفكرت في السر في ذلك فرأيت أن فعلن حكم على كل فرد وفعلت على المجموع لتأول الجمع بالجماعة ولما كان العاقل ينسب الفعل إليه نسب إلى كل فرد فقيل فعل وإنما جاء في الآية مطهرة وإن كان الأفصح مطهرات إشارة إلى أن أزواج الآخرة لاتفاقهن كالشيء الواحد لا تغاير بينهن وذلك من كمال النعيم لرجالهن فلذلك قيل مطهرة ولم يرد في القرآن مطهرات أصلا فانظر ما أبدع هذه الحكمة وقال وإذا الرسل أقتت لاجتماعهم في وقت الأجل وقال وإذا النجوم انكدرت لأن الانكدار وصف شامل لجماعة النجوم وقال والصافات لأن كل واحد مستقل بذلك
وقال تعالى فأبين أن يحملنها لأن الإباء من وصف العقلاء وكل واحد منهن أبى وقال منها أربعة حرم لأن التبعيض من الجملة التي هي اثني عشر وقال فلا تظلموا فيهن لأن النهي عن الظلم في كل واحد وهذا معنى زائد على كونه جمع قلة لغير عاقل وقال فمن فرض فيهن الحج لأنه لا فرق بين أن يفرض في المجموع أو في كل واحد وأما قوله
____________________
(1/18)
وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة فاستغنى في تقليلها بدلالة أيام لأنها لجمع القلة وقيل معدودة لأنها أقل من معدودات وذلك أبلغ في بهتهم وتكذيبهم فقال قل أتخذتم إلى آخره وفي آل عمران ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ومعدودات قد يراد بها تسع إذا جعلت جمع أيام معدودة وإذا كانوا غرهم افتراؤهم أنهم لن تمسهم النار إلا تسعا فلأن يغرهم افتراؤهم أنهم لن تمسهم النار إلا ثلاثا بطريق الأولى
وقوله تعالى الحج أشهر معلومات قصد وصف كل منها بذلك وكذا قوله تعالى واذكروا الله في أيام معدودات فوصف كل منها بذلك أبلغ وأكثر تعظيما لها من جعلها جملة واحدة معلومة ومعدودة والأصل فيما قلناه أن تأنيث الجمع لتأوله بالجماعة وهي شيء مجتمع ولم يحكم عليه إنما حكم على صفة شاملة له وهي الهيئة الاجتماعية وأما ذات الجمع نفسه فهو عبارة عن الآحاد فالحكم عليه حكم على الآحاد فاشدد يديك بهذه الفائدة تفهم بها ما قاله النحاة وإن لم يبدوا سره وينفتح لك بها مباحث أصولية ونحوية وفوائد في القرآن والسنة إن شاء الله بقي علينا أنه قد يقال كيف جاز وصف الثلاثة بأنها معلومات ومعلومات جمع معلومة وواحد الأشهر مذكر فلا يصح معلومات إلا على تسعة وجوابه أن الأشهر مشتملة على ساعات كثيرة فيجوز أن ترد على معلومات في وصف الثلاثة كذلك ولا يقال فيلزم جواز وصف الشهر الواحد بذلك لأنه احتمل مع الجمع ولا يلزم احتماله مع المفرد لتنافر اللفظ انتهى
آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم المقصود التقبيح على من يأمر الناس بالبر أن يترك نفسه منه وينشد لا تنه عن خلق وتأتي مثله وقريب من هذا المعنى لا تأكل السمك وتشرب اللبن إذا نصبت وتشرب وقد ذكر الناس ذلك كله وعندي فيه زيادة وهو أنه إذا نهى عن شيئين أو عن شيء على تقدير شيء آخر فذلك على أقسام أحدهما أن يكون كل منهما مباحا غير مكروه والمحذور الجمع بينهما وكل واحد منهما جزء علة في الكراهة كأكل السمك وشرب اللبن القسم الثاني أن يكون أحدهما محمودا والآخر مذموما ولكن ذمه مع المحمود أعظم من ذمه وحده كقوله تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم فالأمر بالبر حسن صرف وواجب
____________________
(1/19)
وأمر بمعروف وهو مطلوب سواء أفعله الشخص أم لا وإذا لم يفعله مع الترك ترتب عليه إثمان إثم ترك الأمر وإثم ارتكاب النهي وإذا أمر ولم ينه نفسه فقد يكون أشد من المجموع وقد لا يكون وأكثر ما يجيء هكذا أن يصدر بالمحمود ويؤخر المذموم كالآية الكريمة وكالبيت فإن النهي عن الخلق السيئ محمود وإتيان مثله مذموم وكان سبب مجيئه على هذا الترتيب قصد تقديم السبب على المسبب لأن أمر الناس بالبر سبب في أمره نفسه بطريق أولى فإذا لم يفعل قبح ذلك منه جدا وكان ذلك أبلغ من أن يقال افعل ولا تنس نفسك لأن بعض الطباع اللئيمة لا تنقاد للنصيحة فإذا صور له في صور تناقض فعله فالتناقض تنفر عنه جميع الطباع والعقول كان ذلك أدعى إلى ائتماره وحصول نزوعه عن حالته القبيحة ومن هذا الباب على جهة التقريب قوله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق فالرفث والفسق منهي عنهما للصائم وغيره ولكن من الصائم أقبح لأن الصوم سبب مؤكد لاجتنابهما وقد يجيء هذا النوع مقدما فيه المذموم كقوله أطربا وأنت قيسري فالطرب مذموم قبيح ومن الشيخ أقبح انتهى
وقال رحمه الله قوله تعالى ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل وفي هذه السورة أيضا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة وقد بين صاحب درة التنزيل أن العادة في الدنيا من وقع في شدة له أربع مراتب الأولى أن يغني عنه غيره من ولد أو والد أو غيرهما والثاني والثالث الشفاعة والفداء والرابع إذا يئس من الثلاثة أن ينتظر النصر من عند الله بغير حيلة منه فبين الله نفي الأقسام الأربعة في الآخرة وتطابقت الآيتان على تقديم الأولى وتأخير الرابعة واختلفتا في الثانية والثالثة لاختلاف الناس تارة يبدءون بالشفيع قبل الفداء وتارة عكسه ولم يبين صاحب الدرة مناسبة خصوص كل آية لما جاءت به وخطر لي أنه في الأولى لما قدم أمرهم الناس بالبر والمأمور بالبر قد يشفع فقدمت الشفاعة وفي الثانية ليس إلا حالهم في أنفسهم فقدم الفداء وهو العدل وجاءت على وجه أبلغ من الأولى كما هو العادة في المواعظ ووجه الأبلغية أن عدم القبول يستلزم عدم الأخذ للعدل وعدم نفي الشفاعة يستلزم قبولها والله أعلم انتهى
آية
____________________
(1/20)
وقال أيضا قوله تعالى وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون مناسبة أفلا تعقلون إن الذين فعلوه متناقض لأن أمرهم الناس بالبر يقتضي أن يبدءوا بأنفسهم فنسيانها مناقض للأمر وكلاهما أعني الجمع بينهما مناقض لتلاوتهم الكتاب لأن تلاوة الكتاب تقتضي أن لا ينسوا أنفسهم ولا يناقضوا أفعالهم فأشار بقوله أفلا تعقلون إلى قبح حالهم كما أشار إليه بقوله أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون إلى خروجهم عن مقتضى العقل بجمعهم بين النقيضين ففيه إشارة إلى أن الجمع بين النقيضين مستحيل في العقل ومستحيل في الشرع أيضا ولا عبرة بما قاله بعض أصحابنا الفقهاء في قوله أعتق عبدك عني
من أن التناقض إنما ثبتت استحالته في العقل لا في الشرع وهو عجيب من هذا الفقيه فإن كل ما استحال في العقل استحال في الشرع والله أعلم انتهى
وقال رضي الله عنه قوله تعالى ولن يتمنوه أبدا قال رحمه الله تعالى قوله تعالى ولتجدنهم أحرص الناس على حياة نكر الحياة لإرادة أيسر ما يكون منها والمعنى أنهم أحرص الخلق على أقل ما يكون من الحياة فما ظنك بالكثيرة منها فكيف يتمنون الموت والزمخشري ادعى أنه نكر لإرادة حياة طويلة وما ذكرناه أبلع وأحسن ولا ينافيه قوله تعالى ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة فإنه إذا ود اليسير منها ود الكثير بطريق أولى انتهى
آية أخرى قال الشيخ الإمام في كتاب افتتحه في تأويل قوله تعالى والفتنة أشد من القتل فكتب فيه ما نصه الحمد لله الذي عصمنا من الفتن وهدانا إلى أرشد سنن وصلى الله على سيدنا محمد الذي بين لنا ما ظهر وما بطن وعلى آله وصحبه الذين بينوا لنا معاني القرآن والسنن وسلم تسليما كثيرا على توالي الزمن وبعد فإنا لا نحصي ما لله علينا من نعمة ومنة وما حمانا به عن كل محنة وجعل بيننا وبينها وقاية وجنة وأرشدنا إلى طريق السنة وجعل لنا على العدل قوة ومنة وأنه جرى الكلام في تفسير الفتنة في قوله تعالى والفتنة أشد من القتل وأطلقت فيه الأعنة وأعرى به بعض ذوي الضنة وتوهم أن مجرد الإلقاء بين الناس للقتل مظنة فخشيت من استباحة دم مسلم بالضغنة فأردت ذكر تفسير الآية وسميته تأويل الفطنة في تفسير الفتنة والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل قال ابن جرير الطبري القول في تأويل قوله تعالى عز ذكره والفتنة أشد
____________________
(1/21)
من القتل يعني بقوله جل ثناؤه والفتنة أشد من القتل والشرك بالله أشد من القتل
وقد بينت فيما مضى أن أصل الفتنة الابتلاء والاختبار فتأويل الكلام وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركا بالله من بعد إسلامه أشد عليه وأضر من أن يقتل مقيما على دينه متمسكا بملته محقا فيه كما حدثني محمد بن عمرو ثنا أبو عاصم عيسى ثنا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى والفتنة أشد من القتل قال ارتداد المؤمن إلى الوثن أشد عليه من أن يقتل حدثني المثنى ثنا أبو حذيفة ثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله حدثنا بشر بن معاذ ثنا يزيد ثنا شعبة عن قتادة قوله تعالى والفتنة أشد من القتل يقول الشرك أشد من القتل حدثنا الحسن بن يحيى أنا عبد الرزاق أنا معمر عن قتادة مثله حدثنا المثنى ثنا إسحاق ثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك قوله والفتنة أشد من القتل يقول الشرك أشد من القتل حدثت عن عمار بن الحسن حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع والفتنة أشد من القتل يقول الشرك أشد من القتل حدثنا القاسم ثنا الحسين حدثني الحجاج قال قال ابن جريج أخبرني عبد الله بن كثير عن مجاهد في قوله والفتنة أشد من القتل قال الفتنة الشرك حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال أنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك والفتنة أشد من القتل قال الشرك حدثني يونس أنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله والفتنة أشد من القتل قال فتنة الكفر انتهى ما نقلته من تفسير الطبري المسمى بالبيان وقال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره قوله والفتنة أشد من القتل حدثنا عصام بن رواد ثنا آدم عن أبي جعفر عن الربيع عن أبي العالية قوله والفتنة أشد من القتل
وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وأبي مالك وقتادة والضحاك والربيع بن أنس نحو ذلك وقوله والفتنة أشد من القتل حدثني أبي ثنا يحيى بن المغيرة أنا جرير عن حصين عن أبي مالك والفتنة أشد من القتل قال الفتنة التي أنتم مقيمون عليها أكبر من القتل انتهى ما نقلته من تفسير ابن أبي حاتم وقال الواحدي في البسيط والفتنة أشد من القتل يعني وشركهم بالله عز وجل أعظم من قتلكم إياهم في والحرم والحرم والإحرام وذكرنا معاني الفتنة عند قوله إنما نحن فتنة وقال بعض أصحاب المعاني سمى الكفر فتنة لأن الكفر إظهار الفساد عند
____________________
(1/22)
الاختبار وأصل الفتنة الاختبار وقال الواحدي في قوله إنما نحن فتنة آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى فولوا وجوهكم شطره قال الشافعي وشطره جهته في كلام العرب إذا قلت اقصد شطر كذا أنك تقول اقصد معروف عين كذا ومعنى اقصد نفس كذا كذلك أي تلقاءه وجهته أي استقبل تلقاءه وجهته وأن كلا معنى واحد وإن كانت بألفاظ مختلفة هكذا كلام الشافعي
وقال الجوهري شطر الشيء نصفه ويقال ولد فلان شطره بالكسر أي نصف ذكور ونصف إناث وقصدت شطره أي نحوه ومنه قوله فول وجهك شطر المسجد الحرام انتهى
آية أخرى وقال أيضا رحمه الله تكلم صاحب درة التنزيل على قوله تعالى في البقرة يقتلون النبيين بغير الحق وفي آل عمران النبيين بغير حق وفي وسطها الأنبياء بغير حق من جهة تعريف الحق وتنكيره كلاما حسنا ولم يتكلم من جهة جمع القلة وجمع الكثرة في الأنبياء وظهر لي فيه أنه لما كان في الآية التي في وسط آل عمران المراد الاعتقاد والاعتقاد يتعلق بجميع الأنبياء أتى فيه بجمع الكثرة ويوافقه قوله في آخر آل عمران لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق لأنها في قوم موجودين لم يقتلوا وإنما اعتقدوا بخلاف آية البقرة والآية الأولى من آل عمران فإنها في قوم قتلوا وإنما قتلوا بعض الأنبياء فأتى فيها بجمع السلامة الذي هو القلة مع أنه روي في عدد المقتولين أنه أكثر من العشرة انتهى
آية أخرى قوله تعالى فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره قال الشيخ الإمام رحمه الله لا شك أن الحل منتف من حين الطلاق الثلاث حتى تنكح ولكن هذه الصيغة لو جاءت في غير هذا المحل كقولك لا يقوم زيد حتى تزول الشمس محتملة معنيين أحدهما أن القيام حتى تزول الشمس منتف وقد لا ينتفي قيام دونه ومأخذ هذا أن حتى متعلقة بالفعل قبل دخول النفي ثم ورد النفي عليه وهو الذي تقتضيه صناعة العربية عند الجمهور في تعليقهم ذلك بالفعل الصريح والثاني أن النفي في جميع الزمان المتصل بالكلام حتى تزول الشمس ومأخذ هذا إما أن يؤخذ فعل من معنى النفي الذي دلت عليه لا كما يفعله
____________________
(1/23)
بعض النحاة والزمخشري في بعض الأوقات أي انتفاء وإما أن يؤخذ الفعل بقيد كونه منتفيا وهذان الاحتمالان يأتي مثلهما في قولك لا يقوم القوم إلا زيد أحدهما المعنى أن قيام القوم غير زيد منتف إما بقيامهم جميعهم وإما بقيامه والثاني قيامه وعدم قيامهم
ولم يأت هذان الاحتمالان في سائر تعلقات الفعل من الظروف والحال وغيرهما وإنما هما في الغاية والاستثناء ولا يطرد ذلك في الصفة لأنها متعلقة بالمفرد لا بالنسبة ولا بالشرط وإن تعلق بالنسبة لأن له صدر الكلام انتهى
ومن كلامه أيضا رحمه الله قوله تعالى حتى تنكح زوجا غيره قال كنت أظن أنه قرينة في إفادة الوطء كقولهم نكح زوجته إذا وطئها
ونكح امرأة إذا عقد عليها
ثم رجعت عن ذلك وإن كانت القاعدة صحيحة لكن ذلك إذا قال زوجته لدلالة اللفظ على أنها زوجة متقدمة
أما نكح زوجته فلا بل يصح بمعنى نكح امرأة كقوله من قتل قتيلا فإن قلت قد يقال اشتريت عبدي هذا والمراد العقد فلم لا يقال نكحت زوجتي هذه والمراد العقد قلت إذا أريد الإخبار بأصل الشراء أو أصل النكاح فلا ينبغي أن يقال عبدي ولا زوجتي لخلوه عن الفائدة وإنما يقال اشتريت هذا وتزوجت هذه أو نكحتها وإنما يحسن ذلك إذا أريد الإخبار بأمر زائد كقولك اشتريت عبدي هذا فأنفقت منه كذا أو نكحت زوجتي هذه فحمدت عشرتها فمحط الفائدة هو الثاني انتهى
آية أخرى قال رحمه الله تعالى قوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة يتعلق بتفسيرها مباحث كثيرة جرى البحث في بعضها الآن في بعض الدروس فنذكره
الأول الجناح للمفسرين فيه هنا قولان أحدهما أنه الإثم فإن طلاق غير الممسوسة لا إثم فيه مطلقا وطلاق الممسوسة يجب أن يكون للعدة
فإذا طلقها في الحيض أثم
وتفسير الجناح بالإثم موافق للغة
فإن الجوهري وغيره قالوا الجناح الإثم وأصل الجناح الميل وسمي الإثم جناحا لأن فيه ميلا عن الحق إلى الباطل
إما أن يكون من باب تسمية الشيء باسم ما هو أعم منه لأن الميل أعم من الإثم وإما أن يكون من باب تسمية الشيء باسم ما يشبهه لأن الميل المحسوس أو المعقول أقرب إلى أن يكون
____________________
(1/24)
هو الحقيقة لأنه المعروف عند العرب والميل إلى الإثم إنما يعرف بالشرع فتسميته به لأجل المشابهة القول الثاني للمفسرين أن الجناح هنا التبعة أي لا تبعة للنساء عليكم في المطالبة بمهر ونحوه
وهذا القول هو المشهور عند المفسرين
وإطلاق الجناح على التبعة يظهر أنه لما في التبعة من الميل أيضا لأن التابع يميل على المتبوع
والمفهوم من كلامهم على هذا القول أن الإثم غير مراد ويحتمل أن يقال التبعة أعم فيقتضي نفيها نفي الإثم والمطالبة جميعا
المبحث الثاني قوله لا جناح عليكم جملة تامة قد وليها شرط والجملة المتقدمة تتقيد بالشرط المتأخر وإن كان الصحيح من مذاهب النحويين أنها ليست جزاء له بل دليل الجزاء والجزاء محذوف مقدر بعده وقد وقفت على تصنيف الشيخ تاج الدين أبي اليمين زيد بن الحسن الكندي قال ما ملخصه مسألة عرضت علي بدمشق منسوبة إلى الجامع الكبير لمحمد بن الحسن
وهي قول الرجل لامرأته طلقتك إن دخلت الدار وإن دخلت الدار طلقتك وقال ليست هذه المسألة في الجامع الكبير ولا في شروحه
ولم يرها في غيره من كتبه ولا في كتب أئمة مذهبه بعده ولا وجدناها أيضا في كتب أصحاب الشافعي
ولما عدمنا ذلك استضأنا بآراء الفقهاء فرأيناها مختلفة ولم يقدروا فيها على نص مرفوع إلى إمام فضعف التعويل على تلك الأقوال لتعارض الفتيا
وأنا بعون الله تعالى أذكر من طريق العربية ما يجب على الفقيه اتباعه أما الحكم في طلقتك إن دخلت الدار بتقديم الفعل الماضي على الشرط فهو وقوع الطلاق على الحال من غير تعليق على الشرط ألبتة لأن الفعل الماضي إذا وقع قبل حرف الشرط كان ثابتا وما ثبت لا يجوز أن يوقع في جواب الشرط لأن جوابه يجب أن يكون قبل وقوعه معدوما ووقوعه موقوفا عليه
والماضي قبله قد وقع فاستحال أن يحمل عليه
ولهذا المعنى لم يجز عند كل من يوثق بعلمه أن يقول قمت إن قمت ولكن أقوم إن قمت
قال فإن قيل لم لا يكون الشرط محمولا على الفعل المقدم فيقع الطلاق عنده كما في قوله تعالى وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي في قراءة من كسر إن قيل الجواب ما ذكره الفارسي قال في التذكرة من كسر إن لم يجز أن ينصب امرأة بأحللنا ولكن ب نحل امرأة كقوله ولا ينفعكم نصحي إن أردت وقال في البصريات قال أبو الحسن الأخفش في قوله تعالى كتب
____________________
(1/25)
عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين على الاستئناف كأنه قال فالوصية
قال أبو علي كأنه قال فليقل هذا ولم يجعل كتب مقدما مغنيا عن الجواب لأن كتب واجب فقد ثبت فلم يجز أن يقع في جواب الجزاء الواجب إلا ما يقع بوقوع الأول ألا ترى أنه يقبح ضربتك إن جئتني ولا يقبح أضربك إن جئتني فلما كان كتب واجبا استقبح أن يستغنى به عن الجواب لأنه يلزم إن ترك خيرا كتبه والكتاب قد وقع فجعلت الجملة من المبتدأ والخبر الجواب وجملة الشرط والخبر تفسيرا لكتب كما أن لهم مغفرة تفسير للوعد في قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ونص المازني على أنه لا يجوز قمت إن قمت ولكن أقوم إن قمت قال فإن قيل لم لا يقدر الماضي تقدير الآتي كما في قوله يا حكم الوارث عن عبد الملك أوذيت إن لم تحب حبو ألمعيتك فالماضي بمنزلة الآتي بدليل وقوع الشرط فالجواب أن البيت إن حمل على هذا لم يكن بالشاهد لأن هذا إنما يكون فيما قرب قربا شديدا ولم يكن فيه مهلة ولا تراخ كقولهم قد قامت الصلاة فإن دخله التراخي لم يجز
وكذا قول رؤبة أوذيت إن لم تحب حبو ألمعيتك كأنه من مقارنته في الخيال في حال من قد غشيه ذلك
وبين هذه المسألة وبين قوله قمت إن قمت فرق من وجه وجمع من وجهين
أما الفرق فطلقتك حكم شرعي يؤاخذ به فيلزمه شرعا
وقمت إن قمت لا مبالاة باطراحه
وأما الجمع في أحد الوجهين فإنهما على صورة الثبوت فلا يستقيم أن يحملا على ما بعد الشرط
وفي الوجه الآخر أن قائلهما ليس في حال من قد غشيه الأمر من شدة مقارنته ولا فرق بين أن يكون القائل مخبرا أو منشئا في لفظ الفعل الماضي في معنى الثبوت والوقوع إلا أن الخبر يختص بما انقضى بانقضاء الزمان قبل الإخبار به والإنشاء يختص بالإيجاد في الحال وليس له صيغة تخصه وإنما يعلم بدليل الحال كما أن الأمر والدعاء بلفظ واحد وإنما يفرق بينهما الاستعلاء والخضوع انتهى ما أردت نقله من كلام الكندي على المسألة الأولى
قال وأما قوله إن دخلت الدار طلقتك فالحكم فيها وقوع الطلاق عند الدخول قال فإن قيل إن هذا وعد
فالجواب إنه وإن أشبه الوعد فإنه مضاد له من حيث المعنى لأن صورة الوعد في الشرط والجزاء من الأفعال الحسنة تفتقر إلى إيجاد من الواعد عند وجود الشرط مثل الضرب ونحوه
وطلقتك حكم شرعي يحل في الزوجة وتتصف
____________________
(1/26)
به عند دخولها الدار ولا يفتقر إلى إيقاع محدد
انتهى ما أردت نقله من كلام الكندي في المسألتين ولم يصب في شيء منهما والحق خلاف ما قاله فيهما
وإن الطلاق في الأولى يقع عند دخول الدار ولا يقع قبله
وفي الثانية لا يقع أصلا إلا إن نوى بقوله طلقتك معنى قوله فأنت طالق فحينئذ يقع عند وجود الشرط
ولا يساعد الكندي على ما قاله نحو ولا فقه
وقد قال تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام وقومه قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وقال تعالى قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين وبئس فعل ماض
وقال تعالى والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين في قراءة من قرأ بكسر الضاد وقال تعالى قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون والظاهر أن الشرط مرتبط في المعنى بما قبله
وقال صلى الله عليه وسلم خبت وخسرت إن لم أعدل وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء وقال ثكلته إن لم يسد إلا قومه وقال الملاعن كذبت عليها أن أمسكتها وقال طلقت إن لم تعلمي أي فارس حليلك
وقال الفقهاء فيما إذا قال بعتك إن شئت أنه يكون إقرارا ومقتضى كلام الكندي أن يكون وعدا
وهذه الشواهد كلها ترد ما قاله
والنظر أيضا يرده لأن كل ما أمكن تعليقه لا فرق بين أن يعبر عنه بالماضي أو بالمضارع فإذا أريد بالماضي ذلك صح تعليقه وليت شعري كيف ساغ للكندي أن يحكم بوقوع الطلاق الآن وقوله أنه حكم شرعي يؤاخذ به فيلزمه شرعا إن أراد أنه إقرار فقد نفرضه فيمن
____________________
(1/27)
يقطع بأنه لم يتقدم منه طلاق كما لو تزوج وقال ذلك عقب العقد فإنه لا يمكن حمله على الإقرار وإن أراد أنه إنشاء ولكنه لم يصححه من جهة النحو أعني تعليقه فيبقى إنشاء بلا تعليق فيقع الآن والظاهر أن هذا مراد الكندي لم يصح تعليله بما قاله من أنه ماض وجب وثبت وكل ما كان كذلك لم يصح تعليقه
فإن هذا التعليل يرجع إلى المعنى لا إلى الصناعة وكيف يوقع على شخص لم يقصده ولا دل عليه لفظ الخطاب بحسب صناعة النحو ولا ينجز عليه الطلاق الآن بل يوقعه إذا دخلت الدار اعتبارا بقصده وما دل عليه لفظه وإن كان خطأ من جهة النحو فهذا الذي نحن فيه أولى لما بينا أنه ليس خطأ من جهة النحو بل صوابا وإنما وقع الالتباس على الكندي من جهة أن الفعل الماضي تارة لا يصح أن يراد به الإنشاء بوجه بل يكون خبرا معينا فهذا لا شك أنه لا يصح تعليقه كقوله قمت إن قمت إذا قصد بالأول الإخبار بالقيام فإنه يستحيل تعليقه بعد ذلك وتارة يصح أن يراد به الإنشاء كقوله طلقتك فإنه وإن كان موضوعا للخبر
فقد يراد به الإنشاء بل ذكره الفقهاء في صرائح الطلاق كقوله أنت طالق
ومقتضى ذلك إن طلقتك صريح في الإنشاء ويكون قد نقل من الخبر إلى الإنشاء فإذا كان كذلك فما المانع من تعليقه بل أقول إن قمت وظاهره إن كان الخبر ويصح تعليقه أيضا إذا لم يرد به الخبر الماضي الثابت على كل تقدير كما في قوله تعالى قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم لأن الافتراء منتف قطعا غير مراد بل المراد التعليق وجعل العود كالمستحيل لاستلزامه هذا المحذور وهو الافتراء الذي يشك في عدمه فصار الفعل الماضي على ثلاثة أقسام قسم يراد به الخبر الماضي المحقق فلا تعليق فيه أصلا ولا يقال لا يصح تعليقه لأن كل أحد يعلم أن ما وقع لا يعلق وقسم يظهر فيه الإنشاء كطلقت فهذا الأظهر فيه جانب قبول التعليق حتى يصرفه صارف
وقسم عكسه والحكم فيه بعكسه كما في قوله في الآية الكريمة
وقول الفارسي والمازني وغيرهما من أئمة النحاة محمول على القسم الأول أو على هذا القسم إذا أريد أصل وضعه
____________________
(1/28)
وهو الحالة الغالبة عليه فحكموا على ما يقتضيه اللفظ من غير تأويل
فتسوية الكندي بينه وبين القسم الثاني الذي يظهر فيه الإنشاء غير متجه ثم إنه يلزمه ذلك في اسم الفاعل كما إذا قال أنت طالق إن دخلت الدار لأن قوله أنت طالق جملة اسمية تدل على ثبوت الطلاق في الحال وما كان ثابتا في الحال لا يعلق كما لا يصح أن تقول أنا قائم في الحال إن قمت إلا أن تقول إن اسم الفاعل صالح للاستقبال فالتعليق يحمل عليه
وقوله طلقتك كذلك لأن الماضي قد يراد به المستقبل
على أنا لا نقول إن هذا الماضي أريد به المستقبل بل أريد به الإنشاء الناجز الواقع في الحال والمعلق هو أثره وهو وقوع الطلاق المنشأ بحسب ما أنشأه وهو حكم شرعي يقع عند دخول الدار فالماضي هو التطليق والإيقاع والمعلق هو الطلاق والوقوع ولا شك أن في طلقتك أمرين أحدهما التصرف الناجز من الزوج والثاني أثر ذلك التصرف والأول تطليق وإيقاع لا يمكن تأخره والثاني طلاق ووقوع هو الذي يتأخر ويتعلق وهذا مثل قولك اضرب زيدا يوم الجمعة ففي اضرب شيئان أحدهما إنشاء لأنه فعل أمر وفعل الأمر إنشاء وهو من هذه الجهة لا يتأخر ولا يصح تعليقه
وليس يوم الجمعة ظرفا له إذ لو كان ظرفا له لزم تأخره والثاني المصدر الذي تضمنه وهو المأمور به وهذا هو المعلق المظروف في يوم الجمعة وقول النحاة أن يوم الجمعة معمول لا ضرب فيه تسمح ومرادهم ما ذكرناه وإن لم تفصح عبارتهم به وبهذا ينحل لك ويظهر أن أحللنا عامل في امرأة مؤمنة على قراءة الكسر في إن وهبت في الآية الكريمة
فإن أحللنا فيه شيئان أحدهما الإحلال الذي هو إنشاء من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو قديم أزلي لا يقبل التعلق من هذا الظرف والثاني الحل المستفاد منه وهو من هذا الظرف يقبل التعليق فهو المشروط بالهبة فافهم هذا فإنه هو المعنى الذي خفي على الكندي ولا غرو أن يخفى على الفارسي
وأما ما قاله أبو الحسن الأخفش في قوله تعالى كتب عليكم فإن جوزنا حذف الفاء من جواب الشرط إذا كان اسما وهو أضعف الوجهين فصحيح ولا حجة فيه للكندي والفارسي ولا عليه بل معناه أن مضمون الجملة الشرطية هو المكتوب لأن الكتابة هي التكليف والتكليف متقدم في الأزل والمكلف هو المعلق أو تعلق التكاليف هو المعلق
وهذا كله إذا جوزنا حذف الفاء من الجملة الاسمية
والصحيح خلافه ويحتمل في
____________________
(1/29)
الآية وجه ثان وهو أن يكون المكتوب الوصية لقوله تعالى إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا شرطان متوسطان بين الفعل ومفعوله ويكون الجواب كتب محذوفا مدلولا عليه بكتب المتقدم ويحتمل وجه ثالث وهو أن إذا ظرف محض أي كتب وقت الحضور وقوله إن ترك شرط إما تقدر الفاء في الوصية جوابا له وإما محذوف الجواب والوصية مفعول كما في الوجه الثاني
وعلى هذين الوجهين تكون الكتابة وقت الاحتضار وعلى قول الأخفش تكون الكتابة متقدمة ولك أن تخرج ذلك على خلاف في الأصول فقول الأخفش يتخرج على أن التكليف أزلي والقولان الآخران على أنه حادث أو تعلقه حادث ويكون الحادث عند الشرط التعلق
إذا عرفت ذلك عدنا إلى الآية الكريمة وهي قوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء فنقول لا جناح عليكم جملة اسمية إن قدرنا الخبر كائن أو يكون فهي في الثبوت كقولك أنا قائم بل أولى
لأن ما يحتمله اسم الفاعل المصرح به من الزمان المستقبل هاهنا يضعف لأنا إنما قدرناه لضرورة العمل وإذا كان كذلك فيلزم الكندي أيضا وتكون هذه الآية من جملة ما يرد عليه وكذلك نظائرها في القرآن كقوله تعالى ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد وأشباهها فلأجل ذلك ذكرنا كلام الكندي في هذه الآية ولننبه على ما فيه
وأما المسألة الأخرى وقول الكندي أنه إذا قال
إن دخلت الدار طلقتك يقع الطلاق عند دخول الدار فليس بصحيح أيضا
وهذا وعد مجرد وقد قال الرافعي إن قول القائل إن جئتني أكرمتك
إن الإكرام فعل منشأ ولا يتصور إنشاؤه إلا متأخرا عن المجيء فيلزم الترتيب ضرورة ووقوع الطلاق حكم شرعي لا يفتقر إلى زمان محسوس فسبيله سبيل العلة مع المعلول ذكر الرافعي هذا في الجواب عن قول القائل إن الشرط قبل المشروط ونقلنا منه غرضنا هنا وهو قوله في الإكرام وكذلك نقوله نحن في طلقتك لأنه فعل منشأ
وخفي عن الكندي هذا فإن قلت قد قلتم فيما إذا قال طلقتك إن دخلت الدار
بالوقوع والجزاء الذي يقدر من جنس المتقدم وهو طلقتك فكيف فرقتم بينهما على عكس ما فرق بينهما الكندي قلت إذا تقدم طلقتك على الشرط كان المعلق أحد جزأي مدلوله وهو الوقوع دون الإيقاع وإذا تأخر كان المعلق جميعه فلذلك فرقنا بينهما
ونظير ذلك أن نقول إذا جاء رأس الشهر وكلتك لم يصح ولو قال وكلتك الآن إذا جاء رأس الشهر على
____________________
(1/30)
معنى أن يتصرف إذا جاء رأس الشهر صح
وحاصله أن لقوله طلقتك إن دخلت الدار جهة يصح تعليق وقوع الطلاق فيها يحمل عليه بخلاف إن دخلت الدار طلقتك فإن أراد بقوله طلقتك إن دخلت الدار معنى قوله إن دخلت الدار طلقتك لم يحكم عليه بالطلاق لا في الحال ولا عند دخول الدار تسوية بين الصيغتين حينئذ إذا أراد وإنما عند الطلاق بحمله على ما قدمناه لأنه المتبادر إلى الذهن
تنبيه نقل النحاة في أن المتقدم على الشرط مما هو جواب له في المعنى أنه ليس جوابا في الصناعة عند أكثر البصريين وقيل جواب وقيل يفرق بين الفعل الماضي وغيره ومن الفارقين المازني فلعل الكندي وهم في فهم كلام المازني ويكون مراد المازني أنه إذا جاء هكذا يكون دليلا لا جوابا مع تقيده بزمن من حيث المعنى
وأما عدم تقيده به كما فهم الكندي فما أظن أن أحدا يقول به
البحث الرابع في الآية الكريمة قوله تعالى ما لم تمسوهن قال الواحدي عن صاحب النظم إن ما بمعنى اللاتي أي اللاتي لم تمسوهن وهذا ضعيف والحق أنها ظرفية مصدرية أي مدة عدم مسكم إياهن وعلى هذا يحتمل أن يكون معمولا لطلقتم أي إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن فلا جناح عليكم ويحتمل أن يكون معمولا لخبر لا جناح فعلى الأول هو تقييد للمحكوم عليه فالمعنى أن الطلاق قبل المسيس لا جناح فيه
وعلى الثاني هو تخصيص للحكم فالمعنى أن الطلاق لا جناح فيه إذا كان قبل المسيس وإنما قلنا في الأول تقييد وفي الثاني تخصيص لأن طلقتم مطلق لا عموم فيه فيتقيد والثاني عام لأجل النفي فيتخصص وأي الطريقين أرجح فيه نظر لأنه يحتمل أن يقال كونه معمولا لطلقتم أولى للقرب وعدم الفصل ولأن معرفة محل الحكم قبل الحكم أولى ويحتمل أن يقال كونه معمولا لخبر لا جناح أولى لتشاكله كله في العموم فإن ما عامة و طلقتم مطلق فيبعد مجيئها معه
والأنسب له أن يقال وقت عدم مسهن إن لم تمسوهن ونحوه مما لا عموم فيه صريحا نعم في الشرط شبه العموم فيحسن مجيئها معه وحاصله أن قولك أكرمتك ما دام كذا مستنكر ولأكرمنك ما دام كذا غير مستنكر لحسن العموم في الثاني دون الأول ثم تفسيرنا ما لم تمسوهن بوقت عدم المس نظر إلى أصل معنى المصدر وبينهما فرق
فإن وقت عدم المس يدل على المصدر من حيث هو ووقت لم يمس يدل عليه مع ما يدل عليه لم تمس من المضي وهذا الموضع قد لا يظهر له أثر ولكن في مواضع أخرى يظهر أثره
كقولك أنت طالق ما لم أضربك فإنه متى ضربها على الفور
____________________
(1/31)
ثم أمسك عن ضربها لم يقع طلاق
ولو قال أنت طالق وقت عدم ضربي لك يقع الطلاق في وقت عدم الضرب وإن حصل ضرب قبله
هذا الذي يظهر في المسألتين من غير نقل عندي فيهما
والذي يتبادر إلى فهمي من الآية الكريمة أن قوله ما لم تمسوهن معمول لخبر لا جناح متعلق به لا بطلقتم وحده
البحث الخامس قوله تعالى أو تفرضوا لهن فريضة
وهذا هو المقصود الأعظم من المباحث التي جرت في هذه الآية في هذا الوقت فنقل الواحدي وغيره قولين أحدهما أن أو عاطفة على محذوف تقديره فرضتم أو لم تفرضوا
وهذا يناسب قول من فسر الجناح بالإثم فإن الإثم مرتفع عن الطلاق قبل المسيس فرض أم لم يفرض وأما المطالبة بالمال فلا ترتفع بالطلاق قبل المسيس بعد الفرض إلا أن يراد المطالبة بكمال المهر فإنه أيضا يرتفع بالطلاق قبل المسيس كله قبل الفرض وشطره بعد الفرض
القول الثاني أن أو بمعنى الواو
وهذا إن أخذ على ظاهره اقتضى أن التقدير ما لم تمسوهن وتفرضوا فيقتضي انتفاء الجناح ما لم يوجد الأمران
ويرد عليه أن الجناح موجود عند وجود أحدهما وهو المسيس بالإجماع
لكن الواحدي قدره على هذا القول بقوله ما لم تمسوا أو تفرضوا فأعاد حرف النفي وبه يستقيم لأنه يصير الجناح مرتفعا عند عدم هذا وعدم هذا أعني عند عدم كل منهما فلا ينتفي عند عدم أحدهما ووجود الآخر
واعلم أن الصيغ ثلاث أحدها أن يقيد الظرف فيقول لا جناح عند عدم المسيس وعند عدم الفرض فيقتضي ارتفاع الجناح في كل من الوقتين سواء وجد الآخر أم لا
الثانية أن لا يقيد الظرف ويقيد حرف النفي فنقول عند عدم المسيس وعدم الفرض فيقتضي ارتفاع الجناح عند عدم كل منهما وإثباته عند أحدهما لأنه وقت واحد يضاف إلى العدمين بخلاف الصيغة الأولى فإنها تقتضي وقتين
الثالثة أن لا يقيد الظرف ولا حرف النفي فنقول عند عدم المسيس والفرض فهو ظرف واحد وعدم واحد للأمرين فيقتضي ارتفاع الجناح عند عدم مجموع الأمرين
ونعني بعدمهما هنا عدم كل منهما فيقرب معناه من الصورة الثانية لكن الفرق بينهما أن الثانية تفيد عدم كل واحد صريحا ويلزم منه عدم المجموع ويفهم إثباته عند عدم وجود أحدهما
والثالثة تفيد عدم المجموع نصا وعدم كل منهما ظاهرا لأنه يحتمل أن يراد عدم المجموع من حيث هو مجموع حتى يستمر الحكم عند عدم أحدهما ووجود الآخر ولكن الظاهر خلافه
وإنما قلنا الظاهر خلافه
لأن إسناد العدم إليهما يقتضي إسناده إلى كل منهما وليس هو كنفي
____________________
(1/32)
الوجود عنهما ولنبين ذلك بأن ما يذكر لنفي الوجود ثلاث صور أخر إحداها وهي الرابعة أن تقول وقت لا هذا ووقت لا هذا فيفيد كلا من العزمين كالصورة الأولى
الخامسة أن تقول وقت لا هذا ولا هذا فهي كالثانية
السادسة أن تقول وقت لا هذا وهذا فمعناه سلب الوجود عنهما وحقيقته عن مجموعهما لأنه وجود واحد منسوب إليهما
كما كان العدم هناك واحدا منسوبا إليهما فسلبه يقتضي السلب لذلك الوجود الواحد المنسوب إليهما فقط ولا يقتضي سلب الوجود عن كل منهما
وبهذا يظهر الفرق بين قولنا لم يوجدا وقولنا عدما فالأول لا يقتضي انتفاء كل فرد والثاني يقتضيه
والفرق أن العدم في الثانية مسند إلى كل منهما وقد حكم به فيكون لكل منهما والوجود في الأولى مسند إلى كل منهما وقد نفي ولا يلزم من نفيه عن كل منهما نفيه عن أحدهما لأن هذا سلب العموم لا عموم السلب
فافهم ذلك
ولفظ الانتفاء كلفظ العدم فإذا قلت انتفيا كان كقولك عدما
وليس بمنزلة قولك لم يوجدا وهذا يطرد في كل متعدد وفي جميع الأعداد كالعشرة والمائة والألف وما نقص عنها وما زاد إلا أن يكون له شيء له حقيقة مجموعة فيساوي منه قولك لم يوجد وقولك عدم يشير إلى تلك الحقيقة دون أفرادها وقد يتخيل في العشرة والمائة والألف وهذا المعنى فيطلق عدمها عند انتفاء بعضها
فلا يحملك ذلك على إنكار ما قلناه
فلذلك نبهنا عليه واحترزنا منه وهو إطلاق مجازي لا حقيقي
والحقيقي ما قدمناه
هذا كله إذا أسندت النفي إلى شيئين أو شيء بصيغة التثنية أو الجمع أو إلى شيء وعطفت عليه غيره بالواو
أما إذا عطفت بأو فقلت لم يوجد هذا أو هذا إذا لم يعد حرف النفي فالمعنى لم يوجد واحد منهما فلم يوجد لا هذا ولا هذا فكذلك قولك لا تضرب هذا أو هذا ولا تعط هذا أو هذا وما أشبه ذلك
وعليه قوله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا فلو أعدت حرف النفي تغير المعنى
والذي يظهر أنه يصير المعنى ترديدا بين النفيين هل انتفى هذا أو انتفى هذا
وقال سيبويه في باب الواو التي تدخل عليها ألف الاستفهام ولو قلت أو لا تطع كفورا انقلب المعنى
قيل يعني أنه يصير إضرابا كأنه ترك النهي عن اتباع الآثم وأضرب عنه ونهى عن طاعة الكفور فقط
وهذا التفسير لكلام سيبويه فيه نظر
والأولى أن يكون معناه التخيير بين أن يترك طاعة هذا أو طاعة هذا وأنه منهي عن أحدهما لا عن كل منهما
فهذا الذي يفهم من
____________________
(1/33)
اللفظ وتكون أو باقية على حالها من دلالتها على أحد الشيئين وليست للإضراب
وهذا الذي ينبغي أن يفسر به كلام سيبويه
ومن ادعى من النحويين أن سيبويه جعلها للإضراب فدعواه غير مسموعة إلا أن يريد بالإضراب أنه أضرب عن الجزم بالنهي عن الأول
وأردفه بأو الدالة على النهي عن أحدهما فقط لا عن الأول بعينه ولا عن كل واحد
ويكون مراد سيبويه بانقلاب المعنى انقلابه من النهي عن كل واحد إلى النهي عن أحدهما وكون أو للإضراب لم يضرب به سيبويه لكن في ويمكن حمله على أن مراده في تلك الأمثلة التي ذكر والنهي خاصة وأنه إضراب عن الجزم بالأول إلى التخيير عين ما قلناه من دلالتها على أحد الشيئين بل أقول يمكن طرد ذلك في جميع وجوهها التي ذكرها النحاة من الشك والإبهام
والتخيير والإباحة فإن التي للشك أو الإبهام الخبر فيها بأحد الشيئين والتي للتخيير أو الإباحة الأمر أو النهي فيها لأحد الشيئين
وقد وقع في بعض كلام النحاة خبط في ذلك حتى مثل بعضهم التي للإبهام بقوله تعالى أتاها أمرنا ليلا أو نهارا كأنه ظن أن هذا خبر ماض وإنما هو جاء في ضمن مثل مفروض الوقوع إما في الليل وإما في النهار
واتفق النحاة على أن الذي للإباحة إذا كانت في النهي اقتضت كلا منهما واختلفوا في التي للتخيير
فقال جمهورهم بذلك أيضا وخالف ابن كيمان فقال يجوز أن يكون النهي عن واحد وأن يكون عن الجميع
فإذا قلت لا تأخذ دينارا أو ثوبا جاز أن يكون نهيا عن أحدهما ورد عليه ابن عصفور
واعلم أن التي للإباحة والتي للتخيير صورتهما واحدة ويختلفان بما يريده المتكلم وبما تدل عليه القرائن
فحيث أريد المنع من الجميع فهي التي للتخيير وحيث أريد المنع من الخلو فهي التي للإباحة
فالمقصود في التخيرية إباحة واحد لا غير والمقصود في الإباحية إباحة ذلك الجنس
وتسمى الأولى عند المنطقيين مانعة الجمع وتسمى الثانية مانعة الخلو إن قصد إباحة ذلك الجنس دون غيره وإلا فقد تقصد إباحة ذلك الجنس من غير تعرض لغيره فلا يكون فيها منع أصلا
إذا عرفت هذا جئنا إلى الآية الكريمة فالمعنى ما لم يوجد أحد الشيئين المسيس أو الفرض فإن وجد أحدهما فالجناح موجود
والحكم على نفيه ويكون الجناح عند المسيس كل المهر وعند الفرض والطلاق نصفه كما بينه في الآية بعد ذلك
واكتفى في المسيس بالمفهوم
هذا إن عطفت أو تفرضوا على تمسوهن وهو المتبادر إلى الذهن ويكون
____________________
(1/34)
تفرضوا مجزوما
وقال الشيخ أبو عمرو بن الحاجب اختلف في أو هذه فقيل إنها التي بمعنى إلا أن أو إلى أن فيكون تفرضوا في موضع نصب بإضمار أن أو بأو على رأي وقيل إن أو عاطفة على تمسوهن وإنما خالف الأقلون الظاهر في أو لأحد أمرين إما أنها إذا جعلت بمعنى أو كان المعنى لا جناح عليكم فيما يتعلق بمهور النساء إن طلقتم النساء إذا انتفى أحد هذين الأمرين وإذا استلزمت ذلك لم يستقم لأنه ينتفي أحد الأمرين وهو الفرض فيجب صداق المثل بالمسيس أو بنفي المسيس وهو أحد الأمرين فيلزم نصف ما فرض فلا يصح نفي الجناح عند انتفاء أحدهما
والثاني أن المطلقات المفروضات لهن قد ذكرت ثانيا وترك ذكر الممسوسات لما تقدم من المفهوم فلو كانت العاطفة لكان المفروضات في الذكور كالممسوسات وليس الأمر كذلك
وإذا جعلت أو بمعنى إلا أن خرجت عن مشاركة الممسوسات فلم يلزم ظهور دخولهن معهن
ولذلك لم ير مالك للمطلقات المفروض لهن قبل المسيس متعة
لأنه يرد دخولهن في الآية لما ذكرت ثانيا وجعل المتعة للممسوسات خاصة أو لغير الممسوسات ولغير المفروض لهن
قال ابن الحاجب ويمكن أن يقال عن الأول لا يلزم أن يكون المعنى ما انتفى أحدهما بل المعنى ما لم يكن أحدهما وفرق بين أن يقول القائل انتفى أحد الأمرين وقوله ما كان واحد من الأمرين فإن الأول لا ينفي إلا أحدهما لأنه نكرة ليس في صريح سياق النفي والثاني ينفيهما جميعا لأنها نكرة في صريح سياق النفي فإذن لا فرق في المعنى بين أن تكون أو بمعنى إلى أن وبين أن تكون العاطفة
وكان حملها على العاطفة أولى لأنه الأكثر
وأما الثاني فلا يلزم من مشاركتهم الممسوسات فيما ذكر مشاركتهن فيما وراء ذلك
هذا مع أنه قد ذكر ثانيا ما يدل على انتفائهم المشاركة انتهى كلام ابن الحاجب
وهو في غاية السداد فرحمه الله ما أصح ذهنه وقد أشرنا فيما تقدم إلى ما ذكره من الفرق بين نفي أحد الأمرين وقولنا لم يوجد أحد الأمرين فهو حق لا شك فيه
وقد تحرر أن ما لم تمسوهن أو تفرضوا متعلق بخبر لا جناح وأن أو باقية على حالها وأنه يحتمل أنها بمعنى إلا أن لكنه تكلف من غير ضرورة
وعلى كلا التقديرين المعنى ما لم تكونوا مسستم أو فرضتم لأن أحد الأمرين المسبب للجناح هو الواقع قبل الطلاق فلا بد من مجاز إما في تمسوهن بمعنى تكونوا قد
____________________
(1/35)
مسستموهن وإما بأن الاستقبال الذي دلت عليه إن بالنسبة إلى الخطاب لا إلى الطلاق
ولو جعل ما لم تمسوهن أو تفرضوا متعلقا بطلقتم سلم عن هذا المجاز لكن يعارضه ما قدمناه مما رجح تعلقه بخبر لا جناح فلذلك اخترناه لكن يرد على كلام ابن الحاجب شيء وهو أنه هنا جعل الترديد بين المس والفرض ولم يعد حرف النفي وهو حق في قوله تعالى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قدرت لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أولا لم تكن آمنت ولا كسبت في إيمانها خيرا
ومن المعلوم أن التي ما آمنت ما كسبت في إيمانها خيرا فلا وجه لعطفه عليه لأنه لا يفيد فائدة أخرى فاحتيج إلى تقدير حرف النفي بل وزيادة عليه
وهو أن تقدر نفسا حتى تكون النفس الثانية غير النفس الأولى لتتم الفائدة
فالترديد بين النفسين لا في نفس واحدة بين شيئين فكأنه قال
لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل ولا نفسا لم تكن كسبت في إيمانها خيرا
ولا متعلق للمعتزلة في الآية على كل تقدير لأن الإيمان إذا تجرد عن المعصية نافع قطعا بالإجماع وإن لم يكسب فيه خيرا
فالوجه في العطف ما قدره ابن الحاجب أن يكون المعنى لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها لم تكن آمنت أو كسبت ويكون في الكلام لف ونشر
أي لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ولا ينفعها كسبها لم تكن كسبت في إيمانها خيرا والمقصود سلب النفع إلا عن إيمان أو كسب الخير وهو حق
هذا ما تيسر ذكره في هذه الآية بحسب ما اقتضاه البحث الآن وإن كان فيها من المباحث غير ذلك والله أعلم انتهى
آية أخرى قال الشيخ الإمام رحمه الله مسألة جرى البحث في الغزالية في أواخر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين وسبعمائة في قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم فقلت قوله من إشارة إلى المسلمين الأحرار لأنهم الذين يتداينون غالبا والرقيق لا يتداين غالبا
فقال بعض الحاضرين وهو الولد عبد الوهاب هذا يثبت على أن الإمام يخص بالعادة والصحيح خلافه فلا يلزم من كون المداينة بين الأحرار في الغالب أن يختص الخطاب بهم لأنه عام
قلت لا نسلم وطالت هذه الممانعة ولم يتبين للجماعة سند المنع فبينته لهم وهو أن المخاطب أي وهو اسم مبهم
____________________
(1/36)
لا عموم له لكنه نعت بالذين آمنوا ولا يلزم من نعته بالعام أن يكون عاما بل هو باق على إطلاقه فتكون جملة على الأحرار تقييدا لا تخصيصا بل أقول إنه ليس تقييدا أيضا بل لبيان المخاطب من هو وكذلك يصرف بأي قرينة اتفق ولا يسمى تخصيصا كما تقول هذا مشيرا إلى شخص فيعرف بالإشارة أنه المراد بقولك هذا ولا يسمى تخصيصا ولا تقييدا
وليس هذا من باب ما ينظر فيه إلى باب مدلول اللفظ حتى يدعى تعميم النكرة بعموم صفتها كما يقوله الحنفية لأن ذلك فيما يكون الحكم فيه شرطا بمقتضاه وهذا الحكم منوط بالمقصود بالنداء وهو أمر لا دلالة للفظ عليه بل لما تدل القرائن عليه فلا جرم امتنع دعوى العموم فيه والله أعلم انتهى
آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى من سورة آل عمران تؤتي الملك من تشاء يستدل به على جواز تسمية الملك في المخلوق بخلاف ما نقله القاضي أبو بكر
وإنما تمتنع التسمية بملك الأملاك لأنه يختص بالله تعالى وإنما قلنا أنه يستدل بذلك لأن الأصل أنه إذا ثبت المعنى صح الاشتقاق فإن تحقق النقل الذي قاله أبو بكر كان ذلك مستثنى من هذا الأصل مانعا من الاستدلال والله أعلم انتهى
آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى فلما أحس عيسى منهم الكفر قال الزمخشري فلما علم منهم الكفر علما لا شبهة فيه بعلم ما يدرك بالحواس قلت هذا وجه محتمل لأن العلم الحسي أجلى من غيره ويحتمل وجها آخر وهو أنه أول ما ابتدأ علمه وشعوره بكفرهم وعبر عنه بذلك لأن الحس طريق العلم ومبدؤه فهما وجهان من المجاز في التعبير بالإحساس عن العلم سائغان والثاني مستعمل في العرف كثيرا وهو أظهر مما قاله الزمخشري والأكثر في أحس استعماله هكذا رباعيا ولم يبنوا منه اسم مفعول
وقول الناس محسوسات يظن بعض الناس أنه اسم مفعول منه جاء على غيره وليس كذلك بل هو من الثلاثي ألا تراك تقول الحاسة فالمحسوسات اسم مفعول منها ومعناه الأشياء التي تدرك بالحواس وإدراك الحواس طريق في العلم الواصل إلى القلب لا نفس العلم الذي في القلب وقولهم أحس معناه علم بقلبه علما مسندا إلى الحس فهو معنى غير الأول ولم يبنوا منه اسم مفعول لاستغنائهم عنه فافهم هذا فإن كثيرا من الناس لا يعرفه وهو مما أبرزته القريحة بالفكر وتأمل الكلام
قوله من أنصاري إلى الله
____________________
(1/37)
قال الحواريون نحن أنصار الله قيل السؤال بمن عن التصور والجواب بالتصديق قلت من وإن كان سؤالا عن التصور فالسائل بها تارة يجزم بحصول منهم ولكن يسأل عن تعينه فقوله من أنصاري محمول على ذلك قاله عيسى عليه السلام راجيا من الله تعالى إقامة ناصر له سائلا عن عينه فهو سؤال عن التصديق والتصور ولكن أخرجه مخرج التصور ثقة بالله وأدبا مع الله ومع السامعين فكان الأكمل في حقه السؤال عن التصور وجعل السؤال عن التصديق مطلوبا فيه والحواريون تفطنوا لذلك فأجابوا بالتصديق ليحصلوا المقصودين معا فكأنهم قالوا هنا من ينصرك هم نحن
وقالوا أنصار الله لأن نصرته نصرة الله بمعنى نصرة دينه
وليبينوا أن نصرتهم لله لا يشوبها غيرها من حظوظ البشرية وإنما فسروا الإحساس بالعلم لأن الكفر يعلم ولا يحس على أنه قد يكون بأقوال تسمع وأعمال تبصر تكون سببا للكفر أو دليلا عليه فيصح إطلاق الإحساس عليها حقيقة ولكن الظاهر في الآية الأول وفي قوله تعالى هل تحس منهم من أحد الظاهر أن المراد الإبصار حقيقة
ولهذا قال أو تسمع لهم ركزا انتهى
قال رضي الله عنه الحمد لله الذي عظم نبيه ومن علينا به وهدانا إلى كل خير إذ وصل سببنا بسببه
وبعد فقد حصل البحث في تفسير قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه وقول المفسرين هنا أن الرسول هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأنه ما من نبي إلا أخذ الله عليه الميثاق أنه إن بعث محمد في زمانه لتؤمنن به ولتنصرنه ويوصي أمته بذلك وفي ذلك من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم قدره العلي ما لا يخفى وفيه مع ذلك أنه على تقدير مجيئه في زمانهم يكون مرسلا إليهم فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق من زمن آدم إلى يوم القيامة ويكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته ويكون قوله بعثت إلى الناس كافة لا يختص به الناس من زمانه إلى يوم القيامة بل يتناول من قبلهم أيضا ويتبين بذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد وإن من فسره بعلم الله بأنه سيصير نبيا لم يصل إلى هذا المعنى لأن علم الله محيط بجميع الأشياء ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة
____________________
(1/38)
في ذلك الوقت ينبغي أن يفهم منه أنه أمر ثابت له في ذلك الوقت ولهذا رأى اسمه آدم مكتوبا على العرش محمد رسول الله فلا بد أن يكون ذلك معنى ثابتا في ذلك الوقت ولو كان المراد بذلك مجرد العلم بما سيصير في المستقبل لم يكن له خصوصية بأنه نبي وآدم بين الروح والجسد لأن جميع الأنبياء يعلم الله نبوتهم في ذلك الوقت وقبله فلا بد من خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم لأجلها أخبر بهذا الخبر إعلاما لأمته ليعرفوا قدره عند الله فيحصل لهم الخير بذلك
فإن قلت أريد أن أفهم ذلك القدر الزائد فإن النبوة وصف لا بد أن يكون الموصوف به موجودا وإنما يكون بعد بلوغ أربعين سنة أيضا
فكيف يوصف به قبل وجوده وقبل إرساله فإن صح ذلك فغيره كذلك
قلت قد جاء أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد فقد تكون الإشارة بقوله كنت نبيا إلى روحه الشريفة صلى الله عليه وسلم وإلى حقيقته والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها وإنما يعلمها خالقها
ومن أمده بنور إلهي ثم إن تلك الحقائق يؤتي الله كل حقيقة منها ما يشاء في الوقت الذي يشاء فحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم قد تكون من قبل خلق آدم آتاها الله ذلك الوصف بأن يكون خلقها متهيئة لذلك وأفاضه عليها من ذلك الوقت فصار نبيا وكتب اسمه على العرش وأخبر عنه بالرسالة ليعلم ملائكته وغيرهم كرامته عنده فحقيقته موجودة من ذلك الوقت فإن تأخر جسده الشريف المتصف بها واتصاف حقيقته بالأوصاف الشريفة المفاضة عليه من الحضرة الإلهية حاصل من ذلك الوقت وإنما يتأخر البعث والتبليغ لتكامل جسده صلى الله عليه وسلم الذي يحصل به التبليغ وكل ماله من جهة الله تعالى ومن جهة تأهل ذاته الشريفة وحقيقته معجل لا تأخر فيه وكذلك استنباؤه وإيتاؤه الكتاب والحكم والنبوة وإنما المتأخر تكونه
____________________
(1/39)
وتنقله إلى أن ظهر صلى الله عليه وسلم وغيره من أهل الكرامة
ولا نمثل بالأنبياء بل بغيرهم قد يكون إفاضة الله تلك الكرامة عليه بعد وجوده بمدة كما يشاء سبحانه وتعالى ولا شك أن كل ما يقع فالله تعالى عالم به من الأزل ونحن نعلم علمه بذلك بالأدلة العقلية والشرعية ويعلم الناس منها ما يصل إليهم عند ظهوره لعلمهم نبوة النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه القرآن في أول ما جاءه به جبريل صلوات الله وسلامه عليه وهو فعل من أفعاله سبحانه وتعالى من جملة معلوماته من آثار قدرته وإرادته واختياره في محل خاص يتصف بها
فهاتان مرتبتان الأولى معلومة بالبرهان والثانية ظاهرة للعيان وبين المرتبتين وسائط من أفعاله سبحانه وتعالى تحدث على حسب اختياره سبحانه وتعالى منها ما يظهر لبعض خلقه حين حدوثه ومنها ما يظهر لهم بعد ذلك ومنها ما يحصل به كمال لذلك المحل وإن لم يظهر لأحد من المخلوقين وذلك ينقسم إلى كمال يقارن ذلك المحل من حين خلقه وإلى كمال يحصل له بعد ذلك ولا يصل علم ذلك إلينا إلا بالخبر الصادق والنبي صلى الله عليه وسلم خير الخلق فلا كمال لمخلوق أعظم من كماله ولا محل أشرف من محله يعرفنا بالخبر الصحيح حصول ذلك الكمال من قبل خلق آدم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى وأنه أعطاه النبوة من ذلك الوقت ثم أخذ له المواثيق على الأنبياء وعلى أممهم ليعلموا أنه المقدم عليهم وأنه نبيهم ورسولهم وفي أخذ المواثيق وهي معنى في الاستخلاف
ولذلك دخلت لام القسم في لتؤمنن به ولتنصرنه
لطيفة أخرى وهي كأنها أيمان البيعة التي تؤخذ للخلفاء ولعل أيمان الخلفاء أخذت من هنا فانظر هذا التعظيم العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى فإذا عرف ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم هو نبي الأنبياء ولهذا ظهر ذلك في الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه وهو في الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته
وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم فنبوته عليهم ورسالته إليهم معنى حاصل له وإنما أثره يتوقف على اجتماعهم معه فتأخر ذلك الأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافه مما تقتضيه وفرق بين توقف الفعل على قبول المحل وتوقفه على أهلية الفاعل فهنا لا توقف من جهة الفاعل ولا من جهة ذات النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة وإنما هي من جهة وجود العصر المشتمل عليهم فلو وجد في عصرهم لزمهم إتباعه بلا شك ولهذا يأتي عيسى في آخر الزمان على شريعته وهو نبي كريم
____________________
(1/40)
على حالته لا كما ظن بعض الناس أنه يأتي واحدا من هذه الأمة نعم هو واحد من هذه الأمة لما قلناه أن إتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما يحكم بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة وكل ما فيها من أمر أو نهي فهو متعلق به كما يتعلق بسائر الأمة وهو نبي كريم على حاله لم ينقص منه شيء وكذلك لو بعث النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه أو في زمن موسى وإبراهيم ونوح وآدم كانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم والنبي صلى الله عليه وسلم نبي عليهم ورسول إلى جميعهم فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم وتتفق مع شرائعهم في الأصول لأنها لا تختلف وتقدم شريعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع إما على سبيل التخصيص وإما على سبيل النسخ أو لا نسخ ولا تخصيص بل تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة هذه الشريعة والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات
وبهذا بان لنا معنى حديثين خفيا عنا أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم بعثت إلى الناس كافة كنا نظن أنه من زمانه إلى يوم القيامة فبان أنه جميع الناس أولهم وآخرهم والثاني قوله صلى الله عليه وسلم كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد كنا نظن أنه بالعلم فبان أنه زائد على ذلك على ما شرحناه وإنما يفرق الحال بين ما بعد وجود جسده صلى الله عليه وسلم وبلوغه الأربعين وما قبل ذلك بالنسبة إلى المبعوث إليهم وتأهلهم لسماع كلامه لا بالنسبة إليه ولا إليهم لو تأهلوا قبل ذلك وتعليق الأحكام على الشروط قد يكون بحسب المحل القابل وقد يكون بحسب الفاعل المتصرف فهاهنا التعليق إنما هو بحسب المحل القابل وهو المبعوث إليهم وقبولهم سماع الخطاب والجسد الشريف الذي يخاطبهم بلسانه وهذا كما يوكل الأب رجلا في تزويج ابنته إذا وجدت كفؤا فالتوكيل صحيح وذلك الرجل أهل للوكالة ووكالته ثابتة وقد يحصل توقف التصرف على وجود كفؤ ولا يوجد إلا بعد مدة وذلك لا يقدح في صحة الوكالة وأهلية التوكيل والله أعلم انتهى
آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى في سورة النساء فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا أقول أو هاهنا يحتمل أن تكون عاطفة على يتوفاهن فيكون الإمساك المأمور به مغيا بإحدى غايتين الموت أو جعل السبيل وجعل السبيل إما مشروعية الحد وإما نفس الحد
____________________
(1/41)
وعلى كلا التقديرين فتسميته فيه تجوز ولا يلزم ارتفاع الأمر به ويحتمل أن لا تكون أو عاطفة بل تكون بمعنى إلا أن وتكون استثناء من الأمر بإمساكهن كأنه قال أمسكوهن في كل حال إلا أن يجعل الله لهن سبيلا فلا نكون مأمورين بذلك
وهذا أحسن المعنيين عندي
وليس بنسخ أيضا لأن النسخ شرطه أن لا يبين غايته في الأول لا معينة ولا مبهمة لكنه يشبه النسخ من جهة أن غايته لم تكن معلومة انتهى
تكلم على قوله تعالى من سورة المائدة يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وقد كتبنا في كتاب الصلاة
آية أخرى قال الشيخ الإمام رحمه الله تعالى قوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا الكلام على الآية من وجوه أحدها في سبب نزولها
وذلك أن عثمان بن طلحة الحجبي على ما نقله أهل التفسير أخذ مفتاح الكعبة وتغيب به وأبى أن يدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت
وقيل إن عليا أخذه منه وأبى أن يدفعه إليه فنزلت فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم إياه وقال خذوها يا بني طلحة خالدة مخلدة فيكم أبدا لا ينزعها منكم إلا ظالم وذكر المفسرون أن ذلك كان عام الفتح
قال الشيخ الإمام ويرد عليه أن عثمان بن طلحة أسلم قبل الفتح فكيف يتصور أن يمنع من دفع المفتاح إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسلم فهذا يرد على القول الأول إن كان الشخص عثمان وإن كان غيره من أهل بيته أو كان في عام القضاء وعلى القول الثاني فلا يرد
الوجه الثاني في مناسبتها لما قبلها وذلك أن قبلها قوله تعالى ألم تر إلى
____________________
(1/42)
الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا وذلك إشارة إلى كعب بن الأشرف كان قدم إلى مكة ورثى قتلى بدر من المشركين وحرض الكفار على الأخذ بثأرهم وغزو النبي صلى الله عليه وسلم
وله في ذلك أشعار فسألوه من أهدى سبيلا النبي صلى الله عليه وسلم أو هم فقال أنتم كذبا منه وضلالة
فتلك الآية في حقه وحق من يشاركه في تلك المقالة وهم أهل كتاب يجدون عندهم في كتابهم نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته وقد أخذ الله المواثيق على أنبيائهم وأخذ أنبياؤهم عليهم أن لا يكتموا ذلك وأن ينصروه وكان ذلك أمانة لازمة لهم فلم يؤدوها وخانوا فيها وذلك مناسب لقوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ولا يرد على هذا أن قصة كعب بن الأشرف كانت عقب بدر ونزول إن الله يأمركم في الفتح أو قريبا منه وبينهما نحو ست سنين لأن المناسبة لا يشترط فيها اتحاد الزمان إنما يشترط اتحاد الزمان في سبب النزول
وأما المناسب فلا لأن المقصود منها بيان سبب وضع هذه الآية في هذا الموضع والآيات كانت تنزل على أسبابها ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في المواضع التي يعلم من الله تعالى أنها مواضعها بحكم وإبراز منها ما يظهر ظهورا قويا للعباد ومنها ما قد يخفى ومنها ما يظهر ظهورا غير قوي وذلك كاستنباط العلل الشرعية ومن جملة المناسبة أيضا أنه لما توعد الذين كفروا ووعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم على ما أمرهم
____________________
(1/43)
من أداء الأمانات التي هي مجامع الأعمال الصالحات
الوجه الثالث أحوال سبب العموم الوارد عليه ودخول ما به المناسبة أما دخول السبب فقد قال العلماء أنه قطعي لأن العام يدل عليه بطريقين أحدهما العموم والثاني كونه واردا لبيان حكمه
ولذلك رد الشافعي على من يقول في قوله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش أن الفراش الزوجة
وقال إن الحديث إنما هو وارد في أمة والقصة مشهورة في قضية عبد بن زمعة ولذلك لما بالغ في أنه لا يجوز إخراج السبب توهم بعض الناس أنه يقول العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ وليس كما توهمه
والصحيح من مذهبه ومذهب غيره أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
والمقصود أن سبب النزول لا يجوز إخراجه
قال الشيخ الإمام وهذا عندي ينبغي أن يكون إذا دلت قرائن حالية أو مقالية على ذلك أو على أن اللفظ العام يشمله بطريق الوضع لا محالة وإلا فقد تنازع الخصم في دخوله وضعا تحت اللفظ العام ويدعي أنه يقصد المتكلم بالعام إخراج السبب وبيان أنه ليس داخلا في ذلك الحكم فإن للحنفية أن يقولوا في حديث عبد بن زمعة إن قوله الولد للفراش وإن كان واردا في أمة فهو وارد لبيان حكم ذلك الولد وبيان حكمه إما بالثبوت أو بالانتفاء فإذا ثبت أن الفراش هي الزوجة لأنها التي يتخذها الفراش غالبا وقال الولد للفراش كان فيه حصر أن الولد للحرة وبمقتضى ذلك لا يكون للأمة فكان فيه بيان الحكمين جميعا نفي السبب عن المسبب وإثباته لغيره ولا يليق دعوى القطع يقينا وذلك من جهة اللفظ
وهذا في الحقيقة نزاع في أن اسم الفراش هل هو موضوع للحرة والأمة الموطوءة أو للحرة فقط فالحنفية يدعون الثاني فلا عموم عندهم له في الأمة فتخرج المسألة من باب أن العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب إلى ما كنا فيه نعم قوله في حديث عبد بن زمعة هو لك يا عبد الولد للفراش وللعاهر الحجر بهذا التركيب يقتضي أنه ألحقه به على حكم السبب فيلزم أن يكون مرادا من قوله الفراش فلينبه لذلك ولا يقال إن الكلام إنما هو حيث تحقق دخوله في اللفظ العام وضعا لأنا نقول قد يتوهم أن كون
____________________
(1/44)
اللفظ جوابا للسؤال يقتضي دخوله فيه فأردنا أن ننبه على أن الأمر ليس كذلك
والجواب إنما يقتضي بيان الحكم وإنما أردنا أن دعوى من ادعى أن دلالة العموم على سببه قطعية يمكن المنازعة فيها بالنزاع في دخوله تحت العام وضعا لا مطلقا والمقطوع به أنه لا بد فيه من بيان حكم السبب بدخوله في ذلك أو لخروجه عنه ولا يدل على تعيين واحد من الأمرين هذا في السبب أما الواقع في مناسبات الآيات كمثال هذه الآية فقضية عثمان بن طلحة وارد بها من قوله الأمانات لا شك فيه لما قلناه فإنه السبب
وأما إرادة اليهود بأداء ما أمروا به من الأمانات فيحتمل أن يقال إنه كالسبب فلا يخرج ويكون مرادا من الآية قطعا ويحتمل أن يقال إنه لا ينتهي في القوة إلى ذلك لأنه قد أراد غيره وتكون المناسبة لشبهه به والمناسبة أقرب إلى المشابهة ولا يقتضي أن يكون بعض أفراد ما يناسبه وهذا الاحتمال أقرب فصار لفظ الأمانات تتفاوت دلالته على ثلاث مراتب إحداها قصة عثمان بن طلحة ودلالته عليها قوية جدا قطعية لأن هنا اللفظ في الأمانات من الإيراد بيان حكم غيره
الثانية المناسبة ودلالته عليها دون الأولى وأقوى من العموم المجرد
الثالثة ما سواهما من الأمانات ودلالته عليها دلالة العموم المجرد ولا خلاف هنا أنه لا يقتصر على السبب لأن الخلاف في أن العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب محله إذا لم تدل قرينة على العموم وهنا دلت قرينة وهي العدول عن اللفظ المفرد إلى الجمع فإن سبب النزول أمانة واحدة فلو أريدت وحدها لأفرد اللفظ الدال فلما جمع دل على أن المراد العموم
نعم من ينكر العموم من الواقفة ويقول إن العموم لا صيغة له يليق به التوقف في دلالته على ما سوى السبب فلا يليق به التوقف فيه لأن دلالته عليه لا من جهة العموم بل لدلالة الجواب على السؤال
الوجه الرابع الحكم بأن الألف واللام للعموم بشرطه فإذا ورد على سبب قد يقال إنه معهود فيحمل عليه للعهد ولكن الجواب عن هذا في الآية وما أشبهها من المواضع ما أشرنا إليه الآن من العدول عن اللفظ المفرد إلى الجمع والمعهود مفرد لا جمع فتعذر الحمل على المعهود
فلذلك نقول إنه للعموم
الوجه الخامس في كون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقد أسند الخلاف إليه حتى قال إمام الحرمين
الذي صح عندنا من مذهب الشافعي أن العبرة بخصوص السبب وكذلك قاله الغزالي في المنخول ولكن الصحيح خلافه ومن يطلق الكلام في هذه المسألة والتحقيق التفصيل وهو أن الخطاب إما أن يكون
____________________
(1/45)
جوابا لسائل أو لا فإن كان جوابا فإما أن يستقل بنفسه أو لا فإن لم يستقل فلا خلاف أنه على حسب الجواب إن كان عاما فعام وإن كان خاصا فخاص وإن استقل وهو عام فالذي يتجه القطع بأن العبرة بعموم اللفظ لأن عدول المجيب عن الخاص المسئول عنه إلى العام دليل على إرادة العموم وإن لم يكن جوابا لسائل بل واقعة وقعت فإما أن يرد في اللفظ قرينة تشعر بالتعميم كقوله والسارق والسارقة والسبب رجل سرق رداء صفوان
فالإتيان بالسرقة معه قرينة تدل على عدم الاقتصار على المعهود
ولذلك جمع الأيدي في هذه الآية وإن لم تكن ثم هذه القرينة وكان معرفا بالألف واللام فمقتضى كلامهم الحمل على المعهود إلا أن يفهم من نفس الشرع تأسيس قاعدة فتكون دليلا على العموم وإن كان العموم بأي لفظ غير الألف واللام فيحسن أن يكون محل الخلاف هل يعتبر العموم أو خصوص السبب
الوجه السادس مجيء هذه الجملة مفصولة بغير عطف لكمال الانفصال بينها وبين ما قدمناه من المناسبة لأن المراد من الانفصال أن يكون معنى الأول قد تم بكماله ولا يكون الثاني تكملة له وإن كان بينهما مناسبة
الوجه السابع مجيئها مؤكدة بأن دون اللام إنما يؤتى بها مع إن للرد على منكر ولا منكر بمضمون هذه الجملة فلذلك لم يجمع بين تأكيدين واقتصر على التأكيد بأن لأنه يكفي في المقصود ولم يخلها من التأكيد بالكلية اهتماما بشأن هذا الحكم العظيم ولتحقيقه
الوجه الثامن قوله يأمركم هل هو للوجوب أو للندب وتقدم على ذلك مقدمة وهي أن صيغة الأمر حقيقة في القول المخصوص مجاز في غيره على الصحيح المشهور والقول المخصوص صيغة أفعل وقد وردت مستعملة في خمسة عشر معنى وأزيد واختلفوا في موضوعه على ثمانية مذاهب أصحها أنها حقيقة في الوجوب مجاز في غيره هذا في صيغة أفعل وأما صيغة ألف ميم راء فكلام الإمام أنها مثلها وكلام ابن الحاجب يقتضي أنها للقدر المشترك بين الوجوب والندب فعلى هذا يأمركم محتمل لأن يكون أريد به حقيقته فلا يكون فيه دليل على الوجوب بعينه في شيء من الأمانات لكنا نعلم بدليل من خارج وجوب كثير من الأمانات ويحتمل أن يكون
____________________
(1/46)
أريد به الوجوب
وحينئذ يلزم منه التخصيص والمجاز أما التخصيص فلأن بعض الأمانات مندوب غير واجب وأما المجاز فلأنه استعمل الموضوع الأعم في المعنى الأخص فهو لفظ مستعمل في غير موضوعه فيكون مجازا
وهذا بحث مطرد في كل أعم استعمل في أخص
وبعضهم يفصل فيه فيقول إن استعمل فيه باعتبار ما فيه من القدر الأعم فهو حقيقة وإن استعمل فيه باعتبار خصوصه فهو مجاز
وهذا التفصيل لا حاجة إليه لأنه إذا استعمل فيه باعتبار ما فيه من القدر الأعم لا يخرج عن كونه استعمل العام في الخاص وقوله باعتبار سبب في الاستعمال فهو كاستعمال الأسد في الشجاع باعتبار الشجاعة وإن أراد بقوله باعتبار أنه ما يستعمل إلا في الأعم فذلك إحالة لفرض المسألة لأن فرض المسألة أنه استعمل في الأخص
الوجه التاسع الكاف والميم في يأمركم خطاب يدخل فيه بطريق السبب عثمان بن طلحة على القول الأول وعلى القول الثاني
ويدخل فيه بطريق العموم كل من اؤتمن على شيء أو حصلت فيه أمانة من المكلفين الموجودين عند نزول هذه الآية من المؤمنين والكافرين إذا قلنا الكافر مكلف بالفروع ومن غير المكلفين ممن يعقل الخطاب من الآدميين الموجودين إذا جعلنا الأمر للندب وعقلناه بالصبي وممن يوجد بعد ذلك وإذا قلناه خطاب المواجهة لا يقتصر على الموجودين كما هو مذهب الحنابلة وبعض الأصوليين والأكثرون أنهم يدخلون في الحكم لا في اللفظ
الوجه العاشر المخاطبون مأمورون بأداء الأمانات إلى أهلها
فلا بد من المغايرة بين المخاطبين وأهل الأمانات إذا جعلنا الخطاب شاملا لكل العباد فكيف تقع المغايرة بينهم وبين أهل الأمانات والجواب أن الخطاب لكل فرد فكل واحد من العباد مأمور بأداء الأمانة إلى أهلها ومع هذا لا يمتنع العموم فيها
فإذا كان كل منهما مؤتمنا وله أمانة كان كل منهما مأمورا بالأداء إليه
الحادي عشر قوله تعالى أن تؤدوا مفعول ثان ليأمركم
وأصله بحرف الجر ثم توسع فيه وعدى الفعل إليه بنفسه
وليس هذا من باب نزع الخافض فإن ذلك شاذ وهذا فصيح وإنما هو على التوسع في الفعل لا سيما مع أن و أن فإنه يكثر حذف الجر معهما وهذا الفعل مع الاسم هو على الصريح في قوله أمرتك الخير ومعناه بالخير ومن الدليل على أن الأصل فيه أن يكون بحرف الجر أن حقيقة المأمور غير حقيقة المأمور به والمأمور من ورد عليه الأمر والمأمور به ما استدعي حصوله من المأمور فهما متغايران فكان حذف الباء من الثاني توسعا لا أصالة
____________________
(1/47)
وابن عصفور عد أفعالا تتعدى إلى واحد بنفسها وإلى الثاني بحرف الجر وهي أصار واستغفر وأقر وسمى ولبى ودعا وزاد غيره ودع وصدق وزاد غيرهما أفعالا أخر منها وعد وأنذر وغيرهما وأورد ابن عصفور على ما يتعدى بنفسه وبحرف الجر أن يكون الفعل ضعيفا قويا في حالة واحدة ويجاب عنه بأنه لا امتناع من ذلك بالنسبة إلى وضعين
الوجه الثاني عشر مقتضى الآية إذا حملنا الأمر على الوجوب أن يجب أداء الأمانات والفقهاء قالوا إن الواجب في الوديعة التمكين لا التسليم فأما أن يقال بأن المراد بالأداء القيام بما يجب من أمرها وذلك في الوديعة حاصل بالتمكين والتخلية وأن لا يجحدها ولا يخون فيها ولا يفرط لكن استعمال الأداء في ذلك مجاز
وأما أن يحتاج إلى جواب آخر والأقرب الأول
فإن الأمانات كثيرة منها غسل الجنابة والوضوء وغير ذلك
فلو حملنا الأداء على الرد لم يطرد في جميع مواضعها فيحمل على ما قلناه من القيام بواجبها وذلك في كل شيء بحسبه
الوجه الثالث عشر مقتضى الآية الأمر بذلك سواء أطالب بها صاحبها أم لا لكن الفقهاء لم يطلقوا ذلك
ومقتضى كلامهم أنه لا يجب إلا عند الطلب واختلفوا في الدين هل يجب أداؤه قبل الطلب أم لا وإذا كانت الآية تدل على وجوب ذلك في الأمانة قبل الطلب ففي الدين أولى فيحسن في الآية أن تجعل دليلا لأحد الوجهين القائل بوجوب أداء الدين الحال قبل طلبه إلا أن يرضى صاحبه بتأخيره هذا إذا لم يكن سببه معصية فإن كان معصية وجب
الوجه الرابع عشر إذا مات المودع ولم توجد الوديعة في تركته ففيه كلام طويل كتبناه في تصنيف مسمى بالصنيعة في ضمان الوديعة ويتعلق بهذه الآية منه أن يحسن أن تجعل حجة للتضمين من جهة أنه مأمور بأدائها ولم يفعل وفات بموته وعدم وجدانها فيضمنها في تركته
الوجه الخامس عشر قوله الأمانات يحتمل أن يراد ما اؤتمن عليه لأنه الذي يؤدي فيكون قد عبر عن المؤتمن بالأمانة مجازا ويحتمل أن يراد به حقيقة الأمانة وأداؤها هو القيام بواجبها لأن الأمانة تقتضي ذلك والأمانة اسم إما للائتمان وإما لقبول الأمانة وكلاهما يمكن أن يفسر به قوله الأمانة في قوله تعالى إنا عرضنا الأمانة
السادس عشر قوله تعالى إلى أهلها يرجح أن المراد ما اؤتمن عليه لأنها
____________________
(1/48)
التي توصف بأنهم أهلها وأما المصدر فنسبته إليهما على السواء
السابع عشر قوله تعالى وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل وهو يوافق قولنا أن الأمر حالة المباشرة ولا يجوز أن يكون معمولا لتحكموا لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه والظاهر أنه لا فرق في ذلك بين الظرف وغيره ولا يجوز أن يقال إنه معمول لحكمتم كما يقوله ابن الحاجب وغيره في إذا حيث وقعت شرطا
وإنما قلنا إنه هنا لا يجوز ذلك لأنه حينئذ لا بد لها من جواب
وجوابها إنما يكون جملة وقوله أن تحكموا ليس بجملة فلا يصلح أن يكون جواب الشرط فلذلك يتعين أن تكون هنا ظرفية ولو كان موضع أن تحكموا جملة كما لو قال وإذا حكمتم فاحكموا بالعدل كان الكلام في العامل في إذا على الخلاف المشهور هل هو الجواب أو الفعل المضاف إليه إذا هذا من جهة الصناعة
وأما من جهة المعنى فالحكم بالعدل مأمور به بمقتضى الجملة الشرطية معطوفة على المأمور به الذي هو أداء الأمانات فيكون مضمونها مأمورا به أيضا ومضمونها هل هو الجواب على تقدير الشرط فيكون هو ما دل عليه الأمر المشروط أو هو ربط الجواب بالشرط فيكون غيره فيه نظر يحتاج إلى تأويل
الثامن عشر العدل مصدر عدل يعدل عدلا وبينه وبين الحكم عموم وخصوص من وجه
فإن العدل قد يكون قولا غير حكم
قال الله تعالى وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط فالإقرار بالحق عدل وليس بحكم والحكم قد يكون عدلا وقد يكون جورا
التاسع عشر الباء في بالعدل للاستعانة وقد يقال الاستعانة أو السببية إنما تدخل على شيء مغاير للفعل يستعان عليه به أو يكون سببا فيه والحكم ليس خارجا من العدل فكيف يكون العدل سببا أو مستعانا به فيه والجواب بأحد وجهين إما أن نقول لما كان الحكم الذي هو عدل نوعا من الحكم والنوع أخص من الجنس والأخص غير الأعم جاز أن يجعل سببا في حصول الأعم أو مستعانا به عليه كقولك تحركت بالقيام
وإما أن يجعل العدل قد نقل عن المصدر إلى المفضي به
ونظير ذلك القول والكلام واللفظ وما أشبهها تارة ويراد بها نفس اللفظ وهو المصدر وتارة يراد بها الملفوظ به فلا يكون مصدرا وحينئذ تدخل الباء عليه كقولك تكلمت بكلام
وعليه قوله تعالى أن نتكلم بهذا
العشرون قوله تعالى إن الله نعما يعظكم به هي
____________________
(1/49)
نعم و ما أدغمت إحدى الميمين في الأخرى والتزم كسر العين لأجل ذلك انتهى
قال قاضي القضاة ولده تاج الدين سلمه الله هذا آخر ما وجدته بخط سيدي والدي أحسن الله إليه في الكلام على هذه الآية رأيته بخطه في بعض المسودات
وقد عدم باقيه ومما يتعلق بالآية إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها قال الشيخ الإمام رحمه الله إذا حضر بين يدي القاضي خصمان وظهر له الحق لأحدهما على الآخر وقد يكون الذي ظهر عليه الحق كبيرا يخشى القاضي منه وهو يأبى قبول الحق فلا يخلص القاضي من الله إلا أن يحكم عليه هذا شيء لا بد منه وهو في حالة حكمه على مراتب أحسنها أن يستحضر عظمة الرب سبحانه وعظمة أمره وحقارة نفسه وأنه عبد حقير لا يزن جزءا من ألف جزء من جناح بعوضة أمره رب جليل قاهر مالك لقلبه ولسانه وجميع جوارحه متصرف فيه بكل ما يشاء وهو حاضر معه قد غمرته هيبته قائل له احكم فلا يسعه إلا امتثال أمره وتنفيذ حكمه ولا يستحضر مع ذلك شيئا من صفات المحكوم عليه
المرتبة الثانية أن يكون الباعث له على الحكم شفقته عليه وإنقاذه من الظلم وهي حالة حسنة أيضا فيها نصره وهو منعه من الظلم والشفقة على عباد الله من خير الخصال ولكن الحالة الأولى أكمل المرتبة الثالثة أن يكون الباعث له على الحكم ما يرجوه من ثواب الله على الحكم ويخشاه من عذاب الله على عدم الحكم وهي حالة حسنة دون الحالة الثانية
وهذه الأحوال الثلاثة لا يخشى عليه فيها
الحالة الرابعة أن يقوي نفسه بالحق على ذلك الكبير لكونه على الباطل فإن للحق صولة وقوة وهو مليح إذا تجرد وخلص لله
لكن يخشى عليه أن يكون للنفس فيه حظ لأنها تحب العلو فتداخل الأمر الديني الأمر النفساني فالسلامة أولى
وحالة خامسة وهو أن يحكم بالحق من غير استحضار شيء من ذلك وهي حسنة أيضا أحسن من الحالة الرابعة ودون الثالثة التي قبلها
وما أظن بقي من الأحوال شيء
هذا بالنسبة إلى القاضي العادل وهو الذي يستحق أن يسمى قاضيا أما الفاجر الذي يراعي الكبير فيمتنع من الحكم عليه فإن كان ذلك قبل ظهور الحكم له ولكن بعد ما ظهرت مخايله فراعى الكبير فدفع الخصومة لا لإشكالها من جهة الله تعالى ولكن لخشية ما يترتب عليها من معاداة الكبير فهذا من أقبح صفات القضاة لا يفعله إلا قليل الدين وهو حرام لأنه خذلان المظلوم الواجب نصره وامتناع من الحكم والنظر فيه الواجب عليه والممالأة على الظلم وأقبح من ذلك أن يكون بعد ظهور الحكم قبل قيام الحجة
____________________
(1/50)
وفي هذه الحالة تارة يكون الحكم مختلفا فيه ولكن مذهب القاضي بخلافه وقد تركه القاضي لا لله بل للكبير وهذا حرام وتارة يكون مجمعا عليه ويكون تركه لما قلنا ولكن القاضي تركه غير مستحل فهذا أشد تحريما ولا يكفر وتارة مع ذلك يستحل فيكفر
والتحريم في المراتب الأربع المتقدمة محله إذا كان القاضي متمكنا أما إذا كان هناك ظالم يمنع من الحكم بحيث يصل الأمر إلى حد الإكراه فإنه يرتفع التحريم وأما المرتبة الخامسة وهي الاستحلال فإنه أمر قلبي لا يتصور الإكراه عليه فلا يرتفع حكمه والله أعلم
ومن كلامه على الآية كتبناه في باب إحياء الموات قوله تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا قال الشيخ الإمام رحمه الله لا شك أن الأشياء كلها لله تعالى فقوله بزعمهم إما أن يكون متعلقا بما اقتضاه كلامهم من التقسيم وكأنهم قالوا هذا لله وحده وهذا لشركائنا فلما أشعر صدر كلامهم بالقسمة الباطلة أردف الصدر بقوله بزعمهم أو لأنهم جعلوا الذي لله هو الأردأ فلو خطر في قلوبهم هذا ذلك مع الوصف الرديء الذي هو سبب جعلهم وقولهم
وقد يتعلق به من يقول الصفة إذا توسطت تعلقت بالجميع لأن بزعمهم حكمه حكم الصفة وقد توسط بين قولهم هذا لله وقولهم هذا لشركائنا وهو ضعيف والصواب اختصاص الصفة المتوسطة بما قبلها وكذا مفهوم اللقب ضعيف
وإنما سببه ما قدمناه من التقسيم ويحتمل أن يكون معناه ظنوا أنه إنما صار لله بقولهم ويكون ذلك معنى قوله بزعمهم وهو لله هو وغيره من غير قولهم
فقولهم لم يفد شيئا إلا وبالا عليهم وتقسيما باطلا من عند أنفسهم واعلم أن قوله بزعمهم لم يتوسط بين كلامهم من لفظهم حتى يكون كالصفة المتوسطة بين كلام الشخص الواحد لأن بزعمهم ليس من كلامهم وإنما هو من كلام الله تعالى متعلقا بقوله فقالوا متوسطا بين جزأي مفعول قالوا اللذين هما هذا لله و هذا لشركائنا فيكون نظير قولك قال زيد هذا الدرهم لي بزعمه وهذا لشريكي ويكون زيد كاذبا في قوله هذا لشريكي وصادقا في الآخر فهو متأخر عن الفعل الذي هو متعلقه متوسط بين جزأي معموله فليس نظير المسألة التي وقع الخلاف فيها
وإنما هي مسألة أخرى والجار والمجرور فيها متعلق بالفعل فيتجه أن يكون المفعول به كله متعلقا به ويكون لتوسطه معنى لأجله لم يتقدم ولم يتأخر والذي يظهر من معنى الآية
____________________
(1/51)
الكريمة أن الأشياء كلها لما كانت لله تعالى ملكا واستحقاقا وخلقا وجعلوا هم له مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا هو إرادة الله تعالى عنه ثم إنهم إذا صار جيدا نقلوه إلى آلهتهم وإذا صار الذي لآلهتهم بزعمهم رديئا نقلوه إلى الله تعالى الله عما يشركون وذكر سبحانه عنهم هذه القبائح فكان جعلهم ذلك قبيحا وقولهم قبيحا فتوسطت النسبة إلى زعمهم في وسط كلامهم ليعطف على أوله آخره والله سبحانه وتعالى أعلم انتهى
آية أخرى قوله تعالى يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله قال الشيخ الإمام رحمه الله قل أكثر ما ورد في القرآن هكذا بغير فاء وفي طه ويسألونك عن الجبال فقل على معنى إن يسألوك فقل وإنما جاء كذلك لأن قبله من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا ووصفه وهو أثر مستقبل فلم يكن السؤال وقع
ولكن جرى سببه
وفي سائر المواضع كان السؤال وقع انتهى
قوله تعالى وجعل منها زوجها قال الشيخ الإمام رحمه الله ما نصه الفرق بين جعل و خلق أن جعل تتعدى لمفعولين إذا كانت بمعنى صير وتتعدى لمفعول واحد إذا كانت بمعنى خلق
قال الزمخشري في سورة الأنعام إن جعل فيها معنى التضمين وفي نسخة التصيير تقول جعل كذا من كذا
قال تعالى وجعل منها زوجها قلت هذا معنى حسن وأزيد في تقريره أن جعل ينفك عنها معنى التصيير
ولكن النسبة مختلفة فإذا قلت جعلت الطين خزفا فمعناه صيرت الطين خزفا فأردت بيان حال المنقول عنه إلى المنقول إليه وإذا أردت إفادة الحال المنقول إليه تقول جعلت الخزف من الطين أي صيرته منه
فالأول يتعدى إلى المفعولين
والثاني إلى مفعول واحد وكلاهما لم يفارق معنى التصيير ونظير هذا ما قلته إن اختصرت تقول اختصر النووي المحرر في المنهاج وتقول اختصر المنهاج من المحرر
فهذه فائدة حسنة قصر كلام النحاة عنها
ولم يفصح بها الزمخشري
وإن كان نبه على أصل المعنى ويجتمع معنا ثلاثة ألفاظ الجعل وقد عرف معناه و الخلق وهو أعم لأنه يصدق مع ذلك لقوله إني خالق بشرا من طين وبدونه كقوله أول ما خلق الله القلم و الإبداع والفرق بينه
____________________
(1/52)
وبين الخلق عند بعضهم أن المخلوق له حظ من المساحة لما في الخلق من الدلالة على التقدير والإبداع يتعلق بما لا حظ له في المساحة وهي المعاني المجردة وهذا عند من يثبت المجردات الممكنات وهم الحكماء انتهى
آية أخرى قال الشيخ الإمام رحمه الله في أثناء كلام وقع بين يديه على مسألة أنا مؤمن إن شاء الله جر إليه الكلام من قوله تعالى أولئك هم المؤمنون حقا الحمد لله الذي يسر لنا العلم وأعاننا عليه ونصرنا بطريق الهدى وأرشدنا إليه
وصلى الله على سيدنا محمد الذي حصل لنا كل خير من فيض يديه وسلم تسليما كثيرا
وبعد فقد علمت ما ذكرته وفقك الله من أن جماعة من الحنفية في هذا الزمان تكلموا في مسألة أنا مؤمن إن شاء الله وقالوا إن الشافعية يكفرون بذلك
وسيأتي ذلك فإن هاتين الطائفتين وغيرهما من الفقهاء لا ينبغي أن يكون بينهما من الخلاف ما يفضي إلى تكفير ولا تبديع وإنما هو خلاف في الفروع فإنهم جميعهم من أهل السنة
والخلاف بين أهل السنة إنما يجري في مسألة فرعية أو مسألة أصولية يرجع الخلاف فيها إلى أمر لفظي أو معنوي لا يترتب عليه كفر ولا بدعة
نعوذ بالله من ذلك
فلما بلغني مقالته تألمت لذلك واستهجنت قول قائله وعذرته بعض العذر لأني أعلم أن في كتبهم أنه لا يصلى خلف شاك في إيمانه وأرادوا بذلك هذا الكلام والله يغفر لقائله إنما صدر من متأخرين منهم إذا حقق البحث معهم رجع إلى أمر لفظي وما أرادوه به من هذه المسألة يرجع إلى ما اعتقدوه ممن يقول هذه المقالة
وهو بريء مما أرادوه به
وأئمتهم المتقدمون لم يبلغنا عنهم ذلك
وأبو حنيفة رضي الله عنه وإن كان قد نقل عنه إنكار قول المؤمن إن شاء الله لم ينقل عنه مثل ما قاله هؤلاء المتأخرون من أصحابه
وكيف يقول ذلك وعبد الله بن مسعود الذي هو أصل مذهبه وشيخ شيخ شيخ شيخه قد اشتهر عنه ذلك
ولقد كان أول ما علمت هذه المسألة وأنا صبي ربما كان عمري عشر سنين رأيتها في كتاب المعالم للإمام فخر الدين بن الخطيب منسوبة إلى ابن مسعود رضي الله عنه وقوله أنا مؤمن إن شاء الله ثم اطلعت على أن ذلك قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم والشافعية والمالكية والحنابلة ومن المتكلمين الأشعرية والكلابية
وهو قول سفيان الثوري وكان صاحبه محمد بن
____________________
(1/53)
يوسف الفريابي مقيما في عسقلان فشهر ذلك في الشام عنه وأخذه عنه عثمان بن مرزوق فزاد أصحابه المشهورون اليوم بالمرازقة في الديار المصرية الاستثناء في كل شيء وهو بدعة وضلال أعني ما زادوه
وأما الأصل وهو أنا مؤمن إن شاء الله فهو صحيح والناس فيه على ثلاثة مذاهب منهم من يوجبه ويمنع القطع بقوله أنا مؤمن ومنهم من يمنعه ويوجب القطع
ومنهم من يجوز الأمرين وهو الصحيح
والكلام في هذه المسألة طويل يحتاج إلى مواد كثيرة وقواعد منتشرة وقلب سليم وفكر مستقيم ومخاطبة من يفهم عنك ما تقول ويعاني مثل ما تعانيه في المنقول والمعقول وارتياض في العلوم واعتدال في المنطوق والمفهوم وطبيعة وقادة وقريحة منقادة وتجرد في علم الطريق والسلوك وتقوى وتذكر إذا عرض مس من الشيطان فيصبر ما تنزاح به عنه الشكوك وقد يأتي في مباحث هذه المسألة ما أضمن به عن كل أحد لقلة من يفهمه أو يسلم في المعتقد لكني أرجوه من الله أن يوفقك لفهمه ويعصمك وأنت على كل حال ولد
وهذه المسألة تستمد من مسائل إحداها تحقيق معنى الإيمان وقد صنفت فيه مجلدات ويكفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وذكر اللغويون قولين في أن تؤمن ومعنى الإيمان
أحدهما وهو المشهور أن تصدق
والباء للتعدية
فالإيمان التصديق بهذه الأمور الخمسة
والثاني أن تؤمن نفسك من العذاب
والباء للاستعانة أو السببية
فالإيمان جعل النفس آمنة بسبب اعتقاد هذه الأمور الخمسة وعلى هذا القول يظهر جواز الاستثناء
لأن الأمن من عذاب الله مشروط بمشيئة الله بلا إشكال
وتخريج الاستثناء على هذا القول لم أجده منقولا وإنما ذكرته وهذا القول في اللغة لم يذكره الأكثرون
ولكن الواحدي ذكره في أول تفسيره
وناهيك به ففرعت أنا عليه هذا الجواب
المسألة الثانية هل الأعمال داخلة في مسمى الإيمان أو خارجة عنه ظاهر الحديث المذكور أنها خارجة عنه
وقد اشتهر على ألسنة السلف دخول الأعمال وها هنا احتمالات أربعة أحدها أن تجعل الأعمال من مسمى الإيمان داخلة في مفهومه دخول الأجزاء المقومة حتى يلزم من عدمها عدمه
وهذا مذهب المعتزلة
____________________
(1/54)
لم يقل به السلف بل قالوا خلافه والثاني أن تجعل أجزاء داخلة في مفهومه لكن لا يلزم من عدمها عدمه فإن الأجزاء على قسمين منها ما لا يلزم من عدمه عدم الذات كالشعر واليد والرجل للإنسان والأغصان للشجرة
فاسم الشجرة صادق على الأصل وحده
وعليه مع الأغصان ولا يزول بزوال الأغصان
وهذا هو الذي يدل له كلام السلف
وقولهم الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فلم يجتمع هذان الكلامان إلا على هذا المعنى
ومن هنا قال الناس شعب الإيمان جعلوا الأعمال للإيمان كالشعب للشجرة
وقد مثل الله الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة وهو أصدق شاهد لذلك الثالث أن تجعل الآثار آثارا خارجة عن الإيمان لكنها منه وبسببه
وإذا أطلق عليها فبالمجاز من باب إطلاق اسم السبب على المسبب
وهو قريب لكن الذي قبله أقرب إلى كلام السلف وظواهر الأحاديث الرابع
أن يقال أنها خارجة بالكلية لا تطلق عليها حقيقة ولا مجازا
وهذا باطل لا يمكن القول به والمختار القول الثاني
وتحقيقه أن اسم الإيمان موضوع شرعا للمعنى الكلي المشترك بين الاعتقاد والقول والعمل والاعتقاد والقول دون العمل
والاعتقاد وحده بشرط القول فإذا عدم العمل لم يعدم الإيمان وإذا عدم القول لم يعدم الإيمان ولكن عدم شرطه فيعدم لعدم شرطه
وإذا عدم الاعتقاد عدم الجميع لأنه الأصل
إذا عرف ذلك فإذا قلنا الأعمال داخلة في مسمى الإيمان كان دخول الاستثناء جائزا لأن المؤمن غير حازم بكمال الأعمال عنده وبهذا يشعر كلام كثير من السلف وأنهم إذا استثنوا فإنما استثنوا لذلك لكن هذا يقتضي أحد أمرين إما أن الإيمان لا يحصل إلا بالأعمال وقد قلنا إنه مذهب المعتزلة
وعليه يلزم أن من فقد الأعمال يجزم بعدم الإيمان إلا أنه يقتصر على الاستثناء وإما أن نقول إن الإيمان حقيقة واحدة صادقة على القليل وهو مجرد الاعتقاد الصحيح والكثير وهو المضاف إليه الأعمال ولها مراتب أدناها إماطة الأذى عن الطريق ومؤمن اسم فاعل مشتق من مطلق الإيمان فلا يشترط فيه وجود أعلى مراتبه إلا أن يراد بالإيمان الإيمان الكامل فيصح وأما أصل الإيمان فلا يصح الاستثناء فيه على هذا الجواب عند هذه الطائفة على هذه الطريقة وقال بعض الناس إن السلف إنما استثنوا لاعتقادهم دخول الأعمال في الإيمان
وفيه نظر لما ذكرناه فالوجه أن يضاف إلى ذلك إطلاق قولهم أنا مؤمن يقتضي أنه جامع بين القول والعمل
فلذلك استثنوا وليس ببعيد
المسألة الثالثة أن الإيمان إنما ينفع في الآخرة إذا مات عليه
فمن مات كافرا
____________________
(1/55)
لم ينفعه إيمانه المتقدم وهل نقول إنه لم يكن إيمانا لأن من شرط الإيمان أن لا يعقبه كفر أو كان إيمانا ولكن بطل فيما بعد لطريان ما يحبطه أو كان الحكم بكونه إيمانا صحيحا موقوفا على الخاتمة كما يتوقف الحكم بصحة الصلاة والصوم على تمامها لأنهما عبادة واحدة يرتبط أولها بآخرها فيفسد أولها بفساد آخرها فخرج من كلام العلماء ثلاثة أقوال في ذلك
والأول قول الأشعري
والثاني ظاهر القرآن يدل له حيث حكم بأن المرتد يحبط عمله إذا مات كافرا
والثالث اقتضاه كلام بعضهم
وعلى كل من الأقوال يصح الاستثناء للجهل بالعاقبة التي هي شرط إما في الأصل
وإما في التدين وإما في النفع ويكون الاستثناء راجعا إلى أصل الإيمان ولا يحتاج أن يقول إن الأعمال داخلة فيه
ويلزم على هذا حصول الشك فيه ويرد ما أورده المخالف من التشنيع وتسميتهم الطائفة المشيئية بالمتشككة لكن هذا شك لا حيلة للعبد فيه فإنه راجع إلى الخاتمة التي لا يعلمها إلا الله
وليس شكا في اعتقاده الحاصل الآن نعم هو شك في كونه نافعا وصحيحا ويسمى عند الله إيمانا وإن كان صاحبه جازما بأنه قد أتى بما في قدرته من ذلك من غير تفريط ولا تقصير ولا ارتياب عنده فيه
المسألة الرابعة ولم أجد من تعرض للتخريج عليها غيري وهي التي أشرت إلى قلة من يفهمها واحتياج سامعها لتثبت في الفهم بتوفيق من الله في السلامة أنا وإن سلمنا أن الإيمان التصديق وحده من غير إضافة الأعمال إليه
ولا الأمن من العذاب بسببه ولا اشتراط الخاتمة في مسماه فنقول التصديق يتعلق بالمصدق به وهو الخمسة المذكورة في الحديث الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويشترط معرفة المصدق بها فلا بد في التصديق من المعرفة
ويشهد لذلك ما رواه البغوي أبو القاسم من حديث يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي استقبله شاب من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كيف أصبحت يا حارث قال أصبحت مؤمنا بالله حقا قال انظر ما تقول فإن لكل قول حقيقة قال يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني بعرش ربي عز وجل بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها
قال أبصرت
____________________
(1/56)
فالزم عبد نور الله الإيمان في قلبه
فقال يا رسول الله ادع الله لي بالشهادة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث تذكره الصوفية كثيرا وهو مشهور عندهم وإن كان في سنده ضعف من جهة يوسف بن عطية
وهو شاهد لأمرين أحدهما جواز إطلاق أنا مؤمن من غير استثناء
والثاني الإشارة إلى ما قلناه من أن هذا الإطلاق يشترط فيه المعرفة
والمعرفة يتفاوت الناس فيها تفاوتا كثيرا
فمعرفة الله تعالى معرفة وجوده ووحدانيته وصفاته أما ذاته فغير معلوم للبشر ووجوده معلوم لكل أحد ووحدانيته معلومة لجميع المؤمنين وصفاته يتفاوت المؤمنون في معرفتها
وأعلى المعارف لا نهاية لها فلا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى وأعلى الخلق معرفة النبي صلى الله عليه وسلم ثم الأنبياء والملائكة على مراتبهم
وأدنى المراتب الواجب الذي لا بد منه في النجاة من النار
وفي عصمة الدم وبين ذلك وسائط كثيرة منها واجب ومنها ما ليس بواجب
وكل ذلك داخل في اسم الإيمان لأنه يصدق بها وبالإخلال به والعياذ بالله بترك ذلك الواجب فقد يخرج من الإيمان به وقد لا يخرج
والحد في ذلك مزلة قدم المتكلمين والسالكين كل منهم يتكلم فيه على قدر علمه ويقف فيه على قدر خوفه وأحوال القلوب في ذلك متفاوتة جدا والمعارف الإلهية المفاضة عليها من الملكوت الأعلى واسعة جدا
فالخائف ما من مقام ينتهي إليه إلا ويخاف أن يكون فيه على خطر وينخلع قلبه من الهيبة فيفزع إلى المشيئة ويقول حسبي إن كنت أديت الواجب وسواه رجلان أحدهما أقامه مقام البسط وانشراح الصدر باليقين فيطلق
والآخر غافل عن الحالين اكتفى بظاهر العلم فيكتفى منه بالإطلاق أيضا وعلى هذه الأحوال الثلاثة يحمل اختلاف السلف في ذلك وكل قصد الخير وتكلم على حسب حاله وليس فيهم من يكفر بعضا بل كل تكلم على قدر حاله وكل إناء بالذي فيه يرشح
ومن قال من العلماء بوجوب الاستثناء غلب عليه حال استحضار تلك الأمور المانعة من الجزم ومن منعه غلب عليه وجوب الجزم بالتصديق
____________________
(1/57)
وانغمرت تلك الأمور المقابلة له في قلبه
ومن جوز الأمرين نظر إلى الطرفين وليس أحد منهم شاكا فيها هو حاصل الآن ولا مقصرا فيما وجب عليه ولله الحمد والمنة
المسألة الخامسة قال بعض الناس إن الاستثناء للشك في القبول وهل يلتفت على أن الإيمان هل يوصف بالقبول وعدمه أو بالصحة وعدمها أما القبول فالظاهر أنه متى حصل الإيمان والوفاة عليه قبل قطعا وكذا الصحة إذا اتفق التصديق المطابق ومات عليه فهو صحيح قطعا وإنما يكون فساده إذا صدق تصديقا غير مطابق والعياذ بالله
فمن يعتقد في الله تعالى أو في صفاته ما يكفر به لا يقال إنه مؤمن إيمانا فاسدا بل ليس بمؤمن فالإيمان من الأمور التي ليس لها إلا وجه واحد كأداء الدين وما أشبهه
المسألة السادسة جميع ما ذكرناه حملت إن فيه على ما وضعت له في اللغة من دخولها على المحتمل الذي يقال إنه الشك وقد عرفناك تخريج الشك فيها على وجه لا يقتضي كفرا ولا شكا في الإيمان أما إذا قصد بها جاهل شكا في أصل التصديق الواجب عليه لا بوجه من الوجوه التي ذكرناها فذلك باطل وكفر وضلال
المسألة السابعة إن تدخل على شرط وجزاء ولا بد أن يكونا مستقلين كقولك إن جئتني أكرمتك ولك أن تقدم الجزاء وحينئذ يكون هو عين الجزاء على مذهب الكوفيين ودليله على مذهب البصريين كقولك أنا مؤمن إن شاء الله ووضع اللسان يقتضي الاستقبال كما قلناه فيكون معناه أنا مؤمن في المستقبل كما أنا مؤمن في الحال لكن الناس لم يفهموا منها ذلك ولم يضعوا هذا الكلام إلا للاحتراز من القطع بالإيمان في الحال فالمراد بقولهم أنا مؤمن في الحال ولكنه لما تطرق إليه التردد بالاعتبارات التي ذكرناها صار له ارتباط بالمستقبل فجاز تعليقه بالمستقبل والحاضر لا يجوز تعليقه إلا على هذا الوجه أما الحاضر المقطوع به من جميع وجوهه فلا يتصور تعليقه فلا يقال أنا إنسان إن شاء الله ولا اعتبار بقول المرازقة فإنهم مبتدعة جهال ضلال في ذلك ولتعليق الحال بالمشيئة وجه يمكن الحمل عليه بالنسبة إلى اللغة
وهو أن يكون المعنى إن كان الله شاء فأنا مؤمن فهو جائز بالاعتبارات التي قلناها ولكنا ذكرنا لفظ كان تصحيحا للتعليق بحسب اللغة ليصير بمعنى الثبوت في المستقبل حتى يكون الشرط مستقبلا والجزاء يكون محذوفا يدل عليه هذا المذكور كما تقول إن أكرمتني غدا فأنا الآن محسن إليك فلا بدع في إكرامك لي لأني محسن إليك الآن
المسألة التاسعة خرجوا إن شاء الله هاهنا على معنى آخر غير
____________________
(1/58)
الشك وهو التبرك أو التأدب لقوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ولقوله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله وقد علم تعالى أنهم يدخلونه وكقوله صلى الله عليه وسلم إني لأرجو أن أكون أتقاكم وقد علم أنه أتقاهم
وهذا صحيح لكنه كل مستقبل وربط المستقبل لا يستنكر وإنما الذي يتعلق بخصوصيته ما نحن فيه هو ربط الحال بالشرط فلذلك احتجنا إلى زيادة الكلام فيه
والله أعلم كتبته في بعض نهار الثلاثاء عاشر ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وسبعمائة بظاهر دمشق كتب علي بن عبد الكافي السبكي غفر الله له انتهى
فصل قال الشيخ الإمام رحمه الله الحمد لله رب العالمين ممن قال بالاستثناء منصور ومغيرة والأعمش وليث بن أبي سليم وعطاء بن السائب وعمارة بن القعقاع والعلاء بن المسيب وإسماعيل بن أبي خالد وابن شبرمة وسفيان الثوري وحمزة الزيات وعلقمة وعبد الله بن مسعود واختلف في رجوعه عنه وعمر بن الخطاب في بعض رأيه وإسحاق بن إبراهيم وقال ليس بيننا وبينهم خلاف وابن عيينة
وقال إنه يؤكد الإيمان
وحماد بن زيد والنضر بن شميل ويزيد بن زريع وعائشة قالت أنتم المؤمنون إن شاء الله وأحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد القطان والحسن وابن سيرين وأبو يحيى صاحب الحسن البصري والآجري وطاوس وإبراهيم النخعي وأبو البختري سعيد بن فيروز والضحاك ويزيد بن أبي زياد وعلي بن خليفة ومعمر وجرير بن عبد الحميد وابن المبارك وأبو وائل ومالك والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وابن مهدي وأبو ثور وأبو سعيد بن الأعرابي انتهى
قال الشيخ الإمام رحمه الله الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه يوافي نعمه ويكافئ مزيده
وصلى الله على محمد وآله وسلم
وبعد فهذه نبذة تتعلق بما يقال في جواب من سأل أمؤمن أنت
أو مسلم أنت دعا إلى ذكرها ما وقع من الاستثناء على من نسب قائل أنا مؤمن إن شاء الله إلى الشك في الإيمان
فأقول مستعينا بالله ومتوكلا عليه ينظر أولا في حال جواز الإقدام على هذا السؤال
والذي يظهر في ذلك أن يقال إن السائل إذا لم يعرض عنده ما يوجب الشك فيما سأل عنه من ذلك فلا وجه لسؤاله
فإن انضم إلى ذلك حصول إيذاء المسئول بأن يكون بحضرة من يتوهم أن السائل إنما سأل عن ذلك لشك في إيمان المسئول ويكون السائل ممن يعتبر قدحه فلا توقف إذا في تحريم هذا السؤال إن لم يكن سبب شرعي يقتضيه
وجاء عن إبراهيم النخعي إنه قال
____________________
(1/59)
إذا قيل لك أمؤمن أنت فقل أنا لا أشك في الإيمان وسؤالك إياي بدعة
وكذلك قال الأوزاعي وغيره إن السؤال عن هذا بدعة
فأما إذا حصل تردد واشتباه فلا بأس بالسؤال وكذا إن عرض ما يقتضي ذلك شرعا
ثم الجواب الذي تكلم السلف فيه ذكر في صور إحداها أنا مؤمن والثانية أنا مؤمن إن شاء الله والثالثة
أنا مؤمن في علم الله
والرابعة أنا مؤمن عند الله والخامسة أنا مؤمن حقا فأما الأولى فاختلف السلف في الجواب بها فذهب بعضهم إلى أنه إذا سئل عن الإيمان يقول المسئول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله ولا يقول أنا مؤمن وممن قال بهذا عبد الله بن مسعود جاء عن الحسن أن رجلا قال عند ابن مسعود إني مؤمن فقال ابن مسعود فاسألوه أفي الجنة هو فسألوه
فقال الله أعلم فقال هلا وكلت الأولى إلى الله كما وكلت الأخيرة وعن أبي وائل كان عبد الله يقول من شهد أنه مؤمن فليشهد أنه في الجنة
وعلى هذا قول إبراهيم النخعي في رواية أنه إذا سئل عن ذلك قال لا إله إلا الله وعن الحسن وابن سيرين أنهما كانا يقولان مسلم ولو مات مؤمن
وذهب قوم إلى إجازة ذلك فيقول أنا مؤمن ويقطع
وممن قال هذا ابن عمر رضي الله عنهما واختاره المحققون ومنهم أبو عبد الله الحليمي قال لا ينبغي أن يمتنع المؤمن من تسمية نفسه مؤمنا لما يخشاه من سوء العاقبة نعوذ بالله منه لأن ذلك لا يقلب الموجود معدوما
وإنما يحبط أجره وأما الصورة الثانية وهي أنا مؤمن إن شاء الله فخالف بعض السلف فيها فقالوا لا يستثنى ومنهم ابن عمر رضي الله عنه جاء أنه أخرج شاة ليذبحها فقال له رجل أنا أذبحها فرآه سيئ الهيئة فقال أنت مسلم فقال إن شاء الله فقال ابن عمر
ما أنت بذابح لنا اليوم شيئا
وهذا القول محكي عن أبي حنيفة وذهب كثيرون إلى الاستثناء منهم علي وابن مسعود وعائشة وخلائق من التابعين وغيرهم منهم طاوس والحسن وابن سيرين والنخعي وسفيان الثوري وابن عيينة وابن المبارك وأحمد والشافعي ويحيى بن سعيد القطان وقال ما أدركت أحدا من أصحابنا ولا بلغني إلا على الاستثناء
وعن جماعة من التابعين أنهم كانوا يعيبون على من لا يستثني
وقال قوم لا بد من الاستثناء ونسبه إلى أكثر المتكلمين
وروي عن علي وابن مسعود وعائشة والحق الجواز كما ذهب إليه الأوزاعي وغيره ثم القائلون بالوجوب والجواز مطبقون على أن ذلك ليس على معنى الشك في الإيمان الماضي ولا فيما هو واقع الآن ولا فيما يستقبل بالنسبة إلى العقد
وذكر فيما سبق قول إن شاء الله لأجله خمسة أوجه أحدها رعاية الأدب بذكر الله
____________________
(1/60)
تعالى في جميع الأمور ونحوه القول إنه للتبرك وفي قوله تعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله إشعار بتأديبنا بهذا وإن كان الحكم مقطوعا
وذلك أن الله سبحانه وتعالى ذكر المشيئة مع تعلق علمه القديم بأنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين لنتأدب فنفعل كما فعل إذ القاعدة في هذا ونحوه صرفه إلى المخاطبين كقوله تعالى وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ونحوه فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قال سيبويه في معناه اذهبا على رجائكما
وهو كثير وعلى هذا ما جاء من قوله صلى الله عليه وسلم وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ونحن متقيدون بذلك وهو صلى الله عليه وسلم وكل أحد لا يشك في أنه لاحق بهم وإنما استعملت المشيئة تأدبا وتبركا
وعن علقمة في المستحاضة لا يأتيها زوجها ولا تصوم إن شاء الله
فقيل إنك إذا قلت إن شاء الله شككتني قال إذا قلت إن شاء الله فليس فيه شك وكان ابن عون قلما يتكلم إلا استثنى في كلامه فقيل أتشك فيما تستثني قال أما ما أستثني فيه فهو اليقين وإما ما شككت فيه فلا أتكلم به
الوجه الثاني أن المقصود به هضم النفس بترك التزكية وذلك أن الإيمان أفضل الصفات فإذا قال العبد أنا مؤمن فقد زكى نفسه حيث أثبت لها أفضل الصفات وتزكية النفس مدمومة
قال تعالى ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم وقال تعالى فلا تزكوا أنفسكم ففي قول إن شاء الله تحرز مما يشعر به قول أنا مؤمن من التزكية
الوجه الثالث أن المشيئة راجعة إلى كمال الإيمان لا إلى أصله وقد قال تعالى في قوم من المؤمنين أولئك هم المؤمنون حقا مع أن غيرهم مؤمنون
فالمقصود كونهم كاملي الإيمان
وذلك باعتبار فعل الطاعات واجتناب المعاصي
قال صلى الله عليه وسلم الإيمان بضع وسبعون شعبة فقول
____________________
(1/61)
المؤمن إن شاء الله متعلق بما يزيد على العقد والإقرار من كمالات الإيمان لا بهما
الوجه الرابع أن المشيئة ترجع إلى ما يقع من الإيمان وذلك أن الإيمان كما يقع على التصديق يقع أيضا على الأعمال قال تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم أي صلاتكم
وقال صلى الله عليه وسلم الطهور شطر الإيمان وفسر الإيمان فيه بالصلاة والدلالة حاصلة وإن لم يفسر بذلك ولا شك أن العمل قد يوجد لائقا وقد لا يوجد كذلك
فقول المؤمن أنا مؤمن إن شاء الله متعلق بالأعمال وإن العبد لا يدري كيف حال عمله عند الله تعالى
الوجه الخامس أن المشيئة متعلقة بما في علم الله تعالى من الخاتمة فإن العبد لا يدري ما أراد الله تعالى به فالمعنى إن شاء الله أن أوافي على الإيمان وافيت عليه
وجاء عن الحسن أنه قيل له أمؤمن أنت فقال إن شاء الله
فقيل له لا تستثن يا أبا سعيد في الإيمان فقال أخاف أن أقول نعم فيقول الله كذبت
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أنتم المؤمنون إن شاء الله فهذه خمسة أوجه يتحملها قول المؤمن أنا مؤمن إن شاء الله ونحوه قوله في مثل ذلك أرجو ونحوه
وجاء عن إبراهيم النخعي أنه قال إذا سئلت أمؤمن أنت فقل أرجو ولا يخفى ما يليق بهذا من الأوجه السابقة
وقال رجل لعلقمة ألست مؤمنا فقال أرجو إن شاء الله والحاصل أن الشك في الإيمان غير مراد قطعا بقول المؤمن أنا مؤمن إن شاء الله وذلك أن الشك فيما مضى من الإيمان لا يتحقق إذ الشك فيما علم وقوعه محال
وكذا الشك في الحال إذ الواقع المحقق الوقوع ولا يتطرق إليه شك ولا يدخل في العقل توهم ذلك فيه
وهل هذا إلا كتوهم تعلق الشك بالجوع والشبع عند تحقيق كونهما مع أن موضوع إن الشرط في المستقبل والماضي والحال خارجان عقلا ولغة وأما المستقبل بالنسبة إلى العقل فخارج أيضا فإن العلم الحاصل بالشيء لا يدخله تغير مع قيام موجب العلم وإنما يتطرق الشك عند تغير الموجب للعلم
ومعاذ الله أن يعتقد ذلك في الآحاد فضلا عن الأكابر
فمن اعتقد في مؤمن قال أنا مؤمن إن شاء الله أنه شاك في إيمانه وتغير عنده موجب الإيمان
____________________
(1/62)
كفر
واعتقاده في المؤمن كفر
وليس قول إن شاء الله مما يوجب اعتقاد تغير ما عند قائله من الإيمان لجواز استعماله قطعا لغير الشك واشتهاره فيه لا سيما مع قول أنا مؤمن
وأما الصورة الثالثة وهي أنا مؤمن في علم الله فمنعها بعض العلماء من جهة أن ما في علم الله لا يتغير والعبد لا يدري خاتمة أمره
وأما الصورة الرابعة وهي أنا مؤمن عند الله فأجازها من منع أنا مؤمن في علم الله وفرق بأن عند تتغير والعلم لا يتغير وسوى بعضهم بينهما
وعن سفيان الثوري أنه قال من قال أنا مؤمن عند الله فهو من الكذابين والذي يظهر في الصورة الأولى أن قائل ذلك إن قصد الحال لم يمنع وإن قصد المستقبل امتنع
والماضي كالحال
أما الأول فلأن علم الله تعالى يتعلق بالأشياء على ما هي عليه
فإذا كان الواقع منه عند النطق بذلك العقد الجازم تعلق علم الله به كما هو واقع
فصح لذلك قوله في علم الله وأما الثاني فلأن العبد يجهل خاتمة أمره في علم الله تعالى فإن قيل قد تعلق علم الله تعالى بكونه مؤمنا في الحال وعلم الله لا يتغير
قيل علمه تعالى يتعلق بالأشياء على ما هي عليه واقعة بحسب خلقه تعالى
فإذا حصل الإيمان تعلق به العلم ولم يتغير العلم وإنما تعلق في ثاني الحال بما وجد مخالفا لما تعلق به موجودا قبل ذلك مع أن علمه تعالى كما هو متعلق بما كان وما هو كائن متعلق بما يكون أنه سيكون
ويقال في الصورة الثالثة إن كان المراد من قوله عند الله معنى في علم الله فالكلام عليه كما تقدم
وإن كان المراد في حكم الله فهو صحيح
فإن حكم الله تعالى جار عليه كذلك
وإن تغير الحال والعياذ بالله جرى الحكم على المغاير
وأما الصورة الخامسة وهي أنا مؤمن حقا فإن قصد منها أن إيمانه الواقع منه لا ارتياب فيه ولا شك فهو حسن وإن قصد رتبة الكمال كما في قوله تعالى أولئك هم المؤمنون حقا فهو تزكية للنفس
وكيف يعلم الواحد منا ذلك وهو محل الإخلال وجاء عن الثوري أنه قال إن قول المؤمن أنا مؤمن حقا بدعة وجاء عن عمر بن الخطاب أنه قال من قال أنا مؤمن حقا فهو كافر حقا
ومن قال أنا عالم فهو جاهل
ومن قال أنا في الجنة فهو في النار وهذا معنى ما سبقت الإشارة آية أخرى قوله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله القراءة المشهورة بغير تنوين فقيل إنه لا ينصرف
وقيل لأن ابن صفة لا خبر
وأراد أنه لو كان صفة لكان الخبر
____________________
(1/63)
مقدرا تقديره معبودهم وحينئذ يكون المنكر ذلك لا وصفهم إياه بالنبوة
وأقول بل المنكر وصفهم والتقدير في كلامهم المحكي بعضه لا في الحكاية لأن المخبر إذا وصف المخبر عنه بصفة ليست له وأراد السامع إنكار ذلك من غير تعرض للحكم فطريقه إنكار الوصف فقط فكذلك هنا كأنك قلت هذه اللفظة المنكرة ولم تتعرض لما قالوه خبرا عنها انتهى
آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت فيه دليل على أن المقصود بعد حتى هو الشرط أو الجملة الشرطية بكمالها لا الجزاء وحده لأنه لم يقصد إلا إيمان فرعون وأبين منه قوله تعالى حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون فإن فسيعلمون هو الغاية انتهى
آية أخرى قوله تعالى وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا آية أخرى قال الله تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات قال الشيخ الإمام رحمه الله هذا يدل على أن جمع المؤنث السالم للقلة من جهة الضمير في يذهبن ولو كان للكثرة لقال يذهبن لأن فعلن للقلة وفعلت للكثرة ويدل أيضا على أنه لا فرق بين أن يكون معرفا أو منكرا خلافا لمن زعم أنه إذا تعرف بالألف واللام يصير للكثرة نعم يصير للعموم
وفرق بين العموم والكثرة فإنه لو كان للكثرة لاختص به ما زاد على العشرة ولم يدخل ما دونها فيه
والعموم يقتضي شمول كل رتبة من مراتب جمع القلة فيحصل عموم جميع التي في جمع الكثرة من ذلك فمتى فعل حسنات وسيئات أذهبت الحسنات السيئات قلت أو كثرت من الجانبين أما عند القلة فيهما فمجموع الحسنات يذهبن مجموع السيئات وأما عند الكثرة فيهما فمنطوق الكلام يقتضي أن كل مرتبة من مراتب جمع القلة في الحسنات يذهبن كل مرتبة من مراتب جمع القلة في السيئات
ويلزم من ذلك إذهاب مجموع المراتب البالغة حد الكثرة من الحسنات بمجموع المراتب البالغة حد الكثرة من السيئات
والله أعلم انتهى
آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا الآية المشهور أن الضمير في إنه هو السميع يعود على الله تعالى وقد ورد السميع البصير في
____________________
(1/64)
أسمائه تعالى في موضعين في سورة غافر وفي سورة الشورى
فيكون هذا موضعا رابعا وقال بعض الناس إن الضمير هنا يعود على النبي صلى الله عليه وسلم فيكون هذان الاسمان من أسمائه أيضا ويكون معنى وصفه بهما هنا أنه الكامل في السمع والبصر اللذين يدرك بهما الآيات التي يريه إياها وقال تعالى إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا فهذا يحتمل لأن المعنى نقلناه من حالة النطفة إلى حالة عظيمة
ومحتملا ابتلاؤه
فيكون المقصود بخلق الإنسان تدبره وتدبره إنما يكون بالعقل وأعظم الحواس الموصلة إلى العقل السمع والبصر
فعلى هذا التفسير يجيء وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه السميع البصير لأنه لا أحد أكمل منه في التدبر والاستدلال والبصر
والله أعلم انتهى
كتب الشيخ العلامة صلاح الدين الصفدي إلى الشيخ الإمام قدس الله روحه أسيدنا قاضي القضاة ومن إذا بدا وجهه استحيا له القمران ومن كفه يوم الندى ويراعه على طرسه بحران يلتقيان ومن إن دجت في المشكلات مسائل جلاها بفكر دائم اللمعان رأيت كتاب الله أكبر معجز لأفضل من يهدي به الثقلان ومن جملة الإعجاز كون اختصاره بإيجاز ألفاظ وبسط معان ولكنني في الكهف أبصرت آية بها الكفر في طول الزمان عناني وما هي إلا استطعما أهلها فقد يرى استطعماهم مثله ببيان فأرشد على عادات فضلك حيرتي فمالي بها عند البيان يدان كتب الشيخ الإمام رحمه الله
الجواب
الحمد لله
قوله تعالى استطعما أهلها متعين واجب
ولا يجوز مكانه استطعماهم لأن استطعما صفة للقرية في محل خفض جارية على غير من هي له كقولك أتيت أهل قرية مستطعم أهلها
لو حذفت أهلها هنا وجعلت مكانه ضميرا لم يجز فكذلك هذا
ولا يجوز من جهة العربية شيء غير ذلك إذا جعلت استطعما صفة لقرية وجعله صفة لقرية سائغ عربي لا ترده الصناعة ولا المعنى بل أقول إن المعنى عليه
أما كون الصناعة لا ترده فلأنه ليس فيه إلا وصف نكرة بجملة كما
____________________
(1/65)
توصف سائر النكرات بسائر الجمل
والتركيب محتمل لثلاثة أعاريب أحدها هذا والثاني أن تكون الجملة في محل نصب صفة لأهل
والثالث أن تكون الجملة جواب إذا والأعاريب الممكنة منحصرة في الثلاثة لا رابع لها
وعلى الثاني والثالث يصح أن يقال استطعماهم وعلى الأول لا يصح لما قدمناه فمن لم يتأمل الآية كما تأملناها ظن أن الظاهر وقع موقع المضمر أو نحو ذلك وغاب عنه المقصود ونحن بحمد الله وفقنا للمقصود ولمحنا بعين الإعراب الأول من جهة معنى الآية ومقصودها
وأن الثاني والثالث وإن احتملهما التركيب بعيدان عن معناها أما الثالث وهو كونه جواب إذا فلأنه يصير الجملة الشرطية معناها الإخبار باستطعامهما عند إتيانهما وأن ذلك تمام معنى الكلام ونجل مقدار موسى والخضر عليهما السلام عن تجريد قصدهما إلى أن يكون معظمه أو هو طلب طعمة أو شيئا من الأمور الدنيوية بل كان القصد ما أراد ربك أن يبلغ اليتيمان أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وإظهار تلك العجائب لموسى عليه السلام فجواب إذا قوله قال لو شئت إلى تمام الآية وأما الثاني وهو كونه صفة لأهل في محل نصب فلا يصير العناية إلى شرح حال الأهل من حيث هم هم ولا يكون للقرية أثر في ذلك ونحن نجد بقية الكلام مشيرا إلى القرية نفسها ألا ترى إلى قوله فوجدا فيها ولم يقل عندهم وإن الجدار الذي قصد إصلاحه وحفظه وحفظ ما تحته جزء من قرية مذموم أهلها وقد تقدم منهم سوء صنيع من الآباء عن حق الضيف مع بيان طلبه وللبقاع تأثير في الطباع وكانت هذه القرية حقيقة بالإفساد والإضاعة فقوبلت بالإصلاح بمجرد الطاعة فلم يقصد إلا العمل الصالح ولا مؤاخذة بفعل الأهل الذين منهم غاد ورائح فلذلك قلت إن الجملة يتعين من جهة المعنى جعلها صفة لقرية
ويجب معها الإظهار دون الإضمار وينضاف إلى ذلك من الفوائد أن الأهل الثاني يحتمل أن يكونوا هم الأول أو غيرهم أو منهم ومن غيرهم والغالب أن من أتى قرية لا يجد جملة أهلها دفعة بل يقع بصره أولا على بعضهم ثم قد يستقريهم فلعل هذين العبدين الصالحين لما أتياها قدر الله لهما كما يظهر لهما من حسن صنعه استقراء جميع أهلها على التدريج ليبين به كمال رحمته وعدم مؤاخذته بسوء صنيع بعض عباده
ولو عاد الضمير فقال استطعماهم تعين أن يكون المراد الأولين لا غير فأتى بالظاهر إشعارا بتأكيد العموم فيه وأنهما لم يتركا أحدا من أهلها حتى استطعماه وأبى ومع ذلك قابلاهم بأحسن الجزاء فانظر هذه
____________________
(1/66)
المعاني والأسرار كيف غابت عن كثير من المفسرين واحتجبت حتى كأنها تحت الأستار حتى ادعى بعضهم أن ذلك تأكيد وادعى بعضهم غير ذلك وترك كثير التعرض لذلك رأسا وبلغني عن شخص أنه قال اجتماع الضميرين في كلمة واحدة مستثقل فلذلك لم يقل استطعماهم هذا شيء لم يقله أحد من النحاة ولا له دليل والقرآن والكلام الفصيح ممتلئ بخلافه
وقد قال تعالى في بقية الآية يضيفوهما وقال تعالى فخانتاهما وقال تعالى حتى إذا جاءنا في قراءة الحرميين وابن عامر وألف موضع هكذا
وهذا القول ليس بشيء
وليس هو قولا حتى يحكى وإنما لما قيل نبهت على رده ومن تمام الكلام في ذلك أن استطعما إذا جعل جوابا فهو متأخر عن الإتيان وإذا جعل صفة احتمل أن يكون اتفق قبل الإتيان وذكر تعريفا وتنبيها على أنه لم يحملهما على عدم الإتيان لقصد الخير وقوله فوجدا معطوف على أتيا
وكتبته في ليلة الثلاثاء ثالث ذي القعدة سنة خمسين وسبعمائة بدمشق ثم بعد ذلك استحضرت آية أخرى وهي قوله تعالى إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين وإن كانت هذه جملتين ووضع الظاهر موضع المضمر إنما يحتاج إلى الاعتذار عنه إذا كان في جملة واحدة ولكن نسأل عن سبب الإظهار هنا والإضمار في مثل قوله إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين وخطر لي في الجواب أنه لما كان المراد في مدائن لوط إهلاك القرى صرح في الموضعين بذكر القرية التي يحل بها الهلاك كأنها اكتسبت الظلم واستحقت الإهلاك معهم ولما كان المراد في قوم فرعون إهلاكهم بصفاتهم ولم يهلك بلدهم أتى بالضمير العائد على ذواتهم من حيث هي لا تختص بمكان ولا يدخل معها مكان
وقد قلت لأسرار آيات الكتاب معاني تدق فلا تبدو لكل معان وفيها لمرتاض لبيب عجائب سنا برقها يعنو له القمران إذا بارق منها لقلبي قد بدا هممت قرير العين بالطيران سرورا وإبهاجا ونيلا إلى العلى كأن على هام السماك مكاني وهاتيك منها قد أتحتك ما ترى فشكرا لمن أولى بديع بياني وإن جناني في تموج أبحر من العلم في قلبي يمد لساني وكم من كتاب في جمادى محرر إلى أن أرى أهلا ذكى جناني فيصطاد مني ما يطيق اقتناصه وليس له بالشاردات يدان مناي سليم الذهن ريض ارتوى فكل علوم الخلق ذو لمعان
____________________
(1/67)
فذاك الذي يرجى لإيضاح مشكل ويقصد للتجريد مد عياني وكم لي في الآيات حسن تدبر به الله ذو الفضل العظيم حباني تجاه رسول الله قد نلت كل ما أتى وسيأتي دائما بأمان فصلى عليه الله ما ذر شارق وسلم ما دامت له الملوان
قال رحمه الله قوله تعالى وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت وقول عيسى عليه السلام والسلام علي يوم ولدت يسأل عنه أنه إن كان السلام إنشاء فالإنشاء كيف يتعلق بالماضي و يوم ولدت ماض والإنشاء لا يتعلق بزمان أصلا ومتعلقه قد يكون في الحال أو المستقبل
وأما الماضي فلا
والذي خطر لي في الجواب أنه قد يراد بهذه الأزمنة الثلاثة عموم الأحوال كلها كأنه قال كل وقت والمراد التعلق لا نفس الإنشاء انتهى
آية أخرى قال الشيخ الإمام رحمه الله نكتة بيضاء لمحتها من غير أن أسمعها من أحد قوله تعالى واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد الآية فكرت من مدة طويلة وأنا بديار مصر في إفراده عن أبيه وأخيه والفصل بينهما بقصة موسى عليه السلام فوقع في خاطري أنه لكونه جد النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مستقلا بنفسه تعظيما لقدر النبي صلى الله عليه وسلم وفكرت الآن فيه بالتلاوة فلمحت ذلك وزيادة عليه وهي الصفات التي أثنى عليه بها
ومن جملتها وهو ختامها وكان عند ربه مرضيا والمرضي عند الله هو الصفوة والخلاصة والنبي صلى الله عليه وسلم مصطفى منه
ومن جملتها وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وإذا كان أهله بهذه الصفة وهو بصفة صدق الوعد والرسالة والنبوة وهما أعني إسماعيل عليه السلام وأهله أصلا في غاية الزكاء والخير فهو وأهله جرثومة نور نشأ منها أعظم منها وهو النور الأعظم خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم انتهى
آية أخرى قوله تعالى حكاية عن موسى كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا قال رحمه الله معنى كنت في الأزل ولم تزل فأنت تعلم مبتدأ أمرنا وتفاصيله كلها من أول عمرنا إلى آخرها
بصير بها لا يختص علمك بالوقت الحاضر
فهذه فائدة إدخال كان وقوله بنا أي بي وبأخي هارون
وفيه ثلاثة معان أحدها تعلم أنا نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا وكذا كل واحد منا وإنا لم نزل كذلك في الماضي فكذلك نكون في
____________________
(1/68)
المستقبل وهما نبيان معصومان فحسن منهما ذلك
والثاني تعلم أنا متعاونان متعاضدان وأن الأخوة التي بيننا والتعاضد والتعاون بتوفيقك لنا
وعلى هذين الوجهين يكون توسلا بما علم من حاليها والثالث تعلم ذواتنا وصفاتنا فلا تخفى عليك خافية فأمورنا مفوضة إليك ونحن نسألك ذلك وعلى هذا الوجه يكون تفويضا منهما و بصير في هذا الموضع أبلغ من عليم لما فيه من معنى المشاهدة وكذا استعمل في قول وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ومعناه مشاهد وحال غيري فتقيني مكرهم
وانظر كيف أتى بصيغة الجمع في هاتين الآيتين فهاهنا قال بالعباد وفي الآية المتقدمة قال بنا وفيه إشارة إلى ما قدمنا الإشارة إليه من معنى التفوض إليه ومعنى الاجتماع
ولم يقل بصير بي وذلك من كمال الأدب مع الله تعالى لأنه لو أفرد لربما كان فيه تعريض بكمال موجب للإجابة
وقدم الجار والمجرور في الآية الأولى ليبدأ بمحل السؤال وهو موسى وهارون عليهما السلام المدلول عليهما بالضمير فهو خاص فلذلك قدم بيانا للمراد وكان تقديمه هناك للاهتمام وليس من قولهم إن تقديم المجرور للاختصاص لأنه تعالى بصير بكل أحد وأخر في الآية الثانية
آية أخرى قال رحمه الله كنت أتلو في سورة طه والسلام على من اتبع الهدى فقال لي ابني أحمد لم جاء هذا في وسط الكلام وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل في أول الكلام والجواب أن الله تعالى في هذه الصورة قال فقولا له قولا لينا فهذا هو أول مخاطبتهما لفرعون ولعلهما قالا فيها سلام على من اتبع الهدى
أو ألين من ذلك لأن على من اتبع الهدى منهم عدم السلام على غيره وذلك من النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل بعد مضي إحدى وعشرين سنة من نبوته يعلم منه ذلك وليس مثل أول قدوم موسى وهارون على فرعون فقد لا يحتمل مفاجأتهما بذلك واكتفى بأمرهما بالقول اللين وهما يعلمان القول اللين ألا ترى إبراهيم عليه السلام كيف قال لأبيه سلام عليك لحق الأبوة وكان لفرعون حق التربية فلا يستبعد من موسى عليه السلام أن يلاطفه والنبي صلى الله عليه وسلم ليس لهرقل ولا لأمثاله عليه حق ولما أمرهما الله في الكلام الأول بالملاينة أخذ في الكلام الثاني يعلمهما مقصود الرسالة وختمه بقوله والسلام على من اتبع الهدى فجاء بعد الكلام المقصود بالرسالة لما أمرا أن يقولا القول اللين وفرغا منه قيل لهما أن يقولا ما هو مقصود الرسالة
____________________
(1/69)
من أنهما رسولا ربه أن يرسل معهما بني إسرائيل ولا يعذبهم ومجيئهما بآية من ربه
فهذا هو مقصود الرسالة
وختماه بالسلام معرفا على عادة السلام في آخر الرسائل فهو سلام دعاء لا سلام تحية
والسلام التحية يكون في صدر الرسالة منكرا ويحتمل أن تكون الواو في والسلام على من اتبع الهدى عاطفة لهذه الجملة من كلام الله تعالى تعليما لهما أن يكون هذا القول منهما في كل ورد وصدر أول الكلام وآخره
وكان تقديم ذلك على قولهما إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى متعينا لأنه في تقدير المعلق كأنه قيل والعذاب على من لم يتبع الهدى ولأنه وعيد على عدم الانقياد لما أرسلا به
فليس مقصودا آخر زائدا على مضمون الرسالة بل هو من آثارها
ومضمون الرسالة قد كمل أداؤه والله أعلم انتهى
آية أخرى قال رحمه الله قوله والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا قد يستأنس به في أن مريم عليها السلام لأنها ذكرت مع الأنبياء في سورة الأنبياء فيشبه أن تكون منهم وهو اختيار جماعة
وقد مال خاطري إليه لهذه الإشارة وإن كان المشهور خلافه فإن ما رأيناه في هذه السورة ذكر مع الأنبياء غيرهم وهذه قرينة يستفاد منها ذلك والله أعلم
آية أخرى قوله تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله إن الله اسم مفرد إذا قصد الاقتصار على الجواب وهو إفادة تصور من خلقهم
والذي يقدره النحاة من أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف ونحو ذلك إنما يصح بطريقين أحدهما أن لا يراد الاقتصار على الجواب بل زيادة إفادة الإخبار كقوله خلقهن العزيز العليم ويحصل في ضمن ذلك الجواب وهو إفادة التصور
والثاني أن يراد الاقتصار على الجواب لفظا ويدل بالالتزام على المعنى التصديقي وهو أن الله خلقهم فنظر النحاة إلى هذا المعنى الالتزامي وأعربوا عليه لأن صناعتهم تقتضي النظر فيه
ليكون كلاما تاما وليس من صناعتهم النظر في المفرد لكن يبقى بعد هذا بحث وهو أنه إذا كان مفردا فحقه أن لا يعرب لأن الأسماء قبل النقل والتركيب لا معربة ولا مبينة وإذا لم يكن معربا فحقه أن ينطق به موقوفا وهو قد جاء في القرآن مرفوعا
فأصل هذا مراعاة لما استفيد منه بدلالة الالتزام فجعل كالمركب وهو الذي بنى عليه النحاة إن ثبت أن
____________________
(1/70)
الأسماء المفردة لا يجوز النطق بها مرفوعة وإلا فقد يقال إنها ينطق بها على هيئة المرفوع لأن المرفوع أقوى الحركات
ولهذا نقول في العدد واحد اثنان بالألف كهيئة المرفوع
وأصل هذا إذا قلت ما الإنسان قيل الحيوان الناطق فإنه مفرد ليس بكلام إنما يقصد به ذكر هذا لتصور حقيقة الإنسان ولهذا يعد المنطقيون الحد خارجا عن الكلام ومتى قيل هو الحيوان الناطق كان دعوى لا حدا والنحاة لم يتعرضوا لذلك والله أعلم
آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى أرأيت من اتخذ إلهه هواه سمعت شيخنا أبا الحسن علاء الدين الباجي رحمه الله من نحو أربعين سنة يقول لم لا قيل اتخذ هواه إلهه وما زلت مفكرا في الجواب حتى تلوت الآن ما قبلها وهو قوله وإذا رأوك إلى قوله إن كاد ليضلنا عن آلهتنا فعلمت أن المراد الإله المعبود الباطل الذي عكفوا عليه وصبروا وأشفقوا من الخروج عنه فجعلوه هواهم
انتهى
آية أخرى قوله تعالى أولئك يجزون الغرفة بما صبروا قال رحمه الله يمكن الاستدلال به لأن المفرد المعرف بالألف واللام للعموم لأن أولئك ليس لهم غرفة واحدة بل غرف كثيرة انتهى
آية أخرى قوله تعالى أو نسائهن قال رحمه الله قال الواحدي في البسيط قال المفسرون يعني النساء المؤمنات كلهن فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تتجرد بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها
قال ابن عباس لا يحل لهن أن تراهن يهوديات ولا نصرانيات لئلا يصفنهن لأزواجهن وقوله أو ما ملكت أيمانهن يعني المماليك والعبيد للمرأة أن تظهر لمملوكها إذا كان عتيقا ما تظهر لمحارمها ما لم يعتق بالأداء أو بالإبراء
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد مكاتب إحداكن وفاء فلتحتجب منه هذا كلام الواحدي وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره أو نسائهن قيل عني به نساء المسلمين ذكر من قال ذلك حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني حجاج عن ابن جريج قوله أو نسائهن قال بلغني أنهن نساء المسلمين لا يحل لمسلمة أن تري مشركة عورتها إلا أن تكون أمة لها فذلك قوله أو ما ملكت أيمانهن حدثنا القاسم ثنا الحسين
____________________
(1/71)
ثنا عيسى بن يونس عن هشام بن الغازي عن عبادة بن نسي قال كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة أما بعد فقد بلغني أن نساء يدخلن الحمامات معهن نساء أهل الكتاب فامنع ذلك وحل دونه
قال ثم إن أبا عبيدة قام في ذلك المقام مبتهلا اللهم أيما امرأة تدخل الحمام من غير علة ولا سقم تريد البياض لوجهها فسود وجهها يوم تبيض الوجوه وقوله أيمانهن اختلف أهل التأويل في ذلك
فقال بعضهم أو مماليكهن فإنه لا بأس عليها أن تظهر لهم من زينتها ما تظهر لهؤلاء ذكر من قال ذلك حدثنا القاسم حدثنا الحسين ثنا حجاج عن ابن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار عن مخلد التميمي أنه قال في قوله أو ما ملكت أيمانهن قال في القراءة الأولى أيمانكم وقال آخرون بل معنى ذلك أو ما ملكت أيمانهن من إماء المشركين كما قد ذكرنا عن ابن جريج قبل من أنه لما قال أو نسائهن عني بهن نساء المسلمات دون المشركات ثم قال أو ما ملكت أيمانهن من الإماء المشركات
هذا كلام ابن جريج في تفسيره والله أعلم
انتهى
آية أخرى قال الشيخ الإمام رحمه الله وهو ابتداء درس عمله لولده الشيخ بهاء الدين عمدة المحققين أبي حامد أحمد درس به في المدرسة المنصورية بعد صلاة العصر من يوم الخميس رابع عشر جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وألقاه العلامة بحضور والده الشيخ الإمام قوله تعالى ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين الكلام عليها من وجوه أحدها إن هذه القصة الثانية من القصص المذكورة في هذه السورة التي هي أعني القصص المذكورة بيان لقوله وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ومن حكمته وعلمه ما اتفق في هذه القصص وما آتاه لمن شاء من عباده كما قال تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالته ولما كان موسى وداود وسليمان من بني إسرائيل عليهم السلام وموسى من أولاد لاوى بن يعقوب وهو إسرائيل ذكر القصتين متجاورتين وقدم القصة المتقدمة في الزمان وهي قصة موسى ثم تلاها بهذه وقد اشتركتا فيما أنعم به على بني إسرائيل من نصرهم واستنقاذهم من يد عدوهم فرعون وإهلاكه وذهاب ملكه واستخلافهم من بعده وتوريثهم
____________________
(1/72)
مشارق الأرض ومغاربها
وأمرهم متزايد من لدن عرف فرعون ببركة موسى عليه السلام إلى أن ملك سليمان عليه السلام وهو واحد منهم الدنيا بأسرها مع ما أوتيه من العلم والنبوة والخصائص العظيمة
الوجه الثاني تعظيم مرتبة العلم وشرفه فإن الله تعالى آتى داود وسليمان من نعم الدنيا والآخرة ما لا ينحصر ولم يذكر من ذلك في صدر هذه الآية إلا العلم ليبين أنه الأصل في النعم كلها فلقد كان داود من أعبد البشر كما صح في صحيح مسلم وذلك من آثار علمه وجمع الله له ولابنه سليمان ما لم يجمعه لأحد وجعل العلم أصلا لذلك كله وأشارا هما أيضا إلى هذا المعنى بقولهما الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين عقيب قوله آتينا داود وسليمان علما وما يفهم من ذلك أنهما شكرا ما آتاهما إياه وأن سبب التفضيل هو العلم وإنما قال وقالا بالواو دون الفاء لأنه لو أتى بالفاء كان بمنزلة قولك فشكرا ويكون الشكر حينئذ هو قولهما ذلك لا غير فعدل إلى الواو ليشير إلى الجمع في الإيتاء لهما بين العلم وقولهما ذلك المحقق لمقصود العلم من القيام بوظائف العبادة وكل خصلة حميدة فلذلك يؤخذ من ذلك مسائل ذكر العلماء منها أن فضل العلم أفضل من فضل العبادة
ومنها أن العلماء أفضل من المجاهدين ولهذا مداد العلماء أفضل من دم الشهداء وأعظم ما عند المجاهد دمه وأهون ما عند العالم مداده فما ظنك بأشرف ما عند العالم من المعارف والتفكر في آلاء الله تعالى وفي تحقيق الحق وبيان الأحكام وهداية الخلق
ولذلك جعلوا ورثة الأنبياء
وقال صلى الله عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم
فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر وهذا معنى قوله وورث سليمان داود
الوجه الثالث في قوله داود وسليمان دليل على أن الواو لا تقتضي الترتيب أو نقيضه بل هي على ما تقتضيه من مطلق الجمع وإن كان المعلوم أن إيتاء داود قبل إيتاء سليمان وكل موضع وردت الواو فيه مما يعلم الترتيب فيه من خارج كهذه الآية لنا فيه طريقتان إحداهما أن تكون مستعملة
____________________
(1/73)
في معناها وهو الجمع المطلق فتكون على حقيقتها ولا ينافي العلم بكون ذلك مرتبا لأن الجمع المطلق حاصل مع الترتيب والثانية أن تكون مستعملة في الترتيب فيلزم التجوز في الحروف إذا قلنا أن اللفظ المتواطئ إذا استعمل في بعض أفراده كان مجازا وينبغي أن يعرف الفرق بين أن يطلق اللفظ الأعم ويراد به الأخص وبين أن يطلق ولا يراد به الأخص بل يراد به معناه الأعم وإن علم من خارج أن الواقع الترتيب والمجاز إنما يصح على الأول لا الثاني
الوجه الرابع هذا البحث الذي ذكرناه في استعمال العام في الخاص يجري في قوله الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين هل هو حمد أو شكر وتحقيق هذا البحث بتقديم مقدمتين أحداهما أن الحمد هو الثناء على الله تعالى والثناء أعم من أن يكون بالصفات التي هو عليها من صفات الكمال ومما يصدر منه من الإنعام والإفضال والشكر هو الثناء بما يصدر منه من الإنعام والإفضال فالحمد أعم من الشكر
وقيل الحمد الثناء بما فيه والشكر بما منه فيكونان خاصين تحت أعم وهو مطلق الثناء وعلى هذا يكون الحمد والشكر متباينين
ومنهم من يدعي على هذا أن بينهما عموما وخصوصا من وجه وفيه نظر لأنهما لا يجتمعان في محل واحد يصدق عليه أنه حمد وأنه شكر
المقدمة الثانية إذا ثبت أن الحمد أعم من الشكر فقولنا الحمد لله يحتمل أن يكون ثناء عليه بما فيه فيكون شكرا فعلى الأولى أن جعلنا الحمد أعم مطلقا فيكون مستعملا في غير موضوعه فيكون مجازا ولا يكون حقيقة حتى يراد الأعم من حيث هو هو وإن جعلنا الحمد الثناء بما فيه فقط يكون مستعملا في موضوعه فيكون حقيقة
وعلى الثاني وهو أن يراد الثناء بما منه فقط يكون مستعملا في غير موضوعه سواء أجعلنا الحمد أعم مطلقا أم لا
أما على الثاني فظاهر وأما على الأول فلأنه كاستعمال العام في الخاص فيكون مجازا على ما قدمناه من البحث وقوله الحمد لله الذي فضلنا ونحوه كقولنا الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وما أشبه ذلك يحتمل أن يكون مثل قولنا الحمد لله إذا اقتصرنا عليه ويكون الوصف المذكور المراد به ذكر صفته تعالى لا غير ويحتمل أن يكون المراد التعريض بحصول ذلك منه فيكون ثناء بالنعمة فيكون شكرا فيعود فيه ما تقدم من أنه حقيقة أو مجاز ويترجح أنه مجاز
وقولنا الحمد لله على نعمه ونحوه صريح في أنه ثناء بالنعم فتظهر فيه جهة المجاز ويكون شكرا لا حمدا مجردا وإنما قلت لا حمدا لأن كل شكر حمد على ما تقرر أنه أخص وأن الحمد هو مطلق الثناء
____________________
(1/74)
بما فيه خاصة دون ما منه لم يكن كقولنا الحمد لله على نعمه وقولنا الحمد لله على كل حال يحتمل معنيين أحدهما أن يراد الشكر على كل حال وأن يحمد على السراء والضراء من جهة أن السراء توجب الشكر والضراء توجب الصبر الموجب للثواب الموجب للشكر فهي نعمة في الحقيقة
فالأحوال كلها نعم فيصير مثل قوله الحمد لله على نعمه فيكون مجازا في الشكر والثاني أن يراد الثناء على صفات كماله سبحانه وتعالى وإن حصل منه ضراء فإن ذلك لا يمنع من استحقاقه الثناء على صفات كماله فيكون اللفظ حقيقة ولكن معناه أنقص من المعنى الأول والمعنى الأول أحسن وأمكن في المعنى
الوجه الخامس قوله علما يحتمل أن يراد بتنكيره تعظيمه أي علما أي علم ويكون تفضيلهما على كثير من العباد المؤمنين الذين لم يحصل لهم مثل ذلك العلم وهذا المعنى هو الظاهر من الآية وحينئذ يكون استعمل العلم للأعم فيما هو أخص منه فيعود الكلام في أنه مجاز أو حقيقة ويحتمل أن يراد موضوعه الأصلي وحذفت صفته أي علما عظيما فيكون العلم المستعمل في موضوعه حقيقة ولكن معه حذف وفي الترجيح بين هذا الوجه والذي قبله الخلاف المعروف في الترجيح بين المجاز والإضمار وعلى الوجهين معنى التفضيل لا يختلف
ويحتمل أن يراد مطلق العلم فلا مجاز ولا إضمار بينهما على أن مطلق العلم مستوجب لأن يقال فيه ذلك حقيق بأن يوصف به خواص العباد من الأنبياء فيكون بالعلم الخاص العظيم الذي حصل لهم
وهذا الوجه أبلغ في بيان شرف العلم وأنافته على كل ذروة وإن كان الظاهر من الآية غيره لأنه إنما يثني على الكامل لصفته الخاصة به لا بما يشترك فيه هو وغير الكامل
الوجه السادس قوله على كثير متعين هاهنا لا بد منه ولا يجوز أن يقال على عباده المؤمنين لأنهما من عباده المؤمنين فكيف يفضلان على من هما منهم وإنما يفضلان على من سواهما منهم
فإن قلت فقد جاء فضلناهم على العالمين وهم من جملة العالمين قلت هذا معه قرينة تدل على التخصيص هي العالمين فكأنه قال فضلناهم على من سواهم
ولا يفهم منه أنهم مفضلون على كل العالمين قطعا للعلم الضروري بأنهم من العالمين وعدم إمكان تفضيل الشخص على من هو منهم
وقوله فضلنا على كثير من عباده المؤمنين لو حذف لفظ كثير صار التفضيل على من هو متصف بالإيمان فيبقى ظاهر اللفظ يقتضي أنه المفضل عليه فاجتنب ذلك والتزم إدخال لفظ كثير هنا وما أشبهه
الوجه السابع وهو متأخر في الآية
____________________
(1/75)
ولكني أقدمه لأنه المقصود وهو قوله وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين فقوله أوزعني معناه ألهمني قاله ابن عباس قال ابن قتيبة الأصل في الإيزاع الإغراء بالشيء يقال فلان موزع بكذا أي مولع به
وقال ابن عطية أوزعني معناه ارفعني عن الموانع وازجرني عن القواطع لأجل أن أشكر نعمتك ويحتمل أن يكون أوزعني بمعنى اجعل حظي ونصيبي من التوزيع والقوم الأوزاع ومن قولك توزعوا المال فعلى هذا يكون أن أشكر مفعولا صريحا وقال الزمخشري حقيقة أوزعني اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأكفه وأرتبطه لا تنقلب عني حتى لا أنفك شاكرا لك وقوله نعمتك التي أنعمت علي يعني من العلم والنبوة والحكمة والهداية وغيرهما من جلائل النعم وعلى والدي يحتمل أن يراد نعمتك التي أنعمتها علي ونعمتك التي أنعمتها على والدي لأن النعمة على الولد نعمة على الوالدين فيكونان نعمتين كل منهما على واحد ويكن قيام سليمان بشكر نعمة أبيه لأن النعمة على أبيه نعمة عليه لأنه ينسب إليه ويفتخر به
وفي هذا التقدير نظر وسواء جعلناها نعمتين أو نعمة واحدة على الأب
ويقوم الابن بشكرها ويحتمل أن يراد نعمتك التي أنعمتها علي وهي نعمة على والدي لأن النعمة على الولد نعمة على الوالدين لا سيما النعمة الراجعة إلى الوالدين لأنه إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته وبدعاء المؤمنين لهما كلما دعوا وقالوا له رضي الله عنك وعن والديك
وقوله وأن أعمل صالحا ترضاه إنما قدم الشكر على العمل لأن الشكر عمل القلب
وهو أشرف من عمل الجوارح ولأن الشكر على النعم الماضية والعمل الصالح صالح يرضاه الله تعالى لأن العمل قد يطلق عليه أنه صالح بحسب الظاهر ولا يقبل حتى ينضم إليه الإخلاص فإذا كان صالحا مخلصا فيه كان مرضيا مقبولا
قال الفضيل إن العمل لا يكون صالحا إلا إذا كان صوابا خالصا
والصواب أن يكون على السنة والخالص أن يكون لله
وقوله وأدخلني برحمتك إشارة إلى أن الجنة تنال برحمته لا بالعمل ويحتمل أن يراد أدخلني برحمتك في عبادك الكاملين في الصلاح القائمين بحقوق الله وحقوق العباد وإن كان يعلم أن درجة النبوة فوق درجة الصلاح ولكن أشار إلى الكمال وإلى القيام بوظائف العبودية على أتم الأحوال ومن كلامه رحمه الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم أحسب الناس أن يتركوا عن الزجاج أنه قال أن يتركوا سادة مسد المفعولين و أن
____________________
(1/76)
يقولوا آمنا وهم لا يفتنون حقيقة فهو بدل شيء من شيء
وقال الزمخشري فإن قلت فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان في الآية
قلت هو في قوله أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون وذلك أن تقديره
أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا
فالترك أول مفعولي حسب ولقولهم آمنا هو الخبر فعجبت من الزمخشري لأنه كثيرا ما يتبع الزجاج فكيف خالفه هنا حتى وقفت على مقصود الآية
وهو أن المنكر حسبانهم الترك لأجل قولهم لا يزالون يفتنون حتى يعلم دخول الإيمان في قلوبهم ويعلم الصادق في قوله من الكاذب فحينئذ يترك من الفتنة وإن لم يترك من التكاليف لقوله أيحسب الإنسان أن يترك سدى فهذا الترك غير ذاك الترك ولو كان المقصود إنكار حسبان مطلق الترك لصح ما قاله الزجاج فحينما وقفت على هذا المعنى علمت صحة ما قصده الزمخشري من أنه لا بد للترك الذي أنكر حسبانه من تتمة لكن التتمة كما تكون بجعل ما بعد الترك مفعولا ثانيا لتأكده كون تغيره كما سأبينه إن شاء الله تعالى
والذي أراه أن يكون أن يتركوا سادة مسد المفعولين
وقوله أن يقولوا تعليل إما ليتركوا معمول له وإما لحسب معمول له
فإن جعلناه معمولا ليتركوا فالمنكر حسبان الترك المعلل بالقول
وإن جعلناه معمولا لحسب فالمنكر الحسبان المعلل بالقول ومعناه قريب من معنى الأول
وقوله وهم لا يفتنون حال إما من الضمير في يقولوا سواء جعلناه علة في الترك أو في الحسبان
وإما من الضمير في يتركوا إذا جعلناه علة في الترك دون ما إذا جعلناه علة في الحسبان لأجل الفصل بأجنبي
هذا الذي أراه في تقدير الآية وإعرابها ومعناها
ثم نظرت في جعل المفعولين مصرحا بهما كما اقتضاه كلام الزمخشري فاستحضرت قول النحاة في أن أن و الفعل يسد مسد المفعولين على أصح المذهبين ويقدر معها المفعول الثاني محذوفا على المذهب الآخر فالتصريح بهما خلاف المذهبين ثم قلت في نفسي لعل المذهبين حيث يتم الكلام بأن والفعل
أما حيث لا يتم فقد يكون هو المفعول الأول ويؤتى بعده بالمفعول الآخر لأن أن والفعل كالمصدر فكما تقول حسبت تركهم كقولهم كذلك يصح أن تقول حسبت أن يتركوا للقول وفي هذا فضل نظر لأن صريح المصدر يدل على معنى تصوري لا يستقل بالإفادة وأن والفعل يدل على معنى تصديقي مستقل بالإفادة
ومن ثم جاز الاقتصار عليها وسدت مسد المفعولين
فهل يقع أن والفعل مقصودا به التصوري فقط
____________________
(1/77)
حتى يقع بعدها المفعول الثاني أو يقع صريح المصدر مقصودا به التصديقي حتى يسد مسد المفعولين لم أر للنحاة تصريحا بذلك ويحتاج إلى سماع من العرب والأقرب خلافه
فعلى هذا يضعف ما قصده الزمخشري وإن صح فيمشي ما قاله
وهل يصح مثلا أن يقال حسبت أن يقوم خيرا من أن يقعد هذا يحتاج إلى سماع ولم أجده
فلذلك أوافق الزمخشري على التصريح بالمفعولين واكتفيت بالتتمة بالتعليل والحال لحصول مقصود الآية الذي قصده وقصد به بذلك دون ارتكاب أمر لم يشهد له كلام النحاة
وأما قول الزمخشري إن الترك من الترك الذي هو بمعنى التصيير فلا دليل له على ذلك ولا ضرورة إليه هو محتمل لذلك ولأن يكون بمعنى الإهمال والتخلية
والبيت الذي أنشده محتمل لهما والمعنى المقصود يحصل بكل منهما بلا ضرورة
وأما قوله تقديره أحسبوا تركهم
فحمله عليه قول النحاة أن أن والفعل بتأويل المصدر ولكن قد أشرنا إلى الفرق وإن اشتركا في أصل المعنى
وأما قوله في تقديره غير مفتونين فيحتمل أن يكون مفعولا ثانيا ألا ترى أنه جعله من التصيير ويحتمل أن يكون حالا
ويشهد له أنه سبكه من قوله وهم لا يفتنون فإن كان الأول فما الدليل عليه وقوله وهم لا يفتنون لا يصح أن يكون ثانيا لأجل الواو وإن كان الثاني فهو مخالف لنص كلامه وإذا كان قد سبكه في معنى وهم لا يفتنون يجب صحة وقوعه موقعه ولو وقع وهم لا يفتنون موقعه لكان من أبعاض الصلة فلما تأخر في الآية ووقع الخبر قبله والخبر أجنبي من الصلة لزم الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي وهو لا يجوز
وقوله وقولهم آمنا هو الخبر يعني في الأصل وهو الآن مفعول ثان على رأيه وقوله وأما غير مفتونين فتتمة الترك صحيح لكن لم يبين أنه مفعول أو حال وقد بيناه فيما تقدم
وقوله لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ممنوع لما تقدم ولا يحتاج إليه لأنه تتمة سواء كان بمعنى التصيير أم بالمعنى الآخر
وقوله أن يقولوا علة تركهم غير مفتونين يعني من حيث المعنى أما من جهة الصناعة فيستحيل إذ هو خبر أن يكون علة وقوله كما تقول خروجه لمخافة الشر ليس مثله لأن خروجه مفرد والجار والمجرور بعده وحده فاحتجنا أن نجعل أحدهما مبتدأ والآخر خبرا والآية فيها ما يصلح أن يكون كلاما تاما قبل اللام فاحتملت الأمرين
وقوله خروجه مخافة
____________________
(1/78)
الشر صحيح وليس مثله لأن خرجت كلام تام وليس بعده إلا مخافة الشر فتعين أن يكون تعليلا وليس نظير الآية لاحتمالها الوجهين وقوله حسبت خروجه أحدهما يتعين أن يكون مخافة الشر هو الثاني إلا إن جوزنا أن خروجه يقع في موضع المفعولين فيكون نظير الآية ويخرج عن النظيرين اللذين قبله انتهى
فصل قال رحمه الله الفرق بين صريح المصدر و أن والفعل المؤولين به مع اشتراكهما في الدلالة على الحدث أن موضع صريح المصدر الحدث فقط
وهو أمر تصوري و أن والفعل يزيد على ذلك بالحصول إما ماضيا وإما حالا أو مستقبلا وإن كان إثباتا وبعدم الحصول في ذلك إن كان نفيا وهو أمر تصديقي ولهذا يسد أن والفعل مسد المفعولين لما فيهما من النسبة فإن قلت من أين جاءت الدلالة على الحصول أو عدمه وهما في قوة المفرد قلت من دلالة الفعل فإن الفعل يدل على الحدوث فحافظنا على تلك الدلالة مع أن فإن قلت ومن أين للفعل الدلالة على الحدوث وإنما يدل على الحدوث والزمان لا على الوقوع في ذلك الزمان ولا عدمه قلت بل هو يدل على الوقوع في ذلك الزمان وهذا هو الذي امتاز به الفعل عن الاسم فإن اسم الزمان يدل على الزمان كأمس وغد والآن على الأزمنة الثلاثة
وكل منها يدل على حدث وزمن وليست بأفعال والصبوح يدل على حدث وزمان وليس بفعل وضارب اسم فاعل معنى الماضي أو الحال أو الاستقبال وإن سلمنا دلالته على أحد الأزمنة الثلاثة وأن موضوعه الإشعار له بالحصول ولا عدمه بل هو تصور محض بخلاف الفعل فإنه دال على الحصول ودلالته على الزمان كذلك وقول من قال إنه يدل على الزمان بهيئته وأوزانه وعلى الحدث بمادته صحيح ولكنه قاصر عما قلناه وعما يقتضيه الفعل فإنك إذا قلت ضرب زيد تستفيد من ضرب نسبة الضرب في الزمان الماضي
وهذه ثلاثة أمور والضرب وزمانه وهما تصوران ونسبته التصديقية
غير أنه يحتاج إلى الفاعل الذي صدر منه الضرب لا المفعول الذي حل به الضرب إن بنى الفعل للمفعول حتى يتم الكلام والتصديق ويدل على ذلك أن الفعل كلمة تسند أبدا والإسناد نسبة فبمجرد اللفظ بالفعل عرفت الإسناد وبقيت محتاجا إلى المسند إليه
وإذا تأملت هذا المعنى عرفت أنه زائد على ما قاله كثير من النحاة وأنه حق وتحققت به دلالة أن والفعل على الوقوع إما ثابتا وإما منفيا بخلاف صريح المصدر فإنه إنما يدل على المعنى لا إشعار له بوقوع ألبتة
وكيف يتوقف في ذلك ونفس ضرب المتحرك الوسط الذي هو فعل يدل على حدوث فعل في الماضي بل ليس
____________________
(1/79)
مدلوله إلا ذلك وحدوث الضرب في الماضي نسبة تستدعي الضرب الحادث والزمان الماضي فلك أن تجعل دلالتها عليهما من باب دلالة التضمن وفيه تسمح وأكثر النحاة جعلوا دلالة الفعل على الزمان من دلالة التضمن وابن الطراوة قال إنها بالانحرار يعني الالتزام وكلهم لم يتعرضوا للحدوث وعندي أنه الأصل والموضوع ولا شك أن المعنى المعبر عنه بالحصول أو الحدوث أو الكون ونحو ذلك تارة يؤخذ من حيث هو هو من غير عارض بماهية وتارة يؤخذ مع عروضه للماهية فالأول تصور محض واختير له اسم الحصول ليتطابق اللفظ والمعنى في الإفراد والثاني فيه نسبة هي المقصودة في التصديق المركب منها ومن الطرفين فلا يبقى يحتاج إلا إلى الطرف الآخر واختير له أن والفعل للدلالة على النسبة مع أحد الطرفين ولو أطلق الحصول وأريد هذا المعنى لم يبعد ولو أطلق أن والفعل وأريد المفرد كان بعيدا
هذا الذي يظهر لنا من كلام العرب
ولسنا فيه متحكمين ولا منكرين أمرا لم نصل إلى فهمه بل مثبتين لما فهمناه من كلامهم وأرشدتنا إليه محاوراتهم وإن أهملوا التنصيص عليها إحالة على الأذهان السليمة والارتياض في العلوم بفكرة مستقيمة
فإن قلت قد قال تعالى وأن تصوموا خير لكم وهو مثل وصومكم خير لكم ولذلك تقول يعجبني أن تقوم في معنى يعجبني قيامك
قلت قوله تعالى وأن تصوموا معناه وأن يوجد منكم الصوم فذلك الذي يحكم عليه بأنه خير
وأما الصوم المفرد التصوري فلا يحكم عليه كذلك وكذلك يعجبني أن تقوم إنما أعجبك اتخاذه للقيام في الحال أو المستقبل دون مجرد صفة القيام فإن قلت لو دل الفعل على الوقوع لكان كلاما
قلت الكلام يستدعي مسندا ومسندا إليه ونسبة فإذا قلت زيد قائم فزيد مسند إليه وقائم مسند والنسبة علمت عند السامع بقرينة ترتيب المتكلم قائم على زيد ويعبر عنها بالرابط فتقول زيد هو قائم فتصير القضية ثلاثية بعد أن كانت ثنائية وإذا قلت قام زيد فزيد مسند إليه وقام فيه أمران أحدهما المسند وهو القيام دل عليه بمادته والثاني النسبة دل عليها بصورته التي امتاز الفعل بها عن الاسم وهي الدلالة على الوقوع بالزمان الماضي ولذلك لم يحتج إلى رابط وكان في قوة القضية الثلاثية الاسمية
والله أعلم انتهى
قال رحمه الله وقد بدا لي أن أختصر الكلام على أحسب الناس أن يتركوا سادة مسد المفعولين
و أن يقولوا تعليل له وهم لا يفتنون حال منه وهما معمولان ليتركوا وهو مقيد بهما
والمنكر حسبان الترك
____________________
(1/80)
المخصوص لا مطلق الترك
ويحتمل أن يكون أن يقولوا تعليلا لحسب
ويكون أحسب هو العامل فيه
وأن يكون وهم لا يفتنون حالا من يقولوا وقول الزمخشري إن أن يتركون أول مفعولي أحسب لا دليل له
والظاهر من كلام النحاة يرده لأنهم أطلقوا إن أن وصلتها سادة مسد المفعولين أو أن الثاني محذوف وقوله تقديره أحسبوا تركهم حمله عليه قول النحاة إن أن والفعل في تأويل المصدر ولكن بينهما فرق فإن أن والفعل يدل على الحدوث وهو معنى تصديقي بخلاف المصدر الصريح ودلالته على المعنى التصوري فقط وجعله الترك بمعنى التصيير لا دليل له
وهو محتمل لذلك ولغيره
والبيت الذي أنشده محتمل لهما
وقوله في كلامه غير مفتونين يحتمل المفعول والحال
والظاهر أنه سبكه من قوله وهم لا يفتنون وعنده أن أن يقولوا خبر فهو أجنبي فاصل بين أبعاض الصلة
وهو لا يجوز
والأمثلة التي ذكرناها من خروجه لمخافة الشر و خرجت مخافة الشر و حسبت خروجه لمخافة الشر ليست نظير الآية لاحتمال الآية وتعين ذكر واحد مما ذكره من الأمثلة لمعناه والله أعلم انتهى
قال رحمه الله رضي عنه أحسب الناس أن يتركوا قال الزمخشري الحسبان لا يصح تعليقه بمعاني المفردات ولكن بمضامين الجمل ألا ترى أنك لو قلت حسبت زيدا وظننت الفرس لم يكن شيئا حتى تقول حسبت زيدا عالما وظننت الفرس جوادا لأن قولك زيد عالم أو الفرس جواد كلام دال على مضمون فأردت الإخبار عن ذلك المضمون ثابتا عندك على وجه الظن لا اليقين فلم تجد بدا في العبارة عن ثباته عندك على ذلك الوجه من ذكرك شطري الجملة مدخلا عليهما فعل الحسبان حتى يتم لك غرضك فإن قلت فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان في الآية قلت هو في قوله أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون وذلك أن تقديره أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا
فالترك أول مفعولي أحسب ولقولهم آمنا هو الخبر وأما غير مفتونين فتتمة الترك لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير كقوله فتركته جزر السباع ينشنه ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام فإن قلت أن يقولوا هو علة تركهم غير مفتونين فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ قلت كما تقول خروجه لمخافة الشر وضربه للتأديب وقد كان التأديب
____________________
(1/81)
والمخافة في قولك خرجت مخافة الشر وضربته تأديبا تعليلين وتقول أيضا حسبت خروجه لمخافة الشر وظننت ضربه للتأديب فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبرا
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه في هذا الكلام عليه أسئلة أحدها أن المتبادر إلى فهم كثير من الناس من الآية إنكار حسبانهم الترك وكلامه يقتضي أن مطلق الترك ليس بمنكر وإنما المنكر كون الترك لقولهم والجواب أن الحق ما اقتضاه كلامه وليست هذه الآية كقوله تعالى أيحسب الإنسان أن يترك سدى أي لا يؤمر ولا ينهى
وذلك لا يكون
فلا يزال العبد تحت التكاليف وآية العنكبوت معناها الترك من الفتنة التي يمتحن بها صحة إيمانه ودخوله في قلبه وصدقه في قوله آمنا ومن تأمل الآية علم ذلك
السؤال الثاني أن للنحاة مذهبين أصحهما أن أن وصلتها تسد مسد المفعولين
والثاني أن المفعول الثاني محذوف تقديره ثابتا
فظاهر كلام الزمخشري في هذه الآية أنهما مذكوران وهو مخالف للمذهبين ويوكد هذا السؤال أنه جعل قوله أن يقولوا آمنا سادا مسد المفعولين
والجواب أنه حيث تم الكلام فأن والفعل سدت مسد المفعولين
على الصحيح
وقدر الثاني محذوفا على المذهب الآخر كما في قوله أن يسبقونا فإن الكلام تم به
أما قول أن يتركوا فلم يتم الكلام عنده ولما قلنا أن المنكر كون الترك لقولهم لا مطلق الترك
فلا شك في احتياج الكلام إلى تتمة كما ذكر الزمخشري لكن تلك التتمة مفعول آخر أو غيره ظاهر كلامه أنه مفعول آخر
ونحن نخالفه فنحن لم نخالف النحاة في ورد ولا صدر وهو إذا جعل المفعولين مذكورين قد يقال إنه مخالف للنحاة منتحل مذهبا ثالثا وقد يقال إن المذهبين إنما هما فيما إذا تم الكلام بأن والفعل الداخلة حسب عليهما دالة على معنى الحدوث الذي هو من قبيل التصديق وذلك مما اختيرت له أن والفعل دون صريح المصدر فإن صريح المصدر يدل على المعنى التصوري فقط إما جنس المصدر وإما نوعه من غير تعرض لوقوعه أو عدم وقوعه كما يشعر به أن والفعل فلا شك أنه حيث قصد المعنى التصوري احتيج إلى مفعول آخر وحيث قصد المعنى التصديقي أغنت عن المفعولين فهل يأتي أن والفعل ويراد بها المعنى التصوري فقط هذا مما عندنا فيه نظر يحتمل أن يقال يجوز ذلك كقوله تعالى وأن تصوموا خير لكم معناه وصومكم وقع مبتدأ وكل ما وقع مبتدأ يقع مفعولا أول لحسب
ويحتمل أن يقال إن أن لا تخرج عن الدلالة على الحدوث وقوله تعالى وأن تصوموا أشير به إلى وقوع الصوم
____________________
(1/82)
منهم ولذلك كان خيرا لهم وينبني على هذا أنه هل يجوز أن تقول حسبت أن تقوم خير من أن تقعد فإن صح ذلك وكان مثله مسموعا من العرب كان ذكر المذهبين حاصلا ببعض مواردها وهو ما إذا تم الكلام دون ما إذا لم يتم وإن لم يصح ولم يسمع ذلك من العرب أجرينا كلام النحاة على ظاهره ورددنا كلام الزمخشري في اقتضائه التصريح بالمفعولين
والذي نذهب نحن إليه لا يحتاج إلى ذلك كما سنبينه إن شاء الله تعالى وهو أني أجعل أن يتركوا سادا مسد المفعولين مع تقييد الترك بما بعده من أن يقولوا آمنا وهو علة الترك وهم لا يفتنون وهو حال منه والفعل يتقيد بعلته وحاله والعامل فيهما يتركوا وهما مع يتركوا من صلة أن ويجوز تقديم الحال على الصلة وتأخيره عنها لأنهما جميعا في آخر الصلة
ولا شك أن العلة المذكورة وهي قوله أن يقولوا ويحتمل أن تكون للترك كما قلنا أو للحسبان وهو محتمل أيضا
ومعناه راجع إلى الأول
ويحتمل أن تكون وهم لا يفتنون حالا من الضمير في يقولوا والمنكر حسبان الترك المقيد بالصفتين المذكورتين هذا قولي
وأما الزمخشري فيجعل أن يتركوا مفعولا أول و أن يقولوا مفعولا ثانيا وإن سماه خبرا
ويجعله معمولا لمحذوف ولم يتعرض لقوله وهم لا يفتنون إلا أنه قال غير مفتونين فإن جعل قوله وهم لا يفتنون مفعولا ثانيا كتركهم لم يصح لأجل الواو ولأجل الفصل وإن جعله حالا لم يصح له جعلها من الترك بمعنى التصيير فكلامه عجيب
السؤال الثالث قوله المضمون الذي يقتضيه الحسبان هو في قوله أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ليس فيه تصريح بمقصوده لأنه يصح على ما قلناه من كونها سادة مسد المفعولين أن المضمون فيها لكن قوله بعد ذلك بين مراده
السؤال الرابع قوله تقديره أحسبوا تركهم حمله عليه قول النحاة إن أن والفعل بتأويل المصدر ولكن قد بينا الفرق بينهما ولنا أن نمنعه بذلك الفرق أن تقديره ذلك لاختلاف المعنى السؤال الخامس قوله غير مفتونين وتقديره في هذا المحل وظاهر كلامه أنه مفعول ثان لتركهم فإن كان مراده بذلك أنه معنى قوله وهم لا يفتنون من تمام الصلة وقد فصل بينهما بقوله أن يقولوا آمنا وهو أجنبي عنها لأنه خبر عن الموصول
وإن كان مراده غير ذلك صار تقديره في هذا الموضع بلا دليل وذكره بعد ذلك لم نتعرض له
السؤال السادس قوله إن الترك بمعنى التصيير ما الداعي إليه وهو محتمل لذلك ولأن يكون بمعنى التخلية والإهمال وكلاهما
____________________
(1/83)
محتمل البيت الذي أنشده
السؤال السابع حيث جعله بمعنى التصيير وجب أن يكون غير مفتونين مفعولا ثانيا والواو في وهم لا يفتنون تمنع منه
السؤال الثامن تعليله كون غير مفتونين من تتمة الترك بأن الترك بمعنى التصيير وهو من تتمة الترك مطلقا سواء أجعلناه بمعنى التصيير أم لا لكن إن جعلناه بمعنى التصيير كان ذلك متحتما أنه من تتمته وإن لم نجعله لم يتحتم لكن المعنى ساق إليه فجعلنا ما بعده علة وحالا مقيدة
السؤال التاسع قوله في سؤال نفسه أن يقولوا هو علة تركهم غير مفتونين مراده من حيث المعنى وأما من حيث الصناعة فيستحيل مع جعله خبرا أن يكون علة فكان ينبغي أن نبين ذلك حتى لا يحصل الالتباس في الجواب
السؤال العاشر قوله في الجواب كما تقول خروجه لمخافة الشر
قلت ليس مثله لأن خروجه مبتدأ وليس بعده ما يصلح أن يكون خبرا غير الجار والمجرور ولا يحتمل الكلام غير ذلك و لقولهم لم يتعين أن يكون خبرا لأن ما قبله محتمل للتمام بخلاف خروجه فإنه مفرد لا يحتمل التمام
قوله وقد كان في خرجت مخافة الشر تعليلا
قلت لأن خرجت كلام تام فجاء التعليل بعده ولم يحتمل غير ذلك فهو مخالف للآية لاحتمالها ومخالف لما مثل به لمضادته إياه
قوله وتقول أيضا حسب خروجه لمخافة الشر
قلت لو قلت حسب خروجه لمخافة الشر حسا لم يحتمل غير التعليل وأما في المثال الذي ذكره فإن خروجه مفعول أول ولمخافة الشر مضطر إلى أن يجعله مفعولا ثانيا متعلقا بمحذوف وإنما يتعين ذلك لأن خروجه لا يسد مسد المفعولين وليس نظير الآية وإنما نظيرها حسب أن يخرج لمخافة الشر فإن أن يخرج سادة مسد المفعولين يتم الكلام بها ولو قيل حسب خروجه بمعنى حسبت أن يخرج إن سمع ذلك من العرب صار نظيرا للآية واحتمل الوجهين والله أعلم انتهى
قال رحمه الله المواضع التي ورد فيها لفظ التبديل وما ذكر فيه مفعول واحد أو مفعولان وما فيه الباء أخاف أن يبدل دينكم يريدون أن يبدلوا كلام الله وبدلناهم بجنتيهم جنتين وما بدلوا تبديلا ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب وإذا بدلنا آية مكان آية ومن يبدل نعمة الله ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا على أن نبدل خيرا منهم عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها بدلناهم جلودا غيرها بدلنا أمثالهم تبديلا ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم وقد تأملت هذه الآيات
____________________
(1/84)
فوجدتها على أقسام منها ما جاء التبديل فيه متعديا إلى واحد لم يذكر معه مفعول آخر ولا مجرور وهو قوله يبدل دينكم و أن يبدلوا كلام الله و أن أبدله ومن يبدل نعمة الله وفي هذه الثلاث المبدل هو المتروك
وقوله على أن نبدل خيرا منهم وفي هذه الآية هو المأتي به ومجيء هذه الآيات على هذين النوعين دليل على أن التبديل تارة يكون بمعنى طرح الشيء الحاصل بغيره وتارة يكون بمعنى الإتيان بما لم يكن حاصلا بدل ما هو حاصل والقدر المشترك بينهما جعله بدلا وهو صادق في النوعين وقياس ذلك أنه إذا زيد عليه جار ومجرور لبيان ما جعل بدلا عنه لا يتغير المعنى وأنه لو جعلت الهمزة بدل التضعيف في الفعل لا يتغير المعنى ويلزم من هذه المقدمات صحة قول الفقهاء فلا تبدل الصاد بالطاء وقول النحاة فلا تبدل الظاء بالصاد لأن المعنى سواء لكنه شيء يحتاج إلى بيان المقصود لتعرف بالقرينة وهي العلم بأن الحاصل هو الضاد وأنه لا يجوز تركها إلى الطاء ولا جعل الطاء مكانها فالفقهاء أرادوا معنى العبارة الأولى والنحاة أرادوا معنى العبارة الثانية وهو معنى واحد تواردوا عليه بعبارتين ومقصودين انتهى
آية أخرى قال الشيخ الإمام رحمه الله قوله تعالى والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين في جملتهم أو في مدخلهم والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين وهو متمنى أنبياء الله تعالى وإذا أردت معرفة ذلك انظر قوله صلى الله عليه وسلم إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وانظر صلاح القلب بالإيمان والعرفان والأحوال وصلاح الجسد بالطاعة والإذعان والخلائق يتفاوتون في ذلك تفاوتا كبيرا فصلاح العبد بصلاح قلبه وبدنه على قدر مقامه
وهي صفة ذاتية له بفضل الله تعالى عليه وإتيانه إياها له وما سواها من النبوة والرسالة وغيرهما ناشئ عنها فلذلك كانت أعظم الصفات وقول من قال الصالح من قام بحق الله وحق العباد كلام إجمالي لا ينبه على ما قلناه لكنه إذا شرح ما فيه من العلوم يستلزم ذلك وإنما السر في المعنى الذي نبهنا عليه وهي صفة حقيقية يخلقها الله تعالى في ذات العبد ويفيضها عليه يقرب بها منه وينال بها سعادة الدنيا والآخرة وصلاح كل أحد بحسب حاله
فأعظم الصلاح صلاح محمد صلى الله عليه وسلم انتهى
قال الشيخ الإمام رحمه الله قول الزمخشري كان لوط ابن أخت إبراهيم صوابه ابن أخي إبراهيم
وهو لوط بن هاران بن آزر وقوله في تفسير قوله تعالى
____________________
(1/85)
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر واللفظ لا يقتضي أن لا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها كما تقول إن زيدا ينهى عن المنكر فليس غرضك أنه ينهى عن جميع المناكير وإنما تريد أن هذه الخصلة موجودة فيه وحاصلة منه من غير اقتضاء العموم
قلت إذا قلنا المفرد المعرف بالألف واللام للعموم
فهذا يقتضي أن لا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها
هذا صحيح لأن العموم في المنكر المنهي عنه لا في المصلين فتمثيل الزمخشري مطابق
لكن تصريحه بأن المنكر ليس للعموم ليس بجيد نعم يرد عليه أن العموم في المنكر يقتضي العموم المصلين إذا صدر عنهم مناكر متعددة وإلا يلزم التخصيص في المنكر وهذا كما نقرره في أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال إلا إذا اقتضى تخصيص الأشخاص قوله فإياي فاعبدون تقديم المفعول ينبغي أن يحمل على تقديمه على العامل فيه وهو فعل مقدر بعده قيل فاعبدون لأنه مستعمل بضميره انتهى آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي استشكل كون أحللنا جوابا للشرط أو دليل الجواب لكونه ماضي اللفظ والمعنى وأقول إن أحللنا فيه أمران أحدهما الإحلال وهو إنشاء الحل أو الإخبار عنه وهو ماضي اللفظ والمعنى
ولا يصح تعلقه بالشرط والثاني الحل المنشأ وهو الذي علق بالشرط وكذلك المقيد بالظروف ونحوه وكذلك قولنا اضرب يوم الجمعة ليس المظروف فعل الأمر لأنه إنشاء ناجز قبل يوم الجمعة
وإنما يوم الجمعة ظرف للضرب المأمور به فكأنه قال جعلنا لك حلا هذه الأصناف الأربعة أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ماضيات كن أو مستقبلات أو ما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك كذلك وبنات عمك إلى آخرها كذلك وامرأة مؤمنة من صفتها كذا كما يصح أن يقال أبيحت لك فلانة إن تزوجتها بولي مرشد وشاهدي عدل وشروط مخصوصة
ومن هنا وما يقرب منه نشأ الخلاف في بعتك إن شئت فقيل لا يصح لأن الإنشاء لا يعلق وظاهر اللفظ تعليق المبيع الإنشائي على المشيئة والأصح الصحة إما لأن معناه إن شئت فاقبل فلا يكون بعتك جوابا ولا دليل الجواب وأما لأن معناه بعتك بيعا تاما وتمام البيع إنما يحصل بالقبول
فيكون بعتك المتقدم جوابا ودليل الجواب
____________________
(1/86)
بهذا المعنى
وإما لأن بعتك الإنشائي في معنى جعلته مبيعا منك وصيرورته مبيعا منه متوقف على مشيئته فيكون الشرط فيما فهم من بعتك لا في بعتك كما كان الشرط في الآية فيما فهم من الإحلال وهو الحل لا في نفس الإحلال فهذه ثلاث طرق في توجيه قوله بعتك إن شئت وهو أصعب من أحللنا لأن بعتك لفظ واحد لا ينحل إلى العطر بخلاف أحللنا فإنها الحل الأصلي الذي هو ناشئ عن الإحلال الذي اقتضته الهمزة الداخلة على حل فلم يكن اختصاص الحل بالشرط بعيدا في تقدير العربية والله أعلم
كتب انتهى
قال الشيخ الإمام رحمه الله
الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
وبعد فقد سئلت عن إفراد العم وجمع العمة في قوله تعالى وبنات عمك وبنات عماتك وكنت قد سمعت فيه شيئا فخطر لي شيء لم أسمعه فأردت أن أكتبه لينظر فيه
وسميته بذل الهمة في إفراد العم وجمع العمة أما الذي سمعته فإن العم اسم جنس والعمة واحدة ولأجل التاء التي فيها جمعت دفعا لتوهم أن المراد واحدة فقط والعم لما كان اسم جنس لم يحتج فيه إلى دفع هذا التوهم ويستفاد العموم فيهما من الإضافة وأكد العموم في الثاني ولم يؤكد في الأول لما قلناه والتاء في العمة وإن كانت للتأنيث فهي تستعمل في الواحدة أيضا
وهذا الجواب قد يرد عليه جمع العم في قوله تعالى أو بيوت أعمامكم فلو كان كونه اسم جنس وحده مانعا من الجمع لمنع في تلك الآية إلا أن يقال إنه ليس بمانع لكنه في آية النور جمع إشارة إلى التوسعة على المخاطبين في الأكل من البيوت وفي آية الأحزاب إفراد للمعنى الذي سأذكره إن شاء الله تعالى وحينئذ يكون تقليلا للعموم على خلاف ما يسبق إليه الذهن من الاكتفاء في العموم بكونه اسم جنس ويعود المعنى إلى أن دلالة اللفظ على العموم في العم والعمة المضافين سواء
وأن في خصوص آية النور قصد التعميم فيها وفي آية الأحزاب قصد التعميم في العمات دون الأعمام فيعود إلى ما نقوله إن شاء الله
ولا شك أن مقتضى كلام جمهور الأصوليين التسوية بين العم والعمة في اقتضاء العموم عند الإضافة أو عدم اقتضائه
وفي كلام بعضهم ما يقتضي الفرق المشار إليه فيما تقدم وأنه حيث كان فيه تاء الوحدة لا يقتضي العموم وحيث لم تكن فيه يقتضي العموم وربما يقال فيه إن كان صادقا على القليل والكثير اقتضى العموم وإلا فلا وهو اختيار العالم أبي العباس القرطبي من شيوخ شيوخنا
____________________
(1/87)
ولم يفرق بين ما فيه تاء التأنيث وما هو مجرد عنها
هذا ما يتعلق بالوجه الذي سمعته
وأما الذي خطر لي فإني تأملت الآية الكريمة فوجدتها مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وحده ليست كآية النور التي خوطب بها المؤمنون كلهم بل هذه الآية أعني آية الأحزاب لم يخاطب فيها إلا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله إنا أحللنا لك وفي آخرها خالصة لك من دون المؤمنين واختلف المفسرون هل قوله خالصة لك من دون المؤمنين خاص بقوله وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها أو هو راجع إلى قوله إنا أحللنا لك وعلى هذا يتأكد به ما قلناه من اختصاص جميع ما في الآية بالنبي صلى الله عليه وسلم وعلى كل تقدير وجدنا الأحكام التي فيها كذلك فإنه اشترط في الزوجات إيتاءهن أجورهن وفيما ملكت يمينه صلى الله عليه وسلم أن يكون مما أفاء الله عليه وفي بنات عمه وعماته وبنات خاله وخالاته أن يكن هاجرن معه
وفي غيره لا يشترط ذلك
وإنما اشترط في حقه صلى الله عليه وسلم ذلك لأن قدره صلى الله عليه وسلم أعلى من كل قدر ومحله أشرف من كل محل
فاختار له من كل نوع أشرفه وأحبه وأجله وأطيبه فأطيب الزوجات من أوتيت أجرها
وأطيب المملوكات من كانت من الفيء
وأطيب حرائر المؤمنات المهاجرات وأعلاهن قدرا بنات أعمامه وعماته وبنات أخواله وخالاته
ونظرت في أعمامه صلى الله عليه وسلم فلم يكن منهم حين نزول هذه الآية إلا العباس رضي الله عنه
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجله ويعظمه وكان له ثلاث بنات واحدة منهن تسمى أم حبيبة ويقال أم حبيب قال ابن عبد البر في الاستذكار في حديث أم الفضل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو بلغت أم حبيبة بنت العباس وأنا حي لتزوجتها وإنه تزوجها الأسود بن سفيان بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم
وأم حبيبة هذه أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث بن حرب الهلالية يقال إنها أول امرأة أسلمت
____________________
(1/88)
بعد خديجة وهي أم الفضل وعبد الله وعبيد الله ومعبد وعبد الرحمن فلها من العباس سبعة أولاد ستة ذكور وبنت
وأنشدني شيخنا الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي في أم الفضل هذه أبياتا قالها فيها عبد الله بن يزيد الهلالي ما أنجبت نجيبة من فحل بجبل نعلمه أو سهل كستة من بطن أم الفضل عم النبي المصطفى ذي الفضل وفي الأبيات مما لم أسمعه من شيخنا وخاتم الرسل وخير الرسل أكرم بها من كهلة وكهل وللعباس بنتان أخريان صفية وأميمة شقيقتا كثير وتمام أمهم أم ولد فذهب إلى وهمي أنه إنما يكون قصد بإفراد العم الأدب مع العباس حتى لا يذكر معه غيره والقرآن بحر لا ساحل له مع ما فيه من مراعاة النظم في اللفظ والمعنى فيه من الآداب ما تعجز العقول عنه
فظننت أنه سلك في هذه الآية الأدب معه ونظرت في بقية أعمام النبي صلى الله عليه وسلم من أسلم منهم غير العباس وهو حمزة قتل قبل نزول الآية وكان أخاه من الرضاع فلم تكن بناته تحل له ولم يكن له من البنات إلا ابنة صغيرة واسمها أمامة وهي التي تنازع فيها علي وجعفر وزيد في سنة سبع عقيب الجعرانة وقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها أسماء بنت عميس زوجة جعفر
ونظرت في بقية أعمامه وبناتهم فوجدت أم هانئ بنت أبي طالب وقد روي عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يتزوجها فنزلت الآية
قالت ولم أكن من المهاجرات فلم أحل له ومن أعمامه صلى الله عليه وسلم الزبير بن عبد المطلب له بنات لهن صحبة
منهن ضباعة التي تروي الاشتراط في الحج وكانت متزوجة بالمقداد بن الأسود ودرة بنت أبي لهب كانت
____________________
(1/89)
متزوجة بالحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ولا يليق إدخال من هي متزوجة لا سيما في خطاب الله تعالى لأعظم الخلق قدرا فلعل المقصود من بنات العم أم حبيبة بنت العباس خاصة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم لو بلغت وأنا حي لتزوجتها فانظر ما أعظم هذه الإشارات التي في القرآن والأدب مع شيخ قريش العباس بن عبد المطلب فأفرد اسم العم تنويها به
وأما عماته صلى الله عليه وسلم وهن ست واحدة منهم تسمى برة لا أعرف لها بنتا وخمس لهن بنات منهن بنات جحش الثلاث زينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأختاها حمنة وحبيبة وبنات أميمة بنت عبد المطلب ومنهن بنات عمته أم حكيم بنات كريز بن ربيعة وهن أم عثمان
وخالاته ومنهن قريبة ابنة عاتكة أبوها أبو أمية بن المغيرة ومنهن فاطمة بنت أروى أبوها كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار
وقال ابن سعد فاطمة بنت أرطاة بن شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وأروى أسلمت على الصحيح
وأما عمته صفية رضي الله عنها فبنتها أم حبيبة كانت متزوجة بخالد بن حرام
فقد تبين أن لعماته بنات يمكن توجه الإحلال إليهن ولم يوجد فيهن المعنى المقتضي للإفراد فلذلك جمعهن بخلاف الأعمام وربما لو أفردت العمة وعنده صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وهي بنت عمته أميمة لذهب الوهم إلى أن المراد عمته أميمة وبناتها وأميمة لم تكن أسلمت وإنما أسلم من عماته صفية وأروى وعاتكة
وكان يكون ذلك غضاضة على صفية رضي الله عنها وبناتها
فكان في جمعهن أدب مع صفية كما كان في إفراد العم أدب مع العباس فانظر عجائب القرآن وآدابه ودقائق لطائفه التي لا تتناهى
وهذه العمات الثلاث عاتكة وأروى وصفية مسلمات مهاجرات وهنا بحث وهو أن قوله اللاتي هاجرن معك يحتمل أن يكون صفة للبنات من الطرفين ويحتمل أن يكون صفة لبنات العم والبنات أمهات البنات من الطرف الآخر وليس فيه مانع من جهة العربية إلا اختلاف العامل وذلك لا يضر أو يجعل محله رفعا على القطع وفيه من جهة المعنى الاكتفاء بهجرة أمهاتهن عن هجرتهن ولا تظن بنا أن نقصر الآية على العباس بل حكمها شامل له ولغيره من الأعمام ولذلك خرجت أم هانئ منها بالتقييد بالهجرة وليست من بنات العباس وإنما الكلام تارة ينظر إلى معناه وتارة ينظر إلى لفظه وإفراده فمن هذه الجهة قلنا إنه روعي فيه الأدب مع العباس رضي الله عنه وتارة ينظر
____________________
(1/90)
إلى معناه وما اقتضاه العموم فيدخل فيه جميع بنات الأعمام ولك فيه طريقان أحدهما أن يجعل المراد به المعنى العمومي والإشارة اللفظية التي لمحناها
والثاني أن تجعل لفظه ومعناه للعباس ويكون غيره مرادا بطريق التبع له
فالزبير وأبو طالب وأبو لهب تبع للعباس في هذا الحكم وكلا الطريقين لها مساغ في اللغة العربية والأصول
ولا ينكر إفراد الخال وجمع الخالات لمشاكلة العم والعمات فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لسعد بن أبي وقاص خالي لأنه ابن عم أمه
وليس له خال قريب ولا خالات قريبات
وفي سعد بن أبي وقاص من التعظيم لأنه أحد العشرة معنى من المشاكلة أيضا
وهذا الوجه شيء خطر لي
فإن كان مقصودا فذلك فضل من الله فتح به علي من الفهم الذي يؤتيه الله في كتابه لمن يشاء من عباده وإن لم يكن فأنا أسأل الله عفوه ومغفرته عني من الكلام في كتابه بغير علم
وأن يصفح عنا بكرمه ويتغمدنا بمغفرته ورحمته
ويفتح لنا إلى كل فهم سبيلا انتهى
آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما الآية قال الزمخشري العطف الأول نحو قوله ثيبات وأبكارا في أنهما جنسان مختلفان إذا اشتركا في حكم لم يكن بد من توسط العاطف بينهما
وأما العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع فكأن معناه إن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم وهذا الذي قاله لا مزيد على حسنه
والذي دعاه إلى ما قاله في العطف الثاني خصوص المادة لا موضوع اللفظ حتى يأتي في كل موضع
فإن الصفات المتعاطفة إن علم أن موصوفها واحد إما بالشخص كقوله غافر الذنب وقابل التوب فإن الموصوف الله تعالى
وإما بالنوع كقوله ثيبات وأبكارا فإن الموصوف الأزواج كقوله الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر فإن الموصوف النوع الجامع للصفات المتقدمة وإن لم يعلم أن موصوفها واحد من جهة وضع اللفظ فإن دل دليل آخر على أنه من عطف الصفات اتبع لهذه الآية فإن هذه الأعداد لمن جمع الطاعات العشر لا لمن انفرد بواحدة منها لأن الإسلام والإيمان كل منهما شرط في الأجر وكلاهما شرط في
____________________
(1/91)
الأجر على البواقي ومن كان مسلما مؤمنا غير متصف بالبواقي له أجر لكنه ليس هذا الأجر العظيم الذي أعده الله في هذه الآية وقرن معه إعداد المغفرة معه وإعداد المغفرة زائد على الأجر
فلخصوص هذه المادة جعل الزمخشري ذلك من عطف الصفات يعني والموصوف واحد فلو لم يكن كذلك واحتمل تقدير موصوف مع كل صفة وعدمه حمل على التقدير لأن ظاهر العطف التغاير ولا يقال إن الأصل عدم التقدير فإن هذا الظاهر مقدم على ذلك الأصل
ومثال هذا قوله تعالى إنما الصدقات ولو كان من عطف الصفات لم يستحق الصدقة إلا من جمع الصفات الثمانية وكذلك إذا قلت وقفت على الفقهاء والنحاة استحقه الفقيه الذي ليس بنحوي والنحوي الذي ليس بفقيه ولا يقال إنما يستحقه الجامع بين النحو والفقه والله أعلم انتهى
آية أخرى قوله تعالى ولو أعجبك حسنهن معطوف على حال مقدرة أي ولو في هذه الحال التي تقتضي التبدل وهي حالة الإعجاب قوله ما ملكت موصولة بدل من النساء
قوله أن يؤذن لكم قال الزمخشري وقت أن يؤذن ورد بأن أن المصدرية لا تكون في معنى الظرف وإنما ذلك في المصدر المصرح به قوله غير ناظرين إناه قال الزمخشري حال من لا تدخلوا فاعترض عليه بأن هذا لا يجوز على مذهب الجمهور فإنه لا يقع عندهم بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى أو المستثنى منه أو صفة مستثنى منها
وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال وعلى ذلك يكون بمعنى ما قاله الزمخشري
قلت هذا الاعتراض بحسب ما صدر الزمخشري كلامه ولم يرد الزمخشري ذلك فإن ذلك في الحال الصريح مثل قوله ما أنت إلا ماجدا صغير السن
أي ما أنت صغير السن إلا ماجدا
هذا محل الخلاف بين الكسائي وغيره والزمخشري قال عقب كلامه وقع الاستثناء على الوقت والحال معا فعلم مراده أنه داخل في حيز الاستثناء وإنما سماه حالا لأن تدخلوا مفرغ كما تسمي ما قام إلا زيد فاعلا وما ضربت إلا زيدا مفعولا كذلك ما قمت إلا راكبا حال وليس في ذلك خلاف نعم هنا نظر آخر
وهو استثناء شيئين من شيئين لأن التقدير لا تدخلوا بيوت النبي في وقت من الأوقات وحال غير الناظرين من الأحوال والذي يظهر جواز ذلك لكن منقول النحاة يأباه فيكون التقدير هنا إلا أن يؤذن لكم حال كونكم غير ناظرين أو فادخلوا غير ناظرين
فهذا إعراب الآية
ولو جرينا على ما فهم المعترض عن
____________________
(1/92)
الزمخشري لكان المعنى لا تدخلوا غير ناظرين إلا أن يؤذن لكم وفيه فساد من وجهين أحدهما إفهامه جواز الدخول ناظرين
والثاني إفهامه إذا أذن لهم جاز الدخول مطلقا ناظرين وغير ناظرين
قوله فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق تقول استحييت من فلان من كذا ففي الآية حذف من الأول دل عليه الثاني ومن الثاني دل عليه الأول فلم يذكر في الأول الحق صيانة للنبي صلى الله عليه وسلم عن استحيائه من الحق ولم يذكروا في الثاني أدبا في الخطاب
قوله وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله وقوله إن تبدوا شيئا أو تخفوه يدخل فيه ما حصل في نفوس بعضهم من تزوج عائشة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاؤه كفر والكفر إسراره وإعلانه سواء في الوعيد والعقوبة فكذلك تكون الآية محكمة في ذلك وليست مثل قوله وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فإنها منسوخة ولا مثل قوله إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله فإن المقصود هناك العلم وهو شامل وليس فيها وعيد
وآية الأحزاب وإن ذكر فيها العلم ففيها وعيد والله أعلم
قوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما هي تحية من الله والملائكة والمؤمنين تحية لآدم عليه السلام فإنه سبحانه لم يدخل معهم فيها ولا يصح دخوله وهي مرة واحدة
قوله تعالى ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين الظاهر أن تقديره إلى أن يعرفن لأن أدنى بمعنى أقرب وأقرب تتعدى بإلى وباللام وأدنى التي من الدنو تستعمل تارة في الكثرة وهو حقيقتها وتارة في القلة كناية لأن القليل أقرب وأما أدنى التي في قول المتنبي لولا العقول لكان أدنى ضيغم فينبغي أن تكون من هذا المعنى أي أقل ضيغم
وأما أدنا من الدناءة إن كان يقال فإنما يكون بإبدال همزته ألفا وأما الدون بمعنى الحقير فإنما يقال فيه دون ودون الظرف معروف وقوله تعالى ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن معناه أن سؤالهن من وراء الحجاب أطهر من سؤالهن بغير حجاب مع الاشتراك في الطهارة اللائقة بالصحابة ثم قال وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله فإن جعل الكلام في القسم المفصول وهو بغير حجاب من الإيذاء كان فيه بعض متمسك للمالكية في قتل الساب وإن لم يحصل الأذى
قوله ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا قال الزمخشري حقه أن يكون بالفاء وإنما جاء بثم لتراخي الرتبة وأنا أقول لو جاء بالفاء لكان مسببا عن إغرائه بهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم حليم عظيم الشفقة عليهم فلم
____________________
(1/93)
يجعل إجلاءهم مسببا عنه وربما سأل لهم فجعل عدم إيتائهم سببا في إغرائه بهم وفي إجلائهم عنه بعد قليل حتى لا يكون لهم عليه حق الجوار ويستمر أثر الإغراء بهم في قتالهم حيث كانوا
قوله ملعونين جعله الزمخشري حالا في جواز الاستثناء كما تقدم في غير ناظرين إناه وهو صحيح
وقد تقدم قول الأصوليين وغيرهم في الفرار من استعمال اللفظ في معنييه أنه يقدر إن الله يصلي وملائكته يصلون يرد عليه أن التقدير ينبغي أن يكون من جنس المنطوق لفظا ومعنى ولا تكفي المساواة لأنه يصير كشبه المشترك وجمعه والصحيح أنه لا يجوز فلينظر هذا فإني لم أره منقولا
والذي يظهر هذا والذي يدل عليه المحذوف يدل عليه الملفوظ بلفظه ومعناه
فإن المعنى هو المقصود وإذا كان تعين أن تكون الصلاة من الله بمعنى الصلاة من الملائكة وهي التعظيم إذا أريد الفرار من استعمال اللفظ في معنييه وأن يقال إنه استعمل في معنييه والأول أحسن لأنها تحية واحدة للنبي صلى الله عليه وسلم من الله والملائكة والمؤمنين
قوله بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا موافق لقوله صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن فيه فقد بهته والتطبيق بين الآية والحديث يقتضي تفسير الأذى بما يكره فذكرك أخاك بما يكره إن كان فيه فهو غيبة سواء أكان اكتسبه كالمعاصي والأفعال الرذيلة ونحوها أم كان لم يكتسبه من صفات بدنه ونحوها مما يكره وكله حرام إلا أن ذكره بما فيه مما يكره وليس بمكتسب له مقتضى الحديث أنه غيبة وعموم الآية مقتض أنه بهت ولا يبعد تخصيص الآية بالحديث لأنه الأقرب إلى الفهم من الجريان على مقتضى العموم في هذا المكان وإن لم يكن فيه فهو بهت سواء أكان مما يكتسب من المعاصي والرذائل أم لا من الخلق والصفات لأنها غير مكتسبة لأن غير المكتسب يشمل ما يصح اكتسابه وما لا يصح اكتسابه وقوة الآية تقتضي البهت كبيرة ويوافقه الحديث إن الله وضع الحرج إلا من اقترض من عرض أخيه شيئا فذلك الذي حرج وأثم لكن الحديث خاص بالقرض وظاهره
____________________
(1/94)
الأفعال
والآية شاملة لذلك والخلق والألوان ونحوها وإنما أخذنا الكبيرة من قوله تعالى بهتانا وإثما مبينا وقوله احتملوا وذكره بعد أذى الله ورسوله ولعنة فاعله وإن لم يصل إلى درجته ويؤخذ من مجموع الآية مع الحديث أن كل ما يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم في حقه فذكره إيذاء له
فمن فعله فهو ملعون كافر
وقد نبه الزمخشري على أن أذى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بغير ما اكتسب فلذلك أطلق وقيد في المؤمنين خاصة والله أعلم
قال الزمخشري لا يجوز أن يكون أخذوا عاملا في ملعونين لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله وهذا الذي قاله هو مذهب الجمهور ومذهب الكسائي أنه يعمل والله أعلم انتهى
الحلم والأناة في إعراب قوله تعالى غير ناظرين إناه آية أخرى قوله تعالى لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه الذي يختار في إعرابها أن قوله تعالى أن يؤذن لكم إلى طعام حال ويكون معناه مصحوبين
والباء مقدرة مع أن تقديره بأن أي مصاحبا وقوله غير ناظرين إناه حال بعد حال والعامل فيهما الفعل المفرغ في لا تدخلوا ويجوز تعدد الحال وجوز الشيخ أبو حيان أن تكون الباء للسببية ولم يقدر الزمخشري حرفا أصلا بل قال إن أن يؤذن في معنى الظرف أي وقت أن يؤذن
وأورد عليه أبو حيان بأن أن المصدرية لا تكون في معنى الظرف وإنما ذلك في المصدر الصريح
نحو أجيئك صياح الديك أي وقت صياح الديك
ولا تقول أن يصيح
فحصل خلاف في أن أن يؤذن ظرف أو حال فإن جعلناها ظرفا كما قال الزمخشري فقد قال إن غير ناظرين حال من لا تدخلوا وهو صحيح لأنه استثناء مفرغ من الأحوال كأنه قال لا تدخلوا في حال من الأحوال إلا مصحوبين غير ناظرين
على قولنا أو وقت أن يؤذن لكم غير ناظرين على قول الزمخشري
وإنما لم يجعل غير ناظرين حالا من يؤذن وإن كان جائزا من جهة الصناعة لأنه يصير حالا مقدرة ولأنهم لا يصيرون منهيين عن الانتظار بل يكون ذلك قيدا في الإذن وليس المعنى على ذلك بل على أنهم نهوا أن يدخلوا إلا بالإذن ونهوا إذا دخلوا أن يكونوا ناظرين إناه
فلذلك امتنع من جهة المعنى أن يكون العامل فيه يؤذن وأن يكون حالا من مفعوله فلو سكت الزمخشري على هذا لم يرد عليه شيء لكنه زاد
____________________
(1/95)
وقال وقع الاستثناء على الوقت والحال معا كأنه قيل لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ولا تدخلوها إلا غير ناظرين
فورد عليه أن يكون استثناء شيئين وهما الظرف والحال بأداة واحدة وقد منعه النحاة أو جمهورهم
والظاهر أن الزمخشري ما قال ذلك إلا تفسير معنى وقد قدر أداتين وهو من جهة بيان المعنى وقوله وقع الاستثناء على الوقت والحال معا من جهة الصناعة لأن الاستثناء المفرغ يعمل ما قبله فيما بعده والمستثنى في الحقيقة هو المصدر المتعلق بالظرف والحال فكأنه قال لا تدخلوا إلا دخولا موصوفا بكذا
ولست أقول بتقدير مصدر هو عامل فيهما فإن العمل للفعل المفرغ وإنما أردت شرح المعنى ومثل هذا الإعراب هو الذي سنختاره في مثل قوله وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فالجار والمجرور والحال ليستا مستثنيين بل يقع عليها المستثنى وهو الاختلاف كما تقول ما قمت إلا يوم الجمعة ضاحكا أمام الأمير في داره
فكلها يعمل فيها الفعل المفرغ من جهة الصناعة وهي من جهة المعنى كالشيء الواحد لأنها بمجموعها بعض من المصدر الذي تضمنه الفعل المنفي وهذا أحسن من أن يقدر اختلفوا بغيا بينهم لأنه حينئذ لا يفيد الحصر وعلى ما قلناه يفيد الحصر فيه كما أفاده فيه قوله من بعد ما جاءهم العلم فهو حصر في شيئين ولكن بالطريق الذي قلناه لا أنه استثناء شيئين بل شيء واحد صادق على شيئين ويمكن حمل كلام الزمخشري على ذلك فقوله وقع الاستثناء على الوقت والحال معا صحيح وإن كان المستثنى أعم لأن الأعم يقع على الأخص والواقع على الواقع واقع فيخلص عما ورد عليه من قول النحاة لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان وقد أورد عليه أبو حيان في قوله إنها حال من لا تدخلوا أن هذا لا يجوز على مذهب الجمهور إذ لا يقع عندهم المستثنى بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى أو المستثنى منه أو صفة المستثنى منه
وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال وعلى هذا يجيء ما قاله الزمخشري وهذا الإيراد عجيب لأنه ليس مراد الزمخشري لا تدخلوا غير ناظرين حتى يكون الحال قد تأخر بعد أداة الاستثناء على مذهب الأخفش والكسائي
وإنما مراده أنه حال من لا تدخلوا لأنه مفرغ فيعمل فيما بعد الاستثناء كما في قولك ما دخلت إلا غير ناظر
فلا يرد على الزمخشري إلا استثناء شيئين وجوابه ما قلناه
وحاصله تقييد إطلاقهم لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان بما إذا كان الشيئان لا يعمل الفعل فيهما إلا بعطف أما إذا كان عاملا فيهما بغير عطف فيتوجه الاستثناء
____________________
(1/96)
إليهما لأن حرف الاستثناء كالفعل ولأن الفعل عامل فيهما قبل الاستثناء فكذا بعده
واختار أبو حيان في إعراب الآية أن يكون التقدير فادخلوا غير ناظرين كما في قوله بالبينات والزبر أي أرسلناهم
والتقدير في تلك الآية قوي لأجل البعد والفصل
وأما هنا فيحتمل هو وما قلناه فإن قلت قولهم لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان هل هو متفق عليه أو مختلف فيه وما المختار فيه
قلت قال ابن مالك رحمه الله في التسهيل لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان
ويوهم ذلك بدل ومعمول فعل مضمر لا بدلان خلافا لقوم
قال أبو حيان إن من النحويين من أجاز ذلك ذهبوا إلى إجازة ما أخذ أحد إلا زيد درهما
وما ضرب القوم إلا بعضهم بعضا قال ومنع الأخفش والفارسي واختلفا في إصلاحها فتصحيحها عند الأخفش بأن يقدم على إلا المرفوع الذي بعدها فتقول ما أخذ أحد زيد إلا درهما وما ضرب القوم بعضهم إلا بعضا قال وهذا موافق لما ذهب إليه ابن السراج وابن مالك من أن حرف الاستثناء إنما يستثنى به واحد وتصحيحها عند الفارسي بأن يزيد فيها منصوبا قبل إلا فنقول ما أخذ أحد شيئا إلا زيد درهما وما ضرب القوم أحدا إلا بعضهم بعضا قال أبو حيان ولم ندر تخريجه لهذا التركيب هل هو على أن يكون ذلك على البدل فيهما كما ذهب إليه ابن السراج في ما أعطيت أحدا درهما إلا عمرا واقفا أيبدل المرفوع من المرفوع والمنصوب من المنصوب أو هو على أن يجعل أحدهما بدلا والثاني معمول عامل مضمر فيكون إلا زيد بدلا من أحد و إلا بعضا بدلا من القوم و درهما منصوب ب ضرب مضمرة كما اختاره ابن مالك والظاهر من قول المصنف يعني ابن مالك خلافا لقوم أن يعود لقوله لا بدلان فكون ذلك خلافا في التخريج لا خلافا في صحة التركيب
والخلاف كما ذكرته موجود في صحة التركيب فمنهم من قال هذا التركيب صحيح لا يحتاج إلى تخريج لا بتصحيح الأخفش ولا بتصحيح الفارسي هذا كلام أبي حيان رحمه الله وحاصله أن في صحة هذا التركيب خلافا الأخفش والفارسي يمنعانه وغيرهما يجوزه والمجوزون له ابن السراج
يقول هما بدلان وابن مالك يقول أحدهما بدل والآخر معمول عامل مضمر
وليس في هؤلاء من يقول إنهما مستثنيان بأداة واحدة ولا نقل أبو حيان ذلك عن أحد وقوله في صدر كلامه إن من النحويين من أجازه محمول على التركيب لا على معنى الاستثناء فليس في كلام أبي حيان
____________________
(1/97)
ما يقتضي الخلاف في المعنى بالنسبة إلى جواز استثناء شيئين بأداة واحدة من غير عطف واحتج ابن مالك بأنه كما لا يقع بعد حرف العطف معطوفان كذلك لا يقع بعد حرف الاستثناء مستثنيان وتعجب الشيخ أبو حيان منه
وذلك لجواز قولنا ضرب زيد عمرا وبشر خالدا
وضرب زيد عمرا بسوط وبشر عمرا بجريدة وقال إن المجوزين لذلك عللوا الجواز بشبه إلا بحرف العطف وابن مالك جعل ذلك علة للمنع
وفي هذا التعجب نظر
لأن ابن مالك أخذ المسألة مطلقة في هذا المثال وفي غيره
وقال لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان ولا شك أن ذلك صحيح في قولنا قام القوم إلا زيدا وما قام القوم إلا زيدا
وما قام إلا خالد وما أشبه ذلك مما يكون العامل فيه واحدا والعمل واحدا
ففي مثل هذا يمنع التعدد ولا يكون مستثنيان بأداة واحدة ولا معطوفان بحرف واحد
والشيخ في شرح التسهيل مثل قول المصنف بحرف عطف ب قام القوم إلا زيدا وعمرا
وهو صحيح ومثله دون عطف ب أعطيت الناس إلا عمرا الدنانير
وكأنه أراد التمثيل بما هو محل نظر وإلا فالمثال الذي قدمناه هو من جهة الأمثلة
ولا ريبة في امتناع قولك قام القوم إلا زيدا عمرا ثم قال الشيخ قال ابن السراج هذا لا يجوز بل تقول أعطيت الناس الدنانير إلا عمرا قال فإن قلت ما أعطيت أحدا درهما إلا عمرا دانقا وأردت الاستثناء لم يجز وإن أردت البدل جاز فأبدلت عمرا من أحد ودانقا من درهم كأنك قلت ما أعطيت إلا عمرا دانقا
قلت وقد رأيت كلام ابن السراج في الأصول كذلك قال الشيخ أبو حيان وهذه التقرير الذي قرره في البدل وهو ما أعطيت إلا عمرا دانقا لا يؤدي إلى أن حرف الاستثناء يستثنى به واحد بل هو في هذه الحالة التقديرية ليس ببدل إنما نصبهما على أنهما مفعولا أعطيت المقدرة لا يتوقف على وساطة إلا لأنه استثناء مفرغ فلو أسقطت إلا فقلت ما أعطيت عمرا درهما جاز عملها في الاسمين بخلاف عمل العامل المستثنى الواقع بعد إلا فهو متوقف على وساطتها
قلت الحالة التقديرية إنما ذكرها ابن السراج لما أعربهما بدلين فأسقط المبدلين وصار كأن التقدير ما ذكره وابن السراج قائل بأن حرف الاستثناء لا يستثنى به واحد حتى أنه قال قبل ذلك في ما قام أحد إلا زيدا إلا عمرا أنه لا يجوز رفعهما لأنه لا يجوز أن يكون لفعل واحد فاعلان مختلفان يرتفعان به بغير حرف عطف فلا بد أن ينتصب أحدهما
والظاهر أن الشيخ أراد أن يشرح كلام ابن السراج لا أن يرد
____________________
(1/98)
عليه
ثم قال الشيخ ذهب الزجاج إلى أن البدل ضعيف لأنه لا يجوز بدل اسمين من اسمين
لو قلت ضرب زيد المرأة أخوك هندا لم يجز قال والسماع على خلاف مذهب الزجاج وهو أنه يجوز بدل اسمين من اسمين
قال الشاعر فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ببعض أبت عيدانه أن تكسرا ورد ابن مالك على ابن السراج بأن البدل في الاستثناء لا بد من اقترانه بإلا يعني وهو قدر ما أخذ أحد زيد بغير إلا وقد يجاب عن ابن السراج بأن الذي لا بد من اقترانه بإلا هو البدل الذي يراد به الاستثناء أما هذا فلم يرد به معنى الاستثناء بل هو بدل منفي قدمت إلا عليه لفظا وهي في الحكم متأخرة
وحاصله أنه يلزم الفصل بين البدل والمبدل بإلا ويلزمه الفصل بين إلا وما دخلت عليه بالبدل مما قبلها والشيخ تعقب ابن مالك بكلام طويل لم يرده ولم يتخلص لنا من كلام أحد من النحاة ما يقتضي حصرين
وقد قال ابن الحاجب في شرح المنظومة في المواضع التي يجب فيها تقديم الفاعل في قوله إذا ثبت المفعول بعد نفي فلازم تقديمه بوعي قال كقولك ما ضرب زيد إلا عمرا فهذا مما يجب فيه تقديم الفاعل لأن الغرض حصر مضروبية زيد في عمرو خاصة أي لا مضروب لزيد سوى عمرو فلو قدر له مضروب آخر لم يستقم بخلاف العكس فلو قدم المفعول على الفاعل انعكس المعنى قال فإن قيل ما المانع أن يقال فيهما ما ضرب إلا عمرو زيدا ويكون فيه حينئذ تقدم المفعول على الفاعل قلت لا يستقيم لأنه لو جوز تعدد المستثنى المفرغ بعد إلا في قبيلين كقولك ما ضرب إلا زيد عمرا أي ما ضرب أحد أحدا إلا زيد عمرا كان الحصر فيهما معا والغرض الحصر في أحدهما فيرجع الكلام بذلك إلى معنى آخر غير مقصود وإن لم نجوز كانت المسألة الأولى ممتنعة لبقائها بلا فاعل ولا يقوم مقام الفاعل لأن التقدير حينئذ ضرب زيد فيبقى ضرب الأول بغير فاعل وفي الثانية يكون عمرو منصوبا بفعل مقدر غير ضرب الأول فتصير جملتين فلا يكون فيهما تقديم فاعل على مفعول
هذا كلام ابن الحاجب وليس فيه تصريح بنقل خلاف ورأيت كلام شخص من العجم يقال له الحديثي شرح كلامه ونقل كلامه هذا وقال لا يخفى عليك أن هذا الجواب إنما يتم ببيان أن زيدا في قولنا ما ضرب إلا عمرا زيد و عمرا في قولنا ما ضرب إلا زيد عمرا يمتنع أن يكونا مفعولين لضرب الملفوظ ولم يتعرض المصنف في هذا الجواب فيكون هذا الجواب غير تام
وقال المصنف في أمالي الكافية لا بد في المستثنى المفرغ من تقدير عام فلو
____________________
(1/99)
استعملوا بعد إلا شيئين لوجب أن يكون قبلهما عامان فإذا قلت ما ضرب إلا زيد عمرا فإما أن يقول لا عام لهما أو لهما عامان أو لأحدهما دون الآخر
الأول يخالف الباب والثاني يؤدي إلى أمر خارج عن القيام من غير ثبت ولو جاز ذلك في الاثنين جاز فيهما فوقهما وذلك ظاهر البطلان والثالث يؤدي إلى اللبس فيما قصد فلذلك حكموا بأن الاستثناء المفرغ إنما يكون لواحد ويؤول ما جاء على ما يوهم غير ذلك بأنه يتعلق بما دل عليه الأول فإذا قلت ما ضرب إلا زيد عمرا فيمن يجوز ذلك لا على أنه لضرب الأول ولكن لفعل محذوف دل عليه الأول كأن سائلا سأل عمن ضرب فقال عمرا أي ضرب عمرا قال الحديثي ولقائل أن يختار الثالث ويقول العام لا يقدر إلا للذي يلي إلا منهما فإن العام إنما يقدر للمستثنى المفرغ لا لغيره والمستثنى مفرغ هو الذي يلي إلا
فلا يحصل اللبس أصلا فثبت أن جواب شرح المنظومة لا يتم بما ذكره في الأمالي أيضا نعم بما ذكره ابن مالك وهو أن الاستثناء في حكم جملة مستأنفة لأن معنى جاء القوم إلا زيدا ما منهم زيد وهذا يقتضي أن لا يعمل ما قبل إلا فيما بعدها لما لاح أن إلا بمثابة ما وإلا في صور لا مندوحة عنه وهي إعمال ما قبل إلا في المستثنى المنفي على أصله وفيما بعد إلا المفرغة وهو المستثنى المفرغ تحقيقا أو تقديرا نحو ما جاءني أحد إلا زيد على البدل وفيما بعد إلا المفرغة المستثنى المفرغ تحقيقا أو تقديرا نحو ما جاءني أحد إلا زيد على البدل وفيما بعد المقدمة على المستثنى منه والمتوسطة بينه وبين صفته لأنه يكثر الإضمار إن قدر العامل بعد إلا في الصورة لكثرة وقوعها نحو ما قاموا إلا زيدا وما قام إلا زيد وما جاء إلا زيدا القوم وما مررت بأحد إلا زيدا خير من عمرو وأن لا يجوز ما ضرب إلا زيد عمرا ولا إلا عمرا زيد لأنه إن كانا شيئين فهو ممتنع
وإن كان المستثنى ما يلي إلا دون الأخير يكون ما قبله عاملا فيما بعده في غير الصور الأربع وهو ممتنع وما ورد قدر عامل الثاني فتقدير ما ضرب إلا عمرا زيد ضرب زيد
وذهب صاحب المفتاح إلى جواز التقديم حيث قال في فصل القصر ولك أن تقول في الأول ما ضرب إلا عمرا زيد وفي الثاني ما ضرب إلا زيد عمرا فتقدم وتؤخر إلا أن هذا التقديم والتأخير لما استلزم قصر الصفة قبل تمامها على الموصوف قل وروده في الاستعمال لأن الصفة المقصورة على عمرو في قولنا ما ضرب زيد إلا عمرا هي ضرب زيد لا الضرب مطلقا
والصفة المقصورة على زيد في قولنا ما ضرب
____________________
(1/100)
عمرا إلا زيد هي الضرب لعمرو
وقال الحديثي على صاحب المفتاح إن حكمه بجواز التقديم إن أثبت بوروده في الاستعمال فهو غير مستقيم بأن ما ورد في الاستعمال يحتمل أن يكون الثاني فيه معمولا لعامل مقدر كما ذكره ابن الحاجب وابن مالك وأصول الأبواب لا تثبت بالمحتملات
وإن أتيت بغيره فلا بد من بيانه لننظر فيه
قال فإن قيل فهل يجوز التقديم في إنما قلت لا يجوز قطعا في إنما وإن جوز في ما وإلا لأن ما وإلا أصل في القصر ولأن التقديم في ما وإلا غير ملتبس كذا قال صاحب المفتاح وقال الحديثي امتناع التقديم في إنما يقتضي امتناعه في ما وإلا ليجري باب الحصر على سنن واحد
قال الشيخ الإمام وقد تأملت ما وقع في كلام ابن الحاجب من قوله ما ضرب أحد أحدا إلا زيد عمرا
وقوله إن الحصر فيهما معا والسابق إلى الفهم منه أنه لا ضارب إلا زيد ولا مضروب إلا عمرو فلم أجده كذلك وإنما معناه لا ضارب إلا زيد لأحد إلا عمرا فانتفت ضاربية غير زيد لغير عمرو وانتفت مضروبية عمرو من غير زيد وقد يكون زيد ضرب عمرا وغيره وقد يكون عمرو ضربه زيد وغيره وإنما يكون المعنى نفي الضاربية مطلقا عن غير زيد ونفي المضروبية مطلقا عن غير عمرو وإذا قلنا ما وقع ضرب إلا من زيد على عمرو فهذان حصران مطلقا بلا إشكال وسببه أن النفي ورد على المصدر واستثني منه شيء خاص
وهو ضرب زيد لعمرو فيبقى ما عداه على النفي كما ذكرناه في الآية الكريمة وفي الآية الأخرى التي ينتفي فيها الاختلاف إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم والفرق بين نفي المصدر ونفي الفعل أن الفعل مسند إلى فاعل فلا ينتفي عن المفعول إلا ذلك المقيد والمصدر ليس كذلك بل هو مطلق فينتفي مطلقا إلا الصورة المستثناة منه بقيودها
وقد جاءني كتابك أكرمك الله تذكر فيه إنك وقفت على ما قررته في إعراب قوله تعالى غير ناظرين إناه وأن النحاة اختلفوا في أمرين أحدهما وقوع الحال بعد المستثنى نحو قولك أكرم الناس إلا زيدا قائمين وهذه هي التي اعترض بها الشيخ أبو حيان على الزمخشري وهو اعتراض ساقط لأن الزمخشري جعل الاستثناء واردا عليها وجعلها حالا مستثناة فهي في الحقيقة مستثناة فلم يقع بعد إلا حينئذ إلا المستثنى فإنه مفرغ للحال والشيخ فهم أن الاستثناء غير منسحب عليه فلذلك أورد عليه أن غير ناظرين إناه ليس مستثنى ولا صفة للمستثنى به ولا مستثنى منه وقد أصبت فيما قلت لكن للشيخ بعض عذر على ظاهر كلام الزمخشري لما قال
____________________
(1/101)
إنه حال من لا تدخلوا ولم يتأمل الشيخ بقية كلامه
فلو اقتصر على ذلك لأمكن أن يقال إن مراده لا تدخلوا غير ناظرين إلا أن يؤذن لكم ويكون المعنى أن دخولهم غير ناظرين إناه مشروطا بالإذن
وأما ناظرين فممنوع مطلقا بطريق الأولى ثم قدم المستثنى وأخر الحال فلو أراده كان إيراد الشيخ متجها من جهة النحو ثم قلت أكرمك الله الثاني وكأنك أردت الثاني من الأمرين اللذين اختلف النحاة فيهما وذكرت استثناء شيئين
وقد قدمت أنني لم أظفر بصريح نقل في المسألة والذي يظهر أنه لا يجوز بلا خلاف كما لا يكون فاعلان لفعل واحد ولا مفعولان بهما لفعل واحد لا يتعدى إلى أكثر من واحد كذلك لا يكون مستثنيان من مستثنى واحد بأداة واحدة ولا من مستثنى منهما بأداة واحدة لأنها كقولك استثنى المتعدي إلى واحد فكما لا يجوز في الفعل لا يجوز في الحرف بطريق الأولى وكذلك اتفقوا على ذلك ولم يتكلموا فيه في غير باب أعطى وشبهه
وقولك إنه لا يكاد يظهر لها مانع صناعي وهي جديرة بالمنع وما المانع من قول الشخص ما أعطيت أحدا شيئا إلا عمرا دانقا وإنما ينبغي مع ذلك في مثل إلا عمرا زيدا إذا كان العامل يطلبهما بعمل واحد أما إذا طلبهما بجهتين فليس يمتنع ولم يذكر ابن مالك حجة إلا الشبه بالعطف ونحن نقول في العطف بالجواز في مثل ما ضرب زيد عمرا وبكر خالدا قطعا فنظيره ما أعطيت أحدا شيئا إلا زيدا دانقا وصرح ابن مالك بمنعه وقد فهمت ما قلته
وقد تقدم الكلام بما فيه كفاية وجواب إن شاء الله وقولك إن الآية نظيره ممنوع بل هي جائزة وهو ممنوع والله أعلم
آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى وكل في فلك يسبحون إن قدرته كلهم فيكون المراد بالفلك الأفلاك وإن قدرته كل منهم فيكون يسبحون جملة أخرى لا خبر ثان على المعنى لئلا يلزم الإخبار بالمفرد عن الجمع انتهى
آية أخرى قال رحمه الله في قوله تعالى فبشرناه بغلام حليم تكلم الناس في أن الذبيح إسماعيل أو إسحاق عليهما السلام ورجح جماعة أنه إسماعيل واحتجوا له بأدلة منها وصفه بالحلم وذكر البشارة بإسحاق بعده والبشارة بيعقوب من وراء إسحاق وغير ذلك
وهي أمور ظاهرة لا قطعية وتأملت القرآن فوجدت فيه ما يقتضي القطع أو يقرب منه
ولم أر من سبقني إلى استنباطه وهو أن البشارة
____________________
(1/102)
مرتين مرة في قوله إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فهذه الآية قاطعة في أن هذا المبشر به هو الذبيح
وقوله تعالى وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب صرح في هذه الآية أن المبشر به فيها إسحاق ولم تكن بسؤال من إبراهيم عليه السلام بل قالت امرأته إنها عجوز وإنه شيخ وكان ذلك في الشام لما جاءت الملائكة إليه بسبب قوم لوط عليه السلام وهو في أواخر أمره
وأما البشارة الأولى فكانت لما انتقل من العراق إلى الشام حين كان سنه لا يستغرب فيه الولد
ولذلك سأله فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين بغلامين
إحداهما بغير سؤال وهي بإسحاق صريحا والثانية كانت بسؤال وهي بغيره فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح والله أعلم
ولا يرد هذا قوله ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ووجه الإيراد ذكر هبة إسحاق بعد الإنجاء
لأنا نقول لما ذكر لوطا وإسحاق عليهما السلام هو المبشر به في قصة لوط ناسب ذكره ولم يكن في الآية ما يدل على التعقيب والبشارة الأولى لم يكن للوط فيها ذكر والله أعلم
آية أخرى قال رحمه الله في قوله تعالى في داود عليه السلام فغفرنا له ذلك تكلم الناس في قصة داود عليه السلام وأكثروا
وذلك مشهور جدا وذكروا أمورا منها ما هو منكر عند العلماء جدا ومنها ما ارتضاه بعضهم وهو عندي منكر
وتأملت القرآن فظهر لي فيه وجه خلاف ذلك كله
فإني نظرت قوله تعالى فغفرنا له ذلك فوجدته يقتضي أن المغفور في الآية فطلبته فوجدته أحد ثلاثة أمور إما ظنه وإما اشتغاله بالحكم عن العبادة وإما اشتغاله بالعبادة عن الحكم أشعر به قوله المحراب وذلك أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن داود أعبد البشر وكان داود عليه السلام في ذلك اليوم انقطع في المحراب للعبادة الخاصة بينه وبين الله تعالى فجاءت الخصوم فلم يجدوا طريقا فتسوروا إليه وليسوا ملائكة ولا ضرب بهم مثل وإنما هم قوم تخاصموا في نعاج على ظاهر الآية فلما وصلوا إليه حكم فيهم ثم من شدة خوفه وكثرة عبادته خاف أن يكون سبحانه قد فتنه بذلك إما لاشتغاله عن العبادة ذلك اليوم وإما لاشتغاله عن العبادة بالحكم تلك اللحظة وظن أن
____________________
(1/103)
الله فتنه أي امتحنه واختبره هل يترك الحكم للعبادة أو العبادة للحكم فاستغفر ربه فاستغفاره لأحد هذين الأمرين المظنونين أعني تعلق الظن بأحدهما
قال الله تعالى فغفرنا له ذلك فاحتمل المغفور أحد هذين الأمرين و احتمل ثالثا وهو ظنه أن يكون الله لم يرد فتنته
وإنما أراد إظهار كرامته
وانظر قوله وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب كيف يقتضي رفعة قدره وقوله يا داود إنا جعلناك خليفة يقتضي ذلك ويقتضي ترجيح الحكم على العبادة وعلى أي وجه من الأوجه الثلاثة حملته حصل تبرئة داود عليه السلام مما يقوله القصاص وكثير من الفضلاء
ومناسبة ذكر الله تعالى قصته في سورة ص أنهم لما قالوا أأنزل عليه الذكر من بيننا كان في ذلك الكلام إشعار بهضمهم جانبه فغار الله لذلك وبين أنهم ليس عندهم خزائن رحمته ولا لهم ملك
وأنهم جند مهزومون
وكأنه يقول وما قدر هؤلاء اصبر على ما يقولون واذكر من آتيناه الدنيا والآخرة وهو أخوك وأنت عندنا أرفع رتبة منه
وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم من وجهين أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنه يفرح لإخوته الأنبياء بما يحصل لهم من الخير كما لو حصل لنفسه سواء بسواء وأكثر والثاني أنه يعلم أن رتبته عند الله أكمل وإذا ذكر هذين الأمرين احتقر ما قريش فيه
وعلم أن الذي أوتوه وافتخروا به لا شيء
فهذا وجه المناسبة خلافا لما قاله الزمخشري مما لا حاجة بنا إلى ذكره ثم استطرد فذكر قصة داود عليه السلام ووصفه بقوله ذا الأيد لأن الصبر يحتاج إلى أيد وهو القوة والله أعلم
آية أخرى قوله تعالى قال رب اغفر لي إلى قوله وحسن مآب قال رحمه الله الكلام على هذه الآية من وجوه تشتمل على المعاني والنحو والبيان والبديع وأصول الدين والقراءات واللغة والتفسير وأصول الفقه فنذكرها على ترتيب وننبه على كل علم في موضعه إن شاء الله تعالى
الأول قال يحتمل أن يكون بدلا من أناب ويحتمل أن يكون جملة مستأنفة مفسرا لما قاله حين إنابته وهو الأحسن لأن على الأول فيه تجوز لأن الإنابة غير القول حقيقة لأن الإنابة من الأفعال وهي غير الأقوال وعلى كلا التقديرين بينهما كمال الاتصال فلذلك فصلت ولم تعطف والضمير في قال لسليمان عليه السلام
الثاني رب منادى مضاف حذف منه حرف النداء والمضاف إليها
فأما حذف حرف النداء منه فجائز باتفاق النحاة وهو منصوب لفظا بفعل مضمر
____________________
(1/104)
لازم الإضمار عند الجمهور من البصريين وذهب الكسائي والرياشي إلى أنه نصب تفرقة بينه وبين المفرد واختير النصب لأنه أخف من الجر والرفع ولما لحق المضاف من الزيادة اختير له ما هو أخف
وقال إن حركة المفرد إعراب وخالفنا في ذلك سائر الكوفيين والبصريين في قولهم إن حركة المفرد بناء وقيل الناصب للمنادى حرف النداء نفسه ولا فعل مضمر بعده
ورد بأنه يلزم منه تركيب كلام من حرف واسم
وقال الفارسي الناصب الحرف عوضا من الفعل الناصب فهو مشبه بالمفعول وقيل أداة النداء اسم فعل
ورد بأن اسم الفعل إنما جاء أمرا وخبرا والنداء غيرهما
وقيل الناصب للمنادى معنوي وهو القصد
ورد بأن عامل النصب لا يكون معنويا
وقيل إن المنادى إذا كان صفة كان النداء خبرا وإن لم يكن كذلك كان إنشاء
وهذا ضعيف بل هو إنشاء مطلقا ويا إياك قياس لأن الموضع موضع النصب ويا أبت شاذ وقال الأحوص اليربوعي لأبيه لما أراد أن يخطب في علي ومعاوية يا إياك
وقال أبو حيان إن يا في إياك تنبيه وإن القياس أن لا ينادى المضمر أصلا لا مرفوعا ولا منصوبا وشرط المنادى المضاف أن لا يضاف إلى ضمير المخاطب
لأن المنادى لا يكون إلا مخاطبا
ومن تمام كلام أبي حيان أن إياك منصوب بفعل محذوف يدل عليه الفعل الذي بعده كقوله تعالى وإياي فارهبون أي وإياي فارهبوا
وقال ابن عصفور لا ينادى المضمر إلا نادرا وهذا الذي قاله ابن عصفور أقرب إلى الصفة والقياس
وهذه المسألة من علم النحو
الثالث وأما حذف الياء منه فذلك جائز في كل منادى مضاف إلى ياء المتكلم إضافة تخصيص وقولنا إضافة تخصيص احتراز من يا وأنت تريد الحال أو الاستقبال فإن إضافته إضافة تخفيف وإن فلا تحذف ولا تقلب الياء ولا يفتح ما قبلها وليس لها حظ في غير الفتح والسكون أما ما كانت إضافته إضافة تخصيص ففيه لغات وأفصحها حذف الياء كما في هذه الآية رب
وثانيها إسكانها وثالثها قلبها ألفا ورابعها أن يستغنى عنها بفتحة ما قبلها
وهذا أجازه الأخفش ومنعه غيره في غير النداء
واحتج من أجازه بقراءة حفص يا بني وخرجه الفارسي على أن الأصل يا بنيي ثم يا بنيا ثم حذفت الألف كقراءة من قرأ يا أبت بفتح التاء وخامسها الضم كقراءة حفص قال رب احكم بالحق وقراءة بعضهم قال رب السجن أحب إلي وأما إعرابه فذهب الجرجاني وابن الخشاب والمطرزي وعامة كلام الزمخشري إلى أنه مبني
وقال ابن جني لا معرب ولا مبني
ومذهب الجمهور أنه
____________________
(1/105)
معرب في الأحوال الثلاثة وتقدر فيه الحركات الإعرابية
وذهب ابن مالك إلى أنه في حالة الجر الحركة فيه ظاهرة وفي حالة الرفع والنصب مقدرة
وقال به في الجمع
وسبقه إليه في الجمع ابن الحاجب وهذه المسائل كلها من علم النحو
الخامس ودعا سليمان عليه السلام بهذا الاسم لما فيه من معنى التربية
والمقام مقام الاستعطاف وحذف منه حرف النداء إشارة إلى كمال القرب
وهذا من علم البيان
السادس وقوله رب اغفر لي الذي نختاره أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكبائر والصغائر عمدا وسهوا وتقريره مذكور في أصول الدين ذلك
وإنما قال سليمان عليه السلام ذلك جريا على عادة الأنبياء عليهم السلام والصالحين في تقديمهم أمر الآخرة على أمر الدنيا وتواضعا وسلوكا للأدب مع الله تعالى وجعل ذلك توطئة ومقدمة لقوله وهب لي ملكا وأن هبة الملك له أيضا من أمر الدين كما سنبينه وهذه المسألة من أصول الدين
السابع أدغم أبو عمرو الراء في اللام وبقية القراء أظهروها
وهو أرجح عند النحاة ونسبوا قراءة أبي عمرو إلى الشذوذ لأن الراء عندهم لا تدغم في شيء قال سيبويه والراء لا تدغم في اللام ولا في النون لأنها مكررة وهي تفشى إذا كان معها غيرها فكرهوا أن يجحفوا بها فتدغم مع ما ليس يتفشى في الفم مثلها ولا يكرر ويقوي هذا أن الطاء وهي مطبقة لا تجعل مع التاء تاء خالصة لأنها أدخل منها بالإطباق فهذه أجدر أن لا تدغم إذ كانت مكررة
وذلك قولك اجبر لبطة واختر نقلا وقال الآمدي قراءة أبي عمرو في يغفر لكم شاذة
وقد قيل إنها إخفاء وليس بإدغام
وهذه المسألة من علم القراءات والنحو جميعا
الثامن قوله وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي قيل إن سببه أن سليمان عليه السلام نشأ في بيت الملك والنبوة وكان وارثا لهما
فأراد أن يطلب من ربه معجزة
فطلب على حسب إلفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز
ليكون ذلك دليلا على نبوته قاهرا للمبعوث إليهم وأن يكون معجزة حتى يخرق العادة
وإذا عرف هذا عرف أنه لأجل الدين لا لأجل الدنيا
وقيل إنه يجوز أن يقال إن الله علم فيما اختص به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدنيا وعلم أنه لا يضطلع بأعبائه غيره واقتضت الحكمة استيهابه فأمره أن يستوهبه إياه فاستوهبه بأمر من الله على الصفة التي علم أنه لا يصطبر عليها إلا هو وحده دون سائر عباده
وقيل إن أراد أن يقول ملكا عظيما فعبر عنه بقوله لا ينبغي لأحد من بعدي ولم يقصد إلا عظم الملك وسعته كما تقول لفلان
____________________
(1/106)
ما ليس لأحد من الفضل والمال وربما كان للناس أمثال ذلك ولكن تريد تعظيم ما عنده
قلت هذا القول الثالث يرده على ما ورد في الحديث من قول نبينا صلى الله عليه وسلم فذكرت دعوة سليمان عليه السلام وهذه المسألة من علم التفسير
التاسع هب لفظ مشترك يقال هب زيدا منطلقا بمعنى احسب
فهذا يتعدى بنفسه إلى مفعولين ولا يستعمل منه ماض ولا مستقبل في هذا المعنى وليس هو المراد في الآية ولا أدرى هل هو من وهب أو هاب فإن الأزهري خلط الترجمتين
وهذا إن كان من ذلك المعنى فيقتضي أنه استعمل منه ماض ويقال بمعنى الهبة قال الله تعالى وهبت نفسها للنبي وهذا هو المراد في الآية
ويستعمل منه في الماضي وهب وفي المضارع يهب وفي الأمر هب وها هنا مسألة مليحة وهي أن الفعل الماضي غير المزيد ولا المبني للمغالبة إذا كان معتل الفاء بالواو
وقال ابن عصفور في فإن المضارعة أبدا على يفعل بكسر العين نحو وعد يعد ويزن وزن
ويحذف الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ثم يحمل أعد ويعد عليه وشذت لفظة واحدة وهي وجد يجد فجاءت بضم العين وحذفت الواو كما حذفت مع الكسرة قال الشاعر لو شئت قد نقع الفؤاد بشربة تدع الصوادي لا يجدن غليلا وجاء يضع وجعلوا الفتح لأجل حرف الحلق فلم لم يفتحوا يعد لأجل حرف الحلق
فما الفرق بين يعد ويهب وكلاهما حرف حلق إن كان حرف حلق يقتضي الفتح فلم لم يفتحوها
وإن لم يقتض فلم لم يكسروها ولم
____________________
(1/107)
فتحوا يضع والموهبة بكسر الهاء الهبة وبفتحها النقرة في الصخر والوهاب من أسماء الله تعالى المنعم على العباد
العاشر الملك بضم الميم أبلغ منه بكسرها فإنه بالضم يستدعي العز والقوة وبالكسر يستدعي القدرة على نوع من التصرف في عين أو منفعة
وقد يجتمعان وقد يوجد أحدهما بدون الآخر
وجاء في الحديث لا ملك إلا الله ونقل بعض العلماء الإجماع على أن اسم الملك الحقيقي المشار إليه في قوله تعالى لمن الملك اليوم لله الواحد القهار وقد يطلق على ملوك الدنيا
وسببه أن الملك الذي بيد العباد هو من ملك الله تعالى آتاهم منه نصيبا فيطلق الاسم عليهم لحصول ذلك المعنى فيهم كالمال في يد الوكيل
فإطلاق اسم الملك على العباد إما لحصول ذلك النوع من الملك فيهم الذي هو في الحقيقة لله تعالى كما يطلق القائل عليهم لأنه محل القول وإن كان مخلوقا لله فتكون حقيقة لغوية
وإما أن يقال إنه استعارة وهذه المسألة من علم الفقه
الحادي عشر لا ينبغي قال الزمخشري لا يسهل ولا يكون
كذا قال الزمخشري وقد تستعمل هذه اللفظة في المستحيل وقد تستعمل في الممكن الذي لا يليق كما تقول ما ينبغي لفلان أن يقول هذا وإن كان ذلك مما يجوز أن يفعله
وأصل هذه الكلمة من البغي والبغي في عدو الفرس باختيال ومرح وأنه يسعى في عدوه ولا يقال فرس باغ وبغى على أخيه حسده وبغى عليه ظلمه وأصله من الحسد لأن الحاسد يظلم المحسود جهده وبغى الحاجة والضالة طلبها وأبغيته أعنته على الظلم وبغت المرأة فجرت والباغي الذي يطلب الشيء الضال وما ابتغى لك أن تقول هذا
وما ابتغى أي ما ينبغي والفئة الباغية الظالمة الخارجة عن طاعة الإمام العادل
الثاني عشر من بعدي قال الزمخشري معناه من دوني ولا أدري ما الذي ألجأ الزمخشري إلى هذا التفسير فإن أراد بدون غير فصحيح وإن أراد حقيقتها فيرده ما ورد في الحديث فينبغي أن تبقى بعد على ظرفيتها ويراد من بعد هبته لي وقد يقال إنه كان له استيلاء عليه
وقال لما ذكر دعوة أخيه سليمان لولا ذلك لأصبح موثوقا تلعب به صبيان أهل المدينة فلعل المانع لعب صبيان أهل المدينة وهم دون سليمان أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا مانع من استيلائه عليه
الثالث عشر قرأ أهل المدينة وأبو عمرو من بعدي بتحريك الياء وأسكنها الباقون
الرابع عشر قوله إنك أنت الوهاب تعليل لسؤال الهبة وإن كانت مكسورة فإنها تقتضي
____________________
(1/108)
التعليل على ما تقرر في أصول الفقه واقتضاء أن المفتوحة التعليل بالوضع لتقدير اللام معها والمكسورة ليست كذلك ولكنها اقتضت التعليل من جهة الإيماء كما في ترتيب الحكم على الوصف ونحوه
هذا الذي يظهر لي في ذلك والأصوليون أطلقوا كون أن تفيد التعليل ولم يجعلوه من قسم الإيماء بل من قسم النص الظاهر فإنهم قسموا النص على العلة قسمين أحدهما ما هو صريح كقوله العلة كذا أو من أجل كذا والثاني إدخال لفظ يفيد التعليل وهو اللام وأن و الباء فأما اللام وإن فصحيحان يقتضيان وضعا ظاهرا غير قطعي لاحتمالهما معنى آخر وأما أن المفتوحة فكذلك لتقدير اللام معها والمفيد في الحقيقة إنما هو اللام لا أن وإن المكسورة فإنما وضعت لتأكيد الجملة التي بعدها وأما كونها علة لما قبلها فليس بالوضع لكنه يرشد إليه الكلام فهو نوع من الإيماء
وهذه المسألة من أصول الفقه
الخامس عشر ختم سليمان عليه السلام بهذا الثناء من آداب الدعاء فيستحب للداعي إذا دعا بشيء أن يختمه بالثناء على الله باسم من أسمائه وصفة من صفاته مناسبة لما دعا به
السادس عشر قوله فسخرنا له التسخير التذليل تسخيرها تذليلها وتيسيرها وتهوينا له
السابع عشر قرأ أبو جعفر فسخرنا له الرياح بالجمع وقرأ الباقون بالإفراد
الثامن عشر جاء في الحديث إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا هاجت الريح يقول اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا وقيل في شرحه إن العرب تقول لا يلقح السحاب إلا من رياح مختلفة يريد لفظ السحاب ولا تجعلها عذابا ويحقق ذلك مجيء الجمع في آيات الرحمة والواحد في قصص العذاب ك الريح العقيم و ريحا صرصرا فيحتاج إلى جواب عن مجيئها على الإفراد في هذه الآية على قراءة الجمهور
والجواب أن الريح المسخرة لسليمان عليه السلام في طواعيته وامتثال أمره وتسيير جيوشه وحملها لبساطه وما فوقه وما تحته يناسب أن تكون واحدة لا اختلاف فيها وأن تتفق حركتها في السرعة والسهولة والوقوف عند أمر سليمان ولا الرياح في ذلك إذا لم يكن هناك زرع فكذلك جاء الإفراد على أن تلك القاعدة لم يقصد بها العموم وإنما أشير إلى ما جاء منه للرحمة وأشير
____________________
(1/109)
إلى ما جاء منه للعذاب من غير قصد التعميم في ذلك
التاسع عشر تجري في موضع الحال ويحتمل أن تكون مستأنفة تفسير نا من سخرنا فإن جعلناها حالا فيحتمل أن تكون حالا مقدرة من جهة أن أول التسخير كان قبل جريها وإن كان مستمرا في جميع أحوالها لأنها في مدة جريانها أيضا مسخرة
العشرون بأمره يحتمل أن يكون أمرا حقيقيا بقول ويكون سليمان عليه السلام إذا أراد جريها إلى جهة قال لها ذلك بلفظ الأمر وعلى هذا إما أن يكون جعل الله تعالى فيها من الإدراك ما تفهم ذلك عنه وإما أن تكون عند أمره إياها يحركها الله تعالى ويحتمل أن لا يكون أمرا حقيقيا بل معناه بإرادته وعلى حسب اختياره فمتى أراد جهة جرت على حسب تلك الإرادة فهذه ثلاثة احتمالات
الحادي والعشرون على احتمال أنه خاطبها بلفظ الأمر هل تقول إنها مكلفة بذلك أو لا وعلى تقدير كونها مكلفة هل نقول إن الله ركب فيها العقل الذي هو شرط التكليف فينا أو لا وعلى الثاني يلزم القول بجواز تكليف الجماد وعلى تقدير أن لا تكون مكلفة فيه جواز حسن مخاطبة الجماد إذا ترتب عليه فائدة
وهذه الاحتمالات كلها تأتي في قول النبي صلى الله عليه وسلم اسكن أحد فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان الثاني والعشرون رخاء حال من الضمير في تجري فهي حال الرابع والعشرون بين رخاء وتجري نوع من الطباق لأن الجري يقتضي الشدة والرخاء يقتضي اللين وكون هذه تجري مع اللين في غاية أوصاف الكمال ولذلك أخر رخاء عن تجري ولو قدم لم يدل على أنه يحصل لها ذلك الوصف حالة الجري
الخامس والعشرون أصاب معناه هنا أراد
حكى الأصمعي عن العرب أصاب الصواب فأخطأ الجواب وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه أن يسألاه عن هذه الكلمة فخرج إليها فقال أين تصيبان فقالا هذه طلبتنا ورجعا
ويقال أصاب الله بك خيرا
السادس والعشرون قوله حيث أصاب قالوا في تفسيره حيث أصاب حيث قصد فإما أن يكون المراد حيث انتهى قصده من المسيرة فيكون التقدير إلى حيث قصده لأن ذلك نهاية الجري وأما مكانه ممن حين قصد إليه
وإما أن يكون المراد حيث وجد القصد والقصد مستمر من أول الجري إلى آخره وهو أبلغ فإنها يكون جريها في كل مكان منوطا
____________________
(1/110)
بقصده من غير دلالة على المكان الذي تجري فيه بخلاف حيث فإنها دالة على أمكنة الجري
والمقصود مختلف ففي الآية المقصود الأمكنة ولو قيل متى كان المقصود الجري وذلك مستغنى عنه بالأمر سواء كان الأمر ملازما للإرادة أو لا
فجاءت الآية على أبلغ الوجوه لتضمنها عموم الأمكنة المقصودة من غير احتياج إلى تعلق القصد بالجري بل متى قصد مكانا جرت فيه وهو أبلغ ما يكون
السابع والعشرون تسخير الريح بيده بقوله تجري بأمره وتسخير الشياطين أطلقه لأنه لا يحتاج إلى بيان بل نفس تسخيرهم معجزة لما هم عليه من القوة والشيطنة فتذليلهم خارق العادة
الثامن والعشرون كل بناء وغواص بدل من الشياطين والظاهر أنه بدل كل وبه صرح الزمخشري لأنه لو كان بدل بعض لاحتاج إلى تقدير ضمير ولكان المسخر بعض الشياطين لا كلهم والظاهر أنهم كلهم كانوا مسخرين له وإنما يختلفون في الأعمال والبناء والغوص من أعظم الأفعال فجعل هذان الوصفان للجميع ويبقى فيه بحث وهو أن بدل الكل من الكل الثاني هو الأول والأول الشياطين وهو يدل على المجموع والثاني مدلوله كل فرد فكيف يكون إياه التاسع والعشرون قوله وآخرين قال الزمخشري عطف كل داخل في حكم البدل وهو بدل الكل من الكل
الثلاثون مقرنين كان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد
وعن السدي كأن يجمع بين أيديهم وأعناقهم مغللين في الجوامع وهو ما يجمع بين الرجل واليد ويشد
الحادي والثلاثون الأصفاد جمع صفد وهو القيد ويسمى به العطاء كما قيل ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا وفرقوا بين الفعلين قالوا صفده وأصفده أعطاه ك وعده وأوعده
الثاني والثلاثون العطاء العطية وهو الشيء المعطى وفي تصويره حاضرا والإشارة إليه بهذا وإضافته إلى الله تعالى بنون الواحد المعظم نفسه خطابا منه تنبيه على عظم هذا العطاء
الرابع والثلاثون فامنن قيل امنن على من شئت من الشياطين أو أمسك من شئت منهم والمشهور أن المراد امنن أي أنعم وهو من المنة أي أعط من شئت ما شئت أو أمسك فوض إليه كلا من الأمرين وهذا تخيير محض وهو أحسن في أمثلة التخيير من كل ما ذكره الأصوليون لأن قوله اصبروا أو لا تصبروا المراد به التسوية ولعله مما خرج فيه اللفظ عن معنى الأمر إلى معنى التهديد وقوله كلوا واشربوا أمر إباحة لكل منهما أن هذا ليس أرجح من الآخر
الخامس والثلاثون بغير حساب يحتمل
____________________
(1/111)
أن تكون بغير متعلقا بقوله فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب
السادس والثلاثون ذكروا في تفسير قوله تعالى بغير حساب وجوها أحدها بلا حساب عليك في ذلك ولا تبعة
الثاني بغير حساب منا كثيرا لا يكاد يقدر على حسبه وحصره
الثالث ما لم يكن في حسابك
فالأول والثاني من المحاسبة والثالث من الحسبان
السابع والثلاثون وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب هذا من تمام النعمة عليه ختم نعمته عليه في الدنيا بالقرب عنده في الآخرة وحسن المآب
اللهم ارزقنا ذلك بنبيك صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم تسليما كثيرا انتهى
آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى قل الله أعبد مخلصا له ديني أمره بالإخبار بأنه يختص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه وأجاد الزمخشري في التعبير عن ذلك لكن من تتمته أن هذا الاختصاص لا يجعله مثل ما وإلا من جميع الوجوه فإنك لو قلت لا أعبد إلا الله مخلصا له ديني إن قدرت مخلصا معمول أعبد متقدما على الاستثناء كنت قد خصصت الله بالإخلاص لا بأصل العبادة وليس المراد بل الله مخصوص بالعبادة وبالإخلاص وإن قدرت الاستثناء متقدما و مخلصا معمول ل أعبد على حاله لم يجز من جهة العربية وإن قدرت له فعلا آخر فهو على خلاف الأصل
وكل ذلك إنما لزم بالتصريح بأداة الحصر
أما التقديم فليس له ذلك الحكم لأن الحصر ليس من اللفظ وإنما هو من فحوى الكلام
فلا يلزم أن يثبت له ذلك الحكم النحوي في تأخر الحال على الاستثناء انتهى
فاعبدوا ما شئتم من دونه
قال الزمخشري المراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير المبالغة في الخذلان والتخلية
على ما حققت القول فيه مرتين قلت وهذا الذي قاله معنى حسن وهو مغاير لمعنى التهديد الذي ذكره الأصوليون في اعملوا ما شئتم أو هو هو فينبغي أن يحرر ذلك
فإن كان غيره فتزداد معاني صيغة افعل معنى آخر وكان الزمخشري قد قال قبل ذلك في قوله قل تمتع بكفرك إنه من باب الخذلان والتخلية كأنه قيل له إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة فمن حقك أن لا تؤمر به بعد ذلك وتؤمر بتركه مبالغة في خذلانه وتخليته وشأنه لأنه لا مبالغة في الخذلان أشد من أن يبعث على عكس ما أمر به ونظيره في المعنى قوله متاع قليل ثم مأواهم جهنم قلت وبهذا يتبين أنه غير معنى التهديد
____________________
(1/112)
والذي يتحصل من معناه أنه إشارة إلى أنه لا شيء كأنه قال أنا أعبد الله وما أحد غيره يعبد فأنتم إذا لم توافقوني اعبدوا ما شئتم فلم تجدوا شيئا
ونظيره أن تقول لمن يجادلك وقد ذكرت له القول الحق الذي لا محيص عنه أنا قلت هذا فقل أنت ما تشتهي يعني أنه من قال خلافه فلا شيء فهو مثال لفساد ما يقوله وإن لم يرتب عليه وعيدان قصدت ترتيب وعيد عليه فهو التهديد انتهى
آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى يعلم خائنة الأعين قال الزمخشري الخائنة صفة للنظرة أو مصدر بمعنى الخيانة كالعافية بمعنى المعافاة والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الريب ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين لأن قوله وما تخفي الصدور لا يساعد عليه
قال الشيخ الإمام قول الزمخشري إلى ما لا يحل وافقه عليه ابن الأثير في نهاية الغريب ولعله أخذه من الزمخشري
وعندي أن ذلك ليس بجيد وإن قالاه هما وغيرهما لقوله صلى الله عليه وسلم ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين لما أهدر دم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وأتاه به عثمان أوقفه بين يديه واستعطفه عليه إلى أن عفا عنه حياء من عثمان
فانصرف فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما كان فيكم رجل يقوم إليه فيقتله فقالوا يا رسول الله هلا أومأت إلينا فقال ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين فانظر ابن أبي سرح كان قتله حلالا ولو أومأ إليه أومأ إلى ما يحل لا إلى ما لا يحل ولكن الأنبياء لعلو منزلتهم لا يبطنون خلاف ما يظهرون فكان من خصائصهم تحريم ذلك وهو حلال في حق غيرهم ولو كانت خائنة الأعين هي النظرة إلى ما لا يحل كانت حراما في حق كل أحد ولم تكن من الخصائص فلما كانت من الخصائص علم أن الأمر ليس كما قال
____________________
(1/113)
الزمخشري وإنما هي الإيماء إلى ما لا يتفطن له المومأ في حقه ولعل تسميتها خائنة لأن مقتضى المجالسة والمكالمة المصافاة ظاهرا وباطنا فاستواء الظاهر والباطن في حق المتجالسين والمتخاطبين أمر يقتضيه أدب الصحبة والمجالسة والمخاطبة وكأنه أمانة ومخالفة الأمانة خيانة
وليس كل خيانة حراما
فإن الأمانة تنقسم إلى واجبة ومندوبة فكذلك تنقسم الخيانة إلى حرام ومكروه وخلاف الأول في حق غير الأنبياء أما الأنبياء فلعلو مرتبتهم تكون حراما في حقكم لأن الله لم يحجهم إلى ذلك
فاستوت بواطنهم وظواهرهم ولا يمكن الاعتذار عن الزمخشري بأن استراق النظر فوق حد التكليف لأنه لو كان كذلك لم تفترق الحال فيه بين الأنبياء وغيرهم ولكان غير موصوف بالحرمة في حق غير الأنبياء ولا في حق الأنبياء فلما افترق الحال فيه وجعل في حق الأنبياء حراما وفي حق غيرهم حلالا دل على أنه في محل التكليف والقدرة
وأما قول الزمخشري ولا يحسن إلى آخره فقد قيل إنه لعطف العرض على الجوهر وليس بصحيح لأن العرض يعطف على الجوهر قال الله تعالى والله خلقكم وما تعملون وقيل ليشمل أدق أفعال الجوارح وهو خائنة الأعين تنبيها على أعلاها وأدق أفعال القلوب وهو ما تخفيه الصدور تنبيها على ما فيها وهو معنى حسن لكن لا يكفي والذي عندي فيما أشار إليه الزمخشري أن النظرة الخائنة يحمل عليها ما تخفيه الصدور فكأنه قال يعلم خائنة الأعين وسببها الحامل عليها الذي هو أخفى منها من قوله يعلم السر وأخفى وفي هذا زيادة وهو أن الأخفى هو الباعث على ذلك فهذا معنى مساعدته لأنه أخص به بخلاف كونه عرضا مع جواهر أو فعل قلب مع فعل جارحة فإنه أمر عام لا خصوصية له وإن العين الخائنة هي التي تنظر إلى ما لا ينبغي سواء أكانت سرا أم جهرا وليس ذلك المراد بل المراد الأسرار انتهى
آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى والله يقضي بالحق قال الزمخشري يعني والذي هذه صفاته وأحواله لا يقضي إلا بالحق وكذا قال في قوله والله يقول الحق ولا شك في ذلك في خصوص الكلام وفكرت فيه فوجدت له طريقين أحدهما مفهوم الصفة فإن السيئ موصوف بالحق وغيره والحكم عليه بالقول أو القضاء وتخصيصه بإحدى صفتي الذات يقتضي نفيه عما عداها مفهوم المخالفة عند القائل بمفهوم الصفة
وهذا مطرد في هذه المادة وغيرها في كل كلام
والطريق الثاني وهو الذي أشار إليه الزمخشري في سورة غافر أن من
____________________
(1/114)
هذه صفته لا يقضي إلا بالحق فهذا يختص بهذه المادة ويطرد حيث ذكر اسم من أسماء الله تعالى
وكان سببه أخذ ذلك من ترتيب الحكم على الوصف ليشعر بالعلة وحيث وجدت العلة يوجد المعلول وحيث وجد المعلول ينتفي ضده
وهذا معنى الحصر ويطرد ذلك في مادة يكون الحكم فيها على اسم مشتمل على معنى يقتضي التعليل بذلك
فهاتان الطريقتان تفيدان المقصود ولولا ذلك لم يلزم هذا الحصر
وأما مفهوم اللقب وحصر المبتدأ في الخبر فإنما يفيد نفي الحكم عن غير المحكوم عليه المخبر عنه بأنه بقول أو بنص فذاك حصر غير هذا والله أعلم انتهى
آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى ما عليهم من سبيل قول الزمخشري من إذا دخلت لتأكيد النفي كهذه الآية وقولنا ما قام من رجل وشبهه هل هي لتأكيد النفي الذي هو مدلول قولنا ما قام أو لتأكيد إرادة العموم من قولنا رجل المنفي والحق الثاني ولذلك قال الزمخشري ما من عائب ولا عاتب ولا معاقب وهذه قاعدة ينبغي التنبه لها
ومما يشير إلى ذلك قوله تعالى هل إلى مرد من سبيل ليس المراد الاستفهام أي سبيل أو بعض سبيل ويسأل عن قوله لما رأوا العذاب وكونه ماضيا كيف جاء بعد قوله وترى الظالمين وهو مستقبل وقوله عليها الضمير للنار ولم يتقدم لها ذكر لكن دل العذاب عليها
قوله تعالى إنما السبيل على الذين يظلمون الناس
قال رحمه الله
قال الزمخشري يبتدئونهم بالظلم حسن ولكن أحسن منه أن في القرآن إشارة إلى أن المبتدئ هو الظالم والمنتصر ليس بظالم ولا يوصف فعله بشيء من الظلم
وحينئذ لا يحسن أن يقال يبتدئونهم بالظلم لإشعاره بأن الثاني ظلم غير مبتدأ به فيرخص فيه بل هو ليس بظلم أصلا وإنما استفدنا ذلك من إطلاق الآية يظلمون الناس مفهومه أن غيرهم لا يظلمون وأنهم هم ظالمون فهي جامعة تستعمل في الجانبين لبيان ظلم المبتدئ بالسيئة ونفي ظلم المجازي بها
وفي الآية دلالة ظاهرة أن إنما للحصر لأنه قصد بها تأكيد النفي في قوله ما عليهم من سبيل وإنما يؤكد النفي إذا دلت على الحصر بخلاف ما إذا جعلناها لمجرد الإثبات
آية أخرى قوله تعالى إن ذلك لمن عزم الأمور قال الشيخ الإمام قول الزمخشري
____________________
(1/115)
لمن عزم الأمور وحذف الراجع لأنه مفهوم كما حذف من قولهم السمن منوان بدرهم أحسن منه أن يقال إن ذلك إشارة إلى الصبر والمغفرة لدلالة صبر وغفر عليهما كأنه قال إن صبرهم ومغفرتهم فأغنى عن الرابط كقوله ولباس التقوى ذلك خير
قوله تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض قرئ شاذا ومن يعشو بالواو وجعلها الزمخشري موصولة وإن كانت تحتمل أن تكون شرطية وثبتت الواو كما ثبتت في من يتقي ويصبر
ثم قال وحق هذا القارئ أن يرفع نقيض واعترض عليه أبو حيان بأن يكون جزم الجواب يشبه الموصول باسم الشرط
وإذا كان ذلك مسموعا في الذي ولم يستعمل اسم شرط فأولى أن يكون فيما استعمل موصولا
وشرطا قال الشاعر ولا تحفرن بئرا تريد أخا بها فإنك فيها أنت من دونه تقع كذاك الذي يبغي على الناس ظالما تصبه على رغم عواقب ما صنع أنشدهما ابن الأعرابي وهو مذهب الكوفيين وله وجه من القياس
لأنه كما يشبه الموصول باسم الشرط فدخلت الفاء في خبره فكذلك يشبه به فينجزم الخبر إلا أن دخول الفاء ينقاس بشروطه المذكورة في علم النحو وهذا لا ينفيه البصريون
انتهى ما قاله أبو حيان
فأما ما قاله من القياس في جزم الجواب على دخول الفاء فصحيح وأما القياس من على الذي ففيه نظر لأن الذي استعملت في معنى الشرط فلا بعد في دخول الفاء في خبرها وفي جزم جوابها نظر إلى معناها لأنها استعملت في معنى الشرط وأما من إذا خرجت عن الشرطية واستعملت موصولة لم تكن في معنى الشرط فكيف يجزم الجواب
فالتحقيق أنه لا يجزم بها أصلا لأن الجزم إما بالمعنى وإما باللفظ لا جائز أن يكون بالمعنى لأن المعنى والحالة هذه ليس هو الشرط ولا باللفظ لأن اللفظ مشترك بين الشرط والموصول فقد يريد الثاني ولأن القياس إنما يصح لو اتحد المعنى فقد تبين أن القياس ليس بصحيح لأنهما لم يشتركا في المعنى فضلا عن أن يقال إنه أولى انتهى
آية أخرى قال رضي الله عنه قال الزمخشري في سورة الزخرف في قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام سيهدين أنه قال مرة فهو يهدين ومرة فإنه سيهدين فاجمع بينها وقدر كأنه قال فهو يهدين و سيهدين فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال
قلت والذي قاله الزمخشري صحيح وليس عندي فيه
____________________
(1/116)
زيادة أخرى تظهر بها مناسبة كل من الموضعين لما ذكر فيه فإنه هنا قال وجعلها كلمة باقية في عقبه فناسب الاستقبال لأجل العقب وفي سورة الشعراء له وحده فناسب قوله فهو يهدين ويبقى قوله إني ذاهب إلى ربي سيهدين وليس فيه ذكر العقب لأنه أمر مستقبل ولأنه قد يقصد بالسين تحقق ذلك الفعل انتهى
آية أخرى قال رضي الله عنه قوله تعالى إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله قد يؤخذ منه أن إنما للحصر لأنها لو لم تكن للحصر لم تفد هنا إلا مجرد التأكيد وقد استفيد من إن الأولى ويحتاج إلى أن تستقرئ هل في كلام العرب إن زيدا إنه قائم فإن لم يكن ذلك مسموعا صح ما قلناه من إفادتها الحصر وإن كان مسموعا فتتوقف الدلالة لأنه يقال إنها للتأكيد والله أعلم انتهى
قال الشيخ الإمام رحمه الله تعالى قوله تعالى محمد رسول الله بعد قوله لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق الآية خطر لي في أنه رد لقول سهيل بن عمرو ومن معه في قصة الحديبية لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك كأنه بلسان الحال يقول محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله بشهادة الله التي هي أعظم شهادة وإن لم تعلموا أنتم وبهذا يترجح أن يكون رسول الله خبرا ولا يكون صفة وإن كان الزمخشري لم يذكر هذا الإعراب وإنما جعله خبر مبتدأ أو مبتدأ وما بعده عطف بيان انتهى
آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى ولا يتمنونه أبدا وفي البقرة ولن يتمنوه ما نصه تكلم فيه السهيلي بناء على أن كلمة لا أبلغ
وصاحب درة التنزيل بناء على أن لن أبلغ
وأنا أقول إن لن أبلغ في حقيقة النفي والمبالغة فيه أول زمان النفي و لا أبلغ في الطرف الآخر وهو المستقبل مع اشتراكهما فيه
وورد التأبيد فيهما وإذا عرف ذلك في سورة البقرة قال قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس وهذا الشرط وصلة واحدة وهي نهاية مراد المؤمن وجزاؤها الأمر بتمني الموت لذلك لأنه إذا كانت نهاية المراد قد حصلت فلا مانع من تمني الموت الموصل إلى الدار الآخرة الخالصة التي ثبت حصولها لهم على هذا التقدير فحسن بعده لن لأنها قاطعة بالنفي الآن المضاد للشرط الذي قدر حصوله الآن فالمقصود تحقيق النفي الآن وتأكيده
____________________
(1/117)
وإن امتد في المستقبل ولذلك قرن بالتأبيد فحصل تأكيدان أحدهما في الطرف الأول بلن والثاني في الطرف الآخر بالتأبيد
وفي سورة الجمعة قال إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فجعل الشرط أمرا مستقبلا قد يقع الزعم منهم غدا أو بعد غد
ورتب عليه الأمر بتمني الموت لأنه يلزم من كونهم أولياء حصول الدار الآخرة لهم وإن لم يدل عليها مطابقة كالآية الأولى فجاء الانتفاء للتمني المستقبل التي متى وقع الزعم علم انتفاء التمني فكان التأكيد فيه في الطرف الآخر فقط وكذلك صرح بالتأبيد ولم يؤت بصيغة لن فإن قلت فمن أين لك هذا الفرق بين لن و لا ولم يذكره النحاة وغاية ما ذكره بعضهم الاختلاف في أن لن أوسع أو لا أوسع وفي أن لا تختص بالمستقبل أو تحتمل الحال والاستقبال وهذا الذي قلته أنت من أن كلا منهما أبلغ من وجه لم يذكره أحد
قلت وإن لم يذكروه فإنهم لم ينفوه ويؤخذ من استقراء مواردها
قال تعالى فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها لن نؤمن لك حتى تفجر لنا فلن يهتدوا إذا أبدا لن يضروكم إلا أذى لن ندخلها حتى يخرجوا منها ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل ولن تفلحوا إذا أبدا لن تنفعكم أرحامكم فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي وغير ذلك من الآيات
فانظر موارد هذه الآيات وقوة تحقيق النفي في الحال فيها وفي بعضها التأبيد لإرادة تقوية الطرفين وفي قوله إذا أبدا المقصود تحقيق النفي من ذلك الوقت إلى الأبد إن تأخر عن وقت الخطاب فالتأبيد من ابتداء زمانه إلى الأبد ولذلك احترزت في أول كلامي فلم أقل من الآن وأما لا فقال تعالى إني أعلم ما لا تعلمون لأن القصد نفي علمهم في المستقبل
فلا يحسن هنا
وكذلك لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ليس المقصود المبالغة في تأكيد النفي لأنه معلوم وقول موسى عليه السلام لا أبرح حتى أبلغ أي لا أبرح مسافرا ولعله قال قبل السفر فليس كقول أخي يوسف فلن أبرح الأرض وإذا لا يلبسون خلافك إلا قليلا لما كان المستثنى الزمان الأول جاز لا والمستثنى في لن يضروكم إلا أذى الفعل فكان لن مع تحقيق النفي في أول الأزمنة وانظر كيف وقع التعادل بين لن و لا اشتركا في نفي المستقبل واختصت لا بنفي الحال والماضي واختصت
____________________
(1/118)
لن بقوة النفي من ابتداء المستقبل وكذلك جاءت في قوله لن تراني لأن المقصود قوة نفي رؤيته ذلك الوقت في الدنيا ولم يجئ فيها التأبيد فلا صريح في دلالتهما على النفي في الآخرة ودلالة لن على النفي في أول أزمنة الاستقبال أقوى من دلالة لا ودلالة لا على استغراق الأزمنة المستقبلة أقوى من دلالة لن لما في لا من المد المناسب للمستقبل فلذلك نقول لا أوسع ولن أقوى وسعة لا في الظرف من المستقبل ويمده ما قبله إلى أول أزمنة الاستقبال وقد تستعمل في الحال وفي الماضي فصارت لجميع الأزمنة ولن لا تصلح إلا للمستقبل وهي باقية في أوله فظاهر لن باقية والمعادلة بين الحرفين من حكمة لسان العرب
والله أعلم انتهى
قال الشيخ الإمام رحمه الله تعالى الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم أما بعد فإني نظرت يوما في قوله تعالى وأنزلنا الحديد وأقوال المفسرين فيه فقيل نزل آدم عليه السلام من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد الكلبتان والسندان والمطرقة والميقعة والإبرة والميقعة خشبة القصار التي يدق عليها وعن الحسن أنزلنا الحديد خلقناه كقوله وأنزل لكم من الأنعام وذلك أن أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه فاستحسنت هذا القول والتعبير بلفظ الإنزال عن الخلق والعلاقة بينهما ما ذكر من أن الأوامر والقضايا والأحكام نازلة من السماء بحسب تسمية المخلوق بالمنزل لذلك لأن كلاهما من القضايا المترتبة على الأوامر والأحكام والقضايا ثم فكرت في كون القضاء والأوامر والأحكام نازلة من السماء فوقع لي أنها جهة العلو بالنسبة إلى العبد الذي هو مأمور ومقضي عليه ومحكوم عليه
والمناسبة في ذلك أن المأمور محله التسافل والذلة والخضوع والأوامر الواردة عليه محلها العلو والاستعلاء والقهر وذلك علو معنوي والعلو المعنوي يناسبه العلو الحسي فاقتضى ذلك أن تكون الأوامر تأتي من جهة العلو والسماء محيطة بالمخلوقات من جميع الجهات فجعلت الأوامر منها والمأمور في الحضيض منها ليرى نفسه أبدا سافلا رتبة وصورة تحت الأوامر لينقاد إليها وذلك من لطف الله به حتى لا تتكبر نفسه فيهلك فهذه حكمة الله في تخصيص السماء بمجيء الأوامر منها وكان في الإمكان أن يجعلها من جهة أخرى ولعل لأجل ذلك خلق الله العالم على هذه الهيئة وخلق السموات بهذه الصفة وأسكنها ملائكته الذين هم سفراء بينه وبين خلقه وحملة أمره وأحكامه
____________________
(1/119)
وخلق فوق ذلك عرشه وكرسيه ليركز في نفوس العباد عظمته واستعلاء أوامره عليهم لينقادوا لها
ويرشد إلى ذلك قوله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه وليس ذلك لتحيزه تعالى فيها ولما كانت جهة السماء بهذه المثابة وارتكزت الأمور المذكورة في نفوس العباد رفعوا أيديهم في الدعاء إلى تلك الجهة لنزول القضاء لا لتحيز الرب سبحانه وتعالى فيها وإنما هو تدبير في المخلوقات وما يرد إليهم من الأوامر وما يصلحهم والرب سبحانه وتعالى متعال عن ذلك لا تصل إليه العقول وحسب العبد معرفة نفسه بالذلة والعجز والجهل والتكليف وامتثال ما أمر به وكلف واجتناب ما نهي عنه وتعظيم الرب الذي منه الأمر والنهي والوقوف عندهما وعدم التفكر في ذات الرب سبحانه فالعقول تقصر دونها والله أعلم انتهى
آية أخرى قال رحمه الله قوله تعالى وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم شاهد لأن المفرد المضاف للعموم لأن الظاهر أن المراد بالرسول موسى عليه السلام المرسل إلى فرعون ولفظ المرسل إلى المؤتفكات ويدخل أيضا هارون ويوسف وإن كان قبله انتهى
والله أعلم
آية أخرى قوله تعالى لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم سأل سائل عن هذا الترتيب إن كان من ترتيب الجمل بمعنى أنه أقسم على رؤيتها ثم أقسم على رؤيتها عين اليقين ثم أقسم على السؤال فواضح لكنه ليس المتبادر إلى الفهم من الآية فإن على هذا التقدير لا يكون الترتيب في المقسم عليه بل في نفس المقسم والمتبادر من الآية أنه في المقسم عليه فلا بد من طريق لتحقيق هذا المتبادر والقسم إنشاء لا يقبل الترتيب بين الضربين بل له أن يضربهما معا أو يضرب عمرا ثم زيدا فإنه إنما رتب بين القسمين لا بين المقسم عليهما
فالوجه في فهم الآية أن نقول ثم دالة على تأخر ما بعد رؤية الجحيم الأولى وكأنه بعد رؤية الجحيم لترونها عين اليقين ولا يمكننا أن نقول إن بعد ظرف مقدم لأن القسم له صدر الكلام فلا يعمل ما بعده فيما قبله لكنا نقول هو ظرف لمحذوف يدل على المقسم عليه كأنه بعد ذلك لترونها عين اليقين والله وهكذا التقدير في الجملة الثالثة
فالقسم الآن على ما يقع مرتبا في ذلك الوقت ونظيره قوله إن دخلت الدار فوالله لا وطئتك فهو قسم الآن على أنه لا يطأ بعد دخول الدار فالمعلق في الحقيقة هو المقسم عليه لا القسم وإن كان ظاهر التعليق
____________________
(1/120)
يقتضي أنه القسم لأنه الذي جعل جزاء فالشرط كالجملة المعطوف عليها والقسم كالجمل المعطوفة والله أعلم هذا كله إن قدرنا القسم بعد قسم يقبل اللام أما إذا قدرناه قسما واحدا قبل لترون الجحيم شاملا للجمل الثلاث فلا يأتي هذا الإمكان ويكون قد أقسم قسما واحدا لا أقساما ثلاثة وتظهر فائدة هذا البحث إذا حلف فقال والله لأضربن زيدا ثم والله لأضربن عمرا ثم والله لأضربن خالدا كانت ثلاثة أيمان وكون اليمين على الثلاث الآن لا شك فيه وهل يجب الترتيب هذا محتمل
والذي يظهر أن يرجع إلى نيته فإن نوى الترتيب لم يبرأ إلا بالترتيب وإن لم ينو كفى وجود الثلاث كيف اتفق ومتى ترك الثلاث لزمه ثلاث كفارات وإن فعل واحدة وترك ثنتين لزمه كفارة ما ترك وإذا قال والله لأضربن زيدا ثم لأضربن عمرا ثم لأضربن خالدا كانت يمينا واحدة مرتبة على الثلاث في قوة قوله والله لأضربن زيدا ثم عمرا ثم خالدا ولا فرق بينهما إلا زيادة التأكيد في كل واحدة ويحتمل أن يفرق بينهما ويقال إن قوله والله لأضربن زيدا ثم عمرا ثم خالدا يمينا واحدة بلا إشكال ومتى أعاد اللام في الاثنين كانت ثلاثة أيمان وإن كان لا يقدر القسم في كل منها بل هو في الإثبات كلا في النفي إذا قال والله لا ضربت زيدا ولا عمرا فإنها يمينان وإن كان لفظ اليمين واحدا وهذان الاحتمالان قلتهما تفقها لا نقلا ولا يترجح الآن منهما عندي شيء
ولعله يقوى عندي إن شاء الله بعد ذلك هذا الاحتمال الثاني فإنني مائل إليه ولكنني لم أجد الآن دليلا ينهض ترجيحه انتهى
آيات أخرى هذه الآيات إذا كتبت تقدم إلى مواضعها
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه قوله تعالى ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع زيدت من لإفادة صفة العموم فهي بمنزلة قولك لا حميم ولا شفيع يطاع إذا ثبت اسم لا معها في إفادة كل فرد مما ذكر
قال الزمخشري فإن قلت ما معنى قوله ولا شفيع يطاع قلت يحتمل أن يتناول النفي الشفاعة والطاعة معا وأن يتناول الطاعة دون الشفاعة كما تقول ما عندي كتاب يباع فهو يحتمل نفي البيع وحده وأن عندك كتابا إلا أنك لا تبيعه ونفيهما جميعا وأن لا كتاب عندك ولا كونه مبيعا ونحوه ولا ترى الضب بها ينجحر يريد نفي الضب وانجحاره
قال الشيخ الإمام مدلول اللفظ ومعناه نفي المركب من الموصوف والصفة ولكن لانتفاء المركب طريقان وهما الاحتمالان اللذان ذكرهما فهما احتمالان في طريق الانتفاء
____________________
(1/121)
الذي دل عليه اللفظ لا في مدلول اللفظ ومعناه
فإن الاحتمالين في المدلول أن يكون اللفظ لهما إما مشتركا وإما حقيقة أو مجازا وهذا ليس كذلك
وإنما نبهنا على ذلك لتعلم أن المراد من كلام الزمخشري وغيره من الفضلاء بخلاف ما أوهمه كلامه هذا وكذا قولك ما عندي كتاب يباع إنما مدلوله نفي كتاب موصوف وساكت عما سواه والاحتمالان في الواقع وفي نفس الأمر وكذا ولا ترى الضب بها ينجحر إنما دل على عدم رؤية الضب منجحرا والاحتمالان في الضب بها ولا ينجحر أو لا ضب بها أصلا وحمله على إرادة الثاني صحيح ليس من مدلول اللفظ لأنه لو كان من مدلول اللفظ لاطرد ولكان مما دل عليه سياق الكلام ومقصود الشارع وكذلك قوله علي لا حب لا يهتدى بمناره يريد لا منار له فيهتدي به تعرف مقصوده ذلك من القرينة لا من اللفظ وحده ألا تراك لو قلت زيد لا ينتفع بعلمه ولا علم له ما لم يحسن ذلك إلا على بعد ولعل الفرق أن حيث قصد وصف النكرة كلا حب وصف بعدم الاهتداء بمناره فالأبلغ انتفاء المنار وفي زيد لم يقصد وصفه بل المدلول نفي الانتفاع عن علمه فاستدعى وجود السالبة البسيطة التي يذكرها المنطقيون وأنها لا تقتضي وجود موضوعها صحيح ذلك ولكن منها ما يستحسن في كلام العرب ومنها ما لا يستحسن
قال الزمخشري فإن قلت فعلى أي الاحتمالين يجب حمله قلت على نفي الأمرين جميعا من قبل أن الشفعاء هم أولياء الله وأولياء الله لا يحبون ولا يرضون إلا من أحبه الله ورضيه وأن الله لا يحب الظالمين فلا يحبونهم وإذا لم يحبوهم لم ينصروهم ولم يشفعوا لهم قال الله تعالى وما للظالمين من أنصار قال ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ولأن الشفاعة لا تكون إلا في زيادة التفضل وأهل التفضل وزيادته إنما هم أهل الثواب بدليل قوله ويزيدهم من فضله
وعن الحسن والله ما يكون لهم شفيع ألبتة قال الشيخ الإمام حمله على انتفاء الأمرين صحيح وقولنا انتفاء خير من قوله نفي لأن النفي فعل الفاعل فيوهم أنه مدلول اللفظ وقد قدمنا أنه ليس كذلك والاستدلال له بقوله تعالى ولا يشفعون إلا لمن ارتضى صحيح ومعناه ارتضى الشفاعة له وكذا إلا لمن أذن له وكذا من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وإن كانت الآية الأولى أصرح في اشتراط الارتضاء ولا شك أن المعنى لمن ارتضاه فتجتمع شروط حذف العائد على الموصول
وكأن الزمخشري أراد من هذا القول أن الفاسق غير مرتضى فلا تشمله الشفاعة لكنا نقول الظاهر أن المراد إلا لمن ارتضى أن يشفع له فحذف هذا وتوسع في الضمير ونصب بالفعل وحذف
____________________
(1/122)
حينئذ أو يقال إنه بالإذن بالشفاعة له حصل العفو عنه فصار مرتضى في ذلك الوقت ويكفي في كونه مرتضى إسلامه وإن كره فسقه
وأما قوله إن الشفاعة لا تكون إلا في زيادة التفضل فليس بصحيح وإنما ذلك اعتزال منه لإنكاره الشفاعة التي هي في فصل القضاء المجمع عليها وهو لا يسلمها وليست خاصة بأهل التفضيل وقوله تعالى ويزيدهم من فضله لا يقتضي انحصار ذلك فيهم وقول الزمخشري إذا لم يحبوهم لم يشفعوا لهم قد يمنع لأن الشفاعة قد تكون للرحمة من غير محبة
قال الزمخشري فإن قلت الغرض حاصل بذكر الشفيع ونفيه فما الفائدة في ذكر هذه الصفة ونفيها قلت في ذكرها فائدة جليلة وهي أنها ضمت إليه ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف
بيانه أنك إذا عوتبت على القعود عن الغزو فقلت ما لي فرس أركبه ولا معي سلاح أحارب به فقد جعلت عدم الفرس وفقد السلاح علة مانعة من الركوب والمحاربة كأنك تقول كيف يتأتى مني الركوب والمحاربة ولا فرس لي ولا سلاح معي فكذلك قوله ولا شفيع يطاع معناه كيف يتأتى الشفيع ولا شفيع فكان ذكر التشفيع والاستشهاد على عدم تأتيه بعدم الشفيع وضعا لانتفاء الشفيع موضع الأمر المعروف غير المنكر الذي لا ينبغي أن يتوهم خلافه قال الشيخ الإمام في ذكر هذه الصفة وهي قوله يطاع ست فوائد إحداها أنها الذي تتشوف إليه نفوس من يقصد أن يشفع فيه فكان التصريح بنفيها فتا في أعضاد الظالمين وقطعا لقلوبهم وحطما لهم لأن من كان متشوقا إلى شيء فصرح له بأنه لا يحصل له كان أنكى له من أن يدل عليه بلفظ شامل له ولغيره أو مستلزم إياه فكانت للتخصيص أو للتوضيح أو لمجرد هذا القصد مع مساواتها
الثانية أن من الشفعاء من لا تقبل شفاعته فلا غرض فيه أصلا ومنهم من تقبل شفاعته وهو المقصود فنص عليه تحقيقا لمن قصد نفيه وهي صفة مخصصة وقدم هذا الغرض على ما يقتضيه مفهوم الصفة من وجود غيره لقيام الدليل على عدمه وهذه الفائدة مغايرة للأولى لأن هذه في آحاد الشفعاء وتلك في صفة شفاعتهم
الثالثة ما تدل عليه مادة يطاع والغالب في الشفاعة استعمال لفظ القبول والنفع وما أشبههما أما الطاعة فإنما تقال في الأمر فذكرها هاهنا لنكتة بديعة وهي أنه لما ذكر الظالمين وشأن الظالمين في الدنيا القوة والشفعاء المتكلم عنهم بمنزلة من يأمر فيطاع نفى عنهم ذلك في الآخرة تبكيتا وحسرة فإن النفس إذا
____________________
(1/123)
ذكرت ما كانت عليه وزال عنها وخوطبت به كان أشد عليها
الرابعة أنه إشارة إلى هول ذلك اليوم وأن شدته بلغت مبلغا لا ينفع فيه إلا شفيع له قوة ورتبة أن يطاع لو وجد وهو لا يوجد
وهذه قريبة من التي قبلها إلا أنها بحسب الحاضر وتلك بحسب الماضي
الخامسة التنبيه على ما قصد الشفيع لأجله كقول المغلوب الذي ما عنده أحد قصد الشفيع لأجله يقول ما عندي أحد ينصرني تنبيها على أن مقصوده النصرة
السادسة ما ذكره الزمخشري وحاصله التنبيه على أن المقصود نفي الصفة وذكر الدليل على نفيها
وذكر الشيء بدليله أحسن فالمقصود نفي الطاعة التي هي قبول الشفاعة وتعليل ذلك النفي بانتفاء الشفيع وكون المقصود نفي الطاعة هو الذي قدمناه في كلامنا في الأوجه المتقدمة والتعليل أفاده الزمخشري هنا ويخرج من دلالته أيضا إفادة نفي الشفيع على عكس ما يقتضيه مفهوم الصفة فتكون فائدة سابعة ولنشرح كلامه فنقول قوله ضمت إليه أي إلى الموصوف واستعمل لفظ الضم ليفيد الهيئة الاجتماعية فإن الغرض يحصل منها لا من ذكر الصفة وحدها وقوله ليقام أي الغرض من الضم هذه الإقامة وقوله مقام الشاهد أي الدليل ولم يذكر لفظ العلة لأنه إنما يستعمل في الوجوديات والانتفاء عدمي وقوله لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها تعليل لكون انتفاء الموصوف شاهدا ودليلا وهو تعليل صحيح ويلزم من وجود الصفة وجود الموصوف ومن عدمها عدمه ولو قال لأنه لا تتأتى صفة بدون موصوفها سلم من جعل اسم إن نكرة
وقوله فيكون ذلك أي إقامة الموصوف شاهدا لتوهم وجود الموصوف أي الشفيع ولا يريد الموصوف المقيد بكونه موصوفا لاستحالة توهم وجوده بدون صفته وإنما يريد مطلق الشفيع وإنما كانت إقامة نفيه شاهدا مزيلة وجوده لأن الشاهد يجب أن يكون معلوما وإذا كان الانتفاء معلوما لم يكن الوجود موهوما
وهذا قد أشار إليه الزمخشري في كلامه حيث قال لا ينبغي أن يتوهم خلافه فعلم أنه لم يقصد بنفي الشفيع إفادة الانتفاء لأن انتفاءه معلوم بما قدمه من قوله ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ونحوه فعلم أن الإخبار به هنا إنما قصد به ما ترتب عليه وهو انتفاء الشفيع الذي عبر عنه بالطاعة وأقامه شاهدا على ذلك وينبغي أن يكتب على الحاشية أي وبيانا لأنه لم يقصد بنفي الموصوف إلا نفي صفته والاستدلال بانتفائه على انتفائها وحينئذ لا يبقى في كلام الزمخشري إشكال وقوله وبيانه إلى آخره صحيح وقوله فكان الشفيع
____________________
(1/124)
والاستشهاد أي ما قدمناه والشفيع هو قبول الشفاعة وهو المراد بالطاعة هنا وقوله وضعا أي تنزيلا لانتفاء الشفيع منزلة المعلوم الذي لا يتوهم وجوده فلا ينفى لقصد نفيه في ذاته بل لدلالته وما ترتب عليه والله أعلم
فهذا ما ظهر لي في كلام الزمخشري بعد أن أشكل على جماعة من الفضلاء وظنوه معكوسا وكم له مثل هذا مما يدل على قوة فهمه وتدقيقه وإشارته بالكلام اليسير إلى المعنى الكثير الغامض لكن في عبارته هنا قصور عن مراده
وهو موضع قلق وكنت ممن ظن أن كلامه معكوس ورأيت عليه لبعض الفضلاء المتقدمين حلا لإشكاله ولكنه لم يصنع شيئا في حله وقد فتح الله علي بذلك وصارت صعوبته كأن لم تكن وهكذا العلم ينفتح بأدنى شيء وإني لأسر بما منحني الله من ذلك وأراه خيرا من الدنيا وما فيها لا يعدله ملك ولا مال
وأعوذ بالله من أن أعجب به أو يحصل لي في نفسي منه كبر لكني أراه فضلا من الله علي مع ضعفي وعجزي وقلة حيلتي واعترافي بفضل الزمخشري كتبه علي بن عبد الكافي السبكي في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة والحمد لله رب العالمين
قال الشيخ الإمام رحمه الله في قوله تعالى ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار من الناس من قد دبروا فتحصلوا على نعمة في نسلهم هي باقيه وما لي تدبير لنفسي لا ولا لنسلي لكن نعمة الله كافيه كما عالني دهري كذاك يعول من أخلفه في عيشة هي راضيه ومنهم أناس وفر الله حظهم لخيرهم في جنة هي عاليه وقولي ربي آتنا حسنتيهما وثالثة عنا جهنم واقيه نظمتها يوم الاثنين سابع شوال سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة بسبب أني تفكرت في حالي وحال أولادي ولي في القضاء أربع عشرة سنة لم يحصل لهم ما يبقى لهم من بعدي وأقمت قبل ذلك بمصر نحوا من سبع عشرة سنة متمكنا من أن أحصل لهم رواتب كثيرة لم أحصل لهم شيئا من ذلك وافتكرت قاضيين في دمشق ابن أبي عصرون وابن الزكي حصلا ما هو باق لذريتهما إلى اليوم وابن دقيق العيد في مصر لم يترك لأولاده شيئا ولا حصل لهم بعده شيئا ونفسي تطلب الخير لأولادي في حياتي وبعد مماتي فتوكلت على الله وأحلتهم على فضله كما تفضل علي ونظمت هذه الأبيات وأشرت في البيت الأخير إلى قوله تعالى ربنا
____________________
(1/125)
آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أسأل الله تعالى ذلك وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما كثيرا
كتبه داعيا لمصنفه ولذريته بالرحمة والمغفرة وجوامع الخيرات في الدارين لي ولهم ولسائر المسلمين محمد بن أحمد الفصيح المقرئ الشافعي عفا الله عنه حسبنا الله ونعم الوكيل
بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الطهارة قال الشيخ الإمام رحمه الله ورضي عنه قول الشافعي في الأم وكل الماء طهور ما لم يخالطه نجاسة لا يرد عليه المتغير تغيرا كثيرا بطاهر لأنه ليس بماء ويستنبط منه أن المتغير تغيرا كثيرا بما لا يسلب إطلاق اسم الماء عنه من الطاهرات طهور خلافا للعراقيين ويستنبط منه أن المستعمل طهور وهو القول القديم ومن يمنعه يعتذر بأن مقصود الشافعي غيره وقد يورد عليه الذي وقعت فيه نجاسة جامدة وهو دون القلتين فإنه ليس بطهور وما خالطه إلا أن يريد بالمخالطة ما هو أعم من المجاورة فيرد عليه إذا كان كثيرا إلا أن نقول بوجوب التباعد فلا يرد شيء وهو الجديد والأم من الكتب الجديدة فينبغي أن يشرح على هذا وما جاوز القلتين يمنع أن مخالطته للنجاسة ويكون حد القلتين فاصلا ثم قال الشافعي الماء على الطهارة فلا ينجس إلا بنجس يخالطه وهذا يرد على المجاور ويجاب بما سبق انتهى
نقل من خطه
مسألة رجل جنب وفي ظهره جراح فغسل الصحيح وتيمم عن الجريح وصلى الظهر ثم أحدث فجاء وقت العصر فتوضأ وضوءا كاملا فهلا تيمم لحق الجراحة التي في ظهره لأجل الجنابة أم لا الجواب الأصل المقرر أن التيمم عن الحدث وعن الجنابة لا يبيح إلا صلاة فريضة واحدة فالمذكور استفاد بتيممه استباحة فريضة وما شاء من النوافل ما لم يحدث فإذا أحدث امتنع عليه النفل مضافا إلى امتناع الفرض فإذا توضأ عاد إلى حالته قبل الحدث وهو استباحة النفل فقط وامتناع الفرض حتى يتيمم عن الجنابة وهذا لا خلاف فيه إلا على مذهب المزني فإنه يصلي به أكثر من فرض أما على مذهب الشافعي فلا وممن صرح أن الجنب إذا حصل عليه وقت صلاة أخرى يعيد التيمم ابن الصباغ
____________________
(1/126)
وبقية الأصحاب كلامهم يقتضيه وإنما لم يصرح به بعضهم لأنه داخل في عموم كلامهم أنه لا يصلي بتيمم واحد أكثر من فريضة واحدة وما شاء من النوافل وقد نص الجرجاني على أن الجنب إذا تيمم لعدم الماء وأدى به الفرض ثم أحدث ثم وجد من الماء ما يكفيه للوضوء ولا يكفيه للجنابة فهو ممنوع من فعل الفرض والنفل للحدث فإن قلنا يلزمه استعماله فليستعمله ويتنفل ما شاء أن يتنفل ويستبيح الفرض والنفل فإن قلنا لا يلزمه استعماله لزمه أن يتوضأ به للنفل دون الفرض لأنه محدث معه من الماء ما يرفع حدثه فوضوءه يرفع حدثه الطارئ فيعود كما كان قبل الحدث وقد كان قبله ممنوعا من الفرض دون النفل وإذا أراد أن يستبيح الفرض تيمم له
قال وهذه مسألة شاذة من وجهين أحدهما هو وضوء يبيح النفل دون الفرض والثاني أنه محدث يصح تيممه للفرض دون النفل
انتهى كلام الجرجاني وهي نظير مسألتنا إلا أنها في عدم الماء ومسألتنا في الجراحة ولا فرق وقد قال البغوي وغيره إذا كان جنبا والجراحة في غير أعضاء الوضوء فغسل الصحيح وتيمم للجريح ثم أحدث قبل أن يصلي فريضة لزمه الوضوء ولا يلزمه التيمم لأن تيممه من غير أعضاء الوضوء فلا يؤثر فيه الحدث وهذا الوضوء يبيح الفرض والنفل بالنسبة للحدث وقد كانا مباحين بالتيمم قبل الحدث ولكن بالحدث امتنع فعلهما فبالوضوء يرتفع ذلك المنع ويرجع إلى حكمه قبل الحدث وهو استباحتها وأما قول النووي في الروضة عقيب ذلك ولو صلى فريضة ثم أحدث ثم توضأ للنافلة ولا يتيمم فهي مسألة الجرجاني أعني نظيرتها فهذا الوضوء يبيح النفل دون الفرض لأنه يرده إلى حالته المتقدمة قبل الحدث وهو كان يستبيح النفل دون الفرض لأنه قد أدى الفرض
وسكت النووي عما لو أراد أن ينوي فرضا ووجب التيمم عليه لطهوره وأما قول النووي وكذا حكم جميع الفرائض كلها
فيوهم أن الفرائض كلها حكمها حكم النافلة وأنه إذا أحدث يتوضأ لها ولا يتيمم وهذا لا يقوله أحد فينبغي تأويله على أحد شيئين إما أن يقال الفرائض كلها من الطواف والصلاة المنذورة حكمها حكم الصلاة المفروضة بل الوطء على رأي إذا تيممت الحائض ووطئها ففي وجه يجب عليها إعادة التيمم كالصلاة المفروضة وإما أن يقال كلما تيممت وتوضأت وصلت فرضا ثم أحدثت بعده كان الحكم كذلك من أنها تتوضأ للنافلة ولا تتيمم أي للنافلة والله تعالى أعلم
مسألة محدث غمس يده في ماء كثير راكد غمسة واحدة هل يحصل له التثليث
____________________
(1/127)
المندوب من غير أن يحرك يده أم لا بد أن يحرك يده في الماء مرتين أجاب إن كان الماء راكدا لم يحصل له التثليث سواء أحرك يده أم لا ولو كان جاريا حصل التثليث بمكثها وقفة ثلاث لحظات وأما قول القاضي الحسين في الراكد إنه إذا خضخض الماء فيه وقول البغوي إذا حركه فيه يقوم مقام العدد فلم تتبين لي صحته
وقد أبطل الأصحاب القول بأن مكثه في الماء الكثير يقوم مقام العدد بأنه لو استنجى بحجر طويل يمر أجزاءه على المحل شيئا فشيئا لا يكفي بل لا بد من رعاية صورة العدد والقول بأن الخضخضة تكفي بعيد جدا
وعبارة المهذب إن حملت على ذلك ورد عليه فأورد عليه فإن الماء قبل الانفصال عن المحل لا يثبت له حكم فلا يحصل به العدد فإن فرضت حركة بحيث انفصل ذلك منه ودخل فيه ماء آخر فهو أقرب قليلا ولكنه أيضا بعيد لأن الماء الراكد كله ماء واحد يتقوى بعضه ببعض فالوجه أنه لا يتم غسله ما لم تنفصل اليد أو الإناء أو الثوب عن الماء أو يأتي عليه ماء آخر حكمه غير حكم الماء الأول والله أعلم
مسألة قول الفقهاء يأخذ لصماخيه ماء جديدا هل أخذ الماء الجديد شرط لصحة مسح الصماخين أو يستحب لهما حتى لو مسح بتلك مسح وجهي الأذنين أجزأه لأن ما مسح به الأذنين طهور وكذا ما مسح به الرأس ثانيا أجاب هو مستحب وليس بشرط لما ذكره السائل والله أعلم
مسألة في محدث غسل يده عن الفرض بغرفة ثم أخذ غرفة ثانية فغسل بها من الأصابع إلى المرفق ثم رد الماء من المرفق إلى الأصابع فهل يحصل التثليث المندوب برد الماء ثانيا قبل انفصاله عن اليد أم لا وهل يفرق بين هذه الصورة وبين ما إذا ابتدأ الغسل من المرفق إلى الأصابع ثم رد الماء من الأصابع إلى المرفق أم لا أفتونا مأجورين رحمكم الله
أجاب تغمده الله برحمته وأسكنه أعلى غرفات جنته لا يحصل التثليث المندوب بذلك ولا فرق بين أن يبتدئ من المرفق أو الأصابع
والله تعالى أعلم
مسألة الهرة إذا أكلت فأرة وولغت في ماء قليل فالصحيح أنها إن غابت بحيث يمكن ورودها على ماء كثير فهو طاهر وإلا فلا
وهل هذا الحكم في غير الهرة وفي الثوب إذا تنجس وغسل ما يمكن أن يكون هو النجس أو لا وهل إذا حمل المصلي الهرة أو الثوب والحالة هذه تبطل صلاته أم لا الجواب لا يتعدى حكم الهرة إلى غيرها من الحيوانات لأن الحكم بالطهارة فيها يستند إلى استصحاب طهارة مع ضرب من العفو قوي
وإذا حملها المصلي
____________________
(1/128)
بطلت صلاته استصحابا للنجاسة ولا يتعدى العفو إلى غيرها من الحيوانات لعدم عسر الاحتراز وهو علة العفو والمعظم إنما صححوا النجاسة إذا لم تغب وتصحيح الطهارة إذا غابت قال الرافعي إنه الأظهر وهو كما قال إلا أنه ليس مسنونا إلى المعظم كما في شرح المهذب وقال الماوردي إن الأصح فيه النجاسة والثوب المذكور ينبغي القطع بأنه لا ينجس الماء لعدم استصحاب النجاسة فيه فإنا لم نتحقق حصولها في القدر الباقي وإذا لبسه المصلي بطلت صلاته لاشتراط يقين الطهارة أو ظنها في الصلاة وهو مفقود وجوب غسل جميع الثوب محقق بعضه يغسله للنجاسة وبعضه يغسله للاشتباه فإذا غسل بعضه فالمحقق المستحب وجوب الغسل بإحدى العلتين لا العلة المعينة ووجوب الغسل يكفي في بطلان الصلاة ولا يكفي في تنجيس الماء والله أعلم وهذه الأحكام لم أجدها منقولة وقد كتبت عليها كتابة مطولة في فتوى سألني بعض الفقهاء عنها والله أعلم
مسألة الشعر الذي على الفرو المدبوغ طاهر إما لأن الشعر يطهر بالدباغ وإما لأن الشعور طاهرة
وهذا لا شك عندي فيه لما روى مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي الخير مرشد بن عبد الله اليزني قال
رأيت على ابن وعلة السبئي فروة فمسسته فقال مالك تمسه قد سألت عبد الله بن عباس قلت إنا نكون بالمغرب ومعنا البربر والمجوس نؤتى بالكبش قد ذبحوه ونحن لا نأكل ذبائحهم ويأتونا بالسقاء يجعلون فيه الودك فقال ابن عباس قد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال دباغه طهوره فهذا نص في المسألة وصحح ابن أبي عصرون أن الشعر يطهر بالدباغ
والصحيح عند معظم الأصحاب وهو المنصوص المشهور أن الشعر ينجس بالموت ولا يطهر بالدباغ وهو خلاف الحديث والذي اختاره وأفتى به ما دل عليه الحديث والله أعلم
فائدة نقل الشيخ أبو محمد مذهب الزهري أن الجلد يحل الانتفاع به قبل الدباغ نقله صاحب التتمة أنه ليس بنجس وهو صحيح
وزاد فقال إنه وجه لأصحابنا عن ابن القطان أن الزهومة التي فيه نجسة فهو كثوب متنجس وهذا خلاف مذهب الزهري فجعله إياه مثله ليس بجيد ونقل الرافعي ما في التتمة بدون كون الزهومة نجسة وجعله كالثوب النجس فأوهم أنه طاهر يحل الانتفاع به مطلقا وليس بجيد
وزاد بعضهم فنقل الوجه أنه يجوز أكله قبل الدباغ
____________________
(1/129)
وهذا لما أوهمه كلام الرافعي وليس بجيد وإنما يأتي ذلك على مذهب الزهري أما عندنا فلا
فائدة تكلم الأصحاب فيما إذا غمس الجنب بعض بدنه في ماء قليل ونوى إذا كان الماء يتردد على أعضائه وفي اغتسال المرأة والرجل وخطر لي فيه بحثان أحدهما يفصل بين أن ينوي رفع الجنابة عن الجزء المنغمس أو عن الجميع فإن كان عن الجميع فاستعمال الماء في الجميع لا يقع حتى ينغمس وكذا ما دام مترددا على العضو وبدنه عليه أن لا يكون مستعملا في اغتراف المرأة فليحرر هذا البحث ويستدل بكون النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل ولم يستفصل منها هل نوت رفع الحدث أو الاغتراف أن الماء المستعمل طهور إن كانت هذه القاعدة تقتضي العموم من القول والفعل والتقرير
مسألة الأغسال المسنونة هل تقضى لم أر فيها نقلا ولكن مرة تركت غسل الجمعة لعذر فلما جئت في الجمعة الثانية أغتسل لها تذكرت وأردت أن أغتسل مرة أخرى عن الجمعة الثانية ففكرت فيما يقتضيه الفقه من ذلك فترددت إن نظرنا إلى أنه شرع لمعنى وهو الاجتماع فقد فات فلا يقضى وإن نظرنا إلى أنه عبادة مؤقتة وأمكن تداركها بعد خروج الوقت فيقضى كسائر السنن لا سيما إذا قلنا إنه يستحب للمسافر وغيره ممن لا يحضر الجمعة وأنه لأجل اليوم وقد يقال ولو قلنا لأجل اليوم فقد فات اليوم فلا يقضى وقد يقال ولو قدر لأجل الاجتماع وإن فات فيقضى استدراكا لأصل العبادة
والمسألة محتملة ولا يبعد أن يجيء فيه خلاف وإنما النظر في الترجيح
فائدة إن قال قائل فيما إذا اشتبه ماء طاهر بماء نجس إن الأصل في كل منهما الطهارة ويقين النجاسة إنما هو في أحدهما فلا يعارض الأصل المستصحب
____________________
(1/130)
في كل منهما بعينه فبقي الوجه المقابل بأنه تهجم بغير اجتهاد
فجوابه أن الأصل في كل منهما بعينه الطهارة يعارضه الأصل عدم وقوع النجاسة في الآخر فلتكن واقعة فيه وصار في كل منهما بعينه أصلان أصل يدل على الطهارة بنفسه وأصل يدل على النجاسة بالطريق التي أشرنا إليها
فاحتجنا إلى تقوية الأول بالاجتهاد ليندفع به الثاني فينفرد الأول ولعل القائل بالهجوم يقول إن الأصل الأول دال بنفسه والثاني دال بواسطة فالأول أرجح فيكتفى به بلا اجتهاد لكن عند التحقيق نجد التعارض قويا لأن يقين النجاسة موجود واحتمالها بالنسبة إليهما على السواء حتى يرجح أحدهما باجتهاد والله أعلم
فائدة قاسوا الجنون على النوم في نقض الوضوء بعلة الغلبة على العقل بطريق الأولى ولك أن تقول في النوم الغلبة على العقل واسترخاء المفاصل وهو مظنة خروج الخارج وأما الغلبة على العقل فإنما تقتضي عدم الشعور لا نفس الخروج ومتى اعتبر استرخاء المفاصل إما علة وإما جزء علة امتنع القياس وهذا القياس ظهر لي ولم يظهر لي جوابه
فائدة السكران إذا عومل معاملة الصاحي مطلقا لا يحكم بصحة وضوئه ويدعى إلى الصلاة ويقتل بتركها ويرد عليه أنه منهي عن الصلاة لقوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى
فائدة قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا هل الضمير في اغسلوا للذين آمنوا فيكونون مأمورين الآن بالغسل وقت القيام أو الذين آمنوا القائمين للصلاة لما دل عليه الشرط فلا يكونون مأمورين إلا وقت القيام للصلاة فيه بحث والأظهر الثاني
وهذه قاعدة شريفة ينبني عليها مباحث كثيرة ويشهد لاختيار الثاني في قوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن فطابق الأمر ما دل الشرط عليه
ومن المباحث المتعلقة به إذا قلت يا زيد إذا زالت الشمس فصل هل هو مأمور الآن أو لا يكون مأمورا إلا وقت الزوال وهو المختار ولا يرد عليه أنا نختار عدم التعلق لأن التعلق بحسبه فالتعلق إنما هو بفعله وقت الزوال وبالقائمين وقت القيام فهم بهذا القيد متعلق الأمر وهم بدون القيد ليسوا متعلق الأمر ولا يرد عليه أنا نختار في قوله إن طلعت الشمس فأنت طالق أن الإيقاع الآن والوقوع عند الطلوع لأنا لا نعني بالإيقاع إلا إيقاع ما يقع عند الطلوع
فافهم هذا فإنه من نفائس المباحث ولم أجده منقولا لكن حركني له قول الشافعي في الأم إن ظاهرها أن من قام إلى
____________________
(1/131)
الصلاة فعليه أن يتوضأ فتأملت كلامه لم يقل عليهم أن يتوضئوا إذا قاموا إلى الصلاة فانظر ما أنفع تأمل كلام العلماء لا سيما إمام العلماء وخطيبهم رحمه الله
فائدة فقهية قال بعض الأصحاب إن من موجبات الغسل تنجس البدن أو بعضه ونيته
وقال الرافعي لأن الأكثرين آمنوا بذلك واستدل بذلك على أن النية جزء من الغسل وإلا لم يمنعوا وأنا أقول إن النية ليست جزءا من الغسل وأمنع ذلك لأن الواجب في تنجس البدن لا يجب غسله ألبتة حتى لو أمكن فصل النجاسة عنه من غير غسل لم يجب الغسل وقد صورت المسألة فيما إذا تكشط الجلد الذي مسته النجاسة فإنه لا يجب غسل ما ظهر ما لم تمسه النجاسة
والجنابة واجبها غسل البدن حتى لو تكشط الجلد أو قطع عضو وجب غسل ما ظهر وكذا في الحدث فافهم ذلك فإنه دقيق وبه يتبين أن لا نية على البدن في غسل النجاسة أصلا بخلاف غسل الجنابة
والله أعلم
مسألة سئل الشيخ الإمام رحمه الله عن الفرق بين مطلق الماء والماء المطلق فأجاب بما نصه الفرق بين مطلق الشيء والشيء المطلق والمراد بالأول حقيقة الماهية وبالثاني هي تقيد الإطلاق فالأول لا يقيد والثاني يقيد لا تقيد التجرد عن جميع القيود وقد لا يراد ذلك بل يراد التجرد عن قيود معروفة ولذلك أمثلة منها مطلق الماء والماء المطلق فالأول ينقسم إلى الطهور والطاهر غير الطهور والنجس وكل من الطاهر غير الطهور والنجس ينقسم إلى المتغير وغير المتغير والمتغير ينقسم بحسب ما يتغير به ويخرجه ذلك عن أن يقع عليه اسم الماء
والثاني وهو الماء المطلق لا ينقسم إلى هذه الأقسام وإنما يصدق على أحدها وهو الطهور وذلك لا أجد فيه قيد الإطلاق وهو التجرد عن القيود اللازمة التي يمتنع بها أن يقال له ماء إلا مقيدا كقولنا ماء متغير بزعفران أو أشنان أو نحوه وماء اللحم وماء الباقلاء وما أشبه ذلك
ومنها اسم الرقبة وحقيقتها يصدق على السليمة والمعيبة والمطلقة لا يصدق إلا على السليمة ولا يجزئ في العتق عن الكفارة إلا رقبة سليمة لإطلاق الشارع إياها والرقبة المطلقة مقيدة بالإطلاق بخلاف مطلق الرقبة
ومنها الدرهم المذكور في العقود قد يقيد بالناقص والكامل وحقيقته منقسمة إليهما وإذا أطلق تقيد بالكامل المتعارف بالرواج بين الناس ومنها الثمن والأجرة والصداق ونحوها من الأعراض المجعولة في الذمة تنقسم إلى الحال والمؤجل وإذا أطلقت إنما تحمل على الحال فالإطلاق قيد اقتضى ذلك
ومنها حقيقة القرابة يدخل فيها الأب والابن وغيرهما من
____________________
(1/132)
القرابات وعند الإطلاق لا يدخل فيها الأب والابن لأنهما أعلى من أن يطلق فيهما لفظ القرابة لما لهما من الخصوصية المقتضية المزيد على بقية القرابات فيقال إنهما أقرب الأقارب وأفعل التفضيل يستدعي المشاركة فلولا ما قلناه من تحقيق معنى القرابة فيهما لما صدق عليهما أنهما أقرب الأقارب وإنما امتنع إطلاق القرابة عليهما لما يقتضيه الإطلاق من التقييد بالقرابة العامة التي لا مزيد فيها على مجرد القرابة فإن قلت اللفظ إنما وضع لمطلق الحقيقة لا للحقيقة المطلقة فتقييدكم إياه عند الإطلاق بالحقيقة المطلقة من أين قلت قد أورد على ابني عبد الوهاب ذلك وهو الذي حركني لما كتبت وأجبته بإطلاق المتكلم فصار قيدا في اللفظ فإن قلت من المعلوم أنه ليس في اللفظ فهل تقولون إن ذلك قرينة حالية أو لفظية
قلت هو قرينة وهو من قبيل القرائن اللفظية متوسطة بين القرائن الملفوظ بها والقرائن الحالية وهي منه صادرة من المتكلم عند كلامه
وذلك لأن الكلام يخرج عن كونه كلاما بالزيادة والنقصان وقد لا يخرج عن كونه كلاما ولكن يتعين معناه بالتقييد فإنك إذا قلت قام الناس كان كلاما يقتضي إخبارك بقيام الناس جميعهم فإذا قلت إن قام الناس خرج عن كونه كلاما ولكن خرج عن اقتضاء كلام جميعهم إلى قيام من عدا زيدا وقد علمت أن لإفادة قام الناس للإخبار بقيام جميعهم شرطين أحدهما أن لا يبتدئه بما يخالفه
والثاني أن لا يختمه بما يخالفه وله شرط ثالث أيضا وهو أن يكون صادرا عن قصد فلا اعتبار بكلام الساهي والنائم فهذه ثلاثة شروط لا بد منها وعلى السامع التنبه لها
فإن قلت من أين لنا اشتراط ذلك واللفظ وحده كاف في الإفادة لأن الواضع وضعه لذلك
قلت وضع الواضع له معناه أنه جعله مهيئا لأن يفيد ذلك المعنى عند استعمال المتكلم له على الوجه المخصوص والمفيد في الحقيقة إنما هو المتكلم واللفظ دلالة الموضوعة لذلك
فإن قلت لو سمعنا قام الناس ولم نعلم من قائله هل قصده أو لا وهل ابتدأه أو ختمه بما يغيره أو لا هل لنا أن نخبر عنه بأنه قال قام الناس أو لا
قلت فيه نظر يحتمل أن يقال يجوز لأن الأصل عدم الابتداء والختم بما يغيره ويحتمل أن يقال لا يجوز لأن العمدة ليس هو اللفظ ولكن الكلام النفساني القديم بذات المتكلم وهو حكمه
واللفظ دليل عليه مشروط بشروط ولم تتحقق ويحتمل أن يقال إن العلم بالقصد لا بد منه لأنه شرط والشك في الشرط يقتضي الشك في المشروط والعلم بعدم الابتداء أو الختم بما يخالفه لا يشترط لأنهما مانعان والشك في المانع لا يقتضي الشك في الحكم لأن
____________________
(1/133)
الأصل عدمه والمختار عندي أنه لا بد من العلم بالثلاثة ومقصودنا بهذا أن يجعل سكوت المتكلم على كلامه كالجزء من اللفظ فلذلك قلنا إنه من قبيل القرائن اللفظية
فإن قلت هل يشبه هذا ما قاله الشافعي من قول سفيان في حديث وضع الجوائح وقول سفيان كان في الحديث شيء فنسيته وجعل الشافعي ذلك مانعا من الاستدلال على وجوب وضع الجوائح
قلت نعم يشبهه من وجه ويفارقه من وجه وهو أن الحديث تحققنا من قول سفيان إنه كان فيه شيء يقوي احتمال تغيير اللفظ بخلاف ما نحن فيه إذا لم يتحقق نعم لو سمعنا كلام متكلم وفي آخره كلام خفي علينا فهذا نظيره فليس لنا أن نخبر عنه بما سمعناه ولا نشهد عليه به لأن الكلام الخفي الذي التبس علينا قد يكون فيه تغيير لحكم فإن قلت ألستم تقولون إن قام الناس دليل على قيام الناس قلت مجرد هذا القول إذا قبلناه فيه تسمح وإذا أنكرناه قد لا يحتمله من لم يحقق كلامنا والذي نقوله إنه إنما يدل بالشروط الثلاثة
فإن قلت هل يلتفت هذا على ما قيل في حد دلالة اللفظ قلت نعم وقد اختار المتأخرون فيها أنها كون اللفظ بحيث إذا أطلق فهم منه المعنى من كان عالما بوضعه له وهذه دلالة بالقوة
وأما الدلالة بالفعل فهي إفادته المعنى الموضوع وهذا إنما يكون بالشروط الثلاثة التي ذكرناها والأول وهو الذي بالقوة أيضا أخذ فيه هذا الإطلاق والإطلاق قد يراد به الاستعمال
وقد يراد به الاستعمال المقيد بالإطلاق بالشروط التي ذكرناها والدلالة قد تنسب إلى اللفظ وهي إفادته المعنى كما قلناه وقد تنسب إلى المتكلم وهي إفادته ذلك المعنى أيضا باللفظ وأما قول بعضهم هي فهم المعنى فينبغي أن يحمل على أن مراده إفهام المعنى فرجع إلى ما قلناه
والفرق بين الفهم والإفهام ظاهر فإن الفهم صفة السامع والإفهام صفة المتكلم
____________________
(1/134)
أو صفة اللفظ على سبيل المجاز انتهى
مسألة من مصر في شهر المحرم سنة خمس وخمسين وسبعمائة ما يقول السادة الفقهاء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين وعلماء المسلمين الموفقين لهدايته لطاعته والمعانون بعنايته على مرضاته في رجل متوضئ ثم أجنب من غير لمس ولا نوم متكئا وقلتم إنه لا ينتقض وضوءه على الصحيح ثم دخل عليه وقت أداء فريضة ولم يجد الماء وأعوزه بشروطه فتيمم وصلى تلك الفريضة ثم دخل عليه فريضة ثانية وكذا ثالثة وهلم جرا وهو على ذلك الوضوء الأول الذي كان قبل الجنابة فهل له أن يصلي فريضة بذلك الوضوء وينزل التيمم منزلة الغسل أم يحتاج في كل صلاة تيمما وما يكون الجواب عن قول الشيخ محيي الدين رحمه الله في كتاب الأذكار إن الجنب أو الحائض إذا لم يجدا الماء وجاز لهما القراءة فإن أحدثا بعد ذلك لم تحرم عليه القراءة كما لو اغتسل ثم أحدث فما الجواب عن ذلك أفتونا مأجورين
الجواب إذا صلى الجنب المذكور بذلك التيمم فريضة ليس له أن يصلي فريضة أخرى حتى يتيمم تيمما آخر لأن المتيمم لا يجمع بين فريضتين سواء أكان تيممه عن حدث أم جنابة بل يحتاج في كل صلاة مفروضة إلى تيمم وأما قول الشيخ محيي الدين رضي الله عنه المذكور ولا معارضة فيه لذلك لأن التيمم في الجنابة يقوم مقام الغسل كما يقوم في الحدث مقام الوضوء وفي كلا الموضعين قيامه مقامهما في الإباحة لا في رفع الحدث ولا في رفع الجنابة ولم يقل الشيخ محيي الدين إنه يقوم مقام الغسل أو ينزل منزلة الغسل في كل شيء وإنما أراد أنه ينزل التيمم منزلة الغسل في جواز قراءة القرآن بالتيمم كما جازت بالغسل وأن الحدث بعد ذلك لا يؤثر في إباحة التيمم القراءة كما لا يؤثر في إباحة الغسل فيها وبين مسألة الاستفتاء ومسألة الأذكار اشتراك وافتراق فإن المستفتى عنه متوضئ يمنع من الصلاة بجنابته حتى يتيمم ويباح له القرآن بتيممه الأول
والذي في الأذكار جنب لا يحرم عليه القرآن ولا اللبث في المسجد لتيممه ويحرم عليه الصلاة ومس المصحف والسجود لحدثه فاشتركا في إباحة القرآن وافترقا في أن المستفتى عنه يصلي النوافل ويسجد للتلاوة بخلاف المذكور في الأذكار وقد ذكر الجرجاني في الشافعي مسألة الأذكار من النوادر أنه جنب يمنع من الصلاة والسجود ومس المصحف ولا يمنع من اللبث في المسجد وقراءة القرآن وكذا ذكر في المعاياة أنه ليس جنبا لا يمنع من قراءة القرآن ولا
____________________
(1/135)
من اللبث في المسجد إلا واحد وهو جنب تيمم ثم أحدث فإنه لا يمتنع فيما يختص بالجنابة ويمنع فيما يختص بالحدث كما إذا اغتسل ثم أحدث
والصورة التي ذكرها المستفتى قد ترد على الجرجاني ولكن مقصوده يدخل في عمومه وذكر الجرجاني في الشافي إذا تيمم الجنب وأدى الفرض ثم أحدث ثم وجد ما يكفيه للوضوء وقلنا لا يلزمه استعماله فيلزمه أن يتوضأ به للنفل دون الفرض فيباح له النفل دون الفرض فإذا أراد أن يستبيح الفرض تيمم له قال وهذه المسألة شاذة من وجهين وضوء يبيح النفل دون الفرض ومحدث يصح تيممه للفرض دون النفل
وقد قال البغوي ونقله الشيخ محيي الدين عنه في الروضة وعن غيره أيضا إن كان جنبا والجراحة في غير أعضاء الوضوء فغسل الصحيح وتيمم عن الجريح ثم أحدث قبل أن يصلي فريضة لزمه الوضوء ولا يلزمه التيمم وهذا صحيح لأن حكم التيمم باق لأنه لم يصل به إلى الآن فرضا قال وكذا الفرائض كلها يعني التي يتيمم إذا تيمم الجنب لها ثم أحدث قبل أن يفعلها يلزمه الوضوء إذا كانت مما تحتاج إلى الوضوء كالطواف ولا يلزم التيمم يبقى حكم إذا كان قد أدى به ذلك الفرض فإن كان قد أدى به فرضا فلا يشك عاقل أنه لا بد من تيمم آخر لأنه قد عرف من موضع أنه لا يجمع بتيمم واحد بين فرضين
واعلم أن مسألة الأذكار إذا حملت على أنه أحدث بعد التيمم وقبل القراءة لا إشكال فيها فلو كان قد قرأ فالقراءة الثانية هل تكون كالفريضة الثانية حتى يحتاج فيها إلى تيمم آخر أو لأنها كلها كالفرض الواحد وفي جعله كل قراءة فرضا يحتاج إلى إفراده بتيمم لعسر ذلك لأن كل آية فرض فكان يحتاج إلى تيمم لكل آية بل لكل كلام متميز بنفسه من القرآن وإن كان دون آية أو يحتاج إلى ضابط يضبط مقدار ما يعد فريضة من القراءة والظاهر أن القراءة كلها شيء واحد
والذي ينبغي أن يقال في هذا إن القراءة كالنوافل فيستبيح المتيمم بها ما شاء وقد قال الجرجاني إذا تيمم الجنب استباح فعل الصلاة والسجود ومس المصحف وقراءة القرآن واللبث في المسجد يعني أن الصلاة فرض فإذا تيمم لها لعدم الماء أو غيره من الأسباب المبيحة للتيمم استفاد جوازها وجواز كل ما ذكر معها لأنه كنوافل الصلاة وكذلك فيما يغلب ظن الوطء كالحائض لكن القاضي حسين قال إذا تيممت لغشيان الزوج فهو كالتيمم للفرض لأن التمكين واجب عليها وقال مع ذلك إنما لها أن تصلي به فرضا واحدا ولا يجب عليها تجديد التيمم لكل وطأة ونقله البغوي عنه واستشكله وهو معذور في استشكاله والمختار خلافه كما أشرنا إليه وهو الصحيح والله أعلم والحمد لله رب العالمين
____________________
(1/136)
137 كتاب الصلاة مسألة في قوله تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء محبته صلى الله عليه وسلم لأن يوجه إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم ولأن العرب يعظمونها فيرجى إسلامهم بها وهم أكثر من بني إسرائيل ولأن الصلاة إليها أفضل من الصلاة إلى بيت المقدس وينبغي الحرص على أداء العبادات على أبلغ وجوه الكمال وهذه العلة الثالثة لم أجدها منقولة ولكن استنبطتها وإنما قلت إن التوجه للكعبة أفضل لأن الزمن الذي أوجب الله فيه التوجه إليها أطول من الزمان الذي أوجب فيه التوجه إلى بيت المقدس وكل ما كان طلبه أكثر كان أفضل ولأنها ناسخة لبيت المقدس والناسخ أفضل من المنسوخ وعلى هذا نقول صلاة المسلمين اليوم إلى الكعبة أفضل من صلاتهم إلى بيت المقدس حين كان التوجه إليها واجبا وإن كان في وقته فاضلا واجبا وهذا شيء يقتضي الحرص على طلبه مع ما كان صلى الله عليه وسلم يتوقعه من الله تعالى بتحويله إلى الكعبة بخلاف الأحكام المستقرة لا يطلب تغييرها
فإن قلت إذا كان الحرص على التحويل إلى الكعبة طلبا لكمال الصلاة وما فيها من الفضل فلم لا طلب الرجوع إلى مكة لأن الصلاة فيها عندكم أفضل من الصلاة في المدينة قلت أما بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين فلا نقول إن صلاتهم بالمدينة تنقص عن صلاتهم بمكة بل هي مثلها ويحصل لهم الأجر الذي كان يحصل بمكة لأنهم أخرجوا منها كرها فيستمر لهم ذلك الأجر كما قال صلى الله عليه وسلم إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحا مقيما
وهكذا نقول لو أن شخصا من المجاورين في مكة أو المدينة أخرج كرها كانت صلاته في غيرها كصلاته فيها لهذا الحديث
فإن قلت هذا يستمر لكم قبل فتح مكة أما بعد الفتح فقد كان يمكنهم الإقامة بها
قلت المهاجرون تحرم عليهم الإقامة بمكة أكثر من ثلاث لأنهم تركوها لله تعالى وشيء ترك لله تعالى لا يرجع فيه فكانوا في حكم الممنوعين منها فكذلك يجري عليهم ذلك الأجر والله أعلم وهذه المسألة جرت في الميعاد
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه الحمد لله الذي من علينا برسوله وهدانا
____________________
(1/137)
لاتباع سبيله وبين لنا معالم الكتاب والسنة وأوضح لنا طريقا إلى الجنة نحمده وهو المحمود على ما حكم وقضى ونسأله التوفيق لما يحب ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له توحيدا تضمحل عنده شبه التشبيه والتعطيل وأشهد أن محمدا عبده الهادي إلى سواء السبيل صلى الله عليه وسلم وشمل أصحابه بالرضوان وعمم وبعد
فإن أهم أمور المسلمين الصلاة يجب على كل مسلم الاهتمام بها والمحافظة على أدائها وإقامة شعارها وفيها أمور مجمع عليها لا مندوحة عن الإتيان بها وأمور اختلف العلماء في وجوبها وطريق الرشاد في ذلك أمران إما أن يتحرى الخروج من الخلاف إن أمكن وإما أن ينظر ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيتمسك به فإذا فعل ذلك كانت صلاته صوابا صالحة داخلة في قوله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا وإن مما اجتمع فيه هذان الأمران قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام فإنه إذا فعل ذلك صحت صلاته بلا خلاف فإن ابن عبد البر نقل إجماع العلماء على أن من قرأ خلف الإمام الفاتحة فصلاته تامة ولا إعادة عليه وكفى بهذا ترجيحا لمن يقصد الاحتياط لصحة صلاته فإنه إذا ترك القراءة خلف الإمام اختلف العلماء هل صلاته صحيحة أم باطلة في السرية والجهرية معا وقد رويت آثار كثيرة في القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية معا عن الصحابة والتابعين وآثار أخرى في السرية والجهرية وأما الآثار في تركها في السرية والجهرية فقليلة ومن أراد الوقوف على آثار الصحابة والتابعين في ذلك فليطالع كتاب القراءة خلف الإمام للبخاري ولو سلمنا صحة الآثار في تركها في السرية والجهرية ومساواتها للآثار الأخرى فهي معارضة بها وحينئذ نرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان كلامه كله شفاء وهدى بأبي هو وأمي فما أحسن ما قال ابن عباس رضي الله عنه ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ هذه الكلمة من ابن عباس مجاهد وأخذها منهما مالك رضي الله عنه واشتهرت عنه ووجدنا الدليل الصحيح من السنة والنظر يقتضي وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام أما السنة فما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الصبح فنقلت عليه القراءة فلما فرغ قال لعلكم تقرءون وراء إمامكم قلنا نعم هذا يا رسول الله قال لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها
رواه أبو داود والترمذي والدارقطني والبيهقي وقال الترمذي حديث
____________________
(1/138)
حسن
وقال الدارقطني إسناده صحيح
وقال الخطابي إسناده جيد لا مطعن فيه وقال البيهقي صحيح
قلت وغاية ما اعترض به المخالفون على هذا الحديث أنه من رواية ابن إسحاق وهو مدلس وجوابه من وجهين أحدهما أن الدارقطني والبيهقي روياه بإسنادهما عن ابن إسحاق قال حدثني مكحول بهذا فذكره قال الدارقطني في إسناده هذا إسناد حسن
الثاني أن البخاري في كتاب القراءة روى هذا الحديث عن هشام عن صدقة بن خالد عن زيد بن واقد عن حرام بن حكيم ومكحول فهذا إسناد صحيح إلى مكحول ليس فيه ابن إسحاق بالكلية ولا من فيه مطعن ولفظ حديثه عن أبي ربيعة عن عبادة صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقرآن فقال لا يقرأن أحدكم إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن
وهذا نص صريح وهو الذي قبله يدفع جميع شبه المخالفين لوجوه منها تصريحه بالجهرية وإذا ثبت ذلك في الجهرية فالسرية أولى ومنها تصريحه بأنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها وهو يدل في هذا السياق على القطع بدخول المأموم في ذلك ومنها أن جميع أدلة المخالفين إذا دلت عمومات ليس فيها قط نص خاص أن المأموم يترك الفاتحة في جميع الركعة بل هي عامة في المقروء في محله وأدلتنا خاصة فيجمع بينها ويجعل المراد أنه لا يقرأ ما زاد على الفاتحة وأما الاستدلال بقوله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا وقوله صلى الله عليه وسلم وإذا قرأ فأنصتوا فهو من الأدلة العامة والجمع بينها بما تقدم وأيضا فإن للإمام سكتات إذا أمكن المأموم قراءة الفاتحة فيهن كان أولى ليجمع بين الاستماع والقراءة جمعا بين الأدلة ولهذا قال سعيد بن جبير إنهم قد أحدثوا ما لم يكن يصنعونه يعني من ترك هذه السكتات فإن تهيأ له ذلك وكان للإمام سكوت فلا يعارض وإن لم يتفق فيبقى البحث المتقدم وهو أن الآية عامة ودليلنا خاص فيجمع بينهما وأيضا فإنا اتفقنا على أن الأمر بالفاتحة في الصلوات للوجوب والأمر بالاستماع والإنصات ليس في رتبته فلو تحقق التعارض لكان تقديم ما اتفق على وجوبه أولى هذا مع أن العلماء اختلفوا في تفسيرها فقال جماعة إنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت وعلى هذا يكون المراد بها المنع من كلام الآدميين لا من قراءة القرآن وكيف يقال إن من قرأ القرآن يمتنع على غيره أن يقرأ القرآن أيضا وتهويل المخالف بما قيل من الإجماع على أنها نزلت في الصلاة إن صح لا ينافي ذلك
ولو سلمنا أن المراد الأمر بالإنصات عند القراءة فهو عام يحمل على
____________________
(1/139)
الزائد عن الفاتحة جمعا بين الأدلة وأيضا فالقياس على جميع أركان الصلاة وواجباتها لا فرق فيه بين الإمام والمأموم فكما لا يتحمل الإمام قياما ولا قعودا ولا ركوعا ولا سجودا ولا غيرها من واجبات الصلاة فكذلك لا يتحمل الفاتحة فإذا صح قوله صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب وذلك من الأحاديث المتفق عليها وقام الدليل على أن المراد الإتيان بها في كل ركعة ولم يفترق الحال بين أن يكون مأموما أو غيره
ومن الدليل على تعين الفاتحة في الركعة ما رواه البخاري في كتاب القراءة عن يحيى بن بكير ثنا عبد الله بن سويد عن عياش عن بكير بن عبد الله عن علي بن يحيى عن أبي السائب عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال صلى رجل والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فلما قضى صلاته قال ارجع فإنك لم تصل فقام الرجل فصلى فلما قضى صلاته قال له النبي صلى الله عليه وسلم ارجع فصل ثلاثا قال فحلف له لقد اجتهدت فقال ابدأ فكبر تحمد الله وتقرأ أم القرآن ثم تركع يطمئن صلبك فما انتقصت من هذا فقد انتقصت من صلاتك وليس هذا موضع الاستدلال لوجوبها في كل ركعة فإنا إنما نتكلم الآن في قراءتها للمأموم بعد تقرير ذلك
وأما حديث أبي بكرة الذي أتى والنبي صلى الله عليه وسلم راكع وأحرم وركع دون الصف فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم زادك الله حرصا ولا تعد فإن قوله لا تعد يحتمل أن يكون نهيا عن الإحرام دون الصف أو عن الركوع من غير قراءة الفاتحة فإن كان الثاني فهو دليل لعدم سقوطها عن المسبوق وقد قال علي بن المديني ثم البخاري إنما أجاز إدراك الركوع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والذين لم يسروا القراءة خلف الإمام فأما من رأى القراءة فإن أبا هريرة قال اقرأ بها في نفسك
قلت وروي عن عائشة وأبي سعيد لا يركع أحدكم حتى يقرأ بأم القرآن وممن ذهب إلى أنها لا تسقط عن المسبوق ويحتاج إلى أن يأتي بخامسة بعد أن يركع مع الإمام الركوع الذي أدركه أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة وأبو بكر أحمد بن إسحاق الضبعي وكلاهما من أصحابنا وكأنهما جمعا بذلك بين الدليل المقتضي لوجوب الفاتحة في كل ركعة وبين قوله فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وهو أقوى المذاهب دليلا وجمهور الشافعية القائلين بوجوب الفاتحة قالوا بسقوطها عن المسبوق إذا أدرك الركوع ويعتد له بتلك الركعة وكأنهم حملوا قوله لا تعد الإحرام دون الصف مع كون المراد به التنزيه عندهم فإن صح ذلك مع ما ورد من أن من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة كان ذلك
____________________
(1/140)
مخصصا للدليل الدال على قراءة الفاتحة للمأموم في كل ركعة ويبقى فيما عدا هذه الصورة على مقتضى الدليل وإن لم يصح اتجه مذهب الموجبين لقراءة الفاتحة على المسبوق وعلى كل تقدير فالقراءة للمأموم في غير هذه الحالة لا مرية فيها
واعلم أن ما من أحد من الصحابة والتابعين نقل عنه ترك القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية معا إلا اختلف عليه فروي عنه ضد ذلك حتى أن ابن عبد البر استثنى من ذلك جابر بن عبد الله ظانا أنه لم يختلف عليه في ترك القراءة ووجدت أنا النقل عنه بخلاف ذلك وقصدت أن أثبت في هذا الموضع الآثار في ذلك وأذكر العدد الكثير الذين قالوا بالقراءة ثم تركته لما أشرت إليه أولا من الاعتماد على الأدلة الصحيحة الراجحة والخروج من اختلاف العلماء وغاية ما في الباب إذا قرأ أن يكون قد ارتكب مكروها عند بعضهم مع صحتها عند جميعهم إذا ترك القراءة كان قد فعل مستحبا عند بعضهم وحراما مبطلا عند الباقين ولا شك أن الأول أولى لو لم يظهر لنا وجه الدليل فكيف وقد ظهر وإن ذلك هو الحق الذي لا معارض له أو يساويه أو يدانيه لمن أنصف واستعمل الأدلة على قواعد العلم المستقيمة نسأل الله أن يجعلنا ممن يطلب العلم ابتغاء وجهه ويوفقنا للعمل الصالح ويسدد أقوالنا وأفعالنا ويخلص نياتنا ويرزقنا حسن الخاتمة في خير وعافية بلا محنة ويجمع بيننا وبين نبينا صلى الله عليه وسلم في دار كرامته ومن يحبه
كتبه علي بن عبد الكافي السبكي في يوم السبت ثالث عشر جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبعمائة بمنزلنا بالمقسم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم حسبنا الله ونعم الوكيل
فائدة قال الغزالي في نية الصلاة هي بالشروط أشبه
وهذا ليس تصريحا بخلاف بل يحتمل أن يكون مراده أنها ركن يشبه الشرط
واعلم أن الفعل المجرد لا أثر له في نظر الشرع في العبادة وإنما يصير عبادة بالنية والنية فيها أمران أحدها قصد الناوي والثاني في الذي ينشأ عن ذلك القصد فذلك الأمر الناشئ الذي يكسب الفعل صفة العبادة وهو كون الفعل واقعا على وجه الامتثال هو ركن بلا شك وهو مع الفعل كالروح مع البدن قصد الناوي إلى ذلك خارج لأن القصد إلى الشيء عين الشيء فمن هنا أشبه الشرط ولهذا اشتبه الأمر في كونها ركنا أو شرطا وصح أن يقال هي ركن باعتبار ذلك المعنى المتقدم للفعل المساوي له المصاحب له من أوله إلى آخره فهو روحه وقوامه وصح أن يقال شرط لذلك القصد القائم بذات الناوي فهما أمران أحدهما قائم بذات الناوي
____________________
(1/141)
صفة للفعل فالأول شرط والثاني ركن ولا نعتقد أن الناوي يقصد الفعل المجرد وإنما يقصد الفعل بوصف كونه مطلوبا للرب وذلك الفعل يكتسب من ذلك الوصف صفة ينصبغ بها كما ينصبغ الثوب فالثوب المصبوغ صبغه جزء منه والصبغ الذي هو فعل الفاعل خارج عنه وشرطه فيه كتلك العبادة
وتأمل إذا قلت قمت إجلالا لك كيف صار القيام مكتسبا صفة الإجلال ولولاها لم يكن إلا مجرد نهوض فيؤثر القيام ويقوم بالإجلال وأشبه نثرية الروح والبدن فالقيام هو البدن والإجلال هو الروح والقصد في ما كنفخ الروح في البدن ومن تأمل هذا المعنى لم يخالجه شك في أنها ركن مقارنة للفعل مقومة له داخلة في ماهية العبادة التي هي مجموع الفعل المنوي وليست المقارنة خاصة بالتكبير فأريد من مقارنة ركوبه والمقادير الحكمية حاصلة في جميع الصلاة ألا ترى أن القيام إجلالا الإجلال مقارن دائم معه وإن وصفناه بالخروج عن الماهية في التعقل فهو من جهة بغير جهة وهو معه كالفاعل والمنفعل إذا نظرت إلى الفعل وجدت لها خروجا من وجه
فائدة سألت في يوم السبت خامس عشر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة عن العلة في النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود
فقلت الصلاة تشتمل على التوجه وهو المقصود لقول المصلي وجهت وجهي ثم قراءة القرآن وهو عبادة مقصودة في نفسها والقيام ليس عبادة لمجرده لأنه معتاد بل قصد التوجه وقراءة القرآن فإذا فرغ منه ركع خضوعا لله فالركوع عبادة مقصودة فلذلك لم يقرأ فيه القرآن لأن عبادة لا تدخل عليها عبادة والدعاء الذي فيه إنما هو تحقق لمعناه لقوله لك ركعت إلى آخره والسجود كذلك وهو أكمل خضوعا والدعاء الذي فيه من قوله سجد وجهي تحقق لمعناه
فهذه العبادات الثلاث القراءة والركوع والسجود هي مقاصد الصلاة التي هي كلها توجه محض فلما فرغت ختمت بالتشهد في القعود الذي هو كالقيام في كون كل منهما معتادا ليست هيئاته من هيئات العبادة فجعل فيه الثناء على الله ثم السلام على عباده الصالحين كأن المصلي كان متجردا عن هذا العالم مقبلا على الله سبحانه بكليته فعندما قارب العود إلى حسه وإلى أبناء جنسه سلم على عباد الله الصالحين ثم ختم بالسلام لأن الغائب إذا قدم يسلم فلما كان غائبا في الصلاة وفرغ سلم على الصالحين عنده من الملائكة والجن والإنس
استفتاء الشيخ فرج أما بعد فإن السادة الفقراء بلغهم الله من فضله وكرمه أمانيهم قد اشتدت
____________________
(1/142)
رغبتهم في الكلام على مسائل من بعض السادات الفقهاء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين فإن حسن برأي مولانا قاضي القضاة أسبغ الله عليه نعمه ورادف لديه فضله وكرمه أن يجيبهم عنا فينتفعوا ويبقى له عندهم تذكرة لتدوم أدعيتهم الصالحة له ولذريته فليشرف بخطه الكريم في ورقة مستقلة بالكلام على خمس مسائل إحداها أن من قال مثلا إن نحو سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله ثلاثا وثلاثين والله أكبر ثلاثا وثلاثين عقيب كل صلاة الأولى فيه مراعاة التفصيل دون الإجمال لما في التفصيل من الرسوخ والبسط الشارح للصدر مثل التفصيل بأن قال يأخذ المسبح أحد عشر معنى فيلمح واحدا منها في ثلاث ثم آخر في ثلاث وهكذا فيقول سبحان الله أي عن تجدد الأجسام وتقدرها ثلاثا ثم سبحان الله أي عن تحيز الأجسام وتماثلها ثلاثا ثم سبحان الله أي عن اضطرار الأعراض وعدم استقلالها ثلاثا ثم سبحان الله أي عن أن يكون له ضد ثلاثا ثم سبحان الله عن أن يتصف بصفة نقص أو آفة ثلاثا ثم سبحان الله عن أن يخلو عن صفة كمال ثلاثا ثم سبحان الله عن أن يكون في صفاته نقص تصور ما ثلاثا ثم سبحان الله عن أن يكون في ملكه نقص ما ثلاثا ثم سبحان الله عن أن يكون لسنته في الدنيا والآخرة تبديلا ثلاثا وكذلك الحامد فيلمح صفات الجلال والكمال ويقول الحمد لله ثلاثا ثم يلمح أجل النعم وهو خلق العقل فيحمد ثلاثا ثم يلمح آلات العقل المركبة في البدن فيحمد ثلاثا ثم ما يحتاجه البدن من العلويات كالسماء وكواكبها وشمسها وقمرها فيحمد ثلاثا ثم ما يحتاجه من السفليات كالأرض ونباتها وحيوانها ومعادنها فيحمد ثلاثا ثم يلمح منة الله في نصب الأشياء دالة عليه سبحانه في الاعتناء بتنبيهه على ذلك بكتب منزلة فيحمد ثلاثا ثم في جعل بشر من جنس ما ألفه يلقي إليه ذلك بسهولة ويبين له ما يدق عن فهمه فيحمد ثلاثا ثم في تنوير قلبه لفهم ذلك وإيقاظه له فيحمد ثلاثا ثم في توفيقه لامتثال ما يفهمه من الشرع الميسر فيحمد ثلاثا في صيرورته حنيفا مسلما من لا يحصي أحد ثناء عليه فيحمد ثلاثا وكذلك المكبر يلمح معنى أنه سبحانه أكبر من أن يدرك أو يحصى ثناء عليه فيكبر ثلاثا ثم يلمح ما قد يقع من العصيان فيكبر الله عن أن يليق به ذلك ثلاثا ثم يلمح جميل ستره فيكبر ثلاثا ثم عجيب حكمه فيكبر ثلاثا ثم كونه لا حول له عن معصيته إلا به فيكبر ثلاثا ثم يتعجب من العاصي كيف لا يتوب فيكبر ثلاثا ثم من شدة بطشه وانتقامه آخرا فيكبر ثلاثا ثم من شدة قبوله التوبة عن عباده سبحانه
____________________
(1/143)
فيكبر ثلاثا من عفوه تارة وإن لم يقع توبة فيكبر ثلاثا هل قوله صحيح أم لا وهل تمثيله جيد أم لا وهل منال غيره أجود منه فيذكر ضمنا أو لا الثانية أن إماما يحرم بالفرض فيحرم خلفه إجماعا ثم إنه شك في أنه أتى بالنية كاملة أو أخل ببعض ما يجب فيها فبطلت صلاته والتفت إلى الجماعة وقال بطلت هذه النية فبطلوا صلاتهم ثم أحرم الإمام فأحرموا فقال شخص منهم صحيحة فلا يجوز تبطيلهم صلاتهم مع أنها فرض فأمرهم بذلك يكون حراما ولكن الأولى في مثل هذا أن يجدد هو التحريم ساكتا عنهم فلما فعل ذلك صاروا يبطلون صلاتهم متى سمعوه كبر ثانيا فقال له الشخص كبر بحيث تسمع
فهل هذا صحيح أم لا وبتقدير صحته فهم غير عالمين بالحال فنية اقتدائهم الأولى هل تكفيهم استصحابا كما هو الظاهر فلا تجب في أعمالهم أو لا الثالثة أن البر لا توجد فيه دراهم خالصة ولا ذهب والفضة المغشوشة معلوم أمرها في الرواج فهل يكون ذلك مسوغا للمعارضة لأنه إذا ضاق الأمر اتسع أو يحمل على ما صححوه من عدم الجواز مطلقا
الرابعة أن النحل يباع بالكوارة بما فيها من شمع وعسل مجهول القدر والصفة ولا يقع في مبايعات الناس كلهم غير ذلك فهل الضرورة إلى مثله وعموم البلوى به تجعل البيع صحيحا أو لا وعسل الناس كله حلالا الخامسة أن المتعبد بمذهب الشافعي مثلا هل يحل له أن يقلد في بعض المسائل غيره أو لا وما معنى قول ابن الحاجب إنه بعد العمل لا يجوز اتفاقا والمانع من تتبع الرخص هل هو صحيح بعد كون التقليد طريقا شرعيا أو لا الحمد لله أجاب تغمده الله برحمته قد تأملت هذه المسائل الخمس التي سأل عنها ساداتي الفقراء نفعنا الله بهم ورضي عنهم فأما المسألة الأولى في الذكر فالذي يظهر لي فيه اختيار الإجمال دون التفصيل أعني تفصيل الصفات التي يسبح عنها والتي يحمد عليها وما يكبر عنه لأني وجدت التسبيح والتحميد والتكبير في جميع المواضع التي وردت في القرآن والسنة كذلك مطلقة إلا في قوله عما يصفون و عما يشركون و أن يكون له ولد وهو معنى غير ذات الولد غير نقائص لله تعالى الله عن جميع ذلك علوا كبيرا وتلك النقائص أحقر وأذل من أن تحضر في القلب مع الرب وإنما تستحضر على وجه كلي لضرورة التسبيح عنها وقد لا يحتاج لاستحضارها لاستغراق القلب في عظمة الرب وتعاليه وخلافه فلا يلتفت إلى تلك النقائص ألبتة وانظر إلى السنة لما فصلت في قوله سبحان الله
____________________
(1/144)
عدد خلقه وزنة عرشه ورضا نفسه ومداد كلماته كيف نص على صفات التسبيح في نفسه وأشار إلى هذه المطالب الأربعة التي فيه من كثرة إفراده لأن عدد الخلق فيما كان ويكون لا يتناهى وكبر مقداره لأن العرش أكبر المخلوقات وإذا أخذ بما فيه من المخلوقات التي كانت وستكون لا تتناهى وشرف نوعه حتى يكون رضا الله تعالى ودوامه بلا نفاد لأن كلمات الله تعالى لا نفاد لها ولم يتعرض للنقائص التي يسبح عنها مستحقرا لها من أن تمر بحضرة الجلال أو تخطر عند مشاهدة الكمال والشيخ في تربية المريد يريد أن يجذبه من الأغيار إلى الحضرة القدسية ويشغله عن نفسه بالصفات الآلهية مهما أمكنه فكيف نشغله عن الفضائل بالرذائل ويكفي في تحقيق المقصود محاربة ما ألفه منها بطبع البشرية والذكر يرقيه عن ذلك ويجرده إلى جهة الصمدية وهذا الذي يظهر للعبد الضعيف في ذلك ومع ذلك فلكل قلب فتح تشرق منه أنواره وتتجلى به أستاره فمن وجد ذلك في شيء فليلزمه إلى أن يترقى إلى ما هو أكمل منه وأجل الأذكار أذكار القرآن فينبغي لنا أن نتأسى بها ولم يجئ فيها المسبح عنها إلا في نحو ما ذكرناه ولم يجئ فيها في الحمد على كذا ولا في التكبير على كذا بل أطلق لتناول الجميع
وأما المسألة الثانية فإذا شك في النية فإن لم يطل زمان الشك ولا أتى بركن فيه بل تذكرها على الفور لم تبطل صلاته ولم يكن له أن يخرج إذا كانت فرضا وإن طال أو أتى بركن بطلت صلاته وبطلانها يحتمل أن يكون بعد انعقادها إن كانت النية حصلت في نفس الأمر ويحتمل أن يكون من أصلها إن لم تكن النية حصلت والأصل يعضده فليكن هو الأرجح هنا عند عدم التذكر وعلى التقدير الأول تكون صلاة المأمومين انعقدت جماعة وعلى التقدير الثاني تكون صلاتهم انعقدت عندنا كصلاتهم خلف المحدث وهل هي في جماعة أو فرادى وجهان عندنا حكاهما صاحب التتمة أقربهما إلى ظاهر المنقول عن الشافعي أنها جماعة وأقواهما عندي أنها فرادى والذين قالوا إنها جماعة استندوا إلى حديث رواه ابن ماجه بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة وكبر ثم أشار إليهم فمكثوا ثم انطلق فاغتسل وكان رأسه يقطر ماء فصلى بهم فلما انصرف قال إني خرجت إليكم جنبا وإني نسيت حين قمت إلى الصلاة
وهذا حديث ضعيف والصحيح ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف حتى إذا قام في
____________________
(1/145)
مصلاه انتظرناه أن يكبر فانصرف وقال على مكانكم فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا تنطف رأسه ماء وقد اغتسل هذا الحديث هو الصحيح وحينئذ لا دليل على حصول الجماعة للمصلي خلف المحدث بل صحة أصل الصلاة خلف المحدث اختلف العلماء فيها ومذهبنا صحتها والروياني استند في صحتها إلى الحديث وقد تبين أنه ضعيف فالقول بعدم الإعادة ينبغي أن يؤخذ من دليل آخر وذلك الدليل لا يستمر في الجماعة لأن حقيقة الجماعة إمام ومأموم فيستحيل وجود جماعة بلا إمام نعم إن قيل يحصل لهم أجر لقصدهم فنعم إذا عرف ذلك فهؤلاء المأمومون قد انعقدت صلاتهم عند الشافعي ولم تنعقد عند غيره ممن لا يرى صحة الصلاة خلف المحدث والمشهور عند الشافعية إنهم لا يجوز لهم الخروج من الفرض في أول الوقت فلم يكن لهؤلاء خروج عند الشافعي
فالإمام إن جدد النية وكبر بحيث لا يسمعه المأمومون فالظاهر أن لا تحصل لهم الجماعة لأن نية الاقتداء الأولى ما صحت على ما اخترناه في الصلاة خلف المحدث وتكبيره الثاني لم يعلموا به حتى ينشئوا إليه اقتداء فتفوتهم الجماعة إلا على الوجه القائل بفضيلة الجماعة للمصلي خلف المحدث فيكفي ذلك إن جعل الإمام بإحرامه ثانيا كالخليفة وفيه فقه أيضا لأن الخليفة تابع والإمام بإحرامه ليس تابعا لنفسه ولا إمامته مبنية على إمامة منعقدة حتى يجعل المأمومون حائزين عليها بل هو إمام جديد ظنوه إماما فمن هذا النظر نتوقف في حصول الجماعة لهم أيضا ويتبين بهذا أنه لا يقال الأولى له أن يكبر سرا وإن كبر بحيث يسمعونه ولم يرشدهم إلى ما يفعلون فقد يتخبطون لأن فيهم عوام لا يعرفون الأحكام وإن أرشدهم قبل تكبيره إلا أنهم ينشئون نية الاقتداء بعد تكبيره ثم كبر وفعلوا ذلك كان فيهم الخلاف في نية الاقتداء في أثناء الصلاة فالحاصل على كل تقدير أن هؤلاء صلاتهم مختلف فيها أبو حنيفة ومالك يقولان باطلة والشافعي يقول صحيحة وعنده خلاف أيضا في إنشاء القدوة وفي أثناء الصلاة وفي كونها جماعة أو فرادى وإن أخرجوا أنفسهم من الصلاة ثم أحرموا كانت صلاتهم صحيحة جماعة عند الجمع وكان ما فعلوه عند الخروج مختلفا في تحريمه فإذا فعلوا ذلك تقليدا لمن يقول ببطلان الصلاة قاصدين بذلك تحصيل الصلاة على الوجه الأكمل المجمع عليه رجوت أن يكون ذلك جائزا وأن يكون من أحسن التقليد الذي لم يقصد به الترخص بل الاحتياط وبهذا تبين أن أمر هذا الإمام لهم بتبطيل نيتهم ليس حراما مجمعا عليه ولا عندي إذا قصد به ما قلته بل هو الأولى ويؤجر عليه إن شاء الله إذا لم يغفل عن التقليد الذي أشرت إليه وإن
____________________
(1/146)
قصد الحق في الجملة ولم يحضر في قلبه التقليد أرجو له ذلك إن شاء الله تعالى
وأما المسألة الثالثة فالمختار عندي جواز القرض على هذه الدراهم المغشوشة
وأما المسألة الرابعة فبيع النحل في الكوارة وخارجها بعد رؤيته صحيح وقبل رؤيته يخرج على قولي بيع الغائب وبيع ما فيها من عسل وشمع بعد رؤيته صحيح وقبلها يخرج على قولي بيع الغائب وبيع الغائب قد صححه أكثر العلماء واتباعهم في مثل هذا للفقير لا بأس به لثلاثة أمور أحدها أنه قول أكثر العلماء والثاني أن الدليل يعضده والثالث احتياج غالب الناس إليه في أكثر الأمور التي يحتاج إلى شرائها من المأكول والملبوس فالأمر في ذلك خفيف إن شاء الله تعالى والأمور إذا ضاقت اتسعت ولا يكلف عموم الناس بما يكلف به الفقيه الحاذق النحرير
وأما المسألة الخامسة فالمتعبد بمذهب الشافعي أو غيره من الأئمة إذا أراد أن يقلد غيره في مسألة فله أحوال إحداها أن يعتقد بحسب حاله رجحان مذهب ذلك الغير في تلك المسألة فيجوز اتباعا للراجح في ظنه الثانية أن يعتقد رجحان مذهب إمامه أو لا يعتقد رجحانا أصلا ولكن في كلا الأمرين أعني اعتقاده رجحان مذهب إمامه وعدم الاعتقاد للرجحان أصلا بقصد تقليده احتياطا لدينه وما أشبه ذلك مما تقدم تمثيله فهو جائز أيضا وهذا كالحيلة إذا قصد بها الخلاص من الربا كبيع الجمع بالدراهم وشراء الخبيث بها فليس بحرام ولا مكروه بخلاف الحيلة على غير هذا الوجه حيث نحكم بكراهتها
الثالثة أن يقصد بتقليده الرخصة فيما هو محتاج إليه لحاجة حاقة لحقته أو ضرورة أرهقته فيجوز أيضا إلا أن يعتقد رجحان إمامه ويعتقد تقليد الأعلم فيمتنع وهو صعب والأولى الجواز
الرابعة أن لا تدعوه إلى ذلك ضرورة ولا حاجة بل مجرد قصد الترخص من غير أن يغلب على ظنه رجحانه فيمتنع لأنه حينئذ متبع لهواه لا للدين
الخامسة أن يكثر منه ذلك ويجعل اتباع الرخص ديدنه فيمتنع لما قلناه وزيادة فحشه
السادسة أن يجتمع من ذلك حقيقة مركبة ممتنعة بالإجماع فيمتنع
السابعة أن يعمل بتقليده الأول كالحنفي يدعي بشفعة الجوار فيأخذها بمذهب أبي حنيفة ثم تستحق عليه فيريد أن يقلد الشافعي فيمتنع منها فيمتنع لتحقق خطئه إما في الأول وإما في الثاني وهو شخص واحد مكلف
وهذا التفصيل وذكر هذه المسائل السبع حسب ما ظهر لنا وقول الشيخ سيف الدين الآمدي وابن الحاجب رحمهما الله إنه يجوز قبل العمل
____________________
(1/147)
لا بعده بالاتفاق دعوى الاتفاق فيها نظر وفي كلام غيرهما ما يشعر بإثبات خلاف العمل أيضا وكيف يمتنع إذا اعتقد صحته ولكن وجه ما قالاه أنه بالتزامه مذهب إمام يكلف به ما لم يظهر له غيره والعامي لا يظهر له بخلاف المجتهد حيث ينتقل من إمارة إلى إمارة هذا وجه ما قاله الآمدي وابن الحاجب ولا بأس به لكني أرى تنزيله على الصورة التي ذكرتها ونزيد الامتناع على ما صرحت فيه بالامتناع وإن لم يكن ذلك منقولا بالمنقول وتحقيقه قد يشهد له والله أعلم
ومما يبين لك ذلك أن التقليد بعد العمل إن كان من الوجوب إلى الإباحة ليترك كالحنفي يقلد في أن الوتر سنة أو من الحظر إلى الإباحة ليفعل كالشافعي يقلد في أن النكاح بغير ولي جائز فأنت تعلم أن المتقدم منه في الوتر هو الفعل وفي النكاح بلا ولي الترك وكلاهما لا ينافي الإباحة واعتقاد الوجوب أو التحريم خارج عن العمل وحاصل قبله فلا معنى للقول بأن العمل فيهما مانع من التقليد وإن كان بالعكس بأن كان يعتقد الإباحة فقلد في الوجوب أو التحريم فالقول بالمنع أبعد وليس في العامي إلا هذه الأقسام نعم المفتي على مذهب إذا أفتى بكون الشيء واجبا أو مباحا أو حراما على مذهبه حيث يجوز للمقلد للإفتاء يحسن أن يقلد ليس له أن يقلد غيره ويفتي بخلافه لأنه حينئذ محض تشبه اللهم إلا أن يقصد مصلحة دينية فنعود إلى ما قدمناه ونقول بجوازه كما روي عن ابن القاسم أنه أفتى ولده في نذر الحاج بمذهب الليث والخلاص بكفارة يمين
وقال له إن عدت لم أفتك إلا بقول مالك يعني بالوفاء على أنا إن حملنا قول ابن القاسم هذا على أنه كان يرى التخيير فله أن يفتي بكل منهما إذا رآه مصلحة والمقلد لا يمتنع عليه ذلك وإن لم يرد التخيير إذا قصد مصلحة دينية وأما بالتشهي فلا والله أعلم
أجاب بذلك رضي الله عنه في العشرين من شهر رمضان المعظم من سنة ست وأربعين وسبعمائة بدار الحديث الأشرفية بدمشق المحروسة
مسألة في رجل أخرج صلاة فرضا لا تجمع عن وقتها عالما ذاكرا بنية أن يقضيها في وقت آخر فهل يقول أحد من الأئمة بكفره أم لا أفتونا مأجورين
أجاب من أصحابنا من يقول بقتله والأصح أنه لا يقتل ما لم يطلب منه فيمتنع وقد اختلفوا في قتله هل هو حد أو كفر فيلزم بذلك قول يكفره والله أعلم
مسألة تفقهت فيها ولم أجدها منقولة الكافر إن جن قبل البلوغ كان القلم مرفوعا عنه وإن جن بعد البلوغ والكفر لم يرتفع عنه القلم لأن رفع القلم عن المجنون بعد ثبوته رخصة والكافر ليس من أهل الرخصة ويشهد لهذا من
____________________
(1/148)
كلام الأصحاب قولهم إن المرتد تقضى الصلوات له في حال الجنون وينشأ من هذا أن من ولد كافرا ولا أقول كافرا بل بين كافرين بحيث حكم له بالكفر الظاهر وجن قبل بلوغه واستمر كذلك حتى صار شيخا ومات على حاله دخل النار أعاذنا الله منها والله أعلم
كتبته ليلة الخميس ثالث عشري المحرم سنة تسع وأربعين وسبعمائة بالعادلية
مسألة المصلي إذا أخبره عدد التواتر بأنه صلى أربعا ولم يتذكر أو الحاكم إذا أخبروه عن حكمه أو الشاهد إذا أخبروه كذلك فالذي يظهر في الشاهد أنه لا يتبعهم لأن الشاهد إنما يشهد عن حسه وأما الحاكم والمصلي ففيهما نظر والفرق بين العلم المستفاد عن التذكر والعلم المستفاد عن التواتر أن الأول بلا واسطة فهو كالشيء المشاهد والثاني بواسطة الخبر فالمعلوم غيب وقوله صلى الله عليه وسلم وليبن على ما استيقن محتمل لأن يراد به الأول أو كلاهما والله أعلم
مسألة في عورة المبعضة والنظر إلى المبعضة قال الرافعي وحكم المكاتبة والمدبرة والمستولدة ومن بعضها رقيق حكم الأمة وعلى ذلك جرى النووي في الروضة فقال وإن كانت أمة أو مكاتبة أو مستولدة أو مدبرة أو بعضها رقيق فثلاثة أوجه أصحها عورتها كعورة الرجل والثاني كعورة الحرة إلا رأسها فإنه ليس بعورة والثالث ما ينكشف في حال خدمتها وتصرفها كالرأس والرقبة والساعد وطرف الساق فليس بعورة وما عداه عورة وسبقهما إلى ذلك الروياني فقال في الحلية حكم أم الولد والمكاتبة والمدبرة والمعتق نصفها كحكم الأمة في العورة وكذا المتولي قال من نصفها حر ونصفها رقيق في السترة حكم الأرقاء لأن وجوب ستر الرأس من أمارات الحرية وعلامات الكمال وهي باقية على حكم الرق في أحكام الكمال بدليل أنه لا يثبت لمن بعضه رقيق الولايات والشهادات والمواريث وغيرها وقال ابن يونس ومن نصفها رقيق ونصفها حر بمنزلة الحرة على ظاهر المذهب وقال ابن أبي عصرون في الانتصار ومن بعضها حر بمنزلة الحرة على ظاهر المذهب لما في ذلك من الاحتياط في الأحكام وقال الشاشي في الحلية ومن نصفها حر ونصفها رقيق بمنزلة الحرة على ظاهر المذهب
قال الشيخ الإمام رحمه الله قال إمام الحرمين ولو دخل بلدة مطروقة أو قرية مطروقة غير مكة والمدينة فيها محراب متفق عليه لم يشتهر فيه مطعن فلا اجتهاد له مع وجدان ذلك فإنه في حكم اليقين ولو ازداد بصيرة إن تيامن بالاجتهاد
____________________
(1/149)
قليلا أو تياسر فظاهر المذهب أنه يسوغ ذلك
وسمعت شيخي حكى فيه وجها أنه لا يجوز كما ذكرناه في مكة والمدينة ومن قال يتيامن أو يتياسر يلزمه أن يقول حق على من يرجع إلى بصيرة إذا دخل إلى بلدة أن يجتهد في صواب القبلة فقد يلوح له أن التيامن وجه الصواب وهذا إن ارتكبه مرتكب ففيه تعد ظاهر والعلم عند الله وتفصيل القول في التيامن والتياسر مع اعتقاد اتحاد الجهة يتبين بأمر نذكره بعد ذلك
قلت استبعاد الإمام فيه نظر قد يقال به من جهة أن القادر على الاجتهاد لا يجوز له التقليد واعتماد المحاريب المنصوبة في البلاد تقليد فلا يجوز مع القدرة على الاجتهاد وقد لا يقال به ويفرق بين التقليد هنا والتقليد في غيره فيجوز مثل هذا التقليد ولا يكلف الاجتهاد وهذا ما لم يجتهد أما بعد اجتهاده وظهور الحق له قطعا أو ظنا فلا يسوغ التقليد أصلا وقول الإمام في صدر كلامه محراب متفق عليه لم يشتهر فيه مطعن ما أحسنه فإنه يفيد أن محل القول بعدم الاجتهاد فيه إنما هو بهذين الشرطين أن يكون متفقا عليه وأن لا يشتهر فيه مطعن فإذا جئنا إلى بلد فيه محراب غير متفق عليه أو اشتهر فيه مطعن وجب علينا الاجتهاد والله أعلم
ثم قال إمام الحرمين في ذكر أدلة القبلة وقد ألف ذوو البصائر فيه كتبا فلتطلب أدلة القبلة من كتبها
قلت فهذا إمام الحرمين ومحله من علوم الشريعة قد علم يحيل في أدلة القبلة على كتب أهلها فلا يستحي من ينكر الرجوع إليها بجهله وعدم اشتغاله وظنه أنه من أهل الفقه وإن الفقه يخالفها وما يستحي عامي من الإنكار على العالمين بعلوم الشريعة وغيرها ومن ظنه أنه على الصواب دونهم وإما يستحي الفريقان من الكلام فيما لم يحيطوا بعلمه ومن نسبتهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى في هذا المسجد ولم يدخل عمر بن الخطاب إلى هذه المدينة فضلا عن مسجدها وإنما وصل إلى الجابية
وأما بقية الصحابة الذين كانوا فيها كأبي عبيدة وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان ومن معهم فكانوا قبل فتحها في مراكزهم خارجها يصلون هناك وبعد فتحها الله أعلم أين كانوا وهل اتفق لهم صلاة في مسجدها أو كانوا يصلون في مضاربهم وإن كانوا صلوا إلى الجدار على الاستقامة أو تياسروا قليلا وكذلك كل من صلى به من أهل العلم والقدوة بعدهم إلى اليوم منهم من يرى أن الواجب استقبال الجهة فلا عليه في استقبال الجدار على الاستقامة ومنهم من يرى الواجب العين ولا يدري ما كان يصنع هل مال قليلا وليس ذلك مما يجب نقله حتى يستدل بعدم نقله على عدمه فمن يترك الأدلة المحققة وكلام العلماء
____________________
(1/150)
في ذلك لمجرد هذه الأمور حقيق بأن لا يعبأ به والله أعلم
ثم ذكر إمام الحرمين بعد ذلك أن مطلوب المجتهد جهة الكعبة أو عينها وقال لعل الغرض ما ذكره العراقيون أن في تصور درك العين الخطأ وفي الجهة وجهين أحدهما يتصور كالجهتين والثاني لا فإن قلنا يتصور فهو المعبر عنه بالعين وإلا فهو المعبر عنه بالجهة ثم استبعد ذلك وقال من ظن أن جهات الكعبة أو جهات شخص المصلي في موقفه أربع فقد بعد عن التحصيل وكل ميل بفرض في موقف الإنسان فهو انتقال من جهة إلى جهة فالوجه عندي أن يقال من اقترب في المسجد الحرام يصير منحرفا عنها بأدنى ميل وفي أخريات المسجد يختلف اسم الاستقبال
فالصواب في البعد الذي لا يقطع الماهر بالخروج به عن اسم الاستقبال هو المسمى بالجهة والذي نقطع بالخروج فيه هو جهة أخرى غير جهة القبلة وبين جزأي الخروج بعض الوقفات أقرب إلى السداد من بعض فهل يجب طلب الأسد على وجهين أحدهما كالواقف في أخريات المسجد والثاني نعم لأن الذي في أخريات المسجد قاطع باسم الاستقبال
انتهى ما أوردته من كلام الإمام رحمه الله
وقال الرافعي رحمه الله في الواقف في المسجد الحرام لو استطال الصف ولم يستديروا فصلاة الخارجين عن محاذاة القبلة باطلة ولو تراخى الصف الطويل ووقفوا في أخريات المسجد صحت صلاتهم لأن المتبع اسم الاستقبال وهو يختلف بالقرب والبعد والمعنى فيه أن الحرام الصغير كلما ازداد القوم عنه بعدا ازدادوا له محاذاة كغرض الرماة ونحوه والواقف في المدينة ينزل محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه منزلة الكعبة لا يجوز العدول عنها إلى جهة أخرى بالاجتهاد بحال وكذلك سائر البقاع التي صلى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك المحاريب في بلاد المسلمين وفي الطريق التي هي حاذيهم يتعين التوجه إليها ولا يجوز الاجتهاد معها وكذلك القرية الصغيرة إذا نشأ فيها قرون من المسلمين وإذا منعنا من الاجتهاد في الجهة فهل يجوز الاجتهاد في التيامن أو التياسر أما في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا وأما في سائر البلاد فعلى وجهين أصحهما ولم يذكر الأكثرون سواه يجوز ويقال إن ابن المبارك بعد رجوعه من الحج تياسروا يا أهل مرو وجعل الروياني قبلة الكوفة يقينا ولم يجعل قبلة البصرة يقينا وقضيت جواز الاجتهاد في التيامن والتياسر في البصرة دون الكوفة وعن ابن يونس القزويني مثله لأن عليا صلى في الكوفة مع عامة الصحابة ولا اجتهاد مع إجماع الصحابة وقبلة البصرة نصبها عتبة بن
____________________
(1/151)
غزوان والصواب في قول علي أقرب وقال في سائر البلاد وجهين أصحهما جواز الاجتهاد فيها
قال الرافعي وهذا إن عنى به الاجتهاد في الجهة فبعيد بل الذي قطع به معظم الأصحاب منع ذلك في جميع البلاد وفي المحاريب المتفق عليها بين أهلها وإن عنى في التيامن والتياسر والفرق بين الكوفة والبصرة كما فعله الروياني فبعيد أيضا لأن كل واحدة منها قد دخلها الصحابة وسكنوها وصلوا إليها فإن كان ذلك فيما يفيد اليقين وجب استواؤهما فيه وإن لم يفد اليقين فكذلك
قلت هذا كلام الرافعي رحمه الله وهو يقتضي أن الصحيح جواز الاجتهاد في التيامن والتياسر في الكوفة والبصرة ودمشق مثل الكوفة والبصرة بل الكوفة أعلى منها لأن عليا دخلها ولم يدخل دمشق مثل علي فلو سلمت قبلة دمشق عن الكلام لكان الأصح جواز الاجتهاد فيها بالتيامن والتياسر فكيف ولم تسلم لأن الفضلاء ما برحوا يقولون فيها إنها منحرفة إلى الغرب فيجب التياسر فيها وقول الرافعي في المحاريب المتفق عليها بين أهلها احتراز كالاحتراز الذي تقدم في كلام إمام الحرمين مقتضاه خروج محراب دمشق عن ذلك الحكم لأنه لم يتفق عليه
سمعت قاضي القضاة بدر بن جماعة وكان له معرفة بهذا العلم يقول الداخل من باب الغطفانيين يقف على الباب ويستقبل محراب الصحابة يكون مستقبل القبلة
وقد انتهى ما أردت نقله من كلام الرافعي وما ألحق به وهو إنما ذكر الخلاف في جواز الاجتهاد في التيامن والتياسر حيث تكون المحاريب متفقا عليها غير مطعون فيها أما ما ليس كذلك فينبغي أن يقال يجوز الاجتهاد فيها في التيامن والتياسر قطعا بل يجب لأن الطعن وعدم الاتفاق أسقط التعبد باعتمادها فيما عدا الجهة فلا بد من الاجتهاد عند القائلين بوجوب العين أما المكتفون بالجهة فقد يقال عندهم لا حاجة إلى الاجتهاد فلا يجب لكن لا يجوز طلبا للأسد وإذا كان هذا كلام الرافعي ومقتضاه تصريحا وتلويحا وعمدة المذهب فمن الذي يقول سواه والله أعلم
وقال ابن أبي عصرون وإن تيقن الخطأ في الجهة التي صلى إليها لزمته الإعادة في أصح القولين خلافا لمالك وأبي حنيفة وأحمد وإن صلى بالاجتهاد إلى جهة ثم بان أن القبلة عن يمينها أو شمالها لم يقدح ذلك في صحة صلاته أن الخطأ فيما لم يعلم قطعا
قلت وهذا التعليل الذي قاله هو المعتمد ولولاه لتوجه عليه في حكمه اعتراض فإنه متى تيقن الخطأ لزمته الإعادة عندنا في الأصح سواء كان ذلك في الجهة أو في التيامن والتياسر
____________________
(1/152)
مع البعد لا يمكن فلذلك لا يقال بوجوب الإعادة فيه أما في الجهة فيمكن فكان اليقين وعدمه هو منشأ الفرق بين الحكمين والله أعلم
وقال صاحب التتمة إذا كان في بلد كبير أو مسجد على شارع يكثر به المارة فلا يجوز له أن يجتهد في التيامن والتياسر لأنه قد يقع فيه الخطأ للمجتهدين في الدلالة ويعمل على موجبها
وقال ابن الصباغ في الشامل الغائب عن البيت نص الشافعي وظاهر ما نقله المزني طلب الجهة
قال أبو حامد لا يعرف هذا للشافعي ومن أصحابنا من ذهب إلى ما قاله المزني وإليه ذهب أصحاب أبي حنيفة إلا الجرجاني فإنه قال فرضه العين انتهى كلام ابن الصباغ ولنكتف بما حكيناه
والغرض أن محاريب المسلمين يجوز الصلاة إليها من غير اجتهاد إذا كانت في بلد أو قرية ولم يطعن فيها لأن الظاهر أنها إنما نصبت بمستند والمسلمون لا يسكتون على مثل ذلك إلا لصحته عندهم فيجوز اعتمادها ووقع في كلام الأصحاب تسمية هذا الاتباع تقليدا فيحتمل أن يقول به لأنها موضوعة بالاجتهاد والتقليد وقبول قول المجتهد بغير دليل التقليد حينئذ صادق عليه فلا جرم يسمى تقليدا بمعنى أن واضع ذلك المحراب مجتهد ونحن في صلاتنا إلى ذلك المحراب نجتهد ونقول ونحن في صلاتنا إلى ذلك المحراب بغير اجتهاد ولا دليل عندنا مقلدون له في ذلك ويحتمل أن يقال إن هذا بمنزلة الخبر كما لو أخبرنا شخص على رأس جبل بأنه شاهد الكعبة فنأخذ بقوله ولا نسميه تقليدا بل قبول خبر يرجع إليه المجتهد ولا يجوز الاجتهاد معه
فهذان الاحتمالان في المحاريب ولم أرهما منقولين لكن قلتهما تفقها يظهر أثرهما في العارف بأدلة القبلة هل يجوز له الاجتهاد فيها أو لا إن قلنا هو بمنزلة الخبر فلا يجوز له الاجتهاد وإن قلنا بمنزلة التقليد جاز الاجتهاد بل قد يقال بوجوبه لأن المجتهد لا يقلد المجتهد والأظهر التوسط وهو أن يقال إنه في الجهة بمنزلة الخبر ولهذا اتفقوا على أنه لا يجوز الاجتهاد في الجهة ولا نقول إنه بمنزلة الخبر من كل وجه لأنا نعلم أن الواضعين لم يشاهدوا الكعبة فالأحسن أن يجعل المنع من الاجتهاد معللا بتنزيل ذلك منزلة الإجماع والإجماع قد يستند إلى الاجتهاد وإذا تقرر الإجماع وجب اتباعه وحرمت مخالفته وهذا إنما يكون في بلد تصح دعوى الإجماع فيه وذلك يفتقر إلى طول زمان وتكرر علماء إليه
هذا في الجهة أما التيامن والتياسر فأمرهما خفي فلا يصح فيه معنى الخبر ولا معنى الإجماع فلذلك يسوغ فيه الاجتهاد على الأصح ويحتمل أن يقال بوجوبه على العارف بالأدلة كما في سائر الأحكام ويحتمل أن يقال بالجواز بدون الوجوب لأنا نعلم من سير السلف الرخصة في ذلك
____________________
(1/153)
إذا عرفت هذا فإنا نجد البلاد فيها بعض الأوقات محاريب مختلفة فقد شاهدنا في الديار المصرية قبلة جامع الحاكم وجامع الأزهر وجامع الصالح وغيرها صحاحا وشاهدنا قبلة جامع طولون وغيرها منحرفة إلى الغرب والصواب التياسر فيها وكذلك شاهدنا في الشام هذا الاختلاف بجامع بني أمية وهو أقدمها وأشهرها فيه انحراف إلى جهة الغرب وجامع تنكز فيه انحراف أكثر منه وجامع جراح أكثرها انحرافا وهو السبب الداعي إلى كتابتي هذه الأوراق لأنه لما علم كثرة انحراف قبلته تطوع جماعة من أهل الخير من أموالهم بما يعمر به وتجعل قبلته صحيحة فأردت أن أجعلها على الوضع الصحيح الذي تشهد له أدلة القبلة المسطورة في كتب أهل هذا العلم فبلغني عن بعض المتفقهة وبعض العوام إنكار ذلك وطلب أن يكون على قبلة جامع بني أمية ظنا منه أن قبلة جامع بني أمية هي الصواب الذي لا يجوز مخالفته لأنها على ما زعم صلى إليها الصحابة فمن بعدهم
والجواب عن هذا من أوجه أحدها ما قدمناه من كلام الفقهاء في التيامن والتياسر ولم يستثنوا جامع بني أمية في ذلك بل كلامهم يشمله ويقتضي أن الصحيح في مذهب الشافعي رضي الله عنه عنه جواز الاجتهاد فيه بالتيامن والتياسر
الثاني ما قدمناه من قول كثير من أهل هذا العلم منهم قاضي القضاة بدر الدين أن قبلته منحرفة وهذا يقتضي أنه لا يجوز فيه الخلاف بل يجوز الاجتهاد فيه قطعا وإذا جاز هل يجب أو لا وجهان
الثالث إن الواجب في القبلة إن كان الجهة والتياسر لا يخرج عن الجهة والتياسر جائز ههنا فيكون الذي دل عليه هذا العلم في هذه الصورة جائزا لا واجبا وإن كان الواجب العين حصل التردد في أن الواجب استقبال الأصل أو التياسر فمن يقول الواجب الجهة يجوز التياسر قطعا ومن يقول بأن الواجب العين ويسلم أدلة هذا العلم يوافقه فهما متفقان على الجواز ومختلفان في المحراب الأصلي فكان المتفق عليه أولى من المختلف فيه
ومن يقول بأن الواجب العين ويقول إن هذا العلم لا يلتفت إليه لا اعتبار بقوله
الرابع إن جامع جراح ليس مستهدما وإنما يقصد هدمه لإقامة القبلة على الحق فإذا هدم وجعل على القبلة التي يدل العلم عليها كان على الأحق عند الأكثرين إلا من لا يعبأ بقوله فمن يقول إن الواجب العين ولا يرجع إلى العلم وإذا جعل على قبلة جامع بني أمية كان على خلاف ما دل عليه العلم ولا يجوز تضييع أموال الناس ووضع محراب نعتقد نحن أنه على غير الصواب
الخامس إن جامع بني أمية لم يبن جامعا وإنما كان من قبل الإسلام فمن أين لنا أن بناءه على الكعبة ولما فتح
____________________
(1/154)
الصحابة دمشق لم يستوطنوها بل صالحوا من كان فيها من النصارى وكانوا في شغل شاغل من الجهاد في سبيل الله اشتغلوا من اليرموك وغيرها ولم يتفرغوا للنظر في ذلك
ولعل أكثر صلاتهم كانت في مضاربهم ومن صلى منهم فيه قد يكون معتقدا أن الواجب الجهة دون العين أو يعتقد وجوب العين ونيته المخالفة وتياسر قليلا وليس ذلك مما يجب نقله أو غير ذلك فصاروا إن كانوا كذلك ثلاثة أقسام والقسمان الأولان لم نخالفهم والقسم الثالث إن صح عن أحد من الصحابة فهو قول صحابي والاختلاف بين العلماء في الاحتجاج به معلوم وكذلك الحال في العلماء الذين بعدهم فالتمسك بذلك لا يصلح مع قيام أدلة العلم على خلافه وأن لا يحتج بما نجد من المحاريب فمحراب جامع جراح بناه الملك الأشرف فكان رجلا مشكورا في زمانه علما وفقها وقضاء فلو قال قائل إنهم قد يكونون اجتهدوا ورأوا أن قبلته هي الصحيحة إن لم يرجع إلى هذا العلم ما يكون جوابنا لهذا القائل والله أعلم انتهى
مسألة للشيخ الإمام رحمه الله مصنفات في صلاة التراويح أكبرها ضوء المصابيح في مجلد كبير والثاني مختصرات هذا أحدها
قال الشيخ الإمام رحمه الله الحمد لله رب العالمين اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ورضي الله عن أصحابه والتابعين وجميع المسلمين
وبعد فهذا مختصر يسمى بإشراق المصابيح في صلاة التراويح مرتب على ثلاثة فصول الأول فيما نقل عن العلماء رضي الله عنهم فيها أما الشافعية فقال الشافعي رضي الله عنه في مختصر البويطي الوتر سنة وركعتا الفجر سنة والعيدان والاستسقاء والكسوف سنة مؤكدة وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء قال والكسوف والاستسقاء والعيدان أوكد وقيام رمضان في معناها في التأكيد
وقال أبو علي الطبري في الإيضاح قيام رمضان سنة مؤكدة
وقال البندنيجي في الذخيرة أما قيام رمضان فهو سنة مؤكدة
وقال الغزالي في الإحياء سنة مؤكدة وإن كانت دون العيدين
وقال الحليمي دلت صلاته يعني النبي صلى الله عليه وسلم بهم جماعة على أن القيام في شهر رمضان يتأكد حتى يداني الفرائض
وقال ابن
____________________
(1/155)
التلمساني في شرح التنبيه قيام رمضان سنة مؤكدة وفي نهاية الاختصار المنسوب إلى النووي رحمه الله ويؤكد الضحى والتهجد والتراويح
وعند القاضي أبي الطيب وجماعة التراويح مما يسن له الجماعة وقالوا إن ما سنت له الجماعة آكد مما لم تسن له الجماعة وكلام التنبيه قريب من ذلك وأما الحنفية فعن أبي حنيفة رضي الله عنه عنه ثلاث روايات إحداها ذكرها صاحب شرح المختار وقال روى أسد بن عمرو عن أبي يوسف قال سألت أبا حنيفة رحمه الله عن التراويح وما فعله عمر رضي الله عنه فقال التراويح سنة مؤكدة ولم يخرجه عمر من تلقاء نفسه ولم يكن فيه مبتدعا ولم يأمر به إلا عن أصل لديه وعهد من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد سن عمر هذا وجمع الناس على أبي بن كعب وصلاها جماعة متواترون منهم عثمان وعلي وابن مسعود وطلحة والعباس وابنه والزبير ومعاذ وأبي وغيرهم من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين وما رد عليه واحد منهم بل ساعدوه ووافقوه وأمروا بذلك العبارة الثانية ذكرها الأستاذ الشهيد عن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال القيام في شهر رمضان سنة لا ينبغي تركها
العبارة الثالثة ذكرها السرخسي في المبسوط عن الحسن عن أبي حنيفة أن التراويح سنة لا يجوز تركها
وقال العتابي في جوامع الفقه أما السنن فمنها التراويح وأنها سنة مؤكدة والجماعة فيها واجبة
وقال صاحب المبسوط أجمعت الأمة على مشروعيتها ولم ينكرها أحد من أهل القبلة وأنكرها الروافض
وفي المحيط الوتر سنة
وقال الكرماني يعني سنة للرجال والنساء
وقال بعض الروافض هي سنة للرجال دون النساء وقال بعضهم سنة عمر وعندنا هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال الطحاوي قيام رمضان واجب على الكفاية لأنهم قد أجمعوا على أنه لا يجوز للناس تعطيل المساجد عن قيام رمضان
وأما المالكية فإن مالكا رضي الله عنه أراد أمير المدينة أن ينقصها عن العدد الذي كان أهل المدينة يقومون به وهو تسع وثلاثون فشاور مالكا فنهاه مالك عن ذلك
وقال ابن عبد البر قيام رمضان سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الحنابلة فقال الشيخ الموفق بن قدامة في المغني صلاة التراويح وهي سنة مؤكدة وأول من سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما العلماء من غير المذاهب الأربعة فقال الليث بن سعد لو أن الناس قاموا رمضان لأنفسهم ولأهليهم كلهم حتى يترك المسجد لا يقوم فيه أحد لكان ينبغي أن يخرجوا من بيوتهم إلى المسجد حتى يقوموا فيه لأن قيام الناس في شهر رمضان
____________________
(1/156)
من الأمر الذي لا ينبغي تركه
الفصل الثاني في مستند العلماء في ذلك من الأحاديث والآثار
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلوا بصلاته فلما كان الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما مضى الوتر أقبل على الناس فتشهد ثم قال أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك هذا لفظ أبي داود رواه مسلم قريبا منه
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل فلما كانت السادسة لم يقم بنا فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل فقلت يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة قال فقال إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة فلما كانت الرابعة لم يقم بنا فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح قلت وما الفلاح قال السحور ثم لم يقم بنا بقية الشهر
رواه أبو داود والترمذي وصححه
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا الناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد فقال ما هؤلاء فقيل هؤلاء ناس ليس معهم قرآن وأبي بن كعب يصلي وهم يصلون بصلاته فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصابوا ونعم ما صنعوا في إسناده مسلم بن خالد والشافعي رضي الله عنه يوثقه وإن كان المحدثون ضعفوه
وفي مسند أحمد عن عائشة قالت كان الناس يصلون في المسجد في رمضان بالليل أوزاعا يكون مع الرجل الشيء من القرآن النفر الخمسة أو السبعة أو أقل من ذلك أو أكثر فيصلون بصلاته قلت فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنصب حصيرا على باب حجري ففعلت فخرج إليهم بعد أن صلى العشاء الآخرة فاجتمع إليه من في المسجد فصلى بهم وذكرت القصة بمعنى ما تقدم ورواه أبو داود أيضا بمعناه
وفي مصنف عبد الرزاق عن عطاء أن القيام كان على
____________________
(1/157)
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان يقوم الرجل والنفر كذلك ههنا والنفر والرجل فكان عمر أول من جمع الناس على قارئ
وفي سنن ابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر شهر رمضان فقال شهر كتب الله عليكم صيامه وسننت لكم قيامه ورواه الدارقطني في غرائب مالك من حديث أبي هريرة ورواته ثقات وإن كان النسائي تكلم في الطريق الأولى وأما طريق أبي هريرة فلم يتكلم فيها
وروى البخاري عن عبد الرحمن بن عبد قال خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب
وفي البخاري أيضا وكان الناس يقومون أوله يعني أول الليل قال ابن عبد البر لم يسن عمر من ذلك إلا ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عبد البر لم يسن عمر بن الخطاب منها إلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه ويرضاه ولم يمنع من المواظبة إلا خشية أن تفرض على أمته وكان بالمؤمنين رءوفا رحيما صلى الله عليه وسلم فلما علم عمر ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم أن الفرائض لا يزاد فيها ولا ينقص بعد موته صلى الله عليه وسلم أقامها للناس وأحياها وأمر بها وذلك سنة أربع عشرة من الهجرة وذلك شيء ذخره الله وفضله به ولم يلهمه أبا بكر وإن كان أفضل وأشد سبقا إلى كل خير بالجملة ولكل واحد منهم فضائل خص بها ليست لصاحبه وكان علي يستحسن ما فعل عمر من ذلك ويفضله ويقول نور شهر الصوم
وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه
انتهى ما قاله ابن عبد البر هنا
وقد قال صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ولا شك أن عمر من الخلفاء الراشدين فسنة التراويح ثابتة بهذين الحديثين مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال أو أكثر وجمع الناس لها كما تقدم في حديث أبي ذر وفعل الصحابة لها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته قبل خروجه إليهم كما تقدم في حديث عائشة وتصويب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كما تقدم في حديث أبي هريرة وترغيبه صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان واستمرار الناس على ذلك بقية حياته صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر وصدرا من خلافة عمر أفرادا وجماعات أوزاعا وجمع عمر
____________________
(1/158)
الناس لها على قارئ واحد مع موافقة الصحابة له وإجماع العلماء على مطلوبيتها وإجماع جمع الناس على فعلها بقصد التقريب إجماعا متواترا في جميع الأعصار والأمصار
ولو لم تكن مطلوبة لكانت بدعة مذمومة كما في الرغائب ليلة نصف شعبان وأول جمعة من رجب فكان يجب إنكارها وبطلانه معلوم بالضرورة فهذه أحد عشر دليلا على استحبابها وسنيتها وإن كان لم ينهض واحد منها فلا شك أن المجموع يفيد ذلك ويفيد تأكدها فإن التأكيد يستفاد من كثرة الأدلة الواردة في الطلب ومن زيادة الفضيلة ومن الاهتمام وكل ذلك موجود هنا
الفصل الثالث في دفع المنازعة في ذلك
اعلم أن الأقسام الممكنة في العقل أربعة أحدها ما ادعيناه من أن التراويح سنة مؤكدة
الثاني أنها سنة غير مؤكدة
الثالث أنها مؤكدة غير سنة
الرابع أنها لا سنة ولا مؤكدة
أما الثاني فلا أعلم أحدا قال به ومن ادعاه فليسنده إلى عالم من العلماء ثم يقيم الدليل عليه ولن يجد إلى ذلك سبيلا وسبيل الذي يرد عليه في ذلك بأن يأتيني بمقالة في كتاب أنها سنة غير مؤكدة فإن لم يأت بذلك فلا يتكلم معه إنه تضييع للزمان من غير فائدة فإن قولا لم يقل به قائل من سبعمائة سنة ونيف إلى اليوم لا شك في بطلانه وليس يخفى الصواب على الأمة من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم ويظهر لنا ولا يغلط الناظر في كلامي ويعتقد أن نقل هذه المقالة أسهل بل يتدبر ويزن كلامه قبل أن يتكلم ويعرف من يخاطب وأن يتأمل ما قال
وأما الثالث فلو ثبت لم يضرنا لأن الخصم الذي ينازعنا إنما نازع في التأكيد ولا يعتقد أن التأكيد أخص من السنة فيستحيل ثبوته بدونها لأنه قد يقال إن بينهما عموما وخصوصا من وجه تعلقا بأمر لفظي في إطلاق السنة وسلبها وإن ثبت التأكيد وقوة الطلب من حيث المعنى على أن هذا القسم عندنا باطل لما قدمناه من الأدلة على سنيتها ومن ينازع من الشافعية في الاصطلاح في اسم السنة لم ينازع هنا بل أطلق اسم السنة عليه
وأما الرابع فباطل بما سبق من الأدلة ومما يدل على بطلانه وبطلان القسم الذي قبله نقل جماعة الإجماع على أنها سنة
وممن نقل ذلك النووي ولا يقدح في ذلك ما يقوله بعض المالكية من الفرق بين السنن والفضائل والنوافل ولا ما وقع في كلام بعض الحنفية من الخلاف في أن التراويح سنة أو مستحبة وقد اغتر بذلك بعض فضلاء المالكية فيمن وقع نزاعنا معه حتى أنها لا تلحق بالسنن على اصطلاح المالكية
وجوابه أن للمالكية اصطلاحين أحدهما الذي أشار إليه وهو اصطلاح خاص لطائفة منهم والآخر
____________________
(1/159)
اصطلاح عام يوافقون فيه غيرهم في إطلاق السنة على ذلك كله وممن نبه على هذا منهم عبد الحق الصقلي في تهذيب الطالب ونحن ومن يستفتى في هذه المسألة على الوجه الذي وقع الكلام فيه إنما يتكلم في ذلك فلم يقل أحد من المالكية إنها ليست سنة بهذا الاصطلاح والعوام إنما يسألون عن هذا فلا يجوز لمالكي ولا لغيره أن يطلق القول لهم إنها ليست سنة وكذلك الحنفية في فرقهم بين السنة والمستحب واختلافهم في أن التراويح سنة أو مستحبة إنما ذلك راجع إلى اصطلاح ولا ينكر أحد منهم أنه يثاب على فعلها وأنها مطلوبة من جهة الشارع ومندوب إليها ومرغب فيها وهذا هو الذي يفهمه العامي من السنة وأما التأكيد فدرجاته متفاوتة أعلاها ما قرب من الفرائض قربا لا واسطة بينهما وأدناها ما يرقى عن درجة النفل المطلق وبين ذلك مراتب متعددة ويستدل على التأكيد باهتمام الشارع به وبإقامة الجماعة فيه وملازمة النبي صلى الله عليه وسلم له وتفضيله على غيره ولكونه شعارا ظاهرا كل واحد من هذه الخصال يدل على التأكيد وكذلك تكرر الطالب ونحو ذلك وصلاة التراويح فيها أنواع من ذلك فلا ريبة في أنها سنة مؤكدة والله تعالى أعلم انتهى
سؤال ورد من الديار المصرية على الشيخ الإمام وهو بالشام الشخص يحب النوع من العبادة من قيام ليل أو نحوه رجاء لثواب الله وعنده باعث شديد على ذلك يعارضه فيه مانع الكسل وحب الراحة ونفسه تمنيه من وقت إلى وقت فلا ينهض ذلك الباعث الذي دفع مانع الكسل إلا بأن يضيف إليه باعث الرياء والسمعة فإن لم يضفه فلا يحصل منه تلك العبادة أبدا وإن أصاب الباعث الديني الباعث الدنيوي وقعت العبادة فهل يحل له إيقاعها بمجموع الباعثين وسيلة إلى ظهور أثر الباعث الديني أو يحرم أو يفرق بين قوة أحد الباعثين على الآخر أو لا والفرض أن الباعث الدنيوي أيضا لو انفرد لما أثر وهذا السؤال ليس هو المقصود والغزالي في الحقيقة ربما أشار إليه وإنما المقصود ما وراءه وهو أنه إذا كان هذا الفعل حراما ولكن مراعاة ذاك الفاعل أنه إذا أضاف إلى الباعث الديني الباعث الدنيوي أو انفرد باعثه الدنيوي حتى وقع منه ذلك الفعل وتكرر مرة ومرة حصل له من الإدمان ما يزيل عنه الكسل الذي كان مانعا من تأثير الباعث الديني في الفعل فتقع العبادة بعد ذلك خالصة لوجود المقتضي الذي كان موجودا قبل ابتداء العمل وزوال مانع الكسل الذي كان
____________________
(1/160)
مقارنا له في الأول فهل له أن يفعل تلك العبادة مع قصد الرياء وسيلة إلى وقوع الفعل الذي لا يقدر على جذب نفسه إليه إلا بالرياء الذي لا يقدر على الوصول إلى العبادة إلا بجعله سابقا ومقدمة له وهذا قصد جميل وما لا يتوصل إلى العبادة إلا به عبادة ولا يلزم من قوله صلى الله عليه وسلم لا يأتي الخير بالشر أن الشر لا يأتي بالخير وفي كلام بعضهم الرياء قنطرة الإخلاص أو يكون حراما والمسئول إيضاح ذلك بما يشفي الغليل فإن السائل عن ذلك قصده تقليدكم في العمل بما تقولونه
الجواب أما المسألة الأولى التي قال إنها ليست هي المقصود فينبغي أن تحرر ونقطع بالجواز في ذلك وعدم التحريم لأن الإيقاع بمجموع الباعثين على جهة الوسيلة يحقق قصدا ثالثا وهو التوسل وهو غير كل واحد من الباعثين اللذين أحدهما حرام والحرام هو العمل به أو هو مع العمل فإنه بمجرده من القصود المتجاوز عنها وإنما يحرم عند الانضمام وشرطه أن يكون هو الباعث إما وحده أو يكون هو الغالب وقد يقال إنه ولو كان معدوما يحرم أيضا لعدم الإخلاص ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم فيمن تصدق لله ولصلة الرحم لا حتى يكون لله وليس للرحم منه شيء أما هنا إذا استحضر المصلي الباعثين وتفاوتا عنده وقصد التوسل بالفعل إلى إخلاص الباعث الديني كان الباعث على الفعل حينئذ هو ذلك القصد الثالث وهو قصد خالص لله تعالى والفعل إنما وقع به فقط ووقوع الباعثين في طريقه لا يضر إذا لم يقع الفعل بمجموعهما ولا بكل واحد منهما ولا بالباعث الدنيوي وحده ولا بالباعث الديني الأول وحده وإنما وقع بالباعث الأخير وهو أمر ديني لا دنيوي فينبغي أن يتنبه لذلك وهو أعني ما تكلم الغزالي فيه من تساوي الباعثين وترجيح أحدهما وإذا علم الشخص من عادته اندفاع الباعث الدنيوي بعد ذلك يتأكد القول بالحل وعدم التحريم
وأما السؤال الثاني على تقدير تسليم أن ذلك الفعل حرام فسؤال ضعيف لأنه إذا قال بالتحريم بعد قصد التوسل كيف يتردد فيه هنا ولم يرد شيء آخر إلا قوة التوسل بالعبادة وليس فيه إلا قوة التوسل ولا ينهض في دفع ما فرع عليه من التحريم نعم إذا تقاوم الباعثان ولم يحصل قصد ثالث وحصل عند العلم بالعادة يظهر القول بالحل ويقال إنما منعنا في المقام الأول لعدم صحة القصد وههنا صح
ونحن قد بينا أن هذا القصد الثالث حاصل في المقام الأول
____________________
(1/161)
بدون العادة وإن لم يحصل فينبغي أن يتنبه السالك له حتى يحصله فتحصيله بما نبهنا عليه سهل
فالذي أراه في كلتا الحالتين الحل وعدم التحريم وأن لا يترك العمل خوف الرياء أصلا لأنه ترك مصلحة محققة لمفسدة موهومة وكثير من الأعمال تكون مشوبة ثم تصفو بل أكثر الأشياء هكذا كل من خاض بأمر لا بد أن يختلط فيه الغث بالسمين ثم ينتقى ويتصفى إلى أن يصفو ولهذا قال سفيان طلبنا العلم لغير الله فأبى يكون إلا لله وإن كان بين العلم والصلاة فرق لأن العلم وإن كان لغير الله يحصل به فائدة وهي النفع المتعدي بخلاف الصلاة لكن الصلاة ونحوها من الأعمال البدنية انقياد البدن لها في أول الأمر كما ينبغي صعب فينبغي الأمان عليها مع معالجة القلب في الإخلاص فيصل إليه إن شاء الله بتوفيقه ولو قطعنا السالك في أول أمره إلا عن الخالص لانقطع خير كثير ويكفي من هذا السائل سؤاله هذا فذلك يدل على حسن قصد إذ من بعد عن العبادة حتى يصح له الإخلاص فاته خير كثير وتعود بدنه الإهمال وجرى على أسوأ الأحوال فسيروا إلى الله عرجا ومكاسير فإن انتظار الصحة بطالة وترك العمل خوف الرياء رياء وقولهم الرياء قنطرة الإخلاص إشارة إلى هذا المعنى
بل أنا أقول هذا المعنى الذي نبهت عليه من المعنى الثالث أنه لا رياء أصلا لأن الرياء إنما وقع بذلك المعنى الثالث وحده ولا ينبغي للسالك أن يوقفه عن العمل ما يلقاه في كلام الغزالي وغيره من ذلك الكلام لأن ذلك الكلام صحيح بالنسبة إلى من يقدر على الإتيان بالعمل صحيحا أما إذا دار الأمر بين العمل مع ما يشوبه وترك العمل مع ما يشوبه أولى بلا شك فإن الشيطان والنفس والهوى والدنيا بالمراصد تجر القلب والبدن إلى ما فيه هلاكهما والبطالة تعينه على ذلك فإذا عمل عملا صالحا ودع أن يكون مشوبا كان سابقا لمن يراصده فلا بد أن ينصره الله عليه ويعينه ولله في الأعمال أسرار يرجى بها صلاحه فمثال العمل مثال السبيكة الذهب فيها عيب إن رميتها لأجل عيبها لم تجد سبيكة خالصة وإن استعملتها وصفيتها مرة بعد أخرى حصلت منها على صفوتها
ومن انتظر في سفرته رفيقا صالحا ربما يعوق سيره فليرافق من اتفق ويستعين الله عليه والله أعلم
وهذا الذي ذكرته من التنبيه على المعنى الثالث هو بحسب ما قاله السائل لما قال بمجموع الباعثين وسيلة فنصب وسيلة على المفعول لأجله فاقتضى ذلك أن علة الفعل الوسيلة وهي مغايرة للاثنين
فهذه المسألة لم يتكلم فيها الغزالي ولا غيره ممن وقفت على كلامه وإن كان ذلك غير مقصود السائل فلا يضر لأنه حدث منه
____________________
(1/162)
توليد مسألة أخرى فيها تخلص فيجب النظر فيها ولا تهمل وإذا كان لنا طريق فقهي في التوسعة على عباد الله في طرق الوصول إلى الله كان أولى من التحجر والذي تكلم فيه الغزالي وغيره إنما هو إذا اجتمع الباعثان ولم ينظر السالك إلى شيء آخر بعد أن قرر أن الذي لم يرد به إلا الرياء سبب للمقت والعقاب وإن الخالص لوجه الله سبب الثواب وإن المشوب ظاهر الأخبار تدل على أن لا ثواب له وليس تخلو الأخبار عن تعارض فيه والذي ينقدح فيه أن الباعثين إن تساويا فلا له ولا عليه وإن كان باعث الرياء أغلب فهو مقتض للعقاب والعقاب فيه أخف من عقاب العمل الذي تجرد للرياء سبب للمقت والعقاب فصحيح والعمل حينئذ فاسد لعدم النية فإن الرياء إذا تجرد لم تصح النية فلذلك تبطل ويحصل المقت والعقاب لما فيه من الاستخفاف بالمعبود
ولا نقول إن ذلك عبادة لغير الله ولو كان كذلك كان شركا ظاهرا لا خفيا ولا نقول إن الرياء لذاته اقتضى ذلك من غير نظر إلى استلزامه ما ذكرناه لأنه لم يرد على ذلك دليل من الشرع لأن قوله تعالى يراءون ويمنعون الماعون وقوله يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا وقوله رئاء الناس ولا يؤمن بالله كل ذلك في كفار أو منافقين
ولكنه دل على أن الرياء صفة مذمومة فالتحريم والإفساد إنما أخذناه بالطريق التي قدمناها والمقت تصوره بصورة مزورة وإذا قال ما لا يفعل تعرض للمقت ففعل ما لا روح له أولى بالمقت
وأما أن الخالص لوجه الله سبب للثواب فصحيح والمراد صحته واعتباره فإن الثواب إلى الله تعالى
وأما ما ذكره في المشوب في الثواب ونفيه فلم يتعرض فيه لصحة العمل أو فساده والظاهر الصحة ونصب الترديد في الثواب وعدمه معها ويحتمل أن يأتي خلاف في الصحة وذلك يؤخذ من كلام الفقهاء من قولهم إذا نوى المتوضئ التبرد مع نية رفع الحدث صح وضوءه والجامع بينهما أن نية التبرد ليست عبادة وقد ضمها إلى العبادة ولكنها ليست مذمومة بخلاف الرياء فهي ثلاث مراتب إحداها نية عبادتين كغسل الجنابة والجمعة وفيها خلاف والأصح الصحة والتحية مع عبادة أخرى ولا خلاف في الصحة لأن التحية ليست مقصودة لذاتها بخلاف الغسلين
والثانية عبادة مع ما ليس بعبادة ولا مذموم كالتبريد
والثالثة العبادة مع الرياء ويظهر في هذه الحالة أن قصد العبادة إن قوي صح وأجره دون أجر الخالص وإن ضعف أو تساوى احتمل أن يقال بالفساد رأسا لعدم الجزم بالنية واحتمل وهو الأقوى أن يقال
____________________
(1/163)
بالصحة لأن قصد شيئين ممكن فقصد العبادة والرياء قصد شيئين بالغا من الآخر
وقد يقال من يمنع التعليل بعلتين أنه لا يتصور أن يكون الباعث إلا واحدا فمتى ساوى أو ضعف بطل التعليل به فيبطل العمل لكن هذا عندنا ضعيف ويجوز أن يكون للفعل الواحد باعثان وأكثر وسع بهما ومن الدليل من جهة الشرع على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه فقوله صلى الله عليه وسلم إلى ما هاجر إليه عام يشمل الواحد وما فوقه فإذا كان الذي هاجر إليه متعددا اقتضى الحديث حصوله سواء كان عبادتين أو عبادة وغير عبادة لكن يتفاوت الأجر بحسب ذلك ومع القول بالصحة يمتنع العقاب فإن العقاب إنما يكون على حرام ومع الصحة يمتنع القول بالتحريم في العبادات
وقد قدمنا العمل من حيث ذاته وإنما اقتضاه من حيث استلزامه لعدم النية وذلك إنما يكون إذا تجرد وقوله تعالى ولا يشرك بعبادة ربه أحدا معناه لا يقصد بهما العبادة ولا شك أنه لو قصدهما بالعبادة كان شركا وكذلك قوله أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا لي ولشريكي فكله لشريكي وليس لي منه شيء محمول على هذا المعنى أيضا
أما إذا قصد العبادة قصدا صحيحا ووقع مع ذلك أن يراه الناس وإن سمي شركا خفيا فليس بشرك حقيقي ولا مانع من صحة العبادة ومن ادعى ذلك فعليه أن يأتي بدليل من الشرع صحيح والآثار التي وردت في ذلك كلها إنما تقتضي منافاته للإخلاص وكلامي الآن إنما هو في الصحة فقد تكون العبادة صحيحة وليست بخالصة وإن الرجل ليصلي الصلاة وما كتب له منها نصفها ثلثها ربعها خمسها سدسها سبعها ثمنها تسعها عشرها فكما يحصل ذلك بتفاوت الخشوع يحصل أيضا بتفاوت القصد الأصلي الذي لا يمنع من صحة القصد الذي به تصح الصلاة
ومن الدليل لذلك أن إراءة الشخص عمله للناس قد يكون لمقاصد كثيرة لا يلزم منها عدم الأصل المقصود من العبادة ألا ترى أن الرمل قصد فيه أن يرى المشركون قوتهم وقوله صلى الله عليه وسلم أو الصحابة النطروني الجمال لا جمال خيبر وقوله صلى الله عليه وسلم إن هذه لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع وقول الصحابي أيضع شهوته في الحلال وله فيها أجر قال صلى الله عليه وسلم أرأيت لو وضعها في الحرام ألم يكن عليه فيها وزر إلى غير ذلك من الأحاديث ولو كان الفعل من شرطه أن يقع بعلة واحدة أمكن النظر في ذلك لكن الفعل يقع لأشياء كثيرة قال تعالى إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما
____________________
(1/164)
وينصرك الله نصرا عزيزا
فهذه أربعة أشياء فعل الفتح لها وكثير من القرآن والسنة كذلك يكون المقصود بالفعل فيها أمورا كثيرة فعلمنا صحة قصد الشخص فعلا لأمور
ثم يجب النظر في تلك الأمور فإن كانت كلها صالحة فلكلها أجر وإن كان بعضها صالحا وبعضها غير صالح فإن كانت متضادة بطلت وليس كذلك ما نحن فيه وإن كانت غير متضادة وجب علينا توفية كل واحد حكمه ولا يظلم ربك أحدا فيرتب على الصالح ما له من الأجر ويهمل غير الصالح مباحا كان أو مكروها فإن لزم من غير الصالح إبطال الصالح أبطلناه كما قلنا فيما إذا تجرد الرياء
واعلم أن الحرام لا يجوز التوسل به إلى شيء أصلا ولو كان قصد الرياء على الإطلاق من قبيل المحرمات لم يقل ذلك فيه وإنما حرف المسألة أن التحريم عارض بالمسبب الذي قدمناه فصورة الفعل والقصد مشتركة بين الحرام وغيره فإذا صح التوسل بها لم تكن محرمة ولا يكون التوسل بها توسلا بالحرام بخلاف الخمر ونحوه مما علم تحريمه بعينه أعني لا لأن عرض له ما اقتضى تحريمه في بعض الأحوال
ومما يدل على جواز بواعث في الفعل الواحد قوله صلى الله عليه وسلم يكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع ما نال من أجر أو غنيمة فيؤخذ منه جواز أن يقصد المجاهد ذلك وقوله صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله لا ينافي ذلك بل يشمله بعمومه فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولم يقصد أمرا آخر فهو أعلى المراتب ومن قاتل لذلك وقصد معه الغنيمة جاز أيضا من إطلاق الحديث وإن كان أنقص من الأول وإنما يحرم الثواب إذا لم يقصد إلا المغنم أو أمرا دنيويا كما جاء في الكلام إنما قاتلت ليقال فانظر كيف جاء بإنما التي هي للحصر
هذا كله فيما إذا لم يكن إلا مجرد الباعثين أما إذا فرض كما في السؤال من حدوث باعث آخر وهو التوسل بالعمل إلى رفع الباعث الدنيوي فلا شك أن هذا باعث ديني خالص مسوغ للفعل من غير شبهة ومع ذلك لا أقول إن العمل خالص من كل وجه لوجود الباعث الدنيوي فيه من حيث الجملة حتى يصفو عنه
وقد وقفت على أسئلة سئلها الشيخ شهاب الدين السهروردي رضي الله عنه
والسؤال الثاني منها مع الأعمال يداخله العجب ومتى ترك الأعمال يخلد إلى البطالة
قال الجواب لا يترك الأعمال ويداوي العجب بأن يعلم أن ظهوره عن النفس وكلما ألم بباطنه خاطر العجب يستغفر الله ويكره الخاطر فإنه يصير ذلك كفارة خاطر العجب وهذا لا يدع العمل رأسا
وهذا الذي قاله شهاب الدين يشبه ما قلناه من وجه
____________________
(1/165)
دون وجه أما شبهه إياه فمن جهة أن العجب يفسده كالرياء ولم يسمح له بترك العمل كما قلناه وأما عدم شبهه فإن العجب لا يضاد النية كما يضادها الرياء لو انفرد فمن هذه الجهة لا يلزم من احتمال العمل مع العجب احتماله مع الرياء
ووقفت على كتاب تحفة البررة في السؤالات العشرة تصنيف الشيخ الإمام العلامة مجد الدين البغدادي قال في الباب الرابع منه قوله تعالى منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة إن الإنسان في ابتداء أمره يريد الدنيا فحسب إذا أيقظه الله من سنة الغفلة وذكره حب الوطن الأصلي وأسمعه قوله ارجعي إلى ربك راضية مرضية تذكر الميثاق وعرف الوثاق فظهر في قلبه حسرة بما فرط في جنب الله ورفع إلى الحضرة وتاب فتختلف حينئذ أحوال الأشخاص فمنهم من يظهر فيه طلب الآخرة الذي هو من خصائص القلب مع بقاء طلب الدنيا وداعية الآخرة فلا يطلق عليه اسم الإرادة وإن كانت له إرادة الدنيا والآخرة بل يقال له المتمني ولا يصح منه الطلب في الدين فإن الدين ليس بالتمني فلا يهنأ عيشه ولا يطيب قلبه ولا تستريح نفسه وأنه كلما أقبل على الدنيا نغص عليه عيشه تمنى الآخرة وكلما أقبل على الآخرة كدر عليه تمنى الدنيا سربته فيبقى لا في العير ولا في النفير يريد ما بين ذلك ومنهم من يظهر في قلبه طلب الآخرة ظهورا ينفي من قلبه سائر الدواعي المختلفة الظاهرة ولا يكون لهم هم إلا هم الله كما ظهر لنبينا صلى الله عليه وسلم حين أنزلت آية التخيير فإذا غلب عليه هكذا داعية الحق والدار الآخرة صح أن يطلق عليه اسم الإرادة وحينئذ يحصل له حسن استعداد قبول تأثير الشيخ
وأطال الشيخ مجد الدين في ذلك والمقصود لنا منه ما ذكر في الداعيين وإشارته إلى أنه لا يترك العمل بتعارضهما كما قلناه وفي قوت القلوب عن أبي سعيد العمل بلا إخلاص خير من ترك العمل والإخلاص ومن الأدلة في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم أسلمت على ما سلف لك من خير على أحد التأويلين فيه وهو التعليل أي لأجل ما سلف لك من خير لقوله تعالى على ما هداكم فإذا كانت تلك الأعمال لما فيها من النفع نفعت صاحبها مع الكفر حتى أنقذته منه إلى الإسلام فما ظنك بأعمال صالحة مع الإسلام خالطها شوب يضمحل بعد حين وهذا كله في المبتدئ أما المنتهي أو المتوسط فلا يحتاج إلى ذلك ولا يقع له إن شاء الله لأن له من القوة بالله ما يدفع عن قلبه وإنما المبتدئ ضعيف إن منعناه عن العمل حتى يخلص قل السالكون وانقطعت الطريق وبقيت قلوب أكثر الخلق على كدرها واستولت الشياطين عليها فليفتح لهم باب يدخلون فيه
____________________
(1/166)
إلى الخير والله رفيقهم ومعينهم ليحق الحق ويبطل الباطل ويصفي السرائر ويظهر ما أكمنه في تلك المعادن ويخرج الخبيث وينصع الطيب ويتوكل على العزيز الرحيم
وقد رأيت أن أجمع الكلام وألخصه وأقول في الجواب هنا مسائل إحداها المقصود بالسؤال فيمن تقاوم عنده الباعث الدنيوي والباعث الديني وأراد العمل بهما وسيلة إلى ظهور الباعث الديني وعلم من عادته ذلك فهذه أربعة أمور فيستحيل معها القول بالتحريم فجوابي لهذا المسترشد نفعه الله أنه لا يترك العمل ويجاهد نفسه في دفع الباعث الدنيوي وإلا فهو معمور بالثلاثة ومحل هذا الكلام في نوافل العبادات كقيام الليل ونحوه أما السنن التي نص الشارع على خصوصاتها فهي آكد نعوذ بالله من تركها وأما الفرائض فأعظم وتركها يحرم صلاة كانت أو غيرها حتى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فهذا جوابي لمن قصد تقليدي في العمل بما أقوله والله يغفر لي وله ولو فقد الرابع وهو علم عادته ووجدت الثلاثة الأول فجوابي كذلك لأن إرادة العمل بها لأجل الوسيلة خالص لله فإذا فرض قصد ذلك انقطع أثر الباعثين المتقاومين دينا ودنيا وصار الباعث هذا الثالث وهو ديني فحسب فيستحيل القول بالتحريم
وهذا بحسب ما فرضه السائل في الاستفتاء ودل عليه كلامه قصده أو لم يقصده وهي مسألة دقيقة لم أر أحدا تعرض لها وشرطها أن يتحقق عنده ذلك الباعث الثالث بأن يجد من نفسه اتباعا من ذلك التوسل وشهوة لدفع الباعث الدنيوي وقصدا لإجابتها فيما انبعثت إليه من ذلك ولا يكفي أنه يقول بلسانه إنه يقصد التوسل ولا إنه يختار أنه يجعل في قلبه ذلك إلى أن يوفقه الله إليه ولو لم يتحقق عنده هذا الثالث وإنما وجد عنده الباعثان المتقاومان وهو الذي قال السائل في استفتائه إنه ليس هو المقصود
والذي أقوله فيه أيضا إنه لا يترك العمل ولا يحرم سواء أتساوى الباعثان أم قوي أحدهما أيا ما كان لأن فرض المسألة حصول الباعث الديني واجتماع البواعث على الفعل الواحد ليس بممتنع بل هو ممكن واقع عقلا وشرعا وحسا فيحصل له عملا بقوله صلى الله عليه وسلم فهجرته إلى ما هاجر إليه ويصح ذلك العمل لكن ثوابه أنقص من ثواب المخلص وليس كل ما فقد الإخلاص فيه يفقد الثواب فيه بل نقول ذلك إثم مخلص فيه من الجهة الدينية فيثاب عليه من تلك الجهة وإن شابه نقص لاختلاطه بالدنيوي وإنما يحبط العمل بالكلية إذا لم يكن إلا الباعث الدنيوي وليس حبوط العمل حينئذ لتحريم
____________________
(1/167)
الباعث الدنيوي لذاته بل لعدم النية الصحيحة فيتجرد العمل عن النية فيكون باطلا ويصير العامل به بلا نية كالمستخف بعبادة الله ممقوتا لتلبيسه وتزويره
وإذا كان من يقول ما لا يفعل ممقوتا فمن يصور نفسه في صورة من يفعل بلا فعل أشد مقتا فمن هنا حرم الرياء وإلا فالرياء قد يكون في الأمور الدنيوية فلا يكون حراما وقد يكون في الأمور الدينية لأغراض صحيحة مع النية الصحيحة فيكون جائزا بل مطلوبا كإظهار صدقة الفرض وإراءة المشركين القوة بالرمل والتبختر بالحرب وغير ذلك فالعمل الذي لم يرد به إلا الرياء حرام لما قلناه على الصورة التي قلناها والعمل الذي خالطه الرياء ناقص والتوسل به كالتوسل بالحرام فإنه لا يحل التوسل بشرب الخمر إلى أمر ديني إن تخيل ذلك
والفرق أن الخمر حرام في نفسها والرياء تحريمه لما سبق ففي حالة المخالطة لم يتحقق تحريمه ويصير مما تخالطه العبادة من الأمور الناقصة التي ليست حراما وقد نص الفقهاء على صحة وضوء من قصد رفع الحدث والتبرد معه وقصد التبرد من الأمور الدنيوية ليس عبادة ولم يفرقوا بين أن تكون نية التبرد أقوى من نية رفع الحدث أو بالعكس فكذلك قصد الرياء مع قصد العبادة وإن كان قصد الرياء مذموما وقصد التبرد ليس مذموما ولكنهما اشتركا في عدم العبادة ولم يلزم من ذلك مضادة النية الصحيحة
وقد تضمن هذا الكلام مسائل كنا قصدنا إفراد كل مسألة ثم انجر ترتيب الكلام إلى ذكره هكذا ومن تمام الكلام فيه قول السائل إذا كان هذا الفعل حراما ولكن من عادته كذا فهل له أن يفعل وأحاشي السائل من هذا السؤال فإنه متى سلم التحريم لم يكن له ذلك ويصير كمن تخيل أن يشرب الخمر ليقوى على العبادة فهذا لا سبيل إليه
والفرق ما قدمناه من أن ذات الرياء من حيث هو منقسمة والتحريم عارض لها كما يعرض للأمور المباحة فحيث نجوز الإقدام معه لا نقول إنه حرام لكنه ينقص العبادة عن درجة الكمال
والغزالي وغيره ممن تكلموا في ذلك لم يقولوا بالتحريم وإنما حكموا في الثواب وعدمه وكلامهم يقتضي الصحة ما لم يتجرد الرياء ولكن مع الصحة قد يحصل الثواب وقد لا يحصل وأنا أقول إنه يصح ويثاب ما لم يتجرد قصد الرياء والله أعلم
كتب علي بن عبد الكافي السبكي
مسألة في الجمع بين الصلوات قال الشيخ الإمام رحمه الله الجمع بين الصلاتين الظهر والعصر تقديما يوم عرفة للحاج والمغرب والعشاء تأخيرا لهم بمزدلفة قال به جميع المسلمين وفي السفر
____________________
(1/168)
قال به أكثر العلماء خلافا لأبي حنيفة والمختار عندنا جوازه لثبوت الأحاديث الصحيحة به صريحا لا تحتمل التأويل وبالمطر قال به كثير من العلماء مالك في المغرب والعشاء وكذلك أحمد وقال به الشافعي فيهما وفي الظهر والعصر والمختار منعه لثبوت حديث صحيح فيه والجمع بالمرض قال به طوائف من الفقهاء وبالوحل والريح ونحوهما قال به بعض من قال بالجمع بالمطر والجمع بالعذر الخفيف بشرط أن لا يتخذ ذلك عادة قال به ابن سيرين فيما حكاه ابن المنذر وغيره وحكي قريب منه عن أبي إسحاق المروزي وابن خزيمة ولم يصح لا عن هذا ولا عن هذا وأما بغير عذر فلم يقل به أحد والله أعلم
كتب علي السبكي في الثاني والعشرين من المحرم سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة بالعادلية بدمشق انتهى
مسألة في السعي إلى الجمعة وهو التأهب لها والاشتغال بأسبابها والمشي واجب على الفور وجوبا مضيقا وليس على التوسعة كغيرها من الصلوات لقوله تعالى فاسعوا والمعنى فيه تعظيم الجمعة على غيرها من الصلوات فخصت بوجوب السعي إليها من أول الوقت قصدا وغيرها من الصلوات وإن قيل بوجوب الجماعة وإتيان المسجد فإنما تجب وجوبا موسعا وهو وجوب الوسائل لا وجوب المقاصد بخلاف السعي إلى الجمعة فإنه واجب وجوب المقاصد وقوله وذروا البيع أي المفوت للسعي ولا نقول المفوت للجمعة وإنما قلنا هذا لأنا لو قلنا السعي غير واجب لعينه بل المقصود عدم تفويت الجمعة لكان هذا استنباط أن النهي عن البيع لتفويت السعي ويدل عليه اقتران الكلام وأيضا فإنه لا يبطل النص ولكن يخصصه وهو أسهل من الأول يجوز على أصح القولين وينبني على هذا أن البيع في الجامع لا يحرم وكذا في الطريق وأن البيع في بيته حرام بل الجلوس وعدم الاشتغال بشيء حرام لما قلنا إن السعي على الفور والله أعلم
مسألة سئل عنها الشيخ الإمام رضي الله عنه في المسجونين بسجن الشرع وهم أكثر من أربعين هل يجوز لهم أن يقيموا من بينهم إماما يخطب بهم ويصلي بهم الجمعة والأعياد أجاب رحمه الله تعالى لا يجوز لهم إقامة الجمعة في السجن بل يصلون ظهرا لأنه لم يبلغنا أن أحدا من السلف فعل ذلك مع أنه كان في السجون أقوام من العلماء المتورعين والغالب أنه يجتمع معهم أربعون وأكثر موصوفون
____________________
(1/169)
بصفات من تنعقد به الجمعة فلو كان ذلك جائزا لفعلوه والسر في عدم جوازه أن المقصود من الجمعة إقامة الشعار ولذلك اختصت بمكان واحد من البلد إذا وسع الناس اتفاقا وكأنها من هذا الوجه تشبه فروض الكفايات ومن جهة أنه يجب على كل مكلف بها إتيانها فهي فرض عين
وقد نقل عن الشافعي رحمه الله قول إنها فرض كفاية وغلطوا قائله لما اشتهر أنها فرض عين وعندي يمكن حمل ذلك النقل على ما أشرت إليه بأن فيها الأمرين جميعا أحدهما قصد إظهار الشعار وإقامتها في البلد الذي فيه أربعون وهذا فرض كفاية على كل مكلف في تلك البلد وعلى كل من حولها ممن يسمع النداء منها إذا كانوا دون الأربعين
والثاني وجوب حضورها وهو كل من كان من أهل الكمال من أهل ذلك البلد وممن حولها ممن يسمع النداء إذا لم يمكنه إقامة الجمعة في محله وإذا عرفت أن المقصود بها ذلك والسجن ليس محل ظهور الشعار فلا تشرع إقامتها فيه ولعل لذلك لم يقمها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة وأقامها أبو أمامة أسعد بن زرارة بالبقيع بقيع الحصمات من ظاهر المدينة والظاهر أن ذلك كان بأمره صلى الله عليه وسلم وإنما يأمر بها ولا يفعلها لما قلنا من المعنى والسجن ليس محلا لإقامتها لأمرين أحدهما عدم ظهور الشعار
والثاني أنه تعطيل إقامتها في بقية البلد إذا كانت لا تحتمل جمعتين وما عطل فرض الكفاية نمنع منه فعدم الجواز إذا كانت البلدة صغيرة لهاتين العلتين وكل علة منهما كافية لهذا الحكم ولو أن أربعين اجتمعوا في بيت لا يظهر فيه الشعار وعجلوا بالخطبة وصلاة الجمعة قبل الجمعة التي تقام في البلد في الشعار الظاهر لم أر ذلك جائزا لهم لما ذكرته من العلتين
وإذا كانت البلدة كبيرة والجامع الذي لها لا يسع الناس وكانت بحيث تجوز إقامة جمعة أخرى فيها على ما ذكر الروياني وغيره من المتأخرين فأقام أهل السجن الجمعة أو أهل بيت لا يظهر فيه الشعار فأقول إن ذلك لا يجوز أيضا لإحدى العلتين وهي أنه ليس محل إقامة جمعة فهي غير شرعية والإقدام على عبادة غير مشروعة لا يجوز وقد ظهر أنه لا يجوز إقامة الجمعة في السجن سواء أضاق البلد أم اتسع سواء أجوزنا جمعتين في بلد إذا ضاق أم لم نجوز ولذلك لم نسمع بذلك عن أحد من السلف
إذا عرف هذا فأهل السجن يصلون ظهرا وهل يستحب لهم الجماعة وجهان أصحهما نعم وعلى هذا يستحب لهم إخفاؤها وجهان أصحهما لا والنص أنه يستحب الإخفاء لأن الجماعة في هذا اليوم من شعار الجمعة وإن كان لا تهمة على
____________________
(1/170)
هؤلاء أما المعذرون الذين نخشى عليهم من التهم فيستحب لهم الإخفاء قطعا وإنما يصلون الظهر بعد فراغ جمعة البلد وأما العيد فيستحب لهم صلاته وأما خطبته ففي استحبابها نظر لما أشرت إليه من الشعار ولم أنظر فيه فيحتاج إلى كشف وتأمل والله أعلم
كتب في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين
ومما لحظناه من معنى فرض الكفاية يظهر تحريم السفر على أحد القولين قبل الزوال المفوت للجمعة وإن كان وقتها لم يدخل بخلاف بقية الصلوات ولقد كنت أستشكل ذلك ولا أصغي لمن يقول إن الجمعة متعلقة باليوم وأقول كيف تجب الوسيلة قبل وجوب المقصد حتى ظهر لي هذا المعنى وذلك أن إقامة شعار هذا اليوم بهذه الصلاة متعلق باليوم وإنما يتوقف على الزوال وجوب الصلاة وصحتها ولهذا يستحب التبكير لها ومسائل أخرى تتخرج على هذا انتهى
مسألة قال الشيخ الإمام رحمه الله ورضي عنه إقامة جمعتين في بلد لم أر لها ذكرا في كلام الصحابة رضوان الله عليهم إلا ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه قال حدثنا عبد السلام بن حرب عن القاسم بن الوليد قال قال علي رضي الله عنه لا جمعة يوم جمعة إلا مع الإمام
وقال أبو بكر بن المنذر روينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول لا جمعة إلا في المسجد الأكبر الذي يصلي فيه الإمام ولم أر جواز جمعتين في بلد عن أحد من الصحابة قولا ولا فعلا وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن إدريس عن سعيد عن عطاء عن أبي ميمون عن أبي رافع عن أبي هريرة أنهم كتبوا إلى عمر رضي الله عنه يسألونه عن الجمعة فكتب جمعوا حيث ما كنتم وليس في هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه تعرض للتعدد وإنما فيه إجازته الجمعة في أي مكان كان من القرى والمدن
وروى ابن أبي شيبة عن غندر عن شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع
وعن أبي معاوية عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال لا تشريق ولا جمعة إلا في مصر
وهذا مع الأول يقتضي الحكم بصحة ذلك عن علي رضي الله عنه وإن كان سفيان رضي الله عنه أيضا مدلسا لكنه جليل ورأيت في علل الحديث التي رواها الأثرم عن أحمد قلت لأبي عبد الله وروى أبو إسرائيل شيئا غريبا فقال أبو عبد الله نعم لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع وهذا من أحمد يقتضي التوقف في تصحيحه وعلى تقدير صحته فهذا اختلاف بين عمر وعلي رضي الله عنهما في اشتراط المصر
____________________
(1/171)
وليس في كلام أحد منهما تعرض للتعدد ففي كلام علي المتقدم ما يقتضي منعه
وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا هشيم عن عبد الحميد عن جعفر عن أبيه قال كان عبد الله بن رواحة يأتي الجمعة ماشيا وإن شاء راكبا
حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ عن سعيد بن أبي أيوب قال حدثني الوليد بن أبي الوليد قال رأيت أبا هريرة يأتي الجمعة من ذي الحليفة ماشيا
حدثنا شريك عن مختار بن أبي غسان عن أبي ظبيان الحجبي قال قال علي رضي الله عنه تؤتى الجمعة ولو حبوا
حدثنا وكيع عن هشام بن عروة قال أرسلت إلى عائشة بنت سعد أسألها عن الجمعة فقالت كان سعد على رأس سبعة أميال أو ثمانية وكان أحيانا يأتيها وأحيانا لا يأتيها
حدثنا عن أبي البحتري قال رأيت أنسا شهد الجمعة من الراوية وهي على فرسخين من البصرة
حدثنا رواد بن الجراح عن الأوزاعي عن واصل عن مجاهد قال كانت العصبة من الرجال والنساء يجتمعون مع النبي صلى الله عليه وسلم فما يأتون رحالهم إلا من الغد
حدثنا هشيم عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن عبد الله بن رواحة كان يأتي الجمعة ماشيا فقلت لعبد الحميد كم كان بين منزله وبين الجمعة قال ميلين
حدثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري أنهم كانوا يشهدون الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة
حدثنا وكيع عن جعفر بن برقان قلت للزهري على من تجب الجمعة ممن كان هو قرب المدينة قال كان أهل ذي الحليفة يشهدون الجمعة
حدثنا محمد بن عدي عن ابن عون قال كان محمد يسأل عن الرجل يجمع من هذه المزالف فيقول كانوا يجمعون من المزالف حول المدينة
حدثنا أبو داود الطيالسي عن أيوب بن عتبة عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال تؤتى الجمعة من فرسخين
حدثنا عباد بن العوام عن عمر بن عامر عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمر أنه كان يشهد الجمعة في الطائف وهو في قرية يقال لها الرهط على رأس ثلاثة أميال
وقال عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال جمع أهل المدينة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة فقالت الأنصار لليهود يوم يجتمعون فيه كل ستة أيام وللنصارى أيضا مثل ذلك فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه ونذكر الله تعالى ونصلي ونشكره أو كما قالوا فقالوا يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوا يوم الجمعة العروبة وكانوا يسمون يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح أسعد بن زرارة لهم شاة فتغدوا وتعشوا من شاة واحدة ليلتهم فأنزل الله تعالى بعد ذلك
____________________
(1/172)
إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله
أخبرنا عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء من أول من جمع قال رجل من بني عبد الدار زعموا قلت أبأمر النبي صلى الله عليه وسلم قال فمه
عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هشام إلى أهل المدينة ليقرئهم القرآن فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بينهم فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يومئذ بأمير ولكن انطلق يعلم أهل المدينة قال معمر وكان الزهري يقول حيث ما كان أمير فإنه يعظ أصحابه يوم الجمعة ويصلي بهم ركعتين
عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يكون بالرهط فلا يشهد الجمعة مع الناس بالطائف وإنما بينه وبين الطائف أربعة أميال أو ثلاثة
عبد الرزاق أنا معمر عن ثابت البناني قال كان يكون أنس في أرضه بينه وبين البصرة ثلاثة أميال فيشهد الجمعة بالبصرة
عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني سليمان بن موسى أن معاوية كان يدعو الناس إلى شهود الجمعة على المنبر بدمشق فيقول اشهدوا الجمعة يا أهل كذا يا أهل كذا حتى يدعو أهل قائن وأهل قائن حينئذ من دمشق على أربعة وعشرين ميلا فيقول اشهدوا الجمعة يا أهل قائن
عبد الرزاق عن محمد بن راشد أخبرني عبدة بن أبي لبابة أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يقوم على منبره فيقول يا أهل مرو يا أهل دائرة فرسخين من دمشق إحداهما على أربعة فراسخ والأخرى على خمسة أن الجمعة لزمتكم وأن لا جمعة إلا معنا
عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب قال بلغنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شهدوا بدرا أصيبت أبصارهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده وكانوا لا يتركون شهود الجمعة فلا نرى أن يترك شهود الجمعة من وجد إليها سبيلا
عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن شهاب عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال لا أعلمه إلا رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال من سمع الأذان ثلاث جمعات ثم لم يحضر الجمعة أو قال لم يجب كتب من المنافقين
وذكر عبد الرزاق في ذلك أحاديث كثيرة
وسيأتي حديث الجمعة على كل من سمع النداء
وفي الترمذي عن ثور بن أبي فاختة عن رجل من أهل قباء عن أبيه وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشهد الجمعة من قباء قال أبو عيسى لا يصح في هذا الباب شيء وفي المحلى لابن
____________________
(1/173)
حزم عن قتادة قال زرارة بن أوفى لا جمعة لمن صلى في الرحبة سمعت أبا هريرة يقول ذلك
فصل هذا ما اتفق ذكره من مذاهب الصحابة رضوان الله عليهم وتلخص منه مذهب عمر رضي الله عنه أن الجمعة جائزة في كل مصر وقرية
ومذهب علي رضي الله عنه أنها لا تجوز إلا في مصر
ومذهب ابن عمر رضي الله عنهما أنها لا تجوز إلا في المسجد الذي يصلي فيه الإمام وظاهره أنه يشترط السلطان وإذا أخذنا بالإطلاق أتتنا هنا ثلاثة مذاهب مطلقة مذهبان في اشتراط السلطان مطلقا في القرية والمصر ومذهبان في اشتراط المصر مطلقا مع السلطان وبدونه وليس في ذلك تعرض للتعدد أصلا ولكن ظاهره وظاهر الفعل المستمر عدم التعدد لمحافظة من قدمناه على الإتيان إليها من بعد واشتراط المصر يرده التجميع في حوايا وهي قرية من قرى البحرين
وقد نقلوا في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة يوم الاثنين فنزل بقباء وأقام في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم وخرج فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلى الجمعة في المسجد الذي ببطن الوادي وهذا إن صح يدل على أحد أمرين إما أن المصر ليس بشرط وإما أن الإمام يصلي الجمعة حيث كان وهو رأي عمر بن عبد العزيز ولعل المقصود أن تكون الجمعة في محل ظهور الشعار ولا محل لذلك أعظم من محل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم وعلو كلمتهم وكذلك محل خلفائه بعده ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الهجرة وإن أذن في فعلها بالمدينة لأن مكة في ذلك الوقت كانت قريش مسئولين عليها والمقصود بالجمعة اجتماع المؤمنين كلهم وموعظتهم
وأكمل وجوه ذلك أن يكون في مكان واحد لتجتمع كلمتهم وتحصل الألفة بينهم وحصل ذلك لهذا المعنى مقدما في هذه الصلاة في هذا اليوم على حضور الجماعات في المساجد المتفرقة وعطلت لهذا القصد وإن كانت إقامة الجمعة فيها في غير هذه الصلاة من أعظم بل من أعظم شعائر الإسلام
وهذا العمل مستمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وفي الجمعة ثلاثة مقاصد أحدها ظهور الشعار
والثاني الموعظة
والثالث تأليف بعض المؤمنين ببعض لتراحمهم وتوادهم ولما كانت هذه المقاصد الثلاثة من أحسن المقاصد واستمر العمل عليها وكان الاقتصار على جمعة واحدة أدعى إليها استمر العمل عليه وعلم ذلك من دين الإسلام بالضرورة وإن لم يأت في ذلك نص من الشارع بأمر ولا نهي ولكن قوله تعالى
____________________
(1/174)
وما آتاكم الرسول فخذوه وقد أتانا فعله صلى الله عليه وسلم وسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده ومن محاسن الإسلام اجتماع المؤمنين كل طائفة في مسجدهم في الصلوات الخمس ثم اجتماع جميع أهل البلد في الجمعة ثم اجتماع أهل البلد وما قرب منها من العوالي في العيدين لتحصل الألفة بينهم ولا يحصل تقاطع ولا تفرق فالتفريق من المؤمنين من أضر شيء يكون فالاجتماع داع إلى اتفاق كلمة المسلمين والزيادة على الواحد لا ضبط لها فاقتصر على الواحدة وهذا في الجمعة لا يشق بخلاف بقية الصلوات جعلت في مساجد المحال فانظر إلى قوله تعالى وتفريقا بين المؤمنين كيف جعله من الصفات المقتضية لهدم مسجد الضرار
فصل وانقرض عصر الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك وجاء التابعون فلم أعلم أحدا منهم تكلم في هذه المسألة أيضا ولا قال بجواز جمعتين في بلد إلا رواية عبد الرزاق عن ابن جريج قال قلت لعطاء أرأيت أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر كيف يصنعون قال لكل قوم مسجد يجمعون فيه ثم يجزئ ذلك عنهم قال ابن جريج وأنكر الناس أن يجمعوا إلا في المسجد الأكبر
هذا لفظ عبد الرزاق في مصنفه نقلته منه وفيه ما تراه من إنكار الناس ما قاله عطاء ومنه صورة المسألة التي سئل عنها عطاء فيما إذا كان المسجد لا يسعهم فليس فيه إجازة ذلك وفيه قول لكل قوم مسجد يجمعون فيه ثم يجزئ ذلك عنهم ولا شك أن ظاهر ذلك مخالف لسائر الناس فالرجوع إلى قول سائر الناس مع الصحابة جميعهم أولى ويصير مذهب عطاء في ذلك من المذاهب الشاذة التي لم يعمل بها الناس ويحتمل تأويله على أنه أراد أنهم يجمعون بالدعاء والموعظة من غير قصد الصلاة ويحتمل أن يريد أن إقامة جمعتين في بلد ليس بممتنع عند عدم إمكان الاجتماع في مكان واحد ويجتهد كل منهما في أن يكون هو السابق فإن حصل السبق لأحدهما أجزأت عنه وإن لم يحصل العلم بأنه مسبوق يجزئ عنه ويشير إليه قوله ثم يجزئ عنه
ونحن نزاعنا إنما هو في صحتها وإن علم سبق أحدهما ومسبوقية الأخرى ثم انقرض عصر التابعين رضي الله عنهم على ذلك ولم يتجدد فيه خلاف آخر من غير عطاء زيادة على ما ذكرناه من مذاهب الصحابة التي قدمناها
ولنذكر ما ورد عن التابعين روى عبد الرزاق عن سعيد بن السائب بن يسار أنا صالح بن سعيد المكي أنه كان مع عمر بن عبد العزيز وهو مبتدئ بالسويداء
____________________
(1/175)
وهو في إمارته على الحجاز فحضرت الجمعة فهيئوا له مجلسا من البطحاء ثم أذن المؤذن للصلاة فخرج إليهم فجلس على ذلك المجلس ثم أذنوا أذانا آخر ثم خطبهم ثم أقيمت الصلاة ثم صلى بهم ركعتين وأعلن فيهما بالقرآن ثم قال لهم حين فرغ من صلاته إن الإمام يجمع حيث كان
عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أن مسلمة بن عبد الملك كتب إليه إني في قرية لي فيها موال كثير وأهل وناس أفأجمع بهم ولست بأمير فكتب إليه أن مصعب بن عمير استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بأهل المدينة فأذن له فإن رأيت أن تكتب إلى هشام ليأذن لك فافعل
عبد الرزاق عن الثوري عن إبراهيم قال تؤتى الجمعة من فرسخين
وعن الحسن لا تجب الجمعة على من آواه الليل راجعا إلى أهله
عبد الرزاق أنا ابن جريج قال سألنا عطاء من أين تؤتى الجمعة قال فقال يقال عشرة أميال إلى بريد
وعن ابن شهاب أن الناس كانوا ينزلون إلى الجمعة على رأس أربعة أميال أو ستة
عبد الرزاق أنا داود بن قيس قال سئل عمرو بن شعيب وأنا أسمع من أين تؤتى الجمعة قال من مد الصوت
عبد الرزاق عن رجل من أسلم عن عثمان بن محمد أنه أرسل إلى ابن المسيب يسأله عمن تجب عليه الجمعة قال على من يسمع النداء
وفي سنن أبي داود ثنا محمد بن يحيى بن فارس ثنا قبيصة ثنا سفيان عن محمد بن سعيد الطائفي عن أبي سلمة بن نبيه عن عبد الله بن هارون عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة على كل من سمع النداء وقبيصة رجل صالح ثقة في غير الثوري وكثير الخطأ عن الثوري ومحمد بن سعيد ظن ابن حزم أنه المصلوب وليس إياه ووثقه الدارقطني وتكلمت على ذلك في شرح المنهاج في كتاب الفرائض وأبو سلمة بن نبيه مجهول وعبد الله بن هارون مجهول وليس له إلا هذا الحديث
ورواه عن سفيان جماعة مقصورا على عبد الله بن عمر ولم يرفعوه وإنما أسنده قبيصة كذا ذكره أبو داود
وقال عبد الحق في الأحكام روي موقوفا وهو الصحيح يعني إنه أصح من الرفع وأما صحته فيمنع منها جهالة راويه وسئل عبد الرزاق من أين يستحب أن تؤتى الجمعة قال من مدنة الرحبة إلى صنعاء ومثل قدرها وما كان أبعد من ذلك فإن شاءوا حضروا وإن شاءوا لم يحضروا
عبد الرزاق عن معمر أخبرني من سمع الحسن يقول لا جمعة إلا في مصر جامع وكان يعد الأمصار الكوفة والبصرة والمدينة والبحرين ومصر والشام والجزيرة وربما قال اليمن واليمامة
عبد الرزاق عن ابن التيمي عن ليث عن مجاهد
____________________
(1/176)
قال واسط مصر
عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء ما القرية الجامعة قال ذات الجماعة والأثر والقصاص والدور المجتمعة غير المتفرقة والآخذ بعضها ببعض كهيئة جدة قال فجدة جامعة قال والطائف قال وإذا كنت في قرية جامعة فنودي للصلاة من يوم الجمعة فحق عليك أن تشهدها سمعت الأذان أو لم تسمعه
عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه أمر أهل قباء وأهل ذي الحليفة وأهل القرى الصغار لا تجمعوا وأن تشهدوا الجمعة بالمدينة
عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى أهل المياه بين مكة والمدينة أن يجمعوا فقال عطاء عند ذلك فقد بلغنا أن لا جمعة إلا في مصر جامع
عبد الرزاق عن ابن جريج قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه في سفره خطبهم متكئا على قوس
عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار قال سمعنا أن لا جمعة إلا في قرية جامعة
عبد الرزاق عن محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار يقول إذا كان المسجد تجمع فيه الصلوات فلتصل فيه الجمعة
عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر عن نافع كان ابن عمر يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون فلا يعيب عليهم
عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال ليست عرفة ولا الظهران ولا سرو ولا أهل أوديتنا هذه بجامعة
عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال إذا كنت في قرية جامعة يجمع أهلها فإن شئت فاجمع معهم وإن شئت فلا إلا أن تسمع النداء فإن جمعت معهم فإذا سلم إمامهم في ركعتين فقم فزد ركعتين ولا تقصر معهم
عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري قال سألت عن القرية غير الجامعة يجمعون ويقصرون الصلاة قال قلت أجمع معهم وأقصر قال نعم
عبد الرزاق عن ابن جريج قال قال سليمان بن موسى لا جمعة ولا أضحى ولا فطر إلا على من حضره الإمام
ابن أبي شيبة ثنا ابن إدريس عن هشام عن الحسن ومحمد قالا الجمعة في الأمصار
ثنا هشيم أنا يونس عن الحسن أنه سئل على أهل الأيلة جمعة قال لا
وعن إبراهيم كانوا لا يجمعون في العساكر
وعن إبراهيم لا جمعة إلا في مصر جامع
وعن مجاهد قال الري مصر
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي أيما أهل قرية ليسوا بأهل عمود ينتقلون فأمر عليهم أمير يجمع بهم
حدثنا ابن إدريس عن مالك قال كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في هذه المياه بين مكة والمدينة يجمعون
وعن عكرمة قال تؤتى الجمعة من أربع فراسخ
وعن هشام بن عروة قال كان أبي يكون يسير ثلاثة أميال من المدينة فلا يشهد جمعة ولا جماعة
____________________
(1/177)
هذا ما اتفق نقله من كلام التابعين وليس في شيء منه ما يقتضي جواز جمعتين إلا ما حكينا عن عطاء وأنكره الناس
فصل قد علمت قول ابن جريج لعطاء إن مسجد البصرة الأكبر لا يسع أهلها وقد علمت قول ابن عمر لا جمعة إلا في المسجد الأكبر وقول علي لا جمعة إلا في مصر وقوله لا جمعة إلا مع الإمام وقول عطاء بلغنا أن لا جمعة إلا في مصر جامع فعلم أن مذهب عطاء اشتراط المصر كمذهب أبي حنيفة ولعله يشترط المسجد مع ذلك كمذهب ابن عمر وهو مذهب مالك ولا ندري هل يشترط الإمام أو لا فإذا فرض الكلام في البصرة وشبهها ومسجدها الأكبر لا يسع أهلها فمن يقول لا يشترط للجمعة المسجد ولا الإمام كمذهب الشافعي يمكنه القول بأنهم يصلون في الطرقات مع الجامع وتتصل الصفوف فلا يتعذر إقامة الفرض بجمعة واحدة ومن يشرط المسجد يتعذر ذلك عنده
فإذا امتلأ المسجد وبقيت طائفة من أهل البلد لا يمكنها الوصول إلى المسجد فيحتاج الذي يشترط المسجد أن يقول في حق هذه الطائفة أحد أمرين إما إنهم يقيمون الظهر لتعذر الجمعة في حقهم كمن لم يدرك الجمعة فإنه يصلي الظهر وإما أن يرخص لهم في إقامة جمعة أخرى في مسجد آخر من مساجد المصر إما مع الإمام أو نائبه إن اشترط الإمام وإما بدونه إن لم يشرطه وهذا يحتاج إلى دليل من جهة الشرع لأنه ليس كلما دعت الحاجة إليه يجوز من جهة الشرع حتى يأتي فيه الدليل الشرعي
وأما الأول وهو إقامة الظهر فعليه دليل وهو الذي لم يدرك الجمعة ومعرفة حكمه بكلام الفقهاء وبأن الأصل هو الظهر وإنما ينتقل عنه إلى الجمعة بشروط فإذا لم توجد يرجع إلى الظهر فكأن الأمر في البصرة وما أشبهها على هذين الاحتمالين لا يخرج عنهما عند من يشترط الجمعة وأما عند من لا يشرط المسجد فالجمعة عنده ممكنة فحصل في البصرة حينئذ لأجل الحاجة ثلاثة احتمالات للعلماء أحدها أنهم كلهم يصلون جمعة واحدة
والثاني أنهم يصلون جمعتين أو أكثر على قدر الحاجة ولا يزاد عليها
والثالث أن الذين يمكنهم أن يصلوا الجمعة والذين لا يمكنهم أن يصلوا الظهر ولا تتعدد الجمعة وهذا لم أجده منقولا ولكنه مقتضى الفقه على مذهب من اشترط المسجد والثاني يحتمل مع ضعفه ولعل عطاء ذهب إليه وفي قول عطاء احتمال آخر وهو أن كلا من الطائفتين ممن تلزمه وضيق المسجد يمنع من أداء إحداهما لا بعينها فلا تسقط الجمعة عنه لأجل الإمكان ويصليها كيف ما اتفق لقوله صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وقد روى أبو بكر بن أبي
____________________
(1/178)
شيبة عن محمد بن عبيد عن الزبرقان قال قلت لشقيق إن الحجاج يميت الجمعة قال تكتم علي قلت نعم قال صلها في بيتك لوقتها ولا تترك الجماعة
وهذا الذي قاله شقيق لا مأخذ له إلا ما ذكرته فإن الحجاج كان يؤخر الجمعة حتى يخرج الوقت فالذي تلزمه الجمعة ولا يمكنه أن يصليها ظاهرا لخوفه منه يصليها في بيته ولو وحده ليكون قد أدى بعض ما وجب عليه والميسور لا يسقط بالمعسور ومسألتنا هذه ليست من هذا القبيل عند التحقيق وعطاء لعله يقول إنها من هذا القبيل وهي محل نظر
وهذا كله أيضا إنما يأتي إن كان أحد يشرط المسجد للإمام والمأمومين عند السعة وعند الضيق ولا أعلم أحدا صرح بذلك وفي مصنف ابن أبي شيبة أن أبا هريرة أتى على رجال جلوس في الرحبة فقال ادخلوا المسجد فإنه لا جمعة إلا في المسجد وهذا يحتمل أن يكون عند السعة بدليل قوله ادخلوا المسجد
أما حالة الضيق فلا وكيف يقال ذلك ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم حين بناه عشر في عشر وهذا المقدار لا يسع أكثر من مائة نفس يصلون وكانت الصحابة رضوان الله عليهم أضعاف ذلك ولهذا قال الحسن لا جمعة لمن صلى في الرحبة إلا أن لا يقدر على الدخول
فصل ثم انقرض عصر التابعين ولم يحصل فيه بحمد الله تعالى تعدد جمعة ولم يعرف ذلك وبنيت بغداد وحدث فيها جوامع أولا جامع المنصور ثم جامع المهدي ثم غيرهما وكانت بلدة عظيمة فاختلف الفقهاء فأبو حنيفة رضي الله عنه رأى أنه لا يجوز إلا جمعة واحدة وكذلك قال مالك رضي الله عنه وأبو يوسف رحمه الله رأى بغداد وبين جامعيها نهر فرأى جواز جمعتين إما لأنها في حكم بلدين فالجانب الشرقي بلد والجانب الغربي بلد وهذا ليس ببعيد ولهذا ما كان يوضع الجسر الذي على النهر وقت الجمعة وعلى هذا لم يقل بتعدد الجمعة في البلد الواحد وإما لأن حيلولة النهر في البلد الواحد المحوج إلى السباحة يشق معه حضور الجمعة مع أن كل جانب تقام فيه الحدود فأشبه الجانبان البلدين وإن كانا بلدا واحدا والمنقول عنه في أكثر الروايات أنه لا يقول هذا في غير بغداد كأنه رأى أن غيرها لا يشاركها في هذا المعنى فلو وجدنا ما يشاركها بمقتضى قوله أن يقاس عليه فيجوز ورأي محمد بن الحسن رحمه الله أن ذلك جائز يريدون ما قاله أبو يوسف من الشرط وينبغي أن يفهم أن مذهبه هذا عند الحاجة لأنه إنما تكلم في ذلك فيتقيد بحسب الحاجة ولا يحمل على إجازة تعددها مطلقا في كل المساجد فتصير كالصلوات الخمس حتى لا يبقى للجمعة خصوصية
فإن هذا معلوم بطلانه بالضرورة لاستمرار عمل الناس عليه من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم ودخل الشافعي
____________________
(1/179)
رضي الله عنه بغداد وهي على تلك الصورة ولم ينقل إلينا أنه أنكر ذلك فاختلف أصحابه فمنهم من قال كقول أبي يوسف وهو قول أبي الطيب ومنهم من قال جار للمشقة
وقال الرافعي إنه اختيار أكثر أصحابنا تعريضا وتصريحا ومنهم ابن كج والحناطي والروياني وقول الرافعي أكثر أصحابنا غير مسلم له ومنهم من قال لا يجوز ذلك أصلا وإنما لم ينكر الشافعي لأن المجتهد لا ينكر على مجتهد وقد قال الشافعي بصريح لفظه لا يصلى في مصر وإن عظم وكثرت مساجده أكثر من جمعة واحدة وجعلوا هذا مذهبه ليس إلا وممن قال ذلك الشيخ أبو حامد وطبقته
وهذا القول هو الصحيح من حيث المذهب ومن حيث الدليل ونحن لا ندري ما كان يصنع الشافعي هل يعيدها ظهرا أو يعلم أن الجمعة التي صلاها هي السابقة فتصح وحدها عنده ثم جاء أحمد رضي الله عنه فروي عنه روايتان عند الحاجة وأما عند عدم الحاجة فقال صاحب المغني من الحنابلة لا نعلم في ذلك خلافا واستمر الأمر بعد ذلك العصر على ما ذكرناه من الاختلاف عند الحاجة
والتجويز وجه عند الشافعية ورواية عن أحمد وقول محمد بن الحسن ثم حدثت فقهاء آخرون فقالوا عن أبي حنيفة رواية مثل قول محمد بن الحسن وربما رجحوها وهي ترجع إلى ما قدمناه من قول عطاء في أهل البصرة
وأما تخيل أن ذلك يجوز في كل المساجد عند عدم الحاجة فهذا من المنكر بالضرورة في دين الإسلام ثم الاختلاف في ذلك عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد إنما هو في المصر أما القرى فعندهم لا جمعة فيها أصلا وقالوا إن فناء المصر فيما وراء ثلاثة أميال وهو بشرط المسجد كما قدمناه والشافعي لا يشترط المصر ويجوزها في جميع القرى قربت من المصر أو بعدت إذا كان فيها أربعون
فصل اختلف العلماء رضي الله عنهم في اشتراط السلطان في الجمعة فمذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه لا بد من حضور السلطان أو إذنه وهو إحدى الروايتين عن أحمد وحكي عن الشافعي في القديم قول مثله والجديد الصحيح وهو المشهور أنه لا يشترط حضوره ولا إذنه ومستند القائلين بالاشتراط أن ذلك من الأمور العظيمة وأنه لو لم يقل به لأدى إلى أن تفوت كل شرذمة تنعقد بهم الجمعة فرض الجمعة على أهل البلد
وقد تقدم في كلام بعض التابعين ما يقتضي اعتبار الإذن
وهذا في الجمعة الواحدة أما التعدد عند من يجوزه عند الحاجة فهو أولى بالاشتراط لا من جهة الصحة ولكن من جهة الإقدام عليه وتحقيقه أن الصحة على ما كانت عليه
____________________
(1/180)
قبل ذلك من لا يشترط السلطان يقول السابقة صحيحة ومن يشترطه يقول الصحيحة التي هو معها وأما الجواز فإذا قصد التعدد حيث الحاجة عند من يقول بالجواز حينئذ فينبغي أن يحتاج إلى إذن السلطان قطعا لأنه محل اجتهاد حيث قلناها السلطان
فالمراد به السلطان أو الأمير الذي هو من جهته على تلك البلدة والظاهر أن القاضي له ذلك أيضا إذا كان قاضيا عاما ينظر في أمور العامة ويحتمل أن يقال إن القاضي لا يقوم في ذلك لأن المحذور هنا خشية فتنة ونيابة السلطنة هي المستقلة بذلك والقاضي إنما يتكلم في الأمور الشرعية وفصل المحاكمات وكذا قوله صلى الله عليه وسلم فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له يشير إلى ذلك ولكن الفقهاء جعلوا القاضي في ولاية النكاح مثل السلطان ولعل الحديث محمول على حالة الاختلاف الذي يقتضي التقديم فيه إلى فتنة وتسكين الفتن إلى السلطان لا إلى القاضي
وهذا في قاض لم ينص له عرفا ولا لفظا على ذلك أما إذا نص له الإمام على زيادة على ذلك أو يكون شيء استفادة بالولاية مثل شيء يشترط نظيره للقاضي ونحوه وهذا ليس منه فليس للقاضي أن يأذن فيه إلا بشرطين أحدهما أن يرى ذلك جائزا في مذهبه
والثاني أن يرى في ذلك مصلحة للمسلمين يعود نفعها على عمومهم ومتى لم يتبين له ذلك لا يأذن
وأما الحكم فلا مدخل له هنا ألبتة لأن أحكام القضاة لا تدخل في العبادات أمور بين الله عز وجل وبين عباده والحكم لا بد فيه من محكوم له ومحكوم عليه وإلزام وفصل وذلك في العبادات التي بين الرب والعبد لا يتصور نعم قد يعلق الشخص طلاقا أو عتقا على صحة عبادة أو فسادها فيحكم القاضي بوقوع ذلك الطلاق والعتق بناء على ما يراه من مذهبه في ذلك إذا ثبت عنده سببه واستجمعت شروط الحكم وأما أنه يحكم بأن كل من صلى الجمعة في هذا المكان فصلاته صحيحة أو باطلة فلا يفعل ذلك إلا جاهل
فصل خرج مما ذكرناه ومن اختلاف الأماكن مسائل إحداها مصر أذن السلطان في إقامة الجمعة فيه فأقيمت فيه جمعة واحدة لم تتعدد فيه ولا في الأبنية المتصلة به التي إذا فارقها المسافر قصر الصلاة فهذه جمعة صحيحة بالإجماع وبحمد الله المساجد الثلاثة المعظمة اليوم كذلك مكة والمدينة وبيت المقدس وكثير من المدن في أقطار الأرض
المسألة الثانية مصر أقيمت فيه جمعة واحدة على الشروط ولكن بغير إذن السلطان فهي صحيحة عندنا باطلة عند أبي حنيفة رحمه الله
المسألة الثالثة قرية أقيمت فيها الجمعة كذلك
____________________
(1/181)
بإذن السلطان أو بغير إذنه فهي صحيحة عندنا باطلة عند الحنفية ولتجعل صورة المسألة في قرية منفصلة عن المصر وعن غيرها من القرى انفصالا ظاهرا بحيث تعد مستقلة وحدها غير تابعة كأكثر القرى التي في الديار المصرية والبلاد الشامية والعراق وغيرها
المسألة الرابعة الأبنية المتصلة بالمصر تابعة له وليست مستقلة ولا تعد قرية ويعبر عنها بعض الفقهاء بفناء المصر وهذا إذا لم يكن للمصر سور في حكم المصر بلا شك وإن كان للمصر سور فإن قلنا لا يقصر المسافر حتى يجاوزها وهو الأصح كانت في حكم المصر فلا تفرد بحكم فعلى هذا هي والمصر بلد واحد فإن أقيمت جمعة واحدة إما داخل السور وإما خارجه جاز ويحتمل أن يقال يجب أن تقام داخل السور ولا يكفي إقامتها خارج السور لأنه في حكم التابع فلا يكون متبوعا ولا شك أن هذا قياس قول أبي حنيفة
الخامسة قرية قريبة من السور أو من المصر الذي ليس عليه سور مستقلة باسم وهي مع ذلك لقربها كالأبنية التي تعد فناء للمصر فيحتمل أن يقال لا تفرد بحكم بل لقربها تابعة فتعطى حكم الفناء فتكون كالمسألة الثالثة وهاتان المسألتان الثالثة والرابعة لم أر لأصحابنا كلاما فيهما
السادسة حكم بغداد في الجمعة في الأماكن الأربعة المتقدمة في المسائل الأربع وهي في المصر معلوم على ما قرره الفقهاء في كتبهم وفي القرية عند من يجيز الجمعة كذلك وفي المصر مع الفناء كذلك على ما قدمناه كالبلد الواحد وفي المصر مع القرية المسألة بحالها وهي المسألة الرابعة على الاحتمالين المذكورين فإن جعلناهما واحدا فالتعدد كالتعدد في البلد الواحد وإن جعلناهما اثنين جاز التعدد عندنا خلافا لأبي حنيفة حيث لا يجوز التعدد وتكون السابقة هي الصحيحة والمسبوقة باطلة ولا فرق في ذلك بين ما كان داخل المصر وخارجه
السابعة حيث حصل التعدد لحاجة فقد عرف اختلاف العلماء فيه وحيث حصل لا لحاجة إما ابتداء وإما بزيادة مالية لا لحاجة إليها تقضي التطرق إلى فساد صلاة الجميع ولا تقتضي الفساد عليها لو كان المكانان مكانا واحدا
الثامنة المكان الأبنية وهي المسألة الرابعة وهي الواقعة التي حدثت في هذا الزمان في الشاغور إن عد مستقلا لم يجز عند الحنفية كلهم وإن عد مع المصر كالشيء الواحد كان إحداث هذه فيه كإحداثها في داخل سور دمشق وقد ظهر بهذا أن بإحداث هذه الجمعة فلا يلزم إبطال الجمعة في جامع بني أمية إذا كانت مسبوقة وفي ظاهر دمشق النيرب والمزة وكفر سوسيا والشاغور كان فيه جامع جراح وحده وبيت لهيا وبيت الآبار والعقيبة كان فيها جامع الأشرف وحده الذي هو اليوم جامع
____________________
(1/182)
العقيبة
لأن العقيبة بلد وهي الأوزاع التي ينسب إليها الأوزاعي والقرى البعيدة عن المصر إذا أقيمت فيها جمعة واحدة بإذن السلطان أو بغير إذنه صحيحة عندنا باطلة عند الحنفية فناء المصر وهي البناء المتصل به وليس منفصلا بحيث يعد قرية مثل حكر السماق الذي فيه جامع تنكز والمكان الذي فيه جامع يلبغا وما أشبههما فأما على مذهبنا فينبغي أن يبني ذلك على القصر فإن لم يكتف بمجاوزة السور واشترطنا مجاوزة البنيان كانت هذه الأماكن في حكم المدينة وإقامة الجمعة فيها مع إقامتها في المدينة كإقامة جمعتين في بلد واحد
فعند الرافعي ومن وافقه تجوز وعندنا الصحيحة هي السابقة سواء في ذلك جامع بني أمية وهذه الجوامع وإذا قيل بالجواز على رأي الرافعي فهل يجوز التعدد
ينبغي أن يقال إن انفرد كل بناء ووجد فيه أربعون تصح إقامة الجمعة فيهما لأنهما كقريتين وجامع تنكز وجامع يلبغا من هذا القبيل لأن كل واحد في محل منفصل عن الآخر وإنما يجوز عند الرافعي التعدد عند الحاجة فإن لم تكن حاجة وصليت جمعة داخل السور وأخرى خارجه في العمارة التي يشترط مجاوزتها لم يجز وكانت السابقة منهما هي الصحيحة وفي ذلك بين الداخلة والخارجة إلا إذا قلنا لا يشترط مجاوزة العمران بعد مجاوزة السور فتصح الجمعة التي داخل السور والتي خارجه والصحيح أنه لا بد من مفارقة البنيان فعلى هذا لا تصح الجمعة إلا في أحدهما عند الشافعي وغالبا لا يعلم هل وقعتا معا أو سبقت إحداهما والحكم في ذلك بعد خروج الوقت أربعا ظهرا
فينبغي لكل من صلى في هذه الجوامع أو في جامع بني أمية أن يعيدها ظهرا إلا على رأي الرافعي ومن وافقه ولا شك أن الاحتياط عند الجميع إعادتها ظهرا وإذا كان الأمر كذلك ففي جوازها مع الشك والعلم بأن هناك جمعة أخرى يظهر لأنه دخول في صلاة يجب إعادتها فيحكم بفسادها فكيف يجوز الدخول فيها
واعلم أن هذه المفاسد كثيرة والمقتضي لها حدوث جوامع وهذا إنما حصل في الشام ومصر من مدة قريبة فلا يغتر به فلم يكن في القاهرة إلا خطبة واحدة حتى حصلت الثانية في زمان الملك الظاهر مع امتناع قاضي القضاة تاج الدين من إحداثها والجوامع التي في ظاهرها أكثرها حادثة أو في أماكن منفصلة وأكثر ما في الشام من التعدد حادث وأما عند الحنفية فيجوز إقامة الجمعة في الموضع الذي يصلى فيه العيد وإن كان صحراء خارج المصر ويقصر فيه المسافر خلافا لنا ولكن ذلك في حكم المصر بالتبعية له فينبغي أن يكون محل الجواز إذا أقيمت هناك ولم تقم في المدينة
أما إذا أقيمت فيهما فتتخرج
____________________
(1/183)
على الخلاف في إقامة جمعتين في بلد فيعود فيها الخلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ومن يجوز منهم فلا بد من مراعاة الحاجة وإذن السلطان لا بد منه في ذلك كله
التاسعة جمعتان في قرية عند الحاجة باطلة عند الحنفية جائزة عند الرافعي ومن وافقه أذن السلطان أو لم يأذن ووجدنا في الشاغور خطبتين في جامع جراح وجامع خيلخان حدث بعده والظاهر عدم الحاجة إليه وأنه لم يكن يجوز إحداثه ولو رسم بإبطال الخطبة كان قرية
العاشرة ثلاث جمع كهذه الواقعة التي حدثت الآن في الشاغور بإذن قاض حنبلي بغير إذن السلطان وهي باطلة بالإجماع أما عند الحنفية جميعهم فلأنها قرية والجمعة لا تجوز في القرى واحدة فكيف بثلاث وأما عند الحنابلة فلعدم الحاجة تبطل لشهادة من شهد بالحاجة وقد قال صاحب المغني منهم إنه لا يعلم خلافا فيه وهو كذلك حتى أن ابن حزم من الظاهرية مع ما يقال أن مذهب الظاهرية الجواز بلا حاجة لم يجسر يصرح بذلك وإلحاقها بسائر الصلوات بل تكلم بكلام مجمجم في ذلك
وأما مذهب مالك فلاعتباره ثلاثة أميال والشاغور بينها وبين دمشق أقل من ميل
وأما عندنا فلعدم الحاجة نقطع به ولو فرضنا أن كلا من المسجدين ومجموعهما لا يكفي وأردنا أن نفرع على مذهب من يشترط المسجد أصحها في إثبات الخلاف في ذلك إلى معرفة قوله في القرى وفي إذن السلطان ومذهبه غير محقق في ذلك فتعذر إثبات خلاف إلا بإثبات أن المسجد شرط وأنه لا يكفي وأن إقامتها في القرى جائزة وأنه لا يشترط أن يكون بينها وبين المصر مسافة
فإذا اجتمعت هذه الأمور يحصل خلاف ولكن أين المذهب الذي فيه ذلك
والذي يشترط المسجد إنما هو في الإمام وجماعة أما جميع الناس الذين يصلون خلفه فما أظن أحدا اشترط ذلك وقد بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجده عشرة أذرع في عشرة وهذه مائة ذراع لا تسع إلا مائة رجل أو نحوها وكان يصلي فيه جميع المسلمين من أهل المدينة وأهل العوالي فبالضرورة نعلم أن بعضهم يصلي خارج المسجد فلا يثبت خلاف أصلا في اشتراط المسجد في حق جميع الحاضرين
ثم لو ثبت عاد ما قدمناه من البحث في العدول إلى الظهر على أنا لا نحتاج إلى ذلك ونقطع بعدم الحاجة
فصل مصر أو قرية فيها جامع يكفي أهلها وفيها مساجد أخرى منها ما هو متقدم على الجامع ومنها ما هو متأخر وقصد إحداث جمعة ثانية في بعض تلك المساجد المحدثة بعد الجامع ونصب منبر فيه وأن يحفر لقوائمه في أرض المسجد حتى يثبت فيه هل يجوز ذلك من غير تعدد الجمعة حتى لو قصد نقل
____________________
(1/184)
الخطبة من الجامع إلى ذلك المسجد هل يجوز
الجواب الذي يظهر أنه لا يجوز لأمرين أحدهما حفر أرض المسجد والثاني أن واقفه لما وقفه وهناك مسجد تقام فيه الجمعة يكفي أهله لم يقصد الجمعة بل غيرها من الصلوات وبهذين الأمرين فارقت هذه الصورة نصب المنبر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بناه لم يكن هناك مسجد تقام فيه الجمعة غيره فكان موقوفا للجمعة وغيرها ولم يحصل تصرف في أرض المسجد بحفر ولا غيره ولو فرضنا أنه لم يسمر ولكن قصد إثباته ودوامه في ذلك المكان أو وقفه واقف المسجد من استحقاق في غير هذا اليوم ومن استحقاق التنقل فيه والاعتكاف في هذا اليوم وغيره ولم يكن في ذلك كمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكرناه من الفرق ونظير ما قلته من بطلان وقف المنبر المذكور ما قال لي شيخنا ابن الرفعة رحمه الله إنه أفتى ببطلان وقف خزانة كتب وقفها واقف لتكون في مكان معين من مدرسة الصاحب بمصر لأن ذلك المكان مستحق لغير تلك المنفعة فمقتضى الوقف المتقدم لو فرض أن المصلحة اقتضت نقل الخطبة من جامع جراح إلى شيء من المساجد العتيقة التي وقفت حين لم يكن هناك جمعة فههنا يشبه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يحمل وقفه على كل ما يبنى له من الجمعة وغيرها ومن لوازم ذلك جواز نصب منبر فيه أريد منه لإسماع الناس أو وجوبه إذا لم يكن حصل الإسماع به فيجوز بلا حفر ولا تسمير قطعا كما في منبر النبي صلى الله عليه وسلم وأما التسمير فلا ينبغي أن يسمح به لما فيه من التصرف في أرض الوقف أو جداره وأيضا فقد تدعو حاجة المصلين إلى نقله في بعض الأوقات وإعادته وقت الحاجة للخطبة وأما الحفر فمنكر جدا فيجب إزالته وإعادة التراب إلى مكانه
فصل يجب على السلطان أو نائبه الذي له النظر في ذلك أن يقصد مصلحة عموم المسلمين ومصلحة ذلك المكان والمصالح الأخروية ويقدمها على الدنيوية والمصالح الدنيوية التي لا بد منها وما تدعو إليه من الحاجة والأصلح للناس في دينهم ومهما أمكن حصول المجمع عليه لا يعدل إلى المختلف فيه إلا بقدر الضرورة فإذا تحقق عنده مصلحة خالصة أو راجحة نهى عنها ومتى استوى عنده الأمران أو اشتبه عليه فلا ينبغي له الإقدام بل يتوقف حتى يتبين له ومتى كان شيء مستمر لم يمكن أحدا من تغييره حتى يتبين له وجه يسوغ التغيير ومتى كان شيء من العبادات حرص على تكميله واستمراره وعدم انقطاعه وعدم إحداث بدعة فيه وحفظ انضمامه على ما هو عليه
ومتى كان شيء من المحرمات اجتهد في
____________________
(1/185)
إزالته جهده وكذلك المكروهات ومتى كان شيء من المباحات فهو على ما هو عليه من تمكين كل حد منه وعدم منع شيء منه إلا بمستند ويرجع إلى عقله ودينه وما يفهمه من الشرع وممن يثق في دينه ولا يقلد في ذلك من يخشى جهله أو تهوره أو هواه أو دسائس تدخل عليه أو بدعة تخرج في صورة السنة يلبس عليه فيها كما هو دأب المبتدعين وذلك أضر شيء في الدين وقل من يسلم من ذلك فعلى الناظر في ذلك التثبيت وعدم التسرع حتى يتضح بنور اليقين ما ينشرح به صدره ويبين أمره وليس ما فوض إلى الأئمة ليأمروا فيه بشهوتهم أو ببادئ الرأي أو بتقليد ما ينتهي إليهم والسماع من كل أحد وإنما فوض إليهم ليجتهدوا ويفعلوا ما فيه صلاح الرعية بصواب الفعل الصالح وإخلاص الناس وحمل الناس على المنهج القويم والصراط المستقيم وهيهات ينجو رأس برأس فإنه متصرف لغيره مأسور بأسره والله غالب على أمره والله سبحانه وتعالى أعلم انتهى
قال سيدنا شيخ الإسلام قاضي القضاة الخطيب فسح الله في مدته تاج الدين عبد الوهاب ولد الشيخ الإمام رضي الله عنه وللشيخ الإمام مصنفات في منع تعدد الجمعة مستقلة كتاب الاعتصام بالواحد الأحد من إقامة جمعتين في بلد وهو هذا وكتاب ذم السمعة في منع تعدد الجمعة وهو مبسوط
وكتاب تعدد الجمعة وهل فيه متسع وهو أيضا مبسوط وكتاب القول المتبع في منع تعدد الجمع وهو أخصرها وكتاب خامس في المنع أيضا
اتفقت كتبه كلها وكلها مصنف في شهور سنة أربع وخمسين وسبعمائة على منع التعدد ودعوى أنه حيث لا حاجة معلوم التحريم من الدين بالضرورة ومجمع عليه بين الأمة وحيث حاجة ممنوع أيضا على أصح المذاهب عنده ويومئ إلى إجماع سابق فيه تعذر المخالف فيه لعدم بلوغه إياه
هذا حاصل كلامه
وقد اقتصرنا في الفتاوى على ذكر هذا المصنف المتوسط لاشتماله على خلاصة كلامه في المسألة
وبحثت مع كثير من حنفية هذا العصر فوجدت في أذهان أكثرهم أن القول بجواز التعدد مع عدم الحاجة رواية عن محمد ولقد فحصت ونقبت الكثير في كتبهم فلم أر أحدا صرح بجواز التعدد عند عدم الحاجة بل بعضهم أطلق عنه جواز التعدد وبعضهم قيد بالحاجة والتقييد بالحاجة موجود في كثير من كتبهم منها المحيط ومنها شرح المختار لمصنفه وجماعة من كتبهم ووقع في عبارة بعض متأخريهم في النقل عن محمد أنه قال كالظهر وتشبيهه إياها بالظهر مشكل توهم بعض من بحثت معه أنه يدل على الجواز عند عدم الحاجة كالظهر فقلت له يلزمك جواز جمعتين في مسجد واحد
____________________
(1/186)
ثم أخرجت له قول صاحب الاختيار وغيره إن ذلك باطل إجماعا ولا شك أن هذه العبارة مؤولة محمولة على التشبيه بالظهر في شيء غير التعدد مطلقا ثم حسبنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف
وقد روى الحافظ أبو القاسم بن عساكر في مقدمة كتابه تاريخ الشام بإسنادين جيدين إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى عماله على البصرة والكوفة ومصر وهم سعد بن أبي وقاص وغيره من الصحابة أن يجعلوا لا على القبائل مساجد يصلون فيها فإذا كان يوم الجمعة جمعوا في الجامع الأعظم لأنه لا يكون في المدينة إلا خطبة واحدة واعتذر ابن عساكر باعتذار حسن عن دمشق حاصله أن مصر وغيرها مما ذكر كان قرى فتجمعت لما تهدمت بخلاف دمشق فإنها لم تبرح مدينة واحدة فلا يعقل فيها غير خطبة واحدة وقد سلمها الله وله الحمد من فتوح عمر إلى اليوم وهو شهر رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة لم يكن في داخل سورها إلا جمعة واحدة والله المسئول أن يتم عليها ذلك ويسلمها في مستقبل الزمان ممن يحاول خلاف ذلك انتهى والله أعلم
قال الشيخ الإمام رحمه الله ورضي عنه زكاة مال اليتيم اختلف العلماء فيها على أقوال أحدهما أنها تجب ويخرجها الولي وهو قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعائشة والحسن بن علي وجابر بن عبد الله
وروي ذلك عن ابن مسعود قال بهذا القول عطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومجاهد وربيعة والثوري والحسن بن صالح وعبد الله بن الحسن وابن عيينة والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وطاوس
والقول الثاني أنه لا زكاة فيه وهو قول إبراهيم النخعي وأبي وائل وسعيد بن جبير وشريح
والقول الثالث أن فيه الزكاة لكن الولي لا يخرجها بل يحصيه فإذا بلغ أعلمه ليزكي عن نفسه وهو قول الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وقال إنه متى أخرجها ضمن ولم تجعل له ولاية الأداء
والقول الرابع تجب ويخرجها الولي من الأموال الظاهرة كالإبل والبقر والغنم ولا يخرجها من الذهب والفضة وهو قول الحسن البصري وابن شبرمة
والقول الخامس لا تجب في الأموال الظاهرة ولا الباطنة إلا مما أخرجت أرضه وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه وقيل إنه لم يقسم هذا التقسيم أحد قبله ولم يرد عن أحد من الصحابة القول بعدم الوجوب إلا ما رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عكرمة عن ابن عباس قال لا تجب على مال الصغير
____________________
(1/187)
زكاة حتى تجب عليه الصلاة
وابن لهيعة لم يحتج به
وعن ابن مسعود أنه كان يقول احص ما يجب في مال اليتيم من الزكاة فإذا بلغ وأونس منه الرشد فأعلمه إن شاء زكاه وإن شاء تركه
رواه ليث عن مجاهد عنه وليث ضعيف ومجاهد لم يدرك ابن مسعود فهو منقطع
وقال أبو عبد الله إنه لم يثبت وروي عن مجاهد خلافه ولو كان ابن مسعود عند مجاهد لم يقل خلافه فلم يصح ورأيت في كتب الحنفية عن علي وابن عباس لا تجب الزكاة على صبي حتى تجب الصلاة عليه
فأما ابن عباس فالسند إليه ضعيف كما تقدم وأما علي ولا أدري من أين لهم ذلك ولم يصح عنه إلا كان يزكي أموال يتامى أبي رافع ولم يصح عن أحد من الصحابة عدم وجوبها وقد قال بوجوبها من ذكرناه من الصحابة وناهيك بهم ولو لم يكن إلا عمر فقد ورد من طرق عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله أدار الحق على لسان عمر وقلبه فإذا ورد قوله في مسألة ولا دليل يخالفه انشرح الصدر له وعائشة رضي الله عنها كان في حجرها القاسم بن محمد وأخوه وهما يتيمان ابنا أخيها محمد بن أبي بكر فكانت تخرج زكاة مال
وروى ذلك عنها القاسم بن محمد المذكور وكان سيد زمانه ورواه عن القاسم ابنه عبد الرحمن وكان سيد زمانه وأيوب السختياني ويحيى بن سعيد الأنصاري ورواه عن عبد الرحمن مالك في الموطإ ورواه عنهم ثلاثتهم سفيان بن عيينة ورواه عن سفيان بن عيينة أحمد بن حنبل وقد انضم إلى هذه الآثار معان ترجحها وقول ابن مسعود الذي ترددنا في صحته ليس بصريح في إسقاطها بل يحمل لأن يكون كالقول الثالث الذي قاله الأوزاعي ولم يذكره في كتبهم من الموافقين بل ذكروه ذكر من هو مخالف لهم وفهموا كلامه كما فهمناه
ونظرنا في الأقوال الخمسة فوجدنا أرجحها في نظرنا الأول وهو القول بوجوبها ووجوب إخراجها ويأثم الولي إذا لم يخرجها ويضمن ويليه القول الثاني وهو إنها لا تجب جملة لكنا لم نجد له دليلا من كتاب ولا سنة ولا قياس ولا قول صحابي ويتمسك القائلون به رفع القلم ولا دليل فيه لذلك عند التأمل وبذلك تبين وهاؤه لبنائه على غير أساس
وأما الأقوال الثلاثة الأخيرة فبعيدة جدا شاركت الثاني في البناء على ذلك الدليل وانفردت بتناقض ظاهر وأبعدها الخامس
فإن قلت هل لكم في الترجيح عاضد غير قول الصحابي قلت نعم روى الترمذي من حديث ابن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة
____________________
(1/188)
لكن المثنى ضعيف في الحديث والحديث الضعيف إذا انضم إلى غيره تقوى به
وروى الدارقطني من حديث مندل عن النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احفظوا اليتامى في أموالهم لا تأكلها الزكاة ومندل ضعيف
وروى الدارقطني أيضا من حديث محمد بن عبيد الله وهو العرزمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مال اليتيم زكاة والعرزمي ضعيف
فإن قلت هل لكم عاضد آخر قلت نعم مرسل صحيح فإنه صح عن يوسف بن ماهك وهو تابعي أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابتغوا في مال اليتامى لا تذهبها أو لا تستهلكها الصدقة فإن قلت هل لكم عاضد آخر قلت نعم صح عن عمر من قوله اتجروا في مال اليتامى لا تأكلها الصدقة
وهذا زائد على ما حكيناه من فعله وقوله وموافق المرسل المذكور والمرسل إذا اعتضد بقول الصحابي جاز الأخذ به عندنا وكذا إذا اعتضد بقول أكثر أهل العلم أو بالقياس وكل ذلك حاصل ههنا
وأما عند الحنفية فالمرسل مثل المسند أو أقوى فما لهم لم يأخذوا به ههنا
فإن قلت هم يقولون المراد بالصدقة النفقة لأن نفقة المرء على نفسه صدقة لقوله صلى الله عليه وسلم تصدق بها على نفسك ولأن الزكاة لا تذهب بجميع المال لأنها إذا نقص عن النصاب لم تجب
قلت حمل الصدقة على النفقة مجاز لا يصار إليه إلا عند الضرورة وذهابه بالزكاة يعني ذهاب أكثره وإن كان مجازا لكنه أرجح من المجاز الأول وهب تهيأ لهم هذا البحث في لفظ الصدقة فما يقولون في لفظ الزكاة وقد ذكرناه وليس قابلا لهذا التأويل
فإن قلت هل لكم عاضد آخر قلت نعم سعاة النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان سعيهم لأخذ الصدقات لم يكونوا ينظرون إلا إلى المال ولا نظر إلى مالكه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لا نفرق بين مجتمع ولا نجمع بين متفرق خشية الصدقة
فإن قلت وما مستندهم في ذلك قلت قول النبي صلى الله عليه وسلم في كل خمس شاة وقوله ففيها بنت مخاض ففيها بنت لبون ففيها حقة ففيها جذعة ففيها بنتا لبون ففيها حقتان ففي كل أربعين بنت لبون ففي كل خمسين حقة ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل
و من تعم البالغ والصبي ثم قال فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة
فذلك على عمومه وقوله ففي كل مائة شاة أعني في الغنم وفي الورق ربع العشر
وهذا كله وأمثاله يدل على أن النظر في الزكاة إلى المال لا إلى المالك وهو يقتضي دخول الصبي لأن ماله فرد من أفراد الأموال
فهذا مستند السعاة وهو أول دليل في
____________________
(1/189)
190 المسألة وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن خذ من كل حالم دينارا ومن البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة ومن أربعين مسنة كيف أناط الجزية بالحالم وهو الشخص والصدقة المال
فإن قلت المال إنما ينظر إليه لبيان المقادير وليس كل مال مأخوذا منه ألا ترى أن مال الكافر لا يؤخذ منه قلت قد بين في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم للسعاة وكتبه الخلفاء بعده إنها على المسلمين ففي الكتاب الذي كتبه أبو بكر لأنس هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين ويستفاد منه شيئان أحدهما أنها لا تؤخذ من الكفار وإن كانوا مأمورين بها لقوله تعالى وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة
والثاني أنه يعم البالغ والصبي لأنهما من المسلمين
فإن قلت قد قال فريضة والفرض لا يكون على الصبي
قلت قد قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على المسلمين وفيه على كل صغير وكبير نعلم أن المراد من الفريضة المقدرة أو الواجبة ولا يختص الوجوب بالبالغ كما بينه فكما أن فريضة صدقة الفطر على كل صغير وكبير بنص الحديث الصحيح كذلك صدقة المال وإقليم اليمن واسع وكذا غيره من الجهات التي كانت السعاة تسير إليها ولا بد أن يكون فيها صغار لهم أموال ولم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم ولا فضل بين صغير وكبير فدل على العموم كذلك قال لمعاذ ستأتي أقواما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم
فإن قلت هو إنما يدعو البالغ
قلت بل يدعو الجميع وإنما يقابل البالغ وكيف لا يدعو الصبي وقد يترتب على دعوته هدايته وقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم صبيا يهوديا فأسلم ومات بل أقول إنه يجب ذلك كما يجب على الولي أن يأمر الصبي بالصلاة لسبع ويضربه عليها لعشر
فإن قلت أنتم تقولون إن الصلاة على الصبي غير واجبة وما ليس بواجب كيف يجب الأمر به أو الضرب عليه وهكذا الإسلام ليس بواجب عليه فكيف يجب دعاؤه إليه
قلت لا ننكر وجوب الأمر بما ليس بواجب والضرب على ما ليس بواجب ونحن نضرب البهيمة للتأديب فكيف الصبي وذلك لمصلحته وأن يعتاد بها قبل بلوغه
فإن قلت هل تقولون إنه مأمور بأمر الولي فقط أو مأمور بأمر الشارع قلت قد اختلف الأصوليون في ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم مروهم بالصلاة
واختاروا أنه لا يكون مأمورا بأمر الشارع وذلك نظر إلى وضع اللفظ فقط وجنوح إلى أن الصبي خارج من حكم الخطاب وهو مقتضى حد الحكم بأنه خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين أما من قال
____________________
(1/190)
خطاب الله المتعلق بأفعال العباد فيدخل فيه الصبي وينبغي أن يقال العقلاء ليختص بالمميز أو يقال يبقى على حاله ولا فرق في ذلك بين المميز وغيره وهو محل نظر لأنا إن نظرنا إلى أن الخطاب شرطه الفهم لم يدخل المجنون ولا الصبي غير المميز ويدخل الصبي المميز لفهمه والصلاة ممكنة معه وإنما تمتنع في حقه للتكليف فالوجوب لا يثبت في حقه لما فيه من الكلفة ولقوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة ويثبت الندب في حقه لعدم الكلفة أو لا يثبت في حقه لا وجوب ولا ندب لعموم قوله رفع القلم وهو بعيد ورفع القلم كناية عن رفع التكليف لا عن رفع كل حكم
فإن قلت هل تقولون إن أمر الصبي المميز بالصلاة أمر ندب أم أمر وجوب إن كان أمر ندب فلم نجد مندوبا يضرب عليه ويلزم إذا نوى بصلاته الندب تصح وليس كذلك وإن كان أمر إيجاب فكيف يثبت الإيجاب في حق الصبي قلت بل أمر إيجاب وأمر الإيجاب المراد منه الأمر الجازم بالأمر الجازم في الصلاة في حق البالغ والصبي ولكن الوجوب يختلف في الصبي بعدم قبول المحل إن لم يكن مميزا بالأدلة الدالة على اشتراط فهم الخطاب وإن كان مميزا فرخصة بقوله رفع القلم فإن قلت كيف يكون إيجاب ولا وجوب
قلت إذا عنى بالإيجاب الأمر الجازم الذي علم الله أن المأمور به لا يقدر عليه أو يقدر عليه ولكن لا يأثم به لفضل الله عليه لم يمنع ذلك
فإن قلت أنتم تريدون بالجازم أنه ممنوع من ضده
قلت نحن لا نلتزم بذلك وإن كان الأصوليون قالوه بل الجزم عندنا عبارة عن صفة الطلب من حيث هو بالنسبة إلى رتبة ذلك الفعل المأمور به كالصلاة ولكنها أعني الفرض منها عظيمة بحيث إنه لا رخصة فيها والمندوب فيه رخصة من حيث انحطاط رتبته عن رتبة الفرض وكل منهما بالنسبة إلى البالغ والصبي سواء والشخص الذي يتعلق به ذلك الأمر يعتبر فيه أمور إن وجدت ترتب مقتضاه كالوجوب المترتب على الإيجاب وإن لم يوجد تخلف ذلك المقتضى مع وجود سببه وحقيقته وكل ذلك بأدلة شرعية أرشدنا الشارع إليها
ومن تأمل هذا المعنى لم يستبعده في حق الصبي المميز الذي اقتضت رخصة الله رفع القلم عنه حتى يبلغ أما غير المميز فلا يثبت في حقه خطاب أصلا لكن يثبت الوجوب في حقه بمعنى آخر سنبينه
ومن أمثلته وجوب الزكاة
فإن قلت الوجوب مع عدم الفهم لا يعقل
قلت الوجوب بمعنى الترتب في الذمة كما يقال الدين واجب معقول في الصغير والكبير فالولي يشتري للصبي بثمن في الذمة فهذا دين ثابت في ذمة الصبي بالإجماع وواجب والزكاة كذلك
فإن قلت فقد جعلتم الصبي
____________________
(1/191)
به وهذا حرف البحث بيننا وبينهم في هذا المقام والذي يفهم كل أحد ويدل عليه الشرع واللغة ما قلناه فإن قلت هل مع هذا شيء آخر
قلت نعم معنى معقول من الآية لما قال تعالى إنما الصدقات للفقراء وقال في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم وقال صلى الله عليه وسلم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم دل الكتاب والسنة على أن ذلك حق للفقراء وهذا مجمع عليه بين العلماء لم يخالف فيه أحد نظرنا بعد ذلك في وجوبه لهم فرأى الشافعي رحمه الله أن وجوبه لهم على الأغنياء بطريق القرابة كما أوجب نفقة الأبوين بالإجماع وذوي الأرحام عند أبي حنيفة لقرابة النسب عند الحاجة واشتركت القرابتان في اقتضائهما وجوب النفقة فاشترط في الأول ملك النصاب وغيره ولم يشترط في الثانية إلا أن يفضل عن الكفاية وافترقا في أن الأولى مستقر في الذمة لأنها لغير معين والثانية لمعين على معين مقدرة بالحاجة كل يوم فلا حاجة إلى استقرارها في الذمة وفي أن الأولى لا توجب محرمية النكاح ولا توجب العين بالملك وهذا الافتراق لا يقدح في اقتضاء المشترك ووجوب النفقة
فإن قلت فما قول أبي حنيفة وقد نقلتم الإجماع على أنها للفقراء ومن معهم
قلت يقول إنها للفقراء على الله بوعده برزقهم وهي لله تعالى على صاحب المال والله تعالى أذن له في دفعها إليهم كمن عليه دين فقال للمديون ادفع ديني الذي عندك لهذا مما له علي من الدين فلا حق للفقير على الغني إلا من هذه الجهة والشافعي يقول حقه عليه من الجهة الأولى وهو من جملة ما قدره الله رزقا ووعده به
فإن قلت لخص لي ما تقدم إلى هنا لأسفل بدر محل الخلاف بين الإمامين
قلت مسند الشافعي في إيجاب الزكاة في مال اليتيم الآيات الكريمة الآمرة بإيتاء الزكاة والآيات الكريمة المقتضية لأنها في عين المال والأحاديث الصحيحة الشهيرة الكثيرة كذلك وفعل السعاة كذلك وتحقيق القول بالعموم في جميع ذلك ومرسل صحيح وهو عند أبي حنيفة كالمسند أو أقوى وأحاديث ضعيفة وآثار عظيمة عن أكابر الصحابة ولم يثبت مخالف منهم ومعنى نفقة القرابة
فهذه عشرة أمور متضافرة يثبت الوجوب بأقل منها
فإن قلت فما تجيبون عن قوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة أليس معارضا لما قلتم قلت لا معارضة بينها ولا يقتضي الحديث المذكور أكثر من ارتفاع التكليف إن الصبي ليس مكلفا ولا مخاطبا بأدائها وهذا مجمع عليه لم يقل به أحد من العلماء وإنما الخلاف في مقام آخر
فإن قلت هل يقول الشافعي إنها نفقة محضة كنفقة الأقارب أو عبادة محضة كالصلاة أو فيها شائبة من هذا وشائبة من هذا
قلت اختلف أصحابه في ذلك والذي كان
____________________
(1/192)
عندي القطع ببطلان كونها نفقة محضة وليس جازما بأن أحدا من أصحابه يقوله وإنما بحثوا مع الحنفية في كونها عبادة محضة كالصلاة أو مركبة من العبادة والمواساة وفي كلام بعض الأصحاب ما يقتضي الوجه الثالث وتمكين تقريره
فإن قلت يتقرر مع ما ذكرت
قلت بتحقيق معنى العبادة وذلك إنما أوجبه الله تعالى ينقسم منه ما يكون سببه جناية فيسمى عقوبة ومنه ما يكون سببه إتلافا ويسمى ضمانا ومنه ما يكون سببه التزاما فيسمى ثمنا أو أجرة أو مهرا أو غير ذلك ومنه ما لا سبيل له إلا كون المأمور به عبدا ملكا لله تعالى وهو قربة فيسمى عبادة أو أداء للديون والعواري والودائع واجبة بالالتزام ونفقات الزوجات كذلك ونفقات الأقارب لما فيها من التواصل والعبادة المحضة ليست إلا لله ونحن مأمورون بالجميع بأمر الله وقد رأيت أن أخذ العبادة بالواجب لحق الله فقط بلا سبب واحترز بلا سبب عن الحدود والكفارات وحاصله أن الواجب إن كان لأجل الآدمي كنفقة القريب فليست عبادة لأنها في مقابلة ما بين الوصلة والإحسان المفضي للمكافأة
فهذا خرج بالقيد الأول وإذا خرج هذا من العبادة فغيره من حقوق الآدميين فالصلاة عبادة بلا شك لتحقق المعنى المذكور بلا شبهة والزكاة أشبهت نفقة الأقارب وصلة الرحم وإقرانها بالصلاة وبناء الإسلام عليهما قد يكون لأن إحداهما رأس العبادات الدينية والأخرى رأس العبادات المالية المعدى نفعها فلم يطلق بعض الفقهاء عليها عبادة لذلك وكأنها للوصلة التي بين المؤمنين وأخوة الدين وهي قرابة عامة فإيجاب الله تعالى لحقهم فهي حق آدمي ويكون قد جمع بقوله أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة حقه وحق الآدمي وأسبابهما إلى جميع أنواع الجنسين المذكورين من الحقوق والإسلام كله مبني على حقوق الله وحقوق العباد
وقد جاء في الحديث بني الإسلام على ثلاث شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة
وهو إشارة إلى ما قلناه والحديث المشهور بني الإسلام على خمس ولا منافاة بينهما لرجوع الصيام والحج إلى الصلاة وإن دخلهما المال في بعض الأحوال أو لرجوعهما إليهما معا وقصدنا بهذا أن لا يستنكر القول بأن الزكاة ليست بعبادة وإن كانت فرضا عظيما وركن الإسلام والمشهور أنها مركبة من الشائبتين والمركبة من شائبتين إذا أمكن العمل بكل منهما عمل به ففي البالغ يوجدان فتجب الزكاة بالإجماع عبادة ومواساة إما بأن كلا منهما علة وإما بأن العلة الأولى وحدها والثانية وحدها أو مجموعهما وفي الصبي من رأى أن العلة المواساة فقط اكتفى بها ومن رأى العلة كل منهما ويجوز التعليل بعلتين اكتفى بها أيضا ومن
____________________
(1/193)
متعلق الحكم الشرعي وكلام الأصوليين يأباه
قلت الحكم الشرعي يطلق على أمور أحدها الأمر والنهي ولا شك أن المخاطب بهما شرطه الفهم فلا تعلق لهما بغير المميز ولا بالمميز إذ كان المراد منهما الإيجاب والتحريم إلا على المعنى الذي حررناه آنفا وأما الأمر بمعنى فالمجاز تعلقه بالمميز كما اقتضاه كلام الغزالي
الثاني خطاب الوضع وهو ثابت بالإجماع فمتى أتلف الصبي شيئا ضمنه لأن الله جعل الإتلاف سببا في الضمان فلا فرق بين الصبي والبالغ
الثالث الترتيب في الذمة وهو ثابت في البالغ والصبي أيضا كما ذكرناه وهو المراد بالوجوب على الصبي والحنفية يقولون يلزم من الثبوت في الذمة الخطاب وهذا هو ثمرة البحث المعتبر في ذمته الدين ولا يخاطب به والزكاة بعد الحول وقبل التمكين واجبة ولا خطاب
وقولهم يلزم من الترتب في الذمة الخطاب ممنوع والولي يشتري للصبي بثمن في ذمته ويستقرض له ويستأجر له بأجرة في ذمته ويزوجه بصداق في ذمته ويترتب في ذمته بالإتلاف بدل التالف وبغير ذلك من الأسباب في مواضع كثيرة
فإن قالوا بالخطاب في تلك المواضع فليقولوا به هنا ولا محذور في إطلاقه بتأويل
فإن قلت هل بين الوجوب والندب رتبة في تقسيم الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين لنثبتها في الصبي وصلاته وهل ينوي الفرض أو النفل أو كيف حاله قلت لا رتبة لهما والأمر في حقه كما قررناه ولا ينوي إلا الفرض وإن كان لا يقع فعله فرضا ويثاب عليه ثواب الفرض
وهذا قد يستنكره بعض الفقهاء ويقول كيف يثاب عليه ثواب الفرض وليس بفرض وأبعد من قال من الحنفية إنه لا يثاب عليه وإنما أمر به للتمرين
فإن قلت هل تقولون إن الصبي داخل في قوله تعالى أقيموا الصلاة قلت نعم هذا هو الحق عندي لأن الخطاب لجميع المؤمنين وهو من المؤمنين أو لجميع الناس وهو من الناس فإذا كان مميزا وقد فهم وسمع أمر الله فلا مانع من دخوله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لصبي يا بني سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك وعند بعض الأصوليين ذلك في أمر التأديب لا يصبها وقد فتل بأذني ابن عباس وأداره من شماله إلى يمينه وذلك أمر بموقف الواحد عن يمين الإمام وأثبت الفقهاء ذلك حكما شرعيا
فإن قلت هذا حال المميز فما حال غير المميز قلت وضع الخطاب يقتضي دخوله لكنه خرج بالدليل سراء طللهم فخرج من تعلق الخطاب لا من الخطاب ومعنى هذا أن الخطاب شامل
____________________
(1/194)
وواو الضمير في أقيموا عامة وإنما لتعلق الأمر شرط فإن وجد تعلق وإلا فلا
وتظهر فائدة هذا إذا أمر جماعة بالغون وصبيان بشيء ومن الصبيان غير مميز ثم حصلت له صفة التمييز وقت المأمور به أقول يتعلق به الأمر
فإن قلت ما مرادك من هذا كله قلت أن يكون قوله تعالى وآتوا الزكاة شاملا لكل المؤمنين من بالغ وصبي فيكون هو عاضدا آخر في المسألة وقد قال تعالى في سورة البقرة وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل إلى قوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وقال وأقام الصلاة وآتى الزكاة وفي سورة الحج فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فهذه الأوامر كلها يمكن القول بدخول الصبي فيها فما لم يمكنه فعله فعله وليه عنه
فإن قلت هل مع هذا شيء آخر من النصوص
قلت نعم قوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة والصبي من أهل الدين ويتوجه في حقه ذلك وقوله تعالى في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم وذكر هذا في المستثنى من الهلوع وجعل الحق في أموال من استثنى ولا حق إلا الزكاة
وروي عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن في المال حقا سوى الزكاة وسنده ضعيف وكونه ليس في المال حق معلوم مستقر من جهة الشارع غير الزكاة معلوم وهذا كما يدل على الأمر بالزكاة للعموم يدل على أنها في عين المال مثل ما دل قوله صلى الله عليه وسلم في أربعين شاة شاة فهو عاضد من وجهين
فإن قلت هل مع هذا شيء آخر قلت نعم أحاديث صحيحة إن من لم يؤد الزكاة تمثل له ماله يوم القيامة ولفظ الحديث لا يؤدي منها حقها وقول أبي بكر الصديق لعمر فإن الزكاة حق المال وذلك يقتضي أن الزكاة من حقوق المال من غير نظر إلى المالك
فإن قلت هل مع هذا شيء آخر قلت نعم قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين إلى آخر الآية فرضها سبحانه لهم وملكهم إياها فهي حق في المال للأصناف من غير نظر إلى مالكها فلا فرق بين البالغ والصبي وأجاب الحنفية بأن المراد بالصدقة هنا المتصدق به وهو المال وحقيقة الصدقة إنما هو الفعل وهو فعل المتصدق
فإن قلت فما جوابكم عن هذا قلت فعل المتصدق تصدق والصدقة إنما هي اسم لما تصدق به وهي الواجب في الزكاة وهي المقصود بالحصول للفقير وفعل المتصدق وسيلة إليها والتكليف بالأصالة إنما هو المقاصد لا الوسائل ومما يدل على أن الصدقة اسم المتصدق به قوله تعالى وآتوا الزكاة فالإيتاء هو الفعل والزكاة مفعولة وهي الصدقة فالزكاة الواجبة المقصودة ليست هي فعل المتصدق بل ما يحصل
____________________
(1/195)
رأى أن معنى العبادة يتمحض أو لا بد منه يحصل عنده وقفة في الصبي المتوقف في كونه من أهل العبادة وفي كون العبادة تقبل النيابة فأبو حنيفة أنكر ذلك فاشترط الزكاة عن الصبي وغيره قرر أن الصبي من أهل العبادة وأن هذه العبادة تقبل النيابة فأثبتها
فإن قلت فالعبادة إنما هي فعل العبد
قلت لا بل العبادة هي الحق وفعل العبد تأدية له فإن قبلت النيابة ناب عنه غيره وإلا فلا والحق قد يكون مالا وقد يكون غيره والمال يقبل النيابة وغيره قد يقبل كالحج وقد لا يقبل كالصلاة
فإن قلت لخص لي الآن منشأ الخلاف بين الإمامين
قلت منشؤه ما ذكرت في كونها عبادة وفي كون الصبي أهلا للعبادة فأبو حنيفة يقول الزكاة وجبت عادة ابتلى الله عباده بها لتنقيص المال كما ابتلاهم بالصلاة بإتعاب البدن شكرا لنعمته بالبدن وبالمال والعادة في الزكاة إنما هي فعل العبد وهي إخراج المال وإن كان البالغ له أن يوكل فيها فتوكيله هو التنقيص المبتلى به ومثله لا يتصور في الصبي لا تثبت الزكاة في الذمة بل في العين لحق الله في العين وحال الفقير كما قدمناه
ولا معنى للتعلق بالعين عندهم إلا أن المالك مأمور بإخراج ذلك القدر من المال فلا يقولون بشيء آخر ولأجل التعلق بالعين لا بالذمة إذا تلف النصاب بعد التمكين لا يضمن عندهم وعندنا يضمن لأنه كان له متعلقان الذمة والعين فلو تلف أحدهما بقي الآخر ولو تلف قبل التمكين فلا ضمان على المشهور من أصحابنا من قال بالضمان تفريعا على قول الوجوب قبل التمكين ولو أتلفه إلا على وجه أجازه من أصحابنا الشيخ أبو علي والغزالي الأول تفريعا على أن الإمكان شرط في الوجوب وإذا مات لا يجب إخراجها من تركته عندهم كالعبد الجاني وأداء الزكاة عندهم على التراخي ولا معنى للزكاة عندهم إلا خطاب الأداء وعندنا وعندهم فرق بين الوجوب ووجوب الأداء فأصحابنا استعملوه رهنا وجعلوه وجوب الزكاة في الذمة ووجوب أدائها بعد ذلك وهم لم يجعلوا إلا وجوب الأداء
ونشأ النزاع في قولنا الزكاة واجبة على الصبي من فهم معنى الزكاة فهم معنى الوجوب وفهم حال الصبي وأهليته كذلك وأورد أصحابنا عليهم قولهم إنه لو أوصى بها لأخرجت من تركته وأن الوجوب لا يعقل إلا في الذمة وأرش الجناية في ذمة العبد والسقوط بموته لزوال ذمته ولا متعلق للأرش غيرها وأورد أصحابنا عليهم قولهم بوجوب العشر فيما أخرجته أرض الصبي واعتذروا بأن هذا واجب الأرض فينبغي أن يقال لهم والزكاة واجب المال وأورد أصحابنا عليهم أيضا قولهم بوجوب
____________________
(1/196)
زكاة الفطر سببية على لبة القادر وإذا لم يكن للصبي مال وفي مال الصبي على خلاف عندهم إذا كان له مال وأما أصحابنا فقالوا بإثبات الزكاة في الذمة وإنها على الصحيح تتعلق بالمال واختلفوا في كيفية ذلك التعلق
والصحيح أنه تعلق شركة ويسبق إلى الذهن أن التعلق بالمال يقتضي وجوبها على الصبي وهو كذلك وإذا نظرنا إلى المال من غير نظر إلى المالك وهم بنوا عليه أن مع وجوبه في المال وقطعه عن الذمة لا يتحقق الوجوب على الصبي لأن الوجوب إما في الذمة ولم يقولوا به وإما وجوب الأداء وهو غير ممكن في الصبي يسقط جملة وأجابوا عن زكاة الفطر بأن وجوبها بمعنى المئونة تجب على الصغير وفيه حق للأب فأما لو لم تجب في ماله احتجنا إلى الإيجاب على الأب ومئونة الأرض كالخراج وهي أجوبة ضعيفة
فإن قلت اذكر لي أخص من ذلك قلت الزكاة عندهم فعل المتصدق والوجوب الخطاب والصبي ليس أهلا له والزكاة عندهم القدر المفروض في المال والوجوب الثبوت في الذمة والصبي أهل فلم يتوارد كلامنا وكلامهم على شيء واحد وبهذا تبين القطع في هذه المسألة بالصواب وأن المخالفين لم يتواردا على محز ونطالب نحن بدليلنا وقد ذكرناه
فإن قلت ما تقول في قولهم في العشر قلت قالوا إنه يجب فيما أخرجته أرض الصبي لأنه نماء الأرض وحق لها وصحيح أنه نماء الأرض ولكن بالمعنى حق لها وشبهوه بالخراج والخراج واجب على شخص وإن كان متعلقا بالأرض وإذا كان العشر كذلك فلا بد من تعلقه بالصبي وقد قال تعالى أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض فهذا حق باعتبار شرط الخطاب فيه فهم لم يقولوا إن ما تضمنته هذه الآية أصل وإنما قالوا بشيء مرتب على أرض سموه عشرا لا دليل له من كتاب ولا سنة وحقيقته عندهم جزية وعندهم اختلاف في أخذه مضعفا باسم الصدقة أو غير مضعف أعني من الرهن
وأما عندنا وعند جمهور العلماء فهو زكاة لا تؤخذ من كافر ثم إذا قالوا الولي يخرجه من زرع الصبي فلا بد من ملاقاة الوجوب للصبي وغاية قولهم أن العشر ليس عبادة ولكنه كسائر الديون هكذا ينبغي لهم أن يقولوا وإن لم نسلمه لهم وأما الأرض فلا حق عليها ولا لها
فإن قلت فزكاة الفطر قلت هي طهرة للبدن وللصائم من اللغو والرفث كما جاء في الحديث فإذا وجبت على الصبي فلأن تجب زكاة المال عليه أولى لوجود المعنى مع أن النعمة فيه أكثر وكونها تابعة لكونه لا يمنع من مراعاة هذا المعنى ويضم كلام محمد بن
____________________
(1/197)
يحيى الإجماع على أن الولي لو أخرجها من مال الصبي لم يضمن
فإن قلت هل عندكم شيء آخر قلت نعم لهم بحق وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم ما من صاحب إبل لا يؤدي منها حقها وقول الصديق فإن الزكاة حق المال فإذا قالوا إن العشر حق الأرض بلا دليل وقلنا نحن فالزكاة من المال بدليل فكما يجب العشر على الصبي تجب عليه الزكاة ومعنى حق المال حق شكره لأنه نعمة من الله يستحق بها الله الشكر فزكاته شكره
فإن قلت هل في المسألة شيء آخر غير ما تقدم قلت نعم وهو قوله تعالى أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة هل معناه صلوا وزكوا أو زيادة على ذلك والذي يظهر أنه زيادة على ذلك وهو في الصلاة أن يجعلها قائمة ظاهرة الشعار عالية المنار فيصليها بنفسه منفردا أو في جماعة ويأمر غيره بها إذا قدر فهي فرض عليه عينا بفعل نفسه وفرض عليه فرض كفاية بفعل غيره وهذا عام في حق الأولياء وولاة الأمور العامة وكل ذلك يمكن قوله في الزكاة لأنه إذا تحقق وجوب الزكاة وفرضيتها في الأموال من غير نظر إلى المكلفين بها وجب على الأولياء وسائر أئمة المسلمين الأمر بإخراجها بتلك المقادير التي فرضها الله تعالى وإيصالها إلى مستحقيها
فإن قلت وجوبها على الصبي هل تأخذونه من النصوص أو بالقياس قلت هو مأخوذ من النصوص بالطرق التي قدمناها والعمومات ولو فرضنا اقتصار النصوص على البالغين أمكن أخذها في الصبي بالقياس بمعنى المواساة كما تقدم فإنه إذا وجب على شخص شيء لمعنى وشاركه غيره في ذلك المعنى عدي إليه
فإن قلت أصحابكم نصبوا الخلاف بين الإمامين في تعلق الزكاة بالذمة أو بالعين وجعلوا الأول قول الشافعي والثاني قول أبي حنيفة وذكروا من استدلال الحنفية في أموالهم حق معلوم ونحوه وأجاب أصحابكم بأنه لبيان المحل والمقدار وأنتم جعلتموه دليلا لكم قلت المراد بالمسألة الخلافية قول أبي حنيفة يقطعها عن الذمة خلافا لنا وإنها لا بد من تعلقها بالذمة وإلا فالصحيح عندنا تعلقها بالعين
فإن قلت فما تختاره في تعليق الزكاة قلت قد ذكروا معاني أحدها الابتلاء والامتحان وهذا عام في كل التكاليف التي كلف الله تعالى بها عباده وفي كل الأوامر والنواهي والمراد بالابتلاء إما الاختبار ليظهر محسنهم من مسيئهم وطائعهم من عاصيهم وإما البلوى بإتعاب البدن وتنقيص المال والصبر على ذلك المعنى
و الثاني صلاح القلب والبدن فإن القلب والبدن يصلحان بالطاعة ويفسدان بالمعصية وهذا أيضا عام في جميع المأمورات
____________________
(1/198)
والمنهيات
الثالث شكر نعمة الله تعالى وهذا أيضا عام في جميع التكاليف البدنية والمالية لأن الله تعالى أنعم على العباد بالأبدان والأموال ويجب عليهم شكر تلك النعم فكل مأمور به من العبادات فبعض بعض شكر تلك النعم شكر نعمة البدن وشكر نعمة المال لكن قد نعلم أن ذلك شكر بدني وقد نعلم أن ذلك شكر مالي وقد نتردد فيه ومنه الزكاة
الرابع وبه بيان ذلك مواساة للفقراء وسد خلتهم ولا ننكر أنها تحصل بالزكاة فإن كانت مقصودة للشارع لشرعه فرض الزكاة كنفقة القريب ترجح قول الشافعي وهو الظاهر وإلا فيرجح قول أبي حنيفة
فإن قلت فما تقولون إذا قلتم إنها عبادة محضة قلت ولو قلنا بذلك ولكن طريقها أداء المال فيقوم الولي مقامه ولا بد من مراعاة ما قدمنا للإشارة من أن العبادة المحضة الحق المؤدى بالفعل لا نفس الفعل وفرق بين الفعل والمفعول فالمؤدى المأمور به وهو المفعول وفعل العبد حركته وسكونه شيء آخر وإذا كان طريقها أداء المال لم يمنع أن يكون من الولي للأكثر أن الصبي إذا احتاج إلى شراء ماء لطهارته أو صومه أو غسله إذا أولج قبل البلوغ وهو مميز فإنه يجب على الولي أن يأمره بالغسل وتصح نيته ويشتري له الماء للوضوء والغسل الواجبين أو شراء ثوب يستر عورته لأجل الصلاة أو إلى أجرة من يعلمه أركان الصلاة وشروطها وجب على الولي إخراج ذلك من ماله
والصلاة عبادة بدنية محضة وقد وجب التوصل إليها بماله وإذا طلبت الصبية الدخول بها أو مات عنها زوجها وجب عليها العدة وقد تحتاج لأجل ذلك إلى إخراج شيء من مالها بسببه فيجب على الولي ذلك وفي هذه المسألة أمران أحدهما أن تعلق العبادات بالصبي لوجوب العدة عليها وكيف لا ولو زوجت في العدة لم يصح النكاح
والثاني إخراج المال في طريق العبادة
فإن قلت لو لم تكن الزكاة عبادة لما وجبت النية فيها
قلت النية تجب في أداء الديون للتمييز وإنما تختص بالعبادة نية القربة وقد نص الشافعي على أن النية في الزكاة تكفي باللسان دون القلب وهو وجه لأصحابه صحح خلافه وذكروا في مستند النص ما ذكرناه من كون الزكاة ليست عبادة محضة وإنما ملحقة بالنفقات والغرامات وأروش الجنايات
فإن قلت هل عندي شيء آخر قلت نعم وهو أمره صلى الله عليه وسلم للصبي بالصلاة وذلك ليتمرن عليها ويدمن عليها فلا تشق عليه بعد البلوغ ومثل ذلك يقال في الزكاة لتتوطن نفسه على إخراج بعض ماله لله تعالى فلا يشق عليه بعد بلوغه فهذا قياس على الصلاة وهو لا يتأتى منه فهل ذلك بنفسه للحجر عليها في المال فيقوم الولي مقامه
____________________
(1/199)
فإن قلت ما حكم المجنون قلت حكمه حكم الصبي غير المميز في جميع ما ذكرناه لكن لو وجبت على عاقل ثم جن أخرجها الولي من ماله ووافقونا على ذلك وهو وارد عليهم وأما في المستقبل في الجنون الطارئ قال أبو يوسف إن كان مفيقا في أكثر الحول وجبت وإلا فلا
وقال محمد إن كان مفيقا في جزء وجبت وإلا فلا ولا خلاف عندهم أن الجنون الأصلي يمنع انعقاد الحول والجنون الأصلي أن يبلغ مجنونا
فإن قلت ما تقول في اقتران الزكاة بالصلاة قلت دلالة الاقتران ضعيفة ومن قال بها فذاك في كونهما واجبتين مثلا وذلك حاصل هنا والأمرين للصلاة والفروق فروق كثيرة الصلاة في كل يوم خمس مرات فلا يشترط فيها المال ويشترط فيها السترة والطهارة وليس في الزكاة شيء من ذلك
فإن قلت هل عندك شيء آخر قلت نعم التركة لا ينتقل إلى الوارث منها إلا ما فضل عن الدين ولو كان فيها زكاة وجبت قبل الموت قدمت فإذا كان نصاب انعقد عليه الحول وقلنا يبني الوارث على حول المورث طهر تركته بحوله وإن كان يتيما
وإن قلنا لا يبني أو كان بعد استئناف حول أمكن أن يقال ذلك للنصاب سبب لحق الزكاة متقدم ملك الوارث اليتيم فإذا وجد الحول وهو شرط أخرجنا الزكاة منه لتقدم سببها كما نخرج الزكاة من التركة لتقدم وجوبها
فإن قلت هل عندك شيء آخر قلت نعم قول الله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وآية الفيء وغير ذلك يبين لنا أن الله تعالى إذا أنعم علينا نعمة مالية يجب له بعضها والنصاب نعمة مالية فيجب بعضه بالشروط التي ذكروها وهذا ليس قياسا محققا لكنه تنبيه على أن الزكاة شكر المال وتعليل وجوبها على البالغ لذلك وهذا المعنى حاصل في الصبي فيجب على الولي الإخراج ليكون شكرا لنعمة الله على الصبي ويزيده بسببها لقوله تعالى لئن شكرتم لأزيدنكم فإن قلت فيها تضييع مال الصبي
قلت المحافظة على هذا مراعاة مصلحة دنيوية وإخراجها فيه مصلحة دنيوية وأخروية أما الأخروية فظاهر بالثواب وأما الدنيوية فمنه ما يرجع إلى الدين بصلاح قلبه وبدنه وتوطن نفسه على ذلك واطمئنانها إليه ومنه ما يرجع إلى الدنيا لأنه قد يكون ببركة إخراجها يحفظ الله ما بقي
وفي الحديث ما نقص مال من صدقة وهذا الحديث رواه أبو مسلمة بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا
واختلف الثوري وجرير فيه فرواه الثوري عن منصور عن يونس بن حبان عن أبي سلمة ورواه جرير عن منصور عن يونس عن سعيد عن أبي سلمة وسأل ابن أبي حاتم أبا زرعة عن ذلك فقال الثوري أحفظ وهذا
____________________
(1/200)
الاختلاف لا يضرنا فيما نحن فيه
فإن قلت هذا كله في الوجوب فما دليلكم في أن للولي ولاية الأداء وقد تنازع في ذلك كما قدمتم عن ابن أبي ليلى
قلت دليلنا فعل عائشة وغيرها من الصحابة كما قدمناه وبالقياس على سائر الواجبات المالية التي تجب على الصبي وبأنها حق الفقراء وهي في يد الولي فيجب تمكينهم من حقهم وإيصاله إليهم
فإن قلت فعل الصحابة يدل على جواز أداء الولي لا على وجوبه
قلت يؤخذ الوجوب من الآيات والأحاديث وحق الفقراء وتقدير كون الأمر بالزكاة للفور لتحقق حاجة الفقراء وعدم انحصارهم وذلك ينزل منزلة مطالبة صاحب الدين بدينه فيصير تأخيره بعد ذلك مطلا وظلما وفي وجوب المبادرة بأداء الدين الحال قبل الطلب وجهان أصحهما لا يجب إلا إن كان وجب بعضه أو كان صاحبه لا يعلم به فيعلمه
فإن قلت هل للولي ولاية التفرقة على الفقراء أو يحتاج إلى القاضي قلت الظاهر أنه لا يحتاج بل له الانفراد بذلك ويدل له فعل عائشة وعلي وغيرهما من الصحابة والذي يجب على الولي بلا شك إخراج الزكاة من مال الصبي وتسليمها إلى المستحق وهم الأصناف على العموم فإن دفعها إلى الإمام أو القاضي وقسمها أحدهما على المستحقين فلا شك في براءته وإن أوصلها هو إلى من يراه منهم فالذي يظهر أنه يكفي كما في المزكي عن نفسه فكل واحد منهما له ولاية الدفع والفقير له الأخذ وهذا أكاد أقطع به
وأما أن يقال إن المستحق عام فلا بد من ولي أمر عام يقضيه عنه ليتعين له ثم يختص به من يراه من الأفراد وذلك خيال لا أرى له وجها ولو لزم ذلك لزم في المزكي عن نفسه
فإن قلت أي الأمرين أولى له أن يفرقها بنفسه أو بالإمام قلت إذا انفرد بنفسه كان على خطر فرق أو لم يفرق فإنه إن لم يخرجها أثم عندنا وعند الجمهور وضمنها للمساكين وإن أخرجها أثم وضمنها الصبي عند أبي حنيفة وابن أبي ليلى
ومن الفقهاء فإن أخرجها بنفسه فينبغي أن يرفع الأمر بعد ذلك إلى حاكم يحكم ببراءته حتى لا يطالبه الصبي بها بعد بلوغه وإن أخرجها بأمر الحاكم كان ذلك حكما من الحاكم فتنتفي عنه المطالبة
فإن قلت فالصحابة الذين أخرجوها قلت عمر كان إماما وكذا علي وعائشة لعلها كان مأذونا لها وهي أكبر من ذلك
فإن قلت لو أراد الولي أن يمكن الصبي المميز من الدفع إلى الفقير والنية هل له ذلك قلت أما الاقتصار عليه فلا يجزئ لأن نية الصبي في الصبي لا تعتبر به وإن كان مميزا وليس كنيته في الصلاة لأن الصلاة هو من أهلها وليس هو أهلا للتصرف في الأموال والنية المعتبرة هي المقارنة لتصرف
____________________
(1/201)
صحيح فكانت نيته في ذلك ملغاة وأما مجرد كونه يناول الفقير والنية من الولي محصورة فالظاهر أنه لا يمتنع ويحصل به جبر الصبي ففي الحديث أن مناولة الفقير تقي فتنة السوء ولكن ليس ذلك مطلوبا فالصبي محجور عليه في المال
ولو أن الولي أمر الصبي بالدفع ولم يبرأ الولي فالظاهر أنه كما لو نوى بلفظه ولم ينو بقلبه فيجيء فيه الخلاف المتقدم في أنه يكفي أو لا
فإن قلت النظر في هذه المسألة فما رتبتها عندك فإن المسائل منها يقوى ومنها يضعف
قلت كنت قبل نظري الآن لعدم نص وارد فيها بخصوصها أرى أن الاختلاف فيها متماسك والآن أرى أن القول بالوجوب قوي جدا إلى غاية ما يكون
فإن قلت ما دعاك في ثبت الكلام فيها على هذه الصفة
قلت لأني لم أجد دليلا واحدا يعتمد عليه فيها لا من جانبنا ولا من جانبهم لما بان لك من الكلام والتمسك من جهتهم ضعف بمرة والتمسك من جهتنا قوي بمجموع أمور عموم الأدلة من الكتاب والسنة وتعليقها بالمال لا بالملك واستمرار عمل السعاة على ذلك من غير تناولهم تخصيصا وفهم المعنى في سد خلة المساكين وظهور الطريق التي ذكرناها وأقوال الصحابة في ذلك من غير مخالف لهم في عصرهم والحديث المرسل والأحاديث الضعيفة والقياس
ومجموع ذلك يحصل القطع بالوجوب بخلاف ما لو انفرد واحد منها
فإن قلت كل واحد لا بد له من محل فما محل وجوب الزكاة قلت عند الشافعي محله المال وعند أبي حنيفة محله بدن المالك لأن التكليف عنده بالأدلة فقط والعبادات البدنية محلها البدن عندنا وعندهم كالصلاة والصوم ولهذا إذا مات سقطت لفوات محلها
فإن قلت هل تطلقون القول بوجوبها على الصبي قلت جمهور أصحابنا أطلقوه فاقتضاه رأيان صحيحان وجوبها عليه ووجوبها في ماله وبعض الأصحاب قال لا يقال إلا إنها واجبة في ماله ولا يقال واجبة عليه وغلطه الروياني
وأما وجوب الأداء فعلى الولي بلا إشكال
فإن قلت كيف يثاب الصبي غير المميز قلت الثواب فضل من الله تعالى وإن رتب على سبب والسبب هنا نقصان ماله وقد رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبي فقيل له ألهذا حج قال نعم ولا معنى لكونه له حج إلا أنه له أجر وهو على حضوره المساعدة وإحرام وليه عنه وقد يحصل لبدنه من الصحا والكلال ما يكون الثواب في مقابلته والكل بفضل الله تعالى والله أعلم
قال المصنف رضي الله عنه كتبه علي بن عبد الكافي السبكي في بعض يوم السبت التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وسبعمائة بظاهر
____________________
(1/202)
دمشق والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
مسألة للشيخ الإمام قدس الله روحه مصنف في هدايا العمال سماه فصل المقال كبير لخصه في مصنف آخر صغير وهو هذا
قال الشيخ الإمام رحمه الله الحمد لله على نعمه الكافية ومننه الوافية وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أدخرها جنة من النار واقية وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى كل أمة قاصية ودانية صلى الله عليه وسلم صلاة على ممر الأيام باقية وبعد فهذا مختصر من كتابي فصل المقال في هدايا العمال مرتب على فصلين الفصل الأول في الأحاديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي
وقال الترمذي حديث صحيح
وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنة الله على الراشي والمرتشي رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم في المستدرك وقال صحيح
وعن أبي هريرة قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في الحكم رواه الترمذي والإمام أحمد في المسند
وعن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في النار رواه البزار في مسنده
وعن أبي حميد الساعدي قال استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من بني أسد يقال له ابن اللتبية على صدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي إلي قال فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فلينظر أيهدى له أم لا والذي نفسي بيده لا يؤتى بشيء إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تثغو ثم رفع يديه ثم رأينا عفرة إبطيه ألا هل بلغت
رواه ح م
وعن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول
إسناده صحيح وهو في سنن أبي داود
وعن أبي حميدة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هدايا العمال غلول
رواه الإمام أحمد والبزار في مسنديهما وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما عدل وال تجر في رعيته
رواه النقاش
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قدم من اليمن فرأى عمر عنده غلمانا قال ما هؤلاء قال أصبتهم في وجهي هذا قال عمر من أي وجه قال أهدوا إلي وأكرمت
____________________
(1/203)
بهم فقال عمر أذكرتهم لأبي بكر فقال معاذ ما ذكري لأبي بكر ونام معاذ فرأى كأنه على شفير النار وعمر آخذ بحجزته من ورائه أن يقع في النار ففزع معاذ فذكره لأبي بكر رضي الله عنه فسوغه أبو بكر فقال عمر هذا حين حل وطاب
الفصل الثاني في كلام العلماء قال عمر بن عبد العزيز كانت الهدية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية واليوم رشوة
وقال مسروق إذا قبل القاضي الهدية أكل السحت وإذا قبل الرشوة بلغت به الكفر
وقال كعب الرشوة تسفه الحليم وتعمي عين الحكيم
وقال ابن عبد البر في الاستذكار كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويأكلها ويثيب عليها إلا أن ذلك لا يجوز لغير النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان منه قبولها على جهة الاستبداد بها دون رعيته لأنه إنما أهدي ذلك من أجل أنه أمير رعيته وليس النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كغيره لأنه مخصوص بما أفاء الله عليه من غير قتال من أموال الكفر يكون له دون سائر الناس ومن بعده من الأئمة حكمه في ذلك خلاف حكمه لا يكون له خاصة دون سائر الناس ومن بعده من الأئمة المسلمين بإجماع من العلماء لأنها فيء
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم هدايا الأمراء غلول انتهى الإجماع الذي نقله ابن عبد البر يرد على من يقول من المتأخرين بأنه يختص بها كما سنحكيه
وملخص كلام العلماء فيما يعطي الحكام الأئمة والأمراء والقضاة والولاة وسائر من ولي أمرا من أمور المسلمين أنه إما رشوة وإما هدية أما الرشوة فحرام بالإجماع على من يأخذها وعلى من يعطيها وسواء كان الأخذ لنفسه أو وكيلا وكذا المعطي سواء أكان عن نفسه أو وكيلا ويجب ردها على صاحبها ولا تجعل في بيت المال إلا إذا جهل مالكها فتكون كالمال الضائع وفي احتمال لبعض متأخري الفقهاء أنها تجعل في بيت المال والمراد بالرشوة التي ذكرناها ما يعطى لدفع حق أو لتحصيل باطل وإن أعطيت للتوصل إلى الحكم بحق فالتحريم على من يأخذها كذلك وأما من لم يعطها فإن لم يقدر على الوصول إلى حقه إلا بذلك جاز وإن قدر إلى الوصول إليه بدونه لم يجز
وهكذا حكم ما يعطى على الولايات والمناصب يحرم على الآخذ مطلقا ويفصل في الدافع على ما بينا وقد شذ بعض الفقهاء فقال يجوز الأخذ على الحكم بشروط أن لا يكون له رزق من بيت المال ولا يكون في بيت المال ما يمكن أن يرزقه وأن يأذن الإمام له في الأخذ وأن يكون الحكم
____________________
(1/204)
يقطعه عن كسبه وأن يعلم به الخصمان قبل التحاكم وأن يكون عليهما معا وأن لا يوجد متطوع ويعجز الإمام عن الدفع إليه ويكون ما يأخذ غير مضر بالخصوم ولا زائد على قدر حاجته ويكون مشهورا بين الناس يتساوى فيه الخصوم من غير تفاضل فإن فقد واحد من هذه الشروط لم يجز ثم الجواز إذا اجتمعت قول شاذ لا معول عليه والذي فرضه إنما قاله عند الضرورة كالمخمصة وفيه معرة على المسلمين
وأما الهدية وهي التي يقصد بها التودد واستمالة القلوب فإن كانت ممن لم تقدم له عادة قبل الولاية فحرام وإن كانت ممن له عادة قبل الولاية فإن زاد فكما لو لم تكن له عادة وإن لم يزد فإن كانت له خصومة لم يجز وإن لم تكن له خصومة جاز بقدر ما كانت عادته قبل الولاية والأفضل أن لا يقبل والتشديد على القاضي في قبول الهدية أكثر من التشديد على غيره من ولاة الأمور لأنه نائب عن الشرع فيحق له أن يسير بسيرته
وقال ابن يونس المالكي لا يقبل القاضي هدية من أحد لا من قريب ولا من صديق وإن كافأه بأضعافها إلا من الوالد والولد وخاصة القرابة التي تجمع من حرمة الحاجة ما هو أكثر من حرمة الهدية
قال سحنون مثل الخالة والعمة وبنت الأخ
قال ابن حبيب لم يختلف العلماء في كراهية الهدية إلى السلطان الأكبر وإلى القضاة والعمال وجباة الأموال وهو قول مالك ومن قبله من أهل السنة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية وهذا من خواصه
وحكى ابن أبي زيد هذا الكلام عن ابن حبيب أيضا قال وقد رد علي خروفا أهدي إليه وقال ربيعة الهدية ذريعة الرشوة وعلمة الظلمة
وقال أيضا والنبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره لأنه إنما يهدى إليه قربة لله تعالى وما أهدي إلى الوالي لم يقصد به إلا السلطان وفي كلام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمه الله على ما ذكره السرخسي في السير الكبير أن ملك العدو إذا بعث إلى أمير الجند هدية فلا بأس أن يقبلها ويصير فيئا للمسلمين لأنه ما أهدي إليه لعينه بل لمنعته ومنعته بالمسلمين فكان هذا بمنزلة المال المصاب بقوة المسلمين وهذا بخلاف ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدية فإن قوته ومنعته لم تكن بالمسلمين على ما قال الله تعالى والله يعصمك من الناس فلهذا كانت الهدية له خاصة وسنة أيضا بخلاف الهدية إلى الحكام فإن ذلك رشوة لأن المعنى الذي حمل المهدي على التقرب إليه ولايته الثابتة بتقليد الإمام إياه والإمام في ذلك نائب من المسلمين
والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم هدايا الأمراء غلول يعني إذا حبسوا ذلك لأنفسهم وقالت الحنابلة لا يقبل القاضي هدية من لم يكن يهدي إليه قبل ولايته
وقال
____________________
(1/205)
أحمد إذا أهدى البطريق إلى صاحب الجيش عينا أو فضة لم تكن له دون سائر الجيش قال أبو بكر يكون فيه سواء
فهذه نقول المذاهب الأربعة كلام الشافعية رحمهم الله لخصناه أولا وكلام الثلاثة ذكرناه بعده
ومن كلام الشافعي رحمه الله أنه إن كان على دفع باطل أو إيصال إلى حق فهو رشوة محرمة وإن كان لغير سبب يعرف أكثر من ولايته عليهم فإن أثابه بمثله كان له قبوله وإن لم يثبه لم يحل له عندي إلا وضعه في الصدقات لأن ذلك إنما وصل إليه بسبب العمالة ذكر ذلك في عامل الصدقة
وللشافعي رضي الله عنه قول ثان قبولها غير محرم فهم منه بعض أصحابنا أنه قول بأنه يجوز أن يملكها والاختصاص بها وهذا بخلاف ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع فلعل مراد الشافعي رحمه الله جواز القبول إذا لم يختص بها بل وضعها في بيت المال
والحاصل أن الهدية لا يملكها الحاكم باتفاق أكثر العلماء أو كلهم وأما تحريم أخذها فحيث أوجبت ريبة حرم عليه قبولها والتحريم في القاضي آكد من بقية ولاة الأمور لأن عليه من الصيانة أكثر من غيره لأنه نائب عن الشرع
فلينظر القاضي المسكين المشفق على دينه إلى سيرته وإلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده في أحكامهم وأفعالهم فإن وجد سيرته قريبة من ذلك فأحرى أن ينجو أو ليسأل الله في تقصيره وإن وجد سيرته مخالفة لسيرتهم فليعلم أنه كما عدل عن طريقهم في الدنيا كذلك يعدل عنها في الآخرة وليقنع بأن يكون في عداد المسلمين نسأل الله العافية ولا نتعرض إلى هذا الخطر العظيم ونتحمل أعباء هذا المنصب الشريف ولهذا كان العلماء من السلف يمتنعون من الدخول فيه لما يعلمون من خطره ولا شك أن من دخل فيه بحق وعدل فيه كان كالمجاهد في سبيل الله له درجة المجاهدين بل ربما يكون أفضل من بعضهم وكل قضية يحكم فيها بالحق فيدفع ظالما ويصل حقا هي جهاد ولا شك أنها أعظم من نوافل العبادات وأفضل من كثير من فروض الكفايات ولكن هيهات العدل من صاحبها إلا من عصم الله فالأولى للمحتاط لدينه الانكفاف عنها وليعلم أنها ليست جهة مكسب بل جهة عبادة وفيها خطر إن زل هوى في جهنم فالسلامة في تركها ونسأل الله من فضله
وأحسن أحوال الفقيه عندي أن يشتغل بالعلم لله تعالى ولا يأخذ عليه شيئا ولا منصبا ويجعل كسبه من غيره من جهات الحل إن قدر على ذلك وإذا ابتلي بالقضاء فلا يحل له أن يأخذ شيئا إلا أن يرزقه الإمام أو يفعل ما يستحق به أجرة مثل أن يكتب مكتوبا فيستحق أجرة مثله فيه إذا لم تكن كتابة ذلك واجبة
____________________
(1/206)
عليه وما أشبه ذلك ولا يجوز له أن يأخذ على حكم بحق ولا بباطل ولا على تولية نيابة قضاء أو مباشرة وقف أو مال يتيم لا يأخذ من أحد شيئا على ذلك لأن الله تعالى قد نصبه لذلك نائبا عنه وحكم الله وعدله يجب أن يكون مبذولا لكل أحد بغير عوض وهكذا يجب أن يكون حاجب القاضي ونائبه وكل من ندبه لأمور المسلمين لأنهم أمناء الله في أرضه ونوابه في إيصال عدله إلى الناس وتأدية الأمانة إلى أهلها ومن وقع في كلامه من الفقهاء أن القاضي يجوز له أخذ شيء فذلك شاذ مردود خطأ من قائله متأول ومحله في صورة نادرة وهي حالة الضرورة والمخمصة مشروطا بشروط نبهنا عليه فيما سبق ومن فعل خلاف ذلك فقد غير فريضة الله وباع عدل الله الذي بذله لعباده بغير عوض فأخذ عليه ثمنا قليلا ولهذا نجد بعض الفجرة الذين يقعون في شيء من هذا ويكتمونه ويأخذونه خفية وهذا علامة الحرام
فإن الحلال يأخذه صاحبه جهارا لا يستحيي من أخذه نسأل الله أن يعصمنا من الزيغ ويسلك بنا طريق الهدى بمنه وكرمه انتهى
كتاب الصيام مسألة فيمن شهد برؤية الهلال منفردا بشهادته واقتضى الحساب تكذيبه قال الشيخ الإمام رحمه الله قال الله سبحانه يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج والمواقيت التي تحتاج إلى الهلال ميقات صلاة العيد والزكاة وصدقة الفطر وصيام رمضان والفطر منه وصيام الأيام البيض وعاشوراء وكراهية الصوم بعد نصف شعبان وصيام ست من شوال ومعرفة سن شاة الزكاة وأسنان الإبل والبقر فيها والاعتكاف في النذر والحج والوقوف والأضحية والعقيقة والهدي والآجال والسلم والبلوغ والمساقاة والإجارة واللقطة وأجل العنة والإيلاء وكفارة الوقاع والظهار والقتل بالصوم والعدة في المتوفى عنها وفي الآيسة والاستبراء والرضاع ولحوق النسب وكسوة الزوجة والديات وغير ذلك فكان من المهم صرف بعض العناية إلى ذلك ومعرفة دخول الشهر شرعا
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا عقد الإبهام في الثالثة والشهر هكذا وهكذا يعني تمام ثلاثين رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وقد تأملت هذا الحديث فوجدت معناه إلغاء ما يقوله أهل الهيئة والحساب من أن الشهر عندهم عبارة عن مفارقة الهلال شعاع الشمس فهو أول الشهر عندهم ويبقى
____________________
(1/207)
الشهر إلى أن يجتمع معها ويفارقها فالشهر عندهم ما بين ذلك وهذا باطل في الشرع قطعا لا اعتبار به فأشار النبي صلى الله عليه وسلم بأنا أي العرب أمة أمية لا نكتب ولا نحسب أي ليس من شأن العرب الكتابة ولا الحساب
فالشرع في الشهر ما بين الهلالين ويدرك ذلك إما برؤية الهلال وإما بكمال العدة ثلاثين واعتباره إكمال العدة ثلاثين دليل على أنه لا ينتظرون به الهلال وأن وجوده في نفس الأمر معتبر بشرط إمكان الرؤية ولو لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لكان إذا فارق الشعاع مثلا قبل الفجر يجب صوم ذلك اليوم فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يجعل الصوم إلا في اليوم القابل وهذا محل مجمع عليه لا خلاف فيه بين العلماء وثم محل آخر اختلفوا فيه يمكن أن يؤخذ من الحديث ويمكن أن يعتذر عنه وهو ما إذا دل الحساب على أنه فارق الشعاع ومضت عليه مدة يمكن أن يرى فيها عند الغروب فقد اختلف العلماء في جواز الصوم بذلك وفي وجوبه على الحاسب وعلى غيره أعني في الجواز على غيره فمن قال بعدم الوجوب عليه وبعدم الجواز فقد يتمسك بالحديث ويعتضد بقوله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له وفي رواية فأكملوا عدة شعبان ثلاثين وهذا هو الأصح عند العلماء ومن قال بالجواز اعتقد بأن المقصود وجود الهلال وإمكان رؤيته كما في أوقات الصلاة إذا دل الحساب عليها في يوم الغيم وهذا القول قاله كبار ولكن الصحيح الأول لمفهوم الحديث وليس ذلك ردا للحساب فإن الحساب إنما يقتضي الإمكان ومجرد الإمكان لا يجب أن يرتب عليه الحكم وترتيب الحكم للشارع وقد رتبه على الرؤية ولم تخرج عنه إلا إذا كملت العدة الفرق بينه وبين أوقات الصلاة أن الغلط قد يحصل هنا كثيرا بخلاف أوقات الصلاة يحصل القطع أو قريب منه غالبا وهذا الخلاف فيما إذا دل الحساب على إمكان الرؤية ولم ير فأحد الوجهين أن السبب إمكان الرؤية والثاني وهو الأصح أن السبب نفس الرؤية أو إكمال العدة وعلى كلا الوجهين ليس ما دل عليه الحساب محكوما عليه بالبطلان وقد يكون في نفسه بحيث تنتهي مقدماته إلى القطع وقد لا تنتهي
____________________
(1/208)
إلى ذلك بحسب مراتب بعده عن الشمس وقربه
وههنا صورة أخرى وهو أن يدل الحساب على عدم إمكان رؤيته ويدرك ذلك بمقدمات قطعية ويكون في غاية القرب من الشمس ففي هذه الحالة لا يمكن فرض رؤيتنا له حسا لأنه يستحيل فلو أخبرنا به مخبر واحد أو أكثر ممن يحتمل خبره الكذب أو الغلط فالذي يتجه قبول هذا الخبر وحمله على الكذب أو الغلط ولو شهد به شاهدان لم تقبل شهادتهما لأن الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان والظن لا يعارض القطع فضلا عن أن يقدم عليه والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكنا حسا وعقلا وشرعا فإذا فرض دلالة الحساب قطعا على عدم الإمكان استحال القبول شرعا لاستحالة المشهود به والشرع لا يأتي بالمستحيلات ولم يأت لنا نص من الشرع أن كل شاهدين تقبل شهادتهما سواء كان المشهود به صحيحا أو باطلا ولا يترتب وجوب الصوم وأحكام الشهر على مجرد الخبر أو الشهادة حتى إنا نقول العمدة قول الشارع صوموا إذا أخبركم مخبر فإنه لو ورد ذلك قبلناه على الرأس والعين لكن ذلك لم يأت قط في الشرع بل وجب علينا التبين في قبول الخبر حتى نعلم حقيقته أولا ولا شك أن بعض من يشهد بالهلال قد لا يراه ويشتبه عليه أو يرى ما يظنه هلالا وليس بهلال أو تريه عينه ما لم ير أو يؤدي الشهادة بعد أيام ويحصل الغلط في الليلة التي رأى فيها أو يكون جهله عظيما يحمله على أن يعتقد في حمله الناس على الصيام أجرا أو يكون ممن يقصد إثبات عدالته فيتخذ ذلك وسيلة إلى أن يزكى ويصير مقبولا عند الحكام وكل هذه الأنواع قد رأيناها وسمعناها فيجب على الحاكم إذا جرب مثل ذلك وعرف من نفسه أو بخبر من يثق به أن دلالة الحساب على عدم إمكان الرؤية أن لا يقبل هذه الشهادة ولا يثبت بها ولا يحكم بها ويستصحب الأصل في بقاء الشهر فإنه دليل شرعي محقق حتى يتحقق خلافه ولا نقول الشرع ألغى قول الحساب مطلقا والفقهاء قالوا لا يعتمد فإن ذلك إنما قالوه في عكس هذا وهذه المسألة المتقدمة التي حكينا فيها الخلاف أما هذه المسألة فلا ولم أجد في هذه نقلا ولا وجه فيها للاحتمال غير ما ذكرته
ورأيت إمام الحرمين في النهاية لما تكلم فيها إذا رئي الهلال في موضع ولم ير في غيره وللأصحاب فيه وجهان هل تعتبر مسافة القصر أو المطالع جزم بمسافة القصر وذكر المطالع على وجه الاحتمال له لأنه لم ينقله ثم رده بأنه مبني على الأرصاد والتمودرات وفرض ذلك في دون مسافة القصر بانخفاض وارتفاع وهذا الفرض الذي قد فرضه نادر فإن أمكن ذلك
____________________
(1/209)
وحكم حاسب بعدم الإمكان في هذا الموضع احتمل أن يقال بعدم تعلق الحكم واحتمل أن يقال إنما دون مسافة القصر كالبلد الواحد فيتعلق به الحكم
ومسألتنا هذه في قطر عظيم وأقاليم دل الحساب على عدم إمكان الرؤية فيها فشهد اثنان أو ثلاثة على رؤيته مع احتمال قولهما بجميع ما قدمناه فلا أرى قبول هذه البينة أصلا ولا يجوز الحكم بها
واعلم أنه ليس مرادنا بالقطع ههنا الذي يحصل بالبرهان الذي مقدماته كلها عقلية فإن الحال هنا ليس كذلك وإنما هو مبني على أرصاد وتجارب طويلة وتسيير منازل الشمس والقمر ومعرفة حصول الضوء الذي فيه بحيث يتمكن الناس من رؤيته والناس يختلفون في حدة البصر فتارة يحصل القطع إما بإمكان الرؤية وإما بعدمه وتارة لا يقطع بل يتردد والقطع بأحد الطرفين مستنده العادة كما نقطع في بعض الأجرام البعيدة عنا بأنا لا نراها ولا يمكنا رؤيتها في العادة وإن كان في الإمكان العقلي ذلك ولكن يكون ذلك خارقا للعادة وقد يقع معجزة لنبي أو كرامة لولي أما غيرهما فلا فلو أخبرنا مخبر أنه رأى شخصا بعيدا عنه في مسافة يوم مثلا وسمعه يقر بحق وشهد عليه به لم يقبل خبره ولا شهادته بذلك ولا نرتب عليها حكما وإن كان ذلك ممكنا في العقل لكنه مستحيل في العادة فكذلك إذا شهد عندنا اثنان أو أكثر ممن يجوز كذبهما أو غلطهما برؤية الهلال وقد دل حساب تسيير منازل القمر على عدم إمكان رؤيته في ذلك الذي قالا إنهما رأياه فيه ترد شهادتهما لأن الإمكان شرط في المشهور به وتجويز الكذب والغلط على الشاهدين المذكورين أولى من تجويز انخرام العادة فالمستحيل العادي والمستحيل العقلي لا يقبل الإقرار به ولا الشهادة فكذلك المستحيل العادي وحق على القاضي التيقظ لذلك وأن لا يتسرع إلى قبول الشاهدين حتى يفحص عن حال ما شهدا به من الإمكان وعدمه ومراتب الإمكان فيه وهل بصرهما يقتضي ذلك أو لا وهل هما ممن يشتبه عليهما أو لا فإذا تبين له الإمكان وإنهما ممن يجيد بصرهما رؤيته ولا يشتبه عليهما لفطنتهما ويقظتهما ولا غرض لهما وهما عدلان ذلك بسبب أو لا فيتوقف أو يرد ولو كان كل ما يشهد به شاهدان يثبته القاضي لكان كل أحد يدرك حقيقة القضاء لكن لا بد من نظر لأجله جعل القاضي فإذا قال القاضي ثبت عندي علمنا أنه استوفى هذه الأحوال كلها وتكاملت شروطها عنده فلذلك ينبغي للقاضي التثبت وعدم التسرع مظنة الغلط ولهذا إن الشاهد المتسرع إلى أداء الشهادة ترد شهادته ومن عرف منه التسرع في ذلك لم تقبل شهادته فيه ومراتب ما يقوله الحساب في ذلك
____________________
(1/210)
متفاوتة منها ما يقطعون بعدم إمكان الرؤية فيه فهذا لا ريب عندنا في رد الشهادة به إذا عرفه القاضي بنفسه أو اعتمد فيه على قول من يثق به ويظهر أن يكتفي فيه بإخبار واحد موثوق به ويعلمه أما اثنان فلا شك فيهما ومنها ما لا يقطعون فيه بعدم الإمكان ولكن يستعدون فهذا محل النظر في حال الشهود وحدة بصرهم ويرى أنهم من احتمال الغلط والكذب يتفاوت ذلك تفاوتا كبيرا ومراتب كثيرة فلهذا يجب على القاضي الاجتهاد وسع الطاقة أما إذا كان الإمكان بحيث يراه أكثر الناس فلا يبقى إلا النظر في حال الشاهدين فلا يعتقد القاضي أنه بمجرد شهادة الشاهدين وتزكيتهما يثبت الهلال ولا يعتقد أن الشرع أبطل العمل بما يقوله الحساب مطلقا فلم يأت ذلك وكيف والحساب معمول به في الفرائض وغيرها وقد ذكر في الحديث الكتابة والحساب وليست الكتابة منهيا عنها فكذلك الحساب وإنما المراد ضبط الحكم الشرعي في الشهر بطريقين ظاهرين مكشوفين رؤية الهلال أو تمام ثلاثين وأن الشهر تارة تسع وعشرون وتارة ثلاثون وليست مدة زمانية مضبوطة بحساب كما يقوله أهل الهيئة ولا يعتقد الفقيه أن هذه المسألة هي التي قال الفقهاء في كتاب الصيام إن الصحيح عدم العمل بالحساب لأن ذلك فيما إذا دل الحساب على إنكار الرؤية وهذا عكسه
ولا شك أن من قال هناك بجواز الصوم أو وجوبه يقول هنا بالمنع بطريق الأولى ومن قال هناك بالمنع فههنا لم يقل شيئا والذي اقتضاه نظرنا المنع فالمنع هنا مقطوع به
ولم نجد هذه المسألة منقولة لكنا تفقهنا فيها وهي عندنا من محال القطع مترقية عن مرتبة الظنون والله أعلم
مسألة قال الشيخ الإمام رضي الله عنه كان الداعي إلى كتابة هذه المسألة أنه في هذه السنة وهي سنة ثمان وأربعين وسبعمائة يرى الناس هلال ذي الحجة بدمشق ليلة الأحد في المعظمية من عمل داري المجاورة لدمشق وربما قيل إنه رئي في بيسان وهي وإن كانت أكثر من مسافة القصر لكن لا يقتضي الحساب إمكان الرؤية فيها بل حكمها في ذلك حكم دمشق
فلما بلغني ذلك توقفت لأنه ثبت عندي أن أوله يوم الاثنين عملا بالاستصحاب المضموم إلى عدم إمكان الرؤية والاستصحاب وحده دليل شرعي وقد قوي بذلك
وقلت للقاضي الذي وقعت الشهادة عنده لا تستعجل فلم أشعر إلا وقد حضر شاهدان من عنده أنه أثبته وأن اليوم وهو يوم الاثنين التاسع من ذي الحجة وأنه حكم بذلك مع علمه بالخلاف
قلت ما هو الخلاف قيل اختلاف المطالع فلم أر هذا دافعا لما
____________________
(1/211)
ثبت عندي وامتنعت من تنفيذ حكمه لما قدمته ولأني قد جربته في عشرين عيدا أولها عيد الفطر سنة تسع وثلاثين في كل عيد هكذا أتحرص على إثباته وتارة نسمع منه وتارة لا نسمع منه وفي العام الماضي هكذا وعيد أهل دمشق بقوله الجمعة وكانت الوقفة عند الحجاج وأرسل في هذا العام بعد أن حكم وأشاع ذلك إلى المحضر الذي شهد فيه عنده وفيه شهادة اثنين قالا إنهما رأياه في المعظمية من عمل داري وزكيا عنده فما ألويت على قولهما وعيد الناس بقوله يوم الثلاثاء ولم يمكن رد السواد الأعظم ولا استحسنت الطعن في حكم حاكم بعد اشتهاره لئلا يتطرق الناس إلى الريبة في حكم الحاكم واكتفيت بصيانة نفسي عن الحكم بما لا أراه مع عدم إمكان دفعه
فصل ونفذه حاكم آخر ولم أر ذلك التنفيذ سائغا وصممت على عدم التنفيذ
فصل في التضحية في هذا العام أما يوم الأربعاء والخميس فلا شك في جواز التضحية فيهما وكذا الجمعة عند من يجعل أيام التشريق ثلاثة أيام بعد العيد وأما الثلاثة فعندي أن التضحية غير جائزة ومن ضحى فيه تطوعا لم يجزئه ولم يحصل له ثواب الأضحية ومن ضحى منذورا لم يجزئه ووجب عليه الإعادة وكذا المتطوع إذا كان ممن يرى وجوب التضحية عليه وهو قادر عليها وعكسه يوم السبت عندي يجوز فيه التضحية
فصل في الصوم يوم الثلاثاء عندي أنه جائز لأنه يوم عرفة فينبغي أن لا يفوت صومه لأنه كفارة سنتين وقد يقال بأنه يعارض هذا احتمال العيد وصومه حرام واحتمال عرفة وصومه سنة فكان ترك الحرام أولى
وجوابه أنه إنما يكون حراما إذا تحققنا أنه العيد والأصل عدمه ونظيره إذا شك المتوضئ هل غسل ثلاثا أو اثنتين قال الشيخ أبو محمد لا يغسل أخرى لأن ترك السنة أولى من اقتحام البدعة والمذهب أن يغسل عملا بالأصل وإنما يكون بدعة إذا تحقق أنها رابعة وقد يقال إن هنا أولى بالترك لأن التردد في الوضوء بين سنة ومكروه وهنا بين سنة وحرام فقد يقال بتحريم الصوم
وجوابه أنه يستحيل القول بالتحريم مع الشك وغاية السؤال أن يقال الأولى الترك هنا كما قاله الشيخ أبو حامد في الوضوء ولا يقال بالاستصحاب هنا كما قاله الأصحاب هناك وجوابه أنه لما حصل التعارض بين الدليلين في تحية المسجد لمن دخل بعد العصر استحبها الشافعي وإن كان التنفل بعد العصر فالتعارض بين سنة وحرام ولم يجعل ذلك مرجحا لجانب الترك وسببه أن التعارض المعتبر إذا لم يحصل رجحان من دليل
____________________
(1/212)
آخر وفي الصلاة حصل دليل مرجح وكذا هنا استصحاب الأصل مرجح
وجواب آخر وهو إذا حصل ليلة الاثنين من شعبان شك في رؤية هلال رمضان حصل التردد في يوم الشك بين فطر يوم من رمضان وهو حرام وصوم يوم من شعبان وهو جائز فكان على مقتضى القياس ينبغي الصوم وليس كذلك بل هو حرام وهذا أدل دليل في مسألتنا على أن التمسك بالأصل أولى وقد يقال إنه حصل في يوم الشك مع ذلك التنطع وخشية التشبه بأهل الكتاب في التقدم بالصوم محرم لذلك وهذا معنى صحيح ومثله ليس موجودا هنا لكن مقصودنا دفع التحريم وإن الاستصحاب يكفي في التمسك به ويبقى رجحان الصوم فيه من جهة كثرة الأجر الموعود فيه واندفاع المعارض بالاستصحاب
فصل لما قيل إن ذلك القاضي حكم بأن غدا العيد سمعت بعض الشباب يقول صوم غد حرام بالإجماع فأعرضت عن جوابه وحمله على ذلك ما سمعه من أن صوم العيد حرام بالإجماع وهو ما يفرق بين الجزئي والكلي ولا بين كلام المفتي وكلام العلماء في الكتب فوظيفة العلماء في الكتب ذكر المسائل الكلية ووظيفة المفتي تنزيل تلك الكليات على الوقائع الجزئية فإذا علم المفتي اندراج ذلك الجزئي في ذلك الكلي أفتى فيه بالحكم المذكور في الكتب وهذا العيد جزئي والحكم عليه بأنه العيد المذكور في الكتب هو الذي تسكب فيه العبرات فإنه يتوقف على شروط كثيرة منها في الشاهدين وقد ذكرناها ومنها في الحكم
وقد ذكرناه ومنها أنه هل حكم في محل الإجماع أو في محل الاختلاف فإنه على تقدير استيفاء الشروط في الشهود والمشهود به والتثبت في الحكم وصحته اختلف العلماء هل لكل بلدة حكمها أو لا وقد علم أنه لم ير في دمشق فإذا كان قد رئي في بلدة أخرى مخالفة لدمشق في مطالع الهلال حتى يجري خلاف وحكم فيه وسلمنا صحة الحكم في سائر مواضع الخلاف وقد اختلف العلماء هل ينفذ ظاهرا أو باطنا ولا ينفذ إلا ظاهرا والذي يقول لا ينفذ إلا ظاهرا يقول إنه لا يجوز للمحكوم عليه مخالفته فيما بينه وبين الله تعالى فههنا لم يحصل إجماعنا على تحريم الصوم وإنما الإجماع فيما يقع أنه يوم العيد وإنما يكون ذلك إذا رئي في ذلك البلد رؤية لا شك فيها ألا ترى أن يوم العيد عند أهل الديار المصرية الأربعاء فهل يكون عيدان في يومين متجاورين حرام صومهما ولو فرضنا أنه رئي عندنا لكان يقال باختلاف الحكم لكن لم ير
____________________
(1/213)
214 فصل في الثبوت قد قلنا ما فيه كفاية في الشهود فلا يثبت بقولهم وإذا لم يثبت لم يلزم العامة حكم تلك الشهادة والقاضي الذي أثبت ذلك ظن أن التزكية كافية فليس معنى قوله يثبت إلا بثبوت عدالتهم وشهادتهم وقد بقي وراء هذا أمور أخرى مما يتوقف عليها ثبوت الشهر في نفسه تحققنا أنه غير موجود
فصل في حكم القاضي به من المعلوم أن الحكم هو الالتزام وإنه يستدعي محكوما عليه ومحكوما له وهو في حقوق الآدميين يتوقف على دعوى وسؤال الحكم وفي حقوق الله تعالى لا يتوقف على ذلك بل يجوز حسبه فيما يجب على القاضي بها نظر وقد اختلف الفقهاء في أن القاضي هل يطالب بالنذور والكفارات هذا مع ما فيها من نفع المساكين فما ظنك بحقوق الله تعالى المحضة
فالظاهر أن القاضي إنما يثبت الشهر فقط أما يحكم به فلا لكن إذا ترتب على الثبوت حق ودعت الحاجة إلى حكم به يحكم بذلك الحكم بشروطه مستندا إلى ذلك الثبوت
فصل في التنفيذ هو مبني على صحة الحكم فإن لم يصح الحكم لم يصح التنفيذ إلا أن يريد تنفيذ الثبوت المجرد فينبني على أن الثبوت حكم أو لا فأحد الوجهين عندنا أنه حكم وهو مذهب الحنفية والمشهور عند المالكية والأصح عند أصحابنا أنه ليس بحكم والمختار عندي أنه حكم بقبول البينة وليس بحكم بالمشهود به وتظهر فائدة ذلك في الحكم المختلف فيه إذا أثبته من يراه فمن يجعله حكما يمنع نقضه ومن لم يجعله حكما يجوز لمن لا يراه نقضه وكذلك إذا جعلته حكما بقبول البينة وليس حكما بالمشهور به
وتظهر فائدة في الحكم المختلف به إذا أثبته من يراه أيضا في نقله في البلد الصحيح منعه
وقال الإمام بجوازه وهو المختار عندي لما اخترته
وتظهر فائدته لي أيضا فيما يظهر لي وإن لم أجده منقولا في الرجوع إذا رجع الشاهدان بعد إثبات القاضي من غير حكم
فإن قلنا الإثبات ليس بحكم أصلا فيبطل الشهادة كما لو رجعا بعد الأداء وقبل الثبوت وإن قلنا حكم بالحق فكما لو رجعا بعد الحكم وإن قلت بالمختار عندي فالذي يظهر أنه لا يبطل الشهادة ويكون كالركوع بعد الحكم
فصل في شرح بعض الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له وفي رواية البخاري فأكملوا عدة شعبان ثلاثين وقد يقال إنه يرد على القائلين
____________________
(1/214)
بجواز الصوم أو وجوبه إذا دل الحساب على رؤيته ووجه الاعتذار عنه أنه لما دل على الصوم بإكمال ثلاثين من غير رؤية فهمنا المعنى وهو طلوع الهلال وإمكان رؤيته وهما حاصلان بالهلال في ليلة الثلاثين في بعض الأوقات فيندرج الخلاف في ذلك بحسب القاعدة المشهورة في أن النظر إلى اللفظ أو المعنى فمن اعتبر اللفظ منع دلالة مفهوم قوله فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ومن اعتبر المعنى قال الحديث خرج مخرج الغالب وأشار إلى العلة فإذا وجدت ولو نادرا اتبعت وقوله رأيتموه ليس المراد رؤية الجميع بدليل الوجوب على الأعمى بالإجماع ولما أخبر ابن عمر النبي صلى الله عليه وسلم برؤيته أمر الناس بالصيام فالمراد رؤية البعض وتحقق إما بالحس وإما بخبر من يقبل خبره أو شهادة من تقبل شهادته بشروطها وقوله الشهر هكذا وهكذا قد ذكرناه ومقصوده بيان الشهر الشرعي العربي ومخالفة ما يفهمه منه أهل الحساب لا إبطال حسابهم جملة بل بيان أنه تارة ثلاثون وتارة تسع وعشرون فلا رد فيه على من قال بجواز الصوم بالحساب لأنه ما خرج عن كونه تسعا وعشرين
وأما قوله صلى الله عليه وسلم عرفة يوم تعرفون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون فالمراد منه إذا اتفقوا على ذلك فالمسلمون لا يتفقون على ضلالة والإجماع حجة ولا بد من قائم لله بالحجة حتى لو غم الهلال وأكمل الناس ذا القعدة ثلاثين ووقفوا في تاسع ذي الحجة لظنهم وعيدوا في غده ثم تبين أنهم وقفوا في العاشر فوقوفهم صحيح وأضحاهم يوم ضحوا وكذا إذا كملوا عدة رمضان ثلاثين وأفطروا من الغد ثم تبين أنه كان ثاني شوال كان فطرهم يوم أفطروا
فهذا معنى الحديث إن شاء الله تعالى ولو أن واحدا رأى وحده أفتاه بأن يفطر سرا ويكون ذلك يوم فطره وليس ذلك يوم فطر غيره بل يوم فطر غيره من الغد إن لم يثبت برؤية وهذا يدل على أنه ليس فطر كل أحد يوم فطر وإذا اتفق غلط أهل بلد صغير أو كبير فلم يروا الهلال وكان قد رئي في سائر البلاد حواليه رؤية محققة فإن لم يكن ذلك الغلط من جميع أهل البلد احتمل أن يكون ذلك عندهم للحديث وإن كان بلد لها حكم واحتمل خلافه وإن تعمد أهل بلد فضحوا يوم التاسع أو وقفوا يوم الثامن أو أفطروا يوم الثلاثين من رمضان لم يقل أحد إن ذلك يوم أضحاهم ولا يوم وقوفهم ولا يوم فطرهم ولأن الحديث يقتضي ذلك فإذا اختلف أهل بلد في الرؤية فقال بعضهم إنه رأى ما في ذلك البلد وأما في موضع غيره يعتقد القاضي أنه يتعدى حكمه إليه ووقعت الريبة في ذلك كما
____________________
(1/215)
اتفق في هذا العام فعيد أكثر الناس بقولهم والباقون لم يصغوا إليه فلا يقال إن ذلك يوم أضحى الناس كلهم حتى يحرم صومه على من لم يصغ إلى ذلك وكيف يقال ذلك ويحتج على أنه العيد بتعييد الناس وتعييد الناس مشروط في الثبوت الذي لا ريبة فيه أعني التعييد الشرعي وأما التعييد بغير مستند فلا عبرة به فلو استدللنا بالتعييد على صحة المستند لزم الدور فإن كان ذلك المستند لا اعتبار به فالتعييد كالتعييد بغير مستند وهو حرام مردود على فاعله بقوله صلى الله عليه وسلم من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد وإذا كان مردودا فلا يرتب عليه حكم شرعي وإن كان المستند معتبرا فالعيد ثابت قبله فالاستدلال به على صحة العيد لا يصح فتبين أن محل الحديث ما ذكرناه إن شاء الله تعالى
فصل في صلاة العيد ولا يستحب في هذا العام يوم الثلاثاء لما قلناه فإن اضطر شخص إلى الحضور مع السواد الأعظم وعدم مخالفتهم فينبغي أن ينوي الضحى فإنه إذا نوى العيد لم يصح في اعتقاده ولا يجوز أن ينوي ما لا يصح ثم في صحتها نفلا مطلقا إذا بطلت نية العيد خلاف مشهور والأصح عند العلماء البطلان فلذلك قلنا ينبغي أن ينوي الضحى أو نفلا مطلقا ويصح اقتداؤه بالذي يصلي العيد إذا كان جاهلا بأن صلاته صحيحة فيصح الاقتداء به ولا يضر الاختلاف في النية
فصل فإذا صلى كما قلناه وكبر الإمام التكبيرات الزوائد فإن كبر معه احتمل أن يجري خلاف في بطلان صلاته من الخلاف في نقل الركن القولي لأن التكبير ركن في التحريم واحتمل أن لا يجري لأن الركن مشروع في الانتقالات فإن اضطر في موافقة السواد الأعظم إلى ذكر وأراد الاحتراز عن ذلك أتى مكانه بتسبيح أو يقول مكان أكبر أجل أو أعظم وأما رفع اليدين في ذلك فالأولى التحرز عنه لأنه يتكرر سبعا في الأولى وخمسا في الثانية في غير موضعه فقد يقال إنه فعل كثير فيقتضي البطلان وليس متفرقا فهو أولى بالبطلان مما نقل عن أبي حنيفة في البطلان برفع اليدين وإن كان ذلك ضعيفا لعدم التوالي ولورود السنة به فلو اضطر في موافقة السواد الأعظم فليقلل الرفع ما أمكن
فصل والتضحية يوم السبت جائزة عندنا لأنه من أيام التشريق لكن الأولى التقديم عليه لأن المبادرة إلى التضحية أفضل ولا ضرورة إلى التأخير والوقوع معه في الشك ونحن إنما استحببنا صوم يوم الثلاثاء عملا بالاستصحاب لأنه لا يعتاض عنه ولا مندوحة في حصول الأجر المرتب عليه وأما تأخير الأضحية فلا داعي إليه
فصل قدمنا أن في الحكم بالشهر نظرا ومما ينظر فيه أيضا أن الحكم على
____________________
(1/216)
غير معين أوله إن كان جهة عامة كبيت المال أو الفقراء فيصح أن يحكم للفقراء على بيت المال أما الحكم هنا فليس كذلك لأن تحريم الصوم أو وجوبه واستحباب صوم يوم عرفة والأضحية ليس للجهة ولا عليها وهذا مما يبعد دخول الحكم في ذلك
فصل فإن سلم دخوله وكان قد تقدم ثبوت أول الشهر الاثنين والحكم به فهل يتعارض الحكمان أو كيف الحال والذي يظهر أن تقدم الحكم بالهلال لأن فيه زيادة علم
فصل إذا قيل بصحة الحكم فهل يختص بالمكلفين في ذلك أو يشمل من يحدث بلوغه في ذلك اليوم أو الشهر مثلا فيكون في الحقيقة على الجهة وهو الأقرب إذا صححنا الحكم والأقرب عدم صحته
فصل إذا صححنا على العموم ونزلناه على الجهة لم يكن فيه تعرض للأعيان ولا يصح في واحد معين أنه محكوم عليه وإن كان له تعلق به من بعض الوجوه وإن نزلناه على الأعيان فيشمل كل من ليس قاضيا مثل ذاك القاضي أما من هو قاض مثله فالظاهر أن الحكم لا يشمله لأنه لم يقصد به لا سيما إذا كان أكبر من الذي حكم فإن العرف يقضي بأنه إنما هو على من دونه لا على من فوقه في رتبة القضاء واحترزنا برتبة القضاء عن الأمراء والملوك فقضاء قاضي القضاة يشملهم لأنهم مؤتمنون بالشرع والقضاة نصبوا ليحكموا عليهم بخلاف القاضيين فإنهما مؤتمران بأمر الشرع ولكن لم ينصب كل منهما للقضاء على الآخر
فصل هذه المسألة عندنا من الأمور القطعية وليست من محال الاجتهاد فإنها مبنية على ثلاثة أنواع قطعية أحدها أمر حسابي عقلي والآخر أمر عادي معلوم والثالث أمر شرعي معلوم فالغلط فيها إذا انتهى إلى هذا الحد مما ينقض فيه قضاء القاضي لكن قد ذكرنا أن المراتب متفاوتة جدا فعلى القاضي الثاني أن يتثبت في ذلك ولا يستعجل بالنقض كما قلنا إن على القاضي الأول أن يتثبت ولا يستعجل بالإثبات
فصل قد يحصل لبعض الأغمار والجهال توقف فيما قلناه ويستنكر الرجوع إلى الحساب جملة وتفصيلا ويجمد على أن كل ما شهد به شاهدان يثبت ومن كان كذلك لا خطاب معه ونحن إنما نتكلم مع من له أدنى تبصر والجاهل لا كلام معه
فصل مما يؤنسك في أن التجويز العقلي مع الاستحالة العادية لا اعتبار به مسألة المشرقي والمغربية وعدم لحوق النسب عند أكثر العلماء وأما أبو حنيفة رضي الله عنه فلم يقل بلحوق النسب إلا لأجل الفراش وقول النبي صلى الله عليه وسلم الولد للفراش والزوجة فراش فكما نفى أكثر العلماء النسب للاستحالة العادية وخصصوا الحديث به كذا هنا بل أولى لأن هنا ليس معنا نص على قبول
____________________
(1/217)
الشهادة مطلقا وإنما النص في الرؤية وهي أمر محسوس ولم يحصل لنا ههنا وفي الحديث الولد للفراش والعموم حاصل فلذلك قال أبو حنيفة ولا يلزمه القول به هنا
فصل في هذه الواقعة قامت البينة بالاستحالة قلنا أن نقول لمن لا ينجذب طبعه إلى الحساب هاتين البينتين تعارضتا كما لو شهد اثنان أن زيدا قتل عمرا يوم كذا في بلد كذا فشهد آخران أن عمرا كان في ذلك اليوم في بلد آخر لا يمكن الوصول منها إلى ذلك البلد في ذلك اليوم عادة وإن كان يمكن عقلا
فصل قد دل الحساب والاستقراء التام على أن السنة القمرية ثلثمائة وأربعة وخمسون يوما وخمس وسدس يوم
وهذا باعتبار مفارقة الهلال للشمس وأما بحسب إمكان الرؤية فلا بد من زيادة فقد ينتهي إلى خمسة وخمسين أو أقل أو أكثر بحسب الكسر ولا يمكن أن تكون شهور يقتضي الحساب استحالة نقص مجموعها لم تسمع لما قلناه وإذا غم الهلال علينا في مثل ذلك فيقوى في الأخير اعتماد الحساب والحكم بالهلال كما قاله كثير من الأصحاب على ما قدمناه في تلك المسألة فإذا ضيق الفرض كما فرضناه ههنا يكون القول به أقوى وأولى وهو فرد من أفراد تلك المسألة والله أعلم
فصل حكي عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن الهلال إذا غاب بعد العشاء فهو ابن ليلتين
وهذا إذا صح عن أبي حنيفة يحمل إما على وقت خاص أو على الغالب ولا ينبغي أن يحمل على العموم لأن الهلال إذا فارق الشمس وكان على خمس درج عند الغروب ليلة الثلاثين لا يرى ولا يترتب عليه الحكم في الشرع فإذا حسب ذلك مع سيره يوما وليلة يقيم إلى بعد العشاء وقد يكون أبو حنيفة رضي الله عنه من ذلك على أن الشفق عنده البياض وهو يتأخر
وقد رواه مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث أبي البختري الطائي قال خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة فرأينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ليلتين فلقينا ابن عباس رضي الله عنه فقلنا إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث وقال بعض القوم هو ابن ليلتين فقال أي ليلة رأيتموه قلنا ليلة كذا وكذا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله مده للرؤية فهو لليلة رأيتموه
فانظر هؤلاء الذين هم كبار التابعين كيف ظنوه ابن ليلتين أو ثلاث ورد عليهم ابن عباس رضي الله عنه انتهى
____________________
(1/218)
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه أنشدنا الفقيه العالم الفاضل شمس الدين محمد بن شيب بن علي بن داود الترمذي الجهني لنفسه يا أيها الحبر الذي من شأنه ردع العدى ببراعة ولسانه بين لنا نهج الصواب وسيلة لا زال علمك يهتدى ببيانه في صائم يا صاح قبل زوجه قبل انتهاء الصوم في رمضانه فرأى المني من العبالة هل له صوم أم الفتيا على بطلانه هل توجبون عليه من كفارة أم لا وهل يقضى على إتيانه تم السؤال أجب جوابا شافيا مما حباك الله من إحسانه هذا سؤال الترمذي محمد الحمد لله العلي بشانه فأجبت في رمضان سنة سبع وثلاثين يا فاضلا نظم السؤال محبرا عن شأن من قد لح في عدوانه لما تجرأ جاهل لصيامه من غير تعظيم لحرمة شانه يقضي وليس عليه من كفارة والقطع محتوم على عصيانه يا ويله من حر نار جهنم وعذابه فيها وعظم هوانه دعه يتوب لعل يغفر ما جنى متضرعا لله في غفرانه هذا جواب على السبكي عن فضل حباه الله من إحسانه
فائدة قال الشيخ الإمام ما يقوله الصوفية إن الأولى للسالك ملازمة ذكر واحد حتى ينفتح قلبه ويجتمع ولا يتفرق
هو عندي محمول على الضعيف فإنه لا يحتمل الأشياء الكثيرة فيربى كما يربى الطفل وكما يعلم الصبي القرآن والعلم شيئا فشيئا والأسهل فالأسهل فعلى هذا يحمل قول المشايخ وصنيعهم ولا نعتقد أن ذلك أفضل من قراءة القرآن فالكاملون الأقوياء كالأنبياء والصحابة وكثير ممن سواهم ممن تقوى قلوبهم على المعارف الكثيرة ليسوا كذلك وهم أفضل من ألف ألف من مثل هذا السالك المقتصر على ذكر واحد لذلك أقول في مقام الفناء الذي يعظمه الصوفية وعندهم أنه أعلى الأحوال وأنه ربما يسلب التكليف فأقول إنما في الضعيف الذي تبهر لبه صفات الجلال والجمال أضعاف ذلك فيغيب عن نفسه
والكاملون يحصل لهم من شهود صفات الجلال والكمال والجمال أضعاف ذلك ويحصل في قلوبهم من اللذة بالمعرفة والحال مثل ما حصل لأولئك ولا يغيبون عن حسهم ولا يرتفع عنهم التكليف بل تكون تلك الحالة منغمرة مستورة ببقية أحوالهم
وقول من قال إن أخذ المعاني من الألفاظ كمن يمشي مكبا على وجهه وأخذها من معدنها كمن يمشي سويا
وفيه نظر
____________________
(1/219)
لأن أخذها من غير ألفاظ الكتاب والسنة لا يوثق به نعم إن المعاني أوسع من الألفاظ وتأثير الكلام في النفس بأربعة أشياء أحدها بدلالته على المعنى الذي أراده المتكلم
والثاني بصورته التي صنعت ذلك
والثالث بحالة في المتكلم تقرر معنى ذلك الكلام في قلبه وتكيفه به وكيفية إلقائه للسامع والحالة التي تلبسه عند ذلك
والرابع بحالة في السامع من الإقبال عليه وتفريغ قلبه وإلقائه سمعه وطيب منبته حتى يكون قلبه كالأرض التي يلقى فيها البذر وتشوقه له وقبوله
والأول هو العلة المادية والثاني العلة الصورية والثالث العلة الفاعلية والرابع العلة القابلية ومن هذا كان كلام النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة لا شيء أعظم تأثيرا منه وأما من بعدهم فعدموا تلك الحالة الشريفة وهي مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وبقيت عندهم العلة المادية والصور ببقاء ألفاظ القرآن وألفاظ السنة التي لم ترو بالمعنى فهو حاصل لنا كما هو حاصل للصحابة وأما القابلية فبحسب ما يفيضه الله من الأنوار على قلوبنا وهي لو بلغت ما بلغت لا تصل إلى رتبة الصحابة وأين وأين فكل معنى خطر في القلب لا بد من عرضه على كلمات القرآن والسنة التي هي جوامع الكلم فإذا شهدت لها قبلت وإلا ردت والله أعلم
كتبت بكرة الثالث والعشرين من رمضان سنة ست وأربعين وسبعمائة
مسألة في حفظ الصيام قال الشيخ الإمام رحمه الله ورضي عنه الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل محمد وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا
وبعد فقد سئلت عن الصائم إذا حصل منه شتم أو غيبة ثم تاب هل يزول ما حصل لصومه من النقص أو لا فابتدر ذهني إلى أنه لا يزول فنازع السائل في ذلك وهو ذو علم وزاد فادعى أنه لو لم يتب لا يحصل لصومه نقص لأنها صغيرة تكفر باجتناب الكبائر من غير توبة فلا تنثلم بها تقواه
وربما زاد وأشار إلى أنها ولو كانت كبيرة لانتقص الصوم وإنما تنثلم تقواه وأما الصغيرة فلا تثلم تقواه لأنها تقع مكفرة ولمشقة الاحتراز عنها وندرة السالمين عنها
وقد تضمن سؤاله هذا ومراجعته جملة من المسائل تحتاج أن نجيب عنها فنقول وبالله التوفيق المسألة الأولى في أن الصوم هل ينقص بما قد يحصل فيه من المعاصي أو لا والذي نختاره في ذلك أنه ينقص وما أظن في ذلك خلافا
وإنما قلنا ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن
____________________
(1/220)
سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه رواه البخاري
ففي هذين الحديثين دليل لما قلناه لأن الرفث والصخب وقول الزور والعمل به مما علم النهي عنه مطلقا للصائم ولغيره والصوم مأمور به مطلقا فلو كانت هذه الأمور إذا حصلت فيه لم يتأثر بها لم يكن لذكرها فيه مشروطة به مقيدة بتوبة معنى نفهمه فلما ذكرت في هذين الحديثين على هذه الصورة تنبهنا على أمرين أحدهما زيادة قبحها في الصوم على قبحها في غيره
والثاني الحث على سلامة الصوم عنها وإن سلامته عنها صفة كمال فيه لأنه صدر الحديث به وقوة الكلام تقتضي أن تقبيح ذلك لأجل الصوم فثبت بذلك أن الصوم يكمل بالسلامة عنها فإذا لم يسلم عنها نقص كما قلناه وقول الزور والعمل به حرامان والرفث والصخب قد لا يكونان حرامين بل صفتا نقص فعلمنا بالحديث أنه بنبغي للصائم تنزيه صومه عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات والرذائل المنافية للعبادة
وقد اختلف في تفسير قوله تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون فقيل في تفسيره على أحد الأقوال لعلكم تتقون المعاصي لأن الصائم أظلف لنفسه وأردع لها من مواقعة السوء وهو أحد المعاني في قوله صلى الله عليه وسلم فعليه بالصوم فإنه له وجاء ففهم كثير من الناس أن ذلك لإضعاف الصوم البدن فتضعف الشهوة وهو وإن كان كذلك فالمعنى المذكور زائد عليه حاصل معه وهو أن الصوم يكون حاملا له على ما يخافه على نفسه إما لبركة الصوم وإما لأن حقيقا على الصائم أن يكف فإنه إذا أمر بالكف عن الأكل والشرب المباحين فالكف عن الحرام أولى
ولا شك أن التكاليف قد ترد بأشياء وينبه بها على أشياء أخرى بطريق الإشارة وقد كلف الله تعالى عباده بمعارف وأحوال في قلوبهم وبأقوال في قلوبهم وألسنتهم وبأعمال في جوارحهم وبتروك وليس مقصودا من الصوم العدم المحض في المنهيات وكما في إزالة النجاسة بدليل أن النية لا بد فيه منها بالإجماع بل هو إمساك ولعله كان المقصد منه في الأصل الإمساك عن كل المخالفات لكنه يشق فخفف الله عنا وأمر بالإمساك عن المفطرات ونبه العاقل بذلك على الإمساك عن المخالفات
وأرشدنا إلى ذلك ما ورد في هذين الحديثين على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم المبين لما نزل فيكون
____________________
(1/221)
اجتناب المفطرات واجبا واجتناب الغيبة ونحوها على الاختلاف بين العلماء في كونها مفطرة أم لا والجمهور على أنها ليست مفطرة فاجتنابها على مذهب الجمهور واجتناب سائر المعاصي والمكروهات التي لا تفطر بالإجماع من باب كمال الصوم وتمامه
وقد ذهب بعض العلماء إلى بطلان الصوم بكل المعاصي وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم وأذى الخادم وليكن عليك وقار وسكينة ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء
وعن أبي ذر إذا صمت فتحفظ ما استطعت
فعلم بهذا أن الصوم ينقص بملابسة هذه الأمور وإن لم يبطل بها وأن السلامة عنها صفة فيه وكمال له ولهذا قال الشيخ أبو إسحاق في التنبيه وينبغي للصائم أن ينزه صومه عن الشتم والغيبة فاقتصر على قوله ينبغي المشعرة بأن ذلك مستحب لا واجب وإن كان من المعلوم له ولغيره أن التنزه مطلقا عن الغيبة واجب ولكن مراده ما ذكرناه من أن التنزه عن الغيبة وإن كان واجبا فهو مطلوب في الصوم على جهة الاستحباب فإذا لم يحصل حصل الإثم المترتب عليه في نفسه للنهي المطلق عنه الذي هو للتحريم وحصل مخالفة أمر الندب بتنزيه الصوم عن ذلك ونقص الصوم بتلك المخالفة التي هي خاصة به من حيث هو صوم وهي غير المخالفة التي هي من حيث ذات الفعل المنهي عنه
وما ذكرناه من نقص الصوم بذلك قد جاء في الحج مثله قال تعالى الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وفي ذلك أدل دليل على أن سلامة الحج عن ذلك كمال له وترك الكمال نقص فترك ذلك نقص في الحج وأما الصلاة فأعظم من الحج والصيام
وقد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتاب تعظيم قدر الصلاة من تصنيفه وهو كتاب نفيس انتخبته لما كنت بالديار المصرية قال في هذا الكتاب أهل العلم مجمعون على أنه إذا شغل جارحة من جوارحه بعمل من غير أعمال الصلاة أو بفكر وشغل قلبه بالنظر في غير عمل الصلاة إنه منقوص من ثواب من لم يفعل ذلك فاقدا جزاء من تمام الصلاة وكمالها
____________________
(1/222)
فالمصلي كأنه ليس في الدنيا ولا في شيء منها إذا كان يمنع قلبه وجميع بدنه من غير الصلاة فكأنه ليس في الأرض إلا إن ثقل بدنه عليها وذلك أنه يناجي الملك الأكبر وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقبل عليه بوجهه فكيف يجوز لمن صدق بذلك أن يلتفت أو يغيب أو يتفكر أو يتحرك بغير ما يحب المقبل عليه وما يقوى قلب عاقل لبيب أن يقبل عليه من الخلق من له عنده قدر فيراه يولي عنه كيف وكل مقبل سوى الله لا يطلع على ضمير من ولى عنه بضميره والله عز وجل مقبل على المصلي بوجهه يرى إعراضه بضميره وبكل جارحة سوى صلاته التي أقبل عليه من أجلها فكيف يجوز لمؤمن عاقل أن يخلها أو يلتفت أو يتشاغل بغير الإقبال على رب العالمين وقال صلى الله عليه وسلم إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه إذا صلى فإن الله عز وجل قبل وجهه إذا صلى وعنه صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم فلا يتنخم قبل وجهه فإن الله عز وجل قبل وجه أحدكم إذا كان في الصلاة
ومما أوحى الله عز وجل إلى يحيى بن زكريا إذا قمتم إلى الصلاة فلا تلتفتوا فإن الله يقبل بوجهه إلى وجه عبده ما لم يلتفت
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن العبد إذا قام في الصلاة فإنما هو بين عيني الرحمن فإذا التفت قال له الرب عز وجل ابن آدم أقبل إلي فإذا التفت الثانية قال له الرب عز وجل ابن آدم أقبل إلي فإذا التفت الثالثة أو الرابعة قال له الرب ابن آدم لا حاجة لي فيك سنده ضعيف
هذا كله من كتاب محمد بن نصر
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الالتفات اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد رواه البخاري
وانظر نقل محمد بن نصر على جلالته الإجماع على نقص الصلاة بهذه الأمور وأكثرها ليس بحرام على المعروف من مذاهب الجمهور وقد تكرر في كلام محمد بن نصر الذي حكيناه إنكار جواز الالتفات ولا يستبعد ما قاله فما قاله من الدليل قوي فيه وحقيق بالمسلم أن يروض نفسه حتى يصير كذلك
وعن أنس قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك والالتفات فإن الالتفات في الصلاة هلكة فإن كان ولا بد ففي التطوع لا في الفريضة قال الترمذي حسن صحيح
وما حكاه محمد بن نصر من الإجماع لا يعارضه اختلاف الفقهاء في صحة الصلاة في الدار المغصوبة ونحوه لأنهم لم يقل أحد منهم إنها كاملة وهو إنما نقل الإجماع في النقص وأن ذلك جزء منها فقد تقررت هذه المسألة وظهر أن الحكم الذي ذكرناه صحيح في العبادات الثلاث الصلاة والصيام والحج بإجماع العلماء وشواهد الكتاب
____________________
(1/223)
والسنة وكلام الفقهاء
أما الإجماع ففي الصلاة والاعتماد فيه على محمد بن نصر ونعم من اعتمد عليه وأما شواهد الكتاب والسنة وكلام الفقهاء ففي الثلاثة وليس هذا جميع العبادات فإن الجهاد والصدقة مثلا لو قارنهما معصية أو نحوها فالذي يظهر لنا أن تلك المعصية إذا كانت أجنبية عنهما لا يتأثران بها لأن المقصود بهما من نصرة الدين وإعلاء كلمة الله والإثخان في الأرض وسد خلة الفقير والمسكين وتطهير النفس والمال حاصل لا أثر لتلك المعصية فيه ألبتة ولا صفة لهما منها وجودا ولا عدما وفاعل ممتثل لجهاده وصدقته عاص بمخالفته في شيء آخر فيثاب عليهما ثوابا كاملا ويأثم على ذاك
وأما هذه العبادات الثلاث فالعبد فيها منتصب بقلبه وبدنه بين يدي الملك الجليل بأعمال قاصرة عليه وإن حصل منها نفع لغيره وحقوق عليه لغيره أما الصلاة فما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من إقبال الرب عليه وأن الله في قبلته وما أرشده إليه من الأدب فيها وأما الصوم فبالحديثين المذكورين وسلبه الحاجة في مجرد ترك الطعام والشراب
وأما الحج فبالآية الكريمة وسلبها الرفث والفسوق والجدال من ماهية الحج وأن بدن الحاج منتصب في تعظيم شعائر الله والتجرد فيها
وهذه الأمور في العبادات الثلاث مستوعبة للبدن كله لمعان قاصرة عليها وإن كان فيها ما يتعدى إلى غيره مما أشرنا إليه من منافع وحقوق أما المنافع فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والانتهاء عن الفحشاء والمنكر فيه منفعة متعدية وأما حقوق العباد في الصلاة فقول المصلي السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وإصابتها لكل صالح من ملك وغيره في السموات والأرض والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهذان حقان في الصلاة على المصلي لغيره
وفي الصوم الكف عن شتم الخلق وغيبتهم وأذاهم
وفي الحج إقامة منار تلك الشعائر فالجهاد والصدقة الأغلب فيهما حق الغير وهو يحصل ببعض البدن والصلاة والصوم والحج الأغلب فيها حق المكلف نفسه ولا يحصل إلا بجميع البدن ويبقى مما يتعلق بهذه المسألة الكلام على شيء من ألفاظ الحديثين اللذين استدللنا بهما أما الرفث فيطلق على الجماع وهو من مفطرات الصوم ويطلق على الكلام المتعلق به مع النساء أو مطلقا وهذا قد يكون حراما إذا كان مع امرأة أجنبية أو على وجه محرم
وقد لا يكون حراما إذا كان مع امرأته أو جاريته على وجه جائز أو على مجرد التلهي به من غير خروج عن الحد الجائز والصخب ارتفاع الأصوات وقد يكون حراما وقد لا يكون حراما بحسب عوارضه وأما قول الزور والعمل
____________________
(1/224)
به فلا يخفى تحريمه
وأما قوله صلى الله عليه وسلم فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه فيحتاج إلى فهمه والله تعالى ليس له حاجة في شيء من الأشياء لا في ترك الطعام والشراب ولا في غيرهما لا فيمن ترك قول الزور والعمل به ولا فيمن لم يترك وهذا أمر مقطوع به لا شك فيه عند كل أحد وإنما وجه هذا الكلام والله أعلم
مما خطر لي أن الله تعالى كلف عباده بتكاليف تعود إليهم إما لحاجتهم إما قاصرة على المكلف في قلبه أو في بدنه وإما متعدية إلى غيرهم من العباد لحاجتهم والله تعالى غني عن جميع خلقه غني عن جميع عباداتهم قال الله تعالى لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم وهو سبحانه وتعالى غني عن تقوانا أيضا وإنما أمرنا بها لحاجتنا وحاجة بقية العباد إليها
وقال صلى الله عليه وسلم إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني ثم إنه تعالى تلطف في الخطاب والأمر وتحصيل مصالحنا فقال تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا والله تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له في قرض ولا في غيره ولكن لما كان الفقراء من عباده الذين جعلهم اختبارا لهم هل يصبرون أو لا وللأغنياء من خلقه هل يقومون بحقهم أو لا محتاجين جعل الصدقة عليهم كالقرض منهم ليوفوهم إياهم من فضل ربهم يوم القيامة ثم بالغ فجعل ذلك قرضا له سبحانه وتعالى
وكذلك ورد في الحديث الصحيح أن الله تعالى يقول يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني فيقول يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي ثم يقول يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني فيقول يا رب وكيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه فلو سقيته لوجدت ذلك عندي ثم يقول مرضت فلم تعدني فيقول يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال مرض عبدي فلان فلم تعده فلو عدته لوجدتني عنده
فائدة عارضة قال في الأولين لوجدت ذلك عندي وفي هذا لوجدتني عنده لأن المريض لا يروح إلى أحد بل يأتي الناس إليه فناسب أن يقول لوجدتني عنده بخلاف المستطعم والمستسقي فإنهما قد يأتيان إلى غيرهما من الناس فإذا عرف هذا ظهر حسن قوله صلى الله عليه وسلم من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه أي أن مجرد ترك الطعام والشراب من غير حصول السر في الأمر به من نفع يحصل في قلب الصائم أو في بدنه أو يتعدى إلى غيره لا حاجة فيه لأحد من العباد لا للصائم لأنه تعذيب بدنه بترك الطعام والشراب من غير نتيجة في حقه ولا في حق
____________________
(1/225)
غيره من العباد فانتفت الحاجة عنه فكأنه قال لا حاجة للعباد ولا لأحد من خلق الله فوضع اللفظ موضع اللفظ لحاجة الخلق
واعلم أن رتبة الكمال في الصوم قد تكون باقتران طاعات به من قراءة قرآن واعتكاف وصلاة وصدقة وغيرها وقد تكون باجتناب منهيات
فكل ذلك يزيده كمالا ومطلوب فيه ولهذا جاء في الحديث الصحيح كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن أجود الثاني بالرفع بل أقول إن الكمالات في الصوم وفي غيره من العبادات قد تكون بزيادة الإقبال على الله تعالى وذلك لا يتناهى فليس لحد الكمال نهاية وكل ما كان كمالا ففواته نقص لا سيما مع القدرة عليه ولم أر في عيوب الناس شيئا كنقص القادرين على التمام لا سيما في مخالفة مقترنة بالصوم من ترك مأمور أو فعل منهي فهي نقص لا محالة ولهذا المعنى شرع الاستغفار عقيب الصلاة والاستغفار بالأسحار بعد قيام الليل وعدم الهجوع ليلا
فأعلى مراتب الصوم لا نهاية لها وأنزلها ما لا يبقى بعده إلا البطلان والذي يثلم التقوي من ذلك كل معصية من ارتكاب منهي أو ترك واجب صغيرة كانت أو كبيرة وليس هذا موضع الفرق بين الصغيرة والكبيرة ودعوى كون الصغيرة لا تثلم التقوى ممنوعة فإن التقوى مراتب إحداها تقوى الشرك قال الله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين المعنى هنا من اتقى الشرك فإن كل من اتقى الشرك يتقبل منه الثانية تقوى الكبائر الثالثة تقوى الصغائر والرابعة تقوى الشبهات
وقد قال صلى الله عليه وسلم فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه وإذا كان ترك الشبهات يطلق عليه تقوى فترك الصغائر أولى فإذا لم يتركها فقد انخرمت تقواه ولا بد حين ارتكب الصغيرة لأنها وقعت محرمة ومعصية ومذموما فاعلها وإن كانت بعد ذلك قد يكفرها غيرها فلا ريبة أن المعصية على الإطلاق تنافي التقوى إلا أن التقوى على مراتب كما ذكرناه فالتقوى الكاملة تنافيها الصغيرة قطعا قبل التكفير والتوبة أما بعد التكفير والتوبة فسيأتي إن شاء الله
المسألة الثانية فيما يترتب على التوبة من ذلك حقيقة التوبة وشروطها وأحكامها في غير ما نقصده معروفة وأما ما نقصده هنا فقد نظرت ما حضرني من الآيات والأحاديث فلم أجد التوبة إلا في المنهيات دون ترك المأمورات من ذلك قوله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون بعد ذكره من أول سورة النور إلى هنا أحكام الزانية والزاني والقذف وقضية الإفك التي لا شيء أقبح منها وكم حصل في تلك الآيات الكثيرة من
____________________
(1/226)
الالتفات الدال على قوة الغضب وذلك لأجل النبي صلى الله عليه وسلم والنهي عن دخول البيوت بغير إذن والأمر بغض البصر لأجل النظر المنهي عنه وإبداء الزينة وهذه كلها مناه وكذا قوله تعالى إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فإنه استثناء من الذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون
وجزاؤهم بعد ما ذكر ثلاثة من المأمورات وواحد فيه أمر ونهي وهو الإنفاق بلا إسراف ولا تقتير ثم ختم بثلاثة وقال عن العشرة أولئك يجزون الغرفة بما صبروا فلا شك أن التوبة عن فعل المنهي عنه يرتفع بها إثمه
وأما التوبة عن ترك المأمور به فلم أجدها وترك المأمور به حرام منهي عنه لكن لا يكفي بدون فعل المأمور فلذلك لم يأت فيه فلو فرضنا من ترك صلاة عامدا ثم ندم وتاب وهو عازم على القضاء هل نقول لا تصح توبته أصلا حتى يقضي أو تصح ويسقط الإثم السابق وتبقى الصلاة في ذمته حتى يأتي بها هذا محل نظر لم أر من صرح فيه بشيء والأقرب الأول
والفرق بين الأوامر والنواهي في هذا المعنى أن الأوامر قصد فيها فعل المأمور به لمصلحة المكلف ولا تحصل لك المصلحة إلا بالفعل فإذا ترك عصى لإخلاله بالمقصود وتلك المعصية مستمرة حتى يأتي بالمقصود فلا يسقط الفعل قطعا ولا الإثم المتعلق به حتى يأتي به لأنه هو المقصود وأما النواهي فالمقصود منها عدم المنهي عنه وإن كنا نقول المكلف به هو الكف ولكن المقصود العدم بدليل أنه إذا لم يفعل ساهيا لم يأثم لحصول مقصود النهي وإن لم يكن فعل الساهي عبادة وكذلك من ترك رياء وسمعة ونحو ذلك
والتردد الذي أشرنا إليه إنما هو في سقوط الإثم أما الفعل فلا يسقط قطعا إلا بالفعل وهذا هو سبب قول الفقهاء المنهيات تسقط بالجهل والنسيان والمأمورات لا تسقط بالجهل والنسيان
المسألة الثالثة إذا تاب عن الكبيرة والصغيرة الحاصلتين منه في الصوم أو لم يفعل كبيرة وفعل صغيرة وحصل منه من اجتناب الكبائر والأعمال الصالحة ما كفرها فلا شك في سقوط إثمها ولكن هل نقول ذلك النقص الذي حصل منها للصوم يزول ويزول حكمها كما زال إثمها أو لا يزول هذا أصل السؤال واستعظمت الكلام في ذلك لأن هذا مما أمره إلى الله يظهر لنا في الآخرة ولا يظهر له أثر في أحكام الدنيا في الأعمال فلم نتكلف الخوض فيه ثم قلت لعل بعلمه يكف الصائم ويزداد حذرا من الإقدام عليه إن تبين أنه لا يزول النقص ويزداد شكره لله إن تبين أنه يزول النقص فنظرت فرجح عندي على ثلم
____________________
(1/227)
فيه وهو إنه إنما يمكن أن يقال وأما الرجحان عندي فهو أنه لا يزول النقص لأن الذي تخيلته مما قد يتمسك به لزوال النقص شيئان أحدهما أن التوبة تجب ما قبلها وأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له والمراد من ذلك والله أعلم جب ما قبلها من الإثم وتشبيه التائب بمن لا ذنب له في ذلك خاصة والمشبه لا يلزم أن يكون مثل المشبه به من كل وجه وموضع التشبيه هو الذنب السابق من حيث هو لا من حيث عوارضه وما هو خارج عنه
وقوله التائب من الذنب معناه من الذنب المعهود أو من كل ذنب أو من جنس الذنب وقوله كمن لا ذنب له المقصود به العهد وأن المعنى كمن ليس له ذنب ذلك الذنب قط ولا يبقى فيه تعلق للسبب وإن أريد به العموم مع الذنب المتقدم فكذلك أيضا وإن أريد به العموم مع إرادة العهد أو الجنس في الأول فنحن نمنع أن هذا مراد لتعذره واعلم أن العلماء ذكروا أن المعرفة قد تعاد معرفة والنكرة قد تعاد معرفة فيكون الثاني هو الأول
والنكرة تعاد نكرة والثاني غير الأول وأما إعادة المعرفة نكرة فقليل وورد منه في القرآن وهذا الحديث منه وعلى كل تقدير أثر التوبة إنما هو في سقوط الإثم ويدل له ما قدمناه من أن التوبة إنما تتعلق بالمنهيات دون ترك المأمورات وفوات صفات الكمال في الصوم من باب ترك المأمورات فلا تؤثر فيها التوبة لما قدمناه ولذلك لو أن رجلا حج فرفث في حجه وفسق وجادل ثم تاب لا يمكنا أن نقول عاد حجه كاملا بعد ما نقص فكذلك هذا ولا فرق بين أن تكون التوبة قبل انقضاء نهار الصوم أو بعد انقضائه
ومما يحقق ذلك أن التوبة هي الرجوع والرجوع عن ارتكاب المنهي يكفي لأن العدم المقصود منه فات ولا يمكن تداركه والقصد إليه قد حصل الرجوع عنه بالتوبة فكفى وأما ترك المأمور به فإذا رجع عنه لم يحصل المقصود من الفعل حتى يأتي به فمن تاب من الحرام الواقع في الصوم حصل المقصود بالنسبة إلى الحرام من حيث هو فارتفع إثمه ولم يحصل المقصود في تحصيل صفة السلامة للصوم إذ يستحيل ذلك وفي هذا احتمال هو مثار الثلم الذي قدمته من جهة أنه لم يقم عندي دليل قوي على أن الشارع جعل ترك تلك المنهيات جزءا من الصوم حتى تكون ملتحقة بالمأمورات فقد تكون باقية على حقيقتها والنهي عنها لقبحها في نفسها فلا تضم إلى الصوم الذي هو عبادة فإذا جاءت التوبة محت ذلك القبح من كل وجه فيبقى الصوم على سلامته
ويشهد لذلك أن من نسي وهو صائم فأكل وشرب يتم صومه والظاهر أنه غير
____________________
(1/228)
ناقص وإن وجد صورة المنهي عنه لما كان غير مقصود فبعد التوبة يصير كذلك
وحرف المسألة أن الشارع إن كان جعل ترك تلك المناهي جزءا من الصوم على جهة الكمال لم يزل الخلل الحاصل بها بالتوبة وإلا فيزول وللشارع التصرف في ماهيات العبادات بالجعل
وأما الرفث والجدل والفسوق في الحج فالظاهر أنه لا يزول بالتوبة ما حصل للحج به من النقص فإن الآية الكريمة قوية في نفيها عن الحج والحديث وعد الخروج من الذنوب على تركها ومما ينبه عليه أن كل معصية فيها ثلاثة أمور أحدها ذاتها والثاني مخالفة فاعلها لأمر الله تعالى والثالث جزاؤه عليها وكذا كل طاعة ذاتها وامتثاله بها وجزاؤه بالثواب عليها والتوبة عن المعصية إنما تسقط الثالث فتمحوه وتعدمه بالكلية وأما ذاتها وما حصل بها من المخالفة فقد وقعا في الماضي فيستحيل دفعها ويشير إلى ذلك قوله تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله إلا من تاب فهو استثناء راجع إلى حكم من تقدم في قوله يلق أثاما وأما وجود تلك المعاصي وكونها مخالفة فلم ترتفع
فإن قلت قد قال فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات قلت يستحيل أن تصير السيئة نفسها حسنة وإن ظن ذلك بعضهم وإنما معناه أنه يبدلهم مكان السيئات الماضية حسنات مستقبلة أو يمحو السيئات الماضية من الكتاب ويكتب مكانها الحسنات المستقبلة أو حسنات أخرى من فضله وأما إن ذات السيئة تكون حسنة صادرة من الشخص فمحال
إذا عرف ذلك فالزنا مثلا ذاته التي وقعت من الزاني لم يرتفع وجودها فيما مضى بالتوبة لمخالفة الله تعالى إنما ارتفع الإثم عليها وقد قال صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن فذلك القدر من الإيمان الكامل الذي دل الحديث على ارتفاعه
____________________
(1/229)
عن الزاني حالة زناه لا يتصور أن يقال إن التوبة تعيده في وقت الزنا الماضي وإنما يعود مثله بعد ذلك وذلك النقص الحاصل منه وقت الزنا لا يرتفع كذلك الغيبة للصائم حصلت نقصا فيه لا يرتفع إلا أن يشاء الله أن يعوضه عنه أو يعامله معاملة من لم ينقص وكذا كونها مخالفة لله لا ترتفع وإنما ترتفع المؤاخذة بها
فالمضاد للصوم الكامل هو ذات الغيبة فقط لما فيها من المفسدة أو ذاتها مع المخالفة وكل من المخالفة وذاتها لا أثر للتوبة فيهما
فاعلم ذلك وقس عليه سائر الأفعال والتروك ينشرح صدرك لفهم ما قلناه إن شاء الله تعالى
الشيء الثاني مما قد يتمسك به لزوال النقص أنا وجدنا الصلاة تجبر النقص الحاصل فيها بسجود السهو والحج ينجبر النقص فيه بدماء الحيوانات فقد يقال الصوم أيضا ينجبر النقصان الحاصل فيه بالتوبة وإطلاق جبر سهو الصلاة بسجود السهو أطبق عليه الفقهاء في إطلاقاتهم ولم يتعرضوا لتقريره وكان عندي فيه توقف لأن أكثر الأحاديث لم يرد فيها ما يدل على ذلك وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك وليبن على اليقين فإذا استيقن التمام سجد سجدتين فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة والسجدتان وإن كانت ناقصة كانت الركعة تماما لصلاته وكانت السجدتان مرغمتي الشيطان
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى سجدتي السهو المرغمتين فكنت أقول لعل الأمر بسجود السهو لإرغام الشيطان فقط لا لجبر الصلاة حتى رأيت في البخاري عن ابن بحينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في صلاة الظهر وعليه جلوس فلما أتم صلاته سجد سجدتين فكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس
فقوله مكان ما نسي من الجلوس دليل على أنه جابر وهو من كل كلام ابن بحينة والظاهر أنه عن توقيف أو فهم وأيضا فالشيطان قصد نقص الصلاة فإرغامه إنما يحصل بالكمال ولكنه جعل طريقة السجود الذي امتنع الشيطان منه لآدم عليه السلام
فالتشهد الأول وغيره مما يجبر من أفعال الصلاة بالسجود فقد يكون نقص الصوم أيضا كذلك ثم نظرت
____________________
(1/230)
فوجدت خبر ابن بحينة في السهو بالنقص وهو ترك مأمور فيظهر الجبر فيه ولا يأتي مثله في الصوم إلا إن ثبت لنا أن الشارع جعل الترك لتلك الأمور جزءا من الصوم ومع ذلك قد تركب من الترك والفعل والحديث الذي فيه إرغام الشيطان لم يكن السجود جابرا لشيء فلذلك جعل مرغما فصار سجود السهو على قسمين تارة يكون جابرا وتارة لا يكون جابرا وذلك إذا زاد قياما أو ركوعا أو سجودا ساهيا والإتيان بالمنهيات في الصوم من هذا القبيل ففعل المنهي فيه كزيادة ركعة في الصلاة ولم يجعل الشارع السجود فيها إلا إرغاما فقط لا جابرا فدل على أنه لا نقص فيها اعتبارا بالصورة وعدم التعمد بالفعل الزائد
أما هنا فقد حصل تعمد ارتكاب المنهي فالنقص حاصل من حيث المعنى فينبغي أن يكون له جابرا لكن لم يرع من الشرع ذلك
فإن قلت المجبور من الصلاة بسجود السهو بعض منها والصوم لم ينقص منه بعض فلا يقاس على الصلاة في ذلك
قلت المقصود الجبر من حيث الجملة والجزء الذي هو ركن لا يجبر في شيء من المواضع والأبعاض في الصلاة والواجبات في الحج تجبر والسنن لا تجبر في الصلاة والصوم ليس منقسما كالصلاة إلى أبعاض وغيرها لكن مطلق كونه مطلوبا فيه قد يلحقه بالبعض أو السنة وعلى كل تقدير نحن إنما قلنا ذلك أبدا لما يمكن أن يتمسك به متمسك ونحن لا نرى ذلك ونقول لمن يقصد التمسك به الجبران ليس مما يثبت قياسا وإنما ثبت في الصلاة والحج بنصوص وردت فيه وههنا في الصوم لم يرد ما يقتضي جبره بغيره لا بالتوبة ولا بغيرها وليس لنا نصب جبرانات ولا قياس صحيح في ذلك هنا فوجب الكف عنه وإنا لا نزيد في التوبة على ما اقتضاه نص الشارع فيها ولا نثبت في الصوم جبرانا لعدم الدليل عليه ونثبت النقص فيه لما تقدم من الأدلة ونستصحبه لأن الاستصحاب دليل شرعي حتى يأتي دليل على خلافه
هذا الذي يترجح عندي وليس رجحانا قويا بل فيه ثلم كما قدمت ليس من جهة الجبران فإنه لا سبيل إليه هنا بل من جهة محو التوبة لكل أثر الذنب ومن جملة آثاره نقص الصوم إذا سلم أنه نقص به وأنه فات جزء منه كما إذا فات الإمساك من غير نية في صورة الأكل ناسيا والمسألة محتملة وتعظيم قدر العبادة والاحتياط يقتضي ما قلته ليحذر الصائم من ذلك فإن تبين له يوم القيامة خلاف ذلك فذلك فضل من الله وهذا الاحتمال والثلم الذي ذكرته إنما هو لكون هذه المناهي عدمية فلو كان في الصوم أمر ثبوتي
____________________
(1/231)
فات عمدا كنت أجزم بأنه لا يزول النقص بالتوبة عن تركه
ولم أجد إلا قوله إني صائم إذا شاتمه أحد فقد جاء في الحديث الأمر به فلو تعمد تركه يبقى النظر في عده جزءا من الصوم
فإن ثبت ذلك ظهر النقص وإنه لا يزول بالتوبة عنه من غير ثلم ولا احتمال ويمكن الاكتفاء بما نقله ابن نصر المروزي من الإجماع في الصلاة ويقاس عليه الصوم وإطلاقه يقتضي أنه لا فرق بين أن يتوب أو لا يتوب وكل ما ذكرناه في التوبة يظهر أنه يأتي مثله في تكفير الصغائر بغير التوبة والله أعلم
قال المصنف رضي الله عنه كتبه علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام السبكي غفر الله لهم في نصف نهار السبت الثالث عشر من شهر الله المحرم سنة خمس وخمسين وسبعمائة بظاهر دمشق المحروسة والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
قدر الإمكان المختطف في دلالة كان إذا اعتكف
مسألة قال الشيخ الإمام رحمه الله قول عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه وأشباه ذلك من المواضع التي يجيء خبر كان فيها جملة شرطية هل يدل على وجود الشرط أو الجزاء أو لا وقال قال ابني أبو حامد بارك الله في عمره إنه لا يدل على واحد منهما لأن اعتكف فعل مستقبل المعنى لوقوعه بعد أداة الشرط و كان وإن دلت على مضي مضمون خبرها فمضمون الخبر ترتب الجزاء على الشرط وهو كونه إذا وقع منه الاعتكاف يدني رأسه صلى الله عليه وسلم وهذا المعنى لا يلزم منه وقوع الاعتكاف كما لو قلت كان زيد إن جاء أكرمته لا يلزم وقوع المجيء منه بل الماضي مضمون الجملة الخبرية بجملتها ومضمونها حصول الجزاء عند الشرط وفعل الشرط قيد فيها لا بعض منها ولا من مدلولها و إذا وإن دلت على تحقق ما دخلت عليه أو رجحانه فلا يلزم التحقق في الخارج بل في الذهن فإذا قلت إذا جاء زيد أكرمته فمعنى التحقق أن المتكلم تحقق أنه سيقع هذا الشرط ولا يلزم مطابقة هذا التحقق للخارج لجواز عدم المطابقة وقول عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف غايته تحقق أن الاعتكاف سيقع في المستقبل فليس دالا على أنه وقع وإذا كان كذلك فلا دلالة له على وقوع الفعل منه صلى الله عليه وسلم حال ورود هذا الحديث ولا قبله من هذا اللفظ فإن قيل تحقق عائشة رضي الله عنها أنه سيقع يغلب على الظن وقوعه
____________________
(1/232)
فحينئذ تصير الدلالة خارجة عن اللفظ
هذا نص كلام لولد أبقاه الله ونفع به وكتب إلي بذلك في شهر ربيع الأول سنة خمس وأربعين وسبعمائة من القاهرة إلى دمشق ونقلته من خطه فكتبت إليه الجواب في الشهر المذكور بما نصه مسألة مثل قول عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله ادعى بعض الفضلاء أنه لا يدل وقوع الاعتكاف
وادعى آخرون أنه يدل وأن دلالته على ذلك ضرورية واختلف هؤلاء في المأخذ فمنهم من أخذه من إذا وأنها لا تدخل إلا على المعلوم ومنهم من أخذه من كان ولم يبين وجه أخذه منها
والذي أقوله بعون الله تعالى إنه يدل على وقوع الجزاء مطابقة وأما الشرط فيدل عليه التزاما لا مطابقة وأن دلالته على ذلك من كان لا من إذا وحدها قطعا ولا من إذا مع كان على الظاهر كما سيبين في أثناء الكلام أما كون إذا وحدها لا تدل فلأنها تدخل على الراجح وإن لم يكن معلوما ومع ذلك فهو إنما يعلم أو يترجح بالنسبة إلى المستقبل لا إلى الحال والماضي وأما كون إذا مع كان لا تدل فلما سبقهم من كلامنا فيما سيأتي عند الكلام فيما إذا كان موضعها إن فإن أراد صاحب هذا القول أنه من إذا مع كان قويت ولكن يرد عليه أنها إنما يتحقق منها الرجحان ولا يلزم منه الجزم بالوقوع ويرد عليه أيضا ما سنذكره أيضا أنه لم يبين كيفية دلالتها مع كان على ذلك وأما منع الدلالة على ذلك رأسا فتنكره الطباع ولا يتردد أحد في فهم ذلك من الحديث المذكور من مثل قوله كان يشوص فاه بالسواك و كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ بشق رأسه الأيمن و كان إذا تعار من الليل يقول و كان إذا نام نفخ و كان إذا سجد جخ جخا وأشباه ذلك
فإن قلت ما سبب فهم ذلك قلت بحثت فيه مع جماعة من الفضلاء فلم يفصحوا فيه بشيء ويكتفون بمجرد الفهم ومنهم من يكتفي بالفهم لا يزيد عليه ومنهم من يقول هو من تسويغ الإخبار إذ لو لم تعلم بذلك لما كان لها أن تخبر ولا طريق إلى العلم إلا رؤية الفعل
قلنا قد يكون للعلم طريق آخر ومنهم من يقول قد يكون هذا من المعاني التي تفهم من المركبات غير أن يكون للمفردات دلالة عليها حتى الأفراد ومنهم من
____________________
(1/233)
لا يصل ذهنه إلى شيء من ذلك ولم أر أحدا منهم يتخبط في الفكر في ذلك وليت لو كان ذلك حتى يكون طريقا إلى تفهيمه فإن شرط الفهم تشوف الذهن إليه ولعمري إن مانع الدلالة أقرب إلى العذر من المنكر عليه في العلم لأن المانع متمسك بقواعد العلم في مدلولات الألفاظ غافل عن نكتة خفية والمنكر عليه إنما معه من التمسك فهو يشاركه فيه العوام فلا حمد له في ذلك وإنما يحمد على أخذ المعاني من القواعد العلمية وحق على طالب العلم أن يستعمل القواعد ويغوص للبحوث فيها عليها ثم يراجع حسه وفهمه حسب طبعه الأصلي وما يفهمه عموم الناس ثم يوازن بينهما مرة بعد أخرى حتى يتبين له الحق فيه كما يعرض الذهب على المحك ويعلقه ثم يعرضه حتى يخلص
والذي أقوله إن الجملة الاستقبالية قبالية إذا وقعت خبرا لكان انقلبت ماضية المعنى لدلالة كان على اقتران مضمون الخبر بالزمان الماضي فكان تدل على وقوع جزاء الشرط وهو إدناء رأسه صلى الله عليه وسلم في الزمان الماضي عن قول عائشة وإن كان مستقبلا عن ابتداء كونه صلى الله عليه وسلم الذي دلت عليه كان ودلالته على ذلك مطابقة إن جعلنا المحكوم به في الجملة الشرطية الجزاء مقيدا بالشرط وإن جعلنا المحكوم به النسبة لزم أيضا لأن النسبة بين الشيئين متأخرة عنهما فيستلزم وجودهما فتكون الدلالة على الجزاء بالاستلزام وأما الدلالة على الشرط فبالاستلزام على كل تقدير
فإن قلت النسبة إنما هي ربط الشرط بالجزاء وذلك لا يستدعي وجود واحد منهما
قلت النسبة لها طرفان طرف من جانب المتكلم وهو الربط وذلك التمكن أن يكون ماضيا بل هو حاصل عند التكلم لا يتقدم ولا يتأخر وطرف هو أثر عن ذلك الربط وهو ارتباط الشرط بالجزاء وذلك أمر حكمي في الذهن لا في الخارج وهو حاصل الآن أيضا حاصل عند التكلم لأنه أثر عن الربط فيوجد عند ضرورة وجود الأثر عند المؤثر ولم يؤت بكان للدلالة على شيء من هذين الأمرين بل لأمر ثالث وهو وقوع الجزاء عند وقوع الشرط
فإن قلت والوقوع عند الوقوع لا يستلزم الوقوع مطلقا
قلت ذاك إذا أخذ مطلق الوقوع وهنا يؤخذ مقيدا بالمضي لدلالة كان فدلت على وقوع إدناء الرأس في الماضي ومن ضرورته وقوع الاعتكاف ولو قلت إن كان إنما دلت على معنى ارتباط مطلق وقوع الشرط بمطلق وقوع الجزاء لم يكن للمضي معنى لأن هذا حاصل بدونها
وهذه المعاني الثلاث التي ذكرناها في كل شرطية
فإذا قلت إذا جاء زيد جاء عمرو فإخبارك ومربطك والارتباط المحكوم به كل ذلك حاصل الآن والخبر
____________________
(1/234)
عنه إنما هو نفس المجيء المستقبل عند المجيء المستقبل فإذا كانت خبرا لكان لم يعتبر إلا ما كان مستقبلا فيصير ماضيا من هنا دلت على الوقوع في الماضي وأكثر الناس لا يتفطنون لوجهه وإن فهموه بطباعهم ويدل على ذلك أنك تقول كان زيد قائما فصار قائما بعد ما كان للحال ماضيا وتقول كان زيد يقوم فصار يقوم ماضيا بعد ما كان مشتركا بين الحال والاستقبال
بيان ذلك أنك تقول زيد قائم ومعناه الإخبار بقيامه حين الإخبار فإذا أدخلت كان صار معناه الإخبار بقيامه في الماضي ودلالة اسم الفاعل من حيث هو ما تغيرت وتقول زيد قائم ومعناه الإخبار بقيام ماض عن زمان الإخبار فإذا دخلت كان صار معناه الإخبار بقيام ماض عن الزمان الماضي الذي دلت عليه كان فليس قولك زيد قائم وكان زيد قام سواء كما ظنه بعضهم بل زيد قام يقتضي تقديم القيام بزمان وكان زيد قام يقتضي تقدم القيام بزمانين وتقول زيد يقوم ومعناه الإخبار بحدوث قيام عند الإخبار أو بعده على الخلاف في دلالة المضارع فإذا دخلت كان صار معناه الإخبار بذلك الحدوث بالنسبة إلى الزمان الماضي الذي دلت عليه كان وتقول زيد سيقوم ومعناه الإخبار بقيام مستقبل عن زمان الإخبار
ولا أدري هل يجوز أن تدخل كان على هذا أو لا والأقرب المنع لأن بين معنى كان ومعنى السين تناقضا وتقول زيد أبوه قائم ومعناه الإخبار بقيام أبيه في حال الإخبار فإذا أدخلت كان صار معناه الإخبار بقيام أبيه في الزمان الماضي الذي دلت عليه كان وتقول زيد إن يقم يلق خيرا ولا أدري هل يجوز دخول كان على هذه أو لا من جهة أن كان تدل على تحقق خبرها و إن تدل على عدم تحققه والأقرب الجواز ويكون المراد بأن ندرة قدومه والشك فيه في الزمان الماضي الذي دلت عليه كان وإن حصل بعد ذلك ومما يدل له ما في الحديث في قصة الحديبية الذي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال رأيت رجلا إلى أن قال وإن توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ووجه الاستدلال أن رأيت تدل على المضي كما أن كان تدل على المضي وقد جاءت في متعلقها ودخلت على أمر محقق فلذلك إذا دخلت في خبر كان
ومما يستفاد هنا أن إن إذا لم تكن في خبر كان لا تدل على الوقوع وإذا وقعت في خبر كان فالظاهر أنها بضميمة كان تدل على الوقوع ولا تفرق حينئذ من إذا إلا بأن مضمونها نادر الوقوع ومضمون إذا غالب الوقوع وهذا قد ينكره كثير من الناس لما في الأذهان من أن إن إنما تدخل على المحتمل ونحن نقول
____________________
(1/235)
صحيح أنها للمحتمل وكذلك هي هنا لكن دل دليل على وقوع هذا المحتمل وهو كونه في خبر كان وتقول زيد إذا اعتكف يصوم ومعناه الإخبار بأنه إذا حصل منه اعتكاف في المستقبل حينئذ أو بعده على الخلاف في أن العامل في إذا جوابها أو الفعل الذي دخلت عليه فعلى الأول يكون الصوم مقارنا للاعتكاف
وعلى الثاني لا يلزم ذلك والمخبر به في هذه القصة الصوم إذا اعتكف وليس لك أن تقول ليس الصوم مخبرا به بل المخبر به النسبة لأنا نقول النسبة هي نفس الخبر أو لازمه وهو التفصيل الذهني وأما المخبر به فلا شك الصوم لأنه المحمول وأيضا والمعنيان متلازمان في الخارج فإذا دخلت كان فقلت كان زيد إذا اعتكف يصوم صار المعنى الإخبار بأنه إذا حصل منه اعتكاف في زمان مستقبل عن الزمان الماضي الذي دلت عليه كان ماض عن زمان إخبارك الصوم بالتقرير الذي قلناه فإن دخول كان لم يزدد إلا تحقق أن ذلك الذي كان مستقبلا صار ماضيا لضرورة دخوله في خبر كان ولو لم يدخل كان الاحتمال أن لا يقع الشرط ولا الجزاء ألا ترى إلى قوله تعالى وإذا ما غضبوا هم يغفرون وقد يكون شخص لا يحصل منه غضب أصلا
وقوله تعالى الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة
وقد تخترم المنية شخصا قبل حصول التمكين له ففي مثل هذا إذا دخلت كان لا بد أن محصل هذا إذا أخذت حقيقة اللفظ وهو الإخبار الفعلي وقد تأتي هذه الصيغة والمقصود بها الإخبار عن الصفة وأن هذا الشخص بهذه الحيثية كما تقول الأسد إن ظفر افترس أي من صفته ذلك وقوله إن قوبلوا سمعوا أي من صفتهم هذا سواء وجد أم لا فإذا دخلت كان على مثل هذا فقلت كان زيد قويا جلدا إن لقي ألفا كسرهم وقصدك الإخبار عن قوته وأنه بحيث لو لقي ألفا كسرهم لم يلزم حينئذ أن يكون قد لقي ولا كسر
والواقع في الأحاديث التي ذكرناها ليس من هذا القبيل أما أولا فإنه ليس حقيقة باللفظ لأن الحقيقة الإخبار بالفعل لا بالقوة وأما ثانيا فلأنه المفهوم المتبادر إلى الفهم من مراد الصحابي لا سيما وقصده إثبات الأحكام الشرعية المسندة إلى أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وهذا كله مبني على ما بنى عليه السائل كلامه وهو أن خبر كان هو الجملة الشرطية وأن يدني جواب الشرط وهنا احتمال آخر وهو أن يدني خبر كان وإذا وإما شرطية وجوابها محذوف وإما ظرفية محضة عند من يجوز تجردها عن الشرطية
هذا ما حضرني الآن وتيسر ذكره وأرجوه أن يكون المقصود
ولنا كلام آخر إذا وقعت كان فعل شرط كقولك إن كان فكذا فيه مباحث
____________________
(1/236)
حسنة لا تتعلق بما نحن فيه وما ذكرناه فيما سبق من المعاني الثلاث في القضية الشرطية ينبغي لك أن تحققه وتستعمله في كل قضية شرطية كانت أو حملية فإنك إذا قلت زيد قائم فهنا ثلاثة أشياء أحدها نفس حكمك وهو الإخبار والثاني متعلق حكمك وهو صدور القيام منسوبا إلى زيد بمقتضى حكمك صدقا كان أو كذبا وهذان الأمران حاصلان الآن عند كمال لفظك لا يمكن فيهما المضي ولا الاستقبال والثالث حصول القيام في الخارج لزيد وهذا هو المخبر به وهو المنقسم إلى الماضي والحال والمستقبل والنحاة يقولون عن قائم مثلا إنه المخبر والمنطقيون يقولون إنه المحكوم به وفي الكلامين تجوز لأنه مفرد والمحكوم به وهو حصوله لا هو ففي كل قضية مفردان ونسبة بينهما وللنسبة طرفان أحدهما من جانب الحاكم ومن نفس الحكم والثاني من جانب المحكوم عليه والمحكوم به وهو المستفاد من الحكم وإذا حققت كانت هي المحكوم به وهي المستفاد من الحكم وإذا حققت كانت هي المحكوم به ولهذا قال سيبويه تقول كان عبد الله أخاك قائما أردت أن تخبر عن الأخوة وفي كلام سيبويه هذا تجوز وحقيقته أن تقول بالأخوة والله أعلم
وسميت هذا التصنيف قدر الإمكان المختطف في دلالة كان إذا اعتكف وأرسلته إلى الولد ثم ألحقت به ما صورته وذلك في يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من الشهر المذكور وقد تأملت في قوله تعالى ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا هل تقديره كنتم فيكون أن يشرك به تؤمنوا خبرها فيدل أنه يجوز أن تقول كان زيد إن قام عمرو يقم أو لا يكون تقديره كذلك بل يكون إخبارا عن صفتهم في الحال وإن لم يكونوا في تلك الحالة مشركين لظهور الحقائق بل باعتبار ما كانوا عليه أو لأن المرء يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه فيكونوا محققين بتلك الصفة وإن ظهرت الحقائق وعلى هذين التقديرين هل نقول فيه وفي مثل قول الشاعر قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم دون النساء ولو باتت بأطهار إن هذا إخبار عن الصفة فقط في الحال أو إخبار بالجزاء عند الشرط وهل بينهما فرق لطيف أو لا وعلى تقدير أن يكون بينهما فرق هل هما متلازمان أو لا هذا محل نظر والثاني أوفق لما قررناه في مسألة الطلاق لكن الاحتمال لا يدفع هنا لأنها خبر عن كان والتردد في المخبر به هل هو الصفة أو الجزاء وفي تعليق الطلاق ليس إلا الجزاء فإن ثبت لنا الفرق بينهما وأنهما غير متلازمين وأن المدلول في مثل قول أبي زيد إذا وعد وفى الإخبار عن صفته فقط لم يلزم منه حصول
____________________
(1/237)
الوعد
ثم ينتقل الكلام إذا جعل خبرا لكان فقلت زيد كان إذا وعد وفى و كان إنما تصير ما كان حالا أو مستقبلا ماضيا فيلزم أن يكون إخبارا عن الصفة فقط ولا دلالة فيه على وقوع الشرط ولا الجزاء وكذلك قوله تعالى الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وقوله تعالى كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون وقوله تعالى والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وقوله تعالى وإذا ما غضبوا هم يغفرون وقول الشاعر إذا أنت لم تنزع عن الجهل والخنا أصبت حليما أو أصابك جاهل ونظائر ذلك وهي أكثر من أن تحصى وفي بعضها يظهر من قوة الكلام أن المقصود الإخبار بالجزاء عند الشرط مثل قوله إذا أنت لم تنزع عن الجهل والخنا أصبت حليما أو أصابك جاهل وينشأ من هذا النظر والتردد قوة السؤال وتوقف دلالة قولها كان إذا اعتكف يدني على وقوع الاعتكاف والإدناء وإن كنا نعلم من أدلة أخرى وقوع الاعتكاف وحينئذ لا يدل هذا اللفظ بمجرده على قوة الاعتكاف لا دلالة مطابقة ولا دلالة التزام وإنما القدر المحقق منه الدلالة على أن صفته كذا وكون صفته كذا تعرف بأمور إما لوقوع ذلك وتكرره منه باعتبار ما علمه المخبر من حاله لا بالنسبة إلى هذا اللفظ مما يكون مسوغا للإخبار وإما أن يكون المخبر الله تعالى وهو عالم بصفة الشخص وما يكون منه في المستقبل وإما قرائن حالية يستدل بها العباد على ذلك ففي حق العباد الأول والثالث طريقان مسوغان فلو انحصر الطريق في الأول كنا نقول تدل دلالة التزام مع نظر فيه ووجه النظر أن الذهن لا ينتقل من اللفظ إليه بل من حال المخبر وصدقه إليه ولكن الطريق لا ينحصر لجواز أن يكون مستند المخبر هو الطريق الثالث أو غير ذلك وهذا ما استقر عليه نظري فلله در من وقع ذهنه بديهة عليه وبارك في عمره
وكتب في يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الأول سنة خمس وأربعين وسبعمائة فوصل الذي كتبته أولا دون الملحق إلى ولدي أبي حامد بالقاهرة وتوقف في جوابه أدبا فألححت عليه في الكتابة فكتب في بعض نهار الخميس الثاني من ربيع الآخر على ما ذكر من غير مذاكرة أحد ولا كتابة مسودة في درج تسعة عشر وصلا وأرسله في طي كتابه فوصل في يوم الأحد الثاني عشر من الشهر المذكور وهو ربيع الآخر سنة خمس وأربعين وسبعمائة
انتهى
____________________
(1/238)
كلام الشيخ الإمام رحمه الله ولم يحضرني الآن جواب الشيخ بهاء الدين شيخ الإسلام أبي حامد أحمد بارك الله في عمره الذي كتبه لوالده جوابا عن هذا ولكن هذا جواب الجواب الذي أعاده عليه والده نقلته من خط المجيب به الشيخ الإمام حرفا حرفا قال الشيخ الإمام رحمه الله ما نصه ومن خطه نقلت تأملت تصنيفك أيها الولد الذي هو أعظم من الوالد ومن يخضع له المقر والجاحد وسميته شحذ الأذهان فوق قدر الإمكان لما رأيته أنظرني على فضل جمعه الله لديه ونعم لا تحصى أسبغها الله علي وعليك وسجدت لله شكرا وسألته أن ينفع بك في الدارين ويطيل لك عمرا ولم يقف أحد على هذا التصنيف من الفضلاء إلا خضع ووقف حائرا لا يرفع عنده ولا يضع لا سيما وهو كراستان عملهما في بعض نهار مع ما فيهما من دقة الفكرة وكثرة الاستحضار عجزت قواي عن مقابلتها أو أهم بمساجلتها وقلت انتهى الكلام ووجب التسليم والسلام وعمقت فكري لأقع على ما أجمع به أمري وأوفق بين ما حركته هذه البديهة السليمة وأبدته بدررها اليتيمة وبين ما يتبادر إلى الأذهان التي لا تنكر أن أكثرها مستقيمة
ورتبت ذلك على قسمين أحدهما ضابط ما يحصل به شفاء العليل والاهتداء في ذلك إلى سواء السبيل والثاني في النظر في بعض كلمات الولد وما هو منها قد يستفاد أو ينتقد وبالله العون والعصمة والتوفيق فإنه هادي من الرشاد إلى أقوم طريق والصلاة على نبيه محمد الفاتح باب الهدى والمنقذ من الردى صلى الله عليه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل
أما القسم الأول فأقول إن كان إذا وقع خبرها شرطا وخبرا فالقدر المشترك في جميع صورها أنها لا دلالة فيها على وجود الشرط ولا الجزاء ولا عدمه بل ساكتة عن ذلك حتى يقترن بها ما يدل وقد تأملت مواقعها وما يقترن بها فوجدتها قسمين أحدهما ما يقصد فيه الإخبار عن صفة اسمها فهذا لا دلالة له على وجود الشرط ولا الجزاء كقولك كان الزبير إن لقي ألفا كسرهم مرادك الإخبار عن شجاعته والثاني ما لا يقصد فيه ذلك بل معنى مضمون الخبر فهذا يدل على وقوعهما على حسب ما كان يدل عليه قبل دخولها غير ما تجدد بدخولها من المضي
وبيان ذلك وشرحه في فصول الفصل الأول في الجملة الشرطية إذا وقعت مستقبلة غير شرطية لا يقتضي وجود شرطها ولا جزائها ولا عدمها ولكن معناها الإخبار بغيابك عند قيام زيد أو بعده وأداة الشرط دخلت للربط بينهما وقام زيد في هذه الجملة ليس بكلام بل هو في قوة المفرد وقد خرج عن الكلام بدخول الشرط عليه
____________________
(1/239)
وقولك قمت هو الكلام ولكنه مقيد بالشرط الذي قبله والخبر قد يكون مطلقا وقد يكون مقيدا وهذا خبر مقيد مشتمل على جملتين إحداهما جملة الشرط والثانية جملة الجزاء والمخبر به الفعل الذي في جملة الجزاء والمخبر عنه فاعله والإخبار غيرهما وهو مدلول القضية كلها ومدلول جملة الجزاء كلاهما إخبار لكن الأول إخبار مقيد والثاني إخبار مطلق والمطلق في ضمن المقيد والربط هو جعلك أحدهما مرتبطا بالآخر بما أدخلته عليهما من أداة الشرط والارتباط أثر الربط
فهده أربعة معان متعلقة بالمخبر به والإخبار والربط والارتباط وأربعة معان دل عليها اللفظ وهي غير اللفظ الذي هو الخبر فالخبر اسم للفظ والإخبار اسم لفعل المخبر وهو إتيانه بالخبر والمخبر به هو الجزاء وهو المستفاد من الخبر والربط اسم لفعل المخبر وهو جعله إحدى الجملتين مرتبطة بالأخرى والارتباط مدلول مربطه
ونعني بالربط ما هو أعم من أن يكون الشرط يلزم من وجوده وجوده كالمثال الذي ذكرناه وهو سبب في الحقيقة والشروط اللغوية أسباب وما لا يلزم من وجوده الوجود لكن يلزم من عدمه العدم ومن وجوده الوجود كقولك إن توضأت صليت فالوضوء شرط للصلاة لا سبب وقد يكون يلزم من عدمه العدم ومن وجوده الوجود وهو الشرط المساوي كقولك إن زنى وجب عليه الرجم ومقصودنا من هذا الكلام كله أن المخبر به وهو مضمون الجملة وهو فائدة الخبر وإذا أطلقنا مضمون الجملة فلا يزيد غيره حتى نتوصل بذلك إلى فهم قولنا كأن يقضي اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي والمحكوم عليه في مثل قولنا إن قام زيد قام عمرو هو عمرو والمحكوم به قام العامل فيه ومجموعهما جملة الجزاء وأما جملة الشرط فليس فيها في هذا الحكم محكوم عليه ولا محكوم به وإنما أتى بها تقييدا لنسبة الحكم في جملة الجزاء كما تقيد بالظروف وغيرها ولا فرق في ذلك بين أن تكون جملة الجزاء خبرية كالمثال الذي ذكرناه أو إنشائية كقولك إن قام زيد ضربته و وإن قام فلأضربنه أو فعلية كما سبق أو اسمية كقولك إن قام زيد فعمرو قائم ولا بين أن يكون الجزاء من الأنواع المتقدمة أو حكما شرعيا كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق وعبدي حر ولا فرق أيضا في ذلك بين ما يراد كونه كقوله إن شفى الله مريضي فعبدي حر وما لا يراد كونه كإن عصيت فأنت طالق ومدلول القضية الكبرى أعني المشتملة على قضيتي الشرط والجزاء في ذلك كله الحكم بموضوع الجزاء على موضوعه مقيد بالشرط
____________________
(1/240)
فالشرط قيد بالقضية وجهه فيها وليس جملة الجزاء بكمالها محكوما بها على جملة الشرط
ومقصودي بهذا الكلام يظهر عند دخول كان عليها نعم تارة يكون الحاضر في الذهن الجزاء ويكون المقصود الإخبار بتقييده كأنك تريد بأن قام زيد قام عمرو معنى قولك قيام عمرو يوجد عند قيام زيد أو بعده وإذا أردت حله محله إلى ذلك وتارة يكون الحاضر في الذهن الشرط ويكون المقصود بيان حكمه فينحل إلى قوله قيام زيد يوجد عنده أو بعده قيام عمرو وإنما قلت يوجد ولم أقل مستلزم لما سبق من أقسام الشرط وأن الشرط والمشروط قد يكون الربط بينهما لزوميا كبعض الأمثلة المتقدمة وقد يكون اتفاقيا كقولك إن طلعت الشمس أكرمتك هذا كله في الجملة الشرطية إذا لم تجعل خبرا لشيء بل جاءت مستعملة ابتداء
الفصل الثاني فيها إذا وقعت خبر مبتدأ ولم تدخل عليها كان كقولك زيد إن قام قمت فقد صار الشرط وما دخل عليه من الجملتين كله حر كلام خبرا عن المبتدأ وهو زيد ومجموع ذلك هو الكلام المقصود هنا وهو يحتمل معنيين أحدهما أن يكون المقصود كما كان قبل المبتدأ إلا أنه قصد الاهتمام بذكر زيد لأنه الحاضر في الذهن دون ما سواه أو كغير ذلك من الأغراض وقصد بيان ما يتعلق به من ربط قيامك بقيامه وهو معنى آخر غير حاصل قبل دخول المبتدأ لكن المعنى الذي قصد هناك من الإخبار بالقيام عند القيام أو بعده لم يختلف وكأنك قلت زيد أنا قائم عند قيامه أو بعده فلم يخرج عن معنى الجملة الشرطية المستقلة إلا فيما ذكرناه من الاهتمام
المعنى الثاني أن يكون المقصود الإخبار عن صفة زيد وحاله كقولك الشجاع إن قاتل كر والجبان إن قاتل فر والكريم إن سئل جاد والبخيل إن سئل حاد وما أشبه ذلك فهذا لم يقصد فيه إلا بيان صفة المبتدأ وتعريفه لا حصول الفعل فلا يدل على وجود الجزاء ولا على وجود شرطه وإن دل بوضعه على وجود الجزاء عند الشرط أو بعده لكن هذا الكلام صحيح مع عدمهما وصارت جملتا الشرط والجزاء في هذا المثال كالمفرد كأنك قلت الشجاع هو الكار والجبان هو الفار
ويقرب من هذا معنى قوله تعالى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا فإن المراد الإخبار عن صفته بالهلع المفسر بالجزع عند الشر والمنع عند الخير سواء وقعا أو لم يقعا
إذا عرفت هذين المعنيين عرفت انقسام الشرطية إذا وقعت خبرا لمبتدأ إلى ما يدل على وقوع شرطها أو جوابها وهو ما كان المقصود الإخبار بوقوع الفعل مقصودا فيقتضي وقوعه ولا يقتضي إثبات صفة للمبتدأ الآن بل إنما أتى للتوصل إلى الإخبار بالفعل الذي
____________________
(1/241)
جعل في خبره وهو في الحقيقة خبر من جهة الصناعة فقط ولم يقتض تعريفا للمبتدأ ولا وصفا وإلى ما لا يدل على وقوع شرطها ولا جزائها وهو ما كان المقصود به تعريف المبتدأ ووصفه
ومن هذا القبيل وإن لم يتضمن شرطا وجزاء قوله تعالى مثل الجنة التي وعد المتقون الآية فالمقصود بالخبر هنا ذكر مثل الجنة وصفتها لا الإخبار المجرد بما بعد ذلك
فقد ظهر أنه إذا كانت الجملة الشرطية مستقلة ابتدائية فلا بد من الحكم بحصول المخبر به وإذا كانت خبر مبتدأ احتمل وضابطها ما ذكرناه إن ذكرت صفة المبتدأ أو قصدت لم يكن الحكم بالخبر به مقصودا ولا يقال إنه مضمون الجملة وإلا كان مقصودا والقصد لذلك قد يعرف بسياق الكلام
هذا كله قبل دخول كان
الفصل الثالث إذا جاءت خبرا لكان كقولك كان زيد إذا كان كذا فعل كذا وهو يتنوع كما يتنوع قبل دخول إلى نوعين أحدهما ما يظهر بالوضع أو بالقرينة أنه خبر عن الصفة كقولك كان خالد إن لقي ألفا كسرهم وكان حاتم إن جاءه ألف أطعمهم وكان الحكم في زمن الصحابة إذا ناجى أحدهم الرسول قدم بين يدي نجواه صدقة
فهذا صحيح ولا دلالة على وجود الشرط ولا الجزاء وقد اختلف العلماء هل عمل بالصدقة بين يدي النجوى أو نسخت قبل العمل بها ويقرب من هذا النوع وإن لم تكن فيه صيغة كان قوله تعالى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا لأن خلق تدل على المضي كما تدل عليه كان و هلوعا حال منه وما بعده تفسير له
ومن فوائد هذه الآية أيضا دخول إذا على المحتمل لأنها لو قوبلت بمثلها دل على أن نسبة الأمرين إليه سواء ولو أتى موضعها بأن وكان في غير القرآن
النوع الثاني ما لا يظهر فيه ذلك أو يظهر فيه الإخبار عن الفعل ومن هذا النوع قوله تعالى إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون والأحاديث التي قدمناها فالذي أقوله إن هذا يدل على وقوع الشرط والجزاء وذلك لأن كان تدل على اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي ومضمون الجملة هو المخبر به كما قدمناه وههنا وقفة يسيرة وهي أن المخبر به قولك زيد قائم هو قائم أو القيام والمخبر به في قولك كان زيد قائما هل هو قائم أو لا يحتمل أن يقال به لأن أصله خبر مبتدأ قبل دخول الناسخ فيبقى على ما كان عليه مع زيادة دلالة كان على المضي وكأنك قلت زيد قائم أمس إلا أن أمس ظرف لقائم في هذا المثال و كان ليست ظرفا لخبرها ويكون المعنى كأنك قلت
____________________
(1/242)
استقر أمس معنى زيد قائم
ولم أقل استقر أمس أن زيدا قائم الآن وليس ذلك هو المراد بل المراد استقر أمس أنه قائم أمس فعدل إلى قوله معنى زيد قائم لأنه مضمون الجملة وهو نسبة القيام الثابت إلى زيد وأيضا ففي هذا أحد الاحتمالين ولم أجد نقلا يشهد له ويحتمل وهو المعتضد بالنقل أن المخبر به هو كان مع الخبر والمخبر عنه هو الاسم كأنك قلت زيد كان قائما وهو الاحتمال هو الذي يشهد له كلام النحاة
فإن سيبويه يقول إن خبرها انتصب لأنه مشبه بالمفعول والفراء يقول انتصب لأنه مشبه بالحال فالكلامان متفقان على أنه كالقصلة فلذلك لم أقل إنه المخبر به بل المخبر به كان فمعنى قولنا كان زيد قائما الإخبار عن زيد بأنه مضى كونه قائما وهو مضمون قولنا زيد قائم إلا أنه قبل دخول كان حال وبعد دخولها ماض والإخبار بذلك الآن والمخبر به هو الماضي ويحتمل احتمالا ثالثا وهو أن قيام زيد هو المخبر عنه وكان هو المخبر به كأنك قلت قيام زيد مضى وهذا الاحتمال من جهة المعنى قوي جدا ويشهد له قول سيبويه تقول كان عبد الله أخاك قائما أردت أن تخبر عن الأخوة ولقد أقمت برهة أتعجب من قول سيبويه هذا وأقول كيف جعل الأخوة مخبرا عنها وإنما هي مخبر بها حتى وقفت على هذا المعنى وازددت بصيرة بكلام سيبويه ويحق له ذلك فإنه الكلام المحرر وهكذا ينبغي إذا ورد كلام من إمام نتأمل ونعلم أنه لا بد تحته من حكمة ولا ينفي هذا ما قاله من يشبهه بالمنعوت وما قاله الفراء من تشبهه بالحال لأن ذاك من جهة الصناعة وهذا من جهة المعنى فقد بان معنى كان زيد قائما وعلى كل تقدير فقائم مثلا لا بد له من زمان وهو زمان فكأنك قلت معنى قيام زيد وليس باق على دلالته على الحال حتى يكون المعنى مضى أن زيدا قائم الآن لما سبق فلا تتوهم ذلك وكذا لا تتوهم أن المعنى جعل زمان كان كالمنطوق فيه بزيد قائم وأن هذا معنى المضي فيه
وهذا توهم باطل لأن النطق حاصل الآن لا قبله وكذا الكلام والإخبار ونحوه وإنما الماضي المخبر به وهو فائدة الخبر والمستفاد منه على ما تقدم بيانه وقد تم الكلام على قولنا كان زيد قائما وانحلت الوقفة اليسيرة التي قدمناها
هذه صورة من صور كان مقصودنا التدرج بها وبما بعدها إلى المقصود
الصورة الثانية كان زيد يقوم فالفعل المضارع قبل دخول كان إما حقيقة في الحال أو في الاستقبال أو مشترك على الخلاف فيه وأما بعد دخول كان فعلى القول بأنه حقيقة في الحال يكون المعنى الإخبار بمقارنة حدوث القيام على ما دل عليه
____________________
(1/243)
فعل المضارعة للزمان الماضي لأن دلالة قولنا زيد يقوم على حال المتكلم انتقلت بكان إلى الماضي ليس إلا مع بقاء فعل المضارعة على معناه كما أن اسم الفاعل انتقل إلى الماضي مع بقاء دلالته على معناه وأما على القول بالاشتراك أو أنه حقيقة في الاستقبال فالذي أراه أن كان صارفة عن الاستقبال ومعنى أريد به معنى الاستقبال يصير كقولك كان زيد سيقوم وسيأتي الكلام عليه
الصورة الثالثة إذا كان فعلا ماضيا فإن كان مقرونا بقد فهو جائز وصحيح بلا خلاف فقولك زيد قد قام يدل على وقوع قيام في الماضي متوقع فيما مضى محقق قريب فإذا قلت كان زيد قد قام فمعناه الإخبار بمضي معنى قولنا زيد قد قام وذلك أن قولنا إن زيدا قد قام يقتضي أن المخاطب متوقع لذلك وأنك حققت له وقوع ما هو متوقع له وقربته منه وقولنا كان زيد قد قام يقتضي أن التوقع كان في الماضي وليس مستمرا إلى الآن لدخول كان
فائدة وهل نقول إن القيام مقارن لزمان كان أو متقدم عليه محافظة على دلالة الفعل الماضي كنت أظن الثاني ولما رضت نفسي بالأمثلة المتقدمة ومعانيها كان الأقرب عندي الأول وإن لم يكن مقرونا بقد مثل قولك كان زيد قام فقد قيل إنه قبيح ورد ذلك بقوله تعالى ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل وغيره من الشواهد الكثيرة في القرآن وغيره مما لا يحصى ثم ما معناه قيل إن معناه معنى زيد قام وكان تأكيد وكنت أظن أن معناها التقدم بزمانين محافظة على معنى الماضي في الفعلين كما أشرت إليه فيما تقدم ثم توقفت فيه كما قدمت وفي قد ظهر معنى زائد وههنا إن لم يثبت التقدم بزمانين لم تظهر زيادة معنى
الصورة الرابعة إذا دخل على الفعل المضارع السين كقولك كان زيد سيفعل كنت متوقفا في صحة هذا التركيب وأميل إلى أنه لا يجوز لما بين كان والسين من التناقض وكتبت ذلك فيما تقدمت كتابته لابني فأرسل إلي فيما كتبه قول سيبويه لو حرف كما كان سيقع لوقوع غيره فتعجبت من غفلتي عنه مع نطقي به طول الدهر وجاء هذا الإيراد كالجبل العظيم لأنه كلام سيبويه وهو ما هو ولم أستحضر غيره مما يدل لجواز مريد سيفعل فهل نقول إن ذلك جائز قياسا على ما قال سيبويه أو لا والأقرب لا وأنه يفصل فإن كان الفعل مطلقا امتنع وإن كان مقيدا بقيد لم يقع جاز وعليه ينطبق كلام سيبويه أما امتناع الأول فلأن قولك كان زيد سيقوم معناه الإخبار عن زيد بمضي قيام منه مستقبل فإن أريد بالاستقبال ما بعد زمان الإخبار تناقض ولكن ذلك لا يراد بدليل أنه لم يرد في المضارع
____________________
(1/244)
واسم الفاعل حال الإخبار وإن أريد بالاستقبال زمان كان مطلقا امتنع أيضا لاستحالة أن يكون الشيء الواحد حاصلا مستقبلا وإن أريد استقباله عن أول أزمنة كان إلى زمان الإخبار في حالة يكون الزمان المذكور متسعا فيصير المعنى الإخبار بحصول القيام في ذلك الزمان فيغني عنه قولك قام زيد فأي فائدة في سلوك هذه العبارة فلا فائدة وإن قيل الفائدة ما في السين من التوقع قلنا كان يكتفى عنها بقد فنقول قد قام زيد أو كان زيد قد قام
وهذا أقصى ما ظهر لي في تعليل امتناع ذلك ويعضده أنه لم يسمع قط في شيء من الكلام قبله وأما جواز الثاني فلأنه إذا لم يكن ذلك الشرط واقعا لم يكن الفعل واقعا وتجردت السين للدلالة على التوقع فكأنه أخبرنا به متوقع ولا شك أن للسين ثلاثة معان أحدها الإخبار باستقبال الفعل والثاني توقعه أي يقع جوابا لمن هو متوقع والثالث أنه غير واقع الآن وذلك لازم من ضرورة استقبال وتوقعه والثاني والثالث حاصلان بلا شك في ذلك والأول حاصل على تقدير فحسن فلذلك جازت عبارة سيبويه في لو كان أدوات الشرط منها ما هو لما سيقع وقوع غيره مع رجحان الوقوع كإذا أو عدم رجحانه كإن ومنها ما هو ما وقع لوقوع غيره كلما ومنها ما هو لما كان سيقع لوقوع غيره وهو فقولنا كان احتراز من إذا وإن والسين احتراز من الذي عرف أنه في الماضي يقع لوقوع غيره بأن وقع ذلك وتكرر وهو لما في بعض أحوالها ويقع احتراز من لما في جميع أحوالها ولوقوع غيره لأنه الشرط الذي يقع المشروط لأجله
فلا جرم كانت عبارة سيبويه من أسد العبارات مخروطة على الغرض وهي في الحقيقة راجعة إلى ما جعل الخبر فيه عن صفة المبتدأ لأن قولنا لما كان سيقع لوقوع غيره ما نكرة بمعنى شيء والأحسن أن تكون بمعنى أمر لتشمل الموجود والمعدوم وكان سيقع لوقوع غيره تعريف لذلك الشيء ووصف له لكن هنا شرط ولا جزاء
إذا عرفت هذه الصور الأربعة وقد جعلناها مقدمة للمقصود نرجع إلى المقصود ونقول إذا جعلت الجملة الشرطية خبرا لكان انقسم قسمين كما كان ينقسم قبل ذلك أحدهما ما يقصد به الخبر عن صفة اسم كان مثل كان خالد أو الزبير إذا لقي ألفا كسرهم وحاتم إذا جاءه ألف قراهم وما أشبهه فهذا لا دلالة فيه على وجود شرط ولا جزاء لما سبق والثاني ما ليس كذلك كقولنا كان زيد إذا جاء مصر نزل عندي وقول عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه
____________________
(1/245)
وسلم إذا اعتكف يدني رأسه وقول حذيفة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك
ونحو ذلك يدل على وقوع الشرط والجزاء لأن معناه الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى مضمون الجملة ومضمون الجملة هو الجزاء المخبر به لما تقدم من القواعد فكان المعنى الإخبار بمضي الجزاء ويلزم من الجزاء مضي الشرط يصح بذلك ما ادعيته في أول وهلة من دلالته على وجود الجزاء مطابقة على وجود شرطه التزاما وهكذا قولنا كان زيد إذا حدث صدق حيث لا نريد الإخبار بأن ذلك صفته وديدنه فإن المعنى الإخبار عنه بمضي صدقه في حديثه فالصدق مدلول عليه بالمطابقة والحديث مدلول عليه بالالتزام
فإن قلت المعنى في كان زيد سيقوم وفي كان زيد إذا حدث صدق الإخبار عنه بأنه سيقوم وبأنه إذا حدث صدق فلا يلزم وقوعهما
قلت قد أبطلت ذلك فيما سبق من معاني الصور المتقدمة لأنه لو كان معنى كان زيد سيقوم زيد مضى أنه سيقوم لم يلزم المضي عن وقت الإخبار ويلزم مثله في كان قائما وكان يقوم ولا قائل به فثبت أنه ليس المعنى الإخبار بأنه سيقوم ولا بأنه إذا حدث صدق ولكن الإخبار بمضمون الجملة وهو حصول القيام منه في زمن مستقبل عن أول أزمنة كان إلى آخرها وكذلك حصول مضمون جملة الشرط والجزاء وهو المخبر به المحكوم به وهو الجزاء المترتب على الشرط ومن لازمه الشرط وإنما وقع الالتباس في هذا من جهة تقدير مدلول الجملة الشرطية كالمنسوق بها حالة الكون بمعنى أن القائل كان زيد إذا جاء أكرمته كأنه قال أمس إذا جاء زيد أكرمته ولو قال ذلك لم يلزم وجود المجيء ولا الإكرام ولو كان كذلك لم يتقيد بالزمان الماضي بل عم ما بعد كان من الأزمنة المستقبلة عنها وعن حالة الإخبار الآن وليس كذلك وإنما المخبر الآن حاكم بنسبة الجزاء إلى الشرط مستندة إلى ما مضى من الزمان فيجب أن يتنبه إلى أن في كل قصة مثل قولنا قام زيد مثلا شيئين أحدهما حصول القيام من زيد والثاني حكمك بذلك والتقييد بالشرط والظرف وغيرهما إنما هو للأول وكلاهما أعني حصول القيام مع قيوده داخلان تحت الثاني الذي هو الحكم فالحكم وارد على المستفاد من الجملة بقيوده وشروطه وظروفه وسائر أحواله وكان تدل على اقتران ذلك بالزمان الماضي وهو انتساب القيام إلى زيد لا النسبة التي هي فعل الحاكم
وإنما أوضحت ذلك لأن النسبة تارة يراد بها فعل الحاكم أعني حكمه بذهنه
____________________
(1/246)
أو بلفظه وتارة يراد بها المعنى المحكوم به المطابق لذلك الفعل وهذا هو الذي يتقيد وهو الداخل في خبر كان
جامعة بها نختم الكلام إذا قلت إن جئتني أكرمتك مدلوله الإخبار بإكرام مستقبل على تقدير مجيء مستقبل فإذا قلت كان زيد إن جاءني أكرمته فمدلوله الإخبار بإكرام ماض على تقدير مجيء ماض أعني الإخبار بإكرام وقع على تقدير مجيء وقع لأن هذا هو معنى الماضي فمعنى قولنا كان زيد إن قدم أكرمته أن القدوم والإكرام مضيا كما يكون معنى قولنا قبل دخول كان أنهما لم يمضيا إذ لو لم تكن كذلك لكان ما دلت عليه كان من المضي إما أن تكون للإخبار أو للربط وكل منهما حاصل الآن فلا يمكن وصفه إما أن تكون للارتباط وهو أيضا حاصل الآن بمقتضى كلام المتكلم
وإنما قلت بمقتضى كلام المتكلم لأنه قد يربط المتكلم بين شيئين لا ارتباط بينهما في نفس الأمر وإما أن يكون الماضي كونه إن قدم أكرمته مثلا فإن أريد بذلك نفس الارتباط فقد تقدم أنه لا يجوز وإن أريد شيء آخر فلنتبين وحاصله أن قولنا كان زيد إن قدم أكرمته يدل على مضي قطعا فالماضي إما نفس الإكرام عند القدوم وإما النهي فكذلك وإما الارتباط بينهما وإما الربط وإما الإخبار وإما الخبر والكل باطل إلا الأول
أما الثاني فلأن الكلام فيما إذا لم يكن هو المراد لأن التهيؤ للشيء غير الشيء وظاهر الكلام أن الماضي نفس نفس الشيء فلا يحمل على غيره إلا بقرينة وأما الثالث والرابع والخامس فلأنها لا توصف بالمضي قطعا وأما السادس فلأنه نفس اللفظ وليس الكلام فيه وأيضا هو حاصل وغير النسبة مفقود ومن ادعاه فعليه بيانه ثم إرادته
فهذا الحاصل يكفي في بيان المسألة ونزيده إيضاحا فنقول قولنا يكون كذا عند كذا إخبار بماض عند ماض فهو خبر إن في الحقيقة لأنه خبر مقيد والمقيد في ضمنه المطلق فقولنا إذا اعتكف يدني إخبار بإدناء مستقبل عند اعتكاف مستقبل فقولنا كان إذا اعتكف يدني إخبار بإدناء ماض عند اعتكاف ماض فإن أردت كان البيان فالبيان غير نفس الإدناء وغير نفس الاعتكاف فلا بد من إرادته من دليل وإنما وقع الالتباس في هذا من جهة أن كل قضية للنسبة فيها طرفان أحدهما من جانب المتكلم وهو حكمه وهذا ليس معلقا ولا هو المراد بمضمون الجملة ولا يوصف باستقبال ولا مضي
والثاني ما اقتضته تلك النسبة من ثبوت الإدناء عند الاعتكاف وهذا هو مضمون الجملة وهو الذي يوصف بالاستقبال والمضي
____________________
(1/247)
والتعليق وهو الذي اقتضت كان مضيه والله أعلم
القسم الثاني في النظر في بعض كلام الولد أبقاه الله ونفع به وبارك في عمره في خبر كان قد يكون مستقبلا عن زمن الكون ممنوعا لما قدمته ولو صح ذلك على الإطلاق لصح أن نقول كان زيد يوم الجمعة يقوم يوم السبت المتأخر عن الجمعة وكان أمس قائما اليوم وما أشبه ذلك ولا شك أن ذلك لا يجوز ويكاد الطبع ينبو عنه
قوله وقد يقال إن بينهما ترتبا
هذا الاحتمال في كان زيد قائما لا وجه له ولا مقتضى من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى
قوله وقد يكون الوقت الذي دلت عليه كان منفصلا عن الوقت الذي وقع فيه الفعل الذي تضمنه الخبر ممنوع ويستند المنع ما سبق وعندي أنه لا يكون إلا مقارنا لا ماضيا ولا مستقبلا فإن جاء ما ظاهره خلاف ذلك يؤول على معنى ثبوت ذلك له والثبوت مقارن لا متقدم ولا متأخر
قوله في نفس القيام والاتصاف به أقول أما تغايرهما فصحيح وأما انفكاك أحدهما عن الآخر فإن أريد في الذهن فصحيح وإن أريد في الخارج فممنوع
قوله في كان زيد قائما أو يقوم في المستقبل ممنوع لما سبق
قوله كان زيد أمس قام أول أمس أنا أمنع صحة هذا التركيب ومن ادعاه فليأت بشاهد له من لسان العرب وحينئذ يكون قابلا للتركيب
قوله إن قلنا العلة مع المعلول لا وجه للبناء على ذلك الخلاف فإنه ليس هنا علة ولا معلول بل خبر ومخبر عنه
قوله في الفعل المضارع يراد به الاستقبال تقدمت الإشارة إلى منع ذلك
قوله فيما إذا قال كان زيد إذا حدث صدق هو مبني على ما سبق والمنع عائد فيه
قوله فإن قيل ما المانع من أن يكون المراد من قولك كان زيد إذا حدث صدق أنه كان أمس ثبت أنه صدق أول أمس صدقا ناشئا عن الحديث
أقول هذا كلام عجيب كيف يتخيل هذا وكيف يقدر جزاء الشرط المستقبل ماضيا عن زمان كان بالجملة المتقدمة أو المقارنة لزمان الشرط قوله في قول عائشة رضي الله عنها فأقرع بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها
أنها جعلت الكونية ثابتة له قبل إقراعه بينهن في هذه الغزوة والإقراع معطوف بالفاء المقتضية للترتيب في عطف الجمل كثيرا وفي غير الجمل دائما
أقول أما كونها جعلت الكونية ثابتة له قبل إقراعه فممنوع لما تقدم فمن تأمل ما تقدم عرف أن الكونية المذكورة لا تتحقق إلا بالإقراع وكون الفاء مقتضية للترتيب صحيح لكنه لا يشترط الترتيب الزماني بل يكفي الترتيب العقلي وذلك حاصل بطريقين إما أن نجعل الفاء سببية لأن كونه إذا أراد
____________________
(1/248)
سفرا أقرع سبب لإقراعه في تلك الغزوة والسبب مترتب على السبب عقلا وإما أن نجعل الفاء تفسيرية عند من يراه لأن هذا الإقراع مفسر لما اقتضته تلك الكونية وإما طريق ثالث وهو أن تلك الكونية اقتضت إقراعا مطلقا
وهذا إقراع مقيد وبين المقيد والمطلق ترتيب عقلي وهو قريب مما قاله النحاة في ترتيب المفصل على المجمل والفرق في العطف بالفاء بين الجمل وغيرها بعيد والحق اقتصارها للترتيب في الجميع
قوله والتقدير كان قبل أن يقرع بينهن يقرع عند إرادة الغزو وإرادة الغزو أمر مستقبل عن وقت الكون
أقول هذا التقدير ممنوع كما يمتنع أن يقول أول أمس يقوم أمس
قوله في قول كعب وكان إذا سر استنار وجهه إن حمله على الاستنارة في ذلك الوقت أحسن ممنوع بل المراد الحالة الدائمة وإعرابه وكان جملة حالية ممنوع بل هي معترضة
قوله إنه صح أن زمن الكون أوسع من زمن الفعل الذي تضمنه الخبر ممنوع بل الحق أنهما سواء
قوله يعني الأمر بجلد الزاني إيقاع الجلد بمن هو متلبس بالزنا كأنه سبق قلم وتصحيح العبارة أن يقال إيجاب الجلد على من زنى أو الأمر بإيقاع الجلد
قوله فإيقاعه على من لم يزن أو من زنى وقوع هو المجاز ليس بجيد لأن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير موضوعه والإيقاع ليس بحقيقة ولا مجاز وما قصده الولد من المعنى صحيح ولكن العبارة لم توف بمقصوده
قوله وغرضنا من هذا كله أن خبر كان مستقبل عن زمن الكون لم يحصل له هذا الغرض ولا هو محتاج إليه فغرضه في أصل البحث حاصل بدونه
قوله وإذا ثبت كونه مستقبلا عن الكون فهل يشترط أن يكون ماضيا عن وقت الإخبار أو لا وهذا محل النزاع أقول النزاع في ذلك لا وجه له ولو قبل ذلك النزاع لقبل قولنا كان زيد قائما النزاع في أنه قائم فيما مضى أو الآن وكذلك كان زيد يقوم وهذا لا يقوله أحد ولا تنازع فيه
قوله ما قاله سيبويه لله دره كيف انتزعه وعجب لي كيف غفلت عنه
قوله في تفسيره لو حرف لشيء أصاب في تقديره ما نكرة ولم يجعلها موصولة ولكن لو قال الأمر لكان أحسن من قوله لشيء لما قدمنا فإن الأمر يشمل الوجود والمعدوم والشيء لا يصدق إلا على الموجود على رأي أهل السنة نعم النحاة يطلقونه عليهما فالولد معذور في ذلك
قوله والمحكوم عليه بذلك هو قيام عمرو من قولك لو قام زيد لقام عمرو لا أسامحه في هذا الكلام فإن قدره أعلى من ذلك لأن قيام عمرو محكوم به لا محكوم عليه وعمرو محكوم عليه
قوله فقيام عمرو كان سيقع لوقوع غيره وليس بواقع قبل وقت الإخبار
____________________
(1/249)
ضرورة أنه ممتنع صحيح
قوله على رأي سيبويه لا حاجة إليه فإن الامتناع متفق عليه لا يختص بسيبويه على أن سيبويه لم يذكر الامتناع فكيف يقال رأيه
قوله إنه كان زيد سيقوم مرادف لقول سيبويه كان سيقع لوقوع غيره ممنوع وقد تقدم الفرق بينهما بالإطلاق والتقييد فإن التقييد فيه دل على الامتناع والإطلاق يضاده
قوله إن استواءهما قطعي ينبغي أن ينصف من نفسه ويتأمل ما ذكرناه في الصيغ الثلاثة
قولنا كان سيقع لوقوع غيره وقوله كان زيد سيقوم
وقولنا كان زيد إذا قام يقوم ثم ينظر هل تشعر دعواه القطع باستوائها أو لا وحينئذ نتكلم معه
قوله وقد صرح الولد فسح الله في مدته بعدم جواز كان زيد سيقوم وكلام سيبويه هذا صريح في جوازه أقول ليس كلام سيبويه صريحا ولا كناية فيه ولا تواردا على محل واحد فيا أيها الولد الفاضل أين قولك هنا إنه صريح فيه من قولك فيما مضى إنه مرادف له والمرادف غير مرادفه فكيف هو صريح فيه فما أسرع ما ينسى الناس إلا أن يعتذر بأن المترادفين متقرران في المعنى وإن تغايرا في اللفظ والصراحة راجعة إلى المعنى دون اللفظ وحينئذ أمنعك الاتفاق في المعنى وسند المنع ما سبق
قوله لو لم يصح كان زيد إذا حدث صدق في وقت لم يقع الحديث فيه لما صح كان زيد إذا حدث صدق هذه الملازمة ممنوعة
قوله في ثنائها إن لو و إذا كل منهما للشرط
أقول تسمية لو حرف شرط فيه تجوز لأن حقيقة الشرط لما يستقبل لأنه في اللغة العلامة والعلامة إنما تكون للمستقبل وإنما هي ثلاثة أنواع من الكلمات إحداها ما دل على امتناع الماضي لامتناع غيره في الماضي وهي لو والثانية ما دل على وجود شيء في الماضي لوجود شيء فيه وهي لما والثالثة ما يدل على وجود مستقبل لوجود مستقبل آخر وهي إن وإذا وما في معناهما
قوله في الفعلين الواقعين بعد إذا في المطابقة والالتزام صحيح وقوله في الفعلين الواقعين بعد لو إن وقوعهما بعد لو يدل على أنهما لم يقعا في الماضي مطابقة لأن لو موضوعة للامتناع
أقول لو كان كذلك لكان لو لم يخف الله لم يعصه دالا على المعصية وليس كذلك فلو إنما وضعت دالة على امتناع ما يليها وأنه مستلزم لما لها فلا دلالة له على امتناع الثاني وإنما يؤخذ امتناعه من انتفاء الأول المدلول عليه بلو ويلزم من انتفاء السبب انتفاء المسبب ما لم يخلفه سبب آخر كما في قوله لو لم يخف الله لم يعصه فعلم أن دلالتها على انتفاء الثاني ليس بالمطابقة بل ولا بالالتزام إلا بواسطة مقدمة أخرى وهي
____________________
(1/250)
الأصل عدم ما سواه هذه السببية تستفاد من لام التعليل التي في قول سيبويه
وقوله وذاك على أنهما إن وقع أحدهما في المستقبل وقع الآخر ممنوع فقد تقول لو جئتني أمس أكرمتك ولا يلزم من ذاك إكرامه إذا جاء في المستقبل
وقوله في تعليل ذلك لأنها تدل على استلزام الثبوت للثبوت إن أراد في الماضي وأن الأول يدل ثبوته على ثبوت الثاني فذلك صحيح بالمطابقة بالاستلزام كما يدل عليه كلام سيبويه وغيره وذلك لا يفيد الولد فيما يقصده وإن أراد في المستقبل فممنوع إذ لا يلزم من الامتناع للامتناع في الماضي الثبوت للثبوت في المستقبل لأنك تقول لو جئتني أمس أكرمتك وقد يجيء في المستقبل ولا يلزمه لفوات المستقبل لذلك وقياس الثبوت في المستقبل على الامتناع في الماضي ليس بصحيح ولو صح لزم عكسه في إذا ونحوه بأن يقال إذا دل قولنا إذا جئتني أكرمتك على ثبوت الإكرام عند المجيء في المستقبل يدل على استلزام عدم المجيء لعدم الإكرام في الماضي وهذا لا يقوله أحد
قوله بعد أن قرر بزعمه أن لو لها دلالتان فإذا دخلت عليها كان اقتضت مضي الدلالتين إحداهما عدم الوقوع في الماضي والثانية الوقوع في المستقبل فينحل إلى كان زيد لم يقع منه صدق لعدم وقوع الحديث وإن وقع حديث وقع صدق ثم يستحيل وقوع الاستقبالية في الماضي لأنه يلزم إلغاء دلالة لو بالمطابقة
هذا كله بناء على ما قرره من الدلالتين وهو فاسد
قوله وإن أنكر منكر جواز كان زيد لو حدث كذب فلينظر كلام العرب نجد منه شيئا كثيرا نحن لا ننكره ولكنا ننكر ما ادعاه من الدلالتين ومعنى قولنا كان زيد لو حدث كذب أنه اقترن بالماضي عدم حديثه وأن حديثه مستلزم لكذبه
قوله في قول الشاعر وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر أنه ليس مراده أنه كان قد أرسل طرفه إلى شيء فأتعبه
أقول صحيح أنه ليس مراده الإخبار فهذه القضية الجزئية فقط بل مراده الحالة الدائمة والمثال الذي قاله الولد فعل ماض في مساق الإثبات لا يدل إلا على مرة واحدة والقضية الشرطية التي في البيت تدل على الحالة الدائمة
قوله بل أثبت عليه أنه كان من شأنه أنه لو وقع ذاك لوقع هذا
أقول الإثبات بلو لا يجوز هنا لأنها تدل على الامتناع وهو ضد مقصود الشارع
وقوله كان من شأنه أنه أراد أنه إخبار عن صفته كما قدمناه في قولنا كان خالد إن لقي ألفا كسرهم فليس فيه مخالفة لما أقوله لكني أقول إن ذلك ليس مراد الشاعر بل مراده ثبوت هذه الحالة له وتحقيقها
____________________
(1/251)
ولذلك أتى بإذا فإن كان إذا جاءت الجملة الشرطية خبرا لها فإن كان ذلك الشرط معلوم الوقوع أو راجحه يؤتى فيه بإذا وإن لم يكن كذلك يؤتى فيه بإن
قوله وما تحقق ذلك قوله في البيت الأول يوما أي وقت كان من الأيام المستقبلات ولو كان المراد حكاية حال ماهيته لم يكن لقوله يوما فائدة ويصير كقولك قام زيد يوما من الأيام فإنه لا فائدة لهذا الظرف إلا لقصد شيء خاص إما الإبهام على السامع أو غير ذلك
أقول فائدة التوسعة والتعميم يعني أي يوم كان وهو من الأيام المستقبلات عن أول أزمنة كان وهي ماضية عن وقت الإخبار لا تنافي أنها حكاية حال ماضية ولا تساوي قولك قام زيد يوما لعدم العموم فيه بخلاف البيت فإن العموم فيه مستفاد من الشرط فإن الشرط من جملة مقتضيات العموم وقد قال الأصوليون إن النكرة إذا وردت في سياق الشرط كانت للعموم بخلافها في الإثبات
قوله في قول الشاعر فتى كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر أقول لا بد من أحد أمرين إما أن يكون ذلك إخبارا عن عزة النفس كما قاله فيخرج عما نحن فيه ويرجع إلى القسم الذي سلمنا عدم دلالته وإما أن يكون هذا الشخص الممدوح حصل له هاتان الحالتان وجرب فيهما فعرف منه ذلك
قوله في قول الشاعر وكنت امرأ لا أسمع الدهر سبة فمعنى كنت لو سمعت ممنوع لأن لو تدل على الامتناع وليس في كلام الشاعر ما يقتضي الامتناع ولو سلم أنه لا يقتضي الثبوت فتفسيره بلو تحميل لكلامه ما لم يحتمله
وقوله إن من المعلوم أنه لم يرد أنه سمع سبة قد تقدم جواب مثله فإن سمع سبة لا عموم فيه لوقوع النكرة في الإثبات
وقوله لا أسمع الدهر سبة فيه عموم لأن النكرة في سياق النفي فأين هذا من هذا
وقوله أربعة على نفسه بأنه قد يسب هيهات بعد حال العرب في حماستهم وأنفهم وتمدحهم بمقابلة الذنب اليسير بالانتقام الكثير وهل يبقى لتلك السبة وقع في حيث ما حصل من كشف غطائها بالقتل والقتل وإن قيل إنه خبر عن الصفة وقامت قرينة على ذلك خرج مما نحن فيه إلى ما سلمناه
قوله في حديث عروة بن مسعود إلى آخره أقول الظاهر أنه شاهده صلى الله عليه وسلم توضأ وليس في القضية ما يبعد ذلك وعلى تقدير التسليم ليس في قوله رأيت ما يدل على وقوع معنى الجملة في ذلك الزمان
____________________
(1/252)
بل هي صفة محضة للنبي صلى الله عليه وسلم استفادها مما رآه ذلك الوقت بخلاف كان فإنها دلت على اقتران مضمون خبرها بالزمن الماضي ونحن لا ندعي في مثل قولنا رأيت رجلا إذا حدث صدق أن الحديث والصدق حاصلان في زمان الرؤية بل إن هذه صفة المرئي
قوله في الصنم إذا عطش نزل فشرب ما المانع أن يكون قد عمل في ذلك الصنم ما يقتضي صورة فراغ الماء من جوفه وانتقاله من مكانه إلى أسفل وشربه وما الداعي إلى تفسير ذلك بلو
قوله كقوله على لاحب لا يهتدى بمناره لم تظهر لي هذه النسبة
قوله فقد حصل من مجموع هذه الأدلة دليل واضح على ما قلناه وإن كان زيد إذا حدث صدق لا يدل على معنى الحديث والصدق بل على معنى مدلول الخبر وهو النسبة والجزاء المقيد
أقول أما حصول الدليل الواضح على ما قاله فممنوع وأما قوله بل على مضي مدلول الخبر فنحن لا ندعي غير ذلك
وأما قوله وهو النسبة والجزاء المقيد فهو صريح فيما أقوله إلا أن يريد بالنسبة فعل المتكلم فقد نبهنا فيما سبق على بطلانه
قوله إن كان لا تدل على الانقطاع على المشهور هو الذي قاله ابن مالك وهو الحق لأن مدلولها اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي وذلك أعم من الانقطاع وعدمه ولكن الشيخ أبا حيان قال إن الصحيح المشهور عندهم أنها تدل على الانقطاع
قوله إذا قلنا لا تدل على الانقطاع فمعنى كان زيد إذا حدث صدق أن الحديث والصدق سيقعان في أحد الأزمنة التي أولها وقت الكون وآخرها ما لا نهاية له
أقول هذا باطل لأنه إذا لم يقع الحديث والصدق في الماضي أصلا بل كان يتوقع وقوعه بعد الإخبار كيف يقال كان إذا حدث صدق وأي فائدة في كان حينئذ
قوله وإن قلنا إن كان تقتضي الانقطاع دلت على الوقوع في أحد أزمنة أولها وقت الكون وآخرها قبيل الإخبار عليه اعتراضات أحدها قوله وقت الكون إذا لم يقيد متسع إلى وقت الإخبار فكان ينبغي أن يقول ابتداء وقت الكون والثاني قوله قبيل الإخبار ولم قال قبيل وإنما آخرها وقت الإخبار لا قبله والثالث قوله أحد أزمنة فيوهم أنه لا يحتمل الاستغراق وهي محتملة
فإن قلت كيف تقول أنت إذا قلت إنها تقتضي الانقطاع أو لا تقتضيه
قلت إن قلنا تقتضيه فيقتضي أنه لم يبق له بعد الإخبار هذه الحالة وهي الصدق في الحديث إما باعتباره الكذب بعد الصدق وإما بحصوله منه في بعض الأحيان بخلاف ما كان وإما بالصمت أو بالموت ونحوه فينتفي الصدق لانتفاء الحديث وإذا قلنا لا تقتضي الانقطاع فقد تكون تلك الحالة مستمرة
قوله إن دعواي
____________________
(1/253)
في المطابقة والالتزام تحتاج إلى دليل وقد تقدم ذكر الدليل في هذا التصنيف الذي وصل إليه
قوله فيما يتبادر الذهن وتقسيمه في غاية الحسن فلله دره ونعم الباطل حقه أن يرمى على الكتمان
قوله في دعواي أن الجملة الاستقبالية إذا وقعت خبرا لكان انقلبت ماضية ما الدليل على ذلك وإن كان الإنسان يجده من نفسه فلا بد من دليل
أقول ليس عندي إلا ما قدمته وارتياض وذوق
قوله في قولي لو قلنا إن كان إنما تدل على ارتباط مطلق وقوع بمطلق وقوع لم يكن للمضي معنى لأن هذا حاصل بدونها بل له معنى وهو إمكان أن يكون وقع في الماضي عن الإخبار لأنا لا نمنع أن يكون وقع بل نقول يحتمل أنه إلى الآن لم يقع
أقول بارك الله فيك أنا قلت لو قلنا إن كان إنما تدل بصيغة الحصر وحينئذ إمكان أن يكون وقع في الماضي لم يكن قبل دخولها وهي ما دلت عليه صيغة الحصر فمن أين يؤخذ الإمكان ولم يحدد بعدها ولم يكن قبلها فإن اقتضت الانقلاب إلى المضي فيكون كله ماضيا وإلا فيكون كله مستقبلا كما لو لم تدخل ثم يلزمك في قولنا كان زيد قائما وكان زيد يقوم أن يجوز كون القيام في الماضي أو في وقت الإخبار وهذا لا يقوله أحد
قوله في معنى كان زيد سيقوم إيراده على إطلاقي حق والرجوع للحق أحق وإنني قد ذكرت التفصيل فيه فإذا صح كلامي السابق المطلق عن الاعتراض وأما أن التنافي الذي بين السين وكان مثله بين كان وإذا لاستوائهما في التخليص للاستقبال فقد يقال إن إذا في اقتضائها الاستقبال فرع عما وضعت له من الظرفية والشرطية بخلاف السين فإنها صريحة فيه لم توضع لغيره
قوله في طلب الفرق بين إذا وإن جوابه بنحو ما تقدم فإن إذا قد تتجرد للوقت وتأتي بمعنى إذ في بعض المواضع وإن بخلافه
قوله في القوة والفعل
أقول وضع اللفظ يقتضي الإخبار بالفعل وهو غير الشأن والصفة فإرادتهما لا بد لها من دليل
قوله على أنني موافق على جميع ما ذكره الوالد في تصنيفه وما يقبل الذهن غيره ولكن أين الدليل على صحته ما أحسن هذا الأدب بارك الله فيه سلك ما يجب عليه من الأدب بإخباره عن الموافقة باللفظ وأكد بقوله الجميع وبالغ بقوله إنه ما يقبل الذهن غيره ثم قال ما اقتضاه له العلم من طلب الدليل على الصحة والاستفهام أين هو وهل مخالفة أكثر من هذا فأحسن بها مخالفة في موافقة
قوله فإن كان فيها ما يروق فإنما يسوق العلي للنفس طيب نجار وإن تكن الأخرى فلا غرو أنني كقطرة عين للبحار تجاري
____________________
(1/254)
فأسبل عليها ستر معروفك الذي سترت به قدما على عواري جوابه أنا حامدو في كلامك كله يروق وما منا لديه مجاري وإنك أنت البحر تعجز سابحا أو الغيث منهلا بكل غرار وكم لك من فكر عويص وحكمة غدوت بها للأقدمين تباري ونحن فأولى بالذي قلت قطرة من العين جاءت للبحار تجاري قوله إنه كتبها في بعض نهار الخميس الثاني من ربيع الآخر
أعيذه بالله الواحد الأحد من شر العين وأقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم اللهم بارك فيه هذه تسعة عشر وصلا لو كتبها الإنسان في شهر لأجاد
وقد انتهى ما ينسبون كتابته على كلام الولد الذي هو أعظم من الوالد ويخضع له المقر والجاحد أمتعني الله بحياته وزاد في حسناته بمنه وكرمه بمحمد وآله
كتبت هذا الجواب الأخير في بعض يوم الأحد وليلة الاثنين السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين وسبعمائة بمنزلنا بالدهشة بظاهر دمشق درست
والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل
قال الشيخ الإمام رحمه الله رسالة إلى أهل مكة شرفها الله لما حصل لعلمائها من الاختلاف في الآفاقي إذا وصل إلى مكة قبل أشهر الحج معتمرا ثم قرن هل يجب عليه دم القران مع دم التمتع أو لا يجب إلا دم واحد وها أنا أبين الحكم وما يتعلق بذلك ولولا ما بلغني من الاختلاف فيها لم أتعرض لها فإني لست عند نفسي من هذا القبيل لا سيما مع علماء مكة فإنهم سادتنا وشيوخنا وأعلم بالمناسك وغيرها منا
واللائق بمثلي الأدب معهم والاستفادة منهم فإن وقعت منهم موقعا وحصل منها فائدة فلا غرو أن يكون عند المفضول في آحاد المسائل شيء ليس عند الفاضل وإن لم تصادف قبولا فهم أهل الصفح عن جناية مرسلها والله المسئول أن يجعلنا من العلماء المتقين المخلصين الفائزين وأن يحشرنا في زمرة سيد المرسلين بمنه وكرمه فأقول إن الآفاقي إذا وصل إلى مكة قبل أشهر الحج معتمرا وفرغ من عمرته ثم اعتمر من أذى الحل وحج من سنته على صورة التمتع أو قارنا وجب عليه دم التمتع أو القران إذا لم يكن توطن في مكة ولا فيما دون مسافة القصر
وإذا اعتمر الآفاقي في أشهر الحج وهو على مسافة القصر
____________________
(1/255)
من مكة أو من الحرم ودخل مكة ففرغ من عمرته ثم قرن منها في سنته فلا يجب عليه إلا دم واحد للتمتع ولا شيء يشيب قرانه من مكة
وبيان هذه المسائل بقواعد القاعدة الأولى أن من يكون من حاضري المسجد الحرام يجب عليه دم التمتع بالإجماع وهو دم جبر عندنا وعند أبي حنيفة أنه دم نسك ويجب عليه دم القران إذا قرن عند جمهور العلماء
وروي عن ابن مسعود وابن عمر وخالف في ذلك طاوس وداود فقالا لا دم على القارن وفي حقيقة هذا الدم هل هو جبر أو نسك وجهان لأصحابنا والصحيح المشهور أنه جبر ولم أر من صرح بجبر بأن الخلاف في دم التمتع ومن كان من حاضري المسجد الحرام لا يجب عليه دم التمتع ولا دم القران وحكى الحناطي من أصحابنا وجها أن عليه دم القران
قال الرافعي ويشبه أن يكون هذا الخلاف مبنيا على الوجهين في أن دم القران دم جبر أو نسك والمشهور الأول فلا جرم لم يجب على الحاضر وعند أبي حنيفة لا يشرع للمكي تمتع ولا قران فإن تمتع أو قرن فعليه دم للإساءة وينبني البحث معه على ما يعود إليه اسم الإشارة في قوله تعالى ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فليس له تمتع فإذا تمتع فقد أساء وعليه دم ومن أحرم منهم بالنسكين إن نقصت عمرته بأن أحرم بالحج بعد ما فعل طرفا من أشواط العمرة أو نقص حجه في قول أبي حنيفة وإن نقصت عمرته في قول أبي يوسف ومحمد بأن أحرم بعد ما أتى بأكثر الطواف مضى فيهما ولزمه دم جبران
هذا تفصيل مذهبه في التمتع والقران لأهل مكة وأما عندنا فالتمتع والقران مشروعان لأهل مكة كما لغيرهم ولكن لا دم عليهم فيهما للآية الكريمة ونجعل اسم الإشارة عائدا إلى آخر الشرط وهو قوله تعالى فما استيسر من الهدي
القاعدة الثانية في تفسير الحاضر المراد بالآية حكي عن ابن المنذر عن الشافعي قولا قديما إنه من كان أهله دون الميقات ورأيت في الإملاء ما يحتمل ذلك فإن أريد بذلك أن كل من كان دون الميقات بعدت أو قربت فهو من الحاضرين فهذا غريب في النقل عن الشافعي لكنه مذهب أبي حنيفة ورده الأصحاب بأنه يوجب أن يكون القريب من ذي الحليفة ومسيرتها عشرة أيام حاضرا والذي في يلملم ومسيرتها يومان ليس بحاضر وإن أريد به أن من كان دون مسافة القصر فهذا صحيح ويوافق ما هو المشهور عن الشافعي وفي اعتبار هذه المسافة من الحرم أو من مكة وجهان أصحهما الأول وهو الذي ذكره العراقيون ومال إليه الرافعي في الشرح وصححه النووي والثاني صححه الرافعي
____________________
(1/256)
في المحرر وإنما اعتبرنا هنا المسافة من الحرم على الصحيح في طواف الوداع من مكة على الصحيح لأن طواف الوداع للبيت مناسب اعتبار مكة وهنا الآية الكريمة ناصة على المسجد الحرام والمراد منه كما هو غالب استعمال القرآن وكان ابتداء المسافة منه وإنما ألحقنا من في المسافة بمن في الحرم لأن من قرب من الشيء كان حاضرا إياه قال الله تعالى واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر قال المفسرون هي أيلة ومعلوم أنها ليست في البحر وإنما هي مقارنة له
وقد يرد على هذا شيئان أحدهما أن من تمتع في هذه المسافة فقد ربح أحد السفرين وإن كان من الحاضرين
وأجاب القاضي أبو الطيب عن هذا بأن من كان من بعض القرى القريبة من مكة لم يترفه ترفها له تأثير بإحرامه بالحج من مكة لا برجوعه إلى قرينة لا مشقة عليه فيه والغريب في رجوعه إلى الميقات مشقة وترفه له تأثير الثاني أن من كان دون مسافة القصر خارجا عن الحرم وأراد النسك لا يحل له أن يجاوز موضعه إلا محرما ولو أعطي حكم المقيم لجاز له المجاورة والإحرام من مكة
وجوابه أنه لا يلزم أن يكون كالمحرم من كل وجه ونقل القاضي أبو الطيب عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن حاضري المسجد الحرام أهل الحرم ومذهب مالك أنهم أهل مكة وأهل ذي طوى قال القاضي أبو الطيب وهو يوافق قول ابن عباس وسعيد بن جبير لأنه ليس في الحرم غير مكة قرية عامرة غير ذي طوى وأغرب ابن التلمساني فقال إن الغزالي حكى وجها أن حاضري المسجد الحرام أهل الحرم خاصة وهذا الوجه لم أره في كلام الغزالي ولا في كلام غيره فلنعرض عنه ونتكلم على المشهور وهو اعتبار مسافة القصر والشرط أن يكون دونها فمن كان في مسافة القصر فحكمه حكم من فوقها هكذا صرح به الأصحاب واقتضاه كلام الشافعي في الإملاء وعبارة المحرر موهمة خلاف ذلك وليس بصحيح
القاعدة الثالثة وعليها مدار البحث في هذه المسألة أن الحضور هل يعتبر فيه الاستيطان أو الإقامة أو مجرد الكون هناك الذي دل عليه كلام الشافعي وجمهور الأصحاب أن المعتبر في اسم الحاضر الاستيطان قال الشافعي في الإملاء من كان من أهل مكة فسكن غيرها ثم تمتع فعليه ما على المتمتع والسكن النقلة بالبدن والإجماع على إيطان البلاد والانقطاع إليها لا حد لذلك إلا ذلك قل أو كثر
هذه عبارة الشافعي
وقال القاضي الحسين وصاحب التهذيب العبرة فيه بالاستيطان والسكنى دون المنشأ والمولد
وقال الروياني في البحر لو طال مقام مكي في بلد
____________________
(1/257)
ولم ير معه أن يتخذه وطنا لم يكن عليه دم المتعة لأنه لم يخرج عن كونه مكيا
وقال البغوي في التهذيب لو أن مكيا خرج إلى الكوفة تاجرا فلما عاد من الميقات محرما بعمرة فهو من الحاضرين
وقال النووي لو خرج المكي إلى بعض الآفاق لحاجة ثم رجع وأحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم رجع من عامه لم يلزمه عندنا دم بلا خلاف
وهذا الذي نقله الشيخ محيي الدين عندنا نقله ابن المنذر عن مالك وأحمد ثم قال وهذا على مذهب الشافعي
وقال طاوس يلزمه الدم
فهذه النقول كلها صحيحة في اعتبار الاستيطان وهكذا قال الشافعي والأصحاب في مسائل منها لو كان له مسكنان قريب وبعيد فإن كان مقامه بأحدهما أكثر فالحكم له وإن استويا وكان أهله وماله في أحدهما دائما أو أكثر فالحكم له فإن استويا في ذلك وكان عزمه الرجوع إلى أحدهما فالحكم له فإن لم يكن له عزم فالحكم للذي خرج منه
هذه عبارة الماوردي والبغوي وعبارة المتولي فالاعتبار بالعبور على الميقات وعبارة ثالثة حكاها الروياني أن الاعتبار بموضع إحرامه وهذه العبارات بمعنى واحد والمراد أن الحكم للذي خرج منه فإن كان حال ما يحرم يخرج من مكة فهو من الحاضرين وإن كان يخرج من الكوفة فهو ليس من الحاضرين ولو استوطن غريب مكة فهو حاضر ولو استوطن مكي العراق فليس بحاضر ولو قصد الغريب مكة فدخلها متمتعا ناويا الإقامة والاستيطان بها بعد الفراغ من النسكين أو من العمرة أو نوى الإقامة والاستيطان بها بعد ما اعتمر فليس بحاضر فلا يسقط عنه الدم حتى يكون مستوطنا قبل العمرة
هذه عبارة الشافعي وهذه المسائل نص عليها في الإملاء وتبعه الأصحاب منهم الماوردي وغيره وكذلك نص على التفاصيل المذكورة في المسألتين إلا القسم الآخر فلم ينص عليه واتفق الأصحاب عليه وذكر هذه المسائل كلها يدل لاعتبار الاستيطان فلا يسمى حاضر المسجد الحرام حتى يكون مستوطنا هناك ومن استوطن غيرها من الآفاق خرج عنه اسم الحاضر ومن استوطن ذلك المكان من أهل الآفاق صار حاضرا وخرج عنه اسم الآفاقي
ومن خرج من مكة إلى غيرها من الآفاق ولم يستوطن لم يخرج عنه اسم الحاضر
هذا ما عليه جمهور الأصحاب تبعا للشافعي ومن الدليل له قوله تعالى ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فذكر الأهل كناية عن الاستيطان لأن الأهل غالبا تكون حيث الشخص مستوطنا ولا يضرنا مع قولنا إنه كناية كون الشخص لا أهل له أو له أهل ليسوا معه
وقال الغزالي إن الحاضر من كان بينه
____________________
(1/258)
وبين مكة دون مسافة القصر سواء كان مستوطنا أم مسافرا حتى إن الآفاقي إذا جاوز الميقات غير مريد نسكا فلما دخل مكة عن له أن يعتمر ثم حج لم يلزمه الدم
قال وإن عن له ذلك قبل دخول مكة على من في مسافة القصر فأحرم بالعمرة من موضعه ثم حج في تلك السنة ففيه وجهان واستدل للزوم الدم بأن الحاضر لا يتناوله إلا إذا كان في نفس مكة أو كان مستوطنا حواليها
وهذا الذي قاله الغزالي أخيرا يخالف ما قاله أولا قال ابن الرفعة وإذا صح ما ذكره حصل في المسألة ثلاثة أوجه واستبعد الرافعي هذا الثالث جدا وهو كما استبعد وصحح الرافعي في المسألة الثانية التي ذكرها الغزالي لزومه واختار النووي لزوم الدم في المسألتين وسنتكلم عليه فيما بعد
وأما ما قاله الغزالي أولا من عدم اعتبار الاستيطان مطلقا فقد يشهد له اتفاقهم في قوله صلى الله عليه وسلم في المواقيت ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة أن المراد به كل من بمكة مقيما كان أو غيره حتى لو أن مكيا سافر إلى بعض البلاد واستوطن بها أو لم يستوطن فإذا جاء إلى مكة وأراد أن يجتاز بالميقات مريدا للنسك فعليه أن يحرم كما صرح به القاضي أبو الطيب والمتولي وذلك ما لا خلاف فيه فكما فسر أهل مكة بمن فيها بالنسبة إلى المواقيت فكذلك بالنسبة إلى التمتع
والجواب عن هذا أن في المواقيت قال صلى الله عليه وسلم هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن وأمر المتمتعين الذين كانوا معه صلى الله عليه وسلم بالإحرام بالحج من مكة ولم يكونوا مستوطنين بها ولا مقيمين فدل على أن المعتبر في المواقيت مجرد الكون
وأما هنا فلم يدل دليل على اعتبار ذلك
والآية الكريمة لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وذكر أهل الشخص كناية عن محل إقامته كما سبق فاتبعنا في ذلك من الموضعين ما دل عليه النص ومما يدل على الفرق بين البابين اتفاق العلماء على أن حكم ذي طوى حكم مكة في التمتع وليست حكمها في الميقات
فإن قلت ما ذكره الغزالي هل وافقه عليه أحد من أهل المذهب أو هو منفرد بذلك وما محل الخلاف وما فائدته قلت إذا أخذ تفسير الغزالي مطردا منعكسا كان المراد بالتفصيل فإن عكسه يقتضي أن من بينه وبين مكة مسافة القصر أو أكثر ليس بحاضر مستوطنا كان أو مسافرا ويقتضي أن المكي إذا خرج إلى بعض الآفاق بنية العود ثم رجع وتمتع أنه ليس بحاضر حتى يلزمه الدم وهذا خلاف ما قدمناه عن
____________________
(1/259)
الشافعي وسائر الأصحاب وجمهور العلماء ما عدا طاووسا
فإن قال الغزالي بذلك فهو منفرد به عن الأصحاب وأما طرده فإنه يقتضي أن الآفاقي إذا وصل إلى ما دون مسافة القصر يكون حاضرا وهذا قد صرح به وفي تلويح كلام الأصحاب وتصريح بعضهم ما يخالفه وقد قدمنا ذلك وفي كلام بعضهم ما يحصل موافقته فإن صاحب الشامل وصاحب البيان ذكرا عن الشيخ أبي حامد أنه حكى عن نصه في القديم إنه إذا مر بالميقات ولم يحرم حتى بقي بينه وبين مكة مسافة القصر ثم أحرم بالعمرة فعليه دم الإساءة وعليه دم التمتع لأنه صار من حاضري المسجد الحرام
ولا أدري هل هذا التعليل من كلام الشافعي أم من كلام الشيخ أبي حامد وأيا ما كان فظاهره موافق لما قاله الغزالي وأن اسم الحاضر لا يطلق على من ينتهي إلى هناك والله أعلم
مسألة خنثى مشكل أحرم وستر رأسه ثم أحرم إحراما آخر وستر وجهه هل تجب عليه فدية لتحقق سببها في أحد الإحرامين لا بعينه وهل يدخل ذلك في قول الأصحاب أنه إذا سترهما افتدى وهل يشبه ما إذا مس فرجه وصلى الصبح ثم مس الآخر وصلى الظهر الجواب تجب عليه الفدية بتحقق سببها وإن جهل عينه لكون الواجب شيئا واحدا معلوما وبهذا فارق ما إذا مس أحد فرجيه وصلى الصبح ثم الآخر وصلى الظهر وتوضأ بينهما حيث لا قضاء على الأصح لأن الذي يجب قضاؤه ليس واحدا معلوما ولا يقال يجب قضاؤهما كما لو نسي صلاة من خمس لأن المدرك هنا أن الأصل عدم الأداء وهنا تحقق أداؤها ويفارق أيضا ما إذا لم يتوضأ بينهما حيث يجب قضاء الظهر وهو كونه محدثا فيها وفي الفدية لم يتحقق السبب في إحرام معين وإنما السبب ما قدمناه وجهالة عين السبب لا تقدح في ترتيب المسبب كما لو تحقق أنه نام أو بال من غير تعيين فيجب الوضوء وإن جهل عين سببه
وأما دخوله في قول الأصحاب أنه إذا سترهما افتدى فلا لأنهم إنما أرادوا في الإحرام الواحد والله أعلم
ومما يشبه مسألتنا أيضا لو حلف بالله يمينين على شيئين وتحقق أنه حنث في أحدهما وجهل عينه فإنه تجب عليه كفارة واحدة لأحد اليمينين والله أعلم
مسألة حضرت في شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وسبعمائة رجل حج في سنة ثلاث وخمسين وأكمل حجه ودخل إلى مكة فحصل له عذر عن الخروج إلى العمرة فقيل له طف واسع واحلق ثم اخرج فأحرم ثم طاف
____________________
(1/260)
وسعى وحلق قاصدا بذلك العمرة ثم خرج إلى التنعيم فأحرم العمرة من مساجد عائشة وسافر معتقدا أنه بذلك كملت عمرته وجاء إلى بلده فجامع امرأته ثم قيل له إحرامك باق فحضر يسأل الجواب الذي يظهر أن إحرامه الأخير من مساجد عائشة لم يصح لأنه إنما قصد به الإحرام بالعمرة السابق أفعالها وذلك لا يصح ولم يقصد أفعالا جديدة وإذا كان كذلك فلا يلزمه شيء وأفعاله التي فعلها بمكة إن لم ينو بها العمرة بل قصد بها وبما يوقعه بعد ذلك من النية عمرة فلا تصح عمرة ولا يلزمه بها شيء وتبقى العمرة في ذمته وإن لم يكن اعتمر عمرة الإسلام وإن كان قصد بها العمرة فهي نية وإحرام من مكة بعمرة فإذا أتى بأفعالها فالصحيح أنها تجزئه وعليه دم المجاورة فلما خرج إلى التنعيم سقط الدم في وجوب إعادة الأعمال وجهان فإن قلنا يجب فالإحرام باق أو قلنا بأن الإحرام الأخير من مساجد عائشة صحيح موجب أعمالا أخرى لما جاوز ذلك المكان وصار بينه وبين مكة مسافة لا يمكنه الرجوع إليها لخوف قطع الطريق ونحوه مما هو معروف كان الشيخ صدر الدين بن المرحل يقول إنه كالمحصر فيتحلل وهذا ليس ببعيد وإن لم يكن منقولا لأن العرب ومن يجري مجراهم في الطريق في هذا الزمان يمنعون الناس من الوصول إلى البيت لتسلطهم على النفوس والأموال
فهذا المعنى إذا حقق تبين أن هذه الصورة الرابعة صورة من صور الإحصار وحكم الإحصار التحلل وبعد الذبح يحلق رأسه فإذا حصلت هذه الثلاثة النية والذبح ثم الحلق حصل التحلل وصار حلالا يحل له ما يحل للحلال من اللبس والجماع وغيرهما ولا يجب عليه قضاء إذا لم تكن العمرة فرضا والذبح لا يشترط أن يكون في الحرم بل أي مكان شاء والمذبوح هو الذي يجوز في الأضحية فإن كان بقرا أو إبلا فثني وإن كان معزا أو ضأنا والخيرة إليه في ذلك ولا يجوز له أن يأكل منه بل يفرقه على المساكين وأما الجماع الذي حصل منه وهو جاهل فلا تفسد به العمرة على الصحيح ولا يلزمه به شيء وكذا ما حصل منه من اللباس والطيب أما إذا صدر منه حلق أو قلم ظفرا فلا فرق فيه بين العالم والجاهل
فإن قيل بإحرامه فالفدية واجبة عليه وتفصيله إذا تعدد في مجلس أو مجالس مذكور في كتب الفقه فالاحتياط لهذا الرجل إن أمكنه أن يرجع إلى مكة ناويا عند الميقات العمرة فيطوف ويسعى ويحلق أي وقت كان فيتخلص بيقين فإن لم يفعل وتحلل هنا بالذبح والنية ثم الحلق فأرجو أن يكفيه ولا قضاء عليه إذا كان تطوعا
____________________
(1/261)
وإن لم يفعل بل أخذ بأن ذلك الإحرام لم يصح وجوز أنه لا شيء عليه أيضا ولنا مواضع لا يصح الإحرام فيها وقد ذكر الروياني وجهين فيما لو قال أحرمت بنصف نسك
وتوقف النووي فيه وتوقفه قد يكون ميلا إلى الجزم بالصحة أو بالبطلان والصورة التي نحن فيها أولى بالبطلان لأن الأعمال المتقدمة التي أحرم بها جميع الأعمال لا نصفها ويستحيل التزامها فالتزامها التزام ما لا يلزم هذا الذي ظهر لي في ذلك مع إشكاله ولم أقله ليقلدني أحد فيه بل لينظر فيه وأنا أنهى كل أحد أن يقلدني فيه فليأخذ كل أحد خلاصه فيما يقربه من الله ويبعده من معاصيه ويتقي الحرام والشبهات عصمنا الله منها
فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذاك أن الله تعالى يقول في كتابه ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال غريب وفي إسناده مقال وهلال بن عبد الله مولى ربيعة مجهول والحارث ضعيف في الحديث
وقد روى ابن عدي فيه أيضا من حديث أبي هريرة وأبي أمامة ولا يصح منها كلها شيء وضعف هذه الأحاديث قد كفانا مئونة النظر في معانيها وقد اتفق العلماء على أن الحج فرض عين على كل مكلف حر مسلم مستطيع مرة في العمر إلا من شذ فقال إنه يجب على كل خمسة أعوام مرة ومتعلقه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على كل مسلم في كل خمسة أعوام أن يأتي بيت الله الحرام حكاه ابن العربي وقال قلنا رواية هذا الحديث حرام فكيف إثبات حكم به انتهى كلامه
والحديث الذي أشار إليه قد رويناه من طريق الحسن بن عرفة وغيره حدثنا خلف بن خليفة حدثنا العلاء بن المسيب عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عبدا وسعت له الرزق وصححت له جسمه لم يفد إلي في كل خمسة أعوام مرة والله لمحروم خلف بن خليفة ضعيف والمسيب كثير الغلط
قال الدارقطني وقد روي من غير طريق ولا يصح منها شيء
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال لكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه رواه مسلم والرجل الذي لم يذكر اسمه هو الأقرع بن حابس وروى ابن عباس
____________________
(1/262)
أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أنحج في كل سنة أو مرة واحدة قال بل مرة واحدة فمن زاد فهو تطوع
رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وأبو البختري اسمه سعيد بن فيروز قال البخاري لم يدرك عليا
واختلف العلماء في القدرة على الحج وهي الاستطاعة المذكورة في قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فزعم قوم أنه من قدر على الوصول إلى البيت راكبا أو راجلا مع السبيل الآمنة المسلوكة فهو مستطيع وإلى هذا ذهب مالك في المشهور عنه وغيره وقال آخرون الاستطاعة الزاد والراحلة وبه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري وغيرهم
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما يوجب الحج قال الزاد والراحلة
رواه الترمذي وابن ماجه
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الزاد والراحلة يعني قوله من استطاع إليه سبيلا
رواه ابن ماجه وفيه عن أنس وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم
وقال الحافظ المقدسي في حديث أنس ولا أرى ببعض طرقه بأسا وأما خلاص من لم يحج من هذه الأمم فقد اختلف الناس هل يجب على الفور أو التراخي إلا أن ينتهي إلى حال يظن فواته لو أخره
وقال أبو حنيفة ومالك وآخرون هو على الفور وقد روي من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم من أراد الحج فليعجل رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه بألفاظ مختلفة
فإن قلنا بوجوبه على الفور فمؤخره يعصي بالتأخير عن أول وقت الإمكان وقد اختلف الناس في تأويل قوله تعالى ومن كفر فإن الله غني عن العالمين
فقال ابن عباس أي من زعم أن الحج ليس بفرض
وقال قوم المعنى من كفر بالله وقيل المعنى من كفر بهذه الآيات التي في البيت
وقيل المعنى فقد كفر بأن وجد ما يحج به ثم لم يحج وهذا التأويل موافق لما ذهب إليه ابن حبيب من أن الحج والصيام والزكاة مثل الصلاة من ترك فعل شيء منها وإن كان مقرا بفرضها فهو كافر
وهو مذهب انفرد به ابن حبيب وإنما قال قوم من أهل العلم ذلك في تارك الصلاة خاصة هل يقتل أو يؤدب بالضرب والسجن
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين
رواه سعيد بن منصور والحسن لم يسمع من عمر
ومن حديث ابن عباس
____________________
(1/263)
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صرورة في الإسلام رواه الإمام أحمد وأخرجه أبو داود في الحج وابن ماجه في النكاح والصرورة بالصاد المهملة هو الذي لم يحج وهو أيضا الذي لم يتزوج ومعناه لا فعل صرورة في الإسلام أي أنه ليس من شأن المسلمين وقد ضعف ابن عدي هذا الحديث وصححه الحاكم وهو إلى الصحة أقرب إن شاء الله تعالى وإن قلنا بوجوبه على التراخي فمات ولم يحج فقال إبراهيم النخعي وبعض السلف لا يصح الحج عن ميت ولا غيره بحال
وقال أبو حنيفة ومالك لا يحج عنه إلا أن يوصي به
وقال الشافعي وجمهور السلف يحج عن الميت عن فرضه وعن نذره سواء أوصى به أم لا ويجزئ عنه
ومذهب الشافعي وجماعة أن ذلك واجب في تركته يخرج من رأس ماله والله أعلم
مسألة الدعاء في الطواف إذا كان مأثورا هل هو أفضل من قراءة القرآن في الطواف أم القراءة أفضل منه
الجواب قال الشيخ الإمام رحمه الله أطلق المتأخرون أن الدعاء المأثور أفضل في الأصح ونقل الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي أن القرآن أفضل من الذكر والمختار أن يقال في المواضع التي ورد فيها ذكر خاص أو دعاء خاص يكون هو أفضل وما سوى ذلك من المواضع التي لم يرد فيها شيء خاص يكون القرآن أفضل من الذكر والدعاء وإن كان مأثورا ويحمل قول الأصحاب المأثور على المأثور بخصوصه في ذلك المحل فيستمر ما قالوه من التصحيح ونص الشافعي المذكور لا ينافيه ولا شك أن القرآن أفضل الذكر ولكن ثم مواضع طلب فيها ذكر خاص فلا يشرع تفويته بالقرآن ولا بغيره بل مواضع شرع فيها الذكر ولم يشرع فيها القرآن كالركوع والسجود والله تعالى أعلم انتهى
فصل للشيخ الإمام قدس الله روحه كتاب سماه تنزل السكينة على قناديل المدينة وهو هذا قال رحمه الله الحمد لله الذي أسعدنا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم سعادة لا تبيد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الولي الحميد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الهادي إلى كل أمر رشيد صلى الله عليه وعلى آله صلاة تليق بجلاله لا تزال تعلو وتزيد وسلم تسليما كثيرا إلى يوم المزيد وبعد
فإن الله يعلم أن كل خير أنا فيه ومن علي به فهو بسبب النبي صلى الله عليه وسلم والتجائي إليه واعتمادي في توسلي إلى الله في كل أموري عليه فهو وسيلتي إلى الله في الدنيا
____________________
(1/264)
والآخرة وكم له علي من نعم باطنة وظاهرة وأنه بلغني أنه وقع كلام في بيع القناديل الذهب التي هي بحجرته المقدسة التي هي على الخير والتقوى مؤسسة ليصرف ثمنها في عمارتها وعمارة الحرم فحصل لي من ذلك هم وغم فأردت أن أكتب ما عندي من ذلك وأقدم حديثا صحيحا يكون في الاستدلال من أوضح المسالك فأقول وبالله التوفيق والهداية إلى سواء الطريق أخبرنا علي بن محمد بقراءتي عليه قلت له قرئ على الحسين بن المبارك وأنت حاضر أن أبا الوقت أخبره قال أخبرنا أبو الحسن الداودي أنا ابن حمويه أنا الفربري أنا البخاري وأخبرنا جماعة آخرون قالوا سمعنا الحسين بن المبارك بالإسناد المذكور إلى البخاري وزاد علي بن محمد أنا أبو عمرو بن الصلاح أنا منصور أنا الفارسي والسحامي والشادياخي سماعا وأبو جدي إجازة قال الفارسي وهو محمد بن إسماعيل وأبو جدي أنا سعيد الصوفي أنا أبو علي النسوي
وقال السحامي وهو وجيه والشادياخي وأبو جدي أنا الحفصي ثنا الكشميهني قالا أنا الفربري ح وأنا علي بن عيسى بن سليمان الشافعي أنا أبي أنا منجب أنا أبو صادق أنا كريمة أنا الكشميهني أنا الفربري أنا البخاري قال باب كسوة الكعبة حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ثنا خالد بن الحارث ثنا سفيان ثنا واصل الأحدب عن أبي وائل قال جئت إلى شيبة قال البخاري وحدثنا قبيصة ثنا سفيان عن واصل عن أبي وائل قال جلست مع شيبة على الكرسي في الكعبة فقال لقد جلس هذا المجلس عمر فقال لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها
قلت إن صاحبيك لم يفعلا قال هما المرءان أقتدي بهما
وبالإسناد إلى البخاري قال كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ثم قال في هذا الكتاب باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الله تعالى واجعلنا للمتقين إماما قال أئمة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا
وقال ابن عون ثلاث أحبها لنفسي وإخواني هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها والقرآن يتفهموه ويسألوا عنه ويدعوا الناس إلا من خير
حدثنا عمرو بن العباس ثنا سفيان عن واصل عن أبي وائل قال جلست إلى شيبة في هذا المسجد قال جلست إلى عمر في مجلسك هذا فقال هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين فقلت ما أنت بفاعل قال لم فقلت لم يفعله صاحباك قال هما المرءان يقتدى بهما
وأخبرنا الحافظ الإمام عبد المؤمن الدمياطي أنا ابن المقير سماعا أخبرنا الفضل بن سهل إجازة قال أخبرنا الخطيب أبو بكر إجازة قال ابن المقير وأنا ابن ناصر إجازة أنا ابن السمرقندي
____________________
(1/265)
وابن الفراء والماوردي سماعا قال ابن السمرقندي والفراء أنا الخطيب سماعا
وقال الماوردي أنا أبو علي التستري قال الخطيب والتستري أنا أبو عمرو الهاشمي أنا أبو علي اللؤلؤي ثنا أبو داود قال باب في مال الكعبة أنا أحمد بن حنبل ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الشيباني عن واصل الأحدب عن شقيق عن شيبة يعني ابن عثمان قال قعد عمر بن الخطاب في مقعدك الذي أنت فيه فقال لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة
قال قلت ما أنت بفاعل قال بلى لأفعلن قال قلت ما أنت بفاعل قال لم قلت لأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد رأى مكانه وأبو بكر وهما أحوج منك إلى المال فلم يحركاه فقام فخرج
وأخبرنا القاضي محمد بن عبد العظيم بن السقطي بقراءتي عليه عن أبي بكر بن باجا إجازة أنا أبو زرعة سماعا لهذا الحديث أنا أبو منصور المقومي إجازة إن لم يكن سماعا ثم ظهر سماعه أنا أبو طلحة الخطيب أنا ابن بحر ثنا ابن ماجه قال باب مال الكعبة ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا المحاربي عن الشيباني عن واصل الأحدب عن شقيق قال بعث رجل معي بدراهم هدية إلى البيت قال فدخلت البيت وشيبة جالس على كرسي فناولته إياها فقال ألك هذه قلت لا ولو كانت لي لم آتك بها قال أما لئن قلت ذلك لقد جلس عمر بن الخطاب مجلسك الذي أنت فيه فقال لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة بين فقراء المسلمين
قلت ما أنت بفاعل قال لأفعلن قال ولم قلت لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى مكانه وأبو بكر وهما أحوج منك إلى المال فلم يحركاه فقام كما هو فخرج
هذا حديث صحيح أخرجه هؤلاء الأئمة الثلاثة كما ذكرناه وهو عمدة في مال الكعبة ومال الكعبة هو ما يهدى إليها أو ينذر لها وإياك أن تغلط وتعتقد أن ذلك يصرف إلى فقراء الحرم فإنما ذلك فيما إذا كان الاهتداء إلى الحرم أو إلى مكة أما إذا كان إلى الكعبة نفسها فلا يصرف إلا إليها ولهذا قال الشيخ أبو إسحاق في المهذب وإن نذر الهدي للحرم لزمه في الحرم ثم قال وإن كان قد نذر الهدي لرتاج الكعبة وعمارة مسجد لزمه صرفه فيما نذر
وقال الرافعي إذا نذر أن يجعل ما يهديه في رتاج الكعبة وتطييبها قال إبراهيم المروذي ينقله إليها ويسلم إلى القيم ليصرفه إلى الجهة المنذورة إلا أن يكون قد نص في نذره أن يتولى ذلك بنفسه فهذان النقلان يبينان لك ذلك ونقل المهذب أصرح وليس ذلك كما لو نذر الهدي
____________________
(1/266)
وأطلق فإنه لم يعين المهدى إليه وهنا عينه وهو الكعبة وإذا وجدنا مالا في الكعبة واحتمل أن يكون من هذه الجهة حملناه عليها عملا باليد كما تبقى أيدي أرباب الأملاك على ما بأيديهم فكذلك يبقى ما في الكعبة من المال على ما هو عليه لا نحركه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإن قلت فما مستند عمر رضي الله عنه فيما هم به قلت عمر رضي الله عنه إمام هدى وأبو بكر أعظم منه ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم منهما والهدى كله فيما جاء به فلا يلزمنا النظر فيما كان سبب هم عمر رضي الله عنه وقد رجع عنه لمجرد ما سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وهو أعلم بهما وأطوع لهما
وقال ابن بطال أراد عمر أن يصرفه في منافع المسلمين نظرا لهم فلما أخبره شيبة صوب فعله وإنما تركاه لأن ما جعل للكعبة وسبل لها يجري مجرى الأوقاف ولا يجوز تغيير الأوقاف وفي ذلك أيضا تعظيم الإسلام وحرماته وترهيب العدو وعن الحسن قال عمر لو أخذنا ما في البيت يعني الكعبة فقسمناه
فقال له أبي بن كعب والله ما ذلك لك قال لم قال لأن الله قد بين موضع كل مال وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صدقت
وقال ابن بطال في صدر كلامه إن عمر رأى أن ما فيها من الذهب والفضة لا تحتاج إليه لكثرته
ويؤخذ من تبويب البخاري وإدخاله هذا الحديث فيه أن حكم الكسوة حكم المال وقال ابن بطال أيضا في كتاب الاعتصام أراد أن يقسم المال الذي تجمع وفضل عن نفقتها ومؤنتها ويضعه في مصالح المسلمين فلما ذكره شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بعده لم يعرضا له لم يسعه خلافهما ورأى أن الاقتداء بهما واجب فربما تهدم البيت أو خلق بعض آلاته فصرف ذلك المال فيه ولو صرف ذلك المال في مصالح المسلمين لكان كأنه قد أخرج عن وجهه الذي سبل له
فإن قلت قد ذكر الفقهاء وجهين في صحة الهبة للمسجد وأنه هل يملك أو لا يملك
قلت أصحهما الجواز وأنه تصح الهبة ويقبلها قيمه ويملك ويؤخذ له بالشفعة والوجه الآخر ضعيف ويرد عليه بالحديث أو لا يرد عليه بل يكون الوجه خاصا بالهبة المفتقرة إلى إيجاب وقبول
وأما الإهداء إلى الكعبة فأصله معهود قال الله تعالى هديا بالغ الكعبة وإن كان ذلك في الفداء لكنه عرف به مشروعية هذا النوع وإضافته إلى الكعبة
وقد اختلف الفقهاء في الوقف على المسجد هل هو وقف على المسلمين أو على مصالح المسجد والأصح الثاني والقائل بالأول لا يريد أنه وقف على المسلمين يصرفونه فيما شاءوا بل يختص بالمسجد قطعا وإنما حمله على جعله على المسلمين أنهم القابلون للتملك والجهاد لا يقبل التملك
____________________
(1/267)
وجوابه أن الجهاد إذا كان له جبة يصرف فيها ويحتاج إليه فذلك معنى الملك فظهر بها القطع بثبوت اختصاص الكعبة بما يهدى إليها وما ينذر لها وما يوجد فيها من الأموال وامتناع صرفها في غيرها لا للفقراء ولا للحرم الخارج عنها المحيط بها ولا لشيء من المصالح إلا أن يعرض لها نفسها عمارة أو نحوها فحينئذ ينظر فإن كانت تلك الأموال قد أرصدت لذلك فتصرف فيه وإلا فيختص بها الوجه الذي أرصدت له فلا يغير شيء عن وجهه فالمرصد للبخور لا يصرف في غيره والمرصد للسترة لا يصرف في غيرها والمرصد للعمارة لا يصرف في غيرها والمرصد للكعبة مطلقا يصرف في جميع هذه الوجوه وكذا الموجود ولم يعلم قصد من أتى به لكنه يعد للصرف
فإن قلت الشيخ أبو إسحاق إنما قاله في الهدي للرتاج أما الهدي للكعبة مطلقا فلم يذكره وقد ذكر في الهدي المطلق وجهين قلت الوجهان في الهدي المطلق من غير ذكر كعبة ولا غيرها أما الهدي للكعبة فهو مقيد
فإن قلت قد يقال إن العرف الشرعي يقتضي تفرقته على مساكين الحرم كما في الذبائح
قلت ذاك ظاهر فيما يهدى إلى الحرم أعني مكة وما حولها فإن القرينة تقتضي أن الإهداء لأهله وكذا فيما يهدى إلى مكة ويحتمل أن يطرد فيما يهدى إلى الكعبة من غنم وإبل وبقر لأن القرينة تقتضي تفرقته وذبحه أما مثل ذهب أو فضة فلا عرف يقتضي ذلك فوجب قصره على مقتضى اللفظ واختصاص الكعبة بخصوصها به ويشهد له الحديث الذي صدرنا كلامنا به
وقد تكلم الفقهاء في تقييد مكان الهدي الذي يهدى إليه من الحرم أو غيره من البلاد في تعيين نوع الهدي الذي يهدى هل هو نعم إبل أو بقر أو غنم أو غيرها وفي إطلاق الهدي وعدم تقييده بهذا أو بهذا وأما إطلاق الهدي للكعبة عن التقييد بمصارفه فلم أقف عليه ولكني ذكرت ما قلته تفقها والحديث المذكور يعضده
تنبيه محل الذي قلته من الصرف إلى وجوه الكعبة إذا كان المال علم من حاله ذلك أو كانت عليه قرينة بذلك مثل كونه دراهم أو دنانير أما القناديل التي فيها والصفائح التي عليها فتبقى على حالها ولا يصرف منها شيء وقول عمر رضي الله عنه صفراء أو بيضاء يحتمل النوعين ولم ينقل إلينا صفتهما التي كانت ذلك الوقت وقد قيل إن أول من ذهب البيت في الإسلام الوليد بن عبد الملك وذلك لا ينفي أن يكون ذهب في الجاهلية وبقي إلى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويقال إن الذي عمله الوليد بن عبد الملك على بابها صفائح والميزاب وعلى الأساطين التي في بطنها والأركان ستة وثلاثون ألف دينار
وفي خلافه الأمين زيد عليها
____________________
(1/268)
ثمانية عشر ألف دينار
وأول من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك ولما عمل الوليد ذلك كانت أئمة الإسلام من التابعين موجودين وبقايا الصحابة ولم ينقل لنا عن أحد منهم أنه أنكر ذلك
ثم جميع علماء الإسلام والصالحون وسائر المسلمين يحجون ويبصرون ذلك ولا ينكرون على ممر الأعصار
وقال الرافعي في كتاب النذر ستر الكعبة وتطييبها من القربات فإن الناس اعتادوهما على ممر الأعصار ولم يبد من أحد نكير ولا فرق بين الحرير وغيره وإنما ورد تحريم لبسه في حق الرجال وذكرنا في باب الزكاة أن الأظهر أنه لا يجوز تحلية الكعبة بالذهب والفضة وتعليق قناديلهما وكان الفرق استمرار الخلق على ذلك دون هذا فلو نذر ستر الكعبة وتطييبها صح نذره وهذا الذي قاله الرافعي في ستر الكعبة وتطييبها صحيح وأما الذي ذكرناه في باب الزكاة من أن الأظهر أنه لا يجوز تحلية الكعبة بالذهب والفضة
وقال أيضا في باب الزكاة هل يجوز تحلية المصحف بالفضة وجهان أحدهما لا كالأواني وأظهرهما نعم وبه قال أبو حنيفة رحمه الله إكراما للمصحف
وقال في سير الواقدي ما يدل على حظرها
وفي القديم والجديد حرملة ما يدل على الجواز
وفي تحليته بالذهب ثلاثة أوجه أحدها الجواز إكراما وبه قال أبو حنيفة والثاني المنع إذ ورد في الخبر ذمها والثالث إن كان للمرأة يجوز وإن كان للرجل لا يجوز وكلام الصيدلاني والأكثرين إلى هذا أميل وذكر بعضهم أنه يجوز تحلية نفس المصحف دون علاقته المنفصلة والأظهر التسوية وأما سائر الكتب فقال الغزالي لا يجوز وفي تحلية الكعبة والمساجد بالذهب والفضة وتعليق قناديلهما فيها وجهان مرويان في الحاوي وغيره أحدهما الجواز تعظيما كما في المصحف وكما يجوز ستر الكعبة بالديباج وأظهرهما المنع ويحكى عن أبي إسحاق إذا لم ينقل ذلك عن فعل السلف وحكم الزكاة مبني على الوجهين نعم لو جعل المتخذ وقفا فلا زكاة فيه بحال
انتهى ما ذكره الرافعي رحمه الله
فأما المصحف فمن قال بالمنع فيه إما مطلقا وإما للرجل فلعل مأخذه أن القارئ فيه والحامل له مستعمل للذهب والفضة التي فيه نزلا يأتي هذا المعنى في الكعبة ولو فرض مصحف لا ينظر فيه رجل ولا امرأة فذلك نادر ولم يوضع المصحف لذلك ولكن لينتفع به فلا يلزم من جريان الخلاف في المصحف جريانه في الكعبة وإن كان المصحف أفضل للفرق الذي ذكرناه وأما التسوية بين الكعبة والمساجد فلا ينبغي لأن للكعبة من التعظيم ما ليس للمسجد ألا ترى أن ستر الكعبة بالحرير وغيره مجمع عليه وفي ستر المساجد خلاف فحينئذ الخلاف في الكعبة
____________________
(1/269)
مشكل وترجيح المنع فيها أشكل وكيف يكون ذلك وقد فعل في صدر هذه الأمة وقد تولى عمر بن عبد العزيز عمارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عن الوليد وذهب سقفه وإن قيل إن ذلك امتثال أمر الوليد
فأقول إن الوليد وأمثاله من الملوك إنما تصعب مخالفتهم فيما لهم فيه غرض يتعلق بملكهم ونحوه أما مثل هذا وفيه توفير عليهم في أموالهم فلا تصعب مراجعتهم فيه فسكوت عمر بن عبد العزيز وأمثاله وأكبر منه مثل سعيد بن المسيب وبقية فقهاء المدينة وغيرها دليل لجواز ذلك بل أقول قد ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة بعد ذلك وأراد أن يزيل ما في جامع بني أمية من الذهب فقيل له إنه لا يتحصل منه شيء يقوم بأجرة حله فتركه والصفائح التي على الكعبة يتحصل منها شيء كثير فلو كان فعلها حراما لأزالها في خلافته لأنه إمام هدى فلما سكت عنها وتركها وجب القطع بجوازها ومعه جميع الناس الذين يحجون كل عام ويرونها فالقول بالمنع فيها عجيب جدا على أنه قل من تعرض لذكر هذا الحكم فيها أعني الكعبة بخصوصها ورأيتها أيضا في كتب المالكية في الذخيرة القرافية وليس في كلامه تصريح بالتحريم
وهذا الذي قلته كله في تحلية الكعبة بخصوصها بصفائح الذهب والفضة ونحوها فليضبط ذلك ولا يتعدى ولا أمنع من جريان الخلاف في التمويه والزخرفة فيها لأن التمويه يزيل مالية النقدين اللذين هما قيم الأشياء وتضييق النقدين محظور لتضييقه المعاش وإغلائه الأسعار وإفساده المالية ولا أمنع من جريان الخلاف فيه أيضا في سائر المساجد في القسمين جميعا التمويه والتحلية على أن القاضي حسينا جزم بحل تحلية المسجد بالقناديل من الذهب ونحوهما وأن حكمها حكم الحلي المباح وهذا أرجح مما قاله الرافعي لأنه ليس على تحريمها دليل والحرام من الذهب إنما هو استعمال الذكور له والأكل والشرب ونحوهما من الاستعمال من أوانيه وليس في تحلية المسجد بالقناديل الذهبية ونحوها شيء من ذلك وقد قال الغزالي في الفتاوى الذي يتبين لي أن من كتب القرآن بالذهب فقد أحسن ولا زكاة فيه عليه فلم يثبت في الذهب إلا تحريمه على ذكور الأمة فيما ينسب إلى الذكور وهذا لا ينسب إلى الذكور فيبقى على أصل الحل ما لم ينته إلى الإسراف فإن كل ذلك احترام وليس فيه ما ينسب إلى الذكور حتى يحكم بالتحريم ولست أقول هذا عن رأي مجرد لكني رأيت في كلام بعض الأصحاب ما دل على جوازه
هذا كلام الغزالي في الكتابة بالذهب وفي ذلك ما ذكرناه من تضييق النقدين لزوال مالية الذهب بالكلية بخلاف التحلية بذهب باق
فقد ظهر بهذا أن تحلية الكعبة
____________________
(1/270)
بالذهب والفضة جائز والمنع منه بعيد شاذ غريب في المذاهب كلها قل من ذكره منهم ولا وجه له ولا دليل يعضده وأما سترها بالحرير وغيره فمجمع عليه
وأما قول أبي بكر الشامي من أصحابنا القياس أنه لا يجوز فليس بصحيح وأي قياس يقتضي ذلك والقياس إنما يكون على منصوص من جهة الشرع ولم ينص الشرع على شيء يقاس عليه ذلك وأما قول الشامي المذكور إنما تركنا ذلك لأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحدا من الصحابة أنكر ذلك فيكفي ذلك حجة عليه وقد كان عمر رضي الله عنه يكسوها من بيت المال وذلك من عمر دليل على وجوب كسوتها لأنه لا يصرف مال بيت المال إلا إلى واجب
وليتنبه هنا لفائدة وهي أن الكعبة بناها إبراهيم عليه أفضل الصلاة والسلام ولم تكن تكسى من زمانه إلى زمان تبع اليماني فهو أول من كساها على الصحيح وقيل إن إسماعيل كساها ففي تلك المدد لا نقول إن كسوتها كانت واجبة لأنها لو كانت واجبة لما ترك الأنبياء عليهم السلام ولكن لما كساها تبع وكان من الأفعال الحسنة واستمر ذلك كان شعارا لها وصار حقا لها وقربة وواجبا لئلا يكون في إزالته تنقيص من حرمتها فيقاس عليه إزالة ما فيها والعياذ بالله من صفائح الذهب والرخام ونحوه ونقول إنه تحرم إزالته ولا يمتنع أن يكون ابتداء الشيء غير واجب واستدامته واجبة ومرادي وجوب سترها دائما لإبقاء كل سترة دائما وتفصيل القول في ذلك أن السترة التي تكساها من بيت المال تصير مستحقة لها بكسوتها فلا يجوز نزعها للإمام ولا لغيره حتى تأتي كسوة أخرى فتلك الكسوة القديمة ما يكون حكمها قال ابن عبدان من أصحابنا لا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا نقلها ولا وضع شيء منها بين أوراق المصحف ومن حمل من ذلك شيئا لزمه رده خلاف ما يتوهمه العامة ويشترونه من بني شيبة وحكى الرافعي ذلك ولم يعترض عليه
وقال ابن القاص من أصحابنا لا يجوز بيع كسوة الكعبة
وقال الحليمي لا ينبغي أن يؤخذ من كسوة الكعبة شيء
وقال ابن الصلاح الأمر فيها إلى الإمام يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعا وعطاء واحتج بما روى الأزرقي أن عمر كان ينزع كسوة البيت كل سنة فيوزعها على الحاج
قال النووي وهذا حسن
وعن ابن عباس وعائشة قالا تباع كسوتها ويجعل ثمنها في سبيل الله والمساكين وابن السبيل
قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة لا بأس أن يلبس كسوتها من صار إليه من حائض وجنب وغيرهما
وهذا كله فيما إذا كانت من بيت المال فلو كانت موقوفة فينبغي أن لا تزال عن الوقف وتبقى وإنما
____________________
(1/271)
اختلف الفقهاء فيها على ما ذكرناه لأن العرف فيها ذلك ولا معنى لإبقائها بعد نزعها وهي غير موقوفة أما الذهب الصفائح والقناديل ونحوها مما يقصد بقاؤه ولا يتلف فلا يأتي ذلك فيه بلا خلاف بل يبقى وقد قالوا في الطيب إنه لا يجوز أخذ شيء منه لا للتبرك ولا لغيره ومن أخذ شيئا منه لزمه رده ولم يذكروا في ذلك خلافا فإذا كان في الطيب فما ظنك بالذهب والفضة قالوا وإذا أراد أن يأخذ شيئا من الطيب للتبرك فطريقه أن يأتي بطيب من عنده فيمسحها به ثم يأخذه والذي استحسنه النووي في الكسوة لا بأس به وكذا ما نقل عن ابن عباس وعائشة وأم سلمة ولا بأس بتفويض ذلك إلى بني شيبة فإنهم حجبتها ولهم اختصاص بها فإن أخذوه لأنفسهم أو لغيرهم لم أر به بأسا لاقتضاء العرف ذلك وكونهم من مصالح الكعبة
وأما لو أراد الإمام أخذها وجعلها من جملة أموال بيت المال كما اقتضاه إطلاق ابن الصلاح فلا وجه لذلك أصلا ولكن له ولاية التفرقة على من يختص بالتفرقة وبنو شيبة قائمون مقامه
هذا كله في الكعبة شرفها الله تعالى أما غيرها من المساجد فلا ينتهي إليها فلا يبعد جريان الخلاف فيه والأرجح منه الجواز كما قاله القاضي حسين ولا أقول به إنه ينتهي إلى حد القربة ولهذا استمرار الناس على خلافه في الأكثر
وأما تعليل الرافعي بأن ذلك لم ينقل عن فعل السلف فعجيب لأن هذه العلة لا تقتضي التحريم وقصاراها أن تقتضي أنه ليس بسنة أو مكروه كراهية تنزيه أما التحريم فلا وليس لنا أن نجزم بمثل ذلك حتى يرد نهي من الشارع وإنما ورد قوله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها وليس هذا منه وقوله صلى الله عليه وسلم لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يحرم غير الأكل والشرب منهما لأن الحديث إنما اقتضى لفظه ذلك
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم وقاس أكثر العلماء غير الأكل والشرب عليهما وتكلموا في العلة المقتضية لقياس الأكل والشرب عليهما المقتضية لقياس غير الذهب والفضة عليهما فمنهم من قال التشبه بالأعاجم ورد عليه بأن هذه العلة تقتضي الكراهة لا التحريم واستند من علل بالعلة المذكورة إلى قوله في الحديث فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة
وتأملت فوجدت هذه العلة ليست لمشروعية التحريم بل هي تسلية للمخاطبين عن منعهم عنها وعلة لانتهائهم بمجازاتهم بها في الآخرة لبسط نفوسهم كما يقول القائل لا تأخذ هذا في هذا الوقت فإني أدخره لك
____________________
(1/272)
في وقت أنفع لك من الآن فلذلك لم تكن هذه علة التحريم ولو كانت علة منصوصة لم يجز تعديها
وقال بعضهم العلة السرف أو الخيلاء أو كسر قلوب الفقراء أو تضييق النقدين كما قدمنا الإشارة إليه وجميع هذه العلل بالنسبة إلى ما يستعمله الشخص كالأكل والشرب أما تحلية المساجد تعظيما لها فليس فيه شيء من هذه العلل وهكذا القناديل من الذهب والفضة لأن الشخص إذا اتخذها للمسجد لم يقصد استعمالها ولا أن يتزين بها هو ولا أحد من جهته والذي حرم اتخاذها على أصح الوجهين إنما حرم ذلك لأن النفس تدعو إلى الاستعمال المحرم وذلك إذا كانت له
وأما إذا جعلها للنفس فلا تدعو النفس إلى استعمال حرام أصلا كيف تحرم وهي لا تسمى أواني ورأيت الحنابلة قالوا بتحريمها للمسجد وجعلوها من الأواني أو مقيسة عليها وليس بصحيح لا هي أواني ولا في معنى الأواني وقد رأيت في القناديل شيئا آخر فإنه ورد في الحديث في أرواح الشهداء تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش ولعل من هنا جعلت القناديل في المساجد وإلا فكان يكفي مسرجة أو مسارج تنور كأنها محل النور فلما كان النور مطلوبا في المساجد للمصلين جعلت فيه
واعلم أن بين الكعبة والمساجد اشتراكا وافتراقا أما الاشتراك فلإطلاق المسجد على الكعبة ولأنها بيت الله تعالى والمساجد بيوت الله تعالى وأما الافتراق فالمساجد بنيت لذكر الله والصلاة فيها والكعبة بنيت للصلاة إليها واختلف العلماء في الصلاة فيها وقال صلى الله عليه وسلم لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد فالمسجد الحرام الذي تشد الرحال إليه يصح أن يقال إنه الكعبة
ويصح أن يقال إنه الذي حولها الذي هو محل الصلاة وفيه مقام إبراهيم قال الله تعالى واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فالحرم كله شريف ومكة أشرفه والحرم المحيط بالكعبة الذي هو مسجد أشرفها والكعبة أشرفه وإن كانت ليست محل الصلاة فهي من جهة التعظيم والتبجيل أزيد وهو من جهة إقامة الصلاة أزيد وتلك الجهة أعظم من هذه فلا جرم كانت في الحلية بالذهب والفضة أحق من المسجد فضعف الخلاف فيها وقوي فيه أعني في التحلية التي استمرت الأعصار عليها
وأما القناديل فالمقصود منها التنوير على المصلين وهم ليسوا داخل الكعبة فمن هذه الجهة كان المسجد بالقناديل أحق لكن في الكعبة ما ذكرناه من الرجحان في التبجيل والتعظيم فاعتدلا بالنسبة إلى القناديل فالتسوية بينهما في القناديل لا بأس بها
والأصح منه ما اخترناه الجواز وعلى ما قاله الرافعي التحريم ولا دليل له لأنها لا أواني ولا مشبهة للأواني
____________________
(1/273)
ولم يرد فيها نهي ولا فيها معنى ما نهي عنه لا في المساجد ولا في الكعبة فكان القول بتحريمها فيهما باطلا
ولما ذكر الرافعي وغيره الكعبة والمساجد أطلقوا ولا شك أن أفضل المساجد ثلاثة المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد بيت المقدس ومن يقول بجواز التحلية والقناديل الذهبية في سائر المساجد فلا شك أنه يقول بها في المساجد الثلاثة بطريق الأولى ومن يقول بالمنع في سائر المساجد لم يصرحوا في المساجد الثلاثة بشيء لكن إطلاقهم محتمل لها وعموم كلامهم يشملها
وكلامي هذا لا يختص بمسجد المدينة ومسجد بيت المقدس بل يعم الثلاثة لأن الكعبة غير المسجد المحيط بها فصار هو من جملة المساجد المعطوفة عليها
وينبغي أن يرتب الخلاف فيقال في سائر المساجد غير الثلاثة وجهان أصحهما الجواز كما قاله القاضي الحسين ومسجد بيت المقدس أولى بالجواز والمسجدان مسجد مكة ومسجد المدينة أولى من مسجد بيت المقدس بالجواز ثم المسجدان على الخلاف بين مالك وغيره فمالك يقول المدينة أفضل فيكون أولى بالجواز من مسجد مكة وغيره يقول مكة أفضل فقد يقول إن مسجدها أولى بالجواز وقد يقول إن مسجد المدينة ينضاف إليه مجاورة النبي صلى الله عليه وسلم وقصد تعظيمه بما في مسجده من الحلية والقناديل
وهذه كلها مباحث والمنقول ما قدمناه في مذهبنا وبه يتبين أن الفرق الذي ذكره الرافعي مستغنى عنه وأنه ليس بصحيح وأن قوله إن ستر الكعبة وتطييبها من القربات صحيح الآن بعد الشروع وأما قبل ذلك فقد قلنا إنه لم يكن واجبا وأن السترة صارت واجبة بعد أن لم تكن وأما كونها قربة من الأصل أو صارت قربة ففيه نظر
وأما الطيب فالظاهر أنه ليس بواجب بل قربة والظاهر أنه قربة من الأصل فيها وفي كل المساجد وإن كان فيها أعظم
هذا ما يتعلق بمذهبنا في اتخاذها من غير وقف فإن وقف المتخذ من ذلك من القناديل والصفائح ونحوها فقد قال القاضي الحسين والرافعي بأنه لا زكاة فيه
وأما قطع القاضي الحسين فلا يرد عليه شيء لأنه يقول بإباحتها ومقتضاه صحة وقفها وإذا صح وقفها فلا زكاة وأما الرافعي فقد رجح تحريمها ومقتضاه أنه لا يصح وقفها لهذا الغرض وإذا لم يصح وقفها تكون باقية على ملك مالكها وتكون زكاتها مبنية على الوجهين فيما إذا لم تكن موقوفة فلعل مراد الرافعي إذا وقفت على قصد صحيح أو وقفت وفرعنا على صحة وقفها هذا ما يتعلق بمذهبنا
وأما مذهب مالك رحمه الله ففي التهذيب من كتبهم ليس في حلية السيف والخاتم والمصحف زكاة
وفي النوادر لابن أبي زيد روى
____________________
(1/274)
ابن عبد الحكم عن ابن القاسم عن مالك إن كان ما في السيف والمصحف من الحلية تبعا له لا زكاة وفي كتاب ابن القرطبي يزكي ما حلى به ما خلا المصحف وسيف وخاتم وحلي النساء وأجزاء من القرآن وذكر غير ذلك وقال لا زكاة فيه ثم قال وما كان في جدار من ذهب أو فضة لو تكلف إخراجه أخرج منه بعد أجرة من يعمله شيء فليزكه وإن لم يخرج منه إلا قدر أجر عمله فلا شيء فيه
وفي النوادر عن مالك لا بأس أن يحلى المصحف بالفضة وذلك من العتبية من سماع أشهب وفيه ولقد نهيت عبد الصمد أن يكتب مصحفا بالذهب قال وينظر في قبر النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكشف ولم يعجبه أن يستر بالخيش ولينظر في موطإ القعنبي عن مالك في المساقاة ومثل ذلك أنه يباع المصحف وفيه الشيء من الحلي من الفضة والسيف وفيه مثل ذلك ولم تزل على هذا بيوع الناس بينهم يبيعونها ويبتاعونها جائزة بينهم
وقال القرافي في الذخيرة أما تحلية الكعبة والمساجد بالقناديل والعلائق والصفائح على الأبواب والجدر من الذهب والورق قال سحنون يزكيه الإمام كل عام كالعين المحبسة
وقال أبو الطاهر وحلية الحلي المحظور كالمعدومة والمباحة فيها ثلاثة أقوال أحدها يزكى كالمصكوك والثاني كالعرض إذا بيعت وجبت الزكاة حينئذ فيكمل بها النصاب هنا
والثالث يتخرج على القول بأن حلي الجواهر يجعل مكان العين فيكمل بها النصاب هنا وأما الحنفية فعند أبي حنيفة رحمه الله لا بأس بنقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب إذا كان من مال نفسه وكذا في سقف البيوت وتمويهها بماء الذهب وكرهه أبو يوسف وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله المصحف أولى بالجواز وكذا المسجد واختلف الحنفية هل نقش المسجد قربة أو لا والصحيح أنه ليس بقربة لكنه مباح فالذي تقتضيه قواعد أبي حنيفة رحمه الله أن تحلية المسجد وتعليق قناديل الذهب فيه جائز قال صاحب الكافي لا بأس بنقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب
وقال الوافي لا بأس يدل على أن المستحب غيره قال وأصحابنا جوزوا ذلك ولم يستحسنوه ومراده بأصحابهم الجميع فأبو يوسف ما يخالف في المسجد وإنما يخالف في البيوت
وقال القدوري في شرح مختصر الكرخي إن أبا حنيفة جوز تمويه السقوف بالذهب وأن أبا يوسف كره ذلك قال فعلى قول أبي حنيفة المصحف أولى بذلك وكذا المسجد وفي الكافي قيل يكره وقيل هو قربة لأن العباس زين المسجد الحرام في الجاهلية والإسلام وكسا عمر الكعبة وبنى داود صلوات الله عليه مسجد بيت المقدس من الرخام والمرمر ووضع فيه على رأس
____________________
(1/275)
القبة كبريتا أحمر يضيء اثني عشر ميلا وزينة مسجد دمشق شيء عظيم وفي ذلك ترغيب الناس في الجماعة وتعظيم بيت الله وكونه من أشراط الساعة لا يدل على قبحه على أن المراد تزيين المساجد وتضييع الصلوات
هذا كلام صاحب الكافي من الحنفية قال فإن اجتمعت أموال المسجد وخاف الضياع بطمع الظلمة فيها فلا بأس به حينئذ يعني من مال المسجد وفي غير هذه الحالة لا يباح من مال المسجد وإنما يباح من مال نفسه وفي قنية المنية من كتبهم لو اشترى من مال المسجد شمعا في رمضان يضمن وهذا محمول على ما إذا لم يكن بشرط الواقف ولا جرت به عادة ذلك الوقف
وقال السروجي في الغاية شرح الهداية ولا بأس بأن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب وكذا تحلية المصحف بالذهب والفضة وقيل هو قربة وفي الجامع الصغير لقاضي خان منهم من استحسن ذلك ومنهم من كرهه
قال الأزرقي أول من كسا الكعبة تبع ثم الناس في الجاهلية ثم كساها النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية وكان المأمون يكسوها ثلاث مرات بالديباج الأحمر يوم التروية والقباطي أول رجب والديباج الأبيض في سابع عشر من رمضان
وأما تذهيب الكعبة فإن الوليد بن عبد الملك بعث إلى خالد بن عبد الله وإلى مكة ستة وثلاثين ألف دينار وجعلها على بابها والميزاب والأساطين والأركان وذكر في الرعاية عن أحمد أن المسجد يصان عن الزخرفة وهم محجوجون بما ذكرناه من إجماع المسلمين في الكعبة
ذكر ذلك صاحب الطراز من المالكية
وأما الحنابلة ففي المغني من كتبهم لا يجوز تحلية المصحف ولا المحاريب وقناديل من الذهب والفضة لأنها بمنزلة الآنية وإن وقفها على المسجد أو نحوه لم يصح وتكون بمنزلة الصدقة فتكسر وتصرف في مصلحة المسجد فأما قولهم إنها بمنزلة الآنية فليس بصحيح لما قدمناه وأما قولهم إنه إذا لم يصح وقفها تكون بمنزلة الصدقة فليس بصحيح لأن واقفها إنما خرج عنها على أن تكون وقفا دائما وله قصد في ذلك فإذا لم يصح ينبغي رجوعها إليه
فإن قلت قد قال المتولي من الشافعية لو وقف على تجصيص المسجد وتلوينه ونقشه هل يجوز على وجهين أحدهما يجوز لأن فيه تعظيم المسجد وإعزاز الدين والثاني لا لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر تزيين المساجد في أشراط الساعة وألحقه بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قلت أما كونه من أشراط الساعة فلا يدل على التحريم وأما كونه ألحقه بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالذي ورد لتزخرفنها ثم لا تعمرونها إلا قليلا فالمذموم عدم العمارة بالعبادة أو الجمع بينه
____________________
(1/276)
وبين الزخرفة أو الزخرفة الملهية عن الصلاة فهي المكروهة أما التجصيص ففيه تحسين للمساجد وقد فعله الصحابة عثمان رضي الله عنه فمن بعده ولا شك أن بناء المساجد من أفضل القرب وتحسينها من باب اختيار الأعمال الصالحة فهو صفة القربة وقد رآه المسلمون حسنا وقال عبد الله بن مسعود ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن فكل ذلك حسن ولا يكره منه إلا ما يشغل خواطر المصلين فلا شك أن يكره كراهة تنزيه لا تحريم
فصل هذا ما يتعلق بمكة شرفها الله تعالى فننتقل إلى المدينة الشريفة دار الهجرة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ونقول فيها المسجد والحجرة المعظمة أما المسجد فقد ذكرنا حكم المساجد في التحلية وتعليق القناديل الذهب والفضة فيها وقلنا إن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك من سائر المساجد التي لا تشد إليها الرحال ومن مسجد بيت المقدس وإن كانت الرحال تشد إليه ومن مسجد مكة عند مالك رضي الله عنه بلا إشكال
وقلنا إنه يحتمل أن يقال بأولويته على مذهب من يقول بتفضيل مكة أيضا لما يختص به هذا المسجد الشريف من مجاورة النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك كان عمر بن الخطاب يمنع من رفع الصوت فيه ولم يكن يفعل ذلك في مسجد مكة وما ذاك إلا للأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوب معاملته الآن كما كان يجب أن يعامل به لما كان بين أظهرنا وكانت عائشة رضي الله عنها تسمع الوتد يوتد والمسمار يضرب في البيوت المطيفة به فتقول لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فمن هذا الوجه يستحق من التعظيم والتوقير ما لا يستحقه غيره وقد قال صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فعند مالك يكون أفضل من المسجد الحرام بما دون الألف وعندنا وعند الحنفية والحنابلة الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة فيه
واختلفوا إذا وسع عما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم هل تثبت هذه الفضيلة له أو تختص بالقدر الذي كان في زمنه صلى الله عليه وسلم وممن رأى الاختصاص النووي رضي الله عنه للإشارة إليه بقوله مسجدي هذا ورأى جماعة عدم الاختصاص وأنه لو وسع مهما وسع فهو مسجده كما في مسجد مكة إذا وسع فإن تلك الفضيلة ثابتة له
وقد قيل إن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان في حياته سبعين ذراعا في ستين ذراعا ولم يزد أبو بكر فيه شيئا وزاد فيه عمر ولم يغير صفة بنائه ثم زاد فيه عثمان
____________________
(1/277)
زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والفصة وهي الجص وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج ثم زاد فيه الوليد في ولاية عمر بن عبد العزيز على المدينة ومباشرته وعمل سقفه بالساج وماء الذهب وكان الوليد أرسل إلى ملك الروم أني أريد أن أبني مسجد نبينا فأرسل إليه أربعين ألف دينار وأربعين روميا وأربعين قبطيا عمالا وشيئا من آلات العمارة وعمر بن عبد العزيز أول من عمل له محرابا وشرفا في سنة إحدى وسبعين ثم وسعه المهدي على ما هو اليوم في المقدار وإن تغير بناؤه
فصل أما الحجرة الشريفة المعظمة فتعليق القناديل الذهب فيها أمر معتاد من زمان ولا شك أنها أولى بذلك من غيرها والذين ذكروا الخلاف في المساجد لم يذكروها ولا تعرضوا لها كما لم يتعرضوا لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وكم من عالم وصالح من أقطار الأرض قد أتاها للزيارة ولم يحصل من أحد إنكار للقناديل الذهب التي هناك
فهذا وحده كاف في العلم بالجواز مع الأدلة التي قدمناها عليه مع استقراء الأدلة الشرعية فلم يوجد فيها ما يدل على المنع منه فنحن نقطع بجواز ذلك ومن منع أو رام إثبات خلاف فيه فليثبته والمسجد وإن فضلت الصلاة فيه فالحجرة لها فضل آخر مختص بها يزيد شرفها به فحكم أحدهما غير حكم الآخر والحجرة الشريفة هي مكان الدفن الشريف في بيت عائشة وما حوله ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم وسع وأدخلت حجر نسائه التسع فيه وحجرة حفصة هي الموضع الذي يقف فيه الناس اليوم للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وكانت مجاورة لحجرة عائشة التي دفن فيها صلى الله عليه وسلم في بيتها وتلك الحجر كلها دخلت في المسجد فأما ما كان غير بيت عائشة رضي الله عنها فكان للنسوة الثمان به اختصاص ولهن في تلك البيوت حق السكنى في حياتهن فيحتمل أن يقال إن البيوت التسعة كانت للنساء التسع لقوله تعالى واذكرن ما يتلى في بيوتكن ويحتمل أن يقال إنها للنبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى بيوت النبي وهذا هو الأولى ثم بعد هذا هل تكون بعده صدقة ويكون لهن فيها حق السكن أو كيف يكون الحال والظاهر الأول ويحتمل أن يقال إنها لهن بعده وتكون قد دخلت بالشراء والوقف في المسجد كغيرها من الأماكن وإن كان الأول فتكون قد أدخلت في المسجد وإن لم يكن لها حكمه وحكم صدقته صلى الله عليه وسلم جار عليها ومن جملة صدقته انتفاع المسلمين بالصلاة والجلوس فيها هذا كله في غير المدفن الشريف أما المدفن الشريف
____________________
(1/278)
فلا يشمله حكم المسجد بل هو أشرف من المسجد وأشرف من مسجد مكة وأشرف من كل البقاع كما حكى القاضي عياض الإجماع على ذلك أن الموضع الذي ضم أعضاء النبي صلى الله عليه وسلم لا خلاف في كونه أفضل وأنه مستثنى من قول الشافعية والحنفية والحنابلة وغيرهم أن مكة أفضل من المدينة ونظم بعضهم في ذلك جزم الجميع بأن خير الأرض ما قد أحاط ذات المصطفى وحواها ونعم لقد صدقوا بساكنها علت كالنفس حين زكت زكا مأواها ورأيت جماعة يستشكلون نقل هذا الإجماع
وقال لي قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي طالعت في مذهبنا خمسين تصنيفا فلم أجد فيها تعرضا لذلك وقال لي ذكر الشيخ عز الدين بن عبد السلام لنا ولكم أدلة في تفضيل مكة على المدينة وذكرت أنا أدلة أخرى والأدلة التي قال إن الشيخ عز الدين ذكرها وقفت عليها ووقفت على ما ذكره الشيخ عز الدين في تفضيل بعض الأماكن على بعض وقال إن الأماكن والأزمان كلها متساوية ويفضلان بما يقع فيهما لا بصفات قائمة بهما ويرجع تفضيلهما إلى ما ينيل الله العباد فيهما من فضله ومنه وكرمه وأن التفضيل الذي فيهما أن الله يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين فيهما فكذا قال الشيخ عز الدين رحمه الله
وأنا أقول قد يكون لذلك وقد يكون لأمر آخر فيهما وإن لم يكن عمل فإن قبر النبي صلى الله عليه وسلم يتنزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة وله عند الله من المحبة له ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه وليس لمكان غيره فكيف لا يكون أفضل الأمكنة وليس محل عمل لنا لأنه ليس مسجدا ولا له حكم المساجد بل هو مستحق للنبي صلى الله عليه وسلم فهذا معنى غير تضعيف الأعمال فيه وقد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم حي وأعماله فيه مضاعفة أكثر من كل أحد فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن فافهم هذا ينشرح صدرك لما قاله القاضي عياض من تفضيل ما ضم أعضاءه صلى الله عليه وسلم باعتبارين أحدهما ما قيل إن كل أحد يدفن بالموضع الذي خلق منه والثاني تنزل الرحمة والبركات عليه وإقبال الله تعالى ولو سلمنا أن الفضل ليس للمكان لذاته لكن لأجل من حل فيه إذا عرفت ذلك فهذا المكان له شرف على جميع المساجد وعلى الكعبة ولا يلزم من منع تعليق قناديل الذهب في المساجد والكعبة المنع من تعليقها هنا ولم نر أحدا قال بالمنع هنا وكما أن العرش أفضل الأماكن العلوية وحوله قناديل
كذلك هذا المكان أفضل الأماكن الأرضية فيناسب أن يكون فيه قناديل
____________________
(1/279)
وينبغي أن تكون من أشرف الجواهر كما أن مكانها أشرف الأماكن فقليل في حقها الذهب والياقوت وليس المعنى المقتضي للتحريم موجودا هنا فزالت شبهة المنع والقنديل الذهب ملك لصاحبه يتصرف فيه بما شاء فإن وقفه هناك إكراما لذلك المكان وتعظيما صح وقفه ولا زكاة فيه وإن لم يقفه واقتصر على إهدائه صح أيضا وخرج عن ملكه بقبض من صح قبضه لذلك وصار مستحقا لذلك المكان كما يصير المهدى للكعبة مستحقا لها وكذلك المنذور لهذا المكان كالمنذور للكعبة وقد يزاد هنا فيقال إنه مستحق النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم حي وإنما يحكم بانقطاع ملكه بموته عما كان في ملكه وجعله صدقة بعده أما هذا النوع فلا يمتنع ملكه له وهو الذي في أذهان كثير من الناس حيث يقولون هذا للنبي صلى الله عليه وسلم هذا إذا لم يجعله وقفا وإن جعله وقفا فالموقوف عليه كذلك إما نفس الحجرة الشريفة كالكعبة وإما النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على ما قلناه
وقد يقول قائل الوقف حيث صح لا بد أن يكون لمنفعة مقصودة ومنفعة تزيين ذلك المكان به غير مقصودة للشرع وتذهب منفعة ذلك الذهب بالكلية لأنه لا غاية له يصير إليها وإذا قامت القيامة زالت الزينة فنقول منفعته في الدنيا الزينة والتعظيم لما هو منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبقاء ذكر المهدي له فيذكر به وذلك مقصود لسان صدق في الآخرين وتركنا عليه في الآخرين وإذا قامت القيامة تحدثوا به وربما يجيء ذلك الذهب بعينه فإن الله تعالى مالك الدنيا والآخرة وما فيهما وهو يحلي أهل الجنتين بماء الذهب والجنتين بالفضة فربما يأتي بذلك الذهب والفضة بعينهما فيحلي بهما صاحبهما جزاء له أو أحدا من حشمه ومن عنده فيسر بذلك أو يسر بمشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم له في تلك الدار وهذه نكتة لطيفة
وحيث قلنا إنه ملك الحجرة فلا زكاة فيه أيضا كما لا زكاة في مال الكعبة وإن كان مملوكا لأن الزكاة وإن تعلقت بالمال فلا بد من ملك مالك معين لها إما مكلف وإما ينتهي للتكليف في دار التكليف
وأما ما قدمناه عن سحنون من المالكية في أن الإمام يزكيه كل عام كالعين المحبسة فعجيب
فصل ممن صنف في أخبار المدينة أبو الحسين يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله الهاشمي فقال في هذا الكتاب حدثنا هارون بن موسى الفروي ثنا محمد بن يحيى عن عبد الرحمن بن سعد عن عبد الله بن محمد بن عمار عن أبيه عن جده قال أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمجمرة من فضة فيها تماثيل من
____________________
(1/280)
الشام فدفعها إلى سعد جد المؤذنين فقال اجمر بها في الجمعة وفي شهر رمضان قال فكان سعد يجمر بها في الجمعة وكانت توضع بين يدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى قدم إبراهيم بن يحيى بن محمد بن العباس المدينة واليا سنة ستين ومائة فأمر بها فغيرت وجعلت صلاحا وهي اليوم بيد مولى للمؤذنين قال أبو غسان هم دفعوها إليه
عبد الله بن محمد بن عمار بن سعد القرظ ضعفه ابن معين وعبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ ضعفه ابن معين أيضا ومحمد بن عمار حسن له الترمذي فلو سلم ممن دونه كان جيدا والمجمرة مما يستعمل وقال الفقهاء إنها إذا احتوى عليها حرام
ويقتضي اشتراطهم الاحتواء أن هذا الصنيع غير حرام لكن العرف دل أن ذلك استعمال فإما أن يكون الحديث ضعيفا وإما أن يكون احتمل ذلك لأجل المسجد تعظيما له فتكون القناديل بطريق الأولى إذ لا استعمال فيها
فصل إذا كانت القناديل في الحجرة الشريفة المعظمة فلا حق فيها لأحد من الفقراء كما لا حق لهم في مال الكعبة وكذا لا حق فيها لما يحتاج إليه من عمارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وحرمه الخارج عن الحجرة كما لا حق فيها للفقراء لما ذكرناه من المغايرة بين الحجرة والمسجد فلا يكون الذي لأحدهما مستحقا للآخر ولا له حق فيه وأما الحجرة بعينها لو فرض احتياجها إلى عمارة أو نحوها هل يجوز أن يصرف من القناديل فيها الذي يظهر المنع وليست القناديل كالمال المصكوك المعد للصرف الذي في الكعبة لأن ذاك إنما أعد للصرف وأما القناديل فما أعدت للصرف وإنما أعدت للبقاء وليس قصد صاحبها الذي أتى بها إلا ذلك سواء أوقفها أم اقتصر على إهدائها فتبقى مستحقة لتلك المنفعة الخاصة وهي كونها معلقة يتزين بها والعمارة التي تحتاج إليها الحجرة أو الحرم إن كان هناك أوقاف تعمر منها وإلا فيقوم بها المسلمون من أموالهم طيبة قلوبهم فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم والذي قالته الحنابلة إنه إذا بطل وقفها يصرف إلى مصالحه ليس بصحيح قطعا والذي قاله أصحابنا من أن الموهوب للمسجد يصرف في مصالحه لا يأتي هنا لأن ذاك فيما لا يقصد واهبه جهة معينة أما لو قصد جهة معينة فيتعين كما قالوا في الإهداء لرتاج الكعبة أو لتطييبها إنه يتعين صرفه في تلك الجهة وليس هذا كما إذا وهب لرجل درهما ليصرفه في شيء عينه حتى يأتي فيه خلاف لأن ذاك في الهبة لخصوص عقدها وكونها لمعين آدمي يقضي ذلك وهنا الإهداء لما يقصد من الجهات فأي جهة قصدها تعينت وإن لم يعدل عنها
____________________
(1/281)
282 فصل بعد تعليق هذه القناديل في الحجرة وصيرورتها لها بوقف أو ملك بإهداء أو نذر أو هبة لا يجوز إزالتها لأنها وإن لم يكن تعليقها في الأول واجبا ولا قربة صارت شعارا ويحصل بسبب إزالتها تنقيص فيجب إدامتها كما قدمناه في كسوة الكعبة استدامتها واجبة وابتداؤها غير واجب فلو لم يحصل وقف ولا تمليك ولكن أحضرها صاحبها وعلقها هناك مع بقائها على ملكه بقصد تعظيم المكان وانتسابه إليه فينبغي له أن لا يزيلها ما أمكنه عدم إزالتها لأن الشعار الحاصل بها والنقص الحاصل بزوالها موجود هناك ما هو موجود في التي خرج عنها فيخشى عليه من تغييرها أو تغيير عقده مع الله تعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم هذا في الباطن وإنما يمكن في الظاهر منها إذا علم منه بأن كانت باقية في يده أو أشهد عليه بذلك عند تسليمها وأما إذا لم يعلم وأحضرها لناظر المكان أو القيم عليه وتسلمها منه كما عادة النذور والهدايا ثم جاء يطلبها زاعما أنه لم يكن خرج عنها فلا يقبل قوله بعد ما اقتضاه فعله وقرائنه من الإهداء كما لو أهدى هدية وأقبضها ثم جاء يزعم أنه لم يكن قصد التمليك فإن الفعل الظاهر الدال عادة وعرفا مع القرائن كاللفظ الصريح
فصل سبب كلامي في ذلك أنني سألت عن بيع القناديل الذهب التي بالحجرة الشريفة المعظمة وأن بعض الناس قصد بيعها لعمارة الحرم الشريف النبوي على ساكنه أفضل الصلاة والسلام والرحمة فأنكرته واستقبحته أما إنكاره فمن جهة الفقه لأن هذه القناديل وإن كانت وقفا صحيحا لم يصح بيعها ومن يقول من الحنابلة ببيع الأوقاف عند خرابها أو من الحنفية القائلين بقول أبي يوسف في الاستبدال إنما يقول بذلك إذا كان يحصل به غرض الواقف بقدر الإمكان
وأما هنا فقصد الواقف إبقاؤها لمنفعة خاصة وهي التزيين فبيعها للعمارة مفوت لهذا الغرض وإن كانت ملكا للحجرة كالملك للمسجد فكذلك لما قدمناه أن قصد الآتي بها ادخارها لهذه الجهة وإن جهل حالها فيحمل على إحدى هاتين الجهتين فيمتنع البيع أيضا وإن عرف لها مالك معين فأمرها له وليس لنا تصرف فيها وإن علم أنها ملك لمن لا ترجى معرفته فيكون لبيت المال ومعاذ الله ليس ذلك واقعا وإنما ذكرناه لضرورة التقسيم حتى يعلم أنه لا يتسلط على بيعها للعمارة بوجه من الوجوه فلم يكن في الفقه وجه من الوجوه يقتضي ذلك
ولو فرضنا أن هذه مما يجب الزكاة فيه ففي هذه المدد قد ملك
____________________
(1/282)
الفقراء في كل سنة ربع العشر فيكون قد استغرقت الزكاة الأقل من نصاب فيجب صرفها إليهم ولا تباع
فعلى كل تقدير لا مساغ للبيع وهذا هو وجه إنكاري إياها
وأما الاستقباح فلما يبلغ الملوك في أقطار الأرض أنا بعنا قناديل نبينا لعمارة حرمه ونحن نفديه بأنفسنا فضلا عن أموالنا
وما برحت الملوك يعمرون هذا الحرم الشريف ويفتخرون بذلك وقد ذكرنا عمارة الوليد بن عبد الملك له ثم المهدي ثم المتوكل وأزر الحجرة بالرخام ثم جدد التأزير وزير ابن زنكي في خلافة المقتفي وعمل لها شباكا من خشب الصندل والأبنوس وكانت الستائر الحرير تأتي إليه من الخلفاء وفي ليلة الجمعة مستهل شهر رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة وقعت نار في المدينة فاحترق المنبر وبعض المسجد وبعض سقف الحجرة فكتبوا إلى الخليفة المستعصم فأرسل بصناع وآلات من بغداد وابتدأ بعمارته أول سنة خمس وخمسين وستمائة ولم يجسروا على إزالة ما وقع من السقوف على القبور حتى يطالعوا المستعصم
واشتغل المستعصم بالتتار فسقفوا الحجرة ووصل من مصر آلات العمارة في دولة المنصور علي بن المعز أيبك ووصل من اليمن من ملكها شمس الدين المظفر يوسف بن المنصور عمر بن علي بن رسول آلات وأخشاب وتسلطن بمصر المظفر قطز واسمه الحقيقي محمود بن ممدود ابن أخت جلال الدين خوارزم شاه وأبوه ابن عمه وقع عليه السبي فبيع بدمشق وسمي قطز واشتغل بالتتار حتى كسرهم في عين جالوت ومات في دون السنة وتسلطن الملك الظاهر وكان صاحب اليمن أرسل منبرا من صندل فقلعه الملك الظاهر وأرسل منبرا من جهته وكمل عمارته
والملوك يفعلون ذلك افتخارا به والله ورسوله غني عنهم نفس النبي لدي أعلى الأنفس فاتبعه في كل النوائب وائتس واترك حظوظ النفس عنك وقل لها لا ترغبي عن نفس هذا الأنفس فردي الردى واحميه كل ملمة فلقد سعدت إذا خصصت بأبؤس إن تقتلي يصعد بروحك في العلى بيد الكرام على ثياب السندس وترين ما ترضين من كل المنى في مقعد عند المليك مقدس أو ترجعي بغنيمة تحظي بها وبذخر أجر ترتجيه وترأسي ما أنت حتى لا تكوني فدية لمحمد في كل هول ملبس ما في حياتك بعده خير ولا إن مات تخلفه جميع الأنفس فمحمد بحياته يهدى الأنا م وتنمحي سدف الظلام الحندس ويقوم دين الله أبيض طاهرا في غيظ إبليس اللعين الأنحس
____________________
(1/283)
أعظم بنفس محمد أن تقتدي أهون بنفسك يا أخي واخسس نظمت هذه الأبيات في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة في كلام تفسير قوله تعالى ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه والآن زدت فيها لهذا المعنى العارض ولقبره أغلى البقاع وخيرها ذاك على التقوى أجل مؤسس فبطيبة طاب الثرى ونزيلها أزكى قرى في كل واد أقدس أفدي عمارتها ومسجدها بما أحوي وبي كل البرية تأتسي إني يهون علي بيع حشاشتي في ذاك بالثمن الأقل الأبخس لو جاز بيع النفس بعت وكان لي فخر بذاك الرق أشرف ملبس صلى عليه الله كل دقيقة عدد الخلائق ناطق أو أخرس
فصل الكعبة والحجرة الشريفة قد علم حالهما الأول بالنص للحديث الوارد الذي قدمناه والثانية بالإلحاق به وبالقطع بعظمتهما وفي كثير من البلاد غيرهما أماكن ينذر لهما ويهدى إليها وقد يسأل عن حكمها ويقع النظر في أنها هل تلحق بهذين المكانين وإن لم تبلغ مرتبتهما أو لا وقد ذكر الرافعي عن صاحب التهذيب وغيره أنه لو نذر أن يتصدق بكذا على أهل بلد عينه يجب أن يتصدق به عليهم قال ومن هذا القبيل ما ينذر بعثه إلى القبر المعروف بجرجان فإن ما يجتمع منه على ما يحكى يقسم على جماعة معلومين وهذا محمول على أن العرف اقتضى ذلك فنزل النذر عليه ولا شك أنه إذا كان عرف حمل عليه وإن لم يكن عرف فيظهر أن يجري فيه خلاف وجهين أحدهما لا يصح النذر لأنه لم يشهد له الشرع بخلاف الكعبة والحجرة الشريفة
والثاني يصح إذا كان مشهورا بالخير وعلى هذا ينبغي أن يصرف في مصالحه الخاصة به ولا يتعداها والله أعلم
والأقرب عندي بطلان النذر لما سوى الكعبة والحجرة الشريفة والمساجد الثلاثة لعدم شهادة الشرع لها وإن من خرج من ماله عن شيء لها واقتضى العرف صرفه في جهة من جهاتها صرف إليها واختصت به والله تعالى أعلم انتهى
مسألة في تأخير الرمي
أما الرعاة وأهل السقاية فلهم إذا رموا جمرة العقبة أن ينفروا ويدعوا المبيت بمنى ليالي التشريق ويدعوا رمي يوم ويقضوه في اليوم الذي يليه وهل هو قضاء أو أداء سيأتي
وهذا التأخير مقطوع بجوازه للعذر سواء قلنا في غير المعذور يتدارك أو لا
واتفق الشافعي والأصحاب على أن لهم أن يرموا اليوم
____________________
(1/284)
الأول من أيام التشريق ويتركوا الثاني وينفروا في الثالث فيرموا اليومين ثم لهم أن ينفروا فيه مع الناس على الأصح فلو لم ينفروا بل رجعوا إلى الرعي ناوين النفر وأقاموا بمنى رموا النفر الآخر بعد الزوال فإن غابت الشمس قبل أن يرموا أراقوا دما
وإن شاء الرعاة أن يرعوا نهارا ويرموا ليلا جاز نص عليه في الإملاء وهل لهم ترك يومين متواليين بأن ينفروا يوم النحر ويرموا في الثالث عن الثلاثة قال البغوي والرافعي وقطع ابن داود في شرح المختصر بالجواز وكلام الماوردي قريب منه والذي ينبغي أن يكون حكم الرعاء في ذلك كغيرهم على ما سيأتي فإن الرخصة لهم إنما وردت في يوم والبغوي إنما منع من ترك يومين لاعتقاده أنه قضاء وأما الرافعي فكان يجب أن ينبه على الخلاف في غيرهم ويكون الصحيح على مقتضى تصحيحه الجواز
ولو غربت الشمس والرعاء بمنى لم يجز لهم النفر بخلاف السقاة
هذا حكم المعذور وأما غير المعذور فالمبيت في حقهم يتعين ولهم النفر الأول إلا أن يتركوا المبيت ليلتي اليومين الأولين ورموا في الثاني وأرادوا النفر لم يمكنوا لأنهم لا عذر لهم ولا أتوا بمعظم الرمي فيمكنوا حتى يرموا الثالث ولو باتوا الليالي كلها ولكن أخروا رمي يوم أو يومين فإن خرجت أيام التشريق فات وإلا فإن كان ناسيا رمى متى ذكر ليلا أو نهارا نص عليه ونص في الإملاء على قولين إن كل جمرة في يومها فإذا غربت الشمس ولم يرم أراق دما وأصحهما عنده أن آخرها آخر أيام التشريق فلا تفوت منها واحدة فوتا يجب به دم حتى تنقضي أيام التشريق وكذلك قال الأصحاب الأصح أنه يتدارك
والأصح عند الأكثرين أنه إذا سوى كان التأخير عمدا أم سهوا هذا في رمي أيام التشريق
أما رمي يوم النحر فالأصح أنه كذلك وقيل لا يتدارك قطعا فعلى هذا ينقضي بغروب الشمس يوم النحر وقيل يمتد تلك الليلة
فإن قلنا قضاء فالتوزيع على الأيام مستحق وإن قلنا أداء فمستحب صرح به الغزالي وشرحه الرافعي بمعنى أن حكمه أيام منى في حكم الوقت الواحد وكل يوم للوقت المأمور به وقت اختيار كأوقات الاختيار للصلوات
ومقتضى هذا أنه يجوز تأخير رمي اليومين إلى الثالث بعذر وغير عذر
ويوافقه استدلال الماوردي كذلك بالأضاحي وما قدمناه عن ابن داود في الرعاء
وصرح الفوراني في غيرهم بجواز تأخير يوم لعذر وهو بعيد لأنه ليس لجواز التأخير مستند من جهة الشارع
وإذا قلنا بأن رمي يوم النحر يتدارك أداء وهو الصحيح كغيره فهل يجوز أيضا لم أر من صرح به
وأما تقديم يوم إلى يوم يجوزه الفوراني على قول الأداء ونقله
____________________
(1/285)
الإمام عن الأئمة وتبعه الغزالي
وقال الروياني الصحيح أنه لا يجوز
ومال الرافعي إليه وكلام الشافعي في الإملاء والبويطي فليكن هو الصحيح
وأما تقديم يومين فقال الماوردي إن اليوم الأول ليس وقتا لجميعها إجماعا
وهل له في اليوم الثاني رمي ما فاته في الأول قبل الزوال إذا قلنا بالأداء الأصح الجواز وإن قلنا بالقضاء فأولى ويجب الترتيب بين الرمي المتروك وبين رمي التدارك في أظهر القولين وإذا قلنا بالأداء في حق غير المعذور ففي الرعاء والسقاة أولى وإلا فوجهان
وكذلك إذا قلنا لا يجب الترتيب على غيرهم فعليهم وجهان والخلاف في وجوب التشريق أطلقه ولعله مخصوص برمي أيام التشريق أما رمي يوم النحر فنص الشافعي أنه إذا ذكره في أيام آخر أيام التشريق أجزأ عنه رميه ولا إعادة عليه ولم أر في كلام الأصحاب تصريحا بذلك فلو رمى الجمرات كلها عن اليوم قبل أن يرميها أمرا أجزأ إن لم يوجب الترتيب وإلا فالأصح الإجزاء أيضا ويقع عن القضاء والثاني لا يجزئه أصلا
وقال المتولي لما تكلم في الأداء والقضاء قال فيه طريقان أحدهما أنه على سبيل القضاء بدليل أنه لا يجوز له تأخير الرمي إلى اليوم الثاني إلا بعذر كما لا يجوز له تأخير الصلاة إلى وقت صلاة أخرى إلا بعذر إلا أن القضاء يختص بزمان مخصوص وهو بقية أيام التشريق والثاني أداء لأن الوقوف لا يقضي والرمي تابع له وكان ملحقا به ولكن تجعل الأيام كالشيء الواحد ونظير المسألة إذا شهد برؤية الهلال بعد الزوال يوم الثلاثين من رمضان يصلي من الغد العيد وهل هو أداء أو قضاء وهذا الذي قاله المتولي من تعليل قول القضاة بأنه لا يجوز مخالف لما قاله الفوراني
مسألة في المناسك قال الشيخ الإمام رحمه الله ورضي عنه الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم
هذا مختصر في المناسك إذا بلغ الميقات وأراد الرحيل منه اغتسل وتنظف وتطيب وتجرد عن المخيط ولبس إزارا ورداء أبيضين نظيفين ثم يصلي ركعتي الإحرام ثم يحرم حين يسير
يقول بقلبه ولسانه نويت الإحرام بالحج وأحرمت به لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ويكثر في طريقه من التلبية والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستر رأسه بشيء يعد ساترا ولا يرتدي بشيء يحيط به أو بعضو منه فإن كانت امرأة جاز ستر ما سوى وجهها وكفيها ولا يمس
____________________
(1/286)
المحرم طيبا ولا ما فيه طيب من مأكول وغيره ببدنه ولا بثيابه ولا يشم مشموما كالورد ونحوه ويحرم دهن رأسه ولحيته وإزالة شعر وظفر ونكاح وجماع وصيد بري وإعانة عليه ووضع يده عليه ودوس الجراد
فإذا بلغ الحرم قال هذا حرمك وأمنك فحرمني على النار
فإذا وصل مكة شرفها الله اغتسل قبل دخولها ودخل من باب المعلى فإذا وقع بصره على البيت رفع يديه وقال اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريما وتعظيما ومهابة وزد من شرفه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام
فصل ثم يدخل من باب بني شيبة ويقدم رجله اليمنى ويسمي الله ويدعو ويقصد الحجر الأسود فيتسلمه ويقبله بغير صوت ثلاثا فإن لم يمكنه أشار إليه ويجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن ويطرح طرفيه على عاتقه الأيسر ويجعل الحجر الأسود عن يمينه ثم يطوف والبيت على يساره إلى أن يأتي الحجر الأسود الذي ابتدأ منه يفعل ذلك سبع مرات طاهرا متوضئا مستور العورة خارجا عن الشاذروان والحجر بكسر الحاء ووقت تقبيل الحجر لا يمشي في طوافه بل يرجع إلى موضعه ويطوف حتى يكون بدنه خارجا عن هواء البيت ويسرع المشي مع تقارب الخطى في الثلاثة الأولى دون الأربعة ويكثر فيه من الدعاء والذكر ثم يصلي ركعتين خلف المقام فإن لم يتيسر حيث شاء
فصل ثم يخرج فيصعد على الصفا حتى يرى البيت فيكبر ويحمد ويهلل ويدعو ثم ينزل ويمشي حتى يبقى بينه وبين الميل الأخضر قدر ستة أذرع ثم يسعى شديدا حتى يتوسط بين الميلين ثم يمشي على عادته إلى المروة فيصعد عليها ويكبر ويهلل ويدعو ثم يرجع كذلك إلى الصفا ثم إلى المروة حتى يكمل سبعا أربع منها من الصفا إلى المروة وثلاث من المروة إلى الصفا يختم بالمروة ولا يترك شيئا من المسافة التي بين الصفا والمروة بل يصعد على درج الصفا إلى المروة
فصل ثم يخرج يوم الثامن إلى منى فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت بها حتى يصلي بها الصبح فإذا طلعت الشمس عليه سار ويكثر من الدعاء إلى نمرة فينزل بها حتى تزول الشمس ويغتسل بها للوقوف ويصلي بها الظهر والعصر مجموعتين في أول وقت الظهر في مسجد إبراهيم
فصل ثم يعجل بالمسير إلى عرفات للوقوف وأي موضع وقف منها جاز وأفضلها موقف النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند الصخرات الكبار المفترشة في أسفل جبل الرحمة بوسط أرض عرفات ويجتهد في الخشوع والخضوع والذكر والدعاء والتهليل والتحميد والاستغفار والصلاة على النبي صلى
____________________
(1/287)
الله عليه وسلم ويكثر من قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيرا مما نقول اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ويتنوع في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء ويلح في الدعاء والسؤال والابتهال له ولإجابة المسلمين ولا يزال كذلك حتى تغرب الشمس ويتحقق غروبها
فصل فإذا تحقق غروب الشمس دفع إلى طريق العلمين بسكينة ووقار ويكثر من الدعاء والذكر والشكر فإذا وصل إلى مزدلفة بات بها وأخذ منها حصى الجمار وهو سبعون مثل حصى الخذف ويغتسل بها للوقوف بالمشعر الحرام ومتى نفر منها قبل نصف الليل عصى ولزمه دم والسنة أن يبيت بها حتى يطلع الفجر فيصلي الصبح في أول الوقت ثم يدفع إلى منى فإذا وصل إلى المشعر الحرام وهو جبل صغير آخر المزدلفة إن أمكن وإلا وقف تحته مستقبل الكعبة يدعو ويحمد الله ويكبره ويهلله ويلبي فإذا استنفر سار إلى منى بسكينة ذاكرا ملبيا فإذا وجد فرجة أسرع قدر رمية حجر
فصل فإذا وصل إلى منى بدأ بجمرة العقبة يرميها بعد ارتفاع الشمس قدر رمح بسبع حصيات واحدة يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه مستقبل الجمرة ومكة عن يساره ومن أول حصاة يقطع التلبية ويكبر ثم ينزل حيث شاء بمنى ثم ينحر إن كان معه ثم يحلق أو يقصر ويلبس المخيط ثم يفيض إلى مكة فيطوف طواف الإفاضة سبعا ويصلي ركعتين كما تقدم وإن لم يكن سعى بعد طواف القدوم يسعى بعد طواف الإفاضة وإن كان قد سعى فلا تستحب له إعادته فإذا فعل ذلك صار حلالا وبقي عليه المبيت بمنى والرمي في أيام التشريق
فصل فيبيت بمنى ليلة الحادي عشر من ذي الحجة ثم يصبح يوم الحادي عشر فيرمي بعد الزوال الجمرات الثلاث كل جمرة سبع حصيات كما تقدم فيرمي الأولى التي تلي مسجد الخيف ويدعو قدر سورة البقرة ثم الثانية كذلك ثم الثالثة ولا يقف عندها ويكون ذاك بعد أن يغتسل ثم يبيت بها ويفعل يوم الثاني عشر بعد الزوال مثل ذلك ثم إن شاء تعجل ونفر قبل غروب الشمس وإن شاء أقام وهو أفضل فإذا غربت الشمس وهو بمنى لم يجز له أن ينفر فيبيت به ليلة الثالث عشر وهو آخر أيام التشريق ويرمي يوم الثالث عشر بعد الزوال الجمرات الثلاث كما تقدم ويغتسل قبله في كل يوم ثم ينصرف من عند الجمرة
____________________
(1/288)
راكبا أو ماشيا عندما يفرغ من الرمي وقد تم حجه فينزل بالمحصب وهو الأبطح الذي عند مقابر مكة والأولى أن يصلي الظهر بمنزله
فصل فإذا كان مفردا احتاج إلى العمرة فيخرج إلى التنعيم الذي يقال له مساجد عائشة أو ما شاء من الجبل فيغتسل ويتطيب ويلبس لباس الإحرام ويقول بقلبه ولسانه نويت العمرة لله وأحرمت بها ويلبي ويتوجه إلى مكة ملبيا فإذا شرع في الطواف قطع التلبية ويطوف سبعا كما تقدم ويصلي ركعتين ثم يسعى سبعا كما تقدم فإذا فرغ منه عند المروة حلق أو قصر وقد تمت عمرته وحل ويلبس ويحل له كما يحل للحلال
فصل فإذا أراد الخروج من مكة لوطنه أو غيره طاف للوداع سبعا كما تقدم ويصلي ركعتين خلف المقام وشرب من ماء زمزم واستلم الحجر ويأتي الملتزم بين الركن والمقام فيلزمه ويقول اللهم إن البيت بيتك والعبد عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك حتى سيرتني في بلادك وبلغتني بنعمتك حتى أعنتني على قضاء مناسكك فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا وإلا فمن الآن قبل أن ينأى عن بيتك داري ويبعد عنه مزاري هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك ويدعو بما أحب ويخرج تلقاء وجهه ولا يتقهقر ويحرم أن يخرج شيئا من الحرم من ترابه أو أحجاره إلى الحل ويحرم التعرض لصيد مكة والمدينة
فصل ثم يتوجه إلى المدينة لزيارة قبر سيدنا سيد البشر صلى الله عليه وسلم ويكثر من الصلاة والتسليم والخضوع والخشوع والهيبة والإجلال كأنه يراه فإذا وصل المسجد قدم رجله اليمنى وسمى وصلى ركعتي التحية عند الكعبة ثم يقف مستدبر الكعبة مستقبل القبر الكريم خارج الدرابزين غاض الطرف ويقول السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ويكثر من ذلك ويتنوع بأدب وهيبة ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع فيسلم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم يتأخر صوب يمينه قدر ذراع فيسلم على عمر رضي الله عنه ثم يعود إلى قبالة المسمار فإنه قبالة وجهه صلى الله عليه وسلم فيدعو ويتوسل به إلى ربه عز وجل ولا يمس القبر ولا يقرب منه ولا يطوف به ويحافظ على الصلوات في المسجد دون القدر الذي زيد فيه ويزور البقيع وقبور الشهداء وقباء ويشرب من بئر إدريس ويصوم ويتصدق ولا يستصحب شيئا من الأكر والأباريق التي من تراب حرم المدينة وإذا أراد السفر ودع المسجد بركعتين وودع النبي صلى
____________________
(1/289)
الله عليه وسلم بالصلاة والتسليم ويكثر من ذلك ويقول اللهم لا تجعله آخر العهد برسولك اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد
قال علي بن عبد الكافي السبكي كتبتها بكرة يوم الأربعاء ثاني رمضان سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة
كتاب الضحايا مسألة إذا أهدى المضحي من أضحية إلى غني شيئا هل يجوز للغني أن يهديه إلى غيره إن قلتم يجوز فما معنى قول الرافعي ليس له أن يملك الأغنياء الجواب قال الشيخ الإمام رحمه الله الأصل الذي ينبغي أن يعتمد في هذا الباب ولم أره منقولا ولكني قررته تفقها لما رأيت المسائل لا تستمر إلا عليه والقواعد والأدلة تشهد له أن أضحية التطوع يزول الملك عنها بالذبح لله تعالى ومصرفها وجهان أحدهما الفقراء تمليكا والثاني الأغنياء انتفاعا والمضحي أحدهم وله الولاية على ذلك وقسمته وتفرقته فإن المضحي يتقرب بأضحيته بالذبح وبذلك تنتقل عنه إلى الله تعالى وهذا معنى القربة فيها وإن جاز له الأكل منها لأنه مأذون في ذلك من الله تعالى وإذا علم ذلك فإذا أعطى منها للفقراء كان تمليكا وليس المعنى يملكهم بل يعطيهم كما يعطيهم للزكاة فيملكونها ملكا تاما يتصرفون فيه بالبيع وغيره وذلك لأنهم المقصود الأعظم بها ولا يحصل لهم التصرف التام إلا بالتمليك التام في ذلك لينتفعوا بها وبثمنها
فمعنى قوله يملك الفقراء أنه يعطي لهم ويسلطهم تسليطا تاما عليها وإذا أكل هو منها يأكلها وليست على ملكه بل الإذن من الله تعالى وإذا أهدى منها إلى غني فقد أحل ذلك الغني محله ورفع يده عما أهداه له فللغني أن يأكل منه ويهدي أيضا وليس ذلك من باب الهدية التي هي التمليك لما قدمناه أنها ليست ملكه وإنما معناه رفع يده وتسليط غيره عليها وليس له أن يبيع لكونه غير ملك وإنما لم يملك لكونه ليس هو المقصود الأعظم منها لما قدمنا أن المقصود الأعظم منها الفقراء فمقصود الأضحية تمليك الفقراء والإباحة للمضحي والأغنياء هذه حقيقتها
وقد نشأ لنا من هذا فرعان لم أر فيهما نقلا إلى الآن أحدهما لو مات المضحي وعنده شيء من لحم الأضحية الذي يجوز له أكله وأهداه فمقتضى ما قررناه أنه لا يورث عنه ولكن ينبغي أن يكون لوارثه ولاية القسمة والتفرقة كما كان له ويحتمل أن يقال ليس للوارث
____________________
(1/290)
ذلك بمعنى أنه لا يختص به بل هو في ذلك كسائر الناس لأنه إنما تورث الحقوق التابعة للأموال كالخيار والشفعة والتي يحصل بها سعي أو دفع عار كالقصاص وحد القذف وهذا الحق نيابة عن الله تعالى في القسمة والتفرقة فلا تعلق له بالميراث لكن الذي يظهر وتميل النفس إليه أنه يكون للوارث
الفرع الثاني وقد فكرت فيه الآن لقصد الأضحية عن والدي رحمهما الله وبرد مضجعهما أنه إذا قلنا بجواز التضحية عن الميت فيضحي الوارث عن مورثه فهل له أن يأكل من لحمها كما لو كان هو المضحي أو لا والذي يظهر أن هذا ينبني على الفرع الذي قبله إن قلنا هذا الحق يورث فيكون للوارث ما للمورث من الأكل والتفرقة على الأغنياء والفقراء فإن نسبته إلى الأكل كنسبة سائر الناس وولاية التفرقة مقرونة لما قدمناه فيستمر ذلك سواء أكان المضحي عن الميت أم كان الميت ومن ضحى ثم مات قبل التفرقة والله أعلم
باب الأطعمة مسألة الزيادة على الشبع حرام قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام في القواعد وعلله بأنه إضاعة مال وإفساد للأبدان وكنت أظن أن ذلك في سوى ما يعتاد من الزيادة كنقل أو حلوى أو نحوها حتى رأيت في فتاوى قاضي خان من الحنفية في المجلد الأخير منه ما نصه امرأة تأكل الفتيت وأشباه ذلك لأجل السمن قال أبو مطيع البلخي رحمه الله لا بأس به ما لم تأكل فوق الشبع وكذا الرجل إذا أكل مقدار حاجته لمصلحة بدنه لا بأس به إذا لم يأكل فوق الشبع يمكن إذا كان غذاء أن يجعل مع الغذاء حتى لا يزيد في المقدار على الشبع وإذا لم يكن لمصلحة البدن بل مجرد من نقل أو حلوى أو سكر وليمون وما أشبه ذلك مما ليس فيه إلا قضاء شهوة فأولى بأن يتقيد أنه لا يزيد على قدر الشبع فمتى زاد يكون حراما
وقل من المسرفين من يحترز عن ذلك فينبغي التنبه لهذا وهذا السكر والليمون الذي جرت عادة المسرفين به بعد الأكل ينبغي إن كان قد حصل الشبع التام أن يحرم والله أعلم
وانظر أيضا من جهة منع إدخال طعام على طعام يقتضي أنه لا يوجد فوق الشبع غير الماء القراح وما سواه يضر حتى ينهضم الطعام الأول فاستعمال هذه الأمور الزائدة إن اقتضتها ضرورة وإلا فمجرد الشهوات النفسانية لا تبيحها بل تكون حراما مع كونها مضرة والله أعلم
كتاب البيع مسألة قال الشيخ الإمام الحمد لله رب العالمين اللهم صل على محمد
____________________
(1/291)
وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإنه وقعت مسألة في المحاكمات في هذا الزمان وهي أن قرية بالقرب من دمشق يقال لها عنابا وربما يقال لها معبابا كان لبهادرآص رحمه الله فيها على ما قيل ثمانية عشر سهما وثلث سهم ملكا طلقا من أربعة وعشرين سهما وهي جملة مبلغ سهام الضيعة المذكورة وباقيها وهو خمسة أسهم وثلثا سهم وقف على المدرسة الأمينية بدمشق فأذن قاضي القضاة جلال الدين الشافعي لصفي الدين العتال الحنفي أن يقسمها فقسمها وأفرد حصة بهادرآص ناحية وترك الحصة المذكورة المفروزة وخلف زوجتين وخمسة بنين وحصة الأمينية ناحية
وحكم بصحة القسمة صفي الدين المذكور وبعده قاضي القضاة جلال الدين ثم من بعده ثم مات بهادرآص المذكور وترك الحصة المذكورة المفروزة وخلف زوجتين وخمسة بنين وبنتا ثم ماتت إحدى الزوجتين وخلفت ابنها عليا أحد البنين الخمسة المذكورين خاصة فباع علي المذكور حصته للصلاح الذي كان أستاذ دارهم ثم صار أستاذ دار تنكز ثم وقفها على ما قيل ثم حصلت منازعة بين الأمير ناصر الدين بن بهادرآص والصلاح المذكور وطالت وتنوعت
ثم حضر عندي صلاح الدين المذكور فسألني أن آذن له أن يدعي لأيتام زوجته على البائع المذكور بحكم أنه مات عن غير وصية وقصد أن يدعي عند الحنبلي أو الحنفي ويبطل البيع فاستفهمت عن سبب الإبطال إن كان صحيحا أذنت فيه وإن كان فاسدا لم آذن فيه وطلبت كتاب المبايعة فأحضروه وهو يتضمن شراء الصلاح من أمير علي بن بهادرآص جميع الحصة التي في يده وملكه وهي جميع ملكه وهي أربعة أسهم ونصف ثمن سهم من أربعة وعشرين سهما شائعا من جميع الضيعة المعروفة بعبايا وذكر حدود الضيعة فقال الذي يقصد الإبطال إن هذا باع ما يملك وما لا يملك فيبطل البيع
وهذا ليس بصحيح لوجوه أحدها أن هذا باع حصته لأنه قال جميع الحصة التي بيده وملكه ولا شك أنه عارف بها لأنه يعرف حصة أبيه وأنها ثمانية عشر سهما وثلث سهم ويعرف أن أباه خلف زوجتين لكل منهما نصف الثمن وهذا يفهمه العوام لا يخفى عن أحد ولا تشترط المعرفة بالتعبير عنه باصطلاح الحساب بل تكفي تلك المعرفة التي يفهمها العوام فإن بها يحصل التمييز سواء عرف عبارة أهل العلم فيها أم لا ثم إنا نظرنا في قوله وهي أربعة أسهم ونصف ثمن سهم فوجدناها صحيحة لأن ثمن
____________________
(1/292)
الثمانية عشر وثلث سهمين وسدس سهم وثمن سهم والباقي بعد الثمن ستة عشر سهما وثلث ثمن سهم لكل ابن سهمان وثلثا سهم وربع سهم فنصيبه ونصيب أمه هذا القدر الذي باعه لا يزيد ذرة ولا ينقص ذرة
ثم نظرنا في قوله شائعا وهو صحيح باعتبار وغير صحيح باعتبار أما صحته فلأنه مشاع في الحصة الموروثة عن والده المفروزة بالقسمة أما عدم صحته فلأنه ليس مشاعا في الضيعة كلها وإذا أمكن حمل كلام البائع العاقل على الصحة كان أولى من حمله على الفساد فليحمل على المعنى الأول ولا يعارضه قوله من أربعة وعشرين سهما من الضيعة لأمرين أحدهما أنا نفرق بين من و في فهو لم يقل إنها شائعة في جميع الضيعة وإنما قال إنها أي شائعة وإنها من جميع الضيعة ولا شك أنها من جميع الضيعة وليس معناه أن الشيوع في الضيعة بل معناه أن الشيوع في حصة أمه وحصة أمه من الضيعة فالشائع فيها هو من الضيعة بلا شك
والأمر الثاني أن عادة الشام تقسمة الأراضي وتبقى تلك النسبة محفوظة فهذه الحصة التي هي ثمانية عشر سهما وثلث بعد الأولى يعبرون عنها بذلك وإن كانت ما هي الآن حصة ولا مشاعة ولا هي ثمانية عشر سهما وثلث بل أربعة وعشرون كاملة في نفسها ولكنهم يعبرون عنها بنسبتها الأولى فكذلك يعبرون عن بعضها بنسبة الأولى من الضيعة وبذلك وقع التعبير عن حصة البائع بأربعة أسهم ونصف سهم ولولا ذلك كانت خمسة أسهم وشيئا إذا أخذت من أربعة وعشرين من حصة مورثه فعلم بذلك صحة العبارة وإنه لم يبع ملكه وملك غيره بل ملكه فقط فلا يجيء فيها خلاف تفريق الصفقة ولا القول بالبطلان بل يصح في الجميع قطعا وليس فيه إلا تجوز لطيف في قوله من جميع الضيعة واحتماله أولى من الحكم بالبطلان والتمحل له لا سيما وقد حكم حاكم بموجب هذا البيع وموجبه ما قلناه وصيانة حكم الحاكم عن النقض واجبة ما أمكن
الوجه الثاني على تقدير أن لا يصح هذا المجاز ولا التأويل في قوله وهي أربعة أسهم ونصف ثمن سهم شائعا من أربعة وعشرين سهما من جميع الضيعة فنقول الصحة بقوله حصته وأنه باعها مع العلم بها وأن هذه العبارة من الوراق لا تضره ولو كانت العبارة من البائع لا تضر أيضا لأنها من صيغة البيع لأن صيغة البيع بعتك حصتي وهذه العبارة الزائدة تعريف لتلك الحصة وقع الغلط فيها والغلط في التعريف الذي هو خبر محض لا يقتضي بطلان البيع الذي هو إنشاء محض فإن قيل إن ذلك على سبيل الشرط كأنه قال بشرط أنها أربعة أسهم ونصف ثمن سهم شائعا من جميع الضيعة قلنا ليس بشرط ولكنه إخبار ولو سلم أنه شرط فإذا باع ثوبا على أنه عشرة فخرج تسعة
____________________
(1/293)
أو أحد عشر لم يبطل البيع بل يثبت الخيار للمشتري ولا خيار للبائع فكذلك هذا يكون البيع صحيحا والخيار للصلاح المشتري في نقص الأحوال ولا خيار للبائع ولا لورثته
وتمام الكلام في هذا الوجه سيأتي في المسألة الرابعة التي سنذكرها بعد هذه الأوجه
الوجه الثالث لو سلم أن هذا يتضمن بيع ملكه وغيره فالمشهور من مذهب الشافعي ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنهما صحة البيع في ملكه ويثبت الخيار للمشتري وإلا فيكون هنا البيع صحيحا ولا خيار للبائع ولا لورثته بل للصلاح المشتري في نقص الأحوال وهي في جانب النقص لا في جانب الزيادة
ولا فرق في المضموم إلى ملكه بين أن يكون ملك الغير أو وقفا
فقد بان بهذه الأوجه الثلاثة أن هذا البيع صحيح على مذهب الشافعي وأبي حنيفة وبأن بالوجهين الأولين أنه صحيح على مذهب أحمد ولا نسلم لهم أنه من الجمع بين ملكه وملك غيره حتى يبطلوه على خلاف عندهم وخرج من هذا أن هذا بيع صحيح على المذاهب الأربعة وأن حكم برهان الدين الزرعي حكم بصحته إذا كان ملك البائع لأن هذا موجبه في المذاهب الأربعة وإن الحكم ببطلان ذلك بعد هذا لا يجوز على المذاهب الأربعة بلا خلاف لأن الخلاف وإن كان في الأصل فقد اندفع بحكم الحاكم فيكون نقضه باطلا بالإجماع
الوجه الرابع أن العبارة الصحيحة أن يقال وهي أربعة أسهم ونصف ثمن سهم من ثمانية عشر سهما وثلث سهم منسوبة من أربعة وعشرين سهما هي جميع الضيعة فليس فيه إلا حذف لبعض الكلام وذلك جائز على سبيل المجاز
الوجه الخامس أن الثمانية عشر سهما وثلث سهم المنسوبة يصح عليها أنها شائعة وذلك باعتبار ما كانت عليه ولهذا نقول فيها إنها ثمانية عشر وثلث ولولا ذلك لم يصح لأنها مال كامل أربعة وعشرون سهما في أنفسها فكيف يقال إنها ثمانية عشر وثلث إلا باعتبار نسبتها التي كانت وإن كانت هي الآن مقسومة غير شائعة فكذلك تصح على أربعة سهام ونصف ثمن سهم أنها من أربعة وعشرين سهما لأن حقيقتها ذلك فإن الضيعة بكمالها إذا جزئت أربعة وعشرين كانت هذه الحصة منها هكذا وشياعها من الجميع باعتبار ما كانت
الوجه السادس أن الأربعة ونصف ثمن سهم من جميع الضيعة ليست جامعة لملكه ولملك غيره قطعا بل غايتها على ما يتوهم الخصم أنها جامعة لبعض ملكه وبعض غيره وهو قد قال في صدر كلامه إنها جامعة ملكه فاستحال الجمع بينهما فتعين أن لا يحمل على ذلك حذرا من الحمل المعني الذي يقطع بتناقضه
الوجه السابع أن الذي ذهب إليه الخصم لا يصح معه تصحيح الكلام لا بطريق الحقيقة ولا بطريق
____________________
(1/294)
المجاز بوجه من الوجوه وما ذهبنا إليه يصح بطريق المجاز أو بطريق الحقيقة فكان الحمل عليه متعينا
الوجه الثامن أن هذه قضية اتصلت بحكم حاكم فتصان عن النقض حتى يتبين أن الحكم مخالف لنص الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي ولا يوجد وهذه مسائل متعلقة بذلك يكمل بها الغرض في المقصود
المسألة الأولى في بيان أن حصة أمير علي هي أربعة أسهم ونصف ثمن سهم من أربعة وعشرين سهما من جميع الضيعة وذلك أن حصة مورثه المقسومة ثمانية عشر سهما وثلث سهم للزوجتين ثمنها وهو سهمان وسدس سهم وثمن سهم لكل زوجة نصفه وهو سهم واحد وثمن سهم وسدس ثمن سهم والباقي بعد الثمن ستة عشر سهما وثلث ثمن سهم مقسومة على أحد عشر لأنهم خمسة بنين وبنت فللبنت سهم وثلث سهم وثمن سهم ولكل ابن سهمان وثلثا سهم وربع سهم فاجتمع لعلي من أبيه سهمان وثلثا سهم وربع سهم ومن أمه سهم وثمن سهم وسدس ثمن سهم وجملة ذلك أربعة أسهم ونصف ثمن سهم من سهام الضيعة بكمالها الأربعة والعشرين
ولو أخذتها من نصيب مورثه خاصة وقسمت نصيب مورثه أربعة وعشرين لكانت تزيد على خمسة أسهم
المسألة الثانية في بيان نصيب علي من والده ووالدته بطريقة الفرضيين مات بهادرآص وخلف زوجتين وخمسة بنين وبنتا فمسألته من 8 ويصح 176 للزوجتين 22 لكل واحدة 11 وللبنت أربعة عشر ولكل ابن 28 وماتت أم علي عن ابنها فقط فيجتمع لعلي من أبيه وأمه 39
المسألة الثالثة لو سلم إلغاء قوله حصتي وتجريد النظر إلى قوله أربعة أسهم ونصف ثمن سهم من جميع الضيعة وأنه جمع بين ملكه وملك غيره فيكون ملكه تسعة وثلاثين جزءا من مائة وستة وسبعين جزءا من أربعة أسهم ونصف ثمن سهم من جميع الضيعة شائعا فيصح فيه على مذهب أبي حنيفة والصحيح من مذهب الشافعي ويبطل في الباقي مشاعا بعضه من حصة إخوته وبعضه من حصة الوقف
المسألة الرابعة قال أصحابنا إذا اشترى ثوبا أو أرضا على أنه عشرة أذرع فوجده تسعا فهو بالخيار بين أن يأخذه بجميع الثمن وبين أن يرد لأنه دخل في العقد على أن يسلم له العشر ولم يسلم فثبت له الخيار كما لو وجد بالبيع عيبا ولم يذكر الأكثرون خلافا في صحة البيع بل قطعوا بها
وحكى الشيخ أبو حامد في صحة البيع قولين كما لو تزوجها على أنها بكر فخرجت ثيبا ومنهم من يحكي الخلاف في ذلك وجهين والأظهر عند من حكى الخلاف صحة البيع تغليبا للإشارة وتنزيلا للخلف في الشرط والمقدار منزلة خلفه في الصفات وبهذا قال أبو حنيفة
____________________
(1/295)
وإن وجده أحد عشر فوجهان أصحهما أن البائع بالخيار بين أن يفسخ البيع وأن يسلمه بالثمن ويجبر المشتري على قوله كما أجبرنا البائع إذا كان دون العشرة والثاني أن البيع باطل لأنه لا يمكن إجبار البائع على تسليم ما زاد على العشرة ولا إجبار المشتري على الرضا بما دون الثوب والمساحة من الأرض لأنه لم يرض بالشركة والتبعيض فوجب أن يبطل العقد وإن اشترى صبرة على أنها مائة قفيز فوجدها دون المائة فهو بالخيار بين أن يفسخ لأنه لم يسلم له ما شرط وبين أن يأخذ الموجود بحصته من الثمن لأنه يمكن قسمة الثمن على الأجزاء لتساويهما في القيمة ويخالف الثوب الأرض لأن أجزاءهما مختلفة فلا يمكن قسمة الثمن على أجزائها لأنا لا نعلم كم قيمة الثمن مراع الناقصة لو كانت موجودة أسقطها من الثمن وإن وجدنا الصبرة أكثر من مائة قفيز أخذ المائة بالثمن وترك الزيادة لأنه يمكن أخذ ما عليه من غير الأضرار
كذا ذكره العراقيون أما المراوزة فلا فرق عندهم بين المقوم والمثلي وأجروا الخلاف فيهما والأصح الصحة عندهم في حالتي النقصان والزيادة هذا إذا قال علي إنها عشرة أذرع بصيغة الشرط فلو قال وهي عشرة أذرع قال الشيخ أبو حامد إذا خرج تسعة ثبت للمشتري الخيار في أن يمسك الكل أو يرد ولو خرج أحد عشر فالمنصوص أن الخيار يثبت للبائع ومن أصحابنا من خرج هنا قولا آخر أن البيع يبطل وهذا النقل من الشيخ أبي حامد للتفصيل بين أن يكون بصيغة الشرط أو لا ينفعنا في مسألتنا هنا لأن كتاب المبايعة ليس فيه صيغة شرط وإنما فيه وهي أربعة أسهم ونصف ثمن سهم فلا يكون في الصحة خلاف إلا على ما قاله الذي خرج وجها في حالة الزيادة وهو مشكل لأن هذه الصيغة إن كانت شرطا وجب أن يجري الخلاف في الحالتين وإلا فلا يجري في الحالتين وعلى الجملة هو وجه ضعيف والمنصوص خلافه فلا يعتد بخلاف المنصوص والقائل بالبطلان هو ابن شريح
وما ذكرناه في هذا المكان عن الشيخ أبي حامد مساعدا لما قدمناه من أن قوله هو كذا ليس شرطا ولئن قيل على سبيل الجدل فرق بين قوله بعتك هذا الثوب وهو كذا وبين قوله بعتك حصتي وهي كذا أن الثوب معين معلوم ولو اقتصر على قوله بعتكه صح فأمكن جعل قوله وهو كذا خبرا لغوا وأما الحصة التي له فهي غير معلومة ولا تسلم إحاطة علمه بها ولو اقتصر على قوله بعتكها لم يصح لأنا إنما ننظر إلى اللفظ واللفظ لا يتضمن بيانها فيبطل العقد للجهالة فإذا قال وهي كذا كان هو المبين لها فلا يمكن إلغاؤه ويجب اعتماده والنظر إليه
قلنا جوابه من وجهين أو
____________________
(1/296)
ثلاثة أو أربعة أحدها أنه يتوجه على البائع يمين أنه لا يعلمها وقد مات وفي انتقال هذه اليمين إلى قرينة ليردها على المشتري نظر
الثاني أن في المكتوب الإشهاد عليه بالعلم فلا يقبل قوله في عدم العلم بعد ذلك
الثالث أن يتمسك بما قدمناه من أن حصته هي هذه بغير زيادة ولا نقص والتجوز قليلا في العبارة فهذا الجواب هو العمدة
الرابع أن يكون من تفريق الصفقة والأصح الصحة فيما يملكه بحصته من الثمن
المسألة الخامسة حيث صححنا وأثبتنا الخيار للبائع فهاهنا قد وقف المشتري وبالوقف يمتنع الخيار وينتقل حق من البائع إلى الآخر فيتعذر إبطال البيع في حصة البائع
المسألة السادسة أن هذا الرجل البائع عالم بحصة والده بلا شك وأنها ثمانية عشر سهما وثلث وأنها أفردت ثم ورثت عن والده وهو عالم بورثة والده عالم بمقادير أنصبائهم لأن ذلك لا يخفى عن العوام وبين تاريخ والده ووالدته وتاريخ بيعه وفي هذه المدة حصته في يده فكيف يكون جاهلا بها بل هو عالم بها ونصيب إخوته من الحصة المفروزة والموروثة عن والده المنسوبة من الضيعة ولو ادعى عدم العلم بذلك لم يسمع لأن شاهد حاله لا يصدقه على ذلك
المسألة السابعة أن الحصة المفروزة لا يصح أن يقال عليها إنها ثمانية عشر سهما وثلث سهم إلا باعتبار ما كانت عليه أو باعتبار أنها الآن إذا نسبت من الضيعة كانت نسبتها ذلك وهو صحيح وهذه النسبة تكفي في معنى الإشاعة فيصح عليها أنها الآن مقسومة مال كامل ويصح عليها أنها سهام مشاعة من القرية ثمانية عشر وثلث لأن معنى الإشاعة في الذهن لا في الخارج كما أن معنى كونها سهاما ثمانية عشر وثلث سهم في الذهن لا في الخارج وإذا كان كذلك فحصة البائع منها أربعة أسهم وثلث سهم من تلك السهام يصح عليها أيضا بهذا الاعتبار أنها الآن مشاعة من أربعة وعشرين سهما من جميع الضيعة وهي مشاعة من أقل من أربعة وعشرين من نصيب والده المفروز بالقسمة والله أعلم
مسألة رجل مات وخلف بنتا صغيرة وأخا غائبا وعليه دين فباع الحاكم التركة وقبض الثمن فوفى به الدين ثم حضر الأخ الغائب وأثبت دينا له على الميت
الجواب يبطل البيع في القدر الذي لا يجب توفيته للأجنبي من نصيب اليتيمة والأخ والله أعلم
مسألة فيمن باع بغلطاقا بطرز مزركشة وادعى استحقاقه رده بعيب قديم في البغلطاق فقال البائع هذا الطراز الذي هو الآن عليه ليس هو الذي بعتكه به فهل القول قول البائع أو القول قول المشتري إن هذا الطراز هو الذي كان عليه
____________________
(1/297)
ولم أر غيره أفتونا مأجورين رحمكم الله
الجواب إذا اختلفا في الطراز هل هو الذي تسلمه المشتري أو لا فالقول قول البائع ولا يسمع قول المشتري أنه هذا الموجود في البغلطاق الآن وإذا ثبت بحيث لا بغلطاق والحالة هذه فليس للمشتري رد الطراز
أما رد القباء بدونه فالذي عندي أن له الرد ويأخذ من البائع قسطه من الثمن والقول قول البائع في قيمة الطراز الذي ادعى أنه كان على القباء فيقسط الثمن على القيمتين ويغرم البائع ما يخص القباء بدون الطراز ويسلم له القباء مجردا وبقية الثمن ويسلم المشتري الطراز وما أخذه من الثمن قال رضي الله عنه هذا هو الذي ترجح عندي من المذهب ومقتضى إطلاق الرافعي في المحرر أنه يمتنع على المشتري الرد مطلقا في الطراز والقباء جميعا ويأخذ أرش العيب الذي ثبت وأما كون القول قول المشتري فباطل
مسألة الذي يظهر بدلالة حديث المتبايعين أنهما إذا تبايعا أن لا خيار لهما يصح البيع ولا خيار لهما لقوله صلى الله عليه وسلم بيع الخيار وتأمل الحديث يقتضي تعين حمله على ذلك لا على خيار الثلاث والله أعلم
مسألة اشترى ملكا وأقام في يده مدة فظهر مكتوب يتضمن أن بعضه وقف على المشتري وأخبره بعض عدو له وأشهدوا على شهادتهم بالوقف فلا حاجة إلى الخيار وإلا فإن علم الآن وجود المكتوب المذكور قبل القبض وإنه ليس مزورا ثبت الخيار وكان على الفور وإلا فلا خيار والله أعلم انتهى
مسألة رجل اشترى جارية ولها ابنة صغيرة سنها ثلاث عشرة سنة فاستولد الجارية فهل يجوز التفريق بينهما أو بيع ابنتها قبل البلوغ برضاء والدتها أم لا الجواب الحمد لله يجوز بيع ابنتها المذكورة والتفريق بينهما بالرضا وعدمه سواء ومشهور مذهب الشافعي رحمه الله تعالى يقتضي جوازه في هذا السن في القنة ففي المستولدة أولى ولكن المنع أقوى لبقاء الحجر فنقول فيها بالمنع والله أعلم انتهى
مسألة في الوشم النجس الذي لا يمكن زواله من اليد هل يمنع صحة البيع كالأعيان التي لا يمكن تطهيرها وهل يكون كالثوب المصبوغ بصبغ نجس فيكون بيعه صحيحا على رأي الغزالي دون غيره أم يقطع في هذا بالصحة لقلته الجواب قال الشيخ الإمام الذي أراه القطع بصحة البيع فيما سألت عنه وإن الوشم النجس لا يمنع صحة البيع لأن اليد المشتملة على الوشم النجس ليست مبيعة ولا جزءا من المبيع وإنما هي وصف لذلك على هذا قول الفقهاء إنه لا يقابلها قسط من الثمن وقولهم إن اليدين وصف بلا خلاف وأحد العبدين
____________________
(1/298)
حر بلا خلاف والسند هو جزء أو وصف فيه خلاف والأعيان التي لا يمكن تطهيرها مبيعة وكل جزء منها مبيع يقابل بقسط من الثمن والصبغ النجس في الثوب كالجزء ألا ترى أن صاحبه يكون شريكا لصاحب الثوب كجزء من الثمن فلا ينكر جريان الخلاف فيه وأما يد العبد والجارية فلا تسيغ الصبغ ولا جزء الأعيان النجسة حتى لو قدرنا أنها نجسة كلها لم تمنع صحة بيع العبد والجارية التي هي منهما فكيف وهي ليست بنجسة ولا متنجسة وإنما العين النجسة من الكحل وغيره الذي حصل به الوشم مودع فيها كعين نجسة ملصقة بالكف قد التصق به بحيث لا يمكن إزالته أبدا هل يقول أحد إنه يمنع صحة بيع صاحب الكف لأجل اتصال النجاسة
والسر في ذلك وهو الفارق بين هذا والأعيان النجسة والمتنجسة بما لا يمكن إزالته أن تلك الأعيان أجزاؤها مقصودة جملتها ولا معنى لجملتها إلا مجموع تلك الأجزاء
والآدمي بل غيره من الحيوانات ليس كذلك والمقصود صورته ومعناه وهو المشار إليه بأنا الذي نتكلم فيه في أصول الدين فذلك المعنى المشار إليه بأنا هو المبيع المقابل بالثمن والكلام فيه في الأصول معروف
وحظنا منه هنا أن نقول إن المبيع المقابل للثمن الصورة الأصلية مع المعنى المعبر عنه بالنفس ولا غرض للفقيه في تحقيق ذلك وإنما هو شيء نفهمه فاليد والرجل ونحوهما ليست شيئا من ذلك فلذلك نقول هي أوصاف يتعلق بها غرض لأجله يثبت الخيار بفقدها وبعينها ولا يتقسط الثمن عليها ولا يمكن تنجسها أعني أن تحل فيها نجاسة نحكم عليها كلها بأنها نجسة بسببها كما يتنجس الماء بما يحل فيه من النجاسة المخالطة له أو المجاورة وكما يتنجس الدهن بما لا يمكن فصله منه وكما يتنجس الثوب بالصبغ النجس بل غاية هذا نجاسة أدخلت تحت الجلد
وقد صعب فصلها كنجاسة ملصقة في ظاهر الجلد لا يقصدها المشتري ولا يقابلها بشيء فالمبيع المقصود كله طاهر فلذلك أقطع بصحة بيع الجارية المشتملة على الوشم النجس وعندي في ثبوت الخيار به إذا لم يعلم به المشتري توقف لأنه لم تنقص به عين ولا قيمة والظاهر أنه يثبت ويختلف إذا أمكن فصله بعيب معتبر فإن لم يمكن فصله أصلا فكيف يثبت الخيار مع عدم نقصان العين والقيمة والله أعلم انتهى
كتاب الرهن نثر الجمان في عقود الرهن والضمان مسألة قال الشيخ الإمام رحمه الله ورضي عنه أحمد الله وأصلي على نبيه
____________________
(1/299)
وأسلم
وبعد فقد صنفت كراسة سميتها عقد الجمان في عقود الرهن والضمان ثم اختصرتها وسميتها عقد الجمان في عقد الضمان وتضمنت مسائل منها منقولة كما هي ومنها حررتها بفكري وأحببت أن أجرد تلك المسائل هنا مختصرة غير منسوبة لتستفاد وسميتها نثر الجمان والله المسئول أن يوفقنا لما يرضيه بمحمد وآله
مسألة قالا ضمنا مالك عن فلان
فيها وجهان أحدهما يطالب كل منهما بنصف الدين
والثاني وهو الصحيح أن كلا منهما يطالب بجميعه
مسألة عبد مشترك قال سيداه رهناه بالألف الذي لك على فلان يكون نصيب كل منهما رهنا بجميع الألف
مسألة رهنا رهنا بدين عليهما فهو رهنان من أدى منهما ما عليه انفك نصيبه إلا أن يصرحا أن نصيب كل منهما رهن بالجميع فيكون قد رهنه بدينه ودين غيره فيصح ولا ينفك إلا بأداء الجميع
مسألة عبد مشترك قال أحد الشريكين لصاحبه أذنت لك أن ترهن العبد بالدين الذي عليك وهو مائة فرهنه بها صح ولا ينفك شيء إلا بجميعها على الصحيح
مسألة قال والحالة هذه أذنت لك أن ترهن نصفي بدينك وهو مائة فرهن الجميع بمائة صح ولا ينفك إلا بها
مسألة قال والحالة هذه أذنت لك أن ترهن نصفي بدينك وهو خمسون فرهن الجميع بمائة فقولان أصحهما أن نصيب المعير ينفك بأداء خمسين أما النصف الآخر فقد أطلق الأصحاب أيضا على هذا القول أنه ينفك بخمسين وعندي ينبغي أن لا ينفك إلا بالجميع لأنا إنما فككنا في نصف شريكه لأنه لم يأذن في الرهن بالزائد وهذا قد رهن بنفسه فكأنه رهن نصفه على الجميع ونصف شريكه على النصف
مسألة استعار عبدا من مالكيه وقالا له ارهنه على دينك وهو مائة فرهنه بها لم ينفك نصيب أحدهما إلا بجميعها على الصحيح على قياس ما سبق وكذا إذا قال كل منهما ارهن نصيبي مع نصيب الآخر
مسألة قال كل منهما والحالة هذه ارهن نصيبي بخمسين فرهن الجميع بمائة فالقولان والصحيح الانفكاك في كل منهما بأداء خمسين
مسألة قال كل منهما ارهن نصيبي بخمسين فرهن الجميع بخمسين صح ولا ينفك إلا بأدائها
مسألة مشتركان في عبدين أذنا في رهنهما فتعود المسائل المذكورة في العبد الواحد وقيل يتعدد الرهن هنا لتعدد المرهون وهو ضعيف
مسألة قالا ضمنا الألف التي لك على فلان كان كل منهما ضامنا لجميعها على الصحيح كما تقدم في الرهن ويأتي فيه الوجه الآخر الذي حكيناه في قولهما ضمنا مالك على فلان بطريق الأولى
مسألة قالا ضمنا المبلغ الذي لك على فلان وهو مائة
____________________
(1/300)
كان كقولهما ضمنا مالك عليه
مسألة مسطور على شخص بألف وفيه وحضر فلان وفلان وضمنا المبلغ المذكور كان كقولهما ضمنا الألف لأن الألف واللام هنا للعهد وفي التي قبلها للعموم وحيث كانت للعموم كان ضمان كل منهما للجميع أولى منه حيث كانت للعهد وإن كان الصحيح فيهما أنه يضمن الجميع كما صرح به صاحب التتمة في الرهن وصوره في الألف وإن كان في الضمان صوره في لفظ عموم
مسألة قال ألق متاعك في البحر وأنا وركبان السفينة ضامنون كل منا على الكمال فعليه ضمان الجميع
مسألة قالا ألق ونحن ضامنان كل منا على الكمال
لم أجدها منقولة والقياس أن لا يصح الشرط كسائر العقود التي تقتضي التوزيع إلا أن يريد أن كلا منهما النصف استقلالا والنصف بطريق الضمان الحقيقي عن صاحبه فيخرج عن ضمان ما لم يجب
مسألة قال ألق وأنا وهم ضامنون وطلق لزمه بالحصة أيضا
مسألة فلو قال أنا ضامن وهم ضامنون لزمه الجميع في الأصح والله جل ثناؤه أعلم انتهى
مسألة بيع المرهون في غيبة المديون قال الشيخ الإمام رحمه الله ورضي عنه الحمد لله العادل في قضائه المان ببعثة أنبيائه وصلى الله على سيدنا محمد وآله ما ذكره ذاكر في أرضه وسمائه وسلم تسليما كثيرا
وبعد فهذه مسألة كثيرة الوقوع محتاج إليها وهي بيع المرهون في غيبة المديون حركني للكتابة فيها أنه سئل في هذه الأيام عن رجل رهن دارا بدين عليه ثم غاب وله دار أخرى غير مرهونة فادعى المرتهن عند الحاكم على الغائب وأثبت دينه ورهنه وكانت كل من الدارين يمكن وفاء الدين من ثمنها فترك القاضي بيع الدار المرهونة وباع الدار التي ليست مرهونة واختبط الفقهاء فيها فمن قائل إن هذا جائز لأن الواجب الوفاء من مال المديون ولا فرق في ذلك بين المرهون وغيره كما لو لم يكن بالدين رهن ومن قائل إن هذا لا يجوز وهذا قد يتجه لأن بيع الرهن مستحق وبيع غير الرهن غير مستحق ولا وجه لبيع غير المستحق مع إمكان المستحق
فإن قلت لا نسلم أن بيع الرهن مستحق وإنما يكون مستحقا إذا تعذر الوفاء من غيره ومع وجود مال آخر لم يتعذر الوفاء من غيره
قلت الاستحقاق تأخر الآن بدليل أن الأصحاب لما تكلموا فيما إذا أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن وأطلق الإذن وكان الدين حالا أو مؤجلا وقد حل قالوا يلزمه قضاء الحق من ثمنه وعللوه بأنه مستحق للبيع في حقه بعد حلول الدين فيصير مطلق الإذن في البيع إليه فإن شرط قضاء حقه من ثمنه فقد
____________________
(1/301)
زاد تأكيدا وهذا التعليل عبارة القاضي حسين وكلام غيره يوافقه وهذا من كلامهم يبين أن بيع الرهن مستحق وإن لم يحصل امتناع من الراهن ولا تعذر فإن الصورة في الإذن والحالة هذه لم يحصل فيها امتناع ولا تعذر
فإن قلت قد صرحوا بأنه مستحق للبيع عند التعذر وهذه العبارة تفيد إطلاق عبارة القاضي حسين
قلت لا منافاة للأصحاب ثلاث عبارات ثالثها مستحق البيع إن لم يعرف من موضع آخر وهي عبارة المتولي ومقصود العبارات الثلاث واحد وهو أن الاستحقاق تأخر والبيع إنما يكون عند عدم الوفاء فإن وجد الوفاء انفك الرهن ونحن إنما نتكلم في الرهن ما دام رهنا ومن أطلق التعذر فمراده عدم الوفاء بدليل ما ذكرناه من إذن المرتهن للراهن وليس فيه إلا عدم الوفاء دون التعذر
فإن قلت لو كان بيع الرهن مستحقا قبل التعذر لما احتجنا إلى مراجعة الراهن واستئذانه ولكان يجوز لنا المبادرة بالبيع
قلت استحقاق البيع معناه استحقاق أن يباع في دين المرتهن والبيع يحتاج إلى إذن المالك من رجع لذلك بسبب ما تقدم من الاستحقاق
فإن قلت المستحق على الرهن إنما هو وفاء للدين
قلت لا نسلم الحصر بل المستحق عليه أمران وفاء الدين الثابت قبل الرهن والثاني تجدد بالرهن وهو بيع الرهن في الدين إلا أن يوفى من موضع آخر
فإن قلت فحينئذ نقول إن بيع الرهن ليس بمستحق وإنما المستحق أحد الأمرين إما بيعه وإما وفاء الدين
قلت ليس كذلك لأن الواجب المخير توصف كل خصلة منه بالوجوب على المختار لأن الوفاء واجب عينا قبل الرهن فلا ينقطع ذلك التعين بالرهن بل تجدد بالرهن حق آخر معه وهو بيع الرهن والراهن متمكن من قطع هذا الحق بالوفاء
فإن قلت لو كان بيع الرهن مستحقا قبل الامتناع لكان للمرتهن أن يطالب به قبل الامتناع وقد قالوا إن الحاكم يأمر الراهن بالوفاء فإن امتنع باع الرهن
قلت إنما قالوا ذلك لأنه أقرب فيبدأ الحاكم به ولأن البيع مشروط بعدم الوفاء وهو إلى خيرة الراهن فكانت الدعوى به غير ملزمة والدعوى بالوفاء ملزمة يلزمه الوفاء إما من الرهن وإما من غيره ولا يلزمه بيع الرهن إذا اختار الوفاء من غيره فلذلك اقتصر الحاكم أولا على المطالبة بالوفاء ونحن بين خيرتين إما أن نقول حق المرتهن في بيع الرهن وله المطالبة به إلا أن يسقطه الراهن بالوفاء وإما أن نقول حقه إما في بيعه وإما في الوفاء ونصف كل خصلة من خصال الواجب المخير بالوجوب ولهذا نظائر منها مطالبة المولى بالعنة أو الطلاق إما أن نقول يطالب بالعنة وله قطع المطالبة بالطلاق وإما أن
____________________
(1/302)
نقول يطالب بأحد الأمرين ومنها المديون إذا حضر الدين فامتنع صاحب الحق من قبضه فإما أن نقول يطالبه بالقبض أو الإبراء وإما أن نقول يطالبه بالقبض إلا أن يسقطه بالإبراء وهذا الاستحقاق الحاصل للمرتهن في الرهن لا شك أنه زائد على ما كان يستحقه قبل الرهن من الوفاء فلا يمكننا القول بأنه لا يستحق إلا أحد الأمرين لأن ذلك أنقص مما يستحقه قبل الرهن لأن المهم أنقص من العين وهو كان قبل الرهن يستحق الوفاء عينا فكيف ينقص حقه بالرهن فثبت أن له بالرهن حقا زائدا على الوفاء عينا مضافا معه وهو بيع الرهن إلا أن يسقط هذا الحق الثاني بالوفاء
فإن قلت من جملة طرق الوفاء بيع الرهن فكيف يكون معادلا للوفاء والوفاء من الرهن أحد أقسام الوفاء ولا يجوز أن يكون قسيم الشيء قسما منه
قلت لم نجعل قسيم الشيء قسما منه ولا عادلنا بين الوفاء وبين الوفاء من الرهن بل الوفاء بيع الرهن وبيع الرهن طريق من طرق الوفاء وطريق الشيء مغايرة له تجوز المعادلة بينها وبينه ومما ننبه عليه هنا أن المراد بالوفاء تأدية الدين لمستحقه أو تعويضه عنه إن كان مما يجوز الاعتياض عنه وتراضيا به سواء أكان ذلك الشيء الذي يؤديه أو يعوضه في ملكه أو يحصله باقتراض أو غيره من طرق التحصيل كالشراء ونحوه ومن جملة الطرق أن يبيع شيئا من ماله
ومن جملة الطرق بيع الرهن وجميع هذه الطرق يستقل الراهن بها إلا بيع الرهن فيتوقف على إذن المرتهن ولا شيء من الطرق جميعها مستحق إلا بيع الرهن خاصة فإنه مستحق لما قدمناه فإذا قلنا للراهن إما أن تبيع الرهن وإما أن توفي الدين من أي جهة شئت وإما أن توفي من النقد الذي بيدك وإما أن تبيع عينا من مالك غير الرهن وتوفي منه كان تخييرا بين الخصلتين الأولتين تخييرا بين أمرين واجبين عليه
أما الثالثة والرابعة فلا تجب واحدة منهما وليس شيء منهما مستحقا
وسنزيد هذا بيانا وتقريرا إن شاء الله في تقرير المقدمة الثانية
فإن قلت ينبغي أن لا يخير الراهن إلا بين شيئين أحدهما وفاء الدين من أي جهة شاء والآخر أي طريق شاء من طرق التحصيل إما بيع الرهن وإما بيع غيره من أمواله وإما تحصيله بجهة أخرى بل لا يكون الواجب إلا وفاء الدين وهو المقصود وجميع الطرق وسائل إليه
قلت يرده اتفاق الأصحاب على أن الراهن إذا امتنع من الوفاء يبيع القاضي الرهن ولو كان كما يقول من استواء الطرق لكان له أن يبيع الرهن وغيره مع امتناع الراهن وحضوره ولا قائل به نعلمه وذلك يبين أن بيع الرهن مستحق
____________________
(1/303)
فإن قلت سلمنا أن هذه المقدمة الأولى وهي أن بيع الرهن مستحق لكن لا نسلم المقدمة الثانية وهي أن بيع غير الرهن غير مستحق
قلت الدليل عليه أنه لو كان مستحقا لكان للقاضي أن يبيعه عند حضور الراهن وامتناعه من الوفاء ولم يذكره الأصحاب
فإن قلت وإن لم يذكره الأصحاب لكن الفقه يقتضيه لأن الرهن إنما اقتضى التوثقة أما وهو وغيره سواء فيتخير القاضي في بيعه وبيع غيره كما لو لم يكن رهن
قلت هذا مع كونه مجانبا لكلام الأصحاب مردود لأن الرهن اقتضى الشيئين التوثقة والبيع عند عدم الوفاء منه وإنما امتنع من الوفاء من غيره وهو لا يجب عليه الوفاء من غيره والقاضي إنما يبيع على من امتنع مما يجب عليه فكذلك لا يبيع غير الراهن لأنه غير واجب ويبيع الرهن لأنه واجب
فإن قلت أليس الرهن وغيره طريقا لوفاء الدين الواجب ووسيلة الواجب واجبة فيجب بيع أحدهما لوفاء الدين ويستوي فيه الرهن وغيره
قلت كون الرهن وغيره طريقا صحيح وكون وسيلة الواجب واجبة صحيح واستواء الرهن وغيره ممنوع فإن الراهن قد عين الرهن للوفاء برهنه
فإن قلت لو امتنع ولم يكن رهن كان للقاضي أن يبيع ما شاء من أمواله فكذلك بعد الرهن
قلت الفرق أنه إذا لم يكن رهن ليس بيع بعض الأموال بأولى من بعض فدعت الحاجة إلى تخير القاضي ولا حاجة ههنا لتعين الرهن بتعيين الراهن ومن الدليل على ذلك أنه لو امتنع ولا رهن كان للقاضي أن يحجر عليه لئلا يتلف أمواله وعند الرهن ليس له ذلك لعدم الحاجة إليه ومن الدليل على ذلك أن الشافعي والأصحاب اتفقوا على أنه لو كان في الدين ضامن ولا رهن جاز للمضمون له مطالبة من شاء من الضامن والأصيل ولو كان بالدين ضامن ورهن اختلفوا في ذلك نص الشافعي في ذلك على قولين أحدهما يطالب الضامن والأصيل كما لو لم يكن رهن والثاني لا يطالب الضامن بل يباع الرهن فكان جاز أن يختلف الحال في الضامن بين حالة وعدمها جاز أن يختلف في بيع الحاكم بين حالة الرهن وعدمها بل هو في الحاكم أظهر لا يعتقد خلافه بخلاف مسألة الضمان فإن الأصح فيها بقاء الخيرة
فإن قلت هل نقول إن حق المرتهن ينحصر في الرهن
قلت لا وقد قال بذلك ابن الرفعة وتعلق بكلام إمام الحرمين وابن الصباغ ولا بد في ذلك من تحقيق فنقول أما الدين فلا شك أنه باق في الذمة لم ينقطع عنها ولا شك أنه متعلق بالرهن ولا منازعة في هذين المقامين وكان للمرتهن قبل الرهن المطالبة بمطلق الوفاء من أي جهة كانت وهذا لا ينقطع بالرهن بل له المطالبة بعده به وكلام الرافعي وغيره
____________________
(1/304)
ظاهر في ذلك
وهو يمنع إطلاق الانحصار ولم يكن له مطالبة ببيع هذه العين بخصوصها عند الامتناع عن الوفاء وتجددت له هذه المطالبة بالرهن بلا إشكال ولم يكن له يبيع غيرها عينا وكذا ليس له ذلك بعد الرهن ومن هذين الشيئين توهم ابن الرفعة الانحصار فإن الإمام قال لا يكلف تحصيل الدين من غير الرهن وهو صحيح بمعنى لا يتعين عليه ذلك كما قبل الرهن وابن الصباغ قال مقتضى الرهن توفية الدين منه وهو صحيح لتجدد المطالبة التي ذكرناها بقي هنا شيئان آخران هما من تتمة البحث
أحدهما إذا كان في يد الراهن نقد له من جنس الدين يمكن الوفاء منه من غير بيع الرهن هل نجبره في ذلك إذا طلبه المرتهن أو لا فإن قلنا لا نجبره بل يباع الرهن اتجه ما ذكره ابن الرفعة من الانحصار
ولكن هذا بعيد ولم يصرح به الأصحاب فالوجه أن الحاكم يجبره على ذلك لأن الوفاء واجب فالعدول عنه مع كونه على الفور الذي هو وسيلة إلى البيع لا وجه له وليس في كلام الإمام ولا غيره من الأصحاب ما يخالف ذلك وإن لم يكن فيه ما يوافقه بل مسكوت عنه والفقه يقتضي ما قلناه
للثاني إذا لم يكن بيده نقد وله أعيان غير الرهن يمكن بيعها فهل يتخير القاضي بينها وبين الرهن كما قبل الرهن أو يتعين بيع الرهن ولا يباع غيره فإن ثبت الأول بطل القول بالانحصار وإن ثبت الثاني ساغ إطلاق هذه العبارة والأولى تركها لأن حقه لم ينحصر وإنما امتنع غير الرهن لوجود طريق سواء إلى الوفاء ومع ذلك لا حق له في بيع غير الرهن وهذا هو الحق وإنه يتعين بيعه ولا انحصار بل لا حق لصاحب الدين الذي ليس بمرتهن في بيع شيء من أموال المديون وإنما حقه الوفاء
فإن قلت إذا كان حقه في الوفاء ولا نقد بيده صار البيع وسيلة إلى حقه فيكون حقا له أيضا
قلت لم يتعين البيع فقد يحصل الوفاء بالإقراض وبغيره من الطرق
فإن قلت بفرض أنه لم يتيسر طريق إلى البيع قلت انحصار الطرق في البيع ليس من حق صاحب الدين ولكنه أمر اقتضاه الواقع فلا يقال فيه إنه مستحق لصاحب الدين لأنه لو كان حقا لصاحب الدين لامتنع على المديون أن يبيع ويعتق جميع أمواله ولا يمتنع عليه ذلك من غير حجر
وكل موضع جاز البيع لا يتعلق حق الغير وكل موضع تعلق لا يجاز البيع
فإن قلت لو لم يستحق البيع لما باعه القاضي في حقه
قلت لا نسلم بل القاضي إذا ثبت حقه ولم يجد طريقا إليه غير البيع يبيع لأجل الحاجة لا لتعلق حق صاحب الدين به بخصوصه
فإن قلت القول بأن بيع
____________________
(1/305)
غير الرهن لا يستحق على التعيين أو لا يستحق لا على التعيين ولا على الإبهام قلت لا يستحق لا على التعيين ولا على الإبهام وهذا مقام ينبغي أن يتمهل فيه فإن لبائع الرهن عينا وبيع غيره عينا وأحدهما مبهم وتحصيل الدين بأي طريق كانت ووفاء الدين نفسه فأما بيع الرهن عينا فقد بينا استحقاقه وأحدهما على الإبهام إن أخذ من جهة شموله للرهن المستحق فهو مستحق وإن أخذ من جانب غير الرهن فلا حظ له في الاستحقاق من حيث كونه بيعا وإن أخذ الطريق الأعم منه ومن الاقتراض وغيره فيمكن أن يقال بالاستحقاق لأنه وسيلة إلى الواجب
وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ويمكن أن يقال ليس بمستحق لأنه لم يتعلق به حق صاحب الدين إنما حقه في الوفاء والواجب لا يلزم منه الاستحقاق لأن الاستحقاق إذا كان للآدميين إنما يراد به ما يملكون المطالبة والمطالبة إنما هي بالوفاء فالطرق ليس مستحقة لصاحب الدين فإن قلت فوجب أن لا يكون بيع المرهون
قلت إنما كان مستحقا لإثبات الراهن الحق فيه برهنه لا لكونه طريقا للوفاء المستحق
فإن قلت سلمنا المقدمتين أن الرهن بيعه مستحق وبيع غيره غير مستحق لكن قولكم لا وجه لبيع غير المستحق مع إمكان المستحق دعوى مجردة عن البرهان ولا يلزم من عدم ظهور وجهه عندكم عدمه ووجهه أن نقول إن هذا الاستحقاق لا نعني به الوجوب المتعين الذي لا يجوز العدول عنه بدليل أن للراهن أن لا يعدل عنه وإنما معناه تعلق الحق به والواجب الذي لا بد منه هو الوفاء من أي وجه كان فإذا امتنع منه قام القاضي مقامه فيوفيه من أي وجه أراد
وقد تكون المصلحة في العدول عن الرهن إلى غيره بأن يكون بيع غير الرهن أسرع ففيه تعجيل بالحق الواجب وفي ذلك تبرئة ذمته وحصول مصلحة صاحب الدين وقد يكون في ذلك مصلحتهما بأن يكون إبقاء الرهن أصلح للراهن ونحن وإن سلمنا أن بيع الرهن مستحق لكن الوفاء أيضا مستحق وهو الأصل فللمرتهن أن يقتصر في المطالبة عليه ولا يطلب بيع الرهن وهو إنما يباع لحقه فيتوقف على طلبه فإذا لم يطلب بيعه واقتصر على طلب الوفاء كان القاضي مخيرا في الوفاء من أي جهة كانت
قلت الاستحقاق معناه تعلق الحق والوجوب لكن للراهن إسقاطه بالوفاء كما سبق فإذا لم يوف تعين ولو سلمنا أن الواجب إنما هو الوفاء فعند الامتناع إنما يبيع القاضي ما وجب بيعه وغير الرهن لم يجب بيعه لما سبق ولأنه برهنه كمن أذن في بيعه فليس ممتنعا الوفاء منه حيث عرضه بالرهن للبيع فإذا لم يمتنع من الوفاء منه لا يجوز بيع غيره كما لو
____________________
(1/306)
وكل في بيعه ولأن الراهن يطالب أولا بالوفاء فإن امتنع يطالب ببيع الرهن فإن امتنع يباع
هكذا رتب الروياني فالبيع إنما يكون بعد طلب المرتهن بيع الرهن وبذلك ترك طلب مطلق الوفاء فليس للقاضي الرجوع إليه والقاضي إنما ينوب عن المدعى عليه فيما يوجه عليه وهو بالنسبة إلى هذه الدعوى بيع الرهن لا مطلق الوفاء وإن استحقاق بيع الرهن مقصود بالذات واستحقاق بيع غير الرهن لو ثبت وسيلة إلى الحق وكان المقصود أولى ولأن في بيع غير الرهن مفسدة ليست في بيع الرهن وذلك أنه يتلف الثمن قبل وصوله إلى المرتهن فيتلف من كيس الراهن والرهن باق بحاله ليس له التصرف فيه فحصل بينه وبين العبدين
وإذا بيع الرهن وتلف الثمن سلمت العين الأخرى ولا حائل بين الراهن وبين التصرف فيها والمصالح التي أشار إليها السائل متعارضة يقابل بعضها ببعض وبالجملة فقد كفانا الأصحاب مؤنة ذلك وقطعوا ببيع المرهون عند امتناع الراهن
فإن قلت هذا كله عند حضور الراهن أما عند غيبته فيظهر أن الحاكم يتخير ويفعل المصلحة لأنه نائب عن الغائب وقد تكون مصلحته في بيع الرهن وقد تكون في بيع غيره وبنفسه ولا تفريط منه بخلاف الحاضر الممتنع فإنه مفرط تارك لحقه من الرهن
قلت الحاكم إما ينوب عن الغائبين فيما تدعو الضرورة إليه وأما لو كانوا حاضرين لألزمهم إياه ففي ذلك يقوم مقامهم في البيع أما فيما لا يلزمهم في الحضور ولا تدعو حاجتهم إليه فلا فإن الحاكم ليس له ولاية على الغائبين
فإن قلت الغائب ليس ممتنعا بل هو بمنزلة الساكت فيقوم الحاكم مقامه فيما له وعليه
قلت هذا يحتاج إلى شاهد بالاعتبار فإن الذي عهد أن الحاكم يزوج موليه الغائب وذلك حق عليه ويقضي على الغائب لأنه حق عليه وأيضا فإنا نقول إن بيع الرهن مستحق للمرتهن ولكنه يتوقف على إذنه في الحضور فإذا تعذر بالغيبة أو الامتناع باعه القاضي بطريق الولاية لا بطريق النيابة ولا يجري فيه الخلاف المذكور في تزويج موليه الغائب فإن فيه وجهين هل هو بطريق النيابة أو بطريق الولاية وهذا يحتمل أن يقال ولست أنقله
فإن قلت ما تقول أنت في ذلك قلت الذي أراه ويترجح عندي أن للحاكم بيع ما يرى بيعه من الرهن وغيره
وحرف المسألة أن الحاكم هل له ولاية على الغائب أو لا فإن لم يكن له ولاية على الغائب فالحق أنه لا يبيع غير الرهن لما قدمناه وإن كان له ولاية عليه فيفعل له ما فيه
____________________
(1/307)
المصلحة بخلاف الحاضر وقد رأيت كلام أكثر الأصحاب يقتضي أن له ولاية عليه قال القفال ليس للقاضي التصرف في مال الأجنة بخلاف الغائبين واتفق كلام الإمام والغزالي والمتولي والبغوي والرافعي أن القاضي نائب عن الغائبين في الحفظ والقبض والقسمة ونحوها
وقال القفال الكبير الشاشي إن القاضي منصوب للغيب والحضور معا وذكر هو وغيره في تحليف القاضي غريم الغائب أن الحاكم قائم مقام الغائب
قال الشافعي في الأم وإذا كانت الضالة في يد الوالي فباعها فالبيع جائز ولسيد الضالة ثمنها وإن كانت الضالة عبدا فزعم سيد العبد أنه أعتقه قبل البيع قلت قوله وفسخت البيع وفيه قول آخر أنه لا يفسخ البيع إلا ببينة
وقال الشافعي أيضا في الأم فإذا أخذ السلطان الضوال فإن كان لها حمى وإلا باعوها ودفعوا أثمانها لأربابها ومن أخذ ضالة وأراد أن يرجع بما أنفق فليذهب إلى الحاكم حتى يفرض لها نفقة ويوكل غيره بأن يقبض لها تلك النفقة منه وينفق عليها ولا يكون للسلطان أن يأذن له أن ينفق عليها إلا اليوم واليومين وما أشبه ذلك مما لا يقع من ثمنها موقعا فإذا جاوز أمر ببيعها
وقال ابن الصباغ في العبد الآبق إذا رأى القاضي المصلحة في بيعه وحفظ ثمنه له ذلك ومن الدليل في ذلك ما روى مالك في الموطإ عن عثمان أنه أمر في الضوال بمعرفتها ثم تباع فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها فكما يقوم القاضي مقامه في هذه الأمور كذلك يقوم مقامه في بيع الرهن إذا رأى المصلحة فيه لينفك به الرهن وتندفع مطالبة المرتهن ببيعه ولا نفرق بأن الضوال في يد القاضي فله ولاية عليها لأنا نقول هذا صحيح ولكن القاضي أيضا له ولاية وفاء الدين وتخليص المرهون من المرتهن وبيع غيره وسيلة إليه تدعو إليه الحاجة ونقل ابن الرفعة عن ابن الصباغ أن الحاكم لا ولاية له على الغائب ولفظ ابن الصباغ فإن قيل الحاكم لا ولاية له على البالغ العاقل وذكر ذلك في أن القائل يحبس حتى يقدم الغائب
وبالجملة قد تبين من كلام الأكثرين أن له ولاية عليه ولكن ليست ولاية مطلقة في جميع التصرفات وإنما هي في الحفظ والقبض والقسمة ونحوها وبيع غير المرهون لحفظ المرهون من هذا القبيل فيما يظهر لأن القاضي مأمور بأداء دين الغائب وبيع ماله في ذلك باتفاق الأصحاب فإذا دار الأمر بين بيع الرهن وبيع غيره فعل القاضي ما فيه المصلحة كما إذا دار الأمر بين بيع العبد الآبق لحفظ ثمنه وبين الإنفاق عليه
فإن قلت هل ذلك لأن حال الغائب يخالف حال الممتنع فلا يستحق المرتهن بيع الرهن في الغيبة وإن كان يستحقه في الامتناع
قلت لا بل حكم الامتناع والغيبة في ذلك واحد وإنما في الامتناع
____________________
(1/308)
لا ينوب القاضي عنه في فعل مصلحته لحضوره فيقتصر على ما وجب عليه وهو بيع المرهون وفي الغيبة حق المرتهن في ذلك والقاضي ينوب عن الراهن فيما له وهو دفع حق المرتهن بأن يبيع غير الرهن ويوفيه لقطع مطالبته ببيع الرهن كما يفعله الراهن في حضوره
فإن باع القاضي الرهن كان لحق المرتهن فقط واتجه ما قدمناه من أنه بطريق الأولوية وسقوط مراجعة الراهن للتعذر وإن باع غير الرهن كان لحق الراهن واتجه فيه أن يكون بطريق النيابة وتزويج المولى عليه في غيبة المولى متردد بين الربيعين فكان على الوجهين وهذا المأخذ الذي ذكرناه في أول الكلام عن بعض من ذهب إلى ذلك من المخبطين في المسألة وأرجو أن يكون هو الصواب إن شاء الله تعالى
فإن قلت هل في ذلك اختلاف على أن حق المرتهن ينحصر في الرهن أو لا قلت لا وإن كان الصواب أنه لا ينحصر وقد قدمنا الكلام وسواء ثبت الانحصار أم لا فالمأخذ الذي قدمناه يطرد
فإن قلت قول الشافعي في الأم إذا بيع الرهن فالمرتهن أولى بثمنه حتى يستوفي حقه فإن لم يكن فيه وفاء حقه حاص غرماء الراهن بما بقي من ماله غير مرهون وإذا أراد أن يحاصهم قبل بيع الرهن لم يكن له ذلك ووقف مال غريمه حتى يباع رهنه ثم يحاصهم بما فضل عن رهنه هل فيه تعرض لهذه المسألة وللقول بالانحصار أو عدم الانحصار أو ليس فيه تعرض لذلك
قلت أما الانحصار ففيه تعرض لبطلانه بقوله ووقف مال غريمه حتى يباع رهنه ولو كان دين المرتهن لا يتعلق إلا بعين المرهون لم يوقف مال غريمه حتى يباع رهنه إذ لا حق له إلا في الذمة والرهن وأما هذه المسألة وهو جواز بيع الرهن فليس فيه تعرض له فإن قلت قوله إذا أراد أن يحاصهم قبل بيع رهنه لم يكن له ذلك ويدل على أنه لا يباع غير الرهن
قلت لا بل لأنه متى حاصهم قبل بيع رهنه مع بقاء رهنه ظلمهم بأخذ زيادة على ما يستحقه فإنه إذا كان غريمان لكل منهما خمسون لأحدهما رهن والمال كله تسعون والرهن منها أربعون فإذا قدمنا المرتهن أخذ أربعين وسدس الباقي وهو ثمانية وثلث ولو جوزنا له المحاصة أولا لأخذ خمسة وعشرين وكمال دينه على الرهن وذلك ضرر على الغريم الآخر
فإن قلت الغريم الآخر لا حق له في الرهن والمرتهن لا حق له في غير الرهن من أعيان المفلس
قلت بلى فإن المرتهن يستحق منه أن يقدم بمقدار دينه والغريم الآخر يستحق منه ما سوى ذلك ويستحق المرتهن بما ليس برهن ما يفضل بدينه عن الرهن وهو مجهول فلذلك توقفنا عن المحاصة والقسمة حتى يباع الرهن فلا تعرض في ذلك لمسألتنا والله تعالى أعلم
فإن قلت
____________________
(1/309)
قد قال الأصحاب في أن القاضي هل يقبض دين الغائب وينزعه ممن هو في جهته وجهين أصحهما أنه ليس له ذلك ولاية على الغائب
قلت لا شك أنه ليس له ولاية مطلقة عليه وأنه يتصرف له بما فيه حفظ لحقه وبالبيع في وفاء دينه وما نحن فيه أولى بالجواز من قبض دين الغائب فأما أن نقول بالقطع به وإن ترددنا في قبض دين الغائب والفرق أن ما نحن فيه هو محتاج إلى ذلك لوجوب وفاء الدين وظهور المصلحة في تقديم غير الرهن على الرهن وهي قضية واحدة أعني أن بيع غير الرهن اقتضاء بيع الرهن المستحق بخلاف قبض دين الغائب الذي لا حاجة إليه قضية مستقلة بنفسها لم تدع إليها ضرورة ولا حاجة وإما أن نقول يجري هنا خلاف كما جرى في قبض دين الغائب وهو بعيد لا وجه له
فإن قلت لا شك أن الحاكم لا يبيع مال الغائب بغبطة وإن كثرت وهذا مما يدل على أنه لا ولاية له عليه
قلت هذا كما قدمناه أن ولايته على الغائب منوطة بالحاجة لا بالمصلحة وبيع غير الرهن هنا دعت إليه الحاجة والعبد الآبق والضال إذا باعه ليحفظ ثمنه إما أن تعلله بالحاجة وإما أن الآبق صار في قبضة القاضي فله ولاية عليه أخص من بقية أموال الغائب التي لم تدخل في يد القاضي فبيع القاضي منوط بأمرين أحدهما استيلاؤه عليه كالآبق والضال مع حاجة ما أو مصلحة والثاني توجه حق عليه كدين الغريم المطالب وبمطالبته أيضا يحصل للقاضي تسلط على الأموال يصيرها كأنها في يده وبيع غير الرهن لأجل تبعية الرهن أخذ سببها من المسألتين فكان أقوى لاجتماع حق الرهن وحق المرتهن فيه قلت هل تقولون ذلك مطلقا سواء أكان بيع الرهن أم لا وهل يفرق الحال بين أن يكون هناك نقد أم لا
قلت إذا كان هناك نقد من جنس الدين فقد قدمنا فيما إذا كان حاضرا أنه ينبغي تقديمه على بيع الرهن ويلزم الراهن به وإن لم يصرح به الأصحاب وكذلك نقول هنا في الغائب إذا وجد القاضي له نقدا من جنس الدين وطالب المرتهن به وفاه منه وأخذ الرهن وإذا لم يكن إلا ما يحتاج إلى البيع فلا حق للمرتهن في بيع غير الرهن غائبا كان الراهن أو حاضرا لما قدمناه فإن كان بيع الرهن أروج أو مساويا وطلبه المرتهن فلا شك في إجابته ولا يجوز تأخيره إلا أن يعجل ببيع غير الرهن وتوفيته فيجوز للراهن وللقاضي في غيبته إذا رأى المصلحة وذلك حق للراهن لا عليه لكنه متعلق بما عليه وإن كان بيع غير الرهن أروج وقال المرتهن إنا نطلب المبادرة بالوفاء فهل يجب تعجيلا بوفاء الحق الواجب أو لا لأن حقه تعلق بالرهن هذا فيه نظر لم يصرح به الأصحاب والقياس يقتضي الأول وإطلاق كلام
____________________
(1/310)
الإمام يمكن أن يتعلق به للثاني ولا فرق في ذلك بين غيبة الراهن وحضوره فكل ما أوجبناه عليه في حضوره قام القاضي مقامه فيه في غيبته وكل ما جوزناه له قام القاضي مقامه فيه إذا دعت الحاجة إليه وبيع الرهن حق للمرتهن يفعله القاضي بطلبه ولا يفعله بدون طلبه وبيع غير الرهن ليس حقا للمرتهن وليس له طلبه والقاضي يفعله إذا رأى المصلحة وقد طلب المرتهن بيع الرهن أو الوفاء تخليصا للرهن من المرتهن ومنعا له من بيعه وتبرئة لذمة الغائب والله أعلم انتهى
مسألة رجل عليه دين مائتا درهم ورهن عليه كرما وحل الدين وهو غائب وأثبت صاحب الدين الإقرار والرهن والقبض وغيبة الراهن المديون وندب الحاكم من قوم المرهون وثبت عنده أن قيمته مائتا درهم فأذن في تعويضه للمرتهن عن دينه ثم بعد مدة قامت بينة أن قيمته يوم التعويض ثلثمائة درهم وكان يوم التعويض يوم التقويم الأول الجواب يستمر التعويض ولا يبطل بقيام البينة الثانية مهما كان التقويم الأول محتملا لأنه بيع في دين واجب على صاحبه فلا يبطل بالبينة المعارضة ولأن فعل هذا المأذون كفعل الحاكم وفعل الحاكم اختلف فيه هل هو حكم أو لا
وعلى كل تقدير لا يجوز نقضه إلا بمستند والبينة المعارضة بأخرى فلهذا لا يصح مستندا بل أقول إنه لو لم يبع حتى قامت هذه وحصل التعارض ولم يحصل إلا من يشتريه بأقل القيمتين بيع بأقل القيمتين ولا ينتظر الزيادة لأن اليقين لا يترك بالشك ووجوب البيع في الدين بعد الطلب يقين والزيادة المنتظرة لحق المديون مشكوك فيها وهو ألزم نفسه بالوفاء ولما قلناه أدلة وشواهد بالاعتبار منها ما هو قوي صالح للتمسك به وفيها ما هو دون ذلك لينظر أو يجيب عنه منها ما حكاه المحاملي في التجريد عن أبي إسحاق رحمه الله فيما إذا أفلس رجل وأراد الحاكم قسمة ماله بين غرمائه فشهد شاهدان أن هذه العين لفلان الغائب فإنه لا يحكم بهذه الشهادة ولا يؤخر قسمة العين المشهود بها بل تقسم بين الغرماء وأبو إسحاق رحمه الله استشهد بهذه المسألة للحكم ببينة الخارج على من ادعى عليه
وقال إن المدعي به لغائب وأقام عليه بينة وأقام المدعي بينة حيث حكمنا للمدعي وأورد الحنفية علينا أن هذا حكم للخارج فأجاب واستشهد بهذه المسألة وقاس عليها فكما أن الحاكم يبيع العين التي قامت البينة عنده فيها أنها لغائب ويقسمها بين غرماء المفلس
ولا يلتفت إلى البينة لعدم حضور صاحبها وتوقف ثبوت كونها له على دعواه أو دعوى وكيله فكذلك ههنا يبيع المرهون بمطالبة
____________________
(1/311)
المرتهن ولا يتوقف على زيادة غير موثوق بها لم تثبت بل أولى لأن الظن المستفاد من قول الشاهدين أنها لغائب قوي وهنا ليس معناه إلا توهم الزيادة فإذا جاز البيع مع ظن البطلان القوي لكونه لم يثبت بطريق شرعي فلأن يجوز مع الوهم الضعيف أولى وأحرى
وهذه المسألة التي ذكرها أبو إسحاق ينبغي أن تكون مفرعة على أنه في بيع مال المفلس باليد وهو الصحيح أما إذا قلنا لا بد من إثبات الملك فإذا قامت بينة بملكه وبينة الغائب فغاية الأمر لو حضر الغائب وأقامها أن يتعارضا وتقدم بينة المفلس لأنه صاحب يد وعلى هذا لا استشهاد بها لا في ما قصده أبو إسحاق ولا فيما قصدناه وإنما أوردناها على ما أورده أبو إسحاق وهو إنما يكون تفريعا على الاكتفاء باليد
وقد ينكرها كثير من الناس ولا سيما في نظائرها من التركات المخلفة حيث يكون شهود يشهدون بأعيان منها الغائب والإقدام على بيعها صعب وكنت أود لو قيل بأن الحاكم ينصب عن الغائب من يدعي له ويسمع البينة ويحكم له فإن ذلك من باب الحفظ وللحاكم أن يحفظ أموال الغائبين وهذا الطريق فيه أسهل من أن يتصرف فيها بما يغلب على الظن بطلانه وأنا أستخير الله في ذلك وأختاره وإنما أوردته محتجا به في هذه المسألة على من يتوهم بطلان البيع فإذا كان هذا كلام الأصحاب فيما قلناه فما ظنك بهذه المسألة فجعلتها عمدة في الاستدلال من باب الأولى وإن كنت لا أوافق عليها وأفرق بينها وبين ما نحن فيه فرقا لا يلزم منه بطلان ما أقوله لأن تصحيح البيع في مسألتنا لا محذور فيه وقسمة عين يشهد بها عدلان لغائب من غرمائهم لا يمكن استدراكهم فيه خطر لا عظم محذور
ثم إنهم قطعوا فيما إذا أقام المدعى عليه بينة أن العين التي في يده لغائب وقلنا إنها تسمع لانصراف الخصومة عنه إنها لا تسمع في حق الغائب حتى لا يحكم له بها وقالوا فيما إذا كان لك على رجل مال فطالبته فقال أحلت على فلان وفلان غائب وأقام بينة هل تثبت الحوالة في حق الغائب حتى لا يحتاج إلى إقامة بينة إذا قدم وجهان فلم لا يأتي الوجهان هنا فيما إذا أقامها الحاضر لانصراف الخصومة عنه أما في مسألة المفلس فلا يأتي لأنه لا مدع هناك لا أصلا ولا تبعا ولعل الفرق أن البينة بالحوالة شهدت على المحيل شهادة صحيحة لإسقاط حقه فتبعها ثبوت حق المحتال على أحد الوجهين والشهادة بملك الغائب عليها مقصودها بالوضع إثبات الملك للغائب وانصراف الخصومة تبع فلا جرم سمعت بينة الحوالة في موضعها
واختلف
____________________
(1/312)
في سماعها فيما تتبعه وفي الملك للغائب لم تسمع في موضعها قطعا واختلف فيما تتبعه ولك أن تعبر بعبارتين من عبارات الأصوليين إحداهما أن التابع لا يستتبع والثاني أن ما يكون بالذات لا يكون بالغير
ومنها أن المسلم فيه يجب تحصيله ولو بأكثر من ثمن المثل إذا لم يوجد إلا بأكثر من ثمن المثل وعلى قياسه أنه إذا لم يوجد من يشتري مال المديون إلا بدون قيمته يجب الوفاء منه
ومنها إذا تلف المغصوب المثلي ولم يوجد مثله إلا بأكثر من ثمن المثل ففي وجوب تحصيله وجهان رجح كلا منهما مرجحون وصحح النووي عدم الوجوب وفي تصحيحه نظر فإن قلنا به لا يرد علينا هنا لأنا لا نلتزم جواز البيع بأقل من ثمن المثل وإنما ذكرناه تأكيدا للمدعي وهو صحة البيع في صورة مسألتنا حيث اعتقدنا أنه ثمن المثل بالبينة الأولى وأطرحنا الشك الحاصل بمعارضة الثانية لها فلتكف دعوانا في ذلك وأنا إنما نقول بالصحة حيث اعتقد البائع أن ذلك هو ثمن المثل أو لم يعتقد ولكن تعارض الأمر عنده وطالب المستحق ولم نجد من يدفع زائدا فيتعين البيع أما في غير هاتين الصورتين فإنا لا نلتزم ذلك
ومنها لو أسلم عبد لكافر أمر بإزالة الملك عنه ولو لم يوجد من يشتريه إلا بأقل من ثمن المثل بما لا يتغابن به لم يرهق إليه لأنه لم يلتزم بخلاف المسلم والغصب والمديون ولو اشترى الكافر عبدا مسلما وقلنا يصح ويؤمر بإزالة الملك قال ابن الرفعة فلا يرهق للبيع بل يحال بينه وبينه إلا أن يتيسر من يشتريه بثمن مثله أو يزيل ملكه عنه ونحوه
كذا ذكره في المطلب في فرع من غير نقل عن أحد وفيه نظر يحتمل أن يقال به كما إذا أسلم في يده وإن كنت لم أره منقولا أيضا ويحتمل أن يقال إنه بالشراء متعرض لالتزام إزالته
ومنها ما قاله الأصحاب فيما إذا أقام الخارج بينة فقضى بها ثم أقام الداخل بينة معارضة لها فالأصح الذي قطع به العراقيون أنه يقضى للداخل وترد العين إليه وينقض الحكم للخارج وفي طريقة الخراسانيين وجه أنه لا ينقض ووجه مفصل بين أن يكون قد اقترن بالحكم تسليم العين فيتأكد ولا ينقض وإن كان قبل التسليم نقض
قال القاضي الحسين أشكلت علي هذه المسألة نيفا وعشرين سنة وتردد جوابي فيها لما فيه من نقض الاجتهاد بالاجتهاد ثم استقر رأيي على أنه لا ينقض سواء أكان قبل التسليم أم بعده
فإن قلنا بقول القاضي الحسين أو بالوجه المفصل فلا إشكال في استقرار البيع في مسألتنا وعدم جواز الحكم ببطلانه وإن قلنا بالأصح وهو أنه ينقض وترد العين إلى ذي اليد فقد يشكل على كثير من
____________________
(1/313)
الفقهاء ويعتقد أن قياسه أن يحكم ببطلان البيع في مسألتنا وليس كذلك لأن مأخذ العراقيين بالقول في النقض أنه حكم مع قيام البينة التي معها ترجيح ولو اطلع عليها لوجب الحكم لذي اليد فقد تبين أن حكمه في موضع يجب الحكم بخلافه وانكشف أن هناك أمرين بينة ويدا كانتا موجودتين عند الحكم ولو علمهما الحاكم الشافعي لوجب عليه الحكم لذي اليد وهو الآن حكم بذلك رجوعا إلى الصواب وليس تعارضا محضا بلا ترجيح حتى يقال بالتساقط فإن ذلك أثره التوقف لأن الحكم والرجوع إلى اليد وحدها وليس هنا كذلك ولهذا القائلون بأنها ترد وينقض الحكم لم نرهم قالوا بتحليف المدعي وذلك منهم يدل على أن الحكم بالبينة الراجحة باليد فلا تعارض يوجب التساقط ولو قيل بأنهما يتعارضان ويتساقطان ويحلف المدعي بالحكم باليد وهي مستند شرعي
وكل واحد من هذين المأخذين ليس في مسألتنا مثله لأنه إنما هو تعارض محض بالقيمة فإذا قال بالتعارض تساقطتا وصارا كما إذا لم تقم بينة بالقيمة ولو لم تكن بينة بالقيمة وكان قد صدر بيع وجب التوقف فيه وأن لا يحكم ببطلانه حتى يثبت أنه بدون القيمة وهذا هنا متعذر لأنه لم يبق زمن ينتظر فيه عدم ثبوت القيمة لأن البينة عندنا لا ترجح بزيادة العدد ولا بزيادة العدالة فقد أيس من ثبوت أنه بدون القيمة فيمتنع الحكم ببطلانه وهذان المأخذان اللذان ذكرناهما في نقض الحكم بقيام البينة بعده يجب ضبطهما وأيضا البينة بالملك تشهد بأمر معلوم هو حاصل عندها وقت شهادة الأول وهكذا حيث وقع التعارض فيما هو معلوم والشهادة به خبر محض
وأما التقويم فإنه حدس وتخمين والحدس المتجدد بعد البيع لم يبن قبله فلا تعارض حين البيع وهذا المعنى يقتضي الفرق بين أن يحصل التعارض في القيمة قبل البيع وبعده فبعده لا تعارض أصلا فإن الحدس الثاني شيء جديد يشبه الإنشاء ليس كاشفا عن أمر سابق بخلاف ظهور بينة بأمر سابق كان مقارنا للحكم مانعا وهذا المعنى جدير بأن يتفهم ويضبط ويعلم أن الشاهد بالقيمة شهادته تابعة لتقويمه وتقويمه حدس منه جديد لأنه قد يكون في غير هذا الوقت قبله أو بعده يتغير حدسه بخلاف الأمور المعلومة الموجودة في الخارج التي لا تتغير وشهادته بها تابعة لها ولهذا المجتهد إذا تغير اجتهاده يعمل بالثاني ولا يصير كما لو حصل تعارض الأمارتين في وقت واحد فالتقويم كالاجتهاد سواء
فإن قال شاهد القيمة أنا أعلم الآن لو قومتها ذلك الوقت لقومتها بأزيد
قلنا ظن منك الآن على تقدير لا يدرى لو كان ذلك التقدير كيف
____________________
(1/314)
يكون حالك ويدل لذلك ما قاله الأصحاب في بيع صبرة إلا لتخمين غير موثوق به نعم قد يتفق هذا في الأمور المقطوع بها كما إذا علم الآن أن سعر القمح في العام الماضي أكثر منه في هذا العام وما أشبه ذلك فمثل هذا لا بأس بقبوله وأما الأمور المحتملة التي تحتاج إلى اجتهاد فلا أرى أن شهادة القيمة تسمع بها إلا في وقتها حتى لو انفردت بينة وحدست أن قيمة العين في السنة الماضية أو في السنة الآتية كذا لم تقبل لأن التقويم يتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال
ومثل الحكم في المسألة التي ذكرها العراقيون مذكور أيضا فيما لو كان الذي أقام البينة بعد الحكم ثالث أنه اشتراها من الداخل التي كانت في يده وكان يملكها يومئذ يقضى بها للمدعي وتنزع من يد المحكوم له بها كما لو أقام صاحب اليد البينة قبل الانتزاع منه أو بعده وهذا الفرع عن فتاوى القفال ونقله الرافعي عنه ولا متعلق فيه لمن يقصد إبطال البيع في مسألتنا
ومنها ما هو في الفتاوى المجموعة من فتاوى الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري رحمه الله نصها مسألة ملك احتيج إلى بيعه على يتيم فقامت بينة بأن قيمته مائة وخمسون فباعه القيم على اليتيم بذلك وحكم الحاكم على البينة المذكورة بصحة البيع ثم قامت بينة أخرى بأن قيمته حينئذ مائتان فهل ينقض الحكم ويحكم بفساد البيع أم لا أجاب الشيخ تقي الدين بن الصلاح رحمه الله بعد التمهل أياما وبعد الاستخارة أنه ينقض الحكم ووجهه أنه إنما حكم بناء على البينة السالمة عن المعارضة بالبينة التي هي مثلها أو أرجح وقد بان خلاف ذلك وتبين إسناد ما يمنع الحكم إلى حالة الحكم فهو كما قطع به صاحب المهذب وذكر المسألة التي قدمناها قال وهذا بخلاف ما لو رجع الشاهد بعد الحكم فإنه لم يبين إسناد مانع إلى حالة الحكم لأن قول الشاهد متعارض وليس أحد قوليه أولى من الآخر قال وفي مسألة المهذب وجه حكاه صاحب التهذيب وغيره يطرده ههنا
انتهى ما نقل عن الشيخ تقي الدين بن الصلاح رحمه الله ولقد كان ورعا مكفوف اللسان فلذلك لا أحب أن أقول إنه لم يصب ولكن بيان الحق لا بد منه والمسألة المذكورة مفروضة في البيع للحاجة لا للغبطة كما يقتضيه قول المستفتي أولا كما يقتضيه الحكم بصحة البيع بالقيمة فتبين أن محل السؤال للبيع في الحاجة وهو يشبه البيع في الدين نعم تفارق المسألة المذكورة مسألتنا في شيء وهو أن البائع في مسألتنا هو مأذون الحاكم في البيع إذنا خاصا فبيعه كبيع الحاكم حتى لو انفرد لم يكلف بينة على القيمة بل قول الحاكم كاف والبائع في المسألة المذكورة قيم اليتيم وهو لم ينصب البيع غبنا وإنما نصب لفعل مصلحة اليتيم فلا يقبل
____________________
(1/315)
قوله في شروط البيع من الحاجة أو الغبطة أو المصلحة إلا ببينة كالوصي كما هو الأصح في المذهب إذا عرفت ذلك فإذا قامت بينة بعد البيع والحكم به دون القيمة فقد قدمنا أن التقويم حدس وتقويم ولا يتحقق فيه التعارض إلا إذا كان في وقت واحد وتكلمنا في ذلك كلاما شافيا لا بد من ذكره ههنا فإن قلنا بذلك وهو الحق إن شاء الله فلا تعارض أصلا وهذا تخمين جديد لا التفات إليه وإن سلمنا المعارضة فهي معارضة للبينة المتقدمة وليست راجحة عليها حتى تكون مثل المسألة المنقولة في المهذب وغيره فكيف نلحقها به
وكيف ينقض الحكم بغير مستند راجح ومعنا بينتان متعارضتان من غير ترجيح فهو كما لو وجد دليلان متعارضان في حكم ليس لنا أن ننقضه ولا يقال إن تعارض الدليلين مانع من الإقدام على الحكم فيكون موجبا لنقضه لأنا نقول قد يكون ترجح عند الحاكم أحدهما فحكم به لرجحانه عنده وكما أنه لا يقدم على الحكم إلا بمرجح لا نقدم نحن على نقضه إلا بمرجح بل بمرجح قاطع حتى ينقض الحكم به ولا يوجد
وقوله وقد بان خلاف ذلك ممنوع لم يبن خلافه بل على تقدير التسليم بأن إشكال الأمر علينا ولا يلزم من إشكال الأمر علينا أنه يمتنع من الابتداء أن يوجب النقض وغاية الأمر أن قال الشيخ تقي الدين إن الحكم ينقض أن يصير الأمر كما لو تعارضتا قبل الحكم ولم يصرح الشيخ تقي الدين بأنه بعد نقض الحكم هل يحكم ببطلان البيع ويتوقف والظاهر أنه أراد أنا نحكم ببطلان البيع وهذا يقتضي أن القيم إن باع وأشكل علينا الحال أن نحكم ببطلان بيعه وفيه نظر يحتمل أن يقال به ويحتمل أن يقال بل نتوقف لا نحكم بصحة ولا ببطلان لكن إلى أي غاية وهو فيما إذا لم تقم بينة سهل لاحتمال أن تقوم بينة واحدة فيعمل بمقتضاها
أما إذا قامت بينتان متعارضتان فإنه يصعب لأنا نبقى لا إلى غاية وحاجة اليتيم إلى البيع حاقة فالوجه أنه يجوز البيع بأقلهما ما لم يوجد من يرغب بزيادة بعد إشهاره والقول قول القيم في أنه أشهره لأنه أمين والقول قوله في أن ذلك ثمن المثل كما أن الوكيل وعامل القراض والبائع على المفلس إذا باع ليس لهم أن يبيعوا إلا بثمن المثل ولو ادعى عليهم أنهم باعوا بأقل من ثمن المثل فالقول قولهم فيما يظهر لنا وإن لم نجده منقولا لأنهم أمناء ولا يرد على هذا قول الأصحاب إن الصبي إذا بلغ وادعى على القيم والوصي أنهما باعا العقار من غير مصلحة أو حاجة أو غبطة فالقول قول الصبي لأنا نقول إنما يكلف القيم والوصي إقامة البينة على المصلحة أو الحاجة والغبطة التي هي مسوغة للبيع كما يكلف الوكيل إقامة بينة على الوكالة أما ثمن المثل
____________________
(1/316)
فهو من صفات البيع فإذا ثبت أن البائع جائز قبل قوله في صفته ودعوى صحته ولا يقبل قول من يدعي فساده
ولقد كنت أستشكل كلام الرافعي في تكليف القيم إثبات المصلحة في العقار وغيره والفرق بينه وبين الوكيل حتى ظهر لي هذا المعنى وغير الرافعي ذكر الحاجة والغبطة في العقار والرافعي ذكر المصلحة وأطلق في العقار وفي غيره فأما في العقار فيمكن حمل المصلحة على الحاجة أو الغبطة أما في غير العقار فلا يشترط ذلك بل مطلق المصلحة فإن اقتضت المصلحة الإبقاء وجب الإبقاء وإن اقتضت البيع جاز البيع والقيم منصوب لفعل المصلحة لا للبيع بخصوصه ومأذون القاضي في بيع يتعين بيعه ليس منصوبا للمصلحة حتى يجب عليه إثباتها بل ذلك من وظيفة الحاكم وهو نائب الشرع مؤتمن فهو يراعي ذلك فيما بينه وبين الله حسب ما يظهر له ويقبل قوله فيه بلا بينة ولا يمين والقيم لا بد فيه من البينة أو اليمين فإن كان مراد الشيخ تقي الدين بن الصلاح الحكم ببطلان البيع فهو حكم بغير ذلك وإن كان مراده أن ينقض الحكم بالصحة ويصير الأمر على ما كان عليه بعيدا وأيضا لا دليل عليه
ومنها ما قاله الأصحاب إنه لو شهد شاهدان أنه سرق ثوبا قيمته عشرة دراهم وشاهدان آخران أن قيمته عشرون لزمه أقل القيمتين وهذا له مأخذان أحدهما وهو الأظهر أن الأقل متيقن والزائد مشكوك فيه فلا يلزم بالشك وهذا المأخذ يقتضي أن يكونا متعارضين في الزائد وعلى هذا ينبغي أن يقال إن وقع التعارض قبل الحكم لا يحكم وإن وقع بعد الحكم لا ينقض والضابط فيه دائما لا نفعل شيئا بالشك فحيث تحققنا أقدمنا وحيث شككنا أحجمنا
والمأخذ الثاني ذكره الرافعي في أخر الدعاوى أن التي شهدت بالأقل ربما اطلعت على عيب وهذا لو تحققنا كان يقتضي القطع بالحكم بأن القيمة هي الأقل وعلى هذا سواء أحصل التعارض قبل الحكم أم بعده لا اعتبار بالزائد بل الأقل هو القيمة ويجوز البيع بها حيث يجوز البيع بالقيمة وهو ما إذا كان للحاجة أو للمصلحة الناجزة في البيع ولا ينقض
ومنها ما قاله الجرجاني في الشافي بعد أن ذكر الأقوال في تعارض البينتين والعين في يد ثالث قال وإنما تتعارض البينتان إذا تقابلتا حين التنازع فلو سبقت إحداهما الأخرى بأن يدعي زيد عبدا في يد خالد فأنكره فأقام زيد البينة وقضي له به وسلم له ثم حضر عمرو وادعاه وأقام عليه البينة فهل تعارض بينة زيد وبينة عمرو من غير أن تعيد بينة زيد الشهادة على وجهين بناء على القولين في البينتين إذا تعارضتا بقديم الملك وحديثه
فإن قلنا
____________________
(1/317)
بينة قديم الملك أولى فقد تعارضتا من غير إعادة لأن بينة زيد قائمة حين التنازع وإن قلنا هما سواء ففيه وجهان أحدهما يقع التعارض بينهما بلا إعادة فإن البينة قائمة بحالها ولا حاجة إلى إعادتها كما لو شهد شاهدان بحق ولم يحكم به الحاكم للبحث فإذا بحث لم تجدد الشهادة كذلك ههنا
والثاني لا يقطع التعارض إلا بالإعادة لأنها إذا سبقت إحداهما الأخرى لم تقع المقابلة حين التنازع والجرجاني رحمه الله مصرح بالمسألة التي قدمناها عن العراقيين أن الداخل إذا أقام البينة بعد الحكم بها للخارج ينقض الحكم فيرد إليه جازما به كما جزم به غيره من العراقيين وإنما حكى الخلاف في مسألتنا المذكورة التي إقامة البينة فيها من ثالث وما ذكره من أنهما متعارضتان إذا قلنا بينة الملك القديم أولى لعله اختياره فإن للأصحاب فيما إذا كان لأحدهما بينة أسبق تاريخا بلا يد وللآخر بينة متأخرة ويد ثلاثة أوجه أصحها تقديم اليد
والثاني السبق والثالث يتعارضان ما ذكره من الوجهين إذا قلنا هما سواء هل يحتاج إلى إعادتهما أو لا لم أره لغيره ويحتاج إلى الفرق بينه وبين ما إذا أقام الداخل البينة بعد الحكم للخارج وعلى الوجه الثاني الذي حكاه أنه لا يقع التعارض إلا بالإعادة لو لم تحصل الإعادة هل نقول إنها تنزع بمقتضى البينة الثانية السالمة عن المعارضة أو كيف يكون الحكم فيه نظر والأقرب الأول وكان هذا خصومة جديدة بخلاف ما إذا كان الداخل أقام البينة بعد الانتزاع منه فإنه كالاستدراك لما فاته
فإن صح هذا ترتب عليه أنا إذا قضينا لشخص ببينة وانتزعنا العين من التي هي في يده ثم جاء أجنبي يدعيها على من حكم له بها وأقام بينة لا تكون معارضة للأولى بمجردها بل إن شهدت بهذا المدعى بالملك الآن ولم تعارض قضى له وإن عورضت فكتعارض البينتين في بقية الصور فإن أسندت الملك إلى ما قبل الحكم له فهو محل كلام الجرجاني رحمه الله فتلخص من هذا أن البينة التي شهدت بأن الملك المدعى متقدم على الحكم إن كانت لمن كانت في يده يقضى بها عند العراقيين خلافا للقاضي الحسين وإن كانت لأجنبي ففي القضاء بها وجهان
وهل الأصح منهما القضاء أو لا إن أخذنا بإطلاق الترجيح باليد فلا يقضى لأن هذا المحكوم له الآن صاحب يد وإن خصصنا تكون هذه البينة أسندت الملك إلى ما قبل هذه فتصير كالتي كانت في يده فيقضى له على الأصح لكن المأخذ هنا ببينة باليد السابقة وهذا المأخذ غير موجود هنا نعم هنا ترجيح آخر وهو سبق التاريخ لكن هذا السبق يعارض فيه ببينة المتقدمة فلا وجه للترجيح به فالذي يظهر في هذه الصورة
____________________
(1/318)
لا نقضي لهذا المدعي الذي لم يتقدم له يد وإن القضاء إنما كان لذي اليد لأجل ترجيح بينته بيده
ومن هنا تبين لك أنه لا ينقض قضاء القاضي في البيع في مسألتنا ولا نحكم ببطلانه لأن تعارض البينتين خال عن الترجيح فيبقى الأمر على ما كان عليه قبل البيع لأنا لو علمنا بذلك لكان عملا بالبينة الثانية وترجيحا لها والمقدر خلافه ومنها لو ادعى الصبي بعد بلوغه بيعا بلا مصلحة فإن كانت الدعوى على الأب أو الجد صدقا بيمينهما وفيه وجه أنه يقبل إلا أن يكون لهما بينة وهو ضعيف بمرة وإن كانت الدعوى على الوصي صدق الصبي بيمينه إلا أن يكون للوصي بينة
وفيه وجه أن القول قول الوصي لأنه أمين واختاره الغزالي وهو قوي وقيل يقبل قول الوصي في غير العقار ولا يقبل في العقار لأنه يحتاط في غيره وصغى أكثر الأصحاب إلى هذا وأمين الحاكم كالوصي صرح به الأصحاب والحاكم نفسه يقبل قوله بلا يمين لأن الماوردي قال إن قول الحاكم في الرد مقبول فليكن هذا مثله أيضا فإنه نائب الشرع أما نائبه فقسمان أحدهما المنصوب مطلقا
وهو المسمى بأمين الحاكم وناظر الأيتام فهذا منصوب لمصلحة الأيتام فعليه في البيع أن لا يبيع إلا لمصلحة
والقسم الثاني من يأذن له في بيع معين كمسألتنا فهذا كالوكيل عن الحاكم وقوله كفعل الحاكم إذا عرفت ذلك فقد قال ابن الرفعة رحمه الله إن الحكم فيما إذا رفع بيعهم العقار إلى الحاكم كذلك فلا يمضي على الأصح غير الأب والجد من غير أن يسأل وأراد بغير الأب والجد الوصي وأمين الحاكم وقوله إنه لا يمضي بيعهما إلا بعد ثبوت الغبطة أو الضرورة إن أراد أنه إذا لم يثبت ذلك يعرض عنه من غير إبطال فصحيح وإن أراد أنه يبطله فممنوع بل يطلب البينة وليس له إبطاله حتى يثبت أنه على خلاف المصلحة اللهم إلا أن يكون مما تجب مراجعته فيه ولم يراجع وقد أشرنا فيما تقدم أن عبارة الأصحاب في العقار الغبطة أو الضرورة وعبارة الرافعي لم تفرق بين العقار وغيره للمصلحة وهي في العقار يمكن تنزيلها على الأمرين أما في غير العقار فلا يشتركان لكن يشترط المصلحة فقد تكون بعض الأعيان بقاؤها أصلح
وحينئذ لا يجوز بيعها فالرافعي يقول إنه يجب على الولي بيان المصلحة المسوغة للبيع في الكل كما يقوله غيره في العقار وفيه عسر ونشأ لنا من هذا أنه لو قال لوكيله بع هذا إن رأيت في بيعه مصلحة فله بيعه والقول قوله في المصلحة لأنه فوضه إلى رأيه ولا يعلم إلا من جهته
ولو قال بعه إن كان بيعه مصلحة فيشترط وجود المصلحة في نفس الأمر وإن كان يعذر في نفي الإثم
____________________
(1/319)
إذا جهلها ولكن جهله لا يقتضي تصحيح التصرف أما ثمن المثل فيحتمل أن يقال كالمصلحة فيفرق بين أن يقول بعه بثمن المثل أو بما تراه ثمن المثل ويقبل قوله في الثاني لا في الأول ويحتمل وهو الأقرب الفرق وأنه يقبل قوله في ثمن المثل مطلقا لأنه ليس بشرط مسوغ للبيع بل هو صفة من صفاته
وقد اتفقا على الإذن في البيع فالاختلاف بعد ذلك في كونه بثمن المثل أولا يشبه الاختلاف في الصحة والفساد والقول قول مدعي الصحة بل هنا أولى حتى لا يجيء اختلاف من حيث إنه أمين والله تعالى أعلم انتهى
مسألة رجل باع جارية لرجل ورهنها على الثمن ثم تقايلا البيع والرهن فادعى المشتري عتق الجارية المرهونة قبل المقايلة وأقام بينة وزوجها لغيره بحكم الولاء والمشتري معسر
الجواب إن كان الثمن حالا والجارية لم يقبضها المشتري فالرهن باطل والعتق والتزويج صحيحان والإقالة باطلة ويرجع البائع على المشتري بالثمن وإن كان مؤجلا أو حالا ولكن بعد القبض فالرهن صحيح والعتق غير نافذ لاعتباره والتزويج باطل والمقايلة صحيحة فيسقط الثمن والله أعلم انتهى
مسألة شخص رهن عينا على دين مؤجل وغاب من له الدين فأحضر الراهن الدين وهو دراهم إلى الحاكم وطلب منه قبضها ليفك الرهن هل للحاكم ذلك أو لا وهل يجب عليه أو لا الجواب له ذلك ويجب عليه والأصل في هذا ما روى الشافعي قال قال أخبرنا أن أنس بن مالك كاتب غلاما له على نجوم إلى أجل فأراد المكاتب تعجيلها ليعتق فامتنع أنس من قبولها وقال لا آخذها إلا عند محلها فأتى المكاتب عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فقال عمر إن أنسا يريد الميراث وكان في الحديث فأمره عمر بأخذها منه فأعتقه
فصل منبه الباحث في دين الوارث للشيخ الإمام رحمه الله في دين الوارث مصنف سماه منبه الباحث كبير اختصره فقال ومن خطه نقل يسقط من دين الوارث ما يلزمه أداؤه من ذلك الدين لو كان لأجنبي وهو يشبه أزيد من الدين إن لم يزد الدين على التركة ومما يلزم الورثة أداؤه منه إن زاد وينتقل له نظيره من الميراث ويقدر أنه أخذ منه ثم أعيد إليه عن الدين ويرجع على بقية الورثة ببقية ما يجب أداؤه منه على قدر
____________________
(1/320)
حصصهم وقد يفضي الأمر إلى التقاص إذا كان الدين لوارثين فإذا كان الوارث حائزا أو لا دين لغيره ودينه مساو للتركة أو أقل سقط وإن زاد سقط مقدارها وبقي الزائد ومأخذ التركة في الأحوال إرثا ويقدر أنه أخذها دينا لأن جهة الملك أقوى ولا تتوقف على شيء وجهة الدين تتوقف على إقباض أو تعوض وهما متعذران لأن التركة ملكه لكنا نقدر أحدهما وإلا لما برئت ذمة الميت تقديرا محضا لا وجود له ولو كان مع دين الحائز دين أجنبي قدرنا الدينين لأجنبيين فما خص دين الوارث سقط واستقر نظيره كدينارين له ودينار لأجنبي والتركة ديناران فله دينار وثلث إرثا وسقط نظيره وبقي له في ذمة الميت ثلثا دينار ويأخذ الأجنبي ثلثي دينار ويبقى له ثلث
ولو كان الوارث اثنين لأحدهما ديناران وللآخر دينار فلصاحب الدينارين من ديناره الموروث ثلثاه ومن دينار أخيه ثلثه والثلث الباقي من ديناره يقاصص به أخاه فيجتمع له دينار وثلث ولأخيه ثلثان ومجموعهما ديناران وهو اللازم لهما لأن الذي يلزم الورثة أداؤه أقل الأمرين من الدين ومقدار التركة ولو كان زوج وأخ والتركة أربعون والصداق عشرة فلها عشرة إرثا وسبعة ونصف من نصيب الأخ دينار وسقط لها ديناران ونصف نظير ربع إرثها ازدحم عليه جهتا الإرث والدين ولو قلنا السبعة والنصف من أصل التركة يسقط ربعها المختص بها وهلم جرا إلا أن لا يبقى شيء ولأنه لو عاد له ثلاثة أرباع الاثنين ونصف لكان بغير سبب ولزاد إرثه ونقص إرثها عما هو لها بنص القرآن والإجماع وقد بان بهذا أنه لا يختلف المأخوذ وسواء أعطيت الدين أم لا أو بعد القسمة والحاصل لها على التقديرين سبعة عشر ونصف والطريق الأول هو الذي عليه عمل الناس وهو أوضح وأسهل ويتمشى على قول من يقول إن التركة لا تنتقل قبل وفاء الدين والطريق الثاني أدق وهو مبني على أن التركة تنتقل قبل وفاء الدين وهو الصحيح عند جمهور العلماء من الشافعية
ويترتب عليه أنه لا يجوز لها أن تدعي ولا تحلف إلا على النصف والربع وكذا لا تتعرض ولا تقبض ولا تبرئ إلا من ذلك والذين قالوا بالانتقال حجروا على الوارث فيها كالرهن وقيل كأرش وقيل كحجر المفلس والأصح أنه لا فرق بين أن يكون الدين مستغرقا أو أقل من التركة ولو كان الدين أزيد فهل نقول التركة مرهونة بجميعه أو بقدرها لأنه الذي يلزم الوارث أداؤه لم أر فيه نقلا والأقرب الثاني ولا تخفى فائدة ذلك وسواء قلنا بذلك لا يسقط من دين الوارث ما زاد على قدر التركة ومن تخيل ذلك فهو غالط وهذا الرهن يتعدد بتعدد الوارث
____________________
(1/321)
في الأصح ولا يتعدد الغريم في الأصح
وفي بيع التركة قبل وفاء الدين قولان أصحهما البطلان وإذا بيعت وقسمت أثمانها على الغرماء ثم ظهر غريم فثلاثة أوجه أصحها إن كان الدين مقارنا تبين البطلان وإن حدث رد بعيب أو ترد في بئر ونحوه فلا بل يفسخ إن لم يتبرع الوارث بقضائه وإذا أبطلناه بطل في الجميع وما ذكرنا من سقوطه بشبه الإرث مبني على أن الوارث إنما يلزمه في حصته نسبة إرثه وهو الأصح فإن قلنا يلزمه الجميع فقياسه سقوط الجميع
وما ذكرنا من اللزوم محله إذا وضع الوارث يده عليه ليستوفي ذلك فإن قلت ما ادعيته من السقوط وبين معناه لا بد فيه من الإسناد إلى شيء من كلام الأصحاب وإلا فقد ظن بعض الناس أن بالسقوط يتفاوت المأخوذ وظن آخرون أن لا سقوط أصلا
قلت أما من ظن أن لا سقوط فكلامه متجه إذا قلنا التركة لا تنتقل فإن قلنا بالانتقال فلا وأما من ظن التفاوت فليس بشيء أما كلام الأصحاب الدال على ما قلنا ففي موضعين أحدهما في الخراج إذا خلف زوجة حاملا وأخا لأب وعبدا فجنى عليها فأجهضت قالوا يسقط من حق كل واحد من الغرة ما يقابل ملكه لأنه لا يثبت للإنسان على ملكه حق وذكروا طريقين في كيفية السقوط إحداهما طريقة الإمام والرافعي أنه يسقط نصيب الأخ كله لأنه أقل من ملكه ومن نصيب الأم ما يقابل ملكها وهو الربع ويبقى لها سدس الغرة ترجع به على الأصح على قياس الفدا وأصحهما طريقة الغزالي أنه يسقط من حقها من الغرة ربعه لأنه المقابل لملكها ومن حقه ثلاثة أرباعه يبقى لها سدس الغرة ولها عليه نصف سدسها والواجب في الفداء أقل الأمرين وربما لا تفي حصتها بأرشها وتفي حصته بأرشه فإذا سلمت تعطل عليه ما زاد ولم يتعطل عليها مثاله الغرة ستون وقيمة العبد العشرون وسلما ضاع عليه خمسة وصار له خمسة ولها خمسة عشر وبهذا تبين صحة طريق الغزالي على طريقة الإمام والرافعي
الموضع الثاني في الإجارة أجر دارا من أبيه بأجرة قبضها واستنفقها ومات عقيب ذلك عنه وعن ابن آخر وقلنا تنفسخ الإجارة في نصيب المستأجر فمقتضى الانفساخ فيه الرجوع بنصف الأجرة سقط منها نسبة إرثه وهو الربع ويرجع على أخيه بالربع هكذا قاله ابن الحداد وخالفه غيره في كيفية الرجوع مع اتفاقهم عليه وعلى السقوط فمن هذين الموضعين يؤخذ ما ذكرناه من السقوط مع ما تقدم من دليله وقد كمل غرضنا من هذه المسألة
وبقيت فائدة في قول ابن الحداد بالرجوع في موت المؤجر ووراثة المستأجر اعلم أن بيع الدار المستأجرة من غير المستأجر لا تقتضي الانفساخ قطعا ومن
____________________
(1/322)
المستأجر لا تقتضيه على الصحيح
وقال ابن الحداد تنفسخ وإذا قلنا بالانفساخ قال ابن الحداد لا يرجع بالأجرة وقاسه على المهر إذا اشترى زوجته والأصح عند الرافعي الرجوع وأجاب عن المهر بأنه قد يستقر بالموت نحوه
وإذا مات المؤجر عن أبيه المستأجر وهو حائز ولا دين عليه فلا فائدة في الانفساخ والرجوع وإن كان عليه دين مستغرق قال ابن الحداد يرجع وهو خلاف قوله في الشراء قال الرافعي فمنهم من تكلف له فرقين أحدهما أن الانفساخ في الشراء باختياره والثاني أن المانع في الشراء في يده وهنا يخرج إذا بيعت الدار في الديون قال الرافعي وهما ضعيفان عند المعتبرين أما الأول فلأنه لا فرق في الانفساخ بين أن يكون بفعله أو لا كانهدام الدار
أما الثاني فلأن بقاء المنافع بغير جهة الإجارة لا يقتضي استقرار عوض الإجارة كما لو تقايلا ثم وهب البائع المشتري لا يستقر عليه الثمن وأنا أقول إن الفسخ المذكور في صورة الشراء والإرث ليس هو الفسخ المذكور في انهدام الدار لأن الفسخ بانهدام الدار سببه خلل في المعقود عليه ومعناه خلل العقد السابق وحكمه ارتفاع أثره وهل هو من أصله أو من حينه فيه الخلاف المعروف وترجع المنافع فيه إلى المؤجر والإجارة إلى المستأجر ويصير الأمر إلى ما كان عليه قبل الإجارة وهكذا فسخ البيع بالعيب ونحوه وهو الفسخ الحقيقي وكذلك فسخ النكاح بالعيوب وثم نوع آخر من الفسخ ذكروه في النكاح وهو ارتفاعه بالإسلام والردة والرضاع وشراء أحد الزوجين للآخر هذا لا يعود إلى أصل العقد قطعا ولا يقتضي تراد العوضين بل إن كان منها سقط المهر وإلا فلا جرم إذا اشترت زوجها سقط في الأصح
وإذا اشتراها قبل الدخول يشطر في الأصح وإذا ورثها قبل الدخول سقط الكل عند ابن الحداد والأصح عند الرافعي وجوب الشطر ولم يذكر الأصحاب هذا النوع في البيع والإجارة ونحوهما فكان ابن الحداد ألحق انفساخ الإجارة الملك والإجارة بذلك لأنه بمعنى حادث لا يعود إلى خلل في أن المعقود عليه وهو إلحاق صحيح فلا جرم قال بالرجوع في الإرث دون الشراء وحسن قياسه على المهر
وجواب الرافعي بأن المهر قد يستقر بالموت لا يفيد لأن بالموت لم يرتفع النكاح وإنما انتهى نهايته وبهذا بان أن احتجاج الرافعي بانهدام الدار ليس بظاهر وكذلك الإقالة فإنها رفع وما نحن فيه قطع لا رفع وإطلاق الفسخ عليه توسع وبهذا يظهر أن الأصح في مسألة الشراء عدم الرجوع كما قاله ابن الحداد ثم أورد الرافعي على ابن الحداد في قوله بالرجوع على الأخ برفع الأجرة بأن الابن المستأجر ورث
____________________
(1/323)
نصيبه بمنافعه وأخوه ورث نصيبه مسلوب المنفعة قد تكون أجرة مثل الدار في تلك المدة مثل ثمنها فإذا رجع على الأخ بربع الأجرة واحتاج إلى بيع جميع نصيبه فيكون فاز بجميع نصيبه وبيع نصيب الأجرة دين الميت وقال إن قول ابن الحداد مستبعد عند الأئمة كذلك وجوابه أنه لم يرث نصيبه بمنفعة بل ورثه مسلوب كأخيه لكن المنافع حدثت عنده على ملكه تقدير الانفساخ فإن هذا الانفساخ لا يوجب عودها إلى الميت وإلا لورثاها جميعا وما ذكره من الإلزام مجرد استبعاد والله أعلم انتهى
باب الحجر مسألة يتيم تحت حجر الشرع له مال يعامل فيه ناظر الأيتام بإذن الحاكم ثم إن اليتيم له قرية من بلد القدس إلى الغرب ومضت مدة تحقق فيها بلوغ اليتيم ولم يعلم هل بلغ رشيدا أم لا فهل يجوز المعاملة في ماله بعد مدة البلوغ التي لم يعلم أنه بلغ فيها رشيدا أم سفيها استصحابا لحكم الحجر أم لا يتصرف ويترك إلى أن تأكله الزكاة ومعرفة حاله متعذرة أو متعسرة
أجاب الشيخ الإمام رحمه الله بما نصه لا تجوز المعاملة والحالة هذه ولا إخراج الزكاة من ماله والله أعلم ومستندي في منع المعاملة يعتضد بقول الأصحاب إنه إذا أخر الولي الصبي مدة يبلغ فيها بالسن لم تصح فيما زاد على البلوغ فهذا يدل على أن الأصحاب لا يكتفون بالعقود في الأصل انتهى
مسألة قال الشيخ الإمام رحمه الله هذه مسألة تقع كثيرا للقضاة في أموال الأيتام وهي أن يموت اثنان ولأحدهما دين على الآخر ولكل منهما أيتام فيدعي ولي الصبي المستحق على ولي الصبي الذي عليه الحق ويقيم البينة هل يوقف الحكم إلى أن يبلغ المدعى عليه فيحلف أم لا قال القاضي الحسين يحتمل وجهين قال الرافعي إن قلنا بوجوب التحليف فينتظر إلى أن يبلغ المدعى عليه فيحلف وإن قلنا بالاستحباب فيقضي بها انتهى كلام الرافعي
والمذهب وجوب التحليف فمن يطالع ذلك يعتقد أن المذهب أنه ينتظر ويؤخر الحكم وقد يترتب على ذلك ضياع الحق فإن تركة الذي عليه الدين قد تضيع أو يأكلها ورثته فتعريضها لذلك وتأخير الحكم مع قيام البينة مشكل ولا سيما ونحن نعلم أن الصبي لا علم عنده من ذلك واليمين الواجبة عليه بعد بلوغه إنما هي على عدم العلم بالبراءة وهو أمر حاصل فكيف يؤخر الحق لمثل ذلك
وهذه المسألة لم يذكرها إلا القاضي الحسين تخريجا منه وتبعه من بعده عليها فالوجه عندي خلاف ما قال وأنه يحكم الآن بما قامت به البينة ويؤخذ الدين للصبي الذي ثبت له وإن أمكن القاضي أخذ
____________________
(1/324)
كفيل به حتى إذا بلغ يحلف فهو احتياط وإن لم يمكن ذلك فلا يكلف وينبغي للقاضي أن ينظر نظرا خاصا فإن ظهرت أمارة البراءة وقف وإن ظهر خلافها اعتمد الحجة الظاهرة وإن استوى الأمران اعتمد الحجة بعد قوة الاجتهاد وقد صرح الأصحاب بأن الوارث في مثل ذلك إنما يحلف على نفي العلم فكيف يحسن قياس على هذا الغريم الغائب الذي يحلف على البت وينبغي للقاضي إذا حكم لا يهمل أن يكتب مكتوبا بيد المحكوم عليه أن تحليف المحكوم له إذا بلغ
هذا قولي في الدعوى لصبي على صبي وهكذا أقول لو كانت الدعوى لصبي على بالغ حاضر أو غائب أنه لا تحليف في هذه الصورة الآن ولا يؤخر الحق بعد قيام البينة
أما تحليف صاحب الحق البالغ لأجل الغائب فلأنه ممكن ولأنه يحلف على البت فقام القاضي مقام الغائب احتياطا له بقدر الإمكان فيما هو محتمل وبقيد لأن البالغ المدعي إذا عرضت اليمين عليه قد يقر بالبراءة وهنا في الصبيين ليس الاحتياط لأحدهما بأولى من الآخر وفي الصبي والغائب كذلك ولا فائدة أن التحليف على عدم العلم ولا يتوقع خلافه
فهذا ما عندي في هذه المسألة مع احتمال فيها لإطلاق الأصحاب التحليف لأجل الغائب ولم يفرقوا بين أن يكون المستحق صبيا أو بالغا لكن الفقه ما ذكرناه وقد يوجد في إطلاقهم في موضع آخر مساعدته كقولهم إذا ادعى بعض الورثة دينا وأثبته بالبينة وكان فيهم صغير أو غائب أخذ الحاكم نصيبه وحفظه فهذا الإطلاق يشهد لما قلناه
وأما ثلاث مسائل أخرى فلا دليل فيها لنا ولا علينا وهي ما ذكره الرافعي في دعوى قيم الطفل دينا فقال المدعى عليه إنه أتلف له من جنسه ما أسقطه أنه لا يسمع وعليه قضاء ما أثبته القيم فإذا بلغ الصبي حلفه وما قاله الأصحاب إذا ادعى المدعى عليه الإبراء أو القضاء ولما يأت ببينة قريبة حيث يؤمر بالدفع وما قالوه فيما إذا قال المدعى عليه للوكيل إن موكلك قبض أو أبرأ حيث لا يسمع وذلك لأن في هذه المسائل الثلاث المدعى عليه قد ورط نفسه بإقراره فلم يكن له مندوحة عن دفع الحق فليست مثل مسألة الغائب ولا الصبي المدعى عليه على مثله ولو أن الصبي الذي حكمنا له وألزمناه اليمين بعد بلوغه نكل عنها بعد البلوغ فالوجه أن يقال يحلف الدافع على ما ادعاه من البراءة ويرجع على الصبي بما قبض ولكن هذا يشبه افتتاح حكومة أخرى سواء قلنا اليمين واجبة أو مستحبة حقيقتها أن الدافع يدعي أن القابض قبض ما لا يستحق بحكم أن مورثه أبرأه أو قبض منه ويطلب يمين الوارث على ذلك فإذا نكل ردت اليمين عليه
____________________
(1/325)
وحلف واستحق والاختلاف في الوجوب والاستحباب إنما هو في الحاكم أما الخصم إذا طلبه فيجب لا محالة وقد ذكر الأصحاب في ألفاظ اليمين التي يحلفها غريم الغائب وأن حقه ثابت عليه الآن وتكليف الصبي بعد بلوغه ذلك صعب وهو لا طريق له إلى العلم بذلك غالبا فالوجه الاقتصار في حقه على نفي المسقط كما اقتصرنا على نفي العلم لأنه المقدور له وكذا في حق كل وارث وإن كان بالغا حالة المحاكمة والله أعلم انتهى
مسألة اختلف الأصحاب في التجارة بمال اليتيم هل هي واجبة أو مستحبة والأصح في المذهب أنها واجبة بقدر النفقة والزكاة وينبغي أن يكون مراد الأصحاب من هذا التقدير أن الزائد لا يجب ويقتصر الوجوب على هذا المقدار ولا شك أن ذلك مشروط بالإمكان والتيسير والسهولة أما إنه يجب على الولي ذلك ولا بد فلا يمكن القول به لأنا نرى التجار الحاذقين أرباب الأموال يكدون أنفسهم لمصالحهم ولا يقدرون في الغالب على كسبهم من الفائدة بقدر كلفتهم وأين ذاك ولعل هذا قاله الأصحاب حين كان الكسب متيسرا ولا مكس ولا ظلم ولا خوف وأما اليوم فهذا أعز شيء يكون وكثير من التجار يخسرون ولو كان كل من معه مال يقدر أن يستنميه بقدر نفقته كانوا هم سعداء ونحن نرى أكثرهم معسرين والإنسان يشفق على نفسه أكثر من كل أحد فلو كان ذلك ممكنا لفعلوه فكيف يكلف به ولي اليتيم وإنما يحمل كلام الأصحاب على معنى أن ذلك واجب عند السهولة والزائد عليه لا يجب عند السهولة ولا عند غيرها وأخذوا ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم ما روى اتجروا في أموال اليتامى كي لا تأكلها الصدقة أو النفقة أو كما قال وقد شرط الأصحاب في جواز التجارة لليتيم شروطا ومع ذلك هي عند اجتماع الشروط خطرة لأن الأسعار غير موثوق بها وقد يشتري سلعة فتكسد ويحتاج اليتيم إلى نفقة فيضطر إلى بيعها بخسران أو يترشد فيدعي عليه أن شراءها كان على خلاف المصلحة أو بتسلط الظلمة على الولي فيما يطرحونه من أموالهم على من له عادة بالشراء ويلزمونه أن يشتريه لليتيم ولا يقدر على دفعهم فينبغي لولي اليتيم أن يجتهد وحيث غلب على ظنه غلبة قوة مصلحة اليتيم التي أشار الشارع إليها يفعلها وهو مع ذلك تحت هذا الخطر الدنيوي وبحسب قصده يعينه الله عليه
والقول بالاستحباب في هذه الحالة جيد والقول بالوجوب مستنده ظاهر الأمر ولا شك أنه مشروط بما قلناه والأمر فيه خطر والله يعلم المفسد من المصلح وذلك من جملة المشاق التي في تولي مال اليتيم التي أشار الشارع إليها في
____________________
(1/326)
قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال اليتيم وأنا أحب التجارة لليتيم على الوجه الذي ذكرناه بالشروط المذكورة فإنها حلال قطعا بإجماع المسلمين
أما المعاملة التي يعتمدونها في هذا الزمان وصورتها أن يأتي شخص إلى ديوان الأيتام فيطلب منهم مثلا ألفا ويتفق معهم على فائدتها مائتين أو أكثر أو أقل فيأتي بسلعة تساوي ألفا يبيعها منهم على يتيم بألف ويقبضها من ماله ويقبضهم تلك السلعة ثم يشتريها منهم بألف ومائتين إلى أجل ويرهن عندهم رهنا عليها فيحصل له مقصوده وهو أخذ الألف بألف ومائتين في ذمته إلى أجل ويجعلون توسط هذه المعاملة حذرا من الربا أو يشتروا سلعة من أجنبي بألف ويقبضوه الألف ويقبضوا السلعة ثم يبيعوها من الطالب بألف ومائتين إلى أجل ثم يبيعها هو من صاحبها بتلك الألف التي أخذها فيحصل المقصود أيضا وهذه المعاملة باطلة عند المالكية والحنابلة وبعض أصحابنا صحيحة عندنا وعند الحنفية وهي عندنا مع صحتها مكروهة كراهة تنزيه
والقائلون ببطلانها من أصحابنا طائفتان إحداهما من يقول ببطلان بيع العينة والثانية من يقول بأن مال اليتيم لا يباع بالنسيئة إلا إذا تعجل قدر رأس المال إذا عرف ذلك فهذه المعاملة لم ينص الفقهاء على أنها تفعل في مال اليتيم وإنما ديوان الأيتام سلكوها لكون الربح فيها معلوما لكن فيها خطر من جهة أن أكثر من يأخذ لا يوفي حين الحلول وكثير منهم يماطلون ويسوفون وينكسر عليهم وبعضهم يخرج رهنه غير مملوك له وغير ذلك من المفاسد وفيها خطر آخر وهو أنه قد يحكم حاكم مالكي أو حنبلي ببطلان هذه المعاملة فتضيع الفائدة على اليتيم ويبقى رأس المال على خطر وهذا كما قاله بعض الأصحاب فيما إذا دفع الضامن بشاهد واحد ليحلف معه ولا يرجع على وجه لأنه قد يرفعه إلى حنفي وطريق الولي أن يرفع الأمر إلى حاكم شافعي ليحكم له بالصحة حتى يأمن ذلك والحكم إنما ينفذ ظاهرا فلا يزيل الشبهة ثم نظرت إذا سلمت عن هذا كله وجدت فيها أمرين أحدهما الكراهة كما يقوله أصحابنا والثانية الشبهة لقول
____________________
(1/327)
إمامين كبيرين وأتباعهما بتحريمها وبطلانها
ومن مصالح الصبي أن الولي يصونه عن أكل ما فيه شبهة وعن أن يخلط ماله به ويحرص على إطعامه الحلال المحض وعلى أن يكون ماله كله منه وهي مصلحة أخروية ودنيوية أما أخروية فظاهر لأنه وإن لم يكن مكلفا لكن الجسد النابت من الحلال الطيب أزكى عند الله وأعلى درجة في الآخرة من غيره وأما دنيوية فإن الجسد الناشئ على الحلال ينشأ على خير فيحصل له مصالح الدنيا والآخرة وقد يكون بتركه اجتناب الشبهات يبارك الله له في القليل الحلال فيكفيه ويرزقه من حيث لا يحتسب فهذه المصالح محققة والفائدة الدنيوية التي يكتسبها بالمعاملة دنيوية محضة فتعارضت مصلحتان أخروية ودنيوية ورعاية الآخرة أولى من رعاية الدنيا فكان الأحوط والأصلح لليتيم ترك هذه المعاملة فقد يقال بكون المستحب تركها وقد يزاد فيقال يجب تركها لقوله تعالى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن فالأحسن في الدنيا والآخرة حلال قطعا وغير الأحسن فيهما يمنع قطعا والأحسن في الآخرة دون الدنيا إذا راعينا مصلحة الآخرة وقدمناها على الدنيا صار أحسن من الآخرة فهو أحسن مطلقا فإن تيسر متجر ابتغى فعله وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها ويأكل ماله خير من أن يأكله غيره والله تعالى أعلم
كتبه علي السبكي في يوم السبت الخامس والعشرين من صفر سنة سبع وأربعين وسبعمائة فأورد بعض الناس على قولي بالكراهة لأنها حيلة حديث خيبر
وقول النبي صلى الله عليه وسلم بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا فقلت هذا الذي في الحديث حيلة في الخلاص من الربا فلا يحرم ولا يكره والفرق بينه وبين غيره من الحيل أن المقصود في الحديث التوصل إلى شراء الجنيب الطيب بعينه بالجمع وهو رديء لعينه ولا يمكن شراؤه بالمساواة لعدم رضا صاحب الجنيب لكونه أفضل ولا بالتفاضل لأجل الربا فأرشدهم الشارع إلى طريق يحصل المقصود وهي تحصيل أحد النوعين بالآخر ولم تكن الزيادة مقصودة ولهذا قال بع الجمع بالدراهم واشتر بالدراهم جنيبا ولم يقل بع الناقص واشتر الزائد فالزيادة ليست مقصودة لهما وهي المحظورة في الشرع بخلاف ما نحن فيه فإن قصد ولي اليتيم إنما هو الزيادة فههنا التوصل إلى ما قصد الشارع عدمه وحرمه وهناك التوصل إلى ما لم يقصد الشارع عدمه فإن بيع الجمع بالجنيب من حيث ذاتهما لا يحرم وإنما يحرم التفاضل فافهم هذا فإنه نفيس ويصلح أن يكون قاعدة وهي
____________________
(1/328)
إن كل موضع قصد فيه التوصل إلى أصلي من حيث ذاته لا من حيث كونه حراما فهو جائز وهو خلاص عن الحرام لا حرام فزيادة أحد البدلين على الآخر في الربا حرام فقصدها بالطريق الحرام حرام وبالطريق الحلال مكروه لأنه يشبه مراغمة الشارع ومن هذا الباب التعدي في السبت لأن مقصود الشارع منعهم من الاستيلاء على الصيد يوم السبت وما فعلوه طريق إلى هذا المقصود والتوصل إلى استباحة بضع المرأة بعقد النكاح ليس بحرام لأن وطأها من حيث هو ليس بحرام وإنما المحرم الزنا وأما الوطء بالطريق الشرعي فهو حلال فليس ما قاله ابن حزم صحيحا من أن كل عقد حيلة إلى محرم فقد خفي على ابن حزم هذا المعنى الذي قلناه وهو أن الشيء قد يكون أعم وتحته صورة خاصة محرمة وصورة خاصة مباحة فلا يوصف الأعم بالتحريم ولا المتوصل إليه بالطريق الشرعي متحيلا على الحرام والزيادة في عقود الربا محرمة من حيث هي زيادة فمتى قصدها بأي طريق كان فقد تحيل عليها فإن فعلها بالطريق المحرمة كان حراما بلا إشكال وإن فعلها بغيره كره لقصده ولم يحرم لأنه بغير الطريق المحرم والله أعلم
كتب في التاريخ المذكور ومما يبين لك صحة ما قلناه في المعاملة أنا لم نر أحدا يحرص على دفع مال اليتيم بذلك إلا قليلا بل الغالب أن الغرض يكون للطالب ويدخل على الناس ويأتي بالشفاعات وبالجاه ليأخذ من مال الأيتام ويقترن به أيضا غرض لديوان الأيتام لأن لهم ربع الفائدة فللديوان والطالب غنم بلا غرم ولليتيم المسكين الآن غرم محقق لأنه إخراج ماله بغير عوض يدخل في ملكه وفي المستقبل لا يدري هل يرجع رأس ماله وفائدته فيغنم أو يذهب بعضه أو كله فيغرم
هذا حقيقة الحال فلا يغالط الإنسان نفسه والله تعالى عند قلب كل واحد ويعلم منه ما لا يعلمه غيره ولا يعلمه هو من نفسه فالمحترز في دينه يراجع قلبه فإن انشرح لأن ذلك مصلحة اليتيم وهو أحسن وخلصت نيته لله تعالى في ذلك فعله وإلا فيتركه والله أعلم
كتب في تاريخه الخامس والعشرين من صفر سنة سبع وأربعين وسبعمائة ومن أغرب الوقائع التي وقعت أن كبيرا طلب في مصر من مال اليتيم فأعطيه ورده عن قرب وصار يثني على الدافع الذي هو ناظر الأيتام وحصل له بذلك حظوة ثم اتفق أن هذا الكبير في الشام طلب هذا القدر أو قريبا منه فدفع إليه لأنه جربت معاملته وحمدت فماطل به مدة وحصل التعب معه فقلت في نفسي كان الدفع الأول لا مفسدة فيه وتبين بآخره
____________________
(1/329)
أن فيه مفسدة لأنه كان السبب في المفسدة فقل أن يخلو هذا النوع من مفسدة والله أعلم
واعلم أنى مع ذلك كله منعني من إطلاق القول بتحريم المعاملة شيء وهو أيضا نافع لي من القول بأن تركها أولى مطلقا بل أقول إن ذلك يفوض إلى رأي الولي ودينه وعلمه ويختلف اختلافا كثيرا بحسب الجزئيات لا ينضبط فعليه التحري فإذا كان مال اليتيم مالا كثيرا ولا يؤدي ترك المعاملة إلى إجحاف به فههنا يستحب أو يجب ترك المعاملة وإذا كان ماله قليلا ويغلب على الظن أنه لو لم يعامل له فيه لنفد وضاع اليتيم ووجدنا معاملة مأمونة سريعة فههنا تستحب المعاملة أو تجب ويحتمل انسياب الشبهة في مقابلة هذه المصلحة ولا يستنكر ذلك وأنا أضرب لك في ذلك مثلا أكل المضطر الميتة واجب فساغ الإقدام على الميتة المقطوع بتحريمها في حال الرفاهية حفظا للمنية فإذا حصلت حاجة دون الضرورة إلى تناول الشبهة لم يبعد أن يستحب التناول ويحصل دفع تلك الحاجة بنمو على مصلحة دفع الشبهة مثاله إذا كان عند الشخص عيال وعلم أو غلب على ظنه أنه لو لم يأخذ لهم مالا من شبهة لضاعوا ومؤنة العيال واجبة فههنا يظهر أن نقول بترجح حفظه مصلحة العيال وهي مأمور بها من جهة الشرع على التنزه عن الشبهات كذلك اليتيم كالعيال ويحتمل لأجل ضرورته أو حاجته ارتكاب الشبهة ويعذر فيها شرعا وينهض إلى أن يصير ارتكابها أولى في نظر الشرع من اجتنابها وهذه أمور لا يدركها إلا من ينظر في الشريعة وسلم من الغرض والله أعلم
كتب في ليلة السابع والعشرين من صفر سنة سبع وأربعين وقد نشأ من هذا أني لا أمنع من المعاملة ولا آمر بها غيري أما أنا إذا طلبت مني فأرجو أن أجتهد رأيي فيها وأفعل ما يوفقني الله تعالى له إن شاء الله
وكتب في تاريخه
مسألة كتب إلي ابني بارك الله في عمره قال وقعت مسألة في امرأة سفيهة تحت الحجر قامت بينة برشدها ثم حضر وصيها فأقام بينة بسفهها فهل تسمع بينة السفه وكتب جماعة عليها بأن نقدم بينة السفه ويعاد الحجر عليها وخالفهم المملوك في ذلك وقلت لهم إن بينة السفه لا تقبل إلا مفسرة لأنها بينة جرح بالنسبة إلى التصرفات وعلى تقدير أن نبين السفه فإن كان سببا سابقا على وقت شهادة الرشد فلا تعارض وتقدم بينة الرشد وإن كان سببا لاحقا بعد الرشد فلا ينعطف على الماضي ويعاد الحجر من الآن وأن يثبت سببا مقارنا أو قبلناها مطلقة وشهدت أنها سفيهة في الوقت الذي وقعت الشهادة فيه بالرشد قدمت عليها بينة الرشد لأنها ناقلة
وبينة السفه قد تكون استصحاب الأصل كما إذا قامت بينة بأن زيدا النصراني مات مسلما
____________________
(1/330)
وأخرى أنه مات نصرانيا تقدم بينة الإسلام على بينة النصرانية وإن كان في بينة النصرانية جرح وبينة الجرح إنما تقدم على بينة التعديل حيث استويا أما لو ثبت الجرح ثم قامت البينتان فإن بينة التعديل تقدم هذا الذي ظهر لي ولم يوافق عليه أحد
الجواب أما كون بينة السفه لا تقبل إلا مفسرة فينبغي ذلك لأن الناس مختلفون في أسباب السفه والرشد فمن الناس من يرى صرف المال إلى الأطعمة النفيسة التي لا تليق بحاله سفها والصحيح أنه ليس بسفه ولكن صرفها في الحرام سفه ومن الناس من يرى أن الصبي إذا بلغ وهو يفرط في إنفاق المال في وجوه الخير من الصدقات ونحوها يكون سفيها بذلك والصحيح أنه لا يكون بذلك سفيها ومن الناس من يرى أن الرشد هو الصلاح في المال فقط وعندنا ليس كذلك بل لا بد من الصلاح في الدين والمال وخالف فيه بعض أصحابنا وجماعة من العلماء
ومن السفه ما يكون طارئا ومنه ما يكون مستداما والشاهد قد يكون عاميا وقد يكون فقيها ويرى سفها ما ليس بسفه عند القاضي وكذلك الرشد فكيف تقبل شهادته مطلقة فينبغي أن لا تقبل الشهادة بالسفه حتى يبين سببه ولا بالرشد حتى يبين أنه مصلح لدينه وماله كما عادة المحاضر التي تكتب بالرشد وقد قال الماوردي إذا أقر الراهن والمرتهن عند شاهدين أن يؤديا ما سمعاه مشروحا فلو أرادا أن لا يشرحا بل شهدا أنه رهن بألفين فإن لم يكونا من أهل الاجتهاد لم يجز وكذا إن كانا من أهل الاجتهاد في الأصح لأن الشاهد ناقل والاجتهاد إلى الحاكم
وقال ابن أبي الدم الذي تلقيته من كلام المراوزة وفهمته من مدارج مباحثاتهم المذهبية أن الشاهد ليس له أن يرتب الأحكام على أسبابها بل وظيفته نقل ما سمعه أو شاهده فهو سفير إلى الحاكم فيما ينقله من قول سمعه أو فعل رآه وقد اختلف أصحابنا في الشهادة بالردة هل تقبل مطلقة أو لا بد من البيان والمختار عندي أنه لا بد من البيان وفاقا للغزالي لاختلاف المذاهب في التكفير ولجهل كثير من الناس وإن كان الرافعي رجح قبولها مطلقة لظهور أسباب الكفر وهذه العلة لا يأتي مثلها في السفه والرشد فيترجح أنه لا بد من البيان كالجرح وليس الرشد كالتعديل حتى يقبل مطلقا نعم هو مثله في الاكتفاء في الإطلاق في صلاح الدين والإطلاق في صلاح المال لعسر التفصيل فيه أما إطلاق الرشد من غير بيان الدين والمال فلا يكفي أما قولك وعلى تقدير أن يبين السبب فإن كان سببا سابقا على وقت شهادة الرشد فلا تعارض وتقدم بينة الرشد فيه نظر وينبغي أن يكون
____________________
(1/331)
كما لو قامت بينة أن هذا ملك زيد ثم بعد مدة قامت بينة أنه ملك عمرو هل تتعارضان والمنقول أنا إن قدمنا بينة الملك القديم فيتعارضان وهذا مثله ومأخذه أن كل ما ثبت يستصحب حكمه إلى الآن ما لم يعلم زواله فالسبب الذي ثبت بينة السفه حصوله في وقت متقدم يستصحب حكمه ما لم تشهد بينة الرشد بزواله فحينئذ تقبل ويثبت الرشد
والقول بتقديم بينة السفه لا وجه له وقولك وإن كان سببا لاحقا بعد الرشد فلا ينعطف على الماضي ويعاد الحجر من الآن صحيح ولا يجيء هنا استصحاب الرشد السابق لأن السبب الطارئ يرفعه فالشاهد يرفعه مع زيادة علم وقولك وإن ثبت سببا مقارنا فيه نظر لأن ثبات السبب المقارن لا بد أن يكون أمرا محسوسا مقارنا لزمان قيام البينة بالرشد والمحسوس لا يكون مستنده الاستصحاب فلا وجه حينئذ إلا تقديم بينة السفه لأن معها زيادة علم على بينة الرشد ولكن صورته ما أشرنا إليه مثل أن تشهد بينة الرشد في الوقت الفلاني فتشهد بينة أخرى بأنه في ذلك الوقت كان يشرب الخمر أو يصرف المال في الحرام ونحو ذلك مما يوجب السفه وأما إذا قبلناها مطلقة فالذي بحثه الولد صحيح ويشهد له ما قاله الشيخ تقي الدين أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في فتاويه في ثلاث مسائل متجاورة في أول كتاب التفليس إحداها فيمن علم يسار شخص في زمان متقادم هل له أن يشهد الآن بيساره وهل يسأله الحاكم عن كونه موسرا حال أداء الشهادة وعليه الشهادة كذلك
أجاب رضي الله عنه إن له أن يشهد الآن بيساره معتمدا على الاستصحاب إلا أن يكون قد طرأ ما أوجب اعتقاده بزواله أو جعله في صورة التشكيك في بقائه وزواله
والاعتماد في هذا على الاستصحاب السالم عن طارئ فحدثه كالاعتماد على مثله في الملك ولا يشترط فيه الخبرة الباطنة كما هنالك وما علل به ذلك من أنه لا طريق له إلا الاستصحاب في الباطن لا بد له من الاستصحاب موجود هنا
قال ومما يدل من كلامهم على جريانه في نظائره قولهم في البينة الناقلة في الدين في مسألة الابنين المسلم والنصراني وفي غيرها إنها ترجح على المنفية لأنها اعتمدت على زيادة علم والأخرى ربما اعتمدت على الاستصحاب وهذا تجويز منهم لذلك وإلا لكان ذلك قد جاء فيها لا من قبيل الترجيح بل يكتفي الحاكم بالشهادة أنه موسر فإنه يتناوله الحال فإن أحوجه إلى ذكر الحالة الراهنة فله أن يشهد لذلك معتمدا على الاستصحاب المذكور بل لا ينبغي أن يفصح بذلك في الشهادة فإنه لا بد من الدين بما شمل الحال الحاضرة
كذا رأيته في الفتاوى وفيه خلل يسير
____________________
(1/332)
والمقصود أنه استشهد بالمسألة التي استشهد بها الولد
المسألة الثانية من شهد بالرشد ما الذي يجب عليه في شهادته وهل يجب عليه أن يعرف عدالته باطنا أو ظاهرا ويكتفي بالعدالة الظاهرة وهل يكتفي في اختياره والشهرة أجاب الظاهر أنه يكتفي في ذلك بالعدالة الظاهرة ومن شروطها أن لا يكون غريبا عند الشاهد بل يكون متقدم المعرفة ويكتفي في اختياره بالاستفاضة والشهرة
المسألة الثالثة في بينتي إعسار وملاءة تكررتا كلما شهدت إحداهما جاءت الأخرى فشهدت أنه في الحال على ما شهدت به هل يقبل ذلك أبدا أو يعمل بالمتأخر
أجاب رضي الله عنه يعمل بالمتأخر منهما وإن تكررت إذا لم ينشأ من تكرارها ريبة ولا تكاد بينة الإعسار تخلو عن الريبة إذا تكررت لأن قبولها منحصر الجهة في تقدير إثباتها طريان الإعسار بعد الملاءة لا على تقدير معارضتها بينة الملاءة على المناقضة في وقت واحد لا تقبل لترجيح بينة الملاءة حينئذ وليس هكذا بينة الملاءة فإنها مقبولة على التقديرين ومعمول بها وإن كان ما يشهد به ملاءة مستمرة من غير تجدد وعند هذا فإذا تكررت بينة الإعسار فقد أثبت فعادت ملاءة الإعسارات وذلك بعيد لا يكاد ينفك عن الريبة
هذا كلام ابن الصلاح كتب في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وسبعمائة بدمشق
قال الرافعي في اشتمال إحدى البينتين على زيادة تاريخ إن الأصح عند أكثرهم ترجيح أسبقهما تاريخا والمسألة مفروضة فيما إذا كان المدعي في يد ثالث فإن كانت في يد أحدهما وقامت بينتان مختلفتا التاريخ وجعلنا سبق التاريخ مرجحا فثلاثة أوجه أصحها ترجيح اليد لأن البينتين تتساويان في إثبات الملك في الحال فتتساقطان فيه وتبقى من أحد الطرفين اليد ومن الآخر إثبات الملك السابق واليد أقوى من الشهادة على الملك السابق ألا ترى أنها لا تزال بها والثاني ترجيح السبق لأن مع أحدهما ترجيحا من وجه البينة ومع الآخر ترجيحا من جهة اليد والبينة تتقدم على اليد فكذلك الترجيح من وجه البينة يترجح على الترجيح من جهة اليد والثالث تتساويان لتعارض المعنيين
وقال الرافعي إذا ادعى دارا أو عبدا في يد رجل فشهدت له البينة بالملك بالأمس ولم يتعرض للحال نقل المزني والربيع أنها لا تسمع ولا يحكم بها وهو الأصح لأن دعوى الملك السابق لا تسمع فكذا البينة عليه ولأنه يعوق الملك سابقا إن اقتضى بقاؤه فيد المدعى عليه وتصرفه يدل على الانتقال إليه فلا يحصل ظن الملك في الحال ويجري الخلاف فيما إذا ادعى اليد وشهد الشهود على أنه كان في يده أمس والمقولين تعلقا بالقولين فيما إذا أرخت البينتان
____________________
(1/333)
بتاريخين مختلفين هل تقدم أسبقهما تاريخا أم تتساويان وقربا من الوجهين فيما إذا كان لفلان علي كذا أو كانت الدار لفلان هل يكون إقرارا وإذا قلنا لا تسمع الشهادة على الملك السابق فينبغي أن يشهد الشاهد على الملك في الحال أو يقول كان ملكا له ولم يزل أو يقول لا أعلم له مزيلا ويجوز أن يشهد بالملك في الحال استصحابا لحكم ما عرفه من قبل كشراء وارث وغيرهما وإن كان يجوز زواله ولو صرح في شهادته أن معتمده الاستصحاب فوجهان في الوسط ولو قال لا أدري أزال ملكه أم لا لم يقبل لأنها صيغة المرتابين ولو شهدت البينة أنه أقر أمس قبلت واستديم حكم الإقرار وقيل بطرد القولين ولو قال المدعى عليه كان ملكا بالأمس فوجهان أصحهما ينزع من يده ولو أسندت الشهادة إلى التحقيق بأن قال هو ملكه بالأمس اشتراه من المدعى عليه بالأمس فقبلت
ولم يثبت ابن الصباغ الوجهين في قول المدعى عليه كان ملكك أمس وحكى القطع أنه يؤخذ بإقراره ورد الوجهين إلى في يدك الأمس وفرق بأن اليد قد لا تكون مستحقة فإذا كانت قائمة أخذنا بالظاهر فيها فإذا زال ضعفت
وقال الرافعي ذكرنا أن الشهود على الملك السابق لو قالوا لا نعلم زوال ملكه قبلت شهادتهم ثم عن ابن المنذر أن الشافعي قال يحلف المدعي مع البينة فإن ذكروا مع ذلك أنه غاصب فلا حاجة إلى اليمين
قال القاضي أبو سعد هذا غريب ووجهه أن البينة قامت على خلاف الظاهر ولم يتعرض لإسقاط ما مع المدعى عليه من الظاهر فأضيف إليها اليمين
قال علي السبكي فإن ذكروا مع ذلك أنه غاصب يقتضي أن صورة المسألة أن يكون المدعي في يد المدعى عليه فيؤخذ منه أن ينزع من يده بالبينة على الملك أمس إذا قالوا لا نعلم له مزيلا ويؤخذ منه أنه إذا ثبت الملك له أمس ولم تقم بينة الآن إلا على الثبوت يكون الحكم كذلك فإن حلف صاحب البينة معها انتزع من يده وإلا فلا والله أعلم
وهذا بخلاف الإقرار فإن المقر يحتاط لنفسه والبينة تعتمد الظاهر والله أعلم
فرع دار في يد إنسان وحكم له حاكم بملكها فادعى خارج بانتقال الملك منه إليه وشهد الشهود بانتقاله بسبب صحيح ولم يثبته
أفتى فقهاء همذان والماوردي والقاضي أبو الطيب بسماعها والحكم بها للخارج والقفال بأنها لا تسمع ومال إليه القاضي أبو سعد لأن أسباب الانتقال تختلف فصار كالشهادة بأن فلانا وارث لا تقبل ما لم يثبت والآن فيه معارضة حكم الحاكم وإنما جرى الخلاف في الفرع المذكور لأنهم بينوا الانتقال ولكن لم ينصوا على سببه
____________________
(1/334)
فجاز أن يعتقدوا ما ليس بسبب سببا وعند الإطلاق أن يكونوا اعتمدوا ظاهرا متقدما وحكم القاضي بخلافه ما إذا لم يكن حكم حيث تقبل الشهادة بالملك مطلقة وينبغي أن يضاف إليها اليمين كما نقل عن نصه في الفرع المتقدم والله أعلم ويحتمل أن نقول بأن التحليف إنما نص عليه فيما إذا شهدت بالملك أمس وقالت لا نعلم له مزيلا وهو أضعف من شهادتها بالملك المطلق في الحال فلم يذكر أحد أنه يحلف فتنفع بينته والله أعلم
نعم إذا لم يشهدوا بالملك في الحال لكن شهدوا في كتاب بتقديم التاريخ فيه ثبوت بالبينة ينبغي أن يحلف معها لأنه قياس الفرع المذكور ويحتمل أن يقال لا نزع أصلا بهذا الكتاب والفرق أن في البينة المذكورة في الفرع مع اليمين حجة حاضرة الآن أما الكتاب المتقدم فالحكم به بغير حجة قائمة الآن والعمل على خلاف هذا والناس لا يزالون يعتمدون على الكتب المتقدمة وها أنا أكشف لعلي أجد مستندا له أو بخلافه ويحتمل أن يقال إن الشهادة بالملك المطلق إذا سمعناها إنما نسمعها إذا كان معها يد ولا تنزع بها اليد إلا إن شهدت أن صاحب اليد المدعى عليه غصبها من المدعي أو تضم إلى شهادتها بالملك للمدعي يدا متقدمة لكن هذا يخالف إطلاقهم في باب تعارض البينتين ولا يمكن أن يخصص ذلك الإطلاق بما إذا لم يكن في يد أحد كقولهم إن المرجحات اليد فيدل على أن بينة الملك المطلق لو انفردت عن المعارضة مع اليد للمدعى عليه عمل بها ولعل مستنده أن دلالتها أقوى من دلالة اليد المجردة لأنها تعتمد أمورا كثيرة معها قرائن اقتضت لها الجزم بالملك فهي أقوى من اليد التي لا تفيد إلا ظهورا يسيرا فأضعف الحجج اليد وفوقها الشهادة بالملك المتقدم المقترن معه قولهم لا نعلم له مزيلا المضموم إلى اليمين كما نص عليه الشافعي وتساويه الشهادة بالملك لأن جازما من غير يمين وتساويه الشهادة على حاكم بأنه ثبت عنده الملك في زمن متقدم فهي أقوى من الشهادة بالملك أمس لانضمام إثبات الحاكم فكان أقوى فلذلك لا يحتاج معه إلى يمين ووقع في الفتاوى قسمته والقسمة تستدعي ثبوت الملك وتضمنت إقرار مكان شخص فوجد في يد غيره ففي انتزاعه نظر وإن كان تقدم إثبات حاكم الملك لكن الذي أثبته الحاكم الملك للشركاء وهذا أحدهم وهو متقدم على القسمة وإقراره ذلك القدر بالقسمة لغير من هو في يده الآن لم تقم بينة بتسلمه ففي النفس من انتزاعه من ذي اليد بمجرد ذلك نظر لعدم قيام حجة فيه بخصوصه تخالف ظاهر اليد وقد جزموا بما إذا ادعاها اثنان في يد ثالث وأحدهما أقام بينة قضي له وإطلاقهم يقتضي إقامتها على الملك
____________________
(1/335)
المطلق لكن هي شهادة بملك حال التنازع يحكم به القاضي حينئذ مستندا إلى تلك الشهادة فلم يحكم بغير مستند حاضر بخلاف الكتاب القديم الذي لا يعرف حاله الآن هل تغير عما كان عليه أو لا ففيه هذا النظر فإن شهود المكتوب يقولون لصاحب اليد ما شهدنا عليك بشيء وإنما شهدنا في كتاب على قاض لا نعرف من أمره غير ذلك وذلك القاضي أيضا لم يقض على هذا بشيء
مسألة قال سيدنا قاضي القضاة خطيب الخطباء تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب فسح الله في مدته سأل والدي عن أيتام لهم حجج ترشد أحدهم فأعطاه الحاكم بعض الحجج وترك بعضها لبقية الأيتام ثم تحاكم الرشيد المذكور مع غريم عليه حجة للأيتام في معاملة بينهما واصطلحا وكتب بينهما مبارأة أنه لا يستحق عليه دعوى ولا حقا بسبب من الأسباب ثم إن الغريم المذكور لم يدفع إلى الأيتام إلا قدر نصيبهم وادعى البراءة من نصيب الرشيد فهل تسمع دعوى الرشيد بنصيبه من الحجة ويصدق بيمينه أنه لم يقصد ذلك ويكون اعتقاده صحة قسم الحجج عذرا في قبول دعواه وتصديقه بيمينه أو تسمع دعواه لتحليف الخصم فقط
أجاب تغمده الله برحمته الحمد لله إذا كان ممن يخفى عليه هذا الحكم ويعتقد صحة قسمه كان ذلك عذرا في سماع دعواه ويصدق بيمينه لاجتماع أمرين أحدهما العذر الظاهر والثاني عموم اللفظ في الإبراء وأنه ليس نصا في المدعى به بخلاف المواضع التي نقول تسمع الدعوى للتحليف فيها فقط فإنه لم يوجد فيها إلا أحد الأمرين والله تعالى أعلم
مسألة مال أيتام تحت نظر حاكم عجل الحاكم زكاته قبل استحقاقها مما كان تحت يد أمين الحاكم بإذنه بأوراقه ثم انصرف الحاكم قبل استحقاقها وتولى بعده حاكم ثان صرف من المال ما استحق عليه من الزكاة وطلب أمين الحاكم بما صرفه الحاكم الأول فهل يلزم الحاكم الأول أو أمين الحكم أو يلزم الحاكم الثاني أم يعتد بما صرفه الأول
أجاب رضي الله عنه ليس للحاكم تعجيل الزكاة من مال اليتيم وإذا عجل ضمن والذي فعله الحاكم الثاني صواب فإن الصرف الأول لم يقع الموقع فلا يعتد به عن الزكاة ويبقى دينا على قابضه يضم إلى بقية مال اليتيم على زكاة الدين ويجب على الحاكم الأول استرجاعه إما من الحاكم الأول وإما من أمين الحكم إن علم صورة الحال وقدر على المنع وإن لم يقدر ولم يعلم بأن الصرف على تلك الصورة فلا ضمان عليه ويختص الرجوع بالحاكم والقابض والله أعلم
____________________
(1/336)
337 مسألة رجل زوج ابنته وجهزها وهي تحت حجره ثم أراد أن يسترجع ذلك القماش بحكم أنه دفعه إليها لتتجمل به لا على وجه الهبة فقالت هي إنه لأمي فهل القول قولها أو قوله
أجاب أما قولها وهي محجور عليها إنه لأمي فلا يسمع أما قول الأب إنه دفعه لها لتتجمل به لا على وجه الهبة فإن كان ثبت أنه دفعه لها ولم يتقدم منه قول أنه جهازها ولا ما في معناه مما يدل على ملكها ولا بينة أنه اشتراه لها أو بمالها فالقول قوله مع يمينه وإن صدر منه قول يدل على ما ذكرناه أو إقامة بينة لم يسمع وإن لم يثبت أنه دفعه لها بل أمكن أن يكون في يدها من جهة غيره لم تقبل دعواه أنه ملكه إلا ببينة لأن اليد لها واليد تدل على الملك فلا يسمع ما يخالفه إلا ببينة والله أعلم انتهى
باب التفليس مسألة وصي تحت يده ليتيم تسعة آلاف درهم تسلمها من ديوان الأيتام فمات بعد ثلاثة أشهر ولم يوجد عنده إلا دراهم يسيرة وفراء ودار مجموع ذلك أحرز أحد عشر ألف درهم وعليه لليتيم التسعة المذكورة ولجماعة غيره نحو ستة آلاف درهم فما الحكم في ذلك الجواب يقدم اليتيم بما وجد من الدراهم وبما يثبت أنه اشتراه بعد تسلم دراهمه مما لم يتحقق أنه له ويشترك هو وبقية المداينين في بقية الموجود وإنما قلت ذلك لأن الذي اشتراه بعد تسلمه دراهم اليتيم إن كان لليتيم فظاهر وإن كان اشتراه لنفسه بمال اليتيم فقد فسق فلا يصح الشراء فيكون باقيا على ملك البائع والثمن الذي قبضه البائع باق على ملك اليتيم فيأخذه ولي اليتيم بطريق الظفر فإن حلف تلك البائع وهي الأعيان المذكورة وإن كان قد اشتراه لنفسه ثم وجدت الثمن من مال اليتيم فيكون الواضح لنفسه ثم فسق بعد ذلك فتكون الأعيان للميت وللبائع الرجوع فيها لأنه لم يقبض عنها لأن الذي قبضه لم يصح قبضه وهو لليتيم عليه فهو غريم الغريم فيقوم اليتيم مقامه في الرجوع ليتوصل إلى قبض حقه منه فيثبت تقدم اليتيم بذلك على التقادير الثلاثة ولا يمكن أن يقال الميت يصرف من مال اليتيم واشتراء الأعيان لنفسه ووزن ثمنها من ماله فتساوى هو وبقية الغرماء لأن ذلك فسق وحمل الوصي على الأمانة ما أمكن أولى من حمله على الخيانة ولا يمكن القول بأن مال اليتيم تلف من غير تفريط فلا يضمن وإن كان ذلك ظاهر كلام الإمام والرافعي لأني إنما تكلمت تفريعا على ما قررته
____________________
(1/337)
من مذهب الشافعي من أن المودع إذا مات ولم توجد الوديعة في تركته فهي في حكم الديون والله أعلم
كتبه علي السبكي في ليلة الاثنين الثامن عشر من شهر رمضان سنة خمسين وسبعمائة
مسألة غائب في بلد بعيدة عليه ديون لجماعة أرسل لبعضهم بعضها فهل لمن لم يرسل إليه محاصصته الجواب إن لم يكن محجورا عليه وأوصل الرسول ما أمر به لبعضهم وكان قدر حقه أو أقل فليس لغيره محاصصته وإن لم يوصله بعد فلغيره الدعوى وإثبات حقه والأخذ مما بيد الرسول بشرطه وإن كان محجورا عليه فليس له التخصيص والله تعالى أعلم انتهى
مسألة من إسكندرية في سنة ثمان وثلاثين في رجل ولي النظر على أخيه محجور الحكم العزيز بتولية شرعية من جهة الحكم العزيز فسلم ماله من تركته وحسي أثاث ثم قرر الحاكم للمحجور ولأولاده ولزوجته فرضا في ماله من تركته نفقة وكسوة ثم رأى الناظر من المصلحة أن تشترى جارية من مال المحجور لخدمتهم وأنفق عليها من مال المحجور زيادة على الفرض المقرر ووسع عليهم في المواسم والأعياد زيادة على الفرض المقرر وأنفق على المحجور الفرض وتسلم له مبلغا من ماله الذي قبضه له ليتجر فيه استخبارا لحاله وسفره في البحر المالح وهو من الكارم ممن عادته السفر في البحر المالح فاستأسرته الفرنج وأصيب ماله وخلص بعد ذلك بغير مال ولم يزل الناظر منفقا على المحجور بقدر الفرض المقرر والتوسعة المذكورة ونفقة الجارية المذكورة وزيادة يسيرة على ذلك احتاجوا إليها ضرورة على ما ذكر الناظر ويخرج عنه زكاة ماله كل حول إلى وفاة المحجور والناظر ببينة تشهد على المحجور وعلى زوجته كافلة أولاده باتصال جميع ما ذكره الناظر إليهم إلى وفاة المحجور فعمل الناظر أوراق المحاسبة وقال للشهود هذه محاسبة أخي بالذي له والذي عليه فوجد في المحاسبة زيادة على مال المحجور الذي قبضه أنفقها الناظر عليه من ماله على الصفة المشروحة ثم مات فتنازع ورثة الناظر وورثة المحجور في الزيادة المذكورة فهل فعل الناظر في جميع تصرفاته المذكورة جائز أم لا وهل لورثة الناظر الرجوع على ورثة المحجور
____________________
(1/338)
بما أنفقه عليه من ماله زيادة على مال المحجور الذي قبضه له من مال المحجور أم لا وما الحكم في جميع ذلك
أجاب أما شراء الجارية للخدمة والإنفاق عليها من مال المحجور عليه زيادة على الفرض فإن كان لحاجة المحجور عليه جاز ولا ضمان بسببه وإن لم يكن للحاجة لم يجز ويضمن ولا تكفي المصلحة وينبغي أن يفهم الفرق بين الحاجة والمصلحة أما التوسعة في المواسم والأعياد زيادة على الفرض إن أنفق فإن كان لاختلاف حالهم حينئذ وحال فرض القاضي واحتياجهم إلى ذلك جاز وإن لم يختلف الحال لم يجز لتنفى به مخالفة اجتهاد القاضي أما الإنفاق على المحجور والفرض أنه بالغ مستطيع الحج في حجه الفرض فجائز إذا كان قد أحرم به أو أزاده فيحصل له الولاء الزاد والراحلة وكل ما يحتاج إليه وينفق عليه بالمعروف سواء زادت نفقته في الحضر أم لا أما تسليمه المبلغ إليه لاختباره وتسفيره في البحر المالح فلا يجوز ويضمن بذلك إلا أن يكون الذي فعل ذلك حاكما أو بأمر حاكم فيجوز ولا يضمن لأنه مختلف فيه فإذا حكم به الحاكم نفذ كسائر الأحكام المختلف فيها أما إنفاقه بقدر الفرض المقرر والتوسعة المذكورة والجارية فجائز إن لم يظهر له استغناؤهم عن بعضها وأما الزيادة الكثيرة أو اليسيرة للضرورة أو الحاجة فجائز وأما إخراج زكاته كل حول فواجب وأما البينة على المحجور عليه للبالغ وعلى كافلة أولاده بالوصول إليهم فمقبولة يترتب عليها براءة الناظر مما جاز له إيصاله إليهم والمحاسبة على قبض ذلك مقبولة معمول عليها وما تضمنته أوراق المحاسبة بماله وما عليه خبر عدل مقبول والحكم به يتوقف على شروطه وما وجد فيها من زيادة صرف على مال المحجور عليه أنفقها الناظر من مال نفسه على المحجور عليه أو على عائلته فإن كان قد فعل ذلك بإذن حاكم فله الرجوع به وإلا ومنازعة ورثة الناظر وورثة المحجور عليه بما أنفقه من مال زيادة على مال المحجور فقد قلنا إنه يفعل بين أن يكون بإذن حاكم أو لا فإن كان بإذن حاكم رجعوا به وإلا فلا والله أعلم انتهى
باب الحوالة مسألة جندي آجر إقطاعه وأحال ببعض الأجرة على المستأجر ثم مات
أجاب يتبين بطلان الإجارة فيما بعد موته من المدة وبطلان الحوالة فيما تقابله ويرجع المحال عليه على المحتال بما قبضه مما يقابل ذلك ولا يبرأ المحيل منه
وتصح الإجارة في المدة التي قبل موت المؤجر وتصح الحوالة بقدرها ولا يرجع
____________________
(1/339)
المحال عليه بما قبض المحتال منه من ذلك ويبرأ المحيل منه والله أعلم انتهى باب الصلح قال الشيخ الإمام قدس الله روحه مسألة ضع وتعجل ومعناها أن يكون لرجل على آخر دين مؤجل فيقول المديون لصاحب الدين ضع بعض دينك وتعجل الباقي أو يقول صاحب الدين للمديون عجل لي بعضه وأضع عنك باقيه وذلك إما أن يكون في دين الكتابة وإما في ما سواه من المديون فإن كان فيما سوى دين الكتابة من الديون قال مالك رحمه الله هو باطل مطلقا سواء جرى بشرط أم بغير شرط للتهمة وذلك قاعدة مذهبه وقال غيره إن جرى شرط بطل وإن لم يشترط بل عجل بغير شرط وأبرأ الآخر وطابت بذلك نفس كل منهما فهو جائز وهذا مذهبنا والشرط المبطل هو المقارن فلو تقدم لم يبطل صرح به الجوري هنا وهو مقتضى تصريح جميع الأصحاب في غير هذا الموضع وقد رويت آثار في الإباحة والتحريم يمكن تنزيلها على ما ذكرناه من التفصيل فأما التحريم فروي عن المقداد بن الأسود قال أسلفت رجلا مائة دينار ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له عجل لي تسعين دينارا وأحط عشرة دنانير فقال نعم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أكلت ربا مقداد وأطعمته
رواه البيهقي بسند ضعيف وصح عن ابن عمر أنه سأل عن رجل يكون له الدين على رجل إلى أجل فيضع عنه صاحبه ويعجل الآخر فكره ذلك ابن عمر ونهى عنه وصح عن أبي المنهال أنه سأل ابن عمر رضي الله عنهما قلت لرجل على دين فقال لي عجل وأضع عنك فنهاني عنه وقال نهى أمير المؤمنين يعني عمر أن نبيع العين بالدين وصح عن أبي صالح مولى السفاح واسمه عبيد قال بعت برا من أهل السوق إلى أجل ثم أردت الخروج إلى الكوفة فعرضوا علي أن أضع عنهم وينقدوني فسألت عن ذلك زيد بن ثابت فقال لا آمرك أن تأكل هذا ولا توكله
رواه مالك في الموطإ
أما الإباحة فصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يرى بأسا أن تقول أعجل لك وتضع عني وعنه قال لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج بني النضير من المدينة جاءه ناس منهم فقالوا يا رسول الله إنك أمرت بإخراجهم ولهم على الناس ديون لم تحل فقال النبي ضعوا أو تعجلوا ضعفه البيهقي وغيره
وقال الحاكم صحيح الإسناد
وأصحابنا يحملون اختلاف الآثار في ذلك على
____________________
(1/340)
ما ذكرناه من التفصيل وبوب البيهقي باب من عجل له أدنى من حقه قبل محله فوضع عنه طيبة به أنفسهما
واستدل الأصحاب للمنع من ذلك إذا جرى بالشرط بأنه يضارع ربا الجاهلية
روى مالك في الموطإ عن زيد بن أسلم قال كان ربا الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل فإذا حل الحق قال له غريمه أتقضي أم تربي فإن قضاه أخذه وإلا زاده في حقه وأخر عنه في الأجل وهذا الربا مجمع على تحريمه وبطلانه حتى أن ابن عباس الذي خالف في ربا الفضل يحرم هذا وفيه نزل قوله تعالى لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة فقاس الأصحاب النقص على الزيادة كما سنبينه في دين الكتابة فإنه الذي دعانا إلى الكلام في هذه المسألة ولا يحضرني الآن خلاف عن أحد من العلماء في امتناع ذلك في غير دين الكتابة إذا كان بالشرط ولا أنفي الخلاف فإني كلمت الحنفية فرأيتهم مضطربين في تحرير مذهبهم وضبط ما يمتنع فيه مما لا يمتنع ولم أر تحرير ذلك ضروريا فإنه ليس الغرض في هذا الموضع
أما دين الكتابة فقال أبو حنيفة وأحمد بجواز ذلك فيه لأن دين السيد على عبده غير مستقر فلم يكن على حقيقة المعاوضات وعندنا هو كغيره إن جرى ذلك فيه بالشروط فسد وإلا فلا وإذا فسد لم يصح التعجيل ولا الإبراء ولا يقع العتق فإن قلت لنا خلاف في القديم في صحة تعليق الإبراء ومقتضى ذلك أن يصح الإبراء هنا في دين الكتابة وغيره
قلت يمكن حمله على تعليق ليس في معنى المعاوضة ونجزم بالبطلان فيما كان في معنى المعاوضة لما ذكروه من معنى الربا الجاهلي فإن قلت ينبغي أن يصح تعليق الإبراء في الكتابة وإن فسد في غيرها لأن إبراء المكاتب عتق
قلت إنما يكون الإبراء عتقا إذا أبرئ مجانا وهنا أبرئ في مقابلة عوض التعجيل
فإن قلت ولو جعل بدل الإبراء العتق
قلت تفسد المعاوضة ويعتق بالتعجيل الفاسد ويجب عليه تمام قيمته أما فساد المعاوضة فلأنه أنشأ عقد عتاقة بمال على المكاتب وهو لا يجوز وعتقه بالتعجيل لوجود الصفة ووجوب القيمة لأنه لم يعتقه مجانا وهذا منقول فيما إذا أعتق على عوض غير نجوم الكتابة واستشكل الإمام وقوع العتق وقال إن ما لا يصح تنجيزه لا يصح تعليقه وجوابه إن الذي لا يصح تنجيزه وهو عتق المكاتب على مال آخر أما مطلق عتقه فيصح وهو المعلق والمال في مقابلة هذا التعليق فلا يمتنع الحكم بوقوعه ولو علق العتق على تعجيله فهل يكون كتعليق الإبراء فيبطل أو كتعليق العتق لأنه من مال الكتابة سنحكي من كلام الجوزي عن الشافعي ما يدل أنه يقع بعد العتق ويكون عوضا فاسدا والذي دعانا إلى الكلام في هذه المسألة
____________________
(1/341)
النظر في صحة الإبراء فلنذكر نصوص الشافعي والأصحاب والمسألة مذكورة في مختصر المزني ولكن غيره ذكرها أبسط منه قال الجوزي عن الشافعي من حكاية كلام الشافعي قال ولو عجل له ذلك على أن يضع عنه منه شيئا ويعجل له العتق لم يحل له ولو كانت غير حالة فسأله أن يعطيه بعضها حالا على أن يبرئه من الباقي لم يجز ذلك له كما لا يجوز في دين إلى أجل على حر فإن فعل هذا على أن يحدث للمكاتب عتقا فأحدثه عتق ورجع عليه سيده بالقيمة لأنه أعتقه ببيع فاسد
فإن أراد أن يصح هذا لهما فليرض المكاتب بالعجز ويرضى السيد بشيء يأخذه منه على أن يعتقه فتبطل الكتابة وينفذ العتق والعوض وقال الأصحاب كلهم عن الشافعي بعض هذا الكلام وهو في معناه ولفظهم الذي نقلوه لو عجل له بعض كتابته على أن يبرئه من الثاني لم يجز ورد عليه ما أخذ ولم يعتق لأنه أبرئ مما لم يبرأ منه فإن أحب أن يصح هذا فليرض المكاتب بالعجز ويرضى السيد بشيء يأخذه منه على أن يعتقه فيجوز وعلل الأصحاب كلهم ذلك بأنه في معنى ربا الجاهلية المجمع على تحريمه وبطلانه وهو أنهم كانوا يزيدون في الحق ليزيد صاحب الحق في الأجل وهذا ينقص عن الحق لينقص من الأجل فهو يشبهه في معناه
وتكلم الأصحاب في هذه المسألة في باب السلم فيما إذا عجل بعض المسلم فيه ليبرئه عن الباقي ذكرها القاضي أبو الطيب وصاحب المهذب وغيرهما هناك وفي الكتابة كما ذكرها الشافعي وغيره من الأصحاب وفي البابين عللوا بالعلة المذكورة وللمسألة شرطان أحدهما أن يكون التعجيل مشروطا بالإبراء والثاني أن يقع الإبراء على الفور على وجه القبول لما شرطه الدافع كما في سائر العقود فيكون هذا عقدا فاسدا لشبهه بربا الجاهلية ولذلك ترجم الشيخ أبو إسحاق في النكت المسألة بترجمة تنبئ عن هذا الغرض فقال إذا صالح المكاتب عن ألف مؤجلة على خمسمائة معجلة لم يصح
وقال أبو حنيفة يصح لنا أنه إبراء من بعض الدين بإسقاط الأجل فلم يجز كالثمن والأجرة والصداق ولأن هذا يشبه ربا الجاهلية وهو تأجيل الدين بالزيادة
وقال ابن الصباغ إذا قال عجل لي حتى أبرئك أو قال صالحني لم يجز ولم يصح الصلح والإبراء وكذلك كلام بقية الأصحاب يرشد إلى تصويرها بما ذكرناه وينقلون الخلاف عن أبي حنيفة وأحمد وأنهما قالا بالجواز وقياسهم على غيرها من الديون يقتضي الموافقة على المنع فيها وقد ذكرنا الكلام فيها وما فيها من الآثار
وقد دل كلام الشافعي
____________________
(1/342)
الذي حكيناه على امتناعها في دين الكتابة وغيره من الديون بالشرط
وقال المزني قد قال في هذا الموضع إذا وضع وتعجل لا يجوز وأجازه في الدين ولا يجوز عندي أن يضع عنه على أن يتعجل انتهى
واستشكل الأصحاب هذا الكلام من المزني
وقال الجوزي قال أصحابنا ليست على قولين وإنما هي على اختلاف حالين فالموضع الذي قال لا يجوز إذا كان بشرط والموضع الذي قال يجوز أراد إذا عجل بغير شرط أي وتفضل السيد بالإبراء وكذا قال غيرهما من الأصحاب
وقال ابن الرفعة جمهور الأصحاب بل كلهم رووا عن المزني قالوا ليست المسألة على قولين وما أجازه في الدين مصور بما إذا أدى من غير شرط أو سأل السيد أن يبرئه وأبرأه ونقل القاضي الحسين كلام المزني وقال هذا يوهم أن في المسألة قولين وليس كذلك بل على اختلاف حالين كما بينا
وقال الإمام نقل المزني في هذا ترديد نص وجعل المسألة على قولين في أن الإبراء هل يصح على هذا الوجه فغلطه المحققون وذهب الأكثرون إلى حمل كلام الشافعي على أن المكاتب إذا عجل بغير شرط فأبرأه السيد تفضلا أما إذا جرى الشرط فليس إلا الفساد فإن علق الإبراء فسد وإن عجل وشرط الإبراء فسد الأداء ولست أستحسن أن أنقل جملة ما اختلف الأصحاب فيه في هذا الفصل فإني لست أرى فيه مزيد فقه
قلت وما حكاه الإمام من الطريقين عن المحققين والأكثرين في غاية الإشكال فإنه يوهم إثبات خلاف وليس كذلك بل يجب حمل كلامه على أن المحققين غلطوه في النقل والأكثرين سلموا النقل له وقالوا محله إذا كان بغير شرط وهؤلاء مغلطون أيضا في التحريم إلى هذه المسألة التي أورد عليها فإنها إنما هي في الشرط كما يدل عليه صريح كلام الشافعي فكيف يرد عليه ما إذا كان بغير شرط وهؤلاء أولى بأن يسموا محققين فإنهم عرفوا محل النقل وحققوه وغلطوا الترجيح منه
أما تغليط المزني بغير هذا التأويل فلا وجه له لأنه ثقة فيما ينقل وكيف ما قدر فالفريقان متفقان على التغليط وعدم إثبات قولين لا في حالة الاشتراط ولا في عدم حالة الاشتراط بل جازمون بالحكمين على اختلاف الحالين كما قاله غير الإمام ومراد الإمام بحمل كلام الشافعي أي الذي نقله المزني بالجواز لا الكلام الذي اعترضه عليه المزني فإنه صريح في الشرط والقول معه بالجواز مخالف لما صرح به الإمام في آخر كلامه وقد علمت أن المزني إنما نقل من دين غير المكاتب ومقصوده قياس دين المكاتب عليه وظاهر كلام الإمام يقتضي أن المنقول منه دين المكاتب ويحمل على ما إذا كان بغير شرط وليس كذلك لما قلناه فليتأول كلام الإمام على أن المراد
____________________
(1/343)
حمل ما دل عليه كلام الشافعي في منقول المزني وهو غير المكاتب أن المكاتب إذا عجل بغير شرط فليس في كلام أحد ممن حكينا حكاية طريقين ولا قولين ولا وجهين في شيء من صورتي المكاتب ولا غير المكاتب بل إن جرى الشرط فسد فيهما وإلا فيصح فيهما والطريقان المحكيان في كلام الإمام إنما هما في كيفية البحث مع المزني
وقال الغزالي في البسيط نقل المزني تردد أو جعل المسألة على قولين واتفق المحققون على تغليطه لأن السيد إذا علق الإبراء على الأداء فهو باطل والعبد إن قدم الأداء وشرط الإبراء بالأداء باطل لا يفيد الملك قال وعندي أن موضع التردد أن يؤدي العبد بشرط الإبراء فإن الأداء باطل في الحال لكن لو أبرأ السيد فيرضى العبد بدوام يد السيد صح لأن الدوام كالابتداء وهل يحتاج إلى إنشاء رضا آخر أم يقال كان برضا يقتضيه عند الإبراء والآن قد تحقق الرضا قال ولعل الصحيح أن دوام القبض كابتدائه وأن ما سبق من الرضا كاف عند الإبراء
قلت وتنزيل الغزالي منقول المزني على هذا خروج عن صورة المسألة التي دل كلام الأصحاب عليها وحاصله أنه إذا عجل بشرط الإبراء فجرى إبراء صحيح والمقبوض في يده هل ينقلب ذلك الأداء صحيحا بعد الحكم بفساده من غير رضا جديد أو لا بد من رضا جديد فيصير به استدامة القبض كابتدائه وجرى على هذا التنزيل في الوسيط والوجيز وهو شيء انفرد به تفقها لا نقلا وتنزيل القولين على ذلك بعيد لما بينا ذكره أما الفقه الذي ذكره فينبغي أن لا ينازع في ذلك إذا جرى إبراء صحيح ولكن متى يكون ذلك وليس في كلامه تعرض له فيقال إن جرى الإبراء كما صورنا في صدر المسألة فهو فاسد ولا يأتي فيه كلام الغزالي وإن تأخر وجرى إبراء مبتدأ فينبغي أن يقال إن اعتقد السيد فساد الشرط فهو صحيح قطعا وإن ظن صحته وأتى به على أنه وفاء بالشرط فيصح في الأصح كما لو رهن بناء على ظن وجوبه فإنه يصح على الأصح عند النووي وهو الصواب وحيث قلنا بأن الإبراء صحيح إما قطعا أو على الأصح فيأتي ما قاله الغزالي من أنه إن رضي رضاء جديدا كفت الاستدامة قطعا وإن لم يتجدد رضا فهل نكتفي بالرضا السابق أو لا احتمالان أصحهما عنده الاكتفاء وينزل منقول المزني عليه وينزل النص على الاحتمال الآخر ولكن النص وكلام الأصحاب ينبو عن هذا التنزيل
فتلخص من هذا أن الغزالي أيضا لم يذكر خلافا في صحة الإبراء بل اقتضى كلامه أنه قد يوجد إبراء صحيح أما كونه الواقع في ضمن عقد أو مبتدأ فلم يثبته ومقتضى كلامه هنا
____________________
(1/344)
يشير إلى أنه لو لم يجز إبراء لا يكفي استدامة القبض إلا بإذن جديد وهو كذلك لفساد القبض والشافعي والرافعي رحمه الله قال إنه إذا أنشأ رضا جديدا فقبضه عما عليه يحكم بصحته كما لو أذن للمشتري في أن يقبض ما في يده عن جهة الشراء وللمرتهن في قبضه عن الرهن وما ذكره من الحكم صحيح وقياسه على الشراء يوهم أنه لو لم يأذن في الشراء لا يصح وهو وجه في الحاوي والصحيح خلافه وهو المذكور في التتمة
ولنرجع إلى غرضنا قال الرافعي رحمه الله لو عجل قبل المحل على أن يبرئه عن الباقي فأخذه وأبرأه لم يصح القبض ولا الإبراء خلافا لأبي حنيفة وأحمد ولو قال السيد أبرأتك عن كذا بشرط أن تعجل الباقي أو إذا عجلت كذا فقد أبرأتك عن الباقي فعجل لم يصح القبض ولا الإبراء أيضا وإذا لم يصحا لم يحصل العتق وعلى السيد رد المأخوذ
هذا ظاهر المذهب وأشار المزني إلى تردد قول في صحة القبض والإبراء ولم يسلم له جمهور الأصحاب اختلاف القول في المسألة وحملوا التجويز على ما إذا لم يجز شرط وابتدأ به ورد صاحب الكتاب تردد القول إلى أنه إذا عجل بشرط الإبراء في السيد هل ينقلب القبض صحيحا انتهى
وليس في كلامه رحمه الله إشكال إلا إطلاقه الإبراء وكان ينبغي أن يبين صورة المسألة وأن الإبراء صدر جوابا فإن هذا الإطلاق أوهم أن الإبراء إذا تأخر عن التعجيل المشروط فيه الإبراء أو وقع مستقلا لا يصح والنووي في الروضة وافق الرافعي حرفا بحرف وفي كلام الرافعي شيء آخر وهو أن النص ومنقول المزني إنما هو فيما إذا عجل ليبرئ فظاهر كلام الرافعي أنه في ذلك وفيما إذا علق البراءة بالتعجيل أو شرطه فيها
والحامل له على ذلك أن الأصحاب جمعوا بين المسائل الثلاث والحكم فيها واحد فإذا نقل النص والمنقول في واحد فليثبت حكمهما في الأخرى فهذا تصرف والمنقول الصحيح إنما هو في الأولى كما قدمناه وهي التي قدمها في كلامه
وقد تبين بهذا أنه لم يحك أحد من الأصحاب بعد المزني في المسألة طريقين ولا قولين ولا وجهين وأن كلهم جازمون بأنه مع الشرط يبطل جزما وفي ذلك اتفاق على رد ما قاله المزني في الصورة إذا أخذ على ظاهره إلا أن يتأول على ما قاله الغزالي وليس فيه إثبات خلاف أيضا في الإبراء كما بيناه وقد يغتر بقول الرافعي والنووي هذا هو المذهب بأن في المسألة طريقين وهذا ليس بلازم بل مراده بالمذهب المنصوص الذي جرى عليه الأصحاب وحالف المزني فيه تخريجا منه وإن كان تخريجا مردودا ويحتمل أن يسلم أن في المسألة طريقين
____________________
(1/345)
ويقول المراد بالطريق الثاني ما قاله الغزالي من صحة القبض عند الإبراء الصحيح لكن هذا يقتضي أن تكون هذه هي الطريقة الصحيحة لما سبق وليس كذلك ولله در البغوي حيث لم يحك كلام المزني واستراح من هذا الصداع فإن قلت قال البغوي وغيره فيما إذا قال بعتك هذا العبد بألف على أن تبيعني دارك أو تشتري مني داري لا يصح أما البيع الثاني فإن كانا عالمين ببطلان الأول صح وإلا فلا يصح لأنه ببيعه على حكم الشرط الفاسد وهذا يخالف ما قلتموه هنا من أنه إذا أبرأ إبراء مستقلا ظانا صحة الشرط يصح
قلت المختار في تلك المسألة الصحة أيضا وهو الذي قطع به الإمام وشيخه
وقال الرافعي إنه القياس وليس قول البغوي بأولى من قول الإمام على أنه يمكن حمل كلام البغوي على ما إذا باع مجيبا لا مستقلا كما صورناه في الكتابة ويرشد إلى هذا أنه ذكره في تفسير نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة وإنما يكون كذلك إذا ورد العقدان في صورة عقد واحد أما إذا ورد منفصلا عنه فلا لكن سأنبه على أن في كلامه ما يرد هذا الحمل
واعلم أن مسألة بيعتين في بيعة تكلم الشافعي فيها والأصحاب مفسرين للحديث بتفسيرين هذا أحدهما أن يقول بعتك داري هذه بألف على أن تبيعني عبدك هذا بألف إذا وجبت لك داري وجب لي عبدك فهذا بيع باطل في العقدين هذه عبارة الماوردي عن الشافعي حكما وتصويرا وهو ظاهر في التصوير الذي ذكرناه في المكاتب
وعبارة البغوي التفسير الثاني أن يقول بعتك بألف على أن تبيعني أو تشتري مني لا يصح لأنه جعل الألف ورفق البيع الثاني ثمنا فإذا بطل الشرط بطل أما البيع الثاني إن كانا عالمين ببطلان الأول صح وإلا فلا لأنه ببيعه على حكم الشرط الفاسد
هذه عبارته يمكن حملها على ما قلناه
والإمام قال في باب بيعتين في بيعة قول الشافعي في تفسيره وقوله البيع باطل قال الإمام يعني البيع الذي شرط فيه البيع وهذا خارج عن قياس الشرائط الفاسدة أما البيع الثاني إن اتفق جريانه خليا عن شرط فهو صحيح فأما قول الإمام إن الشافعي يعني البيع الأول فممنوع وإنما أراد العقدين جميعا كما قاله الماوردي ويحمل على ما صورناه وبذلك يسمى بيعتين في بيعة
أما إذا وجدنا البيع الثاني منقطعا عن الأول فلا يسمى بيعتين في بيعة ويكون فساد الأول بالشرط الفاسد لا بدخوله تحت مورد النص ولو كان البيع الثاني المنقطع عن الأول مع الأول داخلين تحت مورد النص لفسد الثاني ولو علمنا فساد الأول ولا قائل به نعم إذا أتى به في ضمن عقد واحد فسدا جميعا سواء علما فساد الأول أو جهلا فافهم
____________________
(1/346)
هذا فإنه كلام نفيس وفرق بين الكلام على مورد النص وبين الكلام على حكم المسألة في الجملة وبذلك تفهم محل كلام الشافعي والأصحاب وكلام الإمام
وبه يتبين لك إشكال كلام البغوي فإنه إن حمل على ما إذا صدر البيعان على صورة بيعة واحدة كان ينبغي أن يفسدا قطعا علما أو جهلا وهو قد قطع بالصحة إذا علما فساد الأول والأقرب أنه إنما أراد إذا صدر مبتدأ ولكن كلام الإمام أصح منه
وأما قول الإمام إن اتفق جريانه خليا عن شرط فهو صحيح مجيد وإنما يكون كذلك إذا صدر مستقلا من غير أن يكون في ضمن العقد الأول وحينئذ تكون كمسألة الرهن ولهذا أعاد الإمام المسألة في الرهن وحكم بالصحة فيها تبعا لشيخه من غير أن يسميها بيعتين في بيعة
وحاصله أن صدور البيع الثاني على الصورة التي ذكرناها لم يتكلم فيه الإمام وهو مراد الشافعي والأصحاب بل أفاد الإمام مسألة أخرى ليست في كلامهم نعم القاضي حسين صرح بأنه إذا شرط رهنا وكان الشرط فاسدا وأتى بالرهن على اعتقاد وجوب الوفاء أن الرهن لا يصح كمن أدى إلى إنسان ألفا على ظن أنه دين عليه ثم تبين أنه لم يكن عليه دين فالأداء غير معتد به والمؤدي مسترد
قال الإمام وهذا الذي ذكره غير صحيح والحق مع الإمام في ذلك وكيف يصح ما قاله القاضي وجميع العقود والتصرفات إنما ينظر فيها إلى مدلولها ولا اعتبار بظن العاقد وإذا كنا نصحح بيع مال نظنه لغيره فتبين لنفسه مع ظن الفساد فلأن نصحح هذا مع اعتقاد الصحة أولى
وغاية ما في الباب أنه ظن وجوبه عليه فلا يعذر فيه لأنه مفرط وليس ذلك كمن أدى إلى شخص دراهم يظن أنها دين عليه فتبين خلافه يسترد لأنه ليس هناك إلا مجرد الدفع وهو لا يملك إلا بشرط أن يكون عن دين وهنا لفظة الملك ولو أعتق ظانا وجوبه عن كفارة ونحوها أو طلق ظانا وجوبه عن أمر لسبب إيلاء ونحوه أو وهب ظانا وجوبها بسبب من الأسباب فيبعد كل البعد أن يقال لا تصح هذه التصرفات والتوقف في ذلك لا معنى له وقد ذكر الأصحاب إذا قال اشتروا بثلثي عبدا واعتقوه فامتثل الوارث ثم بان دينا فإن اشترى في الذمة دفع عنه ولزمه الثمن ويقع العتق عن الميت وهذا يدل على أن فعل الشيء على اعتقاد وجوبه لا يمنع من وقوعه
فإن قلت فقد صحح عبد الغفار القزويني في حاويه عدم الصحة في المسائل الثلاث مسألة البيع والرهن والكتابة
قلت لما رأى الرافعي نقل عن البغوي وغيره في البيع عدم الصحة وفي الكتابة أطلق القول بالإبراء أن المذهب بطلانه ولم يحقق صورة المسألة وفي الرهن أطلق وجهين من غير
____________________
(1/347)
تصحيح سحب عليها حكم المسألتين ولم ير أن قول الرافعي في البيع القياس الصحة ولعل بها قطع الإمام وشيخه معارضا لذلك لما يشعر به قول البغوي وغيره من أنهم الأكثرون فهذا هو الحامل لعبد الغفار وهو حسن تصرف منه فيما اقتصر عليه من جميع كلام الرافعي ولو نظر في المعنى المقتضي لذلك وما يقتضيه الفقه وقاعدة المذهب واطلع على كلام الأصحاب وعرف صورة المسألة في الكتاب لما قال ذلك إن شاء الله ولعل مراد الرافعي بغير البغوي المتولي فإنه في التتمة كذلك كما في التهذيب عند تفسير بيعتين في بيعة والكلام عليه كما مر وعلى تقدير أن يكون مرادهما ما فهم من كلام الرافعي فهما موافقان لما اقتضاه كلام شيخه القاضي حسين في الرهن والقاضي قد بين مأخذه من القياس على وفاء الدين وقد تبين الفرق وبه يتبين ضعف ما قاله الثلاثة وحاول شيخنا ابن الرفعة إثبات ما قاله المزني من جهة صحة تعليق الإبراء في القديم وقد تقدم جوابه وحقيقته تعليق الإبراء عن حقيقة المعارضة والصلح والأصحاب إنما تكلموا في ذلك وذكر الرافعي أنه لو قاله في بعض المسلم فيه ليعجل الباقي أو عجل بعضه ليقيله في الباقي فهي فاسدة
وهذا يجب حمله على ما صورناه في المكاتب وأن يكون المراد إذا صدرت الإقالة والتعجيل على نعت عقود المعارضة فلو تأخرت الإقالة وابتدأ بها فلا بد من التفصيل بين عمله بفساد الشرط أو لا وأنه إن علم صحته وإلا فكذلك في الأصح على قياس ما قلناه في البيع والرهن والإبراء والله أعلم انتهى
باب الضمان مسألة رجل أقر بدين لشخص وكتب الشهود في المسطور وحضر فلان وفلان وضمنا في ذمتهما ما في ذمة المقر المذكور فهل يطالب كل من الضامنين بجميع الدين أو لا يطالب كل منهما إلا بالنصف الجواب يطالب كل منهما بجميع الدين لأن الضمان وثيقة كالرهن والرهن يتعلق بجميع الدين فكذلك الضمان وليس كالبيع ونحوه حيث يحمل على التنصيف لعدم إمكان كون كل منهما مشتريا للجميع أو بائعا للجميع ولأن ما في ذمتهما لفظ عام فيعم كل جزء فيكونا ضامنين لكل جزء منه ومن ضرورة ذلك مطالبة كل منهما بالجميع ولأن حقيقته نسبة ضمان ذلك إليهما نسبته لكل منهما وقد نقل المتولي أن المسألة في التتمة في كتاب الضمان فقال رجل له على آخر دين معلوم وحضر رجلان وقالا ضمنا مالك على فلان هل يطالب كل منهما بجميع الدين أم لا فيه وجهان أحدهما يطالب كل منهما بنصفه كما لو قالا اشترينا
____________________
(1/348)
عبدك بألف والثاني وهو الصحيح أن كلا منهما يطالب بالجميع كما لو كان عبد مشترك فقالا رهنا العبد بالألف التي لك على فلان فيكون نصيب كل منهما رهنا بجميع الألف ويخالف الشراء لأن الثمن عوض الملك فبقدر ما يحصل له من الملك يجب الثمن وهنا ما يلزم الضامن ليس بطريق المعاوضة ولهذا لو ضمن كل منهما على الانفراد صح وطولب بجميع الدين فصار كمسألة الرهن انتهى
وادعى بعض الناس أنه لا يلزمه إلا النصف كما لو قال ألق متاعك في البحر وأنا وركبان السفينة ضامنون لا يلزم إلا بالقسط والجواب أن ذلك ليس حقيقة ضمان وقد صنفت في ذلك تصنيفا
مسألة عليه ألف أصالة وألف كفالة كلاهما لشخص واحد فأدى ألفا ومات فقال القابض قبضتها عن الكفالة وقال وارث الدافع بل هي الأصالة فلو كان الدافع حيا كان القول قوله وحيث لا بينة لا يقسط في الأصح بل يصرفه إلى من شاء منهما وبعد موته ينبغي أن يقوم وارثه مقامه لأن هذا حق مالي فيورث وليس كتعيين الطلاق في إحدى الزوجتين
مسألة رجل أنكر أنه ضمن زيدا فيما عليه من الدين ثم قامت البينة من ضمانه بإذنه وحكم بها ثم عاد المنكر يطلب الغرم من المضمون بحكم ما قامت به البينة من ضمانه بإذنه هل له ذلك أم لا لأنه مكذب لها بإنكاره الضمان
أجاب إن كان مقيما إلى الآن على أنه ما كفل فلا رجوع له لتكذيبه البينة وإن لم يصدر منه إلا ما تقدم على قيام البينة من إنكاره الكفالة فله الرجوع لأن طول المدة واحتمال النسيان عذر له فقيام البينة يدفع حكم إنكاره العذر وهذا أولى مما قاله الرافعي فيما إذا قال اشتريته بمائة ثم قال بمائة وعشرة وبين لفظه وجها محتملا وإن كنا لم نوافقه هناك لأن ذلك إثبات وهذا نفي والعذر في النفي لاحتمال النسيان أظهر وقيام البينة هنا كإقامة البينة هناك وأولى لما ذكرناه فالتزام الرافعي هنا قبول قوله ورجوعه أولى لكن الرافعي في الضمان قال قبل آخر باب الضمان بورقتين فيما إذا ادعى عليه وعلى فلان الغائب بألف درهم وكل منهما ضمن عن الآخر وأقام بينة واحد قال المزني في المختصر يرجع وتكلم الأصحاب عليه أن البينة إنما تقام عند إنكاره والإنكار تكذيب وجواب الأصحاب وتصحيح المسعودي والإمام عدم الرجوع وقول ابن خيران بالرجوع لأن البينة أبطلت حكم إنكاره فرأينا ما قاله ابن خيران هنا أولى للعذر المذكور ولم نر ما قاله المسعودي والإمام وسكت الرافعي عليه والله أعلم انتهى
مسألة في رجل له دين على آخر بمسطور وفي المسطور بعد إقرار المديون
____________________
(1/349)
ما صورته وحضر فلان وفلان وضمنا في ذمتهما ما في ذمة المقر المذكور من الدين ثم غاب الأصيل وأحد الضامنين فطالب صاحب الدين الضامن الآخر بجملة المبلغ وهو ثلاثة آلاف وخمسمائة فأعطاها له ثم بعد خمسة أشهر قال شخص للدافع إنك ما يلزمك إلا نصف المبلغ فترافع هو والقابض إلى نائب حكم فحكم بأنه لا يلزمه إلا النصف وألزم القابض بإعادة النصف إلى الدافع فأعاده بأمره فهل هذا الحكم صواب أو لا وهل الواجب على الضامن الدافع جملة الدين أو نصفه وما الحكم في ذلك مبينا بنقله ودليله الجواب ليس هذا الحكم بصواب بل هو خطأ والدفع الذي دفعه الضامن صحيح والذي كان يلزمه أداء جميع الدين وبدفعه حصلت براءة الأصيل والضامن الآخر ويجب عليه وعلى القاضي إعادة ما استعاده إلى صاحبه وليس لصاحب الدين أن يطالب بعد ذلك الأصيل ولا الضامن الآخر لأن ذمتهما برئت بقبض الجميع وإعادته بهذا الحكم خطأ لا يعيد الدين في ذمتهما ولا مطالبة بعد ذلك على الضامن الآخر أصلا ولا على الأصيل إلا للضامن الدافع إن كان له الرجوع وأصل هذا أن اللازم لكل من الضامنين في هذه الصورة جميع الدين وهذه مسألة مسطورة في كتاب التتمة لأبي سعد المتولي رحمه الله في كتاب الضمان في الفصل الرابع في حكم الضمان قال الخامسة رجل له على رجل آخر دين معلوم فحضر رجلان وقالا ضمنا مالك عن فلان هل يطالب واحد منهما بجميع الدين أم لا فيه وجهان أحدهما يطالب كل واحد منهما بنصف الدين كما لو قال لإنسان اشترينا عبدك بألف يلزم كل واحد منهما نصف الألف والثاني وهو الصحيح أن كل واحد منهما يطالب بجميع الدين كما لو كان عبد مشترك فقالا رهنا العبد بالألف الذي كان لك على فلان فيكون نصيب كل واحد منهما رهنا بجميع الألف ويخالف الشراء لأن الثمن عوض الملك فبقدر ما حصل له من الملك يجب الثمن أما ههنا فما يلزم الضامن ليس بطريق المعاوضة ولهذا لو ضمن كل واحد منهما على الانفراد صح وطولب بجميع الدين فصار كمسألة الرهن
انتهت المسألة التي ذكرها المتولي رحمه الله وهي نص في مسألتنا لأن أقل أحوال اللفظ المذكور في المسطور أن يقولا ضمنا وقد صرح المتولي بنقل وجهين فيها وأن الصحيح منها لزوم كل الدين لكل واحد وإنما قلت هذا أن أقل أحوال اللفظ لأنه يحتمل أن يكون كل منهما قال ضمنت ما عليه من الدين وحينئذ يكون صريحا في الجميع بلا نزاع ولا جائز أن يحمل على أن الصادر من كل منهما ضمنت
____________________
(1/350)
نصف الدين لأنه لم يكن حينئذ يجوز للشاهد أن يعبر بهذه العبارة فإنها ليست بمعناها ولو كانت محتملة لها فالرواية بمعنى شرطها المطابقة في الجلي والخفاء أما الشهادة فلا يجوز ويحتاط فيها أكثر ما يحتاط في الرواية
وعدالة الشهود وضبطهم يمنعان من هذا القسم والقسمان الأولان يحصل المقصود بكل منهما أما الثاني فظاهر أما الأول فكما قلنا عن المتولي
فإن قلت قد أفتى جماعة فيما إذا قالا ضمنا والصورة كهذه الواقعة أنه لا يلزم كلا منهما إلا النصف وساعدوا القاضي المذكور فيما حكم به وصوبوه وهم أكبر منه والله يغفر لنا ولهم وليس أحد منا معصوما من الخطأ والزلل فنسأل الله المسامحة ولكن الواجب علينا أن نبذل الجهد في طلب الحق ليصل إليه وتصان أحكام الله عن التغيير وتجري على مقتضى العدل الذي أمر به فإن وفقنا الله لذلك وله الفضل وإلا فنسأل الله العفو عما عساه يكون منا من التقصير
فإن قلت قد أخرجوا من كتاب البحر للروياني نقلا يعارض ما ذكرته وهو أنه قال في ثلاثة ضمنوا ألفا أنه لا يلزم كل واحد منهم إلا ثلث الألف إلا أن يقولوا إن كل واحد منا ضامن لجميعها
قلت سبحان الله كيف يكون من هو منسوب إلى فتوى وكلام في علم يتمسك في معارضة ما قلته في هذا الكلام ونحن في واد وهو في واد على أنها لو كانت المسألة كان لنا عما قاله الروياني جوابان آخران سنذكرهما إن شاء الله تعالى في آخر الكلام
وصاحب البحر غير منفرد في ذلك بل تقدمه الماوردي فقال عن أبي حنيفة فيما إذا رهن دارا بألف وأقبضهما كل واحد منهما رهنا بحصتها من الألف ولا يكون رهنا بجميع الألف استدلالا بشيئين أحدهما أن الرهن عقد على عين في مقابلة عوض كالبيع
والثاني أن الرهن وثيقة كالضمان ثم ثبت أن رجلين لو ضمنا ألفا عن كل كانت بينهما ولا يكون الألف على كل واحد منهما ثم قال في الجواب أما ما ذكره من الضامنين فغير صحيح لأن الضامنين كالعاقدين فلذلك يبعض وكذلك الرهن إذا كان في عقدين كان متبعضا كالضامنين وأما العقد الواحد فهو كالضامن الواحد انتهى
وهذا الذي ذكره الحنفية لعله أحد الوجهين اللذين حكاهما صاحب التتمة والماوردي لم يصرح بالنقل عن المذهب فلعله اقتصر على الجواب على تقدير تسليم الحكم وقد نقل ابن الرفعة هذا الذي قاله الماوردي وعبر عنه بقوله أجاب الأصحاب ثم بعد ورقة تكلم فيما لو استعار عبدين من رجلين ورهنهما والطريقة الخلاف في انفكاك أحدهما يجوز أن يبني على أنه عارية أو ضمان إن قلنا عارية لم ينفك وإن قلنا ضمان انفك وقد يقال لا يتخرج
____________________
(1/351)
على ذلك بل على قول الضمان بجعله ضامنا لكل الدين في رقبة عبده فإن يحيل ضمانه لبعضه فإنما يكون إذا قالا أعرناك العبد لترهنه بدينك وهو كذا فينزل منزلة ما لو قالا لمن له الدين ضمنا لك دينك على فلان فإنه يكون بينهما نصفين كما تقدم والمسألة غير مخصوصة بهذه الحالة انتهى
وهذا الذي قاله ابن الرفعة هنا من أنه يكون بينهما نصفين هو الذي تقدم عن الماوردي في جواب الحنفية وإنما أخذه منه وتعبيره عنه هنا بقوله ضمنا لك دينك على فلان عبارة رديئة لأنه إنما تقدم بلفظ الألف وهو حال على ما تقدم فكأنه لم يفرق بين اللفظين فتسمح في العبارة
فتلخص من هذا أنه ليس معنا نقل في مسألة الألف إلا من الماوردي في جواب الحنفية وهو يحتمل أن يكون على وجه ومن كلام البندنيجي وأظن أن صاحب البحر أخذه منه فإنه كثير النقل عنه وكل ذلك خارج عن مسألتنا وعبارة ابن الرفعة لا يتمسك بها لأنه أحال على موضعها وعرفناه بخلافها فإن قلت بين لي وجه ما أشرت إليه من كون مسألة البحر غير مسألتنا
قلت ينبغي أن يعلم أولا أن هذه المسألة تستمد من قاعدة عربية وقاعدة أصولية ومآخذ فقهية ما لم يحط الطالب بجميع ذلك لا تتحقق عنده هذه المسألة ومتى أحاط بها حققها وانشرح صدره لها بتوفيق الله تعالى أما القاعدة الأولى في ضمنا هل مدلوله المجموع أو كل فرد والمال المضمون قد يعبر عنه بما يقتضي مجموعه وقد يعبر عنه بما يقتضي كل فرد منه وقبل هذا نقول قولنا لقي الزيدان العمرين قد يراد به أن أحد الزيدين لقي أحد العمرين والآخر لقي الآخر وقد يراد به أن كلا منهما لقي كلا منهما وهذا هو حقيقة اللفظ وظاهره مهما كان الفعل صالحا لكل منهما بخلاف قولك أكل الزيدان الرغيفين فإنه يتعين إرادة أن كلا منهما أكل رغيفا وإن ذلك مقابلة الجمع بالجمع والاستقراء يدل على ما ادعيناه من الحقيقة والظهور ويؤيده قوله تعالى فاقتلوهم ونحوه فإن الذي يفهم من ذلك مخاطب بقتل كل فرد من المشركين حتى لو قتل مسلم كافرا وأراد الاكتفاء بذلك لينحصر الوجوب في الباقين في غيره لم يكن له ذلك وهذا الحكم مستفاد من قبل اللفظ لا من خارج لأن العلماء برحوا يستدلون بمثل هذه الألفاظ على هذه الأحكام ويأخذونها منها ومما يؤيد ذلك من كلام الفقهاء أنهم قالوا لو قال لزوجتيه إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما طالقتان فدخلت إحداهما إحدى الدارين والأخرى الأخرى لم تطلق واحدة منهما حتى تدخل كل واحدة منهما الدارين جميعا على الصحيح فنقول هذه الصيغة إما أن تكون موضوعة لدخول كل منهما
____________________
(1/352)
كلا من الدارين أو لما هو أعم من ذلك ومن دخول واحدة لواحدة وأخرى لأخرى أو مشتركة بين المعنيين إن كان الأول فهو المدعي وإن كان الثاني وجب أن يطلق كلا منهما إذا حصل المسمى بأي كان من المعنيين كسائر التعليقات فإنه يكفي فيها ما يصدق عليه الاسم وإن كان الثالث فهو مدفوع بأمرين أحدهما أن الأصل عدم الاشتراك والثاني أنه لو كان كذلك لوقع الطلاق بكل من المعنيين كما لو قالوا فيما لو قال إن رأيت عينا فأنت طالق إنها تطلق بأي عين رأتها لأن المشترك عند الشافعي كالعام فيتعلق الحكم بكل فرد منه وكذلك لو قال إن حضتما فأنتما طالقتان فحاضت إحداهما لم تطلق ولو قوبل الجمع بالجمع طلقت ولو قال إن شئتما فأنتما طالقتان فشاءت إحداهما ولم تشأ الأخرى لم تطلق واحدة منهما وهل طلاق كل واحدة معلق بالمشيئتين جميعا أو كل واحدة بمشيئتها طلاق نفسها دون ضرتها قال المتولي الأول
وقال البندنيجي الثاني
وكذلك لو أقر رجلان بقتل رجلين كان مقتضى ذلك أنهما اشتركا في قتل كل منهما لأن أحدهما قتل أحدهما والآخر وما أشبه ذلك من الأمثلة
فثبت بهذا أن قولنا لقي الزيدان العمرين لا تصدق حقيقته حتى يكون كل من الزيدين لقي كلا من العمرين وكذلك الرؤية ونحوها من الأفعال التي يحصل الاشتراك فيها والضمان من هذا القبيل يصح بوارد عدد من الضمان على مضمون واحد فإذا قال ضمن الزيدان العمرين فحقيقته أن كلا منهما ضمن كلا منهما فلذلك إذا قالا ضمنا الألفين كانت حقيقته أن كلا منهما ضمن كلا من الألفين
هذا وجه من النظر يمكن دعواه ويودي بقولهم إن الضمائر عامة والعام مدلوله كل فرد وأن البينة قائمة مقام العطف ولو قلت قام زيد وزيد كان حكما على كل فرد فكذلك قام الزيدان ويمكن أن ينازع فيه فإن المثنى اسم وضع لعدد مخصوص فليس مدلوله كل واحد وكذلك قام زيد وزيد حكم على مجموع الرجلين ولكن في الإثبات يلزم من المجموع كل فرد ويظهر ذلك بقوله في النفي ما قام زيد وزيد أو ما قام الزيدان يصح معه أن يكون قام أحدهما هذا ما لا ريبة فيه والضمائر بحسب ما يراد بها فإذا عادت على عام كانت عامة وإلا فلا وهذا النزاع لا يضرنا فإنا نقرر هذه المسألة على كل من التقديرين سواء أكان الضمير في ضمنا مرادا به المجموع أم كل فرد كما ستعرفه إن شاء الله وإنما تحرير هذا البحث يظهر له ثمرة في المسألة المنقولة من البحر
القاعدة الثانية أن ما ونحوها من أدوات العموم
____________________
(1/353)
مدلوله كل فرد فرد وذلك مقرر في أصول الفقه فلا نطول به فضمان ما في ذمة زيد معناه ضمان كل جزء مما في ذمته الألف ونحوها من أسماء الأعداد مدلولها المجموع فليست الألف موضوعة لشيء من أجزائها ولا دالة بالمطابقة عليه وهذا أيضا مقرر في أصول الفقه وغيره وهو الظاهر
القاعدة الثالثة وهي مركبة من القاعدتين المذكورتين أن الضامن والمضمون قد يتحدان وقد يتعددان وقد يتعدد الضامن وحده أو المضمون وحده ولا نطول بذكر الأمثلة فإن غرضنا إنما هو إذا تعدد فإذا ضمن الزيدان مالا والمال ذو أجزاء وجزيئات فتارة يعبر عنه بما يقتضي مجموع أجزائه كالألف فإنها اسم للمجموع وتارة يعبر عنه بما يقتضي عموم جزئيات كضمان ما في ذمة زيد فإذا قالا ضمنا ما في ذمة زيد من هذا المال وهو ألف مثلا فهو عام في كل جزء منهما يصدق على كل منهما أنه في ذمته وقد عبر عنه بلفظة ما التي هي مبهمة إنما يتميز بوصف كونه في ذمته وهذا المعنى خاص في كل جزء مما في ذمته بالسوية لا ترجيح لدلالته في أحد الأجزاء على الآخر لما تقرر في القاعدة الأصولية وحينئذ نقول إذا قالا ضمنا ما في ذمتك من الألف فإما أن نقول الضمير في ضمنا مراد به كل فرد منهما أو مجموعهما إن كان الأول فكل منهما ضامن لكل جزء من الألف وكانت لازمة لكل منهما بلا إشكال وإن كان الثاني فمعين أن مجموعهما ضمن كل جزء من الألف لما تقرر في القاعدة الثانية فكل جزء من الألف نصفها وربعها وثمنها إلى أدنى جزء وأكثره لازم لمجموعهما لزم مطالبة كل منهما به لأنه لو لم يطالب به فإما أن لا يطالب بشيء أصلا حتى يكونا مجتمعين فيطالبان جميعا وهذا لا قائل به وإما أن يطالب بالنصف أو بما تحته أو فوقه من الأجزاء فيقول إذا غرم ذلك الجزء بقي الباقي مضمونا لمجموعهما كما تقرر فيعود التقسيم فيه ويلزم أن يكون كل منهما ضامنا لجميع الألف كما ادعيناه وقاله صاحب التتمة وإن كان فيه خلاف فهو ضعيف جدا لا وجه له وما أخوفني أن يكون الخلاف في صورة الألف وأن تكون هذه المسألة لا خلاف فيها وإن اقتضى كلام التتمة نقله فيها
وإذا وصلت أيها الناظر إلى هذا المقام مع فهم وإنصاف جزمت بما قلناه في هذه المسألة الواقعة من غير احتياج إلى تأمل المآخذ الفقهية التي نذكرها بعد هذا ما أشرنا إليه من قبل في القاعدة الأولى أنه سواء ثبت دلالة الضمير في ضمنا على كل فرد أو على المجموع فمقصودنا في هذه المسألة حاصل وأما إذا قالا ضمنا الألف فهاهنا يتخرج على مدلول ضمنا وهو محتمل لمجموعهما ولكل فرد منهما
____________________
(1/354)
فإن كان المجموع لم يكن فيه دلالة على فرد وقد يقال لا يلزم من ضمان مجموعهما لمجموع الألف ضمان كل منهما لها فيسقط عليهما وهذا مأخذ ما قاله صاحب البحر وإن كان مدلوله كل فرد ولا يتأتى ذلك ومن هنا يظهر أن هذه الصورة أحق بأن تكون هي محل الخلاف وأن يكون ما قاله صاحب البحر هو أحد الوجهين فيها ولعله وجده عن قائله فنقله ولم يطلع على خلافه أو لعله تبع فيه البندنيجي والماوردي أو لعله تفقه فيه ولم يطلع على شيء من الخلاف وصاحب التتمة قد أتقن المسألة ونقل عن الأصحاب فيها وجهين وصح فكيف يعارض بمثل ذلك وكثيرا ما يذكر الروياني رحمه الله فروعا عنه وعن أبيه وجده من تفقههم لا نقل فيها وهذا وجده في كلام الماوردي والبندنيجي فهو أولى منها
وبالجملة كلام التتمة صدره فيما إذا قالا ضمنا مالك من الدين وهي مسألتنا ولم يتعرض لها الروياني والوجه فيها لزوم كل الدين لكل منهما إما على الصحيح على ما في التتمة وإما قطعا لما سبق ولما ذكره لم أجد في ذلك نقلا لغير صاحب التتمة لا من البحر ولا من غيره وآخر كلام التتمة في مسألة الرهن المقيس عليها ما فرض في الألف فإن كان قد حرر أول كلامه وآخره فيكون مقصوده أنه إذا ثبت ذلك في الرهن وهي مفروضة في الألف فلأن يثبت في الضمان الذي في لفظة إما بطريق الأولى ويكون ذلك غاية الرد على المخالف ويلزم من ذلك ثبوت الخلاف في مسألة الألف لأنه إذا جرى الخلاف في لفظة ما ففي لفظة الألف أولى ويحتمل أن يكون الخلاف إنما هو في الألف خاصة وأن صاحب التتمة عبر عنها في صدر كلامه بلفظة ما واعتقد جريان الخلاف فيها أيضا فإن كان كذلك فالحق القطع فيها بلزوم الجميع وأين من يحرر هذه المسائل أو يفهمها فإن قلت العوام لا يفرقون بين هاتين العبارتين والكلام إنما هو فيما يدل عليه لفظ العوام فإن الواقعة فيهم ولهذا إذا جاء الضمان إلى الشهود مع المقر بالألف تارة يقولون ضمنا ما في ذمته وتارة يقولون ضمنا الألف التي في ذمته ويكتب الشهود الحالتين أنهم ضمنوا ما في ذمته فدل على أنه لا فرق بينهما عنده فليس لنا أن نفرق بينهما في الحكم وأن نلزم العامي بما يفهمه من لفظه
قلت هذا السؤال منشؤه إما جهل بمدلولات الألفاظ وإما جهل بالفقه وتصرفات الشرع فيها وذلك أن اللفظ إذا كان له مدلول فلا يعدل عنه إلا بأمرين أحدهما أن ينقل عن ذلك المدلول ويصير حقيقة عرفية في غيره كالدابة في الحمار فحينئذ يحمل كلام المتكلم بها من أهل العرف على ذلك وليس ذلك عدولا عن المدلول لأنه مدلوله حينئذ وإن لم يكن مدلوله في اللغة وهذا اللفظ الذي نحن
____________________
(1/355)
فيه ليس من هذا القبيل لأنه لم ينقل عن مدلوله اللغوي
والثاني أن ينوي المتكلم به غير مدلوله الظاهر ويكون اللفظ محتملا لما نواه فيقبل قوله في بعض المواضع ولا يقبل في بعضها وليس بحثنا في ذلك أما فهم العامي من اللفظ شيئا آخر لم يدل عليه ولا نواه فلا يلتفت إليه وما نقل عن بعض العلماء أنه كان يسأل من الحالف بالحرام أيش يفهم منه فمحمول على أنه يستدل بفهمه على نيته أو مردود عليه ولو كان فهم العوام حجة لم ينظر في شيء من كتب الأوقاف ولا غيرها مما يصدر منهم ولكنا ننظر في ذلك ونجري الأمر على ما يدل عليه لفظها لغة وشرعا سواء أعلمنا أن الواقف قصد ذلك أم جهله وما ذاك إلا أن من تكلم بشيء التزم حكمه وإن لم يستحضر تفاصيله حين النطق به وأدلة الشرع شاهدة بذلك ألا ترى أن أوس بن الصامت لما قال لامرأته أنت علي كظهر أمي ألزمه الشارع بحكمه وإن لم يرده وفي الشريعة من ذلك ما لا يحصى وكل من يستفتينا فإنما نفتيه على مقتضى لفظه وإن تحققنا أنه لم يقصده وما ذاك إلا أن ثبوت الأحكام الشرعية من الله تعالى وأناطها بتصرفات تصدر من الآدميين من أقوالهم وأفعالهم واكتفى في الأقوال بصدورها من أهل ذلك اللسان هذا ما لا شك فيه ولو اعتبرنا فهم المتكلم لم يصح غالب ما يصدر من الناس من العقود وغيرها لاشتمال ألفاظهم على مدلولات يخفى عن الفقهاء بعضها فضلا عن العوام وكأن الذي أورد هذا السؤال أراد أن يستتر بقوله فهم العوام وإنما هو يخفى عن كثير من الفقهاء وخفاؤه عنهم ليس بحجة
فإن قلت كيف يجعل الخلاف في لفظة الألف مع قول صاحب التتمة إن الصحيح لزوم الجميع لكل منهما وفي لفظة الألف لا يمكن ذلك من حيث النقل ولا من حيث الفقه أما النقل فلأن الروياني جزم بخلافه وليس يعلم من التتمة نقل فيه وأما الفقه فلأن البحث على أن الضمير في ضمنا بمجموعهما والألف مجموع ومقابلة المجموع بالمجموع لا يدل على الأفراد وإذا احتمل وجب الأخذ بالمحقق كما قاله الشافعي في الإقرار إنه يبنى على اليقين
قلت أما النقل فيمكن أن يستند فيه إلى نقل صاحب التتمة في مسألة الرهن وقد فرضها في الألف وجزم بالجميع فيها وقاس عليها مسألة الضمان في لفظة ما فنحن نقيس عليها الضمان بلفظة الألف لأن مقتضى كلامه ذلك اقتضاه لا ريبة فيه وجزم الروياني قد قلنا إنه محتمل لأن يكون تبع فيه الماوردي والماوردي قاله جواب استدلال يعني على تقدير التسليم ومحتمل لأنه لم يطلع على خلاف أصلا أو على غير ما قاله ولم ينظر في مسألة الرهن إن كان قد وقف عليها أما الفقه فلأنا نقول صحيح أن
____________________
(1/356)
مقابلة المجموع بالمجموع لا يتعرض إلى الأفراد لفظا ولكنا نأخذها من خارج من المآخذ الفقهية التي أشرنا إليها وقول السائل إنه إذا احتمل وجب الأخذ بالمحقق كما قاله الشافعي في الإقرار غفلة فإن ما نحن فيه ليس من باب الإقرار بل من باب العقود والعقود لا تبنى على اليقين كالإقرار وإنما تبنى على حقائقها وما وضعت عليه لغة وشرعا وهذا اللفظ ومقابلة المجموع من حيث اللغة محتمل ولكن من جهة الشرع يتعين أحد محتملاته فيجب الحمل عليه
فإن قلت من أين يقتضي الشرع ذلك وأين مآخذ الفقه التي تدل عليه
قلت الضمان وثيقة كالرهن فالضامنان لدين واحد من غير تقسيط كالعبدين المرهونين بدين واحد لا ينفك شيء منهما إلا بقضاء جميع الدين فإن قلت العينان المرهونتان إذا كانتا لواحد فهو رهن واحد وليست نظير المسألة لأن الضامن هنا متعدد وإن كانتا لاثنين فهما رهنان ينفك أحدهما بدون الآخر فلا يصح ما قلتموه
قلت يصح ما قلناه فيما إذا كانتا لاثنين وقد رهناها عند شخص على دين له على غيرهما كما قاله صاحب التتمة في العبد ولكل منهما نصفه يكون كل من النصفين مرهون بجميع الدين فإن قلت هذا لا وجه له فإن الرهن متعدد وقاعدة الرهن أنه يتعدد بتعدد الراهن كما تتعدد صفقة البيع بتعدد البائع وإذا تعدد فلا يتوقف فك أحدهما على فك الآخر
قلت إنما يكون كذلك إذا رهنا بدين عليهما فتعدد الدين هو الذي أوجب ذلك مع تعددهما وهاهنا تجب البينة له وهو أنهما إذا رهنا عينا بدين عليهما كان في حكم رهنين خلافا لأبي حنيفة فإنه جعله رهنا واحدا حتى أجازه وإن منع رهن المشاع وقال لا ينفك نصيب أحدهما حتى ينفك الآخر وقد يقول القائل يجب أن يكون كذلك عندنا وإن قلنا هما رهنان لأنهما إذا رهنا جميعا بجميع الدين فقد رهن كل منهما نصيبه بجميع الدين لأن ذلك وضع الرهن وهما قد جعلاه رهنا واحدا وإن حكمنا نحن بتعدده فينبغي أن يجري على كل منهما حكم الجميع
ورهن الشخص نصيبه بدينه ودين غيره جائز وغاية هذا أن يكون هكذا فنقول وبالله التوفيق السر في قول الشافعية أنهما لما تعددا والدين عليهما وحكم الرهن على دينه مخالف لحكم الرهن على دين غيره لأنه ضمان دين في عين وظاهر الحال أن الإنسان إنما يرهن على دين نفسه وإذا أراد الرهن على دين غيره صرح بمقتضاه فلما أطلقا وقرينة الحال أن كلا منهما إنما يرهن على دين نفسه وكان في العدول عن ذلك مخالفة لظاهر الحال وجمع بين عقدين مختلفي الحكم فأحب وترك كل رهن على دين صاحبه فقط فلا جرم ينفك بأدائه من غير توقف على
____________________
(1/357)
الآخر وأما إذا رهنا على دين غيرهما فما ثم إلا التعدد فقط ونحن لا يضرنا أن نقول هما رهنان بمعنى أن كلا منهما رهن نصفه بجميع الدين لأن ذلك وضع الرهن والتعدد لا ينافيه والتقسيط لا موجب له وقد يضمن الفقيه بهذا الفن على غير أهله ونقول إنما يتعدد إذا تعدد والدين لهما أما هنا فالدين واحد لغيرهما على غيرهما وهما قد جعلا مالهما في عقد واحد رهنا عليه ووضع الشرع أن الرهن كل جزء منه مرهون بكل جزء من الدين
فإن قلت لا نسلم أن هذا عقد واحد
قلت هو عقد واحد في الصورة ولهذا إذا باع اثنان عبدين بثمن واحد لم يعلم كل منهما ماله ترددنا فيه والصحيح البطلان ولو كان البيع من كل منهما لنصفه بما لا يعلم بطل قطعا
فإن قلت من المعلوم أنهما إذا باعا لم يبع كل منهما إلا ما يملكه وإذا رهنا لم يرهن كل منهما إلا ما يملكه فلا فرق بين أن يقولا رهنا وبعنا أو يقول كل واحد رهنت نصيبي وبعت نصيبي وجريان الخلاف في البيع لا وجه له ويحتج بالأقوال الضعيفة
قلت ليس كذلك بل إذا اجتمعا على بيع أو رهن بصيغة واحدة فقد جعلا أنفسهما بمنزلة العاقد الواحد وقابلاه بثمن واحد ووضع العقد يقتضي التقسيط فمن قائل يصح لذلك ومن قائل يبطل لما فيه من الغرر والجهالة لكل منهما وفي الرهن لا غرر ولا جهالة وقد نزلا أنفسهما منزلة الشخص الواحد ورهنا مالهما كالمال الواحد فتجري عليه أحكام الرهن ولا ينفك شيء منه إلا بالبراءة من جميع الدين والضمان مثل الرهن لأن الضامنين بقولهما ضمنا جعلا ذمتيهما وثيقة بذلك الدين كالضامن الواحد فلا يبرأ واحد منهما إلا بقضاء جميع الدين ولا يحتاج أن نقيس الضمان على الرهن بل المسألة واحدة فإن رهن الرجلين مالهما على دين غيرهما ضمان منهما لذلك الدين في غير ذلك المال قولا واحدا ولا يجري فيهما قول العارية فهي مسألة الضمان بعينها وقد جزم المتولي بها وقاس عليها
فإن قلت فقد قال غيره إنه لو تعدد مالك الرهن في صورة الاستعارة والرهن واحد وقصد فك نصيب أحدهما بدفع ما عليه فأظهر القولين في عيون المسائل والحاوي وغيرهما الانفكاك وهذا يخالف ما قاله صاحب التتمة
قلت لا مخالفة في ذلك لأن مسألة التتمة إذا رهنا بأنفسهما بصيغة واحدة وهذه المسألة إذا استعار منهما فرهن
على أن الشيخ أبا حامد نقل أن عبارة الشافعي في الأم في هذه المسألة نص على عدم الانفكاك وقد رأيت أن هذا النص في الأم في الرهن الصغير في رهن المشاع ولفظه وإن كان عبد بين رجلين فأذن أحدهما للآخر أن يرهن العبد فالرهن جائز وهو كله رهن بجميع الحق لا ينفك بعضه
____________________
(1/358)
دون بعض وفيها قول آخر أن الراهن إن فك نفسه منه فهو مفكوك ويجبر على فك نصيب شريكه في العبد إن شاء ذلك شريكه فيه وإن فك نصيب صاحبه منه فهو مفكوك وصاحب الحق على حقه في نصف العبد الباقي
انتهى
وله فيه نص آخر أيضا لفظه وإذا استعار رجل من رجلين عبدا فرهنه بمائة ثم جاء بخمسين فقال هذه فكاك حق فلان من العبد وحق فلان مرهون ففيها قولان أحدهما أنه لا يفك إلا معا ألا ترى أنه لو رهن عبدا لنفسه بمائة ثم جاء بتسعين فقال فك تسعة أعشاره واترك العشر مرهونا لم يكن منه شيء مفكوكا وذلك أنه رهن واحد بدين واحد فلا يفك إلا معا
والقول الآخر أن الملك لما كان لكل واحد منهما نصفه جاز أن يفك أحدهما دون نصف الآخر كما لو استعار من رجل عبدا ومن آخر عبدا فرهنهما جاز أن يفك أحدهما دون الآخر والرجلان وإن كان ملكهما في واحد متحدا وأحكامهما في البيع والرهن حكم مالكي العبدين المفترقين
انتهى
وقد أطلق الأصحاب هذين القولين وروى المحاملي وغيره قولا ثالثا أن المرتهن إن كان عالما بأنه لمالكين فللراهن فك نصيب أحدهما بأداء نصف الدين وإن كان جاهلا فلا قال الإمام ولا نعرف لهذا وجها
هذا ما قاله الأصحاب والذي يظهر لي التفصيل بين أن يكون كل من المالكين لما أذن علم أنه يرهنه مع نصيب شريكه أولا فإن علم وأذن على ذلك لم ينفك شيء منه إلا بأداء الجميع وإن لم يعلم أو علم أو لم يأذن إلا في رهن نصيبه وعين المبلغ الذي يرهن به فرهنه مع غيره بذلك المبلغ فلا فائدة في أداء بعض الدين لأجل الفك لأنه لم ينفك شيء منه إلا بالجميع وإن رهنه مع غيره بالرهن بذلك المبلغ فهاهنا يحسن إجراء الخلاف ويتجه أن الصحيح الانفكاك كما قاله الأصحاب ومما يرشد أن محل الخلاف في هذه الصورة كلام صاحب المهذب فإنه قال وإن استعار رجل من رجلين عبدا فرهنه عند رجل بمائة ثم قضى خمسين على أن يخرج حصة أحدهما من الرهن ففيه قولان أحدهما لا يخرج لأنه رهنه بجميع الدين في صفقة فلا ينفك بعضه دون بعض
والثاني يخرج نصفه لأنه لم يأذن كل منهما إلا في رهن نصيبه بخمسين فلا يصير رهنا بأكثر منه
هذا كلام المهذب وهو نص فيما قلناه فحصلت الصور ثلاثا إحداها إذا قال أذنت لك أن ترهن نصيبي مع النصيب الآخر بمائة فرهنهما بها فيصح والصحيح هنا أنه لا ينفك إلا بأداء الجميع كما يشير إليه النص الأول الذي نقلناه من الرهن الصغير لأنه رضي
____________________
(1/359)
بأن يكون الجميع رهنا بمائة وحكم الرهن أن كل جزء مرهون بكل جزء فلزم رضاه بأن يكون نصفه مرهونا بمائة والقول الآخر ناظر إلى تعدد المال فقط
الثانية إذا قال أذنت لك أن ترهن نصيبي بخمسين فيصح ولا ينفك إلا بأداء الجميع قطعا إلى أن ينظر إلى تعدد المال فيجري فيه وجه
الثالثة إذا قال أذنت لك أن ترهن النصيب الذي لي من هذا العبد بخمسين فرهن جميعه بمائة فهذه الصحيح فيها أنه ينفك بأداء خمسين والقول الآخر ضعيف وأطلق الأصحاب القولين وعندي ينبغي أن يكونا في نصيب المعين وتصحيح الانفكاك فيه متعين وأما نصيب الآخر والفرض أنه هو الراهن فينبغي أن لا ينفك إلا بأداء الجميع وكأنه رهن نصيبه على جميع الدين ورهن نصيب شريكه على نصفه وإنما يصح إطلاق القولين في الانفكاك إذا كان النصفان لمعيرين غير الراهن لكن هذا البحث يرده النص الأول الذي قدمناه عن الرهن الصغير فإنه سوى بين النصفين في جريان القولين والراهن أحد الشريكين فهذا ما يحتاج إلى تأمل وقد تأملته بعد ذلك القول الثاني في النص الأول مأخذه تعدد المالك فقط وهو هنا يجري بلا شك وإنما قلته تفريعا على القول الآخر في تلك المسألة وهو الصحيح عندي فلذلك ينبغي أن يكون في نصيب المعير ينفك على الصحيح وهذه الصورة الثالثة التي فرضناها في إذنه في نصفه بخمسين فرهن الجميع بمائة ينبغي أن يحمل كلام الماوردي وغيره من المصححين للانفكاك عليها
والصورة الأولى ينبغي حمل كلام الشيخ أبي حامد عليها والنص الذي نقله ونقلناه عن الرهن الصغير الأول يشير إلى فرضها في ذلك ألا تراه قال أذن أحدهما للآخر أن يرهن العبد ولم يقل أن يرهن نصيبه من العبد ومسألة العبدين إذا استعارهما من مالكهما إن استعار من كل واحد عبده على الانفراد فيتجه الانفكاك كما ذكره الشافعي وقاس عليه في تعليل القول الثاني فيما حكيناه من النص ولعله لا يجري فيه خلاف وإن قالا له أعرناكهما لترهنهما بدينك يترجح أنه لا ينفك شيء منهما إلا بأداء الجميع وإن كان الصحيح المنقول عن عيون المسائل والحاوي في ذلك فلا علينا في مخالفته وقد وافقنا الشافعي حيث اقتضى نصه الأول ترجيح عدم الانفكاك في العبد الواحد والعبدان في هذه الصورة مثله وابن الرفعة ذكر الطريقين في مسألة العبدين وقال إن المسألة غير مخصوصة بما إذا قالا أعرناك وأنه إن خصت بهذه الحالة اتجه تخريج الخلاف على أنه عارية أو ضمان وكان الراجح منهما الانفكاك لأن الراجح أنه ضمان وتخصيص الخلاف بهذه
____________________
(1/360)
الحالة ليس يبعده لفظ الشافعي انتهى
وما قاله من ترجيح الانفكاك على ذلك ليس بجيد وحمله على ذلك ظنه ما أسلفه في مسألة الضمان وكل هذا إنما أوجبه له عدم وقوفه على مسألة التتمة فهي تبطل هذا كله وهي مسألة عظيمة قاعدة من القواعد إلى الآن لم أرها في غير التتمة ولا رأيت ما يخالفها بل توهمات في الأذهان من غير نقل فإن قلت إذنه في رهن العبد محمول على إذنه في رهن نصيبه منه لأن إذنه في نصيبه غير لاغ
قلت ليس كذلك بل إذنه في رهن نصيبه محمول على رهنه وحده وإذنه في رهن جميعه معناه الإذن في رهن نصيبه مع الباقي ولا يلزم من الإذن في الأول الإذن في الثاني لاختلاف أحكامهما
فإن قلت فحينئذ ينبغي لكم أن تقطعوا في الصورة الأولى بعدم الانفكاك كما أومأتم إليه من القطع بمطالبة أحد الضامنين بالجميع وحيث نص الشافعي فيها على قولين لزم فساد ما أومأتم إليه من القطع في مسألة الضمان وإن كانت هي مسألة الأصحاب التي صححوا فيها الانفكاك لزم فساد القول الذي حاولتموه بالكلية وثبت أن الصحيح أنه لا يطالب كل ضامن إلا بقسطه
قلت ليس شيء من ذلك لازما لنا ولا واردا علينا بالجملة أما نص الشافعي على قولين فجاز أن يكون الثاني منهما مأخذه أن الصفقة متعددة مختلفة الحكم أما تعددها فنظرا إلى المالكين وإن اتحد العاقد كما يقول به بعض الأصحاب أما اختلاف حكمهما فلأن حكم الرهن على دين الغير يخالف حكم الرهن على دين نفسه فالتحق بما لو رهن اثنان عبدا بدين عليهما فلا يتوقف انفكاك نصيب أحدهما على الآخر ومسألتنا هذه ليس فيها اختلاف حكم وإنما فيها تعدد محض
فإن قلت لعل القول الأول مفرع على قول العارية والثاني مفرع على قول الضمان فيكون على عكس ما أردتم وأقوى في الرد عليكم
قلت يمنع منه المسألة التي نقلها صاحب التتمة والجمع بين كلام الشافعي والأصحاب أولى فإذا اجتمع على مأخذ سلكناه ورتبنا عليه مقتضاه وليكن دأبك يا أخي أنك إذا رأيت مسألة في كلام الأصحاب وفهمت مأخذها لا تجزم بها حتى تحيط علما بنظائرها وما يشابهها أو يشترك معها في شيء ما وكلامهم في ذلك وهل يتفق أو يختلف فإن اتفق الكل في مأخذ فاسلكه ثم اعرضه على الأدلة الشرعية فإن شهدت بصحته فذلك هو الغاية وحينئذ اعتمد تلك المسائل والمآخذ وإلا فارجع وكرر النظر حتى يتبين لك الحق ومن أين جاء الخلل هل من بعض المسائل أو من المأخذ المشترك بينهما
وهذا در من الكلام ينبغي أن يتنبه الفقيه لأمثاله في نظره في الفقه
وأما كونها في مسألة الأصحاب التي صححوا فيها الانفكاك
____________________
(1/361)
فلا مطمع في ذلك وإنما يجيء الإلباس من خلط صور المسائل بعضها ببعض وعند تمييزها وتفصيل صورها وتحريرها يظهر تقريرها وهذا الكلام أعلى وأسمى من أن نقوله لغالب أبناء الزمان المشمرين عن ساق الجد في الاشتغال فضلا عن غيرهم وإنما يعطي العلم حقه من الكلام ولعل حرا يندر وجوده يقع منه بموقع فينتفع به ويتنبه به على أمثاله من فتح مربح العلوم واستدرار إنتاج الفهوم ونعلم أن أكثر من نراه يتكلم في العلم أجنبي عنه وإن اتسم بسمته وتحلى ظاهره بصفته وهو في ذلك كما قال القائل وكل يدعون وصال ليلى وليلى لا تقر لهم بذاك فإن قلت قد قال الأصحاب في مسألة السفينة إذا قال ألق متاعك في البحر وأنا وركبان السفينة ضامنون كل منا على الكمال أو على أني ضامن فعليه ضمان الجميع ولو قال أنا وهم ضامنون كل منا بالحصة لزمه ما يخصه وكذا لو قال أنا وهم ضامنون واقتصر عليه ولو قال أنا ضامن وهم ضامنون لزمه الجميع على الأصح وقيل القسط
فقول الأصحاب هنا إذا قال أنا وهم ضامنون لزمه بحصته خاصة يقتضي أنهما إذا قالا ضمنا مالك على فلان لا يلزم كلا منهما إلا النصف
قلت هذا من الطراز الأول والتمسك من العلوم بظواهرها يحمل على مثل هذا ويكفي في الرد على من تمسك بهذا قول الفقهاء إن هذا ليس على حقيقة الضمان وإنما هو التماس إتلاف بعوض له فيه غرض صحيح كقوله اعتق عبدك على كذا وردوا بذلك على أبي ثور حيث قال يصح هذا الضمان لأنه ضمان ما لم يجب وإذا لم يكن حقيقته حقيقة الضمان فلا يلزم ثبوت حكمه لما هو ضمان حقيقة
فإن قلت هب أنه ليس بضمان لكنه التزام والالتزام يصح نسبته إليهما وإلى كل منهما كما قدمته أنت في اللقاء والرؤية ونحوهما بخلاف الأكل ونحوه والمتاع الذي يريد إلقاءه يصدق على كل جزء من أجزائه اسم المتاع صدق العام على جزئياته كما قررته أنت في لفظة ما فلا فرق بين أن يقولا التزمنا أو ضمنا مالك أو متاعك الذي في السفينة أو أنا وهم ضامنون له وحيث قال الأصحاب في هذا إنه لا يلزمه إلا القسط يلزمك أن تقول به في مسألتنا وإلا فبين لي فرقا معنويا بين الالتزامين ودع افتراقهما في حقيقة الضمان المستدعي ضم ذمة إلى ذمة فإن ذلك مما لا يتعلق ببحثنا هنا
قلت لا شك أن الالتزام قدر مشترك حاصل في ضمان السفينة وضمان دين الغير والتزام الجعل في الجعالة وبدل الخلع وثمن المبيع وعوض القرض وسائر ما يثبت في الذمة من عقود المعاوضات فما كان منها معاوضة
____________________
(1/362)
محضة كالبيع والسلم والإجارة وغيرها فلا شك أن العوض يتقسط إذا تعدد المشتري والمسلم والمستأجر ونحوه
وليس التقسيط راجعا إلى مقتضى اللفظ فقط بل بقرينة العوض فإنه في مقابلة الملك فيسقط بحسبه كل من ملك شيئا لزمه بقدره وما كان منها معاوضة غير محضة كالجعالة والخلع ونحوهما يلحق بالمعاوضات المحضة في ذلك لأنه عقد من العقود ويحصل له ما يبذل العوض في مقابلته فإن العمل الحاصل له في رد عبده بالجعالة مثل العمل الحاصل له بالإجارة والبضع الحاصل للمختلعة نفسها كالعوض الحاصل لها بالشراء ونحوها فلذلك يتقسط عليه ولذلك قال الأصحاب إنه إذا خالع نسوة بعوض واحد فسد في الأصح ويحب لكل واحدة مهر مثلها وقيل يوزع المسمى على مهور أمثالهن وفيه قول آخر إنه يصح الخلع ويوزع المسمى ولو قالتا طلقنا بألف فطلق إحداهما وقع عليها كما لو قالا رد عبدينا بكذا فرد أحدهما والواجب على الذي طلقها مهر المثل على الأصح وقبل حصتها من المسمى إذا وزع على مهر مثلهما وقيل نصف المسمى توزيعا على الرءوس ويجري الخلاف كما قال الرافعي في الواجب على كل منهما إذا طلقهما جميعا ومن هذا القسم نوع يسمى فداء كخلع الأجنبي فإنه يفتدي به المرأة وشراء من أقر بجزئية عبد في يد غيره وما أشبه ذلك فهو أيضا جار على حكم المعاوضات بدليل أنه يجوز بالعين وبالدين فإذا افتدي اثنان بعبد لهما حر ممن هو في يده ويسترقه أو امرأة من زوجها صح وملك الزوج عليهما العبد من كل واحد نصفه في مقابلة ما خرج عن ملكه من البضع فهي مقابلة صحيحة وتقسيط صحيح لا يمكن غيره وإذا افتديا بدين في ذمتهما كان مقسطا عليهما كذلك وهكذا فداء الأسارى من أيدي الكفار كما نطق به القرآن وجاءت به السنة وضمان السفينة من هذا القبيل يشبهه من وجه باختلاع الأجنبي ومن وجه بافتداء الأسير ومن وجه بافتداء من يعلم حرمته والذي هو في يده يجهل وإنما غايرنا بين هذه الأوجه الثلاثة لأن ملك الزوج على بضع زوجته ثابت والمختلع ينبغي إزالته إزالة صحيحة فهي معاوضة لا شك فيها وفيها إزالة ملك من الجانبين جانب الزوج بإزالة قيد العصمة وجانب ملكه عن المال المبدل
وافتداء الأسير من الكافر ليس فيه إزالة ملك أما من جهة الكافر فظاهر لأنه لا ملك له ولا يد على المسلم وأما من جهة الفادي فالذي يظهر أنه لا يزول ملكه عما بذله من الفداء والكافر لا يملكه وإنما يعطيه له للضرورة لافتداء المسلم وافتداء الحر ممن يسترقه فظاهر الأمر كالخلع وفي الباطن كالأسير إن علم صاحب اليد أنه ظالم فهو
____________________
(1/363)
مثله حرفا بحرف وإن جهل كان معذورا في الظاهر لا إثم عليه بالنسبة إلى المشتري على ما يعلمه وضمان السفينة إذا أشرفت على الغرق ولا ينقذهم إلا إلقاء المتاع يجب إلقاؤه ولكن بعوض إذا كانت منفعته تعود إلى غير صاحب المتاع وقد قال الإمام إن الملقى لا يخرج عن ملك مالكه حتى لو لفظه البحر على الساحل وظفرنا به فهو لمالكه ويسترد الضامن المبذول
وهل للمالك أن يمسك ما أخذه ويرد بدله فيه خلاف كالخلاف في العين المقترضة إذا كانت باقية هل للمقترض إمساكها ورد بدلها إذا عرفت فالمتاع إنما يجب على صاحبه إزالة يده عنه بالإلقاء لا خروج ملكه عنه والمال المبذول له في مقابلة اليد ويجوز أن يبذل له في مقابلة ذلك عين أو دين فهو يشبه الخلع من جهة أن فيه إزالة يد محقة ويفارقه في بقاء ملكه عليه كما أفاده الإمام
وفي وجوب الإلقاء فإن الزوج لا يجب عليه إلا إزالة الشقاق فقط دون إبانة المرأة ويشبه مما أخذه بالعين المقترضة يقتضي أن يجري الخلاف في أنه هل يملكه بالقبض أو بالتصرف وهذا فيما إذا كان المبذول عينا ظاهرا وأما إذا كان دينا فقد يستبعد ولا استبعاد فيه أيضا فقد قال صاحب المهذب وأتباعه إنه لو قال أقرضتك ألفا وقبل وتفرقا ثم دفع إليه ألفا جاز إن لم يطل الفصل وإن طال لم يجز حتى يعيد لفظ القرض وهذا يقتضي جواز إيراد القرض على ما في الذمة
فقد يكون ما تضمنه الضامن للملقى في ذمته من هذا القبيل وإن كان لازما فقد يكون المتاع للملقي وهو المشبه للعين المقترضة ويجعل صاحب المتاع كأنه أقرضه منهم وهذا هو أولى التقديرين وإذا أخذ بدله من الضامن فحكمه حكم بدله ولذلك يسترده إذا قلنا يسترد العين المقترضة فلا يبعد جريان الخلاف في وقت ملكه كذلك وبما ذكرناه بان واتضح أن هذا الضمان أعني ضمان السفينة كسائر العقود الخلع والجعالة وغيرهما عند الإطلاق فيقتضي التقسيط فلا جرم قالوا إذا قال أنا وهم ضامنون حمل على التقسيط ولا يلزمه إلا تقسيطه وأما الضمان الحقيقي الذي نحن نتكلم فيه فليس في مقابلته شيء ولا معاوضة ولا افتداء وإنما هو التزام مجرد فلا يوجب التقسيط في موضع من المواضع
فلا جرم قلنا يلزم كلا منهما الجميع فإن قلت لو صح ما قلته في ضمان السفينة لكان إذا صرح بأن كل واحد منهما ضامن على الكمال أنه لا يصح كما لا يصح أن يشتري اثنان عينا على أن كلا منهما يلزمه جميع ثمنها فإن ذلك خلاف مقتضى العقد فكان يجب أن يفسد الضمان أو يصح ويفسد الشرط ولا يلزمه إلا القسط وقد قال يلزمه الكل في هذه الصورة ففارق
____________________
(1/364)
365 مسألة العقود
قلت هذا وقت التثبت في النقل
هنا مسألتان إحداهما إذا قال رجلان لصاحب المتاع ألق متاعك في البحر وعلينا ضمانه وأنتم لم تنقلوها وقياسه أن لا يلزم كلا منهما إلا القسط وأنهما لو شرطا أن يكون على كل منهما كمال الضمان لم يصح الشرط كسائر العقود بخلاف الضمان الحقيقي فإنه على حسب ما شرطاه لأنه التزام مجرد قابل لهذا ولهذا
الثانية وهي التي نقلتموها إذا قال أنا وهم ضامنون كل منا على الكمال فهنا يلزمه كمال الضمان بقوله ولا يصح قوله بالنسبة إلى غيره فإن انفراده بالضمان صحيح وقد صدر منه وضمانه عن غيره لا يصح فإن قلت قد قال الرافعي إن قوله هم ضامنون إما للجميع أو للحصة إن قصد به الإخبار عن ضمان سبق منه واعترفوا به توجهت الطلبة عليهم وهذا يدل على أنهم إذا شرطوا الكمال صح
قلت الذي أقوله ولا أتردد فيه ويجب حمل كلام الرافعي على بعضه أنهما إذا قالا ألق وعلينا ضمانه وجب على كل منهما النصف استقلالا والنصف بطريق الضمان الحقيقي عن صاحبه إذا صححنا ضمان ما لم يجب ومثله في الثمن إذا شرط لزومه لهما يجب على كل منهما نصفه استقلالا ونصفه ضمانا وإن قال أحدهما ألق متاعك وعلي ضمانه وقاله آخر على الفور قبل الإلقاء فإن قصد الملقي جوابهما كان عليهما نصفين وإن قصد جواب الأول لزمه ولم يلزم الثاني وإن قصد جواب الثاني لزمه ولم يلزم الأول ويأتي في الصورتين الأولتين ضمان ما لم يجب أيضا
هذا ما تيسر ذكره في هذه المسألة
فإن قلت هل أنت جازم بنفي الخلاف في هذه المسألة أو مجوزه أعني مسألة إذا قالا ضمنا مالك من الدين على فلان
قلت أجوزه على ضعف لما تقدم البينة ولكن الصواب هذا
فإن قلت هل يجوز الخلاف فيما إذا قالا رهنا عبدنا بالدين الذي لك على فلان وهو ألف أو تقطع به كما قطع به صاحب التتمة قلت بل أقطع به كما قطع والفرق بينه وبين الضمان على الوجه الضعيف أن الرهن موضوعه في الشرع على ذلك فعند إطلاقهما ينزل على الموضوع الشرعي وأنهما جعلا له حكم الرهن الواحد لاتحاد العين وفي الضمان الذمة متعددة وليس هناك ما يقتضي الاتحاد فنظرنا إلى تعدد الضامن فإن قلت لو قال وضمنا المبلغ المذكور هل يكون كضمان الألف لأن الألف واللام هنا للعهد لا للعموم والمعهود عدد وإذا كان كذلك يجري فيه الخلاف ويكون الصحيح أن كلا منهما ضمان للجميع
فإن قلت إذا حكم حاكم بالتقسيط تعذر نقضه لأن قضاء القاضي إنما ينقض إذا خالف الإجماع أو النص أو القياس الجلي
قلت الحاكم إما أن
____________________
(1/365)
يكون مجتهدا وإما أن يكون مقلدا فإن كان مجتهدا وحكم بما أداه إليه اجتهاده لا ينقض إلا إذا خالف واحدا من الثلاثة المذكورة وزاد بعضهم رابعا وهو القواعد الكلية وإن كان مقلدا وجوزنا قضاءه وحكم بمذهب إمامه مع علمه به فكذلك وإن حكم بما توهمه من غير أن يحيط علما فهذا قضاؤه باطل منقوض سواء صادف الحق أم لا لقوله صلى الله عليه وسلم قاض قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار فكل من أقدم على حكم ولم يثبت عنده باجتهاده أو بنقل صحيح عن إمامه يعلمه قبل قضائه بل أقدم عليه بما سبق في وهمه وخطر بباله فقضاؤه باطل ولو تبين أنه مذهب إمامه مجزوما به ومجمعا عليه لأنه أقدم عليه حيث لا يحل له الإقدام عليه فلم يصادف محلا ولا فرق في هذا بين المقلد والمجتهد وأما إذا استند إلى وجه أو قول ليس هو الصحيح من مذهب إمامه أعني الذي صححه جمهور أصحابه
واشتهر الأخذ به في مذهبه فإن كان مجتهدا في المذهب له أهلية الترجيح جاز ونفذ قضاؤه وإن لم يكن كذلك لم يكن له أن يحكم وكان حكمه به من غير اعتقاده له حكما بما لا يعلم فيدخل النار بمقتضى الحديث وإن فرض أنه اعتقد صحة ذلك الوجه تقليدا لصاحبه وأن المشهور خلافه
فإن كان لاعتقاده ذلك مستند صحيح إما من دليل بحسب حاله أو أمر ديني يقع في نفسه فهذا عندي فيه نظر يحتمل أن يقال بصحته لاعتقاده ويحتمل أن يقال ببطلانه لمدركين أحدهما أن ذلك الوجه لا يقلد قائله إلا إذا كان مجتهدا وإنما يرجع إليه لكون قائله يرى أنه مذهب إمامه فإذا قال الجمهور خلافه كان قولهم مقدما عليه
والثاني أنه إنما فوض إليه القضاء وهو مقلد لإمام إلا ليحكم بمذهبه فليس له أن يحكم بمذهب أحد من أصحابه يخالف قوله كما لا يحكم بمذهب عالم آخر فإن قلت فهل يلزم القاضي غرم المال الذي استعاده من القابض قلت حيث نقضنا حكمه في ذلك لزمه الضمان يعني أنه يطالب به فإن كان باقيا في يد من أخذه ألزمه برده وإن كان تالفا ألزمه برد بدله فإن أعسر المحكوم أو غاب طولب القاضي ليغرم من بيت المال في قول ومن خالص ماله في قول وهو الأصح ثم يرجع على المحكوم له إذا أيسر والقياس أن لا تتوقف مطالبة القاضي على غيبة المحكوم له ولا على إعساره بل يتخير صاحب الحق في مطالبة من شاء منهما ثم القاضي إذا غرم يرجع على المحكوم له
هذا ما تيسر ذكره في ذلك والله تعالى أعلم
انتهى
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه كتبتها في رابع عشر من جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبعمائة
____________________
(1/366)
367 باب الشركة مسألة شريكان بينهما سواق تزرع صيفيا وشتويا وبها إنشاءات أذن أحد الشريكين لشريكه أن يصرف من ماله ما تحتاج إليه السواقي وصرف الشريك المأذون له من ماله ما أذن له فيه شريكه على الوجه الشرعي ثم إن الشريك الآذن وضع يده بعد ذلك على السواقي وأخذ ما بها من المتحصل بغير إذن شريكه وأخذ ما بها من الأبقار واستعملها فيما يختص به فتلف بعض البقر وبارت الأرض وفسد ما بها من الزراعة والإنشاءات بسبب ذلك فماذا يلزمه أجاب يلزمه ضمان حصة المأذون له من جميع ذلك في التالف ببدله والناقص بأرشه وفي البائر والمستعمل بأجرته ويلزمه أيضا حصته مما صرفه المأذون بإذنه من ثمن وأجرة لأنه وكيله والله أعلم انتهى
باب الوكالة مسألة من دمياط في صفر سنة سبع وثلاثين وسبعمائة رجل وكل وكيلا أن يقبض له مبلغ جريده وأن يعطي من جملتها ثمانية آلاف درهم لشخص يسمى غازي قراضا ثم مات الوكيل بعد قبض مبلغ الجريدة فاعترف الموكل أنه أذن له أن يعطي الثمانية للمذكور وذكر أنه لم يعطه سوى خمسة آلاف فهل تسمع دعوى الموكل ببقية الثمانية أو لا لأنه قد يكون أعطاها وأشهد وتعذر معرفة ذلك
أجاب القول قول الموكل مع يمينه أن الوكيل ما أعطى ولا نظر إلى احتمال إشهاد لم يثبت سواء أقلنا الإشهاد واجب في ذلك أم لا كما هما وجهان فيما إذا وكله أن يودع صحح البغوي الوجوب والغزالي المنع
أما طلب الموكل أخذها من التركة فشرطه أحد أمرين إما أن يدعي سببا مضمنا مثل كونه كان يخلطها بغيرها أو مرض وهي عنده ولم يوص بها أو نحو ذلك فينتقل الوكيل عن حكم الأمانة إلى الضمان وتوفى من تركته بعد ذلك كله وإما أن توجد الثلاثة الآلاف أو أقل منها في تركته مفروزا غير مختلط بغيره ويحلف الموكل أنه ماله بعينه فله أخذه بعد ثبوت المقدمات المتقدمة وفيما سوى هاتين الحالتين لا تسمع دعواه لأن الوكيل أمين وقد تكون تلفت بغير تفريط والله أعلم انتهى
____________________
(1/367)
368 كتاب الإقرار مسألة رجل أقر لبعض ورثته بدين ومات والوارث المذكور محجور عليه فادعى الموصى له بالدين فطلب بقية الورثة يمينه وهو بالغ أعني المقر له فهل يلزمه يمين وهل للحاكم أن يحكم من غير يمينه وإذا نكل هل يكون المبلغ له أجاب يلزم المقر له يمين وليس للحاكم أن يقضي له من غير يمينه وإن نكل وقف الحكم إلى أن ينفك الحجر عنه فإذا انفك حلف بقية الورثة اليمين المردودة وبرئ مورثهم واقتسموا الموقوف لدينه ميراثهم والمقر له الوارث ولا يحلفون في مدة الحجر لأن اليمين المردودة كالإقرار وإقرار المحجور عليه بالمال لا يقبل
مسألة قال الشيخ الإمام رحمه الله امرأة أقرت أنها وقفت دارا ذكرت أنها بيدها وملكها وتصرفها على ولدها ثم على أولاده وإن سفلوا وشرطت النظر لنفسها ثم لولدها المذكور وأشهد حاكم شافعي على نفسه بالحكم بموجب الإقرار المذكور وبثبوت ذلك عنده وبالحكم به وبعده شافعي آخر وثبت أن الدار المذكورة إنشاء المقرة المذكورة وأنه لم تزل في يدها إلى حين وفاتها من حين أنشأتها فأراد حاكم مالكي إبطال هذا الوقف بمقتضى شرطها النظر لنفسها واستمرار يدها عليها وبمقتضى كون الحاكم بصحته وإن حكمه بالموجب لا يمنع النقض
وأفتاه بعض الشافعية بذلك تعلقا بما ذكره الرافعي عن أبي سعد الهروي في قول الحاكم صح وورد هذا الكتاب علي فقبلته قبول مثله وألزمت العمل بموجبه وأنه ليس بحكم وتصويب الرافعي ذلك
وقال بعض الحنفية إنه لو لم يكن إلا الحكم بموجب الإقرار ليس بشيء ولكن هنا زيادة أخرى وهي الحكم به يمنع من النقض تعلقا بأن معنى ذلك الحكم بصحة الوقف وأن هذا الضمير يعود على الوقف ووافق بعض المالكية هذا القول أيضا وقاربه
والصواب عندي أنه لا يجوز نقضه سواء اقتصر على الحكم بالموجب أم لا والكلام في فصلين أحدهما في بيان لفظ الحاكم والضمير في قوله الحكم به ليس عائدا على الوقف ولا يحتمله وإنما يحتمل أمورا أظهرها الإقرار وثانيها موجب الإقرار
وثالثها الثبوت وإنما رجحنا الأول لأن اسم الإشارة في قوله بثبوت ذلك للإقرار لأنه هو الثابت عنده لا الموجب ولا الوقف وإذا صح أن اسم الإشارة للإقرار فالضمير في الحكم به يعود عليه فيكون هذا الحاكم قد حكم
____________________
(1/368)
بأمرين الإقرار وموجبه وعلى الثاني يكون تأكيدا ويكون المحكوم به الموجب فقط وعلى الثالث يكون المحكوم به موجب الإقرار وثبوت الإقرار ونسبة الحكم إلى الثبوت لا تستبعد لأن أصحابنا اختلفوا في أن سماع البينة وإنهاء الحال إلى القاضي الآخر نقل لشهادة الشهود حتى يشترط فيها المسافة التي تشترط في شهادة الفرع على الأصل أو حكم بقيام البينة فلا يشترط
والثاني أظهر عند الإمام والغزالي
والأول أظهر عند الأكثرين فأخذنا من كلام الجميع أن لفظة الحاكم قد لا يراد بها الإلزام بالمدعى به وتستعمل في تثبيت الدعوى ومحل الاختلاف بين الأكثرين والإمام والغزالي أن كتاب سماع البينة من قاض إلى قاض هل هو محمول على الأول أو على الثاني فعلم بذلك صحة الاحتمالات الثلاثة ولكن الأظهر الأول كما قدمناه فالحاصل أن هذا الحكم حكم بموجب الإقرار بلا إشكال وعلى أظهر الاحتمالات حكم مع ذلك بالإقرار أيضا وعلى الاحتمال الثاني لم يحكم إلا بالموجب وعلى الثالث حكم بالموجب وثبوت الإقرار
الفصل الثاني في حكم ذلك وهل يجوز نقضه أو لا وهل هو حكم بالصحة أو لا والصواب أنه لا يجوز نقضه لأن القاعدة المقررة أن حكم الحاكم في المجتهدات لا ينقض إلا إذا خالف النص أو الإجماع أو القياس الجلي أو القواعد الكلية ولم يوجد هنا شيء منها
فإن قلت ما الدليل على أن حكم الحاكم في المجتهدات لا ينقض قلت نقل العلماء في ذلك إجماع الصحابة ممن نقل ذلك أبو نصر بن الصباغ وقالوا إن أبا بكر رضي الله عنه حكم في مسائل خالفه عمر رضي الله عنه فيها ولم ينقض حكمه وحكم عمر في المشتركة بعدم المشاركة ثم بالمشاركة وقال ذلك على ما قضينا وهذا على ما قضينا وقضى في الحد قضايا مختلفة وكذلك علي رضي الله عنه ولأنه ليس إلا اجتهاد والثاني بأقوى من الأول ولأنه يؤدي إلى أن لا يستقر حكم وفي ذلك مشقة شديدة فإنه إذا نقض هذا الحكم ينقض ذلك النقض وهلم جرا
أما ما حكي عن شريح أنه حكم في ابني عم أحدهما أخ لأم بأن المال للأخ وأنهم ارتفعوا إلى علي رضي الله عنه فنقض ذلك فيحتمل أن شريحا هم بالحكم ولم يحكم ويحتمل أن عليا رضي الله عنه رأى أن ذلك مخالف للكتاب لقوله تعالى وأولوا الأرحام الآية أما ما حكي عن الأصم أنه ينقض قضاء القاضي فيه فلا اعتداد به لإجماع الصحابة والأئمة المعتبرين على خلافه وقد حكى الإجماع في ذلك جماعة من أصحابنا وغيرهم من سائر المذاهب حتى
____________________
(1/369)
حكي عن أبي حنيفة ومالك أنه لا ينقض إلا إذا خالف الإجماع وإن كانا لم يفتيا بذلك فنقض مالك الحكم بشفعة الجوار وأبو حنيفة الحكم بحل متروك التسمية وبالقرعة بين العبيد
والمقصود اتفاق الأئمة المعتبرين على أن الحكم متى لم يخالف مقطوعا لا ينقض والحكم هنا من هذا القبيل
فإن قلت إنما يمتنع على المالكي أن يحكم ببطلان الوقف إذا كان الشافعي قد حكم بصحته والشافعي هنا لم يحكم بصحته
قلت كل شيء حكم فيها حكما صحيحا لا ينقض حكمه فيه أما حصر ذلك في الحكم بالصحة فلا وليس هذا اللفظ في شيء من كتب العلم فليس من شرط امتناع النقض أن يأتي الحاكم بلفظ الحكم بالصحة ثم إنا نقول الحكم بصحة الوقف مطلقا يقتضي ثبوت ثبوته في نفسه على كل أحد وذلك يستدعي ثبوت ملك الواقف واستجماع شروط الصحة فلا يجوز للحاكم أن يحكم بالصحة مطلقا إلا بعد وجودها ولذلك يحترز القضاة منها أما الحكم بالصحة بالنسبة إلى شخص معين فليس من شرطه ذلك لأن ذلك حكم عليه فقط دون غيره وإقراره كان في المؤاخذة به والمؤاخذة تستدعي الصحة في حقه إذ لو كان باطلا لما أخذنا به فالحكم بموجب الإقرار مستلزم للحكم بصحة الإقرار وصحة المقر به في حق المقر والحكم قد يكون بالمطابقة وقد يكون بالاستلزام فالصادر هنا من الحاكم بالمطابقة الحكم بموجب الإقرار وبالاستلزام الحكم بصحة الإقرار وصحة المقر به في حق المقر فهي ثلاثة أحكام فإذا حكم المالكي ببطلان الوقف فالصادر منه بالمطابقة الحكم ببطلان الوقف مطلقا في حق كل واحد وبالتضمن الحكم ببطلانه في حق المقر وبالاستلزام الحكم ببطلان الإقرار به وهو في الثاني والثالث رافع للحكمين الثاني والثالث من الحاكم الأول لأنهما متواردان عليهما وإن كان الذي حكم به الثاني بالمطابقة غير الذي حكم به الأول بالمطابقة وامتناع النقض في المحكوم به لم يفصلوا فيه بين المطابقة والاستلزام بل صرحوا بأن حكم الحاكم قد يكون بالمطابقة وقد يكون بالاستلزام ونحن نعلم ذلك أيضا ولو جادل مجادل في الاستلزام لم يمكنه المجادلة في التضمين
والتضمين في الحكم الثاني يناقض المطابقي في الحكم الأول لأن الأول حكم في الملزوم في حق المقر بالمطابقة والثاني حكمه بالتضمن بعدم اللزوم في حقه فكان كمن حكم بقتل امرأة بالردة فحكم الثاني بامتناع قتل جميع النساء إلا في تلك المرأة منهن ولا نشك أنه لا يدفع حكم الأول إذا كان الأول وقع صحيحا
وممن تضمن كلامه أن حكم الحاكم قد يكون بالاستلزام القاضي حسين
____________________
(1/370)
من أصحابنا لما ذكر أن بيع الحاكم مال المفلس يتوقف على ثبوت ملكه بالبينة كما قاله الماوردي وغيره وعلله القاضي حسين بأنه حكم له بالملك
والقرافي من المالكية قال حكم الحاكم قد يكون الالتزام لحكمه بصحة بيع العبد الذي أعتقه من أحاط الدين بماله فإنه حكم بإبطال العتق بالالتزام وكذلك الفعل كبيع الحاكم العبد المذكور بخلاف تزويجه بيتيمة تحت حجره أو بيعه مالها فالفعل قد يعرى عن الحكم وقد يستلزمه انتهى
ولا شك في استلزام الحكم الحكم وأما استلزام الفعل الحكم ففيه نظر سنتعرض له في آخر هذا التصنيف ولا ضرورة بنا هنا إلى إتيانه أو نفيه لأن مسألتنا في استلزام الحكم الحكم لا في استلزام الفعل الحكم
هذا قولنا في الحكم بموجب الإقرار أما الحكم بالإقرار فيحتمل أن يكون كذلك لأنه لا يعني الحكم بالإقرار إلا الحكم بموجبه وكذلك كل التصرفات التي تثبت عند القاضي من بيع أو وقف أو غيرهما إذا قال حكمت بهما معناه حكمت بموجبهما فإن المحكوم به إنما هو الحكم الشرعي وهو حكم ذلك التصرف والتصرف فعل واقع من الشخص وهو الذي يثبت عند القاضي ويكون ثبوته سببا بحكم القاضي بذلك الحكم فالثابت التصرف والمحكوم به نتيجته وهما غيران فإذا أطلق الحاكم العبارة في إضافة الحكم إلى النائب أو كناها على أن المراد الحكم بأمره ومقتضاه تصحيحا للكلام فإذا صرح بالحكم بالموجب كان أصح وأبين ويحتمل أن يقال إن الحكم بالإقرار على نفس الثبوت كما تقدم في كتاب السماع من قاض إلى قاض آخر وذلك فيما إذا لم يجمع بين لفظتي الحكم والثبوت أما هنا فقد جمع بينهما فتعين حمله على الحكم بالموجب فإن قال قائل يمكن حمله على الحكم بصحة الإقرار ولم ينازعه لأن الحكم بصحة الإقرار والحكم بموجبه متقاربان لأن الصحة كونه بحيث يترتب عليه موجبه وإنما يظهر الاختلاف بين الصحة والموجب فيما يكون الحكم فيه بالصحة مطلقا على كل واحد كما قدمناه أما الإقرار فالحكم بصحته إنما هو على المقر والحكم بموجبه كذلك فظهر أن الحكم بموجبه أدل على المقصود بالحكم من الإقرار وليس لك أن نقول إن الحكم بالبيع معناه الحكم بصحة البيع لأن صحة الشيء غيره فليس في اللفظ ما يدل عليها وكذلك ليس فيه ما يدل على الموجب ولكن حيث تثبت الصحة يثبت الموجب ولا ينعكس فقدرنا الموجب لأنه المحقق ولم نقدر الصحة إذ لا دليل عليها
فإن قلت فما جوابكم عن كلام الرافعي في الحكم بالموجب قلت من أوجه أحدها أن الرافعي نقل ذلك عن أبي سعيد
____________________
(1/371)
والذي في كتاب أبي سعيد بمضمونه لا بموجبه
الثاني وهو العمدة أن الضمير في قوله بموجبه كما هي عبارة الرافعي أو بمضمونه على عبارة الأصل تعود على الكتاب وذلك واضح لا خفاء فيه ومضمون الكتاب وموجبه صدور ما تضمنه من إقرار كما في مسألتنا أو تصرف أو غير ذلك وقبوله وإلزام العمل به هو أنه ليس بزور وإرادة هذا المعنى محتملة وهو تثبيت الحجة وإلزامها قبولها وعدم ردها ثم يتوقف الحكم بها على أمور أخر منها عدم معارضة بينة أخرى كما صرح به أبو سعد الهروي في بقية كلامه وغير ذلك وكذلك قال الرافعي إن الصواب أنه ليس بحكم ونحن نوافقه في تلك المسألة على ذلك أما مسألتنا هذه فالحكم بموجب الإقرار الذي هو مضمون الكتاب ولم يتكلم الرافعي ولا أبو سعيد الهروي فيه بشيء في هذا المحل فزال التعلق بكلامهما
الثالث أنه ليس في الكلام المذكور لا في عبارة الرافعي ولا الهروي لفظة الحكم بل الإلزام والإلزام وإن عده ابن الصباغ ثم الرافعي من ألفاظ الحكم لكن ذلك في الإلزام بالمدعى به أما إلزام العمل بالموجب فلم يقع في كلامهم إلا هنا وكلامنا في الحكم بالموجب والمرادف له الإلزام بالموجب والواقع في كلام الرافعي إلزام العمل بالموجب وقد يتوقف في مرادفته للأولين وكيف يجوز أن يصرح الحاكم بلفظ الحكم ويقول إنه ما حكم ولو صح ذلك وأنه ليس بحكم كان استعمال لفظ الحكم فيه غير جائز فاستعماله حينئذ إما تلبيس وإما جهل وكلاهما قادح في الحاكم
الرابع أنه ليس في كلام الهروي ولا الرافعي لفظة الثبوت فلذلك احتمل إلزام العمل عليها وفي مسألتنا جمع بين لفظتي الثبوت والحكم ولا يمكن حمل الحكم على الثبوت حذرا من التأكيد وقوله قبلته قبول مثله ليس صريحا في الثبوت
الخامس أن أبا سعد الهروي الذي قال هذه المسألة قال إنما رجعت عن القول لأني رأيت الحكام مقلدين يثبتون على عادة القضاة السابقة من غير أركان تبصر الحقائق لم يرجع عن القول الأول ونحن إنما نتكلم في قاض له تبصر بالحقائق عالم صالح للقضاء وقد جرى العرف في بلادنا باستعمال هذه اللفظة أعني الحكم بالموجب ويرونها حكما ويكتفون بها فمن قال إنها ليست بحكم كان مخالفا للمفهوم منها وشيوعها يدل على أن الحاكم أراد بها الحكم كما هو المفهوم منها في العرف
السادس أن هذه المسألة التي عرفتها حكم فيها حاكم جيد ونفذه حاكم آخر جيد في سنته وكانا هما وشهود الأصل في بلدة واحدة فإن كانت هذه اللفظة لا تفيد شيئا لا يجوز استعمالها كان ذلك قدحا فيهما وإن حملت
____________________
(1/372)
على مجرد الثبوت لم يكن يجوز للثاني أن يسمع البينة على الحاكم الأول وهو معه في البلد على ما هو المشهور من مذهبه فلو لم ير الثاني أن ذلك حكم لازم لما سمع البينة فسماعه البينة وحكمه بها تصحيح للحكم وقطع للنزاع فيه
السابع لو سلمنا أن ذلك يحمل على مجرد الثبوت وصحة سماع البينة بذلك في البلد فتنفيذه ينبغي أن يكون حكما لأن التنفيذ من ألفاظ الحكم
الثامن أن لنا وجهين مشهورين في أن الثبوت حكم أو ليس بحكم حكاهما الماوردي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وأبو إسحاق من العراقيين والقاضي حسين وأبو علي والإمام من المراوزة والرافعي وغيرهم أصحهما أنه ليس بحكم وبنوا عليهما رجوع الحاكم وتغريم الشاهد إذا رجع فإذا حمل الحكم بالموجب على الثبوت كان في كونه حكما هذان الوجهان فكيف يصوب الرافعي أنه ليس بحكم والتصويب يشعر بالقطع وفي أول كلام الرافعي ما يشعر بقرب المسألتين وأن القول إن ذلك ليس بحكم على القول بأن الثبوت ليس بحكم
واعلم أن الصواب أن الثبوت ليس بحكم وأما إذا قلنا إنه حكم فمعناه حكم بما ثبت وقد قدمنا أن الثابت لا يتعلق الحكم به فالمعنى أنه حكم بمقتضاه فإذا صرح بالحكم بالموجب أو قال ثبت وحكم بموجبه يجري فيه خلاف ثم إذا تبين لنا وقلنا إن ذلك ثبوت فيجري فيه الخلاف في أنه حكم أم لا فإذا نفذه حاكم آخر كان تنفيذه في محل اجتهاد فلا يجوز نقضه ويصير تنفيذه الثاني لازما هذا عندنا فأما عند المالكية فالثبوت حكم على المشهور عندهم كما قاله القرافي وقال إن القول بأنه ليس بحكم قول شاذ بل مجرد التقرير إذا رفعت قصة إلى حاكم ولم يتكلم فيها بشيء بل سكت عنها حكم عند ابن القاسم لا يجوز نقضه واختاره ابن محرز
وقال ابن الماجشون ليس بحكم أما الحنفية فاشتهر عندهم أن الثبوت حكم وهذا كله في الحاكم الأول أما الحاكم الثاني إذا قال إنه ثبت عنده ما صدر من الأول وألزم مقتضاه كان ذلك حكما منه بلزوم ما ثبت عند الأول فهو حكم لا يتجه فيه الخلاف
التاسع أن الرافعي قال عند الكلام في كتابة السجل ويكتب في المحضر أنه ثبت عنده بإقرار وشهادة فلان وفلان ويثبت عدالتهما أو بيمينه بعد النكول وأنه حكم بذلك لفلان على فلان بسؤال المحكوم له ويجوز أن يقول ثبت ما في هذا الكتاب وأنه حكم بذلك
هذا كلام الرافعي وهو يقتضي أن الحكم بما في الكتاب حكم صحيح وقد قدمنا أن الحكم بموجب ذلك أصرح من الحكم به وإنما زاد في لفظه الثبوت فخلاف مسألة أبي سعد فعلم أنه متى اجتمع الثبوت والحكم بالموجب كان حكما صحيحا وإلا تناقض الكلام
____________________
(1/373)
فإن قلت قال أبو سعد الهروي إن الحكم بصحة الإقرار لا يتضمن الحكم بصحة المقر به على المذهب الظاهر وذلك ينافي ما قدمت من أن الحكم بموجب الإقرار مستلزم للحكم بصحة الإقرار وصحة المقر به في حق المقر
قلت إنما قيدت بقولي في حق المقر احترازا من ذلك وقول أبي سعد محمول على صحة المقر به في حق المقر فيتضمنها وإلا لم يحكم به وقد صرح الأصحاب صاحب المهذب وغيره بأن الحق تارة يثبت بإقرار المقر وتارة يثبت باليمين المردودة وتارة بالبينة وفي هذه العبارة ما يصحح وصف الحق بالثبوت إذا أقر به ولا نقول إن الثابت عند الحاكم هو الإقرار فقط بل الإقرار وما أوجبه نعم لا نطلق أن المقر به ثابت وهو كونها لزيد لم تثبت حتى تمتنع منازعة غيره له فلذلك امتنع إطلاق القول بثبوت المقر به وعلى هذا يحمل كلام الهروي وكذا الإقرار بالوقف ونحوه من هذا القبيل وإن كان المقر به مما لا يتعدى إلى غير المقر لم يمتنع إطلاق القول بثبوته إذا ثبت الإقرار وكل ما ثبت صح الحكم به وبصحته في حق المقر إذا حكم بالإقرار وبصحته وإنما قيدنا الصحة في حق المقر لأنا لا نحكم بالصحة مطلقا حتى يتعدى حكمها إلى الغير ولا يستبعد ثبوت الصحة والحكم بها في حق بعض الناس دون بعض لأن الأحكام هكذا ألا ترى لو اشترى اثنان عبدا كان أحدهما أقر بحريته حكمنا بالحرية على أحدهما دون الآخر
فإن قلت ما معنى الموجب وما الفرق بينه وبين الصحة
قلت أما السؤال الأول فبيانه أن الموجب هو الأمر الذي يوجبه ذلك اللفظ والصحة كون اللفظ بحيث يترتب عليه ذلك الأثر وهما مختلفان والأول حكم شرعي والثاني شرعي وقيل عقلي وإنما يحكم الحاكم به لاستلزامه لحكم شرعي والحاكم لا يحكم إلا بحكم شرعي وهو الإيجاب أو التحريم أو الإباحة أو الصحة أو الفساد على ما قلنا وكذلك السببية والشرطية والمانعية ولا يحكم بكراهة ولا ندب لأنه لا إلزام فيها مباشرة ولا استلزاما بخلاف تلك الأمور
فإن قلت بين الحكم بين موجب الإقرار وصحة الإقرار ما بحثنا أو الحكم بالأول دون الثاني
قلت موجب الإقرار ثبوت المقر به في حق المقر ولزومه له ذلك معنى المؤاخذة وصحة الإقرار كونه بحيث يترتب عليه ذلك وشرطها أن يكون المقر ممن يصح إقراره وأن يكون مختارا ولا يكذبه حس ولا عقل ولا شرع وأن تكون صيغة صحيحة والحكم بصحة الإقرار يستدعي حصول ذلك فإن علم ذلك بأن علم القاضي حصول هذه الشروط حكم بالصحة أعني صحة الإقرار
____________________
(1/374)
على خلاف ما قال
وإذا كذبه الشرع بأن يكون المقر به في يد غيره فإن قطعنا بملكه له فلا نحكم بصحة الإقرار بل بفساده وإن لم نقطع إلا بظاهر الشرع فلا أثر للإقرار الآن ولكن يمكن أثره في المستقبل إذا صار في يده كمن أقر بحرية عبد ثم اشتراه فلا إشكال في أنه بعد الوصول إلى يده يصح الحكم بصحة إقراره السابق أما قبل ذلك فصحة الحكم موقوفة على دعوى وسؤال فإن اتفق ذلك بشروطه صح الحكم أيضا وإن علم القاضي كذب الإقرار بحس أو عقل أو شرع قطعي أو أكره المقر أو كونه ممن لا يصح إقراره لم يحكم بصحة الإقرار بل بفساده ومن جملة ذلك أن يقر بتصرف يعتقد الحاكم فساده كالوقف على نفسه عند من يرى بطلانه أو يقول داري التي في ملكي لزيد فيفسد في الأول لفساد المقر به وفي الثاني لفساد الصيغة وإن تردد في بعض الشروط بعد العلم بصحة الصيغة وإمكان المقر به فقد قال القاضي حسين في الكلام في التنحنح في الصلاة لو شهد الشهود على إقرار إنسان مطلقا تقبل شهادتهم ويحمل إقرارهم على الصحة وإن احتمل عوارض تمنع صحة الإقرار انتهى
وهذا يقتضي أنه لا يشترط ثبوت الاختيار ونحوه عند الحاكم بل يحكم بالصحة إلا أن يثبت خلافه وكذلك كونه محجورا عليه بحجر طارئ أما لو علمه محجورا بصبا أو غيره وشك في زواله فلا ينبغي أن يحكم بصحة الإقرار ولا بموجبه حتى يثبت زواله
وما قاله القاضي حسين ظاهر اعتماده على الأصل إذا لم يكن معارض أما إذا وجد معارض حصل بسببه شك ولكن لم يثبت فينبغي أن يقصر على الحكم بالموجب دون الصحة لأن الحكم بالصحة يقتضي أن يكون تبين عنده حالها والحكم بالموجب لا يقتضي إلا أنه سبب المؤاخذة وإن توقفت على شرط أو انتفاء مانع فالحكم بموجب الإقرار حكم بسببية المؤاخذة ثم ينظر فإن لم يوجد مانع أعملنا السبب وأثبتنا المؤاخذة به
ويحتمل أن يقال إنه يحكم بصحة الإقرار اعتمادا على الأصل وعلى هذا الاحتمال يكون الحكم بموجب الإقرار وبصحته متلازمين وعلى الأول يكون الحكم بالصحة أخص وتوقف الحكام في الصحة حيث يجيبون إلى الموجب إن قلنا بتلازمهما في الإقرار لا معنى له وإن قلنا بينهما عموم وخصوص فمعناه ظاهر وخرج من هذا أن شروط الإقرار التي لا بد أن يعلمها الحاكم ثلاثة صحة الصيغة وإمكان المقر به ورشد المقر وما سوى ذلك مانع ولا تشترط اليد لما قدمناه من الإقرار بحرية عبد في يد غيره على أن الأمور الثلاثة التي ذكرناها لا يحتاج إلى ثبوتها بالبينة إلا عند التردد وفي الغالب
____________________
(1/375)
يستغنى عنها بعلم الحاكم بظاهر الحال
فإن قلت بين لي أيضا الفرق بين موجب الإنشاء وصحة الإنشاء وسبب توقف الحاكم في الثاني دون الأول قلت موجب الإنشاء أثره جعل الشارع ذلك الإنشاء سببا في حصوله وصحته كونه بحيث يترتب عليه ذلك وللصحة شروط ترجع إلى المتصرف والمتصرف فيه وكيفية التصرف إذا ثبت حكم الحاكم بصحة التصرف ولم يحكم بصحته ولا بموجبه وإذا تردد فيها فما كان راجعا إلى الصيغة أو إلى حال التصرف فلا يخفى حكمه على ما سبق في الإقرار وما كان حال المتصرف فيه فما كان من الشروط العدمية لكونه لم يتعلق به حق الغير وما أشبه ذلك فلا يشترط ثبوته
وإنما اشترطنا ثبوت الملك ونحوه لأنه لا أصل له والظاهر يدل عليه ومثل هذا لم يشترط في الإقرار إذا عرفت ذلك فإذا لم يثبت الملك ولا عدمه وثبت ما سواه من الأمور المعتبرة لم يمكن الحكم بالصحة ولكن التصرف صالح وسبب لترتب أصله عليه في المملوك وقد يكون على وجه مجمع عليه
وقد يكون مختلفا فيه فيحكم القاضي بموجب ذلك ويكون لحكمه فوائد أحدها أن ذلك التصرف سبب يفيد الملك بشرطه حتى إذا كان مختلفا في إفادته الملك كالوقف على نفسه مثلا فحكم بموجبه من يرى صحته ارتفع الخلاف
الثانية مؤاخذة الواقف بذلك حتى لو أراد بيعه بعد ذلك لم يمكن
الثالثة مؤاخذة كل من هو بيده إذا أقر للواقف بالملك فإنه يؤاخذ بذلك كما يؤاخذ الواقف
الرابعة مؤاخذة ورثته بعد موته لاعترافهم للواقف كما قلناه لغيرهم
الخامسة صرف الربع للموقوف عليه باعتراف ذي اليد ولا يتوقف ذلك على الحكم بصحة الوقف في نفس الأمر بل وقف الواقف لما في يده واعتراف ذي اليد له كاف فيه كما قلنا في الإقرار فالحكم بالموجب في الحقيقة حكم بالسببية وثبوت أثرها في حق من أقر بالملك كالواقف ومن تلقى عنه بلا شرط وفي حق غيرهم بشرط ثبوت الملك فإن حكم البينة لازم لكل أحد وحكم الإقرار قاصر على المقر ومن تلقى عنه فإذا ثبت بالبينة بعد ذلك الملك كان ذلك الحكم الأول لازما لكل أحد وإن لم يثبت كان لازما لذي اليد ومن اعترف له
ولا نقول إن الحكم على كل واحد معلق على شرط بل الحكم منجر على وجه كلي يندرج فيه من يثبت الملك عليه إما بإقرار وإما ببينة والحكم بالصحة يزيد على ذلك بشيئين أحدهما الحكم بالشرط وانتفاء المانع
والثاني أنه حكم بصحة التصرف في نفسه مطلقا ويلزم من ذلك الحكم بثبوت أثره في حق كل أحد فالحكم بالموجب معناه
____________________
(1/376)
الحكم بثبوت الأثر في حق كل من ثبت الملك عليه بإقرار أو بينة سواء كان الإقرار والبينة موجودين أم يتجددان بعد ذلك ويلزم منه الحكم بالصحة في حقهم لا مطلقا والحكم بالصحة معناه الحكم بالمؤثر به التامة مطلقا ويلزم منها ثبوت الآخر في حق كل أحد ثم القسمان يشتركان في أن ذلك ما لم يأت المحكوم عليه بدافع ولذلك يقال مع إبقاء كل ذي حجة معتبرة على حجته
وهذا مما يبين أن ذلك لا ينافي الجزم بالحكم فقد بان الفرق بين موجب الإنشاء وصحة الإنشاء وموجب الإقرار وصحة الإقرار والسبب الداعي للقضاة والإجابة إلى الحكم بالصحة في وقت وإلى التوقف في وقت مع الإجابة إلى الحكم بالموجب ومعاني ذلك كله بعون الله تعالى
فإن قلت ما الدليل على جواز الحكم بالموجب ولم لا يتوقف الحكم مطلقا على ثبوت الملك قلت لو قلنا بذلك لأدى إلى أن من في يده ملك فوقفه على الفقراء مثلا أو على معين وقفا متصلا بشروطه وثبت ذلك بالبينة أو بإقراره ثم امتنع من صرفه وأراد بيعه ولم يثبت ملكه إن مكن من ذلك مخالفة للقاعدة المعلومة من الشرع أن المقر والمتصرف يؤاخذ بمقتضى إقراره وتصرفه فلا بد أن يحكم عليه بموجب إقراره لذلك ولأنها إما أن يكون ملكه أو لا فإن كانت ملكه فقد خرجت عنه بالوقف فلا يجوز له بيعها ولا الاستيلاء عليها وإن لم تكن ملكه مع اعترافه أنه ليس بمأذون في بيعها فلا يصح بيعها فإقراره على بيعها إقراره على خطأ مقطوع به ومنكر قطعا فيجب على الحاكم إزالته لقوله صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرا فليغيره ولا طريق لنا إلى ثبوت الملك لأن الفرض كذلك فتعين الحكم بالموجب
فإن قلت هذا في المجمع عليه أما المختلف فيه فلم قلت إنه يحكم بصحة كونه سببا حتى يرتفع
قلت لأننا ننقل الكلام إلى المختلف ونفرض أنه وقف على نفسه مثلا وأقر بذلك ثم أراد الرجوع وطلب الموقوف عليه من حاكم يرى صحة ذلك الحكم وقال الواقف أنا لا أسلم لا أرى صحة ذلك فلا شك أنه يجب على الحاكم فصل القضية على مقتضى اعتقاده ويحكم على الواقف بصحة السببية ولزوم التسليم ولولا حكمه بصحة السببية لما أمكنه الحكم بوجوب التسليم ولدام النزاع وإصرار الواقف على ما يعتقد الحاكم خطأه
فإن قلت سلمنا أنه يحكم بذلك في حق المقر فلم قلت إنه يحكم به بعد موته في حق الورثة
قلت لأنهم تلقوا الملك عنه ويعترفون بالملك والبدأة ومقتضى ذلك اعترافهم بصحة وقفه وإقراره ولأنه إن كان له فقد خرج عنه بالوقف وإن لم يكن له فلا
____________________
(1/377)
ميراث فعلى كلا التقديرين لا يكون لهم
فإن قلت فقد قال الرافعي هل يصح أن يلزم القاضي الميت بموجب إقراره في حياته فيه وجهان
قلت ينبغي أن يحمل هذا على أنه هل يكون الحكم على الميت أو على الورثة وفيه ما فيه من جهة أنه لا تظهر فائدة لهذا الخلاف أما وجوب إخراج ما أقر به من تركته من عين أو دين فكيف يتأتى فيه خلاف وقوله تعالى من بعد وصية يوصي بها أو دين يشمل الثابت بالبينة والدين الثابت بالإقرار ولا أعتقد أن أحدا يخالف ذلك ولو سلمنا ذلك فذلك في إقرار ولم يتصل بحكم ولا ثبوت أما إذا ثبت الإقرار في حياته وحكم به ثم مات فلا يشمله كلام الرافعي من جهة أنا ما ألزمناه بمجرد إقراره بل بحكمنا السابق ولا حاجة بنا إلى هذا فإنا نقطع بوجوب إخراج ما أقر به الميت في حياته من تركته والظاهر أن مراد الرافعي إذا ادعى على رجل فأقر ثم مات قبل الحكم عليه أو يحتاج إلى إنشاء دعوى على الوارث وينبغي أن يكون هذا محل الوجهين وليس هذا من جهة لفظ الموجب فإن قلت الحكم بالموجب لا يصح لإبهامه وحكم الحاكم لا بد وأن يكون معلوما وقد صرح الهروي والرافعي بأنه لا بد في الحكم من تعيين ما يحكم به ومن يحكم له
وقالا مع ذلك إنه قد يبتلى بظالم لا بد من ملاينته فيكتب فيما إذا قامت عنده بينة داخل وخارج مثلا حكمت فيما هو قضية الشرع في معارضة بينة فلان الداخل وفلان الخارج وقررت المحكوم به في يد المحكوم له وسلطته ومكنته من التصرف فيه فيخيل إلى الداخل أنه حكم له وهو في الحقيقة لم يحكم لواحد منهما
قلت الصورة التي ذكرها الهروي والرافعي فيها إبهام كما قالا ورخص للقاضي فعلها للضرورة والموجب لا إبهام فيه لأنه مقتضى اللفظ وهو أمر معلوم
واعلم أن مقتضى اللفظ ومدلوله وموجبه ألفاظ متقاربة وبينها تفاوت فالمدلول ما يفهم من اللفظ والمقتضى والموجب ما يفهم منه وما يترتب عليه وإن لم يفهم منه مثاله البيع مدلول نقل الملك بعوض ومقتضاه ذلك وما يترتب عليه من انتقال الملك وثبوت الخيار وحل الانتفاع وغيرها من الأحكام التي اقتضاها البيع والموجب كالمقتضى من غير فرق وكذلك الوقف مدلوله إنشاء الواقف الوقف ومقتضاه وموجبه صيرورة ذلك وقفا واستحقاق الموقوف عليه منافعه إلى غير ذلك من الأحكام الثابتة له وكذلك قول الزوج أنت طالق مدلوله إيقاع الفرقة ومقتضاه وموجبه وقوعها وحرمة الاستمتاع وغير ذلك من الأحكام ثم المدلول والموجب قد يكون بحسب اللغة وقد يكون بحسب الشرع مثاله باع درهما بدرهمين فمدلول هذا اللفظ نقل هذا الملك وموجبه
____________________
(1/378)
ومقتضاه انتقاله وثبوت أحكامه لكن الشارع أبطل ذلك ولم يعتبره فلا موجب له شرعا والقاضي إذا حكم فإنما يحكم بالأمور الشرعية فإذا قال حكمت بالموجب علمنا أنه إنما يعني الموجب الشرعي الذي هو نتيجة التصرف الصحيح فإن قلت الموجب الشرعي أعم من الصحة والفساد
قلت قد رأيت بعضهم يقول ذلك وبعضهم يقول إن كان الحاكم بذلك يرى الصحة يكون حكما بالصحة وإلا فلا وهذا ليس بشيء أما القول بأنه أعم من الصحة والفساد فباطل لأن الفساد ليس موجب اللفظ الفاسد ولا الصحيح لأن الصحة ترتب الأثر والفساد عدمه فالفاسد هو الذي لم يترتب عليه أثره لا أنه هو الذي يترتب عليه الفساد وموجب العقد ما يترتب على الصحيح منه شرعا أما القول بأنه إن كان الحاكم به يرى الصحة فهو حكم بالصحة وإلا فلا ففي غاية الفساد من وجهين أحدهما أن الحاكم إذا لم ير بالصحة كيف يحل له أن يحكم بالموجب فإنه إن اعتقد الفساد وجب عليه الحكم بالفساد ولا يحل له الحكم بخلافه وإن شك وجب عليه التوقف لأمرين أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم قاض قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار
فإذا كان هذا الذي قضى بالحق وهو لا يعلم فكيف بمن قضى وهو لا يعلم بشيء لا يدري ما هو
والآخر أن ذلك تلبيس على المسلمين وخداع في الدين والحكم لا يكون إلا مثبتا فحمل الموجب على ما ذكره السائل يقتضي إساءة الظن بالحاكم ونسبته إلى الجهل وقلة الدين ومثل هذا لا يكون حاكما
فإن قلت سلمنا أن الموجب غير الفساد وهو غير الصحة لكن لا شك أن مسمى الموجب أعم من الموجب على ذلك العقد الخاص المحكوم فيه فإن معنى الموجب ما يوجب اللفظ ولو قال القاضي مهما كان مقتضى هذا اللفظ فقد حكمت به فلا يتخيل صحة ذلك والحكم بالموجب مثله لأنا إن أخذنا اللفظ وحملناه على المسمى كان معناه ذلك ولزم الإبهام وإن حملناه على الموجب الخاص كان مجازا أو محتاجا إلى القرينة وهذا في المجمع على صحته وهو أنا لا نقطع بأن له موجبا في نفس الأمر فعلى القول بالفساد لا موجب له ويجب اعتقاد فساد الحكم به إذ الحكم بالموجب ولا موجب محال وعلى القول بالصحة فيه الإشكال المتقدم
فخرج من هذا أن الحكم إما فاسد لعدم المحكوم به وإما فاسد لإبهامه
قلت أما اعتقاد فساد الحكم على القول بالفساد فصحيح ولا يضر لأن الأحكام المختلف فيها جميعا كذلك وكل مخالف يعتقد فساد حكم مخالفه ولكنه لا ينقض أما على القول بالصحة فلا وجه للقول بفساده وما ذكره السائل من الإبهام مندفع فإن مدلول الموجب معلوم وبإضافته إلى ذلك
____________________
(1/379)
العقد الخاص تعين وهو معلوم عند من يرى الصحة وشمل جميع ما يسمى موجبا له لعمومه المستفاد من الإضافة ويصح الحكم بالأمر العام سواء استحضر الحاكم أفراده أو لا قلت هذا من الإبهام القادح ونظيره أن يقول حكمت بكل ما يوجبه هذا اللفظ وهو عالم بهذه الكلية والشرط علم الحاكم بمقتضى هذه الكلية وإن لم يستحضر ذلك الوقت جزئياتها أما قوله إنه لو قال مهما كان مقتضى اللفظ فقد حكمت به فنقول إن قال ذلك مع الجهل بمقتضاه فسد الجهل وإن قال مع العلم فلا نسلم بالفساد بل هو حكم بصحة ذلك اللفظ ويترتب الأثر عليه
فإن قلت قد قال أبو العباس شريح بن عبد الكريم بن أحمد الروياني في كتاب روضة الحكام في باب القاضي إذا أقر بين يدي القاضي فقال القاضي ألزمتك موجب إقرارك فقد قيل لا معنى لذلك لأن الحق كان واجبا قبل الإقرار وصح وجوبه للإقرار فلا معنى للإلزام وقد قيل فيه فائدة بأن الإقرار قد يكون مختلفا في صحته فإذا ألزمه به كان حكما بصحته حتى لو ادعى أن الإقرار كان بلحن أو إرواء لم يسمع بعد الإلزام الغائب ولم تسمع البينة لو أقامها وإن قلنا لا معنى للإلزام سمعت وإذا قلنا بصحة الإلزام فلو ألزم بعد غيبة المقر كان كالحكم على الغائب
قلت هذا النقل لنا على ما صرح به القائل الثاني وبين الفائدة فيه وأنه يكون حكما بصحته وهذا هو الذي تقدم منا بعينه والقائل الأول لم يصرح بمخالفة ذلك ولعله لا تخالف فيه وأنه ربما قصر كلامه على الحكم الذي هو تنفيذ وهو مجرد الإلزام بالحق الثابت من غير أن يتجدد بسببه شيء والحكم في الأشياء المختلف فيها إنشاء يتغير به الحال عما كان قبله وهو المقصود فالقائل الأول لم ينظر إلى ذلك فلذلك قال ما قال والقائل الثاني نظر إليه ومثل هذا لا يتحقق خلافا وما ادعاه بعضهم من أن هذا الذي قاله الروياني يدل على أن القضاء بموجب الإقرار لا تأثير له ليس كما قال بينته لك بل هو على القول الثاني صريح في أنه له تأثير وعلى القول الأول محتمل
وقول الروياني في بقية كلام القائل وإن قلنا لا معنى للإلزام سمعت يحتمل أن يكون إلزاما للقائل الأول وأن يكون تفريعا فلم يتحرر لنا الجزم عن قائل بأنه ليس حكما بالصحة ويتحرر عن قائل أنه حكم بها ولو فرض أن قائلا يقول بأنه ليس حكما بالصحة فغايته ثبوت خلاف والصواب مع الثاني
فإن قلت قد صنف بعض علماء الحنفية وأعيانهم تصنيفا في أن الحكم بموجب الإقرار ليس بشيء ولا يمنع النقض
قلت قد تأملته فلم أجد دافعا فيه لما قلته فإنه استدل بأوجه منها أن الحاكم بالموجب لم يحكم في العقار بشيء وقد تقدم جوابه ومنها أنه حكي عن شمس الأئمة أنه
____________________
(1/380)
قال والذي جرى أكثرهم به الآن أنهم يكتبون إقرار الواقف بذلك والمقصود لا يحصل فإقراره لا يكون حجة في حق الذي يرى إبطاله وجوابه أن هذه مسألة أخرى غير مسألتنا وهي أن لا يكون حاكم حكم ولكن المقر بالوقف أقر أن حاكما حكم به وقد ذكر هو عن كتبهم أن ذلك وإن كان كذبا لا بأس به وأن محمدا قال إذا خاف الواقف أن يبطل القاضي وقفه كتب في صك الوقف أنه قضى به قاض وهذا لأن التصرف وقع صحيحا ولكن القاضي ربما يبطله فالواقف تحرز من الإبطال بالكتابة على هذا الوجه فلا يكون به بأس
قلت ونحن لا نعتقد جواز هذا فإنه كذب لم يرد الشرع بإباحته وإذا وقع وعلم به فلا يمنع النقض كما قاله السرخسي وإن لم نعلم به فإنا نؤاخذه بذلك وليس لحاكم أن يرفع هذه المؤاخذة حتى يعلم بطلان إقراره وقد كانت جرت عادة المورقين في الزمان المتوسط يكتبون في كتاب الإقرار بالوقف الإقرار بحكم الحاكم به كما أشار إليه السرخسي ورأيت ذلك في كتب الشروط وفي اتفاقهم على ذلك دليل على أن فيه فائدة فيحمل كلام السرخسي على ما إذا علمنا كذب الإقرار ونحن نوافق على أن ذلك لا يمنع النقض
وقد صرح هذا المصنف فيمن أقر بحرية عبد في يد غيره أن الحاكم يحكم بموجب الإقرار يوم الإقرار قبل دخوله في يده وأنه يترتب عليه مقتضاه في حق المقر وذلك يكفينا في أن ذلك حكم صحيح معتبر ومنها أن القضاء بالموجب إنما هو بالنسبة إلى المقر خاصة وأورد على نفسه أن الكلام فيمن يلقى عنه وأجاب بأنه إنما يعمل اعتقاد المورث لو كان الانتقال عنه بأمر اختياري
قلت والإقرار اختياري وقد سبق الكلام في هذا ومنها أنه قال القضاء بموجب الإقرار قضاء مقتصر على المقتضى عليه فلا يرتفع به خلاف
وجوابه أنه إما أن يجوز نقضه بالنسبة إلى المقضي عليه فيكون نقصا للحكم وإما أن لا يجوزه فيرتفع الخلاف بالنسبة إليه ومنها أن من شرط الحكم الذي لا ينقض أن يقصد بقضائه المختلف فيه فلو قضى بالمختلف فيه وهو يقصد المتفق عليه ففيه خلاف عندهم المنقول عن أبي حنيفة أنه ينفذ والفتوى عندهم على عدم النفاذ
وقال شمس الأئمة إنه المذهب ومثلوا ذلك بالحكم بشهادة المحدودين في القذف إذا قضى بها وهو لا يعلم بذلك ثم ظهر والجواب أن هذا ليس مما نحن فيه فإن مسألتنا فيمن حكم في مختلف فيه يعلم أنه مختلف فيه ومنها أن لا يكون القضاء عامة كنفقة القاضي على الغائب لمن يستحق النفقة في حال حضوره أما من لا يستحقها
____________________
(1/381)
في حال حضوره إلا بالقضاء فلا ينفق عليه في الغيبة لأن القضاء الإلزامي على الغائب ممتنع
والجواب بالنزاع في هذا التفصيل
ولا فرق بين القسمين في القضاء ثم لو سلمنا لهم ذلك فليس مما نحن فيه ومنها أن القضاء بموجب الإقرار كالقضاء على المحكمين وفي حكم المحكم في المجتهدات خلاف الصحيح أنه لا يرفع الخلاف والجواب بالنزاع في أن حكم المحكم لا يرفع الخلاف ثم في هذا إلحاق القضاء بالموجب به وكلا المقامين ممنوع فإن قلت قد قال المالكية إنه إذا ارتضع كبير من امرأة تزوج بها ففرق حاكم بينهما لرأيه أن رضاع الكبير يحرم كغيره إن تزوجها منه
قلت قد يقال بأن الحكم بتحريم رضاع الكبير ينقض قضاء القاضي به فإن الخلاف فيها ضعيف والمالكية ينقضون كل ما خالف عمل أهل المدينة كما صرح به ابن يونس منهم وما أظن أحدا من أهل المدينة وجمهور العلماء غيرهم ذهب إلى تحريم رضاع الكبير ولهذا أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم غير عائشة ذلك وقلن إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر به سهلة بنت سهيل رخصة في رضاع سالم وحده
فإن قلت هل يمكن الجواب عن هذا بأن التفرق فسخ للنكاح والفسخ كالعقد ليس بحكم قلت قد حكم بتحريم رضاع الكبير بنقض قضاء القاضي به فإن الخلاف فيها ضعيف والمالكية قسموا أفعال الحاكم إلى ما يستلزم الحكم كما في بيعه العبد الذي أعتقه المديون وإلى ما لا يستلزمه كتزويجه يتيمة تحت حجره كما تقدم في كلام القرافي ولعل الفرق أن بيع العبد المذكور يحتاج إلى الحاكم لأجل الخلاف فيه كما صرح به المالكية ويكون الضابط في ذلك أن ما يفتقر إلى الحاكم يكون فعل الحاكم فيه مستلزما للحكم وما لا فلا ومقتضى هذا أن يكون هذا التفريق مستلزما للحكم بتحريمها عليه فالجواب السديد ما تقدم فإن قلت قول الحاكم في إسجاله بعد استيفاء الشرائط المعتبرة هل لكم تعلق به حتى يقال بأن الحاكم ثبت عنده الملك وإن لم يصرح به
قلت أما من يرى أن الحاكم لا يجوز له الحكم إلا بذلك فيجب اعتقاد ذلك تحسينا للظن به وألا يكون حكمه باطلا ويكون قدحا فيه أما نحن فنقول ولا نعتقد في ذلك خلافا أن ذلك ليس بشرط للحكم مطلقا بل في الحكم بالصحة المطلقة كما تقدم تفصيله فكذلك نقول إنه لا يدل على ثبوت الملك عنده بل معناه أنه استوفى الشرائط المعتبرة في هذا الحكم ولذلك نرى الواقع من الحكام أنهم يذكرون ذلك من غير ثبوت الملك
نعم لو قال حكم بصحة الوقف بعد استيفاء الشرائط
____________________
(1/382)
المعتبرة وهذه الأمور لا تردد فيها ولا ريبة نعم تردد الأصحاب في شاة في يد رجل حكم له بها حاكم وسلمها إليه ولم يعلم سبب حكمه وقامت بينة أنها لغيره على وجهين ذكرهما ابن أبي عصرون وقال أقيسهما لا ينقض لأنه يجوز أن يكون قدم بينة الخارج ويجوز أن لا يكون ثبت عنده عدالة البينة الأخرى فلا ينقض بالشك فإذا كان هذا في محل الاحتمال فكيف في محل لا احتمال فيه
فإن قلت فمنعكم من النقض في هذه المسألة التي طولتم بالبحث فيها هل هو من مظان الاجتهاد حتى إذا حكم حاكم بالنقض فيها ينفذ ولا ينقض أو لا قلت ليس من محل الاجتهاد لأن امتناع نقض حكم الحاكم في مظان الاجتهاد معلوم وهذه الشبه ضعيفة لا تقدح فالحاكم الذي يقدم على نقض ذلك إن أقدم بغير دليل قطعنا بخطئه لأن الحكم بغير دليل خطأ قطعا فينقض وإن قدم مستندا إلى دليل لم يستفرغ فيه وسعه فكذلك وإن استفرغ وسعه وأداه اجتهاده إلى ذلك كان الإثم مرفوعا عنه لا ينفذ حكمه فالحاكم بسائر المدارك الضعيفة
فهذا ما ظهر لي في ذلك فإن كان صوابا فمن الله تعالى وإن كان خطأ فمني والله تعالى المسئول أن يجعل علمنا وعملنا خالصا لوجهه الكريم والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله لكمال إجلالك على سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد العالمين في كل نسيم ونفس ولحظة دائما أبدا ما بقي ملكك يا رب العالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى جميع النبيين والمرسلين وملائكتك أجمعين وعلينا وعلى عباد الله الصالحين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم انتهى
نقل من خط الشيخ الإمام رحمه الله تعالى
مسألة رجل أقر بأن عندي ثلاثة آلاف درهم لفلان وديعة أتجر له فيها وبعد شهر من إقراره توفي فجأة ووجد في تركته ذهب وقماش ولم توجد دراهم هل يجب وفاؤها من تركته أو لا الجواب إذا وجد في تركته ما يمكن أن يكون اشتري بذلك وجب أن يوفى من تركته مقدار رأس المال نص على ذلك ابن الصلاح في مال القراض وهذا مثله فإنه إبضاع ولا يضر قوله في صدر كلامه إنه وديعة لأمرين أحدهما أن مراده أنها ليست في ذمته ولا مضمونة جمعا بين أول كلامه وآخره
والثاني أنه لو أقر بما لا يصيرها مضمونة ثم أقر بما يصيرها مضمونة أخذنا بالثاني كسائر الأقارير وليس هذا كتعقيب الإقرار بما يرفعه بل هذا عكسه والله أعلم انتهى
مسألة فيمن أقر بولاء ثم ظهر مكتوب بإقراره قبل ذلك بأخ
____________________
(1/383)
أجاب نجوز أمر الإقرارين من جهة البينات فإن ثبتا وكان المقر حائزا لميراث أبيه فيورث الأخ ويحجب به ابن مولى الأب فإن الإقرار بالولاء صحيح بالشرط المذكور كما ذكر الرافعي في آخر كتاب الإقرار عن فتاوى القفال أنه لو أقر على أبيه بالولاء فقال هو معتق فلان ثبت الولاء عليه إن كان المقر مستغرقا كما في النسب وهذه هي مثل الصورة المسئول عنها ورأيت أنا في فتاوى القفال أيضا مسألة إذا قال فلان عصبتي ووارثي إذا مت من غير عقب لم يكن هذا شيئا لأن المقر به إن كان معروف النسب فلا فائدة في إقراره وإن كان مجهول النسب فلا أيضا ما لم يفسر لأنه قد يريد بقوله إنه عصبتي أنه أخوه وربما يريد أنه عمه أو ابن عمه ثم بعد التفسير ينظر فيه فإن قال هو أخي يجب أن يكون هو جميع وارث أبيه
فإن كان عما فيكون هو جميع وارث جده وإن كان ابن عم يجب أن يكون هو جميع وارث عمه ليصح منه الإقرار بالنسب على طريق الخلافة عنه ثم الميراث ينبني عليه عندنا وفيها أيضا مسألة امرأة قالت فلان ابن عمي وهو وليي في النكاح ووارثي إذا مت فزوجها ذلك ثم ماتت فجاء الرجل يطلب ميراثها
قال الشيخ رحمه الله لا يكون له ميراثها ولم يصح ذلك التزويج لأنها بذلك الإقرار ألحقت نسبا بجدها وهي ليست بوارثة جميع مال الجد فلم يصح التزويج ولا يرثها لأنها ليست وارثة لجميع مال أبيها
وفيها أيضا مسألة إذا أقر رجل بأني ابن معتق فلان وكان المقر معروف النسب ويعرف له أم حرة الأصل لا فائدة لهذا الإقرار ولا يسمع فيما لو كان بعد من النسب وقال أنا ابن فلان لم يقبل منه هكذا هذا
وإن كان المقر مجهول النسب ولا يعرف له أم حرة الأصل فإن كان له أب يعرف فإن هاهنا أقر بأن ولائي لفلان على معنى أنه أعتقني فلان فإن ذلك مقبول منه كما أن مجهول النسب إذا أقر بنسب لغيره ثبت كذا هذا إذا مات رجل وخلف ابنين فأقر أحد الابنين بولاء على الأب وقال إن أبانا كان معتق فلان فإن هاهنا ينظر فإن كان الأب معروف النسب وعرفت له أم حرة الأصل فإن هاهنا إقرار أحد الابنين لا يثبت الولاء على الأب لأن الولاء كالنسب والدليل عليه أنه لا يجوز أن يكون لرجل ولاء على أبيهما ثم يكون لهذا الرجل ولاء على أحد الاثنين دون صاحبه بل إنما يكون ولاؤه على الاثنين معا كما إن النسب لا يتبعض كذا هذا أيضا لا يتبعض
انتهى ما أردت نقله من فتاوى القفال والمقصود أن الإقرار بالولاء صحيح بشروطه كالإقرار بالنسب وكذلك صرحت المالكية في كتبهم بذلك وأنه يورث به والإقرار بالنسب بالآخرة أيضا صحيح بشرط
____________________
(1/384)
كون المقر حائزا لميراث من ألحق النسب به من أب أو جد أو غيرهما وببقية شروطه المذكورة في بابه والإقرار بالأخ بشروطه صحيح أيضا لا ينافي بين الإقرار بالأخ والإقرار بالولاء المذكورين إذا ثبتا والتوريث بالنسب متقدم على التوريث بالولاء فلذلك قلنا يورث الأخ ويحجب به ابن المولى
وقد ذكر الأصحاب الإقرار بالنسب واستلحاقه في باب الإقرار وفي باب اللقيط وفي باب دعوة النسب وإلحاق القائف وفي باب دعوى الأعاجم ويسمون الحملا والحميل هو الذي يأتي من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام والأعاجم يطلقهم الشافعي على من كان أعجمي اللسان أو أعجمي الدار سواء أكان فارسيا أو روميا أم تركيا والإقرار الإخبار بحق على المخبر والولاء حق عليه لأنه حق النعمة والنسب بين الأخوين قد يكون عليه لقبض الميراث ونحوه وقد لا يكون إلا مجرد الاستلحاق فيثبت أيضا وإن لم يكن على الشخص بل له ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم هو لك يا عبد بن زمعة والمقصود أن النسب يثبت بذلك بلا إشكال بين الأخوين ولا فرق عندنا بين أن يكونا حميلين أم لا خلافا لمالك حيث قال بعدم توريث الحملا لكن لا بد فيهم وفي غيرهم من كون المقر حائزا كما صرح به الأصحاب فيهم وفي غيرهم
والشرع متشوف إلى إثبات الأنساب وذلك لما فيها من التعاون والتعارف فيحصل بذلك عمارة الدنيا وعبادة الله تعالى وكذلك الولاء وفي الشامل عن أبي إسحاق أن الولاء أقوى من النسب وإن كان الميراث بالنسب مقدما على الميراث بالولاء وإذا عرف فلا يكلف واحد منهما بإثبات نسب ولا ولاء بالبينة بل يكفي ثبوت الإقرارين ويترتب عليهما ثبوت الولاء والنسب جميعا ويترتب عليهما مقتضاهما فيما لا تعارض فيه أما ما يتعارضان فيه فهو الميراث فيعمل بأسبقهما ولا يكون كإقرارين عليه ولا بأخ لأنه حين أقر بالأخ لم يكن في الظاهر عليه ولاء فلا وجه له وإقراره ذلك لأنه لم يبطل به ولاء كغيره وإقراره بعد ذلك بالولاء الذي هو في القدر الذي يعارض الأول مبطل له فلا ينجع كعكسه على الصحيح الذي ذكره العراقيون من أن من عليه ولاء إذا أقر بنسب أخ لم يقبل وأما أنهما يتدافعان يتضمن كل منهما دفع الآخر فلا وجه لذلك لأن التدافع إنما يكون عند الاستواء وهنا أحدهما راجح بالسبق وكل من أقر بحق ترتب عليه مقتضاه ما لم يمنع مانع منه عند إقراره وهذا عند إقراره الأول لم يكن معارض فوجب العمل به والله أعلم
والذي يجب الاحتراز فيه الفحص عن المكتوب الأول الذي ظهر بعد العلم بالأول بالولاء فنكشف عن ذلك كشفا شافيا بحيث تنتفي الريبة إن شاء الله
____________________
(1/385)
386 مسألة امرأة أقرت أنها وقفت كذا على ابنتها ثم على عقبها فإذا انقرضوا فللحرم يكون حبسها على عقبها وعصبتها إلى يوم الدين وثبت ذلك عند حاكم شافعي وحكم بذلك ولم يثبت عنده القبول من الموقوف عليها
الجواب الخلاف في اشتراط القبول إنما هو في الإنشاء وهذا إقرار محمول على الصحيح فمهما أمكن القبول فالإقرار صحيح قطعا ثبت القبول أو لم يثبت وحكم القاضي بالإقرار حكمه بصحة الإقرار والتناقض بين كلاميها إن تكلمت بالأول ثم تكلمت بالثاني لم يقبل الثاني وصرف إلى الحرم مع العصبات الذين ليسوا من العقب وإن قرئ الكتاب عليها كما هو العادة وأشهدت عليها بمضمونه بكلمة واحدة وجمع بينهما وصرف إلى العقب والعصبة وبعدهم إلى الحرم والله أعلم
كتاب الغصب مسألة قال القاضي رضي الله عنه سألني عيسى الزنكلوني عن أرض تؤجر وقت الزراعة بعشرين الفدان وإذا أوجرت بأجرة مؤجلة إلى المغل أوجرت بأربعين فغصبها غاصب وزرعها ولم يطالبه صاحبها إلى أوان المغل والواقع في الأراضي أن الزرع يبطل منفعتها فلا يتأتى اعتبار كل مدة ونحوها
وأجرة المغل إنما تكون حالة فهل يضمن العشرين فقط لأنها وجبت عليه وقت زرعه حالة أو كيف الحكم أجبت هنا ضمانان أحدهما ضمان جناية بإبطاله منفعة الأرض بزرعه يضمنه بقيمة تلك المنفعة حالا وتثبت في ذمته سواء أطالبه صاحبها أم لا سواء ألزمه بقلع زرعه أم لا والغرض أن قلع الزرع لا يفيد في عود منفعة الأرض
والضمان الثاني ضمان أجرة بقاء الأرض في يده إما لاستمرار زرعه فيها وإما لغير ذلك وهذا يجب شيئا فشيئا فأي وقت حضر المالك له مطالبته بالأمرين جميعا ضمان المنفعة التي فاتت بجنايته وقت تفويتها وضمان أجرة المثل للمدة التي أقامت في يده ويرجع في تقويم كل منهما إلى أرباب الخبرة والظاهر أنهما لا ينقصان عن الأجرة الكبيرة التي جرت بالعادة بإيجاره بها إلى أوان المغل والله أعلم انتهى
مسألة رجل هدم جدار مسجد غير مستحق الهدم
أجاب تلزمه إعادته ولا يأتي فيه ضمان الأرش كما قيل في الجدار المملوك والموقوف وقفا غير تحرير لأنهما مالان والمسجد ليس بمال بل هو كالحر ولذلك لا يجب أجرته بالاستيلاء عليه حتى تستوفى منفعته والله أعلم انتهى
____________________
(1/386)
387 كتاب القراض مسألة رجل له عند رجل قراض شرعي وأذن له أن يسافر به وسافر ثم حضر من السفر وتسحب بعد مجيئه من السفر وترك أربعة أحمال وظهر عليه ديون وأصحاب الديون على الحمال فهل يحاصصهم صاحب القراض أم لا أجاب رضي الله عنه نعم يحاصصهم والأصل في هذا أن المستودع إذا مات ولم توجد الوديعة في تركته فإن حكمها حكم الديون يضارب بها صاحبها عند الشافعي ومالك وأبي حنيفة وصححه الشيخ أبو حامد والقاضي حسين وغيرهما ونص عليه الشافعي في اختلاف العراقيين وذكره المزني في المختصر وهو قول أكثر السلف
وقال ابن الرفعة إنه الراجح عند الجمهور ويعني جمهور الأصحاب ودليل هؤلاء أن التمكين واجب عليه واحتمال تلفها بغير تفريط منتف بالأصل وبموته وفقدها لم يوجد التمكين فيضمن
وقال أبو إسحاق المروزي إن وجد في التركة من جنسها أخذ حملا على أنها هو وإلا فلا استصحابا للأمانة ما أمكن وصحح صاحب البيان أنه لا يضمن واختاره الجوزي وقد يوجد من كلام الرافعي موافقته لكن الأولى أن يحمل كلام الرافعي على حالة أخرى وأنه لم يتعرض لهذه المسألة
وهذه الأوجه الثلاثة جارية أوصى أو لم يوص مات فجأة أو غير فجأة وحكم مال القراض في ذلك حكم الوديعة كما صرح به الجوزي والنووي وغيرهما
وقد أفتى ابن الصلاح بأنه يؤخذ من التركة إذا لم يوجد فإما أن يكون موافقة للنص في الوديعة وإما لأنه يجوز أن يكون اشترى به من الأعيان التي في التركة فلذلك يكون كما لو وجد في التركة من جنس الوديعة فيؤخذ بالطريق التي قالها أبو إسحاق ومساق التعليل المذكور أنه على طريقة أبي إسحاق يقدم على الدين إذا كان هناك من جنسها أو على النص يسوي بينهما وبين الدين هذا في الموت كله أما الغيبة فإن سافر حيث رد يكون مأذونا له في السفر ولم يفعل ما أمرناه به من الرد فإنه يضمن سواء أكان سفره إلى موضع معلوم أو مجهول فيه خطر أو لا ولا فرق في ذلك بين القراض الوديعة وإن كان مأذونا له في السفر كما قاله المستفتي فقد قال الماوردي إنه إن أذن له في السفر إلى بلد لم يكن أن يسافر إلى غيره وإن لم يخص به بلدا جاز أن يسافر إلى البلدان المأمونة المسالك والأمصار التي جرت عادة أهل بلده أن يسافروا بأموالهم ومتاجرهم إليها ولا يخرج عن العرف المعهود فيها وفي البعد إلى أقصى البلدان فإن أبعد إلى أقصى البلدان ضمن المال
انتهى كلام الماوردي ولا شك فيما قاله
____________________
(1/387)
وإذا علم ذلك فالتسحب الذي صدر من هذا العالم لم يدخل تحت ما أطلقه له المالك من الإذن في السفر فهذا غير مأذون فيه فهو سبب لضمان مال القراض بل هذا أولى من السفر إلى موضع معلوم غير معتاد بالتضمين لأن هذا يشبه تجهيل الأمانة وتجهيل الأمانة سبب في الضمان كما قال الأصحاب إنه لو حفر في بيته ودفن الوديعة في مكان لا يعلم به غيره وسافر لأنه قد يموت فيضيع التسحب مثله لأنه لا يعرف مكانه فلا طريق إلى تحصيل المال من جهته ولا يقال إن سبب تضمينه بتركها تحت الأرض من غير من هي في يده لأنا نقول إن الأصحاب عللوا بتوقع الموت ولا يرد عليهم ما فيها من الخطر لأن السفر مظنة الموت فصار احتمال الموت فيه قريبا ولا شك أن المستحب كذلك وإذا ثبت أن التسحب المذكور مضمن فهو كالميت بل أولى لكونه مفرطا به بقي علينا شيء واحد وهو أنه قد يقال إن التضمين شرطه وجود المال وقد يكون المال تلف قبل تسحبه بغير تفريط فلا يكون التسحب والحالة هذه مضمنا
وجواب هذا أن هذا المعنى موجود في الموت لأنه قد يكون تلف قبل موته بغير تفريط ومع ذلك لم يلتفت الشافعي إلى هذا بل حكم بالضمان فإن قيل قد يرجع الغائب ويدعي التلف قبل ذلك بغير تفريط بخلاف الميت
قلت إذا رجع الغائب بعد ذلك وادعى التلف قبله بغير تفريط لم يقبل قوله بأنه صار ضامنا بالتسحب وبعد الحكم بضمانه يصير غاصبا وقبول قوله مشروط ببقاء أمانته
هذا الذي يقتضيه الفقه ولم أره منقولا ولا يقال إن شرط تضمينه يحقق وجود المال عند التسحب لأنا نقول لما كان الأصل بقاء المال والتسحب من أسباب الضمان وقد حكم بتضمينه ظاهرا فلا يقبل قوله بعد ذلك كما لو عزل الوكيل ثم ادعى أنه كان تصرف قبل العزل لم يقبل قوله قطعا على أصح الطرق ولو سلمنا أنه يقبل قوله على وجه ضعيف فذلك غير مانع من الحكم الآن وإبقائه على حجته كما أنه يوفي دين الغائب لمن يثبت له وقد يجيء الغائب ويبين أنه كان أبرأه أو أقبضه ومع ذلك لم يمنع من الحكم ووفاء الدين وإبقاء كل ذي حجة على حجته فهذا مثله
وبهذا التقدير يظهر أن الوجه الثالث الذي صححه صاحب البيان لا يأتي في مسألتنا بل يقطع فيها بالضمان فعلى رأي أبي إسحاق يتقدم مالك القراض على المداينين من الجمال بقدر الذي له والباقي للمداينين وعلى النص يتحاصص الجميع رب المال والمداينون في الجمال كلها وكنت أميل إلى قول أبي إسحاق عملا باستصحاب الأمانة لكن ظهر لي الآن أن في تمشيته في القراض إشكالا من جهة أنه قد
____________________
(1/388)
يكون حصل في المال خسران فلا نعلم مقدار ما يستحقه المالك من الجمال فاتباع نص الشافعي سالم عن هذا الإشكال ومتعضد بأن الأصل نفاذ ذلك المال غير مصروف إلى الجمال لا سيما وقد يكون الجمال ملكا للعامل من قبل القراض أو بعده ويعرف ذلك بطريق من الطرق فالأقرب اتباع النص وحمل الأمر على أن مال القراض تعذر الوصول إليه بتفريط فيضمنه العامل في ماله كسائر الديون والله أعلم
ومما نقوله أيضا إن المالك متمكن من فسخ القراض فإذا فسخ فله مطالبة العامل برد المال وهو غائب كالمبيع والله أعلم
ومما يدل على ذلك أن الغيبة التي لا يعرف محلها ألحقوها في باب كفالة البدن بالموت فكذلك هنا
الطريقة النافعة في الإجارة والمساقاة والمزارعة قال الشيخ الإمام رحمه الله ورضي عنه الحمد لله رب العالمين اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فقد اتسع الكلام وطال في إجارة الأرض والمساقاة والمزارعة على ما بها من شجر وزرع يخرج منها ومال خاطري إلى جواز المساقاة والمزارعة على النحو الذي ورد في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر وأنها غير لازمة ولا فرق بين أن يكون البذر في المزارعة من المالك أو من العامل وهي المخابرة ولا فرق بين أن تكون المزارعة والمخابرة تابعتين للمساقاة أم لا
ورأيت أن أجمع ما ورد في السنة في ذلك وفي إجارة الأرض فإذا جمعت ما في ذلك من الأحاديث وكلام الصحابة والعلماء بعدهم انشرح لما هو الحق في ذلك إن شاء الله تعالى
وسميتها الطريقة النافعة في الإجارة والمساقاة والمزارعة والله ينفع بها وقد رأيت أن أفرد أحاديث كل كتاب وإذا اجتمعت يتبين بها الحق إن شاء الله تعالى
فأبدأ بالبخاري وقد أخبرنا جماعة من المشايخ منهم أبو الحسين علي بن محمد بن هارون بأسانيد منها طريقة ابن الزبيدي رحمه الله وهي أعلى قال ابن هارون وغيره أنا أبو عبد الله الحسين بن المبارك بن محمد بن يحيى بن الزبيدي قال أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي الصوفي الهروي قال أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن أبي المظفر الداودي قال أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الحموي قال أنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري قال أنا إمام الصناعة والمقدم
____________________
(1/389)
فيها على الجماعة أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف بن بردزية الجعفي مولاهم البخاري رضي الله عنه قال قدس الله روحه وحين كتبت إلى هنا تناولت المجلدة الأولى من صحيح البخاري لأكتب منها ففتحتها فأول شيء خرج منها باب المزارعة بالشطر ونحوه فعجبت وحمدت الله واستبشرت بالتوفيق إن شاء الله تعالى
قال البخاري في أول هذا الباب وقال قيس بن مسلم عن أبي جعفر قال ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع وزارع علي وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين
وقال عبد الرحمن بن الأسود كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا
وقال الحسن لا بأس أن يجبى القطن على النصف
وقال إبراهيم وابن سيرين وعطاء والحكم والزهري وقتادة لا بأس أن يعطى الثور بالثلث والربع ونحوه
وقال معمر لا بأس أن تكر الماشية على الثلث والربع إلى أجل مسمى حدثنا إبراهيم بن المنذر ثنا أنس بن عياض عن عبيد الله عن نافع أن عبد الله بن عمر أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر فكان يعطي أزواجه مائة وسق ثمانين وسق تمر وعشرين وسق شعير فقسم عمر رضي الله عنه خيبر فخير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن من الماء والأرض أو يمضي لهن فمنهن من اختار الأرض ومنهن من اختار الوسق وكانت عائشة رضي الله عنها اختارت الأرض
باب إذا لم يشترط السنين في المزارعة حدثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله حدثني نافع عن ابن عمر قال عامل النبي صلى الله عليه وسلم بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع
باب حدثنا علي بن عبد الله ثنا سفيان قال عمر وقلت لطاوس لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه ولكن قال أن يمنح أحدكم أخاه خيرا له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما
باب المزارعة مع اليهود حدثنا محمد بن مقاتل أنبأ عبد الله أنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله
____________________
(1/390)
صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر اليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها
باب ما يكره من الشرائط في المزارعة حدثنا صدقة بن الفضل أنا ابن عيينة عن يحيى سمع حنظلة الدرقي عن رافع قال كنا أكثر أهل المدينة حقلا وكان أحدنا يكري أرضه فيقول هذه القطعة لي وهذه القطعة لك فربما أخرجت ذه ولم تخرج ذه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم
هذا لا تعلق به لأن النهي قد يكون لتعين قطعة لهذا وقطعة لهذا وما فيه من الغرر
قال البخاري باب إذا زرع بمال قوم بغير إذنهم ذكر فيه حديث الغار وفيه أني استأجرت أجيرا بفرق أرز فلما قضى عمله قال أعطني حقي فعرضت عليه فرغب عنه فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا وراعيها وبعده
باب إذا قال رب الأرض أقرك ما أقرك الله ولم يذكر أجلا معلوما فهما على تراضيهما حدثنا أحمد بن المقدام ثنا فضيل بن سليمان حدثنا موسى ثنا نافع عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عبد الرزاق أنا ابن جريج حدثني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرهم بها على أن يكفوا عملها ولهم نصف التمر وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نقركم بها على ذلك ما شئنا فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء
هذا حجة في صحة المساقاة جائزة غير لازمة وقول الأصحاب إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى دليل
قال البخاري باب ما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضا في الزراعة والثمر حدثنا محمد بن مقاتل أنا عبد الله أنا الأوزاعي عن أبي النجاشي مولى رافع بن خديج سمعت رافع بن خديج بن رافع عن عمه ظهير بن رافع قال ظهير لقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقا قلت ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما تصنعون بمحاقلكم قلت نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من التمر والشعير فقال لا تفعلوا وازرعوها أو أزرعوها أو امسكوها قال رافع قلت سمعا وطاعة
هذا نص في النهي عن الإيجار على هذا الوجه فإما أن يكون تحريما باقيا أو تنزيها أو منسوخا وليس فيه منع من المزارعة ولا من المخابرة
قال البخاري حدثنا عبيد الله بن موسى أنا الأوزاعي عن عطاء عن
____________________
(1/391)
جابر قال كانوا يزرعونها بالثلث والربع والنصف فقال النبي صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها فإن لم يفعل فليمسك أرضه هذا من رواية جابر موافق لحديث رافع في حصر الأمر في ثلاثة ومنع الإجارة وليس فيه منع المزارعة ولا المخابرة
قال البخاري وقال الربيع بن نافع أبو توبة ثنا معاوية عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه هذا من رواية أبي هريرة موافق لرواية جابر ولرواية رافع بن خديج مانع من الإجارة ساكت عن المزارعة والمخابرة
قال البخاري حدثنا قبيصة ثنا سفيان عن عمرو قال ذكرته لطاوس فقال يزرع قال ابن عباس إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه ولكن قال إن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئا معلوما هذا يحتمل أن يكون النهي نهي تنزيه
قال البخاري حدثنا سليمان بن حرب ثنا حماد عن أيوب عن نافع أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من إمارة معاوية ثم حدث عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع فذهب ابن عمر إلى رافع فذهبت معه فسأله فقال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع فقال ابن عمر قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء وبشيء من التبن حدثنا يحيى بن بكير ثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني سالم عن ابن عمر قال كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تكرى ثم خشي عبد الله أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أحدث في ذلك شيئا لم يكن يعلمه فترك كراء الأرض
معذور عبد الله رضي الله عنه فالورع اجتناب ذلك وهو خاص بالكراء ليس فيه تعرض للمزارعة ولا للمخابرة
وقد أخبرنا الحافظ الدمياطي قراءة عليه وأنا أسمع أنا الحافظ ابن خليل في معجمه أنا أبو نصر شعيب بن الحسن بن محمد بن شعيب السمرقندي الأصل الأصبهاني قراءة عليه وأنا أسمع بأصبهان قيل له أخبركم السيد أبو الحسين علي بن هاشم بن طاهر بن طباطبا وفاطمة بنت عبد الله بن أحمد بن عقيل الجوزجانية قراءة عليهما وأنت تسمع فأقر به أنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ربدة أنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني ثنا أبو سليم الكشي ثنا عبد الرحمن بن حماد الشعيبي ثنا ابن عون عن محمد بن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض
قال البخاري
____________________
(1/392)
393 باب كراء الأرض بالذهب والفضة وقال ابن عباس إن أمثل ما أنتم صانعون أن تستأجروا الأرض البيضاء من السنة إلى السنة حدثنا عمرو بن خالد ثنا الليث عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس عن رافع بن خديج قال حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما تنبت على الأربعاء أو شيء يستثنيه صاحب الأرض فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقلت لرافع بن خديج فكيف هي بالدينار والدرهم فقال رافع ليس بها بأس بالدينار والدرهم
هذه الرواية عن عميه لا تعارض ما تقدم من الرواية عن عمه فإنه إذا سمع منهما له أن يحدث عن أحدهما وقصره النهي على ذلك صحيح وفتواه بجوازها بالذهب والفضة ليس مرفوعا قال أبو عبد الله من هاهنا قال الليث أراه وكان الذي نهى من ذلك ما لو نظر فيه ذو الفهم بالحلال والحرام لم يجزه لما فيه من المخاطرة هذا صحيح لا شك فيه فإن فيه غررا عظيما وجهالة
وقبل هذا عند البخاري حدثنا محمد بن مقاتل أنا عبد الله بن يحيى بن سعيد عن حنظلة بن قيس الأنصاري سمع رافع بن خديج قال كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا كنا نكري الأرض بالناحية منها مسمى لسيد الأرض قال مما يصاب ذلك وتسلم الأرض ومما تصاب الأرض ويسلم ذلك فنهينا فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ
هذا أيضا مثل الذي قبله فلا تناقض في شيء من ذلك
وقبله
باب إذا قال اكفني مئونة النخل أو غيره وتشركني في الثمر حدثنا الحكم بن رافع أنبأ شعيب أنبأ أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل قال لا فقال تكفونا المئونة ونشرككم في الثمرة قالوا سمعنا وأطعنا
كل ذلك ذكره البخاري رحمه الله في كتاب الحرث
وهذا الحديث دليل لجواز المزارعة أما صحيح مسلم رحمه الله فأخبرنا به جماعة عن جماعة عن أبي عبد الله محمد بن الفضل الفراوي كلهم بالسماع المتصل أنا أبو الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي أنا أبو أحمد محمد بن عموية الجلودي أنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه ثنا أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن الورد بن كوشاد القشيري رحمه الله ورضي عنه حدثني ابن منصور ثنا عبيد الله بن عبد المجيد ثنا رباح بن أبي معروف قال سمعت عطاء عن جابر بن عبد الله قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض وعن بيعها السنين وعن بيع الثمر حتى يطيب هذا نص من رواية جابر في النهي عن كراء الأرض مطلقا فالعجب دون ذلك لم ينكر إلا في رواية رافع بن خديج
قال
____________________
(1/393)
مسلم وحدثني أبو كامل الجحدري ثنا حماد يعني ابن زيد عن مطر الوراق عن عطاء عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض
وحدثنا عبد بن حميد قال ثنا محمد بن الفضل لقبه عارم وهو ابن النعمان السدوسي ثنا مهدي بن ميمون ثنا مطر الوراق عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض
____________________
(1/394)
فليزرعها فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه
حدثنا الحكم بن موسى ثنا هقل يعني ابن زياد عن الأوزاعي عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال كان لرجل فضول أرضين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له فضل أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه
وحدثنا محمد بن حاتم ثنا معلى بن منصور الرازي قال ثنا خالد ثنا الشيباني عن بكير بن الأخنس عن جابر بن عبد الله قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ للأرض أجرا أو حظا
حدثنا ابن نمير ثنا أبي ثنا عبد الملك عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها إياه
وحدثنا شيبان بن فروخ ثنا همام قال سأل سليمان بن موسى عطاء فقال أحدثك جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها قال نعم هذه سبع طرق ساقها مسلم رضي الله عنه عن عطاء وآخرها تصريح من عطاء بأن جابرا حدثه بذلك وفي كلها النهي عن كراء الأرض وسألت عن المزارعة والمخابرة فلم ينفرد رافع قال مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا سفيان عن عمرو عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة
وحدثني حجاج بن الشاعر ثنا عبيد الله بن عبد المجيد ثنا سليم بن حيان ثنا سعيد بن ميناء قال سمعت جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من كان له فضل أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا تبيعوها فقلت لسعيد قوله ولا يبيعوها يعني الكراء قال نعم
هذه متابعة من عمرو بن دينار وسعيد بن ميناء لفظا في روايته عن جابر رضي الله عنه قال مسلم حدثنا أحمد بن يونس ثنا زهير ثنا أبو الزبير عن جابر قال كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من القصري ومن كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو فليحرثها أخاه وإلا فليدعها
هذه متابعة من أبي الزبير لفظا وعمرو بن دينار وسعيد بن ميناء
قال مسلم حدثني أبو الطاهر وأحمد بن عيسى جميعا عن ابن وهب قال ابن عيسى ثنا عبد الله بن وهب حدثني هشام بن سعد أن أبا الزبير المكي حدثه قال سمعت جابر بن عبد الله يقول كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ الأرض بالثلث والربع بالماذيانات فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها هذه متابعة من هشام بن سعد لزهير عن أبي الزبير
قال مسلم حدثنا محمد بن مثنى ثنا يحيى بن حماد ثنا أبو عوانة عن سليمان ثنا أبو سفيان عن جابر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من كانت له أرض فليهبها أو ليعرها
هذه متابعة من أبي سفين لمن قبله عن جابر قال مسلم وحدثنيه حجاج بن الشاعر أنا أبو الجواب ثنا عمار بن زريق عن الأعمش بهذا الإسناد غير أنه قال فليزرعها أو فليزرعها رجلا
هذه متابعة من عمار بن زريق لأبي عوانة قال مسلم وحدثنيه هارون بن موسى الأيلي ثنا ابن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث أن بكيرا حدثه أن عبد الله بن أبي سلمة حدثه عن النعمان بن أبي عياش عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض
هذه متابعة من النعمان بن أبي عياش لأصحاب جابر قال مسلم قال بكير وحدثني نافع أنه سمع ابن عمر يقول كنا نكري أرضنا ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج لعل ابن عمر لم يبلغه حديث جابر فإن حديث رافع كحديث جابر
قال مسلم ثنا يحيى بن يحيى أنبأ أبو خيثمة عن أبي الزبير عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الأرض البيضاء سنتين أو ثلاثا
وحدثنا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب قالوا حدثنا سفيان بن عيينة عن حميد الأعرج عن سليمان بن عتيق عن جابر قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع السنتين وفي رواية ابن أبي شيبة عن بيع الثمر سنتين هاتان المبايعتان من أبي الزبير وسليمان بن أبي عتيق بالمعنى فإن البيع للأرض هو كراؤها فهما في معنى ما رواه من تقدم قال مسلم وحدثنا حسن بن علي الحلواني ثنا أبو توبة ثنا معاوية عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه
هذه الرواية من أبي هريرة رضي الله عنه توافق ما رواه رافع وجابر رضي الله عنهما
قال مسلم حدثنا الحسن الحلواني ثنا أبو ثوبة ثنا معاوية عن يحيى بن أبي كثير عن يزيد بن نعيم أن جابر بن عبد الله أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن المزابنة والمزابنة بيع الثمر بالتمر والمحاقلة استكراء الأرض هذه متابعة بالمعنى كما قدمناه
قال مسلم حدثنا قتيبة بن سعيد ثنا يعقوب يعني ابن عبد الرحمن القاري عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة
هذه أيضا متابعة بالمعنى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه
قال مسلم حدثني أبو الطاهر أنا ابن وهب أخبرني مالك بن أنس عن داود بن الحصين أن أبا
____________________
(1/395)
سفيان مولى ابن أبي أحمد أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة
والمزابنة اشتراء الثمر في رءوس النخل والمحاقلة كراء الأرض
هذا أبو سعيد الخدري أيضا موافق رافعا وجابرا وأبا هريرة وإن كان تفسير المحاقلة بكراء الأرض منه
قال مسلم حدثنا يحيى بن يحيى وأبو الربيع العتكي قال أبو الربيع ثنا يحيى ثنا حماد بن زيد عن عمرو قال سمعت ابن عمر يقول كنا لا نرى بالخبر بأسا حتى كان عام أول فزعم رافع أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه الظاهر أن ابن عمر لم يبلغه ذاك إلا من حديث رافع
قال مسلم وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا سفيان ح وحدثنا علي بن حجر وإبراهيم بن دينار قالا ثنا إسماعيل وهو ابن علية عن أيوب ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أنا وكيع حدثنا سفيان كلهم عن عمرو بن دينار بهذا الإسناد مثله وزاد في حديث ابن عيينة فتركناه من أجله معذور ابن عمر رضي الله عنهما وحقيق له فإنه الرجل الصالح الورع
قال مسلم وحدثنا علي بن حجر ثنا إسماعيل عن أيوب عن أبي الخليل عن مجاهد قال قال ابن عمر لقد منعنا رافع نفع أرضنا
وحدثني يحيى بن يحيى أنا يزيد بن زريع عن أيوب عن نافع أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وصدرا من خلافة معاوية حتى أبلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأنا معه فسأله فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع فتركها ابن عمر وكان إذا سئل عنها بعد قال زعم ابن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها
حدثنا أبو الربيع وأبو كامل قالا ثنا حماد وحدثني علي بن حجر ثنا إسماعيل عن أيوب بهذا الإسناد مثله وزاد في حديث ابن علية قال فتركها ابن عمر بعد ذلك فكان لا يكريها
وحدثنا ابن نمير ثنا أبي ثنا عبيد الله عن نافع قال ذهبت إلى رافع بن خديج مع ابن عمر حتى أتاه بالبلاط فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع
حدثني ابن أبي خلف وحجاج بن الشاعر قالا ثنا زكريا بن عدي أنا عبيد الله بن عمرو عن زيد عن الحكم عن نافع عن ابن عمر أنه أتى رافعا فذكر هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
حدثنا محمد بن مثنى ثنا حسين يعني ابن حسن بن يسار ثنا ابن عوف عن نافع أن ابن عمر كان يأخذ الأرض فنبئ حدثنا عن رافع قال فانطلق بي معه إليه قال فذكر عن بعض عمومته ذكر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كراء الأرض قال فتركه
____________________
(1/396)
ابن عمر فلم يأجره وحدثنيه محمد بن حاتم ثنا يزيد بن هارون ثنا ابن عون بهذا الإسناد قال فحدثه عن بعض عمومته عن النبي صلى الله عليه وسلم
وحدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد قال حدثني أبي عن جدي قال حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب أنه قال أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يكري أراضيه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء الأرض فلقيه عبد الله فقال يا ابن خديج ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض فقال رافع بن خديج لعبد الله سمعت عمي وكانا قد شهدا بدرا يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض قال عبد الله لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تكرى ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئا لم يكن علمه فترك كراء الأرض
حدثني علي بن حجر السعدي ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل وهو ابن علية عن أيوب عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج قال كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي فقال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا وطواعية الله ورسوله أنفع لنا نهانا أن نحاقل بالأرض فنكريها على الثلث والربع والطعام المسمى وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزرعها وكره كراءها وما سوى ذلك
حدثنا يحيى بن يحيى أنا حماد بن زيد عن أيوب قال كتب إلي يعلى بن حكيم قال سمعت سليمان بن يسار يحدث عن رافع بن خديج قال كنا نحاقل بالأرض فنكريها بالثلث والربع ثم ذكر بمثل حديث ابن علية
حدثنا يحيى بن حبيب ثنا خالد بن الحارث ح وثنا عمرو بن علي حدثنا عبد الأعلى وثنا إسحاق أنا عبدة كلهم عن ابن أبي عروبة عن يعلى بن حكيم بهذا الإسناد مثله وحدثنيه أبو الطاهر أنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن يعلى بن حكيم بهذا الإسناد عن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل عن بعض عمومته
حدثني إسحاق بن منصور ثنا أبو مسهر ثنا يحيى بن حمزة حدثني أبو عمرو الأوزاعي عن أبي النجاشي مولى رافع بن خديج عن رافع أن ظهير بن رافع وهو عمه قال أنبأني ظهير قال لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقا قلت وما ذاك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق قال سألني كيف تصنعون بمحاقلكم فقلت نؤاجرها يا رسول الله على الربع أو الأوسق من التمر أو الشعير قال فلا
____________________
(1/397)
تفعلوا ازرعوها أو أزرعوها أو امسكوها
حدثنا محمد بن حاتم ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عكرمة بن عمار عن أبي النجاشي عن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا ولم يذكر عن عمه ظهير
حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض قال فقلت بالذهب والورق قال أما بالذهب والورق فلا بأس به حدثنا إسحاق أنبأ عيسى بن يونس ثنا الأوزاعي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال حدثني حنظلة بن قيس الأنصاري قال سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويهلك هذا فلم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما شيء مضمون معلوم فلا بأس به
حدثنا عمرو الناقد ثنا سفيان بن عيينة عن يحيى وهو ابن سعيد عن حنظلة الزرقي أنه سمع رافع بن خديج يقول كنا أكثر الأنصار حقلا قال كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك وأما الورق فلم ينهنا
هذه الألفاظ كلها ليس فيها إلا النهي عن الكراء وقد اشترك فيه رافع وجابر وأبو هريرة وقريب منهم أبو سعيد وليس في شيء من ذلك النهي عن المزارعة فامتناع ابن عمر رضي الله عنهما يحتمل أن يكون عن الكراء وإنه كان له فيه نفع ويحتمل أن يكون عنده المزارعة في معنى الكراء بالثلث والربع فترك الكراء والمزارعة جميعا لكن إذا احتمل ذلك من حال ابن عمر وغيره من الصحابة فالواجب علينا الرجوع إلى اللفظ واللفظ نجده من روايات الصحابة المذكورين ناهيا عن الكراء ساكتا عن المزارعة وليست المزارعة في معنى الكراء فإن الزارع كالوكيل عن صاحب الأرض بجعل
قال مسلم حدثنا أبو الربيع ثنا حماد ح وثنا ابن مثنى ثنا يزيد بن هارون جميعا عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد نحوه وحدثنا يحيى بن يحيى ثنا عبد الواحد بن زياد ح وثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا علي بن مسهر كلاهما عن الشيباني عن عبد الله بن السائب قال سألت عبد الله بن مغفل عن المزارعة فقال أخبرني ثابت بن الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة في رواية ابن أبي شيبة نهى عنها
وقال ابن مغفل لم يسم عبد الله حدثنا إسحاق بن منصور ثنا يحيى بن حماد أبو عوانة عن سليمان الشيباني عن عبد الله بن السائب قال دخلنا على عبد الله بن مغفل فسألناه عن المزارعة فقال زعم ثابت أن رسول الله
____________________
(1/398)
صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمرنا بالمؤاجرة وقال نأمر
فهاتان الطريقتان عن ثابت بن الضحاك في النهي عن المزارعة والأمر بالمؤاجرة يخالف ما فهمناه من حديث رافع وجابر وأبي هريرة ولم يصرح في الطريق الأولى بالمؤاجرة وصرح بها في الثانية لكن يحتمل أن يكون قوله أمر يعني به النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون ثابت عن ابن الضحاك فإنه كان كذلك فلعل النهي عن المزارعة هي التي كانت تفعل مع الغرر والجهالة المذكورة في حديث رافع فيكون النهي خاصا بها
حدثنا يحيى بن يحيى ثنا حماد بن زيد عن عمرو أن مجاهدا قال لطاوس انطلق بنا إلى ابن رافع بن خديج فاسمع منه الحديث عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فانتهره قال إني والله لو أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ما فعلته ولكن حدثني من هو أعلم به منهم يعني ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأن يمنح الرجل أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما
حدثنا ابن أبي عمر ثنا سفيان عن عمرو بن طاوس عن طاوس أنه كان يخابر قال عمرو فقلت له يا أبا عبد الرحمن لو تركت هذه المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة فقال أي عمرو أخبرني أعلمهم بذلك يعني ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها إنما قال يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما هذا يدل على أنهم فهموا من حديث رافع النهي عن المخابرة فلعلهم يطلقون المخابرة على كراء الأرض
حدثنا ابن أبي عمر ثنا الثقفي عن أيوب ح وثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعا عن وكيع عن سفيان ح وثنا محمد بن رمح أنبأ الليث عن ابن جريج ح وحدثني علي بن حجر ثنا الفضل بن موسى عن شريك عن شعبة كلهم عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديثهم
وحدثني عبد بن حميد ومحمد بن رافع قال عبد أنا وقال ابن رافع ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها كذا وكذا لشيء معلوم قال وقال ابن عباس هو الحقل وهو بلسان الأنصار المحاقلة
حديث ابن عباس هذا فيه فائدة عظيمة لأنه نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خير له من أن يأخذ عليها فدل على أن الأخذ عليها جائز
____________________
(1/399)
فيكون حديث رافع وجابر وأبي هريرة ومن يوافقهم الأمر فيه للندب والاستحباب والنهي للتنزيه والكراهة ولا يكون في ذلك وجوب ولا تحريم وقد قرأت على إبراهيم بن علي بن الحيوي ثنا حارثة بن محمود بن إبراهيم بن منده أنبأ أبو الخير محمد بن أحمد بن عمرو بن البحتري ببغداد حدثنا سعد أن ابن نصر بن منصور ثنا أبو معاوية محمد بن خازم عن أبي إسحاق الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة قال مسلم حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي أنبأ عبد الله بن جعفر الرقي ثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الملك بن زيد عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كانت له أرض فإنه إن يمنحها أخاه خير
حدثنا أحمد بن حنبل وزهير بن حرب واللفظ لزهير قالا ثنا يحيى وهو القطان عن عبيد الله قال أخبرني نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع
وحدثني علي بن حجر السعدي أنا علي وهو ابن مسهر أنا عبد الله عن نافع عن ابن عمر قال أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع وكان يعطي أزواجه كل سنة مائة وسق ثمانين وسقا من ثمر وعشرين وسقا من شعير فلما ولي عمر رضي الله عنه قسم خيبر خير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن الأرض والماء أو يضمن لهن الأوساق كل عام فاختلفن فمنهن من اختار الأرض والماء ومنهن من اختار الأوساق كل عام
وكانت عائشة وحفصة ممن اختارتا الأرض والماء
حدثنا ابن نمير ثنا أبي ثنا عبيد الله وثنا نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر واقتص الحديث بنحو حديث علي بن مسهر ولم يذكر وكانت عائشة وحفصة ممن اختارتا الأرض والماء وقال خير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن الأرض ولم يذكر الماء
وحدثني أبو الطاهر ثنا عبد الله بن وهب أخبرني أسامة بن زيد الليثي عن نافع عن عبد الله بن عمر قال لما افتتحت خيبر سألت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم فيها على أن يعملوا على نصف ما خرج من الثمر والزرع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقركم فيها على ذلك ما شئنا ثم ساق الحديث بنحو حديث ابن نمير وابن مسهر عن عبد الله وزاد فيه وكان الثمر يقسم على السهمان من نصف خيبر فيأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس وحدثني ابن رمح أنا الليث عن محمد بن عبد الرحمن عن نافع عن عبد الله بن عمر
____________________
(1/400)
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها
حدثني محمد بن رافع وإسحاق بن منصور واللفظ لابن رافع قالا ثنا عبد الرزاق أنبأ ابن جريج حدثني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين فأراد إخراجهم منها فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بها على أن يكفوا عملها ولهم نصف التمر فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نقركم بها على ذلك ما شئنا فقروا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه إلى تيماء وأريحاء
هذا ما ذكره مسلم رحمه الله في صحيحه من ذلك والذي يجب أن ينظر فيه منه موضعان
أحدهما رواية ثابت بن الضحاك وفهم معناها والآخر فهم طاوس ومن كلمه في المخابرة من حديث رافع وقد نبهنا عليه ولكن زيد زيادة تحقيق
أما سنن أبي داود فقد سمعتها جميعا على شيخنا الحافظ أبي محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي بسماعه لجميعها من أبي الحسن بن المقير بإجازته الحافظ أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال أنبأ أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي قال ثنا أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد السجستاني قال أبو داود ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا ابن علية
وحدثنا مسدد ثنا بشر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن الوليد بن أبي الوليد عن عروة بن الزبير قال قال زيد بن ثابت يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه أنه أتى رجلان قال مسدد من الأنصار قد اقتتلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع زاد مسدد فسمع قوله لا تكروا المزارع زيد بن ثابت عظيم في العلم والعجب منه إذا لم يبلغه حديث جابر وأبي هريرة أو يكون الأمر على خلاف ما أفهمه أنا وقد أخبرنا به من طريق أبي داود موسى بن علي بن أبي طالب وعلي بن محمد بن هارون بقراءتي على الثاني وقرأه على الأول وأنا أسمع قالا محمد بن إبراهيم الإربلي حضورا أنبأ شهدة بنت أحمد الكاتبة أنبأ طراد بن محمد أنبأ الحسين بن يحيى بن عياش القطان أنبأ أبو الأشعث أحمد بن مقدام العجلي أنبأ يزيد بن زريع عن عبد الرحمن بن إسحاق فذكره فوقع عاليا بدرجتين كأني سمعته ممن سمعه من الخطيب وكان بيني وبين أبي داود فيه أربعة رجال ويزيد بن زريع المساوي لابن أبي
____________________
(1/401)
شيبة وابن علية وهو إسماعيل بيني وبينه ستة رجال وهذا عزيز الوجود ولما ذكر عبد الحق هذا الحديث في الأحكام قال لا يثبت هذا لأن في إسناده عبد الرحمن المديني عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر هكذا نقلته من كتاب ابن القطان ولم أره في الأحكام ثم قال ابن القطان هكذا أحمل تعليله فأما أبو عبيدة فهو على أصله غير عمله فإنه أورد من روايته ولم يبينه حديث من قتل دون ماله فهو شهيد وسكت عنه أما عبد الرحمن بن إسحاق فهو المعروف بعباد وهو مختلف فيه
حدثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا يزيد بن هارون ثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن سعيد بن المسيب عن سعد قال كنا نكري الأرض بما على السواقي من المزارع وما سقي بالماء منها فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمرنا أن نكريها بذهب أو فضة
محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة ذكره ابن حبان في الثقات لكن قال يحيى بن معين ليس حديثه بشيء
ومحمد بن عكرمة ذكره ابن حبان في الثقات وليس له في الكتب إلا هذا الحديث
وفي بعض ألفاظه رخص لنا أن نكريها بذهب أو فضة وهذا هو المحتاج إليه
وأما النهي عن الكراء ما ذكره فقد عرف من حديث غيره أما المزارعة والمخابرة فليس فيه تعرض لهما كما قلنا في حديث رافع وغيره
ففي حديث زيد بن ثابت هذا فائدة عظيمة وهو الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم الرخصة بكراء الأرض بذهب أو فضة إما أمرا وإما رخصة هذا دليل الجمهور في جواز كرائها بذلك فهو الحق إن شاء الله تعالى وذكر أبو داود حديث عقيل عن ابن شهاب عن سالم أن ابن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الحديث قال أبو داود رواه أيوب وعبيد الله وكثير بن فرقد ومالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الأوزاعي عن حفص بن عنان عن نافع عن رافع قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو داود
وكذلك رواه زيد بن أبي أنيسة عن الحكم عن نافع عن ابن عمر أنه أتى رافعا فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم قال أبو داود ورواه عكرمة بن عمار عن أبي النجاشي عن رافع سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر هذه الطرق كيف صرح فيها رافع بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وليس في ذلك مخالفة لروايته عن عمه وغيره
____________________
(1/402)
لجواز أن يكون سمعه من عمه ثم سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الأوزاعي عن أبي النجاشي عن رافع بن خديج عن عمه ظهير بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال أبو داود حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة ثنا خالد بن الحارث ثنا سعيد عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار أن رافع بن خديج قال كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا وطواعية الله ورسوله أنفع لنا وأنفع قال قلنا وما ذاك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو يزرعها أخاه ولا يكاريها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمى
هذا يدل على أنه أراد بالمخابرة كراء الأرض فليس فيه منع من المخابرة المعروفة قال أبو داود ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا وكيع ثنا عمرو عن مجاهد عن رافع بن خديج عن أبيه قال جاءنا أبو رافع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان يرفق بنا وطاعة الله ورسوله أرفق بنا نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزرع أحدنا إلا أرضا يملك رقبتها أو منيحة يمنحها رجل
هذا فيه دليل على منع الكراء
أما المزارعة والمخابرة المعروفتان فلا
قال أبو داود حدثنا محمد بن كثير ثنا سفيان عن منصور عن مجاهد بن أسيد بن ظهير قال جاءنا رافع بن خديج فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان لكم نافعا وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن الحقل وقال من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو يدع قال أبو داود وهكذا رواه شعبة ومفضل بن مهلهل عن منصور قال شعبة أسيد ابن أخي رافع بن خديج حدثنا محمد بن بشار ثنا يحيى ثنا أبو جعفر الخطمي قال بعثني عمي أنا وغلام له إلى سعيد بن المسيب قال فقلنا شيء بلغنا عنك في المزارعة فقال كان ابن عمر لا يرى بها بأسا حتى بلغه عن رافع بن خديج في حديث فأتاها فأخبره رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حارثة فرأى زرعا في أرض ظهير فقال ما أحسن زرع ظهير فقالوا ليس لظهير قال أليس أرض ظهير قالوا بلى ولكنه زرع فلان قال فخذوا زرعكم وردوا عليه النفقة قال رافع فأخذنا زرعنا ورددنا إليه النفقة قال سعيد أفقر أخاك أو أكره بالدراهم
قوله أفقر أخاك يعني أعره تقول أفقرتك ناقتي أي أعرتكها
وأبو جعفر الخطمي اسمه عمير بن يزيد قال أبو داود ثنا مسدد قال ثنا أبو الأحوص
____________________
(1/403)
ثنا طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة وقال إنما يزرع ثلاثة رجل له أرض فهو يزرعها ورجل منح أرضا فهو يزرع ما يمنح ورجل استكرى بذهب أو فضة
قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني قلت حدثكم ابن المبارك عن سعيد بن شجاع ثنا عثمان بن سهل بن رافع بن خديج قال إني ليتيم في حجر رافع بن خديج وحججت معه فجاءه أخي عمران بن سهل فقال أكرينا أرضنا فلانة بمائة درهم فقال دعه فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض حدثنا هارون بن عبد الله ثنا الفضل بن دكين ثنا مكي يعني ابن عامر عن ابن أبي نعم قال حدثني رافع بن خديج أنه زرع أرضا فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسقيها فسأله لمن الزرع ولمن الأرض فقال زرعي ببذري وعملي لي الشطر ولبني فلان الشطر فقال أربيتما فرد الأرض على أهلها وخذ نفقتك
هذه واقعة حال لا ندري هل زرع بإذن أهلها أو لا أو كانت إجارة أو مزارعة أو مخابرة قال أبو داود ثنا قتيبة عن شريك عن أبي إسحاق عن عطاء عن رافع بن خديج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته
حدثنا أحمد بن حنبل ثنا إسماعيل وثنا مسدد أن حمادا وعبد الوارث حدثاه عن أيوب عن أبي الزبير قال عن حماد وسعد بن ميناء ثم اتفقوا عن جابر بن عبد الله قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة قال عن حماد قال أحدهما والمعاومة وقال الآخر كبيع السنتين ثم اتفقوا عن الثنيا ورخص في بيع العرايا حدثنا يحيى بن معين ثنا ابن رجاء يعني المكي ثنا ابن خثيم حدثني عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من لم يذر المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله هذا يحتمل أن يكون المراد به الكراء ويحتمل أن يريد المخابرة المعروفة لكن حديث خيبر يدل على جواز المخابرة
____________________
(1/404)
المعروفة فيحمل هذا على الكراء
قال أبو داود ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عمر بن أيوب عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن زيد بن ثابت قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة قلت وما المخابرة قال المخابرة أن يأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع
هذا يحتمل الكراء فيحمل عليه جمعا بينه وبين معاملة خيبر
قال أبو داود باب المساقاة
حدثنا أحمد بن حنبل ثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم وأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرتها
حدثنا أبو أيوب بن محمد الرقي ثنا عمر بن أيوب ثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن مقسم عن ابن عباس قال افتتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر واشترط أن له الأرض وكل صفراء وبيضاء قال أهل خيبر نحن أعلم بالأرض منكم فأعطناها على أن لكم نصف الثمر ولنا نصف فزعم أنه أعطاهم على ذلك فلما كان حين تصرم النخل بعث عليهم عبد الله بن رواحة فحزر عليهم النخل وهو الذي يسميه أهل المدينة الخرص فقال في ذه كذا وكذا فقالوا أكثرت علينا يا ابن رواحة قال فأنا إلى جداد النخل فأعطيكم نصف الذي قلت قالوا هذا الحق وبه تقوم السموات والأرض وقد رضينا أن نأخذه بالذي قلت
حدثنا يحيى بن معين ثنا حجاج عن ابن جريج قال أخبرت عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه ثم يخير يهود يأخذونه بذلك الخرص أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق
قال أبو داود حدثنا محمد بن أحمد بن أبي خلف ثنا محمد بن سابق عن إبراهيم طهمان عن أبي الزبير عن جابر قال أفاء الله على رسوله خيبر فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألوه وجعلها بينه وبينهم فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم
حدثنا أحمد بن حنبل ثنا عبد الرزاق ومحمد بن بكر قالا ثنا ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق
وذكر أبو داود في باب حكم أرض خيبر حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقا ثنا أبي ثنا حماد
____________________
(1/405)
بن سلمة عن عبيد الله بن عمرو أحسبه عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر فذكر الحديث إلى أن قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا من تمر وعشرين وسقا من شعير
ثنا سليمان بن داود المهري ثنا ابن وهب أخبرني أسامة بن زيد الليثي عن نافع عن ابن عمر وقال وكان التمر يقسم على السهمان من نصف خيبر وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعم كل امرأة من أزواجه من الخمس مائة وسق تمر وعشرين وسق شعير
وفي رواية أخرى أن أرض خيبر أربعون ألف عذق أما جامع الترمذي فقرأته كله على جماعة منهم عبد الله بن علي بن عمر الصنهاجي أنا محمد بن أحمد بن علي القسطلاني أنا علي بن أبي الكرم أنا البنا أنا عبد الملك الكروخي أنا أبو عامر محمود بن القاسم الأزدي وأحمد بن عبد الصمد الفورجي أنا عبد الجبار بن محمد الجراحي أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحنوني أنا أبو عيسى محمد عيسى بن سورة الترمذي رحمه الله قال في حديث عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من تمر أو زرع والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم لم يروا بأسا بالمزارعة على النصف والثلث والربع واختار بعضهم أن يكون البذر من رب الأرض وهو قول أحمد وإسحاق وكره بعض أهل العلم المزارعة بالثلث والربع ولم يروا بمساقاة النخيل بالثلث والربع بأسا وهو قول مالك بن أنس والشافعي ولم ير بعضهم أن يصح شيء من المزارعة إلا أن يستأجر الأرض بالذهب والفضة
حدثنا محمود بن غيلان ثنا الفضل بن موسى الشيباني ثنا شريك عن شعبة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم المزارعة ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض
هذا حديث حسن صحيح
وفي الباب عن زيد بن ثابت حديث رافع فيه اضطراب يروى مع هذا الحديث عن رافع بن خديج عن عمومته ويروى عنه عن ظهير بن رافع وهو أحد عمومته وقد روي هذا الحديث عنه على روايات مختلفة
قلت هذا الاضطراب لم يضر لما بينته
أما المجتبى من المجتبى للنسائي فسمعته كله أكثره على أبي الحسين علي بن نصر الله بن عمر وبقيته على أبي الحسن علي بن عيسى بن سليمان بن رمضان الشافعي قالا أنبأ أبو بكر عبد العزيز بن عمر بن باقا قال الأول سماعا وقال الثاني إجازة
____________________
(1/406)
أنا أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي خلا من باب إذا تطيب واغتسل وبقي أثر بالطيب إلى باب البداءة بفاتحة الكتاب قبل السورة فبإجازته لهذا القدر إن لم يكن سماعا منه أنا أبو محمد عبد الرحمن بن حميد الدوني أنا أبو بكر أحمد بن الحسين بن الكسار أنا أحمد بن محمد بن إسحاق بن السني أنا أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي رحمه الله قال ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع واختلاف ألفاظ الناقلين للخبر أنا محمد بن إبراهيم أنا خالد هو ابن الحارث قال قرأت على عبد الحميد بن جعفر أخبرني أبي عن رافع بن أسيد بن ظهير عن أبيه أسيد بن ظهير أنه خرج إلى قومه إلى بني حارثة فقال يا بني حارثة لقد دخلت عليكم مصيبة قالوا ما هي قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض قلنا يا رسول الله إذا نكريها بشيء من الحب قال لا ولكن نكريها بالتبن فقال لا ولكنا نكريها بما على الربيع الساقي فقال لا ازرعها أو امنحها أخاك
هذا إنما فيه النهي عن الكراء قال النسائي خالفه مجاهد أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك ثنا يحيى وهو ابن آدم ثنا مفضل بن مهلهل عن منصور عن مجاهد عن أسيد بن ظهير قال جاءنا رافع بن خديج فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن الحقل والحقل الثلث والربع وعن المزابنة والمزابنة شراء ما في رءوس النخل بكذا وكذا وسقا من تمر مراده بالمخالفة المخالفة في الإسناد لا يضر قال النسائي أنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن شعبة عن منصور سمعت مجاهدا يحدث عن أسيد بن ظهير قال جاءنا رافع بن خديج فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نفعا وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم نهاكم عن الحقل
وقال من كانت له أرض فليمنحها أو ليدعها ونهى عن المزابنة والمزابنة الرجل يكون له المال العظيم من النخل فيجيء الرجل فيأخذها بكذا وكذا وسقا من تمر هذا أيضا إنما فيه نهي عن الكراء
قال النسائي أخبرنا محمد بن قدامة ثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن أسيد بن ظهير قال أتى علينا رافع بن خديج فقال ولم أفهم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان ينفعكم وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم مما ينفعكم نهاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحقل والحقل المزارعة بالثلث والربع فمن كان له أرض واستغنى عنها فليمنحها أخاه أو ليدع ونهاكم عن المزابنة والمزابنة الرجل يجيء إلى النخل الكثير بالمال العظيم فيقول خذه بكذا وكذا وسقا من تمر ذلك العام هذا يسمى قبالة ومعنى القبالة أن يتقبل الثمرة
____________________
(1/407)
بمقدار وهذا باطل باتفاق الفقهاء
قال النسائي أخبرنا إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق ثنا عفان ثنا عبد الواحد ثنا سعيد بن عبد الرحمن عن مجاهد حدثني أسيد قال قال رافع بن خديج نهاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لنا قال من كانت له أرض فليزرعها فإن عجز عنها فليزرعها أخاه
هذا موافق لما تقدم في البخاري ومسلم وغيرهما قال النسائي خالفه عبد الكريم بن مالك
أخبرنا علي بن حجر ثنا عبيد الله يعني ابن عمرو عن عبد الكريم عن مجاهد قال أخذت بيد طاوس حتى دخلت على ابن رافع بن خديج فحدثه عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كراء الأرض فأبى طاوس وقال سمعت ابن عباس لا يرى بذلك بأسا
ورواه أبو عوانة عن أبي حصين عن مجاهد عن رافع مرسلا مراد النسائي بالمخالفة المخالفة بالإسناد
قال النسائي أخبرنا قتيبة ثنا أبو عوانة عن أبي حصين عن مجاهد قال قال رافع بن خديج نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لكم نافعا وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين نهانا أن نتقبل الأرض ببعض خرجها
قد جاء لفظ التقبل هنا والتقبل إن كان هو الكراء فقد عرف حكمه من هذه الأحاديث وإن كان هو التقبل المشهور وهو أن يأتي إلى شجر مثمر فيقول قد تقبلته بكذا وكذا وسقا فهو باطل باتفاق الفقهاء وممن ذكره أبو عبيد في كتاب الأموال قال النسائي تابعه إبراهيم بن مهاجر أخبرنا أحمد بن سليمان ثنا عبيد الله أنا إسرائيل عن إبراهيم بن المهاجر عن رافع بن خديج قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أرض رجل من الأنصار قد عرف أنه محتاج فقال لمن هذه الأرض فقال لفلان أعطانيها بالأجر قال لو منحها أخاه فأتى رافع الأنصار فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن أمر كان لنا نافعا وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لكم مراد النسائي بالمتابعة متابعة إبراهيم بن مهاجر لأبي حصين عن مجاهد في روايته عن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمر في بيان الإسناد لا غير
قال النسائي أخبرنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا ثنا محمد ثنا شعبة عن الحكم عن مجاهد عن رافع بن خديج قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحقل
أخبرنا عمر وابن علي عن خالد وهو ابن الحارث ثنا شعبة عن عبد الملك عن عطاء وطاوس ومجاهد قال حدث رافع بن خديج قال خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهانا عن أمر كان لنا نافعا وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع لنا قال من كان له أرض فليزرعها أو ليمنحها أو ليدعها
ومما
____________________
(1/408)
يدل على أن طاوسا لم يسمع هذا الحديث من رافع ما أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك ثنا زكريا بن عدي ثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار قال كان طاوس يكره أن يؤاجر أرضه بالذهب والفضة ولا يرى بالثلث ولا الربع بأسا فقال له مجاهد اذهب إلى ابن رافع بن خديج فاسمع حديثه فقال إي والله لو أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ما فعلته ولكن أخبرني من هو أعلم منه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خراجا معلوما
وقد اختلف على عطاء في هذا الحديث فقال عبد الملك بن ميسرة عن عطاء عن رافع وقد تقدم ذكرنا له
وقال عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له أرض فليزرعها فإن عجز عن أن يزرعها فليمنحها أخاه المسلم ولا يزرعها إياه
أخبرنا عمرو بن علي ثنا يحيى ثنا عبد الملك عن عطاء عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه ولا يكريها تابعه عبد الرحمن بن عمر والأوزاعي أخبرنا هشام بن عمار عن يحيى بن حمزة حدثني الأوزاعي عن عطاء عن جابر قال كان لأناس فضول أرضين يكرونها بالنصف والثلث والربع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو يزرعها أو يمسكها وافقه مطر بن طهمان
أخبرنا عيسى بن محمد هو أبو عمير بن النحاس وعيسى بن يونس قالا حدثنا ضمرة عن ابن شوذب عن مطر عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها ولا يؤاجرها
أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن يونس ثنا حماد عن مطر عن عطاء عن جابر رفعه نهى عن كراء الأرض
جميع هذه الطرق إنما تدل على النهي عن الكراء قال النسائي ووافقه عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج على النهي عن كراء الأرض
أخبرنا قتيبة بن سعيد ثنا المفضل عن ابن جريج عن عطاء وأبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة
يحتمل أن يريد الكراء كما قدمناه فليس صريحا في منع المخابرة المعروفة
قال النسائي تابعه يونس بن عبيد أخبرني زياد بن أيوب ثنا عباد بن العوام أخبرنا سفيان بن حسين ثنا يونس بن عبيد عن عطاء عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والثنيا إلا أن تعلم
وفي رواية همام بن يحيى كالدليل
____________________
(1/409)
على أن عطاء لم يسمع من جابر حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم من كان له أرض فليزرعها أخبرني أحمد بن يحيى ثنا أبو نعيم ثنا همام بن يحيى قال سأل عطاء سليمان بن موسى قال حدث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها أخاه
وقد روى النهي عن المحاقلة يزيد بن نعيم عن جابر أخبرنا محمد بن إدريس ثنا أبو توبة ثنا معاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير عن يزيد بن نعيم عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحقل والمزابنة والمحاقلة والمحاضرة والمخابرة قال المحاضرة بيع التمر قبل أن يزهو والمخابرة بيع الأرض بكذا وكذا صاعا
خالفه عمرو بن أبي سلمة فقال عن أبيه عن أبي هريرة أخبرنا عمرو بن علي ثنا عبد الرحمن ثنا سفيان عن سعد بن إبراهيم عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة
خالفهما محمد بن عمرو فقال عن أبي سلمة عن أبي سعيد أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك حدثنا يحيى وهو ابن آدم ثنا عبد الرحيم عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة خالفهما الأسود بن العلاء فقال عن أبي سلمة عن رافع بن خديج أخبرني زكريا بن يحيى ثنا محمد بن يزيد بن إبراهيم ثنا عبيد الله بن حمران ثنا عبد الحميد بن جعفر عن الأسود بن العلاء عن أبي سلمة عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة رواه القسم بن محمد عن رافع بن خديج
أخبرنا عمرو بن علي ثنا أبو عاصم ثنا عثمان بن مرة قال سألت القسم عن المزارعة فحدث عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة
قال أبو عبد الرحمن مرة أخرى أنا عمرو بن علي قال قال أبو عاصم عن عثمان بن مرة قال سألت القسم عن كراء الأرض فقال قال رافع بن خديج إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض
هذا مبين وما قبله من المخابرة والمحاقلة ونحوها مجمل فيحمل المجمل على المبين ولا يعارض قال النسائي واختلف على سعيد بن المسيب فيه أخبرنا محمد بن المثنى ثنا يحيى عن أبي جعفر الخطمي واسمه عمير بن يزيد قال أرسلني عمي وغلاما له إلى سعيد أسأله عن المزارعة فقال كان ابن عمر لا يرى بها بأسا حتى بلغه عن رافع بن خديج حديث فلقيه فقال رافع أتى النبي صلى الله عليه وسلم بني حارثة فرأى
____________________
(1/410)
زرعا فقال ما أحسن زرع ظهير قالوا ليس لظهير قال أليس أرض ظهير فقالوا بلى ولكنه أزرعها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا زرعكم وردوا إليه نفقته
هذا ظاهر في منع المزارعة المعروفة فلينظر فيه قال النسائي ورواه طارق بن عبد الرحمن عن سعيد واختلف عليه فيه أخبرنا قتيبة ثنا أبو الأحوص عن طارق عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة وقال إنما يزرع ثلاثة رجل له أرض فهو يزرعها أو رجل منح أرضا فهو يزرع ما منح ورجل استكرى أرضا بذهب أو فضة
هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم
قال النسائي ميزه إسرائيل عن طارق فأرسل الكلام الأول وجعل الآخر من كلام سعيد أخبرنا أحمد بن سليمان ثنا عبيد الله بن موسى أنا إسرائيل عن طارق عن سعيد قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة
قال سعيد فذكر نحوه ورواه سفيان الثوري عن طارق أخبرنا محمد بن علي وهو ابن ميمون ثنا محمد ثنا سفيان عن طارق قال سمعت سعيد بن المسيب يقول لا يصلح الزرع غير ثلاث أرض يملك رقبتها أو منحة أو أرض بيضاء يستأجرها بذهب أو فضة
وروى الزهري الكلام الأول عن سعيد فأرسله أخبرنا الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن القسم حدثني مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة رواه محمد بن عبد الرحمن ابن لبيبة عن سعيد بن المسيب فقال عن سعد بن أبي وقاص أخبرنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم ثنا عمي ثنا أبي عن محمد بن عكرمة عن محمد بن عبد الرحمن ابن لبيبة عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال كان أصحاب المزارع يكرون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مزارعهم بما يكون على الساقي من الزرع فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا فاختصموا في بعض ذلك فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقال اكروا بالذهب والفضة
وهذا ظاهر في إباحة الكراء قد تقدم الكلام في سنده قال النسائي وقد روي هذا الحديث سليمان عن رافع فقال عن رجل من عمومته فذكر ما قدمناه من صحيح مسلم
ثم قال أيوب لم يسمعه من يعلى وذكر الطريق التي فيها كتب إلي وقد رويناها من مسلم ثم قال رواه سعيد عن يعلى بن حكيم وذكر ثم قال رواه حنظلة بن قيس عن رافع واختلف على ربيعة في روايته فذكره من طريق الليث
ومن طريق الأوزاعي ومن طريق مالك وسفيان كلهم عن ربيعة ثم قال رواه يحيى بن سعيد عن حنظلة ورفعه كما رواه مالك عن ربيعة وذكره ثم قال رواه سالم
____________________
(1/411)
بن عبد الله بن عمر عن رافع بن خديج واختلف على الزهري فيه وذكره من طريق مالك وشعيب بن أبي حمزة فأرسله شعيب قال عن الزهري بلغنا أن رافع بن خديج يحدث أن عمه يزعم وكان شهد بدرا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض هذا صريح في النهي عن الكراء
قال النسائي ورواه عثمان بن سعيد عن شعيب ولم يذكر عمه ورواه نافع عن رافع واختلف عليه فذكره من طريق موسى بن عقبة وابن عون وأيوب وكثير بن فرقد وعبد الله بن عمرو بن دينار وحفص بن غياث وهشام كلهم عن نافع ثم قال رواه ابن عمر عن رافع وذكره من طريق عمرو بن دينار واختلف على عمرو بن دينار وذكر ست طرق إليه ثم قال جمع سفيان بن عيينة الحديثين
وقال ابن عمر وجابر أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عمر وجابر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه ونهى عن المخابرة كراء الأرض بالثلث والربع
هذا صريح في تفسير المخابرة بالكراء لكنه يحتمل لأن يكون سمى المزارعة أو المخابرة كراء قال النسائي رواه أبو النجاشي عطاء بن صهيب واختلف عليه فيه ذكره ثم قال ورواه بكير بن عبد الله بن الأشج عن أسيد بن رافع فجعل الرواية لأخي رافع أخبرنا محمد بن حاتم أنا حبان ثنا عبد الله بن المبارك عن ليث حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج عن أسيد بن رافع بن خديج أن أباه رافع بن خديج قال لقومه قد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم عن شيء كان لكم نافعا
وأمره طاعة وخير نهى عن الحقل وذكر حديث عيسى بن سهل بن رافع بن خديج المتقدم عن أبي داود ولفظ النسائي فيه أخبرنا محمد بن حاتم أنا حبان أنا عبد الله أنا سعيد بن يزيد أبو شجاع قال حدثني عيسى بن سهل بن رافع بن خديج قال إني ليتيم في حجر جدي رافع بن خديج وبلغت رجلا وحججت معه فجاء أخي عمران بن سهل بن رافع بن خديج فقال يا أبتاه إنا قد أكرينا أرضنا فلانة بمائتي درهم فقال يا بني دع ذلك فإن الله سيجعل لكم رزقا غيره فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن كراء الأرض
هذا صريح في أنه فهم أن النهي عن كراء الأرض مطلقا ولو بالدراهم قال النسائي وذكر قول ابن زيد بن ثابت المتقدم ذكر الاختلاف المأثور في المزارعة عن ابن عون كان محمد يقول الأرض عندي مثل مال المضاربة وكان لا يرى بأسا أن يدفع أرضه إلى الأكار على أن يعمل فيها بنفسه وولده وأعوانه وبقره ولا ينفق
____________________
(1/412)
شيئا وتكون النفقة كلها من رب الأرض هذا ابن سيرين وهو إمام يلحق الأرض بالمضاربة وهو قدوة
قال النسائي أخبرنا قتيبة ثنا الليث عن محمد بن عبد الرحمن عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها بأموالهم وأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ما يخرج منها
وعن ابن عباس أن خير ما أنتم صانعون أن يؤاجر أحدكم أرضه بالذهب والورق
وعن إبراهيم وسعيد بن جبير أنهما كانا لا يريا بأسا باستئجار الأرض البيضاء
هذا كله من سنن النسائي الصغير الذي هو روايتنا ووقفت على هذا المكان من النسائي الكبير ولم أر فيه كبير زيادة على ذلك وفيه عن حنظلة بن قيس سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض البيضاء بالذهب والفضة فقال حلال لا بأس به ذلك فرض الأرض
رواه يحيى بن سعيد عن حنظلة بن قيس ورفعه كما رواه مالك بن ربيعة أخبرنا يحيى بن حبيب عن ابن عربي في حديثه عن حماد بن زيد عن يحيى عن حنظلة بن قيس عن رافع بن خديج قال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء أرضنا ولم يكن يومئذ ذهب ولا فضة وكان الرجل يكري أرضه بما على الربيع والأقبال وأشياء معلومة وساقه
وأما سنن ابن ماجه فقد قرأته جميعه على أقضى القضاة جمال الدين أبي بكر محمد بن عبد العظيم السقطي رحمه الله بإجازته من أبي بكر عبد العزيز بن أحمد بن عمر بن باقا أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي رحمه الله بجميع الكتاب خلا الجزء الأول والعاشر والسابع عشر وهو الأخير فبالإجازة منه بإجازته عن أبي منصور محمد بن الحسين بن أحمد بن الهيثم المقومي أن لم يكن سماعا ثم ظهر سماعه بعد ذلك قال أخبرنا أبو طلحة القسم بن أبي المنذر الخطيب قال ثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة بن بحر القطان ثنا أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه رحمه الله
وكانت قراءتي لهذا الكتاب على ابن السقطي رحمه الله في مجالس آخرها يوم الثلاثاء الثالث من شهر ربيع الأول عام ست وسبعمائة بجامع الأقمر بالقاهرة قال ابن ماجه حدثنا محمد بن يحيى ثنا عبد الوارث عن الثوري عن منصور عن مجاهد عن أسيد بن ظهير ابن أخي رافع بن خديج عن رافع قال كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث والربع والنصف واشترط ثلاث جداول والقصارة وما سقى الربيع وكان العيش إذ ذاك شديدا وكان يعمل فيها بالحديد وما شاء الله ويصيب منها منفعة فأتانا رافع بن خديج فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أمر كان لنا منفعة وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أنفع لكم إن
____________________
(1/413)
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاكم عن الحقل ويقول من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع
القصارة بالضم ما بقي في السنبل بعد ما يداس قال ابن ماجه أيضا حدثنا محمد بن الصباح أنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال قلت لطاوس يا أبا عبد الرحمن لو تركت هذه المخابرة فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه قال قال أي عمرو إني أعينهم وأعطيهم إن معاذ بن جبل أخذ الناس عليها عندنا وأن أعلمهم يعني ابن عباس أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ولكن قال لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها أجرا معلوما
والظاهر أن الذي كان يفعله طاوس هو المخابرة المكروهة وكان يكره كراء الأرض قال ابن ماجه حدثنا أحمد بن ثابت الجحدري ثنا عبد الوهاب عن خالد عن مجاهد عن طاوس أن معاذ بن جبل أكرى الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان على الثلث والربع فهو يعمل به إلى يومك هذا
وبوب ابن ماجه في معاملة خيبر معاملة النخيل والكروم لكنه لم يذكر في أحاديث الباب إلا النخل والأرض معاذ رضي الله عنه أعلم الناس بالحلال والحرام
هذه أحاديث الكتب الستة التي هي أصول الإسلام وهي كافية لمن أحاط بها ولا يبقى بعدها إلا فهم يؤتيه الله من يشاء
وذكر البيهقي من طريق حماد بن سلمة أنا عبيد الله بن عمر فيما يحسب عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم فغلب على الأرض والنخل والزرع فقالوا يا محمد دعنا نكن في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل نخل وزرع وشيء ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام يخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام شدة خرصه وأرادوا أن يرشوه فقال يا أعداء الله تطعموني السحت لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم فقالوا بهذا قامت السموات والأرض
قوله كل عام فيه نظر فإن خيبر فتحت في صفر سنة سبع وابن رواحة استشهد في مؤتة في سنة ثمان فمدة حياته بعد فتح خيبر سنة ونصف وقد سمعت سنن الدارقطني رحمه الله جميعه على شيخنا الحافظ عبد المؤمن الدمياطي رحمه الله قال أنا الحافظ يوسف بن خليل سماعا عليه بقراءتي أنا أبو الفتح ناصر الدين محمد الوتري أنا إسماعيل
____________________
(1/414)
السراج المعروف بالأحسد أنا أبو طاهر بن عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الحافظ الدارقطني ثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ثنا محمد بن حميد ثنا عبد الرحمن بن مغراء عن عبيدة الأوداء عن عبد الحميد عن عبد الرحمن بن سالم عن عبد الله بن عمر عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في مسير له فإذا هو بزرع يهتز فقال لمن هذا الزرع قالوا لرافع بن خديج فأرسل إليه وكان أخذ الأرض بالنصف أو الثلث فقال انظر نفقتك في الأرض فخذها من صاحب الأرض وادفع إليه أرضه وزرعه
هذا من رواية عائشة رضي الله عنها موافقا لما تقدم من الحديث مثله
والظاهر أنها كانت مزارعة وكان البذر من المالك أو يكون كالحديث الذي من زرع في أرض قوم بغير إذنهم ويكون الإذن هنا كلا إذن لفساده فهذا أيضا مما ينظر فيه
وبالإسناد إلى الدارقطني حدثنا ابن صاعد ثنا يوسف القطان وشعيب بن أيوب قال ثنا ابن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من الزرع والنخل
وقال يوسف من النخل والشجر وقال ابن صاعد وهم في ذكر الشجر ولم يقله غيره
وفي تصنيف أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا شريك بن عبد الله عن إبراهيم بن مهاجر قال سألت موسى بن طلحة فحدثني أن عثمان أقطع خبابا أرضا وعبد الله أرضا وصهيبا أرضا فكلا جاري رأيته يعطي أرضه بالثلث والربع عبد الله وسعدا حدثنا أبو الأحوص عن إبراهيم بن مهاجر عن موسى بن طلحة قال سعد وابن مسعود يزرعان بالثلث والربع
حدثنا ابن أبي زائدة عن حجاج عن أبي جعفر قال عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على الشطر ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع
حدثنا ابن أبي زائدة وأبو الأحوص عن كليب بن وائل قال قلت لابن عمر رجل له أرض وليس له بذر ولا بقر فأعطاني أرضه بالنصف فزرعتها ببذري وبقري ثم قاسمته على النصف قال حسن حدثنا وكيع عن سفيان عن الحارث بن حصيرة عن صخر بن الوليد عن عمرو وصليع عن علي أنه لم ير بأسا بالمزارعة على النصف
حدثنا وكيع عن سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن رجل عن أنس قال أرضي وبعيري سواء
حدثنا ابن عيينة عن عمرو سمعت سالما يقول أكثر ابن خديج على نفسه والله ليكريها كراء الإبل
هذا مشكل لما قدمناه من رواية جابر وأبي هريرة وغيرهما
وبالإسناد قال حدثنا أبو مسهر عن إسماعيل بن أبي خالد عن ابن الأسود أنه كان يزارع أهل السواد حياة أبيه حدثنا الفضل بن دكين عن الفضل بن عياض عن عبد الرحمن بن الأسود قال كنت أزرع
____________________
(1/415)
بالثلث والربع وأحمله إلى علقمة والأسود فلو رأوا به بأسا لنهوني
حدثنا حفص عن عمر عن يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كان يأمر بإعطاء الأرض بالثلث والربع
حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي أن يزارع بالثلث والربع
حدثنا فضيل بن عياض عن هشام عن القسم وابن سيرين وأنهما كانا لا يريان بأسا أن يعطي الرجل أرضه على أن يعطيه الثلث أو الربع أو العشر ولا يكون عليه من النفقة شيء
حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة قال كان أبي لا يرى بكراء الأرض بأسا
حدثنا وكيع ثنا شريك عن عبد الله بن عيسى قال كان لعبد الرحمن بن أبي ليلى أرض بالتوراة وكان يدفعها بالثلث فيرسلني فأقاسمهم
ممن كره أن يعطي الأرض بالثلث رافع بن خديج وثابت بن الضحاك وجابر بروايتهم
حدثنا عمر بن أيوب عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن زيد بن ثابت قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة قال وما المخابرة قال أن تأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع حدثنا علي بن مسهر عن الشيباني عن حبيب بن أبي ثابت قال كنت جالسا مع ابن عباس في المسجد الحرام إذ أتاه رجل فقال إنا نأخذ الأرض من الدهاقين فأعتملها بيدي وبقري فآخذ حقي وأعطيه حقه فقال له خذ رأس مالك ولا تردد عليه شيئا فأعاد عليه ثلاث مرات كل ذلك يقول له هذا عن خالد الحذاء أنه كره المزارعة بالثلث والربع حدثنا حفص عن الأعمش عن إبراهيم أنه كره أن يعطي الأرض بالثلث والربع
حدثنا وكيع ثنا سفيان عن منصور قال لا يصلح من الزرع إلا الأرض تملك رقبتها أو أرض يمنحها رجل
حدثنا حرب بن عبد العزيز بن رفيع عن رفاعة بن رافع بن خديج قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزارعة والإجارة إلا أن يشتري الرجل أرضا أو تعار ثم قال أعار أبي أرضا من رجل فزرعها وبنى فيها بنيانا فخرج إليها فرأى البنيان فقال من بنى هذا فقالوا فلان الذي أعرته فقال أعوض مما أعطيته قالوا نعم قال لا أخرج حتى يهدموه
عن عكرمة لا بأس بكراء الأرض بالطعام
عن إبراهيم لا بأس أن يستأجر الرجل الأرض البيضاء بالحنطة
زياد بن أبي مسلم سألت سعيد بن خيبر بن أبي عروبة عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها بثلث ولا بطعام مسمى
حدثنا عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال لا نرى بأسا أن يعالج الرجل النخل ويقوم عليك بالثلث والربع ما لم ير هو فيه شيئا
عن
____________________
(1/416)
الحسن أنه كان يكره ذلك بأجر معلوم
عن إبراهيم كان يكره كل شيء يعمل بالثلث والربع
عن حماد قال كان يكره أن يستأجر الأجير فيقول لك ثلث أو ربع مما تخرج أرضي هذه
فصل لنقتصر من الحديث والآثار على ما ذكرناه ونأخذ في كلام العلماء بعده قال الشافعي رضي الله عنه في الأم في كتاب اختلاف العراقيين وهما أبو حنيفة وابن أبي ليلى عن أبي يوسف رحمه الله في باب المزارعة وإذا أعطى الرجل أرضا مزارعة بالنصف أو الثلث أو الربع أو أعطى نخلا أو شجرا معاملة بالنصف أو أقل من ذلك أو أكثر فإن أبا حنيفة كان يقول هذا كله باطل وكان ابن أبي ليلى يقول ذلك جائز بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أعطى خيبر بالنصف فكانت كذلك حتى قبض وخلافة أبي بكر وعامة خلافة عمر بن الخطاب وبه نأخذ ولنا قياس هذا عندنا مع الأثر ألا ترى أن الرجل يعطي الرجل مالا مضاربة بالنصف ولا بأس بذلك وقد بلغنا عن عمر بن الخطاب وعن عبد الله بن مسعود وعن عثمان أنهم أعطوا مالا مضاربة وبلغنا عن سعد بن أبي وقاص وابن مسعود أنهما كانا يعطيان أرضهما بالربع والثلث
هذا الكلام مع قوله وبه نأخذ من كلام أبي يوسف أخذ بقول ابن أبي ليلى وترك قول أبي حنيفة
قال الشافعي وإذا دفع الرجل إلى الرجل النخل أو العنب يعمل فيه على أن للعامل نصف الثمرة أو ثلثها أو ما تشارطا عليه من جزء منها فهذه المساقاة الحلال التي عامل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر وإذا دفع الرجل إلى الرجل أرضا بيضاء على أن يزرعها المدفوعة إليه فما أخرج الله منها من شيء فله جزء من الأجزاء فهذه المحاقلة والمخابرة والمزارعة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحللنا المعاملة في النخل خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن تحريم ما حرمنا أوجب علينا من إحلال ما حللنا ولم يكن لنا أن نصرح بإحدى سننه الأخرى ولم نحرم ما يحرم ما حل كما لا نحل بما أحل ما حرم ولم أر بعض الناس سلم من خلاف النبي صلى الله عليه وسلم من واحد من الأمرين لا الذي أحلهما جميعا فأما ما روي عن سعد وابن مسعود أنهما دفعا من أرضيهما مزارعة مما لا يثبت مثله أهل الحديث ولو أثبته ما كان من أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة أما قياسه وما أجاز من النخل والأرض على المضاربة فعهدنا بأهل الفقه يقيسون ما جاء عمن دون النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وعكس هذا جهل وهو أيضا غلط في القياس إنما أجزنا المضاربة
وقد جاء عن عمر وعثمان أنها كانت قياسا على
____________________
(1/417)
المعاملة في النخل فكانت قياسا لا متبوعة مقيسا عليها فإن قال كيف تشبه المضاربة بالمساقاة قيل النخل قائمة لرب المال دفعها أن يعمل فيها المساقي عملا يرجى صلاح ثمرتها على أن له بعضها فلما كان المال المدفوع قائما لرب المال في يدي من دفع إليه يعمل عملا يرجو به الفضل جاز أن يكون له بعض ذلك الفضل على ما تشارطا عليه فكان مثل معنى المساقاة فإن قال فلم لا يكون هذا في الأرض قبل الأرض ليست بالتي تصلح فيؤخذ منه الفضل إنما يصلح فيها شيء من غيرها وليس بشيء قائم يباع ويؤخذ فضله كالمضاربة ولا شيء مثمر بالغ فيؤخذ ثمره كالنخل
وإنما هو شيء يحدث فيها ثم ينصرف لا في معنى واحد من هذين فلا يجوز أن يكون قياسا عليهما وهو مفارق لهما في المبتدأ أو المتعقب ولو جاز أن يكون قياسا ما جاز أن يقاس شيء نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الشافعي رضي الله عنه في مختصر المزني أخبرنا سفيان بن عيينة قال سمعت عمرو بن دينار يقول كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فتركناها لقول رافع
قال الشافعي والمخابرة استكراء الأرض ببعض ما يخرج منها ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهيه عن المخابرة على أن لا تجوز المزارعة على الثلث والربع ولا على جزء من الأجزاء لأنها مجهولة ولا يجوز الكراء إلا معلوما ويجوز كراء الأرض بالذهب والورق والعبد وما ينبت من الأرض أو على صفة تسميه كما يجوز كراء المنازل وإجارة العبيد انتهى كلام الشافعي رضي الله عنه فأما وجوب العمل بالسنن كلها وأن لا ترد إحدى السنتين الأخرى فصحيح وذلك الواجب على كل مسلم أما المشابهة بين المضاربة والمساقاة فصحيح أما قطع الشبه بين المساقاة والمزارعة فصحيح وإن كمال المشابهة التي بين المضاربة والمساقاة لم توجد بين المساقاة والمزارعة ولكن بينهما أكثرها فلو لم يرد نهي عنها لكان لإلحاقها بها وجه لا يشترط في المشابهة في القياس تمام المشابهة ولا نكتفي بأدناها بل نعتبر ما يشير إلى المأخذ وهو هنا كذلك وحرف المسألة تحقيق النهي عن المزارعة
وقد جاء في حديث ابن خديج وعليه بنى الشافعي رضي الله عنه وسنتكلم عليه وسواء أثبت أو لم يثبت فما نصنع بالمزارعة التي كانت في خيبر وقد صرح بأنه عاملهم على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع فنحن نقطع بصحة تلك المزارعة وغاية ما يتعذر به المانعون من المزارعة أن يقولوا إن تلك المزارعة كانت تبعا للمساقاة ونحن نقول إن الأصل أنه متى جاز شيء فإن الجواز يكون أصلا فيه ولا نقول إنه بطريق التبعية حتى يرد دليل يقتضي ذلك فههنا معنا دليل
____________________
(1/418)
مقطوع به على جوازها فإن صح نهي عنها احتجنا إلى الجمع بين الحديثين إما نحمل مزارعة خيبر على التبعية وإما بطريق وإن لم يصح النهي فلا معارضة فنقرر مزارعة خيبر دليلا على الصحة وتقوية لمراعاة الشبه بين المساقاة والمزارعة وإن قصرت عن المشابهة بين المساقاة والمضاربة
أما ما ورد عن سعد بن أبي وقاص وابن مسعود رضي الله عنهما من أنهما كانا يعطيان من أرضهما بالثلث والربع فقد رواه جماعة وقد ذكرنا عن البخاري أنه علقه عن قيس بن مسلم عن أبي جعفر عنهما وعن علي رضي الله عنه وأيضا قدمنا الإسناد إليهما من طريق ابن أبي شيبة من طريقين أحدهما شريك بن عبد الله عن إبراهيم بن مهاجر عن موسى بن طلحة عنهما والأخرى أبو الأحوص عن إبراهيم بن مهاجر عن موسى بن طلحة عنهما وموسى بن طلحة مجمع عليه وقد أدركهما وإبراهيم بن مهاجر روى له مسلم في صحيحه وشريك وأبو الأحوص متقاربان وشريك روى له مسلم وأبو الأحوص متفق عليه
فهذا الأثر لو كان حديثا لم يبعد القول بصحته فكيف وليس بحديث وأين يوجد مذهب عالم بسند مثل هذا فلا أدري توقف الشافعي فيه من أي وجه ولعله لا يرضى شريكا وأبا الأحوص أو لم يقف على إسنادهما أو غير ذلك والله أعلم ونحن قد بلغنا فلا عذر لنا مع من ورد مثل ذلك عنهما من الصحابة والتابعين وهم خلق كثير قد تقدموا في تضاعيف كلامنا بحيث يحصل من مجموع ما قدمناه كالعلم الضروري بثبوت ذلك مزارعة النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر ويعضد ذلك اشتهار الكلام في رواية رافع بن خديج وإمكان تأويلها كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى
وقد جوز الشافعي رضي الله عنه المساقاة في الكرم ولم يقل أحد من رواة الحديث إن خيبر كان بها كرم وإن كان بعض الأصحاب أنه قاله نصا والصحيح أنه قياس وقد أتقنت ذلك في شرح المنهاج والكرم لا يساوي النخل في جميع وجوهه ولكن في بعضها وفي وجوب الزكاة فكما جاز قياس الكرم على النخل في المساقاة يمكن أن يجوز قياس المزارعة على المساقاة لو لم يرد فيها فكيف
وقد ورد فيما كان في خيبر من زرع ولم يرد في حديث من الأحاديث أن ذلك إنما جاز لأجل التبعية والأصل إنما جاز في الشيء يجوز فيه من حيث هو من غير شرط انضمام إلى غيره فلا تثبت هذه الشرطية إلا بدليل ولم أر فيما وقفت عليه من كلام الشافعي تصريحا بالتأقيت ولا باللزوم وقد بلغ الأصحاب في ذلك فذكر القاضي أبو الطيب في تعليقته من بحث أصحابنا مع الحنفية أنهم احتجوا لأبي حنيفة وزفر في إبطالهما المساقاة بنهيه صلى الله عليه وسلم عن الغرر والمساقاة غرر لأنا لا ندري أتسلم الثمرة أم لا وبنهيه
____________________
(1/419)
صلى الله عليه وسلم عن المخابرة وادعوا بأنها المساقاة وبأن من شرطها أن تكون المدة معلومة وهي في معنى الإجارة والإجارة إذا كانت المدة مجهولة كانت باطلة ولأن أصول البطيخ والقثاء والخيار تحتاج إلى الخدمة والتربية ولا يجوز أن يعامل عليها ببعض نمائها ولا يجوز أن نستأجر راعيا لغنمه ببعض نمائها وبأن المزارعة لا تصح وهي مذكورة في حديث خيبر وبأنه شرط عليهم إذا شاء أخرجهم
وهذا الشرط لا يصح عندكم وبأن معاملة خيبر لم تكن مساقاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فتحها عنوة واسترق أهلها فكانوا عبيدا للمسلمين يعملون في أراضيهم والذي شرط لهم طعمة جعلت لهم ليست أجرة وأجاب بأن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وهذا ليس ببيع ولو صح فالغرر ما تردد بين جائزين ليس أحدهما أغلب وعقد المساقاة ليس بغرر لأن العادة أنها تثمر كل سنة
أما المخابرة فليست كما فسروه بل هي استكراء الأرض ببعض ما يخرج منها والفرق بين المساقاة والمزارعة أن الأرض يجوز إجارتها والأشجار لا يجوز إجارتها لهذا الغرض وعن دخول المزارعة في خيبر بأنها عندنا تجوز في البياض الذي في تضاعيف النخل أما العلم بالمدة فلأن المسلمين أجمعوا على أن المساقاة بالمدة المجهولة غير جائز والخبر وإن كان مطلقا فيجب حمله على أنه ذكر مدة كذا قال القاضي أبو الطيب وهو غير مسلم له ولم نجد نقله الإجماع على أنه ذكر مدة كذا قال القاضي وإنما أراد إجماع من قال بها من الطائفتين
أما شرط إخراجهم إذا شاء فإنما جاز ذلك الشرط في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن النسخ كان يجوز ذلك الوقت وكان الوحي ينزل عليه بالأحكام وقتا فوقتا وعن كونهم عبيدا بأن عمر رضي الله عنه أجلاهم ولم يبلغ أحدا منهم وإنما جعلناه لازما لأنه لو لم يكن لازما لكان فيه ضرر على العامل
وقال القاضي حسين رحمه الله في تعليقته إنما قال أقركم لأن اليهود لا يرون النسخ وكانوا يهودا فشرط عليهم ذلك قطعا لتوهم من يتوهم فيهم اللزوم ومثل هذا الشرط جائز له صلى الله عليه وسلم لأنه كان يوحى إليه من الله تعالى ولا يجوز لواحد منا لعدم الوحي حتى يذكر مدة معلومة كما في الإجارة قال والثمرة قسمان قسم يثمر ثمرة فيها العشر كالكروم والنخل فيجوز المساقاة عليها قولا واحدا وقسم يثمر ثمرة لا يجب فيها العشر وهو ما عدا النخل والكروم كالتفاح والخوخ ونحوها ففي جواز المساقاة عليها قولان القديم يجوز كالكروم والنخل والجديد لا يجوز لأن الخرص لا يتأتى فيها لأن ثمارها مستترة بالأوراق ولا يجب فيها العشر
أما المساقاة على شجر الفرصاد فيحتمل وجهين أحدهما لا يجوز كسائر الأشجار والثاني يجوز لأن المقصود منه الورق
____________________
(1/420)
وأوراقها ظاهرة يمكن الإحاطة بها كثمار النخل أما البقول والزروع التي ليس لها أصل ثابت لا تجوز المساقاة عليها لأن قضية المساقاة استحقاق العامل جزءا من نماء الأصل وهل يجوز الخرص في المساقاة كالزكاة
أما الزكاة فلا خلاف فيها وإنما الخلاف في أن الخرص غيره أو تضمين ولكن في المساقاة وجهان أحدهما يجوز لحديث ابن رواحة
والثاني لا لأنه ظن وتخمين والحديث لأنه كان معاملة بين المسلمين والمشركين ويعفى في المعاملة مع المشركين عما لا يعفى عنه بين اثنين من المسلمين والقولان في جواز المساقاة على ما عدا الكرم والنخل سيان على القولين في جواز الخرص في الكرم والنخل في المساقاة إن جوزنا لم تجز المساقاة فيما عداهما من الأشجار لأن الخرص لا يتأتى فيها وإلا جاز لأن الخرص على هذا القول ساقط الاعتبار في المساقاة فاستوى فيها ما يخرص من الأشجار وما لا يخرص
وقال القاضي حسين أيضا رحمه الله ههنا أربعة عقود متقاربة في الصورة مختلفة في الحكم القراض والمساقاة جائزان والمخابرة والمزارعة باطلتان فالمزارعة على صورة المساقاة غير أنا فرقنا بينهما بالسنة قال الشافعي ولم نرد إحدى سنتيه بالأخرى أشار إلى أن القياس هو التسوية بينهما في الجواز والمنع لأن كل واحد منهما عقد على العمل في الشيء ببعض ما يخرج منه غير أنا اتبعنا فيها السنة والسنة فرقت بينهما فوردت في المساقاة بالجواز فجوزناها ثم قال القاضي حسين أيضا رحمه الله للمساقاة شبه بالعقود من حيث إنها التزام عمل على الذمة ولا تبطل بموت العامل كما لا يبطل السلم بموت المسلم إليه أخذت شبها من بيع العين ومن حيث إنها عقد لازم بعوض على العمل أخذت شبها من الإجارة فاشترط فيها التأقيت والقدر الذي يوقت به
هذا كلام القاضي ونحن نوافقه عليه إلا في اللزوم واشتراط التأقيت فلا دليل عليه ولا يلزم من شبهها بالإجارة أن تعطى جميع أحكامها وقوله إنها التزام عمل في الذمة يمكن أن ينازع فيه ويقال إنها إذن كالجعالة وليست بالتزام والذي يقول بأنها جائزة لازمة يلزمه أن يقول بهذا ودليله الحديث ويستغنى بذلك عن حمل قوله أقركم ما أقركم الله على أنه خاص بذلك الزمان بل يكون حكما ثابتا في كل زمان فالقائل بأنها لازمة له أن يحتج بهذا
وقال الشافعي رضي الله عنه وتجوز المساقاة سنين وأنا أقول بهذا فأقول يجوز التأقيت والإطلاق أما التأقيت فلشبهها بالإجارة أما الإطلاق فلشبهها بالقراض وعملا بالحديث أما اللزوم فلا يثبت أصلا ولا يأخذ من الإجارة حكما منه لمصادمة الجواز المقابل للزوم الذي دل عليه الحديث فألحقناها بالقراض في ذلك وحقيقتها توكيل بجعل
وجعل
____________________
(1/421)
ابن حزم التأقيت فيها مفسدا ولا دليل له على ذلك
والذي دل الحديث عليه جوازها غير مؤقتة فإن قال لا نقول بالجواز إلا فيما ورد فيه الحديث فيلزمه أن لا نقول بالجواز في غير النخل
وقد قال يجوز في كل الشجر وادعى أنه في خيبر رمان ولم أجد ذلك في كلام غيره ولو صح فعلى ظاهريته يلزم أن لا يجوز إلا في مثل ما كان في خيبر من الأشجار والزرع لأنها واقعة حال ولا دليل فيها إلا من الفعل والفعل لا عموم له فإن احتج بإطلاق الثمر والزرع قلنا لما كان فيها لا لغيره والذي صرحت الرواية بأنه كان فيها من الشجر هو النخل لم يعلم غيره والشافعي إنما ألحق الكرم به قياسا لا خبرا ولم يتردد قول الشافعي في إلحاقه به لأنه يشبهه في جميع معانيه من بروز الثمرة ووجوب الزكاة والحاجة إلى العمل وغير ذلك
فصل نلخص فيه ما تقدم من الأحاديث أما حديث رافع رواه عنه حنظلة في البخاري كان أحدنا يكري أرضه فيقول هذه القطعة لي فالنهي لذلك وأبو النجاشي عنه عن عمه ظهير في البخاري أيضا يؤاجرها على الربع وعلى الأوسق والثمر
وابن ح م عمر عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع وقد اختلف الأصوليون هل الحجة في المحكي أو الحكاية والبحث هنا فيه يقوى لما فيه من القرائن على إرادة المحكي ولا عموم فيه وحنظلة عنه عن عميه
وهو لا يقتضي منعها المختلف فيه قال الليث فيه أنه لو نظر فيه ذو الفهم لم يجزه ومن صحيح مسلم ابن عمر عن رافع عن بعض عموميته ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كراء الأرض
وابن عمر أيضا عن رافع سمعت عمي وكانا شهدا بدرا يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض
وسليمان بن يسار عن رافع عن رجل من عمومته نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحاقل بالأرض على الثلث والربع والطعام المسمى وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزرعها وكره كراءها وما سوى ذلك ولم يسمعه أيوب من يعلى بن حكيم وقد كثرت طرق حديث رافع جدا ووجدناه إذا سمى شرح صورة لا يختلف في بطلانها وتارة يطلق فإطلاقه يشبه أن يكون محمولا على ما سماه فلا يؤخذ بعمومه لأنه لم يحك لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقتضي عموما في تلك الواقعة وغيرها هذا مع قول الترمذي وغيرها أنه مضطرب والشافعي إنما رواه من طريق ابن عمر عن رافع وهي إحدى طرقه
وقد أطلق فيها وابن عمر رضي الله عنهما ترك المزارعة لذلك تورعا لأنه كان في غاية الورع فلم تقم لنا حجة على التحريم بحديث المذكور بحيث ينشرح
____________________
(1/422)
الصدر بذلك ويحتمل أن يحمل النهي في حديثه على التنزيه لا على التحريم وليس الاضطراب الذي ذكره الترمذي وغيره مما يوجب رد هذا الحديث لأن لكثرة الروايات لا نشك أن هذا الحديث حصل من رافع وإنما الاضطراب في كونه رواه تارة وأرسله وتارة عن عمه وتارة عن عميه وتارة عن رجل من عمومته وذلك لا يقدح في صحته عن رافع ورافع صحابي ومرسله صحيح لا يمتنع أنه سمعه من عميه وقد يكون بعد ذلك سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يسمعه لكفى سماعه من عميه أو من أحدهما فلا شبهة في أن الحديث له أصل وإنما التردد في أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم هل كان عاما أو في الصورة التي كانوا يفعلونها وهل هو محمول على التحريم أو التنزيه هذان الأمران هما محل التردد ومزارعة خيبر ترجح الحمل على التنزيه أو على الصورة التي كانت تفعل خاصة والله أعلم
وادعى ابن حزم أن فعله صلى الله عليه وسلم في خيبر ناسخ لنهيه في إجارة الأرض بجزء مما يخرج منها لأنهما متعارضان وفعله في خيبر مستمر إلى وفاته صلى الله عليه وسلم فيعلم أنه ناسخ للنهي عن مثله ونأخذ بالنهي فيما عدا ذلك فلا يجوز كراء الأرض إلا إحدى ثلاث خصال إما أن يزرعها صاحبها بنفسه وأعوانه إما أن يمنحها لغيره فإن اشتركا في زراعتها في الآلة والبذر والبقر فحسن وإما أن يعطيها لمن يزرعها وأعوانه ويكون لصاحب الأرض جزء من المغل النصف أو الثلث ونحوه كقضية خيبر
أما حديث جابر فهو موافق لرافع في النهي عن كراء الأرض وغير جائز أيضا كما تقدم عن أبي هريرة فعلم بذلك أنه لم ينفرد رافع بن خديج برواية النهي وأنها ثابتة من طريقه وطريق غيره ولا جواب إلا أحد ثلاثة إما النسخ كما قال ابن حزم وإما الحمل على الصورة الخامسة الواقعة منهم ويعترض على هذا بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وأما الحمل على التنزيه وهو عندي أقرب الأجوبة وهو أولى من جعل خيبر بطريق التبعية لأنه يحتاج إلى دليل وليس بأقرب من سلوك المجاز والحمل على التنزيه والإرشاد إلى مكارم الأخلاق ولا سيما في ذلك الزمان أما إجارة الأرض بذهب أو فضة أو طعام معلوم من غير ما يخرج منها فكلام رافع يقتضي أنه لم يدخل في حديثه ولا يحمل مطلقه عليه
أما حديث جابر وأبي هريرة فيحتمل أنهما حكيا القصة التي حكاها رافع فهو حديث واحد وإذا تبين بكلام رافع تخصيصه بسببه ووجوب الحمل عليه سلك في حديث جابر وفي حديث أبي هريرة ذلك ولذلك لا يمتنع على هذا الاحتمال كراؤها بذلك فيجوز في الأرض كراؤها بذهب أو فضة
____________________
(1/423)
أو طعام من غيرها ويحتمل المنع لكثرة الأحاديث التي في النهي عن الكراء وإطلاقها ولأجل حديث ابن عباس رجحنا الاحتمال
وجوزنا الإجارة ولا نقول إن الورع تركها بل هي جائزة لا تنافي الورع وإن كان منحها خيرا منه والمزارعة عليها سواء أكان البذر من المالك أو من العامل وهي المخابرة كما في قضية خيبر فالظاهر جوازهما لأنه قد صح في الأحاديث أنه شرط على اليهود أن يعتملوها في أموالهم فهي مخابرة بلا شك
والتبعية لم يقم دليل عندنا عليها ولم تكن الأراضي التي في خيبر قليلة بحيث يشق الدخول إلى النخل من غيرها فقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يحصل لهم من الثمر ثمانون وسقا ومن الشعير عشرون وسقا فإن كان الكل على هذه النسبة فتكون الأراضي خمس خيبر
وقال مالك إنه يغتفر في التبعية أن يكون الثلث وما أوجب الشافعي ومالك أن يجعلا ذلك لأجل التبعية إلا حديث رافع ونحوه قد حملناها على ما علمت ومع ذلك فالورع التنزه عنها أعني عن المزارعة والمخابرة كما فعله الرجل الصالح عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فإنه يحتمل أن يكون حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمره فيها يقتضي التحريم والمؤمن ينبغي له أن يحتاط لنفسه ويترك ما لعله حرام
فصل من الآثار في ذلك شيء كثير وقد تقدم في تضاعيف الحديث ما يغني عن إعادته
فصل ذكرت في شرح المنهاج عن أحمد أن المساقاة تصح غير موقتة كالقراض وإني كنت أود لو قال به أحد من أصحابنا حتى أوافقه فإني لا أعرف لاشتراط التوقيت دليلا قويا إلا اللزوم ثم قلت في اللزوم إني لم يبن لي دليل قوي على أنها لا تكون إلا لازمة وذكرت هناك أن المساقاة إذا وردت على الذمة كان فيها شبه من بيع الدين بالدين لأن العمل دين على العامل والثمرة وإن لم تكن دينا لكنها معدومة فهي في معنى الدين وبيع الدين بالدين على هذه الصورة مجمع على بطلانه وهذه الشبه إنما تتحقق من لزومها فإذا قيل بأنها لا تلزم زال هذا الإشكال وأشبهت القراض وذكرت عن بعضهم أنه حكى الإجماع على جواز إجارة الأرض بالذهب والفضة وليس بصحيح لأن جماعة كرهوها ومسألة إجارة الأرض والمساقاة على ما بها من الشجر والمزارعة والمخابرة مسائل كثيرة
وقد ذكرت منها في شرح المنهاج ما يسره الله لي ولم أجسر على مخالفة الأئمة الأربعة في المخابرة إلى جوازها وجواز المزارعة من غير تصريح بالاختيار وقلت إنه لا دليل على اشتراط توقيت المساقاة ولا على لزومها ولم أصرح باختيار فيها لأني كنت لم أتتبع جملة الأحاديث وأقوال
____________________
(1/424)
السلف وتحقيقها ولا شك أن الإنسان بتتبع ذلك يحدث الله فيه قوة لمن يشاء وقد حدثت في قوة الآن لاختيار بعض ذلك وهو أن المساقاة غير لازمة وأنه يجوز توقيتها وإطلاقها من غير توقيت وأن المزارعة والمخابرة بالاصطلاح اليوم وهو أن يدفع الأرض لمن يزرعها إما ببذر من عنده وإما من المالك والمال بينهما جائزتان
والحاصل أن هنا مسائل أحدها ما اتفق في خيبر وهو صحيح مقطوع به لتحققنا فعل النبي صلى الله عليه وسلم إياه ولا يخالف في ذلك أبو حنيفة ولا غيره
الثانية لو اتفق مثل ذلك في زماننا بأن نفتح بلدا من بلاد الكفار عنوة وفيها نخل وأرض قليل فإنه يجوز لنا أن نقر لها على أن يعملوها بالشطر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا أعتقد أبا حنيفة ولا غيره يمنعه
المسألة الثالثة أن الحال التي اتفق في خيبر هل كان مساقاة وعقدا من العقود حتى يثبت حكمه لكل اثنين من المسلمين أو كان تقريرا لليهود كما يقرهم بالجزية وقد أذن لهم في العمل فيها بالشطر تكرما من النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين وهذا محتمل ولكن الذي فهمناه عن الصحابة ومن بعدهم هو الأول وهم أعلم منا بصورة الحال فنتبعهم في ذلك ونجوزها خبرا وقياسا على القراض إن لم يكن فرعا لها لأنه مجمع عليه فلذلك اختيارنا في المساقاة على النخل وجوازه ظن قوي ومن أقوى مراتب الظنون الفقهية التي تكاد تنتهي إلى القطع
المسألة الرابعة المساقاة على العنب قال بها كل من قال بالمساقاة على النخل إلا داود فمنعها والمجوزون لها الظاهر أنهم إنما أجازوها بالقياس وقيل نصا وهو بعيد ولأنه لم يصح أنه كان في خيبر شجر غير النخل لكن يحتمل أن يتمسك القائل بالنصية بقوله ما يخرج منها من ثمر وزرع
ولست أقول إن الواقع من ذلك عام لأنه باطل بالضرورة لكن لو فرض حدوث شجر في غير خيبر غير ما كان موجودا حال الفتح والمقاتلة يحتمل أن يقال بدخوله في ذلك على قولنا إن العقد غير لازم ويدخل ما يحدث في الإذن والشرط عليه تبعا للموجود
المسألة الخامسة جواز المساقاة في غير النخل والعنب قال به مالك وأحمد والشافعي في القديم وأبو يوسف ومحمد وهو قوي قياسا على النخل وبالطريق التي ذكرناها في النصية ولكن ينبغي أن نتقيد بما يحتاج من الشجر إلى عمل أما ما لا يحتاج إلى عمل فلا وجه للمساقاة عليه فأنا أختار للقديم في هذه المسألة مقيدا بهذا الشرط
المسألة السادسة تأقيت المساقاة المختار عندي أنه لا يشترط ولا يفسد بل تجوز موقتة وغير موقتة لدلالة الحديث على الإطلاق وعدم الدليل على اشتراطه ولا معنى للتوقيت إلا إذن مقيد بوقت فلا يضر
المسألة السابعة لزوم
____________________
(1/425)
المساقاة لا دليل عندي عليه فأنا أختار إلى أنه غير لازم وسواء أعرف المتعاقدان هذا الحكم أم لا لأن حكم الشارع يعرف حكمه العاقد أو لم يعرف
ويحتمل أن يقال قضية خيبر تدل على جواز وقوع مساقاة غير موقتة ولا لازمة فنجيزها ونجيز معها أيضا وقوع مساقاة موقتة لازمة مأخوذة من الإجارة فتكون المساقاة نوعين ويحتمل أن يقال نأخذ من قضية خيبر أصل مشروعيتها ومن القياس على الإجارة توقيتها ولزومها ويجعل عدم اللزوم في خيبر خاصا فهو أولى من اضطراب القواعد ويحتمل أن يقال قضية خيبر إنما كانت تقريرا والمعاملة في ضمنها ولهذا قال ابن أبي هريرة فإنه لا جزية عليهم ولكنه ضعيف لأن الجزية لم تكن نزلت ذلك الوقت في سورة براءة عند تجهيزه صلى الله عليه وسلم إلى تبوك وهذه كلها احتمالات أبديتها والظاهر خلافها ولم يكن لليهود استحقاق في خيبر وفدك كان لهم نصفها ولهذا لما أجلاهم عمر رضي الله عنه قوم لأهل فدك النصف فأعطاهم إياه ولم يعط أهل خيبر شيئا والذي ادعاه ابن أبي هريرة من إسقاط الجزية عنهم لكونهم خئولة النبي صلى الله عليه وسلم لم يصح وأما ما زعموهم من الكتاب لأهل خيبر فذلك باطل اختلقوه وتبين كذبهم فيه
المسألة الثامنة المزارعة بالاصطلاح المشهور اليوم والمختار جوازها إلحاقا بالمساقاة وموافقة للأئمة العلماء من الصحابة ومن بعدهم الذين فعلوها وأجازوها ويحتمل القول بمنعها لما فيه من النهي والصحيح الجواز
وتأويل النهي هذا هو الظاهر عندي مع أن الورع اجتنابه
المسألة التاسعة المخابرة في لاصطلاح المشهور اليوم والمختار جوازها لما قلناه ولثبوتها في حديث خيبر والاعتذار بالتبعية محتاج إلى دليل ولم أجده
المسألة العاشرة إجارة الأرض ولولا ما قدمناه من حديث ابن عباس وحديث زيد بن ثابت لكان الذي يظهر من الأحاديث منعه ويحتمل جوازه للحديث المرخص الذي في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة ومحمد بن عكرمة لكن حديث ابن عباس يبين لنا أن النهي نهي تنزيه ولسنا نحتج بفهم ابن عباس بل بنقله عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله خير له من أن يأخذ عليها أجرا فيجوز أخذ الأجر وإن كان الأولى خلافه
أما حديث زيد بن ثابت فصريح في الذهب والفضة وإن كان في سنده مقال ولا فرق بين كرائها بذهب أو فضة أو طعام وإن كان مالك منعها بالطعام وأجازها بالذهب والفضة كما قاله الأكثرون
وقال ابن عبد البر في التمهيد اختلف الناس في كراء الزرع فذهبت فرقة إلى أن ذلك لا يجوز بوجه من الوجوه واحتجوا بحديث جابر وإليه ذهب طاوس وأبو بكر
____________________
(1/426)
عبد الرحمن بن كيسان الأصم
وقال آخرون لا يجوز إلا بالذهب والورق واحتجوا بحديث رافع وقال آخرون جائز بكل معلوم
واحتجوا بحديث رافع رواية حنظلة وإلى هذا ذهب الشافعي ذكر أبو جعفر الطحاوي في مشكل الآثار حديث شريك عن أبي إسحاق السبيعي عن عطاء بن أبي رباح عن رافع بن خديج قال قال رسول الله
____________________
(1/427)
صلى الله عليه وسلم من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء ترد نفقته قال الطحاوي لا نعلم أحدا تعلق بهذا الحديث وقال به غير شريك بن عبد الله النخعي فأما من سواه من أهل العلم على خلافه وهو عندنا قول حسن لما قد شده من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ولأن بذر ذلك الرجل في تلك الأرض قد انقلب فيها فصار مستهلكا فيها ثم كان عنه بعد ذلك ما كان عنه مما هو خلافه وما كان سببه إلا الأرض التي كان بذر فيها فكان من حق ربها أن يقول للذي بذر فيها ما كان سببه الأرض فهو لي دونك غير أنك أنفقت فيه نفقة حتى كان عنها ما أخرجته أرضي فتلك النفقة لك فهذا قول حسن لا ينبغي خلافه
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شده مما سنذكره في الباب الذي يتلو هذا الباب
ثم ذكر في الباب المذكور ما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم في زرع ظهير ثم قال وكان هذا من جنس ما ذكرناه في الباب الأول فإن المزارعة لما فسدت بما فسدت به عاد إطلاق صاحب الأرض للزارع ما زرعه فيها كالإطلاق وعاد حكمه إلى حكم من زرعها بغير أمر ربها ومثل ذلك الرجل يغرس أرض الرجل بغير أمره أو يغرس فيها بأمره على معاملة فاسدة فسيلا فيصير نخلا أنه يكون لرب الأرض دون غارسه ويكون على رب الأرض لغارسه ما أنفقه فيه
والله أسأله التوفيق
وهذا الذي ذكره الطحاوي من كون الزرع في الأرض بغير إذن أو بإذن فاسد لصاحبها قد ترجح عندي اختياره للحديث ولما ذكر الطحاوي وبالقياس على ولد الأمة من زوج أو واطئ بشبهة أو غيرها فإنه لسيدها والأمة كالأرض وماء الزوج وواطئ الشبهة كالبذر لا فرق بينهما إلا أن الماء ليس بمال والبذر مال فإن صح الفرق بينهما من هذه الجهة وإلا فهما سواء
وقد زاد الطحاوي بجعله الفسيل إذا صار لصاحب الأرض ولعل حجته أنه صار جزءا من الأرض فله حكمها وخرج عن حكم الفسيل المنفصل عن الأرض بتأثير الأرض فيه وفي كيفيته بخلاف الرفوف المنفصلة في الدار ونحوها لم تتغير عن صفتها قبل الاتصال فلذلك لا يتغير ملكها وإن صارت كالجزء وشاركت الشجر في استتباع الأرض والدار لهما والمعتمد في ذلك حديثان أحدهما حديث ظهير وقد تقدم والآخر قوله صلى الله عليه وسلم من زرع في أرض قوم بغير إذنهم وهو في الترمذي من حديث شريك عن أبي إسحاق عن عطاء عن رافع بن خديج وقال سألت محمد بن إسماعيل فقال هو حديث حسن
وقيل إن عطاء لم يسمع من رافع بن خديج شيئا ثم ذكر الطحاوي في باب بعده أحاديث معاملة خيبر وأحاديث النهي عن المزارعة وقال أجازهما أبو يوسف ومحمد وأما مالك فأجاز المساقاة وأبطل المزارعة وأبو حنيفة وزفر أبطلاهما جميعا والشافعي يجيزهما إذا اجتمعا في أرض والمساقاة في النخل جميعا ولم يبن لنا أن المحاقلة التي نهى عنها من ذلك الجنس
فرع في فتاوى الشيخ أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله سئل بستان ليتيم أجر وليه بياض أرضه بالغة مقدار منفعة الأرض وقيمة الثمرة ثم ساقى على سهم من ألف سهم منها سهم لليتيم والباقي للمستأجر كما جرت به العادة ههنا في دمشق
أجاب رضي الله عنه إذا كان ذلك لا يعد في العرف غبنا فاحشا في عقد المساقاة لسبب انضمامه إلى عقد الإجارة المذكورة وكونه نقصا مجبورا بزيادة الأجرة موقوفا به من حيث العادة فالظاهر صحتهما والله أعلم
فرع قال أبو عبيد في كتاب الأموال في باب أرض العنوة تقر في أيدي أهلها ويوضع عليها الطسق وهو الخراج فذكر ما أمر عمر رضي الله عنه بوضعه على أهل السواد على كل جريب ثم قال ألا ترى أن عمر إنما أوجب الخراج على الأرض خاصة بأجرة مسماة في الأرض وإنما مذهب الخراج مذهب الكراء فكأنه أكرى كل جريب بدرهم وقفيز في السنة وألغى من ذلك النخل والشجر فلم يجعل لها أجرة وهذا حجة لمن قال إن السواد فيء للمسلمين وإنما أهلها فيها عمال لهم بكراء معلوم يؤدونه ويكون باقي ما يخرج من الأرض لهم وهذا لا يجوز إلا في الأرض البيضاء ولا يكون في النخل والشجر لا قبالهما لا يكون شيء مسمى فيكون بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه وقبل أن يخلق وهذا الذي كرهت الفقهاء من القبالة قال عبد الرحمن بن زياد قلت لابن عمر إنا نتقبل الأرض فنصيب من ثمارها قال ذلك الربا العجلان
وعن الحسن جاء رجل إلى ابن عباس فقال أنقبل منك الأيكة بمائة ألف قال فضربه ابن عباس مائة وصلبه حيا وعن ابن عباس القبالات حرام قال أبو عبيد معنى هذه القبالة المكروهة النهي عنها أن يتقبل الرجل النخل والشجر والزرع النابت قبل أن يستحصد ويدرك وهو مفسر في حديث سعيد بن جبير عن الرجل يأتي القرية فيتقبلها وفيها النخل والشجر والزرع والعلوج فقال لا نتقبلها فإنه لا خير فيها قال أبو عبيد وإنما أصل الكراهة هذا أنه بيع ثمر لم يبد صلاحه ولم يخلق بشيء معلوم فأما المعاملة على الثلث والربع وكراء
____________________
(1/428)
الأرض البيضاء فليسا من القبالات ولا يدخلان فيها وقد رخص في هذين ولا نعلم المسلمين اختلفوا في كراهة القبالات
وعن عمرو بن ميمون شهدت عمر بن الخطاب وسأله ابن حنيف فجعل يكلمه فسمعته يقول له والله لأن وضعت على كل جريب من الأرض درهما وقفيزا لا يشق ذلك عليهم ولا يجهدهم قال أبو عبيد لم يأتنا في هذا حديث أصح من حديث عمرو بن ميمون
قلت صح وضع عمر رضي الله عنه الدراهم والقفيز على كل جريب وصح قول أبي عبيد لا نعلم المسلمين اختلفوا في كراهة القبالات وصح تفسيره القبالات المكروهة وتفسيرها بشيء مسمى والترخيص في سنن المعاملة على الثلث والربع وكراء الأرض وأنهما ليسا من القبالات فيقتضي هذا أن المعاملة على الثلث والربع وكراء الأرض في الشجر جائزة كما في الزرع وهي المساقاة أما قوله في أرض السواد وألغي النخل والشجر فكيف تلغى وفيها حق خلائق إلا أن يقال إنها لأجل ما حصل منها من أجرة الأرض يغتفر ذلك كما في المساقاة المضمومة إلى الإجارة في هذا الزمان وأن الثمرة كانت في مقابلة العمل في الشجر فيحتج به لمن يجوز المساقاة على أن تكون كل الثمرة للعامل وليت شعري ما يمنع من أن يجعل الدرهم والقفيز الذي وضعه عمر رضي الله عنه على كل جريب في مقابلة الأرض والشجر جميعا لينتفع بزرع الأرض وثمر الشجر ولا غرر لأنها تحمل بعضها بعضا بخلاف استئجار الشجر وحدها لثمرها فقد يمنعها الله تعالى على أنا نقول الأرض أيضا قد يمنع الله تعالى زرعها فإنما يمتنع ذلك في البيع أما الإجارة فينبغي أن يجوز فيها كما يستأجر الأرض ليزرعها تستأجر الشجر لثمرها لا أجد فرقا بينهما ولا دليلا على بطلانهما وليس في كلام أبي عبيد تصريح بمنع إجارة الأشجار ولا لجوازها والله أعلم
فائدة فقهية كل من زرع أرضا ببذره فالزرع له إلا أن يكون فلاحا يزرع بالمقاسمة بينه وبين صاحب الأرض كعادة الشام فإن الزرع يكون على حكم المقاسمة على ما عليه عمل الشام وأنا أراه وأرى وجهه من جهة الفقه أن الفلاح كأنه خرج عن البذر لصاحب الأرض بالشرط المعلوم بينهما فيثبت على ذلك وإذا عرف هذا وتعدى شخص على أرض وغصبها وهي في يد الفلاح فزرعها على عادة لا نقول الزرع للغاصب بل المغصوب منه على حكم المقاسمة وهذه فائدة جليلة تنفع في الأحكام
كتاب الإجارة مسألة وفي رمضان سنة خمس وثلاثين في رجل استأجر بلدا من مقطعها مدة معينة وصورة ما كتب في نسخة الإجارة لينتفع المستأجر بذلك مقيلا ومراحا
____________________
(1/429)
وللزراعة إن أمكن ثم إن بعض الأرض شرقت لم ينلها الري ولا يمكن زرعها فهل يلزمه أجرة البلد كاملة
أجاب هذه العبارة جرت عادة العراقيين من الوراقين يكتبونها حيلة لتصحيح الإجارة قبل الري وأخبرني ابن الرفعة أن القاضي تاج الدين بن بنت الأعز علمها لهم وقد فكرت في هذه العبارة مع علمي بأن القاضي تاج الدين متضلع بفقه وعلوم متعددة مجموعة إلى دين متين وصلابة في الدين وهو وولداه شامة القضاة الذين ولوا الديار المصرية رحمهم الله وجزاهم عن أنفسهم خيرا ودينهم والذي استقر عليه رأيي في هذه الإجارة أنها باطلة لأن حقيقتها الإيجار لثلاث منافع مشكوك في الثالثة منها إن خصصت الشرط بها وهو الظاهر في هذا المكان أو في جميعها إن أعدته إلى الجميع كما هو المعروف من مذهب الشافعي في الأصول وعلى كل من التقديرين فالمعقود عليه غير معلوم لأنه على تقدير عدم إمكان الزرع لا يكون معقودا عليه وشرط الإجارة أن تكون المنفعة التي ترد الإجارة عليها معلوما وينبغي أن يتنبه الوراقون والشهود والقضاة والناس لذلك
وطريق تصحيح هذه الجملة أن يقال لينتفع المستأجر بذلك فيما شاء مقيلا ومراحا وللزراعة إن أمكن وإذا قال كما قلناه لا يحتاج أن نقول إن أمكن وحذفه أولى والفرق بين هذه العبارة والعبارة الأولى إلا في هذه عموما وهو يكفي كما لو قال لجميع المنافع أو لتنتفع كيف شئت فإنه يصح وله جميع المنافع فكذلك في الأرض إن عمم وهو أولى فيقول فيما شاء من وجوه الانتفاعات وإن عمم في المنافع الثلاث كان منعا لغيرها ويتخير بينها وله جميعها وإذا تعطل بعضها فالأجرة لازمة أما العبارة الأولى فلا عموم فيها بل هي ناصة على ثلاث منافع إحداها وهي الزراعة لا يصح الاستئجار لها قبل الوثوق بالري وما لا يصح الاستئجار له وحده لا يصح الاستئجار له مع غيره فإن لم يعلقه على الإمكان فسد لذلك وإن علقه فسد لما قدمناه من جهالة المنفعة المقصودة بالعقد والله أعلم
ولو أفرد وعلق على الإمكان فسد لأمرين أحدهما كون الإجارة للزراعة قبل الري والثاني تعليقه على الشرط والمنفعة المقصودة بالعقد لا بد بأن تكون مخيرة ممكنة عقب العقد والله أعلم
مسألة في جامع الصالح ببابه الشرقي صدر زقاق وفي ذلك الزقاق بابان متقابلان في الحدين القبلي والبحري فأراد الناظر على الجدار البحري أن يدعمه بأعمدة يضع بعض كل منها فيه وبعضه في الزقاق
أجاب لا يجوز بأجرة ولا بغير أجرة ضيق أو لم يضيق والأصل في ذلك أن الزقاق يحكم بأنه كان ممرا لأصحاب الأبواب الثلاثة مملوكا لهم فلما وقف صاحب
____________________
(1/430)
الجامع مكانه جامعا حصل الوقف في الممر تبعا فيستحقه المسلمون بتلك الصفة لا يستحقون فيه إلا المرور وليس لهم إيجاره كما أن لهم العبادة في الجامع وليس لهم إيجاره وليس لغيرهم أيضا حق في ذلك ولا لأحد أن يمنعهم وليس هذا ملكا لبيت المال حتى يقال إنه إذا لم يضيق يجوز التصرف فيما لم يضيق به لما نبهنا عليه وكذلك حال الشارع الذي كان ملكا لشخص خاص وقفه شارعا للمرور ليس لأحد أن يتصرف فيه بغير ذلك بخلاف الشارع الذي هو للمسلمين ففيه الكلام المعروف من نصب الشركة فيه والخلاف في ذلك وكونه إذا لم يضر يجوز ذلك للإمام أولا وأما ما نحن فيه فلا والله أعلم يصلح أن نذكر هذه المسألة في باب الصلح وفي باب إحياء الموات
مسألة ما يقول السادة العلماء أئمة الدين في شخص وقف وقفا على أولاده وشرط أنه لا يؤجر أكثر من سنة واحدة ولا يعقد على ذلك ولا على بعضه عقدا إجارة ثانية حتى تنقضي مدة العقد الأول ويعود إلى يد الناظر ولا يتحيل على ذلك فقيه بحيلة شرعية وحكم بصحة ذلك حاكم من حكام المسلمين فأجره الناظر المستحق له يومئذ عشرين سنة هلاليات متواليات في عشرين عقدا كل عقد منها سنة واحدة يتلو بعضها بعضا ثم أقر الناظر المؤجر المستحق للوقف إقرارا صحيحا شرعيا أنه لا يستحق في منافع المأجور المعين فيه المدة المعينة فيه منع المستأجر المسمى فيه حقا قليلا ولا كثيرا ولا أجرة ولا إجارة ولا استحقاق منفعة ولا دعوى ولا طلب بوجه ولا سبب ولأن منافع المأجور المعين فيه يستحقها المستأجر استحقاقا صحيحا شرعيا بطريقة صحيحة شرعية فهل يصح الإجارة في المدة المعينة أم لا نحكم أنها مخالفة لما شرط الواقف ولم يدثر الوقف ولم ينهدم وإذا بطلت الإجارة فهل يؤاخذ بإقراره المعين أم لا وإذا كان إقراره باطلا فهل يرجع المقر المؤجر على المستأجر بأجرة المثل فيما زاد عن المسألة الأولى في الإجارة المذكورة أم لا أفتونا مأجورين
أجاب رضي الله عنه هذه الأمور ملتبسة والظاهر أنها صادرة عن أمور باطلة وإن احتملت وجها من الصحة والذي أراه بطلان الإجارة وإن المقر مؤاخذ بإقراره ولا يعطى له شيء وإن كان الوقف يستحق غيره معه يصرف إليه وإلا فيكون منقطع الوسط يصرف مصارف المنقطع الوسط والله أعلم انتهى
قال الشيخ الإمام رحمه الله تعالى مسألة وقعت في المحاكمات رجل أجر دارا ثم باعها لغير المستأجر ثم تقايل المستأجر والبائع الإجارة هل يرجع ما بقي من المنافع إلى البائع أو المشتري قال
____________________
(1/431)
المتولي في التتمة إن قلنا الإقالة عقد فالمنافع تعود إلى البائع ويصير كأنه استأجر من المستأجر وإن قلنا إنها فسخ فالصحيح أنها تعود أيضا لأن الإقالة دفع العقد من حينه بلا خلاف
قلت وقوله بلا خلاف هو المشهور
ولنا طريقة أخرى بخلاف الخلاف في الإقالة ففي وجه هي رفع العقد من حينه وهو الصحيح وفي وجه هي رفع العقد من أصله والوجهان كالوجهين في الفسخ بالعيب مشهوران في الإقالة عند بعضهم وممن حكى الخلاف فيها الرافعي ولكن الرفع من حينه فيها أقوى منه في الفسخ بالعيب وإن كان هذا الأصح فيها
وبالجملة خرج لنا وجه في مسألتنا في أن بقية المنافع يرجع بالإقالة إلى المشتري على القول بأنها فسخ كما هو جار في الرد بالعيب وأما كونه فيهما ضعيفا أو قويا فسيأتي إن شاء الله تعالى وأما الفرق على القول بأنها فسخ فلا يتأتى وأما عودها إلى البائع على القول بأن الإقالة بيع فلا شك فيه لكن القول بأن الإقالة بيع ليس هو الصحيح من المذهب وإنما تصحيح المتولي على قولنا بالفسخ أن المنافع تعود إلى البائع فبحسب ما بناه في الرد بالعيب وسيأتي إن شاء الله تعالى وبه يتبين هل يسلم له هذا التصحيح أو لا انتهى
مسألة المسألة بحالها إلا أن الفسخ كأن يرد بعيب ظهر للمستأجر فهذه المسألة هي الأصل والقول رجوع المنافع فيها إلى المشتري وهو قول أبي بكر بن الحداد وصححه الشيخ أبو حامد فيما أظن وخالفه أبو زيد فقال إنها ترجع إلى البائع وصححه صاحب البحر وكلام القاضي حسين والإمام يقتضيه لكن ذلك بناء على طريقة المراوزة في جواز البيع واستثناء المنفعة وإن بيع العين المستأجرة مثلها
وأما على المذهب في أن استثناء المنفعة تبطل البيع وإن بيع العين المستأجرة صحيح فلا لأجل ذلك ليس لنا أن نتمسك في التصحيح بذلك وقد قال ابن الرفعة هذا الذي يظهر له صحته وفيما قاله نظر إلا أن يوافق المراوزة في جواز استثناء المنفعة وهو لا يقول بذلك ولم يذكر له مستندا في تصحيحه أكثر من حكاية كلام القاضي والإمام وقد أجبنا عنه ومن الفرق بين هذا وبين طلاق الأمة المزوجة حيث تعود منفعة البضع إلى المشتري بأن منفعة البضع لم تزل عن ملك السيد للزوج بالتزويج بدليل أنها لو وطئت في صلب النكاح بشبهة كان المهر لها دون الزوج وإذا لم يزل ملكه عن ذلك بالتزويج انتقل بالبيع إلى المشتري على الحالة التي كان ملكه للبائع والبائع مع ملكه كذلك لا يقدر على التصرف فيه لتعلق حق الزوج به فكذلك المشتري
فإذا زال حق زوج الأمة زالت المنافع فعمل بالمقتضى ولا كذلك الإجارة فإنها تنقل الملك إلى المستأجر في المنفعة في المرة
____________________
(1/432)
كما هو الصحيح والبيع اعتمد رقبة مسلوبة المنفعة في تلك المدة فكيف يملك به والله أعلم
قلت لا شك أن بين طلاق الأمة المزوجة وما نحن فيه فرقا والعود إلى المشتري في طلاق الأمة أوضح ولا ريبة فيه لما قاله أما الإجارة فهي في محل الاحتمال ولا ينتهي الأمر فيها إلى تصحيح الرجوع إلى البائع تصحيحا ظاهرا فلا يلزم من الفرق المذكور الإلحاق بوجه آخر خفي وإن قصرت رتبته عنه فقد يكون حكم الأصل أظهر وأقوى من حكم الفرع بكثير
وعند ذلك أقول إن الإجارة إذا انفسخت برد بعيب أو بإقالة وقلنا إنها فسخ أو غيرهما ارتفع حكمها لأن هذا معنى الفسخ سواء أجعلناه رفعا من أصله أو من حينه ومقتضى ارتفاع العقد ارتفاع أحكامه فلو أعدنا المنافع إلى البائع لصار مالكا لها بغير عقد وليس مالكا للرقبة وهذا لا نظير له لأن المنافع إنما تملك بطريقين أحدهما أن تكون تابعة لملك الرقبة والثاني أن يكون ورد عليها عقد من إجارة أو وصية ونحوهما وذلك العقد مستمر الحكم والغرض هنا أنه ارتفع حكمه فكيف يملكها البائع نعم إن قلنا بجواز استثناء المنفعة كما قاله المراوزة فيصح ويكون ملكه للمنفعة حينئذ بعقده الأول السابق على بيعه إنما نقل بعض حكمه لا جميعه فلا جرم يصح هذا القول من أبي زيد لأنه مروزي ومن القاضي والإمام لأنهما تابعان لطريقة المراوزة ومن صاحب البحر إذا تبعهم على أن الإمام وإن قال ذلك على طريقة المراوزة ولم يرتض إلحاق بيع العين المستأجرة باستثناء المنفعة ومال إلى الفرق بينهما كما قاله أكثر الأصحاب وكذلك الغزالي في البسيط
وقال إن الحكم بفساد الاستثناء لا ينافي إجراء القولين في بيع العين المستأجرة وإن القياس فساد الاستثناء لولا ورود خبر فيه يشير بذلك إلى حديث جابر واستثناء ظهر جمله إلى المدينة
وهذا الخبر قد أجاب الناس عنه وحملوه على محمل صحيح غير ذلك فتبين بهذا أن ما اقتضاه كلام القاضي حسين والإمام والروياني لا ينبغي لنا أن نتعلق به فيما نحن فيه لأنا نقول بصحة بيع العين المستأجرة مع قولنا بأن استثناء المنفعة لا يصح فلا بد لنا من الفرق بين استثناء المنفعة وبين بيع الدار المستأجرة فيما نحن فيه كما فرقنا بينهما في منع الاستثناء ويجوز بيع العين المستأجرة
والذي يلوح من الفرق أن البيع بإطلاقه يعتمد الرقبة والمنفعة تابعة لهما ما لم يمنع مانع والإجارة مانعة فإذا انفسخت زال المانع فعمل بالمقتضى كما في مسألة الأمة المزوجة الذي تقدم في كلام ابن الرفعة ولا تقول من باع عينا فقد باعها ومنافعها بل إنما يرد البيع على العين والعين يحدث فيها منافع فإن وجدت مستحقا بعقد تعارض كونها لصاحب العين عمل به وإلا بيعت
____________________
(1/433)
العين فيملكها صاحب العين فلا نقول إن من باع العين المستأجرة بمنزلة من باع عينا واستثنى منفعتها ولا باع عينا مسلوبة المنفعة بل بيعه مطلق مقتض لملك كل ما هو تابع للعين إلا أن يعارض معارض وبالفسخ يرتفع ذلك بل أقول إنه لو باع العين المستأجرة وشرط مع ذلك استثناء تلك المنفعة المأجورة لا يصح لأنه زائد على ما تقتضيه الإجارة لأنه يقتضي بقاءها له لو انفسخت الإجارة
وهذا فرع حسن لم يجده منقولا ساق إليه البحث فلنرجع إلى ما كنا فيه ولا فرق في هذا المعنى بعد تحقيقه في كون الرفع من أصله أو من حينه لأن المعنى به ارتفاع جملة الآثار وارتفاع الآثار المستقبلة فعبر عن الأول بالارتفاع من أصله وعن الثاني بالارتفاع من حينه والمرتفع هو الجملة في الموضوعين لكن في الأول الجملة الماضية والمستقبلة وفي الثاني الجملة المستقبلة كلها حتى لا يبقى أثر للعقد من الآن
والرفع على الوجهين إنما هو الآن لأنه نشأ عن الفسخ والأثر لا يسبق المؤثر ولا يتوهم أنه بالفسخ على القول بالارتفاع من أصله يتبين أن العقد لم يكن لأن هذا خلاف المحسوس والمعلوم من الشرع وإنما المراد ما ذكرناه فلا فرق بين أن يكون الفسخ يرفع العقد من أصله أو من حينه فيما نحن فيه من رجوع الحال إلى ما كان عليه وبقاء المنافع على السبب الأول واندراجها تحت مقتضى البيع كما في منافع المدة التي بعد مدة الإجارة فإن البائع لم يتعرض لها ولا شك في ملك المشتري لها من آثار بيعه واعلم أن في تحقيق المنفعة وتحقيق كونها مملوكة قبل وجودها وإيراد العقد عليها كلاما كثيرا لا حاجة بنا هنا إلى تحقيقه بل ما ذكرنا يكفي على كل تقدير فرض والمفهوم من المنفعة أنها تهيؤ العين لذلك النوع الذي قصد منها فالدار متهيئة للسكنى والتهيؤ موجود الآن وتتوالى أمثاله في الأزمنة المستقبلة ويسلمها المستأجر والظاهر أن ذلك المعنى الذي يستوفيه لسكناه أمر ثالث متوسط بين التهيؤ الذي هو صفة الدار وبين سكناه الذي هو فعله وذلك الأمر الثالث هو المنفعة وهي ليست موجودة عند عقد الإجارة جميعها بل جزء منها وهل يقول إنها مملوكة أولى قالت الحنفية إنها لا يقال إنها مملوكة وكذا يقتضيه كلام بعض أصحابنا لا ما ليس بموجود كيف يكون مملوكا
وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني إنها مملوكة لأنا لا نعني بالملك إلا جواز التصرف وهذه يجوز التصرف فيها فكانت مملوكة ولك أن تقول جواز التصرف نتيجة الملك وتقدير كونها مملوكة على خلاف الأصل وتنويع عنها وتنزيلها منزلة المملوك مع كونها غير مملوكة على خلاف الأصل فلم قلتم بأن أحدهما أولى من الآخر ولا ضرورة بنا إلى تحقيق ذلك فغرضنا في هذه
____________________
(1/434)
المسألة حاصل بدونه كما قدمناه
والمتولي رحمه الله بنى الوجهين المنقولين عن ابن الحداد على أن الفسخ يرفع العقد من أصله أو من حينه إن قلنا من أصله فيصير كأن الإجارة لم تكن فاستحقها المشتري بالسبب السابق وإن قلنا من حينه فيعود الملك إلى البائع لأنه لم يوجد حالة الرد ما يوجب نقل الملك إلى المشتري انتهى كلامه
وأقول إنه لو كان بيع العين المستأجرة بمنزلة استثناء المنفعة وأنه إنما باعه عينا مسلوبة المنفعة تلك المدة لكانت المنافع ترجع إلى البائع وإن قلنا إن الإجارة ارتفعت من أصلها لأنه لم يوجد ما يوجب نقلها إلى المشتري فلما قال المتولي برجوعها إلى البائع على القول بأنها ارتفعت من أصلها دل على الفرق بين ذلك وبين استثناء المنفعة وأنها ليست مسلوبة من كل وجه ثم أقول إذا قلنا الرفع من حينه قوله إنه لم يوجد حالة الرد ما يوجب نقل الملك إلى المشتري إن أراد أنه ينتقل الملك إلى المشتري إلا بسبب يوجد حالة الرد ورد عليه إذا قلنا إنه رفع من أصله فإنه لم يوجد بسبب حالة الرد
وإن أراد أنه لم يوجد أصلا ما يوجب الملك إلى المشتري فممنوع لأنا نقول البيع المتقدم سبب يوجب نقل الملك إلى المشتري إلا أن الإجارة منعت منه فإذا زالت عمل الموجب عمله فيقول المتولي حالة الرد مستدرك وإذا أسقطه لم ينهض دليله ثم قال المتولي ونظير هذه المسألة إذا أوصى بمنفعة عبد لإنسان وبالرقبة لآخر ثم إن الموصى له بالرقبة قبل الوصية والموصى له بالمنفعة رد الوصية فالمنافع تعود إلى الورثة أو إلى الموصى له بالرقبة فعلى وجهين وسنذكرهما في الوصية
وقال ابن الرفعة في كتاب الوصية إن الذي يظهر الجزم بأنها للورثة لإخراجها بالتبعية عن الوصية بغير الموصى له بالرقبة ثم هذا منه يدل على أنه لو أوصى لشخص برقبة عبد وسكت عن المنفعة فلم يصرح بأنها له أو للورثة تكون المنافع للموصى له بالرقبة وإلا لم يصح له حكاية الخلاف ولذلك والله أعلم
قال في التنبيه وإن أوصى برقبة عبد دون منفعته أعطى الرقبة وحينئذ يكون قوله دون منفعته من جملة لفظ الموصي والله أعلم وهذا الذي قاله ابن الرفعة فالرجوع هنا للورثة أوضح لأن الموصى له بالرقبة لم يوجد في حقه سبب يقتضي تلك المنفعة أصلا نعم يحتمل أن يفصل فيقال إن كانت صورة المسألة أنه أوصى لواحد برقبة بلا منفعة ولآخر بالمنفعة فالحق ما قاله ابن الرفعة والقطع برجوعها للورثة
وإن كان أوصى بالرقبة من غير تقييد لواحد ثم أوصى بالمنفعة لآخر فيكون محل الوجهين لأن رده أبطل أثر الوصية بالمنافع فتبقى الوصية بالرقبة على إطلاقها وفيه نظر لأنه قد يقال الوصية بالمنافع رجوع عن ذلك الإطلاق والوصية تحتمل
____________________
(1/435)
الرجوع خلاف الإجارة ولو تقدمت الوصية بالمنافع ثم أوصى بالرقبة فهل نقول إنه كالحالة الأولى أو هو رجوع عن الوصية بالمنافع فيه نظر
وبالجملة خرجت مسألة الوصية عن نظر المسألة ولا تعلق لها بمن نحن فيه ولو أجر عبده ثم أعتقه ثم فسخ المستأجر الإجارة بعيب قال المتولي إن قلنا العبد يرجع على السيد بالأجرة فهل ترجع المنافع إليه أو إلى السيد على وجهين بناء على ما لو باعه ثم فسخ المستأجر الإجارة وقد ذكرناه
قلت وقد بان مما قلناه حكمه وإن على ما اخترناه ترجع المنافع إلى العتيق لا إلى السيد وقد صححه النووي رحمه الله في الروضة وابن الرفعة حكى ذلك والوجه المقابل له وقال إنهما على الجديد وإن على القديم تكون للعتيق ثم قال كان ممكن أن يقال تكون له إن كانت بقدر المنفعة أو دونها إذا أوجبناها له وإن كانت أكثر من قدر المنفعة لم يكن له فيها إلا بقدر المنفعة
وقال الرافعي رحمه الله في مسألة ابن الحداد وإذا حصل الانفساخ رجع المستأجر بأجرة بقية المدة على البائع قال القاضي ابن كج ويحتمل أن يقال يرجع على المشتري قال الرافعي وليكن هذا مفرعا على أن المنفعة تكون للمشتري لأنه رضي بالمبيع ناقص المنفعة فإذا حصلت له المنفعة جاز أن يؤخذ منه بدلها قال ابن الرفعة وهذا في غاية البعد في ظني والأصل الذي بنى عليه المتولي الخلاف يأباه
قلت إذا أعدنا المنفعة للبائع فلا شك في الرجوع عليه وإن أعدناها إلى المشتري فيحتمل أن يقال الرجوع على البائع أيضا لأن الثمن الذي أخذه في مقابلة العين المستتبعة للمنفعة وقد ارتفع المانع من ذلك إما بالعيب الذي هو من ضمانه وإما بالإقالة التي رضي بها ويحتمل أن يقال يرجع على المشتري لما ذكره الرافعي وهو بعيد كما قال ابن الرفعة
أما كون البناء يأباه فلم يظهر لي وجهه وقال ابن الرفعة في مسألة ابن الحداد فإن قلت هل يمكن بناء الخلاف على أن المنفعة تحدث على ملك المستأجر أو على ملك الآجر فإن قلنا بالأول عادت إلى البائع لأنها خرجت عن ملكه إليه فتعود بعد الفسخ إليه وإن قلنا تحدث على ملك الآجر تبعا لملك الرقبة فتعود للمشتري لأن الرقبة له وإنما امتنع أن تكون له عند دوام الإجارة لتعلق حق المستأجر بها فإذا زال المانع وهو تعلقه تبعت الملك
قلت لا لأمرين أحدهما أني قد قررت أن أقول البطلان يجوز أن يكون مخرجا على قولنا إن المنفعة تحدث على ملك الآجر وهذا يناقضه والثاني أن مثل الخلاف مذكور في الوصية ولا يمكن فيها أن يقال عند عدم الرد إن المنفعة تحدث على ملك الموصى له بالرقبة ثم تنتقل
____________________
(1/436)
عنه إلى الموصى له بالمنفعة لأنه لا يملك لفظا إلا الرقبة مسلوبة المنفعة بخلاف بيع العين المستأجرة فإن اللفظ يقتضي استتباع المنفعة لملك الرقبة فلا ينافي ذلك إثبات المنفعة للمشتري كما كانت تحدث في ملك البائع ثم تنتقل للمستأجر ويجعل المشتري في ذلك قائما مقام البائع
قلت إن قلنا بأنها تحدث على ملك المالك وإن المشتري ينزل منزلة البائع ما المانع من ذلك وهو قد قال هناك إن المشتري لم يأخذ عنها عوضا
وجوابه أن رضاه بالشراء مع علمه بذلك كالعوض وأيضا فهو إنما جوز أن يكون قول البطلان مأخوذا من ذلك ولم يوجبه فكيف يمنع منه ههنا أو يناقضه وتجويز الشيء لا يمنع من تجويز نقيضه والمذكور في الوصية هو قد رده كما قدمناه
وجاز أن يكون مأخذ آخر فلا يمنع أن يكون هذا مأخذا فيما نحن فيه والحق أنه يحتمل أجزاء الوجهين على كل من الوجهين قد يقال بأن المنافع وإن كانت تحدث على ملك المستأجر فهو لأجل استحقاقه قد تعقب الإجارة فإذا انفسخت رجعنا إلى مقتضى الاستتباع وإذا كانت تحدث على ملك المستأجر فينزل المشتري منزله
وقد يقال بأنها تحدث على ملك المستأجر لاستحقاقه وتنزيله منزلة الاستثناء فلا يستحقها المشتري استمر أم فسخ أو تحدث على ملك المالك ولا ينزل المشتري منزلته بل يكون كاستثنائها حدوثها على ملك البائع مع زوال العين كما يقابله بالاستثناء على أحد الوجهين بعد بيع العين
وذكر الأصحاب مسائل فيها خلاف قريبة الشبه من مسألة ابن الحداد ومنها إذا زوج أمته بالتفويض ثم باعها ثم جرى الفرض أو الدخول والمفروض أو مهر المثل للبائع أو المشتري فيه طريقان ومنها إذا أدى عن ابنه صداقا تطوعا من مال نفسه ثم بلغ الابن فطلق قبل الدخول هل يرجع النصف إلى الأب أو إلى الابن المطلق فيه طريقان أصحهما إلى الابن المطلق وفي الأجير وجهان أصحهما الرجوع إلى الأجير
والمأخذ في هذه المسائل وفي مسألة ابن الحداد مختلف فلا حاجة بنا إلى التطويل به والله أعلم انتهى
مسألة في ناسخ استأجره إنسان لينسخ له ختمة بأجرة معينة فتأخر الناسخ عن كتابتها مدة سنة وفي تلك المدة جاد خطه وحسن وارتفع سعره فهل له أن يطلب زيادة على تلك الأجرة أو يختار الفسخ أجاب ليس له واحد من الأمرين بل عليه كتابتها بتلك الأجرة انتهى
مسألة هل تثبت الإجارة خيار المجلس أو لا الجواب قال الشيخ أبو حامد الإجارة ضربان معينة وفي الذمة فالمعينة أن تكون
____________________
(1/437)
على مدة من حين العقد فتقول أجرتك داري هذه شهرا أو عبده أو فرسه شهرا فلا يدخلها خيار الشرط قولا واحدا والمذهب أنه يدخلها خيار المجلس وإن كانت في الذمة مثل أن تقول استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب أو لتبني لي حائطا صفته كذا فثلاثة أوجه قال أبو إسحاق وابن خيران أن لا يدخلها الخياران
وقال الإصطخري يدخلها الخياران والمذهب أنه يدخلها خيار المجلس دون خيار الشرط وقال في كتاب الإجارة مثل ذلك إلا أنه لم يرجح ومثل الإجارة على الذمة بقوله استأجرت منك ظهر الجمل عليه كذا وكذا واستأجرتك لتحمل لي بقصد أن يحصل له ذلك
وقال القاضي أبو الطيب الإجارة لا يثبت فيها خيار الشرط وهل يثبت فيه خيار المجلس فيه وجهان هذا إذا كانت على معين فإن كانت على عمل في الذمة فقيل يثبت الخياران وقيل لا يثبتان قاله أبو إسحاق وابن خيران وقيل يثبت خيار المجلس دون خيار الشرط
وقال ابن الصباغ المساقاة والإجارة المعينة وهي المتعلقة بالزمان فلا يدخلهما خيار الشرط وفي خيار المجلس وجهان أحدهما لا يدخل فيهما والثاني يثبت فيهما فأما الإجارة في الذمة فثلاثة أوجه قال أبو إسحاق وابن خيران لا يدخلها الخياران
وقال الإصطخري يدخلها الخياران وقال غيرهم من أصحابنا لا يدخلها خيار الشرط ويدخلها خيار المجلس كالإجارة المعينة
وقال المحاملي في المقنع يثبت الخيار في البيع وكذا ما كان في معنى البيع كالصلح والحوالة والإجارة
وقال في التجريد الإجارة المعينة خيار الثلاث لا يثبت فيها وخيار المجلس فيه وجهان أما الإجارة على الذمة فنقل المزني في الجامع أنه لا يثبت فيها خيار الثلاث ولا خيار المجلس واختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه
وقال في المجموع كذلك وزاد تمثيل إجارة العين بأن يقول استأجرتك لتبني لي هذه الدار وتخيط لي هذا الثوب وتمثيل إجارة الذمة بأن يستأجره ليبني له دارا موصوفة أو يحمل له حمولة وصفها وما ذكره من التمثيل مخالف لما تقدم من تمثيل الشيخ أبي حامد والذي قاله المحاملي أولى
وقال الماوردي الإجارة والمساقاة والحوالة إن شرط فيها خيار الثلاث بطلت وهل تبطل باشتراط خيار المجلس على وجهين هذه عبارته
وقال العبدري لا يجوز شرط الخيار في الإجارة المعينة وهل يثبت فيها خيار المجلس وجهان وفي الإجارة في الذمة ثلاثة أوجه أحدها يثبت والثاني لا يثبت والثالث يثبت خيار المجلس دون الشرط
وقال الشيخ أبو إسحاق في المهذب ما عقد على مدة لا يجوز فيه شرط الخيار وفي خيار المجلس وجهان أحدهما لا يثبت والثاني يثبت وإن كانت الإجارة
____________________
(1/438)
على عمل معين فثلاثة أوجه أحدها لا يثبت للغرر والثاني يثبت لأن المنفعة المعينة كالعين المعينة في البيع ثم العين المعينة يثبت فيها الخياران فكذلك المنفعة والثالث يثبت خيار المجلس دون خيار الشرط لأنه عقد على منتظر فيثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط كالسلم
وإن كانت على منفعة في الذمة فوجهان أحدهما لا يثبت فيها الخيار للغرر والثاني يثبت خيار المجلس دون خيار الشرط لأن الإجارة في الذمة كالسلم فخرج من كلامه في المهذب أنها ثلاثة أقسام قسم لا يثبت فيه خيار الشرط وفي خيار المجلس وجهان وقسم في الخيارين ثلاثة أوجه وقسم يثبت فيه خيار المجلس وفي الشرط وجهان وكلامه في التنبيه معلوم
ونقل الرافعي عنه أن الأصح ثبوته
وقال نصر المقدسي في الكافي لا يدخل خيار الشرط في الإجارة وسكت عن خيار المجلس في المختصر من شرح تعليق الطبري عن ابن أبي هريرة الإجارة والمساقاة لا يدخلهما خيار الثلث وفي خيار المجلس وجهان
وقال الجرجاني في الشافعي كما يثبت خيار المجلس في البيع يثبت في كل معاوضة لازمة يقصد بها المال كالإجارة على الأصح والمساقاة وقيل المساقاة لا يدخلها خيار المجلس ولا خيار الشرط هكذا قال في أول البيع وقال في كتاب الإجارة إن كانت الإجارة مقدرة بالزمان لم يدخلها خيار الشرط وفي خيار المجلس وجهان وإن كانت مقدرة بالعمل فوجهان أحدهما لا يدخلها الخياران معا والثاني يدخلها الخياران معا كالبيع وهو الأصح لأنه ليس من حكمها إيصال المنفعة بالعقد وقيل يدخلها خيار المجلس ولا يدخلها خيار الشرط
وقال سليم في المقصود لا يثبت خيار الشرط في الإجارة وهل يدخلها خيار المجلس وجهان وفي الإجارة في الذمة ثلاثة أوجه قال أبو إسحاق وابن خيران لا
وقال الإصطخري يدخلها ومن أصحابنا من قال يدخلها خيار المجلس دون الشرط وهو الأصح
وقال الجوزي لو اكترى دارا سنة بمائة درهم على أنه بالخيار ثلاثة أيام ففيها قولان أحدهما جاز كجواز الخيار في البيع
والثاني فاسد لأنه لو جاز لجاز أن يؤاجره اليوم على أن يسكن بعد شهر قال وقال أبو ثور الإجارة جائزة وله الخيار فإن سلمها في الثلاثة الأيام كان عليه كراء المثل لأن سكناه في الثلاث ليس برضاه ولا اختيار الإمضاء للإجارة وقال بعض الناس الإجارة جائزة فإن سلمها في الثلاث لزمته الثلاث وكان اختيارا منه للإجارة
وقال صاحب البيان المساقاة والإجارة المعقودة على زمان لا يثبت فيهما خيار الشرط وفي خيار المجلس وجهان والإجارة على الذمة مثل أن يستأجره ليحصل له بناء حائط أو خياطة ثوب فيها ثلاثة أوجه ثالثها يثبت خيار المجلس ولا يثبت خيار الشرط وقال القاضي حسين استئجار الأعيان
____________________
(1/439)
هل يثبت فيها الخياران قال ابن خيران لا يثبتان وقال ابن أبي هريرة يثبتان
وقال أبو إسحاق لا يثبت خيار الشرط ويثبت خيار المكان فإن قلنا يثبت فيه الخياران فإن كان في يد الآجر فإن فسختا فالمستأجر يسترد منه الأجرة وإن كان في يد المستأجر فإن قلنا ينفسخ البيع بتلف المبيع انفسخ هنا في ذلك القدر وعليه أجرة المثل وإن أجاز فعليه المسمى حسب فأما إذا كانت الإجارة واردة على الذمة مثل أن يقول أجرتك على أن تحصل لي خياطة هذا الثوب فإن قلنا هي كالسلم فيشترط قبض الأجرة في المجلس ويثبت خيار المكان دون الشرط وإن لم نلحقها بالسلم فهي كالإجارة الواردة على العين لأن المنفعة معدومة بخلاف السلم لأنه وارد على موصوف فعلى هذا حكمها حكم الإجارة الواردة على الأعيان
والصحيح أنه لا يثبت فيه الخياران لأنه لا يؤدي إلى تعطيل المنفعة
هكذا قال في كتاب البيع وحكى في كتاب الإجارة ثبوتهما عن ابن خيران وهنا قد تقدم أنه حكاه عن ابن أبي هريرة
وقال الفوراني في العمد وفي الإجارة أقوالا أحدها يثبت خيار المكان دون الشرط هذا إذا كان في العين فأما إذا كانت على عمل في الذمة فلا يثبت خيار الشرط ويثبت خيار المكان فيه وحكمه حكم السلم
وقال الإمام الإجارة على الذمة إن ألحقت بالسلم ففيها خيار المجلس دون الشرط وإن لم تلحق بالسلم ففيها الخياران وفي الإجارة على العين طريقان أرضاهما أنه لا يثبت خيار الشرط وفي خيار المجلس وجهان والطريقة الثانية أن في الخيار وجهين أصحهما لا يثبتان لما فيه من تعطيل المنافع
وقال البغوي العقد على المنفعة التي تستباح بالإباحة وهو الإجارة هل يثبت فيه الخيار ثلاثة أوجه أصحهما لا يثبت واحد من الخيارين للغرر
وقال صاحب التلخيص يثبتان وقال أبو إسحاق يثبت خيار المكان لا الشرط ولا فرق بين الإجارة على العين أو على مدة معلومة أو على منفعة في الذمة على الصحيح من المذهب وقيل إن كانت على مدة لا يثبت فيها خيار الشرط وفي خيار المجلس وجهان
وقال القفال الوجوه الثلاثة في إجارة العين أما الإجارة في الذمة يجب فيها تسليم الأجرة في المجلس فيثبت خيار المكان دون خيار الشرط كما في السلم
وقال المتولي إن كانت إجارة عين مثل أن يستأجر دارا شهرا فحكمها حكم المساقاة بعد ما حكى في خيار المجلس في المساقاة وجهين من غير تصحيح وإن كانت على عمل في الذمة بأن التزم في ذمته خياطة ثوب أو بناء دار فإن ألحقناها بالسلم فيثبت خيار المجلس وإلا فحكمها حكم المبيع
ولأصحابنا طريقة أخرى أنه لا يثبت الخيار أصلا في الإجارة وإليه ذهب أبو إسحاق للغرر
وقال صاحب العدة
____________________
(1/440)
إن قلنا الإجارة بيع يثبت الخيار وإلا فلا وقال الغزالي في الوسيط الإجارة في ثبوت خيار المجلس وخيار الشرط فيها ثلاثة أوجه أما الإجارة الواردة على الذمة فيثبت فيها الخياران إذ لا يحذر فوات منفعة
وقال في الوجيز يثبت خيار المجلس في كل معاوضة محضة من بيع وسلم وصرف وإجارة
وقال الرافعي الإجارة في ثبوت خيار المجلس فيها وجهان أحدهما وبه قال الإصطخري وصاحب التلخيص يثبت كالبيع والثاني وبه قال أبو إسحاق وابن خيران لا يثبت للغرر وبالوجه الأول
أجاب صاحب الكتاب ورجحه صاحب المهذب وشيخه الكرخي وذكر الإمام وصاحب التهذيب والأكثرون أن الأصح هو الثاني وعن القفال في طائفة أن الخلاف إجارة العين أما الإجارة على الذمة فيثبت فيها خيار المجلس لا محالة بناء على أنها ملحقة بالسلم حتى يجب فيها قبض البدل في المجلس
وقال ابن الرفعة في شرح الوسيط الإجارة الواردة على العين تارة تكون مقدرة بالعمل وتارة بالزمان والأوجه الثلاثة مذكورة في المقدر بالعمل في طريقة العراق والمختار في المرسل منها الثالث أما المقدرة بالزمان فالمذكورة في طريق العراق أنه لا يثبت فيها خيار الشرط وفي خيار المجلس وجهان أصحهما عند الأكثرين المنع لأنه يفوت بعض المدة وحكى الإمام عن شيخه وبعض أصحاب القفال الخلاف في خيار الشرط أيضا وبه تنظيم الأوجه الثلاثة في هذه أيضا
وقال المرعشي خيار المجلس في سائر بيوع الأعيان وفي الإجارة لأصحابنا قولان ثم قال وخيار الثلاث في سائر المبايعات إلا في ثلاثة الإجارة والصرف والسلم
وقال الرافعي في الشرح الصغير في ثبوت خيار المجلس في الإجارة وجهان وجه الثبوت أنها معاوضة لازمة والأظهر عند الأكثرين المنع للغرر وخصص بعضهم الوجهين بإجارة العين وجزم بثبوته في الإجارة على الذمة لأنها ملحقة بالسلم
وإذا أثبتنا في إجارة فابتداء المدة من وقت انقطاع الخيار أو من وقت العقد وجهان أصحهما الثاني
وقال في المحرر أنه لا يثبت خيار المجلس في الإجارة والمساقاة على الأصح
وقال القمولي لما حكى الأوجه الثلاثة ثالثها يثبت خيار المجلس دون الشرط قال والفرق بينهما أما في إجارة العين فلأن الغالب من خيار الشرط انصرافه عن قرب أما في إجارة الذمم فلتنزلها منزلة السلم قال وهذا الخلاف جار في نوعي الإجارة على الذمة فيثبت فيها خيار تعجيل قطعا قال وصحح النووي في تصحيح التنبيه ثبوت خيار المجلس في الإجارة الواردة على المدة وصحح في المنهاج عدم ثبوته مطلقا قال فتناقضا
وقد تلخص أن الإجارة على
____________________
(1/441)
ثلاثة أقسام أحدهما على مدة كقوله أجرتك هذه الدار والعبد شهرا ففي وجه ضعيف جدا يثبت خيار الشرط
والذي قطع به الجمهور لا يثبت وفي خيار المجلس وجهان أصحهما عند الشيخ أبي حامد والمحاملي والجرجاني والغزالي في الوجيز ونقله الرافعي عن صاحب المهذب والكرخي الثبوت وعند الإمام البغوي والرافعي المنع
القسم الثاني على عمل معين كقوله استأجرتك لتبني لي هذا الحائط ففي الخيارين ثلاثة أوجه والأصح عند الإمام والبغوي والرافعي المنع كما سبق وعند الباقين والقاضي حسين وابن أبي عصرون في المرشد الثبوت في خيار المجلس
القسم الثالث على منفعة في الذمة جزم الغزالي في الوسيط والقفال والإمام بخيار المجلس فيها وحكى صاحب المهذب والإمام الخلاف في خيار الشرط فخرج من هذا أن الصحيح مطلقا ثبوت خيار المجلس وأن القسم الثالث لا خلاف فيه وأن الصحيح امتناع خيار الشرط
وقال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمحاملي وسليم والعبدري وصاحب البيان المعينة لا يدخلها خيار الشرط وفي خيار المجلس وجهان والتي في الذمة فيها ثلاثة أوجه عند أبي حامد والمحاملي وسليم الدخول وقد تجوزوا في قولهم الذمة وأرادوا به أن لا يكون مقيدا بزمان والدليل على إرادتهم ذلك أن الشيخ أبا حامد احتج على الإصطخري القائل بأنه يدخلها الخياران بأنها معاوضة محضة لا تبطل بالتفرق قبل القبض ولو كانت إجارة ذمة لم يسلم ذلك بل يتخرج على النظر إلى اللفظ والمعنى فالذي يظهر من مرادهم ما عبر به صاحب التنبيه والمهذب أن المعينة ما عقد على مدة حتى أني أقول إذا عقد إجارة الذمة على مدة كانت كذلك والذي عقد على عمل معين هو مرادا وقيل بإجارة الذمة وليس بإجارة ذمة وإنما هو إجارة عين وقد تكون إجارة ذمة أيضا ولهذا أطلق صاحب التنبيه وأطلق الماوردي أنه لا يدخل خيار الشرط وفي خيار المجلس وجهان وكذا في تعليق الطبري عن ابن أبي هريرة والقاضي حسين حكى الثلاثة الأوجه بعينها في إجارة المعينة وحكى عن ابن خيران أنهما لا يثبتان ولا يناقض ذلك ما حكاه الأولون لاحتمال أن يقول ابن خيران لا يدخل الخياران في شيء من أنواع الإجارة
وقال عن ابن أبي هريرة ثبوتهما ولا يناقض ما قالوه أيضا لأنهم لم ينقلوا عنه شيئا فيحتمل أن يقول بثبوته في القسمين وحكى عن أبي إسحاق ثبوت خيار المجلس وفي الشرط في المعينة والأولون حكوا عنه في التي في الذمة أنه لا يثبت الخياران وهذا يناقض ذلك وقد تلخص أن خيار المجلس يدخل في جميع
____________________
(1/442)
أنواعها على ما رجحه الشيخ أبو حامد والمحاملي وسليم والجرجاني والقاضي حسين والغزالي وابن أبي عصرون في المرشد ونقل الرافعي ترجيحه عن صاحب المهذب وشيخه الكرخي ولم أره في المهذب ولا يدخل في شيء منها على ما رجحه البغوي ويدخل في إجارة الذمة دون العين على ما رجحه الإمام من تعليق أبي حامد من استأجر بئرا ليسقي ماءها لم يصح ولو اكترى دارا ليسكنها وفيها بئر ماء جاز أن يسقي منها تبعا لا بد أن يقدر المدة كقوله استأجرتك شهرا لتخيط أو العمل كاستأجرتك بهذا الثوب فلو قدرهما لم يصح لو قال أجرتك كل شهر بدرهم لم يصح كما لو قال بعتك هذا العبد وعبدين آخرين كل عبد بدينار لم يصح البيع لأن المعقود عليه ليس بمعلوم والله أعلم
أما الراكب فلا بد أن يكون معلوما بالمشاهدة وهو أن يقول استأجرت منك هذا الحمار لأركب أنا أو يركب زيد
فأما الصفة فلا يقصد بها معلوما إذا كان المستأجر من غير العقار كالإبل والبقر والخيل والعبيد وكالرجل يؤاجر نفسه فالإجارة تجوز معينا وفي الذمة فإن أجره معينا فلا بد أن تكون المنفعة معلومة بأحد أمرين بتقدير العمل أو المدة ويتناول العقار فإنه لا عمل فيه فلا يتقدر إلا بالمدة
والثياب والأبنية كالعقار في أن منافعها لا تكون معلومة إلا بتقدير المدة وهي كالبهائم ثم في جواز العقد عليها معينا وفي الذمة وإن قدر المنفعة بالعمل كاستأجرتك لنقل كذا صح العقد واقتضى إطلاقه الحلول وإن شرط في العقد أن يؤجره غير حال العقد لم تصح الإجارة
وقال أبو حنيفة تصح وإن أطلق اقتضى التعجيل فإن لم يفعل حتى مضى شيء من الزمان لم ينفسخ العقد لأن المنفعة للمعقود عليها لا تفوت بخلاف المدة وإن كانت في الذمة كاستأجرتك لتحصل لي خياطة هذه الأثواب العشرة أو تحصل لي بناء حائط عشرة أذرع في عشرة أشبار صفته كيت وكيت صح معجلا ولو شرط فيه التأجيل جاز إذا كان الأجل معلوما حتى قال الشافعي إذا أسلم في منفعة إلى أجل جاز الإجارة للرضاع لا بد أن تكون مقدرة بالمدة بخلاف سائر المواضع تتقدر بالمدة أو بالعمل من الروضة لو قال لتخيط لي ثوبا وشهرا قال الأكثرون يصح ويشترط بيان الثوب والخياطة إلا أن تطرد العادة بنوع لو استأجر دابة للركوب إلى بلد ثم لم يسلمها حتى أمضت مدة يمكن فيها المضي إليها فوجهان مختار الإمام الانفساخ وأظهرهما وبه أجاب الأكثرون لا ينفسخ وعلى هذا ففي الوسيط له الخيار ورواية الأصحاب تخالف ما رواه الإجارة تارة تقع على الذمة فتقدر بالعمل وتارة تقع على العين فتقدر
____________________
(1/443)
بالمدة فإجارة العين المقدرة بالمدة كأجرتك داري أو عبدي شهرا أو استأجرت عينك لتبني لي شهرا قطع الأكثرون بأنه لا يدخلها خيار الشرط للغرر ولتعطيل المنفعة وفي خيار المجلس وجهان قال الشيخ أبو حامد والمذهب دخوله ووافقه المحاملي وسليم والجرجاني والقاضي حسين والغزالي فرجحوا ثبوته وفي طريقة المراوزة إجراء الخلاف في خيار الشرط وإجارة العين المقدرة بالعمل كأجرتك دابتي لتركبها إلى مكان كذا واستأجرتك لتعمل لي كذا فيها ثلاثة أوجه مشهورة ثالثها وهو الأصح ثبت خيار المجلس دون الشرط ومقتضى كلام التنبيه ترجيح ثبوتهما والفرق بين هذه وبين الأول أنه لو أخر التسليم حتى مضت مدة إمكان العمل لم ينفسخ عند الأكثرين ومختار الإمام ينفسخ وفي الأول ينفسخ قطعا وإجارة الذمة كاستأجرت منك ظهرا صفته كذا إن ألحقناها بالسلم يثبت خيار المجلس دون الشرط وبه قطع جماعة والأفضل لا يثبتان للغرر وقيل يثبتان لعدم تعطيل المنفعة وصحح البغوي أنه لا يثبت خيار المجلس في الإجارة سواء كانت على العين أو على مدة معلومة أو على منفعة في الذمة
وإطلاق الكتاب يوافقه والمتخيل مما تقدم من كلام الأصحاب تصحيح ثبوته وهو الذي قاله في تصحيح التنبيه
مسألة من دمياط أرض مشغولة بأشجار موز بين الأشجار أرض مكشوفة استأجرها رجل للزراعة وساقى على الأشجار على العادة والأرض لا ينتفع بها للزراعة لأن ظل الشجر يمنع فهل تصح الإجارة أجاب لا تصح الإجارة ولا يستحق الأجرة ولا أجرة المثل إلا أن تكون الأرض زائدة على ما يحتاج إلى دخوله لتعهد الأشجار فيستحق عليه أجرة مثل الزائد فقط إذا وضع البناء عليها والله أعلم
أما عدم صحة الإجارة للزراعة حيث لا يمكن الزراعة فظاهر أما عدم استحقاق أجرة المثل بعد تفويت منه لدخول الأرض في يده التي أعول إن صححنا المساقاة على العين فهو يستحق اليد فدخوله الأرض مستحق بحكم عقد المساقاة فلا نجريه أجرة وإن لم نصحح المساقاة وعلى المعروف وهو المذهب فهو قبضها بعقد فاسد فلا جرم لم يضمن أجرة المثل والله أعلم
مسائل أخرى جرت في الميعاد قوله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا
____________________
(1/444)
فاستوفى عمله ولم يعطه أجره أقول الحكمة في كون الله خصمهم أنهم جنوا على حقه سبحانه وتعالى فإن الذي أعطى به ثم غدر جنى على عهد الله تعالى بالجناية والنقض وعدم الوفاء ومن حق الله تعالى أن يوفي بعهده والذي باع حرا فأكل ثمنه جنى على حق الله تعالى فإن حقه في الحر إقامته لعبادته التي خلق الجن والإنس لها قال تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فمن استرق حرا فقد عطل عليه العبادات المختصة بالأحرار كالجمعة والحج والجهاد والصدقة وغيرها وكثيرا من النوافل المعارضة لخدمة السيد فقد ناقض حكمة الله في الوجود ومقصوده من عباده فلذلك عظمت هذه الجريمة
ومن هنا تنبيه لفائدة عظيمة سئل عنها في الميعاد وهي أن كثيرا من الأحرار يختارون بيع أنفسهم وأولادهم لملك من الملوك أو ذي جاه ليحصل له بذلك من الرتبة والمنزلة والمال ما لا يحصل لكثير من الأحرار فكيف يعظم الإثم على من ذلك وهكذا كثير من الجواري والعبيد لا يختارون العتق ويضرهم العتق في تحصيل المعيشة فتكون الجارية والعبد مكفية المئونة في عيش رغد عند سيدها فيعتقها فتبقى كلا على الناس هكذا رأينا كثيرا من المعتقين فكيف يكون في عتق هذه من الأجر ما ورد في أجر العتق والجواب أنك أيها السائل ناظر إلى المصالح الدنيوية والشارع ناظر إلى المصالح الأخروية وكم بينهما والحر يتفرغ لعبادة الله تعالى ولذلك جعل العتق كفارة القتل ليوجد نفسا مثل التي أعدمها تعبد الله تعالى فالذي يرغب في الرق لتحصيل الرفعة في الدنيا والجاه والمال رغب في شيء يسير فإن ترك العبادة والارتداد منها التي كل واحدة منها خير من الدنيا وما عليها ولذلك الجارية والعبد الكاره للعتق إنما كرهه لجهله فإن الرق يفوت عليه مصالح الآخرة الكثيرة الباقية فكيف يرغب فيه لمصلحة قليلة فانية
والعتق تحصل له السعادة الأبدية ويتوكل في الرزق على الله تعالى فإن رزقه رزقا رغدا حصلت له الدنيا والآخرة إلا حصلت له الآخرة فهو على كل راع إذا نظر إلى الآخرة وهو مقصود الشارع ولكن غالب الجهلة ينظرون إلى الحظوظ الدنيوية فلذلك عظم وقع هذا السؤال عندهم والمتقون لا ينظرون لذلك والله أعلم
قلت والرجل الذي استأجر أجيرا مستوف عمله ولم يعطه أجره بمنزلة من استعبد الحر وعطله عن كثير من نوافل العبادة فيشابه الذي باع حرا فأكل ثمنه فلذلك عظم ذنبه والله أعلم انتهى كلام الشيخ الإمام
مسألة رجل استأجر مطلقته لإرضاع ابنته منها في بلد معين ثم سافرت المطلقة
____________________
(1/445)
المذكورة بالبنت من البلد بغير إذن المستأجر هل تبطل أجرة إرضاعها مدة سفرها أجاب لا تبطل لكن له طلبها وردها إلى بلد فإن عين عليه ثبت اختيار الفسخ فإن لم يفسخ حتى مضت المدة وهي ترضعها في الغيبة استقرت الأجرة عليه
قلته تفقها لا نقلا والله أعلم انتهى
مسألة لابن الدمياطي أجر إقطاعه لرجلين لينتفعا به كيف شاءا على الوجه الشرعي فأرادا زرعه نيلة أو سمسما وذلك مما يضعف الأرض ويفسدها فهل لهما ذلك أجاب هذه الإجارة باطلة وليس لهما ولا لأحدهما أن يزرع فيها إلا ما يرضاه صاحبها والله أعلم
ومستندي في بطلانها قوله كيف شاءا فإنه يقتضي أن انتفاع كل منهما منوط بمشيئته ومشيئة الآخر وهما عقدان لتعدد الصفقة فتبطل وهذا البحث يستمد من كتابة عبدين في عقد واحد والله أعلم
مسألة استأجر شيئا مدة سنة من تاريخ العقد وهو استقبال السادسة والعشرين من الشهر بأجرة مقسطة كل شهر منها بكذا وجاء ذلك الشهر تسعا وعشرين فانتفع المستأجر بالعين المستأجرة بقية الشهر المذكور وهو أربعة أيام ثم انفسخت الإجارة بسبب اقتضاه في أول اليوم الخامس من تاريخ الإجارة وهو أول الشهر الثاني فما يلزم المستأجر
الجواب يلزم المستأجر أجرة عشر الشهر العددي وثلث عشره وهو أربعة أيام من ثلاثين يوما ولا يستحق عليه إلا عند مضي ستة وعشرين يوما من الشهر الثالث وهو تمام سنة من تاريخ الإجارة
هذا على مذهب الشافعي رضي الله عنه فإنه تحسب أحد عشر شهرا هلالية ويكمل شهرا بالعدد أربعة من الشهر الذي وقعت فيه الإجارة وستة وعشرون من آخر المدة فلزم من ذلك ما قلناه من أنه ليس للمؤجر المطالبة بقسط الأربعة الأيام إلا بعد انقضاء السنة سواء استمرت الإجارة أم انفسخت وإنما يقتضي انفساخها رجوع بقية المنافع إلى المؤجر ورجوع بقية الأجرة إلى المستأجر أما أجرة ما استوفى فقد استقرت على حكمها وهو التأجيل ولا يستحق قبض شيء منها إلا عند تمام شهرها وكذا لو استأجر شهرا بعشرة مؤجلة إلى آخره فاستوفى في نصفه وتقايلا فلا يستحق عليه قبض الخمسة المقابلة لما استوفاه إلا من آخر الشهر لأنه لا موجب لحلول المؤجل وهذه المسألة قل من يتنبه لها وهي مقتضى المذهب وأما ما في أذهان الناس من أنه يستحق عند تمام السادس والعشرين من الشهر
____________________
(1/446)
الداخل فهو قول ابن بنت الشافعي أما القول بأن الانفساخ يقتضي حلولها فهذا لم يقل به أحد واعتقاد كون الأربعة الأيام منسوبة من تسعة وعشرين يوما لا وجه له ولا يأتي على مذهب أحد وينبغي أن يتنبه أيضا لكون المسألة فيما إذا كانت أيام الشهر كلها سواء فإن اختلفت بأن كان بعضها أكثر قيمة من بعض فينبغي أن يراعى ذلك في التقسيط وقد يقتضي الحال أن الأربعة الأيام قسطها يزيد على ما قلناه أو ينقص والله أعلم
مسألة ما تقول السادة العلماء وفقهم الله تعالى في رجل صانع للبسط دفع إليه زيد دراهم ليشتري بها ما يحتاج إليه البسط وقرر معه أجرته والشخص الصانع عمل البسط وجاء ببعضها وادعى تلف البعض بالسرقة فهل يلزمه غرامة ما ادعى تلفه أفتونا مأجورين
أجاب رضي الله عنه بأن قال هذه الفتيا حضرت إلي يوم الجمعة الماضية في الجامع الطيلوني عقيب الصلاة بلفظ غير هذا اللفظ المذكور هنا بل هو على صورة أخرى وهو في رجل يصنع البسط دفع إليه زيد دراهم ليعمل له بسطا فجاء ببعض البسط وادعى تلف البعض فهل يلزمه غرم ما تلف أو لا هكذا لفظ تلك الفتوى أو ما هذا معناه فكتبت عليها أن هذا الاستصناع فاسد وأن الدراهم مضمونة للدافع على الأخذ وما يتلف من البسط يتلف على ملك الصانع ومن ضمانه وما أحضره إن اتفقا على عقد عليه حاسبه بثمنه من الدراهم على ما يتفقان عليه وإلا فيردها أو ما هذا معناه فلما كان بكرة يوم السبت وأنا داخل درس المنصورية حضرت إلي فتيا صورة السؤال كصورته التي كتبت عليها وعليها خط شخص بأنه لا يضمن وأن يده يد أمانة أو ما هذا معناه فدفعتها إلى محضرها عالما بأنها ليست أهلا لأن أراها فلما حضرت الدرس طلب بعض الجماعة قراءتها في الدرس فامتنعت من ذلك ولأنني لا أشتهي على أحد ولا أذكره بسوء لكن بحثنا في المسألة من غير تعيين من أفتى فيها وذكرت للجماعة أن هذه مسألة مشهورة كثيرة الوقوع في تجليد الكتب وفي استعمال الخفاف والقماش والشراميز وغيرها ومذهب الشافعي فساد العقد المذكور ومذهب مالك وأبي حنيفة صحته وقد نص الشافعي على هذه في الأم وذكرها الأصحاب المتقدمون في كتبهم واحتج مالك وأبو حنيفة بعمل الناس والحاجة واحتج الشافعي بأن هذا سلم فاسد وليس بيع عين ولا إجارة على عمل في عين
والقول بأن الدراهم المقبوضة عن ذلك أمانة وأنها من ضمان الدافع ولا يلزم القابض غرمها قول لم يقل به أحد
____________________
(1/447)
من المسلمين ولا أشار إليه أحد من العلماء المتقدمين ولا المتأخرين ولا اقتضاه كلامهم بل هو خلاف إجماع العلماء فإن عندنا العقد فاسد وصحيحه يقتضي الضمان ففاسده كذلك فهو مضمون على القابض ضمان العقود الفاسدة وعلى قاعدة مالك وأبي حنيفة وهو مقبوض بعقد صحيح فهو كالثمن المقبوض عن بيع صحيح أو كالأجرة المقبوضة عن إجارة صحيحة
والحكم فيهما أنهما مضمونان ضمان العقد فالقول في إخراج ذلك عن أحكام الضمان بالكلية قول خارج عن أحزاب الفقهاء ولا يقوله من شدا طرفا من العلم وإنما يقع على هذا وأمثاله من جمع بين أمرين أحدهما البلادة وبعد الذهن وعدم المعرفة بالشريعة وأحكامها ومداركها ومأخذها والثاني الاشتغال بالكتب المختصرة كالحاوي الصغير وأمثاله فإنه يكل ذهنه وشعبه في حل ألفاظه من غير احتواء على حقيقة الفقه ويعتقد مع ذلك بفقه فيقع في أمثال هذا وكتاب الحاوي المذكور وأمثاله كتب حسنة مليحة جيدة ينتفع بها في استحضار مسائل الفقه والإشارة إلى أحكامها من معرفة من خارج فيكون عمادا على غيره وأما إن الفقه يتناول منه فلا وغاية من يحفظه أن تحصل له فضيلة في نفسه لأفقه والفضيلة ثلاثة أقسام أحدها معرفة الأحكام الشرعية الفروعية وتناولها من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة المعتبرين ومعرفة مأخذها وهذا هو الفقه وأصحابه هم المسمون بالعلماء
والثاني معرفة العلوم الشرعية مطلقا كالتفسير والحديث وأصول الدين من غير تنزيل إلى المدارك الفقهية وأصحابه يسمون علماء
والقسم الثالث فضائل خارجة عن القسمين وهي في العلوم قريبة من الصنائع فهذه أصحابها وإن سميناهم فضلاء لا نسميهم فقهاء ولا علماء وإنما يغلط كثير من الناس فيهم يعتقدون أنهم فقهاء أو علماء لكونهم لا يفرقون بين الفضلاء والعلماء والفقهاء والمشتغلون بالحاوي خاصة من القسم الثالث
ثم بلغني بعد ذلك أن الفتوى في ذلك غيرت إلى الصورة المذكورة في هذه الورقة واستفتى عليها لعل أحدا يوافق عليها فلا أدري هل وافقه واحد عليها أو لا ولكن نقل نقل ولا أعلم صحته أن بعض الناس وافق على ذلك وظن أنها مسألة الأجير المشترك وهذا إن كان وقع جهل عظيم وبعد عن حقيقة الفقه بل عن معرفة أحوال الناس
ثم حضرت إلي هذه الورقة ومعها ورقة مثلها في السؤال وعليها جواب بخط الشخص الذي كتب أولا بعدم الضمان وسألني محضرها هل هذه تلك أو غيرها فقلت بل غيرها فإن السؤال غير السؤال والورق غير الورق ولا يشبهه وتعجبت من شخص يصدر منه هذا فإن دأب أهل العلم
____________________
(1/448)
إذا صدر منهم خطأ الاعتراف لا التمادي والتلبس وقال لي قائل إنهم أنكروا مني لفظة الاستصناع فيالله للجهل هذه عبارة الشافعي في الأم وعبارة الأصحاب المتقدمين وعبارة الفقهاء من غيرهم فكيف يخفى ذلك على فقيه فينبغي لمن هذا حاله أن يصون نفسه عن الوقوع في أمثال هذا خير له وللحروب رجال يعرفون بها وللدواوين كتاب وحساب والعلم صعب لا ينال بالهوينا وليست كل الطباع تقبله بل من الناس من يشتغل عمره ولا ينال منه شيئا ومن الناس من يفتح عليه في مدة يسيرة وهو فضل الله يؤتيه من يشاء أما السؤال المذكور في هذه الورقة فقد رأيت هذا الشخص المشار إليه أجاب في ذلك بأنه يلزمه الضمان إذا لم يكن مقصرا في حفظه إذ يده يد أمانة
وهذا الجواب خطأ أيضا إذا فرضت الصورة هكذا فإن الصورة إذا لم يكن فيها غير ما ذكر حقيقتها توكيل فاسد لأن ما يحتاج إليه البسط مجهول والتوكيل في المجهول لا يصح وإذا كانت الوكالة فاسدة فكل ما يشتريه الوكيل من صوف وغيره واقع له لا يملكه الموكل فإذا صنعه بسطا وتلف تلف على ملك الصانع فليست يده على البسط يد أمانة لأن يد الأمانة إنما تكون إذا كانت البسط لغيره وهذه لنفسه والدراهم في يد الوكيل ولم يسأل المستفتي عنها فالجواب أنه لا يغرم البسط وأنها في يده أمانة خطأ
ولو فرضنا أن التوكيل صحيح وأن الصوف ملك الدافع فالصنعة ملحقة بالأعيان وحكمها بالنسبة إلى الأجرة حكم المبيع بالنسبة إلى الثمن ويد الصانع عليه يد ضمان لا يد أمانة فالقول بأنها يد أمانة خطأ ويبين ما يضمنه من ذلك مما لا يضمنه ما يعرض له فإن فرض صورة أخرى فهي لم تذكر ولو لم يكن في خطأ الجواب المذكور إلا أنه إطلاق في موضع التفصيل ونحن إذا طلب منا الجواب عما ذكر في هذه الورقة وذكرنا تفصيلا فيه وبيانا لحكمه إن شاء الله تعالى انتهى
كتاب إحياء الموات وتملك المباحات مسألة قال الشيخ الإمام قدس الله روحه ونور ضريحه وجعل أبواب الجنان بين يديه مفتوحة إذا شغرت وظيفة وحضر إلى القاضي من هو أحق بها وولاية القاضي شاملة لها وجب عليه توليته ومتى أخر بغير عذر عصى وإن كان أهلا ولم يتبين أنه أحق ولم يعارضه غيره وجب عليه أيضا إلا أن يكون في مهلة النظر في الترجيح بينه وبين غيره ولا يعذر بكونه يخشى أن لا ينفذ ذلك بل عليه فعله لقوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها والقاضي مؤتمن على الوظائف فيجب عليه أداؤها إلى أهلها ولقوله صلى الله عليه وسلم من سبق إلى
____________________
(1/449)
ما لم يسبق إليه فهو أحق به وهذا سبق ولم يعارضه معارض ولم يعذر أيضا بكون الأحب التوقف حتى ينظر ما يرسم به الأمير لأن أمر الشرع مقدم على كل أمر إلا أن يخشى من الأمير فيكون كالإكراه والله أعلم انتهى
مسألة جرى الكلام فيما إذا ورد اثنان على ماء مباح وهما محتاجان وحاجة أحدهما أكثر فهل يجوز للآخر المبادرة إلى الأخذ منه أجاب الشيخ الإمام رحمه الله بما نصه ذكر الماوردي في باب التيمم أنه يكون مسيئا واستطرد البحث بين الفقهاء عندي في الغزالية إلى نظيره في مال بيت المال وإن الإمام لا يجوز له تقديم غير الأحوج على الأحوج ولو لم يكن إمام فهل لغير الأحوج أن يتقدم بنفسه فيما بينه وبين الله إذا قدر على ذلك وملت إلى أنه لا يجوز واستنبطت ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم إنما أنا قاسم والمعطي الله وجه الدلالة أن التمليك والإعطاء إنما هو من الله لا من الإمام فليس للإمام أن يملك أحدا إلا ما ملكه الله تعالى وإنما وظيفة الإمام القسمة والقسمة لا بد أن تكون بالعدل ومن العدل تقديم الأحوج والتسوية بين متساوي الحاجة فإذا قسم بينهما ودفعه إليهما علمنا أن الله ملكهما قبل الدفع وأن القسمة إنما هي معينة لما كان مبهما كما هو بين الشريكين فإذا لم يكن إمام وبدر أحدهما واستأثر به كان كما لو استأثر بعض الشركاء بالمال المشترك ليس له ذلك انتهى
مسألة في حوض سبيل هل يمنع من يستقي منه من السقايين أجاب الشيخ الإمام رحمه الله لا يمنع إذا لم يعرف شرط واقفه بتخصيصه إلا أن يسبق إليه أحد ممن يشرب أو يسقي دابة ونحوها فيقدم السابق ويتأخر المسبوق حتى يفرغ السابق حاجته وهذا حكم أحواض السبيل كلها يقدم السابق أبدا لشرب أو دابة أو استقاء أو بغل ويتأخر المسبوق فإن استويا في السبق وتنازعا أقرع بينهما والله أعلم انتهى
مسألة سئل عن أنهار دمشق ومجاريها هل هي مملوكة أم لا
والذي أقوله أن الأنهار المذكورة ومجاريها العامة ليست مملوكة بل هي مباحة لا يجوز لأحد تملكها وأما وقف على جميع المسلمين ولا شك أن الأنهار الكبار كالنيل والفرات مباحة كما صرح به الفقهاء في كتبهم ولا يجوز تملك شيء منها بالإحياء ولا بالبيع من بيت المال ولا بغيره وكذلك حافاتها التي يحتاج عموم الناس إلى الارتفاق بها لأجلها والأنهار الصغيرة التي حفرها قوم مخصوصون معروفون مملوكة لهم مشتركة لهم كسائر الأملاك المشتركة
والأنهار المجهولة الحال إذا كانت
____________________
(1/450)
في أيدي الناس فحكمها حكم المملوكة لأن اليد دليل الملك أما هذه الأنهار فليس واحد منها في يد أقوام مخصوصين ولا المجاري التي يصل إليها الماء منها وإنما في يد أقوام مخصوصين بدمشق وبظاهرها أملاك لهم من دور وطواحين وحمامات وغيرهما من أملاك وأوقاف بدمشق وبضياع في ظواهرها وغوطها ومروجها وتلك المجاري يصل فيها الماء إليهم منها ويضاف إليها إضافة تخصيص لا إضافة ملك وأيديهم إنما هي على أملاكهم خاصة لا تتجاوزها
ولو كانت تلك المجاري والحقوق توجب لهم ملكا فيها أو في النهر لوجب العلم بها عند الشراء والوقف ونحوه وليس ذلك بواقع بعلم إنما في أيديهم وملكهم على ما هو في الصورة الظاهرة وإنما لمن كان له حق من ذلك النهر في إجراء ذلك الحق إليه وذلك المجرى والواصل إليه يجب تمكينه منه ومن إجراء الماء فيه ما لم يعرف أنه بغير حق ولا يملك من أرضه خارجا عن حد ملكه شيئا ألبتة بل ذلك إما مباح وإما وقف وإنما قلنا لأنه إن كان جرى عليه أثر ملك كافر قبل الفتح ودخل في الفتح فقد شمله وقف عمر رضي الله عنه كسائر الأراضي وكأرض السواد سواء كان أرضا كأرض نهر بردا أو ثورا أو باناس وغيرها أو بناء كالقنوات والمجاري التي داخل دمشق وخارجها والدور المبنية التي يصل الماء فيها إليها والتصرف فيها كالتصرف في الأوقاف العامة وللناظر في الأمور العامة التصرف فيها بالفتح لمن يرى اتصالا إليه على الوجه لأن الماء مباح بقوله صلى الله عليه وسلم الناس شركاء في ثلاث الماء والنار والكلأ وأرض النهر وحافاته كما قلنا فلا يمتنع على الناظر العام ذلك
وإن لم يجر عليه أثر ملك فهو على الإباحة الأصلية لكل أحد الانتفاع به منه فهذا مقام ينبغي أن يتقرر ويفهم
وحكم الأنهار المباحة صغيرة كانت أو كبيرة أن الأعلى يسقى قبل الأسفل بالسنة الصحيحة الثابتة التي حكم بها النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير والأنصاري وذلك فيما إذا لم يسبق حق الأسفل أما إذا سبق كما إذا سبق واحد فأحيا مكانا إلى جانب وشط النهر ثم جاء آخر فأحيا مكانها على فوهة النهر فهو أعلى ولا يتقدم على الأسفل لأن الأسفل سبق بالاستحقاق فإذا وجدنا مكانين أعلى وأسفل وجهلنا السابق منهما وليس لأحدهما ما يدل على تقديمه قدمنا الأعلى على الأسفل وإن وجدنا للأسفل شربا ولم نجد للأعلى شربا وأراد أن يحدث شربا لأنه أعلى منعناه أن يتقدم على الأسفل لأنا نستدل بشرب الأسفل على تقديمه
إذا عرف هذا فهذه القنوات والمجاري التي في دمشق وظواهرها قد ثبت بها حق لكل من هي له فلا يبطلها وليس لمن هو أعلى منه أن يحدث شربا
____________________
(1/451)
يتقدم به عليه
نعم له أن يأخذ من النهر ما لا يضر بالأسفل ويستقل بذلك إن كان ملكه مجاورا لماء النهر بحيث لا يكون تصرفه إلا في الماء المباح وبإذن الإمام إن كان ملكه مجاورا لحافة النهر المشترك بين المسلمين فإذا لم يكن فيه ضرر فحق على الإمام تمكينه منه إذا كان له حاجة إليه وإن كان فيه ضرر فلا يجوز تمكينه منه إلا إن كان حقا ثابتا له عليه أن يستوفيه سواء أضر بغيره أم لا ما لم يزد الضرر على المقدار المستحق
فمن ذلك صورة وقعت الآن بدمشق وهي الخانقاه السميساطية والخانقاة الأندلسية لهما على ما دل عليه كتاب وقفهما حق من نهر القنوات ولم يعين في الكتاب لكن لهم طريق إلى تعيينه وعادة
ومن عاداته أن يمر في مكان ويصل إليهم منه وكان ذلك المكان بستانا لغيرهم فحكر وحدثت فيه أبنية فاستولى أصحاب تلك الأبنية على الماء وعملوا عليه جنينات يمتنع بسببها وصول ماء الصوفية إليهم فأراد الصوفية فتح مكان من البداة قريب من بستانهم يصل منه قدر حقهم من الماء إلى بستانهم وسد ذلك المكان الذي منه ذلك الماء في الحكر فنظرت في ذلك فوجدت متى فتح الصوفية ما يقصدونه مع بقاء المكان الأول المفتوح أضر ذلك ببقية أهل النهر لنقص الماء الذي يصل إليه بزيادة على المستحق ومتى بقي الآن على حاله تضررت الصوفية ومتى سد عن الحكر بالكلية تضرر أصحاب الحكر ولهم حق الشرب والوضوء لمروره إليهم والعرف يقتضي فيما يمر من الماء بذلك فرأيت أن يبقى لأهل الحكر حق ولبستان الخانقتين حق وجعله نصفين بعيد لأن حاجة البستان أكثر من حاجة شرب الآدمي ووضوئه فرأيت المصلحة في أن يكون لأهل الحكر ثلثه وللصوفية ثلثاه فيبقى من المعلم المفتوح إلى الحكم ثلثه ويسد ثلثاه فإن أمكن الصوفية بناء مجرى في تلك الأرض يتعذر على أهل الحكر الوصول إليه بحيث يمر الماء إليهم منه فعلا وإلا فيرمى ماؤهما أعني ماء الثلثين على ماء الرواة يمر فيها إلى قرب بستان الصوفية يفتح لهم من الرواة بإذن ولي الأمر مقدار ويدخل لهم منه قدر ثلثي الماء الذي كان يدخل من ذلك الحكر ليمر بهم منه فإن هذا أمر موثوق به ومتى قيل لأهل الحكر لا تسقوا به شجرا لا يوثق بوفائهم بذلك فهذا الذي رأيته هو أقرب إلى العدل وإن لم يكن فيه مجرى المستحق لغيره والله أعلم
كتب في يوم الثلاثاء العشر الأول من ربيع الأول سنة أربع وخمسين وسبعمائة بالدهشة انتهى
____________________
(1/452)
453 فصل للشيخ الإمام رحمه الله تعالى مصنفات في مياه دمشق وإجرائها وحكم أنهارها هذا أحدها قال رحمه الله ومن خطه نقل الكلام في أنهار دمشق وما يتعلق بها في مسائل أحدها أرض النهر وهي القرار الذي يمر عليه الماء
الثانية الماء الذي يمر فيه
الثالثة حافاته
الرابعة المجاري الخارجة منه التي لا بناء فيها
الخامسة الأبنية التي في المجاري المبنية قبل دخولها إلى البلد
السادسة بعد دخولها إلى البلد وقبل وصولها إلى شخص بعينه
السابعة بعد وصولها إلى ملك شخص بعينه وجريانها فيه
الثامنة بعد خروجها منه إلى غيره
التاسعة الأماكن التي يشرب منها ما يحدث بين تلك الأماكن وأعلى منها وأسفل منها
العاشرة في منتهاها التي تنتهي إليها تلك المياه
المسألة الأولى أرض النهر وقد قال الفقهاء إن النهر إن كان عظيما كالدجلة وكالنيل والفرات فهو مباح لا ملك فيه لأحد وهكذا سيحون وجيحون ومياه الأودية والموات والعيون التي في الجبال التي لا صنيع للآدميين في إبطالها وإجرائها كل ذلك لا ملك فيه لأحد ولا في مقره ومجراه فإن حضر إليه اثنان أو أكثر أخذ كل واحد ما شاء إن قل الماء أو ضاق المشرع قدم السابق فإن جاء اثنان معا أقرع بينهما فإن أراد أحد السقي وهناك محتاج إلى الشرب فالشرب أولى ومن أخذ منه شيئا أو جعله في حوض ملكه إلا على وجه ضعيف انفرد صاحب النهاية بنقله وإن دخل شيء منه ملك إنسان بسبيل فليس لغيره أخذه ما دام فيه لامتناع دخوله ملكه بغير إذنه ولو فعل فهل يملكه أو للمالك استرداده فيه وجهان أصحهما الأول وإذا خرج من أرضه أخذه من شاء وإذا أراد قوم سقي أرضهم من هذا الماء فإن كان النهر عظيما يكفي الجميع سقى من شاء متى شاء ولو كان الماء يجري من النهر العظيم في ساقية غير مملوكة بأن انحرفت بنفسها سقى الأول أرضه ثم يرسله إلى الثاني ثم الثاني إلى الثالث وكم يحبس الماء في أرضه وجهان الذي عليه الجمهور حتى يبلغ إلى الكعبين والثاني يرجع في قدر السقي إلى العادة والحاجة
قال الماوردي ليس التقدير بالكعبين في كل الأزمان والبلدان لأنه يقدر بالحاجة والحاجة تختلف باختلاف الأرض وباختلاف ما فيها من زرع وشجر وبوقت الزراعة وبوقت السقي وحكي وجه عن الداركي أن الأعلى لا يقدم على الأسفل لكن يسقون بالحصص وهذا غريب باطل وهو
____________________
(1/453)
مذهب أبي حنيفة والظاهر أن صوره في صورة التنازع قبل دخول الماء وبعد دخوله ولكن له حق الاختصاص بجميعه والماء مباح في موضع غير مملوك وكل من كانت أرضه أقرب إلى النهر قدم ولو كانت أرض بعضها مرتفع وبعضها منخفض ولو سقيا معا لزاد الماء في المنخفضة على الحد المستحق أفرد كل بعض بالسقي بما هو طريقه وطريقه أن يسقي المنخفض حتى يبلغ الكعبين ثم يسده ثم يسقي المرتفع وإذا سقى الأول ثم احتاج إلى سقي مرة أخرى مكن منه على الصحيح ولو تنازع اثنان أرضاهما متحاذيان أو أرادا شق النهر من موضعين متحاذيين يمينا وشمالا فهل يقرع أو يقسم بينهما أو يقدم الإمام من يراه فيه ثلاثة أوجه أصحها يقرع ولو أراد رجل إحياء موات أو سقيه من هذا النهر إن شق على السابقين منع لأنهم استحقوا أرضهم بمرافقها والماء من أعظم مرافقها وإلا فلا منع وإذا كان زرع الأسفل يهلك إلا أن ينتهي إليه الماء لم يجب على من فوقه إرساله إليه وإذا أحيا على النهر الصغير رجل أيضا مواتا هي أقرب إلى فوهة النهر من أراضيهم فإنهم أحق بمائه فإذا فضل عنهم شيء سقى المحيا منه ولا نقول إن هذا الماء ملك لهم كما إذا جاوزه ملكوه وإنما هو من مرافق ملكهم فكانوا أحق به مع حاجتهم إليه فما فضل منهم كان لمن أحيا على ذلك الماء مواتا قاله القاضي أبو الطيب
عمارة حافات هذه الأنهار من وظائف بيت المال ويجوز أن يبني عليها من شاء قنطرة لعبور الناس إن كان الموضع مواتا وأما بين العمران فهو كحفير النهر في الشارع لمصلحة المسلمين ويجوز بناء الرجل عليها إن كان الموضع ملكا له أو مواتا وإن كان بين الأرض المملوكة وأضر بالملاك لم يجز وإلا فوجهان أحدهما المنع كالتصرف في سائر مرافق العمارات وأصحهما الجواز كإسراع الجناح في السكة النافذة ولو أراد أن يبيع شيئا من ذلك الماء وهو معه قبل أن يحوزه لم يجز وإذا لم يصعد الماء إلى أرضه إلا بأن يبني في عرض النهر دسكرة فقطع الماء من دونه فله أن يبني الدسكرة لقصة الزبير لا حبس الماء لا يمكن إلا بإحداث دسكرة في عرض النهر وإذا كان النهر كبيرا غير مملوك فمن أراد أن يأخذ منه بصيغته شربا أو يجعل له إليه تبعيضا لم يمنع ولا يمنع من حبس مائه في أرضه أما الأنهار والسواقي المملوكة بأن حفر نهرا يدخل فيه الماء من الوادي العظيم أو من النهر المحرق منه فالماء باق على إباحته ومالك النهر أحق به وليس لأحد مزاحمته لسقي الأرضين وأما للشرب والاستعمال وسقي الدواب فقال أبو عاصم والمتولي ليس له المنع ومنهم من أطلق أنه لا بد لي فيه أحد
____________________
(1/454)
ولو إذ يجوز لغيره أن يحفر فوق نهره نهرا إن لم يضيق عليه فإن ضيق فلا وإن اشترك جماعة في الحفر اشتركوا في الملك على قدر عملهم فإن شرطوا أن يكون معهم قدر ملكهم من الأرض فليكن عمل كل منهم على قدر أرضه
فإن زاد واحد متطوعا فلا شيء له على الباقين وإن زاد مكرها أو شرطوا له عوضا رجع إليهم بأجرة ما زاد وليس للأعلى حبس الماء عن الأسفل وإذا اقتسموا الماء بالأيام والساعات جاز ولكل واحد الرجوع ولو رجع بعد ما استوفى نصيبه وقبل أن تستوفى له أجرة نصيبه من النهر للمدة التي أجرى فيها فإن اقتسموا الماء نفسه فكالقناة المشتركة فيقسم بنصب خشبة مستوية للأعلى والأسفل في عرض النهر ويفتح فيها ثقب متساوية أو متفاوتة على قدر حقوقهم ويجوز أن تكون الثقب متساوية مع تفاوت الحقوق إلا أن صاحب الثلث يأخذ ثقبة والآخر ثقبتين ويسد كل واحد نصيبه في ساقية إلى أرضه أن يدير رحا بما صار إليه ولا يشق أحد منهم ساقية قبل القسم ولا ينصب عليه رحا
فإن اقتسموا بالمهايأة جاز أيضا وقد يكون الماء قليلا ولا ينتفع به إلا كذلك ولكل واحد الرجوع في الأصح وقيل لا تصح القسمة بالمهايأة وقيل يلزم ولو أراد أحدهم أن يأخذ نصيبه من الماء ويسقي به أرضا ليس لها رسم شرب من هذا النهر منع ولو أرادوا قسمة النهر عرضا جاز ولا يجري فيها الإجبار كما في الجدار الحامل ولو أراد الشركاء الذين أرضهم أسفل توسع فم النهر لم يجز إلا برضا الأولين لأنهم شركاء وقد يتضررون وكذا لا يجوز للأولين تضييق فم النهر إلا برضا الآخرين وليس لأحد منهم بناء قنطرة عليه أو رحا أو غرس شجرة على حافته إلا برضا الشركاء ولو أرادا أحدهم تقديم رأس الساقية التي يجري فيها الماء إلى أرضه أو تأخيره لم يجز لأنه تصرف في الحافة المشتركة
ولو كان لأحدهم ماء في أعلى النهر أجراه في النهر المشترك برضا الشركاء ليأخذه من الأسفل ويسقي أرضه فله الرجوع متى شاء ولأنه عارية وسقية هذا النهر وعمارته على الشركاء بحسب الملك وهل على كل واحد عمارة المستغل عن أرضه وجهان أحدهما لا والثاني نعم وهو الأصح عند العبادي لاشتراكهم وكل أرض أمكن سقيها من هذا النهر إذا رأى لها ساقية منه ولم يجد لها شربا من موضع آخر حكمنا عند التنازع بأن لها شربا منه ولو تنازع الشركاء في النهر في قدر أنصبائهم فهل يجعل على قدر الأرضين أو بالسوية وجهان أصحهما الأول
ولو صادفنا نهرا تسقى منه أرضون فلم ندر أنه حفر أم انحرف حكمنا أنه مملوك لأنهم أصحاب يد وانتفاع ولا يقدم
____________________
(1/455)
بعضهم على بعض
قلت أما عدم تقديم بعضهم وأما كونه مملوكا ففيه نظر وينبغي أن يقال إنه مختص بهم خاصة واليد إنما تدل على ذلك وإن كانت اليد تدل على الملك في غير هذه الصورة ولكن هنا عارض الملك أن العرف يقضي بعدم تمكنهم من بيعه والتصرف فيه وإنما يملكون أملاكهم التي يسقونها منه ولهم حق سقيها منه وذلك اختصاص به لا ملك له وصاحب التتمة فرضه في نهر على حافتيه أراض منه تسقى وهذا قريب لأن أصحاب الأراضي المجاورة له قد يقال إنهم لإحاطتهم به أصحاب أيد بخلاف ما إذا كانت الأراضي التي تسقى به بعيدة والمجاري منه إليها يتخلل بينها إيذان لغيرهم فالقول بأن من يسقي منه مالك له لا وجه له ولا أظن أحدا يقوله فلتحمل هذه المسألة على ما فرضه صاحب التتمة ومياه دمشق ليست كذلك والله أعلم
والنهر المملوك إذا باع واحد من الشركاء فيه الأرض المملوكة له مطلقا لم يدخل الشرب في البيع وإن قال بعتك الأرض بحقوقها الداخلة والخارجة هل يدخل في البيع وجهان في التتمة أحدهما لا يدخل إلا بالتنصيص لأنه مستقل يقبل الانفراد فإنه لو باع نصيبه من النهر صح وكذا الحكم في إجارة الأرض وعند أبي حنيفة الشرب يدخل في إجارة الأرض وإذا أراد أن ينقل الحق في نفس الشرب إلى موضع بقي ملكه في النهر ببيع أو هبة أو صدقة في النهر يأخذ الماء من نهر كبير لا يجوز لأن الماء ليس بملك له وإن قال اسق أرضي من شربك لأسقي أرضك من شربي لم يصح لأنه إذا لم يجز مقابلته بمعلوم فبالمجهول أولى فلو سقى أحدهما وامتنع الآخر استحق أجرة مثل المجرى في تلك المدة ولو حفر نهرا وأجرى فيه الماء من نهر عظيم فجاء آخر وأراد أن يحفر فوقه نهرا ويجري فيه الماء من النهر إما على الحافة أو متصلة بأرض على الحافة قال المتولي فإن رأينا ساقية مادة من النهر إليها نحكم بأن لها شربا من النهر وإن لم يكن هناك ساقية فإن كان لها شرب من نهر آخر لم يجعل لها شرب من النهر عند التنازع وإن لم يكن لها شرب آخر كان صاحبها شريكا لأهل النهر لأن الأرض المعدة للزراعة لا تستغني عن شرب وليس للأرض شرب آخر فدل ظاهر الحال على أن شربها من النهر ولو كان النهر ينصب في أجمة مملوكة وحوالي النهر أراض مملوكة فتنازع أربابها وصاحب الأجمة في الماء يقسم الماء بين الجميع لأنا جعلنا النهر مملوكا لأهلها فلا يختص بالماء البعض دون البعض
وقد يرد هذا على ما قلناه في المسألة المتقدمة عن التتمة والجمع بينهما أن هذه وتلك في أراض محيطة بالنهر سواء جاورته كلها أو كان بعضها بل يقضى وكلامنا في ما هو في أراض محيطة بالنهر ما ليس
____________________
(1/456)
صاحبه مالكا لشيء من النهر ولكن يمر عليها الماء إلى أماكن يسقى منه ولو أراد بعض الشركاء أن يشق إلى النهر ساقية أخرى يسوق فاضل الماء إلى موات بجنبه أو إلى أرض مملوكة لم يجز إلا بإذن الشركاء
إذا عرف هذا فأنهار دمشق إما بردى فلا أشك أنه غير مملوك لأنه مذكور في شعر حسان بن ثابت فهو موجود في ذلك الوقت وقبله فأرضه والعين التي يجري الماء فيها منها إما مباحة وهو الظاهر وإما أن يكون كان مملوكا لكفار وانتقل عنهم إلى المسلمين فيئا باقيا على ذلك أو وقفا من عمر بن الخطاب رضي الله عنه كأرض السواد وأيا ما كان فليس ملكا لأحد وأما بقية الأنهار التي فيها مثل يزيد وثورا وباناس ونهر المزة ونهر قبيبة المسمى نهر القنوات وغيرها فالظاهر أيضا أنها كذلك وأنها متقدمة لأن دمشق مذكورة في الزمن القديم وأنها ذات أنهار ويحتمل أن تكون حادثة بعد الإسلام وإذا كان كذلك فما كان بانحراف في موات فليس بمملوك وما كان بحفر فإن قصد به من حفره الإباحة فكذلك وإن قصد نفسه فملك له لكنه الآن لا يعلم هو ولا ورثته فهو لعموم المسلمين وعلى التقدير الأول لا يجوز للإمام تخصيص طائفة بجميعه ولا بيعه بخلاف الأملاك المنتقلة إلى بيت المال التي يعطي منها ويبيع منها لأن هذه الأنهار نفعها لمن هو موجود ولمن يأتي يوم القيامة وتشتد ضرورة الناس جميعهم إلى الشرب منها واستعمالها والسقي منها فليس للإمام تعطيل ذلك عليهم بالتخصيص أو البيع بخلاف تخصيص بعض المسلمين بدراهم أو دنانير أو بأرض إن جاز له ذلك في الأرض حيث لا تشتد ضرورة عموم المسلمين إلى تلك الأرض بخلاف ما نحن فيه
ومتى جهل الحال هل هو بانحراف أو بحفر فلا نعتقد الحالين وقد قلنا على الحالتين إنها لعموم المسلمين فبذلك تبين أنها لعموم المسلمين ولا يرد على ذلك إلا ما قدمناه من أنا لو صادفنا نهرا تسقى منه أرضون فلم ندر أنه حفر أو انحرف حكمنا بأنه مملوك ونحن قد قدمنا استشكال ذلك ويمكن فرضه فيما إذا علمت أيديهم الخاصة عليه كسائر الأملاك
والواقع في هذه الأنهر التي في دمشق أنها بما في أيديهم على أملاكهم ويقولون في الكتب بحقها من النهر ومقتضى ذلك أنه إنما لهم من النهر حق لا ملك ويعتضد هذا بأصول منها أن الأصل عدم الحفر ولا يقال الأصل عدم الانحراف لأن الحفر بفعل فاعل والانحراف بدونه فهو أصل ومنها أن الأصل عدم الملك فيثبته في المحقق وهو الدار مثلا لما تحققناه من سبب الملك فيها وثبوت يد خاصة عليها دون ما سوى ذلك ويستصحب عدم الملك في أرض النهر
ومنها لو أثبتنا الملك في أرض النهر لأصحاب
____________________
(1/457)
الأملاك لاحتيج عند شرائها والعقد عليها إلى معرفة مقدار ما لها من أرض النهر والمجرى الواصل منه إليه ولما صح الشراء إلا بذلك ولم نجد أحدا يفعل ذلك
ومنها أنه كان يجوز إفراده بالبيع ولم نجد أحدا يقول ذلك ويبعد حدا ولا ينحصر المستحقون له
ومنها أن فيه تعطيل الحقوق العامة لحقوق المسلمين الموجودين والذين سيوجدون ومنها أن يلزم تمكين أهل الأملاك من منع من يشرب أو يستعمل من تلك الأنهار
وهذه الأمور كلها في غاية البعد نشأت من القول بكونها مملوكة والقول بإثبات اختصاص من غير ملك لا يترتب عليه شيء من المفاسد فهذا حكم القرار الذي يمر عليه ويظن بعض الناس أن نهر يزيد إنما حفره يزيد بن معاوية والذي ذكره ابن عساكر في تاريخه عن مكحول سأل عن نهر يزيد فقال أخبرني الثقة أنه كان نهرا ببناطيا يسقي ضيعتين لقوم يقال لهم بنو قوفا لم يكن فيه لأحد شيء غيرها فماتوا زمن معاوية من غير وارث فأخذ معاوية ضياعهم وأموالهم فلما ولي يزيد نظر إلى أرض واسعة ليس له فيها ماء وكان بهدينا فنظر إلى النهر فإذا هو صغير فأمر بحفرة فمنعه من ذلك أهل الغوطة فتلطف على أن ضمن لهم خراج سنتهم من ماله فأجابوه إلى ذلك فاحتفره ستة أشبار في عمق ستة أشبار وله مثل ذلك فلما ولي هشام بن عبد الملك سأله أهل حرستا شرب شفاههم وماء لمسجدهم فكلم فاطمة بنت عاتكة ابنة يزيد في ذلك فأجابته على أن احتفر ساقية تجري إليهم للشرب وفتح لهم حجرا فترا في فتر مستدير وسأله مولاه عبد العزيز أن يجري له شيئا يسقي ضيعته فأجابه وفتح له ماصية ثم سأله خاله ففتح له ماصية قال وقل الماء في العين لكرائها فدخلوا لكرائها فبينما هم كذلك إذا هم بباب من حديد مشبك يخرج منه الماء من كوى فيها يسمعون داخلها خرير ماء كثير ويسمعون صوت اضطراب السمك فيها فكتبوا إلى سليمان بذلك فأمرهم أن لا يخرجوا شيئا وأن يكروا بين يديه فأكروا ولم يزل كذلك إلى ولاية هشام فشكا أهل بردا إليه قلة الماء فأمر القسم بن زياد أن يميز لهم الأنهار فمازها فأعطى أهل نهر يزيد ستة عشر مسكبة والفرق الكبير وهو نهر المزة خمس مساكب والفرق الصغير وهو نهر القيراط أربع مساكب ونهر داريا ست عشرة مسكبة ونهر ثورا اثنين وأربعين مسكبة وفيه يومئذ أربع عشرة ماصية وليس عليها رحا ونهر قينية إحدى عشرة مسكبة ونهر بانياس ثلاثين مسكبة وجعلت مسكبة ليزيد بن أبي مريم وثلاث مساكب حلت للفضل بن صالح الهاشمي بعد ذلك ونهر مجدول اثنتي عشرة مسكبة ونهر داعية ثلاث عشرة ونهر
____________________
(1/458)
حيوة وهو الزلف اثنتي عشرة مسكبة ونهر التومة العليا خمس مساكب ونهر التومة السفلي أربع مساكب ونهر الزوابون أربع مساكب ونهر الملك أربع مساكب فالجملة مائة واثنتان وثلاثون مسكبة ولكن ينضم من نهر ثورا وغيره إلى بعض هذه الأنهار ماء كثير والقناة لم تمز يومئذ تأخذ ملء جنبتيها
وكان الوليد بن عبد الملك لما بنى الجامع اشترى ماء من نهر السكون يقال له الوقية فجعله في القناة إلى الجامع والحجر شبر ونصف في شبر ونصف وبيت الثقب شبر في أقل من شبر على أنه إذا انقطعت القناة واعتلت ليس لأحد أن يأخذ من مال الوصية شيئا ولا لأصحاب القساطل فيها حق فإذا حرز يأخذ فلان حقه ويفتح القساطل على الولاء قال يزيد أنا أدركت القناة يدخل فيها الرجل فيسير فيها وهي مسقوفة على يده فلا ينال سقفها وليس فيها شيء مثلوم
وذكر ابن عساكر القنى المسيلة بنفق مائة ونيف وثلاثين قناة وبظاهر التوسع غير قناة
المسألة الثانية الماء الذي يمر فيه فهو مباح على كل تقدير وذلك معلوم مما قدمناه في الأنهار المملوكة وإن مالكيها إنما لهم في الماء حق الاختصاص وأن الشرب والاستعمال جائزان فيها لغيرهم وبذلك يعلم جواز ذلك من هذه الأنهر قطعا وليس لأحد أن يمنع شاربا أو مستعملا أو ساقيا لدوابه منها إذا لم يدخل إلى ملك غيره ولو جلس في ملكه وبينه وبين الماء حافة النهر وقد تحقق أنها مملوكة لغيره فمقتضى ما قدمناه عن أبي عاصم والمتولي أنه يجوز أن يمد يده ليغترف من مائه ومقتضى الوجه الذي حكيناه في منع إدلاء الدلو يحتمل أن يمنع من ذلك لمرور يده على هواء ملك غيره ويحتمل أن يفرق بأن الدلو يوجد فيه الماء للادخار والتملك والتناول باليد للشرب أسهل منه ولو فرضنا أن حافة النهر المملوك ليست مملوكة فلا شك في جواز ما فرضناه من الاغتراف لعدم التصرف في ملك الغير ولا في الهواء بل يجوز في مثل هذه الحالة إخراج ساقية من الماء إلى ملكه إذا كان مجاورا للماء للشرب منها ويستعمل ويسقي دوابه قطعا وإنما يمتنع عليه سقي الأرض وينبغي أن يجعل ذلك على وجه يرجع فائضه إلى النهر ولا يضيع على أهله سوى قيد الشرب والاستعمال والذاهب منه إلى قناة الوسخ وأما النظيف فيرجع إلى النهر
وإنما نبهت على ذلك لأني رأيت كثيرا من المياه بدمشق وخارجها النظيفة تذهب بغير انتفاع فلا يجعل لمن يقصد الشرب ونحوه أن يستأثر بمقدار من الماء يصير كالملك له وإنما يجعل له أن يصير ملكه طريقا له ليشرب ويستعمل ويسقي دوابه من ذلك الماء في مروره لحاجة
المسألة الثالثة حافاته وقد قلنا إنها كانت مملوكة فإذا يكون
____________________
(1/459)
حكمها بأن التصرف فيها لا يجوز لغير الملاك وإمرار اليد في هوائها وإدلاء الدلو ونحوه قدمنا حكمه أما إذا كانت غير مملوكة فلا يمتنع وحافات النهر دمشق مبنية كانت أو غير مبنية يجب أن يكون حكمها حكم أرض النهر وقد قدمناه فيجب الحكم أو يجوز بكونها غير مملوكة لأرباب الأملاك وأنها لعموم المسلمين كأرض النهر وحينئذ يجوز لكل أحد أن يجلس عليها وينتفع بالماء المجاور لها في النهر وخارجا عنه لشربه واستعماله وسقي دوابه بإذن وبغير إذن وأما فتح كوته في تلك الحافة فلا يجوز له الانفراد به إلا بإذن الإمام أو من له النظر العام فإن كان ذلك مما يضر لم يجز له أن يأذن له فيه ولا يجوز له فتحه وإن كان مما لا يضر جاز لمن له النظر العام الإذن فيه وجاز للمأذون له الفتح بالإذن إذا لم يكن ذلك ينقص حقا من حقوق أرباب السواقي الخارجة من ذلك النهر العالية والسافلة فإن نقص شيئا لم يجز
المسألة الرابعة المجاري الخارجة منها التي لا بناء فيها وإذا لم يعرف عليها يد خاصة فالظاهر أن حكمها حكم أرض النهر على ما ذكرناه بالطريق الذي قدمناه
المسألة الخامسة الأبنية التي فيها المجاري المبنية قبل دخولها البلد وحكمها حكم تلك المجاري لأن البناء إذا لم يعرف واضعه فحكمه حكم النهر الذي لم يعرف حافره فهو لعموم المسلمين والظاهر أنها قديمة عملت لمصالح دمشق وأهلها على العموم ومن ذلك المسمى بالدواة وهو بناء ممهد من نهر القنوات إلى المدينة
ورأيت فيه وفي غيره من جنسه مواضع قد فتحت لأحواض مسبلة هناك ليشرب الناس منها والدواب وينبغي أن يفعل ذلك على الوجه الذي قدمناه بحيث لا يخرج منه إلا الشرب فلا يظهر لي امتناعه بل يجوز وإن فعل على غير هذا الوجه امتنع ألبتة فإن كثيرا من الناس عملوا سبلانات بذلك ولم يظهر إنكارها مطلقا ولكن على الوجه الذي ذكرناه
المسألة السادسة بعد دخولها إلى البلد وقبل وصولها إلى ملك شخص بعينه وحكمها كالحكم الذي قدمناه قبل دخولها إلى البلد
المسألة السابعة بعد وصولها إلى ملك شخص بعينه وجريانها فيه فأما الملك ما سوى المجرى فلا شك أنه ملك صاحبه لبينته ويده وأما المجرى الذي في حدوده فهل نقول إنه ملكه لأنه في الظاهر جزء من ملكه وقد شمله حدوده وورد عليه شراؤه مثلا أو نقول بأنه كبقية المجرى قبل أن يصل إليه وبعد ما ينفصل عنه وإنه كالطريق وإن ذلك متقدم على ملكه وملكه طارئ عليه من جنسه هذا محل نظر لم يترجح عندي فيه شيء فإن كان الأول فله في الماء حق الاختصاص كما قدمناه في الماء
____________________
(1/460)
الذي يدخل في النهر المملوك وحكم إدلاء الدلو فيه على ما سبق ليس للشارب ولا لغيره أن يدخل إليه بسببه
وإن كان الثاني فللشارب حق الدخول لإصلاحه ومما يتفرع على ذلك أيضا أن على الأول يكون مرور الماء حقا له وعليه في ملكه وعلى الثاني يكون حقا له وعليه في حق ملكه لا في ملكه
المسألة الثامنة بعد خروجها منه إلى غيره الكلام في ذلك الغير كما في الذي قبله وليس لواحد منهما أن يزيد في الانتفاع على ما جرت به العادة ولا يحتسب عن الآخر ولا سقى به زرعا أو شجرا لم تجر به العادة
المسألة التاسعة الأماكن التي يشرب منها وما يحدث من تلك الأماكن وأعلى منها وأسفل منها وكلها مستحقة متساوية في الاستحقاق على ما هو معين في كتبهم وأيديهم ولا يتقدم منهم أعلى على أسفل ولا أسفل على أعلى لأنا لم نعلم ما سبق أولا فنجعلهم كلهم سواء في السبق وليس لأحد منهم أن يتصرف فيما يضر آخر إلا بإذنه إذا كان ممن يعتبر إذنه احترازا من الوقف وغيره حيث لا يمكن الإذن فيه وكذلك ليس لغيرهم أن يحدث استحقاقا من ذلك النهر يضر بهم أو يأخذوا بشيء من تلك المجاري فإن كان لا يضر فيجوز لما قدمناه من الإباحة وشرط ذلك إذن الإمام أو من النظر العام
المسألة العاشرة في منتهاها التي تنتهي إليه تلك المياه فإن انتهت إلى مكان موات أو مباح فإباحة صاحبه فهو على الإباحة وإن انتهت إلى مكان مملوك فكذلك لكن يختص به مالك ذلك المكان وهو كأحد أصحاب الأملاك الذي مر عليهم فله فيه حق كما لهم
وفي دمشق قنايات إحداها تسمى قناة الوسخ يخرج منه الماء الوسخ في نهر يسمى نهر الأنباط يسقي من الخضراوات وذلك النهر مقطع لمقطعين من بيت المال وربما بيع منه شيء من بيت المال وبيعه باطل لنجاسته ولما قلنا إن الماء مباح
فإن قيل إن في الماء الوسخ ما يملك بالحوز
فجوابه أن الملك زال بالإعراض عنه وأيضا اختلط المملوك بغير المملوك ولا شك أن البيع لا يصح في الماء وأما الأرض فإن كان بيت المال قد ملكها بطريق من الطرق صح بيعها وإلا فلا
وأما الإقطاع فقد ذكر الفقهاء أن إقطاع المعادن الظاهرة لا يجوز وهذا مثله لكن المفهوم من كلامهم أن ذلك في إقطاع التمليك أما إقطاع الإرفاق فالظاهر جوازه لأنه ينتفع به ولا يضيق على غيره وفيه نظر وأكثر الفقهاء لم أجدهم تكلموا فيه ولا في الإقطاعات التي يقطعها الإمام من بيت المال والله أعلم انتهى
كتاب الوقف سئل الشيخ الإمام رضي الله عنه ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين وفقهم
____________________
(1/461)
الله تعالى لطاعته في رجل حبس أماكن وجعل النظر فيها من بعده لابنته لصلبه ثم من بعدها لأولادها ينظر منهم أصلحهم حالا لا يزال ذلك فيهم الأصلح فالأصلح أبدا ما عاشوا وتناسلوا فإن انقرضوا ولم يبق منهم أحد ينتقل النظر من بعدهم لبنات ابنته المذكورة الصالحة منهن مقدمة في ذلك على غيرها لا يزال ذلك فيهن ما تناسلن الصالحة منهن أولى بذلك من غيرها فإن انقرضن على آخرهن انتقل النظر في ذلك لأولاد أولادها الأصلح فالأصلح على حسب ما تقدم في آبائهم طبقة بعد طبقة وجيلا بعد جيل الطبقة العليا تحجب الطبقة السفلى ومن صلح حاله من كل طبقة عليا كان أولى بذلك من غيره ممن هو في طبقته لا يزال ذلك فيهم ما داموا وتناسلوا فإن انقرضوا عن آخرهم صار النظر من بعدهم لبنات بنات ابنته المذكورة ثم لأولادهن الذكور طبقة بعد طبقة وجيلا بعد جيل الطبقة العليا تحجب الطبقة السفلى هل يكون النظر لبنت بنته أجاب رحمه الله بعد ما أخبرته بالإشكال الذي وقع في هذه الفتوى بثغر الإسكندرية المحروس وامتناع أهل الثغر من الكتابة عليها وكتب خطه الكريم في أصل الاستفتاء المرسل إليه من الثغر المذكور وهو ما مثاله الحمد لله النظر في هذا الوقف المذكور لبنت بنته ولا نظر لابن ابن بنته حتى تنقرض بنت البنت
ومقتضى هذا الوقف أن كل طبقة تحجب التي تحتها وأن كل طبقة مقدمون ذكورها على إناثها ولكن في عبارته قلق فنوضحه ونبين أنه يجب حمله على ما قلنا قوله لابنته لصلبه ثم من بعدها لأولادها إما أن يريد بالأولاد الذكور فقط استعمالا للعام في الخاص وإما أن يريد الذكور والإناث كما هو حقيقة اللفظ ثم بين حال الذكور منهم فقط بقوله ينظر في ذلك منهم أصلحهم وبقوله الأصلح فالأصلح فإنها صيغة تخص الذكور ظاهرا ويرجع الضمير في قوله فإن انقرضوا على الاحتمال الأول إلى الأولاد المراد بهم الذكور وعلى الاحتمال الثاني إلى الذكور من الأولاد والحكم واحد على التقديرين وهو أنه بعد انقراض الذكور من أولاد ابنته ينتقل النظر لبنات بنته ولا يستحق بنات الابن شيئا من النظر ما لم ينقرض بنو البنت والمراد من بني البنت الطبقة الأولى منهم ولا يندرج فيهم أولادهم لأن مقتضى قوله بعد ذلك إنهم مؤخرون عن بنات ابنته فيستحيل أن يحكم بدخولهم لهم قبلهن وإلا تناقض الكلام فالجمع بين الكلامين ما قلناه وليس فيه الإخراج قوله عن ظاهره وهي لفظة قلقة صدرت عن سوء كتابة وكان المراد بها ما عاشوا وأردفها بها تأكيدا وحملها على هذا أولى من تناقض الكلام
____________________
(1/462)
لأمرين أحدهما أن التناقض لا يصح بوجه من الوجوه وحمل هذه اللفظة على ما قلناه ممكن وإن كان بطريق المجاز
الثاني أن المجاز لا بد منه لأن الحكم بأن الأولاد يستحقون ما تناسلوا وأراد أنهم وأولادهم مستحقون ليس بحقيقة اللفظ بل هو مجاز فيه وإذا كان لا بد من ارتكاب مجاز فهذا المجاز وإن بعد أولى من إلغاء الكلام والحكم يناقضه
وكذلك قوله في بنات البنت ما تناسلن محمول على ما قلناه
وقوله فإن انقرضن عن آخرهن أي بنات البنت
وقوله انتقل النظر في ذلك لأولاد أولادها أي لبني بني البنت بالتقرير الذي قدمناه
وقوله على حسب ما تقدم في آبائهم أي الذكور من أولاد البنت على ما شرحناه أولا
وقوله بعد ذلك فإن انقرضوا عن آخرهم أي البنون
وقوله صار النظر من بعدهم لبنات بنات ابنته المذكورة وهو ما شرحه في الطبقة التي قبلها
وقوله ثم لأولادهن الذكور أي من الطبقة الثالثة من البنت وقد صرح هنا بالذكور كما دل عليه كلامه أولا على ما بينا وابن ابن بنته الموجود الآن داخل في قوله لأولاد أولاده الأصلح فالأصلح وبنت بنته الموجودة الآن داخلة في اللفظ الذي قبله فهي مقدمة عليه لا مرية فيه
وإنما أطلت في ذلك لأنه بلغني عن أهل الثغر اضطراب فيه وتوقف فيه والله أعلم انتهى
الفتوى العراقية امرأة وقفت على ذكور وإناث بالسوية فإن توفي واحد منهم عن ولد وإن سفل واحد أو أكثر رجع ماله لأقرب الطبقات إليه من ولده وإن سفل فإن لم يخلف ولدا فلإخوته الأشقاء ثم لغير الأشقاء ثم إلى من بقي من أهل طبقته ثم لأقرب الطبقات إلى الطبقة التي هو فيها على أن من توفي قبل استحقاقه شيئا من منافعه عن ولد وإن سفل ثم عادت شرائط الوقف إلى حال لو كان المتوفى فيها حيا لاستحق أقيم أقرب الطبقات إليه من ولده مقامه وعاد له ما كان يعود لمتوفاه لو كان حيا تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى فتوفيت امرأة من أهل الوقف تدعى فاطمة عن حصة ولم تترك سوى ست اليمن وهي بنت عمتها وسوى أولاد ثلاث أخوات لست اليمن مات الأخوات قبل وفاة فاطمة قبل انتهاء الوقف إليهن وبقي أولادهن فهل ينتقل نصيب فاطمة لست اليمن وحدها أو يشاركها فيه أولاد الأخوات وإذا قلنا بعدم المشاركة ثم توفيت ست اليمن عن ابنتين فهل تنفردان بحصة أمهما
أجاب رضي الله عنه في شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين ينتقل نصيب فاطمة لست اليمن التي هي بنت عمتها عملا بقوله إلى من بقي بعده من أهل طبقته
____________________
(1/463)
وأولاد أخوات ست اليمن محجوبون بخالتهم عملا بقوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى
وقد تعارض في هذا الوقف عمومان أحدهما هذا فإنه أعم من حجب كل شخص ولده خاصة ومن حجبه الطبقة السفلى بكمالها من ولده وولد غيره والثاني قوله أن من توفي قبل استحقاقه يقام أقرب الطبقات إليه من ولده مقامه وهذا أعم من أن يكون بقي من طبقة المتوفى أحدا ولا يحجب كل شخص بولده لا إشكال فيه ومحل التعارض في إقامة ولد المتوفى مقامه عند وجود أقرب منه وفي مثل هذا التعارض يحتاج إلى الترجيح ووجه الترجيح أن العمل هنا لعموم قوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى لا يوجب إلغاء قوله أن من توفي قبل استحقاقه يقام ولده مقامه لأنا نعمل به عند عدم من هو أقرب منه بخلاف العكس وهو أن نجعل هذا على عمومه ونقيم الولد مقام والده مطلقا فإن فيه إلغاء قوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى
وبيانه أن حجب الشخص غير ولده خارج منه على هذا التقدير وحجبه ولده إنما يحتاج إليه لو كان في اللفظ الأول ما يدخله وليس كذلك لأنه إنما وقف على الأقرب فلا يدخل ولد الولد مع وجود الولد فيه حتى يحترز عنه غاية ما في الباب أن يقال هو تأكيد والتأسيس أولى من التأكيد ونصيب ست اليمن بعد وفاتها لبنتيها تنفردان به والله تعالى أعلم
مسألة وقف على بناته فاطمة وملكة وعائشة أثلاثا لكل واحدة الثلث حياتها وبعدها لأولادها وإذا انقطع عقب واحدة منهن وعدم نسلها رجع نصيبها لعقب الواقف فتوفيت عائشة ولم تعقب وخلفت إخوتها فاطمة وملكة المذكورتين وطومان ويوسف ونفيسة أولاد الواقف توفيت ملكة عن أولاد ثم توفيت فاطمة ولم تعقب وخلفت طومان ويوسف ونفيسة ثم توفي طومان ويوسف ولكل منهما أولاد ثم توفيت نفيسة عن أولاد فكيف يقسم ريع الوقف بين أولاد ملكة وأولاد طومان وأولاد يوسف وأولاد نفيسة الجواب لأولاد ملكة الخمسان ولأولاد طومان الخمس ولأولاد يوسف الخمس ولأولاد نفيسة الخمس والله أعلم انتهى
مسألة وقف في مرض موته أملاكا تقدير أجرتها في كل شهر مائة وعشرون درهما على ابنتيه وأخته وشرط أن يبدأ منه بثلاثين درهما في كل شهر لقراءة سبع وتفرقة خبز وما فضل عليهن ثم مات وهن وارثات ولم تجز الورثة فهل الثلاثون تصرف محسوبة من ثلث ماله وما زاد ميراث أو كل الثلث موقوف على قراءة السبع والخبز خاصة
____________________
(1/464)
الجواب في سنة 735 تقوم الأملاك المذكورة كاملة المنافع ثم تقوم مستحقا أن يخرج من أجرتها بعد الخلو والعمارة ثلاثون درهما وما بقي لمن يرغب في شرائها لو كانت مما تباع فما بين القيمتين موصى به لقراءة السبع وتفرقة الخبز فإن هو قدر ثلث التركة أو أقل صح فيه وإلا فيصح منه في قدر الثلث ويبطل في الزائد إذا لم تجز الورثة والموصى به للبنتين والأخت الوارثات ما بقي وهو قدر القيمة الناقصة وقد بطل لعدم الإجازة
مثاله فرضنا الأملاك المذكورة جميع التركة وقيمتها كاملة ألف دينار وقيمتها مستحقا أن يخرج منها كل شهر ما ذكر مائة دينار فالموصى به للسبع والخبز تسعة أعشارها وهي أكثر من الثلث فيصح في ثلث الأملاك ويبطل في الباقي فلو كانت قيمتها مع الاستحقاق والحالة هذه خمسمائة دينار فالموصى به النصف والحكم بالصحة في الثلث لا يختلف هكذا إلى أن تبلغ قيمتها الناقصة سبعمائة دينار فالموصى به للسبع والخبز ثلاثة أعشار الأملاك وهو أقل من الثلث فيصح الوقف في ثلاثة أعشار الأملاك بغير زيادة ويتلخص من هذا أنه متى كانت القيمة الناقصة ثلثي الزائد أو دونها صح في الثلث ومتى كانت أكثر صح في الزائد عليها هذا إذا فرضت الأملاك جل التركة فإن كان معها مال آخر فإن كانت القيمة الناقصة تزيد على ثلثي الكاملة كان الحكم بالصحة فيما بين القيمتين كما سبق من غير اختلاف وإن كان الثلثين صح في الثلث وإن كان أقل لخمسمائة وقيمة الكامل ألف ومعها خمسمائة أخر فهاهنا الموصى به للسبع والخبز خمسمائة وهي نصف الأملاك وثلث جميع التركة فيصح في نصف الأملاك بخلاف الصورة الأولى فيتلخص في هذه الحالة أنه إن كانت القيمة الناقصة الثلثين أو أكثر صح في الزائد عن الناقصة وإن كانت أقل من الثلثين صح فيما يحتمله ثلث التركة منها فيتلخص أنه إن لم يكن له مال غيرها فإن كانت القيمة الناقصة ثلثي الزائدة أو أقل صح في الثلث وإن كانت أكثر صح في الزائد وإن كان مال غيرها فإن كانت الناقصة ثلثي الزائدة أو أكثر صح في الزائد وإن كانت أقل صح فيما يحتمله الثلث منها والله أعلم
ملخص الجواب من غير مثال يقوم كما ذكرناه ثم إن كانت الناقصة ثلثي الزائدة أو أكثر صح في قدر الزائد منها وإن كان أقل صح في ثلثيها وفي نظير ثلث ما معها من مال آخر إن كان والله أعلم انتهى
مسألة في وقف صورته أن رجلا ملك معتقه ملكا تمليكا شرعيا ثم وقفه على معتقه أيام حياته فإذا توفي عاد ذلك وقفا على أولاده الأربعة وهم نور الدين
____________________
(1/465)
وله علي وعثمان وعمر وتاج النساء الأشقاء وعلى من عساه يحدث للموقوف عليه من الأولاد بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين فمن توفي منهم ومن أولادهم وأولاد أولادهم وأنسالهم وأعقابهم عن ولد ذكر عاد ما كان جاريا من ذلك على الولد الذكر ومن توفي منهم ومن أولادهم وأعقابهم عن ابنتين عاد الثلثان مما كان وقفا على والدهما عليهما بينهما نصفين ثم على أولادهما كذلك على الشرط المذكور والثلث الباقي يعود على أقرب الناس إلى والدهما من العصبات من أهل الوقف ثم على الشرط المذكور ومن توفي منهم من أولادهم وأولاد أولادهم وأنسالهم وأعقابهم عن بنت واحدة عاد النصف مما كان وقفا على والدهما وقفا عليهما ثم على أولادها ثم على أولاد أولادها على الشرط المذكور والنصف الباقي مما كان وقفا على أبيهما وقفا على عصبات والدها المسمى الأقرب فالأقرب ثم على الشرط المذكور ومن توفي منهم ومن أولادهم وأولاد أولادهم وأنسالهم وأعقابهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب وإن سفل عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على من هو معه في درجته وذوي طبقته يقدم الأقرب إليه منهم فالأقرب لا يستحق ابن العم مع وجود الأخ شيئا من ذلك يجري ذلك عليهم على الشروط المبينة فيه أبدا ما توالدوا ودائما ما تناسلوا وتعاقبوا فإذا انقرضوا بأجمعهم ولم يبق للموقوف عليه نسل ولا عقب ولا من ينسب إليه من قبل أم من الأمهات ولا أب من الآباء أو توفوا بأجمعهم عاد عتقاء الواقف ثم على جهات متصلة فتوفي الموقوف عليه ثم ماتت البنت عن غير ولد ثم مات نور الدولة علي فانتقل نصف نصيبه إلى ابنته وباقي نصيبه إلى إخوته ثم مات عثمان فانتقل نصيبه إلى ابن له ثم مات عمر عن بنت واحدة فأخذت نصف نصيبه ونصف الآخر انتقل إلى ابن عثمان لأنه عصبته الأقرب ثم مات ابن عثمان عن بنت واحدة فأخذت نصف نصيب والدها مع ما انتقل إليه والنصف الباقي من نصيبه الذي أخرجه الواقف إلى أقرب عصبات والدها لم يكن له عصبة ولم يكن من أهل الوقف إلا ابن بنت نور الدولة على أولاد إخوته وهم أولاد بنت نور الدولة فهل ينتقل نصف نصيب المتوفى الذي أخرجه الواقف عن البنت وجعله لأقرب العصبات عند عدمهم إلى بنت نور الدولة علي وينفرد به لأنه الأقرب إلى المتوفى وإلى الموقوف عليه أم يشاركه فيه أولاد إخوته مع أن الواقف جعل الأقربية مناط التقدم في استحقاق أهل الوقف ما بقي بعد نصيب البنت إذا كانوا عصبة ومناط التقدم إذا كانوا غير عصبة وهو إذا كانوا في
____________________
(1/466)
درجة من توفي ولم يجد لنصيبه ولدا نصرفه إليه إذا مات عن غير ولد وبقي الأبعد الأبعد بقوله لا يستحق ابن العم مع قوله وجود الأخ شيئا وصرح بلفظه المقتضية أن بنت البطون في سائر شروطه ثم أحال عليها بقوله يجري ذلك على الشروط المبينة فيه أبدا وعلى من هي شرط فيه بقوله أبدا ما توالدوا ودائما ما تناسلوا وقيد الاستحقاق بالأقربية والحالة هذا أفتونا مأجورين
أجاب قاضي القضاة شمس الدين الحنفي ابن الحريري اللهم وفق والطف ينتقل النصف الباقي المذكور إلى بنت ابن عثمان وإلى ابن بنت نور الدولة إن لم تكن بنت عمر موجودة فإنها إن كانت موجودة فهي مقدمة على الكل في النصف المذكور بالأقربية وأما أولاد أولاد أولاد بنت نور الدولة فليس لهم شيء إلا بعدمه وإذا لم تكن بنت عمر موجودة وقلنا بانتقال النصف المذكور إلى بنت ابن عثمان وإلى ابن بنت نور الدولة يكون الثلثان منه للذكر وهو ابن بنت نور الدولة المذكور والثلث لبنت ابن عثمان والحالة هذه والله سبحانه وتعالى أعلم
كتبه محمد الحريري الأنصاري الحنفي عفا الله عنه
جواب الشيخ قطب الدين السنباطي عفا الله عنه اللهم وفق للصواب مقتضى هذا الوقف أن يكون النصف منتقلا للمذكور يختص به إن لم يكن بقي من أهل الوقف غيره بحكم موت من تقدمه من البطون والباقي منقطع الوسط لا يهب أحد بحكم أنهم ليسوا بمسو ولا للنصف الشرط أن يبقى أحد من قبله وحكمه أن يصرف لأقرب الناس للواقف الفقراء على الراجح عند الشافعية والله تعالى أعلم
كتبه محمد بن عبد الصمد الشافعي
جواب شيخ الإسلام بركة الأنام تقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي رضي الله عنه الله المستعان الحمد لله
ينتقل النصف الباقي عن بنت ابن عثمان مما كان وقفا على ابنها إلى ابن بنت نور الدولة وأولاد إخوته وبنت عمر إن كانت موجودة بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين عملا بقوله فيه على الشرط المذكور أي بعد انقراض العصبات يكون لأولادهم على الوجه المشروح أولا من غير اشتراط العصوبة في الأولاد فيدخل المذكورون لأنهم من ورثة عمر وعلي المستويين في عصوبة ابن عثمان المتوفى وبعدهم عمر وعلي لا يمنع استحقاق والدهما لما كانا يستحقان لو كانا حيين ويشتركون في ذلك حملا للفظة ثم على ترتيب كل شخص على من يدلي لا على ترتيب الطبقة بكمالها لما تدل عليه الشروط المبينة ويكون للذكر مثل حظ الأنثيين لأنه من جملة المشروط والله سبحانه وتعالى أعلم
كتبه علي السبكي
جواب قاضي القضاة بدر الدين بن
____________________
(1/467)
جماعة الشافعي بالله التوفيق إذا لم يكن ابن بنت نور الدولة ولا أولاد إخوته عصبة لم ينتقل إليهم النصف المذكور والحالة هذه ينتقل إلى المصرف المذكور بعدهم والله تعالى أعلم كتبه محمد بن إبراهيم الشافعي
جواب الشيخ قطب الدين السنباطي بعد ذلك إصلاحا لجوابه الأول أصلحه كما تقدم
جواب شمس الدين محمد بن أحمد بن القماح اللهم وفق للصواب ينتقل النصف الباقي بعد بنت ابن عثمان إلى ابن بنت نور الدولة منفردا به فإن الواقف قدمه على غيره بالأسباب المذكورة وليس هناك أحد من عصبات ابن عثمان المشروط انتقال المتوفر إليهم وأما قوله ثم على الشروط المذكورة وتكريره ذلك كله والله أعلم راجع إلى أن يكون ما يأخذه من يأخذه من المذكورين بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين لا لغير ذلك ولا يخفى ذلك مع تأمل الألفاظ ولا بد في كل من يأخذ مع عدم ولد لمن يموت من مراعاة العصوبة والأقربية فإذا لم تكن عصبة فلا بد من الأقربية والأقربية موجودة ففي ابن بنت نور الدولة فلا بد من تقدمه على غيره إذا لم يكن أحد فوقه من مستحقي الوقف والله تعالى أعلم كتبه محمد بن أحمد بن إبراهيم الشافعي
قال شيخ الإسلام أوحد المجتهدين تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي رضي الله عنه قوله بعد بنت عثمان موهم أنه بعد وفاتها وليس ذلك مراده فلو قال عنها كان أخلص وقوله بالأسباب المذكورة ولو سلمت ما يدعيه فهو سبب واحد لا أسباب وحمله الشرط المذكور على ما ذكر يرده لفظة ثم وعلى ذلك يكون لغوا
وقوله لا يخفى ذلك ممنوع بل لا يخفى ضده
وقوله ولا بد إلى آخره ليس بجيد لوجهين الأول أن الكلام ليس عند عدم ولد من يموت بل عند أي واحد
الثاني أن عند عدم الولد لم يشترط الواقف العصوبة بخلاف ما قال وإن كان مراده عند وجود البنت فلا نسلم الاكتفاء لا بد من كونه لا يلزم بالأقربية والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم انتهى
مسألة ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في رجل وقف وقفا على أربعة أنفس سماهم في كتاب الوقف مدة حياتهم بينهم بالسواء أرباعا ثم على أولادهم من بعدهم ثم على أولاد أولادهم ونسلهم وعقبهم أبدا بطنا بعد بطن وقرنا بعد قرن بينهم الذكر والأنثى فيه سواء على أنه من توفي منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب وإن سفل كان ما يستحقه من هذا عائدا إلى الثلاثة الموقوف عليهم أولا ثم مات الثلاثة الموقوف عليهم أولا ثم على أولادهم وأولاد أولادهم ونسلهم وعقبهم أبدا ما توالدوا ودائما ما تعاقبوا لا يستحق
____________________
(1/468)
من الأولاد أحدا حتى ينقرض الأعلى من آبائه فمات أحد الأربعة من غير نسل فانتقل نصيبه إلى الثلاثة الموقوف عليهم أولا ما كان يستحقه أبوهم لو كان حيا أم يشترك جميع الأولاد المخلفين عن الثلاثة الموقف عليهم أولا أفتونا مأجورين
الجواب لشيخ الإسلام تقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي السبكي غفر الله له الحمد لله يشترك جميع الأولاد المخلفين عن الثلاثة الموقوف عليهم أولا في جميع الموقوف بينهم الذكر والأنثى فيه سواء ثم على أولادهم كذلك تحجب الطبقة العليا أبدا الطبقة السفلى ولا يختص أولاد كل بنصيب والدهم ولا يستحق شيئا من نصيب والده حتى ينقرض من يساوي والده في الطبقة عملا بأنه جعل كل الوقف بعد الأربعة لأولادهم ولم يختص ولم يفصل ولم يأت بصيغة تشعر بذلك كما أتى في الطبقة الأولى بقوله أرباعا ومحافظة على تعميم قوله الذكر والأنثى فيه سواء ولو خصصنا أولاد كل بنصيب أبيهم لزم تخصيص قوله الذكر والأنثى وأن يكون المراد من أولاد كل والتخصيص خلاف الأصل
وما ذكرناه في الأول لا يلزم منه أمر مرجوع مع دلالة اللفظ عليه دون ما عداه ولا يمنع من ذلك مفهوم قوله على أنه من توفي منهم عن غير ولد كان ما يستحق عائدا إلى الثلاثة ولا إلى أولادهم إلى آخره لأنه إنما قاله لك لأن موضوع الكلام أولا يقتضي أن الوقف في الطبقة الثانية لأولاد الأربعة فإذا لم يكن لأحدهم ولد قد يقال إن نصيبه لا ينتقل إلى الثلاثة ولا إلى أولادهم لأنه وقف على أولاد الأربعة ولم يوجد إلا أولاد ثلاثة فيكون ذلك النصيب منقطعا
فبين بهذا اللفظ أن ذلك النصيب يعود إلى الثلاثة وإلى أولادهم على الحكم المشروح ويصير الوقف على الأربعة بعدهم وقفا على أولاد الثلاثة مفهوم ذلك أن من مات وله ولد لا يكون الحكم كذلك ونحن نقول به بأن نقول يكون نصيب الثلاثة عملا بالترتيب وبعد الثلاثة يعود مع نصيبهم على أولاده وأولادهم عملا بقوله ثم على أولادهم ولا يحصر مفهوم ذلك في أن من مات وله ولد يأخذ ولده نصيبه فذلك لا دليل عليه وما ذهبنا إليه محتمل يكتفى به في المفهوم مع دلالة اللفظ عليه فكان متعينا ومتى ثبتت المخالفة بوجه ما كفى في العمل بالمفهوم وأما قوله لا يستحق أحد من الأولاد حتى ينقرض الأعلى من آبائه فمنطوقه لا إشكال فيه ومفهومه وهو مفهوم الغاية يقتضي أنه يستحق إذا انقرض الأعلى من آبائه وذلك معمول به على ما قلناه بأنه ينقرض الأعلى من آبائه ولا يكون في طبقته من يساويه فعند ذلك يستحق ومتى حصل العمل بالمفهوم في صورة كفى ولا يلزم أن يستحق
____________________
(1/469)
عند انقراض أبيه مطلقا على كل تقدير لعدم المقتضي للعموم وإنما أتى الواقف بهذه الجملة ليدل على الترتيب في جميع البطون في استحقاق النصيب الأصلي والنصيب العائد لأنه أتى بهم في الأول مرتين وفي الثاني مرة واحدة وأتى بالواو فيما عدا ذلك فلو اقتصر لم يجب الترتيب في بقية البطون ولا احتمل أن نصيب من مات ولا ولد له يرجع إلى الأعلى والأسفل معا لأنه قد يقال إنهم من أهل الوقف فأتى بهذه الجملة ليزيل هذا الوهم ويبين أن الترتيب مقصود في كل الطبقات في جميع الوقف وإن كان كل طبقة تحجب ما تحتها ولم يبق فيه احتمال إلا أمران أحدهما أن نصيب كل أحد ينتقل إلى ولده فيكون محجوبا بأبيه وجده أو نصيب الطبقة بكمالها منتقل إلى الطبقة التالية فيكون محجوبا بأبيه ومن يساويه وتبين في الكلام ما يدل على الأول فحملناه على الثاني لأن استحقاق الولد قبل انقراض الطبقة بكمالها مشكوك فيه فلا يستحق للشك والأصل عدم الاستحقاق والمعنى الثاني أقرب إلى ظاهر اللفظ
الأمر الثاني أنه إذا انتقل نصيب الطبقة للطبقة التي تحتها هل يكون مشتركا بين الجميع بالسواء أو يأخذ كل الأولاد ما كان لأبيهم ولا دليل على الثاني والأول أقرب إلى ظاهر اللفظ فتعين وبذلك يتبين صحة ما ذكرنا أولا هذا ما ظهر لي في هذا الوقف وفوق كل ذي علم عليم والله أعلم كتبه علي السبكي الشافعي
ولا فرق في التشريك والتسوية بين أفراد الطبقة الواحدة بين التصرف العامل من غير ذي الولد وبين الصبا ذوي الأولاد أما الأول فظاهر وأما الثاني فلما تقدم من أن الذي نتخيل مانعا من ذلك قوله أرباعا والواقف لم يذكره إلا في الطبقة الأولى خاصة والله أعلم
كتبه علي السبكي الشافعي
وكتب استفتاء آخر وعين فيه أن الموقوف عليهم أولا شرف الدين إبراهيم وفارس الدولة ايذن وفخر الدين فلاح والطواشي سعيد الخادم الحبشي وسأل فيه هل يجوز لحاكم من حكام المسلمين أن يشرك بين الأولاد الثلاثة وكذلك أولاد الأولاد وسائر البطون يجوز الاشتراك بينهم بالسوية أو لا وهل يجوز لحاكم من حكام المسلمين أن يشرك بينهم بخلاف شرط الواقف فكتب الشيخ كمال الدين الزملكاني رحمه الله تعالى الله يهدي للحق لا يجوز التشريك بين البطون الأسفل والأعلى ولا بين أولاد بعضهم مع أولاد آخر من نسل آخر من الموقوف عليهم لأن شرط الواقف يمنع ذلك ولا يجوز الإصلاح بينهم على خلاف شرط الوقف ومتى حكم بذلك حاكم لم يكن حكمه صحيحا والله أعلم
كتبه محمد بن علي
جواب الشيخ نجم الدين البابسي جواب الشيخ تقي الدين السبكي كذلك جواب جلال الدين الحنفي
____________________
(1/470)
اللهم ارحم والطف متى حاكم حكم بين الأولاد بالتشريك أو بالصلح كان حكمه باطلا لا ينفذ بالإجماع لأنه خالف شرط الواقف وشروطه تراعى كنصوص الشارع والله أعلم
كتبه أحمد بن الحسن الرازي الحنفي
جواب قاضي القضاة بحماة الحنفي كذلك يقول الفقير إلى الله تعالى عمر بن محمد بن علي بن أبي جرادة الحنفي
جواب آخر كذلك يقول أحمد بن محمد التميمي القلانسي جواب آخر كذلك يقول إبراهيم بن سليمان الحميدي كذلك يقول سليمان الحنفي كذلك يقول عبد الله بن الحسن الحنبلي كذلك يقول إبراهيم بن أحمد الحنبلي
جواب نائب قاضي القضاة بدمشق يتبع ما أفتى به أئمة المسلمين رضي الله عنهم
كتبه سليمان الجعفري
جواب القرقشندي بمصر وقوة الكلام يشعر بأن من مات منهم انتقل نصيبه إلى أولاده وإن لم يتعرض جواب يونس بن أحمد كذلك جواب يوسف بن حماد كذلك جواب القاضي شمس الدين بن القماح اللهم وفق للصواب لا يدل كلام الواقف على التشريك بل قد يدل على ضده فإنه شرط في صرف نصيب الميت إلى الباقين أن يموت عن غير ولد فمتى مات عن غير ولد صرف إليهم فوجد المولد مانعا من صرف نصيب الميت إلى غير أولاده والحكم بالتشريك والحالة هذه لا ينفذ والإلزام بالصلح لا يجوز بل يعرضه الحاكم على الخصوم قطعا للنزاع فإن أبوا تركهم والله تعالى أعلم كتبه محمد بن أحمد بن إبراهيم الشافعي
جواب الشيخ مجد الدين بدمشق وما توفيقي إلا بالله نعم يختص برد شكل واحد من الثلاثة المذكورين أولاده ثم أولاد أولاده على الترتيب بالسوية بينهم لا يشاركهم في ذلك أحد من أولاد الأخوين ونسلهما وعقبهما والله أعلم
كتبه محمد بن عبد الله الشافعي
جواب القاضي شمس الدين بن القماح أيضا من مات من الثلاثة الموقوف عليهم فنصيبه لأولاده خاصة لا يشاركه فيه أولاد الآخر وكذا حكم بقية الطبقات من الأولاد وإن سفلوا والله أعلم
كتب حسين بن علي الأسواني حسبي الله هذه الأجوبة صحيحة
كتبه محمد بن أبي الفرج المالكي كذلك كتبه عبد الرحمن الحارثي الجوابان صحيحان ورد على الشيخ الإمام رضي الله عنه من دمياط في المحرم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة
مسألة رجل أقر أن مالكا حائزا وقف عليه حصته من بستان ثم من بعده على ولديه علي وعائشة بالسوية ومن مات منهما صرف ريع حصته لأخيه لأبيه محمد ثم من بعد محمد يصرف ريع جميع الوقف لأولاد علي وعائشة ومحمد المذكورين فتوفي محمد قبل وفاة أبيه المذكور وقبل وفاة علي وعائشة المذكورين
____________________
(1/471)
وخلف أولادا ثم مات المقر المذكور فانتقل الوقف إلى علي وعائشة ثم مات علي المذكور ولم يترك ولدا فهل تنتقل حصته إلى عائشة أو إلى أولاد محمد الجواب ينتقل نصيب علي إلى أولاد محمد ومن عساه يكون من أولاد عائشة يستقل به الواحد ويشترك فيه العدد بالسوية فإن لم يكن إلا أولاد محمد انفردوا به وإن حدث لعائشة أولاد شاركوهم لا على المناصفة بل يقسم مجموع النصيب المذكور بين الجميع على عدد رءوسهم بالسوية فإن ماتت عائشة ولها أولاد كان مجموع الوقف بين الجميع على ما ذكرناه وإن ماتت ولا أولاد لها استقل أولاد محمد بجميع الوقف فإن قلت لم لا تستقل عائشة به كما لو وقف على زيد وعمرو ثم على الفقراء فمات زيد صرف لعمرو قلت لأنه هناك شرط في الانتقال للفقراء موت زيد وعمرو وهنا لم يشترط في الانتقال إلى أولاد محمد وعائشة وعلي إلا موت محمد وقد وجد فإن قلت لم لا يكون منقطع الوسط
قلت قد أفتى بذلك قاضي القضاة جلال الدين فقال نصيب علي لا ينتقل إلى أخته عائشة ولا إلى أولاد الثلاثة بل الوقف بالنسبة إليه منقطع الوسط وهذا عندي ليس بجيد لما قدمت أن موت عائشة ليس شرطا في ذلك وكان الحامل له على ذلك قول الرافعي فيما إذا وقف على زيد وعمرو ثم على الفقراء أن القياس أنه منقطع الوسط والأمر في تلك المسألة كما قال الرافعي وأما هنا فقد بينا الفرق فإن قلت ظاهر كلامه أنه إنما جعل لمحمد بعد موتهما لأنه قال إنه بعد موت محمد يكون الجميع للأولاد في حياة أحدهما لا يكون كذلك
قلت نحن نتمسك باللفظ ما لم يعارضه معارض أقوى وهو قد صرح أنه من مات منهما انتقل لمحمد وهو يشمل ما إذا مات الآخر وما إذا لم يمت وأنا لم آخذ الصرف إلى أولاد محمد من ذلك بل من قوله بعد موت محمد يكون الجميع لأولاد الثلاثة ولم يقيد في موت محمد بين أن يكون في حياة الآخر أو لا فكذلك قلت إنه لم يشترك فيه أولاد محمد وعائشة لأن النصيب الذي كان لعلي من جملة المجموع الذي حكم بانتقاله بموت محمد لأولاد الثلاثة فإعمال اللفظ بالنسبة إليه لا معارض له والنصف الآخر المختص بعائشة الموجودة عارضنا فيه اختصاصها به باللفظ الأول فلم يعمل اللفظ الثاني بالنسبة إليه ما دامت عائشة موجودة فإذا ماتت عملناه وليس في هذا إلا تقييد اللفظ المطلق بخلاف ما لو قلنا المراد إذا مات محمد وليس واحد منهما موجودا لأنه إضمار جملة وهو على تقدير تجويزه مرجوح بالنسبة إلى التقييد والتخصيص والله أعلم
فإن قلت فقل بانتقال نصيب عائشة أيضا في حياتها إلى الأولاد بموت محمد
____________________
(1/472)
وليس فيه إلا تخصيص اللفظ الدال على استحقاقها ببعض أزمنة حياتها
قلت يصدني عنه أمران أحدهما العادة الجارية في الأوقاف أن نصيب الشخص إنما ينتقل بموته والثاني أنه إذا احتمل التقييد والتخصيص في كل منهما حصل التعارض فلا أخرج نصيب عائشة عنهما بالشك واستصحب استحقاقها إلى حين وفاتها وأيضا فقوله إذا مات محمد يصرف ريع الجميع ليس صريحا في أنه يصرف حين موته فاجعله سببا لصرف الجميع مما لا مانع منه وهو نصيب علي يصرف الآن وماله مانع وهو نصيب عائشة يصرف عند موتها والشرط يقتضي الترتيب وكونه على الفور أولا إن أخر من غيره واستحقاق عائشة مدلول عليه بالأول فكان أقوى والله تعالى أعلم
فإن قلت قد اختلف الأصحاب فيما إذا قال وقفت على زيد ثم عمرو ثم بكر ثم على الفقراء فمات عمرو ثم زيد هل يصرف لبكر قال الماوردي لا لأن شرط استحقاقه الانتقال إلى عمرو ولم يوجد وذلك يقتضي أنه منقطع الوسط وهنا كذلك لأنه شرط في الانتقال للأولاد استحقاق محمد
قلت ما قاله الماوردي ضعيف وقد خالفه غيره وقال إنه يصرف لبكر وهو الصواب وعندي أن الخلاف له وجه إذا قال على زيد فإذا مات انتقل نصيبه لعمرو فإذا مات انتقل نصيبه لبكر فإنه يتخيل حينئذ أنه لا نصيب له فينتقل أما إلى شم من غير زيادة عليها فلا وجه لذلك بل نقطع باستحقاق بكر وليس معنى البعدية أنه بعد استحقاق عمرو بل بعد وجوده وفقده ثم إن الماوردي لم يقل بأنه منقطع الوسط بل قال إنه يصرف للفقراء في المثال المذكور وإن كان شرط فيهم بكرا فإن لم يقل بقول الماوردي زال السؤال وإن قلنا بقوله كذا
مسألة رجل وقف وقفا على زيد ثم على أولاده الأربعة لكل منهم الربع ثم على أولادهم وإن سفلوا ممن قارب الأولاد ولم يترك ولدا عادما يخصه لإخوته فمات أحد الأربعة في حياة أبيه وله أولاد فهل إذا مات جدهم يستحقون ما كان أبوهم يستحقه لو كان حيا الجواب نعم يستحقون ذلك عملا بقوله ثم أولاده فهم موقوف عليهم في الطبقة الثالثة ولا يضرهم موت أبيهم قبل استحقاقه تناول ما وقف عليه وقوله من مات ولم يترك ولدا عاد ما يخصه لإخوته لا يمنع من ذلك ولا يقتضيه والله أعلم
مسألة من دمياط في المحرم سنة أربع وثلاثين
رجل بيده حصة من بستان فأقر أنها موقوفة عليه ثم على أولاده ثم على أولاد أولاده وإن سفلوا ثم على أخواته وهن عزيزة وغزال وستيتة ثم على أولادهن ثم
____________________
(1/473)
أولاد أولادهم إن سفلوا على أن من مات منهم وترك ولدا أو ولد ولد أو أسفل من ذلك من ولد الولد فإن نصيبه من ذلك له وإن لم يترك ولدا ولا ولد ولد ولا أسفل من ذلك من ولد الولد كان نصيبه لإخوته الذين هم في درجته مضافا لما في أيديهم وثبت الإقرار والوقف فماتت أخوات المقر قبل وفاته وخلفت غزال ولدا يسمى صالحا وخلفت عزيزة ثلاثة وهم علي وكامل ومعينة ثم مات علي قبل وفاة المقر أيضا وخلف ولدين محمدا وعبد الرحمن ثم مات المقر ولم يخلف سوى المذكور فهل يستحق محمد وعبد الرحمن ما كان يستحقه أبوهما على لو كان حيا ويشتركان مع من هو أعلى درجة منهما أم يكون الوقف على الدرجة العليا خاصة أجاب يستحق محمد وعبد الرحمن ما كان يستحقه أبوهما لو كان حيا
مسألة وقف على أولاده ثم أولادهم إلى آخره بالفريضة الشرعية على أنه من مات من أهل الوقف وترك ولدا أو أسفل كان نصيبه لولده ثم لولد ولده يستقل به الواحد من أهل كل طبقة ويشترك فيه الاثنان فما فوقهما وإن لم يترك ولدا ولا ولد ولد ولا أسفل منه كان نصيبه مصروفا لإخوته من أهل الوقف فتوفي شخص وترك ولدين ثم توفي أحدهما وترك ولدا وأخا ثم توفي الولد عن غير أخ فهل ينتقل نصيبه لعمه أو إلى الموجودين من البطن الأول أجاب نصيبه لعمه دون الطبقة الأولى ولا يرجع إلى الموجودين من البطن الأول ما دام هذا العم الأقرب موجودا لثلاثة أدلة أحدها قوله من مات كان نصيبه لولده ثم لولد ولده يستقل به الواحد ويشترك فيه الاثنان فما فوقهما وقال من أهل كل طبقة فاستحق الذي خلف ولدين استحق ولداه نصيبه وكل منهما يستحقه كاملا لولا أخوه استحق استحقاقه كاملا ثابتا له وإنما حجبه أخوه ثم ابنه من بعده فإذا فقد عمل ذلك الاستحقاق عمله وأخذ ما كان يستحقه أبوه من جهة والده لا من جهة أخيه ولا من جهة ابن أخيه
والثاني قوله من مات ولا ولد له كان نصيبه لإخوته اقتضى تقديم الأخ على العم فيقتضي ذلك تقديم العم على الأب وقد ينازع في هذه من جهة أنه قياس والقياس لا يعمل به في حكم الواقف
الثالث أنه يصدق في هذه الحالة أن أخا العم المسئول عنه توفي ولا ولد له إذا لم نجعل هذه الجملة للحال بل نخبر عنه أنه توفي وأنه لا ولد له فينتقل نصيبه لأخيه وهو عم المتوفى وقد ينازع في هذا من جهة جعل الجملة حالية والمعتمد عليه من هذه الأوجه الثلاثة هو الوجه الأول ويعتضد بأنه المفهوم من عرف الواقفين ولما كان هذا المفهوم تمكن المنازعة فيه لم نجعله العمدة واعتمدنا على اللفظ كما
____________________
(1/474)
بيناه في الوجه الأول والله تعالى أعلم
مسألة وقف وقفا على رجل ثم بعد وفاته على من يوجد يوم وفاته من بناته لصلبه واحدة كانت أو أكثر ينتفعن بذلك أيام حياتهن على أن من توفيت منهن انتقل مالها من ريع الوقف لأخواتها الباقيات في قيد الحياة المشاركات لها في استحقاق الوقف فإذا انقرضن بجملتهن ولم يبق للموقوف عليه بنت ووجد له يوم ذلك أولاد ذكور وأولاد بناته الدارجات بالوفاة من أولاد الموقوف عليه من أهل الوقف وغيرهم من الذكور والإناث كان الموقوف المذكور بجملته وقفا عليهم يوم ذاك بالسوية بينهم لا مزية لأولاده على أولاد بناته ومن مات منهم بعد ذاك وترك ولدا أو ولد ولد أو أسفل من ذلك من ولد الولد من الذكور والإناث بالسوية من ولد الظهر والبطن فإن لم يكن للمتوفى منهم ولد ولا ولد ولد ولا أسفل أو كانوا وانقرضوا كان نصيبه لمن يشاركه في حال حياته تحجب الطبقة العليا منهم السفلى الذكور والإناث بالسوية فإن لم يكن أحد موجود من أهل طبقته أو كانوا كان نصيب المتوفى من ذلك لأقرب الطبقات إليه من أهل الوقف ومن مات من أهل الوقف قبل دخوله فيه واستحقاقه لشيء من منافعه وترك ولدا أو ولد ولد أو أسفل من ذلك من الذكور والإناث كان ما عساه يكون له أن لو كان حيا لولده ثم لولد ولده فإذا انقرض أهل الوقف بأجمعهم كان في وجوه البر وقد وجد يوم ذاك بعد انقراض البنات بجملتهن للبنت الآخرة منهن بنت آخرة ومن أولاد الموقوف عليه المذكور ولد واحد وأربعة أولاد من ولد كان من أولاد الموقوف تقدمت وفاته فهل للأولاد الأربعة الدخول مع الابن والبنت في الوقف أو لا
مسألة مدرسة في الفيوم موقوفة على الفقهاء الشافعية لها أرض موقوفة على مصالحها والفقهاء المشتغلين بها والأرض تؤجر كل سنة بغلة فإذا نزل الفقيه بها في أول سنة أربع واستمر سنة وحضر من المستأجر أجره من مغل سنة ثلاث هل يستحق هذا الفقيه منها شيئا أو لا الجواب إن كان معلوم الفقهاء عن سنة ثلاث نكمل صرف الباقي عن سنة أربع لهم وله وإن لم يكن نكمل فيكمل من هذا الذي حضر فإن فضل شيء صرف عن سنة أربع لهم وله وإلا فلا شيء له حتى يجيء المغل الآخر
وهذه المسألة كثيرة الوقوع يحتاج إليها وقل من يعرفها وتلتبس على كثير من الناس لأنهم لا يفرقون بين المصرف والمصروف ومتى تميز أزال اللبس
وليعلم أن ها هنا ثلاثة أشياء أحدها الفقيه المستحق
وثانيها المغل الحاصل الذي يقصد صرفه الذي هو
____________________
(1/475)
أجرة مدة معلومة سنة أو شهرا ونحوه
وثالثها المدة المصروف عنها فالفقيه وهو الأول يستحق أن يصرف إليه من الريع الحاصل وهذا هو الأمر الثاني عن المدة التي باشرها وهذا هو الأمر الثالث ولا تجب مطابقة مدة الريع لمدة مباشرة الفقيه بل قد يطابقها لمن باشر شهرا أو سنة وأحدث أجرتها يجوز الصرف إليه منها وقد يتأخر ريع مدة المباشرة كما إذا تحصل من الريع شيء ولم يحتج إلى صرفه إما لعدم المستحق أو الاكتفاء بما شرطه الواقف ثم نزل الفقيه وباشر مدة يجوز الصرف إليه عنها من ذلك الحاصل لأنه من ضد الجهة العامة التي هذا واحد منها ولا نقول إن الأولين استحقوه بل إنما استحق الواحد منهم ما يصرفه له الناظر وبالصرف يتعين وأما إذا تقدمت مدة المباشرة كمن باشر مدة ثم انقطع ثم حصل ريع من مدة بعد انقطاعه فلا يستحق لأنه ليس من فقهاء هذه المدرسة في زمان هذا الريع اللهم إلا أن يكون ذلك ريع سنة باشر بعضها لذلك باشر بعضه فيستحق به عن المدة التي باشرها
وبيان ذلك أن الواقف بوقفه الأرض مثلا قد جعل أجرتها كل سنة مستحقة بجهته المذكورة ومن المعلوم أن الأرض التي لا ينتفع بها إلا في الزراعة تتعطل نصف السنة وقد يكون تاريخ الوقف في مدة التعطيل وقد يكون في أوان الزرع واشتغالها به ثم قد ينزل فيها من حين منفعتها المستقبلة فتكون مباشرتهم تلك المدة على طمع فلا يذهب مجانا وإن كان وقت الزرع وبستان الريع فيكون ما يأخذونه عن تلك المدة وعن المدة المستقبلة المعطلة إن كان الوقف شرط إعطائهم فالحاصل أن ريع سنة لا يجب صرفه عنها بل عما هو مستحق لهم ممن باشر فيها أو بعدها فإذا كانت لهم معلومات مقدرة من الواقف عن كل مدة يكملها لهم أولا فأولا ولا يعطي المتأخر حتى يكمل المتقدم وإذا تكمل المتقدمون يعطي الباقي لهم وللمتأخرين عن المدة المتأخرة وإن لم يكن معلومهم مقدرا من جهة الواقف بل وقف الأرض عليهم وقد جاء ريع من سنة ثلاث وهناك معلوم مقرر من جهة الناظر فالحكم فيه كذلك وإن لم يكن مقرر من جهة الناظر أيضا فنقول هاهنا حصلت مباشرة سنتين فيصرف الحاصل لهما فمن خصه من السنة الأولى والثانية شيء أخذه ومن باشر في الأولى أخذه من قسطها فقط ومن باشر في الثانية أخذه من قسطها فقط والله أعلم
وصفة ما كتب على الفتوى رضي الله عنه الحمد لله إن كانت سنة ثلاث صرف عنها فهذا لسنة أربع وإن لم يكن صرف عنها فإن كان لهم معلوم مقدر بشرط الواقف أو برأي الناظر فيكمل عن سنة ثلاث لمن حضرها فقط وما فضل يصرف لمن حضر سنة أربع ذلك الفقيه وغيره
____________________
(1/476)
على نسبة مقادير معلومهم وإن لم يكن لهم معلوم مقدر صرف الحاصل عن السنتين جميعا بالسوية فنصفه لكل من حضر سنة ثلاث ونصفه لمن حضر سنة أربع ولا يعطي لمن لم يحضر في إحدى السنتين من سهم الأخرى
وهذه المسألة كثيرة الوقوع محتاج إليها ويخبط الناس فيها وقليل من يعرفها وهذا الذي لي عليه فيها وأرجو أن يكون هو الصواب إن شاء الله تعالى والله أعلم
ولا يلزم من مغل أن يصرف عنها بل قد يصرف عنها وعما بعدها ولا يصرف عما قبلها إلا إذا اتحد المستحق وكذا حكم الشهر والله أعلم
مسألة في صفر سنة ست وثلاثين
رجل وقف وقفا على نفسه ثم من بعد موته على ذريته
وقد كتب جماعة عليها من الشافعية والمالكية بالبطلان فقلت للمستفتي أنا مخالف لهم وأقول إن كان الواقف قد مات فيصح الوقف المذكور على ذريته الذين لا يرثونه إذا خرج من الثلث وإنما قلت ذلك لأني أبطل قوله وقفت على نفسي ولا أصحح الوقف المنقطع الأول ولكن أجعله بالنسبة إلى الذرية كما لو قال ابتداء وقفت بعد موتي
وهذه مسألة نص عليها الشافعي في الأم في الجزء الثاني عشر في باب إخراج المدبر من التدبير وجعل من جملة الرجوع في التدبير لو وقفه أو أوصى به الرجل أو تصدق به أو وقفه عليه في حياته أو بعد موته هذا لفظه في الأم وهو شاهد لما نقله الرافعي عن الأستاذ أبي إسحاق فإن في الرافعي عن الشيخ أبي محمد أنه وقع في الفتاوى زمن الأستاذ أبي إسحاق أن رجلا قال وقفت داري هذه على المساكين بعد موتي فأفتى الأستاذ بصحة الوقف بعد الموت وساعده أئمة الزمان وهذا كله وصية يدل عليه أن في فتاوى القفال أنه لو عرض الدار على البيع صار راجعا فيه انتهى كلام الرافعي
وقد تبين أن ما أفتى به الأستاذ وأئمة الزمان منصوص للشافعي رضي الله عنه وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة صحيح وليس هو تعليقا أعني ليس مساويا لقوله إذا مت فقد وقفت لأن دليل ذلك تعليق الإنشاء وفيه في هذا الباب نظر وإنما معنى قوله وقفت بعد موتي تنجيز الوصية بوقفها الآن وفي هذا بحث طويل ليس هذا موضعه والقصد هنا أنه لا توقف في أنه وصية فكذلك الوقف على الذرية هنا وإنما قيدت بخروجه من الثلث لأنه وصية فأجريت عليه أحكام الوصية وإن لم يخرج من الثلث صح منه ما خرج وإن لم يخرج منه شيء بطل بأن يكون عليه دين مستغرق وإنما قلت الذرية الذين لا يرثونه لئلا يكون وصية لوارث كما لو أوصى لأقاربه فإن
____________________
(1/477)
أرجح الوجهين عند الغزالي وهو الذي قطع به المتولي فخصصها بغير الوارث فكذلك وعلى الوجه الثاني وهو أنها تشمل الجميع ثم يبطل نصيب الوارث ويبقى الباقي لغير الورثة يحتمل أن يقال بأن مثله يجري في الواقف أو أولى لأن القرينة في الوصية تقتضي إرادة غير الوارث والقرينة في الوقف لا تقتضي ذلك بل تقتضي التعميم ويحتمل أن يقال وهو الذي عندي أن هذا لا جريان له في الوقف
والفرق بينه وبين الوصية أن الوصية تمليك يبعد الموصى له كالبيع فيبطل فيما يبطل ويصح فيما يصح وكذا لو كان الوقف على معينين أما الوقف على الذرية ونحوه من الجهات العامة سواء أكانت فيما يجب استيعابه أم لا فلا يراد به التوزيع ولهذا من مات منهم استحق الباقون ما كان له فهي جهة واحدة والوارث كأنه خارج منها بوصف قائم فينحصر الاستحقاق في الباقي
وفي المسألة نظر وتوقف وقد جمعت أوراقا تتضمن مباحث ونقولا
مسألة أوصت أم الملك السعيد أن يوقف عنها ووقف عنها ووقف ثلثاه على التربة والمدرسة الظاهرية بدمشق والثلث على ستة خدام معينين ومن مات منهم نزل الناظر مكانه خادما من عتقاء الظاهر ولا السعيد فمات الستة ونزل مكانهم إلى أن لم يبق من عتقاء الظاهر ولا السعيد إلا خادم واحد فما الحكم في ذلك والشرط أنه إذا انقرض الخدام رجع إلى التربة والمدرسة
فأجبت أن الخادم المذكور إذا نزله الناظر جاز صرف الجميع إليه ولا تستحق المدرسة والتربة شيئا إلا بعد انقراضه ومستندي في ذلك أن معناها عام والخادم الباقي يصح أن يكون عوضا عن الستة
وقوله إذا انقرضت الخدام كان للمدرسة يشمل الخدام الستة وجميع من كان خادما من عتقاء الظاهر أو السعيد وليس من شرط تنزيله موضع الستة أن يكون عند موتهم بل سواء أكان كذلك أم بعد مدة ولو توسط بينهم جماعة صح أن يكون هذا الآن منزلا مكان الستة الأولين والله أعلم انتهى
مسألة وقف الفخر ناظر الجيش وقفا على مدرس وطلبة يلقون درسا بجامع مصر الجديد الذي على البحر فنقص الوقف بعد موته وأراد مدرسه وهو ابن بزمرت نقل الدرس إلى الجامع العتيق بمصر فاستفتى في ذلك فأفتاه بعض المتسمين باسم الفقهاء لا بل المتزيين بزيهم بالجواز وأكثر في ذلك من فقاقع وسفاسف لا حاصل تحتها وزعم بجهلة أن ذلك تقتضيه قواعد مذهب الشافعي بل قواعد الشريعة لأوجه ثلاثة أحدها تقديم الراجح على المرجوح
الثاني
____________________
(1/478)
أن الشرع مدبر الأحكام على مقاصد العقود غالبا أو الربا وتعلق بأن من نذر الصلاة في بيت المقدس فصلى في المسجد الحرام خرج عن نذره وبالعدول عن زكاة الفطر إلى الأعلى وبأن تعيين الدراهم المعينة للصدقة لا يعينها فمتى حصل المقصود لم يلتفت للمحل ولا للمكان وكذا المودع له نقل الوديعة إلى أحرز مما عينه المودع ولا يضمن لو تلف كذلك ليس مقصوده الاختصاص وإنما مقصوده نشر العلم وإيقاع هذه القربة في الجامع الذي لا اختصاص له بالوقف ولا بالموقوف عليه ومن وقف على كلام إمام الحرمين والغزالي بأن له أن هذا الذي قلناه متعين
وقد قال أصحابنا لو أجر أرضا لزراعة الحنطة له أن يزرع غيرها مثلها بل يزيد ويترك البئر والمسجد إذا خيف خرابه من أهل الفساد نقل وعمر بالتيه بئر أخرى ومسجد آخر وكذا القدر الموقوفة على المدرسة إذا خربت المدرسة نقلناها إلى مدرسة وكذا آلات القنطرة
الوجه الثالث أن الواقف ظن استمرار ما وقفه شرطه فإذا طرأ الخلل ألغى الشرط كما قال أصحابنا إذا دفع المكاتب النجم الآخر فقال السيد اذهب فقد أعتقتك ثم خرج النجم مستحقا لا يعتق لأنه إنما قاله على ظن السلامة وكذا إذا دفع له مالا بطريق المصالحة عن دمه ثم قال له أبرأتك وخرج المال مستحقا رجع عليه بدينه انتهى كلامه
وقد اشتمل على هذيان كثير وفشار غزير حمله عليه إما حب الاستكبار والفشار والاستظهار في ظنه وإما لجاه المستفتي وإما مجموع ذلك مع يسير اشتغال متقدم وبعض ذهن وذكاء على دخل في التصور والتأمل وركوب الهوينا في النظر والتغفل كعادة كثير من المكتفين من العلوم بظواهرها البعيدين عن أسرارها
ورأيت إلى جانب خطه خط بعض المفتين بالجواز أيضا معللا بأنه تعين طريقا فهو أولى من التفويت بالكلية وإلى جانب خطهما خط رجل ليس من أهل العلم ولكنه خيلت له نفسه أنه أهله كتب بالجواز أيضا إذا لم يمكن إقامة الدرس بالجامع المذكور وقد أخطأ كل من هؤلاء الثلاثة
أما الأول المتشدق فإن الوجهين الأولين في كلامه يقتضيان أن ذلك يجوز عند الحاجة وعدمها نقض الوقف أو لم ينقض وما أبعد من خسارته وتمسكه بمبادئ العلوم وأطرافها وقلة بصره لها وقلة دينه أن يلتزم ذلك ويلزمه على ذلك أن كل مدرس ومعيد وطالب وخطيب وطالب له جامكية على وظيفة في مكان أن يأتي بها في مثله أو أفضل منه ويتناول تلك الجامكية وهذا انحلال عن الدين وتسلق إلى أكل المال بالباطل وقوله في الوجه الأول تقديم الراجح على المرجوح شقشقة بكلام صحيح في
____________________
(1/479)
نفسه باطل وضعه في هذا الموضع فإنه لو كان يجوز العدول عن الموقوف عليه المرجوح إلى الراجح الذي لم يوقف عليه لم يستقر وقف أبدا حتى يكون على أرجح الجهات وهذا خلاف إجماع المسلمين
وقوله أن الشرع يدير الأحكام على مقاصد العقود غالبا أو أكثر ما قد تشاحح فيه ويقال إنه إنما يديره على موضوعاتها ودلالات ألفاظها وقد يسلم له ولا ينفعه لما سنبين أن مقصود هذا الوقف هو إقامة العلم بالجامع المذكور لا غيره
وقوله أن من نذر صلاة ببيت المقدس يخرج عن نذره بالصلاة في المسجد الحرام صحيح ولكنه لا ينفعه هنا والفرق بينه وبين ما نحن فيه من وجهين أحدهما أن تدريس العلم في بقعة يترتب عليه نشر العلم في ذلك المكان وشيوعه بين أهله وربما يكون فيهم من لا يحضر في المكان الآخر ونشر العلم في جميع الأماكن مطلوب ولهذا يجب أن يكون في كل قطر من يفتي الناس ويعلمهم ويقضي بينهم وكان في تدريس العلم في بقعة مسجدا كانت أو مدرسة أو غيرها حق لأهل تلك البقعة ولما حولها فنقله إلى غيرها يفوت حقهم فلا يجوز سواء أكانت البقعة المنقول إليها مثل البقعة الأولى أو دونها أم أفضل منها
ولو كان نشر العلم في المكان الفاضل يكفي عن نشره في المكان المفضول لكفى الناس كلهم نشره في مكة أو المدينة ولم يجب نشره في غيرهما من البلاد وهو خلاف إجماع المسلمين وخلاف قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة الآية إذا فسرناها بالنفير إلى العلم وخلاف قوله صلى الله عليه وسلم ارجعوا إلى أهليكم فمروهم وعلموهم وأما الصلاة فالمقصود منها تقرب المصلي في خاصة نفسه إلى الله تعالى وتقاربها بمعنى زيادة حصول فضله له فيها ولذا يكون ذلك في المساجد الثلاثة وهي في غيرها سواء في نظر الشارع فلذلك لم يتعين غير المساجد الثلاثة وكفى إقامتها في المسجد الحرام عن بيت المقدس وغيره لأنه أفضل
ومن هذا الفرق نأخذ أن من نذر تعليم العلم في بلد لا يقوم مقامه تعليمه في بلد أفضل منه أو مثله اللهم إلا أن يكون البلد الذي نذر تعليم العلم فيه كثير العلماء غير محتاج إليه فأراد تعليمه في بلد لا علم فيه فينبغي أن يجوز وحاصله أن نفع العلم عائد إلى الناس ولا أثر لشرف البقعة فيه فقد بان تفاوت الغرضين وكما أنا نراعي إقامة العلم في بلد دون بلد ونطلب شمول التعليم فيهما كي لا يخرج أهلها في الانتقال لطلب العلم أو يتعطل العلم لذلك نراعي الأماكن في البلد الواحد لأن أهل كل محلة قد يشق عليهم الانتقال إلى غيرها بل وإن لم يشق فطباع الناس في العادة تقتضي أنه وإن لم يكن لبعضهم رغبة قوية في طلب
____________________
(1/480)
العلم تبعثه على الانتقال له من مكان آخر فإذا سمعه في مكانه بغير تكلف حدثت له رغبة فيه وقد يكون ذلك سببا لقوة همته وهمته فيه فلهذا يطلب تعميم كل مسجد وكل محلة به وسواء أكان فاضلا أم مفضولا أم غيره لهذا السر العظيم
الفرق الثاني أن المنذور حق للشارع وقد دل على الاكتفاء بفاضل كل نوع عن مفضوله بما بينه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله لمن نذر الصلاة في بيت المقدس صل هاهنا وغير ذلك من الأحاديث
وبالقياس فإنه ثابت في الأمور الشرعية بالأدلة الدالة عليه شرعا وأما الوقف فإن الحق فيه لآدمي وهو الواقف وقد مر به بمقتضى وقفه لجهة معينة بشروط مخصوصة ولم يدل دليل من جهته على القياس ولا على الاكتفاء بالفاضل عن المفضول لا من نوعه ولا من غيره والناظر بمنزلة الوكيل عنه والوكيل يجب عليه تتبع تخصيصات الموكل ولا خلاف أن الموكل لو قال لوكيله فرق هذا المال أي تصدق به على أهل البلد الفلاني لم يكن له أن يفرقه على غيرهم ولو قال فرقه فيها ليس له تفرقة في غيرها إلا أن يقطع بأن لا غرض له في ذلك ولم يوجد ذلك هاهنا فقد بان بهذين الفرقين بعد ما بين مسألتنا والمسألة التي استشهد بها
واعلم أن هذا الرجل أنا أستحيي وأربأ بنفسي عن أن أرد عليه وليس عندي أهلا لذلك ولا أن يقابل كلامي به ولكني أقول هذا ليقف عليه من هو أهله فيستفيده
وأما التمثيل بالعدول في زكاة الفطر إلى الأعلى فإنه عرف من نفس الشارع لما قال صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب عدم الحصر في نوع واحد وأنه يقصد إما التخيير كما ذهب إليه بعضهم وإما التنويع وطلب القوت فالأعلى في القوت محصل لغرض الشارع عند قوم وكذا الأعلى في المالية عند آخرين والشارع هو المستحق والفقير مصرف فلذلك جاز العدول لما فهم من كلام المستحق وهو الشارع ألا ترى أن زكاة المال لو عدل فيها عن خمسة دراهم إلى خمسة دنانير لم يجز عندنا أيها الشافعية وهذا الجاهل الذي احتج بزكاة الفطر معدود من الشافعية فما يصنع بزكاة المال وأما تعيين الدراهم للصدقة ففيه خلاف القول بعدم التعيين مأخذه ما أشرنا إليه من أن الحق للشارع والفقير مصرف ولا غرض في أعيان الدراهم ونظر الشارع في الصدقة
وأما نقل الوديعة إلى مكان أحرز فللقطع بأن مقصود المالك الحفظ وتعيينه مكانا إنما هو لأجل الحفظ فما هو أحفظ منه أولى لأن المودع ملتزم للحفظ فهو أعرف به ويتولاه بما يعرف وحق المالك في الوديعة بعينها لا في مكانها فلم يترك بنقلها إلى المكان الأحرز حقا للمالك
وأما قوله من وقف على كلام إمام الحرمين
____________________
(1/481)
والغزالي بأن له هذا فكذب منه أو توهم وأما عدول المستأجر لزراعة الحنطة إلى مثلها فلأنه ملك منفعة أرض والحنطة ومثلها طريقان في الاستيفاء ولا حق للمالك فيهما والمستأجر ملك ذلك النوع من المنفعة فله استيفاؤها بأي طريق شاء وأما نقل البئر والمسجد إلى مكان آخر للضرورة فلأن ذلك هو الموقوف بعينه فينتفع به فيما شرطه الواقف وإنما تعذر محله ونظيره هنا أن لا يوجد مستغل أصلا ولا يتوقع بأن تخرب تلك المحلة ولا يتوقع حضور أحد عنده للتعلم فحينئذ نقول بأنه يجوز إقامة تلك الوظيفة بمكان آخر أقرب ما يكون إلى ذلك المكان تحصيلا لغرض الواقف
وصورة مسألتنا هنا أن جامع مصر الجديد موجود والناس حوله كثيرون فأين هذا من ذاك لعن الله المحرفين لكلام العلماء إن تعمدوا ذلك
وكذا القدر والقنطرة وأما الوجه الثالث في كلامه فهو يقتضي ذلك عند الضرورة ولكنه لم يشترط الضرورة بل الخلل وأما عند الضرورة كما أشرنا إليه قريبا فنحن نوافق عليه كما بيناه نحن لا كما قاله أو قصده المستفتي
وأما عند حصول خلل ما وهو الذي أراده يعني بنقض الوقف فلا نقول بذلك حاش لله وتشبيهه إياه بقول السيد للمكاتب اذهب فقد أعتقتك ليس بصحيح لأن ذلك للقرينة الدالة على أنه أراد بأنه أعتقه للكتابة فيكون خبرا لا إنشاء واللفظ محتمل له وكأنه مشترك بالنسبة إلى المعنيين فيحتمل على أحدهما بقرينة
وأما هنا فتقدير شرط الاستمرار زيادة على ما يحتمله اللفظ فلا تكفي القرينة فيه بل ولا النية لو قالها الواقف ولهذا نظائر في الطلاق وغيره إذا أراد المطلق إحدى معنيي اللفظ أثرت النية فيه وإذا أراد شرطا زائدا لم يسمع
هذا آخر تتبع كلام هذا الشخص ولا ينبغي أن يغتر به ولا أن نتوهم أن هذه المسألة من محل التردد والنظر وأظن أن ما حمل هذا الشخص على هذه الفتوى قلة دينه وورعه فإنه مذموم السيرة وقد أخبرني عنه من أثق به لما ولي قضاء البحيرة أنه ظهر منه ما يدل على أنه لا يعتقد تحليلا ولا تحريما لما اعتمده من استباحة الأموال فيها وما أقول هذه إلا بيانا لحاله وتنفيرا عن الاغترار بكلامه وأما الثاني الذي قال بالجواز وعلل بالتعذر فإن كان علم الواقعة فقد حابى وداهن فإن كل أحد يعلم أن الحالة ليست حالة ضرورة وكم من فقيه لا شيء له يقنع بأدنى شيء وينتصب للإقراء في أي مكان وأما الثالث فليس من أهل العلم حتى يكلم والله تعالى أعلم
كتبه في سادس شوال سنة تسع وثلاثين وسبعمائة انتهى
____________________
(1/482)
483 مسألة قال وقفت على أولادي وأولاد أولادي بطنا بعد بطن هل يقتضي الترتيب
الجواب قد عملت فيها تصنيفا واستقر فيها أنها للترتيب
مسألة حلبية وقف على قطب الدين الحسن ثم على ولده أبي الفتح عبد الله ثم على أولاده وأولاد أولاده ونسله وعقبه ممن ينسب بآبائه إلى قطب الدين ما تناسلوا ومن مات منهم ولم يخلف ولدا ولا ولد ولد يتصل نسبه بآبائه إلى قطب الدين كان نصيبه مصروفا إلى إخوته ممن ينسب إلى أبي الفتح عبد الله بآبائه فإن لم يكن له أخ وله أولاد أخ صرف إلى أولاد أخيه الأقرب فالأقرب إلى أبي الفتح والأعلى فالأعلى فإن مات أبو الفتح عبد الله ولم يكن له ولد ولا ولد ولد يتصل نسبه إليه بالآباء كان مانع هل يتصدقه إلى من يحدث لقطب الدين من الأولاد الذكور بعد تاريخ هذا الكتاب لا على أولادهم وأولاد أولادهم والشرط بهم على الشرط المتقدم في أبي الفتح فإن مات أبو الفتح عبد الله ولم يكن له ولد ولا ولد ولد ممن ينسب إليه بالآباء ولم يحدث لأبيه ولد ذكر بعد تاريخ هذا الكتاب كان إلى طاهر وعبد المجيد ولدي قطب الدين بينهما بالسوية ثم أولادهما ونسلهما وعقبهما والشرط في أولادهما مثل الشرط في أولاد أبي الفتح وقسمة ذلك في سائر البطون للذكر مثل حظ الأنثيين يجري ذلك ما دام أحد على وجه الأرض يتصل نسبه بآبائه إلى قطب الدين فإن انقرضوا كان إلى أولاد الشهيد بهاء الدين عبد الرحيم والشرط كالشرط فإن انقرضوا كان للفقراء والمساكين فمات قطب الدين وانتقل بعده إلى أبي الفتح ثم إلى أولاده واتصل بامرأة من نسله تدعى فاطمة ثم ماتت عن غير ولد وانقرض بموتها ذرية أبي الفتح المتصلين بآبائهم إلى قطب الدين وادعى قوم أنهم ولد رجل يدعى تقي الدين أبا نصر محمد حدث لقطب الدين بعد تاريخ الكتاب فهل هذا الوقف لذرية هذا الحادث أو لا وإذا لم يثبت حدوث من هذا الولد لقطب الدين فهل هو
____________________
(1/483)
للموجودين من ذرية طاهر وعبد المجيد وإن كان الموجود دونه أحدهما فهل له جميع الوقف أو نصفه وإذا لم يكن لهم الجميع أو النصف فلمن يكون بعد فاطمة المذكورة لبني الشهيد أو للفقراء أجاب إن ثبت حدوث الولد المذكور لقطب الدين بعد الكتاب فالوقف لذريته عملا بقوله فإن مات أبو الفتح عبد الله ولم يكن له ولد ولا ولد ولد وقد صدق الآن هذان الأمران وليس في اللفظ ما يقتضي تقييد نفي الولد وولد الولد بحالة الموت فيصح على أي وقت كان
وإن لم يثبت حدوث هذا الولد فالوقف للموجودين من ذرية طاهر وعبد المجيد عملا بقوله فإن مات أبو الفتح عبد الله ولم يكن له ولد ولا ولد ولد ولم يحدث لأبيه ولد ذكر وتقريره كما سبق فقد تكمل شرط استحقاق طاهر وعبد المجيد وذريتهما وإذا كان الموجود دونه أحدهما قط فقد استحقوا الجميع كما لو وقف على زيد وعمرو ثم على الفقراء فمات زيد صرف جميع الوقف إلى عمرو وانتقل لبني الشهيد ما دام أحد من ذرية طاهر وعبد المجيد أو أحدهما موجودا ولا إلى الفقراء ما دام أحد من ذرية الشهيد موجودا والله أعلم انتهى
مسألة من دمشق وقف على شخص ثم أولاده ثم أولاد أولاده وأولاد أولاد أولاده وأولاد أولاد أولاد أولاده ونسله وعقبه بطنا بعد بطن ثم مات الموقوف عليه ثم أولاده وبقي من نسله ابن ابنه وآخرون أسفل درجة منه
أجاب يحجب الأعلى منهم الأسفل من نسله ولا يحجب الأسفل من غير نسله فمن كان أصله حيا لم يستحق شيئا ومن لم يكن أصله حيا استحق ما كان أصله يستحقه وقل من يعرف هذه المسألة في الشام أو مصر وقد كتبت فيها تصنيفا يختص بهذه الواقعة في ورقتين وتصنيفا في طبقة بعد طبقة قبل ذلك في نحو كراس
مسألة وقف سليمان على أبي بكر وعائشة ولدي ولده قاعة وإصطبلا وأباحا ونصف حمام للذكر مثل حظ الأنثيين وعلى بنات ابنته ست العرب وهن نسب وزينب وزاهدة وخديجة وفاطمة ريع فندق بينهن أخماسا بالسوية فإذا توفي أبو بكر وعائشة وبنات ابنته انتقل ما كان لكل منهم إلى أولاده ثم أولاد أولاده ثم إلى نسله وعقبه من ولد الظهر والبطن بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين فإذا مات واحد منهم ولم يترك ولدا ولا ولد ولد وإن سفل انتقل ما كان له من منافع هذا الوقف إلى إخوته الباقين بعده مضافا إلى ما يستحقونه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وإلى أولادهم وأولاد أولادهم ونسلهم تحجب الطبقة العليا منهم الطبقة السفلى فإذا انقرضوا بجملتهم ولم يبق منهم من يدلي بنسبه إلى واحد منهم ولا بولادته إلى واحدة من هؤلاء البنات المذكورات فيه كان للفقراء والمساكين ثم توفيت عائشة عن غير ولد في حياة أخيها أبي بكر ثم توفي أبو بكر وقبله بنته ياقوتة المتوفاة في حياته وهن عائشة وترك وخاتون ثم توفيت خاتون وخلفت ابنتها فاطمة وجلال الدين في سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة فإن قوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى محمول على ترتيب كل فرع على أصله وحكم لعائشة وترك وفاطمة على زمرد باستحقاق تناول النصف مما وقف
____________________
(1/484)
على أبي بكر وأخته عائشة بينهن أثلاثا لكل منهن السدس إسنادا إلى تصادقهن المشروح فيه يعني على ترتيب الوفيات ورأى انتقال الجهات الموقوفة على أبي بكر وعائشة لابنته زمرد وبنات ابنته ياقوتة وهن عائشة وترك وخاتون وأن بنات ياقوتة ينزلن منزلتها لو كانت موجودة وأن زمرد تختص بالنصف من ذلك وأن السدس المختص بخاتون ينتقل لابنتها فاطمة كل ذلك بمقتضى ما فهم من مقصود الواقف في عود نصيب كل رجل بفرعه وذكر المستفتي أن نسب زينب وزاهدة وصالحة وفاطمة انقرضوا في حياة أبي بكر وعائشة وأن زمرد ماتت بعد حكم جلال الدين ولم تخلف ولدا ولم يبق لهم سوى ترك وعائشة وأولادها وفاطمة بنت خاتون المذكورة وأولادها
مسألة وقف الصارم أميراخور على نفسه وحكم به ثم على أولاده الستة وعينهم وعلى من يحدثه الله له من الأولاد ثم على أولادهم وإن سفلوا على أنه من مات منهم ولا ولد له ولا أسفل من ذلك كان نصيبه راجعا إلى أهل طبقته وعلى أنه من مات قبل دخوله في الوقف لكونه محجوبا وله ولد أو ولد ولد ثم آل الوقف إلى حال لو كان حيا لاستحق نصيبه لولده واستحق ما كان يستحقه لو كان حيا فمات من الستة في حياة الواقف اثنان عن خمسة وحدث له خمسة ولاثنين من الذين ماتا في حياته أولاد ثم مات الواقف عن ستة أولاد وعن أولاد الولدين من الخمسة فاستحق كل من الستة الثمن وأولاد كل من الميتين الثمن ثم مات أحد الستة ولا ولد له فهل يرجع نصيبه للخمسة خاصة بمقتضى قوله لأهل طبقته أو لهم ولأولاد الميتين بمقتضى اللفظ الآخر
أجاب يرجع لهم ولأولاد الميتين فيقسم ريع الوقف الموجود كله على سبعة أسهم لكل من الخمسة سبع ولأولاد أحد الميتين سبع ولأولاد الآخر سبع عملا بمقتضى اللفظ الآخر ولا ينافي قوله لأهل طبقته وذلك بأحد طريقين إما أن نجعل أولاد الميتين من أهل طبقته وهو أن يشترط فيهم أن يكونوا موجودين وإما أن يجعل أولادهما من أهل طبقته بحكم أنهم نزلوا منزلة آبائهم فإن قلت إذا مات بعد هذا واحد له أولاد اختص أولاده بنصيبه فإذا مات بعض أعمامه عن غير ولد إن قلتم يختص بنصيبه أهل طبقته خالفتم ما قلتموه الآن وإن قلتم نعطي لأولاد المتوفى الآن فهو لم يكن محجوبا فلم يدخل في تلك الصفة قلت الحجب حجبان حجب تنقيص وحجب حرمان وهو كان محجوبا حجب تنقيص ويظهر من هذا أن قوله لأهل طبقته احتراز ممن هو أعلى منه وممن هو أسفل منه ثم لم
____________________
(1/485)
يدخل إلى الآن في الوقف أما من دخل ممن هو أسفل منه فلم يحترز عنه وبهذا الطريق ينتظم أمر هذا الوقف على الدوام من القسمة على الذرية بالسواء حتى انحصرت ذرية الصارم في الإسار إلى ثلاثة من أولاده كان لكل ذرية الثلث وعلى هذا الترتيب والله أعلم
مسألة أولاد تاج الملوك وقف على أولاده الأربعة ثم من بعد جميعهم على أولادهم وإن سفلوا تحجب الطبقة العليا منهم الطبقة السفلى وعلى أن من مات منهم وله ولد أو ولد ولد وإن سفل انتقل نصيبه إليه ومن مات ولا ولد له انتقل نصيبه لإخوته ومن مات ولا ولد له ولا إخوة انتقل نصيبه لأقرب الناس من أولاده وأولاد أولاده ومن مات قبل الاستحقاق استحق ولده نصيبه فمات رجل وله بنت وابن ابن قد مات أبوه قبل الاستحقاق
الجواب يأخذ ابن الابن الذي مات أبوه قبل الاستحقاق ما كان يأخذه أبوه لو كان حيا الآن ولا تحجبه عنه عمته ولا يمنع من ذلك قوله تحجب الطبقة العليا منهم الطبقة السفلى لأن معنى ذلك هنا أن كل واحد يحجب ولده جمعا بين الكلامين وإن لم يكن ذلك لغا قوله من مات منهم قبل الاستحقاق استحق ولده نصيبه والله أعلم
وقد كانوا استفتوا في هذا الوقت ولم يكتبوا في الفتاوى هذا الشرط الأخير فكتبت أنا وجماعة بأنها تحجب وهو صحيح عملا بالشرط الأول وعموم الحجب من غير معارض ثم أحضروا فتاوى فيها الشرط المذكور وروحوا على الناس المفتين فتوهموا أنها الأولى ولم ينتهوا للشرط الزائد فكتبوا عليها كذلك وحضرت إلي وعليها خط ابن القماح وكنت قريب عهد بالكتابة على الأول فكتبت إلى جانبه كذلك يقول علي السبكي ثم اطلعت على الشرط المذكور وعلى كتاب الوقف فعلمت أن الكتابة بالحجب في الثانية كان خطأ وقلت لهم ذلك وبقي خطي معهم فاتني أن آخذه فليعلم ذلك والله أعلم
مسألة وقف على زيد ثم على أولاده ثم أولاد أولاده ما تناسلوا فمن مات وله ولد عاد ما كان جاريا عليه على ولده ومن مات ولا ولد له كان نصيبه لمن في درجته من أهل الوقف فانحصر الوقف في واحد من أولاد الموقوف عليه ثم مات وخلف ولدا وولد ولد مات قبل دخوله في الوقف هل يشتركان أو يختص الأعلى أجاب
مسألة من دمياط في ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين في رجل وقف أرضا بها أشجار موز والعادة أن شجر الموز لا يبقى أكثر من سنة
____________________
(1/486)
فزالت الأشجار بعد أن ثبت من أصولها أشجار ثم أشجار على ممر الأزمان وأما الأرض فإنها تردم في كل سنة وتكسى طينا جديدا من غير الأرض الموقوفة ولم يبق إلا الأشجار المستجدة فهل ينسحب حكم الوقف على الأرض والأشجار المستجدين وإذا قلنا لا ينسحب فهل نلحقه ببيع الأرض المستجدة والأشجار المستجدة وإذا جاز فما حكم الأرض المنتقلة الموجودة حال الوقف أيضا
أجاب الموز حكمه حكم الشجر على الأصح لا حكم الزرع فالأرض وما فيها من جذر الموز وفراخه وقف ما ثبت من الجذر بعد ذلك من الفراخ ينسحب عليه حكم الوقف كالأغصان النابتة من الشجرة الموقوفة وهكذا على ممر الأزمان كلما نبت فرخ انسحب عليه حكم الوقف وهكذا لو مات بالكلية وزرع مكانه غيره على أنه للوقف صار وقفا فإن زرع لغير الوقف لم يجز ووجب قلعه وأما الأرض وردمها في كل سنة وكونها تكسى طينا جديدا فكل ذلك يصير وقفا وينسحب عليه حكم الوقف لأنه إنما يفعل لمصلحة الوقف فهو كعمارة الجدران الموقوفة وترميمها وكل ذلك يصير وقفا إذا عمل لجهة الوقف ولا يحتاج إلى إنشاء وقف بخلاف ما إذا قتل العبد الموقوف واشترى بقيمته عبدا آخر فإنه يحتاج إلى إنشاء وقف على الأصح والفرق أن العبد الموقوف قد فات بالكلية والأرض الموقوفة هنا باقية والطين المطروح فيها كالوصف التابع لها وكذا ترميم الجدران ونحوها
وقد بان بهذا أن الشجر والأرض كلاهما ينسحب عليه حكم الوقف ولا يضره ما أشار إليه المستفتي وإن فرض أن الذي أتى بالطين المستجد أتى به لنفسه لا لجهة الوقف فهو عدوان ويجب رده إليه وليس الكلام فيه وأما الأرض السفلى فهي وقف بحالها وهي الأصل وما عداها تبع والله أعلم
مسألة من أبيار
وصى جلال أن يشترى من ثلث ماله عقار ويوقف على أخيه حسين ثم على ولديه محمد وأحمد ثم على أولادهم الذكور ثم على فقراء أهله ثم على الفقراء والمساكين ومات حسين ثم مات جلال الموصي وورثه أخته ومحمد وأحمد ولدا أخيه المذكوران فهل تبطل الوصية في حقهم وحق من بعدهم من فقراء الأهل والفقراء والمساكين أو لا وكتب شمس الدين بن القماح بطلت الوصية المذكورة والله أعلم
والذي يظهر لي أن هنا ثلاثة أمور أحدها الوصية لأخيه حسين ولا نقول إنها بطلت بموته
الثاني لولديه محمد وأحمد فهل بموت أبيهما تبطل أيضا في حقهما لأن الوقف إنما ثبت لهما بطريق التبعية لأبيهما وقد بطل الأصل فيبطل التابع
____________________
(1/487)
أو نقول لا يبطل في حقهما بل يصير كما لو وقف عليهما ابتداء فيه نظر واحتمال مستمد من مسألتين إحداهما لو وقف على زيد ثم عمرو ثم بكر ثم على الفقراء فمات عمرو قبل زيد ثم مات زيد قال الماوردي يصرف إلى الفقراء ولا يصرف إلى بكر لأن استحقاقه مشروط باستحقاق عمرو ولم يوجد
وقال القاضي حسين يصرف إلى بكر كما لو قال أوقفت على أولادي ثم على أولادهم ثم على أولاد أولادهم
وهذا الذي قاله القاضي حسين يصح لأن الشرط انقراض عمرو لاستحقاقه ولأنه قد قال بالصرف إلى الفقراء وهو مشروط بالثلاثة قبله وليس قوله بالصرف إلى الفقراء بحكم الانقطاع لأنه قال في المنقطع إنه يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف على المذهب وإذا ألحقنا مسألتنا هذه بمسألة الماوردي والقاضي حسين ترجح فيها أنه يصير كما لو قال ابتداء وقفت على ولدي أخي
المسألة الثانية إذا وقف على من لا يجوز ثم على من يجوز
وفيها طريقان المذهب القطع في البطلان بالأول وعلى هذا تبطل والمشهور على هذا أنها تبطل فيما بعده وفي وجه أنه يصح فيما بعده ولكني لم أتحقق التصريح بجريان هذا الوجه مع القول بالبطلان في الأول إلا أنه ظاهر من كلامهم
إذا عرفت هذا عرفت أن الراجح إذا نظرت إلى المسألة الأولى تحرير ما تحرر في مسألة أبيار انتهى
مسألة وصى بأن تكون داره وقفا بعد موته على زيد ثم على الفقراء فمات زيد في حياته ثم مات الموصي الجواب الظاهر أنها تكون وقفا على الفقراء إذا خرجت من الثلث ويحتمل أن تجعل كالمنقطع بأن يقدر أنه قال وقفتها على زيد الميت ثم على الفقراء لأن الفقراء إنما ذكروا تبعا لا أصالة ولكن الاحتمال الأول أظهر ولا توقف فيها من جهة الإضافة إلى ما بعد الموت لأن الوقف المضاف إلى ما بعد الموت صحيح كالوصية ولا من جهة اختلاف الماوردي والقاضي حسين فيما إذا وقف على زيد ثم عمرو ثم بكر فمات عمرو قبل زيد لأن التصحيح ما قاله القاضي حسين من أنه يصرف إلى بكر بعد زيد وإنما التوقف لما أشرنا إليه والظاهر ما قدمناه لأن المنقطع حال الحياة إنما نبطله للتعليق والتعليق في الوصية لا يضر انتهى
مسألة وصى أن يشتري من ثلثه عقارا ويوقف على أخيه ثم ابني أخيه ثم الفقراء فمات أخوه قبله وورثه أخته وابنا أخيه المذكوران
فهذا يحتمل البطلان أيضا بالكلية من جهة أنه تبين أنه وصية منقطع الأول ولكنه احتمال ضعيف كما ذكرناه في المسألة السابقة وذلك لأنه إذا كان الشيء صحيحا فلا فرق بين كونه
____________________
(1/488)
تابعا أو مستقلا
والوصية يصح تعليقها فلا يمتنع إضافتها إلى المستقبل ولا ضرورة إلى جعله تابعا بخلاف الوقف المستجد فإنا لو لم نجعله تابعا لبطل فدعت الضرورة إلى جعل التبعية موجبة للصحة فكذلك أقول أيضا إن الظاهر هنا أنه يكون الوقف على ابني أخيه كالوصية لهما وهي وصية لوارث فإذا أردت فالكلام فيمن بعدهما فالكلام فيهما مع من قبلهما والتفريع على أنه كالمستقبل فتصح الوصية بالنسبة إلى الفقراء فيشتري العقار المذكور ويوقف عليهم فإن اعترض على هذا بأن الأصحاب قالوا فيما إذا أوصى لوارثه في مرض موته أنه منقطع الأول وأنه يبطل في الكل وقالوا في الوقف على نفسه ثم على الفقراء أنه منقطع الأول فبطل في الكل على الصحيح قلت أما في الوارث فصحيح لأنه منحة لا وصية حقيقية وإن كانت وصية حكما وكلامنا هنا في الوصية الحقيقية التي لا يقدح التعليق فيها وأما الوقف على نفسه ثم على الفقراء فالأصحاب أطلقوا البطلان ويمكن حمل إطلاقهم على أنه لا يصح وقفا لازما لأن كلامهم فيه إما أنه إذا بقي في ملكه إلى أن مات من غير رجوع عن ذلك لا تصح وصية فلم يصرحوا به وينبغي أن يقال به لأنه لو وقف على الفقراء بعد موته صح والله أعلم
واعلم بأنا إذا قلنا بأنه يوقف على فقراء أهله أو على الفقراء فإنما يكون ذلك عند انقراض محمد وأخته الوارثين كما إذا قلنا بصحة وقف المنقطع الأول وكان ممن يعتبر انقراضه فيشتري العقار المذكور من الثلث كما شرطه الموصي ويكون بيد الورثة كلهم على حكم مواريثهم للأخت النصف وابني الأخ النصف يشغلونه ما دام محمد أو أخته باقين أو أحدهما وكذلك ورثة بعضهم من بعدهم لكنهم محجور عليهم فيه لا يبيعونه لأجل حق الوقف فيه فإذا انقرض محمد وأخته جميعا توقف ذلك الوقف على فقراء أهله ثم على الفقراء
هذا الذي ظهر لي في ذلك على تقدير رد الوصية وأما على تقدير الإجازة فإن أجازت الأخت وابنا الأخ صح الوقف عليهما وكذا إن أجازت الأخت وحدها والله أعلم
والذي كتبته على الفتوى المذكورة الحمد لله بطلت الوصية في حق الميت فقط وتصح في حق ولديه ومن بعدهما بإجازة الأخت فإن أجازت فردا أو ردت بطل في حقهما ويصح في حق من بعدهم من فقراء الأهل غير الوارثين ثم الفقراء والمساكين فيشتري الوصي أو القاضي إن لم يكن وصي عقارا أو تكون غلته الآن للورثة وهم الأخت وابنا الأخ على حكم الميراث ولا يجوز لأحد منهم بيعه ولا التصرف فيه بما يبطل الوقف فإذا انقرض محمد وأخته المذكوران
____________________
(1/489)
استحقه فقراء الأهل غير الوارثين وقفا عليهم ثم على من بعدهم من الفقراء والمساكين هذا كله إذا خرج من الثلث والله أعلم
ثم توقفت عن الكتابة وأشكلت علي هذه المسألة هنا لأنه قد قال أو الثاني فرع عن الأول ولم يتعرض له إلا في ضمن عقد فاسد فتبطل وله التفاوت على ما إذا بطل الخصوص هل يبطل العموم فلينظر من ذلك
مسألة امرأة وقفت على نفسها ثم على زوجها كمال الدين ثم على أولاده واحدا كان أو أكثر للذكر مثل حظ الأنثيين ثم على أولاد أولادهم كذلك ثم على نسله وإن سفل للذكر مثل حظ الأنثيين على أنه من توفي منهم عن نسل عاد ما كان جاريا عليه على ولده ثم ولد ولده وإن سفل للذكر مثل حظ الأنثيين ومن توفي عن غير ولد ولا نسل عاد على من معه لأن حقه أن يقدم الأقرب إلى زوج الواقفة وحكم بصحة الوقف حاكم فتوفي زوجها في حياتها عن بنت منها اسمها نسب وبنت بنت من غيرها توفيت أمها قبل صدور الوقف اسمها قضاة ثم توفيت الواقفة فانتقل الوقف إلى نسب ثم توفيت عن ابن اسمه أحمد فحكم حاكم بمشاركة قضاة لابن خالتها أحمد بحسب وأن يكون بينهما نصفين ثم توفيت قضاة عن ابن اسمه أحمد أمين الدين فأقر لأخته بثلثي الوقف وأقر له أحمد بثلثه ثم توفي أحمد عن ولدين ثم توفي أمين الدين عن أولاده
أجاب مقتضى هذا الوقف أن قضاة تشارك أحمد للذكر مثل حظ الأنثيين أما مشاركتها فلعموم قول الواقفة على كمال الدين ثم على أولاده ثم أولاد أولاده فإنه اقتضى دخول أولاد أولاده كلهم وأحمد وقضاة كلاهما من أولاد أولاده وإنما تأخرت قضاة عن مشاركتها خالتها نسب لأجل الترتيب وقد زال فإن أحمد مساو لها فيشتركان وإن كان هذا يخالف قول الواقفة من مات منهم وله ولد كان نصيبه لولده فإنه يقتضي أن نصيب نسب وهو جميع الوقف كله لأبيهما أحمد لكنه معارض لعموم قوله أولاد أولاد كمال الدين واقتضائه استحقاقهم فحملنا قوله النصيب على النصيب الذي يستحقه لو كانت هي مساوية لقضاة لأنها إنما قدمت عليها لعلوها في الدرجة وهذا الوصف مفقود في ابنها فلا يقدم عليها
فإن قلت هذا يجوز في لفظ النصيب وذاك تخصيص والتخصيص يقدم على المجاز
قلت لنا أن نقول النصيب قدر مشترك فلا مجاز ولو سلمنا أنه مجاز فهو هنا أولى لأن التخصيص إذا قيل به هنا يكون في مجال صدر الوقف وتفاصيله فمكان واحد أولى وأيضا وغرض الواقف يقتضي عموم الذرية
إذا عرف هذا فمكان اشتراك
____________________
(1/490)
بل يقال لا يكون بالسوية بل للذكر مثل حظ الأنثيين فيكون لأحمد الثلثان ولقضاة الثلث لعموم قوله للذكر مثل حظ الأنثيين وقد يقال إنه يراعى ذلك في نصيب كل واحد إذا انتقل لأولاده خاصة مثاله إذا كان ابن وبنت فإنهما يستحقان للذكر مثل حظ الأنثيين فإذا مات الابن عن بنت والبنت عن ابن انتقل لكل منهما ما كان لأبيه كاملا ولا يجمع بين نصيبهما ويقال للذكر مثل حظ الأنثيين وترجيح أحد الاحتمالين على الآخر يربطه والأقرب الثاني لأنا إنما أخرجنا عن ظاهر لفظ النصيب إلى أصل الشركة لأجل العموم ومثله لا يقوى هنا ومع هذا فقضاة تشارك أحمد لأن أحمد إنما له نصيب أمه وأمها لا تنفصل عن قضاة في تقديم النصيب لاشتراكهما في الأمومة وإنما ينفصل عليها في التقدم لعلو درجتها وعلى هذا يكون حكم الحاكم بمشاركة قضاة لأحمد ومناصفتهما صحيحا ثم لما نهت قضاة عن أمها انتهى استحق نصف الوقف على الاحتمالين اللذين ذكرناهما جميعا لأنا إن عممنا قوله للذكر مثل حظ الأنثيين فهما ذكران وإن خصصنا فكل واحد يأخذ نصيب أمه وحينئذ يفرد قرار ليس بصحيح إلا أنه يؤخذ به إذا احتمل أن يكون له مستند غير ما ذكر
فإن لم يحتمل فهو باطل ولا يؤخذ به وعلى كل تقدير فالأقرب والحكم الذي حكم به الحاكم لا يلزم حكمهما لمن بعدهم فيأخذ ولدا أحمد ما كان لأبيهما ويأخذ أولاد أمين الدين ما كان لأبيهم فإن كان في أحد الفريقين أنثى من ذكر كانت القسمة ثلاثة في النصف الذي انتقل إليهما من أبيهما خاصة لا في الجميع على ما رجحناه من أحد الاحتمالين والله أعلم
كتب في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين انتهى
مسألة وقف على المجير بن الرفعة ثم على أولاده ثم أولاده أحمد وعائشة وفاطمة وزينب وولدي أحمد المذكور أبي بكر وعلي يصرف لهما مثل نصيب ذكر من أولاد المجير ثم من بعدهم على كل موصوف بالخير وملازمة الصلاة من أولادهم وإن سفلوا للذكر مثل حظ الأنثيين من مات وترك نصيبه متناولا له ولد وإن سفل كان له بشرط الاتصاف بالوصف المذكور وإن كان المتوفى ليس له نصيب بخلوه عن الوصف وفي أولاده وإن سفلوا متصف بالوصف استحق الذكر مثل حظ الأنثيين تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى ومن مات ولا ولد له وإن سفل فنصيبه للمشاركين له في استحقاق المصرف مضافا لما لهم فإن لم يكن في طبقته متصف بالوصف كان مصروفا لمن هو موصوف من أقرب الطبقات إلى المتوفى وتوفي المجير ثم توفيت بنته وبنت ولأب إليها ثم توفي أحمد وترك ولديه أبا بكر
____________________
(1/491)
وعليا المذكورين وعبد المحسن وشامية وتوفيت فاطمة بنت المجير وخلفت ملوك وشرف بنتيها ورزقت عائشة علاء الدين ومحمدا ونفيسة وفاطمة المدعوة دنيا ثم رزقت دنيا المذكورة في حياة أمها محمدا وعيسى وأسن ومريم وتدعى منصورة ثم رزقت مريم محمدا ثم ماتت مريم المذكورة في حياة جدتها عائشة ثم ماتت عائشة عن علاء الدين ونفيسة ودنيا أولادها محمد وعيسى وأسن وعن ابن بنتها محمد ابن مريم المتوفاة في حياتها فهل لمحمد ابن مريم هذا شيء في حياة أخواله محمد وعيسى وأسن بحكم تنزله منزلة أمه أو لا
أجاب الظاهر أنه لا يستحق لقوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى فهو محجوب بأخواله فإنه إما أن يستحق من أمه أو جدته لا جائز أن يستحق من أمه لقوله فمن مات متناولا له وأمه حين ماتت لم تكن متناولة لحجبها بأمها قطعا فليس لها شيء ينتقل لابنها فلم يبق إلا استحقاقه من جدته فإن نصيبها ينتقل إلى أولادها وأولاد أولادها لكنه قال تحجب الطبقة العليا السفلى وإطلاق ذلك يقتضي العموم ويحتمل أن يراد بحجب كل أصل فرعه فيستحق إن جعلته في أولاد أولادها مع عدم الحاجب الذي هو أصله فينزل الآن كأن أمه حية
واعلم أن هذه المسألة قد تكررت أمثالها وأنا أستشكلها جدا وأقدم فيها وأؤخر والذي قارب أن يظهر لي في هذا الوقت أن قوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى مع قوله من مات فنصيبه لولده لا يمكن العمل بظاهره هنا فينبغي أن يحمل على حجب كل أصل لفرعه لأنه متى عملنا بخلاف ذلك حصل تخبيط كثير وقد يحرم بعض الأولاد إلى يوم القيامة أما إذا لم نقل من مات ينتقل نصيبه لولده فالعمل بقوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى ظاهر ممكن فإنه إذا فرغت كل طبقة أعطينا لجميع من بعدها وفي المثال الأول إذا قدمنا الولد على ولد الولد ثم مات الولد وله ولد آخر إن خصصناه خالفنا قوله ثم على أولادهم وإن لم نخصصهم خالفنا قوله من مات فنصيبه لولده
وهذه المسألة في غاية الإشكال ينبغي النظر فيها أكثر من هذا وأن لا يستعجل بالجواب
والصيغ التي ترد في الأوقاف مختلفة فمنها أن يقول تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى ثم من يقول من مات انتقل نصيبه فهاهنا يظهر أنه إذا مات واحد وله ابن وابن ابن يقدم الابن على ابن الابن عملا بقوله تحجب الطبقة العليا السفلى فإنه عام إلا فيمن كان له نصيب ومات فينتقل نصيبه لولده بمقتضى اللفظ الثاني على سبيل التخصيص ويبقى العموم فيما عداه وهذا أولى من حمل تحجب العليا السفلى على حجب الأصل لفرعه فقط
____________________
(1/492)
لأنه يمكن تخصيصه ولأن قوله نصيبه حقيقته أن يكون له نصيب يتناوله وحمله على الاستحقاق الذي يصل إليه بعد ذلك مجاز لا دليل عليه وغاية ما في الباب أنه قد يموت قبل الاستحقاق وذلك لا يضر فإنه في كل الأحوال قد يحصل ذلك وحينئذ لا يمتنع أن يقال إنه دخل في الوقف موقوفا على شرط وخرج منه لموته ولا يمتنع أن يقال إنه لموته يتبين أنه لم يدخل أصلا وكلا الاحتمالين سائغ لا مانع منه ومنها الصيغة المذكورة ولكن بموت هذا الابن بعد ذلك وينزل ابنا فهو مساو لابن عمر في الطبقة فهل يأخذ ابن عمر ما كان لأبيه لو كان حيا لأن المانع له حجب عمه له وقد زال أو لا يأخذ لأنه إنما يأخذ من أبيه وأبوه لا حق له هذا محل النظر والاحتمال والأقرب أنه إن كان لفظ آخر عاما يمكن إخراجه منه استحق وإلا فلا
مثال الأول قوله وقفت على أولادي وأولاد أولادي بالواو أو بثم ويذكر الصيغتين بعد ذلك فهنا أقول إنه يستحق بعد وفاة أبيه ما كان أبوه يستحقه لو كان حيا ويختص ابن عمه المتوفى الآن من نصيب أبيه بما كان له حين كان أبوه حيا وإن كان هذا يخالف ظاهر قوله من مات انتقل نصيبه إلى ولده لأنه ليس مخالفة هذا أبعد من مخالفة عموم قوله ثم على أولاد أولاده فيعمل بالعام المتقدم إلا فيما خص به قطعا بقوله تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى وإمضائه حجب العم لابن أخيه ويبقى فيما عداه على الأصل ويكون قوله انتقل نصيبه لولده معناه في هذه الحالة نصه الأصل ومنها أن يقول وقفته على أولادي ثم أولاد أولادي من مات منهم انتقل نصيبه لولده تحجب العليا السفلى فههنا حجب ابن المتوفى لابن أخيه صريح أصرح من الأول بعد حكم من مات
مسائل بدمشق إحداها وقف على أولاده وله أولاد موجودون وولد ميت فلا شك أن الميت لا يدخل ولكن هل يقتضي اللفظ دخوله وخرج من الاستحقاق بالتعذر أو لم يقتض اللفظ دخوله الأقرب الأول ومستند الثاني أنه معدوم ولفظ الولد إنما يطلق حقيقة على الموجود وعلى الأول إذا أخرجناه هل إخراجه من باب التخصيص بمعنى أنه لا يكون مرادا للواقف فلا يكون موقوفا عليه أو يكون موقوفا عليه ولكن بشرط استحقاقه الوجود فيكون اللفظ على عمومه وإنما انتفى الاستحقاق لانتفاء شرطه مع شمول اللفظ والأقرب الثاني
نعم يترجح الأول في هذا المثال أن الوقف إنشاء والآن لا يتعلق إلا بالمستقبل فلا يمكن تعلقه بالولد الميت فيتعين أن يكون من باب التخصيص إلا أن هذا البحث يختص بهذا المثال ولا يجري في قوله أولاد أولادي
الثانية وقف على أولاده ثم أولاد
____________________
(1/493)
أولاده وكان من أولاده من مات قبل الوقف وخلف ولدا فإذا انقرض أعمامه وانتقل الوقف لأولادهم هل يشاركهم لأنه من أولاد أولاده أو لا لأن أباه لم يستحق على ما تقدر في المسألة الأولى والذي أقطع به أنه يستحق لأنه من أولاد أولاده ولم يدل دليل على اعتبار استحقاق أبيه فوجب عدم اعتباره والعمل بالعموم
الثالثة وقف على أولاده ثم أولادهم مثل الأولى إلا أنه أتى بضمير الأولاد بدلا عن الاسم الظاهر فيحتمل أن يقال إنه كالمسألة الأولى ويعود الضمير على اسم أولاده من غير تقييد يفيد الاستحقاق ويحتمل أن يقال إنما يعود على الأولاد الموقوف عليهم المستحقين فلا يدخل في ذلك من مات ولم يستحق
وهذان الاحتمالان هنا في محل التردد بخلاف المسألة التي قبلها وأقرب الاحتمالين عندي في هذه المسألة الأولى وهذا الخلاف مناطه على عكس الخلاف في الأصول في عود ضمير خاص على العام هل يقتضي تخصيصه وهنا بالعكس عود الضمير على العام المخصوص هل يوجب تخصيص الضمير
ومحل هذا التردد إنما هو في المثال المذكور أيضا أما لو وقف على زيد ثم على من يحدث له من الأولاد ثم أولادهم فحدث لزيد أولاد مات بعضهم في حياة أبيه وخلف ولدا فلا شك أن ولده داخل فإنه ولد أحد الموقوف عليهم وإن مات قبل الاستحقاق وإن توهم خلاف ذلك فبعيد جدا ووجه التوهم أنه قد يقال إنما وقف على من يكون موجودا عند موت والده وهذا إن كان محتملا إلا أنه لا دليل عليه
المسألة الرابعة وقف على أولاده ثم أولاد أولاده فلا ينتقل إلى أولاد الأولاد شيء ما لم ينقرض جميع الأولاد وقد صرح الأصحاب بهذا وفي مذهب أحمد فيه خلاف وهو محل احتمال لأن التنزيل محتمل له ولكن الظاهر مذهبنا لأن ثم تقتضي تأخر مسمى ولد الولد مهما دام الولد موجودا لا يستحق ولد الولد شيئا
الخامسة المسألة بحالها ولكن قال من مات منهم انتقل نصيبه لولده فإذا مات واحد بعد الاستحقاق فلا شك أن نصيبه ينتقل لولده
السادسة المسألة بحالها ومات واحد من البطن الثاني قبل الاستحقاق وخلف ولدا ثم مات جد هذا الولد الذي كان أبوه محجوبا به ولم يخلف غير ولد ولده هذا فينتقل نصيبه إليه
ويؤخذ من كلام الماوردي فيما إذا وقف على زيد ثم عمرو ثم عمرو ثم بكر فمات عمرو قبل زيد وقوله إن بكرا لا يستحق أن ولد الولد هنا لا يستحق لأن استحقاقه منوط باستحقاق أبيه ولكنه بعيد والصحيح في تلك المسألة خلاف قول الماوردي فإن طرد قوله هنا فهو بعيد
السابعة المسألة بحالها إلا أن الجد خلف ولدا وولد ولد فهاهنا يحتمل أن يقال إن نصيبه ينتقل إلى ولده خاصة ولا ينتقل إلى ولد ولده
____________________
(1/494)
ويحتمل أن يقال إنه يشاركه ولد الولد
ومنشأ التردد في ذلك أن الولد الذي مات قبل الاستحقاق هل دخل في الوقف أو لا والظاهر دخوله على ما قررناه في المسألة الثالثة وإذا كان داخلا فيشمله قوله من مات منهم لأن المراد من مات من أولاد الأولاد الموقوف عليهم والفرض أنه كذلك بقوله فنصيبه يحتمل أن يراد به السبب الذي هو يتناوله الآن وقد لا يكون كذلك فيحتاج إلى تقدير فنصيبه إن كان له نصيب ويحتمل أن يراد بالنصيب أعم من أن يكون يتناوله الآن ويستحق تناوله عند عدم الحاجب له فلا يحتاج إلى تقدير ويبقى اللفظ على عمومه فكذلك نقول إنه أولى وقد قال تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وهو عام يشمل من لم يمت له والدان ولا أقربون باعتبار أنه إن مات له والدان أو أقربون دخل في هذا الحكم فعلى هذا البحث يكون كولد الذي مات قبل استحقاقه التناول ينتقل نصيبه الذي لو زال حاجبه لاستحق تناوله إلى ولده فإذا زال حاجبه استحق تناوله وفي هذا وفاء بالعموم في شمول الوقف لجميع الطبقات وعدم إخراج شيء من اللفظ وليس فيه تجوز إلا بإطلاق النصيب على القدر المشترك بين المتناول والذي هو بصدده إن سلم أن ذلك مجاز
وأما إذا قلنا إن نصيب الجد كله لولده ولا شيء لولد ولده ففيه إخراج لولد الولد من الوقف وإخراج لأبيه من الوقف أو تقدير إن كان له نصيب والتقدير بعيد والإخراجان إما مطلقان وإما مقيدان إذا اتفق أن ينتهي إليه الوقف بعد ذلك فكل منهما إما تخصيص عام وإما تقييد مطلق وهما أبعد من استعمال النصيب فيما قدمناه ولو قلنا بأنه مجاز وأن التخصيص خير من المجاز لأن ذلك في التخصيص واحد وهنا تخصيصان ولأنه في مجاز غير مستعمل معه حقيقة وهذا مجاز معه حقيقة لأنا قلنا المراد القدر المشترك لا سيما على مذهب الشافعي في الجمع بين الحقيقة والمجاز
الثامنة المسألة بحالها وقال من مات منهم وله ولد أو ولد ولد فنصيبه لولده ثم لولد ولده فهاهنا متى قلنا بأن ولد الولد لا يأخذ يلزم ما قلناه من التخصيص وزيادة مخالفة قوله ثم لولد ولده فإنه اقتضى أن نصيبه بعينه ينتقل بعد ولده إلى ولد ولده وولد ولده يشمل ولد الميت بما قدمناه في المسائل الثلاث الأول فإخراجه مخالف لذلك
فهذه ثلاث مخالفات في مقابلة التجوز ولفظ النصيب أيضا فقوله ولد أو ولده فنصيبه ولد لولده يقتضي أن يكون إذا كان له ولد ولد فقط يكون نصيبه لولده فإما أن يجعل على ظاهره وهو محال وإما أن يقال بأنه
____________________
(1/495)
يقدر دخوله في ملكه ثم ينتقل عنه إلى ولده والتقدير به على خلاف الأصل بل الوجه أن من مات وله ولد ولد فقط ينتقل نصيبه إلى ولد ولده أسفل من غير تقدير ونزل أبوه كأنه لم يوجد ومقتضى لمنقطع الوسط الذي قد انقرض ووصل الوقف إلى من بعده وهذا لا يتم مع التصريح بقوله من مات وله ولد وولد ولد فنصيبه لولده ثم لولد ولده فإنه يخرج إلى التقدير فجئنا إلى مسألتنا وقوله فيها من مات وله ولد وولد ولد فنصيبه لولده ثم لولد ولده ينبغي أن يقال فيها إن هذا الجزء الأول فقط وقوله من مات وله ولد أما إذا مات وله ولد ولد فقط يكون جوابه محذوفا تقديره فنصيبه لولد ولده بقي إذا مات وهما له فإن كان ولد الولد محجوبا بأبيه فحكمه ظاهر
وأما إذا كان أبوه قد مات فينبغي أن يعمل بمقتضى اللفظين كأنه قال من مات وله ولد فنصيبه لولده ثم لولد ولده ومن مات وله ولد ولد فنصيبه لولد ولده ثم لولد ولد ولده فإذا مات وهما له فنصيبه لهما عملا باللفظين وهذه مسألتنا وهذا وإن كان فيه مخالفة أو تقدير فهي معارضة بمثلها لما قررناه وتسلم لنا المخالفات الثلاث الأول في معارضة لفظ النصيب فكان ما قلناه في معين لفظ النصيب أولى يتعين وعلى هذا نكون قد أعملنا العموم في ثلاثة مواضع فيمن مات من أولاده ومن أولاد أولاده سواء كان قبل الاستحقاق أو لا وفي قوله فنصيبه لأولاده ثم لأولاد أولاده ولم يخرج أحدا منه والله أعلم
والذي يدعي أن نصيب الجد ينتقل لولده فقط يحافظ على انتقال نصيب الجد إلى ولده وينزل انتقاله إلى عموم ولد ولده وينزل انتقال نصيب الميت في حياته إلى ولده ونحن نحافظ على اللفظ في المواضع الثلاثة فكان أولى وهذه المسألة ليست مسطورة في شيء من المذاهب الأربعة والذي يقتضيه الفقه ما ذهبنا إليه فمن ادعى خلافه ونسبه إلى شيء من المذاهب فعليه البيان انتهى
مسألة في جمادى الآخرة سنة أربعين
وقف الملك الظاهر قرية تعرف ببيت فار من عمل لبنان على الشيخ إبراهيم الأرموي ثم أولاده الذكر والأنثى سواء ثم أولادهم كذلك دائما ثم أنسالهم أبدا على الشرط المقدم على أنه من توفي من الموقوف عليهم وأولادهم أو أنسالهم عن ولد أو ولد ولد أو نسل عاد ما كان جاريا عليه على ولده ثم ولد ولده على الشرط والترتيب ومن توفي من أولاد الشيخ إبراهيم الموقوف عليه
____________________
(1/496)
ونسله وعقبه عن غير ولد ولا نسل ولا عقب عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على من معه في درجته من أهل هذا الوقف يقدم الأقرب إلى الموقوف عليه فإذا انقرضوا ولم يبق للشيخ إبراهيم نسل عاد على الزاوية التي بسفح قاسيون المعروفة بالشيخ عبد الله والد الشيخ إبراهيم الموقوف عليه ثم مات إبراهيم عن أحد عشر ولدا ذكورا وإناثا من أمهات ثم توفي منهم أربعة عن غير عقب فحكم حاكم بانحصار الوقف في السبعة الباقين من كان منهم شقيقا ومن لم يكن ثم مات أحد السبعة عن أولاد فأخذوا نصيبه ثم مات بعده آخر ولم يعقب فاقتسم الخمسة الباقون نصيبه تقليدا لذلك الحكم الأول ثم توفي اثنان كل منهما عن أولاده وبقي من السبعة واحد اسمه عبد الله بن الشيخ إبراهيم الموقوف عليه لم يبق من درجته غيره ثم مات اثنان من الدرجة الثالثة وترك كل منهما إخوة وأولاد أعمام وعمات عبد الله المذكور فهل ينتقل نصيب كل منهما إلى إخوته فقط أو إلى جميع من في الطبقة من الإخوة وأولاد الأعمام أو يختص به عبد الله لكونه أقرب إلى الموقوف عليه وهل حكم المشار إليه صحيح أو لا وهل الذين أخذوا تقليدا له بغير حكم لهم مصيبون أو لا وهل الحاكم يرى مخالفة الحكم الأول انتزاعه منه أو لا الجواب أما حكم الحاكم المشار إليه فحكم صحيح واقع في محله صواب لأن الإخوة كلهم درجة واحدة وإن كان الشقيق أقرب من غيره وليس قوة قربه توجب تفاوت درجته فإن القرب قد يكون بالدرجة وقد يكون بزيادة كالأخ الشقيق فإن قربه بجهتين فلذلك يقال إنه أقرب من الذي لأب وإن كانا في درجة واحدة وفي كلام الفقهاء ما يدل على ما قلناه وأما الذين أخذوا موافقين للحكم الأول بغير حكم لهم فقد صادقوا الحكم فلا حرج عليهم وليس لحاكم آخر انتزاعه منهم إلا إن كان في مذاهب العلماء المتقدمين أو الأدلة الشرعية ما يشهد له ولا يحضرني الآن وأما نصيب كل واحد من البرين من الدرجة عن عقب فيختص به عمهما عبد الله ولا يشاركه فيه أخواتهما ولا أولاد أعمامهما ولا يمتازون به عليه بل هو مختص به ويستحقه كاملا لأربعة مآخذ أحدها أن قوله على من معه في درجته يقتضي استحقاق الإخوة وأولاد الأعمام وقوله يقدم الأقرب إلى الموقوف عليه يقتضي استحقاق العم فهما متعارضان فإن عملنا بالأول ألغينا الثاني بالكلية من غير تأويل وإن أعملنا الثاني أمكن حمل الدرجة على المتناولين للوقف فيدخل فيه العالي والسافل إذا تناولوا ويخرج عنه من لم يدخل بعد وهو تأويل سائغ فكان أولى من إلغاء أحد الدليلين بالكلية وإنما قلنا إذا أعملنا
____________________
(1/497)
الأول ألغينا الثاني بالكلية لأنه لا يتصور انقسام الإخوة وأولاد الأعمام إلى أقرب إلى الموقوف عليه وإلى غيره في مسألتنا هذه لأنهم كلهم سواء بالنسبة إلى الشيخ إبراهيم الموقوف عليه
المأخذ الثاني أنه لما حصل التعارض المذكور تناول قوله يقدم الأقرب على تخصيص قوله يعود على من معه في درجته لأن المعنى يقدم عليه فالجار والمجرور محذوف لدلالة الكلام والجملة وهي قوله يقدم الأقرب جملة حالية فيصير التقدير يعود على من معه في درجته مقدما عليه الأقرب إلى الموقوف عليه كما تقول مجيء زيد مسبوقا بعمرو فيدل ذلك على تقدم مجيء عمرو كذلك هنا يدل على أن الأقرب مقدم على صاحب الدرجة وإنما دعانا إلى ذلك تعذر حمله على التخصيص للأعيان في الدرجة لما تقدم أنها لا تنقسم إلى الأقرب وغيره
المأخذ الثالث أنهما لما تعارضا وجب تركهما والأخذ بدليل آخر وقد تقدم في صدر الوقف أنه على الشيخ إبراهيم الموقوف عليه ثم على أولاده وانتقل نصيب غير عبد الله إلى ولده بمقتضى قوله من مات وله ولد انتقل نصيبه إلى ولده فلما مات ذلك الولد عن غير ولد ولم يكن معنا لفظ سالم عن المعارض يدل على حال نصيبه وجب أن يرجع إلى عمه عملا باللفظ الأول الذي اقتضى استحقاقه إياه قبل هذا الميت وكان اللفظ المقتضي لاستحقاق الميت مدة حياته مخصصا لذلك اللفظ الأول وقد زال شرطه
المأخذ الرابع أن لا يجعل في اللفظ معارضا بالكلية بل نقول قوله من توفي من أولاد الشيخ إبراهيم ونسله يشمل الواحد والاثنين وما فوقهما لأن صيغة من موضوعة لذلك ويشمل كل فرد ومجموع الأفراد فإذا مات ابنه وابن ابنه وابن ابن ابنه كل منهم عن غير ولد دخل مجموعهم في ذلك واقتضى لفظه أن تعود أنصباؤهم إلى من في درجتهم وهم منضمون إلى عال وسافل فيصح انقسامهم إلى أقرب وغير أقرب وحينئذ يستحق الأقرب كما قلناه
وهذا أحسن الوجوه وأسلمها عن التكلف ولا يحتاج معه إلى الاعتذار عن التعارض الذي قدمناه والله أعلم فإن قيل مبنى هذا الكلام كله على أن قوله الأقرب إلى الموقوف عليه المراد به الأول وهو الشيخ إبراهيم ولقائل أن يقول إن المراد الميت لأنه موقوف عليه أيضا وحينئذ لا يكون العم أقرب بل الأخ ولا يشاركه ابن العم أيضا لأنه ليس بمساو في القرب للأخ وإن ساواه في الدرجة
قلت المراد بقوله الأقرب إلى الموقوف عليه الأقرب إلى الشيخ إبراهيم الذي تناوله الوقف أولا وقصد به لأمور أحدها أنه في هذا الوقف بخصوصه أعاد اسمه فقال ومن توفي من أولاد الشيخ إبراهيم
____________________
(1/498)
الموقوف عليه إلى آخره فذكره باسمه ووصفه بأنه الموقوف عليه في آخر الكلام قال الموقوف عليه فتكون الألف واللام للمعهود لأنه الأقرب
الثاني أن العهد مقدم على العموم
الثالث أن هنا لا يمكن دعوى العموم بل إما أن يراد الميت أو الموقوف عليه الأول فدار الأمر بين معهود وفرد خاص ولم يقل أحد بتقديم الخاص على المعهود من غير دليل
الرابع أن الأول موقوف عليه بلا خلاف ومن بعده فيه خلاف هل يتلقى من الواقف أو من البطن الذي قبله فعلى هذا لا يكون موقوفا عليه
الخامس أنه يبقى فيه وضع الظاهر موضوع المضمر وهو خلاف الأصل والله سبحانه وتعالى أعلم
كتبه علي السبكي الشافعي بكرة يوم الاثنين الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربعين وسبعمائة بدمشق بدار الزاهر سكننا والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وصحبه وسلم
هذه صورة خط الشيخ الإمام رحمه الله تعالى
مسألة من حمص في ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة
وقف على صخر وبعد وفاته على أولاده ثم أولادهم من بعدهم وأولاد أولادهم دائما ما تناسلوا بطنا بعد بطن ولا يرث الأدنى من الأبناء حتى ينقرض الأعلى من الآباء فإذا انقرضوا عاد على الفقراء فولد صخر أيوب ويعقوب ومؤنسة وفاطمة وأم الحيا ثم توفي أيوب عن ثلاثة أولاد ثم توفيت مؤنسة عن ثلاثة أولاد ثم توفي صخر عن أولاده الثلاثة الباقين ثم توفي يعقوب عن ولدين ثم توفيت فاطمة عن ثلاث بنات ابن ثم توفيت أم الحيا عن ثلاثة أولاد فهل يستحق أولاد أيوب وأولاد مؤنسة مع أولاد يعقوب وأولاد أم الحيا وهل يدخل أولاد ابن فاطمة فماذا يخص كل واحد وإذا توفي واحد من أولاد أولاد الموقوف عليه عن ولد وإن سفل هل ينتقل إليه ما كان لأبيه أم يعود على من في درجته وقول الواقف بطنا بعد بطن يقتضي الترتيب أم لا وإذا قيل بعدم الترتيب فهل يشارك أولاد البطن الثالث أولاد البطن الثاني
الجواب الوقف عليه بعد وفاة صخر ينتقل إلى أولاده الباقين يعقوب وفاطمة وأم الحيا لا يشاركهم أولاد أيوب وأولاد مؤنسة في ذلك حينئذ لأنهم ليسوا من أولاده بل من أولاد أولاده بل يكون الوقف كله بين يعقوب وفاطمة وأم الحيا أثلاثا وبموت يعقوب يصير الوقف كله بين فاطمة وأم الحيا نصفين عملا بقوله لا يرث الأدنى من الأبناء حتى ينقرض الأعلى من الآباء فإنه يشمل أباه وعمه وبعد وفاة فاطمة يكون كله لأم الحيا وبعد وفاة أم الحيا يرجع الوقف كله إلى
____________________
(1/499)
الطبقة العليا من أولاد الثلاثة الباقين عند وفاة صخر وهم ولدا يعقوب وأولاد أم الحيا الثلاثة لكل واحد منهم الخمس ولا يشاركهم فيه ابن فاطمة لأنه أنزل منهم عملا بقوله لا يرث الأدنى من الأبناء حتى ينقرض الأعلى من الآباء ولا يشاركهم فيه أيضا أولاد أيوب وأولاد مؤنسة وإن كانوا في درجتهم لأنه لم يقل بعد أولاده أنه يكون لأولاد أولاده حتى يأخذوه بوصف كونهم أولاد أولاد صخر بل قال إنهم بعد أولاد صخر الذين انتقل إليهم الوقف بموته لأولادهم فذكره لهم بالضمير يقتضي اختصاص الأولاد المنتقل إليهم وهم الباقون لا غير فخرج أولاد أيوب ومؤنسة عن ذلك وإذا توفي أحد من أولاد أولاد الموقوف عليه عن ولد وإن سفل لا ينتقل إليه ما كان لأبيه لأن الواقف لم ينص على ذلك بل يعود على من في طبقته من أهل الوقف
وقول الواقف بطنا بعد بطن عندنا يقتضي الترتيب خلافا للرافعي ولكنا هنا لا نحتاج إلى ذلك لأن الواقف صرح بأن الأدنى من الأبناء لا يرث مع الأعلى من الآباء
وبهذا التصريح استغنينا عن التمسك بما هو مختلف فيه والله تعالى أعلم
وكتبه رضي الله عنه بكرة يوم الجمعة السادس عشر من ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة بمنزلنا بالدهشة بظاهر دمشق
والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم انتهى
مسألة في ذي الحجة سنة ثلاث وأربعين
وقف طقز دمر على نفسه ثم على ولده ثم على أولاده ثم على أولاد أولاده إلى آخرهم فإذا انقرضوا كان وقفا على عبد الحميد وست العراق أخو عمر لأبيه ثم أولادهم ثم أولاد أولادهم على الشرط والترتيب في أولاد عمر فإذا انقرضوا فعلى فاطمة ونفيسة بنتي أخت الواقف ثم ذريتهم ثم على المارستان النوري فمات الواقف ثم عبد الحميد عن غير نسل في حياة عمر ثم ماتت ست العراق في حياة عمر عن بنت ماتت البنت في حياة عمر وتتر وطقز ثم مات عمر عن غير نسل فهل الوقف لتتر وطقز بنتي بنت ست العراق أخت عمر أو لفاطمة ونفيسة بنتي أخت الواقف أفتى جماعة أنه لبنتي طقز
الجواب لو كان الضمير في قوله انقرضوا لأولاد الواقف كان هذه المسألة المختلف فيها بين الماوردي والقاضي حسين فعلى قول الماوردي لا يكون لتتر وطقز ولا لفاطمة ونفيسة لأن أصولهم لم يستحقوا وعلى قول القاضي حسين يكون لتتر وطقز ولكن الذي يظهر هنا أن الضمير لأولاد عمر فإذا كان عمر لم يعقب لا في حياته ولا بعد وفاته لم يحصل الشرط وهو انقراض أولاده ولا قال الواقف
____________________
(1/500)
إنه إذا مات عن غير ولد كان حكمه حكم ما إذا انقرض أولاده فحينئذ لم يوجد شرط استحقاق تتر وطقز ولا فاطمة ونفيسة فيكون الوقف منقطع الوسط فيصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف وهم في هذه الصورة طقز وتتر لأنهما بنتا بنته والأولاد وإن سفلوا أقرب من أولاد الأخت ويراعى حكم الأقرب إليه فالأقرب إلى أن ينقرض الفريقان جميعا فيكون للمارستان النوري
وهذا الذي يظهر لي في ذلك والله أعلم
ثم بعد ذلك راجعت كتاب الوقف فوجدته قال إن انقرضوا أو مات الواقف والموقوف عليه ولا نسل لهما فتعين أنها مسألة الماوردي والقاضي حسين انتهى
مسألة في ذي الحجة أيضا
وقفت فاطمة بنت خولان بن عشائر الصحراوي على ولدها عبد الخالق بن علي بن عشائر الصحراوي المزني ثم أولاده ثم أولاد أولاده ثم نسله وعقبه على الفريضة من توفي من أولاد الموقوف عليه ونسله عن نسل عاد ما كان جاريا عليه على من معه في درجته من أهل الوقف يقدم الأقرب فالأقرب فإذا انقرضوا ولم يبق لعبد الخالق نسل عاد وقفا على مصالح المسجد الأقصى ببيت المقدس وإن خرب والعياذ بالله تعالى كان وقفا على الفقراء والمساكين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم والنظر لها ثم للأرشد من نسل الموقوف عليه فإذا انقرضوا ولم يبق لهذا الموقوف عليه نسل فالنظر لحاكم المسلمين بدمشق في ثاني جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة واتصل ذلك إلى ابن مسلم
والموقوف حصتان إحداهما نصف بستان حراجي يعرف ببني الملاح والثانية ثمن بستان يعرف بدف المعصرة وشهد الشهود أن عبد الخالق توفي وأعقب ابنتيه فاطمة ومؤنسة لم يترك سواهما ثم توفيت فاطمة وأعقبت أولادها الثلاثة وهما الشقيقان يحيى وعبد الخالق ولدا يحيى بن إسرائيل المزني ودنيا بنت إبراهيم بن محمود ولم يترك عقبا سواهم ثم توفي عبد الخالق أحد الإخوة صغيرا عن غير نسل ولا ولد وترك أخويه شقيقه يحيى وأخته لأمه دنيا المذكورين وخالتهما مؤنسة وبه شهد سنة خمس وسبعمائة وثبت على تقي الدين سليمان لكنه قال إن المحضر مؤرخ بسنة ثمان وسبعمائة ولم أجد هناك محضرا هكذا فلعل الكاتب غلط من خمس إلى ثمان واتصل ذلك بابن مسلم ولم يثبت في أسجاله على ما وقع في التاريخ من الاختلاف فإما أن يكون ثم بينة له وإما أن يكون حمله على ما قلناه من الغلط من خمس إلى ثمان في إشهاد تقي الدين سليمان وبعده ابن مسلم وقضى بموجبه
وتاريخ إسجال ابن مسلم هذا ثاني عشر
____________________
(1/501)
ذي القعدة سنة ست عشرة وسبعمائة بعد أن جرى الأمر عنده على ذلك ادعى متكلم عنده عن يحيى بن يحيى ودنيا ومؤنسة على الجمال عمر بن الدين عبد الملك أن الحصة المبني بذكرها وتعرف بدف المعصرة انتقلت إلى موكليه الثلاثة النصف للأخوين والنصف لمؤنسة وأن هذه الحصة بيد الجمال عمر من سنتين إلى الأربعة حق وطلب تسليمها على مقتضى شرط الواقف فأجاب الجمال عمر أن النصف من هذا البستان ملكه بانتقاله إليه عن علاء الدين بن عز الدين أحمد بالبيع وأحضر كتاب ابتياع وفيه الملك والحيازة وأحضر من مجلس الحكم كتابا يتضمن فيه النصف الآخر على الصدقة فأمعن ابن مسلم النظر فتبين له أن الحصة المدعى بها من جملة النصف الذي بيد الجمال عمر وأن يد الجمال يد عادية على الحصة وهي الثمن وسأله عن حجة دافعة فذكر أن بيع نهاية البستان صارت بمقتضى الثبوت سبعة وعشرين وأنه ينزع منه ثلاثة من سبعة وعشرين فلم ير ابن مسلم العمل بذلك ورأى العمل بالتاريخ المتقدم ورأى الحكم وتكرر وطلب الدافع وأمهله فانقضت المدة فلم يأت بدافع فعند ذلك حكم ابن مسلم برفع يد الجمال عمر عن ثلاثة أسهم من الاثني عشر سهما التي بيده وهي الثمن لمؤنسة النصف وللأخوين النصف ولخالتهما وأشهد عليه في يوم الاثنين مستهل شهر رمضان سنة سبع عشرة واتصل ذلك بجلال الدين سنة خمس وعشرين ونفذه واتصل إسجال جلال الدين بعز الدين وسجل سنة ثمان وعشرين ونفذه
واشترى يحيى بن يحيى من شمس الدين محمد بن ماجد الصحراوي ثلث ثمن بستان بني الملاح بأربعمائة ووقفه على الحكم المعين في كتاب الوقف في رجب سنة تسع عشرة وحكم سبعمائة وثبت ذلك على عز الدين مسجل في شعبان سنة تسع عشرة وحكم عليهم بموجب إقرارهم
هذا مجموع ما في كتاب الوقف وما اتصل به وحضر كتاب مقاسمة ثانية على قاضي القضاة عماد الدين في سنة ثلاث وثلاثين ثبت عنده إشهاد قاضي القضاة تقي الدين سليمان ونفذه ومضمون إسجال تقي الدين أنه أذن في قسمة البستان المعروف ببني الملاح من مستحقيه يحيى بن يحيى ودنيا ومؤنسة بعد أن ثبت عنده أن سهامه 24 منها أحد عشر ليحيى بن يحيى بن طلق وسهم لدنيا ملك طلق وستة أسهم وقف على يحيى ودنيا بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين والباقي وهو ستة أسهم وقف على مؤنسة ثم يجري ما هو وقف على كل واحد من الأخوين وخالتهما من بعده على نسله حسبما نص في كتاب الوقف وثبت عند تقي الدين سليمان أن هذا البستان
____________________
(1/502)
قسم بين يحيى ودنيا وخالتهما مؤنسة قسمة شرعية بقاسم من جهة مولانا قاضي القضاة تقي الدين سليمان ومساحته اثنا عشر مديا ونصف مدي بالمدي المتعارف وهو ألف ذراع وستمائة ذراع بالهاشمي مكسرة صدره أربعون ذراعا فأصاب مؤنسة بحصتها وهي الربع الجانب الشامي الغربي ومساحته ثلاثة أمداء وثلث وربع وثمن مدى بما فيه من نقل العديد وأصاب الأخوين بقية البستان بالخرنق ومساحته ثمانية أمداء وثلث مدى وثمن مدى وتسلم زوج مؤنسة لها الربع وقفا عليها وسلم يحيى ما أصابه وأصاب أخته دنيا وقفا طلقا فالوقف من ذلك الثلث بين الأخوين والثلثان طلق منه الأخوين على اثني عشر سهما سهم لدنيا وإحدى عشر ليحيى بن يحيى
وجرى الأمر على ما شرح بعد أن ثبت عند تقي الدين سليمان إشهاد قاضي القضاة شمس الدين عبد الرحمن متصلا إلى الواقفة لم يزل مالكه حائزه ونقلت نسخة المقاسمة هذا بالإذن بابن المجد ثم بقاضي القضاة علاء الدين وسجل وفي ذي الحجة سنة ثلاث وأربعين حضر إلى مجلس الحكم هؤلاء يتنازعون وبيدهم استفتاءان أحدهما الانتقال إلى الأقرب والثاني في القسمة لا غرض لنا في ذكرهما ونظرنا في ذلك كله فوجدنا مؤنسة تستحق ستة أسهم وقفا عليها من بستانين ومن نصف الموقوف وسهما ونصفا من المعصرة وهو نصف الموقوف وهي باقية موجودة وقد ثبت أن ذلك بيدها قيد بفصل أمرها
ووجدنا فاطمة أختها ماتت وأعقبت أولادها الثلاثة ذكرين وأنثى لكل ذكر خمسا نصيبها وللأنثى الخمس منه ومات أحد الذكرين فيجتمع ليحيى أربعة أخماس نصيب أمه وهو الخمسان من الوقف وهو من بستان التين وهو أربعة أسهم وأربعة أخماس ومن دف المعصرة سهم وخمس ولدينا خمس نصيب أمها وهو من بستان التين سهم وخمس ومن دف المعصرة خمس سهم ونصف خمس سهم ووجدنا كتاب المقاسمة قد تضمن أن الستة أسهم وقف على دنيا ويحيى بينهما بالفريضة وهو مخالف لما دل عليه كتاب الوقف من القسمة ولم يبين القاضي سبب الثبوت عنده
والظاهر أن سببه غلط من الشهود الذين شهدوا عنده في استحقاق ما يستحقه كل واحد من الوقف فلا أرى الرجوع إلى ذلك وترك كتاب الوقف فأرى الحكم فيما بينه بما تقدم والله أعلم
كتب يوم السبت في الأواخر من ذي الحجة سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة وتبين بذلك فساد القسمة والرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل والله أعلم كتب في تاريخه
____________________
(1/503)
504 مسألة وقف ابن عنتر أحمد بن علي عنتر السلمي مات وخلف ولده محمدا ثم مات محمد وخلف أولاده الخمسة نجم الدين أبا بكر وعليا وعثمان وعمر وست العبيد ومات نجم الدين وخلف قال سيدنا ومولانا قاضي القضاة خطيب الخصباء سئل والدي رضي الله عنه عن رجل وقف على نفسه وقفا في حياته ثم من بعد وفاته على أولاده الذكور والإناث بينهم بالسوية لا يفضل ذكر منهم على أنثى ولا أنثى على ذكر ومن مات منهم وخلف ولدا أو ولد ولد انتقل نصيبه إلى أولاده المنتسبين إلى الواقف الذكور والإناث إلا البطن الأول من أولاد البنات خاصة فإنه يصرف إليهم ثم لا يصرف لولد ولد البنات بعد ذلك شيء من أهل كل صفة ولا يصرف إلا لأقرب الطبقات دون من بعدهم يصرف ذلك عليهم بالسوية بطنا بعد بطن على ما فصل في البطن الأول ثم توفي الواقف وخلف أولادا ذكورا وإناثا وتوفيت إحدى بناته وخلفت ولدين ذكرين رزقتهما من رجل واحد فتسلما نصيبها ثم توفي إحدى ولديها فهل ينتقل نصيبه من حصة والدته إلى أخيه ثم ينتقل لغيره من أولاد الواقف أفتونا مأجورين
أجاب والدي رضي الله عنه الحمد لله
ينتقل نصيبه من حصة والدته لأخيه عملا بالانتقال من والدته إلى جهة أولادها والباقي لأحد وإنما كان أخوه يزاحمه فيه وقد زال والله أعلم
كتبه علي السبكي الشافعي
نقله من خط والده والله أعلم انتهى
مسألة من غيره وقف وقفا على أولاده ونسله إلى انقراضهم وجعل لهم قدرا معلوما ومصارف غير ذلك وشرط أنه إذا نقص الريع عن المرتب حوصصوا وجعل ما يتعذر عن مصرف الوقف يصرف للفقراء والمساكين من أناب الموقوف عليهم فحصل النقص لأولاده بسبب دخول الأقارب وجعل الواقف للناظر أن يعطي من شاء ويحرم منهم من شاء فهل يجوز له أن يكمل لأولاد الواقف من المتعذر المشروط صرفه للأقارب
الجواب ليس له ذلك لأن هذا مشروط لغيرهم ومشروط صرفه عند تعذر ذلك الغير إلى فقراء الأقارب فلا يصرف لغيرهم ولو فرض أن الأولاد من أقارب الموقوف عليهم لا يصرف إليهم أيضا لأنهم استحقوا نصفه فلا يستحقون نصفه الآن كمسألة الدينار المذكورة في الوصية والله أعلم
وكتب الجواب مختصرا فلم يقنع به المستفتي فكتب إلى جنابة الناظر أيده الله تعالى يعتمد في هذا الوقف أن يضبط جملة المتحصل من ريعه ويقسمه على مقادير المصارف التي عينها الواقف من أولاده وغيرهم فإن وفى فذاك وإن نقص حاصصهم وأدخل
____________________
(1/504)
النقص على الأولاد وغيرهم على ما تقتضيه المحاصصة ويأخذ نصيب المصرف المتعذر فيصرفه بكماله سواء كان كاملا أو كان الريع وافيا أم ناقصا إن اقتضى الحال المحاصصة فيصرفه لفقراء أقارب الموقوف عليهم لا يحل له غير ذلك ولا يصرف لأولاد الواقف شيئا ومتى فعل أثم وضمن ويتخير في صرفه بين الأقارب فيعطي منهم ويحرم منهم من شاء وإن رأى تعميمهم فله ذلك وإن رأى التخصيص فله ذلك وإذا فرض لأولاد الواقف من أقارب الموقوف عليهم فلا يصرف لهم من نصيب الأقارب بل يكتفي لهم بنصيبهم من أصل الوقف انتهى
مسألة وقف عبد القاهر بن محاسن بن منجى اليهودي المتطبب على نفسه ثم أولاده الثلاثة سليمان وداود ويعقوب وأمهم بينهم أرباعا من مات من بنيه كان نصيبه لأولاده وذكر شروطه ثم قال وشرط الواقف المسمى في وقفه هذا أنه من انتقل من أولاده ونسله وعقبه الموقوف عليهم المذكورين عن دينه اليهودية لا يستحق في وقفه شيئا وينتقل نصيبه إلى أولاده ونسله وعقبه على الشرط والترتيب المذكورين فإن لم يكن له نسل فعلى من في درجته في ثالث المحرم سنة عشرين وسبعمائة وحكم شمس الدين محمد بن محمد بن أبي العز الحنفي ونص إسجاله أنه ثبت عنده إقرار الواقف بجميع ما نسب إليه في باطنه وأنه لم يزل مالكا حائزا ثبوتا شرعيا وثم سأله الخصم المدعي الحكم به والقضاء بموجبه والإجازة بمقتضاه والإجازة والإمضاء له والإشهاد على نفسه فتأمل ذلك وحكم به وقضى بموجبه وألزم بمقتضاه وأجازه وأمضاه مستوفيا شرائطه مع علمه باختلاف العلماء في وقف الإنسان على نفسه وبجوازه في الحادي عشر من صفر سنة عشرين وسبعمائة واتصل إلى علاء الدين الحنفي ولده استفتى في الشرط المذكور فكتب شرف الدين أحمد بن الحسن الحنبلي الشرط المذكور المتضمن عدم استحقاق من أسلم باطل غير صحيح ولا معتبر
وإذا رفع إلى الحاكم ساغ له الحكم باستمرار من أسلم على استحقاقه وإلغاء الشرط بالنسبة إلى من أسلم وحكم الحاكم بصحة الوقف لكونه على نفسه مع علمه باختلاف العلماء في ذلك لا يكون حكما بصحة هذا الشرط ولا لزومه ولا نفوذه بل هو مقصور على ما أفصح به الكتاب واتصل به الإشهاد على الحاكم من أن الصحة لكونه وقفا على نفسه وعلى هذا فحكم الحاكم باستمرار من أسلم لا يكون نقضا للحكم بالصحة فيما اشتمل عليه على ما ذكر
هذا مع أن في اعتبار إقرار الواقف بالشرط الملحق بعد انقضاء ما ذكره غير مشروط نظرا ظاهرا وكذلك عليه عمر بن الحنبلي قال سيدنا قاضي القضاة
____________________
(1/505)
خطيب الخطباء تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب أحسن الله إليه قال والدي رضي الله عنه قوله حكم الحاكم بصحة الوقف مستدرك لأن الحاكم لم يحكم بصحة الوقف وإنما حكم به
وقوله لكونه على نفسه لأن الحاكم لم يحكم بصحة الوقف لكونه على نفسه
بل مع كونه على نفسه وكونه على نفسه ليس بمانع عنده ولا مقتض
وقوله لا يكون حكما بصحة هذا الشرط قد علمت أن الحاكم ثبت عنده إقرار الواقف بجميع ما نسب إليه وحكم به ومن جملته هذا الشرط المذكور فهو داخل في المحكوم به بلا إشكال وليس الحكم مقصورا على أصل الوقف ولا على كون الصحة لكونه وقفا على نفسه على ما قاله هذا المفتي وعلى هذا فحكم الحاكم باستمرار من أسلم يكون نقضا بذلك الشرط سواء أحكم الحاكم بصحته أو به أما كونه ملحقا فليس بصحيح بل هو مذكور في أصل كتاب الوقف
انتهى الكلام على كلام هذا المفتي
وأما الفرق بين الحكم به والحكم بصحته ففي هذا المحل لا يكاد يظهر وإن كان يظهر الفرق بينهما في موضع آخر وأما اعتبار هذا الشرط في نفسه من غير تقدم حكم فالذي أراه أنه لا يعتبر وأنه شرط باطل لأن فيه تقدير غير الإسلام ولم يثبت لنا في الشريعة أن الإسلام في الشخص المعين يكون موجبا لاستحقاق شيء كان يستحقه لولا الإسلام وليس هذا كميراث المسلم من الكافر ولا كالوقف على أهل الذمة وما أشبه ذلك وقد قال الله تعالى ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله فدل ذلك على أن الحلف عدم إيتاء هؤلاء الأصناف حرام والشرط التزام نسبة الحلف والإسلام وصف يقتضي الاستحقاق نسبة الهجرة في سبيل الله فيكون جعله وصفا مانعا حراما فلا يصح شرطه
وعلى هذا أقول وقف على غني معين وشرط أنه إذا افتقر يخرج من الوقف يكون الوقف صحيحا والشرط باطلا
إذا عرف ذلك فهذا القاضي قد حكم بهذا الشرط فينظر في مذهبه فإن كان يقتضي صحة هذا الشرط لم يجز نقضه ويستمر على ما حكم به وإن كان مذهبه يقتضي بطلانه أو لم يوجد فيه نقل ونحن قد بينا بطلانه فينقض ويحكم ببطلان هذا الشرط واستمرار استحقاق من أسلم والله أعلم
ومع هذا إذا حكم حاكم حنبلي أو غيره ببطلان الشرط المذكور بمقتضى ما قاله هذا المفتي أو قريب منه ثم لم ينكر عليه لأنه قد يكون وافق مقصودنا عندنا في أصل الشرط ولعل شمس الدين بن العز لما حكم لم يتأمل ذلك ولم يكن في ذهنه إلا ما قاله المفتي من الوقف على نفسه والله أعلم
وينبغي أن تعلم فائدة هنا تنفعك وقليل من القضاة
____________________
(1/506)
من يتفطن لها أن قول القاضي مثلا ثبت عنده إقرار الواقف بجميع ما حكم به ونسب إليه وقضى بموجبه فالضمير في قوله حكم به يحتمل أن يعود إلى الثبوت أو إلى الإقرار أو إلى الجميع إن أعدته إلى الثبوت لم يكن حكما إلا بقيام البينة عنده وفائدة تنفيذه في البلد فقط ولا يمنع إبطال من يرى بطلان الوقف على نفسه وإن أعدته إلى الإقرار احتمل أن يكون مراده أنه حكم بأنه أقر فيكون مثل الأول وعلى القسمين لا يكون حكما بالوقف ولا بصحته واحتمل أن يكون حكم بصحة الأول واعتباره ولذلك لثبوت كونه في يده وأنه يؤاخذ به فحينئذ يكون حكما عليه بإقراره وتضمنه إقراره ويلزم من ذلك الحكم عليه بصحة الوقف في حق نفسه ومن يلقى عنه ولا يلزم من ذلك الحكم بصحة الوقف في نفس الآمر ويمتنع في هذا الحالة على من يعتقد بطلان الوقف إبطاله لأنه يقتضي الحكم بالصحة على المقر وإن أعدته على الجميع كان حكما بالوقف على نفسه وعلى هذا التقدير والذي قبله يكون الشرط داخلا في المحكوم به والله أعلم
كتب يوم الثلاثاء خامس ربيع الآخر سنة سبع وأربعين وسبعمائة بالدهشة انتهى
مسألة من حلب في صفر سنة خمس وخمسين وسبعمائة
صورتها أن محضرا شرعيا ثبت على الحكام مضمونه وقف حسن قرية على أولاده ثم على أولاد أولاده ثم على أولاد أولاد أولاده ونسله وعقبه بطنا بعد بطن وقرنا بعد قرن على الفريضة الشرعية للذكر مثل حظ الأنثيين أنها لم تزل بيد أولاد الواقف وانتقلت بعدهم إلى أولادهم وأولاد أولادهم ونسلهم وعقبهم ولم تزل بيد نسل الواقف وتصرفهم على الشرط المعين إلى أن آل وانحصر ذلك بالطريق المقدم ذكرها إلى يعقوب بن خضر بن حسن الواقف وعمته هدية بنت يعقوب هذه صورة ما ثبت في المحضر ثم ماتت هدية وانحصر الوقف في يعقوب ثم مات يعقوب عن ولد يدعى خضرا ثم مات خضر عن ابنين يعقوب وخالد وكان بينهما بالسوية نصفين ثم مات يعقوب عن ست بنين وبنت واحدة فهل يعود نصيب يعقوب إلى أولاده أم إلى أخيه خالد
الجواب لا يسوغ الحكم بذلك لأولاد يعقوب وما تضمنه المحضر من انحصار ذلك إلى فلان وعمته لا يصلح أن يكون مستندا لذلك لأنه ليس شهادة على الوقف ولا يوقف فيستفيض وأما الحكم به لخالد فيتوقف على أن يكون ثبت بغير الاستفاضة ممن سمع كلام الواقف إنشاءه أو إقراره بذلك كما ذكره بصيغة ثم فإنها تقتضي أن لا ينتقل إلى أحد من البطن الثاني حتى ينقرض
____________________
(1/507)
جميع الأول والذي يظهر أن المحضر المذكور لم يلحق شهوده الواقف ويعول كلامه أن مستندهم الاستفاضة وعمل أهل الوقف وهو مستند فاسد ولم يتضمن المحضر المذكور حكما بل مجرد ثبوت فهو بمنزلة الشهادة على الشهادة وإذا كان كذلك فلا يجب الاعتماد على المحضر المذكور بل ولا يجوز وكما لا يعتمده لا يرفع يدا بغير مستند والله أعلم
كتبه على الشافعي والذي عندي في ذلك أنه يقسم بين الأولاد والأخ الغائب بحكم المحضر المذكور في تفاصيله واعتمادا على أن ذلك لم يعرف شرطه والصرف إليهم وجها من وجوه البر فيكون مصروفا إليهم من هذا الوجه لأنه في أيديهم وقف عليهم بإقرارهم وبمقتضى المحضر من غير علم بالشروط فيقسم بينهم على ما ذكرناه ويراعى فيه قدر حاجتهم ويعممون بذلك حتى لا يختص منهم أحد ولكن من كان أحوج يرجح جانبه والله أعلم
كتبه علي الشافعي انتهى
فتاوى حضرت من حماة
في العشر الأواخر من رمضان سنة خمس وخمسين وسبعمائة ثلاث فتاوى الأولى في وقف وقفه عز الدين عبد الرحمن بن منتجب الدين أبي الحسن بن المظفر بن فرناص وقف أماكن على زوجته عائشة بنت الركن والي قلعة حماة أقرت له بها فوقفها عليها ثم على جهات متصلة منها يبني عليها مدرسة شافعية له وفي السجل وقف آخر ووقف آخر وفيه إذا صارت هذه الدار مدرسة صار النظر إلى من عينه الواقف في كتاب وصيته فإن مات عن غير وصية ولم يذكر فيها اسم ناظر كان النظر إلى ابنين ذكرين أحدهما من أولاد أخيه أبي عبد الله والآخر من أولاد أخيه مخلص الدين أبي نصر وولده ولدهم فإن لم يكن في أولاد أحد الأخوين من أهل النظر كان الاثنان من أولاد الأخ الآخر بشرط أن يكون كل منهما أهلا للنظر فإن لم يوجد في بني الأخوين ولا في بني بنيهم إلا واحد متصف بالصفة المذكورة شاركه واحد من عصبة الواقف وإن بعد عن درجة أولاد الإخوة بشرط أن يكون متصفا بالصفة المذكورة فإن لم يوجد في بني الأخوين أو بني بنيهما وإن سفلوا ولا في العصبة إلا واحد شاركه من عساه يكون إماما بالجامع
____________________
(1/508)
النووي بحماة فإن لم يكن في بني الأخوين أو من بنيهما أحد متصف بالصفة ووجد اثنان من باقي العصبات متصفان بالصفة كان النظر إليهما والناظر في هذه الصدقة من العصبة يكون الأقرب فالأقرب إلى الواقف والدين فإن لم يوجد في عصبته أحد متصف بالصفة كان الناظر إلى الحاكم بحماة وإلى الإمام بالجامع النووي بحماة والموجود الآن عمر بن محمد بن أبي عبد الله ومحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي عبد الله ومن عصبة الواقف في درجة عمر فهل يكون المشارك لعمر المساوي له من العصبة أو النازل عنه في ذرية جده
فأجبت على نص الاستفتاء النظر لعمر بن محمد بن أبي عبد الله ومحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي عبد الله إذا كانا أهلين متصفين بصفة الأهلية لمباشرة الوقف شرعا لا يشاركهما في هذه الحالة المساوي لعمر من العصبة بل يتقدم الذي في ذرية الأخ عليه لأن الواقف إنما جعل باقي العصبة بعد تعذر اثنين من بني الإخوة أو أحدهما أو بني بنيهم وإن سفلوا واشتراطه الأقرب فالأقرب إنما هو في العصبة لا في أولاد الأخوين وأولادهم والله أعلم
مسألة في رجل دفع إلى الدولة مالا على أن يولوه مشارفا على أوقاف أناس بغير شرط الواقف ولهم ناظر شرعي على الوقف فولوه وتناول على ذلك جامكية فهل تجوز ولايته وهل يحل له ما تناول من الجامكية وإذا لم يحل له هل يجوز للحاكم منعه واسترجاع ما قبضه من الجامكية
فكتبت لا تجوز ولاية المذكور ولا يحل له تناول الجامكية في ذلك ويجب على الحاكم منعه واسترجاع ما قبضه من الوقف من جامكية وغيرها لأنه قبضه بغير استحقاق لقبضه إلا القدر الذي وصل إلى مستحقه من أهل الوقف والله أعلم
قال سيدنا ومولانا قاضي القضاة خطيب الخطباء تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب أمتع الله الإسلام والمسلمين بطول حياته نقلت من خط الشيخ الإمام رحمه الله ما نصه الفتاوى والمحاكمات والموالدات في سنة تسع وأربعين وسبعمائة
مسألة وقف وقفا على أن يصرف منه لقراء في كل شهر ثلاثون درهما والباقي للفقراء فعمر في الوقف بأجرة شهر كامل هل يصرف للقراء من أجرة الشهر الذي بعده ستون ثلاثون عنه وثلاثون عن الشهر الذي لم يحصل لهم فيه شيء أو لا يصرف إليهم إلا الثلاثون ويصرف الباقي للفقراء أو يضيع على القراء معلومهم من الشهر الذي لم يحصل فيه شيء
الجواب إن وجد في لفظ الواقف ما يقتضي أن أجرة كل شهر يصرف منها ثلاثون للقراء والباقي للفقراء فكل شهر لم يحصل فيه شيء يفوت على الجميع والثاني يقتضي ذلك مثل أن يقول يصرف من كل شهر أو من أجرة كل شهر أو من أبضاع كل شهر وما أشبه ذلك مما يدل على أن المقسوم أجرة الشهر أو الشهر أو نحو ذلك وأما إذا لم يقل ذلك بل جعل المقسوم مال الوقف كله وجعل لكل
____________________
(1/509)
شهر محلا لصرف الثلثين للقراء فالذي أراه أنه يكمل للقراء ويستدرك لهم ما فاتهم ولا يصرف للفقراء شيء إلا بعد أن لا يكون للقراء شيء متأخر لكن هذا قد يجر إشكالا فإن الموقف قد يحصل منه شيء في مدة يحصل منه ما يوفي الماضي وزيادة وقد يخلو بعض الشهر ويوفي الباقي بالثلثين
والذي أراه أن الواقف إذا اعتبر المشاهرة كما ذكرناه فيكمل للقراء من تاريخ وقفه إن كان الموقوف مسكونا يأتي مغله في كل شهر فيصرف للقراء في الشهر ثلاثون وباقيه للفقراء وهكذا إذا كان الموقوف لا يختلف حاله في العادة فإذا اتفق تعطل شهر على نذور إما لخلو وإما لعمارة فات على الجميع وإن كان مغله يأتي مسانهة كالأراضي المزدرعات فإذا جاء مغل السنة يقسم على السنة كلها فيعطي منه للقراء اثنا عشر شهرا كل شهر ثلاثون وما فضل للفقراء وهكذا دور مكة التي تكرى أي تكرى في أيام الموسم بقدر ما تكرى في بقية السنة لا يفوت على القراء في بقية السنة بل تحسب جميع السنة فيصرف منها معلومات لسنة كاملا والباقي للفقراء وهكذا الدور التي على البحر في مصر والبساتين التي في دمشق ونحوها فإنها في بعض السنة تكرى وفي بعضها لا تكرى أو تكرى بأجرة بخس فإذا اعتبرنا باقي السنة كان ذلك عدلا وقد يكون الموقوف أرضا لا تغل إلا في سنين وتمحل مدة ولا ينضبط أمرها فهذه أمرها مشكل فإن الذي يأتي مسانهة قد ذكرنا أمرها والسنة فيها كالشهر فيما قبلها حتى إذا أمحلت سنة على نذور فاتت على الجميع كما قلنا في الشهر لأنه الذي يقتضيه العرف والعادة وأما التي لا ضابط لها فكيف يصنع فيها والذي أراه اتباع اللفظ فيكمل القراء من تاريخ وقف الواقف متى حصل مغل يصرف منه ما لهم منكسر إلى ذلك الوقت وما بقي يصرف للفقراء ثم يبقون على رجاء بعد ذلك وإن رأى الناظر أن يدخر من الباقي ما يصرفه للقراء في المدة المستقبلة التي يغلب على الظن أنه لا يأتي فيها مغل فله ذلك ويكون عذرا في عدم الصرف للفقراء في هذا الوقت ويتوفر به عليهم ما يصرف عليهم من الغلة المستقبلة
هذا الذي ظهر في ذلك
وقد ذكر الأصحاب فرعا لابن الحداد إذا أوصى لرجل بدينار كل شهر من غلة داره أو كسب عبده وجعل بعده لوارثه أو للفقراء والمساكين والغلة والكسب عشرة مثلا واعتبارها من الثلث كاعتبار الوصية بالمنافع والأصح أن المعتبر قدر التفاوت بين القيمتين فإن خرجت من الثلث قال ابن الحداد ليس للورثة أن يبيعوا بعض الدار ويدعوا ما تحصل منه دينار ولأن الأجرة قد تنقص هذا إذا أرادوا بيع بعضها على أن تكون الغلة للمشتري فأما بيع مجرد
____________________
(1/510)
الرقبة فكبيع الوارث الموصى بمنفعته
وذكروا فرعا آخر إذا أوصى لإنسان بدينار كل سنة صح في السنة الأولى وفيما بعدها قولان حكاهما الإمام والرافعي وقال إن أظهرهما البطلان والأظهر عندي الصحة فإن صححناها فللورثة التصرف في ثلثي التركة لا محالة وفي تصرفهم في الثلث وجهان أحدهما نفوذه بعد إخراج الدينار الواحد والثاني يوقف على المختار فإن قلنا بالتوقف فعاش الموصى إليه إلى أن استوعب الدنانير الثلاث فذاك كذا قاله الأصحاب وهو يقتضي أن الموصى به جميع الثلث لا بعضه وهذا بطريق الثلث عند استغراقه الثلث وإن مات قال صاحب التقريب يسلم بقية الثلث إلى الورثة وتوقف الإمام وقال يجب أن ينتقل الحق إلى الورثة وإذا قلنا بالوجه الأول أنه ينفذ تصرفهم فكلما انقضت سنة طالب الموصى له الورثة بدينار وكان كوصية تظهر بعد قسمة التركة وإن كان هناك وصايا أخر قال صاحب التقريب يقص الثلث بعد الدينار الواحد على أرباب الوصايا ولا يتوقف فإذا انقضت سنة أخرى استرد منهم مقدار ما يقتضيه التقسيط قال الإمام وهذا بين إذا كانت الوصية مقيدة بحياة الموصى له أما إذا لم تتقيد وأقمنا ورثته مقامه فهو مشكل لا يهتدى إليه
قلت وجه إشكاله أن ذريته لا ينقرضون إلى يوم القيامة لأن الورثة الخاصة إذا انقرضوا يرثهم المسلمون وهم باقون إلى يوم القيامة ولا يعلم عدد سني ذلك إلا الله والجهل بجملته يطرق الجهل بالنص على الوصايا التي معه وهو جهل لا غاية له لأنه ما من عدد مقدر إلا ويمكن أن يكون بعده غيره مما يقتضي تبعيض منه الوصايا فقد حصل إشكال لا يهتدى إلى بيانه بخلاف ما إذا لم يقم ورثته مقامه فتكون الوصية له مقصورة على مدة حياته وهي إذا مات يعلم مثاله كان ماله كله تسعة دنانير وأوصى لزيد بدينار ولعمرو بدينار ولتكن كل سنة بدينار فيدفع في الحال عقب موت الموصي والمقبول لكل منهم دينار ومجموع ذلك هو جملة الثلث في الثلث وفي السنة يسترد لبكر نصف دينار منهما وفي السنة الثالثة خمس ونصف خمس دينار وقد استقر له ما قبضه وهو دينار وأربعة أخماس وهي التي تخصه بالتوزيع لأنه بين لنا أن الوصية بخمسة دنانير له ثلاثة ولهما اثنان فيقسم الثلث على هذه النسبة له ثلاثة أخماسه ولهما خمساه
فهذا ما أراده الإمام والله أعلم
انتهى كلام الأصحاب والكلام عليه ومقصودي به الاستشهاد لتقديم القراء والتكمل لهم على الفقراء لما قاله ابن الحداد في الفرع الأول من أن الورثة ليس لهم أن يبيعوا بعض الدار إذا احتمل أن يكون سببا لنقض الدينار كل شهر وقد فرضها فيما إذا كانت الغلة أو الكسب عشرة ولا شك
____________________
(1/511)
أن الورثة ليس لهم أن يأخذوا التسعة بل يبقى ليأخذ الموصى له الدينار ومنها في المستقبل إذا لم يحصل فيه شيء وإن كان الأصحاب لم يصرحوا بذلك أو يقال إن الورثة يأخذونه التسعة وإذا لم يحصل في الشهر الآخر شيء يرجع عليهم بدينار كما قلنا في الوصايا التي حكينا كلام صاحب التقريب فيها قريبا
والغرض أنهم لا يستأثرون بالتسعة بحيث يبطل حق الموصى له منها فلذلك هنا إذا حصل مغل كبير وأخذ القراء منه ثلاثين عن شهر وفرضنا بقيته للفقراء لا ينقطع حق القراء عنه بالكلية بل إذا تعطلت مدة ثم جاء مغل بدا منه نصيب القراء عن تلك المدة المتعطلة وإن فضل شيء كان للفقراء وإلا قلنا لهم أنتم أخذتم في الماضي فما منعكم من الأخذ الآن
والله تعالى أعلم انتهى
مسألة وقف على أولاده ثم أولاد أولاده ثم أولاد أولاد أولاده ثم نسله على أنه من مات منهم وإن سفل كان نصيبه لمن في درجته يقدم الأقرب إليه فالأقرب ومات وخلف أولادا ومات أولاده وخلفوا أولادا ومات أحدهم عن غير نسل وخلف واحدا في درجته من غير فخذه بل من نسل عمه مثلا وواحدا أقرب إليه منه وهو من فخذه ونسب أبيه ولكنه ليس في درجته بل أنزل منه وهو يتناول فهل يكون نصيب الذي مات عن غير ولد للذي في درجته من غير فخذه أو للذي أسفل منه من فخذه فنقول في الجواب لو اقتصر في قوله من مات وله ولد على قوله فنصيبه لولده لم تكن ريبة في أن نصيب هذا المتوفى عن غير نسل لمن في درجته وإن لم يكن من فخذه لكنه لما قال فنصيبه لولده ثم ولد ولده ثم لنسله اقتضى أن جميع نصيبه لا يخرج منه شيء عن نسله ما داموا موجودين
وقوله يقدم الأقرب إليه لو كان مجردا عن الدرجة لاقتضى ذلك أيضا لكن اعتبار الدرجة إذا أخذ على إطلاقه يمنع منه ونظرنا فلم نجده في قوله يقدم الأقرب قال منهم فلو قاله لتقيد بالدرجة فلما أطلقه قويت المعارضة فصار إطلاقه مع إطلاق أن نصيب كل من مات عن نسل يقتضيان أن الذي في الدرجة هذا لا يأخذ نصيبه وإطلاق الدرجة يقتضي أنه يأخذ ويمكن تقييده بالدرجة من الفخذ ليجمع بينها وبين إطلاق الكلامين الآخرين فاحتجنا إلى ترجيح فرأينا أن تقييد كلام واحد وهو الدرجة أقل من تقييد كلامين وهما تعميم النصيب في النسل واعتبار الأقربية فيقضي هذا حرمان ذي الدرجة من نصيب غير نسل ثم نظرنا فلم نجد في درجة المتوفى من فخذه أحدا وإنما وجدنا من فخذه أنزل منه وقد سكت
____________________
(1/512)
الواقف عن حكم هذه الحالة فالصرف إليهم إنما يكون بإطلاق قوله من مات عن ولد فنصيبه لولده ثم لولد ولده وإن سفل وهو أحد الكلامين وقد تعارض قبل ذلك بقوله وقف على أولاده ثم أولاد أولاده وهو الذي في الدرجة من البطن الثالث فيقدم على النسل الذي بعده فإذا تعارض هذان الأمران وتعارض معنى الأقربية مع معنى الدرجة تقف المسألة ولا نجد مرجحا فأشكلت المسألة علينا فرجعنا إلى المعنى فرأينا أن تقديم الأقرب إلى الميت أقرب إلى مقاصد الواقعين وإلى مقاصد أهل العرف ما لم يقدم الأقرب إلى الواقف وها هنا لم يقصد الأقرب إلى الواقف فلذلك ترجح عندنا استحقاق هذا الأقرب إلى المتوفى والله أعلم ولكنه قد وقع حكم لذي الدرجة مبني على شهادة أنه هو المستحق فحكم القاضي بموجب ذلك من غير أن يحيط علمه بما ذكرناه
وأنا متوقف في صحة هذا الحكم فإن الشهادة على ما أراه ليست بصحيحة وأيضا فشهادة الشهود بالاستحقاق في قبولها نظر لأنه حكم شرعي وهم إنما تقبل شهادتهم بالأسباب فشهادتهم بأنه في الدرجة صحيحة والاستحقاق ليس إليهم فحكم القاضي بموجب ما شهدوا به عندي فيه نظر لكونه لم يتأمل أطراف الواقعة حتى يظهر له الصواب فيها وعندي في نقضه أيضا نظر لأجل الاحتمال وقرب المأخذ وأنه لو نظر في ذلك وخالف ما قلناه وحكم بخلاف ما قلناه عن علم وترجيح كنت أقول إن حكمه صحيح يمتنع نقضه فهذا الذي عندي في هذه المسألة أرى في هذه الواقعة لأجل الحكم أن يصطلحوا إلا أن ينقرض المحكوم له ويرجعوا إلى ما قلته وليتنبه لمثل ذلك في غيره من الأوقاف فإن هذا اللفظ كثيرا ما يقع في كتب الأوقاف لولده ولا ينظرون إلى قوله ثم إلى ولد ولده ونسله وأنا أيضا أنظر في ذلك إلا في هذه الأيام وهذه الأمور بحسب ما يقذفه الله في القلب والله أعلم انتهى
مسألة وقف شرط فيه النظر للأرشد فالأرشد من أولاد الموقوف عليه ونسلهم يقدم الأرشد والأقرب فالأقرب والمنتسب إليه بالذكور على أولاد البنات وبنات البنات وإذا انتهى النظر إلى أنثى كان من شرطها أن تكون ذات زوج يصلح للتقدمة على المجاهدين فوجد من ذرية الموقوف عليه إناث واحدة منهن ذات زوج يصلح لما ذكر وذكر أنزل منهن وقامت بينة لكل من المذكورين بالأرشدية ووجد أنثى أعلى من الجميع قامت بينة لها أنها من نسل الموقوف عليه فلمن يكون النظر
____________________
(1/513)
لجواب قد يتوهم متوهم أن قوله على أولاد البنات يعود إلى جميع ما تقدم فإنه قال يقدم الأرشد على أولاد البنات والأقرب على أولاد البنات والمنتسب إليه بالذكور على أولاد البنات ويحتج بأن مذهب الشافعي بأن الاستثناء وما جرى مجراه يعود إلى جميع الجمل المتقدمة والجار والمجرور يجري مجرى الاستثناء وعطف المفردات أولى بذلك من عطف الجمل ويترتب على هذا أنه إذا وجد في هذا الوقف في المنتسبين بالذكور رشيد وأرشد لا يتقدم الأرشد على الرشيد لما تقدم أن الأرشد إنما يقدم على أولاد البنات وهذا الوهم مندفع بثلاثة أمور أحدها أن السابق إلى الفهم في هذا الوقف وما أشبهه خلافه وأن الجار والمجرور يختص بالأخيرة وأن كل وصف مما ذكر يقدم على ضده فيقدم الأرشد على غير الأرشد مطلقا سواء كان من أولاد الذكور أم من أولاد الإناث ويقدم المنتسب بالذكور على أولاد البنات سواء كان أرشد أم لم يكن
هذا هو السابق إلى الفهم في هذا الكلام وأشبهه ولا بينة لأنه من المسألة التي يقول فيها الشافعي بالعود إلى الجميع لا ببينة والقرينة التي ذكرناها من تقدمة كل شيء على ضده صارفة عنه فوجب المصير إلى ما سبق الذهن إليه
الأمر الثاني من الأمور الثلاثة القرينة التي ذكرناها فهي مع سبق الذهن شيئان
الأمر الثالث أنه لو قيل بهذا التوهم لزم التخصيص أو التقييد في الجملتين الأوليين
فلهذا الأمور الثلاثة جعلناه للأخيرة فقط
إذا عرف ذلك فالقول في تعارض البينتين للأنثى ذات الزوج العليا والذكر السافل في الأرشد يحتمل أن يقال بالتساقط لتعارض وينظر الحاكم ويحتمل أن يقال ينظران جميعا لأمرين أحدهما أنه شرط النظر للجميع وقدم منهم بعضهم فما لم يوجد المقتضي للتقديم لم يوجب النظر عملا بالشرط السالم عن المعارض
والثاني أنه لم يقل يقدم والأرشد الأقرب حتى يكون اعتبر مجموع الصفتين في شخص واحد بل قال الأرشد والأقرب فأقول إذا وجد أرشد ليس أقرب وأقرب ليس أرشد لكنه رشيد فلا تعارض وصفة الأقربية ليست معارضة لصفة الأرشدية فيكونان ناظرين على الاجتماع فكما لو وصى لابنين ليس لأحدهما أن ينفرد إلا أن ينص عليه هذا إذا كان الأقرب ليس بأرشد ولا قامت له بينة معارضة
وأما عند تعارض البينتين فقد يرجح إحداهما بالقرب فعلى قياس تقديم بينة الداخل تقدم هنا بينة الأقرب وعلى قياس تقديم بينة الخارج لا يلزم هنا تقديم إلا بعد بل قياسه استمرار التعارض وحينئذ يأتي ما قدمناه إذا لم يكن مع الأقربية أو يقال إنهما تساقطا ويقدم الأقرب
وهذا أولى الاحتمالين إذا قلنا بالتساقط ويحتمل
____________________
(1/514)
أن يقال بالقرعة أو الاستواء وإذا قلنا بأنها يستويان في النظر ولا ينفرد أحدهما فأراد الحاكم أن يقيم ثالثا يرجع إليه عند تشاحنهما فله ذلك لئلا تضيع مصلحة الوقف باختلافهما ولا شك في ذلك عند تنازعهما وهل له أن يقيمه الآن لتوقع التشاحن في المستقبل يحتمل أن يقال لا لأنهم لم يذكروا في الوصية أنه يفعل ذلك ويحتمل أن يقال له ذلك إذ لا ضرر فيه إلا أن يحتاج إلى أجرة فلا يسوغ إلا عند الحاجة والكلام في الوقف والوصية سواء أن المال كان يسيرا بحيث يكون التوقع نادرا فلا يجوز إلا عند الحاجة أو عدم الأجرة وإن كان كثيرا بحيث يغلب على الظن الاحتياج إليه كثيرا فله نصيبه لئلا تشق مراجعة القاضي في كل وقت
وتلخص من هذا أن في الأنثى المذكورة التي هي ذات زوج يصلح للتقدمة على المجاهدين نظرا وإن في انفرادها توقفا وإذا لم تنفرد يشاركها الذكر الأسفل وليس له أن ينفرد قطعا ما دامت هذه موجودة
هذا في الوقف الذي منه أمر المجاهدين وأما غير المجاهدين كالمدرسة وإلا فلم يشترط الواقف في نظر الأنثى فيه أن تكون ذات زوج بالصفة وإذا أثبتت غيرها من النسوة المساوين لها في الأرشدية كان لهن النظر في غير نصيب المجاهدين إما معها إن استوين في الرشد أو بدونها إن كن أرشد منها وحكم الذكر السافل عنهن معهن على ما شرحناه في حكمه معها فقد يؤدي الحال إلى اشتراك الجميع
وأما المرأة التي هي أعلى من الجميع فإن ثبت ثبوتا بينا أنها من نسل الموقوف عليه وأنها أرشد من الجميع استحقت النظر في غير نصيب المجاهدين ويبقى نصيب المجاهدين موقوفا على أن يكون زوجها أهلا للتقدمة على المجاهدين انتهى
مسألة ورد استفتاء آخر في هذا الوقف نصه شرط النظر للأرشد فالأرشد من أولاد الموقوف عليه وأولاد أولاده وأولاد أولاد أولاده ونسلهم وعقبهم أبدا ما تناسلوا يقدم الأرشد فالأرشد والأقرب فالأقرب والمنتسب إليه بالذكور على من يكون من أولاد البنات وبنات البنات
فأقول هذا يقتضي أن الأرشد من الأولاد يستحق والأرشد من أولاد الأولاد يستحق والأرشد من نسلهم يستحق فإذا اجتمع أربعة في الطبقات الأربع كل منهم أرشد أهل طبقته وليس أحد منهم أرشد من الثلاثة استحق الأربعة كلهم واشتركوا في النظر
وقوله بعد ذلك يقدم الأرشد يقتضي النظر فيما بين الأربعة وأنهم إذا تفاضلوا قدم أرشدهم ولو لم يقل ذلك لكانوا يشتركون وإن كان بعضهم أرشد من بعض
وقوله الأقرب فالأقرب يقتضي النظر في الأربعة
____________________
(1/515)
فيقدم منهم الأقرب فيعود القول على ما قدمناه انتهى
مسألة لو قال في هذا الوقف يكون النظر للأرشد فالأرشد من نسله لم يقتض تعدد الناظر عند تعدد الطبقات بل يكون النظر للأرشد من مجموعهم مسألة ولو قال ذلك وا
كذا
مسألة وقف في مرض موته على نفسه ملكا أكثر من ثلث ماله هل للحاكم أن يحكم به لأن الأصل بقاء الحياة أو لا لأن الحكم يصير متعرضا للنقض وهذا إذا قلنا وقف الإنسان على نفسه صحيح أما إذا قلنا ببطلانه فلا شك أنه لا يحكم به وإنما النظر في الحالة الأولى فلننظر فيها ويقوى لأن ابن الحداد وطائفة من الأصحاب قالوا إذا أعتق في مرض موته أمة هي ثلث ماله فطالت علته ولم يبرأ ولم يمت ولها ولي نسب فزوجها وليها من رجل من عرض الناس أن النكاح باطل وذهب ابن شريح وأبو ثور وطائفة إلى أن النكاح صحيح ونسبه الرافعي إلى الأكثرين واستدل القاضي حسين لابن الحداد بأنه لو وهب لرجل في مرض موته جارية هي خارجة من الثلث فقبلها الموهوب له وقبضها قبل موت الواهب لا نبيح له وطأها حتى يموت الواهب ويخرج من الثلث والدين للاحتمال والفرج لا يباح مع الشبهة ولذلك قال الشافعي لو أن وثنيا أسلم بعد الإصابة وأصرت على الكفر وأختها مسلمة وأراد أن يعقد عليها النكاح لا يمكن منه ولا ينعقد نكاحه لجواز أن تسلم تلك
والدليل على أنها ليست بحرة قطعا إجماعنا على أنها لو قذفت محصنا لا نحد حد الحرة ولذلك لو قذفها رجل أو امرأة لا حد عليه بقذفها ولو مات قريبها لا نورثها منه في هذه الحالة وذكر هذه المسائل القاضي حسين في شرح الفروع والموافق لابن شريح يحتاج إلى الجواب عنها إن سلمها ولا يمكن منعها ولا منع الاحتمال ولم يقل أحد إنها تكون حرة ثم تصير بالموت وعدم الخروج من الثلث رقيقة هي أو بعضها هذا ما قاله أحد فلا شك أن الاحتمال موجود وهو مقرون الشبهة فعلى قياس قول ابن الحداد لا شك في امتناع الحكم بصحة وقف الجميع أو شيء منه وعلى قول ابن شريح يحتمل أن يقال بذلك أيضا لأن حكم الحاكم ينبغي أن يصان عن التعرض للنقض ويشهد له ما قاله القاضي حسين من المسائل
ثم إن مسألة ابن الحداد فرضوها كما ترى فيما إذا طالت العلة ولم يمت ولم يبرأ فإذا لم تطل العلة وقصد تزويجها على الفور يحتمل أن يكون الحكم كذلك ويحتمل أن يقطع بالمنع ومسألة الوقف التي فرضناها إنما هي في ذلك فمنع الحكم فيها أقوى
والرافعي احتج لابن شريح فإنا في الظاهر نحكم بحريتها ويجوز تزويجها وإن كان يحتمل
____________________
(1/516)
أن يظهر عليه دين يمنع خروجها من الثلث وليس كنكاح أخت المشركة فإن الظاهر هناك بقاء النكاح على أن أبا زيد جعل نكاح أخت المشركة على قولين قال الرافعي ويقرب من المسألتين نكاح المرتابة بالحمل وقال في نكاح المرتابة في باب العدد إن ارتابت بعد الأقراء أو الأشهر وتزوجت لم يحكم ببطلان النكاح لكن لو تحققنا كونها حاملا وقت النكاح بأن بطلانه وإن ارتابت بعد الأقراء أو الأشهر وقبل أن تتزوج وتزوجت فالمذهب القطع بأن النكاح لا يبطل في حال لأنا حكمنا بانقضاء العدة فلا نبطله بالشك وقد يحكم ببطلانه
انتهى كلام الرافعي
ولم يقل أحد بصحته وقياسنا في مسألتنا أنا نتوقف عن الحكم حتى نتبين فلم نجد في كلامه تصريحا بجواز حكم الحاكم والحكم الذي تضمنه كلامه إنما هو حكم الفقيه بالفتوى أعني قوله في صدر كلامه في الحكم بحريتها
ثم إن الخلاف بين ابن شريح وابن الحداد إنما هو فيما إذا كانت الجارية ثلث ماله أما إذا كانت زائدة عن الثلث فلا ندري ما يقول ابن شريح قد يوافق ابن الحداد اعتمادا على ظاهر الأمر فليس لنا إجراء الخلاف بينهما في مسألتنا هذه إذ ليست قياس مسألتهما وإذا كانت كذلك فهي بامتناع حكم الحاكم أولى هكذا يقتضيه كلام ابن الحداد والقاضي حسين
وأما الإمام فإنه فرضها فيما إذا كان لا مال له سوى الجارية وقال يحتمل على قياس ابن الحداد إذا كانت تخرج من الثلث أن يجوز وليس كما قال الإمام انتهى والله أعلم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
وكتبه محمد بن أحمد الفصيح المقرئ الشافعي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وكان الفراغ من نسخه في يوم الخميس تاسع عشر شهر ربيع الأول سنة ثمان وستين وسبعمائة
____________________
(1/517)
مسألة حلبية في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وقف على قطب الدين ثم ولده أبي الفتح ثم نسله فإن مات أبو الفتح ولم يكن له ولد فلمن يحدث لقطب الدين من الأولاد ونسلهم فإن لم يحدث لقطب الدين أولاد فلطاهر وعبد المجيد ولدي قطب الدين ونسلهما فصار الوقف إلى أبي الفتح وأولاده ثم انقرض نسل أبي الفتح وادعى قوم أنهم ولد رجل حدث لقطب الدين فهل الوقف لهم أو لذرية طاهر وعبد المجيد وإن كان لذرية أحدهما فهل لهم جميعه أو نصفه إن شرطه بعد انقراض ورثة طاهر وعبد المجيد إلى أولاد الشهيد عبد الرحيم شهاب الدين وبعدهم للفقراء
أجاب الشيخ الإمام رضي الله عنه قال الحمد لله هذا الوقف الحلبي فيه مواضع تحتاج إلى النظر أحدها قوله على قطب الدين ثم من بعده على ولده أبي الفتح عبد الله ثم من بعد أبي الفتح على أولاده صرح في الموضعين بالبعدية ولا شك أنها أصرح من أن لو قال ثم على ولده من غير ذكر البعدية لأنه قد يحصل الترتيب بدون البعدية بأن يقول وقفت على زيد مثلا مدة كذا ثم على عمرو فكان ذكر البعدية نصا على أن المراد الترتيب على الوفاة
وفيه فائدة أخرى وهي شمول الحكم لزمان البعدية وهو متسع ولنضبط هذا فإن لنا قصدا فيه في النفي الذي يأتي بعده ليكون زمانه متسعا في جميع البعدية إذ هو محل البحث فيما سأل عنه
وقد يرد على هذا أن من تقتضي الابتداء وذلك ينافي التأخير لكنا نقول إنها كما دلت على الابتداء اقتضت الاستمرار في غايتها إلى حين انقراضهم
وقد يقال كيف يجمع بين اقتضاء ثم للتراخي وبين الحكم باستحقاق البطن الثاني عند انقراض الأول والجواب أنه يكفي في إفادتها التراخي استمرار الحكم بعد الوفاة كثيرا وتأخره من زمان الوقف إلى وفاة البطن الأول وعلم عدم تأخره عن انقراض البطن الأول من مراد الواقف بالقرينة وحذرا من أن يكون الوقف منقطع الوسط
النظر الثاني في قوله ثم من بعد أبي الفتح على أولاده هل يحتاج إلى تقدير وإن كان ذلك شرطا فيقتضيه الحال إلا أنه لا يتقدر في اللفظ
وقوله بعد ذلك وعلى أولاد أولاده سواء أقدرنا الشرط أم لم نقدر لا يختلف الحال فيه على التقديرين لكن قوله بعد ذلك فإن لم يكن له ولد ولا ولد ولد يحتمل
____________________
(2/2)
أن يجعل تقييدا لقوله على ولده أبي الفتح ثم على ولد ولده مبينا أنه إنما وقف عليهم بشرط وجودهم وفائدة ذلك أنه عند عدمهم يصرف لمن بعدهم ولا يتخيل فيه انقطاع ويحتمل أن يجعل معطوفا على الآخر كأنه قال فإذا انقرضوا ولم يبق له ولد ولا ولد ولد وفائدة ذلك أنه على هذا التقدير إذا لم يوجد له أولاد ولا أولاد أولاد هل يصرف لمن ذكره فيه على وجهين أحدهما وهو مختار الماوردي لا يصرف إليه لأن استحقاقه مشروط باستحقاق الأولاد وأولادهم وينتقل إليه منهم فإذا لم يوجدوا لم يحصل ذلك
والثاني وهو الأظهر عند القاضي حسين يصرف إليه
وكلا الوجهين إنما يأتي فيما إذا لم يقدر الشرط كما قدمنا ليكون طبقة وسطى منقطعة أما إذا قدرناه بلا انقطاع وتكون الطبقة الأولاد على تقدير وجودهم وغيرهم على تقدير عدمهم وهذا البحث يحتاج إليه في هذه المسألة في أن الولد الحادث لقطب الدين هو درجة متأخرة عن ذرية أبي الفتح أو ليس متأخرا عنهم بل هو يحل محلهم على تقدير عدمهم فإن جعلناه درجة متأخرة عن الذرية قوي الصرف إليهم وإلا فلا
النظر الثالث قوله ثم من بعد أبي الفتح على أولاده وأولاد أولاده إلى آخره
مقتضى التشريك بين أولاد أبي الفتح وأولادهم كما صرح القاضي الحسين وغيره في نظائر ذلك مما يبدأ فيه ثم يؤتى فيه بالواو وحيث صرحوا بأنه يقتضي الترتيب فيما دخل ثم عليه والتشريك فيما دخلت الواو عليه وكلامهم في ذلك صريح صحيح وفي كلام بعضهم تلويح إلى ثبوت حكم الترتيب في الجميع كأنه لما ابتدأهم وكررها اكتفى بذلك قرينة لإرادة الترتيب في الجميع وحمل الواو على ذلك ولا شك أن هذا محتمل ولكن الواجب أن لا يعدل عن الحقيقة إلا بدليل
النظر الرابع قوله الفاء عاطفة ممن ينتسب بآبائه إلى قطب الدين تقييد للنسل وصرح بالآباء وإن كان الانتساب في الإطلاق لا يكون إلا بالآباء وقوله يجري ذلك عليهم إما أن يكون حالا أو مستأنفا لبيان ما قلته والأحسن الاستئناف وقوله ومن مات منهم ولم يخلف ولدا إلى آخره هذه الجملة معطوفة على الجملة المستأنفة وانظر قوله ولم يخلف ولدا وكيف أتى هكذا مغايرا لقوله بعد ذلك ولم يكن له ولد وهو يشير إلى اختلاف المعنى فلو كان المعنى واحدا لم يخالف في العبارة وقوله فإن لم يكن له أخ جملة شرطية معطوفة على الجملة التي قبلها لما فيها من معنى الشرط
النظر الخامس وقوله فإن مات أبو الفتح عبد الله
جملة شرطية أيضا معطوفة على الشرطية التي قبلها وظاهر العطف بالفاء يقتضي تأخرها عن زمان ما قبلها ولا يرد على هذا أن موت أبي
____________________
(2/3)
الفتح عبد الله يفيد تأخيره عن انقراض نسله لأنا نقول الشرط شيئان موت أبي الفتح عبد الله وأن لا يكون له نسل ولا ولد ومجموع الظهر لا يبعد تأخيرهما وذلك بتأخر الثاني كما سنقرره وقوله ولم يكن له ولد ولا ولد يتصل نسبه إليه بالآباء
هذا هو الشرط الثاني وهذه الجملة يحتمل أن تكون حالا ويحتمل أن تكون معطوفة على فعل الشرط وجعلها حالا يقتضي التقييد وهو خلاف الأصل لأنه يحوج إلى تقدير ولا دليل عليه فإن جعلناها حالا اقتضى أن لا يكون لأبي الفتح عبد الله ولد ولا نسل حين موته وقد قلنا إن هذا يبعده إحواجه إلى تقدير وهو خلاف الأصل ويبعده أيضا ما قدمناه قريبا من أن ظاهر العطف بالفاء يقتضي تأخرهم عن زمان ما قبلها ويقتضي أن اعتبار الشرطين بعد انقراض الأولاد ونسلهم وإن جعلناها لمجرد الشرط وهو أولى اقتضى ذلك اعتبار الشرطين متى وجدا والشرطان قد يوجدان معا وقد يوجدان مترتبين فيترتب الحكم على أحدهما
النظر السادس تقدم أن الأولى جعل الجملة الثانية لمجرد الشرط أنهما شرطان فيترتب الحكم على أحدهما إن ترتبا وسببه لأن التعليق عليهما وذلك أعم من أن يوجدا معا دفعة واحدة أو مترتبين واعلم أن الشرطين قد يكونان وجوديين كقولنا إن من أحصن وزنى فارجمه فيصح على الزاني المحصن أنه أحصن ثم زنى وإن كان الإحصان والزنا في وقتين وصدق المجموع عند صدق الثاني منهما بمعنى صدق مضيهما لا بمعنى صدق اجتماعهما في ذلك الوقت لأن وقت الزنا لم يكن نفس الإحصان بل أثره وقد يكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا كقولنا من أتى كبيرة ولم يتب منها فهو فاسق فهذا الحكم حاصل لكل من أتى كبيرة ولم يتب منتف عند انتفاء الكبيرة أو عند وجود التوبة ومسألتنا هذه كذلك لأن استحقاق الولد الحادث مشروط بموت أبي الفتح عبد الله وعدم ذريته المنتسبين إلى ولده بالآباء والآن صدق هذان الأمران أما صدق قولنا مات عبد الله فلا إشكال وأما صدق قولنا لم يكن له ولد فيحتاج إلى تقرير ثان في النظر الذي بعده
النظر السابع قولنا لم يكن له ولد نفي للماضي وينقلب الشرط مستقبلا وقد يتوقف في صدقه في زمن ما من الأزمنة المستقبلة ويترتب على ذلك التوقف في ترتب الحكم إذا كان له ولد عند الموت وإن لم نجعل الجملة حالية لأنه صدق حينئذ أن له ولدا ومتى صدق الإثبات في وقت كذب السلب في عموم الأوقات لأن الإثبات الجزئي يناقضه السلب الكلي وأحد الشرطين الذي علق عليه هو السلب الكلي لأنها نكرة في سياق
____________________
(2/4)
النفي فتقتضي العموم وإنما يظهر ترتب الحكم وصيغة الوقف ليست كذلك لكن لو أخذ بظاهر العموم اقتضى أن لا يكون له ولد قبل موته ولا بعد موته ولكنا نقطع بأن ذلك غير مراد فإنه لو كان له ولد قبل موته وعند الموت لا ولد له كان حكمه حكم من لا ولد له أصلا لأنه المفهوم في العرف والحكم الثابت في الآية الكريمة في المواريث فإن المعتبر وجود الولد حين الموت لا قبله ولا بعده وهذا النظر أحوج إلى النظر في هذه الصيغة ومدلولها لغة وعرفا
فنقول الكلام في الجملة الشرطية متأخر عن الكلام فيها قبل دخول الشرط والكلام في الجملة المثبتة فيجب تقديم الكلام في الجملة المثبتة فنقول كان إذا كانت تامة معناها وجد وإذا كانت ناقصة معناها اقتران مضمون الجملة التي دخلت عليها بالزمان الماضي ومما يتفطن له أن الجملة التي تدخل كان عليها قد يكون خبرها ماضيا كقولك كان زيد قام فيقتضي تقدم زمانين أحدهما مضى فيه قيام زيد
والثاني صدق فيه الإخبار بذلك وهو ما دلت عليه كان وإذا قلت كان زيد قائما اقتضت زمانا يصدق فيه زيد قائم وهو حكاية تلك الحال وإذا قلت كان زيد سيقوم اقتضت زمانا يخبر فيه عن زيد بأنه يقوم في المستقبل فتلخص أن كان لحكاية حال الاسم الداخلة عليه وتفوت الخبرية في أحد أزمنة ثلاثة إما على زمانها أو حاصل معه أو مستقبل فيه وإن كان ماضيا عن زمان النطق بها وإذا دخل حرف الشرط اقتضى استقبال كان خاصة وأما أزمنة خبرها الثلاثة فعلى ما كانت عليه
فإذا قلت إن كان زيد قائما معناه إن ثبت في المستقبل مضي قيام زيد وإذا قلت إن كان زيد سيقوم فمعناه إن ثبت في المستقبل استقبال زيد هذا في الإثبات ولا ينبغي أن يفهم من قولنا إن ثبت في المستقبل توقف الحكم على تجدد يفوت بل معناه ربط الحكم بتحقق الشرط وذلك يكفي فيه حصوله في علم الله تعالى ألا ترى أنه لو تبين حكم بالجواز حين اللفظ فعلم أن الوقوع إنما هو بالشرط الموجود لا من تجدد حصوله في المستقبل
أما في النفي فإذا قلت إن لم يكن زيد قام فالتعليق على تحقق عدم قيام زيد في الماضي وإذا قلت إن لم يكن قائما فالتعليق على عدم تحقق قيامه في الحال وإذا قلت إن لم يكن سيقوم فالتعليق على تحقق أنه بصفة من لا يقوم في المستقبل وبهذا تبين أن الأزمنة الثلاثة لخبر كان على حالها لا تتغير فإذا قلت إن لم يكن لفلان ولد فالتعليق بتحقق عدم الولد لفلان في الحال هذا عند الإطلاق وقد تحتف قرائن تقتضي اعتبار زمان آخر غير الحال منها كالآية الكريمة ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد
____________________
(2/5)
علم أن المراد عدم الولد عند الموت لأنه حين الترك وانتقال المال بالإرث الذي وجود الولد في تنقيصه وعدمه سبب في زيادته فلا عبرة بالزمان الذي قبله ولا بالزمان الذي بعده
ومنها قول الواقف إن لم يكن لفلان ولد فعلى فلان فإنا نعلم أنه ليس المراد حين الوقف لعدم صحة الوقف المعلق فلا بد أن يكون هذا في البطن الثاني فيكون المعنى عند انقراض البطن الأول إن لم يكن ولد فلفلان فاقتضى قوله لفلان ولد الزمان الحاضر لا يتغير وإنما النظر في زمان كان الذي في قوله إن لم يكن وهو يختلف بما يقتضيه الحال ولا يحمل على العموم وإن كان فعلا في سياق النفي لأن الفعل في سياق النفي إنما يقتضي العموم إذا كان دالا على الحدث وإنما يدل على زمان واحد وهو الذي اقتضاه الحال تارة الحاضر عند نطق المتكلم وتارة غيره فلا يتوهم عموم وإنما يقتضي تعليقا بمسمى صدق ليس له ولد فيصح أن يحمل عليه قوله إن لم يكن له ولد ولا يشترط صدق قولنا لم يكن له ولد لأن ذلك لما يدل عليه من النص يقتضي العموم في الآية الماضية والتعليق يقتضي الاستقبال
قول القائل إن لم يكن لزيد ولد فكأنه قال إن لم يكن له في ذلك الوقت ولد فمتى صدق في ذلك الوقت أنه ليس له ولد ترتب الحكم والوقت هو الذي يقتضيه الحال ويدل عليه وقد دل الحال في مسألتنا على أنه وقت انقراض ذرية أبي الفتح عبد الله ويصدق ثم إنه ليس لأبي الفتح ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولو لم يوجد له نسل أصلا لكان الوقت المعتبر وقت موته وقد تولد مما قلناه من أنه لا عموم فرع صورته لو قال وقفت على ولدي ثم من بعده على ولده فإن لم يكن له ولد فعلى أخي فمات ولده وله حمل فلا يستحق لأنه لا يسمى ولدا والقياس استحقاق أخيه مسائل من الحال فإذا ولد الحمل ينبغي أن يستحق الولد وينقطع استحقاق الأخ
وكذلك إذا قال وقفت على ولدي فإذا مات فعلى أولاد أخي إن كان لأخي أولاد فإن لم يكن لأخي أولاد فعلى أولاد أولادي
فمات ولده ولا ولد لأخيه ثم حدث لأخيه ولد فينبغي أن يستحق وإن كلامه دل على أن وجود الولد سبب لشيء وعدمه سبب لشيء آخر فيعتبر كل سبب بحكمه أي وقت كان تبين أن المعتبر في زمان قولنا له ولد ما يدل عليه كلام المتكلم وهو تارة يكون وقت كلامه وتارة يكون غيره بحيث ما يدل عليه
ففي مسألتنا لو قال الواقف في الأول ثم من بعد أبي الفتح عبد الله إن لم يكن له ولد فعلى الحادث إن كان له ولد فله ولم يذكر بعد ذلك شيئا وكان له ولد فلا شك أن الحادث لا يستحق مع الولد شيئا
____________________
(2/6)
فإذا انقضى الولد ولا ولد له هل يستحق الحادث هذا محل احتمال يحتمل أن يقال بعدم الاستحقاق لأن الوقت المقسم وقت موت عبد الله فالمعتبر عدم الولد فيه لاستحقاق الحادث ولم يوجد ويحتمل أن يقال بالاستحقاق لأنه جعل العدم علة والأول أقرب وكذا لو قال إن لم يوجد له ولد فللحادث وإن وجد فللواحد كان فيه الاحتمالان والأقرب عدم الاستحقاق أما صيغة الوقف وهو قوله بعد أبي الفتح لولده ثم لنسله فإن مات ولم يكن له ولد فهذه الجملة ما جاءت إلا بعد انقراض نسل أبي الفتح فيظهر أن الزمان المعتبر فيها هو زمان انقراض نسل أبي الفتح وأنه إنما ذكر موت عبد الله معها تنبيها على أنه ينقرض نسله وهو باق فنبه على أنه لا ينتقل للحادث إلا بشرطين أحدهما موته والثاني انقراض نسله هذا هو الذي يظهر من هذا الوقف قبل اتصال حكم الحاكم به أما بعد الحكم فلو كان الحاكم حكم بعدم استحقاق ذرية الحادث أو ذرية طاهر وعبد المجيد صعب النقض لأنه حكم بمحتمل والواقع أنه لم يحكم بذلك بل حكم لبني أخيه بهاء الدين فالنظر في شيئين أحدهما سبب حكمه لهؤلاء إذ لا يلزم من حرمان الأولين استحقاق هؤلاء بل يكون إذا قيل بحرمان الأولين منقطع الوسط وذلك أنا إن قلنا الثالث يتوقف على انقراض الأول وإن لم يكونوا فهو منقطع الوسط بين ذرية أبي الفتح وذرية السيد لا تستحق ذرية السيد شيئا ما دام ولد الحادث وولد طاهر وعبد المجيد موجودين وإن قلنا إن الثالث أيضا يؤثر فيه موت أبي الفتح عبد الله عن غير ولد كما قيد به في الحادث وذرية طاهر وعبد المجيد فلا استحقاق لأولاد السيد شهاب الدين فيكون منقطع الوسط بين ذرية أبي الفتح وبين الفقراء فلا تستحق الطوائف الثلاث قبل الفقراء شيئا فعلى كلا التقديرين لا يستحق أولاد السيد شهاب الدين شيئا لكن قد يقال إنه لما وقف استحقاق الفقراء على انقراضهم دل على استحقاقهم وهذا قد قيل به في وجه هذا المذهب نظيره ويعارض هذا بأنه وقف استحقاق أولاد السيد شهاب الدين على انقراض ذرية الحادث وذرية طاهر وعبد المجيد فيكونون بهذا الكلام بعينه
ويجاب عنه بأن نمنع أنه وقف استحقاق أولاد السيد شهاب الدين على انقراض ذرية الحادث وطاهر وعبد المجيد لأن عبارته فإن انقرضوا وهو وإن كان ظاهره كذلك محتمل عود الضمير على ذرية أبي الفتح خاصة لأنهم المستحقون على هذا التقدير لا غيرهم وتكون الجملة المتعلقة بالولد الحادث وذريته والجملة المتعلقة بطاهر وعبد المجيد وذريتهما
____________________
(2/7)
معترضتين فلا يعود الضمير عليهما بل على ما قبلهما هذا يحتمل وإن كان هو خلاف الظاهر ولا احتمال لهذا الحكم غيره بقي الكلام له أن هذا الاحتمال الضعيف هل يمنع النقض أو لا وفيه نظر والله أعلم
كتبه علي السبكي في شعبان المكرم سنة أربعين وسبعمائة بدمشق وفرغت منه بكرة السبت العشرين منه والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم حسبنا الله ونعم الوكيل نسخة فتوى في دار الحديث الظاهرية بدمشق ما يقول السادة العلماء في واقف وقف وقفا على الجهات والوجوه والمصالح التي يأتي ذكرها وتعيينها في هذا الكتاب فيبدأ من إليه النظر بعمارة الموقوف وترميمه وإصلاحه وما فيه بقاء أصله وسبب النماء والمزيد وما فضل كان جاريا على الوجوه والمصارف الآتي ذكرها فيصرف في كل شهر ثلاثون في ثمن زيت وحصر ومصابيح وترميم ويصرف ستون لشيخ الحديث وعشرون للقارئ ومائة للطلبة وعشرون للخازن وأربعون للقيمين ومائة وخمسون لستة قراء يقرءون بالتربة المجاورة لها وذكر مصارف إلى أن قال ومال هذا الوقف المعين في هذا الكتاب المتقدر الصرف في مصارفه المذكورة كمال أوقاف المدرسة والتربة المذكورتين وقد تلفظ هذا الوكيل الواقف المسمى بوقف هذا الموقوف المعين في هذا الكتاب على الجهات المعينة والمصارف المذكورة في هذا الكتاب على ما فصل فيه ومتى نقص ارتفاع هذا الموقوف المعين عن هذه المصارف المعينة في هذا الكتاب بدأ من ذلك بتقديم ما هو مقرر لمصالح القاعة المذكورة وما هو مقرر في هذا الكتاب من الجامكيات على ما عين أعلاه فإن نقص عن ذلك قدم ما هو معين لمصالح القاعة المذكورة في هذا الكتاب على ما فصل فيه وما هو معين لشيخ الحديث النبوي وقارئه ومستمعيه المشار إليهم أعلاه والقيمين المذكورين أعلاه فإن فضل بعد ذلك فاضل صرف في الوجوه المبينة والمصارف المعينة في هذا الكتاب على الوجه المشروح فيه يجري ذلك كذلك إلى يوم القيامة
فقوله فإن فضل بعد ذلك فاضل صرف في الوجوه المعينة في هذا الكتاب على الوجه المشروح فيه يجري ذلك كذلك إلى يوم القيامة
فهل إذا فضل من ريع الموقوف شيء بعد تكميل ما عين أعلاه من الجامكيات والجرايات يكون لمن عين أعلاه من أرباب الوظائف المذكورة أعلاه أم لغيرهم من أرباب الوظائف بالمدرسة الظاهرية من الفقهاء والمتفقهة والمدرسين والمعيدين وغيرهم أم لا أفتونا مأجورين رحمكم الله تعالى
أجاب الشيخ الإمام رضي الله عنه ومن خطه نقلت ليس لغيرهم من أرباب
____________________
(2/8)
الوظائف بالمدرسة المذكورة من الفقهاء والمتفقهة والمدرسين والمعيدين وغيرهم شيء منه بل هو لجهة وقف دار الحديث المذكورة تختص به عن المدرسة ليس للمدرسة ولا لأهلها منه شيء والفاضل عن معاليم أهل دار الحديث المذكورة الآن بعد تكميلها دال بحسب الحال الآن أن يرد عليهم على نسبة معاليمهم ويحتمل أن يقال يحفظ لهم ولمن يتجدد مكانهم ولكن الأول أولى ويحتمل أن يقال إنه منقطع الآخر وهو بعيد وأما صرفه للمدرسة أو لأحد من أهلها فممتنع قطعا وقول الواقف فإن فضل بعد ذلك فاضل
ليس هو في شيء من هذه الحالة إنما هو في الفاضل بعد النقص ونحن في الفاضل بعد التكميل فلا يتعلق به والله أعلم كتبه علي السبكي الشافعي
نسخة فتوى من حلب ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في قرية موقوفة على شخص معين أيام حياته وعلى أولاده من بعده ذكرانا وإناثا للذكر مثل حظ الأنثيين فمن مات من أولاده الذكور ولم يخلف ولدا ولا ولد ولد ولا عقبا ولا نسلا كان نصيبه عائدا على إخوته وأخواته الباقين بعده ومن مات من أولاده الإناث كان نصيبه عائدا على إخوته وأخواته الباقين بعده من أرباب هذه الصدقة ومن مات من أولاده ولم يخلف ولدا ولا ولد ولد ولا عقبا ولا نسلا كان سهمه عائدا لأرباب هذه الصدقة الباقين بعده الذكر والأنثى فيه سواء يجري فيه ذلك كذلك قرنا بعد قرن وليس لأولاد البنات الذين لا يرجعون بأنساب آبائهم إلى الشخص الموقوف عليه أولا شيء من هذه الصدقة مع من يرجع بنسبه من أبيه إليه فإذا انقرض أولاده وأولاد أولاده وعقبه ونسله حتى لم يبق منهم على وجه الأرض أحد كانت هذه الصدقة على أولاد البنات اللواتي يرجعن بأنساب آبائهم إلى الشخص الموقوف عليه أولا على السبيل الموصوفة فإذا انقرضوا أجمعين ولم يبق منهم ذكر ولا أنثى كانت هذه الصدقة راجعة إلى زيد إن كان حيا فإن لم يكن حيا فإلى كل من يعود بنسب أبيه على السبيل الموصوفة فإن انقرضوا عن بكرة أبيهم حتى لم يبق منهم ذكر ولا أنثى كان ذلك راجعا إلى كل من نسبه إلى زيد فإن لم يكن أحد منهم حيا كانت هذه الصدقة راجعة إلى الفقراء المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد ثبت للأولاد الموجودين من نسل الموقوف عليه أولا حفصة بنت زينب بنت حليمة بنت ابن الموقوف عليه أولا فهل تستحق جميع
____________________
(2/9)
الوقف أو لا وهل يستحق من شرطه له بعد عدم من ينسب إلى الموقوف عليه مع وجود هذه أم لا وهل إذا كانت مستحقة لجميع الوقف فأقرت بما يخالف شرط الواقف فيلغى شرط الواقف أم يتبع شرط الواقف فيلغى الإقرار المخالف لشرط الواقف أفتونا
الجواب هذا لفظ إذا أخذ مدلول لفظه فقط على ما تضمنه هذا الاستفتاء فيه انقطاع في وسطه لأنه لم يذكر حكم ما إذا مات الأولاد وخلفوا أولادا ولا حكم ما إذا مات أولاد الأولاد وخلفوا أولادا فيتطرق إليه خلاف في أن أولادهم يستحقون أن يكون منقطع الوسط
والأولى عندي في مثل هذه الصورة الخاصة الاستحقاق بتأويل اللفظ المتقدم كي لا ينقطع وعلى هذا تستحق حفصة المذكورة إذا ثبت انحصار النسل فيها وعلى كل تقدير لا يستحق زيد المشروط له بعدم ولا نسله شيئا مع وجودها ولا اعتبار بالإقرار المخالف لشرط الواقف بل يجب اتباع شرط الواقف نصا كان أو ظاهرا ثم الإقرار وإن كان لا احتمال له أصلا مع الشرط وجب إلغاؤه لمخالفته للشرع ومن شرط الإقرار أن لا يكذبه الشرع وإن كان له احتمال بوجه ما وأخذنا المقر به ولم يثبت حكم في حق غيره بل يحمل الأمر فيه على شرط الواقف والله عز وجل أعلم
كتبه علي السبكي الشافعي في شعبان سنة تسع وأربعين وسبعمائة انتهى
مسألة وقف على بدر الدين بن عساكر بإقراره وهو في يده ثم على أولاده ثم نسله فمن مات منهم ومن نسلهم وله نسل فنصيبه لنسله بالترتيب للذكر مثل حظ الأنثيين ومن مات منهم ومن أولادهم ونسلهم ولا عقب له فنصيبه لمن في درجته يقدم الأقرب إليه منهم فالأقرب ويشترك فيه الإخوة من الأبوين ومن الأب ثم مات بدر الدين وخلف أولاده الأربعة أحمد وإبراهيم وست العرب وزينب وماتت زينب ولا عقب لها ثم ماتت دنيا ولا عقب لها ثم ماتت ست العرب وخلفت بنتين من زوج زينب وملكة وبنتين من زوج آخر دنيا والتي ثم ماتت دنيا ولا عقب لها وليس من أهل الوقف موجود إلا أحمد وإبراهيم والتي وزينب وملكة وماتت زينب وخلفت أربعة أولاد وماتت ملكة وخلفت بنتين فحكم حاكم حنبلي بعد موتهما بانتقال نصيب أخواتها الثلاثة الميتين والباقية ليجري على أولادهن على شرط الواقف وقال مع علمه بالخلاف وإن قول الواقف ويشترك فيه الإخوة من الأبوين ومن الأب صريح في ذلك ثم حضرت التي وأولاد أخواتها يتنازعون وحصة دنيا إلى الآن في يد التي وقالت إنها لم تحضر ولا وكيلها عند الحاكم المذكور ولم يتصل كتاب
____________________
(2/10)
الإقرار بالحاكم المذكور لكن اتصل به كتاب متأخر التاريخ ثبت فيه بالبينة على قاض أن المكان وقف على الإخوة الأربعة أولاد بدر الدين على أنه من مات منهم عن عقب فنصيبه لعقبه ومن مات منهم ولا عقب له فلمن في درجته يقدم الأقرب ويشترك فيه الإخوة من الأبوين ومن الأب
الجواب مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد رضي الله عنهم فيمن وقف على أقرب أقاربه أو أقرب الناس إليه وله أخ شقيق وأخ من أم يصرف للأخ الشقيق وأخ من أبيه يقدم الشقيق على الذي من أب باتفاق الجمهور وقيل فيه خلاف من النكاح وهو بعيد مردود بالفرق بين الوقف والنكاح ولا يكاد هذا الخلاف يثبت ومع ذلك هو في الأخ للأب وأما الأخ من الأم فلم ينقل أحد فيه خلافا وإن رام أحد إثبات خلاف من جهة أنه إذا كان الأخ للأب والأخ للأم سواء فالأخ للأب يساوي الشقيق عند قوم يلزم مساواة الأخ لأم الشقيق عندهم فيحتاج الذي يروم هذا بالتركيب إلى إثبات أن المسوي بين الأخ للأب والأخ للأم يقول بمساواة الشقيق للأخ للأب ويقول بأنهما سواء في قدر المساواة ويصعب عليه ذلك وهو ضعيف على ضعيف على تقدير ثبوته والمقصود أن المنقول في المذاهب تقديم الشقيق على الأخ من الأم وغيره ليس بمنقول لا قولا ولا وجها ولا رواية ولا عن عالم معروف ولا فقيه مصرح به
فإن قلت قد كان بعض الناس يقول إن الإخوة كلهم سواء في القرب ولكن الشقيق أقوى
قلت هذا خلط فإن أقرب أفعل التفضيل وهي تقتضي زيادة في القرب والشقيق ذو قرابتين فهو أزيد من ذي قرابة واحدة نعم الأخ للأب أقوى من الأخ للأم لأنه عصبة ومتفق على أنه يطلق عليه اسم القرابة والأخ للأم في دخوله في مطلق اسم القرابة خلاف وينبغي أن يضبط أن الأبواب كلها ليست على حد واحد بل مختلفة فإن الأخ الشقيق مقدم في الميراث قطعا على الأخ من الأب وفيهما في النكاح خلاف وأما الوصية والوقف فالمشهور عندنا القطع بتقديم الشقيق على الأخ للأب وقيل قولان كالنكاح وهذه الطريقة مردودة وعند المالكية خلاف في الوصية ولم يختلفوا في الوقف بل قطعوا بالتقديم هذا كله في الأخ الشقيق مع الأخ للأب أما مع الأخ للأم فلم نعلم فيه خلافا في شيء من المذاهب الأربعة بل قالوا إنه أقرب
فإن قلت كيف يتفقون على أنه أقرب وهذا الإطلاق يقتضي مشاركة الأخ للأم في القرابة وقد اختلفوا في كونه من القرابة
قلت لا إشكال في حصول معنى القرابة فيه وإنما الخلاف في أن اسم القرابة إذا أطلق هل يشمل
____________________
(2/11)
قرابة الأم فمن خصها بقرابة الأب يجعل هذا بقرينة الإطلاق ولا ينكر معنى القرابة فيها وبهذا يفرق بين الوقف والنكاح بأن المرجع في الوقف إلى الألفاظ والمرجع في النكاح إلى المعنى والعصوبة معنى القرابة فإن قلت هب أن مشهور المذاهب الأربعة اتفقت على ذلك ولم يوجد فيها ما يخالفه أما للفقيه أن يخرج خلافا مستنبطا من مساواة الأخ للأب والأخ للأم والخلاف بينه وبين الشقيق
قلت قد تقدم جوابه والفرق ظاهر يمنع التخريج وعلى تقدير ثبوت التخريج يكون قولا ضعيفا
فإن قلت إذا حكم القاضي بالقول الضعيف لم لا ينفذ
قلت قال الله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقال صلى الله عليه وسلم قاض قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار فمتى أقدم القاضي على حكم وهو لا يعتقده كان حاكما بغير ما أنزل الله وقاضيا بشيء لا يعلمه فلا يحل للقاضي أن يحكم بشيء حتى يعتقد أنه الحق
فإن قلت هذا في المجتهد أما المقلد فمتى قلد وجها جاز ضعيفا كان في نفس الأمر أو قويا
قلت ذاك في التقليد في العمل في حق نفسه أما في الفتوى والحكم فقد نقل ابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز
فإن قلت إذا استوى عنده القولان فهل يجوز أن يفتي أو يحكم بأحدهما من غير ترجيح كما إذا استوت عند المجتهد أمارتان يتخير على قول
قلت الفرق بينهما أن بتعارض الأمارتين قد يحصل حكم التخيير من الله تعالى وأما أقوال الإمام كالشافعي مثلا إذا تعارضت ولم يحصل بينهما ترجيح ولا تاريخ يمتنع أن يقال مذهبه كل واحد منهما أو أحدها لا بعينه حتى يتخير فليس إلا التوقف إلى ظهور الترجيح
فإن قلت لو كان الحاكم له أهلية الترجيح
قلت متى كان له أهلية ورجح قولا منقولا بدليل جيد جاز ونفذ حكمه به وإن كان مرجوحا عند أكثر الأصحاب ما لم يخرج عن مذهبه
فإن قلت فإن لم يكن له أهلية الترجيح
قلت حينئذ ليس له إلا اتباع الذي عرف ترجيحه في المذهب
فإن قلت فلو حكم بقول خارج عن مذهبه وقد ظهر له رجحانه وكان من أهل الترجيح
قلت إن لم يشترط عليه في القضاء التزام مذهب جاز وإن شرط عليه إما باللفظ وإما بالعرف وإما بأن يقول وليتك الحكم على مذهب فلان كما يقع ذلك في بعض التقاليد فلا يصح منه الحكم بغيره لأن التولية لا تشمله فإن صححت اقتصرت على ذلك المذهب وإن فسدت امتنع الحكم مطلقا وقد اختلف الفقهاء فيما إذا اشترط عليه الحكم بمذهب معين هل تفسد التولية أو تصح ويفسد الشرط أو تصح ويصح الشرط والقول بالصحة وفساد الشرط إنما هو في المجتهد أما المقلد فلا والناس اليوم مقلدون فلا يأتي هذا القول فيهم والذي أقوله في
____________________
(2/12)
هذه الأعصار إن الذي تولى القضاء على الإطلاق إذا أطلق السلطان توليته لحكم بمشهور مذهبه إن كان مقلدا وبما يراه إن كان مجتهدا والذي يقول له السلطان وليتك القضاء على مذهب فلان ليس له أن يتجاوز مشهور ذلك المذهب إن كان مقلدا وإن كان مجتهدا في مذهبه فله الحكم بما ترجح عنده منه بدليل قوي وليس له مجاوزة ذلك المذهب مقلدا كان أو مجتهدا لأن التولية حصرته في ذلك وليس له أن يحكم بالشاذ البعيد جدا في مذهبه وإن ترجح عنده لأنه كالخارج عن المذهب
فإن قلت لو حكم حاكم بأن الأخ الشقيق مساو للأخ من الأب أو للأخ من الأم هل ينقض
قلت الظاهر أنه ينقض لأن دلالة الأقربية على تقديم الأخ الشقيق نص فيكون كما لو خالف النص وإذا شرطها الواقف وحكم بخلافه فيكون قد خالف شرط الواقف والفقهاء يقولون شروط الواقف كنصوص الشارع وأنا أقول من طريق الأدب شروط الواقف من نصوص الشارع لقوله صلى الله عليه وسلم المؤمنون عند شروطهم وإذا كانت مخالفة النص تقتضي نقض الحكم فمخالفة شرط الواقف تقتضي نقض الحكم
فإن قلت قد قال الأصحاب لو وقف على قرابته لم يدخل الأب والابن
قلت لأنهما أقرب الأقارب فلا يسبق الذهن من اسم القرابة إليهما وهذا مما قدمناه أنه من دلالة إطلاق الاسم لا من انتفاء معنى القرابة
فإن قلت قد قال بعض الحنابلة إن قولهم إن الشقيق أقرب من الأخ من الأم مفرع على عدم الأخ من الأم قريبا
قلت لم يقل جيدا بل هو مفرع على كل وقت لأن الخلاف في دخوله في مطلق اسم القرابة واشتقاق الأقرب من اسم القرابة الذي هو أعم من المطلق والمقيد ألا ترى أنه لو لم يكن له قريب غير الأخ للأم صرف إليه لأنه أقرب من الأجنبي ولولا أن معنى القرابة موجود فيه لم يصرف إليه وهذا فيما إذا قال أقرب الناس أما إذا قال أقرب قرابتي وليس له إلا أخ لأم فالظاهر أنه لا يصرف إليه على قولنا إنه ليس من القرابة بل على كل قول لأن أقرب يقتضي أنه شارك وزاد وهذا مفقود هنا وكذلك لو لم يكن له إلا أخ شقيق يأتي هذا البحث ومحل هذا البحث إذا قال أقرب أقاربي الموجودين أما إذا لم يقيد بالموجودين فيصرف إليه لأنه لا بد له من أقارب هذا أقربهم وإن كانوا قد انقرضوا فإن قلت لو وصى لجماعة من أقاربه
قلت قال الأصحاب يصرف لثلاثة وينبغي أن يكتفي باثنين لأنهما جماعة لا أن يقال إن الاثنين إنما جعلا جماعة في ثواب الصلاة
فإن قلت قد سوى الفقهاء بين أقاربه وقرابته وينبغي أن يقال إن أقارب جمع أقرب وهي أفعل التفضيل فتختص
____________________
(2/13)
بالأقربين من القرائب
قلت لا يتعين أن تكون جمع أقرب بل تكون جمع قريب
فإن قلت قد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة في صدقته أرى أن تجعلها في الأقربين فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه
قلت لأنهم أقرب إليه من بقية قبيلته وقد جاء في البخاري من حديث ثمامة عن أنس قال فجعلها في حسان وأبي بن كعب ولم يجعل لي فيها شيئا لأنهما أقرب إليه
فإن قلت كيف اقتصر على اثنين مع صيغة الجمع
قلت لم يقتصر فقد قسمها في أقاربه وبني عمه وإنما ذكر أنس حسان وأبي بن كعب لأنه تبين أنهما أقرب إليه منه فإن أبا طلحة وزيد بن سهل بن الأسود بن حرام وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام وحرام هذا ابن عمرو بن زيد مناة بن عمرو بن مالك بن النجار وأبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار
فأبي في رتبة والد أبي طلحة وحسان فهو أبعد من حسان بالنسبة إلى أبي طلحة ولكنه أقرب منهما إلى جذم النسب وهو مالك بن النجار فلذلك أعطاه ولم يعط أنسا لأن أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن حبيب بن عامر بن غنم بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار فأنس أنزل من أبي طلحة وحسان بثلاث درجات وإن كان من بني عمه
فهذا يدل على أن أبا طلحة راعى لفظ الأقربين ولم يعمم الأقربين ولعله لم يجد في رتبة حسان اثنين مساويين له إذا قرب فأدخل أبي وراعى أقربيته إلى أصل نسبه وكأنه فهم من مراد النبي صلى الله عليه وسلم الأقربين من قرابته الذين هم قبيلته وهو كذلك وينبغي أن يفهم الفرق بين قولنا أقرب الأقارب وأقرب الناس وتعطى كل لفظة حقها ودلالة الجمع هل تقتضي التعميم عند التعريف والإضافة أو لا ومن الذي ينتهي إليه من الأجداد في القرابة حتى تبنى عليه هذه الأحكام ولفظ القرابة والقرائب مثل لفظ ذوي القربى وقد قصره النبي صلى الله عليه وسلم على بني هاشم وبني المطلب فلذلك اختلف الفقهاء فالشافعية ضبطوه بأقرب جد يعرف به وأقرب جد من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف هو هاشم وألحق النبي صلى الله عليه وسلم بني المطلب بهم وأحمد اعتبر الجد الرابع لأن هاشما رابع وعنه رواية أخرى أنه يعتبر الجد الثالث
فإن قلت لو قال قائل من الفقهاء بأن الأخ من الأم يتناول الشقيق فيما أوصى به لأقرب الناس إليه هل كان هذا القول يجري في هذا الوقف غير أخواتها الثلاث وبقية أهل الوقف خالاتها أعلى منها وليس لها أولاد عم ولا عمة فانحصرت الطبقة في ثلاث الأخت الشقيقة والأختين
____________________
(2/14)
للأم وقد قال الواقف يقدم الأقرب منهم ومنهم تقتضي التبعيض فليس لنا أن نعم الجميع ويصير هذا كما لو قال أعطوه هذا الأقرب إلي من إخوتي هؤلاء الثلاثة وكان له أخ شقيق وأخوان من أم فلا يقول أحد هنا إن أخوي الأم يعطيان ولا يجري فيه ذلك الخلاف قطعا وبهذا يعلم أن التشريك هنا مقطوع بخطئه
فإن قلت فقد قال بعد ذلك ويشترك الإخوة من الأبوين ومن الأب فيما وقف عند تقديم الشقيق
قلت يشترك معه الأخ من الأب ولا يلزم تشريك الأخ من الأم أما أولا فلأن ألفاظ الواقفين لا يقاس عليها وأما ثانيا فللفرق فإن الأخ للأب عصبة كالشقيق فعلى الواقف يراعى جهة العصوبة
فإن قلت فما معنى هذا التشريك قلت يحتمل أن يراد به التسوية كما سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين بني هاشم وبني المطلب وعلى هذا لو كان موضع الشقيقة أخت لأب تقدمت ويحتمل أن يراد أن الشقيق مقدم فيستحق بالأصالة وإذا وجد معه أخ لأب شاركه في نصيبه ويقسم بينهما نصفين ويكون الذي من الأب عوله على الشقيق لا يكون له بطريق الأصالة وتظهر فائدة هذا إذا مات الذي من الأب لا نقول يأخذ نصيب ولده إن كان له ولد أو من في درجته إن لم يكن له ولد بل نقول إن هذا نصيب الشقيق يوفر عليه كالوقف على اثنين يموت أحدهما فيختص به الثاني وإذا مات الشقيق نقول ينتقل كل النصيب إلى الذي من الأب والذي من الأم في النصيب الآخر
فإن قلت ما ذكرتم فيما تقدم من انحصار الدرجة واقتضاء من التبعيض إنما هو بحسب الواقع ولا يلزم التقيد بذلك لأنا إنما ننظر إلى مدلول لفظ الواقف والدرجة أعم فيصح التبعيض فيها ألا ترى أنه لو لم يكن في الدرجة إلا واحد صرف إليه ولا يمكن التبعيض فيه
قلت إذا لم يكن في الدرجة إلا واحد صرف إليه لأنه يمكن غيره أما إذا كان في الدرجة أكثر من واحد وهم يتفاوتون فيجب رعاية التبعيض
فإن قلت ليسوا متفاوتين عند من يقول هما سواء إن كان قال بذلك قائل
قلت لا يمكن أن يقول قائل هما سواء من كل وجه لأن الشقيق زائد في القرب قطعا وغاية ما يتخيل أنه يجعل مثله في بعض الأحكام فلا يلزم التعميم
فإن قلت فقد قال الحاكم المذكور في إسجاله إنه رأى قول الواقف ويشترك فيه الإخوة من الأبوين ومن الأب صريحا فيما سأله السائل
قلت الذي سأله السائل الحكم للشقيقة واللتين من أم والقول بأن قول الواقف صريح في ذلك خطأ قطعا ولا يقول عربي ولا عجمي
____________________
(2/15)
ولا من له تصور ونطق يقف عندما يقول إن لفظ الأب صريح في الأم ولا ظاهر
فإن قلت الأم أحد الأبوين
قلت هذا يقال عند التغليب على سبيل المجاز وأما إطلاق الأب على الأم فهل سمع قط في كلام فصيح من نظم أو نثر وهذا أقل من أن يجعل سؤالا ولكنه لما قيل ذكرته فإني سمعت من احتج بهذا لهذا الحاكم
فإن قلت قد قال الحاكم مع علمه بالخلاف
قلت فيه أين هذا الخلاف وعجيب هذا القول منه مع أن قول الواقف صريح الصريح كيف يختلف فيه ولو لم يقل مع العلم بالخلاف كنا نقول إنه توهم أن الأختين من أب وكان يكون عذرا ويكون الحكم حينئذ ما صادف محلا ولم يتعلق بأختي الأم ألبتة ولم يكن عليه لوم في ذلك لأن السهو يعرض لكن قوله مع العلم بالخلاف يدفعه لأن التشريك بين الشقيق والأخ من الأب مع تصريح الواقف به لا خلاف فيه
فإن قلت قد يكون للحاكم مستند آخر قلت تضمن إسجاله أنه رأى ذلك صريحا وحكم وذلك يقتضي أنه رتب الحكم المذكور على ما رآه من الصراحة وإن ذلك هو مستنده في الحكم وكل أحد يعلم يقينا خطأه في رؤية ذلك صريحا ومتى كان المستند خطأ كان الحكم المرتب عليه خطأ مثله فيكون مقطوعا بخطئه وكل مقطوع بخطئه يجب نقضه
فإن قلت فالحاكم متى يرجع إليه في مستنده قلت عليه بينة بما قاله في إسجاله وهذا حق آدمي وليس مما يثبت حسبة فليس له الآن إنشاء حكم فيه إلا بدعوى والإخبار عن القاضي بأن له مستندا آخر يخالف ظاهر ما شهدت به البينة وقول الحاكم مقبول فيما لم تقم بينة بخلافه
فإن قلت فقد ذكر مستندات لا بأس أن نسمعها ونجيب عنها
قلت ما ذكرها وأنا أستنطقك بها على سبيل الأسئلة لينتظم الكلام على نمط واحد سؤالا وجوابا
فإن قلت أنت تثبت كلامك كله على شرط تقديم الأقرب في جميع البطون وليس كذلك لأنه لم يذكره إلا فيمن توفي من الإخوة الأربعة ودنيا التي الكلام في نصيبها ليست منهم بل هي بنت إحداهن
قلت قد اتصل في إثبات كتاب إقرار بدر الدين بالوقف وأن الموقوف كان في يده حال الإقرار وفيه شرط تقديم الأقرب في جميع البطون وإنما الكتاب الذي اتصل بهذا الحاكم الحنبلي وتاريخه بعد كتاب الإقرار ووفاة المقر وانتقال الوقف إلى أولاده الأربعة فشهد الشهود ومستنده الاستفاضة بأنه وقف على الأربعة أي انتهت منافعه إليهم وإن مات منهم ومرادهم من أهل الوقف وإنما قصروا في العبارة لأنهم شهدوا بالاستفاضة فلم يضبطوا لفظ الكتاب والكتاب قد ثبت فالتمسك به أولى ولا معارضة بل هو
____________________
(2/16)
كاشف ومبين ومزيل هذه الشبهة
فإن قلت هذا الكتاب المتضمن للإقرار إنما يثبت بالخط قلت ودع لأن المكان في أيديهم ولم ينتزع بالخط شيئا حتى يأتي فيه خلاف في أن الخط هل ترفع به اليد وإنما استفدنا به معرفة ما لم يكن يعرف وتصريحا بما أشكل على هذا الحاكم فيما هو محتمل عنده
فإن قلت لو لم يظهر هذا الكتاب هل كان لما قاله من اختصاص الشرط بالأربعة وجه قلت له احتمال ولكنه مندفع لأن الكتاب في نفسه دال على أنه ليس كتاب الوقف الأصلي ولم يتعين فيه أنهم الطبقة الأولى
قال بعد ذلك على الشرط والترتيب والشرط معرف بالألف واللام فيعم كل الشروط المتقدمة ومن جملتها الأقرب فبهذا الطريق نجعله في كل البطون مع أنه المتبادر إلى الفهم
فإن قلت قوله بعد ذلك على الشرط والترتيب إنما هو فيما إذا لم يوجد في درجته من يساويه
قلت لا لأن قوله ثم عطف على الجملة الأولى التي قبل هذا الشرط وإلا يلزم أن يكون نصيب دنيا منقطع الآخر
فإن قلت قد قال إن قوله على الشرط لا يمكن عوده على قوله الأقرب لأن شرطه الأقرب باطل لأنه قال معه يستوي الأخ من الأبوين ومن الأب وهو مخصوص بالإخوة الأربعة الذين كلهم من أب واحد فإذا سوى فيهم بين الشقيق والأخ من الأب استحال أن يقدم منهم الأقرب
قلت هذا بناه على ما فهمه وليس بصحيح لما قدمناه ونحن لو سلمنا له ذلك لم تلزم الاستحالة لأنا كنا نحمل التشريك على المعنى الثاني الذي شرحناه فيما سبق وذكرنا تفريعه من أن إخوة الأب يشاركون ولا يتأصلون كالأشقاء هذا لو سلم له اختصاصه بالأربعة وكلاء
فإن قلت قد يتمسك بمكتوب فيه فتوى النووي باشتراك أولاد العم وأولاد العمة فيما شرط فيه الأقرب وصحة الحكم به
قلت صحيح لأن العم والعمة سواء لأن الذكر والأنثى سواء
وقد صرح النووي ومن وافقه في ذلك المكتوب بتقديم الأقرب
فإن قلت قد أطلقوا تشريك أولاد العم وقد يكون بعضهم شقيقا وبعضهم من أم
قلت سبحان الله أنتمسك بهذا الإطلاق مع تصريحهم بتقديم الأقرب والنووي وغيره يقولون في تصانيفهم إن الشقيق أقرب فكيف يتخيل فيهم خلاف ذلك وليس مقصود هذا الحاكم في تمسكه بهذا إن كان مقصوده التسوية بين الشقيق والأخ من الأم في الأقربية فينبغي أن يبرز به حتى يرد عليه الناس كلهم من مذهبه وغير مذهبه وإن لم يكن ذلك مقصوده فما بقي إلا تمسك بما لا يقبل
فإن قلت قد قال إنه وجد في هذا المكتوب الذي في ذيله خط النووي فصلا يدل على أنهم من أمهات شتى
____________________
(2/17)
قلت نجادله لأن ذلك إن صح يكون النووي ما وقف على ذلك الفصل ولا سأل عنه وهذا أيضا إن كان القصد لرقة فلا شيء وإن كان قصده تسوية الأخ من الأم بالشقيق والخروج عن المذاهب الأربعة فيبرز به حتى نسمع جوابه ولا يتستر
فإن قلت قد قيل عنه إنه قال كيف أرجع عن هذا الحكم وقد حكمت في عشرين قضية مثل هذه
قلت إن صح عنه فهذا مرض ما له دواء
فإن قلت فما تقول في حكمه للميتين
قلت الحكم بالانتقال للميت قد يحتاج إليه لتوفية ديونه ووصاياه وانتقال ما يفضل عنهما لوارثه من الربع المستحق له في حياته فالحكم بذلك يصح بشرط أن يطالب به صاحب الدين أو الوصية أو الوارث أو وكيل أحدهم ويكون الحكم له لا للميت وإنما الحكم بالانتقال إلى الميت طريقا وأما الحكم بانتقال الوقف حتى ينتقل بعده للطبقة التي بعده فينبني على أن البطن الثاني يتلقون عنه أو عن الواقف والصحيح أنهم يتلقون عن الوقف فلا يحتاج إلى الحكم بالانتقال إلى الميت إذا عرفت هذا فالحكم هذا بانتقال نصيب دنيا إلى أخواتها الثلاث لم يذكر أنه بفرض دين ولا وصية ولا إرث بل قال ليجري على أولادهن على مقتضى شرط الواقف ولا يحتاج إليه على ما بيناه ثم إنه لم يذكر المحكوم له فإن كان هو الميت فلا يصح لأن الميت لا يدعى ولا يستر وقد نصت الحنابلة الذين هذا الحاكم متمذهب بمذهبهم أنه لا بد في الحكم من سؤال المحكوم له لأنه حقه فلا يستوفى بدون إذنه والمتكلم هنا السائل ليس وكيلا عن الميت وإنما لعله وكيل عن الأولاد فكان ينبغي التصريح بالحكم لهم فالأحياء لم ينص على الحكم لهم والموتى لا يصح الحكم لهم فكيف هذا الحكم
فإن قلت إن التي تدعي أنها لم تحضر عند هذا الحاكم ولا وكيلها
قلت هذه عنده آحاد إن كانت حاضرة أو لها وكيل حاضر فلا يصح الحكم عليها إلا بحضورها أو حضوره والدعوى عليها لأنها صاحبة اليد وهي الخصم في ذلك وإن كانت غائبة ولا وكيل لها فعندنا يجوز الحكم على الغائب فإن كان هذا الحاكم اعتبر ذلك واستوفى شروطه صح الحكم وإلا فلا وأعني بصحة الحكم أنه لو كان المحكوم به صحيحا ونحن قد بينا ما فيه
فإن قلت فقد نفذه حنفي بعده
قلت تنفيذ الباطل لا يجعله حقا والحنفي لا يرى الحكم على الغائب فإذا كانت هذه لم تحضر ولا وكيلها عنده لم يصح التنفيذ وأيضا فمذهب الحنفي أنه لا ينفذ القضاء على الغائب إلا إذا نفذه غيره
وهذا الحنبلي حكم على غائب وما نفذه أحد قبل الحنفي فلم يكن للحنفي تنفيذه لو كان صحيحا فكيف وهو باطل وقد حضر عندي هذا الحاكم وقال لي إنه لم يكن عنده
____________________
(2/18)
علم بالغيب ولا بشيء مما بنى عليه الذي قبله الحكم
فإن قلت قد نفذ شافعي حكم الحنفي المذكور
قلت تنفيذه لا يصححه لأنه بناه على اعتقاد صحته
فإن قلت قد قال الحنفي إنه إنما نفذه بناء على أن الأختين لأب
قلت هذا عذر له وهو مبين أنه لم ينفذ الحكم للأختين من الأم على أنه لو نفذه لم ينفذ
فإن قلت أليس نقض القضاء صعبا قلت أصعب منه تبقيته وهو باطل وقد قال صلى الله عليه وسلم كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وإذا تبين بالدليل الصحيح أن هذا الحكم لغير مستحق فهو مما ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مردودا بقول النبي صلى الله عليه وسلم
فإن قلت قد قالوا إنه لا ينقض قضاء القاضي إلا إذا خالف النص والإجماع أو القياس الجلي
قال القرافي من المالكية أو القواعد الكلية وقالت الحنفية أو يكون حكما لا دليل عليه
قلت هذا مخالف لشرط الواقف وهو مخالف للنص وهو حكم لا دليل عليه وهو مخالف لما علمناه من المذاهب الأربعة وما لم نعلم فيه خلافا فهو كالمخالف للإجماع وإن ثبت فيه خلاف فيكون شاذا والخلاف الشاذ لا اعتبار به كما أن الاحتمال البعيد لا يخرج النص عن كونه نصا ولهذا عد إمام الحرمين جملة من التأويلات الباطلة وهكذا يقول الحنفية في الخلاف الشاذ إنه خلاف لا اختلاف يعنون بذلك أنه إنما يعتبر الاختلاف المشهور القريب المأخذ أما الخلاف الشاذ البعيد فهو خلاف لأهل الحق وهكذا أقول إن المعتبر أن يكون خلاف يتفاوت أو احتمالات متفاوتة
فإذا حكم بأحدها لا ينقضها من يرى غيره أصوب لأنه يحتمل عنده أن يكون صوابا كما في المذاهب المشهورة أما الخلاف الشاذ والاحتمال البعيد الذي يعتقد خطؤه فقد لا ينقض وقد اشتهر وردوا الحمالات إلى البينة والله أعلم استدركه في تاريخه
فإن قلت ما ذكرته في معنى التشريك يدق عن أكثر الناس فكيف يحمل كلام الوقف عليه ويكون طريقا في بعض الحكم
قلت أنا إنما ذكرته محافظة على شرط الواقف حتى لا يلغى والمعاني الخفية لإبقاء النصوص وعدم إلغائها فهو من محاسن العلماء ونحن استخرجنا هذا دفعا لمن يريد أن يحكم ببطلان هذا الشرط من الواقف بما يتخيله وهو بمثابة من يبطل النصوص بالقياس الفاسد لأن هذا إبطال لشرط الواقف بما توهمه في ذهنه أنه لا فائدة فيه ونحن قد أظهرنا فيه فائدة فكان التوهم فاسدا
فإن قلت هل من فرق بين أن يكون الانتقال من أب أو أم قلت لا فرق
فإن قلت فما تصنع أنت قلت أستخير الله وأحكم للتي بنصيب أختها دنيا جميعه كاملا مضافا إلى نصيبها من أمها وأقر يدها عليه وأمنع
____________________
(2/19)
أولا أختيها من التعرض له وأحكم عليهم بمنعهم منه لأن الله سبحانه وتعالى يقول إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل والله تعالى يقول وأن احكم بينهم بما أنزل الله ويقول الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ويقول إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ويقول قاض قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة ويقول وأعط كل ذي حق حقه ويقول وانصر أخاك ظالما أو مظلوما فأنا أتقرب إلى الله تعالى بالحكم لهذه بحقها والحكم على غيرها بمنعه مما لا يستحق والله تعالى أرجو أن يوفقني للحق وللخلاص ويثيبني عليه من سعة فضله بمنه وكرمه إنه قريب مجيب
كتبه علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي غفر الله له ولوالديه في يومي الأربعاء والخميس الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وأربعين وسبعمائة بعضه بالعادلية بدمشق وبعضه بمنزلنا بالدهشة والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا حسبنا الله ونعم الوكيل
فإن قلت ما فرق بين أن يكون والد الشقيقة من أهل الوقف أو لا فإنه قد يقال إنه إذا لم يكن الأب من أهل الوقف لم يكن أهلا للترجيح كما قيل بمثله في النكاح على قول إن الأخ الشقيق لا يرجح على الأخ للأب لأن قرابة الأم لا مدخل لها في النكاح
قلت هذا تخيل باطل والنكاح يدور على محض العصوبة والنسب ودفع العار عنه ولأجله اعتبرت الولاية وذلك يختص بالأب لا مدخل للأمومة فيه فلذلك سوى في أحد القولين بين الأخ الشقيق والأخ من الأب وأما في الوقف فالمعتبر القرب من المتوفى والإدلاء إليه فإن اعتبرنا اللفظ فاللفظ لا يشمل وإن اعتبرنا القرب فهو نسبة الميراث والإجماع على تقديم الشقيق على الأخ للأب سواء كان الأب من أهل الميراث أو لا كما لو كان الأب كافرا أو قاتلا والأم مسلمة أو بالعكس أو كانا كافرين والأخوان مسلمين ومات أخوهما المسلم الذي هو شقيق أحدهما فإن ميراثه لأخيه الشقيق دون أخيه من الأب من غير نظر إلى حال أبيه وأمه الذي يدلي بهما وهل يشك أحد في أن الشقيق وإن كان أبوه ليس من أهل الوقف أقرب إلى المتوفى ولو كان كون المدلي به من أهل الوقف شرطا لاشترط أن يكون أبواه من أهل الوقف حتى لا يصرف للأخت من الأم إذا كان أبوها ليس من أهل
____________________
(2/20)
الوقف
ولا للأخت من الأب إذا كانت أمها ليست من أهل الوقف ولا يصرف إلا لمن أبوه وأمه من أهل الوقف
وهذا خلط لم أكن أظن أن أحدا يتوهمه وهو باطل لأنه اعتبار شيء لا دليل عليه ولا قاله الواقف ولا دل عليه لفظه صريحا ولا كناية ولو قاله الواقف اتبع ولكنه ما قاله ولا سمعنا أحدا في وقت من الأوقات في وقف من الأوقاف التي وقع التنازع فيها عند الحكام تكلم بذلك ولا أراد إخراج أحد من الوقف بسببه فتعلق القائل به في هذا الوقف من المجادلة بالباطل أو من الهوس في الدماغ نسأل الله العافية
خاتمة في نقض القضاء أخبرنا عبد اللطيف بن محمد بن رزين بقراءتي عليه أنبأ إسماعيل بن أبي اليسر ويوسف بن مكتوم وعبد الله بن الخشوعي قالوا أنا أبو طاهر الخشوعي أنا هبة الله بن الأكفاني أنبأ محمد بن علي السلمي أنا تمام بن محمد الرازي وعبد الرحمن بن عمر الشيباني أنبأ الحسن بن حبيب أنبأ الربيع بن سليمان قال أنبأ الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي قال وأخبرني من لا أتهم عن ابن أبي ذئب قال أخبرني مخلد بن خفاف قال ابتعت غلاما فاستغللته ثم ظهرت منه على عيب فخاصمته فيه إلى عمر بن عبد العزيز فقضى لي برده وقضى علي برد غلته فأتيت عروة بن الزبير فأخبرته فقال أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان فعجلت إلى عمر فأخبرته بما أخبرني عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر بن عبد العزيز فما أيسر علي من قضاء قضيته الله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فراح إلى عروة فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له وبه إلى الشافعي قال وأخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال قضى سعد بن إبراهيم على رجل بقضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن فأخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضى به فقال سعد يا ربيعة هذا ابن أبي ذئب وهو عندي ثقة يخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضيته فقال له ربيعة قد اجتهدت ومضى حكمك فقال سعد واعجبا أنفذ قضاء سعد بن أم سعد وأرد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أرد قضاء سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
فدعا سعد بكتاب القضية فشقه وقضى للمقضي عليه
فرع قال الشيخ برهان الدين بن الفركاح في تعليقته ونقلته من خطه وقفت
____________________
(2/21)
على فتيا صورتها أنه جعل النظر لحاكم دمشق وكان حينئذ بدمشق حاكم واحد على مذهب معين ثم إنه ولى السلطان أيده الله تعالى في دمشق أربعة قضاة وكان القاضي الذي كان موجودا حين الوقف وبعد ذلك ولي القضاة الأربعة وأحدهم على مذهب الذي كان حين الوقف فهل يختص النظر بأحدهم الذي كان هو على مذهب القاضي الذي كان حين الوقف أم لا وقد كتب عليها الشيخ زين الدين الفارقي رحمه الله بأنه يختص بذلك الذي هو على مذهب الموجود حين الوقف
نقلته بالمعنى لعسر عين اللفظ علي ووافقه عليه الشيخ زين الدين وكيل بيت المال والقاضي شمس الدين بن الحريري والشيخ صفي الدين الهندي وآخران ووافقهم على ذلك الشيخ كمال الدين الشريشي
قال علي السبكي وهذا رأيي وعليه عمل الناس في الديار المصرية والبلاد الشامية وكان الشيخ برهان الدين أفتى فيمن شرط النظر لفلان ثم لحاكم المسلمين بدمشق هل يختص بحاكم مذهب معين قلت لا يختص النظر المشروط للحاكم بحاكم مذهب معين بما ذكر فاعترض عليه بفتوى العلماء المذكورين فقال هذا لا ينافي ما قلت واعتذر باعتذارات منها أنه لم يذكر أن حالة الوقف لقاض واحد ومنها قوله بما ذكر أي لمجرد المذكور لا يختص وهناك اختصاص بالقرينة ومنها أن فتواه في مسألة والي بعض الحكام عدم الاختصاص وفرض بمقتضى رأيه وهو موضع اجتهاد وهذه الاعتذارات كلها معناها أنه لا يخالف في تلك المسألة على أن هذه الاعتذارات فيها نظر والحق في مسألته أنه يختص بالقاضي الكبير الذي يسبق الذهن إلى قاضي البلد ولذلك لا يدخل النواب فيه وبحث ابن الفركاح رحمه الله في تلك المسألة التي أفتى فيها جماعة بما إذا قال لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى القاضي فالأظهر أنه يختص بالبلد حملا على المعهود لكن هل يتعين قاضي البلد في الحال أشبه الوجهين أنه لا يتعين حتى إنه لو عزل وولي غيره بر بالرفع إليه ولو كان في البلد قاضيان وجوزناه دفع إلى من شاء منهما
قال علي السبكي مسألة اليمين العهد فيها يقتضي ذلك القاضي الموجود بعينه لكن القرينة تقتضي أن الحالف إنما قصد رفع المنكر وهو يحصل به وبمن يتولى مكانه وبأي من كان من القضاة في البلد عند التعدد بخلاف شرط النظر فإنه لو فرض لاثنين حصل الاختلاف وتعطلت المصلحة لدليل التمانع فالقرينة تقتضي أنه إنما نجعله لواحد يقوم بمصلحة الوقف وإذا كان لاثنين فالأقرب إلى غرضه من كان حين الوقف أو من هو مثله لأن عينه لا غرض فيه ومثله فيه غرض صحيح لاختلاف
____________________
(2/22)
الآراء والمذاهب والواقف قد قصد معنى يمكن استمراره على ممر الأزمان في أشخاص متعددة فلا نفوت عليه ذلك المعنى وهذا المعنى مطرد إذا مات ذلك الحاكم المنفرد الذي كان حين الوقف سواء أولي بعده أحد أم تعطلت البلدة مدة وسواء أولي بعده جماعة أحدهم على مذهبه مترتبين أم دفعة واحدة هذا لا شك فيه عندنا للمعنى الذي قدمناه وسواء أولي بعده جماعة أم واحد على مذهبه بلا إشكال وعلى غير مذهبه فيه نظر عندنا يحتمل أن يقال له النظر لانفراده والواقف إنما قصد حاكما يقوم بمصلحة الوقف من جهة الشرع وهذا حاكم ويحتمل أن يقال لا نظر له عليه لأن الواقف وإن لم يقصد الشخص فقد يقصد المعنى المستمر في الأشخاص وهو كونه على ذلك المذهب والعهد لا يقتضي إلا ذلك لأن ظاهر العهد الشخص خرجنا عنه لعدم الغرض فيه
يبقى بعده أمران كليان أحدهما مطلق الحاكم والثاني الحاكم على مذهب الموجود فالاحتياط والعهد يقتضيان الحمل
عليه وهي الرتبة المتوسطة بين المطلق الأعم والشخص الأخص وهذا كله في أصل المسألة والواقع عندنا في الديار المصرية والبلاد الشامية يقتضي زيادة على ذلك في اختصاص القاضي الذي من مذهب من كان موجودا حين الوقف بالنظر لمأخذ زائد على ما ذكرناه وعلى المأخذ في مسألة اليمين مضاف إلى ذلك وهو أن القضاة الأربعة حدثت في سنة أربع وستين وستمائة والأوقاف التي قبل ذلك من نور الدين الشهيد ومن صلاح الدين وغيرهما كلها والقاضي واحد فالنظر له بالشرط وبالعموم وفي سنة أربع وستين المذكورة لم يعزل ذلك القاضي ولم يمت ذلك الوقت بل ولي معه ثلاثة فنظره مستمر بالشرط فيما كان فيه شرط أنه للحاكم وبالعموم فيما لم يكن فيه شرط فيستمر ذلك النظر له ولم يول أحد من الثلاثة مكانه حتى تأتي المسألة المتقدمة الذي إذا ولي غيره مكانه وحده من غير مذهبه بل هنا أضيف إليه ثلاثة والواقع أنه لم يجعل نظرهم عاما بل فيما عدا الأوقاف والأيتام والنواب وبيت المال هذه الأربعة فعلت مختصة بالشافعي ويشتركون فيما عدا هذه الأشياء الأربعة هذا الذي اتفق الحال عليه ورسم به في الدولة الظاهرية واستمرت العادة عليه وكل من يموت يلي مكانه واحد على مذهبه ويذكر في توليته أنه على عادة من قبله ومقتضى الشرع في ذلك أنه لا ينتقل إليه إلا ما كان قبله للذي على مذهبه بغير زيادة فليس أحد من القضاة الثلاثة ينتقل إليه شيء من الأنظار التي كانت للشافعي لا بالشرع ولا بتولية السلطان أيده الله تعالى والحال مستمر على هذا إلى الآن فالحكم في الأوقاف القديمة كلها على
____________________
(2/23)
ما ذكرناه والحكم في الأوقاف الحادثة بعد مصير القضاة أربعة إن شرط فيها النظر لقاض معين فالشرط متبع بكون النظر الخاص له بشرط الواقف وللقاضي الشافعي النظر العام عليه لأمرين أحدهما اقتضاء العرف ذلك والثاني أن القاضي الشافعي أكبر عرفا وبعادة السلطان والأكبر له النظر العام على الأصغر وإن لم يشترط فيختص النظر بالشافعي لما ذكرناه لأنه عند الإطلاق
وعلى هذا استقر الحال في الدولة الناصرية لما وقع كلام في ذلك على أنه متى قيل القاضي من غير تعيين فهو الشافعي والذين حول السلطان إذا سمعوه يفهمون أنه إنما يريد الشافعي فإذا أراد غيره قيد وقد استقر فهمه وفهمهم على ذلك ومازلنا في الديار المصرية نعرف ذلك منه وممن يتلقى المراسيم عنه ومما يدل على أنه لا بد من انفراد واحد أنا لم نر أحدا قط يفهم دخول نواب الحكم وهم قضاة فلو حمل اللفظ على العموم لدخلوا وسببه ما أشرنا إليه وهو مركب من أمرين أحدهما أن الانفراد في النظر مقصود واجب بالمصلحة لقوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
وقد جربنا ذلك بكل وظيفة فيها اثنان متساويان في الرأي لا يجيء منهما حال ما لم يرجع أحدهما إلى الآخر وإلى ثالث
فهذه قاعدة لا نخرج عنها إلا إذا نص الموكل أو الموصي على خلافها لأنه قد وصى بذلك فمن سبق منهما إلى فعل فقد فعله ومتى تشاحا رجعا إلى الحاكم يفصل بينهما وأما الأمور الشرعية فلا بد أن تكون مفوضة إلى واحد وتجويز قاضيين في بلد على أصح الوجهين ليحكم كل منهما فيما سبق إليه من الحكومات وأما أنهما يشتركان في نظر ويستند كل منهما به فلا لأنه لا شاهد له بالاعتبار من جهة الشرع
وبعد إني أكره الكلام في ذلك وقصدت أن لا أكتب هذا لأنني قاض شافعي فقد يعتقد في أن الحامل لي على هذا قصدي أن يكون تحت نظري ففكرت في ذلك وعارضني محبتي للعلم وبيانه وما أخذ الله على العلماء من إبلاغه الناس وعدم كتمانه ورجاء أن ينتفع به بعدي حيث لا يكون لي غرض فرجحت هذا الجانب وكتبت ما قلته والله يعفو عني وعمن يظن بي سوءا وأنا نذير لمن يكون عنده أهلية العلم أن يتولى قضاء فإن كلام العلماء يؤخذ بالقبول وكلام القضاة تسري إليه الظنون وإن ترتب على القضاة أجر في وقائع جزئية فالعلم يترتب على ما نكتبه من العلم أجور عظيمة لأنها أمور كلية تبقى إلى يوم القيامة ولكن الجزئي مع المقادير والأدب مع الله واجب والعبد لا يدري ما هو خير له وإنما الرب سبحانه وتعالى يدبره
ومما نذكره في ذلك أن الواقف على كلامي هذا من القضاة الثلاثة إن تبين له بدليل
____________________
(2/24)
خلافه فليتبع ما دل عليه الدليل وإن لم يتبين ووافق ما قلته أو تردد فينبغي له أن يفرح بذلك لصيانة الله تعالى له أن ينظر فيما ليس له النظر وأن يترتب على نظره من التوليات وأخذ الأموال بغير حقها ومنع من يستحقها منه وغير ذلك من المفاسد ويشكر الله على صيانته ومن يقف عليه من القضاة الشافعية إن وافق فلا يفرح بذلك بل يعلم أنه مبتلى بذلك كلفه الله بتقلده القضاة بالنظر فيه فيقوم بواجبه ومن يقف عليه من كتاب السر والموقعين المبلغين عن السلطان ينظرون به فيما يكتبونه عن السلطان ليكون جاريا على نهج الشريعة المطهرة والعوائد المستقرة عليها بخلاف العوائد
التي لا أصل لها وقد تكون العوائد في مثل هذا سببها مرضاة بعضهم لبعض ومجاملتهم والحياء منهم مما هو محمود فلا يجب بذلك أن يكون واجبا وتبرز مراسيم ولاة الأمور بلزومه
ومما نذكره في ذلك أيضا لبيان العلم وإن كنا أشد كراهية لذكره من الأول أن السلطان أيده الله تعالى وإن كان أعظم مقاما وأعلى مكانا ومكانة وهو الذي يولي القضاة الكبار فهل له نظر في الأوقاف وإذا أطلقنا النظر للحاكم هل المراد القاضي وحده أو يدخل السلطان والذي ظهر لي في ذلك أن شرط النظر للحاكم لا يدخل فيه السلطان وكذا المشروط فيه النظر للقاضي أما القاضي فصريح في نائب الشرع وأما الحاكم فمحتمل ولكن العرف يقتضي أنه مثل القاضي فلا يعرف أهل مصر والشام من الحاكم إلا القاضي بخلاف عرف العراق فكل وقف في مصر أو الشام شرط النظر فيه للقاضي أو للحاكم فالنظر فيه لمراد نائب الشرع ولا يدخل السلطان فيه كما لو شرط النظر لزيد لا يكون لغيره وهل يكون للسلطان والحالة هذه نظر عام عليه يحتمل أن يقال به لأن السلطان هو الذي يولي القاضي ويحتمل أن يقال لا لأن النظر العام إنما يراد به نظر الشرع لأنه ناظر على كل أحد فمن أخل من النظار الخاصة بشيء مما يجب عليه في نظره استدركه الشرع وسد خلله والقاضي هو نائب الشرع فلذلك ينظر نظرا عاما على كل ناظر خاص السلطان فمن دونه كما يحكم بحكم الشرع عليهم فإذا كان القاضي هو الناظر الخاص بشرط الواقف فقد اجتمع فيه النظر الخاص والنظر العام فلا يحتاج إلى نظر عام عليه ولو فرضنا أن شرط النظر لشخص غير قاض فلا شك أن للقاضي النظر العام عليه لنائب الشرع وهل نقول أيضا إن للسلطان النظر العام ولا شك أن السلطان أعلى مرتبة ولكنه أيده الله لا يتفرغ زمانه للنظر في الأمور الجزئية وما تقتضيه من الأحكام الشرعية وإنما هو بعموم سلطنته وأنه ظل الله في أرضه قد اقتضى نظره الشريف إقامة
____________________
(2/25)
شخص نائبا عن الشرع يقوم بأعباء الشريعة والنظر في أحكامها وألقى إليه زمامها ليتفرغ هو لما هو بصدده من أعباء الأمة ومصالحها ومغالبة ملوك الأرض وتدبير الجيوش وتمهيد البلاد ومصالح العباد وملاقاة حروب أعداء دين الله ودفعهم وتوطيد مسالك الممالك وقمع المفسدين وغير ذلك من الأمور العظيمة التي لا يقدر القضاة ولا جميع الخلق عليها كما أنه أعزه الله تعالى وأعز أنصاره لا يتصدى للحكم في نكاح أو طلاق أو بيع فإن نظره في أعلى من ذلك هذا إذا شرط الواقف النظر للقاضي أو الحاكم فإن أطلق ولم يشترط النظر لأحد وقد قال الفقهاء إن الصحيح أن النظر للقاضي وكان عندي تردد في أن السلطان يشاركه أو لا والآن استقراري على عدم مشاركته وأن القاضي ينفرد به كما أطلقوه ولا نظر له عليه كما قدمناه إلا أن يكون مثل عمر بن عبد العزيز فإنه وأمثاله خلفاء الشرع أعظم من القضاة
وعلى مثلهم يحمل إطلاق من أطلق من الأصحاب أن النظر للإمام وأما من ولي بالشوكة فتنفذ أحكامه وتصح تولياته العامة التي يحتاج الناس إليها ومن جملتها القضاء فيقيم رجلا في مقام صاحب الشرع ويلقي إليه مقاليد الشريعة وأما توليات جزئية فليس بالناس حاجة إليها وإنما هي لنائب الشريعة والله عز وجل أعلم كتبته في سادس عشر رمضان سنة أربع وخمسين وسبعمائة انتهى
مسألة وردت في المحرم سنة أربع وخمسين وسبعمائة من بلاد الشام في رجل وقف وقفا على أقرب الناس إليه وله ابن ابن ابن بنت وابن ابن ابن بنت أخرى وهو ابن ابن ابن أخ لأبوين فأيهما أقرب إلى الواقف
الجواب الثاني أقرب لأنه يدلي بجهتين مختلفتين ليست إحداهما مسقطة لحكم الأخرى فوجب اعتبارهما والحكم بزيادة القرب بهما وقوله أقرب أفعل تفضيل والتفضيل تارة يكون بقرب الدرجة مع استواء القرابة وتارة يكون بكثرة القرابة والقرابة مع استواء الدرجة كما في الأخ الشقيق ثم الأخ للأب وكما في ابني عم أحدهما أخ لأم وفي باب الميراث ورثوا الأخ الشقيق ولم يورثوه بالجهتين لأن جهة الأخوة واحدة وإنما الامتزاج أوجب ترجيحا والأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن بني الأعيان يتوارثون دون بني العلات وورثوا
____________________
(2/26)
ابن العم الذي هو أخ لأم بالقرابتين على خلاف فيه لاختلاف الجهتين وذكروا في جدتين متساويتين صورتين إحداهما من جهتين والأخرى من جهة واحدة هل تفضل إحداهما على الأخرى وجهان أصحهما لا تفضل بل يقسم السدس بينهما والثاني يقسم السدس بينهما أثلاثا لذات الجهتين ثلثاه ولذات الجهة الواحدة الثلث ولو كان ابن هو ابن ابن عم فلا أثر لبنوة العم لأنها محجوبة بالبنوة فلو اتفق مثل ذلك في وصية أو وقف على الأقرب هل يقدم به أن نقول لقوة البنوة لا أثر لبنوة العم
ذكرت فيه احتمالين في شرح المنهاج وأنا الآن أختار منهما الأول وذكر ابن الصباغ في الوصية في الجدتين اللتين ذكرناهما وجهين واقتضاء كلامه أنهما الوجهان اللذان في إرثها كأنه يشير إلى أنا إن قسمناه بينهما أثلاثا في الميراث وهو رأي ابن حويوية قدمنا ذات القرابتين في الوصية وإن سوينا بينهما في السدس في الميراث وهو المذهب شركنا بينهما في الوصية لكن التوريث باسم الجدودة وهما مشتركان فيها والوصية للأقرب فيجب النظر فيه وعبارة الشافعي في الوصية أيهم جمع قرابة لأب وأم كان أقرب ممن انفرد بأب أو أم
وهذه العبارة تشمل الإخوة والأعمام وبنيهم ويقاس عليه ما ذكرناه من الصورة المستفتى فيها وفي حديث أبي طلحة لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في صدقته أرى أن تجعلها في الأقربين فجعلها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه وأعطى منها حسان بن ثابت وأبي بن كعب ولم يعط أنسا منها شيئا وثلاثتهم من قرابته من بني النجار من الخزرج
والظاهر أنه تمسك بما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم الأقربين ودلالة أفعل التفضيل على أنه لا يعم جميع القرائب ولذلك لم يعط أنسا لأن أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار وأمه أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام وأبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار فيجمع أبو طلحة وأنس في تاسع من جهة أبي طلحة وهو عاشر من جهة أنس وهو النجار فأنس أنزل درجة من أبي طلحة مع بعده عنه وإن اشتركا في كونهما من الخزرج وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد
____________________
(2/27)
مناة وأمه الفريعة بنت خالد بن حبيش بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن كعب بن ساعدة فهو أيضا قرابة أبي طلحة من الأب والأم ويجتمع معه في جهة الأب في حرام جد والد أبي طلحة ووالد حسان فهما ابنا ابني عم لها فهو أقرب إليه من أنس بكثير وأبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار
وأمه صهيلة بنت الأسود عمة أبي طلحة مجتمعان من جهة الأب في عمرو بن مالك بن النجار سابع أب لأبي طلحة وهو سادس أب لأبي بن كعب وأبي بن كعب من جهة الرجال أعلى درجة من أبي طلحة وأقعد من حسان ولكن من جهة النساء ابن عمته فهي أقرب من قرابة حسان من جهة الرجال فاعتدلا لأن في حسان قربا من جهة الأب وفي أبي قربا من جهة الأم وبعدا من جهة الأب إلا أنه أعلى فعارض علو القدر الذي حصل به من التفاوت بين حسان كونه ابن ابن عم أب وأبي بن كعب حيث كونه ابن عمته نفسها فكأن أبا طلحة لذلك سوى بينهما وهو يدل على مراعاة الجهتين ولو لم يعادل بذلك حسان ولا شك أنه أقرب من أنس
وقد يكون قصد عموم الأقربين وإن تفاوتت مراتبهم
وعلى كل تقدير فيحصل مقصودنا به وهو مراعاة الجهتين فإنه لما لم يحصل لأبي بن كعب الأقربية من جهة الرجال حصلت من جهة النساء فدل على الاكتفاء بواحدة منهما أي من وجد منهما عند الانفراد وإذا روعيا عند الانفراد وجب أن يراعيا عند الاجتماع لأنه لا موجب لإعمالهما عند الانفراد وإلغائهما عند الاجتماع ولا إعمال إحداهما وإلغاء الأخرى فوجب أن يراعيا جميعا وإذا روعيت الجهتان
فمقتضاهما عند الاجتماع واستواء الترجيح على من انفرد بإحداهما فتأمل ذلك ينشرح به صدرك وقد نظرت في هذه المسألة مرات وكتبت شيئا منها في باب الوقف من شرح المنهاج وفيما ذكرته الآن زيادة على ذلك وحل إشكال حصل بتركه معاودة النظر في مسائل العلم وعدم إهمال شيء من العلوم كالأنساب ونحوه مما يتوهم أنه لا يحتاج إليه في الفقه فقد ظهر نفعه في الفقه وفي فهم فعل الصحابة رضوان الله عليهم واتباعهم لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم إن كان أبو طلحة قصد تعميم الأقربين وعدم دخول غيرهم من بقية الأقارب وهو الظاهر الذي يدل عليه ظاهر الأمر وأمثاله ووضع اللغة ولا ينجي من ذلك إلا أن يقال إنه أعطى بعض الأقربين دون بعض أو بعض القرائب دون بعض لعدم الوجوب وهو
____________________
(2/28)
بعيد والله أعلم
كتبه علي بن عبد الكافي السبكي في ليلة الاثنين تاسع عشر شهر الله المحرم سنة أربع وخمسين وسبعمائة انتهى
مسألة في صفر سنة أربع وخمسين وسبعمائة في استفتاء وقف شهاب الدين وعماد الدين محمد ابنا علي بن منصور كل منهما نصيبه من مكان حصة من بستان ما يسهم على أخيه ثم أولاده للذكر مثل حظ الأنثيين ثم أولاد أولاده ثم نسله على الشرط والترتيب
على أنه من توفي من أولاد منهما ونسله عن غير نسل عاد على من في درجته من أهل وقفه ممن له نصيب في الوقف يقدم الأقرب إليه فالأقرب منهم ويستوي الإخوة من الأبوين ومن الأب وابن العم من الأبوين ومن الأب ومن يجري مجراهم فإن لم يكن في درجته من له نصيب في الوقف فعلى من لا نصيب له فيه فإن لم يكن في درجته من يساويه فعلى أقرب الموجودين إلى المتوفى من أهل النصيب ثم على ولد انتقل إليه ثم نسله على الشرط والترتيب ومن توفي منهم ومن أنسالهم قبل الاستحقاق لشيء من منافع هذا الوقف وترك ولدا استحق ولده بعده ما كان يستحقه والده المتوفى لو بقي حيا حتى يصير إليه شيء من منافع الوقف المذكور وقام في الاستحقاق مقام والده المتوفى فتوفي من أهل الوقف شخص اسمه نجم الدين عن غير نسل وفي درجته ابن عم له يسمى حمدون وأولاد عم آخرهم عمر ومحمود وأختاهما وعم له مفقود لم تتحقق وفاته يسمى إبراهيم هو أعلى من نجم الدين المتوفى ولإبراهيم المذكور ولد يسمى عليا مات لم يصل إليه شيء من الوقف للشك في وفاة والده ولعلي هذا أولاد موجودون ويسمى أحدهم هو أنزل من نجم الدين المتوفى بدرجة فلمن يكون نصيب نجم الدين المتوفى هل يختص به حمدون وعمر ومحمود وأختاهم أو يشاركهم صلاح وإخوته لأن والدهم عليا في درجة نجم الدين ولو كان حيا لاستحق لأنه في الدرجة وإن كان محجوبا عن نصيب والده بوجوده إذ لو لم يستحق لم يبق لقوله من مات قبل الاستحقاق قام والده مقامه فائدة
الجواب مقتضى هذا الوقف استحقاق من في درجة المتوفى عن غير نسل نصيبه وأنه يقدم منهم فيه من كان منهم له نصيب في الوقف استحقوا نصيب نجم الدين كاملا ولم يشاركهم صلاح وإخوته لأنهم لا نصيب لهم ولا لوالدهم علي ولو كان علي موجودا الآن لم يستحق لكونه لا نصيب له وحمدون ومن معه لهم نصيب فهم مقدمون عليه وإن تساووا في الدرجة لما قدمناه مما دل عليه لفظ الواقف ولا يمنع من هذا قوله من مات قبل الاستحقاق قام ولده مقامه لأنا نقول إنه يقوم
____________________
(2/29)
مقامه وهو في مقامه لا يستحق شيئا لكونه لا نصيب له مع من له نصيب وإن كان محمود ومن معه لا نصيب لهم وليس في درجة المتوفى من له نصيب فحينئذ قد استوى جميع من في درجة نجم الدين في أنهم لا نصيب لهم وقد دل قول الواقف على استحقاقهم عند عدم من له نصيب فيستحق حمدون وعمر ومحمود وأختاهما وصلاح وإخوته أما حمدون وعمر ومحمود وأختاهما فلأنهم في الدرجة وأما صلاح وإخوته فلقيامهم مقام والدهم على الذي هو في الدرجة فيقسم نصيب نجم الدين على التقدير المذكور على خمسة لحمدون منه الخمس ولعمر الخمس ولمحمود الخمس ولأختيهما الخمس ولصلاح وإخوته الخمس لأنهم قائمون مقام والدهم وليس له إلا الخمس والله أعلم
كتبه علي بن عبد الكافي السبكي في بكرة الثلاثاء الخامس من صفر سنة أربع وخمسين وسبعمائة
ثم حضرت إلي فتيا في هذه الواقعة قيل فيها بعد شرح شروط الواقف فتوفي من أهل الوقف شخص اسمه علي وله أولاد صلاح وإخوته وفي طبقة علي أولاد عمه وهم نجم الدين وشهاب الدين وحمدون وعمر ومحمود وأختاهما ثم توفي نجم الدين عن غير ولد فهل يختص بنصيبه من معه في درجته ويشارك أهل الدرجة ولد علي صلاح وإخوته وهم أنزل منهم بدرجة وإذا شارك صلاح وإخوته فماذا يستحقون وعلى كم يقسم نصيب نجم الدين
فكتبت قد حضرت هذه الفتيا مرة أخرى وفيها أن عليا المتوفى والده إبراهيم مفقود لم تتحقق وفاته فإن ولده عليا يستحق وهو في الطبقة وقد مات وله أولاد صلاح وغيره فهم يقومون مقامه بالشرط الآخر فيشاركون كما ذكرناه في الجواب الأول على ذلك التقدير والله أعلم ثم حضر إلي كتاب وقف آخر وقفه عز الدين بن القلانسي على الواقفين المذكورين يجري كل منهما نصيبه وهو النصف ثم أولاده ثم أولاد أولاده ثم نسله على الشرط والترتيب من توفي عن غير نسل فلمن في درجته يقدم الأقرب إليه ويستوي الإخوة من الأبوين ومن الأب وابن العم ومن يجري مجراهم ومن توفي قبل استحقاقه شيئا قام ولده والأسفل منه مقامه فأولد عبد الرحمن عليا وفقها وأولد علي محمدا وتوفي علي في حياة أبيه عن ابنه محمد ثم توفي عبد الرحمن عن ابن ابنه محمد بن علي وبنته فقهاء ثم توفيت فقهاء عن ابن يسمى حمدون وأولد عماد الدين محمد محمدا وإبراهيم ومنصورا فانتقل نصيبه إليهم وتوفي كل من الثلاثة عن أولاد ثم توفي محمد بن علي عن غير ولد وفي درجته من ذرية شهاب الدين ابن عمته حمدون بن فقهاء وفي درجته أيضا من ذرية عماد الدين أولاد أولاده فهل ينتقل
____________________
(2/30)
نصيب محمد بن علي إلى حمدون أو يشاركه في طبقته من ذرية عماد الدين
الجواب ينتقل نصيب محمد بن علي إلى حمدون ولا يشاركه من في طبقته من ذرية عماد الدين من أنه لما فصل الواقف فجعل لكل من الموقوف عليهما النصف كان بمنزلة وقفين فلا تدخل ذرية أحدهما مع ذرية الآخر حتى ينقرضوا فيستحقوا لأنه قال في كتاب الوقف الذي رأيته ومن انقرض نسله من الأخوين عاد على أخيه ثم نسله والله أعلم
كتبه علي السبكي في ثاني شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وسبعمائة
صورة جواب آخر عن فتيا في وقف وهي الفتيا الحلبية المتقدمة أجاب به الشيخ الإمام أيضا قدس الله روحه
وهو لا تنفرد لطيفة بالوقف المذكور بل هو بينها وبين أولاد محمد وبنت هاشمية وولدي خالها على ما سأذكره للطيفة خمس الوقف ولأولاد محمد ربعه وخمسه ولبنت هاشمية ثمنه ونصف خمسه وهذا هو الذي ترجح عندي في ذلك لما دل عليه كلام الواقف في انتقال نصيب كل شخص لولده وإن كان لم يصرح بذلك إلا في ذلك عبد الله وولد ولد المتوفى والده في حياته وهذا الذي رجحناه أولى من التمسك بقوله لا يشارك البطن الأسفل البطن الأعلى لوجوه أحدها قول الواقف على الشرط المتقدم ذكره وقد تقدم منه ثلاثة أمور أحدها قوله للذكر مثل حظ الأنثيين والثاني قوله إن مات الموقوف عليه ابتداء انتقل لولده
والثالث يقسم أولاد الموقوف عليه ابتداء إلى ثلاثة أقسام وذكر حكم كل قسم منها فقوله على الشرط المتقدم يعود على الثلاثة لعموم الألف واللام فيه ولا يقال إنه مختص بقوله للذكر مثل حظ الأنثيين لأنه تخصيص من غير مخصص ولأن قوله للذكر مثل حظ الأنثيين بأصل الوضع ليس بشرط لكنه بيان وإنما نطلق عليه شرطا توسعا وكذلك تقسمة الأولاد وذكر أحكامهم وأما قوله إن مات الموقوف عليه ابتداء انتقل لولده فإنه شرط وضعا وحقيقة فكان الحمل عليه أولى وكان إخراجه من مدلول الشرط غير سائغ ولا يقال إن هذا الشرط لما صرح الواقف فيه بأنه في الموقوف عليه ابتداء لم يمكن استعماله فيمن بعده ولا حمل شرط المذكور فيمن بعده عليه لتعذره فوجب حمل الشرط على الأول فقط وهو قوله للذكر مثل حظ الأنثيين فإنه لفظ عام يصح معناه في كل بطن لأنا نقول وإن كان الأمر كذلك إلا أنه تصح إرادته على إضمار مثل أو على إرادته من حيث هو غير مضاف إلى خصوص محله
____________________
(2/31)
وليس فيه إلا تجوز لطيف أو جمع بين حقيقة ومجاز وهو جائز عندنا وقد دل دليل هنا على إرادة المجاز وهو الجمع بين كلام الواقف أوله وآخره وتعليلا من الخروج عن الحقيقة ما أمكن
وسنبين بمجموع الأدلة التي نذكرها أن سلوك هذه الطريقة التي سلكناها أقل مخالفة ولا يقال إن قوله على الشرط المتقدم إنما هو في أولاد أولاد عبد الله لما دلت عليه ثم من الترتيب وفاخرة من أولاده لا من أولاد أولاده فلا يكون الشرط مرادا بالنسبة إليها لأنا نجيب بوجهين أحدهما أن كلا منهما الآن في لطيفة وهي من أولاد أولاده والثاني أن قوله على الشرط المتقدم كما يتعلق بأولاد أولاده على جهة الحال يتعلق بما دلت عليه ثم من معنى الترتيب أو بالعامل في المعطوف عليه ويعود إلى معنى الترتيب وهو مطلق في ترتيب كل فرع على أصله وترتيب المجموع على المجموع وقد دل الشرط المتقدم على المعنى الأول
الوجه الثاني من الدليل في أصل المسألة أن قوله لا يشارك البطن السافل العالي إذا سلم عمومه مخصوص قطعا بما صرح به الواقف في أولاد عبد الله وأولاد ولده المتوفى في حياته فضعفت دلالة العام بالتخصيص وصار عرضة لأن يخص بما يفهم من كلام الواقف والتخصيص وإن قيل بأنه خير من المجاز إلا أن التخصيص هنا في محلين والمجاز في محل واحد فكان أولى لا سيما وقد عضده مفهوم كلام الواقف ومقصود كلام الواقفين غالبا في تعميم النفع في ذرياتهم ما لم يصرحوا بخلافه
الوجه الثالث أن المشاركة لها معنيان أحدهما الاشتراك في الاعتبار كاشتراك مالكي العبد فيه مع العلم بأن كلا منهما إنما يملك حصته منه ولا حق للآخر والثاني الاشتراك في الحقوق كالشفيعين يستحقان الشفعة جميع الشقص فإن اجتمعا ازدحما عليه وإن انفرد أحدهما أخذه كله والشركة في الأوقاف من هذا القبيل فإنه إذا وقف دارا على ولديه كان كل منهما مستحقا لجميع منافعها بدليل أنه إذا مات أحدهما رجعت الغلة إلى من بقي وإنما يزدحمان عند وجودهما لأنه ليس أحدهما أولى من الآخر وهذه هي حقيقة الشركة وإنما تطلق الشركة بالمعنى الأول فيما لا يمكن اعتبار هذا المعنى فيه ومتى أمكن المعنيان حمل على الثاني فقط لأنه الحقيقة
إذا عرف هذا فقول الواقف لا يشارك البطن السافل البطن العالي معناه لا يكونان مستحقين له على التشريك كما في وقف التشريك الذي قصده الفقهاء من قول الواقف وقفت على أولادي وأولاد أولادي فإن كلا من البطنين يستحقونه على التمام والكمال فنفى الواقف هذا وهذا النفي حاصل بحجب كل أصل لفرعه فقط أما إذا انتقل نصيب كل بموته لفرعه فلا يقال إن الفرع قد
____________________
(2/32)
شارك عمه لأنهما لم يزدحما على شيء واحد فاضبط هذا فإن فهمه خير من الدنيا وما فيها
الوجه الرابع إن الواقف قد ذكر البطون التي بعد عبد الله بالواو ثم ذكرها أيضا بعد أولاده بالواو ومقتضاها لو سكت عليها التشريك لكن قوله بعد ذلك لا يشارك البطن السافل العالي يقتضي حجبا ما والمحقق منه حجب الفرع بأصله وأما حجبه بأصل غيره فمحتمل فيتمسك في نفيه بمقتضى الأصل الدال على التشريك السالم عن المعارض وهكذا أقول حيث قال الواقف وقفت على أولادي وأولاد أولادي ونسلي تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى إن الأصل الاستحقاق إلا في الحجب المحقق وهو حجب الأصل لفرعه فحيث شككنا نرجع إلى الأصل بخلاف قوله على أولادي ثم أولاد أولادي لأن الأصل عدم استحقاق البطن الثاني فلا يصرف إليهم ما لم ينقرض جميع الأول لاحتمال اللفظ له المتعضد بالأصل هذا في قوله تحجب الذي هو صريح وليس في هذا الوقف ذلك وإنما فيه قوله لا يشارك وقد تكلمنا عليه
الوجه الخامس إن مذهب الشافعي رضي الله عنه حمل المطلق على المقيد عند إيجاد السبب وعند اختلافه في محل واحد وفي محلين والترتيب مطلق وقد قيده الواقف في أولاد عبيد الله فيحمل المطلق على المقيد
الوجه السادس إن بطنا إما أن يكون معناه مجموع البطن أو كل فرد منه إن كان الأول اقتضى كلام الواقف أنه لا يشارك مجموع البطن السافل مجموع البطن العالي وهذا حاصل بموت بعض العالي فلا حجة فيه على منع مشاركة الباقين وإن كان الثاني فالأمر كذلك أيضا لأنه عام بالألف واللام والسلب داخل عليه وهو سلب العموم لا عموم السلب وسلب العموم بمنزلة سلب المجموع
الوجه السابع أن الواقف قد صرح في أولاد عبيد الله وأولاد من مات من ولده بذلك وهو قرينة في إرادة ذلك في الباقين والقرائن تخصيص العموم
الوجه الثامن ما أشرنا إليه فيما تقدم أن غرض الواقفين تعميم النفع في ذرياتهم وقد ذهب بعض العلماء إلى اعتبار ذلك بمجرده ونحن ألغيناه عند انفراده فلا نلغيه إذا اعتضد بغيره وههنا قد اعتضد بما ذكرناه وكان الاستناد إلى مجموع الأمرين وصلحا بأن ينهض منهما دليل
الوجه التاسع أن الفقهاء اختلفوا في أن قوله وقفت على أولادي ثم أولاد أولادي هل يقتضي انتقال نصيب كل واحد لولده أو لا والمشهور المنع هذا إذا لم تعضده قرينة وههنا قد اعتضد ذلك الوجه بما ذكرناه فقوي
الوجه العاشر ما دل عليه
____________________
(2/33)
آخر كلام الواقف فيمن مات أبوه قبل استحقاقه فإذا عرف قصد الواقف في صلة من مات أبوه قبل استحقاقه ففي من مات بعد استحقاقه أولى
ولا يقال إن هذا من باب القياس الذي يعتبر في كلام الشارع ولا يعتبر في كلام الواقفين لأنا نقول إن هذا ليس بقياس وإنما هو من فحوى الكلام والسياق المرشد إلى المراد وذلك معمول به في كل كلام فقد بان بأول كلام الواقف ووسطه وآخره ومقاصد الواقفين غالبا وقواعد الفقهاء والأصوليين أن مقتضى هذا الوقف انتقال نصيب كل واحد من أهله بموته إلى ولده وأن هذا راجح رجحانا قويا على تخصيص الأعلى فجميع الوقف عملا بمجرد قوله لا يشارك البطن السافل البطن العالي وأن الجمع بين الأدلة أولى بل إذا تؤمل ما ذكرناه من الوجوه العشرة طاح احتمال التخصيص بالأعلى المستند المجرد إلى تلك اللفظة بحيث لا يبقى لها وزن والله أعلم انتهى
مسألة من حلب في رجل وقف مدرسة وقفا شرعيا وفوض النظر إلى يوسف مدة حياته ثم من بعده إلى جماعة مخصوصين من قبيلة معينة لا يخرج النظر عنهم ما دام من يصلح للنظر وكذلك التدريس لا يعدل به إلى سواهم فإن كان فيهم من يصلح للنظر والتدريس فوض النظر والتدريس إليه فإن لم يكن فيهم من يصلح لذلك فإلى من يصلح لذلك من أهل مدينة معينة ومتى عاد أو نشأ لهم أو من نسلهم وعقبهم من يصلح للنظر أو التدريس أعيد ذلك إليه وشرط الواقف أن يكون المدرس شافعي المذهب فمن أحكم مذهب الشافعي رضي الله عنه بحيث صار أهلا لأن يعمل بفتياه في مذهب الشافعي وإن الذي يولي المدرس هو الناظر فإذا لم يوجد في القبيلة المشروط فيهم النظر والتدريس أحد أحكم مذهب الشافعي كما شرطه الواقف ولا من أهل المدينة المعينة فهل يجوز للناظر أن يولي مدرسا من غير القبيلة أو من غير أهل البلد ويكون غريبا إذا وجد شرط الواقف فيه ويكون محالفا لشرط الواقف لكونه من غير البلد والقبيلة أو يختار الناظر الأصلح من القبيلة أو من أهل البلد ويوليه التدريس ويكون أيضا مخالفا لشرط الواقف إن ولى مدرسا ما أحكم مذهب الشافعي وعلى كلا الحالين المخالفة واقعة وقد يخير الناظر فيما يخلصه ويبرئ ذمته أفتونا في ذلك أثابكم الله
الجواب الحمد لله الذي أراه أنه إن أمكن قيام المدرسة وبقية وظائفها بدون المدرس وانتظار حدوث من فيه شرط الواقف من القبيلة أو المدينة فينتظر ولا يولى أحد إلى أن يحصل من فيه شرط الواقف ويصرف معلوم
____________________
(2/34)
التدريس في مدة الانتظار إلى أقرب الناس إلى الواقف إلا أن يكون في شرط الواقف ما يقتضي رده على بقية أرباب الوظائف فيرد عليهم وإن لم يمكن قيام المدرسة واشتغال الفقهاء إلا بالمدرس فيستجلب لهم مدرس قد أحكم مذهب الشافعي يجعل عليهم إلى أن يحصل من القبيلة أو المدينة واحد كذلك ويصرف له المعلوم على عمله لتعذر الوفاء بشرط الواقف في هذه المدة في ذلك الوصف وإقامة لشرطه في البقية فالصرف إليه بمقتضى ذلك تحصيل لبعض المقصود لا لكونه ينطبق عليه الشرط وأما اختيار الأصلح من القبيلة أو المدينة من غير أن يكون محكما لمذهب الشافعي فلا لأن المقصود الأعظم المقصود في التدريس إحكامه لذلك لا عينه والله أعلم
كتبه علي السبكي الشافعي انتهى
ومن خطه نقلت رحمه الله
مسألة في العادلية الصغرى في نظرها قال في كتاب الوقف ويصرف من ارتفاع الوقف في كل شهر ثمانون درهما فضة ناصرية وغرارة واحدة حنطة بكيل دمشق ونصف غرارة شعير بكيل دمشق إلى الشيخ نجم الدين أحمد بن شمس الدين عمر بن عثمان قاضي بالس عن نظره في هذا الوقف ومشارفته وتحصيل ريع هذا الوقف وأجوره وغلاته ومباشرة عمارة ما يحتاج إلى العمارة منه وعن السعي في تمييز ارتفاع الوقف وتنميته والعمل لمصالحه أبدا ما دام قائما بذلك فإن احتاج إلى عامل يكون معه يجبي ويساعده فيما هو بصدده صرف الناظر في الوقف من ارتفاعه إلى العامل أجرة مثله ويصرف من الارتفاع إلى من يتولى النظر في هذا الوقف أيضا في كل شهر مائة درهم فضة ناصرية على ما يأتي بيانه وشرط أيضا لنجم الدين المذكور وللطواشي من شاء من الوقف حصة معلومة ثم قال وأسندت الواقفة النظر إلى زهرا خاتون الموقوف عليها تتولاه وتوكل فيه من شاءت وتسنده إلى من اختارت وتعزل من توكله إذا شاءت ومن تسنده إليه من جهته مثل ذلك مسندا بعد مسند فإن لم تسند الخاتون زهرا النظر إلى أحد كان النظر بعدها في أمر المدرسة والفقهاء والمعيد والمتفقهة والإمام والمؤذن إلى المدرس والنظر في أمر الجماعة وفي الأوقاف بمشاركة المدرس وإشارته إلى الطواشي غرس الدين يمن وإلى نجم الدين على الاجتماع منهم والانفراد ما لم يمكن اجتماعهم في وقت يفوت المصلحة ولكل واحد منهم أن يوكل من شاء وأن يأذن للآخرين ولمن شاء منهما بالانفراد في النظر
والمقرر للمدرس عن النظر في ذلك كل شهر أربعون درهما والمقرر للآخرين ستون بينهما بالسوية نصفين زيادة على مالهما من ريع الوقف وجملة ذلك هي المائة درهم المقدم ذكرها لمن يتولى
____________________
(2/35)
النظر في هذا الوقف بعد الخاتون زهراء ثم يعود ما هو ليمن بعد وفاته من النظر والجامكية إلى عنبر ثم إلى كافور ثم إلى بدر ثم إلى الأرشد من عتقاء زهراء ثم إلى الأرشد من الخدام المخصوصين بالسكنى ويعود ما لنجم الدين من النظر والجامكية على النظر بعد وفاته إلى من يصلح لذلك من أنساله
ومن تعذر نظره ممن له النظر في ذلك كان ماله من النظر إلى حاكم المسلمين بدمشق يوليه من شاء من الأمناء الثقات في مستهل رمضان سنة خمس وخمسين وستمائة ثم إن الموقوف عليها زهراء بعد ذلك بسنة أو نحوها في العشر الأخير من رمضان سنة ست وخمسين وستمائة أسندت إلى أخيها لأبيها الأمجد تقي الدين عباس بن العادل أبي بكر بن أيوب ثم يكون النظر في ذلك إلى الأرشد فالأرشد من أنسالهم فإن عدم الأرشد فيهم
فالنظر إلى المدرس ومن سمي معه في كتاب الوقف من الخدام على الترتيب المعين في كتاب الوقف ثم إلى حاكم المسلمين بدمشق وكانت ذكرت في كتاب الوقف وعادت الحجرة العلو التي من قبله ما تقدم ذكره الشارعة على الطريق بحضرة دار الحديث النورية ذات الباب المجاور للباب المقنطر المقدم ذكره من غريمه وقفا على عتقاء زهراء من الخدام الملازمين لخدمتها عند وفاتها برسم سكنهم فإذا انقرضوا كان ذلك وقفا برسم سكنى الخدام من عتقاء الملك الصالح ووالدته وأخته دنيا من على الخدام من عتقاء أولاده ثم على الخدام من عتقاء الملك العادل بشرط أن يكونوا فقراء صالحين
فإذا انقرضوا كان ذلك وقفا برسم سكنى الخدام الأستاذين المسلمين الفقراء ما وجدوا
قال علي السبكي عفا الله عنه وعن والديه نتكلم على هذه القطعة من كتاب الوقف في ست مسائل إحداها لمن يكون النظر عند عدم الإسناد
الثانية لمن يكون النظر عند الإسناد
الثالثة في حكم المعلوم عند عدم الإسناد
الرابعة في حكم المعلوم عند الإسناد
الخامسة في حكم النظر والمعلوم عند الجهل بالإسناد وما يحل اعتماده حينئذ وما يجب إذا تبين بعد ذلك
السادسة في صرف زيادة على المائة
فلنتكلم على كل واحدة من هذه المسائل المسألة الأولى لمن يكون النظر عند عدم الإسناد الجواب إنه بعد وفاة زهرا إذا لم يسند يكون للمدرس ولنجم الدين قاضي بالس ونسله وللطواشي يمن وبعد انقراضهما وانقراض المعينين بعدهما يكون نظر الطواشي لأرشد الخدام الساكنين بالحجرة المذكورة ونظر المدرس له ونظر ابن قاضي بالس للحاكم وإذا أراد الحاكم أن يفوض نظره إلى المدرس فله ذلك عملا بما دل عليه إذن الواقفة لكل من الثلاثة في
____________________
(2/36)
توكيل الآخرين وليس للحاكم أن يفوض نظر الخدام إلى المدرس بل يكون النظر حين تفويض الحاكم إلى المدرس مشتركا بين المدرس والخدام ولا يجب اجتماعهم بل يتصرفون مجتمعين ومتفرقين أما انفراد المدرس عن الخدام وانفراد الخدام عن المدرس فلا إشكال وأما انفراد بعض الخدام عن بعض إذا استووا في الرشد فلصيغة العموم وهو يقتضي كل فرد لا المجموع وأما عند انفراد بعضهم بالأرشدية فلا يحتاج إلى هذا النظر
وهذا البحث في هذه المسألة يستفاد ولا يحتاج إليه في العمل الآن لأن الواقع إنما أسندت فلا نظر للمدرس ولا للخدام حتى ينقرض من أسندت إليه قبلهم
المسألة الثانية لمن يكون النظر عند الإسناد
والجواب لا إشكال في أنه بعد وفاتها إذا أسندت كما شرح في كتاب الإسناد لأخيها الأمجد إذا كان أهلا وأما بعده فالذي أقوله إن النظر للأرشد فالأرشد من أولاد أخيها الصالح ثم من أنسالهم ثم للمدرس ومن سمي معه من الخدام ثم للحاكم كما تضمنه الإسناد فإن قلت الواقفة ماما خاتون شرطت لزهرا أن تسند وهو مطلق فيكفي فيه بالإسناد إلى أخيها الأمجد فلم قلت إنه يصح أن يسند بعده والمطلق يكتفي فيه بمرة واحدة
قلت قد قالت الواقفة إن زهراء تسنده إلى من اختارت و من صيغة عموم لها أن تسنده بمقتضى ذلك إلى معين وإلى عام فإن الإسناد إلى المعين جائز والإسناد إلى العام جائز وقد أسند عمر رضي الله عنه إلى ابنته حفصة ثم إلى ذوي الرأي من أهلها فإذا الموصي أو الواقف لغيره الإسناد فله أن يسند إلى واحد وأكثر هذا عند الإطلاق وعند الإتيان بالصيغة أولى وقد بلغنا أن بعض الناس في عصرنا هذا توقف في ذلك وليس هذا محل توقف بل أنا قاطع بجواز ذلك
فإن قلت سلمنا أن الإسناد العام جائز لكن هذا إسناد بعد إسناد وهي لم يجز لها أن تسند مرتين
قلت ليس هذا إسنادا بعد إسناد وإنما هو إسناد واحد إلى جماعة مترتبين والترتيب في الاستحقاق لا في الإسناد كما تقول وقفت على زيد ثم عمرو ولا تقول إنه وقف على زيد ثم وقف على عمرو بل وقف وقفا واحدا على زيد ثم عمرو والترتيب بينهما في الاستحقاق لا في الوقف وبذلك فارق الوقف المعلق وقد بينا في الجواب عن السؤال الأول أن لها أن تسند إلى جماعة والجماعة قد يكونون مجتمعين وقد يكونون مترتبين والقسمان يشملهما لفظ فيصح ويندرج ذلك في كلام الواقفة وليس ذلك محل توقف أيضا لمن عنده أدنى نظر وقد وصى عمر إلى حفصة ثم إلى ذوي الرأي وهو دليل لما قلناه فإنه صح إسناده إلى ذوي الرأي
____________________
(2/37)
في الطبقة الثانية ولا يعرفهم ولم يكن ذلك تعليقا للوصية
فإن قلت هنا ما يمنع الإسناد إلى شخص بعد شخص وهو جعل الواقفة للمسند إليه من جهة زهراء إن تسند فلو صح إسناد زهراء إلى الثاني يمنع الأول من الإسناد الذي شرعته له الواقفة فكان في تصحيح الإسناد إلى أولاد أخيها الصالح بعد أخيها الأمجد ما يمنع الأمجد من الإيصاء المشروط له في كتاب الوقف فيكون باطلا
قلت ليس في إسنادها إلى أولاد الصالح بعد الأمجد من الإسناد بل نقول للأمجد أيضا أن يسند وإذا أسند كان لكل من أسند إليه وأسندت هي إليه النظر ولا مانع من ذلك فإن حق النظر مما يمكن أن يشترك فيه جماعة ويكونون كلهم يستحقونه على التمام والكمال كحق الشفعة ونحوها وكما إذا شرط النظر لاثنين وجعل لكل منهما الانفراد أو وكل اثنين وجعل لكل منهما الانفراد وهذا ظاهر لمن عنده أدنى تأمل وأنا قاطع به ولا شك عندي فيه ولو سلمنا أنه لا يمكن اجتماعها لا يلزم بطلان إسناد إسنادها بل نقول يبقى له أن يوصي فإن لم يوص انفرد الذي أسندت إليه وإن أوصى وصيها ذلك الوقت يتعارض الوصيان فليس أحدهما بأولى من الثاني بالنسبة إلى لفظ الواقف ولكن حينئذ يحتمل أن يقال يترجح وصي الوصي كما قاله الأصحاب فيما إذا عهد الخليفة إلى جماعة مترتبين ثم عهد الأول إلى غير من عهد إليه الخليفة أنه يتقدم على الظاهر من مذهب الشافعي ولا نقول بأن اجتماع خليفتين متعذر واجتماع ناظرين ممكن لأنا نبحث على تقدير التعارض
والجواب عن شبهة هذا الاحتمال أن الخليفة الحاضر مستقل بالحكم فكذلك قدم عهده وأما الوصي وناظر الوقف فإنه نائب فلذلك أقول يترجح من أسندت إليه فإنها صاحبة الوقف وهي الأصل في الإسناد فكان تقديم وصيها أولى من تقديم وصي وصيها ولو سلمنا أنه لا يتقدم لا يلزم من ذلك الحكم على إسنادها بالبطلان ولو سلمنا ذلك عند التعارض فهنا في هذه الواقعة لم يحصل تعارض ولا أوصى الأمجد لغير أولاد أخيه فصح ووضح وتحقق أن الإسناد صحيح على صورته وأن النظر كما شرطته الموقوف عليها وهذا في الإسناد بشرط الأهلية وهو الأرشدية
والموجود الآن من نسل الصالح المدعي لهذا النظر هو صلاح الدين بن الكامل بن السعيد ابن الصالح فإن كان هو أرشد الموجودين من نسل الصالح فالنظر له ولا يجوز للمدرس ولا لغيره منازعته فيه
المسألة الثالثة في حكم المعلوم عند عدم الإسناد
والجواب أنه الآن بعد انقراض نسل ابن قاضي بالس والخدام المعينين لو لم يكن إسناد منه لأرشد الخدام ثلاثون وللمدرس أربعون
____________________
(2/38)
والثلاثون التي كانت لابن قاضي بالس لا مستحق لها فيحتمل أن يقال إنها منقطعة الآخر فتكون لأقرب الناس إلى الواقف ويحتمل أن يقال إنه يجوز للحاكم أن يجعلها للمدرس عن النظر إن عمل عملا يستحق به ذلك
وأما جعل المائة بكمالها له فلا يجوز قطعا لمنع حق الخدام نعم إن تعين احتياج إلى عمل في الوقف جاز للحاكم أن يجعل لمن عمله أجرة عمله إذا لم يوجد متبرع والمدرس وغيره في ذلك سواء وهذه المسألة يحتاج إليها لأن الواقع الإسناد نعم يظهر أن تناول المائة المشروطة للنظر لا تجوز للمدرس قطعا وإنما يجوز أخذ أجرة إذا قدرها الحاكم زادت على المائة أو نقصت لا بصيغة النظر المشترط بل يجعل للحاكم كما يجعل من الوقف لسائر الأجراء
المسألة الرابعة في حكم المعلوم عند الإسناد فيستحق كل من استحق النظر المائة المشترطة له عملا بعموم قوله في الأول إنها للناظر على ما يأتي وقد فصله فجعله في حال الإسناد لمن أسند إليه وفي حال عدم الإسناد للأم ونص على المعلوم في السلام فكان استحقاقهم صريحا ولم ينص عليه في المسند إليه فيحتمل أن لا يريده لكن التمسك بالعموم يقتضي صرفها إليه
المسألة الخامسة في حكم النظر والمعلوم عند الجهل بالإسناد
فنقول إذا اطلع الحاكم على كتاب الوقف في هذا الزمان بعد انقراض ابن قاضي بالس ونسله والخدام المعينين ولم يطلع على الإسناد لا يجوز له أن يفرد المدرس بالنظر لدلالة كتاب الوقف على استحقاق الخدام ما كان للطواشي يمن وغاية ما يجوز له أن يجعل للمدرس الأربعين المشروطة والثلاثين التي لابن قاضي بالس مع تردد عندي في ذلك وإذا تبين الحال بعد ذلك في الإسناد يجب أن تسترجع الأربعون التي قبضها بالشرط وكذا الثلاثون إلا أن يكون قد جعل له أجرة عمل استحقه بعمله المشترط له أجرة لا بشرط الواقف
المسألة السادسة في أنه هل يجوز أن يصرف زائدا على النظر أو لا واعلم أولا أن هذه المائة يجوز للناظر تناولها سواء أكانت قدر أجرة مثله أم أكثر لأنها مشترطة من الواقف لكن لا بد له من العمل فليست صدقة مطلقا وليست أجرة مطلقا فلذلك يستحقها على عمله زادت أم نقصت بل أقول إنه قد لا يتفق منه عمل لعدم احتياج الوقف إليه في شهر مثلا فيجوز له أن يأخذ المائة إذا كان متصفا بصفة النظر وهي له بعلممن جهة الواقف بهذه الصفة فافهم ذلك أما الزائد على المائة فلا يجوز لكن هنا شيئان أحدهما أن الوقف إذا احتاج إلى عمل لمثله أجرة ولا متبرع وهو مما لا يجب على الناظر فعله يجوز للناظر أن يستأجر له من
____________________
(2/39)
يعمله بأجرة من الوقف ويصرفها منه ويجوز ذلك أيضا للحاكم إذا لم يفعله الناظر ولا يجوز أن يأخذه لنفسه عند عدم إذن الحاكم قطعا وهل يجوز للحاكم أن يأذن له في أخذ معلوم عن عمل يجوز أن يكون لغيره فنقول إن كان ذلك العمل من وظائف الناظر فلا لأنه الذي جعلت المائة بإزائه وإن كان زائدا عليه فيحتمل أن يجوز وهو الأظهر لأنه صانع من الصناع ويحتمل أن يقال لما عين له الواقف قدرا معلوما بصفة لم يكن له أن يأخذ شيئا بصفة أخرى لكن هذا احتمال ضعيف لأن ذلك إنما يتخيل في المستحق بصفة محضة أما المأخوذ في مقابلة عمل فهو للعمل لا للشخص فسواء أكان من أهل الوقف أم لا يجوز استئجاره له وإعطاؤه الأجرة منه زيادة على ما أخذه بالصفة الشيء الثاني أن في هذا الوقف جعلت لنجم الدين ونسله ثمانين درهما وغرارة ونصف غرارة وقالت إنها عن نظره ومشارفته فهل يجوز الآن بعد انقراض نسله أن تجعل لغيره وتجعل ناظرا مشارفا مع الناظر الكبير كما كان نجم الدين فيما يدل عليه ظاهر كتاب الوقف فأقول الظاهر أنها إنما جعلت له بخصوصه مع قيامه فيما شرطت عليه فبعده لا يصرف ذلك بحسب الشرط لفوات الوصف المعتبر المركب من خصوص الشخص مع العمل ويبقى النظر في ذلك إلى الناظر الكبير أو الحاكم إن رأى احتياج الوقف إلى نصب شخص مشارف بأجرة جاز بقدر الحاجة وإلا فلا ولا يتقدر بثمانين ولا أقل ولا أكثر والله تعالى أعلم
هذا ما ظهر لي في ذلك وكتبت هذه المسائل الست بين الظهر والعصر من يوم الثلاثاء الخامس من صفر سنة ست وأربعين وسبعمائة بقاعتي بدار الحديث الإشرافية بدمشق والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا حسبنا الله ونعم الوكيل
مسألة وقف سني الدولة أبو محمد الحسن بن يحيى بن محمد بن الخياط دارا بدمشق ونصف فرن وجميع بستان بظاهر دمشق وبستانا آخر وصلائح وجنينة وكرما وسبع ضيعة الحموسة وربع ضيعة لألف على ابنيه فضل الله وهبة الله ثم أولادهما من بعدهما وأولاد أولادهما وأولاد أولاد أولادهما بينهم على فرائض الله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين يجري ذلك بطنا بعد بطن فإذا انقرضوا أجمعهم وخلت الأرض منهم كان على بنات الواقف أخوات المذكورين من أبيهما وأمهما ثم أولادهن وأولاد أولادهن ونسلهن على فرائض الله تعالى فإذا انقرضوا كان على المسجد الجامع بدمشق وعلى عمارته وتجديد آلاته وأسند صدقته والتولي عليها إلى الأسد فالأسد من ولده ينظر فيها مدة حياته ويوليها من يرتضيه بعد وفاته
____________________
(2/40)
يجري ذلك واحد بعد واحد ووصي بعد وصي فإذا توفي آخر القوم بهذه الصدقة عن غير مسند ولا وصي فأمرها مردود إلى حاكم المسلمين بدمشق في ذلك الوقت وأشهد على نفسه في العشر الأول من شهر ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وخمسمائة واتصل بحاكم بعد حاكم إلى قاضي القضاة شهاب الدين الحوي فحكم فيه في الثاني والعشرين من شعبان سنة ثلاث وتسعين وستمائة بالترتيب في البطون وإن كل بطن لا يستحق حتى ينقرض البطن الذي قبله وأن أولاد الإناث من كل بطن من نسل الواقف سواء كان والدهم من غير عصبات الواقف أم من عصباته يدخلون في الوقف
واتصل ذلك بالخط بقاضي القضاة شرف الدين المالكي وثبت على زين الدين الحنبلي في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة بشهادة شهود أنهم يعرفون ست العدول بنت نصر الله بن علي بن هبة الله بن الواقف وأنها انفردت باستحقاق منافع الموقوف المذكور بعد وفاة من كان في درجتها واستقلت إلى أن توفيت وانتقلت منافعه إلى الدرجة العليا من ذرية سني الدولة وهم ابنها محمد بن علي بن أحمد السلماني وابنتها كليم بنت هبة الله بن يعقوب بن نصر الله بن هبة الله بن سني الدولة
وست الوزراء أم محمد أخت كليم لأمها والإخوة الثلاثة عبد الرحمن ومدللة ومؤنسة أولاد عبد الكريم بن يعقوب والإخوة الثلاثة أحمد ومحمد وسنلغي أولاد بكتوت البسري وهم أولاد صالحة بنت نصر الله بن علي والإخوة الثلاثة محيي الدين عبد القادر وأمة العزيز وسكينة أولاد علي بن محمد اليونيني وهم أولاد تاج الشرف بنت ابن علي بن هبة الله والأخوان تقي الدين وكليم ولدا قطب الدين موسى بن محمد اليونيني وقطب الدين هو ابن زين العرب بنت نصر الله ابن هبة الله والأختان تاج الوزراء وزاهدة بنت محمد بن الخضر بن علي بن هبة الله وأحمد بن علي بن عمرون وهو ابن أمة الرحيم بنت محمد بن زين العرب والأختان تاج النسب وأمامة بنتا عبد السلام بن عبد الخالق أمهما أمة اللطيف ابن الخضر بن علي بن هبة الله وإن هؤلاء التسعة عندهم المستحقون وثبت على زين الدين أن الشيخ محيي الدين أسد الموجودين يومئذ من ذرية سني الدولة وأرشدهم وأمثلهم وأولاهم بالنظر في الوقف المنسوب إلى سني الدولة في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين ثم حضر مجلس الحاكم عند زين الدين متكلم
عن عبد الرحمن ابن عبد الكريم بن يعقوب بن نصر الله بن هبة الله وأحضر متكلما عن الشيخ محيي الدين وادعى عليه أن موكله استولى على مائة درهم من ريع الموقوف من المال المشترك وزعم أن النظر انقطع من ذرية الواقف بمقتضى ما شرط من
____________________
(2/41)
الأسدية والإيصاء من أحد القوام وآل النظر إلى حاكم المسلمين بدمشق وطلب رفع يده عما يخصه من المائة وسأله سؤاله فسأله الحاكم فذكر أن موكله أسد الموجودين وأن النظر إليه بمقتضى شرط الواقف وأحضر فتوى فيها شرط الواقف وفيها فهل إذا مات الموقوف عليهما عن غير وصية يكون النظر إلى الأسد من أولادهما وأولاد أولادهما وأنسالهما أم للحاكم فكتب شرف الدين بن الشرف حسن الحنبلي يستحق نظر هذا الوقف سني الدولة الأسد فالأسد من ولديه وأولادهما وسائر البطون الموقوف عليهم وكل من استحق النظر فله الإيصاء به فإذا توفي الموقوف عليهما عن غير وصية انتقل إلى الأسد وأولادهما دون الحاكم وإنما ينتقل إلى الحاكم عند عدم الأسد من النسل فعند ذلك سأل المدعى عليه الحكم لمحيي الدين فحكم له بالنظر في الوقف بحكم اتصافه بالأسدية وأذن له في التصرف في ثاني عشر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة
وهذا الحكم فيه نظر لأن الولد إن لم يدخل فيه ولد الولد لم يستحق من غير إسناد إليه وإن دخل فقد قال الواقف واحدا بعد واحد وجوز الإيصاء فلو استحق ولد الولد النظر مع الإيصاء به إلى غيره خالف قوله واحدا بعد واحد فينبغي أن يحمل الولد على البطن الأول فقط ليسلم عن الاعتراض وحينئذ إذا انقطع الإيصاء استحقه الحاكم والله أعلم ولم يصرح زين الدين في حكمه بدخول محيي الدين في اسم الولد ولا قال بحكم أنه داخل في ذلك بل قال بحكم اتصافه بالأسدية وذلك لا يكفي في الحكم ففي كونه مانعا من حكم غيره بإخراجه من الولد نظر وأيضا فإن محيي الدين مدع على وكيله وذكر وكيله ذلك دفع لدعوى المدعي فهل يكفي ذلك في الحكم له أو لا بد من دعوى من جهته فيه نظر وههنا مراتب إحداها أن يدعي شخص شيئا على شخص ويحلف المدعى عليه ولا بينة لهما فلا يقضي للمدعي ولا يقضي أيضا للمدعى عليه بل تنفصل الخصومة فلو طلب المدعى عليه الحكم بالبراءة أو بتقرير المدعي به في يده لم نجبه لكن نمنع المدعي من التعرض حتى يأتي بحجة
المرتبة الثانية أن يقيم المدعي بينة فيقيم المدعى عليه بينة فيحكم له مع اليد وصورتنا هذه لم يقم المدعى عليه البينة بعد دعوى المدعي بينة وقف سني الدولة وأيضا فالمدعي ليس منصوبا من جهة الحاكم فكيف تسمع دعواه والحاكم المتكلم في الأوقاف إنما هو الشافعي وهو لم ينصب من سمع الدعوى فكيف يسوغ لهذا الحاكم الحكم عليه بعدم الاستحقاق والحكم لمحيي الدين بغير خصم
وأيضا فهذا الوقف له أكثر من مائتي سنة
____________________
(2/42)
فينبغي أن يستكشف في يد من كان والنظر في حكم زين الدين في أربع جهات
إحداها أن المدعي عنده ليس له ولاية الدعوى لأنه ليس وكيلا عن القاضي الشافعي الذي هو ناظر الأوقاف
الثانية أن الواقف شرط أن يكون واحدا وهي قرينة في إرادة الولد دون ولد الولد وقد ينازع في هذا
الثالثة أن زين الدين لم يصرح بمستند حكمه من أن ولد الولد ولد بل ذكر الأرشدية وهي جزء علة فإذا ذكر الحاكم مستنده وهو غير كاف كيف يصح حكمه
الرابعة أن المحكوم له لم يقم بينة ولا دعوى بعد الدعوى عليه وإن كان المكان متصلا بزين الدين محمد بن أحمد لكن الذي يظهر له لا بد من دعوى الناظر النظر من في يده شيء من الوقف ويبين مستنده ثم يحكم له على منكر والمدعي هنا ليس في يده شيء من الوقف انتهى
فتيا من حلب في رجل وهو أبو طالب عبد الرحمن بن العجمي وقف المدرسة الشرفية واستثنى النظر لنفسه وهو المدرس احتسابا وله أن يستنيب ثم بعد وفاته يكون النظر والتدريس إلى من يوجد من أولاده وأولاد أولاده ونسله وعقبه وبنيه وغيرهم ملحقه وحضرت نسخة أخرى وهي فيها ملحقه لكن اعتذر فيها والله أعلم توقفت في الكتابة عليها لأجل كون المسند إليه قبل وفاة والده ولم يخلف ولدا ذكرا أو ولد ولد ذكر فلوالده الواقف أن يفوض ذلك إلى من شاء فإن مات الواقف من غير إسناد وكان ابنه المذكور قد توفي قبله ولم يسند إلى أحد من أولاده وليس له ولد موجود كان النظر والتدريس إلى من يصلح لذلك من أولاد الواقف وأولاد أولاده ونسله وعقبه يتولى ذلك الأرشد والأعلم والأعلى وإن كان الأعلم والأرشد أنزل فهو الأولى وإن كان الأعلى أرشد وأدين والأول أعلم اشتركا في النظر وتعين الأعلم للتدريس ومتى اشتركا في النظر فإن قدر واجب التدريس بينهما ولا يزاد وشرط الواقف أنه متى وجد من أولاده وأولاد أولاده ونسله من يقوم بالنظر والتدريس ولو بدرس مذهب لا يقوم غيره مقامه فإن لم يمكن بأن كان صغيرا أو عاجزا استناب وليه من يقوم عنه فإن كان كبيرا له أهلية الاشتغال ألزم بالاشتغال وأقيم من يقوم مقامه من أولاده وأولاد أولاده أو من أولاد إخوته إلى أن يصير أهلا لدرس واحد فيتعين لذلك فإن لم يكن للواقف نسل كان النظر والتدريس إلى من يصلح من أولاد إخوة الواقف على ما تقدم في أولاد الواقف وأولاد ابنه ويقدم في هؤلاء كلهم الأقرب فالأقرب إلى الواقف فإذا انقرض فالنظر للحاكم يوليه
____________________
(2/43)
عدلين ولكل من تولى ذلك أن يوليه ويسنده إلى الأقرب فالأقرب والأرشد فالأرشد ممن يساويه في الدرجة فإن لم يكن فإلى من هو دونه فمات الواقف ثم مات ابنه محمد وقد أسنده محمد إلى ولده أحمد ثم مات أحمد وقد أسنده إلى رجل من أولاد بنات الواقف هو دون درجته مع وجود إخوته الذين هم في درجته فهل يصح هذا الإسناد وإذا لم يصح والموجود الآن ذكر من نسل محمد وجماعة من نسل بنات الواقف فهل النظر والتدريس لهذا الموجود من نسل محمد أو لمن يصلح من نسل بنات الواقف
الجواب إن كان في إخوة أحمد من يصلح لم يصح إسناده إلى من هو في درجته وإن لم يكن فيهم من يصلح فيحتمل أن يقال بالصحة ويحتمل أن يقال لا يصح ويقام عنه من يقوم مقامه إلى حين صلاحه وإذا لم يصح وتعارض الموجود من نسل محمد والموجود من نسل البنات فيحتمل أن يقال يتعين الموجود من نسل محمد لأن استحقاق غيره مشروط بعدمه ويحتمل أن يقال يشاركه أولاد البنات لعموم قوله وشرط الواقف أنه متى وجد من أولاده إلى آخره وإذا شاركوه وكانت الأهلية فيهم دونه انفردوا دونه بحكم الأهلية والاحتمال الأول أقرب حتى لا يرتفع الكلام لكن تقديم غير الأهل والاستنابة عنه مع وجود الأهل من ذرية الواقف وعدم تصريحه بإخراجه فيه نظر والله عز وجل أعلم
ولا سيما إذا كان صغيرا فإنه مستنكر والله تعالى أعلم
كتب في جمادى الأولى سنة ست وأربعين وسبعمائة انتهى
مسألة من الفتاوى والمحاكمات وقف شرط واقفه النظر للأرشد فالأرشد من نسله فأثبت حاكم حنفي لشخص معين من أولاد بنات الواقف أنه الأرشد من نسله وحكم له بالنظر ثم أراد شخص من أولاد البنين أن يقيم بينة أنه الأرشد وينتزع الوقف من الأول أو يشاركه فيه فما الحكم في ذلك
الجواب هذه المسألة تظهر بقواعد إحداها تفسير الرشد ومذهب الشافعي رحمه الله تعالى أنه الصلاح في الدين والمال جميعا فيعتبر في الدين أن لا يرتكب ما يبطل العدالة هذا قول الأكثرين من أصحابنا ولأصحابنا وجهان آخران أحدهما أن المعتبر أن لا يرتكب من المعاصي وما يخاف معها إضاعة المال والثالث أن المعتبر ما يشترط في قبول الشهادة ووجه رابع كمذهب أبي حنيفة وسيأتي ويعتبر في المال أن لا ينفق في حرام ولا يضيعه برميه في بحر أو باحتمال غبن فاحش في المعاملة هذا هو المعتبر في المال وإنفاقه في وجوه
____________________
(2/44)
الخير ليس بشرط
وقال الشيخ أبو محمد إن قارب البلوغ فهو سرف وإنفاقه في المطاعم والملابس التي لا تليق بحاله قال الأكثرون ليس بسرف وقال الإمام الغزالي سرف وهو المختار
هذا تلخيص مذهب الشافعي رضي الله عنه ومذهب أبي حنيفة أن الرشد هو الصلاح في المال فقط وهو وجه لأصحابنا حكاه صاحب التتمة ولا فرق بين الذكر والأنثى
وقال مالك رضي الله عنه الأنثى لا يزول الحجر عنها حتى تتزوج وتدخل
ولم يقل أحد إن الرشد الصلاح في الدين فقط وإن كان هو أعظم الرشد لأنهم إنما تكلموا في الرشد المذكور في الآية الكريمة المقرون بقوله فادفعوا إليهم أموالهم فاقتضت هذه القرينة أن الصلاح في المال هو المقصود أو بعضه
وقال أبو حنيفة إذا بلغ الغلام خمسا وعشرين سنة سلم إليه ماله وإن لم يكن مصلحا له وهذا ليس خلافا في حقيقة الرشد وإنما هو استقباح أن يحجر على مثله وإن كان سفيها
القاعدة الأولى في بيان الأرشدية ولم يتكلم الفقهاء فيها إلا أنا نعلم أن أرشد أفعل التفضيل من الرشد فيقتضي زيادة فيه ومشاركة فمن قال بأن الرشد الصلاح في المال فقط فالأرشدية الزيادة فيه من غير اشتراط والصلاح في الدين ومقصودنا في هذا المقام صدق الاسم فقط وأما أهلية النظر فسيأتي الكلام فيها ولو استوى اثنان في الصلاح في المال وزاد أحدهما بالصلاح في الدين فالذي يظهر صدق الأرشدية عليه
وإن فرعنا على أن الرشد هو الصلاح في المال فقط لما قدمنا أن الرشد في الدين أعظم وإنما صرفنا عنه في الآية قرينة المال فلا ينكر اندراجه تحت اسم الرشد المطلق فتصح الزيادة بسببه ويحتمل أن ينازع في ذلك إما لأن اسم الرشد صار حقيقة شرعية عند هذا القائل على صلاح المال فقط وإما لأنه مقول عليهما بالاشتراك اللفظي وأفعل التفضيل لا بد أن يكون المفضل والمفضل عليه مما يصدق عليهما الاسم بالتواطؤ والأقرب عندي والأولى أن الرشد إنما جاء لصلاح المال للقرينة
وأما من قال بأن الرشد لا يحصل إلا بالصلاح فيهما جميعا فمن جهة كونه يخرج الصلاح في الدين عن مسمى الرشد فيه البحث المتقدم يحتمل أن يخرجه والأقرب أنه لا يخرجه ومن جهة اشتراطه له في اسم الرشد وإن الحقيقة مركبة فعلى ما قلنا إنه الأقرب تكون الحقيقة مركبة من رشدين ويكون كل منهما جزءا مقصودا وعلى الاحتمال الآخر لا شك أن من زاد بصلاح المال أرشد وأما من زاد بصلاح الدين مثاله وجد اثنان كل منهما
____________________
(2/45)
مصلح لدينه وماله وأحدهما مصلح لدينه أكثر من الآخر فهل نقول إنه أرشد أما على ما اخترناه أنه الأقرب فنعم وعلى الاحتمال لا لأن اسم الرشد خارج عن الصلاح فالصلاح في الدين وإن كان شرطا فيه فقد يجوز أن الرشد طبقات والناس فيه متفاوتون مصلح لماله فقط ومفضل عليه مصلح لدينه وماله مفضل عليه في الدين مفضل عليه في المال مفضل عليه فيهما مفضل عليه في الدين وهو مفضل عليه في المال عكسه فهذه ثمان مراتب اثنان منها في أصل الرشد وإن جمع في الأرشدية المطلقة وثنتان في الأرشدية من وجه وهما الأخيرتان والأربع المطلقة واحدة منها على مذهب أبي حنيفة وواحدة منها على ما اخترناه أنه الأقرب وثنتان متفق عليهما وقد رقمنا على الأول وعلى الأخيرتين وبقيت مرتبتان لم نتعرض لهما إحداهما الرشد في الدين فقط والثانية المفضل عليه
وإنما تركناهما لأن المسئول عنه النظر في الأوقاف ومن لا يصلح ماله لا يصلح مال غيره ولو كان الوقف مثلا مسجدا شرط واقفه أن يكون إمامه الأرشد من نسله احتمل عندي أن لا يجعل في المال هنا اعتبار بل الدين لأنه المقصود في الإمامة وهذا على ما قدمت أنه الأقرب وبذلك يتم أن الرشد عشر درجات
القاعدة الثالثة أنه قد لا يوجد في النسل رشيد أصلا فلا شك أنه لا نظر لهم وقد يوجد فيهم رشيد واحد فهل نقول لا نظر له لأن أفعل التفضيل تقتضي المشاركة والواحد ليس معه من يشاركه أو نقول له النظر لأن الظاهر أنه إنما يشترط التفضيل عند المشاركة فإن لم تحصل مشاركة اعتبرت الصفة الأصلية عمل الناس على الثاني
وفي الروضة عن فتاوى ابن الصلاح لو شرط النظر للأرشد من أولاده فأثبت كل واحد منهم أنه الأرشد اشتركوا في النظر من غير استقلال إذا وجدت الأهلية في جميعهم فإن وجدت في بعضهم اقتصر بذلك لأن البينات تعارضت في الأرشد وتساقطت وبقي أصل الرشد فصار كما لو قامت البينة برشد الجميع من غير تقييد وحكمه التشريك لعدم المرتبة وأما عدم الاستقلال فكما لو فرض لشخص مطلقا
قلت تساقطهما في الأرشد لا شك فيه والعمل بهما في إثبات الرشد لكل منهما فيه نظر لأنه إذا لم تقبل الشهادة في شيء كيف تقبل فيما يستلزمه وموضوع الشهادة الأرشدية والرشد إنما ثبت بطريق أن التفضيل يقتضي الشركة وزيادة والمشهود به إنما هو الزيادة وقوله لو قامت البينة برشد الجميع من غير تفضيل حكمه التشريك فيه نظر أيضا لأنه إذا كان الشرط للأرشد ولا أرشد كيف يستحق
فهذا الاستحقاق ليس بدلالة قول الواقف بل بعلة لما فهم منه من إناطة النظر بالرشد وتقديم الأرشد
____________________
(2/46)
على الرشد فإذا لم يحصل موجب التقديم ثبت الأرشد وهذا لائق بقواعدنا فإنا نعتمد الألفاظ ولو وجد رشيدان وليس هناك أرشد فهي كالمسألة المتقدمة ولو وجد رشيد أو اثنان أرشد واستويا فالظاهر بل أقطع بأنهما يشتركان لأنه ليس في اللفظ ما يوجب واللفظ عام وحينئذ يكون لكل منهما التصرف على الاجتماع والانفراد لاقتضاء العموم ذلك فإن أفضى الحال إلى منازعة أو فساد بمعارضة بتصرف كل منهما الآخر فالحاكم حينئذ ينظر بينهما ويعين واحدا منهما أو يحجر عليهما في الانفراد ومن الاختلاف بحسب ما يظهر له من المصلحة
القاعدة الرابعة إن من اعتبر في الرشد المال فقط لا يقدح عنده الفسق في اسم الأرشدية ومن يعتبر الدين يقول إنه يقدح على التفصيل الذي تقدم
القاعدة الخامسة إنه يشترط من جهة الشرع في الناظر عدم ما يخل بالنظر زيادة على ما شرطه الواقف
والفرق بين الناظر المنصوب من جهة الواقف والناظر المنصوب من جهة الشرع أن المنصوب من جهة الشارع يشترط فيه العدالة الباطنة إما بعلمه وإما بالبينة وأما المنصوب من جهة الوقف فشرطه من جهة الواقف ما شرطه وشرطه من جهة الشارع هل نقول العدالة الباطنة كما في الأول والعدالة في تصرف الأب لولده لم أر للفقهاء كلاما في ذلك والأقرب الثاني فإذا زالت العدالة الظاهرة بأن عرف منه فسق فعند من لا يجعله رشيدا صار غير متصف بشرط الواقف وعند من يجعله رشيدا كالفسق الطارئ كما يقوله أصحابنا أو المقارن كما يقوله الحنفية إن كان ذلك الفسق مخلا بالنظر فلا شك أنه قادح وقواعد الحنفية لا تبعد عندهم احتماله
القاعدة السادسة إذا حكم الحاكم لواحد بالنظر ممن ثبت عنده اتصافه بشرط الواقف وقد ثبت عنده عدالته الباطنة صح وأما إذا لم يثبت عنده إلا عدالته الظاهرة فهل له الحكم له بالنظر اعتمادا على شرط الواقف العدالة الباطنة لم أر في ذلك نقلا أيضا وأنا متردد فيه يحتمل أن يرجح الثاني لأن الذي يسبق إلى أذهان الناس في أحكام القضاة المبالغة في شرائطها ويحتمل أن يرجح الأول لأنه الشرط وكثير إذا باع الأب مال ولده وأثبت ذلك عند القاضي ولم يثبت عنده من عدالته الظاهرة هل يحكم بصحة البيع أو لا والظاهر أنه يحكم وإلا تتوقف أحوال كثير من الآباء
القاعدة السابعة أن النسل يشمل الذكور والإناث من أولاد الذكور ومن أولاد البنات هذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء
القاعدة الثامنة أنه لا يتقدم أولاد البنين على أولاد البنات بل من اتصف بالشرط استحق وإنما قلنا
____________________
(2/47)
لأنه قد يتوهم أن من يقول بدخول أولاد البنات يرجح عنه اجتماع أولاد البنين
القاعدة التاسعة أن الشهادة بالأرشدية من نسله تحتاج إلى أن يكون النسل معلومين محصورين حتى يكون المشهود له أرشد من باقيهم فمتى لم يكونوا معلومين ولا محصورين كيف يمكن الشاهد الجزم بذلك
القاعدة العاشرة مع العلم بهم هل يحتاج إلى حضورهم والدعوى عليهم وشهادة وجوههم لا يخلو إما أن تكون دعوى الشهود متعلقة بهم أو بغيرهم فإن كانت متعلقة بهم احتاج إلى حضور من يدعي عليه وإذا حصل الحكم عليه لا يتعدى إلى غيره وإن حصل على غيرهم فلا يتعدى إليهم
القاعدة الحادية عشرة قول القاضي ثبت أرشدية هذا وحكمت بهذا وأذنت له في النظر محمول على أنه استوفى الشروط ومن شرط الدعوى سماع البينة في وجه الخصم والخصم قد يكون أجنبيا لمطالبته له بأجرة ونحوها فلا يكون إثبات الأرشدية والنظر مقصودا لنفسه بل لغيره وهو إثبات الأجرة والمطالبة بها لئلا تتعطل الحقوق وقد يكون أحد النسل فيكون إثبات الأرشدية والنظر مقصودا لتقديمه على قرابته المشاركين في النسل
القاعدة الثانية عشرة إذا قامت بينة أخرى بالأرشدية لغيره يكون إذا جرت المنازعة بينهما فإن كان ذلك قبل الحكم والإثبات تعارضت البينتان ويحتمل أن يأتي فيهما وجهان أحدهما يتساقطان ولا يحكم لواحد منهما كما قال أصحابنا فيما إذا تعارضت بينتان في نجاسة أحد الإناءين فكل منهما أثبتت في واحد ونفت في الآخر وقلنا بالتساقط له أن يستعمل كلا منهما ولم يجعلوا لعين النجاسة في أحدهما والحالة هذه أثرا فكذلك هنا لا يثبت الرشد لواحد منهما ولك أن تسوي بينهما وتصير كما لو علم استواؤهما في الرشد لأن مضمون الشهادتين رشدهما والتعارض في الشهادة فتساقطا به ويبقى أجل الرشد وأما إذا كان بعد الحكم والثبوت فإن لم يطل الزمان وأرادت البينة الثانية معارضة الأولى فعلى ما سبق لأن عندنا لا فرق بين أن يكون التعارض بعد الحكم أو قبله وعند الحنفية لا أثر له بعد الحكم فيستمر الحكم على ما هو عليه وإن طال الزمان وأمكن صدقهما باعتبار الوقتين فهل نقول إنه يحكم بالثانية مع إطلاقهما ويحمل على ذلك إذ لا منافاة أو نقول لا بد من تصريحها بأن هذا أمر متجدد ولأن الأصل استمرار الأرشدية الثانية والحكم بها الذي يقتضيه المذهب أنه لا بد من ذلك
القاعدة الثالثة عشرة إن حكم الحاكم بذلك لبعض أولاد البنات هل يقول أحد حكم بإدخال أولاد البنات في النسل يحتمل أن يقال بذلك لأنه
____________________
(2/48)
لولا دخولهم لما حكم لهم ويحتمل أن يقال لا لأنه لا فرق عنده بين أولاد الذكور وأولاد الإناث فأورد الحكم في محل اشتراط النظر على ذلك وحاصله أن المحكوم به هو النظر لا دخول هذا الشخص فإن قيل يلزم من الحكم بالنظر لشخص دخوله
قلنا اللازم دخوله أو اعتقاد دخوله والحكم بدخوله الأول والثاني مسلمان ولا يحصل منهما المقصود والثالث ممنوع
القاعدة الرابعة عشرة إذا ثبت أن هذا الذي حكم له الحنفي مرتكب فسقا مقارنا الحكم أو طارئا بعده وذلك الفسق لا يقدح في الأرشدية على مذهب الحاكم المذكور ولكنه يقدح في النظر فهل يقدح في الحكم إذا كان مقارنا له ويرفعه إذا طرأ عليه أو لا الظاهر الأول من جهة اشتراطه في النظر
القاعدة الخامسة عشرة إذا كان الأرشد فاسقا على مذهب أبي حنيفة أو على مذهب الشافعي إذا كان الفسق طارئا فهل ينتقل النظر إلى من بعده لأنه ليس بأهل أن يقوم الحاكم مقامه لأنه متصف بالصفة التي شرطها الواقف وإنما امتنع من جهة الشرع فيه نظر ووجه هذا البحث قول الفقهاء إن الغيبة في النكاح لا تنقل الولاية إلى الأبعد بل يزوج الحاكم والصبي والفسق والسفه ونحوها تنقل إلى الأبعد وذلك لأن هذه سالبة الأهلية دون الأولى ووجه الشبه أن الأهلية للنظر بالنسبة إلى الشرع ليست للفاسق وبالنسبة إلى شرط الواقف حاصلة بوصف الأرشدية فهل نقول إن بحصول الصفة المقصودة للواقف هو كالأهل لكن تعدت مباشرته لشرط الشرع فيقوم الحاكم مقامه أولا فينتقل لمن شرطه الواقف بعده وقد يكون غيره وغير الحاكم فيه النظر الذي ذكرناه
خاتمة قد عرف مما ذكرناه من القواعد أكثر ما يحتاج إليه في هذه المسألة وقد شرط واقفه النظر لأرشد النسل ثم لأرشد أهل الوقف ثم لإمام الجامع ثم الحاكم وشرط الترتيب في استحقاق الوقف بين البطون ولم أره شرط الترتيب فيهم في النظر فمقتضاه أن الأعلى لا يحجب الأسفل في النظر بل إذا كان الأسفل أرشد قدم على الأعلى الذي ليس بأرشد ومقتضاه أنه لا يشترط أن يكون من أهل الوقف لأنه جعل بعدهم وقد تكلم في الناظر من جهة أنه والي ولاية شرطه ويعتمد فيها ما يعتمده أكثر الولاة ولكنه حسن التصرف في الأمور الدنيوية وينمي الوقف ويميزه وعندي وقفة في أمره من جهة إذا دار الأمر بين من هذا شأنه وبين ضعيف غير مثمر للوقف
____________________
(2/49)
وأحسن ديانة منه ويعز وجود من هو جامع الوصفين الديانة والنظر الجيد والله أعلم ومما نثبته له أنه لا بد من النظر في محل حكم الحاكم وقصده حتى يجعل حكمه في المحل المختلف فيه مانعا من الحكم بغيره وهو أمر مهم وتحقيقه صعب والله أعلم
كتب في ذي القعدة سنة ست وأربعين انتهى
مسألة وقف سيف الدين محمد بن نميرك الخليفتي أمير الحاج على أولاده ثم على أولاد أولادهم ثم على أولاد أولاد أولادهم ونسلهم وعقبهم وإن سفل على أنه يصرف إليهم هذا الوقف على ما تقتضيه الفريضة الشرعية في المواريث لو كان الموقوف موروثا فمن مات من أولاده وأولاد أولاده ونسلهم وعقبهم وإن سفل عن ولد أو عن نسل وعقب وإن سفل كان نصيب الميت مصروفا إلى أولاده ونسله وعقبه وإن سفل على ما تقتضيه الفريضة الشرعية ومن مات من أولاده وأولاد أولاده ونسلهم وعقبهم وإن سفل عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب وإن سفل كان نصيب الميت مصروفا إلى من يوجد من أولاد هذا الواقف ونسله وعقبه وإن سفل على ما تقتضيه الفريضة الشرعية في الميراث فماتت جاهان خاتون بنت محمد بن عثمان ابن الواقف ولها حصة من ريع الوقف وخلفت بنتا تسمى طبخاتون ليس لها ولد غيرها وللبنت المذكورة ابن يسمى فما الحكم في ذلك الجواب ينتقل نصيب جدته بينه وبين أمه عملا بقول الواقف إنه من مات عن ولد أو نسل كان نصيب الميت مصروفا إلى أولاده ونسله على ما تقتضيه الفريضة الشرعية فالنصف للبنت لأن المال لو كان موروثا كان لها منه النصف والنصف الباقي لابنها لأنه من النسل وقد قال ونسله فيقدر ابن البنت المذكور كأنه ابن الميتة فيأخذ كل ما بقي بعد البنت وهو الحاصل ويتلقاه عن الميتة كما تتلقى أمه النصف عنها وكأنه وقفان والله أعلم انتهى
مسألة من حلب في مستهل ربيع الأول سنة سبع وأربعين وقف على عبد الرحمن ثم أولاده للذكر مثل حظ الأنثيين من توفي عن ولد وإن سفل فنصيبه له ومن توفي عن غير ولد وإن سفل فنصيبه لإخوته وأخواته للأب للذكر مثل حظ الأنثيين وعلى أنه من توفي منهم في حياة والده وكان له ولد ثم مات الأب عن أولاده وولد ولده الذي مات أبوه كان نصيب الأعلى لأولاده وولد ولده فيكون له ما كان لأبيه لو كان حيا ومن مات عن غير نسل ولا إخوة ولا أخوات فنصيبه لباقي أهل الوقف الأقرب إلى المتوفى وكذا الشرط في أولاد أولاد الموقوف عليه أولا ومن يتلوهم من البطون وأما أولاد البنات من أولاد الموقوف
____________________
(2/50)
عليه أولا بالتعصيب كان نصيبه عائدا إليه وإن لم يكن ينسب إلى الموقوف عليه أولا بالتعصيب كان النصف من نصيبه عائدا إلى أولاده والنصف الآخر إلى الباقين من أهل صدقة الوقف الأقرب فالأقرب إلى المتوفى فإن لم يكن للمتوفى من أولاد البنات ولد وإن سفل وليس له إخوة وأخوات منتسبين بالتعصيب فنصيبه إلى الباقين من أهل الوقف المنتسبين بالتعصيب وكذلك الشرط في أولاد أولاد الموقوف عليه ومن يتلوهم من سائر البطون والشرط في كل بطن يوجد بالشرط في البطن الأول فمات عبد الرحمن عن أربعة بنين عبد المؤمن ومحمد وأحمد وعبد العزيز وبنتين هما زينب وزاهدة ثم مات محمد وعبد العزيز عن ولد ونسل ثم مات عبد المؤمن عن بنت تدعى مؤنسة ثم ماتت مؤنسة عن ابن يدعى محمد لا ينتسب إلى الموقوف عليه بتعصيب هل يستحق نصيب أمه أم يشاركه الموجودون من أولاد الموقوف عليه أو لا أفتونا
الجواب في مستهل ربيع الأول سنة تسع وأربعين يستحق محمد بن مؤنسة بنت عبد المؤمن بن عبد الرحمن الموقوف عليه أولا نصيب والدته بكماله عملا بقول الواقف في أولاد عبد الرحمن الذين هم عبد المؤمن إلى مؤنسة وقوله بعد ذلك وكذلك الشرط في أولاد أولاد الموقوف عليه أولا فقوله منهم فينتقل نصيبها لولدها وأما تقسيمه بعد ذلك إلى نسب التعصيب وغيره فهو تقسيم في أولاد بنات عبد الرحمن وهم الطبقة الثالثة والبطن الأول يستحقون كلهم والثاني كذلك ابنا كان أو بنتا أو ابن بنت أو بنت ابن والبطن الثالث يستحق ابن ابن الابن وبنت ابن الابن وابن ابن البنت ولا تستحق بنت بنت الابن ولا بنت ابن البنت ولا ابن بنت الابن إلا بالشرط المذكور وكأن الطبقة لما بعدت حجب بعضها ببعض وحكم الطبقة الرابعة وما بعدها حكم الثالثة لقول الواقف وكذلك الشرط في أولاد أولاد أولاد الموقوف عليه فلا يستحق ابن ابن بنت الابن ولا بنت ابن بنت الابن إلا على الشرط المذكور وأما قول الواقف بعد ذلك والشرط في كل بطن يوجد كالشرط في البطن الأول فمحمول على أن للذكر مثل حظ الأنثيين وغيره مما نص عليه في البطن الأول ولم يذكر فيه التقسيم المذكور ولا يأتي فيه
والحامل لنا على ما أفتينا به قوله كل من توفي منهم ولم يقل منهن فجعل المتوفى ولد البنت ثم قسم ولده إلى عاصب وغيره وكذلك قوله بعد ذلك فإن لم يكن المتوفى من أولاد البنات
ما قال من البنات وينبغي لك أن تثبت في تصوير المسألة وفهمها
____________________
(2/51)
والله أعلم
كتبه علي السبكي الشافعي انتهى
مسألة فقهاء الشامية الجوانية وقفت على الفقهاء والمتفقهة الشافعية المشتغلين بها وعلى المدرس بها فلان ونسله فإن لم يوجد فيهم أهلية فعلى المدرس الشافعي بها والباقي من الأملاك على مصالح المدرسة وعلى الفقهاء والمتفقهة المشتغلين وعلى المدرس فلان أو من يوجد من نسله ممن له أهلية التدريس وعلى الإمام والمؤذن والقيم يبدأ بعمارة المدرسة وثمن زيت ومصابيح وحصر وبسط وقناديل وشمع وما تدعو الحاجة إليه وما فضل كان مصروفا إلى المدرس الشافعي وإلى الفقهاء والمتفقهة وإلى المؤذن والقيم فالذي هو مصروف إلى المدرس في كل شهر حنطة غرارة وشعير غرارة وفضة ما حملها ناصرية والباقي مصروف إلى الفقهاء والمتفقهة والمؤذن والقيم على قدر استحقاقهم على ما يراه الناظر في أمر هذا الوقف من تسوية وتفضيل وزيادة ونقصان وعطاء وحرمان بعد إخراج العشر وصرفه إلى الناظر وبعد إخراج خمسمائة ناصرية في كل سنة لمشمش وبطيخ وحلوى في ليلة نصف شعبان
ومن شرط الفقهاء والمتفقهة والمؤذن والقيم أن يكونوا من أهل الخير والدين والصلاح والعفاف وحسن الطريقة وسلامة الاعتقاد والسنة والجماعة من جملتهم المعيد بها والإمام وذلك عن المدرس والمؤذن والقيم إلا أن يوجد في ارتفاع الوقف نماء وزيادة وسعة فللناظر في أمر هذا الوقف أن يقيم بهذه المدرسة من الفقهاء والمتفقهة الشفعوية المشتغلين بقدر ما زاد ونما في ارتفاع الوقف وكذا إذا نقص ارتفاع الوقف فللناظر فيه أن ينقص من الفقهاء والمتفقهة بهذه المدرسة أكثر من أربع سنين إلا أن يوجد منه نفع للطلبة ويتميز عن غيره من الفقهاء والمتفقهة بها فإن له المقام بهذه المدرسة والاشتغال بها
انتهى ما أردت نقله من كتاب الوقف فلنتكلم عليه مسألة مسألة إن شاء الله تعالى المسألة الأولى في المدرس فإن كان المعين أو أحد من نسله أهلا فله ما شرطه الواقف في المدرسة والأماكن من المعلوم وإن لم يكن المعين ولا أحد من نسله فالمدرس الذي ليس منهم له ما شرطه الواقف في المدرسة وأما الأماكن فلم أر الواقف صرح به فيها كما صرح به في المدرسة بل ذكر الذين وقف الأماكن عليهم ولم يذكره فيهم ويقوى احتمال أنه ذكره سيانا بأن الظاهر أن المدرسة لا بد لها من مدرس بمعلوم ويحتمل على بعد أن يراد أنه إذا انقطع التدريس من نسل المعين لا يصرف المعلوم لغيرهم وتبقى مدرسة للفقهاء ومن عساه يدرس منهم أو من غيرهم بلا معلوم أو بمعلوم يجعل
____________________
(2/52)
له من غير هذا الوقف وأما المقدر المعين من المعلوم لهذا المدرس المعين فلا يصرف لغيره بل إما أن يكون منقطع الآخر فيصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف أو يرد إلى الفقهاء والأقرب نجعله منقطع الآخر وأما رده إلى الفقهاء فبعيد وأما صرفه لمدرس آخر من غير نسل المعين فهو المتبادر إلى الفهم من جعلها مدرسة ومن إطلاق المدرس الشافعي في المعلوم المصروف له لكنه لا دليل في اللفظ عليه وإطلاقه حيث ذكر المعلوم إنما هو في تقسيم ما أجمله أولا وهو الوقف للأماكن على المعين والفقهاء فيما بعده تقسيم لما يدخل فيه غير المعين ونحن في الأوقاف إنما نحكم بما دل اللفظ عليه فلا يسمع الحاكم الحكم بالصرف لغير المعين ونسله حينئذ لأنه يكون بغير دليل من لفظ الواقف وإنما ذكر الواقف أن غير النسل من المعين يقوم مقامه عند عدمه في المدرسة لا في الأماكن الموقوفة عليها فهذا ما عندي في ذلك وطريق الورع للمدرس أن لا يتناول من هذه الأماكن شيئا وإذا أراد أن يدرس احتسابا لله تعالى بهذه المدرسة فله ذلك والسكن بها والإقامة فإنه أحد من وقفت عليه أما وقفها فلا وكون هذا ورعا لا شك فيه وجواز أخذه له عندي فيه نظر لتعارض الذي يظهر من المقصود مع سكوت الواقف وأما حكم القاضي له به فلا أدري له وجها
المسألة الثانية في الفقهاء والمتفقهة قبل نماء الوقف وزيادته
واعلم أن الفقهاء والمتفقهة جهة وهم لا ينحصرون فالوقف عليهم كالوقف على الجهات العامة وقد زاد فيهم هنا وصف كونهم مشتغلين بهذه المدرسة وهو لا يخرجهم عن الجهة العامة أيضا فإن الاشتغال فيها وصف عام ما من فقيه أو متفقه إلا ويمكن أن يأتي إليها ويشتغل بها فهو حينئذ وقف على جهة بصيغة الجمع وأقله هنا ستة ثلاثة من الفقهاء وثلاثة من المتفقهة فإن وجد من المشتغلين بالمدرسة ثلاثة من هؤلاء وثلاثة من هؤلاء صرف الناظر معلوم الطائفتين إليهم النصف لهؤلاء والنصف لهؤلاء وليس له حينئذ أن ينقص عن الستة ولا أن ينقص كل ثلاثة عن النصف وله أن يقارب بين الأفراد الثلاثة فيقسم النصف بين الثلاثة على ما يراه وليس عليه أن يزيد على الستة ولا له أن يصرف لغير المشتغلين بها
وإن وجد بها أقل من ستة صرف ذلك إليهم أيضا كما لو لم يوجد من مستحقي الزكاة إلا اثنان أو واحد صرف إليه وإن وجد من المشتغلين بالمدرسة أكثر من ستة ثلاثة من هؤلاء وثلاثة من هؤلاء فإن انحصروا وجب الصرف إلى الجميع ما لم يزيدوا على العشرين أما وجوب الصرف إلى الجميع إذا لم يزيدوا على العشرين فكأصناف
____________________
(2/53)
الزكاة إذا انحصروا يجب استيعابهم وأما امتناع الصرف الزائد على العشرين فلما قاله الواقف وهل نقول إذا زادوا على العشرين يمتنع الصرف للزائد فقط أو إلى الجميع يحتمل أن يقال بالأول وهو السابق إلى الفهم في العرف لا من جهة وهذا أضعف الاحتمالين ويحتمل أن يقال بالثاني لأنه جعله شرطا فيهم فلا يستحقون إلا به ويكون مقصوده بذلك الرفق بهم وقلة الشغب والغلط بينهم ليكثر اشتغالهم وفائدتهم وإن اشتغل بها جماعة لا ينحصرون من الفقهاء والمتفقهة والحالة فالصرف إلى الزائد على العشرين ممتنع والصرف إلى ستة على الاحتمالين المذكورين والصرف إلى أربعة عشر رجلا وهم الستة إلى تمام العشرين إذا جوزنا الصرف إلى العشرين في الحالة موكول إلى رأي الناظر كالصرف إلى أكثر من ثلاثة من الفقراء إذا لم ينحصروا من الزكاة والأوقاف وإنما حملنا وقف على الفقهاء والمتفقهة الذين لا ينحصرون وشرط أن لا يزيدوا على العشرين وينبغي أن يفهم الفرق بين قولنا شرط أن يكونوا عشرين أو وقف على عشرين وبين قولنا وقف على جهة عامة وشرط أن لا يزيدوا على عشرين والفرق بينهما ظاهر ليس بالخفي هذا كله قبل نماء الوقف وزيادته وعندي بعض توقف فيما قدمته من وجوب التسوية بين صنفي الفقهاء والمتفقهة لأن الواقف شرط أن يصرف على قدر استحقاقهم فقد يقال الفقيه أكثر استحقاقا من المتفقه
فإذا استوى أفراد كل صنف وسوى بين الصنفين ألزم التسوية بين الفقيه والمتفقه وهما مختلفان في قدر الاستحقاق ولكني لم آلو على هذا الاحتمال لأن الله تعالى جعل الصدقات للفقراء والمساكين وبقية أصناف الآية الكريمة وسوينا بين الفقراء والمساكين مع أن أحدهما أكثر حاجة من الآخر وعليه الاستحقاق مختلفة فلا نجزم بأن استحقاقه أكثر من استحقاق المتفقة فالأولى التسوية بين الصنفين وأن تفويض الصرف على قدر الاستحقاق إنما هو في الأفراد لا في الأصناف كالزكاة
وعلى هذا يجب أن يكون المصروف في هذه المدرسة إلى هذا الجنس مقسوما نصفين بين النوعين أعني الفقهاء والمتفقهة ولم أر في هذه المدرسة ولا في غيرها يجعل النظار بالهم من ذلك بل ينزلون من غير نظر في ذلك وكأنهم يرون النوعين شيئا واحدا وعطف أحدهما على الآخر من باب اختلاف اللفظ فتارة يكونون كلهم متفقهة وتارة يكونون كلهم فقهاء وتارة يجتمعون مستويين وتارة متفاوتين ولكن الذي يقتضيه الفقه ما قدمناه أن الناظر في لك
المسألة الثالثة قوله على قدر استحقاقهم قد عرفت أنه عائد إلى الأفراد وزيادة الاستحقاق تكون إما
____________________
(2/54)
لزيادة فقه وإما لحاجة وإما لعائلة وإما لدين وإما تقدم هجرة وإما لغير ذلك بأسباب لا تحصى وعلى الناظر أن ينظر في ذلك كله ويرجح من يستحق الترجيح لا بالتشهي ولا بالغرض بل يقصد الحق ومعرفة الأوصاف المقتضية للترجيح وإن أشكل عليه شيء من ذلك راجع غيره ممن هو أعلم منه وأفضل لا يحل له غير ذلك وقوله على ما يراه الناظر بعد قوله على قدر استحقاقهم
يبين أن المراد على ما يراه الناظر في مقادير استحقاقهم فلا بد أن يعرف الاستحقاق وأسبابه ومقداره في كل واحد ويوازن بينهم ويرجح بمقتضى العدل والإنصاف لا بمقتضى الغرض والإجحاف فإن ذلك حرام عليه ومتى فعله كان متصرفا في مال الوقف بغير إذن الواقف ولا الشرع فيضمنه ولمستحقه مطالبته به في الدنيا وتضمينه منه وإن لم يؤخذ منه في الدنيا أخذ منه في الآخرة ولو كان الواقف قال على ما يراه الناظر ولم يقل على قدر استحقاقهم ربما كان يقال إن الواقف جعل للناظر أن يختار ما شاء فلما قال ذلك بعد قوله على قدر استحقاقهم علمنا أنه لم يجعل للناظر أن يختار إلا ما هو قدر الاستحقاق فإن عرفه وجب عليه العمل بحسبه وإن لم يعرفه راجع من هو أعلم وعمل بحسبه وإن لم يعلم توقف حتى يعلم
المسألة الرابعة قوله المشتغلين بها يقتضي أنه أي اشتغال كان بالعلم إذا كان الرجل فقيها أو متفقها فلا يشترط قدر في الاشتغال ولا نوع في العلم الذي يشتغل به ولا إقامة في المدرسة بل لو اشتغل لحظة واحدة بها ولو في وقت الدرس كفى في صدق هذا الاسم ولا يكفي حضور الدرس من غير اشتغال ولو كان ذلك الرجل فقيها لأنه لا بد من وصف الاشتغال بها ولا بد أن يكون في أوقات بحيث يصدق أنه مشتغل بها
المسألة الخامسة الإقامة بها والسكنى ليست بشرط لكن لكل فقيه أو متفقه الإقامة بها والسكنى لأن الواقف وقفها عليهم وليس لمن ليس بفقيه ولا متفقه السكنى بها ولا الإقامة لأنها موقوفة على غيره وهكذا المدرس الشافعي سواء أكان المعين أم نسله أم غيرهم عند عدمهم أو عند عدم أهليهم له الإقامة بها والسكنى وكذلك المؤذن والقيم غير الفقهاء
المسألة السادسة قوله وحرمان معمول به إذا كان المذكورون غير محصورين فإن له أن يحرم بعضهم وكذلك إذا كانوا محصورين حيث يحرم من زاد على العشرين وجوبا ومن زاد على الستة جوازا على ما قدمناه حيث لا يكونون محصورين
المسألة السابعة المعيد واحد
____________________
(2/55)
من الفقهاء كما صرح به الواقف وليس من المتفقهة لأنه أرفع رتبة
وأذكر هنا شيئا ذكرته الآن لم أذكره فيما تقدم وهو أن المتفقه قد يراد به المبتدئ فيكون قسيم الفقيه وعليه بنينا الكلام المتقدم وأنهم يكونون صنفين وقد يراد به كل من يتعاطى الفقه ألا ترى إلى قول الشيخ أبي حامد لما تفقهنا متنا فالفقه بحر لا ساحل له وما من فقيه في هذا الزمان وما قاربه إلا وتعرض له مسائل يشيب منها ويصدق عليه أنه يتفقه فبهذا الاصطلاح يكون عطف المتفقه على الفقهاء ليس من عطف المغايرة في المعنى بل في اللفظ وحينئذ يكفي ثلاثة ولا يجب أن يكونوا ستة ويجب على الناظر أن يفضل المعيد بقدر استحقاقه واستحقاقه بالأوصاف المتقدمة وبكونه يشغل الطلبة وينفعهم فإن فضل على كل من سواه زاده على كل من سواه وإلا فلا يزيده إلا بقدر استحقاقه حتى لو فرضنا أحدا من الفقهاء غير المعيد أكثر استحقاقا من المعيد وجب تفضيله على المعيد ولا يجوز للمعيد أن يأخذ حيث لا يأخذ الفقهاء والمتفقهة إلا بوصف يزيد به عليهم ويكون الناظر قد رأى ذلك لما ثبت عنده من قدر استحقاقه إما اجتهادا منه وإما تقليدا لمن هو عالم بذلك موثوق به ومتى لم يفعل ذلك كان حراما على كل منهما
المسألة الثامنة قوله وأن لا يقيم أحدا من الفقهاء والمتفقهة بهذه المدرسة أكثر من أربع سنين إلى آخره
يحتمل أن يريد بالإقامة كونه مشتغلا بها وقت الدرس منزلا بها فيقطع بعد المدة إذا لم يكن ينتفع وهذا الذي فهمه كثير من الناس ويحتمل أن يريد بالإقامة السكنى لأنها بمعناها في اللغة والشرع فعلى هذا من يشتغل بها وليس مقيما فيها لا يجب إخراجه بعد أربع سنين ولا يكون هذا الشرط عائدا إلى المعلوم الذي ذكره في وقف الأماكن بل الذي ذكره في وقف المدرسة نفسها عليهم وهذان الاحتمالان متقاربان فلذلك لا أقدم على قطع أحد من المنزلين بها لأجل هذا الاحتمال الثاني وهو قوي وكذلك لا أقدم على تنزيل أحد فيها ممن كان يقدم له تنزيل أربع سنين وخرج منها ولا أقدم على إعادته إليها ولا إلى تنزيله فيها لأجل الاحتمال الأول تمسكا باليقين وطرحا للمشكوك فيه ومما يؤيد ما أوردته من الاحتمال الثاني قول الواقف بعد ذلك فإن له المقام بهذه المدرسة والاشتغال بها فغاير بين المقام والاشتغال ولا يرد على هذا قوله فيما تقدم فيما إذا وجدت زيادة أن للناظر أن يقيم من الفقهاء لأن الإقامة المذكورة في الناظر متعدية في الفقهاء لازمة فهما معنيان مختلفان
المسألة التاسعة
____________________
(2/56)
إذا وجد في ارتفاع الوقف نماء وزيادة وسعة فإن للناظر أن يزيد كما قال الواقف وليس ذلك واجبا عليه فله أن يزيد وله أن يبقي الأمر على ما هو عليه ويصرف الزائد إلى من كان يصرف له قبل ذلك مضموما إلى الأصل
المسألة العاشرة إذا زاد فهل الزائدون كمن عينهم الواقف حتى لا يجوز للناظر قطعهم أو لا فيجوز والحق الثاني لأن الواقف لم ينظر إلى عدد وإنما نظر إلى الجهة وحجر على الناظر في الزيادة على العشرين عند عدم زيادة الوقف فإذا زاد الوقف زال الحجر وزيادته عددا يصرفه إليه فله أن يصرف إلى القليل والكثير لأن الموقوف عليه الجهة العامة والعدد غير منظور لا أولا ولا آخرا
المسألة الحادية عشرة قوله يقدر ما زاد معناه أن الزائد يجعله للزائدين الذين كان ممنوعا منهم قبل ذلك ولا ينحصرون في عدد سواء أكان ما زاد قدر الأول أو دونه أو أكثر فله أن ينزل عليه ما شاء من العدد بحيث يكون بعد أن ما كان يحصل للعشرين قبل الزيادة مستمرا لا ينقص عليهم وإنما قلت هذه العبارة حتى لا يضيق على الناظر أن يقرر ما زاد بالزائدين والأصل بالعشرين فإن سفه عليهم وليس في لفظ الواقف ما يقتضيه بل له أن يجعل الجميع وقفا واحدا
مثاله كان الأصل مائة والزائد مائة فله خلطها ويصرف مائة للعشرين الأصلية ومائة لمن زاده عشرين أو أقل أو أكثر
وإنما قلنا ذلك لأن الواقف لم يعين معلوم الفقهاء ولا ذكر لأحد منهم قدرا معلوما بل جميع الفاضل لهم وللمؤذن والقيم على ما يراه الناظر وإذا زاد جعل للناظر أن يزيد فيهم فيجعلهم أكثر من العشرين ويكون بقدر الزائد مع كون الجميع وقفا واحدا منه قدر الزائد للزائدين سواء أكان من الأصل أم من الزيادة والباقي للأصليين ويحتمل أن يقال إذا زاد بقدره يحصل الجميع للجميع وإن نقص يعالهم الأولين عما كان لكنه بعيد والأولى المحافظة على أنه لا ينقص معلوم عشرين عن الذي كان في أصل الوقف
المسألة الثانية عشرة أجرة الناظر والكلف اللاحقة للوقف الأول والقيم والمؤذن وثمن المشمش والبطيخ وعمارة المدرسة ومصالحها وعمارة الأماكن الموقوفة في الأول كلها من الأصل يختص به نصيب العشرين والذي زاد جميعه يختص به الزائدون إلا إن كان وقفا آخر واحتاج إلى عمارة أو كلف مختصة به فيخرج منه وما عدا ذلك لا يصرف منه إلى العشرين شيء
المسألة الثالثة عشرة الواقع أن الوقف نما وزاد واتسع فجازت الزيادة قطعا
المسألة الرابعة عشرة معرفة قدر الوقف في زمن الواقفة وتمييزه عن الزيادة على التحرير مأنوس منه فهل نقول إذا شككنا في الزائد هل
____________________
(2/57)
هو بقدر الزيادة أو زائد عليها محرم لأن الأصل المنع أو يجوز لأنه جوز الزيادة وشككنا في المنع فيه احتمالان والأظهر الجواز
المسألة الخامسة عشرة إذا جاز التنزيل بلا ضابط له إلا ما يقتضيه رأي الناظر بحسب ما يراه مصلحة وأكثر أجرا للواقف فقد يأتي شخص فقيه جيد فقير لا يجد ملجأ فيكون تنزيله أكثر أجرا وأولى من كثير من المنزلين وإن نقص من معلومهم بسببه شيء يسير فمن يقول بأن تنزيل مثل هذا لا يجوز لم يلتفت إليه وقد يأتي شخص فيه غنى ولا فضيلة طائلة وليس فيه نفع الطلبة فتنزيل مثل هذا لا مصلحة فيه فينبغي للناظر الإعراض عنه ولا أستطيع أقول إن تنزيله حرام لأنه لا لفظ من الوقف ولا دليل من الشرع يمنع منه ولا يجب صرف تلك المعاليم إلى الأولين من غير نقص
المسألة السابعة عشرة ترتيب الفقهاء على طبقات ثلاث كما هو في هذه المدرسة وغيرها إن كان بشرط الواقف كما في الشامية البرانية فهو متبع وإن لم يكن بشرط الواقف كما في هذه المدرسة فالأقرب أنه لا يجوز الحصر فيه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ننزل الناس منازلهم فإذا كان فقيه في طبقة عشرين وفقيه في طبقة ثلاثين وفقيه بينهما فوق الأول ودون الثاني إلحاقه بأحدهما تنزيل له في غير منزلته فهو مخالف الحديث فيجب أن يجعل بينهما إذ هي منزلته فمنازل الفقهاء من أقل الأجزاء إلى أكثرها وعلى الناظر الاجتهاد في ذلك
المسألة الثامنة عشرة لا يجب على الناظر أن يعين لكل فقيه معلوما بالدراهم أو غيرها بقدر معلوم لأنه قد يجيء المغل أقل من معلوم الجميع أو أكثر والواقف لم يعين قدرا فإن تركه الناظر لذلك ونزل جملة وجاء وقت المغل وقسمه على قدر استحقاقهم وذلك يختلف بحسب كل سنة فهذا هو أقرب إلى الصواب وإن عين لكل منهم قدرا على حسب استحقاقه فإن جاء الريع أقل قسمه بينهم على تلك النسبة وإن جاء أكثر رد الزائد عليهم على تلك النسبة أو نزل عليها غيرهم على ما يراه
التاسعة عشرة أخبرني الناظر أن الشيخ علاء الدين القونوي قاضي القضاة الشافعي في ذلك الوقت في سنة سبع وعشرين وسبعمائة لما اجتمعوا في أيام المرحوم تنكز كان رأي الشيخ علاء الدين أن يكونوا مائة وأن تكون طبقاتهم كطبقات الشامية البرانية وهذا الذي رآه حسن أولى مما هي الآن عليه لأن المدرستين منسوبتان إلى واحدة والبرانية متقدمة فيغلب على الظن أنها لما أطلقت في الجوانية أرادت ذلك وإذا كانت طبقاتهم كطبقات البرانية وكانوا مائة كان الوقف يكفيهم في غالب السنين في السعر المعتدل وقد قدمت أنا ما في الطبقات الثلاث فأنا أوافقه في كونهم
____________________
(2/58)
مائة أو أكثر ولا أوافقه في حصر الطبقات في ثلاث
المسألة العشرون شاع في الشام جعل شخص نائب الفقهاء ويأخذ معلومه عن النيابة من غير مال الفقهاء وهذا إن كان الفقهاء يأخذون معلومهم كاملا كما في الشامية البرانية فهو حرام لأن النائب وكيل وأجرة الوكيل على الموكل لا على غيره فإخراجها من الوقف الذي لا حق فيه للفقهاء بعد أخذ معلومهم لا يجوز وقد قدرت الواقفة للفقهاء معلوما فلا تجوز الزيادة عليه وأما الشامية الجوانية فلم تقدر للفقهاء معلوما والناظر قد عين فإن جعل جامكية نائب الفقهاء زيادة في معلوم الفقهاء ورضوا هم بدفعها لنائبهم أجرة جاز ويقدر كأنهم قبضوها ودفعوها إليه فهذه ثلاثة شروط في حل تناول نائب الفقهاء الأجرة أحدها تقرير الناظر نظيرها للفقهاء زيادة على المعلوم المقرر لهم والثاني رضاهم بذلك ويدفعها إلى النائب والثالث تقرير قبضهم وهذا عندي فيه نظر هل يكفي تقدير القبض أو لا بد من قبض حقيقي حتى يدخل في ملكهم ثم يصرفونه لهم وبدون هذه الشروط الثلاثة لا يجوز إلا أن يقال إنه نائب عن الجهة العامة لأن الوقف في هذه المدرسة على فقهاء غير محصورين والحصر إنما جاء عارضا بعد التعيين والاستحقاق فهو في أصل الوقف على العموم والحاكم يعينه نائبا عن الجهة كالعامل في الزكاة ويكون الناظر بمنزلة المالك في الزكاة فيستحق حينئذ النائب جزءا من المال الذي يستحقه الفقهاء ولا يجب ولا وصول ذلك المال إليهم بل يأخذه بتقدير الحاكم كما يأخذ العامل في الزكاة نصيبه ويكون للفقهاء الباقي كما لبقية الأصناف باقي الزكاة ولا يضر انحصارهم بحسب الواقع كما إذا انحصر الفقهاء فإن العامل يأخذ نصيبه بغير إذنهم هذا نهاية ما يمكن في تحرير ذلك وهو مندفع لأن العامل نائب الشرع والزكاة مدفوعة للشرع لا للأصناف بخلاف الفقهاء وقد يتوهم أن نائب الفقهاء معين للناظر أو مخاصم له لكن هذا إنما يكون عند ضعف الناظر أو خلل فيه يقتضي ضم مشرف إليه وحينئذ لا يكون نائب الفقهاء ونحن إنما نتكلم على نائب الفقهاء وحيث يكون الناظر سالما عن القدح والضعف والإبدال شيء آخر والله أعلم
كتب يوم الأحد مستهل جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وسبعمائة انتهى
فتوى من حلب في صفر سنة ثمان وأربعين وسبعمائة رجل وقف مدرسة وشرط نظرها لثلاثة على الترتيب ثم إلى بني أبيهم ثم إلى بني والد أبيهم ونسلهم وعقبهم لا يخرج النظر عنهم ما دام فيهم من يصلح له وكذلك التدريس لا يعدل به إلى سواهم وإن كان فيهم من يصلح للنظر
____________________
(2/59)
والتدريس فوض النظر والتدريس إليه ولكل من آل إليه النظر تفويض ذلك إلى الأرشد الأصلح ممن ذكر واحدا بعد واحد فإن لم يكن فيهم من يصلح لشيء من ذلك كان لمن يصلح من نسل زيد ومتى عاد ونشأ لهم من يصلح للنظر والتدريس أعيد إليه وليس لأحد
____________________
(2/60)
مشاركة من يئول إليه النظر والتدريس بل ينفرد به ولا يعدل به إلى سواه وشرط أن المدرس هو الذي يعينه الناظر فآل النظر إلى شخص منهم وفيهم جماعة يصلحون للوظيفتين فعين شخصا منهم للتدريس واستمر يباشر النظر ويفيد التدريس ثم توفي الناظر مع وجود المدرس والجماعة الصالحين للنظر والتدريس فهل ينفرد المدرس بالنظر أو يشاركه الجماعة المذكورون وهل للناظر أن يسند النظر إلى غير المدرس الجواب الحمد لله ينبغي أن يحضر كتاب الوقف فقد يكون فيه ما يرشد إلى المراد وأما هذا الذي نقل منه وحده ففيه تدافع في موضع الاستفتاء فلنتكلم على شرح الجميع
أما شرطه النظر لثلاثة على الترتيب فلا إشكال فيه يستحقونه على الترتيب ثم بعد انقراضهم يستحقه بنو أبيهم ثم بنو والد أبيهم ونسلهم وعقبهم وظاهر اللفظ في هاتين الطبقتين أنه لا ينفرد به واحد من الطبقة بل إذا كان فيهم جماعة صالحون للنظر اشتركوا فيه هكذا في بني الأب حتى ينقرضوا ثم في بني ولد الأب ونسلهم حتى ينقرضوا ويدخل فيه أولاد البنات وكذلك حكم التدريس هذا ظاهر اللفظ في الوظيفتين ولا يحتاج إلى تفويض ولا يختص بالأرشد بل يشترك فيه الرشيد والأرشد بقوله بعد ذلك وإن كان فيهم من يصلح للنظر والتدريس مستغنى عنه لكنه تأكيد حتى لا يظن أنه لا يجمع للواحد بين الوظيفتين وليس فيه ما يقتضي أن يكون واحدا فإن من صيغة صالحة للواحد وما فوقه وقوله فوض معناه جمع وليس معناه أنه يحتاج إلى تفويض لأن الشرط المتقدم أغنى عنه بعد واحد يقتضي بمفهومه عدم التعدد وأردت أن أقول به وأجعل قوله واحدا بعد واحد راجعا إلى جميع ما تقدم في بني الأب وبني ولد الأب ومن بعدهم لكنه بعيد والأقرب أن يجعل قوله ذلك إشارة إلى مجموع النظر والتدريس لأنه أقرب ما يصلح له ذلك ويكون قوله الأرشد إشارة إلى النظر والأصلح إشارة إلى التدريس ويوافقه قوله بعد ذلك أن المدرس هو الذي يعينه الناظر لكن اللفظ الأول دل بعمومه على اشتراك الكل في النظر والتدريس عند الأهلية سواء أحصل تفويض أم لم يحصل
فهذا موضع من محل التدافع وحرمان بعضهم بهذا المفهوم مع عموم اللفظ المتقدم لا أرى به وقوله بعد ذلك وليس لأحد مشاركة من يئول إليه النظر والتدريس بل ينفرد به ولا يعدل به إلى سواه عمومه يقتضي أنه لا يشاركه أحد من أهل طبقته ولا من غيرهم لا ممن يصلح ولا من غيرهم والأخذ بهذا العموم يدافع العموم المتقدم وليس أحدهما أولى من الآخر بل الأول أولى لأنه استقر فلا يندفع بهذا بمجرد الاحتمال مع احتمال هذا الثاني لأن يكون المراد لا يشاركه أحد ممن يتصف بصفته أو من غير أهل طبقته وما أشبه ذلك جمعا بين الكلامين وقوله وشرط أن المدرس هو الذي يعينه الناظر ظاهر انحصار المدرس في المعين فيفتقر إلى التعيين واللفظ المتقدم يقتضي الاستغناء عن التعيين لكن هذا الشرط يظهر أنه مخصص لذلك الإطلاق فيفتقر المدرس إلى تعيين الناظر وخصص به ذلك العموم المتقدم بالنسبة إلى التدريس وبمقتضى هذا أقول إن الناظر المذكور إذا مات مع وجود المدرس لا يفرد المدرس بالنظر بل يشاركه الجماعة المذكورون ولذا كان لهم أن يشاركوا الميت
وأما قوله هل للناظر أن يسند النظر إلى غير المدرس فقد قال الواقف لكل من آل النظر إليه تفويض ذلك إلى الأرشد والأصلح ممن ذكرنا وجعلنا ذلك إشارة إلى مجموع التدريس والنظر كما قدمناه أو إشارة إلى النظر وحده والمدرس وحده فله ذلك وكله لا فائدة فيه لا يسند إلى الأجانب والأقارب مستحقون بالشرط من غير تفويض فأيش فائدة التفويض ولم يذكر الواقف إلا شيئا واحدا فالأولى منع الإسناد إلى المدرس وإلى غيره وحصول النظر بالشرط والتفويض في كلام الواقف محمول على التولية في الحياة والله أعلم
ولم أكتب ذلك للمستفتي بل كتبت أني أحتاج إلى نظري في كتاب الوقف فإن لم أجد فيه إلا ذلك فالذي يظهر لي أن المدرس لا ينفرد بالنظر ويشاركه فيه الجماعة المذكورون وليس للناظر أن يسند النظر لا إلى المدرس ولا إلى غيره وهذا اللفظ المذكور في الاستفتاء فيه تدافع فقد يكون بالوقوف على كتاب الوقف يظهر من آخره والله أعلم
كتبه علي السبكي الشافعي انتهى
فتيا من صفد في ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وقف بلبان الجو كندار الأشرفي المنصوري مسجدا وأوقافا على مصالحه ثم يصرف لرجل مسلم حافظ لكتاب الله تعالى العزيز أهل للإمامة والخطابة يؤم فيه بالمسلمين في الصلوات الخمس ويقيم الخطبة أيام الجمع والأعياد ما مبلغه في كل شهر سبعة وستون درهما واستثنى النظر لنفسه وله أن يوصي به ولوصيه مثل ذلك فإن مات عن غير وصية أو انقطع فللأرشد من عقبه عقبا بعد عقب
____________________
(2/61)
تحجب العليا السفلى فإذا انقرضوا فلنائب السلطنة بصفد وقبله منه قابل جاز قبوله ثم بعد تمام هذا الوقف ولزومه أشهد الناظر في هذا الوقف المذكور أنه فوض وظيفتي الإمامة والخطابة بالمسجد المذكور لشهاب الدين أبي بكر ابن صارم الدين إبراهيم بن حسين بن محمد الهكاري أيام حياته ثم من بعده إلى ولده وولد ولده ونسله وعقبه ممن كان أهلا واستنابه عنه في النظر عنه في الوقف المذكور ولجميع ذلك شهد بتاريخ يوم الجمعة الرابع من ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وستمائة فمات الفقيه المذكور وخلف ولدين صغير وكبير أهل فباشرهما ثم كبر الصغير وصار أهلا وقصد مطالبة أخيه بالتشريك فلم يوافقه فهل له منعه وهل له أيضا استقلاله بالوظيفتين وهل للصغير مطالبته بالتشريك الجواب تفويض الخطابة والإمامة بعد تمام الوقف ولزومه إنما هو بحكم النظر فليس بلازم وقوله إلى ولده وولد ولده ليس بصحيح هذا الذي يقتضيه الفقه وقوله استنابه في النظر عنه في الوقف لا يقتضي الوصية بل هي استنابة في حال الحياة ولا تتعدى إلى ولده وولد ولده هذا مقتضى الفقه ولكن ما بقيت أكتب على الفتوى لئلا يتسلط أحد على الخطيب المستقر فينزعها منه وكتبت أن الشرط بالنسبة إلى الكبير والصغير الذي صار أهلا سواء ولم أزد على ذلك فيحصل المقصود مشاركة الكبير للصغير فإن هذا إن جعل شرطا في أهل الوقف فلا فرق بين الكبير والصغير فيسوى بينهما وإن لم يجعل شرطا فيجوز توليتهما وتولية أحدهما وتولية آخر غيرهما وأما قوله لرجل فلا يمتنع أن يكون واحد يصلي بعض الشهر أو شهرا كاملا ويصلي آخر بعضه أو شهرا آخر وعلى كل تقدير الصرف إنما هو لرجل واحد عن الوظيفة التي قام بها في شهر أو بعض الشهر فالذي هو المصلحة وعدم قطع رزق الأولاد وهو وفاء بما قصده الواقف وإن لم يكن لازما أن يشرك بين الولدين ولا يخرج عنهما إلى غيرهما ولا يختص بأحدهما والله أعلم انتهى
فتوى في مدرسة القدس في ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وسبعمائة الاستفتاء المسنون من سيدنا ومولانا قاضي القضاة شيخ الإسلام فسح الله في مدته إبانة الحق عما يذكر من شرط واقف وقف مدرسة على أهل العلم الشريف وقال في كتاب وقفه على أن المدرس المرتب لها يباكر في الوقت المعتاد للحضور في موضع الدرس وجمع الجماعة له ويبدءوا بقراءة شيء من القرآن
____________________
(2/62)
هناك والجماعة له ثم يشفع ذلك بالدعاء للواقف ولسائر المسلمين ثم يشرع في ذكر الدرس مذهبا وخلافا وأصولا وما شاء من العلوم الشرعية ثم ينهض كل معيد مع أصحابه المرتبين معه فيعيد عليهم من الدروس ما هو بصدده من المذهب إن كان مذهبا والخلاف إن كان خلافا وغير ذلك من العلوم الشرعية وعليهم الحضور بعد صلاة العصر لإعادة الدروس بالمكان الذي يذكر فيه الدروس ثم قال بعد ذلك عند ذكر المدرس وعليه ذكر المذهب والخلاف إن طلب منه في كل يوم إلا في أيام البطالة المعتادة هذا لفظ الواقف فهل يلزم المدرس أن يذكر في كل يوم عدة دروس من جميع العلوم التي ذكرها الواقف وغيرها أو لا يتعين عليه إلا ذكر المذهب فقط وذكر الخلاف إن طلب منه وإليه الخيار في بقية العلوم وهل يلزم كل معيد بهذه المدرسة أن يعيد درسا كاملا من الدروس التي يعينها المدرس له وتكون من في قول الواقف لبيان الجنس عملا بعموم ما في قوله من الدروس ما هو بصدده ولعموم قوله بعد ذلك لإعادة الدروس بعد صلاة العصر أم تكون للتبعيض بالنسبة إلى كل درس وتبرأ ذمة المعيد بأن يقتصر على إعادة بعض من درس الفقه مثلا أو من غيره
ويستحق المعلوم المشروط له بمجرد ذلك وإذا كان الواقف رحمه الله قد قال عند ذكر المشارف للمدرسة المذكورة ويشترط عليه تفريق المشاهرة بمحضر من الفقهاء المقيمين بالمكان وبحضور المدرس أو نائبه فإذا فرقها أحد حط المدرس أو نائبه بذلك والمعيدين والأعيان بالقدر المنفق فيهم ويطالع الناظر في المكان بالحاصل من مستخرج كل شهر بعد الإنفاق يعمل أوراقا يأخذ عليها خط المدرس أو نائبه والأعيان من الفقهاء والمعيدين
فهل يلزم من مجرد هذا الكلام أن يكون التصرف في الوقف موقوفا على إذن كل واحد من المعيدين وأعيان الفقهاء ومراجعته فيه وأن يكون لهم ولاية استرفاع الحسابات من المباشرين فيما دق وجل من أمر الوقف كما يرفع للناظر أم ليس لواحد منهم سوى ما ذكره الواقف من أخذ حقه على قدر المنفق فيهم وعلى قدر ما عنده من الحاصل في كل شهر وقال الواقف رحمه الله في كتاب الوقف أيضا بعد ذكر من فيه من المباشرين من المشارف والجابي والمعمار وغيرهم فإن رأى الناظر في هذا الوقف أنها تحتاج في توفير مصلحتها وزيادة ريعها وحفظه إلى زيادة مستحدثة فعل وجعل له من الأجرة ما يقتضيه عمله هذا لفظ الواقف رحمه الله وكان فيه قريتان تستغل أرضهما على العادة فحكرت كروما بأسماء خلق كثير يبلغ عددهم نحو أربعمائة نفر
____________________
(2/63)
وأزيد فرأى الناظر أنها تحتاج إلى مباشر ثان مع المشارف لضبط وقفها ومحاسبة من به واستخراج ريعه فرتب من يقوم بذلك وجعل له دون أجرة عمله ونفذ ذلك ولاة الأمور من السلطان ونائبه وحاكم المسلمين
فهل يكون ذلك مخالفا لشرط الواقف أم لا وهل للمباشر المذكور أن يأخذ أجرة عمله أم لا يبين سيدنا ومولانا الحق في ذلك كله
الجواب الحمد لله يتعين على المدرس ذكر الدرس كل يوم وأما الخلاف فإن طلب منه تعين أيضا وأما الأصول فلا يتعين ولكن ينبغي له لذكر الواقف له فينبغي ذكره ولا يجب ويستحب أن يذكر مع هذه الثلاثة علما رابعا أو أكثر وتعيينه مفوض إلى رأيه
والزيادة على ذلك تفوض إلى رأيه والواجب المذهب فقط والخلاف معه إن طلب وبغير طلب لا يجب ولا يلزمه ذكر عدة دروس وإنما قلنا ذلك لأن قوله على أن المدرس المرتب لها يباكر إلى آخره ليس شرطا على المدرس بل هو بيان الوقف وأن المدرسة جعلت لذلك فأخذ نصف الدرس الذي جعلت المدرسة له بأن المدرس يباكر إلى الحضور في موضع الدرس وجمع الجماعة له وهو معطوف على الحضور وليس من فعل المدرس بل الجامع للجماعة غيره إما النقيب وإما هم من نفسهم فيجتمعون لأجل المدرس وحضوره وباعث لهم على ذلك والضمير في قوله له يحتمل أن يكون للمدرس ويحتمل أن يكون للحضور وكلاهما صحيح والأول أظهر ويحتمل احتمالا ثالثا أن يكون الضمير لموضع الدرس
وقوله ويبدءوا ذكره منصوبا بحذف النون فهو معطوف على المصدرين المتقدمين وهما الحضور والجمع فيصير المعنى والبداءة كقول الشاعر للبس عباءة وتقر عيني وقوله بعد ذلك والجماعة له ما يظهر له معنى طائل ولولا كتابة يبدءوا بواو وألف كنت أقول إن المعنى يبدأ المدرس بقراءة شيء من القرآن والجماعة به وتكون الباء طالت فصارت لاما وقوله ثم يشفع أي المدرس وهو عطف على يباكر وينبغي أن يحرص المدرس على أن يكون الدعاء منه لذلك ولا يفوض الدعاء إلى غيره كما عادة أكثر الدروس وإن كان إذا دعا غيره وأمن هو كان داعيا ولكن الأول أقرب إلى التبادر إلى الفهم من غرض الواقف وقوله ثم يشرع عطف أيضا على ذلك وقوله مذهبا وخلافا وأصولا منصوبات على التمييز والمعنى وقف المدرسة لهذا القصد من مباكرة المدرس إلى الحضور ليجمع الجماعة عنده ويقرءوا جميعهم شيئا من القرآن ويدعو المدرس بعد ذلك للواقف ولسائر المسلمين ثم يشرع في الدرس الذي
____________________
(2/64)
هو المذهب والخلاف والأصول وما شاء المدرس
فهذا هو المقصود الذي وقفت له المدرسة فإذا حصل ذلك جميعه فقد حصلت الصورة التي هي مقصود المدرسة كاملة وإذا فات شيء منها فقد يكون مخلا بالصورة بالكلية وقد تحصل الصورة معه ولكن فيها نقص عن صورة الكمال والواجب من ذلك يتلقى من أحد أمرين إما بتنصيص الواقف وقد ذكره بعد ذلك من ذكر المذهب مطلقا والخلاف إن طلب إما بالضرورة لكن لا بد منها وإن لم يذكرها الواقف وهي درس المذهب لأنه المقصود وقراءة القرآن والدعاء للعرف وللقصد الصحيح من الواقفين في ذلك وهو معظم غرضهم
وإنما ذكرنا هذا حتى لا يتوهم أن هذا ذكره على سبيل الاشتراط على المدرس وانتصاب الألفاظ الثلاثة على التمييز يقتضي أن يكون الدرس واحدا موصوفا بالثلاثة ليس أنه مشتمل على ثلاثة دروس وقوله وما شاء من العلوم معطوف على الثلاثة فلو كانت الثلاثة واجبة كان يجب رابع ويفوض تعيينه إلى خيرته لكنا بينا أن الثلاثة ليست بواجبة بل الواجب بعضها ولو تعين المذهب عرفا وشرطا لكنا نقول الكل مفوض إلى خيرته على بعض الاحتمالات لأنك إذا قلت أعجبني زيد وعلمه قد يكون المعنى أعجبني علم زيد فكذلك هذه الثلاثة وما شئت من العلوم قد يكون المراد ما شئت مطلقا لكن المذهب يتعين شرطا وعرفا والبقية المصرح بأسمائها مقصودة ظاهرا
والضمير في قوله إن طلب يعود على الخلاف ولا يعود على المذهب والخلاف جميعا لأفراده ولو عاد إليهما كان مثنى ويحتمل على بعد أن يعود على المصدر الذي هو ذكر وعلى هذا الاحتمال يكون ذكر المذهب أيضا مشروطا بالطلب لكن هذا بعيد لأمرين أحدهما أن الخلاف أقرب وعود الضمير على الأقرب أولى والثاني إن وضع المدرسة يقتضي أن المذهب لا بد منه وإن لم يطلب لأنه متى لم يذكر فاتت صورة الدرس ذكرا وعرفا ومن وظائف المدرس أن يرتب لكل معيد جماعة يعيد عليهم ما هو بصدده و من في قول الواقف من الدروس للتبعيض وفي قوله من المذاهب لبيان الجنس
وليس من لازم كون الأولى للتبعيض وجوب ذكر عدة من الدروس بل التبعيض محمول في ذلك على التبعيض من الدروس التي يتفق ذكرها أو من الدروس المعلومة في الذهن التي تذكر كلها أو بعضها والمعيدون يعيدون ما يذكر منها وكل معيد إنما يلزمه إعادة ما هو بصدده إما من المذهب وإما من الخلاف وإما من غير ذلك ولا يلزمه ذكر الجميع وقول السائل هل يلزم كل معيد أن يعيد
____________________
(2/65)
درسا كاملا إن أراد إذا ذكر المدرس مذهبا وخلافا وأصولا يلزم كل معيد إعادة الثلاثة فليس كذلك ولا يلزمه لتصريح الواقف بخلافه وإنما يلزم المعيد ما هو بصدده فقط وإن أراد أنه يلزم المعيد المذهبي مثلا إعادة جميع دروس المدرس المذهبي فيعم ولكنه يتسامح في ذلك إذا أغفل بعضه لأنه قد لا يضبطه كله ويشق ذلك جدا لا وهو إنما يعيد للفقهاء ما يحتملونه وقد تقصر أذهانهم عن ذكر كل ما ذكره المدرس مما فهمه المعيد وقد يذكر المدرس ما لا يفهمه المعيد فالمقصود إعادة المقصود منه الذي ينتفع الطالب به
وقول السائل وتكون من في قول الواقف وقد ذكرناهما وقوله لإعادة الدروس بعد صلاة العصر لا نتمسك به لأنه قال عليهم الحضور بعد صلاة العصر لإعادة الدروس فالمقصود منه مقابلة الجمع بالجمع وليس المراد أن على كل واحد إعادة ذكر الدروس لأن القرينة ترشد إلى خلاف ذلك والقرينة معلومة من لفظ الواقف ومن الفرق ومن المعنى وقال قوله ما هو بصدده وما زاد على ذلك ليس هو بصدده بل هو وظيفة فالمدرس يعلم المعيدين والمعيدون يعلمون من دونهم أي المبتدئين ولا يعلم كل واحد إلا على قدر ذهنه من يتعلم كل ما الناس يفهمونه وفي هذا المحل يسمح ببعض ما يعلم لاحتمال الإغفال والنسيان نعم الذي هو في محل الاحتياج إليه ولم يغفل عنه ولا ينسى لا يتسامح بتركه إلا من ضرورة حالية تعرض في بعض الأوقات وبراءة ذمة المعيد باقتصاره على إعادة بعض من درس الفقه مثلا أو من غيره يمتحن بالضابط الذي ليس مالكه فإنه تارة يبرأ وتارة لا يبرأ ويعرف ذلك مما تقدم
وقوله في المشارف ويشترط عليه إلى آخره لا يلزمه به أن يكون التصرف في الوقف موقوفا على كل منهم وأن يكون لهم ولاية استرفاع الحساب وليس لواحد منهم سوى ما ذكره الواقف وإذا رأى الناظر احتياجها إلى مباشر ثان مع المشارف فرتبه على الوجه المشروح فليس مخالفا لشرط الواقف وللمباشر المذكور أن يأخذ أجرة عمله التي قررت له والله أعلم انتهى فتيا من تيزين في ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وقف وقفا على أولاده وهم ثلاثة ذكور وشرط فيه فإذا مات واحد من الموقوف عليهم عاد نصيبه إلى ولده وولد ولده الأقرب فالأقرب أبدا ذكورهم دون إناثهم لا يشارك البطن الثاني البطن الأول فإن مات عن غير ولد ولا نسل عاد نصيبه إلى إخوته وأولاد إخوته ذكورهم دون إناثهم أبدا ما تناسلوا فإذا
____________________
(2/66)
مات واحد منهم عن غير ولد ذكر كان عائدا إلى بناته وبنات أولاده ثم مات أحد الموقوف عليهم وخلف بنتا وولد بنت ذكرا توفيت أمه في حياة أبيها المذكور وللبنت المذكورة ثلاثة أولاد ذكرين وأنثى وخلف أولاد أخيه ذكورا وإناثا فلمن يكون نصيب الميت وإذا قلتم إن الوقف للبنت ولولد البنت المذكور وللبنت المذكورة أولاد هل لهم نصيب مع أمهم في حياتها أم لا الجواب نصيب المتوفى المذكور بين بنته المتوفاة في حياته وابني بنته الباقية أثلاثا بالسوية وحياة الأم لا تمنع من استحقاق ولديها ولا شيء لها ولأولاد الأخ في هذه الحالة والله أعلم انتهى
فتيا من حلب في ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وقف مدرسة وشرط النظر فيها إلى يوسف ثم إلى جماعة مخصوصين من قبيلة بعينها لا يخرج عنهم ما دام فيهم من يصلح للنظر وكذلك التدريس لا يعدل به إلى من سواهم فإن كان فيهم من يصلح للتدريس والنظر فوضنا إليه وإن لم يكن فيهم من يصلح لذلك فإلى من يصلح لذلك من أهل مدينة معينة وشرط أن يكون المدرس شافعي المذهب ممن أحكم مذهب الشافعي بحيث صار أهلا لأن يعمل بفتياه في مذهب الشافعي وإذا لم يوجد في القبيلة أحد أحكم مذهب الشافعي ولا من أهل المدينة هل يولى غريب أو يختار الأصلح من القبيلة
الجواب إن أمكن اشتغال الفقهاء وحدهم بحيث تقوم صورة المدرسة بدون المدرس فلا يولى المدرس في هذا الوقت حتى يشتغل بعض تلك القبيلة أو بعض أهل المدرسة ويحكم مذهب الشافعي فيولى ويصرف معلوم التدريس في مدة تعطله إن اقتضى شرط الواقف رده على الباقين من أهل الوظائف رد عليهم وإن لم يقتض يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف وإن لم يمكن اشتغال الفقهاء إلا بالمدرس ولي لهم مدرس أحكم مذهب الشافعي من غير تلك المدينة إلى أن ينشأ في تلك المدينة أو القبيلة من هو محكم لمذهب الشافعي فيفوض إليه ويزول ذلك الغريب والله أعلم انتهى
فتوى من سرمين في ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة وقف على أولاده ثم أولاد أولاده على أنه من مات منهم عن ولد أو ولد ولد وكذا نسل أو عقب عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على ولده ثم ولد ولده ثم على نسله وعقبه ومن مات منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب عاد
____________________
(2/67)
ما كان جاريا عليه من ذلك على ابن أخيه الأقرب فالأقرب فتوفي بعض المستحقين صغيرا وله إخوة لأبيه وابن أخ لأبوين فانتقل نصيبه إلى ابن أخيه ثم توفي ابن الأخ المذكور صغيرا في حياة أبيه شقيق الميت الأول فهل ينتقل نصيبه إلى أبيه وهو من جملة مستحقي الوقف أو يشترك معه الإخوة للأب ثم بعد ذلك ولد لأخ الشقيق المذكور ابن هو أخو الميت الثاني وهو أقرب إلى الميت الأول هل يعود نصيب الميت الأول إلى هذا المولود أو يكون تأخر ولادته مانعا لاستحقاقه
الجواب الأرجح أن هذا النصيب لمن بقي من الطبقة العليا الموقوف عليهم لمأخذين أحدهما أنهم استحقوه بالوقف على جهة الأولاد التي هم منها وزاحمهم فيها أخوهم ثم ابن أخيه ثم زال ولم يكن مزاحم آخر فيرجع إليهم المأخذ الثاني أن قوله ومن مات وله ولد فنصيبه لابن أخيه يحتمل أمرين أحدهما أن يكون ذلك الحكم ساعة موته سواء كان أخوه حيا ولم يكن هذا الذي يفهمه الناس غالبا من هذا الكلام وحينئذ هو مخالف لظاهر ما تقتضيه ثم من ترتيب البطن الثاني على جميع البطن الأول وبيان لأحد محتمليها وهو ترتيب الأفراد
والثاني أن المراد في هذا الوقف ظاهرها أنه لا يأخذ أحد من البطن الثاني شيئا حتى ينقضي البطن الأول حينئذ يكون الوقف بينهم على ما فصله من أن من كان له ولد فنصيبه الذي كان له حين كان يصير الآن لولده يختص به ونصيب من مات ولا ولد له ويكون الآن لابن أخيه الأقرب وهذا حكم قد يقام الحكم الذي لو سكت عن تفصيله لم يكن وحينئذ لم يكن هذا الذي مات يستحق شيئا من نصيب عمه المتوفى ولا أحد من أولاد الإخوة الباقين ما دام أحد من آبائهم موجودا فهذان مأخذان يحتملان لاستحقاق من بقي هذا النصيب المتوفر فلذلك قلنا إنه الأرجح ويحتمل في مقابله أن يقال إنه ينقطع وحينئذ يستحقه من كان أقرب إلى الواقف فإن كان الباقون منهم الآن أقرب الناس إلى الواقف فقد اجتمع على استحقاقهم ثلاثة مآخذ ولا يحتمل في مقابلة هذين الاحتمالين احتمالا آخر فيما يظهر لي وهذا إذا لم يكن فيه ابن أخ آخر كان موجودا عند موته ليس بأقرب ويكون الآن أقرب فإن كان كذلك فهو مستحق على المأخذ الأول دون الثاني
وإنما قلنا إنه يستحق على المأخذ المذكور لأجل استحقاق ذلك الصبي المتوفى وتقدمه عليه بالأقربية وقد قال الأقرب فالأقرب والفاء تقتضي ترتبه عليه إذا كان هو الأقرب للميت بعد ابن الأخ المتوفى أعني إذا كان من لا ولد له حين موته له وكذا ابنا أخ أحدهما أقرب من الآخر بأن
____________________
(2/68)
يكون ابن شقيقه والآخر ابن أخيه لأبيه وأما إذا لم يكن له إلا أخ واحد فاستحقاقه على الاحتمالين اللذين قدمناهما وأما ابن الأخ الذي يحدث بعد موته فلا أعرف نقلا فيه ولكن الذي يظهر لي أنه لا يستحق شيئا لأن الاعتبار بوقت الموت وهذا أكاد أقطع به قياسا على الميراث بأن الاعتبار فيه بحال الموت فلا يستحق من بعد الميت من لو كان موجودا عند موته لورث وعندي فيه وقفة لأن الميراث أعيان قد استحقها من كان عند الموت فمنع غيره منها
وهذا منافع لها أصل مستمر قد يقال بأنه للجهة التي يطلق على كلها ابن أخ موجود أو سيوجد ولكن هذا بعيد
وقد تكلم الأصحاب فيما إذا قلنا من لا وارث له ينتقل ميراثه للمسلمين هل يصرف لمن ولد بعد موته أو لا فشذ الروياني وقال لا يصرف فعلى قوله هذا الأولى
وقال الجمهور يجوز صرفه إلى من ولد بعد موته لأنه للجهة العامة والجهة لا يراعى فيها ذلك وقد يقال في ابن الأخ كذلك فحينئذ أقول إن الميراث ثلاثة أحدها ما هو جهة تحصر كالفقراء فلا نظر إلى أفرادهم ويصرف لمن تجدد منهم بعد الوقف قطعا والوقف إنما جعل غالبا لذلك وفي هذه المرتبة أقول لا يشترط وجودهما عندئذ حتى لو وقف على الفقراء حيث لا فقير في الدنيا بل يتوقع وجوده يصح ويحفظ حتى يتجدد
والمرتبة الثانية ما هو جهة من وجه دون وجه كالأولاد فقد جعلوهم واشترطوا وجودهم فلو وقف على أولاده ولا ولد له لم يصح لأن الأصل فيهم إرادة أعيانهم ولكن مع ذلك به أو عدمه تخصيص واحد منهم فاعتبر ذلك فيهم من وجه دون وجه ولو وقف على أولاده وله أولاد ثم تجدد له ولد ولم يكن نص على دخوله ولا على عدم دخوله فيحتمل أن يقال يدخل لأنه جهة ويحتمل أن يقال لا يدخل حتى ينص عليه لأنهم قالوا لو وقف على ولده ولا ولد له لم يصح فلم يراعوا فيه حكم الجهات من كل وجه وأيضا سبيل القول بعدم دخوله حمل الوقف على المعهود وهو الموجود من الأولاد والعموم إنما يصار إليه عند عدم العهد أو إذا دل دليل على إرادة الوصف دون العهد ومن الدليل على أن الجهة المتوقعة لا يشترط وجودها تجويز الوقف على أكفان الموتى ونحوه فلو وقف شخص على أولاد أخيه ولأخيه أولاد دخلوا فلو تجدد له ابن أخ أن يدخل ويحتمل أن لا يدخل وهو الظاهر وهذا مثله
والظاهر عندي أن يجعل ضابط في ذلك كما دلت القرينة على تأييد أصله مما منفعته على من يحدث من ذلك الوصف المقصود والواقف فلا يراعى فيه
____________________
(2/69)
الأفراد كالوقف على الفقراء وعلى الأولاد وإن كانوا دون قرينة الفقراء في ذلك وما لم يظهر فيه ذلك يقتصر فيه على مجرد ما يصدق عليه الاسم عند حالة الاستحقاق إما حالة الوقف وإما عند وجود شرطه كموت بعض المستحقين كما في مسألتنا فلا يصرف لقرينة اعتبارا بالإرث وغيره والله تعالى أعلم
مسألة رجل دفع إلى رجل مالا وقال له هذا المال لله عز وجل يشترى به ريع أو أرض وتوقف لله تعالى وأشهد على نفسه بذلك شاهدين وصرح الدافع بمراده قبل الدفع وذكر أن مراده أن يكون له صدقة جارية فهل يخرج هذا المال عن ملك الدافع بنفس الدفع أم لا وهل ينقطع بصرف الدافع بوجه نظر أم لا وإذا قال الدافع يصرف بعضه على الفقراء منجزا هل له ذلك أم لا وهل يضمن المدفوع إليه حتى يتهيأ المشترى عاما وأكثر فهل تجب فيه الزكاة أم لا وهل يصح وقف ذلك على الفقراء أو الأغنياء أم يختص بالفقراء وهل يصير المشترى وقفا بنفس الشراء أم لا بد من إنفاق المدفوع إليه وهل يصح وقف ذلك على معين أم لا وإذا أقام المال أحوالا لم يؤد له زكاة ثم اشترى به فهل تجب الزكاة على المدفوع إليه المال لأنه فرط في ذلك أم يتعلق بنفس المال إذا مات الدافع أو أفلس قبل أن يشتري بالمال فهل للورثة والغرماء مقال أم لا وهل يحتاج بعد الشراء إلى توكيل هذا الدافع في إنفاق هذا المال أو بعضه على الفقراء أم لا وهل للمدفوع إليه أن يتناول منه شيئا إذا كان فقيرا أم لا الجواب الحمد لله أما المال فإنه محكوم لخروجه عن ملكه قبل الدفع بمقتضى قوله وأما انقطاع تصرف الدافع ونظره عنه فلا ينقطع عن ذلك المال يشتري به ويوقف إلا أن يكون تبين أن المتولي لذلك غيره وإذا قال الدافع يصرف بعض ذلك المال منجزا على الفقراء بعد قوله إنه يشتري به ما يوقفه لم يسمع منه إلا أن يذكره على جهة الاستثناء بحيث لا يناقض الكلام الأول كقوله يشتري ببعضه ويصرف بعضه أو يقول يشتري به إلا كذا فيصرف وما أشبه ذلك فيتبع وبدون هذا لا يجوز ومتى فعل ذلك المدفوع إليه حيث قلنا لا يجوز ضمن سواء فعله بإذن الدافع أم بغير إذنه وحيث قلنا يجوز لا يضمن إذا فعله بالإذن وتعيين الدافع للمدفوع إليه جزءا من المشترى من المال المدفوع كتعيينه جزءا من المال للفقراء فيأتي فيه ما ذكرنا من التفصيل بين أن يذكر ذلك متصلا على وجه لا ينافي كلامه الأول فيقبل أو لا فلا يقبل وفي كلا الموضعين لا بد من اتصال الكلام وأن يكون على وجه الاستثناء بحيث لا يناقض وإذا بقي المال بيد المدفوع إليه أو غيره سنين حتى يتهيأ ما يشتري به فلا زكاة فيه وأما جهة الموقوف عليه فإذا لم يكن الدافع غير أصل كلامه
____________________
(2/70)
إلا أنه وقف لله تعالى فيجوز الوقف على الفقراء وعبرت طرب فيه وجه القربة كأنواع التوكل بها ومن جملتها كل ما فيها مصالح المسلمين ومن جملتها أقارب الواقف كما قال أبو طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم في بيرحاء إنها صدقة أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقاربه وقضى له
وأما جعله وقفا على جهة الأغنياء فلا لأنه وإن كان صحيحا وصدقة لكن المفهوم من العرف في قوله جعلت هذا صدقة لا يشمله ولأن الوقف إنما صح عليهم لقصد التمليك لا لظهور قصد القربة في الموقوف عليهم وإن كان الوقف في نفسه قربة ولا يصير المشترى بنفس الشراء وقفا لا بد أن يوقف إما من المدفوع إليه بإذن الدافع وإما من غيرهما حيث يكون له ذلك ويصح وقفه على معين إذا لم يكن في كلام الدافع أولا ما يدفعه إذا أقام أحوالا فقد قلنا إن ذلك لا زكاة فيه وإذا مات الدافع أو أفلس قبل أن يشتري بالمال فليس لورثته ولا للغرماء مقال في طلب المال إلا أن يرفعوا الأمر إلى الحاكم ليطلب المدفوع إليه وقفه أن يتولى الحاكم بطريقه وسواء المدفوع ووقفه لا بد فيه من الإذن فإن أذن الدافع فيهما معا فلا يحتاج بعد الشراء إلى تجديد إذن في الوقف وإن أذن في الشراء فقط فيحتاج إلى إذن آخر بعد الشراء وإن لم يؤذن في هذا ولا في هذا لم يكن للمدفوع إليه واحد من الأمرين ويكون المال تحت يده أمانة حتى يطلب منه أو يؤذن له فيما يفعل به وإذا وقف ما يشترى بالمال المذكور على موصوفين بصفة تلك الصفة موجودة في المدفوع إليه جاز له أن يتناول شيئا منه بإذن الناظر والناظر في الوقف المذكور إن كان الدافع عينه في أصل كلامه فيشترط حال الوقف النظر إليه ولو لم يشترط كان له النظر فالشرط الأول وإن لم يعينه فالنظر للحاكم فلا يجوز اشتراط غيره والله تعالى أعلم انتهى
مسألة رجل أوصى بأن يشتري الوصي من مال الموصي عقارا ويوقفه على جهة معينة لا تنقطع فاشترى الوصي عقارا واستغله سنين ولا وقفه على الجهة المذكورة فهل لوارث الموصي الرشيد رفع الوصي إلى الحاكم وإلزامه بوقف العقار المذكور أم لا وهل يستحق غلة العقار المذكور في السنين الماضية ويرجع
____________________
(2/71)
بها على الوصي أو يكون تبعا للعقار ويصير الكل وقفا أم لا الجواب الحمد لله له ولغيره من جميع الناس رفعه إلى الحاكم وإلزامه بوقف العقار المذكور ويستحق الوارث غلة العقار في السنين الماضية ويرجع بها على الوصي ولا يثبت حكم الوقف إلا من حين الوقف والله تعالى أعلم
مسألة وقف على الطنبا ثم أولاده أحمد ومحمد وتتار ومن يحدث له ثم على أولادهم ثم أولاد أولادهم ثم أنسالهم للذكر مثل حظ الأنثيين فمن توفي من أولاد الطنبا وأولاد أولاده ونسله عن ولد أو ولد ولد أو ولد ولد ولد أو نسل عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على ولده ثم ولد ولده ثم ولد ولد ولده ثم نسله للذكر مثل حظ الأنثيين ومن توفي منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على من في درجته من أهل الوقف يقدم الأقرب إليه فالأقرب وانتهى الوقف إلى أحمد بن تتار المذكورة وانفرد به فولد له محمد والتي وسفرى ثم ولد لمحمد ستيتة وعائشة وأمة الرحيم وتوفي محمد عن بناته الثلاث في حياة أبيه ثم توفي أحمد عن بنتيه وبنات ابنه فهل نصيبه لبنتيه فقط أو لهما ولبنات ابنه
أجاب هنا مقدمات إحداها هل أولاد الأولاد موقوف عليهم في حياة الأولاد ولكنهم محجوبون بآبائهم أو لا يصير موقوفا عليهم إلا بعد انقراض آبائهم هذا محل نظر يحتمل أن يقال بالأول لشمول اللفظ وعمومه ويحتمل أن يقال بالثاني لقرينة قوله ثم فكأنه قال ثم على أولاد أولادي الموجودين حين انقراض أولادي فإذا دل يصير وقفا عليهم واعلم أن هنا شيئين أحدهما تخصيص أولاد الأولاد بأن يخرج من مات منهم في حياة الأولاد عن شمول لفظ الأولاد له والثاني تقييد الوقف بأن لا يصير ولد الولد الباقي بعد الولد مندرجا في الوقف إلا بعد وفاة الولد وهما اعتباران متغايران فلقائل أن يذهب إلى هذا التخصيص والتقييد لأنه المتبادر إلى الفهم ولقائل أن يدفعهما ويذهب إلى الاحتمال الأول وهو أن أولاد الأولاد موقوف عليهم في حياة الأولاد بمعنى أن الوقف شامل لهم ومقتض للصرف إليهم وله شرط إذا وجد عمل المقتضى عمله وهذا أقرب إلى قواعد اللغة والفقه وبما ذكرناه تبين لك أن هذه المقدمة انطوت على مقدمات إحداها أن كل أولاد الأولاد داخلون في لفظ الواقف ومراده أو لا والثانية هل الوقف عليهم موقوف على انقراض آبائهم أو لا وإذا لم يكن موقوفا على ذلك
____________________
(2/72)
فهل يقال إنهم من أهل الوقف أو ليسوا من أهل الوقف حتى ينقرض آباؤهم لأن أهل الشيء هو المتمكن منه القوي فيه
المقدمة الثالثة الترتيب المستفاد من لفظة ثم ظاهره يقتضي أن لا يصرف لأحد من أولاد الأولاد شيء حتى ينقرض جميع الأولاد وهو موضوع اللفظ لأن اللفظ اقتضى تأخر مسمى أولاد الأولاد عن مسمى الأولاد ومجموعهم ويلزم من ذلك ما قلناه وأما ترتيب الأفراد على الأفراد فليس ظاهر اللفظ ولكنه يحتمل فلا يصار إليه إلا بدليل وقرينة في لفظ يدل عليه
المقدمة الرابعة إنه من مات من الأولاد في حياة باقيهم ينتقل نصيبه إلى الباقين على الصحيح أو إلى من بعدهم أو يكون منقطع الوسط فهذان الوجهان لا يتأتيان فيما إذا مات أحد الأولاد في حياة باقيهم فإنه ينتقل نصيبه إلى الباقين والفرق أن مسمى الولد باق والوقف على الأولاد كالوقف على الجهة والجهة صادقة على القليل والكثير فما دام واحد منهم هو مستحق فلذلك لا نقول بالانقطاع ولا بالانتقال إلى من بعدهم وبلغني أن في مذهب أحمد رواية أنه ينتقل إلى ولد الولد ويحمل الترتيب على ترتيب الأفراد على الأفراد فإن صحت هذه الرواية فهي كالوجه الذي عندنا فيما إذا وقف على زيد وعمرو وبكر ولكن الفرق الذي أوضحناه نعم لو قال وقفت على أولادي زيد وعمرو وبكر احتمل أن تكون كتلك المسألة لأن هنا قد قوي جانب الأعيان وضعف جانب الجهة ولو قال وقفت على زيد وعمرو وبكر كل واحد ثلث ثم على الفقراء فهذا الفصل يقتضي أنه كثلاثة أوقاف فهنا يضعف القول بأنه إذا مات واحد ينتقل نصيبه إلى الباقين ويقوى القول بأن نصيبه ينقل إلى الفقراء
المقدمة الخامسة ترتيب أولاد الأولاد على الأولاد ترتيب جملة على جملة وترتيب الجملة على الجملة تارة يراد به ترتيب الأفراد على الأفراد مثاله أن يكون كل فرع مترتبا على أصله فهنا يصح أن يقال الأفراد مترتبة على الأفراد والجملة مترتبة على الجملة وتارة يراد به ترتيب الجملة على الجملة من غير ترتيب الأفراد على الأفراد وهذا الذي قدمنا أنه ظاهر اللفظ مثاله هنا أنه لا ينتقل لأولاد الأولاد شيء حتى ينقرض جميع الأولاد ومثال الأول أنه ينتقل لكل واحد نصيب أصله وقد يكون بين المعنيين واسطة مثاله أن يراد ترتيب الجملة على الجملة إلا في بعض المواضع التي ينص الواقف عليها مثاله أن يقول لا ينتقل لأحد من أولاد الأولاد شيء إلا من كان له من الأولاد نصيب قد استحقه ومات بعد استحقاقه فإنه ينتقل لولده فلا يدخل من مات أبوه قبل الاستحقاق
____________________
(2/73)
وإن كان لو قال ترتيب كل فرع على أصله لدخل وإذا دار لفظ حمل بين المعاني الثلاثة وتعذر العمل بظاهرها فلقائل أن يرجح هذا المعنى الثالث على الثاني لأنه أقرب إلى حقيقة اللفظ وإذا تعذر العمل بالحقيقة فكل ما قرب منها أولى
المقدمة السادسة لفظ النصيب ظاهر في المستحق المتناول ويحتمل أن يراد به ما يخصه من الوقف بحيث لو زال الحاجب لتناوله ولا شك أنه أعني الولد لو زال الحاجب لاستحق قسطا فذلك نصيب إما بالقوة فقط وإما بالفعل وتناوله موقوف على شرط وهذا ظاهر إذا قلنا إنه موقوف عليه كما تقدم في المقدمة الأولى والله أعلم
المقدمة السابعة قد يقول وقفت على زيد ثم على أولاده ثم أولادهم وقد يقول على زيد ثم على أولاده ثم أولاد أولاده وفي الصيغة الأولى الضمير في أولادهم لأولاد زيد وهل يندرج أولادهم في الظاهر عودا على لفظ الأولاد أو لا لأن المراد به بعضهم فيعود الضمير على المراد فيه احتمالان أيضا وإن قلنا بالاندراج اندرج أولادهم في الضمير وأما الصيغة الثانية فلا يأتي فيها الاحتمال بل تشمل جميع أولاد الأولاد سواء أدخل آباؤهم في الوقف أو لا لصدق اسم أولاد الأولاد عليهم وهذا بعد زوال من يحجبهم بلا إشكال وقد يقال بحجب الأعمام لهم فيكون حكمهم حكم آبائهم
المقدمة الثامنة الضمير في قوله من توفي منهم يعود على من قلنا إنه داخل في الوقف وقد تقدم بيانه وفاقا واحتمالا فمن جزمنا بدخوله هناك جزمنا بدخوله هنا ومن ترددنا بدخوله هناك ترددنا في دخوله هنا
المقدمة التاسعة أن قوله من مات منهم فنصيبه لولده إلى آخره هو كالوقف الكامل يجب النظر في صيغه ودلالته كما سبق
المقدمة العاشرة أنه كل ما أدى إلى قلة التخصيص والتقييد كان أولى مما أدى إلى كثرته والله أعلم
إذا عرفت هذه المقدمات العشر فنقول أحمد بن تتار المتوفى هو من أولاد أولاد الطنبا داخل في الوقف بلا إشكال يشملهم قول الواقف ثم أولاد أولادهم أي أولاد أولاد أحمد ومحمد وتتار وهاتان من أولاد أولاد تتار وأما أخوهما أحمد المتوفى قبل والده ففي دخوله في الوقف وشمول الوقف له ما قدمناه من الاحتمالين ولم نجد نقلا يعتضد به وقد تكلم شيوخنا في أنه هل هو من أهل الوقف أو لا والظاهر من كلامهم أنه ليس من أهل الوقف وقدمنا ما بلغنا عن الحنابلة في ذلك وقدمنا الإشارة من أنه لا يلزم من كونه لا يصدق عليه أنه من أهل الوقف أن لا يصدق على أنه موقوف عليه وأنه داخل في حقيقته وأما بناته فهن داخلات في قول الواقف ثم أنسالهم فإنهم من أنسال أولاد
____________________
(2/74)
أحمد ومحمد وتتار لأنهن نسل أحمد بن محمد بن تتار فهن موقوف عليهن في الأنسال بلا شك وقد اندرج أصلهن ولم يبق إلا عماتهن والنظر في أنهن حاجبات لهن أو لا والمحقق من ثم حجب أمهن وأما حجب عماتهن فمحتمل
والأظهر من قوله ثم الحجب وعدم الحجب أيضا محتمل من ذلك اللفظ كما قدمناه
ويعضده هنا أن بقية الألفاظ في قوله من مات منهن ويدخل ملكه من الحق التقديري في قوله نصيبه فينتقل ذلك إلى ولده فهذان احتمالان في استحقاقهما ويعضدهما احتمال ثالث في قوله من مات منهم وله ولد أو ولد ولد فنصيبه لولده ثم لولد ولده عاما في الموجود والمفقود بأن يقدره موجودا انتقل نصيبه لبناته
وإن خصصناه بالموجود اقتضى أنه بعده ينتقل إلى أولاد أولاد أحمد مطلقا ومنهم بنات محمد المذكور لكن قد يكون للتي وسفرى أولاد فيمنعن فيحصل التعارض بين الألفاظ والخلاص عن ذلك بالجمع بأن يجعل لكل واحد ما لوالده فهذا احتمال ثالث على استحقاقهن لم يكن لقوله ثم لولد ولده في نصيب من مات وله ولد أو ولد ضائعا لا يكفي عنه قوله فنصيبه لولده فلما قال ذلك تعين أن يراد أن نصيب الميت ينتقل لولده إن كان له ولد ولولد ولده إن لم يكن له ولد ولهما إن كانا له ويقدر انتقال نصيب المفقود إليه ثم إلى ولده الموجود فإن من مات وله ولد فقط لا شك أن نصيبه ينتقل إليه ثم إلى ولده ومن مات وله ولد ولد كذلك فقط ومن مات وهما له فكان حق الكلام بأن يقدر للنقل نصيبه إلى ولده وإلى ولد ولده ويكون لهما سر لكنه حسن من اشتراك الولد بين أبيه فأتى بهم ولم يخلص الكاتب العبارة فتحمل لولده على العموم في الموجود والمعدوم ويرتب عليه قوله ثم لولد ولده ويراد ترتيب الأفراد على الأفراد به يصح ما قلناه فصار لاستحقاقهن وجوه من الاحتمالات
وحجبهن بعماتهن يلزم منه تخصيص قوله لولده وتخصيص قوله ثم لولد ولده في بعض الأحوال إذا مات سفرى والتي عن ولد وتخصيص من مات منهم إذا قلنا أبوهن رجل في اللفظ فقد ضعف جانب دلالة الترتيب على حجب العمات لهن قليلا وبذلك تكاد تستوي دلالة الترتيب ويبقى التردد فيه هل المراد به حجب كل فرع لأصله فقط أو حجب الجملة للجملة ويخرج عقبها بعض الأفراد وإذا كان التردد في ذلك لسفري وقد قلنا إن كون ولد الولد موقوفا لكنه علة في حياة الولد أرجح فنقول الاستحقاق محقق والحجب مشكوك فيه فنترك المشكوك فيه ونعمل بالمحقق فيقضى لهن بالاستحقاق ويحتمل أن يقال الأصل قبل
____________________
(2/75)
الوقف عدم الاستحقاق فلا يحكم به للشك والاحتمال الأول أرجح والله أعلم
تنبيه لما تجاذبت عندي الاحتمالات ولم أستطع الجزم بالقول باستحقاق أولاد الأولاد في حياة بعض الأولاد وإقامتهن مقام آبائهن لأني لم أر لي سلفا تطلبت أحكام الحكام الذين سلفوا وأقوال العلماء من المتأخرين والمتقدمين لعل يكون فيها مستندا ما إما لهذا وإما لضده لأن هذه المسألة كثيرة الوقوع في الأوقاف تعم بها البلوى وقد رأيت جماعة من أصحابنا الشافعية ومن الحنابلة ومن الديار المصرية أفتوا باختصاص العمتين عن بنات أخيهما وكذلك جماعة من أصحابنا الشافعية بالشام واستنكروا الفتوى بخلاف ذلك ورأيت جماعة من الحنابلة بالشام أفتوا بعدم الاختصاص فقال أحدهم ينتقل النصف لبنات محمد ويقمن في الاستحقاق مقام والدهن لو بقي حيا لا يمنع من استحقاقهن ذلك كون والدهن كان محجوبا
كتبه أحمد بن الحسن الحنبلي وتحته كذلك يقول عبادة وقال الآخر ينتقل النصف إلى بنات محمد ولا يمنع من استحقاقهن عدم تناول أبيهن فإنه كان محجوبا بآبائه وهو من أهل الوقف ولكن وجود أبيه منعه من التناول مع قيام المقتضى وهذا المانع لم يوجد في بناته والبطن الثاني إنما يتلقون عن الوقف ووجود الأعلى مانع من تناول من دونه وليس تناوله شرطا في تناول من بعده إذا قام به شرط التناول ويؤيد هذا أن أحدا لا يكاد يقصد حرمان أولاد الأولاد الأيتام وإبقائهن بوصف الحاجة والفاقة وتوفير الوقف كله على من هو نظيرهم في الدرجة والقرب من الواقف فهذا ليس من عادة العقلاء
كتبه محمد بن أبي بكر الحنبلي وقال الآخر منهم ينتقل النصف إلى بنات محمد لأن الواقف قصد تخصيص أولاد الموقوف عليهم وأنسالهم دون غيرهم أكد ذلك في مواضع من كتاب الوقف ويقمن بنات المذكور في الاستحقاق مقام والدهن لو كان حيا فإنه لو كان حيا استحق النصف ولكن منع من ذلك مانع وهو وفاته في حياة أبيه فينتقل نصيبه إلى أولاده دون غيرهن ووجود التي وسفرى لم يكن مانعا لبنات محمد من التناول لما كان يستحقه والدهن لو كان حيا والله أعلم
كتبه محمد بن المنجا الحنبلي
هذه فتاوى الحنابلة وحكم برهان الدين الحنبلي الزرعي بمقتضاها في الثاني من رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة ونفذه في تاريخه مستنيبه قاضي القضاة علاء الدين ونفذه في تاريخه قاضي القضاة عماد الدين الحنفي ونفذه في ثالث رمضان قاضي القضاة شرف الدين المالكي ونفذه قاضي القضاة جلال الدين في تاريخه ثالث رمضان المذكور ثم أذن جلال الدين قاضي
____________________
(2/76)
القضاة في تاريخه جلال الدين ناظر الأيتام أن ينظر فيما ثبت استحقاق البنات الثلاث الأخوات إلى أن يتعين من يستحق النظر في الوقف المذكور وأشهد قاضي القضاة جلال الدين عليه بذلك في الحادي والعشرين من صفر سنة تسع وثلاثين وسبعمائة واستفتى في هذا الحكم إذا رفع إلى حاكم آخر هل يسوغ له نقضه يعني حكم الزرعي وتنفيذه فأجاب جماعة من جميع المذاهب بأنه ليس له نقضه ومنهم من الحنابلة من علل بأنه من المختلف فيه والحاكم إذا حكم في مسألة الخلاف يرتفع
كتبه يوسف بن محمد الحنبلي فأما القول الأول وأكد ذلك عليه أنه ينتقل النصف لبنات محمد فدعوى وقوله إنهن يقمن في الاستحقاق مقام والدهن أيضا دعوى ليس في شرط الواقف تصريح بها وقوله إنه لا يمنع من استحقاقهن كون والدهن كان محجوبا صحيح لكن لا يلزم من كون هذا لا يمنع أن لا يمنع غيره ولا من كونه لا يمنع وجود المقتضى للاستحقاق فلم يأت بدليل عليه وأما قول الآخر وهو محمد بن أبي بكر وهو ابن قيم الجوزية ينتقل النصف فهو أيضا دعوى وقوله ولا يمنع من استحقاقهن عدم تناول أبيهن جوابه ما تقدم وقوله بأنه كان محجوبا بأبيه إلى آخره منازع فيه فإن كلام العلماء فيه ما يقتضي أنه لا يصير من أهل الوقف حتى ينقرض من قبله وإنما يطلق أهل الوقف على من يتناول وإن كان الآخر محتملا فأخذه هذا مسلما ليس بجيد بل يحتاج أن يأتي بدليل عليه وقوله فإنه لو كان ممنوعا برق أو كفر إلى آخره فيه نظر يحتاج إلى تصوير فإنه متى وقف على ولده ثم على ولد ولده وكان ولده كافرا أو رقيقا لا يستحق ولد الولد شيئا في حياة أبيه وإن كان كافرا وفيه فيحتاج أن يبين الصورة التي أرادها وحكمها نقلا ودليلا وقوله ويؤيد هذا إلى آخره هذا هو عمدة الحنابلة وهو الاعتماد على المعنى وفيه نظر لأنه قد يكون للواقف مقصود في مراعاة القرب وقوله والقرب من الواقف ذهول عن صورة الاستفتاء لأنه في الموقوف عليه لا في الواقف وأما ما قال الآخر فجوابه ما سبق
فتبين أن فتاوى الحنابلة لم تشتمل على حجة وأما الفتاوى بعدم النقض فكلها لم يبين فيها المستند إلا يوسف بن محمد الحنبلي بقوله بأنه من المختلف فيه فيه نظر لأن هذه المسألة لم نجدها مسطورة وإنما يطلق المختلف فيه على ما فيه خلاف للمتقدمين وأما ما يقع لنا فتتجاذب الآراء فيها فلا يقال إنها من المختلف فيه بل ينبغي أن ينظر فيها فإن اتضح دليل عليها اتبع وإلا فلا وإن حكم الحاكم فيها بحكم ولم يكن عليه دليل ينبغي جواز نقضه وإن كان عليه دليل
____________________
(2/77)
لم ينقض وهذا الحكم لم نجد في كلام الحنابلة الذين استند إليهم ما يصلح أن يكون دليلا نعم عندنا دليل آخر وهو ما قدمناه في كلامنا يبقى نظر آخر وهو أن الحاكم الحنبلي إذا لم يستند إلى دليل ولكن استند إلى ما ذكره أصحابه وقد ثبت أنه لا دليل فيه هل يكون مدافعة حكمه لما ذكرناه من الدليل مانعا من نقضه أم لا هذا يحتمل والأقرب أنه لا يصلح أن يكون مانعا فإن من شرط صحة الحكم الإسناد إلى دليل صحيح فإن وجدنا إسجال الحاكم مطلقا غير مستند إلى سبب ووجدنا دليلا صحيحا لم يكن لنا نقضه بل نحسن الظن به ونعتقد أنه استند إلى ما ظهر لنا من الدليل أو إلى دليل مثله وإن بين المستند ورأيناه غير صالح ولا تشهد قواعد الشريعة بصحته فينبغي أن ينقض ونحكم حكما مستندا إلى دليل صحيح لكن أرى من باب المصلحة أن لا ينقض وينفذ لئلا يجسر الناس على نقض أحكام الحكام ويجعل التنفيذ كأنه حكم مبتدأ مستقل ولو حكم الحاكم المنفذ بحكم مستند إلى دليل موافق الأول وبقي الأول على حاله كان أولى وأجمع للمصالح والله أعلم انتهى
فصل قال الشيخ الإمام رحمه الله هذه فروع مهمة من كتاب الوقف وما يتعلق به الأول هل يشترط في الوقف القبول قال الشافعي رحمه الله في البويطي الحبس يتم بكلام المحبس ولا احتياج فيه إلى قبض ثم قال وأصل الحبس أن يقول داري هذه حبس أو صدقة محرمة أو صدقة موقوفة ولا يجوز شيء من هذا حتى يصف من حليتهما عليه وسواء كان قويا بأعيانهم أو بغير أعيانهم انتهى
ولم يذكر فيه القبول وقال الإمام العطية التي تتم بكلام المعطي دون أن يقبضها المعطى ما كان إذا خرج به الكلام من المعطى له جائزا على ما أعطى لم يكن للمعطي أن يملك ما خرج منه فيه الكلام بوجه أبدا وهذه العطية الصدقات الموقوفات المحرمات على قوم بأعيانهم وقوم موصوفين ثم قال في الأم بعد هذا بأسطر وفي هذا المعنى العتق إذا تكلم الرجل بعتق من يجوز له عتقه تم العتق ولم يحتج إلى أن يقبله المعتق ولم يكن للمعتق ملكه ولا لغيره ملك رق يكون له فيه بيع ولا هبة ولا ميراث بحال وقال أيضا فيمن بين ذلك ولو مات من جعلت هذه الصدقة عليه قبل قبضها وقد أغلت غلة أخذ وارثه حصته من غلتها لأن الميت هو مالكها كما يكون له غلة أرض لو غصبها أو وديعة في يد غيره وقال بعد ذلك وتتم الصدقات المحرمات أن يتصدق بها مالكها
____________________
(2/78)
على قوم معروفين بأعيانهم وأنسابهم وصفاتهم ويجتمع في ذلك أن يقول المتصدق بها تصدقت بداري هذه على قوم أو رجل معروف بعينه يوم تصدق أو صفته أو نسبه حتى يكون أنا أخرجها من ملكه لمالك ملكه منفعتها يوم أخرجها ويكون مع ذلك أن يقول صدقة لا تباع ولا توهب أو يقول لا تورث أو يقول غير موروثة أو يقول صدقتي محرمة أو يقول صدقة مؤبدة فإذا كان واحد من هذا فقد حرمت الصدقة فلا تعود ميراثا أبدا انتهى
ولم يتعرض للقبول أصلا
وقال الشيخ أبو حامد لما ذكر القولين في المنقطع الأول قال وهكذا القولان إذا وقف على من يصح الوقف عليه فرد الوقف مثل إن قال وقفت على ولدي ثم ولد ولدي فرد الولد الموقوف ولم يقبله فإنه لا يصير وقفا عليه لأن من شرط صحته القبول ولكن من شرط الوقف عليه قبوله فإذا لم يصر وقفا عليه فهل يبطل في الكل أو لا على القولين
وقال ابن الصباغ في توجيه القولين في أنه هل ينتقل إلى الموقوف عليه أو لا يعني بل لله تعالى قال إذا قلنا لا ينتقل إلى الموقوف عليه فوجهه أنه أزال ملكه عن العين والمنفعة على وجه القربة بتمليك المنفعة فانتقل الملك إلى الله تعالى كالعتق ولأنه لو انتقل إليه لافتقر إلى قبوله كسائر الأملاك هذا لفظ ابن الصباغ
وقال ابن الصباغ أيضا إذا رد الموقوف عليه أولا الوقف ولم يقبله فإنه يبطل في حقه فإن الوقف لم يكن من شرطه القبول إلا أنه يبطل الوقف عليه برده إذا ثبت هذا فاختلف قول الشافعي قال هنا الوقف جميعه باطل وقال في حرملة قولين
وقال صاحب التتمة الوقف العام لا يعتبر فيه القبول والوقف الخاص إذا وقف على ولد أو قوم معينين هل يعتبر فيه القبول إن قلنا الملك لله تعالى لم يعتبر كالعتق والأوقاف العامة وإن قلنا ملك الواقف لم يعتبر كما لا يعتبر العلم بالمستحق وإن قلنا ملك الموقوف فوجهان ويقرب من هذه المسألة مسألة الوصية لمعين هل يتوقف الملك على قبوله وقال الماوردي رحمه الله يتم الحبس وإن لم يقبض أما القبول فليس بشرط في لزوم الوقف وإنما هو شرط في تمليك الغلة عند حصولها لأن الوقف إزالة ملك على وجه القربة فأشبه العتق
والغلة تمليك ما فروعي فيه القبول كالوصايا وليس القبول هنا لفظا معتبرا بل قبول رضا واختيار وهو أن يأخذ الغلة إذا أعطيها أو يظهر منه قبل الأخذ ما يدل على الرضا والاختيار ثم الغلة هاهنا تحدث على ملكه سواء قبل أنه ملك الأصل أو لا يملكه بالاختيار
____________________
(2/79)
الطارئ فعلم حدوث الغلة على ملكه ولذلك وجبت الزكاة فيها إذا كانت مما يزكى وإذا ظهر الإخبار منه لم يعتبر كل مرة ما لم يرد فإن رد ولم يقبل نظر في شرط الوقف فإن ذكر فيه أن من لم يقبل رد سهمه على من معه فعل ذلك وإن ذكر فيه أن يرد على الفقراء والمساكين رد عليهم وإن أغفل ذكر ذلك في شرطه كان فيه وجهان كما لو مات أحدهما يرد على من بقي حقه
والثاني على الفقراء والمساكين ثم الرد إن كان خاصا وهو أن يرد عليه واحدة فيكون على حقه من الأصل إنما يحدث من بعد فإذا جاءت غلة أخرى عرضت عليه فإن قبلها فهي له وإن ردها رجعت على ما ذكرنا فلو عاد بعد الرد فطلبها فإن كان بعد إعطائها من رجعت عليه لم تسترجع منه وسقط حقه من تلك الغلة وإن كان قبل إعطائها إياه ردت عليه وأما الرد العام فهو أن يرد أصل الوقف فلا يقبله فيكون حكمه عند رده على ما ذكرناه فلو عاد بعد الرد فطلبه نظر فإن كان عوده طالبا له بعد حكم له لغيره بطل حقه منه ولم يعد إليه وإن كان قبل الحكم به لغيره رد عليه
قال وقال مالك القبض شرط في لزوم الوقف وليس بشرط في لزوم الهبة معلقا بأن في الهبة قبولا يعني في لزومها عن القبض وليس في الوقف قبول يعني في لزومه عن القبض وأجاب الماوردي بأن القبول أخص بلزوم العقود من القبض فلما لم يكن القبول الذي هو أخص معتبرا في لزوم الوقف فأحرى أن لا يكون الوقف معتبرا في لزومه
وقال الروياني في الحلية الوقف صحيح لازم ولا يحتاج لزومه إلى القبول ولكن لا تملك غلته إلا باختياره
وإذا اختار الموقوف عليه تملك غلته لا يحتاج إلى القبول ويكفي الأخذ فيدل ذلك على الرضا ولو رد فإن ذكر الواقف أنه إذا رد كيف يعمل في نصيبه يعمل في غلته وإن لم يكن ذكر ذلك رد إلى ما معه في الوقف في أظهر الوجهين والوجه الآخر يرد إلى الفقراء والمساكين ولو رد ثم رجع فإن رجع قبل حكم الحاكم برده إلى غيره كان له وإن حكم الحاكم به لغيره بطل حقه
وقال القاضي حسين الوقف جائز يلزم بنفس القبول لا يعتبر فيه القبول والقبض ثم ذكر خلاف أبي حنيفة
وقال البغوي في التهذيب في المنقطع الأول ذكر من أمثلته أن يقف على زيد ثم على الفقراء فيرد زيد ثم قال قال الشيخ يحتمل أن يقال إذا وقف على زيد فرد لا يرتد وهو الأصح عندي خصوصا على قولنا إن الملك في الوقف لله تعالى وقال بعد ذلك بورقة فلو قال جعلته للمسجد يشترط قبول القيم وقبضه كما لو وهب لصبي يشترط قبول قيمه ولو وقف عليه يلزم بلا قبول ومن أصحابنا من قال إذا وقف على رجل معين أو على جماعة معينين
____________________
(2/80)
يشترط قبولهم ويرتد بردهم
قال الشيخ ويحتمل أن لا يشترط قبولهم ويرتد بردهم لأنه بمنزلة عتق العبد والعتق لا يرتد برد العبد ولا قبوله شرط وهذا هو الأصح عندي خصوصا على قولنا إن الملك في رقبة الوقف يئول إلى الله تعالى انتهى
وقال الرافعي إن يمنع اشتراط القبول أجاب صاحب التهذيب وفي الروضة أن به قطع البغوي وأنت ترى البغوي حكى الخلاف فيه وأما كونه لا يرتد بالرد فقال ابن الرفعة إن صاحب التهذيب حكاه عن شيخه احتمالا
وقال إنه الأصح عندي وابن الرفعة معه فرق الدلالة ظن أن القائل قال الشيخ هو صاحب التهذيب فلعل القائل قال الشيخ هو صاحب التهذيب لكني لم أر هذا في تعليق القاضي حسين ولا في فتاويه وهو شيخ صاحب التهذيب فلعل القائل قال الشيخ كاتب التهذيب والمراد بالشيخ المصنف صاحب التهذيب وكثيرا ما يقع في الكتب مثل ذلك
موضع يقول المصنف قلت يقول الكاتب عنه قال الشيخ وقال مظهر الدين الخوارزمي في الكافي وهو تلميذ صاحب التهذيب القبول ليس بشرط لصحة الوقف إن كان الوقف على مسجد أو رباط أو على جماعة فلا يشترط أيضا على ظاهر المذهب ولا يرد
وقال نصر المقدسي في الكافي من وقف شيئا لزمه وقفه بمجرد قوله وانقطع تصرفه فيه من غير قبول ولا قبض ولا حكم حاكم وقال شيخه سليم الرازي في المقصود ولا يفتقر لزوم الوقف إلى القبول ولا إلى القبض
وقال الجرجاني في الشافي لا يفتقر إلى قبول الموقوف عليه إن كان الوقف على موصوفين وإن كان على معينين فوجهان أحدهما لا كالعتق والثاني يفتقر لأنه يرتد بردهم فإن قلنا لا يفتقر إلى كلام وإن قلنا يفتقر فلم يقبل بطل وما حكمه على وجهين أحدهما يرجع إلى ملك مالكه
والثاني يصير وقفا على الفقراء كما لو قال وقفت ولم يبين السبيل وهل يفتقر إلى القبض إن كان على موصوفين فلا وإن كان على معينين بني على القولين في ملك الوقف إن قلنا لله تعالى فلا كالعتق وإن قلنا للموقوف عليه افتقر كالهبة وقد أغرب الجرجاني فيما حكاه من افتقار الوقف إلى القبض وسبقه إلى هذا الإغراب أبو الحسن الجوري في شرح المختصر فقال ما كان على ناس موصوفين فجائز تام بغير قبض قولا واحدا وما كان منه على أعيان فعلى قولين أحدهما يتم وإن لم يقبض كالعبد المعتق والهدي والضحايا يصح بنفس الإيجاب
والقول الثاني لا يتم الحبس على أعيان إلا بقبض لأن ملك المحقق ينتقل إلى المحبس عليه وعلى
____________________
(2/81)
هذا القول أجاب الشافعي أن يختلف مدعي الوقف مع شاهده وعلى هذين المعنيين قال بعض أصحابنا إذا قال حبست هذه الدار على فلان فلم يقبلها فلان ففيها قولان أيضا أحدهما يرجع إليه ويبطل الحبس كسائر الصدقات والثاني يصير إلى المساكين
وقال الجرجاني في التحرير لا يفتقر إلى القبول إن كان على موصوفين كالفقراء والمساكين ويفتقر إن كان على معين على أصح الوجهين لأنه يبطل برده فافتقر إلى قبوله بخلاف العتق فإذا لم يقبله المعين رجع إلى مالكه في أحد القولين وصرف في سبل الخير في القول الآخر ولا يفتقر إلى قبض إن كان على موصوفين وكذا إن كان على معين وقلنا الملك لله تعالى فإن قلنا للموقوف عليه افتقر إلى القبض كالهبة
وقال المحاملي في المقنع من وقف أرضا أو دارا أو حيوانا لزم ذلك بنفس القول لا يعتبر في لزومه القبول ولا القبض وجزم الفوراني على ما حكاه ابن الرفعة عنه باشتراط القبول إذا كان الوقف على معين وقال الإمام في النهاية إنه أصح الوجهين وقال عليه إنه يشترط اتصاله بالوقف على حسب اشتراط ذلك في كل قبول يتعلق بإيجاب
وقال الغزالي في البسيط كما قال الإمام إن الأصح أنه لا بد من القبول في المعين وفي الوسيط
وفي الوجيز حكى وجهين من غير تصحيح مع أن رأيه في المعين أن الملك له فيسهل اشتراط القبول مع ذلك
وقال الرافعي إذا كان الوقف على شخص معين أو جماعة معينين فوجهان أصحهما على ما ذكره الإمام وآخرون اشتراط القبول لأنه يبعد دخول عين أو منفعة في ملكه بغير رضاه وعلى هذا فليكن متصلا بالإيجاب كما في البيع والهبة هذا في البطن الأول أما الثاني والثالث فلا يشترط قبولهم فيما نقله الإمام وصاحب الكتاب يعني الغزالي فأما الغزالي في الوسيط والوجيز فصحيح جزم بعدم اشتراطه وأما الإمام فإنه حكى الخلاف فيه وكذا الغزالي في البسيط وقال إنه لا يشترط على الصحيح ذلك أن نقول العلة التي استندوا إليها من استبعاد ملك عين أو منفعة بغير رضاه موجود في البطن الثاني والتبعية لا تزيل هذا الاستبعاد ونقل الرافعي الخلاف في البطن الثاني عن المتولي واستحسنه ويجب في رد الجزم بعدمه كما ظنه أنه في كلام الإمام وزاد النووي التصريح بأن الإمام والغزالي قطعا به وقد تبين خلاف ما ظنه الرافعي وما نسبه النووي إليهما من القطع هذا حكم القبول وقد تتبعت كتبا أخرى كثيرة لم أر فيها تعرضا لذلك لكنهم يذكرون شروط الوقف وما به يتم ولا يذكرون قبولا فلو كان القبول شرطا لذكروه
فهذا الذي ينبغي الفتوى به أنه لا يجب القبول
____________________
(2/82)
به بمعنى الاختيار أي وقت شاء كما تضمنه كلام الماوردي لا بأس به أيضا
وأما القول بأنه كالقبول في البيع والهبة فلم أره إلا للإمام والرافعي تبعه وهو في غاية البعد من كلام الشافعي والأصحاب لكن الشيخ نجم الدين بن الرفعة ذكر على حاشية الكفاية أنه ذكر في المطلب عند الكلام في وقت حصول الملك في الموصى به من نص الشافعي ما يستدل به لعدم دخول الوقف في الملك من غير قبول وكذا الرد فليطلب منه وهذا يمكن حمله على ما قال الماوردي إن الغلة لا تدخل في ملكه إلا بالقبول
وأما الوقف فلا يبطل بعدم القبول إذا لم يحصل حصوله في البيع والهبة ولا بد من كشف المطلب وكلام الشافعي هذا كله في المعين أما الجهة العامة فلا خلاف أنه لا يجب فيها
ولم يجعلوا الحاكم نائبا فيه قال الرافعي ولو صار إليه صائر لكان قريبا وما قاله الرافعي يرد عليه أنهم لم يقولوا به أيضا في الوصية وهي أولى بالقول به فيها وإذا كانوا قالوا به في الوصية للجهة العامة لكان عدم قولهم به في الوقف دليلا على عدم اشتراط القبول
فرع جميع ما سبق في نفس القبول أما الرد فقال الإمام الغزالي إنه يرتد بالرد قطعا وإن لم يشترط القبول في ذلك وقد تقدم عن صاحب التهذيب وصاحب الكافي خلافه وأن الصحيح عندهما أنه لا يرتد بالرد وهكذا قال الرافعي سواء أشرطنا القبول أم لا لو رد بطل حقه كما في الوصية وكما أن الوكالة ترد بالرد هذا في البطن الأول أما البطن الثاني إذا قلنا لا يشترط القبول في حقهم فهل يرتد بردهم فيه وجهان لم يصححوا منهما شيئا وتحقيقه يلتفت على أن الرد هل هو مبطل للوقف أو مبطل لحقه من الغلة كما تقدم عن الماوردي والروياني ولما شبه الإمام هذا الرد به والوكالة قال وتصوير الرد في الوكالة على الغرض الذي يريده عسر مع أن الوكيل بعد قبوله الوكالة لو رد الوكالة لكان رده لها نسخا والوكالة جائزة على أي وجه فرضت
قلت وهذا كلام صحيح فإن الوكالة إذا لم يشترط القبول فيها لا يكون الرد مبطلا لها من أصلها بل ناسخا لها من حينه وقياسه أن يكون رد الوقف لذلك إذا قلنا لا يشترط قبوله وينبني على ذلك أنه لا يبطل الوقف من أصله حتى لو كان قد حصل منه غلة قبل الرد ينبغي أن تكون للموقوف عليه الذي رد كما قالوا في الوصية إذا قلنا لا تفتقر إلى القبول وأنها تملك بالموت فحصل منها فوائد بعد الموت ثم ردت أنها تكون للموصى له في الأصح على ذلك القول الضعيف فهذا أيضا ينبغي أن يكون مثله وحينئذ لا يكون منقطع الأول بل منقطع الوسط وقد يقال بأن من
____________________
(2/83)
شرط الوقف عدم الرد وإن لم يشترط القبول فإذا رد تبين أن لا وقف فهذان احتمالان في أن الرد هل هو مبطل للوقف من أصله أو من حينه وعلى التقديرين فهل هو مبطل له في حق الراد خاصة أو مطلقا والمتفق عليه عند جمهور الأصحاب خلا البغوي والخوارزمي أنه مبطل له في حق الراد وبعد ذلك يتردد هل هو مبطل لأصل الوقف أو لا
وقول الرافعي بطل حقه عبارة مجوزة على كل تقدير فإنه المحقق
وقد ذكر هو والغزالي والشيخ أبو حامد وابن الصباغ وغيرهم الصورة المذكورة من صور المنقطع الأول وظاهر ذلك يقتضي أن الصحيح أنه يبطل الوقف بالكلية إذا رد البطن الأول وذكر صاحب التنبيه أنه إذا وقف على رجل معين فرد الرجل بطل في حقه وفي حق الفقراء قولان فاحتمل أن يريد أنها من صور المنقطع الأول ويبعده أنه قدم المنقطع الأول وأن فيه طريقين واحتمل أن يريد أنها من صور المنقطع الوسط ويكون قد ذكر أنواع الانقطاع الثلاثة لكنه مخالف لكلام الشيخ أبي حامد وابن الصباغ وغيرهما حيث ذكروها من صور المنقطع الأول وذكر الشيخ محيي الدين النووي رضي الله عنه في تصحيح التنبيه أن الأصح أنه يصح في حق الفقراء ويكون مصرفه الآن مصرف المنقطع الأول وهذا الذي قاله رحمه الله هو المختار لأن إمام الحرمين رحمه الله لما ذكر المنقطع الأول والخلاف فيه ذكر بعده إذا وقف على وارثه في مرض موته وأن الأصحاب رتبوها على ذلك لأن الوقف في الظاهر وجد مستعقبا واستضعف هو هذا الترتيب لأنه تبين بالموت الانقطاع ثم ذكر ما إذا وقف على صغير ثم بعده على المساكين فلم يقبل المعين والتفريع على أن قبوله شرط وأن الأصحاب رتبوها على الوقف على من سيولد وزعموا أنه علق الوقف بحاضر ثم كان الانقطاع من جهة غيره فهذا نقل من الإمام عن الأصحاب لكنه هو استضعف ذلك الترتيب أيضا ثم قال نعم لو قلنا القبول ليس بشرط فإذا وقف على معين ثم بعده على المساكين فلو رد الموقوف عليه الوقف فينقدح في هذه الصورة ترتيب من حيث إن الوقف ثبت متصلا مستعقبا بثبوت تصرف ثم ارتد بالرد فلا يمتنع أن يرتب هذا على ما لو لم يثبت للوقف متعلق أصلا قال ومما يجري في هذا الموقوف أنه لو قال وقفت على فلان ثم بعده على المساكين فإذا لم يقبل أو رد على التفصيل الذي ذكرناه فيتجه هاهنا الصرف إلى المساكين من جهة أنه جعل المصرف صائرا إليهم إذا انقطع استحقاق المسمى أولا فإذا لم يستقر الاستحقاق عليه فيتجه تنزيل ذلك منزلة ما لو انقرض المعين بعد ثبوت
____________________
(2/84)
الاستحقاق لهم انتهى كلامه
فأما ما ذكره أخيرا أنه يتجه فبعيد من جهة أن ظاهر اللفظ يقتضي أن المساكين بعده لا بعد استحقاقه فتقدير بعد استحقاقه لا يدل اللفظ عليه لكنه موافق للقول الذي حكاه الرافعي في المنقطع الأول إذا صححناه أنه يصرف إلى من ذكره أخيرا وهو في الجملة محتمل وأما ما ذكره من انقداح الترتيب تفريعا على عدم اشتراط القبول فصحيح وهو مخالف إطلاق الشيخ أبي حامد ومن وافقهما أنه منقطع الأول إلا ما قيل وهذا الترتيب حق وهو يشهد لما قاله النووي فإن المنقطع الأول والمنقطع الوسط كلاهما بطريق الأصالة إذا كان المذكور أولا أو وسطا لا يجوز الوقف عليه وسبب البطلان فيه تشبيه ذلك بالبحيرة والسائبة التي هي أوقاف الجاهلية
فإذا لم يذكر الواقف مصرفا أو ذكر مصرفا لا يجوز كان في معنى من سيب السائبة لم يحل لأحد الانتفاع بها أما إذا ذكر مصرفا صحيحا فيعذر لعدم قبوله أو لرده فلم يكن الوقف في معنى المسبب بل قصد صدقة صحيحة لله تعالى وخرج عنها لجهة صحيحة لا عطل منافعها ولا استثنى فيها شيئا لنفسه فصح الوقف فإن قبل الموقوف عليه ولم يرد استقر عليه وإذا لم يقبل شيئا أصلا واشترطنا قبوله أمكن أن يقال ينصرف عنه إلى مصرف منقطع الأول أما صحته فلصحة إيجاب الوقف بخلاف الوقف على من لا يجوز وأما صرفه مصارف المنقطع الأول فلأنه لم يتحقق أنه يصرف في الأول يستقر عليه وإن لم يشترط القبول وقلنا الرد يبين بطلان الوقف في حقه فكذلك والذي بطل كونه موقوفا عليه لا كونه موقوفا مطلقا ويصرف مصارف المنقطع الأول أيضا لما ذكرناه
فإن قلنا الرد يقطع الوقف بالفسخ فكذلك بطريق الأولى ثم إن قلنا الغلة ليست له كما يشهد به كلام الماوردي ومثله قد قبل به بالوصية على وجه اتجه صرفه في مصارف المنقطع الأول أيضا لأنه لم يستقر له تصرف
وعلى هذه التقادير كلها يصح قول الشيخ أبي حامد ومن وافقه أنه منقطع الأول وإن قلنا الغلة له كما قيل به في الوصية فيتجه أنه منقطع الوسط والمصرف لا يختلف فقد صح كلام النووي وفي التصحيح من جهة البحث واعتضد من جهة النقل بما حكاه الإمام من الترتيب والله عز وجل أعلم
____________________
(2/85)
وظهر أنه يتجه سواء اشترطنا القبول أم لا ولا ينافي تصحيحه في المنهاج اشتراط القبول على أنا نحن نقول إن الأصح أن القبول لا يشترط والله أعلم
وخرج لنا من هذا صور يتضمنها انقطاع المصرف الأول إحداها أن لا يذكر له الآن مصرفا كقوله على من سيولد لي
وعلة البطلان فيه كونه وقفه الآن ولم يجعل له الآن سبيلا وهو أشد فسادا مما إذا سكت عن السبيل لأن سكوته لا ينافي المصرف إلى جهة من جهات البر وهنا مقتضى شرطه أنه لا يصرف إلا لمن سيولد فهو الآن معطل يشبه بالسائبة
الثانية أن يذكر مصروفا مجهولا أو معينا لا نفس الملك وعلة البطلان أن المصرف المذكور لا يجوز الوقف عليه ومقتضى شرطه أنه لا يصرف في الحال إلا إليه فقد تعطل المصرف الصحيح فيه بشرطه فأشبه السائبة وفي هاتين الصورتين على حد سواء طريقان إحداهما القطع بالبطلان والثانية قولان أصحهما البطلان
الثالثة أن يقف على ولديه في زمن موته فإن قلنا الوصية للوارث باطلة فهي كالصورتين الأوليين وإن قلنا صحيحة وردت وقلنا الإجازة ابتداء عطية فكذلك وإن قلنا تنفيذ فقيل كالصورتين الأوليين وقيل أولى بالصحة فيجيء فيها ثلاثة طرق والأصح منها أنها على قولين والأصح البطلان لأنه تبين أنه لم يكن من أهل الوصية
الرابعة أن يقف على من يصح الوقف عليه ويشترط القبول فلا يقبل أو يرد فقولان وأولى بالصحة فيمن بعده وفاقا لما حكاه الإمام عن الأصحاب وخلافا لما ارتضاه هو
الخامسة كذلك ولا يشترط القبول وقلنا الرد يبطلها من أصلها فكذلك
السادسة الصورة المذكورة وقلنا الرد فسخ وقلنا بالصحة والله عز وجل أعلم
فرع قال البويطي في باب الأحباس قال الشافعي وإذا قال داري حبس على ولدي ثم مرجعها إلي إذا انقرضوا فالحبس باطل وقيل الحبس جائز ويرجع إلى أقرب الناس للمحبس والحجة فيه حديث العمرى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها لمن أعمرها في حياته وبعد موته وزال ملك المعمر وأبطل شرطه فكذلك يبطل شرطه في الحبس ويجعلها لأقرب الناس إليه حبسا كما جعل أصلها كما كانت العمرى على ما جعل عليه أصلها
فإن قيل قد جعل النبي صلى الله عليه وسلم العمرى لمن جعلت له فلم لم يجعل الحبس لورثة من حبس عليه قيل لأن العمرى ملك أصلها فورثتها ورثته وهذا إنما ملك سكنها ولم يملك أصلها انتهى
وهذا إذا أخرج مخرج الشرط كما دل عليه آخر كلامه صحيح وقد ذكره الأصحاب كذلك
____________________
(2/86)
وقالوا فيه إن المذهب البطلان
أما ذكره على وجه الترتيب فقط كما هو صدر الكلام فلم لا يكون كمنقطع الأخير والجواب أن منقطع الأخير هو الذي يسكت عن مصرفه الأخير فإن ذكر فيه ما يدل على انتهاء الوقف بطل على المذهب كالموقوف وهذا مثله على التقديرين فالمراد رجوعها إليه غير وقف أما إذا قال يرجع إلي وقفا علي وقلنا وقفه على نفسه لا يصح ابتداء فهل يصح في هذه الصورة فيه وجهان في تعليق القاضي حسين رحمه الله
فرع الوقف على الفقراء والمساكين صحيح قولا واحدا لأن للشرع فيهم عرفا وهو ثلاثة فلا يجب استيعابهم ولأنهم فرقة مخصوصة ولأن المقصود منهم الصفة وإذا وقف على قبيلة كبيرة كبني تميم هل يجوز قولان أحدهما باطل لأنه لا يمكن استيعابهم ولا عرف للشرع فيهم بخلاف الفقراء ولا يقصد فيهم صفة والثاني يصح ويصرف إلى ثلاثة منهم لأنهم قبيلة مخصوصة وإذا وقف على كل المسلمين أو جميع الخلق فالمنقول في الحاوي للماوردي أنه لا يصح لما فيه من العموم ولعدم عرف الشارع وينبغي أن يضاف إليه علة لم يذكرها ولكن دل عليها تصويره بكل وهي قصد الاستيعاب وهو غير ممكن أما لو قال على المسلمين لقصده وصف الاتصاف بالإسلام لكنه مخالف لظاهر كلامه في التعليل ويلزم عليه إذا قال كل الفقراء إنه يبطل ولا عرف للشرع حينئذ وهذا أولى حيث ظهر قصد الاستيعاب بطل عند عدم الإمكان فإن أمكن صح كالأولاد سواء قصد الوقف أم لا وحيث لم يظهر قصد الاستيعاب فإن ثبت للشرع فيه عرف صح جزما وإلا فقولان مطلقا كثر العموم أو قل والصحيح الصحة وقد تضمن كلام الشيخ أبي حامد لو قال وقفت على المسلمين واقتضى كلامه الصحة ذكره في الوقف على المسجد فصح ما عيناه أن المفسد إنما هو لفظة كل
فرع إذا وقف على جماعة من أقرب الناس إليه صرف إلى ثلاثة من أقرب الأقارب قاله صاحب المهذب ولم يجعل الجماعة هنا كالجماعة في باب الصلاة حتى يكفي اثنان
فرع عن الأستاذ أبي إسحاق في النهاية والبسيط والرافعي وغيرها عن الشيخ أبي محمد قال وقعت مسألة في الفتاوى في زمن الأستاذ أبي إسحاق وهي أن من قال وقفت داري هذه على المساكين بعد موتي فأفتى الأستاذ أن الوقف يقع بعد الموت وقوع العتق في المدبر بعد الموت وساعده أئمة الزمان قال الإمام وهذا التعليق على التحقيق بل هو زائد عليه فإنه إيقاع تصرف بعد الموت وقال الرافعي في حكايته فأفتى الأستاذ بصحة الوقف بعد الموت ثم قال وهذا كأنه
____________________
(2/87)
وصية يدل عليه أن في فتاوى القفال أنه لو عرض الدار على البيع صار راجعا فيه انتهى
فقوله أفتى بصحة الوقف بعد الموت مطابق لقول الإمام وقوع العتق في المدبر فإنه متى كانت الصحة بعد الموت لا يكون إلا كذلك فلا يتوهم صحة الوقف الآن قبل الموت وقوله كأنه وصية فقه صحيح والاستدلال عليه بما في فتاوى القفال استدلال صحيح وأتى الرافعي بهذه الصيغة التي لا قطع فيها بشيء أظنه والله أعلم هو أنه يحتمل أن يقال إنه تعليق الوصف بصفة وهي الموت لا وصية كما قيل بمثله في التدبير وليس في ذلك منافاة لحكاية الإمام ولا لحكاية الرافعي بل كلا الحكايتين محتمل له إذا قيل بأن الوقف يجوز تعليقه فإنه يصير كالعتق فإذا اختلف في تعليق العتق بالموت هل هو وصية أو تعليق يجب أن يجري مثله في الوقف على القول بجواز تعليقه فكذلك لم يقطع الرافعي لاحتمال أن يكون الأستاذ يقول بجواز تعليق الوقف كالعتق ويقول مع ذلك بأن تعليقه بالموت تعليق لا وصية ويتفرع على ذلك أنه لا يجوز الرجوع فيه بالقول بل بالبيع ونحوه كما في التدبير فإن كان الأستاذ يقول بذلك فأكثر الأصحاب يخالفونه لقولهم إن الوقف لا يعلق وإن كان لا يقول بذلك بل يقول إنه وصية فلا يظهر لمخالفته وجه وظني أن صحة ذلك مجمع عليه فإن الحنفية يقولون بصحة الوقف المضاف إلى ما بعد الموت ومن صوره المعلق به وأصحابنا يقولون إنهم لموافقتهم على ذلك يلزم القول بصحة الوقف في الحياة ولزومه أيضا فإنه تبرع فيصح مضافا لما بعد الموت كسائر التبرعات من الهبة والصدقة والعتق وغيرها وما ذكرناه من أن أكثر الأصحاب يقولون الوقف لا يعلق يعني به التعليق بشرط الحياة كما إذا جاء رأس الشهر فهو وقف ونحو ذلك هكذا يقتضيه تمثيلهم وصرح صاحب التتمة بتقييده به وقال إن تعليق الوقف بالموت وبشرط يوجد بعد الموت جائز وصية والذي قاله صحيح ولا ينافيه قولهم الوقف لا يعلق ألا ترى أنهم قالوا الهبة لا تعلق ومع ذلك قالوا لو قال له وهبت له ثوبي كان وصية
كذا صرح به هو والرافعي وهو يبين لنا أن جميع التبرعات مما يقبل التعليق شرط في الحياة ومما لا يقبله يصح تعليقه بالموت لأنه وصية وقوله وذلك أن الشافعي رضي الله عنه قال في الأم في باب إخراج المدبر من التدبير أنه إذا أوصى لرجل أن يتصدق عليه به أو وقفه عليه في حياته أو بعد موته أنه رجوع عن التدبير يعني إذا قلنا بأن التدبير وصية فتصريح الشافعي بوقفه بعد موته موافق لما أفتى به الأستاذ ونص
____________________
(2/88)
الشافعي أيضا في باب العبد يكون بين اثنين فيدبره أحدهما أنهما لو قالا أنت حبس على الآخر منا حتى يموت ثم أنت حر كان كل واحد منهما قد أوصى لصاحبه نصفه بعد موته ثم هو فيكون وصية في الثلث جائزة ويعتق بموت الآخر منهما وحكاه الرافعي فقال فيه أنه كما إذا قالا إذا متنا فأنت حر إلا أن هناك المنفعة بين الموتين لورثة الأول وها هنا هي للآخر وكذلك الكسب وكان أولهما موتا انتهى وقد ذكر فيما إذا قال إذا متنا فأنت حر وماتا مرتبا أن نصيب الميت لورثته وليس لهم التصرف فيه فيما يزيل الملك انتهى
وهاهنا هل نقول إنه بين الموتين نصيب الميت موقوف على الحي أو ملك له يمتنع عليه بيعه كالورثة في تلك الصورة الأقرب إلى كلام النص الذي حكيناه الثاني ولفظة حبس أقرب للأول لأنها صريحة في الوقف لكن يلزم عليه أنه يصير كما لو وقف بالموت ينتهي بموته فيكون كما لو وقف على زيد بشرط أنه بعده لا يكون وقفا وقد يمنع هذا لأن العتق في معنى الوقف لأن العبد العتيق يملك نفسه ومنفعته فهو بمنزلة الموقوف عليه وفي معناه ويظهر أثر هذا في جواز الوطء لو كانت جارية فإن جعلناه وقفا لم يجز الوطء
وإن جعلناه وصية احتمل أن يجوز ولو احتمل المنع أيضا لاحتمال العلوق فيحصل الاستيلاد فينقطع ولاء التدبير السابق من غيره وعلى كل تقدير سواء حكمنا بكونه ملكا أو وقفا يحصل الاستشهاد بالمسألة المذكورة فإنه جعله حبسا بعد موته ونحن كذلك نقول في مسألة الاستشهاد إنه يصح وصية لكن ليس للمساكين ولا للناظر في أمرهم بيعها لأنه إنما وصى لهم بها على جهة الوقف ينتفعون بمنفعتها وكذلك إذا قال هي وقف بعد موتي على زيد مراده ذلك كما ذكره في مسألة التدبير إلا أن في هذه الصورة لا توقيت بل هو منقطع الآخر يكون بعده لأقرب الناس إلى الواقف غير الوارثين لأنه وصية لا يدخل الوارث فيها وفي مسألة التدبير لما نص على العتق كان كقوله بعد زيد لا يكون وقفا وقد تقدم البحث فيه
والغرض من هذا كله تقرير مسألة الأستاذ وتصحيحها وإيراد إذا قال هذا وقف بعد موتي ثم لم يرجع عنه إلى أن مات وخرج من ثلثه أنه يصح ويكون حكمه حكم الوصايا في اعتباره من الثلث وفي جواز الرجوع وفي عدم صرفه للوارث وحكم الأوقاف في تأبيده وعدم بيعه وهبته وإرثه وليس خارجا في هذا أيضا عن حكم الوصايا لأنه إنما وصى كذلك فتنفذ وصيته على الوجه الذي وصى به وكأنه قال وصيت بأن يسلك به مسلك الأوقاف من صرف الريع لتلك السبيل التي نص عليها وحبس العين لأجلها وأن يجري
____________________
(2/89)
عليها حكم العين الموقوفة من انتقالها إلى الله تعالى على قول وإلى الموقوف عليه على قول ولا تنتقل على قول إن كان يجري بعد وفاة الواقف ولم أجد شيئا يخالف ما قاله الأستاذ ولا ما بحثناه عليه إلا كلمات سأذكرها لك منها أن الشيخ أبا حامد الإسفراييني رحمه الله لما تكلم في أن الوقف على ما شرط من الأثرة والتقديم والتسوية
قال قالوا كيف أجزتم هذا بالصفات وتعليق الوقف بالصفة لا يصح لأنه إذا قال إذا جاء رأس الشهر فقد وقفت داري هذه عليك وإذا مت فقد وقفت ونحو هذا كان الوقف باطلا قلنا الفصل بينهما أن ذلك تعليق أصل الوقف بالصفة فلهذا لم يصح وليس كذلك في مسألتنا لأن الوقف وقع مطلقا ولكن الاستحقاق به بالصفة وهذا جائز ألا ترى أنه لو قال إذا قدم الحاج فبع كان الإذن صحيحا لأن الإذن صح والتصرف بالصفة كذلك هنا إذا علق الوقف بالصفة لم يصح وإذا صح وعلق الاستحقاق بالصفة صح انتهى
وذكر ابن الصباغ هذا السؤال والجواب عنه كما ذكره أبو حامد إلا أنه أسقط قوله إذا مت فقد وقفت ونعم ما صنع فإن الحكم بصحة تعليق الوقف بالموت لا ينبغي أن ينازع فيه
ولعل عذر الشيخ أبي حامد بها أنها ليست في كلامه بل وقعت في سؤال السائل ولم يشتغل بجوابها لاشتغاله بالجواب عن المقصود وهو التعليق دون ذلك المثال الذي هو غير مقصود على أني أقول إذا قال إذا مت فقد وقفت لا يصح لمعنى آخر وهو المعلق إنشاء الوقف والإنشاء لا يعلق كما لو قال إن دخلت الدار طلقتك فدخلت الدار لم تطلق لأنه إنما أخبر بأنه منشئ الطلاق عند دخول الدار والخبر لا يقع به شيء
وهذا في إذا دخلت طلقتك وفي إذا مت وقفت ظاهر جلي لا إشكال فيه وأما في قوله إذا دخلت فقد طلقتك وإذا مت فقد وقفت فقد يتوقف فيه وتحقيقه أن الجزاء محذوف وقوله فقد طلقتك أو فقد وقفت جملة خبرية فيكون مقرا بالطلاق والوقف لا منشأ لهما أو يكون التقدير فاعلموا أني قد طلقت ووقفت حينئذ فيعود إلى معنى فهو وقف أو فهي طالق
وهذا هو المفهوم منها في العرف بخلاف قوله إن دخلت طلقت وصفة تعليق الوقف بالموت الصحيحة بلا شك أن يقول إذا مت فهذا وقف كما أنه يقول إذا دخلت فأنت طالق فهو منشئ الآن للوقف المعلق والطلاق المعلق فهو الآن واقف بشرط ومطلق بشرط والوقوع عند الصفة لا الإيقاع ومنها أن الرازي وهو تلميذ الشيخ أبي حامد لما تكلم في المقصود في تعليق الوقف وأنه لا يجوز قال لو قال وقفت داري على فلان بعد حياة عيسى
____________________
(2/90)
لا يصح لمثل ذلك يعني التعليق وهذا الذي قاله سليم غير مسلم له ولعله يريد لا يصح وقفا ونحن نقول بذلك وإنما نقول بصحته وصية وحينئذ لا ينافي ما قاله الأستاذ ومن وافقه
ومنها أن نصرا المقدسي وهو تلميذ سليم قال في الكافي وإن قال وقفت هذه الدار بعد حياة عيني أو علي أن أسكنها أو انتفع بها ما عشت وإذا جاء رأس الشهر فقد وقفتها لم يصح الوقف وتأويل هذا كتأويل كلام سليم وهم لا يتكلمون في الوقف من حيث هو وقف ولا ينظرون إلى شيء آخر فلذلك يقع منهم هذا الإطلاق ومنها أن الفقيه إسماعيل الحضرمي شرح المهذب وذكر ما قلناه عن التتمة من تعليق الوقف بالموت ثم قال ولا يبعد خلاف ما قال فيفسد فقد قال الغزالي قال الشيخ أبو محمد وحكى مسألة الأستاذ ثم قال هكذا ذكر الغزالي وكأنه يريد أنه لا فرق بين التعليق بشرط في الحياة أو بعد الموت
وما قاله إسماعيل لا يلتفت إليه مع إطباق الفريقين من الشافعية والحنفية المتقدمين على صحة الوقف المضاف وصية ولم يرد الغزالي بإيراد هذه المسألة أعني مسألة الأستاذ إبطالها وإلحاقها بالتعليق بالحياة بل عكسه وهو إلحاق التعليق في الحياة بها وإسماعيل مسبوق بهذا التوهم فقد سبقه شيخ العلامة عز الدين بن عبد السلام فقال في الغاية اختصار النهاية فحكى مسألة الأستاذ ثم قال وقال الإمام هذا تعليق وأولى منه بالإبطال لأنه تصرف الموت والإمام لم يقل إنه أولى منه بالإبطال وقد حكينا لفظه برمته ولم يرد إبطال كلام الأستاذ وإنما أراد الاحتجاج به لأن المنقطع الأول إذا قلنا بصحته وصرفنا عليه في الحال إلى الواقف كان معلقا ويكون الواقف يأخذ عليه ملكا لا وقفا
وهو أحد وجهين لا تصحيح فيهما ومقابله أنه يأخذه وقفا فمراد الإمام اعتضاد الأول به فقد تقررت مسألة الأستاذ تقريرا جيدا وصاحب التتمة لم ينقلها عن الأستاذ بل ذكرها جازما بها وفي كلامه زيادة فائدة وهو جواز تعليقه بشرط بعد الموت وهو صحيح لأنا إذا جعلناه وصية فلا فرق نعم إذا جوزنا تعليقه في الحياة معلقه بالموت قد ذكرنا فيما سبق تخريج وجه بامتناع الرجوع فيه بالقول فلو أضاف إلى الموت شرطا آخر بعده ففي نظيره من التدبير أنه يمتنع الرجوع بالقول على المشهور
وذكر الرافعي أنه لا خلاف فيه لكنه ذكر قبل ذلك ما يقتضي أنه تدبير فيصح الرجوع فيه بالقول على وجه فيخرج من هذا أنه إذا علقه بشرط بعد الموت أو بالموت مع شرط آخر يجوز الرجوع فيه على الصحيح ويأتي فيه وجه بمنع الرجوع
____________________
(2/91)
92 فائدة تقدم أنه متى إذا قال إن دخلت الدار طلقتك لا يقع الطلاق لأنها جملة خبرية وشرط القول بذلك بأن يكون نظمها هكذا من تقدم الشرط وتأخر الجزاء فلو قال طلقتك إن دخلت الدار كان معناه تعليق الطلاق بالدخول كما قال الشاعر طلقت إن لم تسألي أي فارس حليلك ويدل له قوله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها والسبب في ذلك أن المفهوم من هذا اللفظ عرفا وسبب ذلك أنه إذا قدم الشرط علم أن ما يأتي بعده مستقبل فإذا جاء حكمنا بأنه خبر وإذا قدم الفعل وهو ظاهر في الإنشاء حمل عليه فإذا أتى الشرط بعده جعلناه شرطا في تمامه ووقوع أثره لا في أصله ولا يرد على هذا أنه المقدر متقدما من جهة الصناعة لأن طلقت صار له جهتان إحداهما من جهة الزوج وهو إنشاؤه للطلاق والثانية من جهة المرأة وهو وقوع الطلاق عليها فالجهة الأولى لا تعليق فيها والثانية هي محل التعليق فإذا تقدم الشرط وتأخر بجهته جميعا صورة وحكما فلم يكن له أثر لأن الجهة الثانية تابعة للجهة الأولى والجهة الأولى تابعة للشرط فلا يصح وإذا تأخر الشرط كان مقيدا لما أمكن تقييده والذي يمكن تقييده من الجهتين هي الثانية فيختص بها وتكون هي وحدها دليل الجزاء وتبقى الأولى على إطلاقها واللفظ إذا كان له جهتان في قوة لفظين فيعامل كل واحد بما يناسبه
وينشأ من هذا البحث بحث آخر في قوله إن شئت بعتك وأنه باطل قولا واحدا ولا يجري فيه الخلاف المذكور في قوله بعتك إن شئت لأن مأخذ الصحة فيه أن المعلق تمام البيع لا أصله فالذي من جهة البائع وهو إنشاء البيع لا يقبل التعليق وتمامه وهو القبول موقوف على مشيئة المشتري وبه تكمل حقيقة البيع وينشأ من هذا أنه إذا قال إن شئت وقفت هذا عليك لا يصح
وإن قال وقفته عليك إن شئت فإن قلنا قبول الوقف في المعين شرط جرى فيه الخلاف الذي في البيع وإن قلنا ليس بشرط احتمل أن يقال بالبطلان لأنه لا شيء حينئذ يقبل التعليق غير الإنشاء وهو لا يعلق واحتمل أن يقال بالصحة كما تقول أبحت لك هذا إن شئت والمعنى إن شئت فخذه وفي قوله أنت طالق إن دخلت الدار ونحوه لا فرق بين أن يتقدم الشرط أو يتأخر الكل معلق تعليقا صحيحا لأن المعلق الطلاق لا التطلق وكذلك إن مت فأنت حر وإن مت فهذا وقف على المساكين والمسألة المنقولة عن الأستاذ لفظها وقفت على
____________________
(2/92)
المساكين بعد موتي والظرف كالشرط فهو متعلق بتمام الوقف وهو صحته فلا يصح الوقف إلا بعد الموت وإنشاؤه على ذلك الوجه حاصل الآن كما أن إنشاء العتق في التدبير حاصل الآن ولا يقع العتق إلا بعد الموت ونقل الإمام أن إيقاع مصرف بعد الموت يتعلق ببحث
وهو أن الطلاق في قوله إن دخلت فأنت طالق إذا دخلت هل هو بالتعليق السابق والشرط الدخول أو بالدخول ويكون بالتعليق بصيغته سببا والأول هو المنقول عن مذهبنا ومذهب مالك والثاني منقول عن الحنفية يقولون إنه يجعل عند الدخول مطلقا حكما وتقديرا كأنه أنشأ التطليق ذلك الوقت وأصحابنا يقولون إن التعليق السابق هو الموجب لوقوع الطلاق فيكون الطلاق عند الدخول لا به وكلام الإمام هنا نازع إلى كلام الحنفية والأولى ما نقل عن أصحابنا وإذا كان ذلك في الطلاق فهو في التدبير أولى لأن مقتضاه ثبوت العتق عند الموت وحينئذ يزول الملك عن الحي
فلو كان على قياس التعاليق لما وقع لأن الصفة حصلت في غير الملك وإذا جعلناه واقعا بالتعليق السابق كان أولى خروجا عن القاعدة وتعليق الوقف بالموت كتعليق العتق بالموت وإن كان تعليق العتق بالموت اختص باسم خاص وهو التدبير وما حملنا عليه مسألة الأستاذ هو أحد معان ثلاثة يحتملها اللفظ
أحدها هذا
والثاني أن يراد بعد الموت وقفتها وهو باطل كقوله إن مت وقفت
والثالث أن يراد جعلته موقوفا الآن على المساكين بعد موتي وهو باطل إما للتناقض وإما لأنه منقطع الأول ولما احتمل اللفظ هذه المعاني الثلاثة وكان الثاني والثالث يقتضيان البطلان حملناه على الأول لاقتضائه الصحة ولأنه المفهوم في العرف مع كون الكلام مهما أمكن حمله على الصحة كان أولى من حمله على الفساد وإذا قال إذا مت فهذا وقف أو إذا انقضى شهر بعد موتي فهذا وقف فلا إشكال في الصحة وإذا قال إن مت وقفت فلا إشكال في البطلان إلا إذا نوى أنه وقف فيصح ويكون كتابة
فرع إذا وقف على زيد ثم على عمرو فالترتيب في المصارف لا في أصل الوقف ومعنى هذا أن إنشاءه الوقف الآن على البطون كلها مرتبة فالترتيب فيها في الإنشاء لأن الإنشاء لا يتأخر مدلوله عن زمان النطق به ولو قال وقفت ثم وقفت كانا إنشاءين لا إنشاء لأن الإنشاء لا يتأخر مدلوله عن زمان النطق به ولو قال وقفت ثم وقفت كانا إنشاءين لا إنشاء واحدا ودخلت ثم بين هذين الإنشاءين كما تدخل في ترتيب الأخبار حيث يراد معنى أخبرك
____________________
(2/93)
بكذا ثم أخبرك بكذا يستحيل أن تكون هذه في عين واحدة موقوفة فإنه إذا قال وقفت هذه على الفقهاء ثم وقفتها على الفقراء لم يصادف الوقف الثاني محلا بعد نفاذ الأول أما إذا قال وقفتها على الفقهاء ثم وقفتها على الفقراء فالمعنى أنه وقفها على الطائفتين مترتبتين في المصرف ويوضح لك هذا أن وقفتها في معنى حبستها وحبستها له مطاوع وهو الانحباس وكأنه قال جعلتها منحبسة على الفقهاء ثم على الفقراء فالجار والمجرور متعلق بالانحباس الذي ذكر عليه الحبس لا بنفس الحبس أو يقال إنه متعلق بتمام معنى الحبس كما قررناه في الشرط فيما سبق أو يقال إنه متعلق بمحذوف تقديره كائنة على الفقهاء ثم على الفقراء
فهذه ثلاث تقادير في اللفظ المذكور وعلى كل من التقادير الحبس الذي هو فعل الفاعل ليس موقوفا على وجود شيء من البطون المتأخرة ولا معلقا عليها وأما الانحباس فإما أن يوجد بالنسبة إلى البطن الأول فجعله موقوفا هو المراد من تعليق الوقف والصحيح أنه لا يصح وأن المنقطع الأول باطل فلا بد أن يكون الانحباس بالنسبة إلى البطن الأول عقب الحبس الذي هو إنشاء الوقف على نعت وجود حقيقة البيع عقب الإيجاب والقبول في البيع وإن أخذ بالنسبة إلى البطن الثاني وما بعده احتمل أن يقال إنه حاصل الآن أيضا لأنه أثر الحبس وأثر الشيء لا يتأخر عنه ولكن المتأخر ظهور أثره فلا يكون الحبس والانحباس معلقين وإنما المتجدد صفة البطن الثاني وكونه موقوفا عليه كما أن الأمر في الأول ولا يوصف العبد بكونه مأمورا إلا بعد ذلك واحتمل أن يقال بل الانحباس البطن الثاني وما بعده معلق ويكفي في تنجيز الوقف حصول أثر له في الحال وبقية الآثار توجد على ترتيبها وهذا هو الحق ولهذا يقول الوراقون فإذا انقرض البطن كان ذلك حبسا أو وقفا على كذا وقد رأيت هذه العبارة بعينها في كتاب وقف الشافعي على ولده أبي الحسن وهو مسطور في الجزء الثالث عشر من الأم وينبغي أن يعلم أن هنا أربعة أشياء الحبس وهو الوقف الذي يقال فيه الإيقاف على لغة رديئة وتمامه بوجود الشروط التي تتوقف صحته عليها والانحباس الذي هو أثر تلك الصحة ويعبر عنه بالوقف أيضا وهو المراد من قول الوراقين صار ذلك وقفا واستحقاق الصرف للأول ثم الثاني حاصلان حين نطق الواقف بالوقف ويتلوهما في الرتبة الثالثة وفيه ما قدمناه ويتلوه الرابع ولا إشكال في قبوله التعليق ومما يدلك على أن الترتيب في المصارف لا غير قول
____________________
(2/94)
كثير من الوراقين وقف الدار الفلانية على أنه يصرف من ريعها للبطن الأول ثم الثاني كذا فيجمل الوقف أولا ثم يفصله ويعطف بعض الفصول على بعض ويبين لك هذا أن التوقيت والتعليق ممتنعان في الوقف على الصحيح وجائزان في المصارف فتقول وقفت هذا على زيد سنة ثم على عمرو بل قد يكون التوقيت واجبا كقولك وقفته على الفقراء سنة ثم على ولدي فإنه لو لم يوقف على الفقراء لم ينتقل إلى ولده لأنه لا انقطاع لهم
فرع إذا وقف على نفسه ثم على الفقراء وفرعنا على أن الوقف على نفسه باطل فقد قال الشيخ أبو حامد والماوردي والقاضي حسين والمحاملي والجرجاني وابن الصباغ والروياني وإمام الحرمين وغيرهم إنه من صور المنقطع الأول فيجري فيه الوجهان المشهوران أصحهما البطلان واعلم أن منقطع الأول مراتب إحداها الذي يجري في الصحة ويكون البطن الأول غير نفسه كقوله وقفت على رجل ثم على العلماء أو وقفت على فلان الحربي ثم على العلماء فالأصح البطلان ولا أثر لذلك اللفظ والثاني الصحة وعلى هذا إن كان البطن الأول لا يمكن اعتبار انقراضه كالمجهول صرف لمن بعده وإن أمكن اعتبار انقراضه ففي مصرفه الآن خمسة أوجه أصحها لأقرب الناس للواقف والثاني لمن بعد البطن الأول كالمجهول والثالث للمساكين والرابع للمصالح العامة وعلى كل من هذه الأوجه الأربعة هو وقف منجز الآن محسوب من رأس المال لجريانه في الصحة والوجه الخامس أن يصرفه الواقف وعلى هذا وجهان أحدهما أنه يأخذه وقفا وعلى هذا أيضا يكون الوقف ناجزا الآن وصرفه إلى نفسه كالصرف إلى غيره من جهات البر والثاني ملكا فعلى هذا لا يكون الوقف ناجزا الآن بل معلقا بانقراض البطن الأول فيكون وقفا على من بعد البطن الأول وهذا القائل يلتزم جواز تعليق الوقف أو يكون قد احتمله هنا لكونه بيعا ولا يحتمله إذا كان وحده مستقلا وهو الأقرب لأن هذه أقوال مخرجة وجواز تعليق الوقف استقلالا وجه ضعيف لم يقل به أكثر من قال بهذه الأقوال ويظهر من تفريع جعل الوقف والحالة هذه معلقا لا منجزا أنه يجوز له بيعه كبيع العبد المعلق عتقه بصفة ولا يجوز الرجوع فيه بالقول وإن كنت لم أر شيئا من هذين الحكمين منقولا
المرتبة الثانية إذا وقف في مرض موته على وارثه ثم على المساكين فقد نص في حرملة على قولين أحدهما يبطل والثاني يكون لوارثه فإذا انقرض كان للمساكين وظاهر كلام الشيخ أبي حامد وغيره أنهما القولان
____________________
(2/95)
في منقطع الأول وقد تقدم عن فعل الإمام عن الأصحاب ترتيبها عليه وأولى بالصحة وأطلق الرافعي وغيره أنا إن لم نصحح الوصية للوارث أو صححناها ورد بقية الورثة فهو منقطع الأول ومرادهم أنه الأصح يبطل وعلى الثاني وهو صحة المنقطع الأول إن خرج من الثلث يصرف للورثة مدة حياة الوارث الموقوف عليه فإذا انقرض نقل إلى المساكين سواء أبقي من الورثة أحد غير الموقوف عليه أم لا وإن لم يخرج من الثلث وخرج بعضه كان كذلك وإن لم يخرج منه شيء فإن كان هناك دين مستغرق بيع فيه وبطل الوقف والصرف إلى الورثة هنا حيث كانوا أقرب الناس إلى الواقف على الصحيح وعلى الثاني للمساكين وعلى الثالث للمصالح العامة ولا يجيء هنا غير هذه الأوجه الثلاثة وحاصله أن حكمه حكم منقطع الأول لكن هذا القدر الذي ذكرناه من تفريعه قد لا يتنبه له كثير من الناس
المرتبة الثالثة إذا وقف على نفسه في صحته ثم على المساكين وأبطلنا الوقف على نفسه فإن صححنا المنقطع الأول وجعلنا مصرفه الآن أقرب الناس للواقف أو المساكين أو المصالح العامة أو الواقف على سبيل الوقف كغيره من جهات البر أو البطن المذكور وبعده فكذلك وهو من رأس المال لأنه منجز وإن جعلنا مصرفه للواقف ملكا وأنه معلق فيحتمل هاهنا أن يقال إنه من الثلث لا تبرع معلق بالموت فاعتبر من الثلث كسائر التبرعات ويحتمل أن يقال ذاك إذا علق قصد حيث يصح التعليق المستقبل أما هذا التعليق الذي جاء على جهة البيع فلا هذا إذا صححنا المنقطع الأول أما إذا قلنا باطل فقد سكت الأصحاب على ذلك ولا شك في البطلان يعني أنه لا يصح وقفا منجزا الآن ولا معلقا لازما ولنا شيء آخر وهو تعليقه تعليقا غير لازم وهو تعليقه بالموت فإنه وصية وهل نقول بأن كلامه متضمن لها فتصح كما لو انفرد التعليق أو نقول ذاك إذا قصد ما إذا كان تبعا لوقف فلا لأن حقيقة الوصية غير مقصودة هذا محل نظر لم أر فيه نقلا لكن نقل الجوري عن ابن شريح فيما إذا وقف على نفسه ثم على من بعده خمسة أوجه أحدها البطلان وعلله بعلة قاصرة على منع وقف الإنسان على نفسه فقد يكون مراده أصل الوقف والثاني يصح من الثلث كالوقف على الوارث في المرض وهذا الوجه يرجع إلى ما حكيناه أن المنقطع يصرف الآن للواقف ملكا ويكون مطلقا بالنسبة إلى من بعده ويسلك به مسلك التعليق المستقبل وكلام ابن شريح مطلق يحتمل أن يكون تفريعا على صحة المنقطع فيكون هذا الذي حكيناه بعينه
____________________
(2/96)
ولا دلالة فيه لما يرومه من تصحيح الوصية على قول البطلان ويحتمل كلاما من رأس فيعتضد به لذلك الوجه الثالث أنه يصرف لمن بعده والرابع لأقرب الناس للواقف وهذان هما اللذان حكيناهما تفريعا على الصحة
والخامس أن العين موقوفة والمنفعة ملك له ولورثته ولورثة ورثته فإذا انقرضوا صرف للمساكين وهو مذهب له فيما لو وقف وسكت عن السبيل وفي الوقف على نفسه فعلى هذا أيضا تعتبر المنافع من الثلث فحصل معنا في الوقف على نفسه ثم على المساكين وجه محقق أنه بعد وفاته إذا مات ولم يرجع عن ذلك وخرج من الثلث أنه يكون وقفا على المساكين ولم يتحقق كونه مفرعا على صحة المنقطع خاصة أو على صحته وبطلانه وقفا ليكون وصية والمصلحة الفتوى بهذا لأمور أحدها أن الوقف على نفسه قال جماعة كثيرة من العلماء بصحته منهم أبو حنيفة وأبو يوسف وأحمد وقول الشافعي وهو اختيار أبي عبد الله الزبيري من أصحابنا وأحد وجوه خرجها ابن شريح واختاره أبو الحسن الجوري من أصحابنا أصحاب الوجوه وهو قول محمد بن عبد الله الأنصاري من المتقدمين ونصره بأدلة وليس الدليل على بطلانه بذاك القوي ثم الوقف المنقطع الأول تردد القول فيه ونص الشافعي في حرملة فيه على قولين على ما فهمه الأصحاب من نصه وأما أنا فالذي فهمته محققا من نصه في حرملة الصحة والبطلان يحتمل لأن صيغته على ما نقله الشيخ أبو حامد قال إذا وقف في مرضه على ولده وولد ولده ففيها قولان أحدهما الوقف باطل كالبحيرة
والثاني يصح على ولد ولده نصفه ويبطل نصفه على ولده ويكون لوارثه فإذا انقرض كان لولد ولده انتهى
ففهم الشيخ أبو حامد من هذا أنهما قولان في منقطع الأول وجعل قوله أحدهما الوقف باطل يعني في الجميع البطن الأول ولمن بعده والثاني صحته لمن بعده ولا شك أن قوله ولده أو ولد ولده يقتضي أن لولده في الحال النصف ولولد ولده النصف فإذا انقرض أحدهما كان الجميع للثاني كما إذا وقف على زيد وعمرو وبكر فمات أحدهم صرفت الغلة إلى من بعده من أهل الوقف والنصف الذي حكمنا به الآن لا يقتضي تعدد العقد لأنه ليس في كلام الواقف وإنما هو حكم حكمنا نحن به لاقتضاء التوزيع إياه فإذا ثبت هذا فالحكم ببطلان نصيب ولد الولد وليس بوارث لا وجه له إلا من جهة جميع الصفقة وأن الصفقة جمعت ما يجوز وما لا يجوز فيبطل في الجميع
والحكم بصحته مستنده تفريق الصفقة ولا انقطاع في نصيب ولد الولد وإنما الانقطاع في نصيب الولد وقد أبطلناه
____________________
(2/97)
على القولين جميعا فقول الشافعي ويكون لولده فإذا انقرض كان لولد ولده يحتمل أن يريد به نصيب الولد خاصة وهو الذي فهمه الشيخ أبو حامد تخصيصا للتفريع بالقول الثاني ويحتمل أن يريد به كل ما أبطلناه وهو الجميع على القول الأول أو النصف على القول الثاني فيكون المنقطع الأول صحيحا على القولين وكان الصارف عن هذا الاحتمال أنه إذا كان مأخذ بطلان الجميع امتنع تفريق الصفقة مأخذ أيضا لبطلان المنقطع الأول ألا ترى أن القاضي أبا الطيب بناه عليه لكنا نقول إن ذلك البناء فيه نظر لأنه لو صح لزم تصحيح المنقطع الأول لأن الصحيح تفريق الصفقة وبالجملة لنا نص في حرملة على صحة المنقطع ونص في الأم على بطلانه والأكثرون على البطلان والروياني قال في الحلية إنه يصح في أصح القولين هكذا قال الروياني لكن نص في الأم في الجزء الثاني عشر في باب الخلاف في الصدقات المحرمات صريح في عدم صحة المنقطع الأول وفي صحة المنقطع الآخر وهو الذي نص عليه الأكثرون فيهما
إذا عرفت هذا فعلى تصحيح الوقف على نفسه هذا وقف صحيح لازم خارج من رأس المال وعلى تصحيح المنقطع هو أيضا كذلك عند الأكثرين وعند بعضهم صحيح معتبر من الثلث وعلى إبطال المنقطع اعتباره من الثلث له وجه من جهة تضمن قول الواقف يعني الوصية وإبطاله بالكلية لا مستند له من كلام الأصحاب فوجب التوقف فيه وإبقاء الحال كما كان في زمان الوقف فيستمر الوقف ولا يبطل تمسكا باستصحاب الحال وطرحا للمحتمل الثاني أن كلامه تضمن وصية محققة فيحكم بها لأنه إذا كانت الوصية بالوقف صحيحة ووقفه على نفسه ثم على غيره متضمن بها ودال عليها فإذا بطل خصوص الوقف لا يلزم بطلان الوصية لأنه إذا بطل الخصوص لا يبطل العموم
انتهت الفروع والفوائد نقلت من خط الشيخ رحمه الله تعالى
مسألة ما يقول علماء المسلمين في رجل وقف دارا أو عقارا على نفسه مدة حياته ثم من بعده على نسله وعقبه فإذا انقرضوا عادت الدار مدرسة للشافعية كثرهم الله تعالى وعاد العقار على مصالحها ومدرس وفقهاء وإمام ومؤذن يؤذن بالصلوات الخمس وحكم حنفي بصحة الوقف ونفذه شافعي وشرط الواقف أن لا يؤجر وقفه أكثر من ثلاث سنين ثم إن الدار المذكورة بعضها سقف وبعضها أقباء خربت سقفها وتشعبت وقامت بينة عند الحاكم المنفذ الشافعي المذكور أنه لا يمكن الانتفاع وإعادتها إلى ما كانت عليه إلا بإجارتها مدة ستكتب شهادتهم
____________________
(2/98)
فأجرها الواقف المذكور الذي شرط لنفسه النظر مدة حياته ثم من بعده للأرشد فالأرشد من الموقوف عليهم
فإذا انقرضت ذريته وصارت مدرسة كان النظر للأرشد فالأرشد من قبيلته سنة وقبض بعض الأجور لنفسه وصرف الباقي وهو الأكثر في العمارة وحكم الحاكم المنفذ المذكور بصحة الإجارة مع العلم بمخالفة شرط الواقف ثم إن الواقف مات وانقرضت ذريته وعادت الدار مدرسة يذكر فيها العلم وتقام فيها الصلوات الخمس فهل الإجارة الصادرة من الواقف صحيحة أم لا وإذا قلتم بصحتها فهل تنفسخ بموته أم لا فإن قلتم لا تنفسخ فهل تنفسخ الإجارة بموت ذريته وانقراضهم بحكم صيرورتها مدرسة أم تستمر في يد المستأجر مدة الإجارة سكنا فإن قلتم بعدم الاستمرار فهل يجب الرجوع عليه بأجرة المثل من مدة صيرورتها مدرسة أم لا
وإن قلتم بالاستمرار فماذا يفعل في ريع العقار الموقوف على المدرسة والإمام والفقهاء وغيرهم والحاكم المنفذ الشافعي المذكور أولا حكم ببقاء الإجارة بعد انقراض ذرية الواقف وصيرورة الدار التي صارت مدرسة ومسجدا وأذن لمن ولي تدريس هذه المدرسة أن يذكر الدرس في مسجد قريب من هذه الدار التي صارت مدرسة وإذا قلتم بوجوب أجرة المثل على من سكن الدار وعطلها عما صارت له فهل يعود بها المدرس الذي ذكر الدرس في المسجد المجاور للمدرسة والفقهاء أم كيف الحكم وإذا قلتم بصيرورتها مدرسة وإخراج من اتخذها سكنا بعد صيرورتها مدرسة ومسجدا لأنه منع مسجد الله أن يذكر فيه اسمه وعطلها عما بنيت له وجعلت يومئذ والذي هي في يده ليس من أهل العلم في شيء بل له مباشرات مكسية
والمسئول من إحسانكم رحمكم الله أن تبينوا لنا حكم الله تعالى الذي يعلم المفسد من المصلح بيانا شافيا واضحا وابسطوا لنا العبارة والمقصود الأعظم بيان حكم هذه الدار المدرسة هل تستمر سكنا بعد صيرورتها مدرسة ومسجدا
أجاب الشيخ الإمام رضي الله عنه إن كان الحاكم الذي حكم بصحة الإجارة دينا عالما وحكم بصحة الإجارة لما رآه دليلا عنده فالإجارة صحيحة والذي صرف من الأجرة في العمارة صرف صحيح والذي قبضه الواقف يستحق منه ما يقابل مدته مما عساه يفضل عن المستحق للعمارة ويرجع في تركته بالباقي لجهة الوقف إن وجد له تركة ولا تنفسخ الإجارة بموته ولا بموت ذريته وانقراضهم بل تستمر في يد المستأجر مع صيرورتها مدرسة سكنا للمستأجر حتى تنقضي مدة الإجارة ولا رجوع عليه فإذا انقضت الإجارة تخلصت مدرسة
____________________
(2/99)
للموقوف عليهم فيها
وفي تلك المدة التي يستحقها المستأجر إن رضي المستأجر بدخول المدرس والفقهاء والإمام والمؤذن لوظائفهم فبها أقاموها وإلا فهم معذورون ويقيمونها في أقرب المواضع إليها ما عساه يحصل من ريع العقار الموقوف عليها مما يفضل لهم وحكم الحاكم المنفذ ببقاء الإجارة وصيرورتها مدرسة ومسجدا والإذن لمن ولي تدريسها أن يذكر الدرس في مسجد قريب منها هو كما قلنا ولا تجب أجرة المثل على المستأجر لأنه قد بدل الأجرة المسماة والإجارة باقية وقد ذكرنا الجواب عن ذلك لتكرير السؤال ولا نقول بإخراج من اتخذها سكنا بل نقول بصيرورتها مدرسة مع ذلك كما تقدم ولا يجب على ولي الأمر إخراجه بل ولا يجوز له إخراجه وهو لم يمنع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ولا سعى في خرابها وإنما سعى في عمارتها وعمارته أن الحكم الذي صدر صحيحا وهو في ذمة الحاكم والشهود وقد تقلدوه إن كان خيرا فلهم وإن كان شرا فعليهم ما لم يتبين لنا أنه شر ولا فرق بين أن يكون الذي في يده من أهل العلم أو ليس من أهل العلم والمباشرات المكسية عليه إثمها ولا يتعلق بنا منها شيء
هذا جوابنا بحسب الظاهر وإن كان حاكم الآن يظهر له بالكشف والفحص من صورة الحال خلاف ذلك فعليه اتباع ما يظهر له من الحق ولا يلزمه ما قلناه ويجب الدوران مع ظهور الحق وجودا وعدما انتهى
مسألة سئل الشيخ الإمام رحمه الله تعالى عن رأيه في الأكل من الأوقاف هذا الزمان
أجاب الأوقاف منها ما يقفه على نفسه ومنها ما يقر بأن واقفا وقفه عليه ويكون مراده نفسه والوقف في هذين القسمين باطل على مذهب الشافعي المشهور ومذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد وقول محمد بن الحسن ومقتضى قول أبي حنيفة ومنها ما يملكه لغيره ويسلمه إياه ثم يقفه ذلك الغير عليه وهو باطل على مذهب مالك
وهذه الأنواع الثلاثة من الأوقاف قد يكون مصيرها إلى الفقهاء وغيرهم والأكل منها فيه شبهة لأن من الشبهات اختلاف العلماء فليست من الحلال البين ولو اتفق أن حاكما حكم بها وبصحتها وهو يرى صحتها في النوع الأول والثالث أو يعلم حقيقة الإقرار في النوع الثاني وصدقه ويرى صحة المقر به فالحكم ينفذ ظاهرا وفي نفوذه باطنا اختلاف للعلماء فلا يخرجه ذلك عن الشبهات التي من اتقاها استبرأ لدينه وعرضه وإن علم كذب الإقرار فهو حرام بين وإن شك فيه كان في محل الشبهة فالتوقف
____________________
(2/100)
عن كل من هذه الأوقاف الثلاثة ورع أو محرم التحريم في القسم الذي ذكرناه والورع فيما سواه والأكل من وقف الهكارية من النوع الثالث وكثير من مدارس الشام كذلك
ومن الأوقاف ما يقفه على غيره ابتداء ولكن يكون واقفه قد اكتسبه بطريق فيه شبهة فالأكل منه فيه شبهة أيضا وكثير من الأوقاف التي يقفها الملوك والأمراء وأتباعهم وأشباههم كذلك إذا كانت من أموالهم التي لم يتورعوا فيها
ومن الأوقاف ما يقفه الملوك من بيت المال والوقف من بيت المال في محل الاجتهاد فالتوقف عنه ورع والأكل منه شبهة
ومن الأوقاف ما يقفه الشخص من ماله الذي لا شبهة فيه على الفقهاء وغيرهم ولكن يتضمن شرطا يفسده على مذهب العلماء من المذاهب المعتبرة فيكون الأكل منه أيضا شبهة والإمساك عنه تورعا
ومن الأوقاف ما يسلم عن ذلك كله ويشترط الواقف فيه شروطا فإن تداولها من فيه تلك الشروط ظاهرة كان حلالا وإن تناولها من ليست فيه كان حراما وإن تناولها من هو على نوع دون نوع أو مذهب دون مذهب أو احتمال دون احتمال يحتمله كلام الواقف فهو شبهة وكثير من الفقهاء الذين لا يقومون بمقصود الواقف على الكمال في جميع الأوقاف المشترطة عليهم يدخلون في ذلك وكذا من يغيب في بعض أيام الاشتغال
ومن الأوقاف ما يسلم عن ذلك كله ويعرض له احتياج إلى عمارة أو غيرها من كلف الوقف المقدمة على الصرف إلى المستحقين وهذا ينقسم إلى حرام وشبهة باعتبار قوة الاحتياج وضعفه وتعين وقت ذلك وعدم تعينه
ومن الأوقاف ما يسلم عن ذلك كله ويكون تحصيل المال بشبهة كالمزارعة المختلف فيها بين العلماء أو ما أشبه ذلك فالأكل منه شبهة
ومن الأوقاف ما يسلم عن ذلك كله ويكون الساكن الذي يؤخذ منه أجرته ماله فيه شبهة فأخذ الأجرة من ذلك المال كذلك فالأكل منه شبهة
ومن الأوقاف ما يسلم عن ذلك كله ولا يحصل من الناظر أو نائبه إيجار صحيح بل يسلمه لمن يسكنه بغير عقد ليقبل ما عساه يتوقعه من الزيادة فيه والواجب على الساكن حينئذ أجرة المثل وقد يتفق أن الذي يدفعه زائد على أجرة المثل وهو يظن أنه واجب عليه والزائد غير مستحق عليه فتناول المستحق لذلك الوقف إما حرام وإما شبهة باعتبار علمه وجهله
ومن الأوقاف ما يسلم عن ذلك ويكون ناظره أو المتكلم فيه ليس أهلا للنظر أو أخذه بطريق التغلب من غير استحقاق فليس له ولاية القبض فلا يكون قبضه صحيحا فلا يجوز للمستحق تناوله منه فأكله لذلك إما حرام وإما شبهة
ومن الأوقاف ما
____________________
(2/101)
يسلم عن ذلك كله ويكون مختلطا بغيره كالجامع الأموي الذي معلومي على الحكم منه فالأكل منه شبهة وليتني إذ أكلت من هذه الشبهات اقتصرت على قدر الضرورة وكان فيه معذرة لقيام البنية لكني أتوسع ومن يكون بهذه المثابة بعيد من الورع والكلام فيه فكيف يتكلم في الإخلاص الذي هو أعلى درجة اللهم غفرا ولكني أقول الكلام تارة بلسان الحال وليس لي فيه مجال وتارة بلسان العلم فربما لي فيه بعض قسم وأيضا قد يحصل لمن ليس بورع إخلاص في عمل فيستعين ببركة ذلك الإخلاص ويكون من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ووددت لو حصل لي ذلك المقام وأنا اليوم في إحدى وسبعين سنة ما أثق بأني حصل لي ذلك طرفة عين يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله والله أود الآن لو كان عمري الذي مضى كله كفافا لا علي ولا لي وأن يحصل لي الآن عمل واحد يرضاه الله ولست راضيا عن نفسي ولا عن كلامي هذا ولا عن هذا الكلام أيضا ولا باطلاع أحد عليه وإنما كتبته كعادتي بالكتابة وعسى أن يقف عليه من ينتفع به ولا يحصل لي به ضرر والذي في قلب الإنسان لا يطلع عليه إلا الله فلعلك لا تعلم ما في نفسك لأن لها دسائس لا يعلمها إلا الله وغيرك بطريق الأولى لا يعلم ولا يصدقك عما تخبر به بل يكذبك أو لا يصغي إليك فأنت اجتهد في إخلاص ما في قلبك إن كان خيرا فلك وإن كان شرا فعليك ولا ينفعك غير الله ولو فرضنا أن غيرك علم بذلك وصدقك عليه فغيرك إما يحب وإما يبغض وإما بين ذلك فالمحب الذي لا شك فيه والله أعلم ما يقدر أن ينفعك بذره ولا يدفع عنك ضره وإذا كان هذا حال المحب فكيف القسمان الآخران فقدر الأقسام الثلاثة عدما وتحقق أن الاشتغال بهم أو رؤيتهم لا تفيد شيئا وإذا تحققت ذلك انتفعت واندفع عنك الرياء ويحك ترائي من لا شيء فانفرد مع الواحد الأحد وتقرب إلى الرب الصمد ولا يقع في نفسك أن في الوجود غيره أحدا ولا أريد بذلك مقالة أهل الإلحاد هيهات أولئك نظروا إلى الأغيار وأنا أجعلها عدما فلست أرى في كل وجه قصدته سوى خالقي الله الرقيب المهيمن إلا أن تقصد أمرا دينيا كالتعليم والاقتداء به ومن جملة المقاصد الدينية أن يرى شيخه ليعرفه حال عمله وليسره به فذلك قصد صالح
والذي ذكرته في الأوقاف تنبيه لي ولكثير من أمثالي
وكذلك في الأكل من بيت المال للفقهاء والأجناد وغيرهم فإن بيت المال على قسمين قسم حرام نعوذ بالله منه وذلك لا يسمى مال بيت المال وإنما ذكرناه ليعرف وقسم هو الحلال وهو
____________________
(2/102)
نوعان أحدهما الأراضي الواصلة إلينا من فتوح الصحابة رضوان الله عليهم والكلام في كونها أو بعضها وقفا أو غير وقف معلوم فمن يأخذ منها وهو بصفة استحقاقها المعلوم في الشرع قدر ما يبيحه له الشرع جيد ومن يتجاوز ذلك إما حرام وإما شبهة وشرح ذلك يطول وكل أحد أعرف بنفسه وبما يحصل منه من منفعة الإسلام واتصاف بما قصده عمر بن الخطاب فمن بعده الذين ليس لهم غرض إلا إقامة دين النبي صلى الله عليه وسلم فالفقهاء والأجناد هم أكثر أخذا للأموال العامة فيجب عليهم الاحتراز في مطعمهم منها وأن يكون الدرهم يدخل لهم منها حلالا محضا لا شبهة فيه وذلك عزيز وإن كانت فيه شبهة ولم يجد عنه مندوحة يقيم بها صلبه فيقتصر على حد الضرورة وغير هذه الأموال إما أن تدخل إلى الشخص بلا عوض كصدقة أو هبة أو وصية فيحترز في مال ذلك المتصدق والواهب والموصي وهل فيه شبهة أو لا فإن كان حلالا بينا وقد حصل لك منه بطريق حلال بين فاشكر ربك وإلا فهو في محل الاجتناب إما حرام وإما شبهة وإن دخل لك بعوض وجب عليك النظر في شيئين أحدهما مال من دخل إليك منه بما ذكرناه والثاني العوض الذي دفعته إليه هل هو سالم عن الشبهة أو لا والطريق الذي عاوضته بها هل هي سالمة عن الشبهة أو لا وهذه أمور كثيرة إذا فتش عنها لم يكد يوجد على بسط الأرض درهم حلال بين فإن أرباب الصنائع والتجارات والزراعات مكاسبهم وأعواضهم تنتهي إلى شيء مما ذكرناه
وأكل الحلال هو سبب لكل خير وخلافه خلاف ذلك ومبعد من الله ومن استجابة الدعاء ومن الإخلاص في الأعمال
اللهم إنا نسألك أن تتولى أمورنا بيدك ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك ولا إلى أعمالنا فليس لنا أعمال يا ذا الجلال والإكرام وصلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل ما يكون من الصلاة والتسليم وأدومها يا كريم والحمد لله رب العالمين
مسألة في رجل وقف وقفا على أقرب الناس إليه وله ابن ابن ابن بنت وابن ابن ابن بنت أخرى وهو ابن ابن ابن أخ فمن هو الأقرب إلى الواقف منهما ومن يستحق الوقف منهما أفتونا مأجورين
أجاب بما صورته الحمد لله الثاني أقرب ويستحق الوقف لأنه يدلي بقرابتين ومن يدلي بقرابتين أقرب ممن يدلي بقرابة واحدة لكن أقرب أفعل تفضيل وتارة تكون بقرب الدرجة وتارة بزيادة القرابة مع اتحاد الدرجة ويشهد لهذا اتفاق الأكثرين من جميع المذاهب على تقديم الأخ الشقيق على الأخ
____________________
(2/103)
للأب وإن كانا في درجة واحدة لما كان الشقيق يدلي بقرابة أب وأم والأخ للأب يدلي بقرابة الأب فقط ويشهد لهذا قول الشافعي في الوصية أيهم جمع قرابة أب وأم كان أقرب ممن انفرد بأب أو أم
وعبارة الشافعي هذه تشمل الإخوة والأعمام وبنيهم ويقاس عليها ما نحن فيه ولا يرد على هذا قول ابن الصباغ أنه إذا أوصى للأقرب وله جدتان إحداهما من جهة واحدة والأخرى من جهتين هل تقدم التي من جهتين أو يستويان ونحن لا ننكر جريان الوجهين ولكن نقول الراجح منهما تقديم ذات الوجهين ولا يرد عليه قوله إنه ذكرناهما في الإرث والمذهب في الإرث استواؤهما لأن المذكور في الإرث هل يستويان أو نقصد ذات الجهتين ولم يقل أحد بجريان ذات الجهة الواحدة في الإرث والمأخذ مختلف فإن مأخذ الإرث اسم الجدة والجدودة معنى واحد وإن كان سببه قد يكثر وقد يقل كما أن الأخوة معنى واحد قد تكون بأب أو بأم أو بهما ولو أوصى لإخوته دخل الجميع ولو أوصى لأقربهم لم يدخل إلا ذو الجهتين إذا وجد فكذلك كان المذهب في الميراث استواؤهما
وأما في الوقف والوصية إذا اعتبر الأقرب فالمأخذ معنى القرابة فمن يرجح فيه قدم فلا جرم قلنا يجب تقديم ذي القرابتين على ذي القرابة الواحدة والوجهان في الإرث صحيحان والوجهان في الوصية صحيحان والصحيح مختلف وما اقتضاه كلام ابن الصباغ من استوائهما غير مقبول بل يجب رده وتأويله وكل موضع كان معنى القرابة واسمها معتبرا ولم يكن هناك مقتضى سقوط أحدهما وجب النظر إليهما ومن ضرورة ذلك الترجيح بالكثرة منهما واحترزنا بقولنا ولم يكن هناك ما يقتضي سقوط أحدهما عن ابن هو ابن ابن عم في الإرث لا نظير إلى بنوة العم فقطعا ولو كان ذلك في وقف أو وصية فقد ذكرت في شرح المنهاج فيه احتمالين
اختياري الآن منهما التقديم فيقدم الابن الذي هو ابن ابن عم على الابن الذي لا يدلي إلا بالبنوة إذا كانا في وقف على أقرب الناس إليه وأقرب أقاربه وهو الذي ذكرته من حيث الفقه لا شك فيه وقد وجدت في السنة ما يمكن أن يجعل شاهدا له وهو حديث صدقة أبي طلحة لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم أرى أن تجعلها في الأقربين فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه وأعطى منها حسان وأبيا ولم يعط أنسا منها شيئا وثلاثتهم من أقاربه وحسان ألصق به لأنه ابن ابن عم أبيه وأبي بن كعب له منه بنوة عم بعيدة ولكنه ابن عمته أخت والده كذلك واعتبر هذه القرابة لما لم يمكن اعتبار القرابة البعيدة
____________________
(2/104)
وذلك يشعر بأنهما لو استويا قدم بمجموعهما وعادل بين حسان وأبي بتلك وأنس لما لم يكن فيه من المعنيين حرمه
هذا فيما نظنه وإن كان يحتمل أن يقال إن أنسا لبعده لا يقال إنه من قرابته لأنه لا يعرف بذلك وإن جمعتهما قبيلة الخزرج أو أنه لم يكن يلزمه تعميم الأقربين أو أنه لم يقتصر على الأقربين بل عمم جميع القرائب جوازا لا وجوبا ولذلك أعطى حسان وأبيا وإن لم يستويا حقيقة فلذلك لم نجعله دليلا جازما بل قلنا إنه يمكن أن يجعل شاهدا
وما قدمنا كاف في الفتوى بما قلناه والله أعلم انتهى
فتيا من حماة في وقف وقفه واقفه على الأسرى ووقف آخر وقفه على الأسرى فاحتاج أحد الوقفين إلى العمارة فهل يجوز أن يصرف في عمارته من الوقف الآخر
الجواب لا يجوز ذلك لكن إذا كان الحاكم ناظرا وظهر له أن المصلحة أن يقترض من أحد الوقفين للآخر ولم تكن حاجة إلى استفكاك أسرى ذلك الوقت فيجوز أن يقترض منه ما يعمر به ويرد عليه إذا كملت العمارة والله أعلم انتهى
مسألة سئل الشيخ الإمام رحمه الله ما يقول الشيخ الإمام شيخ الإسلام في مسألة اختلف فيها فقيهان وهي أن المسجد إذا كان له من يؤذن بأوقات الصلوات المفروضة ومن يهيئ القناديل للاستصباح ويكنس المسجد من الغبار ولكل من هذين على المسجد جعل فعجز ريع المسجد في وقت ما عن أن يوفي بجعلهما فمن يقدم من هذين الرجلين بصرف جعله فقال أحدهم يقدم القيم بالقناديل وعلل قوله بأن في ذلك مصلحة للمسجد إذ هو أشبه من المؤذن بعمارة المسجد لأنه يؤذن ببقائه وترك اندراسه
وغير ذلك يؤذن بانقطاعه وخرابه وقال الآخر بل الذي يؤذن بأوقات الصلوات أولى بالأخذ والإعطاء ممن يقوم بالقناديل واستدل بقوله إن المعهود من الشرع اقتضاء الأذان للصلاة ويكفي فيه ما ورد في الحديث وما تقرر في أذهان المسلمين حين صار معلوما من الدين بالضرورة ويؤيده قول كثير من العلماء إنه فرض كفاية ولا كذلك في استصباح المساجد وكنسها إذ الاتفاق له بل وربما عد هذا من البدع
وحاصل ما لديك أن تقول إنه من البدع المستحسنة وحينئذ فلا يعارض قولك ما كان مشروعا في أصل الدين متحققا بقول أهل اليقين إنه فرض كفاية ويؤيد ما قلته من حيث المعنى قول عامة العلماء تشرف بمتعلقها ولا شك أن متعلق الدين أشرف من متعلق الوقود والكنس إذ هو دال على كبرياء الله تعالى ورحمته
____________________
(2/105)
أما كبرياؤه فلما هو مفهوم من قوله الله أكبر وتأكيده بالتكبير أربع مرات وأما رحمته فلما يدركه الفطن اللوذعي من قوله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله حيث كان ذلك مخرجا لنا عن ربقة الكفر وجهالته مدخلا لنا في حوزة الشرع وحمايته
ومن رحمته أيضا قوله حي على الصلاة حي على الفلاح كيف بسط لك موائد كرمه في دعائك إلى خدمته التي تشرف بها النفوس الزكية وتنور بها القلوب القدسية ومن ذلك كثير يفهمه الله من يشاء من عباده ومتعلق هذا يرجع فهمه إلى سبب إبداعه وذلك أنهم قالوا إنما أبدع ذلك خشية أن يهجم على المسلمين في صلاتهم من يؤذيهم من أعدائهم بالقتل أو غير ذلك فأين أنت من تباين هذين المتعلقين بفعل المكلف لما ينشله من حضيض طبعه وعتوه ويوصله إلى أوج شرعه وسموه ويرجع هذا إلى حفظ بقاء أجسادهم أن يصيبها ما يخشون فماذا يكون من قضية هذين القائلين وأي القولين أولى بالنصرة والاتباع حتى يترتب عليه إيصال الحق إلى مستحقه أفتونا مأجورين رحمكم الله الحمد لله رب العالمين
أجاب الشيخ الإمام رضي الله عنه الحمد لله متى كان في الأوقاف المعروفة التي العمارة مقدمة فيها فلا يصرف لواحد منهما إلا أن يكون ذلك القدر المصروف لا تدعو العمارة إليه وحينئذ يكون حكمه حكم ما لو لم يكن عمارة إن كان للواقف شرط معلوم في تقديم أو غيره اتبع وإن جهل الحال اتبعت العادة المستمرة في التقديم وغيره
وإن كان من مال مرصد للمصالح بحيث يتعين تقديم الأولى أو كان الواقف شرط ذلك أو قال إن الناظر يصرفه للأولى وتعارض المذكوران فإن كان الذي أرصد ذلك أو وقفه قال إنه للأولى مطلقا أو كان ذلك من المصالح العامة فالمؤذن أولى أما كون القيم أولى في الحالة الأولى فلأنه أخص وهو من باب درء المفاسد والمؤذن من باب جلب المصالح ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح ولأنه يهيئ المسجد لجميع ما يقصد منه من الصلاة المفروضة والتطوع والذكر والاعتكاف ومنفعة مستمرة في جميع الأوقاف ليلا ونهارا وبفقده ربما يتعطل ذلك أو أكثره ويهجر المسجد والأذان وإن كان أشرف وأعلى فليس خاصا بالمسجد بل هو لأهل المحلة والبلد وإعلامهم بدخول الوقت يؤدي الفرض والسنة بإقامته في أي موضع كان من المسجد وغيره
وهو دعاء إلى الصلاة المفروضة فقط في أوقاتها الخمسة وبعدمه لا تتعطل عبادات المسجد عن المفروضة ولا المفروضة في كثير من
____________________
(2/106)
الناس المجاورين للمسجد العالمين وقول من قال إن القيم بدعة باطل أما الكنس فمعهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فمات فدفن ليلا الحديث ويعلم بالضرورة العادة أنه لولا الكنس لحصل من الأوساخ والقمامات والغبار ما يهجر المسجد ويفضي به إلى تعطيله ممن يأوي فيه وتعطل العبادات التي بني لها هذا لا شك فيه في كل زمان
وقد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أعمال أمته حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد فلا شك ولا ريب في أن كنس المسجد من القرب المطلوبة للشرع المثاب عليها وأنه سنة ثابتة من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما تهيئة القناديل للاستصباح فهذا هو الذي استروح القائل إلى أنه بدعة والحق أنه ليس ببدعة فإن عمر رضي الله عنه نور المساجد والصحابة متوافرون وشكره علي رضي الله عنه على ذلك وكل ما فعله عمر رضي الله عنه سنة ليس ببدعة ولا يجوز إطلاق البدعة عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
اقتضى هذا أن سنة الخلفاء الراشدين ليست ببدعة وعمر رضي الله عنه ثاني الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ولم نعلم أحدا من العلماء المتقدمين ولا المتأخرين أطلق على شيء مما فعل الخلفاء الراشدون بدعة مطلقا وقد وقع في كلام الشيخ العلامة شيخ الإسلام في زمانه أبي محمد بن عبد السلام على التراويح أنها بدعة مستحبة وكذا وقع في كلام الفاضل الكبير أبي بكر الطرطوشي المالكي في كلامه على البدع والحوادث وغيره عدا التراويح فيها واغتر بهذا كثير من الناس وهؤلاء العلماء المتأخرون رضي الله عنهم لم يطلقوا لفظ البدعة إطلاقا
وإنما قيدوه بالمستحبة وأدرجوه في جملة الجواب وكان ذلك عذرا مبينا ما قصدوه من كونها حادثة بتلك الصفة الخاصة وما أحسن وأصوب كلام الشافعي رضي الله عنه حيث قال المحدثات ضربان أحدهما ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة ضلالة
والثاني ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا وهذه محدثة غير مذمومة وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام رمضان نعمت البدعة هذه تعين أنها محدثة لم تكن وإذا كانت ليس فيها رد لما مضى
هذا كلام الشافعي رضي الله عنه فانظر كيف تحرز في كلامه عن لفظ البدعة ولم يرد على لفظ المحدثة وتأول قول عمر رضي الله عنه
____________________
(2/107)
على ذلك وكيف وهو إمام العلماء سيد من بعده فالبدعة عند الإطلاق لفظ موضوع في الشرع للحادث المذموم لا يجوز إطلاقه على غير ذلك وإذا قيدت البدعة بالمستحبة ونحوه فيجوز ويكون ذلك للقرينة ويكون مجازا شرعيا حقيقة لغوية
فقد بان بهذا أن كنس المسجد وتنويره بالقناديل وغيرها ليس ببدعة والتنوير أيضا خاص بالمسجد فيه تهيؤه ليلا للعبادات فهو يتقدم على الأذان بذلك وبأن منفعته في مدة الليل وهي أطول من أوقات الأذان وإن كانت أقل من مدة منفعة الكنس فإنها ليلا ونهارا
وهذا كله إذا كان من مال خاص بالمسجد وهي الحالة الأولى وأما كون المؤذن أولى في الحالة الثانية فلعظم موقعه في الدين وتنويره لقلوب الموحدين والأذان مطلوب للشرع طلبا مؤكدا إما وجوبا عند جماعة من العلماء وإما استحبابا مؤكدا عند بعضهم وهو شعار الإسلام وعلامة الإيمان ولم يجمع ذكر من الأذكار ما جمعه وفضائله ومناقب أهله أكثر من أن تحصر وهو من أعلى شعب الإيمان وكنس المسجد من أدناها لما نبه عليه الحديث الذي قدمناه وهو قوله حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ففيه إشعار بأن ذلك من أدنى الأعمال الصالحة فكيف نساوي بين أعلى الأعمال من أدناها فضلا من أن تقدم أدناها على أعلاها والنظر في المصالح العامة إذا تعارضت يجب عليه تقديم الأهم فالأهم ونصب المؤذن في البلد فالمحلة أمر مطلوب لا بد منه وكنس مسجد خاص وتنويره ليس مهما في الدين فلا علينا إذا علق ليحصل ما هو أهم في الدين والله أعلم انتهى
مسألة في ناظر مدرسة عمل فيها نقيبا بمعلوم ومات فولي النظر آخر هل له تغييره
الجواب فعل الأول في المعلوم إن عارض شرط الواقف بغير النقيب لم يجز وإلا فيجوز والثاني له أن يتبع ما يراه مصلحة وإن خالف الأول والله أعلم انتهى
قال الشيخ الإمام رحمه الله تعالى وقف دارا لحديث الأشرفية مختصرا هذا ما وقفه السلطان الملك الأشرف أبو الفتوح موسى بن العادل أبي بكر محمد بن أيوب بن شاذي جميع ما يأتي ذكره فمنه الدار ومنه جميع الحانوتين من شرق بابها وجميع الحانوت من غرب الشباك وجميع الحجرة يصعد إليها من باب ملصق بالحانوت وجميع الحجرة من غرب ما يأتي ذكره ومنه جميع القيسارية السفل والعلو وجميع الساباط قبالتها ودار ومنه ثلث حزر ما وقفا مؤبدا فالدار دار حديث
وأما سائر العقار فموقوف على مصالح هذه الدار وعلى أهلها يبدأ الناظر في هذه الأماكن بعمارة الدار وعمارة ما هو
____________________
(2/108)
موقوف عليها وعلى أهلها قدر الحاجة إليه من زيت وشمع وقناديل ومصابيح وتعاليق وحصر وبسط برسم المسجد وسائر ما لا يختص أحد بسكناه من سفل الدار وما تحتاج إليه من آلة تنظيف وكنس ونحو ذلك وما لعله تدعو الحاجة إليه من تقوية فلاح وإقراضه وشراء دواب وآلات ويتعاهد كتب الوقف وحججه بالإثبات ويصرف في ذلك من مغل الوقف مقدار الحاجة وله أن يصرف من مغل بعض الأماكن الموقوفة في عمارة مكان آخر منها مما وقف الآن ومما سيوقف إن شاء الله تعالى
وما فضل بعد ذلك كان مصروفا إلى أهل الدار من أصحاب الحديث والمشتغلين بعلمه والسامعين له والقراء للسبع والشيخ المحدث والإمام وسائر المرتبين بالمكان المتعلقين به على ما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى فمنه ما هو مصروف إلى الإمام ستون درهما عن كل شهر في السنة سبعمائة وعشرون وعليه القيام بوظيفة الإمامة في الخمس وفي التراويح وعليه عقد حلقة الأقراء والتلقين وشرطه في هذا أن يكون حافظا للقراءات السبع عارفا بها وللشيخ الناظر أن يجعل حلقة الأقراء إلى شخص غير الإمام ويوزع المقدار المذكور عليهما على حسب ما يرى المصلحة فيه
ويصرف إلى الشيخ المحدث في كل شهر تسعون درهما وهو أبو عمرو بن الصلاح ولنسله خمسون درهما كل شهر إلى أن ينقرض آخرهم ويصرف إلى أولاد الشيخ أبي موسى ونسله كل شهر ستون درهما ولهم أو لمن شاء منهم سكنى الحجرة التي من شمالي الدار ويصرف إلى خادم الأثر الشريف النبوي وهو الحاج ريطار واسمه غلام الله في كل شهر أربعون درهما ويجري بعده على نسله فإذا انقرضوا عاد ذلك إلى مصارف الوقف وجهاته ويجعل شيخ المكان بعد انقراضهم خدمة الأثر إلى من يشاء ويجعل له ما يراه والمصروف إلى هؤلاء الثلاثة وهم أولاد أبي موسى وعقبة وعقب ابن الصلاح وعقب ريطار من مغل ما سوى الثلث المعين من حزرم لكونهم لم يذكروا حالة إنشاء ويصرف في كل شهر مائة درهم إلى عشرة أنفس من قراء السبع لكل واحد علم ويصرف إلى قارئ أربعة وعشرون درهما كل شهر ويصرف إلى خازن الكتب ثمانية عشر درهما في كل شهر وعليه الاهتمام بترميم الكتب وإعلام الناظر ونائبه ليصرف فيه من مغل الوقف ما يفي بذلك
وكذا إذا مست الحاجة إلى تصحيح كتاب ومقابلته ويصرف إلى شخص يكون مرتبا ونقيبا ثمانية عشر درهما وللشيخ أن يضم إليه في بعض ذلك شخصا من الجماعة
____________________
(2/109)
ويزيده على ذلك شيئا على ما يراه وللمؤذن في كل شهر عشرون درهما وللبواب خمسة عشر درهما ويصرف إلى قيمين ثلاثون درهما وللشيخ الناظر أن يفاوت بينهما على حسب عملهما وإن وقع الاستغناء بواحد اقتصر عليه وصرف إليه بعض ذلك على ما يقتضيه حاله ويصرف كل سنة ألفا درهم ومن مغل ثلث حزر ما في مصالح النورية والقائمين بمصالحها والمشتغلين بالحديث من أهلها على ما يقتضيه رأي الواقف أو من يفوض ذلك إليه ويصرف في شراء ورق وآلات النسخ من مركب وأقلام ودوي وكراسي ونحو ذلك ما يقع به الكفاية لمن ينسخ في الإيوان الكبير أو قبالته الحديث أو شيئا من علومه أو القرآن العظيم أو تفسيره ويصرف إلى من يكتب في مجالس الإملاء وإلى من يتخذ لنفسه كتبا أو استجازة
ولا يعطي من ذلك إلا لمن ينسخ لنفسه لغرض الاستفادة والتحصيل دون التكسب والانتفاع بثمنه وما فضل عن الأصناف المذكورين والجهات المذكورة إلى تمام ألف ومائتي درهم يصرف إلى المشتغلين بالحديث والمشتغلين له
قال علي السبكي الذي ترجح عندي أن يكون المصروف إلى المشتغلين بالحديث والسامعين له ألف درهم ومائتي درهم وقوله تمام مقصوده به إدخال المعنى في الغاية وكأنه قال ما فضل من درهم إلى تمام ألف ومائتين وإنما ذهبنا إلى ترجيح هذا الاحتمال ولم نجعل المعنى أن ما فضل بعد تكملة المصارف إلى أن يتكمل بها ألف ومائتان وهو محتمل أيضا لكنا عدلنا عنه لأن من المصارف المذكورة ألفين للنورية ومن المصارف المذكورة أمور مجهولة كقرض الفلاحين وتقويتهم والمرتب ونحوه وأمور كثيرة تقدمت وهي محتملة لأن يزيده على ذلك فلا يمكن أن يكون مجموع ذلك مع المصروف إلى المشتغلين بالحديث ألفا ومائتين فتعين أحد أمرين أحدهما أن يكون المصارف التي عينها في الدار وجملتها أربعمائة وخمسة وخمسون ويكون للمشتغلين والسامعين سبعمائة وخمسة وأربعون ومجموع ذلك ألف ومائتان وفي ذلك تخصيص ولا دليل يرشد إلى غير التخصيص
والثاني أن يبقى ذلك على عمومه ويكون المراد أن لهم كل ما يفضل ما لم يزد عن ألف ومائتين وهو أحد احتمال هذا اللفظ وليس مجازا حتى يتعارض المجاز والتخصيص فكان أولى فلذلك رجحناه على أن لقائل أن يتمسك بقوله
وما فضل بعد ذلك كان مصروفا إلى أهل الدار من أصحاب الحديث والمشتغلين بعلمه والسامعين له والقراء للسبع والشيخ المحدث والإمام وسائر المرتبين بالمكان المتعلقين به فلم يذكر النورية هاهنا ولا أولاد الحافظ
____________________
(2/110)
فيحتمل أن هؤلاء هم المحسوبون من الألف والمائتين ويكون للمشتغلين والسامعين بقيتها
وجوابه أن ذلك لا ينفك عن التخصيص وأيضا فإن الوقف إن وفى بذلك فلصرفها مخلص لما دل عليه قوله في آخر الكتاب وإذا رأى قصر الفاضل على أهل الدار أصلح كان له وإن لم يف الوقف فالنقص داخل عليهم وإنما قلنا إن الاحتمالين على السواء لأن إلى لانتهاء الغاية وليس في الكلام ما يجعل به الابتداء فلا بد من تقدير أحد أمرين إما من الفاضل وإما من الأصل وليس أحدهما أولى من الآخر وبهذا يظهر أن الحمل على ألف ومائتين كاملة لا محذور فيه زاد الوقف أو نقص والحمل على التتمة فيه محذور بتقدير زيادة الوقف وأن لا يرى الناظر النقص عليهم ويكون الواقف أراد خلاف ذلك والله أعلم
عدنا إلى لفظ كتاب الوقف قال فيجعل لكل من المشتغلين ثمانية دراهم ومن زاد اشتغاله زاده ومن نقص نقصه ويجعل لكل من السامعين أربعة أو ثلاثة ومن ترجح منهم زاده ومن كان فيه نباهة جاز إلحاقه بالثمانية ومن حفظ منهم كتابا من كتب الحديث فللشيخ أن يخصه بجائزة ومن انقطع منهم إلى الاشتغال بالحديث وكان ذا أهلية يرجى معها أن يصير من أهل المعرفة فللشيخ أن يوظف له تمام كفاية أمثاله بالمعروف وإذا ورد شيخ له علو سماع يرحل إلى مثله فله أن ينزل بدار الحديث ويعطى كل يوم درهمين فإذا فرغ أعطي ثلاثين دينارا كل دينار تسعة دراهم هذا إذا ورد من غير الشام فإن كان ممن هو مقيم بالشام كان له دون ذلك على ما يراه الشيخ وإن كان صاحب العلو من المستوطنين بدمشق واقتضت المصلحة استحضاره في الدار لاستماع ما عنده من العالي فللناظر أن يعطيه ما يليق بحاله من عشرة دنانير فما دون ذلك وإذا اقتضت المصلحة أمرا دينيا يناسب مقاصد دار الحديث زائدا على ما نص عليه في كتاب الوقف فللشيخ الناظر أن يصرف ذلك من مغل الوقف ما يليق بالحالة ومن قام بشرط جهتين إتيانه بهما فللناظر ذلك
وللشيخ الناظر أن يستنسخ للوقف أو يشتري ما تدعو الحاجة إليه من الكتب والأجزاء ثم يقف ذلك أسوة ما في الدار من كتبها وعليهم أن يجتمعوا في خمس ليال ولهم أن يبتدئوا بعد صلاة الظهر وللناظر أن يتخذ لهم طعاما وله أن يجعل بدل الطعام كل ليلة ما يتم وله أن يشتري ما يليق من شمع وعود يبخر به وكيزان وثلج ونحو ذلك وله أن يتخذ في شهر رمضان طعاما أو يفرق عوضا عنه ألف درهم بالسوية على جميع أهل الدار من المرتبين والساكنين وذلك إذا رأى في مغل الوقف اتساعا ومهما كان في مغل الوقف نقص
____________________
(2/111)
بحيث لا يفي بجميع الجهات المذكورة فليجعل النقص في الأمور الزائدة دون الأصلية المهمة وليكمل للمؤذن والقيم والخازن والبواب والقارئ والشيخ وقراء السبع وطبقة المشتغلين ويخص بالنقص والحرمان السامعون
قال علي السبكي ذكر أنه يكمل لهؤلاء فأشعر أنه لا يكمل لغيرهم وذكر أنه يخص بالنقص السامعون فاقتضى أنه لا ينقص غيرهم فتعارض هذان الأمران في الخادم للأثر وعقب أبي موسى والنورية هل ينقصهم بمقتضى الكلام الأول أو لا بمقتضى الكلام الثاني لا يكاد يترجح عندي في ذلك شيء لكن النفس تميل إلى أن النورية لا ينقص منها شيء لأنه ظن على أدنى أن سبب هذا أنه أخذ لها شيئا بعوضها عند هذين الألفين وأيضا فليس هو من مصارف الدار الأشرفية وخادم الأشرفية مخلص فإنه بعد انقراض نسل ريطار حصل الأمر فيه إلى رأي الناظر
فقد سهل وأولاد ابن موسى أمرهم مشكل ويسهل عدم التكمل لهم أن الذي لهم صلة ليس عن وظيفة ويحمل قوله ويخص بالنقص والحرمان السامعون على أن المراد به أهل الحديث بقرينة قوله قبل ذلك وظيفة المشتغلين كأنه قال طبقة المشتغلين لا طبقة السامعين لم يرد بالنقص والحرمان إلا هذا ولم يتعرض إلى رب الجهات المذكورة وفي دلالة قوله وليكمل على أن تلك الأصناف التي قال إنه يكمل لها هي الأمور المهمة
ولا شك أنها كذلك لأنها قوام دار الحديث وأما أولاد ريطار وذرية ابن الصلاح وذرية أبي موسى فالمصروف إليهم صلة فليس من الأمور المهمة ولذلك لم يذكرهم فيمن يكمل لهم فالأمر فيهم إلى خيرة الناظر بعد التكميل لغيرهم ممن ذكر أنه يكمل له ومما يجب النظر فيه أن المشتغلين وإن بقي ذكر أن لهم مما فضل وقد لا يفضل لهم شيء ولا يفضل عنهم ألف ومائتان والذي أراه أنه لا بد من الصرف إلى المشتغلين لكونه نص عليهم عند ضيق الوقت فيصرف إليهم وإن أدى إلى محاصصة غيرهم لكن لا يجب أن يصرف إليهم ألف ومائتان أما الصرف إليهم فلما قلناه
ولا يعارضه كونه إنما جعل لهم من الفاضل لأنا نقول لو قال إن فضل فلهم اقتضى حرمانهم على تقدير عدم الفضل لكنه قال فما فضل ففي رهنه أنه لا بد أن يفضل ودل على ذلك واعتباره نصه على التكميل لهم عند الضيق وأما أنه لا يجب أن يستوعبوا عند الضيق ألفا ومائتين فلأنا حملنا كلامه على أن المراد من درهم إلى ألف ومائتين فلم يجعل الذي لهم مقدرا بقدر لا يزيد ولا ينقص بل معناه منع زيادتهم على ألف ومائتين وأيضا
____________________
(2/112)
منع نقصانهم منها عند السعة فلو فضل بعضها معطلا زادوا على ذلك البعض بشرط أن يحصل عدد يقوم بهم شعار الدار وتصرف إليهم المقادير التي قالها والله أعلم
عدنا إلى لفظ كتاب الوقف قال وإن زاد النقص وتناهى إلى الأهلية والقائمين بها وزع عليها على حسب ما يراه الناظر وإذا فضل من مغل الوقف فاضل فللناظر أن يشتري به ملكا يقفه على الجهات المتقدمة وله أن يستفضل شيئا من المغل لذلك وإذا رأى فض الفاضل على أهل الدار أصلح كان له
وللناظر شراء حصر للبيوت المسكونة في علو الدار وسفلها وقبله منه قابل في يوم الأحد 29 رمضان سنة 132 هـ
والله أعلم نقلته في العشر الأول من رجب الفرد سنة 745 هـ
قال علي السبكي قد وقع الكلام في موضعين من كتاب الوقف وبقي مما لم يقع الكلام أن الوقف ثلاثة أقسام بالنسبة إلى الأصناف والجهات المرتبة عليه صنف يستحق من حرز ما فقط وهو دار الحديث النورية وقسم يستحق من غيرها فقط وهو ذرية ابن الصلاح وذرية أبي موسى وذرية الحاج ريطار خادم الأثر فأما ذرية ابن الصلاح وذرية الحاج ريطار فقد انقرضوا وذرية أبي موسى باقون وخادم الأثر من غير ذرية ريطار إلى رأي الناظر فلا يختص فلم يبق الآن مختص إلا ذرية أبي موسى لهم مما سوى حزرم ستون درهما في الشهر
فأنا أتقرب إلى الله تعالى بأني لا أقطعها عنهم إلا أن يتعطل ما سوى حزرم كله أو يتفق أن يعمر به كله فإنه يجوز ذلك إذا دعت حاجة الدار أو وقفها إلى عمارة ووجدنا ما سوى حزرم ريعا فلنا أن نصرفه كله في العمارة وإذا لم يفضل شيء منه لا يستحق أولاد أبي موسى شيئا والنورية من حزرم كذلك إذا اتفق والعياذ بالله أن تمحل أو أن تعمر بها كلها حال الاحتياج إلى ذلك فلا تستحق النورية والحالة هذه شيئا
وما سوى هذه الحالة لا يقطع لها شيء والنصف الثالث بقية الجهات وهي من الأوقاف كلها وقد رأيت ترتيب النفقة في هذه الدار أنهم يأخذون المغل المنسوب إلى السنة الخارجة وهي سنة أربع وأربعين مثلا وسط الأشهر الماضية من سنة خمس وأربعين من الهلالي فيقسمونه وقال المباشرون إنهم وجدوا العادة وفي ذهنهم أنهم يصرفون عن سنة أربع وأربعين ففكرت فظهر أن إضافة ريع الأشهر من هذه السنة إلى متحصل مغل السنة الخارجة صواب وليس هو سنة أربع وأربعين بل عن السنة الشمسية التي أولها جمادى مثلا سنة أربع وأربعين وذلك أني رأيت
____________________
(2/113)
الوقف في أواخر رمضان سنة اثنتين وثلاثين ومائة إلى أواخر رمضان هذه السنة مائة وثلاث عشرة سنة ينقص منها ثلاث سنين ونصف نقص الهلالية عن الشمسية تقريبا وآخر رمضان في هذه السنة في الشتاء فيكون الوقف في الصيف في أول السنة الشمسية تقريبا فمنه إلى مثله من السنة الشمسية ينبغي أن يكون هو المراد وتقسم هلالية وخراجية ونحو السنة وقع القسم وآخر السنة الخراجية في قريب نصف الهلالية فالواجب قسمة الهلالي والخراجي المتحصل في السنة الشمسية كلها وكان ينبغي حفظ نصف السنة الهلالية الخارجة حتى تقسم مع هذه ليكتمل مال السنة هلالية وخراجية لكن المباشرون لم يفهموا ذلك وحاصله أنهم تمحلوا صرفه ولا يضر فقد ظهر أن الواجب أن يأتي في البيدر في آخر السنة الخراجية
وهو آخر الصيف بحسب ما يحصل من المغل من حزرم ونضيف إليه الهلالي في تلك السنة الخراجية كلها عن اثني عشر شهرا شمسية وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم فنفرقه ولا يزال الحال كذلك في كل سنة فنقول وبالله التوفيق متحصل السنة الخراجية المذكورة في سنة خمس وأربعين وسبعمائة بعد مضي أربعة أشهر هلالية منها ومتحصل الهلالي في هذه السنة وهي سنة هلالية وأحد عشر يوما وكسر فذلك انصرف منه ومما نص عليه الواقف ولكنه لم يقدره وذلك في العمارة فالحاصل بعد ذلك منه للإمام والمقرئ في السنة سبعمائة وعشرون وللشيخ ألف وثمانون ولقراء السبع ألف ومائتان وللقارئ مائتان وثمانية وثمانون وللخازن مائتان وأربعة عشر وللقيمين ثلثمائة وستون وللبواب مائة وثمانون وللنورية ألفا درهم ولنسل أبي موسى سبعمائة وعشرون وللنقيب مائتان وأربعة عشر وجملة ذلك خمسة آلاف وتسعمائة وستة وسبعون وأيضا لإحياء الليالي الخمس خمسمائة درهم فتحررت الجملة ستة آلاف وأربعمائة وستة وسبعون درهما وأيضا للناظر وللعامل فتكون جملة ذلك سبعة آلاف وستمائة وستة وسبعين درهما والفاضل بعد ذلك لا يفي بما شرطه الواقف للمشتغلين والسامعين وهو أربعة عشر ألفا وسبعمائة فنفض عليهم هذا القدر الفاضل وهو ولا أرى في هذا الوقف أن أقطع مستحقا ولا أن أنقص اسم أحد في طبقته بل أفض ذلك بينهم على ما أراه باعتباره السنة بحيث لا يزيد عن مائتين وأربعين حذرا من الزيادة على عشرين في الشهر ولا ينقص عن ستة وثلاثين لئلا ينقص عن ثلاثة في الشهر إلا أن
____________________
(2/114)
يكون بسبب غيبة ممن يوجد منه غيبة فإن عندي أيضا إذا كان مشتغلا ويغلب على الظن أنه لا ينقطع لغير عذر يجوز للناظر أن يسامحه بالغيبة
والقول قوله بأن غيبته لعذر بغير يمين والمصروف عن اثني عشر شهرا هلالية وأحد عشر يوما وآخر المدة حين القسم أعني وقت استحقاق قسم المغل وأول المدة مثل ذلك اليوم من العام الماضي وضبط هذا يحتاج إليه لأجل الغيبة وعلى هذا يكون القسم من عهد الواقف إلى اليوم مائة وعشرة والسنون الهلالية مائة وثلاث عشرة ودخلت السنون الثلاث الهلالية وما لها في ذلك من غير حيف ولا ظلم ويجب على المباشر تحرير ذلك في حياته وإذا اتسع الوقت إن شاء الله تعالى يصرف بقية المصارف كطعام رمضان وغيره
وهذا ما تحرر عندي في ذلك الآن والله تعالى لا يؤاخذني
انتهى نقلا من خط الشيخ الإمام رحمه الله
مسألة عرعور وقف منها سليمان الضامن في ذي الحجة سنة عشرين وسبعمائة ثلاثة وعشرين قيراطا وربعا على أولاده الأربعة الذين عينهم وعلى من يحدثه الله له من الأولاد ثم على جهات متصلة وثبت ذلك على نائب الحنبلي في سنة إحدى وعشرين وحكم بصحة الوقف ونفذه مستنيبه ابن مسلم ثم قاضي القضاة الدين بن صصرى ثم حكاه بعده إلى اليوم فحضر ولد لسليمان الضامن يسمى خضر
حدث بعد الوقف وقد مات الأربعة المعينون وادعى بالوقف المذكور وهو في يد ورثة الجبغا العادلي وأظهروا من أيديهم كتابا في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة على نائب الحنبلي زين الدين أنه ثبت عنده وقف الجبغا لاثنين وعشرين قيراطا من الضيعة المذكورة في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة وحكم بموجبه ثم قامت عنده بينة بالملك والحيازة في سنة ثلاث وأربعين فحكم بصحة الوقف وهو على خبز يفرق على الفقراء والمساكين ليالي الجمع بتربته فمن يقدم منها وقد نفذه حكام أيضا ولم يحضر كتاب مشتري وقيل إن سليمان باع المكان في مصادرة عليه ووصل إلى الجبغا فوقفه
الجواب أما أن نعلم ترتب يد الجبغا على يد سليمان أو يد من ترتب على يد سليمان أولا فهذان قسمان القسم الأول أن يعلم ترتب يد الجبغا على يد سليمان أو على من بعده فالبينة بالملك المطلق للجبغا لا تسمع لأمرين أحدهما لعدم بيان السبب والانتقال ممن ثبت له الملك المتقدم وهو سليمان والثاني الوقف الثابت المحكوم به ويعترض على الأول بأن يقال بأن تبيين الانتقال مختلف في وجوب اشتراطه بين العلماء فالحاكم الذي حكم بالملك لا لجبغا قد يكون
____________________
(2/115)
يرى أنه لا يشترط فيحمل حكمه له بالملك والوقف على ذلك وهذا إنما يظهر إذا كان ذلك الحاكم قد عرف ملك سليمان ويظهر في ذلك ولم يثبت عندنا ذلك والظاهر أنه اكتفى بكونه في يد الجبغا أو الشهادة له بالملك المطلق من غير فحص عن حقيقة الحال هذا هو الظاهر من حال الحاكم المذكور والواقعة المذكورة وقد يعترض على الثاني باحتمال أن يكون الوقف المذكور بيعا لخراب أو مناقلة كما تعلمه الحنابلة أو استبدال كما هو رواية عن أبي يوسف وصار ملكا فتصح الشهادة بالملك وتحمل شهادة البينة وإطلاقهم على ذلك وهذا يندفع بقيام بينة بمعرفة المكان المذكور واستمراره بصفته من حين وقف سليمان له أو بينة أنه باق على وقفيته إلى الآن فإن اندفعت هذه الاعتراضات جاز انتزاعه من يد من هو في يده الآن والحكم به لابن سليمان
القسم الثاني أن لا يعلم ترتب يد الجبغا على يد سليمان ولا على يد واحد بعده فهنا بينتان إحداهما التي شهدت لسليمان بالملك وحكم بها في سنة عشرين وسبعمائة والثانية التي شهدت لا لجبغا في سنة خمس وأربعين وسبعمائة وهل هما متعارضتان أو لا وكيف يكون تعارض مع اختلاف الوقت ومن المقرر في المعقول أن من شرط التناقض اتحاد الوقت
والفقهاء وإن كان أكثرهم لم يصرحوا بذلك ففي كلام بعضهم ما يقتضيه وقد صرح بذلك الجرجاني في الشافي يقال وإنما تتعارض البينتان إذا تقابلتا حين التنازع فلو سبقت إحداهما الأخرى بأن يدعي زيد عبدا في يد خالد وأقام زيد البينة وقضي له به وسلم إليه ثم حضر عمرو وادعاه وأقام عليه البينة فهل تعارض بينة زيد بينة عمرو من غير أن يقيد بينة زيد الشهادة على وجهين بناء على القولين في البينتين إذا تعارضتا بقديم الملك وحديثه فإن قلنا بينة قديم الملك أولى فقد تعارضتا من غير إعادة لأن بينة زيد قائمة حين التنازع وإن قلنا هما سواء فوجهان أحدهما يقع التعارض بينهما بلا إعادة فإن البينة قائمة بحالها فلا حاجة إلى إعادتها كما لو شهد شاهدان بحق ولم يحكم به الحاكم ليبحث فإذا بحث لم يعد الشهادة كذلك هاهنا والثاني لا يقع التعارض إلا بالإعادة لأنها إذا سبقت إحداهما الأخرى لم تقع المقابلة حين التنازع وهذا الفرع الذي ذكره الجرجاني ذكره ابن شريح والأصحاب بعده ويظهر من البناء المذكور أن الصحيح التعارض ومستنده اعتماد الاستصحاب وأن كل ما ثبت في الماضي يستصحب حكمه ولا يغير إلا بدليل على التغيير فالبينة بالملك
____________________
(2/116)
المتقدم قد ثبت حكمها فحكمها مستصحب والبينة الثانية لم ترفعه فليست دليلا خاصا على تغييره وقد لا تكون علته بالكلية
وإنما اقتضت أمرا يعارضه فالمحقق منهما المعارضة فلا نقول زائدا عليها عملا بالمحقق وطرحا للمشكوك فيه فإن قلنا لا يتعارضان أو يتعارضان لم يبين الأصحاب تفريعه والذي يظهر أنا إذا قلنا يتعارضان فيتساقطان على الأصح ويصيران كمن ليس لهما بينة والفرض أنه لم تعرف يد الجبغا فتبق يده
وإن قلنا لا يتعارضان فيعمل بالثانية فتبقى يده أيضا وهذا مطرد في كل مسلكين مطلقين شهدت بهما بينتان في وقتين أنه يعمل بالثانية إذا لم يقل بالتعارض وأما إذا كانتا في وقتين على هذا النعت فيعمل بالأولى إذا لم يثبت انحلال ذلك الوقف بطريق صحيح وقد قال البغوي في الفتاوى فيما إذا ادعى الخارج وقفيتها وذو اليد أنه اشتراها يقدم الأسبق تاريخا وإن الوقف لما ثبت بتاريخ سابق لا حكم لبينة تشهد بعده لأن الوقف لا يمكن تغييره وتبديله ونقله وفي فتاوى النووي ولو كانت بينة الوقف أقدم تاريخا وبينة الملك متأخرة لكنها في يد مدعي الملك حكم بها لمدعي الملك لأن اليد أقوى من سبق التاريخ على الصحيح هذا كلام النووي ومحله إذا لم يحكم وكلامه على طوله ومعتقده ليس فيه تصريح بأن ذا اليد اشتراها ممن هي ملكه ويحتمل أن يكون محله إذا كان البينة الذي بعد الوقف تضيف الملك إلى من ترتب عليه كما يشعر به قوله بعده وكلامنا فيما إذا لم يتحقق ترتب الثاني على الأول فلم تتحقق البعدية بل هما متعارضان فمقتضى أن من شهد بالوقف يقتضي استمرار الوقف من حين تاريخ الوقف إلى الآن
ومن شهد بالملك إذا لم يذكر تاريخ ابتداء الملك تقتضي شهادته ثبوت الملك حين شهادته وقبله إلى زمن الوقف وتعارضا فإنا نستصحب الماضي إلى المستقبل والمستقبل إلى الماضي ولو تنزلنا عن ذلك لقلنا إن كلام البغوي محمول على ما إذا قالت هي ملكه الآن ولم تزد على ذلك وقد رأينا الشهادة بالملك والحيازة مختلفة الصيغة تارة تقول البينة هي ملكه حين الوقف وتارة تقول لم يزل ملكه إلى حين الوقف وكذا وقع في مسألتنا فهذه الشهادة إذا تحققت تقتضي استقرار الملك لجميع الأزمنة الماضية الممكنة ومن جملتها زمان الوقف فيحصل التعارض من هذه الجهة وعلى كل تقدير فكلام البغوي إن اقتضى الحكم لسليمان فكلام النووي يقتضي الحكم لذي اليد بالملك وإن تأخر عن الوقف فيقتضي الحكم لا لجبغا فكلام البغوي وكلام النووي يتعارضان إن لم نرتب يد الجبغا على يد سليمان فإن ترتبت تعين الحكم بوقف سليمان على قول البغوي والنووي جميعا وحيث أشكل الحال علينا
____________________
(2/117)
وسليمان ضامن مكاس
والأموال التي في أيدي المكاسين لا يخفى حال ملكهم لها ووقفه على أولاده وهذا الآن من جهة الجبغا وقف على الفقراء والمساكين وهو في يدهم فرأيي أنه لا يغير ولا يتعرض إليه ويستمر على التصدق به فلو أخذ بعض أموال المكاسين المشتبهة وجعلت صدقة كان له عند بعض العلماء مساغ فضلا عن شيء أخذ بمستند وبعد ذلك حضر كتاب مشتري سليمان فوجدته قد اشترى هو وجماعة نصارى حين كان نصرانيا عدتهم اثنان وثلاثون نفرا الصفقة المذكورة من بيت المال من الدين بن المقدسي وكيل بيت المال سنة ثمان وثمانين وستمائة فله منها بذلك حصة يسيرة ثم اشترى من رفقته في سنة عشرين وسبعمائة البقية
فالذي اشتراه في سنة ثمان وثمانين وستمائة لا يأتي فيه ما ذكرناه في أموال الضمان لكن فيه أنه من بيت المال وبيع أراضي بيت المال فيه ما فيه وأيضا البائع ناصر الدين المقدسي الوكيل وكان مسكين الحال عفا الله عنا وعنه والذي اشتراه في سنة عشرين وسبعمائة وهو الأكثر اشتراه وهو ضامن ولا شك أن الشراء في الذمة يصح لكن حكمه حكم أموال الضمان ويتلخص من هذا أن بيعه الجبغا أو لمن باع له ووقف الجبغا المرتب عليه لا تطيب نفسي بالحكم بصحته أصلا بالجملة الكافية
والحكم بوقف سليمان خير منه لأنه مبني على شراء في الذمة وخير منهما أن لا يحكم بصحة واحد منهما وأن يجعل ذلك للفقراء والمساكين لأنه من بيت المال وهم يستحقونه لكن ذلك صعب في العادة فإن جعل ذلك مخلصا للحاكم فيما بينه وبين الله بحجة وقف الجبغا في الظاهر احتمل وعضده يد الجبغا الموجودة وأننا لم نقدم على أمر بل سكتنا ولا ينسب إلى ساكت قول
هذا إن حصل الوقوف من الذي هو في يده بصرفه على الفقراء والمساكين وأما الحكم به لسليمان فهو إخراج له عن حكم أملاك بيت المال وتخصيص لأولاده فلم يحصل فيه هذا الغرض وله مستند وهو كتابهم
وفيه شبهة أيضا لأن كتابهم إنما اتصل بالخط وعند المالكية خلاف في الثبوت بالخط برفع اليد أولا وذلك لأن الثبوت بالخط عندهم ضعيف والذي أفهم من كلامهم وقواعدهم أن في مثل هذا ترفع اليد به وفي مواضع أخرى حيث لا يقوى لا ترفع اليد فيه وهم معاذير في هذا التفصيل بما مارسناه من الوقائع والله أعلم انتهى
فصل قال الشيخ الإمام رحمه الله تعالى مختصر كتاب الشامية الجوانية هذا ما وقفه
____________________
(2/118)
فخر الدين أبو بكر محمد بن عبد الله بن علي بن أحمد الأنصاري ما يأتي ذكره فمن ذلك جميع الدار بدمشق ومنه ظاهر دمشق ضيعة تعرف ببرصة وحصة مبلغها أحد عشر سهما ونصف سهم من أربعة وعشرين سهما من مزرعة تعرف بجرمانا من بيت لهيا ومنها أربعة عشر سهما وسبع سهم من أربعة وعشرين سهما من ضيعة تعرف بالبينة من حبة عصال ومنه جميع الضيعة المعروفة بمجيدل القرية ومنه نصف ضيعة تعرف بمجيدل السويداء وقفا على الخاتون ست الشام بنت نجم الدين أيوب بن شاذي ثم على بنت ابنها زمرد خاتون بنت حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين ثم على أولادها الذكر مثل حظ الأنثيين ثم أولاد أولادها ثم أنسالهم كذلك فإذا انقرضوا ولم يوجدوا عاد على الجهات التي يأتي ذكرها
فالدار مدرسة على الفقهاء والمتفقهة الشفعوية المشتغلين بها وعلى المدرس بها الشافعي قاضي القضاة زكي الدين أبي العباس الطاهر بن محمد بن علي القرشي إن كان حيا فإن لم يكن حيا فعلى ولده ثم ولد ولده ثم نسله المنتسبين إليه ممن له أهلية التدريس فإن لم يوجد فيهم من له أهلية التدريس فعلى المدرس الشافعي بهذه المدرسة ومن شرطهم أن يكونوا من أهل الخير والعفاف والسنة غير منتسبين إلى شر وبدعة والباقي من الأملاك على مصالح المدرسة وعلى الفقهاء والمتفقهة المشتغلين بها وعلى المدرس قاضي القضاة زكي الدين أو من يوجد من نسله ومن له أهلية التدريس وعلى الإمام المصلي بالمحراب بها والمؤذن بها والقيم المعد لكنسها ورشها وفرشها وتنظيفها وإيقاد مصابيحها يبدأ من ذلك بعمارة المدرسة وثمن زيت ومصابيح وحصر وبسط وقناديل وشمع وما تدعو الحاجة إليه وما فضل كان معروفا إلى المدرس الشافعي وإلى الفقهاء والمتفقهة وإلى المؤذن والقيم فالذي هو مصروف إلى المدرس في كل شهر من الحنطة غرارة ومن الشعير غرارة ومن الفضة فضة ناصرية والباقي مصروف إلى الفقهاء والمتفقهة والمؤذن والقيم على قدر استحقاقهم على ما يراه الناظر في أمر هذا الوقف من تسوية وتفضيل وزيادة ونقصان وعطاء وحرمان وذلك بعد إخراج العشر وصرفه إلى الناظر عن تعبه وخدمته ومشارفته للأملاك الموقوفة وتردده إليها وبعد إخراج ثمانمائة درهم فضة ناصرية في كل سنة تصرف في ثمن مشمش وبطيخ وحلوى في ليلة نصف شعبان على ما يراه الناظر ومن شرط الفقهاء والمتفقهة والمدرس والمؤذن والقيم أن يكونوا من أهل الخير والدين والصلاح والعفاف وحسن الطريقة وسلامة الاعتقاد والسنة والجماعة وأن لا يزيد عدد الفقهاء
____________________
(2/119)
والمتفقهة المشتغلين بهذه المدرسة عن عشرين رجلا من جملتهم المعيد بها والإمام وذلك خارج عن المدرس والمؤذن والقيم إلا أن يوجد في ارتفاع الوقف نماء وزيادة وسعة فللناظر أن يقيم بقدر ما زاد ونما هذا صريح في جواز الزيادة عند السعة بقدرها ومعرفة قدر الزيادة ما علمنا والظاهر أنه مأيوس من معرفته في هذا الوقت فإنه يستدعي معرفة الوقف حال الوقف ولم نجد ما يدل عليه وقد تحققنا الزيادة دون قدرها أما تحقق أصل الزيادة فلأنا رأينا العوائد القديمة التي لم يعرف ابتداؤها بزيادة الفقهاء والمتفقهة فيها عن عشرين والظاهر أنه تحقق فيحمل على أنهم عرفوا أصل الزيادة
وأما الجهل بقدرها فلما قدمناه لكنا نعرف أن الواقف جعل للمدرس غرارة قمح وغرارة شعير يساويان في السعر أو نحوها يكون المجموع مائتين أو نحوها
وهو في السنة نحو ألفين وأربعمائة ولم يجعل مع المدرس إلا الفقهاء والمتفقهة والمؤذن والقيم والعمارة والعشر الذي للناظر ونحن نجد الوقف في هذا الوقت على ما أخبرني به من يباشر المدرسة أن ارتفاع الوقف المذكور عن سنة ثلاث وأربعين عن سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة ستة وأربعون ألف درهم بعد إخراج العشر من المغل للناظر والصرف منه على العمارة والرتب
وما أشبههما في سنة أربع وأربعين ألفي درهم والزيت والنظر ألفي درهم فالخاص للمدرس والفقهاء والمؤذن والقيم ألفان تقريبا منه للمدرس نحو ألفي درهم يبقى تسعة وثلاثون ألفا وكسور فلو كانت كلها لعشرين فقيها ومؤذنا وقيما لكان لكل واحد قريب ألفي درهم
وقد رأيناها تثبت للمدرس وهو زيادة عن ألفين قليلا يبعد أن يجعل الفقيه أو المتفقه قدر المدرس أو قريبا منه بل العادة في حال المدارس أن يكون الفقيه منحطا عن المدرس بكثير ورأينا غالب المدارس في مصر والشام لا يزيد الفقيه عن عشر المدرس إلا في قليل منها وإذا كان كذلك فيكون للعشرين فقيها مقدار خمسة آلاف في السنة فيكون الأربعون أو ما قاربها تكفي مائة وستين فقيها وهذا أمر تقريبي يظهر به أن الزيادة كثيرة جدا تحتمل الزيادة على الثلاثين فقيها التي قيل إنه لا يزاد عليها
وملخص ما أقوله أن هذه المدرسة موقوفة على فقهاء ومتفقهة ومدرس ومؤذن وقيم وشرط الفقهاء والمتفقهة أن لا يزيدوا على العشرين رجلا إلا إن زاد الوقف فللناظر أن يزيد بقدر الزيادة وتحققنا أن الوقف زاد وأخبرني ناظرها بجملة كثيرة من الزيادات وتحققنا أن النظار المتقدمين زادوا في الفقهاء إلى فوق المائتين وأن معدل الوقف بعد إخراج الكلف والعمارة والرتب وعشر الناظر يتحصل منه كل شهر قريب ثلاثة آلاف درهم
____________________
(2/120)
منها للمدرس تقدير مائتي درهم للمؤذن والقيم تقدير أربعين درهما وللعشرين فقيها الذين من أصل الوقف تقدير أربعمائة أو خمسمائة أو ستمائة تبقى الزيادة نحو ألفي درهم كل شهر للناظر أن يزيد عليها ما شاء من الفقهاء والمتفقهة لا ينحصر في عدد والذي يقتضيه الحال ويناسب أن يكونوا مائة ويكون معدلهم عشرين درهما لكل واحد وله أن يجعل أكثر من عشرين وأقل من عشرين لبعضهم ويرتب الطبقات على ما يشاء ما دام المعدل عشرين هذا بحسب المصلحة ويميز الفقهاء ونفقته عليهم السنة اثني عشر شهرا وإن أراد تنقيص المعدل عن عشرين وعشرة فله ذلك لكنه في الغالب والصورة الظاهرة تذهب بهجة المدرسة
وأما الجواز فلا شك فيه بل قد بحث في بعض الأوقات كما إذا رأينا فقيها فاضلا لا يجد قوتا وأمكن تنزيله بخمسة دراهم في الشهر تسد خلته أو بعض خلته والمناظر الجزئية والمصالح الكلية لا يخفى عنه ذلك وهو مأذون على تعاضده فيما بينه وبين الله تعالى ولا يجب التقييد في الطبقات بسنتين وأربعين وعشرين بل يجب أن يفاوت بينها بما شاء على حسب ما يقتضيه الحال وعلى تقدير أن يرتبها كذلك ونقص المغل لا يجب أن يصرف لكل منهم كاملا بل ينقصه بينهم على نسبة الذي لهم سواء أحسبوه على تلك الطبقات وجعلوه على بعض أشهر السنة أم حسبوه على كل السنة وقدروا نقصان كل واحد عما استقر من طبقته كلا الطريقين سائغ والثاني أحسن ومن حاول أن تستقر له تلك الطبقة ويأخذها سنة كاملة فقد حاول محالا ومن طلب أن يقلل من عدة الفقهاء حتى يستمر له ذلك دائما لم يساعده الشرع على ذلك ولا المصلحة بل هو رجل واقف مع حظ نفسه ومن طلب التوسط حتى يستمر ذلك في غالب الأحوال فهذا لا بأس به وليس بواجب
وحاصله أن المصلحة أن الناظر هو يحسب معدل الوقف في الغالب ويرتب عليه بقدره وله أن يجعل مع ذلك لفقيه خمسة ولفقيه خمسين وأكثر وأقل بحسب المصلحة ولا ينحصر في عده هذا أمر مقطوع به
فإن قلت الواقف قد شرط أن لا يزيدوا على عشرين
قلت قد استثنى فقال إلا إن نما الوقف وزاد تحققنا أن الزيادة فتحققنا أن الانحصار في عشرين غير واجب
فإن قلت لم يستثن مطلقا بل قال فإن له أن يزيد بقدرها قلت قد جعلنا الزيادة بقدرها كما بيناه ولنا في جواب هذا السؤال ثلاث طرق أحدها هذا والثاني أن نقول يزيد بقدرها من العدد ما شاء ولو لكل فقيه خمسة دراهم فإنه يجد بها رفقا وله مع ذلك أن يبقي العشرين الأصول بمعالمهم الأصلية ويخص الزائدين بالمعلوم القليل وهو أحسن وله أن يعمم النقص في
____________________
(2/121)
الجميع والجواب الثالث من حيث الفقه أن يقول إن الواقف
لم يقيد الاستثناء بل أطلقه وعلله وإن شئت قل بينه بقوله فإن له الزيادة لا يشترط الانحصار في عشرين ولو أريد ذلك المعنى كأن يأتي بلفظ يدل عليه فإن قلت إذا احتمل المراد واحتمل أن تكون الزيادة تحتمل العدد أو لا هل تمتنع الزيادة حتى يتحقق المبيح لها أو يجوز حتى يتحقق المانع لها
قلت الأولى الثاني لأن الواقف في الأول أطلق الوقف على الفقهاء ثم شرط العدد ثم ذكر ما يرفع الشرط في بعض الأحوال وإذا احتمل وتعارض المبيح والمانع رجعنا إلى الأصل وهو إطلاق الفقهاء وهذا بخلاف ما لو قال في الأول على عشرين فقيها لأنه حينئذ يكون الزائد على العشرين الأصل فيه عدم الدخول وفي مسألتنا بالعكس الأصل في الزائد الدخول بالإطلاق الأول حتى يتحقق الشرط الرافع له وعند التعارض لم يتحقق فيبقى على الأصل وهو الجواز
فإن قلت قد استقر الحال في زمان تنكز بحضور القضاة على ستين فقيها على ثلاث طبقات ستين وأربعين وعشرين
قلت لم يثبت عندنا أن أحدا من القضاة قال لا تجوز الزيادة ولا أن العدد محصور في ذلك ولا أنه رسم به ولا أن تنكز رسم بل قد زاد تنكز في زمانه بعد ذلك في العدة على الستين وإنما اقتصروا على الستين في ذلك الوقت لأنهم رأوا المصلحة حينئذ والمصلحة تختلف باختلاف الأوقات ولو كان فعلهم في ذلك حجة في أنه لا تجوز الزيادة في العدد على الستين لكان فعل من قبلهم حجة في جواز الزيادة فإنهم زادوا على المائتين وربما يكون فيهم من هو أعلم وأفضل بل لا نعرف ابتداء ذلك ومن المعلوم في الفقه أنا نتمسك بالعادة إذا لم نعرف لها ابتداء فالتمسك بذلك أولى وأيضا فنحن نحسن الظن بالكل والزيادة تستدعي جوازها وترك الزيادة لا يقتضي المنع ولم يحتج بما فعل قبله على الجواز فينبغي أن يراجع حسه وينصف من نفسه
فإن قلت قد أفتى جماعة من علماء الديار المصرية بالمنع
قلت رضي الله عن العلماء هم مأجورون على اجتهادهم وقصدهم الحق واعلم يا أخي أن العلماء الكاملين المبرزين يجيئون من الفقه على ثلاث مراتب إحداها معرفة الفقه في نفسه وهو أمر كلي لأن صاحبه ينظر في أمور كلية وأحكامها كما هو دأب المصنفين والمعلمين والمتعلمين وهذه المرتبة هي الأصل
الثانية مرتبة المفتي وهي النظر في صورة جزئية وتنزيل ما تقرر في المرتبة الأولى فعلى المفتي أن يعتبر ما يسأل عنه وأحوال تلك الواقعة ويكون جوابه عليها فإنه يخبر أن حكم الله في هذه الواقعة كذا بخلاف الفقيه المطلق المصنف المعلم لا يقول في هذه
____________________
(2/122)
الواقعة بل في الواقعة الفلانية وقد يكون بينها وبين هذه الواقعة فرق ولهذا نجد كثيرا من الفقهاء لا يعرفون أن يفتوا وأن خاصية المفتي تنزيل الفقه الكلي على الموضع الجزئي وذلك يحتاج إلى تبصر زائد على حفظ الفقه وأدلته ولهذا نجد في فتاوى بعض المتقدمين ما ينبغي التوقف في التمسك به في الفقه ليس لقصور ذلك المفتي معاذ الله بل لأنه قد يكون في الواقعة التي سئل عنها ما يقتضي ذلك الجواب الخاص فلا يطرد في جميع صورها وهذا قد يأتي في بعض المسائل ووجدناه بالامتحان والتجربة في بعضها ليس بالكثير والكثير أنه مما يتمسك به فليتنبه لذلك فإنه قد تدعو الحاجة إليه في بعض المواضع فلا نلحق تلك الفتوى بالمذهب إلا بعد هذا التبصر
المرتبة الثالثة مرتبة القاضي وهي أخص من رتبة المفتي لأنه ينظر فيما ينظر فيه المفتي من الأمور الجزئية وزيادة ثبوت أسبابها ونفي معارضتها وما أشبه ذلك وتظهر للقاضي أمور لا تظهر للمفتي فنظر القاضي أوسع من نظر المفتي ونظر المفتي أوسع من نظر الفقيه وإن كان نظر الفقيه أشرف وأعم نفعا
إذا علمت هذا فالفقه عموم شريف نافع نفعا كليا وهو قوام الدين والدنيا والفتوى خصوص فيها ذلك وتنزيل الكلي على الجزئي من غير إلزام والحكم خصوص الخصوص فيها ذلك وزيادات إحداها الحجج والأخرى الإلزام ومن أي المراتب الثلاث كنت أقصد وجه الله وحده ومن خالفك فانظر في كلامه وتطلب له وجها فإن وجدته أصوب فارجع إليه وإن وجدته على خلاف ذلك فاستغفر له واعلم قدر نعمة الله عليك إذ هداك لما لم يهده له فاشكر ربك ولا تنقص أخاك
ولم أقف إلى الآن على الفتاوى المذكورة ثم طلبتها وأقدم مقدمة قبل أن أقف عليها أن هذا الوقف ليس كله فضة بل أكثره مغل ولم يذكر الواقف عليه أن للناظر تنصيصه بل جعله يخرج منه للمدرس غرارة قمح وغرارة شعير والباقي للفقهاء والمتفقهة والمؤذن والقيم ومقتضى ذلك أنه إذا حصل منه مغل يملكونه وليس له بيعه إلا بإذنهم لفظا أو عرفا فالتقدير فإن لكل فقيه ستين أو أربعين أو عشرين مع العلم بأن الأسعار لا تستقر على سعر واحد تفضي إلى أمور منها أنه قد يفضل من الوقف شيء والواقف قد جعل جميعه لهم فتأخيره عنهم ظلم ومنها أنه لم يف الوقف بتلك المعالم للسنة بكمالها فطلبهم لها ظلم
وكل ذلك إنما أوجبه التقدير بدراهم معلومة فالصواب أن يقال كلما فضل من المغل عن معلوم المدرس يقسم بينهم على ما يراه الناظر ففي الزمان الأول قبل الزيادة على عشرين ومؤذن وقيم وبعد الزيادة بحسب ما دل عليه تعديل ثلاث سنين آخرها سنة أربع
____________________
(2/123)
وأربعين وسبعمائة يكون على مائة ومؤذن وقيم ويقسمه الناظر بينهم قليلا كان أو كثيرا على ما يراه لكن ينبغي أن يكون منهم عشرون لا ينقص مجموع المصروف إليهم عن خمسة آلاف درهم في السنة بأكثر من مائتي درهم معدل كل منهم عشرون في الشهر وليس هذا القول منا ازدراء على من قدر ذلك وإنما هو بيان الحكم وحمل ذلك التقدير والتقدير على أنه مرد يرجع إليه ويقسم ما تجب قسمته على نسبته فإن فهم أحد خلاف ذلك لم يلتفت إليه فإنه خلاف شرط الواقف
ونحن ليس لنا في الأوقاف إلا سلوك الطريق الشرعي في قسمتها على شرط الواقف المملك ما لنا فيها إعطاء ولا حرمان ولا تقدير إلا تنفيذ ما فعله الواقف وفي الحقيقة الإعطاء من الله تعالى والواقف يتصرف فيه بإذنه ونحن قسام كما قال صلى الله عليه وسلم إنما أنا قاسم والمعطي الله
ومن تمام النظر في هذه المقدمة أنه هل يجب أن يكون فيهم عشرون يحافظ على إيصالهم ما كان لهم في زمان الواقف أولا ولا شك أنه قد أطلق الفقهاء أولاد عمهم وجعل الباقي كله لهم وللمؤذن والقيم ثم شرط فيهم أن يكونوا عشرين إلا أن يزيد الوقف ولا شك أنه قبل الزيادة في الوقف لا تجوز الزيادة في العدد ويكون الحاصل الباقي كله لهم
وأما بعد زيادة الوقف فقد تحققنا عدم اشتراط العشرين فلا شك أن ذلك الشرط غير معمول به بعد زيادة الوقف ثم إنه أردفه بقوله فللناظر أن يزيد بقدر الزيادة فإما أن يكون هذا تعليلا أو بيانا فإن كان تعليلا بمعنى أنه علل استثناءه بذلك فمفهوم هذه العلة يقتضي أنه لا يزيد أكثر من قدر الزيادة فينبني على أنه إذا علل العام بعلة لا توجد إلا في بعضه هل يخص بذلك أو لا المختار لا وإن كان بيانا فالبيان إنما يكون لأمر مجمل والاستثناء لا احتمال فيه
وإنما الاحتمال لما يكون الحكم بعده فكأنه لما دفع الشرط بالزيادة ذكر أن للناظر أن يزيد بقدرها ولم يمنعه من غير ذلك إلا بالمفهوم إن سلم ومنطوق كلامه الذي قبل الشرط يقتضي التعميم فلا يعارضه هذا المفهوم ونحن وإن قلنا في الأول إن المفهوم يخصص العموم فذلك في كلام الشارع أما في كتب الأوقاف فلا ولا سيما على قاعدة الشافعي لأنه في الأوقاف إنما يعتبر الألفاظ فقد ظهر أن في حصر الزيادة في المقدار نظرا ثم لو سلم انحصارها فهل يجب أن يكون العشرون يخصون بالأصل والزائدون بالزيادة أو يشترك الكل في الجميع الأقرب الثاني لأنه لما رفع الاشتراط بالاستثناء لم يبق إلا الصرف للعموم فكل من قرر سواء ويكون الحصر في المقدار حتى لا يكثر
____________________
(2/124)
النقص فهذا الذي استقر رأيي عليه أن يزيد بقدر الزيادة ويشترك الأصليون
والزيادة في الجميع على ما يراه الناظر كما شرط الواقف وأرى أنه لا يزيد أكثر من قدر الزيادة وإن كان المقر بالعموم لأنه الذي يفهم في العرف فكأن اللفظ وضع له عرفا ومعرفة ذلك اليوم بالتحرير غير ممكن وإنما هو بالتقريب والإلحاق بأشباهها من المدارس وأقرب شيء تلحق به الشامية البرانية فإنهما جميعا لست الشام والظاهر أن مقصودها فيهما واحد والعرف واحد والشامية البرانية أكبر فإذا جعلت هذه مثلها لم يكن فيه حيف والمستقر بالبرانية للمبتدئ وللمتوسط اثنا عشر وللمنتهي ثمانية عشر درهما مع ما يتبع ذلك من خبز وغيره يقاربه فأرى أن يتقرر في الشامية الجوانية للمنتهي ثلاثون درهما وللمتوسط عشرون وللمبتدئ عشرة وأرى أيضا أن لا تنحصر الحال في ثلاث طبقات بل يفاوت في كل طبقة لأن درجات المنتهين والمتوسطين مختلفة فتجعل طبقة المنتهين من عشرين إلى ثلاثين وطبقة المتوسطين من خمسة عشر إلى عشرين وطبقة المبتدئين من عشرة إلى خمسة عشرة
ولا حرج في أن ينقص عن العشرة أو يزيد على الثلاثين بحسب ما تقتضيه المصلحة أو يبقي الطبقات على حالها ثلاثة وتكون الطبقة العليا من ستين إلى أربعين والوسطى من الأربعين إلى العشرين والسفلى من العشرين إلى خمسة وفي هذا جمع بين ما قلناه وما قرره من جعل الطبقات الثلاثة وتقاديرهم في الصورة الظاهرة ولا بد من الزيادة والنقص لأنا لو التزمنا بهذه المقادير وفضل درهم مثلا فإن بقيناه حاصلا ولم نصرفه لهم خالفنا قول الواقف إنه لهم وإن صرفناه إليهم أو إلى بعضهم خالفنا التقدير بستين وأربعين وعشرين وهذه المخالفة حق وتلك المخالفة باطل ويمكن المحافظة على الطبقات الثلاثة ويجعل فيها ستون من طبقة عشرين بألف ومائتين وعشرون في طبقة أربعين بثمانمائة درهم وثمانية في طبقة ستين بأربعمائة وثمانين وجملة ذلك دون الثلاثين ألفا بقي أن يكون ما يقسم على الفقهاء والمتفقهة ومنهم المعيد والإمام غير محصور بل كل ما يفضل ومنهم أيضا نائبهم الذي يرضون به لا تجعل له جامكية من أصل الوقف ووظيفته محاققة الناظر
فإن انفرد بالكلام فإن كان ذلك لعجز الناظر أو خيانته لم يستحق الناظر العشر واستحق هذا أجرة عمله وإن لم يكن كذلك بل هو منع الناظر من الكلام استحق الناظر العشر ولم يكن لهذا شيء إلا من مال الفقهاء إذا رضوا به ولا يولى عامل إلا إذا كان الناظر يوليه من جامكيته لأن الواقف شرط كل الحاصل للفقهاء والمتفقهة والمؤذن والقيم فلا يشركهم فيه غيرهم والله أعلم انتهى
____________________
(2/125)
مسألة في وقف المدرسة الصلاحية بالقدس الشريف وهذا صورة كتاب وقفها مثال صورة العلامة الحمد لله وبه توفيقي صورة خط الحاكم ثبت عندي مضمون الكتب الثلاثة وحكمت بها وكتب أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحبار سنة ثمان وثمانين وخمسمائة أشهد عليه مولانا الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أنه فوض إلى محمد بن أبي بكر بن خضر القرشي مع الأملاك المختصة ببيت المال بالقدس الشريف عامرها وغامرها ومعطلها ومزرعها ومواتها بثمن مثلها وولاه هذه الولاية ثم إن عز الدين محمد بن أبي بكر المذكور أشهد على نفسه أنه باع من مولانا الملك الناصر جميع ما يأتي ذكره من الأملاك الجارية في ملك بيت المال بالقدس فمن ذلك الأرض المعروفة بالحسمانية ومنه الأرض والجنان المعروفة بعين سلوان ومنه حمام صهيون وحمام باب الأسباط وفرن وحاكورة والضيعة المعروفة بصيد حنا والدار التي قبليها والدار المجاورة لها والطاحون المقابلة لها والجنان وجميع العيون والكنيسة الصغيرة المعروفة بالبربابكن التي تحتها العين والحوانيت بالسوق بثمن معين معلوم مبين موزون هو ثمن المثل قبضه البائع وصرفه في مصالح المسلمين وقبض مولانا الملك الناصر المواضع المبيعة فمتى أدرك المشتري المذكور في هذا المبيع أو في شيء منه دركا فله الرجوع على بيت المال بمقتضى الشرع المطهر ووقع الإشهاد عليهما في الثالث عشر من رجب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ولما حصلت هذه المواضع في ملك مولانا الملك الناصر أشهد عليه أنه وقف جميع الدار والكنيسة الملاصقة لها المعروفة بصيد حنا المذكورة مدرسة على مذهب الشافعي على الفقهاء المقيمين بها والمنقطعين إلى الاشتغال بالعلم المعروفين بالصلاح على أن المدرس في كل يوم يباكر في الوقت المعتاد إلى الحضور وجميع الجماعة له ويبدءوا بقراءة شيء من القرآن ثم يشفعونه بالدعاء ثم يشرع بالدرس مذهبا وخلافا وأصولا وما شاء من العلوم الشرعية ثم ينهض كل معيد مع أصحابه فيعيد عليهم ما هو بصدده من المذهب إن كان مذهبا والخلاف إن كان خلافيا وغير ذلك
وعليهم المواظبة على الصلوات الخمس جماعة إلا من أخر لعذر شرعي وعليهم ملازمة المدرسة والمبيت بها إلا من عذر معتاد بإذن المدرس إلا من يكون متأهلا فعليه الحضور طرفي النهار وعليهم بعد صلاة العصر لإعادة الدروس وعلى المدرس تفقد أحوال الفقهاء
____________________
(2/126)
فمن رآه مشتغلا أكرمه وشكره ومن رآه مقصرا وعظه مرارا فإن لم ينصلح أخرجه وقطع جاريه وكذلك من رآه على غير ما يجب يعظه وينهاه فإن استمر أخرجه
وقد فوض مولانا الملك الناصر التدريس إلى القاضي بهاء الدين قاضي القضاة بالقدس والعسكر المنصور وما جمع إليه يوسف بن رافع بن تميم وجعل النظر فيها وفي أوقافها إليه وجعل ما يصرف منها في مقابلة نظره فله أن يدرس بنفسه وبنائبه فإذا مات فإلى من يوصي إليه وينص عليه ممن يصلح لذلك فيكون التدريس له والنظر وكذلك إذا مات الآخر لا يزال ذلك كذلك كلما انقضى مدرس فإن النظر والتدريس إلى من ينص عليه أو يوصى بذلك إليه فإن مات واحد منهم ولم ينص على أحد كان تعيين المدرس إلى الحاكم الأصلي في مدينة القدس الشريف فإذا عين مدرسا صار النظر إلى المدرس للعين لا يزال ذلك كذلك أبدا سرمدا ويشترط عليه أن يلازم الدرس بنفسه إلا من عذر وملازمة المدرس في المكان إلا لحاجة جرت العادة بالغيبة لها بعد استئذان الناظر وإذنه
وعليه تفقد حال المدرسة فما رأى من نقص تقدم بإزالته فإن لم يتهيأ انتهى ذلك إلى الناظر وقد رتب له كل شهر خمسة عشر دينارا وغرارتين قمحا وعدد الفقهاء غير منضبط بل ما وسعه الوقف من القلة والكثرة وبذلك أشهد عليه في ثالث عشر من رجب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وثبت ذلك على جلال الدين أبي علي حسن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحبار الحاكم بالإسكندرية في تاسع عشر رجب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وحكم بصحة التفويض والبيع والوقف وألزم حكمه من توجه عليه إلزامه وأنفذه عبد الله بن عبد الرحمن بن سلطان بن يحيى القرشي نائب الحكم بدمشق في ثاني رجب سنة تسع وثمانين وخمسمائة شرف الدين ونفذه زكي الدين أحمد بن علي بن محمد بن يحيى قاضي دمشق في جمادى الآخرة سنة تسع وستمائة ونفذه شمس الدين سالم بن يوسف بن صاعد بن الديلم قاضي القدس في تاسع عشر جمادى الآخرة سنة عشرين وستمائة ونفذه علاء الدين علي بن محمد بن صاعد بن السلم قاضي نابلس في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة ونفذه صفي الدين عبد الله بن يوسف بن مكتوم العسي قاضي القدس في الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وستمائة ونفذه إبراهيم بن حاتم بن عياش نائب قاضي غزة في خامس جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين وستمائة ونفذ أسجال صفي الدين أيضا بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة قاضي القدس نيابة عن ابن الصائغ في الثالث
____________________
(2/127)
عشر رمضان سنة أربع وسبعين وستمائة ونفذ أسجال بدر الدين هذا أحمد بن عبد المحسن بن حسن قاضي القدس في ثامن عشر جمادى الآخرة سنة أربع وثمانين وستمائة ونفذ أسجال بدر الدين هذا أيضا شرف الدين منيف بن سليمان بن كامل بن منصور في يوم الأحد سابع شعبان سنة ثلاث وسبعمائة ولكن الشهود إنما شهدوا عليه في سنة سبع وسبعمائة
ونفذ أسجال شرف الدين منيف شمس الدين محمد بن عبد المنعم بن أبي بكر بن أحمد نائب الحكم بالقدس المعروف بابن الجلال في يوم الجمعة لثمان خلون من صفر سنة أربع عشرة وسبعمائة ونفذه شمس الدين سالم في ثالث عشر ربيع الأول سنة عشرين وسبعمائة ونفذه عماد الدين عمر بن عبد الرحيم بن يحيى قاضي القدس ونفذ أسجال ابن سالم أيضا شمس الدين محمد بن كامل بن تمام في يوم السبت الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين وسبعمائة ونفذه ابن المجد ونفذته أنا في شهر المحرم سنة أربعين وسبعمائة
وفي ظاهر الكتاب المذكور لما كان بتاريخ تاسع عشر من المحرم سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة حضر بدمشق القضاة الشافعي والمالكي والحنبلي وبدر الدين بن الأستاذ وما بيده من التفويض الذي فوضه إليه علاء الدين سنقر الزيني المبلغي ذلك عن أخيه سيف الدين قطلب الزيني المحكي فيه اتصال ذلك بالقاضي الدين بن تميم الذي فوض إليه الواقف فاتفق رأيهم على أن النظر لا ينفك عن التدريس وأن شرط من يفوض إليه النظر أن يكون ذلك تبعا لتدريس المدرسة المذكورة ويكون المفوض إليه أهلا لإلقاء الدروس من العلوم التي ذكرها الواقف وحكم الشيخ صلاح الدين على بدر الدين المذكور باستحقاق النظر وحكم بصحة ولاية التدريس والنظر وحكم على بدر الدين بعدم استحقاقه للنظر بحكم شرط الواقف والحاكم شهاب الدين ثم نفذه المالكي ثم نفذ الحنبلي حكم المالكي
قال علي السبكي أما بهاء الدين بن شداد الذي تلقى عن الواقف أن يعزله ولو عزل هو نفسه عن الوظيفتين أو عن النظر وحده أو عن التدريس وحده لم ينعزل ولو خرج عن الأهلية ولم يتعين غيره أقام الحاكم غيره مقامه إلى أن ترجع الأهلية إليه فيعود
أما النظر فلما قررنا في تصنيف مفرد من أن الناظر المشروط له النظر لا ينعزل بعزله نفسه وتجعل هذه الصيغة وهي قول الواقف وقد فوض وكونها في صلب الوقف منزلة منزلة الشرط على ما اخترناه في ذلك التصنيف وأما التدريس فلمجموع أمرين أحدهما ما ذكرناه في النظر والثاني كون الواقف جعل لبهاء الدين المذكور أن يدرس بنفسه وبنائبه ولم
____________________
(2/128)
يشترط عليه شرطا ما دام يدرس بنفسه وبنائبه فذلك له وإذا لم يحصل التدريس بنفسه وبنائبه هذا حكم بهاء الدين رحمه الله
وأما من بعده فهم قسمان أحدهما من أوصى إليه وهم الذين ابتدأ بهم فحكمهم في استحقاق التدريس والنظر حكمه ولم ينص الواقف على أن لهم أن يستنيبوا في التدريس فالظاهر أن عليهم أن يدرسوا بأنفسهم إلا من عذر ولا يخرج من هذا إلا بهاء الدين وحده فهو الذي خصه بأن له أن يدرس بنفسه ونائبه إكراما له ولم يصرح الواقف بأن لبهاء الدين أو لمن بعده أن يوصي أو يسند وإنما قال فإذا مات فإلى من يوصي إليه وينص عليه ومعنى هذا أنه إذا أوصى ونص ثم مات كان التدريس والنظر لمن أوصى إليه ونص عليه ويكون حينئذ من جهة الواقف بحكم شرطه لا من جهة الموصى بحكم إيصائه فيكون حكمه حكم البطن الثاني يتلقون عن الواقف على الصحيح لا عن البطن الأول وتظهر فائدة هذا في أمور منها إذا أوصى بهاء الدين مثلا أو غيره في حياته لا نحكم بأن وصيته هذه صحيحة بل ننتظر فإن مات حكمنا للموصى إليه ولو أراد بهاء الدين أن يفوض النظر في حياته إلى غيره
فإن كان على سبيل التوكيل جاز وإن كان على سبيل التولية المستقلة لم يجز وإن أراد أن يفوض التدريس فإن كان على سبيل الاستنابة جاز وإن كان على سبيل الاستقلال جاز أيضا لأنه ناظر وله ترك التدريس بنفسه ولا تجب عليه الاستنابة
وقد قلنا إذا تعطل أقيم غيره مقامه وهو ناظر فله أن يقيم غيره مقامه في حياته وله عزله بعد ذلك والرجوع إلى التدريس بنفسه والذي يوليه ليس له من المعلوم المشترط لبهاء الدين شيء لأنه جعله له عن نظره لا عن تدريسه وحينئذ إما أن يدرس ذلك المفوض إليه تبرعا كما كان بهاء الدين
وإما أن يجعل له شيء من غير الوقف أما من الوقف فلم ينص الواقف له على شيء
هذا حكم تفويض بهاء الدين وأما تفويض من بعده ممن أوصى إليه فكذلك لكونه لا يحكم بصحته بل إذا مات عمل بمقتضاه وليس لأحد منهم أن يفوض التدريس إلى غيره على سبيل الاستنابة لأنه قد شرط عليه التدريس بنفسه فليس له أن
____________________
(2/129)
يستنيب بغير عذر لذلك بخلاف بهاء الدين وهل له أن يفوضه استقلالا وينفرد بالنظر هذا فيه احتمال أن يقال به كما في بهاء الدين ويحتمل وهو الأقوى أن يمتنع لأنه قال وشرط عليه أن يدرس بنفسه إلا من عذر وهذا الشرط يحتمل أن يكون في التدريس ويحتمل أن يكون فيه وفي النظر معا فإذا حملناه عليهما معا فامتنع من التدريس بنفسه لم يستحق النظر وإذا لم يستحق النظر لم يكن له أن يفوض التدريس لأن قوة كلام الواقف تقتضي جعل النظر مانعا للتدريس فلا يستقل إلا في حق بهاء الدين خاصة لنصه عليه
بقي شيء آخر وهو أنه في حق بهاء الدين وفي حق من بعده من الموصى إليهم إذا فوضوا التدريس والنظر معا لواحد فالحكم على ما قدمناه لا إشكال فيه ولذلك إذا فوض التدريس إلى واحد منعه النظر لما ذكره الواقف فيمن بعدهم ووراء هذا مسألتان إحداهما إذا أوصى بالنظر وحده لواحد والثانية إذا أوصى بالنظر لواحد والتدريس لآخر وأوصى بكل منهما لاثنين فأكثر
أما المسألة الأولى فإذا أوصى لواحد ممن يصلح للتدريس والنظر معا كان النظر والتدريس له سواء أوصى له بهما أم بأحدهما لقول الواقف فإلى من يفوض إليه وينص عليه ولم يفصل بين أن يوصي بهما أو بأحدهما كقوله ممن يصلح لذلك فظاهره اشتراط الصلاحية للمجموع وكقوله بعد ذلك فيكون التدريس له والنظر أما إذا أوصى لمن يصلح للتدريس فقط أو النظر فقط فلا يمكن أن يكونا له وهل يكون له ما يصلح له لفظ الواقف ساكت عن ذلك فلا يحكم عليه بصحته لكون الواقف لم يشترطه والظاهر أنه يحكم عليه بالبطلان لعدم اقتضاء شرط الواقف له ويحتمل أن يقال لا نحكم بالبطلان أيضا لأن الواقف لم يشترط عدمه والظاهر الأول لأن الأصل البطلان إلا فيما شرطه الواقف وحاصله أن العمل بوصيته في المجموع مدلول على صحتها والعمل بوصيته في أحدهما وهو النظر ليس مدلولا عليه ولا على عدمه والأصل عدم العمل وأما العمل بوصيته في التدريس بتتبع النظر فقد استفيد مما بعد ذلك عند عدم الإيصاء
وهذا كله بحسب مذهب الشافعي في كونه إذا أوصى له في شيء
____________________
(2/130)
لا يصير وصيا في غيره أما مذهب أبي حنيفة فمن أوصى له بشيء صار وصيا في غيره فلبهاء الدين ولمن بعده أن يوصي بكل منهما على انفراده بلا إشكال
ونحن قد بينا هذا البحث على أن قوله ذلك عائد إلى المجموع لا إلى الواحد ولولاه لكان إذا أوصى لمن يصلح لأحدهما أو لا يصلح لشيء منهما يكون الشرط له فيهما وحيث لا يصلح يقام غيره وحيث يصلح إما ابتداء وإما دواما يباشر ما يصلح له كما لو شرط النظر لأولاده أو لزيد وهو لا يصلح عند الموت ثم صلح بعد ذلك هذا كله ما دام إذا مات واحد كان هناك من نص عليه فإن نص واحد منهم وأوصى ثم انعزل فهل يستحق الموصى إليه كما لو مات أولا يحتمل أن يقال بالاستحقاق لأن قوله كلما انقضى مدرس يشمل انقضاؤه بالموت وبالعزل ويحتمل أن يقال بعدم الاستحقاق لقوله أولا فإذا مات وقوله بعد ذلك لا يزال ذلك كذلك وذلك هو الحكم بالتدريس والنظر له وقوله كذلك إشارة إلى ما تقدم وهو حالة الموت فهذه قرينة تصرف الانقضاء المذكور بعدها إلى الموت وهذا الاحتمال قوي إن لم يكن أرجح فلا يكون مرجوحا وفي حق بهاء الدين لا يحتاج إلى ذلك لما قدمنا أنه لا يمكن انعزاله فلا انقضاء له إلا بالموت أو لخروجه عن الأهلية فقد قدمنا أنه بخروجه عن الأهلية أقرب إلى غرض الواقف من غيره فهو أولى أن يقام مقامه في مدة خروجه عن الأهلية والآن في هذا محتمل وإنما المنازعة في كونه يستحق استقلالا وأما من بعده فإذا لم يلازم الدرس لم يستحق فهنا نقول إنه كالمشروط له إذا خرج عن الأهلية يبقى أمره مراعى أو نقول إن شرط النظر له إنما هو بوصف كونه ملازما للدرس وقد فات فلا يكون ناظرا فالحاصل أن المدرس الناظر الأهل للوظيفتين غير بهاء الدين إذا عزل نفسه لا ينعزل بعزله نفسه لما قررناه في حق بهاء الدين لكن لا يمكن إذا رجع إلى التدريس له ذلك ويستمر تدريسه ونظره وإن استمر على عدم التدريس فإن الشرط الذي شرط عليه وهو شرط في استحقاقه للنظر لما قدمناه فلا يكون ناظرا فليس له أن يولي غيره في هذه الحالة فإن جعلنا نظره باقيا أن يولي كابن شداد وإن جعلنا نظره زائلا وكان قد أوصى إلى شخص هل يتعين كما في
____________________
(2/131)
حالة الموت أم لا لأن هذه الصورة مسكوت عنها الأقرب الاحتمال الثاني لأن إلحاق غير الموت بالموت إنما هو بالقياس والقياس لا يعمل به في الأوقاف والفرق بين ابن شداد وغيره قصد الواقف عينه فهو مقصود لذاته وغيره إنما هو مقصود بوصف كونه مدرسا وهي صفة تقبل الزوال بامتناعه من التدريس
هذا كله في الموصى إليهم أما إذا مات واحد من غير إيصاء فقد قال الواقف إن قاضي القدس الأصلي يعين مدرسا فإذا عين يصير مدرسا ناظرا وهو صحيح إذا كان صالحا لهما فإن عين مدرسا يصلح للتدريس دون النظر هل يمتنع أو يجوز ويقام ناظر كما يقام غير الذي شرط له النظر الأقرب الثاني بل يتعين القول به ولهذا ما ذكر الواقف غير ذلك ويصير الذي عينه قاضي القدس مشروطا له التدريس والنظر من جهة الواقف كما يتلقى النظر الثاني عن الواقف على الصحيح لأنه لا يستحقه بالشرط الذي ذكره الواقف فإذا مات هذا المدرس وقد قضى وأوصى إلى من يصلح للتدريس والنظر استحقهما كما تقدم في ابن شداد وغيره لأنه مثله في ذلك من جهة الواقف هذا لا شك فيه عندي ويحتمل أن ينازع فيه غيري ويستنكره وهو بعيد متروك أما إذا لم يمت هذا المدرس ولكن عزل نفسه أو عزله غيره فقد قلنا إنه لا ينعزل ولكن بامتناعه عن التدريس يقام غيره مقامه وهل يخرج عن النظر فيه احتمالان سبق التنبيه عليهما فإن قلنا لا يخرج كان له أن يولي غيره ليقوم مقامه في مدة امتناعه وإن قلنا يخرج فهل يكون النظر لحاكم القدس الأصلي حتى يجوز له أن يولي غيره أما من جهة الواقف بالشرط الذي يشترطه فلا لأنه إنما شرطه في الموت وإلحاق هذه الصورة به من باب القياس وهو غير معمول به في الأوقاف
وأما من جهة النظر العام من كونه قاضي القدس فنعم ويشاركه فيه كل من له النظر العام من القاضي الذي هو أكبر منه متولي الشام ونائب الشام والسلطان فمن سبقت توليته منهم نفذت وقد قيل إن بهاء الدين بن شداد فوض النظر وحده إلى شخص واتصل ذلك إلى شخص يسمى بدر الدين بن الاستدار ونازع الشيخ صلاح الدين المدرس في النظر
____________________
(2/132)
وعقد مجلس بدمشق كما تقدم شرحه
وعندي أن الحكم بعد استحقاق بدر الدين النظر إسناد إلى شرط الواقف وأنه اقتضى ملازمة التدريس النظر ليس بصحيح ولكن لو استند إلى شرط الواقف لم يقتضه والأصل عدمه كان صحيحا والله أعلم
والحاكم المذكور استند إلى فتاوى جماعة لم يقتض رأيي موافقتهم عليها والله أعلم
وبقي من المسألة أنه إذا امتنع صلاح الدين عن التدريس وأذن في أن يولي غيره فولى الناظر العام صحت التولية قطعا لأنه إن كان له نظر فقد أذن وإلا فقد ولى الناظر العام وأيا ما كان حصل المقصود بمجموع الأمرين والله أعلم
ثم بعد ذلك تكلمت بذلك مع من ذكرني بأن علاء الدين القدسي كان مدرسها وناظرها بتعيين الحاكم في ذلك الوقت وتعصب عليه أهل القدس حتى عزل فذكرت وقلت مقتضى هذا البحث أنه الآن باق على ولايته فوقفت عن توسع تولية غيره وهذه أمور يجب البحث والنظر إليها وليس لنا غرض مع أحد ونفسي منقادة إلى ما يئول البحث الصحيح إليه وأقف عنده وهذه فائدة العلم والله أعلم
وأما قول الواقف في موضعين أحدهما بعد استئذان الناظر والثاني إنهاء ذلك إلى الناظر فيقتضي أن المدرس عليه ناظر فيحتمل أن يريد الناظر العام وهو القاضي حتى لا ينافي ما تقدم من أن النظر للمدرس ويحتمل معنى آخر لم نفهمه وغاية الأمر أنه لعله ظن الواقف أن على المدرس ناظرا إما الواقف أو غيره أو كان في عزمه أن يجعل عليه ناظرا فلم يتفق له وعلى كلا التقديرين لا يلزم إثبات ناظر غير المدرس ولا يمكن أن يزال فإن دل عليه كلامه المتقدم الصريح في أن النظر للمدرس بكلام ملتبس لا يدل على ناظر معين يزاحم المدرس ولو تعلق عليه فلا معنى للاشتغال بفهم مراده في ذلك والله أعلم انتهى
فصل قال الشيخ الإمام رضي الله عنه من فوض الواقف النظر إليه في وقف فيه مسائل إحداها لم يكن مشترطا في أصل الوقف ولكن فوض إليه الواقف بعد تمام الوقف بأن كان الواقف قد شرط النظر لنفسه أو لم يشترط ولكن فرعنا على أن النظر للواقف فهذا للواقف أن يعزله وكذلك لغيره بعد موته ممن له
____________________
(2/133)
الولاية عليه إذا كان التفويض إليه بحكم اشتراط الواقف النظر لنفسه فإن كان بحكم التفريع على أنه ينظر في وقفه في حال عدم الاشتراط فليس لغيره بعد موته أن يعزله وهذا توسط بين طرفين شملهما إطلاق صاحب التهذيب أنه لا يجوز تبديله بعد موت الواقف
الثانية إذا شرط في أصل الوقف النظر له أعني للأجنبي فهل يشترط قبوله له قال الرافعي يشبه أن يجيء فيه ما في قبول الوكيل أو في قبول الموقوف عليه
قلت إلحاقه بالوكيل بعيد وهو أولى من الموقوف عليه بعدم اشتراط القبول لأن مأخذ الاشتراط في الموقوف عليه أن دخول عين أو منفعة في ملكه بغير رضاه بعيد وهذا مفقود هنا على أن المختار في الموقوف عليه المعين أنه لا يشترط قبوله وهو الذي قاله الماوردي والبغوي وسليم وصاحب الاستقصاء وابن الصلاح وعليه نصوص الشافعي وعلى أنه كالعتق وإن كان الرافعي في المحرر رجح الاشتراط وهو الذي أورده القاضي حسين والجوري والفوراني والإمام
الثالثة إذا لم يشترط قبوله فهل يرتد برده قال الجمهور في الموقوف عليه إنه وإن لم يشترط قبوله يرتد برده وللقاضي حسين احتمال فيه أنه لا يرتد برده صححه البغوي والخوارزمي والضياء حسين في لباب التهذيب وهو المختار وما يشبهه بالعتق وناظر الوقف ينبغي أن يكون مثله
وقال الماوردي في ناظر الوقف إن نظره يرتد برده وعدم قبوله وأشار ابن الرفعة إلى أن ذلك منه يناقض ما قاله في الموقوف عليه فإن كان الماوردي يقول إن ذلك كالوكالة فهو بعيد لكنه يسلم به عن التناقض
الرابعة إذا قبل سواء قلنا يشترط القبول أم لا فليس للواقف أن يعزله بعد ذلك وأشار ابن الصلاح إلى خلاف فيه وأطلق الرافعي عن الإصطخري وأبي الطيب بن سلمة أن له عزله وقال إنه الظاهر لكنه يشبه أن يكون فيما إذا فوض إليه بعد تمام الوقف
الخامسة هل له أن يعزل نفسه بعد أن قبل إن جعلناه كالوكيل فله ذلك ولكنه بعيد وإن جعلناه كالموقوف عليه وهو الذي مال إليه ابن الرفعة فلا ولا ينفذ عزله كما لو أسقط الموقوف إليه حقه بعد قبوله لا يسقط
وقال ابن الصلاح لو عزل نفسه ليس للواقف نصب غيره
____________________
(2/134)
ولم يصرح ابن الصلاح بأن ذلك بعد القبول فجاز أن يكون قبل القبول فيكون ردا وجاز أن يكون مراده بالعزل امتناعه من النظر وجاز أن يكون يعتقد أنه كالوكيل فإن كان كذلك خالفناه
السادسة إذا خرج عن أهلية النظر قال الأصحاب ينزعه الحاكم من يده
قال ابن الرفعة يشبه أن يكون ينزعه ليسلمه لمن يستحق النظر بعده تنزيلا لخروجه عن الأهلية منزلة الموت كما يمثل بذلك بقول في ولاية النكاح تنتقل إلى الأبعد بفسق الأقرب وأنه لو عادت أهلية الولاية عادت الولاية إليه
قلت أما عود الولاية إليه إذا عادت الأهلية فصحيح وهو يدل على أنه لا ينفذ عزله نفسه وأما انتقال النظر لمن بعده لخروجه عن الأهلية فبعيد بل ينظر الحاكم والفرق بينه وبين ولاية النكاح أن المقتضى لولاية النكاح القرابة وهي موجودة في الأبعد ولكنا قدمنا الأقرب عليه لقربه ما دام متصفا بالأهلية فإذا زالت تولاها الأبعد لوجود المقتضي لها وناظر الوقف الثاني لم يجعل الواقف له النظر إلا بعد الأول فكيف يتولاه في حياته اللهم إلا أن يكون الواقف شرط أنه إذا تعذر نظر الأول نظر الثاني
السابعة هذه المسائل الخمس التي قبل هذه كلها فيما إذا كان الناظر مذكورا في أصل الوقف بصيغة الاشتراط بأن يقول وقفت على أن يكون النظر لفلان ونحو ذلك فإن قال وقفت هذا على الفقراء وجعلت النظر فيه لفلان فللرافعي بحث في مثله وهو إذا قال وقفت هذه المدرسة وفوضت تدريسها إلى فلان قال البغوي إنه لا يغير وتوقف الرافعي فيه ولم يتوقف في منع الغير إذا قال وقفها بشرط أن يكون مدرسها وما توقف فيه في المدرس يأتي مثله في الناظر وينبغي فيهما أن يقال إذا دلت القرينة على أنه ذكر ذلك في معرض الشرط امتنع التغير وكان حكمه حكم المشروط وإلا فكما لو لم يوص إليه بعد تمام الوقف لا بمجرد قوله وقفها تم الوقف ومن جملة القرائن ما يفعله الشروطيون في هذا الزمان في كتب الأوقاف يكتبونها ويقولون في آخرها وجعل النظر لفلان ويقرأ الكتاب عليه ويقول اشهدوا علي بأني وقفته على هذا الحكم فإن قال اشهدوا علي بما فيه ففيه نظر لأن الذي
____________________
(2/135)
فيه ليس صريحا في الاشتراط فينبغي للكاتب أن يقول وشرط النظر لفلان حتى يخرج عن هذا الأشكال
الثامنة هذا كله في شرط النظر لمعين فإن كان لموصوف مثل قوله للأرشد من أولادي فينبغي أن لا يشترط القبول قطعا ويكون كونه لا يرتد برده ولا ينعزل بعزل نفسه أولى من المعين ولكن الماوردي قال فيما إذا جعل النظر لاثنين من أفاضل ولده وفيهم فاضلان فلم يقبلا الولاية اختار الحاكم غيرهما وهذا يدل أنه لا يفرق بين المعين والموصوف
التاسعة أن هذا الاشتراط من الواقف هل هو توكيل أو كوقف جزء من الموقوف أو شرط خارج عن النوعين أما كونه توكيلا فبعيد جدا لأنه لو كان توكيلا لتمكن الواقف من عزله وهو لا يتمكن من ذلك ولا التصرف خرج عن الواقف بالوقف فكيف يوكل فيه وأما كونه كشرط جزء من الموقوف ففي كلام الإمام ما يقتضيه ولكن لو كان كذلك من كل وجه لما جاز شرط النظر لنفسه إذا منعنا وقفه على نفسه فلم يبق إلا أن هذا شرط من شروط الوقف خارج عن النوعين مكن الشارع الواقف منه للمصلحة والحاجة لأن الوقف فيه ثلاثة أشياء رقبته ومنفعته والتصرف فيه فالرقبة لله تعالى على المذهب والمنفعة للموقوف عليه على ما يشترطه الواقف والتصرف أيضا يكون على ما يشترطه الواقف وليس كالتمليك لأن الإنسان لا يملك نفسه إلا بوليه لأن الإنسان لا يولي نفسه ولكنه شرط يفيد إذنا لولاه لكان ممنوعا
العاشرة إذا تبين حقيقة هذا الشرط فليس بعقد والعزل والانعزال والفسخ والانفساخ إنما يكون في العقود كما اقتضاه كلام الرافعي في باب الوديعة حيث قال لو عزل المودع نفسه فوجهان إن قلنا الوديعة عقد ارتفعت وإن قلنا مجرد إذن فالعزل لغو كما لو أذن في تناول طعامه للضيفان فقال بعضهم عزلت نفسي يلغو قوله
الحادية عشرة إذا قلنا يرتد بالرد فمقتضاه أن يبطل هذا الشرط وإذا اقترن بالوقف شرط باطل فهل يبطل فيه تفصيل وهو أنه إن كان وقف تحرير كالمسجد لم يبطل على المذهب وإن كان وقفا على معين
____________________
(2/136)
فوجهان أصحهما بطلان الوقف على ما قاله الإمام وإن كان على جهة عامة كالفقراء فوجهان أصحهما عدم البطلان
إذا عرفت هذا فلو قلنا إن شرط النظر يرتد بالرد أدى إلى فساد الوقف على وجه إلا أن يقال إن الرد يقتضي الانفساخ من حينه لا من أصله والخلاف إنما هو في الشرط الفاسد من أصله والأشبه أن عدم القبول عند من يشترطه أو الرد عند من يقول إن عدمه شرطه يوجب فساد الشرط من أصله وأما العزل والانعزال بعد القبول فقد يقال إنه يخالف الفسخ وإن كان كلام الرافعي يقتضي أنه مثله وإنما قلت ذلك لأن الفسخ يرفع العقد والعزل قطع له كالطلاق لكن الفرق أن الطلاق تبقى معه آثار النكاح والعزل لا يبقى معه شيء من الآثار فكان أشبه بالفسخ إذا عرف ذلك فلو قلنا بالانعزال لأدى أيضا إلى جريان خلاف في فساد الوقف فكان القول بعدم الانعزال سالما عن ذلك فكان راجحا مع ما تقدم مما يقتضي رجحانه والله أعلم انتهى
والحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والسلام التامين الدائمين على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم أجمعين في كل لحظة وحين
مسألة سئل الشيخ الإمام رحمه الله عن وقف الصدقات في أيدي المباشرين من جهة الحكم وقد رتب الحكام عليه فقراء يتناولون منه فبعد مدة طويلة ادعى بعض أولئك المرتبين أنه ابن أخي الواقف وقصد أخذ الوقف كله وأحضر فتاوى أن أقارب الواقف أولى بوقفه وطولب بإثبات أنه من الأقارب فعجز عن ذلك وصار يتعلق بالفتاوى التي معه فهل يجوز أن يصرف له من ذلك الوقف ما كان يصرف لغيره من الفقراء المرتبين أو غير المرتبين أو لا الجواب الوقف على أقسام منه ما يسكت الواقف عن سبله وفي صحته خلاف المشهور أنه لا يصح وعلى القول بصحته وهو أحد قولي الشافعي وأنا أختاره إذا قال لله لحديث أبي طلحة فعلى هذا يكون على الخلاف الذي سنذكره في المنقطع
وقال ابن شريح يصرفه المتولي إلى ما يراه من وجوه البر
القسم الأول من أقسام الوقف ما يذكر الواقف سبله وينقطع كالمنقطع الآخر والمنقطع الوسط وفي حكمه المنقطع الأول إذا صحح في مدة انقطاعه والصحيح فيه عدم الصحة وفي المنقطع الوسط
____________________
(2/137)
والآخر الصحة وحيث صح في هذه الأنواع الثلاثة في مدة الانقطاع اختلف الفقهاء في مصرفه فقيل يصرف إلى المساكين وقيل إلى مستحقي الزكاة والمشهور أنه يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف واستدلوا له بأن الصدقة على الأقارب أفضل لأنها صدقة وصلة واختلفوا على هذا هل تختص بالفقراء منهم أو لا وإذا قلنا تختص فهل هو على سبيل الوجوب أو الاستحباب على وجهين لم يصحح الرافعي منهما شيئا فحيث قلنا في هذين القسمين بالصرف إلى وجوه البر في القسم الأول أو إلى المساكين في القسمين أو إلى مستحقي الزكاة في القسمين فذاك وحيث قلنا هما للأقارب أيضا على سبيل الاستحباب فلا تعلق به وحيث قلنا به على سبيل الوجوب أما بأن يكونوا أغنياء أو فقراء على أحد الوجهين اللذين حكاهما الرافعي ولم يصحح منهما شيئا فلا دليل له أعلمه إلا ما ذكروه ولا دليل فيه على الوجوب بل على الاستحباب على أنه ليس صلة وإنما الصلة ما كان منه هو ألا ترى أنه لو قال لوكيله تصدق بهذا فأعطى لأقارب الموكل لم يكن الموكل بذلك واصلا لهم ومما يستدل له به أيضا كقوله أراد إنما يدل للاستحباب ولمحت في الصرف إلى الأقارب معنى غير الصلة لأن الصلة إنما تكون من المتصدق وهو قد أطلق صدقته فكيف تكون صلة منه والمعنى الذي لمحته أنه لما جعلها لله ولم يعين مصرفها إما في القسم الأول أو في القسم الثاني في الوقف الذي المصرف فيه المنقطع فهو في ذلك قد جعل الصدقة لله من غير تعيين فمن كرم الله تعالى صرفها إلى أقاربه فيكون ذلك مجازاة له في الدنيا مع مجازاته عليها في الآخرة
القسم الثاني أن يعين الواقف سبله ويكون في أقاربه من هو متصف بصفتهم إما في حال الوقف وإما بعده كالوقف على الفقراء ويوجد في أقارب الواقف فقير وغني فأما الغني فلا يجوز الصرف إليه لأنه مخالف للصفة التي قصدها الواقف من الفقراء وأما الفقير فإن كان وارثا للواقف والوقف في مرض الموت أو وصيته ففي جواز الصرف إليه منه خلاف لأنه يصير كالوصية للوارث والذي يترجح جواز الصرف إليه لأنه لم يقصده بالوصية ولكن قصد الفقراء فهو وغيره من الفقراء سواء
____________________
(2/138)
وإن كان الفقير القريب غير وارث أو كان وارثا ولكن الوقف في الصحة لا في المرض فلا يجب الصرف إليه بلا خلاف ولا يأتي فيه الخلاف المذكور فيما لو سكت عن السبل أو ذكرها وانقطعت والفرق ما ذكرناه من المعنى الذي لمحناه فإنه هنا عين المصرف وخصصه بتصرفه وقطع نظر غيره عنه وأطلقه من غير تخصيص بغريب ولا قريب فوجب اتباع شرطه والاستمرار مع إطلاقه ويكون القريب والغريب فيه سواء وحينئذ ينظر الناظر ويراعى من هو أقرب إلى مقصود الواقف في الصفة التي لاحظها وهو الفقر فإن كان الوقف إلى الآن لم يرتب عليه أحد وكان الغريب أشد فقرا من القريب قدم وإن كان القريب أشد فقرا من الغريب قدم بشرط أن لا يستولي عليه فيخشى أن يدعيه ويتملكه وبشرط أن تحصل رعاية العدد والجمع الذي يدل على لفظ الفقراء وإن استوت حاجة القريب وحاجة الغريب وأمكن القسمة قسم بينهما وإن لم يمكن فلا بأس أن يقدم القريب إحسانا إلى أقارب الواقف كما أحسن بوقفه بشرط أن لا يحتوي عليه فيتملكه وهذا الشرط رأيت معناه في بعض كتب الحنفية وهو صحيح
وإن كان على الوقف فقير مرتب قد رتبه بعض الحكام أو بعض النظار فلا يغير لأجل قريب ولا غيره ما دام بصفة الاستحقاق
أما إذا رتبه حاكم فلأن ترتيبه حكم
وأما إذا رتبه ناظر فلأن ترتيبه تعيين له في الاستحقاق
وفي كلام بعض الفقهاء ما قد يعتقد أن ظاهره خلاف ما قلناه ففي الحاوي للماوردي من كتب أصحابنا في كتاب الوصايا عند قول الشافعي ولو أوصى بثلثه للمساكين نظر إلى ماله فقسم ثلثه في ذلك البلد قال الماوردي قسم بينهم على قدر حاجاتهم فإن كان منهم من يستغني بمائة ومنهم من يستغني بخمسين أعطى من غناه بمائة ومن غناه خمسون سهما واحدا ولا ذو قرابة لقرابته وإنما يقدم ذو القرابة على غيره إذا كان فقيرا لقرابته لأن العطية له صلة وصدقة ومن جمع قرابتين كان أفضل من التفرد بإحداهما
وكلام الماوردي هذا محتمل لأن يريد به حيث يكون التقديم بالقرابة صدقة وصلة ذلك وذلك إذا كان القريب هو المتصدق بنفسه أو بأمره الصلة على الصلة وفي تعليق القاضي
____________________
(2/139)
أبي الطيب التصريح بأنهم أولى يعني على سبيل الاستحباب وزاد فقال إنهم يخصون به وفي الأحكام لابن زمنين من كتب المالكية فيمن حبس حبسا على المساكين فاحتاج ولده فأرادوا الدخول فيه قال عبد الملك وسمعت ابن الماجشون وسئل عن رجل تصدق بصدقة موقوفة على المساكين ثم هلك وترك ولدا فاحتاج ولده بعد ذلك وقالوا ندخل مع المساكين في صدقة أبينا فقال ابن الماجشون هم أولى بذلك لحاجتهم ولأنهم ولد المتصدق إلا أني أرى أن نجعل طرفا منها للمساكين لئلا يدرس أصل التحبيس وقول ابن الماجشون أولى ليس مراده على سبيل الوجوب بل على جهة الاستحباب ومعناه على ما تضمنه كلام أولاد الواقف الدخول في الوقف في جملة المساكين وليس معناه الاستئثار به وكذلك آخر كلام ابن الماجشون وكأنه يريد أنه يجب أن يكون بعضه للمساكين لئلا يدرس ولا يجوز أن نخص به أولاده وأما وجوب الصرف منه لأولاده فلم يتضمنه كلامه ولا سؤال الأولاد أيضا المذكور في نوادر ابن أبي زيد من كتب المالكية أيضا
قال ومن المفسرين سماع بن القاسم ومن أوصى بخمس داره في ثلثه ولم يجعل لها مخرجا قال يقسم على ذوي الحاجة قيل أفيعطى منها ولده وبعضهم محتاجون قال نعطي المحتاجين منهم مع غيرهم من أهل الحاجة
قال عيسى عن ابن القاسم يقسم على المساكين ويكون حبسا عليهم
وفي النوادر أيضا بعد ذلك بأسطر قليلة قال ابن حبيب قال ابن الماجشون فيمن حبس حبسا على المساكين في حياته أو في وصيته ثم مات وافتقر ولده بعد ذلك فطلبوا الدخول فيها قال هم أحق بها ولكني أرى أن يجعل طرف منها للمساكين لئلا يدرس أصل الحبس وفي الذخيرة من كتب الحنفية فيما إذا وقف في صحته ولم يكن مضافا إلى ما بعد الموت على الفقراء والمساكين بالصرف إلى ولد الواقف أولى ثم إلى قرابة الواقف ثم إلى موالي الواقف ثم إلى جيرانه ثم إلى أهل مصره وذكر هلال في وقفه أنه يعطى أقل من مائتي درهم وهو أولى من سائر الفقراء لأن مقصود الواقف الثواب والتصدق على القرابة أكثر ثوابا وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله لامرأة ابن مسعود حين سألته عن التصدق على زوجها
____________________
(2/140)
لك أجران أجر التصدق وأجر الصلة
قلت وقد رأيت وقف هلال وفيه في أول كلامه قلت لم أعطيته قال لأنه فقير وفيه بعد ذلك قلت أرأيت إن عمد الواقف فأعطى الغلة الفقراء والمساكين ولم يعط القرابة قال فلا ضمان عليه وما أعطاهم فهو جائز وهذا استحسان وليس هو حقا لهم في الغلات برده ولكنا نأمره ونستحسنه ألا ترى أن من وجبت عليه زكاة ماله أمرته أن يعطيها فقراء من قرابته وأستحسنه لذلك فإن أعطاها المساكين أجزاه ألا ترى أن رجلا لو قال هذه الدار صدقة أمرته أن يضعها في قرابته فإن أعطى غيرهم لم أجعل عليه شيئا وأجزأه
وفي وقف هلال أيضا وكذلك الجيران والموالي بمنزلة القرابة في هذا الوجه وفيه قبل هذا في الولد وولد الولد لم أعطيته قال لأنه أقرب القرابة وفيه يبدأ بولد الصلب ثم ولد الولد فإن فضل عنهم فضل كان للفقراء ذلك القدر من الوقف فيستمر ذلك ما دام بصفة الاستحقاق والوقف بتلك الصفة لأمرين أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به والثاني أن الناظر إذا كان مأذونا له في ذلك من جهة الواقف فكأنه قائم مقام الواقف في التعيين والواقف لو عين لم يتعين من عينه فكذلك الناظر
القسم الثالث أن يقول على الفقراء ويقدم أقارب الواقف فيوجد فيهم فقراء فيحتمل أن يقال لا يصرف لأحد في هذه الحالة إلا بعد كفاية أقارب الواقف وأنا أميل إلى هذا في هذه الصورة ويحتمل أن يقال إن التقديم في الصرف حيث يأخذ الجميع وهذا بعيد
القسم الرابع أن يقول على الأقارب فهاهنا يتعينون ولا حق لغيرهم
القسم الخامس أن يكون الوقف على من لا يدخل في الأقارب كزيد الأجنبي أو العلماء ليسوا بعلماء وما أشبه ذلك فلا دخول لهم لكن يستحب لمن وصل إليه شيء من ذلك من باب البر ومكارم الأخلاق إذا أمكنه أن يبر أقارب الواقف منه مجازاة لإحسانه إليه وشكرا لنعمه ما لم يخش منه أن يتسلط عليه ويصير بذلك مدعيا مشاركته
القسم السادس أن يكون وقف واحد بعضه للأقارب وبعضه للفقراء أو يصير الأقارب فقراء أو يكون كذلك حال الوقف فقد اختلف الفقهاء فيه فأفتى جماعة بأنه لا يجوز الصرف إلى الأقارب
____________________
(2/141)
من نصيب الفقراء ورأيي أنه يجوز
القسم السابع أن يجهل الحال ولا يعلم منه غير ما عادة مباشري الحكم به فهاهنا لا يغير شيء من تلك العادة ولا نتجاوزها بل نتبع تلك العادة كما كانت من غير تعيين ولو رأينا كتاب وقف يقتضي أنه وقف وسكت عن السبل مثلا ونحو ذلك لا نغيره إلا إذا اعتقدنا بطلانه لاحتمال أن يكون حاكم حكم بذلك واليد دليل عليه فيبقى على ما هو عليه لدلالة اليد مع الاحتمال ويحتمل أيضا أن يكون له كتاب آخر أو سبب آخر فاليد دالة على الاستحقاق والأسباب كثيرة لا تنحصر وأما الفتاوى بكون أقارب الواقف أولى فلا ينبغي للمفتي أن يطلق ذلك لأن الأولوية في عرف الفقهاء لها معنيان أحدهما التقديم على جهة الوجوب وقد قدمنا أن ذلك لم يقل به أحد فلذلك لا ينبغي للمفتي أن يطلق جوابه بذلك فإنه قد يفهم منه ذلك وقد رأينا كثيرا يحصل مثل هذه الفتاوى وتقدم عليها إلى السلطان وإلى نواب السلطنة فيكتبون عليها بالصرف إلى الأقارب معتقدين أن حكم الشرع ذلك ويتسلط المكتوب لهم بتلك المراسيم ويقطعون أولئك المرتبين ويتقدمون بذلك على من هو أحق ويصير ذلك كأنه حق واجب لهم لازم على غيرهم وكل ذلك لا يجوزه ولاة الأمور من السلطان ما يرسمون بذلك إلا حملا على الفتاوى واعتقادا أن ذلك هو الشرع ولو بين لهم أن ذلك ليس بواجب بل وقد لا يكون جائزا لم يكتبوه فإنه لا غرض لهم في حرمان المستحق واعطاء غير المستحق ولا أن يرسموا بما هو مستحب وليس بواجب لأن مراسيمهم لا يخالفها أحد
المعنى الثاني الأولوية الاستحباب وهذا قد قدمنا الكلام في محله قد يكون مستحبا وقد لا يكون مستحبا فللمفتي بعض العذر فيه لكن ينبغي أن يبينه حتى لا يحمل ولاة الأمور على ما لا ينبغي ولقد رأيت على بعض التواقيع بخط بعض الموقعين يوقع لهم بذلك قوله والأقربون أولى بالمعروف فلا أدرى مما أتعجب من جهله بالقرآن أم جهله بالحكم الشرعي أم من غيره فينبغي للمفتي إن بين ذلك كله لا يقتدي به وينبغي للقاضي أيضا أن لا يستعجل بالإذن بالكتابة في محضر في ذلك أو في غيره لأن المحضر إذا كتب يتسارع الشهود غير المحررين إلى الكتابة فيه ويبقى
____________________
(2/142)
غير ثابت وهو في يد من لا اعتماد به يشتكي به وربما كان حاملا إلى وقوع المتساهلين في الشهادة من الشهود والمتساهلين في الإثبات من الحكام وقد رأيت بيد هذا الشاكي محضرا عليه خط قاض بالإذن في كتابته وفيه رسم شهادات وطلب إثباته وأقام سنين ولم يقدر على إثباته أنه من أقارب الواقف ثم تسلط مرات بالأيدي القوية واستولى على رقبة الوقف وتسلمه بيده وأفسده فهذا لو ثبت من أقارب الواقف كان حكمه ما قدمناه
فكيف ولم يثبت وغيره أحق منه الفقراء المرتبون وغير المرتبين
والله سبحانه وتعالى أعلم انتهى
قال الشيخ الإمام رحمه الله ورضي عنه محاكمة وقف الجبغا العادلي على أولاده الثلاثة علي وخديجة وتتر وما يحدث له من الأولاد وعلى زوجاته الذكر والأنثى فيه سواء يجري نصيب كل من الزوجات عليها ما دامت في عصمته وخالية بعد وفاته فمن تزوجت منهن في حياته أو بعد وفاته سقط نصيبها وعاد على أولاد الواقف وعلى من كان قد مات منهم يكون لولد المتوفى منهم ما كان لأبيه لو كان حيا وكذا الحكم إذا توفيت واحدة منهن إلى أن ينقرض ثم يجري ما هو جار على كل من أولاده الموجودين والحادث من بعده على أولاده ثم أولاد أولاده من توفي عن ولد فنصيبه لولده ومن توفي عن غير ولد أو نسل فنصيبه لمن في درجته فإن لم يكن في درجته أحد فأقرب الموجودين إليه من أهل الوقف ثم على ولد من انتقل ذلك إليه ثم نسله على الشرط والترتيب الذكر والأنثى سواء ومن توفي منهم قبل استحقاقه شيئا وترك ولدا أو ولد ولد استحق ما كان يستحقه والده ومن توفي من أهل الوقف عن غير عقب وترك أخا أو إخوة وأولاد أخ أو إخوة قام أولاد المتوفى مقام أبيه لو كان حيا حتى يصير إليه شيء من منافع الوقف وماتت تتر عن غير نسل وانتقل نصيبها إلى إخوتها علي وخديجة ثم توفي علي وانتقل نصيبه على ما ذكر المستفتي إلى ولده محمد ثم حدث للواقف ولد اسمه خليل ثم خليل هذا توفي ولا عقب له ولا نسل هل ينتقل نصيبه إلى أخته خديجة خاصة أو إليها وإلى محمد ابن أخيها علي فنظرنا فوجدنا قول الواقف
____________________
(2/143)
من توفي عن غير نسل فنصيبه لمن في درجته يقتضي أنه لأخته خديجة خاصة لأنه ليس في درجته غيرها وليس فيما تقدم قبله من كلام الواقف ما يعارضه ولا في قوله فيما بعده ومن توفي منهم قبل استحقاقه وذلك ظاهر لكن قوله بعد هذا ومن توفي من أهل الوقف عن غير عقب وترك أخا أو إخوة وأولاد أخ أو إخوة قام أولاد المتوفى مقام أبيه لو كان حيا حتى يصير إليه شيء من منافع الوقف قد يقال إنه يعارضه فإن عليا لو كان حيا عند موت خليل لشارك الأخت في نصيبه فكذلك ابنه محمد يقوم مقامه لكن هذا يدفعه شيئان أحدهما شرط أن يكون الميت عن غير عقب ترك أخا أو إخوة وأولاد أخ أو إخوة والأخ ذكر والإخوة جمع وأولاد الأخ أو الإخوة جمع ولم يوجد في مسألتنا ذلك وإنما ترك الميت أختا وابن أخ فلا يدخلان في صورة المسألة هذا قد قاله الحنفية وصرحوا به في كتبهم أنه إذا وقف على إخوته يختص بالذكور ولم يختلفوا في الإناث الخلص أنه لا يصرف إليهن وكذا الأخت الواحدة وإنما اختلفوا في الذكور والإناث إذا اجتمعوا وأكثر المذاهب ساكتة عن ذلك
والذي قاله الحنفية متجه لأن الخروج عن حقيقة اللفظ من الذكورة إلى التأنيث ومن الجمع إلى الإفراد لا بد له من دليل فهذا الواقف قد شرط في الجملة المذكورة أن يكون الميت ترك أخا أو إخوة وأولاد أخ أو إخوة وليس هذا الميت كذلك فلم يبق إلا الجملة المتقدمة المقتضية أن من مات عن غير نسل يكون نصيبه لمن في درجته سالما عن المعارض فتستحقه أخته لذلك ولا يشاركها فيه ابن أخيها فهذا أحد الشيئين اللذين يدفعان معارضة هذه الجملة لتلك الجملة
الشيء الثاني أن قوله في جزاء هذا الشرط قام أولاد المتوفى مقام أبيه لو سلم أن الأول لا يختص بالذكور ولا بالجمع لو لم يسلم لا ينتظم هذا الجزاء وحده ولا مع الأول لقوله أولاد المتوفى ولا أولاد لهذا المتوفى
وكقوله مقام أبيه
وكان ينبغي أن يقول أبيهم ولعدم ذكره من يستحق نصيب المتوفى وإنما ذكر القيام مقام المتوفى فإما أن يقال إن هذه الجملة يعرض عنها لعدم انتظامها أو يقتصر على الأول وقد قلنا إنه يقتضي اختصاص الأخت فنأخذ بالمحقق ونترك المحتمل وأيضا فالأخت مستحقة
____________________
(2/144)
قطعا للنصف وتشارك ابن الأخ في الاحتمال في النصف الثاني والأصل عدم استحقاق ابن الأخ فيصرف إليها لأنها هي الأصل وإما أن يقال إن الواقف لما بين أن من مات عن ولد ينتقل نصيبه لولده ومن مات عن غير ولد فنصيبه لمن في درجته ثم للأقرب إليه من أهل الوقف ومن مات قبل الاستحقاق يقوم ولده مقامه أراد أن يلحق بمن في درجته من لا ولد له من هو أنزل منه فذكر هذه الصورة ثم إني سألت عن الزوجات فقيل إنه ليس له إلا زوجة واحدة وهي باقية في عصمته من حين الوقف لأن الوقف كان عليها وعلى أولاد الواقف الثلاثة أرباعا ثم ماتت تتر وخلفت أخويها عليا وخديجة والزوجة ثم مات علي وحدث خليل وخلف علي محمدا ابنه والزوجة باقية وموت خليل بعد موت علي
فأقول وبالله التوفيق تلك الشروط كلها في أولاد الأولاد بعد الانتقال إليهم وذلك بعد انقراض الزوجات لأن الضمير يعود إلى الأقرب ولأنها إنما يحتاج إليها فيهم وأما الانتقال إليهم فقد استفيد من ثم المقتضية تأخرهم بعد انقراض الزوجات وأنه حينئذ ينتقل إليهم نصيب آبائهم فما دامت الزوجات باقيات فالحكم فيهن وفي الأولاد كما لو وقف على زيد وعمرو وبكر ثم على الفقراء فالفقراء كأولاد الأولاد وزيد وعمرو وبكر كالأولاد هنا والزوجات فلما ماتت تتر وبيدها الربع رجع نصيبها إلى إخوتها وإلى الزوجة فيصير مثلثا بعد أن كان مربعا فلما مات علي رجع نصيبه إلى الزوجة وخديجة فيصير بينهما نصفين ولا ينتقل إلى ابن علي شيء حتى تنقرض الزوجة ذلك الوقت يرجع إليه نصيب أبيه وينبغي أن ينظر فيه هل هو الربع باعتبار الأصل أو الثلث باعتبار ما صار أو غير ذلك والله أعلم
كتب في رابع جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وسبعمائة
وينتقل إليه من نصيب الزوجة ما يقتضيه الحال عند موتها ثم نظرت في الحكم على تقدير موت الزوجة والحال كما هو الآن نزل خديجة بنت الواقف وابن أخيها محمد بن علي ابن الواقف وبيد خديجة نصف الوقف فهل نقول ينتقل النصف الذي للزوجة إلى خديجة
____________________
(2/145)
ومحمد المذكورين نصفين فتأخذ خديجة منه نصفه وهو الربع مضافا إلى النصف الذي بيدها ويأخذ محمد بن علي منه النصف وهو الربع أو نقول يقدر كأن عليا موجود فيكون جميع الوقف بينه وبين خديجة وهذا ابن علي قائم مقامه فيأخذ ما يأخذ أبوه لو كان حيا فيصير الوقف كله نصفين بالسوية بين خديجة وابن أخيها كما يكون بين خديجة وأخيها لو كان حيا وهذا الاحتمال الثاني هو الذي ترجح عندي وقطعت به والله أعلم
حضر إلي محمد بن علي بن الجبغا المذكور وأستاذ داره في العشرين من شعبان المكرم سنة خمس وخمسين وسبعمائة وأخبراني أن الزوجة المذكورة توفيت أمس تاريخه والحال على ما شرح ولم يتغير خديجة باقية وهو باق وفي يد كل منهما النصف فيستمر كذلك على الاحتمال الثاني ترجح عندي والله أعلم انتهى
قال قاضي القضاة تاج الدين ولد الشيخ الإمام فسح الله في مدته ما نقله الشيخ الإمام عن الحنفية وقال إنه متجه صرح به الرافعي في باب الوصية في أثناء الطرف الثاني في اللفظ المستعمل في الوصي له فقال ولا يدخل في الإخوة الأخوات والذي ذكر الشيخ الإمام أن أكثر المذاهب ساكتة عنه إذا اجتمعوا وذاك كما ذكر غريب والذي رأيته مسطور في النهاية قال الإمام رحمه الله في باب الوصية فيما لو أوصى لإخوة فلان وكانوا ذكورا وإناثا وإخوة وأخوات مذهب أبي حنيفة وظاهر مذهب الشافعي أنه يختص بالوصية الإخوة دون الأخوات وقال أبو يوسف ومحمد الجميع انتهى كلام النهاية
مسألة قال الشيخ الإمام رحمه الله قول الوراقين في كتب الأوقاف من مات قبل استحقاقه لشيء من منافع الوقف وخلف ولدا استحق ولده ما كان يستحقه المتوفى لو بقي حيا حتى يصل إليه شيء من منافع الوقف وقام في الاستحقاق مقامه
عبارة جرت على ألسنتهم وكتابتهم وهي تقتضي أن الولد إنما يستحق ما كان أبوه يستحقه لو بقي حيا إلى أن يصل إليه شيء من منافع
____________________
(2/146)
الوقف فإذا توفي الجد المستحق للوقف وخلف ولدا وولد ولد مات في حياته فالولد الذي مات في حياته لو قدر الآن موجودا يستحق ولم يكن قبل ذلك وصل إليه شيء من منافع الوقف فكيف يجعل الوصول شرطا أو بعض شرط وضرورة العبارة المذكورة جعله بعض شرط لأنه جعل وصفا للبقاء المقدر بعد لو غاية
فهو جزء من الشرط فكان ينبغي أن لا يستحق بمقتضى العبارة المذكورة إلا شيئا ثانيا بعد صيرورته مستحقا وهذا ليس بمراد فكأنهم أرادوا بالمصير إليه انتهاء الوقف إلى حالة لو بقي حيا فيها لاستحق فجعلوا ذلك مصيرا إليه وهو صفة للوقف وحال من أحوالها ولا يبعد أن يجعل علة وسببا وشرطا في استحقاقه الذي هو صفة له ويجعل هذا الاستحقاق معلولا عن تلك الصفة واستعمال لفظ يصير في ذلك الظاهر أنها مجاز لأن حقيقة صيرورة شيء من المنافع إليه إنما هو باستحقاقه إياه فإذا فرضنا وفاة شخص آخر بعد ذلك لو كان والد هذا الذي استحق باقيا لاستحق نصيبه وحكمنا باستحقاق هذا الولد استحقاق ما لو كان والده حيا الآن لاستحقه كان استعمال لفظة يصير في حقه على سبيل الحقيقة لأنه صار إليه قبل ذلك شيء لكنا قد استعملناه في المعنى الأول مجازا فاستعماله في الثاني مع الأول جمع بين الحقيقة والمجاز وهو مرجوح بالنسبة إلى المجاز المنفرد واستعماله في الثاني وحده وهو الحقيقة وإطراح المجاز بالكلية يلزم عدم أخذه نصيب والده ولا قائل به ولا شك أنه ليس بمراد فيترجح الاقتصار على استعمال المجاز المنفرد ولا يستحق من الميت الثاني شيئا إلا بدليل منفصل
والموجب للنظر في هذه المسألة وقف على شخص ثم أولاده ثم أولادهم وشرط أن من مات من بناته انتقل نصيبها للباقين من إخوتها ومن مات قبل استحقاقه لشيء من منافع الوقف وله ولد استحق ولده ما كان يستحقه المتوفى لو كان حيا حتى يصير إليه من منافع الوقف قام في الاستحقاق مقامه فمات الموقوف عليه وخلف ولدين وولد ولد مات أبوه في حياة والده فأخذ الولدان نصيبهما وهما ابن
____________________
(2/147)
وبنت وأخذ ولد الولد النصيب الذي لو كان والده حيا لأخذه ثم ماتت البنت فهل يختص أخوها الباقي بنصيبهما أو يشاركه فيه ابن أخيه تعارض اللفظان المذكوران ونظرنا فيه النظر المذكور ويرجحه أن التنصيص على الإخوة وعلى الباقين منهم كالخاص وقوله ومن مات قبل الاستحقاق كالعام فيقدم الخاص على العام فلذلك ترجح عندنا اختصاص الأخ وإن كان الآخر محتملا وهو مشاركة ابن الأخ له والله أعلم
وهذا الاستثناء في وقف علي عز الدين ثم ماتت خديجة في حياة أخيها عماد الدين هل يشاركه نجم الدين أو لا والله أعلم
ومن المرجحات أيضا أن قوله يستحق مطلق لأنه فعل في سياق الإثبات لا عموم له والمطلق يكفي في العمل به صورة واحدة وقد عملنا به في استحقاقه نصيب والده فلا يعمل به في غيره وقوله قبل استحقاقه شيئا يقتضي أنه لم يستحق شيئا أصلا وهو كذلك في حياة والده وقوله استحق ولده فعل مطلق وقوله ما كان والده يستحقه عام لأن ما للعموم وهذا العموم بالنسبة إلى جميع نصيب والده وهو معمول به فيه بالنسبة إلى ذلك النصيب وإلى نصيب من يموت بعد ذلك كنصيب خديجة الذي ذكرناه والنصيب الأول لو بقي مؤيد الدين حيا إلى وفاة والده استحقه قطعا فلا جرم يستحقه ولد نجم الدين والنصيب الثاني هو نصيب خديجة قد لا يستحقه مؤيد الدين على تقدير أن يتأخر موت خديجة عن موته المقدر بعد موت والده فقد يقال إنه ما جعل له إلا استحقاق نصيب موصوف باستحقاق والده لو بقي حيا إلى مصير شيء إليه على جميع التقادير وهو الأول فلم يجعل له الثاني
وهذا التخصيص صلة وإن كانت ما عامة ويحتمل لأن يقال بخلافه فليتفهم هذا البحث ومن المباحث أيضا أنا نفرق بين قوله من ماتت من البنات كان نصيبها لإخوتها وقوله كان نصيبها لإخوتها الباقين فالعبارة الأولى تقتضي أن الإخوة كلهم موقوف عليهم بعدها والميت قبلها من الإخوة فهو موقوف عليه في الدرجة الثانية وبموته تعذر الصرف إليه مع اتصافه
____________________
(2/148)
في نفسه بصفة الاستحقاق فالمانع تعذر مصير الوقف إليه في حياته لا صفة فيه ولعل هذا سبب عبارة الوراقين
وأما العبارة الثانية فالموقوف عليهم بعدها هم الإخوة الباقون وهو ليس من الإخوة الباقين فهو أجنبي عن الوقف ويبين لك الفرق أنه في العبارة الأولى يحتمل أن يقال إنه من أهل الوقف إذا لم يشترط التناول في أهل الوقف كما وقع البحث فيه غير مرة وأما على العبارة الثانية فقطعا ليس من أهل الوقف ولا موقوفا لأن صفة البقاء ليست فيه وتقدير وجوده إنما يكون بعد اتصافه بالفعل لا بالتقدير بالصفة التي لو كان موجودا بعدها لاستحق والاتصاف هنا مناقض للواقع ولم يقل الواقف إن نصيبها يكون لإخوتها الباقين والمقدر بقاؤهم ولا لمن يقوم مقامهم ومن المباحث أيضا أنه إذا لم يتم الترجيح المذكور ولا الترجيح الذي قبله أن يقال لما تعارض الأمران
والأصل عدم الاستحقاق خرجنا عنه في حق عماد الدين لأنه متفق عليه مقطوع به فيبقى في حق نجم الدين على مقتضى الأصل ومن المباحث في هذا الوقف وفيما يشبهه أن قوله من مات من البنات كان نصيبها لإخوتها الباقين مع أنها حين ماتت لم يكن لها إلا أخ واحد إن جعل لفظ الأخوة للجنس يظهر استحقاقه وإلا فيشكل انفراده بالجميع ويصير كما لو وقف على موجود ومعدوم فينبغي أن يستحق النصف لأنه قال للذكر مثل حظ الأنثيين فلو قدر معه أختان صح لفظ الجمع وكان له النصف فلينزل عليه ويحتمل أن يقال الثلث لأنه المتيقن وأما استحقاق الجميع فمن أين واستحقاق الابن الواحد جميع الميراث ليس من الآية الكريمة بل من دليل آخر لكن الأصحاب والناس يجعلون قوله في الأوقاف الأولاد والإخوة ونحوها كالجهة الصادقة على القليل والكثير
فهذا هو الذي يصلح أن يكون مستندا في انفراد الواحد به وهو ظاهر فيما إذا لم يكن له عند الوقف إلا ولد واحد فالقرينة ترشد إلى ذلك وكذا إذا كان أولاد فماتوا إلا واحدا وأما إذا قال وقفت على زيد ثم أولادي وكانوا جمعا فماتوا إلا واحدا ثم مات زيد ففي انفراد الولد الواحد نظر
____________________
(2/149)
يحتمل أن يقال يبقى في نصيب غيره منقطع الوسط لكنه بعيد من كلام الفقهاء وعرف الناس انتهى
مسألة هل تولية التدريس وما أشبهه للناظر الخاص أو للحاكم
الجواب قال الشيخ الإمام رحمه الله ورضي عنه ما نصه رأيت جماعة من فقهاء الشام يفتون بأنها للحاكم ويأخذون ذلك من قول الرافعي ونحوه وظيفة المتولي العمارة والإجارة وتحصيل الريع وقسمته على المستحق وحفظ الأصول والغلات على الاحتياط
فلم يذكر التولية والعزل في هذا الكلام وكذلك لم يذكره أحد من الأصحاب حتى رأيت بعضهم يبالغ في ذلك ويقول إنما خفي ذلك على الناس من كثرة العاملين بخلافه وعندي أنه ليس الأمر كذلك وكلام الرافعي ونحوه محمول على ذكر غالب التصرفات ولو حمل على الحصر لكان محله فيما هو من الأوقاف الذي ليس فيه إلا ذلك وهو غالب الأوقاف الموقوفة على معين أو موصوف بصفة لا تحتاج إلى اجتهاد أو تحتاج إلى اجتهاد ولكنها ليست مما تقتضي تولية ولا عزلا أو مما يقتضي ذلك ولكنه جعل تحت قولهم صرفه إلى المستحق لأن استحقاقه إنما يكون بعد التعيين فإذا فوض إليه الصرف فقد فوض إليه ما يستلزمه وهو تولية المدرس الذي أبهمه الواقف لأنه بمنزلة تعيين الفقير الذي أبهمه من يقول تصدق بهذا على فقير أليس للمأمور بذلك أن يعين أي فقير اختاره ويتصدق عليه كذلك هذا معنى تولية المدرس إلا تعيينه للمصرف الذي ذكره الواقف للمدرس الذي أبهمه في كلامه ولا شك أن ذلك وظيفة الواقف لأنه المتصدق بماله ونائبه الذي اشترط له النظر مثله لأن الناظر يستفيد من التصرفات كل ما كان للواقف قبل وقفه مما لم يخرج عن مصرفه بالوقف وليس للحاكم مع الناظر الخاص ولاية على ذلك كما ليس له ولاية على وكيل المتصدق نعم للحاكم النظر في نصيب المدرسين على الإطلاق فإن ذلك من الأمور العامة
وهو العالم بمن يصلح ومن لا يصلح وهو المفوض إليه من جهة الشرع النظر في ذلك فهما
____________________
(2/150)
أمران لا يدخل أحدهما في الآخر أحدهما للحاكم وهو نصيب المدرسين والمفتين والمتصدرين وغير ذلك مما هو من الأمور العامة في الإسلام ولا مدخل للناظر الخاص ولا للواقف في ذلك والثاني تعيين واحد من هؤلاء لأن يكون مصرف هذا الوقف ومحله ومتناوله وهو إلى الواقف والناظر الذي ينصبه ولا مدخل للحاكم فيه هذا على قسمين أحدهما ما لا يكون رتبة في الدين مثل تولية قيم وفراش ونحوه فهذا لا شك أنه للواقف والناظر اللهم إلا أن يرى الحاكم أن ذلك الشخص الذي اختاره الواقف أو الناظر وهذا المكان لأمر شرعي ظهر له فله الاعتراض عليه ومنعه حتى لو كان مشروطا في أصل الوقف لم يلتفت إليه مع ما ظهر للحاكم مما يقتضي منعه لا أقول قادحا بل مصلحة خاصة تظهر وهو المؤتمن على ذلك فيما بينه وبين الله ليس بالتشهي ولا بالميل والهوى بل بقصد الحق وهو مقام خطر لا يتخلص منه إلا الموفقون فإذا لم يمنع الحاكم من ذلك وعين من له النظر في الوقف أو الواقف واحدا اتبع تعيينه وجاز للناظر الصرف إليه لا أشك في ذلك ولا أرتاب
والقسم الثاني أن يكون مرتبه في الدين كالمدرس ونحوه فهذا يحتمل أن يقال إنه كالقسم الأول ويحتمل أن يقال إن هذا لكونه يقتضي رتبة في العلم أو الدين لا يكون مفوضا إلا إلى الحاكم وليس للواقف ولا للناظر الخاص فيه حديث وحيث جوزنا فيجوز ذلك بلفظ التعيين وبلفظ التولية ويجوز للواقف والناظر الذي من جهته عزله إذا لم يكن مشروطا في الوقف لمصلحة ولغير مصلحة لكن الأولى له أن لا يعزل إلا لمصلحة وإنما قلت يجوز لغير مصلحة لأنه كالوكيل المأذون له في إسكان هذه الدار لفقير فله أن يسكنها من شاء من الفقراء وإذا أسكنها فقيرا مدة له أن يخرجه ويسكن غيره لمصلحة ولغير مصلحة وليس تعيينه لذلك تصييرا له كأنه مراد للواقف حتى يمتنع تغييره كما توهم ذلك بعض من بحثت معه من الفقهاء لما مثلته لك من سكنى الدار لأن تدريسه في كل مدة كانتفاعه لم يقصره على شخص معين والمنافع كالأعيان فكما أنه إذا أذن له في صدقة درهمين على من يراه له أن يعطي درهما
____________________
(2/151)
لشخص ودرهما لآخر كذلك المنافع له أن يعطي بعضها لشخص وبعضها لآخر فكذلك التدريس له أن يعطيها مدة لشخص ومدة لآخر والناظر الخاص والواقف يتصرفان لأنفسهما لأن النظر بقية مما كان ملكا للواقف فلذلك لم يشترط تقييد تصرفهما بالمصلحة في هذا النوع احترازا من عزل الحاكم نائبه الذي يجوز له أن يستنيبه ويجوز أن لا يستنيبه فإنه يجوز لمصلحة وغير مصلحة لأنه يستعين به
ولو باشر الأحكام كلها بنفسه لجاز فكيف يحجر عليه إذا استناب أن لا يعزل إلا لمصلحة هذا ما لا يصير لكنا نرى الأولى له أن لا يفعل إلا لمصلحة لما فيه من كسر القلوب بغير فائدة
فقد بان بهذا أن الناظر الخاص إذا ولى المدرس صح وإن الحاكم لا يوليه إلا إن ظهر له تعين توليته وامتناع الناظر الخاص منها فحينئذ يتعطاها الحاكم أو يجبر الناظر عليها وإذا رأى الحاكم منع ذلك المدرس من دخول تلك المدرسة لغرض شرعي امتنع على الناظر توليته فيجب أن يولي غيره فإن امتنع ولاه الحاكم فإن جهل بعض الحكام فولى بغير هذه الأسباب مع وجود الناظر الخاص لم يصح ويجب على الناظر الخاص أن لا يولي إلا من يعرف أهليته ومعرفته بأهليته إما بنفسه إن كان من أهل المعرفة وإما بغيره وإما أن يراجع الحاكم في ذلك
فإن قلت قد قال الماوردي رحمه الله إن الإنسان إذا بنى مسجدا ووقفه ليس له أن ينصب فيه إماما بل ذلك وظيفة الحاكم
قلت إن كان الواقف قد سكت عن شرط النظر وقلنا النظر للحاكم فظاهر وإن شرط النظر لنفسه وكان قد وقف على الإمام وقفا ونظره له فلا شك أن الأمر كما قدمناه من أنه له أن يولي وإن لم يكن له إلا المسجد فقط بدون وقف عليه فيحتمل أن يقال بأن شرط النظر فيه لنفسه لا يصح لأن وقف المسجد وقف تحرير فكيف يصح نظره عليه وهو بمثابة ما لو أعتق عبدا فلا يبقى له عليه نظر بخلاف المدرسة فإن وقفها ليس وقف تحرير ومن هذا نتنبه لأنه إذا وقف مسجدا ووقف عليه وقفا وشرط النظر لنفسه أو لغيره فشرط النظر في الوقف صحيح وأما في المسجد ففيه هذا الاحتمال
____________________
(2/152)
الذي ذكرناه فإن صح أنه لا يصح شرط النظر فيه فقد يأتي في شرطه في غيره إذا جمعهما بصيغة واحدة قولا تفريق الصفقة ويحتمل أن يقال إن المسجد مثل المدرسة لأنه ملك المسلمين وهذا فيه خلاف هل المسجد ملك المسلمين أو لا ملك عليه لأحد والأصح أنه لا ملك عليه لأحد بل هو تحرير محض كالعتق أما المدرسة فهي مختصة بمن وقفت عليه وللناظر عليها منع غيرهم منها والتصرف فيها بما يقتضيه شرط الواقف
فإن قلت هل من نقل بأن الواقف يولي مدرسا قلت نعم قال صاحب التهذيب في فتاويه لو وقف مدرسة على أصحاب الشافعي ثم قال لعالم فوضت إليك تدريسها كان له تبديله إلى آخر ما ذكره وحكاه الرافعي عنه مما لا حاجة بنا إليه هنا
فهذا نقل بأنه يولي وأيضا قد جوز الأصحاب الاستئجار للتدريس وإذا جاز ذلك فكيف يمتنع على الواقف أو الناظر أن يجعل في مدرسة مدرسا هذا لا يكون
فإن قلت قد يقول إنه للواقف وللناظر إذا صرح له الواقف به فإن لم يصرح فليس له لإطلاق الأصحاب له ذكر ماله من التصرفات ولم يذكروا التدريس
قلت متى لم يكن للناظر لم يكن للواقف لأن الواقف إنما يثبت له النظر بالشرط على المذهب ومتى كان للواقف كان للناظر لما قلناه وجواب كلام الأصحاب قد تقدم
فإن قلت لو ولى الحاكم في ذلك مع عدم امتناع الواقف أو الناظر من التولية
قلت لا يصح والحاكم أولى من اتبع الحق ونقض ما لعله يصدر منه على غير وجهه الشرعي وكذلك الإمام الأعظم وكل ناظر عام
فإن قلت لو كان المشروط له النظر القاضي هل يستفيد النظر حينئذ بالشرط أو بالقضاء قلت بالشرط والقضاء شرط في اتصافه بتلك الصفة ولا يستفيده بالقضاء وتظهر فائدة ذلك في مسألتين إحداهما إذا سافر القاضي عن محل ولايته فله أن يتصرف فيه بحكم شرط الواقف لأنه بخروجه عن محل ولايته لا يخرج عن القضاء فهو متصف بالصفة التي استحق بها النظر ولو كان يتصرف بحكم القضاء لم يجز لأنه لا يحكم في غير محل ولايته
المسألة الثانية لو كان الوقف في بلد
____________________
(2/153)
القاضي المشروط له النظر والمدرسة في بلد آخر فالولاية في المدرسة لقاضي بلد الوقف لا لقاضي بلد المدرسة ولو كان رجل في بلد وقف مدرسة فيها وشرط نظرها لقاضي تلك البلد أو لم يشترط وقلنا النظر للحاكم وآخر في بلد آخر وقف وقفا على تلك المدرسة وشرط نظره لقاضي بلد الوقف نظر الوقف وتحصيل مغله وصرفه ولقاضي بلد المدرسة نظرها وأما تعيين المدرس فيها وتوليته فهذا محل نظر لتعارض النظرين والأقرب أن التولية لقاضي بلد الوقف دون قاضي بلد المدرسة وأن قاضي بلد المدرسة له أن يعين فيها مدرسا آخر بغير معلوم ونحو ذلك وإذا حضر كل من القاضيين إلى بلد الآخر تصرف بما له بالشرط دون ما له بالحكم والله أعلم
كتب علي السبكي الشافعي في ليلة الأحد الحادي عشر من شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين وسبعمائة بالدهشة ظاهر دمشق المحروسة والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم حسبنا الله ونعم الوكيل انتهى
نقل من من خط الشيخ
فصل قال الشيخ الإمام رحمه الله فائدة دعت الحاجة إلى ذكرها في الفرق بين أوقاف الديار المصرية والبلاد الشامية التي تحت نظر الحكم العزيز ومن المعلوم شرعا وعرفا أن الناظر هو القاضي وجرت العادة في الديار المصرية أنه ينصب من جهته مباشرين يسمون شهود الأوقاف وهم بحسب العرف مأذون لهم من جهته في الإيجار المعتاد والاستخراج والصرف والعمارة ونحوها مما يغلب مثله وتصعب المراجعة فيه وكأنهم نواب عنه في الحقيقة ولا ضرر في تسميتهم شهودا أو مباشرين فالصفتان موجودتان فإذا احتيج إلى شهادتهم فيما يتعلق بالوقف فما لم يكن على فعلهم ولا يجر إليهم نفعا فشهادتهم فيه مقبولة وإذا فعل بعضهم وشهد الآخرون على فعله من صرف أو نحوه فيما لا يجلب إليهم نفعا ولا يدفع عنهم ضررا تقبل شهادتهم فيه أيضا ويجوز لهم أن يأخذوا أجرة مباشرتهم بشرطين أحدهما كونها لا تزيد على أجرة المثل وتكون في عمل لا بد منه
والثاني أن تكون بإذن الحاكم
____________________
(2/154)
فمتى انتفى الشرطان لم يجز أن يكون الواقف قد شرط لهم شيئا ومتى انتفى الأول لم يجز ومتى انتفى الثاني دون الأول فإن منعهم لم يجز وإن سكت فيتخرج على من عمل لغيره عملا من غير تسمية هل يستحق أو لا وإذا لم يكن من الواقف تسمية فلا تجوز الزيادة على أجرة المثل وقد كانت في بعض الأوقات في زمن شيخ الإسلام قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد قد رتب على ما بلغني الشهود والجابي بالثمن من المستخرج واستؤنس لذلك بفرض ثمن الزكاة للعامل وهو استئناس حسن لكن لا بد من شهادة العرف له وفي ذلك الوقت كان كذلك وذلك يختلف اختلافا كثيرا فرب وقف يكون تعبه كثيرا ومتحصله قليلا فيستحق مباشرة أكثر من ذلك ورب وقف على العكس منه فالمحتاط لدينه ينظر لنفسه فيما بينه وبين الله ولا يأخذ إلا قدر ما يستحقه عمله المتعين فعله والاستحقاق عند اجتماع الشرطين وإن لم ينص الواقف عليه لا يأتي فيه خلاف من استعمل غيره من غير تسمية لا يجوز له أن يأخذ لنفسه وهكذا أموال الأيتام لا يجوز للقاضي أن يأخذ منها شيئا عن عمل يعمله بنفسه فيها ويجوز له أن يفرض للعمال عليها أجرة بلا خلاف وقوله تعالى ومن كان غنيا فليستعفف محمول على الولي الذي لم يشرط له أجرة كالقاضي
وقد خرجنا عن المقصود فلنرجع إليه وهو ما جرت العادة به في شهود الأوقاف في الديار المصرية وهي عادة جيدة وأما الشام فليس كذلك بل يكون في الوقف جماعة لكل منهم اسم أحدهم ناظر والآخر مشارف والآخر شاهد والآخر عامل وربما يكون آخر صاحب ديوان وآخر مستوفيا وغير ذلك ويترتب على ذلك مفاسد كثيرة منها مختص بالناظر ومنها مشترك بينه وبين غيره فمن المختص بالناظر أنه تطول المدة ويظن كثير من الناس أنه انتهى إليه بشرط الواقف فيشهد له بذلك وربما يسنده إلى غيره وقد مر بي مثل ذلك في سنة اثنتين وأربعين حضر شخص مباشر لوقف ولاه إياه حاكم فأثبت بعد ذلك على حاكم آخر أنه ناظره وأسند إلى غيره وتعلق المسند
____________________
(2/155)
إليه بذلك الحكم وصعب نزعه منه فانظر ما ترتب على ذلك من شهادة الزور التي يظن شاهدها أنها حق ومن الحكم الباطل ومن التعلق بما ليس له حقيقة ومن المختص بالناظر أنه قد يكون كبيرا أو صغيرا فيكبر بعد ذلك ويستقل بالكلام وتكبر نفسه عن استئذان الحاكم أو امتثال أمره فينسلخ ذلك الوقف من ديوان الحكم بالكلية وهو خلاف شرط الواقف وخلاف حكم الشارع أن النظر للحاكم
ومن المختص بالناظر أنه يبقى مطلق التصرف فيؤخر ما يراه من المدد الطويلة ويتصرف بأنواع التصرفات التي يقتضي العرف والشرع مراجعة القاضي فيها فلا يراجعه فيحصل بذلك مفاسد لا تحصى وكل ذلك لتسميته ناظرا وإجراء حكم الناظر المستقل عليه ومن المختص بالناظر أنه قد يتوهم أن جعل القاضي له ناظرا كشرط الواقف وقد يتوهم بعض الناس ذلك فيقول الواقف إذا شرط النظر لشخص اتبع شرطه وإذا لم يشترط بقي مبهما فإذا ولى القاضي ناظرا كان تعيينا لذلك المبهم فيصير كالمشروط من الواقف فلا يجوز تغييره وهذا حال باطل ولم أر أحدا ذكره ولكني ذكرته لاحتمال أن يذكره أحد وجوابه أن الواقف إذا لم يشترط ناظرا فحكم الشرع أن النظر للقاضي فتولية القاضي فيه إنما هي عنه لا عن الواقف وإنما يقوى الخيال المذكور فيما إذا ولى القاضي مدرسا أو نحوه من أصحاب الوظائف التي اشترطها الواقف ولم يعين أصحابها هل نقول إن ذلك كتعيين الواقف حتى لا يجوز تغييره أو هو تولية فيجوز تغييره والذي أراه أنه كتعيين الواقف وأنه يجوز تغييره ولا يجري عليه حكم التغيير مطلقا بل من وجه دون وجه وذلك أن الذي عينه الواقف لا يجوز عزله إلا إذا خرج عن الصفة التي قصدها الواقف أو الأهلية والذي ولاه القاضي يجوز له ولغيره من القضاة بعد عزله إذا رأى فيه مصلحة فقد يراه غيره أولى منه بالنسبة إلى غرض الواقف فمقصود الشارع أولى من مقصود الواقف ولكن المدرس ليس نائبا عن القاضي في وظيفة التدريس وإن ولاه بخلاف الناظر فمن هذا الوجه تعين
قال ومن المفاسد المشتركة بين
____________________
(2/156)
الناظر وغيره أنه إذا بقي شخص منفرد بوظيفة كناظر أو عامل أو غيرهما يأخذ على خط القاضي توقيعا بالحمل عليه ثم لا يقدر القاضي يعزله بعد ذلك بل يبقى متمسكا بذلك التوقيع ويوهم أرباب الدولة أنه من جهة السلطان أو نائبه فلا يقدر القاضي على عزله ولو بان له منه ألف مصيبة وتبقى تلك الوظيفة دائما لا تؤخذ إلا بتواقيع ولا للقاضي فيها حديث ومنها أن معلومها يصير مستقرا وإذا ازداد مباشر آخر يكون زيادة على الوقف بخلاف الديار المصرية فإن القدر المأخوذ للعمال يقسم على الجميع زادوا أو نقصوا وقد وجدت في الشام ما بلغ معلوم المباشر فيه قدرا يستغرق أكثر الوقف ولا يفضل للموقوف عليهم إلا النذر اليسير وربما لم يفضل شيء نسأل الله العافية
هذا مع ما في الشام من ثلاثة أمور ليست في مصر ظاهرة الإنكار تعرف
أحدها أنهم أجراء على الأوقاف حتى قال عز الدين بن عبد السلام إن فيهم ناسا يصومون ويصلون ويحجون ويأكلون الأوقاف
الثاني أنهم يتأولون أعني المتمسك منهم حتى رأيتهم استفتوا في قرية وقفت على أن يبدأ منها بعمارتها وفلاحتها ومباشرتها وما بقي فللجهة الموقوف عليها فجعلوا ذلك طريقا لزيادة المباشرين وصارت معاليم المباشرين ثلاثة أرباع الوقف من غير ضرورة إليهم ولا حاجة
الثالث وهو خاص بالضياع والقرى دون المسقفات أن المباشر لقرية موقوفة يتخذها كأنها أقطاع له يتجر فيها ويزرع فيها ويكلف فلاحيها ويسخرهم ويستولي عليها كأنها ملكه أو كأنه أمير ظالم أقطعها أو يتقرب بها إلى الظلمة فيضمنهم إياها فلا تبقى تنزع من أيديهم والله أعلم
كتبه علي السبكي في ليلة الأحد تاسع ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وسبعمائة بين العشاءين والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم انتهى
نقل من خطه
قال قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ولده فسح الله في مدته قول الشيخ الإمام رحمه الله إن للقاضي أن يفرض للعمال أجرة على مال الأيتام بلا خلاف لا يدفعه ما قاله الأصحاب في كتاب النكاح ومنهم
____________________
(2/157)
الرافعي والنووي والشيخ الإمام أيضا أن الأب لو تضجر بحفظ مال الطفل وطلب من القاضي أن يثبت له أجرة على عمله فالذي يوافق كلام الجمهور أنه لا يجيبه إليه غنيا كان أو فقيرا لكنه إذا كان فقيرا أكل بالمعروف وللإمام احتمال أنه يثبت له أجرة قطع به الغزالي فأقول هذا في الولي المنصوب من قبل الشارع وهو الأب والجد ونظيرهما أما العمال من جهة الحاكم فهو الذي قال الشيخ الإمام إنه يثبت له أجرة بلا خلاف وإلا يلزم تضييع أموال الأيتام عند امتناع المتبرعين بالأعمال وكذلك صرح الأصحاب عند تبرم الأب بأن للقاضي أن ينصب قيما بأجرة بل زاد الإمام أن للأب أن ينصب بنفسه انتهى
مسألة قال الشيخ الإمام رحمه الله الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم أما بعد فإنه في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ورد على كتاب نائبي ببعلبك قضية وقعت عنده في المحاكمات فكتبت إليه يعلمني بها فأرسل إلى الخصوم وهم أولاد اليونيني وناس يقال لهم أولاد محمود بوري وبيد أولاد اليونيني مكتوب مشترى مورثيهم لحربثا من عمل بعلبك محكوم فيه وقد ثبت فيه ملك البائعين وحيازتهم وحكم الحاكم بذلك والبائعون هم أولاد محمود وبوري مكتوب فيه محضر وثبوت في ظاهره واتصال الثبوت بحاكم ثم حكم الحاكم في تنفيذ مستنيبه له ثم تنفيذ حاكم آخر
والإشهاد على اليونيني أنه لا دافع إليه وذلك كله يشرح في كتاب الأسجال الذي سيكتب إن شاء الله تعالى وبيد أولاد اليونيني أيضا إثبات عداوة وشحناء بين مورثيهم والحاكم الذي حكم عليه ومرسوم المرحوم تنكز أنه لا يحكم عليهم لما بينهم من الشحناء وسنشرح ذلك كله إن شاء الله في الأسجال فتأملت الكتب مع هؤلاء والحجج والدوافع فرأيت المحضر الذي بيد أولاد محمود وبوري وهو أقدم ما أحضره الغريمان مع إجازة أخرى قبله فأما المحضر فمضمونه شرح في الأسجال إن شاء الله ورأيت أنه لا يجوز الاعتماد عليه لأمور أحدها أنه غايته شهادة بالوقف بالاستفاضة وفيه من الخلاف ما علم وإنما قلنا إنه شهادة بالاستفاضة
____________________
(2/158)
لأن أصحابه قالوا إن الوقف المذكور من زمان صلاح الدين وكان انقراض دولة صلاح الدين في تسع وثمانين وخمسمائة وتاريخ المحضر سنة إحدى وتسعين وستمائة فبينهما أكثر من مائة سنة فشهوده لم يذكروا الواقف وأيضا فقول الشاهد أشهد بأن المكان وقف معناه موقوف فليس فيه شهادة على واقف ولا بإنشاء وقف ولا بإقرار به وإنما هي شهادة بكونه موقوفا ويحتمل أن يكون مستنده في ذلك سماع كلام الواقف وعلمه بملكه ويحتمل أن يكون مستنده الاستفاضة وهي أدنى المرتبتين وإذا احتمل الشيء الأعلى والأدنى حملناه على الأدنى لأنه المحقق كما قاله الأصحاب في مسائل من هذا النوع وأيضا قوله في المحضر من السنين المتقادمة يشعر بذلك
وأيضا قال القفال وإن نار الوقف لا يثبت بالاستفاضة وقال إن الشاهد لا بد أن يسمي الواقف فإن لم يسمه لم يقبل وذكره البغوي في الفتاوى أيضا وفي هذا زيادة وهي الشروط لأنه قال على أولاد محمود وبوري على ما تضمنه المحضر مما سيشرح في الأسجال والذي أثبته شافعي كان نائب الحكم ببعلبك مقلدا ليس بمجتهد وقد نص النووي في الفتاوى أن حكم الشافعي المقلد لا ينفذ ولا ينفذ
فمقتضى هذا الكلام من النووي أن حكمه باطل على مذهب الشافعي ومتى كان حكم الشافعي المقلد باطلا على مذهب الشافعي لا يجوز تنفيذه لشافعي ولا لغيره لأنه يكون قد حكم بغير حكم الله في حقه وكل من حكم بغير حكم الله في حقه فحكمه باطل
الثاني الإشهاد على الحاكم في ظهر المحضر لم يتضمن حكما وإنما تضمن ثبوتا مجردا فلا يقدم على الملك المحكوم به لتقوى بينة الملك بالحكم فإن الحاكم إذا حكم ببينة ثم قامت بينة أخرى معارضة هل تقدم باليد المزالة بالقضاء فيه وجهان أحدهما المنع لأن تلك اليد يقضى بزوالها ولا ينقض القضاء وأصحهما أنه ينقض واستثنا بأن البينة قد أقيمت ولكن لم يعلم القاضي بها فهل نقول إنها كالبينة المقامة بعد الحكم حتى يجري فيها الوجهان أو ينقض بها قطعا لتقدم إقامتها عند قاض آخر لا أعرف فيها نقلا والأقرب الأول
____________________
(2/159)
كما في المسألة التي سأل عنها الشيخ أبو إسحاق فيمن حكم له بملك ثم قامت بينة بوقفه يرجح القاضي بينة الملك ذهابا إلى أن الملك الذي حكم به يقدم على الوقف الذي يحكم به فهذا الكلام يقتضي بإطلاقه قولا في مسألتنا بتقديم الملك المحكوم به على الوقف الذي تقدمت البينة به عند قاض آخر ولم يحكم به فعلى هذا القول يبطل العمل بهذا المحضر
الثالث أن صيغة المحضر شهد الشهود أنهم يعرفون ويشهدون فيحتمل أن يعطف يشهدون على يعرفون وعلى هذا يكون المعنى شهدوا أنهم يشهدون أي أدوا أنهم تحملوا ولو صرح الشاهد بذلك هل يقبل فيه نظر وعلى القبول هل يكفي الحكم أو لا بد من الأداء على نفس الحق وقد قال الحاكم ثبت مضمون المحضر فمضمون المحضر شهادتهم فالثابت شهادتهم عنده لا كون المكان وقفا وفائدة ذلك النظر في شهادتهم هل تقبل أو لا وهل يسوغ الحكم بها فيأتي في العمل بها في أصل الوقف الخلاف الذي أشرنا إليه وفي الشروط لا تقبل على مذهب الشافعي قطعا
وأما ثبوت الوقف فلم يتعرض الحاكم له وقد يكون الحاكم قصد ما ذكرناه
الرابع المحضر الذي ثبت الآن على قاضي بعلبك أن هذه كانت ملكا لأولاد محمود وبوري وإنما عملوا المحضر بوقفيتها تحيلا لانتزاعها من يد السلطنة إذ كانت أخذت منهم ولذلك ضمن المحضر أنه كتب بالإذن الشريف السلطاني الأشرفي في سنة إحدى وتسعين وبيدهم إجازة تاريخها سنة إحدى وثمانين ليست ثابتة ولا يرتب عليها حكم وكأنهم لما كانوا يسعون في انتزاعها من يد السلطنة كتبوها ليصلوا بها إلى ذلك وسعوا إلى أن رسم في سنة إحدى وتسعين وسواء أكان كذلك أم لا لا يترتب عليها حكم لعدم ثبوتها وليس مرادنا رد المحضر المذكور بالتحيل وإنما بمعارضته بينة الملك التي قامت الآن عند قاضي بعلبك وذكرت زيادة في الحامل لبينة الوقف على الشهادة به
الخامس أن الشهود لم يعينوا الوقف ولا عينوا أولاد محمود وبوري ولا رادوا في نسبهم على قولهم إنهما ابنا السلوين فرس فأما عدم تعيين الوقف فهو مبني على قبول شهادة
____________________
(2/160)
الاستفاضة وقد عرف الخلاف فيها وعلى أن تسمية الواقف ليست بشرط وقد ذكرنا الكلام فيه وأما الاقتصار في أولاد محمود وبوري على ما ذكر فلا يظهر أنه يكفي فقد قال الفقهاء في المحكوم عليه لا بد من تسمية جده والمقصود به التمييز فلو ذكر الجد ولم يتميز به يظهر أنه لا يكفي أيضا ومحمود وبوري الأخوان ابنا المذكور لا يعرف هل لهما وجود أم لا وفي تاريخ ابن عساكر بوري بن طغتكين مات سنة خمس وعشرين وخمسمائة وولده محمود مات سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة فالله أعلم هل هما هذان وحصل الغلط في كونهما أخوين وفي نسبهما أو لا ذلك يؤثر جهالة والجهالة تمنع من جهة الشهادة والإثبات والحكم ويلزم من جهالتهما جهالة أولادهما ونسلهم ولم يحصل من الشهود ولا من الحاكم تشخيص ولا تمييز
السادس أن الشاهدين اللذين شهدا في الإثبات المذكور واتصل بهما ثبت أنهما كانا عند شهادتهما وأدائهما متساهلين في الشهادة غير مقبولي الشهادة
وأما الإجازة فقد بينا أمرها في أثناء الكلام على المحضر فاندفع العمل بهذا المحضر بالجملة الكافية ولم نجد لهذا المحضر طريقا آخر غير الشاهدين المذكورين وبما ذكرناه يتبين أن المحضر المذكور غير ثابت عندنا وأنه لو ثبت لم يترتب عليه شيء
ثم نظرت ما بيد القائلين إنهم أولاد محمود وبوري بعد ذلك فوجدت شرف الدين نائب الحنبلي قد اتصل به ذلك الإثبات بذينك الشاهدين والحال فيهما كما شرحته فتبين بذلك أن ذلك الاتصال كلا اتصال لما ذكرته من تبيين كون الشاهدين غير مقبولين وهذا لا لوم عليه فيه لاحتمال عدم علمه به ولكن يتبين به عدم صحة الحكم ولما سأذكره من امتناع حكمه وإثباته في هذه القضية
نظرت فيما بيد القائلين إنهم أولاد محمود وبوري بعد ذلك فوجدت تعدية حكم فيها شرف الدين هذا بصحة الوقف المشروح في كتاب الوقف وأن كتاب الوقف ليس هناك كتاب وقف ولا منع من ذلك
وهذا هو الظاهر لكنه عدم تحرير وإن شاححنا قلنا إن هذا كلام لا حقيقة له فلا يعتمد وأما حكمه بصحة الوقف فصادر من عدم معرفة لأن حقيقة الوقف مصدر وقف يقف
____________________
(2/161)
وهو إنشاء للوقف وهو العقد الذي سمعه الشهود من الواقف أو يقر به فإذا ثبت عند القاضي بالبينة أو بالإقرار وثبت عند ملك الواقف وحيازته حكم بصحة الوقف أي العقد لأن العقد يوصف تارة بالصحة وتارة بالفساد وهما حكمان شرعيان يعتوران عليه
وفي هذا المحضر لم يثبت شيء من ذلك ولا عند الحنبلي المذكور ويطلق الوقف على الموقوف كقولنا هذه الدار وقف والشهادة في هذا المحضر من هذا القبيل ولا توصف بالصحة والفساد بل هو إما وقف وإما غير وقف فليس هذا محل حكم بالصحة ونفذ هذه البعدية مستنيبه وقد ثبت عندنا العداوة الدنيوية المانعة من الحكم بالبينات وبالتواتر الذي حصل عندي العلم بذلك ومرسوم تنكز قبل الحكم بأنه لا يحكم المستنيب المذكور ولا نوابه وتنكز كان نائب سلطنة عظيما يده باسطة وكلمته نافذة وقد تبين له الشحناء بينهم ولا شك أن منعه للنواب يجب امتثاله لأن العادة بدمشق في ذلك الوقت استئذانه في الاستنابة وأما منعه للمستنيب فقد يقال بأنه يجب امتثاله أيضا لأنه ولي أمر وأيضا فإن السلطان الملك الناصر قدس الله روحه منع من انتزاع الأملاك بالمحاضر وقوى مرسومه بذلك على سدة المؤذنين بجامع دمشق وفي ذلك منع للقضاة من الحكم به لكن ينبغي أن ينظر في تاريخ المرسوم فلا يكون المنع إلا من ذلك التاريخ وبالجملة لا يحتاج إلى ذلك لثبوت العداوة ثم نظرت في ذلك نظرا آخر يغني عن التعرض لنقض حكم الحكام ولجرح الشهود فإني كنت وصيا على الأحكام فوجدت طرفا منها أن المحضر المذكور ظهر وادعى به البائعون بعد بيعهم بسنين فهم قد باعوا باختيارهم وسلموا المكان بأيديهم للمشتري وثبت عند الحكام المتقدمين ملكهم وحيازتهم وبيعهم وحكم الحكام بذلك فبيعهم ويدهم وملكهم ثلاثتها ثابتة محكوم بها ويد المشتري منهم وضعت بحق بحكم حاكم ورضي البائع المسلم فلا تسمع دعواه بعد ذلك بالوقفية ولئن سلمنا أنها مسموعة فلا يحكم لهم الحاكم المذكور ولا مستنيبه بأنها وقف عليهم ولا أنها وقف حين البيع ولا قال إنه ثبت عنده ذلك وإنما حكم بصحة الوقف المشروح
____________________
(2/162)
في المحضر الذي سماه هو كتاب الوقف فوجب علينا النظر في هذين الحكمين وهما حكم تملك البائعين في سنة أربع وسبعمائة وحكم بوقف على أولاد محمود وبوري والله أعلم
هل هم هؤلاء أو لا في إحدى وتسعين وستمائة وقد ثبت أن هذا المكان كان خرابا معطلا حين البيع فيحتمل أن يكون في مدة إلا بيع غيره سنة حرب وتعطل وبيع على مذهب من يراه وعاد إليهم وأن حاكما حكم بأنه بخرابه وتعطله صار ملكا للموقوف عليه كما ذلك رأى بعض العلماء وبكل من هذين الاحتمالين نسوغ الشهادة لهم بالملك والحكم بها مع صحة الشهادة بالوقف المتقدم والحكم بها فلا تعارض بين الحكمين وإذا احتمل ذلك فليس لنا أن نرفع يد اليونيني وحكم الحاكم بصحة شرائه بالشك
والحكم بذلك يكون بغير مستند وليس ذلك منا تسويغا للشهادة بالاحتمال لكنا لم نعلم مستند الشهود ونحمل الأمر فيهم بعدالتهم على أنهم شهدوا شهادة صحيحة جاز بأنها مطابقة للواقع وذلك ممكن بالطريق التي قلناها فننزله عليها ولا ننزله على التعارض المقتضي كذب أحد البينتين مهما أمكن حملهما على الصدق وهذا أمر واجب لثبوت عدالة الجميع وضبطهم ومن الطرق أيضا التي يجوز سلوكها في هذه الواقعة أن الحكم بالبيع واليد والملك هو أول الأحكام التي رأيناها في هذه الواقعة وأيضا ثبوت الحاكم إذا سلم عن تلك القوادح كلها بمنزلة قيام البينة بالوقف فهي معارضة لبينة الملك وقد قال أصحابنا إن بينة الملك وبينة الوقف يتعارضان
وقد ذكر الرافعي ذلك في كتاب الدعاوى وذكر بعده
مسألة عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي لا تخالفه وهي رجلان تنازعا حصة ادعى أحدهما أنها ملك وأقام بينة والآخر أنها وقف ولم يقم بينة فحكم الحاكم لمدعي الملك ثم نازعه آخر يدعي وقفها فأقام المالك البينة على حكم الحاكم له وأقام مدعي الوقف بينة فرجح الحاكم بينة الملك ذهابا إلى أن الملك الذي حكم به يقدم على الوقف الذي لم يحكم به ثم نازعه آخر يدعي وقفها وأقام مدعي الملك البينة على حكم الحاكم له وتقديم جانبه وأقام الآخر البينة على أن الوقف الذي يدعيه قضى بصحته قبل الحكم بالملك أنه حكمه على الوقف قال الشيخ
____________________
(2/163)
أبو إسحاق يقدم الحكم بالوقف على الحكم بالملك وليس هذا مخالفة لتعارض بينتي الملك والوقف وإنما ترجيح بالحكم المتقدم وقياسه في مسألتنا ترجيح الحكم بالملك لأنه لم يسبقه حكم بخلافه وإذا ظهر تعارض بينتي الملك والوقف فقد اختلف العلماء في قيام البينة المعارضة بعد الحكم منهم من قال لا أثر لها لقوة البينة الأولى بالحكم
ومنهم من قال يكون قيامها بعد الحكم كقيامها قبل الحكم وينقض الحكم فإن قلنا بالأول فالحكم بالملك مستمر وكذا ما معه من اليد والبيع وصحة يد المشتري وإن قلنا بالثاني بطل الحكم بالملك لمعارضة بينة الوقف وتساقطا كسائر صور تعارض البينتين وتبقى اليد سالمة عن المعارض وهي وحدها تقتضي الملك ويسوغ البيع فالحكم بهما لا موجب لنقضه فيستمر فالحكم بإبطال البيع لا دليل عليه بوجه من الوجوه ومن الطرق أيضا التي يجوز سلوكها في هذه الواقعة أن الحكم بالملك يعارض الحكم بالوقف ويعارض الحكمين لتعارض البينتين فلنا بعد هذا بحثان أحدهما يقدم السابق والسابق هنا هو الحكم بالملك
والثاني أن نجعلهما سواء ويتساقطان فلا يحكم بملك ولا وقف وتبقى اليد والبيع بحالهما لم يدل دليل على بطلانهما واليد كافية في الدلالة على الملك وقد أزالوها باختيارهم وباعوها باختيارهم وأثبتوا يد المشتري
وأقاموها مقام أيديهم باختيارهم فتستمر يد المشتري التي أقاموها مقام يدهم
وهذه الطرق الثلاث التي ذكرتها أخيرا تكفي في الحكم لأولاد اليونيني من غير نقض حكم حاكم والأولى من الثلاثة أحسن لأنه ليس فيها شيء من الإبطال والثالثة وإن لم يكن نقض معين ففيها التساقط وهو في معنى الإبطال فالطريقة الأولى من الثلاثة هي أحسن في الأدب مع الحكام والشهود وغيرهم
ونظرت في كل من إسجالي شرف الدين ومستنيبه فلم أجد فيه تعرضا لذكر البيع ودفعه والألم به وهذا عجيب فإن الحاكم إذا لم يطلع على المعارض ويدفعه قد يقال إنه إنما حكم لعدم المعارض فلو وجدنا المعارض عنده لم نحكم ولو تجدد عنده العلم لرجع عن حكمه
ثم نظرت في الحكم بتسليم ذلك إلى مشد الأوقاف ليصرفه لمستحقه فلم يذكر أولاد محمود وبوري الذين هم منازعون الآن على تقدير أن يثبت
____________________
(2/164)
أنهم من ذرية أولئك وأن أولئك مستحقو الوقف وأن ذريتهم مستحقون لم يحكم لهم الحنبلي ولا مستنيبه ولا غيرهم من الحكام بشيء إلى يومنا هذا والحكم بالتسليم إلى مشد الأوقاف ليصرفه إلى مستحقه مع عدم بيان المستحقين إن صححناه يجوز أن يكون محمله ما قاله ابن أبي عصرون من أن الشهود إذا ذكروا الشروط في الوقف بالاستفاضة لا تثبت الشروط ويثبت الأصل ويصرفه القاضي في وجوه البر فهذا أحسن ما يحمل عليه حكم هذا الحاكم تحسينا للظن به وإلا فالحكم بشرطه أن يكون لمعين أو لجهة عامة ولم يوجد واحد منهما هاهنا فغاية حكم هذا الحاكم أن يكون جعله لوجوه البر لا يختص به أولاد محمود وبوري لما تبين من التعصب عليهم علمت ذلك بالبينة وبالتواتر والبينة وحدها كافية والتواتر اختلف العلماء في الحكم بالعلم الحاصل فإن جوزنا الحكم به كان سببا آخر مع البينتين وإن لم يجوز كان مؤكدا ولأنهم بيت علم وديانة وأخذوا المكان بثمن قليل وهو خراب داثر وعمروا فيه من أموالهم شيئا كثيرا وجاء هؤلاء القائلون إنهم أولاد محمود وبوري استولوا على الجميع من غير حكم له فليت شعري تلك الأعيان التي أحدثها اليونيني كيف تسلم لهؤلاء وقد تسلموها ولها في أيديهم ثلاثون سنة وقد أمر الله تعالى أن نرد الحقوق إلى أهلها فاستيلاؤهم عليها زيادة في الظلم ولا أدري من سلمها لهم فإن الحاكم لم يأذن في ذلك والظاهر أن الذي سلمها لهم ابن معبد فإنه كان مشد الأوقاف ذلك وكان من أقوى المتعصبين على ابن اليونيني فكأنه لما تسلمها بإذن الحاكم مكنهم منها بغير مستند فاستولوا عليها
وفصل المقال كلمة واحدة إن أولاد اليونيني محكوم لهم وهؤلاء لم يحكم أحد لهم وليس معهم مستند لوضع يدهم
ثم نظرت في حكم الحاكم المذكور برفع يد اليونيني فأحسن محامله إذا أحسنا الظن به أن يكون جعله وقفا مطلقا لا يختص ونزعه من يد اختصاصه وإذا كان كذلك لم يلزم دوام النزع فلحاكم آخر أن يصرفه له هذا نهاية التحيل في تحسين الظن وإلا فقد قررنا في صدر هذه الكراسة ما فيه الكفاية
ثم نظرت في تنفيذ المستنيب
____________________
(2/165)
وتنفيذ قاضي القضاة شرف الدين المالكي فرأيتهما اقتصرا على مجرد التنفيذ والتنفيذ ليس حكما مبتدأ وإنما هو بنى على الحكم الأول حكمه
ثم نظرت في الحكم بأن اليونيني لا دافع له وهذا إن كان بعد إقراره بعدم الدافع فقد ثبت عندي أن اليونيني كان قد حصل عليه تعصب عظيم وظلم كثير وأشهد على نفسه بذلك وهو في الترسيم ونص الشافعي رضي الله عنه في مثل ذلك أن القول قوله في دعوى الإكراه فلا يلزم من إقراره أنه لا دافع له لزوم حكم ذلك لورثته فلورثته أن يبدوا دافعا وكيف لا يقبل قوله وقول ورثته في ذلك وقد قال أصحابنا لو قال لا بينة لي حاضرة ولا غائبة ثم أقام بينة سمعت ويحكم له بها وأما إن كان الحكم بأنه لا دافع له قبل إقراره فمعاذ الله أن يكون ذلك في الشريعة وإنما يحكم بعدم الدافع على من أقر بعدم الدافع وحكمه ما ذكرناه أو على من أبدى دافعا وبان للحاكم بطلانه فنحكم ببطلان ذلك الدافع المعين أو على من يكون طلب منه دافع فلم يأت به فيحكم عليه حتى لا يتأخر الحكم عن وقته وأما شخص يرسم عليه مقهور له دوافع يحكم عليه بإبطال دافعه فليس ذلك في الشريعة
ثم تمهلت في ذلك مدة وأنا أنظر وأراجع ما مع هؤلاء وما مع هؤلاء وثبت عندي بالبينات وبالتواتر ما حصل على تقي الدين اليونيني من التعصب والظلم والقوة عليه بالباطل والاستعانة عليه بمن تعجز عنه قدرته وأن هذا المكان أخذ منه ظلما وعدوانا بعد أن عمر فيه بأعيان أمواله أضعاف أضعافه وعمارته بعينها واستولى هؤلاء على الجميع بغيا وعدوانا ولم يكن له ناصر غير الله وغيروا الخواطر عليه حتى لم يكن يقدر على الدخول إلى دمشق ونعوذ بالله تعالى من غلبات الرجال مع علمه ودينه وصورته فلما تبين ذلك عندي من وجوه متعددة وثبت واتضح وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول أو نقوم بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم وأمرنا بنصر المظلوم وترافع الخصوم المذكورون إلي وحضروا عندي وعند نائب السلطنة المقر السيفي ايتمش مرات وسألني عن ذلك وذكرت له قال لي احكم فحكمت برفع أولاد محمود وبوري وإثبات
____________________
(2/166)
يد أولاد اليونيني ولم أتعرض لنقض حكم بل جعلت حكمي بذلك مرسلا وينبغي أن يتفطن لأن حكمي لا يلزم منه النقض ولا عدمه بل هو صحيح على جميع الطرق المفروضة وأما الحكم المتقدم فلزم من بطلانه صحة حكمي ولا يلزم من صحته بطلان حكمي وحكمت بذلك في العشرين من رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة وجميع المكاتيب التي يحتاج شرحها مشروحة في الأسجال وأما العداوة والتعصب قامت بالبينات قطعا وبالتواتر على القول بجواز الحكم به أو تأكيدا وذكر أسبابها جماعة من الحفاظ المحدثين في كتبهم وأول من أخبرني بها فخر الدين المصري وحكى لي سببها فكشفته فوجدته في تاريخ علم الدين البرزلي وشمس الدين الذهبي أعني السبب من غير أن يتعرضا للعداوة وما طلبت أحدا من أصحاب تنكز الوثوق بهم ولا من غيرهم من أهل بعلبك ودمشق من أمراء وأجناد ورؤساء وعدول حتى استوضحت منهم وسألتهم إلى أن حصل عندي العلم بصورة الحال بحسب ما وصل إليه اجتهادي والله تعالى أعلم ببواطن الأمور والحديث المروي عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقضي بالظاهر والله متولي السرائر والله عز وجل أعلم انتهى ما وجد بخطه رحمه الله
مسألة من صفد وقف على شخص ثم على أولاده على الفريضة ثم أولادهم وأولاد أولادهم وأولاد أولاد أولادهم ونسلهم وعقبهم بطنا بعد بطن على أنه من توفي من أولاده وأولاد أولاده وإن سفلوا عن غير نسل عاد ما كان جاريا عليه من ذلك راجعا إلى من هو في درجته ثم على نسله على الوصف المتقدم ذكره ثم على الفقراء فمات الموقوف عليه عن ابن وبنت ثم ماتا عن أولاد وانحصر نسل الموقوف عليه في ابن ابنه وبنتي ابن بنته وأولاد ابن ابنه وابن بنت بنت بنته وابن بنت ابن بنته وابن ابن بنت بنته فهل يشترك الجميع في الوقف أو يحجب الأعلى الأسفل وإذا اشتركوا ثم مات واحد عن ولده وولد ولده هل يرجع نصيب المتوفى إلى ولده مع ما بيده من أصل الوقف أو إلى أهل درجة المتوفى أو يشترك الجميع الذين انحصر ذكرهم في جميع
____________________
(2/167)
الوقف وفي ذلك النصيب
الجواب يستحق ابن ابن الموقوف عليه نصيب والده وبنتا ابن بنته نصيب والدهما وابن بنت بنته نصيب أمه وأما أولاد ابن ابنه وابن بنت ابن بنته وابن ابن بنت بنت بنته فإن كانت أصولهم أحياء لم يستحقوا وإلا استحق كل منهم نصيب أصله وهذه المسألة قل من يعرفها لا في الشام ولا في مصر وربما يغتر بقول الرافعي بطنا بعد بطن للتعميم لا للترتيب وقد صنفت في ذلك تصنيفا لطيفا بينت فيه أنه للترتيب سميته المباحث المشرقة في الوقف على طبقة بعد طبقة ثم بينت أن معنى الترتيب فيه أنه مرتب كل فرع على أصله ومعنى الترتيب في تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى أنه لا ينتقل لأحد من الطبقة السفلى شيء حتى ينقرض جميع الطبقة العليا ومعنى الترتيب في ثم كذلك هذا عند الإطلاق وقد يقترن بهاتين الصيغتين من ألفاظ الواقف قرائن تبين أن المراد حجب كل فرع بأصله كما في الصيغة الأولى فيعمل بها والله تعالى أعلم
والتصنيف الذي كتبته في طبقة بعد طبقة موجود فمن أراد فلينظره وهو تصنيفان أحدهما نقول سميته المباحث والنقول المشرقة والآخر سميته المباحث المشرقة ثم جمعتهما لما ورد هذا السؤال في واحد سميته الطوالع المشرقة ذكرت فيه بعض ما فيهما والله تعالى ينفعنا بذلك ويسلك بنا أفضل المسالك انتهى
مسألة قال الشيخ الإمام رحمه الله سألت عن رجل عليه وقف فإذا توفي عاد وقفا على ولديه أحمد وعبد القادر بينهما بالسوية نصفين يجري نصيب كل منهما عليه ثم على أولاده واحدا أو أكثر ذكرا أو أنثى أو ذكورا وإناثا للذكر مثل حظ الأنثيين ثم على أولاد أولاده كذلك ثم على أولاد أولاد أولاده مثل ذلك ثم على نسله وعقبه بطنا بعد بطن على أنه من توفي من الأخوين المذكورين ومن أولادهما وأنسالهما عن ولد أو ولد ولد أو نسل عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على ولده ثم على ولد ولده ثم على نسله على الفريضة وعلى أنه من توفي منهما أو من أولادهما وأنسالهما عن غير نسل عاد ما كان جاريا عليه من
____________________
(2/168)
ذلك على من في درجته من أهل الوقف المذكور يقدم الأقرب إليه منهم فالأقرب ويستوي الأخ الشقيق والأخ من الأب ومن مات من أهل الوقف المذكور قبل استحقاقه لشيء من منافع الوقف وترك ولدا أو ولد ولد أو أسفل من ذلك استحق ولده أو ولد ولده أو الأسفل ما كان يستحقه المتوفى لو بقي حيا إلى أن يصير إليه شيء من منافع الوقف المذكور وقام في الاستحقاق مقام المتوفى فإذا انقرضوا فعلى الفقراء والمساكين وتوفي الموقوف عليه وانتقل الوقف إلى ولديه أحمد وعبد القادر ثم توفي عبد القادر وترك أولاده الثلاثة وهم عمر وعلي ولطيفة وولدي ابنه محمد المتوفى في حياة والده وهما عبد الرحمن وملكة ثم توفي عمر عن غير نسل ثم توفيت لطيفة وتركت بنتا تسمى فاطمة ثم توفي علي وترك بنتا تسمى زينب ثم توفيت فاطمة بنت لطيفة عن غير نسل فإلى من ينتقل نصيب فاطمة المذكورة
الجواب بما نصه الحمد لله
الذي ظهر لي الآن أن نصيب عبد القادر جميعه يقسم هذا الوقف على ستين جزءا لعبد الرحمن منه اثنان وعشرون جزءا ولملكة أحد عشر ولزينب سبعة وعشرون ولا يستمر هذا الحكم في أعقابهم بل كل وقت بحسبه ولا أشتهي أحدا من الفقهاء يقلدني في ذلك بل ينظر لنفسه والله أعلم
كتبه علي السبكي الشافعي في ليلة الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وسبعمائة فذكر السائل أنه لم يتبين له هذا الجواب بعد أن أقام ينظر فيه أياما
فكتبت بيان ذلك وبالله التوفيق أنه لما توفي عبد القادر انتقل نصيبه إلى أولاده الثلاثة وهم عمر وعلي ولطيفة بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين لعلي خمساه ولعمر خمساه وللطيفة خمسه هذا هو الظاهر عندنا ويحتمل أن يقال يشاركهم عبد الرحمن وملكة ولدا محمد المتوفى في حياة أبيه ونزلا منزلة أبيهما فيكون لهما السبعان من نصيب جدهما ولعلي السبعان ولعمر السبعان وللطيفة السبع وهذا وإن كان محتملا فهو مرجوح عندنا لأن الممكن في مأخذه ثلاثة أمور أحدها يزعمه بعض الحنابلة أن مقصود الواقف أن لا يحرم أحد من ذريته وهذا ضعيف لأن المقاصد إذا لم يدل عليها اللفظ لا تعتبر
____________________
(2/169)
الثاني إدخالهم في الحكم وجعل الترتيب بين كل أصل وفرعه لا بين الطبقتين جميعا وهذا يحتمل لكنه خلاف الظاهر وقد كنت مرة ملت إليه في وقف الطنبا للفظ اقتضاه فيه لست أعمه في كل ترتيب
الثالث الإسناد إلى قول الواقف إن من مات من أهل الوقف قبل استحقاقه لشيء قام ولده مقامه وهذا قوي لو تم وإنما يتم لو صدق على المتوفى في حياة والده أنه من أهل الوقف وهذه مسألة كان قد وقع مثلها في الشام قبل التسعين وستمائة وطلبوا فيها نقلا فلم يجدوه فأرسلوا إلى الديار المصرية يسألون عنها ولا أدري ما أجابوهم لكني رأيت بعد ذلك في كلام الأصحاب فيما إذا وقف على أولاده على أنه من مات منهم انتقل إلى أولاده ومن مات ولا ولد له انتقل إلى الباقين من أهل الوقف فمات واحد عن ولد انتقل نصيبه إليه فإذا مات آخر عن غير ولد انتقل نصيبه إلى أخيه وابن أخيه لأنه صار من أهل الوقف فهذا التعليل يقتضي أنه إنما صار من أهل الوقف بعد موت والده فيقتضي أن ابن عبد القادر المتوفى في حياة والده في مسألتنا هذه ليس من أهل الوقف
واعلم أن هنا مراتب ولنبينها بالمثال فنقول إذا قال وقفت على زيد ثم على عمرو ثم على أولاده ثم أولاد أولاده ثم على أولادهم فهذه خمس مراتب إحداها زيد وهو موقوف عليه وهو أهل الوقف في الأول هذا لا شك فيه
المرتبة الثانية عمرو هل نقول إنه موقوف عليه في حياة زيد أو لا يصير موقوفا إلا بعد زيد هذا محتمل والأظهر الأول ولست أقول على الاحتمال الثاني إن الوقف عليه معلق على انقراض زيد وإن كان قد يتخيل ذلك بعض الضعفة وإنما لم أقل بذلك حذرا من تعليق الوقف لأن المختار أن الوقف لا يعلق وإنما يصح منجزا فأقول إن الوقف منجزا لا على كل الطبقات وإنشاء الوقف على جميعها حصل الآن لأن الإنشاء لا يقبل التعليق وإنما التردد عندي في متعلق الإنشاء وهو الطبقة الأولى وما بعدها فالطبقة الأولى لا تردد في تنجيز الوقف فيها الآن وأما ما بعدها فيحتمل أن يقال هو كذلك في كونه موقوفا عليه إذا انقرض من قبله وهذا يشبه بحثين أحدهما قول الأصوليين في المأمور حتى يصير مأمورا فمنهم من يجعله مأمورا من الأول
____________________
(2/170)
وإن كان معدوما ومنهم من يوقف صيرورته مأمورا على وجوده وشروط أخرى وإن كان إنشاء الأمر متقدما
البحث الثاني في الطلاق المعلق الحنفية يقولون بالتعليق ينعقد سببه وعند الصفة يقدر إنشاؤه يجعل كالنازل ذلك الوقت وغيرهم من الشافعية والمالكية يقولون إن التعليق المتقدم هو العلة فيؤثر عند وجود الصفة وهذا هو الصحيح وكذا نقول في الوقف بل أولى ولعل خلاف الحنفية لا يأتي في ذلك فإن قلنا إن عمرا ليس موقوفا عليه في حياة زيد فلا شك أنه ليس من أهل الوقف في ذلك الوقت وإنما يصير بعده وإن قلنا إنه موقوف عليه في حياة زيد وهو المختار عندنا فهل نقول إنه من أهل الوقف يحتمل أن يقال بذلك فإن كان موقوفا عليه هو من أهل الوقف ويحتمل أن لا يقال به وهو الأظهر لأن أهل الشيء هو المستقر في استحقاقه ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم فأما أهل النار الذين هم أهلها فلذلك نقول إن من شرط صدق اسم أهل الوقف الاستحقاق وإن سلم أنه موقوف عليه ونقول في عمرو إنه موقوف عليه لأنه معين قصده الواقف بخصوصه وسماه وعينه ولنا غرض في ذلك نقدمه على لفظ الأولاد لما سنبينه عليه إن شاء الله فلا يلزم من إجرائنا هذين الاحتمالين هنا إجراؤهما في الأولاد على الإطلاق وقولنا على الإطلاق احتراز من شيء سنذكره إن شاء الله تعالى
المرتبة الثالثة أولاده ومرادنا أولاد عمرو لأن الضمير يعود عليه لأنه أقرب مذكور والفرق بين الأولاد وبين عمرو أن عمرا معين والأولاد جهة كالفقراء والكلام في الجهة وكونها موقوفا عليها الآن أو لا يصير موقوفا عليها إلا بعد انقراض كالكلام المتقدم في عمرو مع زيد حرفا بحرف وإنما يفترقان في أن كل واحد من الأولاد بعينه ليس موقوفا عليه بخصوصه لا الآن ولا بعد ذلك ولكنه يدخل في الوقف ويتصف بكونه من أهله وهذا الدخول والاتصاف يبعد أن يقال به الآن كما قيل به في المعين لقيام الفرق وإنما يحسن عند وجود شرطه فلذلك أجزم أو أكاد أجزم بأن المعين منهم لا يصدق عليه أنه من أهل الوقف إلا إذا حصل شرط استحقاق
واعلم أن بين أهل الوقف والموقوف عليه عموما وخصوصا من وجه فإن الواحد
____________________
(2/171)
من الأولاد في مثالنا عند وجود شرط استحقاقه من أهل الوقف ولا أرى أن أطلق عليه أنه موقوف عليه لأن الواقف لم يقصده بعينه وعمرو قبل استحقاقه موقوف عليه على ما اخترته وليس من أهل الوقف على ما قدمته وإنما نبهت على ذلك لئلا يتوهم أن الأهل أخص مطلقا وليس كذلك وإنما هو أخص من وجه
إذا عرف ذلك تبين به أن محمد بن عبد القادر والد عبد الرحمن لم يكن من أهل الوقف أصلا ولا موقوفا عليه لأن الواقف لم ينص على اسمه فاضبط هذا فإنه المحز الذي ابتنى عليه الجواب في هذه المسألة وفرغ ذهنك لما ألقيته إليك ولما ألقيه لك
المرتبة الرابعة أولاد أولاده الكلام فيها كالكلام في المرتبة الثالثة لكن فيها شيء زائد وهو أن عمرا قد يكون له ولد توفي قبله ولم يكن في النظر في المرتبة الثالثة فائدة لأنه لا دخول له وهو ميت في الوقف المنتقل من والده بعد موته حينئذ ولكن لما انتهينا إلى المرتبة الرابعة ظهر له فائدة فيها فنقول قوله بعد عمرو إلى أولاده يحتمل أن يريد أولاده الموجودين عند وفاته ويكون أطلق العام وأراد الخاص أو أن الولد الميت لا يسمى ولدا على الحقيقة وهو بعيد فلا وجه عند إرادته ذلك إلا أنه عام مخصوص أو عام أريد به الخصوص ويحتمل أن يريد كلهم الموجودين والذي مات ولكن الشرع منع من دخول الميت في هذا الحكم والفرق بين هذين الاحتمالين أن إخراجه في الأول من إرادة الواقف وإخراجه في الثاني من الشارع وأظهر الاحتمالين عندنا هو الأول لأن المستقبل إنما يراد منها ثبوت أحكامها في المستقبل لمن هو متصف بها ذلك ممن يقصد به ذلك الحكم وهذا مطرد في الوصايا والأوقاف وخطاب الشارع وغيره
إذا تقرر هذا فقوله في المرتبة الرابعة أولاد أولاده يدخل في عموم أولاده الموجودين عند موته وأولاد الذي مات قبله لأنهم من أولاد أولاده ويصح قصدهم ولم يمنع الشرع من دخولهم فلا وجه للقول بالتخصيص فيهم وإن قيل إنه يختص بأولاد الموجودين عند موته لأنهم المستحقون قلنا لا مانع أن لا يستحق الميت ويستحق ولده فهذا
____________________
(2/172)
لا يقتضي التخصيص
وإن قيل إن العهد يقدم على العموم ويقتضي التخصيص وها هنا معهود وهم أولاد الموجودين عند الموت الذين انحصر الاستحقاق فيهم قصدا وشرعا
قلنا العهد في الألف واللام أما في المضاف فممنوع ولئن سلم فإعادته ظاهرا من غير إضمار يشعر بالمغايرة واضبط هذا البحث فإنه مجز في مسألتنا التي أفتينا فيها في دخول عبد الرحمن وملكة
المرتبة الخامسة أولادهم بالضمير فهذا يحتمل أن يقال بالاختصاص فيه بأولاد الموجودين عند موت والدهم لأن الضمير يعود إليهم وهو قوي هاهنا ويحتمل أن يقال المراد بالضمير الأولاد فكأنه قال أولاد الأولاد فيبقى على عمومه كالمرتبة الرابعة إلا أن الاحتمال الأول أقوى
فانظر هذه المراتب الخمس وميز بينها وإذا ضبطتها ووافقت عليها فاشكر ربك وادع لمن أفادك بها
وهذا تمام ما أردناه من الكلام في أهل الوقف وهو أحد الأمور التي ابتني عليها الكلام في هذه المسألة
ومجموع ما ذكرناه يبين أن عند موت عبد القادر يقسم نصيبه أخماسا على أولاده الثلاثة وأن إدخال عبد الرحمن وملكة معهم ضعيف جدا لا اتجاه له إلا على احتمال بعيد في المعين وإجراء حكمه على الموصوف والله أعلم
ومن تمام الكلام في ذلك أن الحكم بكونه من أهل الوقف مع عدم استحقاقه يشبه تخصيص العلة لأن كونه من أهل الوقف يقتضي الاستحقاق ويوقفه على شرط يمنع الاستحقاق فتخصصت علة الاستحقاق وتخصيص العلة على خلاف الأصل إن قيل بجوازه فما أفضى إليه يكون مرجوحا ومن تمام الكلام فيه أيضا أنه قد يقال إنه مستحق أنه لو مات أبوه جرى عليه الوقف فينتقل هذا الاستحقاق إلى أولاده وهذا قد كنت في وقت أبحثه ثم رجعت عنه
فإن قلت هذه الأمور التي قبلها كلها ظاهرة من حيث الفقه ولكن الواقف قد قال هنا إن من مات من أهل الوقف قبل استحقاقه لشيء فقد سماه من أهل الوقف مع عدم استحقاقه فيدل على أنه أطلق أهل الوقف على من لم يصل إليه الوقف قبل محمد والد عبد الرحمن وملكة في ذلك فيستحقان ونحن إنما نرجع في الأوقاف إلى ما دل عليه لفظ واقفها سواء وافق ذلك
____________________
(2/173)
عرف الفقهاء أم لا
قلت ولا نسلم مخالفة شرط الواقف هذا الكلام أما أولا فلأنه لم يقل قبل استحقاقه وإنما قال قبل استحقاقه لشيء فيجوز أن يكون قد استحق شيئا صار به من أهل الوقف ويترقب استحقاقا من آخر فيموت قبله فنص الواقف على أن ولده يقوم مقامه في ذلك الشيء الذي لم يصل إليه ولو سلمنا أنه قال قبل استحقاقه فيحتمل أن يقال إن الموقوف عليه أو البطن الذي بعده وإن وصل إليه الاستحقاق أعني أنه صار من أهل الوقف قد يتأخر استحقاقه إما لأنه مشروط بهذه كقوله في كل سنة كذا فيموت في أثنائها أو ما أشبه ذلك فيصح أن يقال إن هذا من أهل الوقف وإلى الآن ما استحق من الغلة شيئا إما لعدمها أو لعدم شرط الاستحقاق بمضي زمان أو غيره فنص على أنه من مات في أثناء المدة قبل الاستحقاق يقوم ولده مقامه حتى لا يشترط مضي مدة أخرى لوالده بعد وفاة والده ويبطل ما مضى من تلك المدة بل يعتد به له بناء على مدة أبيه فقد ظهر إمكان حمل كلام الواقف على ما لا يخالف الشرع وكلام الفقهاء وإذا أمكن ذلك لم يجز حمله على غيره
فإن قلت لعل مراد الواقف من مات من الأولاد وإنما الكاتب عبر بهذه العبارة
قلت لا يمكننا أن نفعل ذلك بل كل لفظة نجدها في كتاب الوقف مما يترتب عليها حكم شرعي ولم يقم دليل على إلغائها يجب العمل بها هذا حكم هذا الوقف بعد موت عبد القادر ووجود أولاده الثلاثة فلما توفي عمر بعد ذلك عن غير نسل انتقل نصيبه إلى إخوته عملا بشرط الواقف لمن في درجته فيصير نصيب عبد القادر كله بينهما أثلاثا لعلي الثلثان ولأخته لطيفة الثلث ويستمر حرمان عبد الرحمن وملكة على حاله إلى الآن فلما ماتت لطيفة انتقل نصيبها وهو الثلث إلى ابنتها فاطمة وإلى الآن لم ينتقل لعبد الرحمن وملكة شيء لوجود أولاد عبد القادر وهم يحجبونهم لأنهم أولاد وقد قدمهم على أولاد الأولاد الذين عبد الرحمن وملكة منهم فلما توفي علي وهو أخو أولاد عبد القادر وخلف بنته زينب احتمل أن يقال نصيبه كله وهو ثلثا نصيب عبد القادر لبنته زينب عملا بقول الواقف من مات منهم عن ولد انتقل نصيبه لولده وتبقى هي وبنت
____________________
(2/174)
عمتها مستوعبتين لنصيب جدهما لزينب ثلثاه ولفاطمة بنت عمتها ثلثه
واحتمل أن يقال إن نصيب عبد القادر لبنته زينب عملا بقول الواقف ثم على أولاده ثم على أولاد أولاده فقد أثبت لجميع أولاد الأولاد استحقاقا بعد الأولاد وإنما حجبنا عبد الرحمن وملكة وهما من أولاد الأولاد بالأولاد فإذا انقرض الأولاد زال الحجب فيستحقان ويزال نصيب عبد القادر بين جميع أولاد أولاده فلا يحصل لزينب جميع نصيب أبيها بل بعضه ولا نقول إنه بعضه فقط بل بعض المجموع الحاصل منه ومن إخوته وينقص ما كان بيد فاطمة بنت لطيفة عما كان وهذا أمر اقتضاه النزول الحادث بانقراض لطيفة الأولاد المستفاد من شرط الواقف أن أولاد الأولاد بعدهم فلا شك أن فيه مخالفة لظاهر قوله إن من مات فنصيبه لولده فإن ظاهره يقتضي أن نصيب علي لبنته زينب واستمرار نصيب لطيفة لبنتها فاطمة فخالفناه بهذا العمل فيهما جميعا ولو لم نخالف ذلك لزمنا مخالفة قول الواقف إن بعد الأولاد يكون لأولاد الأولاد وظاهره يشمل الجميع فهذان الظاهران تعارضا وهو تعارض قوي ليس في هذا الوقت مجز أصعب منه وليس الترجيح فيه بالهين بل هو محل نظر الفقيه وخطر لي فيه طرق منها أن الشرط المقتضي لاستحقاق أولاد الأولاد جميعهم متقدم في كلام الواقف والشرط المقتضي لإخراجهم بقوله من مات انتقل نصيبه لولده متأخرا فالعمل بالمتقدم أولى لأن هذا ليس من باب النسخ حتى يقال العمل بالمتأخر أولى
ومنها أن ترتيب الطبقات أصل وذكر انتقال نصيب الوالد إلى ولده فرع وتفصيل لذلك الأصل فكان التمسك بالأصل أولى
ومنها أن من صيغة عامة في الأفراد وفي المجموع فقوله من مات وله ولد صالح لكل فرد منهم ولمجموعهم وإذا أريد مجموعهم كان انتقال نصيب مجموعهم إلى محمود أولا من مقتضيات هذا الشرط فكان إعمالا له من وجه مع إعمال الأول وإذا لم نعمل بذلك كان إلغاء للأول من كل وجه أو من أكثر الوجوه وهو مرجوح وإنما قلت أكثر الوجوه لاحتمال أن تأتي حالة يحصل لهم استحقاق فإنا لا نجزم بالحرمان في جميع الأحوال
ومنها إذا تعارض الأمر بين إعطاء
____________________
(2/175)
الذرية وحرمانهم تعارضا لا ترجيح فيه فالإعطاء أولى لأنه لا شك أنه أقرب إلى غرض الواقفين
ومنها أن زينب لم تحرم عن نصيب أمها كله بل بعضه وكذا فاطمة فكان ذلك تشبيها بتخصيص العموم
ومنها أن نقول استحقاق زينب لأقل الأمرين وهو الذي يخصها إذا شرك بينها وبين بقية أولاد الأولاد محقق وكذا فاطمة والزائد على المحقق في حقها مشكوك فيه ومشكوك في استحقاق عبد الرحمن وملكة فإذا لم يحصل ترجيح في التعارض بين اللفظين يقسم بينهم لكن قيمة المشكوك فيه خاصة بين الجميع تقتضي زيادة زينب وفاطمة وعملا بشيء مخالف للشرطين جميعا فكان صرفه إلى ملكة وعبد الرحمن بالطريق التي ذكرناها أولى ولا شك أنه من المواضع المشكلة ولهذا قلت لا أشتهي أحدا من الفقهاء يقلدني فيه بل ينظر لنفسه وميله إليه لما ذكرته فيقسم بين عبد الرحمن وملكة وزينب وفاطمة وهل يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين فيكون لعبد الرحمن خمساه ولكل من الإناث خمسه نظرا إليهم دون أصولهم أو ننظر إلى أصولهم فنقسمه بحسبهم ونقول ينزلون منزلة أصولهم لو كانوا موجودين وأصولهم المتوفى في حياة والدهم ووالدة زينب ووالدة فاطمة فيكون لفاطمة خمسه ولزينب خمساه ولعبد الرحمن وملكة خمساه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين فيه احتمال وأنا إلى الثاني أميل حتى لا يفصل فخذ في المقدار بعد ثبوت الاستحقاق فليس مناقضا لما تقدم فاعتقدته وبنيت كلامي في هذه الفتوى عليه
فلما توفيت فاطمة من غير نسل والباقون من أهل الوقف زينب بنت خالها وعبد الرحمن وملكة ولدا عمها وكلهم في درجتها فوجب قسمة نصيبها بينهم بمقتضى قول الواقف إنه لمن في درجتها للذكر مثل حظ الأنثيين لعبد الرحمن نصفه ولملكة ربعه ولزينب ربعه ولا نقول هنا ينظر إلى أصولهم لأن الانتقال من مساويهم ومن هو في درجتهم فكان اعتبارهم بأنفسهم أولى فاجتمع لعبد الرحمن وملكة الخمسان حصلا لهما بموت علي ونصف وربع الخمس الذي لفاطمة بينهما بالفريضة فلعبد الرحمن خمس ونصف خمس وثلث خمس ولملكة ثلثا خمس وربع خمس واجتمع لزينب الخمسان اللذان حصلا
____________________
(2/176)
لها عند موت والدها وربع الخمس الذي لفاطمة المنتقل إليها بموتها فيكون لهما الخمسان وربع الخمس فاحتجنا إلى عدد له خمس ولخمسه ثلث وربع وهو ستون فقسمنا نصيب عبد القادر عليه لزينب خمساه وربع خمسه وهو سبعة وعشرون ولعبد الرحمن وملكة الخمسان منه ونصف الخمس وربع الخمس وهو ثلاثة وثلاثون لعبد الرحمن منه اثنان وعشرون وهي خمس ونصف خمس وثلث خمس ولملكة أحد عشر وهي ثلثا خمس وربع خمس
فهذا ما أردنا أن نبين وقد اجتمع في هذه المسألة احتمالات كل منها يصلح أن يتعلق به فقيه أحدها ما ذكرناه
والثاني أنه لا شيء لعبد الرحمن وملكة بل يكون لزينب نصيب والدها علي كاملا وهو ثلثا نصيب جدها ولفاطمة نصيب أمها كاملا وهو ثلث نصيب جدها
والثالث أن لعبد الرحمن نصفه ولملكة ربعه ولزينب ربعه وهو مأخوذ مما قدمناه من النظر إليهم دون أصولهم عند موت علي فيكون لعبد الرحمن خمسان ولكل من الإناث خمس ثم ينتقل نصيب فاطمة وهو الخمس إليهم للذكر مثل حظ الأنثيين فيتكمل لهم ما ذكرناه الآن على هذا الاحتمال لعبد الرحمن نصف خمس يكمل له بعد النصف من الاثنين ربع خمس يكمل لها به الربع والله أعلم
مسألة وقف ابن مصعب على نفسه ثم على أولاده الموجودين عند وفاته ومن عساه يحدث له من الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين ومن مات من أولاد الواقف قبل وفاة أبيه وقبل أن يصير إليه شيء من هذا الوقف وخلف ولدا وولد ولد وإن سفل استحق ولده أو ولد ولده الموجود عند وفاة الواقف ما كان يستحقه من أولاد الواقف لو كان موجودا في الحياة عند وفاة الواقف وقام في الاستحقاق مقام أبيه المتوفى في حياة الواقف من على كل واحد منهم نصيبه من ذلك مدة حياته ثم تجري حصة منهم من ذلك من بعده على أولاده للذكر مثل حظ الأنثيين ثم على أولاد أولاده كذلك ثم على أولاد أولاد أولاده مثل ذلك ثم على نسله وعقبه وإن سفل على الشرط والترتيب المذكور على أن من توفي من أولاد الواقف المسمى وأولاد أولاده ونسله وعقبه
____________________
(2/177)
وإن سفل عن ولد أو ولد ولد أو عن نسل أو عقب عاد ما كان جاريا على المتوفى من ذلك وقفا على ولده ثم على ولد ولده ثم على نسله وعقبه وإن سفل على الشرط والترتيب المذكورين
ومن توفي منهم أجمعين ومن أولادهم ومن أنسالهم وأعقابهم وإن سفلوا عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب كان نصيب المتوفى من ذلك راجعا إلى من هو معه في درجته وذوي طبقته من أهل الوقف المذكور المتناولين لشيء من ارتفاعه حالة وفاة المتوفى عن غير ولد ويقدم في الاستحقاق من أهل الدرجة الإخوة على غيرهم ويستوون في ذلك سواء كانوا لأب أو لأبوين فإن لم يكن في درجة المتوفى عن غير نسل من يساويه فعلى أقرب الموجودين إلى المتوفى من أهل الوقف المذكور للذكر مثل حظ الأنثيين ثم على ولد من انتقل ذلك إليه ثم على نسله وعقبه وإن سفل على الشرط والترتيب المذكورين ومن توفي من أنسالهم وأعقابهم أجمعين قبل استحقاقه شيئا من منافع هذا الوقف وترك ولدا استحق ولده بعده ما كان يستحقه والده منه لو بقي حيا حتى يصير إليه شيء من منافع الوقف وقام في الاستحقاق مقام والده المتوفى أبا كان أو أما وحكم حاكم يرى وقف الإنسان على نفسه بصحة هذا الوقف ومات الواقف عن ثلاثة أولاد نجم الدين محمد وجمال الدين يوسف وثابتة وعن ولدي ابن مات قبله وهما إبراهيم وزاهدة ولدا عيسى ابن الواقف فلنجم الدين سبعا الارتفاع ولجمال الدين سبعاه ولثابتة سبعه ولإبراهيم بن عيسى سبع وثلث سبع ولزاهدة ثلثا سبع ثم ماتت زاهدة عن أخيها المذكور فقط فيكمل له السبعان اللذان كانا لأبيه عيسى ومات نجم الدين محمد فانتقل نصيبه وهو سبعان لابنه أحمد وماتت ثابتة فانتقل نصيبها وهو سبع لبنتها فاطمة التي رزقتها من ومات إبراهيم بن عيسى وله سبعان وخلف أحمد وعيسى وموسى وفاطمة ولأحمد أربعة أسباع سبع الارتفاع ولعيسى مثله ولفاطمة سبعا سبع الارتفاع وماتت فاطمة بنت إبراهيم بن عيسى هذه وخلفت يوسف وامرأة ثم ماتت المرأة عن أخيها يوسف فقط فله ما كان لأمه وهو سبعا سبع الارتفاع ثم مات أحمد بن جمال الدين موسى ولا ولد له ونصيبه سبعان فهل يكون نصيبه لست
____________________
(2/178)
الشام وفاطمة بنت ثابتة فقط لأنهما اللتان في درجته لأن ست الشام بنت عمه وفاطمة المذكورة بنت عمته أو يشركهما أولاد إبراهيم بن عيسى وهم أنزل بدرجة وابن أختهم يوسف وهو أنزل بدرجتين لننزلهم منزلة أصلهم
الجواب قد دل كلام الواقف على أن من مات ولا ولد له ينزل ولده منزلته لكنه وصفه بأن يكون مات قبل استحقاق شيء من منافعه فهل هذا شرط معتبر حتى لا يدخل أولاد إبراهيم بن عيسى وابن أختهم ماتا بعد استحقاق شيء أو ليس معتبرا أو معتبر ولكن لا يمنع الدخول فنظرنا فوجدنا قول الواقف أولا من مات من أولاد الواقف قبل وفاة أبيه وقبل أن يصير إليه شيء من الوقف فيه زيادة قوله وقبل أن يصير إليه شيء من هذا الوقف لأن من المعلوم أن قوله قبل وفاة أبيه يغني عنه فذكر ذلك بعده إنما هو تأكيد وتنبيه على أنه وإن لم يصر إليه شيء ينزل ابنه منزلته لأنه قد يتوهم أن شرط استحقاقه قبل أبيه استحقاق أبيه فنبه على عدم ذلك وفي كلام هذا الواقف شيء آخر وهو أنه قال قبل ذلك ثم يجري هذا الوقف من بعد وفاة الواقف على أولاد الموجودين عند وفاته فالوالد المتوفى في حياته خارج من ذلك لا يدخل لفظا ولا تقديرا بخلاف ما لم يقيد بالموجودين فإنه يتوهم دخوله تقديرا ثم ينتقل عنه لأولاده فلما قيدنا بالموجودين لم يكن لهذا التوهم محل ثم إنه ألحق بالأولاد الموجودين عند الوفاة أولاد من تقدم وفاته في حياة أبيه فهم وأعمامهم سواء في الوقف عليهم بعد وفاة الواقف ويتجه أن يقال إنهم درجة واحدة وطبقة واحدة لا يمنع من ذلك تفاوتهم في النسب لأنا لا نعني بالطبقة في الوقف إلا المستوين في الاستحقاق من الواقف كما لو وقف على زيد وابن أخيه أو على زيد وابنه أو على ابنه وابن ابنه وابن ابنه معا فهما درجة واحدة فبان بهذا أن محمدا وموسى وثابتة أولاد الواقف وولدي أخيهم إبراهيم وزاهدة ولدي عيسى ابني الواقف ضمتهم درجة واحدة وطبقة واحدة لاستوائهم بالنسبة إلى الواقف في ترتيب الوقف وإن اختلفوا بالنسبة إليه في أصل النسب
فقوله ومن مات من أولاد الواقف قبل وفاة أبيه إلى آخره ليس تفصيلا لما أجمله
____________________
(2/179)
ولا شرطا فيما قدمه ولكنه إنشاء حكم وذكر موقوف آخر عليه يشارك الموقوف عليه أولا ويصيرهما موقوفا عليهما بعده وهذه المقدمة لا بد من فهمها وضبطها فإنها ينبني عليها ما بعدها
وقوله يجري على كل واحد منهم نصيبه مدة حياته ثم يجري نصيب كل منهم من بعده على أولاده فيه فائدتان إحداهما الاستغناء به عن أن يقول من مات انتقل نصيبه لولده
فإنه لو قال على أولادهم احتمل أن لا ينتقل إلى البطن الثاني شيء ما بقي من البطن الأول واحد فيحتاج إلى بيان بعده وفي هذا الوقف مع اللفظ المذكور لا يحتاج فإنه مبين لنفسه
الثانية قد يقال إن نصيب كل واحد كالوقف المستقل لأنه لما جعله كالصفقة المستقلة أشبه تفصيل الثمن فيتعدد الوقف به لكن الأقرب أن ذلك لا فائدة فيه لأنه وقف واحد وإن تعدد الموقوف عليه وإنما سرى النظر في غير هذا الموضع مما لا حاجة بنا هنا إليه وإنما أردنا أن نستوفي الكلام على كلمات كتاب الوقف نعم فيه تأكيد بيان لأن ولد كل من الخمسة مساو لولد الآخر فيكون ولد محمد وولد ثابتة مساويين لأولاد إبراهيم وعيسى وهو فصل المسألة
وقوله على الشرط والترتيب المذكورين أما الترتيب فظاهر وأما الشرط فهو أن للذكر مثل حظ الأنثيين
وأما كون من مات في حياة الواقف يقوم ولده مقامه فقد قلنا إنه ليس بشرط وإنما هو إنشاء وقف فإن سمي شرطا فمن باب التوسع
وقوله بعد ذلك على أنه من توفي إلى آخره شرط صريح وهو من مات بعد الواقف لا قبله
وقوله من توفي منهم أجمعين عن غير ولد إلى آخره المراد بالدرجة ما قدمناه و من في قوله من أهل الوقف يحتمل أنها لبيان الجنس لا تبعيضية وقوله المتناولين شرح لقوله أهل الوقف لا تخصيص لأن أهل الوقف لا يصدق على غير المتناولين
وهذه مسألة وقعت في الشام أعني كون أهل الوقف يختص بالمتناولين أو يعم كل موقوف عليه وإن لم يصل إليه الاستحقاق ولم يوجد في الشام فيها نقل في زمن الشيخ تاج الدين وأرسلوا إلى الديار المصرية يسألون عنها فلم يبلغني أنه وجد فيها نقل ورأيت أنا من كلام الأصحاب ما يقتضي أن أهل الوقف هم المستحقون المتناولون وذلك
____________________
(2/180)
يعضد ما قلناه من أن قوله المتناولين بيان لقوله أهل الوقف لا تخصيص وقد تقدم ما يدل لتفسير الدرجة وبمجموع ذلك يعلم أن من لبيان الجنس لا للتبعيض
ويحتمل أن تكون تبعيضية وهو الأقرب ويكون المراد بأهل الوقف كل من يتناول منه والمراد بتساوي بعضهم وهم المستوون في تلقي الوقف فإن محمدا وموسى وثابتة وإبراهيم وزاهدة مستوون في ذلك وأحمد بن موسى وست الشام بنت محمد وفاطمة بنت إبراهيم وأولاده مستوون في ذلك وابن فاطمة بنت إبراهيم بن عيسى يستحق نصيب أمه فهو متناول ولكنه ليس مساويا لمن فوقه في تلقي الوقف فأهل الوقف أعم من المساوي
والمتناول يحتمل أن يقال إنه أعم من الدرجة لما دل كلامه على انتقالها إليه وإلى غيره ويحتمل وهو الأقرب أنه مرادف لها ويكون معنى قوله فإن لم يكن في درجته من يساويه كقولك وهذه مسألة بسيطة لا يبدى وجود موضوعها كقوله على لاحب لا يهتدي لمناره وإن لم يكن له منار وكذلك لا درجة ولا مناولة ولو سلمنا أن الدرجة لا تختص بما ذكرناه فلا شك أنها تصدق عليه وعلى المعنى المشهور ومذهب الشافعي حمل اللفظ الواحد على معنييه غير المتضادين وفي تضاد هذين المعنيين هنا نظر فإن سلم تضاده فقوله إن كان مخصصا فهو خلاف الأصل
وإلا فهو راجح فعمله علي وأنه حالتان يعني اللفظ فيكون توضيحا لذلك
وقوله فإن لم يكن في درجة المتوفى من يساويه يؤكد ما قلناه فإنه يقتضي أن الدرجة تنقسم إلى المساوي وغير المساوي والذي يفهم كثير من الناس أن الدرجة لا تكون إلا للمساوي فقط فعلمنا أن مراد الواقف خلاف ذلك لأن المراد بالدرجة المتناولون جميع فهم مرتب ومن السنة يبقى من عداه على مقتضى الشرط
وقوله فعلى أقرب الموجودين إلى المتوفى من أهل الوقف قد قدمنا أن أهل الوقف هم المتناولون وإن لم يصرح الواقف بهذا الشرط هنا
وإذا كان كذلك فغير المساوي من المتناولين قد يكون عما أو عم عم أو ابن أخ أو ابن ابن أخ وما أشبه ذلك فنص الواقف على تقديم الأقرب وليس في ذلك معارضة
____________________
(2/181)
لما قلناه
وقوله ومن توفي من أنسالهم قبل استحقاقه شيئا من منافع هذا الوقف إلى آخره يحتمل أن يريد به أن يشترط في تنزيل الشخص منزلة أصله أن لا يكون أصله استحق شيئا من الوقف ويكون ذلك جبرا لوالده لأن من استحق أصله شيئا فيجبر ولده بعده بأخذه فيكتفى له به
ويحتمل أن يريد أن من مات قبل أن يستحق شيئا أي شيء كان فإن ولده يستحق ذلك الشيء الذي لو كان أبوه حيا لاستحقه وهذا الاحتمال أقرب إلى وضع اللفظ لغة والأول قد يقال إنه أقرب إلى العرف واللغة في مثل هذا مقدمة على العرف لأن هذا ليس من العرف المطرد العام
فإن قلنا بالاحتمال الثاني فإبراهيم بن عيسى مات قبل استحقاقه نصيب أحمد بن موسى الذي مات ولا ولد له
ولو كان إبراهيم بن عيسى حيا لاستحق شيئا منه فيقوم أولاده مقامه عملا بهذا اللفظ
وإن قلنا بالاحتمال الأول فإبراهيم ابن عيسى لا يدخل في ذلك فلا يكون هذا الشرط مقتضيا لاستحقاق أولاده شيئا من نصيب أحمد بن موسى لكن استحقاقهم مما قدمناه لأنهم في درجة أحمد ابن موسى المذكور بحكم أن أحمد بن موسى هو من الطبقة الثالثة من أهل الوقف الأول الواقف والثانية فيها أبوه موسى
والثالثة فيها أحمد المذكور وإبراهيم أيضا من الطبقة الثالثة فحكم ما تقرر أن عيسى بن الواقف المتوفى في حياته لا دخول له في الوقف أصلا وأن إبراهيم من الطبقة الرابعة مساو لأعمامه فيكون أولاده من الطبقة الثالثة مساوين للمتوفى أحمد بن موسى على ست الشام وفاطمة وأحمد وموسى وعيسى أولاد إبراهيم بن عيسى على ما يذكر فيه فعلى الاحتمال الثاني وهو الأقرب يكون لست الشام ربعه ولفاطمة بنت ثابتة ربعه ولأولاد إبراهيم بن عيسى نصفه لتنزلهم منزلة أبيهم
ويقسم هذا النصف بينهم على سبعة لفاطمة بنت إبراهيم سبعه ولكل من المذكور سبعاه وينتقل نصيب فاطمة بنت إبراهيم لابنها يوسف مضافا إلى ما لكل منهم في الأصل وعلى الاحتمال الأول يقسم نصيب أحمد بن موسى بين ست الشام وفاطمة بنت ثابتة وأحمد بن عيسى وموسى أولاد إبراهيم بن عيسى للذكر مثل حظ الأنثيين فيكون لكل ذكر ربعه ولكل أنثى
____________________
(2/182)
ثمنه ولا يستحق يوسف منه بل يقتصر له على ماله من جهة أمه من الأصل هذا ما ظهر لي في ذلك كتبته من وقت التسبيح قبل الفجر إلى حين الإسفار من يوم الخميس الرابع والعشرين من شهر رجب الفرد سنة تسع وثلاثين وسبعمائة انتهى
ثم كتب الشيخ الإمام على حاشية هذا الجواب أنه توقف في هذا الجواب بسبب ما حكي له من أمر أحمد وإلحاق نسبه بابن مصعب وأنها قضية مظلمة
مسألة في صفر سنة إحدى وأربعين وسبعمائة بدمشق وقف جمال الدين قايماز الرومي وقفا على بني هذا الوقف الأربعة علي وإبراهيم ومحمد وإسماعيل بينهم بالسوية أرباعا يجري على كل واحد منهم نصيبه في هذا الوقف وهو الربع منه مدة حياته
ومن توفي منهم عادما كان جاريا عليه من هذا الوقف على ولده للذكر مثل حظ الأنثيين ثم على ولد ولده كذلك ثم نسله وعقبه على هذا الشرط على أنه من توفي من الإخوة الأربعة الموقوف عليهم ومن أنسالهم عن ولد أو ولد ولد أو نسل عادما كان جاريا عليه على من بعده في درجته وذوي طبقته من أهل الوقف يقدم الأقرب إليه فالأقرب
فإن لم يكن في درجته من يساويه كان ذلك وقفا على أقرب الموجودين إليه من أهل الوقف للذكر مثل حظ الأنثيين ثم على أولاد من انتقل إليه ذلك ثم على أنسالهم على الشرط والترتيب فإذا انقرضوا ولم يبق لهؤلاء الإخوة الأربعة نسل ولا لواحد منهم عاد ذلك جميعه على من يوجد من نسل الواقف فإذا انقرضوا عاد وقفا على جهات متصلة واتصل ذلك بحاكم بعد حاكم إلى قاضي القضاة شمس الدين بن مسلم فادعى عنده متكلم عن غازية ابنة عثمان بن علي ابن جمال الدين قايماز على ابني عمها إبراهيم وسليمان ابني محمد بن علي المذكور وأن أخا المدعى لها صلاح الدين يوسف توفي عن غير نسل ولا أخ ولا أخت غير المدعى لها وأنه انتقل إليها ما كان جاريا عليه وهو المنتقل إليه عن والده المذكور ووالدته شام خاتون ابنة إبراهيم بن جمال الدين قايماز المسمى وهو ثلاثة أسهم وخمس سهم وأن المذكورين وضعا أيديهما على النصف مما كان جاريا على صلاح الدين بغير حق بحكم دعوى استحقاقهما ذلك فسألهما الحاكم فاعترفا بوفاة
____________________
(2/183)
صلاح الدين لكن عن غير نسل ولا أخ ولا أخت غير غازية فتأمل كتاب الوقف وحكم بانتقال جميع ما كان جاريا على صلاح الدين يوسف وهو ثلاثة أسهم وخمس إلى أخته غازية واختصاصها به وانفرادها به دون الأخوين المذكورين ودون غيرهما من أهل الوقف بعد أن ثبت عنده أن صلاح الدين توفي عن غير نسل وأن ما كان جاريا عليه انتقل إليه عن والده فخر الدين عثمان المسمى ووالدته شام خاتون وإلى غازية أخته من أبيه وأنه لا أخ له ولا أخت سواها ثم حضر مجلس قاضي القضاة شهاب الدين بن المجد متكلم عن التي بنت عثمان بن عبد الولي الحلي المتصلة النسب بإبراهيم أحد الأربعة الموقوف عليهم وأحضر متكلم معه عن غازية وادعى على غازية أنها استولت على سهمين وهو نصف السدس من الوقف من جملة ما كان جاريا على صلاح الدين من قبل أمه شام خاتون بعد وفاته عن غير ولد بغير حق بمقتضى شرط الواقف الذي تقدم وإن هذا اللفظ يقتضي أن كل ريع يكون وقفا مستقلا على من هو عليه ثم من بعده على ولده لا ينتقل نصيب واحد من الأربعة إلى غير ذريته من ذرية الثلاثة الآخرين إلى أن تنقطع ذريته وتأمل كتاب الوقف فرأى أن وقف الواقف المذكور في كتاب الوقف يكون أربعة أوقاف لا يصرف شيئا من ريعه أحد من الموقوف عليهم الأربعة إلى غير نسل ما دام له نسل ووافق رأيه ما أفتى به أئمة الإسلام بالديار المصرية والبلاد الشامية بدر الدين بن جماعة وتقي الدين الحنبلي وتقي الدين المالكي من مصر
وفتوى شامية منها جمال الدين القزويني وعز الدين بن منجا وزين الدين بن المرحل وشهاب الدين بن عبد الحق وجمال الدين بن قاضي الزبداني وشهاب الدين الطاهري وابنا أبي الوليد وجلال الدين الحنفي وصدر الدين المالكي وحكم برفع يد غازية عن السهمين لكونها ليست من نسل إبراهيم وتسليم ذلك إلى التي لكونها من نسل إبراهيم وبعده برهان الدين الزرعي وبعده مستنيبه علاء الدين وبعده عماد الدين الحنفي وبعده جلال الدين القزويني وبعده شرف الدين المالكي
وفي المكتوب المذكور ثبت أن التي خاتون بنت فخر الدين عثمان الحلي أمها حلة خاتون بنت شام بنت شرف
____________________
(2/184)
الدين إبراهيم أحد الموقوف عليهم وأن صلاح الدين يوسف بن عثمان بن علي أخو حلة لأبويها توفي بعد أمه شام خاتون وثبت إقرار إبراهيم وسليم لأنه لا دافع لهما في ذلك على قاضي القضاة جمال الدين الزرعي الشافعي سنة أربع وعشرين
وصورة الفتاوى التي تمسك بها ابن المجد شرح كتاب الوقف ثم قال فهل يصرف شيء من نصيب أحد من الأربعة الموقوف عليهم إلى غير ذريته أم لا ويكون نصيب كل واحد من الأربعة منحصرا في ذريته فكتب ابن جماعة نصيب كل واحد من الأربعة بعده لمن يوجد من أولاده وإن سفل ولا يصرف شيء منه إلى غيرهم مع وجودهم والحالة هذه والله أعلم
كتبه محمد بن إبراهيم الشافعي وكذلك عليه المالكي والحنبلي
والجواب من وجهين أحدهما أنه لم يبين في الاستفتاء صورة الواقعة المحكوم فيها فالأجوبة صحيحة باعتبار الطبقة الأولى
وأما إذا وصل من نصيب أحد الأربعة شيء إلى ذريته ثم مات عن أخت فلم يسأل عنها ولم تتضمنها أجوبتهم والتمسك بإطلاق أجوبتهم فيها تلبيس ولو قالوه لم يسمع منهم
وهذا هو الجواب الثاني وأكثر أجوبة الباقين على مثل ذلك إلا جلال الدين القزويني فيها في الاستفتاء ورزق علي وعثمان ومحمد والتي رزق إبراهيم شام خاتون عن ولديها يوسف وحلة ثم مات عنها وعن أولاده الثلاثة ثم ماتت حلة عن بنت ثم مات يوسف عن أخته من أبيه وبنت أخته فإلى من ينتقل نصيبه وليس من نسل إبراهيم أحد أقرب إلى يوسف من بنت حلة
فكتب جلال الدين ينتقل من نصيب يوسف ما انتقل إليه عن أبيه إلى أخته لأبيه فإنها في درجته وما انتقل عن أمه إلى بنت أخت حلة
والحالة ما ذكر والله أعلم
كتبه محمد بن عبد الرحمن وأفتى ابن تيمية مثله على واحدة مثلها
وكتبت فتوى أخرى قريب منها ولكن لم يحرر فيها التصوير جيدا
وكتب عليها ابن الكنباني أنه انتقل ما كان يستحقه يوسف إلى أخته غازية دون بنت أخته ودون بني عمه لا ينقض حكم الحاكم بهذا الانتقال والحالة هذه والله سبحانه وتعالى أعلم
ووافقته أنا في الديار المصرية ومحمود الأصبهاني
____________________
(2/185)
ومحمد بن الحسن الشافعي وهو ابن ناصر الدين يذكر والفخر المصري وصدر الدين المالكي وجلال الدين الحنفي وعبادة الحنبلي وعبد الله بن أبي الوليد وابن القماح وعبد العزيز بن محمد بن جماعة وزين الدين بن المرحل والأسواني وابن الأنصاري وزين الدين البلقاني وابن عدلان وعبد الرحيم بن القراب والتصوير الذي كتبت أنا عليه تصوير جيد ولم يكتب معي فيه إلا جلال الدين الحنفي وهو صورة الحال فهو موافق لحكم ابن مسلم وقد حضرت هذه المسألة في المحاكمات بدمشق في صفر في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة فنظرت فيها والذي أدى نظري إليه فيها أن نصيب جلال الدين يوسف ينتقل إليه كله ثم إلى أخته غازية كما حكم به ابن مسلم ورأيت فتوى أخرى كتب فيها ابن الزملكاني هذا الوقف وقف واحد ليس أوقافا متعددة ونصيب يوسف منه ينتقل بوفاته عن غير عقب إلى أخته غازية سواء في ذلك ما انتقل إليه عن أمه أو عن أبيه لكونها أقرب أهل الوقف من طبقته إليه على ما شرط الواقف دون أولاد عمه ودون بنت أخته وهذا الذي يقتضيه شرط الواقف ويوضحه البحث والاستدلال مما يطول شرحه في جواب هذا السؤال والله أعلم
كتبه محمد بن علي ووافقه صدر الدين المالكي والفخر المصري وزين الدين بن المرحل وابن قاضي الزبداني
وهذا الذي قاله ابن الزملكاني رحمه الله هو الصواب الذي لا يتجه غيره ولم يفهم المسألة غيره ورأيي أن حكم ابن مسلم صحيح صادف الصواب وحكم ابن المجد بعده وإن كان له احتمال ضعيف لكنه نقض لما حكم به ابن مسلم وإن لم يصرح بالنقض فهو حكم باطل لأن ما حكم به ابن مسلم صادف محل اجتهاد فهو لو كان غير الظاهر لم يجز نقضه فكيف وهو الظاهر فحكم ابن المجد ببطلانه لذلك واضح لا ريبة فيه دع تقرير خطئه من جهة الفقه ودع حال المجد عفا الله عنا وعنه وإذا كان حكم ابن المجد باطلا فتنفيذ الحكام الذين بعده له لا يفيد فعندي أنه يجب إمضاء حكم ابن مسلم وعدم الرجوع إلى حكم ابن المجد المضاد له والله تعالى أعلم انتهى
فصل للشيخ الإمام رحمه الله كتاب سماه
____________________
(2/186)
موقف الرماة في وقف حماة وهو هذا قال رضي الله عنه الحمد لله الذي فقه في دينه من أراد به خيرا وصرف به عن اكتساب الإثم بالحرام حرا وحصل بسببه من اتباع الحلال أجرا وأقام من صدر هذه الأمة أعلاما شدوا منها أزرا وأعزوه نصرا واهتدوا بهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا يخرجون عنه ذراعا ولا شبرا وكانوا جمعا غفيرا على ممر الأعصار تترى يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويأطرون الظالم على الحق أطرا قد حموا صفو العلم ونهلوا شرابه وارتدوا عن علل مناهله وتطلعوا رضا به وكشفوا لقاصديه أستاره وحجابه وأبرزوا لطالبيه أسراره وذللوا صعابه وأزالوا قشره ولبكوا بالشهد لبابه ثم جئنا من بعدهم في آخر الزمان لم ننل من سؤرهم إلا صبابة ووجها من تلك الوجوه قد أرخى عليه نقابه وتلفع أثوابه مع قلة معين ومساعد ووهن في القوة وضعف ساعد فلا تلقى من يتحدث معك إلا الواحد بعد الواحد وإن تحدث معك حينا نكص أسرع ما يكون وهو شارد فضلا عن أن يرد تلك الموارد أو يشهد ما أنت شاهد ويذوق طعم ما أنت واجد كلا بل هو لذلك الإحساس فاقد فأين من ينظر رباه وينشق رياه وأين من يتغلغل في قلبه سره وينطوي عليه فكره ويتحلى بكره فأين من عنده خبره وخيره فأين من تكيف بذلك وصار له مراحا يصدر عنها نهيه وأمره فهذا هو الذي إذا جمع ذلك اكتفى وراقب الله في السر والنجوى فأهل للفتوى واستحق الإمامة في المسرة والبلوى ولست أقول ذلك تعرضا وإني عنه بمعزل ولكن إعلاما بحالة السلف الذين نحن عنهم في أسفل حضيض ومنزل
وسبب هذه النفثة الخارجة من مصدور الحركة لمعنى تغلي منها الصدور استفتاء ورد من حماة في سنة خمس وخمسين وسبعمائة في رجل يسمى عثمان وقف على بنيه الثلاثة منكورس ولاجين وخضر الإخوة لأبوين بينهم بالسوية ثم من بعدهم على أولادهم وأولاد أولادهم وأولاد أولاد أولادهم بطنا بعد بطن للذكر مثل حظ الأنثيين لا يكون وقفا على بطن حتى ينقرض البطن الأول وإن مات واحد من الموقوف عليه وليس له
____________________
(2/187)
سوى ولد واحد كان له ذلك ذكرا كان أو أنثى وإن مات واحد منهم عن غير ولد وإن سفل عاد حقه على إخوته المذكورين بينهم وإن كان واحدا عاد عليه أيضا وكذلك إن مات أحد من الموقوف عليه وليس له إلا بنات ابن أو بنت ابن وإن سفلت وله إخوة كان أولاد الأولاد أحق به وإن كانت بنتا واحدة وإن انقرض الموقوف عليهم ونسلهم عاد على أقرب العصبات إليهم فمات خضر عن غير نسل ثم مات لاجين عن أولاده أبي بكر وخضر وسيدة ونسب ثم مات خضر هذا عن غير نسل وماتت نسب عن ابن اسمه محمد ثم مات عن غير نسل ثم ماتت سيدة عن ولديها أحمد وعروس ثم مات منكورس عن أولاده عثمان وصدقة ومحمود وعروس وحبيبة ثم مات أبو بكر عن أولاده محمد وأحمد وإبراهيم وعلي وماتت عروس بنت سيدة عن ولديها محمد ومحمود ومات أحمد بن سيدة عن بنتيه سيدة وفاطمة وهما بنتا عروس بنت منكورس ومات صدقة بن منكورس عن أولاده محمد ومحمود وملكة وسيدة ثم مات عثمان بن منكورس عن ابنه أحمد وماتت سيدة بنت صدقة عن غير عقب وماتت ملكة عن بنتيها محمودة وبار خاتون وماتت حبيبة بنت منكورس عن أولادها أبي بكر وإبيزا ومحمد ثم مات محمد هذا عن غير نسل ومات محمد بن صدقة عن بنته فاطمة زوجة ابن السمين وانحصر الوقف في الموجودين منهم وهم سبعة عشر بنتان من البطن الثاني وهما محمودة وعروس بنتا منكورس وثمانية من الثالث وهم أولاد أبي بكر وأحمد بن عثمان ومحمود بن صدقة وولدي حبيبة وسبعة من الرابع وهم بنتا أحمد بن سيدة وبنتا ملكة وفاطمة بنت محمد وصدقة ومحمد ومحمود ولدا عروس بنت سيدة بنت لاجين ثم مات أحمد بن عثمان بن منكورس عن غير نسل ثم مات محمود بن صدقة بن منكورس عن غير نسل فلمن يكون ما كان بيدهما فكتب عليها جماعة كتابة لا يعبأ بها وترك حكايتها وترك أسمائهم أجمل بأهل العلم وأشرف
ونحن لا ننكر أن يقع الخطأ من بعض أهل العلم ويرجعوا وإنما ننكر التصميم على الخطإ بعد ظهوره أو ما يقتضي ظهوره فاستمر من وقع منه
____________________
(2/188)
ذلك عليه واستند في بعضه إلى من أكبر منه ممن ليس بقدوة ممن رأيناه وعاصرناه وترك ذكره أجمل فوسعت النظر في المسألة إذ كان يستمد من مسائل كل مسألة منها قاعدة في باب الوقف وقل من ذكرها فأحببت أن أكتب ما عندي منها ليستفاد وإن كانت هذه المسألة لا تحتمل ذلك عند النقاد المسألة الأولى في اتحاد الوقف وتعدده ذكر الأصحاب في البيع أن الصفقة تتعدد بتعدد البائع وتفصيل الثمن في تعددها بتعدد المشتري وجهان أصحهما التعدد
وفائدة ذلك في الرد بالعيب وغيره ومجمل كلامهم في الصفقة الواحدة المتحدة لفظا أما التعدد لفظا فلا شك في تعددها وذلك أوضح من أن ينبهوا عليه وذكروا في الهبة إذا تعدد الموهوب له ذكر غير القاضي أبي الطيب فيما إذا وهب شيئا لاثنين فقبل أحدهما نصفه وقبضه وجهين قطع القاضي وابن الصباغ بأحدهما وهو الصحيح أنه يصح لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين والصفقتين إذا انفردتا وهذا يدل على إقامة الموهوب له مقام المشتري ولم يتكلموا في ذلك في الوقف والقياس إقامة الموهوب عليه مقام المشتري ومقام الموهوب له لكن فيه فضل نظر سنذكره إن شاء الله تعالى ونبتدئ فنقول من المعلوم أنه لا ثمن في الوقف كما في الهبة بخلاف البيع وإنما في الوقف واقف وموقوف عليه وصيغة والموقوف لا نظر إليه إلا أن فصله كتفصيل الثمن فالمسائل أربع بخمس صور إحداها أن يتحد الواقف والموقوف عليه والصيغة ولم يفصل فهذا وقف واحد سواء أكان الموقوف عليه جهة أم معينا واحدا كقوله وقفت داري على الفقراء أو داري وبستاني على الفقراء أو على زيد
فهذا وقف واحد بلا خلاف
وفائدة اتحاد الوقف وتعدده تظهر في مسائل منها في استحقاق أهله عند موت بعضهم ومنها في العمارة فإذا كانت أماكن موقوفة واحتاج بعضها إلى عمارة وكثيرا ما تقع هذه المسائل ويسأل عنها ويكون الواقف واحدا والموقوف عليه واحدا كأوقاف الصدقات والذي يظهر لي أن العمارة إنما تجب من الوقف الواحد بعضه لبعض فمتى تعدد لم تجب عمارة أحد الوقفين من الآخر سواء اتحد الواقف والموقوف عليه كما إذا وقف على
____________________
(2/189)
شخص واحد في وقتين وقفين أم تعدد أحدهما
نعم إذا تعدد الوقف واتحد الموقوف عليه وكان معينا فله أن يعمره منه أو من غيره كسائر أمواله وإن كان جهة فيظهر أن يكون للناظر في أمرها أن يفعل المصلحة وليس هو الناظر في الوقف بل الناظر على تلك الجهة من كان إن كان لها ناظرا وقد يتعذر ذلك في بعض الأوقاف بأن يكون للفقراء وحاجتهم حاقة فيقدم على عمارة الوقف الآخر وإن كانت لا تقدم على عمارة ذلك الوقف وقد يسوغ بأن يكون صرف ذلك القدر إلى تلك العمارة لا يعوق عليهم أمرا هم محتاجون إليه ويحصل له بذلك مصلحة
المسألة الثانية من صور العقد أن يتعدد الجميع فلا إشكال أنها أوقاف متعددة كوقفين من واقفين على شخصين كل منهما على شخص واحد
الثالثة أن يتعدد الواقف فقط كما لو وقف زيد داره على عمرو أو على الفقراء ووقف خالد داره عليه
الرابعة أن يتعدد الموقوف عليه أو الصيغة فقط فلا إشكال في تعدد الوقف كقول زيد وقفت على عمرو داري وعلى خالد بستاني
أو قوله وقفت على زيد داري ووقفت عليه بستاني بإعادة صيغة الوقف فهما وقفان لأنهما صيغتان كما لو قال بعتك داري وبعتك بستاني
فإنا إذا كنا نعدد الصيغة الواحدة بتفصيل الواحدة بتفصيل فتتعدد الصيغة لفظا ومن ضرورته تفصيل الثمن أولا وهذا ظاهر في الهبة بأن تقول وهبتك يا زيد داري ووهبتك يا زيد بستاني
فهما هبتان بخلاف ما لو قال وهبتك داري وبستاني فهي هبة واحدة ويظهر أثر هذا في الرجوع إذا كان الموهوب له الولد فإن في الهبتين للوالد أن يرجع إلى من شاء منهما وفي الهبة الواحدة يظهر أن يقال إذا رجع في بعضها ينبني على تفريق الصفقة
الخامسة أن يتعدد الموقوف عليه فقط إما جهتين كالفقراء والغارمين وإما معينين كزيد وعمرو فإن فصل بأن يقول لك منهما نصفه فهو وقفان كما لو فصل الثمن في البيع وكأنه أعاد العامل وهو وقفت فيصير صيغتين وإنما جمع بينهما في الأول فلا يضر وكذلك إن قال مناصفة وما أشبه ذلك وكذا إن زاد وقال بالسوية فأما إذا قال بالسوية ولم يقل نصفين ولا في الثلاثة أثلاثا ونحو ذلك فالذي يظهر أنه كما سيأتي في قوله زيد
____________________
(2/190)
وعمرو ويطلق
وكذا إذا قال لهما فإن قال بينهما ولم يقل نصفين فسأذكره إن شاء الله تعالى
وإن قال زيد وعمرو ولم يقل نصفين فهو وقف واحد أو يتعدد لم يصرح الأصحاب بذلك والمختار عندي أنه وقف واحد ويظهر ذلك من قول الأصحاب في تلك المسألة وحكمهم وتعليلهم وإن لم يصرحوا بما قلته
وذلك أنهم قالوا فيما إذا وقف على شخصين أو أشخاص فإن قال وقفت هذا على زيد وعمرو أو قال وقفت هذا على زيد وعمرو وبكر فمات واحد نص الشافعي في حرملة أن حصته للباقين وهو الصحيح عند جمهور الأصحاب وهو مشهور مذهب مالك وهو مذهب أحمد ولنا وجه أن حصة الميت تكون لمن بعده كما لو قال لزيد وعمرو وبكر ثم للفقراء ثم مات زيد صرفت الغلة إلى من بقي من أهل الوقف وقيل تصرف إلى الفقراء وهو رواية عن مالك
وعنه رواية أخرى في الفرق بين من قال ينقسم ولا ينقسم وقالوا فيما لا ينقسم يرجع إلى قسمهم وفيما ينقسم يرجع إلى من بعدهم وهو رواية أشهب وابن وهب وابن نافع وابن زياد والمغيرة عن مالك ولم يخالفهم إلا ابن القاسم لا فرق عنده بين التقسيم وغيره
ومذهب أبي حنيفة أنه للفقراء إذا عرفت ذلك فقد نقل في تعليل الصحيح المنصوص عن ابن شريح تعليلان أنه وقف عليهما وعلى الموجود منهما
والثاني أن الصرف إلى من ذكره الواقف أولا
وقال القاضي أبو الطيب فيما إذا كان له ثلاثة أولاد فقال وقفت هذا على أولادي ثم على أولاد أولادي فمات أحد الأولاد فحصته للآخرين فمن أصحابنا من قال اللفظ أفاد أن حصة الميت منهم تصرف إلى الآخرين
ومنهم من قال لم يستفد هذا باللفظ وإنما استفيد بالاشتراك لأنه لا يمكن أن يجعل الأولاد أولاده لأن الشرط الانقراض وما وجد
وليس هناك أولى منهما فصرف إليهما وهما التعليلان المنقولان عن ابن شريح
والثاني ضعيف والأول هو الأقوى وهو الذي ظهر لي واخترته وشرحه في الأولاد ظاهر لأنهم جهة وقف فهو وقف على تلك الجهة كثروا أو قلوا
ولهذا لم يقل أحد بأنه لم ينتقل نصيب من مات منهم إلى ولده في حياة أخيه وإنما لنا وجه ضعيف أنه لا يكون منقطع الوسط ومحله على صيغة إذا كان بصيغة الجمع أما إذا قال وقفت على ولدي
____________________
(2/191)
ثم ولد ولدي فلا أظن أحدا يحكي فيه خلافا
فإن الولد يشمل من اتصف بالولدية واحدا كان أو كثيرا فالموقوف عليه مسمى الولد وهذا إذا لم يسم الأولاد ظاهر فإن سماهم فكما لو قال زيد وعمرو وبكر وسنذكره ذكره البغوي في فتاوى القاضي الحسين فالأولاد إذا لم يسمهم يقوى فيهم قصد الجهة ولهذا يدخل فيهم من يحدث للواقف من الأولاد على الصحيح وإن لم يصرح في الوقف بقوله وعلى من يحدث منهم
فإن صرح فلا خلاف في دخوله ولا نقول إنه يقسم الحادث على الحادث والموجودين عند الوقف نصفين بل الجميع جهة واحدة وحقيقة الوقف عليهم الوقف على مسماهم كما لو وقف على الفقراء إلا أن هؤلاء يجب استيعابهم والفقراء لا يجب استيعابهم إذا لم يمكن
أما الوقف على زيد وعمرو وبكر فهو أبعد عن معنى الجهة قليلا فإنه وقف على معينين فلذلك جرى فيه وجه أن نصيب الميت ينتقل إلى الفقراء ولكن لا وجه له والقائل فيه بالانقطاع أولى منه لأنه ليس في كلام الواقف بيان تصرفه حينئذ
ولعل هذا مأخذ الحنفية في قولهم إنه يصرف نصيب الميت للمساكين مع ملاحظة أن المنقطع يصرف للمساكين وهم لا يكادون يذكرون المنقطع وإنما يقولون إن أصل الوقف صدقة لأن الواقف يقول في أوله هذا ما تصدق وفي آخره صدقة محرمة
فمبناه كله على الصدقة وهي للمساكين وإنما الواقف يقدم مصارف اشترطها فيقدم ما شرطه فكل ما تعذر منه صرف إلى المساكين لا بالانقطاع وإن الوقف لم يشمله بل لأنه موقوف عليه مؤخر عما قدمه الواقف فكأنه قال وقفت هذا على المساكين على أن يقدم منه كيت وكيت
وأما الشافعي رحمه الله فيجعل مصارف الوقف التي نص عليها الواقف هي المقصودة لا غير فإن وجدت لم يعدل عنها وإن فقدت كلها كان منقطعا والموقوف عليه كله معدوما ويبقى أصل الوقف وهو معنى الانقطاع فيصرف إلى اسم والوقف على أشخاص معينين قد يراد به معنى شامل لهم وهو أخص أوصافهم فيصيرون بعد ذلك كالجهة
ولك بعد هذا تنزيلان أحدهما أن تنتزع منه قدرا مشتركا بينهم لا يكون أعم منه فتجعله مورد الوقف وينزل الوقف عليه وتقول هو وقف على
____________________
(2/192)
المسمى واحد منهم كان أو أكثر فإن انفرد واحد أخذه وإن وجدوا كلهم اقتسموه لضرورة المزاحمة كما في الأولاد سواء
وهذا هو أحسن التنزيلين وأقربهما والثاني أن نقول إنه وقف على كل منهم ولا يمنع ذلك في الوقف وإن امتنع في البيع والهبة ونحوهما لأن تلك العقود مقصودها ملك العين ولا يمكن أن تكون العين مملوكة لاثنين على التمام
والوقف مقصوده حق والحقوق تثبت لجماعة على التمام كما في حق الشفعة وحق الخيار وولاية النكاح ولفظ الوقف والحبس يشعر بذلك لأن معنى قولك وقفها عليهما وحبسها عليهما أنك جعلتها موقوفة محبوسة لأجلهما حتى تفرغ حاجة كل منهما من جميعها فهذا والتنزيل الأول هما اللذان يتوجه بهما أن عند موت أحدهم يصرف إلى بقية أهل الوقف ولا ينتقل شيء إلى من بعدهم وليس الصرف لبقية أهل الوقف بطريق الانتقال بموت أحدهم بل لأن حقهم كان ثابتا فيها وحصلت المزاحمة فيه سواء كله أو بعضه فبموت أحدهم زالت مزاحمته وشركته فينفرد الباقون به فيكون وقفا واحدا لا أوقافا متعددة ومتى جعلناه نصفين أو أثلاثا ونحوه لزم أن تكون متعددة
والقاضي حسين رحمه الله في تعليقته جرى على الصحيح المنصوص
وفي الفتاوى اقتصر على الوجه الثاني أنه يرجع إلى البطن الثاني لأنه وقف على كل واحد منهم ثلثه
فيتلخص أن في الوقف على زيد وعمرو وبكر أو على أولاده إذا سماهم خلافا لقول القاضي حسين أنه وقف على كل واحد ثلثه ومقتضاه أن يكون أوقافا متعددة
وما ذكرناه وفهم من أحد تعليلي ابن شريح والقاضي أبي الطيب أن اللفظ أفاده ومقتضاه أن تكون أوقافا متعددة وما ذكرناه وفيهم من أخذ تعليلي ابن شريح والقاضي أبي الطيب أن اللفظ أفاده ومقتضاه أنه وقف واحد على المذهب
وأما على الوجه الآخر فإنه يصرف على الفقراء فيحتمل أيضا أن يقال إنه وقف واحد ولكن تعذر مصرفه في بعضه ويحتمل أن يقال إنه وقفان كما اقتضاه كلام القاضي فالحاصل احتمال وجهين أصحهما أنه وقف واحد
والثاني وقفان ومحلهما في زيد وعمرو وبكر أو في الأولاد المسمين وينبغي أن يكون الخلاف
____________________
(2/193)
في الأولاد المسمين مرتبا على زيد وعمرو وبكر وأولى بالاتحاد لأن جهة الولدية مقصودة دالة على اعتبار الجهة أكثر من زيد وعمرو وبكر أما الأولاد الذين لم يسموا فهو وقف واحد وهذا كله بلا خلاف
وهذا كله في الوقف الأصلي وصدوره على البطن الأول ومن المعلوم أن الواقف يقف على شخصين ثم من بعدهما على شخص واحد
وقد يقف على شخص واحد ثم من بعده على شخصين فهل نقول إن الوقف يكون متعددا ثم متحدا في الأول أو متحدا ثم متعددا في الثانية يحتمل أن يقال به لأن ذلك باعتبار ما يجعله الواقف في جميع البطون فيرجع إليه ويعتبر ما قاله في كل بطن فيعمل بحسبه فيحتمل وهو الأظهر عندي أن يبنى على شيء سنذكره وهو أن الوقف على البطن الثاني هل هو متعلق واحتمل التعليق فيه لأنه تابع للأول أو منجز وإنما التعليق للاستحقاق وله احتمالان مأخوذان من كلام الأصحاب أصحهما الثاني
وفي ظني أن الشيخ أبا حامد الإسفراييني صرح به فعلى الاحتمال الأول قد يكون الوقف متحدا ثم يتعدد أو عكسه وعلى الثاني وهو الأصح لا يعتبر إلا أصل الوقف فنحكم بما اقتضاه من تعدد أو اتحاد فإن كان واحدا فالتعدد الذي حصل بعده بحكم الشرط في الوقف الواحد لا بحكم مبتدأ وإن كان متعددا فمصيره إلى واحد ولا مانع من جريان حكم التعدد عليه كما لو اتحد الواقف والموقوف عليه وتعددت الصيغة فإنه يتعدد الوقف ويثبت له حكم التعدد
وإن كان المستحق واحدا ولم يفرق أصحابنا في البطنين بين أن يكون بينهما مناسبة أو لا وفي كلام بعض المالكية تعليل يؤخذ منه التفرقة فإن ترتيب الولد على والده يقتضي نسبة الميراث
وقد يحصل الترتيب بين الشخص وولده وبينه وبين الأجنبي ففي الوقف على الأولاد ثم أولادهم إشعار باعتبار الميراث على ما اقتضاه تعليل هذا المالكي فناسب لو قيل بأنه إذا مات واحد من الأولاد ينتقل نصيبه إلى ولده على أني لم أعلم من قال بذلك هذا يأتي مثله في الوقف على زيد وعمرو ثم أولادهما
ولا يأتي مثله في الوقف على الأولاد ثم الفقراء ولا في الوقف على زيد وعمرو ثم الفقراء ولا يشبه الميراث أصلا فلا وجه للصرف
____________________
(2/194)
للفقراء إلا انقطاع الوسط والآخر فلو قرض الأولاد ثم زيد أو عمرو وبكر ثم زيد فلا وجه للصرف إلى زيد أصلا
وعندنا في أثناء كلامنا نذكر الحكم إذا قال بينهما وذلك أني رأيت في كتاب الخصاف من الحنفية لو قال ثلثي لزيد وعمرو وأحدهما ميت فالثلث كله للحي ولو قال ثلثي بين زيد وعمرو وأحدهما ميت فللحي نصف الثلث
قال وهكذا في الوقف ولم أر أصحابنا ذكروا في الوقف هذا وذكروا في الوصية إذا أوصى لاثنين أحدهما ميت قال الماوردي للحي النصف ولو أوصى بالثلث لوارثه وأجنبي ولم يجز بقية الورثة فالصحيح المنصوص للشافعي أن للأجنبي النصف والثاني الجميع وهو قول أبي حنيفة كما قاله الخصاف في الأم في الوصية جاز على قول أبي حنيفة وليس على قول الشافعي الصحيح في الوصية وما قاله في بين لم أر أصحابنا ذكروه إلا في الطلاق
ولو قال لأربع نسوة أوقعت عليكن طلقة طلقت كل واحدة طلقة
ولو قال أوقعت بينكن طلقة وقال أردت بعضهن دون بعض برئن ولا يقبل ظاهرا في الأصح قال و بين يقتضي احتمال اللفظ له وذلك يشهد لما قاله الحنفية من الفرق بين اللام وبين في الوصية وإن احتمل أن يجرى فيه خلاف كما في قبوله في الظاهر في الطلاق
هذا في الوصية أما في الوقف فالذي أراه في اللام أنه لكل من الموقوف عليهم لما قدمته من أن الوقف حق فيصح ثبوته لكل واحد على الكمال
والوصية كالبيع والهبة مقصودها الملك ولا تثبت لاثنين على الكمال
فنحن وإن خالفناهم في الوصية للوارث والأجنبي والوصية للحي والميت ينبغي أن نوافقهم في الوقف ويكون الوقف لاثنين كالوقف على اثنين فيكون متحدا وقفا واحدا على الأصح ثابتا لكل واحد منهما وإذا زاد وقال بينهما فعلى قول الخصاف ينبغي أن يكون كما لو قال نصفين فيكون وقفين ولكن المختار عندي أنه وقف واحد لقصور دلالة اثنين على النصف واحتمالها فيتمسك بالأصل وهو أنه وقف واحد وكأنها لم تذكر بل هي تأكيد هذا ما تيسر ذكره في هذه المسألة وهي قاعدة برأسها دعانا إلى ذكرها أن هذا الواقف وقف على أولاده الثلاثة المسمين بينهم فحصل النظر في أنه وقف
____________________
(2/195)
واحد عليهم وأوقاف ثلاثة وقد شرط أن من مات منهم عن غير ولد فنصيبه لإخوته المذكورين بينهما بالسوية فعلى القول بجعله متعددا كان لثلاثة فصار بالشرط المذكور لاثنين ولم ينقرض البطن الأول بعد ما كان جعلناه من البطن الأول وقفا واحدا وهو الأصح فهو كذلك
وإن جعلناه ثلاثة فهل يصير اثنين أو هو مستمر على حكم الثلاثة ويكون لأحدهما وقفه المختص به ونصف الوقف الآخر ولأخته مثله فيه الاحتمالان اللذان قدمناهما وملنا منهما إلى الثاني لأن الثاني شرط لا وقف مبتدأ
وهذا بيان هذه المسألة وهو المقصود الأعظم الذي ينتفع به على ممر الزمان إن شاء الله تعالى وإن كان فيها بيان المسئول عنه وهو أمر يسير في جنب ذلك فما اللوح الدنيا ولا قاسم كتبتها في نهار الأحد التاسع عشر من صفر سنة خمس وخمسين وسبعمائة
المسألة الثانية وهي قاعدة أيضا في المفهوم هل يعمل به في الأوقاف أم لا
قد علم كلام الأصوليين في المفهوم في أصول الفقه وعمل الشافعي والأكثرين به وامتناع أبي حنيفة منه ومع كون الحنفية لا يعملون به في الأدلة الشرعية كنت أسمع في الديار المصرية أنهم يعملون به في كتب الأوقاف وفي التصانيف ولم أر من تعرض من أصحابنا ولا من غيرهم لذلك في كتاب من كتب الفقه وكثيرا ما يقع في ألفاظ الواقف ألفاظ لها مفهوم وأما من مفهوم الموافقة وليس مفهوم المخالفة فهل يعمل به أم لا والذي في الرهن لا يعمل به لأن الواقف ونحوه من بائع ومشتر وغيرهما إنما يعتبر في تصرفاتهم ألفاظهم وما تدل عليه وضعا لأن الله تعالى نصبها أسبابا وعلامات على إثبات أحكام شرعية وهو سبحانه وتعالى مثبتها ومسببها وليس للعباد منها شيء حتى لو علم مراد الواقف بدون ما جعله الشارع مثبتا لم يلتفت إليه وكما أن القياس ليس بحجة في كلام الناس وهو حجة في كلام الشارع لدلالته على المراد ولذلك المفهوم لا تكون حجة في كلام الناس في إثبات حكم مبتدإ نعم يصلح أن يكون حجة فيه في تخصيص عام أو تقييد مطلق أو بيان مجمل ويكون العمل بالحقيقة بذلك اللفظ العام الذي علم تخصيصه بالمفهوم فهو في الحقيقة ليس عملا
____________________
(2/196)
بالمفهوم لإثبات حق لم يكن يقارب بل عمل بالمنطوق فيما سواه وكذلك تقييد المطلق وتبيين المجمل إلا أن يعارضه منطوق فيقدم المنطوق على المفهوم كما يعمل بالأدلة ولا فرق بينهما إلا أن الأدلة الشرعية صادرة عن معصوم لا يجوز عليه التناقض والواقف غير معصوم عن التناقض وأيضا من كلام الشارع أكثره في الأوامر والنواهي وأكثر ما يقع المفهوم المحتاج إليه في ذلك
وأما التصرفات كالبيع والوقف ونحوهما فقل ما يقع فيها ذلك ولو وقع لم يعتبر ألا ترى أنه لو وقف على أولاده الأغنياء لا يمكننا أن نقول يستحق الفقراء بطريق الأولى لأنه قد يكون له قصد تخصيص الأغنياء ولفظه الذي أناط له الشارع الحكم لم يدل على غيره ودلالة المفهوم ليست وضعية وإنما هي عقلية لو وقف على الفقراء لا نقول إن الأغنياء خارجون بالمفهوم بل عدم استحقاقهم بالأصل فالمفهوم إما غير محتاج إليه وإما غير معمول به ولا يكاد يوجد مفهوم يحتاج إليه في الوقف
وقد حضرني مسائل نبحث فيها تقرب من ذلك منها إذا وقف على شخصين ثم على المساكين على أن من مات منهما عن غير وارث كان نصيبه لصاحبه فمات أحدهما عن وارث هل يقول إنه لصاحبه كما لو لم ينص عليه فقد قدمنا أن الصحيح المنصوص أنه لصاحبه ويكون هذا المفهوم ملغى أو نقول إنه لا يكون لصاحبه عملا بهذا المفهوم وإذا قلنا لا يكون لصاحبه هل يكون منقطع الوسط أو يكون لوارثه أو للمساكين لم أقف لأصحابنا في ذلك على كلام
ورأيت في كتاب الخصاف من الحنفية أنه للمساكين بناء على أصلهم أن ما بطل من الوقف يكون للمساكين وعندهم المفهوم ليس بحجة وعندهم إذا مات أحد الشخصين الموقوف عليهما ثم على المساكين ينتقل للمساكين وإنما ينتقل إلى صاحبه بالشرط إذا مات عن غير وارث وهذا مات عن وارث فما قالوه جار على أصلهم
وأما نحن فيحتمل أن يقال لا نظر إلى المفهوم أصلا ويصرف إلى صاحبه كما لو لم يقل ذلك وهذا بعيد
ويحتمل أن يقال وهو الأظهر لا يكون لصاحبه لأنه مفهوم الكلام ونحن قد قدرنا أن الوقف على شخصين كالعام والعام يخص بالمفهوم لا سيما وهذا العام يحتاج إلى المفهوم في الوقف غيرها واحتجنا إليه في الجواب عن
____________________
(2/197)
السؤال لأن فيه من مات عن غير ولد فنصيبه لأخويه وقد مات خضر عن غير ولد فنصيبه لأخويه بالمنطوق ثم مات لاجين عن ولد فمفهوم ذلك أنه لا يكون لمنكورس
إذا صح لي ما قلته من تخصيص العموم بالمفهوم في ذلك وأما كون نصيب لاجين يكون لأولاد لاجين فلا دلالة للمفهوم على ذلك لأن قاعدة المفهوم أنه إنما يثبت به نقيض المنطوق ونقيض كونه لأخويه أن لا يكون لأخويه أما أنه لا يكون لولده فلا
ومنها قال أصحابنا إذا قال وقفت على أولادي فإذا انقرض أولادي وأولاد أولادي فعلى الفقراء صرف إلى الأولاد فإذا انقرضوا وبقي أولاد الأولاد فوجهان أحدهما وكلام الأكثرين مائل لترجيحه يكون منقطع الوسط
والثاني أن يصرف إلى أولاد الأولاد واختاره ابن أبي عصرون وليس لأجل المفهوم لأن المفهوم إنما يدل على أنه لا يكون للفقراء وهو من مفهوم الشرط وإنما الصرف إلى أولاد الأولاد على أحد الوجهين لأن قرينة ذكرهم وتوقيف الصرف إلى الفقراء على انقراضهم دليل على أنه أرادهم بقوله أولادي أنهم داخلون فيهم
ويجوز إطلاق الأولاد وإرادة الأولاد وأولادهم على بعضهم نقول إن ذلك حقيقة فليس هذا من المفهوم في شيء ولا يلزم أيضا جريانه فيما إذا قال وقفت على أولادي فإذا انقرض أولادي وانقرض زيد الأجنبي فعلى الفقراء
بل الذي يتجه هاهنا القطع بكونه منقطع الوسط لأن زيدا لا يدخل في اسم الأولاد بوجه فلم يبق إلا كونه معلقا عليه وهو لا يصلح أن يكون سببا للاستحقاق
ومنها ما قدمناه عن القاضي أبي الطيب في الوقف على أولاده ثم أولاد أولاده وأن الشرط انقراض الأولاد فلا يمكن الصرف إلى أولادهم فيصرف إلى من بقي من الأولاد لأنهم ليسوا أولى من غيرهم وهذا ليس من المفهوم في شيء لأن غاية المفهوم عدم الصرف إلى أولاد الأولاد وذلك مستغنى عنه لأن الأصل عدم الاستحقاق حتى ينقرض من قبلهم فلم نجد مالا مما يقرب أن يتمسك به للعمل بالمفهوم إلا المثال الواقع في كلام الخصاف وهو في هذا الاستفتاء الذي سئلنا عنه
____________________
(2/198)
وقول الواقف من مات منهم عن غير ولد ولا ولد ولد وإن سفل عاد وقفا على إخوته المذكورين بينهما بالسوية
فإن مفهومه لمن مات منهم عن غير ولد ولا ولد ولد وإن سفل لا يكون نصيبه لإخوته ولاجين مات عن غير ولد فلا يكون نصيبه لأخيه منكورس وعضد هذا المفهوم قول الواقف أيضا إن مات أحد من الموقوف عليهم وليس له إلا بنات ابن مات أو بنت ابن وإن سفلت وله إخوة فأولاد الأولاد وإن سفلوا أحق من الإخوة
فإذا كان أولاد الأولاد أحق من الإخوة فأولاد الصلب بطريق الأولى فهذا عاضد للمفهوم في تقديم الأولاد على الإخوة واستحقاق أولاد لاجين نصيب والدهم دون عميهم وإن كان لو أطلق ولم يوجد منه هذا المفهوم لقدمنا أخاه وما ذاك إلا لأن ذلك العموم ضعيف اعتمد حيث لا معارض له مع احتمال لفظ الواقف له فإن الوقف على شخصين قد يقصد به ما ذكرناه من جعلهما جهة قد يقصد به التوزيع بينهما فحملناه على الأول عند الإطلاق فلما جاء ما يدل على خلافه من مفهوم وعاضد له تبين العمل به ووجب علينا الصرف لأولاد لاجين نصيب والدهم وهو نصف الوقف من ذلك ما كان لوالدهم بالمزاحمة مع إخوته ثلث الوقف وما رجع إليه من خضر لعدم المزاحمة إن كان وقفا واحدا من أوله وهو الصحيح سدس الوقف فصار النصف له بطريق المزاحمة أيضا بينه وبين أخيه منكورس على الصحيح وعلى مقابل الصحيح يكون الثلث له لا بطريق المزاحمة بل وقفا مستقلا على أنه ثلاثة أوقاف وهو احتمال مرجوح ويرجع إليه بالشرط لذلك السدس من خضر بحكم وفاته عن غير ولد
فصار على هذا الاحتمال الضعيف وقفين أيضا في يده لأنهما وقفان في الأصل وصارا بالشرط في حق كل من الأخوين كذلك ولذلك قدمنا تلك القاعدة لنبني عليها هذا التفريع
وبهاتين المسألتين فرع حكم البطن الأول من هذا الوقف المسئول عنه وحكم ما يستحقه منكورس وأولاد لاجين منه
ومنكورس من البطن الأول وأولاد لاجين من البطن الثاني ولكنهم حلوا محل أبيهم على الصحيح عندنا وفيه احتمال ضعيف وقد تكملت هذه المسألة أيضا عصر يوم الأحد ولله الحمد
____________________
(2/199)
200 المسألة الثالثة في دلالة ثم في ترتيب بطن على بطن كما إذا قال وقفت على أولادي ثم أولاد أولادي
أجمع أصحابنا على أن من وقف على أولاده ثم أولاد أولاده لا ينتقل لأحد من أولاد الأولاد شيء حتى ينقرض جميع الأولاد وكذلك الحنفية والحنابلة وبعض المالكية وقل من ذكرها منهم
ولم أعرف عن أحد منهم ولا من غيرهم خلافه وإن كان أبو عاصم العبادي من فقهاء أصحابنا يقتضي كلامه أن ثم ليست للترتيب وكذلك نقل عن الفراء والأخفش وقطرب أنها كالواو وعندي أن النقل عجيب ولعله يكون وقع فيه اشتباه
وقد نقل عن قطرب أن الواو تقتضي الترتيب كثم والنقول التي عن الفقهاء والنحاة في الواو وثم لا تعجبني ولا أبعد أن يكون وقع فيها اشتباه وخروج عن وضع اللسان
ومن مارس اللسان العربي قطع بأن ثم للترتيب والواو محتملة له ومما يدلك على اتفاق العصر الأول أن ثم للترتيب مسائل ابن عباس لما سئل عن قوله تعالى ثم استوى إلى السماء وهي دخان مع قوله تعالى والأرض بعد ذلك دحاها وجمع بينهما أحسن جمع وقال لا يتناقض عليك القرآن فلم يقل أحد منهم إنها ليست للترتيب وكذلك الفقهاء لا نعرف بينهم خلافا إلا ما قاله أبو عاصم في مسألة خاصة ليس مطردا ولا محررا
فقولهم في الأولاد إما مجمعا عليه من رأس وإما مفرعا على الترتيب لأنه إنما هو كلام في معنى ترتيبها
ولا شك أن الترتيب قد يكون بين اثنين فقط ترتب واحد على واحد فلا اشتراك فيه كقولك قام زيد ثم عمرو ووقفت على زيد ثم عمرو وقد يكون ترتب جماعة على جماعة والترتيب قد يكون بالزمان وقد يكون بغيره فالترتيب في غير الزمان كقولك خير القرون الصحابة ثم التابعون فهذا لا إشكال فيه وهو من عطف المفردات والثاني يتأخر عن الأول في الرتبة
وأما الترتيب الزماني في مثل قولك جاء زيد ثم عمرو ووقفت على زيد ثم عمرو قد لا يعقل بين الأشخاص تجرده عن الزمان فلا بد من تأخر زمان الثاني عن زمان الأول وقد اختلف النحاة في تقدير العامل وهو وإن لم يقدر صناعة فهو مقدر معنى فقولك جاء زيد وعمرو ثم
____________________
(2/200)
بكر وخالد معناه ثم جاء بكر وخالد والفعل دال على الزمان
فالزمان الذي هو ظرف لمجيء بكر وخالد متأخر عن زمان مجيء زيد وعمرو وهذا عام في ترتيب الفرد على الفرد وترتيب الجملة على الجملة
ألا ترى إلى قوله تعالى ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر لا يفهم عربي منه إلا أن أدبر واستكبر بعد عبس وبسر فكذلك جاء زيد وقعد ثم أكل وشرب كذلك ولو لم يقدر الفعل فالجملة ليست عبارة عن آخر جزء بل عن جملة الأجزاء فتأخرها عن الأول بدلالة ثم تقتضي تأخر جميع أجزائها عن جميع أجزاء الأول
فهذان وجهان يقتضيان أن قوله وقفت على أولادي ثم أولاد أولادي يقتضي أن لا ينتقل إلى أحد من أولاد الأولاد شيء إلا بعد انقراض جميع الأولاد ولم نر أحدا من العلماء قال خلافه ورأيت في البيان والتحصيل لابن رشد من المالكية أن كل ما كان عطف جمع على جمع بحرف ثم كقوله أولادهم ثم أولاد أولادهم يحتمل أن يريد من بعد انقراض جميعهم وأن يريد على أعقاب من انقرض منهم إلى أن ينقرض جميعهم لاحتمال اللفظ الوجهين جميعا احتمالا واحدا ويجوز أن يعبر عن كل واحد من الوجهين وادعاء أن ذلك بين من قول الله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم قال لأنه قد علم أنه أراد بقوله عز وجل فأحياكم ثم يميتكم أنه أمات كل واحد منهم حتى يميت جميعهم والصيغة في اللفظين واحدة
ولولا أن كل واحدة منهما محتملة للوجهين لما صح أن يريد بالواحدة غير مراده بالآخرين قال وهذا أبين من أن يخفى
قلت احتمال واحد ممنوع بل حقيقته وظاهره ما قدمناه من أنه لا ينتقل لأحد من الثاني شيء حتى ينقرض جميع الأول وإن أريد خلاف ذلك بقرينة كان مجازا وقوله جميعهم ليس فيه زيادة غير التأكيد وكلامه في الآية الكريمة بناه على أن المخاطب بها كل من وجد وسيوجد وليس بمسلم له إنما المخاطب بها الموجودون حين نزولها عاتبهم الله بقوله كيف تكفرون بالله الآية فهي خطاب مواجهة وخطاب المواجهة لا يعم من سوى الموجودين إلا بدليل ولا دليل على إرادة غيرهم منه وإن كان كل من صدر منه الكفر بهذه المثابة وصالحا لأن يخاطب به كما خوطب به هؤلاء
وإذا
____________________
(2/201)
كانت خطابا للموجودين خاصة فكلهم كانوا أمواتا فأحياهم الله وكلهم أحياء ثم يميتهم الله ثم يحييهم فقد جاءت لفظة ثم على بابها في موقعها بلا إشكال ولا ضرورة إلى الحمل على ما قاله ابن رشد ثم الاستدلال به على مسألة لا يوافق عليها أحد ثم دعوى أن ذلك بين من الآية الكريمة وقوله إنه أراد بقوله عز وجل فأحياكم ثم يميتكم أنه أمات كل واحد منهم بعد إحيائه لا أدري ما حمله على أن عبر بالماضي وهو أمات عن المضارع المذكور في القرآن وهو يميتكم فلا عبارته جيدة ولا فهمه جيدا
وقوله قبل أن يحيي يميتهم صحيح بالمعنى الذي أردناه لا بالمعنى الذي أراده وقوله فلولا أن كل واحد محتمل للوجهين لما صح أن يريد بالواحدة غير مراده بالأخرى
قلنا لم يرد بالواحدة غير مراده بالأخرى لما بيناه ولو كان كذلك لما لزمه أن يكون الوجهان على السواء بل يكفي أن يكون أحدهما حقيقة والآخر مجازا
ولو لزم أن يكون الاحتمالان على السواء لكنا نقول عند عدم القرينة إذا كان الاحتمالان على السواء استحقاق البطن الأول محقق فيستصحب حتى يقوم دليل قوي على استحقاق البطن الثاني
ولا ينتقل إليهم بالشك وعلى هذا يحمل كلام ابن رشد فلم يقل هو ولا غيره ينتقل بمجرد ذلك إلى أولاد الأولاد وإنما نقول بالاحتمال ففي تلك المسألة التي نتكلم فيها يقتضي أنه عضده قرينة والمسألة التي تكلم عليها في مذهبه مسألة الاعتبار هي مسألة عظيمة عندهم ذكرها أكثر المالكية بواو التشريك
وذكرها ابن رشد أيضا وصورتها على ما في المدونة رجل حبس على ولده في مرضه وولد ولده والثلث يحتملها وهلك وترك زوجته وأمه وولده وولد ولده قال تقسم الدار على عدة الولد وعلى عدة ولد الولد فما أصاب لولد الأعيان دخلت معهم الأم والزوجة فكان ذلك بينهم على فرائض الله حتى إذا انقرض ولد الأعيان رجعت الدار كلها على ولد الولد وصورها فيما إذا كانت الأولاد ثلاثة وأولادهم قسمت على ستة فالثلاثة التي لولد الولد سالمة لهم والثلاثة التي لولد الأعيان إذا لم تحرم الأم والزوجة أخذنا من كل واحدة السدس والثمن لأنهم وارثون ولا وصية لوارث والوقف في المرض
____________________
(2/202)
وصية وقسمتها على ألفين ومائة وستين كل سدس ثلثمائة وسبعون تأخذ الأم سدسه والزوجة ثمنه فيجتمع للأم مائة وثمانون وللزوجة مائة وخمسة وثلاثون ثم يموت بعد ذلك واحد من الأولاد ومن أولاد الأولاد وقد يحدث ولد رابع أو خامس من أولاد الأولاد فتصير القسمة على أربعة وثمانين ولهم فيها حساب طويل وعمل كثير وخلاف وهل تنقض القسمة أو لا تنقض وفي الجواهر لابن شاس وغيرها من كتب المالكية إذا مات واحد من ولد الأعيان يكون سهمه لورثته من كانوا يعني من أولاده الذين هم البطن الثاني من الوقف وغيرهم محجورا عليهم حتى ينقرض ولد الأعيان فيخلص وقفا لأولادهم لأنهم ليسوا ورثته
وكذلك إذا ماتت الأم والزوجة في حياة ولد الأعيان فيصير وقفا على أولاد الأولاد وذكر صاحب البيان والتحصيل من المالكية أيضا المسألة بصيغة الترتيب
ولا غرض لنا في ذكرها إلا أنه قد يتعلق أحد بكلام مالك فيها فإنه إمام فلا بد من ذكرها قال مصنف البيان والتحصيل وهو القاضي أبو الوليد محمد بن رشد الجد الكبير مسألة قال مالك رضي الله عنه من أوصى بوصية لبعض ورثته دون بعض ثم جعلها من بعدهم لغيرهم قسمت على سائر الورثة والزوجة والأم ومن لم يوص له بشيء يدخلون معهم فيأخذون قدر ما يصيبهم من الميراث فإذا هلك رجل من الورثة الذين أوصى لهم صار نصيبه لولده وخرج نصيب الزوجة والأم والأخت من ذلك وثبت في غيره حظوظ أعيان الولد حتى ينقرض آخرهم فإذا انقرض أعيان الولد الذين أوصى لهم سقط نصيب الزوجة والأم فإذا هلكت الزوجة والأم دخل من يرثهما مكانهما في الميراث مع الولد
فإذا هلك الولد ورثه ولده وانقطع ميراث الأم والزوجة وميراث من ورثهم إن كانوا قد هلكوا
قال القاضي ابن رشد المعنى في هذه المسألة أنه أوصى لبعض ورثته دون بعض بوصية بحبس يجري عليهم عليه بدليل قوله ثم جعلها من بعدهم لغيرهم إذ لو أوصى لبعض ورثته دون بعض بوصية ملك لم يصح أن تكون لغيرهم من بعدهم ولوجب إن لم يجز ذلك سائر الورثة أن تبطل وترجع ميراثا بين جميعهم ولم يكن في ذلك كلام ولا إشكال
____________________
(2/203)
وتنزل المسألة على المعنى الذي أراده وذكره أن يكون الموصي قد نزل من الورثة من البنين أربعة وابنة وإما زوجة وأوصى أن يحبس على الذكران من أولادهم ثم على أولادهم من بعدهم حبسا له عليه يكون موقوفا عليهم فلم يجز ذلك سائر الورثة الذين لم يوص لهم وهم الزوجة والأم والأخت أنهم يدخلون مع الموصى لهم في غلة الحبس يقتسمونها بينهم على سبيل الميراث
وذلك الذي أراد بقوله فيقسم على سائر الورثة الزوجة والأم ومن يوص له بشيء فيدخلون معهم فيأخذون قدر ما يصيبهم من الميراث
وقوله بعد ذلك فإذا هلك رجل من الورثة الذين أوصى لهم صار نصيبه كاملا لولده دون أن تأخذ منه الأخت والأم والزوجة شيئا وهو الرابع لأن المحبس عليهم أربعة فإذا توفي أحدهم صار الربع كاملا لولده لأنهم غير ورثة ولا يدخل عليهم فيه الزوجة ولا الأم ولا الأخت
وقوله وثبت في غيره من حظوظ أعيان الولد حتى ينقرضوا
يريد أن الثلاثة الأرباع يدخل فيها مع الإخوة الثلاثة الباقين لأنهم ورثة الزوجة والأم والأخت ويكون ذلك بينهم على فرائض الله تعالى فقوله حتى ينقرض آخرهم يريد أنه يعمل في موت من مات منهم بعد الأول ما عمل في موت الأول من أن يكون الربع الثاني لولده لأنهم غير ورثته فلا تدخل عليهم فيه الزوجة ولا الأم ولا الأخت وكذلك إذا مات الرابع وهو آخرهم يصير الربع الرابع لولده كاملا لأنهم غير ورثته ويسقط نصيب الزوجة والأم يريد والأخت لا يكون لهم شيئا
وقوله فإن هلكت الزوجة والأم يريد أو الأخت دخل من يرثهما مكانهما في الميراث مع الولد يريد نصيبهم كلهم في جميع الغلة أو مع من يبقى منهم في حظه منهما وهو الربع لأنهم أربعة على التنزيل الذي نزلنا عليه المسألة فإذا انقرضوا كلهم رجع الحبس إلى أولادهم لأنهم غير ورثة ولم يكن لمن لم يوصى له من الورثة في ذلك حجة ولا كلام لأن الحبس قد صار إلى غير ورثته فهذا بيان هذه المسألة وفيها معنى ينبغي أن يوقف عليه وهو قوله فيها فإن هلك رجل من الورثة الذين أوصى لهم صار نصيبه لولده وهو قد حبس عليهم ثم على أولادهم من بعدهم ولا يقتضي قوله ثم
____________________
(2/204)
على أولادهم من بعدهم أن لا يدخل ولد من مات منهم في الحبس حتى يموتوا كلهم لأن قوله ثم على أولادهم من بعدهم يحتمل أن يريد ثم على أعقابهم من بعد انقراض جميعهم وأن يريد على أعقاب من انقرض منهم إلى أن ينقرض جميعهم لاحتمال اللفظ الوجهين جميعا احتمالا واحدا
وكذلك كل ما كان صيغته من ألفاظ عطف جمع على جمع بحرف ثم يجوز أن يعبر به عن كل واحد من الوجهين وكذلك بين قوله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم لأنه قد علم أنه أراد بقوله عز وجل فأحياكم ثم يميتكم أنه أمات كل واحد منهم بعد أن أحياهم قبل أن يحيي بقيتهم وأنه أراد تعالى ثم يحييكم إنه لا يحيي منهم أحدا حتى يميت جميعهم والصيغة في اللفظين واحدة فلولا أن كل واحدة منهما محتملة للوجهين لما صح أن يريد بالواحدة غير مراده بالأخرى وهذا أبين من أن يخفى
فإذا كان قوله ثم على أولادهم محتمل للوجهين وجب أن يكون حظ من مات منهم لولده لا يرجع على إخوته لأن ما هلك الرجل عنه فولده أحق به من إخوته فترجح بذلك أحد الاحتمالين في اللفظ لأن الأظهر من قصد الحبس وأراد به أن يكون ذلك بينهم على سبيل الميراث ثم على أعقابهم أن لا يدخل الولد مع والده في الحبس حتى يموت والده وجميع أعمامه المحبس عليهم لقال ثم على أولادهم من بعد انقراض جميعهم فلا اختلاف أعلمه في هذه المسألة قط
وقد وقع لابن الماجشون في الواضحة ما ظاهره خلاف هذا وهو محتمل للتأويل
وقد ذهب بعض فقهاء أهل زماننا إلى أن الولد لا يدخل في الحبس بهذا اللفظ حتى يموت والده وجميع أعمامه
وقال إن لفظه يقتضي التعقيب في اللسان العربي وقف خلاف فلا ينبغي أن يختلف إذا قال ثم على أولادهم أنه لا يدخل أحد من الأولاد في الحبس إلا بعد انقراض جميع الآباء
وتعلق بظاهر قول ابن الماجشون في الواضحة ولا تعلق له فيه لاحتماله التأويل فقوله خطأ صراح لما بيناه وإنما يختلف في المذهب إذا حبس على جماعة معينين ثم صرف الحبس من بعدهم إلى سوى أولاده من وجه آخر يجعل مرجع الحبس إليه بعدهم على ثلاثة أقوال يقوم من المدونة فيمن
____________________
(2/205)
حبس حائطه على قوم بأعيانهم فمات بعضهم وفي الحائط ثمر لم يؤبر أحدها أن حظ الميت منهم يرجع إلى الوجه الذي جعل مرجع الحبس إليه بعده وذلك على قياس قوله في المدونة إن حظ الميت منهم يرجع إلى المحبس
والقول الثاني أن حظ الميت يرجع إلى بقيتهم
والقول الثالث إن كان الحبس مما يقسم عليه من الثمرة أو الخراج رجع حظ الميت منهم إلى الوجه الذي جعل مرجع الحبس إليه بعدهم وإن كان مما لا يقسم عليه كالعبد يخدمونه والدار يسكنونها والحائط يكون عليه رجع نصيب الميت منهم إلى بقيتهم وذلك على قياس ما روى الرواة عن مالك وأخذوا حاشى بن القسم من التفرقة بين الوجهين
وقد حكى عبد الوهاب في المعونة أن الاختلاف في هذه المسألة إنما هو فيما يقسم كالغلة والثمرة وأنه لا اختلاف فيما لا يقسم كالعبد يختدم والدار تسكن وليس ذلك بصحيح على ما بينا انتهى كلام ابن رشد
قال علي السبكي غفر الله له ولوالديه قول مالك رضي الله عنه من أوصى بوصية لبعض ورثته دون بعض لم يقل إنها وقف فيحتمل أن تكون وصية على حقيقتها قول ابن رشد بدليلي حكم العمرى والثاني على حكم الملك ومذهب مالك في العمرى أنها تمليك البائع ولو أن رجلا أوصى بمنافع داره لزيد مدة حياة زيد ثم بعده تكون ملكا لعمرو أو تكون منافعها لعمرو لم لا يصح بل أقول على مذهبنا يصح ذلك إذا صرح بالمنافع الآن وبالملك في ثاني الحال لأنها وصية معلقة بشرط بعد الموت وإنما احتجت إلى مذهب مالك فيما إذا أطلق فإنه يقتضي الملك والملك عندنا لا يصح موقتا ولا العمرى فلذلك جعلتها عمرى على مذهب مالك لاحتمال قول ابن رشد ولو أوصى لبعض ورثته دون بعض بوصية ملك لم يصح أن تكون لغيرهم من بعدهم ولوجب إن لم يجز ذلك سائر الورثة أن تبطل وترجع ميراثا
وهو صحيح إذا أراد الملك الحقيقي لناقيته وأما إذا أراد العمرى أو احتمل وأمكن الحمل عليه فهو أولى من الإبطال
قول ابن رشد وتنزل المسألة
____________________
(2/206)
على المعنى الذي أراده إلى قوله ثم على أولادهم
قلنا مالك إنما قال ثم جعلها لغيرهم ولم يخص أولادهم فقد يجعلها لأجنبي غير وارث ولا يختلف الحكم وسيأتي في كلام ابن رشد الترجيح لأحد الاحتمالين بقرينة الإرث وهذه القرينة منتفية في الأجنبي الذي يحتمله كلام مالك قول مالك رضي الله عنه فإذا هلك رجل من الولد الذين أوصى لهم صار نصيبه لولده يحتمل أن يكون بحكم الوصية ويحتمل أن يكون بحكم الإرث
وقول ابن رشد يريد وصار نصيبه كاملا ليس في كلام مالك ما يدل على قوله كاملا فيحتمل أن يريد نصيبه كاملا كما قال ويحتمل أن يريد النصيب الذي كان يصل إليه في حياته
قول مالك وخرج نصيب الأم والزوجة والأخت من ذلك يحتمل أن يكون مراده سقط ويحتمل أن يريد خرج من التعليق بما في يد ولد الولد وصار متعلقا بغيره وهذا موضع مشكل
وفصل القول فيه صعب ولا ضرورة بنا إليه لأنه ليس من غرضنا
قول ابن رشد وهو الربع مبني على فهمه أن مالكا أراده وفيه نظر وقول مالك وابن رشد الأخت يريد البنت لأنها أخت البنين ودخولها ودخول الزوجة والأم مع البنين صحيح لأنهم وارثون ولم تحصل الإجازة فيقسمونه على حكم الميراث وقول مالك رضي الله عنه وإذا هلك الولد ورثه ولده يصرح بالإرث وهو موافق لما قدمناه عن الجواهر وغيرها ولا سيما وقول مالك هذا في الولد الأخير الذي يخلص الجميع لولد الولد فلو قلنا إنه وقف يخالف ذلك كلام مالك وما عندي هذا إلا أن نفرض المسألة في الملك الذي يورث أو أنا نحكم بالملك والإرث في حياة الأولاد وفي الانتقال إلى أولادهم ولا يزال حكم الإرث منسحبا عليه حتى يموت الولد الأخير فينتقل أيضا إرثا ثم ينقلب فيصير وقفا ويكون الملك أولا ثبت والوقف آخرا وبهذا يزول ما يحاوله ابن رشد من إثبات هذا الحكم في الوقف المستقر أولا وآخرا ولا شبهة للإرث فيه ولا لحكمه وإنما هو مرتب على مدلول اللفظ
قول ابن رشد فهذا بيان المسألة قلنا قد علم ما فيه قوله وفيها معنى ينبغي أن يوقف عليه هو الذي خشينا أن يتعلق به أحد من كلام مالك
وقد ظهر منازعتنا فيه ولقد أنكرنا هذا أن ينتزع من
____________________
(2/207)
قول مالك وأن من وقف وقفا على أولاده ثم أولاد أولاده ومات واحد منهم ينتقل نصيبه إلى أولاده قبل انقراض البطن الأول وهذا لم يقله مالك ولا أحد من العلماء غيره ولا قاله ابن رشد صريحا وإنما قال إنه محتمل له وأخذ من كلام مالك احتماله ونحن ننازعه في أخذ احتماله من كلام مالك هذا وإن كنا تسلم احتماله من غير ذلك احتمالا مرجوحا والاحتمال المرجوح لم يقل أحد إنه يعمل به إلا إن دل عليه دليل وبقية كلام ابن رشد في هذا الفصل والآية الكريمة قد تكلمنا عليها وبينا أن الصواب فيها خلاف ما قال ابن رشد وقوله وهذا أبين من أن يخفى بحسب ما في ذهنه ونحن نقول رده أبين من أن يخفى
وقول ابن رشد فإذا كان قوله ثم على أولادهم محتمل للوجهين وجب أن يكون حظ من مات لولده لا يرجع على إخوته لأن ما هلك الرجل عنه فولده أحق به من إخوته هذا وإن السياق والقرآن وقيام الحرب على ساق فإن كل من وقفنا على كلامه من الفقهاء على خلاف هذا ولولا خوف المجازفة كنت أدعي الاتفاق وكنا نحسن الظن بابن رشد ونقول لعل كلامه في تلك المسألة خاصة والآن برح الخفاء واقتضى كلامه طرده في كل وقف على الأولاد ثم أولادهم بل في الوقف على زيد وعمرو ثم أولادهما لقرينة الولدية ولعمري أنه محتمل وإنها قرينة لكن ما كل قرينة يعمل بها حتى يشهد لها شاهد بالاعتبار ولا سيما وكل من رأينا كلامه من الفقهاء مصرح بخلافه
ومع ذلك كله لا يطرد في الوقف على زيد وعمرو ثم بكر وخالد لأنه مجرد احتمال بلا قرينة فلا يقوله ابن رشد في كل جمع مرتب على جمع حتى تعضده مثل هذه القرينة ولو كانت قرينة الولدية مقتضية الإلحاق بالإرث لوجب إذا وقف على أولاده وأطلق أن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين كما هو في الإرث وليس كذلك بل عند الإطلاق إنما يحمل على السوية وقول ابن رشد لو أراد لقال جميعهم
نقول لفظ جميعهم إنما يريد التأكيد وليس تأسيس معنى جديد فإذا سلم عند ذكر جميعهم أنه لا ينتقل ينبغي أن يسلم عند حذفها
وقوله فلا اختلاف أعلمه في هذه المسألة الظاهر أنه ليس مراده مسألة مالك بل الوقف على الأولاد ثم أولاد الأولاد مطلقا
____________________
(2/208)
وحينئذ نقول له عفا الله عنك هذا المنقول في المذاهب خلاف ما قلت ولم نعلم فيه خلافا
وقوله قط
قلنا كلام النحاة إن قط إنما تكون في الماضي فلا يصح كلامه إلا إن تأولنا له لا يعلم في معنى لم يعلم وما ذكره عن ابن الماجشون في الواضحة هو المعلوم من غيره
وكذا ما ذكره عن بعض فقهاء أهل زمانهم
وقول ابن رشد إنه خطأ صراح
ليس بصحيح ولا بأس أن يقابل بمثله وقول ذلك الفقيه إن لفظة ثم تقتضي التعقيب كأنه يريد الترتيب فإن التعقيب للفاء لا لثم
وقوله دون خلاف قد قدمنا ما فيه ثم مسألة مالك إذا سلمت له وقف على بنين أربعة معينين وقد قلنا إن الأولاد إذا سموا يأتي فيهم الخلاف كزيد وعمرو فليست كمسألتنا وهي وقف على الأولاد الذين هم من جهة محضة وقد ذكر ابن رشد المشار إليه رحمه الله في كتابه المذكور في رجل تصدق على بناته فإذا انقرض بناته فلذكور ولده نسل ذلك لهن كلهن وله ولد ذكور فقال ولد ولده يدخل دخلوا
فهذا وإن لم يكن في غير مسألتنا لكنه اعتبر في السؤال في انقراض البنات جميعهن والبنات جهة كالأولاد والسؤال بين يدي مالك فإن كان انقراض كلهن لا يعتبر لم لا ينكره وقد قال ابن عبد البر وهو إمام المالكية في كتابه الكافي وإذا قال الرجل في حبسه على ولد ثم على ولد الولد لم يدخل أحد من ولد الولد مع ولد الأعيان حتى ينقرضوا وهذا نص في المسألة
فإن كان ابن عبد البر وهو الذي عناه ابن رشد بقوله بعض فقهاء زماننا
فلا يضره ذلك ويكفي قوله وقول ابن الماجشون وعدم خلاف غيرهما مع قول أهل المذاهب الثلاثة ولنكتف من كلام المالكية بهذا
كتبته ليلة الاثنين العشرين من صفر سنة خمس وخمسين وسبعمائة وحضرت فتوى لابن تيمية الحنبلي فيمن وقف على أولاده ثم أولاد أولاده على أن من مات منهم عن غير ولد انتقل نصيبه لمن في درجته فمات واحد عن ولد فأفتى أن نصيبه لولده وذكر أن في مذهبه في ذلك وجهين وأن في مذهب الشافعي وجها مخرجا
وقد غلط على مذهبه ومذهب الشافعي وأظن الحامل له على غلطه على مذهب الشافعي صدر كلام
____________________
(2/209)
الرافعي عن أبي الفرج السرخسي فإنه يوهم التسوية بين مسألة زيد وعمرو ثم الفقراء ومسألة الأولاد ثم أولادهم وآخر كلام الرافعي يبين مراده فالغلط من عدم تأمله وأظن الحامل له على غلطه على مذهبه قول ابن حمدان الحنبلي في الرعاية فيما إذا وقف على ابنيه ثم على أولادهما ثم الفقراء فمات أحدهما هل سهمه لأخيه أو لولده
قال يحتمل وجهين فقوله يحتمل يدل على أنه ليس بمنقول عنده وليس هو مسألتنا فإن ابنيه بالنسبة لنسبة زيد أو عمرو لأن المثنى يبعد جعله جهة فيحتمل الوجهين بخلاف الأولاد لأن الجمع المعرف يستعمل جهة كالفقراء لأنه لو حلف لا يتزوج النساء حمل على الجنس بخلاف لا يتزوج امرأتين
وأطال ابن تيمية في أمثلة مقابلة الجمع بالجمع ولسنا في ذلك ولم يذكر مثالا واحدا مما فيه عطف كمسألتنا مع وجوده في القرآن وهذا الرجل كنت رددت عليه في حياته في إنكاره السفر لزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم وفي إنكاره وقوع الطلاق إذا حلف به ثم ظهر لي من حاله ما يقتضي أنه ليس ممن يعتمد عليه في نقل ينفرد به لمسارعته إلى النقل لفهمه كما في هذه المسألة ولا في بحث ينشئه لخلطه المقصود بغيره وخروجه عن الحد جدا وهو كان مكثرا من الحفظ ولم يتهذب بشيخ ولم يرتض في العلوم بل يأخذها بذهنه مع جسارته واتساع خيال وشغب كثير ثم بلغني من حاله ما يقتضي الإعراض عن النظر في كلامه جملة
وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للرد عليه وحبس بإجماع المسلمين وولاة الأمور على ذلك ثم مات
ولم يكن لنا غرض في ذكره بعد موته لأن تلك أمة قد خلت ولكن له أتباع ينعقون ولا يعون ونحن نتبرم بالكلام معهم ومع أمثالهم ولكن للناس ضرورات إلى الجواب في بعض المسائل كهذه المسألة فإن بعض الحنابلة تبعوه فيما قاله من تقسيم دلالة ثم على الترتيب إلى ما يحتمل مقابلة الجملة بالجملة ومقابلة الأفراد بالأفراد ثم زاد ابن تيمية على الاحتمال فأفتى في تلك المسألة باستحقاق الولد من غير بيان لترجيح أحد الاحتمالين والترجيح إنما يكون بدليل
وظن أن المفهوم من تقييد كونه مات عن
____________________
(2/210)
غير ولد أن الولد يستحق وقد بينا أنه ليس بمنطوق ولا مفهوم ولم يتبينه ابن تيمية لذلك ولا لما يدفعه أو يقبله ثم زاد هذا الذي تبعه على ابن تيمية بما لم يتنبه ابن تيمية إليه فقال إن نصيب أحمد ينتقل لمحمود ونصيب محمود ينتقل لفاطمة بنت محمد بن صدقة وسنعرض لذلك
فقلت له هذان الوجهان اللذان نقلهما ابن تيمية عن غير مذهبه في ابن وهذا المعنى من كتبكم لم يذكر خلافا وخرج أنه لا يعطى لأحد من أولاد الأولاد حتى ينقرض الأولاد وما دام واحد منهم لا يستحق أحد من أولاد الأولاد
فقال هذه المسألة لا نراها إلا في المغني والمغني لعله أخذها من الشامل من كتب أصحابكم
قلت سبحان الله شخص حنبلي يضيف على مذهبه يأخذ من كتب الشافعية ثم أخرجت النقل من المجرد للقاضي أبي يعلى والمستوعب والفصول لابن عقيل كما في المغني فهذه أربع أمهات من كتب الحنابلة وليس في غيرها مما وقفت عليه ما يخالفها فعلم أنه لا خلاف في ذلك
ومن البلية أن هذا الحنبلي لما أفتى بذلك تبعه جماعة من الحنفية وواحد من المالكية وواحد من الشافعية وقاضي الحنابلة كلهم أفتوا بنصيب أحمد لمحمود ونصيب محمود لفاطمة وهذا سنعرض له وليس هو من غلط الفقهاء بل هوس وهذيان فليس من جنس غلط ابن تيمية
وفي آخر الكلام يأتي بيانه إن شاء الله تعالى وإنما احتجت لتقرير هذه المسألة لمجيء ثم في هذا الوقف بين البطن الأول والبطن الثاني ولا شك في احتمالها في مثل هذا التركيب وكانت محتملة لأن ينتقل نصيب لاجين إلى أولاده عند موته ولأن ينتقل إلى أخيه منكورس حتى يموت فينتقل مع نصيبه إلى أولادهما ووجد في هذا الوقف ما دل على أحد الاحتمالين وعضده وهو انتقال نصيب لاجين عند موته لأولاد كما بيناه على الأظهر عندنا ثم إن معنى في هذا الوقف الخاص مع لفظة أخرى وهي قوله من بعدهم وهي مؤكدة لمعنى ثم وأصرح منها في أنه بعد الجميع لأن بعد بمادتها تدل على التأخير والضمير يعود على الجميع
المسألة الرابعة كيف يقسم الوقف عند تغير البطون لأن لا شك أنه إذا قال على أولادي ثم أولاد أولادي ولم يشترط انتقال نصيب من مات لولده أنه عند انقراض البطن الأول وانتقال جميع الوقف إلى جميع البطن
____________________
(2/211)
الثاني يقسم بينهم كما كان يقسم على البطن الأول على ما شرط الواقف
أما إذا شرط انتقال نصيب كل من مات إلى ولده فلو اقتصر على ذلك فلا شك أنه من مات منهم يأخذ ولده نصيبه ويستمر لكن إذا قال مع ذلك ما يقتضي انتقال نصيب البطن الأول بموته إلى البطن الثاني كما في هذا الوقف بدلالة ثم عليه أو نحوها من الألفاظ في غير هذا اللفظ فقد تعارض معنا دليلان أحدهما المقتضي لانتقال جملة الوقف من البطن الأول إلى البطن الثاني
والثاني المقتضي لانتقال نصيب كل واحد إلى ولده إذا نتج من أعمال كل من الدليلين لعمومه تعارض كما سنبينه في بعض الصور ولم أر لأصحابنا كلاما في ذلك ورأيت في وقف الخصاف من الحنفية فيمن وقف على أولاده فإذا انقرض أولاده فأولاد أولاده وله ولدان ماتا قبيل وقفه عن أربعة أولاد وأولاده الباقون عشرة فالوقف الآن للعشرة وشرط أن من مات انتقل نصيبه إلى ولده فمات تسعة من العشرة انتقل إلى أولاد كل منهم العشرة فإذا مات العاشر قال تنقض القسمة وتستقبل قسمة جديدة على أولاد العشرة وأولاد الميتين قبيل الوقف فإذا كان أولاد العشرة ثلاثين قسم على أربعة وثلاثين لأنا لو أعطينا العشر لولد العاشر ووقفنا أولاد كل واحد من التسعة على ما بأيديهم لحرمنا أولاد الميتين قبيل الوقف وهم من أولاد الأولاد والوقف شامل لهم وهم مع أولاد أعمامهم هم البطن الثاني
وقال أيضا فيما إذا لم يكن له إلا العشرة ومات واحد منهم وله خمسة أولاد ثم آخر وله واحد إلى أن انقرضوا كلهم أنه تنقض القسمة فترد إلى عدد البطن الثاني وبطل قوله كلما حدث الموت على واحد فنصيبه لولده
قيل له فلم كان هذا القول هو المعمول به عندك
قال من قبيل أنا وجدنا بعضهم يدخل في الغلة ويجب حقه فيها بنفسه لا بأبيه فعملنا على ذلك وقسمنا الغلة عليهم على عددهم هذا الذي قاله الخصاف محتمل وينبغي إمعان النظر في الترجيح والعمل بكل من اللفظين
وقوله من مات فنصيبه لولده فيه عموم في الميت وإطلاق في كون النصيب لولده لأنه إذا أخذه في وقت دون وقت حصل الإطلاق وفيه عموم أيضا في النصيب في الولد
وقوله فإذا انقرض أولادي فأولاد أولادي
____________________
(2/212)
فيه عموم في أولاد الأولاد فإن تعارض تخصيص عموم وتقييد مطلق فتقييد المطلق أسهل من تخصيص العموم وإن تعارض تخصيصان أو تقييدان وكان أحدهما أقل إخراجا فهو أسهل من الأكثر إخراجا فإن استويا في ذلك يطلب الترجيح من خارج وهذا لا يمكن ضبطه بقاعدة كلية هنا لأنه يختلف باختلاف ألفاظ الواقفين وممن لا ينحصر فعلى المفتي تأمل اللفظ الذي يستفتي فيه والعمل بحسبه وما يترجح في ميزان النظر عنده بعد النقد الجيد
إذا تقررت هذه المسألة فإن الحاجة تدعو إليها عند موت منكورس الذي انقرض به البطن الأول وصار الوقف كله إلى البطن الثاني وهم أولاد لاجين وأولاد منكورس
فإن قلنا بانتقاض القسمة واستقبال قسمة جديدة أخذنا النصف الذي في يد أولاد لاجين والنصف الذي خلفه منكورس وقسمناهما معا على الفريقين أولاد لاجين وأولاد منكورس وهم البطن الثاني للذكر مثل حظ الأنثيين وإن لم تنقض القسمة بقيتا في أولاد لاجين الذي تلقوه عن والدهم وأعطينا أولاد منكورس النصف الذي خلفه والدهم بغير زيادة وهذا فيما يصرح الواقف فيه بانتقال نصيب كل من مات لولده
وفي هذا الوقف لم يحصل تصريح بذلك نحن أثبتناه بالطريق الذي قدمناها من المفهوم وغيره فلا شك أنه أضعف من التصريح فيكون القول بانتقال القسمة في هذا الوقف أولى من القول به في غيره حيث يصرح بالشرط المذكور ويكون رعاية العموم في البطن الثاني هنا أولى من رعايته في غير هذا الموضع ثم نزيد النظر هنا أن لاجين على ما ذكروا حين موت منكورس ولم يبق من ذرية لاجين إلا ولده أبو بكر وولد ابنته سيدة فإن خصصنا أولاده بنصيب والدهم ولا كلام بينهم وبين أولاد منكورس وإن شركنا بينهم وبين أولاد منكورس فينتقل الكلام إلى اشتراط البطن الثالث معهم وسيأتي الكلام
وعندنا أنهم لا يشاركون فتكون القسمة على قول الانتقاص بين أولاد منكورس وأبي بكر بن لاجين خاصة وتزداد حصة أولاد منكورس كثيرا وعلى قول
____________________
(2/213)
عدم الانتقاص يكون النصف الذي كان بيد لاجين لابنه أبي بكر كله ولا يشاركه فيه ولد أخيه على الأصح على ما سنبينه إن شاء الله تعالى
وقد انقضى بهذا ما نحتاج إليه من الكلام على حكم هذا الوقف إلى وصوله إلى البطن الثاني وهم أولاد منكورس وأولاد لاجين المرتبون بلفظة ثم ولم توجد لفظة ثم فيمن بعدهم بل قال أولادهم وأولاد أولادهم وأولاد أولادهم فعطف البطن الثاني على الثالث والبطن الثالث على الرابع بالواو المقتضية للتشريك لكنه قال بعد ذلك بطنا بعد بطن وقرنا بعد قرن
ولا يكون وقفا على بطن حتى ينقرض البطن الأول فاقتضى ذلك الترتيب وإن لم يكن فيه لفظة ثم ولا شك في الترتيب في هذه البطون الثلاثة وأنه لا يشارك الأسفل منهم الأعلى هذا لا شك فيه في الولد مع والده
وأما مع عمه وعمته وخاله وخالته فعلى غير بحث ابن رشد يجب أن يكون كذلك إلا على ما سنذكره في خصوص هذا الوقف وعلى بحث ابن رشد في ثم وما تضمنته من قرينة الولدية يحتمل أن يكون هنا من مات ينتقل نصيبه إلى ولده
ويحتمل أن يقال هنا قوله لا يكون وقفا على بطن حتى ينقرض البطن الأول يمنع منه لأن تنكير بطن في الأول في سياق النفي وتعريف البطن الأول في الثاني ما يقتضي أن معنى الكلام لا يكون وقفا على أحد من البطن الثاني حتى ينقرض جميع البطن الأول
ولو صرح بذلك لم تكن ريبة في حجبه كل أحد بأبيه وعمه وخاله وخالته لأن هذا أصرح من دلالة ثم وأصرح من قوله بطنا بعد بطن وقرنا بعد قرن لأن بطنا بعد بطن يقتضي بأول وضعه عموم البطن الثاني بعد الأول ويتأتى وضعه حجبه به وكذلك اخترنا فيه أنه إنما يحجب كل واحد ولده
وأما هذا بما قررنا من دلالة النكرة والتعريف قوي في حجب كل عال لسافل والذي أشرنا إليه في خصوص هذا الوقف أن قوة كلام الواقف في الجمل التي بعد هذا تقتضي تقديم الأولاد على الإخوة فإن جعلت الجمل المذكورة في البطن الأول خاصة لم يلزم طرده في غيرها إلا من باب القياس والقياس لا يعمل به في كلام لواقف أو
____________________
(2/214)
من باب العمل بما دل دليل على أنه مقصود للواقف من غير اقتضاء لفظه
وهذا فيه نظر أشرنا إليه في الكلام في المفهوم لأن قصد الواقف المجرد لا التفات إليه حتى يبرزه في لفظ يترتب عليه حكمه شرعا وستكون لنا عودة إلى هذا البحث
المسألة الخامسة في أن الوقف على البطن الثاني هل هو منجز أو معلق إذا قال وقفت على أولادي ثم على أولاد أولادي هل نقول إن الوقف على أولاد الأولاد معلق على انقراض الأولاد واغتفر التعليق لأنه بطريق التبعية أو نقول الوقف منجز على جميع البطون وإنما التعليق في الاستحقاق
والأظهر الثاني فإن الإنشاء لا يعقل تعليقه وإنما المنشأ مرتب بحسب ما أنشأه كذلك جميع ما ينسب إلى الفاعل كقولك جعلت هذا لزيد ثم عمرو فالجعل منك الآن والمرتب أثر ذلك الجعل وكذلك الوقف إنشاء الواقف على جميع البطون الآن وأثر ذلك الإنشاء وقفيته وهنا مراتب إحداها انتصاب الحكم الشرعي الذي هو أثر فعل الواقف على البطون كلها وهو حاصل الآن مع تصرف الواقف أو عقبه
وثانيها مصير الوقف عليهم والظاهر أنه كذلك
وثالثها اتصافهم بأنهم موقوف عليهم وذلك يتوقف على وجودهم إلا على جهة المجاز فيوصفون به في القدم
ورابعها أنهم من أهل الوقف ووصفهم به أبعد ولذلك اقتضى نص الشافعي والأصحاب أن أهل الوقف هم الذين يستحقون التناول ذلك الوقت فلا يوصفون قبله به
وأما وصفهم بأنهم موقوف عليهم أولا فلم يتعرض له الأصحاب ومحل النظر في ذلك فيمن يتصف في ثاني حال بذلك
وأما من يموت من الأولاد الباقين قبل مصير الوقف إليه فينبغي القطع بأنه لم يدخل في الوقف ولا يقال إنه موقوف عليه أصلا لعدم العلم بذلك بخلاف الوقف على زيد ثم عمرو فقد يحتمل أن يقال عمرو موقوف عليه بعد انقراض زيد لتسميته مثل حبس أولاد الأولاد بعد الأولاد وأما ولد ولد معين فلا
والاحتمالان اللذان ذكرناهما في كلام الأصحاب ما يشهد لهما وإنما احتجنا إلى النظر في هذا لقول الواقف فإن مات من الموقوف عليه فاحتجنا إلى معرفة أنه هل يسمى ذلك الوقت قبل وجوده موقوفا عليه أم لا فإن سمي صح
____________________
(2/215)
احتمال إرادته منه وإن لم يصح يبقى نظر آخر وهو أنه هل يعتبر في تسميته موقوفا عليه حالة الإطلاق وهي حالة إنشاء الواقف وتكلمه بهذا الكلام أو حالته التي ستأتي
والأظهر الثاني كما في الآيات المتضمنة للأسماء المشتقة قبيل وجود أصحابها كقوله تعالى والسارق والسارقة ونحوها لا يشترط أن يكون سارقا حين نزول الآية بل كل من سرق بعد ذلك في حكم الآية ونظير ما نحن فيه من المعلق على شرط قوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره فإنه يدخل فيه كل مشرك استجار بعد نزول الآية وإن لم يكن موجودا حين نزولها فكذلك كل من صار إليه الوقف ومات بعد صيرورته إليه كان داخلا في حكمه
فهذه مقدمة يستفاد ويحتاج إليها فيما نتكلم عليه من ألفاظ هذا الوقف فهذه خمس مسائل قواعد أمهات في باب الوقف ينتفع بها الفقيه لها تعلق بباب الوقف المسئول عنه يحتاج إليها فيه
ومما يتعلق بها من هذا الوقف قوله لا يكون وقفا على بطن حتى ينقرض البطن الأول وظاهره تعليق كونه وقفا على الثاني بانقراض الأول فإن قلنا في كل وقف كذلك كان تصريحا بالغرض وإن قلنا في غيره ليس كذلك بل التعليق إنما هو للاتفاق فإما أن يتأول كلام هذا الواقف عليه وإما أن يقال إنه يجعل في هذا بخصوصه لأجل الشرط وإما أن يقال ببطلانه
فرع له وقع وينبغي التمهل فيه كانت جاءتني فتوى في مصر من مدة فيمن وقف على نفسه ثم على الفقراء فبحثت فيها في أن الواقف على نفسه وإن بطل فالوقف على الفقراء معلق على موته والوقف المعلق على الموت صحيح ثم رأيت معنى هذا في بحث لابن شريح في الوقف على نفسه ورأيت كلام الأصحاب كالمصرح بعده من المنقطع الأول وكذلك الوقف في مرضه على وارثه ثم على الفقراء
والآن عرضت فتوى وواقعة رجل مريض مشرف على الموت أوصى بوصايا وجعل وقفا على نفسه ثم على قراء يقرءون عليه ومات عن قرب فهذا يظهر أن مراده الوصية وإنما لشحه جعله وقفا على نفسه أولا فيقوى في مثل هذا أن ينظر إلى قصده ويصحح في الوقف على القراء كالوقف المعلق بالموت لأنه لم يقصد إلا إياه
____________________
(2/216)
وإنما احتاط لنفسه فقدمها فقوي عندي فيها القول بصحة الوقف بالنسبة إلى القراء بعده لظهور قصده له وعارضني فيه ظاهر كلام الأصحاب وقولي فيما تقدم إن قصد الواقف من غير لفظ معتبر من جهة الشرع لا اعتبار به وتعارض عندي في الصورة المذكورة مأخذان أحدهما أن الوقف على البطن الثاني مشروط بالوقف على الأول فإذا لم يصح الأول لم يصح الثاني
والظاهر أن الأصحاب بنوا على هذا لكن هذا يحتج لما قاله الماوردي في الوقف على زيد ثم عمرو ثم بكر فمات عمرو قبل بكر لا يستحق بكر والصحيح وهو قول القاضي حسين خلافه
والثاني أن الوقف على البطن الثاني ليس مشروطا بالوقف على الأول بل بعدمه وهو يناسب قول القاضي حسين
فعلى هذين المأخذين ينبني هذا الفرع إن قلنا الوقف على الثاني مشروط بالوقف على الأول وهو المناسب لأن الترتيب في الاستحقاق لا في الوقف كما يقتضيه كلام الشيخ أبي حامد فلا يصح ويبطل كله لبطلان أوله
وإن قلنا الوقف على الثاني ليس مشروطا على الوقف على الأول بل هو معلق واغتفر التعليق فيه تبعا فالتبعية فيما إذا لم يكن معلقا على الموت أما المعلق على الموت فلا يكون محتاجا إلى التبعية فيصح كما لو لم يجعله تابعا وإذا احتمل لفظه الأمرين لاحتمال لفظة ثم لهما وظهر قصده في أحد الجهتين جعل ظهور القصد ترجيحا لما احتمله لفظه فحيث ظهر قصد تبعية الثاني للأول لا يصح وحيث قصد الثاني وذكر الأول احتياطا كما في هذا الفرع صح
المسألة السادسة في خصوص هذا الوقف وما ينزل كلام الواقف عليه قد ذكرنا ألفاظه إلى قوله لا يكون وقفا على بطن حتى ينقرض البطن الذي قبله
ثم قال بعد ذلك وإن مات واحد من الموقوف عليهم وليس له سوى ولد واحد وفي الجملة الثانية إن مات واحد منهم وفي الجملة الثالثة من الموقوف عليهم وفي الأخيرة وإن انقرض الموقوف عليهم ونسلهم
فهذه أربع جمل ذكر الموقوف عليهم في ثلاثة منها ظاهرا وفي واحدة مضمرا والمضمر مقطوع باختصاصه بالبطن الأول منكورس ولاجين وخضر لأنهم الذي يصح فيهم إن مات واحد منهم رجع على إخوتهم المذكورين
____________________
(2/217)
بينهما فذكر التنبيه في هذه الألفاظ يتعين بها أنهم هم لا غيرهم فنظرنا الجملة الأولى وفيها ليس له سوى ولد واحد وليس أحد من الثلاثة مات بهذه الصفة بل أحدهم ليس له ولد أصلا والآخران كل منهما له أولاد والألف واللام في الموقوف عليهم فيها يحتمل أن تختص بالثلاثة لأن الضمير فيها بعدها يعود عليها لأجل القرب
والضمير الخاص إذا عاد على عام فيه خلاف في أصول الفقه هل يخصصه كقوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن بعد قوله والمطلقات فإن قلنا يخصصه ليساوي الضمير وما عاد إليه تعين تخصيصه هنا وعوده على اللام فقط وإن قلنا لا يخصصه رجع النظر في أن البطن الثاني هل يسمى موقوفا عليه حينئذ أو يكتفى بمصيره كذلك فإن لم نقل بذلك تعين عوده إلى الثلاثة
وإن قلنا به رجع النظر في تقديم العهد على العموم ومعناه معهود وهم الثلاثة فقد يقال تتعين إرادتهم لأنهم المعهود وقد ينازع في ذلك ويقال الكل معهودون هم وأولادهم وأولاد أولادهم لذكره إياهم فإن تعين إرادة الثلاثة من هذا الكلام زال التعلق به في غيرهم وإن لم يتعين فليكن مطلقا ودلالته على أن من ليس له إلا والد واحد فنصيبه لولده والاستدلال به على أن من له أولاد نصيبه لهم من باب مفهوم الموافقة وقد قدمنا أن المفهوم ليس بحجة في الأوقاف
واعلم أن الواقف لم يذكر هذه الجملة لإفادته كون الميت ينتقل نصيبه لولده في حياة أخيه وإنما لما ذكر الانتقال بعد البطن الأول إلى أولادهم وأولاد أولادهم وقال للذكر مثل حظ الأنثيين خشى أن يكون ذلك بيانا لحالة الاجتماع فقط فبين حالة الانفراد إن لم يكن إلا ولد واحد ثم بين حال من لا ولد له ثم بين حال من لا ولد له وله أولاد أولاد فجمع بذلك الأقسام الأربعة الممكنة في أولاد الثلاثة ويكون الموقوف عليهم في المواضع كلها المراد بهم الثلاثة لا من بعدهم ويكون من بعدهم مستفادا حكمه من قوله وأولادهم وأولاد أولادهم وأولاد أولاد أولادهم
إلى آخر قوله حتى ينقرض البطن الأول فليس فيه ما يدل على أن من مات من البطن الثاني ومن بعده عن ولد يكون نصيبه لولده وإنما أخذنا انتقال نصيب لاجين إلى أولاده لقوله وإن مات واحد منهم بما اقتضاه مفهومه وتلك الجملة خاصة بالبطن الأول بلا شك فلا يجري حكمها في
____________________
(2/218)
غيره ولو سلمنا أن مفهوم الموافقة حجة وعملنا به في قوله وإن مات وليس له إلا ولد واحد
فالمفهوم لا عموم له فيكفي بأن يكون له بعد وفاة عمه ولو سلمنا عمومه وأن نصيب كل من مات عن ولد لولده فمسألتنا هنا فيمن مات ولا ولد له ولأجل هذا الموضع قدمنا الإشارة إلى أن في نصيب من مات من سائر البطون عن ولد فيه احتمال أما من مات ولا ولد له فلا احتمال فيه إلا ما سنذكره وقد قدمنا في آخر المسألة الرابعة بحثا فيمن مات عن ولد من غير البطن الأول فإن قوله لا يكون وقفا على بطن حتى ينقرض البطن الأول يقتضي عدم استحقاقه حتى يموت أعمامه في جميع البطون والجمل الثلاث التي بعده إن حملت على البطن الأول خاصة لم يعارض لكن فهم من نفس الواقف فيها أن بقية البطون كذلك فتحصل المعارضة ولم يقم عندنا دليل من جهة الشرع على اعتبار مثل ذلك
وإن جعلت عامة في جميع البطون أمكن العمل بها في ذلك لانضمام اللفظ الشامل بوضعه ودلالته إلى القصد المعلوم من الواقف والمسألة محتملة عندي أعني استحقاق الولد نصيب والده من سائر البطون في هذا الوقف قلبي يميل إليه لإشعار كلام الواقف بالميل إليه ولا أجد دليلا عليه إلا تعميم الموقوف عليه ومع العمل بمفهوم الأولى ونبو اللفظ عنه فأنا فيه متوقف أعني في نصيب من مات عن ولد من البطن الثاني ومن بعده
المسألة السابعة فيمن مات عن غير نسل وهو المسئول عنه أحمد بن عثمان ومحمود بن صدقة والذي يظهر أن ما بأيديهما يحكم به لعمتيهما لثلاثة مآخذ أحدها أنه منقطع والعمتان أقرب الناس إلى الواقف
والثاني أنه ليس بمنقطع ولكنه كان الميتان يزاحمان العمتين فيه فلما ماتا خلص للعمتين
والثالث أنه لم يكن في يديهما بحق بل للعمتين من ذلك الوقت وبيان هذه المآخذ الثلاثة أما الانقطاع فمرتب على شيئين أحدهما أن هذا وما أشبهه من الأوقاف على جماعة في حكم الأوقاف المتعددة
والثاني انتقال نصيب كل من مات عن ولد إلى ولده وباجتماع هذين الشيئين يصير نصيب أحمد ومحمود منقطعا لعدم نص الواقف على مصرفه ومصرف المنقطع على الصحيح عندنا أقرب الناس إلى الواقف وأقرب الناس إليه اليوم
____________________
(2/219)
العمتان
وعن مالك وأحمد في رواية أن مصرفه أقرب عصبات الواقف ومع هذا قال بعض المالكية يصرف إلى البنت وبنت الابن لأنه لو كان موضعها ذكر كان عصبة ولأن أخاها يعصبها فعلى هذا أيضا يصرف إلى العمتين
وعن أحمد رواية أنه لبيت المال وهي بعيدة ولعل مراده بها أنه يوضع في بيت المال ليصرف في وجوه البر وأما كونه لزوال المزاحمة فهذا هو الذي نختاره وهو مبني على أنه وقف واحد كما قررناه فيما سبق في كل وقف على جماعة ولم يفصل وعلى أن من مات ينتقل نصيبه إلى ولده ويحل ولده محله فنصيب منكورس انتقل إلى أولاده الخمسة واستحقه كل منهم وازدحموا فيه واقتسموه بالمزاحمة وانتقل نصيب كل من الثلاثة الذين ماتوا منهم إلى ولده وقاموا فيه مقام والده مزاحما مع بقاء حق العمتين فيه معه كما كان مع أبيه فإذا مات عن غير ولد زالت المزاحمة وحق العمتين باق فيه فيأخذانه بذلك الحق وهذا أحسن الوجوه وإنما يعرفه الراسخون في العلم
وأما كونه للعمتين من ذلك الوقت وكان في يد أحمد ومحمود فمبني على أن كل بطن يحجب من تحته ولدا كان أو غيره كما هو ظاهر قول الواقف الأول على هذا التقدير يكون جميع الوقف الآن للعمتين لأنهما أعلى الموجودين فهذه مآخذ غير مجتمعة لكن واحد على تقدير وآخران على تقدير
فإن قلت هل لانتقال نصيب أحمد لابن عمه محمود وجه قلت لا يتخيل له وجه إلا قوله بطنا بعد بطن يقتضي كما أشرنا إليه من قبل استحقاق البطن الثاني بعد الأول فإذا حافظنا على عموم البطن الثاني فأبناء العم من بطن واحدة فإذا مات أحدهما أخذ ابن عمه نصيبه محافظة على ذلك البطن وإن كان الواقف لم ينص على اعتبار الدرجة ولا خالف قوله لا يكون وقفا على بطن حتى ينقرض البطن الأول فمعنى السافل بهذا المقتضى وأما العمتان فقد خرج عنهما بالانتقال إلى الأولاد لكنا نقول إن كان قوله بطنا بعد بطن مختصا بالولد وابنه فلا حجة فيه لهذا التخيل وإن كان عاما فقد انتقض ما قرره ولزم أن لا ينتقل إلى ولد حتى يموت كل من هو أعلى منه فزال هذا التخيل وظهر أنه لا حجة له
فإن قلت هل لانتقال نصيب
____________________
(2/220)
محمود إلى فاطمة بنت أخيه محمد بن صدقة مآخذ قلت إن أخذ من هذا الطريق التي ذكرت في أحمد فقد أبطلناها وإن أخذ من قوله وكذلك إن مات أحد من الموقوف عليهم وليس له إلا بنت ابن صدقة من الموقوف عليهم وفاطمة بنت ابنه
فجوابه أن صدقة ليس من الثلاثة ولو سلم أن المراد بالموقوف عليهم العموم وأن صدقة منهم فصدقة مات عن أربعة أولاد فلا يصدق أنه مات وليس له إلا بنت ابن لأن المقصود عند موته لأن الواو في وليس للحال ولو لم تكن للحال فالمفهوم من الكلام ذلك
ولو سلم أنه لا يختص بحال الموت فصدقة الآن له مع بنت الابن بنات بنت وهن من أولاد الأولاد ولأن المراد انتقال نصيبه وأما هذا النصيب فهو نصيب محمود لا نصيب جده محمود حتى ينتقل لبنت ابنه عنه لو انفردت وليس له إلا إخوة معها فظهر أنه لا حجة لهذا القول أيضا بوجه من الوجوه فالحق أن هذين النصيبين للعمتين واحترزنا فلم نقل بانتقالهما إليهما بل قلنا يحكم لهما بما في يد أحمد ومحمود ويشمل المآخذ الثلاثة وكونهما في يدهما بحق أو بغير حق منقطعا أو غير منقطع
فإن قلت قد أنكرت فيما تقدم انتقال نصيب أحمد ومحمود لغير العمتين وأبديت له الآن وجها من الاحتمال وهذا تناقض قلت ليس بتناقض لأن الاحتمالات على قسمين منها ما يصلح أن يتبعه الفقيه ولم يوجد في هذه المسألة فلذلك أنكرناه فيما مضى ومنها ما لا يصلح وهو مثل ما ذكرناه الآن هاهنا وذكرنا له حتى لا يبقى وجه ممكن ولا شبهة إلا أبديناها ودفعناها
ولهذا قال الشافعي في نقض ما ينقض فبه قضاء القاضي أن يكون أصح في القياس خلافه فلم يشترط أن لا يكون له احتمال بل قد يكون له احتمال خفي ومقابله احتمال جلي معتضد بدليل فينقض قضاء القاضي بما يخالف القياس الجلي كهذه المسألة فمن قضى بأن نصيب أحمد لمحمود أو نصيب محمود لبنت أخته نقض قضاؤه ومما وقع السؤال عنه في هذه الأيام وله تعلق ببعض المباحث المتقدمة
فرع وقف على شخص ثم على أولاده ثم أولاد أولاده وإن سفلوا على أن من مات عن ولد كان نصيبه موقوفا على ولد ولده ثم ولده وإن سفل على الشرط والترتيب وإن مات عن غير ولد ولا نسل كان نصيبه لمن في درجته وذوي طبقته من أهل
____________________
(2/221)
الوقف فمات الشخص الموقوف عليه عن أربعة أولاد ثم مات أحد الأربعة عن ابنين وبنت ثم مات هذان الابنان عن غير ولد ولهما أختهما المذكورة وعمهم باق وله أولاد محجوبون به وعماهما الأخوان ماتا ولهما أولاد متناولون لحصة أبويهما فهل تكون حصة الابنين الميتين لأختهما خاصة أو لهما ولأولاد عمها المتناولين أو يدخل معهم أولاد العم المحجوبون بأبيهم أو يكون لعمهم الباقي فأجبت أما العم الباقي فليس له من ذلك شيء لأنه ليس من درجة الميتين
وأما أولاده فليس لهم من ذلك شيء لأنهم الآن ليسوا من أهل الوقف وأما أولاد العم المتناولون فيحتمل أن يقال بمشاركتهم الأخت ويحتمل أن يمنع ويقال باختصاص الأخت أما وجه المشاركة فهو المتبادر إلى الذهن لموت الابنين عن غير ولد وقد قال إن من مات عن غير ولد فنصيبه لمن في درجته وذوي طبقته من أهل الوقف لتناولهم فيشاركون الأخت لذلك
وليس في شرط الواقف أنه يقدم الأقرب حتى نقول إن الأخت تمتاز عنهم بذلك فلذلك يقال بالمشاركة وهذا هو الذي يبتدره ذهن كثير من الناس وأما وجه القول باختصاص الأخت فلقول الواقف من مات عن ولد كان نصيبه وقفا على ولده ثم ولد ولده
فنصيب أحد الأربعة المتوفى عن ابنين وبنت انتقل بمقتضى هذا الشرط لأولاده الثلاثة وكل واحد منهم يستحق جميعه لو انفرد وكذا يستحق عند عدم الانفراد جميعه ولكن المزاحمة هي المقتضية للقسمة والتوزيع كما قدمناه فإذا زالت مزاحمة الابنين بموتهما انفردت الأخت باستحقاق الجميع وانحصر المصرف فيها كما لو كانت منفردة عند موت والدها وهذا المعنى لا شك أنه لو انفرد لاقتضى ما قلناه من غير شك لكن عارضه قوله إن من مات عن غير ولد فنظرنا في تعارض هذين اللفظين ووجه العمل فيهما فوجدنا مخلصين مقتضيين لترجيح ما يعين الأخت أحدهما أن استحقاقها محقق بالدليل الذي قلنا وبأنها تأخذ على التقديرين وأولاد العم إن لم يوجد في حقهم ذلك فيرجح جانبها أخذا بالمحقق وطرحا للمشكوك فيه ورعاية للأقربية وهو مقصود الواقفين غالبا وإن لم ينص عليه الواقف في هذا الوقف ولأنه إذا تعارض
____________________
(2/222)
الدليلان وجب التوقف والأخذ بالأصل في أولاد العم عدم الاستحقاق لهذين النصفين وليس الأصل في الأخت عدم استحقاقها لهما لما قلناه من أنها وإخوتها على السواء ولا يترجحان عليها إلا بالمزاحمة وقد زالت والمخلص الثاني وهو خاص بلفظ هذا الوقف أنه في جانب من ترك ولدا قال من ترك ولدا و من لفظة عموم وفي جانب من لم يترك ولدا لم يذكر صيغة عموم وإنما قال وإن مات عن غير ولد
وهذه الصيغة بهذه الأداة فيها إطلاق لا عموم ولا شك أن العام أقوى من المطلق فترجح العام على المطلق فترجح العمل بقوله من مات عن ولد على العمل بالطرف الآخر
وهذا ما ظهر لي في ذلك وعندي في الفتوى به توقف لأن كثيرا من الناس لا يفهمه وينتقض به كثير من عمل أكثر الناس بما يفهمونه من كلام الواقفين في مثل ذلك
ثم إن الأخت المذكورة توفيت عن بنت وعلى ما قلته يكون نصيب الأخت الذي لها مع النصيبين اللذين كانا لأخويها جميعا ينتقل جميع ذلك إلى بنت الأخت المذكورة لا يشاركها فيه لا من أولاد الأعمام ولا من غيرهم والعلم عند الله تعالى
فإن قلت هذا البحث يرد عليكم في نصيب صدقة وانتقاله إلى أولاد محمد ومحمود وأختيهما وقولكم إنه بموت محمود يرجع نصيبه إلى عمتيه فلم لا قلتم هناك بمثل ما قلتم هاهنا قلت لا يرد لأن معنا نصا هناك وهو أنه لا ينتقل إلى بطن حتى ينقرض البطن الأول وإنما صرفنا نصيب من مات عن ولد إليه بدليل آخر لا عموم فيه وهنا المقتضي لصرف من مات عن ولد إلى ولده نص صريح عام فعملنا بمقتضاه مطلقا واقتصرنا على ذلك المسمى منه والله سبحانه وتعالى أعلم انتهى
كتب قال مصنفه رحمه الله تعالى فرغت من كتابته في ليلة يسفر صباحها عن يوم الأربعاء الثاني والعشرين من صفر سنة خمس وخمسين وسبعمائة بظاهر دمشق المحروسة
الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم حسبنا الله ونعم الوكيل
____________________
(2/223)
224 باب الهبة مسألة في النزول عن الوظائف استنبطتها من هبة سودة ليلتها لعائشة وإجازة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقلت هذا يدل على أن كل من له حق فتركه لشخص معين يصح ويكون ذلك الشخص أحق به وليس للناظر أن يعطيه لغيره كما ليس للزوج أن يخص به من لم تعينها الواهبة ولا أن يجعله شائعا بين بقية النساء بل يتعين عليه إما أن يخص به الموهوب لها وإما أن يمنع الهبة وتبقى نوبة الواهبة على حالها كذلك الفقيه الطالب في مدرسة أو الخطيب أو إمام المسجد أو المدرس أو المعيد أو غيرهم ممن بيده وظيفة إذا نزل لشخص معين عنها لم يكن للناظر أن ينزل أن ذلك إسقاط لحقه بالكلية حتى يولي غيرهما بل يتعين عليه إما أن ينزل المنزول له إن ظهر له أن ذلك مصلحة دينية وإما أن لا يمضي هذا النزول ويبقى النازل على مكانه ولا يسقط حق النازل إلا أن يتصل النزول بتولية المنزول له فحينئذ ينقطع حق النازل اللهم إلا أن يقول النازل نزلت عن حقي مطلقا فيسقط كما لو قالت الزوجة تركت حقي من القسم من غير تعيين ولينظر في مواد ذلك ونظائره من حق الحجر وحق الشفعة وغيرها هذا في مجرد النزول وأما أخذ العوض عنه فلا شك أن ذلك ليس ببيع لأنه لا يتعين بإحيائه ولا يجري فيه الخلاف في حق الشفعة ونحوه لما أشرنا إليه لكن في جواز أخذ العوض في مقابلة النزول نظر
وهذا كله رأيي قبل القضاء فلما دخلت في القضاء رأيت المصلحة العامة تقتضي عدم إمضاء ذلك انتهى
ثم صنف الشيخ الإمام رحمه الله بعد جوابه هذا في هذه المسألة تصنيفين مطولين فلينظر
انتهى
والله أعلم
كتاب الفرائض الغيث المغدق في ميراث ابن المعتق سئل الشيخ الإمام رحمه الله عن خادم مات وله أولاد معتق ذكور وإناث هل يختص بميراثه الذكور أو يشاركهم فيه الإناث وما الدليل على ذلك من الكتاب والسنة فأجاب جوابا سماه الغيث المغدق في ميراث ابن المعتق وهذه
____________________
(2/224)
نسخته ومن خط من نقل من خطه الحمد لله مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة والمشهور عن أحمد أنه يختص به الذكور
وعن أحمد رواية رواها أبو طالب أن بنت المعتق ترث ففهم أصحابه من ذلك أنها في بنت المعتق خاصة لا تتعدى إلى غيرها من النساء
ونقل ابن المنذر عن طاوس أنه قال ترث من الولاء وكان يورث البنت من ولاء موالي الأب وطاوس من كبار علماء التابعين ولم يبين طاوس في هذا النقل هل ذلك عام في النساء أو خاص بالبنت أو كيف حاله أما البنت فلا شك عنه في توريثها كالرواية عن أحمد ولكن مع هذا هل هو عند فقد الذكور خاصة أو مطلقا وظاهره أنه مطلق وبه صرح الشيخ أبو حامد فقال إذا خلف ابن مولى وابنة مولى فالمال لابن المولى دون ابنته وهكذا إذا خلف أخا المولى وأخت المولى هذا قولنا
وذهب شريح وطاوس إلى أن المال يكون بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين كما يكون كذلك في النسب هذا النقل من الشيخ أبي حامد يقتضي أن شريحا وطاوسا يقولان بذلك والأخت حالة الانفراد وحالة الاجتماع مع الذكور وهكذا نقله القاضي حسين عن شريح وطاوس كما نقله الشيخ أبو حامد وهو قول الحنابلة تفريعا على قول أبي طالب
ونقل صاحب المغني من الحنابلة عن شريح أنه جعل الولاء موروثا كالمال ثم قال بعد ذلك في ميراث بنت المعتق والظاهر من المذهب أن النساء لا يرثن بالولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو جر الولاء إليهن من أعتقن
قال وهذا قول الجمهور وهو قول من سمينا في أول الباب من الصحابة والتابعين ومن بعدهم غير شريح فيقتضي هذا الكلام أن شريحا يقول بميراث النساء مطلقا حيث يرثن المال كما اقتضاه نقل الشيخ أبي حامد
وأنا أقول وبالله التوفيق إن المختار عندي في المسألة الواقعة المسئول عنها أن المال يختص بأولاد المعتق الذكور لا يشاركهم الإناث كما هو قول الجمهور وهو خلاف مذهب شريح وطاوس ورواية أبي طالب عن أحمد وبيان ذلك بفصول الأول في الأحاديث الواردة في ذلك وهي عدة أحاديث أحدها الحديث الذي اعتمد عليه أحمد في توريث البنت رواه الدارقطني في سننه وأخبرنا به
____________________
(2/225)
شيخنا الحافظ الإمام العالم أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن الدمياطي رحمه الله سماعا عليه قال أنا الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل بن عبد الله الدمشقي سماعا عليه قال أخبرنا أبو الفتح ناصر بن محمد بن أبي الفتح الوبرح القطان أنا أبو الفتح إسماعيل بن الفضل بن الإخشيد السراج أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم أنا أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الحافظ الدارقطني رحمه الله ثنا أحمد بن محمد بن زياد ثنا محمد بن غالب ثنا سليمان بن داود المقري ثنا يزيد بن زريع ثنا سعيد عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس أن مولى لحمزة توفي وترك ابنته وابنه حمزة فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنته النصف ولابنة حمزة النصف هذا إسناد فيه نظر فإن شيخ الدارقطني أبا سهل أحمد بن محمد بن زياد محدث مشهور وقد قال الدارقطني في هذا الحديث عقيب ذكره له هكذا حدثناه من أصله بهذا الإسناد
وشيخ بن زياد هو محمد بن غالب بن حرب تمتام وثقه الدارقطني وهو مشهور وسليمان بن داود المنقري هو الشاذكوني حافظ ولكن قال ابن معين فيه كذاب يضع الحديث
وقال أحمد هو من نحو عبد الله بن سلمة الأفطس
قال ابن أبي حاتم يعني أنه يكذب
وقال عبدان معاذ الله أن يتهم الشاذكوني وإنما كتبه ذهبت فكان يحدث حفظا فيغلط
وقال ابن عدي للشاذكوني حديث كثير مستقيم وهو من الحفاظ المعدودين حفاظ البصرة وهو أحد من يضم إلى يحيى وأحمد وعلي
وأنكر ما رأيت له هذه الأحاديث التي ذكرتها بعضها مناكير وبعضها سرقة وما أشبه صورة أمره بما قال عبدان وإنما أتى من هناك فلجرأته واقتداره على الحفظ يمر على الحديث إلا أنه يتعمد
وقال في أول ترجمته حافظ ما هو عندي ممن يسرق الحديث
ويزيد بن زريع وسعيد وهو الجريري مجمع عليهما وعبارة البخاري في الشاذكوني فيه نظر
فالحديث بسبب الشاذكوني وحده ضعيف إلا أن أحمد احتج بهذا الحديث والظاهر أنه رواه من غير جهة الشاذكوني وإلا فكيف يحتج به وهو إمام المحدثين
فإذا ثبت هذا الحديث حجة في توريث بنت المعتق ونص فيه إذا كان معها
____________________
(2/226)
عصبة أبعد منها فإن حمزة كان ابنا أخيه موجودين وهما النبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب والعباس أخوه كان موجودا فإذا كانت القضية بعد الفتح وظهور إسلامه فهو أقرب العصبة بعد الأولاد على أن حمزة رضي الله عنه كان له ابن اسمه يعلى وأعقب فإن كان موجودا ذلك الوقت وهو الظاهر فلا يمكن انفراد أخته بالميراث إن كان الولاء لأبيهما وقد روي خبر بنت حمزة على أوجه تقتضي أن مولاها مات
رواه كذلك النسائي وابن ماجه من رواية محمد بن عبد الرحمن عن الحكم بن عيينة عن عبد الله بن شداد عن ابنيه وهي أخت شداد لأمه قالت مات مولى لي وترك ابنة فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله بيني وبين ابنته لي النصف ولها النصف
وابن أبي ليلى فيه ضعف ويمكن الجمع بينه وبين الأول بأنها أضافت مولى أبيها إليها إما على القول بأن الولاء يورث وإما تجوزا
لكن في النسائي عن أبي بكر بن علي بن عبد الأعلى عن حماد بن سلمة عن عبد الله بن عون عن الحكم بن عيينة عن عبد الله بن شداد أن ابنة حمزة أعتقت مملوكا لها
الحديث قال النسائي هذا أولى بالصواب من حديث ابن أبي ليلى وابن أبي ليلى كثير الخطأ
قلت وكذلك ذكره الشيخ أبو حامد من طريق شعبة عن الحكم ومقصود النسائي أنه مرسل وهذا صريح في أنها المعتقة إلا أنه يحتمل أن هذه قصة أخرى
وقد يكون مولى لأبيها ومولى آخر لها وماتا وورثتهما إلا أن كثيرا من الناس جعلوا هذا اختلافا وأنه حديث واحد وحكوا بأن كونه عتيقا لها أصح وحكي عن أحمد أنه قال في رواية أبي القاسم وقد سأله هل كان المولى لحمزة أو لابنته قال لابنته وهذا من أحمد مخالف لما حكاه أبو طالب عنه فهذا يقف الاستدلال بحديث بنت حمزة على أن بنت المعتق ترث وقد ذكر كثير من أصحابنا العراقيين والخراسانيين حديث بنت حمزة على أنها هي المعتقة كما في رواية ابن عون وشعبة وهو الصواب إن شاء الله تعالى وممن روي عنه أن المولى كان لحمزة إبراهيم النخعي ويحيى بن آدم وإسحاق بن راهويه
وقال ابن عساكر في بنت حمزة هذه إن لم تكن أمامة فلا أدري من هي
قلت وهي أمامة كما قال الماوردي
____________________
(2/227)
والحاكم في المستدرك قال ثنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم المزكي ثنا إبراهيم بن أبي طالب ثنا أبو كريب ثنا بكر بن عبد الرحمن ثنا عيسى بن المختار عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن عبد الله بن شداد وهو أخو أمامة بنت حمزة لأمها عن أخته أمامة بنت حمزة أن مولى لها توفي ولم يترك إلا ابنة واحدة فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته النصف ولابنة حمزة النصف ولا نعلم لحمزة بنتا غير أمامة وهي التي اختصم فيها زيد وعلي وجعفر فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر لأن خالتها زوجته أسماء بنت عميس الخثعمية وأمها سلمى بنت عميس كانت زوجة حمزة وزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمامة من سلمة بن أبي سلمة ولو كان الولاء لأبيها لم تختص بميراثه قطعا بإجماع المسلمين لأن أخويها يعلى وعمار ابني حمزة كانا موجودين أو يعلى ولم يقل أحد إن بنت المعتق ترث وتترك ابنه وبهذا بان أن الصواب مع من قال إنه مولاها
وفي الحديث رد على من يورث بالرد ويقدمه على الولاء كما هو المنقول عن جماعة من الصحابة
وحكي عن الشعبي أنه قال لا أدري أكان هذا قبل الفرائض أم بعدها
والصواب أنه بعدها لأن الفرائض بعد أحد وبنت حمزة أخرجها علي من مكة سنة سبع عام عمرة القضاء وقيل إنها خرجت وهي غير مدرك وجاز أن تكون أدركت ثم أعتقت ثم مات في تلك المدة فإنها أكثر من ثلاث سنين إلى حين وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
الحديث الثاني روى أحمد في مسنده قال ثنا عبد الصمد ثنا همام ثنا قتادة عن سلمى ابنة حمزة أن مولاها مات وترك ابنته فورث النبي صلى الله عليه وسلم ابنته النصف وورث يعلى النصف وكان ابن سلمى هكذا في المسند وترجم عليه حديث سلمى بنت حمزة ولكني لا أعرف لحمزة بنتا اسمها سلمى ويبعد أن يكون الغلط في التسمية من أمامة إلى سلمى لأن ذلك أعني اسم سلمى قد تكرر في ثلاثة مواضع في الترجمة وفي موضعين من الحديث وأيضا لا نعلم لأمامة ولدا اسمه يعلى والذي ظهر في هذا أن الغلط وقع في قوله ابنة حمزة
وصوابه امرأة حمزة وهي سلمى بنت عميس ويعلى بن حمزة بلا شك ولكن قيل إن أمه بنت اللد بن مالك بن عبادة بن حجر كذا قال
____________________
(2/228)
ابن سعد
والذي في المسند أولى أن يعتمد وهو أنه ابن سلمى ويبعد أن يقال إنه يعلى آخر ابن سلمى ولم تعرف في بنات حمزة
وإذا ثبت أن يعلى بن حمزة وهو ابن سلمى وأن أمه سلمى المعتقة فقد يستدل بهذا الحديث على اختصاص إرث الولاء بالرجال لأن النبي صلى الله عليه وسلم ورث يعلى من مولى أمه ولم يورث أخته أمامة وكانت موجودة ذلك الوقت فهذا لو سلم انشرحت نفسي له في الاستدلال على أن النساء لا يرثن بالولاء بعد تقرير هذه المقدمات وبعد اعتقاد أن سلمى كانت غير موجودة غير ذلك الوقت لأنه لم يقل أحد إن المعتقة ترث في حياتها وإمكان إرثها وبعد تقرير الاستدلال لأن قول قتادة عن سلمى لا يمكن حمله على أن سلمى راويه لأن قتادة لم يدركها وإنما المراد أنه يحدث عن قصتها وكثيرا ما تستعمل هذه العبارة وحينئذ يكون قتادة روى توريث النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرسل
والناس مختلفون في الاحتجاج بالمرسل منهم من احتج مطلقا ومنهم من احتج به إذا اعتضد وهو هنا اعتضد بأمور قول الصحابة رضي الله عنهم والقياس وفتوى أكثر أهل العلم فهذا لو سلم أحسن دليل رأيته في اختصاص الولاء بالرجال لكنه لم يسلم لأن سلمى هي أم عبد الله بن شداد وعبد الله بن شداد ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك لا يسلم الاستدلال كما أشرنا إليه من الوجه الذي ذكرناه لأن سلمى إذا كانت هي المعتقة فميراث مولاها بعد وفاتها لا يختص به يعلى بل يشاركه فيه ابنها عبد الله بن شداد فإن صح هذا الحديث يحمل على أن المولى كان لحمزة وأضافه إلى امرأته على سبيل المجاز وحينئذ يصح توريث يعلى منه لأنه ابن حمزة ويصح الاستدلال به أيضا على حرمان الإناث لأن أمامة بنت حمزة كانت موجودة ولم يورثها شيئا بمقتضى ذلك فالحاصل أنه متى صح هذا الحديث وكان المولى لحمزة على حرمان البنت ولا يشترط حينئذ أن تكون سلمى ميتة في ذلك الوقت فإن كان المولى لسلمى فيشكل على كل قول لاختصاص يعلى دون عبد الله بن شداد
وإن كانت سلمى بنت حمزة ويعلى ابنها سمي باسم خاله فيتعين أيضا أن تكون سلمى ميتة ذلك الوقت وحينئذ لا يبقى فيه دليل إلا على أن
____________________
(2/229)
ابن المعتقة يرث بالولاء وهو مذهب العلماء كلهم إلا ما شذ على ما سنحكيه والله أعلم
الحديث الثالث رواه أبو داود السجستاني رحمه الله في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رباب بن حذيفة تزوج امرأة فولدت له ثلاث غلمة فماتت أمهم فورثوها رباعها ولاء مواليها وكان عمرو بن العاص عصبة بنيها فأخرجهم إلى الشام فماتوا فقدم عمرو بن العاص ومات مولى لها وترك مالا فخاصمه إخوتها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحرز الولد أو الوالد فهو لعصبته من كان
قال فكتب له كتابا فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت ورجل آخر فلما استخلف عبد الملك اختصموا إلى هشام بن إسماعيل أو إسماعيل بن هشام فرفعهم إلى عبد الملك فقال هذا من القضاء الذي ما كنت أراه قال فقضى لنا بكتاب عمر بن الخطاب فنحن فيه إلى الساعة
وأخرجه النسائي وابن ماجه
وقال أبو عمر بن عبد البر فيه حسن صحيح وفيما قاله نظر لما سيأتي مما قيل من غلط عمرو بن شعيب فيه وفي بعض طرق النسائي فيه عمرو بن شعيب قال قال عمر مرسل
ولفظ ابن ماجه تزوج رباب بن حذيفة بن سعيد بن سهم أم وائل بنت معمر الجمحية وفيه فماتوا في طاعون عمواس فورثهم عمر وكان عصبتهم فلما قدم عمرو بن العاص جاء بنو عمرو يخاصمونه ولاء أخيهم إلى عمر فقال عمر أقضي بينكم بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول فذكره وفيه حتى إذا استخلف عبد الملك توفي مولى لهما وترك ألفي دينار فبلغني أن ذلك القضاء قد غير فخاصموا إلى هشام فدفعنا إلى عبد الملك فأتيناه بكتاب عمر فقال إن كنت لأرى أن هذا من القضاء الذي لا شك فيه وما أرى أن أهل المدينة بلغ أن هذا أن يسألوا في هذا القضاء قلت عمرو بن العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم وأولادها المذكورون هم أولاد رباب بن حذيفة بن سعيد بن سهم فحذيفة جدهم وهاشم جد العاص أخوان فعمرو ابن ابن ابن عم أبيهم فكذلك هو عصبتهم فإن شئت تقول هم بنو ابن عم جده
والكلام على متن هذا الأثر من وجهين أحدهما قضاء عمر بمال مولاها كما هو مبين في رواية أبي داود ولعصبة
____________________
(2/230)
أولادها دون إخوتها الذين هم عصبتها
وهذه مسألة اختلف الناس فيها وهي إذا ماتت المعتقة وخلفت ابنها وأخاها ثم مات ابنها وترك عصبته كأعمامه وبني عمه ثم مات العتيق وترك أخا مولاته وعصبته ابنها فعن علي بن أبي طالب فيه روايتان إحداهما أن ميراثه لأخي مولاته لأنه أقرب عصبات المعتق فإن انقرض عصبتها كان بيت المال أحق به من عصبة ابنها وبه قال أبان بن عثمان وقبيصة بن ذؤيب وعطاء وطاوس والزهري وقتادة ومالك والشافعي وأهل العراق
والرواية الأخرى عن علي أنه لعصبة الابن روي نحو ذلك عن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب وبه قال شريح
وهذا يرجع إلى أن الولاء لا يورث كما يورث المال
وقد روي عن أحمد نحو هذا واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب الذي قدمناه
قال صاحب المغني من الحنابلة والصحيح الأول فإن الولاء لا يورث وإنما يورث به وهو باق للمعتق يرث به أقرب عصباته ومن لم يكن من عصباته لم يرث شيئا وعصبات الابن غير عصبات أمه وحديث عمرو بن شعيب غلط قال حميد الناس يغلطون عمرو بن شعيب في هذا الحديث
قلت والصحيح الاحتجاج بنسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لكن هنا نظر من جهة دعوى الغلط فيه
الوجه الثاني من الكلام على المتن قوله ما أحرز الولد والوالد فهو لعصبته من كان وفي رواية من كانوا وقد يستدل به على شيئين أحدهما أنه لا يختص به الأكبر وهذا سنتكلم عليه
والثاني أنه لا يرث به النساء ولا الرجال دون الفروض وقد تكلم الناس في مدلول العصبة في اللغة فقال الجوهري عصبة الرجل بنوه وقرابته لأبيه سموا عصبة لأنهم عصبوا به أي أحاطوا به
وقال غيره العصبة الأقارب من جهة الأب لأنهم يعصبونه ويعتصب بهم أي يحيطون به ويشتد بهم انتهى
وهذا مأخذ جيد في إخراج النساء عن اسم العصبة لأن الاشتداد لا يحصل إلا بالرجال وتسمية الأخت مع البنت أمر اصطلاحي والذي ورد في الشرع أنها تأخذ النصف الباقي عن البنت وهذا المراد بتسميتها في الاصطلاح الفقهي عصبة ولذا تعصب البنين والإخوة لأخواتهم وعلى هذا يظهر الاستدلال بالحديث المذكور على اختصاص
____________________
(2/231)
الولاء بالرجال لكن عندي فيه وقفة من شيئين أحدهما ما تقدم من الكلام في صحته
والثاني أن مثله قد ورد في المال في البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة واقرءوا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني أنا مولاه
ولم يقل أحد بأن وراثة المال تختص بالرجال ولعل الاقتصار على ذكرهم في هذا الحديث الوارد في الولاء مثله وقد يجاب عن هذا بأن في إرث المال دل الإجماع وغيره من النصوص على إرث الزوج والزوجة ونساء الأقارب فيحتاج إلى تأويل ذلك ويكون أطلق العصبة عليهم وعلى غيرهم مجازا ولا ضرورة في حديث الولاء إلى المجاز
وهذا الجواب لا أجد نفسي تنقاد إليه وأيضا فقوله صلى الله عليه وسلم ما أحرز الولد والوالد فهو لعصبته لفظ عام ولم يذكر في الحديث أنه ورد في الولاء وإن كان عمر رضي الله عنه استعمله فيه ولعله إنما استعمله فيه بالعموم وإذا كان واردا في العموم فهو كحديث المال وإذا كان الولاء لا يورث فكيف يقال أحرزه وإنما يقال ذلك فيما يختص به شخص دون شخص كالمال
وأيضا قوله من كانوا قرينة تشعر بأن المقصود بالعصبة عمومهم لا الاحتراز عن غيرهم واللفظ إذا قصد به معنى يضعف الاحتجاج به في غيره مما يندرج تحت اللفظ حتى اختلف الأصوليون في أن ذلك من تخصيصات العموم أولا ومثلوه بقوله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء والسيح العشر وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر فإنه خارج مخرج مقدار بيان الواجب فهل يحتج بعمومه على وجوب الزكاة في الخضراوات أو لا على هذه القاعدة
ورأى الشافعي المنع فهذا مثله فيقف الاستدلال بهذا الحديث من هذا الوجه على اختصاص إرث الولاء بالعصبات ثم الذين يقولون إن البنت تصير عصبة بأختها والأخت عصبة مع البنت ثم يخرجونهما من هذا اللفظ لا سيما البنت فينبغي إذا كان للمعتق ابن وبنت يصرفون المال إليهما لأنهما عصبة في
____________________
(2/232)
هذه الحالة فيندرجان في هذا الحديث هذا كله إن ثبت الحديث وقد قدمنا ما فيه من الإرسال وما قيل من غلط عمرو بن شعيب فيه
الحديث الرابع الولاء لحمة كلحمة النسب
ذكره ابن حبان من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وكتاب ابن حبان صحيح قال ابن حبان أنا أبو يعلى قال قرئ على بشر بن الوليد عن يعقوب بن إبراهيم عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب
ورواه الشافعي من حديث ابن عمر أيضا عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف قال الشافعي أنا محمد بن الحسن ثنا يعقوب بن إبراهيم يعني أبا يوسف عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني رحمه الله لم يرو الشافعي عن أهل العراق غير هذا الحديث وإنما رواه لأنه وجده عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ومن وجه آخر موقوفا على عمر وعلي رضي الله عنهما وأبو يوسف وصله وأسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن محمد بن الحسن أسقط منه رجلا وذلك أن أبا يوسف رواه عن عبيد الله بن عمر العمري عن عبد الله بن دينار وأبو يوسف ما لقي عبد الله بن دينار
وقال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمر وقالا ثنا الأصم ثنا يحيى بن أبي طالب أنبأ يزيد بن هارون أنبأ هشام بن حسان عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب قال البيهقي هذا هو المحفوظ من هذا الحديث بهذا الإسناد مرسلا وقد روي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعا متصلا وليس محفوظا
وروي عن نافع عن ابن عمر مرفوعا وليس بشيء
وروي عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود من أقوالهم بألفاظ مختلفة والمعنى واحد
قال صاحب المغني وروى الخلال بإسناده عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى قال قال النبي صلى الله عليه وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب وأما الكلام على متن الحديث فاللحمة بضم اللام هذا هو المشهور وقيل بالفتح
قال الجوهري
____________________
(2/233)
اللحمة بالضم القرابة ولحمة الثوب بضم وبفتح ولحمة البازي ما يطعم مما يصيده بضم وبفتح أيضا وقال ابن الأثير اختلف في ضم اللحمة وفتحها فقيل هي في النسب بالضم وفي الثوب بالضم والفتح وقيل الثوب بالفتح وحده وقيل النسب والثوب فالفتح فأما بالضم فهو ما يصاد به الصيد
ومعنى الحديث المخالطة في الولاء وأنها تجري مجرى النسب في الميراث كما تخالط اللحمة سداء الثوب حتى يصير كالشيء الواحد لما بينهما من المداخلة الشديدة
انتهى كلام ابن الأثير والذي ينبغي أن يقال إن لحمة النسب مشبهة بلحمة الثوب تشبيها للاختلاط المعنوي بالاختلاط الحسي والولاء محمول على النسب شبه الاختلاط الحاصل بين العتيق والمعتق وعصباته بالاختلاط الحاصل بين الأقارب وهذا هو المقصود بالحديث وأنه لإثبات هذا الحكم شرعا وقد أجمع الناس على ذلك في الجملة ولكن ينبغي أن ينظر في تحقيق هذا التشبيه فإنه يحتمل ثلاثة معان أحدها تنزيل العتيق منزلة ولد المعتق فإنه لما أنعم الله عليه ونقله من قهر العبودية إلى سعة الحرية والنقصان إلى الكمال في الأحكام فإنه صيره بحيث يلي ويشهد ويرث وينكح أربعا ويطلق ثلاثا وغير ذلك وجعله متفرغا لعبادة الله تعالى وتحصيل مصالح نفسه الدنيا والآخرة أشبه الأب الذي هو سبب لإيجاد الابن ولا شيء بعد الإسلام أعظم من نعمة الإعتاق ولهذا قال تعالى وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه يعني زيد بن حارثة رضي الله عنه أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه بالإعتاق ويناسب تنزيله على هذه المرتبة قول من يورث بنت المعتق لأنها حينئذ بمنزلة الأخت ولا يطرد في أخت المعتق لأنها بمنزلة العمة والعمة لا ترث ولا في بنت الابن لأنها بمنزلة الأخ وبنت الأخ ترث
المعنى الثاني أن يكون العتيق بمنزلة الأخ للمعتق كما يشير إليه قوله تعالى فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وروى الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا المولى أخ في الدين ونعمة وأحق الناس بميراثه أقربهم إلى المعتق ويناسب هذا التنزيل قول من يقول البنت لا ترث لأن بنت الأخ لا ترث
المعنى الثالث وهو الأحسن أن لا ينظر إلى خصوص بنوة ولا أخوة ولكن ينظر
____________________
(2/234)
إلى المعتق وجميع عصباته فنجعل العتيق واحدا منهم كأنه ألصق بهم واختلط وصار معهم شيئا واحدا ويشهد لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم مولى القوم منهم حديث صحيح وإنما يقدم المعتق على عصباته لأنه أولى بنعمته منهم لأنه هو الذي ولى النعمة وأعطى الثمن فناسب تقديمه ثم تقديم من هو أقرب إليه ولما كان الولي يراد للانتصار والتعاون والتعاضد اختص بالرجال ولم يكن للإناث فيه حظ إلا إذا أعتقن
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم إنما الولاء لمن أعتق وجاء الولاء لمن أعطى الورق وولي النعمة تنزيل الولاء منزلة النسب صحيح على المعاني الثلاثة ولتنزيله منزلة النسب نهي عن بيعه فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته
متفق عليه
وفي جامع الأصول أن ابن وضاح أن يكون وهبته من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله من تولى غير مواليه قال الترمذي حديث حسن صحيح
وعنه صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فالجنة عليه حرام فانظر كيف قرن النسب مع الولاء وسوى بينهما في وعيد التبرؤ منهما ولأجل تنزيله منزلة النسب أجمع العلماء على أنه لا يورث به إلا بعد النسب الذي يورث به لأن المشبه دون المشبه به والمحمول على الشيء دونه
وقال أكثرهم مطلقا إن النساء لا حظ لهن فيه لأن النسب إذا تباعد أقوى من الولاء لما قلناه ومع ذلك لا يرث النساء به كالعمة والخالة فالولاء الذي هو أبعد من النسب البعيد وأبعد عنه وأولى أن لا يرث النساء به واستنباط هذا المنقول عن أبي العباس بن شريح
قال الشيخ أبو حامد دليلنا نكتة واحدة ذكرها أبو العباس وهو إذا قال النساء إنما يرثن بالنسب المتداني ولا يرثن بالنسب المتباعد ألا ترى أن البنت وبنت الابن والأم والجدة والأخت لما تدانت أنسابهن ورثن وبنت الأخ والعمة لما تباعدت أنسابهن لم يرثن وبنت المولى أبعد ممن تباعد نسبه من نساء المناسبين لأن الولاء مشبه بالنسب والإرث به يتأخر عن الإرث بالنسب وإذا كان كذلك لم ترث بنت المولى شيئا
قال أصحابنا أخذوا هذا المعنى من أبي العباس وصاغوا له عبارة أخرى فقالوا لو ورثنا
____________________
(2/235)
بنت المولى كان ذلك بتعصيب ابن المولى لها وهكذا لو ورثنا أخت المولى كان بتعصيب أخي المولى ووجدنا ذكور العصبات إنما يعصبون أخواتهم بالنسب القريب كالابن وابن الابن والأخ لا يعصبون بالنسب البعيد كابن الأخ والعم وابن العم وابن المولى أبعد ممن تباعد من المناسبين فبأن لا يعصب أولى وأحرى
انتهى
وهذا الذي قاله ابن شريح قياس جلي فإن ابن العم وإن أبعد يقدم على المعتق ولا يعصب أخته فابن المعتق وابنه أولى وعلمنا أن تشبيه الولاء بالنسب إنما هو في العصوبة التي هي محل التناصر والتعاضد والتعاون وكان مقتضى هذا أن نورث العتيق أيضا كما ذهب إليه بعض الناس
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال إسحاق بن راهويه وسليمان بن داود ولكن منع منه الجمهور فعندهم يراعى مع شبه النسب بعمة الإعتاق فإنها أيضا مناسبة لأن يكون المعتق وعصباته يرثون العتيق من غير عكس ويشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم إنما الولاء لمن أعتق أشار إلى أنه حق ثبت للمعتق على العتيق
والله أعلم
الفصل الثاني فيما ورد من الآثار وعتق السائبة وكون الولاء للكبر
قال البيهقي ثنا محمد بن عبد الله الحافظ ثنا الأصم ثنا يحيى أنبأ أبو يزيد أنبأ سفيان عن أبي قيس عن هذيل قال جاء إلى ابن مسعود قال إني أعتقت غلاما وجعلته سائبة فمات وترك مالا فقال عبد الله إن أهل الولاء لا يسيبون أنت وارثه وولي نعمته فإن تحرجت من شيء فأرى أن تجعله في بيت المال
قال البيهقي وروينا عن سالم مولى حذيفة أنه كان مولى لامرأة من الأنصار يقال لها عمرة بنت معاذ وقيل سلمى أعتقته سائبة فقتل يوم اليمامة فأتى أبو بكر رضي الله عنه فقال أعطوه عمرة فأبت تقبله
وقيل أتى عمر بن الخطاب بميراثه فدعا وديعة بن حذام وكان وارث سلمى بنت معاذ فقال هذا ميراث مولاكم فخذوه
وروي عن عطاء بن أبي رباح أن طارق بن المرقع أعتق أهل بيت سوايب فأتى بميراثهم فقال عمر بن الخطاب أعطوه ورثة طارق فأبوا أن يأخذوه فقال عمر فاجعلوه في مثلهم من الناس
وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن العاص بن هشام
____________________
(2/236)
هلك وترك ثلاثة بنين اثنان لأم ورجل لعله هلك أحد اللذين لأم وترك مالا وموالي فورثه أخوه لأبيه وأمه وورث ماله وولاء مواليه وهلك الذي ورث المال والموالي وترك ابنه وأخاه لأبيه فقال ابنه قد أحرزت ما كان أبي أحرز فقد أحرزت المال والموالي
وقال أخوه ليس كذلك إنما أحرزت المال فأما ولاء الموالي فلا أرأيت لو هلك أخي اليوم ألست أنا أرثه فاختصما إلى عثمان رضي الله عنه فقضى لأخيه بولاء الموالي
قال البيهقي وروينا عن عمر وعثمان وعلي وعبد الله وزيد بن ثابت أنهم قالوا الولاء للكبر
وروى الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا المولى أخ في الدين ونعمة وأحق الناس بميراثه أقربهم إلى المعتق
وروينا عن زيد بن وهب عن علي وعبد الله وزيد بن ثابت أنهم كانوا لا يورثون النساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن
وروي أيضا عن عمر قال البيهقي أنبأ أبو عبد الله أنبأ أبو الوليد ثنا عبد الله ثنا إسحاق ثنا عيسى عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عمر قال إذا تزوج المملوك الحرة المعتقة فولدت فولدها يعتقون بعتقها ويكون ولاؤهم لمولى أمهم فإذا أعتق الأب جر الولاء
والمشهور عن عثمان بن عفان والزبير بن العوام مثل هذا في جر الولاء
وروي عن علي وعبد الله بن مسعود وروى مالك في الموطإ عن عبد الله بن أبي بكر أن أباه أخبره أنه كان جالسا عند أبان بن عثمان فاختصم إليه نفر من جهينة ونفر من بني الحارث بن الخزرج وكانت امرأة من جهينة تحت رجل من بني الحارث بن الخزرج يقال له إبراهيم بن كليب فماتت المرأة وتركت مالا وموالي فورثها ابنها وزوجها ثم مات ابنها فقال ورثة ابنها لنا ولاء الموالي قد كان ابنها أحرزه
وقال الجهنيون ليس كذلك إنما هو موالي صاحبتنا فإذا مات ولدها فلنا ولاؤهم ونحن نرثهم فقضى أبان بن عثمان للجهنيين بولاء الموالي
قلت وهذا هو الصحيح من مذاهب العلماء بخلاف ما روي عن عمر وما رواه عمرو بن شعيب
وفي الموطإ عن مالك أنه بلغه عن سعيد بن المسيب في رجل هلك وترك بنين ثلاثة وترك موالي أعتقهم هو عتاقة ثم إن رجلين من بنيه هلكا وتركا ولدا قال سعيد يرث الموالي الباقي من الثلاثة فإذا هلك فولده
____________________
(2/237)
وولد أخويه في الموالي شرع سواء قال مالك سألت ابن شهاب عن السائبة فقال يوالي من شاء فإن مات ولم يوال أحدا فميراثه للمسلمين وعقله عليهم
قال مالك أحسن ما سمعت أن السائبة لا يوالي أحدا وأن ولاءه للمسلمين ورواه عن عمر بن عبد العزيز وقال مالك اليهودي أو النصراني يسلم عبد أحدهما فيعتقه قبل أن يباع عليه إن ولاءه للمسلمين وإن أسلم اليهودي أو النصراني بعد ذلك لم يرجع إليه ولكن إذا أعتقا عبدا على دينهما ثم أسلم العتيق ثم أسلم الذي أعتقه رجع إليه الولاء
وإن كان لليهودي أو النصراني ولد مسلم ورث ولاء موالي أبيه اليهودي إذا أسلم العتيق قبل أن يسلم الذي أعتقه وإن كان العتيق حين أعتق مسلما لم يكن لولد اليهودي أو النصراني من ولاء العبد المسلم شيء والولاء على العبد المسلم إذا أعتقه اليهودي أو النصراني لجماعة المسلمين
فصل من الموطإ في جر الولاء عن ربيعة بن الزبير اشترى عبدا فأعتقه وللعبد بنون من حرة فاختصموا إلى عثمان فقضى للزبير بولائهم
وعن هشام بن عروة مثله وسئل ابن المسيب عن عبد له ولد من حرة فقال إن مات أبوهم وهو عبد فولاؤهم لموالي أمهم
قال مالك الأمر المجتمع عليه في الحرة أنها إذا ولدت من العبد ثم عتق العبد بعد ذلك أنه يجر ولاء ولده إلى من أعتقه ومثل ذلك ولد الملاعنة من الوالي ينسب إلى موالي أمه فيكونون هم إن مات وارثوه وإن جر جريرة عقلوه وإن أعتق به أبوه ألحق به وصار ولاؤه إلى موالي أبيه وكذلك ولد الملاعنة من العرب إلا أن بقية ميراثه قبل أن يلحق بأبيه بعد ميراث أمه وإخوته من أمه للمسلمين
قال مالك الأمر عندنا في ولد العبد من حرة وأبو العبد حران الجد يجر ولاءه ويرثهم ما دام أبوهم عبدا فإذا أعتق أبوهم رجع الولاء إلى مواليه وإن مات وهو عبد كان الولاء والميراث للجد ولو أن العبد كان له ابنان حران فماتا أحدهما وأبوه عبد جر الجد أبو الأب الميراث والولاء
قال مالك في الأمة تعتق وهي حامل وزوجها مملوك ثم يعتق زوجها قبل أن تضع حملها أو بعد ما وضعت حملها أن ولاء ما كان في بطنها للذي أعتق أمه لأن ذلك الولد أصابه الرق وليس كالذي يحمل به بعد العتاقة لأن الذي يحمل
____________________
(2/238)
به بعد العتاقة إذا أعتق أبوه جر الولاء
قال مالك في العبد يستأذن سيده أن يعتق عبدا له فأذن له سيده قال ولاء المعتق لسيد العبد لا يرجع ولاؤه لسيده الذي أعتقه وإن أعتق
انتهى
وقد ذكر أصحابنا في جر الولاء وأحكامه صورا وفروعا لا تنحصر وفيها دقائق لا ضرورة إلى ذكرها هنا وهي مقررة في كتب الفقه
الفصل الثالث في أن الولاء لا يورث به ولا يورث وكونه لا يوصف بالانتقال وكونه ينتشر في جميع العصبات يقدم أقربهم إلى المعتق في أحكامه وثبوتها للأبعد منهم عند تعذر الأقرب وغير ذلك كل ذلك مستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب وبيان ذلك في مسائل إحداها في كونه لا يورث وقد اتفق جمهور العلماء على ذلك ولا خلاف عندنا فيه وقد روي نحو ذلك عن عمر وعلي وزيد وابن مسعود وأبي بن كعب وابن عمر وأبي مسعود البدري وأسامة بن زيد وبه قال عطاء وسالم بن عبد الله والحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي والزهري وقتادة وأبو الزناد والشافعي ومالك وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور وداود وهو المشهور عن أحمد وحكى الحنابلة ذلك عن طاوس أيضا وشذ شريح فقال الولاء كالمال يورث عن المعتق فمن ملك شيئا حياته فهو لورثته وحكى القاضي حسين وغيره ذلك عن طاوس أيضا ونقله ابن المنذر عن الزبير يعني ابن العوام وروى حنبل ومحمد بن الحكم عن أحمد وغلطهما أبو بكر وغيره من أصحابه والأصل في ذلك الحديث وإلحاقه بالنسب
الثانية يرتب على ذلك أنه لا يباع ولا يوهب ولا ينقل أصلا بعوض ولا بغير عوض وقد صح في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الولاء وعن هبته وممن قال بذلك عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس وإياس بن معاوية والزهري والأئمة الأربعة الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد
وروى سعيد عن سفيان عن عمرو بن دينار أن ميمونة وهبت ولاء سليمان بن يسار لابن عباس وكان مكاتبا مواليها وأن عروة ابتاع ولاء سليمان لورثة مصعب بن الزبير
وقال
____________________
(2/239)
ابن جريج قلت لعطاء أذنت لمولاي أن يوالي من شاء أفيجوز قال نعم
وهذه مذاهب شاذة ومردودة بالحديث الصحيح ورأيت في كتاب المستعمل بين فقهاء الأمصار في أصول الفرائض تصنيف أبي القاسم سعد بن عبد الله بن علوية الشافعي قال لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه يجوز بيع الولاء وهبته وهو كالنسب وهو قول جميع المفتين من الفقهاء المشهورين وكان سعيد بن المسيب يجيز ذلك إذا كان من كتابة فإن كان من عتق لم يجز وبه قال عطاء ومكحول وأبو بكر بن عمرو بن حزم وكان الشعبي والنخعي وعمرو بن دينار يجيزون بيعه وهبته على الإطلاق وقال قوم من المتقدمين إن ذلك من سائبة أو مكاتب لم يشترط عليه الولاء كان للعبد أن ينقله إلى من شاء
المسألة الثالثة مما يترتب على أن الولاء كالنسب أنه للكبر ومعناه أن المعتق إذا مات وله ابنان ثم مات أحدهما وله ابن ثم مات العتيق فماله لابن المولى دون ابن ابن المولى لأنهما مشتركان في العصوبة فيقدم الأقرب منهما ولو كان الولاء يورث لانتقل إلى الحفيد ما كان لأبيه وكذا نقلوا عن ابن شريح وطاوس أن المال بين الابن وابن الابن والرد على هذا القول بالرد كونه يورث
ولو مات السيد المعتق وله ثلاثة بنين ثم مات أحدهم عن ابن والآخر عن ابنين والآخر عن ثلاثة ثم مات العتيق فماله للخمسة بالسوية بينهم لاستوائهم في الإدلاء إليه ولو كان الولاء يورث لكان لابن الأول الثلث ولابني الثاني الثلث ولبني الثالث ولو ترك المولى أخا لأب وأخا لأب وأم ثم مات الأخ للأب والأم وترك ابنا ثم مات العبد كان ولاؤه للأخ للأب في قول الجماعة وكان في قول شريح لابن الأخ
نقله ابن علوية في المستعمل
المسألة الرابعة أنه لا يوصف بالانتقال وقد وقع في كلام صاحب التنبيه قال ومن ثبت له الولاء فمات انتقل ذلك إلى عصباته دون سائر الورثة يقدم الأقرب فالأقرب
والأصحاب كلهم الشيخ أبو حامد وغيره مصرحون بأن الولاء لا ينتقل وأبو علي الفارقي في كلامه على المهذب قال إن كلام الشيخ فيه تجوز ويحتمل أن يكون مراد الشيخ انتقال أحكامه فإن أحكام الولاء ثلاثة الإرث والتزويج والعقل
وفي ثبوتها للأبعد مع وجود الأقرب كلام سنذكره
____________________
(2/240)
المسألة الخامسة هذا الكلام الموعود به لا شك أن الولاء لا يورث ولكن هل نقول إنه بنفس العتق ثبت للمعتق وجميع عصباته أو ثبت للمعتق فقط وبعده ثبت لعصباته لا على جهة الإرث بل على جهة أن ثبوته لهم كان موقوفا على موت المعتق وعلى هذا هل يختص به الأقرب منهم ولا يثبت للأبعد فقد الأقرب كما في المعتق مع العصبة أو يثبت لجميع العصبة وإن تقدم بعضهم على بعض
وظاهر إلحاق الولاء بالنسب أنه بنفس العتق يثبت للجميع ولا شك أن كونه عتيقا للسيد ثبت نسبه بينه وبين عصبته حسا فإنا نقول عتيق ابن عم فلان ونحو ذلك وأما ثبوت هذه النسبة شرعا فالحديث يقتضيها وتوقيفها على موت المعتق بعيد وإن أمكن القول به
ومرتبة ثالثة وراء هذه وهي أن ولاية التزويج والعقل والميراث يحتمل أن يقال بتوقيفها مع تخيير النسبة الشرعية وإن الأقرب خلافه وإن النسبة الشرعية لا معنى لها إلا اقتضاء الأحكام الثلاثة
نعم قد تتوقف الأحكام الثلاثة على شرط أو انتفاء مانع كما في النسب ومن هذه الاحتمالات اضطرب كلام الأصحاب فلننقله على وجهه ونبين الحق فيه فنقول قال القاضي حسين في تعليقه في باب الولاء فيما إذا أعتق النصراني عبدا مسلما لو مات المعتق والمعتق حي وهو كافر وله ابن مسلم فإن ميراثه لبيت المال ولا يكون لابنه المسلم
وكذلك لو أن المعتق قتل المعتق وللمعتق ابن مسلم لا يرثه لأنه قاتل لا يورث ابنه بخلاف النسب لو قتل رجل ولده وللقاتل ولد فإن القاتل لا يرث المقتول ولكن يرثه ابنه والفرق بينهما أن في باب النسب الأخوة ثابتة بين الأخ والمقتول فلهذا يرثه وفي الولاء إنما يستفيد الولاء بموت فلولا أن الأب حيا لا يثبت له الولاء
وهكذا لو استرق المعتق بأن لحق بدار الحرب وله ابن مسلم ثم مات معتقه فإن ميراثه لبيت المال ولا يكون لابنه وهكذا نقول في التزويج لو أن كافرا أعتق أمة مسلمة وللمعتق أب أو ابن مسلم أو أخ فإن ولاية التزويج إلى الحاكم لا إلى أب المعتق
والفرق بينهما ما ذكرناه فالزم مسلمه
وقالوا لو أن امرأة أعتقت مسلمة أمة وللمعتقة أب فإن أباها تزوج المعتقة هكذا نص الشافعي فنقل الولاية إلى أبيها بسبب عصوبة الولاء ولو أن رجلا أعتق أمة
____________________
(2/241)
فمات المعتق وخلف ابنا صغيرا وللابن الصغير جد قال ليس للجد أن يزوج الأمة المعتقة فقيل ما الفرق بين هذه وبين الأولى حيث قال الشافعي لأب المعتقة أن يزوج معتقها
قال الفرق بينهما أن في مسألة المعتقة وقع الإياس عن ثبوت الولاية لها بالولاء فجعلت كالمعدومة فانتقلت الولاية إلى أبيها وفي تلك المسألة لم يقع الإياس بثبوت الولاية للابن الصغير بالولاء عند البلوغ فلهذا افترقا
انتهى كلام القاضي حسين
فأما قوله إذا خلف المعتق المسلم ابن معتقه الكافر مسلما والمعتق حي لا يرثه المسلم بل يكون الميراث لبيت المال فلم أره لغير القاضي حسين وفي الإشراف لابن المنذر وإذا اشترى النصراني عبدا مسلما أو كان له عبد نصراني فأسلم بيع عليه فإن أعتقه فالعتق جائز وولاؤه له فإن مات المعتق ومولاه على دينه لم يرثه وميراثه لجماعة المسلمين إلا أن يكون لمولاه عصبة مسلمون فإن أقرب الناس من عصبة مولاه يرثه ويكون المولى ما دام على النصرانية في معنى من قد مات وإن أسلم المولى المعتق ثم مات المولى المعتق ورثه بالولاء
هذا قول الشافعي وأهل العراق وكان مالك يقول إذا أعتق المسلم النصراني يرثه
انتهى
وهكذا قال أبو عبد الله محمد بن علي القلعي في فرائضه
وإذا أعتق المسلم عبدا نصرانيا ثبت له عليه الولاء فلو مات العبد ورثه من كان نصرانيا من عصبات المولى ولا يرثه المولى لاختلاف الدين وكذلك لو أسلم عبد لذمي فطولب بإزالة الملك عنه فأعتقه ثبت له عليه الولاء فإن مات ورثه من كان مسلما من عصبات المولى لأن الولاء بمنزلة النسب فكما أن النسب يثبت بين المسلم والكافر فكذلك الولاء
وهكذا لو مات مسلم وخلف أبا ذميا وأخاه مسلما ورثه الأخ دون الأب ولا يكون سقوط ميراث الأب مانعا من ثبوت النسب بينهما وكونه أبا فكذلك هاهنا لا يكون سقوط الميراث باختلاف الدينين مانعا من ثبوت الولاء عليه
انتهى
وكذا قاله سعد بن عبد الله ابن علوية أبو القاسم الشافعي في المستعمل قال إذا أعتق المسلم عبدا ذميا ومات العبد كان له ولاؤه ويرثه أقرب عصبة مولاه ممن كان على دينه أو مولى مولاه وكذلك إن كان معاهدا أو مستأمنا ولا يرثه المولى لاختلاف الدينين وذهب قوم إلى أن
____________________
(2/242)
السيد يأخذ ماله كما يأخذ مال عبده الذمي لا على سبيل الميراث وليس عليه العمل
وقال إذا أعتق ذمي ذميا ومات المعتق ورثه إن لم يكن له نسيب فإن أسلم العبد بعد أن أعتقه فإن الولاء ثابت عليه للذمي في قول الجميع فإن مات العبد ورثه أقرب عصبة مولاه من المسلمين أو مولى مولاه فإن لم يكن فلبيت المال
انتهى
وكتاب المستعمل هذا سمعه على مؤلفه المذكور أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد العتيقي سنة ست وعشرين وأربعمائة وهذا الذي قاله ابن المنذر والقلعي وابن علوية وهو مقتضى قولهم إن الولاء كالنسب وإن من لا يرث لا يحجب وينشأ من هاتين القاعدتين أن الميراث لولد المعتق في حياته الموافق لدين العتيق الميت إذا كان المعتق مخالفا في الدين لا لبيت المال خلافا لما قاله القاضي حسين وقد ذكر ابن قدامة الحنبلي المسألة في المغني وقال إن كان للسيد عصبة على دين العبد ورثه دون سيده
وقال داود لا يرث عصبته مع حياته لنا أنه بمنزلة ما لو كان الأقرب من العصبة مخالفا لدين الميت والأبعد على دينه ورث دون القريب
انتهى
فانظر أنه لم ينقل ما قاله القاضي حسين إلا عن داود والذي يظهر في هذه المسألة ما قاله ابن المنذر والقلعي ويوافقه أن الرافعي قال في الدور من الوصايا في آخر فصل منه فيما إذا أعتق مريض عبدا ثم قتله السيد أنه لا يرث السيد من دينه لأنه قاتل بل إن كان له وارث أقرب من سيده فهي له وإلا فلأقرب عصبات السيد
انتهى
وكذا في تهذيب البغوي في كتاب الفرائض قال ولو أعتق كافر عبدا مسلما ثم مات العتيق بعدما أسلم المعتق ورثه وإن لم يكن مسلما فميراثه لمن كان مسلما من عصبات معتقه وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى
وثبت في المسألة وجهان أصحهما هذا أن المال لعصبة السيد وهذا الذي قاله ابن المنذر وابن علوية والبغوي والرافعي والقلعي
والثاني وهو اختيار القاضي حسين أنه لبيت المال ويستنبط منهما وجهان في أن الولاء هل يثبت في حياة المعتق لعصبته أو لا يثبت لهم إلا بعده ويكون الصحيح أنه يثبت لهم في حياته وسيأتي ما يؤيده أيضا
ومن الدليل له من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/243)
الولاء لحمة كلحمة النسب وقول القاضي وكذلك لو أن المعتق قتل المعتق إلى آخره وهو غير المسألة التي قالها الرافعي وبذلك يكون الخلاف فيها مصرحا به بين القاضي حسين والرافعي كما أن الخلاف في مسألة المسلم والكافر مصرح به بين القاضي حسين وابن المنذر ومأخذ المسألتين واحد فقول ابن المنذر يجري في القاتل وقول الرافعي يجري في المسلم والكافر وما ذكره القاضي من الفرق ناطق بما استنبطناه له من أن الولاء لا يثبت في حياة المعتق لعصبته وهو ممنوع
وقد تبين أن الأصح خلافه
وقوله وهكذا لو استرق إلى آخره الكلام فيه كما سبق وعلى الأصح لابنه لا لبيت المال وقوله وهكذا نقول في التزويج إلى آخره الكلام فيه كما سبق وينبغي أن يكون على الأصح التزويج لمن بعده من العصبات لا إلى الحاكم
وقد صرح الرافعي بذلك وجزم به فقال في كتاب النكاح إن التي ليس لها أحد من عصبات النسب وعليها ولاء إن كان أعتقها رجل فولاية التزويج له فإن لم يكن أو لم يكن بصفة الولاية فلعصباته ثم لمعتقه ثم لعصبات معتقه وقال بعد ذلك تعليل عند الكلام في الموانع لا يزوج المسلمة قريبها الكافر بل يزوجها الأبعد من أولياء النسب أو الولاء أو السلطان
وهذا الذي قاله الرافعي أولى مما قاله القاضي حسين وقد ذكر البغوي في فتاويه ما يعضد ذلك في المسائل كلها ويشير إلى أن القاضي ليس جازما بذلك فإنه قال ذكر القاضي في كرة أن الأقرب في الولاء إذا كان ممن لا يرث الأبعد مثل أن العتيق كان مسلما والمعتق كافرا وله ابن مسلم فمات العتيق لا يرثه الابن المسلم وكذا لو قتل المعتق عتيقه وله ابن لا يرثه ابنه وكذا لو أعتق كافر أمة مسلمة وله ابن مسلم لا يلي الابن تزويجها بل يزوجها السلطان ثم قال وهذا مشكل بل ينبغي أن لا تحجب كالنسب
انتهى
فاستشكال البغوي مساعد لنا في هذه المسائل كلها وقوله قال القاضي في كرة إما أن يكون للقاضي قول آخر في كرة أخرى وإما أن يكون هذا اتفق منه عن غير دوام نظر بحيث يثبت عليه وهو توهين له وقوله الملزم للقاضي بتزويج أبي المعتقة العتيقة أن الشافعي نقل الولاية إلى
____________________
(2/244)
أبيها فسبب عصوبة الولاء ممنوع إذ لو كان كذلك لنقلها إلى أبيها لأن الابن مقدم في الولاء على الأب فإن قال الكلام في الولاية لا في الولاء فالولاء للمرأة خاصة والولاية لتعذرها منها تنتقل إلى الأب
قلنا إن كانت الولاية التي بسبب الولاء فكيف تثبت له ولم يثبت له الولاء وإن كانت ولاية أخرى وهو الصواب كما في تزويجه مملوكتها فلا إلزام ولا يصح قوله إنه نقلها بسبب عصوبة الولاء وقد اختلف في هذه المسألة إذا كان للمعتقة أب وابن على ثلاثة أوجه أصحها وهو المشهور المتصور أنه يزوج العتيقة أبو المعتقة والثاني يزوجها الحاكم والثالث يزوجها ابنها
وعلى الأول هل يشترط إذن السيدة المعتقة وجهان أصحهما المنع والثاني يشترط وهو قوي
واعلم أن الوجه الثالث حكاه السرخسي ونقله الإمام عن رواية الشيخ أبي علي لكنه بين أنه عند إمعان النظر في كلام الشيخ أبي علي أنه أراد حكاية الوجهين عند موتها لا في حياتها
وهذا من الإمام يحوم على ما نحاه القاضي حسين من أن الولاء لا يثبت في حياة المعتق لعصبته أما من يقول يثبت الولاء في حياة المعتق لعصبته فلا يستبعد عليه أن الابن يزوج
ولولا أمر واحد كنت أختار أن الابن يزوج وذلك الأمر هو أن الولاء ثابت للمعتقة يقدم فيه على عصبتها وإن شاركوها فيه فهل الأنوثة كالفسق سالبة لاستحقاق الولاية فيجري فيها الوجهان اللذان أشرنا إلى قاعدتهما بين القاضي حسين وغيره ويكون الأصح أن الابن يزوج أو ليست سالبة لاستحقاق الولاية ولكن مانعة من المباشرة كما تمنع عليها مباشرة عقد نفسها فيعتبر مع ذلك إذنها وهذا هو الأولى عندي فلذلك لا تنتقل الولاية إلى عصبتها بل يزوجها أبوها كما يزوج مملوكتها
وهذا الأقرب عندي وهو الذي أختاره أنه يزوج بإذنها ولا يزوج بغير إذنها وليس ذلك لكون الولاء له بل لكونه ولي المعتقة كحالة لو كانت مملوكة فإنه يزوجها ولا ولاء له وأما القول بأن الأب يزوج بغير استئذانها فبعيد ولا يصح إلا على القول باستقلاله عن المرأة بالولاية وإنما يصح ذلك لو كان بسبب الولاء ولو قيل بذلك لوجب تقديم الابن عليه فيؤدي إثباته إلى نفيه ولا وجه عندي غير ما ذكرته أنه
____________________
(2/245)
يزوجها بإذنها وإذن معتقتها ويقرب منه كون الحاكم يزوج وهو قريب لامتناع تصرف المرأة فهي كمن توجه عليه حق وامتنع منه
وعلى هذا يحتمل أن يقال باشتراط إذنها كما قيل به لوليها ويحتمل المنع وتجعل كالغائبة
وقد تبين بهذا أن هذه المسألة لا تلزم القاضي على خصوص بحثه بل إن لزمت تلزمنا أو تلزمه وجوابها ليس ما ذكره بل هو ما أشرنا إليه وقوله لو أن رجلا أعتق أمة فمات المعتق وخلف ابنا صغيرا وللابن الصغير جد قال للجد أن يزوج المعتقة هكذا رأيته في التعليقة وقوله قال يحتمل أن يزيل الملزم للقاضي أو القاضي نفسه ونقله ابن الرفعة عن النص مدرجا في كلام القاضي حسين فإن كان مستنده هذا الكلام وأنه فهم عود الضمير في قال على الشافعي فهو منازع فيه والذي قدمناه من كلام الرافعي يقتضي أن الجد يزوج وهو القياس وهو مقتضى ما قدمناه عن ابن المنذر والقلعي في الميراث
فإن ثبت هذا نصا عن الشافعي فهو قول يعضد القاضي حسين في كون الولاء لا ينتقل إلا مترتبا ولا ينتشر فليكن في هذه المسألة وجهان أحدهما وهو منقول وجها أو قولا أن الحاكم يزوج الجد ومأخذه أن الولاء للصغير خاصة
والثاني وليس بمنقول ولكنه قياس المنقول الصحيح في غيرها أن الجد يزوج ولكن هو الصحيح
وقد ذكر صاحب البيان المسألة غير منقولة فقال إن أعتق رجل أمة ومات وخلف ابنا صغيرا وأخا لأب وأرادت الجارية النكاح ولا مناسب لها فلا أعلم فيها نصا
والذي يقتضي المذهب أن ولاية نكاحها لأخي المعتق لأن الولاية في الولاء فرع على ولاية النسب وولاية ابنة الميت لأخيه ما دام الابن صغيرا فكذلك ولاية المعتقة
وقوله ما الفرق إلى آخره يشعر بأن الشافعي إنما نص على المسألة الأولى كما فهمناه
وقوله في الفرق إلى آخره ابن الرفعة أن القاضي ذكره عن القفال ولم أر في النسخة التي عندي من التعليقة للقفال ذكرا وأيا ما كان فالفرق المذكور لاغ فإن قوله جعلت كالمعدومة إن أراد بالنسبة إلى ولاية النكاح خاصة ورد عليه إثبات الولاية بدون الولاء وهو مناقض قوله أولا بسبب الولاء
فإن قال إنه كتزويج الأب مملوكة ابنه فهو الذي قلناه ويستغنى
____________________
(2/246)
به عن الفرق وإن أراد أنها تجعل كالمعدومة مطلقا لزمه أن تنقل الولاية إلى الابن فإنه مقدم على الأب اللهم إلا أن يكون القاضي فرض المسألة حيث يكون لها أب ولا ابن لها حتى لو كان لها ابن لقال بأن الولاية له لكنه وجه ضعيف في النقل كما مر
هذا تمام الكلام على كلام القاضي
وقد عرفت أن اختياره كله مخالف للصحيح ومما يبين لك ذلك أيضا أن الأصحاب في باب العاقلة تكلموا في ذلك فقال الشافعي في مختصر المزني في باب عقل المولى ولا يعقل الموالي المعتقون عن رجل من الموالي المعتقين وله قرابة تحمل العقل فإن عجز عن بعض حمل الموالي المعتقون الباقي فإن عجزوا عن بعض ولهم عواقل عقله عواقلهم فإن عجزوا ولا عواقل لهم عقل ما بقي جماعة المسلمين
قال ابن الصباغ وجملته أن المولى المعتق يعقل عن المعتق لأنه يرثه بالتعصيب إلا أنه لا يعقل إلا ما فضل عن المناسبين فيقسم أولا على الإخوة ثم بنيهم ثم الأعمام ثم بنيهم فإذا فضل فضلة قسمت على الموالي المعتقين فإن بقي بعد ذلك شيء من الدية قسم على مولى المولى ثم على هذا الترتيب حسب ما ذكرناه في الميراث ونقله ابن الرفعة أيضا عن الماوردي والبندنيجي والقاضي أبي الطيب ورأيته في العمد للفوراني قال فإن لم يكن المعتق حيا أو عجز فعصبته
وفي التتمة فهؤلاء أئمة العراقيين وبعض المراوزة ونص الشافعي على أن عصبة المولى يتحملون العقل مع وجوده وهذا أدل دليل على ثبوته لهم في حياته وذلك يقتضي أنهم يرثون ويكون لهم ولاية التزويج إذا قام بالمعتق مانع كما يعقلون ما فضل عنه
نعم إمام الحرمين حكى عن الأئمة أنهم قيدوا الضرب على عصبات المعتق بموت المعتق قال وهذا يمكن تعليله بأن العصبات لا حق لهم في الولاء ولا حق في الولاء فيقعون من المعتق في حياته موقع الأجانب فإذا مات ورثوا بالولاء وصار لحمة كلحمة النسب فإذ ذاك يضرب عليهم ولا يتجه إلا هذا
والأصول وإن كانت تدل على أن الولاء لا يورث بل يورث به فهو من حقوق الأملاك وإنما يثبت الاختصاص به بعد موت المعتق
نعم إذا لم يكن معتقا وضربنا على عصباته فهل يتخصص الضرب بالأقربين أو يتعداهم إلى الأباعد لصنعنا في عصبات النسب فيه تردد ظاهر يجوز
____________________
(2/247)
أن يقال يستوعبون ويجوز أن يقال بتخصيص الأقربين والمسلك الأول أوضح
انتهى
وتبعه الرافعي في ذلك وهي نزعة مما قاله القاضي حسين أيضا ولم أره في كلامه والذي يناسب ما قدمناه عنه خلافه
الثاني أنه لا ينتقل في حياة المعتق وبعده يضرب على الجميع وهو الراجح عند الإمام
الثالث أنه لا يكون في حياة المعتق لعصباته فإذا مات انتقل إلى أقربهم ويختص به الأقرب فالأقرب فلا يضرب على الأبعد مع وجود الأقرب وهذه الأوجه الثلاثة ينبغي أن تأتي في التزويج والميراث ولا يخفى ترتيبها
والرافعي وافق الإمام في العاقلة فلم يذكر الوجه الأول منها وقياس ما قاله في الميراث والتزويج أن يطرده في العاقلة ويكون عنده هو الأصح أو المجزوم وقياس ما قاله الإمام هنا أن يطرده في الميراث والتزويج كما قاله القاضي
وتلخص لنا طرد الأوجه الثلاثة في المواضع في بعضها نقلا وفي بعضها تخريجا ويكفي نص المختصر الذي حكيناه في العاقلة فإن ثبت ذلك النص الذي نقله ابن الرفعة كان قولا بالنقل والتخريج وإلا كان وجهان والأصح منهما المنصوص ما ذكره في العاقلة
فائدة عرفت أن الولاء يدور على محض العصوبة وكل من يثبت له الولاء نسميه عصبة وكأنا في هذه التسمية خالفنا باب الفرائض قليلا فإن في الفرائض قلنا العصبة كل ذكر ليس بينه وبين الميت أنثى والسابق إلى الفهم أنه من الأقارب
وفي العاقلة أطلق صاحب التنبيه العصبة وأراد به ما يشمل المعتق ألا تراه بعد ذلك لم يذكر المعتق من أعلى وإنما ذكر الخلاف في المعتق من أسفل وأيضا سمى المرأة المعتقة هنا عصبة وفي الفرائض لا تكون المرأة منفردة بالعصوبة بحال أعني لجهة القرابة
ومن قواعد التعصيب أن قرب الجهة مقدم على القرب إلى الميت فيقدم ابن ابن الأخ على ابن العم لأن جهة الأخوة مقدمة على جهة العمومة وإذا قدمنا جهة الأبوة إلى آخرها على الأخوة وكأنهم جعلوا الجدودة جهة مستقلة عن جهة الأبوة إذا عرفت هذا فقد ذكر الأصحاب أن الولاء كالنسب إلا في مسائل الأولى أن ابن المعتق وأخاه لا يعصبان بنت المعتق وأخته الثانية إذا كان للمعتق جد وأخ فالأصح استواؤهما كالنسب والثاني الأخ أولى لأن البنوة أقوى وهو يدلي
____________________
(2/248)
بها
وإنما تركنا هذا القياس في النسب لإجماع الصحابة على أن الأخ لا يحجب الجد الثالثة أن الجد وإن علا أولى من ابن الأخ في النسب
وفي الولاء قولان أصحهما استواؤهما
والثاني أن الأخ أولى الرابعة في النسب أبو الجد أولى من العم وهنا قولان أصحهما استواؤهما والثاني العم أولى ولا يختلف القولان في أن جد المعتق أولى من عمه كما في النسب وفي الجد مع عم الأب قولان الخامسة في النسب الجد يقاسم الإخوة ما دامت المقاسمة خيرا له من الثلث فإن كان الثلث خيرا أخذ الثلث وفي الولاء يقتسمان أبدا السادسة الأخوة لا يعادون في الولاء بل إن كان للمعتق جد وأخ شقيق وأخ لأب فالأخ للأب كالمعدوم والمال بين الشقيق والجد على الأصح وعلى الثاني كان للشقيق وكذا إن كان للمعتق أب جد وعمان أحدهما لأب وأم والثاني لأب فالمال بين أب الجد والعم للأب والأم نصفان في الأصح من القولين وعلى الثاني كله للعم للأب والأم السابعة إذا كان في النسب ابنا عم أحدهما أخ لأم فله السدس والباقي بينهما وإذا كان للمعتق ابنا عم أحدهما أخ لأم نص الشافعي أن المال كله له لأنه لا يرث في الولاء الفرض فرجح بقرابة الأم
هذا هو أصح الطريقين
ذكر هذه المسائل السبع صاحب التهذيب وينبغي أن يضاف إليها أن المرأة في الولاء لا تنفرد بالعصوبة إذا كانت معتقة وفي النسب لا تنفرد بالعصوبة وإنما تكون عصبة بغيرها أو مع غيرها
والله أعلم
فائدة أخرى قال الرافعي للأصحاب عبارة حائطة بمن يرث لولاء المعتق إذا لم يكن المعتق وهي أنه يرث العتيق بولاء المعتق ذكر يكون عصبة للمعتق لو مات المعتق يوم موت العتيق بصفة العتيق وخرجوا عليها مسائل منها أنه لا يرث النساء بولاء المعتق إلا إذا أعتقن ومنها أن ابن المولى يقدم على ابن ابن المولى ومنها لو أعتق مسلم كافرا ومات عن ابنين مسلم وكافر ثم مات العتيق فميراثه للابن المسلم ولو أسلم الابن الكافر ثم مات العتيق مسلما فالميراث بينهما ذكره في التهذيب
قلت وهذه القاعدة ذكرها القاضي حسين قال وقولنا بصفته احتراز عن مسألة وذكر أن النصراني لو أعتق عبدا مسلما وله ابنان مسلم
____________________
(2/249)
ونصراني فمات العتيق والمعتق ميت فإن ميراثه لابنه المسلم لأن المعتق لو مات يوم موت العتيق بصفته وكان مسلما فإن الابن المسلم يكون عصبته ولو أسلم الابن الآخر ثم مات العتيق فإن ميراثه بينهما لأنهما عصبة له ولو مات مسلما يوم موت العتيق
انتهى
وعندي لا حاجة إلى هذه القاعدة والإتيان بهذه العبارة المعقدة التي لا يفهم معناها إلا بعسر فإنا إذا قلنا يرث العتيق أقرب العصبات إلى المعتق حصل الغرض وشرط اتفاق دين الوارث والموروث عنه معروف من قولنا لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم
وبهذا يتخرج وتصح جميع المسائل فإن ابن المولى أقرب من ابن ابن المولى فقد قدمناه بالقرب وإن كانا مسلمين والمسلم من الاثنين ينفرد بالميراث عن أخيه الكافر مع مساواته له في القرب لأنه غير وارث وإذا أسلم قبل موت العتيق ورثاه لاستوائهما ووجود شرط الوراثة وكل ذلك جار على قاعدة النسب من غير نظر إلى دين المعتق الميت وكون هؤلاء وارثين له الآن أو لا وإنما ينظر إليهما مع العتيق الميت الذي يتلقيان الإرث عنه فنقول أحدهما ابن مولاه والآخر ابن ابن مولاه والأول أقرب إليه وفي الصورة الأخرى هما سواء وأحدهما مخالف له في الدين فلا يرثه وينفرد الآخر بميراثه فأي ضرورة إلى التعقيد بعبارة لا فائدة فيها ثم إنها تقتضي أن اسم العصبة يطلق عليه وإن لم يرث فكان تحرير العبارة أن يقول ذكر لو مات المعتق يوم موت العتيق لورثه ابنه هذا القاتل لأنه لا مانع من إرثه لأبيه وهو عصبة له وإنما امتنع إرثه من العتيق بقتله له فالوجه الاستغناء عن هذه العبارة
الفصل الرابع في أن ابن المعتق يرث بالولاء رجلا كان المعتق أو امرأة ولا أعلم في ذلك خلافا إلا أن ابن حزم قال فيما إذا كان المعتق امرأة ولم يكن ولدها ابن ابن عمها ونحوه إنه لا يرث بالولاء كمضرية تتزوج تميميا فابنها يسمى لا مضري وعتيقها مضرية لأنه يقال مولاة بني مضر ولا يقال مولاة بني تميم فكذلك إذا ماتت العتيقة في هذه الصورة لا يرثها ابن معتقها وهذا لأنه ليس من مواليها وهذا الذي قاله مردود بالحديث المتقدم أن يعلى بن حمزة ورث من عتيقة أمه وهو هاشمي وأمه
____________________
(2/250)
خثعمية فعلمنا أن هذا الباب إنما يدور على عصبة المعتق وابن المعتق أقرب عصباتها فورث
وروى سعيد عن أبي معاوية ثنا عبيدة الضبي قال وثنا هشام ثنا البناني عن الشعبي عن عمر قال قضى بولاء موالي صفية للزبير دون العباس وقضى في موالي أم هانئ بنت أبي طالب لابنها جعدة بن هبيرة دون علي
وروى أحمد بإسناده عن زياد بن أبي مريم أن امرأة أعتقت عبدا ثم توفيت وتركت ابنا وأخا ثم توفي مولاها فأتى أخو المرأة وابنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ميراثه فقال صلى الله عليه وسلم ميراثه لابن المرأة فقال يا رسول الله لو جر جريرة كانت علي ويكون له ميراثه قال نعم
وقد تقدم حديث مرسل المولى أخ في الدين ونعمة ويرثه أولى الناس بالمعتق وقد روي عن علي رضي الله عنه ما يدل على أن مذهبه في امرأة ماتت وخلفت أخاها وابن أخيها أن ميراث مواليها لأخيها أو ابن أخيها دون أبيها
وروي عنه الرجوع إلى مثل قول الجماعة
الفصل الخامس إذا ثبت إرث الابن كما هو مذهب الجمهور فكان للمعتق أب وابن فعندنا المال كله للابن لأن الولاء يدور على محض العصوبة والأب مع الابن ليس عصبة وإنما يرث بالفرض فكيف يأخذ بالولاء
وبه قال مالك وأبو حنيفة وهو قول عطاء والحسن والشعبي والحكم وحماد وقتادة والزهري وسفيان الثوري ومحمد بن الحسن وقال أحمد للأب السدس والباقي للابن
وبه قال إبراهيم النخعي والأوزاعي وعبيد الله بن الحسن وإسحاق وأبو يوسف
ونقله ابن علوية عن شريح أيضا وقال هؤلاء في الجد مع الابن كما قالوا في الأب مع الابن
الفصل السادس خرج الحنابلة على الرواية الضعيفة في توريث بنت المعتق أنه لو خلف العتيق بنت المعتق وعصبة المعتق كأخيه وعمه فللبنت النصف والباقي للعصبة فسلكوا بها مسلك الفروض
ولا خلاف عندهم أنه لو خلف أخت معتقه وأمه فلا شيء لها رواية واحدة وإنما تلك الرواية في البنت خاصة لقضية بنت حمزة رضي الله عنها
الفصل السابع وبه نختم الكلام اعلم أنه لا سبيل إلى الإحاطة بأحكام الولاء في هذا التصنيف وهي مبسوطة مقررة في كتب أصحابنا وغيرهم في كتاب
____________________
(2/251)
الولاء والفرائض والنكاح والعاقلة وإنما كان غرضنا هنا بيان ما قيل في إرث النساء بالولاء وقد تقرر أنهن لا يرثن وقد ادعى جماعة من أصحابنا وغيرهم الإجماع على ذلك وأرادوا به أن جماعة من الصحابة قالوه ولم يخالف الباقون من الصحابة فلا مبالاة بخلاف طاوس وشريح وفي ذلك ما عرف في الإجماع الشكولي لكنه قد انضم إلى ذلك ما ذكرنا من الحديث والقياس الجلي فاتضح بحمد الله تعالى عدم إرث النساء بالولاء إلا بالإعتاق بان أن في المسألة المسئول عنها مال العتيق الميت كله لابن المولى ولا شيء للبنت منه وانجر بنا الكلام إلى أن الولاء هل يثبت في حياة المعتق لعصبته أم لا وفروعها فإنه اتفق في هذا الوقت السؤال عن شيء منها ولم نجد المسألة محررة في شيء من كتب أصحابنا فأحببت أن أودع هذا التصنيف تحريرها وضبط ما انتشر واضطرب من كلام الأصحاب وقد نجزت بحمد الله تعالى
وكانت زبدة هذا التصنيف اللطيف شيئين أحدهما تحرير الدليل على عدم ميراث بنت المعتق
والثاني أن أحكام الولاء يثبت في حياة المعتق لعصبته إذا قام به مانع يخل بأهليته على ما تقرر فيما سبق
والله تعالى أعلم
وفرغت من تصنيفه عند أذان الصبح من يوم الأربعاء السادس والعشرين من جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وسبعمائة والله تعالى يجعله خالصا لوجهه الكريم موجبا للفوز لديه نافعا في الدنيا والآخرة وأن يختم لنا ولوالدينا وأولادنا بخير في عافية بلا محنة بمنه وكرمه كتب مصنفه علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي غفر الله لهم والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين حسبنا الله ونعم الوكيل
مسألة شعر من جملته إذا ما اشترت بنت مع ابن أباهما وصار له بعد العتاق موالي وأعتقهم ثم المنية عجلت عليه وماتوا بعده بليال وقد خلفوا مالا فما حكم مالهم هل الابن يحويه وليس يبالي أم الأخت تبقى مع أخيها شريكة وهذا من المذكور جل سؤالي
____________________
(2/252)
أجاب رضي الله عنه للابن جميع المال إذ هو عاصب وليس لفرض البنت إرث موالي وإعتاقها يدلي به بعد عاصب كذا حجبت فافهم هديت مقالي وقد غلطت فيه طوائف أربع ميون قضاة ما وعوه ببال مسألة إذا مات من لا وارث له وماله في بلد آخر هل يكون ماله للمسلمين الذين في بلده أم للمسلمين الذين في بلد المال أو للجميع لم أر فيه نقلا والاحتمالات الثلاثة لكل منها وجه وأظهرها الثالث وعلى هذا هل التصرف فيه لحاكم بلد المال أو لحاكم بلد الميت أو لكل منهما
أما الثالث فبعيد لئلا يؤدي إلى التنازع والأول أقرب من الثاني من وجه والثاني أقرب من وجه آخر فلينظر في ذلك فإني لم أمعن النظر في شيء من ذلك ولا كشفت عنه هل هو منقول أو لا
والله أعلم
مسألة سئل عنها الجناب البدري بكتوت العلائي وخلف من الورثة ستة أولاد ذكور خمسة أنثى واحدة فاطمة أحمد محمد شقيقان أبو بكر بن علي يوسف كلهم لأب توفي أحمد وورثه شقيقه محمد توفي أبو بكر وورثه إخوته الباقون محمد وعلي ويوسف وفاطمة وتوفي علي وورثه ولداه أحمد وأبو بكر ووالدته توفي محمد وورثه ابنتاه وزوجته وأخواه يوسف وفاطمة
أجاب رحمه الله تعالى تصح المسائل الخمس من ألف وثلثمائة وستة وثمانين كل قيراط سبعة وخمسون ونصف وربع ليوسف وأربعمائة وأربعة وهي ستة قراريط وست أسباع قيراط وثلثا سبع قيراط وعشرة أجزاء من أحد عشر جزءا من ثلث سبع قيراط ولفاطمة مائتان واثنان وهي ثلاثة قراريط وثلاثة أسباع قيراط وثلث سبع قيراط وخمسة أجزاء من الأجزاء المذكورة ولأحمد بن علي مائة وخمسة وثلاثون وهي قيراطان وسبعا قيراط وثلث سبع قيراط وجزء من الأجزاء المذكورة ولأبي بكر ابن علي مائة وخمسة وثلاثون وهي مثلها ولأم علي أربعة وخمسون وهي ستة أسباع قيراط وثلث سبع قيراط وسبعة أجزاء من الأجزاء المذكورة ولبنتي محمد ثلثمائة وأربعة وثمانون لكل منهما مائة واثنان وتسعون وهي ثلاثة قراريط وسبعا قيراط وتسعة أجزاء من الأجزاء المذكورة ولزوجة محمد اثنان وسبعون وهي قيراط واحد
____________________
(2/253)
وسبع قيراط وثلثا سبع قيراط وجزءان من الأجزاء المذكورة وجملته ألف وثلثمائة وستة وثمانون وهو العدد المبين أعلاه
وبيان ذلك أن مسألة الأمير بدر الدين بكتوب وهي الأولى صحيحة من 11 أحمد 2 محمد 2 أبو بكر 2 علي 2 يوسف 2 فاطمة 1 توفي أحمد وورثه شقيقه محمد فمسألته ساقط وصار نصيب محمد 4
توفي أبو بكر ومسألته من 7 ونصيبه 2 منكسرة عليهم وبين نصيبه ومسألته مباينة فنضرب مسألته وهي 7 في المسألة الأولى وهي أحد عشر يكون الخارج 77 ومنها تصح المسألتان كان لمحمد من المسألة الأولى 4 مضروبة في الثانية وهي سبعة بثمانية وعشرين وله من الثانية 2 مضروبان في نصيب مورثه وهو 2 بأربعة يجتمع له 32
وكان لعلي من الأولى 2 مضروبان في الثانية بأربعة عشر وله من الثانية 2 مضروبان في نصيب مورثه وهو 2 بأربعة يجتمع له 18 ويوسف مثله وفاطمة نصفه فالحاصل محمد 32 وعلي 18 ويوسف 18 وفاطمة 9 وجملتها سبعة وسبعون وهو ما تقدم
مات علي ومسألته من 9 وتصح من 12 ونصيبه 18 توافقها بالسدس فنضرب سدس مسألته وهو 2 في الأولى وهي 77 تبلغ 154 كان لمحمد 32 مضروبة في وفق الثانية وهو 2 بأربعة وستين وكان ليوسف 18 مضروبة في 2 بستة وثلاثين وكان لفاطمة 9 مضروبة في 2 ثمانية عشر
وليس لهؤلاء الثلاثة من المسألة الثانية شيء ولأحمد بن علي من الثانية 5 مضروبة في وفق نصيب مورثه وهو 3 بخمسة عشر ولأبي بكر بن علي مثله ولأم علي 2 مضروبان في 3 وليس لهؤلاء الثلاثة من الأولى شيء فالحاصل محمد 64 يوسف 36 فاطمة 18 أحمد بن علي 15 أبو بكر بن علي 15 أم علي 6 وجملة ذلك مائة وأربعة وخمسون وهو ما تقدم
مات محمد ومسألته من 24 وتصح من 72 ونصيبه 64 موافق لمسألته بالثمن فنضرب ثمن مسألته وهو 9 في الأولى وهي 154 تبلغ 1386 كان ليوسف 36 مضروبة في وفق الثانية وهو 9 تبلغ 324 وله من الثانية 10 مضروبة في وفق نصيب مورثه وهو 8 تبلع 80 جملة ما ليوسف 404 وكان لفاطمة 18 مضروبة في 9 تبلغ 162 ولها من الثانية 5 مضروبة في 8 تبلغ 40 فجملة ما
____________________
(2/254)
لفاطمة 202 وكان لأحمد بن علي 15 مضروبة في 9 تبلغ 135 وكان لأبي بكر بن علي 15 مضروبة في 9 تبلغ 135 كان لأم علي ستة مضروبة في 9 تبلغ 54 وليس لهؤلاء الثلاثة من المسألة الأخيرة شيء ولبنتي محمد من الأخيرة 48 مضروبة في وفق نصيب مورثهما وهو 8 تبلغ 384 بينهما بالسوية ولزوجة محمد من الأخيرة 9 مضروبة في 8 تبلغ 72 وليس لهؤلاء الثلاثة شيء من غير الأخيرة فالحاصل يوسف 404 فاطمة 202 أحمد بن علي 135 أبو بكر بن علي 135 أم علي 54 بنتا محمد 384 زوجة محمد 72 وجملة ذلك 1386 وهو ما تقدم وأردنا بيانه
والله أعلم
كتب علي بن عبد الكافي السبكي غفر الله لهما في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وسبعمائة بمنزله بالمقطم ظاهر القاهرة والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم حسبنا الله ونعم الوكيل
كتاب الوصايا وصية في ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة صورتها أن امرأة وصت أن يصرف لفلان كذا وفلان كذا وسمت أشخاصا وبقية الثلث للفقراء والمساكين ثم ماتت وخلفت عقارا فهل يباع ويصرف ثمنه على الفقراء والمساكين أم يصير وقفا عليهم
الجواب يباع منه مقدار ما يحتاج لصرف ثمنه فيما وصت به لفلان وفلان وبقية الثلث يكون للفقراء والمساكين من غير بيع وصرف ثمنه إليهم ولا يجوز للقاضي بيعه بل يعطيه لثلاثة فصاعدا من الفقراء والمساكين أو يسلمه للناظر في أمرهم وهو الحاكم لا يجوز للقاضي غير هذين الأمرين فإن أعطاه لثلاثة فصاعدا منهم ملكوه وتصرفوا فيه لأنفسهم بجميع التصرفات وإن سلمه للناظر في أمرهم يخير فيه بين ثلاثة أمور إما أن يعطيه ملكا لثلاثة فصاعدا منهم كما قلناه وإما أن يبقيه ويستغل أجرته ويصرفها عليهم ويكون ملكا لا وقفا وإما أن يبيعه بشرط رعاية الغبطة والضرورة كما في عقار اليتيم ويصرف ثمنه إليهم
هذا إذا كان عقارا كما تضمنه الاستفتاء فإن لم يكن عقارا ولكن كان نخلا وسواقي يحتاج دولابها إلى كلفة كما ذكره السائل
____________________
(2/255)
من لفظه أن الصورة المسئول عنها كذلك كان الحكم كذلك إلا في اشتراط الضرورة كما في العقار فإنه لا يشترط هاهنا بل تراعى المصلحة
والله أعلم
انتهى
مسألة رجل قال أوصيت إلى فلان وفلان إذا أنا مت فالدار التي أنا ساكنها تكرى بستة عشر كل شهر لا بأكثر ولو زيد في أجرتها على من يسكنها فلا يقبل عليه زيادة ويصرف من كرائها أربعة دراهم لأجل عمارتها والباقي يؤخذ كل اثنين ثلاثة دراهم فيشترى بها خبز ويتصدق عني وإن كان الخبز يحصل في مشتراه ضرر والعياذ بالله فيتصدق بالدراهم ويؤخذ من مالي ثمانية آلاف درهم فيبنى منها تربة ويعمل في قبلتها إيوان قبو ويحفر في التربة جب نبع وصهريج جمع ويعمل لها باب ومهما فضل من الدراهم يشترى بها ملك ويؤخذ ما يتحصل من أجرته فيعطى لساكن التربة منه كل شهر خمسة وخمسة دراهم أخرى لعمارة التربة ودرهم لأجل زيت يوقد قنديل كل ليلة جمعة فقط ومهما فضل من أجرة الملك يعطى لفرد مقرئ يقرأ كل ليلة جمعة وليلة اثنين وذكر سورا عددها ثم قال ويهديها لي وللموتى الذين في التربة ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم
ثم ذكر وصايا أخر ثم قال ويشترى لابنة ولدي عبد الرحمن ست الوزراء ملك بألف وتكون منافعه لها ثم من بعدها لولدها ثم من بعد ولدها إلى ولد ولدها فإن لم يكن لها ولد عاد إلى نسلي وإلى عقبي ومن بعدهم على التربة المعينة وجميع شيء منزل في حججي صحيح وقبضته
هذا لفظه وكتبه بخطه وأشهد عليه جماعة من المسلمين ثم توفي إلى رحمة الله فما حكم هذه الدار هل تبقى ملكا للورثة وتصرف أجرتها في الوجوه التي ذكرها كما أوصى بمنافعها وإذا كان ذلك كذلك فهل يلزم قوله إنه لا تزاد أجرتها على ستة عشر درهم ولا تقبل الزيادة في أجرتها من غير تعيين من تكرى منه أم يلغو وتؤجر بأجرة المثل بالغا ما بلغت بحسب ما يقع وإن كان أكثر مما ذكره الموصي وما حكم الوصية ببناء التربة والقبو فيها وحفر الجب والصهريج هل ذلك صحيح بحسب تنفيذه أم لا يجوز لأنه لا قربة فيه كما لو أوصى أن يبنى على قبره لا سيما إن كان ذلك في أرض مسبلة فإنه لا سبيل للبناء أصلا فإن جوزتم البناء في حالة أو لم تجوزوه فما حكم هذا الملك الذي أوصى بشرائه وما انصرف
____________________
(2/256)
منه من غير تعرض لوقفيته هل يشترى ويوقف على ما ذكر أم لا وإذا لم تجوزوا البناء وجوزتم شراء الملك المذكور فهل يشترى بالمبلغ جميعه ملك ويوقف وتكون منافعها للجهات المعينة غير العمارة أم يشترى بمقدار ما يفضل أن لو حصلت عمارة التربة وتوابعها ويكون ما يقابل العمارة للورثة ومنافعها للجهات المعينة كما لو أوصى بمنفعة داره أبدا أم لا وما حكم الملك الذي يشترى لبنت ابنه المذكورة هل يشترى ويجعل وقفا عليها وعلى من بعدها على ما ذكره بناء على القرائن المذكورة وإن لم يصرح بذكر الوقفية أم كيف الحال فيه وما حكم الإشهاد عليه بأن جميع ما نزل في حججه صحيح وأنه قبضه من غير بيان لمقداره أم لا بينوا ذلك واضحا موجها أثابكم الله الجنة
أجاب الحمد لله أما الدار التي أوصى بأن تكرى كل شهر بستة عشر لا بأكثر فالوصية بذلك فيها صحيحة وحقيقتها أنها وصية لساكنها من كان بما زاد من أجرة مثلها على الستة عشر وبالستة عشر للعمارة والصدقة وحصة العمارة راجعة للساكن والصدقة والدار كلها كالموصى بمنفعتها
وقوله لا تزاد أجرتها على ستة عشر لازم العمل به ما دام يوجد من يسكنها بذلك ولا تقبل الزيادة حينئذ فإن بذل الساكن زيادة ولم يوجد من يسكنها غيره فكأنه لم يقبل الوصية فيقبل منه من غير إيراد عقد عليه ويكون حكمها حكم باقي الأجرة من الصرف إلى العمارة والصدقة ولإطلاقه قوله ويصرف من كرائها وأما الوصية ببناء التربة والقبو وحفر الجب والصهريج إذا كان في أرض يمكن فيها فصحيح لأنه ينتفع من يقيم هناك من قيم ومقرئ وزائر وغيرهم والذي يمنع البناء على القبر كما كانت الجاهلية تفعله وتقصد به تعظيم القبور
وإذا كانت الأرض مسبلة للدفن خاصة امتنع فيها وإذا امتنع البناء في تلك البقعة بني في غيرها تحصيلا لغرضه بقدر الإمكان وكذا إذا فهم لفظه تحصيل تربة ولم يمكن بالبناء وأمكن بالشراء ونحوه صرف إلى ذلك
وإن تعذر من كل وجه اشترى بالثمانية آلاف بجملتها ملكا لما قلنا إن منفعة البناء راجعة إلى المصروف لهم فهي وصية لهم فيصرف منه للمقرئ الذي وصفه ولصدقة ولزيت يوقد به حيث ينتفع به المسلمون والذي يشترى لا يوقف بل تبقى رقبته للورثة وهو موصى
____________________
(2/257)
بمنافعه جار عليه أحكام الوصية والملك الذي يشترى لبنت ابنه إذا لم تكن وارثة لا يجعل وقفا عليها وعلى بعدها بل يبقى على حكم الوصية بمنافعه لهم
والإشهاد عليه بأن جميع ما نزل في حججه صحيح وأنه قبضه من غير بيان لمقداره صحيح لأنه إقرار محمول على أنه قد علمه لكن ينبغي للشاهد أن يضبط تلك الحجج حتى لا يزاد في التنزيل فيها بعد إشهاده وسواء ضبطت أم لا وكل شيء يحقق أنه كان منزلا فيها وقت إشهاده وجب العمل به وإن لم يعنه بالشهود وكل من تحقق حدوث تنزيله بعد تاريخ الإشهاد أو شك فيه توقف
والله أعلم كتب علي السبكي في جمادى الآخرة سنة 53 وسبعمائة
انتهى
مسألة من إسكندرية أوصى أن تكمل من ثلث ماله عمارة مسجد وصهريج معروفين وأن يصرف من أجرة الطاحون الفلانية درهم ونصف في كل يوم على من في ذلك الصهريج وما يحتاج إليه المسجد من إمام وغيره وأن يشترى بربع ما يفضل من أجرة الطاحون في كل يوم بعد حفظ أصولها خبز يفرق على الفقراء والمساكين ومات وخرجت الطاحون من الثلث فاقتضى نظر الحاكم وقفها فوقفها على أن يصرف منها ما تضمنته الوصية وما فضل يكون لورثة الموصي ثم مات أولاد الموصي وجهل تاريخ وفياتهم وبقي الآن من ذريته ولد ابنه وولد ابن ابنه فما الذي يصرف لكل منهم وهل يصح وقف الحاكم وهل للورثة الموجودين بيع الطاحون إذا التزم المشتري بالدرهم ونصف أم بيع بعضها أجاب يصرف من أجرة الطاحون درهم ونصف كل يوم للصهريج والمسجد المذكورين على ما شرح في الوصية والفاضل من الأجرة في كل يوم يصرف ربعه بعد حفظ أصول الطاحون منه في شراء الخبز ويفرق على الفقراء والمساكين والباقي يصرف لورثة الموصي على حكم فرائض الله تعالى ثم ينتقل إلى ورثتهم من بعدهم فلولد الابن الموجود الآن نصيب والده إن كان حائزا لتركته ولولدي ابنة الابن إذا كانا حائزين لتركة أمهما ما انتقل إليها من والدها وإن كان للموصي ورثة أموال وقد انقرضوا فإن اقتضى الحال توريث أولاد إخوتهم منهم كان المنتقل منهم إليهم
____________________
(2/258)
مضموما إلى ما انتقل إليهم من أصولهم وإلا فلا وهذا الخلاف يشمل ما إذا جهل تاريخ الوفاة وما إذا علم ويستمر الحال كذلك في الباقي من الأجرة على حكم انتقال الأختان في المواريث دائما
وهذا احتمل الثلث من تركة الموصي فأوصى به كله ومن جملته قيمة الطاحون المذكورة مسلوبة المنفعة المذكورة ولا يعتبر أن تقوم مسلوبة المنفعة المذكورة ولا يعتبر أن تقوم مسلوبة المنفعة مطلقا ولا يجوز للورثة ولا لورثتهم بيع الطاحون المذكورة ولا بيع شيء منها على أن تكون منافعها للمشتري ولا يشترط التزام المشتري بدرهم ونصف ولا بغير شرط بل تبقى الطاحون المذكورة دائما على هذا الحكم وأما بيعها مسلوبة المنفعة ففيه خلاف والأصح هنا أيضا أنه لا يصح لأنه ليس هنا ثم موصى معين يشتري حتى نحكم بصحة بيعها منه في الأصح
وأما اقتضاء رأي الحاكم وقفها ووقفه إياها على هذا الحكم فإن أراد أنه يكون الحال فيها موقوفا ليمتنع الوارث من بيعها ويستمر حكمها على ما ذكرناه دائما فهو صحيح كما يطلقه بعض العلماء في أراضي الفيء أنها وقف ويؤيد هذا المعنى لكن هنا توهم أنها تبقى منافعها منتقلة على حكم الأوقاف وليس كذلك بل المنتقل بها إلى الورثة على حكم المواريث والمنتقل فيها إلى غيرهم على حكم الوصايا فلا وقف أصلا وينبغي أن ندخر هذه الفتوى للعمل بها ويعلم أن الورثة يدخل فيهم الزوجات وكل وارث فلا يختص بالأولاد كما يشير إليه كلام المستفتي
والله أعلم
مسألة من حلب في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وسبعمائة رجل أوصى إلى شخص على أولاده ثم بعد مدة أوصى على أولاده المذكورين لشخصين وجعل عليهم ناظرا ولم يكن في الوصية الثانية ما يقتضي الرجوع عن الأول ثم من بعد وفاة الموصي تصرف الوصيان والناظر وباعوا على الأيام ملكا بالغبطة والشروط الشرعية بغير علم الموصي الأول ولا إجازته ثم بعد ذلك علم الموصي بالبيع وأجاز ما باعه الوصيان المذكوران والناظر فهل يكون البيع صحيحا أم باطلا
الجواب أما الإجارة فلا اعتبار بها لأن العقود عندنا لا توقف ولكن النظر في حكم الوصيين ولا خلاف أن الثانية ليست عزلا للأول إذا لم يكن فيها رجوع
____________________
(2/259)
عن الأول بل وصية الأول باقية ووصية الاثنين والناظر باقية وهل يشترط في تصرف الثانيين مع الناظر عليهما موافقة الأول أولا وكذلك يشترط في تصرف الأول موافقة الثانيين عليهما أولا
وكلام البغوي يقتضي الاشتراط
وقال الرافعي إن الاعتماد عليه وملت إليه في شرح المنهاج وقلت إني رأيت كلام الشافعي في الأم يشهد له
فعلى هذا لا يصح البيع أجاز أو لم يجز وأنا الآن أميل إلى ما قاله البغوي وأختار أنه لا يشترط اتفاقهم بل للأول أن ينفرد عن الاثنين والناظر وللثانيين والناظر أن ينفردوا عن الأول وليس لواحد من الثانيين والناظر أن ينفرد عن صاحبيه فعلى هذا المختار عندي أن البيع المذكور صحيح
والله أعلم
كتبه في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وسبعمائة وإنما اخترت عدم الاشتراط لأن اللفظ مطلق فإنه إذا قال وكلت زيدا في بيع داري ثم قال وكلت عمرا في بيع داري فمقتضى اللفظ أنه أذن لكل منهما فهو كما لو قال جعلت كلا منهما وكيلا وكذلك لو قال جعلت كلا منهما وصيا ولو قال ذلك جاز لكل منهما الانفراد بلا خلاف
انتهى
مسألة وصى قرابغا أن يوقف عنه ما ذكر أنه في ملكه وهو حصة في ضيعة وأن يشترى من ثلث ماله حصة معلومة من ضيعة أخرى عينها ويوقف على تربته ومسجده فتبين أن الضيعة الأولى ليست ملكه ولا يمكن تملكها لأنها وقف والثانية تعذر شراؤها وأراد أوصياؤه أن يشتروا طاحونا ويوقفوها بدلا عن ذلك وكانت الطاحون لأيتام قصد المتكلم للأيتام بيعها عليهم في وفاء دين أبيهم فقيل إن الطاحون المذكورة ورثها الأيتام من أمهم ولا دين عليها لكن لهم أملاك من جهة أبيهم دينه متعلق بها وبيع الطاحون وتبقية غيرها من الأملاك أصلح لهم من بيع غيرها من الأملاك فعرض هنا مسألتان يجب النظر فيهما إحداهما صحة الوصية بما تقدم وحكمها فأما الضيعة التي أظن أنها ملكه وتبين وقفيتها فلا تصح الوصية بوقف عينها ولكن هل يوقف غيرها مكانها يحتمل أن يقال بذلك ويحتمل أن يقال إن الوصية تبطل بالكلية ولم أر في مذهبنا
____________________
(2/260)
نقلا في ذلك إلى الآن ولا عند الحنفية ولا عند المالكية لكن في المغني من مذهب الحنابلة في كتاب الوصية قبل آخره بست ورقات ولو قال أوصيت لك بعبد من عبيدي ولا عبيد له لم تصح الوصية لأنه أوصى له بلا شيء فهو كما لو قال أوصيت لك بما في كيسي ولا شيء فيه أو بداري ولا دار له
فإن اشترى قبل موته عبدا احتمل أن لا تصح الوصية كما لو قال أوصيت لك بما في كيسي ولا شيء فيه ثم جعل في كيسه شيئا ويحتمل أن تصح
وقد روى ابن منصور عن أحمد في رجل قال في مرضه أعطوا فلانا من كيسي مائة درهم فلم يوجد في كيسه شيء يعطى مائة درهم فلم تبطل الوصية لأنه قصد إعطاءه مائة درهم وظنها في الكيس فإذا لم تكن في الكيس أعطي من غيره
فكذلك تخرج الوصية بعبد من عبيده فإذا لم يكن له عبيد أن يشترى من تركته عبد ويعطى إياه
انتهى
وما نقله ابن منصور يشهد لمسألتنا وقد يفرق بينها ويفرق بين مسألة العبيد وما نقله ابن منصور عن أحمد وذلك لأن وزان مسألة العبيد أن يقول اعطوه ألفا من دراهمي التي في الكيس والمنقول عن أحمد ليس كذلك وإنما قال أعطوه ألفا من الكيس والإعطاء من الكيس ليس بمقصود فنظيره أن يقول أعطوه عبدا من الدار ومن المسجد فهذا يفارق تلك مسألة العبيد ومسألتنا ونعلم أنه لا تعلق بنص أحمد لا في هذه ولا في هذه والمعنى في الفرق أن وجود الدراهم في تركته يقتضي صحة الوصية فإن الموصى به جزء منها وإنما جعل الكيس محل ابتداء تمام الإعطاء فالموصى به شيء موجود
ولو قال بألف درهم من دراهمي التي في الكيس فلم يكن فيه دراهم كان ذلك نظير مسألة العبيد لأن الموصى به غير موجود وأما أصحابنا فقد خرجوا القول بأنه إذا قال أعطوه رأسا من رقيقي ولا كان له رقيق يوم الوصية ولا يوم الموت أن الوصية باطلة
الذي أقول إن ذلك يخالف الوصية بالوقف فإن الوصية بالوقف المقصود منه منفعة الموقوف عليه لا سيما ما نحن فيه لأن الموصي المذكور شرع في بناء المسجد والتربة وتحصيل وقف لهما وأنفق منه إنفاق الضيعة المذكورة عليها بعد أن أخرج من ماله مبلغا وأرصده لجهة الوقف ليشتري به ما يوقفه فلا شك أن غرضه
____________________
(2/261)
الأعظم تحصيل وقف أي وقف كان ونص على الضيعة المذكورة بظنه أنها له
وأما من يقول أعطوه داري الفلانية وتبين أنها له وأعطوه عبدا من عبيدي وتبين أنه لا عبيد له فالغرض الأعظم فيه وفيما اشترى من الوصايا إخراج جزء من المال صدقة بعد الموت وتعين المصرف من ذلك أو غيره بقصر وقصد دون قصد الأول فبان الفرق بين الآخرين الأعظم في الموضعين وهما الوقف المؤبد والوصية المعجلة
والوصية بالوقف المؤبد أيضا تنقسم إلى ما يظهر غرض الواقف في إيثار جهة الموقوف عليه وإلى ما يظهر غرضه في إخراج شيء من التركة صدقة وتجعل وقفا
والقسم الأول أقوى في غرض البقاء والنظر إلى المالية لا إلى غير المنصوص عليه وهو الذي نتكلم عليه ليقوى قوة قوية أنه متى تعذر وقف الضيعة المذكور يشترى من التركة ما يقوم مقامها ولا يفرق برد ذلك إلى الورثة أيضا لا في الوصية بل يشترى محافظة على قصده وكذا ينبغي أن يشترى ما يكون مثل المنصوص عليه أو أجود من العقار ولا يشترى من العقار أدون من المنصوص عليه محافظة على غرضه بقدر الإمكان
واعلم يا أخي أن كثيرا من المسائل ترد الفتاوى فيها عن المتقدمين منصوصة في الكتب ويكون المأخذ فيها يختلف باعتبار قصد المتكلم وغرضه وتحصل الأجوبة فيها في الغالب على مقتضى اللفظ وفي بعض الأوقات يحصل الجواب على ما يفهم من القصد كما اتفق فيما حكيناه في هذه المسألة عن أحمد وتقع وقائع جزئية في الأحكام والفتاوى في زماننا يظهر فيها من القرائن الدالة على المقاصد ما لا يمكن التعبير عنه ووضعه في كتب الفقه
مثل مسألتنا هذه فإن القرائن الدالة على قصد واقفها وقفا دائما لتربته ومسجده كثيرة نكاد نقطع بها ولا تحصرها العبارة فإبطال الوصية معها ورد ذلك على الورثة يكاد يقطع ببطلانه هذا ما يتعلق بالضيعة التي وصى بوقفها ظنا منه أنها له
وأما الضيعة التي وصى بأن تشترى وتوقف وتعذر ذلك فقد رأيت في كتب الحنفية في الفتاوى الظهيرية قال ولو أن رجلا أوصى بأن يشترى بهذه الألف ضيعة في موضع كذا وتوقف على المساكين فلم يوجد هناك ضيعة لا يجوز
____________________
(2/262)
للقاضي أن يشتري ضيعة في موضع آخر
قال أبو نصر رحمه الله ليس للوصي أن يصرف ذلك إلى مئونة المساجد وإن لم يجد الضيعة في ذلك الموضع يشتري ضيعة في أقرب المواضع التي سمى ويجعلها وقفا على ما سمى
انتهى كلام الفتاوى الظهيرية
وأنا أختار ما قاله أبو نصر من كونه يشتري ضيعة في أقرب المواضع التي سمى إذا نص على الموضع وقواعد الشافعية تقتضيه ولا تأباه
انتهى
يقع كثيرا في الوصايا أوصت امرأة إلى فلان أن يحتاط على تركتها فيبدأ بمؤونة تجهيزها ويقضي دينها وينفذ وصاياها وقسمة تركتها بين مستحقيها وتوقفت في بعض هذه الألفاظ أما الوصية بالتجهيز وقضاء الدين وتنفيذ الوصايا فصحيحة بلا إشكال وهذا عام في حق المرأة والرجل الذي له أب وغيره وأما كون الوصي يحتاط على تركتها فإن أريد بها ضبطها فصحيح وإن أريد بها وضع يده عليها فيحتمل أن لا يصح لأن الورثة إن كانوا رشداء فقد انتقلت التركة إليهم بالموت على المذهب الصحيح وليس للوصي الانفراد باليد على ملكهم ولا وضع يده على شيء منها بغير إذنهم
وإن كانوا محجورا عليهم فالنظر لوليهم وحال هذا الوصي مع وليهم كحاله مع الرشداء
وأما القسمة فإن أريد بها تميز النصيب وفصل الأمر بالقول فقريب إذا حصل بشروطه وإن أريد وضع اليد يحتمل أن لا يصح لما قلناه وقد قال الأصحاب فيما إذا نصب وصيا لقضاء الدين والوصايا إن الوصي لا يتمكن من إلزام الورثة تسليم التركة لتباع في الدين بل لهم إمساكها وقضاء الدين من مالهم فلو امتنعوا من التسليم والقضاء من عندهم ألزمهم أحد الأمرين هذا إذا أطلق الوصية بقضاء الدين والوصايا
فإن قال ودفع هذا العبد إليه عوضا عن دينه فينبغي أن لا يكون للورثة إمساكه لأن في أعيان الأموال أعراضا
ولو قال بعد واقض الدين من ثمنه فيجوز أن لا يكون لهم الإمساك أيضا لأنه قد يكون أطيب وقال الأصحاب أيضا فيما إذا نصب الأب وصيا في حياة الجد إن كان في أمر الأطفال لم يصح وإن كان في قضاء الدين
____________________
(2/263)
والوصايا صح ويكون حينئذ الوصي أولى من الجد في ذلك ولو لم ينصب وصيا فأبوه أولى بقضاء الدين وأبو الأطفال والحاكم أولى بتنفيذ الوصايا كذا نقله البغوي وغيره واقتصر الرافعي على حكايته وكذلك هو في الأطفال للجد بالشرع وفي الوصايا للحاكم لأن الميت لم يعن وصيا فالأمر للشرع ونائبه الحاكم
وأما الديون فينبغي أن تكون كذلك فيفوضها إلى الجد ولا ولاية له عليها من جهة الشرع ومن جهة الميت فيه نظر
وقد خطر لي في توجيهه أن قضاء الدين حق لنفس الميت لتبرئة ذمته
وقد تعذر نظره فيه بموته وأبوه وليه فيقوم مقامه فيه والوصايا خرج عنها لله تعالى ولم يعين لها من يتولاها فيتولاها نائب الشرع
وقد قرأت على شيخنا ابن الرفعة في جواب فتيا وردت عليه من الشام ومن جملة أسئلتها هل للوصي المذكور إذا ثبتت الديون المذكورة عند الحاكم بطريقها الشرعي أن يبيع التركة مستقلا بنفسه أو بإذن الحاكم لوفاء الديون بغير إذن الورثة أو امتناعهم من وفاء الدين والحالة هذه أو لا يبيعها إلا إن امتنعت الورثة من قضاء الدين بطريقة أو بإذنهم له في البيع إذ هم ملاكها
فقال في الجواب وليس للوصي والحالة هذه كما فرضت في الاستفتاء بيع التركة إذا كانت عقارا أو ما في معناه من العروض التي يمتنع من اقتنائها قبل مراجعة الوارث وتخييره في قضاء الدين إن كان قدر قيمة التركة أو دونها أو يدل ما تقدم من ذكره إن زادت الديون على قيمة التركة والإعراض عن إمساكه التركة لنفسه أما ما عدا ذلك من العروض فكلام بعض الأصحاب يقتضي جواز بيع ذلك للوصي والحالة كما فرضت في الاستفتاء قبل مراجعة الوارث وتخييره ومراجعة الحاكم لأن ذلك لا يحتفل به لكثرة أمثاله وتيسر وجوده
والأشبه عندي أنه لا بد في ذلك من مراجعة الوارث وتخييره في كل التركة ما كانت لأنها أعيان أمواله لكن عند تيسر ذلك فإن لم يتيسر ناب الحاكم في الإذن عنه
ويدل على صحة هذا الاحتمال أن صاحب البحر حكى فيما لو باع الوصي في وفاء الدين متاع البيت يشمل ما يحتفل به وما لا يحتفل به ومقابل الأظهر أن بيعه موقوف فإن بدل الوارث
____________________
(2/264)
قيمة التركة أو قضاء الدين بان بطلانه وإلا فلا وكان يشبه أن يقال فيما إذا أوصى الميت إلى أجنبي بوفاء دينه ولم يتعرض الآذن في بيع التركة أن لا يتسلط الوصي على البيع بحال لإمكان صدور البيع من غيره وتسليم الثمن له فلا يكون إيصاؤه بالوفاء مستلزم للبيع وكيف وقد قال الأصحاب إذا أوصى إليه في شيء لم يكن وصيا في غيره وحينئذ يكون المتولي في البيع هو الوارث إن لم يرغب في إمساك ذلك بالطريق السالف لأن الملك في الرقبة وهو يخرج من ملكه إلى ملك المشتري وإن تعلق بها حق الرقبة لغيره فكانت العين المرهونة ورقبة العبد الجاني بتولي الراهن أو وارثه بيعه وكذا السيد فإن امتنع أو غاب ناب الحاكم عنه في ذلك
والله أعلم
انتهى كلام ابن الرفعة في ذلك
وقوله ولم يتعرض للإذن في بيع ذلك يفهم أنه لو تعرض للإذن في البيع تسلط الوصي عليه بغير إذن الوارث صغيرا كان أو بالغا وهو في البالغ في محل النظر يحتمل أن يقال لا يبيع إلا بإذنه لأن ذلك له ولا وصية عليه ويحتمل أن يقال يبيع بغير إذنه لأن الميت نص على ذلك واستحقاقه للبيع مقدم على حق الوارث ما لم يقض الوارث الدين والأشبه أنه لا بد من استئذانه لكن يفترق الحال فيما إذا لم ينص الميت على البيع ليس له البيع فإن أذن له الوارث كان وكيلا عنه في البيع وعن الميت في قضاء الدين وإن نص له الميت عن البيع كان ولاية البيع له بشرط إذن الوارث أما الاشتراك فلأجل الملك وإلا يصدر البيع من غير مالك ولا وكيل عن المالك ولا ولي عليه
وأما كونه له ولاية البيع فلتفويض الميت إليه ذلك وهو حق للميت ولا شك أن الميت يستحق البيع لتبرأ ذمته ولا يمنع من ذلك ملك الوارث الرقبة فهي غير استحقاق البيع
نعم قد يقال إن غاية ذلك أن يكون الميت كالمرتهن في استحقاقه البيع ولا يلزم من ذلك أن يكون له ولاية البيع بل يطالب المالك فإن امتنع باع الحاكم
لكنا نقول إن هذا زائد على حق المرتهن لأن المرتهن إنما له حق التوثقة والميت كان مالكا للعين والولاية عليها يبيعها ويتصرف فيها ما شاء من التصرفات فانتقلت العين بموته لوارثه مع بقاء حقه فيها الموصل إلى
____________________
(2/265)
وفاء دينه منها فيبقى لها ولاية البيع في ذلك وتوصيته والإيصاء بذلك استيفاء لبعض حق الورثة وبيعه ذلك وإن لم يكن يملك ولا يناب لكنه بولاية من جهة الميت
وليس من شرط الولاية أن تكون على المالك بل هي على العين من جهة الميت لبقاء ذلك الحق له أو يقال إن الميت له ولاية على الوارث لما في ذلك وقد جعله للوصي فللوصي هذا النوع من الولاية عليه وإن كان رشيدا كالحاكم وعنده أقول يظهر من سياق هذا أن يصح الإيصاء بالاحتياط وإن كان من امرأة ومن رجل وارثه إذا كان هذا في دين أو وصية لما فيه من حفظ ذلك والتوصل إليه فله حق الاحتياط نعم لا ينفرد باليد بل يحتاط مع الوارث البالغ فإن تعذر حضور الوارث لم يمنع الوصي من الاحتياط ولا يكون بذلك متعديا بوضع يده ولا ضامنا ويتخيل من هذا أن التركات عليها ثلاثة أيد يد الوارث للملك ويد من يقوم مقام الميت بحق نفسه لتبرئة ذمته وهو حق متمحض للآدمي فإن المغلب في الديون حق الميت وحق الغرماء ولا أقول المغلب بل متمحضة فإن كان فيها حق لله تعالى فلذلك سبق من كلامي قولي المغلب
واليد الثالثة يد القاضي نيابة عن الشرع لحقوق الله تعالى وذلك في الوصايا وإن كان فيها حق الآدمي الموصى له وللميت أيضا لما يحصل له من الأجر ولكن حق الله فيها يغلب لأنها صدقة
وهذه الأيدي الثلاثة على التركة كل واحدة منها على جميعها ولا استحالة في ذلك وليست كأيدي الشركاء التي تكون كل واحدة على حصة بل هذه كل واحد منها على الجميع وليس لأحد منهم منع الآخر وكأنها ثلاثة متطابقة يد الورثة أسفل ويد الوصي فوقها لأنه كالميت وحقه مقدم على حق الورثة ويد القاضي فوقهما لأنها نائبة عن الشرع في كل شيء
وأما القسمة فكذلك أيضا إلا أن يكون الوصي وارثا فلا يتولى القسمة بين نفسه وبقية الورثة بل يرفع الأمر إلى الحاكم لينصب معه من يقسم بينهم كما قال القفال وحاصل ما قدمناه أن حقوق الميت كلها باقية في التركة ما عدا الملك فإنه للوارث مع بقاء حقوق الموروث كلها ما دامت ديونه ووصاياه باقية فلا يصرف وليس للوارث ملك إلا بعدها والوصي قائم مقام الميت فيما أوصى إليه فيه كأنه وكيل عنه في
____________________
(2/266)
حياته والله أعلم
كتبه علي السبكي في ليلة الأحد ثامن شهر الله المحرم سنة خمسين وسبعمائة بالعادلية الكبرى بدمشق
مسألة مثل قوله صلى الله عليه وسلم لسعد وقد قال له أوصي بمالي كله قال لا هل يدل على التحريم أو لا هذه الصيغة أتت في مواضع كهذا الحديث والحديث الثاني أيسلم بعضنا على بعض قال نعم أيصافح بعضنا بعضا قال نعم أينحني بعضنا لبعض قال لا وما أشبه ذلك
وهذا استفهام الأصل فيه أنه استفهام عن الخبر كأنه يقول أيقع هذا أو لا وجوابه في الأصل خبر أيضا بقول يقع أو لا كقولك أيقوم زيد فتقول نعم أو لا ثم قد تأتي قرينة تدل على أن المراد الاستفهام عن الحكم كما في الأحاديث المذكورة فإن القرينة تدل على أن المراد الاستفهام عن الحكم الشرعي أما الوجوب أو الجواز أو الاستحباب وقد يكون استرشادا أيضا فيكون الجواب بلا أو نعم واردا على ما يفهم من السؤال والظاهر في الحديث الثاني أن المراد الاستفهام عن الجواز وكذلك أن الانحناء حرام وقوله نعم في السلام والمصافحة فيه جواز ذلك خاصة واستحبابه من دليل آخر ولا نقدره أمرا بل خبرا وكذا في حديث سعد الظاهر فيه أنه استفهام عن الجواز وكذلك في الثلث قال الثلث والثلث كثير فإن نعم مقدرة فيه ولا نقدره أمرا لأنه ليس مستحبا كقوله إنه كثير وليس بنا ضرورة إلى تقديره أمرا ثم صرفه عن ظاهره
فهذا هو القاعدة في ذلك يبنى عليها مباحث في مواضع كثيرة فافهمها
انتهى
قال رضي الله عنه الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وصحبه وسلم أما بعد فقد جرى الكلام في الوديعة ونحوها من الأمانات إذا مات من هي عنده وهل تصير مضمونة أو لا وأنا أبين ذلك في هذه الأوراق إن شاء الله تعالى مع الاختصار وأوضح الغرض في فصلين أحدهما إذا مات المودع فلم نجد الوديعة عنده ولا علمنا من حالها شيئا هل تلفت بتفريط أو بغير تفريط أو لم تتلف وفي
____________________
(2/267)
ذلك للعلماء ستة مذاهب أحدها أنها والدين سواء وهذا ظاهر نص الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأكثر السلف
والثاني أنها مقدمة على الدين وهو مذهب النخعي في إحدى الروايتين عنه
والثالث أن الدين مقدم عليها وهو قول الحارث العكلي
والرابع أنه لا شيء لصاحبها لأنها أمانة وهو قول ابن أبي ليلى وحكاه الماوردي وجها لأصحابنا
والخامس إن كان في التركة من جنسها ضمنت وإلا فلا وهو قول أبي حامد المروروزي من أصحابنا وحمل كلام الشافعي عليه
والسادس إن كان قال عند الموت عندي وديعة ضمنت ويحمل كلامه على أنه تصرف واستعمل عندي بمعنى علي وإلا فلا وهو قول بعض أصحابنا وحمل نص الشافعي عليه وقد نسب كل من هذين الوجهين إلى أبي إسحاق المروزي بحكايته إياهما وهو مع جمهور الأصحاب رجحوا الضمان مطلقا كما اقتضاه ظاهر نص الشافعي وذكروا له مأخذين أحدهما أن أداء الوديعة واجب والمسقط مشكوك فيه ولا نترك اليقين بالشك ومنع هذا بأن الأداء إنما يجب عند وجودها
والثاني أن الأصل بقاؤها فهو في حكم من وضع وديعة في مكان وجهلناه فيضمنها
والذي قال إن كان في التركة من جنسها ضمنها مأخذه أنه يحتمل أنه الوديعة وأنها اختلطت بجنسها من غير عدوان واختلفوا على هذا هل يتقدم على الغرماء أو يزاحمهم وأنا أختار التقدم وأقول بأنه متى لم يكن في التركة من جنسها لا يضمن لأن في هذا استعمالا لجميع الأصول من كون الوديعة والمودع أمينا لا تنسب إليه خيانة وذمته بريئة والحكم بأن الوديعة باقية ونعني بجنس الوديعة ما كان على صفتها
ويحتمل أنه هي أو بعضها
ومن قال إن قال عند موته عندي وديعة ضمن قد بين مأخذه ولكنا نقول كما يحتمل ذلك يحتمل أنه أقر بناء على ظنه أنها عنده وقد تلفت بغير علمه والأصل براءة الذمة وإقراره لا يقتضي ثبوتها في الذمة فلذلك اخترت القول المتقدم والقول بأنها أمانة مطلقا لا يخفى وجهه ولم أر من حكاه هكذا على الإطلاق إلا الماوردي والأكثرون من الأصحاب يحكون ثلاثة خاصة الأول والخامس والسادس والماوردي حكى أربعة فأدخل الرابع معها
ولم يذكر
____________________
(2/268)
أحد من الأصحاب الثاني والثالث وهما قول النخعي والعكلي فليسا معدودين من مذهب الشافعي وأطلق المتقدمون من أصحابنا الأوجه الثلاثة والأربعة هكذا من تعويض لأن يكون المودع مات فجأة وقتل بغتة أو مات عن مرض بوصية أو غير وصية لم يتعرضوا لشيء من ذلك بنفي ولا إثبات وظاهره جريان الخلاف في جميع هذه الأحوال وسببه ما أشرنا إليه في التعليل وهو جار في الأحوال والمرجح عند الجمهور منه الضمان
والمختار عندي ما ذكرته من التفصيل
وحيث قلنا بالضمان هنا فهو ضمان الفقدان لا ضمان العدوان فقد ينضم إليه سبب عدواني يقتضي الضمان
فحيث قلنا في هذه الأوجه يضمن أو لا يضمن فليس مرادنا إلا من جهة الفقه وقد يجتمع سبب الضمانين وقد يرتفعان وقد يوجد أحدهما بدون الآخر
وهذه المسألة على هذه الصورة لم يتعرض لها الرافعي والغزالي والمتولي والبغوي والشيخ أبو إسحاق في المهذب تعرض للمسألة المتقدمة وذكر الخلاف بين أبي إسحاق وظاهر النص ولكنه فرضه فيما إذا أوصى ووصف الوديعة فلم توجد وصاحب البيان تبعه في التصوير وزاد وجها ثالثا وهو القول بعدم الضمان وصححه ولم يذكر النص وذكر وجه أبي إسحاق على زعمه المفصل بين أن يوجد في التركة جنسها أو لا
ووجه المروذي فإن أراد ما أراده الأولون من الضمان بسبب فقدها من التركة فهو في حكاية عدم الضمان موافق للماوردي وهو في تصحيحه مخالف للجمهور وإن أراد الضمان بسبب الوصية فهو فرضه فيما إذا أوصى ووصف فكيف تأتي الثلاثة أوجه والرافعي والبغوي والمتولي والإمام ذكروا المسألة في الوصية وتركها وذكروا الخلاف بين أبي إسحاق وغيره وكلامهم يقتضي أن التضمين سبب ترك الإيصاء والمعروف من الخلاف بين أبي إسحاق والأصحاب إنما هو بسبب الفقد فكأنهم جمعوا المسألتين والصواب التمييز بينهما وذكروا الخلاف بين أبي إسحاق وغيره فيما إذا ذكر جنس الوديعة ولم يصفها فلم توجد في تركته قال الجمهور يضمن خلافا لأبي إسحاق
فإن كان الرافعي يثبت هذا الخلاف إذا وصفها أيضا ولم توجد ويقول إنه لا فرق بين أن يوصي في الصحة أو في المرض فهو مقتضى نص الشافعي الذي حكيناه من غير فرق
____________________
(2/269)
وإن كان لا يثبته إذا وصفها بل يجزم بعدم التضمين فلا وجه له إلا أنه لم يقض بذلك إذا كانت الوديعة حاصلة عنده حين الإيصاء وليس فيه تعرض لحكم ضمانها إذا جهلنا هل كانت موجودة حين الإيصاء وهو الذي اقتضى إطلاق النص التضمين فيه
واعلم أنه إذا اقتصر على الجنس فقال عندي ثوب لفلان ولم يوجد في تركته ثوب قال الرافعي يضمن عند عامة الأصحاب خلافا لأبي إسحاق فإن كان التضمين لأجل التقصير بترك الوصف فالتقصير إنما يكون إذا كان عنده ما يشاركه في ذلك الجنس حتى يحصل عدم التمييز بسببه وإذا لم يوجد في تركته ثوب آخر لم يحصل ذلك فصار اشتراط الوصف لنفي الضمان لا معنى له
ثم ليت شعري أي وصف يشترط وما ضابط الأوصاف التي يجب ذكرها والذي يتجه أنه متى ذكر ما يتميز به زال التقصير ومجرد الجنس حيث لا يكون عنده منه غير ما يحصل به ذلك يوجب أنه إذا لم يوجد في التركة يكون كما لو وصف ولم يوجد ويكون الحكم فيهما في الحالتين واحدا إما الضمان وإما عدم الضمان
ولتعلم أنا قدمنا في مأخذ التضمين عند الفقد جعله جهل الوديعة وعلى هذا يكون ضمان عدوان فنقيم عذرا للرافعي ومن سبقه في جعل المسألة واحدة ولكنه قد يشكل عليهم لأنهم جازمون فيما إذا مات فجأة بعدم الضمان ولا جواب عنه إلا أن الروياني قيد ذلك بما إذا هلكت بعد ذلك وهو تقييد حسن يجب حمل كلام الرافعي ويزول عنه الإشكال ومتى جعلنا المأخذ التجهيل بسبب وضعها في مكان لا يعلم اقتضى الضمان وإن مات فجأة يترتب عليه أنها إذا تلفت عقب موته وعلمنا بها حكم بضمانها لتركه الإيصاء وإنما نقول لا يضمن إذا كنا قد علمنا بها ومات فجأة وتلفت بعده أو ملنا بأن مأخذ التضمين جعلها موجودة إذا كان جنسها موجودة وحكمنا بأن هو الوديعة فيقدم به على الغرماء ومن قال يزاحم الغرماء يضطر إلى أن يجعل سببه التجهيل المبين للضمان قبيل الموت فيتحد مع مسألة ترك الوصية
الفصل الثاني إذا مات وتحققنا تلفها بعد الموت أو قبله فإن كان قد مات فجأة وتلفت عقب موته فلا ضمان قطعا لا ضمان عدوان وإن سبب ترك الوصية لأنه
____________________
(2/270)
لا تقصير منه ولا تسبب فقد لأنها لم تفقد بل وجدت ثم تحقق تلفها فهي كما لو تلفت في حياته بغير تفريط فلا ضمان فيها
وإن مات عن مرض فقد قال المتأخرون من الأصحاب المراوزة والرافعي إن ترك الإيصاء تقصير مضمن
ومحل كلامهم في ذلك إذا كان المرض مخوفا أو عجز عن الرد إلى المالك أو إلى وكيله وكذا إلى الحاكم على أحد الوجهين
وقال البغوي مع القدرة على الرد إلى المالك بخلاف السفر والأكثرون جعلوا حكمه حكم السفر فأوجبوا الرد عند القدرة وحيث عجز عن الرد على قول الجمهور أو لم يعجز على قول البغوي فيوصي قال هؤلاء فإن لم يوص صار ضامنا وهذا الضمان يستند إلى قبل الموت على ما قاله الإمام يعني إذا تلف بعد موته يستند ضمانها إلى قبل موته كما لو حفر بئرا فتردى فيها شخص بعد موته
وهذا صحيح لأنه مفرط بترك الوصية حامل للورثة على قسمتها في التركة قال الرافعي إنه يتبين الضمان من أول المرض
ولم أر هذا لغير الرافعي ويلزم عليه أنها إذا تلفت بغير تفريط في مدة المرض أن تكون من ضمانه وهو بعيد لأن الموت كالسفر فلا يتحقق الضمان إلا به ويحتمل أن يجري في ذلك خلاف لأن الأمر بالرد عند الإمكان وبالوصية عند العجز أو على رأي البغوي عند الإمكان أيضا موسع غايته الموت فيشبه الحج وفي الحج إذا تركه من مضى عليه سنون وهو قادر خلاف هل يقضي من أول زمن الإمكان أو من آخره
والصحيح أنه من آخره فإن قلنا من أوله فهو يوافق القول هنا بأن الضمان من أول المرض وإلا فينبغي أن يكون قبيل الموت بزمان لا يمكن فيه الوصية أو الرد على كل تقدير حيث حكمنا هنا بالضمان فهو ضمان العدوان وتضمينه يتلفها بعد موته لأنه انعزل بالموت وتلفت في حكم يده بغير وديعة فيضمن ولا يتأتى في هذا خلاف
وإن قلنا بأنها إذا لم توجد في تركته لا يضمن لأن ذلك للجهل على أنها تلفت في حياته على حكم الأمانة وهذا منتف هاهنا
نعم هذا شرطه أن نكون تحققنا وجودها عند الموت فلو لم نتحقق ذلك واحتمل أن تكون تلفت بغير تفريط قبل المرض فتجيء المسألة المتقدمة إذا مات ولم نجدها في التركة فتأتي فيها الأوجه الأربعة وقد ذكر الإمام في النهاية
____________________
(2/271)
في ذلك صورتين إحداهما إذا ادعت الورثة التلف قبل أن ينسب إلى تقصير بترك الوصية ورتبه على الخلاف بين أبي إسحاق وغيره
وقال إن الأولى عدم الضمان يعني إذا ادعوا ذلك وأرادوا أن يحلفوا عليه أما إذا أقاموا بينة بتلفها قبل المرض فلا ضمان قطعا
الثانية إذا لم يجزم الورثة بدعوى التلف ولكن قالوا لعلها تلفت قبل أن ينسب إلى التقصير وقال إن الأصح أن في هذه الصورة الضمان والرافعي نقل عنه في هذه الصورة أن الظاهر براءة الذمة وليس كما نقل وكان الرافعي طالع أول كلام النهاية دون آخره
وقال الإمام إن الأصح في الصورة الأخيرة الضمان إما أن يكون موافقا لنص الشافعي والجمهور وإما أن يكون مأخذه إن تحققنا ترك الإيصاء وهو سبب ظاهر في نسبته إلى التقصير فلا نسقطه في الشك والأقرب الأول وأنه وافق ظاهر النص
وقوله في الصورة المتقدمة إذا ادعوا التلف أن الأولى عدم الضمان لعل مستندهم أن نقيمهم مقام مورثهم في دعوى التلف ونقبل قولهم فيه بيمينهم إذا نسبوه إلى حياة المودع وإن لم يكونوا مؤتمنين وفيه نظر والأقرب أنه لا يقبل قولهم لدعوى لو قالوا رده عليك مورثنا
واعلم أن المتولي ذكر فيما إذا ادعى الورثة أن مورثهم رد الوديعة أو تلفت في حياته أنه لا يقبل قولهم إلا ببينة قال البغوي يقبل قولهم
وقال الرافعي إنه الأوجه لأنهم لم يعرفوا بدخولها في أيديهم
قلت وما قاله المتولي أصح لأنه لم يأتمنهم وذكر المتولي فيما إذا مات من عنده وديعة فجأة ولم توجد في تركته أن القول قول الورثة في أنه لا يستحق عليهم تسليم شيء مما في أيديهم
وفي التوفيق بين ما قاله في المسألتين نظر وإنما يصح ما قاله في هذه ويجمع بينه وبين الأولى إذا أنكروا أصل الإيداع وقد تلخص من هذا أنها إذا لم توص مع علمنا بأنها كانت عند المرض ثم لم نجدها بعد موته فهو ضامن بلا خلاف بسبب التقصير وضامن أيضا بسبب الفقد وإن لم يعلم بوجودها عند المرض فليس ضامنا بالسبب الأول وفي ضمانه بالثاني ما سبق أما إذا أوصى فإن أوصى إلى غير عدل ضمن إن سلمها إليه وقيل يضمن بمجرد الإيصاء إليه وإن لم يسلم وإن وصى إلى عدل واقتصر على قوله عندي وديعة لفلان فهو كما لو لم يوص
____________________
(2/272)
وإن وصفها وميزها فإن لم توجد في التركة فلا ضمان بسبب التقصير قطعا وفي ضمانها بسبب الفقد الخلاف السابق
ولهذا لم يذكر الرافعي الخلاف في ضمانها لأنه لم يتكلم إلا في ضمان التقصير وذكره الشيخ في المهذب وغيره وإن لم يصفها بل اقتصر على جنسها فقال عندي ثوب
قال الرافعي فإن لم يوجد في تركته جنس الثوب ضمن في ظاهر المذهب عند عامة الأصحاب
وقال أبو إسحاق لا يضمن
وهو الذي أورد الغزالي
وهذا من الرافعي لعل مستنده أنهم نقلوا عن أبي إسحاق التفصيل بين أن يكون في التركة جنسها أو لا واقتضى كلامهم أنه لا فرق بين أن يكون أقر بذلك عند موته أو قبل ذلك ومن ذلك يوجد خلافه في هذه المسألة فيصح نقل الرافعي عنه على هذا بطريق التوكيد لا لأن أبا إسحاق تكلم في هذه المسألة بخصوصها ومع هذا كلام أبي إسحاق في الضمان بسبب الفقد وكلام الرافعي إنما هو في الضمان بسبب التقصير
ثم قال الرافعي إن وجد في تركته جنسه بأن وجد أثواب ضمن وهذا الذي قطع به في الضمان فيه نظر وقياس قول أبي إسحاق أنه يعطى واحدا منها لأنا لم نتحقق تجهيله فقد يكون غيره خلطه به فبأي شيء ننقله من الأمانة إلى ضمان الذمة وضمان الفقد متعذر لأن الفقد لم يوجد
وأبو إسحاق يجعل وجود الجنس كوجود الوديعة
ثم قال الرافعي وإن وجد ثوب واحد ففي التتمة والتهذيب أنه ينزل عليه واستحسن أنه يضمن ولا يتعين أما الضمان فللتقصير
واعلم أن قياس قول أبي إسحاق فإنما ضمنوه بالفقد والفقد هنا لم يتحقق فالأولى جعل الموجود هو الوديعة ثم قال الرافعي وفي المسألة وجه أنه إنما يضمن إذا قال عندي ثوب لفلان وذكر معه ما يقتضي الضمان فإن اقتصر عليه فلا ضمان هذا صحيح في أصل المسألة في ضمان الفقد أما ضمان العدوان بترك الإيصاء فلا يعرف هذا الوجه محكيا
والله أعلم
مسألة اشتهر عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يسوي في العطاء
وعن عمر رضي الله عنه أنه يعطي بحسب الفضائل
وخطر لي أنه لا اختلاف
____________________
(2/273)
بينهما وإنما عمر رضي الله عنه كثرت الفتوح والأموال في زمانه وهو رضي الله عنه يسد خلل المحتاجين عنهم وبعد كفاية المحتاجين لو حصلت التسوية في الزائد بين الفاضل والمفضول كان الصرف إلى المفضول ما زاد من كفايته بغير استحقاق وحرمان الفاضل شيئا بغير حاجة غيره إليه يحسن لحقه فاقتضت الحالة التفضيل
وفي زمان أبي بكر رضي الله عنه لم تكن فتوح وكانت الأرزاق قليلة فلو أعطى الفاضل ما يستحقه لبقي المفضول المحتاج جائعا وكفايته واجبة ففعل كل منهما في زمانه ما اقتضاه حاله وزمانه وكل منهما يرى أن الدنيا بلاغ وأن الفضائل تحال أجزاؤها على الآخرة التي هي خير وأبقى
ورتبت على هذا البحث أنه ينبغي للناظر في المصالح النظر في ذلك فإذا كان زمان شديد على الناس يقدم سد الخلات على كل شيء مهما أمكنه وبعدها ينظر في الفضائل لئلا يضيع المحتاجون
وهذا في الأحوال العامة أما التي هي مشروطة بوصف فلا بد من حصول ذلك الوصف وقد يكون لذلك الوصف مراتب أدنى وأعلى فتقتضي الحاجة الاكتفاء بالأدنى وعند عدم الحاجة لا يكتفي بالأدنى ويطلب الأعلى ووقتنا هذا وقت صعب على الناس فأنا أميل فيه إلى سد الخلات ما أمكن انتهى
قوله صلى الله عليه وسلم لا تقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة فيه مسائل الأولى لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث
فقوله ورثتي إما أن يقال ورثتي بالقوة لو كنت ممن أورث
وإما أن يقال لا يلزم من الورثة أن يرثوا حتى يجدوا ما يرثونه وجميع ماله صلى الله عليه وسلم انتقل عنه بعد موته لقوله ما تركناه فهو صدقة فيكون ورثته بمنزلة ورثة غيره الذين لم يجدوا ما يرثونه وإما أن يقال إنهم إنما سلبوا الورثة بهذا الحديث بتمامه فسماهم ورثة باعتبارهم حينئذ ثم سلب عنهم الإرث بتمام الحديث لأن الكلام إنما يثبت حكمه بتمامه
وإما أن يقال إن الثالثة المحصلة لا يقتضى وجود موضوعها فلا تقتضي الصيغة المذكورة وجود ورثة
وإن صح هذا فيؤخذ منه أنه لا فرق بين المنكر والمضاف وفيه نظر لأنك إذا قلت لا يقوم ابن زيد يفهم منه أن زيدا له ابن وصدق هذا الكلام بكون زيد لا ابن له لا يفهمه أهل العرف إلا أن
____________________
(2/274)
العلماء ذكروه في على لاحب لا يهتدى بمناره وهو مضاف وإما أن يقال المراد لا يقتسم ما أتركه لجهة الإرث فإنك إذا قلت لا يقتسم أولادي درهما كان نفيا عاما للاقتسام عن الإرث وعن غيره وليس هذا المقصود فالمقصود نفي الاقتسام عن جهة الإرث فلذلك أتى بلفظ ورثتي ليكون الحكم معللا بما به الاشتقاق وهو الإرث فالمنفي اقتسامهم بالإرث
ويترتب على هذه المباحث مسألة فقهية وهي أن إرث غير المال هل يثبت كالمطالبة بالحق والعفو عنه ولا شك أن المال لا يورث عنه صلى الله عليه وسلم لقوله لا يقتسم ورثتي دينارا ومما صح أنه صلى الله عليه وسلم لم يترك دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة وإنما ترك أرضا جعلها صدقة
وبقوله صلى الله عليه وسلم إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما أما غير المال فقد يقال إنه لا يورث أيضا لعموم قوله إنا معاشر الأنبياء لا نورث وبقوله إنما ورثوا العلم
إن قام الدليل على إنما للحصر وقد يقال نورث وإنما ليست للحصر وقوله لا نورث يحمل على المال
والمسألة التي أشار إليها ذكرها الإمام الغزالي فيما لو قال عفى بعض بني أعمامه عن المفترض ولي طلبه
ورجحت في كتاب السيف المسلول أن الإرث ليس إلا في العلم وأن الحقوق كالمال لا تورث
ثم الذي قاله الإمام والغزالي إذا ثبت الوجه الذي أشار إليه لا يجري في هذا الزمان إلا في أولاد العباس لأن العباس هو الذي كان عاصبا في ذلك الوقت وفي أولاد فاطمة لما انتقل إليهم من أمهم أما بقية بني أعمامه فلا ما دام الحسينيون والحسنيون والعباسيون موجودين وعلى تفريعه ينبغي أنه لا يثبت ذلك لشخص مع وجود من يدلي به وقيل هذا من تفريع الوجه الضعيف ولكنه مع ضعفه يتأيد بقوله صلى الله عليه وسلم ورثتي سماهم ورثة ووراثة العلم لا تختص بهم هو الحق
المسألة الثانية ذكر النفقة للنساء والمؤنة للعامل يحتاج إلى معرفة مدلول النفقة ومدلول المؤنة فإن كانا واحدا فلم غاير بينهما وإن كانا مختلفين فتبين اختلافهما ثم سبب اختصاص كل منهما بما خص به من جهة المعنى
والجواب قد قيل في بعض الروايات ذكر المؤنة في النساء فلا فرق وأما على الرواية التي ذكرناها فقد رأيت في كلام اللغويين
____________________
(2/275)
وأنه إذا قام لكفايته وأنفق الشيء على أهله إذا فوتهم به وهذا يقتضي أن النفقة دون المؤنة فإن صح هذا فيحتمل الفرق بين الجهتين بأن النبي صلى الله عليه وسلم لكمال زهده ورغبته عن الدنيا في حق نفسه ومن يختص به أزواجه رضوان الله عليهم لاختيارهم الله ورسوله والدار الآخرة وإعراضهم عن إرادة الحياة الدنيا وزينتها مع إباحتها لهن لتمكينهن منها وتقريرهن عليها لو أردنها فكانت رتبتهن أعظم المراتب فاختير لهن النفقة التي قدمها بالضرورة والقوت وذخر نصيبهن للآخرة ليوفين أجورهن مرتين ولشفقته على الخلق وعلمه بأن ليس كل النفوس تصبر على الضيق جعل للعامل كفايته لئلا تضيق نفسه وهو ليس بمعين بخلاف الزوجات اللواتي خبر حالهن وأيضا فالذي أخذه أجرة عمل هذا الذي خطر لي في ذلك إن صحت الرواية التي ذكرناها بهذا اللفظ من غير تغيير من الرواة ورواية بالمعنى فإن الحديث في البخاري والعلم عند الله تعالى
وقد قال تعالى ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة وقال تعالى والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ففي الآيتين دليل على انقسام النفقة إلى القليل والكثير ولا شك في ذلك ولكنا نقول النفقة اسم لما يخرج والمؤنة قد تدخر فلم يجعل صلى الله عليه وسلم لنسائه إلا قدر ما يخرجنه ليكن على أفضل الحالات وأكملها من الزهد والتجرد عن الدنيا والتبتل للآخرة وجعل للعامل ما يمونه وقد يدخره لأنه لا يقوى على ما يقوى عليه بيت النبوة ولأنه أجرة عمل
ولا يرد على هذا أن عمر رضي الله عنه كان يفضل عائشة في العطاء لأنه فعل رضي الله عنه ما يجب عليه من تعظيم من يحبه النبي صلى الله عليه وسلم وهي تفعل ما يليق بها فلم تكن تدخر شيئا رضي الله عنها وعن أبيها وكذا بقية النساء يجب علينا تفضيلهن وتفضيل قسمهن لشرفهن وهن يفعلن ما يليق بهن من الزهادة وما اختاره لهن صلى الله عليه وسلم فاختياره لهن شيء واختيارهن لأنفسهن شيء واختيارنا نحن لهن شيء ولا يعوض أحد الشيئين الآخر
وهكذا يجب على ولاة الأمور في حق العلماء والزهاد أن يكرموهم ويفضلوهم ثم هم يختارون لأنفسهم ما يرونه بما يليق بعلمهم وزهدهم عند الله تعالى
وهذا ظاهر
____________________
(2/276)
ولكنا أطلنا فيه لئلا يقول جاهل إنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل لهن النفقة فينبغي لنا أن نقتصر على ذلك
ثم إنا نقول إنه يجب لهن النفقة والكسوة وسائر ما يحتجن إليه وكل ذلك يدخل في اسم النفقة ولهن أن يدخرن كفايتهن سنة وإذا ثبت الحديث الآخر الذي فيه مؤنة نسائي فيحمل على أن اللفظين ثابتان وأنه صلى الله عليه وسلم تكلم بهما مرتين فمرة ذكر المؤنة ليعرفنا أن الواجب لهن ذلك ومرة ذكر النفقة لينبههن على الزهادة والاقتصاد وهكذا ينبغي لمن أنعم الله عليه وأوسع عليه في الرزق أن يفهم عن الله تعالى فلا يدخره ويكنزه بل ينفق منه على نفسه قدر الضرورة ويصرف الباقي في وجوه الخير فيكون زاهدا وإن كانت الدنيا في يده وفقير أو كان غنيا وصابرا شاكرا
والله الموفق
ويحتمل أيضا أنه إنما اختير لفظ النفقة في النساء لأنها نفقة الزوجية لأنهن يمنعن التزوج بعده فجعلت نفقة الزوجية بعده باقية عليهن إلى حين موتهن ولا شك أنه قد عهد في حال الزوجية اسم النفقة دون اسم المؤنة
ومن هذا المعنى قال بعض العلماء إن استحقاقهن للسكنى كاستحقاق المعتدة لأن جميع العمر في حقهن بمثابة زمان العدة في حق غيرهن لحرمة تزوجهن وإن اختلف سبب الحرمة ففي حق غيرهن براءة الرحم وفي حقهن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهن لأنهن أمهات المؤمنين
مسألة من الفيوم في سنة ثمان وثلاثين محجور عليه بالسفه تزوج امرأة بإذن وليه وسمى لها مهرا حالا ومؤجلا ولم يقدر إلا على بعض الحال فأبت أن تسلم نفسها إلا أن تقبض الحال كله وهو مضرور إلى النكاح ويخاف العنت ووجد امرأة هل يجوز له أن يتزوجها مع بقاء الأولى في عصمته
الجواب إذا ظهر للولي حاجته ولم يكن له قدرة على أداء الحال ولم ترض بتسليم نفسها بدونه وكان فراقها يترتب عليه مفسدة به ولا يتوقع المطاوعة ولا القدرة قبل اشتداد الحاجة إلى الوطء جاز له أن يزوجه من تندفع بها حاجته فإن الأصحاب اختلفوا هل يزوج السفيه بالمصلحة أو بالحاجة فإن قلنا بالمصلحة فلا
____________________
(2/277)
إشكال وإن قلنا بالحاجة وهو قول الأكثرين فقد بنوا عليه أنه لا يزوج أكثر من واحدة وهذا محمول على ما إذا كان يخاف العنت وتحته حرة لا تصلح للاستمتاع هل له نكاح الأمة وجهان أصحهما عند العراقيين الجواز وعند الإمام والغزالي والبغوي المنع وقال الرافعي في المحرر إنه أحوط فعلى الأول لا إشكال في الجواز هنا أيضا وعلى الثاني يحتمل أن يقال بالمنع ويحتمل أن يقال بالجواز ويفرق بأن محذور رق الولد أشد في نظر الشرع
وقول الرافعي في المحرر إن الأحوط المنع لعل مأخذه أنه تعارض عنده دليل الحظر ودليل الإباحة فغلب الحظر وإلا فلا يقال في إثبات حكم من حكمين متضادين إنه أحوط ولم يعتمد النووي في المنهاج هذا بل قال لا ينكح الحر أمة إلا بشروط أن لا يكون تحته حرة تصلح للاستمتاع وقيل أو لا تصلح
وهذا يقتضي أن النووي يرى أنه يجوز كما هو رأي العراقيين ولم يبين أنه من إفاداته لأن قوله الأحوط لا يقتضي تصحيحا وعلى الجملة المنع من نكاح الأمة إذا قيل به لأنه مستطيع فلا يدخل تحت النص بل يقتضي مفهوم النص منعه وليس في السفيه نص يقتضي المنع والله أعلم
فائدة مذهب الحنفية تزويج الصغار ولكن بشرط أن يصرح السلطان في تقليد القاضي بذلك فنشأ لنا عن ذلك بحثان أحدهما إذا كان السلطان شافعيا لا يرى تزويج الصغار هل له أن يولي حنفيا وجهان الصحيح الجواز وإذا قلنا به فهل يمتنع له أن ينص على تزويج الصغار لأنه لا يرى فكيف ينص عليه أو يجوز له لم أر فيه نقلا وإلا فهو كالأول
ووجه احتمال الثاني أنه قد يأذن أن يزوج على مذهبه لأنه لم يقطع بخطئه وهل للقاضي الشافعي أن يأذن لحنفي في تزويج صغيرة تحت نظره يحتمل أن يقال يجوز لأنه الناظر في الأمور كالسلطان فيأتي فيه ما قلناه في السلطان الشافعي ويحتمل أن يقال لا لأنه لا يراه فلا ينص عليه بخلاف استنابته حنفيا من حيث الجملة
وهذان لم أر أحدا خرجهما غيري والذي وجدته في ذلك تصنيف كمال الدين التفليسي في أن عقد الحنفي هل هو حكم أو لا والكلام فيه معروف ولم يتعرض هو ولا غيره لهذين البحثين مع أن
____________________
(2/278)
ذلك الوقت لم يكن قاض حنفي وإنما الحنفي الذي يزوجها كان نائبا عن ابن سني الدولة القاضي الشافعي بدمشق
والله أعلم
مسألة أسلم الحر على أربع إماء وأسلم معه ثنتان وتخلف ثنتان فعتقت واحدة من المتقدمتين ثم أسلمت المتخلفتان على الرق اندفع نكاحهما وفاقا للغزالي والرافعي وخلافا للإمام والفوراني وابن الصلاح لأن تحت زوجهما عتيقة عند اجتماع إسلامهما وإسلام الزوج ولا تندفع الرقيقة المتقدمة لأن عتق صاحبتها كان بعد اجتماع إسلامهما وإسلام الزوج فلا يؤيد في حقها بل يختار واحدة منهما وإنما قلنا ذلك لأن الضابط أنه إذا اقترن بحالة الإسلام مانع يمنع ابتداء النكاح امتنع التقرير وحال إسلام المتخلفتين اقترن به حرية إحدى المتقدمتين وهي مانعة من ابتداء النكاح على الرقيقة فيمتنع التقرير على الرقيقتين المتخلفتين
فإن قلت المعتبر في الضابط إنما هو إذا اقترن بحال إسلامه وحال إسلامه لم يكن تحته حرة قلت لو كان كذلك لكان إذا أسلم وتحته حرة وإماء وأسلمت الحرة معه يندفع نكاح الإماء بمجرد ذلك لأنه حينئذ يمتنع عقده على الإماء وليس كذلك بل ينتظر زمان العدة فإن أسلمت الإماء فيه بعد ما عتقن يتخير
فهذا يدلنا على أنه لا بد من النظر إلى إسلام الزوجة أيضا فما كان مانعا عنده من الابتداء منع من الدوام والقدرة على الحرة مانعة من ابتدائه وهو حاصل في مسألتنا فمنع من الدوام كما قاله الغزالي وهذا بين لا شك فيه
وقد صرح الأصحاب بأن الاعتبار بحالة الاختيار وهي حالة اجتماع إسلامه وإسلام من يختارها والمتخلفتان لم يجتمع إسلامهما مع إسلامه إلا وهو قادر على حرة فلا يكون له أن يختارهما ولا واحدة منهما
وهذا ظاهر لا شك فيه ولا نقول بأن مجرد عتق إحدى المتقدمتين يندفع نكاح المتخلفتين لاحتمال أن يعتقا ثم يسلما فيكون له الاختيار فيهما أيضا لمقارنة إسلامهما لحريتهما وإنما يندفعان إذا أسلمتا وهما على الرق وإن كان في العدة لأنه حينئذ تعذر التقرير وإنما قلنا لا تندفع الرقيقة المتقدمة بعتق صاحبتها بعد الإسلام لأن عند إسلامهما وإسلام الزوج لم تكن حرة فهي مثل صاحبتها في الرق فتقرر
____________________
(2/279)
نكاحهما وكان حدوث العتق على إحدى اثنتين في دوام النكاح تحت عبد لا يدفع الاختيار وقول الأصحاب إن حدوث العتق بعد الإسلام لا أثر له يريدون به في الماضي بالنسبة إلى من تقدم إسلامه من الزوجات أما بالنسبة إلى البواقي فلا
والإمام تمسك بذلك الإطلاق وكذلك الفوراني وابن الصلاح وليس كذلك لا دليل يعضده ومن أين لنا هذا الإطلاق ونحن إنما نقول لا أثر له في الماضي وله أثر في المستقبل لما ذكرناه من الضابط طردا وعكسا على أن لنا أن نقول بالإطلاق المذكور مع استيفاء الداعي لأن اندفاع المتخلفتين ليس من أثر العتق بمعنى أن العتق بخصوصه فيحمل إطلاق الأصحاب على ذلك فقد صح كلام الغزالي وقوي جدا ولا نقول إن كلام الإمام والفوراني باطل قطعا بل هو محتمل له اتجاه قليل ولكن الأرجح ما قاله الغزالي
وقد بالغ ابن الصلاح في الرد على الغزالي فنسبه إلى السهو وقال إن ذلك ليس اختيارا له نعتمده وصوابه أنه لا يندفع نكاح المتخلفتين بل يتخير بين الأربع قال وقد يتكلف المتكلف له تأويلا بأن يقول أراد بما إذا اختار العتيقة قبل إسلام المتخلفتين ووافقه ابن الرفعة على أنا نلاحظ وقت الاجتماع في الإسلام قال لكن لقائل أن يقول لعل الغزالي لاحظ أن وقت الاختيار للحرة وإمكانه كنفس اختيارها كما قال ابن الحداد فيما إذا كان تحته أختان فطلق إحداهما ثلاثا ثم أسلموا فاختار إحداهما للنكاح وكان كالاختيار في التسيطر وكما قال أبو الطيب لابن الصباغ فيمن أسلم على إماء وأسلمت معه واحدة وهو موسر ثم أسلمت الباقيات بعد إعساره لم يكن له أن يختار واحدة منهن لأن إسلام الأولى حصل وقت الاختيار لها فكان كاختيارها ثم اعترض ذلك وأجاب وقال إنه بحث حسن حركته لننظر فيه
انتهى كلام ابن الرفعة وهو تكلف مستغنى عنه لما قدمته والله أعلم
فإن قلت لم لا يجعل ابتداء إسلامه بمنزلة العقد على الأربع فيكون عقد إحدى المتقدمتين بعد إسلامهما حادثا في الدوام لا في الابتداء فلا يؤثر في دوام المتخلفتين إذا أسلمتا
قلت لهذا وغيره قلنا إن كلام الإمام محتمل وليس باطلا قطعا ولكن هذا ضعيف لأنهما إذا أصرتا
____________________
(2/280)
على الشرك بان لنا اندفاع نكاحهما بالإسلام ولا نقول إنا نقدر ورود العقد عليهما ثم نرفعه
والله أعلم
فإن قلت هل صورة المسألة فيما إذا كان الرجل حرا أو عبدا فلا فرق
قلت الذي تكلمنا فيه إنما هو فيما إذا كان حرا وهو الذي يقتضيه كلام من حكينا كلامهم لأنهم تكلموا في ذلك ثم تكلموا بعده في حكم العبيد أما العبد فلا يستمر ذلك في حقه لأنه يجوز له نكاح الأمة مع القدرة على الحرة ولولا ما وجدناه في كلام الإمام من ذكره الحرة في المسألة لكنا نوفق بين الكلامين ونحمل كلامه على العبد وكلام الغزالي على الحر ولكن منعنا منه ما ذكرناه والحق فيها مع الغزالي والرافعي وبلغني عن الشيخ برهان الدين الفزاري أنه قال هذا الموضع غلط في الرافعي
وكان الشيخ برهان الدين تبع في ذلك ابن الصلاح والحق ما ذكرناه ولولا الأدب كنت أقطع به وأقول إن ما قاله الإمام وهم ولعل الرافعي لم يقف عليه ولو وقف لنبه على مخالفته وحاصل النظر في هذه المسألة وأشباهها أن ما يستقر الحال عند انقضاء العدة ويبقيه من الزوجات وما يندفع منهن بنفس إسلامه فيستقر ما يعلم الله أنه يستقر ويندفع ما يعلم الله أنه يندفع هذا لا شك فيه ولكن له شروط إن اعتبرناها بحال إسلامه فقط ترجح ما قاله الإمام فإنه يكون المستقر واحدة من الإماء فإذا اختار واحدة من الأربع تبين أن ما عداها مندفع بنفس الإسلام فلا تكون العتيقة التي لم يخترها محبة ولا مقدورة عليها حين إسلامه ضرورة أنها كانت الثقة ذلك الوقت وإن اعتبرناها بحال انقضاء العدة أو بما بينهما ترجح ما قاله الغزالي ويشهد له قضية ما إذا كانت حرة أصلية وأما ما قال لو اعتبرنا حال الإسلام منه فقط تعينت الحرة
والله أعلم
انتهى
مسألة ما قولكم أثابكم الله فيما جرت عادة الناس من العلماء والصالحين وغيرهم من التسري بالجواري مع العلم القطعي بأن تلك الجارية لا تخرج عن أن تكون مسلمة في بلادها لا يحل الاستيلاء عليها أو وقعت في الغنيمة أو لا في الغنيمة فتكون فيئا بأي طريق كان الأخذ من سرقة أو شراء من
____________________
(2/281)
والد تلك الجارية أو أحد من أقاربها أو غاصب تلك الجارية وهذه قسمة حاضرة لدورانها بين الغنيمة وغيرها وهو الفيء وكيف يصح اعتماد المشتري على ظاهر اليد ودعوى البائع الملك مع القطع بعدم السبب المقتضي للملك وأن دعوى الملك إنما هو لتوهمه ما ليس سببا سببا ومع القطع بعدم السبب الشرعي كيف يسوغ الاعتماد على دعوى الملك وهل ذلك إلا عمل بخلاف العلم وهو حرام على من له نظر بلا خلاف وقول الشيخ في التنبيه فيما إذا طلقها وادعت أنها تزوجت بزوج أحلها فإن لم يقع في قلبه صدقها كره له أن يتزوجها إن أراد أنه إن لم يقع في قلبه صدقها ولا الكذب فليس ذلك مما نحن فيه لأنه شاك وإن أراد مع الظن الراجح على الكذب فنعوذ بالله منه فكيف يصح أن يعتمد في ذلك أن المشتري للجارية له حق فيها والفيء مصرفه ستة أقسام فإذا لم يكن المشتري مسكينا ولا هاشميا أو مطلبيا ولا يتيما فقيرا ولا ابن السبيل ولا مقابلا لم تكن له شبهة فيما ذكرناه فلم يبق إلا خمس الخمس الذي للمصالح كسد الثغور ونحوه
فالجارية لا شبهة للإنسان في غير خمس خمسها فتكون مشتركة لعدم القسمة فإن توهم الشخص أن هذه الجارية كلها من خمس الخمس الذي للمصالح وأنه يجوز له الاستيلاء عليها لأنه ظفر ببعض حقه أو بما يمكنه صرفه في المصالح فأي مصلحة للمسلمين في تسريه بهذه الجارية
ولو سلمنا أن هذا مصلحة له وهو من المسلمين فالتسري يتوقف على الملك الصحيح ومن استولى على شيء من مال بيت المال وقلنا إنه يجوز له التصرف فيه من غير قسمة فذاك لأنه يصرفه في تلك المصلحة من غير حصول الملك فيستخدم الجارية مثلا ويخدمها غيره إلى غير ذلك من المصالح التي يسوغ الإقدام عليها بالإباحة والإجارة وغيرها من الأسباب الكثيرة أما التسري فإن الشارع حصره في الملك وكيف يصح الاعتماد على الشيخ عز الدين في قوله في القواعد من سرق شيئا من مال الكفار ملكه بانفراده
والذي يأخذ بقوله في ذلك إن كان تقليدا محضا من غير ظهور دليل يسوغ له أو تطيب نفسه بترك تقليد الشافعي إلى تقليد ابن عبد السلام وينتقل من تقليد الفاضل إلى
____________________
(2/282)
المفضول
والخروج عن تقليد إمام إلى غيره من أقبح الأشياء وإن كان يأخذ بقوله قام عنده دليل فأين الدليل وإن وجد الدليل ففي اعتماده إطراح قول الأئمة لمن يقصد ذلك مع قصوره في العلم جرأة عظيمة مع اختلاف العلماء في تحري الاجتهاد وسمعت أن للشيخ عز الدين كلاما في ذلك لم أقف عليه وأن من مضمونه أن ذلك يجوز بعد صرف قيمة بقية الأخماس لمن يستحقها وهذا على بعده كأنه فيمن له شبهة في بعض الجارية
أما من ليس له منها شيء فما حكمه وهل التسري هذه الأيام يترجح فيه شبهة التحريم أو شبهة الحل وأما السائل فإنه لم يظهر له فيه حل بالكلية والاجتهاد على كون هذا جرت به العوائد وعليه العمل واضح الفساد والفاعل لذلك من العلماء لعله مجتهد أو مقلد لغير الشافعي أو متساهل
أجاب هذه المسألة ذكرها الشيخ أبو محمد في كتاب له لطيف في الورع يسمى بالتبصرة ذكر فيه أن التسري في هذا الزمان إما مكروه أو كما قال لعدم قسمة الغنائم في هذا الزمان وتكلمت أنا على ذلك في المسائل الحلبية بما لا يحضرني الآن وكنت أسمع الشيخ قطب الدين السنباطي يحكي عن بعض المتورعين في الديار المصرية أنه كان إذا اشترى جارية يشتريها من سيدها الذي هي في يده ثم يشتري من وكيل بيت المال خمسها خروجا من الخلاف بين الغزالي والرافعي فإن الغزالي يقول إن من سرق من أموال الكفار يملك المسروق جميعه ولا يخمس والرافعي رجح أنه يخمس فليس للسارق منه إلا أربعة أخماسه كسائر أموال الفيء والأولى للمتورع أن لا يقتصر على شراء خمسها بل يشتري جميعها ممن له ولاية البيع على بيت المال مع شرائه لها من سيدها وأنا قد أذنت لمفتاح أن يبيعك إياها بما يراه وتراه من الأثمان والقاضي له التصرف على بيت المال وإن لم يكن قاض بهذه المثابة فمن اتفق الأشبه فالأشبه إذا تعذر من له صرف صحيح كما كنا في البحث فيه من أيام فأحسب أني شخص كذلك ولا يبقى بعد هذا الفعل إلا احتمال بقاء الثمن أو بعضه في الذمة وهو سهل
وأما التقسيم الذي ذكرته فالقول بأنها إذا كانت مسلمة في بلادها لا يحل الاستيلاء عليها إنما محله إذا كانت كذلك من الأصل
____________________
(2/283)
لا مطلقا
ومن جملة الاحتمالات أن تكون مسلمة وهي رقيقة بأن مس أمها رق أو أم أبيها وما أشبه ذلك بطريق من الطرق وتكون هي التي في يده اشتراها وهي مسلمة رقيقة برق طرأ على أصولها ودلالة اليد على الملك واعترافها لمالكها لا يزول متى أمكن الاحتمال ولكن متى فرض أنها مسلمة وأصولها مسلمون لم يحصل لهم رق واستحال ملكها كما قلتم وهذا القسم غير معلوم ولا مظنون
وأما احتمال كونها غنيمة فمحتمل وعلى هذا التقدير تكون أربعة أخماسها للغانمين والخمس الخامس لأهل الخمس والغانمون مجهولون وإبقاء الجارية لهم مع احتياجها إلى النفقة يفضي إلى فواتها عليها فيجوز للقاضي بيعها وحفظ ثمنها لهم ونصيب أهل الخمس كذلك
وهذا الحكم سواء كان الذي هي في يده واحدا من الغانمين أو واحدا من أهل الفيء أم ليس واحدا منهم ولا نصيب له فيها أصلا فجواز بيعها للقاضي معلوم بما ذكرناه وأما كونها فيئا فمحتمل وفيه احتمالان أحدهما أن يكون مع اليد لا حق فيها لصاحب اليد لاستيلائه عليها عدوانا غصبا من أهل الفيء فيجوز للقاضي أيضا بيعها وحفظ ثمنها والاحتمال الآخر أن يكون سرقها وهي كافرة من كفار حربيين فعلى رأي الإمام والغزالي هي ملكه كلها فيصح شراؤها منه وعلى رأي الرافعي هو مالك لأربعة أخماسها فإذا باعها وفرق الصفقة صح بيعه لأربعة أخماسها ويبقى الخمس الذي لأهل الخمس يصح بيعه إذا باعه من له التصرف على أهل الخمس وهو الإمام أو نائبه والظاهر بل قطعا أن القاضي يجوز له ذلك لا سيما في هذا الزمان
هذا إذا تحقق الحال فإن جهل واحتمل تعين القطع بأنه لا يبيعه إلا القاضي وأنه ليس لوكيل بيت المال بيعه لأن وكيل بيت المال إنما يتصرف فيما يتحقق أنه لبيت المال والقاضي إما أن يقال إنه أعم من ذلك يتصرف في بيت المال وغيره وإما أن يقال إنه المتولي لحفظ مال الغائب والمجهول في حكم الغائب فله البيع وقد يقال إن ذلك في غائب أو مجهول يرجى حضوره أو العلم به
أما المأيوس من معرفته فحكمه أن يوضع في بيت المال والجواب أنه وإن كان كذلك وسلمنا اليأس منه فللقاضي التصرف فيه كما اقتضاه
____________________
(2/284)
إطلاق الهروي وغيره في الأمور التي يستفيدها القاضي بولاية القضاء ولو لم نسلم ذلك ففي هذا الزمان والحال في بيت المال لا يخفى لا شك في جوازه
وهذا كله طريق الورع وأما الجواز الظاهر فيجوز الاعتماد على ظاهر اليد لاحتمال الملك بانتقالها إليه تناقل شرعي ممن ملكها كلها إما بسرقة على رأي الغزالي وإما بشرائه خمسها من أهل الفيء على رأي الرافعي وإما بالشراء منهم ومن الغانمين إن كان غنيمة وإما بشرائها من أهل الفيء كلهم إن كانت فيئا بغير سرقة فدلالة اليد على الملك لا تزال مع هذه الاحتمالات وإذا انضاف إليه ما ذكرناه أعلاه كان ذلك طريق الورع
وبهذا بان عدم القطع بعدم السبب المقتضي للملك وأن دعوى البائع الملك ليس عملا بخلاف العلم وأنه ليس بحرام لا على من له نظر ولا على غيره وقول الشيخ في التنبيه الظاهر أنه كما قلتم ويحتمل أن يقال إن ظن الكذب إذا لم يكن له مستند شرعي لا عبرة به فإن القول في العقود قول أربابها والظن الواقع في النفس بلا يد ولا إخبار ثقة ملغ في الشرع كالظن الحاصل من المصالح المرسلة وصورة مسألة التنبيه فيما إذا لم تعين الزوج فإن عينته تعلق حقه بها وهو معين فلا يجوز له أن يتزوج بها لمجرد قولها حتى تقوم بينة على طلاقه إياها
وقولك الجارية لا شبهة للإنسان في غير خمس خمسها ولا في خمس خمسها أيضا إذا لم تكن من أهل الفيء ولكن ذلك لا يضر لما قدمناه وأما الظفر وغير ذلك مما سواه فليس بشيء لأنه لا يبيح التسري
والذي قاله الشيخ عز الدين في القواعد هو الذي قاله الإمام والغزالي وخالفهم الرافعي وأظنني في المسألة الحلبية رجحت أحد الوجهين لا يحضرني الآن وبالجملة مع ما قدمته لا يحتاج إليه
وأما صرف القيمة لمستحقها فلا يكفي
وبهذا بان أن الفاعل لذلك من العلماء لا يحتاج إلي بكونه مجتهدا أو مقلدا لغير الشافعي أو متساهلا
والله أعلم
انتهى
مسألة رجل له طفلة قال لرجل له طفل زوجت ابنتي من ابنك قال قبلت التزويج له هل يصح النكاح أجاب نعم يصح وهذه المسألة في صحة النكاح فيها قولان في تعليق القاضي
____________________
(2/285)
حسين والله أعلم وإذا صح وجب لها مهر المثل ولا يجري فيها الخلاف في المفوضة في أنه يجب بالعقد أو بالدخول لأن ذلك في الرشيدة
والله أعلم انتهى
مسألة أزال بكارة زوجته بأصبعه ثم طلقها قبل الدخول
أجاب بإزالة البكارة بأصبعه صرح الأصحاب في الزوج أنه لا يجب عليه شيء على الصحيح فبالطلاق بعد ذلك ينبغي أن لا يتغير الحال ولا يتخيل أنه تبين لنا بالطلاق أن نصف الأرش يجب وإنما قلت ذلك لأن الطلاق ليس فسخا ولو كان فسخا فهو من جهته والله أعلم
انتهى
مسألة أقبض زوجته بعض المهر وأعسر بباقيه قبل الدخول هل لها الفسخ الجواب ليس لها الفسخ وقد ذكر الأصحاب خلافا في الفسخ بالمهر والأصح الفسخ
وقال الغزالي في الفلس إنه لا يثبت الرجوع في النكاح فذكر ابن الرفعة هناك في شرح الوسيط أن الخلاف المشهور في الفسخ في الإعسار بالمهر إنما هو إذا أعسر بكله وقال إنه ما يظن الإعسار عن بعض الصداق يثبت الفسخ
ولابن الصلاح في فتاويه كلام يقتضي امتناع الفسخ وعلته أن المقابل للقدر المقبوض لا يستحق الرجوع فيه والبضع لا يتبعض فلذلك يمتنع الفسخ
والله أعلم
انتهى
مسألة سنة خمس وثلاثين أعسر ببعض الصداق ولم تقبض منه شيئا
الجواب ينبغي أن يثبت الفسخ لها لأنا إنما منعناها إذا قبضت بعضه لأن مقابله من البضع لا يمكن الرجوع فيه وما قدمناه من إطلاق ابن الرفعة يقتضي أنه لا فرق بين أن تقبض منه شيئا أو لا
والله أعلم
انتهى
قال قاضي القضاة تاج الدين بن الشيخ فسح الله في مدته وأطال في تقرير ذلك في كتاب وفي باب الفلس من شرح المنهاج وفي كتاب الصداق
مسألة قال الشيخ الإمام رحمه الله القول في تقويم الخمر والخنزير ونحوهما حيث قيل به إما في تفريق الصفقة فنعتبر قيمته عند أهله على الصحيح وفاقا للغزالي وإن كنت لم أجده مصرحا به إلا في كلامه وكلام الرافعي وهو
____________________
(2/286)
احتمال للإمام وقالت طوائف من أصحاب القفال منهم القاضي حسين يقدر الخمر خلا وصححه النووي ونقله عن الدارمي وغيره وقال آخرون منهم صاحب التهذيب يقدر عصيرا وهكذا رأيته في التهذيب وإن كان النووي نقل عنه تقديره خلا وأما الخنزير فقيل يقدر شاة
وقال البغوي بقرة وصححه النووي وعبارة ابن عبد السلام في اختصاره شاة أو ما يقرب منها وهذا من الإمام يشعر بأن صاحب هذا الوجه لا يعين الشاة ولا يدخل حيوانا يقاربه
وعلى كل حال التقدير المذكور في الخمر والخنزير ضعيف والصواب اعتبار قيمته عند أهله كما قاله الغزالي لأنه المقصود للمتعاقدين فينزل العقد واقتضاؤه التقسيط عليه وأما التقدير عصيرا أو خلا أو شاة أو بقرة لم يقصدها المتعاقدان وتقسيط الثمن بحسبها فذلك يؤثر جهالة عظيمة لا تحتمل وتفضي إلى بطلان العقد رأسا للإجازة بكل الثمن ومما يدل لاعتبار قيمته عند من يراه وعدم تقدير مال آخر اتفاقهم فيما أوصى بكلب وخمر محرمة وطبل لهؤلاء يملك غيرها أنه يعتبر من الثلث قيمتها ولم يقولوا بالتقدير ولا يمكن القول به لأن الوصية إنما هي بتلك الحقوق وتقديرها مالا آخر قد يفضي إلى خلاف الغرض والزيادة أو النقصان على ما يقتضيه ثلث تلك الحقوق من حيث هي وهكذا المأخذ في باب التفريق فليكن كذلك
وقد مال الإمام إلى أحد أمرين إما إبطال العقد أو الإجازة بكل الثمن ومال إليه ابن الرفعة والأول قال به طائفة والثاني قال به صاحب التلخيص والماوردي ولكن المشهور الأصح الإجازة بالقسط ومأخذ القائل بالتقدير إنا إذا فرعنا على الصحة والتقسيط والخمر والخنزير لا قيمة لهما في نظر الشرع لا تحقيقا كالعبد ولا حكما كالحر فلا وجه إلا اعتبارهما بغيرهما مما يقرب منهما في الصورة والمنفعة ويقدر كأنه أوقع المقابلة على ذلك لاستحالة إيقاعها على عينها بخلاف الوصية فإنها تعلقت شرعا بأعيان تلك الأشياء لما فيها من المنفعة فهذا وجه في إبداء مأخذ الوجه المذكور ولكن الأولى أن نقول المقابلة الشرعية ممتنعة في المعين وفي بدله المقدر لامتناع بيع خل أو شاة مبهمة والتوزيع إنما يكون على ما ورد العقد
والمقابلة التي قصدها المتعاقدان
____________________
(2/287)
حاصلة في المعين والتوزيع بحسبها وإن أبطل الشرع بعضه فيبقى الباقي بتلك النسبة فهذا وجه تقرير اعتبار القيمة على حاله كما قاله الغزالي
واعلم أنا سواء اعتبرنا قيمته أو قيمة بدله فليس معنى ذلك أنا نزلنا العقد الشرعي عليها أو على البدل بل معناه أن ذلك معيار يعرف به ما قابل به المتعاقدان الصحيح من المبيعين بمقتضى توزيعهما فنجعله ثمنا للصحيح شرعا وإن لم تكن المقابلة والتوزيع شرعيين بل المقابلة لفظية والتوزيع عرفي والشرع يقر من ذلك ما يقر وهو الصحيح ويبطل ما يبطل وهو الفاسد فلا يعتقد أن الشارع حكم بالعقد على قيمة الخمر والخنزير أصلا بل ولا على الخل والشاة المقدرين وإنما ذلك التقدير بمعرفة ما يخص الصحيح فينزل الشارع العقد عليه به ومن قال بالتقدير قال في الميتة تقدر مذكاة هذا جملة الكلام في تفريق الصفقة وأما نكاح المشرك إذا أصدق الكافر امرأته صداقا فاسدا وقبضته ثم أسلما فلا شيء لها وقيل يجب مهر المثل وإن لم تقبضه حتى أسلما فلها مهر المثل وقيل لا شيء
وإن قبضت بعضه ثم أسلما فلها من مهر المثل بقسطه ما لم تقبض فإن كان شيئا كزق خمر يقسط عليه بالجزئية وإن تعدد مع اتحاد الجنس كزقي خمر قبضت أحدهما فإن تساويا فذاك وإلا يقسط عليهما باعتبار الكيل على ما رجحه الرافعي وقيل الوزن وقيل العدد وهو قول أبي إسحاق ولم يذكر الرافعي غير هذه الأوجه الثلاثة وفي كلام الإمام احتمال اعتبار القيمة ولا وجه لذلك والصواب ما رجحه الرافعي لأن التقسيط بالقيمة إنما يكون عند اختلاف الجنس أو تماثل أفراده كما في البياعات الصحيحة والتقسيط للجزئية ممكن لأن الإصداق وقع معتبرا حكمه حكم الصحيح بدليل الاكتفاء بقبضه وإنما عاملناه معاملة الصحيح والخمر متماثل الأجزاء فلا وجه لاعتبار القيمة وإن أصدقها خنزيرين فهاهنا الأصح بقسط عليها باعتبار قيمتها عند من يراها وقيل يقدران شاتين
قال الإمام وهذا لا يصدر إلا عن زلل ولا وجه إلا اعتبار قيمة الخنزير عند من يرى له قيمة هذا قاله في آخر باب نكاح أهل الذمة وابن الرفعة نقل عنه أنه قال في نكاح المشركات إنه يقدر بقرة والرافعي قال أيضا
____________________
(2/288)
في كتاب الصداق عن الإمام أنه يقدر بقرة ولم ينسب الموضع ولم أر ذلك في كلام الإمام لا هنا ولا في الصداق وابن عبد السلام في اختصار النهاية قال وأخطأ من قدرهما شاتين وأوجب قيمة الشاتين
وقوله أوجب يوهم أنه تجب قيمة المقدر ولم يقل به أحد وإنما هي معيار والواجب من مهر المثل وعبارة الإمام أعتبر وهي الصواب وإن كانت خنازير كبارا وصغارا واعتبرنا العدد فقيل يسوى بين الكبير والصغير وقيل يجعل كل صغيرين بكبير وإن اختلف الجنس كخمر وخنازير وكلاب فقيل يعتبر الجنس وقيل عدد الأفراد ويسوى وقيل المالية وهو الأصح وهو قول ابن شريح
وعلى هذا قيل نعتبر قيمتها عند أهلها وهو الأصح ورجحه الرافعي وقيل يقدر وعلى هذا يقدر الخمر خلا ولم يذكروا هنا اعتبار العصير كما ذكروه في تفريق الصفقة والصداق
قال الرافعي والوجه التسوية وأما الخنزير على قولنا بالتقدير فقيل يقدر غنما حكاه القاضي أبو الطيب وصاحب المهذب وقيل بقرا وقيل حيوانا يقاربه في الصورة والفائدة حكاهما الرافعي
والكلب قيل يقدر به وقيل فهذا فأما ما رجحه الرافعي فوجهه ما ذكرناه في تفريق الصفقة وزيادة وهي أن المقابلة هنا في الشرك جارية مجرى الصحيح والتوزيع يحسبها ويملك ذلك المعين في الشرك وإن كان فاسدا فإذا أسلما بعد قبض بعضه كان كتلف بعض العقود عليه ورجع من مهر المثل بقسطه ما لم يقبض مما اقتضاه التوزيع وقت العقد كما لو تلف بعض المبيع قبل قبضه وبعد قبض ثمنه وهو الصحيح وأما التقدير فيحتمل أن يكون وجهه أنه لما خرج الصداق بالإسلام عن الاعتبار وقيمته غير معتبرة في الإسلام لم ينظر إليها واعتبرناها بغيرها كما فعلنا في تفريق الصفقة على الوجه الثاني ويجعل الحكم بالتقسيط الآن بعد الإسلام كالتقسيط في تفريق الصفقة ابتداء
وبهذا يظهر أن هذا الباب وباب تفريق الصفقة متقاربان وإن افترقا من جهة أن المقابلة هنا وقعت صحيحة وفي تفريق الصفقة بخلافه فلذلك يكون الخلاف فيهما ويكون اعتبار القيمة هنا أولى
وهذا المأخذ للوجهين مستمر وإن قلنا الصداق مضمون في يد الزوج ضمان عقد ويحتمل أن يكون الوجهان مبنيين على القولين فيكون القول باعتبار القيمة على أنه ضمان
____________________
(2/289)
عقد كنظيره من المبيع على ما سبق والقول بتقديره بغيره مبنيا على ضمان اليد لأنه بالتلف لا ينفسخ فينتقل إلى بدله لكن هذا لو كان صحيحا لوجب ذلك واتفقوا على أنه لا يجب وإنما يجب من مهر المثل وذلك التقدير معيار فقط
وأما كونهم لم يذكروا العصير هنا فيحتمل أن يجري الخلاف كما قاله الرافعي ويسوى بين البابين ويحتمل أن يقال لما صح إصداق الخمر بعينها في الشرك وملكتها المرأة ثم خرجت عينها عن الاعتبار رجعنا إلى الخل لثبوت حالة الخمر قبلها بخلاف تفريق الصفقة لم يتعلق الملك بعينها فاعتبرنا ما قبلها على وجه والأقرب التسوية كما قال الرافعي ولعل القائل بالعصير هناك لم يوجد له كلام هنا والقائل بالخمر هنا لم يوجد له كلام هناك
ولو تكلم كل منهما في المسألتين لطرد الحكمين فإن هذه تفاريع ضعيفة على وجه ضعيف وهو اعتبار البدل فلم يتفق الكلام فيها من جميع الأصحاب فلا تناقض وسواء قلنا بالقيمة عند أهله أو بالبدل فالكلام كما تقدم في تفريق الصفقة من جهة الشارع وأما الصداق فعلى قول قديم ضعيف يجب في إصداق الخمر والخنزير قيمته وعلى هذا قال الغزالي في البسيط أجمعوا على أنه لا تقدر قيمته عند من له قيمة فإن ذلك معتبر الشرع
وقال الإمام وتعتبر قيمتها عند من يرى لها قيمة كما صار إليه بعض الأصحاب في أنكحة أهل الذمة
وقال الرافعي إنه لا يبعد مجيئه بل ينبغي أن يترجح على ما سبق في نكاح المشركات وتفريق الصفقة
قلت وهذا التخريج على ما قاله الإمام والغزالي فيه بعد ووجه الفرق أن المعتبر هنا يجب بعينه وإيجاب قيمة الخمر والخنزير لا عهد بها والقيمة في تفريق الصفقة ونكاح المشركات معتبر معيارا فقط فسهل احتمالها لأن المقابلة والتوزيع في الحقيقة من المتعاقدين والشرع أبطل منها ما أبطل وصحح ما صحح من غير أن يحكم بإيراد العقد الشرعي على فاسد ولا على قيمته وقد شاء ذلك في تفريق الصفقة وأما نكاح المشركات فيحتمل أن يجيء فيه ما قلناه في تفريق الصفقة أيضا بالنسبة إلى ما تجدد من حكم الإسلام ويحتمل أن يقال إن الإصداق وقع صحيحا فيهما وأن يقع بالإسلام في بعضه فيعود مقابله من البضع فيستحق قسطه من المهر كما أشرنا إليه من قبل وعلى كل حال لم
____________________
(2/290)
يحكم الشرع بإيراد عقد في الإسلام على فاسد ولا على قيمته
وها هنا في الإصداق على القول الذي يفرع عليه يحكم بورود العقد على ذلك المقدر شرعا فإذا كان هو قيمة الخمر أو الخنزير يلزم الحكم بورود العقد الشرعي عليها وذلك بعيد على قواعد الشرع
وأما من اعتبر العصير فأخذ العبارة وقطع النظر عن المشار إليه إلا في المقدار وإن كانت الصورة أصدقتك هذا الخمر ولم يقل أحد بوجوب البدل إلا على طريقة في غاية الضعف والممكن في تقرير ذلك عليها أن المصدق ملتزم لما جعله صداقا وعينه ملغاة فيلغى ما جاء منه الفساد وهو الشدة المضطربة ويبقى وصف العصير ملتزما في الذمة فيأتي بمثله إن لم يكن ممزوجا فبقيمته كما صرح به الإمام عن الصيدلاني وهذا الحكم والتعليل جار فيما إذا قال أصدقتك هذا العصير أيضا فكان خمرا وبملاحظة هذا التعليل لا يأتي تقدير الخل ألبتة
والرافعي قال الوجه التسوية بينه وبين نكاح المشركات يعني وإن جرى القول باعتبار الخل هنا وفيه نظر لما قدمناه ولو قال أصدقتك هذا الخل فكان خمرا فلا أعرف فيه نقلا والتعليل الذي قدمناه في العصير لا يأتي فيه إلا الاكتفاء بالعبارة وإن صح تقدير الخل فيكون هنا أولى
وأما الخنزير فقال الرافعي قال الغزالي في الوسيط والوجيز يقدر شاة والمذكور في نكاح المشركات بقرة وهو الذي أورده الإمام والبغوي
قلت أما الإمام فقد قدمت أني لم أره في كلامه بل في كلامه أنه تعتبر قيمته كما سبق والتسوية بين البابين في اعتبار الشاة أو البقرة واجبة قال الرافعي وفي الميتة نقدره مذكاة ثم الواجب فيها وفي الخنزير القيمة يعني بعد تقديرنا الخنزير شاة أو بقرة ومقتضى قول الرافعي المتقدم أن نقول في الميتة والخنزير أيضا بتقويمها عند من يرى قيمتها ولم يصرح وأما الغزالي فإنه لما رأى القيم ممتنعة جزم بالتقدير وخالف قوله في تفريق الصفقة لما قلناه
قال الرافعي وبعد جميع ذلك واضطراب الأئمة فيه يزيد القول الأصح قوة وهو وجوب مهر المثل يعني إذا جرى الصداق فاسدا وهذا حق لا شك فيه وإنما جاءت هذه الوجوه الضعيفة من ضعف ذلك القول وهو قول باطل لا دليل عليه أعني وجوب بدل الصداق
____________________
(2/291)
الفاسد بل الصواب القطع بوجوب مهر المثل في الخمر والخنزير والحر والمغصوب ولم يذكر الأصحاب في شيء من ذلك لوجوب البدل دليلا صحيحا ولا مخيلا فمن ضعف القول جاء ضعف ما فرع عليه والضعيف كلما فرع عليه ظهر ضعفه وربما يؤدي إلى شيء لا يلتزمه صاحب ذلك القول وتبين لنا بذلك ضعفه فإنا إذا عرفنا أنه لازم للقول وعرفنا أن أحدا لا يقول به علمنا أن قائله لو تنبه لذلك لرجع عن القول فلذلك لا ينبغي كل ما اقتضته الأقوال الضعيفة من التفريع يقال به حتى تلاحظ قواعد الشرع والفقه فإن شهدت ببطلانه كففنا عن ذلك التفريع لئلا نرتكب خرق الإجماع ثم ننظر إن كان لزوم ذلك القول ضروريا أبطلنا القول وإلا أبقيناه وتركنا تفريع ذلك الفرع عليه وتأملنا ما يندفع به اللزوم أو تلك القواعد وأما ارتكاب كل تفريع لكل قول فلا يرتضيه محصل
ومن تمام القول في ذلك أنه لو قال بعتك هذا العبد وشيئا قيمته عشرة دراهم مثلا ينبغي أن يصح العقد على قولنا بتفريق الصفقة لأن قيمة ما ضم إليه قد علمت وإن لم تعلم عينه ولو نكحها على شيء قيمته عشرة مثلا وقلنا إذا نكحها بمغصوب وجبت قيمته فينبغي أن يصح
كتب في يوم الأحد عاشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة
انتهى
قال إمام الحرمين في النهاية في باب العيب في المنكوحة إن كان العيب بها وفسخ الزوج قبل المسيس سقط المهر وليس كما لو ارتد قبل المسيس فإنا نقضي بالشطر وإن كان بعد المسيس نص الشافعي أن المسمى يسقط ويثبت مهر المثل
وخرج قول إنه لا يسقط إذا فسخت بعيبه فقبل المسيس يسقط وبعده على المنصوص والمخرج ولا بد أن يختلج في نفس الفقيه أنه إذا سقط بفسخها قبل المسيس فقياسه أن يشطر بفسخه اعتبارا بالردة وإن كان فسخ الزوج لا شطر لأن الفسخ لعيبها فتعذر المرأة إذا فسخت لعيبه
وليس الأمر كذلك فلا فرق بين فسخه وفسخها والسبب أن مسقط المهر إسناد العيب إلى العقد وليس هذا مأخوذا من مأخذ الردة فإن الردة قاطع جديد ثم رأى الفقهاء الفرق بين الزوجين
____________________
(2/292)
ردة الزوج بمنزلة طلاقه ونسبوا المرأة إلى قطع العقد وأسقطه راجعها من جوز العقد لما كانت هي القاطعة
والفرق نوعان أحدهما يقع بين مسألتين والثاني يقع بين موضعين ومأخذين فما ثبت بين مسألتين يثبت وينتفي وينعكس ويطرد وما يقع بين مأخذين بين مأخذ كل جهة ثم ذلك يوجب الانفصال بنفيين وإثباتين سأل سائل عن معنى هذا الكلام فأقول وبالله التوفيق إن الفرق الواقع بين مسألتين هو المذكور في كتاب القياس لأن القائس جمع بين أصل وفرع بعلة والفارق فرق بينهما بعلة أخرى يثبت الحكم في الأصل بثبوتها وينتفي الفرع بانتفائها وهذا معنى الاطراد والانعكاس واقتصروا في كتاب القياس على هذا النوع لأنه المحتاج إليه في جواب القياس وكل من العلة واقتضائها الحكم معلوم وإنما النظر في وجودها في ذلك المحل وعدمها فهو تصديق مسبوق بتصور والنوع الثاني من الفرق هو الواقع بين حقيقتين ليميز بينهما وينفي اللبس عمن يتوهم أنها حقيقة واحدة أو بين اقتضائها لحكمين مختلفين ليتميز ذلك وينتفي اللبس عمن يتوهم أن مأخذ الحكمين واحد وأن اقتضاء الحقيقتين واحد وهو يوجب الانفصال بنفيين وإثباتين وأنه حيث انتفى ينتفي الحكم وحيث ثبت يثبت الحكم فهو مطرد منعكس كالنوع الأول وهذا كثير في الفقه من أوله إلى آخره وهو أكثر وأنفع من الأول فإن به تتميز الحقائق والمآخذ ويفهم ترتيب الفقه عليها
ومن هذا الفرق تبين حقيقة انفساخ النكاح في الردة وفسخه بالعيوب فيعلم أنهما حقيقتان متغايرتان لأن الأول من طارئ غير مستند إلى أمر مقارن والثاني مستند إلى مقارن والفرق بين ردة الزوج وردة الزوجة حيث كانت ردته منتظرة بينتهما بطلاقه وردتها حيث كانت هي القاطعة كالرضاع فاختلف المأخذ
ولو أردنا ذكر أمثلة النوعين لاحتجنا إلى مجلد ضخم ولكن التنبيه على هذا القدر محصل للغرض
والقدر المشترك بين النوعين هو الفرق بين شيئين ومعناه الفصل بينهما فإن كان بين حقيقتين فهو النوع الأول وإن كان بين محلين فهو النوع الثاني
____________________
(2/293)
والأول أنفع وأفقه
والله أعلم
ويمكن رد الأول إلى الثاني وإدراجه في قول الفقهاء الفرق أبدا معني في إحدى الصورتين مفقود في الأخرى لأن النزاع لا بد أن يكون بين صورتين أعني في القياس فالفارق إن نازع في حقيقة العلة أو في اقتضائها فهو النوع الأول وإذا تم له ما ادعاه ترتب عليه الفرق بين المسألتين لافتراقهما في ذلك المعنى وإن سلم حقيقة العلة واقتضائها ونازع في ثبوت الحكم والفرع بعلة أخرى فهو النوع الثاني والمقصود بالفرق تحصيل على التقرير
والله أعلم
كتبه يوم السبت الثاني والعشرين من رجب سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بالدهشة
باب القسم والنشوز مسألة إذا كان عنده أربع نسوة فوهبت منهن واحدة نوبتها من الزوج فالأصح أن له تخصيص واحدة بنوبة الواهبة والثاني لا بل يجعل الواهبة كالمعدومة ويقسم بين الثلاث وبهذا أجاب العبادي وأشار في الوسيط إلى القطع بالمنع فيما إذا قالت وهبت منك واقتصرت عليه وتخصيص الوجهين فيما إذا قالت وهبت منك فخصص من شئت وحكى المتولي أنه إما أن يبيت عند كل واحدة منهن ساعة أو لا يبيت عند واحدة منهن أصلا أو يخص بها في كل دور منهن واحدة وإن وهبت حقها من جميع الضرائر فلا خلاف في وجوب التسوية بين الباقيات وبمثله أجيب فيما إذا أسقطت حقها مطلقا قاله الرافعي
فإن قلت إذا وهبت حقها من جميع الضرائر اقتضى أن يريد نصيب كل واحدة ثلث ليلة وإذا سوى بينهن لا يبيت عند كل واحدة إلا ليلة
قلت النسبة واحدة لأن الليلة من ثلاث كالليلة وثلث من أربع فإن قلت هذا فيما إذا وهبت مطلقا ظاهر فإذا وهبت ليلتها من دور واحدة فيختلف لأنه إذا جعل لكل واحدة ليلة وثلثا تأتي نوبتها بعد ثلاث قلت إذا وهبت نوبتها من دور واحدة وهو أربع ليال وكانت نوبتها الليلة الرابعة مثلا فالذي تستحقه في الحقيقة ربع الزمان من كل يوم فيسقط على الثلاث فيصير نصيب كل واحدة من الثلاث ثلث يوم فإذا تكملت الأيام الثلاث تكمل ما وهب لهن من كل يوم من الأيام الثلاث وأما اليوم الرابع فيصير مستحقا لهن أثلاثا فإن قسمه بينهن جاز
____________________
(2/294)
وابتدأ الدور من الخامس وتأتي نوبة الواهبة في الثامن كما كانت قبل ذلك وإن لم يقسمه بينهن بل جعله ابتداء فقد جاز بحصول التسوية وتأتي نوبة الواهبة في السابع
وقد يقال إن الواهبة إن طلبت ذلك تعين تعجيلا لحقها فإن لها الرجوع في أصل الهبة إلى هذا النوع أولى وإن لم تطلب فيجب عليه الطريق الأول توفية لحقوق الثلاث وتتأخر نوبة الواهبة إلى الثمانية وحينئذ لا يكون تخييرا بل يتعين عليه كل واحدة من الطريقين على البدل كما بينا
ولم أر في ذلك نقلا انتهى
باب الخلع قال الشيخ الإمام رحمه الله اختياري في لفظ الخلع القول الثالث الذي ذكره الشيخ في التنبيه أنه ليس بشيء إذا لم يقترن به نية فلا يحصل به فرقة لا بطريق الفسخ ولا بطريق الطلاق ومعنى كونه ليس بشيء أنه كناية فإن نوى به الطلاق كان طلاقا وإلا فلا وهذا القول اخترته في سنة تسع وعشرين أو سنة ثلاثين وسبعمائة وأنا إذ ذاك في القاهرة لعدم إيضاح الدليل عندي على أنه طلاق أو فسخ
وإن كانا هما القولان المشهوران عن أكثر العلماء ولكنه لم يتضح لي دليل واحد منهما
والقول الثالث المذكور غريب ضعيف عند الأكثرين ولكنه عندي قوي لعدم قيام الدليل على خلافه والأصل بقاء العصمة
ثم وقعت لي هذه المسألة وأنا حاكم بدمشق في سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة رجل وامرأته تخالعا من غير نية ولا لفظ طلاق على عوض فذكرت ما كنت اخترته من القول المذكور ولا فرق عندي في ذلك بين أن يجري لفظ الخلع مقترنا بذكر العوض وأن يجري مجردا كلاهما سواء في أنه لا يقع به فرقة إلا إذا نوى الطلاق وكذا أقول إذا نوى به الفسخ لا يقع به شيء لأنه لم يقم عندي دليل على جواز فسخ النكاح بالتراضي كالبيع وإنما يفسخ النكاح بالأمور المقتضية لفسخه للضرورة لأنه عقد مبني على الدوام بخلاف البيع
ولكني مع ذلك لما وقعت هذه المسألة لم ينشرح صدري لأن أحكم ببقاء العصمة بين هذين المتخالعين لمخالفة جمهور العلماء ولا شك أن الاختيارات الفقهية منها ما يقوى قوة شديدة تنشرح النفس
____________________
(2/295)
للفتوى والحكم به
ومنها ما هو دون ذلك يحصل الورع عن تقلده والقصد طاعة الله وإخلاص العمل بما يرضيه كما تورعت عن الحكم بهذه المختلعة لهذا الرجل كذلك أتورع عن تمكينها بالاتصال بغيره حتى تحصل فرقة صحيحة بغير لفظ الخلع المجرد عن النية عملا باستصحاب العصمة وانشرحت نفسي للحكم عليها بالمنع من تزويجها بهذا المقتضى وإن حاضت ثلاث حيض أو وضعت حملا حتى تحصل فرقة صحيحة بغير ذلك ولا يعترض جاهل بأن هذه إما أن تكون زوجة للأول فترد إليه وإما أن تكون بائنة فتزوج بغيره لأني أقول الظاهر عندي أنها زوجة ولكن مراتب الظهور متفاوتة وهذا الظهور الذي حصل عارضه فتوى أكثر أهل العلم بخلافه وعضده الدليل ولكنه ليس دليلا قطعيا بل ظنيا ومراتب الظنون متفاوتة كذلك
وهذا ليس من أعلاها والأبضاع يحتاط لها فكما نحتاط فلا نردها إلى هذا الرجل كذلك نحتاط فلا نبيحها لغيره وهي أوقعت نفسها في ذلك فأما أن ترضى برجوعها إلى زوجها بعقد جديد يزيل الشبهة وإما أن تصبر وإما أن نوافقها على إنشاء طلاق بائن تتخلص به منه
وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم الحسن وابن سيرين إلى أن الخلع لا يجوز إلا عند سلطان واحتجا بقوله تعالى فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ولهذا أشار الشافعي في الأم إلى مخالفتهما بقوله يجوز الخلع بسلطان وغير سلطان وذهب الزهري وسعيد بن المسيب إلى ثبوت الرجعة في الخلع ووافقهما أبو ثور إذا كان بلفظ الطلاق
فإذا فرض اختيار هذا المخالع للرجعة قوي تمسكه بها فهذه ثلاثة أمور توجب التوقف عن إباحتها للأزواج والظهور الذي عندي من استصحاب العصمة الأولى كاف في منعها من التزويج حرمة للأبضاع مع ما عضده من ذلك وتضعف معارضة فتوى الأكثرين بخلافه في هذا الظرف
وحاصله أنا نأخذ بالاحتياط في الجانبين فإن قال الاحتياط لا يكون للحاكم لأنه إنما يحكم بما يظهر له وهو شيء واحد
قلت حكمي بمنعها من التزويج حكم بما ظهر لي ولا معارض له إلا فتوى الأكثر وليست معارضة قوية فلذلك ينشرح صدري للحكم في هذا الظرف والحكم بردها إلى الأول
____________________
(2/296)
معارض بحرمة الأبضاع وتوقفي عنه ليس حكما بشيء فهو أسهل من الإقدام على حكم بما لا أراه والله تعالى يقول لنبيه لتحكم بين الناس بما أراك الله هذا ما عندي في هذه المسألة والله أعلم
كتب علي السبكي في ثالث عشري القعدة سنة 52 وسبعمائة
مسألة إذا أكرهت على سؤالها الطلاق بعوض فطلقها على العوض مختارا وهي مكرهة هل يقع رجعيا أو بائنا أو لا والواقع أنه أشهد عليه وعليها بالخلع ثم ادعت الإكراه ولم تقم بينة لكن ظهرت مخائل تقتضيه وهو أنه أحضر إليها جنادرة الوالي وقال الشهود إنهم معها على الإكراه وقبلت قولها وجعلت الطلاق بائنا لأن الزوج مكذب لها في الإكراه ولم أكذبها بحال لقبول قولها في الإكراه وهذا كله منقول ثم إنه أراد رجعتها فأشرت عليه أنه يجمع بين الأمرين احتياطا يراجع ويجدد العقد فتحل له بيقين إما لأن الطلاق لم يقع وإما لأنه يقع رجعيا وارتجعها وإما لأنه وقع بائنا وجدد نكاحها
مسألة الخلع إذا جرى بلفظ الخلع مع ذكر العوض ولم ينو به شيئا نص في الإملاء أنه طلاق ورجحه الرافعي في المحرر واختاره الإمام والغزالي والبغوي ونص في القديم أنه فسخ والثالث أنه ليس بشيء لأنه كناية في الطلاق ولم ينوه نص عليه في الأم وهو المختار لأنه لم يقم دليل على صراحته لا في الطلاق ولا في الفسخ لأنه لم يتكرر في القرآن وقولهم تكرر على ألسنة الشرع ممنوع لأنهم مختلفون هل هو فسخ أو طلاق لإشعاره به وهو نصه في الأم وحديث ثابت بن قيس ليس فيه لفظ الخلع بل قال خذ الحديقة وطلقها تطليقة انتهى
قال ولده قاضي القضاة الخطيب تاج الدين سلمه الله ما اختاره الشيخ الإمام من أن الخلع ليس بشيء مذهب لنفسه وهو معروف بأنه خارج عن مذهب الشافعي وإن كان قولا شاذا فلا يقلده فيه من يريد تقليد الشافعي فليعلم ذلك ثم إنه بعد هذا لم يذكره في شرح المنهاج وشرح المنهاج متأخر عن ذكر هذه المسألة فلعله رجع عنه انتهى والله أعلم
كتاب الطلاق مسألة قال الشيخ الإمام رضي الله عنه إذا قال لزوجته
إن طلقتك
____________________
(2/297)
فأنت طالق قبله ثلاثا ثم قال لها أنت طالق وقع عليها الطلقة المنجزة وطلقتان قبلها من المعلق
وهذا اختيار بعض الأصحاب وهو المشهور عن الحنفية والحنابلة لأن التعليق صادر من أهله في محله فوجب إعماله إلا في القدر المستحيل وهو وقوع ثلاث قبل طلقة أخرى فيبطل منه ما اقتضى المحال لعدم إمكان تصحيحه شرعا ويصح فيما عداه عملا بالمقتضى للصحة السالم عن المعارض وعلى هذا الوجه هل نقول إن الطلقتين من المعلق يقعان قبل المنجز بأدنى زمان أو يتبين وقوعهما عقيب التعليق كما في قوله أنت طالق قبل موتي لم أر للأصحاب تصريحا في ذلك ويحتمل أن يأتي فيه وجهان ننظر في أحدهما إلى موضوع اللفظ كما في قوله قبل موتي وفي الآخر إلى المتبادر إلى الفهم وهو الزمان المستعقب بالتنجيز ولعل سببه الترتيب المستفاد من الشرط والجزاء فلا يصرف بلفظ القبلية إلا إلى أقرب ما يمكن
وإذا قيل بالإسناد إلى عقيب التعليق فقد تكون العدة انقضت بينهما فيؤدي القول بإيقاعهما في ذلك إلى الدور فيعدل إلى زمان بعده ليسلم من الدور
وإنما يسند باب الطلاق على قول ابن الحداد إذا قيل بإسناد الوقوع إلى عقب التعليق أما إذا لم يقل به بل قبله بأدنى زمان قد ينسد باب الطلاق ويكون له طريق آخر إلى وقوع الطلاق كما سنبينه في هذا المصنف أو في غيره إن شاء الله
والوجه الثاني في أصل المسألة أنه لا يقع عليها طلاق أصلا وهو قول الجمهور من أصحابنا وحذاق المحققين منهم ابن الحداد لأن التعليق صحيح لصدوره من أهله في محله والوقوع يستلزم الدور المحال فلا يقع وجوابه يمنع صحة التعليق جميعه سند هذا المنع أن صحة جميعه تقتضي لزوم ثلاث طلقات لطلقة بعدها وأنه محال
أما اقتضاؤه لزوم ذلك فهو مدلول الشرطية لأنها تقتضي لزوم تاليها لمقدمها والشرطيات وإن كان بعضها اتفاقيا فهاهنا ليس كذلك لأن التعليق الصحيح شرعا هو الذي يقتضي شرطه جزاءه ولجعل الجزاء فيه مستحقا بالشرط وهذا معنى صحة التعليق
ويتوقف أيضا الجزاء فيه على الشرط من هذه الحيثية أعني من حيث كونه جعله معلقا عليه وإن كان قد يوجد بشرط آخر فقد تبين أن اللزوم حاصل بين الشرط والجزاء
____________________
(2/298)
وأما الاستحالة فلعدم ملك الزوج أربع طلقات ولأنه لا يمكن أن تقع طلقة ويقع قبلها ثلاث بوجه من الوجوه فإن الطلقة المعلق عليها إن وجدت في هذا النكاح لم توجد الثلاث قبلها وإلا كن أربعا وإن وجد في نكاح آخر بأن فسخ نكاحها ثم تزوجها وطلقها لم يمكن القول بوقوع الثلاث في النكاح الأول لأنه حينئذ تبين ويتبين بطلان الفسخ ويلزم من بطلان الفسخ بطلان النكاح الثاني وبطلان الطلاق فيه فيبطل وقوع الثلاث في الأول إلى نفيه وكلما أدى إثباته إلى نفيه بطل من أصله
فإن قلت لا يلزم من بطلان الفسخ بطلان النكاح لأنه خلفه بينونة أخرى بالطلاق الثلاث على هذا التقدير قلت لم يعلم به ذلك الوقت وشرط صحة النكاح العلم بالبينونة
فإن قلت قد يفسخ نكاحها فيتزوجها غيره ونوكله في طلاقها فيطلقها فيصدق أنه طلقها قلت كذلك لا يمكن القول بوقوع الثلاث عليه قبل ذلك لما يلزم من بطلان الفسخ المقتضي بطلان نكاح غيره المقتضي بطلان الوكالة والطلاق المقتضي بطلان وقوع الثلاث قبله فعلم أن لزوم طلقات ثلاث لطلقة بعدها محال فالتعليق المقتضي له باطل فيه وإن كنا لا نقول ببطلانه في غيره عملا بالدليلين المصحح والمبطل بقدر
والوجه الثالث في أصل المسألة أنه يقع في المنجز فقط هو الذي رجحه الرافعي وجماعة وله مأخذان إحداهما إبطال التعليق جملة وهو ضعيف لأنه لا ضرورة إليه والأصل حمل الكلام على الصحة ما لم يعارضه معارض ولا معارض يقتضي الإبطال في الجميع
الثاني قطع الدور من وسطه فيصح المنجز ويبطل المعلق الذي هو في المرتبة الثانية وهذا ضعيف لأنه إنما يفضي بطلان مجموع المعلق وهو الثلاث أما بطلان كل جزء منه فلا ولا شك أن التعليق يقتضي وقوع كل جزء فلم لا يقع ما لا يقتضي الوقوع استحالته
فإن قلت التعليق كله باطل لأن الشرط متقدم على المشروط وهذا التعليق اقتضى تأخر الشرط عن المشروط فكان باطلا
قلت الشرط في اللفظ لا يشترط تقدمه لقوله تعالى إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وألف مثال لذلك
وأما في الحقيقة والحكم فيعم وهو هنا الزمان الذي قبل الطلاق المنجز لما دل عليه الكلام كما في قوله إن قام زيد فأنت طالق قبله بشهر
فإن
____________________
(2/299)
قلت الشرط والمشروط لا بد أن يكونا متغايرين والطلاق لا بد أن يكون مملوكا للزوج والطلقة المنجزة والثلاث إما غير متغايرة وإما غير مملوكة لأن الزوج لا يملك أربعا قلت متى تصورت تصورا صحيحا علمت التغاير بين الطلقة المعلق عليها والثلاث المعلقة وبين المملوك والمعلق والمعلق عليه وإن الطلقة المعلق عليها لا يشترط أن تكون مملوكة وبيان ذلك إما كون الطلقة المعلق عليها لا يشترط أن تكون مملوكة فكالضرب والدخول وغيرهما من الشروط التي يعلق عليها الطلاق
وقد أشرنا فيما تقدم إلى أنه يمكن وقوعها في نكاح آخر وذلك يتبين أنها لا يشترط أن تكون مملوكة ويبين لك ذلك لو قال إن طلقتك فعبدي حر ثم فسخ نكاحها ثم تزوجها وطلقها فإنا نحكم بعتق عبدنا فيما يظهر لنا بلا خلاف وأما كون الطلاق المعلق والمعلق عليه مغايرا للمملوك فتبيينه أنه يقول إن دخلت الدار فأنت طالق وإن أكلت فأنت طالق
وإن شربت فأنت طالق وإن لبست فأنت طالق وما أشبهه فيصير الطلاق معلقا بكل واحد من تلك الشروط وقد ينتهي إلى الألف وهو لا يملك إلا ثلاثا فالطلاق المملوك أعم والطلاق المعلق أخص لأنا نأخذه مقيدا بالإضافة إلى شرطه فبين الطلاق المملوك والمعلق عموم وخصوص مطلق وهو يكفي في التغاير وبين الطلاق المملوك والمعلق عليه عموم وخصوص من وجه وهو يقتضي التغاير أيضا فعلم بهذا أن الشرط والجزاء متغايران لا مانع من تصحيحهما فيما عدا محل الدور
والوجه الرابع في أصل المسألة أنه يقع المنجز وطلقتان من المعلق معه أو بعده على الخلاف في أن المشروط مع الشرط أو بعده ويلغو قوله قبله وهذا ضعيف وإن شارك الأول في إيقاع الثلاث وإنما قلت بضعفه لأنه قصد إلغاء الاستحالة بإلغاء قوله قبله
ولا شك أن إلغاءها بطلقة من الثلاث المعلقة أولى لأن الطلقات هي المتصرف فيها القابلة للتصحيح والإلغاء والقبلية زمان ضدين المراد المتكلم من الوقت الذي قصد إيقاع الطلاق فيه فهو واقع ثلاثا في الزمان المستعقب لزمان التنجيز فالقول بأنه لا يقع منها ثنتان إلغاء لما أوقعه بغير موجب وإيقاع طلقتين مع المنجز إيقاع لما لم يوقعه بغير موجب ولا إرادة فهذا القائل توقع ما لم يقصده المتكلم
____________________
(2/300)
ويمنع وقوع ما قصده مع عدم استحالته فهو قول باطل وحمله عليه اعتقاده أن إلغاء القبلية بهذا وبهذا فهما سواء ولم يتأمل ما قلناه
وهو يحتمل أن يكون له مأخذ آخر وهو أن يقدر الطلاق المعلق كأنه تكلم به وقت وجود الصفة وكأنه قال أنت طالق أمس ثلاثا ولو قال ذلك لكان يقع الطلاق أمس لكن هل يلغو ويقع الآن قولان فعلى الوقوع الآن يصح هذا الوجه وإنه يقع طلقتان من المعلق مع المنجز لو فعل
وهذا الذي يليق بأصل الحنفية فإن عندهم المعلق يقدر إنشاؤه وقت الصفة وعبارتهم أنه ينزل ذلك الوقت
وينبغي أن يكون لنا وجه مثله مأخوذ من هذه المسألة والمشهور عندنا وعند المالكية والحنابلة أن التعليق هو السبب وهو الحق وقد استنظر له دليلا من البدية المجمع عليه وهو قول الوصي إذا مت فأنت حر فلو قدر العتق مع الموت أو بعده لزم إلغاؤه لأنه تصرف بعد إزالة الملك وإنما يقتضي في حالة في الملك الموجود بعتق مضاف إلى حالة الموت جوزه الشارع توسعة للمالك لما يحصل له من الثواب وكذلك الوصية فافهم ذلك فإنه دقيق ومأخذ قوي في هذه المسألة
الوجه الخامس في أصل المسألة في قوله إن طلقتك خاصة أنه يقع المعلق وحده وهو ضعيف عندهم
ومأخذه أن ألفاظ العقود تطلق على الصحيح والفاسد عندهم وهو ضعيف وعندي في ضعفه نظر فإن الألفاظ التي لم تحقق من الشرع كالبيع والطلاق ونحوهما لم يقم عندي دليل على قصر اللفظ على الصحيح منها بل الألفاظ الشرعية المنقولة كالصوم والصلاة لها أركان وشروط وبدون الأركان يظهر عدم إطلاق اللفظ الشرعي عليها وأما بدون الشرط فإنا نحكم عليها بالفساد وإذا سلمنا الاسم عنها فقد يقال إنه بالمجاز
ويمكن لهذا الوجه مأخذ آخر وهو أن الاسم وإن قصر على الصحيح لكن هنا قرينة تقتضي أن المراد التطليق الذي لولا المانع لوقع والمانع ما جعله جزءا من وقوع الثلاث قبله هذا ما تيسر ذكره في هذه المسألة سريعا في بعض ما بين الظهر والعصر من يوم الخميس سابع عشر شوال سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة حسبنا الله ونعم الوكيل
تنبيه أشرت إليه فيما تقدم في الملحق إذا قلنا بقول ابن الحداد وأنه لا يقع طلاق
____________________
(2/301)
أصلا فيجب أن يكون المراد وإن طلقتك فأنت طالق قبله قبلية متسعة ابتداؤها من حين التعليق أما إذا قال بأدنى زمان أو إن طلقتك في الزمان الفلاني فأنت طالق قبله ثلاثا ففي كل هذه الصيغ لنا طريق إذا طلقها يقع قبله الطلاق الثلاث ولا دور ولا إشكال وذلك بأن يقول إذا طلقتك فلم يقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ولا يلزم من ذلك محذور لأن ذلك الطلاق الذي حكمنا بوقوعه لا يلزم من وقوعه عدم شرطه لأن شرطه عدم الوقوع بعده بخلاف ما لو حكمنا بوقوعه لأجل وقوع الطلاق بعده فإنه حينئذ يلزم من وقوع عدم وقوع شرطه المقتضى لعدم وقوعه وإنما جاز ذلك من اتحاد الزمان وتأخره عن زمان التعليق متراخيا عنه فلو لم يكن كذلك بأن جعلنا القبلية متسعة إما بالتنصيص وإما بالحمل على ذلك يلزم من وقوع الطلاق في أي زمن فرض متراخيا وقوع طلاق قبله بمقتضى اليمين الأولى ويلزم من وقوعه قبله عدم وقوعه فيدور وهكذا حتى يستند إلى الزمان الذي عقب بزمان التعليق الأول
والفرض أن التعليق الثاني بعد الأول فلا يمكن وقوع الطلاق بعد التعليق الثاني أصلا ولا معه نعم لو فرض أنه قال أولا إن طلقتك فلم يقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثم قال إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا ثم قال لها أنت طالق
فنقول إنه يحكم بوقوع الطلاق بمقتضى اليمين الأولى مع التعليق الثاني قبل انعقاده إذ لا مانع من وقوع الطلاق حينئذ وإن اليمين الدائرة المانعة منه إلى الآن ما انعقدت فافهم ذلك فلم أر أحدا تنبه له وإن كان تنبه لبعضه
تنبيه آخر قدمنا أن الصفة ليس من شرطها أن تكون مملوكة والطلاق المعلق من شرطه أن يكون مملوكا أعني عموم المملوك الصادق عليه فإذا قال إن دخلت فأنت طالق ثلاثا ثم خالعها ثم تزوجها ثم دخلت قال الأصحاب يتخلص على الأصح وأخذوه من أنه يصير تعليقا قبل الملك وفيه نظر لأنها تعود بما بقي من عدد الطلاق فالطلاق لو قيل بوقوعه هو المملوك الذي كان النكاح الأول فليس تعليقا قبل الملك فالقول بعدم عود الصيغة فيه نظر لأن التعليق والصفة كلاهما حال الملك وإنما تخللت حالة بينهما فلينظر إلى أنها هل تمنع الوقوع أو لا والله
____________________
(2/302)
أعلم
ألحقت ذلك في درس الأتابكية يوم الأربعاء سادس قعدة سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة
وهذا التنبيه الثاني إن لم يكن له تعلق بمسألة الدور إلا أنه عرض عند النظر فيها والله أعلم
كتب علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي غفر الله له ولوالديه انتهى
قال ولده مولانا قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب هذا هو الذي استقر عليه رأيه وأملى بعده علي فيه مصنفا آخر أبسط من هذا هو عندي وكان صنف قبلهما في مصر مصنفين نصر فيهما قول ابن الحداد ثم رجع عنه واستقر رأيه على هذا فليتنبه ثم أملى علي ما هو معناه إلا أنه أبسط ثم كتب بخطه ما هو نصه نقل من خطه
فصل قال الشيخ الإمام رحمه الله هذه مؤاخذات على التصنيف الصغير الذي عمله ابن تيمية في مسألة الطلاق وسماه بالاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق لا أطول فيها لأني قد تكلمت على كلامه قبل ذلك ولكن أنبه على المواضع التي في هذا التصنيف بحسب الاختصار والله الموفق قوله إن صيغة قوله الطلاق يلزمني لأفعلن كذا يمين باتفاق أهل اللغة فإنها صيغة قسم قلت كيف يدعي اتفاق أهل اللغة على ذلك ولا أعرف هذه الصيغة وردت في كلام أهل اللغة ولا سمعت من عربي لا في نظم ولا في نثر
وقوله وهو أيضا يمين في عرف الفقهاء ولم يتنازعوا في أنها تسمى يمينا
قلت قد تكلمنا عليه فيما مضى من كلامنا وبتقدير صحته لا يلزم حمل كلام الشارع على عرف الفقهاء ما لم يعلم وجوده في زمنه صلى الله عليه وسلم
وقوله إن منهم من غلب عليها جانب اليمين فلم يوقع به بل قال عليه كفارة يمين
قلت هذا القول لا أعرف أحدا صرح به من سلف ولا خلف
وأما اقتضاء كلام ابن حزم في كتابه المصنف في الإجماع لنقله فقد تكلمت عليه فيما مضى من الكلام المسمى بالتحقيق في مسألة التعليق التي ستكتب بعد هذا
وقوله إن الحلف بالطلاق إنما عرف عن التابعين ومن بعدهم قد تكلمنا عليه في التحقيق
وقوله إن التعليق الذي قصد صاحبه الحلف حكمه حكم الحلف بالطلاق باتفاق الفقهاء إما أن يريد في كونه يسمى حلفا أو في تساوي أحكامهما فإن أراد الأول
____________________
(2/303)
فقد تكلمنا عليه وإن أراد الثاني فممنوع
وسند المنع من وجوه منها أنهم لم يختلفوا أن التعليق صريح واختلفوا في الطلاق يلزمني هل هو صريح أو كناية
ومنها أنه لا نجد واحدا من الفقهاء يسوي بين الصيغتين بمعنى أنه يقول إما أن يقع الطلاق فيهما أو لا يقع فيهما بل أكثرهم يسوي بينهما في الوقوع
ومنهم من يفرق والحكم بالوقوع فيهما الذي من لازمه التسوية فيه ليس حكما بالتسوية بالتفسير المتقدم حتى يستنتج منه عدم الوقوع فيهما الذي هو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء ومن أراد إشباع القول في ذلك فعليه بالتحقيق مع اختصاره
قوله إن أنواع الأيمان ثلاثة 1 بالله 2 لله 3 أن يعقدها بغير الله أو لغير الله
قلت الأقسام أربعة الأول بالله كقوله والله لأتصدقن
الثاني بالله لغير الله كقوله والله لأسرقن الثالث بغير الله لله كقوله والكعبة لأتصدقن ويدخل في هذا إن فعلت كذا لأتصدقن أو فعلي الحج والرابع بغير الله لغير الله كقوله والكعبة لأسرقن
ويدخل في هذا القسم إن فعلت كذا لأسرقن أو فهو يهودي أو نصراني فالقسمان الأولان منعقدان تجب فيهما الكفارة والثالث فيه مثالان أحدهما القسم الصريح كقوله والكعبة لا ينعقد ولا يلزم به شيء والثاني إن فعلت كذا فعلي الحج أو الحج يلزمني لأفعلن كان القياس يقتضي أنه لا يلزم كالأول لأنه إذا كان القسم الصريح لا يلزم به شيء فما هو في حكمه بطريق أولى
ولعل هذا مستند من قال إنه لا يلزمه به شيء لكنه لما لم يكن في الصيغة الثانية تعظيم لغير الله بل التزام مجرد فارق قوله والكعبة وما أشبهه فإن فيها تعظيم غير الله فلذلك أبطل أثرها وأما الصيغة الثانية فليس فيها إلا التزام مجرد والشخص متمكن من إلزام نفسه بدليل النذر المطلق ونذر التبرر والضمان فقد التزم شيئا ليس فيه تعظيم غير الله وليس منهيا عنه وهذا المأخذ أعوص وأقرب وعليه أكثر السلف أعني من اعتبار ذلك وأنه يترتب عليه حكم لكنهم اختلفوا في المترتب فمن قائل وجوب الوفاء بما التزم لما أشرنا إليه من أنه التزم شيئا ليس فيه تعظيم لغير الله فلا مانع من اعتباره كنذر التبرر ومنهم من رأى أن الملتزم لذلك لم يقصد التزامه تقربا إلى الله تعالى بل إنما قصد ذلك ليمنع نفسه مما حلف
____________________
(2/304)
عليه أو يحثها والنذر الذي حكم الشرع بوجوبه إنما هو فيما يقصد التقرب فلا يجب عليه هنا الوفاء ويتخلص منه بكفارة يمين لأنه مشبه لليمين من حيث كونه منع نفسه بالتزام شيء ليس فيه تعظيم غير الله
وأما قوله في آخرها إنه حلف حقيقة على الحج مثلا فيرده أن السلف والخلف يطلقون في مثل ذلك أنه حلف بالحج وحلف بالعتاقة وحلف بالصدقة فيمن قال إن فعلت كذا فعلي حج أو عتاقة أو صدقة
ولو كان الأمر كما يقول لكانوا يقولون حلف أن يحج أو يتصدق أو يعتق وهم لا يقولون إلا حلف على هذا الفعل بالحج وما أشبهه وذلك هو الذي يفهمه الذين يحلفون فالفعل المقصود الامتناع منه هو المحلوف عليه والحج مثلا هو المحلوف به ويسمونه إذا فعل الفعل حانثا ولو كان كما يقول لم يكن حانثا إلا بترك الحج وما أشبهه فهو نادر حقيقة لكنه غير داخل في قوله صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه لأن على وجه الحلف ليس قصده الطاعة وإن كان قصده المشي على تقدير المخالفة لأن قصد المشي له جهتان إحداهما أن يكون امتثالا للأمر وذلك هو الطاعة وهو مفقود هنا والثاني أن يكون لغرض آخر كما هاهنا فإنه إنما قصده ليكون مانعا له من الفعل فإذا لم يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه فلا يجب وإن كان مقتضى كلامه أنه أوجبه على نفسه لأنه ليس كل ما أوجبه الإنسان على نفسه يجب عليه إلا بإيجاب الله تعالى ففيما إذا كان المقصود الطاعة أوجبه الله تعالى عليه فوجب وها هنا ليس المقصود الطاعة
ودخل في قوله كفارة النذر كفارة يمين وفي قوله تعالى يوفون بالنذر فإذا فعل ذلك الفعل فقد ترتب المنذور في ذمته ولا يجب عليه وفاؤه عينا بل له أن يسقطه بالكفارة
وقد بسط ذلك أكثر من هذا في التحقيق
قوله إن من حلف بغير الله مثل أن يحلف بالطواغيت أو بأبيه أو بالكعبة أو غير ذلك من المخلوقات أنها يمين غير محترمة فلا تنعقد ولا كفارة فيها باتفاق العلماء
يرد عليه في إيجابه الكفارة في الطلاق والعتق
وأما حكمنا نحن بانعقادها فلأنها ليست في معنى ما اتفقوا على عدم انعقادها لأنها ليس فيها تعظيم
____________________
(2/305)
غير الله بخلاف الحلف بالطواغيت وأبيه والكعبة
وقوله في المعقودة لله فيما إذا كان مقصوده التقرب لا الحلف إلى آخره يقتضي وجوب الكفارة في كل نذر وليس كذلك فإن نذر التبرر لا خلاف فيه أنه لا تجب فيه الكفارة وكأن النسخة سقيمة فلينظر في أخرى
وإدراجه الحلف بالطلاق والعتاق في القسم الثاني في اليمين المعقودة لله يقتضي أن الحلف بالطلاق يمين معقودة لله وفيه نظر فإن قوله معقود لله إن أريد بها التقرب إلى الله فاليمين بالطلاق ليست كذلك وإن أريد به أنه التزم بها شيئا يجب لله تعالى عليه كالحج والصدقة فليس كذلك لأن الحالف بالطلاق ليس مقصوده أنه إذا حصل الحنث يجب عليه الطلاق ولا أن ينشئ طلاقا بل مقصوده أنها تطلق بمجرد وجود الشرط
قوله ومن العلماء من فرق بين ما عقده لله من الوجوب وهو الحلف بالنذر وما عقده لله من تحريم وهو الحلف بالطلاق والعتاق فقالوا في الأول كفارة وفي الثاني ما حلف هذا وإن كان قول الجمهور ولكن لم يقولوه بهذه العبارة وليس مأخذهم كون هذا تحريما وإيجابا ولو كان ذلك مأخذهم لزمهم أن يقولوا به من كل تحريم كما قال إن فعلت كذا فامرأتي أو أمتي حرام وهذا الطعام علي حرام فيحرم إذا وجد الشرط وهذا لم يقل به أحد
بل مأخذهم أن هذا وقوع وذاك التزام والأول مفوض إلى العبد يصيب بسببه تنجيزا وتعليقا ومتى وجد سببه لا يتأخر عنه
والثاني ليس مفوضا إليه مطلقا بل على وجه خاص وإذا وجب سببه وترتب في الذمة يمكن سقوطه بخلاف الأول
واستدلاله بالآيات والحديث الدال على تكفير الأيمان ودعواه أنها شاملة لهذه اليمين ممنوعة
وقوله إن هذه داخلة في أيمان المسلمين وأيمان البيعة ودعواه أنه لا يعلم فيها نزاعا فاعلم أن قولنا أيمان المسلمين وأيمان البيعة إنما صارت يدخل فيها الطلاق والعتق من زمن الحجاج فإنه زادها في أيمان البيعة وصار يحلف المسلمين بها واشتهرت من ذلك الوقت فإذا نواها الحالف دخلت وإن لم ينوها لا تدخل ولولا ذلك دخلت اليمين بالطلاق والعتاق فيها نوى أو لم ينو فالإيهام بكونها من أيمان المسلمين لا يفيد
ومما يبين أن ذلك أن قول القائل أيمان
____________________
(2/306)
المسلمين إما أن يراد بها ما شرع للمسلمين الحلف بها أو ما يتعارف المسلمون الحلف به وجرت عادتهم به فإن أريد الأول فاليمين بالطلاق والعتاق لم يشرع للمسلمين الحلف بها بل هي منهي عنها لقوله صلى الله عليه وسلم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت وإن أريد به ما يتعارفه المسلمون وجرت عادتهم بالحلف به فاليمين بالطلاق والعتاق لم تجر عادة المسلمين حين الأول ولا في زمنه صلى الله عليه وسلم بالحلف بها وهو قد سلم فكيف يقول إنها داخلة في أيمان المسلمين ويحتج بعرف طارئ بعد النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعين سنة ثم إن سياق الآيات الكريمة في معرض إيجاب الكفارة في الأيمان لا في معرض تبيين ما تجب فيه الكفارة من الأيمان وأنها من أيمان المسلمين دون أيمان غيرهم
وقد قال تعالى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان وهي أعم وقال النبي صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين والخطاب وإن سلم أنه للمؤمنين خاصة فيدخل في حكمه كل مكلف لعموم شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل أحد بكل مكلف بر أو فاجر يدخل في حكم هذا الخطاب ولكن تبين بدليل آخر أن الأيمان التي لا حرمة لها لا يجب فيها كفارة فعلمنا خروجها من الآيات والحديث بالأدلة الخاصة وقد كان المسلمون يحلفون بآبائهم حتى نهوا
وقد قال تعالى والليل والضحى والشمس وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال أفلح وأبيه إن صدق وهو سيد المسلمين
قوله وأما من جهة المعنى فهو أن فرض الكفارة لئلا تكون الأيمان موجبة أو محرمة لا مخرج منها فلو كان من الأيمان ما لا كفارة فيه كانت هذه المفسدة موجودة
قلنا لا نسلم وجودها لأن تلك المفسدة على تقدير مخالفة اليمين ارتكاب معصية الله من فعل محرم أو ترك واجب
وقد تدعو الضرورة إلى مخالفة اليمين فشرعت الكفارة لذلك والمفسدة هنا وقوع الطلاق فليس فيه معصية وإن كان فيه مفسدة أخرى لكن المعصية أشد عند المسلم من كل مفسدة دنيوية
والمفسدة على تقدير المحافظة على اليمين مشتركة ولا نسلم أن هذه المفسدة وحدها هي الملاحظة بل المجموع الذي هو موجود في اليمين بالطلاق والعتق
____________________
(2/307)
فإن قلت ففي نذر الحاج لم حلت الكفارة
قلت لأنه فيه إيجاب ويحصل بتركه المعصية فلو لم تشرع فيه الكفارة لكان بمنزلة اليمين قبل شرع الكفارة لحصول العصيان على تقدير ترك ما التزمه فهو باليمين من تعليق الطلاق والعتق الذي لا معصية فيه ألبتة
وقوله إن الله نهاكم أن تجعلوا الحلف بالله مانعا لهم إلى آخره
قلت الذي فهمته من كلام السلف في قوله ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن المنهي عنه الحلف لأجل هذا الغرض وعليه ينبغي أن يحمل ما ورد عنهم مما ظاهره خلاف ذلك وإلا فكيف يجعل بالبقاء على اليمين جاعلا الله عرضة ليمينه
هذا مما ينبو الفهم عنه
وكلام الصحابة والتابعين المعتمد على تفسيرهم ليس فيه تصريح به بل يفهم منه ما قلته أولا والله أعلم
وقوله في الإيلاء إلى آخره قلنا لا نسلم دخول الحالف بالطلاق في لفظ الآية بل في حكمها بالقياس ولو سلمنا وقوله تعالى فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم والله أعلم فيه مقصوده المزوجة وهي متعددة هنا وليس في الآية أن كل مول يمكن أن يفيء هذه الفيئة الخاصة ولو سلمنا ذلك فالمرأة إذا تحققت أنها متى وطئت يقع الطلاق عليها تكره صحبته إن كانت راغبة في الوطء فيحصل مقصودها وأما إن كانت غير راغبة في الوطء وتكتفي بمجرد الصحبة فلا تطلبه والفيئة إنما تكون بعد الطلب أو التعرض له
وقوله إنه على هذا التقدير فلا فائدة في التأجيل بل التعجيل إليها قلنا التأجيل ليس لأجلها بل لأجله فيمهل هذه المدة التي لا تضر بالمرأة ثم تطالب بعد المدة دفعا لضررها
وأما أن التأجيل شرع لنفع المرأة فلا وما ذكره من فتوى الصحابة فيمن قال إن فعلت كذا فعبيدي أحرار قد حصل الكلام عليه في التحقيق وفيه كلام طويل لا يحتمل ذكره هنا
والإمام أحمد لم يثبته وتقريره لأن هذه أيمان محضة قد تقدم التنبيه على شيء منه وقد ذكرت أنا قريبا منه في التحقيق قبل أن أقف على كلامه فيه ولكن بينه وبين كلامه بعض المباينة وهو أنني أنا أجعله بوجود الشرط في نذر الحاج صار بمنزلة الحالف على الحج مثلا وصيرورته كذلك ليس من مقتضى كلامه بل الشرع نزله منزلته
____________________
(2/308)
وأما مقتضى كلامه فالتزام التزمه لا غير وأما ابن تيمية فظاهر كلامه هذا أن يجعله مقتضى كلامه الحلف لا النذر
وأما احتجاجه بقوله إن فعلت كذا فهو يهودي وما أشبهه فقد أجبت عنه في التحقيق وكذلك قياسه على قوله إن فعلت كذا فعلي أن أطلق امرأتي
وقوله إن المعلق للطلاق ملتزم لوقوعه وقوله بعد ذلك إن من عقد اليمين لله فهو أبلغ ممن عقدها بالله ولهذا كان النذر أبلغ من اليمين قد بينا أن الحلف بالطلاق ليس عقد يمين لا بالله ولا لله بل هو عقد يمين لغير الله وهو الطلاق على فعل قد يكون لله وقد يكون لغيره وسلوكه به مسلك النذر هو أصل ما بنى عليه وحصل له منه الاشتباه وبينهما من الافتراق بون عظيم ولم يوجب له هذا الشغب الكثير إلا تسويته بينهما ولا يستويان والله تعالى يلهمنا رشدنا بمحمد وآله
كتبت ذلك مختصرا جدا بحسب الراغب فيه ولأنه قد تقدم الكلام بما يغني
وذلك بكرة نهار الأربعاء عشر شهر رمضان المعظم سنة ثمان عشرة وسبعمائة نفعني الله بها والناظر فيها بمحمد وآله
كتب علي بن عبد الكافي السبكي انتهى
نقل من خط من نقل من خطه وسماه نقد الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق
مسألة مسماة بالنظر المحقق في الحلف بالطلاق المعلق للشيخ الإمام رحمه الله كتابان في الرد على ابن تيمية أحدهما كتابه الكبير المشهور المسمى بالتحقيق في مسألة التعليق والثاني كتاب رفع الشقاق عن مسألة الطلاق
وهذه فتيا مختصرة قال رحمه الله مسألة إذا علق الرجل طلاق زوجته على شرط قاصدا اليمين إما لحث أو منع أو تصديق ثم وجد ذلك الشرط وقع الطلاق
وبيان ذلك أن مقتضى القضية الشرطية الحكم بالمشروط على تقدير الشرط خبرية كانت أو إنشائية والمعلق فيها هو نسبة أحد الخبرين إلى الآخر لا الحكم بتلك النسبة الذي هو منقسم إلى الخبر والإنشاء لأن كلا منهما يستحيل تعليقه فالمعلق في مسألتنا هو الطلاق وأما التطليق فهو فعل الزوج يوقعه منجزا أو معلقا ويوصف التعليق بكونه تطليقا عند وجود الشرط حقيقة فإن لم يجز التعليق يخرج الذي
____________________
(2/309)
حصل مقتضاه عن الشرط ويشهد لذلك أحكام الشريعة كلها المعلقة بالمشروط ومن منع تعليق الطلاق بالصفات مطلقا فقد التبس عليه التعليق بتعليق الإنشاء فظن أن تعليق الطلاق من الثاني وإنما هو من الأول وقد علق الله إحلال امرأة لنبيه صلى الله عليه وسلم على هبتها نفسها له وإرادته استنكاحها وإن خرج اليمين فالأمر كذلك لوجوه أحدها أنه تعليق خاص فيجب ثبوت حكم التعليق العام له
الثاني والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين وجه الاستدلال أن الملاعن يقصد بهذا الشرط التصديق فهو خارج مخرج اليمين ومع ذلك فهو موجب اللعنة والغضب على تقدير الكذب بدليل قوله إنها موجبة وبأنه لو كان المترتب على ذلك الكفارة لكان الإتيان بالقسم أولى
الثالث أن في القرآن والسنة وأشعار العرب وكلام الفصحاء من التعليقات التي الحث أو المنع أو التصديق ما لا يحصى مع القطع بحضور المشروط فيها عند الشرط
الرابع أن تسمية التعليق المذكور يمينا لا يعرفه العرب ولم يتفق عليه الفقهاء ولم يرد به الشرع وإنما يسمى بذلك على وجه المجاز فلا يدخل تحت النصوص الواردة في حكم الأيمان وأنها قابلة للتكفير
الخامس أن هذا التعليق وإن قصد به المنع فالطلاق مقصود فيه على ذلك التقدير ولذلك نصبه الزوج مانعا له من ذلك الفعل ولولا ذلك لما امتنع ولا استحالة في كون الطلاق غير مقصود للزوج في نفس الأمر ومقصودا له على تقدير وإذا كان مقصودا ووجد الشرط وقع الطلاق على مقتضى تعليقه وقصده
السادس أنه عند الشرط يصح اسم التطليق لما تقدم فيندرج تحت قوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره
والسابع أن التطليق مفوض إلى العبد بقوله تعالى فطلقوهن لعدتهن وهو أعم من المنجز والمعلق فيندرج المعلق تحت الآية
الثامن الإجماع نقله محمد بن نصر المروزي وأبو ثور وابن المنذر وغيرهم
فإن قلت يرد عليك أمران أحدهما طلب الفرق بين هذا وبين نذر الحاج عند من جعله يتخلص منه بكفارة يمين والثاني في دعواك الإجماع
وقد نقل بعض الناس قولين آخرين أحدهما أنه لا يلزمه
____________________
(2/310)
به شيء
والثاني أنه يلزمه به كفارة
قلت أما الأول فالجواب عنه أن الطلاق إسقاط حق لا يشترط فيه قصد القربة وفي اللجاج لم يوجد هذا الشرط ولم يأذن الشرع فيه وليس للعبد إيجاب ولا تحريم إلا بإذن الله وأيضا فإن الدليل قد قام على ما قلناه وهو على وفق الأصل فإن دل دليل على خروج اللجاج عنه بقي ما عداه على الأصل وأما أن نجعل اللجاج المختلف فيه الخارج عن الأصل أصلا ونلحق به الجاري على وفق الأصل فغير سديد وأما الثاني فإن القول بعدم الوقوع ما قاله أحد من الصحابة ولا من التابعين إلا أن طاوسا نقل عنه لفظ محتمل لذلك أولناه ولا ممن بعدهم إلا الشيعة ومن وافقهم ممن لا يعتد بخلافه
وأما القول بالكفارة في ذلك فلم يثبت عن أحد من المسلمين قبل ابن تيمية وإن كان مقتضى كلام ابن حزم في مراتب الإجماع نقل ذلك إلا أن ذلك مع إبهامه وعدم تعيين قائله ليس فيه أنه في مسألة التعليق فيجوز أن يحمل على غيرها من صور الحلف والله أعلم انتهى
كتبه مصنفه علي السبكي في ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من المحرم سنة خمس وعشرين وسبعمائة
مسألة قال لزوجته الطلاق يلزمني ثلاثا ما بقي بيني وبينك معاملة
ينبغي أن يقال إن نوى معاملة خاصة
كمداينة أو غيرها فيصح ويحمل عليها وتكون يمينه منعقدة عليها والزوجية بينهما مستمرة لا تؤثر فيها اليمين المذكورة وإن أطلق ولم ينو شيئا فالزوجية من جملة المعاملات فإن أبانها على الفور بما دون الثلاث انحلت يمينه وله ردها بنكاح جديد وإلا فيقع الطلاق الثلاث لبقاء المعاملة بدوام الزوجية بينهما ولو لحظة ولو نوى معاشرة خاصة أو نحوها حمل عليه كالمداينة وكانت اليمين منعقدة عليها مع بقاء الزوجية والله أعلم
كتبه علي السبكي ليلة الخميس ثالث عشر ذي القعدة سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة
مسألة قال لزوجته الطلاق يلزمني ما بقيتي تكوني لي بامرأة
الجواب تطلق بذلك الطلاق الذي حلف إن كان ثلاثا فثلاث وإن كان واحدة فواحدة والله أعلم انتهى
____________________
(2/311)
312 مسألة قالت له حماته تزوجت على بنتي فقال كل امرأة لي غير بنتك طالق وليس له زوجة غيرها هل تطلق لكونه لأنه استثنى مستغرقا
الجواب لا تطلق وليس هذا استثناء بل هو صفة ولو كان استثناء فنحن إنما نقول الاستثناء المستغرق باطل لما فيه من التناقض لأن آخره يرفع أوله ولفظه متهافت كقوله له علي عشرة إلا عشرة أو أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا أما إذا لم يحصل في اللفظ تهافت بل كان منتظما فقد لا نقول ببطلانه ومثاله أنت طالق خمسا إلا ثلاثا إذا جعلنا الاستثناء من المملوك مستغرقا فيبطل وإن جعلناه من الملفوظ لم يكن مستغرقا فلا يبطل فإذا خرج ثلاثا من خمس بقي ثنتان فيقع ويبقى له عليها واحدة ومسألتنا يمكن أن يقال إنها من هذا القبيل لأن قوله كل امرأة لي لفظة مجردة لا تناقض قوله إلا أنت إذا أخذنا أنه لا امرأة له غيرها
وفي كون هذا مستغرقا نظر إذ لا تهافت فيه لكن من جهة أخرى غير التهافت وهو أنه متى لم يوقع يلزم إلغاء اللفظ وأنه أطلق المرأة على غير المرأة فمن هذا الوجه يحتمل أن يقال بالوقوع
وهذا المأخذ لا فرق فيه بين أن نجعله صفة أو استثناء فليتأمل ذلك فإنني بعد أن كنت جازما بأن الطلاق لا يقع لأجل كونه صفة عرض لي وقفة من هذا الوجه
وحاصله أنا هل نسوغ له ذلك أو نوجب حمل المرأة على من في عصمته والظاهر الثاني وهو مقتضى الوقوع ولا ينجي من هذا إلا أن يقال إن المقصود بها الكلام إن كانت لي امرأة غيرك فهي طالق فهي قصة في معنى قصة أخرى وليس المراد ظاهرها من إيقاع الطلاق منجزا على كل امرأة له غير هذه لأن الذي نعلم أنه لا امرأة له غير هذه لا يقصد بهذا الكلام إلا التعليق وهي أن تكون له امرأة أخرى فليتأمل ذلك انتهى
ثم كتب الشيخ الإمام على الحاشية بخطه ما نصه الذي استقر عليه رأيي في هذا أنه لا يقع الطلاق سواء جعلناه صفة أم استثناء إلا أن يؤخر فيقول كل امرأة لي طالق غيرك أو إلا أنت طالق فلا يقع وليس مستغرقا
والمستغرق إنما هو أن يكون المستثنى والمستثنى منه مدلولهما من حيث اللفظ واحد وأن يرفع حكما بعد ثبوته كما إذا تأخر
ورأيت
____________________
(2/312)
بعد هذا في نسخة من فتاوى القاضي حسين غير الفتاوى المشهورة مسألة ما نصه إذا قال كل امرأة غيرك طالق ولا امرأة له غيرها قال الشيخ إن كان قال هذا على سبيل الشرط لم يقع وإلا وقع لأنه استثناء منها فيصير كأنه قال أنت طالق إلا أنت قلت أنا كيف ما كان ينبغي أن لا يقع الطلاق على امرأة القائل
قلت لا أدري من هو ولعله الذي جمع الفتاوى
قال مولانا قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب فسح الله في مدته ثم خرج الشيخ الإمام المسألة في باب الإقرار في شرح المنهاج مختصرة ولم يحك فيها النقل
مسألة من فارسكور في المحرم سنة أربع وثلاثين رجل قال لامرأته التي لم يدخل بها إن انقضت مدة كذا ولم أدخل بها فهي طالق فانقضت المدة وهو غائب
أجاب إن شهد أربع من القوابل ببكارتها حلفت لأجل غيبته على عدم الدخول وحكم بوقوع الطلاق انتهى
مسألة حلف بالطلاق أنه يعطي فلانا كل يوم نصف درهم فإذا مضى يوم ولم يعطه وقع عليه طلقة وراجع ثم لم يعطه في اليوم الثاني هل يقع عليه شيء بعد ذلك
أجاب تنحل اليمين بعدم الإعطاء في اليوم الأول فلا يقع عليه بعد الإعطاء شيء بعد ذلك والله أعلم
مسألة قال الشيخ الإمام رحمه الله اختياري في المسألة الشريحية وقوع المنجز وكذا يقع من المعلق بكلمة الثلاث إلا أن يفضي إلى أن تكون العدة انقضت بينهما فإنه إذا قال إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا قال بعضهم التعليق باطل لمنافاة الجزاء للشرط لأنه إذا فسخ نكاحها ثم تزوجها غيره ودخل بها ثم رجعت إلى الأول ثم طلقها في النكاح الثاني فإن قلنا القبلية مضيقة تخرج على عود الحنث إن عاد دار وإلا فلا ووقع المنجز وإن قلنا القبلية متسعة بأن وقوع الثلاث في النكاح الأول وبطلان الفسخ ونكاح الأجنبي صحيح لأنها بائن بالثلاث ورجوعها إلى الأول صحيح لحصول التحليل ووقوع الثلاث في النكاح الأول لأن
____________________
(2/313)
المعلق عليه تطليق غير معتد به والمعلق مقيد بالقبلية فقد بان بهذه المسألة أن التعليق ليس محالا كما ظنه بعضهم فإذا نجز واقتضى الحال الدور تعارض معنا ما يقتضي إلغاء إما المنجز وإما المعلق وإلغاء المعلق أولى لأنه ناشئ عن تصرفه ووقوع المنجز ناشئ عن حكم الشرع وهو في نظر الشرع أقوى من المعلق فيرجح عند التعارض وإنما قلت يكمل الثلاث عند الإمكان لصحة التعليق انتهى
قال ولده قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب سلمه الله هذا هو الذي استقر عليه رأي الشيخ الإمام في المسألة الشريحية وعليه مات وصنف فيه تصنيفا أملاه علي وكان صنف قبل ذلك في الديار المصرية مصنفين سمى أحدهما قطف النور في مسائل الدور وسمى الثاني النور في الدور ونصر فيهما قول ابن شريح وابن الحداد ثم رجع في الشام عن ذلك واستقر علمه على هذا انتهى
باب العدة مسألة المطلقة الرجعية هل للزوج أن ينقلها إلى منزل آخر أجاب ليس له ذلك إلا أن يراجع أو يحصل منها بذاءة نص عليه الشافعي في الأم صريحا
وقال الشيخ في المهذب دار سكناها حيث يجتاز الزوج من المواضع التي تصلح لسكنى مثلها لأنها تجب بحق الزوجية وظاهر هذا أن له أن ينقلها
وما قاله الشافعي أولى لقوله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يمكن حمله على البوائن كما لا يخفى من آخر الآية
وهذه مسألة مليحة قل من صرح بها فينبغي أن تحفظ والله أعلم انتهى
صورة فتوى ما يقول السادة العلماء أئمة الدين في حديث جابر رضي الله عنه الذي رواه مسلم وغيره قال والغورى خالتي فأرادت أن تجد نخلها فزجرها رجل أن تخرج فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال بلى فجدي نخلك فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا
قال في التتمة هذا في الحائل أما الحامل فإذا قلنا تعجل نفقتها فهي مكفية بها فلا تخرج إلا لضرورة فهل هذا الذي قاله صاحب التتمة وسكت
____________________
(2/314)
عليه الإمام الرافعي ولم يعقبه بنكير هو المعتمد عليه في مذهب الشافعي أم لا وهل لمستدل شافعي أن يقول استدل بهذا الحديث على خروجها مطلقا لكونه صلى الله عليه وسلم لم يستفصلها هل تجد لها كافيا يكفيها ذلك أم لا وإذا كان له أن يستدل بهذا لكونه صلى الله عليه وسلم لم يستفصلها فهل لمانع أن يقول إنما لم يستفصلها لكونه صلى الله عليه وسلم علم أنها لم يكن لها كافل يكفيها ذلك فهل هذا القول مقبول أم لا وإذا قلنا هذا من المانع فهذا يرد على كل حديث أخذ الاستدلال منه من ترك الاستفصال أم لا وإذا ورد هذا السؤال على الاستدلال بترك الاستفصال فهل يكون جوابه عن هذا السؤال وهو جواز كونه صلى الله عليه وسلم علم الواقعة من حال السائل يجوز أن يكون عند النبي صلى الله عليه وسلم من سمع كلامه ولم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم علم حال السائل فلم يستفصله لكونه علم والسامع لم يعلم ذلك ولا بينه له النبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره فيروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ويبقى ذلك شرعا عاما ويؤدي ذلك إلى وقوع الناس في المحذور فهل يكون هذا جوابا كافيا أم لا بينوا لنا الحكم في ذلك بيانا شافيا واضحا بحيث يزول اللبس عن هذا كله وعن هذه القاعدة أثابكم الله
الجواب الحديث المذكور صحيح رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج عن أبي الزبير عن جابر وبوب عليه أبو داود والنسائي باب في المبتوتة تخرج بالنهار
وقال الشافعي نخل الأنصار قريب والجداد إنما يكون نهارا وذكر أصحابنا هذا الحديث في الخلافيات فإن المسألة من الخلافيات بيننا وبين أبي حنيفة ليس للمطلقة طلاقا بائنا أن تخرج لقوله تعالى ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وهو قول قديم للشافعي
ومأخذ أبي حنيفة فيه أنه يقول بوجوب نفقة البائن والجديد أنها كالمعتدة عن الوفاة فتخرج لحاجتها نهارا للحديث المذكور وهو مذهب مالك وأحمد ووافقنا أبو حنيفة على أنها تخرج للعذر الملجئ وإنما الخلاف في الخروج لحوائجها المعتادة التي ليست بملجئة مثل شراء الطعام والقطن وبيع الغزل وما أشبه ذلك
____________________
(2/315)
وجداد النخل منه ولا سيما مع قربه كما أشار الشافعي إليه والحديث نص فيه ولا فرق في هذا بين أن يقول المطلقة المبتوتة لها السكنى كما هو مذهب الجمهور حملا للآية الكريمة في قوله لا تخرجوهن على جميع المطلقات أو يقول لها كما هو إحدى الروايتين عن أحمد حملا للآية على الرجعيات لحديث فاطمة بنت قيس في روايتها في المبتوتة أنها لا سكنى لها ويرده قوله تعالى أسكنوهن بعد قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن واتفقوا على وجوب النفقة لأولات الأحمال وإن كانت مبتوتة والظاهر أن الأول مثله وأن الآيات كلها في المطلقات كلهن ولهذا رد عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبر فاطمة بنت قيس
والتمسك بقوله تعالى لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا وبقوله فإذا بلغن أجلهن على أن صدرها خاص بالرجعيات ممنوع ويكفي عود الآيتين إلى بعض ما تقدم وهن الرجعيات لاشتمال المطلقات اللواتي في صدر الآية عليهن أو يكون المراد تجديد العقد والصحيح في حديث فاطمة بنت قيس ليس لك عليه نفقة
وأما قولها ولا سكنى فهو محل توقف
وقال ابن حزم إن السنة مع فاطمة لا مع عمر وهذا القول من ابن حزم مردود وعمر أفهم منه لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن ألف ألف مثله
وقصة فاطمة معروفة وكانت فيها بذاءة وبينها وبين أهلها شر فلذلك أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج ولذلك لم يقل لها اعتدي حيث شئت وإنما عين لها منزلا وهي كتمت السبب الذي اقتضى لها الانتقال وهو الشر وإنما صرحنا به لئلا يتخيل أنها ريبة ومعاذ الله فهي امرأة صالحة وإنما كان بينهم شر وكان سعيد بن المسيب ينكر عليها كتمانها السبب وهو الذي كان عمر وعائشة وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم يشيرون إليه ويعرفونه في بلدهم وحضورهم قبل أن يخلق ابن حزم ببلاد المغرب بنحو أربعمائة سنة وكان الذي طلق فاطمة بنت قيس غائبا ولولي الغائب ما له من إخراجها بالعذر
قال الشافعي في الأم والسلطان ولي الغائب فيفرض لها منزلا فيحصنها فيه يعني فأمر النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بالاعتداد عند ابن أم مكتوم من هذا القبيل لأجل استطالتها
____________________
(2/316)
على أحمائها فإن صحت روايتها ولا سكنى فمعناه ولا سكنى في ذلك المنزل الذي جعلت الاستطالة فيه فتخرج إلى مسكن آخر من جهته
وهذا تأويل أولى من دفع الرواية وهذا لا يتعلق بنا هنا لأن ملازمة المسكن الذي فيه العدة واجبة سواء كان منزل المطلق الواجب عليه أم غيره والذي قاله صاحب التتمة من أنها إذا كانت حاملا وقلنا تعجل نفقتها لا تخرج إلا لضرورة حسن
وهو مفروض فيما إذا حصلت لها النفقة لأنها حينئذ مكفية لا حاجة لها إلى الخروج لتحصل النفقة وينبغي قصر قوله على هذا وإنه لا يمنعها من الخروج لبقية حوائجها من شراء القطن وبيع الغزل لاحتياجها إليه في غير النفقة وكذلك إذا أعطيت النفقة دراهم واحتاجت إلى الخروج لأن تشتري بها خبزا أو أدما ونحوه لا تمنع من ذلك
والضابط أن الخلاف عند الحاجة وعند عدم الحاجة لا يجوز قطعا وعند الضرورة يجوز قطعا ولم أر أحدا قال إنه يجوز لها الخروج بلا حاجة إلا أن ابن المنذر قال في الإشراف اختلفوا في خروج المبتوتة بالطلاق من بيتها في عدتها فمنعت من ذلك طائفة وممن رأى أن لا تخرج عبد الله بن مسعود وابن عمر وعائشة وكان سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار يرون أن تقعد في بيت زوجها حيث طلقت
وذكر أبو غسان أن هذا قول سفيان الثوري ومالك وأصحاب الرأي وبه نقول وفيه قول ثان أنها تعتد حيث شاءت كذلك قال ابن عباس وجابر بن عبد الله والحسن البصري وعطاء وطاوس وعكرمة
وقال أحمد وإسحاق تخرج المطلقة ثلاثا على حديث فاطمة قال أبو بكر وإنما اختلف الناس في خروج المطلقة ثلاثا أو طلقة لا رجعية عليها أما الرجعية فإنها في مكان الأزواج في قول كل من يحفظ عنه من أهل العلم لقوله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن قلت وهذا الذي قاله ابن المنذر ليس فيه بيان وهما مسألتان كما قلنا مسألة الخروج غير مسألة الإسكان ولا لازمة لها وخلاف ابن عباس وغيره الظاهر أنه في مسألة الإسكان فقط لا في مسألة الخروج الذي نحن نتكلم فيه وكان ابن المنذر أراد بالخروج الخروج من منزل الزوج
وقولك هل لمستدل شافعي أن
____________________
(2/317)
يستدل بالحديث على خروجها مطلقا فذلك يتوقف على أن فيه خلافا ولا نعرف فيه خلافا
وأما التمسك بعدم الاستفصال فإنما يكون إذا استوت الاحتمالات أو تقاربت وها هنا القرينة الظاهرة تقتضي حاجتها إلى الخروج لكنها ليست ضرورة فلذلك أثبتناه على القول الجديد بالحاجة دون الضرورة
ولا حاجة بنا إلى أن نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون علم حاجتها وإذا ورد مثل ذلك في موضع آخر وقد يقبل وكل حديث له بحث يخصه فلا يتقرر في ذلك قاعدة مطردة وإنما الكلام في هذا الحديث على ما بيناه وإذا رفعنا إلى قاعدة عامة فمتى تساوت الاحتمالات أو تقاربت تمسكنا بترك الاستفصال وإن أمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم من صورة الحال ما يقتضي الجواب في تلك الواقعة لأن التمسك بلفظه صلى الله عليه وسلم ولفظه مع ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في المقال والعموم يتمسك به من غير نظر إلى احتمال التخصيص وإنكار إرادته فكما لا نقول بالتخصيص هنا لاحتمال العلم بما يقتضيه وذلك إنما يأتي في وقائع الأحوال التي يحصل فيها الإجمال ويسقط بها الاستدلال وهي غير ترك الاستفصال وهما قاعدتان ترك الاستفصال مع لفظ من النبي صلى الله عليه وسلم ينزل منزلة العام فالتمسك بوقائع الأحوال لا لفظ فيها من النبي صلى الله عليه وسلم فلا حجة فيها والله أعلم
وهذا الكلام هنا ربما لا يفهم منه المقصود وكذلك السؤال غير مفصح فنقول إن كان المقصود الاستدلال على خروجها لجداد النخل نهارا سواء كان لها من يكفيها ذلك إلا أنها تقصد جداد نخلها بنفسها أو بحضورها فالاستدلال صحيح والتمسك له بعدم الاستفصال صحيح لأنا نجعل الواقعة المسئول عنها مع قول النبي صلى الله عليه وسلم كالسؤال والجواب مثاله ما نحن فيه امرأة مبتوتة معتدة أرادت أن تخرج لجداد نخلها نهارا فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم جدي نخلك ولم يستفصل فيصير كقوله كل امرأة بهذه الصفة لها أن تجد نخلها فيعم كل من كان لها من يكفيها ذلك وغيرها وأحوال كل منهما ولا ينافي ذلك قولنا إنها لا تخرج إلا لحاجة لأن هذه حاجة وإن كان المقصود الاستدلال به على أنها
____________________
(2/318)
تخرج لذلك ولغيره من كل ما تريد لحاجة ولغير حاجة فلا يجوز ولا يقتضيه قول الأصوليين لأن إفراد غير تلك الحالة لم يدخل في السؤال ولا في الجواب فكيف يكون عاما فيها
وهذا الذي قلناه هو ميزان كقولنا ترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة العموم في المقال
ومن تأمل ما قلناه في هذه الواقعة فهم تنزيله على كل صورة سواها وعلم أنه لا حاجة إلى قوله هل علم أو ما علم لأن ما ذكرناه لا يحتاج إلى ذلك لا ننزله منزلة النطق بالعام في جزاء شرط فالواقعة بعمومها كالشرط وقول النبي صلى الله عليه وسلم كالجزاء دع يحصل علم أو لم يحصل كالنطق بالعام ابتداء
وأما وقائع الأحوال فليس فيها إلا واقعة مجردة عن لفظ الشارع فلا حجة فيها ما قاله المذكور من احتمال العلم قاله الإمام فخر الدين في المحصول على جلالته ونحن نخالفه ونقتدي بمن هو أجل منه وهو الشافعي رضي الله عنه فالذي قاله صاحب التتمة تقييد لنوع حاجة الخروج لأجل النفقة بمن تحتاج إلى ذلك وليس فيه تقييد لغير ذلك النوع ونحن قد أبحنا لها الخروج لأنواع منها النفقة وتحصيلها ومنه الحديث ليلا وإن لم تكن حاجة قوية ولكنه يحتاج إليه في طباع البشر فرخص فيه من غير سبب ومنها جداد النخل وشبهه مما يقاس عليه لأنه مظنة الحاجة بقي هنا نظر آخر لا بد من التنبيه عليه وهو التفصيل بين أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن امرأة صفتها كذا فيجيب فهذا هو الذي نقول فيه بالعموم لكل من كان بتلك الصفة وبين أن يكون شخصا مخصوصا بهذه الصورة وهي خالة جابر
والظاهر من حالها أنها ممن ليس كاف كذلك وأنكر عليها وجاءت تسأل فلم تكن من المخدرات اللواتي من عادتهن عدم الخروج فلا نرى تعدية جواز ذلك إلى كل امرأة منهن بل تعم خالة جابر ومن كانت في مثل حالها وإن كانت قد تكلف ويحصل لها من يكفيها فهذا لا يجب كما أن المرأة تكلف ترك الحديث بالليل مع صواحباتها ولم يوجبه الشرع عليها وهذا لا ينافي ما قدرناه قبل ذلك لأنا نقول التقدير أنه سئل عن خالة جابر فأباح لها فنقيس عليها من هو مثلها ويعم الأحوال من وجود
____________________
(2/319)
الكافي وعدمه لا ينضبط ولا نعديه إلى المخدرة للانضباط فلعدم دخوله في العموم فهي مراتب الخروج للضرورة جائز بالإجماع لكل معتدة والخروج لنزهة من غير حاجة لا يجوز لأحد من المعتدات
وكذا المبيت في غير المسكن والخروج لحاجة يجوز وإن كانت يسيرة وهي أنواع فما كان منها مظنة حاجة جاز ولا تنضبط أفراده فيناط بالمظنة وما كان منها ليس مظنة حاجة وانضبط فصاحب التتمة جعل خروج الحامل لأجل النفقة التي هي مستغنية عنها من هذا القبيل فمنعه وسكت الرافعي عنه لأنه ليس في كلام الأصحاب ما يقتضي مخالفته بل موافقته
والحديث لا يعارضه لأن ذلك النوع مظنة حاجة والفصل فيه بين أن يكون لها من يكفيها أم لا لا ينضبط اللهم إلا بما ذكرناه ممن تكون مخدرة لم تجر لها عادة بالخروج إلى مثله فهو أمر منضبط فيمتنع على مثل هذه أن تخرج لجداد نخلها الذي يستنكر من مثلها الخروج إليه وهي غير معتدة فكيف تخرج إليه وهي معتدة والله أعلم انتهى
باب الردة مسألة نحوية فقهية رجل قال ما أعظم الله قال له آخر هذا لا يجوز
الجواب يجوز ذلك وقد قال تعالى أبصر به وأسمع أي ما أبصره وما أسمعه والضمير يعود على الله تعالى فدل على جواز التعجب في ذلك قال رضي الله عنه وقد رفعت إلى فتوى فيمن قال ما أعظم الله هل عليه شيء أو لا وهل يجوز ذلك أو لا فكتبت عليها لا شيء عليه وهذا كلام صحيح ومعناه أن الله تعالى في غاية العظمة ومعنى التعجب في ذلك لا ينكر لأنه مما تحار فيه العقول والإتيان بصيغة التعجب في ذلك جائزة لقوله تعالى أبصر به وأسمع والصيغة المسئول عنها صحيحة لأن إعظام الله وتعظيمه الثناء عليه بالعظمة أو اعتقادها وكلاهما حاصل والموجب لهما أمر عظيم يصح أن يكون المراد بما أعظم فبلغني بعد ذلك عن شيخنا أبي حيان أنه كتب فنظرت فرأيت أبا بكر بن السراج في الأصول قال في شرح التعجب وقد حكيت ألفاظ من أبواب مختلفة مستعملة بحال التعجب
____________________
(2/320)
فمن ذلك ما أنت من رجل تعجب وسبحان الله ولا إله إلا الله وكاليوم رجلا وسبحان الله من رجل ورجلا وحسبك بزيد رجلا ومن رجل والعظمة لله من رب وكفاك بزيد رجلا تعجب فقوله العظمة لله من رب دليل لجواز التعجب في صفات الله تعالى وإن لم تكن بصيغة ما أفعله وأفعل به
ومن جهة المعنى لا فرق من حيث كونه تعجبا
وقال كمال الدين أبو البركات محمد بن عبد الرحمن الأنباري في كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف في النحو
مسألة ذهب الكوفيون إلى أن الفعل في التعجب نحو ما أحسن زيدا اسم والبصريون إلى أنه فعل وإليه ذهب الكسائي أما الكوفيون فاحتجوا وذكر أمورا ثم قال ومنهم من تمسك
فذكر شيئا ثم قال والذي يدل على أنه ليس بفعل وأنه ليس التقدير فيه ما أحسن زيدا قولهم ما أعظم الله ولو كان التقدير فيه ما زعمتم لوجب أن يكون التقدير شيء أعظم الله والله تعالى عظيم لا بجعل جاعل وقال الشاعر ما أقدر الله أن يدني على شحط من داره الحزن ممن داره الصول ولو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يكون التقدير فيه شيء أقدره الله والله تعالى قادر لا بجعل جاعل قال وأما البصريون فاحتجوا به ثم قال وأما الجواب عن كلمات الكوفيين فذكر إلى أن قال وأما قولهم فيما أعظم الله قلنا معناه شيء أعظم الله أي وصفه بالعظمة كما تقول عظمت عظيما ولذلك الشيء ثلاثة معان أحدها أن نعني بالشيء من يعظمه من عباده
والثاني أن نعني بالشيء ما يدل على عظمة الله تعالى وقدرته من مصنوعاته
والثالث أن نعني به نفسه أي أنه عظيم لنفسه لا لشيء جعله عظيما فرقا بينه وبين غيره
وحكي أن بعض أصحاب المبرد قدم من البصرة إلى بغداد قبل قدوم المبرد فحضر حلقة ثعلب فسأل عن هذه المسألة فأجاب بجواب أهل البصرة وقال التقدير شيء أحسن زيدا فقيل له ما تقول في قولنا ما أعظم الله فقال شيء أعظم الله فأنكروا عليه وقالوا هذا لا يجوز لأنه عظيم لا بجعل جاعل ثم سحبوه من الحلقة فأخرجوه
فلما قدم المبرد أوردوا عليه هذا الإشكال فأجاب بما قدمنا فبان بذلك قبيح إنكارهم عليه وفساد ما ذهبوا إليه وقيل
____________________
(2/321)
يحتمل أن يكون قولنا شيء أعظم الله بمنزلة الإخبار أنه عظيم لا شيء جعله عظيما لاستحالته وأما قول الشاعر ما أقدر الله
فإنه وإن كان لفظه لفظ التعجب فالمراد به المبالغة في وصف الله تعالى بالقدرة كقوله تعالى فليمدد له الرحمن مدا جاء بصيغة الأمر وإن لم يكن في الحقيقة أمرا وإن شئت قدرته تقدير ما أعظم الله على ما بينا
انتهى كلام ابن الأنباري وهو نص صريح في المسألة وناطق بالاتفاق على صحة إطلاق هذا اللفظ وأنه غير مستنكر ولكنه مختلف هل يبقى على حقيقته من التعجب وتحمل الأوجه الثلاثة التي ذكرها أو تجعل مجازا عن الإخبار
وأما إنكار اللفظ فلم يقل به أحد والأصح أنه باق على معناه من التعجب وتأويل الشيء على ما ذكر
وقد ذكر أبو الوليد الباجي في كتاب السنن من تصنيفه قال باب أدعية من غير القرآن مستحبة فذكر منها ما أحلمك عن من عصاك وأقربك ممن دعاك وأعطفك على من سألك وذكر شعرا لغيره من جملته سبحانك اللهم ما أجل عندي مثلك انتهى ما قاله الباجي في كتاب السنن من تصنيفه ورأيت في السيرة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه رواه ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه وناهيك بهما في جوار ابن الدغنة قال القاسم إن أبا بكر لقيه سفيه من سفهاء قريش وهو عائد إلى الكعبة فحثى على رأسه ترابا فمر بأبي بكر الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل فقال أبو بكر ألا ترى ما يصنع هذا السفيه قال أنت فعلت ذلك بنفسك أي وربا ما أحلمك انتهى
فلو لم يكن من هذا إلا كلام القاسم بن محمد لكفى فضلا عن روايته عن أبي بكر وإن كانت مرسلة
وقال الزمخشري في الكشاف في سورة الرحمن في قوله تعالى ذو الجلال والإكرام معناه الذي يجله الموحدون عن التشبه بخلقه أو الذي يقال له ما أجلك وأكرمك
وقال الزمخشري في قوله تعالى أبصر به وأسمع إنه جاء بما دل على التعجب من إدراكه للمسموعات والمبصرات للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حد ما عليه إدراك
____________________
(2/322)
السامعين والمبصرين لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها كما يدرك أكبرها حجما وأكثفها جرما ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر وذكر أبو محمد عبد الله بن علي بن إسحاق الضميري في كتاب التبصرة والتذكرة في النحو وإذا قلت ما أعظم الله وذلك الشيء عباده الذين يعظمونه ويعبدونه ويجوز أن يكون ذلك الشيء هو ما يستدل به على عظمته من بدائع خلقه ويجوز أن يكون ذلك الشيء هو الله عز وجل فيكون لنفسه عظيما لا لشيء جعله عظيما ومثل هذا مستعمل كثيرا في كلام العرب كما قال الشاعر نفس عصام سودت عصاما انتهى
وهذا كما قال ابن الأنباري
وقال المتنبي ما أقدر الله أن يجزي خليقته ولا يصدق قوما في الذي زعموا قال الواحدي في شرحه يقول الله تبارك وتعالى قادر على إجزاء خليقته بأن يملك عليهم لئيما ساقطا من غير أن يصدق الملحدة الذين يقولون بقدم الدهر يشير إلى أن تأمير مثله إجزاء للناس والله تعالى قد فعل ذلك عقوبة لهم وليس كما يقول الملحدة إن تمليك مثله يشكك الناس في حكمة الباري فيظن التعطيل
وقال ابن الدهان سعيد بن المبارك بن علي في شرح الإيضاح فإن قيل فإذا قدرت ما تقدير شيء وإذا قلت ما أحسن زيدا قدرته تقدير شيء أحسن زيدا فما تصنع بقولهم ما أعظم الله
فالجواب من وجوه أحدها أن يكون ذلك الشيء نفسه ويجوز أن يكون ما دل عليه من مخلوقاته والثالث من يعظمه من عباده الرابع أن تكون الأفعال الجارية عليه لحملها على ما يجوز من صفاته ويليق به فيحمل على أنه عظيم في نفسه لا على شيء عظم الله وإن كان يصح على ما بينا
وقال الزمخشري في قوله تعالى حاش لله ما هذا بشرا والمعنى تنزيه الله تعالى من صفات العجز والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله وأما قوله تعالى حاش لله ما علمنا عليه من سوء فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله
مسألة سئل رحمه الله عن حكم الساحر وما يجب عليه وما ورد من الأحاديث أجاب من العلماء من رأى قتله بكل حال تاب أو لم يتب وهو المنقول عن
____________________
(2/323)
مالك وأما مذهب الشافعي فحاصله أن الساحر له ثلاثة أحوال حال يقتل كفرا وحال يقتل قصاصا وحال لا يقتل أصلا بل يعزر
أما الحالة التي يقتل فيها كفرا فقال الشافعي رحمه الله أن يعمل بسحره ما يبلغ الكفر
وشرح أصحابه ذلك بثلاثة أمثلة أحدها أن يتكلم بكلام هو كفر ولا شك في أن ذلك موجب للقتل ومتى تاب منه قبلت توبته وسقط عنه القتل وهو يثبت بالإقرار وبالبينة
المثال الثاني أن يعتقد ما اعتقده من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل بأنفسها فيجب عليه أيضا القتل كما حكاه ابن الصباغ وتقبل توبته ولا يثبت هذا القسم إلا بالإقرار
المثال الثالث أن يعتقد أنه حق يقدر به على قلب الأعيان فيجب عليه القتل كما قاله القاضي حسين والماوردي ولا يثبت ذلك أيضا إلا بالإقرار وإذا تاب قبلت توبته وسقط عنه القتل وأما الحالة التي يقتل فيها قصاصا فإذا اعترف أنه قتل بسحره إنسانا فكما قاله وأنه مات به وإن سحره يقتل غالبا فهاهنا يقتل قصاصا ولا يثبت هذه الحالة إلا الإقرار ولا يسقط القصاص بالتوبة وأما الحالة التي لا يقتل فيها أصلا ولكن يعزر فهي ما عدا ذلك ويضمن ما اعترف بإتلافه به كما إذا اعترف أنه قتل رواله لا بقتل عين فيضمن الدية ودليل الشافعي قوله صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس قلت القتل في الحالة الأولى بقوله كفر بعد إيمان وفي الحالة الثالثة بقوله وقتل نفس بغير نفس وامتنع في الثانية لأنها ليست بإحدى الثلاث فلا يحل دمه فيها عملا بصدر الحديث
وأما الأحاديث الصادرة على الساحر فلم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها شيء يقتضي القتل وورد عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال حد الساحر ضربه بالسيف وضعف الترمذي إسناده وقال الصحيح أنه عن جندب موقوف يعني فيكون قول صحابي
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض يهود سحره ولم يقتله وهذا لا يدل على القتل ولا عدمه لأن القتل يحتمل أن يكون لعفوه صلى الله عليه وسلم عنهم والمصلحة التي اقتضت ترك إخراجه
____________________
(2/324)
من البئر خشية إثارة شر على الناس والآثار عن الصحابة مختلفة فعن عمر رضي الله عنه اقتلوا كل ساحر وساحرة وعن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قتلت جارية لها سحرتها
وعن عائشة رضي الله عنها أنها باعت جارية لها سحرتها وجعلت ثمنها في الرقاب وحمل الشافعي ما روي عن عمر وحفصة على السحر الذي فيه كفر وما يقال عن عائشة على السحر الذي ليس فيه كفر توفيقا بين الآثار واعتمد في ذلك حديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله والحديث الذي قدمناه يصلح أن يكون أيضا عمدة له
ومن المعلوم أن الصحابة إذا اختلفوا وجب اتباع أشبههم قولا بالكتاب والسنة وكفر القتل عمن لم يصدر منه كفر ولا قتل ولا زنا أشبه بالكتاب والسنة
وقد سئل الزهري شيخ مالك رضي الله عنهما أعلى من سحر من أهل العهد قتل قال قد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صنع له ذلك فلم يقتل من صنعه وكان من أهل الكتاب
هذا ما تيسر ذكره في هذه المسألة وملخصه أن الساحر إن تكلم بما هو كفر أو اعتقده قتل إجماعا فإن تاب قبلت توبته عند الشافعي وسقط القتل عنه
وقال مالك لا يسقط وحكمه عندهما حكم الزنديق وإن قتل بسحره قتل
وإن لم يكن شيء من ذلك فعند الشافعي لا يقتل بل يعزر وعند مالك يقتل والأولى مذهب الشافعي لعدم قيام الدليل على خلافه وليس في الآثار عن الصحابة تصريح وعلى تقدير تصريح عائشة رضي الله عنها مخالفة دفعا بثلاثتهم بتتبع الدليل وممن أطلق عنه القول بقتل الساحر عمر بن الخطاب وابنته حفصة وعثمان بن عفان وجندب وقيس بن سعد والله أعلم
كتبه في ليلة الأربعاء ثالث ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وسبعمائة
مسألة رجل نسب إليه أنه صدر منه ما يقتضي الكفر وهو رجل مسلم على خير وطلب من المتكلم فيه بينة فلم يأت بها وقصد المدعى عليه المذكور أن الحاكم يحكم بعصمة دمه خشية من أن تقوم بينة زور عند حاكم مالكي فلا تقبل
____________________
(2/325)
توبته فهل يجوز للحاكم الشافعي إذا جدد هذا الرجل إسلامه أن يحكم بإسلامه وعصمة دمه وإسقاط التعزير عنه ولم يثبت عليه شيء لكن ادعي عليه أو لا يجوز الحكم حتى يثبت عليه إما ببينة وإما باعتراف ثم يجدد إسلامه بعد ذلك
أجاب الذي أراه أنه يجوز للحاكم الذي من مذهبه قبول التوبة إذا تلفظ هذا الرجل بين يديه بكلمة الإسلام وطلب منه الحكم له وقد ادعي عليه بخلافه أنه يجوز للحاكم المذكور الحكم بإسلامه وعصمة دمه وإسقاط التعزير عنه ولا يتوقف ذلك على اعترافه لأنه قد يكون بريئا فإلجاؤه إلى الاعتراف على نفسه بخلاف ما وقع منه لا معنى له بل ولا يجوز ولا يجوز له هو أيضا أن يفعل ذلك بل يحكم القاضي مستندا إلى ما سمعه منه من كلمة الإسلام العاصمة للدم الماحية لما قبلها ويمنع بحكمه ذلك من ادعى عليه بخلاف ذلك وغيره من التعرض له
وإنما قلت ذلك لأن إسلامه الآن وعصمة دمه أمر حق مقطوع به لأنه لم يكن صدر منه ما يخالف الإسلام فإسلامه مستمر وعصمته مستمرة وإن كان صدر منه فشهادته بالإسلام الآن ماحية له فكانت عصمته ثابتة على التقديرين لازمة للنقيضين ولازم النقيضين واقع لا محالة فكان حقا والحكم بالحق حق لقوله صلى الله عليه وسلم قاض قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة فإن قلت إن تأتى لك هذا في العصمة فكيف يتأتى في الإسلام والإسلام إنشاء والإنشاء الذي حصل منه الآن إنما يحكم بصحته لو سبقه كفر ومع الشك في ذلك كيف نحكم وأيضا الحكم بالعصمة إن كان مستندا إلى الإسلام المستمر لم يفد منع الحكم بعد ذلك إذا ثبت ما نسب إليه وإن كان مستندا إلى هذا الإسلام عاد السؤال
قلت يتأتى في كل منهما إما العصمة فلاستنادها إلى أحد الأمرين المقطوع بأحدهما ولا يضر الشك في تعيينه وله شواهد منها لو وكله في شراء جارية فاشتراها بعشرين وقال الموكل إنما أمرتك أن تشتريها بعشرة فالقول قول الموكل فإذا حلف ثبتت الجارية في ظاهر الحكم للوكيل
قال الشافعي أحب في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالأمر للمأمور فيقول إن كنت أمرتك أن تشتريها بعشرين فقد بعتك إياها بعشرين
____________________
(2/326)
ويقول الآخر قد قبلت ليحل له الفرج
قال الأصحاب إن جزم البيع صح وإن علق كما هو ظاهر عبارة الشافعي صح أيضا في الأصح
وقد وافقنا المالكية على ذلك فأقول إذا فعل الحاكم ذلك وطلب منه الوكيل أن يحكم بصحة ملكه للجارية فلا شك أن للقاضي أن يحكم بصحة البيع
نعم صحة البيع الذي صدر بين الموكل والوكيل على سبيل الاحتياط لا يحكم القاضي بصحته لأنه يخالف الحكم الظاهر للوكيل بملك الجارية وإنما يحكم بالملك والحل وصحة التصرفات المترتبة عليه للقطع بها ومستند القطع العلم بسببها على سبيل الإبهام لا على سبيل التعيين ولا يشترط العلم به على التعيين لأنه لو اشترط ذلك لم يجز الحكم بالحل ولا بالملك الباطن في مسألة الجارية
فإذا علم هذا فمثله في مسألتنا وهو أن القاضي يحكم بعصمة دم هذا الرجل وكونه مسلما مستندا إلى أحد أمرين إما الإسلام المستمر وإما الموجود الآن وأحدهما مقطوع به لأن هذا المعين مقطوع به وهو أحدهما فأي بيان أكثر من هذا وإذا ظهر الحل والملك الباطن في الجارية وإن شئنا نقتصر ونكتفي بذلك لحصول المقصود ونقول أنه لا يحكم بصحة الإسلام الموجود الآن لأنه نظير البيع الصادر على سبيل الاحتياط وقد قلنا إنه لا يحكم بصحته لكن الحكم بكونها للوكيل في الظاهر يمنع منه وإن شئنا نزيد ونفرق ونقول إن له أن يحكم هنا بصحة هذا الإسلام الموجود الآن مع الشك في كونه تقدمه كفر أو لا وإن كان لا يحكم بصحة البيع والفرق بينهما أن البيع قابل للصحة والفساد فإن وجد بشروطه من ملك كان صحيحا وإلا كان فاسدا والشك في الملك يقتضي الشك في الصحة بلا إشكال فلذلك لم يمكن الحكم بصحة البيع المذكور وأما الإسلام فلا يكون إلا صحيحا ولا يتصور أن يقع على وجه الفساد والتلفظ بكلمة الإسلام إما إقرار كقوله لا إله إلا الله محمد رسول الله وإما إنشاء كقوله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله
وهذه الصيغة هي التي بلفظ الشهادة تحتمل الإقرار والإنشاء ومعنى الإقرار الإخبار عن العلم بها ومعنى الإنشاء معروف كالشهادة بين يدي الحاكم وبأي معنى فرض فهو إقرار صحيح وإنشاء صحيح ومعنى صحته ترتب أثره عليه ومن آثاره
____________________
(2/327)
عصمة الدم وجب ما قبله فإذا حكم القاضي بذلك كان معناه أنه تترتب هذه الآثار عليه وسبب الاحتياج إلى حكمه أن الألفاظ التي يصير بها الكافر مسلما ذكرها الفقهاء وقسموا الكفار إلى أقسام منهم من يصير ببعض الألفاظ مسلما ومنهم من يشترط فيه زيادة بحكم القاضي بالإسلام بالنسبة إلى اللفظ الموجود معناه أنه كاف في صيرورته مسلما فحكم القاضي بذلك يرفع الخلاف في محلين أحدهما في اشتراط لفظ آخر والثاني في إباحة دمه بكل ما تقدم منه قبل ذلك سواء أعلم أم جهل ولا يشترط قصد القاضي رفع الخلاف ولو اشترط لم يضر هنا لأن صورة المسألة فيمن ادعي عليه أنه صدر منه ما ينافي الإسلام فالقاضي إنما حكم ليدرأ عنه القتل بما عساه يثبت لأن هذا الإسلام إسلام صحيح والحكم بصحته صحيح وليس من شرط الحكم بصحة الإسلام سبق دم عليه لأن الإسلام إسلام سواء أصدر من كافر ينتقل به عن الكفر أم من مسلم مستمر الإسلام حتى إني أقول إن الذاكر بلفظه كلمة الشهادة ينبغي أن يندرج ذكره تحت قوله صلى الله عليه وسلم الإسلام يجب ما قبله فيجب هذا الإسلام المعاصي السابقة عليه وفي فضل الله تعالى ما هو أكثر من ذلك ولا أخصه بالصغائر بل ينبغي أن يطرد في الصغائر والكبائر
ولعل هذا هو سبب أن من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة لأنها كفرت كل شيء قبلها وإنما أطلنا في هذا حتى نقرر الفرق بين الإسلام والبيع وأن الإسلام أولى من البيع بأن نحكم بترتب أثره ومنها إذا شك هل طلق أو لا فالورع أن يراجع فلو راجع واستمرت حتى مضى عليها ثلاثة أقراء ثم أقامت بينة أنه كان طلق وأرادت الحكم بالبينونة وأراد هو الحكم ببقاء العصمة فلا شك أن القاضي يحكم ببقاء العصمة ويرفع بالرجعة التي حصلت أثر الطلاق الذي قامت البينة به وإن كان حين الرجعة شاكا في صحتها فهكذا هنا إذا قامت بينة على هذا بعد هذا الحكم بأنه كان صدر منه كفر لا يلتفت إليها ويحكم بأنه ارتفع أثره بالإسلام وأن ذلك الحكم به كان حكما صحيحا مانعا من حكم حاكم مالكي بإراقة دمه وليفرض في الرجعة مثله وهو أن يكون راجعها وحكم القاضي ببقاء العصمة وكان شك أنه طلقها بلفظ
____________________
(2/328)
الحرام أولا ثم قامت بينة أنه قال لها أنت حرام وعند أبي حنيفة أن الكنايات بوائن وأرادت أن ترفعه إلى حاكم حنفي وحكم بالبينونة فنقول إنه لن يجد إلى ذلك سبيلا لأن الحاكم الشافعي حكم ببقاء العصمة مع احتمال أن يكون خاطبها بلفظ الكناية وإن كان لم يعلم حال الحكم فخاطبها بذلك بل يستند في بقاء العصمة أنها بائنة عنده على النقيضين وهو أن لا يكون خاطبها بلفظ الكناية مريدا الطلاق ثم راجع وكل من هذين النقيضين مسوغ للشافعي الحكم ببقاء العصمة وقد حكم بذلك مستندا إلى أحدهما فلا يضر تعيينه بعد ذلك
ومنها لو قال إن كان هذا الطائر غرابا فأنت طالق وإن لم يكن غرابا فأنت طالق فطار ولم يعرف طلقت وللقاضي الحكم بذلك لأن طلاقها لازم للنقيضين ولازم النقيضين واقع وإن جهل ما يقع به ولنفرض ذلك في محل اختلاف بأن يكون التعليق بلفظ مختلف في كونه صريحا أو لا ولم ينو ورأى الحاكم أنه صريح فحكم بالطلاق أو رأى أنه غير صريح فحكم ببقاء العصمة ثم تبين أنه غراب فليس لحاكم آخر أن ينقض ذلك الحكم أو يحكم بخلافه مستندا إلى أنه إنما قطع قبل أن يثبت أحد الطرفين إذ لو كان كذلك لم يتجه حكم أصلا وكان يحصل الضرر ببقاء المرأة مع الجهل بالحال معلقة لا منكوحة ولا مطلقة
واعلم أن قصد الحاكم أن يرفع الخلاف ليس بشرط فإنه قد لا يعتقد في المسألة خلافا فيحكم بها ولا ينتقض حكمه نعم قد يحكم مستندا إلى سبب وهناك شيء لو اطلع عليه لم يحكم به فإذا ظهر ذلك الشيء مثل أن يحكم ببينة الخارج ثم يظهر للداخل بينة وهو يرى تقديم بينة الداخل فهاهنا اختلف الفقهاء أما إذا كان لا يرى تقديم بينة الداخل فلا ينقض حكمه وفي هذه المسألة كذلك لو فرض أن الحاكم بالعصمة مالكي وإنما حكم مستندا إلى الإسلام المستمر حتى لو ثبت عنده ما نسب إليه لم يحكم وكان يحكم بإراقة دمه فهاهنا يظهر أن الحكم بالإسلام والعصمة لا يمنع من حكم المالكي المذكور أو غيره ممن يوافقه إذا ظهرت بينة بعد ذلك بمقتضاها لأنه إنما يحكم بظن عدمها ومسألتنا هنا إنما هي في حاكم شافعي يرى العصمة بالإسلام سواء ثبت
____________________
(2/329)
ما نسب إليه أم لا فهو لم يظهر له بالبينة شيء لو قارن الحكم أيمنع من الحكم فيكون حكمه صحيحا
والضابط أن كل حكم قارنه ما لو علم به الحاكم لم يحكم فقد نقول بأنه إذا اطلع عليه له أن يحكم بخلافه وكذلك لغيره
وإنما قلنا قد لأن فيه تفصيلا ليس هذا موضعه ذكرناه في مسألة القدس
وكل حكم قارنه في نفس الأمر ما لو علم به الحاكم لم يمتنع معه من الحكم فإن الحكم معه نافذ قاطع لأثره
وإذا كان حكم القاضي عاما وكان هناك صورة لم يمكن اندراجها فيه شملها كلها علمها أو لم يعلمها وإذا لم يكن عاما وكان هناك صورة لم يعلم بها ولا شملها حكمه فلا يمتنع هنا حكم قاض آخر فيها بما يراه إذ لا معارضة بينه وبين حكم الذي قبله
وبالجملة هذا الذي ادعي عليه بالكفر لم يثبت وإذا فرضنا ذا سلطان أراد قتله بذلك وطلب الشخص المذكور من الحاكم أن نحكم بعصمته ويلفظ بالشهادتين عنده إن منعنا القاضي من الحكم له مع اعتقاد القاضي عصمته كان ذلك إسرافا كيف يمكن من قتله مع اعتقاده عصمته نعوذ بالله من ذلك وهل جعل القاضي إلا ليحكم بالحق ويمنع الظالم عن المظلوم وإن قلنا يحكم استنادا إلى الاستمرار ولا يؤثر في دفع ما قيل عنه كان الحكم عرضة للنقض وأحكام الحكام تصان عن النقض ونفرض أنه حكم فهذا حكم لا يقطع ببطلانه وكل حكم لا يقطع ببطلانه لا يجوز نقضه فثبت أنه يحكم ولا ينقض وهو المدعي والمانع من النقض كون الحكم في محل الاحتمال لا اعتقاد القاضي أنه رافع للخلاف المتوقع وقال شبه ذلك حل هذا لا يشترط ومن اشترطه فعليه الدليل باشتراطه
ومنها المسألة التي أشرنا إليها إذا ادعى زيد على عمرو دارا في يده وجاء ببينة وقضى القاضي له بها ثم جاء الداخل ببينة أنها له اختلف أصحابنا في نقض القضاء قيل ينقض وهو المشهور في المذاهب وقيل لا وقيل يفرق بين أن يكون قبل التسليم أو بعده فإن كان قبل التسليم نقض وإن كان بعده لم ينقض هذا إذا كان قيام بينة الداخل عند الحاكم الأول ومن مذهبه تقديم بينة الداخل أما إذا قامت بينة الداخل عند حاكم آخر فإن علم أن الحاكم الأول إنما حكم لعدم علمه ببينة الداخل فكذلك
____________________
(2/330)
وإن احتمل أنه حكم ذهابا إلى ترجيح بينة الخارج وكان من أهل الترجيح أو أشكل الحال ففي جواز النقض وجهان أصحهما أنه لا ينقض بل يقر في يد المحكوم له فإذا كان هذا قول الأصحاب فمن لم يقصد بحكمه منع ما يتوقع ثبوته فكيف في هذه المسألة التي قصد الحاكم بحكمه عصمة المحكوم له عما نسب إليه ويتوقع ثبوته
وبالجملة لما حكم بذلك ادعى شخص أن هذا الحكم لا يصح لعدم ثبوت خلافه بحكم ذلك القاضي بصحة الحكم كان حكما صحيحا رافعا لما يتوهم من الخلاف فيه بحيث يصير مقطوعا به
وهذه المسألة مما ينبغي أن تحرر ويعتنى بها فإن الناس يحتاجون إليها
ولقد حدثني الفقيه برهان الدين الدمياطي أن قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجي الحنفي أشهده والفقيه عز الدين عبد العزيز النمراوي على نفسه أنه حكم بعصمة دم القاياتي المالكي لما نسب إليه شيء في مصر والتمس منهما أن يشهدا عند شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد وينفذ حكمه فذهب الفقيهان الشافعيان إلى تقي الدين بذلك فقال لهما وأيش هذا الذي ثبت عليه عنده حتى يحكم بإسلامه وعصمة دمه اذهبا إلى القاياتي واشهدا عليه بما نسب إليه وتعاليا فذهبا إليه وشهدا عليه ثم جاءا إلى الشيخ تقي الدين فشهدا عنده فقال اشهدا على أنني حكمت بعصمة دمه حكما مبتدأ لا تنفيذا وهذا من الشيخ رحمه الله إما أن يكون احتياطا وإما أن يكون عن عدم نظر في المسألة مع أني كنت مغتبطا بهذه الحكاية كثيرا وكنت أستعملها حتى نظرت الآن في المسألة فوجدت الحق يقتضي أن ذلك ليس بشرط والحق أحق أن يتبع
ومنها إذا باع خادمة فجحد المشتري وحلف وقضى القاضي بها للبائع قال الشافعي ينبغي للقاضي أن يقول للجاحد إن كنت اشتريتها فاستقله ويقول للبائع إن كنت بعتها منه فأقله ليحل للبائع باطنا فإن لم يفعلا فثلاثة أوجه أحدها لا يحل
والثاني أن الجحود رد فيقبل البائع الرد لتحل
والثالث أن البائع يرجع بالتعذر كرجوع غريم المفلس
وما ذكره الشافعي من تلفظ القاضي هنا كما سبق مثله الوكالة ومنها قال الشافعي في مختصر المزني رحمهما الله لو
____________________
(2/331)
شهد عليه شاهدان بالردة فأنكر قيل إن أقر بلا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتبرأ من كل دين خالف الإسلام لم يكشف عن غيره
وقال إمام الحرمين في النهاية فصل إذا شهد شاهدان على ردة شخص فقال المشهود عليه كذبا في شهادتهما وقال ما ارتددت فالشهادة مسموعة والحكم بالردة نافذ ولا يقبل تكذيبه الشاهدين ويقال الخطب يسير فجدد الإسلام فإذا فعل زال حكم الردة بعد انقضائها وأثر ما ذكرناه أنه لو كانت له زوجة غير مدخول بها فقد بانت بالشهادة وتجديد الإسلام لا يرفع الحكم ولكن سبيله سبيل المرتد يسلم وإن قال كنت مكرها فإن صدقته قرائن الأحوال قبل قوله مع يمينه
وقال البغوي في التهذيب لو شهد شاهدان على رجل بالردة فأنكر المشهود عليه وقال أنا مسلم لا يقتنع منه بهذا حتى يقر بما يصير به الكافر مسلما
وعن الحاوي في معنى قول الشافعي لم يكشف عن غيره وجهان أحدهما الكشف عما شهد به الشهود من ردته والثاني الكشف عن باطن أثره لأن سرائر القلوب لا يؤاخذ بها إلا علام الغيوب
وقال ابن الصباغ في الشامل بعد أن حكى نص الشافعي وتكلم عليه ثم قال ابن الصباغ وينبغي أن يكون إذا قامت البينة بردته وادعت ذلك زوجته قبل الدخول أن يحكم بالبينونة وإن حكم بإسلامه بوصف الإسلام لأن ذلك يتعلق بحقها فانظر قول ابن الصباغ وإن حكم بإسلامه فإنه صريح في الحكم بإسلامه
فهذه نصوص الشافعي والأصحاب تشهد بما قلناه فقال القاضي الحسين إذا قامت البينة بالردة لا يلتفت إلى إنكاره فيحكم ببينونة امرأته وحرمانه عن إرث حميم له إن مات في تلك الحالة ويقال له إن أقررت أن لا إله إلا الله وتبرأت عن كل دين خالف الإسلام وإلا قتلناك والتبرؤ عن كل دين خالف الإسلام احتياط وليس بشرط في سقوط القتل
وقال الرافعي هل تقبل الشهادة على الردة مطلقا أم لا بد من التفصيل
نقل الإمام تخريجه على الخلاف في الشهادة على العقود والظاهر قبول الشهادة المطلقة والقضاء بها
وعلى هذا فلو شهد شاهدان على ردته فقال كذبا أو ما ارتددت قبلت شهادتهما ولم يغنه التكذيب بل عليه أن يأتي بما يصير به الكافر مسلما ولا ينفعه ذلك في بينونة
____________________
(2/332)
زوجته وكذا الحكم لو اشترطنا التفصيل ففصلا وكذبهما المشهود عليه
انتهى كلام الرافعي
وظاهره الإبقاء بذلك في الحكم بإسلامه
وقد يقال إن هذه النصوص كلها لا دليل فيها وليست مما نحن فيه لأمرين أحدهما أنه يمكن حملها على المحل المجمع عليه وكلامنا في محل مختلف فيه يقصد بحكم الحاكم فيه رفع الخلاف والثاني أنه لا يلزم من الحكم بالإسلام الحكم بحقن الدم إذا كان ذلك في السبب ونحوه المختلف فيه أم يقتل كفرا أو حدا فإن الذي نقتله حدا نقول بإسلامه ومع ذلك نقتله لأنا نجيب عن الأول بأن إطلاقهم يشمل المحل المجمع عليه والمختلف فيه ولو اختلف الحكم لفعلوا ولم يفصلوا لكن أطلقوا فشمل إطلاقهم القسمين مع الأدلة التي قدمناها بما معناها صريح في القسمين
ونجيب عن الثاني بأن الحاكم بالإسلام إن اقتصر على الحكم بالإسلام لم يمنع الحاكم الذي يرى بإسلامه وقتله حدا أن يحكم بعد ذلك بقتله وإن حكم مع إسلامه بحقن دمه كفى ومنع كل حاكم أن يحكم بقتله حدا كان أو كفرا ولا يحتاج الحاكم في حكمه بحقن دمه إلى الوقوف على نوع الكفر الذي صدر منه أو ثبوته عنده لأنه إذا كان من مذهبه أن كلمة الشهادتين عاصمة للدم بكل حال ماحية لكل كفر قبلها كان ذلك حكما عاما في محو كل كفر قبله وكل سبب يقتضي القتل غير القصاص والزنا فإن قيل الذي لم ينسب إليه كفر أصلا هل يصح الحكم بإسلامه قلت نعم لو مات له قريب واستولى ظالم على ماله وقال إن هذا ليس بمسلم فلا يرثه وهو مقر بالشهادتين حكمنا بإسلامه وورثناه وقلنا للظالم أنت فاجر في جحدك إسلام هذا بل لو لم يقر بالشهادتين وكان صغيرا وهو في دار الإسلام حكمنا بإسلامه بالدار وانتزعنا مال قريب له لإسلامه والله عز وجل أعلم انتهى
كتاب قطع السرقة قال الشيخ الإمام رحمه الله اتفقوا على وجوب حد السرقة على من سرق من حرز 1 من غير مغنم 2 ولا من بيت المال 3 بيده 4 لا بآلة 5 وحده 6 منفردا 7 وهو عاقل 8 بالغ 9 مسلم 10 حر 11 في غير الحرم 12 بمكة 13
____________________
(2/333)
وفي غير دار الحرب 14 وهو ممن لا يجيء في وقت من الأوقات 15 فسرق من غير زوجته 16 ومن غير ذي رحم له 17 ومن غير زوجها إن كانت امرأة 18 وهو غير سكران 19 ولا مضطر بجوع 20 ولا مكره 21 فسرق مالا متملكا 22 يحل بيعه للمسلمين 23 وسرقه من غير غاصب له 24 وبلغت قيمة ما سرق عشرة دراهم 25 من الورق المحض 26 بوزن مكة 27 ولم يكن لحما 28 ولا حيوانا مذبوحا 29 ولا شيئا يؤكل 30 أو يشرب 31 ولا طيرا 32 ولا صيدا 33 ولا كلبا 34 ولا سنورا 35 ولا زبلا 36 ولا عذرة 37 ولا ترابا 38 ولا مغرة 39 ولا زرنيخا 40 ولا حصى 41 ولا حجارة 42 ولا زجاجا 43 ولا فخارا 44 ولا حطبا 45 ولا قصبا 46 ولا خشبا 47 ولا فاكهة 48 ولا حمارا 49 ولا حيوانا سارحا 50 ولا مصحفا 51 ولا زرعا من بدائه 52 ولا ثمرا من حائط 53 ولا شجرا 54 ولا حرا 55 ولا عبدا 56 يتكلم ويعقل 57 ولا أحدث فيه جناية 58 قبل إخراجه له من مكان لم يؤذن له في دخوله 59 من حرزه 60 بيده 61 فشهد عليه 62 بكل ذلك 63 شاهدان 64 رجلان 65 كما قدمنا في كتاب الشهادات 66 ولم يختلفا 67 ولا رجعا عن شهادتهما 68 ولا ادعى هو ملك ما سرق 69 وكان سالم اليد اليسرى 70 وسالم الرجل 71 لا ينقص منها شيء 72 ولا يهبه المسروق منه ما سرق 73 ولا ملكه بعدما سرقه 74 ولا رده السارق على المسروق منه 75 ولا ادعاه السارق 76 ولا كان له على المسروق منه دين بقدر ما سرق 77 وحضر المسروق منه 78 وادعى المال المسروق 79 وطلب قطعه 80 قبل أن يتوب السارق 81 وحضر الشهود على السرقة 82 ولم يمض للسرقة شهر 83
قال ذلك كله علي بن أحمد بن سعيد وقال الشيخ الإمام ويشترط مع ذلك أن لا يسبق الشهادة به إقرار ويأتي بعدها رجوع فلو تقدم السارق بذلك ثم قامت عليه البينة به ثم رجع سقط القطع على الأصح من مذهب الشافعي رحمه الله لأن الثبوت كان بالإقرار لا بالبينة فقبل رجوعه
نقله القاضي حسين عن ابن المرزبان في الزنا معللا له بأن الحد إنما يثبت عليه
____________________
(2/334)
بالإقرار دون البينة والبينة مؤكدة لذلك الزنا لا مثبتة للحد والحد الثابت بالإقرار يسقط بالرجوع هكذا قاله في الزنا وقياسه أن يكون في حد السرقة مثله لاشتراكهما في السقوط بالرجوع قال فإن قامت البينة عليه بالزنا فرجع عليه وسأل فقال صدق الشهود وثبت ثم رجع عن إقراره قال أبو إسحاق يسقط لأنه ثبت عليه بإقراره فلا حكم للبينة مع الإقرار والدليل عليه أنه أملق تكذيب الشهود والطعن بحيث ترك ثبت ذلك بإقراره
وقال غيره هذا غلط لا يسقط الحد لأن الحد ثبت عليه بالبينة ألا ترى في الابتداء لو أنكر لا يسقط عنه كذا إذا صدقهم ثم أنكر وجب أن لا يسقط ولو أقر بالسرقة ثم رجع عن الإقرار اختلف أصحابنا فمنهم من قال سقط القطع دون المال لأنه حق لله يسقط بالشبهة فهو كحد الزنا وبه فارق القود
والثاني لا يقتل بخلاف حد الزنا لأنه محض لله تعالى يأمر بالستر على نفسه في جميع الأحوال
فأما في السرقة فهو مأمور بالإقرار لما فيها من حق الآدمي فلم يسقط الحد بالرجوع
قلت والأول أصح عند أكثر الأصحاب وعليه فرعنا اشتراط ما ذكرناه
وقال شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي الحنفي في كتابه المبسوط وإذا أقر بالسرقة ثم هرب لم يطلب وإن كان في قدره ذلك لأن هربه دليل رجوعه ولو رجع عن الإقرار لم يقطع فكذا إذا هرب ولكنه إذا أتى به بعد ذلك كان ضامنا للمال كما لو رجع عن إقراره فإنه يسقط القطع به دون الضمان وهذا الكلام من السرخسي يقتضي أنه بالهرب يسقط القطع وفيه نظر ونحن نوافقه على أنه لا يطلب ولا يتبع كالزاني وهذا الحكم خطر لي تفقها ولم أجده منقولا في كتب الأصحاب إلى الآن وإنما رأيته في كلام السرخسي هذا وهو قياس الزنا وكون حد السرقة يسقط بالرجوع كحد الزنا ويقتضي أن بعد هذا شرطا آخر رابعا وثمانين وإذا ضممناه إلى ما تقدم عن نقل القاضي حسين عن ابن المرزبان فإطلاقه يقتضي أنه إذا أقر ثم قامت بينة ثم هرب لا يطلب وكذا لو قامت البينة ثم أقر ثم رجع أو هرب على قول أبي إسحاق فيعدان شرطين آخرين للاتفاق على وجوب الحد فيكون ستة وثمانين ولو لم يرجع ولا هرب
____________________
(2/335)
ولكن قال لا أريد إقامة الحد على رأي ثبت فوجهان حكاهما للقاضي حسين في الرأي أحدهما يسقط كقتل الردة والثاني لا لأنه مقدور عليه فلا يسقط عنه بالتوبة
كحد قاطع الطريق يتوب بعد الظفر فصار من سنة خمسة وثمانين
ولو قال ما أقررت لا يكون رجوعا
قاله القاضي حسين
ولعل تعليله أنه مكذب لمن شهد عليه بالإقرار وليس مكذبا لنفسه بخلاف قوله كذبت فإنه رجوع عن قول نفسه فقيل ولو تجرد إقرار السارق ولم يقم بينة قبله ولا بعده ولا رجوع ولا هرب ولا توبة ولكن اجتمعت بقية الشروط كلها فالظاهر وجوب القطع وكلام قدمناه يقتضي إثبات خلاف فيه لأنه لم يذكر من طرق الثبوت إلا الشهادة فإن كان أحد ذهب إلى أنه لا يثبت بالإقرار فعجب لأن حد الزنا ثبت بالإقرار لقصة ماعز فالسرقة أولى اللهم إلا أن يفرق بأن هذا حد آدمي فلا بد من طلبه ونحن نقول بذلك وبفرض الإقرار بعد الطلب فمن أين يأتي فيه خلاف ولعل المراد بأنه شهد عليه بذلك شاهدان أنهما شهدا على معاينة السرقة أو على إقراره حتى يخرج عن القضاء بالعلم إذا أقر عند القاضي وحده من غير شهود وإذا حمل على ذلك فلا فرق بين الثبوت بالبينة والثبوت بالإقرار وإذا شهدت البينة على الإقرار فإنه يخرج عن القضاء بالعلم فهذا هو الذي ينبغي أن يحمل عليه قول من قدمناه في الشروط في ذلك
واعلم أن من جملة الشروط في المسروق منه أن لا يكون في يده مال حرام يجب التوصل إلى أخذه منه ونحن كثيرا من الظلمة نراه في يده المكوس أو شيء من بيت المال أو مثل ذلك لا يجب به القطع وكذا يكون ساكنا في دار غصبا أو وقفا مشاعا فيفوت بذلك الحرز وفي المسائل أن لا يكون له حق في مال المسروق منه ونحن نرى كثيرا من السراق جياعا بحيث يجب كفايتهم على الناس والمسروق منه أحد من يجب عليه فلا يجوز القطع مع ذلك لما للسارق من حق التوصل إلى أخذ ما يستحقه
ومن جملة الشرط أن يكون الأمير الذي يتولى القطع أو يأمر به إماما مستجمع الشرط أو نائبا عنه مستجمع شرط النيابة أو قاضيا مستجمع شروط القضاء إن قلنا إن القاضي يجوز له إقامة الحدود
____________________
(2/336)
وإلا فلا يكفي القاضي لاستيفاء الحد
ومن جملة الشروط بمحل الاتفاق أنه يأخذه دفعة واحدة
ومن الشروط أن لا يكون عبدا آبقا
قال مالك عن زريق بن حكيم أنه أخبره أنه أخذ عبدا آبقا قد سرق مالا فأشكل علي أمره فكتبت فيه إلى عمر بن عبد العزيز أسأله عن ذلك وهو الوالي يومئذ وأخبرته أني كنت أسمع أن العبد إذا سرق وهو آبق لم تقطع يده فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز بعض كتابي يقول إنك كتبت إلي أنك كنت تسمع أن العبد الآبق إذا سرق لم تقطع يده وأن الله تعالى يقول في كتابه والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فإن بلغت سرقته ربع دينار فصاعدا فلتقطع يده
وقال مالك وذلك الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه
وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والأوزاعي والليث وأحمد وإسحاق وداود وجمهور أهل العلم بالأخبار
وإنما وقع الاختلاف في ذلك قديما ثم انعقد الإجماع بعد ذلك وقد روى الزهري أن عثمان ومروان وعمر بن عبد العزيز كانوا لا يقطعون الآبق إذا سرق وقالت عائشة ليس عليه قطع
وقال سفيان يقطع ليس معصية الله في إباقته تخرجه من القطع قال ذلك أبو علي الحسين بن عتيق بن الحسين وسيف في شرح الموطإ المختار من التمهيد والاستذكار مالك عن نافع أن عبدا لعبد الله بن عمر سرق وهو آبق فأرسل به عبد الله إلى سعيد بن العاص وهو أمير المدينة ليقطع يده فأبى سعيد أن تقطع يده وقال لا تقطع يد الآبق إذا سرق فقال له ابن عمر في أي كتاب وجدت هذا ثم أمر به ابن عمر فقطعت يده
وقال أبو عمر فيه أن السيد لا يقطع يد عبده في السرقة وإن اختلف عن مالك في حد الزنا فلم يختلف عنه في حد السرقة لأن قطع السراق إلى السلطان فلما لم ير ابن عمر الحد يقام على يد السلطان ورآه حدا معطلا قام لله به انتهى
باب التعزير مسألة التعزير في المسجد وإقامة الحدود هل يكره ذلك أو يباح مع بيان دليله
الحمد لله جمهور العلماء على كراهة ذلك أو تحريمه قال الشافعي أحب أن
____________________
(2/337)
يقضى في غير المسجد وإذا كرهت أن يقضى في المسجد كنت لأن يقيم الحد فيه أو يعزر أكره
وقال أصحابه هو مكروه كراهية شديدة
وقال القفال الكبير إنه عند مالك وأبي حنيفة مكروه يعني الحد في المسجد
وقال ابن القاسم قلنا لمالك يضرب القاضي في المسجد قال أما الأسواط الخفيفة اليسيرة على وجه العقوبة مثل الأدب فنعم لا أرى بذلك بأسا فأما الحدود وما كثر من الضرب فلا يكون في المسجد
وفي رواية ابن وهب قال مالك إذا ضرب فليضرب خارجا
وقال أبو حنيفة في رواية أسد بن عمر وعنه أكره للقاضي والإمام أن يضربا في المسجد أو يقيما فيه حدا
وقد بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقام الحدود في المساجد قال القفال وروي عن ابن عباس وغيره مرفوعا لا تقام الحدود في المساجد وروى إسحاق بن راهويه عن أبي فضيل عن محمد الضبي عن مكحول مرفوعا جنبوا مساجدكم خصومكم وإقامة حدودكم وشراءكم وبيعكم
قال إسحاق أخبرنا عبد الرزاق أنبأ محمد بن مسلم عن عبد ربه عن مكحول عن معاذ مرفوعا وكان شريح يرى إقامة الحدود في المساجد والشعبي مثله وكذلك ابن أبي ليلى وعاب عليه أبو حنيفة في حكاية أن ابن أبي ليلى مر على امرأة ضربها شاب فقال لها قولا غضب منه فقالت يا ابن الزانيين فأخذها ابن أبي ليلى فأدخلها المسجد فضربها بغير محضر الأبوين يجوز أن يكونا عبدين أو خصيين فلا حد فضربها حدين في مقام واحد وضربها في المسجد
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تقام الحدود في المساجد قيل وضربها وهي قائمة وضربها من غير طلب خصم للحد ولا بد من طلبه وحضوره
وروى أبو عبيد القاسم عن ابن مهدي عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا أضر الرجل الرجل فليخرجا من المسجد
قال يعني أن يحكم عليه بالقود وعن طارق بن شهاب وقال لي عمر يا رجل فقال أخرجاه من المسجد فاضرباه
وعن الفضيل بن عمير وقال أتي علي بسارق فقال يا قنبر أخرجه من المسجد فاقطع يده
وهذا من ضعاف المراسيل وقال ابن ماجه في الحدود إن رسول الله صلى الله عليه
____________________
(2/338)
وسلم نهى عن جلد الحد في المساجد من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
هذا ما حضرني الآن من الآثار وقول أهل العلم في ذلك وأقل درجاته الكراهة الشديدة كره له يكره وقد شهدت له الأحاديث الصحيحة إنما بنيت لذكر الله والصلاة وهذا أثر منها لا الحد ولا التعزير والله أعلم انتهى
كتاب الجهاد مسألة في التوراة والإنجيل هل يجوز النظر فيهما قال الشيخ أبو حامد ما معناه لا يحل إمساكها بل إن كانت على جدار ونحوه غسلت وإن كانت على كاغد رقيق حرق ولا يحرق ليبقى المحرق غنيمة وكذا قال الشيخ أبو إسحاق والفوراني وابن الصباغ وإمام الحرمين والغزالي والرافعي والقاضي أبو الطيب
ولو وصى الذمي أو غيره فقال اكتبوا بثلثي التوراة والإنجيل لم يجز لأنها مغيرة مبدلة صرح بها الأصحاب والشافعي في آخر باب الجزية
سؤال من الشيخ الصالح فرج المقيم بقرية الساهلية من الغور أرسله إلى الشيخ الإمام في سنة الطاعون في جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وسبعمائة يشتمل على أسئلة السؤال في الشهادة في سبيل الله وما حقيقتها
أجاب رحمه الله ما نصه الحمد لله الجواب أنها حالة شريفة تحصل للعبد عند الموت لها سبب وشرط ونتيجة عرفت من نص الشارع على محالها وآثارها واستنبط من ذلك عللها الموجبة لضبطها وأسبابها وشروطها وبيان ذلك بصور الصورة الأولى وهي أعلاها القتل في سبيل الله قال الله تعالى ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما وقال تعالى في قتلى بدر ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون وقال تعالى في قتلى أحد ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله وقال تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وقال تعالى ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وقال تعالى من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا
____________________
(2/339)
الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وقال تعالى والشهداء والصالحين وقال النبي صلى الله عليه وسلم ما عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى وقال أبو هريرة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله عز وجل والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل
وقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى اللون دم والريح ريح المسك وقال صلى الله عليه وسلم ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار وقال صلى الله عليه وسلم ما أحد يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما علي من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة وقال صلى الله عليه وسلم واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف وقال صلى الله عليه وسلم الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم بكرة وعشيا أخرجه الحاكم
والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة وذكرنا في ذلك مع قوله صلى الله عليه وسلم لعلي لما وجهه إلى خيبر لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من حمر النعم فرأينا قوله صلى الله عليه وسلم ذلك في هذه الحالة يشير إلى أن المقصود بالقتال إنما هو الهداية والحكمة تقتضي ذلك فإن المقصود هداية الخلق ودعاؤهم إلى التوحيد وشرائع الإسلام وتحصيل ذلك لهم ولأعقابهم إلى يوم القيامة فلا يعدله شيء فإن أمكن ذلك بالعلم والمناظرة وإزالة الشبهة فهو أفضل
ومن هنا نأخذ أن مداد العلماء أفضل من دم الشهداء
وإن لم يمكن إلا بالقتال قاتلنا إلى إحدى ثلاث غايات إما هدايتهم وهي الرتبة العليا وإما أن نستشهد دونهم وهي رتبة متوسطة في المقصود ولكنها شريفة لبذل النفس فهي من حيث بذل النفس التي هي أعز الأشياء أفضل من حيث إنها وسيلة لا مقصود مفضولة والمقصود إنما هو إعلاء كلمة الله تعالى
وإما قتل الكافر وهي الرتبة الثالثة وليست مقصودة لأنها تفويت
____________________
(2/340)
نفس يترجى أن تؤمن وأن تخرج من صلبها من يؤمن ولكنه هو الذي قتل نفسه بإصراره على الكفر فلما بذل الشهيد نفسه التي هي أعز الأشياء إليه وباعها لله تعالى طلبا لإعلاء كلمته فاقتطع دونها ويعينه تعالى ما يتحمل المتحملون من أجله ولا شيء أعظم مما يتحمله الشهيد جازاه سبحانه وتعالى وهو أكرم الأكرمين بما تقصر عقول البشر عنه
وأول ذلك أنه لم يخرجه من الدنيا حتى أشهده ما له من الكرامة جملة وإن لم يدرك العقل والطرف تفصيلها فيرى بعينه من حيث الإجمال ما أعد الله له من الكرامة والخير ولذلك سمي شهيدا وهو فعيل بمعنى فاعل وقيل إنه فعيل بمعنى مفعول أو أنه سمي بذلك لأن الملائكة تشهده وتظله بأجنحتها والأول أصح وأشهر وعلى كلا التقديرين فهي حالة تحصل له شريفة ولهذا قلنا في حد حقيقتها إنها حالة شريفة تحصل للعبد ولو جزمنا بأنه فعيل بمعنى فاعل قلنا في العبد بأن شهوده للكرامة حالة تحصل منه في بصره وقلبه ولكنا قلنا له يصح على كلا القولين فإن شهود ملائكة الرضا له حالة حاصلة لأجله إلا أن الأول أعلى وأكمل وأعظم لما فيه مما يحصل في القلب من المعارف الربانية والبهجة النورانية وفي البصر من رؤية الجنة وكأنه أول قبض الثمن الذي باع الشهيد به نفسه وحصل ذلك في مقابلة شيئين أحدهما ما يترتب عليه من إعلاء كلمة الله لأنه يشجع غيره من المسلمين على مثله ويخذل الكفار ويضعف نفوسهم وربما يدعوهم إلى الإسلام
والثاني ما حصل له من الألم الذي لا شيء أعظم منه من فوات نفسه وتحققه لذلك قبل خروجها فإن حتف أنفه لا ييأس من نفسه بل إما يأتيه الموت فجأة أو بأمراض يترجى معها العافية أو يغيب عقله حتى تخرج روحه والشهيد قد تذرع أسباب الموت في حال حضور عقله وأعرض عن نفسه في رضا الله تعالى ومن هنا يعلم فضل هذه الصورة على ما بعدها لأن غيره من الشهداء قد لا يشاركه إلا في الألم فأنى يكون مثله وإن ساواه في بعض المعاني وصدق عليه اسم الشهيد والاسم يشترك فيه أعلى المراتب وأدناها فالناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف أكل امرئ تحسبين امرأ ونار توقد بالليل نارا
____________________
(2/341)
ولكن فضل الله واسع قد يرفع الصغير إلى درجة الكبير أو يدنيه منه تفضلا فالشهداء كلهم هذا والذين يأتي ذكرهم يشتركون في رؤية كرامة الله تعالى وفي حضور ملائكة الرضا لهم وإن اختلفت الأسباب لاشتراك الكل في الألم واليأس من الحياة لوارد على النفس مملك لها فلذلك ذكرنا الحد الذي ذكرناه في حقيقتها ليكون مشتركا بين الجميع فالحقيقة واحدة والقدر المشترك واحد والصورة مختلفة متفاوتة تفاوتا كثيرا أعلى وأدنى وأوسط
وأما قوله تعالى ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله الآية
فليس مما نحن فيه لأمرين أحدهما أن ذلك في الهجرة لا في الجهاد والثاني أنه فيه وقوع الأجر لا الاسم
ولو فرضنا أن شخصا خرج من بيته لقصد الجهاد في سبيل الله فمات في الطريق بغير سبب من أسباب القتال فقد وقع أجره على الله كما في المهاجر وهل هو كالمجاهد حقيقة أو دونه ليس هذا موضع الكلام فيه ولكن نقول فيه إنه لا يسمى شهيدا ولا أنه تحصل له هذه الحالة التي تحصل للشهيد من شهوده الكرامة قبل موته ونحوها لأن التسمية لم ترد فيه أو تسمى سنذكره بعد ذلك وإن قلنا بأنها للمقتول ظلما والمطعون والمبطون وغيرهم ممن يأتي ذكره ولورود النص بإطلاق الاسم ودع يكون الميت في طريق الجهاد أكثر أجرا إن ثبت ذلك فخواص الشهيد لا نثبتها إلا لمن ورد النص بإطلاقها عليه سواء أكان أكثر أجرا أم لا
واعلم أن الوسائل لها حكم المقاصد ولكنها ليست في رتبتها فالمجاهد الذي قتل في سبيل الله له اسم الشهيد والخاصة الحاصلة له من تلك الحالة الشريفة والأجر الحاصل في الآخرة والذي خرج من بيته بهذه النية ومات قبل بلوغها يشاركه في أصل أجر الجهاد وفضل الشهادة بلا شك بالقياس وبالأولية الكلية العامة في ذلك وأما مساواته له في الأجر ففيه نظر قد يقال وقد يتوقف فيه ولا نجزم بالمنع لأن فضل الله واسع وأما وقوع اسم الشهيد عليه فالظاهر المنع لأن الأسماء لا تؤخذ بالقياس وأما ثبوت تلك الحالة له فالأمر فيها محتمل من باب الأجر المرتب وإن لم يحصل اسم سببها
والكلام فيمن سأل الله الشهادة من قلبه صادقا
____________________
(2/342)
كالكلام في ذلك ولا شك أن من سأل وتعاطى بعض السبب أعلى ممن سأل فقط وعمر حصل له أمران أحدهما سؤاله الشهادة العليا والثاني حصول الشهادة بالقتل حقيقة فله أجر الثانية حقيقة عليها وله أجر الأولى بالقصد والنية والسؤال
وإنما قلنا إنه سأل الشهادة العليا لإطلاق اللفظ وإنما يقصد الأكمل لكن اكتفى في استجابة دعائه بحصول الاسم وسأل الموت في بلد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو شيء ثالث ليكون له شفيعا أو شهيدا وفيه أمر رابع وهو أن الذي قتله لم يقتله لأمر دنيوي بل على الدين فهو كقتل الكافر المسلم في سبيل الله وليس كمن قتله عدو له ظلما على عداوة دنيوية بينهما وإن صدق عليه اسم الشهادة فإن الشهيد في المعركة وعمر رضي الله عنه اشتركا في أنهما إنما قتلا لقصدهما إعلاء كلمة الدين وإظهار الدين وقاتلهما قصد ضد ذلك وإخفاء دين الله فهو صاد على الله
وهذا معنى آخر لم نذكره فيما تقدم فيتنبه له في الشهيد وهذا معنى كونه في سبيل الله معناه في طريق استعمله الله فيها نصرة لدينه فهو عبد سار في طريق سيده لتنفيذ أمره حتى غلبه عدو سيده لا لدخل بينهما بل عداوة للسيد أليس السيد يغار له والله أشد غيرة وقال صلى الله عليه وسلم من سأل الله القتل في سبيله صادقا ثم مات أعطاه الله أجر شهيد وقال أيضا من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه
إذا عرفت حقيقة الشهادة فاعلم أن لها أسبابا أحدها القتل في سبيل الله وقد ذكرناه الثاني أسباب أخر وردت في الحديث سنذكرها إن شاء الله تعالى
ووجدنا في السبب الأول أمورا ليست فيها فلما رأينا الشارع أثبت اسم الشهادة للكل وجب علينا استنباط أمر عام مشترك بين الجميع وهو الألم بتحقق الموت بسبب خارج وإن اختلفت المراتب وانضم إلى بعضها أمور أخر
وأما الشروط فأمور أحدها أن يكون قتاله لإعلاء كلمة الله فقد جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ولا شك في ذلك لأن به يتحقق المعنى الذي قدمناه
والذي قاتل شجاعة أو رياء أو حمية ليس قتاله لله فليس في سبيل
____________________
(2/343)
الله وهذا مقطوع به والظاهر أنه لا يسمى شهيدا لأن المعنيين اللذين ذكرا في معنى اسم الشهيد ليسا فيه والنص لم يرد بتسميته وإنما نحن نظنه في الظاهر شهيدا لعدم الاطلاع على فساد نيته فحينئذ الشهيد في علم الله تعالى وهو الذي في سبيل الله فقول عمر رضي الله عنه أسألك شهادة في سبيلك
لا يكون قوله في سبيلك تقييدا بل إيضاحا ويحتمل على بعد أن كل قتيل يسمى شهيدا وحينئذ ينقسم قسمين ويكون ذكر السبيل تقييدا لا دليل على هذا وقد قسم العلماء الشهداء على ثلاثة أقسام شهيد في الدنيا والآخرة وشهيد في الدنيا دون الآخرة وعكسه وذكروا في القسم الثاني المقاتل رياء والمدبر والغال من الغنيمة فأما المقاتل رياء فليس قتاله في سبيل الله فأما أن يقال إنه ليس بشهيد وإن حكمنا له في الدنيا بأحكام الشهيد وإما أن يقال إنه شهيد ولا أجر له
وأما المدبر والغال من الغنيمة فيمكن أن يكون صحب نيتهما في طلب إعلاء كلمة الله تعالى وإن عرض لهما الإدبار والغلول وهما من المعاصي فينبغي أن يكون لهما أجر الشهيد وعليهما وزر الإدبار والغلول وسنعيد الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى
والشهيد في الدنيا والآخرة من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وقتل صابرا محتسبا غير غال فحكمه في الدنيا أحكام الشهداء لا يغسل
واختلف العلماء في الصلاة عليه وفي الآخرة له أجر الشهداء والشهيد في الآخرة لا في الدنيا المطعون والمبطون وغيرهما مما سيأتي يغسلون ويصلى عليهم وليس لهم شيء من أحكام الشهداء في الدنيا لكن في الآخرة لهم أجر الشهداء الشرط الثاني عدم الغلول قد ذكره الفقهاء كما أشرنا إليه فيما تقدم وأشرنا إلى التوقف في أنه شرط للشهادة أو لحصول الأجر عليهما ولا شك أنه لا يحصل له أجر الكامل
والأصل في ذلك قوله تعالى في غزوة أحد ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة قيل في التفسير حاملا له على ظهره
وقال تعالى أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير قيل في التفسير أفمن اتبع رضوان الله من ترك الغلول وبالصبر على الجهاد كمن باء بسخط من الله بالكفر أو
____________________
(2/344)
بالغلول أو بالتولي عند لقاء العدو وفراره عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الحرب
روى البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره الحديث
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وهو ابن العاص قال كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في النار فذهبوا ينظرون فوجدوا عباءة قد غلها
وعنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه فيقسمه فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال يا رسول الله هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة قال أسمعت بلالا قال نعم قال ما منعك أن تجيء به قال يا رسول الله فاعتذر فقال كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك
صححه الحاكم
وخبر مدعم في خيبر مشهور وقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الشملة التي أخذها من الغنائم لم تصبها المقاسم تشتعل عليه نارا
وعن زيد بن خالد الجهني أن رجلا توفي يوم خيبر فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلوا عليه فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال إن صاحبكم غل في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين وعن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه فوجد في متاع غال مصحف فقال سالم بعه وتصدق بثمنه وقيل إن الخلفاء منعوا الغال سهمه من المغنم
قال العلماء الغلول عظيم لأن الغنيمة لله تصدق بها علينا من عنده في قوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فمن غل فقد عاند الله وإن المجاهدين تقوى نفوسهم على الجهاد والثبات في مواقفهم علما منهم أن الغنيمة تقسم عليهم فإذا غل منها خافوا أن لا يبقى منها نصيبهم فيفرون إليها فيكون ذلك تخذيلا للمسلمين وسببا لانهزامهم كما جرى لما ظنوا يوم أحد فلذلك عظم قدر الغلول وليس كغيره من الخيانة والسرقة وسمي غلولا لأن الأيدي فيه مغلولة ولأنه يؤخذ في خفية وأصله الغلل وهو الماء الذي يجري تحت الشجر لخفائه ومنه غل الصدر
انتهى ما قاله
____________________
(2/345)
العلماء
ولا يمتنع أن يكون ذلك سببا لإحباطه جهاده ومنعه من درجة الشهادة لكن إذا ثبت ذلك ينبغي أن لا يحكم له بدرجة الشهادة لا في الدنيا ولا في الآخرة
والفقهاء جعلوه شهيدا في الدنيا دون الآخرة ولعلهم أرادوا ما إذا لم يعلم ذلك من حاله وكان خفيا فحينئذ يظهر ما قالوه
وأما كونه ليس بشهيد في الآخرة فإن أراد به أنه لا يعصم من النار فصحيح لا شك فيه لتصريح الأحاديث الصحيحة به وإن أريد أنه لا يحصل له شيء من ثواب الشهداء بعد أخذه ما يستحقه من العذاب ففيه نظر إذا كانت نيته صادقة إلا أن يرد نص من الشارع يقتضي إخراجه والذي أراه أن قوله صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله نصا ضابطا فكل من لم يكن مقصده غير ذلك فهو شهيد ومن لا فلا فإذا لم يكن مقصده غير إعلاء كلمة الله تعالى كان شهيدا غل أو لم يغل صبر أو لم يصبر احتسب أو لم يحتسب
هذا الذي يظهر لي وإن كان الصابر المحتسب غير الغال أكمل وأعظم أجرا
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في خطبة خطبها تقولون في مغازيكم فلان قتل شهيدا ولعله قد أوقر دابته غلولا لا تقولوا ذلك ولكن قولوا من قتل في سبيل الله فهو في الجنة وهذا الكلام من عمر محتمل لأن يكون مراده لا يبالغ في الثناء على شخص معين لأنا لا نعلم
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال إنما الشهيد الذي لو مات على فراشه دخل الجنة يعني الذي يموت على فراشه مغفورا له
وهذا من أبي هريرة رضي الله عنه شديد
وأما الذي قيل فيه ما أجزأ أحد منا اليوم ما أجزأ فلان قول فلان وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه أنه من أهل النار وقتل نفسه بعد ذلك فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على حاله بنفاق أو سوء خاتمة والعياذ بالله ولذلك قال إنه من أهل النار فإنه يشعر بالخلود بخلاف قوله في مدعم لتشتعل عليه نارا لما كانت معصية اختص عذابها بسائر البدن
الشرط الثاني الصبر جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر يكفر الله عني خطاياي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم
____________________
(2/346)
فلما أدبر الرجل ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كيف قلت فأعاد عليه قوله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نعم إلا الدين كذلك قال لي جبريل عليه السلام
هكذا رواه مالك في الموطإ ورواه ابن أبي شيبة فقال فيه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن قتلت كفر الله عز وجل به خطاياي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر كفر الله عز وجل خطاياك إلا الدين كذلك قال لي جبريل وكذلك رواه ابن أبي ذئب والليث بن سعد وكذلك رواه مسلم في صحيحه من حديث الليث بن سعد وهو يدل بطريق المفهوم على أن ذلك شرط ينتفي الحكم عند انتفائه بخلاف رواية مالك ليست صريحة في الاشتراط حيث جعل ذلك من كلام الصحابي لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم برواية مالك فلا إشكال
وإن أخذنا برواية الليث فيحتمل أن يقال إن قوله صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله منطوق والمنطوق يقدم على المفهوم ويحتمل أن يقال لا تعارض بينهما لأن الموعود به في هذا الحديث تكفير الخطايا ولا يلزم من انتفائه انتفاء كونه في سبيل الله
وهذا أصح الأجوبة وبه يعرف أن درجات الشهداء متفاوتة فالذي يقطع بتكفير الخطايا له غير الدين هو الذي جمع هذه الصفات وأما غيره فقد يغفر له البعض دون البعض ويحتمل أن يقال جواب ثالث أن المفهوم يخصص العموم ولكن لا ضرورة إلى هذا وقوله مقبلا غير مدبر لأنه قد يقبل في وقت ويدبر في وقت فهذا الحكم إنما يثبت لمن لم يحصل منه إدبار أصلا
نعم قد يقال إن هاتين الصفتين منصوبتان على الحال فالمعتبر هو كونه بهاتين الصفتين حال القتل لا قبله ولا بعده وحينئذ ينبغي أن يفسر الإقبال والإدبار بما لا منافاة بينهما إما بأن يقال إنه يقبل بقلبه وبدنه ونيته لا يكون له التفات إلى ما سوى ذلك لا في الحال ولا في المآل أو يكون تأكيدا وهكذا ذكر الصبر معهما
الظاهر أنه لبيان ما قلناه من الإقبال بالظاهر والباطن فإن الشخص قد يكون مقبلا على العدو بصورته وفي قصده أن ينهزم فلا يكون صابرا ولو قتل في هذه الحالة فلا يكون شهيدا ولا يكون قتله في
____________________
(2/347)
سبيل الله ومتى كان مقبلا بصورته وقلبه فهو صابر ولا يضره مع ذلك أن يجد ألما في قلبه أو كراهية للموت وفراق الأهل لا يتحمل ذلك لله تعالى وقد تكلم الناس في اشتراط الصبر في الثواب على المصائب وله هناك وجه وأما هنا وما أشبهه من العبادات فالصبر على فعلها بشروطها كالصبر على الصلاة والصوم ونحوهما وحسن ذكره في الجهاد لما أشرنا إليه من أن الشخص قد يحضر الصف وفي قصده الفرار فليس صابرا نفسه فالصبر بهذا المعنى شرط لا بد منه وعليه يحمل الحديث وبغير هذا المعنى لا يشترط
الشرط الثالث الاحتساب ومعناه أنه ينوي به وجه الله ويعتده وسيلة لثواب الله وهذا حاصل بقوله من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وإنما ذكره هنا ولم يذكره هناك لأن هناك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه صلى الله عليه وسلم مراد به حقيقة الأمر فالمراد في سبيل الله ظاهرا وباطنا صورة ومعنى وهنا من كلام السائل قال يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله فقد يقصد به صورة السبيل وكل من قاتل الكفار في صف المسلمين فهو في الصورة في سبيل الله فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم باشتراط الصبر والاحتساب ليكون في سبيل الله صورة ومعنى
الشرط الرابع أن يكون مقبلا غير مدبر
وقد ذكرنا هذه الشروط ولننبه على أن هنا مقامين أحدهما كون القتال في سبيل الله وهو دائر مع كون القتال لإعلاء كلمة الله وجودا وعدما سواء رجع المقاتل إلى بيته مع ما نال من أجر وغنيمة سالما أم لا سواء استشهد أو لا دام على تلك الحالة أم لا فقد يقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله بنية خالصة ثم يتغير حاله بعد ذلك والعياذ بالله
وهل يخرج قتاله الماضي عن أن يكون لله ينبني على إحباط العمل والكلام فيه مبين في غير هذا الموضع والمقصود التنبيه على أن هذا الحديث لم يتعرض للشهادة وإنما تعرض لحكم القتال
المقام الثاني كون المقتول شهيدا تكفر خطاياه وقد تعرض الحديث الثاني الذي فيه تكفير الخطايا لذلك فأفهم الفرق بين المقامين لئلا يختلط عليك وقد ينتهي القتال في سبيل الله إلى القتل على تلك الصفة وقد لا ينتهي إلى ذلك بأسباب
____________________
(2/348)
كثيرة
وقد تلخص أن كل من قتل من المسلمين في حرب الكفار بسبب من أسباب القتال قبل انقضاء الحرب فهو شهيد في أحكام الدنيا لا يغسل ولا يصلى عليه فإن كان مع ذلك صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر فهو شهيد في الآخرة أيضا
وقد لا يحصل منه قتال بل يكون متهيئا له فكثيرا ما يتفق ذلك لمن يكون في الصف فهذا شهيد محمود وإن لم يصدق عليه أنه قاتل بالفعل بل بالقوة والشهادة بالحكم بالظاهر في هذا المعنى الذي شرحناه وفي المعنى الباطن هي شهادته بقلبه وبصره كرامة الله له وشهادة الملائكة له بحضورهم عنده على هيئة الإكرام وشهادته له بالخير وإكرامه له كما حصل لبعض الشهداء من تظليله بأجنحتهم بعد الموت حتى رفع وشهادة الدم عليه وتأهل لهذه الكرامة بأنه بذل نفسه وماله وولده وكل من يحبه لله تعالى ولنصرة دينه وإعلاء كلمته وإعزاز الإسلام وأهله وخذلان الكفر وأهله وتحمل المشاق في ذلك كله وتجرؤ عدو الله عليه تجرؤ على الله وصدا له عن إعلاء كلمة الله وقطعا لسبيله والجناية على عبيده فجازاه الله على هذه الميتة بحياة الأبد وجعله حيا باقيا مرزوقا فرحا مستبشرا آمنا
واختصار هذا الذي يكتب في الفتوى أن الشهادة في سبيل الله حقيقتها موت المسلم في حرب الكفار بسبب من أسباب قتالهم قبل انقضاء الحرب صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر ويغني عن هذه الألفاظ الأربعة قاصدا إعلاء كلمة الله تعالى وشرفها لبذل نفسه لله في إعلاء كلمته وقتل عدو لله له دون الوصول دون ذلك وأما بقية الصور فشاركت هذه الصور في بعض هذه المعاني كما سنبينه
وأما النتيجة فقد بينا بعضها فيما تضمنته الآيات والأحاديث وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين وفيه أيضا القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين وفيه أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاء ثم تأوي إلى تلك القناديل وأحاديث كثيرة في هذا المعنى فأما الدين فقال النووي في شرح مسلم أما قوله صلى الله عليه وسلم إلا الدين ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين وإنما تكفر حقوق الله تعالى وأما قوله صلى الله عليه وسلم نعم ثم قال إلا الدين فمحمول على أنه أوحي به إليه في الحال
____________________
(2/349)
هذا كلام النووي رحمه الله
وقال ابن عبد البر في الاستذكار في هذا الحديث إن القتل في سبيل الله عز وجل على الشرط المذكور لا يكفر تباعات الآدميين وإنما يكفر ما بين العبد وربه من كبيرة أو صغيرة لأنه لم يستثن إلا الدين الذي هو من حقوق بنى آدم ويشهد له حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل أحد من أهل الجنة الجنة وأحد من أهل النار يتبعه بمظلمة وذكر أحاديثا كثيرة في هذا المعنى ثم قال وفي هذا الحديث من الفقه أن قضاء الدين على الميت بعده في الدنيا ينفعه في آخرته
ثم قال هذا كله كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين قبل أن يفتح الله عليه الفتوحات فلما كان ذلك وأنزل الله تعالى سورة براءة وفيها الزكاة قال صلى الله عليه وسلم حينئذ من ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا أو عيالا فعلي فكل من مات وقد أدان دينا في مباح ولم يقدر إلى أدائه فعلى الإمام أن يؤدي عنه من سهم الغارمين أو من الصدقات كلها إن جوز وضعها في صنف واحد ومن الفيء
قال أبو عمر قوله صلى الله عليه وسلم وعلي قضاؤها يحتمل إذا لم يترك مالا وظاهر الحديث عمومه والمعنى فيه أن الميت المسلم كان قد وجبت له حقوق في بيت المال من الفيء وغيره لم يصل إليها فيجب على الإمام أن يؤدي من تلك الحقوق دينه ويخلص ماله لورثته فإن لم يفعل الغريم أو السلطان وقع القصاص بينهم في الآخرة ولم يحبس عن الجنة بدين له مثله على غيره في بيت المال أو على غريم جحد ولم يثبت ما عليه إلا أن يكون ما عليه من الدين أكثر مما له في بيت المال أو على الغريم ولم تف بذلك حسناته فيحبس عن الدين بسببه ومحال أن يحبس عن الجنة من له مال يفي بما عليه عند سلطان أو غيره
وهذا الذي قاله ابن عبد البر حسن فيمن له من بيت المال نظير الذي عليه وليس كل أحد كذلك وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم حكم مبتدأ والذي قاله ابن عبد البر تنبيه حسن فيمن له في بيت المال وينبغي أن يتنبه الأئمة العادلون لذلك بل والقضاة الذين تحت أيديهم الزكاة ومنها سهم الغارمين
وقال القاضي عياض هذا فيمن له ما عليه من الدين وأتلفه على ربه عن علم أو ذمة وملاه واستدانه
____________________
(2/350)
في غير واجب وتحذير أو فسد به المرء فسارع في إتلاف مال بهذا الوجه ويحتمل أن يكون قبل قوله من ترك دينا فعلي
وقال القرطبي وذكره الدين تنبيه على ما في معناه من الغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحته وغير ذلك من التباعات لكن هذا إذا امتنع من أداء الحقوق مع تمكنه أما إذا لم يجد المخرج من ذلك سبيلا فالمرجو من كرم الله تعالى إذا صدق في قصده وصحت نيته أن يرضي الله تعالى خصومه عنه ولا يلتفت إلى من أشار إلى أنه منسوخ لأن الأحكام الدنيوية هي التي تنسخ والحديث إنما تعرض لمغفرة الذنوب
وقال أبو الوليد الباجي لم يثبت أن أحدا من الأئمة قضى دين من مات من بيت المال بعد النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أن يكون هذا كان خاصا به صلى الله عليه وسلم وفي النوادر أن التشديدات التي وردت في الدين كلها منسوخة إلا من أدان في سرف أو فساد وذكر نحو هذا عن ابن شهاب واستدل بأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم فمن لنا بعدك قال يأخذ الله الولاة لكم بمثل ما يأخذكم به
هذا كلام المالكية ولم يذكر أصحابنا قضاء دين من مات قادرا وإنما ذكروا قضاء دين الميت المعسر وأنه كان واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم وقيل كان يقضيه تكرما لا وجوبا وهل على الأئمة بعده قضاء دين المعسرين من مال المصالح فيه وجهان
وظاهر الحديث يساعد المالكية وأيا ما كان فالإرضاء بالحسنات إنما يكون في الآخرة فيقتضي تارة تأخر دخول الشهيد الجنة حتى يرضى خصمه ولا يمتنع مع ذلك أن تنعم روحه في غير الجنة حيث شاء الله تعالى نعم إذا فنيت حسناته ولم يكن له شيء في بيت المال أخذ من سيئات خصمه فطرحت عليه واقتضى ذلك دخول النار هل نقول إنه يدخل وإن كان شهيدا وإذا دخل ولم يرض صاحبه إلا بالدين كيف يكون الحكم الله أعلم
ولعل الله يرضي خصمه بما شاء حتى يدخل الجنة هكذا حكم تبعات الآدميين
أما حقوق الله تعالى فظاهر الحديث أنها تغفر كلها بالشهادة ولا مانع من ذلك فالمعتقد ذلك لكنا لانقطع بعدم دخوله النار لأمرين أحدهما أن دلالة العموم ظنية عند
____________________
(2/351)
أكثر العلماء والثاني أنه يجوز أن يكون المراد أن الشهادة سبب قوي في دخول الجنة والنجاة من النار كقوله من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة ونحوه من الأحاديث ومعناه ما لم يعارض معارض فقد تعارض كبائر أخرى عظيمة تمنع البدار إلى ذلك هذا بدون مظالم العباد أما مع مظالم العباد فظن النجاة من النار أضعف وإن كان يقوى فيه أيضا بعد إرضاء الله سبحانه خصوم الشهيد ونقطع بأنه لا يدخل الجنة وعنده مظلمة لآدمي
فرع جاء في صحيح مسلم من مات في سبيل الله فهو شهيد الصورة الثانية تمني هذه المرتبة جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه وفيه أيضا من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه والذي نعتقده أن الله يعطيه مرتبة الشهداء لقصده وسؤاله وعدم تمكنه من الوصول إليها وللمرء فيما ينويه ثلاثة أحوال أحدها أن يمكنه الفعل فيؤجر على نيته أجرا دون أجر الفعل
الثانية أن يتقدم له عادة به فكتب له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحا مقيما وذلك لأن العذر الذي قدره الله عليه من المرض أو السفر هو الذي منعه
الثالثة أن لا تصل قدرته إليه لهذا الحديث فإن طالب الشهادة لا قدرة له عليها فقد فعل ما في وسعه فإذا قطع عنه أعطاه الله من سعة فضله ذلك لكنه لا يسمى شهيدا في العرف ويحتمل أن يسمى حتى لو حلف حالف ليصلين على شهيد فصلى عليه بر
والكلام في هذا كالكلام في أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وما أشبه ذلك وهذه الصورة لم يحصل فيها شيء من معاني الصورة الأولى فإلحاقها بها إنما هو بالنص لا بالقياس ولا بمعنى جامع غير الاشتراك النية ونية المرء أبلغ من عمله
وقد كان عمر رضي الله عنه يقول اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك ووفاة ببلد رسولك صلى الله عليه وسلم
كذا رواه زيد بن أسلم وهشام بن عروة عن أبيه شهادة في سبيلك في مدينة رسولك صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/352)
وهو يقتضي أن يكون الشهادة في المدينة كما وقع والأول لا يقتضي في المدينة إلا الوفاة وقد تتقدم الشهادة في غيرها وعلى كلا التقديرين يحتمل أن يكون المسئول الشهادة في الجهاد وأن الله تعالى جعل طعن أبي لؤلؤة قائما مقامها ويحتمل أن يكون سأل مطلق الشهادة فحصل ما سأله بحقيقته ولا شك أنه شهيد حقيقة فقد قال صلى الله عليه وسلم فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد والمراد بالشهيد عمر رضي الله عنه وفي رواية شهيدان والمراد عمر وعثمان فشهادته رضي الله عنه حقيقية بطعن أبي لؤلؤة له وهي من أعظم الشهادات تالية لشهادة الحرب لأنها في معناها فإن أبا لؤلؤة كافر مجوسي إنما قتل عمرا لقيام عمر في دين الله أعظم من قيام المجاهدين فكان في معنى الصورة الأولى سواء ويحصل له مع ذلك أجر سؤاله الشهادة ومع ذلك غسل وصلي عليه ولم يثبت له شيء من أحكام الشهداء في الدنيا وإنما هو شهيد في الآخرة
وبقي هنا بحثان أحدهما استشكل الشيخ عز الدين بن عبد السلام سؤال الشهادة وهي قتل الكافر للمسلم وقتل الكافر للمسلم معصية والجواب من وجهين أحدهما أن الشهادة قد تحصل في الحرب بسبب من أسباب القتال غير تعمد الكافر أو قتله
والثاني أن الشهادة لها جهتان إحداهما حصول تلك الحالة الشريفة في رضا الله تعالى وهي المسئولة والثانية قتل الكافر وهو من حيث هو مقتول منه في حين جاء على القلب من فضل الشهادة
البحث الثاني التمني بمثل ذلك جائز بل في الصورة الأولى قدمنا تمني الشهيد في الآخرة أن يرجع إلى الدنيا وهو دليل لجواز ذلك وإن كان مستحيلا وإنما يمتنع التمني في مثل قوله ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض وفي الأحكام وعليه يحمل قول الشافعي رضي الله عنه ولولا أن التمني حرام لتمنينا هذا هكذا يعني في أن العرب يسترقون فلا يجوز للإنسان أن يتمنى أن الخمر لم يحرم ونحو ذلك
الصورة الثالثة الطاعون نسأل الله العافية والسلامة
روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشهداء خمسة المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله وفيه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم الطاعون شهادة لكل مسلم
____________________
(2/353)
وكذا رواه مسلم في صحيحه
وفي المستدرك للحاكم عن أبي بردة أخي أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم اجعل فناء أمتي قتلا في سبيلك بالطعن والطاعون حديث صحيح
وجاء في الحديث أنه وخز أعدائكم من الجن
وفي رواية في غير المستدرك إنما وخز من الشيطان والوخز طعن ليس بنافذ
وبهذا تبين مشاركته للقتل في سبيل الله لأنه قتل من كافر لمسلم بل هو من أعظم الكفار لأنه الشيطان والشيطان إنما يعادي المسلم على الإسلام فكان ذلك في معنى طعن أبي لؤلؤة لعمر رضي الله عنه وهو في حكمه في أنه لا يثبت له شيء من أحكام الشهيد في الدنيا وإنما هو شهيد في الآخرة ويحصل لهم تلك الحالة الشريفة أو قريب منها
وأما الآية الكريمة والحديثان اللذان ذكرناهما من مسلم في تكفير الذنوب ليس فيه لفظ وإنما ورتبة القتل في الجهاد نعم في صحيح مسلم أيضا يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين وقد ذكرناه فيحتمل أن تكون اللام للعهد وهو المشهور في اسم الشهيد وهو شهيد فدخل الخمسة في المغفرة وهو المعتقد إن شاء الله تعالى لأن بقية الأحاديث تشعر به وإنما ذكرنا الاحتمال نفيا للقطع وإذا كنا لا نقطع في شهيد المعركة ففي هذا أولى
وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الطعن والطاعون تأييد لما قلناه في جواب الشيخ عز الدين بن عبد السلام وجاء في حديث آخر ما يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع بذلك ابتداء وإنما سأل الله تعالى أن لا يبعث عليهم عذابا من فوقهم ولا من تحت أرجلهم
وجاء في رواية أن الطاعون وخز ووقع للسلف خلاف فروي عن عمرو بن العاص أنه قال أنه وخز فقال شرحبيل بن حسنة إنه رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم
وأما أنه هل يشترط في المطعون الرضا أو الصبر باب عقد الذمة مسألة قال الشيخ الإمام رحمه الله الكافر الذي تضعف عليه الصدقة إذا كان عنده من الإبل ثلاثون ونصفا ففيها ثلاثة أوجه هل يضعف الوقص أو لا
____________________
(2/354)
ثالثها إن كان يفضي إلى التنقيص لم يضعف وإلا فيضعف وهو للقفال
وحكاه الإمام وذكر له بيانا ذكره الرافعي لأنه لم يتحرر له على ما قال إما لخلل النسخة وإما لغير ذلك وقد تأملته في نسخ فوجدته محررا وها أنا أذكره بزيادة بيان فأقول تجب بنت مخاض وبنت لبون والأصل في هذا الباب أنا لا نضعف المال لأنا لو ضعفنا هذا المال كان إحدى وستين وواجبها جذعة ولم يقل به أحد وإنما يضعف فكأنا نلاحظ بقاء المال على حقيقته ونأخذ المال منه مرة ثم مرة
إذا عرفت ذلك فنقول واجب خمس وعشرين بنت مخاض وواجب خمس ونصف على الإيجاب في الوقص خمسة أجزاء ونصف من خمسة وعشرين جزءا من بنت مخاض وهي خمس بنت مخاض وعشر خمس منها ونضعف ذلك فيكون بنتي مخاض وأحد عشر جزءا من خمسة وعشرين جزءا من بنت مخاض هي خمسا بنت مخاض وخمس خمس منها ونحن نفر من التشقيص فنقول بنت المخاض خمس وعشرون جزءا فإذا أضفنا إليها أحد عشر جزءا منها كانت ستا وثلاثين فواجبها بنت لبون فتنقلب الأجزاء الستة والثلاثون التي كانت أجزاء بنت مخاض تصير أجزاء بنت لبون إلا أنها كانت منسوبة من خمسة وعشرين صارت منسوبة من ستة وثلاثين والعراب لا تختلف وذلك لأن بنت المخاض إذا قسمت خمسة وعشرين جزءا كان كل جزء منها خمس خمسها ونسبته من ستة وثلاثين ربع تسعها فكل جزء من بنت المخاض يقابل جزءا من بنت اللبون إذا كانت أجزاء بنت المخاض خمسة وعشرين وأجزاء بنت اللبون ستة وثلاثين وإن شئت قلت كل خمس خمس بنت مخاض وهو معادل لربع تسع بنت اللبون فإذا خرجنا بنتي مخاض وأحد عشر جزءا من تاليه من بنات المخاض قوم التشقيص فعدل عنه إلى ما يساويه في نظر الشرع وعدلت بنت المخاض مع أحد عشر جزءا من أخرى من بنات المخاض ببنت لبون كاملة لاستوائهما في نظر الشرع والسلامة من التشقيص والله أعلم انتهى
سئل الشيخ الإمام رحمه الله سؤالا ابتداؤه ثناء طويل على الشيخ الإمام
____________________
(2/355)
ثم يقول السائل بعده والقصد النظر في ما ذكره إمام الحرمين في كتابه النهاية في كتاب الجزية في مسألة تضعيف الصدقة على نصارى العرب على ما يأتي تفصيله كأن الإمام الرافعي رحمه الله لم يتحصل عنده ما حكاه الإمام ولفظ الرافعي في هذا الموضع لما تكلم في أن الوقص هل يؤخذ منه شيء أم يكون عفوا
وحكى فيه وجهين ثم قال قال الإمام وفيه وجه ثالث وهو أن الأخذ من الوقص إن كان يؤدي إلى التشقيص مع التضعيف فلا يؤخذ وإن كان لا يؤدي أخذ فإن الذي يوجب منع الأخذ من وقص مال المسلم أنا لو أخذنا منه لأوجبنا شقصا واعتباره عسر في الحيوان فيصير إلى أن يكمل الواجب الزائد فعلى هذا إذا ملك سبعا ونصفا من الإبل فعليه ثلاث شياه إذ لا تشقيص على صاحب التضعيف
هذا كله لفظه ثم ذكر فيما إذا ملك ثلاثين ونصفا من الإبل ما يخالف ذلك ولم يتضح لي ما حكاه لخلل النسخة الحاضرة أو لغيره فتركته
انتهى موضع الحاجة من كلام الرافعي والذي ذكره الإمام في النهاية هذا لفظه وحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه ثم قال والثالث أن الأخذ من الوقص إن كان يؤدي إلى التشقيص مع التضعيف فلا يوجب وإن كان لا يؤدي أخذنا من الوقص فإن الذي أوجب منع الأخذ من وقص المسلم أنا لو أخذنا منه لأوجبنا شقصا واعتباره عسر في الحيوان فيصير إلى أن يكمل الواجب الزائد فعلى هذا إذا ملك سبعا ونصفا من الإبل فعليه ثلاث شياه إذ لا تشقيص على حساب التضعيف وإذا ملك من الإبل ثلاثين ونصفا فعليه بنت مخاض وبنت لبون وفي خمس وثلاثين من البقرة تبيع ومسنة هذا ما يقتضيه حساب التضعيف مع الأخذ من الوقص باجتناب التشقيص وبيان ذلك أنه إذا ملك ثلاثين ونصفا من الإبل فيقدر تضعيف ما يزيد على الخمس والعشرين والزائد على الخمس والعشرين خمس ونصف فإذا ضعفنا هذا الزائد تقديرا بلغ المال ستا وثلاثين وواجبها بنت لبون فنوجب بنت مخاض في الخمس والعشرين ونوجب بنت لبون بتقدير بلوغ المال ستا وثلاثين فيضعف واجب الخمس والعشرين فإنه يجتمع عليه بنت مخاض وأجزاء من بنت لبون
____________________
(2/356)
ويتضعف حتى لا يؤدي إلى التشقيص ويفرع على الإيجاب في الوقص فلا تجد طريقا إلى ما ذكره القفال
وفيما ذكره أمر محذور وهو تضعيف المال وسيأتي ذلك وهذا يتضمن إيجاب حقة في خمسة وعشرين مثلا وقد ذكرنا أن بالأصل يفعل ذلك بل يوجب بنتي مخاض ولكن هذه الصورة تتميز عن الخمس والعشرين بما ذكرناه من صورة التشقيص مع أنا نريد تعطيل الوقص فهذا منتهى المذكور في ذلك انتهى كلام الإمام
أجاب رحمه الله فقال أما كلام الإمام من التفريع على الوجه المنسوب إلى القفال فظاهر جلي لا إشكال فيه
وليس في كلام هذا الفصل ما يرد إلا قوله في الأخير في إلزام حقة وذلك مردود إنما يلزم من تضعيف المال
ومبنى هذا الباب أن المضعف هو الواجب لا المال وإنما كان كذلك لأن تضعيف المال يخالف المحسوس وهو أمر تقديري لو قيل به والأمور إنما يصار إليها للضرورة إذا دل دليل من الشرع عليها وليس هذا كذلك لأنا لا نجعل المأخوذ صدقة عن المال المقدر الذي لم يوجد ولو كان كذلك لم يحصل تضعيف وإنما نجعله جزية مسماة باسم الصدقة مساوية لواجب الزكاة وضعفه فلا بد من المحافظة على واجب الخمس والعشرين وهو بنت مخاض ونضعفها فنوجب فيها بنتي مخاض ولا نقول إن المال خمسون حتى تجب حقة
إذا عرف ذلك فإذا ملك ثلاثين من الإبل ونصفا فواجبه في خمس وعشرين بنت مخاض وقد فرعنا على أن الوقص محسوب على الكافر فنوجب لأجله خمسة أجزاء ونصفا من بنت مخاض نسبتها منها خمس وعشر خمس ثم يضعف ذلك فيكون الحاصل من المجموع بنتي مخاض وأحد عشر جزءا من خمسة وعشرين جزءا من بنت مخاض نسبتها منها خمسان وخمس خمس
ثم لأجل الفرار من التشقيص نقول إن الأحد عشر جزءا من خمسة وعشرين جزءا من بنت المخاض تساوي أحد عشر جزءا من ستة وثلاثين جزءا من بنت لبون
ونعلم من ذلك أن كل بعير من الزكاة مساو لخمس خمس بنت المخاض بمعنى أنها زكت خمسا وعشرين يكون خمس خمسها مزكيا لواحد منها بشرط عدم التشقيص وكل بعير من مال الزكاة أيضا مساو لربع تسع بنت اللبون بالطريق المذكور فعلمنا أن كل بعير مساو لخمس
____________________
(2/357)
خمس بنت المخاض ولربع تسع بنت اللبون والمساوي للمساوي مساو
فخمس خمس بنت المخاض مساو لربع تسع بنت اللبون وقد اجتمع معنا بنت مخاض وأحد عشر جزءا من بنت مخاض فلو أخذنا بنتي مخاض مع الشقص وقعنا في محذور التشقيص فنأخذ بنت مخاض كاملة مع أحد عشر جزءا من بنت مخاض أخرى يجتمع منها ستة وثلاثون جزءا من أجزاء بنات المخاض وكل ستة وثلاثين جزءا من بنات المخاض مساوية لبنت اللبون بالطريق التي قدمناها فنأخذ بنت اللبون عن إحدى بنتي المخاض والأجزاء الأحد عشر التي معها للسلامة من التشقيص ويكون قد وفى بالواجب الشرعي وهذا أمر حسابي لا شك فيه ولم يضعف إلا الواجب ولا ضعفنا المال ولا الوقص ولا قدرنا أن معه ستا وثلاثين من الإبل لإيجاب بنت اللبون وإن كان في كلام الإمام ما يقتضيه وكأنه أراد التقريب إلى الأذهان
والذي قلناه أبلغ في التحقيق والكشف والبيان عن سر الوجه المذكور على قياس ذلك لو ملك خمسا وثلاثين من الإبل ونصفا أوجبنا بنت مخاض وحقة على قياس الوجه المذكور المنسوب إلى القفال ولم أجده منقولا وإنما قلته تفقها وذلك لأن بنت المخاض المأخوذة عن خمس وعشرين ويبقى معنا بنت مخاض أخرى وعدة أجزاء ونصف من بنت مخاض نصفها يصير أحدا وعشرين جزءا من بنت المخاض نضمها إلى بنت المخاض الكاملة وأجزاؤها خمس وعشرون فيكون المجموع ستة وأربعين جزءا من بنات المخاض وهي مساوية لحقة بالطريق التي قدمناها فنأخذها مع بنت المخاض ولو ملك ثمانية وثلاثين ففيها بنتا لبون فقط بغير زيادة لأن إيجاب الزيادة في هذه الصورة توجب التشقيص والتفريع على الوجه المنسوب إلى القفال الذي لا يضعف إلا حيث لا يشقص ولو ملك إحدى وأربعين من الإبل فواجبها بنت لبون وحقة
وقد ظهر وجه ذلك فاستعمله حيث تريد وحاصله أن كل ما كانت الزيادة من الوقص قدر النصف مما بين النصابين المتواليين فالمأخوذ واجب النصاب الأول وواجب النصاب الثاني كما ذكرنا في بنت المخاض مع بنت اللبون
____________________
(2/358)
في ثلاثين ونصف وما زاد على ذلك فقد يكون كذلك وقد لا يكون كما ذكرناه في بنت مخاض وحقة
ومما ينبه عليه في ذلك أنه لو ملك ثلاثين من الإبل فواجبه على قياس المذكور بنتا مخاض بغير زيادة لأن العشرة الأجزاء الزائدة لو أخذناها لوقعنا في التشقيص وهو خلاف ما عليه التفريع
وقد يقول قائل لم لا نأخذ عن الخمس الزائدة شاتين لأن التفريع على أن الوقص في حق الكافر ليس بعفو والتشقيص محذور وكأنه ملك خمسا من الإبل منفردة لزمه شاتان فكذلك هنا وتضم الشاتان إلى بنتي المخاض
وطريق الخلاص عن هذا السؤال أن الشارع إنما جعل الغنم في زكاة الإبل فيما دون خمس وعشرين لقوله صلى الله عليه وسلم فيما دون خمس وعشرين من الإبل في كل خمس شاة ثم ذكر في الخمس والعشرين وإنما المأخوذ من الإبل يبسط على الجميع سواء كان وقصا أو غيره ولو ملك ستا وتسعين من الإبل فواجبها أربع حقاق ولا نقول إن الخمسة تجب فيها الغنم لما ذكرناه ولا غيره لأجل التشقيص هذا ما يتعلق بكلام الإمام
وأما الرافعي رحمه الله فقوله لم ينتفع ما حكاه إما لخلل في النسخة الحاضرة وإما لغيره والله أعلم
غير أن الرافعي أعلى كعبا وأعظم قدرا
وفي كلام الرافعي شيء آخر وهو أنه صدر كلامه بالخلاف في إنه هل يؤخذ من بعض النصاب قسطه من واجب تمام النصاب كشاة من عشرين شاة فيه قولان أحدهما نعم ويروى عن البويطي وأصحهما المنع
والنقل الذي قاله صحيح لكن القول بالأخذ مما دون النصاب بعيد لا سيما مع ما قررناه من أن المضعف الواجب لا المال والأخذ مما دون النصاب لا وجه له إلا بتقدير تضعيف المال فالقول به مضاد لما بني عليه الباب
فإن صح ذلك عن الشافعي فيشمله شيء ينبه عليه في هذا وفيما تقدم وهو أن المأخوذ إنما هو جزية والأمر فيها راجع إلى ما تحصل المشارطة عليه بين الإمام والذمي فإذا اشترط تقدير تضعيف المال لم يمتنع ولا بد في ذلك كله من العلم بين المتشارطين بذلك ليصح العقد فاختلاف الأصحاب حينئذ في القدر المأخوذ في بعض المسائل قد تطرق جهالة مقتضية فساد العقد فيحمل على أن مراد الأصحاب تعريف الواجب ليقع العلم به
____________________
(2/359)
قبل العقد المشترط عليه ذلك
ثم قال الرافعي رحمه الله وإذا قلنا بالأول يعني الأخذ مما دون النصاب أخذنا من مائة شاة ونصف شاة ثلاث شياه ومن سبع ونصف من الإبل كذلك وفي خمس وثلاثين من البقر تبيعا ومسنة
وهذا الذي قاله الرافعي مشكل لأن هذه الصور الثلاث النصاب موجود فيها وزيادة فليس تفريعه على الأخذ مما دون النصاب بمتضح ولذلك إن الإمام رحمه الله ذكر الصورتين الآخرتين في التفريع على ما قدمناه عن القفال من غير التفات إلى ما دون النصاب ثم قال الرافعي وأجرى الخلاف في الأوقاص فاقتضى كلامه أن الخلاف في الأوقاص هو الخلاف فيما دون النصاب ثم ذكر عن الروياني فيما إذا ملك ثلاثين ونصفا أنه يؤخذ منه جذعة تفريعا على الأخذ مما دون النصاب وهذا أبعد بكثير ولولا الأدب لقلت إنه غلط من الروياني لما تقدم من القواعد التي بني عليها أصل الباب والله أعلم انتهى
مسألة ما يقول السادة العلماء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه وما هو المختار في أطفال المشركين أمن أهل الجنة أم من أهل النار أو من أهل الأعراف
أجاب رحمه الله هذا الحديث صحيح من رواية أبي هريرة ولفظه في الموطأ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء قالوا يا رسول الله أرأيت الذي يموت صغيرا قال الله عز وجل أعلم بما كانوا عاملين وفي صحيح مسلم ألفاظ منها ما من مولود إلا ولد على الفطرة أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها ومنها ما من مولود إلا يولد على الفطرة ومنها ما من مولود يولد إلا وهو على الملة وفي رواية إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه ومنها ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة حتى يعبر عنه لسانه ومنها من يولد على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ومنها كل إنسان تلده أمه على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه فإن كانا مسلمين فمسلم وفي رواية فأبواه يهودانه
____________________
(2/360)
وينصرانه ويشركانه فقال رجل يا رسول الله أرأيت لو مات قبل ذلك قال الله أعلم بما كانوا عاملين وفي رواية أرأيت من يموت صغيرا منهم هذه الروايات كلها في مسلم
وأما معناه فللعلماء فيه أربعة أقوال أحدها وهو الذي نختاره وعليه أكثر العلماء أن المراد بالفطرة الطبع السليم المهيأ لقبول الدين وذلك من باب إطلاق القابل على المقبول فإن الفطرة هي الخلقة يقال فطره أي خلقه وخلقة الآدمي فرد من ذلك وتهيأ لقبول الدين وصف لها فهذه ثلاث مراتب وذلك المقبول وهو الدين أمر رابع فاسم الفطرة أطلق عليه فكأنه قال كل مولود يولد مسلما بالقوة لأن الدين وهو الإسلام حق مجاذب للعقل غير ناء عنه
وكل مولود خلق على قبول ذلك وجبلته وطبعه وما ركزه الله فيه من العقل لو ترك لاستمر على لزوم ذلك ولم يفارقه إلى غيره وإنما يعدل عنه لآفة من آفات البشر والتقليد كما يعدل ولد اليهودي وولد النصراني والمجوسي بتعليم آبائهم وتلقينهم الكفر لأولادهم فيتبعوهم ويعدلون بهم عن الطريق المستقيم الذي فطرهم الله عليه وأنعم عليه به القول الثاني أن معناه أن كل مولود يولد على معرفة الله تعالى والإقرار به فليس أحد يولد إلا وهو يقر بأن له صانعا وإن سماه بغير اسمه أو عبد معه غيره وهذا القول بينه وبين الأول تقارب في شيء وتفاوت في شيء والأول خير منه القول الثالث أن الفطرة ما قضى عليهم من السعادة والشقاوة وقالوا الفطرة البداءة واحتجوا بقوله تعالى كما بدأكم تعودون ونسب هذا المذهب إلى ابن المبارك وكان أحمد بن حنبل يقول به ثم تركه ومعناه أن كل مولود ولد على ما يعلم الله أنه تصير خاتمة أمره إليه وذكروا حديثا إن بني آدم خلقوا طبقات فمنهم من يولد مؤمنا ويحيا مؤمنا ويموت كافرا ومنهم من يولد كافرا ويحيا كافرا ويموت مؤمنا وهذا الحديث انفرد به علي بن زيد بن جدعان وكان شعبة يتكلم فيه
وهذا القول مخالف للقول الثاني مخالفة ظاهرة والثاني خير منه والقول الرابع أن الفطرة الإسلام ونسب هذا القول إلى أبي هريرة والزهري وعامة السلف في قوله تعالى فطرة الله التي فطر الناس عليها ومعنى الحديث على هذا خلق الطفل سليما من الكفر
____________________
(2/361)
مؤمنا مسلما على الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم واحتجوا بحديث إن الله خلق آدم على صورته وبنيه حنفاء مسلمين الحديث بطوله فالطفل على الميثاق الأول وله ميثاق ثان وهو قبول الفرائض بعد وجوده وأهلية التكليف فمتى مات قبل ذلك مات على الميثاق الأول فدخل الجنة ولا نعتقد أن أصحاب هذا القول يقولون إنه يولد معتقد الإسلام هذا لا يقوله عاقل وإنما أرادوا أن يجري عليهم حكم الإسلام على من أسلم حقيقة ثم نام أو مات الذي أقر به في الميثاق الأول كما يجري حكم الإسلام غير أن بينهما فرقا وهو أن البالغ جميع أحكام الإسلام جارية عليه والصبي يجري عليه من أحكام أبويه كثير ولا يجري عليه شيء من حكم الإسلام إذا كان بين كافرين
نعم قال أحمد إذا مات أبوه وهو حمل ثم ولد يكون مسلما وإن كان ابن كافرين ويرد عليه قوله في الحديث حتى يعرب عنه لسانه
وقال محمد بن الحسن هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل أن تنزل الفرائض وقبل الأمر بالجهاد
وهذا القول من محمد بن الحسن مردود فإن الحديث من رواية أبي هريرة وأبو هريرة أسلم بعد فرض الجهاد بمدة وبعد نزول الفرائض وقد ورد حديث صحيح يبين أنه بعد الجهاد وهذا ما يتعلق بمعنى الحديث
وأما المختار في أطفال المشركين وهو يتعلق بمعنى الحديث أيضا فاعلم أن للعلماء في أطفال المشركين أربعة أقوال أحدها وهو يرجى من فضل الله تعالى أنهم في الجنة لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ولا تزر وازرة وزر أخرى ولما روى البخاري عن سمرة رضي الله عنه في حديث طويل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وفيها والشيخ الذي في أصل الشجرة إبراهيم والصبيان حوله أولاد الناس وبهذا احتج النووي وقال الصحيح الذي عليه المحققون أنهم من أهل الجنة وكذا قال غير النووي أيضا ووردت أحاديث أخرى مصرحة بأنهم في الجنة لكن في أسانيدها ضعف
وفي حديث البخاري كفاية مع ظاهر القرآن وفي حديث آخر أولاد المشركين خدم أهل الجنة
القول الثاني أنهم في النار تبعا لآبائهم كما تبع أولاد المؤمنين آباءهم في الجنة ونسب النووي هذا القول إلى الأكثرين وفي هذه النسبة
____________________
(2/362)
نظر واحتج بحديث سلمة بن يزيد الجعفي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي فقلنا يا رسول الله إن أمنا ماتت في الجاهلية وفيه إن أمنا وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيتم الوائدة والموءودة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فيغفر الله لها
وهو صحيح الإسناد لكن روي حديث ضعيف يدل على نسخه والنسخ ضعيف فإن لم يكن لهذا الحديث علة تحتاج إلى جواب آخر وقد قيل إنه لعله صلى الله عليه وسلم اطلع على أن تلك الموءودة بلغت سن التكليف وكفرت ولم يلتفت إلى قول السائل لم تبلغ الحنث لجهله ويكون التكليف في ذلك الوقت كان منوطا بالتمييز والسائل يجهله وليس ذلك من الأمور المحتاج إليها حتى نبينها له
وعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين أين هم فقال في النار
وفي إسناده ابن عقيل صاحب بهية ولا يحتج به وأحاديث أخر من هذا الجنس ولكن كلها ضعيفة
القول الثالث التوقف فكل من علم منه أنه إن بلغه الكبر آمن أدخله الجنة ومن علم أنه إن بلغه الكبر كفر أدخله النار ونسب ابن عبد البر هذا القول إلى الأكثر وربما عبروا عنه بأنهم في المشيئة ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وسلم الله أعلم بما كانوا عاملين وهو دليل للتوقف
القول الرابع أنهم وسائر الأطفال يمتحنون في الآخرة تؤجج لهم النار فيقال ردوها وادخلوها فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول الله عز وجل إياي عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم
رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن الناس من يوقفه على أبي سعيد وروى معناه أيضا من حديث أنس ومن حديث معاذ بن جبل ومن حديث الأسود بن سريع ومن حديث أبي هريرة وثوبان كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عبد الحق في العاقبة حديث الأسود بن سريع في ذلك وصححه رواه أحمد بن حنبل رضي الله عنه في مسنده من حديث الأسود ومن حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأسانيدها صالحة
لكن قال ابن عبد البر ليست من أحاديث الأئمة الفقهاء وهو أصل
____________________
(2/363)
عظيم والقطع فيه بمثل هذه الأحاديث ضعيف في العلم والنظر مع أنه قد عارضها وهو أقوى منها وقال الحليمي ليس هذا الحديث بثابت وهو مخالف لأصول المسلمين لأن الآخرة ليست بدار امتحان فإن المعرفة بالله تعالى فيها تكون ضرورة ولا محنة مع الضرورة وسائر الطاعات تبع للمعرفة فإذا وقع الامتحان بالمعرفة وقع بما وراءها واذا سقط الامتحان بها لم تثبت فيما وراءها ولأن دلائل الشرع استقرت على أن التخليد في النار لا يكون إلا على الشرك وامتناع الصغار في الآخرة من دخول النار المؤججة ليس بشرك
وهذا الذي قاله الحليمي هو الظاهر لكنا لا نقطع به فليس يظهر دليل عقلي ولا سمعي على استحالة ذلك
هذه المذاهب الأربعة هي التي أعرفها في هذه المسألة وأما القول بأنهم في الأعراف فلا أعرفه ولا أعرف حديثا ورد به ولا قاله أحد من العلماء فيما علمت
وذكر المفسرون أقوالا في قوله تعالى وعلى الأعراف رجال قال مجاهد صالحون علماء فقهاء
وقال أيضا هم رجال استوت سيئاتهم وحسناتهم
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم آخر من يفصل بينهم من العباد إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وقال أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلكم سيئاتكم الجنة فأنتم عتقائي فارعوا من الجنة حيث شئتم
وقال عبد الله بن الحارث فيغتسلون من نهر الحياة اغتسالة فتبدو في نحورهم شامة بيضاء ثم يغتسلون فيه فيزدادون بياضا ثم يقال لهم تمنوا ما شئتم فيتمنون ما شاءوا فيقال لهم لكم ما تمنيتم وسبعون ضعفه فهم مساكين أهل الجنة
وقال ابن عباس أصحاب الأعراف أهل ذنوب كثيرة وكان جماع أمرهم إلى الله تعالى
خاتمة إنما تكلمت في هذه المسألة جوابا وهي مما لا أحب الكلام فيه لأنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو متقاربا كلمة تشبه هاتين حتى يتكلموا في الأطفال والقدر
قال يحيى بن آدم فذكرته لابن المبارك فقال فيسكت الإنسان على الجهل قلت فيؤمر بالكلام فسكت
وعن ابن عون قال كنت عند القاسم بن محمد إذ جاء رجل
____________________
(2/364)
فقال ماذا بين قتادة وحفص بن عمر في أولاد المشركين قال وتكلم ربيعة الرأي في ذلك فقال القاسم إذا الله انتهى عند شيء فانتهوا وقفوا عنده قال فكأنما كانت نار فانطفأت هذا ما تيسر ذكره في هذه المسألة والله أعلم انتهى
مسألة ما تقول السادة العلماء في قول إمام الحرمين إن إيمان المقلد لا يجوز ما ذهب إليه الشافعي في ذلك وهل ما قاله إمام الحرمين موافق عليه أو لا وإذا كان كما ذكر فما حيلة العامي الذي لا يعرف الأدلة في صحة إيمانه وما هو القول المحرر في ذلك
أفتونا مأجورين
أجاب الحمد لله لم يقل إمام الحرمين هذا ولا قاله بهذا الإطلاق أحد من أهل السنة والسائل معذور في غلطه فإن لفظ التقليد مشترك والعلماء قد أطلقوا كلمات ربما توهم كثير من الناس منها ذلك وأنا أثبتها لك إن شاء الله تعالى بعد بيان قاعدتين إحداهما أن لفظ التقليد يطلق بمعنيين أحدهما قبول قول الغير بغير حجة وربما قبل العمل بقول الغير بغير حجة وربما قيل قبول قول من لا يعلم بخبر من أين يقول المعنى الثاني للتقليد أنه الاعتقاد الجازم لا الموجب وربما قيل الاعتقاد الجازم المطابق لا الموجب
إن عرفت معنى التقليد فهو بالمعنى الأول قد يكون ظنا وقد يكون وهما كما يرى في تقليد إمام في فرع من الفروع مع تجويز أن يكون الحق في خلافه ولا شك أن هذا لا يكفي في الإيمان وإذا وجد في كلام أحد من الأئمة أن التقليد لا يكفي في أصول الدين فالمراد منه هذا
وأما بالمعنى الثاني وهو الاعتقاد الجازم المطابق لا الموجب فلم يقل أحد من علماء الإسلام إنه لا يكفي في الإيمان إلا أبو هاشم من المعتزلة وقد انفرد بذلك عن طائفته وسائر طوائف الإسلام من أهل السنة وغيرهم وخالف الأدلة السمعية والعقلية في ذلك فمن قال بأن إيمان المقلد لا يصح وأراد هذا المعنى لم نجد له موافقا إلا أبا هاشم فإياك أن تحمل كلام العلماء عليه
ومن قال إنما إيمان المقلد لا يصح وأراد المعنى الأول وهو أن يكون تابعا في ذلك لغيره من غير اعتقاد مصمم فكلامه صحيح بإجماع أهل الإسلام إلا من شذ على ما سنذكره
____________________
(2/365)
القاعدة الثانية
أنه لا بد في الإيمان من اعتقاد جازم مصمم بحيث لا يتشكك والدليل على ذلك قوله تعالى إلا من شهد بالحق وهم يعلمون قال الواحدي في تفسيرها أجمع أصحابنا أن شرط الإيمان طمأنينة القلب على ما اعتقده بحيث لا يتشكك إذا أشكل ولا يضطرب إذا حرك لقوله وهم يعلمون قال إبراهيم فشهد وهو يعلم أنه كذلك وقال مجاهد يعلمون أن الله ربهم
انتهى قول الواحدي
وكثير من المتكلمين يستدلون بقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله بناء على أنه أمر بتحصيل العلم ويحتمل أن يقال إن المقصود به الإعلام لا الأمر فإن هذه الصيغة تستعمل كثيرا في ذلك فنقول اعلم كذا أي اعلمه من جهتي ومعناه أعلمك كذا والآية الأولى دلالتها ظاهرة والعلم لا يطلق إلا على الجازم ولا يطلق على الظن ولا على الشك ولا على الوهم فكذلك لا يحصل الإيمان بشيء من الظن والشك وإنما يحصل بالجزم لكن الجزم تارة يكون عن دليل أو علم ضروري ولا إشكال في صحة الإيمان بذلك
أما عن دليل فبلا خلاف وأما عن العلم الضروري فهو المختار فإنه قد يحصل ذلك لبعض أهل العناية ونازع فيه بعض المتكلمين فقال إنه لا يحصل بالضرورة
وتارة يكون الجزم من غير ضرورة ولا دليل خاص كإيمان العوام أو كثير منهم فهو إيمان صحيح عند جميع العلماء خلافا لأبي هاشم ويسمى علما في عرف كثير من الناس وإن كان بعض المتكلمين لا يسميه علما
إذا عرفت هاتين القاعدتين فنرجع إلى المقصود ونقول المؤمنون طبقتان أعلاهما أهل المعرفة وهم العلماء العارفون وأدناهما أهل العقيدة وهم العوام المعتقدون
وإن شئت قلت الناس في اعتقاد الإيمان على ثلاث طبقات العليا أهل المعرفة والوسطى أهل العقيدة مع التصميم والدنيا من لم يحصل عنده تصميم ولكنه قلد فيه كما يقلد في الفروع
وهذا لا أعلم أحدا صرح بأنه يكفي إلا ما يقتضيه إطلاق النقل عن بعض الفقهاء وعن العنبري حيث قال بجواز التقليد في العقليات وقال إن كل مجتهد مصيب والجمهور على خلافه وعلى أنه لا يكتفى في الإيمان إلا بعقد مصمم فلنسقط هذه الفرقة من طوائف المؤمنين ونعلم أن المؤمنين طبقتان لا غير إحداهما العارفون
____________________
(2/366)
وهؤلاء درجات أعلاها درجة الأنبياء ثم الذين يلونهم من الصديقين ثم الذين يلونهم على درجاتهم ولا يعلم تفاوتها ومقاديرها إلا الله تعالى ومن يحصل له باستدلال ولا بد من مصاحبة شيء من ذلك النور
وأهل الاستدلال على مراتب لا يعلمها إلا الله تعالى أدناها ما كان على طريقة المتكلمين كالاستدلال بالجواهر والأعراض وحدث العالم ونحوه وأدلة هذا الصنف كثيرة أيضا لا يحصيها إلا الله تعالى وأحسن منها طريقة أهل الحديث من إثبات المعجزة أولا وتصديق الرسول في كل ما أخبر به وإنما كانت هذه الطريقة أحسن لأنها أقرب والشكوك التي ترد عليها أقل واندفاعها أسهل وكلتا هاتين الطائفتين أهل كلام ونظر وقدرة على التحرير والتقدير ودفع الشبهة بالتفصيل وأهل علم ومعرفة
ومنهم من يستدل بدلائل الأنفس والآفاق من غير تقييد بأوضاع الجدل لا على طريقة المتكلمين ولا على طريقة أهل الحديث بل بحسب ما يترتب في ذهنه من ملكوت السموات والأرض ودلالتها على صانعها ويعرف ذلك معرفة محققة ويقدر على تقديرها بحسب ما تيسر له
وهذا أيضا من أهل العلم والمعرفة وإن لم يكن على طريقة الجدليين بل طريقة هذا أنفع وأسلم وهذه طريقة السلف
ومنهم من يعرف تلك الأدلة بالإجمال دون التفصيل فيرشده إلى الجزم والتصميم ولكن لجهله بالتفصيل لا يقدر على التقدير ودفع الشبه وهذا حال كثير من العوام فإنه قد يقرر في عقولهم بما شاهدوه من ملكوت السموات والأرض ووحدانية الله وصدق رسوله في كل ما أخبر به بحيث لا يشكون في ذلك ولم يكلفوا بأكثر من ذلك والحاصل عندهم يسمى اعتقادا ويسمى علما لقيام الدليل الإجمالي عليه وإن سماه بعض الناس تقليدا فلا مشاحة في التسمية وإن نازع في الاكتفاء به لم يلتفت إليه لقيام الإجماع من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم على تقرير العوام على ذلك بل أقول إن هذا ليس من العوام لاعتقاده الدليل الإجمالي بل هذا حال كثير من الأولياء الذين لم يمارسوا العلوم ولهذا نرى كثيرا منهم يظهر عليه من الكرامات والخوارق ما لا يرتاب فيه ولو سألته عن تقرير دليل لم يعرفه فهؤلاء
____________________
(2/367)
الأصناف كلهم من أهل المعرفة وهم من الطبقة العليا
الطبقة الثانية الذين لا دليل عندهم ألبتة لا إجمالا ولا تفصيلا بل عندهم عقيدة جازمة قد صمموا عليها وأخذوها عن آبائهم المؤمنين على ما نشئوا عليه من غير نظر أصلا وهذا في تصويره عسر فإن الظاهر أن الإنسان إذا مضى عليه زمن لا بد أن ينظر ويصل إليه من الدلائل ما يحصل له به الالتحاق إلى الطبقة الأولى فإن فرض من ليس كذلك وأنه ليس عندهم إلا تصميم تقليدي فهذا هو الذي ينبغي أن يكون محل الخلاف فأبو هاشم يقول بكفره وطائفة من أهل السنة يقولون بإيمانه ولكنه عاص بترك النظر والصحيح من مذهب أهل السنة أنه ليس بعاص بل هو مطيع مؤمن لأن الله تعالى لم يكلفه إلا الاعتقاد الجازم المطابق وقد حصل
وأما القيام بتقرير الأدلة ودفع الشبه فذلك فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين فحينئذ نقول القيام بتقرير الأدلة ودفع الشبه فرض كفاية ويكون بأحد طريقين إما طريقة المتكلمين والجدليين وإما طريقة السلف وهي الأنفع والأسلم
والاعتقاد الجازم المطابق فرض عين في حق الجميع واختلف في وجوب كونه عن دليل والأصح أنه لا يجب والقائلون بوجوبه اكتفوا بالدليل الإجمالي وحيث لم يوجد قال بعض المتكلمين بالعصيان وأبعد أبو هاشم فقال إنه كافر وربما فهم من أبي هاشم إجراء ذلك في ترك الدليل التفصيلي والذي تقتضيه الشريعة الحنيفة السهلة أنه ليس بكافر ولا عاص والله أعلم
انتهى
مسألة ما يقول السادة العلماء في هذا الحديث الذي يورده عوام الناس على بعض الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من جمع مالا من نهاوش أنفده الله في نهابر فهل هذا الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل هو وارد في كتب الحديث الصحاح البخاري ومسلم والموطإ والترمذي وغيرها من الكتب الصحاح أم لا وإذا لم يصح هذا الحديث ولا ورد في كتب الأحاديث الصحاح فهل يأثم من يورده من العوام أو غيرهم على من يورده عليه ويؤدب على ذلك أدبا موجعا لكونه كذب وقال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل
____________________
(2/368)
ولا صح عنه وماذا يجب عليه ويثاب ولي الأمر على ذلك أم لا أفتونا مأجورين
الجواب الحمد لله هذا الحديث لم يصح ولا هو وارد في الكتب المذكورة ومن أورده من العوام فإن كان مع علمه بعدم وروده أثم وإن اعتقد وروده لم يأثم وعذر لجهله ولا يؤدب أدبا موجعا ولا غير موجع إلا إذا علم عدم وروده وأصر بعد ذلك على إيراده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجرد قوله عنه ليس إيرادا جازما ولا يجب عليه شيء إذا كان جاهلا بل يعلم فإن عاد وعاند أدب بحسب ما يقتضيه حاله والله أعلم انتهى
فائدة قال الشيخ الإمام رحمه الله ينبغي أن تتخذ كتابة العلم عبادة سواء توقع أن يترتب عليها فائدة أم لا وأنا بما أكتبه بهذا القصد إن شاء الله تعالى
مسألة في منع ترميم الكنائس للشيخ الإمام رحمه الله مصنفات فيها هذا أحدها فنذكره بنصه قال رضي الله عنه الحمد لله الذي أيقظنا من سنة الغفلة وجعلنا من أشرف ملة وهدى إلى أشرف قبلة وأعظم نحلة وصلى الله على سيدنا محمد الذي نسخ بشريعته كل شريعة قبله وسلم تسليما كثيرا لا يبلغ الواصفون فضله
أما بعد فقد سئلت عن ترميم الكنائس أو إعادة الكنيسة المضمحلة فأردت أن أنظر ما فيها من الأدلة وأزيل ما حصل فيها من العلة وسألت الله أن يهديني لما اختلف فيه من الحق ويرشدني سبله وتوسلت بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم لا أعدمني الله فضله وظله وقفوت أثر عمر بن الخطاب وعدله وشروطه التي أخذها لما فتح البلاد وشيد الإسلام وأهله وهذا الترميم يقع السؤال عنه كثيرا ولا سيما في الديار المصرية ويفتي كثير من الفقهاء بجوازه وتخرج به مراسيم من الملوك والقضاة بلا إذن فيه وذلك خطأ بإجماع المسلمين فإن بناء الكنيسة حرام بالإجماع وكذا ترميمها وكذلك قال الفقهاء لو وصى ببناء كنيسة فالوصية باطلة لأن بناء الكنيسة معصية وكذا ترميمها ولا فرق بين أن يكون الموصي مسلما أو كافرا وكذا لو وقف على كنيسة كان الوقف باطلا مسلما كان الواقف أو كافرا فبناؤها وإعادتها وترميمها معصية مسلما كان الفاعل لذلك أو كافرا هذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/369)
وهو لازم لكل مكلف من المسلمين والكفار وأما أصوله فبالإجماع وأما فروعه فمن قال إن الكفار مكلفون بفروع الشريعة فكذلك وكل ما هو حرام علينا حرام عليهم ومن قال ليسوا مكلفين بالفروع وإنما مكلفون بالإسلام فقد يقول إن تحريم هذا كتحريم الكفر فهو متعلق بهم وقد يقول إنه كسائر الفروع فلا يقال فيه في حقهم لا حلال ولا حرام أما إنه جائز أو حلال أو مأذون فيه لهم فلم يقل به أحد ولا يأتي على مذهب من المذاهب
وجميع الشرائع نسخت بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يشرع اليوم إلا شرعه بل أقول إنه لم يكن قط شرع يسوغ فيه لأحد أن يبني مكانا يكفر فيه بالله فالشرائع كلها متفقة على تحريم الكفر ويلزم من تحريم الكفر تحريم إنشاء المكان المتخذ له والكنيسة اليوم لا تتخذ إلا لذلك وكانت محرمة معدودة من المحرمات في كل ملة وإعادة الكنيسة القديمة كذلك لأنها إنشاء بناء لها وترميمها أيضا كذلك لأنه جزء من الحرام ولأنه إعانة على الحرام فمن أذن في حرام ومن أحله فقد أحل حراما من توهم أن ذلك من الشرع رد عليه بقوله تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله وبقوله صلى الله عليه وسلم إني لا أحل ما حرم الله ولا أحرم ما أحل الله وإنما اختلف الفقهاء في كونهم يمنعون من الترميم والإعادة أو لا يمنعون فالذي يقول لا يمنعون لا يقول بأنهم مأذون لهم ولا أنه حلال لهم جائز وإن وقع ذلك في كلام بعض المصنفين فهو محمول على إطلاق العبارة والإحالة على فهم الفقيه لما عرف قواعد الفقه فلا يغتر جاهل بذلك والفقيه المصنف قد يستعمل من الألفاظ ما فيه مجاز لمعرفته أن الفقهاء يعرفون مراده ومخاطبته للفقهاء
وأما المفتي فغالب مخاطبته للعوام فلا يعذر في ذلك وعليه أن لا يتكلم بالمجاز ولا بما يفهم منه غير ظاهره ثم القائلون بأنهم لا يمنعون لم يقل أحد منهم أن ذلك بأصل الشرع بل إذا اشترط لهم ذلك في موضع يجوز اشتراطه فهذا هو الذي نقول الفقهاء إنهم يقرون عليها ويختلفون في ترميمها وإعادتها وأما بغير شرط فلم يقل أحد إنهم يقرون على إبقاء ولا يمكنون من ترميم أو إعادة فليتنبه لهذين الأمرين أحدهما أن عدم المنع أعم
____________________
(2/370)
من الإذن والإذن لم يقل به أحد
والثاني أن عدم المنع إنما هو إذا شرط أما إذا لم يشرط فيمنع ولا يبقى وهذا أمر مقطوع به مأخوذ من قواعد مجمع عليها لا نحتاج فيه إلى أدلة خاصة فكل ما نذكره بعد ذلك من الأحاديث والآثار وشرط عمر وغيره تأكيد لذلك فإن كان في بعض إسنادها وهن فلا يضرنا لأن الحكم الذي قصدناه ثابت بدون ما ذكرناه وهذا كما أنا نقرهم على شرب الخمر ولا يقول أحد إن شرب الخمر حلال لهم ولا أنا نأذن لهم فيه ولم يرد في القرآن لفظ الكنيسة
قال الله تعالى ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات فالصوامع للرهبان والصلوات قيل إنها لليهود واسمها بلسانهم صلوتا والبيع جمع بيعة بكسر الباء قيل لليهود والكنائس للنصارى وقيل البيع للنصارى
والظاهر أن اسم الكنائس مأخوذ من كناس الظبي الذي تأوي إليه فالنصارى واليهود يأوون إلى كنائسهم في خفية من المسلمين لعبادتهم الباطلة
وقال النووي في اللغات الكنيسة المعبد للكفار وقال الجوهري هي للنصارى
وكل ما أحدث منها بعد الفتح فهو منهدم بالإجماع في الأمصار وكذا في غير الأمصار خلافا لأبي حنيفة وكل ما كان قبل الفتح وبعد النسخ والتبديل هو الذي يتكلم الفقهاء في تقريره إذا شرط يجوز الشرط وكل ما كان قبل النسخ والتبديل لم أر للفقهاء فيه كلاما والذي يظهر أن حكمه حكم المساجد يوحد مسجدا للمسلمين يوحد فيه الله تعالى لأنه بني لذلك حيث كانوا على إسلام فشريعة موسى وعيسى عليهما السلام الإسلام كشريعتنا فلا يمكن النصارى أو اليهود منه
وقد قسم الفقهاء البلاد إلى ما فتح عنوة وصلحا وما أنشأه المسلمون وسنذكر ذلك ولكن كله لا شيء منه تبقى فيه كنيسة من غير شرط سواء فتح عنوة أم صلحا وإذا حصل الشك فيما فتح عنوة أو صلحا لم يضر لما نبهنا عليه من أن شرط التبقية الشرط فيهما وإذا حصل الشك في الشرط فهذا موضع عمره في الفقه هل يقال الأصل عدم الشرط فنهدمها ما لم يثبت شرط إبقائها أو يقال إنها الآن موجودة فلا نهدمها بالشك وهذا إذا تحققنا وجودها عند الفتح وشككنا في شرط الإبقاء فقط فإن شككنا في وجودها عند الفتح انضاف شك
____________________
(2/371)
إلى شك فكان جانب التبقية أضعف ويقع النظر في أنهم هل لهم يد عليها أو نقول إن بلادنا عليها وعلى كنائسها وهل إذا هدمها هادم ولو قلنا بتبقيتها لا يضمن صورة التأليف كما لا يضمن إذا فصل الصليب والمزمار وهل يضمن الحجارة ونحوها رابله التأليف هذا ينبغي فيه تفصيل وهو أنه إذا احتمل أنها أخذت من موات كنقر في حجر في أرض موات فلا ضمان أصلا لأنها لم تدخل في ملك من اتخذها لذلك لهذا القصد كالمسجد الذي يبنى في الموات بغير تشبيه وإن لم يحتمل ذلك بل كانت مما جرى عليه ملك ووقفت لذلك ولم يعلم واقفها هذه الكنائس الموجودة فالظاهر أيضا أنها لا يضمن وإن كان الهادم ارتكب حراما
واعلم أن في الآثار التي سنذكرها في كلام الفقهاء وفي كلام الفقهاء ما يقتضي هدم الكنائس وما يقتضي إبقاءها ولا تناقض في ذلك لأنه يختلف باختلاف محالها وصفتها كما سترى ذلك مبينا إن شاء الله تعالى فلا تغتر سادة الفقهاء بما تجده من بعض كلام في ذلك حتى تنظر ما فيه من كلام غيره وتحيط علما بأصوله وفروعه
ولنشرع فيما تيسر ذكره من الأحاديث والآثار وكلام الفقهاء إن شاء الله تعالى طالبا من الله العون والعصمة والتوفيق باب الأحاديث الواردة في ذلك أنبأ أبو محمد الدمياطي قال أنبأنا أبو الحسين علي بن عبد الله بن علي بن منصور بن المقير أنبأ الحافظ ابن ناصر قال أنا الشيخان أبو رجاء إسماعيل بن أحمد بن محمد الحداد الأصبهاني والشيخ أبو عثمان إسماعيل بن أبي سعيد محمد بن أحمد بن ملة الأصبهاني قالا أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم الكاتب الأصبهاني أنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ في كتاب شروط الذمة ثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث ثنا سليمان بن داود أبو أيوب ثنا سعيد بن الحباب ثنا عبيد بن بشار عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحدثوا كنيسة في الإسلام ولا تجددوا ما ذهب منها هكذا في هذه الطريق عبيد بن بشار وأظنه تصحيفا فقد رواه أبو أحمد عبد الله بن عدي
____________________
(2/372)
الحافظ الجرجاني في كتابه الكامل في ترجمة سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذر في معصية ولا يمين في معصية وكفارته كفارة يمين
قال ابن عدي وبإسناده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبنى كنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها سعيد بن سنان ضعفه الأكثرون ووثقه بعضهم وكان من صالحي أهل الشام وأفضلهم وهو من رجال ابن ماجه كنيته أبو المهدي
وذكره عبد الحق في الأحكام
وقوله لا يجدد ما خرب منها عام لأن الفعل الماضي إذا كان صلة لموصول احتمل المضي والاستقبال فيحمل عليهما للعموم ويعم أيضا الترميم والإعادة لأن قوله ما يعم خراب كلها وخراب بعضها وقوله لا تبنى يعم الأمصار والقرى وقوله ما خرب يعم الكنائس القديمة والمراد في الإسلام كالبناء فكل ما بنوه أو رمموه أو أعادوه في بلاد الإسلام أو في بلاد عليها حكم الإسلام فما صولحوا عليه وإن لم يكن فيه مسلم إذا صالحناهم على أن البلد لنا وهذا بلا شك
وقد يقال إنما صالحناهم على أن البلد لهم يدخل في ذلك ويمنع منه
وقد اختلف أصحاب الشافعي فيما فتح صلحا على أن يكون البلد لهم في إحداث كنائس فيها فعن بعض الأصحاب منعه على مقتضى ما ذكرناه من الأحاديث
وقال الرافعي الظاهر أنه لا منع فيه لأنهم يتصرفون في ملكهم والدار لهم وأما ما بنوه في مدة الإسلام في بلادهم قبل الفتح وهم محاربون فهو وإن كان حراما عليهم لكنه لو صالحونا عليه بعد ذلك جاز لأنا لا ننظر إلى ما كان قبل ذلك ونبتدئ من حين الصلح حكما جديدا
وبالإسناد إلى أبي الشيخ ابن حبان قال حدثني خالي ثنا مقدام بن داود بن عيسى بمصر ثنا النضر بن عبد الجبار ثنا ابن لهيعة عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا خصاء في الإسلام ولا بنيان كنيسة
إسناده ضعيف وبنيان كنيسة يشمل الابتداء والإعادة المراد في الإسلام كما فسرناه في الحديث الذي قبله
وبالإسناد إلى ابن حبان ثنا ابن رستة وثنا أبو جعفر محمد بن علي بن مخلد قالا ثنا أبو أيوب سليمان
____________________
(2/373)
بن داود ثنا محمد بن دينار ثنا أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اهدموا الصوامع واهدموا البيع إسناده ضعيف ولو صح لكان يمكن التمسك بعمومه فيما حدث في الإسلام وفيما قدم
وروى أحمد بن حنبل قال ثنا حماد بن خالد الخياط ثنا الليث بن سعد عن توبة عن نمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة وروينا في كتاب الأموال لأبي عبيد قال ثنا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد قال حدثني توبة بن النمر الحضرمي قاضي مصر عمن أخبره قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة استدلوا به على عدم إحداث الكنائس ولو قيل إنه شامل للأحداث والإبقاء لم يبعد يخص منه ما كان بالشرط بدليل ويبقى ما عداه على مقتضى اللفظ وتقديره لا كنيسة موجودة شرعا
وهذه الأحاديث التي ذكرناها مطلقة لم يعين فيها بلاد صلح ولا عنوة ولا غيرها فهي تشمل جميع بلاد الإسلام لأجل العموم المستفاد من النفي
ومن الأحاديث العامة في ذلك ما رواه أبو داود ثنا سليمان بن داود العتكي ثنا جرير ح وقرأت على الصنهاجي أنبأ أبو بكر بن القسطلاني أنا ابن البناء أنا الكروخي أنبأ الأزدي والعورجي قالا أنبأ الجراحي أنا المحيوي ثنا الترمذي ثنا يحيى بن أكثم ثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون قبلتان في بلد واحد هذا لفظ أبي داود في باب إخراج اليهود من جزيرة العرب ولفظ الترمذي لا تصلح قبلتان في أرض واحدة وليس على المسلمين جزية أخرجه في كتاب الزكاة
قال وحدثنا أبو كريب ثنا جرير عن قابوس بهذا الإسناد نحوه
وهذا الحديث قد اختلف في إسناده وإرساله فرواه العتكي وأبو كريب عن جرير عن قابوس كما رأيت ورويناه مقتصرا على الفصل الثاني من يمينه وهو قوله ليس على مسلم جزية
في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام الذي سمعناه على شيخنا الدمياطي بسماعه من ابن الجميزي قال أبو عبيد ثنا مصعب بن المقدام عن
____________________
(2/374)
سفيان بن سعيد عن قابوس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وجرير وإن كان ثقة لكن سفيان أجل منه فعلى طريقة المحدثين المرسل أصح وعلى طريقة بعض الفقهاء في المسند زيادة وقد ذكر الترمذي الخلاف في إسناده وإرساله وقابوس فيه لين مع توثيق بعضهم له وكان يحيى بن سعيد يحدث عنه ويحيى لا يحدث إلا عن ثقة وفي القلب منه شيء ولا يتبين لي قيام الحجة به وحده وعدت الشيخ نور الدين البكري في مرضه فسألني عن هذا الحديث وقال ما بقي إلا تصحيحه وأفتى بهدم الكنائس وبإجلاء اليهود والنصارى
وقد رأيت في كلام ابن جرير أن حكم جميع بلاد الإسلام حكم جزيرة العرب ثم رأيت أنا في كلام ابن جرير بعد ذلك وسأذكره في فصل مفرد إن شاء الله تعالى وأتكلم عليه
وفي الأموال لأبي عبيد حدثني نعيم عن شبل بن عباد عن قيس بن سعد قال سمعت طاوسا يقول لا ينبغي لبيت رحمة أن يكون عند بيت عذاب
قال أبو عبيد أراه يعني الكنائس والبيع وبيوت النيران يقول لا ينبغي أن تكون مع المساجد في أمصار المسلمين وفي سنن أبي داود أيضا حدثنا محمد بن داود بن سفيان ثنا يحيى بن حسان ثنا سليمان بن موسى أبو داود ثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب عن سمرة بن جندب أما بعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله لم يروه من أصحاب الكتب الستة إلا أبو داود وبوب له باب الإقامة في أرض المشرك وليس في سنده ضعف فهو حديث حسن وبإسنادنا المتقدم إلى أبي الشيخ حدثنا إسحاق بن بيان الواسطي ثنا فضل بن سهل ثنا مضر بن عطاء الواسطي ثنا همام عن قتادة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم
هذا هو معنى الحديث الأول
وقد اختلف العلماء في تسمية الكتابي مشركا فالحديث يشمله عنده فيستدل على تحريم مساكنته والمساكنة إن أخذت مطلقة في البلد يلزم أن لا يكون لهم في تلك البلد كنيسة لأن الكنيسة إنما تبقى لهم بالشرط إذا كانوا فيها
وروى أبو داود والترمذي أيضا والنسائي وقبلهم أبو بكر بن أبي شيبة بأسانيد صحيحة إلى قيس بن أبي حازم التابعي الكبير
____________________
(2/375)
فمنهم من أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر بن أبي شيبة والنسائي وبعض طرق أبي داود والترمذي ومنهم من أسنده عن قيس عن جرير عن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقال البخاري إن المرسل أصح
ولفظ الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس بالسجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله ولم قال لا تراءى ناراهما فسر أهل الغريب هذا الحديث بأنه يلزم المسلم ويجب عليه أن يباعد منزله عن منزل المشرك ولا ينزل بالموضع الذي إذا أوقدت فيه ناره تلوح وتظهر لنا المشرك إذا أوقدها في منزله
ولكنه ينزل مع المسلمين في دارهم وإنما كره مجاورة المشركين لأنه لا عهد لهم ولا أمان وحث المسلمين على الهجرة
والترائي تفاعل من الرؤية يقال تراءى القوم إذا رأى بعضهم بعضا وتراءى لي الشيء إذا ظهر حتى رأيته وإسناد الترائي إلى النارين مجاز من قولهم داري تنظر إلى دار فلان أي تقابلها
يقول ناراهما مختلفتان هذه تدعو إلى الله وهذه تدعو إلى الشيطان فكيف يتفقان
والأصل في تراءى تتراءى حذفت إحدى التاءين تخفيفا
وما ذكروه من الحمل على من لا عهد له ظاهر مشركا أو كتابيا والكتابي الذي لا عهد له داخل في ذلك إما بالنص إن جعلنا مشركا وإما بالمعنى أما من لا عهد له أو ذمة فالمعنى لا يقتضيه ويحتمل أن يقال به
وإذا دعت الحاجة إلى مساكنته في بلد يفرد له مكان لا يجاور فيه المسلمين ولا يقرب منهم تبعد ناره
وفي البخاري في باب إخراج اليهود من جزيرة العرب ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وفيه عن أبي هريرة بينما نحن في المسجد خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال انطلقوا فخرجنا حتى جئنا بيت المدارس فقال أسلموا تسلموا واعلموا أن الأرض لله ورسوله وإني
____________________
(2/376)
أريد أن أجليكم من هذه الأرض فمن يجد منكم بماله شيئا فليبعه وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله وفي سنن أبي داود عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بثلاثة وقال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وفيه عن جابر بن عبد الله أخبرني عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب لا أترك فيها إلا مسلما
وقال مالك أجلى عمر يهود نجران ولم يحل من فيها من اليهود أنهم لم يؤوها
وقال مالك أجلى عمر يهود نجران وفدك
وفي البخاري وقال عبد الرزاق أنا ابن جريج قال حدثني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها وكانت الأرض لله عليها لله وللرسول وللمسلمين وأراد إخراج اليهود منها فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرهم بها أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمرة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نقركم بها على ذلك ما شئنا فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء
فهذه الأحاديث كلها ببلد معين إلا ما في الأخير من جزيرة العرب وسنتكلم عليها في كلام ابن جرير
وفي سنن أبي داود عن مصرف بن عمرو اليامي عن يونس بن بكير عن أسباط بن نصر عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير وكلهم ثقات عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والنصف في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمين على أن لا يهدم لهم بيعة ولا يخرج لهم قس ولا يفتنون عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا
قال إسماعيل فقد أكلوا الربا
قال أبو داود ونقضوا بعض ما اشترط عليهم
وهذا الحديث في صلح أهل نجران حسن جدا عمدة في هذا النوع من الصلح وتسويغ أن يشترط لهم في مثله عدم هدم بيعهم وانظر كونه لم يشترط إلا عدم
____________________
(2/377)
الهدم ما قال التبقية فإن التبقية تستلزم فعل ما يقتضي البقاء كما في الغراس والبناء الذي يجب إبقاؤهما فلم يرد في البيع والكنائس مثل ذلك لأنا إنما نعتمد الأدلة الشرعية
والدليل الشرعي في هذا النوع هو الذي ذكرناه فلا يتعدى وذكر ابن سعد في الطبقات في وفد نجران أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران فخرج وفدهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم نصارى منهم العاقب أميرهم وأبو الحارث أسقفهم والسيد صاحب رحلهم فدخلوا المسجد وعليهم ثياب الحبرة وأردية مكفوفة بالحرير فقاموا يصلون في المسجد نحو المشرق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنهم فلم يكلمهم فقال لهم عثمان ذلك من أجل زيكم هذا فانصرفوا ثم غدوا عليه بزي الرهبان فسلموا عليه فرد عليهم ودعاهم إلى الإسلام فأبوا وأكثروا الكلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنكرتم ما أقول فهلم أباهلكم فامتنعوا من المباهلة وطلبوا الصلح فصالحهم على هذا
وقال فيه على نفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وبيعهم لا يغير أسقف من سقيفاه ولا راهب من رهبانيته فرجعوا إلى بلادهم فلم يلبث السيد والعاقب إلا يسيرا حتى رجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلما فأنزلهما دار أبي أيوب وأقام أهل نجران على ما كتب حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحمة الله ورضوانه ثم ولي أبو بكر فكتب بالوصاة بهم عند وفاته ثم أصابوا ربا فأخرجهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أرضهم وكتب لهم من سار منهم فإنه آمن بأمان الله لا يضرهم أحد من المسلمين وفاء لهم بما كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر
فمن وقعوا به من أمراء الشام وأمراء العراق فليوسقهم من جريب الأرض فما اعتملوا من ذلك فهو لهم صدقة بمكان أرضهم لا سبيل عليهم فيه لأحد ولا مغرم فمن حضرهم فلينصرهم على من ظلمهم فإنهم أقوام أهل ذمة وجزيتهم عنهم متروكة أربعة عشر شهرا بعد أن يقدموا فوقع ناس منهم بالعراق فنزلوا النجرانية التي بناحية الكوفة
فانظر كم في هذه القصة من فائدة وتركهم لما وصلوا إلى المشرق ليس إحداث فعل من المسلمين تأنيس لهم رجاء إسلامهم
____________________
(2/378)
والإعراض عنهم وعدم كلامهم لما كانوا عليه من الزي والحرير بذلك على أن الذي نقرهم عليه إنما هو بغير فعل منا وعقده الصلح مع كبارهم محمول على أن جميعهم راضون به والمصالحة على الحلل وغيرها دليل على أنه لا يتعين في الجزية الذهب والورق وفي بعض الروايات قال أو قيمتها أواقي
فأما الحلل فيمكن أن يقال إنها معلومة وأما التردد بينها بين قيمتها فإن ثبت في الحديث دل على اغتفار هذه الجهالة على أن ما ذكر من الدروع والسلاح يقتضي ذلك ويوافقه ما يشترط عليهم من الضيافة والأصحاب اجتهدوا في بيان إعلامها على الوجه المشترط في سائر العقود والظاهر أن أرض نجران بقيت على ملكهم فهي الصورة التي ذكر الأصحاب فيها الفتح صلحا على أن تكون رقبة البلد لهم ويؤدون الخراج عنها وإلا منع من بقاء الكنائس فيها
وهذه القصة حجة في ذلك ومفسرة لأن المراد بالإبقاء عدم الهدم ثم هو إنما يثبت بالشرط أعني شرط كون البلد لهم أو لم يجز إلا بأمير فقط لأن الأصل بقاء ملكهم ومعنى بقاء الأرض لهم أنها على ما كانت عليه فمن له منها فيها ملك مختص به ولم يكن في نجران أحد من المسلمين
وقد اختلف أصحابنا في إحداث الكنائس في مثل ذلك وذكرناه فيما مضى وقول الرافعي الظاهر أنه لا منع منه
ويدور في خلدي أن نجران وما أشبهها من دومة ونحوها لم يوجف المسلمون عليه ولا طرقوه وإنما جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما وصفنا وجاء رسوله صلى الله عليه وسلم وهو خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة وكذا إلى جهات أخرى وكلهم أطاعوا للجزية واستقروا في بلادهم وقد يكون بلدا وجف المسلمون عليها بالخيل والركاب ولم يتفق أخذها عنوة ولا صلحا على أن يكون ملكنا بل على أن يكون ملكهم بخراج فهل قول الفقهاء خاص بالثاني أو عام في القسمين والأقرب الثاني لأن ذلك نوع من الفتح ويعد مما هو تحت أيدي المسلمين
ويظهر أثر هذا الذي دار في خلدي إذا انجلوا عنه كما اتفق لأهل نجران هل نقول أراضيهم باقية على ملكهم ولذلك عوضهم عمر عنها وبعضهم قال إنما يؤثر في ارتفاع عقد الذمة لا في رجوع الأراضي إلى المسلمين حتى يعرضوا عنها فيكون فيئا أو يوجف عليها فيكون غنيمة والتي أوجف
____________________
(2/379)
المسلمون عليها وتمكنوا منها ثم صالحوا على جزية على أن تكون أراضيها باقية لأهلها تكون الأرض في مقابلة العقد فإذا نقضوه رجعت للمسلمين
هذا شيء دار في خلدي ولم أمعن الفكر فيه ولا وقفت على شيء فيه لأحد
والظاهر أنها في القسمين تكون فيئا كما في قرى بني قريظة والنضير ويكون تعويض عمر رضي الله عنه تكرما عليهم وجبرا لهم لضعف حالهم ورعاية لما حصل لهم من العقد مع النبي صلى الله عليه وسلم ووصية أبي بكر رضي الله عنه وأما خيبر فالنبي صلى الله عليه وسلم فتحها عنوة وقسمها بين المسلمين فلا حق لليهود في أرضها
ولم ينقل أنه كان بها كنائس وإن كان بها كنائس فلم يشترط فيها شيء فهي مما يجب هدمه وكذا إن كان ليهود المدينة شيء من ذلك فبإجلائهم يزول ذلك وقد كان لهم بيت مدارس كما تقدم والظاهر أنه الكنيسة فهي منهدمة
وبلغني أن بالمدينة اليوم آثار كنائس منهدمة كأنها كانت لليهود لما كانوا بها وحكمها وحكم أماكنها أنها لأهل الفيء من المسلمين وخيبر كان النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهلها عمالا لحاجة المسلمين إليهم لعمارتها فلما استغنى عنهم أجلاهم عمر رضي الله عنه وعادت كسائر بلاد الإسلام
وروى أبو عبيد عن حجاج عن حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر قال حماد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود من جزيرة العرب
وقال يزيد بن هارون عن حجاج عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول صلى الله عليه وسلم لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب لا أدع فيها إلا مسلما قال فأخرجهم عمر
وقد تقدم هذا من فارس في أرضهم وبلادهم وقد أذلهم الإسلام وغلبهم أهله فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن
وذلك أن عمر لم يقر أحدا من أهل الشرك في أرض قد قهر من فيها الإسلام وغلبه لم يتقدم قبل قهره إياهم مبدله أو من المؤمنين عقد صلح على الترك فيها إلا على النظر فيه للإسلام وأهله لضرورة حاجة المسلمين إلى إقرارهم فيها وذلك كإقراره من أقر من نصارى نبط سواد العراق في السواد بعد غلبة المسلمين عليه كإقراره من أقر من نصارى الشام فيها بعد غلبهم على أرضها دون حصونها فإنه أقرهم فيها لضرورة كانت للمسلمين
____________________
(2/380)
إليهم للفلاحة والإكارة وعمارة البلاد إذ كان المسلمون كانوا بالحرب مشاغيل ولو كانوا أجلوا عنها خربت الأرضون وبقيت غير عامرة لا تواكر فكان فعله ذلك نظير فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل وزيره الصديق في يهود خيبر ونصارى نجران فإنه صلى الله عليه وسلم أقر يهود خيبر بعد قهر الإسلام لهم وغلبة أهله عليهم واستيلائهم على بلادهم فيها عمالا للمسلمين وعمارا لأرضهم وأموالهم إذ كانت للمسلمين يومئذ ضرورة حاجة إليهم لعمارة أرضهم وشغلهم بالحرب ومناوأة الأعداء ثم أمر صلى الله عليه وسلم بإجلائهم عند استغنائهم عنهم وقد كانوا سألوه عند قهره إياهم إقرارهم في الأرض عمارا لأهلها فأجابهم إلى إقرارهم فيها ما أقرهم الله وأما إقرارهم مع المسلمين في مصر لم يكن تقدم منهم في تركهم والإقرار قبل غلبة الإسلام عليه أو ظهوره فيه عقد صلح بينهم وبين المسلمين فما لا نعلمه صح به عنه ولا عن غيره من أئمة الهدى خبر ولا قامت بجواز ذلك حجة بل الحجة الثابتة والأخبار عن الأئمة بما قلناه في ذلك دون ما خالفه حدثنا محمد بن يزيد حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن قيس بن الربيع عن أبان بن تغلب عن رجل قال كان منادي علي ينادي كل يوم لا يبيتن بالكوفة يهودي ولا نصراني ولا مجوسي الحقوا بالحيرة أو بزرارة
حدثنا محمد بن يزيد الرفاعي ثنا ابن فضيل عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال لا يساكنكم أهل الكتاب في أمصاركم فمن ارتد منهم فلا تقبلوا إلا عنقه
قال أبو هشام وسمعت يحيى بن آدم يقول هذا عندنا على كل مصر اختطه المسلمون ولم يكن لأهل الكتاب فنزل عليهم المسلمون وهذا القول الذي ذكره أبو هشام عن يحيى بن آدم من أن ذلك على كل مصر اختطه المسلمون ولم يكن لأهل كتاب قول لا معنى له لأن ابن عباس لم يخصص بقوله لا يساكنكم أهل الكتاب في أمصاركم مصرا ساكنه أهل الإسلام دون مصر بل عم بذلك جميع أمصارهم وأن دلالة قوله صلى الله عليه وسلم أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب
يوضح عن صحة ما قال ابن عباس ويدل على حقيقة قوله في ذلك وأن الواجب على إمام المسلمين إخراجهم
____________________
(2/381)
من كل مصر كان الغالب على أهله الإسلام إذا لم يكن للمسلمين إليهم ضرورة حاجة وكانت من بلاد أهل الذمة التي صالحوا على إقرارهم فيها إلحاقا لحكمه حكم جزيرة العرب وذلك أن خيبر لا شك أنها لم تكن من الأمصار التي كان المسلمون اختطوها ولا كانت نجران من المدائن التي كان المسلمون نزلوها بل كانت لأهل الكتاب قرى ومدائن وهم كانوا عمارها وسكانها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراجهم منها إذ غلبها وأهلها الإسلام وسكانها من أهل الكفر بالله أهل الإيمان ولم يكن بهم إليهم ضرورة حاجة
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قال ابن عباس في ذلك وإن كان في إسناده بعض النظر وذلك ما حدثنا إسحاق بن يزيد الخطابي حدثنا محمد بن سليمان الحراني ثنا يعقوب بن جعدة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ينزل بأرض دين مع الإسلام حدثنا أبو كريب وابن حميد وابن وكيع قالوا ثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصلح قبلتان في أرض حدثنا علي بن شعيب السمسار ثنا أسود بن عامر ثنا جعفر الأحمر عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ثنا بقية بن الوليد عن محمد بن حرب الزبيدي عن جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله قال فإذا كان صحيحا ما قلنا في ذلك بالذي به استشهدنا فالواجب على إمام المسلمين إذا أقر بعض أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس في بعض بلاد الإسلام لحاجة بأهل تلك البلاد إليهم إما لعمارة أرضهم وفلاحتها وإما لغير ذلك من الأسباب التي لا غنى بهم عنهم ألا يدعهم في مصرهم معهم أكثر من ثلاث على ما قد تقدم بيانه قبل ذلك وأن يسكنهم خارجا من مصرهم ما دامت بهم إليهم ضرورة حاجة كالذي فعل من ذلك أمير المؤمنين عمر وعلي وأن يمنعهم من اتخاذ الدور والمساكن في أمصارهم فإن اشترى منهم من في مصر من أمصار المسلمين دارا أو ابتنى به مسكنا فالواجب على إمام المسلمين أخذه يبيعها كما يجب
____________________
(2/382)
عليه لو اشترى مملوكا مسلما من مماليك المسلمين أن يأخذه يبيعه لأنه ليس للمسلمين إقرار مسلم في ملك كافر فكذلك غير جائز إقرار أرض المسلمين في ملكه
هذا كلام ابن جرير رحمه الله
فأما ما ذكره في خيبر فصحيح وأما ما ذكره في نجران فعجب ونجران قد قدمنا القول فيها فلم يكن حالها يشبه حال خيبر ولا أهلها عمالا للمسلمين بل لأنفسهم وعليهم شيء معلوم قد تقدم بيانه
وأما تعديته حكم جزيرة العرب إلى سائر بلاد الإسلام فالمعروف من كلام جمهور العلماء إجلاؤهم في أن غير الحجاز من الجزيرة هل يثبت له هذا الحكم والصحيح أنه لا يثبت ومن جملة أدلتهم أنه لا يخرجهم أحد من الأئمة من اليمن وهي من جزيرة العرب لكن كلام ابن جرير فيه روح ولا مدفع له من جهة البحث والنص والقياس والعمل قد يظن أنه دافع لكلامه لكن له أن يقول كل موضع وجدنا فيه نصارى غير محتاج إليهم وتحققنا من الأئمة إقرارهم يستدل بذلك على أنه قد تقدم لهم صلح وإنما نظيره قوله في بلد نفتحها اليوم فينبغي أن يعمل فيها بقوله فإنه لا يوجد له دافع كذلك إذا ورد نصراني غريب إلى بلد من بلاد المسلمين فعلم أنه لا يحتمل أن يكون تقدم له أو لأسلافه صلح فعلى مقتضى قول ابن جرير ينبغي أن لا يمكن من الإقامة في ذلك البلد كذلك إذا كانت بلدة قريبة الفتح يمكن معرفة حالها وإقامة البينة على عقد الصلح فيها وأراد سكناها من لم يثبت له عقد صلح ولا دخول فيه من أهل الذمة فيمتنع حتى يثبت ذلك وإنما الإشكال في البلاد القديمة كدمشق وبعلبك وحمص ومصر وما أشبهها فيها نصارى لا حاجة بالمسلمين إليهم
ولا نعلم هل تقدم لهم عقد صلح يقتضي إقامتهم فيها أو لا فهل نقول الأصل عدمه فلا يمكنون من الإقامة حتى يثبت وذلك غير ممكن فلا يمكنون من الإقامة تمسكا بالأصل أو نقول الظاهر أن إقامتهم بحق فلا يزعجون بغير مستند هذا محل نظر ويشهد لكل من الاحتمالين شواهد في الفقه يصلح أن يأتي فيه وجهان والأقرب الأول أن الإقدام على الحكم بغير مستند غير الأصل بعيد مع تطابق الأعصار على وجودهم في هذه البلاد أو بقائهم وإن
____________________
(2/383)
كان يحتمل أن يكون ذلك لتمادي الأوقات وإهمال النظر في ذلك واختلاط من كان محتاجا إليه بمن لا حاجة إليه وغير ذلك من الأسباب
وكلام ابن جرير أول ما يسمع يستنكر وإذا نظر فيه لم نجد عنه مدفع شرعي ويمكن العمل به في بعض الأوقات فيما يحدث ومنعه من تملك دار في بلاد الإسلام غريب مع اقتصار البحث له
وهذا طريق إلى نقص كثير من أملاكهم وينبغي أن يجيء في صحة شرائه خلاف كنظيره في شراء العبد المسلم
ومما يوقف عن قبول ما قاله ابن جرير أن اليهود الموادعين كانوا بالمدينة من غير ضرورة إليهم ولم يخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم في الأول مدة طويلة اللهم إلا أن يقال ما كان ذلك الحكم شرع في ذلك الوقت ولو قال إن ذلك جائز لا واجب أو أن وجوبه بحسب ما يراه الإمام من إجلائهم وإبقائهم كان جيدا وكنا نحمل ما نشاهده من إبقائهم على أنه ما رأى الماضون المصلحة في إجلائهم
والذي يشهد الخاطر أن سببه إهمال الملوك ذلك وعدم نظرهم وليسوا أهل قدوة وأعمال اليهود والنصارى وهممهم في الدنيا والاستيلاء بغير حق والعلماء والصالحون مشغولون بعلمهم وعبادتهم عن مقابلة ذلك وتضييع زمانهم فيه مع صعوبته كما نحن نشاهد ولقد كان البكري شاهد من علوهم واستيلائهم ما أوجب تأثر قلبه وانفعاله لقبول كلام ابن جرير
ومما يدل على تمكنهم من الإقامة في الأمصار إذا كان إليهم حاجة أن عمر بن الخطاب كان له غلام نصراني اسمه أشق كان يقول له أسلم حتى أستعملك فإني لا أستعمل على عمل المسلمين إلا مسلما فيأبى فأعتقه عند موته وأبو لؤلؤة كان مجوسيا لكن ما جاء منه خير
وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى العبدي مهما تنصح فلن نعزلك عن عملك ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية
وكان المنذر كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه وتصديقه وإني قرأت كتابك على أهل هجر فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه ومنهم من كرهه وبأرضي مجوس ويهود فأحدث إلي في ذلك أمرك فانظر ما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إليه ولم يقل له أخرجهم من بلادك ومن جملة المصالح تألفهم رجاء إسلامهم لكن بشرط أن
____________________
(2/384)
يكونوا تحت الذلة وكانت كتابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى بعد إجلاء قريظة والنضير بمكة وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فأسلم عنده الحبشة ولم يأمره بإخراجهم وكتب إلى عبدة من أهل اليمن وأمرهم أن يجمعوا الصدقة والجزية فيدفعوها إلى معاذ بن جبل ولم يأمرهم بإخراج أهل الجزية ولا فرق بين المحتاج إليهم وغيرهم
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل في آخر عمره في حجة الوداع إلى اليمن وأمره في الجزية أن يأخذها من كل حالم دينارا ولم يفرق بين من بالمسلمين حاجة إليهم وغيرهم وقد نزلت في تلك الحجة اليوم أكملت لكم دينكم فلم يحدث بعدها أحكام ولم يخرجوا أهل اليمن بعده فالذي يظهر أن إخراج اليهود والنصارى إنما هو من الحجاز كما هو المعروف ولا يتعدى إلى غيره إلا أن يرى الإمام المصلحة في إجلاء طائفة منهم من مصر أو مدينة إلى مكان آخر يراه فله ذلك إلى حسب النظر للمسلمين
وهذا لا ينبغي أن يقال إلا إذا كان الإمام مثل عمر بن عبد العزيز وإلا فيخشى أن يخرج من شاء ويبقي من شاء بحسب هوى نفسه وغرضه قول النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته أخرجوا اليهود والنصارى وهو وصية لأمته بما يفعلونه بعده من ذلك وجوازه متقرر قبل ذلك ألا ترى قوله تعالى ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء وذلك قبل موته صلى الله عليه وسلم بسنتين فلا يرد على قولنا أن الدين كمل في حجة الوداع وإنما هو تنفيذ ما تقرر جوازه وتحتمه بحسب ما علمه صلى الله عليه وسلم وعمل به عمر بعده فلا يجوز تغييره من الحجاز
وأما غير الحجاز فيكون النظر فيه للإمام ولا نقول إنه واجب كما قال ابن جرير فيضيق الأمر ولا يمتنع بل بحسب المصلحة ما لم تكن حاجة أو صلح ومتى شك في صلح متقدم فالذي يظهر أنه إن ادعي صلح قريب يمكن إثباته من إمام معين لم يقبل إلا ببينة وإن بعد العهد واحتمل الصلح من بعض الأئمة أو من المؤمنين في بعض الأزمنة من غير تعيين وجب إبقاء من احتمل ذلك في حقه ولا يكلف ببينة عملا بالاستصحاب كاليد ولهذا نظير وهو من كان في يده شيء يقول إنه ملكه من شخص لم يعينه
____________________
(2/385)
القول قوله فيه
ولو قال إنه ملكه من زيد وأنكر زيد أو وارثه فالقول قول زيد أو وارثه كما لو قالت المرأة كنت زوجة لزيد فطلقني يحتاج إلى إقرار زيد أو بينة عليه
ولو قالت كنت زوجة لرجل وطلقني قبل قولها
وبهذا يجاب عما أجابه شيخنا ابن الرفعة في كتابه المسمى بالنفائس في أدلة هدم الكنائس وحاول أن النصارى واليهود يكلفون البينة على قدم الكنائس وأنهم مدعون ولا مدعى عليهم من جهة أن الأصل عدمها إلى زمان تحققنا وجودها فيه
والتمسك بهذا الأصل مع اليد ضعيف
وأنا أقول لا يد لهم على الكنائس في دار الإسلام وإنما اليد للمسلمين والاستصحاب حجة لما تحقق وجوده في الماضي
وادعى بعض المتأخرين أنه حجة أيضا لما وجد الآن وشككنا فيه في الماضي ومقتضى كلام أكثر المتقدمين خلافه لكن التمسك فيه بصورة اليد قوي فإذا احتمل ولم يكن مدع معين ينبغي أن لا يغير إلا ببينة كمسألة الزوجة التي ذكرناها فإنا لو كلفنا أرباب الأيدي إلى بينة مع جهالة من انتقل الملك منه إليهم لكان في ذلك تسليط للظلمة على ما في أيدي الناس ولو جوزنا الحكم برفع الموجود المحقق بغير بينة بل بمجرد أصل مستصحب لزم أيضا ذلك والحكم بالشك في قدمه من الكنائس الموجودة المحتملة القدم من غير جزم مني بإطلاق القول بإبقائها لكن توقفي فيها لا في الحكم بمجرد الأصل بل ببينة تنضم إليه والبلاد بحسب غرضنا هذا ثلاثة أحدها بلد يفتحها المسلمون اليوم ولا يشترطون لأهلها شيئا فللإمام إخراج الكفار منها ومنعهم مساكنة المسلمين فيها جوازا قطعا ولا يبعد أن يقال بوجوبه إذا رأى مصلحة المسلمين في ذلك أو أنه لا حاجة بهم إليهم كما قاله ابن جرير
البلد الثاني بلد يفتحها المسلمون اليوم بعد أن كانت للمسلمين واستولى عليها الكفار كسواحل الشام فهل نقول الاعتبار بهذا الفتح فيكون كالقسم الأول أو يستمر عليها حكم فتوح عمر فيه نظر والأقرب الثاني لأن استيلاء الكفار لا أثر له
البلد الثالث ما فتح في زمن عمر والأولى أن لا يغير فيه شيء إلا بمستند عملا باليد أو شبه اليد لتعذر ثبوت خلافه
وإذا أبقينا كنيسة فإنا نقول بأن لا نهدمها كما تقدم في لفظ
____________________
(2/386)
الحديث ولا يلزم من ذلك الإذن فيها ولا التزام بذلك ولا التمكين من ترميمها إذا شعثت ولا إعادتها إذا خربت كل ذلك لم يرد به دليل شرعي مع أنه من المحرمات فلا يمكن منه لأن الأصل في المحرمات أنهم ممنوعون منها مثلنا حتى يرد دليل على التقدير فيه والتمكين منه أعني الترميم والإعادة فكان ممنوعا فصار الإذن بالترميم أو بالإعادة ممتنعا بشيئين أحدهما أنه حكم في محل شك فيكون ممتنعا وكما أنا لا نهدمها بالشك فلا نرممها أو نعيدها بالشك
والثاني أنه لم يرد فيه دليل بالتقرير فيبقى على أصل المنع لتحقق تحريمه في الشرع علينا وعليهم والله سبحانه أعلم فكذلك أقول بالمنع من الترميم والإعادة مع عدم الهدم في الأصل ولا تناقض في ذلك كما يظن بعض من لا علم له ولا احتياج في ذلك إلى دليل خاص حتى يتوقف على تصحيح شيء من الأحاديث المتقدمة ولا إلى شرط حتى يتوقف على صحة شروط عمر بن الخطاب لأن ذلك إنما يكون لو كان أصلها على الإذن
وقد عرفتك أن أصل الكنائس على المنع لأنها من المنكرات المحرمات فمن ادعى جواز التقرير على شيء منها هو المحتاج إلى الدليل ونحن إنما نذكر ما نذكره من الأحاديث والآثار والشروط تأكيدا والأصحاب استدلوا على منع إحداث الكنائس في الإسلام بقول عمر وابن عباس ولا مخالف لهما من الصحابة وجيد هو وهو تأكيد ولو لم يقولاه كان الحكم كذلك لما ذكرناه فلو لم يثبت عنهما ذلك كنا قائلين به
ورأيت في كتاب الجواهر في مذهب مالك إذا اتجر أهل الذمة بالخمر قال ابن نافع إذا جلبوه إلى أهل الذمة لا إلى أمصار المسلمين التي لا ذمة فيها فاستشعرت منها أن أهل الذمة لم يكونوا في الأمصار في ذلك الوقت وإنما كانوا في القرى ولعل الأمر كذلك ثم حدث سكناهم الأمصار بعد العلماء المتقدمين لفساد الزمان ولعل أبا حنيفة إنما قال بإحداثها في القرى التي يتفردون بالسكنى فيها على عادتهم في ذلك المكان وغيره من العلماء بمنعها لأنها في بلاد المسلمين وقبضتهم وإن انفردوا فيها فهم تحت يدهم فلا يمكنون من إحداث الكنائس لأنها دار الإسلام ولا يريد أبو حنيفة أن قرية فيها مسلمون
____________________
(2/387)
فيمكن أهل الذمة من بناء كنيسة فيها
فإن هذه في معنى الأمصار فتكون محل إجماع وتكون الألف واللام في القرى التي جرت عادتها بسكنهم فيها لاشتغالهم بأعمال المسلمين من الفلاحة وغيرها
أو لما يرجى من إسلامهم صاغرين باذلين للجزية فإنا لو لم نبقهم في بلاد الإسلام لم يسمعوا محاسنه فلم يسلموا ولو بقيناهم بلا جزية ولا صغار غروا وأنفوا فبقيناهم بالجزية لا قصدا فيها بل في إسلامهم
ولهذا إذا نزل عيسى عليه السلام لا يقبلها لأن مدة الدنيا التي يرجى إسلامهم فيها فرغت
والحكم يزول بزوال علته فزال حكم قبول الجزية بزوال علته وهو اقتصار إسلامهم وذلك حكم من أحكام شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وليس حكما جديدا فإن عيسى عليه السلام إنما ينزل حاكما بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم
وبعد أن كتبت هذا وقفت على شرح مجمع البحرين لابن الساعاتي من كتب الحنفية فقال وهذا المذكور إنما هو في الأمصار دون القرى لأن الأمصار محل إقامة الشعائر
وقال صاحب الهداية والمروي في ديارنا يمنعون عن إظهار ذلك في القرى أيضا لأن لها بعض الشعائر
والمروي عن صاحب الهداية رحمه الله في قرى الكوفة لأن أكثر أهلها أهل الذمة وفي أرض العرب يمنعون من ذلك في أمصارهم وقراهم
وفي الكافي من كتب الحنفية لحافظ الدين قريب من ذلك
باب الآثار في ذلك أما عمر رضي الله عنه فسنفرد لشروطه بابا
وروى جماعة من العلماء أنه أمر بهدم كل كنيسة لم تكن قبل الإسلام وأمر أن لا يظهر صليب إلا كسر على ظهر صاحبه
وهذا الأثر في تاريخ دمشق لابن عساكر من رواية الحكم بن عبد الله بن خطاف وهو متروك عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر
ومعناه متفق عليه بين العلماء كما قاله الطرطوشي في سراج الملوك فإن الكنائس الحادثة في الإسلام لا تبقى في الأمصار إجماعا ولا في القرى عند أكثر العلماء
وقول أبي حنيفة بإبقائها في القرى بعيد لا دليل عليه ولعله أخذه من مفهوم قول ابن عباس الذي سنحكيه في المصر ونحن نقول إنما نعني بالمصر أي موضع كان مدينة أو قرية
____________________
(2/388)
وفي كتاب ما يلزم أهل الذمة فعله لأبي يعلى محمد بن الحسين الفراء ذكر القاضي أبو عمر محمد بن يوسف رسالة إلى الوزير أبي أحمد العباس بن الحسن في الشروط التي صولح عليها أهل الذمة فذكرها وأطال ثم قال وحدثني أحمد بن منصور الرمادي يعني هذه المحدثة قال الطرطوشي بعد ذكره أثر عمر المتقدم وكان عروة بن محمد يهدمها بصنعاء هذا مذهب علماء المسلمين أجمعين
والذي قاله صحيح يعني في المحدثة قال الطرطوشي وشدد في ذلك عمر بن عبد العزيز وأمر أن لا يترك في دار الإسلام بيعة ولا كنيسة بحال قديمة ولا حديثة وهكذا قال الحسن البصري قال من السنة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة
وقال ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا سهل بن يوسف عن عمر وعن الحسن أنه كان يكره أن تترك البيعة في أمصار المسلمين
وفيه أيضا حدثنا عبد الأعلى عن عوف عن الحسن قال صولحوا على أن يخلى بينهم وبين النيران والأوثان في غير الأمصار
وهذا الذي قاله الحسن من بقاء الأوثان بعيد غير مقبول ولا يجوز مصالحتهم عليه ففي حديث ابن عباس دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار فقال لا تدع قبرا ناتئا عن الأرض إلا سويته ولا صنما إلا كسرته ولا صورة إلا محوتها
رواه أبو الشيخ بإسناده المتقدم إليه عن الحسين بن محمد عن شعيب بن سلمة عن عصمة بن محمد عن موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس
وأصح منه في صحيح مسلم وأبي داود والترمذي وقال حسن عن أبي الهياج حيان بن حصين الأسدي قال طلبني علي فقال أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته
والاحتجاج به من وجهين أحدهما عمومه
والثاني أن ذلك من علي كان في الكوفة وتلك البلاد لم يكن فيها مشركون فقط بل فيها جماعة يقرون بالجزية أما النيران فقريب وهي إنما هي للمجوس فتقريرهم عليها كتقرير اليهود والنصارى على البيع والكنائس فإذا اشترطوا ذلك لم نمنع منه
وهنا لطيفة فارقة بين النيران والأوثان فإن الأوثان من قسم الأصول والنيران من قسم الفروع ونجد أكثر ما أقررناهم عليه من شرب
____________________
(2/389)
الخمر وأكل الخنزير ونكاح الأمهات والبنات وما أشبه ذلك من قسم الفروع واحتمالها رجاء الإسلام سهل وأما الأوثان فشرك ظاهر فلا يحتمل
وقولي ظاهر احتراز مما نحن جازمون بأنه يصدر منهم في أنفسهم كنائسهم من الكفر لأنه خفي فلو أظهروه لم نحتمله ولذلك تقسم الشروط المأخوذة عليهم إلى ما مخالفته ناقضة للذمة بلا خلاف وهو ما فيه ضرر على المسلمين وشرك ظاهر على تفصيل وتحرير مذكور في بابه فهذا لا يحتمل وما سواه قد يحتمل
وروى أبو الشيخ عن أحمد بن الحسن ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ثنا يوسف بن عطية قال جاء كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة أن يمحو التماثيل المصورة
وأما كراهية الحسن لترك البيع في أمصار المسلمين فبعمومه يشمل الحادثة والقديمة كما نقله الطرطوشي عنه وأنه قال أنه من السنة وما نقله عن عمر بن عبد العزيز موافق له وزائد عليه فإن المصر في كلام الحسن محتمل لكل موضع ومحتمل للمدن وكلام ابن عبد العزيز رحمه الله عام في دار الإسلام أن تهدم من جميعها الكنائس القديمة والحديثة وعمر بن عبد العزيز قريب العهد بالفتح فلم يكن يخفى عليه أمر الصلح وهو إمام هدى مطاع صاحب الأمر فأمره بذلك دليل على أنه لم يبق في زمانه كنيسة في بلاد الإسلام وأن جميع ما هو بها اليوم من الكنائس حدث بعده أو كان ولم يطلع هو على تركه فلا يحتج في إبقاء ما نجده منها
وإنما قلت ذلك لأنه بلغني عن شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد أنه توقف عن هدمها لأن عمر بن عبد العزيز لم يهدمها فيجاب عنه بما ذكرناه هذا إن صح السند إلى عمر بن عبد العزيز بما ذكره الطرطوشي وقد ذكر كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم عن عمر بن عبد العزيز لا تهدموا بيعة ولا كنيسة ولا بيت نار وجعلوا ذلك عمدة في الإبقاء
وهذا رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن حفص بن غياث عن أبي بن عبد الله النخعي قال جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز لا تهدم بيعة ولا كنيسة ولا بيت نار صولحوا عليه
فقوله صولحوا عليه قيد ولا بد منه لما قدمناه كما قلناه أنه لم يقل أحد بإبقائها من غير صلح ولم يقل فيه ببلاد الإسلام فهو عام
____________________
(2/390)
والذي تقدم عليه خاص ببلاد الإسلام ويكون هذا في بلاد المجوس ولذلك ذكر فيه بيت النار أو في بلادهم وبلاد اليهود والنصارى التي صالحوا عليها كانوا منفردين فيها تنافي بين الروايتين اللتين نقلتا عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه والمقصود من ذلك إذا صحت الرواية الأولى أنه يعلم بها أنه لا صلح لهم على إبقائها في فتح بلاد الإسلام التي كانت تحت حكمه وأقربها الشام لأنها سكنه ومصر والعراق يكتنفانها
والرواية الثانية عن عمر بن عبد العزيز كتاب إلى قوم مخصوصين فكيف يحتج بها في غيرهم والغر يسمع لا تهدموا فيعتقد أنه خطاب لكل أحد وإنما هو لقوم مخصوصين في بلاد مخصوصة والرواية الأولى لفظ عام في بلاد الإسلام فهي خاصة بدار الإسلام عامة في الأحكام
وأما ابن عباس رضي الله عنهما فاشتهر اشتهارا كثيرا سنذكره وهو ما رواه عنه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه قال ثنا معتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة قال قيل لابن عباس أللعجم أن يحدثوا في أمصار المسلمين بناء وبيعة
فقال أما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بناء أو قال بيعة ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا ولا يتخذوا فيه خنزيرا أو يدخلوا فيه
وأما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوا يعني عليهم فللعجم ما في عهدهم وللعجم على العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم
وقد أخذ العلماء بقول ابن عباس هذا وجعلوه مع قول عمر وسكوت بقية الصحابة إجماعا
وقد روينا أثر ابن عباس هذا في كتاب الأموال لأبي عبيد
وقد ذكرنا سندا إليه قال أبو عبيد سمعت علي بن عاصم يحدث عن أبي علي الرحبي عن عكرمة عن ابن عباس قال أبو عبيد التمصير على وجوه منها البلاد يسلم عليها أهلها كالمدينة والطائف واليمن أو بعضها وكل أرض لم يكن لها أهل فاختطها المسلمون كالكوفة والبصرة والثغور وكل قرية فتحت عنوة فلم ير الإمام أن يردها إلى الذي أخذت منهم ولكنه قسمها بين الذين فتحوها كفعل النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر
فهذه أمصار المسلمين وأشباهها لا سبيل لأهل الذمة فيها إلى
____________________
(2/391)
إظهار شيء من شرائعهم
وأما البلاد التي لهم فيها السبيل إلى ذلك فما صولحوا عليه فلم ينزع منهم وهو تأويل قول ابن عباس فمن بلاد الصلح أرض هجر والبحرين وأيلة ودومة الجندل وأذرح أدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية ومن الصلح بعده بيت المقدس ودمشق ومدن الشام دون أراضيها وكذلك بلاد الجزيرة وقبط مصر وبلاد خراسان وكذلك كل بلاد فتحت عنوة فرأى الإمام ردها إلى أهلها وإقرارها في أيديهم على دينهم وذمتهم كفعل عمر بالسواد وكذلك بلاد الشام كلها عنوة خلا مدنها وكذلك الجبل والأهواز وفارس والمغرب والثغور فهذه بلاد العنوة
وروى أبو عبيد أنه بلغ عمر أن رجلا من أهل السواد أثرى في تجارة الخمر فكتب أن اكسروا كل شيء قديم عليه ووجد في بيت رجل من ثقيف يقال له رويشد فقال أنت فويسق وأمر به فأخرب ونظر إلى غرارة فقال ما هذه قالوا قرية تدعى غرارة يباع فيها الخمر فأحرقها
قال أبو عبيد وجهه أن التجارة في الخمر لم تكن فما شرط لهم وإنما شرط لهم شربها ولهذا كتب عمر بن عبد العزيز لا يحمل الخمر من رستاق إلى رستاق
وقال لعامله على الكوفة ما وجدت منها في السفن فصيره خلا فكتب عامله وهو عبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عامله بواسط محمد بن المستنير بذلك فأتى السفن فصب في كل راقود ماء وملحا فصيره خلا
قال أبو عبيد فلم يحل عمر بينهم وبين شربها لأنهم على ذلك صولحوا وحال بينهم وبين حملها والتجارة فيها وإنما نراه أمر بتصييرها خلا وتركها أن يصبها في الأرض لأنها مال من أموال أهل الذمة ولو كانت لمسلم ما جاز إلا إهراقها
وكذلك فعل عمر بمال رويشد حين أحرق عليه منزله فلم يأمره أن يجعلها خلا وكان رويشد مسلما ولم نعلم أحدا رخص في تخليل خمر المسلم إلا الحارث العكلي
وكان ابن سيرين يقول خل العنب ولا يقول خل الخمر
وكان أبو إسحاق الفزاري يأمرهم بالثغر إذا أرادوا اتخاذ الخل من العصير أن يلقوا فيه شيئا من خل ساعة يعصر فتدخل حموضة الخل قبل أن يتبين فلا يعود خمرا أبدا قال أبو عبيد إنما فعل الصالحون هذا تنزها عن الانتفاع بشيء من الخل
____________________
(2/392)
بعد أن يستحكم مرة خمرا وإن آلت إلى الخل وقول أبي الدرداء في المرى تحته الشمس والملح والحيتان فالمرى شيء يتخذه أهل الشام من أهل الكتاب من عصير العنب فيبتاعه المسلمون مرا لا يدرون كيف كان وهذا كقول عمر ولا بأس على امرئ أصاب خلا من أهل الكتاب أن يبتاعه ما لم يعلم أنهم تعمدوا إفسادها ألا تراه إنما رخص لأهل الكتاب دون أهل الإسلام
كذا فعل عمر بن عبد العزيز حين ألقى في خمر أهل السواد ماء أما فعله بخمر أهل الذمة ولا يجوز في خمر المسلمين من هذا شيء
انتهى ما أردت نقله من كلام أبي عبيد
ولم يزل الإشكال في تخليلنا خمر الذمي مع أنه لا يرخص له في تخليلها وكان المقصود ذكر أثر ابن عباس والذي اقتضاه أنه لا شيء يبقى من الكنائس إلا بعهد حيث يجوز العهد كما قدمناه
وأما قول أبي عبيد في بلاد فتحت عنوة فرأى الإمام ردها إلى أهلها وإقرارها في أيديهم على دينهم وذمتهم كفعل عمر في السواد وهذا مذهب لا هو يقول به ولا أحد من الجمهور وإنما يحكى عن أبي حنيفة والصحيح المشهور في سواد العراق أنه فتح عنوة ثم بعد ذلك قال ابن شريح هو الآن ملك رجع إلى أهله بالشراء
وعن أبي حنيفة أنه رد عليهم كما يقتضيه قول أبي عبيد والصحيح عنه وعن غيره أنه وقف حقيقي يمتنع بيعه وعلى هذا هل كان بإنشاء وقف من عمر بعد استرضائه الغانمين أو أن الأمر في ذلك للإمام من غير رضا الغانمين فالشافعي يقول بالأول ويستدل بقول جرير أن عمر رضي الله عنه عوضه من حقه نيفا وثمانين دينارا وعوض امرأة معه يقال لها أم كرز حتى تركت حقها
وقال جماعة غير الشافعي منهم أبو عبيد لم يكن ذلك وإنما عمر كان نقل جريرا وقومه قبل خروجه إلى العراق قال له هل لك في الكوفة وأنفلك الثلث بعد الخمس قال نعم فبعثه قال أبو عبيد فنرى أن عمر إنما خص جريرا وقومه بالنفل المتقدم دون الناس لأنهم أحرزوه وملكوه بالنفل وإنما الإمام مخير في كل بلدة فتحت عنوة في أرضها إن شاء قسمها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر بين من شهد الوقعة بعد الخمس كما بين في بابه في قوله تعالى واعلموا أنما
____________________
(2/393)
غنمتم من شيء فأن لله خمسه الآية وإن شاء جعلها وقفا على كل المسلمين إلى يوم القيامة لقوله تعالى ما أفاء الله على رسوله إلى قوله والذين جاءوا من بعدهم ورأى عمر هذا ووافقه علي ومعاذ ورأى بلال وابن الزبير الأول فهي باقية للمسلمين لا يجوز إحداث كنيسة فيها وكذلك لا يجوز إبقاؤها فيها على الصحيح كما سنبينه إن شاء الله تعالى
وقال ابن أبي شيبة في مصنفه ثنا عبد الله بن نمير عن عبد الملك عن عطاء أنه سأل عن الكنائس تهدم قال لا إلا ما كان منها في الحرم
وهذا من عطاء محمول على ما إذا حصل صلح عليها أو احتمل ذلك
وقال ابن أبي شيبة أيضا ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي حدثني ابن سراقة أن أبا عبيدة بن الجراح كتب لأهل دير طابا أني أمنتكم على دمائكم وأموالكم وكنائسكم أن تهدم وأبو عبيدة كان أميرا فإذا رأى المصلحة في المصالحة على أن لا تهدم الكنائس جاز إن كان موضعها لم يؤخذ عنوة وكذا إذا أخذ عنوة على أحد الوجهين فقد يكون رأى والشام قد تقدم الكلام فيه وإن قراه وأراضيه عنوة ومدنه صلح
وفي دمشق خلاف كثير هل هي صلح أو عنوة بين المؤرخين والفقهاء فالجوري من أصحابنا يقول إنها صلح والشيخ أبو حامد يقول إنها عنوة وسبب اختلاف الفقهاء اختلاف المؤرخين حتى قيل إن أمرها أشكل على عمر بن الخطاب فجعلها وكذلك أشكل أمرها على الحاضرين لفتحهما فجعلوها صلحا تورعا ليس أنهم جازمون فإن يزيد بن أبي سفيان كان على باب الصغير وخالدا على باب شرقي وهو كان الأمير من جهة أبي بكر ومات أبو بكر واستخلف عمر فولى أبا عبيدة فأخفى أبو عبيد الكتاب وكان أبو عبيدة على باب الجابية فانتهز يزيد فرصة فدخل عنوة من باب الصغير ففي تلك الساعة ذهب راهب دمشق إلى خالد خدعه وصالحه ودخل فوجد يزيد قد دخل وخالد لا يشعر حتى التقيا عند سوق الزيت
وأنا عندي في صحة هذا الصلح نظر وقيل إن أبا عبيدة دخل عنوة وخالد صلحا وقيل عكسه ومصر الصحيح المشهور فيها أنها عنوة وقيل صلحا
ومما أنبه عليه هنا أن الصلح تارة يكون على الأنفس وتقريرها بالجزية
____________________
(2/394)
فقط دون التعرض للعقار والأراضي وتارة يكون على الأنفس والأموال فيدخل فيه كل مال مملوك للكفار على حسب ما وقع الصلح وذلك في كل عقار وأرض خاصة بقوم أما الأراضي العامة التي تحت يدهم بالمملكة العامة دون أن يكون في ملك شخص بعينه فهذه في فتح العنوة لا شك أنها غنيمة للمسلمين أو فيء لهم ولا حق للكفار فيها
وأما في فتح الصلح فكيف يكون الحال ولا شك أن الأراضي ثلاث إحداها ما هو ملك كافر خاص فهو غنيمة أو فيء
الثانية موات فقد قالوا إنها لا تكون غنيمة ولا فيئا بل هي باقية على حكم الموات
الثالثة ما ليس بموات ولا ملك خاص مثل أراضي الديار المصرية التي هي للمسلمين إذا كان مثلها في بلاد الكفار هل نقول هي ملك لهم أو لا لأن جهة الإسلام تملك كما تملك بالإرث بخلاف جهة الكفر والأرض لله فيملكها المسلمون والذي ظهر لي في ذلك إن جرى الصلح على أنها لنا فلا إشكال وهي للمسلمين ملك وإن جرى صلح على أنها لهم فلم تدخل في أيدينا ولا يحصل لنا فيها ملك وهي باقية على ما كانت عليه في أيديهم ولا نقول إنها ملكهم وبذلك يندفع الإشكال عن أراضي نجران لما انجلى أهلها فإنها بجلائها دخلت في أيدي المسلمين فملكوها بدخولها في يدهم كما يملكون سائر المباحات بذلك
والواقع في هذه البلاد الشام ومصر أنها في أيدي المسلمين فلا شك أنها لهم إما وقفا وهو الأظهر من جهة عمر وإما ملكا وإن لم يعرف من انتقل منه إلى بيت المال كما قدمناه فيمن في يده شيء لم نعرف من انتقل إليه منه فيبقى في يده ولا يكلف بينة
ولو فرضنا أن الصلح وقع مطلقا من تعين الأراضي هل هي لنا أو لهم فإن كانوا منفردين بالبلد لم يدخل المسلمون معهم فيه دخول استيلاء على ما كانت عليه كنجران ودومة الجندل ونحوهما وإن دخل المسلمون وسكنوها وصاروا غالبين عليها فهذا قهر وحكمه حكم العنوة فيملكون الأراضي ويكون الصلح على الرءوس فقط وهذا الذي يظهر من مصر لما صالح عمرو بن العاص القبط على الجزية على كل واحد دينارين وكانوا ثمانية آلاف رأس فالظاهر أن ذلك الصلح لم يحصل إلا بأمان وعقد ذمة وجزية
____________________
(2/395)
لا يسري حكمه إلى الأراضي
والظاهر أن الأموال المنقولة تابعة للرءوس لأنها في أيديهم لا للأراضي لكون المسلمين استولوا عليها وما يكون لواحد منهم أو لجماعة من ملك خاص في يده فحكمه حكم المنقول يكون على ملكه
وأما الكنائس فهل نقول حكمها حكم الأراضي لا تبقى إلا إذا شرط إبقاؤها ويجوز تبقيتها من غير شرط يظهر أن يكون كالصورة التي نقول فيها في العنوة إنها تبقى على أحد الوجهين وظاهر كلام الشيخ أبي حامد في تلك الصورة الأولى حتى إذا كانت بغير شرط لا تبقى قطعا
وظاهر كلام الرافعي فيها الثاني فإن صح ذلك وصح إلحاق هذه الصورة بها كانت كنيسة مبقاة بغير شرط على أحد الوجهين وهو مخالف لما ادعينا فيما تقدم من كلامنا فليعلم ذلك وليلحق به
وكنا نخالف ما قلنا إن أخذ بظاهر كلام الرافعي وإن لم تصح هذه الصورة فما قدمناه من إنكار الخلاف يحتمل أن تستمر عليه ويحتمل أن يخالفه بعضهم في صورة الغنيمة فقط ويحتمل أن نخالفه في صورتي الغنيمة والصلح
واعلم أنا إذا شككنا أن البلد فتح عنوة أو صلحا والبلاد في أيدينا كما في الديار المصرية لم يضرنا ذلك في استمرار يد بيت المال عليها والأصل عدم الصلح فينبغي أن نجري عليها حكم العنوة ثم نقول يحتمل أن تكون انتقلت إلى بيت المال عنهم بطريق شرعي والأصل خلافه فالوجه أن يقال يجري عليها حكم الوقف أخذا بالمحقق وهو وضع يد المسلمين في عدم الانتقال من غيرهم إليهم وعدم القسمة
فهذه طريق فقهي مع المنقول أنها كسواد العراق فقد تعاضد النقل والفقه ما يبقى إلا أن يقال الأصل عدم وقفية عمر رضي الله عنه لها فتبقى مملوكة لبيت المال ونجيب بأن الله تعالى جعل الملك لكل أمة تأتي يوم القيامة ومعها مخرج لها عن ذلك فنحن نتمسك بقوله تعالى والذين جاءوا من بعدهم قد جعلها سبحانه وتعالى لهم فلا يجوز التصرف فيها ببيع ولا غيره مما يخرجها عن ذلك إذا أبقاها الإمام ولم يقسمها وإنما تخرج عن ذلك إذا اختار الإمام قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر
وقد رأيت في وصية الشافعي أنه كان له في مصر أرض وذلك لا يقدح فيما قلناه فقد تكون تلك الأرض
____________________
(2/396)
كانت مواتا ولا يشملها حكم الوقف ومن وجدنا في يده أو ملكه مكانا منها فيحتمل أنه أحيا ووصل إليه وصولا صحيحا
وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان قال ثنا حماد بن سلمة عن حبيب بن شهيد عن محمد بن سيرين أنه كان لا يترك لأهل فارس صنما إلا كسر ولا نارا إلا أطفئت حدثنا عبد الأعلى عن عوف قال شهدت عبد الله بن عبيد الله بن معمر أتى بمجوسي بنى بيت نار بالبصرة فضرب عنقه
ووجه هذا أن البصرة كانت مواتا فأحياها المسلمون وبنوها وسكنوها فلا يجوز إحداث كنيسة فيها ولا بيت نار فلما أحدث هذا المجوسي بيت النار فيها كان نقضا لعهده فضرب عنقه لذلك ومما يبين أن عمر رضي الله عنه لم يقسم اختلافه مع بلال وبلال يطلب القسمة وقوله اللهم اكفني بلالا وذويه فما جاء الحول ومنهم عين تظرف وانظر استجابة دعاء عمر مع عظمة بلال ومحله عند الله لصحة قصد عمر رضي الله عنه وعن الجميع وقد بلينا بقوم يتبايعون ضياعا كثر ذلك في الشام
باب في شروط عمر رضي الله عنه على أهل الذمة أنبأنا جماعة عن ابن المقير عن ابن ناصر ثنا أبو رجاء وأبو عثمان قالا أنا ابن عبد الرحيم أنا أبو الشيخ أنبأ أبو يعلى الموصلي ثنا الربيع بن ثعلب حدثني يحيى بن عقبة بن أبي العيزار عن سفيان الثوري والربيع بن نوح والسري عن طلحة بن مصرف عن مسروق عن عبد الرحمن بن غنم قال كتبت لعمر رضي الله عنه حين صالح نصارى أهل الشام بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر رضي الله عنه أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث فيها ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيي ما كان منها في خطط المسلمين وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا في منازلنا جاسوسا ولا نكتم غشا للمسلمين
____________________
(2/397)
ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شركا ولا ندعو إليه ولا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إذ أرادوه وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنى بكناهم ولا نركب السرج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش على خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمر وأن نجز مقاديم رءوسنا وأن نلزم ديننا حيث ما كنا وأن نشد زنانيرنا على أوساطنا وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا وأن لا نظهر صليبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين وأسواقهم ولا نضرب ناقوسا في كنائسنا إلا ضربا خفيا ولا نرفع أصواتنا في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا يخرج ساعونا ولا باعونا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق حضرة المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق من جرت عليه سهام المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم
فلما أتيت عمر رضي الله عنه بالكتاب زاد فيه ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا لكم ذلكم على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلتنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا عن شيء مما شرطنا لكم وضمنا على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما يحل لكم من أهل المعاندة والشقاق
رواة هذه الشروط كلهم ثقات كبار إلا يحيى بن عقبة ففيه كلام كثير أشده قول أبي حاتم الرازي متروك الحديث كان يفتعل الحديث
وقال يحيى بن معين ليس بشيء
وقال مرة ليس بشيء
وقال مرة ليس بثقة
وقال أبو داود ليس بشيء
وقال النسائي ليس بثقة
وقال الدارقطني ضعيف
وقال ابن عدي عامة ما يرويه لا يتابع عليه
وذكر له أحاديث ليس هذا منها
وقال ابن حبان يروي الموضوعات عن الإثبات لا يجوز الاحتجاج به بحال
وقال البخاري عن منصور منكر الحديث
وذكر العقيلي حديثه عن منصور عن قيس من أبي حازم عن أبي هريرة فإن كان إنكار البخاري لأجل هذا فهو قريب وقد روى عنه يحيى بن سعيد القطان هذه الشروط ويحيى القطان لا يروي إلا عن ثقة فروايته
____________________
(2/398)
عنه توثيق له ورواها عن القطان محمد بن المصفى ورواها عن ابن مصفى حرب من مسائله عن أحمد وإسحاق والمتن موافق لما ذكرناه وفيه لا نجدد ما خرب
وكذلك رواها البيهقي موافقا في الإسناد والمتن وكذلك ابن حزم موافقا في الإسناد والمتن وفي سنده يحيى بن عقبة ولم يتعرض لذكر شيء فيه مع سعة حفظ ابن حزم وذكرها خلائق كذلك وفي جميعها ما خرب وذكرها عبد الحق في الأحكام ولم يذكر يحيى بن عقبة واقتصر على سفيان فمن فوقه هكذا في الوسطى والظاهر أنه ذكره في الكبرى لا بد من ذلك ولم أر في كلام ابن القطان اعتراضا عليه وذكر هذه الشروط هكذا جماعة من الفقهاء وتلقوها بالقبول واحتجوا بها منهم الشيخ أبو حامد الإسفراييني حتى رأيت في كتب الحنابلة أنه عند الإطلاق يحمل على شروط عمر كأنها صارت معهودة شرعا
وفي كلام أبي يعلى منهم أن ما فيها يثبت بالشرع من غير شرط وهو قريب من الأول لكنه أحسن لأنه يجعل هذه أحكاما شرعية واشترط عمر لها لأنها ثابتة بالشرع وإن لم تشترط وكنت قدمت في كتابي المسمى كشف الغمة في ميراث أهل الذمة قبل أن أرى الكلام من كلام الشافعي في الأم صفة ما يكتب في الصلح على الجزية لنصراني ولم يتعرض للكنائس لكن ذكر شروطا كثيرة جدا وقال في آخرها فهذه الشروط لازمة له ولنا فيه ومن لم يرض به نبذنا إليه
وقلت إني قصدت بنقل هذا من كلام الشافعي أنه يعرف الشروط التي عادة المسلمين أن يكتبوها عليهم حتى إذا جهل الحال كما في هذا الزمان فيحمل الأمر على حكم هذه الشروط لأنها المتعارفة في الإسلام فقد وافق كلامي كلام من ذكرت من الحنابلة
ورواها جماعة بأسانيد ليس فيها يحيى بن عقبة لكنها أو أكثرها ضعيفة أيضا وبانضمام بعضها إلى بعض تقوى وجمع فيها الحافظ عبد الله بن زبر جزءا وذكر منه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق منها رواية محمد بن حمير عن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية عن السري بن مصرف الثوري والوليد ونحوه
وقد رأيتها في كتاب ابن زبر قال وجدت هذا الحديث بالشام
رواه عبد الوهاب بن نجدة الحوطي عن محمد بن حميد فذكره وهذه متابعة من عبد الملك بن حميد
____________________
(2/399)
ليحيى بن عقبة في شيوخه وعبد الملك متفق عليه ومحمد بن حمير من رجال البخاري
وهذا عذر لعبد الحق في اقتصاره في الوسطى على سفيان ولم يذكر ابن عقبة لكن فيه علتان إحداهما جهالة بين ابن زبر وعبد الوهاب بن نجدة والثانية ابن يزيد فيه كلام وكان قاضي دمشق وتولى قضاء مصر أيضا ثلاث مرات ضعفوه وإن كان حافظا
فلولا هاتان العلتان كان صحيحا ورواها ابن زبر أيضا عن أبي الأحوص محمد بن الهيثم عن محمد بن إسماعيل بن عياش عن أبيه أن هذا الكتاب من عياض بن غنم لذمة حمص
وفي رواية عبد القدوس بن الحجاج عن إسماعيل بن عياش أن غير واحد أخبروه أن أهل الجزيرة كتبوا لعبد الرحمن بن غنم إنك لما قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان إلى آخره
قال ابن زبر هذا غلط لأن الذي افتتح الجزيرة وصالح أهلها هو عياض بن غنم ما علمت في ذلك اختلافا فذكر عبد الرحمن في هذا الموضع غلط وأبو عبيدة هو الذي فتح حمص بلا شك وأول من وليها عياض بن غنم ولاه عمر في سنة ست عشرة وذكر ابن عساكر أنه كان في شروط عمر على النصارى أن يشاطرهم في منازلهم فيسكن فيها المسلمون وأن يأخذ الحيز القبلي من كنائسهم لمساجد المسلمين
وفي تاريخ دمشق أيضا أن أبا عبيدة بن الجراح كتب كتاب صلح وفيه مثل ما في كتاب عمر وفيه ولا نشارك أحدا من المسلمين إلا أن يكون للمسلم أمر التجارة وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام من أوسط ما نجد وأن لا نشتم مسلما ومن ضرب منا مسلما فقد خلع عهده
وفيه عن خالد أنه كتب كتاب صلح لأهل دمشق إني أمنتهم على دمائهم وأموالهم وكنائسهم أن لا تسكن ولا تهدم فانظر إنما قال لا تسكن ولا تهدم
لم يلتزم لهم شيئا آخر
وفي كتاب ما يلزم أهل الذمة لأبي يعلى عن عبد الله بن أحمد عن أبي شرحبيل الحمصي عيسى بن خالد ثنا عمي أبو اليمان وأبو المغيرة جميعا أنا إسماعيل بن عياش ثنا غير واحد من أهل العلم قالوا كتب أهل الحيرة إلى عبد الرحمن بن غنم إنك لما قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا في
____________________
(2/400)
ما حولها ديرا ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب من كنائسنا
وذكر مثل تلك الشروط وفيها ولا يشارك أحد منا مسلما في تجارة إلا أن يلي المسلم أمر التجارة
وفيه في رسالة القاضي أبي عمر وحدثنا عيسى بن خالد عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج وأبي اليمان الحكم بن نافع عن إسماعيل بن عياش قال حدثنا غير واحد من أهل العلم قال كتب أهل الحيرة إلى عبد الرحمن بن غنم إنك لما قدمت بلادنا فذكر مثله
وفيه فكتب بذلك ابن غنم إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر أن أمض لهم ما سألوه وألحق فيه حرفين اشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم أن لا يشتروا من سبايانا شيئا ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده
وأنفذ ابن غنم ذلك لهم ولمن أقام من الروم في مدائن المسلمين على هذا الشرط وقد تقدم كلام ابن زبر
قوله لا نجدد ما خرب قد تقدم الكلام عليه فلا يظن من لا علم له أن المراد ما خرب قبل الفتح لما قدمنا أن خرب فعل ماض في صلة موصول وقول النحاة إنه إذا كان صلة يصلح للماضي والمستقبل فيعمهما والموصول هو ما يعم البعض والكل فامتنع الترميم والإعادة
وفي بعض الروايات خرب وفي بعضها ذهب وهما متقاربان وفي بعضها منها والضمير يحتمل عوده على المفرد وهو الكنيسة فلا يكون نصا في منع الترميم وعلى الجمع وهو الكنائس فيحتمل ذلك وخراب الكنيسة بجملتها لأنها واحدة الكنائس فيكون منعا للإعادة وقد قال صاحب التنبيه ولا يمنعون من إعادة ما استهدم منها فحمله ابن الرفعة على الكنائس لأنه اعتقد أن الترميم لا يمنع منها بلا خلاف لأن الرافعي لم يحك فيه خلافا والشيخ أبو حامد حكى الخلاف في خراب بعضها وخراب كلها فكان الواجب حمل كلام التنبيه على العموم فيهما وكذا كلام الحديث ومن لم يرو منها استغنى عن ذلك والمقصود يحصل بدونه
وقد تقدم الكلام على لفظ الكنيسة والباعوث والشعانين أعيادهم فلا يظهرونها واشتراط الضيافة ولا تزال عليهم لئلا تنقطع المبرة عن المسلمين
وقد يمنعون من مبايعتهم لعداوتهم في الدين ومنعهم من تعليم أولادهم القرآن لأن الكافر في حكم الجنب ولأنهم قد يستخفون
____________________
(2/401)
بحرمته ويستهزئون به ولهذا منعوا من شراء المصحف ومنعهم من مشاركة مسلم إلا أن يلي أمر التجارة لأنهم قد يعاملون بالربا والخمر والخنزير فمنعوا من الانفراد فإن كان المسلم يليها فلا بأس وإيواء الجاسوس وكتمان العين من أضر الأشياء وهم ممنوعون من كل ما يضر المسلمين وإظهار الشرك والدعاء إليه ومنع الدخول في الإسلام فيه ذلك وزيادة الاستعلاء والفساد في الدين وتوقير المسلمين واجب عليهم لأنهم كالخول لهم
ومنع التشبه بهم في لباسهم لينزلوا منزلة الإهانة ولا يخرجوا منها إلى مرتبة التعظيم لقوله صلى الله عليه وسلم ولا تتشبهوا باليهود ولأن عمر صالحهم على تغيير زيهم بحضرة الصحابة ولا نخالف له وجوب موالاة المسلم ومعاداة الكافر ومباينته فلا بد من تمييز وليس إلا الزي ولأنه إذلال في معنى الجزية ليكون ذريعة لهم إلى الإسلام
وإنما لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليهود المدينة ونصارى نجران لأنهم كانوا قليلين معروفين فلما كثروا في زمن الصحابة وخشوا من التباسهم بالمسلمين احتاجوا إلى تمييز والناظر في أمر الدين ممنوع أن يستعين بهم في الولايات وكانت عادة اليهود العسلي قال الرافعي إنه الأصفر وفيه نظر وعادة النصارى الأدكن وهو الفاختي والآن صارت عادة النصارى الأزرق وهو مناسب لقوله تعالى ونحشر المجرمين يومئذ زرقا وعادة اليهود الأصفر عمل ذلك في أول هذا القرن حين كان شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد قاضي الديار المصرية ولو جعل غير الأصفر كان أولى فقد رأيت في كلام أبي يعلى أن الأصفر من الألوان يمنعون من لباسه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبسه وكذلك الخلفاء بعده عثمان وغيره وهو زي الأنصار وبه كانوا يشهدون المجالس والمحافل
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى نصارى الشام أن لا يلبسوا عصبا ولا خزا فمن قدر على أحد منهم فعل ذلك بعد التقدم إليه فسلبه لمن وجده
والعصب هو البرد اليماني يساوي ثوب منه دينارين وأكثر وكان على النبي صلى الله عليه وسلم برد يماني خلعه على كعب بن زهير فباعه لمعاوية وتداولته الخلفاء يتوارثونه
والخز هو الفاخر من الثياب فلا يجوز للذمي لأن فيه عزا بل تكون عياره مصبوغا بالشب والزاج
____________________
(2/402)
والقلنسوة ذكرها أهل اللغة وتكلموا على لفظها بما لا حاجة لنا إليه وهي تلبس عند عظم المنزلة بالعلم والشرف والقضاء من زي القضاة والخطباء على المنابر والعمائم تيجان العرب عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس ويمنعون من الأردية لأنها لباس العرب قديما على ما حكى أحمد بن حنبل ولا يمنعون من الطيلسان
وذكر أبو يعلى أن الأردية مربعة وأما الطيلسان قال فهو المقرر الطرفين المكفوف الجانبين الملفق بعضها إلى بعض ما كانت العرب تعرفه وهو لباس اليهود قديما والعجم أيضا والعرب تسميه تاجا ويقال أول من لبسه من العرب جبير بن مطعم وكان ابن سري يكرهه والنعال من زي العرب يمنع أهل الذمة منها ولم تكن بأرض العجم إنما كان لهم الخفاف وأما منعهم من اتخاذ شيء من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين فلأنه إذا كان في أيدي المسلمين يرجى إسلامه وإذا بيع منهم منعوه ولهذا منعنا الكافر من حضانة اللقيط وأسقط حضانة أحد الأبوين إذا كان كافرا عن بعض العلماء وكما لا يجوز بيعه من أهل الحرب كما قاله بعضهم وعندنا لم يتضح لي هذان التعليلان فلعل سببه أنه باستيلاء المسلمين كلهم عليه صار لهم حق في حضانته وولايته فإذا اختص به بعضهم لا يمكن كافر منه بعد ذلك حتى لا يفوت حق المسلمين إلى كافر وفي استيفاء الكلام على الشروط طول فلنرجع إلى المقصود وذكر ابن حزم الخلاف فيما إذا خالف شيئا من الشروط هل ينتقض عهده وأصحابنا ذكروا ذلك أيضا على تفصيل فيه بين ما ينقض اتفاقا وبين ما فيه خلاف وليس فيها ما لا ينقض اتفاقا وتجديد ما خرب من المختلف في انتقاض الذمة به
فصل
قد ذكرنا الأحاديث ثم آثار الصحابة والتابعين ثم الشروط وذلك كله على جهة التأكيد لما هو معلوم عندنا من المنع من ذلك والأصل فيه المنع والشروط مؤكدة وليس مما الأصل فيه الجواز ولأن التزامه بالشرط فقط حتى إذا لم يثبت الشرط لا يثبت
____________________
(2/403)
فصل علم مما حصل من شروط عمر وغيرها من العقود التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران وغيرها جواز عقد الذمة وذلك مجمع عليه معلوم من الشرع بالضرورة والقرآن يدل له كقوله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقد قدمنا أن ذلك ليس لرغبة منا في الجزية حتى نحكي من يكفر بالله ولكن رحمة من الله لرجاء إسلامهم كما نبهنا عليه فقد قال صلى الله عليه وسلم لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم وعدم اختلاطهم بالمسلمين يبعدهم عن معرفة محاسن الإسلام ألا ترى من الهجرة إلى زمن الحديبية لم يدخل في الإسلام إلا قليل ومن الحديبية إلى الفتح دخل فيه نحو عشرة آلاف لاختلاطهم بهم للهدنة التي حصلت بينهم فهذا هو السبب في مشروعية عقد الذمة
وقال أبو يعلى قد ذكر بعض أهل الباطل أن عقد الذمة لا يجوز لأنه تقرير للكافر على كفره وهذا ممتنع كما يمتنع أن نقر الواحد على معصية من زنا أو غيره
وهذا قول باطل وقد تقدمت الإشارة إلى حكمة عقد الذمة وما فيه من المصلحة ورجاء كثرة المسلمين وهداية الخلق وتفاوت الربا لأن الشرع لم يرد بإباحته ولا مصلحة للمكلفين فيه
فصل المعروف أن الكنائس من أخس المواضع لما فيها من الكفر بالله تعالى ورأيت في كتاب أبي يعلى الحنبلي أن لبيعهم وصوامعهم حرمة على معنى أنها تصان من النجاسات وتنزه عن القاذورات والفساد لأنهم يذكرون الله تعالى فيها فتصير لها حرمة بذلك قال الله تعالى ولولا دفع الله الآية وليس حرمتها كحرمة المساجد عن منع الجنب والحائض ومنع الخصومات والتشاجر فيها وفي الوقف عليها كما يوقف على المساجد أما الصلاة فتكره أن يقصد بالصلاة فيها ومن غير قصد لكن بحضور وقتها لا تكره لأنه حال ضرورة واختلف الصحابة في ذلك
روي عن ابن عمر وابن عباس كراهية الصلاة فيها وعن عمر وأبي موسى أنهما صليا فيحمل على أنهما لم يقصدا
وما ذكره من أن لها حرمة بعيد ولو كان لها حرمة لما هدمت وقد كان ذو
____________________
(2/404)
الخلصة بيتا لخثعم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه
وأما الآية الكريمة فمعناها لهدمت فيما مضى من الزمان حين كانت حقا وأما الآن فهي باطلة وذكرهم الله تعالى فيها قد قال الله سبحانه في مثله وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون
باب ما قال الفقهاء في ذلك ولنتبع ترتيب الرافعي ونذكر متن كلامه ونرد فيه بما تيسر إن شاء الله تعالى قال الرافعي رحمه الله البلاد التي في حكم المسلمين قسمان أحدهما البلاد التي أحدثها المسلمون كبغداد والكوفة والبصرة فلا يمكن أهل الذمة من إحداث بيعة وكنيسة وصومعة راهب
قلت ذلك مجمع عليه والله أعلم
قال قال الروياني ولو صالحهم على التمكين من إحداثها فالعقد باطل
قلت هذا لا شك فيه إذا كان ذلك هو المقصود فإن كان المقصود عقد الذمة وشرط هذا فيه فيحتمل أن يقال ببطلان العقد كما قال ويحتمل أن يقتصر على بطلان الشرط وأما نتيجة هذا الشرط فلا يقول به أحد والله أعلم
قال قال في بحر المذهب وإن أشكل حالها أقرت استصحابا لظاهر الحال قلت لو قال أخذا بظاهر الحال كان أولى وأما الاستصحاب فإنما يكون للأصل ولكنه نوعان أحدهما وهو المشهور الذي لم يذكر الأكثرون سواه أن يتحقق شيء في الماضي فيستصحب إلى الحال وهو حجة عند أكثر الفقهاء
والثاني أخذ به بعض المتأخرين من أهل الجدل أن نتحقق شيئا في الحال فنستصحبه إلى الماضي على عكس الأول والاستصحاب الذي ذكره صاحب البحر هنا من هذا القبيل ثم قوله أشكل حالها يحتمل أن يكون مع ظهور أحد الطرفين وأن يكون مع الاستواء فاستصحاب ظاهر الحال الذي أراده قسم من ثلاثة أقسام فلو صح لم يتجه الأخذ به في الأقسام الثلاثة بل في أحدها والله أعلم قال والذي يوجد في هذه البلاد من البيع والكنائس وبيوت النار لا تنقض لاحتمال أنها كانت في قرية أو برية فاتصلت بها عمارة المسلمين فإن عرف إحداث شيء بعد بناء المسلمين وعمارتهم نقض
قلت متى
____________________
(2/405)
عرف إحداث شيء نقض بلا إشكال
والذي قال في الدير يوجد في هذه البلاد من عدم النقض للاحتمال يقتضي إطلاقه أنه لا فرق بين الاحتمالين القوي والضعيف وغالب من يطالع كلامه يعتقد أنه أراد بقوله هذه البلاد كل ما أحدثه المسلمون كالقاهرة ونحوها فتدخل في ذلك وذلك أن مراد الرافعي البلاد التي سماها كبغداد والكوفة والبصرة
وكذلك الشيخ أبو حامد ذكر هذه البلاد الثلاثة ثم قال فإن قيل فما تقولون في هذه البيع والكنائس التي في البصرة والكوفة ودار السلام قيل لم نعلم أنها أحدثت ولو علمنا لفعلناها والذي عندنا فيها أنها كانت قبل فتح عمر العراق حيث كانت هذه الأراضي مزارع وقرى للمشركين ففتحها عمر وأقرها على ذلك ثم اتصل البناء بعضه ببعض فبقيت على ما كانت عليه وهذا الذي قاله أبو حامد من كونها كانت مزارع وقرى للمشركين مع أنه من حين اختط المسلمون هذه البلاد الثلاثة وكلمة الإسلام فيها غالبة فغلب على الظن أنها كانت موجودة قبل بناء المسلمين كالقاهرة
فإن المشهور المعروف أنها كانت برية فلما تملك المعز المعزي الديار المصرية بناها في سنة ثنتين وستين وأربعمائة فاحتمال وجود كنائس بها في ذلك الوقت بعيد جدا فإن نظرنا إلى الظاهر فالظاهر حدوثها بعد البناء بخلاف بغداد والبصرة والكوفة
وإن نظرنا إلى الأصل الدال على عدمها وقت بناء القاهرة استصحاب العدم المحقق في الماضي والدال على وجودها إذ ذاك استصحاب وجودها على طريقة الاستصحاب المعكوس الذي أحدثه المتأخرون وأكثر الفقهاء لا يعرفونه وإنما يعرفون الأول لكن المحقق منه أعني الأول ما عرف وجوده فيستصحب وجوده من الماضي إلى الحال أما استصحاب العدم الماضي إلى الحال مع تحقق الوجود في الحال والشك في الماضي فمما يحتاج إلى فكر فإن صح فيتعارض الاستصحابان ويبقى الشك فيطلب دليل آخر ويلزم من ذلك التوقف عن الحكم بأحد الاستصحابين حتى يجد ما يعضد أحدهما
وشيخنا ابن الرفعة قام في هذه الكنائس التي في القاهرة وربما لم يقتصر على القاهرة وصنف كراسة في ذلك واعتمد فيها على خمسة أدلة ذكرها وسمعتها عليه وجنح فيها إلى التمسك بأن الأصل عدمها قبل بناء القاهرة
____________________
(2/406)
وعندي في هذا التمسك نظر لما عرفتك به ولو فتح هذا الباب لأدى إلى أن كل من في يده يدعي انتقاله إليه ونحن نعلم أن الأصل عدم السبب الذي يدعيه ولا يقبل منه إلا ببينة وهو بعيد نعم إن كان له منازع ثبت ملكه فذلك الملك أمر وجودي مستصحب وإلا فلا هذا الذي يظهر لي في ذلك وحاصله أن الحكم بإبقاء كنائس العراق قريب وكنائس القاهرة ونحوه لا يظهر الحكم به وإلا لحكم بهدمه بل الذي يظهر التوقف عن الحكم لعدم الدليل وكم من مسألة هكذا لا يقضى فيها بشيء لعدم الدليل لا لدليل العدم ويلزم من ذلك مقصود من يطلب بقاء الأمر على ما هو عليه لكن يظهر أثر ما قلناه في فروع أخرى وربما نذكرها إن شاء الله
وقد استقريت الاستصحاب الذي نحكم به فوجدت صورا كثيرة إنما يستصحب فيها أمر وجودي كمن تيقن الطهارة وشك في الحدث وعكسه وغالب الصور التي حضرتني الآن وأما استصحاب عدم تحكم به فلم يحضرني الآن ولا أجزم بنفيه فلينظر وبراءة الذمة ونحوها من الأمور العدمية لا نحكم بها وإنما نمتنع من الحكم بخلافها حتى يقوم عليه دليل
فمن هنا توقفت عن موافقة ابن الرفعة رحمه الله والله أعلم
ومما ذكره ابن الرفعة أيضا اختلاف نصوص الشافعي والأصحاب في حد المدعي هل هو من يحكى سكوته أو من يدعي أمرا خفيا أو من يدعي خلاف الأصل ومقصوده بذلك أن الأصل عدم الكنائس في القاهرة قبل بنائها على ما قال وهو الظاهر على ما قال أيضا لأنها كانت برية وظاهر حال تلك أنه لا يرتاد لنفسه بناء مدينة حول كنائس وكان القول بقدمها مخالفا للأصل والظاهر وكان القائل به مدعيا يحتاج إلى بينة لا مدعى عليه وأورد على نفسه أن ذلك إذا لم تكن يد وأجاب بالمنع وعندي استصحاب وجودي وإلا فنحكم بها أو نتوقف غير أني أقول إن اليد هاهنا على الكنائس لا أسلم أنها للنصارى بل للمسلمين فما ظهر لهم أنها تبقى بقيت وما شك فيها فهي في أيدينا باقية على الشك لا نقدم على الحكم فيها بأمر من الأمور لا بهدم ولا بإبقاء إلا بمستند خوفا من الله تعالى لا من أحد
____________________
(2/407)
أن يقدم في شريعته على حكم بغير علم
وتظهر فائدة ذلك فيما إذا هدمها هادم وقد قدمنا بعض كلام فيه ولا شك أن صفة التأليف التي بها قوام الكنيسة غير مضمونة كصفة الصليب والمزمار وكذا يظهر لي في ذوات الآلات في الحجر ونحوه كما لا يضمن الخمر اللهم إلا أن يقال أنه يضمنها لأهل الذمة فلا يبقى شيء آخر وهو التعذير وهنا يفترق الحال فإن كانت الكنيسة مما يتحقق أنه قد لزمنا أن لا نهدمها فيكون قد أقدم على ما علم تحريمه فيعزر وإن كان قد أقدم في الصورة التي فرضنا حيث لا نحكم بذلك لعدم المقتضى فلا يعزر لأن الحكم بالتعزير يستدعي تحقق سببه ولم يوجد وإعادة التي هدمها هادم كإعادة المنهدمة بنفسها وسنتكلم فيه
ومما تعلق به ابن الرفعة قول مالك لا نسمع دعوى الخسيس على الشريف وقوله الإصطخري من أصحابنا ما يقرب من ذلك وهذا لو سلم الظهور ولم نسلم الحكم ونحن لا نسلم الظهور ومما يتعلق به اختلاف قول الشافعي في تقابل الأصلين أو الأصل والظاهر كعد الملفوف وطين الشوارع وغاية هذا بعد التسليم أن يأتي خلاف ونحن نريد أمرا تقدم به على هدم ما استمرت الأعصار عليه فكيف يكتفي فيه بمثل ذلك
ومما تعلق به الخلاف فيمن حلف على زوجته بالطلاق لا تخرج إلا بإذنه فخرجت وادعى أنه أذن لها والجمهور على استصحاب النكاح لأنه أمر وجودي وفي قوله لا يدخل إلا أن يشاء زيد وفي قوله لأضربنه مائة خشبة فضربه بها دفعة وشك في وصولها ولا دليل في شيء من ذلك ومما تعلق به إذا وجدت جذوع في حائط وجهل الحال في وضعها قال الأصحاب لا تزال لأن الظاهر أنها وضعت بحق وقال هو إنها مفروضة فيما إذا لم يدع صاحبها أن صاحب الجدار أذن له في وضعها بل ادعى استحقاق الوضع وجهل الحال حتى لو قال صاحب الجدار أنت أذنت لي أو صالحتني عليها وقال بل غصبتني وقال الراكب بل أعرتني قال والمعاندون يزعمون أنا صالحناهم على الكنائس المذكورة
قلت ما قاله في مسألة الجذوع صحيح ومسألة الدابة الصحيح فيها أن القول قول المالك ومسألة الكنائس هم لا يدعون مصالحتنا نحن حتى يكون القول قولنا بل إن سلم لهم يد فلا يحتاجون إلى دعوى بل يكفي
____________________
(2/408)
معها الاحتمال كما قدمناه وإن لم يسلم لهم يد فلا حاجة إلى هذا ونحن يجب علينا خلاص ذمتنا من الله تعالى ومما يقع البحث فيه أن إبقاء الكنائس مختلف فيه فيحتمل هذه الكنائس الموجودة أن يكون قد حكم حاكم بإبقائها فيمتنع نقضه وإذا شككنا في ذلك فهل يجوز الاستناد إلى أن الأصل عدم الحكم أو لا لأنه أمر عدمي فيه ما تقدم في احتمال الصلح والشرط
فهذه ثلاثة أمور الصلح والشرط والحكم محتملة والأصل عدمها وعلى تقدير أن لا يكون وقع حكم فقد اختلف العلماء في أن فعل الحاكم حكم أو لا وتبقية الأئمة الماضين لهذه الكنائس وهم حكام قد يقال إنها فعل حكام فهي حكم منهم عند من يقول فعل الحاكم حكم فيمتنع تغييره
ومما يقع البحث فيه أيضا أن وجود الكنائس إنما يدل على جواز إبقائها لا على وجوبه فيكفي في الأدلة مع الأئمة الماضين أن بقاءها ليس بممنوع وأنه جائز فإذا رأى إمام ذلك وأن مصلحة المسلمين في هذا الوقت إزالتها جاز له ذلك ولا يمتنع فهل نقول بذلك أو نقول بقاؤها الموجود يثبت لهم حق الإبقاء كمن في يده شيء نجهل يجب تبقيته وعدم رفع يده عنه
هذه مباحث كلها محتملة ونحن وإن توقفنا لذلك عن الحكم بهدمها لا ننكر على من هدمها لما قلنا ولا على من يفتي أو يحكم بهدمها
وليس عندنا إلا مجرد الوقف ولعل ذلك أو نحوه كان سبب توقف الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد عن موافقة ابن الرفعة فإنه لم ينسب إليه في ذلك منع ولا إذن وكان رحمه الله شديد الورع ويحمله ورعه على توقف كثير في المواضع المحتملة في العلم ومما نقوله أيضا إن الرواية التي تقدمت عن عمر بن عبد العزيز بهدم الكنائس القديمة والجديدة إذا صحت عنه يجوز أن يعتمد في هذه الكنائس الموجودة في مصر والشام لأنهما مما كانا تحت ولايته وتفرد أمره ويشملها قوله وهو أعلم بما تقدمه من حالها إن كانت موجودة في زمانه وإن لم تكن موجودة في زمانه فتهدم قطعا والله عز وجل أعلم
ومما يقع البحث فيه أن مواضع هذه البلاد التي أحدثها المسلمون كالبصرة والكوفة حدثا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأمره وبغداد بناها أبو جعفر المنصور وثلاثتها من
____________________
(2/409)
أرض العراق وهي عنوة على الصحيح فإذا حمل وجود الكنائس التي فيها على أنها كانت قبل بنائها فذاك لا يكفي في وجوب إبقائها ولا في جوازه بل يجب أن يكون كما سيأتي في بلاد العنوة إلا أن ينظر إلى احتمال اشتراطها لهم بصلح بعد ذلك إن جوزناه فلا يحصل لنا القطع بجواز إبقائها في صورة من الصور ولا نخلص عن ذلك إلا أن يقال لم يتحقق دخول مواضع الكنائس فيما استولى المسلمون عليه بل قد يكون استيلاؤهم على ما حواليها دونها وهذا بعيد جدا
هذا ما اتفق كلامنا فيه من قسم البلاد التي أنشأها المسلمون
قال الرافعي والثاني البلاد التي لم يحدثوها ودخلت تحت يدهم فإن أسلم أهلها كالمدينة واليمن فحكمها حكم القسم الأول قلت وهذا صحيح لكن تصوير إسلام جميع أهلها عزيز والمدينة الشريفة بقي بعض أهلها حتى أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم واليمن كان فيها أهل ذمة ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا أن يأخذ من كل حالم دينارا فالعجب أن أولئك الباقين باليمن والموادعين من يهود المدينة قبل إجلائهم لم يتكلم فيه لو كان لهم كنائس هل يكون حكمها حكم العنوة لغلبة المسلمين فيها أم ماذا يكون حكمها
وأما عدم التمسك بمكة وقد أسلم أهلها يوم الفتح ولم يبق بها أحد من الكفار فلأنه حصل فيها فتح فهي من القسم الذي سيأتي قال الرافعي رحمه الله وإلا أي وإن لم يسلم أهلها فإما أن تفتح عنوة وقهرا أو مسالمة وصلحا فهما ضربان الأول ما فتح عنوة فإن لم يكن فيها كنيسة أو كانت وانهدمت أو هدمها المسلمون وقت الفتح أو بعده فلا يجوز لهم بناؤها
قلت لا نعرف في ذلك خلافا
وقوله وقت الفتح أو بعده عائد إلى الأمرين الانهدام والهدم قبل التقرير عليها فإنه لم يتعلق لهم بها حق ولم يثبت لها حكم التقرير وهذا يدل على أنه بالفتح عنوة من غير تقرير لا يثبت لها حكم الإبقاء إجماعا وإن هدم المسلمين لها جائز قبل التقرير وجوازه لأنه حقهم فإذا صدر من مجموعهم فلا شك في جوازه وإن صدر من بعضهم فهل نقول إنه كذلك أو لا لأن حق غيره تعلق بها من أهل الخمس وبقية الغانمين فيه نظر يلتفت على أن الكنيسة هل تدخل في الغنيمة والأقرب أنها لا تدخل لأن الذي يدخل
____________________
(2/410)
في الغنيمة ما كان مملوكا لهم والكنيسة غير مملوكة بل هي عندهم كالمساجد عندنا فتكون كالمباحات ويرد على هذا أن الكنيسة إن كانت وقفت قبل الفتح فهي مسجد كما قدمنا وإن كانت بعده لم يصح الوقف فتكون على ملك مالكها فتكون غنيمة
ويجاب بأن يقال إذا كانت بعده لا نسلم أنها على ملك مالكها لأنا ننظر إلى اعتقاده كما ننظر إليه في أنكحتهم وهم هذا الفعل عندهم مخرج لها عن الملك فأخرجنا عن ملكهم وإن لم يثبت لها حرمة المساجد وتصير كالأشياء التي لا تملك لا حد عليها فكذلك إذا انهدمت لا يثبت لها حق الإعادة فإذا هدمها هادم من المسلمين كذلك ومقتضى ذلك أنه لو هدمها هادم من غير المسلمين كان الحكم كذلك أيضا أما إذا قررت وانهدمت بعد ذلك أو هدمها هادم فلا تدخل في كلام الرافعي هذا لأنه سيأتي حكمها في كلامه بخلافه والله أعلم
قال الرافعي رحمه الله وهل يجوز تقريرهم على الكنيسة القائمة فيه وجهان أحدهما يجوز لأن المصلحة قد تقتضي ذلك وليس فيه إحداث ما لم يكن
قلت قال الشيخ أبو حامد إن هذا هو الأصح ووافقه صاحباه سليم والبندنيجي
وقال ابن الرفعة إنه رآه في الأم إذ قال وإذا كانوا في مصر المسلمين لهم كنيسة أم بناء طيل به بناء المسلمين لم يكن للإمام هدمها ولا هدم بنائهم وترك كلا على ما وجده وقيل يمنع من البناء الذي يطايل به بناء المسلمين قال الشافعي واجب أن يجعلوا بناءهم دون بناء المسلمين بشيء
وهذا إذا كان مصرا للمسلمين أحيوه أو فتحوه عنوة وشرطوا على أهل الذمة هذا
قال الشيخ أبو حامد وعلى هذا حملنا أمر البيع والكنائس التي في دار الإسلام
قلت وهذا الوجه ضعيف لأن هذا التقرير في حكم إحداث كنيسة في الإسلام لأنا كما قررنا جعلناها كالموات الذي ليس بمملوك فجعلها الآن كنيسة إحداث لها
وكنت أعتقد أن هذا الوجه غلط لدخولها في الغنائم ثم رجعت عن التغليط لما قدمته أنها ليست بغنيمة واقتصرت على التضعيف لما ذكرت وكلام الشيخ أبي حامد والرافعي يقتضي أن الخلاف في الجواز في أنه هل يجوز للإمام ذلك أو لا ويكون التقرير إنشاء فعل منه ولكنه تارة يكون تركا مجردا
____________________
(2/411)
فلا يمنع إقدام بعض المسلمين على هدمها وبهذا يصح إن حمل ما تقدم من قول الرافعي أو هدمها المسلمون بعد ذلك على عمومه وتارة يكون التزاما لهم بشرط يأخذونه على المسلمين في عقد ذمة أو نحوه وإن كان بعد الفتح وما حكيناه من كلام الشافعي يقتضي وجوب الإبقاء لكنه محتمل لأن يكون محله إذا كان الشرط في أول الفتح فيكون في معنى الفتح صلحا في ذلك المكان وتكون العنوة فيما سواه فلا تكون هي المسألة التي تكلم فيها الرافعي ويصح حمل الموجود في بلاد المسلمين عليها في مسألتين إحداهما إذا جهل الحال فتجب التبقية على ظاهر كلام الشافعي
والثانية إذا لم يجهل وفتح عنوة وأردنا تقريرهم بعد ذلك فلا يجب وهل يجوز وجهان كما قاله أبو حامد والرافعي وهل التقرير ترك مجرد فيجوز هدمها بعد ذلك أو شرط يجب الوفاء به فيه ما قدمته من البحث والظاهر أنه ليس بشرط إلا إن وقع في عقد كما إذا عقد لهم ذمة أو هدنة
قال الرافعي رحمه الله وأصحهما المنع لأن المسلمين قد ملكوها بالاستيلاء فيمنع جعلها كنيسة وحكى الإمام القطع بهذا الوجه عن طائفة من الأصحاب
قلت قد عرفتك أني كنت أقطع بهذا وأعتقد غلط الأول لما ذكره الرافعي هنا من التعليل بالملك بالاستيلاء حتى ظهر لي ما قدمناه من أنها لا تدخل في الغنيمة
وكنت قبل ذلك أقول قد يكون مأخذ الخلاف أن الغنيمة هل تملك بالاستيلاء أو يتوقف الملك فيها على الاختيار كما هو مقرر في بابه وافرض المسألة قبل الاختيار حتى استغنيت عن ذلك بما قدمته ومع ذلك فالأصح عندي ما صححه الرافعي وغايتها أن تكون كالموات ونحن لا نمكن من جعله كنيسة في الإسلام
ومما ذكرناه أولا وآخرا يظهر أن طريقة الخلاف هي الصحيحة وإن كان الأصح المنع وإن طريقة القطع ضعيفة ولذلك أكثر الأصحاب على خلافها
قال الرافعي والثاني ما فتح صلحا وهو على نوعين ما فتح على أن تكون رقاب الأراضي للمسلمين وهم يسكنونها بخراج فإن شرطوا إبقاء الكنائس والبيع جاز وكأنهم صالحوا على أن تكون البيع والكنائس لهم وما سواها لنا
قلت وهذا صحيح لأن الحال قد تدعوا إليه ولا يتأتى الفتح
____________________
(2/412)
إلا على ذلك فنحتاج إلى الموافقة عليه ولا أعرف لهذا النوع مثالا ولا دليلا من السنة
ويحتمل أن تكون بعض البلاد الموجودة في أيدينا مما هي صلح من أمثلته قال الرافعي رحمه الله وإن صالحوا على إحداثها أيضا جاز
ذكره الروياني في الكافر وغيره
قلت هذا عندي فيه توقف لأنه إحداث كنيسة في الإسلام فيكون الصلح عليه باطلا
وقد يقال إنه تدعو الضرورة إليه حيث لا يمكن الفتح بدونه فيجوز والأقرب عندي المنع قال الرافعي وإن أطلقوا فوجهان أحدهما أنه ينقض ما فيها من الكنائس لأن إطلاق اللفظ يقتضي ضرورة جميع لنا
والثاني أنها تكون مستثناة بقرينة الحال فإنما شرطنا تقريرهم وقد لا يتمكنون من الإقامة إلا بأن يبقى لهم مجتمع لعبادتهم والأول أشبه
قلت نعم هو الأشبه والأصح
والثاني ضعيف جدا والله أعلم
وإذا شككنا في الاشتراط فالأصل عدمه وتأتي تلك المباحث المتقدمة ولم ينقل الشيخ أبو حامد في هذا الفرع شيئا إلا عن أبي إسحاق أن ننظر إلى ما شرط لهم فيحملون عليه ولم ينقل عن غيره شيئا ولا تعرض لحالة الإطلاق
قال الرافعي والثاني ما فتح على أن يكون البلد لهم وهم يؤدون خراجا فيجوز تقريرهم على بيعهم وكنائسهم فإنها ملكهم
قلت هذا صحيح ومثاله نجران وقد ورد النص فيها كما تقدم
قال الرافعي وأما إحداث الكنائس فعن بعض الأصحاب منه لأن البلد تحت حكم الإسلام فلا يحدث فيه كنيسة والظاهر أنه لا منع منه لأنهم متصرفون في ملكهم والدار لهم ولذلك يمكنون من إظهار الخمر والخنزير والصليب فيها وإظهار ما لهم من الأعياد وضرب الناقوس والجهر بقراءة التوراة والإنجيل ولا شك أنهم يمنعون من إيواء الجواسيس وإنهاء الأخبار وما يتضرر به المسلمون في ديارهم
قلت لكن الأصحاب عدوها في باب اللقيط دار الإسلام لجريان أحكام الإسلام عليها فالظاهر المنع بخلاف ما إذا لم يجز إلا مجرد تأمين أو أداء جزية كما في نجران ودومة الجندل وقد تقدم البحث في ذلك فبقاء هذا النوع في حكم دور الكفار محتمل
وأما إذا جرت أحكام الإسلام وإن انفرد فيه الكفار فلا وجه لإحداث كنيسة فيه أصلا
____________________
(2/413)
فصل قد بقي من كلام الرافعي شيء نفرد له بابا لأنه في الترميم والإعادة وهما المقصود من هذا التصنيف باب الترميم والإعادة قال الرافعي رحمه الله وحيث قلنا لا يجوز الإحداث وجوزنا إبقاء الكنيسة فلا منع من عمارتها
قلت جزم الرافعي بذلك وليس كما قال فقد حكى الشيخ أبو حامد الخلاف فيه ونص كلامه وكل موضع أقررناهم على بيعة أو كنيسة في دار الإسلام فإن انهدمت أو انهدم شيء منها فهل لهم أن يجددوا أو يصلحوا فيه وجهان
قال الإصطخري ليس لهم ذلك لما روينا عن عمر رضي الله عنه أنه كتب في كتابه وأن لا يجددوا ما خرب منها
والوجه الآخر وهو المذهب أن لهم ذلك لأنا قد أقررناهم على التبقية ولو منعنا العمارة لمنعنا التبقية ونقلت ذلك من تعليقته التي بخط سليم صاحبه ولم يقف ابن الرفعة على ذلك وظن أن الترميم جائز بلا خلاف كما أوهمه كلام الرافعي فقال في قول التنبيه ولا يمنعون من إعادة ما استهدم منها وقيل يمنعون فجعل الضمير في قوله منها للكنائس وأن الكنيسة استهدمت كلها
والصواب أن الضمير في كلام صاحب التنبيه يعم المسلمين كما اقتضاه كلام الشيخ أبي حامد والتنبيه هو مأخوذ من تعليقة أبي الطيب يوافقه غالبا وقد يكون في الكتابين على خلاف ذلك كما دلني استقراء كلامهما
وقول الرافعي وجوزنا إبقاء الكنيسة فيه تسمح وهو من النمط الذي قدمت في أول هذا الكتاب أن بعض الفقهاء في التصانيف قد يتسمحون فيه فإن الجواز حكم شرعي والشرع لم يرد بإبقاء الكنيسة وإنما مراده عدم المنع وكذلك الشيخ في المهذب قال ما جاز تركه في دار الإسلام هل يجوز إعادته وجهان وهو أيضا محمول على ما قلناه وحسبه مقابلته للترك بالإعادة فدل على حذف مضاف تقديره هل يجوز لنا تركه يعبدونه لأنه لا شك أنه لا يجوز لنا إعادتها وكذلك قول الشيخ أبي حامد أن لهم ذلك فإن لهم يقتضي أنه مملوك أو مستحق أو مباح وليست واحد من ذلك ثابتا لهم وإنما معناه تركنا لهم وسكوتنا عنهم وكذا قول المنهاج فيما
____________________
(2/414)
فتح على أن يكون لهم ولهم الإحداث في الأصح ومراده عدم المنع وكذا عبارة ابن الصباغ وأما عبارة المحرر فسالمة عن ذلك وقول أبي حامد أنه المذهب هو المشهور وكذلك هو المشهور عند الحنفية والحنابلة
وقال بعض المالكية والوجه الآخر
وقول الإصطخري ورواية عن أحمد وهو المشهور عند المالكية أنهم يمنعون
قال ابن الماجشون ويمنعون من رم كنائسهم القديمة إذا رمت إلا أن يكون شرطا في عهدهم فيوفى لهم
وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى لما قدمت من أنه معصية فلا يحل لنا أن نمكنهم منه من غير شرط ولأن شرط عمر يمنع منه ولأنه إذا كان بأعيان جديدة في معنى إنشاء كنيسة جديدة ونحن لم نلتزم لهم إلا عدم الهدم ولا يلزم منه تمكينهم من الترميم وتلك الآلات الجديدة التي يرم بها كيف تخرج عن ملك صاحبها وجعله إياها كنيسة أو جزء كنيسة لا يصح ولعل مراد من أطلق الترميم أن يرم بتلك الآلات القديمة التي التزم لهم عدم هدمها فيعيدون تأليفها على ما كان فهذا قريب يمكن الموافقة على الجواز فيه أما الترميم الذي فيه إنشاء آلات أخرى فبعيد من الجواز وليس في الشرع دليل عليه ولو شرط فقد اقتضى كلام ابن الماجشون من المالكية الجواز وعندي فيه نظر يحتمل أن يقال به لعدم الهدم ويحتمل أن يمنع كما لا يصح اشتراط إحداث كنيسة والله أعلم
قال الرافعي رحمه الله وهل يجب إخفاء العمارة فيه وجهان أحدهما نعم لأن إظهارها مرتبة قريبة من الأحداث وأصحهما أنه لا بأس بإظهارها كما أنه لا بأس بإبقاء الكنيسة فعلى هذا يجوز تطيينها من داخل وخارج ويجوز إعادة الجدار الساقط وعلى الأول يمنعون من التطيين من خارج
وإذا أشرف الجدار فلا وجه إلا أن سوى جدارا داخل الكنيسة وقد تمس الحاجة إلى جدار ثالث ورابع فينتهي الأمر إلى أن لا يبقى من الكنيسة شيء ويمكن أن يكتفي من يقول بوجوب الإخفاء بإسبال ستر تقع العمارة من ورائه أو بإيقاعها في الليل
قلت هذا تفريع مستقيم
ورأيت في تعليق الشيخ أبي حامد بعد أن حكي عن الإصطخري المنع من التجديد والإصلاح قال أبو سعيد إن تشعب السور فبنوا داخل السور حائطا حتى
____________________
(2/415)
إذا أسقط الأول بقي الثاني لم يمنعوا منه وهذا من الإصطخري مع منعه الإعادة والترميم عجيب
قال الرافعي وإذا انهدمت الكنيسة المبقاة فهل لهم إعادتها فيه وجهان أحدهما لا وبه قال الإصطخري وابن أبي هبيرة لأن الإعادة ابتداء كنيسة
قلت وهو المشهور عن أحمد ومقتضى مذهب مالك والصحيح عندي لأنا لم نلتزم لهم ولا في شيء من الأدلة ولا كلام الصحابة والتابعين ولا شروطهم ما يقتضيها اللهم إلا أن يكون بتلك الأعيان المنهدمة بعينها فيعاد تأليفها فنتركهم وذاك قال الرافعي وأصحهما نعم ويروى عن أبي حنيفة وأحمد رحمهما الله لأن الكنيسة مبقاة لهم فلهم التصرف في مكانها
قلت من أين إذا كانت مبقاة لهم ينتفعون بها انتفاعا خاصا مدة بقائها أن يكون لهم التصرف في مكانها ولو سلم أن لهم التصرف في مكانها من أين أنهم يعملونه وأي فرق بين هذا وبين إحداثهم كنيسة وكأن الرافعي يجعل الكنيسة هي الأرض فقط وأما البناء فلا منع منه وهذا ليس بصحيح بل الكل ممنوع منه وليت لو أمكن حمل كلام الرافعي وغيره في الإعادة على أن مرادهم أن تعاد بآلتها القديمة وحينئذ كان يسهل التجويز كما قدمناه في نظيره من الترميم بل هنا قرينة تقتضي الحمل على ذلك وهي لفظ الإعادة فالمعاد هو الأول لا غيره أما إعادة الكنيسة بأعيان أخرى فبعيد جدا
فإن أمكن حمل كلامهم في الإعادة على ما ذكرناه احتملناه وإلا فلا وأدلة الشريعة دلت على عدم الهدم فنقتصر عليه ولا نزيد ونقول هو الإبقاء ثم الإبقاء مستلزم بقاء نوعه ثم إعادة مثله
هذا كله لا دليل من الشرع عليه فوجب بطلانه قال الرافعي وإذا جوزنا لهم إعادتها فهل لهم توسيع حيطانها وجهان أحدهما نعم كما لو أعادوها على هيئة أخرى
قلت هذا يستغاث إلى الله منه وعندي أنه غلط محض قال وأصحهما المنع لأن الزيادة كنيسة جديدة متصلة بالأولى
قلت هذا حق ويجب القطع به ولم يذكر ابن الصباغ مسألة الترميم وذكر مسألة الإعادة وحكى الوجهين فيها من غير تصحيح
وعن الماوردي أن الأولى من إطلاق الوجهين في إصلاح ما استهدم من الكنائس
____________________
(2/416)
أن ينظر فإن صارت دراسة مستطرقة كالموات لم يجز لأنه استئناف إنشاء وإن كانت شعبة باقية الآثار والجدار جاز لهم بناؤها ومنعه في المندرسة نحن نوافقه عليه والتمكين في تلك الحالة من الإعادة قبيح جدا وما ذكره الماوردي في الشعبة لا نوافقه عليه بل نقول بالمنع أيضا
وقوله جاز ينبغي تأويله كما تقدم وابن الرفعة في المطلب لم يصنع كما صنع في الكفاية ومال إلى ما يقتضي إثبات خلاف في الترميم من غير وقوف على النقل فيه وبالجملة المشهور من مذهبنا التمكين من الترميم والحق عندي خلافه وهو المشهور من مذهب مالك وأحمد
وقال القرافي المالكي يمنعون من رمها خلافا للشافعي والمدرك أنها من المنكرات والعين التي تناولها العقد قد انهدمت والعود لم يتناوله العقد وهو منكر تجب إزالته
وقال أبو يعلى الحنبلي في كتاب الجامع إذا انهدم منها شيء أو تشعب فأرادوا إعادته وتجديده فليس لهم في إحدى الروايات والثانية لهم أما البناء عن خراب فلا وهو اختيار الخلال
والثالثة لهم مطلقا وروى الخلال عن أحمد ليس أن يحدثوا إلا ما صولحوا عليه إذا ظهر أن الترميم ممتنع على الأصح من هذين المذهبين فامتناع الإعادة أولى أما الحنفية فالمشهور عندهم أن الكنائس إنما يمتنع إحداثها في الأمصار دون القرى وهو مذهب ضعيف لا دليل عليه وأن المبقاة إذا انهدمت تعاد
وإذا جوزوا الإعادة فالترميم أولى
وفي شرح القدوري للكرخي عن ابن سماعة عن أبي يوسف في نوادره في البيع والكنائس التي في الأمصار بخراسان والشام قال ما أحاط علمي به أنه محدث هدمته وإن لم أعلم أنه محدث تركته حتى تقوم بينة أنها محدثة لأن القديم لا يجوز هدمه والمحدث يجوز هدمه فما لم يعلم بسبب الهدم فالظاهر أنه بني بحق فلا نعرض له قال الحنفية فإن بنوا في بعض الرساتيق والقرى ثم اتخذ المسلمون ذلك مصرا منعوا أن يحدثوا بعد ما صار مصرا وإذا كان هذا كلامهم في الإحداث والإبقاء فالترميم أسهل ولكن الحق المنع من الترميم والله أعلم انتهى
مسألة ورد كتاب من نائب صفد على نائب الشام مضمونه أن مدينة عكاء من الساحل بعمل صفد بها ميناء يرد إليها التجار الفرنج من البحر يبيعون
____________________
(2/417)
ما يصل معهم ويبتضعون غيره ويعودون إلى بلادهم ولم يكن لهم عادة بإظهار أعيادهم بعكاء ولا ما يفعلونه ببلادهم وأنه لما كان من أيام اجتمع الفرنج وجهزوا من قطع لهم عروق زيتون وحملوها على أكتاف عتالين نفرين صبيان فرنج والطبول والزمور وأن الصبيان المذكورين أعلنوا بالدعاء لمولانا السلطان الملك الصالح بالميناء ثم إنهم دخلوا إلى خراب عكاء جميعهم وقدامهم مقدم الولاية والميناء وجماعة من المسلمين بسيوف مشهورة وأنهم لما وصلوا إلى الكنيسة استغاث الصبيان الراكبين بالمسيح بالدين الصليب وبيد أحد الصبيان رمح به راية وحال الوقت جهز المملوك من أحضر الفرنج المذكورين ومتولي عكاء والقاضي بها ومقدم الميناء والولاية والعتالين فلما حضروا سأل المملوك العتالين عن ذلك فذكروا أنه جرى وأن مقدم الولاية أمرهم بشيل الزيتونة مع الفرنج المذكورين وأن الفرنج ذكروا أنهم شاوروا الوالي على ذلك وأن المتولي جهزهم إلى عند القاضي وأن القاضي أمرهم بأنه إذا كان المتولي أمرهم بعمل ذلك يعملونه وعمل محضر بصورة الحال وما اعتمده المذكورون جميعهم وأراد أن يعمل في المذكورين الواجب فخشي من شكواهم ويطلبهم الوالي وأن يقولوا إن المملوك عمل منهم شيئا بغير موجب وأن المملوك طلب من يستفتيه في عمله ولم يجد في صفد مفت يفتيه وأن الحاكم بصفد ذكر أن مذهبه ثلاثة أقوال في ذلك وحصل في هذا الأمر حديث كثير بين الفقهاء بصفد وقد اختار المملوك أن يحرر ما يجب على المذكورين جميعهم ليعتمد في أمرهم ما يقتضيه حكم الشرع الشريف حتى لا يبقى للفرنج كلام ولا تظلم وقد كتبت فتيا بصورة الحال وجهزها المملوك عطف مطالعه إلى بين يدي ملك الأمراء ليقع نظره عليها
أجاب الشيخ الإمام رحمه الله بما نصه هؤلاء الذين دخلوا إلى دار الإسلام في التجارة بأمان ليس حكمهم حكم أهل الذمة بل حكم المستأمنين والمعاهدين عن أهل الذمة وعقد الأمان أضعف من عقد الذمة ينتقض بما لا ينتقض به عقد الذمة وهذه الحال التي صدرت من هؤلاء المستأمنين من المجاهرة بالأمور المذكورة وندائهم بالدين الصليب
____________________
(2/418)
ومجموع ما ذكر من هؤلاء الهيئة ينتقض به أمانهم ويصيرون كمن لا أمان لهم
والذي قاله الفقهاء في أهل الذمة إذا انتقض عهدهم إن الإمام يتخير فيهم بين القتل والمن والاسترقاق والمفاداة ولا يبلغه المأمن عن الصحيح وقالوا في المستأمن يبلغه المأمن
ويحتمل أن يكون قولهم محمولا على ما فصل في أهل الذمة والمختار عندي أنهم في هذا الحكم مثلهم فيتخير الإمام فيهم أيضا كما يتخير في أهل الذمة إذا انتقض عهدهم بين الأربعة المذكورة القتل والاسترقاق والمن والفداء وليس تخيره لذلك على سبيل التشهي بل على سبيل ما يظهر من مصلحة المسلمين
والأمر في ذلك للسلطان نفسه لا لنائبه فإن القتل في ذلك عظيم فليس للنائب أن يستقل به حتى يشاور مولانا السلطان وكذلك بقية الأربعة ولكن التقدير لا بد منه على كل حال ويستقل به نائب السلطان من غير مشاورة وهو متعين والتقدير في مثلهم بحسب رأي نائب السلطنة وأن ذلك يختلف باختلاف ما يظهر له من أحوالهم
وأما بعد الفعل فإنه اجترأ على المسلمين والسكوت عليه وصمة فيهم ويثاب ولي الأمر على إنكاره ولا يقول أحد أنهم يقرون على ذلك بلا تقدير
والذي أمرهم بذلك وأذن لهم فيه إن كان واليا يعزل ويؤدب بضرب لا يبلغ أدنى الحدود وإن كان قاضيا يعزل والحمالون يؤدبون تأديبا لطيفا وكذا من كان معهم من المسلمين ولم ينكروا عليهم والله سبحانه أعلم
كتبه علي السبكي الشافعي والرأي عندي في القضية المذكورة أن مع التعزير أو دونه نمسك هؤلاء الفرنج هنا عندنا حتى يطلقوا لنا أسرى المسلمين الذين في بلادهم
فإذا كان هؤلاء ممن لهم وجاهة في بلادهم والتوصل إليه بجاه أو مال فيتعين على نائب السلطنة أن يمسكهم حتى يتحيلوا في ذلك ويأتوا بأسرى المسلمين ويكون ذلك من جملة الخصال الأربعة التي قدمناها وهي المفاداة ويستقل نائب السلطنة بذلك أعني بحبس هؤلاء حتى يتحيلوا فيه من غير مشاورة إذا لم يكن فيه مفسدة فهذه الخصلة في هذا الوقت خير من قتلهم ومن المن عليهم ومن الاسترقاق والله أعلم
هذا الذي كتبه في الفتيا من غير زيادة وأزيد على ذلك لإفادة فقيه من غير كتابة فأقول وليعلم أن مجرد
____________________
(2/419)
دخولهم للتجارة لا يقتضي الأمان حتى يعقد الإمام أو نائبه أو أحد من المسلمين لهم أمانا بلفظ صريح أو كناية أو إشارة مفهمة وحكم الإشارة حكم الكناية سواء أكانت من قادر على النطق أم عاجز من جهتنا وبلفظ أو فعل من جهتهم فلا يثبت الأمان إلا بذلك أو بأن يكونوا رسلا أو بأن القصد سماع كلام الله فإن لم يكونوا على هذه الأحوال الثلاث فلا أمان لهم
وليس من مقتضيات الأمان مجرد قصدهم التجارة لمن دخل للتجارة بلا إذن فليس يأمن
وقد صرح الفقهاء بأنه إذا دخل حربي إلى بلاد الإسلام وقال دخلت لتجارة وكنت أظن أن قصد التجارة كقصد السفارة والرسالة أنه لا يبالى بظنه ويجوز اغتياله لأنه ظن لا مستند فهؤلاء التجار إن لم يكونوا قد أذن لهم بما يقتضي مأمنهم فليسوا بمستأمنين بل حكم أهل الحرب جار عليهم نغتال أنفسهم ونغنم أموالهم فشرط أمانهم أن يقول الوالي كل من دخل للتجارة فهو آمن أو يقول واحد من المسلمين لشخص خاص فيحصل الأمان لذلك الشخص
ولا يثبت الأمان على العموم بقول واحد من آحاد المسلمين وإنما يثبت على العموم بقول الإمام أو نائبه وعلى الخصوص يثبت لآحاد المسلمين
وإذا وجدت كتابة من غير بينة لم يوجد الأمان لكن لا يغتال بل يلحق بالمأمن وكذلك إذا وجد مأمنين ولكن لم يفهم الكافر ذلك لا يحصل الأمان ويجوز اغتيالهم حتى للذي آمنه لأنه لم ينعقد الأمان لعدم فهم الكافر ذلك ولو أذن لهم في الدخول للتجارة من غير شيء يدل على التأمين فهل يثبت لهم حكم الأمان أو لا لأنه لم يحصل ما يدل على الأمان من صريح ولا كناية ولا إشارة لم أر فيه نقلا وهذه هي صورة مسألة هؤلاء الفرنج
والظاهر أنه لا أمان لهم لمجرد ذلك فليسوا بمستأمنين ولا معاهدين لا قبل فعلهم هذا ولا بعده فكيف نعتمد فعلهم هذا الشيء
وهذا إنما قلناه استيرادا لحكم هذه المسألة ومبالغة ولا يحتاج إليه لأنا قاطعون بأنهم بعد هذا الفعل لا أمان لهم ولكنا أحببنا أن ننبه على هذه المسألة لخاصة وكذلك الذين يدخلون لزيارة قمامة وإن أذن لهم في ذلك من غير تأمين حكمهم هكذا أنهم لا أمان لهم لكن
____________________
(2/420)
لا يغتالون وفائدة كونه لا أمان أنه إذا قتل واحد منهم لم يضمن وأن لا يجوز الإقدام على قتله بل يبلغ المأمن وإنما نبلغه المأمن لأنه لا تفريط منه لدخوله بالإذن بخلاف من فعل هذا الفعل السيئ فإنه هو الذي نقض أمانه بفعله يجب علينا تبليغه مأمنه والمصرح به في كلام الفقهاء التأمين بسبب التجارة فهذا إذا شك فيه إذا صدر من الإمام أو نائبه عاما أو خاصا أو صدر من واحد من آحاد المسلمين من الرعية خاصا إما لشخص خاص وإما لعدد مبينين من التجار وفيما إذا قاله واحد من الرعية وقال الكافر ظننت صحته في جواز اغتياله وجهان أصحهما أنه لا يغتال ولو كان على المسلمين ضرر في الأمان كان الأمان باطلا ولا يثبت به حق التبليغ إلى المأمن بل يجوز الاغتيال في هذه الحال وإن قصد التأمين لأنه تأمين باطل بخلاف التأمين الفاسد حيث ثبت له حكم التأمين الصحيح كأمان الصبي والتأمين الباطل مثل تأمين الجاسوس ونحوه ولا يثبت الأمان للمال حتى يصرح به على الأصح والذي أختاره أنه إذا أمنه للدخول ثبت حكم الأمان لذلك المال الذي يدخل معه للتجارة لأنها هي المقصودة
وإذا انتقض الأمان بجناية منه انتقض في نفسه وماله وصار ماله الذي معه فيئا للمسلمين بخلاف ما إذا التحق ببلاده وترك ماله عندنا حيث لا يبطل الأمان في ماله على الأصح بل يجب إيصاله إلى ورثته لأن الأمان انتهى نهايته بغير جناية علينا فاقتصر على نفسه دون ماله
وهنا الجناية صادرة منه فسرى أثرها إلى المال والله أعلم
كتبه علي السبكي في ليلة الخامس والعشرين من صفر سنة أربع وخمسين وسبعمائة
باب المسابقة والمناصلة مسألة السبق في الخيل والرمي إذا كان منهما لم يحل إلا بمحلل هذا المعروف في المذاهب الأربعة وغيرهم وتبع ابن تيمية فقال يحل بلا محلل واستند إلى تضعيف حديث سفيان بن حسين بعد تصحيحه له
ونحن نقول حديث سفيان بن حسين جيد ولو لم يثبت لا يضر لأن التحريم مستند إلى أنه قمار فإن نوزع في أنه قمار فنحن نقول إن الأصل في الأموال التحريم لقوله صلى الله عليه
____________________
(2/421)
وسلم إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم فمن ادعى تحليل شيء منها فهو المطالب بالدليل
وهذا عمدة جيدة في هذا البحث وما أشبهه في كل من ادعى حل مال وما خرج من هذا الحديث بدليل فهو مخصوص ويبقى فيما عداه على مقتضى العموم لا ينفع في دفع هذا قوله تعالى وأحل الله البيع لأن هذا ليس ببيع ولا تقرير أن الأصل في المعاوضات الإباحة بل هذا أصل في تحريم كل مال حتى يتحقق سبب يدل الشرع على إباحته أو إباحة الاعتياض فيه ومهما شككنا فالمطلوب بالدليل مدعي الإباحة لا مدعي التحريم والله أعلم
كتاب الأيمان مسألة وردت من القدس أرسلها الحافظ صلاح الدين العلائي صورتها المسئول من سيدنا قاضي القضاة شيخ الإسلام الجواب عن مسألة وقعت في الديار المصرية وهي أنه إذا حلف لا يقرأ القرآن هل يحنث بقراءة البعض أو يتوقف الحنث على قراءة الجميع ولو حلف ليقرأن القرآن هل يبرأ بقراءة بعضه أو لا يبرأ إلا بقراءة كله وربما يختلج في الذهن أنه في جانب النفي يحنث بالبعض وفي جانب الإثبات لا يبرأ إلا بقراءة الجميع فهل هذا صحيح أم لا وإن كان كذلك فما الفرق وهل لفظ القرآن من الألفاظ المتواطئة التي تطلق على القليل والكثير فينبغي أن يطرد ذلك في جانب النفي والإثبات أو لا يطلق إلا على الجميع وتكون الألف واللام للعهد فلا يفترق الحال في النفي والإثبات
ويكون ذلك من صدقات مولانا قاضي القضاة أحسن الله إليه وأدام أنعمه عليه
الجواب الحمد لله إذا حلف لا يقرأ القرآن لا يحنث إلا بقراءة الجميع
وإذا حلف ليقرأن القرآن لا يبرأ إلا بقراءة الجميع
ولا يحنث بقراءة بعضه في المسألة الأولى ولا يبرأ بقراءة بعضه في الثانية
وما ذكر أنه يختلج في الذهن من الحنث ببعضه في جانب النفي وعدم البر ببعضه في الإثبات لا مستند له وليس بصحيح فإن المدلول في الإثبات والنفي لا يختلف في هذا المقام ولا فرق بين المقامين في كل منهما الحكم متعلق بكل القرآن لا ببعضه والحكم في
____________________
(2/422)
الأولى الحنث وفي الثانية البر
ولفظ القرآن من الألفاظ المتواطئة تطلق على كل القرآن وعلى بعضه عند التجرد من الألف واللام وعند الاقتران بها إذا أريد بها مطلق الماهية ويطلق على ما يراد به إذا اقترن بالألف واللام وأريد بها معهودا إما كله وإما بعضه فإن اقترن بالألف واللام ولم يكن معهودا ولا أريد مطلق الماهية كانت الألف واللام للعموم فيحمل على جميع القرآن لأنه جميع ما تصلح له اللفظة لأن لفظ القرآن لم يطلق على غير الكتاب العزيز بالحقيقة وليس هذا كالحلف على أنه لا يشرب الماء والعسل وغير ذلك من الألفاظ المتواطئة حيث يحمل على القليل والكثير ويحنث بالبعض لأن تلك الحقائق أفرادها كثيرة لا تتناهى فلا يمكن الحمل فيها على العموم بخلاف لفظ القرآن فإن أفراده سور القرآن وآياته والحمل فيها على العموم ممكن فوجب المصير إليه عند عدم العهد لما قدمنا أنه لم يطلق على غير الكتاب العزيز
وما أفهمه كلام السائل من أنه إذا كان من الألفاظ المتواطئة ينبغي أن يطرد في جانب النفي والإثبات وهو كذلك وكما قدمناه وما أفهمه من كونه إذا كان لا يطلق إلا على الجميع تكون الألف واللام للعهد ليس بينهما تلازم بل قد تكون الألف واللام للعهد وهو مطلق على القليل والكثير ولا يفترق الحال بين النفي والإثبات
وينبغي أن يعلم أن قولنا القرآن اسم للكل والبعض مرادنا بالألف واللام مطلق الماهية فإن أراد السائل لفظ القرآن المقترن بالألف واللام عند الإطلاق فجوابه أنه الكل لا البعض لا من حيث كونه اسما للكل بل بقرينتين إحداهما دخول الألف واللام والثانية عن العهد وعن إرادة الماهية فإن أطلق مطلق أن القرآن بالألف واللام اسم للكل كان مصيبا في المعنى مخطئا في العبارة لأنا لا نسمي مثل ذلك اسما فإن الاسم ما كان موضوعا للمعنى وقرآن المنكر موضوع للماهية الصالحة لكله ولبعضه والمعرف لم يوضع وحده إنما هو مركب من كلمتين المنكر الكلي والأداة المعممة عند عدم العهد
هذا جواب السائل نفع الله به
وأما قوله إنها وقعت في الديار المصرية فعجيب لأن هذه المسألة من المشهورات
وقال
____________________
(2/423)
الإمام في المحصول فيها سؤال أورده على نفسه أن القرآن مشترك بين جميعه وبعضه بدليل أن الحالف لا يقرأ القرآن يحنث بقراءة بعضه وهذا إن أراد ما إذا نوى مطلق الماهية فصحيح
وإن أراد حيث لا نية فليس بصحيح لأن الذي يدل عليه نص الشافعي والأصحاب أنه لا يحنث إلا بقراءة جميعه كما قدمناه وإنما قلنا ذلك لأن الشافعي نص في الأم في الجزء السابع في باب جامع التدبير
ولو قال رجل لعبد له متى مت وأنت بمكة فأنت حر ومتى مت وقد قرأت القرآن فأنت حر
فمات السيد والعبد بمكة وقد قرأ القرآن كله كان حرا
وإن مات وليس العبد بمكة أو مات ولم يقرأ القرآن لم يعتق
ولو قال له متى مت وقد قرأت قرآنا فأنت حر
فإذا قرأ من القرآن شيئا فقد قرأ قرآنا فهو حر
فهذا نص من الشافعي رضي الله عنه في الفرق بين القرآن المعرف والمنكر وأن المنكر يطلق على الكل وعلى البعض ويترتب الحكم على بعضه كما يترتب على كله والمعرف بخلافه ومنه يؤخذ الحكم في المسألتين ونص الأصحاب على ذلك أيضا في باب التدبير فقال أبو حامد الإسفراييني في تعليقه فرع إذا قال لعبده إن قرأت القرآن فأنت حر لم يعتق حتى يقرأ جميع القرآن وهذا لأنه أدخل الألف واللام وهما يدخلان للعهد أو الجنس وليس هاهنا عهد فكانا للجنس فاقتضى أن لا يقع العتق حتى يقرأ جميع ذلك
ولو قال إذا قرأت قرآنا فأنت حر فقرأ ما يقع عليه اسم القرآن عتق لأنه لم يعتبر أكثر من قراءة قرآن وقد وجد ذلك بقراءة ما يقع عليه الاسم
قلت قول الشيخ أبي حامد الجنس مراده به العموم وهو اصطلاح النحاة في إطلاق الجنس
وأما الأصوليون فيريدون بالجنس الماهية
وقال المحاملي في التجريد وإذا قال لعبده إذا قرأت القرآن فأنت حر فقد علق حريته بقراءة جميع القرآن وإن قرأ بعضه لم يعتق وإن قرأ جميعه عتق لأنه ذكر القرآن بالألف واللام فاقتضى ذلك جنس القرآن فإذا قرأ بعض الجنس لم يعتق
وإن قال إذا قرأت قرآنا فأنت حر فإنه إن قرأ بعض القرآن عتق لأن قوله قرآنا يقتضي قرآنا منكرا فأي شيء قرأ حنث
وحكى الجوزي
____________________
(2/424)
رحمه الله نص الشافعي ولم يزد
وقال ابن الصباغ في الشامل فرع إذا قال لعبده إذا قرأت القرآن ومت فأنت حر فإن قرأ جميع القرآن قبل موت سيده عتق لموته وإن قرأ بعضه لم يعتق لموت سيده
وإن قال له إذا قرأت قرآنا ومت فأنت حر فقرأ بعض القرآن ومات عتق والفرق بينهما أن الأول عاد الشرط إلى جميعه لأنه عرفه والثاني كان منكرا فاقتضى بعضه قال فإن قيل فقد قال الله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ولم يرد جميعه وإنما أراد أي شيء قرأ منه
قلنا ظاهر اللفظ يقتضي جميعه وإن حملناه على بعضه بدليل
وقال الرافعي وعن نص الأم أنه لو قال إذا قرأت القرآن بعد موتي فأنت حر لا يعتق إلا بقراءة جميع القرآن
ولو قال إذا قرأت قرآنا يعتق بقراءة بعض القرآن والفرق التعريف والتنكير
هذا ما حضرني الآن من كلام الشافعي والأصحاب ولا أعرف شيئا يخالفه إلا ما قاله فخر الدين في المحصول وقد قدمت ما يمكن حمل كلامه عليه حتى لا يخالف كلام الفقهاء على أن الإمام فخر الدين إنما قال ذلك من كلام غيره في سؤال تقرر فيه أن القرآن يقال بالاشتراك على كل القرآن وعلى بعضه ثم أجاب بأن القرآن اسم لمجموعه بدليل إجماع الأمة أن الله تعالى لم ينزل إلا قرآنا واحدا ولأنه يقال في كل سورة أو آية إنها بعض القرآن وقول الإمام هذا إن القرآن اسم لمجموعه فيه من المناقشة ما قدمناه ومراده أن المراد به المجموع بقرينة أداة العموم وأما قوله بدليل الإجماع أن الله لم ينزل إلا قرآنا واحدا فهذا إنما يرد على من يقول إن القرآن حقيقة في كل بعض منه بالوضع الأول حتى أنه يكون مقولا على كل جزء منه بالاشتراك اللفظي وهذا ما أظن أحدا قال به وإنما يقول بأنه متواطئ صادق على الكل والبعض كما قلناه فلا ينافيه قوله إن الله لم ينزل إلا قرآنا واحدا والأسماء المتواطئة كلها كذلك
واستدلاله بأن كل سورة أو آية بعض القرآن هذا إنما جاء من كون القرآن معرفا وأن العموم فيه اقتضى الإحاطة والتشخيص ومثل هذا يحسن دخول بعض فيه بخلاف الماء والعسل ونحوهما لا يحسن أن
____________________
(2/425)
نقول فيه بعض الماء ولا بعض العسل لأن المراد فيه الحقيقة والحقيقة لا يقال فيها كل ولا بعض
فإذا تأملت كلام الإمام في المحصول سؤالا وجوابا وجدته غير محرر أما السؤال فلقوله إن القرآن مشترك بين الكل والبعض وأما الجواب فلقوله إنه اسم للمجموع والحق خلافهما وأنه بالتنكير للقدر المشترك بين الكل والبعض وبالتعريف للشمول فيقتضي الكل دون البعض ولولا نص الشافعي على أن عند التنكير يحمل على البعض لكان للنظر فيه مجال من جهة احتماله أن يكون اسما للكتاب العزيز بجملته ويكون مشتقا من قرن لا سيما عند من لا يهمزه وهي قراءة الشافعي ويكون وزنه فعالا وإنما قيدت بقولي يكون مشتقا من قرن لأنا إذا جعلناه مشتقا من قرأ ووزنه فعالا وجعلناه علما وجب امتناع صرفه وقد يطلق القرآن به مصروفا فقال تعالى قرآنا عربيا فتعين أحد أمرين إما أن لا يكون علما وإما أن لا يكون وزنه فعلانا لأن العلمية مع زيادة الألف والنون يمنعان الصرف وإذا انتفت العلمية وزيادة الألف والنون احتمل بعد ذلك العلمية مع عدم الزيادة
وعلى هذا التقدير الحنث بالبعض غير متجه وإن تجرد من الألف واللام لأنه إنما يكون علما للمجموع لا لكل جزء منه شائع فالموضوع له نكرة لا علم فنص الشافعي على الحنث بالبعض عند التنكير انتفى هذا القسم وبقي قسمان أحدهما أنه مصدر وهو صادق على الكل والبعض وهذا قول من يهمزه وكذا من لا يهمزه ولكن يجعل ترك الهمزة تخفيفا
والثاني أنه اسم غير مصدر وهو الذي يراه الشافعي
قال الأزهري أخبرني محمد بن يعقوب بن الأهيم عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أن الشافعي أخبره أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وكان يقول القرآن اسم وليس بمهموز ولم يؤخذ من قرأت ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل قال ويهمز قرأت ولا يهمز القرآن
قال الواحدي وقول الشافعي أنه اسم لكتاب الله يشبه أنه ذهب إلى أنه ليس بمشتق وقد قال بهذا جماعة أنه اسم لكلام يجري مجرى الأعلام في أسماء غيره كما قيل في اسم الله أنه غير مشتق من معنى يجري مجرى اللقب في صفة غيره
انتهى كلام الواحدي
فقوله
____________________
(2/426)
يجري مجرى الأعلام ينبغي أن يحمل على ما إذا كان معرفا بالألف واللام ويكون مما سمي بما فيه الألف واللام أما إذا نكر فلا يجري مجرى العلم في كونه مشتقا فقط مع شيوعه فيما وضع الله له والله أعلم انتهى
مسألة قال رحمه الله قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني إذا قال والله لا كلمت كل واحد من هذين الرجلين فكلم أحدهما حنث وكانت اليمين باقية في حق الآخر واحتج بذلك على أنه إذا قال لأربع نسوة والله لا وطئت كل واحدة منكن فوطئ واحدة حنث فيها ويجب عليه الكفارة ويكون موليا في الباقيات
وسبقه إلى ذلك أبو علي الطبري في بقاء الإيلاء وتلاه إمام الحرمين إذا قصد هذا المعنى ووافق أبو إسحاق وابن أبي هبيرة وسائر الأصحاب الشيخ أبا حامد على الحنث بوطء واحدة وخالفوه في بقاء الإيلاء وقالوا إذا وقع الحنث يسقط الإيلاء في الباقيات فهم متفقون على الحنث بالواحدة
ومنع ابن الصباغ الشيخ أبا حامد فيما احتج في لا أكلم كل واحد من هذين الرجلين فقال وهذا غير مسلم له بل انحلت اليمين وعدم الحنث بالآخر واتفاقهم على الحنث بأحدهما قد يقال إنه مخالف لما قررناه في مسألة كل من أنه إذا تقدم السلب على كل كان سلبا للعموم لا عموما للسلب واتفاق جمهورهم على انحلال اليمين وعدم الحنث بالآخر قد يقال عليه إنه إما أن تكون هذه يمينا واحدة أو يمينين فإن كانت يمينين وجب أن لا تنحل وإن كانت يمينا واحدة وجب أن لا يحنث إلا بالمجموع ولا قائل به من الأصحاب ولأجل ذلك بنى ابن الرفعة على ما في ذهنه من أنها يمينان وأنها مساوية لقوله لا كلمت زيدا ولا عمرا أنه إذا كلم أحدهما تنحل اليمين على أحد الوجهين وهذا لم يقل به أحد من الأصحاب في باب الأيمان ولكنه هو نقله من كلامهم في الإيلاء إلى الأيمان لتوهمه أنها مسألة واحدة ولو كانت مسألة واحدة لتناقض كلامهم في الإيلاء والأيمان فهذه ثلاثة إشكالات أحدها في الجمع بين القاعدة في تقدم النفي على كل وتأخره عنها وما اتفق عليه الفقهاء في الحنث بأحدهما في الأيمان في لا أكلم كلا منهما ولا أطأ كلا منهما فإما أن يصح كلام الفقهاء وتبطل تلك
____________________
(2/427)
القاعدة لأنها إنما قاله البيانيون والمنطقيون فقد يكون الفقهاء لا يوافقون عليها وإما أن تصح تلك القاعدة ويبطل كلام الفقهاء ولا سبيل إليه إن كانت المسألة إجماعية ومأخوذة عمن يرجع إليه في علم اللسان وإما أن يجمع بينهما
الإشكال الثاني في قول الأصحاب في باب الأيمان تتعدد الكفارة وقول جمهورهم في باب الإيلاء بعدم التعدد سواء ثبتت تلك القاعدة أم لم تثبت لأنها إن كانت مسألة واحدة وجب اتحاد الحكم وإلا فما الفرق الإشكال الثالث في الاتفاق على الحنث بأحدهما والاختلاف في بقاء الإيلاء فإنها إن كانت يمينا واحدة وجب عدم الحنث بأحدهما وإن كانت يمينين وجب بقاء الإيلاء
والجواب أما الإشكال الأول فالقاعدة وإن لم يذكرها إلا البيانيون والمنطقيون فهي صحيحة لدلالة الوضع والعقل والعرف عليها فمدلول قولنا كل واحد منهما لا أكلمه غير مدلول قولنا لا أكلم كل واحد منهما
فإن قلت تستحيل المغايرة بينهما لأن الضمير في لا أكلمه عائد على كل في القضية الأولى وكل القضية الثاني هو المفعول فالمفعول متحد وإنما اختلف بالإضمار والظهور وإذا كان المفعول الذي اقتضاه الفعل المحلوف متحدا في القضيتين وجب اتحاد الحكمين وعدم تغاير المدلولين
قلت ضمير المفعول في لا أكلمه عائد على كل واحد وكل إذا أضيفت إلى نكرة يتعين اعتبار المعنى فيما هو لها من ضمير وغيره والمراد بالمعنى أن يكون على حسب المضاف إن كان مفردا فمفرد وإن كان مثنى فمثنى وإن كان جمعا فجمع وإن كان مؤنثا فمؤنث هذا من جهة اللفظ وكذلك من جهة المعنى ويراد به المضاف إليه لا المضاف
ويظهر هذا في التثنية كل رجل من بني تميم لا أكلمهما فمدلول كل استغراق أفراد المثنى من تلك القبيلة وهو أمر كلي يفيد التتبع في أفراده والنظر إليه من كليته شيء والنظر إليه من حيث تتبعه في مواضعه شيء آخر وهما اعتباران مختلفان فإن اعتبرنا الأول أخبرنا عن لفظها فقلنا كل رجلين يعم أفراد التثنية وكان الضمير المرفوع في يعم لكل رجلين باعتبار لفظه المضاف وإن اعتبرنا الثاني أخبرنا عن معناها وقلنا كل رجلين لا أكلمهما فالضمير المنصوب وإن عاد من حيث الصناعة على
____________________
(2/428)
كل فهو في الحقيقة لرجلين وهو المضاف إليه وقولك لا أكلم رجلين تسلط الفعل على المفعول وهو كل من حيث مدلوله الأصلي وهو الكلية فقد اختلف المفعول حتى أنه في القضية الأولى المضاف إليه وفي الثانية المضاف فقولنا كل إنسان الفاعل كل فالمخبر عنه في القضية الأولى الأفراد لأنها الفرد الذي استغرقته كل والمخبر عنه في القضية الثانية الكلية التي استغرقت الأفراد ضرورة كون الإسناد في الثانية إلى كل وفي الأولى إلى ضمير ما أضيفت إليه كل لا إلى كل نفسها لأجل اعتبار المعنى
ولو سلمنا أن الضمير يعود على كل من وجه فقولنا كل إنسان لم يقم حكم بالنفي على كل إنسان فيعم النفي كل الأفراد بالضرورة وهي موجبة معدولة
وقولنا لم يقم كل إنسان سالبة محصلة وليس معنى السالبة المحصلة الحكم بعدم القيام وإلا لساوت الموجبة المعدولة ولكن معناها سلب ما حكمت به في الموجبة المحصلة والسالبة المحصلة معناها يقتضي معنى الموجبة المحصلة وهي في مثالنا هذا قام كل إنسان وهو حكم على كل فرد بالقيام فيناقضه سلب القيام عن بعضهم ولهذه القاعدة تقرير وكلام أبسط من هذا ذكرناه في أحكام كل لا حاجة إلى التطويل به هنا
فإن قلت فما معنى قولكم عموم السلب وما معنى قولكم سلب العموم
قلت معنى عموم السلب أنك حكمت بالسلب على كل فرد ومعنى ذلك في قولنا كل إنسان لم يقم أن كل فرد من أفراد الإنسان محكوم عليه بسلب القيام عنه وهو سلب للقيام وذلك عام في جميع الأفراد ومع ذلك لا نقول في رتبة تعديد الأفراد بل هو عام قابل للتخصيص كما أن قولك اقتلوا المشركين عام ودلالته على الأفراد ليست في قوة التنصيص على الأفراد فإذا نص على الأفراد لا يحتمل التخصيص والعام يحتمل التخصيص وأما سلب العموم فمعناه في قولنا لم يقم كل إنسان أن عموم القيام لكل إنسان مسلوب فالعموم مسلوب لا صفة للسلب فالسلب هو الحكم وهو في هذه القضية مطلق لا عام والمسلوب ليس هو مطلق القيام كما في القضية الأولى بل هو قيام خاص وهو القيام العام لكل إنسان وسلب الأخص أعم من سلب الأعم فسلب العموم أعم من عموم السلب فاحتمل قولنا لم يقم كل إنسان لا يكون قام أحد
____________________
(2/429)
منهم وأن يكون قام أحد منهم وأن يكون قام بعضهم دون بعض والمسلوب إنما هو شمول القيام لجميعهم
وإذا احتمل واحتمل جاز أن يكون بعد ذلك هناك قرينة تعين أحد المحتملين إما أن لا يكون قام أحد منهم وأن يكون قام بعضهم فلا ينافي ذلك ما قررناه من أن سلب العموم لا دلالة له على عموم السلب لأن الأعم لا ينافي الأخص وبهذا يصح الجمع بين القاعدة المذكورة وكلام الفقهاء وذلك لأن قولنا لا كلمت هذين الرجلين قبل دخول كل يفيد العموم لأن لفظة أحد نكرة وقد دخلت في سياق النفي للعموم فيحنث بكلام أيهما كان وتنحل اليمين به فلا يحنث بالآخر حنثا آخر فإذا دخلته لفظة كل وقلت لا كلمت كل واحد من هذين الرجلين إن قلنا إنه سلب للعموم كان بمنزلة الصيغة الأولى ويكون إدخالك كلمة كل واحد وكلمة من لا فائدة فيه وأقصى ما عندك أن تقول تأكيد والتأسيس أولى من التأكيد وإن جعلتها بمنزلة الصيغة الثانية وإدخال كلمتين لا فائدة تأسيسه فيهما وكما تجنبنا فيما سبق إدخال ثلاث كلمات تجنبنا هنا إدخال كلمتين فجعلنا إدخال الكلمات الثلاث لعموم السلب فإنها قرينة أحد المحتملين كما قررناه فيما مضى ولتغاير المعاني الثلاث في الصيغ الثلاث
وهذا هو الأصل أن تكون الألفاظ المتغايرة لها معان متغايرة الأولى وما بعدها ظاهر وأما تغاير الثانية والثالثة فلأن الثالثة تقتضي المنع من أحدهما على الإبهام وهو شيء واحد مبهم والثالثة تقتضي المنع من كل من الأمرين وهو عام لا مبهم وبين العام والمبهم فرق ولما كان بين الصيغتين فرق لا جرم لم يتفق الأصحاب على حكمهما بل اختلفوا في الثالثة كما حكيناه عن الشيخ أبي حامد وغيره في الإيلاء واليمين واتفقوا في الثانية وبهذا تجتمع القاعدة المذكورة مع أدلة الكتاب العزيز من قوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم ونحوه لا نقول إنه سلب للعموم لا يقتضي عموم السلب لأنا نقطع من جهة الشرع أن بعض الأولاد ومجموعهم في ذلك سواء وكذلك لا تقتلوا النفس وما أشبهها والمقاصد لسلب العموم بدون بيان الحكم بعموم السلب هل هو ثابت قاصد للإجمال وقصد الشارع البيان فكانت هذه القرائن مما تعين المراد
____________________
(2/430)
وكذلك قوله والله لا وطئت كل واحدة من زوجتي لو حملناه على المجموع لساوى قوله لا وطئتهما والأصل عدمه فوجب الحمل على معنى آخر وهو عموم السلب بمنزلة ما لو قدم وقال كل واحدة لا وطئتها فإذا وطئ واحدة حنث لأن ذلك مناقض لما التزمه بالعموم وكذلك الإقدام على قتل ولد واحد مخالف للنهي كما أن من حلف لا يكلم زيدا يوم كذا حنث بكلامه في أي ساعة منه وأيضا فإن القاعدة المذكورة إنما هي في السلب وفي كون النهي واليمين في معناه نظر أما النهي فهو إنشاء منع فهو كالحكم يتعلق بجميع أفراد العام واليمين إنشاء امتناع كذلك تتعلق بجميع أفراد العام فلا تتحقق المخالفة للقاعدة المذكورة
فبكل واحد من هذه الطرق التي ذكرناها يجتمع كلام الفقهاء فيما اتفقوا عليه من الحنث بأحدهما في ذلك مع القاعدة المذكورة وأما الإشكال الثاني فجوابه أنهما سلبيان فالمسألة المذكورة في باب الأيمان إذا نص على المفردين فقال لا كلمت زيدا ولا عمرا فيحنث بكل منهما ويجب بكل منهما كفارتان
ومن ظن خلاف ذلك فقد غلط كبيرا كان أو صغيرا والمأخذ فيه ما قدمناه من التنصيص والصراحة
وصورته ومعناه مخالف لصورة العموم ومعناه بدليل عدم احتماله للتخصيص واحتمال العموم للتخصيص وعلى قياس هذا لو قال لا وطئت هذه ولا هذه يكون الحكم كذلك فالاتفاق على وجوب الكفارة بأحدهما لا إشكال فيه والمسألة المذكورة في الإيلاء لا وطئت كل واحدة ولم يذكر مثلها في الأيمان إلا في المثال الذي قاله أبو حامد وجهنا الحنث فيها بواحد والاتفاق عليه وعدم خروجه عن القاعدة
وأما الإشكال الثالث فنقول قد بينا كون قوله لا وطئت كل واحدة منهما يمينا واحدة مع كونها عموم سلب فيه وأنه لا يجب عدم الحنث بأحدهما لأن العموم يخالفه ببعض الأفراد وليس كالجمع الذي لا يخالف إلا بالمجموع والشيخ أبو حامد كأنه يرى أنهما يمينان فلذلك يقول ببقاء الإيلاء فيتلخص من هذا أن في كونها يمينا أو يمينين خلافا بين الشيخ أبي حامد والأصحاب فالشيخ أبو حامد يرى أنهما يمينان والأصحاب يقولون هي يمين واحدة حنث بأولها والرجحان معهم سواء
____________________
(2/431)
أثبتت القاعدة أم لا وقول الشيخ أبي حامد أيضا له وجه وإن كان مرجوحا سواء أثبتت القاعدة أم لا
وإذا عرفت الخلاف بين الشيخ أبي حامد والأصحاب فقول ابن الرفعة رحمه الله في لا كلمت زيدا ولا عمرا بكفارة واحدة مخالف بين الفريقين أما أبو حامد فلأنه يرى في الإيلاء بكفارتين ففي لا كلمت زيدا ولا عمرا بطريق الأولى
وأما الأصحاب فلأنهم إنما رأوا كفارة واحدة كقولهم إنها يمين واحدة وابن الرفعة يقول إنها كفارة واحدة مع توهم أنها يمينان وهذا لم يقل به أحد والله عز وجل أعلم
والرافعي لما ذكر المسألة قال ذلك إن أراد بقوله والله لا أجامعك كل واحدة تخصيص كل واحدة بالإيلاء على وجه لا يتعلق بصواحباتها فالوجه بقاء الإيلاء في الباقيات وإلا فينبغي أن يكون حكم هذه الصورة حكم قوله والله لا أجامعكن على ما سبق يقتضي أنه لا يحنث بأحدهما وهو شيء لم يقله أحد من الأصحاب فيرد عليه ما ورد على ابن الرفعة والله أعلم انتهى
كتاب الأقضية مسألة قول الشيخ تقي الدين بن الصلاح في فتاويه في مسألة سئل عنها في ملك احتيج إلى بيعه على يتيم فقامت البينة أن قيمته مائة وخمسون فباعه القيم بذلك وحكم الحاكم بصحة البيع ثم قامت بينة أخرى بأن قيمته حينئذ مائتان هل ينقض الحكم ويحكم بفساد البيع فأجاب ابن الصلاح بعد التمهل أياما وبعد الاستخارة أنه ينقض ووجهه بأنه إنما حكم بناء على البينة السالمة عن المعارض بالبينة التي هي مثلها أو أرجح وقد بان خلاف ذلك وتبين إسناد ما يمنع الحكم إلى حالة الحكم فهو كما قطع به صاحب المهذب من أنه لو حكم للخارج على صاحب اليد ببينة فانتزعت العين منه ثم أتى صاحب اليد ببينة فإن الحكم ينقض لمثل العلة المذكورة وهذا بخلاف ما لو رجع الشاهد بعد الحكم فإنه لم يتبين إسناد مانع إلى حالة الحكم لأن قوله الشاهد متعارض وليس أحد قوليه بأولى من الآخر وفي مسألة المهذب وجه حكاه صاحب التهذيب وغيره يطرده هاهنا ما رأيكم في ذلك أجاب الشيخ الإمام رضي الله عنه ما ذكره الشيخ تقي الدين بن
____________________
(2/432)
الصلاح رحمه الله فيه نظر والذي أراه أنه لا ينقض الحكم وليس كالمسألة التي قطع بها صاحب المهذب
ولنتكلم على كلام الشيخ تقي الدين واحدة واحدة قوله إنما حكم بناء على البينة السالمة عن المعارض بالبينة التي هي مثلها أو أرجح يعني أنها لم تعارض لا بمثلها ولا بأرجح فانتفى عنها كل من الأمرين
قوله وقد بان خلاف ذلك أي المعارضة بأحد وهو هاهنا المعارضة بمثلها قوله ويتبين استناد ما يمنع الحكم إلى حالة الحكم
قلنا على تقدير التسليم لم قلت إنما يمنع الحكم حالة الحكم يوجب نقضه وهذا فيه شك من وجهين أحدهما القاعدة المشهورة أنه ليس كل ما منع من الابتداء منع الدوام
والثاني أن لنا مسائل تتبين بعد الحكم بما يمنع الحكم حالة الحكم ولا ينقض إما قطعا وإما على الخلاف فيه فمنها أن نحكم عن دليل في محل الاجتهاد ثم يظهر له دليل آخر مساو للأول أو أرجح منه وهو في محل الاجتهاد أيضا فلا ينقض به قطعا
ولو وجد حالة الحكم لمنع الحكم إما لكونه لو وجد حالة الحكم لمنع الحكم فلتعارض الدليلين وعند التعارض يجب التوقف ونحن لا نفرع على قول من يقول بأنه يتخير عند تعارض الدليلين وأما كونه لا ينقض بظهوره فلأنه لو نقض لم يستقر حكم
فإن قلت التعارض في الأدلة إنما هو في نفس المجتهد بحسب ما يظهر له من الاحتمالات وهو أمر متجدد بعد الحكم لا يتحقق إسناده إلى حالة الحكم فيجوز أن يكون الاحتمال الذي ظهر له بعد الحكم وترجح على الأول أو ساواه لو وجد حالة الحكم لكان مرجوحا والمرجوح لا يمنع الحكم فلم تتحقق المعارضة بالمثل ولا بالأرجح
قلت نفرضه فيما إذا قاس على أصل معتقد انفراده وتذكر أو ظهر له بعد الحكم أصل آخر يقتضي القياس عليه بطلان الحكم الأول فهو قاطع بتعارض الأصلين حال الحكم لوجودهما في نفس الأمر وعدم النظر في رجحان الإلحاق بأحدهما على الآخر مانع من الحكم حال الحكم وظهوره بعده لا يوجب نقضه قطعا وقولي قطعا باعتبار كلام أصحابنا وإلا فلغير أصحابنا من العلماء خلاف وتفصيل في ذلك ومنها لو حكم بشهادة شاهدين ثم بان أنهما فاسقين عند الحكم ففي النقض خلاف أصح القولين ينقض كما لو بان أنهما عبدان أو
____________________
(2/433)
كافران
والثاني لا ينقض لأن عدالة البينة غير مقطوع بها فيكون الفسق الذي ثبت بها مظنونا والفسق المظنون لا ينقض به
فهذا أمر لو قارن لمنع الحكم فإن ظهر لا يوجب النقض على أحد القولين قوله فهو كما لو قطع به صاحب المهذب من أنه لو حكم للخارج على صاحب اليد ببينة فانتزعت العين منه ثم أتى صاحب اليد ببينة فإن الحكم ينقض لمثل العلة المذكورة
قلت نقض الحكم في مثل هذه المسألة للبينة التي هي أرجح فقول الشيخ لمثل العلة المذكورة إن أراد مثلها في عموم كونه أحد الأمرين فعليه إثبات أن العلة هو الوصف المذكور لا خصوص كونه أرجح ولن يجد إلى ذلك سبيلا ومتى نظر إلى الخصوص افترقت المسألتان فإن الذي ظهر في المسألة المذكورة وهو البينة الراجحة غير الذي في المسألة المستفتى عنها وهي البينة المماثلة ولا يلزم من النقض بالأرجح النقض بالمثل وبينة ذي اليد فيها احتمال أن يكون النقض بها لترجحها باليد أو باليد لترجحها بالبينة أو بمجموعهما
وعلى كل من التقادير الثلاثة لا تكون العلة موجودة في المسألة التي قاسها ابن الصلاح فقياسها عليها غير صحيح لعدم الاشتراك في العلة على هذه التقادير الثلاثة وإن اشتركا في مطلق التعارض وإنما يصح القياس المذكور لو ثبت أن العلة في نقض الحكم للخارج ومطلق التعارض المشترك بينه وبين هذه المسألة
قوله وهذا بخلاف ما لو رجع الشاهد بعد الحكم فإنه لم يتبين استناد مانع إلى حالة الحكم لأن قول الشاهد متعارض وليس أحد قوليه أولى من الآخر أقول الرجوع له صورتان إحداهما أن يقول الشاهد رجعت عما شهدت به ولا يزيد على ذلك أمر متجدد بعد الحكم لم يكن حال الحكم ولا يتضمن إخبارا عن شيء معارض للشهادة الماضية إلا عدم الجزم فقط الذي هو أعم من الشك فيها أو اعتقاد خلافها
الصورة الثانية أن يخبر بخلاف ما شهد به أولا وهذه التي يصير قوله فيها متعارضا فقول الشيخ تقي الدين أنه لم يبين عدم إسناد مانع إلى حالة الحكم صحيح في الصورتين
وقوله لأن قول الشاهد متعارض إنما يصح في الصورة الثانية
وقوله وليس أحد قوليه أولى من الآخر لا يكفي في الاستدلال
____________________
(2/434)
لعدم نقض الحكم لأن البينتين المتعارضتين كذلك ليست إحداهما أولى من الأخرى وإنما العلة في عدم النقض بالرجوع لأن قوله الأول مكذب لقوله الثاني وهذا المعنى لا يوجد مثله في تعارض البينتين سواء أكان معهما ترجيح لأحدهما أم لم يكن وإذا تبين وجه عدم النقض في الصورة الثانية ففي الصورة الأولى أولى وقوله وفي مسألة المهذب وجه حكاه صاحب التهذيب وغيره هو الذي اختاره القاضي حسين وقال إنه الأظهر وإنه أشكلت عليه هذه المسألة نيفا وعشرين سنة وتردد جوابه فيها لما فيها من نقض الاجتهاد بالاجتهاد واستقر رأيه على عدم النقض سواء كان قبل التسليم أم بعده
وفيها وجه ثالث أنه إن كان قبل التسليم لم ينقض وإن كان بعده نقض لتأكد الحكم بالتسليم ولكن الذي قاله العراقيون كلهم وصححه الرافعي النقض مطلقا وهو المختار والكلام عليها قد يطول
فإن قلت دعه يطول فاذكره هاهنا لأن به تتقرر المسألة
قلت نعم وهو أخصر من أفرادها لتقدم بعض الكلام فأقول وبالله التوفيق إنما قلنا بالنقض في تلك المسألة لأن بينة الداخل عندنا مقدمة على بينة الخارج وكانت واجبة التقديم كما يقدم النص على الاجتهاد فالحكم ببينة الخارج مع وجودها وإن لم يعلم بها الحاكم كالحكم بالاجتهاد المخالف له ينقضه فكذلك إذا ظهرت له بينة ذي اليد بعد الحكم ببينة الخارج ينقضه والقائل بالتفصيل بين ما قبل التسليم وبعده لعل مأخذه أن لا نحكم بالشك وكذا لا نسلم بالشك ولا ننقض بالشك
وصورة المسألة إذا علمنا أنه إنما حكم ببينة الخارج لعدم بينة الداخل فإنه احتمل أنه حكم بها ذهابا إلى ترجيح بينة الخارج وكان من أهل الترجيح وأشكل الحال ففي جواز النقض وجهان أصحهما أنه لا ينقض بل يقر في يد المحكوم له والخلاف في ذلك منقول في فرع حكاه العراقيون عن ابن شريح
ونريد أن ننبه هنا على فائدة في نقض الحكم ولا شك أن الحكم إنما ينقض لتبين خطئه ولا شك أن الحاكم منصوب لأن يحكم بحكم الشرع وأحكام الشرع منوطة بأسباب تتعلق بوجودها ووجودها يثبت عند الحاكم بطريق شرعي فالخطأ لا يعدو هذه المواطن الثلاثة أحدها أن يكون في الحكم الشرعي بأن يكون
____________________
(2/435)
حكم بخلاف النص أو الإجماع أو القياس الجلي فينقض إذا تبين ذلك لتحقق الخلل في الحكم وليس معنى النقض الحل بعد العقد بل الحكم يبطل ببطلان الحكم المتقدم وبيان أنه لم يقع صحيحا لأنه ليس بحكم الشرع والحاكم نائب الشرع فلا يصح منه الحكم بغير حكمه ولفظة نقض الحكم ممكنة لأن المقصود إبطال ذات الحكم الذي وقع ويقرب منه إذا حكم بغير علم فإنه ينقض وإن صادف الحق والخلل هنا في الحاكم لا في الحكم لكنه قريب منه ولفظة النقض هنا أيضا ممكنة لأن المقصود إبطال فعل الحاكم ويبقى الأمر على ما كان عليه حتى يصدر ذلك الحكم من أهله كما يبطل تصرف من ليس بوكيل
الموطن الثاني أن يحصل الحكم على سبب غير موجود ويظن القاضي وجوده ببينة زور ونحوها فإذا انكشف ذلك ينقض في بعض المواضع بالإجماع وفي بعضها بخلاف فيه
والخلاف هنا في السبب ووضع الحكم في غير محله والنقض هنا معناه إبطال تعلق الحكم بذلك المحل ولفظة النقض فيه غير ممكنة لأنا ننقض الحكم في ذاته لخطئه وإنما نقضناه عن ذلك المحل وأخرجنا المحل عنه فالخطأ في السبب لا في الحكم والمخطئ هو الشاهد لا الحاكم نعم الحاكم بفرع من الخطأ وهو ظنه وجود السبب الحاصل بالبينة
الموطن الثالث أن يكون الخلل في الطريق كما إذا حكم بشهادة كافرين فإذا تبين ذلك ينقض سواء أكان المشهود به صحيحا أم لا لأن المعتبر من الحكم ما كان بطريقه الشرعي فإذا كان بغير طريقه الشرعي فقد حصل الخطأ في الطريق فننقضه لوقوعه على غير الوجه الشرعي
والخطأ هنا من القاضي في اعتقاده عدالة الشهود وقد يكون ذلك مرتبا على بينة التزكية وقد يكون على ظنه إذا عدلهم بعلمه ولفظة النقض هنا كهي في الذي قبله وإن كان الفقهاء أطلقوا النقض على الجميع وهو صحيح
ولو حكم بشهادة فاسقين اعتقد عدالتهما نقض في الأصح كالكافرين
وقيل لا لأنه إنما يتبين بطريق ظني فيصير كنقض الاجتهاد بالاجتهاد وقريب من ذلك ما ذكرنا في النقض ببينة الداخل ولو بان دليل ظني معارض لدليل حكمه فلا التفات إليه قطعا لأنه اجتهاد غير مستقر بل يجوز أن يصير
____________________
(2/436)
الراجح مرجوحا والمرجوح راجحا
ولو بان تعارض بينتين من غير ترجيح فيحتمل أن يقال هو كتعارض الدليلين ويحتمل أن يقال تعارضهما مستقر عند من لا يرى الترجيح في البينات وهو مذهب الشافعي فيقطع باستواء المانع من ابتداء الحكم وقد تلخص أنه متى بان الخطأ قطعا نقض قطعا ومتى بان الخطأ ظنا ففي بينة الداخل مع الخارج ينقض في الأصح وفي الدليلين لا ينقض والفرق أن الظن في اليد مقطوع به فهو اعتقاد رجحان
وفي الدليلين رجحان اعتقاد وليس مقطوعا به ولو لم يتبين الخطأ بل التعارض المجرد عن القطع والظن كقيام بينة بعد الحكم بخلاف البينة التي ترتب عليها الحكم فقد ذكرنا احتمالين ولم نجد فيهما نقلا والذي يظهر ويترجح عندنا أنه لا ينقض لعدم تبين الخطأ وكيف ينقض حكم محتمل للصواب وحين صدر كان عن مستند وقد ذكر العراقيون عن ابن شريح فيما لو ادعى زيد على عمرو عبدا وأقام بينة وانتزعه فجاء خالد وأقام بينة بملكه فإن قلنا بينة الملك القديم مقدمة تعارضتا لاستصحاب الملك الماضي
وإن قلنا لا تقدم فوجهان أحدهما تتعارضان والثاني لا تتعارضان حتى تعيد البينة الأولى الشهادة لأن شرط التعارض أن يكون حين التنازع ولم يبينوا ما الحكم إذا قلنا بالتعارض أو بعدمه
والذي فهمته أنا إن لم نقل بالتعارض نقضي للثاني إلا أن تعيد البينة الشهادة فيحصل التعارض إما بالإعادة إن شرطناها وإما بدونها
فإن قلنا بالقسمة أو القرعة فالتفريع ظاهر وإن قلنا بالتساقط فالوجه عندي أن يبقى في يد المحكوم له ويبعد أن يقال يرد إلى ذي اليد لأنه نقض للحكم بالشك هذا إذا كانت البينة الثانية أطلقت الملك أما إذا أسندته إلى ما قبل الحكم وأعادت الأولى الشهادة كذلك أو قلنا لا يشترط إعادتها فالتعارض حاصل
والوجه أن يبقى الأمر على ما كان عليه قبل الحكم لأن هذه اليد قد عرفت سببها فلا تصلح للترجيح والبينتان في ثبوت الملك متقاومتان وهما شاهدتان الآن بالملك لكل منهما فيتعين رفع اليد وتبقية الأمر على ما كان عليه ولا يلزمنا مثل هذا في تعارضهما في القيمة لأن الشهادة بالقيمة ليست شهادة بالحق
وغايتها أن بالتعارض تجهل
____________________
(2/437)
القيمة ولا يلزم منه الحكم ببطلان البيع أو الحكم به فإن البيع لو وقع ولم تشهد بينة بالقيمة أصلا لا نحكم ببطلانه حتى يثبت أنه بدون القيمة
فإن قلت ولا نحكم بصحته
قلنا نعم ولكن هنا قد حكمنا بصحته فلا يغير ما حكمنا به بغير بينة إلا أن يشهدوا بفساده أو نحو ذلك
وهذا الذي ذكرناه من استصحاب ما ثبت في الماضي معتمد يشهد له هذا الفرع وفرع آخر إذا ادعى دارا في يد غيره وأقام بينة أنها ملكه فقال القاضي قد عرفتها ملك فلان وورثها فلان فأقم بينة على تملكه منه له ذلك وتندفع بينته
وفرع ثالث قامت بينة بعين أنه اشتراها من فلان وهو يملكها ولم يقولوا إنها الآن ملكه قبلت هذه الشهادة واكتفي بها على المشهور وحكى القفال فيها قولين أحدهما أنها كالشهادة بالملك أمس وعكس هذه المسائل إذا ثبت شيء الآن لا يلزم استصحابه في الماضي إلا في مسألة واحدة إذا اشترى عينا وأخذت منه أو من المشتري منه أو من المتهب منه بحجة مطلقة رجع على البائع وإن كان الملك الذي شهدت به البينة إنما يثبت قبيلها ولا يتعدى إلى النتاج
قال الغزالي وعجب أن ينزل النتاج في يده ثم هو يرجع على البائع
وقال القاضي حسين إنه أكثر البحث ولم يجد عند أحد من الجواب ما يستحق أن يحكى إلا فقيها من أصحاب أبي حنيفة قال إن البائع بالبيع كأنه ضمن سلامة المبيع للمشتري فإذا لم يسلم وأخذ منه كان له أن يرجع بحكم الضمان الذي يضمنه البيع وقيل أنه لا يرجع حتى تصرح البينة بأنه ملكه ملكا سندا إلى ما قبل البيع وهذا الوجه هو المختار وقيل إن الملك يتعدى إلى النتاج وقد يقال لو صح استصحاب الماضي إلى الحال لقبلت الشهادة بالملك أمس والصحيح أنها لا تقبل
واعلم أن الشهادة بالملك أمس على ثلاثة أقسام أحدها أن يضم الشاهد إليها أنه ملكه الآن فهي مقبولة محكوم بها
الثاني أن يقتصر عليها فلا تقبل على الأصح لأنها لم تشهد بحق له الآن
ونحن إنما قلنا نستصحب ما ثبت في وقته وهذا لم يثبت
الثالث أن يقول معها لا نعلم له مزيلا فهذه لا ترد ولا نحكم بها وحدها بل يضاف إليها يمين المدعي ونحكم له لأنها بذلك قوت جانبه على جانب ذي اليد فانتقلت اليمين إليه
____________________
(2/438)
ولم نجزم بالشهادة الآن فلم نحكم بها
وقد ظهر بما قلناه إنه إذا ثبتت القيمة وحكم القاضي بحكم مستندا إليها ثم ظهرت بينة معارضة لها لا يترتب عليها أثر ولا تسمع ولا يقال هنا إن يد اليتيم مرجحة للبينة لأن اليد إنما تدل على الملك السابق ولا منازعة فيه ولا دلالة لها على القيمة التي وقع التعارض فيها
فإن قلت لو وقع هذا التعارض قبل الحكم وقبل البيع
قلت يمتنع البيع والحكم للشك في القيمة وقته للتعارض فيه
وقد قال الأصحاب لو شهد شاهدان أنه سرق ثوبا قيمته عشرة وآخران أن قيمته عشرون لزمه أقل القيمتين وهذا مستنده إيجاب المحقق وترك الزائد الذي وقع التعارض فيه وإن كان شاهد واحد من الجانبين فهل يتعارضان أو يحلف مع الزائد وجهان اختار الروياني الثاني
والفرق بينه وبين الشاهدين أن الشاهدين بينة كاملة فلذلك لم يحلف مع الشاهدين الزائدين وقد يقتضي الحكم بتعارض البينتين في القيمة ولا نقول ثبت أن القيمة الأقل
ولو قلنا ثبت أن الأقل هو القيمة لزم جواز البيع بها والحكم على وفقها ولكن ليس كذلك
فإن قلت لو اعتقد ولي اليتيم أن الحق مع الذي شهدت بالأقل هل له اعتماده
قلت نعم إذا لم يجد راغبا بأزيد لأن الإثبات إنما نجعله احتياطا لئلا يدعي عليه الطفل بعد البلوغ
فإن قلت فالقاضي إذا علم ذلك هل له اعتماده في الحكم به
قلت لا لأن ذلك ليس بعلم وإنما هو أمر تخميني فلا يخرج على القضاء بالعلم
فإن قلت فلو تحقق أنه دون القيمة ولم نجد راغبا بأكثر ودعت حاجة اليتيم إلى البيع للأكل مثلا ولم نجد من يقرض منه عليه
قلت لم أر فيه نقلا والأقرب أنه إذا فرض ذلك وخفت الحاجة الجواز ويأتي مثله في البيع على المديون إذا طالب الغريم ولم يجد طريقا غيره وقد قال الأصحاب فيما إذا أسلم عبد لكافر أنه لا يرهق إلى بيعه بدون القيمة ولعل ذلك الاكتفاء بالحيلولة وعظم الضرر في البيع بدون القيمة من غير ضرورة بخلاف ما نحن فيه
فإن قلت كيف تثبت القيمة قبل البيع من غير دعوى وكيف يدعي بها ولا إلزام قلت للدعوى بها طريق وهي إن كان غصبها غاصب فيدعي بقيمتها للحيلولة وإلا فينذر شخص التصدق
____________________
(2/439)
على فقير معين بعشر قيمتها مثلا أو عشر عشرها ثم يدعي ذلك الفقير على الناذر بدرهم مثلا نحكم أنه عشر القيمة وأنه الذي لزمه بالنذر وينكر المدعى عليه القيمة فتقام البينة حينئذ فالدعوى ملزمة والبينة مسموعة ولا يتخرج ذلك على أنه هل للحاكم المطالبة بالنذر ولأن ذلك فيما إذا كان لجهة عامة وهنا المستحق معين وهو المطالب فيسمع القاضي دعواه كسائر الحقوق والله أعلم انتهى
وقال القاضي رضي الله عنه في آخره كتب في العشر الأخير من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين وسبعمائة
قال ولده قاضي القضاة أبو نصر فسح الله في مدته ولقد بالغ ابن الصلاح فأفتى فيمن أجر شيئا بأجرة مثله بعد ما شهدت البينة بأن الأجرة أجرة المثل ثم تغيرت الأحوال وطرأت أسباب توجب زيادة أجرة المثل بأنه تبين بطلان العقد وأن الشاهد لم يصب في شهادته واحتج بأن تقويم المنافع في مدة ممتدة إنما تصح إذا استمرت الحال الموجودة حالة التقويم أما إذا لم تستمر وطرأ في أثناء المدة أحوال تختلف بها قيمة المنفعة فتبين أن المقوم لها يطابق تقويمه المقوم قال وليس هذا كتقويم السلع الحاضرة بمال
وإذا ضممنا ما ذكرناه إلى قول من قال من أصحابنا إن الزيادة في الأجرة تفسخ العقد كان قاطعا باستبعاد من لم ينشرح صدره لما ذكرناه قال فليعلم ذلك فإنه من نفائس النكت
قلت وهو جواب ضعيف فإن الشاهد إنما يقوم بالنسبة إلى الحالة الراهنة والمعروف في المذهب أن ارتفاع القيمة لا يوجب الفسخ ولا ينقض الشهادة ولو تم ما قاله لم يتهيأ لشاهد أن يشهد بقيمة عين أن تؤجر أصلا
وقد أفتى النووي بخلاف ما أفتى به ابن الصلاح وكلامه في المنهاج صريح في ذلك حيث قال وإذا أجر الناظر فزادت الأجرة في المدة أو ظهر طالب بالزيادة لم ينفسخ العقد في الأصح
والمسألة التي استشهد بها ابن الصلاح ليست مسألته ولا حكمها حكمها على الصحيح من المذهب أما الثاني فواضح فإن الصحيح أن الزيادة في الأجرة لا تفسخ العقد وأما الأول وهو أنها ليست مسألته فإن ظهور الطالب بالزيادة لا يوجب تبين خطأ الشاهد بالقيمة لأن الشاهد يسند شهادته إلى حالة الشهادة وما بعدها
____________________
(2/440)
تبع لها مسوق عليه حكم الأصل وقد يظهر طالب بالزيادة مع كون الأجرة لم تتغير
إذا عرفت هذا فالتحقيق عندي في هذه المسألة أن يقال إن لم تتغير القيمة ولكن ظهر طالب بالزيادة على القيمة لم ينفسخ العقد والقول بانفساخه وجه ضعيف لعل مأخذه قول من يقول إن القيمة ما تنتهي إليه الرغبات وهو شيء حكاه ابن أبي الدم وجها أو غير ذلك وإن تغيرت فالإجارة صحيحة إلى وقت التغيير وكذا بعد التغيير فيما يظهر ولا يظهر خلافه ويحتمل على بعد أن يقال طرآن ارتفاع القيمة كأمر حادث في العين المؤجرة فيوجب الفسخ أو الانفساخ ثم في انعطافه على ما مضى ما في الفسخ بعروض خلل في المعقود عليه
وفي هذه المسألة مباحث نفيسة تركت ذكرها خشية الخروج عن جمع فتاوى الشيخ الإمام إلى ما لا يتعلق به ولم يكن غرضنا إلا التنبيه على إفراط ابن الصلاح فيما أفتى به رحمه الله انتهى
فائدة قال الشيخ الإمام اختلف أصحابنا في أن الثبوت حكم أم لا والمختار عندي التفصيل بين أن يثبت الحق أو السبب فإن أثبت السبب كقوله ثبت عندي أن زيدا وقف هذا فليس بحكم لأنه بعد ذلك يتوقف على نظر آخر هل ذلك الوقف صحيح أو باطل لأنه قد يكون على نفسه أو منقطع الأول ونحو ذلك
وإن أثبت الحق كقوله ثبت عندي أن هذا وقف على الفقراء أو على فلان فهو في معنى الحكم لأنه تعلق به حق الموقوف عليه ولا يحتاج إلى نظر آخر وإن كانت صورة الحكم وهو الإلزام لم توجد منه ويبين لك هذا أن في القسم الأول لو طلب المدعي من الحاكم أن يحكم لم يلزمه حتى يتم نظره وفي الثاني يلزمه لأنه بعد ثبوت الحكم يجب الحكم به قطعا ورجوع الشاهد قبل الحكم وبعد الثبوت لم أره منقولا والذي أختاره أنه في القسم الثاني كالرجوع بعد الحكم فلا يمنع الحكم
وفي القسم الأول يمنع وفيه احتمال ونقل الثبوت في البلد فيه اختلاف والمختار عندي في القسم الثاني القطع بجواز النقل وتخصيص محل الخلاف بالأول والأولى فيه أيضا الجواز وفاقا لإمام الحرمين تفريعا على أنه حكم بقبول البينة والله أعلم
انتهى
____________________
(2/441)
442 مسألة في الكتابة على المكاتيب التي يظهر بطلانها بأنها باطلة بغير إذن مالكها وقد كان الشيخ الإمام يفعله رحمه الله فعوتب مرة في واقعة كتاب متعلق بصيغة من قرى بعلبك وهي حريثا قال رحمه الله إن قيل ما سندكم في الكتابة على كتاب بعلبك
فالجواب أن مستندنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين والقياس أما كتاب الله فقوله تعالى ليحق الله الحق ويبطل الباطل فإبطال الباطل من سنة الله فكتابتي عليه بالإبطال لذلك
وقال صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده وكتابتي عليه تغيير بيدي
وفي الصحيح أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول أو نقوم بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم فكتابتي عليه من القيام بالحق
وقال تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فكتابتي عليه من البيان للناس
وقال صلى الله عليه وسلم ليس لعرق ظالم حق والكتاب الزور عرق ظالم فتجب إزالته
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له أنت ظالم فقد تودع منهم
والآثار في ذلك أكثر من هذا
فهذا من الكتاب والسنة وأما الإجماع فإجماع الصحابة مع عثمان رضي الله عنهم على تحريق المصاحف الباطلة لما فيها من زيادة أو نقص على المصحف المجمع عليه فإذا جاز تحريق الكتاب لباطل فيه فالكتابة عليه بالإبطال أولى وأما القياس فعلى خصم الكتب في الابتياعات والأوقاف وغيرها حتى لا يغتر الناس بها إذا لم يكتب عليها فكان الواجب في هذا الكتاب بيان ما فيه وهو به عندي في هذا الوقت أولى من إعدامه لأن عند إعدامه قد يقول قائل كان ما فيه حقا وأما عند وجوده فالفاضل يتأمله فيفهم بطلانه ولا ينبغي أن يعطى لمن كان في يده لأمرين أحدهما أنه يتعلق به وقد تحصل منه إزالة ما كتب عليه ويلتبس ويوصل إلى الباطل ولكن يحفظ في سلة الحكم فيراه كل قاض يأتي فيعتمد الحق ويجتنب الباطل
والثاني أن ما يملكها من له فيها حق فإذا بيعت الدار فكتبها ينتقل ملكها
____________________
(2/442)
بانتقال الدار إلى المشتري ليشهد له بملكها وهذا الكتاب لا حق فيه لمن هو في يده لتزويره وبطلانه فلم يجب تسليمه إليه بل ولا يجوز إلا أن يغسل ويمحي ما فيه ويدفع له الرق مغسولا فلا يمنع ذلك وتوهم من نظر بعد ذلك مندفع بعلمه بفعل ولاة الأمور لذلك هم منتصبون لتحقيق الحق وإبطال الباطل
وقد أزال النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام التي كانت على الكعبة بيده ونص الفقهاء على جواز إتلاف ما يوجد من التوراة والإنجيل وإن كان لورقها مالية وقد كانت ملك شخص معين أو أشخاص أو المسلمين فإذهاب ماليتها عليهم إنما هو لانطوائها على الباطل فهذا مثله لو كان له قيمة فكيف ولا قيمة له لأنه إنما ينتفع به لشهادته بما فيه وما فيه باطل فلا منفعة له وما لا منفعة له لا قيمة له وأيضا فإن الذي في يده الكتاب قد دفعه إلينا وهو مع غريمه متداعيان في حكم الشرع
وقد تبين في حكم الشرع أنه لا حق له فيه فوجب علينا بحكم الشرع أن نبطله ونرفع يده عنه ويصير في يد الشرع ليستمر عمل الحق فيه وفي مقابله
وما برح الناس من العلماء والقضاة والشهود والكتاب في الديار المصرية وغيرها يكتبون على المكاتيب ما تجب كتابته من انتقال أو خصم أو غيره فكذلك هذا والقول بأن هذا ملك الغير فلا يجوز إمساكه جهل من قائله وعدم علم بالشرع بل وبأحوال الناس فما زالت الخلفاء والملوك مع القضاة وجميع ولاة الأمور إذا رأوا توقيعا باطلا أمسكوه ومنعوه عن صاحبه
وقال صلى الله عليه وسلم لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق وإمساك كتاب الظالم من جملة الأخذ على يده
وقال صلى الله عليه وسلم انصر أخاك ظالما أو مظلوما قيل يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه وأخذ كتاب الظالم منع له من ظلمه لأن المنع من الظلم قد يكون في الوقت الحاضر فيعود إليه وأخذ كتاب الظالم منع مستمر فإنه لا يبقى يجد طريقا إلى الظلم به فكان واجبا وهذا لا يتردد فقيه فيه ولا يرتاب فيه ذو مسكة ولا ينكره إلا
____________________
(2/443)
من في قلبه مرض وفاسد عرض
وإذا كنا نرسم على المبطل ونحبسه ونعاقبه حتى نخلص الحق منه ونرده عن ظلمه وباطله بكل ما نقدر عليه فكيف بكتابة على أوراق فيها اتباع أمر الله والانقياد لحكم الله والشهادة لله تعالى قال تعالى وأقيموا الشهادة لله انتهى
قال سيدنا ولده قاضي القضاة أبو نصر سلمه الله تعالى يشهد لما قاله الشيخ الإمام قول الصيمري فيما إذا رأى على فتيا جواب من لا يصلح للفتيا أن له أن يضرب عليه بإذن صاحب الرقعة وبغير إذنه وقول الأصحاب بالحجر الغريب وهو الحجر على البائع في المبيع وسائر أمواله على الصحيح فإنا نحجر عليه في مال لا تعلق لأحد به حتى يخرج من الحق فكذلك ينبغي خصم المكتوب الباطل إذا لم يرض صاحبه أن ينقاد إلى الحق وكذلك حبس القاتل إلى أن يبلغ الصبي أو يعقل المجنون خوفا من أن يهرب فيضيع الحق وقت الاستيفاء فإذا عوقب بالحبس خوفا على حق قد يضيع في المستقبل مع أنه بصدد أن لا يستمر ثبوته إلى ذلك الوقت فلأن يخصم ورقه خوفا من العدوان بها في الحال أولى وأجدر وكذلك قالوا إذا ابتلي القاضي بظالم يريد ما لا يجوز واحتاج إلى ملاينته يكتب له ما يوهمه أنه أسعفه بمطلوبه وإن كان المكتوب في الحقيقة يضره ولو علم صاحب الرقعة أن المكتوب ضرر عليه يمنع منه فضلا عن أن يأذن فيه
وبالجملة شواهد ما قاله في الفقه كثيرة
مسألة نص الشافعي رضي الله عنه على أن الحاكم إذا رفع إليه حكم لا يراه أنه يعرض عنه ولا ينفذه وذكر الأصحاب وجها آخر أنه ينفذه وعليه العمل وأنا أختار التفصيل وهو أن ما لا يراه إن كان مما عرف اختلاف العلماء فيه واستقرت المذاهب عليه ولم يكن عند الحاكم دليل على خطئه إما لقصور الحاكم عن الاجتهاد حيث يجوز لمثله أن يكون حاكما وإما لقوة الاختلاف وتفاوت المأخذ عنده فإنه ينفذه لأنه يلزم من الإعراض عنه بطلان حق المحكوم له
وصورة المسألة فيما لا يمكن نقضه فدعت الضرورة إلى التنفيذ
وأما إذا كان لا يراه مما يعتقد خطؤه أو يقرب عنده ذلك أما فيما اختلف العلماء لقوة نظر القاضي حيث
____________________
(2/444)
يكون له هذه القوة وأما فيما يحدث من الوقائع التي يكون عدم رؤيته له لما في تلك الواقعة الخاصة من الأسباب التي يترتب عليها مدارك القضاء من غير رجوع إلى اختلاف المذاهب
وكثيرا ما يتفق ذلك ويكون قاضيان متفقان في المذهب أو تكون المسألة مجمعا على حكمها من حيث الفقه ولكن يختلف نظر الحاكمين في حال الشهود والمتخاصمين والحجج التي بأيديهما ويظهر لأحد الحاكمين ما لا يظهر للآخر مما لا ينتهي إلى نقض الحكم قبل أرى أن هذا يعرض عنه ولا ينفذه لأن التنفيذ مع اعتقاد خلافه حكم بغير ما يعتقد ولا يحل للحاكم أن يحكم بما لا يعتقد وقولي هنا بأنه لا ينفذ على جهة المنع فيحرم عليه أن ينفذ ذلك وقولي في الأول أنه ينفذ إنما أقوله على سبيل الجواز ولا أقوله على سبيل الوجوب لأمرين أحدهما نص الشافعي على أنه لا ينفذه فأقل درجاته أن يحمل على الجواز
والثاني أنه لا يعتقد وإنما جوزناه لتفاوت المأخذ عنده وعدم اعتقاد خطئه ولا يعترض على هذا بأنه بعد حكم الحاكم صار كالمجمع عليه لأنا نقول ذلك في عدم النقض خاصة أما في اعتقاده فلا والله أعلم
مسألة تولدت عن ذلك القاضي الشافعي في هذا الزمان ومن أزمان طويلة هو الناظر في الأمور العامة والمتولي الأوقاف والأيتام وبيت المال وغيرها فكل ما هو تحت نظره ينبغي أن غيره من القضاة لا يحكم فيه إلا بإذنه لأنه إذا حكم بما لا يراه لا يمكنه أن ينفذه بالقول ولا بالفعل أما بالقول فلما سبق وأما بالفعل فلأنه أعظم لأن تسليم المحكوم به وإخراجه من يده إلى من حكم له غيره به أعظم من قوله نفذت فإذا منعناه من التنفيذ بالحكم القولي فلأن نمنعه من هذا بطريق الأولى وإن كان الحكم مما يراه فإنه هو يحكم به فلا يحتاج إلى حكم غيره نعم قد يعتقد في قضية أنها حق ولا يمكنه أن يحكم بها مثل أن يموت ميت ويظهر عليه دين بمسطور فيه شهود قد ماتوا ويكون هناك قرائن تدل على صحة المسطور وبقاء الدين في ذمة الميت فهاهنا ينبغي له أن يأذن لقاض مالكي فيثبته بالخط على مذهبه توصلا إلى براءة ذمة الميت ووصول الحق إلى صاحبه أو يكون وقف على نفسه ثم
____________________
(2/445)
على جهة بر ويرى المصلحة في إذنه لقاض حنبلي أو حنفي يحكم به فلا بأس بذلك أيضا بنية لله تعالى خالصة وأما بغير ذلك فلا وكثيرا ما يقع في هذا الزمان وقائع من ذلك يطلب الغريم فيها المحاكمة عند المالكية أو الحنفي أو الحنبلي وربما ينتجز مراسيم من ولاة الأمور بذلك وهذا كله مما لا يجوز فجميع ما يتعلق بالقاضي الشافعي لا يحكم فيه إلا هو أو نائبه وليس لأحد من الثلاثة ولا نوابهم أن يحكم إلا بإذنه والله تعالى أعلم انتهى
مسألة من نحو عشر سنين رجل وقف وقفا من جملته حصة من ضيعة معينة في سنة إحدى وأربعين وستمائة وثبت ذلك الوقف على حاكم بأسجال من مضمونه أنه ثبت عنده إشهاد الواقف على نفسه بجميع ما نسب إليه من وقفه الوقف الصحيح الشرعي وثبت هذا الثبوت على حاكم بعد حاكم إلى زماننا هذا ومن مضمونه التصريح بالحكم بالصحة بلا ثبوت الملك والحيازة وأن شخصا في سنة اثنتين وسبعمائة وقف وقفا من جملة الحصة المذكورة وثبت ذلك عند حاكم وثبت عنده الملك والحيازة وحكمه بصحة هذا الوقف ثم بعد ذلك نازع وكيل من جهة من الحصة في يده بغير حق وأنها وقف على الوجه المشروح في ذلك الكائن حكمه برفع يده عن الحصة المذكورة والعمل فيها بمقتضى شرط الواقف المذكور ونفذ حكمه جماعة ثم بعد ذلك انعزل الحاكم المذكور ثم بعد عزله أشهد على نفسه أنه لما حكم بما نسب إليه في الحالة المذكورة لم يكن اطلع قبل الحكم المذكور على كتاب الوقف الثاني ولا وقف عليه وأنه لو أحضر إليه حين اطلع على ما فيه لم يحكم بما حكم به وأن الذي تضمنه إسجال الحاكم الذي حكم بصحة الوقف الثاني رافع غيره لما حكم به
أجاب رحمه الله أن الضيعة إن كانت في يد أصحاب الوقف الأول قبل حكم الحاكم بالوقف الثاني فحكم بدر الدين المالكي صحيح وترد إليهم وإن لم يكن تقدم لهم يد صحيحة عليها فحكم بدر الدين المالكي باطل ويسلم لأصحاب الوقف الثاني بمقتضى حكم الحاكم الأول
هذا ملخص الجواب بحسب ما وقفت عليه من الكتاب وأما تفصيله من جهة الفقه فنقول إشهاد الحاكم على
____________________
(2/446)
نفسه بعد عزله لا اعتبار به فإن كان في حال حكمه ففيه فائدة أنه لم يرد به نقض الأول لأنه لو قال أردت بذلك نقض الأول لأمر اقتضاه قبل منه ولا يفيد إبطاله لأنه ليس للحاكم وإن كان باقيا على حكمه الرجوع عما حكم به في الوقف الثاني والحاكم بالوقف الثاني سابق على هذا الحاكم فلا ينقض حكمه بمقتضى البينة التي قامت عند الثاني ولو شهدت بالملك والوقف فإن لم تكن الضيعة حين حكم الأول بالوقف الثاني في يد أصحاب الوقف فهل ينقض الحكم بالوقف الأول وترد إلى من كانت في يده تتخرج على خلاف في مسألة ذكرها إمام الحرمين وغيره في مسألة تعارض البينتين وهي إذا أقام المدعي بينة عادلة ولم يتمكن المدعى عليه من إقامة البينة فأزال القاضي يده وسلم العين المدعاة إلى المدعي فلو جاء المدعى عليه ببينة وقال حضرت بينتي فهل يسمعها فعلى وجهين ذكرهما القاضي وقال أظهرهما عند القاضي أن البينة لا تسمع لأنا نقضنا يده فلو قبلنا بينته لكان ذلك نقضا للقضاء السابق إلا أن يقيم البينة على الملك من جهة المدعي الذي هو صاحب اليد الآن
وقال الرافعي إن الأصح سماع البينة ونقض القضاء الأول لأنه إنما أزيلت لعدم الحجة وقد قامت الحجة الآن
فإن قلنا بقول القاضي حسين فلا أثر لحكم القاضي المالكي ويستمر حكم الأول الذي حكم بالوقف الثاني وإن قلنا بما رجحه الرافعي وهو الصحيح فمقتضاه أن ينقض
ومن ذلك من كانت في يده
وذكر الشيخ أبو إسحاق في قضية ادعى شخص أنها ملكه وأقام بينة وحكم له الحاكم بها ثم ادعى عليه شخص أنها وقف وأقام بينة فرجح الحاكم بينة الملك ذهابا إلى أن الملك الذي حكم به يقدم على الوقف الذي لم يحكم به ثم نازعه آخر يدعي وقفها أيضا وأقام بينة على أن الوقف قد قضي بصحته قبل الحكم بالملك وترجيحه على الوقف فإنه يقدم الحكم بالوقف وينقض الحكم بالملك
هذا ما ذكره الشيخ أبو إسحاق ومقتضاه أن للحاكم الأول هنا أن ينقض حكم الثاني بشرطين أحدهما أن يكون هذا الحاكم من مذهبه استواء البينة المطلقة والمؤرخة فإن كان يرجح المؤرخة على المطلقة تعين
____________________
(2/447)
تقديم بينة الوقف القديم
والثاني زوال شبهة عرضت من لفظ إسجال الحاكم الأول الذي ثبت عنده بمقتضى الوقف القديم في قوله الوقف الصحيح الشرعي هل هذا يكون متمسكا به لأن ظاهره يقتضي أنه من المشهود به على الحاكم فيكون الحاكم قد أشهد على نفسه أن الوقف صحيح ومن لازم ذلك ثبوت الملك والحيازة فيقدم على الحكم المتأخر الذي حكم بصحة الوقف الثاني وإن هذا اللفظ لا ينسب إلى الحاكم لأن العادة تقضي بأنه من المواردين
هذا محل نظر والأقرب الثاني ثم إذا قلنا بقول الرافعي وجواز النقض فهل يكون حكم هذا المالكي نقضا والفرض أنه لم يطلع على ذلك الحكم الأظهر أن ذلك الحكم صحيح وتسميته أيضا أو ليس نقضا يرجع إلى العبارة وإلا فهو يصادف المحل ولا يجوز نقض حكم هذا المالكي
فإن قلت فعلى قول القاضي حسين ينبغي أن يكون الحكم كذلك لأنها مسألة مختلف فيها وقد حكم الحاكم
قلت لم نحكم برجوعها إلى صاحب بذلك السبب حتى يكون حكمه بأمر مختلف فيه بل بسبب ظن أنه من مظان الإجماع وأما إذا لم يكن في يد واحد منهما أو كانت في يد أصحاب الثاني فحكم المالكي بالأول باطل لأنه حكم ببينة معارضة ببينة راجحة عليها فحكم الحاكم
ويفرق بين هذه ومسألة الوجهين في مسألة الوجهين النقض باليد المتقدمة والبينتان متعارضتان وقضى لا بد فلو نقضنا الحكم نقضناه مع التعارض وعدم التعريض مستند والله أعلم
قال رضي الله عنه هذه المسألة كانت مسودة ونقلتها الآن من غير فكر فيها وأظن أنها غير محررة فلتتأمل
وكتب في ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وسبعمائة
الكيلانية الحمد لله الذي فقهنا في الدين وعلمنا التأويل وهدانا بفضله إلى سواء السبيل وحفظنا بلطفه أن نزيغ عنه أو نميل أحمده حمد معترف بترادف نعمه وتجددها في كل بكرة وأصيل وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أتقي بها من عذاب وبيل وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي هو وسيلتنا إلى الله في
____________________
(2/448)
في كل كثير وقليل صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة تليق بقدره الجليل وسلم تسليما كثيرا ويتهلل له ذلك الوجه الجميل
وبعد فقد وقع في المحاكمات مسألة صورتها رجل من كيلان مات بالإسكندرية وترك زوجة وأبناء منها وتركة قيل إنه أوصى إلى زوجته وبيعت تركته ووفى منها دينه وقبضت الزوجة الباقي بحكم الوصية وأثبتت وصيتها عند حاكم إسكندرية ثم حضرت إلى حاكم آخر بدمشق ليصل ثبوتها به وأودعت ذهبا ودراهم عند رجل بدمشق وقالت له إن ذلك لابنها مما خلفه زوجها أو من المال المتروك عن زوجها أو ما هذا معناه وأشهدت على نفسها بذلك بمكتوب يتضمن الشهادة عليها وعلى المودع ثم حضر مكتوب فيه ثبوت على قاضي بلد من بلاد العجم أن لذلك الميت أيضا من الورثة هناك زوجة أخرى وبنتين وابنا واتصل هذا الإثبات بنائبي وحضرت المرأة المذكورة عنده ونازعت في ذلك واعترفت بحضرة شهود آخرين في ذلك المجلس أن تلك الوديعة مخلفة عن زوجها المذكور وهو مغلطاي التاجر المتوفى في الإسكندرية المعروف ثم بعد ذلك ادعت الوديعة لنفسها وأنكرت هي الوصية وقالت إنها ليست وصية وأنكرت قولها إنها لولدها مخلفة عن زوجها فأحضر المودع الوديعة إلى مجلس الحكم وسأل حكم الله فيها فادعت على وكيله فأجاب بأن هذه لورثة مغلطاي وأحضر بينة شهدت عليها بما أقرت به في مجلس نائبي من أن ذلك المال المودع مخلف عن زوجها وأنكرت هي الوصية وقالت إنها ليست وصية وأنكرت المكتوب الذي قيل إنه كتب عليها بالشهادة بالإيداع وصممت على دعوى ذلك المال لنفسها ثم في ذلك المجلس بحضوري وحضور غيري قالت إنها كانت قالت إنه لابنها خوفا عليه وإني ما بقيت أعطي لابني شيئا
هذه صورة المسألة والنظر في أن هذا المال المودع هل يكون للمرأة المدعية وحدها بمقتضى إقراره لها باليد حتى تقوم بينة أنه لغيرها أو مشترك بينها وبين غيرها أو يكون لولدها وحده بمقتضى إقرارها الذي قاله المودع والذي صدر منها في مجلس الحكم أو يكون تركة عن زوجها بمقتضى شهادة البينة عليها في مجلس حكم نائبي
____________________
(2/449)
فيكون لها منه نصف الثمن والباقي بين بقية الورثة
والجواب أما كونه لها وحدها فباطل قطعا لتضافر إقرارها في مجلس حكمي بإقرارها السابق الذي قاله المودع والذي صدر منها في مجلس الحكم أن يكون تركة عن زوجها وكل واحد من الأمرين يقتضي عدم اختصاصها به ونقطع حكم يدها وما تدعيه من دلالتها على ملكيتها لذلك
فإن قلت إنما قالت الآن أنها قالت إنه لابنها خوفا
قلت إقرارها بإقرارها أنه لابنها إقرار بأنه لابنها وقولها خوفها لا يزيل حكمه لأنه إن كانت كذبا فظاهر أنه لا يزيل حكمه وإن كان صدقا فإن كان معناه الخوف من غير إكراه فلا يزيل حكم الإقرار لأن ذلك عرض من الأعراض لا يزيل حكم التصرفات الشرعية والأقارير فالإقرار صحيح والمؤاخذة به واجبة شرعا سواء أكان المقر به صحيحا أم لم يكن فإن ذلك من الأمور الباطنة التي لم يكلفنا الشرع بحكمها
وهذه المرأة لم تدع الإكراه المانع من القبول الشرعي ولو ادعته لم يسمع منها إلا ببينة عليه أو على أمور تقتضي تصديقها فيه كما قاله الشافعي من ترسيم ونحوه وليس هنا شيء من ذلك فظهر القطع ببطلان الحكم بكون هذا المال لها وحدها وأنها مختصة به وظهر القطع بتكذيبها في دعواها ذلك وأعني بالقطع بتكذيبها القطع بحكم الشرع بذلك وإن كان يحتمل أن تكون في نفس الأمر صادقة إلا أن حكم الشرع أن ذلك لا يترتب عليه حكم لأنه من السرائر التي الله متوليها لعدم الطريق الشرعي إليها وأمر الشارع بالحكم الظاهر المخالف لها لحصول ظهور الشرعي فنحن في امتثال أمر الشرع مكلفون بطريقه لا بما في نفس الأمر ولله أن يقطع حكم ما في نفس الأمر إذا لم يقم عليه دليل ويحكم بالتكليف الظاهر الذي قام عليه دليل وإن خالف ما في نفس الأمر فالأحكام إنما هي تبع للأمر من الشارع سبحانه وتعالى فهو مالك الأموال والأبدان المتصرف فيها كما يشاء لا معقب لحكمه
فصل اليد دليل الملك ولكنها قد تنفرد بما يدعي عليها به وقد لا تنفرد كأمين الأيتام إذا كان في يده شيء يحتمل أنه له وأنه للأيتام فإن لم نتحقق دخول شيء للأيتام تحت يده فالقول قوله ولذلك إذا تحققنا ولكن هو غير العين المتنازع فيها
____________________
(2/450)
أما إذا احتمل كما إذا تحققنا دخول ألف درهم مثلا للأيتام في يده وجدنا عنده ألف درهم
فقال هي لي واحتمل ذلك واحتمل أن تكون هي عين الألف التي للأيتام كيف يقال هنا أن اليد دليل ملكه وإنما هي دليل أنها بحق وكلاهما حق فالوجه أن يقال إن لم يأت ببينة على اختصاصه بها وإلا فهي بينه وبين الأيتام وتصير يده والحالة هذه وكان ذلك الألف في يد شخصين لأنه في قوة شخصين ولعل هذا هو المأخذ في مشاطرة عمر رضي الله عنه العمال فإن العامل إذا دخلت الأموال التي في عمله في يده صارت يده كيدين إحداهما كيد نفسه والأخرى يد أصحاب تلك الأموال
فإذا جهل الحال جعلت الأموال بينهما فهذا وجه من وجوه الاحتمال في مشاطرة عمر العمال لم أسمعه من أحد ولكنه محتمل لا يدري كيف الحال وقد قيل إن سببه أنه رأى أنهم اتجروا واكتسبوا بجاه العمل فجعلهم كعامل القراض وقيل غير ذلك
وعمر رضي الله عنه أعلم منا وأتقى لله وأعرف بكل خير وأقوم بكل هدى وحق
وإنما غرضنا ذكر وجه آخر وهو متعلق بمسألتنا هذه كما ذكرناه ولنستفد ولنبحث عنه وقد اقتضى نظري عدم قبول قوله بانفراده بذلك بل يكون مشتركا بينهما عند عدم البينة يحلف هو على النصف له وتبقى اليمين في النصف الآخر إلى أن يبلغ اليتيم فيحلف وهكذا إذا كان وصي على يتيم معين قد قبض له شيئا ثم وجد في يد الوصي شيء من ذلك الجنس وتنازعا فيه
وهكذا عامل القراض يتنازع هو والمالك لكن هنا القول قول عامل القراض لأن العامل ائتمنه فيجب عليه تصديقه وكذا المودع يجب على المودع تصديقه لائتمانه إياه وإنما البحث الذي بحثناه في الأمانات الشرعية وفي أمين الأيتام وفي العمال وفي الأوصياء وما أشبه ذلك وائتمان الحاكم لهم ليس كائتمان المالك حتى يجب عليه تصديقهم بل حكم الأمانات الشرعية منسحب عليهم فإن صدقناهم في العين قبلنا قولهم فيما يدعون أنه لهم دون الأيتام والموصى عليهم وعمالهم وإن لم نصدقهم جعلنا ما بأيديهم مما يحتمل الاشتراك كالمشترك
ولم أر في هذه المسألة نقلا إلى الآن ولعلي أجده بعد ذلك إن شاء الله
____________________
(2/451)
تعالى هذه فائدة ذكرناها وليس بنا حاجة فيما تقدم إليها لأن الحكم بكون هذا المال لا تختص به هذه المرأة مقطوع به لإقرارها والبينة عليها كما قدمناه سواء أثبت لها حكم اليد المنفردة أم المشتركة أم لم يثبت
وإنما تكلمنا في هذه الفائدة لما يأتي بعدها لا للاحتياج إليه فيما قبلها فلنضبط ذلك لأجل ما سيأتي ولعل ما لعله سيقع من المسائل المحتاجة إلى النظر في ذلك فإنه أصل يحتاج إليه وتعم به البلوى
فصل قد يعترض معترض على القطع بعدم استحقاق المرأة وحدها بأن من أقر لولده ثم ادعى أنه هبة وقصد الرجوع له ذلك على أحد الأوجه
والجواب أنه إذا سلم إنما هو انفراد الإقرار وهنا قد شهدت البينة عليها أنه مخلف عن زوجها فلا يقبل قولها بعد ذلك إنها منفردة به وقد يقول المعترض إن ضعف المرأة وقرينة خوفها على ما في يدها يقتضي تصديقها
وجوابه أن ذلك وإن كان محتملا فالشرع لم يعتبره إذا لم يقم عليه دليل مع أن هذه القرائن معارضة بقرائن أخرى في هذه القضية الخاصة تقتضي بغير كلام هذه المرأة والارتياب في أمرها وبطلان قولها وإنها ليست محقة ولا هي من أهل الصدق لا سيما مع إخفائها ورقة الإشهاد الوديعة وورقة الوصية وإنكارها الوصية مع إخبار قاض كبير أنها جاءت إليه ورآها وأرسل إليها من شهد عليها بالتوكيل في إثباتها وأمور أخرى وهذه القرائن الدالة على أنها غير محقة أقوى من تلك القرائن التي تمسك بها المعترض وقد يقول المعترض إن لنا وجها فيمن قال وهبت وأقبضت ثم قال كذبت أنه يقبل قوله
والجواب أن ذلك غير ملتفت إليه ولا يتحقق جريان مثله هنا ونحن لا نريد بالقطع هنا إلا ما يوجب علينا الحكم ووجوب الحكم بما ذكرناه مقطوع به وإن كان فيه احتمال خلاف لا يلتفت إليه لبطلانه على أن هاهنا شيئا آخر يمنع من التمسك به وهو حضور اثنين في مجلس حكمي الذي أشرت إليه وشهدا على المرأة المذكورة أنها قبضت من ثمن قليل من تركة زوجها المذكور وعينا مقدار الذهب الذي قبضته بقدر موافق للمودع وإذا ثبت قبضها لذلك القدر وقد جحدته فقد لزمها فهذا إما هو وإما غيره فإن كان إياه فهو تركة فلا تنفرد
وإن كان
____________________
(2/452)
غيره فإن اعتمدنا إقرارها لابنها أو إقرارها أنه مخلف عن زوجها فلا تنفرد به وإن لم نعتمده وكان في نفس الأمر لها وقد قلنا إن نظيره يلزمها فيوجد للظفر به وهي منكرة فقد ظهر القطع على كل التقادير بعدم تمكينها منه
فصل لو اشتبه على حاكم وحكم به للمرأة على انفرادها بمقتضى يدها نقض حكمه وهذا ليس محل اجتهاد وهو أولى بالنقض من الأشياء التي يقال فيها ينقض قضاء القاضي إذا خالف النص أو الإجماع أو القياس الجلي أو القواعد الكلية لأن ذلك فيما إذا اجتهد
والإقدام على هذا الحكم في مسألتنا لا يتصور أن يكون عن اجتهاد بل عن جهل واشتباه فهو في معنى قول الحنفية أو يكون حكما لا دليل عليه على أنه مخالف لما علم من الشريعة من الحكم بالبينة أو الإقرار
فصل وأما الحكم بكونه مشتركا بينها وبين ورثة زوجها وهم ولدها الذي هنا والبقية الذين في بلاد العجم
هذا هو الظاهر إن سلم عن الريبة وهو مقتضى شهادة البينة على إقرارها أنه مخلف عن زوجها مع ثبوت إرث المذكورين منه وحينئذ يكون لها من المال نصف الثمن إن لم يعارضه إقرارها لابنها والباقي مقسوم على فرائض الله لباقي الورثة وهو أيضا مقتضى جواب وكيل الشخص الذي في يده الوديعة لما ادعى عليه
وأجاب بأنه لورثة مغلطاي واستفسروه عن الإيداع فلم يجاوب عنه
قلت لا يلزمه الجواب ولو أجاب وقال بعد ذلك هي أودعته لم يكن له حكم لأنه صاحب يد لو ادعاه لنفسه قبل قوله فيه فإذا أقر به لمعين وهم ورثة مغلطاي تعلق حقهم به فإذا قال بعد ذلك إنه من جهة هذه وديعة لم يكن ذلك مبطلا حق المقر لهم لسبقه فلا التفات إلى قولها المخالف لذلك بعده
وهذا عندي لا شك فيه إذا تقدم الإقرار به للورثة كما قدمناه في جواب الوكيل بخلاف ما إذا تقدم الإقرار بالإيداع منها بعد ذلك قال إنها قالت إنه من تركة زوجها فيحتاج في ذلك إلى بينة وإذا كان المودع أهلا لقبول شهادته وقد أتى بالمال إلى مجلس الحكم فيخلص منه فلا يمتنع أن يثبت ذلك شهادته مع يمين الشخص إن كان بالغا أو يؤخر إلى أن يبلغ فيحلف مع شهادة ويثبت له ولو فرضنا أنه لم يتراخ الإقرار للعد به عن
____________________
(2/453)
الإقرار بالإيداع بأن قال أودعتنيه للورثة فهل نقول القول قوله لأنه لو ادعاه لنفسه قبل ومن كان القول قوله في شيء كان القول قوله في صفته وقد أقر بالإيداع على صفة أو نقول قوله سمع في الإيداع فثبت حقها ونحتاج إلى إخراج الملك عنها إلى بينة وهو محل نظر وقد وقعت لي هذه المسألة مرة في الواقعة ومرة في شخص توفي قال شخص إنه سلمني هذا المال وقال هو لوالدتي وملت إلى قبول قوله واختصاص الأم به عن بقية الورثة لعدم منازعة الميت وقول ذي الميت مقبول ما لم ينازعه من استفاد اليد من جهته كما إذا كان في يده عين فقال إنها لفلان وإنه وكيل في بيعها جازت معاملته فيها وشراؤها منه بغير بينة على الموكل لأن المعقود يرجع فيها إلى العامل صاحب اليد لكن لو جاء صاحبها وأنكر التوكيل قبل قوله وبطل البيع للاعتراف له بالملك والميت ليس منازعا وقيام ورثته في المنازعة مقامه فيها نظر فلذلك ملت إلى قبول قول الوصي المأذون له في دفعها إلى والدته ولست جازما بذلك وقد رأيت في روضة الحكام لشريح الروياني أنه إذا كان في يد رجل مال الميت
فقال أوصى إلي رب المال أن أصرفه في كذا فهل يقبل قوله فيه وجهان وهذا كلام شريح الروياني ويستأنس به لما قلناه وإن لم يكن إياه هذا في مسألة الميت ومسألتنا هذه الواقعة رتبة بين الرتبتين تفارق مسألة الميت لأن المودعة هنا باقية منازعة وتفارق مسألة الوكيل لاعتراف الموكل للملك بالمدعي وهنا المودع لا يعترف للمودعة بالملك فلذلك أنا متوقف فيها
وهذه فائدة أبديتها لا احتياج إليها فيما نحن فيه لقيام البينة عليها بما يقتضي أنها تركة فلا التفات إلى منازعتها
فالحكم بكون هذا المال إرثا عن الزوج لها ولابنها ولبقية الورثة في محل الاحتمال إذا حكم به نائبي أو غيره من حكام المسلمين نفذ حكمه وإنما لم أقطع به لقول المودع إنها قالت له قبل قولها للشهود الثانية إنه لابنها كما ادعى أن شهود الإيداع شهدوا به ولو ظهر ذلك الإشهاد كفى ولكنه لم يحضر وفي قبول قول المدعى عليها ما قدمناه من النظر وإذا كان أهلا لقبول شهادته جاز أن يشهد عليها بذلك إذا لم يكن خصما ويحلف ابنها معه إذا بلغ
____________________
(2/454)
إن لم يكن المال من التركة أو كان منها ولكنه اختص به الابن المذكور بطريق من الطرق كقسمة حاكم أو نحوها وقد قال المودع إنها قالت هو لابني من تركة والده فيحتمل أن يكون ذلك بظنها أن لا وارث معها سواه وتكون قد أخذت نصيبها وبقي هذا له
وهذا كله فرع قبول المودع عليها وهو محل توقف ويحتاج أيضا في الحكم للورثة الغائبين إلى اتصال ثبوت حاكم تلك البلد
وقد حصل اتصاله إلى نائبي وعندي نظر في الاكتفاء بذلك من غير ثبوت أن ذلك الحاكم له ولاية شرعية فإن في هذه البلاد نحن ننفذ أحكام الحكام الذين علمنا ولايتهم والذين استفاض عندنا ولايتهم وما يزال في نفسي شيء فإن الفقهاء تكلموا في الإشهاد على ولاية القاضي والاكتفاء بالاستفاضة وجهان أصحهما الاكتفاء والمفهوم من كلامهم أن ذلك في وجوب الأخذ بقوله على أهل بلد ولايته ولم أر لهم تصريحا بالكلام في اتصال ذلك بحاكم آخر ولا شك أن الحكم بتنفيذ حكمه ينبغي أن يتوقف على ثبوت ولايته عند القاضي الذي يريد التنفيذ بحكمه
فإن ثبت ذلك ببينة سمعت لفظ من ولاه من إمام أو قاض له توليته فذاك وإن كان مستند البينة الاستفاضة خرج على الوجهين
وفي ثبوت ولاية القضاء بالاستفاضة وإن لم تقم بينة أصلا ولكن استفاض عند القاضي فهل له الاكتفاء بذلك جزما أو ليس له ذلك جزما أو يتخرج على القضاء بالعلم لم أر للأصحاب تصريحا بذلك والأقرب تخريجه على القضاء بالعلم والعمل على الاكتفاء وذلك إنما يكون تفريعا على الاكتفاء بالاستفاضة وعلى الاكتفاء بالعلم وفي كل منهما خلاف ولم أر أحدا من القضاة توقف في ذلك ولا تكلم فيه وهذا كله في القضاة الذين عندنا في هذه البلاد وكذا قاض اشتهر عندنا اسمه من بلاد بعيدة واشتهر عندنا أهليته
أما حضور مكتوب من قاض لا يعرف في بلاد بعيدة فقبوله وترتيب الحكم عليه في محل التوقف وشهادة الشهود الذين شهدوا في المكتوب عليه بأنه قاض في قبولها نظر والأقرب قبولها إذا قلنا نكتفي بالاستفاضة لكن يحتاج معها إلى معرفتنا بالأهلية فهل إذا جهلناها يكتفى بكونه منتصبا للقضاء والغالب أنه لا تقتضيه كذلك
____________________
(2/455)
الأمر هنا قال أولا فيه نظر والأقرب الأول وكذا إذا جهلنا من ولاه هل هو سلطان ذو شوكة نافذ الأحكام أو لا يحمل الأمر على ذلك أولا فيه نظر والأقرب لأن البلاد الإسلامية لا يكون فيها غالبا إلا ذلك وقد يضعف ذلك في البلاد التي لم نتحقق قوة تردد الأحكام الشرعية فيها فيقلد بالعمل بذلك والحكم به فيه ما فيه حتى تحصل معرفته والإنذار بتسلم طريق الثبوت عن الريبة والبلاد بعيدة والشهود لا يدرى ما حالهم والتلبيس كثير فهيهات السلامة عن الريبة
وهذا الولد محقق ووالده لم يذكر أن له أولادا أخر فعندي في الحكم بالشركة مع هذه الريبة توقف
وأيضا فقد قيل إن للميت أموالا أخرى في تلك البلاد فعلى تقدير وجود أولاد هناك تكون تلك الأموال نظير مالهم من هذا المال فالحكم بإخراج بعض هذا المال عن هذا الولد المحقق الثابت النسب بلا ريبة مع إقرار التي كان في يدها له عندي فيه توقف كثير فإن أقدم حاكم على الحكم بذلك مع هذه الريبة فحسابه على الله ويعرفه الذي ولاه وإن له أهلية التولية وإذا حكم بذلك كما قلناه فيقسم هذا المال على ثمانية وأربعين سهما للزوجة الغائبة بحق الثمن ثلاثة أسهم ولكل بنت سبعة أسهم وللابن الغائب أربعة عشر سهما وللابن الحاضر بالإرث أربعة عشر سهما وله بمقتضى إقرار أمه ما كان يحصل بحق نصف الثمن لولا إقرارها في مجلس حكمي وهو ثلاثة أسهم فيجتمع له سبعة عشر سهما وليس لأمه شيء بل تحرم بمقتضى إقرارها مؤاخذة لها أعني الإقرار في مجلس الحكم بأنها كانت أقرت أنه لابنها
فصل وليس لها وضع يدها على شيء من ذلك لأنها أقرت أنها ليست وصية ولا للمودع بعد ذلك أن تستمر يده عليه لأنه إنما جاز له قبول الوديعة على أنها وصية والآن قد أنكرت فيجب دفعها إلى الحاكم حتى يثبت مستحق وقد أذن له من جهة الحكم العزيز في حفظه من جهة الحكم حتى يثبت مستحقه
فصل وقد حصلت الشهادة عليها بقبضها من الذهب في الإسكندرية مبلغا قدره قدر هذه الوديعة فإذا ثبت ذلك لزمها ولا يقبل قولها في التلف بعد ذلك
____________________
(2/456)
لأنها منكرة لأصل القبض فيجب عليها المبلغ المذكور ولا يقبل قولها أنه هو هذا لجحودها ولإقرارها أن هذا لابنها
فإن شهدت الشهود أن هذا بعينه هو الذي قبضته من تركة أبيه لم يلزمها شيء آخر وإلا فيلزمها مع هذا المال إذا حكم به لابنها نظيره وهو ما كانت قبضته من التركة
فالحاصل أن هذا المال بمقتضى إقرارها الأخير في مجلس الحكم لابنها لا حق لها فيه لا من الثمن ولا من غيره ولكن هذا الإقرار مسبوق بالإقرار الذي شهد به الشهود الذين كانوا حاضرين عند نائبي مخلف عن زوجها فلا يقبل في غير نصيبها ويقبل في نصيبها إلا أن يظهر المكتوب وشهوده المتضمن إقرارها أنه لابنها فيكون كله للابن ويلغى الإقرار المتوسط ما لم تقم بينة على أنه يعتبر من غير التركة فيكون لجميع الورثة إلا هي لمؤاخذتها بإقرارها فيكون نصيبها لابنها
فصل وأما الحكم بكونه لولدها وحده فإن ظهرت البينة التي قالها المودع وثبت بشهادتها إقرارها ولم يثبت كون عين تلك الوديعة من التركة ولا قالته المرأة عند الإيداع فصحيح لازم ولا يضرنا ثبوت ورثة آخرين لاحتمال أن يكون هذا المال من عين التركة وإن كانت قالت إنه له من التركة فإن ثبتت قسمة أو أمر يقتضي اختصاصه حكم باختصاصه وإلا فلا بل تكون بينه وبين بقية الورثة ما عداها وكذلك إن ثبت بالبينة أنه من عين التركة وإذا ثبت أنها وضعت يدها على التركة ولم يعرف قدرها وقبلنا قولها في أن هذه الوديعة لابنها من التركة وحملناه على أن ذلك بقسمة صحيحة اقتضى أن يلزمها مع ذلك لبقية الورثة لكل ابن مثله ولكل بنت مثل نصفه وللزوجة الأخرى مثل نصف سبع مجموع ذلك لأنها وصية قد وضعت يدها على التركة وأقرت باستحقاق ابنها منها ذلك فيلزم منه استحقاق الباقين ما قلناه وهي الوصية الواضعة يدها فتطالب به ولا يقبل قولها في التلف لإنكارها الوصية ولا يفيدها إنكار الوصية في دفع المطالبة إذا كانت الوصية ووضع اليد ثبتا بالبينة قبل ذلك وبعد ذلك حضر محمد بن علي بن سالم القرعوني وهو أحد الشهود الذي قال المودع عنهم وشهد عندي على
____________________
(2/457)
إقرارها أنه لابنها من تركة والده وأنه كتب المكتوب بخطه
وكذلك شهد عندي بذلك رفيقه علاء الدين علي بن رسلان الحراني وإنهما عارفان وإنهما بالغان زوجة بدر الدين الآن وشهد ثلاثة عليها إنها قبضت من إسكندرية من ثمن الفلفل المبيع من تركة زوجها خمسمائة وخمسة عشرة دينارا
فصل قولها أنه من التركة يقتضي استحقاق جميع الورثة له وكذا قولها أنه مخلف عن زوجها لأن ظاهر كونه مخلفا عنه أنه تركة له وإن احتمل أنه موص به أو مختص ببعض ورثته أو غير ذلك وقولها أنه لابنها من تركة أبيه أو مما خلفه أبوه أو عن أبيه قد قدمنا الكلام فيه وأنه محتمل لأنه خصه بقسمة حاكم أو نحوها وهو مقبول عليها ولا يقبل على غيرها من الورثة إلا ببينة إذا لم يجعل قولها مقبولا أما إذا جعلنا قولها مقبولا كما ذكرناه في نظيره فيعود فيه ما تقدم بعينه والله أعلم
فصل إذا تعذر الاعتماد على إثبات يمكن الاستغناء عنه بشهود يشهدون على وجود الورثة في تلك البلد ويزكون عندنا فيثبت ويعمل بمقتضاه ولا حاجة إلى تنفيذ حكم ذلك القاضي ولا إثباته
فصل وقد تضمن المكتوب الثابت على قاضي تلك البلاد وتوكيله على الأيتام وتوكيل البالغين لوكيل والإذن للوكيل في التوكيل ووكل ذلك الوكيل غيره فيمكن الاستغناء أيضا بشهود يشهدون على البالغين بالتوكيل
وأما الإمام فإن ثبت وجودهم هناك ولم نعلم حال القاضي الذي هناك وثبت عندنا وجودهم حفظنا مالهم أو أرسلنا مع من يؤمن ليوصله إلى من يتولى من الثقات هناك إن كان قاض فهو وإلا فقيه غيره
كتبه علي السبكي يوم الأربعاء سادس عشر من جمادى الآخرة سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة بظاهر دمشق المحروسة
باب القضاء على الغائب
مسألة الدعوى على الغائب مسموعة والحكم عليه سائغ عندنا فإذا ادعى عليه حاضر بالغ بدين وأقام بينة وحلف معها قضي له وإن لم يحلف لم يقض له في الأصح
وهذه اليمين لنفي المسقط لأن الغائب لو كان حاضرا كان له طلب اليمين فقام القاضي مقامه
____________________
(2/458)
459 مسألة ثانية لو كان المدعى عليه حاضرا فادعى البراءة من الدين الذي ادعاه المدعي قال القفال وتلميذه القاضي حسين ألزم بدفع الحق وكان دعواه القضاء والإبراء دعوى أخرى والمشهور أنه لا يؤمر بدفع الحق على الفور بل إن أتى ببينة قريبة سمعت وإن لم يأت حلف المدعي ثم يؤمر بالدفع ولو أراد التأخير لإحضار بينة لم يمهل أكثر من ثلاثة أيام
فهذه المسألة لا معارضة فيها للأول لأن الثاني قد أقر فهو الذي ألزم نفسه بخلاف الغائب
مسألة ثالثة ادعى وكيل عن غائب على حاضر فقال أبرأني من ذلك أمرناه بالدفع إلى الوكيل من غير تحليف لأنه أقر فألزم نفسه بإقراره والوكيل لا يمين عليه والتأخير إلى حضور الموكل لا وجه له مع إقراره بلا معارضة في هذه المسألة الأولى
مسألة رابعة ادعى قيم صبي على حاضر فقال إن أتلف لي مالا بنظير ذلك لم يسمع بل عليه مصادمة الذي أثبته القيم فإذا بلغ الصبي حلفه كذا ذكره الرافعي وجعله خليفة الوكيل وسببه إقراره كما أشرت إليه في المسألة الثانية والثالثة فيهما
وهذه المسألة من واد واحد والمسألة الأولى والرابعة والخامسة من واد واحد لكن الظاهر في التحليف لإمكانه وفيهما عدمه لعدم إمكانه وعدم فائدته
مسألة خامسة لو كان الحق المدعى به لصبي أو مجنون ادعاه وليه على غائب وأقام بينة أو على حاضر فأقر وادعى القضاء أو الإبراء من والد الصبي الميت فأما الحاضر فيتجه الحكم عليه إذا لم تكن له بينة ولا يؤخر إلى أن يبلغ ليحلف لأنه ألزم نفسه بإقراره كما ذكرناه في المسألة الثانية والثالثة وأما الغائب فيحتمل أن يقال يؤخر الحكم عليه إلى بلوغ الصبي وإفاقة المجنون ليحلف ويحتمل أن يقال يحكم عليه الآن لأن الحق قد ثبت فلا يؤخر بالاحتمال وغاية ما يلزم الصبي بعد بلوغه الحلف على عدم العلم وهو كالحاصل
مسألة سادسة لو كان الحق لصبي على صبي
قال القاضي حسين احتمالين في التأخر إلى البلوغ فيحلف وبناهما على أن اليمين واجبة أو مستحبة واقتضى هذا البناء وجوب الآخر من عدم الحكم وذكر الرافعي ذلك وسكت عليه
____________________
(2/459)
والظاهر عندي الحكم وعدم التأخير لما ذكرته في المسألة الرابعة في الغائب
والمسألتان سواء لا فرق بين أن يكون لصبي على صبي أو لصبي على بالغ غائب لكن احتاط القاضي فيهما بأخذ كفيل إن أمكن وإن لم يمكن فلا وجه إلا لقضاء الحق لمستحقه وتأخره مع الظهور بالوهم بعيد لا سيما وهو يبقى معرضا للضياع وهذه المسألة تقع كثيرا في مال الأيتام
وقد اغتر بعض القضاة بكلام الرافعي فيهما وصار يتوقف عن الحكم
وعندي لا وجه لذلك والله أعلم
كتبه علي السبكي في يوم الأربعاء 19 شوال سنة 749
فرع ليس بمنقول وأذكر أنه استفتى فيه بالقاهرة من أكثر من أربعين سنة يقع كثيرا في مكاتيب أقر زيد بن عمرو بن خالد مثلا لفلان بكذا وبذيله شهادة شهود بذلك وهم ذاكرون الشهادة وأدوها وثبت ذلك المكتوب بشهادتهم
ويقع الاختلاف في نسب زيد وربما يكون في المكتوب أنه شريف حسيني أو حسني أو غير ذلك مما يقصد إثباته ويقال إن هذا المكتوب ثابت على القاضي الفلاني فهل ذلك مستند صحيح أم لا والجواب أن هذا ليس مستندا صحيحا في إثبات النسب المذكور فإن المشهود به إنما هو إقرار بكذا للمقر له
وهو على حالين تارة لا يكون الشهود يعرفونه فيشهدون على حليته وشخصه والأخلص في ذلك أن يكتب أقر من ذكر أن اسمه فلان بن فلان الفلاني وعند الأداء لا يشهدون إلا على شخصه فهذا لا يتعلق بالشهادة بالنسبة وتارة لا يكتب الشهود ذلك مع عدم معرفتهم به وهو تقصير منهم وقد يقع ذلك كثيرا لأنه قد كثر ذلك وعرف أن الاعتماد على تسمية الشخص نفسه ما لم يقولوا وهو معروف فيغتفر للشهود ذلك فإن قال وهو معروف فلا بد من المعرفة به وهو كثير من الناس لا يعرفهم الشخص معرفة جيدة ويعاشرهم معاشرة طويلة ولا يعرف أباه ولا نسبه فإذا أشهده على نفسه من احتاج أن يسأله أو يسأل غيره عن نسبه ويكتبه اعتمادا على إخباره أو إخبار غيره من غير أن يكون حصل عندهم علم أو ظن قوي يسوغ له الشهادة بذلك النسب هكذا الواقع بل في المشهورين الذين نعتقد أنهم معروفون بالنسب لتكرر ذكر الشخص أباه
____________________
(2/460)
وجده أو ذكر غيره لهما من غير انتهاء إلى تواتر أو استفاضة أو ركون بحيث يقال إن ذلك مسوغ للشهادة فكثير ممن هو مشهور بين الناس بالشرف لو سئلنا أن نشهد له بالشرف لم يخلصنا ذلك مع أنا نطلق عليه الليل والنهار في مخاطبتنا له ولغيره بالشرف
وكذلك جميع الأنساب وما ذاك إلا للعلم بأن الإطلاق في العرف محمول على الاعتماد على ذلك من غير انتهاء إلى الرتبة المسوغة للشهادة ولا شك أن ذلك يحصل ظنا ضعيفا وذلك الظن الضعيف يكفي في إطلاق التخاطب ولا يكفي في الشهادة وكأنا إذا قلنا يا شريف أو جاء الشريف وما أشبه ذلك موافقا الشريف على ما ذكرنا فإذا رأينا مكتوبا ليس مقصوده إثبات النسب لم نحمله على إثبات النسب ولا يجوز التعلق به في إثباته إذا كان المقصود منه غيره وقد عرض لي في ذلك بحث لا بد من ذكره والجواب عنه وهو أن الفقهاء احتجوا على صحة نكاح الكفار بقوله تعالى امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة وقوله وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك وما أشبه ذلك وتمسكهم بذلك على صحة أنكحة الكفار دليل على أن وضع هذا الكلام الإخبار بأنها امرأته وقولنا قال زيد بن عمرو كذلك فيكون إخبارا بأنه ابن عمرو فتحصل الشهادة بذلك فيقتضي ثبوته
والجواب أن قول الله تعالى وقالت امرأة فرعون يقتضي أنها امرأة فرعون ودلالته على ذلك دلالة التزام ودلالة على الإخبار عنها بالقول دلالة مطابقة والله تعالى عالم بكل شيء وهو يعلم كون تلك المرأة المعينة المخبر عنها بالقول هل هي امرأته أم ليست امرأته فلما قال وقالت امرأة فرعون اقتضى أنها امرأة فرعون إذ لو لم تكن امرأة فرعون لم يصح نسبة القول إلى امرأة فرعون وقد نسب القول فيها في أصدق الكلام فدل على أنها امرأة فرعون قطعا التزاما لما ذكرناه
وأما الشهود فليسوا عالمين بحقائق الأمور فإن شهدوا على الشخص أو بالحلية ولم يتعرضوا للنسب فلا كلام وإن قالوا نشهد على زيد بن عمرو خالد الحسني وصرحوا بالشهادة بنسبه ونسبته رجعنا إليهم وإن لم يصرحوا فيحمل كلامهم على ذلك لما يعلم من جهلهم بحقائق الحال والنسب وغالبا وأنهم إنما اعتمدوا على أدنى ظن فكانت
____________________
(2/461)
الدلالة الالتزامية في كلامهم ضعيفة ولو كانت قوية لم يعتمد عليها في الشهادة لأن المشهود به الذي يقصد إثباته لا يكتفى فيه بدلالة الالتزام بل لا بد أن يذكره الشاهد ويدل عليه قوله مطابقة وأما كلام الله تعالى فيحتج به وبما يدل عليه مطابقة كان أو التزاما فافهم الفرق بين الموضعين
والله سبحانه أعلم
كتبه علي بن عبد الكافي يوم الأربعاء سابع عشر شهر صفر سنة أربع وخمسين وسبعمائة بظاهر دمشق
انتهى
ثم كتب الشيخ الإمام عقيبه ما نصه فرع شبيه بهذا وتعم به البلوى أكثر من الأول نجد كتاب مبايعة أو وقف أو غيرهما بعقار أو دار أو أرض أو قرية أو نحوهما يشتمل على حدود ويقع اختلاف في تلك الحدود ويطلب منا إثبات أن الحدود كما تضمنه ذلك الكتاب وما فعلته قط لأن المشهود به في البيع أو الوقف أو نحوهما هو العقد الصادر على المحدود بتلك الحدود وقد لا يكون الشاهد عارفا بتلك الحدود ألبتة وإنما سمع لفظ العاقد فهو الذي شهد به والحدود محكية من كلام العاقد وهكذا إذا كان كتاب إقرار فالمشهود به إقراره بذلك والحدود من كلامه لا من كلام الشاهد وهذا ظاهر في العقود والأقارير وظهوره في الأقارير أكثر لأنها من كلام المقر لا من كلام الشاهد وفي العقود دونه لأن الشهادة بالعقد من كلام الشاهد وحكايته عن حضوره العقد وسماعه فهو شاهد بالبيع والوقف لا بالإقرار بهما فلا بد من علمه بصدور البيع عن المبيع والوقف على الموقوف
لكنا نقول إن ذلك لا يستدعي معرفة المبيع والموقوف لجواز أن يقول بعتك البلد أو الدار التي حدها كذا ولا يكون عند الشاهد علم أكثر من ذلك فيسوغ له أن يشهد على جريان البيع على الحدود وإن لم يعرفه ولا حدوده بقي علينا شيء واحد وهو قد يشكل وهو الشهادة بالملك والحيازة فكثيرا ما يقع هذا في كتب المبايعات والأوقاف مستقلا تقوم بينة أن فلانا مالك حائز للمكان الفلاني الذي حدوده كذا ويكون ذلك المكان معروفا مشهورا لا منازعة فيه وتقع المنازعة في حدوده أو في بعضها والشهود قد ماتوا بعد أن ثبت المكتوب بشهادتهم وقصد الذي بيده المكتوب أن يتمسك به في الحدود وينتزع من صاحب
____________________
(2/462)
يد بعض ما في يده بمقتضى ذلك المكتوب ويدعي أن تلك الحدود ثابتة له بمقتضى مكتوبه وقد طلب مني ذلك فلم أفعله لأني أعلم بحسب العادة أن الشاهد قد يعلم ملك زيد للبلد الفلاني مثلا علما يسوغ له الشهادة بملكه ويده وذلك البلد مشتهر وتحقيق حدوده قد لا يحيط علم الشاهد بها فيشتملها ممن يعرفها هكذا رأينا العادة كما يشهد على زيد الذي يعرفه ويتحققه ولا يتحقق نسبه فيعتمد عليه أو على واحد فيه فالتمسك في إثبات الحدود كالتمسك في إثبات الشرف ونحوه هناك بذاك
والذي يظهر لي في ذلك أن من كانت يده على شيء واحتمل أن تكون يده بحق لا تنزع إلا ببينة تشهد بأن يده عادية ولا يعتمد في رفع يده على كتاب قديم بتلك الشهادة التي لا ندري مستندها
والله أعلم
كتبه علي السبكي في التاريخ المذكور
انتهى
كتاب القسمة مسألة رجلان بينهما شركة في أنساب وبساتين وهما مستأجران للأرض الحاملة لذلك طلب أحدهما قسمة الأنساب والبئر هل يجبر الممتنع أجاب لا إجبار في البئر في الأرض المحتكرة صغيرة كانت البئر أو كبيرة ولا في الأنساب إن اختلف جنسها أو نوعها أو قيمتها بحيث لم يمكن التعديل وإن اتحد النوع وأمكن التعديل فعندي فيه توقف والله أعلم
انتهى
مسألة من النحرارية قسمة رد ظهر فيها عين كره وكانت بالتراضي لم أكتب عليها والذي يظهر من كلام الأصحاب أنه لا رد لكن كلام الإمام والغزالي في الوجيز يدل على أنها إذا جرت بلفظ القسمة ترد لاقتضاء لفظ القسمة التعادل وهذا عندي قوي وهو مما أستخير الله فيه ولم أجسر على الفتوى به حتى أتروى فيه إن شاء الله
فتوى من قاضي حماة في صفر سنة 49 في قسمة أرض نصفها ملك ونصفها وقف وأحد طرفيها يلي النهر دون الآخر وهي مختلفة الأجزاء
الجواب مذهب الشافعي رحمه الله أن هذه الأرض لا يجوز قسمتها ولا يجاب صاحب الملك إلى ما سأله من القسمة لا إجبارا ولا باختيارهم وقسمة مثل هذه الأرض بيع وبيع الوقف لا يجوز
وقد اختار الروياني جواز قسمة الملك من الوقف
____________________
(2/463)
ووافقه النووي ومستندهما المصلحة ولكن ليس هو الصحيح من مذهب الشافعي ولا عليه الفتوى ولا عمل القضاة الشافعية والله أعلم
قال ولده سيدنا قاضي القضاة أبو نصر تاج الدين سلمه الله أملى علي والدي الشيخ الإمام رضي الله عنه سئل والدي عن قسمة الحديقة المساقاة عليها قبل انقضاء مدة المساقاة يصح أو لا وهل يجبر الممتنع من الشريكين أو لا وهل يشترط رضا العامل أم لا وهي قابلة لقسمة التعديل الجواب تصح ويجبر الممتنع عليها ولا يشترط رضا العامل ويبقى حقه بعدها كما كان قبلها ولكن يحذر من الربا بأن تجري القسمة بعد وجود الثمرة ويقع في كل من النصيبين فيصير بيع رطب ونخل بمثله وهو باطل من قاعدة مد عجوة
هذا الجواب الجملي في المسألة وأما التفصيلي فالكلام في فصلين بيع الحديقة المساقاة عليها ثم قسمتها
أما الفصل الأول فقال الرافعي بيع الحديقة المساقاة عليها في المدة تشبه بيع المستأجر ولم أر له ذكرا نعم في فتاوى صاحب التهذيب أن المالك إن باعها قبل خروج الثمرة لم يصح لأن للعامل حقا في ثمارها فكأنه استثنى بعض الثمرة وإن كان بعد خروج الثمرة يصح البيع في الأشجار ونصيب المالك من الثمار ولا حاجة إلى شرط القطع لأنها مبيعة مع الأصول ويكون العامل مع المشتري كما كان مع البائع وإن باع نصيبه من الثمرة وحدها لم يصح للحاجة إلى شرط القطع وتعذره في الشائع
انتهى
واستحسن النووي ما قاله البغوي وألحقها ابن الرفعة ببيع الثوب عند القصار الأجر على قصارته قبل العمل وكل عين ثبت لمن هي في يده حق حبسها ليستوفي ما وجب له بسبب العمل فيها لأن المساقاة عقد لازم وقد استحق العامل أن يعمل فيها ما يستحق به أجرا
قال وبعض الناس كان يقول يتجه أن يتخرج على بيع الأعيان المستأجرة من حيث إن العامل قد استحق جزءا من الثمرة الذي مقتضى العقد أن يكون للبائع وغفل عن ملاحظة هذا المأخذ
وأقول وبالله التوفيق كلا الكلامين معترض أما كلام صاحب التهذيب فلأنه علل البطلان قبل خروج الثمرة بأن للعامل جزءا في الثمرة
____________________
(2/464)
فكأنه استثنى بعضها ومراده بخروج الثمرة وجودها لا تأبيرها فإنه إذا باع نخلة وعليها ثمرة غير مؤبرة واستثناها لم يبطل العقد بلا خلاف وإذا لم يكن عليها ثمرة فاستثنى ما يحدث من ثمرتها بطل العقد كما صرح به الخوارزمي وإن كان أظهر من أن يعزى إلى نقل فنزل صاحب التهذيب استحقاق العامل لما من الثمرة منزلة استثنائه لفظا ولو استثناه لفظا لبطل العقد فكذلك هذا
ولو كان مراده التأبير لم يضر
ولم يتم استدلاله لما بيناه لكنا نقول إن استحقاق العامل استثناء شرعي فلا يعطى حكم الاستثناء اللفظي كما فرقوا بين الاستثناء الشرعي واللفظي في المنافع فإنه لو باع عينا واستثنى منفعتها شهرا لم يصح عند الجمهور ولو باع عينا مستأجرة صح في الأصح وصاحب التهذيب يوافق على أن التصحيح بيع العين المستأجرة وقال إنه الأصح فإن الشافعي رحمه الله نص عليه في الصلح
فإن قلت قد يفرق صاحب التهذيب بين المنافع والأعيان فيلحق الاستثناء الشرعي باللفظي في الأعيان دون المنافع
قلت قد اتفق الأصحاب على أنه لو باع الماشية الموصى بنتاجها صح البيع إذا وقع في غير حالة الحمل
ونص هو وشيخه القاضي حسين وغيرهما في كتاب الوصايا عند الكلام في الوصية بمنفعة الدار وخدمة العبد وثمرة البستان وأنه يعتبر من الثلث قيمة الرقبة كاملة على الأصح المنصوص أو ما بين قيمتها بالمنفعة ودونها على قول ابن شريح رحمه الله والفرق بين المؤبد والمؤقت فذكروا عن الحصري تفصيلا استحسنه القاضي وهو أنه إن كان مؤبدا أو مؤقتا بعام مجهول يفوض للوارث تعيينه أو يوصي بثمار بستانه مثلا لعام فإن لم يثمر العام استحق ثمرة العام الثاني فلا يجوز بيعه العبد إن جعل له خدمته عاما حتى إن مرض هذا العام خدم عاما آخر لا يجوز بيعه فيعتبر خروج رقبته فأما إذا عين خدمة عام معلوم أو ثمرة البستان عاما معلوما بحيث إن أخلف لم يستحق الموصى له بعد ذلك شيئا ففي جواز بيع هذا العبد أو هذا البستان قولان كالقولين في بيع العبد المستأجر فإن لم يجز البيع ما لم ينقض زمان الوصية فيعتبر خروج الرقبة من الثلث
____________________
(2/465)
لأن الحيلولة حاصلة بين الورثة والرقبة والحيلولة لا تجوز ما لم يخرج الشيء من الثلث كما لو باع شيئا بثمن مؤجل وإن لم يكن فيه محاباة وإن جوز بيع هذا العبد أو هذا البستان فحينئذ يعتبر خروج النقصان من الثلث كما قال ابن شريح
ففي هذا النقل تصريح بأن بيع الشجرة الموصى بثمرتها سنة مخرج على العين المستأجرة وإن كانت الثمرة عينا مستثناة شرعا مع أنها إذا استثنيت لفظا لا يصح على ما تقدم مع أن الخلاف في ذلك إنما يأتي إذا كانت الثمرة كل منفعة الشجر أما إذا كانت بعض المنفعة فينبغي القطع بالصحة كما تقدم عن الأصحاب القطع بصحة بيع الموصي بنتاجه لبقاء بعض المنافع وعلى كل تقدير ظهر أن الاستثناء الشرعي في ذلك لا يقدح
ولا شك أن الاستثناء اللفظي في ذلك قادح كما صرح به الخوارزمي على ما قدمناه فيما إذا باع نخلة لا ثمرة عليها واستثنى ما يحدث من ثمرتها باطل وعلى قياسه بيع الجارية واستثناء ما يحدث من حملها فقد ظهرت التسوية بين المنافع والثمار والحمل المعدوم في الفرق بين الاستثناء الشرعي واللفظي فيصح الأول والثاني ومسألة المساقاة من الاستثناء الشرعي فوجب أن يصح في الأصح
فإن قلت كيف يستمر لكم الفرق بين الاستثناء الشرعي واللفظي في الأعيان وقد سووا بينهما في الحمل الموجود فلو باع جارية حاملة بحر بطل عند الجمهور أيضا خلافا للإمام والغزالي في أحد قوليهما ولو باع جارية موصى بحملها الموجود لغير مالك الأم فكالحامل بحر كما صرح به الأصحاب فقد سووا في ذلك بين الاستثناء اللفظي والشرعي صريحا
قلت إنما سوينا بين الشرعي واللفظي في الحمل الموجود لاشتراكهما في استثناء جزء أو منزل منزلة الجزء مجهول قدرا وصفة لا يصح إفراده في البيع فأشبه استثناء يد الجارية والمعنى فيه تعذر تسليم ما وقع عليه العقد وحده وكذا قلنا في بيع الشاة إلا يدها إن كانت حية لم يصح للمعنى المذكور وبعد الذكاة يصح إذا كان اللفظ معلوما كالأرض لا مكان التسليم فعلم بهذا أن المأخذ تعذر تسليم المبيع على حاله والحامل بحر لا تدخل في البيع بتعذر تسليمها بدونه وليس لتأخر التسليم غاية معلومة لأن مدة الحمل تطول وتقصر مع ما في جهالة الحمل المستثنى وعدم العلم
____________________
(2/466)
بقدره وصفته فجر ذلك غررا عظيما فلم يصح سواء استثنى لفظا أو شرعا والثمرة بعيدة عن ذلك لأنها معلومة ويصح إفرادها ويمكن تسليم الشجرة بدونها فصح استثناء الموجود منها لفظا أو شرعا والثمرة المعدومة إذا استثناها لفظا خالف ما يقتضيه العقد من حدوثها على الملك المشترى ولا يأتي فيها الخلاف في استثناء المنافع لأن هناك نقدر كأنها انتقلت إلى المشتري وعادت إليه بإجارة ولا يمكن تقرير ذلك هنا وإذا استثناها شرعا فقد أحل المشتري محله وملكه جميع ما كان يملك والمنافع معلومة ويصح إفرادها لكن يمنع من التسليم ففي الاستثناء اللفظي أبطلنا لأنه كشرط تأخير التسليم مع القدرة عليه فإن مقتضى البيع استحقاق جميع ما يملكه البائع ووجوب تسليمه على الفور فشرط ما يخالف ذلك مفسد وفي العين المستأجرة ملك المشتري جميع ما على ملك البائع ورفع يده الكائنة على العين وأحل المشتري محله وصار المستأجر معه كما كان مع البائع فلذلك صح والحمل المعدوم ليس مانعا من التسليم فإن ما يقدح استثناؤه اللفظي من جهة أنه شرط يخالف مقتضى العقد الشرعي ليس كذلك
فقد ظهر الفرق بين الحمل والثمرة والمنفعة وعلم أن مجرد الاستثناء الشرعي لا يضر ومما يدل عليه اتفاقهم على صحة بيع الأمة المزوجة ولو باع أمة واستثنى الانتفاع بها أو ببعضها لم يصح اتفاقا
واعلم أن العين المستأجرة فيها أمران أحدهما استثناء منفعتها شرعا وقد تكلمنا عليه
والثاني ثبوت يد المستأجر عليها والمزروعة لا يد حائلة عليها ولا استثناء لأن المشتري يملك منفعتها وإن وجب عليه تبقية الزرع فلذلك اختلفوا فيها على طريقين أحدهما طريقة أبي إسحاق أنها على القولين في العين المستأجرة وأصحهما القطع بالصحة لما ذكرناه ولأن البائع يتمكن من التخلية بين المشتري وبين الأرض وإحلاله محله ويصح تسليمها مزروعة على الصحيح ولولا ذلك لم يصح بيع الأرض المغروسة إذا استثنى غراسها ولا خلاف في الصحة ويدخل الغرس الذي هو في موضع الشجر في البيع على الأرض ولا يلزم البائع تفريغ الأرض عن الشجر كما صرح به المتولي والغزالي
____________________
(2/467)
وغيرهما ولا يلزمه أجرة لأنه غرس في ملكه والمزروعة بزرع يستخلف كالمغروسة في صحة البيع وتستحق إبقاء الزرع
وفي وجوب الأجرة عليه لإبقاء الزرع الذي لا يستخلف وجهان المشهور منهما عدم الوجوب والدار المشحونة بأمتعة البائع يصح بيعها جزما لأنه مشتغل بالتسليم عقيب العقد بخلاف الأرض المزروعة فليس في الدار المشحونة بالأمتعة إلا استثناء منفعة ولا يد حائلة ولا تأخر اشتغال بأسباب التسليم عقيب العقد والمستأجرة فيها الاستثناء واليد الحائلة فجرى القولان والمساقاة عليها كذلك ويحتمل أن يقال إنها أولى بالصحة فإن يد العامل ليست حائلة فإنها بمنزلة الأجير المشترك وقد يشارك المالك في اليد أو يعمل في يده والمغروسة والمزروعة ليس فيهما شيء من ذلك غير أن المزروعة فيها خلاف واتفقوا في المغروسة وأما مجرد اليد الحائلة بدون استثناء منفعة فيأتي في الكلام على كلام ابن الرفعة رحمه الله فأقول وبالله التوفيق إن كلام ابن الرفعة تضمن أمورا أحدها ما حكاه عمن نسبه إلى الغفلة بسبب تخريج المساقاة عليها على المستأجرة وقد ظهر صحة التخريج ويزداد ظهورا بعد ذلك إن شاء الله تعالى
والثاني قوله من حيث إن العامل استحق جزءا من الثمرة التي بمقتضى العقد أن تكون للبائع هكذا نقلته من كتابه بخطه
والثمرة إنما تكون للبائع إذا كانت مؤبرة فإن كان كلامه في هذه الحالة فقد عرفت أن صاحب التهذيب قال بالصحة فيها وفيما قبلها بعد وجود الثمرة وتشبيهها بالإجارة لا فرق فيه بين تلك الحالة وقبلها وبعدها إلا انقضاء المدة ولولا أنه بخطه لكنت أقول إن الناسخ غلط في قوله للبائع ويكون موضعها للمشتري ولو قال كذلك لكان موافقا لصاحب التهذيب في الفرق بين ما قبل وجود الثمرة وبعدها ولا يليق ذلك بمن يخرجها عن العين المستأجرة فهذه العلة منافية للحكم الذي ذكره فلو سكت عن هذا التعليل ونقل الحكم مجردا سلم عن هذا الاعتراض إذ هذا كلام لا يلتئم بوجه من الوجوه سواء قال للبائع أم للمشتري لأن كلا منهما يقتضي الفرق بين حاله وحاله والإلحاق بالعين المستأجرة يقتضي التسوية ثم هو لا يلائم المأخذ الذي ذكره أولا من استحقاق حق العامل الأجر استحقاق العامل حق الحبس
الأمر
____________________
(2/468)
لثالث الكلام على المأخذ الذي ذكره أولا من استحقاق حق الحبس وقياسه على الثوب الذي استؤجر على قصارته
ذكر هذا في باب ما يجوز بيعه
ومسألة الثوب المستأجر على قصارته ذكره البغوي والرافعي وغيرهما في أخوات لها فقالوا إذا استأجره لصبغ ثوب وسلمه إليه وصبغه فإن وفر الأجرة جاز بيعه قبل استرجاعه وإلا فلا لأن الصبغ عين فيستحق حبسه إلى استيفاء الأجرة وقولهم إنه يجوز بيعه قبل استرجاعه وإلا فلا لأن الصبغ إذا كان قد وفر الأجرة دليل على أنه ليس كالعين من جميع الوجوه وإلا لامتنع كما يمتنع بيع المبيع قبل القبض وإن وفر الثمن وليس هذا من غرضنا قالوا ويمتنع بيعه قبل صبغه لأن له حبسه لعمل ما يستحق به الأجرة والثوب الذي استأجر على قصارته وسلمه قبل القصر لا يجوز بيعه وبعده إن وفر الأجرة جاز وإلا فإن قلنا القصارة عين كالصبغ وإن قلنا أثر فله البيع وهكذا صوغ الذهب ورياضة الدابة ونسج الغزل
إذا عرفت هذا فنقول الاعتراض على هذا المأخذ من وجوه أحدها أن الحكم في المسائل المذكورة ليس لمجرد استحقاق الحبس لأنه موجود في العين المستأجرة بل لأن الحبس إلى غاية غير معلومة الوقت لأنها مقدرة بالعمل وزمانه غير معلوم فأشبه بيع دار المعتدة بالإقرار والحمل وقد حمكنا بالبطلان فيها وهذا المعنى مفقود في المساقاة والعين المستأجرة ودار المعتدة بالأشهر مع اشتراك الثلاثة في الحبس والقول بالصحة على الصحيح في المستأجرة ودار المعتدة بالأشهر فكذلك المساقاة
وهذا هو الجواب الصحيح عن هذه المسائل والفرق بينهما وبين المساقاة عليها وبه تتضح المسائل كلها حتى لو فرضنا تقدير العمل بمدة كان كالعين المستأجرة سواء ويأتي فيها القولان والصحيح الجواز فيما نعتقده مثاله إذا استأجر امرأة لإرضاع عبده الصغير حولين ثم باعه والعلم عند الله تعالى
الثاني لو صح هذا المأخذ لاقتضى المنع في المساقاة إلى تمام المدة ولا نعلم من قال به والظاهر أن الشيخ بن الرفعة حين تصنيفه لهذا الكلام لم يستحضر كلام البغوي والرافعي فيها وكذلك في باب المساقاة ذكره ولم يرد عليه
الثالث الكلام على قوة تلك المسائل في نفسها فنقول إن العين التي استؤجر على العمل فيها لو بدأ
____________________
(2/469)
المالك في ذلك العمل فإما قبل تسليمها للأجير أو بعده إن كان قبله فقد قال الإمام الذي يتجه أن له ذلك
ونقل الرافعي هذا عنه ولم ينقل عن غيره خلافه قال الإمام رحمه الله لكن تستقر عليه الأجرة إذا سلم الأجير نفسه ومضى مدة إمكان العمل إن قلنا باستقرار الأجرة بتسليم الأجير نفسه وليس للأجير فسخ الإجارة وإن قلنا لا تستقر فله الفسخ وليس للمستأجر الفسخ بحال
قلت والصحيح استقرارها بتسليمه نفسه بخلاف ما إذا تلف المستوفى ولم يأت ببدله إلى أن مضى إمكان العمل لا تستقر على الأصح عند النووي رحمه الله لأن ذلك محمول على إذا ما لم يسلم نفسه جمعا بين الكلامين وقوله إن قلنا لا تستقر فللأجير الفسخ فيه نظر يقتضي أنا نمكن المالك من الامتناع مع قولنا بأنها لا تستقر بذلك وقد يقال إن ذلك كالمسلم إليه إذا أحضر المسلم فيه فامتنع المسلم من قبوله فيلزم بالقبض أو الإبراء كذلك هاهنا العمل واجب على الأجير وقد سلم نفسه له فإما أن يبرئ وإما أن يسلم له العين ليعمل فيها وإما بدلها إن جوزنا له الإبدال
فإن قلنا بالاستقرار وهو الصحيح فيظهر جواز البيع إذ لا غرض للأجير في عينها
وإن قلنا بعدم الاستقرار فعلى مقتضى كلام الإمام كذلك وعلى ما قلناه يحتمل أن يقال الأمر كذلك ويحتمل أن يقال الأمر كذلك إن الواجب عليه تسليم العين إلا أن يبرأ أو يبدل كما نقول إن الواجب على صاحب الدين القبول إلا أن يبرئ هذا كله قبل تسليم الثوب أما بعد تسليمه فالكلام في شيئين استرجاعه والمنع من العمل فيه فينبغي أن يقال إن قلنا الأجرة تستقر بتسليم نفسه فللمالك المنع من العمل فيه ويجب امتثال أمره إذ لا غرض للأجير فيه فإن أجرته تستقر بمضي المدة وإن قلنا لا تستقر فللعامل أن يعمل فيه ما لم يأت المالك ببدله إن جوزنا الإبدال أو يبرئه منه وأما الاسترجاع فإن كان بعد مضي المدة والحكم بالاستقرار بأن يكون قد سلم نفسه ولكن تأخر العمل فلا شك أنه لم يبق للآخر غرض وحينئذ يصح البيع وإن لم يسترجع وكان قبل مضي المدة أو بعدها ولكن لم تستقر بحكم أنه لم يسلم نفسه أو سلم وفرعنا على عدم
____________________
(2/470)
الاستقرار
فإن قلنا لا يجوز الإبدال أو يجوز ولكن بالتراضي فلا يجوز البيع وإن قلنا يجوز الإبدال فيحتمل أن يقال يجوز البيع ويحتمل أن يقال إنه لما تأكد حقه بالتسليم ثبت له التوثق بها حتى يأخذ بدلها فلا يجوز البيع ما لم يأت بالبدل
وقد ذكر الرافعي أنه لو دفع ثوبا إلى قصار ليقصره بأجرة ثم استرجعه وقال لا أريد أن يقصره فلم يرده وتلف عنده فعليه ضمانه وإن قصره ورده فلا أجرة له وهذا محمول على أن مراده إذا لم يعين الأجرة فتكون الإجارة فاسدة أما الصحيحة فالقياس ما قدمناه فيها وإلا يتناقض كلامه هنا وفي المسائل المتقدمة
فإن قلت إذا حكمتم بصحة بيع الأشجار المساقاة عليها فالعمل المستحق للبائع على العامل لا يمكن إبقاؤه للبائع بخروج الأشجار عن ملكه ولا نقله للمشتري لأنه مستحق للبائع ولم ينقله ولو نقله لم يصح نقله لأنه بيع الدين من غير من عليه ولا يمكن إبدال الأشجار بغيرها لأن للعامل غرضا في عينها بخلاف الثوب المستأجر على قصارته ونحوه
قلت أما إبدال الأشجار فلا يمكن والعمل المستحق على العامل يملكه المشتري بانتقال الأشجار إليه لأنه من حقوقها ولا امتناع من انتقال ذلك بيعا كما لو اشترى ثمرة بعد بدو الصلاح وألزمنا البائع بتنقيتها وسقيها فباعها صاحبها لأجنبي فإنه ثبت له حق السقي كما كان لمن اشترى منه وكما لو اشترى حق البناء أو استأجره فبنى ثم باع البناء فإنه ينتقل بحقه من الإبقاء وكذلك أن المالك لو بنى في ملكه ثم باع البناء يلزم تبقيته بغير أجرة فإنه حين وضعه كان كذلك فينتقل للمشتري بتلك الصفة
ولو استأجر أرضا وبنى فيها ثم باعه قبل مضي المدة فيجب تبقيته لكن هل في بقية المدة إجارة البائع يجب للبائع عليه أجرة أو لا لا نقل في هذه المسألة
والعمل على أنه يجب وتعليله أنه وضع بأجرة فينتقل بتلك الصفة ونظائر هذا كثيرة غير أنه في هذه المواضع كلها العوض بدله البائع والعوض في المساقاة وهو الجزء من الثمار لم يبدله البائع بل يؤخذ من الأشجار المبيعة فلا يستبعد أن يكون للمشتري بطريق الأولى لكنا لا نخصه بذلك بل نطرده فيما يبدل البائع العوض فيه كما إذا استأجر على الإرضاع سنة ثم باع العبد الرضيع الذي استأجر على إرضاعه ونحوه كما أن العمل مستحق على
____________________
(2/471)
العامل من وجه فهو مستحق له أيضا من جهة أن به تحصل الثمرة المشروطة له ولا إشكال في بقاء حقه لتعلقه بالعين المبيعة فقد ثبت أن بيع الحديقة المساقى عليها صحيح على الصحيح من المذهب مخرج على بيع العين المستأجرة وقد اشتمل هذا الفصل على عدة مسائل ترجع إلى مأخذين الاستثناء والعجز عن التسليم منها ما يصح قطعا كبيع الأرض المغروسة وكذلك بيع الأمة المزوجة والموصى بما سيحدث من حملها وثمرتها والدار المشحونة بالأمتعة والشجرة المستثنى ثمرتها الموجودة والشاة المذبوحة إلا أكارعها
ومنها ما يبطل قطعا كبيع دار المعتدة بالإقرار والحمل والشجرة المستثنى ما يحدث من ثمرتها والجارية إلا ما يحدث من حملها
ومنها ما يصح في الأصح كبيع العين المستأجرة والمزروعة ودار المعتدة بالأشهر والمساقاة عليها كان الخلاف فيها متقاربا
ومنها ما يبطل في الأصح كبيع الحامل إلا حملها والحامل بحر وتحمل لغير مالكها والثوب المستأجر على قصارته وإنما ذكرناه في المختلف فيه للبحث الذي قدمناه واللبن في ذلك كله كالحمل وقيل أولى بالصحة
والبيض كالحمل ولكنهم لم يصرحوا فيه بالخلاف بل اقتصروا على البطلان فيه وفي السمسم إلا كسبه والقطن إلا حبه
الفصل الثاني في قسمة التعديل إذا أمكنت في الأشجار المساقى عليها وذلك إما قبل وجود الثمرة وإما بعدها إن كان قبله
فإن قلنا القسمة إقرار صحت وإن قلنا بيع وهو الأصح فإن جوزنا بيع المساقى عليه صحت قسمته وإن منعنا بيعه فقد يقال بمنع قسمته ويؤيده أن الرافعي فرع بيع النصيب الخارج بالقسمة قبل القبض على كونها بيعا أو إقرارا فمنعه على الأول لا الثاني ولكن قال ابن الرفعة إن القسمة تجوز في المبيع قبل القبض وإن جعلناها بيعا نقل ذلك عن المتولي لأنه يجبر عليها فلا يمتنع كالشفعة
ويوافقه أن الشيخ أبا حامد والبغوي والروياني قالوا فيما إذا هرب المشتري قبل قبض المبيع ولا مال له إن الحاكم يبيع المبيع ويوفي منه الثمن وإن كان الذي يظهر أن هذا الذي قالوه تفريعا على أنه ليس للبائع الفسخ في هذه الحالة والأصح خلافه لكن مقصودنا منه صحة بيع الحاكم قبل القبض إذا دعت الحاجة
____________________
(2/472)
إذ قالوا إنه يبيع وإطلاق ذلك من غير اشتراط تقدم قبض عنه شاهد لما قلناه وإذا جاز ذلك في المبيع قبل القبض الذي هو بصدد الانفساخ فهنا أولى ولأنه ضرر على العامل لأن يده على جميع الشجر بعد القسمة كما قبلها أما بعد وجود الثمرة فإن كانت الثمرة في أحد الجانبين فقط فكذلك وإن كانت في الجانبين فإن أفرد الشجر بقسمة والثمر بقسمة فالكلام في الشجر على ما سبق والكلام في الثمرة مبني على قسمة الثمار على الشجر وهي غير الرطب والعنب لا يجوز قطعا وفي الرطب والعنب ثلاث طرق ثالثها إن قلنا إقرار جاز وإن قلنا بيع فلا
ومحلها بعد بدو الصلاح أما قبله فلا يجوز قطعا وإن قسم الشجر والثمار جملة ووقعت الثمار في الجانبين فلا يجوز لقاعدة مد عجوة لأنه بيع شجر ورطب بمثله إلا إذا قلنا قسمة التعديل إقرار فيصح والله أعلم
وكتب هذه المسألة في ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة ثم في سنة ست وثلاثين ظفرت بنقل في المسألة في مختصر البويطي من كلامه في باب المساقاة قال وإذا أفلس رب الحائط ثم كان المساقي على معاملته والمشتري بالخيار إن لم يعلم بالمساقاة قال فإن قيل يجوز لرجل أن يشتري الأصل وللمساقي فيه حق إلى أجل
قيل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجاز بيع النخل وفيه ثمرة قد أبرت
انتهى كلام البويطي وهو نص في المسألة
قال ولده قاضي القضاة الخطيب أبو نصر تاج الدين سلمه الله أملاها علي الشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى في ليلة الأربعاء سادس شعبان سنة 744 بالدهشة خارج دمشق المحروسة
والله أعلم
انتهى
كتاب الشهادات مسألة الشاهد إذا شهد بما يشهد فيه بالاستفاضة وبت شهادته ثم قال مستندي الاستفاضة هل يقبل أو لا
الجواب يقبل لأنه قد جزم بالشهادة وتبيينه المستند بعد ذلك لا يقدح مع جزمه وقد التبس على كثير من الفقهاء الموجودين ذلك وقالوا لا يقبل وإنما ذلك إذا شهد بالاستفاضة بمعنى شهد أنه استفاض فهذا لا يقبل لأنه لم يشهد
____________________
(2/473)
بالمقصود وإنما شهد بالاستفاضة وفوض النظر فيها إلى الحاكم والاستفاضة تحتاج إلى قرائن حالية يتعذر التعبير عنها فلذلك لم يكتف الحاكم بتلك الشهادة على أن الرافعي عند الكلام في أصحاب المسائل في كلامه ميل إلى الاكتفاء بها في سبب الجرح
وقال الرافعي فيما إذا شهد بأنه ملكه بالأمس يجوز أن يشهد بالملك في الحال استصحابا لحكم ما عرفه من قبل كشراء وإرث وغيرهما
ولو كان يجوز زواله ولو صرح في شهادته أنه يعتمد الاستصحاب فوجهان حكي في الوسيط عن الأصحاب أنه لا يقبل كما لا تقبل شهادة الرضاع على امتصاص الثدي وحركة الحلقوم وعن القاضي الحسين القبول لأنا نعلم أنه لا مستند له سواه بخلاف الرضاع فإنه يدرك بقرائن لا تدخل في العبارة
انتهى ما قاله الرافعي
وقد يقال قياسه جريان الوجهين في التصريح بالاستفاضة لكنا نقول إن محلهما ينبغي أن يكون إذا لم يجزم الشاهد في الحال بأن يقول أشهد أنه ملكه أمس واستصحب ذلك إلى الحال أو اعتقد أنه باق إلى الحال بالاستصحاب أما إذا قال أشهد بأنه يملكه في الحال ومستندي الاستصحاب فلم لا يقبل إذا لم يذكره على سبيل الريبة وفي الرضاع ينبغي إذا جزم ثم قال مستندي وضع الثدي وحركة الفم وقرائن وقد وقع في كلام ابن أبي الدم في أدب القضاء وفي شرح مشكل الوسيط له أن ذكره للاستفاضة يمنع من القبول وأخذ ذلك من الشهادة بالملك المتقدم وذكره الاستصحاب وقول الغزالي عن الأصحاب أنهم ردوا هذه الشهادة وقد غلط في فهم هذه المسألة وقد بينها إمام الحرمين في النهاية وصرح في صورتها بأنه لم يشهد بل استصحب واقتصر على الشهادة بالملك المتقدم واستصحابه ولم يشهد بالملك في الحال وهذا نظيره أن يشهد أنه استفاض فلتفهم المسألة هكذا وإن كان كلام الغزالي والرافعي ليس فيه بيان ذلك فرضي الله عن الإمام الذي بينها
وقد تبع ابن الرفعة ابن أبي الدم فنقل كلامه في الكفاية ثم أتى في شرح الوسيط به كالمفروغ منه فلا تغتر بذلك ولتحقق أن ذلك لا يقدح في الشهادة ولا خلاف فيه
نعم إن فرض أن الشاهد أتى بذلك على صورة الارتياب في الشهادة وظهر للحاكم منه ذلك كان كما لو تردد في
____________________
(2/474)
الشهادة بعد أدائها وقبل الحكم وعبارة ابن أبي الدم في شرح الوسيط
لو صرح وقال أشهد أنه الآن ملكه بناء على استصحابي أنه ملكه أمس لا يبني على شيء آخر ولم أعلم له مزيلا
قال الأصحاب لا يقبل لأنا قد ذكرنا عنهم في مواضع أن من شهد بملك لزيد ينبغي أن يجزم به من غير ذكر لسببه ومستنده الذي يعلم أنه لم يشهد إلا بناء عليه ثم قال ولو قال أشهد أنه مات بالاستفاضة التي حصلت عندي لم تسمع شهادته
وقال ابن الرفعة عنه إنه قال في أدب القضاء إنه لو قال أشهد بالاستفاضة أن هذه الدار ملك زيد لم تقبل شهادته على الأصح
حكاه ابن الرفعة في كتاب الشهادات وهذه العبارات يمكن تنزيلها على ما قلناه وحكاه ابن الرفعة أيضا في آخر باب الشرط في الطلاق وقيده بأن يقول ذلك قبل السؤال كأنه يشير إلى ما قلناه فإن ذكره ذلك قبل السؤال يورث ريبة
فلو سئل عن مستنده فقال الاستفاضة لم يقدح جزما وهو يؤكد ما أشرت إليه من التفصيل بين أن يذكر ذلك على وجه الارتياب
والله أعلم انتهى
مسألة في عقد نكاح يخالف مذهب الشافعي ويوافق غيره هل للشاهد الشافعي أن يقلد ذلك المذهب ويشهدوا إذا شهد ولم يكن عالما فما يكون حكم الشهادة
الجواب له أن يشهد بجريان النكاح بين الولي والزوج سواء أقلد ذلك المذهب أم لم يقلده إذا طلب منه الشهادة بذلك
وإن أراد أن يشهد بالزوجية فلا يجوز إلا أن يقلد ذلك المذهب ويعتقده بطريق تقتضي لمثله اعتقاد حقيته وكذلك لا يجوز له أن يتسبب في العقد المذكور ويتعاطى ما يعين عليه إلا أن يقلد ذلك المذهب وإنما يجوز بغير تقليد الشهادة بجريان العقد إذا اتفق حضوره وطلب منه الأداء فلا يمتنع انتهى
مسألة في تحقيق العداوة التي ترد بها الشهادة قال الشيخ الإمام في رسالة مطولة كتبها إلى بعض الناس ما نصه والله يعلم متى أني لا أقصد أذى مخلوق ولا أجد في قلبي بغضا لأحد إلا إذا توقعت من أحد أنه يؤذيني فأقصد أن الله يدفعه عني ويكفيني إياه بما شاء وإني أتعجب من
____________________
(2/475)
قول الفقهاء إن العدو هو الذي يفرح بمساءة عدوه ويساء بمسرته
وأقول في نفسي كيف يتفق هذا وإن الشخص تسوءه مسرة غيره ويسره مساءته من حيث هي فإني لا أجد في نفسي لأحد وأتعجب إن كان ذلك يقع لأحد نعم قد يتفق ذلك إذا كان لا يحصل للإنسان خير ولا يندفع عنه شر إلا بها فيحصل له ذلك ليتوصل به إلى خيره أو دفع ضره أما من حيث هو فلا ولا بد من تحقيق هذا فإن العداوة قد ورد بها القرآن قال الله تعالى إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا وقال تعالى لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء وقال تعالى إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم وقال تعالى وهم لكم عدو وقال النبي صلى الله عليه وسلم الحب في الله والبغض في الله فيجب علينا تحقيق ذلك والذي يظهر أن النفوس الطاهرة السليمة لا تبغض أحدا ولا تعاديه إلا بسبب إما واصل إليها أو إلى من تحبه أو يحبها أو توقع وصول ذلك فيحصل لها نفرة منه وينبو طبعها عنه ومن هذا الباب عداوتنا للكفار بسبب تعرضهم إلى من هو أحب إلينا من أنفسنا وعداوتنا لإبليس كذلك ولقصده أذانا وعداوتنا للحية والعقرب لتوقع الأذى منهما
والعداوة هي النفرة الطبيعية الحاصلة من ذلك وليس من شرطها الفرح بالمساءة ولا بالمسرة ولا المساءة بالمسرة كما قاله الفقهاء
ونحن نحب للكفار أن يؤمنوا ويهتدوا ونبغضهم لكفرهم بالله ونمتثل أمر الله في قتلهم وجهادهم
والغرض أن النفوس الطاهرة لا تبغض أحدا إلا بسبب ولا يترتب على بغضها إياه إلا مجرد النفرة والاحتراس عن أذاه كما قال الله تعالى فاتخذوه عدوا أما قصد أذاه أو الفرح بذلك فلا
نعم لا يبعد أن تكون نفوس خبيثة جبلت على الشر كالحية وإبليس من طبعها الأذى فيحصل لها هذه الحالة كما يحصل منها ذلك الفعل لمن لم يتقدم له إليها أذى فلعل في نوع الإنسان شيئا من ذلك والله أعلم
لكني والله لا أجد ذلك في نفسي لأحد والناس عندي أقسام أحدها رجل له علي إحسان وإن قل فلا أنساه له أبدا وجربت نفسي في هذا مرات فيمن تقدم له إحسان ثم صدرت منه إساءة فأردت أن أنسخ ما حصل منه من الإحسان فأحسنت إليه نظير
____________________
(2/476)
إحسانه السابق ليتعارضا وتبقى إساءته ثم افتقدت نفسي فلم أجد محبته خرجت من قلبي وعالجت نفسي على أن أمحو أثر إحسانه المتقدم إلي فلم أقدر واستمرت مودته في قلبي ولما مات رثيته
وهذا حالي مع كل أحد لا أجد في نفسي غير ذلك
الثاني رجل له علي إحسان لكن له صحبة ومودة فهو كالأول لأن الصحبة من الإنسان والله يسأل عنها وقد اتفق لي
الثالث رجل ليس له علي إحسان ولا صحبة لكن له فضل أو نفع للناس فأنا أرعى له ذلك وقد اتفق لي ذلك في شخص بهذه المثابة وبلغني عنه في حقي كل قبيح وقصد أذاي مرات وشهد بالزور في حقي مرات وما غيرني ذلك عليه أعني أذاه لا والله ولما مرض مرض موته تألمت له ولفقده ونظمت قصيدة في ذلك هذا فيمن يقصد أذاي فكيف فيمن لم يحصل لي منه أذى من الأقسام الثلاثة
الرابع رجل لا أعرفه ولا يعرفني فكيف أعاديه بل إذا بلغني عنه أنه في ضرر أتألم وإذا حصل له خير أسر به فإن الناس كالبنيان يشد بعضه بعضا بل أرى الخير الذي يحصل له يغنيه عني فكأنني غنيت به ويكون غناه غنى لي أليس لو احتاج وجب علي إسعافه
وزيادة أخرى أذكرها وهي أن الشخص قد لا يقصد الأذى ولكن تلوح له مصلحة لا تحصل إلا بضرر غيره فيفعله توصلا لمصلحته وهذا يقع للناس كثيرا ولكني بحمد الله لم يتفق لي ولا أجد قلبي يوافق عليه انتهى
مسألة أنتجها البحث في درس الغزالية سنة جرت من عند قاضي بلبيس وكتبت عليها في غرة سنة أربع وثلاثين وسبعمائة صورتها في رجل أقر أن في ذمته لشخص ألف درهم وعشرة دراهم ثم إنه وفى منها أربعمائة درهم ثم مات من عليه الدين فادعى المدعي استحقاقه لستمائة وعشرة دراهم فهل يسوغ للشهود الأداء عند الحاكم على إقرار المقر بجملة الدين ولا يقدح ذلك في شهادتهم أو يقدح لكونهم شهدوا بما لا يدعي المدعي أو بزيادة على المدعى به وإذا لم يقدح ذلك في شهادتهم فهل يكتب أنه ثبت عند الحاكم إقرار المقر بجملة الدين أم بباقي الدين وهو ستمائة وعشرة أم لا أفتونا مأجورين
____________________
(2/477)
478 الجواب هذه مسألة أشكلت على فقهاء الزمان حتى رأيت الشيخ قطب الدين السنباطي وكان قد ولي نيابة الحكم بالقاهرة وندبني أنا وسراج الدين المحلي إلى ملازمة مجلسه لما عساه يعرض له من المسائل المشكلة فنتوخى الحق فيها فكان في هذه المسألة لا يرى بأن الشهود يشهدون بجملة الدين بل بما ادعاه المدعي ولا يسجل ولا يثبت إلا لأحدهما وهو المدعي وبسط شيخنا ابن الرفعة القول فيها في فرع مفرد في شرح التنبيه قال إذا كان لشخص دين على شخص وله بينة به فقضاه بعضه ثم مات أو جحد فأراد صاحب الحق إقامة البينة عليه فكيف تشهد قال فقهاء زماننا إن شهد الشاهد على إقراره بباقي الدين فقد شهد بخلاف ما وقع وإن شهد على إقراره بكل الدين شهد بما استشهد عليه وبما لم يشهد فيه فيكون في ذلك خلاف مبني على أن من شهد قبل الاستشهاد يصير مجروحا فإن قلنا يصير مجروحا بطلت جملة الشهادة وإلا خرج على الخلاف السابق فالطريق أن يقول أشهد على إقراره بكذا من جملة كذا فيكون تنبيها على صورة الحال
قال وما قالوه في الحالة الثانية قد رأيت مثله في الإسراف فيما إذا ادعى ألفا فشهد له شاهد بألف وآخر بألفين
وفي البحر قبل كتاب الشهادات أنه إذا ادعى تسعة فشهد شاهد على إقرار المدعى عليه بعشرة فالشهادة زائدة على الدعوى فتبطل في الزائد وهل تبطل في الباقي قولان بناء على القولين في تبعيض الإقرار لكنه قال قبل ذلك إن البينة لو خالفت الدعوى في الجنس لا تسمع
وفي القدر إن خالفتها إلى نقصان حكم في القدر بالبينة دون الدعوى وإلى زيادة حكم بالدعوى دون البينة ما لم يكن من المدعي تكذيب للبينة في الزيادة وهكذا ذكره الماوردي وهو موافق لما في أدب القضاء للرملي فإنه قال لو ادعى عشرة فشهد له بالبينة بعشرين صح له العشرة ولا يكون طعنا على الشهود لأنه لم يكذبهم وقد يحتمل أن يكون كان في الأصل عشرين قبض منها عشرة
قال ابن الرفعة وعندي أن الشهادة على إقراره بالقدر الباقي لا يمتنع لأن من أقر بالعشرة أقر بكل جزء منها ويؤيده أمران أحدهما لو شهد شاهد بعشرين وشاهد بثلاثين ثبتت العشرون
____________________
(2/478)
على الأصح
الثاني أن من اشترى عينا بعشرة هل يجوز أن يقول اشتريتها بتسعة وجهان إن قلنا يجوز فهنا كذلك وإلا فإنما كان كذلك لأن العقد بعشرة مخالف للعقد بتسعة وهذا منتف في الإقرار وقد حكى الإمام في باب الإقرار إنا إذا أردنا بالشهادة في الألف الزائد لوقوع الشهادة به قبل الدعوى فهل نردها في الألف المدعى بها فيه طريقان أحدهما القطع بالقبول
والثاني طرد القولين انتهى ما قاله ابن الرفعة
والذي أقوله في ذلك وأستعين بالله وأسأله التوفيق أن هنا صورتين إحداهما وهي غالب ما يقع أن يدعي بستمائة وعشرة من جملة ألف وعشرة أقر له بها ويحضر مسطورا مثلا فيه الإقرار بجملة الدين وفيه رسم الشهود ونسألهم الشهادة عليه
ففي هذه الصورة لا ريبة عندي في جواز الشهادة بالكل
ومما يدل له من كلام الأصحاب مسألتان إحداهما إذا حلف اثنين دينا فادعى أحد الاثنين بجملة الدين وأخوه غائب وشهد الشهود بجملته حكم له بنصيبه وأخذ الحاكم نصيب الغائب
والثانية إذا ادعى على رجل أن أباه أوصى له ولرجل بكذا وأقام بينة قضي له بنصيبه وبقي نصيب الرجل إذا حضر وأعاد الدعوى والبينة قضي له ففي هاتين المسألتين شهدت البينة بجملة الدين وجملة الوصية مع أن المدعي لا يستحق إلا البعض فهي شهادة قبل الدعوى بالنسبة إلى نصيب الغائب فكما اغتفر ذلك تبعا للشهادة للحاضر كذلك في مسألتنا يغتفر ذلك تبعا للشهادة بما ادعى به ويدل له من حيث المعنى والفقه بأن الشهادة إنما تكون بالأسباب من العقود والأقارير ونحوها
وأما الأحكام فهي إلى الحكام فالمدعي يدعي الاستحقاق والشاهد يشهد بسببه هكذا غالب الدعاوى والبينات ويشهد لذلك أن المدعي يطلب أمرا لازما فهو إنما يذكر الاستحقاق والشاهد في الغالب لا يذكر الاستحقاق لأنه لا إطلاع له عليه وإنما يذكر الأسباب ويرشد إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم على مثل هذا فاشهد وإلا فدع أشار إلى الشمس طالعة وفي ذلك دليل على أن مستند الشاهد أمر محسوس وغالب المشهود به هكذا محسوس بسمع أو بصر والاستفاضة راجعة إلى السمع
____________________
(2/479)
واختلفوا فيما لو ترك الشاهد ذكر السبب وشهد بالحق ولم يختلفوا في أن الشهادة بالسبب مسموعة والدعوى لا تكون بالسبب إلا على سبيل حكاية الحال والاستحقاق الملزم إنما هو للحكم المترتب على السبب فالإقرار بجملة الدين هو المشهود به الذي سمعه الشهود من المقر
ولو اشترطنا مطابقة الشهادة للدعوى من كل وجه كان ينبغي إذا ادعى استحقاق مبلغ أن يشهد الشاهد على استحقاقه ولا يشهد على سببه ولا على إقرار ألبتة وهذا لا يقوله أحد بل الشهادة إنما هي بالأسباب والتصرف في تلك الأسباب إلى الحكام وبهذا يتبين أن الشهادة على الإقرار بجملة الدين واعتراف المدعي بقبض ما قبض منه وحكم له بالباقي ولا يحتاج الشهود إلى زيادة على ما شهدوا به وإن لم يكن معترفا وكان الشهود يعلمون القبض وجب عليهم مع أداء الشهادة على الإقرار بالجملة أن يقولوا قبض منها قبضا ولا يطلقوا الشهادة لئلا يحكم القاضي بالجميع
ولا يقال إن ذلك شهادة بالقبض قبل الدعوى به لأنا نقول إن هذا ليس بشهادة بل تنبيه القاضي على أنه لا يحكم بجملة ما شهدوا به وقد ذكر الأصحاب في مواضع إذا شهد الشاهد مطلقا وكان يعرف من التفصيل ما يقتضي فساد ذلك المطلق يجب عليه أن يبين للقاضي ذلك ولا يقتصر على نقل لفظ المقر أو العاقد بل يفصل ما علمه ويشرحه
فإن قلت كان ينبغي أن ينبه الغريم على القبض ليسأله الشهادة به ويحترز عن الشهادة قبل الدعوى
قلنا قد يكون المدعى عليه غائبا فيتعذر فيه ذلك فلا وجه لمنع الشاهد مع إخبار القاضي بحقيقة الحال وإن لم يعرف الشاهدان القبض جاز لهما الشهادة بالجملة وإن عرفا قبض الجميع لم تجز لهما الشهادة به لأنه حينئذ تكون شهادة بغير دعوى وبغير سؤال وإن صدرت دعوى وسؤال فهما يعرفان كذبها فلا يشهدان بما يعين عليها وقد يكونان عدوين للمدعي فلو شهدا له بالإقرار وأراد الشهادة عليه بالقبض لم يقبل فالوجه الكشف عن الشهادة وكذلك إذا شهدا بقبض البعض ولم يعترف به المنتقى وسألهما الشهادة بالجملة وكانا عدوين للمدعي بحيث لا تقبل شهادتهما عليه بالقبض ولا شاهد غيرهما ينبغي أن يمتنعا عن الشهادة بجملة الدين حذرا من التسليط على أخذ ما لا يستحق
____________________
(2/480)
وهل يسوغ لهما في هذه الحالة الشهادة بالبعض أو يمتنعا حتى يعترف المدعي بما قبض ثم يشهدان فيه نظر والأقرب الثاني أعني أنه يجوز لهما الامتناع حتى يعترف بالحق
وأما الشهادة ببعض الحق فستأتي فإن قلت ما تقول فيما قاله صاحب الإشراف
قلت جوابه من وجهين أحدهما أنه لم يقل في الإقرار وإنما قال إنه شهد بألفين
ويجوز أن يكون شهد بثبوتهما في ذمته وحينئذ يجوز له أن يشهد ببعضها لأنها ليست شهادة على سبب يحكيه عن غيره وإنما هي بحق يخبر به عن نفسه
الثاني أن المدعي ادعى ألفا ولم يبين أنها بعض الألفين المشهود بها فقد يكون دينا آخر
فإن قلت ما تقول فيما قاله الروياني قلت هو مشكل ولم يصرح بنقله عن غيره والظاهر أنه تقصير منه وهو ممنوع ولعله التبس عليه مسألة الإقرار بغيرها ثم كلامه قبل ذلك يخالفه ويؤيد أحد كلاميه كلام الماوردي والرملي فهو موافق لهما
فإن قلت فكلام الإمام
قلت لم يصرح بأنه في الإقرار أيضا فهو مثل كلام صاحب الإشراف وجوابه جوابه
فإن قلت قد قيدت جواز الشهادة بالكل فهو يجوز الاقتصار على البعض الباقي منه
قلت يحتمل أن يقال بالجواز لما قاله ابن الرفعة ويحتمل المنع لأنه ليس لفظ المقر ولا معناه بل لازمه ومتضمنه والشاهد قد قلنا إنه يتصرف في المشهود فليس له إلا أن ينقل مدلول كلام المقر مطابقة بلفظه أو معناه
وأما التصرف فيه والشهادة بلوازمه فلا لا سيما إذا أطلق فإنه يوهم الاقتصار عليها
نعم إن قال أشهد على إقراره بستمائة وعشرة من جملة ألف وعشرة فهذا قريب لا يشعر بالمقصود والأولى بالشاهد أن لا يفعل ذلك فإن هذا وإن كان في هذا المكان قطعيا فقد يأتي في مكان آخر يظن أنه قد أتى بمضمون كلام المقر وليس مضمونه وليس كل الشهود علماء فالصواب أن الشاهد لا يتجاوز كلام المقر بلفظه أو بمعناه الجلي الذي لا ريبة فيه
وأما الصورة الثانية التي أشرنا إليها في صدر المسألة فهي أن يدعي بستمائة وعشرة ولا يضيفها إلى مسطور حاضر ولا إلى دين معين ويسأل الشاهدين أن يشهدا له وكانا قد سمعا الإقرار له بألف وعشرة فلا يسوغ لهما أن يشهدا له بشيء لاحتمال
____________________
(2/481)
إن الذي ادعى به غير الذي شهدا به فإن قال إنه من جملة الألف وعشرة جاءت المسألة السابقة وإن لم يقل ذلك ولكن سألهما له الشهادة بستمائة وعشرة من جملة الألف وعشرة جاء الكلام السابق والأولى أن لا يفعلا كما قدمناه
والله أعلم سبحانه وتعالى
انتهى فصل قوله صلى الله عليه وسلم لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم لا يدل على أن شيئا من الذنوب مطلوب ولا محبوب ولا مرغوب فيه ولا يتقرب به إلى الله تعالى وإنما مدلوله الربط بين لو وجوابها وما تضمنته هذه الملازمة من مجيء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم على تقدير أن لا يذنب الموجودون
فإن قلنا إن أفعال الله سبحانه وتعالى لا تعلل كما هو مذهب كثير من المتكلمين فذاك وإن قلنا تعلل فإنما يلزم عليه أن يكون المجيء بقوم موصوفين بتلك الصفة مرادا ولا يلزم من ذلك إرادة الصفة فالإرادة غير الرضا والمحبة ولو سلم أن الرضا والمحبة من الإرادة فثلاثتها غير الطلب والتقرب إنما يكون بالمطلوب وليس كل مراد ومحبوب ومرضي به مطلوبا أما إذا منعنا التعليل فظاهر
وأما إذا عللنا فإنا نعلل الإرادة والمحبة والرضا في غير المطلوب بما يترتب عليها من الخير إما من ظهور رحمة الله وكرمه كما في هذا الحديث فقد ورد كنت كنزا لا أعرف فأحببت أن أعرف فبالحق عرفنا قدرة الله ورحمته وفضله وكرمه وأما لفاعلها أعني فاعل المراد المرضي المحبوب لغيره وإما لغير فاعلها فإنه قد يترتب على الذنب الصغير والكبير لفاعله انكسار وصلاح قلب لم يكن يحصل بدونه ولغير فاعله بأن يعتبر به كما حصل لنا من الخير بما قص الله علينا من قصص الأمم المتقدمة بخلاف إرادة الطاعة ومحبتها والرضا بها فإنها لصفتها والرغبة فيها نفسها وما فيها من الخير لفاعليها ولغيره والتقرب إنما هو بالمطلوب وليس شيء من المعاصي مطلوبا كبر أو صغر ودعوة الأنبياء إنما هي للتقوى والطاعة
قال نوح عليه الصلاة والسلام فاتقوا الله وأطيعون وكذلك قال هود عليه الصلاة والسلام وغيره والتقوى اجتناب ما نهى الله عنه والطاعة امتثال الأمر وامتثال الأمر واجتناب النهي كله الصراط المستقيم فليس
____________________
(2/482)
شيء من المعاصي على الصراط المستقيم بل كلها طريق جهنم فمن ارتكب شيئا منها وإن كان أصغرها فقد خرج عن الصراط المستقيم وانفتح له طريق جهنم ينتقل فيه من ذلك الصغير إلى صغير آخر أكبر منه ويندرج إلى كبير ثم أكبر حتى يسقط في جهنم فكيف يكون شيء من هذا قربة إلى الله وإنما يقدره على بعض عباده ليكون لطفا بهم أو بغيرهم ويترتب عليه خير لهم أو لغيرهم اعتبارا والأشياء قد تراد إرادة المقاصد وقد تراد إرادة الوسائل لطفا بالعباد فلا يلتبس أحدهما بالآخر
والمطلوبات كلها إما مقاصد وإما وسائل صالحة لما هو أصلح منها والمنهيات كلها مفاسد وإن ترتب على بعضها صلاح فلا يوصله ذلك إلى حد الطلب ولا القربة والمطلوب هو الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال والله أعلم
كتبه علي السبكي في ليلة الجمعة ثاني شوال سنة خمس وخمسين وسبعمائة
انتهى
كتاب الدعوى والبينات مسألة دار في يد ثلاثة ادعى أحدهم كلها والآخر ثلثيها والآخر نصفها وأقام كل منهم بينة
الجواب لكل منهم ثلثها كما كان لأن بينة كل منهم شهدت له بما في يده وزيادة فلم تثبت الزيادة أما مدعي الكل فلأن بينته في الزائد معارضة ببينة مدعي الثلثين في الثلثين وبينة مدعي النصف في النصف فتساقطا وسقطت دعواه في الثلثين وأما مدعي الثلثين فلأن بينته في الزائد معارضة ببينة مدعي الكل فيه وبينة مدعي النصف في نصفه وهو السدس فتساقطت وسقطت دعواه بالثلث الزائد وأما مدعي النصف فلأن بينته بالسدس الزائد معارضة ببينة مدعي الكل فيه وببينة مدعي الثلثين في نصفه وهو نصف السدس فتساقطت وسقطت دعواه بالسدس الزائد واستقر لكل منهم الثلث الذي في يده ولكن ما طريقه هل هو باليد أو بالبينة واليد جميعا نقدم على هذا مقدمة وهي أنه إذا تعارضت بينة الداخل والخارج قدمنا بينة الداخل والصحيح أن الحكم بها وباليد بمعنى أنها رجحت اليد ولا يحلف صاحبها على الصحيح وقيل يحلف وقيل تتساقط البينتان وتبقى اليد وحدها فيحلف قطعا وبينة الداخل مسموعة بعد قيام بينة الخارج
____________________
(2/483)
لا قبله وإذا ادعى الخارج بالنصف والداخل بالكل ويده على الجميع فقد يقال إن بينته في الزائد على النصف لا تسمع قبل قيام بينة الخارج عليه ولكن لو لم نسمعها لأدى إلى عدم تمكن الداخل من معارضة بينة الخارج بالنصف لأن النصفين لا يتعارضان وإنما يتعارض بينة الخارج بنصف الشهادة للداخل بالزائد عليه لتنتفي به دعوى الخارج فدعت الضرورة إلى سماعها
ثم إذا سمعناها ورجحناها على بينة الخارج بالنصف لا بد أن نحكم له بالجميع وإلا لم يندفع الخارج فدعتنا الضرورة المذكورة إلى سماع بينة الداخل والحكم بها في النصف الذي وقع التعارض فيه والنصف الزائد ليصح التعارض وتندفع الدعوى عن الداخل بعد قيام بينة الخارج إذا عرف هذا فقد قال الرافعي في دار في يد ثلاثة ادعى أحدهم كلها والآخر نصفها والآخر ثلثها وأقام الأولان كل منهما بينة على ما يدعيه دون الثالث إن لمدعي الكل الثلث بالبينة واليد النصف كذلك ولمدعي الكل نصف ما في يد الثالث أيضا ببينته السليمة وفي النصف الآخر يتعارض ببينته وبينة مدعي النصف فإن قلنا بالتساقط فالقول قول الثالث في السدس
انتهى
وصاحب الكل هاهنا يدعي عليه من جهة مدعي النصف بنصف سدس وفيه يحصل تعارض بينتيهما وبقية ما في يد مدعي الكل وهو الرابع لم يدعه أحد فلا تعارض فيه ولكنا نحكم له بجميع الثلث كما حكمنا فيما تقدم لمدعي الكل بالكل وإن لم يدع عليه إلا النصف لكن الحكم يختلف ففي الربع بيد وبينته لا معارض لها وفي نصف السدس بيد مرجحة ببينته وقع التعارض فيها والسدس الذي يأخذه من الثلثين بالبينة وحدها ومدعي النصف مدعى عليه من جهة مدعي الكل بجميع ما في يده وهو الثلث فتقريره في يده باليد المرجحة بالبينة المعارضة
فهذا تنبيه على ذلك
وإن كان قول الرافعي بالبينة واليد صحيحا لكنا أحببنا زيادة بيان في ذلك
رجعنا إلى مسألتنا فنقول يستقر لكل من الثلاثة الثلث باليد والبينة كما قاله الرافعي في تلك المسألة
وتفصيله أن نقول مدعي الكل مدعى عليه من جهة مدعي الثلثين بالسدس ومن جهة مدعي النصف بنصف سدس ففي هاتين الحصتين تتعارض
____________________
(2/484)
البينات فيبقى في يده مجموعهما وهو الربع باليد المرجحة بالبينة المعارضة وبقية ما في يده وهو نصف السدس يبقى في يده باليد والبينة التي لا معارض لها ومدعي الثلثين مدعى عليه من جهة مدعي الكل بالثلث ومن جهة مدعي النصف بنصف سدس فيستقر في يده الربع بعد تعارض بينته وبينة الخارج فيه وهو مدعي الكل بحكم الترجيح لبينة الداخل
ويستقر في يده أيضا نصف سدس بعد تعارض بينته وبينة مدعي الكل ومدعي النصف فيه فتساقطت بينة الخارجين وبقيت له يد وبينة ومدعي النصف مدعى عليه من جهة مدعي الكل بجميع ما في يده ومدعى عليه من جهة الثلثين بالسدس فخرجه على ما سبق
فهذا بيان هذه المسألة
وقد بلغني أن بعض أهل العصر غلط فيها وظن أن مدعي الكل ببينته يحصل له ثلث سالم عن المعارضة ويشارك الباقين
وهذا غلط على قول التساقط والله أعلم
انتهى
مسألة سألها ابن الوراق قاضي سمنود رجل في يده عين اشتراها من رجل من مدة أربع سنين بشاهدين فادعت زوجة البائع على من في يده العين أنها تستحق تسليمها لأنها تعوضتها من زوجها البائع المذكور من مدة خمس سنين وأقامت بينة شاهدا واحدا فهل يقدم الداخل ليده وشاهديه أم المرأة لسبق تاريخها
أجاب رحمه الله قد وقع في هذه المسألة إلباس فلا بد من نقل كلام الأصحاب فيه قال الرافعي ما ملخصه في تعارض البينتين المرجحات أسباب أحدها زيادة قوة وله صور إحداها لو أقام أحدهما شاهدين والآخر شاهدا وحلف معه فأظهر القولين ترجيح الشاهدين فلو كان مع صاحب الشاهد واليمين يد قدم في الأصح وقيل يقدم الآخر وقيل يتعارضان
السبب الثاني اليد ولا يشترط في سماع بينة الداخل أن يبين سبب الملك من شراء أو إرث أو غيرهما في الأصح ولا فرق في ترجيح بينة الداخل بين أن يبين الداخل والخارج سبب الملك أو يطلقا ولا بين إسناد البينتين وإطلاقهما
ولو فرضنا السبب فلا فرق بين أن تتفق البينتان أو تختلفا ولا بين أن يسندا الملك إلى شخص بأن يقول كل واحد اشتريته من زيد أو
____________________
(2/485)
يسندا إلى شخصين وفيما إذا أسندا إلى شخص وجه أنهما يتساويان ولو أطلق الخارج دعوى الملك وأقام بينة وقال الداخل هو ملكي اشتريته منك وأقام بينة فالداخل أولى ولو قال الخارج هو ملكي ورثته من أبي وقال الداخل اشتريته من أبيك فكذلك الحكم ولو انعكست الصورة فقال الخارج ملكي اشتريته منك وأقام بينة وأقام الداخل بينة أنه ملكه فالخارج أولى لزيادة علم بينته
ولو قال كل واحد لصاحبه اشتريته منك وأقام بينة وخفي التاريخ فالداخل أولى ولو أقام الخارج بينة أنها ملكي الداخل غصبها مني أو قال أجرتها له وأودعتها وأقام الداخل بينة أنها ملكه فالأصح وبه قال ابن شريح والعراقيون تقديم بينة الخارج
وصحح البغوي تقديم بينة الداخل
السبب الثالث التاريخ إذا شهدت بينة زيد أنه ملكه من سنة وبينة عمرو أنه ملكه من سنتين فالمذهب تقديم أسبقهما تاريخا ويطرد الخلاف في النكاح وفيما إذا تعارضتا مع اختلاف التاريخ بسبب الملك بأن أقام أحدهما بينة بأنه اشتراه من زيد منذ سنة والآخر بينة أنه اشتراه من عمرو منذ سنتين ولو نسبا العقدين إلى شخص واحد فأقام هذا بينة أنه اشتراه من زيد منذ سنة والآخر بينة أنه اشتراه من زيد منذ سنتين فالسابق أولى بلا خلاف وقال بعد ذلك ثم المسألة من أصلها مفروضة فيما إذا كان المدعي في يد ثالث فلو كان في يد أحدهما وقامت بينتان مختلفتا التاريخ فإن كانت بينة الداخل أسبق قدمت قطعا وإن كان بينة الخارج أسبق فإن لم نجعل السبق مرجحا قدم الداخل قطعا وإن جعلناه مرجحا فكذلك في الأصح وقيل يتعارضان
هذا ملخص كلام الرافعي وقد توهم أن سبق التاريخ لا أثر له مع اليد على الأصح وقد تقدم قبل هذا أنه لا فرق بين أن يسند الملك إلى شخص واحد أو لا فيقتضي هذا أن نقدم صاحب اليد وإن كانت بينة الخارج أسبق تاريخا ونسبت الملك إلى الشراء من زيد الذي شهدت به البينة الأخرى ويكون قوله فيما سبق لو نسبنا العقدين إلى شخص واحد فالسابق أولى بلا خلاف فيما إذا لم يكن في يد أحدهما
هذا وجه الإشكال فإن مع بينة الخارج إذا كانت أسبق تاريخا زيادة علم فلم
____________________
(2/486)
لا تثبت كما لو قال اشتريته منك وقد جزم فيها بالقبول لزيادة العلم وهذا مثله هذا إذا كانت بينتان كاملتان وفي الشاهد واليمين نظر آخر لكونه أضعف ونظرت كلام غير الرافعي أيضا وبحثنا فيها في الدرس أياما واستشكل كل الحاضرين تقديم صاحب اليد في هذه وصمم بعضهم على أنه لا وجه إلا تقديم الخارج ولم يصمم الباقون على ذلك لكن عسر عليهم الجواب ففكرت في ذلك وظهر لي ما أرجو به الصواب إن شاء الله وهو أن هاهنا ثلاث صور إحداها أن يعترف المدعى عليه الذي هو الآن صاحب اليد بأن الدار كانت بيد الزوج عند التعويض أو تقوم بينة بذلك فيقضي للمرأة بها لأن اليد القديمة صارت للزوج ويد المشتري حادثة عليها فلا تقدم عليها ولا يبقى إلا العقدان فيقدم أسبقهما وهو عقد المرأة فإن اليد الموجودة إنما يعمل بها وبعدمها إذا لم يعلم حدوثها فإذا علمنا حدوثها فاليد في الحقيقة هي الأولى
الصورة الثانية أن لا يعترف بذلك ولا تقوم البينة به لكن تشهد بينة المشتري أن الزوج باعها له وهي ملكه وتشهد بينة المرأة أن الزوج عوضها إياها وهي في ملكه ولا نتعرض لليد فهاهنا البينتان متعارضتان ويقدم صاحب اليد على الأصح لأن اليد لا نعلم حدوثها فنستصحبها في الماضي إلى زمان التعويض وبينة التعويض لو انفردت لكانت مقدمة عليها لكن عارضتها بينة الشراء فهما متعارضتان في إثبات الملك المزوج في الوقتين ويد المشتري مرجحة
وهذه الصورة هي التي تكلم فيها ولا فرق فيها بين أن يكون بين المرأة أو الرجل شاهدان أو شاهد وامرأتان أو شاهد ويمين فإنا نقدم صاحب اليد على الأصح نعم على القول الآخر القائل بأنه تقدم بينة الخارج لو كانت بينته شاهدا ويمينا هل تقدم على بينة الداخل وهو نظر لا ضرورة بنا إلى تحقيقه
الصورة الثالثة إذا لم تعترف بينة سابقة ولا قامت به بينة ولا يملك الزوج في إحدى الحالتين وإنما شهدت بينة المرأة بالتعويض وشهدت بينة المشتري بالشراء فهنا نقدم صاحب اليد بلا إشكال في ذلك
والله أعلم
فهذا تحرير هذه المسألة وهي كثيرة الوقوع والاحتياج إليها كثير وقليل من يحررها بل لا أعرف أحدا يحررها ولا هي مسطورة بهذا
____________________
(2/487)
التحرير في كتاب فينبغي أن تتقن وتحفظ وتستفاد
وكتب على الفتوى ما نصه الحمد لله إن اعترف صاحب اليد الآن بأن الدار كانت في يد الزوج حين التعويض أو قامت بينة بذلك حكم للمرأة بها سواء أكان للمرأة شاهدان أم شاهد ويمين وإن لم يكن كذلك بل اقتصرت كل بينة على العقد الذي شهدت به أو أضافت إليه الشهادة بالملك كأن تقول بينة المرأة أنه عوضها وهي في ملكه وتقول بينة ذي اليد إنه باعها له وهي في ملكه فتبقى في يد من هي في يده الآن سواء أكانت بينة المرأة شاهدين أم شاهدا ويمينا
والله أعلم
وملخص ذلك إذا تنازع الداخل والخارج فإن اعترف الداخل للخارج أو لأصله بيد متقدمة على ما يدعيه الخارج من سبب الانتقال إليه فالقول قول الخارج وليس الداخل في ذلك صاحب يد بالنسبة إلى ذلك الوقت وكذا إذا قامت بينة بذلك وإن لم تزد البينة على الشهادة للداخل والخارج يعتقد بهما فلا التفات إليها مع اليد وتبقى في صاحب اليد وإن شهدت البينة بملك الداخل مؤرخة أو مطلقة وبينة الخارج بالملك أيضا مؤرخة أو مطلقة له أو لأصله فهذا محل خلاف
والأصح تقديم اليد وحمل الأمر على استمرار اليد في الزمان الذي اقتضت بينة الخارج ثبوت الملك فيه
والله أعلم
انتهى
مسألة رجل اشترى دارا وصدق البائع أخوه على صحة ملكه ثم اشتراها المصدق من المشتري بثمن مؤجل فحل فادعى المصدق أن بعض المبيع وقف عليه وأراد أن يقيم بينة
أجاب إذا ظهر للقاضي قرينة تقتضي خفاء ذلك على المصدق حين تصديقه فله سماع دعواه وبينته
مسألة رجل طلق امرأته طلقة بائنا خلعا فقالت المرأة إنها ثالثة ثم رجعت عن ذلك وزوجت منه بغير محلل ثم مات عنها فطلبت ميراثها منه فتوقف بعض الحكام في ذلك لإقرارها بالطلاق الثلاث
أجاب نقل ابن الرفعة في المطلب وآخر باب الرجعة أن الماوردي زعم
____________________
(2/488)
أن الشافعي قال في كتاب العدد إذا أقر بطلاقها واحدة وارتجعها وادعت أنه طلقها ثلاثا لا رجعة له بها ثم صدقته وأكذبت نفسها حل لها الاجتماع معه
وقال الإمام لو ادعت على زوجها أنه طلقها فأنكر ونكل فحلفت ثم كذبت نفسها فإنه لا يعول على كذبها لأن قولها استند إلى أن تنوي
قال ابن الرفعة يجوز أن يقال مأخذه إن قلت بوجه نحو التحريم فصبرا فلم يجز الرجوع عنه أو مأخذه أن اليمين المردودة كالإقرار ولو قامت بينة على طلاقه أو أقر به ثم رجعا لم يقبل منهما وكذا هنا قال رضي الله عنه وما قاله ابن الرفعة صحيح فلا يعارض كلام الماوردي بكلام الإمام فإن المرأة لا يثبت الطلاق بقولها فإذا رجعت حللها لاعتقادها ولأن الطلاق لم يثبت لكن ذاك إذا كان الطلاق رجعيا وارتجعها لأن سلطته باقية أما مسألتنا فالطلاق بائن ولا سلطة له عليها وبرجوعها لم يحصل إقرار على نفسها ولا حق للمطلق
ففي الإباحة لها أن تتزوج به نظر يحتمل أن يقال لا تحل لإقرارها بالتحريم والتمسك بكلام الإمام المذكور في ذلك رد ويحتمل أن يقال كلامها لم يثبت به طلاق وقد رجعت عنه فالحكم بالتحريم لا مستند له فإن كانت بكرا وزوجها المجبر لموافقته المطلق في دعواه حلف وكذا إن كانت غير مجبرة فرفعه بقولها إنها مطلقة ثلاثا فيه هذان الاحتمالان وأولى بأن لا يرفع لتعلق حق الزوج فإذا مات فإرثها منه تابع للحكم ببقائها معه إن قلنا تبقى معه ولا يفرق بينهما ورثت لأنا لم نجعل لدعواها الطلاق الثلاث حكما
وإن قلنا يفرق بينهما فلا ترث فلا يثبت لها صداق مسمى بل مهر المثل إن كان دخل بها
ولم يتضح عندي في الجواب عن السؤال شيء يجوز أن أكتبه ولعل الله يفتح به بعد هذا وليس هذا كقولها أن بينهما محرمية من نسب أو رضاع كما فرق به الإمام في النهاية ولا كقولها إنها ما أذنت لأن ذلك نفي وهذا إثبات والمسألة تحتاج إلى نظر والله أعلم
والأقرب أنه بعد رجوعها يجدد تزويجها به ويرشد والله أعلم
ومما أذكره فيها أن الورثة لو وافقوا على أنها لم تكن مطلقة ثلاثا كما قال مورثهم فيظهر ظهورا قويا أنها ترث لتصديق الغرماء لها وإن لم يوافقوا فيحتمل أن يقال إنه يوقف نصيبها إلى أن يصطلحوا ويقسم الباقي لبقية الورثة فإن صحة النكاح
____________________
(2/489)
لا شك أنها محتملة وليست مقطوعا بها فكيف نعطي لبقية الورثة جميع الميراث بالشك فلينظر في ذلك
هذا كله إذا رجعت عن دعواها الثلاث فإن لم ترجع بل نحرر تزويجها به أصلا
والله أعلم
تخلى بيضاء فإن تحرر به في المسألة التي قبلها نكتب فيها إن شاء الله
وقد كتبت عليها للمستفتي نص الشافعي المذكور وإن يمكن أن يتمسك به في مسألتنا ويمكن الفرق بالبينونة والمسألة مشكلة والأقرب عندي ثبوت الزوجية والميراث وذلك في شعبان سنة ثمان وثلاثين
مسألة من حماة في شعبان سنة ثلاث وأربعين اشترى قراسنقر من عماد الدين صاحب حماة بستان الحبوسة بظاهر حماة بمائة ألف في شعبان سنة إحدى عشرة وسبعمائة وشهدت بينة لعماد الدين بالملك وثبت ذلك على القاضي شرف الدين ثم حضرت والدة عماد الدين وزوجته عند القاضي شرف الدين الحاكم بحماة المذكور وأقرا بصحة البيع المذكور وهذا الكتاب بيد علاء الدين قراسنقر وحضر في شعبان سنة ثلاث وأربعين متكلم عن بيت صاحب حماة وأخرج مكتوبا فيه أن القاضي شرف الدين بن البارزي المذكور ثبت عنده أن عماد الدين في سنة سبعمائة أقر أنه ملك أمه نصف البستان المذكور ومكتوبا آخر بالنصف الآخر حرر أنهما قبلتا ذلك منه وأنه سلمه لهما وفي كل منهما وأنه ثبت عنده التبايع المشروح أعلاه وأنه لما تكامل ذلك عنده حكم ببطلان البيع المذكور وكان ذلك بحضور القضاة الأربعة بدمشق في سابع عشر شعبان المذكور عند نائب دمشق بدار السعادة
فاستشكل جماعة من الفقهاء حكم القاضي شرف الدين بالإبطال من جهة أن الملك ثبت للبائع حالة البيع ولا ينافيه إقراره قبله بعشر سنين أنه لغيره لجواز أن يكون انتقل إليه وأنه استشكله بعض الحاضرين أيضا من جهة أنه إنما ثبت بمقتضى المكتوب المذكور الإقرار بالنصف فكيف نحكم بإبطال الكل وحاول المتكلم عن ابن قراسنقر نقض الحكم المذكور وأشار المتكلم عن بنت صاحب حماة إلى كتاب آخر معه بالنصف وأخرجه فكان كما قلناه
ومال والدي أبقاه الله إلى عدم نقض
____________________
(2/490)
الحكم وقال أما التوقف من جهة أن الثبوت إنما هو في النصف ولعل الحاكم المذكور كان يرى أن الصفقة لا تفرق هذا قبل خروج المكتوب الآخر فلما خرج تبين أن بمجموع الكتابين ثبت بطلان الكل ولكن قصرت العبارة في كل من الكتابين عن المقصود وأما الإشكال من أن ثبوت الملك عند البيع لا يعارضه الإقرار السابق وهذا هو الذي يسبق إلى ذهن كثير من الفقهاء
فجوابه من مسائل منصوص عليها في المذهب إحداها ما قاله الأصحاب أن من اشترى شيئا ثم بعد مدة قامت بينة لأجنبي أنه ملكه وأطلقت ولم يسنده إلى زمن ماض وانتزع منه أنه يرجع على بائعه وما ذاك إلا لأن الإطلاق يقتضي شمول المدة الماضية لأن الأصل عدم حدوث سبب آخر فكذلك هذه البينة والتي شهدت لعماد الدين بالملك تقتضي استصحابه إلى ما مضى وذلك ينافي إقراره به لوالدته وأيضا فالظاهر أن مستندها الاستصحاب واليد وخفي عنها الأمور المتقدمة
المسألة الثانية قال ابن أبي الدم في أدب القضاة في المسألة السابعة من الفصل السادس في التداعي بين المتخاصمين من أقر لغيره بالملك ثم ادعاه مطلقا لم تقبل دعواه حتى يدعي تلقي الملك منه خلافا للقاضي الحسين قال وخالف فيه جميع الأصحاب لأنه مؤاخذ بإقراره في مستقبل الأمر ولا مبالاة بقول يمكن انتقال الملك من المقر له إلى المقر بعد إقراره الأول لأنه لما أقر لزمه حكم إقراره فإذا عاد يدعيه فمعناه نقلته إلي أو إلى من نقله إلي وهذا يمكن إقامة الحجة عليه فإن النوافل الشرعية هي بيع أو هبة أو عوض يجري مجرى دين وإذا أمكن إقامة البينة على السبب الناقل مع سابقة الإقرار وجب إظهاره بخلاف دعوى الملك لا مع سابقة إقرار فإن أسباب الملك كثيرة فجاز إطلاق الدعوى والشهادة به
والله أعلم
قال ولده قاضي القضاة الخطيب أبو نصر تاج الدين سلمه الله ثم اجتمعوا في ثامن عشر شعبان المذكور بدار السعادة فجزم والدي بصحة حكم قاضي القضاة المذكور الصادر في حياة أم عماد الدين وزوجته بالنسبة إلى المأخذ أن كلا من والدته وزوجته في رمضان سنة إحدى عشرة أقرت بصحة البيع وإن ذلك حق لقراسنقر لا حق
____________________
(2/491)
لهما فيه
وقال والدي أيضا لاسمه إذا ثبت هذا يمتنع الحكم ببطلان البيع ولم يتضمن إسجال قاضي القضاة شرف الدين التعرض لذلك والظاهر أنه لو اتصل به لم يحكم بالبطلان فإن ذلك تصديق منهما بملك البائع أو أنه وكيل عنهما فيه ولو لم يثبت هذا المحضر لكان يتوقف أيضا الحكم لورثة عماد الدين فإن الحكم بإبطال البيع في حياة أم عماد الدين وإن صح بالنسبة إليها فبعدها ولا وارث لها إلا ابنها قد يقال إنه مؤاخذ بمقتضى بيعه فكأنه أقر بملكه لمقتضى صحة بيع قراسنقر وذلك يمنع من الإرث على سبيل المؤاخذة وانفصل الحال في ثامن عشر شعبان بمرسوم والدي رحمه الله على أن البستان المذكور يبقى في يد ابن قراسنقر حتى يقيم المتكلم عن ورثة صاحب حماة دافعا لإقرار المذكورين بصحة البيع والله أعلم
وقال والدي أيضا إنه ينبغي أن ينظر هل كان المبيع في يد عماد الدين لما باعه أو يد أمه وزوجته المقر لهما فإن الكتاب ليس فيه دليل على ذلك فإن لم يكن في يده فهي مسألة ابن أبي الدم بعينها ولا تقبل بينة الشاهد له بالملك على أمه وزوجته وإن كانت في يده حالة البيع فقد يقال إن هاهنا انضمت للبينة فظاهر اليد أنها محقة فتقبل البينة لبينة الأصل وتفارق مسألة ابن أبي الدم
وقال أيضا إن إبطال قاضي القضاة شرف الدين البيع في سنة ثماني عشرة وكان قراسنقر ذلك الوقت في بلاد التتر والظاهر أنه لم يكن من جهته أحد حاضر فكيف حكم عليه وكان عماد الدين ذلك الوقت صاحب قوة ففي النفس شيء من احتمال مراعاته لكن قاضي القضاة شرف الدين البارزي دينه وعلمه لا شك فيه والظن به حسن فالله أعلم
وأما الإقدام على نقض حكمه فلا يمكن ولم يبق إلا النظر في إقرار الوالدة والزوجة فإن انشرحت النفس لكونه صدر منهما فينبغي الحكم ببقاء البيع لقراسنقر لأن الظاهر أن الحاكم لو اطلع عليه لم يحكم بالإبطال وإن فيه ريبة فيتوقف عنه لاحتمال ذلك في شهوده ولا يتعرض للحكم في هذه المسألة بشيء فالله أعلم
ومن كان في يده شيء فهو باق على ما هو عليه على غير حكم والتقرير فالله أعلم
ومن المسائل أيضا ما صرح به الأصحاب ومنهم الغزالي أن من أقر لغيره بملك لم تسمع بعده دعواه
____________________
(2/492)
حتى يدعي تلقي الملك من المقر له ولم يحك الرافعي في ذلك خلافا وهذه مسألة ابن أبي الدم بعينها التي حكى فيها خلاف القاضي حسين وإنما حكى الغزالي والرافعي الخلاف فيما إذا أخذ منه بحجة غير الإقرار وصحح الرافعي فيما إذا أخذ منه بغير حجة الإقرار سماع دعواه مطلقا
وها هنا مسألة قد تشكل وهي أن الداخل إذا أقام بينة بعد القضاء بالعين للخارج وتسليمها إليه قالوا إن لم يسند الملك إلى الأول فهو الآن مدع خارج وهذا قد يشكل على رجوع المشتري إذا انتزعت العين منه ببينة مطلقة على البائع فإن البينة المطلقة إن لم تقتض تقدم الملك أشكل الرجوع وإن اقتضت أشكل جعل هذا مدعيا خارجا وكان ينبغي أن يقال إن بينة تقتضي إسناد الملك فتصير كما لو استندت وقالوا إذا استندت إلى ما قبل إزالة اليد الصحيح سماعها وينقض القضاء والثاني لا لأن تلك اليد تقضي به إلى إبطال حكمها أما إذا أقامها بعد القضاء وقبل تسليمه فوجهان مرتبان وأشكلت على القاضي يسر عشرين سنة ثم استقر رأيه على أنها لا تسمع لئلا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد
ومن المسائل التي ينظر فيها دار في يد إنسان وقد حكم له حاكم بملكيتها فادعى خارج انتقال الملك منه إليه وشهد المشهود على انتقاله إليه بسبب صريح ولم يبينوه أفتى الماوردي والقاضي أبو الطيب وفقهاء همذان لسماعها والحكم بها للخارج ومال أبو سعد الهروي إلى أنها لا تسمع حتى يثبتوه وهو طريقة القفال وغيره لأن أسباب الانتقال مختلف فيها فصار كالشهادة على أن فلانا وارث لا تقبل ما لم يثبتوا جهة الإرث
قلت إن كان السبب هذا مقدم حكم الحاكم فلم يقس على الشهادة بالإرث وإن لم يكن كذلك فتشكل الشهادة بالملك المطلق فإن المعروف أنها مسموعة والقياس على الإرث يقتضي أنها لا تسمع والله أعلم انتهى
مسألة تولدت عن ذلك في شرط حكم كل منهما ذكرها رحمه الله عقب مسألة من باب الأقضية قال رحمه الله وشروط الحكم كثيرة ونقتصر منها على ما نحتاج إليه في هذا المحل فمن ذلك أنه إذا كانت الدعوى في حق آدمي فلا بد
____________________
(2/493)
من مدع ومدعى عليه فإن كانت الدعوى لميت أو غائب أو محجور عليه تحت نظر الحاكم أو لبيت المال فالقاضي الشافعي هو الذي يقيم من يدعي وليس لغيره ذلك وتكون الدعوى عن الميت أو الغائب أو المحجور أو بيت المال بإقامة القاضي الناظر في أيديهم عنه أما في الميت والغائب وبيت المال فظاهر
وأما المحجور فتحرير العبارة فيه أن يتكلم عليه ويدعي له ولا يقال عنه
ولو قيل ذلك على وجه التسمح في العبارة كان جائزا وإن كانت الدعوى على واحد من هؤلاء فالقاضي الشافعي يقيم من يسمع الدعوى المتوجهة عليه ويكون ذلك المنصوب قائما مقام الميت أو الغائب أو بيت المال أو المحجور عليه على ما جوزناه من العبارة المتقدمة فهو منصوب من جهة الحكم عليه ويسمع القاضي الشافعي الدعوى من المذكورين اللذين نصبهما وليسا وكيلين عنه بل منصوبين من جهة الشرع بنصبه إياهما وهو نائب الشرع في ذلك ونواب القاضي الشافعي في ذلك مثله فالذي يحتاج إليه القاضي الشافعي في ذلك في هذا المحل ما ذكرناه فقط مع بقية ما يحتاج إليه الحكم من بينة أو علم عند من يرى الحكم بالعلم أما القاضي المالكي أو الحنفي أو الحنبلي ونوابهم فيحتاجون إلى أن ينصب القاضي الشافعي في ذلك من يدعي ومن يدعى عليه ويكون نصبه لذلك بالطريق التي ذكرناها فلو أراد واحد من هؤلاء القضاة أن يسمع الدعوى على مباشرة وقف تحت يد القاضي الشافعي أو قيم يتيم أو بيت مال لم يكن له ذلك بمجرد كونه مباشر الوقف أو قيم اليتيم أو بيت المال لأنه في ذلك نائب القاضي والقاضي نائب الشرع والشرع لا تتوجه الدعوى عليه فالقاضي كذلك فنائبه كذلك
ولقد وقعت قضية بالديار المصرية من بضع وثلاثين سنة حضر شخص يدعي نظر وقف تحت نظر الحاكم وأراد الدعوى بذلك عند القاضي المالكي على مباشر الوقف المنصوب من جهة الشافعي وتجلجل الكلام في ذلك وطالما حصل للمدعي مساعدون وكنت أسمع قاضي القضاة إذ ذاك يتعجب ويقول كيف يكون نائب القاضي يدعى عليه ويتعجب بعض من يسمع منه هذا الكلام وانفصلت تلك القضية ولم يحصل
____________________
(2/494)
للمدعي شيء وما زلت مفكرا في ذلك حتى استقر رأيي على أن القاضي لا توجه عليه دعوى أصلا ولا على نائبه والسر فيه أن القاضي نائب ويده يد الشرع فكيف تتوجه الدعوى عليه ولهذا لا يضمن هو ولا نائبه ولا يتوجه عليه بوضع يده ضمان وكذا لا يدعى عليه بسببها لأنها يد الشرع لا يده بل هو في الحقيقة لا يد له وإنما هو متكلم بلسان الشرع واليد لله ورسوله فلهذا السر لا يتوجه أصلا على قاض دعوى فيما يتعلق بالقضاء ما دام قاضيا وإنما تتوجه عليه دعوى في حال قضائه فيما يختص بنفسه إذا باع أو اشترى أو ما أشبه ذلك من التصرفات لنفسه فيدعى عليه كما يدعى على سائر الناس فإذا أذن القاضي الذي له ولاية الإذن لمباشر الوقف في سماع الدعوى عن الميت أو الغائب أو المحجور أو بيت المال ساغت الدعوى حينئذ لذلك لا لكونه في يده ولا لكونه مباشرا لأن المباشر لا يد له على الرقبة ولا المنفعة وإنما له ولاية ما ولاه القاضي من حفظ أو إبحار أو قبض أو صرف أو نحوه بحسب ما ولاه والتولية عن الشرع أو عن القاضي فيما هو نائب عن الشرع فيه
ومن لا يرى القضاء على غائب ليس له أن يسمع الدعوى على هذا المنصوب عنه
والله أعلم
فلو قال القاضي وكلت زيدا فيما يتوجه علي من الدعاوى ليسمعها لم يجز أن يسمع قبل الدعوى المذكورة لأنها ليست على القاضي ولو قال وكلت فلانا ليسمع الدعوى علي لم يصح أيضا إلا أن يريد به المعنى المتقدم فيكون استعمال ذلك اللفظ فيه مجازا ولو أريد الدعوى على القاضي نفسه بذلك لم يجز أما أولا فلصيانة منصب القضاء وأما ثانيا فلأن القاضي نائب الشرع ونائب الشرع لا تسمع عليه دعوى وإنما تسمع الدعوى على منصوبه عن الغائب والميت فهو كالوكيل عنهما والولي عليهما وليس لكونه قائما مقام القاضي ولو ادعى القاضي بينة سمعت الدعوى لأن القاضي له أن يتبرع بنفسه ونائبه وبمنصوبه انتهى
مسألة إذا كانت عين في يد شخص اسمه بكر فادعاها زيد وأقام بينة أنها ملكه وانتزعها من صاحب اليد وبعد مدة حضر عمرو وادعى أنها ملكه وكلتا البينتين أطلقت ولكن وقت الإشهاد الأول والحكم بها
____________________
(2/495)
على بكر متقدم على وقت شهادة الثانية لعمرو على زيد وليستا متعارضتين بل كل منهما شهدت في وقت بما هو محتمل وهذا لا خلاف فيه وليس كما لو أقر زيد لشخص معين ثم ادعاها حيث يحتاج إلى ذكر التلقي ولا كما إذا انتزعت منه بينة ثم جاء يدعيها حيث اختلفوا في وجوب ذكر التلقي لأن عمرا المدعي هنا أجنبي لم تنزع منه لا ببينة ولا بإقرار فدعواه مسموعة قطعا كما صرح به الأصحاب وكذا بينته انتهى
مسألة عين وجدناها في يد شخص من مدة طويلة ومعه كتاب قد ثبت فيه على حاكم ملكه لها وجاء خارج يدعيها وبيده كتاب قد ثبت فيه على حاكم بتاريخ متقدم ملكه لها فهذا يشبه المسألة المتقدمة ويزيد عليها بأنها لا تنزع ممن هي في يده لأن يده لم يعرف ابتداؤها فاشتركت بينته وبينة الخارج في شهادة كل واحدة بالملك في وقت غير وقت الأخرى وانفردت إحداهما باليد فقدمت بينة صاحب اليد هذا لو حصل التعارض فكيف ولا تعارض لما قدمناه
فلو كان كتاب أحدهما متضمنا ثبوت الملك واليد في وقت وكتاب الآخر متضمنا ثبوت الملك واليد في وقت متأخر والعين في يد ثالث كان كالمسألة الأولى وحكمنا للمتأخر إذا جوزنا الحكم بالشهادة بالملك المتقدم وإن لم نجوزه بنينا الأمر على ما مر هو عليه ولو كانت في يد صاحب التاريخ الثاني أقررنا ما في يده واجتمع على إقرارها في يده اليد وتأخر كتابه إن جوزنا الشهادة بالملك المتقدم وإلا باليد فقط مع تساوي الجانبين في البينة وقد وقع مثل هذه المسألة في المحاكمات فقلت بأنها لا تنزع لا سيما والثاني وقف لا يقبل الانتقال وقد ثبت فيه الملك والحيازة إلى تاريخ الوقف وحكم بصحته فكيف ينزع ولم أجدها مسطورة لكني جازم بالحكم المذكور فيها
ثم وقع لي فتوى فيها خط برهان الدين بن عبد الحق الحنفي وتقي الدين بن تيمية الحنبلي توافق ما قلته
انتهى
مسألة في الكتاب المشار إليه المتقدم التاريخ لم يثبت فيه الملك للخصم وإنما ثبت شراؤه ولم يثبت ملك البائع إلى حين البيع وإنما المشتري اشترى من تركة في وفاء دين عليها بإذن الحاكم وثبت على الحاكم الملك واليد
____________________
(2/496)
للميت إلى حين الموت
ولم يقولوا إنها باقية على ملك ورثته إلى حين البيع فيحتمل أن يكون حاكم آخر باعها قبل ذلك وصح بيعه ويحتمل أن يقال وإن لم يكن شيء من ذلك أن دلالة ذلك على ملك المشتري بالالتزام أم شهدت به البينة فلا تعارض البينة التي شهدت صريحا بملك خصمه وحيازته وهو صاحب يد الآن فلا ينزعها منه وهذه صورة المسألة التي وقعت في المحاكمة مكتوب بشراء أبي بكر أرضا من تركة بإذن حاكم لوفاء دين على الميت وقامت بينة عند الحاكم بملك الميت إلى حين وفاته وجاء وارث المشتري يدعيها وهو خارج على صاحب يد بيده مكتوب في تاريخ متأخر أن زيدا وقفها على أصحاب اليد وثبت ملكه لها إلى حين الوقف وحكم حاكم بصحة الوقف ولم نجد بينة الآن تشهد بشيء فلا تظهر إلا بنفسها في أيدي الواقف لما قلناه ولأن الشهادة ذلك الوقت بالشراء لم تكن بالملك إلا للمبيع عليه حين البيع لما بيناه ولا للمشتري لأنها شهادة بسبب الملك وهو الشراء لا بنفس الملك
فقد ظهر من أوجه كثيرة عدم الانتزاع والله أعلم انتهى
مسألة رجل في يده طواشي بالغ باعه لشخص فادعى الطواشي أنه ليس ملكه وأن سيده فلان وأن سيده سلمه لهذا الرجل هدية إلى زيد
وقال شخص سيده فلان المذكور باعه لي وملكته منه وشهد له بذلك شاهد واحد لم يتفق بتزكيته فقلت لهما اتفقتما على الملك لفلان وعلى اليد لهذا الشخص واليد له وقد باع وانتقلت إلى المشتري فلا ننزعها إلا ببينة وحلف الشخص على أنه ملكه من فلان وعلى نفي ما قاله الطواشي انتهى
مسألة رجل في يده دار بمكتوب حكم له بها حاكم في تاريخ متقدم فادعاها رجل وأظهر مكتوبا حكم له بها فيه حاكم من تاريخ أقدم من التاريخ الأول ولم تقم لواحد منهما بينة الآن بالملك وإنما قامت لكل منهما بينة بحكم الحاكم الذي حكم له
فنقول إنها لا تنزع من صاحب اليد لأن له يدا وحكما ولغريمه حكم بلا يد فلا يساويه أما عند من يقدم بينة الداخل فظاهر وأما عند من يقدم بينة الخارج فلأن ذاك إذا شهدت له الآن وهنا لم تشهد له الآن بشيء فلو لم يكن مع صاحب اليد حكم وليس لغريمه بينة الآن إلا بأن
____________________
(2/497)
حاكما حكم له بها من مدة طويلة فهاهنا من يقول بأن الحيازة مدة طويلة بطل الحق وهم المالكية لا ينزعونها وأما غيرهم فالظاهر على مقتضى قواعدهم أنها تنزع لاستصحاب حكم الحاكم ويحتمل أن يقال لا تنزع لأن الاستصحاب يصلح للدفع ولا يصلح لابتداء الحكم فلو حكمنا الآن برفع اليد لكنا حاكمين بذلك بغير بينة فهذا لا ينبغي أن ينظر فيه وإن كان السابق إلى الذهن الانتزاع والله أعلم انتهى
مسألة من الصلت أرض مشتركة بين أخوين مات أحدهما وخلف ثلاثة بنين وبنتا ثم مات أحد البنين وخلف إخوته ووالدته ثم إن أحد الأولاد باع نصيبه ونصيب إخوته ووالدته المخلف عن والده المنتقل إليهم بالإرث لشخص ووقفه المشتري ثم ادعت البنت بعد موت أخيها البائع أن نصيبها باق على ملكها ما باعت ولا وكلت فإذا قامت بينة أن نصيبها في الأرض المخلفة عن والدها باق هل تحتاج البينة إلى التعرض إلى أنه لم يزل وإذا أقامت ورثة المشتري بينة تشهد بالملك إلى حين وقفه فما الذي يرجح من البينتين وهل يحتاج إلى أن يستفسر من بينتها عند الأداء أن الملك لم يزل أو يكفي إطلاق الملك
الجواب إذا عرف أن ذلك مخلف عن والدها لها ولإخوتها ووالدتها فالقول قولها أن نصيبها باق على ملكها حتى تقوم بينة بانتقاله عنها بطريق شرعي والبينة لها بأن نصيبها باق على ملكها لا تحتاج إلى قولها لم تزل بل تسمع مطلقة بعد تقدم دعوى مسموعة والبينة للواقف بالملك إلى حين وقفه أو لم يعرف كون ذلك مخلفا للمدعية ومن يشاركها كانت معترضة لكن مع معرفة ذلك لا تعارض إلا أن يجعل النزاع بين الواقف والميت الذي ذلك مخلف عنه ويقع التنازع من رأس وتقدم البينتان هكذا فحينئذ يقع التعارض بناء على المشهور أنه لا فرق في التعارض بين ذكر السبب انتهى
مسألة أخرى عمر أحد الأخوين ثم مات وتنازعت ورثته مع الآخر في العمارة
الجواب متى ثبت أن عمرها حمل على أن الآلات كانت في يده فتكون
____________________
(2/498)
له ولورثته من بعده حتى يتبين خلاف ذلك واستفسار البينة ليس بشرط لكن إذا أراد الحاكم فله أن يفعله فإن نصت على أمر اتبع وإن أصرت على الإطلاق حمل على ما تقدم والله أعلم
مسألة في رجل مات وترك أيتاما صغارا وترك موجودا كثيرا فوق حاجتهم من وقف وعين وملك وغلات وغير ذلك ثم أن الحاكم أذن لوكيل الحكم أن يبيع على الأيتام المذكورين ملكا من المخلف عن مورثهم بمبلغ وقامت عند الحاكم بينة شرعية بالحاجة والغبطة فأذن في البيع المذكور بعد أن ثبت ذلك وحكم بذلك ثم إن الملك الذي أبيع في ذلك بدون ثمن المثل وثم بينة شرعية تشهد بذلك وبعدم حاجة الأيتام إلى بيع ذلك فهل تقدم البينة الأولى أم الثانية فإذا قلنا بتقديم أحد البينتين فبينوا لنا الحكم أفتونا مأجورين
الجواب الحمد لله ما أشتهي أن أكتب على شيء من هذه الفتاوى لأن الظاهر أنها تحيلات بالباطل وأين البينات الصحيحة فإن فرض ذلك فقد أفتى الشيخ تقي الدين بن الصلاح في مثلها بتقديم البينة الثانية ونقض حكم الحاكم وأنا أميل إلى خلاف ذلك وأن البينتين متعارضتان ولا ينقض الحكم هذا إذا سلمت البينتان من القدح والغرض ومتى يكون ذلك الله يسترنا أجمعين
فرع وقع في المحاكمات سنة 749 وقف ثابت فيه الملك والحيازة محكوم بصحته في حدود الأربعين بكتاب متصل
وفي كتاب آخر متصل ذلك الموقوف بعينه أو حصة منه موقوفة على غير تلك الجهات من واقف آخر في سنة 694 ثابت فيه الملك والحيازة محكوم بصحته فلم أجد نقلا إلا أني تفقهت أن هنا تعارض البينتين مع زيادة اتصال كل منهما بحكم فمن يقدم بينة الخارج فذلك فيما إذا لم يكن حكم أما ها هنا فقد حصل حكم وله احتمال ما وهو أن يكون الحاكم الثاني أطلع على بطلان الوقف الأول أو أنه جرت مناقلة على مذهب من يراها فالإقدام على رفع اليد إقدام على نقض حكم يحتمل أن يكون له مساغ فلا يجوز والله أعلم انتهى
مسألة قال الشيخ الإمام وقفت على تصنيف لطيف لقاضي القضاة شهاب
____________________
(2/499)
الدين محمد بن أحمد بن الخليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى بن محمد الجويني الشافعي قال فيه وقع عندي في جملة المحاكمات أرض مشتركة بين اثنين أقر أنهما اقتسماها قسمة صحيحة شرعية وتسلم كل منهما ما خصه بالقسمة وادعى أحدهما أن شريكه وضع يده على أكثر مما خصه بالقسمة وعين حدا وقال هذا الحد الذي وقعت القسمة عليه وعين الشريك المدعى عليه حدا ثانيا وقال هذا الذي وقعت القسمة عليه فالذي في يدي هو حقي ولم أتجاوز الحد فرأيت اختصاص المدعى عليه بما وراء الحد الأول لاتفاق المتنازعين عليه واختصاص المدعي بما وراء الحد الثاني لاتفاقهما عليه أيضا ورأيت أن ما بين الحدين يقسم بين الشريكين على نسبة ما كان بينهما قبل القسمة لأنها أرض أقر كل منهما لصاحبه بنصفها وهي في يد أحدهما ولا بينة على انتقال ما أقر به للخارج إليه فتنزع من يده إلى أن يقيم بينة على أنها دخلت فيما خصه بالقسمة
كما لو أقر رجل لزيد بنصف دار ثم وضع يده عليها وادعى أنه ملك جميعها فإنه لا يقبل قوله في النصف الذي أقر به لزيد إلا ببينة ولا تنفعه اليد لأن اليد الثانية لا تعارض الإقرار السابق
ووقفت على ثلاثة تصانيف للشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية مختصر ومطول وملخص منه قال فيه إن الشريكين إذا أقرا بأنهما تقاسما جميع الأرض المشتركة بينهما وأن كلا منهما استوفى جميع حقه ولم يبق له بيد الآخر شيء ثم وقف أحدهما نصيبه وانتقل نصيب الآخر عنه ببيع ونحوه ثم ادعى بعض من انتقل إليه الملك بالبيع على أهل الوقف قطعة بأيديهم ولم يقم بينة بالغصب ونحوه علم ذلك بالاضطرار من دين الإسلام
ووسع ابن تيمية في ذلك جدا في التصنيف المطول وظن كثير من الناس أنه أجاد في ذلك
والذي أقوله إن كلام ابن تيمية إنما يتم لو اتفقنا على أن القسمة شملت جميع ذلك وأن المتنازع فيه أخذه الذي هو في يده بحق القسمة وأنها وقعت غلطا والصورة ليست كذلك وإنما المدعي يقول إن المدعى عليه وضع يده على قدر زائد ولم يخصه بالقسمة ولا دفعه القاسم إليه بل تعدى فيه على شريكه وأخذه من نصيبه عدوانا وإذا صورت المسألة كذلك فالحق ما قاله القاضي شهاب الدين ولا يحتمل الحال فيها
____________________
(2/500)
أكثر من ذلك
والله أعلم
كتبه علي السبكي الشافعي في شعبان سنة 749 انتهى
مسألة وردت من القاضي نجم الدين الشافعي بحماة في رجل مات وخلف ابنا وابنتين وخلف لهم فدانا من جميع خمسة أفدنة في جميع القرية الفلانية خص الابن مما خلفه أبوه نصف فدان وللبنتين نصف فدان فوقف الابن من القرية نصف فدان وربع فدان على نفسه مدة حياته وبعده على أولاده متصلا بوجوه البر وثبتت ملكية الموقوف للواقف ولم يكن بيد الواقف سوى نصف فدان المخلف عن أبيه واستغله كذلك إلى أن توفي ثم تولى على الوقف مستحق آخر بعده وطلب أن يأخذ ربع نصف فدان وربع فدان وهي الحصة المذكورة في كتاب الوقف فهل يكون ما زاد على النصف فدان المخلف عن أبيه له من نصيب أخواته مع عدم تبيين شهود الملكية سبب انتقال ذلك من أخواته إليه أم من سائر القرية أم ليس له سوى ما هو مخلف عن ابن الواقف له الذي كان بيده إلى أن مات أفتونا مأجورين رحمكم الله تعالى
الجواب الحمد لله أما الفدان المخلف عن أبيه فليس له منه إلا النصف والنصف الآخر لأختيه ويحتاج ثبوت الملك له فيه أو في بعضه إلى بيان سبب الانتقال والبينة بالملك المطلق تسمع إذا كان معها يد ولم تعارضها بينة أخرى أو علم الحاكم بتقدم ملك لغير من شهدت له البينة كما نقله الرافعي عن فتاوى القفال وغيره أنه لو ادعى دارا في يد إنسان وأقام بينة أنها ملكه فقال القاضي قد عرفت هذه الدار ملك فلان ومات وانتقلت إلى فلان وارثه فأقم بينة على ملكه منه قبلت ذلك منه وتندفع بينته وذكر الرافعي أنه تفريع على القضاء بالعلم وعندي أنه مطلق لأنه لو قضى لقضى بخلاف العلم فلا تسمع البينة بالملك المطلق إلا بالشرط الذي قلناه وذلك إذا كانت في يد المشهود له أو في يد غيره ممن لم يعلم ملكه ولا ملك من انتقلت إليه منه أو لا تكون في يد أحد ففي هذه المواضع الثلاث البينة بالملك المطلق مسموعة معمول بها وفيما سواها قد تسمع ولكن لا يعمل بها كما إذا انتزعت العين من شخص ببينة ثم أقام بينة بملكها مطلقة
____________________
(2/501)
سمعت في الأصح ولكن فائدة سماعها معارضة البينة التي انتزعت منه بها ورجوعها إلى يده كما لو أقامها قبل الانتزاع فليتنبه لهذا فإنه قد يغلط فيه ويغتر بقولهم إن الدعوى مسموعة وإن لم يبين سبب الانتقال إذا كان الانتزاع ببينة لا بإقرار ومرادهم ما بيناه هنا
فإذا علم ذلك علم في مسألتنا أن نصيب الأختين لا سبيل له عليه إلا ببينة مقرونة ببيان سبب الانتقال فمتى لم يحصل ذلك وعرف أنه لا ملك له في الفدادين الأربعة الباقية تعذر الحكم بصحة وقفه في الربع الزائد على نصيبه ولم تفد إقامة البينة على ملكه مطلقا من غير بيان ولم يفد حكم القاضي به من غير بيان ولم ينفذ ذلك الحكم وقبول البينة المطلقة بالملك إذا لم يكن أصلا لا حجة شرعية لا معارض لها وليس فيها رفع يد ولا إبطال حق لمعين والحكم إذا ثبت لمعين لم يجز رفعه إلا بمستند بخلاف المجهول وقبولها على ذي اليد الذي بلا بينة له ولا علم حاكم لأن اليد وإن كانت حجة فالبينة أقوى منها وقبولها بعد الانتزاع ببينة لأنها معتضدة باليد المتقدمة فتقدم على البينة المجردة بناء على تقديم الداخل وفيما سوى المواضع الثلاثة لا وجه لقبولها لوجود ما هو أقوى منها وهو بيان السبب فهو مقدم على عدم بيانه وحاصله أنا دائما نقدم الأرجح فالأرجح وأما إذا انتزعت العين بإقرار فلا تسمع دعوى المنتزع منه ولا بينته إلا ببيان بسبب انتقال جديد لئلا يكون مكذبا لغيره هذا كله في الربع الزائد على نصيبه بالنسبة إلى نصيب أختيه ولكن ينبغي أن ينظر إلى الأربعة الفدادين الباقية من القرية فإن كانت معلومة لغيره أو في أيديهم فالحكم على ما شرحناه من التفصيل وإن كان فيها ما يمكن أن يكون الربع الزائد منه فتكون الزيادة بملكه مسموعة ويكون قد وقف نصفا مما خلفه أبوه وربعا من غيره هذا إن كان الأمر ممكنا والشهادة بذلك وإلا فالأمر على ما شرحناه في نصيب أختيه وبعدم الربع توقف ولا يسمع من مستحق الوقف دعواه فيه ولا عبرة بحكم الحاكم الذي عرف استناده إلى ذلك وأما النصف المعروف ملكه له من والده فوقفه صحيح إذا حكم به حاكم يرى صحة الوقف على نفسه فيتقدر ذلك القدر خاصة
وقد ذكر
____________________
(2/502)
في الاستفتاء أنه لم يكن في يد الواقف سوى نصف فدان المخلف عن أبيه إلى أن توفي فإذا عرف ذلك خرج أحد المواضع الثلاثة التي فيها قبول البينة المطلقة فإذا كانت يد لغيره على جميع الباقي وبينة خرج الموضع الثاني كانت يدا لغيره بلا بينة ولا علم سبب وذلك إنما يكون في الأربعة الزائدة على المخلف عن أبيه بشرط سماع البينة أن تكون في وجه خصم مدعى عليه وأما هكذا مطلقة من غير حضور خصم ولا دعوى فلا أثر لها ولا الحكم بها فتنبه لذلك أيضا فإن الناس يتسمحون في الشهادة بالملك والحيازة ومتى كان خصم فلا بد مما قلناه ولا يقال في شيء من هذه المواضع
نعم إذا قامت بينات مطلقات أو متساويات في الإسناد إلى أسباب تعليلها كما تعيل المسائل في الفرائض
وذكر مولانا قاضي القضاة في مثاله الكريم أنه توقف في ذلك ونعم ما فعل شكر الله له ذلك وذكر في مثاله الكريم أنه كان وقع في زمن جده رحمه الله واقعة بسبب ذلك أو قريب منها وهو إنسان ملك بعض أقاربه عقارا ثم أنه باعه وثبتت ملكية البائع فلما ادعى المقر له بالعقار عند جد مولانا على المشتري وقامت بينة الإقرار السابق على البيع عنده حكم بإبطال البيع وتسليمه إلى المقر
فحفظ الله مولانا لحفظه لمسائل العلم نعم هذه قضية قراسنقر في بستان الجوسة بظاهر حماة اشتراه من عماد الدين صاحب حماة في سنة 711 ثم خرج مكتوب فيه أن عماد الدين أقر به في سنة 7 لأمه ولزوجته وحضرت المحاكمة هذه إلى دمشق في سنة 743 وفيها نظر آخر
والفرق بينها وبين مسألتنا هذه أن تلك في الإقرار ولا تقبل الدعوى بعده مطلقة وذلك مستند قاضي القضاة شيخ الإسلام جد مولانا رضي الله عنه فإنه من أئمة العلم والدين ومسألتنا هذه ليس فيها إقرار وقد تبين الحكم فيها أيضا والله أعلم انتهى
مسألة دمياطية رجل مات وعليه ديون وليس له وارث إلا بيت مال المسلمين وبعض أرباب الدين غائب عن بلد الميت فادعى وكيله بدينه بعد ثبوت وكالته عنه وأقام بينة بالدين المذكور فهل تسقط اليمين إذا قلنا بوجوبها بسبب غيبة رب الدين ويسوغ
____________________
(2/503)
للحاكم الحكم بغير يمين وتسليم المال للوكيل المذكور كما قال أصحابنا مثله فيما إذا كانت الدعوى على غائب أم يتوقف الحاكم إلى حضور رب المال من خلفه وإذا كان كذلك فما الفرق بينه وبين الدعوى على الغائب وهل صرح بهذه المسألة أحد من الأصحاب أم لا
الجواب الحمد لله تسقط اليمين الآن إذا قلنا بوجوبها ويحكم الحاكم بالبينة بغير يمين ويسلم المال للوكيل المذكور كما إذا كانت الدعوى على غائب ولا فرق بين المسألتين به اختلاف بل إطلاق الأصحاب الحكم بغير يمين إذا ادعى وكيل غائب على غائب أو حاضر يشمل إطلاقه البالغ والصبي والميت فكانت المسألة المسئول عنها فردا من أفراد ما أطلقوه فمن ادعى إخراجها من هذا الإطلاق فعليه البيان أيضا فإن المعنى الذي اقتضى الحكم بغير يمين لوكيل الغائب إنما هو فصل الخصومات وعلقه بأخيرها وأبقى كل ذي حجة على حجته وهذا المعنى يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون المدعى عليه بالغا غائبا أو حاضرا أو صبيا غائبا أو حاضرا ووكيل بيت المال أو غيره متى كان موكل المدعي المحكوم له غائبا فهو المعتبر
وأما أن أحدا من الأصحاب صرح بهذه المسألة فلم يحضرني الآن غير أنها داخلة في إطلاقهم ولا يقبل تخالفها مطلقا ولا مقيدا والمعنى عنها فوجب العمل بها وإذا حضر الغائب يحلف والله أعلم
كتاب العتق مسألة سأل عنها من حماة رجل مات وخلف عبدا فادعت زوجة الميت أنه عوضها إياه عن صداقها وأنها أعتقته فهل يعتق نصيبها ويسري إلى باقيه أو لا وهل يسقط صداقها أو لا الجواب يعتق نصيبها ولا يسري لأن الإقرار بإعتاقه محتمل لأن يكون قبل الموت بحكم التعويض الذي أقرت به ويحتمل لأن يكون بعده والأول يقتضي المؤاخذة في نصيبها وعدم السراية والثاني يقتضي السراية فتحمل على المتيقن وهو عدم السراية ويؤخذ بإقرارها في إسقاط صداقها
والله أعلم
كتب في التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة 745 وللمسألة ثلاث أحوال إحداها أن يصرح بأنها أعتقته بعد
____________________
(2/504)
التعويض وقبل الموت فلا شك في عدم السراية وفي إعتاق نصيبها وعتق نصيبها إنما هو للمؤاخذة كما لو أقر بحرية عبد ثم اشتراه
الثانية أن يصرح بأنها أعتقته الآن فيعتق نصيبها بإقرارها والثاني بالسراية وإقرارها مقبول لأنها مالكة لإنشاء عتق نصيبها ومن ملك الإنشاء قبل منه الإقرار
الثالثة أن يطلق والإقرار يحمل على المتيقن وعلى أدنى السببين فلذلك قلنا عند الإطلاق إنه لا يسري وأنه يعتق نصيبها من باب المؤاخذ كما لو أقر بحرية عبد ثم اشتراه والحكم بسقوط الصداق مؤاخذة بإقرارها
والله أعلم
قال الشيخ الإمام رحمه الله الحمد لله هذه ثلاث مسائل من باب الكتابة وقع فيها التباس فلخصتها المسألة الأولى كاتب اثنان عبدا ثم أعتق أحدهما نصيبه عتق والمذهب المشهور أنه يسري وفي وقت السراية قولان أحدهما في الحال والأظهر أنه موقوف فعلى الأول في انفساخ الكتابة في نصيب الشريك وجهان إن قلنا ينفسخ
وهو الأصح فالولاء للمعتق وإلا فهو بينهما وأما على الأظهر فإن أدى نصيب الآخر عتق عن الكتابة وولاؤه بينهما وإن عجز ثبتت السراية حينئذ وولاؤه للمعتق وهذا يقتضي أن تنفسخ الكتابة وينبغي أن يجري في انفساخها الخلاف السابق فإن قلنا لا تنفسخ كان الولاء بينهما ولو أبرأه أحدهما عن نصيبه من النجوم فكما لو أعتقه ولو قبض نصيبه أو النجوم كلها بغير إذن شريكه لم يعتق منه شيء في الأصح فإن قلنا يعتق بعضه فالسراية على ما سبق في الإعتاق والإبراء وإن قبض جميع النجوم بإذن شريكه عتق كله عليهما ولا سراية
المسألة الثانية كاتب عبدا ومات عن اثنين فهما قائمان مقامه فإن أعتقه أحدهما أو أعتق نصيبه عتق نصيبه على المشهور ورجحه النووي وهو الصحيح وقال البغوي والرافعي المحرر الصحيح أنه لا يعتق فعلى المشهور إن كان المعتق معسرا أبقيت الكتابة في نصيب الآخر فإن عجز عاد ذلك النصيب قنا وإن أدى عتق وولاؤه للأب وكذا ولاء نصيب الأول في الأصح
وإن كان موسرا وقلنا بأن الكتابة لا تمنع السريان وهو المذهب المشهور فهاهنا قولان أظهرهما أنه لا يسري
____________________
(2/505)
لأن إعتاقه تنفيذ لعتق الأب وتعجيل لما أخره ولذلك كان الولاء للأب والميت لا يسري عليه والثاني يسري ويقوم على المباشر للعتق لأنه باختياره ولا نسلم أن الولاء للأب فإن ولاء هذا النصف للمعتق على الأصح وبتقدير التسليم فثبوت الولاء للميت لا يمنع من ذلك كما لو قال رجل لأحد الشريكين في عبد أعتق نصيبك عني على ألف فأعتق فإنه يسري إلى نصيب شريكه ويكون العتق قد وقع عن المشتري السائل والولاء له والتقويم على المباشر للعتق
قاله ابن الصباغ والروياني تبعا للقاضي الطبري وطرده الروياني فيما إذا قال أحد الشريكين لشريكه أعتق نصيبك عني فأعتقه سرى إلى نصيب الشريك وكان الولاء للسائل والغرم على الشريك المعتق بالسؤال
وخالفهم النووي فقال الصواب أنه لا يقوم على المباشر لأنه لم يعتق عنه وقد يشهد له ما قاله هو والرافعي قبل ذلك عند الكلام في السراية أنه لو كان بين رجلين عبد قيمته عشرون فقال رجل لأحدهما أعتق نصيبك عني على هذه العشرة وهو لا يملك غيرها فأجابه عتق نصيبه عن المستدعى في اليسار والإعسار
لكن قال الشيخ أبو حامد في العبد بين شريكين إذا وكل أحدهما شريكه في إعتاق نصيبه فأعتقه أن ولاء نصيب الموكل له وإن كان المباشرة والسبب جميعا من الوكيل ولهذا تلف نصيبه عليه وكان ولاؤه له ولم يكن له وإن كان السبب والمباشرة من غيره إذ لو كان هو بتوكيله سببا لضمن فلما لم يضمن دل على أن شريكه هو المباشر لعتق نصيب الموكل المتسبب في عتق نصيبه ولا ينتسب إلى الموكل بسبب ولا مباشرة ولك أن تقول ينتسب إليه بسبب ولكن المباشرة متقدمة فلذلك أحلنا الإتلاف عليها ولم يضمن
هذا إن كان الحكم كما ادعاه الشيخ أبو حامد وما تقدم عن القاضي الطبري وغيره يقتضي أن عتق الجميع يقع عن الموكل والولاء له ولا ضمان عليه فينبغي أن يثبت ما قاله الشيخ أبو حامد وما قاله الطبري وجهين في المسائل الثلاث بعد تثبت أحدهما تقع السراية عن المستدعى والثاني عن المعتق وهم متفقون على عدم الغرم على السائل على خلاف ما قاله النووي ولو وكل أحد الشريكين أجنبيا في أن يعتق نصيبه ففعل فقياس ما قاله هؤلاء الأئمة أن الغرم على الوكيل لكن الرافعي قاله
____________________
(2/506)
في مسألة إذا كان عبد بين ثلاثة وأعتق اثنان نصيبهما بوكالة أن الغرم عليهما
وقال أيضا في عبد قيمته عشرون بين اثنين قال أجنبي معه عشرة لأحدهما أعتق نصيبك عني بها وليس معه غيرها لا سراية ولو كان التقويم على الوكيل لم ينظر إلى حال الموكل في اليسار والإعسار
فلتتأمل هذه المسألة فإنها مشكلة فإن قلنا يسري ففي الحال أو عند العجز القولان السابقان أظهرهما الثاني فإن قلنا في الحال انفسخ قطعا وقيل على القولين وولاء النصف الثاني للمعتق وفي ولاء النصف الأول وجهان أصحهما أنه للأب وينتقل لهما بالعصوبة وإن قلنا لا ينفسخ فولاء الجميع للأب وإن قلنا يثبت عند العجز فإن أدى فولاؤه للأب كله وإن عجز فقيل تبطل الكتابة وولاء الجميع له والأصح أن ما سرى إليه العتق إليه وفي ولاء النصف الأول الوجهان هذا حكم إعتاق أحدهما وإبراؤه كإعتاقه خلافا للمزني وقبضه نصيبه من النجوم بغير إذن فاسد وبإذن على القولين في الشريكين فإن صححنا ما قال الإمام لا سراية بلا خلاف لأنه يجبر على القبض ولا حرية بغير الاختيار
وفي التهذيب أنه كإعتاقه وإبرائه ومال الرافعي إليه
المسألة الثالثة مات عن ابنين وعبد فادعى العبد أن أباهما كاتبه فإن كذباه حلفا على نفي العلم وإن صدقاه فكما سبق في المسألة الثانية وإن صدقه أحدهما وكذبه الآخر فنصيب المصدق مكاتب ونصيب المكذب قن إذا حلف فإن أعتق المصدق نصيب نفسه عتق وهل يسري حكى الرافعي طريقين أحدهما القطع بالسراية والثانية عن الأكثرين أنه على القولين السابقين في المسألة الثانية وقد تقدم أن الأظهر منهم عدم السراية لكن الرافعي في المحرر قال الأظهر أنه يقوم عليه الباقي وإن كان موسرا والطريقان اللتان حكاهما الرافعي في النهاية بزيادة تحقيق وهو أنه إن كان مكاتبا في نفس الأمر فليس إلا القولان السابقان وإن كان قنا فليس إلا السراية فليس هذا الترتيب في الخلاف كغيره في المسائل
إذا عرف هذا فقد يستشكل تصحيح الرافعي في المحرر للسراية من جهة أن نصيب المصدق محكوم في الظاهر بأنه مكاتب أيضا ومقتضى كونه مكاتبا أن لا يسري فكيف يلزم المصدق حكم
____________________
(2/507)
السراية مع كونه لم يعترف بما يوجبها
والجواب عن هذا الإشكال أن المكذب يزعم أن الكل قن ومقتضى ذلك أن إعتاق شريكه نافذ سار كما لو قال لشريكه في العبد القن أنت أعتقت نصيبك وأنت موسر فإنا نؤاخذه ونحكم بالسراية إلى نصيبه لكن هناك لا يلزم شريكه القيمة لعدم ثبوت إعتاقه بإقراره ولا ببينة وهنا لما ثبتت السراية بإقرار المكذب وهي من أثر إعتاق المصدق وإعتاقه ثابت فهو بإعتاقه متلف لنصيب شريكه بالطريق المذكور فيضمن قيمة ما أتلفه
ويزيد ذلك وضوحا أنا في المكاتب كله إنما لم نقل بالسراية لما فيها من إبطال حق الشريك في كتابته وهذه العلة مفقودة ها هنا ولا محذور في السراية فلذلك كان الأصح القول بها ولا يمكن أن نقول يسري ولا يغرم
إذا عرفت هذا فإذا قلنا بالسراية فهي ها هنا في الحال بلا خلاف ولا يجيء القول الآخر القائل بالوقف على العجز لأنه لا كتابة هاهنا في الباقي فلا عجز فإن قلنا بالسراية فولاء النصف الذي سرى العتق إليه للمعتق وفي ولاء النصف الآخر وجهان أصحهما أنه له أن ينفرد به وينبغي جريان هذا الخلاف في النصف الذي سرى إليه العتق أيضا بناء على أن السراية لا تقتضي الانفساخ وإذا قلنا لا سراية فولاء ما عتق ينفرد به المصدق في الأصح لإبطال المنكر حقه هذا حكم الإعتاق
ولو أبرأ المصدق من نصيبه فالأصح أنه لا يسري كنظيره من المسألة الثانية ولا تجيء المؤاخذة هاهنا لأن المكذب يزعم أن الإبراء باطل ولو أقبض المصدق نصيبه من النجوم فلا سراية وهل يكون ولاء ما عتق لهما أو للمصدق وحده فيه الوجهان السابقان أصحهما الثاني
والله أعلم انتهى
سؤال ورد من ثغر الإسكندرية من جهة الفقيه أبي القاسم بن أحمد بن بنوب القرشي المغربي عن مسألتين وجدهما الشيخ عز الدين بن عبد السلام إحداهما من أخذ له مال حلال فوجد عند أخذه له مالا حراما فهل إذا أخذه من
____________________
(2/508)
الظالم له يتنزل في الحلية عند المغصوب منه منزلة الأول أم لا قال يعني ابن عبد السلام فيه إشكال قال السائل ولم يظهر موجب توقفه فإنه إذا وقع التباس على أن التحريم والتحليل ليس راجعا إلى الأعيان وإنما هو راجع إلى صفة المكتسب لها بغير الوجه الشرعي فكيف لا يقال إن الثاني يحل محل الأول
وطلب هذا السائل متعلق استشكال الإمام عز الدين من حيث الدليل قال وإلا فالخلاف في مذهبنا معلوم وظاهر المدونة فيمن غصب دراهم لرجل فأراد الغاصب إعطاء مثلها لربها أنه يجبر على أخذها
الثانية في تقديم الفاضل على المفضول فذكر يعني ابن عبد السلام مسائل منها أنه إذا كان له عبدان أحدهما أجنبي في غاية الصلاح والثاني قريب منه وأراد عتقهما هل يقدم عتق الأجنبي الصالح على عتق قريبه الفاسق أم لا قال هو يعني ابن عبد السلام فيه نظر قال السائل فأقول يقدم عتق الأجنبي لأن العتق الإحسان وقال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم والأكرم على الله يجب تقديمه والشريعة طافحة بعدم اعتبار النسب مع قيام المعصية به وقد قال تعالى ما كان للنبي وقال في إبراهيم عليه السلام فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه وغير هذا فما موجب توقفه رضي الله عنه وظاهر كلام مولانا عز الدين في العبد القريب أنه لو لم يكن فاسقا أو كان صالحا والعبد الأجنبي أصلح أنه يقدم عتق القريب إذا لم يكن فاسقا أو كان صالحا وعندي أنا أن تقديم الأصلح الأجنبي على القريب الذي ليس بفاسق أو القريب الصالح أولى وبيان ذلك أنه إذا كان القريب صالحا قدمت الأجنبي الأصلح عليه لأن وصف الأصلحية زاد به الأجنبي على القريب فإن قيل وصف الأصلحية تقابل به وصف القرابة من جهة القرب فاعتدلا فوجب الوقف
فالجواب عن ذلك من وجهين اثنين أحدهما أن تقدمة الأصلحية تقديم ديني وتقديم القرابة دنيوي والديني يقدم وبسطه يطول الثاني أنا إذا قدمنا الأجنبي على القريب وقعت السلامة من الشوائب القادحة في القرابة فإنه إذا أعطى القريب ربما خطر له وصف القرابة في السببية وهذا تقتضيه الحيلة فيكون باعثا على الإعطاء أو مشاركا في النسب مع وصف
____________________
(2/509)
الصلاح فإذا كان هذا مع اتصاف القريب بوصف الصلاح فمن باب آخر إذا لم يكن صالحا ولا فاسقا
انتهى كلام السائل وكتب بذلك في الخامس والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة في كتاب رسالة إلى بعض أصحابه في القاهرة فالتمس الجواب الشيخ الإمام نجم الدين سعيد والتمس منه أن يسأل عن ذلك من الفقير إلى الله تعالى علي بن عبد الكافي السبكي فقال معتصما بالله تعالى الحمد لله أما المسألة الأولى فالحق فيها أن ذلك لا يتنزل في الحلية عند المغصوب منه منزلة الأول ولا يحل له أخذه متى كان معلوم التحريم باكتسابه من جهة محرمة باعتقادهما واحترزنا بالقيد الأول عما إذا قال الغاصب إن هذا المال الذي في يده حرام ولم يصدقه المغصوب منه فلا يحرم عليه أخذه لعلمه بعدم تحريمه أو قال الغاصب إنه حلال وقال المغصوب منه هو حرام وكان المغصوب تالفا فإن المغصوب منه يجبر على القبض أو الإبراء لأن في هاتين الصورتين لم يتحقق العلم بالتحريم
واحترزنا بقولنا في اعتقادهما عما إذا رأى المسلم الذمي يبيع الخمر وقبض ثمنها وأراد إعطاءه فيما عليه فللعلماء في ذلك خلاف والأصح أنه لا يحل لبطلان اعتقادهم وإن كانوا يقرون عليه والقول بالحل ضعيف وعما إذا رأى مسلما يتصرف تصرفا فاسدا في اعتقاده جائزا في اعتقاد المتصرف كما في المذاهب المختلفة فهل يجوز له إذا كان عليه دين أن يقبضه من ذلك الثمن الذي تحقق أنه من تلك الجهة فيه خلاف والقول بالحل هنا أقوى منه في الصورة المتقدمة ومع ذلك فالأصح هنا أنه إن كان مما ينقض قضاء القاضي فيه فلا يحل وإن كان مما لا ينقض قضاء القاضي فيه فإن قلنا كل مجتهد مصيب حل وإن قلنا المصيب واحد وهو الصحيح فإن اتصل بحكم حاكم صح حل على خلاف فيه منشؤه أن حكم الحاكم في مثل هذا القسم هل يؤثر في الحل ويقر الأمر على ما هو عليه أم لا كما إذا حكم الحنفي بشفعة الجوار والأصح الحل عند طائفة منهم البغوي والرافعي وعدم الحل عند طائفة منهم الإمام والغزالي والأولون يفرقون بين هذا وبين المسألة المشهورة بيننا وبين الحنفية في أن حكم الحاكم بغير ما في
____________________
(2/510)
نفس الأمر أم لا فإن تلك المسألة ليست من المسائل الاجتهادية وأكثر العلماء على أن حكم الحاكم لا أثر له فيها في التعبير أصلا وهو الحق فهاتان المسألتان إذا كان أحدهما يعتقد التحريم دون الآخر وقد لا يعتقده واحد منهما ولكنه يكون في نفس الأمر غير مملوك للغاصب فيعطيه المغصوب منه ويأخذه منه وهما يظنان أنه ملكه فهذا لا يوصف بالتحريم ألبتة ما دام حاله مجهولا بناء على أن التحريم والتحليل صفتان للأعيان فقد يطلق عليه التحريم وهو إطلاق مجازي لأنهم لا يريدون حصول الإثم به هذا لم يقل به أحد فقيه ولا أصولي وهذا الإطلاق المجازي ارتكبه كثيرون من جميع المذاهب حتى قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني من أصحابنا أنهم أجمعوا على أن قتل الخطأ حرام قلت ويجب تأويله على ما تقدم فجميع هذه المسائل المأخوذ فيها موصوف بالحل حال محل الأول ظاهرا حتى يعلم الآخذ مما يقتضي التحريم فحينئذ يجب عليه إزالة يده عنه إن كان باقيا وغرمه إن كان تالفا
إذا عرف ذلك جئنا إلى مسألتنا فإن كان المراد أن ذلك المال كان حراما في نفس الأمر والقابض يظنه حلالا فالحق أنه ينزل في الحلية منزلة الأول إلى أن يتبين حاله كما ذكرناه ولا يتجه الاستشكال فيه ولا القول بحله باطنا وملك القابض له سواء قلنا التحريم والتحليل راجعان للأفعال أو للأعيان
وقول السائل إن في ذلك خلافا وذكره المسألة المذكورة عن مالك ليس منطبقا على ما نحن فيه وهي ما إذا علم القابض تحريم المقبوض من غير القسمين المذكورين كما إذا رأى مسلم مسلما يبيع الخمر أو الميتة أو الخنزير وقبض ثمن ذلك أو نهب أموال الناس أو سرق أو قبض مالا من أي جهة كانت مما لا شبهة في تحريمه وأحضر ذلك المال بعينه إلى من له عليه دين أو وجده صاحب الدين في يده فلا يحل لصاحب الدين أخذه ولا قبضه ولا وضع يده عليه ومتى فعل ذلك كان غاصبا ظالما وكان المال مستمر التحريم في يده ويجب عليه رده إلى صاحبه الذي يعلم أنه له ولا يحل له رده إلى الذي قبضه منه مع علمه بأنه ليس له ولا يبقيه في يده وهذا في جميع الأموال غير النقود ولا أعتقد أن فيه خلافا بين المسلمين وأما النقود فإن
____________________
(2/511)
قلنا إنها تتعين بالتعيين فكذلك والقائلون بأنها لا تتعين بالتعيين في العقود والفسوخ يقولون بتعيينها في الغصب
والذي ذكره السائل من النص عند مالك في المدونة وأن ظاهرها أن للمغصوب أن يجبر المغصوب منه على أخذ مثل دراهمه مع بقائها فهو مستبعد عند المالكية ومع ذلك فيتعين أن يكون مأخذه أن الدراهم لا تتعين بالتعيين ومع ذلك فليس منطبقا على ما نحن فيه
فإنا إذا قلنا إن الدراهم لا تتعين انقطع حق المغصوب منه عن عين تلك الدراهم المغصوبة والدراهم التي أخذها بدلها حلال وتصير هي في يد الغاصب حلالا له ولمن أخذهما منه بطريقه هذا مقتضى التفريع على عدم التعيين وهو بعيد جدا والمشهور عند جميع العلماء من جميع المذاهب في الغصب وخلافه وقد أطلق الذين صنفوا في الإجماع حكاية الاتفاق على أن من غصب شيئا أي شيء كان وكان باقيا بعينه لم يتغير أنه يرد وهذا أمر لا يقبل الخلاف أما في غير النقود فلا شبهة فيه وأما النقود ففيها الشبهة المتقدمة وهي ضعيفة فالحق التعيين وبقاء ذلك في يد الغاصب ومن قبضه منه بغير مستند على التحريم حتى يرد إلى صاحبه قال تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل والمال المغصوب كائنا ما كان مال المغصوب منه فمن أكله بغير سبب شرعي فقد أكل مال غيره بالباطل
وقال الله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها فإذا كانت الأمانات تجب تأديتها إلى أهلها فالمضمونات المأخوذة عدوانا بطريق أولى فكان النص دالا على رد العين إلى صاحبها ما دامت باقية
وقال تعالى ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما قدم تعالى على عدم أداء الدينار المؤتمن عليه مطلقا وذلك ليشمل ما إذا أراد أو مثيله أو لا ولا نزاع في أن النقود وغيرها داخلة تحت اسم الأموال ويتعلق الملك بأعيانها وذلك معلوم بالضرورة ومن الدليل عليه قوله تعالى ولكم نصف ما ترك أزواجكم الآيات فحكم بملكهم لما يخصهم من متروك الميت وذلك يشمل النقد وغيره وقوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة فلو لم يكن الذهب والفضة مملوكة لما كان متاع الحياة الدنيا وقوله تعالى ولا يحل لكم
____________________
(2/512)
أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا
وقوله وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا وقوله للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون الآية وقوله للرجال نصيب مما اكتسبوا كل ذلك يدل على الحكم بالملك في جميع ذلك وهو يشمل النقد وكذلك قوله ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة دليل على تعين ذلك وأنه لا يخرج عن التحريم إلا برده بعينه
وقال تعالى خذ من أموالهم صدقة ولا شك أن النقود داخلة فيها وكذلك وقوله إنما الصدقات للفقراء الآية ولا معنى للتطويل للاستدلال لذلك فإن ذلك مما لا يشك فيه وأنها من الأموال المملوكة وإذا كان كذلك فأعيانها محرمة على غير مالكها لما تقدم من الآيات
ولقوله صلى الله عليه وسلم أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام الحديث
وقوله صلى الله عليه وسلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه والمغصوب منه ليس طيب النفس بأن يأخذ ماله غيره وقوله صلى الله عليه وسلم أد الأمانة إلى من ائتمنك والاستدلال منه كما تقدم في الآية وقوله صلى الله عليه وسلم ليس لعرق ظالم حق وقوله صلى الله عليه وسلم أعط كل ذي حق حقه وهذا صريح في الأمر برد المغصوب منه من أي من وصل إلى يده
وقال صلى الله عليه وسلم كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وهذا العمل الذي عمله الغاصب ليس عليه أمرنا فهو مردود ولا يترتب عليه حكم يبيح العين ولا لغيره وعنه صلى الله عليه وسلم قال على اليد ما أخذت حتى تؤديه وقال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تبارك وتعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة فذكر من جملتهم ورجل باع حرا فأكل ثمنه
وجه الدلالة أنه جعل أكل ثمن الحر داخلا في استحقاق الوعيد والغالب أن الثمن يكون نقدا فلو كانت النقود إذا أخذها أحد بغير حق يجوز له إمساكها وإجبار صاحبها على أخذ مثلها لم يكن أكلها حراما بل كان المحرم عدم إيفاء مثلها وذلك خلاف ما نص عليه الحديث من وصف الأكل
ولا يتم ذلك التتبع في الوعد إلا بأن يكون الأكل بعينه أعني التصرف في غير ذلك الثمن حراما وهو دليل لتعينه بالغصب فإن قبض ثمن الحر قبض فاسد حكمه حكم الغصب وقد أطلنا في الاستدلال لهذا أكثر من الحاجة ردا للخلاف الذي نقله السائل
وينبغي تأويل
____________________
(2/513)
هذا النقل عن مالك والاعتذار عنه
أما غير النقود فلا مساغ لذلك فيها فنعود إلى ما كنا بسبيله ونقول إنه متى أخذ المال الحرام مع علمه بحاله لم يحل الأول ولم يجز له إمساكه أصلا وما أفهمه كلام السائل من ميله إلى القول بالحل إذا قلنا التحريم راجع إلى الأفعال قد ظهر جوابه وأنه لا متعلق له في ذلك بوجه من الوجوه وإن لم يكن عالما بحاله جاز له ظاهرا وكلا الحكمين لا إشكال فيه أما استشكال عز الدين في ذلك فأني بنيت أولا الأمر على نقل السائل وفكرت فيه فلم أجد له وجها إلا خيالات لا أرضى أن تمر بخاطري وأجللت الشيخ عنها فأخذت القواعد لأنظر كلامه فيها فلم أجده كما نقله السائل وإنما وجدته قال في ضمن قاعدة في الجوائز والزواجر وتكلم في أن المثلي إذا تعذر رده يضمن بالمثل إلا في صورتين ثم قال فإن قيل لو جبر المال المقطوع بحله بمثله من مال أكثره حرام فقد فات وصف مقصود الشرع وعند أولي الألباب فهل يجبر المستحق على أخذه مع التفاوت الظاهر بين الحلال المحض وبين ما تمكنت فيه شبهة الحرام قال قلت في هذا نظر واحتمال وظاهر كلامه أنه يجبر على أخذه كما يجبر رب الدين على أخذ مال اعترف بأنه حرام وفي هذا بعد وإشكال
هذا ظاهر كلام الشيخ عز الدين في القواعد وهو ظاهر ووجه إشكاله بين
وأما الذي نقله السائل عنه فإن كان هو من هذا الموضع وقد نقل بالمعنى فقد أوهم وإن كان من موضع آخر فيحتاج أن يعينه لنا حتى ننظر فيه ونتأمله ثم نجيب عنه إن شاء الله تعالى ولعله سقط من النسخة التي وقعت للسائل لفظ أكثره من قوله مال أكثره حرام فنقل أنه من مال حرام
وعلى الجملة فليست هذه المسألة مما يتردد فيه ونحن قاطعون بأن الحرام لا يتنزل منزلة الحلال ولا يزال مأمورا برده على صاحبه لم نجد شيئا في الشريعة يخالف ذلك إلا حديثا فيه كلام رواه في المستدرك وغيره من حديث عكرمة بن خالد أن أسيد بن حضير حدثه قال كتب معاوية إلى مروان إذا سرق للرجل فوجدت سرقته فهو أحق بها حيث وجدها قال فكتب إلي بذلك مروان وأنا على اليمامة فكتبت إلى مروان أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قضى إذا كان عند الرجل غير المتهم فإن شاء سيدها
____________________
(2/514)
أخذها باليمين وإن شاء اتبع سارقه ثم قضى بذلك بعده أبو بكر وعمر وعثمان قال فكتب مروان إلى معاوية بكتابه وكتب معاوية إلى مروان إنك لست أنت ولا أسيد تقضيان علي فيما وليت ولكني أقضي عليكما فانقد لما أمرتك به
وبعث مروان بكتاب معاوية إليه فقال والله لا أقضي أبدا
قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه قلت وقد ضعفه غيره بأن عكرمة بن خالد ضعيف الحديث
وقال البخاري منكر الحديث وقال النسائي ضعيف
قلت وهو عكرمة بن خالد بن سلمة المخزومي المدني فإن استمر تعليل الحديث فذاك وإلا فهو حديث مشكل إن صح على ما قاله الحاكم ويعارضه ما رواه الحاكم أيضا عن شرحبيل مولى الأنصار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من اشترى سرقة وهو يعلم أنها سرقة فقد شرك في عارها وإثمها وقال الحاكم فيه أيضا أنه صحيح ولم يخرجاه
قلت وفي إسناده أيضا مقال
وأما المسألة الثانية فقد ذكرها الشيخ عز الدين في القواعد بعد أن ذكر أن التقي مقدم على الشقي والقريب يقدم على الأجنبي ثم قال فإن كان الأجنبي على غاية الصلاح ففي تقديمه على عتق القريب الفاسق نظر ووجه هذا النظر الذي أبداه الشيخ فيها تعارض الصلاح والقرابة والذي يترجح رجحانا قويا تقديم القرابة على خلاف ما قاله السائل وإن عتق القريب الصالح أو الفاسق أفضل من عتق الأجنبي الصالح أو الأصلح اللهم إلا أن يقترن بالأجنبي وصف آخر خاص أو عام كلي أو جزئي يقتضي تقديمه كما أنبه عليه في آخر الكلام إن شاء الله تعالى
ولنفرض الكلام في العتق الذي ليس بواجب كما هو ظاهر ما فرضه السائل وإنما قلت بأن وصف القرابة مقدم لأن العتق إحسان وبر والإحسان والبر مقدم فيه القريب فالعتق يقدم فيه القريب
أما المقدمة الأولى فبينة بنفيها والمقدمة الثانية الدليل عليها أحاديث منها ما ثبت من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال أعتق رجل من بني عذرة عبدا له عن دبر فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألك مال غيره فقال لا قال من يشتريه مني فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم فجاء بها إلى رسول
____________________
(2/515)
الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه ثم قال ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا يقول بين يديك وعن يمينك وشمالك
أصل هذا الحديث في الصحيح وروي فيه خارج الصحيح زيادات وألفاظ والعبد المذكور اسمه يعقوب وقد وقع في رواية عن سفيان بن عيينة لفظة منكرة في هذا الحديث ذكر الإمام الشافعي في الأم أنه سمعه منه عامة دهره كما رواه الناس قال ثم وجدت في كتابي دبر رجل منا غلاما له فمات
قال الشافعي فإما أن يكون خطأ من كتابي أو خطأ من سفيان فإن كان من سفيان فابن جريج أحفظ لحديث أبي الزبير من سفيان ومع ابن جريج حديث الليث وغيره وأبو الزبير يجد الحديث بحديد انجبر فيه حياة الذي دبره وحماد بن زيد مع حماد بن سلمة وغيره لحديث عمرو بن سفيان وحده وقد استدلوا على حفظ الحديث من خطائه بأقل مما وجدته في حديث ابن جريج والليث عن أبي الزبير وفي حديث حماد بن زيد عن عمرو بن دينار وغير حماد يرويه عن عمرو كما رواه حماد بن سلمة وقد أخبرني غير واحد ممن لقى سفيان قديما أنه لم يكن يدخل في حديثه مات وعجب بعضهم حين أخبرته أني وجدت في كتابي مات فقال لعل هذا خطأ منه أو زلل منه حفظته عنه
هذا كلام الشافعي في الأم وإن كان لا تعلق له بما نحن فيه لكني نقلته لما فيه من الفائدة ومن تأمل كلامه في هذا المكان وغيره عرف تمكنه من علم الحديث
ولنرجع إلى ما كنا بسبيله دل هذا الحديث على تقديم الأقرب على من سواه ولم يفصل بين أن يكون فاضلا أو مفضولا صالحا أو غيره مع العلم بأن في الناس غير أقارب الإنسان من هو أصلح منهم غالبا ومن الأحاديث الدالة على ذلك أيضا لما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم من أبر قال أمك قال ثم من قال أمك ثم أباك ثم أدناك ثم أدناك والأدنى هو القريب
وكذلك في الحديث الآخر يا رسول الله من أحق مني بحسن الصحبة قال أمك وذكر بمعنى الحديث المتقدم وقوله صلى الله عليه وسلم في الصدقة على القريب أنها ثنتان صدقة وصلة
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لزوجة
____________________
(2/516)
عبد الله بن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم وقد يكون في ذلك الوقت في الصحابة من هو أفقر من ولدها وأصلح
وقوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له معي دينار قال أنفقه على نفسك
ولو استوعبنا الأحاديث في ذلك لطال والشريعة طافحة بذلك على خلاف ما ذكره السائل ولكني سأذكر في آخر الكلام ما حمل السائل على ذلك وجوابه وما حمل الشيخ على التوقف أيضا وجوابه إن شاء الله تعالى
الدليل الثاني على أن القريب مقدم أن صلة الرحم واجبة وقطيعتها محرمة قال الله تعالى فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم وقال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى وقوله للرحم ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فإن ذلك لك وقال صلى الله عليه وسلم بلوا أرحامكم ولو بالسلام
ومن المستفيض المشتهر في صفاته صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بصلة الرحم فثبت بما ذكرناه أن صلة الرحم واجبة وقال صلى الله عليه وسلم ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها
وهذا يدل على وجوب صلة القريب الفاسق لأن القاطع فاسق وقد أمر بصلته وجعلت هي الصلة وقال صلى الله عليه وسلم لمن قال قدمت أمي وهي مشركة أفأصلها قال نعم صلي أمك
فهذا العبد القريب الفاسق صلته واجبة والصلة بالإحسان وهو أعم من أن يكون بتودد أو إعتاق أو غير ذلك من أنواع البر فأي خصلة من خصال الإحسان أسداها إليه كان بها واصلا مؤديا للواجب الذي عليه ويثاب عليها ثواب من أدى الواجب كما أن المأمور بكفارة اليمين إذا أعتق أو أطعم أو كسا يقال إنه أدى الواجب الذي عليه ويثاب ثواب الواجب وإن كان كل واحد منهما بعينه لم يكن واجبا عليه وإنما وجب عليه القدر المشترك بين الخصال وكما أن المكلف إذا صلى الصلاة في أول وقتها يكون أدى فرض الله ويثاب عليه ثواب الفرض وإن كان الواجب عليه إنما هو الإتيان في أي جزء من أجزاء الوقت شاء فثبت بهذا أنه إذا أعتق قريبه ممتثلا أمر الله ورسوله بصلة الرحم يثاب على ذلك ثواب الواجب
____________________
(2/517)
ويكون مؤديا للواجب الذي عليه ولو أعتق العبد الأجنبي الذي هو في غاية الصلاح لم يكن عتقه ذلك إلا نفلا وتطوعا وقربة لا وجوب فيه ألبتة ولا شك ولا خلاف بين الناس أن ثواب الفرض أكثر من ثواب النفل فثبت بهذا أن عتق القريب أولى وهذا برهان قوي
الدليل الثالث وهو خاص ببعض الأقارب وهو ما إذا كان القريب ذا رحم محرم فإن بعض العلماء يقول بعتقه بمجرد الملك كالوالد والولد وورد في ذلك أحاديث وإن كان فيها كلام ولا شك أن الورع يقتضي عدم استدامة الملك في ذلك مع اختلاف العلماء وورود الأحاديث والتورع عن الحرام أولى من العتق الذي هو زيادة إحسان
والدليلان الأولان عامان في كل قريب وبهذه الأدلة يعرف ضعف جميع ما قاله السائل أما قوله الأكرم على الله يجب تقديمه وإن الشريعة طافحة بعدم اعتبار النسب مع قيام المعصية فاعلم أن هاهنا قاعدة إذا تحققت ظهر الصواب في ذلك وإنما حصلت الغفلة بالذهول عنها وهي أن التقديم على ثلاثة أقسام أحدها أن يكون في الأمور العامة التي الخلق فيها خلفاء عن الله تعالى كالولايات والإمامة في الصلوات وأمور الديانات وجميع ما يتعلق بمصالح المسلمين والرجوع في التقديم في ذلك إلى صفات ذلك الشخص في نفسه من العلم والدين والقيام بما فوض إليه فمن كان أكمل كان بالتقديم أحق لئلا يفوت بتأخيره مصلحة على المسلمين
وفي هذا القسم يجب تقديم الأفضل على الفاضل والفاضل على المفضول والاحتياط لأمور المسلمين ومن فعل خلاف ذلك لم يحطهم بنصيحة ولم يخف عنا أن من الفقهاء من قال بجواز ولاية المفضول مع وجود الفاضل وإنما نعني بالفاضل هنا بالنسبة إلى ما يفوض من العلم والشجاعة وحسن الرأي وجودة التدبير والسياسة وما يستوجب صفة الكمال بالنسبة إلى ذلك الشيء ولو انفرد شخص بالزيادة بالتقوى والكرامة على الله تعالى مع عدم اهتدائه إلى غوائل الولايات لم نقدمه إلا فيما يليق به كالإمامة في الصلوات فهو مقدم فيها فعرف أن إطلاق السائل لتقديم الأقرب في هذا القسم أيضا ليس على إطلاقه
القسم الثاني في العطاء من الأرزاق التي فرضها الله لعباده من الأموال العامة كالفيء وغيره وللإمام أن يقدم فيه بحسب الفضائل كما فعل عمر رضي الله عنه وله أن يسوي كما فعل أبو بكر رضي الله عنه فالتقديم هاهنا
____________________
(2/518)
جائز وليس بواجب إلا أن تقترن به حالة خاصة توجبه
القسم الثالث ما يصرفه الشخص المعين فأما النفقات وما كان من صدقة التطوع والإيثار فالتقديم فيه بالقرابة لما تقدم وبعد القرابة لا يجب التقديم أصلا ولكن الأولى أن يقدم من كان أحوج أو أفضل أو أصلح أو غير ذلك مما يقتضي التقديم على جهة الأولوية والاستحباب وأما صدقة الفرض فيقدم بالقرابة فيها أيضا وإذا تعارض الجواز والقرابة فالظاهر من مذهبنا تقديم القرابة إذا كانوا حاضرين دون مسافة القصر وعند أبي حنيفة يجوز النقل لأجلهم وقد وقفت على رسالة عبد الله بن أبي زيد المالكي ذكر فيها الاختلاف في تفضيل القرابة من الزكاة والصدقة فنقل عن ابن حبيب أنه يرى إيثارهم بما يوسع عليهم
وروى مطرف عن مالك إن كان لا يعطي لأقاربه من زكاته وذكر ابن حبيب عن القاسم بن محمد أنه سأل فيمن أضع زكاتي قال في أقاربك فإن لم يكونوا فجيرانك فإن لم يكونوا فصديقك المحتاج قال وروي مثله عن ابن عباس والحسن والنخعي قال وقد بلغني أن بعض أصحابنا من أهل مصر أراه أبا يحيى الوقاد قال إن كانت لي زكاة فأعطيتها غير قرابتي فلا يقبلها الله مني قال والقول من مالك في كراهة ذلك من باب الإشفاق
وروي عن الواقدي عن مالك وابن أبي ذئب وسفيان أن أفضل لك أن تعطي زكاتك لأقاربك الذين لا يلزمك نفقتهم فإن لم يكونوا ففي الجار والصاحب وكان أبو بكر بن اللباد يؤثر قرابته ثم قال ابن أبي زيد أن العطاء في النوافل للقرابة لا شك أنه أفضل وأما في الزكاة فإنما يشبه أن يقال إنه أفضل بباطن معرفتك بباطن فقرهم
وفي كلام الشافعي ما يدل على هذا قال ابن أبي زيد بعد ذلك أن غير ذلك تعلل تفضيل القرابة بالضعف فيجعل للقرابة من التفضيل خطأ قال وهذا عند مالك في التطوع حسن بل هو أفضل أن يفضلهم في تطوعه لا في نذره كصدقته نذرها أو وجبت عليه من كفارة يمين أو غيره ونقل خلافا في تعليل تقديمهم في الفرض فبعضهم يجعله للقرابة وبعضهم يجعله لهذا ولهذا وهو الأولى قلت فقد تبين من كلام الشافعية والمالكية وغيرهم والأدلة الصحيحة أن الأقارب يقدمون في النفل بلا إشكال وفي الفرض عند بعضهم وهو الظاهر من غير تفصيل ومسألتنا
____________________
(2/519)
كانت في العتق المتطوع به فلا يتجه فيه غير تقديم القريب نعم قد يعرض في بعض المسائل الجزئية ما يعارض ذلك كما إذا كان الأجنبي عالما وكان الناس بهم حاجة إلى التعلم منه ولا يمكنه الجمع بين ذلك وبين خدمة السيد ولا يمكن السيد أن يعتق القريب ويخلي بين الناس وبين الأجنبي العالم فنفوت مصلحة للسيد فهاهنا قد يقال إن عتقه لما فيه من المصلحة العامة أولى من عتق القريب الذي مصلحته قاصرة عليه وإن الذي في غاية الصلاح كما فرضه الشيخ عز الدين إذا أعتق عمرو جميع أوقاته بعبادة الله تعالى استمرار حسنات للسيد ما دام باقيا لكونه السبب في ذلك
وقد يقال إن ذلك راجح على الحسنة الواحدة الحاصلة بإعتاق قريبه الفاسق ومن هذا يظهر وجه النظر الذي أبداه الشيخ وفكره رحمه الله أدق من ذلك وكذلك إذا كان الأجنبي متأهلا للاشتغال وظهرت عليه مخائل العلم فإعتاقه معين له على تأهله لرتبة العلماء والوقت محتاج إلى ذلك قد يترجح على عتق القريب
فهذه الأمثلة كلها أنا أشارك الشيخ في التوقف فيها إذا وجدت كما فرضت من مثلي إلى تقديم القريب على مقتضى إطلاق الأحاديث المتقدمة وهو أولى من التخصيص بالرأي وأما ما اعتقده السائل من التقديم بوصف الصلاح على وصف القرابة فلا وذلك لا أثر له فيما نحن فيه ألبتة وأما استدلاله بقصة إبراهيم فذلك من أمور الآخرة والمغفرة وليس في الأمور الدنيوية التي الكلام فيها
وقوله إن التقديم بالأصلحية أمر ديني والديني مقدم ظهر جوابه وأين يجب التقديم بالأمور الدينية وقوله وبسطه يطول ليس كما قال بل الذي يطول بسط بطلانه
وقوله إذا قدمنا الأجنبي على القريب وقعت السلامة من الشوائب إلخ فاعلم أن هذه أيضا ارتباكة أخرى وذلك أن الرب تعالى أمر عباده بأوامر منها ما لا حظ للنفس فيه ومنها ما فيه حظ وقد وردت أوامر في الشريعة من هذا القسم الثاني منها ما هو على سبيل الوجوب ومنها ما هو على سبيل الندب كإيجاب الأكل على المضطر عند خوف الهلاك وإيجاب الفطر في ليل رمضان على القول بتحريم الوصال والأمر بنوم بعض الليل وإعطاء العين حظها وإعطاء الجسد حظه وإعطاء الروح حظها والإنفاق على نفسه وعياله وترتب الأجر على ذلك والحكم بكونه صدقة
____________________
(2/520)
وترتب الأجر على مباضعة أهله وحفظ الأموال وعدم إفسادها وترك ورثته أغنياء واستحباب الرفق في الأمور وغير ذلك مما لا يخفى وذلك لحكم وأسباب أكثرها ظاهر عند الفقهاء
وكذلك تفضيل الحج راكبا على الماشي والإحرام من الميقات على الإحرام من دويرة أهله وجواز القصر والفطر في السفر فلو أن رجلا قال أنا متى فعلت هذه الأمور لا تخلص لي نية لما فيها من حظ النفس فأتركها وأعمل بخلافها كان ذلك من أجهل الجاهلين وراغبا عن سنة سيد المرسلين وإنما يأتي ذلك من غلبة الوسواس والتنطع في الدين ولكن الطريقة المثلى والمحجة العظمى إتباع الشريعة وتصحيح النية فمن حصل له ذلك كان قد جمع بين الصلاح والإخلاص وهو المطلوب في الشريعة
قال تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه الآية فالعمل الصالح أن يكون على وفق السنة وعدم الإشراك بالعبادة إشارة إلى الإخلاص فإن عجز عن تصحيح النية أتى بالعمل الصالح الموافق للسنة وسأل الله تعالى فبتركه اتباع السنة يحصل له تصحيح النية وإلا يكون كمن ترك الصلاة خوفا من الرياء
فإن قلت هذا أمر قل من يسلم منه وطبع الجبلة الميل إلى إيثار النفس والقريب وقد جاء في الحديث لله والرحم وقال لا يكون لله وحده فكيف الخلاص من هذا قلت ينبغي للعبد أن يلاحظ جانب أمر الله تعالى في ذلك ويعرف أن أمر الله تعالى له به ولا يضره مع قصده ذلك ميل الطبع والجبلة وإنما الذي يضر أن ينفرد قصد إيثار ما سوى الله أو يكون غالبا على قصد امتثال الأمر فعند ذلك يخشى عليه أما إذا كان باعث الأمر راجحا فإن الأجر حاصل وإن استوى الباعثان فهذا محل نظر والأقرب عدم حصول الأجر حتى يترجح باعث الأمر وأنت تجد في الشاهد السيد يأمر عبده بما فيه صلاح العبد فيفعله امتثالا لأمر السيد مع ميل طبعه إليه فكيف لا يفعل العبد ذلك مع الله ليحصل له الأجر مع حظ النفس المحقق على باب النية شديد ولهذا استحب مالك أن يعطي زكاته لغيره يفرقها خوف المحمدة والمذمة وليكون أسلم من الخواطر والوساوس فيما يحدث به نفسه أن يقول أخشى أني إنما أعطيت فلانا لوجه كذا وفلانا لكذا فإذا تركها سلم من
____________________
(2/521)
ذلك وهذا الذي راعاه مالك حسن في الأمور التي الشخص مخير فيها كالتفرقة بنفسه وبوكيله فإن كلا منهما جائز شرعا فاختار رضي الله عنه أحد الجائزين وأما الأمور التي أوجبها الشرع وندب إليها فلا مندوحة عن الإتيان بها ولا يسوغ تركها خوفا من هذه الخواطر فيقع فيما هو أشد من البدعة
والله أعلم
فرغت منه يوم الأربعاء عاشر شوال سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة
انتهى
باب جامع مسألة في أصول الدين فيها بحث كنا في مجلس نقرأ فيه قرآنا وإلى جانبي قاضي القضاة جلال الدين وإلى جانبه القاضي برهان الدين الحنفي وهناك من فيه فضيلة أيضا فقرأ القارئ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين فيه إشارة إلى أن ترك توفية الأجور ظلم فتكون التوفية واجبة لأن قوله لا يحب الظالمين إشارة إلى أن ترك توفية الأجور ظلم فتكون التوفية واجبة قال له بعض الحاضرين قد يريد بالظالمين الكافرين فيكون عائدا إلى القسم الأول فقال جلال الدين ما يستقيم هذا ولا يقع مثله في كلام أحد البلغاء فضلا عن كلام الله تعالى لأن كل جملة قسم مستقل قد أخذ حكمه فأسكت الحاضرون فقلت له لم سمى الجزاء أجرا على سبيل المجاز رشح ذلك بأن جعل تركه ظلما وإن كان في الحقيقة ليس بأجر ولا تركه ظلما لأن العبد لا يستحق بطاعته شيئا على الله تعالى فإن النزاع بيننا وبين الخصم إنما هو في الوجوب العقلي ومعناه أن إثابة الطائع صفة كمال وضدها نقص بالعقل سواء وعد بذلك أم لا
فالخصم يدعي ذلك ونحن ننكره ونقول العقل لا يوجب ذلك ولا نحكم بأن ضده صفة نقص بل مهما فعل تعالى من الإثابة وعدمها لا ينافي شيء من ذلك كماله عز وجل لكنه سبحانه وتعالى تفضل ووعد بإثابة الطائع وزاد في الفضل بأن سماه أجرا تأكيدا لثبوته وتنزيلا له منزلة الأجر المستحق بالعمل كما قال كتب ربكم على نفسه الرحمة وكما قال صلى الله عليه وسلم حاكيا عنه تعالى إني حرمت الظلم على نفسي وهذا كما يقول الإنسان حقك واجب علي وأنا ظالم إن لم أفعل والمقصود في ذلك كله
____________________
(2/522)
تأكيد الوفاء لا حقيقة الوجوب ولكنه استعار اسم الوجوب والظلم على الترك ويجوز بإطلاقهما عليه ليدل على قوة التأكيد قال هذا بالوعد يصير واجبا لأن تركه إخلاف للوعد وهو نقص
قلت له النزاع في الوجوب العقلي فبعد الوعد نحن نقول إنه واقع ولا بد وأما قبل الوعد فلا وعد فلا خلف فلا نقص فأفحم وسكت وكأنني ألقمته حجرا وقلت له إن هذا الاحتجاج الذي قاله في هذه الآية قاله الزمخشري في قوله تعالى إن الله لا يظلم مثقال ذرة وجوابه ما ذكرناه مع جواب آخر وهو أن الظلم النقص بالمعنى اللغوي لحديث نسمة المؤمن طائر يعلق وفي حديث الشهداء في حواصل طير خضر يمكن أن يقال إن قوله في حواصل طير خضر مثل قولنا جاء جبريل في صورة دحية فيكون المراد أن الأرواح تتشكل طيورا وعبر عنها بالحواصل لأنها محل الغذاء إشارة إلى كمال تنعمها الأكل والشرب قولهم حمل كلام البالغ العاقل على الصحة أولى من حمله على الفساد كلام مجمل يحتاج بيانه إلى نظر
ومن جملة ما عرض من المباحث في ذلك أنه إذا تعارض اللفظ بين أن يكون إنشاء فاسدا أو إقرارا هل يجعل إقرارا لظاهر هذه القاعدة أولا لأن الإقرار يعتبر فيه اليقين هذا فيه نظر
مسألة رجل شرب الخمر وفعل المعاصي فيما بينه وبين الله ولم يتعلق بذمته حق لمخلوق ثم بعد ذلك تاب التوبة النصوح هل يبقى عليه في الآخرة حد
أجاب الذي أقوله لا يبقى عليه في الآخرة شيء إن شاء الله واختلاف الفقهاء في سقوط الحد بالتوبة إنما هو في حكم الدنيا لعدم اطلاعنا على خلوص التوبة أما في الآخرة فالله تعالى عالم بالسرائر ويجازي عليها فإذا اطلع من عبده على خلوص توبته لم يطالبه كما أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم إن التوبة تجب ما قبلها من غير معارض لذلك انتهى
مسألة قيل لها الكتابة بالذهب على فضة من كف أحسن من كتب قوله تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى في سورة براءة وسورة الصف بعد قوله يريدون الآية إشارة إلى أن تمام النور هو إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وموافق لما في الحديث
____________________
(2/523)
مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا فأكملها إلا موضع اللبنة فأنا خاتم النبيين وأنا تلك اللبنة وإذا عرف هداية المغايرة بين الآيتين في الألفاظ بقوله في براءة يريدون أن يطفئوا إشارة إلى إرادتهم في زمن عيسى عليه السلام ويرشد إليه قوله وقالت اليهود الآية ولذلك قال أن يطفئوا بأن المخلصة للاستقبال من غير إدخال اللام لأنهم أرادوا أن يطفئوا في المستقبل نور محمد صلى الله عليه وسلم وعقبه بقوله ويأبى الله إلا أن يتم نوره أيضا بأن المخلصة للاستقبال وفي سورة الصف أتى باللام المؤكدة إشارة إلى أن هذه إرادة أخرى بعد مجيء محمد صلى الله عليه وسلم أراد توريتهم في ذلك فأكدها باللام وقال وأنذرهم لأنه للحال ويساعده قراءة من قرأ بإضافة متم إلى نوره فإنها أقوى في ذلك فانظر ما أعظم هذه الفائدة انتهى
مسألة من غزة داران متلاصقتان إحداهما لزيد والأخرى لعمرو هدم عمرو داره وعمرها على غير صفتها وجدد فيها مساكن وأقام بينة أنه ابتنى داره على الصفة التي هي الآن وأن ماء الشتاء المجتمع من علو دار عمرو سفلها يمر في دار زيد ويذهب في القناة الكائنة بدار زيد بحق واجب ثابت في الماضي والحال والمآل وثبت مضمون المحضر عند حاكم الناحية وكان زيد غائبا فحضر وأقام بينة أن جريان دار عمرو على داره حادث وأن مروره من أرضه عدوان وظلم وأنه كان بدار عمرو قناة يذهب ماء الشتاء فيها ولا يخرج منها لا إلى دار زيد ولا إلى دار عمرو فما الحكم الجواب يمنع عمرو من جريان ماء داره في دار زيد حتى يتبين ببينة سبب الحق الواجب وإن بين سببا صحيحا اتبع وقدمت على من شهدت بالعدوان
والله أعلم
هذا الذي كتبته عليها بغير زيادة ومستندي في ذلك أن حق إجراء الماء ونحوه سبب يخفى عن كثير من الناس كالملك فلذلك ينبغي أن يجب بيان سببه ولا أقول إن البينة باطلة إذا لم تبين السبب بل فائدتها أن عمرا يصير كصاحب يد وذلك أن إجراء الماء ووضع الجذوع ونحوه إذا رأيناه ثابتا وجهلنا سببه حملناه على أنه بحق ولم يجز لمن عليه الحمل والإجراء رفعه بغير مستند فأقام عمرو بينته
____________________
(2/524)
المذكورة ثبت بها وجود هذا الحق ولم يمكن زيدا من رفعه لأنه قد يكون بحق واجب وهكذا في الجذوع ونحوه فإذا أقام زيد بينة بالعدوان ثبت وألزمنا عمرا برفعه وكذا في الجذوع ونحوه حتى يقيم بينة ملك أو نحوها بأنه اشترى أو صالح أو استأجر ونحوه إما من زيد وإما ممن قبله فتكون بينته ناقلة وتكون بينة العدوان الظاهر فمع بينة عمرو والحالة هذه زيادة علم وأما إذا أطلقت فجاز أن تكون اعتمدت استمرار اليد وقد يكون استمرار اليد بغصب أو عارية
وكنت أردت أن أخرج هذه المسألة على ما إذا كانت دار في يد شخص وأقام بينة بملكها وأن الداخل غصبها منه أو استأجرها فإنه تقدم بينة الخارج على الصحيح لكن المستند فيه أن الخارج والحالة هذه بينته شهدت بملك زيد سابقة فقدمت على من شهدت بالملك وحده ومسألتنا ليست كذلك فإن زيدا صاحب يد في الدار وعمرا بعد قيام بينته صاحب يد في الحق وبينة زيد شهدت بأن تلك اليد عادية وبينة عمرو شهدت بأنها بحق ولم تبين فإن جعلنا شهادتها بالحق معارضة لشهادة بينة زيد بالعدوان تساقطتا وبقيت اليد لزيد في داره وحقوقها فيمنع عمرو من الإجراء وإن لم نجعلها معارضة نقول إنها شهدت بالحق بناء على ظاهر الحال ولعل الحق عارية وقولها إنها واجبة مما يخفى سببه والشيء إذا خفي سببه لا يقبل من الشاهد إطلاقه كالنجاسة ونحوها فحينئذ لم تفد شهادتهما إلا وجود جريان الماء ليصير صاحبه صاحب يد وهذا كله إذا كانت صدرت دعوى صحيحة وإلا فزيد غائب كما قال في الاستفتاء والمحضر الذي عمل بإنشاء دار عمرو ضمن هذا الفصل على سبيل الوصف
وفي سماع البينة فيه نظر يحتمل أن يقال تسمع بتغاير وهو الحق أن يقال لا يثبت موجبها في حق زيد إلا بشرط الدعوى على الغائب والدعوى على الغائب هنا متعذرة لأن عمرا يدعي أن هذا الماء مستمر الجريان فمقتضى دعواه أنه صاحب يد فهو لا ينشئ دعوى والغائب ليس يمنعه حتى يقول إنه يمنعني إن سأل منعه من المنع فالوجه تأخير المخاصمة حتى يحضر الغائب وتبتدي الدعوى عليه أن الإجراء بغير حق أو يقول عمرو إنه يمنعني من إجرائه وهو الحق وحينئذ تسمع بينته وإذا
____________________
(2/525)
سمعت كان الحكم على ما قدمناه والله أعلم انتهى
رجل في يده قيراط من ضيعة اشتراها من شخص بمكتوب بيده وحضر البائع وقال إنه ورثه من أبيه وحضر مكتوب شراء أبيه من شخص ولم يحضر من أصوله غير ذلك فحضر كتاب وقف يشهد أن شخصا وقف قيراطا من تلك الضيعة على نفسه وعلى أولاده وذريته في سنة 681 وثبت إقراره بالوقف المذكور وإقراره بأن حاكما يرى صحة الوقف على نفسه وصحة وقف المشاع حكم بذلك ثم اتصل هذا الثبوت بابن بالحول قاضي أذرعات أن الواقف لم يزل مالكا جائزا لذلك إلى حين الوقف وبعده الشيخ زين الدين بن المرحل واتصل بعده إلى الآن ولم يعرف أن القيراط الذي بيد المشتري كان بيد الواقف ولا بيد أحد ممن ينتقل إليه بعده فحضر شخص ثبت أنه من ذرية الواقف وقصد انتزاع القيراط الذي بيد المشتري وأثبت كتاب إقرار الوقف المتصل على أقضى القضاة علاء الدين نائب الحكم الحنفي بدمشق ثم ترافعوا إلى مجلس قاضي القضاة شرف الدين المالكي فصدر من المشتري المذكور إقرار في مجلسه كتب به فصل في ذيل كتاب الوقف أن جميع القيراط من الضيعة المذكورة أعلاه في يده وشهد بذلك كبار وادعوا عند القاضي علاء الدين فأثبته وأشهد على نفسه بثبوته وأنه حكم برفع يده ثم سأل المشتري من ملك الأمراء عقد مجلس يعقد بحضور القضاة الأربعة
فجرى الكلام في أن القيراط الموقوف يحتمل أن يكون غير القيراط الذي بيد المشتري وأن الفصل المكتتب على إقراره لم يقل فيه إنه هو ولا قال هو المذكور أعلاه وهي صفة للضيعة لا للقيراط وعلامة القاضي علاء الدين عليه والأداء إنما هو لما تضمنه فقال القاضي علاء الدين إن صيغة الأداء التي أديت عنده تقتضي أنه هو وجرى الكلام أيضا في الألف واللام في القيراط هي للعهد وإذا كانت للعهد يتعين أن يكون هو هو وجرى الكلام في أن المقر المذكور ظهر من قرائن حاله أنه لا يفهم ذلك وقال وكيله إنما قال القيراط ملكي فهل يكون الحكم يرفع يده بمجرد ذلك مانعا أو لا
____________________
(2/526)
الجواب نفس الوقف لم يثبت وإنما ثبت إقرار الواقف والحكم به إنما هو على الواقف وعلى من تلقى عنه والمشتري الذي هو صاحب اليد لم يتلق عنه ولا عن أحد من جهته ولا ثبت أن أحدا من المتبايعين ترتبت يده على يد أحد من أهل الوقف ولا ممن تستند يده إلى الواقف فلا يلزمهم حكم إقراره بالوقف ولا يلزمهم إقراره إلا له ولمن ترتبت يده على يده ولم يثبت هنا شيء من ذلك
وإقراره بالوقف على نفسه عند من يرى صحة الوقف على نفسه صحيح في حقه وإقراره بأن حاكما حكم عليه يرى صحة الوقف على نفسه ووقف المشاع معتبر أيضا في حق نفسه ومن تلقى عنه لا في نفس الأمر ولا يجوز لنا بذلك أن نحكم لصحة الوقف حتى لو أقام شخص بينة أنه اشتراه منه بعد الوقف وقبل الحكم كان لمن يرى بطلان الوقف على نفسه أن يحكم بها ويكون مقدمها على إقراره وعلى حكم الحاكم لكونها ذكرت ما لو اطلع الحاكم عليه لم يحكم فحينئذ ما أفادنا ذلك غير الحكم عليه بموجب إقراره عند من يرى صحة الوقف على نفسه وعند من يرى بطلانه وإثبات ابن بابا جول الملك والحيازة مع ما فيه مع كونه بعد خمسين سنة من تاريخ الإقرار ومن هو الشاهد الذي يكون أدرك الوقف قبله وعرف الملك حينئذ لكنا لا نقدح في الشهود ونبني الأمر على السلامة ونقول ثبت الملك فهل يقتضي ذلك ثبوت الوقف بطريق الالتزام لأنه يلزم من قولهم أنه مالك إلى حين علمهم بالوقف أولا إما لأن مرادهم إلى قبيل الإقرار الذي يحكم بفساد الوقف إليه وإما لأنه يكون بلغهم الوقف بطريق ظني لا تسوغ الشهادة به ويسوغ قولهم إياه على سبيل التعريف لغاية زمان الملك والحيازة
وهذا هو الأقرب أعني أن الشهادة بالملك إلى الوقف لا تتضمن الشهادة بالوقف فلذلك نقول إنه لم يثبت الوقف وعلى تقدير أن يقال بثبوت الوقف فلا شك أنه لم يثبت حكم الحاكم به وإنما يثبت ذلك بإقرار الواقف فلا يمكن الحاكم الذي يرى بطلان الوقف على نفسه الحكم بصحة هذا الوقف أصلا وإنما يحكم بموجب الإقرار ولا يرد على ما قلناه ما تضمنه بعض الإسجالات في الكتاب من قوله بعد ذلك رفعا للخلاف لأن هذا من الوراق وهو جهل
____________________
(2/527)
لأن الحكم بذلك لا يرفع الخلاف بتقدير أنه يثبت أنه باعه بعد الوقف وقبل الحكم فإن الخلاف لا شك فيه عائد ولمن يرى بطلانه أن يفتي ببيعه حينئذ وإن حسنا الظن بالوراق قلنا لأن مراده رفع الخلاف في الحكم بموجب الإقرار وهو صحيح فالحكم بموجب الإقرار لا شك فيه والحكم بصحة الوقف لا شك في امتناعه
وبهذا يظهر أن ثبوت الملك والحيازة في هذه المسألة لم تفدنا عند من يرى بطلان الوقف شيئا وأما عند من يرى صحة الوقف فليلتفت على أن الشهادة بذلك هل تتضمن الشهادة بالوقف فإن لم يجعلها متضمنة له فلا يفيد شيئا أيضا إلا ثبوت الملك على تقدير أن منازعا يقيم بينة بملكه ويطلب انتزاعه من الواقف وممن تلقى عنه فتكون هذه البينة معارضة لبينته وإن جعلناها متضمنة الشهادة بالوقف فيقتضى الوقف والملك والحيازة
وإلى الآن لم نجد حاكما حكم بصحة الوقف فلمن يرى بطلانه الحكم ببطلانه لو لم يثبت إقرار الواقف بالحكم فلما ثبت ثبت في حقه فقط وفي حق من تلقى عنه فيمتنع الحكم حينئذ بالبطلان لكن الحكم برفع اليد لم يستند إليه لا وجه له فإذا أقر صاحب اليد أن هذا القيراط الذي في يدي هو القيراط الذي أقر الواقف أنه وقفه وأن حاكما حكم بصحته وقد ثبت الملك للواقف إلى حين الوقف بقي احتمال آخر وهو أن يكون المقر كاذبا في أن حاكما حكم بصحته ويكون انتقل عنه بعد الوقف أو لم يحصل وقف بالكلية
وعلى تقدير هذا الاحتمال تكون يده بحق فهل لنا أن نزيل يده مع هذا الاحتمال لأن الأصل عدمه ولأن المقر مؤاخذ بإقراره أولا لأن الحكم يستدعي استيفاء مشروطه ولا يكفي فيه التمسك بالأصل لأن التمسك بالأصل يوجب التوقف لا الإقدام
والأقرب الثاني لأن قولنا الأصل عدمه إنما يفيد الظهور وهو معارض بالظهور الذي تفيده اليد واليد لا تزال بالأصل وإنما تزال بالبينة
هذا محل نظر يحتاج إلى فكر قوي
هذا إذا حررت الشهادة على إقرار المشتري بإيجاد ما في يده وما قامت البينة والملك والحيازة فيه للواقف أما في مسألتنا هذه وقد احتمل فظاهر حال المقر عدم الفهم كما نص الشافعي وهو الصحيح في المذهب في أنه إذا باع ثم ادعى الإكراه وكان
____________________
(2/528)
حال البيع في ترسيم أو نحوه مما يشهد ظاهر حاله بتصديقه أنه يقبل قوله مع يمينه فهذا ما ظهر لي الآن في هذه المسألة وقد يتجدد فيها بعد ذلك نظر آخر والله أعلم
قال الشيخ الإمام رحمه الله هذه أربع مسائل دعت الحاجة إلى الكلام عليها المسألة الأولى منقولة إذا ادعى رجل على رجل عينا في يده وأقام بينة وانتزعت من التي هي في يده ثم أحضر الداخل الذي كانت في يده بينة تشهد له بالملك مستندا إلى ما قبل نزعها منه فإن كان الحاكم الذي حكم بانتزاعها يرى تقديم بينة الخارج على بينة الداخل فلا يسمعها بعد الحكم المذكور وإن كان لا يرى ذلك وإنما حكم للخارج ببينته لعدم إتيان الداخل ببينة وقد أتى بها الآن فوجهان أصحهما وبه قطع العراقيون تسمع وينقض الحكم وترد إلى الداخل والثاني وهو اختيار القاضي حسين لا تسمع
ووجه ثالث أنه إن قامت بعد الحكم قبل التسليم سمعت وينقض الحكم وإن قامت بعد التسليم لم تسمع لأن الحكم تأكد بالتسليم ولو جهلنا هل حكم الحاكم مستندا إلى تقديم بينة الخارج أو إلى عدم بينة الداخل لم ينقض في الأصح
التوجيه أما قول العراقيين فمأخذه أن على مذهب الشافعي بينة الداخل مقدمة على بينة الخارج إذا عارضتها وهل الحكم بها لرجحانها باليد لتعارض البينتين وتساقطهما قولان أصحهما الأول يظهر أثرهما في تحليفه إن قلنا الحكم بالبينة لم يحلف وإن قلنا باليد حلف
إذا عرفت ذلك فإذا تعارضت بينة الداخل والخارج قبل الحكم قدمت بينة الداخل لأنها أقوى ووجب الحكم له لأن جانبه أقوى والحكم بالأقوى واجب لا يلتفت إلى الأضعف كما لا يلتفت إلى الاجتهاد مع وجود النص فإذا اتفق أن الحاكم حكم للخارج ببينته حيث لم تقم بينة الداخل ثم قامت كان كما لو حكم بالاجتهاد ثم وجد النص بخلافه فينقضه لأن النص كان موجودا عند الحاكم بالاجتهاد مانعا من الاعتداد بالحكم وإن كان الحاكم معذورا لعدم علمه فإذا ظهر بعد الحكم وجب نقضه كذلك هنا البينة للداخل كانت موجودة عند الحكم للخارج ولم يعلم بها الحاكم ولو علم بها لحكم للداخل ولم يحكم للخارج فإذا ظهرت بعد الحكم كانت هي واليد مانعتين من الاعتداد بالحكم للخارج وأما القول
____________________
(2/529)
بأنه لا ينقض ففي كلام القاضي الحسين أن مأخذه أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد وهذا يحتمل معنيين أحدهما أن ترجيح البينة المنضمة إلى اليد ليس مقطوعا به كالنص وإنما هو أمر اجتهادي فلا ينقض به الحكم والثاني أن حكم الخارج والعلماء مختلفون فيه فلا ينقض ولا ينظر إلى كون الحكم مستندا إليه أو لا واحتمالا ثالثا وهو أن البينة بالملك المطلق إنما مستندها ظن فلو نقضنا حكم إحدى البينتين بالأخرى لنقضنا الظن بالظن ولا يجوز أن يكون مراده أن البينة إنما تفيد الظن لأن العمل بالظن المستفاد من البينة مقطوع بوجوبه من الشرع عند عدم المعارضة
وأما الفرق بين ما قبل التسليم وبعده فإن كان معناه أنه بعد التسليم لا نحكم بالنقض بل نتركها في يد المحكوم له وقبله لا نسلم بل نتركها في يد المحكوم عليه غير معتد بحكمه فهذا يكون مأخذه التوقف مع الشك في الحالتين وإن كان معناه أنه قبل التسليم يحكم ببطلان الحكم فلا وجه له ولا فرق في ذلك المعنى بين ما قبل التسليم وبعده والحكم متأكد بنفسه ولا يحتاج إلى مؤكد
هذا ما وصل إليه فكري في تقرير هذه المسألة وهي مسألة مشكلة قال القاضي الحسين إنها أشكلت عليه نيفا وعشرين سنة وتردد جوابه فيها واستقر رأيه على عدم النقض سواء أكان قبل التسليم أم بعده
وأما أنا فإني أختار ما قاله العراقيون وتعليله ما قدمته ومحله إذا تحقق من الحاكم أنه إنما حكم لعدم بينة الداخل فإن حكم لأنه يرى تقديم بينة الخارج أو احتمل ذلك لم ينقض
واعلم أن مدار نقض الحكم على تبين الخطأ والخطأ إما في اجتهاد الحاكم في الحكم الشرعي حيث يتبين النص أو الإجماع أو القياس الجلي بخلافه ويكون الحكم مرتبا على سبب صحيح وإما في السبب حيث يكون الحكم مرتبا على سبب باطل كشهادة الزور وفي القسمين تبين أن الحكم لم ينفذ في الباطن خلافا لأبي حنيفة في بعض صور القسم الثاني إذا كان مرتبا على شهادة زور في العقود أو الفسوخ وأما الحكم الصادر على سبب صحيح وهو موافق لحكم الشرع إجماعا أو نصا أو قياسا جليا فنافذ قطعا وظاهرا وباطنا والصادر على سبب صحيح ولكنه في محل مختلف فيه أو مجتهد فيه يتقدم فيه خلاف ولا دليل على رده فنافذ
____________________
(2/530)
ظاهرا وباطنا أيضا وقيل بأنه لا ينفذ باطنا في حق من لا يعتقده ومثال ذلك شفعة الجوار إذا حكم بها الحنفي فالأصح حلها على ما قاله صاحب التهذيب ورجل مات عن ابنين فادعى رجل عليه دينا فأقر به أحدهما وأنكره الآخر فقضى القاضي على المقر بكل الدين
قال القاضي حسين في الفتاوى نفذ ظاهرا وباطنا لأن السبب موجود وهو وجوب الدين على أبيه والوارث المقر يعلم أنه لا يستحق شيئا من التركة إلا بعد قضاء الدين بخلاف غيره من المواضع التي لا ينفذ فيها قضاء القاضي إلا ظاهرا لأن السبب غير موجود هناك وفي فتاوى القاضي حسين مسألة أخرى تناسب مسألتنا التي نحن نتكلم عليها وهي رجل ادعى دارا في يد رجل وأقام بينة على ذلك مطلقا وأخذ الدار بعد قضاء القاضي والزوائد على ملك المدعى عليه فلو جاء رجل وادعى بعد ذلك على المدعى عليه بتلك الدار وأقام بينة على أن تلك الدار ملكي من شهر ينقض القضاء وتسلم إلى الثاني مع الزوائد
انتهى كلام القاضي
والذي يظهر في تعليله أن المؤرخة مقدمة على المطلقة لكن يرد عليه أن المعتضدة باليد مقدمة على المجردة وهو قد اختار عدم النقض بها فلعل هذا من القاضي حسين كان يرى النقض فقد قدمنا أنه تردد جوابه فيه واستفدنا من كلام القاضي هذا أن الخارج له أن يدعي على الذي أزيلت يده عن العين إما في صورة الزوائد لأجل الزوائد وإما مطلقا لأن العين كانت في يده مضمونة عليه
هذا ما تيسر ذكره في مسألة البينة إذا قامت للداخل بعد الحكم عليه وانتزاع العين من يده للخارج
أما إذا جاء خارج آخر وادعاها فقد ذكر ابن شريح فرعا ذكره العراقيون أنه لو ادعى زيد على خالد عبدا في يد خالد وأقام البينة وقضي له ثم أقام عمرو بينة أنه له قالوا إن قلنا بينة قديم الملك أولى من بينة حديثه فقد تعارضتا فلا يحتاج زيد إلى إعادة بينته لأنه إذا ثبت الملك كان مستندا إلى حين التنازع وإن قلنا هما سواء فقولان أحدهما لا يحتاج إلى إعادة ويتعارضان لأنهما سواء في الشهادة حين التنازع ولم يشهد بما مضى وجرى هذا مجرى البينة إذا شهدت ووقف الحاكم عن الكشف عن حال الشهود فإن بان عدالتهم حكم بشهادتهم الماضية
____________________
(2/531)
ولا يحتاج إلى إعادة الشهادة
و الثاني لا يتعارضان حتى يعيدوا الشهادة لأنهما الآن تنازعا وإنما يكون التعارض مقابلة حين التنازع ولم يتقابلا فاحتيج إلى إعادة الشهادة ليتقابلا
كذا حكاه ابن الصباغ وغيره من العراقيين
وفي الشافي للجرجاني وهل صورة هذا النزاع فيما إذا أطلقت البينة الثانية الملك الآن أو فيما إذا شهدت به وأسندته إلى ما قبل الحكم فإن كان الأول وهو الذي يشعر به كلامهم فيكون المأخذ إما على قول تقديم بينة الملك القديم يعلله بأنهما تعارضتا في الملك الآن وانفردت السابقة بالملك القديم فيستصحبه الآن فتكون كأنها أقيمت الآن فتتعارض البينة الثانية وعلى القول الآخر انفرادها بالملك القديم لا أثر له وإنما المقبول شهادتهما الآن فاختلفوا على قولين أحدهما لا بد من إعادتها
والثاني يجعلها كأنها شهدت الآن كما لو شهدت ثم تأخر الحكم نظرا في تعديلها وهذا بعيد لأن في مدة الكشف عن التعديل المدعي يطلب وهي مقيمة على شهادتها فكأنه عند التعديل مقيم لها نعم لو تأخرت مدة واحتمل تغير الحال من تجدد سبب ينبغي أن تستعاد لكن الأصحاب لم يقولوا به وكان يحتمل أن يقال أيضا إذا قلنا بينة الملك القديم أولى من الثانية المطلقة إلا أن يقال إن فيها إثبات الملك في الماضي صريحا والآن استصحابا والثانية بالعكس فتساويا وتعارضا وعلى القول الآخر لا أثر لها أصلا
وإن كان الثاني وهو أنها شهدت الآن واستندت إلى ما قبل الحكم
فإن قلنا بينة الملك القديم أولى فيحتمل أن يقال هنا بالتعارض ويحتمل أن يقال برجحان الثانية لتصريحها بالأمرين جميعا
وإن قلنا لا تقدم بينة الملك القديم فلا شك أن الثانية مقدمة إلا أن تعيد الأولى الشهادة
ثم إن كل من ذكر هذا الفرع لم يتعرضوا للحكم إذا قلنا بالتعارض هل يرد العبد إلى الذي كان في يده أو لا أن ذلك هل هو بعد التسليم أو لا ولا شك أنه بعد القضاء وقبل التسليم ويبقى الأمر على ما كان عليه من كونه في يد خالد وهو قريب لأنه لما حصل الشك بالتعارض توقفنا عن تنفيذ الحكم أما لو كان ذلك بعد التسليم فإن قلنا يرد إلى خالد كان ذلك نقضا للحكم بالشك والتعارض المجرد من غير ترجيح بخلاف مسألة الداخل إذا
____________________
(2/532)
أقام البينة لأن الرد مستند إلى البينة مع اليد ولئن قيل إنه ظهر لنا بالتعارض صدور الحكم في غير محله لأنه لو حصل التعارض قبل الحكم منع من الحكم
قلنا وهكذا بيان حدوث دليل للحاكم يدل على خطئه في الحكم فيما هو في محل الاجتهاد من غير نص وقد أجمعنا على أنه لا ينقض به الحكم فالذي أراه أن التعارض المجرد لا يوجب نقض الحكم وأن الوجه بقاؤها في يد من هي في يده الآن وأن التعارض المحض الذي لا ترجيح معه بعد الحكم لا أثر له
وقد تضمن هذا الفرع أمرا لا بد من التنبيه عليه وهو أنه إذا ثبت ملك في زمن ماض استصحبنا حكمه إلى الآن كما صرحوا به في هذا الفرع بناء على تقديم بينة الملك القديم وليس كالشهادة بالملك أمس فأنها غير مسموعة على قول إذا قصد بها الملك الآن لأنها لا تقتضيه بل تقتضي رتبة فيه وهذه البينة المتقدمة حين شهدت كانت مقبولة قطعا فليستصحب حكمها فإن عارضتها بينة أخرى فيأتي ما قالوه في الفرع المذكور من أنها هل يحتاج إلى إعادتها مرة أخرى وإن عارضتها يد فهل نزيلها بما علمناه من الملك المتقدم أو نبقيها لاحتمال أنه حدث بأقل كلام الأصحاب في الشهادة بالملك أمس قالوا الأصح لا تسمع لأن الملك إن اقتضي بقاؤه فاليد تقتضي الانتقال وقالوا على هذا إنه إذا قالت لا نعلم له مزيلا سمعت وأنه يجوز أن تشهد بالملك في الحال استصحابا لحكم ما عرفه من قبل كشراء أو إرث وغيرهما وإن كان يجوزوا له وهذا الكلام منهم يقتضي أنا إذا أثبتنا الملك فيما مضى لا تعارضه اليد المشاهدة الآن بل نزيلها إلى أن يثبت انتقال وهذا إذا ثبت الملك المطلق
أما الشهادة على الإقرار مثلا إذا شهدت أنه أقر أمس استديم حكم الإقرار إلا على وجه بعيد وفي الإقرار بالملك السابق وجهان أصحهما المؤاخذة ولو أسندت البينة الشهادة إلى التحقيق بأن قالت هو ملكه بالأمس اشتراه من المدعى عليه بالأمس أو أقر به بالأمس قبلت والشهادة باليد المتقدمة كالشهادة بالملك المتقدم وأضعف لأن اليد إذا زالت ضعفت دلالتها وإذا قلنا الشهادة باليد السابقة لا تسمع فلو زاد الشاهدان أن المدعى عليه أخذه منه أو غصبه سمعت ويقضى بها للمدعي ويجعل صاحب يد وحيث قال
____________________
(2/533)
الشهود لا نعلم له مزيلا حلف المدعي مع شهادتهم إلا أن يقولوا غصبه لأن البينة على خلاف الظاهر ولم يسقطوا الظاهر الذي مع المدعى عليه من اليد فأضيف إليها اليمين
ونقل الرافعي عما جمع من فتاوى القفال وغيره أنهم لو شهدوا على أن هذه الدار اشتراها المدعي من فلان وهو يملكها ولم يقولوا إنها الآن ملكه ففي قبول الشهادة قولان كما لو شهدوا أنها كانت ملكه بالأمس
قال الرافعي والمفهوم من كلام الأكثرين أنها مقبولة كافية
قلت وهو محل نظر وينبغي أن يكون محل الخلاف إذا لم يقصد أن يضم إليها بينة أخرى وإلا فهي شهادة ببعض المدعى به فينبغي أن تقبل قطعا ويتوقف العمل بها على أحد القولين على التكملة ببينة أخرى أن ملكه باق وأنه إذا ادعى دارا وأقام بينة أنها ملكه وانتزعها وجاء آخر بعد مدة طويلة أو يسيرة يدعيها وأقام بينة أنه اشتراها من المدعى عليه الذي كانت في يده وكان يملكها يومئذ يقضى بالدار للمدعي وكان كما لو أقام صاحب اليد البينة قبل الانتزاع منه
ونقل الرافعي أيضا عن فتاوى القفال وغيره أنه لو ادعى دارا في يد إنسان وأقام بينة أنها ملكه وجاء آخر يدعيها وأقام بينة أنه اشتراها من فلان رجل آخر يوم كذا ولم يقولوا إنه كان يملكها يومئذ ولكن أقام بينة أخرى أنه كان يملكها يومئذ سمعت هاتان البينتان وصارتا كبينة واحدة فيحصل التعارض بينهما وبين بينة أنه اشتراها المدعي الأول
ونقل ابن الصباغ عن مسألة الأم لو ادعى عبد الملك أرضا في يد عبد الله وأقام بينة أنه اشتراها من عبد الرحمن لم يقبل حتى يشهدوا أن عبد الرحمن باعها وهو يملكها أو أنها أرض المدعي اشتراها من فلان أو أنه اشتراها منه وقبضها وإن لم يشهدوا بالملك لأنهم إذا شهدوا بالقبض فالظاهر أنها ملكه وفي هذا القبض دليل للاكتفاء باليد أم لا يشترط في الحكم ثبوت الملك ثم أورد ابن الصباغ أن هذا يعني إذا شهدوا بالشراء أو الملك شهادة بالملك أمس
وأجاب بأن ملك المشتري إنما حصل من جهته فإذا كانت ملك البائع كان كيد المشتري الآن فصار كما إذا شهدت له أنه يملكها من سنة ويخالف إذا قالت كان مالكا لها لأن ذلك لا يقتضي بقاء ملكه فيها إلى الآن وهذا يشهد لما قاله الرافعي في مسألة
____________________
(2/534)
القفال المتقدمة ويضعف القول الذي حكاه القفال
وبالجملة هو هنا يحتمل في الأملاك التي تحتمل النقل أما الوقف فإنه لا يقبل النقل فإذا شهدت بوقف وأن الواقف مالك حين الوقف انتزعت من يد من هي في يده وأخذها الموقوف عليه ولا بينة فيه خلاف نعم هذا إذا كانت بينة محررة وقد تقع مرتبة
وقد اتفق لنا ذلك في المحاكمات أرض بيد شخص قامت بينة بوقفها في سنة ثمانين وستمائة وبينة أخرى في سنة تسع وعشرين وسبعمائة بملك الواقف حين الوقف فحصل التوقف فيها لهذه المدة الطويلة ولعدم ركون القلب إلى الشهود كل الركون
وفيما نقله الرافعي من فتاوى القفال وغيره أيضا أنه إذا ادعى دارا في يد غيره وأقام بينة أنها ملكه فقال القاضي قد عرفت هذه الدار ملك فلان ومات وانتقلت إلى فلان وارثه فأقم بينة على تملكه منه أن له ذلك وتندفع بينته
قال الرافعي وليكن هذا جوابا على أنه يقضي بعلمه
قلت بل لأنه لا يقضي بخلاف علمه هذا ما أردنا أن ننبه عليه من المسائل التي فيها استصحاب الملك الثابت في الماضي إلى الحال وتعلق بها غيرها وقد يقال إن لنا مسائل أخرى عكسه يستصحب فيها الملك الثابت الآن إلى الماضي فمن ذلك أن المبيع إذا أخذ من المشتري بحجة أو من المشتري يرجع على البائع وكذا أخذ من المتهب من المشتري وهو مشكل إذا لم تتعرض البينة إلى إسناد الملك إلى ما قبل الشراء أطلقته والبينة لا يثبت الملك إلا قبلها فكيف يرجع على البائع مع إطلاق البينة الملك واحتمال أن يكون مستندها انتقالا جديدا
ومع قول الأصحاب إن المشتري يرجع على البائع قالوا لا يقضى للمشهود له بالملك بالنتاج
قال الغزالي وعجيب أن نزل النتاج في يده وقد حصل قبل البينة وبعد الشراء ثم هو يرجع على البائع
وقال القاضي حسين إنه أكثر البحث عنه وأنه قال لم أجد عند أحد من الجواب ما يستحق أن يحكى إلا أني سألت عنه فقيها من أصحاب أبي حنيفة فقال إنما يثبت الرجوع لأن البائع بالبيع كأنه ضمن سلامة المبيع للمشتري وإذا لم يسلم وأخذ منه كان له أن يرجع بحكم الضمان الذي تضمنه البيع
قلت وفي كل من المسألتين وجه وأنا أميل إلى الوجه القائل بأنه لا يرجع
____________________
(2/535)
على البائع حتى تصرح البينة بأن ملكه مستند إلى ما قبل البيع وأن الملك الحاضر لا يستصحب إلى الماضي أصلا ثم إن هذا الجواب بضمان البائع مقصور على هذه الصورة لا يأتي في كل صورة يثبت فيها الملك في الحال بخلاف الملك الثابت في الماضي فإنه يستصحب في كل صورة حتى يتحقق زواله
والله أعلم
المسألة الثانية مسألة ابن الصلاح في ملك احتيج إلى بيعه على يتيم فقامت بينة أن قيمته مائة وخمسون فباعه القيم على اليتيم بذلك وحكم الحاكم على البينة المذكورة بصحة البيع ثم قامت بينة أخرى بأن قيمته حينئذ مائتان
فأجاب بأنه ينقض الحكم لأنه إنما حكم على البينة السالمة عن المعارضة وقد بان خلافه وتبين استناد ما يمنع الحكم إلى حالة الحكم فهو كما قطع به صاحب المهذب وذكر المسألة التي ذكرناها عن العراقيين فيما إذا شهدت بينة الداخل بعد القضاء للخارج ومن تأمل ما قلناه فيها عرف الفرق بينهما من جهة أن هذا تعارض مجرد في القيمة ولا يلزم من النقض ببينة معها يد النقض ببينة مجردة فإن قلت اليد لليتيم فإذا قامت البينة بأن القيمة أكثر مما بيع به يقضى لليتيم بها بالبينة مع يده
قلت يد اليتيم لا دلالة لها على القيمة وإنما لها دلالة على الملك فالقضاء بالملك للداخل باليد الدالة عليه فلذلك حكم له بها وردت إليه ولا كذلك هاهنا وأيضا أن بينة القيمة تعتمد التقويم والتقويم حدس وتخمين وتفرض على ثلاث أحوال إحداها أن تشهد الآن أن قيمته الآن كذا فهذه لا تعارض البينة السابقة يوم البيع بلا إشكال
الثانية أن تشهد الآن أن قيمته يوم البيع كذا فهي ينبغي أن لا تسمع لأن التخمين على تقدير قد لا يحصل عند حصول ذلك التقدير ويشهد له ما قاله الأصحاب في بيع صبرة إلا صاعا فإن الإنسان قد يخمن شيئا على تقدير فإذا حصل ذلك التقدير يتغير التخمين واختلاف الزمان من جملة التقادير
الحالة الثالثة أن لا تقوم الآن لكن تشهد أن قيمته في ذلك الوقت عند الناس كذا فإن الأسعار المعروفة عند عموم الناس تنضبط في أوقاتها لكن هذا ليس تقويما بل شهادة بأمر خارج فهذه تسمع وليست شهادة قيمة والغالب أن هذا إنما يكون
____________________
(2/536)
في المثليات وأما الأملاك فلا يحصل فيها هذا
إذا عرفت هذا فإن كانت البينة الثانية شهدت بالحالتين الأوليين فلا أثر لها وشهادتها بالحالة الثالثة في الملك إما ممتنع أو بعيد فإن أمكن إذا أطلقت واحتمل أن تكون بالحالة الثالثة أو بالأولين لم يتحقق التعارض فلا ينقض بها الحكم قطعا وإن أمكن وفصلت في غير صورتنا وحصل التعارض فهو تعارض مجرد لا ترجيح معه فليس نقض الحكم بالثانية أولى من استمراره بالأولى
فإن قلت الحاكم إنما حكم بناء على البينة السالمة عن المعارض وقد بان عدم سلامتها
قلت وكذلك إذا حكم في مسألة اجتهادية بناء على أمارة سالمة عن المعارض ثم حدث له أمارة أخرى معارضة فلا التفات إليها ولا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد بل يستمر الحكم لأن المعتبر السلامة عن المعارض وقت الحكم وهو حاصل في الصورتين أعني صورة التقويم وصورة الأمارة
فإن قلت لو كانت هذه المعارضة قبل الحكم لم نحكم
قلنا نعم لأنه لا يحكم مع الشك وكذلك لا ينقض مع الشك فإن قلت كيف يبقى مع اعتقاد أنه بيع بأقل من ثمن المثل قلت لا نعتقد ذلك بل غايته أن الشك بمقتضى تعارض البينتين فإن قلت أتقولون بالتعارض
قلت فيه نظر لأن الأصحاب قالوا إذا شهد شاهدان أنه سرق ثوبا قيمته عشرة وشهد آخران أن قيمته عشرون لزمه أقل القيمتين وعلله الرافعي بأن التقويم اجتهادي وقد يكون من شهد بالأقل اطلع على عيب وكلام غيره يقتضي أنهما علتان ومقتضى العلة الأولى أن يكون لزوم الأقل لتيقنه والأصل براءة الذمة من الزائد وهما متعارضان فيه ومقتضى الثانية إنما يثبت أن قيمته الأقل وعن الحاوي والنهاية فيما إذا شهد واحد أن قيمته سدس وآخر أن قيمته ربع ثبت السدس وهل يحلف مع شاهد الربع ويستحقه وجهان أحدهما نعم والثاني لا للتعارض والوجه الأول يلزم عليه أن يثبت الأكثر في صورة الشاهدين ولا نعرف من قال به فلم يبق إلا التعارض أو ثبوت الأقل
فإن قلنا بالتعارض وهو الظاهر لم نحكم بإثبات الزائد ولا نفيه
وإن قلنا القيمة هي الأقل حكمنا بنفيه ولكنا لا نعرف من صرح به أنه رأى في كلام الأستاذ أبي
____________________
(2/537)
إسحاق في التعليقة الأصولية عند الكلام في زيادة الراوي أنه لو قوم اثنان السلعة بثمانية وقومها آخران بعشرة لم تقبل الشهادة لأن القولين منهما تعارضا فيما زاد على الثمانية والأصل براءة الذمة
قلت وهذا الكلام من الأستاذ صريح في التعارض
فإن قلت لو حصل هذا التعارض قبل البيع هل يجوز البيع قلت أما في البيع للغبطة والمصلحة فلا لانتفائها حينئذ وأما في البيع للحاجة فإن قلنا الأقل هو القيمة جاز البيع به وإن لم يوجد راغب بأكثر وإن لم نقل الأقل هو القيمة فيحتمل أن يقال يمتنع البيع حتى تثبت القيمة ويحتمل أن يقال يصح إذا دعت الحاجة إليه ولم نجد مندوحة عنه لا سيما إذا كانت ضرورة اليتيم إلى طعام لا نجده من غير تلك العين فكيف توجد ضرورته من الشك في القيمة
فإن قلت لو دعت الحاجة أو الضرورة لليتيم إلى بيعه بدون القيمة المحققة لعدم وجود من يشتري بها مع الضرورة الحاقة للبيع
قلت هاهنا يقوى القول بجواز البيع وهذا حيث لا نجد بدا من البيع لا شك عندي فيه ولم أره منقولا والعلم لله تعالى
فإن قلت كيف تثبت القيمة قبل البيع والبينة إنما تسمع بعد الدعوى قلت إما بأن يكون غصبها غاصب فيدعي عليه بقيمة الحيلولة وإما بأن يقال شهادة الحسبة في القيمة مقبولة وإما بأن ينذر أن يتصدق على هذا الفقير بجزء من ألف جزء من قيمة هذه الأرض فيدعي الفقير عليه بدرهم نحكم أن قيمتها ألف وإما بغير ذلك من الطرق
فإن قلت لو حصل التعارض بعد البيع وقبل الحكم
قلت يمتنع الحكم بصحة البيع وهل يبطله أو لا فيه تفصيل ينبه عليه وهو كل بيع صدر من قيم يتيم في حالة لا يجوز البيع فيها يبطله الحاكم وكل بيع صدر في حالة يجوز فيها ويقبل قوله فيه من غير بينة كالأب والجد والحاكم فإذا رفع إلى حاكم لا يبطله بل يمضيه ويحمل التصرف فيه على السداد ما لم يتبين خلافه وأعني بالإمضاء أنه يثبته ويحكم بموجبه ويلزم به
ولكن الحكم بالصحة يستدعي بحسب العادة ثبوت الشروط ولم توجد وإنما قلت بحسب العادة لأن عندي نظرا في وجوبه بحسب
____________________
(2/538)
الشرع وينبغي أن يقال إن كان المراد الحكم بالصحة في نفس الأمر فلا بد من ثبوت الملك وإن أريد الحكم بها على العاقد والمقر فتكفي اليد ولو لم يحكم بالصحة عليه لم يمكن إلزامه به وإن كان الذي كان صدر منه البيع ممن لا يقبل قوله في المصلحة كالوصي وأمين الحكم على الأصح فإن الحاكم إذا رفع إليه لا يمضيه على ما قال ابن الرفعة فإن أراد بعدم الإمضاء التوقف حتى يقيم بينة فصحيح وإن أراد الإبطال فبعيد
واعلم أن قول الحاكم في البيع بالمصلحة مقبول قطعا وقول الأب والجد كذلك إلا على وجه ضعيف وقول الوصي وأمين الحكم مقبول عند الغزالي وغير مقبول عند الرافعي وقيل يقبل في غير العقار ولا يقبل في العقار وهو المشهور وقيل يقبل في غير العقار وغير الإماء ونحوها مما جرت العادة باقتنائه ولو جرى الاختلاف بين الوصي والصبي بعد البلوغ في البيع بثمن المثل فهل هو كالاختلاف في المصلحة الأقرب لا لأن المصلحة شرط في أصل البيع كالإذن فلو اختلفا في الإذن فالقول قول المنكر وأما الاختلاف في البيع بثمن المثل فهو اختلاف في صفة البيع المأذون فينبغي تصديق العاقد ويبعد أن يقال هو اختلاف في الصحة والفساد حتى يجرى فيه قولان وأما القطع بعدم قبول العاقد فلا سبيل إليه هذا الذي يظهر لنا وليس بمنقول
ولو قال الموكل للوكيل بالمصلحة أو بما يراه مصلحة أو بعه بثمن المثل أو بما تراه ثمن المثل فسواء فيما يظهر لنا لأنه قد أذن له أو ائتمنه عليه
وأما أمين الحكم والوصي فلم يؤذن لهما في البيع بخصوصه بل هما منصوبان لفعل ما هو مصلحة اليتيم من البيع والإبقاء فإذا ادعيا المسوغ للبيع فعليهما بيانه فيما لم تجر العادة من الأشياء النفيسة ومنه العقار أما ما جرت العادة ببيعه فالذي أراه قبول قول الوصي وأمين الحكم فيه وإثبات الحاكم وإمضاؤه تابع لذلك ومن أذن له الحاكم في البيع بخصوصه ليس كالوصي وأمين الحكم لأن فعله كفعله وسواء أقلنا هو وكالة أم ولاية لا يختلف الحكم هنا فإنه أقامه مقامه في هذا البيع وفعل الحاكم اختلف في أنه حكم أو لا وعلى التقديرين يصان عن النقض ويحمل على السداد واستجماع الشروط عنده حتى يثبت ما ينافي ذلك
ومسألة ابن الصلاح هذه البيع فيها
____________________
(2/539)
للحاجة كما صرح به ولذلك جاز البيع بالقيمة من غير غبطة والبائع القيم وليس مأذونا له في البيع بل في المصلحة بخلاف مأذون الحاكم
المسألة الثالثة رجل عليه دين وبه رهن فطالب المرتهن ببيعه حيث يتعين طريقا في الوفاء فكل ما ذكرنا في البيع على اليتيم للحاجة عائد هاهنا وإذا تعين البيع ولم يوجد من يشتريه إلا بأقل من قيمته فقد قال الأصحاب في المغصوب المثلي إذا تلف ولم يمكن تحصيل مثله إلا بأزيد من القيمة في وجوبه وجهان رجح كلا منهما مرجحون وصحح النووي الوجوب وفي تصحيحه نظر وبتقدير التسليم فالضرر فيه قليل لأنه يعدل إلى القيمة بخلاف المرتهن هنا يتعطل حقه قالوا في المسلم فيه إنه يجب تحصيله بأزيد من قيمته وقياسه أنه يجب البيع هنا بأنقص وأولى لأن في المسلم يمكن الفسخ وهنا لا مندوحة وقالوا فيما إذا أسلم عبد لكافر ولم نجد من يشتريه إلا بأقل من ثمن مثله لا يلزم بيعه بل يبقى ويستكتب إلى أن يوجد من يرغب فيه بثمن مثله ولعل ذلك لأن السيد لم يلتزم بالبيع ولا صدر منه ما يوجبه فإن موجبه الإسلام وهو إنما حصل من العبد
وقال ابن الرفعة في المطلب فيما إذا اشترى الكافر عبدا مسلما وقلنا بالصحة ويزال ملكه فلم نجد من يشتريه إلا بأقل من قيمته إنه لا يرهق إلى بيعه وهذه الصورة قد يتوقف فيها فإنه بشراء المسلم كأنه ملتزم فيشبه المسلم فيه
فإن ثبت ما قاله ابن الرفعة فلعله لأن الحيلولة تحصل فيخف الضرر بخلاف تأخير وفاء الدين فيه ضرر على صاحبه فيقرب عندنا القول بجواز البيع بشرط أن لا يوجد من يشتري ولا يتوقع في زمن قريب لكن الأصحاب أطلقوا في الرهن وفي أموال المفلس أنها لا تباع إلا بثمن المثل ولعل ذلك محمول على الغالب وهو وجود من يشتري به فإنه ضيق الغرض ولم نجد مندوحة ينبغي جواز البيع
ومما يشهد له أنه إذا كان بعض الرهن يقوم بالدين ولم يمكن بيعه إلا كاملا أنه يباع ويوفى منه الدين ويحفظ الباقي فكما أزلنا ملك الراهن عن جميع الرهن وإن كان الوفاء ببعضه نظرا إلى مطالبة المرتهن كذلك يزيل استحقاقه للزيادة
والله أعلم
وأيضا فإن
____________________
(2/540)
الأصحاب قالوا فيما إذا ادعى شخص على آخر عينا في يده فقال إنها لغائب فلم يصدقه فأقام بينة لتنصرف الخصومة فأقام المدعي بينة أنا ننزعها ونحكم بها للمدعي ويبقى الغائب على حجته حتى يجيء ويدعي ويقيم البينة لأنه لا يثبت حقه إلا بعد دعواه وبينته فكما راعينا حق المدعي وحكمنا له مع غلبة الظن بأنها للغائب كذلك نراعي حق صاحب الدين هنا ولا نؤخره لأجل الشك الحاصل من تعارض البينتين وأيضا فإن المسلم إذا أراد الحاكم أن يبيع ماله فشهد شاهدان في عين أنها لغائب لا يحكم القاضي بشهادتهما لأن الغائب لم يحضر هو ولا وكيله بل نقسمها بين الغرماء ويبقى الغائب على حجته كذا حكى هذه المسألة المحاملي في التجريد عن أبي إسحاق مستشهدا بها للمسألة التي قبلها ولم يحك فيها خلافا فكما حكمنا وقسمنا العين بين الغرماء مع غلبة الظن أنها للغائب رعاية لحقوقهم الناجزة ولم يلتفت للظن الحاصل من أخبار الشاهدين كذلك يراعى حق الغريم هنا ولا يلتفت للشك الحاصل من تعارض البينتين وتوهم زيادة تحصل للمديون
فإن قلت لم لا يقيم القاضي عن الغائب من يدعي له ليثبت حقها ويحفظها له قلت وهب لو قيل بذلك لكن الأصحاب لم يقولوه
فإن قلت في المسألة التي قبلها إذا سمعنا البينة لانصراف الخصومة لم لا يثبت حق الغائب تبعا وقد قالوا فيما إذا كان لشخص على آخر دين فطالبه به فقال إنك أحلت علي به فأنكر المدعي فأقام المدعى عليه بينة بالحوالة سمعت لرفع دعوى المدعي وهل يسمع لإثبات حق الغائب تبعا حتى لا يحتاج بعد حضوره إلى إقامتها وجهان لم يصحح الرافعي شيئا
قلت الشهادة بالحوالة سمعت في موضوعها ومقصودها وهو اندفاع حق المدعي وحصل التردد في سماعها فيما يستتبعه من ثبوت حق الغائب
وأما البينة لانصراف الخصومة فسمعت على أحد الأوجه في غير مقصودها وموضوعها لأنها إنما شهدت للغائب فسمعت فيما يستتبعه وهو انصراف الخصومة والبائع لا يستتبع وحق الغائب هو المشهود به الأصل لا يمكن ثبوته بغير دعواه أو دعوى وكيله فالمسألتان متعاكستان في الصورة
____________________
(2/541)
المسألة الرابعة الواقعة التي هي السبب في ذكر هذه المسائل حادثة وقعت في المحاكمات في القدس رجل عليه دين مائتا درهم بإقراره ورهن بها عند صاحبة الدين وهي امرأة كرما فحل أجل الدين وهو غائب فادعت امرأة عند زين الدين القمولي نائب الحكم بالقدس كان فأثبت إقراره بالدين والرهن والقبض وعينه المقر الراهن وندب من قوم الكرم المرهون فثبت عنده بشهادة شهادتين القيمة المندوبين أن قيمته مائتا درهم وذلك في سابع رمضان سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة وهذا الإثبات في ظهر مكتوب القيمة المؤرخ بسادس شهر رمضان وفي ذيل هذا المكتوب تعويض عوض بعض العدول بإذن الحاكم المذكور المرتهنة الكرم بدينها وقال فيه الكاتب إنها قاصصت المقر الراهن بدينها وذلك في ثامن رمضان فلما كان في هذا الوقت ذكر شمس بن سالم نائب الحكم بالقدس الآن أن بينة قامت عنده أن قيمة الكرم يوم التعويض ثلثمائة فكشفت عن ذلك فوجدت الكرم المذكور قد اشتراه الراهن المذكور قبل هذا بمدة يسيرة بمائة وخمسة وستين درهما وباعته المتعوضة بعد تعويضها بمدة يسيرة بمائة وخمسين درهما
وكتب إلى ابن سالم المذكور يستنكر كون زين الدين القمولي أثبت غيبة المقر وحضوره في مجلس واحد لقوله إن المقر قاصص صاحبة الدين وأن فتاوى عرضت عليه من دمشق بتقديم البينة التي شهدت بالزيادة فرأيت أن الذي قاله عن القمولي من إثبات غيبة المقر وحضوره في مجلس واحد ليس بصحيح
ولم يثبت زين الدين فصل التعويض أصلا أن قوله قاصص المقر صاحبة الدين ليس بصحيح ولا هو عبارة التعويض وإنما عبارة التعويض وليست من القاضي بلى من الوراق أنها قاصصته ولم يكن يحتاج إلى ذلك لأن التقاص لا يحتاج إلى الرضا على الصحيح وكأن الوراقين يقصدون الخروج من الخلاف فقالوا إنها قاصصته ولم يشهدوا عليه بل عليها خاصة وذلك يصح عند من يشترط الرضا من أحد الجانبين وكذا عند من يشترط الرضا من الجانبين إذا بلغ الخبر المقر ورضي
ونظرت الفتاوى فوجدتها إذا ثبت أن قيمة الرهن أكثر
____________________
(2/542)
وهذا كلام مخلص لكنه لا يفيد وليس جوابا عن المسئول فرأيت أن ما ذكره ابن سالم ونسبه إلى القمولي مما لم يقع منه لا يخلو عن تحامل عليه والقمولي مشكور وما قاله عن الفتاوى وجعلها عمدة له ليس بجيد وأنه صادر عن غير تبصر أو عن تحامل وحصل لي ريبة في الشهود بالقيمة الزائدة
وهذه الأمور كلها ليست من الفقه بل هي أمور جزئية مما ينظر الحاكم فيه والمفتي بعيد عنها
وكان من الأدب عدم تصريحي بهذه التفاصيل ولكن دعاني إليها ما يجب من بيان الحق وإقامة الشرع وعدم المحاباة والنظر في الجزئيات والأحوال التي يترتب الحكم عليها ولا أحاشي أحدا فغلب على ظني أن الحق مع البينة الأولى ثم قررت أن الأمر بخلافه وتساوي الجانبين والبينتين وعرضته على قانون الفقه فوجدت جميع ما تقدم في المسألة الثانية والثالثة عائدا هنا وزيادة أن البيع هنا مأذون الحاكم الذي أذن له في البيع بخصوصه وأنه تعويض وقع بمستند شرعي بإذن حاكم فلا يرفع إلا بمستند شرعي ولم نجد البينة التي قامت بعد ذلك مستندا لأن غايتها معارضتها للأولى معارضة خالية عن الترجيح فلا تصلح لنقص التصرف الذي وقع صحيحا في الظاهر ومن جملة ما ذكره ابن سالم أن المبيع أكثر من المرهون وتأملت المكتوب فلم أجده كذلك بل مطابق له في الحدود والصفات فرسمت ببقاء الكرم في يد مشتريه عيسى الذي اشتراه من مبغوضته حسنية اليهودية ودفع منازعة المقر الراهن وهو عمر الكردي وذلك في جمادى الأولى سنة 745 فليعلم ذلك
انتهى
مسألة فيمن قال القاضي يفتي والمفتي يهذي
الجواب هذا لفظ صعب يخشى على قائله الكفر فإن للفتوى سنن حكم الله تعالى وأصلها تبيين ما أشكل فالمفتي مبين لحكم الله تعالى وهو وارث النبوة
هذا وضع المفتي إذا أفتى بحق قال الله تعالى قل الله يفتيكم والقاضي هو الذي يفصل ويلزم على مقتضى الفتوى والقضاء الإلزام والفصل قال الله تعالى والله يقضي بالحق فالمفتي إذا أفتى بالحق والقاضي إذا قضى بالحق فكل منهما مأجور أجرا عظيما والمفتي أعلى والقاضي تابع له وإن اتفق اختلافهما فإنما يتفق من اختلاف
____________________
(2/543)
الاجتهاد في الفتوى فالقاضي أبدا لا بد أن يكون تابعا لفتوى إمامه إن كان مجتهدا وإما من غيره إن كان مقلدا ووضع القضاء إنما هو الفصل والإلزام فمن قال إن المفتي يهذي مع اعتقاده أن فتواه صواب فيما أخبر به عن الله تعالى فهو كافر فينبغي للإنسان أن يتثبت في إطلاق هذه العبارة فإن كثيرا من الناس يطلقونها ولا يفهمون ما تحتها مما ذكرناه وإنما يقصدون أن القضاء إلزام والفتوى ليست بإلزام ولا يجب على المستفتى والقاضي أن يسمع منها وهذا أيضا خطأ إنما لم يجب ذلك إذا كان عنده شيء من العلم راجح عليها وإلا فلا يجوز له الخروج عنها لأنها إخبار عن الله تعالى وقد يتصور الاختلاف بين القاضي والمفتي باعتبار تحرير صورة المسألة أو حصول أسبابها فإن القاضي يفحص ويستكشف من أسباب الحكم ما لا يستكشفه المفتي لكن هذا ليس باختلاف ولا يقتضي تعارضا بين الفتوى والحكم في واقعة واحدة والله أعلم
وإن فرض أن المفتي جاهل أو أخطأ أو نحو ذلك فليس الكلام فيه فإن القاضي أيضا قد يكون كذلك وإنما الكلام في قاض حقا والله أعلم
انتهى
قوله صلى الله عليه وسلم ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر وربما يقال من ذي لهجة أصدق من أبي ذر قد يقال إن الصدق كيف يقبل التفاوت فإنا لا نشك أن أبا بكر وعمر صادقان دائما وليس الصدق كالقراءة والعلم حتى نقول إنهم يتفاوتون فيها فقد يختص المفضول بزيادة لا تكون في الفاضل أما الصدق فالرجلان اللذان لا يكذبان لا يتفاوتان
فالجواب أن التفاوت قد يكون في القوة التي ينشأ عنها صدق اللسان وتلك القوة تقبل التفاوت وهي غريزة جعلها الله في القلب أو في بعض الأعضاء ثم يورد أن القوة التي في القلب الظاهر أنها في أبي بكر وعمر أكمل ويبعد أن يفضل غيرهما عليهما فيها
ويجب أن تتأمل لفظ الحديث بأنه لم يقل من رجل أصدق من أبي ذر بل قال أصدق لهجة فجعل الصدق صفة اللهجة لا صفة الرجل واللهجة اللسان كما قال الجوهري وإن صح قوله أصدق فأصدق في هذا التركيب يحتمل أن يكون صفة لذي وأن يكون صفة للهجة فيجعل صفة لها لتطابق اللفظ الأول
____________________
(2/544)
فعلى هذا قد تكون قوة الصدق في لسان المفضول أقوى منها في قلب المفضول والقلب أكمل من اللسان فيزول الإشكال على أنهما لو استويا في القوة القلبية وترجح المفضول بالقوة اللسانية وللفاضل مرجحات أخر لم يلزم إشكال وقد يقال إنهما لو استويا في القوة اللسانية والقلبية في هذه الصفة خاصة فبان للفاضل صفات أخرى كثيرة مرجحة وكل ذلك إنما قلنا لبيان التفاوت في القوة أما الصدق بالفعل وهو الإخبار المطابق فالظاهر أنه لا تفاوت فيه بين الرجلين اللذين يعلم منهما أنهما لا يكذبان وأنهما يتحريان الصدق وكل من أبي بكر وعمر وأبي ذر وجماعة من الصحابة نعلم أنهم في غاية التحري في الصدق رضي الله عنهم
انتهى
ما يقول السادة العلماء رضي الله عنهم في الحديث الذي متنه طلب العلم فريضة هل هو ثابت في الصحيح أم لا فقد قال قائل إنه في البخاري وآخر إنه في مسلم وآخر إنه غير ثابت ونقل ذلك عن الإمام أحمد
الجواب ألهمك الله الصواب الحمد لله هذا الحديث رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار عن حفص ابن سلمى عن كثير بن شنظير عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال طلب العلم فريضة على كل مسلم وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب وكثير بن شنظير مختلف في توثيقه وتضعيفه والله أعلم
كتبه علي السبكي انتهى
مسألة ورد من طرابلس من فخر الدين بن المأمون في مستهل جمادى الآخر سنة 739 وهو أنه ورد من الحديث في البخاري وغيره أن الله تعالى يأمر آدم عليه السلام يوم القيامة أن يبعث بعث النار فيقول آدم يا رب وما بعث النار فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعون وأن الصحابة شق عليهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبشروا فإن منكم واحدا ومن يأجوج ومأجوج باقي الألف
فهذه المخاطبة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا شك أن الله تعالى خلق من غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم كثيرا من المؤمنين في الأمم السالفة ومعلوم أن كل الكافرين مقطوع لهم بالنار فما وجه التخصيص بيأجوج
____________________
(2/545)
ومأجوج ولم فصل عن غيرهم من الكفار
الجواب اللفظ الذي في البخاري من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول أخرج بعث النار فيقول يا رب وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعين وفيه في جوابهم فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجل
وفي لفظ آخر من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد
وفي البخاري أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه فيقول أخرج بعث جهنم من ذريتك فيقول يا رب كم أخرج فيقول أخرج من كل مائة تسعة وتسعين
وحديث أبي سعيد رواه أيضا مسلم والنسائي وحديث أبي هريرة انفرد به البخاري وليس في شيء منها أن منكم واحدا ومن يأجوج ومأجوج باقي الألف وليس في شيء منها أيضا أن الواحد في الجنة حتى يلزم الإشكال المشار إليه أن الواحد في الجنة والواحد الآخر في النار منا وبقية الألف في النار من يأجوج ومأجوج فأين الكفار من سائر الأمم
ونحن لا ننزل الحديث على ذلك حتى يلزم الإشكال بل نقول بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون منها ما هو من يأجوج ومأجوج ومنها ما هو من سائر الأمم والواحد الذي يبقى قد يكون منا وقد يكون من غيرنا ولما اشتد ذلك على الصحابة أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة الخلائق بأن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنهم واحدا أي إذا عدت الخلائق وجدوا كذلك وليس هو إشارة إلى تلك الألف المخرج منها بعث النار ولا الواحد الذي يبقى منها بل هو قسمة مبتدأة لبيان كثرة الخلق وحينئذ لا تترتب المقدمات الثلاث التي نشأ منها الإشكال والمقصود تبقية رجائهم وأن لا يشتد عليهم فله ما يصيبهم من ذلك الواحد لكثرة الخلق وكثرة الآلاف التي يبقى من كل ألف منها واحد فقد يصيبهم منها شيء كثير والبعث الذي يبعث إلى النار عام في جميع الأمم ليس في الأحاديث ما يقتضي خصوصيته بيأجوج ومأجوج وإنما ذكر يأجوج ومأجوج في آخر الحديث لبيان كثرة الخلق وعدد الآلاف ليقرب رجاؤهم وقد يكون من يأجوج ومأجوج مسلمون يبقى منهم آحاد يدخلون الجنة وهذا كله
____________________
(2/546)
بناء على الظاهر وأن الخطاب لهذه الأمة ما عدا يأجوج ومأجوج فإن يأجوج ومأجوج من هذه الأمة أيضا لأن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إليهم ولكنهم لتميزهم وراء السد وقرينة أنهم جعلوا في الحديث قسما لهم خرجوا من الإرادة فبقي المراد غيرهم ممن بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل على بعد أن يكون الخطاب لجميع بني آدم ما عدا يأجوج ومأجوج لأنهم جعلوا قسما لهم لكن يبعده آخر الحديث وأن المراد هذه الأمة فقط لقوله كالشعرة البيضاء في الثور الأسود
والظاهر أن البعث المذكور كل من استحق النار من الكفار والعصاة من بني آدم والذي في حديث أبي هريرة من كل مائة تسعة وتسعين إما أن يكون اختلافا في ألفاظ الرواة فحينئذ ينظر في الأرجح منها إما أن يكون الخطاب من الله تعالى لآدم عليه السلام مرتين في المرة الأولى يخرج من كل ألف تسعمائة وتسعين وهم الذين استحقوا النار إما بكفر وإما بمعصية ثم يعفو الله تعالى من كل ألف عن تسعة من العقوبة ويصير الباقون للبعث إلى النار من كل مائة تسعة وتسعين
وأما قوله في أحد الحديثين منكم رجل ومن يأجوج ومأجوج ألف وفي الحديث الآخر ومن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعين فهو اختلاف من الرواة إلا أن يراد بالألف التكثير وبالتسعمائة وتسعين النصبة فإن الألف يتجوز بها عن الكثير ويحتمل على بعد أن يقال إن المبعوث إلى النار كله من ألف تسعمائة وتسعون والمبعوث إلى جهنم التي هي دركة من دركاتها بعض ذلك وهو من كل مائة تسعة وتسعون ووجه بعد ذلك أن اختصاصها بتسعة خاصة قليل بالنسبة إلى باقية الدركات وأيضا الغالب أن جهنم والنار يطلقان بمعنى واحد
انتهى
فائدة حديثية إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف روى عن عمر بن الخطاب وقال الواقدي لا نعلم أحدا من ولد عبد الرحمن بن عوف روى عن عمر سماعا غيره وكذلك قال يعقوب بن شيبة وأقول في سماعه من عمر نظر لأنه توفي سنة خمس أو ست وتسعين وعمره خمس وسبعون سنة فيكون عند وفاة عمر ابن أربع فكيف يسمع وقد روى له عن عمر البخاري والنسائي وذكر روايته عن عمر البخاري والمزني في الأطراف
____________________
(2/547)
حديث إذن عمر لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها ولم يرقم له في التهذيب إلا النسائي وذلك يرد عليه
ولا هم يحزنون قيل إنه نفي للحصر فلا يلزم نفي الحزن
وجوابه على تسليم أن هم يحزنون للحصر تقديرهم داخلة على لا يحزنون كما إذا دخل النفي على الفعل المؤكد بقدر التأكيد داخلا بعد النفي لا قبله وما أشبه ذلك وقدم في اللفظ بلا ليقابل بها لا خوف عليهم و لا مسلطة على يحزنون لا على الجملة
وسبب الحصر عند من يقول به يختص بالمضارع لأنه الذي يمكن أن يرفع الفاعل الذي يمكن تحويله إلى المبتدأ مثل زيد يقوم أصله يقوم زيد فاقتضى التقديم الحصر وهذا لا يتأتى في غيره
انتهى
مسألة ما يقول السادة العلماء رضي الله عنهم في هذه الفتوة التي فشت فظهرت في هذا الزمان وصورتها أن قوما يجتمعون في بيت أحدهم فإذا اجتمعوا وأخذوا مجالسهم قام نقيبهم وأنشد أبياتا تتضمن استئذانهم في شد وسطه فيأذنون له ثم يأخذ بإحدى يديه شربة فيها ماء ويأخذ بيده الأخرى ملحا ويخطب خطبة يقرأ في آخرها وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات ويومئ برأسه إلى الماء وهذا ملح أجاج ويومئ إلى الملح ويضع الملح في الماء ويرفع الشربة ثم يقوم زعيم القوم وهو الذي يلبسهم سراويلات الفتوة فيجلس وسط القوم ويقول له النقيب من يطلب فيسمي من يريد من الحاضرين فيقومون واحدا واحدا كلما قام أحدهم شد الزعيم وسطه وأوقفه فيقول هذا المشدود الوسط أسأل الله تعالى وأسأل السادة الحاضرين كل ما أقامني وشد وسطي أن يقعدني فتى كاملا
ثم يقول النقيب ما تقولون في هذا الرجل فيثنون ثناء حسنا ويقولون نعم الأخ ثم ينصبون ثوبا كهيئة القوصرة يسمونه التنورة ويدخلون الزعيم والذي يلبس إلى وسطها فيلبسه سراويل بيده ويدخل الزعيم يده تحت ثياب اللابس إلى مربط السراويل ويشد بيده في ذلك المكان ويقرأ القوم حينئذ سورة الإخلاص ثم يقول النقيب اللباس لباس فلان والفتوة فتوة علي بن أبي طالب
____________________
(2/548)
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتباع الشرع المطهر ما تكرهه لنفسك لا ترضاه لغيرك وما تكرهه لغيرك لا ترضاه لنفسك فالزم عليك بتقوى الله هذا شرطنا عليك والله ناظر إليك يفعل ذلك بكل من أراد أن يلبس فإذا فرغ من ذلك رفعوا التنورة وخرجا من وسطها ثم يأتي النقيب بالشربة المذكورة فيقدمها إلى شيخهم فيأخذها بيده ثم يقول السلام يا فتيان السلام مرتين اللهم اجعل وقوفي لله واتباعي بالفتوة لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخص بهذه الشربة العفيفة النظيفة لكبيري فلان ويسميه ثم يسندها عن شيخ بعد شيخ إلى الإمام الناصر إلى علي بن أبي طالب عليه السلام ثم يشرب ويدفعها إلى غيره فيفعل كذلك حتى يشرب القوم جميعهم فهل هذه الهيئة المذكورة سنة أم بدعة وهل قول النقيب هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وإشارته إلى كل واحد منهما خطأ أم لا وهل قوله أيضا أسأل الله وأسأل الحاضرين بواو العطف خطأ أم لا وهل هذه الشربة التي يسندها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لها أصل أم لا وإذا كان لها أصل فهل متصلة أم منقطعة والحالة هذا أفتونا مأجورين وقد قال الله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقال تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون وفرضنا السؤال وفرضكم الجواب والله الموفق للصواب
الحمد لله هذه بدعة لا يشك فيها أحد ولا يرتاب في ذلك ويكفي أنها لم تعرف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمن أصحابه ولا عن أحد من علماء السلف وإدخال الزعيم يده تحت ثياب اللابس إلى مربط السراويل وشده الغالب أنه يحصل مس ذلك المكان ومس ذلك المكان حرام لأنه من العورة واستعمال القرآن في غير معناه خطأ وقوله تعالى هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج إنما الإشارة فيه إلى البحرين فالإشارة به إلى غيرهما خطأ وذلك الماء والملح اللذان بيده غيرهما إلا أن يريد الإشارة إلى الجنسين فيكون أخف مع أن الكراهة لا تزول لأن القرآن إنما ينبغي أن يستعمل فيما أريد به والجلوس في وسط الحلقة
____________________
(2/549)
مكروه
وقوله أسأل الله وأسأل الحاضرين إلى آخره خطأ من وجهين أحدهما الإتيان بواو العطف التي تقتضي التشريك بين اسم الله واسم غيره
والثاني أن هذا المسئول لا يقدر عليه الحاضرون فلا يجوز طلبه منهم وإنما يقدر عليه الله تعالى وعزو هذه الشربة إلى علي بن أبي طالب لا أصل لها وافتتاح المجلس بشعر ليس بجيد وإنما ينبغي أن تفتتح المجالس بحمد الله والثناء عليه ثم الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم
وأما ما فيها غير ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتباع الشرع المطهر وأن يكره لغيره ما كره لنفسه ولنفسه ما كرهه لغيره والإلزام بتقوى الله فكله حسن داخل في قوله تعالى وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر و لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس والفتوة من أعظم خصال الخير جامعة كمال المروءة وحسن الخلق والإيثار على النفس واحتمال الأذى وبذل الندى وطلاقة الوجه والقوة على ذلك حتى تكون فتوته على ذلك فتوة الفتيان والصفح عن العثرات ويكون خصما لربه على نفسه وينصف من نفسه ولا ينتصف ولا ينازع فقيرا ولا غنيا ويستوي عنده المدح والذم والدعاء والطرد ولا يحتجب ولا يدخر ولا يعتذر ويظهر النعمة ويحقق المحبة سرا وعلنا فإذا قوي على ذلك فهو الفتى وإذا اجتمع قوم على ذلك وتعاهدوا عليه فنعم ما هو
وأما شد الوسط فلا سنة ولا بدعة وكأنه إشارة إلى الحزم والنهوض في ذلك الأمر فلا بأس به وأما لبس السراويل فأيضا لا سنة ولا بدعة والنبي صلى الله عليه وسلم اشتراه وما لبسه ثم صار حسنا للستر وأما لبسه لهذا الغرض والاجتماع عليه فكان المقصود به الالتزام بحفظ ما هو ساتر له من الحرام وغيره وأن يكون اللابس له على أحسن طريقة من العفاف والصيانة وطهارة الذيل يقي ما تحت الإزار فإذا قصد به ذلك فينبغي أن يشد من فوق أو يعطي اللابس فيشده هو بيده حتى لا يحصل ما قدمناه من لمس العورة وأما الدخول في الثوب الذي يعمل كالقوصرة فقد يقال إنه مكروه للنهي عن إفضاء الرجل إلى الرجل في ثوب واحد لكن ذلك إنما هو في النوم وحالة التجرد أما قبل هذا فلا
وقد صح في صحيح مسلم من
____________________
(2/550)
حديث عائشة رضي الله عنها قالت خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا وأما شرب الماء والملح فمع كونه لم يصح عن علي لا أصل له عن غيره أيضا وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة بمنى في عام ثم في عام آخر وبايع بيعة الرضوان تحت الشجرة ولم يكن في شيء من مبايعاته أكل ولا شرب ففعل ذلك بدعة ولا ينبغي أن يدخل في الدين ما ليس منه ولا أن نعتقد في شيء أنه سنة حتى يكون له شبيه أصل ولا يكفي كونه مباحا فإن جعله من الدين أو مطلوبا وسنة وشعارا إنما يكون من جهة الشرع وما لأحد أن يحدثه لا شيخ ولا غيره
والله أعلم
كتبه علي السبكي في بكرة يوم الجمعة سادس جمادى الأولى سنة 752 انتهى
سئل عن الخيل هل كانت قبل آدم عليه السلام أو خلقت بعده وهل خلق الذكور قبل الإناث أو الإناث قبل الذكور وهل العربيات قبل البراذين أو البراذين قبل العربيات وهل ورد في الحديث أو الأثر أو السير أو الأخبار ما يدل على ذلك
أجاب إنا نختار أن خلق الخيل قبل خلق آدم بيومين أو نحوه وأن خلق الذكور قبل الإناث وأن العربيات قبل البراذين
أما قولنا إن خلقها قبل آدم فلآيات من القرآن سنذكرها آية آية ونذكر وجه الاستدلال ولمعنى فيه وهو أن الرجل الكبير يهيأ له ما يحتاج إليه قبل قدومه وقال الله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا فكلها مخلوقة لآدم وذريته إكراما لهم ومن كمال إكرامهم وجودها قبلهم فجميع ذلك تقدم خلقه ثم كان خلق آدم بعد ذلك آخر الخلق لأنه وذريته أشرف ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف من الجميع فلذلك كان آخرا لأن به تم كمال الوجود وما آدم مما هيئ له حيوان وجماد والحيوان أشرف من الجماد والخيل من أشرف الحيوان غير الآدمي أو أشرفها فكيف يؤخر خلقها عنه فهذه الحكمة تقتضي خلقها مع غيرها من المنافع وإنما قلنا بيومين أو نحوها لحديث ورد فيه يتضمن أن بث الدواب يوم الخميس والحديث في الصحيح لكن فيه كلام ولا شك
____________________
(2/551)
أن خلق آدم يوم الجمعة والحديث المذكور يتضمن أنه بعد العصر قلنا إنه بيومين أو نحوها على التقريب وأما التقدم فلا تردد فيه والمعنى فيه قد ذكرناه والآيات التي تدل له منها قوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ووجه الاستدلال أن الآية الكريمة اقتضت خلق ما في الأرض قبل تسوية السماء ومن جملة ما في الأرض الخيل فالخيل مخلوقة قبل تسوية السماء عملا بالآية ودلالة ثم على الترتيب فتسوية السماء قبل خلق آدم لأن تسوية السماء من جملة الستة الأيام لقوله تعالى رفع سمكها فسواها إلى قوله تعالى والأرض بعد ذلك دحاها ودلالة الحديث الصحيح المجمع عليه على أن خلق آدم يوم الجمعة بعد كمال المخلوقات إما آخر الأيام الستة إن قلنا ابتداء الخلق يوم الأحد كما يقوله المؤرخون وأهل الكتاب وهو المشهور عند أكثر الناس وإما في اليوم السابع خارجا عن الأيام الستة كما يقتضيه الحديث الذي أشرنا إليه فيما سبق الذي في صحيح مسلم الذي صدره إن الله خلق التربة يوم السبت وإن كان فيه كلام وأما تأخر خلق آدم فلا كلام فيه
فثبت بهذا أن خلق الخيل قبل خلق آدم عليه السلام وهي من جملة المخلوقات في الأيام الستة لا كما يقوله بعض الجهلة الكفرة فيروى فيه أحاديث موضوعة لا تصدر إلا عن سخف المجانين لا حاجة بنا إلى ذكرها
ومن الآيات قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وجه الاستدلال بهذه الآية أن الأسماء كلها إما أن يراد بها نفس الأسماء أو صفات المسميات ومنافعها وعلى كلا التقديرين المسميات موجودة في
____________________
(2/552)
ذلك الوقت للإشارة إليها بقوله هؤلاء ومن جملة المسميات الخيل فلتكن موجودة حينئذ والأسماء عام بالألف واللام مؤكدة بقوله كلها فيقوى العموم فيه والمسميات لا بد من إرادتها بقوله ثم عرضهم وقوله بأسمائهم فهذا دليل قاطع في ذلك والعموم شامل للخيل فمن يرى دلالة العموم قطعية يقطع بدخولها ومن لا يرى ذلك مستدل به فيه كما يستدل بسائر الأدلة الشرعية
ومن الآيات قوله تعالى الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وجه الاستدلال اقتضاؤها خلق ما بينهما من الستة وقد قلنا إن خلق آدم خارج عن الستة بعدها أو حاصل في آخرها بعد خلق غيره كما سبق ومن الآيات قوله تعالى ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب وجه الاستدلال بها ما قدمناه فيما قبلها
فهذه أربع آيات تدل على ذلك فيها كفاية
وقد جاء عن وهب بن منبه عن الإسرائيليات أن الخيل خلقت من ريح الجنوب وذلك لا ينافي ما قلناه ولا نلتزم صحته لأنا لا نصحح إلا ما صح لنا عن الله ورسوله
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الخيل كانت وحشا وأن الله تعالى ذللها لإسماعيل عليه السلام وذلك لا ينافي ما قلناه فقد تكون كانت مخلوقة قبل آدم عليه السلام واستمرت على وحشيتها إلى عهد إسماعيل عليه السلام أو تكون كانت تركب في وقت ثم توحشت ثم ذللت لإسماعيل وليس في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة دليل فالمعتمد ما قلناه من دلالة القرآن والذي قيل في أن إسماعيل عليه السلام أول من ركبها أمر مشهور ولكنه ليس إسناده صحيحا حتى نلتزمه وقد قلنا إنا لا نلتزم إلا ما صح عن الله ورسوله وفي تفسير القرطبي من رواية الترمذي الحكيم عن ابن عباس رضي الله عنهما لما أذن الله لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام برفع القواعد قال الله تبارك اسمه إني معطيكما كنزا ادخرته لكما ثم أوحى لإسماعيل أن اخرج إلى أجياد فادع يأتك الكنز فخرج إلى أجياد ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز فألهمه فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته أمكنته من ناصيتها وذللها له ولو ذكرنا
____________________
(2/553)
ما قال الناس في ذلك وشرحناه بطوله لطال فقد تكلم الناس في غير ذلك كثيرا وذكروا من خواص الخيل ومنافعها شيئا كثيرا ليس ذلك كله مما نلتزم صحته ومطالب القاصد بسرعة الجواب في أسرع وقت يقتضي الاقتصار على ما قلناه وفيه كفاية وأما قولنا إن خلق الذكور قبل الإناث فلأمرين أحدهما شرف الذكر على الأنثى
والثاني حرارته
وإذا كان من جنس واحد من مزاج واحد وأحدهما أكثر حرارة من الآخر جرت عادة القدرة الإلهية بتكوين أقواهما حرارة قبل الآخر والذكر أقوى حرارة من الأنثى فناسب أن يكون وجوده أسبق ولتحصل المنة به أكثر ولذلك كان خلق آدم قبل خلق حواء ولأن أعظم ما يقصد له الخيل الجهاد والذكر في الجهاد خير من الأنثى لأن الذكر أجرى وأجرأ أعني أشد جريا وأقوى جرأة ويقاتل مع راكبه والأنثى بخلاف ذلك وقد تقطع بصاحبها رجوع ما يمكن إليها إذا كانت وديقا ورأت فحلا ولا يرد على ذلك ركوب جبريل عليه السلام أنثى لما جاز البحر لموسى لأن ذلك لركوب فرعون فحلا فقصد طلبه للأنثى وعجز فرعون عن إمساك رأسه
وأما قولنا إن العربيات قبل البراذين فلما ذكر من حديث إسماعيل عليه السلام ولأن العربيات أشرف وآصل والبرذون إنما يكون بعارض أو علة إما منه وإما من أمه ولم تكن البراذين تذكر فيما خلا من الزمان ألا ترى إلى قصة إسماعيل عليه السلام وقصة سليمان عليه السلام وإنما البراذين ما انتحس من الخيل حتى اختلف العلماء هل يسهم له كما يسهم للفرس العربي أو لا وفي حديث من مراسيل مكحول في بعض ألفاظه للفرس سهمان وللهجين سهم فهذه الرواية تقتضي أن الهجين لا يسمى فرسا والهجين هو البرذون أو قريب منه وبالجملة البراذين حثالة الخيل وما كان الله ليخلق من الجنس حثالته قبل الأول
وأما الأحاديث النبوية والآثار الصحيحة فإنما جاء منها في فضيلة الخيل وسباقها وشياتها وفضيلة اتخاذها وبركتها والنفقة عليها وخدمتها ومسح نواصيها والتماس نسلها ونمائها والنهي عن خصائها وجز نواصيها وأذنابها وفيما يقسم لها ولصاحبها في الغنيمة واختلاف العلماء فيه وهل
____________________
(2/554)
يجب فيها زكاة أو لا وغير ذلك وهذه نبذة يسيرة كتبتها على سبيل العجلة وإن اخترتم كتبت فيها كتابا مستقلا إن شاء الله تعالى
قال الشيخ الإمام رحمه الله رجل نسب إلى غيره أنه قال ما لي رأي وقصد بذلك حط رتبته عما يشترط فيه أن يكون ذا رأي والظاهر أنه كذب عليه فإن صدق فهو جاهل بقاعدتين من قواعد العلم إحداهما أن الجملة الاسمية إنما تدل على الحال
والثانية أن الشيء إذا كان يصدق بالقوة وبالفعل فهو بالفعل حقيقة وفي القوة مجاز
إذا عرف هذا فحقيقة قوله ما لي رأي نفي الرأي بالفعل الآن ولا عيب في ذلك ولا يدل على أنه ليس ذا رأي فمؤاخذته بهذا جهل أو تجاهل هذا إذا أخذنا اللفظ على ظاهره وسلمنا المؤاخذة بمقتضاه تعنتا وتجاهلا وإلا فالظاهر أن الذي يتكلم بهذا إنما يقصد التواضع وحط رتبته من معرفة العواقب وأنه سالك طريقة التفويض إلى الله تعالى
كتب بكرة الخميس رابع عشر رجب سنة 747
انتهى
ما تقول السادة العلماء رضي الله عنهم فيما قاله أبو حامد الغزالي في كتاب الخوف والرجاء من كتاب المنجيات من إحياء علوم الدين نقلا عن مكحول الدمشقي رضي الله عنه من عبد الله تعالى بالخوف فهو حروري ومن عبد الله تعالى بالرجاء فهو مرجئ ومن عبد الله تعالى بالمحبة فهو زنديق ما معنى هذا الكلام مفسرا أثابكم الله تعالى
الحمد لله رب العالمين الجواب مكحول رضي الله عنه تابعي فقيه عالم جمع علم مصر والعراق والشام واستوطن دمشق فلذلك يقال له فقيه الشام
ومعنى قوله هذا أن من عبد الله بالخوف وحده لأن المؤمن لا بد له من الخوف والرجاء فالخوف يقبضه والرجاء يبسطه
واختلف أهل العلم هل الأولى استواء الخوف والرجاء أو رجحان أحدهما فقالت طائفة الأولى استواؤهما وقالت طائفة الأولى في زمن الصحة غلبة الخوف ليحجزه عن المعاصي وفي حالة المرض غلبة الرجاء حذرا من القنوط وليموت وهو حسن الظن بالله
وبالجملة فلا بد له من الخوف والرجاء وهما جناحان كجناحي الطائر فكما أن
____________________
(2/555)
الطائر لا يطير إلا بجناحيه كذلك المؤمن لا يستقيم أمره إلا بالخوف والرجاء وقال من يرى استواءهما لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه والقائل بفضل رجحان أحدهما لا يعني به غلبته بحيث ينغمر جانب الرجاء بالكلية بل لا بد عند الجميع من ملاحظتهما واعتبارهما وحضورهما في القلب في كل حال وهما حالان من أحوال القلب ناشئان عن معرفة اسمين من أسمائه وصفتين من صفاته تعالى فالخوف ينشأ من صفة القهر وما في معناه والرجاء ينشأ من صفة الرحمة وما في معناها والمعارف في القلوب بمنزلة المياه ومواد الأراضي للأشجار والأحوال الناشئة عنها بمنزلة القوة التي تحصل في الأغصان والأزهار والأعمال التي في ظاهر البدن بمنزلة الثمار
وقول الصوفية فلان صاحب حال يشيرون به إلى ما ذكرناه من الأحوال المتوسطة بين المعارف والأعمال فعلى قدر المعرفة يكون الحال وعلى قدر الحال يكون العمل وصلاح القلب بالمعارف والأحوال وصلاح البدن بالأعمال ومقام كل رجل على قدر حاله وحاله على قدر معرفته والناس متفاوتون في ذلك تفاوتا كثيرا ولا أحد أجمع لها من النبي صلى الله عليه وسلم والناس بعده على مقاماتهم فمنهم المكثر منها ومنهم المقل والخوف واجب قال الله تعالى وخافون إن كنتم مؤمنين وقال تعالى فلا تخشوا الناس واخشون والرجاء واجب لأنه ضد اليأس واليأس حرام قال الله تعالى إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون وقال تعالى ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ولأن في الرجاء التصديق بوعد الله فقد تظاهرت آيات الوعد على الأعمال الصالحة كما تظاهرت آيات الوعيد على الأعمال السيئة
والتصديق بوعد الله واجب فمن عبد الله بالخوف وحده بمعنى أنه لم يوجد منه رجاء ألبتة أو كان جانب الرجاء عنده مغمورا لا وزن له مع الخوف اقتضى له ذلك الحكم على العاصي بالانسلاخ من الرحمة والخروج من الدين وهذا رأي الحرورية وهم أول طوائف المبتدعة في هذه الملة خرجوا على خير فرقة أو حين فرقة كما أخبر فيهم النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم ذو الثدية الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وقتل بسيوف علي رضي الله عنه وكان سبب خروجهم أنه لما اتفق من علي ومعاوية بصفين ما اتفق ولم يكن
____________________
(2/556)
ذلك يقتضي تكفيرا ولا تفسيقا وإنما هو كالاختلاف في سائر الفروع جر قتالا لأمر أراده الله أنكرت هذه الطائفة الخبيثة ما اتفق من التحكيم وغيره وكفرت الصحابة
ومن اعتقادهم التكفير بالذنب ويسمون خوارج لخروجهم على إمام المسلمين علي رضي الله عنه ويسمون حرورية لنزولهم أرضا يقال لها حروراء وكانوا ثمانية آلاف نفس فأرسل إليهم علي ابن عباس رضي الله عنهما فناظرهم يوما كاملا فرجع منهم أربعة آلاف وبقي أربعة آلاف ومنهم عبد الرحمن بن ملجم الذي قتل عليا رضي الله عنه وأخبارهم طويلة ولا خلاف في فسقهم
واختلف العلماء في كفرهم والأقرب كفرهم وهم متنطعون في الدين غالون فيه يعتقدون أنه من الدين واثنان هالكان مفرط ومفرط فهؤلاء هلكوا بالإفراط كما هلك غيرهم بالتفريط
وما حملهم على ذلك إلا أنهم جردوا الخوف واعتقدوا أن المعصية تردي صاحبها ولم يرجوا لهم من الله عفوا ولا مغفرة ولا رحمة فمن عبد الله على مجرد الخوف فقد تشبه بهؤلاء حيث لا يرجو رحمة ومغفرة للعاصي المذنب وإن فرض أنه يرجوهما محض الخوف فأراد مكحول أن ينبه على أن تجريد الخوف يوجد الالتحاق بهذه الطائفة
وقوله ومن عبد الله بالرجاء فهو مرجئ يعني إذا عبد بالرجاء وحده ولم يحصل عنده خوف أو حصل ولكنه مغمور في جنب الرجاء فهذا لا يخاف من المعصية فيشبه المرجئة الذين يقولون إنه لا يضر مع الإيمان سيئة كما لا ينفع مع الكفر حسنة فقاسوا قياسا فاسدا وقالوا كما أن الكافر إذا فعل ما شاء من الحسنات لا ينفعه ويخلد في النار لقوله تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا كذلك المؤمن إذا ارتكب أنواع المعاصي والسيئات كبائرها وصغائرها لا يضره ذلك مع الإيمان ويدخل الجنة بغير عقاب وربما تمسكوا في ذلك بقوله تعالى وما نرسل بالآيات إلا تخويفا وما حملهم على ذلك إلا تجريدهم الرجاء للمؤمن وأنه بإيمانه قد استحق ثواب الله والأمن من عذابه فلا يضره ما صنع بعد ذلك
وهذه فرقة من فرق المبتدعة حدثت بعد الفرقة الأولى
والمرجئة على قسمين هذه الطائفة وطائفة أخرى لهم اعتقاد آخر لا حاجة إلى ذكره فالمرجئة الذين أرادهم مكحول
____________________
(2/557)
رضي الله عنه هم هؤلاء الذين يقولون لا يضر مع الإيمان معصية والحامل لهم بمحض الرجاء فلذلك من عبد الله بالرجاء وحده شابه هؤلاء
وهذه الفرقة أيضا منابذة للكتاب والسنة وإجماع الأمة قال تعالى ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به وقال تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وقال تعالى وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم وقال تعالى وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت الآية وقال تعالى ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم وقال تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما وقال تعالى في المحاربين ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم وقال تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فشرط المشيئة والآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة في ثواب فاعل الحسنات أكثر من أن تحصر فتبا لهاتين الفرقتين الحرورية المعرضين عن الرجاء والمرجئة المعرضين عن الخوف وسيد الأولين والآخرين يقول إني لأرجو أن أكون أعلمكم بالله وأشدكم له خشية
وها هنا نكتتان ينبغي أن يتفطن لهما إحداهما أن الذي يتجرد فيه الرجاء عن الخوف قد يقال إنه لا تصح طاعاته وما يأتي به من الصلاة والصيام والزكاة والحج وذلك لأن نية الفرضية شرط في ذلك لا تصح العبادة المفروضة إلا بها والفرض هو الذي يذم تاركه أو الذي يعاقب تاركه أو الذي يخاف من العقاب على تركه كما قيل في حدوده في أصول الفقه فإذا فرض انتفاء الخوف على تقدير الترك انتفى اعتقاد الوجوب والفرضية على الحد الثالث وكذا على الحد الثاني لأنه لو اعتقد العقاب خاف وكذا على الحد الأول لأن الذم يخاف منه كما يخاف من العقاب فعلم بذلك أن انتفاء الخوف لا يصح معه شيء من العبادات الواجبة وكفى بهذا بلية
النكتة الثانية كانت في نفسي وهي أحسن من الأولى فلما اشتغلت بكتابة الأولى نسيتها فعسى الله أن يأتي بفتح بتذكرها إن شاء الله تعالى وقد تذكرتها بفضل الله وهي قول عمر نعم العبد صهيب
____________________
(2/558)
لو لم يخف الله لم يعصه قد يقال إنه حكم عليه بعدم المعصية على تقدير عدم الخوف وهذا ينافي ما قلتم من أنه إذا انتفى الخوف كان مرجئا
والجواب أنا لم نقل إذا انتفى الخوف يكون مرجئا مطلقا بل قلنا إن من عبد الله بالرجاء وحده كان مرجئا وإن تجريد الرجاء يوجب الجرأة والإقدام على المعصية وانتفاء الخوف أعم من تجريد الرجاء فإنه يبقى بعد انتفاء الخوف حالة أخرى وهي الحياء بمنع من المعصية فذاك على ذلك التقدير يعبد بالحياء لا بمجرد الرجاء
فإن قلت فهذا الأثر من كلام عمر يقدح فيما قلتم من فساد العبادة الواجبة على تقدير عدم الخوف
قلت الجواب تخصيص الكلام بالخوف من العقاب الأخروي لما قلناه إن الذم يخاف وهو لازم للوجوب اللازم للمعصية بتقدير الترك وعدم المعصية بتقدير الفعل
فإن قلت ما الجواب عن الآية التي تمسكوا بها
قلت تمسكهم بها من جهلهم بمرادها ومعنى الآية أنه ما يرسل بالآيات الدالة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إلا تخويفا للناس ليؤمنوا وإذا كان هذا معناها فأي دليل فيه على مذهبهم
ولولا خشية الإطالة لزدنا في تقرير فساد الطائفتين الحرورية والمرجئة خذلهم الله
وقول مكحول من عبد الله بالمحبة فهو زنديق فمعناه من لم يعبده خوفا منه ولا رجاء ولا لصفة أخرى غير المحبة ولا شك أنه متى فرض بهذه المثابة انتفى اعتقاد الوجوب وصار كمن يعمل لمن يحبه عملا لأجل محبته له لا لاستحقاقه عليه ذلك العمل ومن اعتقد هذا في حق الله تعالى فهو كافر وإظهاره للإيمان بلسانه وبطاعاته الظاهرة فقط مثل إظهار الزنديق الإسلام بالشهادتين وإسراره الكفر فلهذا شبهه بالزنديق من جهة أن اعتقاده كفر وعمله عمل الإسلام
فإن قلت فقد جاء عن أكابر أهل الطريق قول بعضهم ما عبدناك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك وهذا من ذاك القبيل أفتقولون إن هذا كفر
قلت ليس هذا من ذاك القبيل والقدر الذي لا بد منه ولا يصير المؤمن مؤمنا بدونه اعتقاد استحقاق الله العبادة على عباده سواء أم عذبهم فهو لذاته تعالى مستحق للعبادة بأمره تعالى ذاته استحق أنه مهما أمر به وجبت طاعته وحرمت معصيته ثم إنه بفضله تعالى وعد الطائعين
____________________
(2/559)
وتوعد العاصين
والعاملون على أصناف صنف عبدوه لذاته وكونه مستحقا لذلك فإنه مستحق لذلك لو لم يخلق جنة ولا نارا فهذا معنى قول من قال ما عبدناك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك أي بل عبدناك لاستحقاقك ذلك ومع هذا فهذا القائل يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار ويظن بعض الجهلة خلاف ذلك وهو جهل فمن لم يسأل الله الجنة والنجاة من النار فهو مخالف للسنة فإن من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولما قال ذلك القائل للنبي صلى الله عليه وسلم إنه يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار وقال ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ قال النبي صلى الله عليه وسلم حولها ندندن
فهذا سيد الأولين والآخرين يقول هذه المقالة فمن اعتقد خلاف ذلك فهو جاهل ختال
ومن آداب أهل السنة أربعة أشياء لا بد لهم منها الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والافتقار إلى الله تعالى والاستغاثة بالله والصبر على ذلك إلى الممات
كذا قال سهل بن عبد الله التستري وهو كلام حق
وصنف عبدوه خوفا من ناره وطمعا في جنته وهذا جائز أيضا وإن كان هو دون الصنف الأول وكلا الصنفين يعتقدون وجوب الطاعة واستحقاقها خاضعون تحت قهر الربوبية منقادون تحت أعباء التكاليف الشرعية مسخرون تحت ذل العبودية لا نقول كما قالت اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه بلى نحن عبيده نواصينا بيده ماض فينا حكمه عدل فينا قضاؤه ومع ذلك نحبه ونسأله أن يحبنا
وأما هذا الشخص الذي جرد وصف المحبة وعبد الله بها وحدها فقد ربا بجهله على هذا واعتقد أن له منزلة عند الله رفعته عن حضيض العبودية وضآلتها وحقارة نفسه الخسيسة وذلتها إلى أوج المحبة كأنه آمن على نفسه وآخذ عهدا من ربه أنه من المقربين فضلا عن أصحاب اليمين كلا بل هو في أسفل السافلين فالواجب على العبد سلوك الأدب مع الله وتضاؤله بين يديه واحتقاره نفسه واستصغاره إياها والخوف من عذاب الله وعدم الأمن من مكر الله ورجاء فضل الله واستعانته به واستعانته على نفسه ويقول بعد اجتهاده في العبادة ما عبدناك حق عبادتك ويعترف بالتقصير
____________________
(2/560)
ويستغفر عقيب الصلوات إشارة إلى ما حصل منه من التقصير في العبادة وفي الأسحار إشارة إلى ما حصل منه من التقصير وقد قام طول الليل فكيف من لم يقم نسأل الله أن يتجاوز عنا وعن والدينا وأن يغفر لنا ويرحمنا بفضله إنه لا عمل لنا ولا سبب ندل به عنده إلا فضله وإحسانه القديم اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد صلى الله عليه وسلم أن تغفر في هذا الوقت الشريف لوالدتي المسكينة ووالدي المسكين وترحمهما بفضلك ومنك يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في قضاء حاجتي هذه اللهم شفعه في الحمد لله رب العالمين
رجلان تنازعا فقال أحدهما دخول الجنة أفضل من العبادة وعكس الآخر أيهما المصيب أجاب المصيب هو الذي قال دخول الجنة أفضل من العبادة والدليل عليه وجوه أحدهما قوله تعالى من جاء بالحسنة فله خير منها فالعبادة حسنة وقد نطق القرآن بأن الجزاء خير منها
الثاني قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وهي فعلى تأنيث أفعل الذي للتفضيل
الثالث ما روي في الحديث أن الله تعالى قال للجنة أنت رحمتي فالجنة رحمته لا يعدلها شيء
الرابع قوله تعالى ولذكر الله أكبر إذا جعلناه مضافا إلى الفاعل
الخامس قول الله تعالى فيما يروى عنه من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه
إشارة إلى تفضيل الجزاء على الفعل الذي هو عبادة
السادس قوله تعالى ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون و بأحسن الذي كانوا يعملون
السابع قوله صلى الله عليه وسلم حولها ندندن لما قال له أسأل الجنة ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ
الثامن أن دخول الجنة به يحصل الفوز قال الله تعالى فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز فداخل الجنة فائز والعابد على خطر وخوف كما قيل الناس كلهم هالكون إلا العالمين والعالمون هلكى إلا العاملين والعاملون هلكى إلا المخلصين والمخلصون على خطر فمن دخل الجنة فقد أمن هذه الأخطار كلها
التاسع أن دخول
____________________
(2/561)
الجنة هو المقصد والعبادة وسيلة والمقصد أفضل من الوسيلة والمراد بالجنة الجنة وما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ومن جملته رؤية الرب سبحانه وتعالى
العاشر أن الجنة فضل الله تعالى والعبادة فعل العبد وأين فضل الله من فعل العبد
الحادي عشر العابد كمن لوح بالقرب له وداخل الجنة واصل وقد قيل ليس من لوح بالقرب له مثل من سير به حتى وصل لا ولا الواصل عندي كالذي طرق الباب وفي الدار حصل لا ولا الحاصل عندي كالذي سارروه فأزح عنك العلل والكلام في هذه المسألة يطول فإنه يحتاج إلى تحقيق معنى التفضيل ومعنى الخيرية والمفاضلة بين ما هو من فعل العبد وما ليس من فعله ولكن هذا جواب مختصر يكفي بحسب ما حصل من السؤال
والله أعلم
انتهى
مسألة من بلاد العجم ما يقول شيخ الإسلام السبكي أمتع الله ببقائه في الرجل الذي هو آخر الجنة دخولا إليها إذا تراءت له الشجرة فيقول أي رب لو أدنيتني من هذه الشجرة فأستظل بظلها الحديث من أي شيء يستظل وقرأ إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت
أجاب الحمد لله قال تعالى وظل ممدود وقال تعالى هم وأزواجهم في ظلال وغير ذلك من الآيات والآثار التي تدل على ظل الجنة فلا يلزم من تكوير الشمس وانكدار النجوم وتسيير الجبال وتعطيل العشار عدم الظل والاستظلال ولا عدم الاحتياج إليه وقد يحصل الضحاء من غير شمس ويحتاج معه إلى الظل
قال تعالى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى وإنما الناس ألفوا أن الاحتياج إلى الظل من أجل الشمس وأن الظل لم تأت عليه الشمس مما يلي إتيانها عليه وهذا بالعادة لا ينحصر وربما وقع في أذهان بعض الناس أن الظل عدم الشمس وليس كذلك بل الظل مخلوق لله تعالى وليس بعدم بل هو أمر وجودي له نفع بإذن الله تعالى في الأبدان وغيرها فذلك المحتال يحصل من تلك الشجرة
____________________
(2/562)
التي يراها ذلك الرجل وليس هو في مكانه الذي يكون فيه ذلك الوقت فيطلبه ليحصل له به روح وراحة
والله أعلم
انتهى
ما تقولون في وضع الإنسان قدمه على بساط مفروش وقد ارتسمت في النسج في البساط أشكال حروف من حروف المعجم وانتظمت منها كلمات مفهومة المعنى مثل بركة وسعادة والعز الدائم ونحو ذلك هل يجوز وطء الإنسان مواضع هذه الكلمات من البساط
أجاب رحمه الله أنا أميل إلى تحريم ذلك ولا يحضرني الآن دليل معتمد ولكن أدلة ليست بالقوية التي يعتمد عليها وحدها أما الكراهة فلا شك فيها وإنما أنا أستصعب لفظ التحريم لقوله تعالى ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام فلا أستجيز إطلاق لفظ التحريم إلا بورود نهي من الشارع أو قياس صحيح على نص منه وأما قوله من قال كل حرف قد يجعل دليلا على اسم من الأسماء الحسنى فذلك وحده لا يكفي في التحريم لأنه كما أنه قد يجعل دليلا على ذلك قد يجعل دليلا على غيره
وأما قولهم في كهيعص ودلالتها على كاف وهاد إلى آخرها فقد قاله بعض المفسرين ولا يلزم من كونه أشير بها في هذا الموضع إلى تلك المعاني أن تكون في كل موضع كذلك والمصنفون في علم الحروف قد توسعوا وذكروا ألوانا ودلالات وأوفاقا حرت بعضها وأنكر بعضها ومنهم من يذكر لها طبائع ثم يبني على ذلك آثارا وأكثر ذلك يكون معصية مما يجب إنكاره وبعضه مما جربناه فلم نجده صحيحا مما لا فائدة فيه
ولكن الذي أقوله إن هذه الحروف مخلوقة لقوله تعالى خالق كل شيء وهي من كل شيء ولأنها قطع من الأصوات التي هي أعراض الأجسام المخلوقة للرب سبحانه وتعالى فهي مخلوقة معها في الرتبة الثانية أو الثالثة فتدخل في قوله تعالى خلق لكم ما في الأرض جميعا والذي خلقه لنا المقصود به الاعتبار ونحوه كقوله تعالى الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ونحو ذلك من الآيات الواردة في ذلك والأدلة القائمة عليه فكل ما خلقه الله
____________________
(2/563)
تعالى ينبغي للعبد أن يستعمله في الغرض الذي خلق لأجله ويعامله بتلك المعاملة المقصودة منه من الإكرام والإهانة وسائر ما دل خلقه والشريعة عليه ويضع كل شيء في موضعه فمعنى وضعه في غير موضعه لم يجز إلا أن يجيء إذن من الشارع في إباحة ذلك ألا ترى إلى ما ورد في الحديث الصحيح ساء رجل سوق بقرة فركبها فقالت إني لم أخلق لهذا فالبقرة لما خلقت للحرث ونحوه عاتبت راكبها وأنطقها الله تعالى بذلك وإذا قيل بجواز ركوب البقر فإما لدليل خاص وإما لأن الركوب من جملة الأغراض التي خلقت له وإن كانت الحراثة أغلب أغراضها فالحروف خلقها الله تعالى لينتظم منها كلامه سبحانه وتعالى وكلام رسوله وأنبيائه وملائكته عليهم السلام والأذكار وغير ذلك من الواجبات والمندوبات والمباحات ولا شك أن انتظام تلك الواجبات والمندوبات منها يقتضي إكرامها وتعظيمها ومهابتها
وقد قال الفقهاء إن الورقة التي فيها اسم الله تعالى لا يجوز أن تجعل كاغدة يجعل فيها قصة ونحوها فالتحريم هنا لا شك فيه لأجل اسم الله تعالى فحيث لا يكون اسم الله ولكن حروف يمكن أن يركب منها اسم من أسماء الله أو غيره إن لم نقل بالتحريم لكان له وجه بالقياس عليه فإن الفرع لا يشترط فيه مساواة الأصل بل يكفي اشتراكهما في علة الحكم
فإن قيل كما أن هذه الحروف ينتظم منها كلمات الكفر والقبائح
قلت نعم ولكنها لم تخلق لها إنما خلقت للأول وكذلك جميع الأشياء خلقت لغرض ومكن الإنسان من استعمالها في ذلك الغرض وفي ضده فإن استعمله فيه كان قد وضع الشيء في موضعه وعدل وإن استعمله في غير موضعه فقد جار وقسط والجور والقسط ظلم وحرام بخلاف العدل والإقساط وقد كان بعض العلماء لا يمس الورق إلا على وضوء وإن كان الورق محتملا لأن يكتب فيه هذا وهذا لكن الذي خلق لأجله هو أن يكتب فيه القرآن والحديث والعلم النافع فيعظم لذلك فلو جاء إنسان يدوس ورقة عمدا وهي بياض وقد بلغه ما يجب من تعظيمها لا يمتنع أن يقال بالتحريم عليه فكذلك الحروف لا يجوز دوسها لمن بلغه ما ذكرناه من المعنى الذي خلقت له واحترزنا بذلك عن الجاهل فقد يعذر بجهله وكثير من
____________________
(2/564)
الأحكام اشترط الشافعي وغيره من الفقهاء في الإثم بها العلم بالنهي عنها فكذلك أقول إنما يأثم بدوس هذه الحروف من أحاط علمه بما ذكرناه وإذا لم يمنع لم يمتنع القول بالتحريم مع نفي الإثم ويجب عليه أن يتعلم حتى يعلم
والله عز وجل أعلم
كتبه علي السبكي في الثالث والعشرين من شعبان سنة 752
انتهى
قال الشيخ الإمام تغمده الله برحمته قوله تعالى وورث سليمان داود معناه ورث العلم والنبوة وليس معناه أنه ورث المال لقوله صلى الله عليه وسلم إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ولأن الرواة وحملة الأخبار وجميع التواريخ القديمة وجميع طوائف بني إسرائيل ينقلون بلا خلاف نقلا يوجب العلم أن داود عليه السلام كان له بنون ذكور جماعة غير سليمان ولم يذكر الله تعالى أنه ورثه غير سليمان فصح أنه إنما ورث النبوة وكلهم مجمعون على أنه ولي مكان أبيه عليهما السلام وعمره اثنا عشر عاما ولداود عليه السلام أربعة وعشرون ابنا ذكورا كبارا وصغارا
قوله تعالى وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ذكر ذلك عن زكريا عليه السلام فوهبه الله يحيى وورث منه النبوة والعلم كما ورث سليمان داود والدليل على ذلك من الآية نفسها قوله ويرث من آل يعقوب ولكل سبط من أسباط يعقوب عصبات عظيمات ولا يرث يحيى منهم مالا فصح أنه إنما رغب في ولد يرث عنه وعن آل يعقوب النبوة فقط وكيف يتصور أن زكريا عليه السلام يرغب إلى الله تعالى في ولد يحجب عصبته عن ميراثه وهو عليه السلام وسائر الأنبياء عليهم السلام قد نزههم الله تعالى عن الرغبة في المال والدنيا فهذا يستحيل في حقه وحق أمثاله ومن الدليل على ذلك أنه عليه السلام إنما طلب الولد حين رأى ما أعطاه الله تعالى لمريم التي كانت في كفالته من الخوارق
قال الله تعالى كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء وعلى هذا المعنى دعا حينئذ أيضا فقال هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله
____________________
(2/565)
رب رضيا ومما يدل على ذلك أن الله وهبه ولدا حصورا لا يقرب النساء قال الله تعالى وحصورا ونبيا من الصالحين فلو كان المقصود وراثة المال كان إعطاؤه ولدا يكون له عقبا يصل إليهم بميراثه المالي لو كان يورث عنه المال ولا يجوز أن يكون قوله خفت الموالي من ورائي معناه خوفهم على إرث ماله لكونه لا ولد له لأنه عليه السلام لم يكن مولى وله عصبات وهم أسباط بني إسرائيل فمن أين يتوهم وراثة المال للموالي فبطل التعلق بهاتين الآيتين في وراثة المال وكذلك التعلق بهما أيضا في وراثة الخلافة كما ادعته الدودوية وهم طائفة زعموا أنه لا تجوز الخلافة إلا في ولد العباس بن عبد المطلب ولعلهم قالوا ذلك تقربا لبني العباس على أن بني العباس لم يرتضوا بهذه المقالة ولا ادعاها أحد منهم والعباس رضي الله عنه كان حيا عندما مات النبي صلى الله عليه وسلم ولا ادعى لنفسه شيئا من ذلك ولا من وراثة المال ولو كان المال مما يورث عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان له منه الربع والثمن ولم ينقل قط أنه وقع منه كلام في شيء من ذلك ولا توهمته نفسه وذهبت طائفة إلى أن الخلافة لا تجوز إلا في ولد علي رضي الله عنه
فهاتان الطائفتان حصرتها في بني هاشم وذهبت طائفة إلى أنها لا تجوز إلا في ولد جعفر بن أبي طالب أخي علي رضي الله عنهما ثم قصروها على عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب وقال بعض بني الحارث بن عبد المطلب إلا لبني المطلب خاصة ويراها في جميع ولد عبد المطلب وهم أربعة فقط لم يعقب عبد المطلب غيرهم وهم العباس والحارث وأبو طالب وأبو لهب وذهب رجل من أهل طبرية الأردن إلى أنه لا تجوز الخلافة إلا في بني أمية بن عبد شمس وله في ذلك تأليف مجموع ولعله عمل ذلك تقربا إلى بني أمية
وذكر ابن حزم أنه رأى كتابا مؤلفا لرجل من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحتج فيه لأن الخلافة لا تجوز إلا في ولد أبي بكر وعمر فقط وهذه كلها مقالات باطلة والصواب أنها لا تكون إلا في قريش ولا تختص بطائفة منهم لقوله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش ولا تجوز في حليف لهم ولا مولى ولا فيمن أبوه غير قرشي وأمه قرشية هذا مذهب أهل السنة والشيعة وجمهور
____________________
(2/566)
المرجئة وبعض المعتزلة
وذهبت الخوارج كلها وبعض المرجئة وبعض المعتزلة إلى أنها جائزة في كل من قام بالكتاب والسنة قرشيا كان أو عربيا أو عجميا أو ابن زنجية بغية
وقال ضرار بن عمرو الغطفاني إذا اجتمع قرشي وحبشي وكلاهما قائم بالكتاب والسنة فإن الواجب تقديم الحبشي لأنه أسهل لخلعه إذا حاد عن الطريقة وهذه كلها مذاهب باطلة إلا القول بأنها في قريش كلها كما اقتضاه نص النبي صلى الله عليه وسلم
واختلف القائلون باختصاصها بولد علي رضي الله عنه فطائفة قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على علي وأن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على ظلم علي وكتمان ذلك النص وهؤلاء هم الروافض
وطائفة قالوا لم ينص على علي لكنه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحقهم بالإمامة وهؤلاء هم الزيدية نسبوا إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم ثم اختلف الزيدية ففرقة قالوا إن الصحابة ظلموه فكفروا وفرقة قالوا لم يظلموه لكن طابت نفسه بتسليم حقه إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأنهما إماما هدى ووقف بعضهم في عثمان رضي الله عنه وتولاه بعضهم وقيل إنه قول الحسن بن صالح بن حي وهو خطأ لأن هشام بن عبد الحكم عميد الرافضة قال في كتابه المعروف بالميزان وقد ذكر ابن الحسن بن حي أن مذهبه كان أن الإمامة كانت في جميع ولد فهر بن مالك وفهر بن مالك هو قريشي وكل من قال إنه من قريش قال هم ولد فهر بن مالك وهشام بن الحكم أدرك الحسن بن حي وشاهده وكان جاره بالكوفة فهو من أعرف الناس به وأعلم به ممن نسبه إلى غير ذلك
قال ابن حزم والحسن بن صالح رحمه الله يحتج في كثير من مسائله بمعاوية وبابن الزبير رضي الله عنهم هذا مشهور عنه بروايات الثقات عنه
وجميع الزيدية لا يختلفون في أن الإمامة في جميع بني علي من خرج منهم يدعو إلى الكتاب والسنة وجب حمل السيف معه
وقالت الروافض بانتقالها من علي إلى الحسن ثم الحسين ثم زين العابدين ثم الباقر ثم الصادق وهذا مذهب جميع متكلميهم كهشام بن الحكم وهشام الجواليقي وداود الحواري وداود الرقي وعلي بن
____________________
(2/567)
منصور وعلي بن سم ومحمد بن جعفر المعروف بشيطان الطاق وأبي علي البكال تلميذ هشام بن الحكم وأبي مالك الحضرمي وغيرهم
وبعد الصادق طائفة إسماعيل وقيل محمد بن جعفر وقيل جعفر بن حي
وقال جمهورهم موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم الحسن بن محمد ثم مات الحسن عن غير عقب
وقال جمهورهم ولد له ولد أخفاه وقيل ولد بعد موته من جارية اسمها صقيل وقيل اسمها نرجس وقيل سوسن وكان موت الحسن هذا سنة ستين ومائتين بسر من رأى ولم يثبت له ولد بعد أن تعصب لكل من الجانبين قوم وأخذ ميراثه أخوه جعفر والذين قالوا إسماعيل قالوا بعده إلى ابنه محمد وأنه صاحب الزمان وإليه تنسب الإسماعيلية على ما ذكره القاضي أبو بكر وطائفة وقالوا إنها بعد الحسن بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد بن الحنفية ومن هذه الطائفة السيد الحميري وكثير غيره وكانوا يقولون إن ابن الحنفية حي بجبل رضوى وهذه الطائفة أصلهم المختار بن أبي عبيد
وكل هذه تخاليط وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي أنت مني بمنزلة هارون من موسى يعني في القرابة والاستخلاف في تلك السفرة وأما بعد الموت فالذي خلف موسى عليه السلام فتاه يوشع كما أن النبي صلى الله عليه وسلم خلفه صاحبه في الغار كما صاحب موسى فتاه في طلب الخضر عليه السلام فسفر موسى في طلب الخضر كسفر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم في سفر آخر جماعة وقد تأخر علي رضي الله عنه عن بيعة أبي بكر رضي الله عنهما ستة أشهر وما أكرهه أبو بكر ثم بايعه طائعا مختارا ثم بايع عمر رضي الله عنه طائعا مختارا وأنكحه ابنته من فاطمة ثم قبل إدخاله في الشورى فلو اعتقد في غيره ضلالا أو كفرا ما فعل ذلك
وهذا أمر أدى أبا كامل وهو من أئمة الروافض إلى تكفير علي رضي الله عنه لأنه زعم أنه أعان الكفار على كفرهم وأيدهم على كتمان الديانة وعلى ستر ما لا يتم الدين إلا به وهذه الطائفة مع قبحهم وجرأتهم جاهلون بحال علي رضي الله عنه وكيف يظن به أنه أمسك عن ذكر النص عليه خوف الموت وهو الأسد شجاعة
قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول من سب أبا بكر
____________________
(2/568)
وعمر جلد ومن سب عائشة رضي الله عنها قتل لأن الله تعالى يقول فيها يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين فمن رماها فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قتل قال ابن حزم هذا قول صحيح قال محمد بن سهل سمعت علي بن المديني يقول دخلت على أمير المؤمنين فقال لي أتعرف حديثا مسندا فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم فيقتل قلت نعم فذكرت له حديث عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل عن عروة بن محمد عن رجل من بلقين قال كان رجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم من يكفيني عدوا لي فقال خالد بن الوليد أنا فبعثه إليه فقتله فقال أمير المؤمنين ليس هذا مسندا هو عن رجل فقلت يا أمير المؤمنين بهذا يعرف هذا الرجل وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم وهو معروف فأمر لي بألف دينار قال ابن حزم هذا صحيح ندين به كفر من سب الرسول صلى الله عليه وسلم
قال ابن حزم كل كفر شرك وكل شرك كفر وهما اسمان شرعيان أوقعهما الله على معنى واحد ونقلهما عن موضوعهما في اللغة إلى كل من أنكر شيئا من دين الإسلام يكون بإنكاره معاندا للرسول صلى الله عليه وسلم بعد بلوغ النذارة
احتج المكفرون للشيعة والخوارج بتكفيرهم لأعلام الصحابة رضي الله عنهم وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في قطعه لهم بالجنة
وهذا عندي احتجاج صحيح فيمن ثبت عليه تكفير أولئك
وأجاب الآمدي بأنه إنما يلزم أن لو كان المكفر يعلم بتزكية من كفره قطعا على الإطلاق إلى مماته بقوله صلى الله عليه وسلم أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة إلى آخرهم وإن كان هذا الخبر ليس متواترا لكنه مشهور مستفيض وعضده إجماع الأمة على إمامتهم وعلو قدرهم وتواتر مناقبهم أعظم التواتر الذي يفيد تزكيتهم فبذلك نقطع بتزكيتهم على الإطلاق إلى مماتهم لا يختلجنا شك في ذلك
وأما اشتراط علم المكفر نفسه بذلك فهو محل النظر الذي أشرنا إليه يحتمل أن يقال إنه لا بد منه تكذيبه الأخبار بأنهم في الجنة وهذا هو الذي بنى عليه الأصوليون وهو عمدة القول في التكفير لكن عندي في هذه المسألة الخاصة شيء آخر وهو قوله صلى الله عليه
____________________
(2/569)
وسلم الثابت عنه في صحيح مسلم من قال لأخيه المسلم يا كافر فقد باء بها أحدهما ومن رمى رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه فهؤلاء الذين نتحقق منهم أنهم يرمون أبا بكر في الكفر أو أنه عدو الله كفار بمقتضى هذا الحديث وإن كان تكفيرهم أبا بكر وحده لم يلزم عنه تكذيبهم في أنفسهم للشارع ولكن نحن نحكم عليهم بالكفر بمقتضى إخبار الشارع وهذه تشبه ما قاله الأصحاب من المتكلمين لما فسروا الكفر بأنه الجحود وكفروا بأشياء ليس فيها جحود كالسجود للصنم ونحوه وأجابوا بقيام الإجماع على الحكم على فاعل ذلك بالكفر فكذلك أقول هنا هذا الحديث الصحيح الذي ذكرته قائم على الحكم على مكفر هؤلاء المؤمنين بالكفر وإن كان المكفر معتقدا كاعتقاد الساجد للصنم أو ملقي المصحف في القاذورات ونحوه لا ينجيه اعتقاده للإسلام من الحكم بكفره
فالجواب الذي ذكره الآمدي وغيره هم معذورون فيه لأنهم نظروا إلى حقيقة الكفر والتكذيب وأنه لم يوجد في المكفر
وفاتهم هذا الحديث الذي استدللت أنا به والمأخذ الذي أبديته والعلم عند الله سبحانه وتعالى
واعلم أن سبب كتابتي لهذا أنني كنت بالجامع الأموي ظهر يوم الاثنين سادس عشر جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وسبعمائة فأحضر إلي شخص شق صفوف المسلمين في الجامع وهم يصلون الظهر ولم يصل وهو يقول لعن الله من ظلم آل محمد ويكرر ذلك فسألته من هو فقال أبو بكر قلت أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال أبو بكر وعمر وعثمان ويزيد ومعاوية فأمرت بسجنه وجعل غل في عنقه ثم أخذه القاضي المالكي فضربه وهو مصر على ذلك وزاد فقال إن فلانا عدو الله وشهد عندي عليه بذلك شاهدان وقال إنه مات على غير الحق وأنه ظلم فاطمة ميراثها وأنه يعني أبا بكر كذب النبي صلى الله عليه وسلم في منعه ميراثها وكرر عليه المالكي الضرب يوم الاثنين المذكور ويوم الأربعاء ثامن عشر الشهر المذكور وهو مصر على ذلك
ثم أحضروه يوم الخميس تاسع عشر الشهر بدار العدل وشهد عليه في وجهه فلم ينكر
____________________
(2/570)
ولم يقل ولكن صار كل ما سئل يقول إن كنت قلت فقد علم الله تعالى وكرر السؤال عليه مرات وهو يقول هذا الجواب ثم أعذر إليه فلم يبد دافعا ثم قيل له تب فقال تبت عن ذنوبي وكرر عليه الاستتابة وهو لا يزيد في الجواب على ذلك البحث في المجلس في كفره وفي قبول توبته ببعض ما تضمنته هذه الكراسة فحكم القاضي المالكي بقتله فقتل
وسهل عندي قتله ما ذكرته من هذا الاستدلال فهو الذي انشرح صدري لكفره بسبه ولقتله بعدم توبته وهو منزع لم أجد غيري سبقني إليه إلا ما سيأتي في كلام الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في الوجه الثالث من الكلام على هذا الحديث ونقله عن مالك أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين وإن كان النووي قال إنه ضعيف وأن الصحيح أن الخوارج لا يكفرون لكني أنا لا أوافق النووي على ذلك بل من ثبت عليه منهم أنه يكفر من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة من العشرة وغيرهم فهو كافر ولا يلزمني طرد ذلك فيمن لم يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم من أعلام الأمة الذين قام الإجماع على إمامتهم كعمر بن عبد العزيز والشافعي ومالك وأضرابهم وإن كان القلب يميل إلى إلحاقهم بهم لا شك عندنا في إيمانهم فمن كفرهم رجع عليه بكفره لكن نحمد الله لم نعلم أحدا كفرهم وإنما ذكرناهم على سبيل المثال للحاجة إلى بيان الحكم وهو أجل في أعيننا وأوقر عندنا من كفرهم إلا على سبيل التعظيم
والصحابة أعظم منهم والمشهود لهم بالجنة منهم أعظم وأعظم وأعظم ولا أستبعد أن أقول الطعن في هؤلاء طعن في الدين أعني الشافعي ومالكا وأضرابهما فضلا عن الصحابة رضي الله عنهم فهؤلاء إجماع الناس عليهم يلحقهم بمن ورد الحديث فيهم وأما سائر المؤمنين ممن حكم له بالإيمان فلا يلزمني تكفير من يرمي واحدا منهم بالكفر لعدم القطع بإيمانه الباطن الذي أشير إليه بالحديث بقوله إن كان كما قال وإلا رجعت عليه وإنما نقطع بكونه ليس كما قال فيمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم ومن أجمع عليه المسلمون فهذا هو المأخذ الذي ظهر لي في قتل هذا الرافضي وإن كنت لم أتقلده لا فتوى ولا حكما وضممت إليه قوله صلى الله عليه وسلم ولعن المؤمن كقتله مع تحققنا إيمان أبي
____________________
(2/571)
بكر رضي الله عنه
وإن كان اللعن لا يوجب قصاصا لكن القتل أعم من القصاص لكن هذا لا ينهض في الحجة كالحديث الأول وسنتكلم على معنى التشبيه فيه وانضم إلى احتجاجي بالحديث المتقدم مجموع الصورة الحاصلة من هذا الرافضي من إظهاره ذلك في ملأ من الناس ومجاهرته وإصراره عليه ونعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان حيا لآذاه ذلك وما فيه من إعلاء البدعة وأهلها وغمص السنة وأهلها وهذا المجموع في غاية البشاعة وقد يحصل بمجموع أمور حكم لا يحصل لكل واحد منهما وهذا معنى قول مالك يحدث للناس أحكام بقدر ما يحدث لهم من الفجور فلا نقول إن الأحكام تتغير بتغير الزمان بل باختلاف الصورة الحادثة فإذا حدثت صورة على صفة خاصة علينا أن ننظر فيها فقد يكون مجموعها يقتضي الشرع له حكما ومجموع هذه الصورة يشهد له قوله تعالى وطعنوا في دينكم فهذا ما انشرح صدري له بقتل هذا الرجل
وأما السب وحده ففيه ما قدمته وما سأذكره وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم أمر عظيم إلا أنه ينبغي ضابط فيه فإنه قد يقال إن فعل المعاصي كلها يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها
وأيضا فلو سب واحد من الأعراب الصحابة الذين أسلموا بعد الفتح لأمر خاص دنيوي بينه وبينه يبعد دخوله في ذلك فليس كل من سب لأي صحابي كان آذى النبي صلى الله عليه وسلم ولم أجد في كلام أحد من العلماء أن سب الصحابي يوجب القتل إلا ما حكيناه من إطلاق الكفر من بعض أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة ولم يصرحوا بالقتل ومما حكي عن بعض الكوفيين وغيرهم في القتل على خلاف ما قاله ابن المنذر وإلا ما يقوله بعض الحنابلة رواية عن أحمد وعندي أنهم غلطوا عليه فيها لأنهم أخذوها من قوله شتم عثمان زندقة وعندي أنه لم يرد بذلك كفر الشاتم بشتمه لعثمان ولو كان كذلك لم يقل زندقة لأنه أظهره ولم يبطنه وإنما أراد أحمد ما روي عنه في موضع آخر أنه قال من طعن في خلافة عثمان فقد طعن في المهاجرين والأنصار
____________________
(2/572)
يعني أن عبد الرحمن بن عوف أقام ثلاثة أيام يطوف على المهاجرين والأنصار ويخلو بكل واحد منهم رجالهم ونسائهم ويستشيره فيمن يكون خليفة حتى أجمعوا على عثمان فحينئذ تابعه
فمعنى قول أحمد أنه من شتم فظاهر قوله شتم لعثمان وباطنه تخطئة لجميع المهاجرين والأنصار وتخطئتهم جميعهم كفر فيكون زندقة بهذا الاعتبار فلا يؤخذ منه أن شتم أبي بكر وعمر كفر هذا لم ينقل عن أحمد أصلا ولا نقلا وأيضا نقول إن أحمد بهذا يقدم على قتل ساب عثمان فالذي خرج عن أحمد من أصحابه رواية في ساب أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة لم يصنع شيئا وقد قال تعالى إن ذلكم كان يؤذي النبي وقد ذكرت في كتابي المسمى بالسيف المسلول أن الضابط أن ما قصد به أذى النبي صلى الله عليه وسلم فهو موجب للقتل كعبد الله بن أبي وما لم يقصد به أذى النبي صلى الله عليه وسلم لا يوجب القتل كمسطح وحمنة
أما سب النبي صلى الله عليه وسلم فالإجماع منعقد على أنه كفر والاستهزاء به كفر قال الله تعالى أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم بل لو لم تستهزئوا قال أبو عبيد القاسم بن سلام فيمن حفظ شطر بيت مما هجي به النبي صلى الله عليه وسلم فهو كفر وقد ذكر بعض من ألف في الإجماع إجماع المسلمين على تحريم ما هجي به النبي صلى الله عليه وسلم وكتابته وقراءته وتركه متى وجد دون محوه
فصل قال ابن المنذر لا أعلم أحدا يوجب القتل بمن سب من بعد النبي صلى الله عليه وسلم
فصل روى الترمذي في جامعه كما قرأته على الشيخ أبي بكر عبد الله بن علي الصنهاجي قال أنا أبو بكر محمد بن أحمد القسطلاني أنا أبو الحسن علي بن أبي الكرم بن البناء أنا عبد الملك الكروخي أنا أبو عامر محمود بن القاسم الأزدي وأبو بكر أحمد بن عبد الصمد الغورجي أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحيوي أنا أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي رحمه الله قال باب فيمن يسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا
____________________
(2/573)
محمود بن غيلان أنا أبو داود أنا شعبة عن الأعمش قال سمعت ذكوان أنا صالح عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وبالإسناد إلى الترمذي أنبأ الحسن بن علي ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه
وبه إلى الترمذي ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ثنا عبيدة بن أبي رائطة عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن مغفل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
قلت وقد رواه عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد محمد بن سعد العوفي كما رواه محمد بن يحيى الذهلي وعبد الرحمن بن زياد ذكره ابن حبان في الثقات وعبيدة بفتح العين بن أبي رائطة وثقه ابن معين وذكره ابن حبان في الثقات فرواة الحديث المذكور كلهم ثقات فيحسن الاحتجاج به
وقوله فيه وفي الذي قبله أصحابي الظاهر أن المراد بهم من أسلم قبل الفتح وأنه خطاب لمن أسلم بعد الفتح
ويرشد إليه قوله لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه مع قوله تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى فلا بد لنا من تأويل بهذا أو بغيره وليكون المخاطبون غير الأصحاب الموصى بهم كبار الأصحاب وإن شمل اسم الصحبة للجميع ويشير إليه الحديث الآخر هل أنتم تاركون لي صاحبي يعني أبا بكر وعمر فاسم الصحبة يعم كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم تسليما وكبارهم الذين تقدموا قبل الفتح فأمر المتأخرين التأدب معهم وسمعت شيخنا الشيخ أبا العباس أحمد بن عطاء يذكر في مجلسه في الوعظ تأويلا آخر يقول إن
____________________
(2/574)
النبي صلى الله عليه وسلم له تجليات يرى فيها من بعده فيكون هذا الكلام منه صلى الله عليه وسلم في تلك التجليات خطابا لمن بعده في حق جميع الصحابة الذين قبل الفتح وبعده وهذه طريقة صوفية وهو كان متكلم الصوفية على طريقة الشاذلية فإن ثبت ما قاله فالحديث شامل لجميع الصحابة وإلا فهو في حق المتقدمين قبل الفتح ويدخل من بعدهم في حكمهم فإنهم بالنسبة إلى من بعدهم كالذين من قبلهم بالنسبة إليهم وعلى كلا التقديرين فالظاهر أن هذه الحرمة ثابتة لكل واحد منهم ويحتمل على بعد أن يقال إنما يثبت ذلك لمجموعهم لأجل صيغة الجمع واستغراق العموم
وينبني على هذا البحث سب بعض الصحابة فإن سب الجميع لا شك أنه كفر وهكذا إذا سب واحدا من الصحابة حيث هو صحابي لأن ذلك استخفاف بحق الصحبة ففيه تعرض إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك في كفر الساب
وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول الطحاوي وبغضهم كفر فإن بغض الصحابة بجملتهم لا شك أنه كفر وأما إذا سب صحابيا لا من حيث كونه صحابيا بل لأمر خاص به وكان ذلك الصحابي مثلا ممن أسلم من قبل الفتح ونحن نتحقق فضيلته كالروافض الذين يسبون الشيخين وإنهما أفضل الصحابة وإنهما السمع والبصر من النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الترمذي روينا في كتابه بالإسناد المتقدم إليه
قال حدثنا قتيبة ثنا ابن أبي فديك عن عبد العزيز بن المطلب عن أبيه عن جده عبد الله بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر فقال هذان السمع والبصر فقد ذكر القاضي حسين في كفر من سب الشيخين وجهين ووجه التردد ما قدمناه فإن سب الشخص المعين قد يكون لأمر خاص به وقد يبغض الشخص الشخص لأمر دنيوي وما أشبه ذلك فهذا لا يقتضي تكفيرا ولا شك أنه لو أبغض واحدا منهما لأجل صحبته فهو كفر بل من دونهما في الصحبة إذا أبغضه لصحبته كان كافرا قطعا
بقي لنا هذه المسألة بغض الرافضي لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ليس لأمر دنيوي من معاملة أو مشاركة أو نحوها وإلا كان فيهما ما يقتضي ذلك ولكن من جهة
____________________
(2/575)
الرفض وتقديمه عليا واعتقاده بجهله أنهما ظلماه وهما مبرآن عن ذلك فهو يعتقد بجهله أن ينتصر لعلي رضي الله عنه لقرابته النبي صلى الله عليه وسلم فلفظ الحديث لم يقتض كل فرد والمعنى المعلل به لم يقتض كل فرد
فهذا وجه التردد والحديث الذي يروى من سب صحابيا فاجلدوه إن صح فهو نص في الواحد من الصحابة والجلد لا شك فيه كبيرا كان ذلك الصحابي أو صغيرا وإن كان سبه لعينه وأمر خاص به لا يعود على الدين بنقص وأما الرافضي فإنه يبغض أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لما استقر في ذهنه بجهله وما نشأ عليه من الفساد عن اعتقاده ظلمهما لعلي وليس كذلك ولا علي يعتقد ذلك فاعتقاد الرافضي ذلك يعود على الدين بنقص لأن أبا بكر وعمر هما أصل بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهذا مأخذ التكفير ببغض الرافضة لهما وسبهم لهما وقد رأيت في الفتاوى البديعية من كتب الحنفية قسم الرافضة إلى كفار وغيرهم وذكر الخلاف في بعض طوائفهم وفيمن أنكر إمامة أبي بكر وعمر أن الصحيح أنه يكفر ولا شك أنه إنكار الإمامة دون السب
ورأيت في المحيط من كتب الحنفية عن محمد لا تجوز الصلاة خلف الرافضة ثم قال لأنهم أنكروا خلافة أبي بكر وقد أجمعت الصحابة على خلافته
وفي الخلاصة من كتبهم في الأصل ثم قال وإن أنكر خلافة الصديق فهو كافر
وفي تتمة الفتاوى والرافضي الغالي الذي ينكر خلافة أبي بكر يعني لا تجوز الصلاة خلفه
وفي الغاية للسروجي رحمه الله وفي المرغيناني وتكره الصلاة خلف صاحب هوى وبدعة ولا تجوز خلف الرافضي ثم قال وحاصله إن كان هوى يكفر به لا تجوز وإلا تجوز وتكره وفي شرح المختار لابن بلدجي من الحنفية وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفرا لكن يضلل فإن عليا رضي الله عنه لم يكفر شاتمه حتى لم يقتله
وقال جلال الدين الخياري في عمر رضي الله عنه من ظن أنه كان يغصب الحق أهله ويستولي على ما كان غيره أحق به ظلما منه وعتوا ويزوج ابنته قهرا أبى أو شاء فقد أصر بالقتل إذ لا داء أعظم من العناد وفي الفتاوى البديعية من كتب الحنفية من أنكر إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهو كافر وقال بعضهم هو مبتدع والصحيح
____________________
(2/576)
أنه كافر
وأما أصحابنا فقد قال القاضي حسين في تعليقه في باب اختلاف نية الإمام والمأموم ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم يكفر بذلك ومن سب صحابيا فسق وأما من سب الشيخين أو الحسين ففيه وجهان أحدهما يكفر لأن الأمة اجتمعت على إمامتهم
والثاني يفسق ولا يكفر
ولا خلاف أن من لا يحكم بكفره من أهل الأهواء لا يقطع بتخليدهم في النار وهل يقطع بدخولهم النار وجهان قال القاضي إسماعيل المالكي إنما قال مالك في القدرية وسائر أهل البدع يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا لأنه من الفساد في الأرض كما قال في المحارب وفساد المحارب في مصالح الدنيا وإن كان يدخل في أمور الدين من سبل الحج والجهاد وفساد أهل البدع معظمه على الدين وقد يدخل في أمر الدنيا بما يلقون بين المسلمين من العداوة واختلف قول مالك والأشعري في التكفير والأكثر على ترك التكفير قال القاضي بأن الكفر خصلة واحدة وهو الجهل بوجود البارئ تعالى قال وسمته الرافضة بالشرك وإطلاقه اللعنة عليهم وكذلك الخوارج وغيرهم من أهل الأهواء فقد يحتج بها من يقول بالتكفير وقد يجيب الآخر عنها بأنه قد ورد مثل هذه الألفاظ في الحديث في غير الكفر على طريق التغليظ وكفر دون كفر وإشراك دون إشراك
وقوله في الخوارج اقتلوهم عاد يقتضي الكفر والآخر يقول إنه حد لا كفر لخروجهم على المسلمين وبغيهم عليهم وذكر عام وسببه القتل وحكمه لا للمقتول قال جهم ومحمد بن شبيب الكفر بالله الجهل به لا يكفر أحد بغير ذلك
وقال أبو الهذيل كل متأول كان تأويله تشبيها لله بخلقه وتجويرا له في فعله وتكذيبا بخبره فهو كافر وكل من أثبت شيئا قديما لا يقال له الله فهو كافر وقول بعض المتكلمين إن كان مما عرف الأصل وبنى عليه وكان فيما هو من أوصاف الله فهو كافر وإن لم يكن من هذا الباب فهو فاسق إلا أن يكون ممن لم يعرف الأصل فهو مخطئ غير كافر ووقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب أو خطأ حديثا مجمعا على نقله مقطوعا به مجمعا على ظاهره كتكفير الخوارج بإبطال الرجم وكذلك نقطع بتكفير كل قائل
____________________
(2/577)
قال قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة كقول الكاملية من الرافضة بتكفير جمع الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم أبطلوا الشريعة بانقطاع نقلها وإلى هذا والله أعلم أشار مالك في أحد قوليه يقتل من كفر الصحابة أما من أنكر ما عرف بالتواتر ولا يرجع إلى إنكار قاعدة من الدين كإنكار غزوة تبوك أو مؤتة أو وجود أبي بكر وعمر وقتل عثمان وخلافة علي مما علم بالنقل ضرورة وليس في إنكاره جحد شريعته فلا سبيل إلى تكفيره بجحد ذلك إذ ليس فيه أكثر من المباهتة كإنكار هشام وعباد وقعة الجمل ومحاربة علي من خالفه فإن ضعف ذلك من جهة تهمة الناقلين وهم المسلمون أجمع فتكفيره لسريانه إلى إبطال الشريعة
قال القاضي أبو بكر الكفر بالله الجهل بوجوده ولا يكفر بقول ولا رأي إلا إذا أجمع المسلمون أنه لا يوجد إلا من كافر ويقوم دليل على ذلك فيكفر ليس لقوله أو فعله لكن لما يقارنه من الكفر فالكفر بالله لا يكون إلا بأحد ثلاثة أمور الجهل بالله تعالى
الثاني أن يأتي مما لا يكون إلا من كافر كالسجود للصنم والمشي إلى الكنائس بالزنار مع أهلها أو في اعتقادهم أو تكرر ذلك القول لا يمكن معه العلم بالله ومن ادعى الإلهية أو الرسالة أو النبوة أو أنكر أن يكون الله خالقه أو ربه فلا خلاف في كفره وإذا تاب تقبل توبته
قال القاضي عياض لكنه لا يسلم من عظيم النكال ولا يرقه عن شديد العقاب ليكون زجرا لمثله والسكران كالصاحي وأما المجنون والمعتوه فما أعلم أنه قال في غمرته وذهاب تميزه بالكلية ولا نظر فيه وما فعله في حال ميزه وإن لم يكن معه عقله وسقط تكليفه أدب على ذلك لينزجر عنه كما يؤدب على قبائح الأفعال حتى ينكف عنه كما تؤدب البهيمة على سوء الخلق حتى تراض
عن عون بن عبد الله ليعظم أحدكم ربه أن يذكر اسمه في كل شيء وكان بعض المشايخ قلما يذكر اسم الله إلا فيما يتصل بطاعته ويقول جزيت خيرا وقلما يقول جزاك الله إعظاما لاسم الله أن يمتهن في غير قربة وكان الإمام أبو بكر الشاشي يعيب على أهل الكلام كثرة خوضهم فيه تعالى وفي صفاته إجلالا لاسمه تعالى ويقول هؤلاء يتمندلون بالله جل وعز
وينزل الكلام في هذا
____________________
(2/578)
الباب تنزيله في باب سباب النبي صلى الله عليه وسلم يعني ما جعل سبا هناك فهو سب هنا أيضا
قال القاضي عياض في سب الصحابة قد اختلف العلماء في هذا فمشهور مذهب مالك في هذا الاجتهاد والأدب الموجع
قال مالك رحمه الله في من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل وإن سب أصحابه أدب
وقال القاضي أيضا من شتم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبي بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال كانوا على ضلال أو كفر قتل وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالا شديدا
قلت قوله ومن سب أصحابه أدب قد بينا ثبوت ذلك في حق الواحد منهم ومحله إذا كان الأمر خاصا به
وقوله في القتل إذا نسبهم إلى ضلال وكفر حسن أنا أوافقه عليه إذا نسبهم إلى الكفر لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لكل منهم بالجنة وإن نسبهم إلى الظلم دون الكفر كما يزعمه بعض الرافضة فهذا محل التردد لأن القطع بالكفر إذا كان من جهة النبي صلى الله عليه وسلم أو من جهة نصرتهم الدين أو نحو ذلك لأنه من جهة الدين وعموم المسلمين وهذا زعم الرافضة لبعض دون بعض لأمر يتعلق بخصوص ذلك البعض ويرون أن ذلك من الدين لا تنقيص فيه
ولا شك أن الروافض ينكرون ما علم بالضرورة ويفترون على من علمنا بالضرورة براءتهم مما افتروا عليهم به ولكن السر في تكفير منكر ما علم بالضرورة تضمنه لتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم
والروافض هنا لا يقولون ولا هو مضمون قولهم ولكنهم يدعون أن الذين يقولون هم هو الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم
ونحن نكذبهم في ذلك ونعلم مباهتتهم ولكن التكفير فوق ذلك فلم نتحقق إلى الآن من مالك ما يقتضي قتله
وقال ابن حبيب من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدبا شديدا ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى يموت ولا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه وسلم
قال سحنون من كذب أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عليا أو عثمان أو غيرهما يوجع ضربا
وحكى ابن أبي زيد عن سحنون من قال في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إنهم كانوا
____________________
(2/579)
على ضلال وكفر قتل ومن شتم غيرهم من الصحابة بمثل هذا نكل النكال الشديد
قلت قتل من كفر الأربعة ظاهر لأنه خلاف إجماع الأمة إلا الغلاة من الروافض فلو كفر الثلاثة ولم يكفر عليا لم يصرح سحنون فيه بكلام فكلام مالك المتقدم أصرح فيه
وروي عن مالك رضي الله عنه من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل
وقال أحمد بن حنبل فيمن سب الصحابة أما القتل فأجبن عنه ولكن أضربه ضربا نكالا
وقال أبو يعلى الحنبلي الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة إن كان مستحلا لذلك كفر وإن لم يكن مستحلا فسق ولم يكفر قال وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سب الصحابة وكفر الرافضة
وقال محمد بن يوسف الفريابي وسئل عن من شتم أبا بكر قال كافر قيل يصلى عليه قال لا
وممن كفر الرافضة أحمد بن يونس وأبو بكر بن هانئ وقالا لا تؤكل ذبائحهم لأنهم مرتدون وكذا قال عبد الله بن إدريس أحد أئمة الكوفة ليس للرافضي شفعة لأنه لا شفعة إلا لمسلم
وقال أحمد في رواية أبي طالب شتم عثمان زندقة وأجمع القائلون بعدم تكفير من سب الصحابة أنهم فساق وممن قال بوجوب القتل على من سب أبا بكر وعمر بن عبد الرحمن بن أبزى الصحابي
فصل أخبرنا الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي رحمه الله قراءة عليه وأنا أسمع قال أخبرنا الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل بن عبد الله الدمشقي سماعا قال أخبرنا قال أخبرنا الحداد قال أخبرنا الحافظ أبو نعيم قال حدثنا إبراهيم بن حمزة ثنا أبو عبدة محمد بن أحمد بن المؤمل ح قال أبو نعيم وحدثنا إبراهيم بن عبد الله بن إسحاق ثنا محمد بن إسحاق السراج قالا ثنا محمد بن عثمان بن كرامة ثنا خالد بن مخلد عن سليمان بن بلال عن شريك بن عبد الله بن أبي يمن عن عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قال من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب وبالإسناد إلى أبي نعيم قال حدثنا أبو أحمد محمد بن إبراهيم القاضي قال حدثنا الحسن بن علي بن نصر قال قرئ على أبي موسى محمد بن المثنى قال الحسن وحدثنا الحسن بن سلمة بن أبي كبشة أن أبا عامر العقدي حدثهما
____________________
(2/580)
قال ثنا عبد الواحد بن ميمون عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال من آذى لي وليا فقد استحل محاربتي
وبه إلى أبي نعيم قال حدثنا سليمان بن أحمد ثنا يحيى بن أيوب ثنا سعيد بن أبي مريم ثنا نافع بن يزيد ثنا عياش بن عباس عن عيسى بن عبد الرحمن عن زيد بن أسلم عن أبيه قال وجد عمر بن الخطاب معاذ بن جبل رضي الله عنهما قاعدا عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي فقال ما يبكيك فقال يبكيني شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن يسير الرياء شرك وإن من عادى أولياء الله فقد بارز الله تعالى بالمحاربة هذا أيضا يصلح لأن يكون مستندا لأنا نتحقق ولاية أبي بكر رضي الله عنه وكذا عمر وكذا عثمان وكذا علي وسائر العشرة فمن آذى واحدا فقد بارز الله تعالى بالمحاربة فلو قيل بأنه يجب عليه ما يجب على المحارب لم يبعد ولا يلزم هذا في غيرهم من المسلمين إلا فيمن تحققت ولايته بإخبار الصادق ويدخل المؤذي لهؤلاء في قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية إلا أن يقال إن الذين يحاربون الله في الآية معهودون ألا ترى قوله فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله لا يثبت لهم حكم المحاربين الذين في سورة المائدة يدل على أن هذا من أعظم الذنوب حتى استحق به محاربة الله ومبارزته سبحانه بالحرب
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قطع لسان عبيد الله بن عمر إذ شتم المقداد بن الأسود فكلم في ذلك فقال دعوني أقطع لسانه حتى لا يشتم بعد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
وفي كتاب ابن شعبان من قال في واحد منهم إنه ابن زانية وأمه مسلمة حد عند بعض أصحابه حدين حدا له وحدا لأمه ولا أجعله كقاذف الجماعة في كلمة الفصل هذا على غيره ولقوله صلى الله عليه وسلم من سب أصحابي فاجلدوه ومن قذف أم أحدهم وهي كافرة حد حد الفرية لأنه سب له وإن كان أحد من ولد من ولد هذا الصحابي حيا قام بما يجب له وإلا فمن قام به من المسلمين كان على الإمام قبول قيامه قال وليس هذا كحقوق غير الصحابة لحرمة هؤلاء نبيهم
____________________
(2/581)
صلى الله عليه وسلم ولو سمعه الإمام وأشهد عليه كان ولي القيام به
ومن سب عائشة رضي الله عنها ففيه قولان أحدهما يقتل
والآخر كسائر الصحابة يجلد حد المفتري
قال وبالأول أقول
وروى أبو مصعب عن مالك من سب آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم يضرب ضربا وجيعا ويشهر ويحبس طويلا حتى تظهر توبته لأنه استخفاف بحق الرسول صلى الله عليه وسلم
وأفتى أبو مطرف فيمن أنكر تحليف امرأة بالليل وقال لو كانت بنت أبي بكر ما حلفت إلا بالنهار بالأدب الشديد لذكر هذا لابنة أبي بكر في مثل هذا
وقال ابن عمران فيمن قال لو شهد على أبي بكر الصديق له إن كان في مثل ما يجوز فيه الشاهد الواحد فلا شيء عليه وإن كان أراد غير هذا فيضرب ضربا يبلغ به حد الموت وذكروها رواية قال القاضي عياض حدثنا أحمد بن محمد بن علبون عن أبي ذر إجازة
أنا الدارقطني وأبو عمرو بن حيوة ثنا محمد بن نوح ثنا عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن زبالة ثنا عبيد الله بن موسى بن جعفر عن علي بن موسى عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من سب نبيا فاقتلوه ومن سب أصحابي فاضربوه وفي حديث أبي برزة كنت يوما عند أبي بكر فغضب على رجل وحكى القاضي إسماعيل وغيره في هذا الحديث أنه سب أبا بكر ورواه النسائي أتيت أبا بكر وقد أغلظ لرجل فرد عليه فقلت يا خليفة رسول الله دعني أضرب عنقه قال اجلس فليس ذلك لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما وفي رواية أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه وفي رواية من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه قال النووي هذا الحديث مما عده العلماء من المشكلات من حيث إن ظاهره غير مراد وذلك أن مذهب الحق أنه لا يكفر المسلم بالمعاصي كالقتل والزنا وكذا قوله لأخيه كافر من غير اعتقاد بطلان الإسلام إذا عرف ما ذكرناه فقيل في تأويل الحديث أوجه أحدها أنه محمول على المستحل لذلك وهذا يكفر فعلى هذا معنى باء
____________________
(2/582)
بها أي بكلمة الكفر وكذا حار عليه أي رجعت عليه كلمة الكفر فباء وحار بمعنى واحد
الوجه الثاني رجعت إليه نقيصته لأخيه ومعصيته كبيرة
الثالث أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين وهذا الوجه نقله القاضي عياض عن الإمام مالك وهو ضعيف لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع
الوجه الرابع أن معنى ذلك يئول إلى الكفر وذلك أن المعاصي كما قالوا يريد الكفر ويخاف على المكثر منها أن تكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر
ويؤيد هذا الوجه ما جاء في رواية أبي عوانة فإن كان كما قال وإلا فقد باء بالكفر وفي رواية إذا قال لأخيه يا كافر فقد وجب الكفر على أحدهما
والوجه الخامس معناه فقد رجع عليه تكفيره فليس الراجع عليه حقيقة الكفر بل التكفير لأنه جعل أخاه المؤمن كافرا فكأنه كفر نفسه إما لأنه كفر من هو مثله وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام
والله أعلم
قلت كون الخوارج لا يكفرون لست موافقا عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه في صحيح مسلم من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة
وقد رويت آثار تدل على أنهم هم الذين قاتلهم علي وهم الخوارج وهم ومن كان مثلهم بهذه المنزلة يجوز قتلهم بهذا الحديث وإن ادعى الإسلام ولا يترك ما عندنا إلى اعتقاده ولا يلتفت إليه بنص هذا الحديث فإن هذا نص في القتل وأما مجرد سب أبي بكر وغيره من الصحابة فلم يجئ قط ما يقتضي قتل قائله ولا كفره والحديث الذي يروى من سب صحابيا فاجلدوه إن صح فمعناه صحيح لأن واجبه التعزير وهو يقتضي أنه لا يقتضي كفرا ولا قتلا
وحديث أبي برزة الذي في سنن أبي داود والنسائي قال كنت عند أبي بكر فتغيظ على رجل فقلت يا خليفة رسول الله
____________________
(2/583)
تأذن لي أن أضرب عنقه قال فأذهبت كلمتي غيظه فقام فدخل فأرسل إلي فقال ما الذي قلت آنفا قلت أتأذن لي أن أضرب عنقه قال أكنت فاعلا لو أمرتك قلت نعم قال لا والله ما كانت لبشر بعد محمد صلى الله عليه وسلم
فهذا الحديث يدل على أن إغضاب النبي صلى الله عليه وسلم يوجب القتل دون غيره من الناس وكذلك أذاه يوجب القتل دون غيره من الناس بشرط أن يكون أذاه مقصودا وسواء أكان الأذى خفيفا أم غير خفيف فلا شيء من قصد أذى النبي صلى الله عليه وسلم محتمل بل كله كفر موجب للقتل للحديث الذي قال من يكفيني عدوي فابتدر له خالد وهو حديث صحيح والأشهر أنه كفر للآية الكريمة وقوله صلى الله عليه وسلم من سب نبيا فاقتلوه إن ثبت فهو عمدة في أن قتله حد لا يسقط بالتوبة كما يقوله المالكية لكن هذا الحديث لا نعلمه إلا بإسناد لم يظهر لنا من حاله شيء فلا يصح الاحتجاج بعمومه وجعل مناط القتل من غير توبة ولا استتابة وإن تاب حدا هذا إنما صح لو صح الحديث وذلك الوقت يحتمل أن يقال إنه مشروط بعدم التوبة وأما إذا لم يصح فالقول بعدم التوبة والأخذ بعمومه صعب
وثم مسائل وألفاظ لا يطلق عليها أنها سب وقد توسعت المالكية فيها وأوجبوا القتل بها ولم يقبلوا فيها التوبة ونحن لا نشتهي أن نخوض في الكلام فيها فإن الجانبين خطران
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم ولعن المؤمن كقتله قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد سؤال لا يمكن أن يراد في أحكام الدنيا لأن اللعن لا يوجب القصاص ولا في الآخرة لأن الإثم يتفاوت
قال الماوردي يشبهه في الإثم لأن اللعن قطع الرحمة والموت قطع التصرف وقيل لعنته تقتضي قصد إخراجه من المسلمين أو قطع منافعه الأخروية عنه وقيل استواؤهما في التحريم واقتضى كلام ابن دقيق العيد أن اللعنة تعريض بالدعاء الذي قد يقع في ساعة إجابة إلى العبد من رحمة الله تعالى وهو أعظم من القتل الذي هو تفويت الحياة
وقد رأيت أن ألخص الكلام في هذه المسألة فأقول وبالله التوفيق هذه المسألة في رجل لعن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم على رءوس الأشهاد قال إنه
____________________
(2/584)
مستحل لذلك وقال إن أبا بكر مات على غير الحق وأنه كذب النبي صلى الله عليه وسلم في منعه ميراث فاطمة رضي الله عنها فاستتيب ثلاثة أيام فلم يتب وهو مصر على ذلك فحكم قاضي المالكية بقتله فقتل وهو مصر على ذلك من غير توبة وقلوب الخلائق مجتمعة على قتله فادعى بعض الناس أن هذا قتل بغير حق
والجواب كذب من قال إن قتله بغير حق بل قتله بحق لأنه كافر مرتد مصر على كفره وإنما قلنا إنه كافر لأمور أحدها قوله صلى الله عليه وسلم من رمى رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إن كان كما قال وإلا رجعت عليه ونحن نتحقق أن أبا بكر رضي الله عنه مؤمن وليس عدوا لله ويرجع على هذا القائل ما قاله بمقتضى نص الحديث فيحكم بكفره بالحديث الصحيح وإن كان هو لم يعتقد الكفر بقتله كما يحكم على من سجد للصنم أو ألقى المصحف في القاذورات بالكفر وإن لم يجحد بقلبه لقيام الإجماع على تكفير فاعل ذلك ويشهد لهذا من كلام مالك رضي الله عنه أنه حمل الحديث على الخوارج الذين كفروا أعلام الأمة فهذا نص مالك يوافق استنباطي من هذا الحديث تكفير هذا القائل ولا يضرنا كون هذا خبر واحد لأنا نعمل بخبر الواحد في الحكم بالتكفير وإنما لا يعمل به في الكفر نفسه الذي يحتاج إلى جحد أمر قطعي
فإن قلت قد قال النووي رحمه الله هذا ضعيف لأن المذهب الصحيح عدم تكفير الخوارج قلت رضي الله عن الشيخ محيي الدين أخذ بظاهر المنقول من عدم التكفير وذلك محمول على ما إذا لم يصدر منهم سبب مكفر كما إذا لم يحصل إلا مجرد الخروج والقتال ونحوه أما مع التكفير لمن تحقق إيمانه فمن أين ذلك
فإن قلت قد قال الأصوليون في أصول الدين ومنهم سيف الدين الآمدي جوابا عن قول المكفرين كيف لا نكفر الشيعة والخوارج من تكفيرهم أعلام الصحابة وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في قطعه لهم بالجنة
وأجاب أن ذلك إنما كان الكفر يعلم بتزكية من كفره قطعا على الإطلاق إلى مماته وليس كذلك
وهذا الجواب يمنع ما قلتم
قلت هذا الجواب إنما نظر فيه إلى أن المكفر لا يلزمه بذلك تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينظر إلى ما قلناه
____________________
(2/585)
من الحكم عليه بالكفر بالحديث الذي ذكرناه وإن لم يكن في باطنه تكذيب كما قاله إمام الحرمين وغيره في الحكم بالكفر على الساجد للصنم والملقي للمصحف في القاذورات وإن لم يكن في باطنه تكذيب
فإن قلت يلزم على هذا أن كل من قال لمسلم إنه كافر يحكم بكفره
قلت إن كان ذلك المسلم مقطوعا بإيمانه كالعشرة المشهود لهم بالجنة فنعم وكذا عبد الله بن سلام ونحوه ممن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الشهادة لهم وكذا كل من بايع تحت الشجرة إلا صاحب الحمل الأحمر وكذا أهل بدر وأما إذا لم يكن ذلك المسلم مقطوعا بإيمانه بل هو من عرض المسلمين فلا نقول فيه ذلك إن كان إيمانه ثابتا من حيث الحكم الظاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى اعتبار الباطن بقوله إن كان كما قال وإلا رجعت عليه وبقوله فقد باء بها أحدهما بقي قسم آخر وهو أن لا يكون من الصحابة المشهود لهم بالجنة ولكن مما أجمعت الأمة على خلافته وإمامته كسعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين وأضرابهم من التابعين وبعدهم من علماء المسلمين المجمع عليهم فهذا عندي أيضا ملتحق بمن ورد النص فيه فيكفر من كفره
وحاصله أنا نكفر من يكفر من نحن نقطع بإيمانه إما بنص أو إجماع
فإن قلت هذا طريق لم يذكره أحد من المتكلمين ولا من الفقهاء
قلت الشريعة كالبحر كل وقت يعطي جواهر وإذا صح دليل لم يضره خفاؤه على كثير من الناس مدة طويلة على أننا قد ذكرنا من كلام مالك رحمه الله ما يشهد له
فإن قلت الكفر هو جحد الربوبية والرسالة وهذا رجل موحد مؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم وآله وكثير من صحابته فكيف يكفر قلت التكفير حكم شرعي سببه جحد الربوبية أو الوحدانية أو الرسالة أو قول أو فعل حكم الشارع بأنه كفر وإن لم يكن جحدا وهذا منه فهذا دليل لم يرد في هذه المسألة أحسن منه لسلامته عن اعتراض صحيح قادح فيه وينضاف إليه قوله صلى الله عليه وسلم من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب رويناه في حلية الأولياء من طريق أبي هريرة وعائشة ومعاذ بن جبل ولكن لا يقال بظاهره بل هو كقوله تعالى فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله
____________________
(2/586)
على أنه يمكن التزامه وأن المراد إذا لم يترك الربا ولا أقر به كفر ولا شك أن أبا بكر رضي الله عنه ولي فإيذاؤه مبارزة بمحاربة الله وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ولعن المؤمن كقتله وأبو بكر رضي الله عنه مؤمن وفي الحديث الأول كفاية وهو في صحيح مسلم
الدليل الثاني استحلاله لذلك بمقتضى اعترافه ومن استحل ما حرمه الله فقد كفر ولا شك أن لعنته الصديق وسبه محرم
قال ابن حزم واللعن أشد السب وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم سباب المؤمن فسوق فسب أبي بكر رضي الله عنه فسق
فإن قلت إنما يكون استحلال الحرام كفرا إذا كان تحريمه معلوما بالدين بالضرورة
قلت وتحريم سب الصديق رضي الله عنه معلوم من الدين بالضرورة بالنقل المتواتر على حسن إسلامه وأفعاله الدالة على إيمانه وأنه دام على ذلك إلى أن قبضه الله تعالى هذا لا شك فيه وإن شك فيه الرافضي ومن كان كذلك فتحريم لعنه وسبه معلوم من الدين بالضرورة فيكون مستحله كافرا ولا يرد على هذا إلا شيء واحد وهو أن يكفر مستحل ما علم تحريمه فأخذه أنه إنما علم تحريمه بالضرورة وكان ذلك العلم حاصلا عند الجاحد فجحده تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك كفر الجاحد والرافضي لم يكن ذلك العلم الضروري بالتحريم جاهلا عنده فلم يلزم منه تكذيبه للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يفصل من هذا إلا بأن يقال إن تواتر ذلك عند عموم الخلق يكفي فلا يعذر الرافضي بالشبهة الفاسدة التي غطت على قلبه حتى لم يعلم وهذا محل نظر وجدل وإن كان القلب يميل إلى بطلان هذا العذر
الدليل الثالث أن هذه الهيئة الإجماعية التي حصلت من هذا الرافضي ومجاهرته ولعنه واستحلاله على رءوس الأشهاد وإصراره بالنسبة إلى أبي بكر وعمر وعثمان وهم أئمة الإسلام والذين أقاموا الدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم وما علم لهم من المناقب والمآثر كالطعن في الدين والطعن في الدين كفر
فهذه ثلاثة أدلة ظهرت لنا في قتله
الأمر الرابع النقول عن العلماء فمذهب أبي حنيفة أن من أنكر خلافة الصديق رضي الله عنه فهو كافر وكذلك من أنكر خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
____________________
(2/587)
ومنهم من لم يحك في ذلك خلافا وقال الصحيح أنه كافر والمسألة مذكورة في كتبهم في الغاية للسروجي وفي الفتاوى الظهيرية والبديعية وفي الأصل لمحمد بن الحسن والظاهر أنهم أخذوا ذلك عن إمامهم أبي حنيفة رضي الله عنه وهو أعلم بالروافض لأنه كوفي والكوفة منبع الرفض والروافض طوائف منهم من يجب تكفيره ومنهم من لا يجب تكفيره فإذا قال أبو حنيفة بتكفير من ينكر إمامة الصديق رضي الله عنه فتكفير لاعنه أولى والظاهر أن المستند منكر إمامة الصديق مخالفته للإجماع بناء على أن جاحد الحكم المجمع عليه كافر وهو المشهور عند الأصوليين وإمامة الصديق رضي الله عنه مجمع عليها من حين بايعه عمر بن الخطاب ولا يمنع من ذلك تأخر بيعة بعض الصحابة فإن الذين تأخرت بيعتهم لم يكونوا مخالفين في صحة إمامته ولهذا كانوا يأخذون عطاءه ويتحاكمون إليه فالبيعة شيء والإجماع شيء لا يلزم من أحدهما الآخر ولا من عدم أحدهما عدم الآخر
فافهم ذلك فإنه قد يغلط فيه وهذا قد يعترض عليه بشيئين أحدهما قول بعض الأصوليين إن جاحد الحكم المجمع عليه إنما يكفر إذا كان معلوما من الدين بالضرورة وأما المجمع الذي ليس معلوما من الدين بالضرورة فلا يكفر بإنكاره مثل كون بنت الابن لها السدس مع البنت مجمع عليه وليس معلوما بالضرورة فلا يكفر منكره
ويجاب عن هذا بأن خلافة الصديق وبيعة الصحابة له ثبتت بالتواتر المنتهي إلى حد الضرورة فصارت كالمجمع عليه المعلوم بالضرورة وهذا لا شك فيه ولم يكن أحد من الروافض في أيام الصديق رضي الله عنه ولا في أيام عمر ولا أيام عثمان وإنما حدثوا بعد وحدثت مقالتهم بعد حدوثهم
الشيء الثاني أن خلافة الصديق رضي الله عنه وإن علمت بالضرورة فالخلافة من الوقائع الحادثة وليست حكما شرعيا والذي يكفر جاحده إذا كان معلوما بالضرورة إنما هو الحكم الشرعي لأنه من الدين والصلاة والزكاة والحج ولأنه يلزم من جحده تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا محل يجب التمهل فيه والنظر يعم وجوب جميع الطاعة وما أشبهه حكم شرعي يتعلق بالخلافة والشافعية حكى القاضي حسين في كتاب الصلاة منهم في كفر ساب الشيخين وجهين
فإن قلت قد جزم في
____________________
(2/588)
كتاب الشهادات بفسق ساب الصحابة ولم يحك فيه خلافا وكذلك ابن الصباغ في الشامل وغيره وحكوه عن الشافعي فيكون ذلك ترجيحا لعدم الكفر
قلت لا وهما مسألتان المسألة المذكورة في الشهادات في السب المجرد دون التكفير وهو موجب للفسق ولا فرق في الحكم بالفسق بين ساب أبي بكر رضي الله عنه وأعلام الصحابة رضي الله عنهم زيادة أخرى والمسألة المذكورة في كلام القاضي حسين في كتاب الصلاة في الافتداء في ساب الشيخين أو ساب الحسين وهي محل الوجهين في الكفر أو الفسق ولا مانع من أن يكون سب مطلق الصحابي موجبا للفسق وسب هذا الصحابي مختلفا في كونه موجبا للفسق أو الكفر
وأما المسألة الثالثة وهي تكفير أبي بكر ونظر أنه من الصحابة هذه لم يتكلم فيها أصحابنا في كتاب الشهادات ولا في كتاب الصلاة وهي مسألتنا والذي أراه أنه موجب للكفر قطعا عملا بمقتضى الحديث المذكور
والمالكية قد حكينا كلام مالك رضي الله عنه والحنابلة فالمنقول عن أحمد رضي الله عنه أنه قال من طعن في خلافة عثمان رضي الله عنه فقد طعن في المهاجرين والأنصار
ولقد صدق أحمد في هذه المقالة فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما جعل الخلافة شورى في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأسقط طلحة والزبير وسعد حقوقهم وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن وقام عبد الرحمن ليبايع أحد الرجلين إما عثمان وإما عليا ونصب نفسه لذلك ولم يخترها لنفسه وبقي ثلاثة أيام بلياليها لا ينام وهو يدور على المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستشيرهم فيمن يتقدم عثمان أو علي ويجتمع بهم جماعات وفرادى رجالا ونساء ويأخذ ما عند كل واحد منهم في ذلك إلى أن اجتمعت آراؤهم كلهم على عثمان رضي الله عنهم فبايعه وكانت بيعة عثمان عن إجماع قطعي من المهاجرين والأنصار فكذلك قال أحمد من طعن فيها فقد طعن في المهاجرين والأنصار ويوافق ذلك ما روي عن أحمد أنه قال شتم عثمان زندقة
وقد تأملت هذا الكلام فوجدته مثل الأول لأن الزندقة هي إخفاء الكفر وإظهار ما ليس كفرا والطعن في المهاجرين والأنصار كفر وشتم عثمان وحده
____________________
(2/589)
بظاهره ليس بكفر
فهذا هو التأويل الصحيح لكلام أحمد وذهب بعض أصحابه إلى أنه يأخذ من هذه الرواية قولا له أن سب الصحابة كفر وهذا ليس بتخريج صحيح ولا فهم لكلام آخر والمنقول عن أحمد في سب الصحابي أنه قال أنا أجبن عن قتله ولكن ينكل نكالا شديدا وإذا كان هذا في أبي بكر رضي الله عنه فعثمان أولى والرواية التي عنه في عثمان لا تعارض لما بيناه ولذلك قال زندقة وما قال كفر والذي يخرج من كلام العلماء يجب أن يتأنى في فهم كلامهم وكأني بك تقول أصحاب أحمد أخبر بمراده
والجواب أن الله تعالى فهم علمه من يشاء وقد يؤتى قصير العلم فهما في مسألة لا يعطاه كثير العلم فالله يقسم فضله في عباده كما يشاء
فيتلخص أن سب أبي بكر رضي الله عنه على مذهب أبي حنيفة وأحد الوجهين عند الشافعية كفر وأما مالك فالمشهور أنه أوجب به الجلد فيقتضي أنه ليس بكفر ولم أر عنده خلاف ذلك إلا ما قدمته في الخوارج فتخرج عنه أنه كفر فتكون المسألة عنده على حالين إن اقتصر على السب من غير تكفير لم يكفر وإن كفر كفر
فهذا الرافضي لعنه الله قد زاد إلى التكفير فهو كافر عند مالك وأبي حنيفة وأحد وجهي الشافعية وزنديق عند أحمد بتعرضه إلى عثمان المتضمن لتخطئة المهاجرين والأنصار
وكفره هذا ردة لأن حكمه قبل ذلك حكم المسلمين والمرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهذا استتيب فلم يتب فكان قتله على مذهب جمهور العلماء أو جميعهم لأن القائل بأن الساب لا يكفر لم نتحقق منه أنه يطرده فيمن يكفر أعلام الصحابة رضوان الله عليهم فأحد الوجهين عندنا إنما اقتصرنا على الفسق في مجرد السب دون التكفير وكذلك أحمد إنما جبن عن قتل من لم يصدر منه إلا السب
والذي صدر من هذا الملعون أعظم من السب
ومن جملة المنقول قول الطحاوي في عقيدته في الصحابة وبغضهم كفر وهذا المنقول منه يحتمل أن يحمل على مجموع الصحابة ويحتمل أن يحمل على كل واحد منهم إذا أبغضه لا لأمر خاص به بل لمجرد صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم ولا شك أن ذلك كفر لأنه لا يبغضه لصحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وبغض النبي صلى الله عليه وسلم كفر ويحتمل أن يحمل على ما إذا أبغض صحابيا لا لأمر من
____________________
(2/590)
الأمور والقول بأن هذا وحده كفر يحتاج إلى دليل وأما إذا أبغضه لشحناء بينهما دنيوية ونحوها فلا يظهر تكفيره
وهذا الرافضي لعنه الله ومن أشبهه بغضهم لأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لا شك أنه ليس لأجل الصحبة لأنهم يحبون عليا والحسن والحسين وغيرهما ولكنه بهوى أنفسهم واعتقادهم بجهلهم ظلمهم لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فالظاهر أنهم إذا اقتصروا على السب من غير تكفير ولا جحد لمجمع عليه لا يكفرون
واعلم أن من كان كفره للطعن في الدين فإن توبته مقبولة لقوله تعالى وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون دليل لقبول توبتهم وهذا الرافضي لعنه الله الذي صدر منه هذا الطعن لم ينته ولم يتب
الأمر الخامس الذي يمكن أن يتمسك به في قتل هذا الرافضي أن هذا المقام الذي قام لا شك أنه يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وإيذاؤه صلى الله عليه وسلم موجب للقتل بدليل الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيمن آذاه من يكفيني عدوي فقال خالد بن الوليد أنا أكفيكه فبعثه إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقتله وهو حديث صحيح قاله علي بن المديني للخليفة لما سأله عن حديث فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم وقال له الخليفة هذا الحديث عن رجل من بلقين قال علي يا أمير المؤمنين هذا رجل معروف فأعطاه الخليفة ألف دينار
لكن الأذى على قسمين أحدهما يكون فاعله قاصدا لأذى النبي صلى الله عليه وسلم ولا شك أن هذا يقتضي القتل وهذا كأذى عبد الله بن أبي في قصة الإفك
والآخر أن لا يكون فاعله قاصدا لأذى النبي صلى الله عليه وسلم مثل كلام مسطح وحمنة في الإفك فهذا لا يقتضي قتلا وكلام هذا الرافضي لعنه الله قد يقال إنه من هذا القبيل لانتصاره بزعمه لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لكن في المقام الذي قام به فحش وهضم لمنصب الخلفاء الراشدين الذين أقام بهم الدين رضي الله عنهم
ومن الدليل على أن الأذى لا بد أن يكون مقصودا قال تعالى إن ذلكم كان يؤذي النبي فهذه الآية في ناس صالحين من الصحابة لم يقتض ذلك الأذى كفرا وكل معصية ففعلها مؤذ
____________________
(2/591)
ومع ذلك فليس بكفر فالتفصيل في الأذى الذي ذكرناه يتعين وبه يقف الاستدلال بهذا الوجه إنما ذكرناه ليعلم
وأما الوقيعة في عائشة رضي الله عنها والعياذ بالله فموجبة للقتل لأمرين أحدهما أن القرآن يشهد ببراءتها فتكذيبه كفر والوقيعة فيها تكذيب له
والثاني أنها فراش النبي صلى الله عليه وسلم والوقيعة فيها تنقيص له وتنقيصه كفر
وينبني على المأخذين سائر زوجاته صلى الله عليه وسلم إن عللنا بالأول لم يقتل من وقع في غير عائشة رضي الله عنها وإن عللنا بالثاني قتل لأن الكل فراش النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأصح على ما قاله بعض المالكية وإنما لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم قذفة عائشة لأن قذفهم كان قبل نزول القرآن فلم يكن تكذيبا للقرآن ولأن ذلك حكم ثبت بعد نزول الآية فلم ينعطف حكمه على ما قبلها
الأمر السادس ورد في الترمذي بإسناد صحيح الله الله في أصحابي لا تسبوا أصحابي من أحبهم أحبني ومن أبغضهم أبغضني ومن آذاهم آذاني فإن كان هذا في جملة الصحابة وفي كل واحد من حيث الصحبة فصحيح حكمه ثابت معمول به كما قدمناه وهذا هو من حيث هم تعظيما لقدرهم لصحبتهم لهذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم ولا شك أن هذا حكم يشمل الصديق وغيره من سائر الصحابة وهم درجات ويتفاوت حكمهم في ذلك بتفاوت مراتبهم والجريمة تزيد بزيادة من تعلقت به فلا يقتصر في سب أبي بكر رضي الله عنه وقدر أدنى الصحابة وإن كان لا أدنى فيهم بل معناه أقرب إلينا وكان واجبه الجلد فكم بينه وبين مرتبة الصديق رضي الله عنه مراتب كل مرتبة تزيد حتى تنتهي إلى رتبة الصديق فكم يكون واجبها وكما أن الواجب لمجرد حق الصحبة وهو الواجب فإذا انضاف إلى الصحبة غيره مما يقتضي الاحترام لنصرة الدين وحماية المسلمين
وما حصل على يده من الفتوح وخلافة النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك كل واحد منها يقتضي مزيد حق لأجله زيادة عقوبة بالاجتراء عليه فيزداد الواجب وليس ذلك لتجدد حكم بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن النبي صلى الله عليه وسلم شرع أحكاما وأناطها بأسباب فنحن نتبع تلك الأسباب
____________________
(2/592)
وترتب على كل سبب منها حكمه وكان الصديق في حياة النبي صلى الله عليه وسلم له حق السبق إلى الإسلام والتصديق والقيام في الله والمحبة والإنفاق والنصرة وغير ذلك من كل خصلة جميلة ثم بعد النبي صلى الله عليه وسلم من خلافته إياه وما حصل على يده من الخير يزداد حقه وحرمته واستحقاق كل من اجترأ عليه زيادة النكال فلا يبعد أن يكون لضرورته من الدين بهذا المحل أن يكون سابه طاعنا في الدين فيستحق القتل ولقد قتل الله بسبب يحيى بن زكريا عليهما السلام خمسة وخمسين ألفا وقال بعض العلماء إن ذلك دية كل نبي
ويقال إن الله تعالى أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا ولأقتلن بالحسين ابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا فإذا قتلنا بهذه الواقعة عشرين نفسا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه لم يكن كثيرا ولا تعتقد بجهلك أن هذا الكلام جهل من جنس فعل العرب الجهال وما كانت الجاهلية تفعله من قتلهم بالشريف جماعة وذلك خطأ حيث كان أخذا بغير جرم إلا الجرم الأول وهذا إنما يأخذهم الله بذنوبهم كل واحد يقتل بذنبه ولكن السبب في ذلك من جهة الله تعالى الاجتراء العظيم الأول تعظيما لحرمته وهكذا الصديق رضي الله عنه يظهر الله تعالى حرمته وحقه باجتراء كثير من الروافض لعنهم الله الذين خسروا بهذه الواقعة وكانت تشتال أنوفهم لو صفح عنه
وقد قال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة إن التعزير بالقتل وإن كان ذلك صحيحا فلا يوجد في قتله سبب أعظم من التجري لهذا المقام في حق الصديق والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين
الأمر السابع أن لعنة الصديق وإضرابه معصية قطعا تجب التوبة عنها قطعا فيطلب من اللاعن التوبة ويعاقب على الامتناع منها وإن انتهى إلى القتل لأنه واجب لا يؤدي عنه غيره وهذا مأخذ الشافعي في قتل تارك الصلاة أنه لأمر لا يؤديه عنه غيره فإذا جعل الشافعي الامتناع من الصلاة مجوزا للقتل فالامتناع من هذه التوبة المعلوم وجودها من الدين بالضرورة كذلك موجب للقتل كالصلاة ولا فرق بينهما وتعظيم الصحابة من شعائر الدين
فهذا ما أردنا كتابته في هذه الواقعة
وهذان الوجهان ذكرناهما زيادة في تقرير المقصود والعمدة
____________________
(2/593)
على ما تقدم والله تعالى أعلم
انتهى
هذه أسئلة من طرابلس الشام وردت على الشيخ الإمام رحمه الله وهو بالقاهرة في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة الدلالة على عموم الرسالة
السؤال الأول فيمن ذهب من العلماء المحققين إلى وجوب الإيمان بكون نبينا صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الإنس والجن كافة وأن رسالته شاملة للثقلين
وهو سؤال مبسوط قال رحمه الله أرى أن أذكر السؤال كله مستوفى لكن أقطعه فأذكر كل قطعة منه وجوابها ليحصل بذلك استيعاب كلام السائل وجوابه
فأقول وبالله التوفيق كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الإنس والجن كافة وأن رسالته شاملة للثقلين فلا أعلم فيه خلافا ونقل جماعة الإجماع عليه
وكون ذلك مما يثبت بالإجماع وكونه قطعيا أو ظنيا سيأتي عند ذكر السائل له
وأدلة ذلك تأتي قريبا عند طلب السائل الدليل وأما وجوب الإيمان بذلك فصحيح بمعنى تصديق ما جاء بالأخبار عنه من الأدلة الواردة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة بعد الإحاطة بها وليس معناه أنه يجب ويشترط في الإيمان اعتقاد ذلك ولا يكون مؤمنا إلا به حتى يجب عليه تحصيل سببه فإن العامي لو أقام دهره لا يعتقد ذلك ولم يخطر بباله ولا عرف شيئا من الأدلة الدالة عليه غير أنه يعلم أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله كان مؤمنا وليس بعاص بتأخير تعلمه لذلك أو تركه إذا قام غيره به وقول من قال من المحققين بوجوب الإيمان بذلك محمول على ما قلناه فإن الشريعة كلها وجميع ما ورد فيها يجب الإيمان به إجمالا وأما تفصيلا فمنه ما يجب على كل أحد وهو ما لا يصير العبد مؤمنا إلا به وما يعم وجوبه لجميع المكلفين كالصلاة ونحوها ومنه ما ليس كذلك فلا يجب إلا على من احتاج إليه أو من علم بدليله وهذا منه وستأتي زيادة بيان في ذلك
قال السائل أكرمه الله ما الدليل على ذلك أقول الدليل عليه قبل الإجماع الكتاب والسنة أما الكتاب فآيات منها قوله تعالى ليكون للعالمين نذيرا وقد أجمع المفسرون على دخول الجن في ذلك في هذه الآية ومع ذلك هو مدلول لفظها فلا يخرج عنه إلا
____________________
(2/594)
بدليل وإن قيل إن الملائكة خارجون من ذلك فلا يضر لأن العام المخصوص حجة في الباقي والنذير هو المخبر بما يقتضي الخوف وإخباره إنما هو عن الله وذلك يقتضي كونه رسولا إليهم عنه وكون الضمير في ليكون للفرقان بعيد بل يتعين أن يكون الضمير لعبده لأمرين أحدهما أنه أقرب والضمير لا يكون لغير الأقرب إلا بدليل
والثاني أن وصفه بالنذير حقيقة ووصف الفرقان به مجاز فلا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز بغير دليل
ومنها قوله تعالى في سورة الأحقاف فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين والمنذرون هم المخوفون مما يلحق بمخالفته لوم فلو لم يكن مبعوثا إليهم لما كان القرآن الذي أتى به لازما لهم ولا خوفوا به
ومنها قولهم فيها أجيبوا داعي الله فأمر بعضهم بعضا بإجابته دليل على أنه داع لهم وهو معنى بعثه إليهم
ومنها قولهم وآمنوا به يغفر لكم الآية وذلك يقتضي ترتيب المغفرة على الإيمان به وأن الإيمان به شرط فيها وإنما يكون كذلك إذا تعلق حكم رسالته بهم وهو معنى كونه مبعوثا إليهم
ومنها قولهم ومن لا يجب داعي الله الآية فعدم إعجازهم وأوليائهم وكونهم في ضلال مرتب على عدم إجابته وذلك أدل دليل على بعثته إليهم
ومنها قوله تعالى سنفرغ لكم أيها الثقلان فهذا تهديد ووعيد شامل لهم وارد على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عن الله وهو يقتضي كونه مرسلا إليهم وأي معنى للرسالة غير ذلك وكذلك مخاطبتهم في بقية السورة بقوله ولمن خاف مقام ربه جنتان وغير ذلك من الآيات التي تضمنتها هذه السورة
ومنها قوله تعالى في سورة الجن فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا فإن قوة هذا الكلام تقتضي أنهم انقادوا له وآمنوا بعد شركهم وذلك يقتضي أنهم فهموا أنهم مكلفون به وكذلك كثير من الآيات التي في هذه السورة التي خاطبوا بها قومهم
ومنها قولهم فيها وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به وكذا قولهم فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا إلى آخر الآيات
ومنها قوله تعالى قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ فهذه الآية تقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم منذر بالقرآن كله من بلغه القرآن جنيا كان
____________________
(2/595)
أو إنسيا وهي في الدلالة كآية الفرقان أو أصرح فإن احتمال عود الضمير على الفرقان غير وارد هنا فهذه مواضع في الفرقان تدل على ذلك دلالة قوية أقواها آية الأنعام هذه وتليها آية الفرقان وتليها آيات الأحقاف وتليها آيات الرحمن وخطابها في عدة الآيات فبأي آلاء ربكما تكذبان وتليها سورة الجن فقد جاء ترتيبها في الدلالة والقوة كترتيبها في المصحف
وفي القرآن أيضا ما يدل لذلك ولكن دلالة الإطلاق اعتمدها كثير من العلماء في مباحث وهو اعتماد جيد وهو هنا أجود لأن الأمر بالإنذار المطلق إذا لم يتقيد بقيد يدل على تمكن المأمور في الإتيان به في أي فرد شاء من أفراده وفي كلها وهو صلى الله عليه وسلم كامل الشفقة على خلق الله والنصيحة لهم والدعاء إلى الله تعالى فمع تمكنه من ذلك لا يتركه في شخص من الأشخاص ولا في زمن من الأزمان ولا في مكان من الأمكنة وهكذا كانت حالته صلى الله عليه وسلم ويعلم أيضا من الشريعة أن الله تعالى لم يرد من قوله قم فأنذر مطلق الإنذار حتى يكتفى بإنذار واحد لشخص واحد بل أراد التشمير والاجتهاد في ذلك
فهذه القرائن تفيد الأمر بالإنذار لكل من يفيد فيه الإنذار والجن بهذه الصفة لأنه كان فيهم سفهاء وقاسطون وهم مكلفون فإذا أنذروا رجعوا عن ضلالهم فلا يترك النبي صلى الله عليه وسلم دعاءهم
والآية بالقرائن المذكورة مفيدة للأمر بذلك فتثبت البعثة إليهم بذلك
ومنها كل آية فيها لفظ المؤمنين ولفظ الكافرين مما فيه أمر أو نهي ونحو ذلك فإن المؤمنين والكافرين صفتان لمحذوف والموصوف المحذوف لا يتعين أن يكون الناس بل المكلفين أعم من أن يكونوا إنسا أو جنا
وإذا ثبت هذا أمكن الاستدلال بما لا يعد ولا يحصى من الآيات كقوله تعالى فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون فالجن الذين لم يتبعوه ليسوا مفلحين وإنما يكون كذلك وإذا ثبتت رسالته في حقهم وكقوله تعالى لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين وكقوله هدى للمتقين ونحو ذلك من الآيات أيضا قوله تعالى إنما تنذر من اتبع الذكر ومن الجن
____________________
(2/596)
كذلك
ولو تتبعنا الآيات التي من هذا الجنس جاءت كثيرة فنكتفي بالآيات السابقة وإن كانت هذه عاضدة لها
واعلم أن المقصود بتكثير الأدلة أن الآية الواحدة والآيتين قد يمكن تأويلها ويتطرق إليها الاحتمال فإذا كثرت قد تترقى إلى حد يقطع بإرادة ظاهرها وبقي الاحتمال والتأويل عنها
وأما السنة ففي صحيح مسلم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون وهذا الحديث انفرد مسلم بإخراجه عن البخاري
وجاءني سؤال من جهة هذا السائل عن هذه المسألة وفيه نسبة هذا الحديث إلى البخاري وليس كذلك
ومحل الاستدلال قوله وأرسلت إلى الخلق كافة فإنه يشمل الجن والإنس وحمله على الإنس خاصة تخصيص بغير دليل فلا يجوز والكلام فيه كالكلام في قوله تعالى للعالمين فإن قال قائل على أن المراد بالخلق الناس رواية البخاري من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي فذكر من جملتها وأرسلت إلى الناس كافة
قلنا لو كان هذا حديثا واحدا كنا نقول لعل هذا اختلاف من الرواة ولكن الذي ينبغي أن يقال إنهما حديثان لأن حديث مسلم من رواية أبي هريرة وفيه ست خصال وحديث البخاري من رواية جابر وفيه خمس خصال والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم قالهما في وقتين
وفي حديث مسلم زيادة في عدة الخصال وفي سنن المرسل إليهم فيجب إثباتها زيادة على عدد الخصال وفي سنن المرسل إليهم فيجب إثباتها زيادة على حديث جابر وليس بنا ضرورة إلى حمل أحد الحديثين على الآخر إذ لا منافاة بينهما بل هما حديثان مختلفا المخرج والمعنى وإن كان بينهما اشتراك في أكثر الأشياء وخرج كل من صاحبي الصحيحين واحدا منهما ولم يذكر الآخر
وذكر الحافظ عبد الغني المقدسي حديث جابر في العمدة وفي لفظه إلى الناس وقد اشترط فيها أن يكون مما اتفق عليه الإمامان
وهذا اللفظ في البخاري خاصة دون
____________________
(2/597)
مسلم وإنما في مسلم من حديث جابر إلى الأحمر والأسود وعبد الغني كان حافظا يذكر المتون من حفظه فوقع له كثير من هذا النوع وذلك مما ينتقد عليه والحامل له على ذلك أن حديث جابر بأكثر ألفاظه متفق عليه وإنما انفرد البخاري بهذه اللفظة الواحدة وهي أشهر فجرت على لسان عبد الغني ولم يكن قصده تحرير ذلك لأنه مصنف في باب التيمم ومقصوده منه حاصل بغيرها
فهذا الحديث الذي ذكرناه عن مسلم واستدللنا به أصرح الأحاديث الصحيحة الدالة على شمول الرسالة للجن والإنس
وروى وثيمة بن موسى من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أرسلت إلى الجن والإنس وإلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم دون الأنبياء وجعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا وذكر باقي الحديث في خصائصه صلى الله عليه وسلم وفيه بعض طول وهذا الحديث أصرح من حديث مسلم لكنه ليس في الصحة مثله
وروى مسلم في صحيحه أيضا من حديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة واختلف أهل الغريب في تفسير قوله أحمر وأسود فقيل العجم والعرب وقيل الجن والإنس فعلى هذا هو صريح في المقصود
وروى البخاري ومسلم حديث ابن عباس قال انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب قالوا ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بجبل عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا فأنزل الله تعالى عز وجل على نبيه
____________________
(2/598)
محمد صلى الله عليه وسلم قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن
زاد مسلم في أول هذا الحديث من قول ابن عباس ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن وما رآهم ثم اتفق البخاري ومسلم من عند قوله انطلق وليست الزيادة المذكورة في البخاري وليس مراد ابن عباس بها إنكار قراءته صلى الله عليه وسلم على الجن أو رؤيته لهم مطلقا بل في تلك المرة التي حكاها في آخر كلامه ولو أراد ذلك لعارضه قول ابن مسعود الذي سنذكره ويقدم قول ابن مسعود لأنه إثبات
وقول ابن عباس نفي والإثبات مقدم على النفي لا سيما وقصة الجن كانت بمكة وكان ابن عباس إذ ذاك طفلا أو لم يولد بالكلية فهو إنما يرويها عن غيره وابن مسعود يرويها مباشرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فالأولى أن يجعل كلام ابن عباس غير معارض لكلام ابن مسعود وأن يكونا مرتين
إحداهما التي ذكرها ابن عباس وهي التي أشار إليها القرآن في سورة الأحقاف وفي سورة الجن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قصدهم ولا شعر بهم ولا رآهم ولا قرأ عليهم قصدا بل سمعوا قراءته وآمنوا به كما نطق به الكتاب العزيز
وثبوتها من حيث الجملة قطعي
وأهل السير يقولون إن ذلك لما توفي أبو طالب وخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة وذلك سنة عشر من البعثة فأقام بالطائف عشرة أيام ثم رجع إلى مكة فلما نزل نخلة قام يصلي من الليل فصرف إليه نفر من الجن وهو يقرأ في هذا السياق ما يخالف ما ذكرناه عن البخاري ومسلم فلعل استماعهم في الصلاة حصل مرتين وتحقيق ذلك لا غرض فيه والمتفق عليه من ذلك قد نطق به الكتاب العزيز وهو استماعهم لقراءته وإيمانهم به
وفي الكتاب العزيز زيادة على ذلك وهو رجوعهم إلى قومهم منذرين وقولهم لهم وهو ظاهر الدلالة في تعلق الشريعة بهم فلذلك ذكرنا حديث ابن عباس في الأدلة على ذلك وتعلق السائل به في ضد ذلك سنجيب عنه إن شاء الله
ولو لم يثبت في قصة الجن إلا حديث ابن عباس لكفى لإسماعهم القرآن كاف في وصول الشريعة إليهم وقد قامت الأدلة على عمومها من غيره والنبي صلى الله عليه وسلم قاصد التبليغ لكل
____________________
(2/599)
من أرسل إليه فمجرد وصول ذلك البلاغ إليه كان شعر به النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يشعر وقد أعلمه الله تعالى به في كتابه فعلم حصول البلاغ لهم وإنما قلنا ذلك لئلا يقول قائل لو كان رسولا إليهم لقصد إبلاغهم
فجوابه ما ذكرناه وأن البلاغ قد حصل بإعلام الله تعالى له وهو كاف كما يحصل لمن في أطراف الأرض من الإنس
وروى مسلم في صحيحه قال حدثنا محمد بن المثنى قال حدثني عبد الأعلى عن داود عن عامر قال سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن قال لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه بالأودية والشعاب فقلنا استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا يا رسول الله طلبناك ففقدناك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم
وفي رواية أخرى عند مسلم قال الشعبي وكان من جن الجزيرة إلى آخر الحديث من قول الشعبي مفصلا من حديث عبد الله
وفي رواية أخرى عنده عن عبد الله قال لم أكن ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووددت أنى كنت معه ومعنى هذا أنه ود لو كان معه عند ذهابه إليهم وليس معناه أنه لم يكن معه مطلقا تلك الليلة لأنه قد تقدم أنه كان هو والصحابة معه
وجميع هذه الروايات متفقة على أن داعيهم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم قاصدا واجتمع بهم وقرأ عليهم القرآن وهي واقعة أخرى بلا شك غير الواقعة التي رواها ابن عباس المذكورة في القرآن
وفي سنن أبي داود عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ليلة الجن ما في إداوتك قال نبيذ قال تمرة طيبة وماء طهور
وقد تكلم في هذا الحديث أبو زرعة وغيره وبينوا أنه ليس بصحيح وهو كما قالوه فلا يعارض ما في الصحيح من أنه لم يكن معه
وفي البخاري ومسلم عن ابن مسعود
____________________
(2/600)
أنه أذنته يعني النبي صلى الله عليه وسلم بهم شجرة وهذا كأنه إشارة إلى القصة التي رواها ابن عباس ولم يخرج البخاري عن ابن مسعود في قصة الجن إلا هذه القطعة
وفي البخاري وحده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال وأنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعما
وهذا الحديث وحده لا يدل فإنه يحتمل أن يكون قراءته عليهم القرآن للاتعاظ به وسؤاله لهم الزاد وجوابهم قد بينه أبو هريرة بالدعاء فقد يكون ذلك مباحا لهم بالأصل أو بشريعة أخرى أو لا يكونوا مكلفين بذلك الفرع الخاص فدعا لهم بما يحصل به الزاد لهم وليس في ذلك تعلق حكم لهم لكن الأدلة المتقدمة تكفي في تعلق الأحكام بهم فيحتمل قراءة القرآن عليهم في هذا الحديث وإطلاق الزاد لهم على ذلك وقد يكون بعض الأدلة لا يدل بمفرده فإذا انضم إلى غيره بان المقصود منه وحصلت الدلالة وما نحن فيه من هذا القبيل
وروي من طريق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورة الرحمن أو قرئت عنده فقال ما لي أسمع الجن أحسن جوابا منكم قالوا وماذا يا رسول الله قال ما أتيت على قول الله فبأي آلاء ربكما تكذبان إلا قالت الجن لا بشيء من نعمة ربنا نكذب
كذا رواه ابن جرير الطبري بهذا اللفظ من حديث إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر
ورواه غيره من حديث جابر
وهذا الجواب من الجن إما أن يكون لما قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن أو غيرها وإما أن يكونوا حاضرين عنده في مجلسه مع الصحابة والصحابة لا يرونهم فإن في اللفظ الذي ذكرناه عن ابن جرير ما يشعر بذلك وأيا ما كان فظاهره أن الخطاب لهم وللإنس والنبي صلى الله عليه وسلم مبلغ لهم عن الله تعالى وذلك معنى الرسالة وقول الفراء وابن الأنباري إن قوله تكذبان من خطاب الواحد بخطاب الاثنين بعيد وجمهور المفسرين على خلافه وأنه خطاب للثقلين
فهذا ما حضرني من الأدلة لذلك من الكتاب والسنة ولو تتبعت ربما زاد على ذلك ومن الأدلة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وشريعته آخر الشرائع وناسخة لكل شريعة قبلها
____________________
(2/601)
ولا شريعة باقية الآن غير شريعته ولذلك إذا نزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم إنما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فلو لم يكن الجن مكلفين بها لكانوا إما مكلفين بشريعة غيرها وهو خلاف ما تقرر وإما أن لا يكونوا مكلفين أصلا ولم يقل أحد بذلك ولا يمكن القول به لأن القرآن كله طافح بتكليفهم
قال تعالى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وقال تعالى في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار إلى غير ذلك من الآيات ودخولهم النار دليل تكليفهم وهذا أوضح من أن يقام عليه دليل فإن تكليفهم معلوم من الشرع بالضرورة وتكليفهم بغير هذه الشريعة يستلزم بقاء شريعة معها فثبت أنهم مكلفون بهذه الشريعة كالإنس
فصل قال السائل فإن قوله تعالى يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا وما أرسلناك إلا كافة للناس إلى غير ذلك ظاهر في اختصاص رسالته صلى الله عليه وسلم بالإنس وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة واحتمال غير ذلك عدول عن الظاهر
أقول دعوى أن الأدلة المذكورة ظاهرة في اختصاص رسالته إلى الإنس ممنوعة وعجب من السائل الفاضل دعواه ذلك فإن هذا إنما يمكن تمشيته على مذهب الدقاق القائل بأن مفهوم اللقب حجة والناس من قبيل اللقب فإن المسألة المترجمة في الأصول بمفهوم اللقب لا تختص باللقب بل الأعلام كلها وأسماء الأجناس كلها كذلك ما لم تكن صفة والناس اسم جنس غير صفة فلا مفهوم له فقوله يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ليس فيه أصلا ما يفهم منه أنه ليس رسولا إلى غيرهم إلا على مذهب الدقاق بل أقول على مذهب الدقاق لا يتم التمسك بهذا المفهوم أيضا لأن الدقاق إنما يقول به حيث لم يظهر غرض آخر سواه في تخصيص ذلك الاسم بالذكر وحيث ظهر غرض لا يقال بالمفهوم بل يحمل التخصيص على ذلك الغرض والغرض في الآية التعميم في جميع الناس وعدم اختصاص الرسالة ببعضهم فلا يلزم منه نفي الرسالة عن غيرهم لا على مذهب الدقاق ولا على غيره وإنما خاطب الناس لأنهم الذين تغلب رؤيتهم والخطاب معهم ومجادلتهم
فمقصود الآية خطاب الناس والتعميم فيهم لا النفي عن
____________________
(2/602)
غيرهم ونظير ذلك قولنا الله على كل شيء قدير إنا نعلم أن الله تعالى قادر على المعدوم والممكن وليس بشيء فإن المقصود بقولنا على كل شيء قدير التعميم في الأشياء الممكنة لا قصر الحكم
وقوله تعالى وما أرسلناك إلا كافة للناس كذلك وفيه زيادة أخرى وهي تقديم قوله كافة على قوله للناس فإن ذلك أفاد أنه ليس المقصود حصر الرسالة في الناس حتى يكون التقدير وما أرسلناك إلى أحد إلا للناس
هذا لم تنطق به الآية ولا أفهمته بل أشارت إلى خلافه بتقديم كافة وبالعدول في الناس عن إلى إلى اللام فصار مقصود الآية إثبات عموم الرسالة ونفي خصوصها فإن الرسالة أنواع منها خاص ومنها عام فصار التقدير وما أرسلناك من الرسالات إلا رسالة عامة كافة لجميع الناس فلا يتوهم أحد أنها خاصة ببعض الناس وحينئذ لا تعرض فيها للجن ألبتة وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم فكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة
والكلام فيه كما سبق حرفا بحرف
وقول السائل إن احتمال غير ذلك عدول عن الظاهر غير العدول عن الظاهر
هذا كله إذا قلنا إن الناس لا يشمل الجن وهو الظاهر وقد قال بعض الناس إن اسم الناس قد يطلق على الجن فعلى هذا تكون الأدلة المذكورة لنا لا للسائل
وقد قدمنا أن الحديث المذكور صح فيه لفظة الخلق موضع الناس وهي أعم وأن الحديثين مخرجهما مختلف وأحدهما خاص والأخر عام والعام والخاص إذا كانا اثنين لا يقضى بالخاص على العام بل يقضى بالعام على الخاص ويكون الآخر ذكر بعض أفراد العموم وذكر بعض أفراد العموم لا يقتضي تخصيصه على المذهب المنصور في الأصول الذي لم يخالف فيه إلا الشذوذ
فصل قال السائل وثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لم ير النبي صلى الله عليه وسلم الجن ولا تلا عليهم القرآن
أقول ليس ذلك في الصحيحين وإنما هو في صحيح مسلم كما قدمناه وهو بغير هذا اللفظ وإن كان قريبا من معناه ومسلم رواه صدر حديث ابن عباس وذكر عقيبه قصة الجن واستماعهم القرآن فأشعر بمراد ابن عباس أن النفي المراد به في تلك المرة فاقتطاع هذه اللفظة وروايتها عن ابن عباس حتى توهم انتفاء رؤية النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/603)
للجن مطلقا وقراءته عليهم ليس بجيد وربما يوهم بعض ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجتمع بهم أصلا وقد ثبت اجتماعه بهم في حديث ابن مسعود الذي لا مطعن فيه وثبت بلوغ القرآن لهم في حديث ابن عباس الموافق لنص القرآن
فأجابني السائل من أين يتعلق بهذا الكلام وقصة الجن أجمع عليها المحدثون وأهل السير فلم يبق أحد من أهل الإخبار إلا رواها ولا من المفسرين إلا ذكرها وإنما اختلفوا في أنها كانت مرة أو مرتين وأنا لا أشك في أنها كانت مرتين بحديث ابن مسعود وابن عباس وإنما أشك في أنها هل كانت أكثر من ذلك أو مرتين خاصة
فصل قال السائل فإن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ادعى الرسالة إليهم زال الإشكال ووجب الإيمان
أقول قد ثبت ذلك في حديث مسلم الذي قال فيه بعثت إلى الخلق كافة والعام حجة وليس من الثبوت أن يكون بالصريح بل قد يكون بالعموم وهو حاصل هنا وقد ذكرنا ما هو صريح من طريق وثيمة بن موسى ولكنه لم يعلم ثبوته وذكرنا قوله الأحمر والأسود واختلاف الناس في تفسيره والعمدة حديث مسلم
فصل قال السائل إذ لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا من جهته
أقول كل خير لا سبيل لنا إليه إلا من جهته صلى الله عليه وسلم إما أن يكون ناصا عليه بقوله وإما أن يكون واردا على لسانه في الكتاب العزيز وإما أن يكون مستنبطا من ذلك فإن أراد السائل لا سبيل لنا إلى ذلك إلا من جهته بإحدى هذه الطرق فنقول هو حاصل بما قدمناه من الآيات والاستنباط والحديث العام وإن أراد أن يكون من جهته نصا صريحا على عدم دعواه الرسالة إليهم فلا يشترط ذلك كما أن كثيرا من الأحكام الشرعية لم ينص عليها صريحا ويثبت بالقرآن أو بحديث عام أو باستنباط من قاعدة من قواعد الشرع وذلك كله من جهته صلى الله عليه وسلم
فصل قال السائل وإلا فهل يجوز التقليد في ذلك أم يكفي الإيمان به وبما جاء به فيكون ذلك من قبيل ما المطلوب فيه الإيمان الإجمالي لا التفصيلي
أقول قد قدمنا الكلام في وجوب الإيمان بذلك ونقول هنا إن الناس على أقسام منهم
____________________
(2/604)
عامي لم تخطر بباله هذه المسألة أو خطرت بباله وما اعتقد فيها شيئا لجهله فهذا لا شيء عليه لأنه لم يكلف بذلك لكن يشترط أن يطلق بشهادته أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولا يخصصها فمتى خصصها فقال إلى الإنس خاصة فسنتكلم عليه
ومنهم عامي اعتقد فيها خلاف الحق لشبهة أو تقليد جاهل
فهذا اعتقاده هذا خطأ يجب عليه النزوع عنه وأن يسأل أو يبحث ليظهر له الصواب وهذا بإصراره على هذا الاعتقاد والخطأ عاص لأنه من أصول الدين الذي لا يعذر بالخطأ فيه والفقيه إذا اعتقد في هذه المسألة خلاف الحق لشبهة أو تقليد لجاهل عاص أيضا كالعامي بل هو عامي فيها ومحل الحكم فيها بالعصيان فقط وصحة الإيمان إذا أطلقا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن خصصا وقالا إلى الإنس فقط فأخشى عليهما الكفر فإن الإسلام الذي بينه الشارع بالشهادة المطلقة لا المقيدة
ومنهم من اعتقد الصواب في ذلك من عامي أو فقيه لا عن دليل بل تقليد محض فيكفيه ذلك وليس بعاص لأنه لم يقم دليل على إيجاب اليقين في أمثال هذه المسألة ولا هي شرط في الإيمان فإذا لم يكن للشخص علم بأدلة هذه المسألة واقتصر على التقليد فيها كفاه ولا فرق بين أن يكون اعتقاده على جهة التقليد جازما أو غير جازم فإن التقليد لفظ مشترك بين الاعتقاد الجازم المطابق لا لموجب وبين قبول قول الغير بغير حجة سواء أكان مع الجزم به أم لا
فهذا الثاني كاف هنا ولا يكفي فيما يجب الإيمان به من الوحدانية ونحوها والأول يكفي لأن إيمان المقلد صحيح عند جمهور العلماء خلافا لأبي هاشم من المعتزلة
وكثير من الناس يغلطون ويعتقدون أن إيمان المقلد لا يصح وقد ثبت هذا في فتوى
وقلت إن الناس ثلاث طبقات عليا وهم أهل المعرفة والاستدلال التفصيلي وهم العلماء وأهل الاستدلال الإجمالي وهم كثير من العوام فلا خلاف في صحة إيمانهم
ووسطى وهم أهل العقيدة المصممون من غير ذلك ولم يقل بكفرهم إلا أبو هاشم ودنيا وهم المقلدون بغير تصميم ولم يقل بصحة إيمانهم إلا شذوذ ومنهم من كان عالما وقد وصلت إليه هذه الأدلة وله تمكن من النظر فيها فهذا المطلوب منه العلم بها ويجب عليه الإيمان به قطعا لعلمه
____________________
(2/605)
بأدلتها وصار بمنزلة من سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيجب عليه تصديقه فيه قطعا وأما الإيمان الإجمالي فواجب على كل أحد بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فلا بد منه في هذه المسألة وغيرها أو يكتفى به في هذه المسألة بالنسبة إلى غير العالم ولا يكتفى فيه في حق العالم وفرض ذلك عسر لأن العالم متى أحاط علمه بهذه الأدلة ووجه دلالتها حصل له العلم ولا يمكن تخلف العلم عنه بعد ذلك نعم لو كان الشخص له قوة على النظر وتمكن من الأدلة والوقوف عليها والنظر ولم يفعل بل اقتصر على محض التقليد فالذي يظهر لي أنه لا يعصي بذلك ويكفيه التقليد وأما إذا لم يقلد ولكن توقف فلم يعتقد فيها شيئا مع تمكنه من إدراك ذلك فهو محل نظر ويترجح أيضا أنه غير مأثوم لعدم قيام الدليل على وجوب ذلك بخلاف ما إذا اعتقد غير الحق فإن ذلك يكون لتقصيره والإقدام بغير دليل خطأ بخلاف التوقف فيما لا يجب كما أتى في الفروع
نقول من أقدم على فعل بغير علم بحكمه يكون مأثوما ومن توقف عنه لا يكون مأثوما
فصل قال السائل وهل يصح استدلال بعض العلماء في هذه المسألة بقوله تعالى أجيبوا داعي الله وآمنوا به الآية وبسورة الجن وقوله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا
قال والجن يسمون ناسا ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال وأرسلت إلى الخلق كافة وأنه أتاه داعي الجن وقرأ عليهم القرآن وحكم بينهم وأنه تحداهم بالقرآن كما تحدى الإنس به وأنه أحل لهم كل طعام لم يذكر اسم الله عليه وحرم الاستنجاء بالعظم والروث من أجلهم وإن الرسل إليهم لم يكونوا إلا من الإنس
فإذا ثبت إرسال من تقدم إليهم فخاتم النبيين أولى وأحرى وأن الإجماع منعقد على كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثا إليهم وما ثبت عن ابن عباس فذلك مما خفي عليه كما خفيت أحكام كثيرة على آحاد الصحابة هل ينتهض ذلك دليلا على المطلوب
أقول أما استدلاله بقوله تعالى حكاية عن الجن أجيبوا داعي الله وآمنوا به فاستدلال صحيح وقد تقدم وكذلك سورة الجن وأما
____________________
(2/606)
الاستدلال بقوله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين فمحتمل ولكنه ليس بالقوي لأن الرحمة أعم من الرسالة وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل عليه السلام هل نالك من تلك الرحمة شيء قال نعم
والاستدلال بقوله تعالى ليكون للعالمين نذيرا من أصح ما يكون وقد تقدم الاستدلال بقوله تعالى يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا وأن الجن يسمون ناسا وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق لكن تسمية الجن ناسا مختلف فيه والخلاف مبني على الخلاف في اشتقاق الناس هل هو من النوس وهو الحركة أو من الإيناس بمعنى الإبصار أو من الإنس الذي هو ضد الوحشة ومن يقول بتسميتهم ناسا فالظاهر أنه لا يقول إن ذلك ظاهر الإطلاق بل قد يكون كذلك والأغلب خلافه والحمل على العرف الأغلب أوجب والجوهري ذكر باب أنس ولم يذكر فيه ذلك وذكر باب نوس وذكر فيه أن الناس قد يكون من الإنس والجن فأشار إلى أنه من الشيء القليل وبإدخاله في هذا الفصل إلى أنه مأخوذ من النوس وقال في باب أنس إن الأناس لغة في الناس وكثير من النحاة يقولون إن الناس أصله الأناس وأنه مما حذفت فيه الهمزة ومنهم من يحكي في ذلك قولين ويتخلص من مجموع كلامهم أن الناس لفظ واحد في الصورة وهو في التقدير لفظان أحدهما أناس مأخوذ من أنس إما بمعنى أبصر وإما ضد أوحش وعلى كلا المعنيين لا يطلق على الجن لأنا لا نبصرهم ولا نأنس بهم والثاني مأخوذ من نوس بمعنى الحركة وعلى هذا يطلق على الفريقين ولكن الاستعمال له في الإنس أغلب فهما لفظان مشتقان من أصلين مشتق منهما ولما حصل الحذف وفي أحد المشتقين والقلب في الآخر صارا على صورة لفظ واحد إذا عرفت هذا فقوله يا أيها الناس وشبهه يحتمل أن يكون مأخوذا من الإنس فلا يطلق على الجن ألبتة ويحتمل أن يكون مأخوذا من النوس فيطلق عليهم قليلا فدخول الجن في الآية إما ممتنع وإما قليل فلا يحمل عليه
وبهذا بان ضعف الاستدلال بها لكنها لا تدل على خلافه أيضا لما قدمناه ومن المواضع التي ادعى بعض المفسرين دخول الجن في لفظ الناس قوله تعالى في صدور الناس من الجنة والناس وتجعل
____________________
(2/607)
من بيانا للناس والموسوس في صدورهم والأكثرون على خلافه وأنها بيان للخناس
واستدلاله بقوله صلى الله عليه وسلم وأرسلت إلى الخلق كافة صحيح قوي وقد تقدم وأنه في صحيح مسلم واستدلاله بأنه أتاه داعي الجن وقرأ عليهم القرآن وحده لا يكفي لاحتمال أنهم أرادوا الموعظة ولكن إذا انضم إلى غيره قرب
وقوله إنه حكم بينهم إن أراد بإجابتهم في الزاد والعظم والروث فصحيح على ما سبق بيانه مع توقف في الاستدلال به وحده وإن أراد الحكم بينهم في دعوى من بعضهم على بعض فلا أستحضرها ولو اتفق مثل ذلك دل على عموم الرسالة إليهم
وقد فكرت في حديث أبي هريرة لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم لحفظ زكاة رمضان وأتاه الشيطان ليسرق منها وقول أبي هريرة لأدفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن أبا هريرة لم يعرفه إلا بعد أن أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم به بعد ذلك ولم يتفق رفعه حتى نعلم ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم لما أخبره في المرة الأولى بإمساكه ورفعه إليه ومجرد إمساك أبي هريرة له عن السرقة من باب دفع الصائل وهو جائز سواء تعلق به حكم أم لا كما يدفع الصبي والبهيمة
فلهذا لم أستدل بها
ولو اتفق رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه عليه لم أتوقف في الاستدلال به
وليس لقائل ذلك لحكم الحاكم على مقتضى اعتقادهم وإن كان الخصم لا يعتقده ولا يلزمه قبل الحكم كحكم الشافعي على الحنفي وعكسه لأن تلك أمور مظنونة فالشافعي يحكم على الحنفي بمقتضى ظنه وإن كان الحنفي مكلفا قبل الحكم بمقتضى ظنه
وأما هنا فالأمر مقطوع به والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم حكم الله تعالى في حق كل أحد ولا يحكم على أحد إلا بحكم الله عليه وهو شيء واحد مقطوع به قبل الحكم وبعده فلو رفع إلى نبي من الأنبياء المتقدمة على زمان النبي صلى الله عليه وسلم رجل ليس من أمته ويعلم أن الله لم يرسله إليه وأرسل إليه غيره ممن حكم ذلك الفرع الذي رفع إليه في شرعه يخالف حكمه في شرع ذلك النبي المرفوع إليه فالذي يظهر أن ذلك النبي لا يحكم عليه بل نقول هذا حكم ما فعل فلو حكم عليه ذلك النبي في ذلك الفعل وجب علينا أن نعتقد أن ذلك حكم الله في حقه إما
____________________
(2/608)
برسالة ذلك النبي إليه وإما بموافقته لشرع نبيه وأمر الله له بالحكم بها والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بشريعة أخرى لنسخ شريعته لسائر الشرائع فلم يبق إلا أن تكون شريعته وأن حكمها لازم لهم والاستدلال بأنه تحداهم بالقرآن كما تحدى الإنس به قد ذكره غير هذا القائل ممن صنف في ذلك واستدل بقول الله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله هذا الاستدلال عندي ليس بالقوي لأنه قد يكون المقصود بذلك تحدي الإنس فقط والمبالغة في تعجيزهم بعجز من هو أقوى منهم وأقدر وأذكى والاستدلال بأنه أحل لهم كل طعام لم يذكر اسم الله عليه إن ثبت هذا الحديث بهذا اللفظ كان فيه دليل لأن الإحلال من جملة الأحكام فإذا أحل لهم فقد تعلق بعض أحكام شريعته بهم وهذا هو المطلوب لكن الذي أعرفه في الصحيح ما تقدم من أنه قال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه
وصيغته لكم ليست صريحة في الإحلال فقد يكون وسع عليهم بدعائه بعد ضيق الاستدلال بتحريم الاستنجاء بالروث والعظم من أجلهم ليس بجيد فإن التحريم متعلق بنا لا بهم والاستدلال بأن الرسل إليهم لم يكونوا إلا من الإنس لا أرتضيه وإن كان قد يحسن لأن كون الرسل إليهم لم يكونوا إلا من الإنس مختلف فيه وما نحن فيه مجمع عليه ولا حاجة إلى الاستدلال المجمع عليه بالمختلف فيه
والخلاف المشار إليه هو قول الضحاك المفسر إن الرسل إلى الجن منهم لقوله تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم فقال الضحاك ومن تبعه بذلك وهو ظاهر الآية
وقال الأكثرون لم تكن الرسل إلا من الإنس والكلام في ذلك يطول وليس هذا محله
ولم يقل الضحاك ولا أحد غيره باستمرار ذلك في هذه الملة وإنما محل الخلاف في ذلك في الملل المتقدمة خاصة وأما في هذه الملة فمحمد صلى الله عليه وسلم هو المرسل إليهم وإلى غيرهم والاستدلال بالإجماع في ذلك صحيح وممن نص على الإجماع في ذلك أبو طالب عقيل بن عطية القضاعي وقد نبه على ذلك أبو عمر بن عبد البر في التمهيد وكذلك فعل أبو محمد بن حزم في كتاب الفصل وكثيرا ما يذكر
____________________
(2/609)
العلماء في مصنفاتهم كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الثقلين وربما يوجد ذلك في صدور تواليفهم
قلت وقال إمام الحرمين في الإرشاد في الرد على العيسوية وقد علمنا ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم ادعى كونه مبعوثا إلى الثقلين
وقال إمام الحرمين أيضا في الشامل في الرد على العيسوية فإن قال قائل فما دليلكم على أنه كان مبعوثا إلى كافة الإنس والجن قلنا من اعترف بنبوته وأقر بوجوب صدق لهجته واستسلم لقضية معجزته فثبت ما ترومه من بعثته إلى الكافة يثبت على الفور وذلك أنا نعلم ضرورة وبديهة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان تعلق دعوته لمن على بسيط الأرض ولا يخصصها بقوم دون قوم وهذا مما نقل تواترا منه كما نقل أنه كان يأمر بالصلوات الخمس
وأبطال إمام الحرمين في ذلك رادا على العيسوية لا ضرورة بنا إلى نقل بقية كلامه هنا
وقول ذلك المستدل فيما ثبت عن ابن عباس أن ذلك مما خفي عليه لا حاجة إليه لأنا قد حملنا كلام ابن عباس على محمل صحيح هو أنه أراد في تلك المرة وهذا أولى من أن نقول إنه خفي عليه ذلك
ولو فرضنا أنه خفي عليه حديث ابن مسعود المذكور في ليلة الجن أترى يخفى عليه ما في سورة الأحقاف وسورة الجن ما فيهما من الدلالة على ذلك فإنما يمكن أن يخفى عليه حديث ابن مسعود خاصة لا حكم من الأحكام حتى يشبه بالأحكام التي خفيت عن آحاد الصحابة وحديث ابن مسعود ليس فيه حكم هذه المسألة صريحا بل هو في غيره أظهر منه كما تقدمت الإشارة إليه فيجب أن لا تطلق هذه العبارة هاهنا فإنه ليس محلها ولكل مقام مقال
وقول السائل هل ينهض ذلك دليلا على المطلوب جوابه قد تبين أن بعضه ينهض وبعضه لا ينهض وقد نهضت الأدلة منه ومن غيره على ذلك فصل قال السائل فإن الضمير في قوله أجيبوا داعي الله وآمنوا به يرجع إلى القرآن لأن ما قبله يدل عليه وهو مصرح به في قوله تعالى إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به وقوله وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ولا شك في وجوب الإيمان بالقرآن على كل مكلف وبتقدير قوله صلى الله عليه وسلم فهو دال على وجوب الإيمان به ومطلق الإيمان أعم من الإيمان بكونه رسولا إليهم
____________________
(2/610)
ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص بل وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم كوجوب الإيمان علينا بموسى وعيسى عليهما السلام
أقول تكلم السائل في الضمير في وآمنوا به ولم يتكلم في قوله أجيبوا داعي الله والاستدلال به أوضح فإن كان يقول إن الداعي هو القرآن فيبعده أمور أحدها أنه لو كان كذلك لقال أجيبوه لتقدمه في قولهم كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق فقد تكرر ذكره مظهرا ومضمرا فلو أريد به الإجابة لقيل أجيبوه ووضع الظاهر في موضع المضمر في مثل هذا على خلاف الأولى
الثاني أن القرآن لم تثبت تسميته داعيا في موضع من المواضع والنبي صلى الله عليه وسلم ثبتت تسميته داعيا في مواضع كقوله تعالى أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه ولحديث طويل أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم وفيه فقالوا إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا فقال بعضهم إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا أولوها له يفقهها وفيه قالوا فالدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم وإذا ثبت ذلك وجب حمل قولهم أجيبوا داعي الله عليه لأنه الذي ثبتت تسميته به في القرآن والسنة وأيضا في سورة الجن وأنه لما قام عبد الله يدعوه وإن كان ذلك الدعاء بمعنى آخر
وقد قيل إن الذي قرأه النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الصلاة سورة الجن وقيل سورة الرحمن
الثالث أن إسناد الدعاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة وإلى القرآن مجاز والحقيقة أولى
فثبت بهذه الأوجه الثلاثة أن داعي الله هو النبي صلى الله عليه وسلم وإذا ثبت ذلك كفى
ثم نقول الضمير في وآمنوا به عائد إليه لأنه أقرب من الكتاب والقرآن وعوده في سورة الجن عليه لتقدمه دون غيره هذه العلة مفقودة هنا
وقول السائل ولا شك في وجوب الإيمان بالقرآن على كل مكلف
أقول وكذلك لا شك في وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم على كل مكلف فالقرآن
____________________
(2/611)
والنبي صلى الله عليه وسلم كل منهما تجب إجابته والإيمان به ووجوب إجابة النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي تعلق شرعه بهم ووجوب إجابة القرآن تقتضي وجوب امتثال ما فيه فيتعلق بهم جميع تكاليفه من الأصول والفروع فقصر السائل كلامه على الإيمان به ليس بجيد وهم قد أمروا بالإيمان والإجابة فلم تزل الإجابة وتكلم في الإيمان وإن قال المراد بالإجابة الإيمان منعناه فإنهما أمران متغايران
وقوله وبتقدير عوده إليه صلى الله عليه وسلم فهو دال على وجوب الإيمان به صحيح
وقوله ومطلق الإيمان به أعم من الإيمان بكونه رسولا إليهم إلى آخره
جوابه أنهم أمروا بإجابته وبالإيمان به على الأمر بالإجابة لا شك أنه لا يرد على هذا السؤال والأمر بالإيمان به محمول على الإيمان به على ذلك الوجه وهو كونه داعيا إلى الله تجب عليه إجابته وذلك هو الإيمان بكونه رسولا إليهم
وأما وجوب الإيمان علينا بموسى وعيسى عليهما السلام فمعناه أنا نؤمن بأنهما نبيان رسولان إلى بني إسرائيل كريمان ومحلهما المحل الذي أحلهما الله تعالى وذلك واجب على الجن ويجب عليهم مثل ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم وزيادة الإيمان بأنه داع لهم يجب عليهم إجابته لما أمرهم به قومهم كإيماننا به صلى الله عليه وسلم
وحاصله أن كل رسول داع يجب على المدعو الإيمان بأنه رسول إليه ويجب على غير المدعو الإيمان بأنه رسول في الجملة والجن مدعوون كما دل عليه كلام بعضهم لبعض فيجب عليهم الإيمان بأنه رسول إليهم فقد تبين أن الواجب عليهم الأخص بخلاف ما قال السائل فصل قال السائل وكونه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين لا يلزم منه رسالته فإن الرحمة أعم من الرسالة صحيح وقد حصل من الأدلة ما يستغنى به عن الاستدلال بذلك
فصل والضمير في قوله ليكون للعالمين نذيرا يجوز عوده إلى الفرقان وبتقدير عوده إليه فالنذير أعم من الرسول وأيضا فهو مخصوص
أقول كون الضمير للفرقان يرده كونه أبعد وكون النذير أعم من الرسول إن أراد بحسب الوضع اللغوي فالنذير والرسول كل منهما أعم من الآخر من وجه لأن النذير هو المخبر بما يخاف منه سواء أكان الخبر عن نفسه أم عن غيره والرسول هو المخبر عن غيره سواء أكان بمخوف أم بغيره وسمي الرسول عن الله نذيرا لأنه يخوف الناس عذاب الله
____________________
(2/612)
وسمي المبلغون عنهم نذرا لأنهم قائمون مقامهم في ذلك كما في قوله تعالى ولوا إلى قومهم منذرين ويسمون أيضا رسلا وإن لم يكونوا رسلا عن الله كما في قوله تعالى إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون وكانوا رسل عيسى عليهم السلام وبهذا قيل إن الرسل إلى الجن في الأمم الخالية وكانوا نذرا من جهة رسل الإنس فسموا رسلا في قوله تعالى ألم يأتكم رسل منكم على أحد التأويلات فيها
إذا عرفت ذلك فتسميته صلى الله عليه وسلم في هذه نذيرا إنما كان لإخباره عن الله تعالى لقوله تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا فإذا سلم أنه مخبر عن الله تعالى للجن وأن الله أنزل عليه الفرقان كذلك فهذا هو معنى الرسول فلا معنى لقول السائل هنا إن النذير أعم من الرسول وقوله وأيضا فهو مخصوص يشير إلى خروج الملائكة منه وجوابه إن العام المخصوص حجة عند جمهور العلماء والأصوليين ولو بطل الاستدلال بالعمومات المخصوصة لبطل الاستدلال بأكثر الأدلة فإن أكثر العمومات مخصوصة وأيضا فلو قيل لمدعي خروج الملائكة من أنذره النبي صلى الله عليه وسلم إما ليلة الإسراء وإما غيرها ولا يلزم من الإنذار والرسالة إليهم في شيء خاص أن يكون بالشريعة كلها
والقول بالعموم في حقهم في مطلق الإنذار لا يكاد يقوم دليل على عدمه
وأيضا من الناس من يقول إن الملائكة هم مؤمنو الجن السماوية فإذا ركب هذا مع القول بعموم الرسالة للجن الذي قام الإجماع عليه لزم عموم الرسالة لهم لكن القول بأن الملائكة من الجن قول شاذ والصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أن العالمين ثلاثة الإنس والجن والملائكة أضعاف الثقلين وإنما أردنا بهذا عدم تسرع السائل إلى القطع بالتخصيص
فصل قال السائل وتسميته الجن ناسا إن كان حقيقة فيلزم الاشتراك وإلا فمجاز وهما على خلاف الأصل ثم حيث أطلق الناس فالمراد ولد آدم عليه السلام لأنها السابق إلى الفهم وقوله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب إلى غير ذلك يدل أقول قوله إن كان حقيقة يلزم الاشتراك وإلا فمجاز وهما على
____________________
(2/613)
خلاف الأصل
يرد عليه التواطؤ وهو الحق إذا قلنا يطلق على الجن ناس فإن الناس جسد مأخوذ من النوس وهو الحركة كما قدمناه وهو قدر مشترك بين الإنس والجن فهو موضوع لمعنى عام مستوفى في محاله وهذا حد المتواطئ وليس بمشترك ولا مجاز يعم إطلاق المتواطئ على كل واحد من أفراده هل هو حقيقة أو مجاز فيه بحث طويل لشيوخنا وشيوخ شيوخنا والمختار أنه مجاز لأنه موضوع للقدر المشترك والخصوص غير القدر المشترك فإذا استعمل في الخصوص فقد استعمل في غير ما وضع له فيكون مجازا وبعضهم يقول إن استعمل فيه بحسب ما فيه من القدر المشترك فهو حقيقة وإن استعمل فيه بخصوصه كان مجازا
ولا تحقيق في هذا التفصيل أو هو عين التحقيق فإن الاستعمال في الخصوص إنما هو بحسب الخصوص أما إذا أردت العموم فلا تستعمله فلا وجه للخصوص فلا حاجة إلى التفصيل وإن كان حقا
وتفصيل السائل التسمية إلى حقيقة ومجاز مستدرك لأن التسمية لا توصف بحقيقة ولا بمجاز وإنما الموصوف بهما اللفظ المستعمل في موضوعه وفي غير موضوعه
وتحرير العبارة أن يقال اسم الناس وإن كان موضوعا للجن مع كونه موضوعا للإنس لزم الاشتراك وإن كان موضوعا للإنس فقط وأطلق على الجن لزم المجاز
وإذا حرر العبارة هكذا يرد عليه أنه إن كان مقصوده إنكار استعمال هذا الاسم في الجن بالأصالة لم يسمع منه لنقل أهل اللغة ذلك فكونه على خلاف الأصل لا يضر بل يترجح إنه مجاز لأنه خير من الاشتراك أو يترجح بأنه متواطئ لأن المتواطئ خير منهما على ما قاله بعضهم ويرد عليه ما قدمناه من أنه يلزم بالتواطؤ أن يكون مجازا في كل منهما
وجوابه أنه إنما يلزم ذلك إذا استعمل فيه بخصوصه ولا ضرورة تدعو إلى الاستعمال فيه بخصوصه لأنه يكتفى في الاستعمال بالقدر المشترك
وإن كان مقصود السائل أنه يستعمل في الجن ولكن لا حقيقة ولا مجازا فهو ظاهر الفساد لأن كل لفظ مستعمل لا يخلو عن الحقيقة والمجاز
والظاهر أن مراد السائل إنكار استعمال لفظ الناس في الجن وهو مردود بقول أهل اللغة لكنه قليل وكان يمكنه أن يكتفي بدعوى القلة فيه واعلم أن ما ذكرناه من القلة لا ينافي
____________________
(2/614)
قولنا إنه متواطئ لأمرين أحدهما أن المتواطئ قد يغلب استعماله في بعض أفراده دون بعض
والثاني ما أشرنا إليه فيما سبق أن لفظ الناس صورته واحدة وهو لفظان في الحقيقة وهو الذي يقال له أصلان
فالناس الموضوع للإنس فقط مادته من همزة ونون وسين والألف التي وسط زائدة فوزنه عال وهو غير الناس المتواطئ بين الإنس والجن فإن مادته من نون وواو وسين ولا حذف فيه بل قلبت واوه ألفا فوزنه فعل ولو لا ما ذكرناه من التغاير لكان مشتركا وثم ألفاظ في اللغة هكذا صورتها واحدة وإذا نظر إلى تصريفها واشتقاقها علم تغايرها مثل زال ماضي يزال و زال ماضي يزول ومثل علا التي هي فعل و على التي هي حرف وكثير من الألفاظ لا نطيل بذكره فلفظ الناس من هذا القبيل هذا الذي تختاره فيه وإن كان بعض النحاة ينقل فيه خلافا
وقول السائل إنه حيث أطلق الناس فالمراد ولد آدم هو الظاهر لكنا قدمنا خلافا في قوله في صدور الناس والآيتان اللتان ذكرهما المراد فيهما ولد آدم لقرينة فيهما ولا يلزم أن يكون ذلك في كل موضع والقرينة المذكورة منتفية في قوله قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا
فصل قال السائل وقوله صلى الله عليه وسلم وأرسلت إلى الخلق عامة أي رحمة
أقول هذا تفسير باطل لأن فيه خروجا عن موضوع اللفظ بلا دليل ومخالف لمقصود الحديث من قوله قبله وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه فتفسير الإرسال هنا بالرحمة تحريف وهو مما يشمئز له الطبع فأحاشي السائل منه ولا يسلك مثل هذه التأويلات إلا حيث تكون أدلة قوية تلجئ إلى ذلك وها هنا بالعكس الأدلة توافق الظاهر فأي ضرورة تدعو إلى هذه التعسفات
فصل قال ويتعين ذلك جمعا بينه وبين قوله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ولكون الخلق فيه من يتأتى الإرسال إليه
أقول أما الجمع بينه وبين الآية فلا منافاة بينهما فإن المذكور في الحديث المرسل إليه والمذكور في الآية العلة التي هي الرحمة وقد ثبت أن الرحمة عامة فلو عكس السائل وجعل
____________________
(2/615)
العموم في المرسل إليه كذلك كان أقرب إلى الصواب أما تفسير الإرسال بالرحمة التي هي علته فغير مرضي
وأما كون الخلق فيه من يتأتى الإرسال إليه فالجن يتأتى الإرسال إليهم لقوله تعالى ألم يأتكم رسل منكم ولقيام الإجماع على تكليفهم فإن قال لا يتأتى الإرسال من الإنس إليهم لكونهم من غير جنسهم فنقول إنه يتأتى فإن سليمان عليه السلام سخرت له الجن وغيره وإن لم يكن كذلك لكن إذا أرسله الله إليهم لا بد أن نجعل له طريقا إلى تبليغ الرسالة ويكفي في ذلك أن يحصل وصول ذلك الكلام بأي طريق كان وقد حصل هذا في استماع الجن لقراءته صلى الله عليه وسلم وفي ذهابه إليهم وقراءته عليهم
فصل قال السائل وأما تلاوة القرآن عليهم وتحديهم به فلاحتمال أن يحقق عجزهم عن معارضته ويثبت مدعاه إذ لا يمتنع اختصاص الرسالة بقوم وتحديهم بمعجزة لا يقدرون هم ولا غيرهم على الإتيان بمثلها وإذا انضاف إلى عجز المرسل إليهم عجز من سواهم ممن هو أقوى وأقدر منهم كان ذلك أبلغ في الانقياد والاستجابة له
أقول أما تلاوة القرآن عليهم فقد ثبت ذلك في الأحاديث وكان ذلك ليعلمهم بسؤالهم كما تبين من الأحاديث وأما تحديهم به فذلك المستدل أطلق هذه الدعوى وقد قدمنا أن بعض المصنفين ذكرها مستدلا بقوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن الآية وقلنا إنه لا دليل في ذلك إلا على التحدي بالقرآن من حيث الجملة وأنه لا يقدر أحد من الخلق على معارضته وأما عموم الدعوة به أو خصوصها فلا تعرض في الآية لذلك ولذلك فقول السائل أما تلاوة القرآن وتحديهم به إن أراد أن تلاوته عليهم كان لقصد التحدي
فهذا لم يثبت وإنما كان للتعليم والتحدي في اللغة هو المباراة وهو اصطلاح المتكلمين على نحو ذلك من دعوى الرسالة والإتيان بما يدل عليها من المعجزات والجن من حيث سمعوا القرآن بنخلة إذ صرفهم الله إليه علموا أنه معجز فلم يباروا فيه بعد ذلك وأيضا فالجن ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه وتضمن من نظم تلك الأساليب والجزالة الغاية القصوى الذي أعجزت الخلائق الذين هم فصحاء ذلك اللسان فعجزهم
____________________
(2/616)
عن معارضته أعجب من عجز الجن وإنما ذكرت الجن في قوله قل لئن اجتمعت الإنس والجن تعظيما لإعجازه لأن الهيئة الاجتماعية لها من القوة ما ليس للأفراد فإذا فرض اجتماع جميع الإنس وجميع الجن فظاهر بعضهم بعضا وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد والطائفة الواحدة منه وكل شخص منها عن المعارضة أعجز فمقصود الآية إثبات عجزهم بدليل الأولى سواء حصل هذا الاجتماع أم لم يحصل
والسائل معذور في رده على المستدل بذلك على عموم البعثة للجن ونحن لم نستدل بذلك بل بغيره مما لا معترض عليه ولا مرد له
فصل قال السائل وأما ما أحل لهم فذلك في الحقيقة تكليف لنا ومتعلق بنا وإن كان من أجلهم كما نهى عن البصق عن اليمين من أجل الملك وكما حرم استقبال القبلة بغائط أو بول
أقول إن ثبت لفظ الإحلال لهم لم يرد هذا لأن الإحلال لهم حكم شرعي متعلق بهم وهو إخبار لهم عن الله تعالى وهو معنى الرسالة والبعثة ولا ينبغي للسائل أن يتوقف في ذلك إن ثبت لفظ الإحلال لهم وإن لم يثبت إلا اللفظ الذي قدمناه وهو قوله لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه فهو محتمل للإحلال ولغيره كما قدمناه فهو محل التوقف وإذا جعل التوقف من هذا الدليل لم يحصل من غيره
وأما النهي عن البصاق لأجل الملك وتحريم استقبال القبلة بغائط أو بول فنظيره تحريم الاستنجاء بالعظم من أجل الجن وذلك بمجرده لا يستدل به وإنما يستدل بالتحليل لهم فليفهم الناظر الفرق بين التحليل لهم والتحريم علينا من أجلهم والأول حكم شرعي متعلق بهم والثاني متعلق بنا لا بهم وليس لنا إذا ورد اللفظ الأول أن نحمله على الثاني لأنه يجب علينا المحافظة على ألفاظ الشريعة ما أمكن وفهم معانيها وتوفيتها ما تستحقه من الأحكام ولا نهمل شيئا من ذلك ولا نتجاوزه فنزيد أحكاما لم ينزل الله بها من سلطان ولا ننقص منه فنترك حكما أنزله الله من فعل ذلك كان في الأول حاكما بغير ما أنزل الله وفي الثاني تاركا للحكم بما أنزل الله وكلاهما مذموم لقوله ومن لم يحكم بما أنزل الله الآيات وإذا توعد على عدم الحكم بما أنزل الله فعلى الحكم بما لم
____________________
(2/617)
ينزل الله أولى نسأل الله العصمة من الأمرين
فصل قال السائل وأما أنه لم يرسل إلى الجن إلا من الإنس فمجرد دعوى وقوله تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ظاهر في كون الرسل إليهم منهم واحتمال غير ذلك عدول عن الظاهر أقول هذه مسألة خلاف ذهب الضحاك إلى ما قاله السائل ولا أعرف ذلك نقل عن أحد معين إلا عنه لكن في كلام ابن جرير ما يقتضي أن غيره قال بقوله ولم يعينه وإنما نقله ابن جرير صريحا عنه
قال ابن جرير ثنا ابن حميد ثنا يحيى بن واضح ثنا عبيد بن سليمان قال سئل الضحاك عن الجن هل كان فيهم من نبي قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فقال ألم تسمع إلى قول الله تبارك وتعالى يا معشر الجن والإنس الآية يعني بذلك رسلا من الإنس ورسلا من الجن قالوا بلى ثم قال ابن جرير وأما الذين قالوا بقول الضحاك فإنهم قالوا إن الله أخبر أن من الجن رسلا أرسلوا إليهم قال ولو جاز أن يكون خبره عن رسل الجن بمعنى أنهم رسل الإنس جاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رسل الجن قالوا وفي فساد هذا المعنى ما يدل على أن الخبرين جميعا بمعنى الخبر عنهم أنهم رسل الله لأن ذلك هو المعروف في الخطاب دون غيره
هذا جملة ما قاله ابن جرير في مذهب الضحاك والأكثرون خالفوا الضحاك وقالوا لم يكن من الجن قط رسول ولم تكن رسل إلا من الإنس
نقل معنى هذا عن ابن عباس وابن جرير ومجاهد والكلبي وأبي عبيد والواحدي مع قوله إن الآية تدل للضحاك لكن هؤلاء يتأولونها واختلفوا في تأويلها فقال ابن عباس ومجاهد وابن جريج وأبو عبيد ما معناه إن رسل الإنس رسل من الله إليهم ورسل الجن قوم من الجن ليسوا رسلا عن الله ولكن بثهم الله في الأرض فسمعوا كلام رسل الله الذين هم من بني آدم وجاءوا إلى قومهم من الجن فأخبروهم كما اتفق للذين صرفهم الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستمعوا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين فهم رسل عن الرسل لا رسل عن الله تعالى ويسمون نذرا ويجوز تسميتهم رسلا لتسمية رسل عيسى رسلا في قوله تعالى إنا إليكم مرسلون وجاء
____________________
(2/618)
قوله يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم على ذلك فالرسل على الإطلاق من الإنس وهم رسل الله والنذر من الجن وهم رسل الرسل ويجوز تسميتهم رسلا هذا قول هؤلاء
وقال طائفة والكلبي تأويل الآية وقوله ألم يأتكم رسل منكم كقوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من أحدهما وربما نقل معنى هذا عن ابن جريج أيضا وغيره
وقال الكلبي كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الإنس ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس يعني أنهم لم يرسل إليهم رسول من الإنس عن الله تعالى غيره وأما قبل ذلك فلم يكن فيهم إلا نذر يخبرونهم عن الرسل وتقوم الحجة عليهم بذلك ويتعلق بهم التكليف
وهذا الذي قاله الكلبي من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الجن والإنس لم يخالفه فيه أحد والضحاك إنما خالفه في الأمم الخالية كما تشير إليه الرواية التي ذكرناها من طريق أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وقول عبيد الله بن سليمان مثل الضحاك عن الجن هل كان فيهم من نبي قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر هذا التقييد فمن نقل عن الضحاك مطلقا أن رسل الجن منهم فهو محمول على هذا التقييد ولم ينقل أحد عنه أن ذلك في هذه المسألة وإن توهم ذلك أحد عليه فقد أخطأ ويجب عليه النزوع عنه وعدم اعتقاده وأن لا ينسب إلى رجل عالم ما يخالف الإجماع فيكون قد جنى عليه جناية يطالبه بها بين يدي الله تعالى
وقول السائل واحتمال غير ذلك عدول عن الظاهر
عبارة رديئة فإن العدول عن الظاهر هو سلوك ذلك الاحتمال والقول به لا نفس الاحتمال وإذا صحت العبارة يجاب بأن العدول عن الظاهر جائز بل واجب إذا دل عليه دليل والذين عدلوا عن الظاهر في ذلك أكابر الأمة ابن عباس فمن دونه وأين يقع الضحاك منهم أو من وافقه
فصل قال السائل ثم إن الجن سابقون على الإنس في الخلق والوجود فحال وجودهم السابق إما أن يكون أرسل إليهم أو لا والأول يلزم كون الرسل من غير الإنس ضرورة تقدمهم عليهم
والثاني يلزم عليه عدم تكليفهم وعدم تعذيبهم وذلك
____________________
(2/619)
على خلاف قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا أقول عطف الوجود على الخلق لا معنى له لأنهما بمعنى واحد إلا أن تقول إن الخلق فعل والوجود انفعال والثاني بعد الأول في الذهن وإن كان معه في الخارج فهذا المعنى وإن كان صحيحا لا يعتمد في مثل هذا وقوله إنهم سابقون على الإنس إن استند في هذا إلى قوله تعالى إلا إبليس كان من الجن فالناس قد اختلفوا في تفسير ذلك فقال بعضهم إن الجن اسم لكل من استتر عن العيون من أولي العلم وينقسم إلى مؤمنين يسمون ملائكة وإلى كفار يسمون شياطين حكاه الحليمي وقد أشرنا إليه فيما سبق
وقال بعضهم الملائكة جنس من غير جنس الجن وهذا هو المشهور الذي يشهد له الكتاب والسنة وعلى هذا قل إن إبليس أبو الجن كآدم أبي البشر فعلى الأول مؤمنو الجن هم الملائكة وهم مكلفون وتكليفهم إما بسماع كلام الله تعالى وإما بخلق علم ضروري بما يؤمرون به وينهون عنه وإما بأن يرسل بعضهم إلى بعض وكفار الجن هم الشياطين ولعل أولهم إبليس وهو مكلف بسماع كلام الله تعالى ومن بعده لا يلزم فيه ما قاله السائل يجوز وصول رسل الإنس إليه وعلى القول الثاني يكون الجن موجودين قبل آدم عليه السلام ولم ينقل لنا كيف كان تكليفهم هل هو بسماع كلام الله تعالى أو بعلم ضروري واستدلالي والكلام إنما هو فيما بعد ذلك ففرض هذه الحالة من التكليف الذي لا حاجة إلى الكلام فيه وتوقيف التكليف على الرسول إنما هو في هذه الأمم التي فيها الرسل وإلا فالملائكة الذين هم رسل كجبريل مكلفون
ونقل إمام الحرمين عن المعتزلة إنكار وجود الجن وهو عجب كيف ينكر من يصدق بالقرآن وجود الجن
وإنما ذكرنا هذا ليعلم السائل أن هذه الأمور التي يأخذها مسلمة من نفسه لا يسلمها إليه غيره وقوله تعالى وما كنا معذبين الآية سياق الكلام الذي قبله يدل على أنه في الإنس فإنه قال وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه الآية إلى قوله رسولا ولا خلاف أن إبليس مكلف معذب لمخالفته أمر الله تعالى قبل أن يأتيه رسول لا إنسي ولا
____________________
(2/620)
جني فالآية مخصوصة أو أن العقل قائم مقام الرسول عند من يثبت الأحكام بالعقل أو أن الرسول قد يكون من الملائكة أو أن التكليف يحصل بسماع كلام الله تعالى أو خلق علم وأما قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فالظاهر أن السائل بنى كلامه على أن معناها إلا لأمرهم بالعبادة وهو قول من أقوال المفسرين فيها والمشهور خلافه وفيها بحث كبير لا يحتمله هذا الموضع
فصل قال السائل وأما دعوى الإجماع فهل له مستند وهل هو قطعي أو ظني وهل المطلوب في هذه المسألة القطع أو الظن وهل تثبت دعوى الإجماع في الأصول بخبر الواحد
أقول أما مستند دعوى الإجماع فقد تقدم من كلام أبي طالب عقيل بن عطية وإمام الحرمين بل كلام إمام الحرمين يقتضي أنه معلوم بالضرورة وإن كان ما ذكره إلا استطرادا في الرد على العيسوية وهم طائفة من اليهود منسوبون إلى رجل يقال له أبو عيسى يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول إلى العرب خاصة وما قاله الإمام صحيح لأنا نعلم قطعا بالنقل المتواتر المفيد للضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم ادعى الرسالة مطلقة ولم يقيدها بقبيلة ولا طائفة ولا إنس ولا جن فهي عامة لكل من هو على بسيط الأرض وسكان الأرض هم الإنس والجن فهم كلهم في دعوته وعموم رسالته
وقول السائل قطعي أو ظني قد علم جوابه وأنه قطعي وتضمن كلام إمام الحرمين لذلك وهو القدوة لكني أنبه هنا على شيء وهو أن المعلوم بالضرورة من الشرع قسمان أحدهما يعرفه الخاص والعام والثاني قد يخفى على بعض العوام ولا ينافي هذا قولنا إنه معلوم بالضرورة لأن المراد أن من مارس الشريعة وعلم منها ما يحصل به العلم الضروري بذلك وهذا قد يحصل لبعض الناس دون بعض بحسب الممارسة وكثرتها أو قلتها أو عدمها فالقسم الأول من أنكره العوام أو الخواص فقد كفر لأنه مكذب للنبي صلى الله عليه وسلم في خبره
ومن هذا القسم إنكار وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها وتخصيص رسالته ببعض الإنس
فمن قال ذلك فلا شك في كفره وإن اعترف بأنه رسول إليه لأن عموم رسالته إلى جميع الإنس مما يعلمه الخواص والعوام بالضرورة من الدين والقسم الثاني من أنكره من العوام الذين
____________________
(2/621)
لم يحصل لهم من ممارسته الشرع مما يحصل له به العلم الضروري وإن كانت كثرة الممارسة أوجبت للعلماء العلم الضروري بذلك ومن هذا القسم عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الجن فإنا نعلم بالضرورة ذلك لكثرة ممارستنا لأدلة الكتاب والسنة وأخبار الأمة
وأما العامي الذي لم يحصل له ذلك إذا أنكر ذلك فإن قيد الشهادة بالرسالة إلى الإنس خاصة خشيت عليه الكفر كما قدمته في أول هذه الفتوى وإن أطلق الشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولم ينتبه لأن إنكاره لعموم الدعوى للجن يخالف ذلك فلا أرى الحكم بكفره ولكن يؤدب على كلامه في الدين بالجهل ويؤمر بأن يتعلم الحق في ذلك لتزول عنه الشبهة التي أوجبت الإنكار وإذا لم يحصل منه إنكار ولا تكلم في ذلك ولا خطر بباله شيء منه فلا لوم عليه ولا يؤمر بتعلم ذلك لأنه ليس فرض عين وإن خطر بباله ذلك وجب عليه السؤال واعتقاد الحق أو صرف نفسه عن اعتقاد الباطل ويشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة مطلقة
وقول السائل هو المطلوب في هذه المسألة القطع أو الظن
حوابه يؤخذ مما قدمناه فإن العامي لا يكلف بذلك قطعا ولا ظنا والعالم المطلوب منه القطع
وقوله وهل تثبت دعوى الإجماع في الأصول بخبر الواحد جوابه أن المسألة قد قلنا إنها قطعية في نفسها وإن كان القطع فيها غير لازم للعامي فتكون بالنسبة إليه كمسائل الفروع فيكتفى فيها بالإجماع المنقول بالأحاد وأما العالم فهذا الإجماع عنده متواتر مقطوع به كسائر الأشياء الثابتة بالتواتر كما تضمنه كلام إمام الحرمين
فصل قال السائل ثم إن القاضي لم يتعرض في كتابه الشفا لذكر هذه المسألة مع إطنابه وإسهابه في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته
أقول هذا لا تعلق فيه وليس كتاب حوى العلم كله إلا كتاب الله وخصائصه صلى الله عليه وسلم ومعجزاته لا تدخل تحت الحصر ولو أسهب الخلق فيها وأطنبوا لكان ما فاتهم منها أكثر وينبغي تجنب لفظ الإسهاب والإطناب في ذلك لأنهما الإكثار والمبالغة وكل متكلم في هذا المقام من البشر مقصر فضلا عن أن يقال مسهب أو مطنب
فصل قال السائل لا يلزم من تحاكمهم إليه صلى الله عليه وسلم إرساله إليهم ما لم ينص
____________________
(2/622)
على ذلك
أقول قد سبق بعض القول في ذلك والحق أنهم متى تحاكموا إليه وحكم بينهم فلا بد أن يكون ذلك الحكم حكم الله عليهم إما برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وهو المدعى وإما بموافقة رسالة غيره إليهم كما يدعيه السائل ويكون مع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم موافقا لذلك بالنسبة إليهم فثبتت الرسالة بذلك إليهم على كل حال
وروى البغوي في تفسيره أنه صلى الله عليه وسلم قال إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إلي فقضيت بينهم بالحق
فصل قال السائل وأما خبر ابن عباس وأن ذلك مما خفي عليه فبعيد مع جزمه بذلك ومعلوم أنه لا يقوله عن اجتهاد
أقول قد تقدم شرح مراد ابن عباس بخلاف ما قاله السائل والمستدل
فصل قال السائل ثم إذا ثبت كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الجن فهل هم ممتازون عنا بشريعة وعبادات أو الواجب علينا وعليهم واحد فإن كان الأول فما الحكم في إخفاء شريعتهم عن الأمة وقد بين صلى الله عليه وسلم أحوال الملائكة الكرام عليهم السلام وأذكارهم وعباداتهم وهم أشرف وأرفع منهم
أقول الذي يظهر لنا أنهم لم يمتازوا بشريعة بل الواجب علينا وعليهم شيء واحد لعموم أدلة الشريعة فيجب عليهم الصلاة والطهارة كما هي واجبة علينا لا يختلف حكم من الأحكام في حقهم إلا أن لا يوجد فيهم شبه أو لا يعلموا أنه هذا هو الذي نختاره في ذلك تمسكا بإطلاق النصوص وأن القرآن هو الإمام للجميع وأحكامه جارية عليهم في كل شيء
ولو فرضنا أن بعض الفروع لا تلزمهم وأنه يكتفى منهم بالتوحيد والإقرار بالرسالة والمعاد واجتناب المحرمات ماذا يلزم عليه من الأشكال ولو فرض أنهم يمتازون ببعض الأحكام يختصون بها عن الإنس فما يلزم من ذلك وعدم إعلامنا بذلك لعدم حاجتنا إليه ولا يقال في ذلك إخفاء حتى تطلب لحكمة فيه وبيان أحوال الملائكة وهم أشرف منهم كيف يلزم منه بيان أحوال الجن على أن أحوال الملائكة لم تتبين كلها وإنما بين بعضها مما يحصل ببيانه اعتبار وفائدة
فصل قال السائل ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم وكان النبي يبعث
____________________
(2/623)
إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة هل التخصيص باعتبار ما بعثوا به من الفروع المختصة بأمة دون أخرى لاتفاقهم في أصول الدين أم باعتبار مجموع الأمرين الأصول والفروع حتى لا يكون الرسول إلى طائفة خاصة مبديهما سواهم ولا يجب على غيرهم الدخول في دعوته
أقول الذي ظهر لنا باعتبار ما وصل بحثي إليه وما فهمته من كلام العلماء إنه باعتبار مجموع الأمرين الأصول والفروع لأنه ظاهر اللفظ ولا صارف له ولأنه أبلغ في علو شأنه صلى الله عليه وسلم ولأنه جعل المقابلة بين بعثه وبعثهم لا بين شريعته وشريعتهم والاحتمال في الثاني لا في الأول ولأن الناس تكلموا في غرق فرعون وقومه مع كون موسى عليه السلام شريعته لبني إسرائيل وأجابوا بأن موسى عليه السلام أيضا كان رسولا إلى فرعون وقومه بالإيمان مع استعباد بني إسرائيل والدليل على ذلك اذهب إلى فرعون الآيتين كذلك وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين الآيتين
وغير ذلك من الآيات تدل على دعوة موسى وهارون لفرعون وقومه بالأصول ولا ينافي ذلك قوله أن أرسل معنا بني إسرائيل لأنه كان مكلفا بالأصول وبهذا الفرع كل ذلك بمقتضى شريعة موسى وإن كان قد كان مكلفا قبل ذلك أيضا بشريعة غيره لقوله تعالى أنه يدل على كفره فيما مضى وتقدم تكليفه
ولهذا يوجد في كلام العلماء أن موسى رسول إلى بني إسرائيل وإلى القبط وكذا هو وتتعلق شريعته أيضا بكل من أراد الدخول في شريعته من غير بني إسرائيل قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونزول التوراة وما فيها من الأحكام لم يكن إلا بعد غرق فرعون وقومه فهي متعلقة ببني إسرائيل ومن دان بدينهم خاصة دون فرعون وقومه فلم تتعلق بهم وهم في ذلك كمن مات من الكفار في أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ثم تجددت بعد موته أحكام أخرى نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ولأن الناس قالوا في الطوفان إنه لم يكن في الأرض إلا قوم نوح عليه السلام فلذلك عوقبوا
وربما مر بي من كلام بعض الناس في الاعتذار عن غرق أهل الأرض بالطوفان وغرق فرعون وقومه بأنهم كانوا مكلفين بالإيمان بدعوة من تقدم من الرسل لاشتراك جميع الرسل في
____________________
(2/624)
الدعوة إلى الإيمان وإنما التخصيص بالفرع وهذا لا حاجة إليه مع العلم بأن في الطوفان لم يكن في الأرض إلا قوم نوح وبأن فرعون وقومه دخلوا في دعوة موسى بالإيمان
وهذا كله على مذهبنا في أن الأحكام كلها أصولها وفروعها لا تثبت إلا بالشرع وأما المعتزلة القائلون بأنها تثبت بالعقل فيكتفون في إغراق فرعون ونحوه بقيام الدليل العقلي عليه وبالإيمان ومخالفته وعلى كل تقدير فرض سواء قلنا بقول المعتزلة أو بما مر بي من كلام بعض الناس أو بما قلناه ولا يلزم أن دعوة كل نبي بالإيمان وأصول الدين كانت عامة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يلزم من اشتراك جميع الأنبياء في الدعوة إلى الإيمان أن دعوة كل منهم عامة فيه إلى جميع الناس بل معناه أن كل نبي دعا قومه إليه كما قال تعالى شرع لكم من الدين الآية فكل واحد داع إلى ذلك من أرسل إليه
وقال تعالى إنا أرسلنا نوحا إلى قومه وقال تعالى وإلى عاد وإلى ثمود أخاهم صالحا وقال في التوراة هدى لبني إسرائيل وقال عيسى عليه السلام ورسولا إلى بني إسرائيل وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا أرسلناك ولم يخصص وقال النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة وظاهره ما قلناه فالعدول عنه لا يجوز
فصل قال السائل ويؤيده قوله تعالى وجاوزنا ببني إسرائيل البحر الآيات فلم ينكر موسى عليه الصلاة والسلام عليهم فلا دعاهم إلى دينه
أقول أما كون موسى عليه السلام لم ينكر عليهم فلا يقدر على إثباته ولعله قد أنكر وأما كونه ما دعاهم إلى التوحيد فكذلك والظاهر أن أولئك القوم بلغتهم دعوة نبي قبله فموسى عليه السلام وإن لم يكن مبعوثا إلى أولئك القوم لكنه إذا رآهم على جهل وخطأ لا يترك إرشادهم
وعلى كل حال تأييد ذلك المدعى بهذه القصة ضعيف وذلك المدعى متأيد ثابت بغيرها كما سبق
هذا ما انتهى نظري إليه في الجواب عن هذا السؤال
وقد استوفيت كلام السائل فلم أحذف منه شيئا وهذا الجواب يصلح أن يكون تصنيفا مستقلا ويسمى الدلالة على عموم الرسالة فرغت منه عند أذان الصبح يوم الأربعاء سابع عشر شعبان سنة 238 انتهى
____________________
(2/625)
السؤال الثاني في رجل مسلم استأجر ذميا شهرا كاملا على عمل واقتضى إطلاق العقد استثناء السبوت ثم أسلم الذمي هل يلزمه العمل في السبوت أم لا وإذا وجب عليه أداء الصلاة في وقتها مع استحقاق صرفها إلى العمل بأصل العقد هل يتمكن المستأجر من الفسخ بذلك أم يسقط ما يقابلها من الأجرة بنظيره من المسمى أم يقابل بأيام السبوت
الجواب أن إطلاق عقد استئجار الذمي على عمل مقدر بزمان يقتضي استثناء السبوت
قاله الغزالي في فتاويه ونقله الرافعي والنووي عنه ولم ينقلاه عن غيره ولا ينبغي أن يؤخذ مسلما بل ينظر فيه وقد سئل عنه القاضي أبو بكر الشامي متعقبا على الغزالي فقال يجبر على العمل فيها لأن الاعتبار بشرعنا في ذلك فقيل قد رأيت في جزء جمع فيه مسائل يحكى عنه أنه أفتى أنها تكون مستثناة فسكت طويلا فقال ليس ذلك بصحيح ثم قال يحتمل أن يقال ذلك ويستثنى بالعرف كما يستثنى الليل من المدة
انتهى
والذي قاله الغزالي في فتاويه مقيد بما إذا اقتضى العرف ذلك ولفظ الفتاوى ما أحكيه لك مسألة إذا أجر اليهودي نفسه مدة معلومة ما يكون حكم السبوت التي تتخللها إذا لم يستثنها فإذا استثناها فهل تصح الإجارة لأنه يؤدي إلى تأخير التسليم عن العقد
جوابها إذا اطرد عرفهم بذلك كان إطلاق العقد كالتصريح بالاستثناء وينزل استثناء السبت منزلة استثناء الليل في عمل لا يتولى إلا بالنهار
وحكمه أنه لو استثنى الإجارة في أول الليل مصرحا بالإضافة إلى أول الغد لم يصح وإن أطلق صح وإن كان الحال يقتضي تأخر العمل كما لو أجر أرضا للمزارعة في وقت من الشتاء لا يتصور المبادرة إلى زراعته أو أجر دارا مشحونة بالأمتعة لا تفرغ إلا في يوم أو يومين والله أعلم هذا كلام الغزالي وهو كلام متين قويم وفيه فوائد ننبه عليها أن شاء الله ومنها يتوصل إلى جواب السؤال أما قول الغزالي إذا اطرد عرفهم فينبغي أن يحمل على عرف المستأجر والمؤجر جميعا سواء أكان المستأجر مسلما أم لا فلو كان عرف اليهود مطردا بذلك ولكن المستأجر المسلم لم يعرف ذلك لم يكن
____________________
(2/626)
إطلاق العقد في حقه منزلا منزلة الاستثناء والقول قول المسلم في ذلك إذا لم يكن من أهل تلك البلدة ولم يعلم من حاله ما يقتضي معرفته بذلك العرف وحينئذ فهل نقول العقد باطل أو يصح ويثبت له الخيار أو يصح ويلزم اليهودي بالعمل فيه نظر والأقرب الثالث لأن اليهودي مفرط بالإطلاق مع من ليس من أهل العرف
وقوله كان إطلاق العقد كالتصريح بالاستثناء ينبغي أن لا يفهم من الاستثناء خروج السبب عن عقد الإجارة فإنه لو كان كذلك لجرى في الإجارة خلاف كإجارة العقب ولو جاز له أن يؤجر نفسه يوم السبت لآخر إذا لم يلتزم بالسبت وتجويز ذلك بعيد لأنه يلزم منه عقد الإجارة على العين لشخصين على الكمال في مدة واحدة وكلام الفقهاء يأباه وصرحوا بأنه إذا ورد عقد على عين لا يجوز أن يعقد عليها مثله وهكذا نقول في استثناء أوقات الصلوات في استئجار المسلم مدة ليس معناه أن تلك الأوقات متخللة بين أزمان الإجارة تكون كإجارة العقب وكذلك نقول في استثناء الليل أو أكثره من استئجار العبد للخدمة ليس معناه خروجه عن عقد الإجارة بل الذي نقوله في هذه المواضع كلها أن منفعة ذلك الشخص في جميع تلك المدة مستحقة للمستأجر مملوكة له بمقتضى العقد ومع هذا يجب عليه توفيره من العمل في تلك الأوقات كما أن السيد يستحق منفعة عبده في جميع الأوقات ومع ذلك يجب عليه توفيره في أوقات الصلوات وأوقات الراحة بالليل ونحوه
فهذا هو معنى الاستثناء وهو استثناء من الاستيفاء لا من الاستحقاق وإن شئت قلت من استيفاء المملوك لا من الملك وإن شئت قلت العقد مقتض لاستحقاقها ولكن منع مانع فاستثناها وعلى كل تقدير العقد وارد على العين والمعقود عليه العين عند بعض الأصحاب أو المنفعة عند الجمهور والتقدير بالزمان يقتضي الاستيعاب حذرا من التقطع والاستقبال فاقتضى ما قلناه
وسبب هذا الاستثناء تارة يكون من جهة الشرع كأوقات الصلوات في السلم والأوقات التي يضر العمل فيها بالأجير كأوقات النوم ونحوه وتارة من جهة العرف كأوقات الراحة في المستأجر للخدمة في الأزمان التي جرت بها العادة وإن كان لو تكلف العمل لم يضره وكما ينصرف
____________________
(2/627)
الصناع من البناء ونحوه قبل الغروب بقليل ونحوه فإن ذلك مما يغتفر عرفا ولا يسقط بسببه من الأجرة شيء وكلا القسمين المستثنيين بالشرع والعرف داخل في عقد الإجارة حتى لو صرح بخروجها فإن أراد معنى الاستثناء الذي قلناه صح وكان تصريحا بحكم العقد وإن أراد خروجها من العقد بالكلية فينبغي أن يبطل العقد وإن كان الأصحاب لم يصرحوا بذلك بل أشاروا إلى أنه يجوز الاستئجار للخدمة نهارا دون الليل وكلامهم في ذلك يمكن تأويله على ما قلناه ألا ترى إلى تصريح الغزالي في هذه المسألة مع قوله بالاستثناء بأنه لو أنشأ الإجارة في أول الليل مصرحا بالإضافة إلى الغد لم يصح فأي فرق بين هذا وبين أن يطلق والليل مستثنى خارج عن العقد بالكلية فهذا الكلام من الغزالي شاهد لما قلناه مبين لما أطلقه الأصحاب وكذلك ما ذكره الغزالي من استئجار أرض الزراعة في وقت الشتاء لا تتصور المبادرة إلى زراعتها أو الدار المشحونة بالأمتعة فإن إجارتها صحيحة على الأصح وتلك المنافع اليسيرة مستثناة ولا نقول إنها غير مملوكة له حتى لو اقتضت تفريغها في الوقت الحاضر على مخالفة العادة أو زراعة الأرض مبادرة على خلاف العادة كان مستوفيا ما لا يستحقه بل هو مستوف ما يستحقه بدليل أن تلك المدة محسوبة من مدة الإجارة
فهذا كله يبين لنا معنى الاستثناء في ذلك وأما السبوت بالنسبة إلى اليهودي فيحتمل أن يقال بما قاله القاضي أبو بكر الشامي فإنها لم يقتضها شرع ولا عرف عام ولا ضرورة إلى ذلك لأنه يمكن التحرز عنها إما بصريح الاستثناء إن جوزناه كإجارة العقب وهو بعيد وإما بأن يوقع الإجارة في كل أسبوع على ما سوى السبت وتبتدئ بعد السبت إجارة أخرى وليس في ذلك من المشقة ما في أوقات الصلوات وأوقات الراحة لا طريق فيهما إلا إطلاق العقد واستثناؤهما حكما
ويحتمل أن يقال بما قاله الغزالي وهو الأولى لأن العرف وإن لم يكن عاما لكنه موجود فينزل منزلة العرف في أوقات الراحة ونحوها وقول الغزالي وينزل استثناء السبت منزلة استثناء الليل في عمل لا يتولى إلا بالنهار إشارة إلى ما قلناه في تأييد قوله بالاستثناء وفيه إشارة إلى
____________________
(2/628)
ما قلنا من معنى الاستثناء وحكمه أنه لو أنشأ الإجارة في أول الليل مصرحا بالإضافة إلى أول الغد لم يصح وإن أطلق صح إلى آخره يؤخذ منه تأييد ما قلناه في معنى الاستثناء كما بيناه
إذا عرفت هذا فنقول إذا قلنا بقول الغزالي وهو الأولى وأسلم اليهودي في مدة الإجارة وأتى عليه بعد إسلامه يوم سبت وجب عليه العمل فيها لما قررناه من دخوله في الإجارة وملك المستأجر لمنفعته فيه وإنما امتنع عليه الاستيفاء لأمر عرفي مشروط ببقاء اليهودية فإذا أسلم لم يبق مانع والاستحقاق ثابت لعموم العقد فيستوفيه ويجب عليه بعد ما أسلم أن يؤدي الصلوات في أوقاتها ويزول استحقاق المستأجر لاستيفائها بالإسلام وإن كانت مملوكة له بالعقد كما لم يستحق استيفاؤها في استئجار المسلم لأجل الشرع وإن كانت مملوكة له بالعقد على ما قررناه وإنما وجب استحقاق صرفها قبل الإسلام إلى العمل لعدم المانع من استيفائها مع استحقاقها ونظيره لو استأجر امرأة لعمل مدة فحاضت في بعضها فأوقات الصلوات في زمن الحيض ليست مستثناة وفي غير زمن الحيض مستثناة لما قلناه ولا ينظر في ذلك إلى حال العقد بل إلى حال الاستيفاء وهكذا اكتراء الإبل للحج وسيرها محمول على العادة والمنازل المعتادة فلو اتفق بغير العادة في مدة الإجارة وسار الناس على خلاف ما كانوا يسيرون فيما لا يضر بالأجير والمستأجر وجب الرجوع إلى ما صار عادة للناس ولا نقول بانفساخ العقد ولا باعتبار العادة الأولى وهذا مقتضى الفقه وإن لم أجده منقولا
وقول السائل هل يتمكن المستأجر بذلك من الفسخ جوابه قد ظهر مما قلناه أنه لا يتمكن المستأجر من الفسخ بذلك ولا يسقط ما يقابلها من الأجرة ولا يقابل بأيام السبوت
ومن هذا الفقه الذي أبديناه في هذه المسألة يجول النظر في مسألة وهي أن المستأجر لو استعمل الأجير اليهودي يوم السبت قبل الإسلام وقد قلنا يجب تخليته أو لو ألزم الأجير المسلم بالعمل في أوقات الصلوات ونحوها ظالما بذلك أو في الليل هل تلزمه أجرة المثل عن تلك الأوقات كذا لو استعمل غيره ظالما
____________________
(2/629)
في تلك الأوقات في تلك المنفعة المستأجر لنوعها المقدرة بالزمان هل تجب أجرة المثل للأجير أو للمستأجر هذا مما ينبغي النظر فيه وسواء ثبت أم لا لا يعكر على ما قررناه والله أعلم
وقد وقفت بعد ذلك على كلام للبغوي شاهد لما قلته ناص على هذه المسألة فإنه قال في فتاويه فيما لو استأجر عبدا فاستعمله في أوقات الراحة أنه لا يجب عليه أجرة زائدة لأن جملة الزمان مستحقة وتركه للراحة ليتوفر عليه عمله فإن استعمله ليلا تركه للراحة نهارا فإن لم يفعل فدخله نقص وجب عليه أرش نقصه كما أن زمان الصلاة عليه تركه ليصلي فإن استعمله فيها لا تجب عليه زيادة أجرة وعليه تركه لقضاء الصلوات
فهذا الكلام من البغوي هو نص ما حررته من البحث ولله الحمد على إصابة الحق
السؤال الثالث في رجل قال إن الذمية داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا قال والذمية مؤمنة بالله واليوم الآخر ونازعه بعض الفقهاء في ذلك فادعى أن الإيمان على قسمين مطلق ومقيد فأهل الذمة مؤمنون إيمانا مقيدا قال وهذا قول العلماء فسئل عن قائله فقال لست ممن يحتاج إلى إحضار النقل لا نسبته إلى معين
وقال إن الكفار إذا قلنا إنهم مخاطبون بفروع الشرائع بمعنى أنهم معذبون عليها في الآخرة إذا فعلوها في الدنيا خفف عذابها في الآخرة فقيل له قال الله تعالى ولا يخفف عنهم من عذابها قال معناه لا يخفف عنهم تخفيفا يجدونه فهل هذا القائل مصيب في هذه المقالات وهل يعضده قول أحد من العلماء المحققين على ذلك وإذا كان مخطئا فيه وأصر على اعتقاده مظهرا معلنا به ماذا يجب عليه
الجواب قال الله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية فقد صرح بأن أهل الكتاب لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر والذمية منهم فهي لا تؤمن وقد قال العلماء إن اليهود والنصارى وإن كانوا يعتقدون الآخرة ولكنهم يعتقدونها على غير وجهها فلذلك قيل فيهم إنهم لا يؤمنون باليوم الآخر وكذلك إيمانهم بالله تعالى على غير وجهه فالقائل بأن الذمية تؤمن بالله واليوم الآخر غير
____________________
(2/630)
مصيب
وقوله إيمانا مقيدا إشارة إلى أنه قد يطلق ذلك على سبيل المجاز فإن المجاز هو الذي يحتاج إلى التقييد ولو كان حقيقة لما احتاج إلى تقييد كالجناح إذا أريد به يطلق على الحقيقة وإذا أريد المجاز يقيد كجناح الذل فأي داع لهذا القائل إلى الإطلاق المجازي
وقوله إنها داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ينبغي أن نقول في حكمه فإنا إذا قلنا الكفار مخاطبون بفروع الشرائع داخلة في حكم ذلك وأما في لفظه فلا لأنه مقيد بامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر فلا تدخل في عموم لفظة غيرها وإنما تدخل في حكمه بالأدلة الدالة على تكليف الكافرة بما تكلف المؤمنة ونسبته إلى العلماء لا يمنع أن يكون وقع في كلام بعض العلماء ومراده ما ذكرناه من الإطلاق المجازي كما قال ابن قتيبة وغيره ذلك كل الخلق مقرون بالله تعالى كما قال تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله
وقوله أنه ليس ممن يحتاج إلى إحضاره نقل لا ينبغي مشاححته فيه وينبغي للمتناظرين أن يحتمل كل منهما الآخر وهما أخوان متعاونان على إظهار الحق ولا ينبغي للأخ أن يحقر أخاه وإن جفاه احتمله ولا يؤاخذه بل يعظمه ويوقره ويتأدب معه ويدعو له ويعلم أنه سبب في زيادة علمه فيجعله وسيلة له إلى الله تعالى
والقائلون بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة صرحوا بأنهم إذا تركوها يضاعف لهم العذاب في الآخرة فيعاقبون على ترك الإيمان وعلى ترك الواجبات وفعل المحرمات
والقائلون بأنهم لا يخاطبون في حال الكفر إلا بالإيمان قالوا لا يعاقبون إلا على الكفر فقط ومع ذلك هم دركات بعضهم أقوى عذابا من بعض فأصحاب الدرك الأسفل أزيد عذابا ممن فوقهم لأن مراتب الكفر متفاوتة ولا يقال إن الذين فوقهم يخفف عنهم من العذاب سواء قلنا الكفار مخاطبون بالفرع أم لا وإذا قلنا إنهم مخاطبون فالواجبات لا يمكن أن يأتوا بها في الكفر الذي من شرطها النية التي هي عبارة لا تقع منهم فهم معذبون عليها على هذا القول مطلقا فقول القائل إذا فعلوها خفف عنهم لا يمكن حمله على ذلك فإن كان هذا القائل أراده فليس كما قال
وأما الواجبات التي لا يشترط فيها نية القربة كأداء الديون والودائع والعواري والغصوب والكفارات
____________________
(2/631)
إذا غلب فيها شائبة الغرامات واجتناب المحرمات وكل ذلك يمكن أن يقع منهم فإذا فعلوا هذه الواجبات لم يعذبوا في الآخرة على تركها إذ لا ترك منهم لها وإذا اجتنبوا المحرمات لم يعذبوا على ارتكابها إذ لم يرتكبوها ولا يقال إن ذلك يخفف عنهم من العذاب الذي يستحقونه بكفرهم لم يخفف عنهم منه شيء وهو المقصود بقوله تعالى لا يخفف عنهم من عذابها وقول القائل لا يخفف عنهم تخفيفا يجدونه ليس بجيد إذ المراد ما أشرنا إليه ولا شيء من عذاب جهنم خفيف أعاذنا الله منه بل بعضه أشد من بعض والكل شديد نسأل الله العافية
والسؤال عما يجب على القائل إذا أخطأ أو أصر لا ينبغي بل الذي يجب التعاون على الحق والرشاد والتناصر وأن يكونوا عباد الله إخوانا انتهى
مسألة سئل عما ورد في الأحاديث من قولهم يهريق الماء والدم ونحوهما هل هو بفتح الهاء أو بإسكانها وعن كيفية النطق بهذه الكلمة في سائر تصاريفها وعن أصلها وما صارت إليه
الجواب إن قولهم يهريق فيه لغتان فتح الهاء وإسكانها والفتح أشهر وهو الذي سمعناه من أفواه المحدثين ووقعت به الرواية وأما أصل هذه الكلمة وما صارت إليه وكيفية النطق بها في تصاريفها فإن الأصل في ذلك أراق ويقال فيه هراق أبدلوا من الهمزة المفتوحة هاء مفتوحة ويقال فيه أهرق على ما حكاه الجوهري فإن ثبت ففيه زيادة الهاء وحذف عين الكلمة والهاء في هذه اللغة أيضا ساكنة
وفي كلام بعضهم ما يقتضي أنه يقال أهراق بفتح الهاء فإن ثبت ذلك فهي خمس لغات أراق وهو الأصل وهراق وهو فصيح كثير وأهراق بإسكان الهاء وبألف بعد الراء وأهرق بإسكان الهاء من غير ألف بعد الراء وأهراق بزيادة هاء مفتوحة بين الهمزة والراء من غير تغيير والذي في كلام سيبويه في ذلك أنه قال في باب ما تسكن أوائله من الأفعال المزيدة وأما هرقت وأهرقت فأبدلوا مكان الهمزة الهاء كما تحذف استثقالا لها فلما جاء حرف أخف من الهمزة لم يحذف في شيء ولزم لزوم الألف في مضارب وأجري مجرى ما ينبغي لإلف أفعل أن تكون عليه في الأصل وأما الذين قالوا
____________________
(2/632)
أهرقت فأنما جعلوها عوضا من حذفهم العين وإسكانهم إياها كما جعلوا ثلاثين وألف ثمان عوضا وجعلوا الهاء العوض لأنها تزاد ونظير هذا قولهم استطاع يستطيع جعلوا العوض السين لأنه فعل فلما كانت السين تزاد في الفعل زيدت في العوض لأنها من حروف الزوائد التي تزاد في الفعل وجعلوا الهاء بمنزلتها لا تلحق الفعل في قولهم ارمه وعه ونحوهما
انتهى كلام سيبويه رحمه الله
قال وفي باب حروف البدل وقد أبدلت يعني الهاء من الهمزة في هرقت
واشتمل كلام سيبويه على ثلاث لغات أراق وهراق وإهراق ولم يبين أن هذه الأخيرة بفتح الهاء أو بإسكانها لكن ظاهر قوله إنها نظير استطاع أنها بإسكانها وكذلك أوردها الجوهري في الصحاح مقيدة بالخط في كتابه وأما الرابعة وهي أهرق فحكاها الجوهري وقال أهرق الماء يهرقه إهراقا على أفعل يفعل قال سيبويه قد أبدلوا من الهمزة الهاء ثم ألزمت فصارت كأنها من نفس الحرف ثم أدخلت الألف بعد على الهاء أو تركت الهاء عوضا من حذفهم حركة العين لأن أصل أهرق أريق
انتهى كلام الجوهري
وقال ابن قتيبة في أدب الكاتب في باب شواذ التصريف قال سيبويه قالوا الماء ثم أبدلوا من الهمزة هاء فقالوا هرقت ثم قال سيبويه ثم لزمت الهاء فصارت كأنها من نفس الحرف ثم أدخلت الألف بعد على الهاء وتركت الهاء عوضا من حذفهم العين لأن أصلها أريقت فقالوا أهرقت ونظيره اسطعت
انتهى كلام ابن قتيبة
وليس في كلامه ولا فيما حكاه عن سيبويه ولا فيما حكيناه نحن عن سيبويه ما يصرح بما قاله الجوهري من أنه أهرق يهرق على أفعل يفعل لأن قول سيبويه وقول ابن قتيبة أهرقت يحتمل أن يكون من ذلك وأن يكون من هراق التي هي اللغة الثانية ولعل عند الجوهري شيئا زائدا أوجب له ذلك وهذا هو الظن به لكن فيه إشكال لأن الهمزة والهاء لا يمكن أن يكونا أصليين أما الهمزة فظاهر وأما الهاء لأن مادة هرق مفقودة ولو ثبت ذلك لخرج عن أن تكون من مادة أراق بل يكون أصلا آخر ثم إن الجوهري حكى كلام سيبويه أهرق يهرق ثم حكى لغة أهراق ونظيرها اسطاع وقد عرفت
____________________
(2/633)
أن سيبويه نظرها باسطاع ولعل لسيبويه كلاما آخر غير ما حكيناه عنه ويتعين ذلك فإن اللفظ الذي حكاه الجوهري وابن قتيبة غير ما حكيناه
وأما اللغة الخامسة وهي أهراق بالهمزة وفتح الهاء فقال ابن الأثير في نهاية الغريب أراق الماء يريقه وهراقه يهريقه بفتح الهاء هراقة ويقال فيه أهرقت الماء أهرقه فتجمع بين البدل والمبدل وهذا الكلام من ابن الأثير إن كان عن ثبت يلزم منه هذه اللغة لأن الجمع بين البدل والمبدل هو الجمع بين الهمزة المفتوحة والهاء المبدلة منها وهي مفتوحة وأما الساكنة فليست بدلا من الهمزة
ويشير إلى صحة ما قاله ابن الأثير ماحكاه الجوهري وابن قتيبة عن سيبويه من أنهم أبدلوا من الهمزة الهاء ثم ألزمت ثم أدخلت الألف وظاهر ذلك يقتضي أن الألف أدخلت عليها وهي متحركة وإن كان الجوهري وابن قتيبة لم يورداه على هذا الوجه
فهذه خمس لغات قد تحررت في الفعل الماضي وجميع تصاريف الكلمة يأتي فيه هذا الاستعمال لكن لا بد من التنبيه عليها فنقول هذا كله في الفعل الماضي المبني للفاعل وأما الفعل المضارع المبني للفاعل فعلى لغة أراق يريق وأصله يأريق ثم حذفت الهمزة ويجوز أيضا في هذا أن يأتي مضارعه يهريق بفتح الهاء لأن ابن عصفور لما ذكر إبدال الهاء من الهمزة ذكر في الماضي وفيما تصرف منها ويقتضي ذلك أنه يجوز الإبدال من المضارع وإن كان ماضيه على الأصل وعلى لغة هراق يهريق بفتح الهاء ليس إلا ولا يجوز إسكانها ولا حذفها ومن ادعى خلاف ذلك فقد أخطأ
وإنما قلنا لا يجوز إسكانها لأنها صارت مثل دال دحرج وإنما قلنا لا يجوز حذفها لقول سيبويه المتقدم فلما جاء حرف أخف من الهمزة لم يحذف في شيء ولزم لزوم الألف في ضارب
وممن نص على أن الهمزة إذا أبدلت هاء في ذلك لم تحذف شيخنا أبو حيان في كتاب ارتشاف الضرب وعلى اللغة الثالثة وهي أهراق يهريق بإسكان الهاء في المضارع كما هو في الماضي وقد ذكر الجوهري على هذه اللغة أنه يقال في اسم المفعول منه مهراق بإسكان الهاء ومهراق أيضا بالتحريك قال وهذا شاذ مثله
وعلى اللغة الرابعة وهي أهرق
____________________
(2/634)
قد صرح الجوهري بأنه يهريق وهو قياسه
وعلى اللغة الخامسة وهي أهراق بالهمزة وتحريك الهاء يكون المضارع يهريق بتحريك الهاء كما كان على اللغة الثانية وأما الفعل الماضي الذي لم يسم فاعله فقال أريق وهريق وأهرق بإسكان الهاء وأهريق بإسكانها أيضا وعلى اللغة الخامسة إذا ثبتت تقال أهريق بفتحها وهو في كلام أهل الحديث وقد نبهنا على الكلام على اللغة التي تقتضيه
والفعل المضارع الذي لم يسم فاعله يراق ويهراق بإسكان الهاء ويهراق بفتحها ويهرق
وبقية تصاريف الكلمة واضحة لا تخفى على من له أدنى أنس بالصناعة
وقد بلغني أن سبب السؤال عن هذا أن قارئا قرأ في السيرة وكانوا يهريقون الماء حول الكعبة فرد بعض الفضلاء عليه فتح الهاء وأنكره وهذا عجب فإن فتح الهاء في ذلك هو الأصح الأشهر وهو الجاري على ألسنة المحدثين هكذا ينطقون به بضم الياء وفتح الهاء وكسر الراء وصناعة النحو تقتضيه وله تخريجات ثلاثة أحدها أنه مضارع هراق والمبدلة هاؤه من الهمزة والثاني أنه مضارع أراق وأصل المضارع منه يأريق بهمزة مفتوحة بعد الياء ثم أبدلت هذه الهمزة والثالث أنه مضارع فإن ابن عصفور قال إن الهاء أبدلت من الهمزة في أبرت وأرقت وأردت وأبرت وما تصرف منها وفي كلا الوجهين لا يلزم حذف الهاء كما تحذف الهمزة لنص سيبويه وغيره على أن الهمزة متى أبدلت هاء لم تحذف
والتخريج الثالث أن يكون مضارع أهراق المزيد فيه بعد همزته هاء مفتوحة إن ثبت ذلك
وأما يهريق بإسكان الهاء فليس له إلا تخريج واحد وهو أنه مضارع أهراق الذي زيد فيه هاء ساكنة بعد الهمزة وهو لغة قليلة نظيرها إسطاع بقطع الهمزة ولا يجيء في هذا اللفظ الذي في السيرة غيرها بين اللغتين لأنه مكتوب بباء بعد الراء فلا تأتي فيه اللغة الأخرى التي حكاها الجوهري وهي أهرق يهرق مثل أكرم يكرم فإن تلك إنما تجيء إذا كتبت بغير ياء والله أعلم انتهى
مسألة قال الشيخ الإمام رحمه الله إذا لعب الشافعي الشطرنج مع الحنفي والحنفي يعتقد تحريمه فهل نقول إن الشافعي الذي يعتقد حله يحرم عليه في هذه
____________________
(2/635)
الصورة لأن فيه إعانة على محرم أو لا وهل هو كرجلين تبايعا وقت النداء أحدهما من أهل الجمعة حيث يحرم البيع والآخر ليس من أهلها بحيث يحل له البيع مع غيره وقد اختلفوا هل يحرم عليه لما فيه من الإعانة أو لا
والذي أقوله في مسألة الشطرنج أنه لا يحرم على الشافعي وإنما يحرم على الحنفي
والفرق بينه وبين مسألة البيع وقت النداء أن البيع وقت النداء محرم عندهما ولعب الشطرنج ليس محرما عند الشافعي وإنما المحرم على الحنفي لعبه مع ظن التحريم وكل واحد من الجزأين ليس بحرام أما الظن فهو نتيجة اجتهاده يثاب عليه فليس بحرام وأما اللعب من حيث هو فليس بحرام عليه ولا غيره ولا على غيره إذا كان حكم الله فيه ذلك في نفس الأمر
فإن قلت بظن الحنفي صار حراما عليه
قلت الذي صار حراما عليه لعبه مع ظنه لا لعبه مطلقا فالهيئة الاجتماعية هي المحرمة وهي النسبة الحاصلة بين اللعب المظنون والظن والشافعي اللاعب لم يعن على أحد الجزأين وهو اللعب وهو بلسان الحال يرد على الحنفي في ظنه ويقول له لا تظن فلم يعن على محرم
وهذا البحث يشبه في أصول الدين بقولهما لو وقع خلاف المعلوم لزم انقلاب العلم جهلا وما قيل في جوابه إنه لو وقع خلاف المعلوم مع بقاء العلم وهذا مناقض بل من وقع خلافه يصير معلوما فإن كل ما يقع معلوم والله أعلم انتهى
مسألة ما تقول السادة العلماء في الأرواح هل تفنى كما تفنى الأجسام أو لا الجواب الحمد لله أما فناء الأجسام فقال أكثر المتكلمين به ثم يعيدها الله تعالى يوم القيامة
وقال بعض المتكلمين لا تفنى بل تتفرق ثم يجمعها الله يوم القيام وأطلق المتكلمون هذين القولين من غير ثالث
وورد في الحديث كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب وفسروه بأنه عظم كالخردلة في أسفل الصلب عند العجز وهو العسيب من الدواب منه يركب ابن آدم ومنه خلق
قال بعض الناس بظاهر هذا الحديث وأثبت قولا ثالثا ورد المزني عليه بقوله تعالى كل من عليها فان
وتأول المزني الحديث على أن الإنسان يبلى بالتراب فإذا لم يبق إلا عجب الذنب أبلاه الله تعالى بلا تراب وأما الأرواح فالسؤال عنها
____________________
(2/636)
إما على مذهب الحكماء وإما على مذهب المتشرعين
أما الحكماء فلهم فيها مذاهب ثلاثة أشهرها عندهم مذهب أرسطو وأتباعه أنها يجب بقاؤها بعد مفارقتها البدن الثاني مذهب كثير من متقدميهم أنها يجب فناؤها والثالث التفصيل فإن كانت مفارقتها للبدن قبل تصور المعقولات وتجريد الكليات من الجزئيات فإنها لا تبقى وإن كانت قد تكملت بما حصل لها من التصورات الكلية والتصديقات العقلية في حالة اتصالها بالبدن فإنها تبقى وإن فارقت البدن
وهذه كلها مذاهب فاسدة مبنية على قواعد فاسدة وأدلتهم وما يرد عليها مذكورة في المطولات والحق أن بقاءها مما ليس بواجب ولا مستحيل سواء تكملت أم لم تتكمل وأعني بالإمكان الإمكان العقلي
وأما المشرعون فقد أطبقوا على أنها باقية بعد مفارقة البدن فإن ذلك ممكن كما قلناه وقد دلت الشرائع على وقوعه ولا أعلم بين الشرائع خلافا في ذلك إلا أن الإمام فخر الدين قال في العالم هذه الاعتبارات العقلية إذا انضمت إلى أقوال جمهور الأنبياء والحكماء أفادت الجزم ببقاء النفس
فقوله جمهور الأنبياء يوهم عدم اجتماعهم على ذلك وهذا الإيهام غير معول عليه ولا أظنه أراده وفي أول كلامه أنهم أطبقوا على بقائها
فهذا ما يجب اعتقاده واستقر الشرائع والكتب المنزلة وآيات القرآن والأخبار المتكاثرة التي لا يمكن تأويلها ويقطع بالمراد منها ما يدل على بقاء النفوس بعد مفارقة البدن ولا يشك في ذلك أحد من أهل الإسلام لا عالم ولا عامي بل زادوا على ذلك وادعوا إطلاق القول بحياة جميع الموتى
ونقل جماعة من المتقدمين الإجماع على ذلك وقالوا في قوله تعالى ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله الآية إن هذا ليس خاصا بمن يقتل في سبيل الله وإنما قصد بالآية الرد على الكفار القائلين بعدم البعث وأن بالموت يفنى الإنسان بالكلية ولا يبقى له أثر من إحساس ونحوه فرد الله عليهم ولكن حياة الموتى مختلفة فحياة الشهيد أعظم وحياة المؤمن الذي ليس بشهيد دونه وحياة الكافر لما يحصل له من العذاب دونه والكل مشتركون في الحياة ومنهم من يبلى جسده ومنهم من لا يبلى والأرواح كلها باقية
هذا دين الإسلام
____________________
(2/637)
ولو تتبع الإنسان آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على ذلك لبلغت مبلغا عظيما ولا حاجة إلى التطويل في ذلك فإنه معلوم من دين الإسلام بالضرورة وإنما اختلف علماء الإسلام في أمور أخرى جزئية تتعلق بذلك منها رجوع الروح إلى البدن بعد الدفن وقد ورد في ذلك حديث جيد في مسند الطيالسي وغيره وضعفه ابن حزم بأن في سنده المنهال بن عمرو وهذا التضعيف غير مقبول فإن المنهال أخرج له البخاري ومنها الأرواح عند أقبية القبور وإن أرواح المؤمنين في السماء وأرواح الكفار تحت الأرض وقد ورد في ذلك أحاديث ومنها أن بعض الأرواح هل هي الآن في الجنة كأرواح الأنبياء والشهداء
وهذه مسائل يطول النظر فيها وليس هذا موضع ذكرها لأنه لم يسأل عنه ومنها أن الأرواح قولنا ببقائها هل يحصل لها عند القيامة فناء ثم تعاد لتوفى بظاهر قوله كل من عليها فان أو لا بل يكون هذا مستثنى هذا لم أر فيه نقلا والأقرب أنها لا تفنى وأنها من المستثنى كما قيل في الحور العين والله أعلم
انتهى
قال رحمه الله حضرت يوم الجمعة مستهل جمادى الآخرة سنة 734 بخانقاه سعيد السعداء وبها جمع من الفضلاء منهم شيخ الشيوخ علاء الدين القونوي وجلال الدين الخطيب حين أتي به ليولى قضاء الشام فوقع البحث في مسائل متعددة وانجر الكلام إلى مسألة إجماع العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول فنقلت أن الأصح من مذهب الشافعي أنه لا يكون إجماعا بخلاف ما هو المرجح عند الإمام فخر الدين وانجر الكلام أيضا إلى أن القاضي إذا أحرم بالحج هل لنوابه أن يعقدوا عقد النكاح في حال إحرامه ومسألة امتناع انعقاد إجماع أهل العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول عند الشافعي فإن الرافعي لم يتعرض للمسألة الأولى عند الكلام على إحرام الولي وكل من الإمام والآمدي لم ينقل عن الإمام الشافعي في المسألة الثانية شيئا وإنما نقلا عن كثير من أصحابه ولربما
____________________
(2/638)
اختلف نقلاهما عنهم أيضا فنقل الآمدي عن كثير من أصحابه وأصحاب أبي حنيفة وعن المعتزلة جواز ذلك ونقل الإمام مخالفة كثير من فقهاء الفريقين في كونه إجماعا لا تجوز مخالفته وأما النقل عن الشافعي نفسه وعن نص مذهبه كما أشار إليه فلم يتعرض له أحد منهما وقد يكون غير متعرض له فيتصدق سيدنا بالنظر في المسألتين فكتبت له الجواب في يومه أما مسألة إجماع أهل العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول فالقول بأنه لا يصير إجماعا قال إمام الحرمين في البرهان إن ميل الشافعي إليه
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إنه قول عامة أصحابنا
وقال سليم الرازي إنه قول أكثر أصحابنا وأكثر الأشعرية
وقال ابن برهان ذهب الشافعي إلى حكم الخلاف لا يرتفع وهل نقل صريح
فهذا ما كان من ذهن المملوك محررا وهو مستندي في أن الأصح من مذهب الشافعي إنه لا يكون إجماعا
ولو لم يكن إلا ما قاله ابن برهان لكفى في اعتماد ذلك
وفي ذهني غير ذلك مما يؤيد ذلك من نصوص الشافعي لم يتسع الوقت لتحريرها منها قوله أعني الشافعي في الأم في كتاب إجماع العلماء وقلت له أو لبعضهم رأيت قولك إجماعهم يدل على إجماع من قبلهم أترى الاستدلال بالتوهم عليهم أولى بك أم خبرهم
فهذا الكلام من الشافعي لمن خاطبه يشعر بأن الإجماع لا يعتبر إلا إذا تقدمه إجماع قبله فإن نص ذلك فهو نص في نفي اعتبار الإجماع بعد الاختلاف
وأطال الشافعي الكلام في ذلك لكن عبارة المتقدمين كما يعلم سيدي ليست ناصة في الغالب في إفادة المقصود والنقول المتقدمة عنه كافية وكذلك هو المرجح عند المالكية والحنبلية والمخالف في ذلك أكثر الحنفية ومن أصحابنا ابن خيران والقفال والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والإمام وأكثر المعتزلة ولم ينقل أبو إسحاق ذلك إلا عن ابن خيران ورد عليه
قال الأستاذ أبو إسحاق في كتابه المصنف في أصول الفقه إن هذه مسألة اجتهادية إلى قيام الساعة واقتضى كلامه نسبة ذلك إلى أصحابنا والخلاف إلى المعتزلة وأطال الكلام في ذلك واختلاف عبارة الناقلين في ذلك لأن الكلام في ذلك تارة في
____________________
(2/639)
إمكانه وتارة في حجيته والخلاف في القسمين ومجموع الخلاف في ذلك ثلاثة مذاهب قيل ممتنع وقيل جائز وليس حجة هو المرجح في المذاهب الثلاثة وقيل حجة هو المرجح عند الحنفية ومع قولهم بذلك يقولون إنه من أدنى مراتب الإجماع وبنوا على ذلك بحثا نقلوه عن محمد بن الحسن فيمن قال لامرأته أنت خلية ونوى ثلاثة ثم جامعها في العدة عالما بالتحريم قال لا يحد لأن عمر كان يراها رجعية وأجمعت الأمة بعده على خلافه والحد يسقط بالشبهة هكذا قاله أبو زيد الدبوسي في التقويم
وأما المسألة الثانية وهي مسألة إحرام الولي وأنه إذا كان حاكما هل لنوابه عقد النكاح في حال إحرام مستنيبهم أو لا فعلم سيدي محيط بأن المذهب الذي صححه الرافعي وغيره أنه ليس للحاكم المحرم عقد النكاح وقال هو وغيره أيضا إنه ممتنع بإحرام الموكل عقد الوكيل الحلال
وهذا وإن لم يكن نصا في نواب الحاكم لإمكان الفرق بين النائب عن الحاكم والوكيل لكن الماوردي في الحاوي على ما نقل الشاشي عنه ولم أره في الحاوي صريحا أن الإمام إذا كان محرما لم يجز أن يزوج وهل يجوز لخلفائه من القضاة المحلين فيه وجهان
فاستفدنا من نقل الماوردي هذا أن الخلاف ثابت في نواب الإمام وإذا ثبت الخلاف في نواب الإمام ففي نواب القاضي أولى إن لم يقطع فيهم بالمنع
وكلام المحاملي في المجموع يقتضي أن نواب الحاكم لا يعقدون في حال إحرامه لأنه حكى الوجهين في أن للإمام أن يزوج بالولاية العامة ثم قال إن الحاكم كالإمام وإن من الأصحاب من قال إن الصحيح من الوجهين في الإمام أن له أن يزوج والصحيح في القاضي المنع لأن منع الإمام يؤدي إلى امتناع حكام الأرض بخلاف الحاكم
قال المحاملي وهذا خطأ من هذا القائل على المذهب لأن الإمام إذا امتنع من التزويج في حال إحرامه لم يجب أن يمتنع خلفاؤه من ذلك لأنهم ليسوا منصوبين من قبله وإنما نصبهم لمصالح المسلمين والنظر في أمورهم ألا تراه لو مات لم تنعزل الحكام بموته
قلت وهذا الكلام من المحاملي رد على القائل بأن الصحيح في الإمام أن له أن يزوج ويعقد لأن الصحيح أو المقطوع به عنده في نواب الحاكم أنهم لا يزوجون في حال إحرام مستنيبهم
____________________
(2/640)
641 مسألة نحوية هل يجوز أن يقال العشر الأخير أو لا الجواب العشر من الشهر يجوز أن يقال الآخر والأواخر والأخير وأصل ذلك أن العشر من الشهر فيه لغتان التذكير والتأنيث فعلى التأنيث وهو المشهور يقال الأواخر وهو الذي تكلم فيه ابن الحاجب في المسائل الأربع التي صنفها في ذلك وعلى التذكير العشر الأول والعشر الأوسط كما ثبت ذلك في حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ولنتنبه لحكمة بديعة في ألفاظ الحديث وهي أن تأنيث العشر باعتبار أنه عدد الليالي وهي مؤنثة ولذلك حذفت الهاء للأيام والليالي جميعا وغلبت الليالي كما هي القاعدة في التاريخ وللأيام وحدها إذا قلت صمت عشرا على القاعدة المعروفة في ذلك
وفي هذه الطرق الثلاث العدد مراعى والتأنيث لأجله وأما تذكيره فباعتبار أنه اسم لتلك المدة الجامعة للأيام والليالي ولا يراعى فيه العدد ولذلك يطلق العشر الأخير وإن جاء الشهر ناقصا وليس فيه إلا تسع
وينبغي أن يقال إن لفظ العشر نقل عن معناه العددي إلى هذا المعنى وحينئذ لا يقال في العشر لغتان إلا بهذين الاعتبارين وإن كان النووي في اللغات أطلق اللغتين
إذا عرفت هذا فقد جاء في الحديث في ليلة القدر التمسوها في العشر الأواخر فراعى المعنى العددي لأن المطلوب في الليالي لا في تلك المدة
وجاء كان يعتكف العشر الأوسط لأن الاعتكاف شامل للمدة فلا نظر إلى العدد
فانظر ما أصح ألفاظ النبوة والصحابة وأدق معانيها
وعلى هذا ينبغي إذا قلت كتبته في العشر وكنت إنما كتبته في وقت واحد أن تقول الأخير ولا تقول الأواخر لأنك إذا قلت الأواخر كان معدودا والمعدود يجب أن يكون العمل في جميعه والغرض أن الكتابة ليست في جميع العشر فتعين أن تراعى المدة ويذكر اللفظ فتقول الأخير وكذلك ما أشبه الكتابة مما لا يوجد في جميع المدة
والذي قاله ابن الحاجب في تلك المسائل الأربعة ليس فيه مخالفة لما قلناه فإنه إنما تكلم في العشر من حيث هو عدد سواء أخذ من غير الشهر أم من الشهر على لغة التأنيث وإرادة العدد ولم يتعرض لما سوى ذلك فإذا ضم ما ذكرناه إلى ما ذكره
____________________
(2/641)
اجتمع منه أن يقال العشر الأول والأول ولا يقال الأوائل ويقال العشر الأواخر والأخير ولا يقال الآخر ويقال أيضا لما بينهما أيضا العشر الأوسط إذا رغب التذكير والمدة كما جاء في الحديث والعشر الوسط بضم السين وفتحها جمع وسطي إذا راعيت التأنيث والعدد
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد رحمه الله إن الوسط أقوى من الأوسط
والتحقيق ما قدمناه
واعلم أن في الأواخر وفي الوسط تجوز لأن حقيقة الأخيرة إنما تصدق في واحدة وحقيقة الوسطى لا تتحقق إذا كان الشهر كاملا ولكنهم أطلقوا الأخيرة على كل واحدة من ليالي العشر الآخر توسعا وكذا الوسطى على كل واحدة من ليالي العشر الأوسط وكذا إطلاق الأول على كل من ليالي العشر الأول وأما إذا روعي التذكير فقيل العشر الأول أو الأوسط أو الأخيرة فلا مجاز فيه والله أعلم
انتهى
فائدة تقدم مني إذا قال إن دخلت الدار طلقتك لا يقع الطلاق لأنها خبرية وشرط القول بذلك أن يكون نظمها هكذا من تقدم الشرط وتأخر الجزاء فلو قال طلقتك إن دخلت الدار كان معناه تعليق الطلاق بالدخول كما قال الشاعر طلقت إن لم تسألي أي بعل حليلك ويدل له قوله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله يستنكحها والسبب في ذلك أن المفهوم من هذا اللفظ عرفا وسبب ذلك أنه إذا قدم الشرط علم أن ما يأتي بعده مستقبل فإذا جاء حكمنا بأنه خبر إذا قدم الفعل وهو ظاهر في الإنشاء حمل عليه فإذا أتي الشرط بعده جعلناه شرطا في تمامه ووقوع أثره لا في أصله ولا يرد على هذا أنه المقدر متقدما من جهة الصناعة لأن طلقت صار له جهتان إحداهما من جهة الزوج وهو إنشاؤه للطلاق والثانية من جهة المرأة وهو وقوع الطلاق عليها
فالجهة الأولى لا تعليق فيها والثانية هي محل التعليق فإذا تقدم الشرط تأخر اللفظ بجهتيه جميعا صورة وحكما فلم يكن له أثر لأن الجهة الثانية تابعة للجهة الأولى والجهة الأولى تابعة للشرط فلا يصح
وإذا تأخر الشرط كان مقيدا لما أمكن تقييده والذي يمكن تقييده من الجهتين هي الثانية يختص بها وتكون هي وحدها دليل الجزاء وتبقى
____________________
(2/642)
الأولى على إطلاقها واللفظ إذا كان له جهتان في قوة لفظين فعامل كل واحد بما يناسبه
وينشأ من هذا البحث بحث آخر في قوله إن شئت بعتك وأنه باطل قولا واحدا ولا يجري فيه الخلاف المذكور في قوله بعتك إن شئت لأن مأخذ الصحة فيه أن المعلق تمام البيع لا أصله فالذي من جهة البائع وهو إنشاء البيع لا يقبل التعليق وتمامه وهو القبول موقوف على مشيئة المشتري وبه تكمل حقيقة البيع
وينشأ من هذا أنه إذا قال إن شئت وقفت هذا عليك لا يصح وإن قال وقفته عليك إن شئت فإن قلنا قبول الوقف في المعين شرط جرى فيه الخلاف الذي في البيع وإن قلنا ليس بشرط احتمل أن يقال بالبطلان لأنه لا شيء حينئذ يقبل التعليق غير الإنشاء وهو لا يعلق واحتمل أن يقال بالصحة كما يقال أبحت لك هذا إن شئت والمعنى إن شئت فخذه وفي قوله أنت طالق إن دخلت الدار ونحوه لا فرق بين أن يتقدم الشرط أو يتأخر الكل معلق تعليقا صحيحا لأن المعلق الطلاق لا التطليق
وكذلك إن مت فأنت حر وإن مت فهذا وقف على المساكين والمنقولة عن الإسناد ولفظها وقفت على المساكين بعد موتى والظرف كالشرط فهو متعلق بتمام الوقف وهو صحبه فلا يلزم الوقف إلا بعد الموت وإنشاؤه على ذلك الوجه حاصل الآن كما أن إنشاء العتق في التدبير حاصل الآن ولا يقع العتق إلا بعد الموت ونقل الإمام أن إيقاع مصرف بعد الموت يتعلق ببحث وهو أن الطلاق في قوله إن حصلت فأنت طالق إذا دخلت هل هو بالتعليق السابق والشرط الدخول أو بالدخول ويكون بالتعلق نصه سببا والأول هو المنقول عن مذهبنا وعن مذهب مالك والثاني منقول عن الحنفية يقولون إنه يجعل عند الدخول مطلقا حكما ويقدر كأنه أنشأ التطليق ذلك الوقت وأصحابنا يقولون إن التعليق السابق هو الموجب لوقوع الطلاق فيكون الطلاق عند الدخول لا به وكلام الإمام هنا نازع إلى كلام الحنفية والأولى ما نقل عن أصحابنا وإذا كان ذلك في الطلاق فهو في النذر أولى لأن مقتضاه ثبوت العتق عند الموت وحينئذ يزول الملك عن الحي فلو كان على قياس التعاليق لما وقع لأن الصفة حصلت في غير الملك وإذا جعلناه واقعا بالتعليق
____________________
(2/643)
السابق كان أولى خروجا عن القاعدة
وتعليق الوقف بالموت كتعليق العتق بالموت وإن كان تعليق العتق بالموت اختص باسم خاص وهو التدبير ما حملنا عليه مسألة الإسناد وهو أحد معان ثلاثة يحتملها اللفظ أحدها هذا والثاني أن يراد بعد الموت وقفها وهو باطل كقوله إن مت وقفت
والثالث أن يراد جعلته موقوفا الآن على المساكين بعد موتي وهو باطل للتناقض وأما لأنه منقطع الأول ولما احتمل اللفظ هذه المعاني الثلاثة وكان الثاني والثالث يقتضيان البطلان حملناه على الأول لاقتضائه الصحة ولأنه المفهوم في العرف مع كون الكلام مهما أمكن حمله على الصحة كان أولى من حمله على الفساد وإذا قال إذا مت فهذا وقف وإذا انقضى شهر بعد موتي فهذا وقف فلا إشكال في الصحة وإذا قال إن مت وقفت فلا إشكال في البطلان إلا إذا نوى وقف فيصح ويكون كناية والله أعلم
انتهى
مسألة في رجل أراد الاشتغال بالعلوم الإسلامية فهل يكون اشتغاله بالمنطق نافعا له ويثاب على تعلمه وهل يكون المنكر عليه جاهلا أجاب الشيخ الإمام رحمه الله الحمد لله
ينبغي أن يقدم على ذلك الاشتغال بالقرآن والسنة والفقه حتى يتروى منها ويرسخ في ذهنه الاعتقادات الصحيحة وتعظيم الشريعة وعلمائها وتنقيص الفلسفة وعلمائها بالنسبة إلى الاعتقادات الإسلامية فإذا رسخ قدمه في ذلك وعلم من نفسه صحة الذهن بحيث لا تتروج عليه الشبهة على الدليل ووجد شيخا دينا ناصحا حسن العقيدة أو من ليس كذلك لكنه لا يركن إلى قوله في العقائد فحينئذ يجوز له الاشتغال بالمنطق وينتفع به ويعينه على العلوم الإسلامية وغيرها وهو من أحسن العلوم وأنفعها في كل بحث وليس في المنطق بمجرده أصلا
ومن قال إنه كفر أو حرام فهو جاهل لا يعرف الكفر ولا التحريم ولا التحليل فإنه علم عقلي محض كالحساب غير أن الحساب لا يجر إلى فساد لأنه إنما يستعمل في فريضة شرعية أو مساحة أو مال ولا يزدري صاحبه غيره وليس مقدمة لعلم آخر فيه مفسدة
والمنطق وإن كان سالما في نفسه يتعاظم صاحبه ويزدري غيره في عينه ويبقى يعتقد في نفسه سقاطة نظر من
____________________
(2/644)
لا يحسنه وينفتح له به النظر في بقية علوم الحكمة من الطبيعي الذي ليس فيه الخطأ والإلهي الذي أكثر كلام الفلاسفة فيه خطأ منابذ للإسلام والشريعة فمن اقتصر عليه ولم تصنه سابقة صحيحة خشي عليه التزندق أو التغلغل باعتقاد فلسفي من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر
هذا فصل القول فيه وهو كالسيف يأخذه شخص يجاهد به في سبيل الله وآخر يقطع به الطريق انتهى
____________________
(2/645)