بسم الله الرحمن الرحيم ، نحتفل اليوم بتأبين مجمعي عظيم ، هو الأستاذ الدكتور محمد السيد غلاب ، إذ سبقنا إلى الدار الآخرة ، ولكل منا زمن محتوم وأجل معلوم ، كما قال تعالى " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ".
وقد عمل الأستاذ الدكتور محمد غلاب في جامعة القاهرة سنوات طويلة ، وكذلك في المجمع ، فقد ظل به خبيرًا نحو ثلاثين سنة ، ثم أصبح عضوًا عاملا في المجمع، حيث عمل في لجنة الجغرافيا ، وله بحوث عظيمة تشهد له ، وكان أستاذًا مستنيرًا مثقفًا ثقافة واسعة ، وكما ألف في
الجغرافيا فقد ألف في الأدب الهليني ، والرومانتيكية الفرنسية ، وكتب عن الفارابي وابن سينا ، وكتب أيضًا عن الفلسفة الشرقية ، والمذاهب الفلسفية المعاصرة ، فهو حقيقة عاش للعلم وللبحث وللدراسة ، وأنتج كثيرًا من الأعمال ، بجانب ما صنع في جامعة القاهرة من الطلاب ، والمؤلفات الجغرافية القيمة ، ولا شك أن فجيعة الجامعة فيه ، وفجيعتنا جسيمة ، ولكن هذا قدر الله ونحن جميعًا مستسلمون له ، ويتفضل الأستاذ الدكتور كمال دسوقي بإلقاء كلمة المجمع نيابة عن أعضائه جمعيًا في تأبين الراحل الكريم .
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي رئيس المجمع الجليل
السادة الزملاء الأجلاء
سيداتي ، وسادتي
عظَّم الله أجر سعيكم الكريم لمشاركتنا في تأبين واحد من أعز الرجال وأحبهم إلى الله والناس ، قد رحل عن دنيانا بعد عشرة طويلة نبيلة قضاها في البذل والعطاء بمحبة ووفاء ، مخلفًا لكم طول العمر والبقاء حتى اللحاق به في يوم لقاء – ذلكم هو المغفور له بإذن الله الأستاذ الدكتور محمد السيد حسين على غلاب، تقبله الله في جناته وواسع رحمته ورضوانه، وأنزله منازل الأبرار والصالحين من عباده .
محمد اسمه – خير الأسماء ما عبد وحمد.(1/1)
والسيد والده – الذي سيده في أهله بالعلم والإيمان – " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " ، وزوده بالتقى وخشية الله " إنما يخشى الله من عباده العلماء " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى .
وغلاب لَقبُه – لما غلب على سائر شمائله من سجيَّتَي الاعتداد بالنفس والصلابة في الحق – كما قال هو عن نفسه ( ويشهد له معاصروه بصدق ما قال ) في كلمة حفل استقباله عضوًا بالمجمع غداة الأربعاء الخامس والعشرين من رجب الفرد سنة خمس عشرة وأربعمائة وألف من الهجرة الموافق الثامن والعشرين من ديسمبر سنة أربع وتسعين وتسعمائة وألف – مسديًا الشكر والعرفان لوالديه اللذين – بالصبر والإصرار – ربياه أحسن تربية ، داعيًا لهما بأن تقر روحاهما الطاهرتان رضىً عنه ، وأن يتغمدهما الله بسابغ رحمته، ومبديًا الوفاء لشريكة حياته التي آزرته ورعته منذ أكرمه الله بالاقتران بها وهو طالب بعثه وطوال مسيرة حياته حتى حسن الختام أيما إكرام . فقد جسدت له معاني اسمه ولقبه والانتساب لوالده من الغلبة على أقرانه ونظرائه ، والسيادة في محيط عمله وعشرته وزملائه ، والحمد والثناء عليه مِن كل من عرفه وعاشره . وبتحملها عنه أعباء تربية أبنائه النّجباء كان يزجى التحية إلى شخصها وهو يصدر أول مؤلفاته بالإهداء إلى أسامة وأيمن ومي" ، وبما أتاحت له من كامل التفرغ للتفكير والاطلاع والتأليف والبحث وهبه أرستقراطية الفكر وحرية الإبداع … لا تغفل عنه عينُها الحانية وقلبها الرؤوم في غدوه ورواحه ، في نومه ويقظته ؛ مما كنا نغبطه عليه ونحن بأسراتنا في ضيافتهما بالخرطوم على مأدبة إفطار رمضان أو سحوره ، وفي كل تجمع عائلي لأية مناسبة … وهو يتصدر مجلس الرجال وتحتفي هي بمتكأ الزوجات ، حين ينفعل هو فيحتد صوته في مناقشة مسألة علمية أو قضية سياسية – فلا نكاد نسمع همسها الخافت إليه باسمه عن بعد ووصول الإشارة إليه بطرفة عين حتى تنبسط أساريره ويعتدل مزاجه(1/2)
ويعود إلى القهقهة والانشراح . لذا لم يكن يخفي ( في أية احتفالية بترقيته أو تكريمه في كل مجال عمل به أو مكان عاش فيه ) التعبير بالامتنان لهذا الجو العاطفي الذي يرجع إليه الفضل بعد الله في هذا الشعور " بالدفء العائلي " الذي يحتضنه ويحيط به احتضان الخاتم للإصبع ، والسوار للمعصم . وصدق الله العظيم إذ يقول " والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ، أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ". ولقد امتحنه الله في شيخوخته فيما وهبه من عزة وسؤدد – ولله ما أعطى ولله ما أخذ ؛ إذ فقد ابنه البكر رجل الأعمال النابه وما يزال في ميعة الشباب ، فاعتصر قلبه ، واشتدت علته ، وجعل يتحامل على نفسه في أداء رسالته وهو يذوب حسرة وأسى ؛ فضاعفت السيدة العظيمة وراء الرجل العظيم رعايتها له ولآسرة ابنهما وأحفادهما حتى تحمل الصدمة راضيًا بقضاء الله وقدره . ولم يكد يتعافى من إصابته الأولى التي حجبته عنها أسبوعين حتى تعجل الانضمام إلينا وهو الذي لم يستسلم طوال حياته للمرض أو ملازمة الفراش ، إلى أن نعته إلينا ذات صباح ونحن ننتظره لجلسة الغد في السادس والعشرين من أكتوبر سنة سبع وتسعين وتسعمائة وألف . وإنا لله وإنا إليه راجعون، إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب .(1/3)
تلك كانت شخصية فقيدنا العزيز التي تبلورت من خلال تنشئة أسرته له وتنشئته هو لأسرته . وإن شعور الرضي والامتنان والوفاء والعرفان بالجميل الذي أورثته هاتان التنشئتان الصالحتان لينعكس إسقاطًا منه على كل من كان لهم دور بعد ذلك في حياته وكأنما لم يكن هو قد تشرب في جوانحه مشاعر الوفاء والعرفان تلك . فهو في تقديم نفسه لزملاء المجمع ، يذكر بالفضل والامتنان أساتذته الذين أوصلوه إلى هذا المكان ، ويكاد يخلع عليهم المزايا التي لا شك أن استعداده هو الفطري قد أهله لاكتسابها عنهم – وإلا فقد درس على نفس هؤلاء الأساتذة الكثيرون من أترابه قبله وبعده فلم يكتسبوها ، وربما تمرد بعضهم عليها – خصوصًا بعد أن كبر أحدهم فزامل أستاذه وصار ندا ويطمح في خلافته : فمصطفى عامر بتفكيره المرتب الدقيق ، محمد عوض محمد بأدبه الرفيع وتجواله الفكري الواسع ، محمد متولي بحرفيته الشديدة وتدقيقه الأشد ؛ بل والتر فتزجيرالد الذي أخذه بالشدة والصرامة في بعثته بإنجلترا مثلما كان يفعل به محمد عوض في مصر … وإنه ليكيل المدح والثناء بكل أدب النفس الرباني وتواضع رجل العلم الحقيقي – حتى بعد أن(1/4)
أسماء الأعيان،ومنها أسماء أنواع الحيوان ، هى فى جوهرها رموز يُتفق عليها للدلالة على كل عين بذاتها ، حتى إن تجردت ألفاظ تلك الرموز من أىّ معنىً مرتبط بذواتها.والمهم أن تكون تلك الرموز محدَّدة ، معروفة بين مستعمليها، لا يكتنفها تداخل أو غموض.
... والاسم – على إيجازه وبساطته وتجرُّده – ينقل إلى سامعه أو قارئه صورة مركبة من شتى الأوصاف والتفاصيل ، بل إنه قد يستدعى إلى وعيه ألوانا من الأحاسيس والمعلومات المحفوظة في ذاكرته. فالاسم ، على هذا النحو ، هو المسمَّى ، كما يقولون. وهذا هو بعض ما نستشعره حين نقرأ قوله تعالى:"وعلَّم آدم الأسماء كلَّها…"(البقرة:31) ، على أرجح ما قاله المفسرون.
... ونشأت أسماء الحيوانات فى المجتمعات الإنسانية المختلفة ، وأصبح لكل قوم "قاموسٌ" لرموزهم ، حفظوه فى صدورهم وتوارثوه ، ثم سجَّلوه ، منقوشا أو مكتوبا ، فى أزمنة تالية من تاريخهم. وكان الطبيعى أن تختلف القواميس.
ولما أراد الناس أن يدرسوا أنواع الحيوان دراسة علمية وضعوا لكل نوع تعريفا طويلا ، للاقتراب من التحديد العلمى المطلوب. ولكنهم ما لبثوا أن ضاقوا ذرعا بثقل هذه التعريفات، حتى خلَّصهم منها ، فى أواسط القرن الثامن عشر ، الشاب السويدى الألمعى كارل لينيوس ، فابتدع "التسمية الثنائية " لأنواع الأحياء ، التى تقضى أن يسمَّى كل نوع منها باسم جنسه يليه اسم نوعه ، وكفى. وكانت هذه الأسماء العلمية لاتينية أو ملَتَّنَة. فالأسد ، مثلا Felis leo(**) ، أما البَبْر والقط الأليف فيتفقان معه فى جنس السنانير أو القطط Felis ، ويختلفان عنه فى الشق الثانى من اسميهما: فالبَبر Felis tigris والقط الأليف Felis domestica، وهكذا .
وفرح العلماء بهذه الطريقة الجديدة البسيطة ، وانطلقوا يسمّون الحيوانات وفقا لأسلوبها . ولكن سرعان ما عمَّت(2/1)
الفوضى ، فقد اتضح أنه لابدَّ من وضع قواعدَ لتنظيم إطلاق تلك الأسماء. ونشطت الهيئات والجمعيات العلمية فى أوروبا يضع كلٌّ منها قواعده ، ولكنهم سرعان ما اكتشفوا أن هذا لا يكفى ، وإنما يجب أن تكون هذه القواعد عالميةً مُتَفَّقًا عليها دوليا. وهنا انعقد المؤتمر الدولى الأول لعلم الحيوان فى باريس عام 1889 ووضع مجموعة من القواعد ، أخذوا ينقحونها حتى أقَرَّها المؤتمر الدولى الخامسُ المنعقد فى برلين عام 1902 ، فظهرت الطبعة الأولى من قانون التسمية الحيوانية عام 1905 ، وظلَّت سارية نحو 70عاما حتى نقحها المؤتمران الدوليان الخامس عشر (فى لندن عام 1958) والسادس عشر (فى واشنطن عام1963)، فظهرت الطبعة الثانية من القانون عام 1964. أما الطبعة الثالثة فقد ظهرت عام 1985 ، بعد أن أقرته هذه المرة الجمعية العامة للاتحاد الدولى للعلوم البيولوجية التى عقدت فى هلسنكى عام 1979. وهذا القانون يضم "تقنينا" – كما علمنا الأستاذ الدكتور أحمد عز الدين عبد الله – فيه سبعٌ وثمانون مادةً مفصَّلَة ، وستةُ ملاحق. وعالِم الحيوان الأصيل يجب عليه أن يُلمَّ إلماما حسنا بهذا التقنين ويلتزمَ التزاما دقيقا بقواعده الصارمة. أما الجهة القضائية التى تحكم فيما قد ينشأ بين العلماء من خلاف أو حلِّ ما قد يصادفهم من مشكلات فى تطبيقهم القانون ، فهى اللجنة الدولية الدائمة للتسمية الحيوانية ، ومقرُّها لندن.(2/2)
... ومن أبرز مبادئ هذا القانون أنه لا يكون للجنس الواحد أو النوع الواحد من الحيوان إلا اسم علمى صحيح واحد، وأنه إذا تعددت الأسماء تكون الأحقية لأسبقها نشراً وفقا لأحكام القانون ، ويكون حقُّ التأليف لصاحب ذلك الاسم. ومنها أيضا أنه لا يطلق الاسم المعيَّن إلا على جنسٍ واحد أو على نوع واحد ، فإذا تعدَّد السَمِيُّون استقل بالاسم الجنسُ أو النوع الذى أطلق عليه ذلك الاسم أولا ، وكان على العلماء أن يجدوا أسماء بديلة للمنافِسات الأخرى. ويترتب على هذين المبدأين أنه لا يتكرر اسم الجنس فى عالم الحيوان أبداً ، وأنه لا يتكرر البتَّةَ اسم النوع فى الجنس الواحد. ومشاكل ترادف الأسماء وتطابقها من أعقد مشاكل المصنِّفين.
... والتحديد العلمى الدقيق لمدلولات الأسماء كثيراً ما تكون له أوجه كثيرة من الأهمية. فمثلا ، ما هى "السَّلْوَى" التى أنزلها الله على بنى إسرائيل فى التيه بين مصر والشام؟ أرجحُ أقوال المفسرين إن السلوى هى الطيور المعروفة بالسُّمَانَى. وهذا هو ما يراه القزوينى فى "عجائب المخلوقات" وواضعو "قاموس الكتاب المقدس" أيضا. أما الدَّميرى فقد نقل فى موسوعته البديعة عن ابن سيده:"السلوى:طائر أبيض مثل السُّمانى…". وذكر المعلوف ، فى معجمه القيِّم عن الحيوان ، أن "السلوى" التى تكلم عنها الدميرى طائر آخر ، لعله الواقُ الصغير الذى يسمَّى "السلوى" فى حلب ، أو الصِّفْرِد الذى يسمَّى أيضا "السلوى" فى لبنان. ولكن هذا التشكك الذى أثاره الدَّميرى قد تسرب إلى "معجم ألفاظ القرآن الكريم" لمجمعنا ، الذى جاء فيه أن السلوى "طائر يشبه السُّمانى". وهناك من الدلائل القوية ما يرجِّح أن سُمانى بنى إسرائيل هى النوع المعروف باسم "السُّمانَى"Coturnix coturnix .(2/3)
... وكلما فكرتُ فى الأسماء العربية للحيوان تطوف بذاكرتى قصة طريفة مشهورة عن أبى العلاء ، فلما أردت توثيقها خفَّ إلى نجدتى أخى الكريم الدكتور محمد يوسف حسن ، حبيبُ أبى العلاء ، فأمدنى بكتاب أحمد تيمور باشا عن أبى العلاء ، الذى قدَّم له المجمعىّ العلامة الدكتور بدوى طبانة ، فوجدت فيه الخبر اليقين. وذلك أن عبقرىَّ المعرَّة دخل على مجلس الشريف أبى القاسم المرتَضَى ، وهو ببغداد ، فلما تقدم عَثَرَتْ قدمه بأحد الجالسين ، فصاح الرجل الصَّلِف: من هذا الكلب؟
ولم يكن هذا الرجل – الذى نسى التاريخ اسمه – سيِّئَ الخلق فحسب ، بل إنه كان سيئ الحظ أيضا ، فإن عثرة لسانه كانت أضرَّ به من عثرة قدم أبى العلاء ، الذى ردَّ عليه فى ثقة واعتداد بالنفس : الكلبُ من لا يعرف للكلب سبعين اسما! فأُفحم الرجل وسُقِط فى يده . وسمع المرتضَى ردَّ أبى العلاء فأدناه واختبره ، ولما وجده عالما فطنا ذكيا ، أقبل عليه إقبالا كثيرا. ولا تحكى القصة أن أبا العلاء ذكر أسماءَ الكلب السبعين فى ذلك المجلس، ولكن هذه السُّبَّةَ ظلت قائمة ، على أية حال. وتصدَّى لهذا التحدِّى "بلدياتى" جلال الدين السّيوطى، بعد ذلك بأكثر من أربعة قرون ، فألف أرجوزة أسماها "التبرِّى من معرَّة المعرِّى" تضمنت سبعين اسما للكلب، وأوردها أحمد تيمور فى كتابه وشرحها ، بعد أن رجع إلى القاموس واللسان والمخصص وحيوان الجاحظ ، وحياة الحيوان الكبرى للدَّميرى وغيرها ، ثم استدرك عليها.(2/4)
وقد فحصت هذه الأسماء فوجدتُ منها ما يصف الكلاب ببعض ألوانها ، كالباقع والأبقع والأعنق ؛ أو وفقا لأحجامها ، كالعُرْبُج والفُرنىّ للضخام ، والقُطرُب أو القَطرَب للضئال؛ أو بعضِ خصائصها ، كالدِّرباس للعَقور والعوَّاء والصُّمات ؛ أو نسبةً إلى بلد ، كالسَّلوقى والنَّصيبىّ ؛ ومنها أيضا الدِّرسُ (مثلثة الدال) والجِرو (مثلثة الجيم) لأولاد الكلاب. وفى القائمة أسماء لهجائنَ حقيقية أو متوهَّمة بين الكلب والذئب والثعلب بل والدُّب أيضا ، كالسِّمع والدَّيسم . بل إن فيها أيضا:الهراكلة والقندس والقُضاعة، وهى لواحم تعرف فى العربية بكلاب الماء، ليست من جنس الكلب Canis ، بل ولا حتى من فصيلته Canidae ، وإنما هى من فصيلة السراعيب أو بنات عِرْس Mustelidae. وتضم القائمة أيضا خمسة عشر اسما لبنات آوى jackals ، وهى بضعة أنواع من جنس الكلب ، ولكنها ليست من الكلاب أو الذئاب. وقد زاد أحمد تيمور على قائمة السيوطىّ خمسةً وثلاثين اسما للكلاب وبنات آوى وأولادهما وكُنى ذكورها وإناثها ، وأكثرَ من عشرين عَلَما لكلاب مشهورة فى كتب التراث.
وهذا الولع الشديد بالمكاثرة فى أسماء الحيوان ، مع الشعور بالزهو بسعة العلم اللغوى وثراء اللغة العربية نفسها ، فيه كثير من التغالي ، ولا يبرأ – كما رأينا – من التخليط ، ولكنه قد نفعنا – بعد تمحيصه – فى وضع المقابلات العربية لأسماء سلالات الكلب أو أصنافه التى نجح فى استنباطها المربُّون ، وتربو على المئة ، وهى كلها أصناف من نوع الكلب المألوف أو المستأنس Canis familiaris.(2/5)
وهذا الأمر ليس مقصوراً على الكلب. فالدَّميرى ، مثلا ، يبدأ موسوعته الفريدة قائلا إن للأسد أسماءً كثيرة ، وإن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمَّى. ونقل عن ابن خالَويه أن للأسد خمسمِئة اسم وصفة ، وذكر أن عَليَّ بنَ القاسم بنَ جعفرَ اللغوىّ زاد عليها مئةً وثلاثين اسما . وذكر الدّميرى من هذه الأسماء خمسة وعشرين ، ولكنه – لحسن الحظ – لم يسبّ من يجهل سائرها.وقل مثل ذلك أو بعضه عن الإبل والخيل والذئاب، وغيرها. وهم يخلعون على الحيوانات المشهورة شتَّى الكُنى ، فالثعلب أبو الحصين وأبو نوفل ، والذئب أبو جعدة ، والهدهد أبو الأخبار ، وهكذا.
وعندنا فى الطرف الآخر من تراثنا اللغوىّ ، أسماء لانكاد نحدِّد لها مسمىًّ. وذلك من قبيل: "الجِلْف" : طائر معروف؛ و "الحَرَقْصَى": دويْبَّة ؛ و"الحُرْقُوفَة: دويْبَّة من الحشرات. و"دويْبَّة" لا تعنى إلاَّ كائنا صغيرا يدب على الأرض، فهى لا تكاد تفيد إلاَّ الحيوانيةَ وصغر الحجم ، وتتسع حتى تشمل القنافذ من الثدييات ، مثلا. وهذا بعضٌ مما يُحال إلى لجنة علوم الأحياء من لجنة المعجم الكبير ، فى حرصها المشكور على التحقيق والتوثيق والشمول. ولكننا كثيرا ما نعتذر ، فى مثل هذه الأحوال ، عن عدم تمكننا من الاستدلال على تحديد مسميَّات تطمئن إليها نفوسنا. وأمثال هذه الأسماء كأنها تقابل ما يدعوه قانون التسمية الحيوانية "أسماءً عارية" (nomima nuda) ، أى أسماءً أصبحت بلا مسمّى ، سوف تظل محفوظة فى كتب اللغة التراثية ، كما أننا نرى أن تسجل كما هى فى المعجمات الحديثة الواسعة ، كالمعجم الكبير ، إلى أن يُهتدى إلى تحديد مسمياتها ، فى ضوء بعض الشواهد والقرائن ، أو أن تخصَّصَ لمسميات محددة ، وهذا – فيما نظن – أولى من الابتداع ، وفيه إحياء لتلك الألفاظ.(2/6)
ولكننا نوفق فى أحوال أخرى ، بفضل الله ، إلى التوصل إلى تحديد علمى مقبول معتمد على شئ من الاجتهاد والتأويل . ويكفى أن نضرب لذلك بعض الأمثلة:
1- الجَلَعْلَعَة: "خنفساء زعموا أن نصفها طين ونصفها حيوان". ونستطيع أن نتقصَّى أصل هذه الخرافة: فالمعروف أن الجِعلان حشرات من غمديات الأجنحة تُعَدّ من الخنافس ، وأن من أنواعها جِعلانَ الرَّوْث ، التى تصنع إناثها كراتٍ كبيرة من الرَّوث (أو"الجَّعْر") لتضع فيها بيضها، ثم تمسك بها وتدحرجها أمامها ، فتبدو وكأن نصفها من الطين ، ولذا تكنَّى بأبى جعران وتعرف بالجعارين. ولذلك نستطيع أن نلحق بالتعريف المأثور قولنا:"ويحتمل أنها أنثى الجُّعَل بكرة الروث التى تضع فيها بيضها".
2- جمل البحر: ينقل الدَّميرى عن ابن سيده أنه "سمكة طولها ثلاثون ذراعا" ، ويشير إلى حديث أبى عبيدة ، رضى الله عنه ، أنه أُذِن فى أكل جمل البحر ، وهو سمك شبيه بالجمل. ثم يشير أيضا إلى رجز للعجاج مذكور فى كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ. ويقول صاحب القاموس إنه "سمكة طولها ثلاثون ذراعا". أما المعلوف، فى معجم الحيوان، فيدور مئة وثمانين درجة ويقول، نقلا عن جفروى ، إن جمل الماء " نوع من السمك صغيرٌ رقيق جدا كأنه الشفرة" ، ولكنه يضيف ، وهو أيضا حوت عظيم اسمه الكُبَع.وعن الكبع، ينقل الدميرى عن ابن سيده أن الكَبْعَةَ: دابَّة من دوابّ البحر.(2/7)
ويتجه الفكر بعد هذه الجولة إلى حوت طوله ثلاثون ذراعا يشبه الجمل. ويتركز النظر فى الحوت الأحدب humpback whale) ) ، له زِعْنِفَة كالسنام ، ويبلغ طوله بين 15 و 19 مترا. والذراع الهاشمية تساوى اثنتين وثلاثين إصبعا أى 64سنتيمترا. وعلى هذا تكون الثلاثون ذراعا مساوية لتسعة عشر مترا. وهكذا نستطيع فى النهاية أن نقول ، بدرجة مقبولة من الرجحان ، إن جمل البحر هو الحوت الأحدب Megaptera novaeanglia من فصيلة Balaenopteridae . ويؤيد هذا الرأى أن الحوت الأحدب يجوب المحيطاتِ كلَّها، ومن ثم كان متاحا لأن يراه العرب.
3- الجيْهَر: لانجدها عند الدّميرى ولاعند المعلوف ، ولكن القاموس المحيط يفسرها بأنها:"الذباب الذى يفسد اللحم". ونستطيع أن نعتمد على هذا فى قولنا: الجيهر اسم يدل على أنواع الذباب من جنس Sarcophaga من فصيلة Sarcophagidae (أى:آكلاتِ اللحم) ، من رتبة الحشرات ذوات الجناحين ، يضع يرقاته فى اللحم أو فى جثث الحيوانات أو فى الجروح المكشوفة، حيث تحلل اللحم وتذيبه لتغتذى به.
4-الحصانيَّات:"ضرب من الطير ، يصيد الذباب اختطافا واختلاسا". وينطبق هذا الوصف على أنواع كثيرة من الطيور منها جنسُ خاطف الذباب Muscicapa الذى يضم أكثر من عشرين نوعا تعيش فى آسيا وإفريقيا وأوروبا ، وتصيد الذباب وغيره من الحشرات وهى طائرة .(2/8)
... وتسجل كتب اللغة حالات صارخةً من الكائنات السَّمِيَّة ، فتذكر مسمَّياتٍ متعددةً لبعض الأسماء ، فمن ذلك:"الأطوم" ، فهو سلحفاة بحرية غليظة الجلد ، والزرافة ، والبقرة ، والصَّدَف ، والقنفذ (المعجم الكبير ، الجزء الأول ، ص:354). ولكن المعجم الكبير يضيف إلى هذه المعانى تخصيصا حديثا ، فيقول:"وفى علم الأحياء: حيوان بحرى من الفصيلة الأطومِيَّة ، من رتبة الخِيلان ، أى بنات الماء ، من الثدييات…إلخ". والمعجم لا يبرر هذا التخصيص ، الذى يبدو كأنه لون يجوز أن نصفه بالاعتساف الاصطلاحى المقبول. فهذه الحيوانات ، التى تعرف أيضا باسم "بقر البحر" و "عرائس البحر" ، لها جلد غليظ كجلد السلحفاة ؛ فالمعجم الكبير يذكر أن البقرة [أى بقرة اليابسة ، من الأنعام] سُميت أطوما على التشبيه بالسلحفاة البحرية لغلظ جلدها. ولكننى وجدت سنداً آخر تحت اسم "الحنفاء"- فى جزء آخر من المعجم – التى من معانيها: "سلحفاة الماء"، و "سمكة بحرية ، يقال لها الأطوم ، وهى سمكة فى البحر كالملكة". ومن المعروف أن عرائس البحر ثدييات تشبه الأسماك شبها ظاهريا. ولكن العجيب أن كتابا مترجما عن الحيوانات اللافقارية ، يطلق اسم "الأطوم" على حيوانات قشرية (barnacles) تلتصق بالصخور والسفن والحيوانات وغيرها من الأجسام المغمورة فى ماء البحر ، وتفرز قشوراً جيرية سميكة(رالف بكسباوم،1960) . ولعل المترجم ـ رحمه الله ـ تعلَّق بأن من معانى الأطوم " الصَّدَفَ " ، كما تقدم ، ولكن الأفضل أن يُعَرَّبَ هذا الاسم إلى "برنقيلات " ، إذا لم نعثر على اسمها فى ذخيرتنا العربية.(2/9)
وقد أثارت الضِّفْدِع الشائعة فى مصر ، والتى يدرس تشريحها كل طالب لعلم الحيوان فى مصر ، مشاكل لغوية علمية معقدة . على هامشها أولا ضبط الاسم : المفرد : ضِفدِع ، وضِفدَع ( وينقل الدَّميرى عن ابن الصلاح أن أشهرهما من حيث اللغة كسرُ الدال ، أما فتحها فهو أشهر فى ألسنة العامة وأشباه العامة من الخاصة ، وقد أنكره بعض أئمة اللغة ) وهى أيضا : ضُفدُع ، وضُفدَع ، وضَفْدَع ؛ والجمع فيها كلها : ضفادع، وضفادى .
والضفادع ، بصفة عامة ، برَّمائيات بتراوات قوافز ،تنقسم قسمين: مجموعة جلدها رطب أملس ، ورجلاها الخلفيتان طويلتان ، وبطرف لسانها ثلمة ، ومعظمها مائى . وتعرف أنواعها الكثيرة ( نحو 500 نوع ) فى الإنجليزية باسم frogs وتنسب إلى الجنس Rana والفصيلة الرانية Ranidae أما المجموعة الثانية ، فجلدها جاف خشن ذو ثآليل ، وبه غدد تفرز سما ، ورجلاها الخلفيتان أقصر ، ومعظمها أدرد الفكين . ويعيش معظم أنواعها ـ فى طور البالغ ـ على اليابسة أو فى الطين. وتعرف الأنواع الكثيرة من هذه المجموعة ( نحو 300 نوع) فى الإنجليزية باسم toads ، تنتسب إلى الجنس Bufo وأجناسٍ أخرى من الفصيلة البوفوية Bufonidae .
فعندنا فى الإنجليزية إذن: frogsوtoads(وفى الفرنسية grenauilles و(crapauds وكان علينا أن نجد لفظين مقابلين لهما فى اللغة العربية . أما frogs فقد حظيت باسم "الضفادع" الشائع على الألسنة ، وإنْ لم تكن هى البرَّمائيات الشائعة فى مصر ، مثلا. وأما toads فقد أسماها بعض المؤلفين "العلاجيم" ، وانتشرت هذه التسمية فى بعض المؤلفات الجامعية باللغة العربية.(2/10)
... فإذا رجعنا إلى معنى "علجوم" فى كتب اللغة ، وجدنا فى القاموس ، مثلا ، : "الضفدع الذكر ، والقراد ، والظبى الآدم، والظليم ، والكبش ، والوَعْل ، والثور المسِنّ ، والبطة الذكر ، وطائر أبيض ، والماء الغمر الكثير". ويأخذ الوسيط بعض هذه المعانى ويزيد عليها:" الأتان الكثيرة اللحم". ولا يورد الدَّميرى "العلجوم" فى موسوعته ، ولكنه يذكر فى مُدخل "ضفدِع " أن العلجوم هو ذكر الضفدِع . ويبدو أن هذا هو أشهر المعانى، وهو المعنى الأول فى القائمة الطويلة التى أوردها القاموس ، فهو اختيار له ما يبرره.
... أما ترجمة toads بعلاجيم ، فالذى ابتدعها هو المعلوف ، فى معجمه القَيِّم ، حيث يقول إن معنى العلجوم الضفدِعَ الذكر ، ولكنه يضيف (ص:109):"… وأرى أن العلجوم حيوان آخر من الرتبة نفسها". (وموضع التساؤل ليس حيوانا واحدا). ويوضح فى موضع آخر: (ص:41) وجهة نظره قائلا:"… ولاشبهة أنهم أرادوا فى قولهم الضفِدعَ الذكرَ أنه جنس من الضفادع الكبار لا أنه الذكر بالمعنى المفهوم. وهذا الاستعمال كثير عندهم". وأرى أن المعلوف قد جانبه التوفيق فى هذا التخريج. فليس كل حيوانات المجموعة الثانية (toads) أكبرَ أحجاما من حيوانات المجموعة الأولى ، ثم إن الضفادع من الحيوانات التى تتميز ذكورها من إناثها تميزا واضحا ، فهى التى تنق دون الإناث ، فضلا على بعض الفروق فى الشكل. (وكذلك الحال فى البط ، فذكوره فى معظم الأنواع أجمل وأبهى ريشا من إناثه ، وإلا لزم أن نقول – على هذا القياس – إن العلجوم هو نوع أو جنس معين من البط أيضا). فواضح أن العلجوم اسم للذكر ، كالديك والثور والكبش ، ونحوها.(2/11)
وقد فكرت فى الأمر منذ سنين ، فلم أجد مندوحة من تعريب toads إلى "تودات". وهكذا يكون عندنا ضفادع وتودات ، فلسنا أقل فطنة ودقة من الذين يفرقون بين هاتين المجموعتين فى اللغات الأخرى. وقد أعلنت هذا فى عملين باكرين (فى الموسوعة الذهبية:63/1964، وفى موسوعة الأهرام:1964). والذى يؤيد هذا المنحى أن لفظ toad فى الانجليزية اسم جامد من اللغة الانجليزية القديمة ، وليس له معنى يترجم. وليس تعريب الأسماء فى عالم الحيوان بغريب ، فأسلافنا قد أدخلوا، مثلا: الأخطبوط، الإسقَمرى ، الأنكليس، البلبل ، الجرِّى ، السقنقور ، القريدس ، والقندس.
وهذه التفرقة بين الضفادع والتودات واجبة فى الكتابات العلمية ، على وجه الخصوص. أما فى الحديث العادى فيمكن استعمال لفظ "ضفدع" و"ضفادع"للإشارة للبرَّمائيات البتراوات، بصفة عامة. وشبيه بهذا قَدَرُنا فى ترجمة مجموعتى حرشفية الأجنحة: الفراشِ وأبى دقيق ، ففى كلامنا المعتاد ، ونثرنا، وشعرنا، لا نتحدث إلا عن الفراشات. بل حتى فى الأسماء العلمية التى لا يقصد فيها التفرقة بين المجموعتين ، نستعمل لفظ "الفراش" أيضا لترجمتنا لاسم butterfly fishes إلى الأسماك الفراشية ، دون حرج.(2/12)
وعكس ما ذكرناه بشأن التُّودات، حدث عند ترجمة لفظ “skunks” التى تدل على أنواع من اللواحم الأمريكية لها غدتان عند قاعدة الذيل ، تنقبض العضلات المحيطة بهما ، إذا أثير الحيوان ، قاذفةً إفرازها السائل رذاذاً دقيقا له رائحة خانقة كريهة لا تطاق ، تقزر النفس وتثير الغثيان ، كما أن له فعلا كاويا قد يصيب العينين بعمى مؤقت. ويحرص الحيوان على ألا يعلق بجسمه من هذا الإفراز شئ ، ويمضى "طاهر الذيل" بعد أن يفعل فَعلته النكراء . وهذه الأنواع تشبه أنواعا أخرى مماثلة فى العالم القديم، منها ما يعرف فى مصر والسودان بأبى عفن وأبى المَنْتَنْ (مع أنه لا ينفرد بهذه الوصمة)، وفى بلاد العرب باسم الظَّرِبان (عبد الحافظ حلمى محمد،1965)، ويعرِّفه الدَّميرى بأنه "دويْبَّة فوق جرو الكلب ، منتنة الريح ، كثيرة الفسو"! وهكذا كان من الطبيعى أن يسمى المعلوف الـ”skunks الظرابىَّ الأمريكية " (معجم الحيوان ، ص :231). وكذلك نلجأ أحيانا إلى ترجمة معانى الألفاظ الأجنبية إلى اللغة العربية ، كما فعلنا فى ترجمتنا للأسماء: puffbirds إلى الطيور المنتفشة ، و hornbills إلى قرنية المناقير، button quails إلى السُّمانى الزِّرِّيَّة ، و caecilians إلى العمياوات ، وfrogfish إلى الأسماك الضفدِعية ، و toadfish إلى الأسماك التوُّدية ، وهكذا.(2/13)
والحذرَ الحذر من الأخطاء الشائعة عند وضع المقابلات العربية لأسماء الحيوان الأجنبية. فمن ذلك ترجمة tiger إلى "نمر"، وصحته: "الببر" ومن ذلك أيضا ترجمة swans إلى بجع ، كما يحدث فى ترجمة الباليه المشهور Swan Lake إلى "بحيرة البجع". وانتقل هذا الخطأ إلى الفلاسفة والمناطقة فى مثالهم المشهور: كل البجع أبيض ، بل إنه تسرب إلى بعض معاجمنا ، فهى تورد مقابل لفظ "بجع" وصفا ورسما لطائر آخر هو التِّمُّ (المشهور فى مصر أيضا بالوَزِّ العراقى) وهو الذى يسمّى بالإنجليزية swan ، أما البجع فمقابله بالإنجليزية هو pelicans، وقد برئ المعجم الكبير من هذا الخطأ الشائع فأورد أمام لفظ "بجع" الوصف والرسم الصحيحين لهذه الطيور التى تُعرف أيضا باسم "الحوصل" أو "جمل الماء". وبهذه المناسبة ، من مآثر المعجم الكبير أيضا إثباته للأسماء العلمية لأنواع النبات والحيوان وأجناسهما وفصائلهما ، أيضا.
وبعدُ.. أيها العلماء الأجلاء
لا أزعم أننى قد شفيت الغليل فى هذا
الموضوع المتشعب الطويل ، وكان قُصارى جُهدى أن أعرض عليكم – فى حدود الوقت الضيق المتاح للإعداد والإلقاء – بعض ما عَرَض لى منه فى أثناء عملى المتواضع فى الترجمة أو التحقيق ، وقد يكون لنا إليه عود ، إن شاء الله. وإنما يكفينى أننى بثثتكم بعض ما نكابده فى هذا الباب من عناء يعذبنا ونستعذبه ، فى سبيل خدمة لغتنا الشريفة ، وإرساء قواعدِ نهضة علمية عربية شاملة.
عبد الحافظ حلمي
عضو المجمع(2/14)
نحاول فى هذا البحث أن نتعرَف مسألة تعريب التعليم العالي في الوطن العربى ، وأن نتبين التعريب مفهومًا وأهدافًا وأشكالاً ، موضحين حجج المؤيدين له والمعارضين والمتريثين ، ومشيرين إلى مستلزمات التعريب حتى يحقق الأهداف المرسومة له .
أولا : التعريب مفهومًا وأهدافًا :
=== ==================
التعريب لغة مصدر للفعل عرَّب ، وعرَّب بمعنى أبان وأفصح ، وعرَّب عن الرجل إذا تكلّم بحجته ، وعرَّب منطقة إذا هذَّبه من اللحن ، ويقال : عرَّبت له الكلام تعريبا إذا بينته له ، وعرَّبه : أي علَّمه العربية ، وتعريب الاسم الأعجمي أن تتفوه به العرب على منهاجها (1) .
ولقد تدرَّج لفظ " عرَّب " بهذه المعاني المتقاربة بعض الشىء منذ القديم إلى معنى ترجمة النصوص الأجنبية ونقلها إلى العربية، وتعليم العلوم الأجنبية بالعربية .
والتعريب اصطلاحا إيجاد مقابلات عربية
للألفاظ الأجنبية لتعليم اللغة العربية واستخدامها فى ميادين المعرفة البشرية كافة.
ويقصد بالتعريب حاليا استعمال اللغة العربية لغة قومية فى الوطن العربى للتعبير عن المفاهيم ، واستخدامها فى التعليم بجميع مراحله، والبحث العلمى بمختلف فروعه وتخصصاته، واستخدامها لغة عمل فى مؤسسات المجتمع العربى ومرافقه كافة(2). ومنهم من يوسّع دائرة التعريب ليرى أن للتعريب مفهومًا جوانبَ فنية وقومية واجتماعية وسياسية وحضارية ، وقد يتداخل مفهوم التعريب مع مفهوم الترجمة فتعرض قضايا فنية حول طبيعة اللغة وطاقاتها الدلالية والاستيعابية وآلياتها الذاتية وحول إعداد المترجمين وتدريبهم … إلخ ، وفى هذا الإطار تكون قضيةُ التعريب قضيةُ علاقات فكرية وثقافية مع اللغات الأخرى أي قضية عربية أجنبية .
وقد يعنى التعريبُ دعمَ الوجود العربى
والوحدة العربية بمعنى شمولية استعمال اللغة
العربية فى الوطن العربى نفسه على المستوى الجغرافي والقطاعي لقطاع التعليم والبحوث والإدارة وتوحيد المصطلح العربى .(3/1)
وقد يعنى التعريبُ تعريبَ لغة الإدارة الرسمية بما فى ذلك أنواع النشاط المالي والتجاري والاقتصادي ، وقد يعني تعريبَ لغة التعليم والمجتمع معًا فى بعض الأقطار العربية التى كانت رازحة تحت الاحتلال الأجنبى واستقلت حديثا .
والتعريبُ من جهة أخرى قد يعنى كل ما يستوعبه المجتمع العربى ويحتويه فى نسخ حياته،مما يتلقاه بأي صورة من صور التلقي الفكري والمادي والاجتماعي من أهداف وقيم ووسائل ، والانطلاق منه كواقع جديد للتفاعل الجدلي إنتاجًا وعلاقات ، أخذًا وعطاء ، تأثيرًا وتأثرا ، من رؤية متكاملة للحياة وقدرة ذاتية على ممارستها. والتعريبُ فى المستوى المباشر يعنى سيادةَ اللغة العربية على ساحة الوطن العربى بما يوحد المشاعر العربية ، ويجمعها حول تاريخها وواقعها ومصيرها، مما يجعله عاملا جوهريا في الخروج من دائرة التخلف السياسي المتمثل فى التجزئة إلى حرية الوحدة العربية فى الصورة التى تؤصل دور
الأمّة العربية التاريخي والمصيري .
والتعريب فى معناه الأكثر شمولا يعطي للوحدة العربية مضمونها الحضاري المعاصر ويعينها على كسر طوق التخلف والتحرر من أنواع التبعات الاقتصادية والتقانية "التكنولوجية " والثقافية (3) .
ومن هنا يكون للتعريب هدفان :
أولهما :
خلق شخصية إبداعية عربية تمتلك القدرة الذاتية على إنتاج العلم وصناعة التقانة " التكنولوجيا " ، وهذه القدرة ليس مناطها المعرفة العلمية وحدها ، ولكن المناخ العلمي الذي يستدعي عددا من الظروف المواتية لتملك القدرة الذاتية ، وهي ظروف متعددة الجوانب ، منها ما هو سياسي ، ومنها ما هو تشريعي ، وما هو تنظيمي ، وما هو اجتماعي ، وما هو مالي ، وما هو في الأساس علمي .
وثانيهما :(3/2)
هو القدرة على المشاركة والتفاعل من منطلق متميز ذلك أنه يمكن للأمّة العربية أن تسهم فى الحضارة العالمية المعاصرة متجاوزة عقبات التخلف بضمّ قدراتها البشرية والعلمية والمادية واستنبات علمها عربيا ، وتوحيد استراتيجياتها تنمويا، وأن تضع تقانة " تكنولوجيا " عربية ، والسبيل إلى ذلك هو الإنسان الذى يتلقى علوم العصر بلغته ، يتعلم ويعلّم ويبحث بها ، حتى يكون ذلك إغناء للثقافة العربية بين المتخصصين والمتعلمين وجماهير الشعب، بما يوسع من قاعدة المشاركة وصنع الوعي بالتقدم ودعم الشعور بالحاجة إليه والإسهام فى تطويره (4) .
ثانيا : أين تقع الإشكالية ؟
==================
غنيٌّ عن البيان أن لكل أمة لغة تعبر عن هويتها القومية وشخصيتها الحضارية ، وأن لغتنا العربية رمز لكياننا القومي وعنوان لشخصيتنا العربية ، وهى لغة قرآننا الكريم وحضارتنا العريقة الضاربة الجذور فى الأعماق ، وهى مستودع تراثنا الفكرى وموحدة المنهجية الفكرية بين أبناء الأمّة ماضيا وحاضرًا وتوجهًا نحو المستقبل ، بها نتفاهم ، ونعبر عن حاجاتنا وتطلعاتنا ، وبها نفكر ، وقد وحدت بين العرب فى مواضي الحقب بوساطة القرآن الكريم ، إذ لولا ذلك الكتاب العربي المبين الذي نزل به الروح الأمين على قلب الرسول العربي الكريم آيةً لنبوته، وتأييدًا لدعوته ودستورًا لأمته لكان العرب بدوًا .(3/3)
وما دامت اللغة العربية هويةَ المجتمع العربي رافقته منذ طفولته، وعبّرت عن مسيرته فى قوته وضعفه ، فى توثبه وانحساره ، فى حضارته وتخلفه كان الحفاظ على هذه الهوية واجبًا مقدّسا ، وكان الحرص على تبنيهًا والاعتزاز بها أمرًا لازبًا بكل المعايير والمقاييس دينية كانت أو قومية أو وطنية ، وان الإشكالية تقع فى إهمال هذه اللغة واعتماد لغة أخرى مكانها فى التدريس الجامعي ، ولا تتجلى الإشكالية فى التعريب لأنه الطريق الطبيعي والأمر البديهي، وإنما فى عدم استخدام العربية أداة للتواصل بين أبناء الأمّة فى معاهدهم وجامعاتهم ، فقد " ابتُلينا – كما يقول يوسف الحاج فى كتابة فى " فلسفة اللغة "– بإهمالنا للعربية ، بغرورنا أن سواها أعمق وأبهى وأفتى وأقرب إلى مقزمات الحضارة الحديثة ، أسمعنا هذه المعزوفات فابتلينا بعقدة التكابر حيال لساننا ،وبعقدة التصاغر حيال لسانهم ، والنتيجة صغرنا فى أنفسنا دون أن نكبر فى أنفس الحاكمين حتى صرنا لا ننتمي لبيان عربي ولا لبلاغة عربية" (5) .
ويتابع قائلا :" لا أبالغ إذا قلت إن معظم مشكلاتنا الاجتماعية سببه التنازل عن واحدنا الأحد ، عن تاريخنا الواحد ، عن لساننا الواحد ، عن أرضنا الواحدة ، عن تراثنا الواحد ، عن إرادتنا الواحدة . وإن كل أمّة عزيزةَ الجانب ، أبية الخلق ، ثابتة الإرادة ، تقدّم لغتها على لغة سواها ، ولا تتناول أشياء الأخرى إلا من بعد أشيائها القومية،أى من وراء حدودها الوطنية"(6).(3/4)
فاللغة رمز للكيان القومي وأمارة على شخصية الأمّة وذاتيتها الثقافية ، و " على التعليم العالي أن يقوم على أنه محور أساسي لرسالته ، على عملية تنمية الذاتية الثقافية التى تمثل الخصوصية الحضارية للمجتمع والتى هى مناط سائر أنواع التنميات الأخرى ، والتى هى بصفة خاصة سبيل الأمّة فى العطاء الحضاري للمجتمعات الأخرى وأسلوب التبادل الخلاق مع الآخرين ، ويتمثل ذلك فى الذاتية الثقافية ، فى خصائص المجتمع الأساسية، وفى تراثها الحضارى وفى مقدّمتها اللغة القومية التى ليست شكلا ولا رمزا ، ولكنها مضمون وطريقة تفكير ومستودع حضارة " (7) .
وثمة من يرى أن لمشكل التعريب وجهين أولهما: كون لسان أجنبي يحلّ محلّ اللسان الأصلي ، وثانيهما: كون هذا اللسان الأصلي منقطعا عن اللغات بسبب جمود المجتمع (8) .
إنهما وجهان لعملة واحدة ، ويبدو من السهولة أن يخفي الأول الثاني ، ولكن لا يمكن سبر عمق مشكلة التعريب إذا لم نميّز بينهما نظريا على الأقلّ ، فالوجه الأوّل ظاهرة اجتماعية تنشأ عن القهر والاحتلال الأجنبي بحيث يصبح اللسانُ الدخيلُ عنوانَ التقدّم والعلم والأناقة ، ويصبح اللسانُ الأصلي سمة كل ما هو بلدي متخلف ، فنرى الموظف يخاطب الزبون بلسان أجنبي ليظهر نفوذه ، والأمّ تخاطب ابنها باللسان نفسه للإعلان عن انتمائها إلى طبقة راقية ، والطالب يقحم الكلمات الأجنبية ليثبت ثقافته العصرية إلى آخر ما هنالك من المظاهر المؤسفة المضحكة التى نلاحظها اليوم فى المغرب العربي وفى بعض الأوساط المشرقية على حدّ تعبير الباحث المغربي عبد الله العروي .(3/5)
ومن هنا كان للدعوة إلى التعريب فى هذا المجال مغزى سياسي واضح ، إنها دعوة إلى الوحدة الوطنية، ومحاولة لإيقاف تيار خطر يقسم المجتمع إلى تقسيم لغوي وثقافي ناقض الذى كان موجودًا أيام الاستعمار بين الجالية الأجنبية والشعب المستعمر يتحوّل إلى تناقض بين النخبة الحاكمة ذات النفوذ الاقتصادي وباقي الطبقات المحرومة، وفى هذا الوضع ما فيه من تبعية اقتصادية وسياسية للمجتمعات المتقدّمة .
والوجه الثاني للمشكلة يربطه بالمستوى الحضاري ، إذا أن اللسان القومي يزدهر أو يضمحل بحسب تجدد اللغات الاصطلاحية وتعدد الرموز العلمية .ويشخص العروي مشكلة التعريب حاليا فى الوطن العربي من خلال ردّه على التساؤل : ولماذا لا نرضى بما يؤول إليه التطوّر تلقائيا أى الازدواجية اللغوية ؟ لماذا لا نرحب بحالة مثل حالة الهند التى أحرزت درجة لا بأس بها من العلم والتقانة " التكنولوجيا " ؟ هل هناك مصلحة حقيقية فى طرح قضية التعريب سوى تعلق عاطفي بالتراث، وسوى مصلحة فئة قليلة من الفقهاء والأدباء والنحاة الذين لا يتقنون شيئًا غير اللسان
القديم ؟(3/6)
فيقول : " إن الاعتراض يبدو وجيها ، ويدفع المرء إلى كثير من التساؤل ، لكن لدى الفحص يتبين أنه مبني على مغالطة ، على افتراض شيء لا وجود له فى الواقع ، يكون الاعتراض مقبولا لو كان يتنافس بالفعل مشروع التعريب فى الوطن العربي ومشروع مضاد يستهدف تطوّرًا ثقافيًّا بلسان متطّور غير عربي . فى الهند منذ ثلاثين سنة توجد سياسة تثقيفية مبينة على استيعاب اللسان الإنجليزي ونشره ، والكلام عن إحياء اللسان الهندوساتاني يعدّ من قبيل الدعاية السياسية . أما فى الوطن العربي فإننا لا نجد سوى الإهمال ، وترك الأمور تتطوّر كما كتب لها . ليس هناك قرار تعريب جدي ولا قرار مضاد . ولما كان إهمال الأمور يعني فى الحقيقة استمرار التخلف والتبعيية والأمية ، فكل قرار يستهدف التقدم والتطوّر يتساوى منطقيًّا مع قرار التعريب ، فمضمون القرارين واحد هو سياسة قومية تخطط لمستقبل عربي . ولما كان مشكل التعريب قائمًا حتى الآن فهذا دليل على أن القرار الوحدوي لم يتخذ فعلا فى الكيان العربي. ويكتسي الأمر صفة مشكلة حادة عندما تحدث ظروف تمنع من اتخاذ القرارات لتحقيق الإصلاحات اللازمة ومنها انعدام الحكم القومي ، ولن يتمّ أى إصلاح فى حال غياب سلطة لها نفوذ على المجموعة القومية.
أما السلطات الخاضعة لمنطق الإقليمية فإنها لن تجرؤ على تبني الإصلاح، لأنها تعتمد الازدواجية سياسة ، تحافظ على اللسان القديم لتكسب قدرًا من الشرعية ، وتفتح المجال لنشر لسان أجنبى لتحقق قدرًا من التحديث ، وتترك الحرية للهجات لتضمن قدرًا ممن الاستقلال الداخلي .
ومن هنا لابد للعرب من أن يفكروا بكيفية حديثة مع أنفسهم وبلسانهم لا مع غيرهم فقط وبلسان الغير (9) .(3/7)
تلك هى مشكلة التعريب فى التعليم العالي فى الوطن العربي : عدم اتخاذ القرار الحاسم لاعتماد العربية وتبنيها فى التدريس الجامعي، وبقاء الأمور معلقة واستمرار التخلف والتبعية ، والأمية وعدم استنبات العلم عربيا ، وتسيب لغوي قومي وشعور بالتصاغر والتكابر ، التصاغر تجاه الثقافة الأجنبية ، والتكابر تجاه الثقافة القومية وتراثها الحضاري .
ثالثا : التعريب بين التأييد والمعارضة والتريث :
أ – المؤيدون :
يرى مؤيدو التعريب أن التدريس باللغة القومية يهدف إلى تحقيق ما يلي :
1- تقوية تماسك الوحدة الوطنية، وتنمية الشعور القومي، وتقوية الروايط الثقافية بين أبناء الأمّة : ذلك أن الحديث عن اللغة والعمل من أجل بقائها كان ميدانا من الميادين التى صارع فيها العرب أعداءهم ، فلقد كانت الهجمات الاستعمارية منذ بداياتها حريصة على أن تصيب هذا الوجود العربي فى نقطة القلب منه : الدين واللغة .
ولم تكن الحملات التبشيرية التى رافقت أو مهدت أو جاءت من بعد هذه الهجمات الاستعمارية إلا تمكينا لذلك على نحو من الأنحاء . ومن هنا كانت قضية اللغة والتعريب فى كثير من أشكالها ومظاهرها ردًّا على الحملات التى استهدفت الوجود العربي لا فى صورته المادية : الأرض ، ولا فى صورته الدولية: الاستقلال، فحسب بل فى وجوده الذاتى بالدرجة الأولى ، أعنى فى أخص خصائصه وفى أبرز عناصر الأصالة فيه . هل يمكننا أن ننسى حملة التتريك وإبعاد اللغة العربية عن أن تحتل مكانتها في الحياة ؟(3/8)
إن الأحداث التي ألمت بالوطن العربي في مشرقه ومغربه بعد الحرب الأولى جعلت جناحي هذه الأمة في وضع مماثل : سلطان أجنبي قاهر لا يريد الأرض وحدها، ولا يريد المواد الأولية وحدها ، ولكنه يريد أن يحول بين هذا الشعب في هذين الجناحين وبين وظيفته الحضارية . يريد أن يردّ هذه الأمّة عن أن تعي ذاتها، وهو يتخذ إلى طمس هذه الذات وتذويبها كل الوسائل منفردة ومجتمعة ، الاستعمار الاستيطاني والاستعمار الفكري والاستعمار اللغوي والاستعمار الديني …الخ.
وفي الواقع وجدت البلاد العربية نفسها من شواطئ الدار البيضاء إلى شواطئ الخليج أنها هدف لقوى مفترسة ، وأنها تعاني أوضاعا متشابهة ، وأن طريقها لتجاوز هذا الطغيان طريق واحد هو طريق الحفاظ على عناصر الأصالة الذاتية ، وهي ذاتها عناصر الوحدة .
وكان من تقدير الله للشعب العربي في أعقاب الحرب العالمية الثانية وحولها وقبلها أنه تخلص في كثير من أقطاره من التبعية السياسية الصريحة بشكل أو بآخر ، ولكنه ظل مستهدفا للتبعية الثقافية وظل الحكم الغربي في السطوة الفكرية يملأ قلوب المستعمرين الأوروبيين كما يملأ عقولهم ويوجههم في مجالات اللقاء كافة .(3/9)
وظلت اللغة العربية مادة تفجير وتفجر: الغرب المستعمر يريد تفجيرها بطرائق لا تحصى من مثل : إحياء اللغات الميتة ، وتشجيع انتشار اللهجات المحلية ، ورمي اللغة العربية بكل نقيصة واتهامها بكل صعوبة ، وفرض اللغة الأجنبية ونشر المؤسسات التعليمية والتبشيرية ، ويؤيده في ذلك التقدم الحضاري للدول الغربية وضعف الحكومات العربية واستخذاء بعض عناصرها . وكانت الأمة العربية الإسلامية تحاول أن ترد ذلك في هذه الميادين ، وأن تحيل هذا التفجير الخارجي الذي يريد الإبادة إلى تفجير داخلي في ذات اللغة ينفي عنها ما علق بها من مظاهر الضعف ، ويحاول أن يردها حية على الألسنة والأقلام ، ويريد لها أن تكون كما كانت بالأمس لغة حضارة ، لغة علم ولغة أدب على السواء ، ويصدّ عنها كل ألوان النقص الذى رميت به والعيوب التى ألصقت بها ، ويحرص على أن تكون عاملا مزدوجا ، عامل تحرير فكرى من نحو، وعامل وحدة سياسية أيضًا من نحو آخر(10) .
وها هو ذا التاريخ يعلمنا أنه ما وجدت أمة من الأمم إلا كانت لهل لغتها الخاصة ، وإن فقدانها لهذه اللغة يؤدي بها لا محالة إلى فقدان وعيها وإنيتها وذاتيتها، لأن المحتل يحرص دائما على فصل ضحاياه عن ماضيهم بقطع وسيلة الاتصال التى هي صدى أسلافهم والقوة الطبيعية الحية لأمتهم ، إذ أن اللغة المكتوبة هي الأسمنت الذى يضمن تماسك الوحدة الوطنية ، وهى العروة الوثقى التى تربط بين الأحياء وتصل بالأموات ويكتب بها سجل الأمم.(11) .
2- الجمع بين الأصالة والمعاصرة :
ذلك أن العربية كانت طوال قرون عدة لغة العلم والحضارة فى العالم المتحضر ، لقد عرفها وكتب بها العرب والمسلمون وغير المسلمين حتى إن طائفة كبيرة من هؤلاء العلماء قد ثقفوها ووقفوا على أسرارها فأحبوها وهجروا لغاتهم، فجعلوها لغتهم المفضلة وبها عرفوا لأنهم كتبوا بها (12) .(3/10)
وإذا ألقينا نظرة على التراث العلمي لأمتنا العربية الإسلامية فإننا نلاحظ غناه وتنوعه فى مختلف الميادين، فها هو ذا الكندى يعد أوّل من وضع معجمًا للمصطلحات العلمية ، فقد وضع رسالة فى حدود الأشياء ورسومها اشتملت على ثمانية وتسعين مصطلحا فلسفيا جميعها من أصل عربي ما عدا مصطلحين اثنين فقط هما "فلسفة والاسطقس " .
ووضع العالم العربي الرازي كتابه "الحاوي"، ويقع فى ثلاثين جزءا جمعت المعارف الطبية التى توصل إليها العقل البشري منذ أيام أبقراط ، وظلّ هذا الكتاب المرجع الطبي الأساسي فى أوروبا مدّة تزيد على أربعمائة عام ، كما كتب الرازي فى الكيمياء ، وهو أحد الأوائل الذين جعلوا الكيمياء علماً يمارس على طرائق علمية
وعملية وتجريبية .
وكتب " ابن سينا " فى عدة علوم ، ففى مجال الطب وضع قواعد علم الجراحة والتشريح ، ومهّد السبيل للاكتشافات الطبية العظيمة التى حققها علم الطب الحديث ، ووضع كتاب " القانون " فى الصيدلة أورد فيه ما يزيد على السبعمائة عقار .
وكان " البيروني " عالما بالفلك وفيلسوفا ورياضيا وجغرافيا ، وكتابه فى الفلك موسوعة تضمنت القوانين الطبيعية ، ووضع كتاب الجواهر الخاص بالأوزان النوعية للمعادن والأحجار الثمينة ، وعالج فى كتابه الصيدلة أنواع الأدوية .
ويعدّ " ابن البيطار " من أعظم العباقرة فى علم النبات حيث شرح فى كتابيه " الأدوية المفردة " و " الأقرباذين " حوالي ألف وأربعمائة نبات طبي مع ذكر أسمائها وطرق استعمالها .
ووضع أبو القاسم الزهراوي كتاب "رسالة التصريف لمن عجز عن التأليف" ويُعَدُّ كتابا مدرسيا للجراحة يشتمل على أشكال وصور لآلات طبية ساعدت على وضع أسس علم الجراحة فى أوروبا، إذ كان مرجعا لقرون عديدة .(3/11)
ويعّد جابر بن حيّان من أوائل الأسماء التى مجدها الغرب ، ترجم كتبه إلى اللاتينية وكتابه " التراكيب " من أوائل الكتب العربية التى ترجمت إلى اللاتينية ، وظلت كتبه فى الكيمياء المرجع الأساسي لأوروبا فى القرون الوسطى ، واستمر أثرها حتى القرن الثامن عشر .
كما يعدّ الحسن بن الهيثم من أعظم علماء الطبيعيات ، ويأتى على رأس قائمة علماء البصريات، وقد ترجم كتابه " المناظير " خمس مرات إلى اللاتينية ، ونقل كثير من علماء أوروبا فى البصريات وعلم الضوء من مؤلفاته .
ووضع " الخوارزمي " كتابين هامين فى الرياضيات،حمل الأوّل منهما حساب الجبر والمقابلة لتصبح كلمة "الجبر" كلمة عالمية ، والكتاب الثاني فى علم المحاسبة شرح فيه استخدام نظام الأعداد والأرقام ، كما شرح طرق الجمع والطرح والقسمة وحساب الكسور . وترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية ، واستعاض الأوروبيون بالأرقام الرومانية المعقدة الأرقام العربية البسيطة . والصفر يعدّ من الاكتشافات المهمة التى أشار إليها الخوارزمي ، وعن طريقه استطاعوا بناء الأرقام (13) .
تلك هى إشارات عابرة فقط تدل على مساهمات العلماء العرب والمسلمين فى المجالات العلمية تأليفا وتعريبا ، ومازالت دور الكتب فى العالم تزخر بالوثائق والمخطوطات العربية التى تكشف كل يوم عن خباياها، وتضيف جديدًا لإسهامات العرب والمسلمين فى بناء الحضارة الإنسانية. وعندما يتعرف الدارس ما أسهمت به أُمته في إغناء الحضارة الإنسانية، وخاصة فى الميادين العلمية يدفعه ذلك إلى وصل الحاضر بالماضي والاستمرار في إعلاء صرح تلك الحضارة بحثا وإنتاجا وإبداعا .
وإذا كنا اليوم نروم استنبات العلم عربيا والتعبير عن العلم بالعربية فما ذلك إلا لاستمرار أمتنا العربية، وربط لماضيها المجيد بحاضرها الذى نوده مشرقا وبنّاء وفعّالا فى مسيرة الحضارة البشرية .(3/12)
3- تعزيز وشائج الربط بين الجامعة والمجتمع : إذ إن علينا أن نحكم الصلة بين ما نعلمه لأبنائنا وما نعدهم من أجله ، وأن على القيادات الجامعية أن تجعل من الجامعات ومعاهد التعليم العالي العربي مصانع لتخريج الرجال الذين استنارت بصائرهم وتأصلت شخصياتهم ، وتركزت دعائم انتمائهم إلى أمتهم،ولن يتحقق ذلك بإبعاد اللغة القومية، وإنه لتناقض عجيب أن نعلم طلابنا شرف لغتنا وكونها دعامة قوميتنا ، ونتحدث لهم عن مزاياها وسعة تراثها، ثم نباعد بينهم وبينها فنعزلها عنهم ونعزلهم عنها، مثبتين لهم عمليا أنها لغة قاصرة وعاجزة ، ولا تصلح للتعليم عندما ندرس باللغات الأجنبية ولا ندرس بها .
4- توحيد الثقافة والمجهود العلمي والفكري فى الوطن العربي: إذ أن عددًا من أعضاء الهيئة التدريسية تخرجوا فى جامعات فرنسية أو ألمانية أو روسية أو غيرها ، فهل يترك لكلّ طائفة لغة تختص بها فلا يكون بين علماء الأمّة الواحدة جامعة تضمّ أفكارهم وتجمع إنتاجهم ، إننا إن لم ندرس بالعربية نبدد جهود علمائنا فلا يفيد بعضهم من بعض ، ولا يطلع بعضهم على ما يؤلف بعضهم الآخر إلا إذا كانت بينهم لغة مشتركة واحدة، يصبون أفكارهم فى قوالبها،ويصوغون علومهم بها. ومن هنا كانت الدعوة إلى التدريس بالعربية دعوة إلى توحيد الثقافة وتركيز المجهود العلمي والفكري فى الوطن العربي.(3/13)
5- مساعدة الدارسين على الفهم والاستيعاب : ذلك أن التدريس باللغة العربية يسهَل كثيرًا التحصيل العلمي والاكتساب التربوي ما دام باللغة الأم ، ويجعل من عملية التدريس عملية ممتعة للطالب والمدرس،فيشارك الطلاب أستاذهم بفهم المسموع وسرعة التدوين ، مما يوفر الكثير من الوقت للطرفين ، إضافة إلى أن الطالب لا يتهيب المادة كما هى عليه الحال باللغة الإنجليزية ، إذ أن من مقاييس التهيب للطالب مقدرته الذهنية واستعداده النفسي فى فهم المادة فى حدّ ذاتها . وقد أثبتت بعض الأبحاث أن اللغة العربية تساعد الدارس على الفهم والاستيعاب بصورة أفضل. والدعوة إلى استخدام اللغة القومية فى التدريس الجامعي ليست بدعا فى العالم ، ولا هى أمر عجيب بل العكس فيها هو الأمر العجيب ، إذ ليست هناك دولة فى العالم إلا اتخذت من لغتها القومية لغة للتعليم العالي فى جامعاتها ، بل حتى فى جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقًا تدرس كل جمهورية بلغتها المحلية فى جامعاتها حرصًا منها على أن يطلع كل مواطن مثقف على ميادين العلم والمعرفة باللغة التى يتقنها ، وكان قادة الاتحاد السوفييتي سابقا قادرين على فرض اللغة الروسية الواحدة فى جميع الجمهوريات ، ولكنهم أدركوا الألفة بين اللغة التى يتقنها الطالب والعلوم التى يجب عليه الإلمام بها ، كما أدركوا الضرر الذى سيعود على العلم والثقافة لو أبعدوا اللغات المحلية عن التعليم العالي .(3/14)
6- تحقيق ديمقراطية التعليم ، إذ ما معنى ديمقراطية التعليم إذا لم يكن هذا التعليم باللغة التى يفهمها معظم أبناء الأمة، إن ديمقراطية التعليم ما لم يكن باللغة القومية شعار لا مضمون له، وصورة لا واقع لها ، وديمقراطية التعليم وكونه باللغة القومية طرفان متلازمان لا بد أن يؤدي أحدهما بالحتمية إلى الآخر ، وما إصرار بعض الجامعيين على استخدام لغة لا يتقنها غيرهم إلا تعبير عن شعور بالتمييز والطبقية، وترفع عن المجتمعات التى أنشئت مؤسساتهم لخدمتها .
7- استمرارية تعليم اللغات الأجنبية : إن الداعين إلى التدريس باللغة القومية يدعون فى الوقت نفسه إلى الاستمرارية فى تعليم اللغات الأجنبية ، ذلك لأن إتقان لغة أجنبية واجب لابد منه لمتابعة التقدّم العلمي، ولكن شتان ما بين إتقان اللغة الأجنبية وبين استخدامها بديلا عن اللغة القومية . إن في إتقان اللغة الأجنبية دعمًا للثقافة ورمزًا لها فى كل ميدان من ميادين العلم ، وأما استخدامها بديلا فنعزل للغة القومية ووأد لها .
8-الإفادة من تجارب المجتمعات الأخرى: أدراك فلاسفة الغرب ومفكروه وساسته أهمية اللغة في البنيان القومي ، فها هو ذا "هردر " الألماني يقول : " إن لغة الآباء والأجداد مخزن لكل ما للشعب من ذخائر الفكر والتقاليد والتاريخ والفلسفة والدين، وقلب الشعب ينبض في لغته ، وروحه يكمن في لغة الآباء والأجداد " (14) .(3/15)
وعندما سئل " بسمارك " عن أفظع الأحداث التي حدثت في القرن الثامن عشر أجاب: إن المستعمرات الألمانية في شمال أمريكا اتخذت اللغة الإنجليزية لغة رسمية لها " ،وهو يعني أنه كان في شمال أمريكا جاليات ألمانية كبيرة ، وعند حصول هذه المستعمرات على استقلالها اتخذت اللغة الألمانية بدلا من الإنجليزية كي يضمن ولاءها لألمانيا ، وأثبت التاريخ صدق نظرة بسمارك ، ففي الحربين العالميتين الأولي والثانية كان ولاء الولايات المتحدة الأمريكية لإنجلترا، على الرغم من كل خلاف بين أمريكا وإنجلترا . ومن مصادر هذا الولاء اللغة المشتركة التي تجمع بين الأمتين ، إذ أن لوحدة اللغة أبلغ الأثر في تقريب الاتجاه الثقافي ( 15 ) .
واعتمدت الثورة الفرنسية اللغة الرسمية الفصيحة انطلاقا من أنه لا حرية حقيقية من رواسب الإقطاع، ولا كيان للشخصية الفرنسية إلا بتمثل اللغة القومية ومعرفتها . والقائد الفيتنامي " هوشي مينة " يرى أنه لا انتصار على العدو إلا بالعودة إلى اللغة والثقافة القومية ( 16 ) .
وهاهي ذي إسرائيل تقيم كيانها على إحياء اللغة العبرية ، إذ كانت لأغلبية المهاجرين اليهود إلى أرض فلسطين لغة فى ألمانيا والنمسا وروسيا وبولونيا وأوروبا الشرقية عامة ، وكانت لهذه اللغة آدابها ، ولكنهم تركوها وآدابها ليحيوا لغة أخرى ماتت عمليًّا منذ ألفي سنة، ألا وهى العبرية ، وشتان بين اللغتين: العبرية والعربية فى مسيرة الحضارة الإنسانية (17 ) .
وها هى ذى فنلنده تدرس الطب باللغة الفنلندية ، على حين ندرسه في أغلب جامعاتنا بالإنجليزية، وأين الفنلندية من العربية ؟! وهل لها الرصيد الثقافي والحضاري العربي العريق ؟ وهل لها ما للعربية من تراث طبي مجيد ؟ نحن الذين علموا الطليان الطب فى عصر النهضة وها هم أولاء يدرسون الطب بلغتهم الطليانية، وأساتذتهم العرب يدرسونه بلغة أجنبية.(18 )
ب – المعارضون :(3/16)
يتجه المعترضون على التعريب إلى تقديم الحجج التالية :
1-إن لغة العلم فى عصرنا الحالى إنما هى اللغة الإنجليزية ، و( 98% ) من المراجع والمصادر العلمية هى باللغة الإنجليزية ، وإذا لم نعلم الطلبة هذه اللغة فكأننا نمنعهم من الاطلاع على هذه المصادر و المراجع ونغلق عليهم نافذة العلم ، ونحول دون أن ينمو تحصيلهم لدرجات عليا فى الجامعات الخارجية لو أرادوا ذلك ، فضلا عن أن استعمال اللغة الإنجليزية فى تدريس العلوم يعدّ أسرع وسيلة للسيطرة على هذه اللغة. ( 19 ) .
2-ضآلة توافر الكتب و المراجع باللغة العربية وركاكة الأسلوب وسوء الإخراج.
3-قلّة الأساتذة المعدين للتدريس بالعربية .
4-غرابة بعض المصطلحات العربية التى أصدرتها بعض المجامع اللغوية ، ووفرتها، واستعمال أكثر من مصطلح تبعا لما يصدر عن كل مجمع لغوى أو جامعة أو مركز بحث ، وصعوبة فهم بعض المصطلحات العربية وشيوع المصطلحات الأجنبية التى أصبح بعضها متداولا حتى بين عامة الناس. ( 20 ) .
ويروى آخرون أن فى كل علم عددا كبيرا من المصطلحات ، وأن أكثر هذه المصطلحات لم يترجم إلى العربية حتى الآن وقد لا يكون له مقابل فى اللغة العربية .
5-النظر إلى التعريب على أنه شعار بلا مضمون .
6-وجود مشكلة الرموز العلمية والأحرف والأرقام .
7-وجود مشكلة النشر و التوزيع .(3/17)
وفى دراسة ميدانية قام بها الدكتور سيد حامد حريز فى جامعة الخرطوم عام 1983 وجد أن نسبة عالية من أساتذة جامعة الخرطوم لا ترى ضرورة للتعريب، وأن اللغة العربية الفصيحة بنحوها وصرفها قد اكتسبت صورة منفرة فى أذهان الصفوة من المتعلمين السودانين لا سيما الذين نالوا تعليما أوربيا ، وأن عددا كبيرا من أساتذة جامعة الخرطوم تجيد اللغة الإنجليزية ، وتعترف بعدم إجادتها اللغة العربية ، وأنهم يذكرون بشئ من الحسرة أن تعريب المناهج فى المراحل الثانوية صحبه انخفاض فى مستوى اللغة الإنجليزية ، وأن الكتب والمراجع باللغة العربية غير متوافرة ( 21).
ج- الرد على المعارضين
الحجة الأولى : أن التعليم باللغة العربية يحرم الطالب المتخرج من متابعة الركب العلمى المتطور بسرعة .
الرد :
إن علاج ذلك سهل وميسور ويتجلى فى تقوية اللغة الأجنبية، بحيث يتقنها الطالب أو يُلم بها إلماما كافيا يسمح له بالمتابعة فيما بعد ، و الدليل أن طلاب كلية الطب بجامعة دمشق الذين يدرسون الطب بالعربية عندما يتقدمون إلى الفحص الأمريكى اللغوى الطبى ، تفضل نتائج امتحاناتهم فى مرات كثيرة نتائج زملائهم الذين درسوا الطب باللغة الإنجليزية ، ولم يحل تعلهم الطب بلغتهم العربية من اجتياز امتحانات اللغة الطبية الإنجليزية بنجاح .
الحجة الثانية : أن فى كل علم عددا كبيرا من المصطلحات لم يترجم إلى العربية حتى الآن ، وقد لا يكون له مقابل فى لغتنا بسبب عجز اللغة العربية .
الرد :(3/18)
إن استخدام اللغة العربية فى التعليم أمر واستعمال المصطلحات أمر آخر ، إننا ندعو إلى أن نكتب العلم بالعربية ونلقى دروسنا بالعربية ، وتبقى المصطلحات العلمية بأسمائها الأجنبية إلى أن تُعرَّب أو تُحلّ مشكلتها ، ليكتب المؤلفون المحاضرون الفيتامين و الهرمون و الكولسترول ، وكل مصطلحات العلوم غير المعربة بأسمائها الأجنبية ، ولكن ليتكلموا عنها وليتحدثوا باللغة العربية ، إننا نطالب باستعمال اللغة القومية، لأن اللغة كيان فكرى ونفسى رائع ، وأما المصطلحات فألفاظ وقوالب لفظية تدل على معان معينة ( 22 ) .
ثم كيف نوفق بين ادعاء عجز اللغة العربية عن استيعاب المصطلحات الطبية كما يدّعى بعضهم وبين واقع الأمر وحقيقته وهو شمول اللغة العربية لكل مصطلحات الطب وغيره، كما ينطق به الواقع السوري فى كلية طب دمشق،والتى كانت من أوائل الجامعات التى بدأت فى التعريب ، وكان لها الفضل فى نشر التعريب الطبي وغيره، حيث سادت لغة الضاد فى مدرجات هذه الجامعة تدريسا وامتحانا ؟ ( 23 ) .
الحجة الثالثة : قلّة المراجع و الكتب .
الرد :
إن هناك عددا من الجامعات فى الوطن العربى تدرس الطب و الهندسة والعلوم وغيرها باللغة العربية ، وفى هذه الجامعات كتب و مراجع فى مجالات الاختصاص ، كما أن هناك العديد من المعاجم والمصطلحات التى يصدرها مكتب تنسيق التعريب التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، كما أن المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر التابع للمنظمة أيضا يصدر كتبا مترجمة فى المجالات العلمية .
الحجة الرابعة : التعريب شعار بلا مضمون .(3/19)
الرد : ليس التعريب شعارًا بلا مضمون ، ولكنه ضرورة قومية وحضارية لا بد منها، وهو موقف نفسي أولاً يدعو إلى التميّز الإنساني وتقوية الانتماء إلى هذه الأمّة ، وها هو ذا المسؤول عن التعليم الطبي فى منظمة الصحة العالمية يستنكر ظاهرة فى التعليم الجامعي فى البلاد العربية، ولا يستطيع أن يستسيغ هذه الظاهرة ، وهي أنه ليس فيها إلا جامعة واحدة تدرس الطب بالعربية ، وهو يرى أن التعليم بغير العربية ظاهرة تخلف ليس لها مبرر ، وتتنافى مع مقررات منظمة الصحة العالمية الداعية إلى التعليم الطبي باللغة القومية. (24)
الحجة الخامسة : اللغة الإنجليزية هى لغة العلم ولابّد من تعليم الطب بها .
الرد:
ليست اللغة الإنجليزية وحدها لغة العلم ، فهناك الفرنسية والروسية والألمانية واليابانية والإسبانية والصينية … والبلدان الأوربية وغيرها تعلم طلبتها بلغاتها . وليس هناك شكوى من أن هؤلاء الطلاب ممنوعون من الاطلاع على المرجع ، وأن نافذة العلم قد أغلقت دونهم ، ويؤيد ذلك الأبحاث والمخترعات والمكتشفات التى ينجزها أبناء هذه الشعوب .
د- الداعون إلى التريث :
ثمة من يدعو إلى عدم الإسراع فى التعريب، وأن التعريب يستلزم مدى زمنيا ولا يمكن أن يتم إلا بعد توفير مستلزماته ، ونظرًا لأن هذه المستلزمات غير متوافرة بصورة وافية كان التريث فى التعريب أمرًا تقتضيه الظروف الراهنة ، إذ أن المراجع بين أيدى الطلبة غير متوافرة ، كما أن الأساتذة المعدين إعدادا جيدا للتدريس بالعربية غير متوافرين على النحو المنشود ، إضافة إلى تأهيلهم إنما هو بالإنجليزية فى الأعم والأغلب ، يضاف إلى ذلك أن هناك معوقات فنية ومادية تستلزم التريث ، ومن هذه المعوقات (25 ) :
-قلة الإمكانات الفنية وضعفها " رسم ، طباعة ، تصوير … " .
-قلة القواميس والمعاجم المتخصصة فى مختلف المجالات .
-عدم وجود مصطلحات علمية متفق عليها.(3/20)
-ضعف بعض أعضاء الهيئة التدريسية باللغة العربية مما يعوقهم فى عملية الترجمة والتعريب .
-إثقال التدريسيين بأعباء تدريسية وإدارية كثيرة تستنفد طاقتهم ، وتحد من تفرغهم للتعريب .
-عدم توفر المكان والجو الملائم داخل الجامعة للقيام بعملية التعريب .
-العجز فى الأُطر التدريسية وارتفاع نسبة الطلبة إلى المدرسين .
-عدم اطلاع التدريسيين على ما يجري فى الأقطار العربية فى مجال التعريب .
-فقدان خطة عربية قومية موحدة للتعريب والترجمة .
-ضعف الإقبال على العمل الجماعي المنظم فى عملية التعريب .
-عقدة الخوف من المجهول حيث يظن الظانون أن التعليم بالعربية سيسيء إلى مستوى التعليم والبحث .
لهذه الأسباب مجتمعة يرى نفر من الأساتذة أن التريث فى التعريب أمر تحكمه الظروف الموضوعية ، وأن الإقدام عليه دون تهيئة مستلزماته قد يكون له آثار سلبية وانعكاسات خطرة على عملية التعريب نفسها .
رابعا : مستلزمات التعريب:
تجدر الإشارة إلى أن الأهداف المرسومة للتعريب يستلزم تحقيقها أمور متعددة منها:(3/21)
1- القرار السياسي الملزم لاعتماد التعريب منهجا فى الحياة، وأن التسويف الذى سبقت الإشارة إليه لا يمكن أن يحسمه إلا قرار سياسي تمده جذوة من الحماسة والإيمان ، وعندها فقط تذلل الصعوبات ولنتخذ من تجارب الآخرين معلما نستهدي به فى مسيرتنا ، فها هى ذى جامعة الفيتناميين تستعمل اللغة الفيتنامية فى تدريس العلوم كافة ، وعندما أصدر "هوشى مينة " أمره بالفتنمة الشاملة ، على الرغم من أن الفرنسية للمجتمع الفييتنامى دامت أكثر من ثمانين سنة ، طلب أساتذة كلية الطب فى هانوي مقابلته ليخبروه بأن فتنمة الدراسات الطبية عملية مستحيلة، بسبب جهل أساتذة كلية الطب وطلبتها للّغة الفيتنامية ، وطلبوا إليه العدول عن قراره أو إمهال تطبيق الفتنمة على كلية الطب ، و استمع القائد الفيتنامى لهم ساعات ، ثم حسم المقابلة قائلا لهم: "يسمح لكم بالتدريس باللغة الفرنسية بصورة استثنائية هذه السنة فقط ، مع ضرورة تعلمكم وطلبتكم اللغة الفيتنامية الوطنية خلال أشهر الدراسة التسعة ، على أن تجرى الامتحانات فى سائر المستويات فى نهاية السنة باللغة الفيتنامية ، ثم تستأنف الدراسة فى السنة المقبلة باللغة الفيتنامية"(26)
2- إلى جانب القرار السياسي الملزم بالتعريب لابد من توافر فئة من المدرسين تؤمن بالتعريب ، و تدعو إليه ، و تدافع عنه ، و ترتب تنفيذ ذلك، لأن المدرس هو أساس عملية التعريب ، ولا بد من توافر القناعه لديه بالتعريب ، و أن يكون مستعدا نفسيا له ، وذا عزيمة لتذليل العقبات .
3- الإفادة من تجارب التعريب فى بعض جامعات الوطن العربى " فى سورية ، والأردن ، ومصر "
4-انتداب أساتذة من الجامعات التى تنفذ التعريب، وذلك للتدريس بالعربية وإلقاء محاضرات بها لفترات كافية ، على أن يفيد الأساتذة المحليون من تجاربهم .(3/22)
5-تشجيع الأساتذة على مطالعة كتب التراث ذات العلاقة بتخصصاتهم، لمدّهم بمصطلحات علمية ومفردات تعينهم فى إغناء فى مجالات تخصصهم (27 )
6-تشجيع الأساتذة على الكتابة وإلقاء الدروس والمحاضرات والمشاركة فى الندوات باللغة العربية الفصيحة .
7-تنظيم برنامج تبادل الزيارات بين مدرسى المادة الواحدة فى الجامعات العربية.
8-تنظيم دورات تدريبية مستمرة لتأهيل أعضاء هيئة التدريس فى أثناء خدمتهم.
9-الطلب إلى الموفدين العائدين ترجمة رسائلهم إلى العربية، واعتبار ذلك شرطا لتعينهم فى عضوية الهيئة التدريسية ،كما هى عليه الحال فى جامعة دمشق .
10-العمل على تخفيف الأعباء التدريسية والإدارية عن أعضاء الهيئة التدريسية، وتوجيه جزء من نشاطهم إلى التعريب الذى سيؤدي بدوره إلى رفع مستواهم العلمى بصورة غير مباشرة .
11-عدم الاقتصار فى عملية التعريب على الكتب الدراسية المقررة فى الجامعات على أنها أمهات الكتب ، بل أن تشمل أيضا أمهات المجلات العلمية العالمية، ليكون الطالب على اتصال دائم بتقدم العلوم وتطورها على النحو الذى يفعله الإنجليز والألمان والفرنسيون والروس … إلخ وإعطاء مستخلصات لآخر ما صدر عن الأمم الأخرى من بحوث .
12-الاستمرار فى تحقيق التراث العلمي العربي وكشف النقاب عن المخطوطات العلمية العربية، إن فى داخل الوطن العربي أو فى خارجه كالمتحف البريطاني بلندن، والمكتبة الأهلية بباريس والأسيكوريال فى إسبانيا … الخ .
13-تشجيع العناية بالترجمة الفورية التى تحتاج إلى تدريب ومران وسرعة خاطر، واطلاع على مادة الاختصاص مع رصيد كبير فى اللغتين العربية والأجنبية (27 ) .
14-دعم المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر، وتخصيص الإمكانات المادية الملائمة لمشروعاته وتخصيص جوائز للترجمة .
15-تشجيع كتابة البحوث بالعربية .
16-إصدار مجلات علمية متخصصة على مستوى عالمي تنشر بالعربية .(3/23)
17-إصدار كتب علمية مبسطة للمستويات المختلفة بالعربية .
18-إصدار مجلات علمية مبسطة للمستويات المختلفة بالعربية .
19-الاطلاع على تجارب نقل العلوم إلى اللغات القومية فى مجتمعات لا تملك لغة مرنة وواسعة،كالعربية واليابانية والكورية .
20-الاهتمام بالدراسات العليا فى الوطن العربي وتطويرها .
21-العناية باللغة العربية فى مراحل التعليم العام قبل الجامعي، واستعمال اللغة العربية السليمة فى مرافق المجتمع، ووسائل الإعلام كافة .الاهتمام بتدريس اللغات الأجنبية ينبغي له أن يتم بصورة متوازنة مع تنفيذ التعريب .
22-إنشاء وحدة معلومات تختص بالدراسات العليا والبحث العلمي فى الوطن العربي ، تتصل بشبكة الوحدات الفرعية المماثلة فى الجامعات ومراكز البحوث التربوية .
23-توحيد المصطلحات فى الجامعة الواحدة وبين الجامعات ومراكز البحث فى الوطن العربي .
24-توفير الاعتمادات المالية لتأمين المراجع والمعاجم غير المتوافرة باللغة العربية .
25-وجوب التكامل بين سياسات التعريب على نطاق الوطن العربي،حرصا على الجهود المبذولة توحيدا للرؤية الفكرية.
خامسا – الخلاصة :
من يُلق نظرة على واقع خريطة التعريب فى الوطن العربى يجدْ أن ثمة جهودًا بذلت
بعضها فردي وبعضها جماعي ، بعضها قامت به مؤسسات خاصة وبعضها الآخر قامت به مؤسسات حكومية ، منها ما قامت به مجامع لغوية ، ومنها ما قامت به الجامعات ، ومن هذه الجهود ما تم فى الوطن العربى ، وجهود قامت بها هيئات أجنبية .
إن تنوع هذه الجهود يرسم أمام الإنسان بصورة عفوية خريطة زاخرة الخطوط ، ولكنها خطوط متداخلة ومتشابكة تمثل تكامل الجهود وتقاطعها ، تواصلها وانقطاعها ، إقليميتها وقوميتها ، مشكلاتها الجزئية ومشكلاتها الكلية ، اتساعها وضيقها ، حذرها واندفاعها حتى ليتعذر أن تهتدي إلى الوحدة بينها (29 ) .(3/24)
تلك هى الصورة التى رسمها أستاذنا المرحوم الدكتور شكري فيصل لعملية التعريب فى الثمانينيات وما تزال هى هى ، ولنستمع إليه يقول : " كنا نتحدث عن التعريب ، عن إقراره أو إنكاره ، عن قبوله أو رفضه ، ولكن الجهد الأقل كان منصبا على التعريب ذاته ، وكنا نتحدث عن قدرة العربية وعبقريتها دون أن نستثمر على مقياس واسع هذه القدرة وهذه العبقرية ، وإن الذى نلحظه فى الحياة السياسية من التنوع الذى يقترب من التخالف، والتكثر الذى يقترب من التكرار هو الذى نلحظه فى هذا اللون من العمل الثقافي العربي .
لقد كانت المؤتمرات والندوات فى كل قطر تبدأ عملها من الصفر ، ولكنها غالبا لا تتابع بعد ذلك من حيث انتهى المؤتمر السابق .
وكان من النتائج المنطقية لهذا التنوع والتكثر أن تبدو الجهود مشتتة ، وأن تكون نتائجها من الضآلة بحيث لا يمكن أن تكون متكافئة أو موازية لما أُعد لها وبُذل من أجلها ، وقاد هذا التشتت إلى نوع من الجهالة حتى أضحى طبيعيا أن يجهل بلد ما كان فى بلد آخر ، وألا تعرف جامعة ما يكون قد نُفد فى جامعة أخرى .
إننا فى حاجة إلى أمرين :
أحدهما : منهجية واضحة فى العمل تجمع كل ما كان أولاً، وتفيد منه، وتضعه فى مكانة من البناء الداخلي ليكون مشاركة فى هذا البناء .
وثانيهما : برنامج زمنى يُراعي التزامه والتقيد به ، حتى لا تبقى حكاية تعريب التعليم الجامعى حكاية طويلة من غير حدود .
وها هى ذى تجربة الجامعات السورية تبقى الرد العلمي الموضوعي على كل حملات التشكيك ، إنها تجربة جديرة بكل تدبر ، جديرة بدراسة إيجابياتها ، وتعرف سلبياتها تعزيزًا للإيجابيات وتلافيًا للسلبيات فى انطلاقتنا الجديدة (30) .(3/25)
وها هى ذى الأمم صغيرها وكبيرها من حولنا فى العالم تحافظ على هويتها القومية، إذ تحت عنوان " إندونيسيا حريصة على لغتها " نقلت الأنباء أن الرئيس الإندونيسي " سوهارتو " ناشد شعبه يوم الخميس فى الثالث عشر من جمادى الأولى عام 1414هـ الموافق 28 أكتوبر 1993م بعدم الخلط بين اللغة الأم واللغات الأجنبية الأخرى فى إطار التخاطب والتواصل اللغوى اليومى ، ونقلت رويتر عن سوهارتو قوله فى خطاب له بمناسبة يوم الشبيبة الإندونيسية: إن الكثير من العبارات والكلمات الأجنبية أصبح يشكل تهديدا للغة الباهاما، وهى اللغة الأصلية والرسمية للبلاد، مشيرًا إلى أن ذلك يشكل تهديدًا للهوية الوطنية للشعب الإندونيسي ، وأضاف: إن التقدم فى العلوم والتقانة "التكنولوجيا " يتطلب من الإندونيسيين إتقان لغات أجنبية، ولكن ذلك يجب ألا يتم على حساب اللغة الإندونيسية الأم .
وحريٌّ بنا أن نعرف قدر أمتنا ومكانتها فى مسيرة الحضارة الإنسانية ، فها هى ذى "زيغريد هونكة " تقول فى كتابها النفيس "شمس الله تسطع على الغرب " : " دبَّ فى الطب الغربي فجأة فى القرن السادس عشر شعور غريب بالخجل من تقليده للطب العربي ، وبقي قرونًا طويلة من الزمن نسخة منسوخة عنه ، وكانت معظم المخطوطات الأوروبية الطبية فى أوّل عصر الترجمة وحتى القرن السابع عشر تقليدًا للعرب ونقلاً منهم ، وقبل 600 عام كان لكلية الطب الباريسية أصغر مكتبة فى العالم لا تحتوى إلا على مؤلف واحد ، وهذا
المؤلف كان لعربي هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازى " (31 )(3/26)
ولنستمع إلى قول شاعر إيطاليا الكبير "بيترارك " فى القرن الرابع عشر الميلادى يُندد فيها ببني قومه ، ويستنهض هممهم ويبث فى أنفسهم العزيمة والثقة قائلا : "ماذا ؟ لقد استطاع شيشرون أن يكون خطيبًا بعد ديموستن ، واستطاع فيرجيل أن يكون شاعرًا بعد هوميروس ، وبعد العرب لا يسمح لأحد بالكتابة ، لقد جارينا اليونان غالبًا وتجاوزناهم أحيانًا ، وبذلك حارينا وتجاوزنا غالبية الأمم ، وتقولون : إننا لا نستطيع الوصول إلى شأو العرب ، يا للجنون ويا للخُبال ، بل يالعبقرية إيطاليا الغافية أو المنطفئة " ! (32 ) .
محمود أحمد السيد
عضو المجمع المراسل من سورية
معجم لسان العرب لابن منظور ،
الجزء الرابع ، دار المعارف ، ص 2865 .
الدكتور محي الدين صابر ، قضايا
الثقافة العربية المعاصرة ، الدار العربية للكتاب ، تونس 1982 ، ص 87 .
المرجع السابق .
المرجع السابق ، ص 88
الدكتور كمال يوسف الحاج ، فى
فلسفة اللغة ، دار النهار ، بيروت ، 1967 ، ص 311 .
المرجع السابق ، ص 6 .
الدكتور محي الدين صابر ، دور
التعليم العالى فى تنمية الذاتية الثقافية ، المجلة العربية للتربية ، المجلد الثاني ، العدد الثانى سبتمبر 1982 ، ص 52
8- عبد الله العروي ، ثقافتنا فى ضوء التاريخ ، المركز الثقافي العربي ، بيروت ، الطبعة الثانية 1988، ص 214 .
9- المرجع السابق ، ص 28 .
10- الدكتور شكري فيصل ، المؤتمرات والندوات التى عقدتها المنظمات والهيئات العربية حول تعريب التعليم الجامعي فى مجالات المصطلح العلمي والترجمة والتأليف: " عرض ودراسة " ، 1982 .
11- مولود قاسم نايت بلقاسم ، إنية وأصالة مطبعة البعث بالجزائر ، وزارة التعليم الأهلي والشئون الدينية ، 1975 ، ص 68 .
12- الدكتور إبراهيم السامرائي ، فى التعريب بين ماضيه وحاضره ، مجلة المجمع العلمى العراقي ، مج 29 عام 1978 ، ص 94 .
قاسم عثمان نور ، التعريب فى(3/27)
الوطن العربى ، جامعة الخرطوم ، 1988، ص 13 و 14 .
أبو خلدون ساطع الحصري ، ما
هى القومية ؟ ، بيروت ، دار العلم للملايين ط2 ، 1963 ، ص4 .
الدكتور محمود أحمد السيد ،
شؤون لغوية ، دار الفكر بدمشق ، ودار الفكر المعاصر لبنان ، 1989 ، الطبعة الأولى ص9.
مولود قاسم نايت بلقاسم ، إنية
وأصالة ، مرجع سابق ، ص 76 .
المرجع السابق ، ص 74 .
الدكتور صفاء خلوصى ، تعريب الجامعات ، إحياء لكيان أكاديمي عربى أصيل، مطبعة جامعة دمشق،1982،ص4.
الدكتور عبد المجيد نصر ، تعريب
التعليم الجامعي " العلوم الطبيعية " أفكار ومقترحات ، جامعة اليرموك ، مطبعة جامعة دمشق 1982 ، ص4.
المرجع السابق ، ص5 .
الدكتور سيد حامد حريز ، تعريب التعليم الجامعي فى السودان، المجلّة العربية للدراسات اللغوية ، العدد الأوّل المجلد الثاني 1983 ، ص37 .
22-الدكتور مدني الخيمي ، التعليم العالي بالعربية فى لبنان ، مؤتمر التعريب بدمشق 1982 ، ص4 .
23-الدكتور أحمد محمد الحصري ، مسؤولية عضو هيئة التدريس والناشر عن جمود التعريب فى الوطن العربي ، مطبعة جامعة دمشق ، 1982 ، ص10 .
24-الدكتور مدني الخيمي ، التعليم العالي بالعربية فى لبنان ، مرجع سابق ، ص5 .
25-الدكتور حسين محمد رزق والدكتور حاتم عبيد جعفر ، معوقات تعريب التعليم العالي من وجهة نظر تدريس الجامعة التكنولوجية فى العراق ، مؤتمر التعريب فى دمشق ، عام 1982 .
26-عثمان السعدي ، العبرنة الشاملة والتحكم بالتكنولوجيا المعاصرة فى الكيان الإسرائيلي وجامعة الكويت ، كلية التربية قسم أصول التربية ، ص6 .
27-الدكتور سلطان الشاوي ، تعريب التعليم العالي وسياسة الالتحاق به ، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، تونس 1984 ، ص97 .
28-الدكتور صفاء خلوصي ، تعريب الجامعات إحياء الكيان الأكاديمي عربى أصيل ، مرجع سابق ، ص5 .(3/28)
29-الدكتور شكرى فيصل ، المؤتمرات والندوات التى عقدتها المنظمات والهيئات العربية حول تعريب التعليم الجامعي فى مجالات المصطلح العلمي والترجمة والتأليف، مرجع سابق ، ص50 .
30-المرجع السابق .
31-نقلا عن الدكتور محمود أحمد السيد، شؤون ، مرجع سابق ، ص47 .
32-المرجع السابق ، ص46 .(3/29)
من المعروف أن الأبحاث في الأدب وغيره من العلوم الإنسانية قلما تتجاوز مجال المجلات، والكتب العلمية المخصصة لها، فتحظى بنصيب من العناية في مطبوعات أعم وأروج كالكتب المقررة في المدارس، فضلا عن الجرائد اليومية والمجلات المصورة، ويترتب على ذلك أن أسماء الباحثين في هذا الميدان، مهما كان شأنهم، أقل شهرة بكثير من كواكب فن التمثيل أو أبطال الرياضة مثلا، وأن المصطلحات التي يضعونها تنبو عن مسامع الجماهير وألسنتهم عادة ، وهذا أمر معقول لا يجهله أحد ولايستغربه، لأن معظم الناس في أية بقعة من العالم مكتفون بمقدار بسيط جدا من العلم والمعرفة، بالنسبة إلى ما يطلبونه في كل ساعة فراغ من لذات الراحة والفرحة التي تنسيهم الكدح وتلهيهم عن هموم المعيشة.
ولكنَّ لكل قاعدة استثناءات ولكل استثناء سببا، وقد لا تصدقوننا إذا ما قلنا لكم إننا رأينا في مدن أسبانيا مقاهي وملاهي تسمت بلفظة "الخرجة "
تسمت بلفظة "الخرجة" ، وقد سمعنا بأجواق موسيقية تدعى كذلك ، بل وشاهدنا يوما فتاة تنادى كلبتها ، وإذا باسمها "خرجة" أيضا ، فماذا ياترى أدرى أصحاب تلك المقاهي والأجواق وحتى أصحاب الكلاب ، من غير مؤاخذة ، بخفايا فن التوشيح وبخرجاته التي ليس أكثر العلماء البصراء على يقين تام منها؟(4/1)
إن السبب البين في هذا الاستثناء الواضح للقاعدة المطردة المذكورة أن بعض كبار بحّاث الأدب الأسباني القديم قد علقوا على اكتشاف الخرجات الأعجمية في أواخر عدد من الموشحات الأندلسية مزيدا من الأهمية ، فجعلوها مستهل الأدب الأسباني وسابقة لجميع الآداب الأوربية الدارجة اللغة في العصور الوسطى ، فأجروا ذكر تلك الخرجات وتفاسيرهم لها في مئات من الكتب والمقالات والمحاضرات العامة، ولم يقصروا في إدراجها في كتب التدريس المقررة وفي الملحقات الثقافية للصحف اليومية، حتى صار كل أسباني يدعي حَظًّا من الثقافة لا يجهل وجود الخرجات وبعض نصوصها باعتبارها حجر أساس للحضارة الأسبانية ، ولا بأس بذلك فإن العلم خير من الجهل على كل حال ، إلاّ أن علمهم ذلك يحبب إليهم التراث الأندلسي في نفس الوقت ، فيوسع آفاقهم العمرانية والبشرية، ويبعدهم عن التجافي العنصرى والعقائدى، وعن الاقتناع الخاطئ الشائع عند كثير من الغربيين بأن كل اختراع وتقدم وتفوق إنما أصله في أراضيهم.(4/2)
إلا أننا غير مَعْنِيِّين الآن بانتشار خبر الخرجات لدى الجماهير الأسبانية ، مع كونها ظاهرة اجتماعية وتربوية جديرة بالدراسة ، وذلك لأنها لا تعدو أن تكون فرعا لم يتقن أصله بعد ، حيث لم تُعرف حقيقة هذه الخرجات الأعجمية التي مُوِّهت وشُوِّهت وصُحِّفت، وأُسيء فهمها لقصور علمي أو لدواع عقائدية أو لأغراض شخصية، حتى لم تعد تتبين تلك الحقيقة للعلماء، فضلا عن غيرهم ، فتحولت الخرجات الأعجمية ـ مع قلتها ، إذ لا تبلغ السبعين ولا يزيد أكثرها عن سطرين ، مع غموض معانيها في مواطن كثيرة ـ إلى أعظم جدال أدبي في هذا القرن. ومن علامات مااتسم به هذا الموضوع من الإشكال والالتباس مثلا أن الأستاذ المرحوم سيد غاذى في تأليفه النموذجي حول الموشحات الأندلسية التي قطعها تقطيعاً عروضِيًّا خليليًّا بحتا ، على غرار الشعر المقصد، اعتمد تحقيق الأستاذ الأسباني غارسيا غوميس لخرجاتها الأعجمية ، وهو مشهور بتقطيعه الرومنسي لها المخالف للعروض الخليلي خلافاً جوهريا. ولم يخف على الأستاذ غازى التعارض المنهجي الناتج عن ذلك ، إلا أنه لم يكن في متناول يده إذ ذاك تحقيق أحرى بالثقة لتلك النصوص المستغلقة، ولم تتسن له مطالعة أهم أصولها ، لاسيما مجموعتها الرئيسية الآتية ضمن مخطوطة "عدة الجليس"لابن بشري الوحيدة المحجوبة إذ إذاك عن عيون الناس إلا أقل من القليلين.
... نحن راغبون عن ذكر مظاهر هذا الجدال الكريهة ، من أمثال حجب بعض الأساتذة للأصول عن زملائهم، حرصا على الانفراد بالبحث فيها، وخوفا من سبق غيرهم إياهم إلى توضيح غوامضها، فضلا عن السباب والتهم والاستهزاء التي تنزَّل إليها بعضهم ، وإنما قصدنا الالتفات إلى المظاهر المفيدة ، منها تلخيص قصة اكتشاف الخرجات الأعجمية ومحاولة التفرقة بين الحق والباطل فيما قاله العلماء عنها.(4/3)
... كان أول من انتبه إلى وجود الخرجة ، أى آخر قفل فى موشح ، باللغة الرومنسية من بنات اللاتينية ، وهى العامية الإسبانية ، هو الأستاذ الإسباني مينينديس بيلايو في أواخر القرن الماضي ، إلا أن تلك الخرجة الأعجمية كانت ملحقة بموشح عبرى ، وليس عربيا ، لبعض الشعراء اليهود الإسبان المقلدين فن التوشيح بالعبرية تقليداً تاما، ثم أتى عقب مينينديس أساتذة آخرون متخصصون في الادب العبري أثناء العصور الوسطى ، فاكتشفوا نصوصا أخرى من نفس النوع ، مع أن محاولاتهم لتفسيرها لم تنجح، فلم يكن لأبحاثهم كبير صدى.
... ثم نشر الأستاذ شترن في 1948 والأستاذ غارسيا غوميس في 1952 أول الخرجات الأعجمية في موشحات عربية أندلسية ، فأحدثت أبحاثهما انطباعا عظيما في الدوائر العلمية، وتكاثرت الأعمال المخصصة لهذا الموضوع بصورة عجيبة الى درجة أن الأستاذ هيتشكوك الإنكليزى ذكر في 1977 أكثر من 200 مرجع له.
... والعجيب في القصة أن أكثر هذه الأبحاث لا أساس لها غير التحقيقات الثلاثة الصادرة ، أى تحقيق الأستاذ الألماني هيكير في 1960 ، وتحقيقي الأستاذين الإسبانيين غارسيا غوميس في 1965 وسولا سوليه في 1960 ، مع أن المرجع الرئيسي ، أى مخطوطة عدة الجليس التي صارت ملكا للمستشرق الفرنسي كولان في المغرب ، لم يطلع عليه إلا غارسيا غوميس بإذن من مالكه، ثم صار بعد وفاة كولان محفوظاً في بنك إنكليزى تحت تصرف الأستاذ جونز الذى نشره في 1992.(4/4)
... وعلى مثل هذا الأساس الضئيل كم بني من بناء ركيك، وكم وضع من نظريات فيها نظر، وكم استهلك من ورق وحبر في أغراض باطلة! وقد قال بعضهم إن الخرجات الأعجمية تثبت وجود تراث شعرى وافر باللغة الأسبانية القديمة بعروض أهلي كامل الذات، وبموضوعات مطروقة لدى الأندلسيين المولدين وإخوانهم من أهل الذمة استلهمه مخترعو التوشيح المنسوج على منواله وفقاً لهذا النظر ، وقال بعضهم إن ذلك الشعر الرومنسي القديم إنما كان من إنتاج القيان المسيحيات المجلويات إلى الأندلس أسيرات من جليقية ، وسمى بعضهم هذه الأشعار بشعر مستعرب إلماحاً منهم بذلك إلى أن أصحابه ليسوا غير المستعربين ، أى النصارى الذميين دون الأندلسيين المسلمين ، وقالوا وقالوا وقالوا، ولم يثبت معظم اقوالهم ، إذ لم يؤت بحجج قاطعة ، وإنما صدرت تلك الأقوال عن أوهام وأضغاث أحلام.
... ومما زاد في إشكال هذا الموضوع، علاوة على ماذكرناة ، أن النصوص الأصلية المختلطة اللغة في أكثر الحالات قليلة محرفة في مواطن كثيرة، نتيجة لاستنساخها المتعاقب على أيدى نساخ لم يعودوا يفهمون لغتها، بحيث أن كل باحث تصرف في قراءتها كما شاء، مطابقاً بين حروف المخطوطة المبهمة وبين ما ارتضاه هو من المعاني المحتملة ، وقد آل الأمر بهذه القضية إلى درجة أننا عندما حضرنا الندوة المخصصة لدراسة الخرجات بإيكسيتير في إنكلترا سنة 1988 لم يجز لنا أن نعتمد غير تسع خرجات لكون غيرها مشكوكاً في تفسيرها شكا فادحا ، وبما أن الأمر كذلك بالفعل ، فكيف تكون الآراء والنظريات المبنية على نصوص من هذا الصنف صحيحة أو موثوقا بها؟(4/5)
... ولكن هذه الأوضاع تغيرت تغيراً جوهريًّا، وتحسنت إلى غاية لم نكن نتصورها عندما نشر الأستاذ جونز تأليفه عن الخرجات الأندلسية المحتوى على تصوير شمسي لكل واحدة منها ملتقط من جميع المخطوطات التي وردت فيها ، والحقيقة أنه لم يقطع شوطاً جديداً في تفسيرها إلا أن توخيه الصارم لمبدأ التمسك بواقع النصوص المقيدة، وعدم التلاعب بها بواسطة التصويبات من غير ضرورة قد مهد الطريق لتفسيرها الأدق، وللرجوع إلى الجهد العلمي فيما كان قبلئذ مجالاً للهزل، أو على الأقل للعبث والاعتباط!
... وصادف صدور ذلك الكتاب آخر مراحل مناقشة القضية العروضية التي أسفرت عن نتيجة واضحة ، وهي أن الموشحات والأزجال ... على حد سواء غير خاضعة لتقطيع الشعر الرومنسي ، وإنما تقطيعها تقطيع خليلي مع بعض الضرورات المستحدثة، أو مع بعض التحوير على اختلاف آراء الباحثين ، فقضى الاعتراف شبه العام بهذا المبدأ على جميع التصويبات المحدثة لنصوص الخرجات الأصلية بقصد المطابقة بينها وبين مقاييس العروض الرومنسي ، وصفا الجو ثانياً لمحاولة تحقيقها وفقاً للعروض الخليلي الذى يجب تطبيقه على الأزجال والموشحات مع خرجانها لكونها جزءا من أجزائها ، وهذا جليٌ وعن البيان غنيّ ، إن اهتدينا إلى أن الخرجات بالعامية الأندلسية ، وهي الغالبة، وأخواتها الأعجمية، وهي قليلة جدا نسبيًّا، إنما هي قطع مقتبسة عن أزجال سابقة قد اشتهرت لدى الجميع، فربما حلى الوشاحون أشعارهم بها على سبيل الهزل والاستطراد إلى ملح الفنون الشعبية الملحونة، بعد طرقهم باب الجدِّ بقولهم الفصيح المُعْرَب.(4/6)
... بناء على هذه الأسس الجديدة وعلى غيرها مما لايقلُّ أهمية عنهاـ كالبحث في خصائص الحزمة اللهجية الأندلسية التي لم يخالفها الزجالون إلانادرا وللضرورة ، قد تمكنا من دراسة الخرجات الأعجمية من جديد مجهزين في هذه المرة بمناهج أفضل ، فسرعان ما لاحظنا أن 30% تقريبا من القراءات المتداولة بين أيدى الناس كانت خاطئة ، ومما زاد في خطورة بعض هذه الأخطاء أنها منبعثة عن نزعات عقائدية تُضْفِى على تلك النصوص صبغة مختلفة من التشرب بعناصر الحضارة الإسبانية أو الذهنية النصرانية ، في حين أن بعض الملامح العربية أو الإسلامية المميزة للأندلس بحكم إسلام أهلها وتعربهم التدريجي قد أمست متلاشية أو متضائلة في تلك القراءات المعتمدة لدى الجميع أو غالبهم.
... وهنا يحسن بنا أن نوضح أمرين مُهمَّيْن جدًّا لكيلا يساء فهم كلامنا وهدفه، أولهما أننا لانتهم أصحاب تلك القراءات بتزوير مُتَعَمَّد لهذه النصوص، بل نحسبهم منحرفين على غير وعي عن الحياد المفروض على كل باحث علمي، بسبب ميول عقلية وعاطفية لم يسعهم التحكم فيها ، وثانيهما أننا لاننكر وجود رصيد كبير من العناصر السابقة للفتح الإسلامي في حضارة الأندلس ، ولم يكن ذلك نظرًا للظروف المعروفة ، إلا أننا نستنكر المبالغة والحماس العقائدى والتحزب ، كلما تخللت المناقشة العلمية وغشيت أبصار المشاركين فيها.(4/7)
... وكانت نتيجة أبحاثنا المذكورة سلسلة من المقالات قد صدرت أولاها في مجلة فقه اللغة الأسبانية سنة 1993 وستليها مقالتان أخريان على وشك الصدور، نعالج فيها نصوص الخرجات الأعجمية معالجة متميزة بأقصى الحرص على تفسيرها بدون اللجوء إلى تصويبات، وبالطبع يضيق بنا الوقت لإيراد تعاليقنا على 45خرجة لمجموعة الموشحات العربية، و26 خرجة للمجموعة العبرية ، ونحن عازمون على تأليف كتاب في هذا الموضوع ، إن أطال الله أجلنا ، إلا أن في وسعنا الآن ضرب بعض الأمثلة لمنهاجنا ونتائجنا، وفيها دليل على سائرها.
... ومنها مثلا الخرجة رقم 3 في المجموعة العربية ، ونصها المرسوم:
يا فاتِنْ افتِنْ وُشْ يَتَنْرَادْ
كِنْدَرْ خالِشْ كارِذْ ...
حقق غارسيا غوميس كلمتيه الأوليين
على أنهما عربيتان وفسر الباقية os y entrad kando gilos keded أى، "ادخل هنا إذا نام الغيور"، مع تغيير 13% من الرسم المخطوط ، في حين أن قراءتنا بدون تغيير أى حرف هي ya vet-en I vet-on, wus ya tenrad! Ki-ndar xales kered? اى ، "اذهب اذهب ، ماأصفقك وجهاً ، ما الحاجة إلى إنذار الأخوال؟" ومن الجدير بالملاحظة أن الغيور المقحم هنا على حساب تحريف "خالش" ، أى ، خال بعلامة الجمع الرومنسي ، إنما أتى ضيفاً غير مدعوِّ لأن له دورًا مشهودًا في الشعر البروفنسالي المفروض تداخله مع الشعر الدورى الأندلسي ، وهو افتراض غير بعيد ، إلا أنه لايبرر هذا التحريف المتكرر مرتين أيضا في تحقيق هذا الباحث بدون أساس نصيّ.(4/8)
... مع أن هذا الغيور ليس وحيدًا في باب المواضيع المزعومة وهما في متون الخرجات الأعجمية ، فإن مفسريها لايججمون عن فرنجة مضمونها عن طريق إيجاد مالا يوجد فيها حقًّا من أدوار وأساليب أدبية مميزة للشعر الرومنسي في العصور الوسطى ، وفي هذا الباب يدخل ماذهبوا إليه من ورود أناشيد الصبح في الخرجات على سبيل ماتسمى بالـalbada بالإسبانية ، من خلاف المعهود في الشعر الغنائى العربي من التذمر على الفجر المفرق للعشاق ، مما جعلوه برهاناً قاطعا على صحة نظرية رجوع التوشيح إلى أصل رومنسي ، ونحن قد راجعنا الموطنين اللذين زعموا أن فيهما لفظة "ألبا" الأعجمية ، ومعناها الصبح ، في الخرجتين رقمي4 و 7 من المجموعة العربية ، فلم نلف فيهما سوى "أَلْبُ" أى ، أشقر أو أبيض ، صفة لحبيب غير أسمر. ومن الطبيعي أن يذكر في هذه النصوص الشقر كما يذكر السمر.
... ثم إننا إذا طرقنا بابًا آخر ، وجدنا أن بعض المواطن الدالة مثلا على رسوخ العقيدة والتقاليد الإسلامية في البيئة الأندلسية قد فسرت تفسيرًا غير صحيح يغمّض أو يخفي تلك المعلومات المهمة الضرورية لحل قضية نسبة أصحاب الخرجات أوصواحبها إلى طائفة أو أخرى من طوائف سكان الأندلس. هذا ما اتفق في تفسير الخرجة رقم 12 من المجموعة العربية المقاربة لرقم 5 من المجموعة العبرية، ونصهما:
بَنَدْ لَيبَشْقَه أَيُونْ شِنَلِ
حَسْرَاي مَوْ قُرَجُونْ بُرَلِ
... وهو نص واضح غير مضطرب لم يشك المفسرون في ترجمته "قد جاء العيد وأنا بدونه ، ياحسرة قلبي عليه" ، ولم يُبَيِّن أهذا العيد إسلامي أم مسيحي أم يهودى ، ذلك مع أن لفظة أيون معناها الصوم ، فالترجمة الدقيقة لهذا النص "أن العيد بدونه بمثابة صيام رمضان الخ"، ولا أدل من هذا على الميزة الإسلامية الغالبة على البيئة التي نشأت فيها الخرجات الأعجمية ، وإن كانت نصوصها لاتزال تنم عن التعرب التدريجي ، وتخلف بعض الناس عن تملك زمام العربية.(4/9)
... وفي هذا الباب نفسه كثر النقاش حول موضوع شكوى الفتيات إلى أمهاتهن آلام غرامهن في الخرجات ، وقد قيل إن استعمالهن لكلمة "مَمَّا" الأعجمية عوضا عن "ياأمت" العربية من أقوى الأدلة على أنهن أمهات نصرانيات شماليات حديثات العهد بالأسر والإقامة في الأندلس ، وهي نظرية غريبة ، إذ ليس معقولا أن يشترى الإنسان الجارية مع أمها ، ولم نلبث أن تعرضنا لهذه الأبحاث حتى عثرنا على ما يدحض ذلك البرهان في الخرجة 30 ونصها.
يامَمَّ شُو يس للجِنّة إِلاّ شِمُورَّىْ تَرَىْ
خَمْرِي مِنَ الّحاجِبّ (أو جَعْفَر) عَسَى شَنَرَىْ.
... وقد فسرها كل من غارسيا غوميس وسولا سوليه بفوارق تافهة على أن معناها "يا أمي ، إن لم يزل جنون عشقي أمت ، فأحضرى خمرى من الحاجب ( أو من جعفر ) لكي أشفى منه". ولم ينتبه أحدهما إلى أن "يس" إنما هي سورة ياسين القرآنية التي يقرأها المسلمون مُستغيثين بالله على البلايا ، فإن معنى هذه الخرجة الصحيح "يا أمي ، ما الفائدة من تلاوة سورة يس في حال الجنون؟ بل أحضرى لي الحاجب (أو جعفر) خمرا ، أى ، دواء"، ولاشك أن القضية أوضح بكثير بهذا التفسير الجديد ، ومضمونها أن العاشقة اليائسة فى الموشحة ترفض نصيحة أمها في طلب الفرج عن همومها في الصلاة ، وتطلب منها إحضار معشوقها علاجا لما بها من ذلك. وهذه القصة ، مع ما فيها من الكفر بالدين بسبب اليأس، ومن جسارة البنت على أمها مما جرى مثله في تلك الظروف الاجتماعية ، ما كانت لتحدث في غير بيئة عريقة الإسلام ، وإن كانت لاتزال سطحية التعرب.
... على أن جميع الأخطاء في تفسير الخرجات الأعجمية ليست من هذا النوع اطراداً ، فإننا نجد في بعض الأحيان أخطاء لغوية بحتة صادرة عن سوء فهم الكلام العربي العامي أو الفصيح أو اللغة الرومنسية القديمة المنعكسة في هذه النصوص، نضرب مثلا لها ما يلاحظ في رقم 11 ونصه:(4/10)
شِكارَشْ كُمْ بُونَ مِيبْ بَيْجَمِ إِذّا النَّظْم ذُوكْ بُكالَّه ذا حَبَّ الْمُلُوكْ.
... وهو كلام لم يشكل أكثره على المفسرين ما عدا كلمة "ذوك" التي لم يفهمها أحد منهم، فنسبوها إلى العامية العربية على غير صواب ، والحقيقة أنها لاتينية الأصل كثيرة الاستعمال بمعنى الأمر من السياقة ، ومعنى الخرجة "ان تحبني حبا حسنا فقبلني واسقني من النظم ، أى العقد ، يا فويهة من الكرز".
... ومن نفس القبيل عدم فهم الخرجة رقم 17 من المجموعة العبرية ، ونصها:
الصَّبَاحْ بُونُو غارْمي دُونْ بانَشْ يا لُوشِ كأُوتْرِى اَمَشْ أَمِيبيِ طُنُ قارَشْ
... وقد فسرها غارسيا غوميس هكذا "أيها الصباح الجميل ، قل لي من أين أتيت فقد عرفت أنك تحب غيرى ولاتحبني أنا". وهي ترجمة سليمة ما عدا كلمتيه الأوليين اللتين يمكن أن تعنيا "صباح الخير"، ومن العجب أن هذه العبارة اليومية في كلام العرب لم تخطر بباله، ولاببال غيره من مفسرى الخرجات الأعجمية.
... وقد قلنا آنفا إننا لا نرميهم بالتعمد في انحرافهم المتواتر عن قراءة متونها الصحيحة ، ولم يصدر قولنا ذلك عن مجرد مراعاة خاطر، أو تقدير آثارهم أو فضلهم علينا ، كما لم يرجع انتقادنا لبعض آرائهم عن كره أو احتقار لهم أو لأعمالهم. إننا ، على الرغم من هفواتهم ، مدينون لهم، إذ بذلوا جهدا كبيرًا في دراسة هذه القضية خصوصًا، وفي أبحاثهم في الحضارة الأندلسية عموما ، ولهم لذلك علينا فضل لا يجوز أن نغمط حقه ، على أنهم قصدوا مرمى بعيدا، ومَهذَدوا طرقًا غير مسلوكة، فلا غرو إذن أن لا يكون نجاحهم كاملا. وعلينا(4/11)
ألا ننسى أن المتصدى لمثل هذه الدراسة محتاج إلى إتقان العربية الفصحى وأوجه كلام الأندلسيين الدارجة، وإجادة الإسبانية الحديثة وسائر اللغات واللهجات الرومنسية الأيبيرية القديمة والحديثة ، مع غموض ملامح بعضها التي لا تنعكس إلا في هذه النصوص فقط ، ولا يغنيه ذلك العلم كله عن الاطلاع على أحوال الأندلس التاريخية والاجتماعية والعمرانية وعلى المعيشة اليومية في بلاد الإسلام فيما يتعلق بدينها ودنياها ، ولا يتيسر جمع مثل هذه المعارف والخبرات في الإنسان الواحد، فلذلك ما أخطأ سابقونا أحيانا ، ولذلك عسى أن لا نسلم نحن أيضا من بعض الغلط ، وقد لا يخلو منه أو من بعضه لاحقونا في المستقبل، وسبحان من تعالى عن الضلال.
فيدريكوكورينتي كوردوبا
عضو المجمع المراسل من إسبانيا(4/12)
مقدمة :
"لا حياة للعلم بدون لغة تؤديه . ولا سبيل إلى النهوض به وتقدمه إلا أن يتدارسه المشتغلون به بلغتهم الوطنية" .
سيدى الرئيس، الزملاء الكرام:
بهذا الاستهلال الرائع تَّوج أستاذنا وقائدنا الدكتور إبراهيم مدكور كلمته فى تصدير أحد معجماتنا العلمية . وهو ليس فى حاجة منى إلى تاييد أو تعقيب فهو حقيقة ثابتة ، يؤيدها ازدهار العلم العربى واللغة العربية معًا فى العصر الإسلامى، ويؤكدها وفاؤُهما بجميع شؤون الحياة وازدهارها ؛ ثم وركودهما معا لفترة طويلة مظلمة ؛ انقشعت عندما بهرنا العالم بإنجازاته العلمية الحديثة ؛ وقيام العالم العربى على أثرها بجهود مباركة للحاق بها . فأنشئت الجامعة المصرية عام 1925 لتعنى بالعلوم الأساسية والتطبيقية ،والتى نص قانون إنشائها على أن تكون الدراسة فيها باللغة العربية .
ثم أنشئ بعدها عام 1932 مجمع اللغة العربية الذى نص قانون إنشائه على جعل
اللغة العربية وافية بمطالب العلوم والآداب والفنون ؛ وملائمة لحاجات الحياة المتطورة كما نص على دراسة المصطلحات العلمية والحضارية وتوحيدها بين المتكلمين بالعربية ووضع معجمات للمصطلحات العلمية بتعريفات محدودة على النمط الحديث فى العرض والترتيب .
ولكن الجامعة المصرية آثرت آنذاك أن تتريث فى تطبيق ما نص القانون عليه صراحة ، وأجازت الأخذ بذيل استثنائى للمادة يسمح بالدراسة بلغة أجنبية إذا لزم الأمر إلى أن تتوافر مقومات التعريب ووضع المصطلحات . أما مجمع اللغة العربية فقد اقتحم المجال فوراً ونفذ قانون إنشائه بخطى عملية جادة، استهلها بفتح أبوابه وقلبه للعلميين المتخصصين الغيورين على اللغة العربية والتعليم الجامعى معا .
وسرعان ما تضافرت جهود العلميين واللغويين بالمجمع، وانصهرت فى بوتقة واحدة يوجهها ويرعاها مجلس المجمع ومؤتمراته، ويحدوها الوفاء للعلم والإيفاء بمتطلبات اللغة دون الحيود بها عن مسارها القويم .(5/1)
وأثمرت الجهود بتوفيق من الله ، فأخرج المجمع عدداً من المعاجم العلمية المتخصصة حوت عشرات بل مئات الآلاف من المصطلحات العلمية الأساسية مقننة ومعرفة لتكون لبنات للتخاطب والتواصل بين المشتغلين بالعلم والتعليم . وتقبلتها الهيئات الجامعية والبحثية بقبول حسن ، حيث وجدت فيها حافزاً لمسايرة اللغة العربية للغات العلم المعاصرة . ونشط تأليف الكتب العلمية وترجمتها، وشغلت فراغاً فى المكتبة العلمية كان شاغراً لأمد طويل . كما انتشرت المجلات العلمية العربية وعقدت الندوات والمؤتمرات التى تنادى بتعريب العلم والتعليم على مستوى العالم العربى .
وقد حفز هذا النجاح الكثير من الأفراد والهيئات العلمية واللغوية مصرية وغير مصرية، فأخرجت هى الأخرى عدداً كبيراً من المعاجم العلمية ،وهى وإن كانت قد أغنت اللغة هى الأخرى بألفاظ ومصطلحات جديدة إلا أن معظمها كان يجمل الطابع المحلى أو الرأى الانفرادي والاجتهادي، دون التزام بأسلوب واضح المعالم، أو بمنهجية محددة ،أو اتباع لمقومات المعاجم العلمية الحديثة ،من ذلك خلوها من تعريف المصطلح أو شرحه،ووضع أكثر من مقابل عربى واحد للمصطلح الأجنبى الواحد المتخصص . ولدينا المثل على ذلك ما أصدره مكتب تنسيق التعريب من مصطلحات ملأت نحو ثلاثين معجماً ضخمًا خاليا من التعاريف ،فلم تستطيع الإيفاء بمتطلبات الهيئات العلمية والأفراد وظلت حبيسة المخازن ، كما أنها أصابت موجة التأليف والترجمة بشىء من الوهن والقصور، وأشاعت البلبلة واللبس بين العلميين، وأعاقت التواصل والتفاهم بينهم بلغة موحدة فى مصطلحاتها . وكانت نتيجة ذلك أن آثر الكثير منهم استخدام المصطلحات بنصها الأجنبى فى محاضراتهم أو مؤلفاتهم بصورة لا يقبلها المنطق ولا الذوق السليم .
منهجية وضع المصطلح العلمى(5/2)
إزاء هذا الوضع الواهن وضع مجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ أكثر من 14 عامًا أسلوبًا علميًّا لكيفية وضع المصطلح العلمى العربى المتخصص أقره مجلسه ومؤتمره عام 1980 ؛ واستهله بوضع المبادئ والأسس الواجب مراعاتها لاختيار المصطلح المناسب ثم تلاه بتطبيق هذه المبادئ فى العلوم الأساسية بأمثلة للتوضيح .
وأخرج المجمع هذا الأسلوب أو هذه المنهجية كما سماها فى نشرة إعلامية وزعت على نطاق واسع بين المشتغلين بالعلم .
وانطلاقاً من سنة التطور والتحديث أعاد المجمع النظر فى تلك النشرة وصاغها فى صورة منقحة جديدة، بنيت على واقع استخدامها وممارسة العلم فى ضوئها ومستنيرة بأحاديث المختصين وكتاباتهم، وتوصيات الندوات والمؤتمرات المحلية والإقليمية .
وهى النشرة التى يشرفنى أن أضعها بين أيديكم اليوم ؛ والتى أخرجها مقررو اللجان العلمية بالمجمع، وأقرها مجلسه ومؤتمره في العام الماضي .
ويتصدر هذه النشرة التعريف الدولى المقرر للفظ المصطلح العلمى المتخصص والمسجل فى جميع المعاجم ؛ وأخذ به معجمنا العربى "الوسيط" حيث ذكر أنه لفظ يصطلح عليه أهل العلم المتخصصون للتفاهم والتواصل فيما بينهم . وهو تعريف موجز ومركز يخاطب جميع العاملين فى وضع المصطلحات واستخدامها فى الهيئات العلمية واللغوية بمفهوم موحد ، وبتطبيق هذا المفهوم الدولى العام على المصطلح العلمى العربى يصبح توحيده رمزاً من رموز الوحدة فى الوطن العربى .(5/3)
ويلى هذا التعريف بيان بالمبادئ الواجب مراعاتها والالتزام بها عند وشع المصطلح وتعريفه،وصاغها فى خمسة بنود ، يتصدرها بطبيعة الحال الحفاظ على التراث العلمى العربى بوصفه الأمانة التى يحملها كل عربى غيور على انتمائه لهذا الوطن . ومن المسلم به أن التراث العربى غنى بالألفاظ العلمية ، وحتى وإن كان قد تسللت إليه ألفاظ أجنبية دخيلة فى عصور الظلام، فإن اللسان العربى قد نبذها واندثر معظمها- أو كاد- كلفظ ما ثيماتيقا وأر ثماتيقا .
وينص المبدأ الثانى على ضرورة الوفاء بأغراض التعليم والبحث العلمى، ومطالب التأليف والترجمة والثقافة العلمية ، وهو مبدأ لا يحتاج لتأكيد أو تعليق، لأنه مستخلص من قانون إنشاء المجمع ذاته كما قدمت .
أما المبدأ الثالث فيتناول مسايرة المنهج العلمى العالمى فى صياغة المصطلح وفى تعريفه، ويهدف للتيسير على العلماء فى متابعة العلوم الحديثة وتطبيقاتها على المستوى العالمى، والتفاعل معها على قدم المساواة ودون عزلة عن العالم .
ويهدف المبدأ الرابع لحفز العلماء والباحثين إلى استحداث ألفاظ عربية الأصل لما يستجد من مصطلحات علمية، قبل أن تشوبها الشوائب التى يصعب اقتلاعها إذا ما شاعت واستقرت .
وينادى المبدأ الأخير بضرورة الربط بين المصطلح العلمى وتعريفه باعتبارهما عنصراً واحداً لا ينفصم ، أى أن التعريف هو جزء من المصطلح لا يصلح إلا به ولا قيمة له بدونه .(5/4)
وتنتقل النشرة بعد ذلك لعرض مفصل لتطبيق هذه المبادئ فى فروع العلم المختلفة وتضعها فى صورة توصيات تتناول أسس كل من الترجمة والتعريب ، ومتى يؤخذ بالترجمة، ومتى يؤخذ بالتعريب ، ثم كيفية صياغة المصطلح فى كل من الحالتين . وقد وضعت المنهجية ترجمة المصطلح الأجنبى إلى لفظ عربى فى المقام الأول ، وهذا مع ضرورة مراعاة المدلول العلمى للمصطلح الأجنبى دون التقيد بدلالته اللفظية الأجنبية، وتجيز المنهجية وضع ألفاظ غير مألوفة درج عليها المختصون لأداء مفهوم علمى دقيق الدلالة ، هذا كله بالطبع مع تجنب الألفاظ الركيكة والمبتذلة والخاطئة .
وتتناول التوصيات اجتناب الترادف للمصطلح المتخصص دقيق الدلالة، ولكنها قد تجيزه لألفاظ ذات دلالة لغوية أكثر منها علمية شاع استخدامها فى تخصصات مختلفة ، وهذه أمرها متروك للممارسة . وبعد إيفاء الترجمة حقها تتيح المنهجية تعريب المصطلح الذى يصعب ترجمته ، ولكنها تحيطه بقيود واشتراطات تتناول قياسه على اللسان العربى مع الاحتفاظ يجذوره اللاتينية التى أخذ منها ، وبعد أن يستوفى اللفظ مقومات التعريب يعتبر لفظاً عربيًّا يخضع لجميع قواعد اللغة، من نحت واشتقاق ونسبة وما إليها .
تطلعات
لا أهدف فى هذا الحديث الموجز إلى الغوص فى جميع أرجاء وأعماق وضع المصطلح العلمى، أو إلى كل ما جاء تفصيلاً وتوضيحاً فى المنهجية،فهى بين أيديكم وتحت نظركم، ولا أقول إن النشرة قد ألمت بجميع جوانب الموضوع، ولكنها تمثل معالم السير فى الطريق لكل من يعنى بموضوع المصطلح، وتجنبه الوقوع فى مشكلات الترادف والتعاريف التى كادت تهدد أو تُودِى بهدف تعريب العلم والتعليم نفسه .(5/5)
وأضيف أن من المسلم به أن إخراج المعجم المتخصص للمصطلحات العلمية ليس هدفًا ينتهى بمجرد إصداره ، بل إنه عمل مستمر متواصل ينمو ويتطور كمًّا وكيفًا مسايرًا حاجة العلم سريع التطور ، وهذا يعنى ضرورة وجود هيئات دائمة لتحديث المعاجم وتطويرها بعيداً عن الانفرادية والعنجهية التى مهما علا صوتها فسوف يخفت بالاستخدام أو بانقطاع صاحبها إن عاجلاً أو آجلاً .
وليس وضع المصطلحات هو الهذف الأوحد الكافى لتعريب العلم ، فما زال أمامنا قضايا ومشكلات تتطلب الدراسة والحسم ، ولا تقل أهمية عن المصطلحات نفسها ،كالرموز العلمية، والوحدات والدلالات، وكتابة المعادلات الرياضية والفيزيقية والكيميائية، وقد عقد لها مؤتمر فى الأردن منذ بضع سنوات، ولكنها مازالت فى حاجة لأن تحسم وتوحد، وأمامنا كذلك مشكلة الألفاظ التى تكونت من مبادئ كلمات أجنبية مثل الليرز والرادار وهى فى حاجة لوضع ضوابط لها . وأمامنا مشكلة استخدام السوابق واللواحق وكيفية إلحاقهما بالألفاظ العربية، لحل مشكلة الإيفاء بالكم الهائل من المصطلحات العلمية القائمة حاليا والمستجدة . كل هذه المشكلات فى حاجة للدراسة والحسم والتوحيد لأهميتها فى تعريب العلم والتعليم حاضراً ومستقبلاً .
التطبيق
بعد هذه الجولة السريعة فى جهود مجمع اللغة العربية بالقاهرة، لتمهيد الطريق لتوحيد المصطلح العلمى العربى المتخصص بوصفه أهم دعامات تعريب العلوم، ووضع منهجية عملية للسير فيه أقرها مجلسه ومؤتمره نكون قد قطعنا شوطاً أساسيًّا وعبرنا حائلاً وقف بنا طويلاً دون توحيد المصطلح . ولكن هذا لا يعنى أننا قد انتهينا من عملية توحيد المصطلح نفسها فمازال أمامنا شوط آخر للوصول إلى هذا الهدف، وهو تطبيق هذه المنهجية عمليًّا فى مجالات التخصص المختلفة ، وإخراج معاجم علمية موحدة المصطلحات والتعريفات، يثق فيها ويلتزم بها كل من يعمل فى مجال العلم وتطبيقاته .(5/6)
ومن الواضح أنه لا يقوى على عملية التطبيق والتنفيذ هذه على نطاق واسع وفى جميع التخصصات إلا هيتة علمية لغوية رئيسية دائمة، مدعمة إداريًّا من حكومات الدول العربية والمؤسسات المعنية ، يتولاها ويقودها اتحاد مجامع اللغة العربية فى الوطن العربى، ولدينا المثل على ذلك إنشاء الجميعية الفرنسية للمصطلحات التى يرأسها رئيس الجمهورية نفسه ( كما ورد فى حديث للأستاذ أحمد شفيق الخطيب ) وعلينا نحن فى مؤتمرنا هذا أن نرفع الأمر لاتحاد المجامع بتوصية لتطبيق هذه المنهجية فى فروع العلم المختلفة، بتشكيل لجان أو مجموعات علمية لغوية دائمة تحت رعايته وإشرافه، وتكليفها بإعادة النظر فى
المصطلحات الواردة فى المعاجم حاليًّا، وبخاصة المترادف منها فتعمل على توحيده، والخاطئ فيها فتعمل على تصويبه، ثم إخراج معاجم فى صورة موحدة متوجة باسم اتحاد مجامع اللغة العربية لتكون ملزمة لكل فرد أو هيأة تعمل فى مجال المصطلحات وتعريب العلوم.
ختام
تلك هى معالم الطريق العملى الجاد الذى أرى أنه يحقق الهدف القريب لتوحيد المصطلح العلمى، بوصفه دعامة تعريب العلوم ، وتؤكد الثقة فى قوة اللغة العربية وقدرتها على مسايرة عصر العلم والتكنولوجيا، والوفاء بمقوماتهما اللغوية فى كل زمان ومكان .
وهذا هو الخلود الذى أضفاه عليها القرآن الكريم .
محمود مختار
عضو المجمع(5/7)
فضائح السرقات ودعاوى التأديب والقضاء :
من بين ما لاتخلو منه صحيفة يومية أو أسبوعية – بل كتُب بأكملها أحياناً – من النشر بعناوين صارخة عن " الفساد الجامعى "عموما وأعمدة " فساد الأستاذ " الجامعى خصوصاً ؛ لا نعرض هنا إلا لما يتعلق بالسرقات العلمية للمؤلفات والكتب الدراسية،ولِما يتصل بتزييف بحوث رسائل الماجستير والدكتوراه للتعيين والترقية وقضية الأمانة العلمية للأستاذ الذى يقتدى به تلاميذه وهم يسيرون على نهجه فى تلقى العلم ، وتلقينه للأجيال . فالمجتمع العلمى والأدبى والفنى يضِجُّ بما يتوالى النشر العلنى عنه من فضائح " سرقات " المؤلفات والمصنفات والأعمال التى تزخر ساحات المحاكم بالدعاوى القضائية ضد تزييفها وانتحالها أو السطو عليها تحت اسم "الاقتباس " – بما قالت عنه مجلة المصور تحت عنوان : لصوص بدرجة دكتوراه " إنه ليس سبعين قضية(6/1)
فقط كما نشر فى إحدى الصحف بل ثلثمائة أو أربعمائة ، وما أثار على صفحات الأهرام طرح قضية " الأمانة العلمية لأستاذ الجامعة : مَن يحميها : الصحافة ، أم الجامعة ، أم القراء ؟ وذلك " للبحث عن مخرج بتفكير عالٍ مسموع من الجميع " ؛ حيث يقال إن المجتمع الذى يفرز هذا النمط من الأساتذة الجامعيين دون أن يحاسبهم أحد على ما اقترفوا فى حق الله والعلم والوطن" والأبناء الطالعين من رحم الحاضر لفضاءات المستقبل " هو مجتمع فى حالة جريمة ، وأن السكوت على هذا النوع الفاضح من الجرائم تمكين للفوضى فى المجتمع ، ومحو لحقوق ضحايا مدَّعى الفكر والبحث العلمى الذين ابتُليت بهم الجامعة أخيراً ، واتساع رقعة الفساد وامتداد أصابعه الخبيثة إلى مواقع كنا نعدها أمنع من أن يُتسلل إليها ويُعبث بها … وتكون مطالبة الأساتذة الغيورين قبل غيرهم أن لا تأخذ الجامعة رأفةً بحالات غش أساتذتها هذه وهى تحرم الطالب من الدراسة عامين إذا غش فى الامتحان فكيف بالأستاذ ؟ إنه لابد ان تضرب الجامعة بيد من حديد على كل من تسول له نَفسُه ذلك حتى تَعُود للجامعة كرامتُها وقدوتها للمجتمع .(6/2)
وتحت عنوان فاضح بجريدة الوفد ( فى تاريخ 13/10 / 1994 ) هو : بقع سوداء فى ثوب الحرم الجامعى : وقائع عديدة تسىء لسمعة الجامعة وتُشَوه مكانة أساتذتها – أستاذ يشترى المتعة برسالة ماجستير ، وآخر يبيع النجاح فى الامتحان بمائة جنيه – نجد خبر مدرس مادة الصحة النفسية بكلية تربية جامعة … الذى حصل من كل طالب عند بدء الدراسة على خمسة عشر جنيها لحجز كتاب لم يظهر ولم يوزع ، وأعلن الطلاب بعد أداء الامتحان أنهم رسبوا جميعاً ، وأن على مَن يريد النجاح إحضار مائة جنيه والتوجه إلى مسكنه للتعرف على ورقة إجابته … حيث دلت تحريات مباحث الأموال العامة على سوء سمعة وسلوك ( الأستاذ ) المتهم سابقاً فى قضية شروع فى قتل أحد الأشخاص ببلدته ، وأنه اعتاد فى الجامعة منذ حصل على الدكتوراه وعُيِّن مدرساً قبل أربع سنوات على تقاضى مبالغ كبيرة وهدايا ذهبية من الطلاب نظير نجاحهم ، وأنه هذا العام هدد مَن لايستطيع دفع المائة جنيه بالرسوب فى مادته ، فهو يقبل ساعات يد
وأجهزة كهربائية من الذين لايستطيعون إحضار المبلغ المطلوب .
حتى فىً أخبار الحوادث التى تصدر عن دار" أخبار اليوم" ( 8/7/94 ) تنشر بعناوين ضخمة = الطالبة و الأستاذ بالصوت والصورة أسرار سقوط عميد كلية … والفبض عليه ، حدد لطالبة الدراسات العليا الموضوعات التى ستكتبها وأبلغها بالدرحات التى أعطاها لها ( ولا تستحقها ) فى مادة الإحصاء التى كانت تخاف الرسوب فيها فحصلت على 68 من 70 درجة وسجل عليه ردها وهو يهنئها:حلال عليك الأربعة آلاف جنيه التى أخذتها مقابل ذلك. والخبر كالأسطورة تبدأ بمفاجأة إبلاغ رئيس الجامعة بالقبض على المتهم غداة اشتراكه فى حفل رئيس جامعة آخر بحصول ابنته على درجة الدكتوراه ، وتنتقل لظروف كون العميد المتهم أصغر عميد بالجامعات لحصوله على الدكتواره خلال عامين فقط ، فى أثناء(6/3)
خدمته برعاية الشباب بوزارة التعليم العالى، وتجديد العمادة له لفترة ثالثة على
غير ما يتوقع الجميع . ومع هذا فلا دخل لذلك فى صدفة اكتشاف علاقته بطالبة الدراسات العليا المصرية زوجة الثرى العربى التى تشترك مع تجار مجوهرات فى تهريب الذهب و الماس ، ولا فى سوء حظه إن عمليات مراقبتها لمدة أربعة أشهر سجلت تردده عليها وحصوله على هداياها النفِيسة مقابل تسريب الامتحان لها وضمان نجاحها . وأخيراً تأتى مُفارقة اضطهاد وتحطيم نفس العميد لمُعِيدة بنَفس الكلية " لأنها رفضت الرضوخ لطلباته غير المشروعة مع أنها كانت الأولى على دفعتها عام تخرجها ، وامتناعه عن تنفيذ حكم المحكمة العليا الملزم بتسجيلها للماجستير رغم دفع تعويض الخمسة آلاف جنيه المحكوم لها به ، لكن الإصرار على عدم تسجيلها بكليته رغم استئناف مقاضاتها للعميد ورئيس الجامعة متضامنين بتعويض اأكبر … مما كانت قد انفردت بالنشر عنه من قبل " أخبار الحوادث " أيضاً ".(6/4)
وفى مجلة " عالم الكتاب " التى تصدرها الهيئة المصرية العامة ( عدد 35/1992 36- 43 ) فى باب : تساؤلات ومحاكمات للمدعى الببليوغرافى ، بعنوان مثير : ( بعد كل هذه السرفات ، هل يبقى فى هيئة الكتاب ؟ ! ) سكرتير تحرير المجلة السابق الذى طرد منها فى صيف 1990 إثر عقوبات إدارية بالخصم من مرتبه وحرمانه من المكافأة ، وتوجيه اللَّوم الشديد إليه … فى عريضة الدعوى التى تقدم بها الدكتور يوسف زيدان التى اختتمها بقوله " إنه لا يكفى تقديمه للمدعى الببليغرافى بل للمدعى العام لتكون محاكمة قانونية لا ببليوغرافية على سرقاته الفكرية (التى تفوق جرماً السرقات المادية) للرسالة الألواحية المنسوبة خطأً لابن سينا. وقد حققها ونشرها بدار الكتاب بطرابلس ليبيا الدكتور محمد سويسى (1990 ) بخطئها فى نسبَتها للشيخ الرئيس الذى وقع فيه المحقق لاعتماده على المخطوطة الوحيدة المشتراة من بائع كتب بباريس 1954 وأثبتت المدعى ( د. زيدان – فى مقال له بالعدد 34/1992 من مجلة عالم الكتاب) هذا الخطأ وطالب الناشر والمحقق اللبييَّن بالتنويه فى طبعة قادمة إلى أن الرسالة ليست لابن سينا ( مهما ترك اسم ابن سينا على الغلاف لتحل بركاته من أجل توزيع أفضل – بقدر ما أن وضع اسم الشيخ الرئيس على غلاف النسخة المشتراة من باريس خطأ أو عمداً كان بقصد رفع سعرها ، والإشارة إلى أن المؤلف الأصلى للرسالة الألواحية المحفوظة نسختها الأصلية بمكتبة المتحف العراقى ببغداد ( فى 206 صفحات وعنوانها "رسالة الألواح فى الطب")هو أبو سعيد بن إبراهيم المتطبب الهروى .(6/5)
وكما يقابل مقدم الدعوى صورَتَى غلاف كتاب الناشر الليبى لتحقيق الدكتور سويسى وغلافى الكتاب المسروق الذى نشرته" دار الجيل " بيروت معنوناً بأنه للشيخ الرئيس ابن سينا ؛ قائلا إن السارق لم يترك كلمة فى الرسالة الألواحية إلا سرقها بالكامل – حتى أخطاء المحقق نقلها السارق كما هى دون أن يكلف نفسه حتى باسقاط الأخطاء والعبارات غير المفهومة أو يرى داعياً لقراءة الكتاب بعناية قبل سرقته ، إذ كان على عجل لأن أمامه العديد من الكتب الأخرى الجاهزة للسطو عليها – ومنها الرسالة التى جاءت الدكتور زيدان من إحدى المؤسسات الصحفية الكبرى بطلب رأيه فى سرقة أحد كتابين بعنوان واحد هو : ( الجمل فى النحو للجرجانى المتوفى سنة 471 هـ ) – الأول باسم محققه الدكتور عبد الحليم عبد الباسط المرصفى (نشر دار الهنا للطباعة) ، والثانى باسم السارق على إنه شرح ودراسة وتحقيق ( نشر دار الكتب العلمية ببيروت لبنان ) – حيث ردَّ على المؤسسة بأن السرقة ظاهرة للعيان ولاتحتاج إلى رأى، فأفادوه بأن المحقق الأصلى حين نظر إلى النسخة المسروقة من كتابه وعليها اسم السارق أصيب بشلل نصفى ومات بعد أيام . كل هذا والسارق يهز كتفيه ويبتسم ويتمادى فى السطو على الكتب بعد صدورها بعدة أشهر فقط ونشرها غالبا فى دور نشر لبنانية – كأنما هذه المطبوعات فى بيروت لاتصل إلى القاهرة ، أو أن أحداً لن يقارن بين الطبعات وأنه سوف ينجو بسرقته . ويتزامن مع النشر الفاضح عن حالات السرقات الفردية لفكر وإبداع الآخرين فى بحوثهم وتآليفهم للكسب المادى السريع دون جهد وعلى حساب الغير … النشرُ مجدَّدا عن قضية تزوير الكتب المصرية فى بيروت ، سرقة وتزوير الكتاب المصرى فى لبنان – منذ أعيدَت إلى الحدود السورية اللبنانية أثناء اندلاع الحرب بين شطرى اليمن سيارتا شحن محملَّتان بالكتب المصرية المزورة ، وقبل ذلك ، منذ أرشَد عن مخزون كبير من الكتب المصرية المزورة فى بيروت(6/6)
وضَبطَه ناشرون لبنانِيون أفاضل عز عليهم أن تسىء إلى شرف المهنة قلة من أدعياء النشر وتثرى على حساب الناشرين المصريين ، -الأمر الذى دعا إلى المطالبة بتعجيل عقد مؤتمر تدعو إليه وزارة الثقافة المصرية كجهة رسمية بالدولة التى يُضار أبناؤها من هذا التزوير ، وتحضُره الاتحادات الإقليمية للناشرين فى البلاد العربية إلى جانب الناشرين المصريين وغيرهم من المهتمين بقضايا التأليف والنشر والطباعة والتوزيع.
-وكان قد استشرى وباء سرطان تزوير الكتاب المصرى الذى سبَّب للثقافة المصرية خسائر فادحة ( مادية وأدبية ) منذ أصبح الكتاب المصرى نهباً مُباحاً أو مِلكاً مشاعاً للصوص والمزورين ، فضاعت حقوق المؤلفين والناشرين التى لم تعد تمثل شيئاً فى نظر هذه ( المافيا ) التى دأبت على السطو والتزوير للتجارة والكسب غير المشروع . وقال الخانجى – أكبر متضرر فى عملية التزوير هذه – ان التزوير يأخذ أكثر من شكل : فهناك الطبع بالتصوير مع الاكتفاء بحذف اسم الناشر الأصلى ، وهناك حذف اسم المحقق ( فى كتب التراث خصوصا ) والناشر كليهما مع حذف بعض التعليقات وكتابة ديباجة مغايرة للتمويه – مع عبارة تقول : طبعة جديدةٍ محققة ، أشرف على تحقيقها لجنة من علماء الدار . وكذلك الحال فى الكتب المؤلفة . وبينما وصل الأمر بالقارئ المصرى أن يطلب دون حرج الطبعة البيروتية المزورة لأنها أجود طباعة وأقل سعراً ؛ فالمؤلف المصرى الذى يسعى للمطالبة بحقوقه المادية المنهوبة يسلقونه فى تَبَجَّح بألسنةٍ حداد ويواجهونه بالاستنكار كأنما قد جاء ليستجدى ما ليس حقاً أو يطلب السؤال من اللص الذى سرقه . وبينما أرسل اتحاد الناشرين المصريين إلى بيروت وفداً برياسة رئيسه محمد عبد المنعم مراد التقى مع عدد من المسؤولين اللبنانيين بهدف الاتفاق على طريقة تتم بها استعادة حقوقهم عما تم تزويره ووقف التزوير مستقبلا – ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا(6/7)
( وبقيبة الناشرين اللبنانيين تهاجمهم وتتهمهم بأنهم ( المصريين ) هم الذين يزورون ، وتدعى أن التزوير الذى يتم فى بيروت إنما هو لحساب ناشريين مصريين وباتفاق معهم ) ، وبينما كان أعضاء الوفد من الناشرين المصريين – لإيجاد حل جذرى للموضوع وحسمه نهائيا بكافة السبل – ولو بالقانون الدولى والإنتربول – رافضين المساومات والحلول الجزئية من الجانب اللبنانى التى أصبحت مهزلة متكررة – يطالبون بميثاق عربى يوقعه وزراء الثقافة لبحث قضية الكتاب ككل ، وذلك فى نطاق جامعة الدول العربية (كامل عكاشة، دار المعارف ) ، أو أن تشترك الدول العربية معاً فى وضع قوانين حاسمة لحماية حقوق المؤلف والناشر ( محمد الخانجى ) ؛ أو أن تطالب الدول العربية بضرورة التوقيع على المعاهدة العربية التى أقرتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1933 ( إبراهيم المعلم ) …
بينما هذا وذاك يتفاعلان على جانبى الساحة ، نشرت الوفد ( 1/11/ 1994) " أغرب فتوى يتلقاها بالفاكس ناشر مصرى ( محمد رشاد ) فى رسالة هى عبارة عن فتوى تسأل عن جواز طبع كتاب بدون إذن صاحبه مع وجود عبارة ( كافة الحقوق محفوظة ) ، وجواب المرسل على لسان المفتى :(6/8)
" باسمه تعالى ، لا دليل على عدم الجواز ، والله أعلم " . وفتوى أخرى نشرتها مجلة "منار الهدى " تجيب على سؤال : ما حكم ما يكتب على بعض الكتب " حقوق الطبع محفوظة " بأنه " على زمن الصحابة والتابعين وَمن بعدهم عُرف بين المسلمين أنه إن ألَّف أحد كتاباً نافعا لاضرر منه – يجوز لمن وقع فى يده أن ينسخه ويوزعه _ حتى كان هناك مكان للناسخين بأجرة ، ويُعرَفُون بالوراقين . هذا ما جرى عليه المسلمون سلفاً وخلفاً . فلا يغير الحكمَ الشرعى كتابةُ بعض الناس هذه الكلمة المخالفة للشرع مهما كثروا . معنى هذا أن تزوير الكتب جائز شرعاً ، وإن ملكية الباحثين والمؤلفين لبنات أفكارهم وثمرات قرائحهم مشاع مستباح للنهب والسطو والكسب غير المشروع على حساب افتقار العلماء وعوزهم إلى ما يسد رمقهم أو يشترون به مصادر علمهم ومعرفتهم .
2-كشف الحِيَل الدفاعية ، وإثبات نَسَب الإبداع :
هكذا فى جو محموم من التنَطُّع والتبجُّح حيناً والاستكانة أو الاستخذاء حيناً آخر– على الصعيدين الفردى والقومى – ينتهى الأمر كما هى الحال فى كل قضايا حياتنا اليوم إلى استمداد الفتوى الشرعية بالحرام والحلال من المأجورين والجهَّال . ويتداعى النشر عن قضايا السرقات الأدبية والفنية والبحوث العلمية والرسائل الجامعية ، كما تحتدم مهاترات وقضايا الاتهام والتبرئة أو الحفظ ( بين سارق يظل متمسكا بالجلوس على مقعد الشهرة ومسروق يحلم بالوصول إلى هذا المقعد )، أو أساتذة يجمعون شتات الفصول من شتى المراجع دون جهد أو انتقاء ثم ينسبونها لأنفسهم لقاء حفنة جنيهات يكتوى بها طالب علم وبحث فقير ومحتاج ( محمد حربى ، أهرام 2/10 ، 24/10/1994 ) … يتداعى النشر وتحتدم المهاترات لتمتد إلى الخارج كقضية " إثبات نسب الإبداع " ( الوطن العربى 21/10/94 )-حيث يتحدث النقاد عن الأسس التى تسهل عمل الناقد فى محاولة إثبات أو دحض الاتهامات التى طالت
تقريبا كل الرموز الأدبية .(6/9)
فبعد عرض لما تشهده دهاليز المحاكم من دعاوى قضائية ضد ناشرة رواية " هوس البحر " بهيئة الكتاب من كاتبة مغمورة بالسويس كان قد سبق تقديمها الرواية للهيئة ولم تنشر وأيَّد النقاد صحة الاتهام ، وبعد ثُبوت أن قصة " يابنفسج " المنشورة بمجلة ( إبداع ) ليست إلاصورة بالكربون وترجمة حرفية لقصة " الرواية الضائعة " الإنجليزية المترجمة للعربية والمنشورة بالملحق الأدبى لجريدة ( المَدينة) السعودية … بل وفى الشعر اتهام كبار الشعراء بالسطو على مقاطع من قصائد شعراء إنجليز ويونانيين ونسبتها لأنفسهم دون إشارة للمصدر الأصلى ، والروايات وتحويلها إلى مسرحيات – ولو بوقائع تاريخية حقيقية لنفى شبهة عملية السطو أو السرقة فلم تمنع من رفع دعاوى قضائية، أو إلى مسلسلات تلفزيونية وأفلام سسينمائية ( كالإرهابى لعادل إمام بين لينين الرملى ومحمد سلماوى ) وكشف المستور ( بين القصصى أحمد الشيخ والسيناريست وحيد حامد ) ، وأفلام البرى بطولة أحمد زكى والإرهاب والكباب والمنسى بطولة عادل إمام ( بين وحيد حامد والسيد نجم ) … " مما تحصد فيه شهرة السيناريست ( خصوصاً إذا كان أسامة أنور عكاشة ) هذه الاتهامات لتقتلعها من جذورها ويبوء المضرور بالحسرة والخسران " . هنا – ولوضع أسس نقدية أدبية تسهل على الناقد إثبات نسب الإبداع لصاحبه – يقول الدكتور جابر عصفور إن هناك طريقتين : الأولى تتمثل فى المرويات والأخبار والشهادات التى يقولها المعاصرون عن المبدع ، الأخرى عبر الدراسات البحثية – مثل تحديد الخصائص الأسلوبية – حيث لكل مبدع أسلوبه الخاص – التى تشبه " البصمة " ويصعُب أن تتكرر فى مبدع آخر. فبذا تم توثيق بعض عبقريات أحمد شوقى وإبداعات فكر لويس عوض . ولقد أمكن بتقدُّم التكنولوجيا فى العصر الحديث استخدام الكمبيوتر فى عمل جداول بالخصائص المميزة للمبدع ثم التعرف بالعمليات الإحصائية على ما إذا كان العمل الأدبى هو لهذا المبدع أم لا –(6/10)
فبهذا تم توثيق أعمال ( بل إثبات وجود ) هوميروس وشكسبير . لكن ماذا لو أن التأليف يكون بالتلفيق بين تناولات مؤلفين سابقين عديدين لمختلف فصول مادة الكتاب – حيث فى كتابة كل فصل يبدو التماثل فى المدخل للموضوع ، وتسلسل الأفكار ، وألفاظ العبارات … من الوضوح بما لايهتدى معه حتى زملاء التخصص إلى المرجع المنقول عنه – خصوصاً إذا عمد الناقل للتمويه بمراجع عدة ليس بينها بالذات المرجع المنقول عنه مباشرة ، أو تعمد الإشارة لكتابات سابقة له هو ( فى رسالته العلمية أو مقال له أو بحث ) من حين لآخر للإيهام بأن التأليف بكامله هو من بنات أفكاره وثمار قريحته – مع أن هذا أغبى أنواع التزييف ، لأنه لا يعيب المؤلف أن ينسب للآخرين ما هو لهم حتى يتميز هو . بما هو خاص به – إذ لاينتظر من مؤلف ما فى أحد العلوم أن تكون له دراسة متعمقة لكل أبواب وفصول موضوعات هذا العلم لم يسبقه إليها غيره فى القديم والحديث ولو بلغة أجنبية فى الخارج !(6/11)
إن الأستاذ الجامعى المتهم ( بسرقة ) 173 صفحة كاملة بهوامشها من كتاب أستاذ سابق له كان لايزال على قيد الحياة وهو مقدم الشكوى فى حقه لجامعته … ليتذرع حينئذ بالاقتباس ومشروعية حق الاقتباس ( ولو فصول بأكملها وعشرات الصفحات دون تغيير كلمة واحدة ) فى التأليف والبحث العلمى ما دام يشير إلى مواطن الاقتباس ولو فى قائمة المراجع بنهاية الكتاب إن لم ترد الإشارة فى هوامش النص ، ويحتج بأن المصدر المنقول عنه مقتبس بدوره من آخرين سبقوه ، وربما تبرأ من كون الكتاب المنسوب إليه والجارى معه التحقيق فى سرقته هو لايعرف عنه شيئا . فليس له رقم ابداع فى دار الكتب ، ومن ثم فلا قضية هناك ويحفظ التحقيق لأن الكتاب المسروق يُعتبر حينئذ مذكرة للتدريس يتعدل محتواها وتتغير تسميتها من عام لآخر – خصوصاً إذا أكد أنه لم يقرر تدريسها على الطلاب. وهكذا يخلو الكتاب المنتحل لأغراض تجارية عاجلة من ملكة التأليف بمنهج علمى أو موقف فكرى أو رؤية ذاتية للموضوعات والقضايا الخاصة بالعلم حين يؤلف فيه نص دراسى وافٍ يحيط بكل جوانب المادة العلمية وتتميز على السابقين فى المضمار . وعدم الحصول على رقم إيداع بدار الكتب للمذكرات الجامعية التى توزع داخل جدران الجامعة – حيث لا وقت للاجتهاد أو جمع مادة علمية خاصة بالاستاذ أو حتى عرض ونقد المؤلفات السابقة كتمهيد لآراء الأستاذ ومواقفه الفكريه الجديدة – فضلاً عن تغيير اسم المذكرة وترتيب فصولها والحذف بالإضافة لكل عام جديد … كل هذا يعفى من المسؤولية الجنائية عن حق الغير . ولا عبرة بتحذير المؤلف الأصلى : حقوق الطبع والنشر محفوظة لأن التوزيع يتم داخل أسوار الجامعة خلال ثلاثة شهور الفصل الدراسى ، أما عبارة : ( كل نسخة غير مختومة تُعد مسروقة ويعاقِب حاملها قانوناً) فهى التى يحرص البعض على التمسك بها حيث يُدعَى الطلاب إلى مكاتبهم لختم نسخة كل منهم للتأكد من تمام توزيع عدد النسخ المطبوعة بقدر(6/12)
عدد الطلاب بالدفعة الجديدة . وأخيراً فربما دافع الأستاذ المتهم بالأمانة بأن المسألة ليست مسألة تزييف كتاب أو سرقة أفكار ، ولا مسألة صحافة وجامعة وقراء ؛ بل الجرى وراء الشياطين الحاقدين الذين لا يهمهم إلا الفُرجة على مطاحنة الأخ لأخيه حتى الإطاحة به .
لذا – ففى تحليل واقعى رصين للكاتب المستنير أحمد عبد المعطى حجازى
( الأهرام 25/5/94 ) بعنوان " لابد أن ننقذ الجامعة " باعتبارها عقل النهضة وقلبها ويدَها الصَّنَاع : إذا سلمت الجامعة سلمت النهضة وسلمت مصر ، وإذا مرضت الجامعةُ مرضَت النهضة ومرضت مصر ـ أشار الكاتب إلى أن لصوص الفكر لايسرقون التفسير واللغة والفلسفة فحسب ( فى الأمثلة المشهورة التى ذكرها ) بل يسرقون الاقتصاد والطب والهندسة والرياضيات أيضاً … برسائل يتبين بعد التعيين بها فى درجة مدرس أنها مسروقة من ألِفها إلى يائها ، وبحوث يثبُت بعد الترقية بها لأستاذ مساعد أنها مسروقة من مجلات أجنبية ، بل برسائل يُشك فى أن ( الطالبة كتبتها أو أن الممتحنين قرؤوها ) . وما ينشر عن سرقة الأبحاث وتجاوز شروط التعيين والترقية وبيع الشهادات … أقل بكثير مما تتداوله الأوساط الجامعية والأحاديث المغلقة . والوباء يسشرى فى جامعات العاصمة فما بالنا بالجامعات الإقليمية – لاينجو من الإصابة به الأساتذة ورؤساء الأقسام والعمداء ورؤساء الجامعات ، فما ذا تنتظر من المدرسين والمعيدين والطلاب؟(6/13)
وفى تشخيصه للأسباب التى هيأت المناخ لاستشراء الوباء وسقوط الجسد الجامعى فريسة تدمير خلاياه التى قاومت بشجاعة ( لأنها كانت سليمة ، وروح النهضة مٌتَّقِدة ، وآمال المجتمع عريضة ) محاولات تربُّص الرجعية والسلطة كِلتَيهما بالجامعة فى إبعاد طه حسين عن كلية الآداب عامَى 1926 ، 1932 – فى المرة الأولى بسبب الزوابع التى أثيرت ضد كتابه " فى الشعر الجاهلى " ، والثانية لرفضه وقد عاد عميداً للكلية أن يمنح الدكتوراه الفخرية لبعض السياسيين – ومنهم إسماعيل صدقى ، وما كان من نقله لديوان الوزارة ، واستقالة لطفى السيد حين لم يفلح فى إقناع الوزير حلمى عيسى بالعدول عن قرار النقل ، ثم عودة كليهما عميدا للكلية ومديرا للجامعة فى وزارة توفيق نسيم – وكل ذلك بفضل نزاهة القضاء المصرى المستنير . ولم تفلح الإغراءات الحكومية والحملات البوليسية إِلاَّبَعد عام 1954 حين تعرض اثنان وأربعون من الأساتذة – فى أول مذبحة تعرضت لها الجامعة – إلى الفصل بسبب التوقيع على وثيقة دفاع عن الديمقراطية ، فَسَادَ الذعر كل صاحب رأى حر ولو لم تكن له علاقة بالسياسة ، وأصبح إثبات الولاء للحكومة شرط البقاء فى الجامعة – بل القفز منها إلى الوزارة . واستمرت الحال كذلك : الجامعة بلاحصانة ، وفى خدمة السلطة – حتى مذبحة سبتمبر / أيلول 1981 التى فصل فيها الرئيس السادات حوالى 60 أستاذا من الجامعة وتم نقلهم إلى وظائف مكتبية .
على أن ثالثة الأثافى فى تشخيص أسباب
( الفساد الجامعى وفساد الأستاذ ) فى تحليل الكاتب : التوسع فى إنشاء الجامعات الإقليمية لقبول كل الحاصلين على الثانوية العامة بأسبقية مجموع الدرجات ( التى حصلوا عليها بالحفظ والاستظهار والدروس الخصوصية ) بصرف النظر عن الاستعداد للتعليم العالى أصلا أو القدرات التى تؤهلهم للدراسة بالكلية التى قبلوا بها، ودون اعتبار لاستعداد الكليات(6/14)
( بتوافر الأساتذة ، وطاقة المدرجات والمعامل والمكتبات ) التى تستقبل سنوياً الآلاف ؛ أو احتياج سوق العمل من التخصصات التى توزع عليها القوى العاملة الخريجين بالمئات بعد انتظار وتعطل عشر سنوات … لينتهى الأمر بالجامعة إلى أن تصبح مدارس تفريخ حملة شهادات ، هدف الطلاب فيها الحصول على الشهادة الموصلة لأى وظيفة ، والأستاذ الحصول على عائد توزيع كتابه المقرر الذى يحرص على شرائه الطلاب للنجاح فى الامتحان … كلاهما بأقل جهد ودون عناء . الطالب فى مكابدة التحصيل والاستذكار والاطلاع على مراجع أخرى وقراءات خاصة فى موضوع الكتاب ( المقرر ) ، والأستاذ فى جدية التأليف وانتظام المحاضرات ومواصلة المناقشات ومتابعة التقييم والإرشاد حتى عدالة تصحيح الامتحان ونزاهة تبنى المعيدين والمساعدين.
بذا يَصدُق ما قاله أستاذ فلسفة قديم فى التعليق على حادث حصول متأخر على الدكتوراه 1992 من جامعة الإسكندرية برسالة ماجستير مسروقة من باحث متقدم سنة 1980 ( الذى نشرته تحت عنوان ضخم مجلة أخبار الأدب بتاريخ 25/9/1994 ) وتعينيه مدرسا للفلسفة الإسلامية والتصوف بآداب جامعة إقليمية ، حيث أكدَّ أساتذة التخصص دعوى الباحث المتقدم بالسطو على رسالته. " فقد تم بالفعل نقل معظم مقدمة رسالة المدَّعى بنص الكلمات والحروف ، وكذلك خمس صفحات تفسيره الخاص للإسراء والمعراج بما فى ذلك الهوامش المتعلقة بنفس الصفحات دون أية إشارة لمرجعها الأصلى . ثم إن نتائج بحث المتأخر هى نفس نتائج بحث المتقدم – مَّما يؤيد قول المضرور إن الباحث المتأخر لم يكن له فى رسالته للدكتوراه من الإسكندرية بحث خاص به – لا من حيث المقدمة أو الأهداف ولا من حيث النتائج . فالبحث لم يعدُ له بهذه الطريقة هدف أو مضمون أو نتائج ، لأنها كلها منقولة من رسالته هو للماجستير بكلية آداب القاهرة 1980 فى موضوع " حال الفَناء فى التصوف الإسلامى " …(6/15)
… يصدُق ما قاله بحق أستاذ الفلسفة الكبير بجامعة عين شمس على هذا الحادث المؤسف : إن خريجى هذه الأيام هم نتاج صادق لمجموعة من المذكرات الجامعية كتبت على عجل ، وقام بوضعها وتدريسها مجموعة من الأساتذة والمدرسين والمتفحص لهذه المذكرات التى تخرجَت عليها أجيال كثيرة من الباحثين فى الجامعات المصرية يجدها فى حقيقة الأمر صورة مزرية من البحث والكتابة وأصول البحث العلمى ومنهجيته . وماذا يملك طلاب الدراسات العليا من زاد سوى ما نشأوا عليه من مذكرات منقولة دون ذكر فى معظم الأحيان للمراجع المُستَقاة منها فى العربية ذاتها – فضلا عن مصادر العلم والفلسفة باللغات الأجنبية التى استطاع بها الرواد الآباء أن ينقلوا الثقافات العلمية والفلسفية فى جميع عصورها وبكل لغاتها إلى جيل الأساتذة الحاليين الذين لا يجيدون لغة أجنبية وينقلون عن السابقين والمعاصرين مذكرات مجهولة المصدر ينسبها الطلاب إليهم ويتخذونها مراجع حتى للدراسات العليا ! إن فاقد الشىء لا يعطيه، والطلاب والمشرفون على رسائلهم ما بين الاستسهال وعدم التدقيق والتأنى فى البحث والدرس يشجعون أحدهم الآخر على التسرع والسطو والانتحال .
3- لجنة دائمة للرقابة على المؤلفات، والجزاء التأديبى للاقتباس :
وحين يتساءل ضحايا السرقات العلمية والغيورون على سمعة الجامعة ومستقبل الأجيال أخيراً عن : مَن يملك سلطة الحد من الظاهرة الخطيرة أو يحكم إصدار الكتب الجامعية ؟ ترد إلى الذهن أول الأمر اللجان العلمية الدائمة التى تفحص إنتاج أعضاء هيئة التدريس الجامعى للترقية درجةً بعد أخرى ثم تلقى لهم الحبل على الغارب – حيث يتنفس هؤلاء الصعداء ويتَحررون من عرض إنتاجهم العلمى تآليف وبحوثاً على آبائهم فى العلم إن كانوا سينتجون أو شفيت صدورهم من كراهية هؤلاء الآباء سواء المتشددون من الحكام والمقررين(6/16)
( محافظة على المستوى )والمجاملون( اتقاء كراهيتهم وتعقُّد نفوسهم وربما افترائهم عليهم بالغَرض والهوى ) . فها هم سيزاملونهم فى عضوية اللجان ليرقوا أبناءهم ويحلوا محلهم فى الأستاذية ، وإشراف ومناقشة الرسائل وحضور الندوات والمؤتمرات بحكم مناصبهم كعمداء ورؤساء أقسام وأعضاء مجالس .. وإن لم يستغنوا عن أستاذهم فهم الذين سيعطونه فضلة خيرهم ، فمن الخير له و لهم أن يبقى أستاذا غير متفرغ حتى لا يشارك بفعالية فى أعمال التدريس و الامتحان – و كما يقول لبيب السباعى ( الأهرام 9/5/94 ) بعنوان :" ولا حتى يحاضر لطلابه " إن شغل الأستاذ بعد سن الستين لما يُعرف بوظيفة الأستاذ غير المتفرغ أثبت على مدى السنوات السابقة فشله .
فالأستاذ ما إن يقترب من سن الستين حتى يستعد الورثة لتسلم التركة بدءا من المكتب الذى يجلس إليه و حتى الكتاب الذى يُدرِّسه .و يصِل الأمر فى معظم الأحيان أن يجد الأستاذ غير المتفرغ نفسه غريبا داخل الكلية التى أمضى بها سنوات عمره ، أو على الأقل يجد نفسه غير مرغوب فيه .(6/17)
لا سلطان إذن للجان العلمية الدائمة على مَن تَرقَى أستاذا و تخلص من تدريس كتب أساتذته التى تعلم عليها ليكون له هو كتابه الخاص الذى يحصل على عائد من توزيعه – و هذا حقه . أكثر من هذا ، فاللجان العلمية – حتى فى الدراسات النظرية وخصوصاً بالكليات العملية تشترط للترقية بحوثا ميدانية ذات جدوى فى التخصص – بعضها منشور والبعض مقبول للنشر بمجلات علمية ذات هيئة تحكيم أغلبها من أعضاء اللجنة العلمية وإن يكن بمجلة كلية أخرى مناظرة لكلية المتقدم للترقية – الذى يتحمل نفقات النشر التى يُنفق على التحرير ( أو الاشتراك بالمؤتمر العلمى ) من حصيلتها ، ومنها يتحصل مقدم البحث على خطاب القبول للنشر لِما لَم ينشَر بعد وعلى مُستَلات من بحثه لتقديمها للترقية ، كما يتسابق على استيفاء عدد المطلوب نشره بالفعل إلى حد استصدار أعداد كاملة أغلبها لباحث واحد حان موعد تقدمه للترقية . وتتحرج اللجان من جَانِبها عن الحكم بعدم الصلاحية لبحوث سبق التحكيم بصلاحيتها للنشر . وهكذا تصبح الترقية بالبحوث فى أحسن الظروف ولأحسن المستحقين بمشاركتهم فى الإنتاج العلمى مسألة أولوية استحقاق بالمواعيد ، أو الرد " للمَزَيد من البحث " لتدارك التأخير فى حالة الرفض لأول وثانى مرة . المهم أنه خلال انشغال عضو هيئة التدريس فى زهرة شبابه العلمى ببحوث الترقية لا يتسع وقته للتأليف فى مادة التخصص – باستكمال مذكرات تدريسه وتنقيحها عاماً بعد آخر لتصبح كتاباً دراسياً جامعاً يستغنى به عن تدريس كتب الأقدمين ، أو لا يضطر حين يطالب بحقه فى تدريس فرع تخصصه بالقسم دون منازع أن ينقل على عجل أو ( يقتبس ) بالنقل عن الآخرين . وهكذا فإن تركيز اللجان الدائمة على البحوث للترقية ، وعدم إعطاء التأليف أو الترجمة مهما حَسُنا تقديرًا أكثر من " جهد علمى مشكور " هو الذى يضرّ بتدرج عضو هيئة التدريس فى إعداد كتابه الدراسى الذى يحمل فكره وتأليفه .(6/18)
ثم حين يتساءل أحد المتضررين بمرارة من السطو على مخطوطة كتابه والكتاب وصاحبه موجودان على قيد الحياة ، ثم تقرير تدريس الكتاب المنقول على الطلاب … يتساءل عن السبيل لاسترداد حقه قبل اللجوء إلى القضاء ورفع قضية تعويض بالحق ( المدنى ) أو التظلم للجان الدائمة للترقية التى لا سلطان لها على عضو هيئة التدريس بعد حصوله على الأستاذية مهما رفضت ترقيته لأستاذ مساعد فأستاذ مرة ومرات ، أو تنبهت لجنة الفحص للسرقة فى بعض أعماله لكنها انتهت آخر الأمر إلى ترقيته كما يحدث فى معظم الأحوال .. حين يتساءل هذا المضرور بمرارة : أليس من حق ( بل واجب ) مجالس الكليات ومجالس الجامعات المَعنِيَّة أن تتخذ إجراء صارماً – لا لإنصاف المضارين فقط ، بل لردع العابثين المنحرفين ، صوناً لكرامة الجامعة ، وحفاظاً على جلالها وسمعتها ؟ يجيب هو نفسه قائلاً : - أحسَبُ أن الإجابة عن هذا السؤال هى فى يد رؤساء هذه المجالس وفى يد أعضاء المجلس الأعلى للجامعات ." وأنه فيما بين اليأس المسيطر ( أن ينتظر رداً من أحد – لأن أحداً لايهمه أن يكون الأستاذ الجامعى سارقاً للعلم مختلسا لحقوق وإبداع الأخرين ) ولغة الامل والتفاؤل؛ يطمح فى أن يرد عليه عميد الكلية أو رئيس الجامعة المنسوب إليها الأستاذ المتهم عن تساؤلاته . مَن الذى يحكم عملية إصدار الكتب الجامعية ؟ وماهو موقف الجامعة وقد عرفت بما جرى؟ وما هو دور اللجان التأديبية فى هذه الحالات ؟
إن أحداً لن يرد على تساؤلات هذا الأستاذ كما توقع ، ولا على تساؤل آخر بالبنط العريض بأخبار الأدب
( عدد 56 فى 7 يوليو 1994 ) عن حادث مماثل:"بعد هذا الكتاب
( الذى نشره أستاذ مساعد فلسفة طنطا(6/19)
يتهم فيه أستاذ ورئيس قسم فلسفة الأسكندرية بالتزييف فى كل أعماله العلمية التى يدرسها ككتب ومذكرات للطلاب): هل يستمر هذا الأستاذ رئيساً لقسم الفلسفة بجامعة الأسكندرية ؟ كما أن أحداً لن يستجيب لما نشر فى عدد سابق بنفس المجلة بعنوان الكتاب الجامعى أزمة كل عام : أستاذ يطالب بالمساءلة الجنائية لمن يبالغ فى سعر الكتاب – وإن يكن فى هذا المقال بحق التركيز على مسؤولية مجلس القسم عن التجارة بدل العلم : فى ارتفاع سعر الكتاب المقرر ، وتأخر تسليمه ، وعدم ملاءمته للطلاب ( حيث هو غالباً بحث الماجستير أو الدكتوراه وبحوث ترقية الأستاذ التى لا يمكن أن تغطى المقرر الكامل كموضوعات جزئية منه ) . هنا بالفعل مفتاح الحل . فالقسم العلمى بالجامعة هو الذى يوزع المقررات الدراسية على أعضائه ، ويحدد الكتاب المقرر ، وعليه تعرض بحوث التعيينات والترقيات قبل أن يرفعها مجلس الكلية إلى مجلس الجامعة … فهو الأكثر معرفة وإحاطة بالتخصصات الدقيقة لأعضائه والمقرر الذى أحدُهم هو الأصلح لتدريسه … والعادة أن لا يحتدم نزاع حول أحقية أحد أعضاء القسم الأدبية على تدريس مقرر له فيه مؤلف أو مؤلفات ومن حقه استرداد تكاليف طباعتها ، كما يتم بالتراضى حلول أستاذ محل آخر إذا أعير ثم استرداد مادته حين يعود ، أو يُعطَى أحدهما مقرراً بديلا بميمكنه التأليف فيه . كما قد يعتمد القسم كتاب واحد أو أكثر من الأعضاء كتأليف مشترك وتوزيع الحصيلة على الجميع بنسبة درجات عضوية التدريس.لكن الأغلب أن يكون التنازع حول حق المؤلف بين أساتذة فى كليات مختلفة تخصصُهم واحد ، وعلى فترات زمنية متباعدة بعض الشئ خلالها تقاعد أو توفى أو أُعير إلى الخارج صاحبُ التأليف الأصلى . هنا لايستطيع القسم العلمى أو رئيس الجامعة المدعَى على أحد أعضاء التدريس فيه بالانتحال أو السرقة أن يوقع العقوبة التأديبية إلا بعد تحقيق محايد ونزيه – بالنظر إلى فداحة العقوبات التى(6/20)
يقترحها مثلا أستاذ هندسة الأسكندرية د. أحمد عبد الله حسام الدين(الأهرام 31/10/94)كحل رادع لتلك المأساة:
أولا :يعاقب بالفصل من عمله مَن
تثبُت إدنُته فى نقل معلومات علمية ولو نقَلها بتصرف أو نسخ أجزاء من عمل الآخرين دون الإشارة للمصدر أو بغير إذن المؤلف .. حيث تطبق قوانين حقوق التأليف بكل صرامة وجد، لأن هذه سرقة، والسرقة جريمة مخلة بالشرف ، وجزاؤها الفصل التأديبى .
ثانيا : حين يثبت للجان فحص الإنتاج العلمى أن الأعمال المقدمة منقولة أو مقتبسة وليست إضافة علمية للباحث ، توصى اللجنة بعدم ترقيته نهائيا ، بل لا يسمح له بالتقدم مرة أخرى – لكيلا يكون قدوة لتلاميذه فى الغش والتدليس .
ثالثا: يعاقب بالسجن من يقوم بالسرقة العلمية – لكونها أخطر على المجتمع من السرقة المادية ( التى قد يكون لمرتكبها العذر لضغوط معيشية أو ضائقة مالية ) ولا عذر لأستاذ الجامعة فى ارتكاب جريمة سرقة العلم .
رابعاً : تبلغ الجهات العلمية والعالمية ودور النشر بأن هذا الأستاذ غشاش ، فلا تنشر له أبحاث بالمجلات العلمية والدوريات المحترمة فى الخارج ؛ بل يوضع على قائمة المهددين بفضح ابتزازهم لأعمال الغير ، وأولاً وقبل كل شىء : ضرورة تشكيل لجان فى كل مادة علمية لتأليف الكتب ( او لكل كتاب جديد ) بحيث لاينشر كتاب إلابعد أن تجيزه لجنة علمية متخصصة – على غرار النظام المعمول به فى جميع دول العالم وكثير من الدول العربية مثل الكويت – حيث اللجنة المشكلة من الخبراء والمَعنِيين تجيز ما تراه إسهاماً علمياً فى هذا المجال ، ولا تجيز المنقول أو الذى ليس به جديد او له فائدة علمية ، وأعضاء اللجنة أساتذة مشهود لهم بالعلم والحيدة والنزاهة قد مر عليهم فى درجة الأستاذية عشرة أعوام .(6/21)
المُعوَّل عليه إذن فى مواجهة هذا الخطر المحدق بفعالية التعليم العالى _ الذى يقرنه وزير التعليم دائماً برفع مرتبات أعضاء هيئة التدريس كلما " أعلن رفضه نظام الكتب الجامعية الذى يعتمد على المذكرات كمقررات ( الوفد 2/11/1994 ) – قاعدة الهرم الأكاديمى وهو مجلس القسم ، وقمته التى هى المجلس الأعلى للجامعات – باعتبار أن مجلس الكلية ومجلس الجامعة ممثلين بالعميد والرئيس يصادقان على اقتراحات وترشيحات القسم المختص لرفعها كل منهما إلى الذى يعلوه . وقد رأينا أن ما يتوافر لمجلس القسم من صلاحيات معرفة كل عضو بتخصص بقية زملائه الدقيق وتعمقّه واجتهاداته فى عرض وبحث وتطوير موضوعات بِعَينِها من هذا التخصص ( الأمر الذى استحدث فى النظم التربوية نظام التدريس بالفريق team teaching للمادة الواحدة بنجاح منقطع النظير ) فهو وإن نجح فى توزيع المقرر الدراسى المقترن بكتاب شامل لكل موضوعات المقرر هو لأحد مدرسى المادة أو أكثر أو حتى باسم هيئة التدريس مجتمعين مع تقاسم العائد المادى منه … لا يمنع التنافس الخفى بين التقدير الذاتى وصورة الآخر ( بين ) على أحقية كل منهم فى التميز والسبق فى الترقية على قدر جهده وأدائه وتفوقه التى يشاركه فيها الأقل أصالة وتميزاً فى اجتناء الثمار – مما يجعلهم يقبلون طواعية وبرضى نفس مفارقات ترقية الأحدث قبل الأقدم ، ولولا أن الترقيات فى الجامعة لا تتم بمجرد الأقدمية كما فى الوظائف العامة الأخرى ( حتى لا يركن الأساتذة إلى الدعة وتخمد جَذوَة البحث المؤدى إلى تطوير وتقدم العلم ، وأن الطلاب أنفسهم خير حكم على جدية وأمانة أستاذ دون آخر فى البذل والعطاء … لما أمكن تعاون أعضاء مجلس القسم الظاهر فى الرضا بوضع كل منهم الأدبى ( ما دام ينال نصيبه المادى فى استيفاء النصاب وفى المحاضرات الإضافية وحصيلة المذكرة التدريسية … ) ، ولمَا أمكن تقبل الترتيب غير الرسمى فى التدرج الهرمى حتى رياسة القسم .(6/22)
فهناك تفاهم ضمنى على أسبقيات التقدم للترقية وخلافة رئاسة القسم وتقاسم الأعمال الإدارية والأنشطة الطلابية والمجاملات الاجتماعية الشخصية والأسرية … التى لا تنفى الحرص على تقرير الذات ومسايرة اعتبارات الصالح العام والخاص . ويتوقف الأمر دائماً على براعة القيادات الجامعية من رئيس القسم حتى رئيس الجامعة فى امتصاص الخلافات وحسم المنازعات وخلق الترضيات والتسويات … على كل مستوى قبل أن تصل إلى الذى فوقه أو يعمد البعض إلى تخطى الرياسات والشكوى لجهة خارجية .(6/23)
لكن ماذا إذا اشتعل الصراع حول أحقية أحد الأعضاء فى تدريس كتابه الخاص وحده دون شريك فى عائده المادى – خصوصاً لطلبة دفعة كبيرة العدد – بينما زملاؤه ينظرون إليه فى ازدراء وأنانيته وتعاليه وخصوصاً أيضا إذا كان قد تربع طويلا على العرش أو ليست به حاجة لمزيد من الكسب والثراء على حساب افتقارهم وحاجتهم هم أيضاً لتكوين أنفسهم مادياً، فراحوا ينبشون قبره ويسفِّهون علمه … ولم تفلح قيادات القسم أوالكلية أو الجامعة فى رده إلى حظيرة الزملاء قبل أن يتمادوا فى تحطيمه بالطَعن فى سلوكه وأخلاقياته الشخصية بالنشر الصحفى أو لدى لجان الترقية فى بحوثه التى ترقى بها للأستاذية – إلى حد رفع قضايا التزييف والانتحال لما يؤلف أو يدرس أمام القضاء ، واستعداد أساتذة فى جامعات أخرى لهم مؤلفات فى نفس التخصص ؟ هنا – لا غنى عن سلطة رقابية على المؤلفات بالمجلس الأعلى للجامعات الذى تتبعه اللجان العلمية الدائمة للترقيات يحيل عليها رئيس الجامعة المتهم أحد أعضاء هيئة التدريس بها الكتاب المطعون عليه ( أو المضرور صاحب الحق الأدبى ) للتقرير عن التزييف أو الانتحال الذى يستوجب العقوبة التأديبية . فاللجان الدائمة للترقيات بوضعها الحالى الذى يقصر مهمتها على ترقية المدرسين إلى أساتذة مساعدين ، وهؤلاء إلى أساتذة فى لجنتين كثيرا ما يجمع البعضُ بين عضويتهما مع ما يستجِد من أعضاء استوفوا ثلاث وخمس سنوات
( رفعت إلى خمس وسبع سنوات ) حصول على الأستاذية – لاتاحة الفرصة لشباب الأساتذة أن يأخذوا دورهم فى ترقية مساعديهم ( ضماناً لولائهم وتسلسل أقدمياتهم ) ثم تكملة الخمسة والعشرين عضوا بكل لجنتى تخصص . بخمسة أساتذة متفرغين وغير متفرغين بالاختيار … قد عدلت فى التشكيل قبل الحالى لتستبعد قدامى الأساتذة الذين مضى على أستاذيتهم أكثر من عشر سنوات
( بل عشرين وثلاثين سنة ) – حيث لا دور لهم فى قيادة شباب هيئة التدريس(6/24)
( بقدر ما للأساتذة رؤساء الأقسام وعمداء الكليات أعضاء اللجان ) نحو الاستفادة بولاء هؤلاء فى انضباط الإدارة وحسن سير العمل الذى أصبح يرجح كفة الأبوة العلمية . وكثيرا ما لم تستوف اللجان عدد الأعضاء الخمسة والعشرين مع وجود عجز فى شباب الأساتذة ووفرة فى الشيوخ الذين لا زالوا على قيد الحياة فى قمة مجدهم العلمى .
والآن – فاق قدامى السن من الأساتذة هؤلاء ، الذين تقاعدوا عن تولى المراكز الإدارية بالقسم أو الوكالة أو العمادة أكثر من عشر سنوات ، ( وكان قد اقترح قبل الثمانينيات أن يكونوا أساتذة ممتازين أو أساتذة بحث – بدرجة نائب رئيس محكمة عليا – تعويضاً لمَن لَم يصل منهم إلى هذه المناصب قبل بلوغ السن ، وتشجيعاً للأساتذة على عدم التسابق إلى هذه المراكز–لولا ثورة نوادى هيئة التدريس حينَئِذٍ على تسمية " ممتاز " مهما أَخلوا الجو لهم ) … هؤلاء الأساتذة المخضرمون -بما بقى لهم من شيوخة وتَجَرُّدٍ-هم الذين ينبغى أن تُخصَّص لهم الخمسة مقاعد فوق العشرين ( وما لا يستكمل بالشباب حتى العشرين ) الأقدم فالأقدم فى كل لجنة علمية ، ليختار من بينهم رئيسُ الجامعة الذى لديه شكوى من أحد أعضاء هيئة التدريس بجامعته فى حق زميل له ( بدل أن يشكل لجنة محلية أو داخلية تكون أميل إلى التستر والتغطية وإهدار حق المضرور لصالح السلام والاستقرار داخل الجامعة – كما يحدث أغلب الأحيان ) ، ويحيل للتحقيق الأكاديمى فى موضوع الشكوى الذى يقرر له عنه هؤلاء الحكماء الحكام إلى مجلس التأديب الذى يقضى بأحد الجزاءات التأديبيه المنصوص عليها فى المادة 110 من قانون تنظيم الجامعات رقم 49 لسنة 1972 وتعديلاته – التى تتدرج من التنبيه واللوم حتى العزل من الوظيفة مع الاحتفاظ بالمعاش أو المكافأة ، أو العزل مع الحرمان منها فى حدود الربع . فحين يثبت التقرير العلمى واقعة السرقة أو التزييف أو الانتحال ؛ " فكل فعل يزرى بشرف عضو هيئة التدريس أو من(6/25)
شأنه أن يمس نزاهته أو فيه مخالفة لنص المادة 103 ( فى شأن الدروس الخصوصية مثلاً ) يكون جزاؤه العزل .
والمعايير التى سوف تستهدى بها السلطة
الرقابية على المؤلفات هذه داخل اللجان العلمية الدائمة بالمجلس الأعلى فى إثبات جريمة ( التقليد ) كا عتداء على حق المؤلف المادى والأدبى – وبالتالى حماية حقوق المؤلف الأصلى … موجودة بالقانون المصرى رقم 354 لسنة 1954 وتعديلاته ، وقبل ذلك بمشروع قانون الجامعة العربية لحماية حق المؤلف ( 1947 ) وتعديلاته – وان يكن فى الترجمة من لغة أجنبية إلى العربية قبل مضى خمس سنوات من تاريخ أول نشر للمصنف الأصلى ، وما لم يكن صاحبه قد حفظ لنفسه حق التأليف خمسين سنة بعد وفاته _ مما يمكن إعماله فى المؤلفات العربية أيضاً – حيث تجرى التفرقة بين ما إذا كان النقل عن المؤلفات اجتزاء citation بالنص الحرفى لبعض ما ورد فى المصنف المنقول عنه ، أو جمع وتبويب مختارات من عدة كتب بجهد تأليفي أو تصنيفى شخصى compilation ، أو اقتباس الفكرة دون النص التعبيرى عنها – وكلها ليست جريمة تقليد ولا تستوجب . حق الحماية – مَا دامَ الناقل يشير دائما وبأمانة علمية وفى كل موضع ( مهما تكررت الإشارة يتكرر الاجتزاءات ) للمصدر المنقول عنه واسم مؤلفه ، وما دام الاجتزاء ليس نقلا كاملاً وبتوسع ، ولو بحجة التعليق على النص . فمعيار القلة والكثرة فى الاجتزاء – الذى يسمونه الاقتباس – أن لا يغنى الكتاب المنقول عن الكتاب الأصل وينافسه ، أى أن لا يغنى الكتاب الجديد قارئه عن الرجوع للمصدر المنقول عنه فيكون اعتداء على الحق الأدبى والمادى للغير يستوجب التعويض - علمًا بأن القضاء الفرنسى المأخوذ عنه هذه التشريعات- تشجيعًا للأغراض العلمية والتعليمية والثقافية الفرانكفونية- لا يصل إلى درجة التشدد(6/26)
التى وصل إليها الأمريكيون مؤخرًا للحد من السرقات العلمية والأدبية والفنية لا للمؤلفات المطبوعة وحدها بل لأشرطة التسجيل المسموعة والمرئية بالتلفاز والفيديو والحاسبات الإلكترونية وقنوات الإرسال والاستقبال الفضائية .
كمال محمد دسوقى
عضو المجمع(6/27)
سيادة الرئيس:
أيها الزملاء الأكارم :
بادىء ذى بَدء أُسجَّل تقديرى وتقدير جميع العاملين فى حقل المُصطلحات، بل تقدير أهل العربيّة على اختلاف اهتماماتهم، مِمّن عرفتُهم أو قرأت لهم ، لتلكُم المعلمةِ الشامخة فى المغرب الشقيق – أعنى مكتب تنسيق التعريب فى الرباط.
وأُعرِب عن فائق التقدير والإكبار لجهود جميع العاملين فيه ، ومعه ، على مدى ثُلث القرن الماضى منذ 1961 – بدءًا بمديرة على مدى جيلٍ من الزمن علاّمتنا الفاضل الأستاذ عبد العزيز ابن عبد الله ، حتى مديره الحالى الصديق الدكتور أحمد شحلان ؛ لهم جميعًا كُلّ التحية والإكبار.
أيُّها العلماءُ الأجِلاّء :
"مشروع معجم مصطلحات علم المياه" – هو أحدُ مشروعاتٍ خمسة يُعِدُّها مكتب تنسيق التعريب للعرض على مؤتمر التعريب الثامن ، ويُفترض أنها دُرست فى الندوة التى عُقدت فى دمشق فى الفترة ما بين 19-24تشرين الثانى 1994(* *).
... حول المنهجيَّة التى يتبعها المكتب فى إعداد هذه المشروعات ، نقرأ فى مُقدمة المعجم ما مُفاده أن المنهجية التى انتهجها مكتب تنسيق التعريب فى مشروعاته المعجميةّ مرّت بمراحلَ ثلاثٍ:
فى المرحلة الأولى كان المكتبُ يجمع مادةَ المشروع الأولى للمعجم ، ويُوزِّعُها على اللّجان الوطنية للتربية والثقافة والعلوم ، وعلى الجهات المختصة ، فى البلاد العربية لإبداء الرأى. ثُمَّ يُعرض العملُ على ندوةٍ مُتخصِّصةٍ لدراسته.
... فى المرحلة الثانية اتبعَ المكتبُ أسلوبًا آخر يتمثلُ فى تكليف خبير "نَلْمسُ فيه الكفاءة العلمية واللغوية كى يُحَضِّرَ مُسوَّدةَ مشروع المعجم – ثلاثىِّ اللغة – مُستفيداً مِمّا صدرَ عن المعاجم العربية أو الهيئات والمجامع (لعّلها "المراجع") المختصة من معاجمَ ومؤلّفات ؛ وغالباً ما يعتمِدُ على قدرته الذاتية ومعلوماته الخاصة".(7/1)
... بعد ذلك يُعهدُ بهذه المُسوَّدة إلى خبيرٍ آخر مُراجعتِها وتدقيقها ، لكى تكتسىَ الوثيقةُ صِفةَ "مشروع المعجم"(1).
ثُمَّ يقوم المكتب بتوزيع المشروع على اللجان الوطنية للتربية والثقافة والعلوم وجِهات الاختصاص فى الأقطار العربية للنظر فيه وإبداء الملاحظاتِ عليه تمهيدًا لعرضه على ندوةٍ مُتخصِّصةٍ لدراسته.
وفى المرحلة الحاليةِ (الثالثة) نهَجَ المكتبُ نَهْجًا جديدًا فى إعداد مشروعاتٍ خمسةٍ من المعاجم – فى مصطلحات "التقنيات التربوية " و " الإعلام " و " علم المياه "
و"الاستشعار عن بعد" و "الفنون التشكيلية".
... ويتمثل هذا النهج الجديد فى عَقد اتفاقِياتٍ مع هيئاتٍ عربيَّةٍ أو أكاديميَّةٍ مُتخصّصة تقوم بإعداد المشروعات الأولية مُستأنِسَةً بما يُزوِّدها به المكتبُ من مراجعَ وقوائمَ مصطلحيّةِ ، تدخُل فى صُلب الموضوع ، مِمّا صدر عن المجامع اللغوية والاتحادات العلمية والجامعات والهيئات المتخصّصة. وهكذا تمّ إعدادُ المشروعات المعجميّة الخمسة الآنفة الذِّكر(2).
وقبل أن أستعرضَ عَيِّناتٍ من هذا المشروع – مُفصلةً فى فئاتٍ تُحدِّدُ نوعَ الشكوى المِنْهَجِيةِ أو الشكاوى المصطلحيةِ فيها ، أعرضُ وحضراتكم أساسيَّات عامّةً مُتعارَفةً فى مجال المصطلحيَّة والمصطلحيين ووَضْعِ المُصطلحات.
إن مِهنةَ المُصطلحى ، كما تعلمون، لمّا تتحدَّدْ معالِمها فى العالم العربى، فليس هنالك برامجُ مُتعارفةٌ، ولا
طُرقُ تأهيل محددةٌ ومرسومةٌ ، لإعداد المُتخصِّصين فى المُصطلح والشؤون المصطلحية(*). ومعظمُ ، أو رُبّما كُلُّ المُتخصَّصين الذين أعرفُهم ، تعلَّموا المهنةَ بجُهودهم وإمكاناتِهم الشخصيَّة ولم يدرسوها كعِلم ؛ إنمّا توافرتْ لهُم خلفِيّاتٌ دراسيَّةٌ تثقيفيَّة علميةٌ ولُغَويةٌ ساعدت فى هذا التأهيل.(7/2)
لكن مهما يختلِف المُنَظِّرون فى تقْنيّات المصطلحيَّة ومَساقاتها ، فهنالك أساسيّاتٌ لا خلافَ فيها لِما يُمكن اعتبارُه بعضَ مؤهلات المصطلحى، ولعلّها لا تختلفُ كثيراً عن المُتطلّباتِ الأساسيَّة لأعمال الترجمة العِلمية والتقانِيّة الناجحة. ولعله يُمكن تلخيص هذه المُتَطلبات فى أساسيّاتِ خمس.
1- معرفة دقيقة بِلُغتى التعاملُ – لُغةِ الأصل ولغةِ الهدف. فقديمًا قالوا: صاحبُ الترجمة ينبغى أن يكونَ ذا عِلمٍ وافٍ باللغتين ؛ أو كما وصفه الجاحظُ فى بيانه
"أعلمَ الناس باللغة المنقولة واللغةِ المنقولِ إليها حتى يكونَ فيهما سَواءٌ وغاية".
2- إلمامٌ كافٍ بمادة الموضوع. ويُركِّزون اليومَ على المُصطلحى الواسعٍ التخصُّص ، وليسَ بالضرورة المتخصصَ فى الموضوع نفسه.
3- خِبرةٌ عمليّة بالمنهجيّة المُصطلحيَّة مُدعَّمةٌ بالتراث المُصطلحى القديم والحديث، وتَعرُّفُ المشهورِ منه – على الأقلِّ فى مجال الموضوع مدار البحث.
4- مَوهبةٌ عمادُها ذَكاءٌ مُدرَّب يُمكِّنُ من مَلء الثَّغَراتِ فى النص الأصلى ، وخيالٌ واسع يُمَكِّن من تصوُّر العُدَّة أو الشىء أو العملية موضع البحث ، ومقدرةٌ سليقية تمكِّن المُصطلِحَ من التعامُل مع اللفظ فى سياقه بوضوحٍ وإيجازٍ ودقَّة.
5- درايةٌ وبصيرة تُوَجِّهانِ الاختيارَ لانتقاءِ المُرادف المصطلحى الأنسب من المعاجم ذاتِ العَلاقة أو الكتاباتِ المنشورة حول الموضوع.
- بصراحة يا سيادتى لقد افتقدتُ الكثيرَ من هذه الأساسيَّات خلالَ قراءتى عيِّناتٍ متعدِّدةً من "مشروع معجم مصطلحات علم المياه" أستعرضُها مع حضراتكم فى فئاتٍ قد تكون مُتداخِلةً أحيانًا – وأبدأُ بفئةِ الأساسيَّةِ الأولى.
* التمكُّنِ من لغة الأصل (المنقول عنها) ولغةِ الهدف (المنقول إليها)(*). إلى حضراتكم الأمثلة:
36) Aggressive: quality of water that attack metals & concrete chemically by dissolution.(7/3)
هدّام (مياه مُخرِّبة): نوع من الماء الذى يهجم على المعادن والأسمنت كيميائيًّا فيُخَرِّبها بالانحلال.
عُدوانى (أكّال): صِفة للمياه الحاويةِ مَوادَّ أكّالةً لِلفلزّات والإسمنت تُسَبِّب انحلالَها كيماويًّا.
("هدام" أو "مُخرِّب" تقابل “destructive” ؛ وبالنسبة للمياه لعلَّها تنطبق أكثر على مياه السيول والفيضانات. ليس ما يمنع ترجمة aggressive بمقابلها المتعارف "عدوانى". ولولا خوف اللبْس بـ"عادىّ" لقُلت "عادٍ").
40) Air-dry
هواء جاف: حالة تعادل أو توازن بين
الرطوبة الموجودة بين مسامات عيِّنة ما صخرية وبين الهواء أو الجو.
المدخَل صفة وليس اسمًا – لذا نقول:
مُجَفَّفٌ فى الهواء أو هَوائىُّ التجفيف أو هَوائىُّ الجَفافية – مثلاً:
air-dry timber,
air-dry rxck, ect.
49) Algae control :control of growth of micro-organisms in water bodies.
تحكُّم بالطحالب: التحكُّم بنمُوِّ العضويّات الدقيقة جداًّ فى الأجسام المائية.
الترجمة المناسبة لـcontrol هنا هى "مكافحة" ، فنقول: مُكافحة الطحالب: مُكافحة نمُوِّ المتعضِّيات المِجهرية فى الكُتل أو التجمّعات المائية.
55) Allochthonous: Said of material originally from a different locality than the one where it is deposited.
مادة منقولة: نوع من المادة الناتجة عن توضُّع مواد حَدثت فى غير مكان توضُّعها الأصلى.
المدخل هنا صفة لا اسم. فنقول:
دَخيل ، مَجلوبُ أو جليبُ النَّشأة: مثلاً الصخر الذى يتكون فى مُعظمه من موادَّ مَنقولة من موقعٍ آخر.
108) Argillaceous: Property of rocks containing clay in non-negligible proportions.
غَضارى: خاصية الصخور التى تحوى كمية غير مهملة من الغضار.
السياق هنا يأنف الترجمة الحرفية لـnon-negligible. يُقال: "كميّة لا يُستهانُ بها".
123) Autochthonous: Of sedimentary material originating & deposited at about the same location.(7/4)
رُسوبات توضُّعية متبَقِّية: مواد رسوبية ناتجة عن ومتوضعة فى نفس المنطقة التى
نتجت عنها.
هنا المدخل أيضًا صفةٌ وليس اسمًا – فنقول:
مكانىُّ النشأة: تكوَّن وتراكَمَ فى الموضع الذى نشأ فيه (كالملح الصخرى).
185) Block & tackle: Hoisting device in the derrick for lifting and lowering of drill pipe and casing.
كُتلة الرفع والإنزال: جهازُ رفعٍ وإنزال على جسم الحفارة يستخدم لرفع وإنزال أنابيب الحفر وأنابيب الإكساء.
بكّارة: بكَراتُ الرفع وحبالُها فى بُرج لحَفرِ لِرفع وإنزال أنابيب الحفر والتغليف.
كُتل لافا. 188) Block lava.
لابا كُتليَّة – (الموصوف هو "اللابا").
حُفْرة (ثقب). 191) Bore.
(Trou de forage “F”).
(Bohrung “G”).
ثَقْبُ (الحَفْر). قُطْر الحَفر (أو التجويف) الداخلى.
200 (& page 235)
Breaking strength.
قوة الكسر (قوة التهشيم أو التحطيم) – قوة التكسُّر.
مُقاومة الكَسْر.
مُقابِل “strength” فى هذا السِّياق نَقول "مُقاوَمة"، فالمفهوم هنا ليس "قوة الكسر"، بل قوةُ مقاومته.
204) Brine: Water containing more than 100.000 ppm total dissolved solids.
مالح جدَّا ، ملحٌ أُجاج.
"ماء مالِح" أو "ماء مِلحٌ". (المدخل هنا اسمٌ وليس صفة).
268) Cement bond.
ملاط اتصال (ملاط الوصل).
رابِطة (أو وُصلة) إسمنتيَّة. (الموصوف هنا “bond” لا “cement”).
269) Cement grout: Cement slurry of pumpable consistency.
مزيج ملاطى لملء الفراغات: طين ملاطى أو اسمنتى قابل للضخ بشكل مستمر.
رَوبةُ إسمنت: مِلاٌط رقيقُ القوام ضَخوخ.
311) Cloud-burst.
انفجار سَحابة.
شُؤبوب: وابلٌ من المَطر المُنهمِر.
349) Confined water: Water separated from the atmosphere by impermeable rock stratum.
ماء مَضغوط: ماء مفصول عن الجو بواسطة طبقةٍ صخرية كتيمة غير نفوذة.(7/5)
ماءٌ حَبيس (أو مَحصور): تفصلُه عن الجوِّ طبقةٌ صخرية صَمّاء (غير نَفوذة).
395) Corrosive: Property of water attacking its conduits.
قابِلٌ للتأكُّل: خاصية الماء الذى يقوم بالهجوم على قنواته وأنابيبه التى تنقله.
أكّال: خاصيَّةُ الماء الأكّال أو الحاتّ كيماويًّا لِمَسالِكه:
(الماء الذى "يهاجِم" قنواتِه وأنابيبَه هو الـ"أكّال" وهى الـ"قابلة للتأكُّل").
586) Dripstone: Rock formed by evaporation of dripping water film containing calcite.
صخر ناتج عن التبخر والتقطير المائى: صخر ناتج عن بتخُّر الماء الذى يكون على شكل قطرات على سطح رقيق مائى يحوى الكالسيت (فحمات وكربونات الكالسيوم).
حجَرُ القَطْر (أى صَخرُ الهَوابِط والصَّواعِد): صخرٌ ناتج عن تبخُّر الماء المُتَقَّطر من غِشاء ما جِيرى أو يحوى الكالسيت.
(فى B تابع (143
Fresh-water barrier.
عائق مائىٌّ عَذْب.
"عَذب" لا تصف عائقًا طبعًا. هو "عائق ماءٍ عَذب" أو "عائق مياهٍ عذبة" (كما ترجم صحيحًا فى F) أو "عائق من المياه العذبة" (يُحقَن لِصَدِّ جرَيان مياهِ البحر المالحة باتجاه الطبقات المائية القريبة
من السواحل البحرية).
808) Galvanometer: Sensitive current meter.
جهاز قياس التيار (غلفانومتر): عداد لقياس التيار الحسّاس.
غلفانُومِتر: جهازُ قياسٍ حَسّاسٌ للتيّار أو مقياسٌ حسّاس للتيّار.
(الحَسّاس وصفٌ للمقياس وليس للتيّار).
غنايس. 854) Gneiss.
نايس. فالـG فى Gneiss صامتة لاتُلفظ.
1012) Incrustation: Deposition of mineral matter by water.
ترسُّب: توضُّع مواد معدنية وفلزية بواسطة الماء.
تقَشْوُرتغَطِّ أو تغطيةٌ بقِشرة صلبة من ترسُّاتٍ معدنية مائية.
("تقَشْوُر" وِزانُ "تبَلْوُر" بمعنى "تكوُّن قِشرة صلدة").
1050) Interbedded: Pertaining to beds or sedimentary material intercalated in a parallel fashion into a main stratum.(7/6)
طبقات مُتداخِلة: ما يختصّ بالطبقات أو المواد الرُّسوبيّة المتداخِلة بين بعضها على شكل متوازٍ لتشكِّل طبقة صخرية واحدة.
مُتداخِلة بينَ الطبقات أو مُتداخِلةُ التَطُّبقِ: وَصفٌ لِطبقات أو مواد رسوبية مُقحَمة تعاقبيًّا وبشكلٍ متوازٍ فى طبقة رئيسيَّة. (المدخل صفة وليس اسمًا).
1230) Mesophyte: Plant growing under intermediate moisture cinditions.
نبات ذو جذور متوسطة العمق: نبات ينمو تحت شروط رطوبة معتدلة أو متوسِّطة.
نَباتُ الرُّطوبة المتوسِّطة: نباتٌ ينمو فى ظروف الرطوبة المُعتدلة أو المتوسطة(*).
1290) Mud port: Opening in drilling tool through which drilling mud extrudes.
مرفأ طين الحفر ، مكان خروج طين الحفر: فتحة فى جهاز الحفر التى يقوم طين الحفر من خلالها بالاندفاع خارجاً وبقوة.
"فُتحة الطين" أو "فُتحة طين الحفر": فتحةٌ فى عُدَّة الحفر ينبثِقُ منها طينُ الحفر.
1351) Oven-dry: Degree of dryness of porous sample after drying in oven at specified temperature.
درجة التجفيف فى الفُرن: درجة التجفيف الخاصة بعيِّنة مسامية بعد تجفيفها فى فرن التجفيف بدرجة حرارةٍ معيَّنة.
"مُجَفَّف فى الفُرن" أو "فُرنىُّ التجفيف" أو "فُرنىُّ الجَفافيَّة": درجةٌ جَفاف عَيِّنة مسامية بعد تجفيفها فى فرنٍ على درجة حرارةٍ معيَّنة. (المدخل هنا صفة وليس اسمًا).
1432) Pillow lava. وسائد اللافا.
الموصوف هو الـ”lava”-لذا نقول "لابا وِساديَّة".
1440) Pipe wrench..
لَوى الأنبوب – لَىُّ الأنبوب – تحريف الأُنبوب.
مفتاحُ (ربط) الأنابيب.
(“wrench” هنا هى فى سياق “adjustable spanner” لا wrenching ولا .(twisting
1824) Spillway: Device for the escape of excess water.
مبنى فائض مائى – سدّ – حاجز مائى: جهاز لمرور المياه الزائدة أو الفائضة.
قناةُ تصريف الفائض ، مَفْيَض: وسيلةُ انفلات الماء الفائض.(7/7)
1859) Stratum: Sedimentary bed or layer.
طبقة صخرية رسوبية: طبقة رسوبية مُعيَّنة.
طبقة: طبقة رسوبية.
2120) Waste products.
كمية النفايات – نواتج النفايات.
نَواتجُ فضَلاتيَّة: نُفاياتٌ (تُطَّرحُ بعد عملية مّا).
2199) Well-sorted grains: Assortment of grains having the same diameter.
تصنيف حبيباتٍ جيِّد – فرزُ حُبيباتٍ جيِّد: تصنيفٌ وفرزٌ للحبيبات بحيث تكون لها ابعادٌ قُطرية مُتشابهة.
حُبَيباتٌ جيِدةُ التصنيف : تصنيفةُ ( أو تشكيلةُ) حُبَيْباتٍ متساويةُ القُطْر.
(المقصود "الحُبيبات المُصنَّفة جيِّدًا" وليس التصنيف الجيّد لها).
2215 (& 2214) Wilting coefficient; Wilting point: Soil moisture content at which plants wilt.
عامل فقدان الرطوبة وتسَبُّب الهشاشة فى النبات – نقطة فقدان الرطوبة وتسبُّب الهشاشة عند النبات: كمية الرطوبة فى التربة التى يحصل عندها فقدان للرطوبة وهشاشة فى النباتات.
مُعامِلُ الذُّبول – نقطة الذُّبول: المُحتوى الرُّطوبى فى التربة عند بدء الذُّبول.
(العربية ليست فقيرة إلى حدِّ استعمال 6 كلمات للتعبير عن wilting).
*الأساسية الثانية تفترض أن يكون واضعو المصطلحات مُلمِّين بأجواء الموضوع أو المواضيع والمجالات العلمية المتعلقة بتلك الاصطلاحات، كى تأتى مصطلحاتهم صحيحةً دقيقة الأداء، ومتوافقةً مع ما هو مُتعارف بين أهل العلم والصنعة فى العالم العربىّ.
المصطلحات التالية المقترحة أو الموضوعة للمداخل المقابلة فى العيِّنات التى قرأتُها من
1509) Pump liner.
حاملة المضخة ، حامل أسطوانة المضخة.
(Chemise de pompe "F").
بِطانُة المِضخَّة:
1550 & (1230تالٍ) Receiving water course.
استقبال المجرى المائى: تلقى المجرى المائى.
مَجرى الماء المُستقبِل. (المَوصوف هو watercourse ، ويُكتَب كلمةً واحدة لا اثنتين).
1627) Rockfill.
الملء الصخرى:
صخرى الحشوة: ذو حَشوة صخريَّة.(7/8)
(والعبارة تُكتَب بشحطةٍ صغيرة “hyphen”. وتُستخدَمُ صفةً بمعنى: صَخرىّ الحَشو composed of large rock or stone loosely placed كما فى rock-fill dam سَدِّ صَخرىُّ الحَشو أو سَدٌّ رُكامىّ).
1738) Shot drilling: Method of drilling where shot dropped into the bore hole through the drill pipe exercises abrasive action on the bottom hole.
الحفر بالتفجير – الحفر باستخدام طلقات الرمى: طريقة حفر تستخدم فيها طلقاتٌ تُسقط ضمن البئر، أو حُفرة البئر خلالَ أنبوب حفرٍ مُعيَّن والتى تقوم بتفتيت وتحطيمٍ على قاع الحُفرة أو البئر المراد حفرها.
الحَفر بخُردق الفولاذ: طريقةُ حفر يسهِمُ فيها خُردقُ الفولاذ ، المُسقَط فى ثقب الحفر عبر أنبوب الحفر ، بفِعلِه الأكّال فى عملية الحفر.
(فى هذا السياق “shot” تَعنى "خُردق" الفولاذ).
1754) Sieve retention: Material retained on a sieve.
احتفاظ المُنخل للحبيبات – احتجاز المُنخل للحبيبات: المادة المحتفظة على المُنخل أو الغِربال على شكل حُبيبات.
الشّرحُ المعطى يحدِّد مفهوماً آخر للمصطلح هو:
مُستَبْقَياتُ المُنْخُل ، حُفالةُ الغَربلة: ما يبقى فى المُنخل (أو الغِربال) بعد النّخل (أو الغربلة).
... مشروع معجم مصطلحات المياه يشكو من عِلل علميَّة معرفيَّة أساسًا مع تداخل العنصر اللغوى أحيانًا فى تعقيد الخلل. إلى حضراتكم الأمثلة التالية:
4) Absolute atmosphere: 10 dyne per cm2
جَو مطلق: ويساوى 10 ديْنة لكل سنتيمتر مربع.
الجو المُطلق أكثر من ذلك بمئة ألف مَرَّة ؛ فالجو المطلق يساوى 10نيوتن على السنتيمتر المربع – عِلمًا أنّ 1نيوتن= 10? داين (*).
82) Anhydride: Anhydrous calcium sulphate.
أنهدريت: كبريتات الكالسيوم اللامائية.
لفظة "أنهدريت" لاتقابل المصطلح “anhydride” ؛ لكن الشرح ينطبق عليها. العلة هنا فى الخطأ المطبعى للمدخل Anhydride الذى صوابه Anhydrite.(7/9)
206) Dubble gauge: Stage recorder based on principle of equating a gas pressure to water level.
مقياس ضغط مضاعف.
محطة تسجيل قائمة على مبدأ تساوى ضغط الغاز مع منسوب الماء.
مقياس ضغطٍ مُسَجِّل: مُسَجِّل مناسيب يعتمد على مبدأ ارتباط ضغط الغاز (فى الفقاعات) مع منسوب الماء بمعادلة مُحدَّدة. الحكم بأن Dubble هى Double مُتسرِّع، فالشرح لا يُبرِّر ذلك ، بل يشير إلى Dubble. ثُمَّ إنَّ Stage recorder لا تعنى "محطة تسجيل" بل "مُسَجِّل مناسيب". والمقابل الصحيح لِـstage فى هذا السياق ليس "طور" ولا "مَرحلة"، كما هو وارد مُقابل المدخل 1830 ، بل "منسوب" – كما هو وارد مقابل المدخلين 2157 و 2158.
401) Creep: Slow plastic deformation of a solid.
تشوُّه (تغيُّر): تشوُّه لدائنىٌّ بطىء لجسمٍ صلبٍ معيَّن.
تزَحُّف: تشَوّه الجامد اللدان بفعل الثِّقل المستمِر عليه.
(لفظُة "تشوُّه" تُقابِل
(deformation, deformity, malfor- mation, desfigurement, ect. 947) Housing.
إسكان – منزلى – سَكنى.
المفروض هنا أنها "مَبْيَت" ، مَقَرّ ، مُرتكَن (لآلة أو لجُزءٍ من آلة).
988) Hygroscopic coefficient: Amount of absorbed water on surface of soil particles in an atmosphere of 50% relative humidity at 25?C.
عامل امتصاص الماء من سطح التربة: كمية الماء المُمتصَّة من جزيئات سطح التّثربة فى جَوِّ يحوى 50% من التربة النسبية فى درجة حرارة تساوى 25درجة مئوية.
معامِل الاستِرطاب: كمية الماء التى تمتصُّها جُزيئات سطح التربة… ؛ هذا هو مفهوم "استرطابى" hygroscopic الذى تعريفه بالإنكليزية كما يلى:
Absorbing or attracting water from the atmosphere (or the air)
1268 Momentum
القوة الدافعة.
كمية التحرُّك ؛ شرحُها بالإنكليزية هو:
The quantity of motion of a moving body= its mass X velocity.(7/10)
(والقوة الدافعة شىءٌ آخر. فقد يكون للسيارة الصغيرة ذات قوة 4 أحصنة "كميةُ تحرُّك" أكثَرُ من سيارة أكَبَر قُوة 50 حصاناً – إذا كانت الأولى تسير بسرعة 100كلم/الساعة والثانية تسير بسرعة 2كلم/الساعة).
1443) Pilot tube: Device to measure flow velocity through pressure differences.
أنبوب مُرشِد – جهاز قياس سرعة الجريان – أنبوب رئيسى: جهاز لقياس سرعة الجريان أو التدقُّق من خلال الاختلافات والفروق فى الضغوط.
الشرحُ يُبيِّن أنه "أُنبوب بيتُو": جهاز قياس سرعة سريان المائع بفارق الضغط “pilot” خطأ مطبعى (صوابه (pitot ، لا ينبغى أن ننجَرَّ وراءه.
1645) Runoff: Discharge of water through surface streams of a drainage basin; sum of surface runoff and groundwater flow that reaches the streams.
الجريان السطحى ، الجريان المائى: جريان أو تصريف المياه خلال المجارى أو الجداول المائية السطحية لحوض تصريفٍ معيَّن ؛ أو هو مجموع الجريان السطحى وجريان المياه الجوفية التى تصل إلى الجداول النهرية أو المائية.
الصرف (أو الانسياب) السطحى ؛ المدد السطحى. (المصطلحان المُقترحان لا بأس بهما ، لكنَّهما يغطيان فقط واحداً من مفهومى المصطلح الإنكليزي كما هو مشروح. المفهوم الآخر هو "المددُ السطحى").
1830) Steage: Water surface elevation at a point (along stream, in lake, etc.) above an arbitrary datum.
طور – مرحلة: ارتفاع سطح الماء عند نقطة ما (على طول نهر أو جدول مائىّ أو بحيرة إلخ) فوق مستوى إرجاع عشوائى اعتباطى لا على التعيين.
stage هنا يقابلها "منسوب" ، ونُترجم arbitrary datum بـ"مستوى أو نقطة إسناد مُختارة".
(واضح أنّ الترجمة هنا أُخِذَت عن القواميس العادية – لا المتخصَّصة – دون مراعاة السِّياق المُوضَّح فى الشرح)(*).(7/11)
2111) Walking beam: Oscillating beam used to produce the rise & fall of the tools in cable-tool drilling.
عارضة المسير – عاتق المسير: عارضة أو عاتق مُهتَزٌّ أو متذبذب يُستخدم لإحداث ارتفاع وانخفاضٍ فى معدّات الحفر الموجودة فى آلة الحفر بالدّق أو الطرق الخاصة بحفر الآبار المائية.
ذراعٌ مُترَجِّحة: ذراعٌ مُتَرجِّحة لإعمالِ معدّات الحفر الكبلى.
2135) Water hammer: Abnormally high pressure rise in a pipe when sudden changes in flow occur.
ارتفاع ضغط الماء المفاجىء فى أُنبوب ما: ارتفاع عالٍ فى ضغط الماء وبشكلٍ شاذِّ غير طبيعى فى أُنبوب ما عند حدوث تغيُّرات مفاجئة فى الجريان والتدفُّق المائى.
طَرْقُ الماء: ارتجاجٌ بطَرق الماء على جدران الأُنبوب عند توقّف أو اضطراب السريان (وارتفاع الضغط) فجأة. (أهل الصنعة يقولون "طرق الماء").
*موادّ الفئة الثّالثة مُختارة لِعللٍ
مُصطلحية أو منهجيَّة أساسًا ؛ لكن يظلُّ العاملُ اللغوى – من حيث لغتا الأصل والهدف – فى كثير من الحالات ، أحدَ مُسببات الخلل المُصطلحى فيها.
إليكم العيِّنات من هذه الفئة:
16) Acidizing of wells.
إضافةُ حمضٍ إلى البئر.
إحماضُ البئر.
29) Advection: Phenomenon of coll air mass intruding & interrupting evaporation & causing condensation due to heat loss.
خاصية الحمل: هى الظاهرة التى يسبِّبُها (لعلَّها "التى تُسبِّبها كُتلةُ") الهواء البارد التى تقتحم وتغزو الهواء مسببة انقطاعًا فى التبخر وتكثيفًا للماء وذلك بسبب فقدان الحرارة أو الخسارة فى الحرارة.
"الحمل" هو المُصطلح الحرارىّ المُتعارَف مُقابل convection ، ونحن هنا بصدد مصطلح آخر هو advection اصطُلح على أن يقابله بالعربية مُصطلح التأُّفق (*).
93) Anticline: Upfolded stratum.
مُحدَّب: طبقة مطوية نحو الأعلى.(7/12)
مُحدَّب مُقابل convex. هنا "طيَّة مُحدَّبة" أو "حدبة" أو "قبوة" أو "حَنيرة".
163) Bathometer: Instrument for measuring water depths in wells.
عدّاد قياس عمق مياه الآبار (جهاز قياس عمق ماء الآبار): جهاز لقياس أعماق المياه فى الآبار.
مِعماق ، مِقياسُ أعماق : جهازُ قياس عُمق المياه فى الآبار. (ولا داعى للمصطَلحين اللذين يصلح كلُّ واحدٍ منهما شرحًا لِلمصطلح الإنكليزى لا تسمةً له).
214) Butterfly valve.
صمام على شكل فراشة.
صِمامٌ فراشىّ.
275) Chain gauge: Water level measuring device consisting of a chain.
جهاز قياس منسوب الماء القائم على استخدام السلسلة: جهاز قياس لِمنسوب الماء مؤلّف من سلسلة.
مُحدِّد قياسٍ سِلْسلىّ. (لِمَ نَقول فى ثمانى كلماتٍ ما نَستطيعُ قَولَه فى ثلاث؟).
283) Check valve.
صِمام التأكُّد.
صِمامٌ صادّ: غير مُرجع.
(check فى هذا السياق تحمل معنى "الكَبْح" و "الصدّ" و "الزنق اللارَجوع" ، لا معنى "التدقيق" و "التأكُد" و "الضبط" إلخ).
338) Concrete. أسمنت.
خَرَسانة.
390) Core bit: Tubular & internally hollow drilling bit cutting cylindrical rock samples.
رأس الحفر الخاص بأخذ العَيِّنة الأسطوانية الصخرية: رأس الحفر الأنبونى والمفرغ داخليًّا الذى يقطع الصخر إلى عيِّنات أسطوانية.
لُقمةُ العَيِّنات اللِّبية(*): لقمة حفر أنبوبية لاقتطاع العيَّنات اللِّبية.
479) Derrick: Frame structure containing hoisting devices in a drilling installation.
المِرفاع (الرافعة): بناء عام يحوى أجهزة رفع وتحميل فى بناء آلة الحفر العامة.
بُرج الحَفر. إنشاءٌ هيكلىّ يحمل الروافع فى مُنشأة حَفرٍ.(7/13)
(Derrick بالإنكليزية تحمل المَعنيْين (1) المِرفاع (2) بُرج الحَفْر ؛ الشرحُ المُرافِق هنا يُعرِّف المعنى الثانى . فإذا نريد إيراد المُرادِف الآخر نُضيفُ حينئذٍ تعريفه بمثل: Any of various devices for lifting & moving heavy objects.
نبيطة أو جِهاز لرفع أو نقل الأجسام الثقيلة.
799) Fumarole: Volcanic exhalation of gases mainly water vapor.
فُتحة بُركانية تخرج منها الغازات الحارة والبُخار: نفث بركانى لِغازات مختلفة وخاصة بخار الماء.
نافِثة (بُركانية) أو داخِنة: زفرٌ بركانىّ غازىٌّ مُعظمهُ من بخار الماء.
(ولعلَّ التعريف التالى هو الأفضل: "فوهة بركانية تنبعثُ منها الأدخنة والغازات").
1000) Imbibition: Fluid displacement in porous media due to capillary forces alone.
امتصاص (إزاحة السائل بالخاصية الشعرية): إزاحة سائل ما فى وسطٍ مسامى بسبب تأثير القوى الشعرية وحدها.
تشَرُّب. ("امتصاص" مُقابِل absorption أو (suction.
1002)Impedance: Apparent resistance of a conductive system when alternating current is applied.
مُقاوَمة ظاهرية (إعاقة التيّار المتناوِب): المقاومة الظاهرية لِنظامٍ ناقل أو جملة ناقلة كهربائيًا عند تطبيق تيارٍ متناوبٍ عليها.
مُعاوَقة: المُقاوَمة الظاهرية لِمنظومةٍ مُوَصِّلة عند تسليط تيّارٍ مُتناوِب.
("مُقاوَمة" مُقابِل resistance. ومصلطح "المُعاوَقة" مُقابل impedance هو من المصطلحات العِلمية المُقَرَّة من قبل مختلف المجامع والاتحادات العلمية العربية. أما "تطبيق" فلا يَستسيغُها السياق مقابل apply هُنا).
1057) Interface: Contact plane of two immiscible liquids.
السحط الفاصل بين سائلين غير قابلَين للامتزاج (برزخ فاصل): سطح الاحتكاك بين سائلين غير قابلين للامتزاج بعضهما ببعض.(7/14)
مُصطَلح "سَطح بَينىّ" يؤدِّى كامل معنى المُصطلح الأجنبىّ. ونُعَرِّفه بـ:سَطح التماسّ بين سائلين لا مَزوجَيْن. (لفظة "الاحتكاك" فى الشرح الوارد فى النص غير مناسبة).
1120) Laminar flow.
جريان خطِّى.
جريان صفحىّ. (صفحى مقابل laminar وخطى مقابل (linear.
1176) Magma: Molten rock substance formed within the earth from which igneous rocks originate.
ماغما – مواد صخرية مصهورة ذات حرارة مرتفعة جدَّا: مادة صخرية مصهورة ذائبة تتشكل ضمن الأرض ومنها تتشكل أصلاً الصخور الاندفاعية.
صُهارة ، ماغما: مواد صخرية مصهورة فى باطن الأرض تتشكّلُ منها الصخورُ النارية (البركانية. مُصطلح "صُهارة" من المصطلحات الناجحة والشائعة.
1213) Measuring weir: Device to measure flow rates indirectly through the weir head.
شبكة القياس – مصيدة القياس – سياج قياس: جهاز لقياس معدَّلات الجريان بشكلٍ غير مباشر عن طريق رأس شبكة أو مصيدة قياس معيَّنة.
هَدّارُ قياس: وسيلةٌ لقياس معدَّلات التدفُّق بشكلٍ غير مُباشر من خلال ثُلمةٍ فى أعلى الهَدَّار.
1379) Peat: Decomposed mainly vegetable matter.
نبات مُتضَخِّم: مادة متفسِّخة نباتيَّة بشكل رئيسى. أو نسيج نباتى متضخِّم جُزئيًا بسبب التفسُّخ الجزئى فى الماء ولنبات مختلفة الأنواع.
خُثّ: مادة نباتية فى الغالِب متفسِّخة ومتفحِّمة جُزئيًا.
(مُتضَخِّم لَعَلَّها خطأ مطبعىّ لِمُتفَحِّم).
1414) Photomultiplier.
جهاز القياس فى الصور الجوية.
مُضاعِف ضَوئىّ أو صِمامٌ ضوئىّ مُضاعِف (يُسَمّى أيضاً (multiplier phototube .
1421) Phreatophyte: Desert plant with deeply penetrating roots reaching the water table, growing mainly along stream course.(7/15)
نباتات الصحراء ذوات الجذور العميقة التى تصل لِمَنسوب المياه الجوفية: نباتات صحراوية تخترقُ جذورُها أعماقاً تصِلُ إلى منسوب المياه الجوفية ، وتنمو بشكل رئيسىّ على طول مجارى الجداول النهرية.
نَبْتُ المياه الجَوفية:…
1515) Quagmire: Wet and unstable land area.
أرضٌ طريَّة تهتَزُّ تحت القدم: أرضٌ رطبة غير مُستقِرَّة تهتَزُّ لأقلِّ حركة.
(أرضٌ) سَبْخة: أرضٌ رِخوةٌ رطبةٌ وغير مُستقِرَّة.
1518) Quicksand.
رمل متحرِّك أو زاحف: رمل مفتت ممتزج مع الماء تغرق فيه المواد الثقيلة بسرعة كبيرة.
رملٌ سوّاخ ، وَعث: رملٌ سريع الانهيار.
1570) Redox potential: Oxidction potential.
كمون الأكسدة والإرجاع: كمون لِعملية الأكسدة والإرجاع الكيماوى.
جُهد الأخسدة: جُهد الأكسدة والاختزال.
("كُمون" أو "كامِنة" مُقابِل potential لا بأس بها ، ولكن جرى استخدامُها غالبًا فى مواقع محدَّدة مثل طاقة كامنة potential energy أو potential capacity. الإرجاع تقابل reduction فى الطب "لِلكسور مثلاً" ؛ هنا "اختزال" ل إرجاع).
1714) Setting of cement.
process of hardening of cement.
وضع الملاط – قساوة الملاط:
عملية القساوة التى تطرأ على الملاط المستعمل.
شَكُّ الإسمنت: عملية تصلُّب المِلاط.
1728) Shear strength.
قوة القصّ ، قوّةُ الجَزّ.
المفهوم هنا ليس قوّة القصّ ، أو ما يَقُص ، بل "مُقاوَمة القَصّ".
1806) Solubility.
الانحلالية – قُدرة الانحلال.
الذوبانية أو الذؤوبية: قابلية الذوبان.
(مُصطلح "الانحلالية" يحمل معانى مُتعدِّدة – لعلَّ فيها جميعًا شىءٌ من "الذوبانية").
1882) Sublimation: Direct conversion of water from its solid state to the vapor phase.
تحوُّل من صُلب إلى بخار مباشرةً.(7/16)
"التَّسامى" مُقابل “sublimation” هو المصطلح المُتعارف فى كُلِّ السياقات – المادية والمعنوية. (ويمكن إضافة مصطلح "التصَعُّد" أيضًا هنا كمرادف).
1939) Syncline.
مُقَعَّر – مقعّر جيولوجى – حوض جيولوجى.
مُقعَّر مقابل concave ؛ هنا "قَعِيرة" ، "طَيَّة مُقعَّرة" ، "وَقبة".
2000) Topography: Physical features of a geographical area.
الطوبوغرافيا: المظاهر الفيزيائية لمنطقة جغرافية معيَّنة.
مُقابِل features هنا، الأنسبُ "مَعالِم". أما physical فالمُقابل المناسب لها هنا "طبيعى".
2093) Vesicular: Containing small circular cavities.
تكهُّفى ، ذو فتحاتٍ كهفيَّة : يحوى على كهوفٍ أو تكهُّفات صغيرة دائرية الشكل.
حُويصلى ، مُفَجًّى : يحوى فجواتٍ دائرية صغيرة.
(عندما نتكلم عن vesicular المفهوم هنا تنفُّطات أو مَجلات صغيرة كما على الجلد أو فى النباتات الطافية أو بنية الصخر أو المعدن الإسفنجىّ القوام. مَفهومُ الكهوف شىء آخر).
2117) Washover: Liberating a stuck tool by drilling over it with an overshot (Surforage “F”).
تنظيف عُلوىّ من أجل تحرير مُعدّاتِ حَفر عالِقةٍ فى بئرٍ ما: تحريرُ آلةٍ أو إحدى معدّات الحفر العالِقة فى مكانٍ ما فى البئر وذلك بالحفر فوقها بواسطة آلات مسننة وإخراجها بعد ذلك.
اجترافٌ فَوقىّ: تحريرُ عُدَّةٍ عالِقة بالحَفر فوقها بأداةِ التقاط السواقِط.
(overshot: a fishing tool sued to recover lost pipe in a drilled well).
2224) Xerophyte.
نبات متلائم للحياة مع نقص المياه فى بِنْيته: نبات متلائم بنيويًّا للحياة والنمُوِّ بقدرٍ محدودٍ من الماء وخاصة عن طريق ميكانيكية أو آلية الحد من النتح النباتى أو عن طريق القيام بتخزين الماء فى بِنيته المميَّزة.(7/17)
نباتٌ جفافىّ (*): نبات مُكيَّف للحياة والنموّ بالقليل من الماء بوسائل متنوعة (كتثخُّن الأدمة أو التغشّى الراتينجى أو الزغب الكثيف) تحدُّ من النتج أو تتيحُ إمكانية لاختزان الماء (كنباتات الصحارى والسبخات الملحية أو الحامضية).
*العيِّنات التالية اخترتُها من قراءاتى فى مشروع معجم مصطلحات المياه لعللٍ فى مجالات الدِّراية والفِطنة والمنطق والمُخيِّلة والسليقية…إلخ مِمّا أدرجتُه كأساسيَّةٍ رابعة فى مُتطلبات المصطلحية الفاعلة ، وهذه العيَّناتُ أيضًا لا تخلو – كسابقاتها من خللٍ فى الأساسيّات الأُخرى. فهذه الأساسيّات ، فى الواقع، مترابطة ومتشابكة ومتآثرة بعضُها مع بعضٍ ، وبعضُها فى بعض. إليكُم الأمثلة:
11)Acclivity: Ascending slope.
ارتفاع ( انحدار نحو الأعلى) : ميلٌ باتجاه الأعلى
"حُدورٌ صاعِد" هو المُصطَلح المُناسب.
(فمن الواضح أنّ "ارتفاع" لا تؤدى المعنى المقصود ، وقوُلنا "انحدار نحو الأعلى" ربما صحيح على مقلوبيته ، ولكنه "كلامٌ مُخالفٌ لِمنطق اللغة – الناس يفهمون "انحدر" بمعنى "هبط" و "نزل" و "انحط" ؛ لذا نقول "حدور" ، فنكسِبُها مفهومًا علميًّا مُمَيَّزًا وصورةً فكرية مُستقلة).
590) Driven well: Well driven into loose sedimentary material by impacts of a driving mechanism.
بئر مُساقة – بئر مُقادة (بئر مطروقة): بئر مساقة ضمن مواد مُتفتته عن طريق الثقل والتأثير الخاص بميكانيكية الإقحام والنقل.
هذه البئر لا "مُساقة" ولا "مُقادة" ، فليس السِّياق هُنا سياق "سَوق" أو "قيادة" مثل to drive a car or to drive a campaign بل سياق to drive a nail ؛ والمُصطلحُ المُناسب هو: بئر الدقّ. (وكَوْنُ المُصطلح الإنكليزى يرادِف tube well ‘ فإنى أفضّل "بئر أنبوبية"): بئر تُحفر بدقِّ أنبوب ذى طرفٍ مُدبَّب مُثقَّب عبر طبقاتٍ رِخوة (بآليَّة دقِّ).
829) Geologic conditions(7/18)
شروط جيولوجيَّة (ظروف جيولوجيَّة).
"ظُروف جيولوجيَّة". "شروط" لامُسَوِّغ لها هنا. (بخاصةٍ أنها ترد فى شروح أخرى دون ذِكر ظروف).
913) Gun perforator.
بُندقية ثاقبة (بندقية ثقب الفتحات).
? مِثقب مُسَدَّسى أو مُسدَّسُ ثَقْب.
(صحيحٌ أنّ "بندقية" تُقابل “gun” ، لكن السَّياق هنا يتجاوزها ؛ فما يُستخدَمُ لهذا الغرض لا يُشبِهُ البندقية).
919) Hardness of water. قَساوة الماء.
"عُسر الماء" هو المُصطلح المَنطقىّ والمُتعارف منذُ أجيال.
923) Head water: Upper reach of a stream.
المياه الرأسيَّة: أعلى ما يصل إليه ماءُ مجرًى مُعيَّن.
مياهُ الأعالى أو أعالى النهر (أو المَجرى): على مقرُبةٍ من المنبَع.
(المياه الرأسيَّة تفترِضُ المقارَنة مع المياه الأفقيَّة).
1056) Interdigitation: Lateral interlocking of sedimentary series.
إغلاق إصبعى للصخور: تداخُل وإغلاق إصبعى على جانبى سلسلة صخور رسوبية مُعيَّنة.
تصابع أو تشابك إصبعى أو تواشُج إصبعى. ونشرحه بـ: تشابك جانبىّ لأنماطٍ صخريةٍ رسوبيَّة. (وهكذا نتجنَّب إبهاميَّة الشرح الوارد).
1415) Phreatic decline: Downward movement of water table.
الحركة السفليَّة لِمنسوب الماء: حركةٌ نحو الأسفل لِمنسوب المياه الجوفية.
انخفاض المياه الجوفية: انخفاض مستوى المياه الجوفية.
1428) Piezometer: Pressure reading and measuring instrument.
بئر مراقبة – بيزومتر: جهاز لقياس الضغط وقراءته فى المياه الجوفية.
بيزومتر: جهازٌ لِقياس ضغط السائل قِوامُه أنبوبةٌ يتصل أسفُلها بِقاع الوعاء وأعلاها مفتوح. (ويعجبُ القارئ أن تكون "بئر مراقبة" جهازًا).
1437) Pipe coupling.
وصلة الأنبوب ، وصلات الأنابيب.
(Manchon de tubage “F”).
قارِنةُ أنابيب (ملولَبة الطرفَين).
1468) Pore space: Space occupied by voids, containing gases or liquids in a rock sample.(7/19)
المسافة بين الفتحات الصخرية – المسافة بين الفراغات والمسامات.
المسافة أو الفراغ الذى تحتلُّه الفُتحة أو السُّم ويحوى غازًا أو سائلاً فى عيِّنة صخرية مُعيَّنة.
الحَيِّزُ المَسامى: حيِّزُ الفراغات المليئة بالغاز أو السائل فى عيِّنة صخريَّة.
1499) Puddle: Water collecting in very small surface depressions.
بحيرة صغيرة مستنقعيَّة ، بحيرة وحلية صغيرة: مياه متجمِّعة فى المنخفضات السطحية الصغيرة جدًّا الموجودة على الأرض.
بُرَيكة: مياهٌ قليلة متجمِّعة فى مُنخفضٍ سَطحىّ ضَحل.
(فى المتعارف المألوف لا ينطبق لفظ "بُحيرة" عليها مَهما صَغَّرتَها).
1561) Recipient: Vessel receiving liquid in volume measurements.
الوعاء المُتلقى – وعاء السائل المستلِم: وعاء يتلقى السوائل على شكل مقاييس وقياسات حجمية.
نقبل "الوعاء المُتلقى" ولو أنَّ لفظة "المُتَلَقِّى" أو "المُستقبِل" تكفى وحدها. أما الشرح فغريبُ الصياغة ، وهو قد يُترجَم ببساطة: وِعاء يتلقّى (أو تلقِّى) السائل فى قياسات الحجم (أو القياسات الحجميَّة).
1978) Threshold saturation: Saturation below which no flow occurs.
عتبة الإشباع – بداية الإشباع أو التشبُّع: الإشباع الذى لا يحدث تحته جريان (تدفّق).
إشباعٌ مَشْرِفى. والسِّياق هنا ليس "بداية الإشباع" بل بداية السَّريان – يعنى "مُنتَهى الإشباع" الذى بعدَه يبدأ السَّريان (إذ تكونُ فراغات التربة قد امتلأت وتشبَّعت)، ودونَه لا يحدثُ سَرَيانٌ (وهو ليس تدفُّقَاً هنا).
2031) Tree mold: Hollow mold left by a tree trunk in a lava flow.
جذع الشجرة المُتحجِّر – قالب شجر متحجِّر: قالب متحجِّر ذو ثقب أو فتحة ناتج عن جذوع الأشجار المتبقية فى مناطق تدفُّق الصُّبات البركانية أو اللافا.
قالَب شَجرى: قالَبٌ أجوفُ خَلَّفهُ جذعُ شجرةٍ فى فيضٍ لابىِّ.
(القالَب هنا فراغ كان يملؤه جذعُ شجرةٍ زمنَ الفيض اللابى).(7/20)
2115) Washer.
غاسِل – غسَّالة – رُنديلة وصلٍ معدنية.
(Rondelle “F”).
فَلْكَة. (كمرادف لِ"رُنديلة" ؛ ولا مَجال لِ"غاسِل" و "غَسَّالة").
2227(& 26) Zero adjustment: Adjustment of a scale on a measuring circuit to an original point of departure.
صفر التعديل – صفر الضبط والتنظيم: تعديل وضبط مقياس مُدَرَّج ما أو دارة قياس معيَّنة إلى نقطةٍ أصلية للانحراف.
ضبطُ (قراءة) الصفر: ضبطُ قراءة الصفر فى جهاز القياس.
(المقصود "عملية الضبط إلى قراءة الصفر" وليس "تدريجة الصفر").
*الأساسيَّة الخامسة لعلّها ألفباءُ المنهجيَّة المصطلحيَّة وأبسطُ مُقوِّماتها– وهى تفترضُ التنقيب عن المصطلح المقابلِ المناسب فى المعاجم أو المؤلّفات ذات العلاقة قبل أن يُصار إلى وسائل أُخرى تندرج فيها الأساسياتُ التى أشرت إليها ، ضمنَ
مبادىءَ منهجيةٍ مصطلحيةٍ أخرى–اشتقاقيّةٍ أو مجازية أو تعريبية أو ما سوى ذلك.
واللافتُ أن ثَبَتَ المراجع على غناه بالمراجع الأجنبيَّة(1) نَجِدُه قاصرًا فى المراجع العربية(2) – بخاصة المراجعَ ذاتَ
العَلاقة بعلم المياه التى سبق أن تعرَّفنا بعضَها على صفحات "اللسان العربى"(3) مجلة مكتب التنسيق – بل مجلة أهل العربية على اختِلاف مَشاربهم.
إنَّ عَزْوَ المُصطلحات العربية الواردة فى مشروع المعجم هذا إلى المراجع العربية المذكورة فى مقدمته كمراجع لهذه المصطلحات على قلّتها ، هو إجحافٌ بحَقِّها – إذ أن التعديلات التى أثبَتُّها، فى معظمها، تعكِسُ إلى حَدٍّ مّا فى المعاجم العلمية الثلاثة (بخاصةٍ ثالثها) من تلك المراجع. ولا أجدُ داعيًا لِمزيدٍ من الأمثلة
على هذه الأساسية، بعد الذى قرأته على مسامِعكم منها فى استعراضى للأساسيّات الأربع السالِفة (1)، ففيه الأمثلة الكافية الوافية.(7/21)
أيُّها الزُّملاءُ الذين يُهِمُّهم الأمر: إنِّى أدرى طبعًا أن هذا المشروع كسواه من مشاريع، مكتب التنسيق سيَمُرُّ على ندوةٍ ثُمَّ على مؤتمر تعريب، يُختار أعضاؤهما من خيرة علمائنا.
ولكن ماذا تفعل ندوةٌ فى مدى أربعة أيام عمل لمدارسة مثل مَشروع هذا المعجم، ضمنَ خمسةِ مشاريعَ أُخرى. إنّ أربعًا وعشرين ساعةَ عملٍ لن تكفىَ لإنجاز الكثير أمام خمسة مشاريع، مداخلها تفوق العشرة آلاف مدخل –يعنى أن معدّل الزَّمن المخصّص لدراسة المصطلح من المشاريع الخمسة لن يتجاوز عُشْرَ الدقيقة! إنَّ السِّتَّ أو السّبعَ الثوانى لا تكادُ تكفى لقراءة مادةِ المدخل وشرحِه، فكيف للتداول فيه(2)
والشىء نفسُه يصدُق على مؤتمرات التعريب، فقد أجريتُ عمليةً
حسابية بسيطةً على مجمل ما أقرَّته مؤتمرات التعريب الخمسة (من الثانى إلى السادس)، فبلغ معدّل نصيب المصطلح 4.2 الثانية(3).
... الندواتُ والمؤتمرات ياسادتى فائقةُ الأهمية بالطبع، ومؤتمراتُنا السنوية هنا خيرُ شاهدٍ على ذلك – لكنَّ ما نتداوله هنا هو مادةٌ خضعت لتدارُسِ ومقارنةِ ومُراجعةِ لِجان مُختصّةٍ على مدى اثنى عشرَ شهراً، وتستوفى مناقشةُ المصطلحات خلال المؤتمر عادةً ما تسْتلزمه من وقت. ونحن نرى أن مكتب تنسيق التعريب، بدعم المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مؤهل لتحقيق مِثل ذلك – بانتظار أن يتحقق لنا بعضُ ما سمعناه أو قرأنا عنه من مشاريع كمثل "الجامعة العربية للدراسات" – التى ألمح إليها مرارًا سيادة الدكتور محى الدين صابر(4) الأمين العام السابق للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، أو "مشروع جامعة التعريب"التى دعا،ولا يزال يدعو إليها سيادة رئيس مجمع اللغة العربية(7/22)
الأردنى الزميل الكريم الدكتور عبد الكريم خليفة، أو كأن يتحقق حَلٌّ كان ألمح إليه سيادة الدكتور عبد الهادى أبو طالب المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة فى إمكانية أن يصبح مكتب تنسيق
التعريب السلطة العربية العليا التى تتمثل فيها جميعُ المجامع اللغوية والمؤسساتُ العربية العاملة فى مجال التعريب (*).
أحمد شفيق الخطيب
عضو المجمع المراسل من فلسطين(7/23)
عزاءً، مجمعَ الفصحى، عزاءَ
مضى "شوقي"، لقد لبَّى النداءَ
خَبا ألق الفصيحة بعد شوقي
وكان حِجاهُ يجلوها جَلاءَ
أشوقي كنتَ فى الفصحى مُحيطاً
يفيض لكل مغترفٍ عَطاءَ
عِصاميًّا بدُنْيَا العِلمِ؛ لكنْ
بذذتَ ذوى الشهادات ارتقاءَ
وكنتَ إذا خطبت، فذوبيانٍ
كنور الشمس، يُبْهِرُنا بَهاءَ
وفى نحوٍ وصرفٍ سِيبويه
أحطتَ بكل شاردةٍ ذَكاءَ
وفى أدبٍ ونقد كنتَ عَمْرا(1)
جميل اللفظ والمعنى سَواءَ
وفى الإلقاء سَحبانًا (2)، فنونٌ
بلاغَتُهُ، وساحرةٌ أداءَ
وفى خُلُقٍ سموتَ، فكنتَ شهمًا
وصِدِّيقاً، وأخلصتَ الوفاءَ
وكنتَ لكل من ترعى حميمًا
وللمَكروب أُنساً أو عَزاءَ
وللأبناء كنتَ أَبًَا بَذولاً
وكم قد سُغتَ فى ذاك العناءَ
ويحسَبك الذى يلقاك بَدْهاً(3)
خَلِىَّ البال، موفورًا ثراءَ
وأَعرف كم صبرتَ على بلاءٍ
وكم أبليتَ فى الدنيا بلاءَ
وما جَهِمَ المحيّا منك يومًا
ولكنْ مُحسنٌ أبدًا لقاءَ
وكنتَ إذا مزحتَ، ففى رُقيّ
وما جرحَتْ دُعابتُك الحياءَ
خفيفَ الرُّوح كنتَ، وذا مِراحٍ
كأنَّك لم تَذُق أبدًا شقاءَ
عهدتُك يا أخى لم ترضَ ضيمًا
ولم تبعِ الكرامة والإباءَ
نزيهًا كنتَ فى عمل وقولٍ
وأصلاً فى المبادئِ وانتهاءَ
وذا عزم إذا ما جَدَّ جِدٌّ
وأول من يُرى يُعلى اللواءَ
وَداعاً عاشقَ الفصحى، ومن كا
ن حاميها، ومخلصها الولاءَ
رحيلك يا أُخىَّ أصاب كِبْدِِى
وفجَّعنى، ولوَّعنى بُكاءَ
فيا شوقى،إلى جَنَّاتِ خُلدٍ
بما قدَّمتَ، تلقاها جزاءَ
ويا شوقى، لقد أوحشتَ ذاتى
فصارت بلقعًا، قفرًا، خَواءَ
ويا " شوقى أمين " متى لقاءٌ
فإنى بتُّ أرجو ذا اللقاءَ
محمد يوسف حسن
عضو المجمع
__________
(1) عمرو بن بحر الجاحظ كاتب العربية وأديبها الأكبر .
(2) سحبان بن وائل : أشهر خطباء العرب ( جاهليّ ) يضرب ببلاغته المثل .
(3) بدهًا : مفاجأة .(8/1)
هذا الشعرُ الجاهلى المُعْجِب ، الذى لم أرَ – فى ما قرأتُ من شعر الأمم – أقْدَرَ منه على سَبَرْ أغوار النَّفْس ، ولا أصدْقَ منه فى وصف طبائعِ الأشياء .. يطيبُ لى أن أستشهِدَ منه اليومَ ببيتٍ للحارث بن حلِّزة اليَشْكُرى يقول فيه:
إنَّما العَجْزُ أن تَهُمَّ ولا تفعلَ
(م)والهَمُّ ناشِبٌ فى الضميرِ
فهو – لله درُّه – يَصفُ فى ما يَصف ، موقفاً من مواقف النفس البشرية ، يَتَمَخَّضُ فى طَورَيْن اثنَيْن يًمرُّ بهما الإنسان، وتَمُرُّ بهما الجماعة كذلك ، فى النهوض بأىِّ أمرٍ من الأمور: طورِ الهَمِّ: "تَهُمّ" ، وطورِ الفعل: "تَفْعَل"! وقد صحَّ عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم – فى ما رواه أبو داوود – أن أصدق الأسماء حارث وهَمَّام. فالهَمُّ صفةٌ لازمةٌ من أصدق صفات الإنسان ، وطورٌ نفسى لابُدَّ منه استعداداً لطور الفعل ، ولكنه "شرطٌ لازمٌ غيرُ كافٍ" كما يقولون. فما
لم يخرج المرَءُ من طور الهمِّ إلى طور الفعل، لم يكن لهَمِّه هذا أىُّ أثر، وأنا أزعُمُ أنَّنا – فى مجال توحيد المصطلَحِ العلمىِّ العربىِّ – مازلْنا فى طَوْر الهَمِّ ، على كثرة ما عَقَدَنْاه من مؤتمرات، وما أصدَرْناه من قرارات وما استَنْفَرْناه من حُلَفاء.. ولن ينفَعَنا ولن يَنْفىَ العجزَ عنا أن يكون همُّنا هذا ناشباً فى ضمائرنا ، مالم ننتَقلْ به إلى طَوْرِ "الفعل" العتيد.
... نَعَمْ ، قد تَرىَ فى بعض ميادين العلم محاولات جادَّةً لهذا التوحيد ، ولكنها ستظلُّ قاصرةً إذا لم يُتَّفَقْ على نهجٍ لا حبٍ يسلُكُه العلماء المعرِّبون كلُّهم أجمعون ، ترعاه مؤسسةٌ ذات سُلطَانِ لغوى جَمَاعى كهذا المَجْمَع الموقَّر أو اتحاد المجامع.
... وقضيةُ السلطان الجماعىِّ هذه ،(9/1)
قضيةٌ تطرَّقْتُ إليها على عَجَلٍ ولَمَسْتُها لَمْساً رَفيقاً قبل بضْع سنين ، يومَ تحدَّثتُ فى مجمع اللغة العربية الأردنى عَمَّا أسميتُه "نظرية الضرورة العلمية". وأنا عائدٌ إليها الآن إن شاء الله وإلى " نظرية الضرورة باختصار "، فلكلتيهما شأنٌ كبير فى ما نحن بصَدَدِه اليوم.
... فقد تواطَأ علماءُ العربية منذُ عهد الخليل ، على أنَّ لهذه اللغة الشريفة أصلاً كان عليه بنيانها. وذلك وجهٌ من أهمَّ أوجُه عبقرية الخليل ، وبُعْدٌ رائع من أبعاد ذهنيَّته الرياضية الفذَّة ، تلك الأبعاد التى لانكاد نعرف لها مُجْتَمعَةً نظيراً فى عباقرة الأمم جميعاً. وقد كان للخليل – رحمه الله – فَضلُ ابتكار هذا التصوُّر الذى تقبَّل ظلالَه علماء العربية من بعده. ويُخيَّل إلىَّ أنه بفضل ذهْنه الرياضى الفَريد ، قد قام بعملية استيفاء راجع مُدْهِشَة ، تابَعَه فيها سيبويه ومن جاء بعده ، وتوصَّلوا منها إلى صرح جميل كأنه ممرَّد من قوارير ، لاترى فيه عِوَجاً ولا أَمْتاً ، ولا تُحِسُّ فيه شذوذاً ولا خَلَلاً.
... وهذا التصوُّر أشار إليه ابن جِنِّى فى "الخصائص" [1/64] فقال: "اعلم أن واضع اللغة لما أراد صَوْغَها ، وترتيبَ أحوالها ، هَجَمَ بفكْره على جميعها ، ورأى بعَيْن تصوُّرِهِ وُجوهَ جملها وتفاصيلها ، وعَلمَ أنَّهُ لابُدَّ من رَفْضِ ما شَنُعَ تألُّفه منها… فنَفَاه عن نفسه ، ولم يُمْرِرْه بشىء من لفظه…".
... وبمثل ذلك قال خَلْقٌ من علماء العربية كثير. وكانوا ينطلقون دائماً من وجود هذا الأصل – الصَّرْح ، الذى يتَّصف بالحُسْن والجمال ، بل كادوا يَصِفونه كذلك بالكمال.(9/2)
... وكان من مكمِّلات تصورُّهم هذا وجودُ موقفٍ موحَّد يَقِفُه جميع واضعى اللغة ، حتى عبَّروا عن ذلك – كما صنع ابن جنى – بلفظ الواحد: "واضع اللغة". "وذلك لأن العربَ وإنْ كانوا كثيراً مُنْتَشِرين ، وخَلْقاً عظيماً فى أرض الله غيرَ مُتَحَجِّرين ولا مُتَضَاغطين ، فإنهم بتجاوُرهم وتَلاَقيهم وتَزَاوُرهم يَجرونَ مَجرى الجماعة فى دار واحدة…". [الخصائص: 2/15]
... وما كان لمثل هذه "الجماعة اللغوية" فى نظرهم أن تَرْتَكبَ خِلافَ الأوْلى .."وكيف كانوا يكونون فى ذلك
على ضعف من القياس والجماعةُ عليه؟! أفَتُجْمِعُ كافَّةُ اللغات على ضعف ونقص؟..". [الخصائص: 2/15]
... ".. وذلك أنهم وَزَنوا حينئذٍ أحوالَهم ، وعَرَفوا مصايرَ أمورهم ، فعلموا أنَّهم مُحتاجون إلى العبارات عن المعانى ، وأنَّها لاَبُدَّ لها من الأسماء والأفعال والحروف ، فلا عليهم بأيِّها بدءوا ، أبالاسم أم بالفعل أم بالحرف ، لأنهم قد أوْجَبَوا على أنفسهم أن يأتوا بهنَّ جُمَع ، إذا المعانى لا تستغنى عن واحد منهن! هذا مذهبُ أبى على ، وبه كان يأخذ ويُفتى.." [الخصائص: 2/30]
... وذلك أن للأشياء أصولاً" كما يقول المبرِّد فى "المقتضب" [1/383].
... وقد تبيّن لهم أن "الأصل" فى الأسماء أن تُنَوَّن وأن تَدْخُلَها حركة الجَرِّ ، وأن "الأصل" فى الأفعال أن تُبنى. فالأفعالُ – كما يقول سيبويه [1/6] – أثقل من الأسماء ، لأن الأسماء هى الأوَل وهى أشدُّ تمكُّناً ، فَمِنْ ثَمَّ لم يلحَقْها [أى الأفعال] تنوينٌ ولَحِقَها الجزم والسكون"… والأفعالُ كلُّها – كما يقول أبو سعيد السيرافى [1/4] "حقُّها أن تكون مسكنةَ الأواخر ، والأسماءُ كلُّها حَقُّها أن تكون مُعْرَبة".(9/3)
ولكن علماء العربية لم يلبثوا أن تبيّنوا أن "واضع اللغة" لم يكن من البلادة بحيث يضع اللغة ويستريح ، وإنما هو "واضعٌ نشيط حَرِك" لم يعجبه أن يجمُد على ما توصل إليه من بنيان ، وإنما أخذ يُهَنْدِمُه من هنا ويُشَذَبْهُ من هناك ، حتى يبلغ به غايةَ الجمال.
... "وكان أبو الحسن يذهب إلى أن ما غُيِّر لكثرة استعماله إنما تصوّرَتْهُ العرب قبل وضعه ، وعلمت أنه لابُدَّ من كثرة استعمالها إياه ، فابتدءوا بتغييره ؛ علماً بأن لابُدَّ من كثرته الداعية إلى تغييره". [الخصائص: 2/31]
... ولعل من أبرز ملامح هذه الظاهرة أى النحو باللغة منحى الجمال ، ما يُطلقون عليه طلب الخِفّة أو الاستخفاف ، أو النأى عن الاستثقال.
... واستمع إن شئت إلى ابن جنى فى الخصائص [1/125 . 249] وهو يحدّثك عن شيخه أبى علىٍّ "عن أبى بكر عن أبى العباس أنه قال: سمعت عُمارة بن عَقيل يقرأ "ولاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارَ" بالنَّصب. قال أبو العباس: فقلت له: ما أردتَ؟ فقال: أردتُ (سابقٌ النَّهارَ) فقلت له: فهلاّ قُلْتَه؟ فقال: لو قُلْتُه لكان أوْزَن. ففى هذه الحكاية لنا ثلاثة أغراض مستنبَطة منها: أحدها تصحيحُ قولنا: إن أصل كذا كذا ؛ والآخَرُ قولُنا: إنها [أى العرب] فَعَلَتْ كذا لكذا ، ألا تراه إنما طلب الخفَّة؟ يدلُّ عليه قولُه: لكان أوْزَن أى أثْقَلَ فى النفس وأقوى ، من قولِهم: هذا درهمٌ وازن، أى ثقيل له وزن ؛ والثالث أنها [أى العرب] قد تنطق بالشىء: غيرُه فى أنفُسها أقوى منه ، لإيثارها التخفيف".
... "وكان الخليل يجيز خطايا وما أشبهه على قولهم فى مِدْرَى: مَدارَى ، وفى صحراء: صَحَارَى لا على الأصل ولكنه يراه للخِفَّة أكثر". [المقتضب: 1/279]
... "ومن ذلك قولهم: (عَمْبَر) ، أبدلوا النون ميماً فى اللفظ وإن كانت الميم أثقل من النون ، فخُفِّفت الكلمة ، ولو قيل (عَنْبر) بتصحيح النون لكان أثقل". [الخصائص: 3/20](9/4)
ومثل عَمْبر: "قَمْبَض" و "شَمْباء". [المخصص: 2/73]
... "واعلم أن التضعيف مستثقَل… وقومٌ من العرب إذا وقع التضعيف أبدلوا..". [المقتضب: 1/381]
... ومن أمثلة العُدول عن الأصل لوجه الجمال أيضاً أن الكوفيين أجازوا قلب الياء الأصلية واواً ، فأجازوا فى تصغير شيخ "شُوَيْخاً" كما أجازوا قلب الألف المنقلبة عن ياء واواً ، كما فى ناب و"نُوَيْب" واستدلّوا على ذلك بأنه سُمِع "بُوَيْضة" تصغيراً لبيضة. وقالوا كذلك "عُوَيْنة" فى تصغير العين. ولاشك فى أن الكوفيين قد جَنَحوا لذلك استخفافاً ، لخفة النطق بالواو بعد الضمّة واستثقال النطق بالياء بعدها ، إذ الضمة والواو أختان متجانستان، أما الضمة والياء فمتنافرتان.
... ومن أمثلة ذلك أنهم "أجازوا الحذفَ فى بعض المواضع استخفافاً" [الخزانة: 1/18] ؛ وأنه "إذا كان الحرف لا يتحامل بنفسه ، حتى يدعو إلى اخترامه وحذفه ، كان بأن يضعف عن تحمّل الحركة الزائدة عليه أحرى وأحجى. وذلك نحو قول الله تعالى: "وَاللَّيْلِ إذَا يَسْرِ" و "ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ" ، و "الكَبِيرُ المُتَعَالِ" ، وقوله:
… … … … وما
قَرْقَرَ قُمْرُ الوادِ بالشاهقِ
وقال الأسود بن يعفر:
* فألحقتُ أُخراهم طريقَ أُلاهُمُ *
بلا واو للوقف عليها كذلك…".
[الخصائص: 2/292] "وحُذفَتْ [أحرف العلّة] أيضاً استخفافاً ، كما تحذف الحركة لذلك … وقال رؤبة:
* وصّانِىَ العجَّاج فيما وَصَّنى *
... يريد: وصّانى ، وقال الله عزّ اسمه: "واللَّيْلِ إذا يَسْرِ" وقد تقدّم نحوُ هذا ؛ فنظير حَذْف هذه الحروف للتخفيف حذفُ الحركات أيضاً ، فى نحو قوله:
* وقد بدا هَنْكِ من المئزرِ *
وقوله:
* فاليومَ أشربْ غير مستحقِبٍ *
وقوله:
* إذا اعوجَجْن قلتُ صاحِبْ قوِّمِ *
وقوله:
* ومَنْ يَتَّقْ فإن الله مَعْهُ *
وقوله:
* أو يرتبطْ بعضَ النفوس حِمامُها *
[الخصائص: 2/316 ، 317](9/5)
".. ومنه إسكانُهم نحو رُسُلٍ ، وعَجُزٍ ، وعَضُدٍ ، وظَرُفَ ، وكَرُمَ ، وعَلِمَ ، وكَبِد، وعُصر. واستمرارُ ذلك فى المضموم والمكسور دون المفتوح ، أدَلُّ دليلٍ – بفصلهم بين الفتحة وأختَيْها – على ذَوْقِهِمُ الحركات ، واستثقالهم بعضها واستخفافهم الآخر. فهل هذا إلا لإنعامهم النظر فى هذا القدر اليسير المحتَقَر من الأصوات ، فكيف بما فوق من الحروف التَوَامّ ، بل الكلمة من جملة الكلام؟!". [الخصائص: 1/75]
... ومن ذلك قراءة أبى عمرو بن العلاء فى قوله تعالى: "فَتُوبُوا إلى بَارِئْكُمْ" [البقرة: 54] بإسكان الهمزة فى "بَارئْكُمْ" ومثلها "يَنْصُرْكُمْ" و "يَجْمَعْكُمْ" و "أسْلحَتْكُمْ" رُوىَ ذلك كله بالتسكين. [الحجة فى القراءات السبع لابن خالويه: 54]
... وهكذا تبيّن لعلماء اللغة ، أن ثمّة نزوعاً دائماً إلى الخروج على الأصل،ثم إلى الخروج على القياس على الأصل ، وتلك عملية طبيعية تزاولها الجماعة ويزاولها الأفراد ، وتتجلى فيها حيوية اللغة، فإذا مارسَتْها العربُ جماعةً كانت مقبولةً على الإطلاق وحلَّتْ محلّ الأصل.. وإذا مارسها الأفراد مقبولة فى بعض الأحوال وأُطْلِقَ عليها اسم "الضرورة".
... وإنما يحدث ذلك بآلية يُطلق عليها الخليل وسيبويه اسم "التشبيه" ، ويطلق عليها نحاةٌ آخرون اسم "الحمل"، فكأن بنيان العربية نفسه ليس ببنيان راكدٍ خامل، ولكنه بنيانٌ متفاعلٌ حَرك. ففيه مستويات مختلفة من التعبير ، تَتَواثَبُ بينها الكَلِمُ استجابةً لسَطْوَةِ الجمال أو سُلطان النَّغَم ، كتلك المستويات المختلفة من الطاقة فى نواة الذرّة ، تَتَواثَبُ بينها الذُرَيْرات من جرَّاء سطوة طاقة خارجية ترتفع بها من مستوى إلى آخر ، كما أن فيه ساحاتٍ كحقول الجاذبية ، تجذب البُنى المتشابهة بعضها إلى بعض.(9/6)
... وآلية الجاذبية هذه تراها مثلاً فى ما ذكره ابن جنى عند حديثه عن "دِيمة" و"دِيَم"… إلى أن قالوا: دَيَّمَت السماء ودوَّمت ؛ فأما "دوَّمَتْ" فعلَى القياس وأما "ديَّمَتْ" فلاستمرار القلب فى ديمة وديم… إلى أن يقول: "حَمْلُه على الإبدال أقوى ؛ ألا ترى أنه قد حُكِىَ فى مصدره "دَيْماً"؟ فهذا مُجْتَذَبٌ إلى الياء مُدَرَّجٌ إليها مأخوذٌ به نحوها". [الخصائص: 1/355]
... واستَمِعْ – إن شئتَ – إلى قول سيبويه [1/93]: "وقد يشبِّهون الشىءَ بالشىءِ وليس مثلَه فى جميع أحواله ، وسترى ذلك فى كلامهم كثيراً". وقوله [1/130]: "يشبِّهون الشىء بالشىء وإن لم يكن مثله ولا قريباً منه ، وقد ذكرنا ذلك فى ما مضى وسنذكره أيضاً إن شاء الله". وقوله [1/6]: "اعْلَمْ أنَّ ما شارَعَ الفعل المضارع من الأسماء فى الكلام ووافَقَه فى البناء ، أُجْرِىَ لفظُهُ مُجْرى ما يستثقلون ، ومنعوه ما يكون لما يستَخِفُّون ؛ فيكون فى موضع الجرِّ مفتوحاً: استثقلوه حيث قارب الفعل فى الكلام ووافقه فى البناء ، وذلك نحو: "أبيض" و "أسود" و "أصفر" فهذا بناء "أذهب" و "أعلم".
... فهذا الذى أسلفناه يبيّن خروج الجماعة اللغوية على الأصل لِوَجْه الجمال.
... ولكن الجماعة اللغوية تخرج على الأصل أيضاً لوجه الدقة العلمية. "وذلك أن العرب كما تُعنى بألفاظها فتُصلحها وتهذِّبُها وتُراعيها وتلاحظ أحكامها ، بالشعر تارةً ، وبالخُطَبِ أخرى ، وبالأسجاع التى تلتزمها وتتكلّف استمرارها ، فإن المعانى أقوى عندها ، وأكرمُ عليها ، وأفخمُ قدرْاً فى نفوسها". [الخصائص: 1/215](9/7)
... وفى ذلك أيضاً يقول ابن جنى: "وأما غير هذه الطريق من الحمل على المعنى وترك اللفظ ، كتذكير المؤنث وتأنيث المذكر وإضمار الفاعل لدلالة المعنى عليه ، وإضمار المصدر لدلالة الفعل عليه ، وحذف الحروف ، والأجزاء التَوَامّ ، والجمل ، وغير ذلك ، حملاً عليه وتصوُّراً له ، وغيرُ ذلك مما يطول ذكره ويُمِلُّ أيْسَرُه ، فأمرٌ مُسْتَقِرٌّ ومذهبٌ غير مستنكَر". [الخصائص: 1/237]
... ويقول فى "فصل الحمل على المعنى": "اعلم أن هذا الشَّرْجَ غَوْرٌ من العربية بعيد ، ومذهبٌ نازحٌ فسيح ، قد وَرَدَ به القرآن وفصيحُ الكلام منثوراً ومنظوماً ، كتأنيث المذكر ، وتذكير المؤنث ، وتصوُّر معنى الواحد فى الجماعة ، والجماعة فى الواحد ، وفى حمل الثانى على لفظ قد يكون عليه الأول ، أصلاً كان ذلك اللفظ أو فرعاً ، وغير ذلك مما تراه بإذن الله". [الخصائص: 2/411]
... ومن أمثلة ذلك مسألة "ما" التى تعمل عمل "ليس". قال سيبويه [1/28]: "هذا باب ما أُجرِىَ مُجْرَى "ليس" فى بعض المواضع بلغة أهل الحجاز ، ثم يصير إلى أصله ؛ وذلك الحرف "ما": تقول: "ماعبدُ الله أخاك" و "مازيدٌ منطلقاً". وأما بنو تميم فيُجرونَها مُجْرَى "أمَا" و "هل" وهو القياس ، لأنها ليست بفعل ، وليس "ما" كـ"ليس" ، ولا يكون فيها إضمار. وأما أهل الحجاز فيشبّهونها بـ"ليس" ، إذْ كان معناها كمعناها".
... وقال ابن جنى "..اللغةُ التميميَّةُ فى "ما" هى أقوى قياساً وإن كانت الحجازيّة أسْيَرَ استعمالاً… فمتى رابك فى الحجازية ريبٌ من تقديم خَبَر أو نقضِ النقى ، فَزِعْتَ إذ ذاك إلى التميمية ؛ فكأنك من الحجازية على حَرْد ، وإن كَثُرَتْ فى النظم والنثر". [الخصائص: 1/125](9/8)
... "وسَبَبُ هذه الحمول والإضافات والإلحاقات كثرةُ هذه اللغة وسَعَتُها ، وغَلَبة حاجةِ أهلها إلى التصرُّف فيها ، والتَّرَكُّح فى أثنائها لما يلابسونه ويُكثرونَ استعماله من الكلام المنثور ، والشعر الموزون ، والخُطَب والسُّجوع ، ولقوَّة إحساسهم فى كل شىء شيئاً ، وتخيُّلهم ما لايكاد يشعر به من لم يألف مذاهبهم". [الخصائص: 1/125]
ومن أمثلة ما عَدَلت به العرب عن الأصل، للتفرقة والفصل بين معنى ومعنى ، تصغير الأسود (اللون) على "أُسَيِّد" والأسود (اللحيّة) على أُسَيْوِد ، وقالوا كذلك فى العَلَم "حَيْوَة" تمييزاً عن "الحيّة" الثعبان ، وقالوا فى تصغير عيد "عُيَبْد" ولم يقولوا "عُوَيْد" منعاً لالتباس تصغير "عيد" بتصغير "عود".
... ومن هذا الضرب فى القراءات قراءة أبى عمرو: "وَمَنْ كَانَ فى هذه أَعْمَى فَهُوَ فى الآخرَة أَعْمَى وَأضَلُّ سَبِيلاً" [الإسراء: 72] بإمالَة "أعمى" الأولى ، "وعلة أبى عمرو فى فتحه الثانى أنه اسمٌ فى موضع المصدر ، والأول ليس بمعنى المصدر، فَأمال الأول وفَتَح الثانى للفرق" [الكشف عن وجوه القراءات السبع لمكى بن ابى طالب]
ومما يغيَّر لوجه الجمال تارةً ولوجه الدقة العلمية تارات: باب النسب.
ففى "اللسان" [ح ر م] عن الأصمعى قال:
... "والنَّسَب فى الناس إلى الحَرَم حِرْمىّ بكسر الحاء وسكون الراء ، فإذا كان فى غير الناس قالوا: ثَوبٌ حَرَمى.. وذلك للفرق الذى يحافظون عليه كثيراً ويعتادونه فى مثل هذا".
ومثله فى "اللسان" [و أ ب] عن ابن برىّ:
... "المَرَئِىّ منسوب إلى امرئُ القيس على غير قياس ، وكان قياسَه مَرْئِىّ على وزن مَرْعِىّ" ولكنهم أخرجوه على هذا الوزن ليفرقوا بينه وبين ما يُرى.
وفى المُمْتع "للنهشلى القيروانى" [140،145]:(9/9)
"عن أبان بن ثعلب وكان عُرْبانيًّا عن عكرمة عن ابن عباس إلخ… قوله: "عُرْبانيًّا" فإن هذه الألف والنون تُزادان فى النسبة ليفرقوا بين العربىِّ اللهجة والعربى النَّسَب".
وفى "التلخيص" "لأبى هلال العسكرى" [1/269]:
"بيتٌ أرْبَعَاوىّ: بُنِىَ على أربع طرائق"
وفى "اللسان" [ب ك ر]:
"وبنو بَكْر فى العرب قبيلتان. إحداها بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة ، والأخرى ابن وائل بن قاسط ، وإذا نُسِبَ إليهما قالوا "بَكْرىّ". وأما بنو بكر بن كلاب فالنسبة إليهم "بكراويّون".
ومثله [ع م ر]:
"العَمْرِىُّ بالفتح نسبة إلى عَمْرو. والعَمْرويّة فرقة من المعتزلة منسوبون إلى عمرو بن عبيد".
"وقد تشتقُّ العرب من الاسمين اسماً واحداً لاجتناب اللَبْس ، وذلك لكثرة ما يقع "عبد" فى أسمائهم مضافاً ، فيقولون فى النسب إلى عبدالقيس: عَبْقَسِىّ ، وإلى عبدالدار: عَبْدَرِىّ ، وإلى عبدشمس: عَبْشَمِىّ…". [المقتضب: 3/133]
ويرى ابن السِّيد البطليوسى فى "الاقتضاب" [157] "أن العرب ربّما حاكَت المعنى باللفظ الذى هو عبارةٌ عنه فى بعض المواضع. ويوجد ذلك تارةً فى صفة الكلمة وتارةً فى إعرابها. فأما فى الصفة ، فقولُهم للعظيم اللحية: لحْيَانىّ وكان القياس أن يقول لحْيىّ ، وللعظيم الرقبة: رَقَبَانى والقياس رَقَبى ، وللعظيم الجُمَّة: الَجُمَّانى والقياس جُمِّى ، فزادوا فى الألفاظ على ما كان ينبغى أن يكون عليه، كما زادت المعانى الواقعة على نظائرها".
ومثل ذلك عند المبرّد: "فى كثير الشَّعر: شَعْرانىّ" [المقتضب: 3/144] ، وعند ابن سِيده فى "المخصّص": "سَبَلانى: ضخم السَبَلة" [1/65] ، و"رجل كَلَمانى: جيّد الكلام ، فصيح" [2/122] ، و"مَنْظَرانى: حَسَنُ المنظر" [2/154] ، وكذلك "مَخْبَرَانى" [4/180] ، و"سيف هُنْدُوانى: منسوب إلى الهند" [6/25] ، وفى "اللسان" [أ ن ف]: "رجل أنافىٌّ: عظيم الأنف ، وعُضَادىٌّ: عظيم العَضُد ، وأُذَانىٌّ: عظيم الأذن".(9/10)
ويقول المبرّد فى "المقتضب" [3/145]: "واعلم أن أشياءَ قد نُسِبَ إليها على غير القياس للَّبْس مرةً ، وللاستثقال أخرى ، وللعلاقة أخرى. والنسب إليها على القياس هو الباب. فمن تلك الأشياء قولهم فى النسب إلى زَبينة: زَبَانىّ وإنما الوجه: زَبَنىّ … ومن ذلك قولهم فى النسب إلى الشام واليمن: يَمَانٍ يافتى ، وشَامٍ يافتى، فجعلوا الألف بدلاً من إحدى الياءَين ، والوجه: يَمَنى وشامى. وقالوا فى النَّسَب إلى تهَامة: تهامىٌّ فاعلم ، ومن أراد العوَض غيَّر ، ففتح التاء ، وجَعَلَ تهامةَ عَلى وزن يَمَن فتقديره: تَهَم فاعلم ، ويقال فى النسب إليه تَهَامٍ فاعلم ؛ ففتحه التاء تبيّن لك أن الاسم قد غُيِّر عن حدِّه".
وقد أنشد أبوالعباس المبرّد فى "الكامل" [1/316] بيت إسحاقَ بن خَلَفٍ فى وصف لحية:
كالأنبِجانىِّ مصقولاً عواضُها
سوداء فى لين خد الغادة الرُّودِ
... "ولم يُنْكَر ذلك – كما يقول ابن السِّيد فى "الاقتضاب" [222] – وليس فى مجيئه مخالفاً للفظ مَنْبِج ما يُبطل أن يكون منسوباً إليها ، لأن المنسوب يَرِدُ خارجاً عن القياس كثيراً ، كمَرْوَزِىٍّ ورازِىٍّ ونحو ذلك".
وفى مقابل ذلك روى ابن سيده عن الأصمعى: "كساءٌ مَنبجانى: منسوبٌ إلى مَنْبِج ؛ قال أبو حاتم: فقلت له: لِمَ فتحتَ الباء وإنما نسبتَ إلى منبِج؟ قال: خَرَجَ مخرج منظَرانى ومخبَرانى * على * ألا ترى الزيادة فيه والنَّسَب مما يغيَّر له البناء؟!". [اللسان: ن ب ج].
"وفى الحديث أنه مرَّ وعليه "قُشْبانيَّتان"… وكأنه منسوب إلى قُشبان جمع قشيب خارجاً عن القياس لأنه نَسَبٌ إلى الجمع. قال الزمخشررى: "كونُه منسوباً إلى الجمع غيرُ مَرْضىّ ، ولكنه بناء مُسْتَطْرَف للنسب ، كالأنبجانى". [اللسان: ق ش ب](9/11)
خلاصة القول أن الجماعة اللغوية تخرج عن الأصل لوجه الجمال تارةً ، ولوجه الدقة العلمية تارةً أخرى ، أو قُلْ: عنايةً باللفظ خَطْرةً ، ومراعاةً للمعنى خَطْرةً أخرى. حتى قال ابن السِّيد البطليوسى فى "الاقتضاب" [281]: "إن الأصول قد تُرْفَضُ حتى تصيرَ غيرَ مستعمَلة ، وتُستعمل الفروع ، كرفضهم استعمال أيْنُق وقِسِىٍّ وأشياءَ وأعيادٍ على الأصل".
فأنتَ ترى قوَّة السلطان الجماعى فى الخروج على الأصل ، ومن أجل ذلك أزعم أننا بحاجة إلى مثل هذا السلطان فى ما نحن بصدده ، وسأعود إلى ذلك – إن شاء الله – بعد قليل.
ما الذى يحدث الآن عندما يمارس الأفراد ما مارسته الجماعة؟
إن هذا هو الذى يطلقون عليه اسم "الضرورة" ، وهى تتجلى فى اتجاهَيْن اثنَيْن: الاتّجاه الأول هو الخروج على الأصل اقتداءً بما فَعَلَتْهُ الجماعة اللغوية فى بعض الأحوال ، والاتّجاه الثانى هو العودة إلى الأصل ببعض ما أخرجته الجماعة اللغوية عن أصله.
يدلُّنا على الاتّجاه الأول بعضُ ما قال سيبويه [8:1-10]: "اعلم أنه يجوز فى الشعر ما لا يجوز فى الكلام منْ صَرْف ما لا يَنْصرف: يشبّهونه بما يَنْصرف من الأسماء… وحَذْفَ ما لا يُحذف: يشبّهونه بما قد حُذِف واستُعمل محذوفاً… وربَّما مدّوا مثل مساجد ومنابر… شبّهوه بما جُمِعَ على غير واحده فى الكلام… ومن العرب مَنْ يثقّل الكلمة، إذا وقف عليها ولا يَثَقِّلُها فى الوصل ، فإذا كان فى الشعر فهم يُجرونه فى الوصل على حاله فى الوقف…" إلى أن يقول فى شبه قاعدة [1/11-12]: "وليس شىءٌ يُضطرّون إليه وهم يحاولون به وجهاً".(9/12)
أما الاتّجاه الثانى فى مسيرة الضرورة ، فهو اتّجاه معاكس لعملية الخروج الجماعية على الأصل: هو ردٌّ إلى الأصل أو إجراءٌ عليه ، يصدر عمّا أودعه الله سبحانه فى سليقة الشاعر من تراث الجماعة اللغوية ، فيجعله يعود إلى الأصل متهدّياً بهَدْى هذه السليقة. فمن كلام الخليل فى ما يرويه سيبويه [2/59]: "كما قالوا حين اضطروا فى الشعر فأجروه على الأصل" ومن كلام سيبويه [2/161]: "واعلم أن الشعراء إذا اضطروا إلى ما يجتمع أهل الحجاز وغيرُهم على إدغامه أجروه على الأصل… وهذا فى الشعر كثير". ومن كلام المبرِّد: "الضرورة تَرُدُّ الأشياء إلى أصولها" [المقتضب: 3/354]. والقاعدة فى ذلك كما يضعها المبرّد: "ويكفيك من هذا كله ما ذكرتُ لك من أن الشاعر إذا اضطُرَّ رّدَّ الأشياء إلى أصولها" [المقتضب: 1/282]. وهو قد أمعن فى ذلك حتى أجاز فى الضرورة الرجوعَ إلى الأصل مطلقاً وإن لم يَرِدْ به سماع.
تجد ذلك فى مثل قوله:
"إذا اضطر شاعرٌ جازَ له أن يَرُدَّ مبيعاً وجميع بابه إلى الأصل فيقول: "مبيوع"… فأما الواو ، فإن ذلك لا يجوز فيها… هذا قول البصريين أجمعين ، ولست أراه ممتنعاً عند الضرورة" [المقتضب: 1/239].
"وحكى الفرّاء عن الكسائى أنَّ بنى يربوع وبنى عقيل يقولون "حَلْىٌ مصووغ" بواوَيْن ، وثوب مَدْووف ، وثوبٌ مَصْوون، وفرسٌ مقوود ، وقولٌ مقوول. وأما البصريون فلم يعرفوا شيئاً من هذا" [الاقتضاب:275]. والحق أنه ليس قول البصريون أجمعين ، فسيبويه يقول [2/367]: "وقد جاء مفعول على الأصل فهذا أجدر أن يلزمه الأصل قالوا: مخيوط ولا يُستنكر أن تجىء الواو على الأصل".(9/13)
وأنا لا أفهم من الضرورة الشعرية – كما فهم بعض النحاة – أنها "ماليس للشاعر عنه مندوحة" ، وأنها أمر كريه مستقبح ، يُلجأ إليه الشاعر إلجاءً كما يُلجأ المضطر فى مخمصة إلى أكل المنخنقة أو الموقوذة ، ولا أقول مع أبى الفتح: :إن العرب قد تلزم الضرورة الشعر فى حال السعة أُنساً بها واعتياداً لها وإعداداً لذلك عند وقت الحاجة إليها [الخصائص: 3/303]، وإنما أفهم منها كما فهم الجمهور – على ما يذكره البغدادى فى "الخزانة" [1/15] – أنها " ما وقع فى الشعر دون النثر ، سواء كان عنه مندوحة أو لا".. بل أفهم منها أكثر من ذلك: أنها – كالوزن والقافية – مَئِنَّة امتلاك ناصية الشعر والتمكُّن من التصرّف فيه.
ولقد وَهِم من وَهم من علماء العربية – فى ما يخيَّل إلىّ – حين قاسوا الضرورة الشعرية على الضرورة الشرعية ، وما هى فى حقيقة الأمر بذاك ، ولكنها – فى ظنّى – كالذى قال الأخطل:
لكلِّ قرارةٍ منها وفَجٍّ
أضاةٌ ماؤها ضَرَرٌ يمورٌ
قال ابن الأعرابى: ماؤها ضَرَر أى نمير فى ضيق ، وأراد أنه غزير كثير فمجاريه تضيق به وإن اتّسعت. [اللسان: ض ر ر].
... وهذا حال الشاعر وهو يعانى تجربته الشعرية. فإنه قد يجد اللفظة وقد اتّسقت مع القياس ، غيرَ قادرة على أن تعبّر عن مستوى من الشعور حلَّقَ إليه ، فيميل إلى لفظة أخرى خارجة عن القياس، لإحساسه أنها أبلغ فى التعبير عن أحاسيسه ونقل هذه الأحاسيس إلى سامعه. وإلا فما الذى ألجأ جريراً إلى استعمال الكلمة نفسها مصروفةً وغير مصروفة فى بيتٍ واحد:
لم تتلفَّعْ بفضلِ مِئزَرِها
دعدٌ ولم تُغْذَ دعدُ بالعُلَبِ
وقد كان له عن ذلك مندوحة ، إلا أنه ربما رأى فى صرف "دعدٍ" الأولى لطيفةً من لطائف التعبير ، يتناغم فيها تعانُقُ الضمَّتين مع مشهد التلفُّع ، أو لعلّه قد شاء لسامعه أن يقف وقفةً قصيرة مع سكون التنوين ، يستوعب فيها المشهد الأول قبل أن يؤكّده بمشهد ثانٍ مستأنَف.(9/14)
وقد يكون لارتكاب الضرورة علّةٌ يمثِّلها قولُ أبى النجم:
قد أصبحت أمُّ الخيار تدَّعى
علىَّ ذنباً كلُّه لم أصنَعِ
... قال البغدادى فى "الخزانة" [1/175]: ورواية الرفع عند علماء البيان هى الجيِّدة ، فإنها تفيد عموم السلب ، ورواية النصب ساقطة عن الاعتبار ، بل لا تصحّ ، فإنها تفيد سلب العموم ، وهو خلاف المقصود… ورأيت للفاضل اليَمَنى على هذا البيت كلاماً أحبَبْتُ إيراده ، وهو قوله: معنى هذا البيت أن هذه المرأة أصبَحَتْ تدَّعى علىَّ ذنباً ، وهو السيبُ والصلَع والعجز وغير ذلك من موجبات الشيخوخة… ولم أصنع شيئاً من ذلك الذنب، ولم ينصب "كلّه" لأنه لو نَصَبَه مع تقدُّمه على ناصبه لأفادَ تخصيص النفى بالكل ، ويعود دليلاً على أنه فعل بعضَ ذلكَ الذنب ؛ ومرادُهُ تنزيهُ نفسه عن كل جزء منه ، فلذلك رَفَعَه إيذاناً منه بأنه لم يصنع شيئاً منه قَطّ ، بل "كلُّه" بجميع أجزائه غيرُ مصنوع".
... فالدقة فى التعبير عن المراد هى التى ساقت أبا النجم إلى هذه الضرورة. وفى مثل ذلك يقول البغدادى: "قد يكون للمعنى عبارتان أو أكثر ، واحدةٌ يلزم فيها ضرورة ، إلا أنها مطابقة لمقتضى الحال… ولاشك أنهم فى هذه الحال يرجعون إلى الضرورة ، لأن اعتناءهم بالمعانى أشدُّ من اعتنائهم بالألفاظ. وإذا ظهر لنا فى موضعٍ أنَّ ما لا ضرورة فيه يصلح هناك ، فمن أين يُعلَم أنه مطابق لمقتضى الحال؟". [الخزانة: 1/15](9/15)
... فهذه الضرورة العلمية التى تدعو إليها الدقة هى التى أتحدّث عنها اليوم ، داعياً إلى الاعتداد بهذين الاتجاهين فى ركوب الضرورة ، والسير على منهاجهما فى سبيل الحقيقة والدقة العلمية ، ولكنَّنى أدعو – كذلك – إلى أن تقوم الجماعة اللغوية بذلك – وهى لجان التوحيد ثم المجامع واتّحاد المجامع – فتستمدَّ الألفاظ المولَّدة على الضرورة من السلطان الجماعى قوةً كقوة الخارج على الأصل فى ما أخرجته الجماعة اللغوية عن أصله حتى أصبح أرسخ من الأصل وأثبت.
... وهذا أمرٌ أقتَرِحُه على هذا المجمع الموقَّر ، توطئةً وتسهيلاً لصَوْغ المصطلح العلمى. وقد سبق لى أن اقترحت مثل ذلك قبل عام فى حديث بمجمع اللغة العربية الأردنى ، وذكرتُ أنه لابُدَّ لنا من إعداد ما أسميته "مقدّمات منهجية وضع المصطلح العلمى وتوحيده"، وهى دلائل إرشادية ينبغى إعدادُها خيرَ إعداد ، وجعلُها فى متناول كلِّ مَنْ يريد مزاولة وضع المصطلح، لتكون دليلاً هادياً له فى هذا السبيل ، وقلتُ إنه لابُدّ من أن تضطلع بإعدادها سلطة لغوية جماعية كاتحاد المجامع، أو مجمع اللغة العربية بالقاهرة بتكليف من اتحاد المجامع.
... وأهم هذه الدلائل الإرشادية – فى نظرى – كتابٌ يمكن أن نطلق عليه اسماً من قبيل "المرشد فى قواعد وضع المصطلح العلمى" ، ونتَّفق على أن يشتمل على الأبواب التالية:(9/16)
الباب الأول: مجموعةٌ من المبادىء أو القواعد اللغوية التى يُستَرْشَدُ بها بشكل عام، تُذكَر فيها القاعدة بأحرُف بارزة ، مقتبسةً – إن أمكن – بنَصِّها من أحد علماء اللغة الأعلام ، ثم تدوّن بالتفضيل مسوِّغات القاعدة وتطبيقاتُها. فنأخذ القاعدة الأولى مثلاً من ابن فارس: "أجمع أهل اللغة إلا من شَذَّ عنهم أن للُغة العرب قياساً ، وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض" [الصاحبى: 33]. ونأخذ القاعدة الثانية من أبى عثمان المازنى: "كلُّ ما قيِسَ على كلام العرب فهو من كلام العرب" [الخصائص: 1/357]. ونأخذ الثالثة من ابن جنى: "الناطقُ على قياس لغة من لغات العرب مصيبٌ غيرُ مخطىء" [الخصائص: 2/12] تُكمِّلُها مقولةُ أبى حيّان: "كلُّ ما كان لغة لقبيلةٍ قِيسَ عليه". [الاقتراح للسيوطى: 93] ونأخذ الرابعة من السيوطى عن أبى حيّان: "علّةُ الضرورة التشبيهُ لشىء بشىء أو الرد إلى الأصل" [الأشباه والنظائر] تكمِّلُها مقولة المبرِّد: "الضرورة تَرُدُّ الأشياء إلى أصولها" [المقتضب: 3/354] وقولُه: "قد يجىء فى الباب الحرفُ والحرفان على أصولهما وإن كان الاستعمال على غير ذلك ليدلَّ على أصل الباب" [المقتضب: 2/97]. ونأخذ القاعدة الخامسة حول التضمين من ابن جنى: "إن الفعل إذا كان يمعنى فعل آخر ، وكان أحدُهما يتعدّى بحرف والآخرُ بآخر ، فإن العرب قد تتّسع فتوقع أحد الحرفَيْن موقع صاحبه" [الخصائص: 2/408] تُكمِّلُها مقولة ابن هشام: "قد يُشربون لفظاً معنى لفظ آخر فيعطونه حُكمَه ويسمّون ذلك تضميناً" [المغنى: 2/185] ونأخذ سادسة القواعد من أبى هلال العسكرى: "الكلمةُ الأعجميةُ إذا عُرِّبَتْ فهى عربية" [التلخيص: 1/267]… وهكذا.(9/17)
أما الباب الثانى من "المرشد" المقتَرَح ، فيسوق القواعد المتعلقة بقياسية عدد من الصِّيَغ ، تسهيلاً للنسج على منوالها ، وإن لم يَعْن ذلك الالتزام الصارم بها. وقد كان لهذا المجمع الموقَّر فضلُ السبق فى إقرار عديد من هذه القواعد والصيَغ وإصدارها منجَّمةً ، مثل صيغة فُعَال ، وفَعَل ، وفَعُول، وفعَالة ، وفَعَالة ، وفُعولة ، وفعّالة، وفاعلة ، وتَفْعال ، ومثل السين والتَّاء للاتّخاذ والجعل ، ولحوق التاء لاسم المكان، وتوهم الحرف الزائد أصلياً ، وجواز الاشتقاق من أسماء الأعيان ، وقياسيّة المصادر الصناعية ، وجواز استعمال "لا" مركبة مع الاسم ، وقياسية التعدية بالهمزة ، وجواز جمع المصدر عندما تختلف أنواعه ، وقواعد غير ذلك كثيرة.
... والحاجة تدعو الآن إلى دَرْج هذه القرارات مرتّبةً ، فى باب واحد من أبواب هذا المرشد ، تشتمل فصوله على البحوث التى كتبها عدد من العلماء الأجلاء توطئةً لهذه القرارات.
... ويؤلّف الباب الثالث من "المرشد" المقتَرَح دليلاً بالأحوال التى يجوز فيها الخروج على مألوف اللغة للضرورة العلميّة: كأن نجيز مع البصريين صَرْفَ ما لا ينصرف وقَصْرَ الممدود ، ونجيز مع الكوفيين تَرْكَ صَرْف ما ينصرف ومدَّ المقصور.. وهكذا ، مع إتْباع كلِّ رُخصة من هذه الرُّخَصَ ببحث يسوِّغُها. وهذه الضرورات التى تبيحها الجماعة اللغوية تمثّل عوناً ثميناً لكل من دُفِع إلى مَضَايِقِ المصطلح العلمى.
... أما الباب الرابع فيضمُّ قائمة بالسوايق واللواحق ، يُراعى قَدْرَ الإمكان أن تكون مستَوْعِبَة ، ويوضع فيها بين قوسين اسمُ الحقل الدلالى أو الحقول الدلالية التى تعود إليها كلُّ سابقة أو لاحقة ، ولاسيّما إذا كان ثمَّة اشتراكٌ فى اللفظ واختلافٌ فى المعنى.(9/18)
... ويضمُّ الباب الخامس قائمة تشتمل على الرموز والمختصرات بالعربية ، وطُرُق ترجمة المختصرات الأجنبية إلى العربية. وهو باب تَمَسُّ الحاجة إليه فى هذه المرحلة.
... وأنا أناشد هذا المجمع الموقّر أن ينهض بعبء هذا "المرشد" المقتَرَح الذى ينوء بغير المجمع ، وأَعِدُ بأن يقوم البرنامج العربى لمنظمة الصحة العالمية – الذى أشرُفُ برياسته – بتقديم الدعم كلِّه: ماديِّهِ ومعنويِّهِ إلى المجمع فى إصدار هذا الكتاب – المَرْجِع.
... وممّا يُعَدُّ أيضاً من مقدمات المنهجية ويساعد الذين يزاولون صَوْغ المصطلح العلمى ، كتاب يشتمل على عشراتٍ بل مئاتٍ من القوائم الدلالية فى كل فرعٍ من فروع العلم ، تضمُّ كلٌّ منها أُسرةً دلالية واحدة ، وتُجَنِّبُ العلماءَ استعمال اللفظة الواحدة لأكثر من مسمّى فى نفس الحقل الدلالى.
... كذلك يُعَدُّ من هذه المقدمات كتيِّبات تُجَرِّد المصطلحات المتوافرة فى كتب التراث العلمى لا تُحاشِ المعاجم. فهذا أبو عمرو بن العلاء – وهو كما يقول ابن سلام فى طبقات فحول الشعراء [1/14] – أوسَعُ علماً بكلام العرب ولغاتها وغريبها ، يقول: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقلُّه ، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثير" [طبقات فحول الشعراء: 1/25].
... وكَأىٍّ من لفظة أجنبية أعياناً العثور على لفظة من بابتها فى ما بين أيدينا من معاجم ، ثم عثرنا عليها عَرَضاً فى تضاعيف أحد الكتب ، أو فى غير مَظنَّتها من مواد المعجم ، فقلنا لأنفسنا: وَىْ كأنّ هذه اللفظة لم تُخْلَق إلا لمثل هذا المعنى الذى نبحث عن اسم له!
... ويعجبنى ما رواه ابن منظور فى "اللسان" [فى مادة "ب خ ع"] عن ابن الأثير: "وطال ما بحثت عنه فى كتب اللغة والطب والتشريح ، فلم أجد البخَاخ بالباء مذكوراً فى شىء منها". فكتب الطب والتشريح إذن بعضُ مَظانِّ ابن الأثير إلى جانب كتب اللغة.(9/19)
... ومن الأمثلة على ذلك أن كلمة "الحَدَقة" فى المعاجم تعنى ما نطلق عليه فى مصطلح اليوم اسم "القُزَحية" ولكنك تجد فى كتاب "المنصورى" للرازى [الورقة 30من المخطوط] مايلى – فى وصف هيئة العين:- ".. ويعلم الرطوبة البيضية جسم رقيق مُخْمَلُ الداخل حيث يلى البيضية ، أملس الخارج ، ويختلف لونه فى الأبدان، فربما كان شديد السواد ، وربما كان دون ذلك ، وفى وسطه حيث يحاذى الجليدية ثقب يتسع ويضيق فى حال دون حال بمقدار حاجة الجليدية إلى الضوء ، فيضيق عند الضوء الشديد ويتسع فى الظلمة ، وهذا الثقب هو الحدقة". و"الحدقة" كذلك فى كثير من كتب الطب والتشريح.
... ومثالٌ آخر ، هو ذلك الغشاء من أغشية الجنين الذى يقال له بالأجنبية allantois والذى حار الأطباء المُحدَثون فى ترجمته فقالوا: "الوشيق" ، وقالوا: "اللقانقى" تشبيها بهذه الأمعاء التى تؤكل ، وقال بعضهم بل هى "اللفائفى" تحرفت إلى "اللقانقى" وهكذا ، إلى أن رأيتُ فى "كامل الصناعة" لعلىِّ بن العباس [1/118] قوله: "وقد يتولد على الجنين من داخل غشاءان ، أحدهما يقال له "السقَاء" وهو اللفائفى ، والثانى السَّلَى. فأما السقاء فهو دون المشيمة ويَتَرَاقى إلى قَرْنَىِ الرحم ، ويشبَّه من شكله باللفافة، وهو نافذٌ إلى مثانة الجنين، ومنفعته أن يقبل بول الجنين..". فقد أطلق على هذا الغشاء اسم "السقاء" كما ترى ، وهى كلمة جميلة ولكنك لا تجدها فى المعاجم بهذا المعنى.
... ومثل ذلك بعض ما تواطأ عرب العصر الحاضر على استعماله بالمعنى نفسه على اختلاف أمصارهم وأقطارهم كمصطلح "الكاحل" الذى تجده مستعملاً فى جُلِّ البلدان العربية بمعنى "ذلك الجزء من الطرف السفلى الذى يعلو القدم" ، وفى ظنى أن مثل هذا التواطؤ يُؤَثِّلُ لهذا الحرف فى لغة الضاد ويَنْأى به عن عامىِّ الكلام.(9/20)
... هذه – فى نظرى – أهم مقدّمات المنهجية التى ينبغى إعدادها تيسيراً لواضعى المصطلح وتسديداً لعملهم. وليس يعنى ذلك بالطبع أن ننتظر إنجاز هذه المقدّمات ولكن من الخير أن نعمل على إعدادها بأسرع ما يمكن.
... أما "منهجية وضع المصطلح العلمى العربى وتوحيده" نفسُها ، فإننى أزعم أن ما جرت عليه لجنة إعداد المعجم الطبى الموحد، يصلح نواة أساسية لها ، وأسمحُ لنفسى أن أعرض فى ما يلى أهم بنود هذه المنهجية:
(1) تُستعمل لفظة عربية واحدة مقابلَ التعبير الأجنبى ، ولا تُستعمل المترادفات إلا فى ما نَدر وعند الضرورة ، وبذلك يتحقق توحيد المصطلحات. وحين توجد بعض الألفاظ الشائعة جداً فى بعض البلدان العربية دون بعض ، وتفضَّل عليها مصطلحات أخرى ، يُكتب المصطلح المفضول بين قوسين بعد المصطلح المفضَّل ، وبأحرف أصغر حجماً ، وذلك تسهيلاً لائتلاف المصطلح المفضَّل من جهة ، مع الإيحاء بضرورة العدول عن المصطلح المفضول فى الوقت نفسه.
(2) إذا وُجدت عدة مترادفات أجنبية للمفهوم الواحد لأسباب تاريخية ، يُترجَم أصلَحُها لتأدية المعنى ، ويوضع فى مقابلها جميعاً ، مع الإشارة بجانب المترادفات الأخرى إلى التعبير الذى اتُّفق على ترجمته، بوضعه بعد علامة المسامواة(=) بين قوسين.
(3) إذا كان للمصطلح الأعجمى أكثر من دلالة واحدة ، يوضع مصطلح عربى مقابل كل دلالة ، وترقم هذه المصطلحات إظهاراً لتمايزها ، ويستحسن بيان الحقل الدلالى الذى ينتمى إليه المصطلح بين قوسين.
(4) ينبغى درس المصطلح الأجنبى دراسة وافية والتعرف على مدلوله العلمى ومفهومه الدقيق ومعناه الاصطلاحى الخاص المستعمل فى حقل الاختصاص ، قبل الإقدام على وضع مقابله العربى. ولا يُنصح بترجمة المصطلح ترجمة حرفية ، أو استعمال مرادفاته الموضوعة لدلالات خاصة فى حقول اختصاصات علمية أخرى.(9/21)
(5) لايجوز اعتماد لغة أجنبية واحدة – مهما كان لها من السيادة – مصدراً وحيداً للمصطلحات الأجنبية ، وإنما يُترجَم اللفظ الأجنبى الذى هو أفضل فى تأدية المعنى ، فيُترجم اللفظ الإنكليزى أحياناً والفرنسى أحياناً أو غيرها من ألفاظ اللغات الأخرى، بحيث يكون الهدفُ دائماً دقةَ المعنى ووضوحَه.
(6) تُستعمل الألفاظ العربية المتداوَلة أو التى سبق أن استعملها علماء العرب الأقدمون ، إذا كانت تفى بالغرض العلمى ، وإلا يُجتَهَد فى وضع لفظ جديد مناسب. وتؤخذ بنظر الاعتبار المصطلحات التى وضعتها المجامع ، واللجان المتخصصة ، والعلماء.
(7) يُكتفى بوجود مناسبة أو مشاركة أو مشابهة بين مدلول المصطلح اللغوى ومدلوله الاصطلاحى ولا يشترط فى المصطلح أن يستوعب كل معناه العلمى.
(8) يُبتَعَدُ عن الكلمة المُثْقَلَة بعدَّة معانٍ ، فيُحاوَلُ العثور على ألفاظ لا تشترك مع سواها بقدر الإمكانر ، ولاسيما تلك التى تشترك فى حقل دلالى واحد.
(9) يُلتَزَمُ قدرَ الإمكان بالقوائم الدلالية ، والسوابق واللواحق ، والصيغ القياسية التى يُعدّها المجمع الموحِّد.
(10) يجوز اللجوء أحياناً إلى النحت أو التركيب المزجى ، إذا كانت اللفظة المنحوتة مفهومة مقبولة ، أو شائعة ، أو منسوبة. ولكن النحت يحتاج إلى ذوق سليم خاصة، فكثيراً ما تكون ترجمة الكلمة الأعجمية بكلمتين عربيتين أو أكثر أصلح وأدل على المعنى من نحت كلمة يمجّها الذوق ويستغلق فيها المعنى. ويراعى فى المركبات المزجية التى تعتبر مصطلحات أن تجعل اسماً واحداً إعراباً وبناءً ، فلا يُعْرَب الجزء الأول من مصطلح "الاثنا عشرى" مثلاً وإنما يحتفظ هذا المصطلح بشكله فى جميع أحواله.
(11) يفضل تقدير محذوف فى بعض المصطلحات التى تتألف من جملة ، على التركيب المزجى أو النحت ، فيقال مثلاً: "الشريان تحت الترقُوى" بتقدير محذوف هو "العظم" بَدَلَ أن يقال "الشريان التحتَرقُوى" أو التحتَ ترقُوى".(9/22)
(12) لاحَرَجَ فى استعمال الكلمات الدخيلة أو المستعربة حين اللزوم ، ولاسيما حين تتعذر تأدية المعنى المراد ، أو حين تكون الكلمة العربية المقترحة أشد عُجْمَةً من الكلمة الدخيلة ، أو يكون اللفظ مما اشتَهر وشاع استعماله ، أو يكون قد اكتسب صفة العالمية بدخوله كما هو فى كل لغات العالم أو جُلَّها.
(13) يُلتَزَم فى هذه الكلمات الدخيلة أو المستعربة اختيار اللفظ الأسهل من بين مختلف اللغات الأجنبية ، لنقله إلى العربية بأخفِّ ما يمكن على اللسان العربى ، دون التزام لغة أجنبية واحدة. فيُقال مثلاً فى مصطلح الكيمياء "هيدروكسيد" لا "هايدروكسايد" ويُقال "يورانيوم" لا "أورانيوم" ويُقال "بزموت" لا "بِزْمَثْ" ، ويُقال "ليباز" لا "لايبيز" . ويُسعى إلى الانسجام قدر الإمكان فيُقال "فيزيولوجيا" لا "فيسيولوجيا" لأننا قلنا "الفيزياء" أو "الفيزيقى" ولم نقل "الفيسياء" أو "الفيسيقى" ، وهكذا.. كما يُحرَص فى نهاية الكلمات على التمييز بين اسم العلم وبين ما ينسب إليه فنكتب "الجيولوجيا" و "الباثولوجيا" مثلاً بالألف لنميّزها عن الطبقات الجيولوجية أو التغيرات الباثولوجية التى نكتبها بالتاء.
(14) لاداعى لاستعمال حروف غير الحروف العربية كالباء والفاء ، وإنما يُنقل الحرف إلى أقرب حرف عربى إليه ، فتُرسم “P” باء ، و “V” فاء. أما حرف “G” فيعرّب "غيناً" إلا إذا كان يُلفظ جيماً صحيحة.(9/23)
(15) نظراً إلى صعوبة توافر الشكل "التشكيل" فى المطابع والمناسخ ، ينبغى عدم التحرج من استعمال الأحرف اللينة فى الكلمات المعرَّبة حتى لا يلتبس اللفظ ، على أن يُستغنى عنها إذا لم يكن ثمة التباس، كما ينبغى عدم التحرج – فى استعمال هذه الأحرف الينة – من التقاء الساكنَين ، استئناساً بالمد اللازم فى القرآن الكريم حيث يلتقى حرف اللين بحرف ساكن يؤلف الجزء الأول من الحرف المشدّد. ولا حاجة لبدء الكلمات الساكنة الأوَّل بألف، اكتفاءً بالاختلاس فى نطق هذا الحرف الساكَن ، أو بتحريكه.
(16) ينبغى الحرص فى استعراب الكلمة على وضعها فى صيغة يسهل جمعها والنسبة إليها والاشتقاق منها ، ويفضّل عدم استعرابها إن لم تتحقق فيها هذه الشروط.
(17) يعتبر المصطلح المستعرَب عربياً يخضع لقواعد اللغة العربية ، ويجوز فيه الاشتقاق ، وتستخدم فيه أدوات البدء والإلحاق.
(18) يجوز التصرف فى صيَغ النسبة ، للتمييز أو منع اللَبْس ، كما تجوز النسبة إلى المفرد والجمع.
(19) يجوز التوسع فى استعمال لام الإضافية ضماناً لوضوح المصطلحات التى تتألف من جملة ، فيفضّل مثلاً أن يُقال: "الطبقة الحبيبية للبشرة" لا "طبقة البشرة الحبيبية" ويُقال: "الرأس الأمامى للعضلة ذات الرأسين" لا "رأس العضلة ذات الرأسين الأمامى". وذلك استئناساً بأن من مواضع اللام أن تكون بمعنى "منْ" ومثل قولهم: "سمعت لزيد صياحاً" أى: مِنْ زيد صياحاً. كما يجوز التوسع فى استعمال اللام الأخرى التى تكون مُوصلة لبعض الأفعال إلى مفعولها فيقال مثلاً: "العامل المُطْلق للهرمون المنبِّه للجُرَيْب".
(20) ينبغى ترجمة أسماء الأجناس والأنواع فى تصانيف الأحياء من حيوان ونبات وجراثيم ، ولا يجوز أن تُستعرب بحجة أنها أسماء أعلام ، فاسم العَلَمَ فرعٌ من اسم الفرد ، والفرد تحت النوع وتحت الجنس. ويمكن ، بل يَحْسُن ، فى التعليم العالى إضافة الاسم الأعجمى إلى جانب الاسم العربى.(9/24)
(21) يجوز التخصيص بتاء التأنيث لضرورة التمييز ، فيُقال اللوح واللوحة ، والكيس والكيسة ، والجيب والجيبة، وما أشبه ذلك.
(22) تذكر صيغة جمع المصطلح بين قوسين إذا لزم الأمر.
... وبَعْدُ ، فأنا أدعو أخيراً هذا المجمع الموقّر ، إلى النظر فى بنود هذه المنهجية المقترحة ، وتبنّيها إن كانت صائبة ، أو تعديل ما يحتاج من بنودها إلى تعديل.فقد آن لنا أن تكون لنا منهجية واحدة موحِّدة، وأن تصدر عن هذه السلطة اللغوية الجماعية ، لأن صدور أمثالها فى ما مضى ، عن عديد من المؤتمرات ومكاتب التنسيق التى تفتقر إلى هذا السلطان الجماعى ،لم يُفلح فى وضعها موضعَ التنفيذ، اللهمَّ إلا فى مجالات متفرِّقة.
وأنا أعتذر إليكم من كثرة ما اقترحتُه عليكم ، ولكن عُذرى أن الزمن سبّاق ، وأن ركبَ العلم الحثيثَ السير لن يبطىّء من إيقاعه فى انتظار المتريِّثين ، وأنكم الأمل الباقى لهذه الأمة فى تَبْوِئة لغة التنزيل مُبَوَّا صِدْقٍ فى مسيرة العلم والحضارة.
... "وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ، وَلِيُوَفِّيَهُمْ أعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُون".
محمد هيثم الخياط
عضو المجمع المراسل
من سورية(9/25)
الزملاء الأجلاء :
السيدات والسادة :
اللغة هى المرأة التى تحمل شخصية الأمة وهويتها على مر التاريخ ، إذ تستوعب جميع جوانب حياتها العملية والدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وهى تتطور من الزمن صورًا مختلفة من التطور على نحو ما تطورت العربية فى الجاهلية ، وتفرعت منها لهجات كانت أسماها لدى العرب لهجة قريش حامية دينهم الوثنى ، وتآزرت مع الدين عوامل اقتصادية وسياسية جعلتها تسود فى الجاهلية جميع لهجات العرب القبلية كما تسود ألسنتهم فى الشعر والخطابة.وما هذه اللهجة القرشية إلا الفصحى التى ننطقها اليوم ، وقد نزل بها القرآن الكريم ، فزادها تمكينًا فى ألسنة العرب وأضفى عليها بيانًا رائعًا ببلاغته المعجزة. وأخذت منذ الفتوح الإسلامية تكتسح لغات البلدان التى
افتتحها المسلمون شرقًا وغربًا ببلاغتها الآخذة بمجامع القلوب، واكتسحت الفارسية فى إيران، والنبطية والآرامية فى العراق، والسريانية واليونانية فى الشام والقبطية واليونانية فى مصر، والبربرية واللاتينية فى المغرب ،واللاتينية وفرعها من الرومانية فى الأندلس. وكل هذه اللغات قهرتها الفصحى فى جميع تلك الأقطار وحلت مكانها فى ألسنه سكانها فهم يتكلمون بها ويتخذونها للتعبير بها عن مشاعرهم وعواطفهم وعقولهم وأفكارهم.
وأكبَّ العرب – ومعهم الشعوب الإسلامية المستعربة – على وضع العلوم تلبية لدعوة القرآن والحديث النبوي إلى العلم والتعلم ، وأخذت توضع العلوم الإسلامية من تفسير للقرآن وفقه وغير فقه، وبالمثل العلوم اللغوية من نحو وغير نحو. ونقلوا إلى الفصحى كل ما لدى الأمم الأجنبية من علوم الكيمياء
والفلك والطبيعة والرياضيات والفلسفة. وتزدهر للفصحى نهضة علمية وفلسفية عظيمة منذ القرن الثانى الهجرى حتى الثامن الهجرى، وطوال هذه القرون الستة " كانت الفصحى اللغة العالمية الأولى التى تقود العالم فى ميادين العلوم والفلسفة.(10/1)
ونزلت الفصحى مصر مع جيش عمرو بن العاص ، وأخذ سكانها يتعربون بعاملين: كثره من اعتنقوا الإسلام من أهلها كما يلاحظ ذلك بتلر فى كتابه:"فتح العرب لمصر"، وكثرة القبائل العربية التى هاجرت إليها من الجزيرة واتخذتها موطنا لها. وتشارك مصر منذ القرن الثانى الهجرى بأئمة فى علوم الشريعة والعلوم اللغوية،كما تشارك فى علوم الأوائل من فلك وطب وغير فلك وطب بما كان بها من تراث علمى قديم ، ويلتحم هذا التراث بما ترجمته بغداد من التراث اليونانى وغيره ، وتنشأ فيها نهضة علمية كبيره فى العصور الفاطمية والأيوبية والمملوكية.
وأصاب نهضة الفصحى فى مصر منذ القرن الثامن الهجرى ركود غير قليل بما جثم على صدرها فى نثرها الأدبى من أثقال السجع وفيه وفى شعرها من أثقال البديع ، وتأخذ مصر فى تنحيه هذه الأثقال عن نثرها وشعرها فى الفصحى منذ أواسط القرن الماضى.
أما فى النثر فقد أخذت تتمسك فيه بأسلوب مرسل حُرٍّ يخلو من كل ثِقْلٍ وقَيْد، وبه نقلت العلوم الغربية نقلها، وألف فيها علماء المدارس العليا الذين أتموا دراساتهم فى الغرب وخريجو قلم الترجمة بمدرسة الألسن ، وتكونت لمصر بذلك فصحى علمية حديثة ظلت مزدهرة بها إلى أن وقف الإنجليز – بخبثهم – تعليم العلوم بها فى مصر بأخرة من القرن الماضى، ولو أنه استمر ما اجتحنا اليوم بعد مائه عام إلى تعريب العلوم فى الجامعات المصرية.(10/2)
ووطد هذا الأسلوب المرسل فى فصحانا الحديثة ومكن له يقوه اقترانه بنشوء الصحف بمصر فى القرن الماضى ، وكان عملها فى تيسيره وتبسيطه واسعا بحكم أنها تريد مخاطبة كل الطبقات فى الأمة وأن يفهم ما تكتبه عامه القراء. وأخذ ينشأ فيها فن المقالة التى تتحدث عن كل ما يهم الشعب من شئون سياسية ودينية واجتماعية واقتصادية ، ونشطت الصحافة نشاطا عظيما حين تألفت الأحزاب فى العشرينيات من القرن الحاضر، وعنيت من حينئذ بشئون الأدب والثقافة ، وأفردت للأدب مجلات أسبوعية وشهرية ، وعنيت مجلة المقتطف منذ ظهورها بالعلوم الغربية. وقد استطاعت الصحف أن تبسط فصحانا الحديثة إلى أقصى حد ، وأن تقترب بها قربًا شديدًا من لغتنا اليومية.
وازدهرت للفصحى الحديثة الخطابة السياسية وما تناولته من مبادئ فى الحريات وحقوق الشعب السياسية على لسان زعمائنا وخطباء الأحزاب النابهين. ونشأ فى مصر نظام القضاء الحديث ومعه نظام المحامين والمدعمين العامين ، ونشأت معهما للفصحى الحديثة الخطابة القضائية ، واشتهر فيها كثير من الخطباء القانونيين ، ونشأت الخطابة الاجتماعية فى النوادى والحفلات العامة.
ولم يكن بمصر في العصور الوسطى قصص بالفصحى سوى قصص الأنبياء والمقامات ، وهى قصص قصيرة مسجوعة، فلما اطلع المصريون – فى العصر الحديث – على ما فى الآداب الغربية من قصص طويلة أخذوا ينقلون بعضها إلى الفصحى مع محاولة تمصيره ، وأمضوا فى ذلك فترة ، ثم أخذوا – فى القرن الحاضر – يضعون قصصا طويلة على غرارها. ونشط وضع هذه القصص مع نهضتنا الأدبية ، فتكاثر كتاب القصة الاجتماعية والنفسية والتاريخية. وتكثر بجانبها مجموعات الأقاصيص الفصيحة القصيرة ، ويبرز فيها وفى القصة الطويلة أسماء كثيرين من القصاص النابهين.(10/3)
وبدأنا – منذ أواسط القرن الماضى- بإقامة مسارح على شاكلة المسارح الأوربية وظللنا طويلا نمثل عليه مسرحيات غربية محصرة ، ثم أخذ كتابنا – فى القرن الحاضر – يؤلفون بالفصحى مسرحيات تراعى أصول الفن المسرحى ، وازدهر هذا الفن منذ الثلاثينيات فى هذا القرن – وكثرت الأعمال المسرحية القيمة التى تُعَدُّ بالعشرات، وكثر معها الكتاب المسرحيون البارعون.
وعلى نحو ما حدث لنثر الفصحى فى العصر الحديث من نهضة أدبية كبرى كذلك حدثت لشعرها نهضة مماثلة، كان رائدها محمود سامى البارودى الذى رد للشعر المصرى حيويته، وخلصه من أثقال البديع وقيوده، وخلفه حافظ وشوقى وشعرهما يفيض بالعواطف الوطنية والدينية والقومية . وتحدث فى الشعر المصرى موجة متأثره بالمنزع الرومانى الغربى ، وتعقبها موجه ثانية هى موجه شعر التفعيله المتحرره من الإيقاع المتكامل للشعر العربى. والفصحى فى هاتين النهضتين الكبيرتين لشعر مصر ونثرها حققت لها أعمالا أدبية عظيمة.(10/4)
واقترنت بالفصحى فى البلدان العربية المختلفة عاميان تفرَّعت منها متخذة طوابع خاصة فى كل بلد، نشأت من التقاء الفصحى بلغات تلك البلدان المحلية وأوضاعها فى نطق الكلام مما أدخل على ألفاظ الفصحى صورًا مختلفة من التحريف، وأيضا فإن تلك العاميات لم تكن تعرف الإعراب الذى تتميز به الفصحى ، فأهملته فيها. وبذلك أصبحت لكل بلد عربى عاميه متميزة ، بها بعض ألفاظ استبقتها من لغاتها المحلية الأصلية ، وخاصة أسماء البلدان وبعض المواضع. ولا نعرف بالضبط التاريخ الذى شاعت فيه عامية كل قطر عربى على لسان أهله وشعبه، ومن المؤكد أنها بدأت فى مصر منذ القرن الثالث الهجرى، غير أن أول نصوص وصلتنا منها إنما وصلتنا من القرن السادس الهجرى، إذ نجد ابن سناء الملك شاعر صلاح الدين يودع كثيرًا من نهايات موشحاته أو أقفالها الأخيرة بعض ألفاظ عاميه مصرية ، ويكتب أسعد بن مماتى الشاعر الموظف فى دواوين صلاح الدين وخلفائه من أبنائه كتاب" الفاشوش فى حكم قراقوش" محافظ القاهرة لعهد صلاح الدين ، وفيه كتب باللغة الدارجة المصرية مجموعة نوادر ساخرة مضحكة من أحكام قراقوش الدالة على حمقه وعقلته المفرطة.(10/5)
ونلتقى فى مصر – منذ القرن السابع الهجرى – بسير للبطولة العربية ، منها سيرة الهلالية ورحيل بنى هلال وبعض القبائل القيسية إلى المغرب فى القرن الخامس ونشوب حروب بينهم وبين المغاربة، ويستولون على بعض مدتهم ، ويقودهم فى تلك الحروب بطلان عربيان: أبو زيد الهلالى ودياب بن غانم والأحداث فى السيرة غائمة ، وهى مكتوبة باللغة اليومية شعرًا ونثرًا ، وتعلق بها الشعب المصرى فى حضره وريفه ، وعاده يلقيها منشد على ربابة وتسميه العامة الشاعر . ومما كتبته مصر بالعامية سيرة سيف بن ذى يزن وبطولته فى حروبه مع الأحباش فى أواخر العصر الجاهلى ، وسيرة عنترة ، وهى ملحمة كبرى للبطولة العربية وفيها يحارب عنتر كما يسمَّى فى السيرة – بجميع الميادين التى حارب فيها العرب منذ الفتوح الإسلامية، وتمتد بطولاته وحروبه إلى عصر الحروب الصليبية وميادينها وإلى إسبانيا وبعض المدن الأوربية. وتكتب بالعامية سيرة الظاهر بيبرس سلطان مصر المملوكى ساحق التتار والصلييبين ، مصورة بطولاته العظيمة. وكتبت فى عصر المماليك بالعامية المصرية ألف ليلة وليلة مع إضافة طائفة كبيرة من القصص المصرية إليها مثل قصه علاء الدين وعلى الزيبق والمصباح العجيب وحكاية الصعيدى وزوجته الإفرنجية وهى تصور الصراع بين المسلمين والصليبيين. وكل من أضافوا القصص المصرية الكثيرة إلى ألف ليلة وليلة وكذلك كل من كتبوا سير البطولة والقصص الشعبية السالفة لا تعرف أسماؤهم لأنهم من أبناء الشعب المصرى الذين يقدمون أعمالهم للشعب ، ولا يهمهم أن تعرف أسماؤهم إذ لا يبتغون بها شعره ولا ما يشبه الشهرة.(10/6)
وكانت تمثل بالعامية بعض مسرحيات هزلية على مسرح خيال الظل ، وهو مسموح دمى متحركة متحاورة ، ومن أطرفها مسرحية طيف الخيال التى كانت تمثل فى عصر السلطان الظاهر بيبرس، وهى مسرحية شعرية نثرية تعرض مشكلة الخاطبة – حينئذ – وما كان ينشأ عنها من أغلاط ومفارقات فى حقائق الزوجين ، وتكتظ بالهزل والفكاهة والدعابة. وتكثر الأزجال بمصر منذ القرن الثامن الهجرى ويشتهر فيها غير زجال. ونلتقى فى القرن التاسع الهجرى بإمام واعظ فى أحد المساجد بالقاهرة وكتابه نزهه النفوس ومضحك العبوس وهو يموج بأزجال وأقاصيص ونوادر عامية فكهة. ويكتب فى العصر العثمانى شيخ واعظ كتابا عاميا يسميه هز القحوف يصور فيه ظلم العثمانيين للمصريين فى نوادر لاذعة لذعا شديدا ونمضى إلى العصر الحديث ويخرج يعقوب صنوع صحيفته العامية "أبونضارة" ويصبها نارا كاويه مملوءة بالسخرية المرء على الخديوى إسماعيل وسياسته الحمقاء وعلى الخديوى توفيق والامتيازات الأجنبية والإنجليز . ويخرج عبد الله نديم فى عهد توفيق صحيفته "التنكيت والتبكيت" ثم "الأستاذ" ويفرد فيهما صحفا عامية لمحاورات وأزجال تعرض عيوبنا الاجتماعية والسلوكية، والانسياق الشديد نحو الحضارة الأوربية بصور ساخرة متهكمة تهكما شديدا. وتكثر المجلات العامية الهزلية منذ أوائل القرن الحاضر ، وتكتظ بالأزجال والنوادر والنكت والقفش مثل الأرغول والسيف والمسامير وخيال الظل ، ثم الكشكول ومجلة الفكاهة ، وكان يرأس تحريرها حسين شفيق المصرى مبتدع شخصية الشاويش شعلان عبد الموجود وابتدع أبوابا كثيرة فكهة. ويتكاثر الزجالون من مثل محمود رمزى نظيم وبديع خيرى ، وله تمثيليات عامية فكهة مثَّلها نجيب الريحانى، ومن أبدع الزجالين – منذ العشرينيات – فى القرن الحاضر – بيرم التونسى، ولا يزال زجالون بارعون يطرفوننا – اليوم – بأزجالهم.(10/7)
وفى القرن الحاضر – وخاصة منذ منتصفه – يكثر الكتاب الذين يؤثرون العامية فى كتابه قصصهم وأقاصيصهم وكأنهم يعيدون لنا ذوق أسلافهم فى الحقب الماضية حين اختاروا العامية لكتابة السير والقصص الشعبية. وينشئ يعقوب صنوع – لعهد الخديوى إسماعيل مسرحا بالقاهرة على شاكلة المسارح الأوربية ، وألَّف له فرقة مثلت عليه بالعامية ما زوّدَها به من مسرحيات غربية ممصرة. ولم تلبث الفرق المسرحية السورية واللبنانية أن وفدت على مصر ومثلت مسرحيات فرنسيه ممصرة كثيرة. ويعنى المصريون منذ أوائل القرن الحاضر بتأليف الفرق المسرحية، ويأخذون فى تأليف مسرحيات كثيرة ، ويزدهر التأليف للمسرح منذ منتصف القرن الحاضر ، ويرى كثيرون من المؤلفين له أن تكون العامية أداة التعبير فى مسرحياتهم على ألسنة شخوصها المختلفين.(10/8)
ومن حين إلى حين منذ أواخر القرن الماضى إلى اليوم يدعو بعض أصحاب العامية إلى استبدالها بالفصحى فى الكتابة الأدبية محتجين بأنها لغة التخاطب والحديث فى الحياة اليومية وأنها ألصق بالنفوس وأصدق فى التعبير عن الخواطر ، وفاتهم أن ذلك إنما يشعر به من لا يُتقن الفصحى ولا يستطيع الإنابة بها عن خوالجه، ومن المؤكد أن العامية على الرغم من طواعيتها لنا فى الحديث كل الطواعية لا تحمل لنا علما ولا فكرا عميقا ولا نظريات سياسية أو اقتصادية ولا تشريعات وقوانين ولا دراسات سيكولوجية أو اجتماعية ولا دينا وأعمالا روحية،إنها لهجة قلما تحمل لنا أعمالا وراء مطالب الحياة والفكر اليومى ، وفيم إذن هذه الخصومة التى يثيرها فى الحين بعد الحين ضد الفصحى بعض كتاب العامية؟ وفيم هذا النضال؟. وأنا موقن أن هذه الخصومة لم تحدث فى العصور والحقب السالفة قبل العصر الحديث فلم يحدث أن أحدا ممن كان يكتب الأزجال أو يكتب السير والقصص الشعبية فى العصور الوسطى لهج ضد الفصحى مطالبا بأن تحل العامية فى أدب أسلافنا محلها ، وبالمثل لم يدع أحد من أصحاب الفصحى ضد العامية وأعمالها، بل كانت دائما الطائفتان من الكتَّاب بالفصحى والكتَّاب بالعامية يتعايشان فى وئام وسلام. وظل أهل الفصحى إلى عصرنا يرتضون من الكتَّاب بالعامية ما يكتبونه أزجالا أو أشعارا عامية أو قصصا وأقاصيص أو مسرحيات ، فلهم حريتهم كاملة فيما يكتبون ولا يتعرضون لهم أىَّ تعرض، وكان ينبغى أن يجاريهم مَنْ يدعون للكتابة بالعامية فلا يثيرون ضد الفصحى أى خصومة لأنها هى الأم وهى الأقوى بكنوزها الأدبية والعلمية ، وهى التى تملك من أفراد الشعب المصرى – ومن أفراد دعاة العامية أنفسهم فى رأينا – أفئدتهم وعقولهم وقلوبهم ، بدليل نراه تحت أبصارنا ولا يغيب عنا ، وهو أن الصحف التى تخاطب الشعب المصرى – منذ أواسط القرن الماضى إلى اليوم – تتخذ الفصحى أداة فى مخاطبته ، ويقرؤها يوميا فى مصر(10/9)
صباح مساء أعداد وفيرة تعد بالملايين.
ويزعم دعاة العامية أن الفصحى وافدة غريبة على مصر ، وهى لغة المصريين منذ ألف وأربعمائة عام ، وليس فى العام كله لغة حيه اليوم أطول حقبا تاريخية من تاريخ الفصحى فى مصر ، وهم فى ذلك الزعم كأنهم لا يعرفون أن العامية التى يطالبون بأن تحل محل الفحصى هى بنتها نشأت من التقائها بالشعب المصرى الذى لم يكن يعرف الإعراب فى لغته الديموتيقية الشعبية القديمة ، ودخلتها تحريفات فى قواعدها ونطق بعض حروفها بسبب سليقة المصريين الموروثة وبسبب لهجات بعض القبائل النجدية التى استوطنت مصر ، وهى بذلك لهجة عربية أحدث من الفصحى تداولا على ألسنة المصريين.
ويقول أصحاب الدعوى إلى العامية إن التمسك بالفصحى يؤول بنا إلى أن تكون لنا دائما ازدواجية أو ثنائية فى اللغة التى نستخدمها ، وينبغى أن نكتفى باللغة اليسيرة السلسة وهى العامية الخالية من الإعراب ومشكلاته ، والتى لا تحتاج معها إلى تعلم، والتى يجيدها أفراد الشعب سليقة وطبعا ، والتى نستطيع أن نصور بها كل ما يجرى فى نفوسنا وخواطرنا دون أى مشقه ، والتى يستعملها أفراد الشعب ويتفاعلون معها مباشرة.
والقول بأن وجود العامية مع الفصحى عندنا يحدث ازدواجية لغوية أو ثنائية قول من لا يعرفون أن اللغات العالمية قديما وحديثا كانت فيها ولا تزال هذه الثنائية ، فقديما كان للغة اللاتينية فى إيطاليا التى كتب بها فرجيل وسنيكا وشيشرون لهجة عامية يتخاطب بها أفراد الشعب فى روما ، وحديثا كان راسين وكورنى وموليير وفيكتور هيجو يكتبون أعمالهم بالفرنسية الأدبية لا باللهجات الفرنسية السوقية ، تماما مثل أدبائنا حين برتفعون عن العامية ويكتبون بالفصحى.(10/10)
وأما ما يقولونه من أن العامية لا تحتاج إلى تعلم مثل الفصحى، وأنها تعيش فى الأفواه والأسماع دون الفصحى التى تحتاج معها إلى الدرس والتعلم ، فهو قول غير دقيق لأن كل اللغات الحية يدرسها أبناؤها ويتعلمونها تعلما صحيحا،ويتذوقون أدبها.وأيضا فاتهم أن الفصحى تمرنت طوال أربعة عشر قرنا على أداء الأفكار، وأنها لم تستعص يوما على أداء فكرة علمية أو فلسفيه ، وقد اتسع مجالها واتسعت ليونة ألفاظها وأساليبها على أيدى كبار كتابنا وشعرائنا طوال العصر الحديث، سوى ما أحدثته الصحف فيها منذ أواسط القرن الماضى حتى جعلتها اليوم تقترب قربا شديدا من لغتنا الدارجة اليومية.(10/11)
ويقول دعاة العامية إن الفن يقوم على محاكاة الواقع ، ومحاكاته فى الأزجال والقصص وحوار المسرحيات إنما يتم – بدقة – عن طريق التعبير بالعامية التى تحاكى الواقع فى المجتمع المصرى محاكاة تامة فى أحاديث أهله . والقول بأن المحاكاة فى الأدب تستلزم أن ينقل الواقع فيه بلغته العامية قول غير صحيح ، لأن المحاكاة فى الأدب والفن لا تقتضى دقة النقل فيهما عن الواقع بحيث يكون العمل الفنى أو الأدبى مطابقا له تمام المطابقة ، بل إن اكتمال الدقة فى المطابقة فيهما قد يفسدهما،إذا قد يتحولان إلى ما يشبه النقل فى التصوير الفوتوغرافى إذ هذا النقل الآلى لا يعد فنا ، فالفن دائما تحرير فى الواقع على نحو ما يعرف فى لوحات الرسامين وألحان الموسيقيين،لأن الفنان دائما – ومثله الأديب – لا ينقل الواقع نقلا أصم وإنما يستوعبه ويتمثل روحه ويضفى عليه من خياله وذهنه ما نتمثله به ونجد فيه متاع فنيا أو أدبيا ، وكأنما يرفع عنه حجابا كان يغلقه ويستره عن أبصار الناس العاديين ، والفنان بذلك – ومثله الأديب – كأنما يصنع الواقع من جديد. ليس عمل الأديب – إذن – نقل الواقع وإنما صناعته صناعة جديدة ، تحاكيه بصورة أقوى ، وما قوتها إلا ما يضيفه إليها الأديب من مخيلته وفكره وأدواته الأدبية ، فالزجال – مثلا – حين يحاول نقل واقع شعورى أو حدث اجتماعى يبرزه فى عبارات سائغة موقعه بنغم يؤثر به فى قارئه بحيث يصبح عملا فنيا تاما ، ومثله الوشّاح صانع الموشحات، غير أنه يتفوق عليه من حيث الفن الخالص، لأنه ينظم موشحه بالفصحى التى طالما بث فيها الوشاحون والشعراء على مدى أربعة عشر قرنا من السمات والصفات الجمالية ما يعوز الزجل إلى حد كبير. وما يقال فى الزجل والموشحة يقال مثله فى القصة الفصيحة والعامية ، وقد يُظنُّ أن العامية تستحب فى القصة بأكثر من الفصحى ، لأنها تتناول جوانب الحياة فى المجتمع وهى فى متناول الأفواه والشفاه ولا مشقه فيها ولا(10/12)
عُسْرَ ، ومن يقولون ذلك يتناسون ما فى القصة الفصيحة من البيان العربى القويم الذى تُصْغى إليه القلوب: قلوب المثقفين والعامة جميعا ، وأيضا فليس الأساس فى روعة القصة قائما على اللغة وحدها ، فأهمُّ منها بناء القصة بناءً فنيا محكما بحيث تترابط جزئياته ووحداته ترابطا عضويا بما تعتمد عليه من أحداث مثيرة وحبكة قصصية متقنة ، وهى تختلف من قَصَّاص إلى قصاص بما يُضْفِى عليها من ومضات شعوره وفكره. وقد يُظَنُّ أن لغة المسرحية تناسبها العامية لا الفصحى لأنها شفوية مثلها ، أما الفصحى فلسفة التعبير الكتابى ، والعامية لذلك أكثر مواءمة للمسرحية، غير أن من ينعم النظر فى فن المسرحية يراها تلتزم قواعد فنية كثيرة ينبغى توفرها فيها ، كما ينبغى أن تتوفر فيها الألفاظ الموحية، والفصحى تتفوق على العامية فيما تحمل من هذه الألفاظ ، وأيضا فإن العامية لا نظام لها فى التعبير يجعلها سهلة الانقياد للممثل بينما الفصحى مذللة لما يحتاجه الممثل من أوضاع مختلفة فى الصياغة.
فقول دعاة العامية بأن الحوار المسرحي والقصصي ينبغي أن يكتب بالعامية طلبا لدقة المحاكاة يجانب حقائقهما الأدبية – وقد نقل إلى الفصحى كبار المترجمين من المصريين مسرحيات شكسبير وراسين الشعرية وأعمال القصاص الفرنسيين والإنجليز وغيرهم من أدباء الغرب ، وأدوا معانيها وأفكار الشخوص المختلفين فيها بفصحى سديدة أدتها أداء دقيقا – وبذلك تسقط دعوى دفة المحاكاة فى العامية بالقياس إليها فى الفصحى كما سقطت الدعاوى السابقة.(10/13)
ويقول دعاه العامية إنها لغة الشعب بينما الفصحى لغة فئة مثقفة محدودة ، والعكس هو الصحيح إذ العامية لا تطرد بصورة واحدة لا فى الشعب المصرى ولا فى غيره من الشعوب العربية ، وفى مصر عاميتان كبيرتان : عامية صعيدية لأهل الصعيد ، وعامية بحرية لأهل الدلتا ، وللمدن المصرية عامية تختلف كثيرا أو قليلا عن عامية أهل الريف ، وللقاهرة عامية تختلف عن عامية أهل الإسكندرية ، بينما كل أهل العاميات فى مصر تتخذ الفصحى لغة لها لا فى التعليم والثقافة فحسب ، بل فى جميع شئونها الدينية وفيما تقرأ من الصحف اليومية ، فهى اللغة الجديرة بأن تسمى لغة الشعب المصرى لا العامية المحصورة فى فئة محدودة تستخدمها أزجالا أو قصصا وأقاصيص أو تمثيليات مسرحية.
ومن المؤكد أن كل ما ينتجه أدباؤنا فى العامية أدب محلى لا يعدو انتشاره أسوار مصر، إذ لكل بلد عربى عاميته بحيث لا يفهم الشامى ولا العراقى ولا المغربى فهما واضحا ما يكتب بالعامية المصرية ، بينما كل ما ينتجه أدباؤنا الفصحى أدب عربى يخترق هذه الأسوار إلى البلدان العربية منتشرا فيها من الخليج إلى المحيط ببيان واضح تمام الوضوح، ولو كان أدباؤنا الكبار اصطنعوا العامية فيما كتبوا من آثار لأعُرض الناس من الشرق الأوسط جميعه عن قراءتهم ، ولما أقبلوا هذا الإقبال العظيم على اقتناء أعمالهم نثرا وشعرا ، ولما حظيت مصر بزعامتها الأدبية بين البلاد العربية ، كما تحظى بها اليوم وهى زعامة تتبوؤها طوال العصر الحديث، ولن تتنحى عنها فى أدبها ،لأن أدباء العامية لا تعنيهم هذه الزعامة وتهمهم فى شيء ، بل ستظل – بكل ما تستطيع – تحافظ عليها بفضل الفصحى وما ينتجه أدباؤنا الأفذاذ فيها من أعمال أدبيه قيمة.(10/14)
وإن فى تمسك أدبائنا الكبار وصحافتنا بالفصحى التى تجمع بيننا وبين البلاد العربية فى لسان عربى واحد لشعورًا قويًّا بأننا جميعا أسرة واحدة وهى أسرة فى حاجة إلى التعاون فى مضمار المصالح والمنافع وما قد يلم بنا من أحداث وخطوب. وان شعب مصر والشعوب العربية اليوم لفى حاجة قصوى لتوثيق هذه الرابطة اللغوية حتى تحسب الدول الغربية فى عصرنا حسابهم ، وقد أصبح واضحا أن الدول الغربية لا تعيش اليوم منعزلة بعضها عن بعض ، إذ تجمع شملها فى تكتلات على فكر اقتصادى أو سياسى واحد، على نحو ما نرى من تكتل الدول الأوربية فى السوق الأوربية المشتركة، وفى اتحاد التعاون الأوربى، وتكتلها مع أمريكا فى حلف الأطلنطي. ومن المؤكد أن تكتل مصر والدول العربية فى لسان عربى واحد من شأنه أن يجعلهم قوه متحدة كبرى فى مضمار السياسة العالمية، ولنا عبره بالوحدة اللغوية بين إنجلترا والولايات المتحدة، فإن الرابطة اللسانية بينهما هى التى جعلت الولايات المتحدة فى القرن الحاضر تدخل فى الحربين العالميتين اللتين اشتعلتا فيه ضد ألمانيا لحماية إنجلترا شقيقتها الناطقة بلغتها. وفى ذلك ما يصور بقوه حاجة مصر وشقيقاتها العربية إلى التمسك بالفصحى حتى تحميها فى معارك السياسة وتنازع البقاء.
أيها السادة :(10/15)
إن الفصحى أوثق الروابط التى تربط أبناء الأمة العربية مصريين وغير مصريين فى جميع بقاع الأرض شرقًا وغربًا، وإنها لتجمعهم فى وحدة روحية إلهية لا تنفصم عراها ، استقرت فى ضمائرهم وضمائر أسلافهم على تعاقب العصور ، وحدة لها قداسة تستمدها من القرآن الكريم الذى أكرم الفصحى باتخاذها لغته ، وأضفى عليها من جلاله ما جعلها خالدة بخلوده ، وإنها لعنوان حضارتنا ، ولسان علومنا وآدابنا،وستظل الأمة العربية – فى مصر وغير مصر – تضمها – كما ضمتها طوال أربعة عشر قرنا أو تزيد – إلى قلوبها وأفئدتها ، وستظل تعتزُّ بها فى المستقبل كما اعتزت بها فى الماضى ، لأنها جوهر كياننا القومى العربى الإسلامى ، جوهر ثابت إلى أبد الآبدين.
وإن العامية المصرية لترمقها فى تجلة، وتتطلع – منذ أوائل القرن الحاضر –
للحاق بها مستعيرة منها كثرة من ألفاظها ، وهى كثرة ازدادت كلما قطعنا شوطا من السنين ، ومن المؤكد أن عاميتنا – الآن فى
جيلنا – أقرب إلى الفصحى مما كانت عليه فى الجيل الماضى،وستظل تقترب منها جيلا بعد جيل متخطية إليها الفوارق والفواصل حتى تذوب فيها نهائيا. وإن واجب وزارات الإعلام فى الديار العربية : مصر وغير مصر أن تتسع فى استخدام الفصحى بجميع وسائلها الإعلامية، وخاصة فى مسلسلاتها الإذاعية والتليفزيونية، وبذلك تستجيب تلك الوزارات لرغبا عميقة فى نفوس الشعب المصرى والشعوب العربية.
شوقى ضيف
نائب رئيس المجمع(10/16)
( 1 )
يقول ابن رشيق فى العمدة : " … ثم جاء المتنبىُّ فملأ الدنيا وشغل الناس …. فلم يُذْكر معه شاعر إلا أبو فراس وحده ، ولولا مكانه من السلطان لأخفاه …." (1)
لقد رُزق شعرُ المتنبىِّ حظًّا بعيدًا من الشهرة والذيوع فى عصره والعصور التى تلته . وتتابعت الأقوال والأخبار التى تكشف عن مدى شغف الناس به وإكبابهم عليه . يقول الإمام الواحدى (أبو الحسن على بن أحمد، ت 468 هـ )فى مقدمة شرحه لديوان المتنبى : " … وإن الناس منذ عصر قديم قد وَلَّوْا جميعَ الأشعار صفحة الإعراض ، مقتصرين منها على شعر أبى الطيب المتنبى، نائين عما يُروى لسواه …. " (2)
وعُنىِ العلماء الأئمة بديوان المتنبى العناية البالغة ، وتوالوا على شرحه وإيضاحه ، حتى تجاوزت شروح الديوان أربعين شرحاً. (3) ويفُصح الإمام الواحدى عن جانب من تلك الدواعى التى أهابت بالعلماء إلى التزاحم على شرح الديوان،
إذ يقول متحدثاً عن المتنبى : " …. على أنه كان صاحب معانٍ مخترعة بديعة ، ولطائف أبكار منها ، لم يُسبق إليها ، دقيقة . ولقد صدق من قال :
ما رأى الناس ثانى المتنبى
أىُّ ثان يُرى لبكر الزمانِ
هو في شعره تنبّا ولكن
ظهرت معجزاته في المعاني
ولهذا خفيت معانيه على أكثر مَنْ روى شعره من أكابر الفضلاء،والأئمه العلماء ، حتى الفحول منهم والنجباء … فلم يبن لهم غرضه المقصود لبعد مرماه ، وامتداد مداه". (4)
ومن أوائل شروح الديوان القديمة التي طبعت كتابُ التبيان في شرح الديوان منسوباً إلى أبى البقاء العكبري ( عبد الله ابن الحسين / 538 – 616 هـ ). وقد طُبع باعتناء يار على البادرناوى بكلكته ـ الهند سنة 1261هـ / 1845 م .(5)(11/1)
ثم طبع شرح ديوان المتنبي للواحدي باعتناء عبد الحسين حسام الدين بمدينة بمبي – الهند سنة 1271هـ / 1855م ، ونشره أيضًا فريد ريك ديترصي / برلين 1858 – 1861 م ( وأُعيد مصوّراً ) ، وطبع ببولاق سنة 1287 هـ .(6) وقد أشاد حاجي خليفة بشرح الواحدي الإشادة البالغة،ورآه أجلَّ الشروح نفعاً ، وأكثرها فائدة .(7)
أُعيد طبع الشرح المنسوب إلى العكبرى بالقاهرة في السنوات : 1287 هـ ، 1303 هـ ، 1308 هـ (8) . واحتفاءً بذكرى مرور ألف سنة على وفاة المتنبي
( 354 هـ) فقد تداعى الأساتذة :السقا والإبياري وشلبي لإعادة طبع الشرح محققًا مدققاً . وقد صدر في أربعة أجزاء ( 1936 – 1938 م ) فتداوله الباحثون والقراء على نطاق واسع .
( 2 )
وبدأت الشكوك تساور العلماء الباحثين في صحة نسبة الشرح إلى العكبري . وكان من أوائل من أفصح عن شكوكه الأستاذ مصطفى جواد والمستشرق الفرنسي الأستاذ بلاشير . وقد نشر الأستاذ جواد مقالة في مجلة الثقافة القاهرية تضمنت الأسباب التي دعته إلى التشكك في نسبة
الشرح أبى العكبري :
أولها : أن الشارح قد قرأ الديوان على
أبي الحرم مكي بن ريان الماكسيني بالموصل
سنة 599 هـ ، وعلى أبي محمد عبد المنعم به صالح التيمي النحوي بالديار المصرية . والعكبريّ لم يرتحل إلى مصر ولا إلى الشام . كذلك فإن العكبري
( 538-616 هـ ) (9) وُلد قبل أبي محمد عبد المنعم ( 547 – 633هـ)(10) بنحو تسع سنوات،وتوفي قبله بنحو 17 سنة ، مما ينفي تلمذته عليه .
الثاني : أن شارح الديوان أديب درس في الموصل وفي نواحي العراق ، ثم سافر إلى مصر والشام … لقد ارتحل من بلاد قريبة من الموصل إلى بغداد ، وزار في طريقه مدينة سامرا ، ومرّ بالكوفة فالحجاز . أما العكبري فلم يترك العراق .
الثالث: أن الشارح بصيرٌ صحيح العينين، نقل بخطه أمالي ابن الشجري ، أما العكبري فقد عمي منذ الصغر .
الرابع : أن الشارح قد تحدث عن مملكة(11/2)
الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب واتساعها حتى شملت مصر وأعمالها ، والشام وأعمالها ، وخُطب له بالموصل ، وأنه ملك مدينة آمد . وإنما ملك الكامل مدينة آمد سنة 630 هـ (11) ، مما يدلّ على أن شرح الديوان قد تمَّ بعد سنة 630هـ، مما لايصح معه نسبته إلى العكبري المتوفي سنة 616 هـ .
الخامس : ماذكره الشارح من أن كتابًا في الخلاف النحوي اسمه : نزهة العين في اختلاف المذهبين ، وكتابًا آخر بعنوان : الروضة المزهرة . والكتابان لم يذكرا في كتب العكبري المشهورة المعلومة . ...
فهذه الأدلة الخمسة تنفي نفيًا باتًّا نسبة الشرح إلى العكبري . ورجّح الأستاذ الفاضل مصطفى جواد في ختام مقالته نسبة الشرح إلى أبي عبد الله الحسين بن إبراهيم الشافعي اللغوي الأديب الكوراني الإربلي ( 568 – 656 هـ ) (12)
ثم تابع الأستاذ : مصطفى جواد الدرس والتدقيق ، وانتهى به البحث إلى حقائق جديدة تكشّفت له ، فسطّر مقالة طويلة في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق عرض فيها ما أداه إليه النظر ، فبسط ما كان أوجز في مقالته الأولى المذكورة آنفاً، وأضاف دلائل جديدة تؤكد ما ذهب إليه من نفى نسبة الشرح إلى العكبري ، وتفصح عن مؤلف الشرح وهو أبو الحسن عفيف الدين علي بن عدلان بن حماد بن علي الربعي الموصلي النحوي المترجم ( 583- 666 هـ )(13) ، فقد جاء في الشرح المذكور في تفسير قول المتنبي :
تتقاصر الأفهام عن إدراكه
مثل الذي الأفلاك فيه والدُّنا
" الإعراب : قال أبو الحسن عفيف الدين علي بن عدلان : الرواية الصحيحة : مثلُ بالرفع ، ويكون على تقدير:هو مثل…."(14)
... وكانت كلمة الأستاذ الدكتور مصطفى جواد القول الفصل في نفي نسبة الشرح إلى العكبري ، ورجّح كثير من الباحثين ما خلص إليه من نسبة الشرح إلى عفيف الدين علي بن عدلان .
( 3 )(11/3)
... وقد طالعتني وأنا أتصفح شرح الديوان أدلة جديدة تعزّز ما ذهب إليه الدكتور مصطفى جواد من نفي نسبة الشرح إلى العكبري ، ولكنها تشكّك في نسبة الكتاب إلى عفيف الدين علي بن عدلان . وبدالي أن خير طريق أسلكه لعرض ما أود قوله هو أن أنسق ماتبدّى لي علىصفحات الكتاب من صفات المؤلف
وأخباره .
أولا – شيوخ المؤلف :
سمّى المؤلف ثلاثة من شيوخه هم :
(1) الإمام أبو الحرم مكي بن ريّان الماكسينى ( ت 603 هـ )
وقد قرأ عليه ديوان المتنبي قراءة فهم وضبط بالموصل سنة 599 هـ (15) .
( 2 ) وأبو محمد عبد المنعم بن صالح التيمي النحوي ( 547- 633 هـ )
وقد قرأ عليه ديوان المتنبي بالديار المصرية(16) .
( 3 ) وأبو الفتح نصر بن محمد الوزير الجزري ( ت 637 هـ ) الشهير بابن الأثير ، صاحب المثل السائر .(17)
وفي الشرح إشارات كثيرة إلى روايات المؤلف عن شيخيه دون أن يذكرهما . وله أيضاً مثل قوله :
هكذا قرأناه على المشايخ الحفاظ (18) ، أو مثل قوله : الرواية التي قرأنا بها الديوان (19)
ثانياً – المواضع التي عرفها المؤلف قاطناً
أو زائراً هى العراق والموصل والشام ومصر . ومعرفته بالعراق وأهله وعاداته أوسع . يدل على ذلك تحديده المواضع في العراق تحديداً أقرب إلى الدقة ، وتحدثه عنها حديث العارف المقيم ، حتى اننا لنكاد نرجح أنه من أهل الكوفة . وهذه جملة من النصوص التي تعزّز ما ذهبنا إليه :
( 1 ) علق على قول المتنبي : أو ماوجدتم في الصراة ملوحة ، فقال :" الصراة : نهر يأخذ من الفرات ، فينسكب في دجلة ، بينه وبين بغداد يوم ، وآخره عند باب البصرة ، ومحله ببغداد بالجانب الغربي . وغلط في تفسيره الواحدي فقال: هو نهر يتشعب من الفرات فيصير إلى الموصل ، ثم الى الشام " (20)
( 2 ) زار مشهد الإمام محمد بن الحسن العسكرى في سرّ من رأى ( سامرا ) وقت انحداره من الموصل إلى بغداد . ( 21 )(11/4)
( 3 ) علّق على قول المتنبي : يصيح الحصى فيها صياح اللقالق ، فقال : "واللقالق جمع لقلق وهو طائر كبير يسكن العمران فى أرض العراق ، وهو كثير فى قرى العراق ، يخوت على صدوح الطير، وهو من طيور الخليل … ويسمى [اللقلق ]
أيضاً أبا الجذع،تسميه أهل الضياع…"(22) .
( 4 )علّق على قول المتنبى:وشيك فى ثوب من الزيت عاريا ، فقال :" … وأهل العراق يسمون كل من كان غير مشبع السواء زيتياً " (23) .
( 5 ) وعلق على قول المتنبى:وردنا الرهيمة فى جوزه ، فقال :"وقال بعضهم : الرهيمة قرية عند الكوفة ، وهو صحيح لأنى رأيت بالكوفة جماعة ينسبهم إليها . ولكنها خربت فى الأربعمئة " (24) .
( 6 ) وقال فى حديثه عن محمد بن عبيد الله العلوي ممدوح المتنبى فى صباه : " كان محمد بن عبيد الله هذا الممدوح قد واقع قوماً من العرب بظاهر الكوفة … فتمنى أبو الطيب مثل ضربته ، فهذا سمعته من مشيخة بلدنا " ( 25 ) .
( 7 ) وقال : " ودار أثلة : موضع بظاهر الكوفة " (26).
( 8 )وعلق على قول المتنبي: أمنسىّ الكناس وحضرموت ، فقال : " الكناس:محلة بالكوفة،وكذا حضر موت ، وكندة : محلة غربي الكوفة ، والسبيع : سوق بالكوفة ، ومحلة كبيرة . وكل هذه
المواضع سميت بأسماء من سكنها " (27).
( 9 ) ويقول في تفسير قول المتنبي:ويفعل فعل البابلي المعتّق : "والبابلي : نسبة إلى بابل ، وكان بلداً قديماً إلا أنه خرب . وهو مابين بغداد والكوفة ، وهو إلى الكوفة أقرب ، لأنه من أعمالها " (28) .
( 10 ) ومن ذكره مواضع في نواحي الكوفة قوله : العذيب وبارق موضعان بظاهر الكوفة ، وبين العذيب وبين الكوفة مسيرة يوم ، وهو بطريق مكة ، بالقرب من القادسية " (29) وقوله : " الثوية : موضع بقرب الكوفة على ثلاثة أميال منها " (30) .(11/5)
( 11 ) وقال في شرح قول المتنبي : يستخشن الخزّ حين يلبسه ، " الخز : ثياب تعمل من الابريسم ، لايخالطها قطن ولا كتان ، ولا تعمل إلا بالكوفة . وكانت تعمل بالري قديما "(31)
ثالثاً – المؤلف بصير صحيح العينين .
جاء في شرح الديوان ، مع تغيير طفيف في العبارة : " قال الشريف هبة الله بن علي ابن محمد الشجري العلوي في أماليه،ونقلته بخطي".
رابعا – هو نحويّ كوفى المذهب في النحو
وكوفيته تطلّ برأسها في كثير من صفحات الديوان . وهذه جلّ مواضعها : ( شرح الديوان87:1 ، 114 ، 116 ، 196 ، 202 ، 208 ، 225 ، 228 ، 232 ، 239 - 240 ، 248 ، 248 ، 277 - 279 ، 295 ، 299 – 300 ، 312 ، 313 ، 341 ، 342 ، 381 ، 2 : 21، 44 ، 105 ، 112 ، 115، 171، 175،176 ، 195 ، 253 ، 258 ، 262 ، 333 ، 3 : 50،165 ، 177، 184 ، 184 ، 201 ، 4 : 11-12 ، 35 ، 87 ، 90 ، 115 ، 219 ، 248 ) .
وهو متحلّ بالنصفة والعدل وضبط النفس، يعرض المذهبين بحججهما دون تعصب فإذا أعجبته حجة البصريين حبَّذها كقوله : "وهذه حجة حسنة لهم"، (33) .وقد جاء في الكتاب العزيز إعمال الثاني فهو دليل للبصري (34) . والناس اليوم على مذهب أهل البصرة " (35) .
خامساً – امتدت بالمؤلف الحياة إلى ما بعد العقد الثالث من القرن السابع الهجري، فقد تحدث عن الملك الكامل أبي المعالي محمد بن أبي بكر بن أيوب وسعة ملكه ، وأنه ملك اليمن كله،وملك مصر وأعمالها، والشام وأعمالها ، وخطب له بالموصل ، وهو أول أعمال العراق ، وملك آمد وهي أول أعمال الروم (36) والكامل إنما ملك مدينة دمشق سنة 626 هـ، وملك آمد سنة 630 هـ (37)
سادساً – والمؤلف فقيه حنفي المذهب .
يبدو ذلك في شرحه قول المتنبي :
خرجوا به ولكل باكٍ خلفه
صعقاتُ موسى يوم دُكّ الطورُ
فقد قال : "وقال : خلفه ، لأن المشي عندنا خلف الجنازة أفضل . وقال الشافعي هم كالشفعاء ، والشفعاء إنما يكونون بين يدي المشفوع له " (38).
سابعاً – مؤلفاته(11/6)
جاء في الشرح ذكر أربعة كتب من مؤلفاته النحوية :
(1)الإغراب في الإعراب
(شرح الديوان 1: 87 )
(2)أنفس الاتخاذ في إعراب الشاذ
( شرح الديوان 1: 339 )
(3)الروضة المزهرة في شرح كتاب التذكرة
(شرح الديوان2: 241، 3: 363،365)
(4)نزهة العين في اختلاف المذهبين
( شرح الديوان 1 : 203 )
ثامناً – والصفة العلمية الغالبة على المؤلف أنه مقرئ ، قد أتقن القراءات إتقاناً بعيداً. وهى منه أبداً على ذكر ، فهو يكثر الاستشهاد بالآيات القرآنية وقراءاتها في الشرح إكثاراً لانقع عليه فى شرح آخر للديوان . وأكتفى هنا بالإشارة إلى جُلّ المواضع التي وردت في الجزء الأول من
( شرح الديون 1 : 4، 9، 12، 24، 32، 33، 52، 54، 56، 59، 63، 73، 80، 84، 105، 111، 124، 128، 139، 169، 172، 190، 203، 218، 224، 226، 228، 233، 235، 245، 257، 258، 259، 310، 321، 325، 345، 357، 359 ).
وهو يعتزّ بمقدرته فى هذا الباب اعتزاز العارف بما أوتي. ومما قاله في هذا الصدد وهو يشرح قول المتنبى :
وماجهلت أياديك البوادى
ولكن ربما خفي الصوابُ
" وسألتُ شيخنا أبا محمد عبد المنعم النحوى ، عند قراءتي عليه ، عن هذا البيت ، وقلت له : يجوز أن يكون البوادى نعتاً للأيادي . والبوادي فى نصف البيت، فكأنه عنى الوقف ، وهو موضوع وقف، كقولك : أجبت الداعي، وقد يوقف على قوله تعالى : ( يومئذ يتبعون الداعي ) بالسكون، ويكون فاعل " جهلت" مضمراً فيها . فقال لي : أنت مقرئ، وقد قست ، ومع هذا أنت حفيّ،فصوّب ما قلت"(39)(11/7)
تاسعاً – والمؤلف محقق مدقق،قرأ الديوان على المشايخ الحفاظ ، واطلع على رواياته، وجمع نسخ الديوان وأشار إلى ما وقع فيها من تباين ، وما اقترفه جامعوها من أغلاط. وحشد بين يديه شروح الديوان ، وتبين ما قاله سابقوه . وهو أمين ينقل الشروح عن أصحابها في كثير من المواضع ، كذلك فهو حريص على ألا يخُلّ كتابه بشيء قاله سابقوه ، مما دعاه ألا يُغْفل الروايات الضعيفة.وكان له قدرة فائقة على الترتيب، مما يسَّر شرحه لقارئيه وقرّبه إليهم . وهو ، إلى ذلك ، أديب ذواقة ناقد يتحدث عن مبدعات المتنبي بإعجاب ، ويتوقف عندما لا يقبله من أقوال الشراح ليدلي برأيه .
يقول في مطلع كتابه : " أما بعد فإني لما أتقنت الديوان الذي انتشر ذكره في سائر البلدان ، وقرأته قراءة هم وضبط …. ورأيت الناس قد أكثروا من شرح الديوان واهتموا بمعانيه ، فأعربوا فيه بكل فن وأغربوا ، فمنهم من قصد المعاني دون الغريب ، ومنهم من قصد الإعراب باللفظ القريب ، ومنهم من أطال فيه وأسهب غاية التسهيب ، ومنهم من قصد التعصب عليه ونسبه إلى غير ما كان قد قصد إليه ، وما فيهم مَنْ أتى فيه بشيء شاف ، ولابعوض هو للطالب كاف ، فاستخرت الله تعالى وجمعتُ كتابي هذا من أقاويل شراحه الأعلام ، معتمداً على قول إمام القول المقدم فيه ، الموضح لمعاينه ، المقدم في علم البيان ، أبي الفتح عثمان ، وقول إمام الأدباء وقدوة الشعراء أحمد بن سليمان أبي العلاء ،وقول الفاضل اللبيب ، إمام كل أديب ، أبي زكريا يحيى بن علي الخطيب ، وقول الإمام الأرشد ، ذى الرأى المسدّد أبي الحسن علي بن أحمد [ الواحدي ] ، وقول جماعة كأبي علي بن فورجه ، وأبي الفضل العروضي ، وأبي بكر الخوارزمي ، وأبي محمد الحسن بن وكيع ، وابن الأخليلى وجماعة ، وسميته : التبيان في شرح الديوان … " .ولعل من المستحسن أن نسوق عدة أمثلة نعزّز بها ماذكرناه :
(1)يقول تعليقاً على قصيدة المتنبي التي
مطلعها :(11/8)
عذلُ العوازل حول قلب التائهِ
وهوى الأحبة منه في سودائه
" وقد جعل قوم ممن رتبوا الديوان على الحروف هذه [ القصيدة ] في حرف الهاء لجهلهم بالقوافي .وإنما أبو الفتح[ابن جني ] والخطيب [ التبريزى ] جعلاها في أول حرف الهمزة ، فاقتدينا بفعلهما " (40) .
ثم يعود فيؤكد ما ذهب إليه فيقول : "وقد ذكرنا هذه القطعة في أول كتابنا ، وإن كان جماعة قد اختلفوا فيها ممن لا يعرف القوافي ، ولا له بها نسبة ولا دراية . ومنهم من جعلها في حرف الياء ، ولم يكن بينها وبين الياء نسبة ، لأن الياء التي فيها إنما هي همزة ، ولا يجوز أن تنقط، وإنما هي صورة همزة . ورأيت في نسختين أو ثلاث مَنْ ذكرها في حرف الهاء . وإنما اقتدينا بالإمامين الفاضلين صاحبي الشعر والقوافي والعروض ….. وهما عمدة أهل الشام والحجاز والعراق : أبي الفتح بن جني والإمام أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي ، فإنهما جعلاها في أول حرف الهمزة ، فاقتدينا بفعلهما واعتمدنا على قولهما…."(41) .
(2)يقف عند قول المتنبي :
"وبضدها تتبين الأشياء" ليقدم ما أبدعه أبو الطيب من أمثال هذه الأعجاز المعجزة ، ويذكرها مجتمعة . (42)
(3)ثم يتحدث عن نوادر أبي الطيب التي فاقت وأعجزت ليعقب بقوله : "فهذا الذي لم يأت شاعر بمثله ، وإنما ذكرناه مجملاً ليسهل أخذه وحفظه …."(43)
(4)يعرض لقصيدة من شعر المتنبي في صباه، فيذكر ما قال الرواة فيها ثم ينقل ما ذكره ابن القطاع (44) .
(5)وقال في التعليق على قول المتنبي :
لما تحكمت الأسنة فيهم
جارت وهن يجرن في الأحكام
" يروى المنية بدل الأسنة ، …. وليس بشيء . والأصح : الأسنة … ومن روى المنية أراد بها المنايا ، وليس هو بشيء إلا أني وجدتها في بعض النسخ فذكرتها ، حتى
لا أخلَّ بشيء على حسب الطاقة "(45).(11/9)
(6)ولما انتقد الواحدي قصيدة المتنبي في مديح عضد الدولة وذكر الورد فقال فيها: " وهذه قطعة في نثر الورد غير مليحة " علق شارح الديوان على ذلك بقوله : "قلت :إنما المتنبى ممن يحسن الأوصاف في كل فن . وإنما هذا الذي يأتي له في البديهة والارتجال ، أو في وقت يكون على شراب أو غيره فلا يعتدّ به ، ولو كان أبو الفتح عمل صواباً لكان أسقطه من شعره ، ولولا أن مَنْ تقدمني شرح هذه المقطعات وأثبتها لما ذكرتها في كتابي هذا " (46) .
( 4 )
لقد نسقتُ من أخبار المؤلف وصفاته التي
تعينني في بحثي ما صنفته في تسعة بنود وأرى أن كل بند من البنود السبعة الأولى كافٍ في نسبة الشرح إلى العكبري.
لقد عاش العكبري في بغداد ، وقرأ على شيوخها ، ولم يغادرها إلى الموصل أو الشام أو الديار المصرية ( يخالف البندين 1، 2) . وقد أضرَّ منذ الصغر ( يخالف البند 3 ) ، وكان نحويًّا بصريّ المذهب،يتبين ذلك جليًّا فيما خلَّفه من مؤلفات ( يخالف البند 4 ) ، وأدركته الوفاة سنة 616 هـ ( يخالف البند 5 ) ، وكان حنبليَّ المذهب ( يخالف البند 6 ) ، وخلا ثبت كتبه الذي أورده مترجموه من ذكر الكتب التي ألفها صاحب الشرح ( يخالف البند 7 ) .
وما سقناه هنا إنما هو تعزيز لما كان بسطه(11/10)
الأستاذ الكبير مصطفى جواد . وقد أوردناه آنفا . ولكني توقفت في نسبة الشرح إلى أبي الحسن علي بن عدلان، لأن ما ذكره مترجموه من أخباره العلمية لا يوافق ما استخلصناه من أخبار شارح الديوان، ويحسن أن نوجز هنا ما أورده مترجمو ابن عدلان مما يعنينا في بحثنا: فهو عفيف الدين أبو الحسن علي بن عدلان بن حماد بن علي الربعي الموصلي النحوي المترجم ( 583 – 666هـ) ، ولد بالموصل ، وارتحل إلى بغداد، فسمح بها عن أبي البقاء العكبري وغيره ، وأجاز له أبو اليمن الكندي . وكان بينه وبين ابن عينين الشاعر والقاضي ابن خلطان صحبة ومودة . ولقيه ياقوت الحموي في مجلس القاضي القفطي .وكان من أكابر العلماء ، أقرأ العربية زماناً ، وتصدّر بجامع الصالح بالقاهرة ، وكان علامة في الأدب،شاعرا ، من أذكياء بني آدم . انفرد بالبراعة في حل المترجم والألغاز ، وله في ذلك تصانيف ، منها كتاب : عقلة المجتاز في حل الألغاز ، ومصنف في حلّ المترجم للملك الأشرف . مات بالقاهرة .
طُبع له ، فيما اطلعتُ عليه ، كتابان هما :
1-الانتخاب لكشف الأبيات المشكلة الإعراب ( تح . الدكتور حاتم صالح الضانى ،ط 2 / 1985– بيروت) .(11/11)
2- والمؤلف للملك الأشرف ( وهو مطبوع ضمن كتاب : التعمية واستخراج المعمّى عند العرب 1: 265-307 ) . أما كتاب الانتخاب فقد تناول ( 165 ) بيت من الأبيات المشكلة الإعراب ، وأكثرها مما ألغز فيها أصحابها . وقد آثر المؤلف الإيجاز في عبارته . وأهدى كتابه إلى السيد الكبير العالم فريد دهره أبي الحسن عز الدين علي بن وشاح بن مبادر ( ص 16 ، 78 ) . وكان يشير أحياناً إلى الخلاف بين البصريين والكوفيين ( الشاهد 24 ، 25 ) وإلى المصطلح الكوفي المقابل للمصطلح البصري ( الشاهد 38 ) . ونقل مرة عن شيخه عن ابن الخشاب ( الشاهد 77 ) ، وأشار إلى أن المحفوظ في ضبط لفظ ( مَتْلِف ) أنه بفتح الميم وكسر اللام، ثم عقب على ذلك بقوله : " كذا قرأته على مشايخي ، وعلمته من الأصول المنقحة بالضبط والقراءة . ووقع في نسخ بعض الحذاق (مُتلَف ) بضم الميم وفتح اللام وهو بعيد"(48). ونظم بيتاً على طريق الإلغاز حين لم يقع له بيت على حرف الغين (49) . وختم كتابه بأنه كان مسبوقاً بكتابي ابن المفجع والفارقي (50).
ـ وصنف ابن عدلان كتاب : المؤلف للملك الأشرف مظفر الدين موسى ( ت 662 هـ ) أيام مقامه بدمشق . وهو في حل المترجم ( أي الكلام الملغز المعمَّى ) . ويذكر ابن عدلان في كتابه هذا أنه صنّف في المترجم أيضاً كتابه ( المعلم ) الذي قدّمه إلى الخليفة العباسى المستنصر ( 623 – 640 هـ ) ، وأنه كان في بغداد سنة 626 هـ .
يتبين من كل ما سقناه من أخبار ابن عدلان التي ذكرها مترجموه ، أو جاءت في كتبه المطبوعة أن شرح الديوان لا تصحّ نسبته إليه . وها هي ذي الأسباب التي
دعتنا إلى نفي نسبة الشرح إليه :
1-لم يذكر مترجموه أنه قرأ على أحد من الشيوخ الثلاثة المذكورين في البند(1)
2-لم يذكر مترجموه أنه كوفي المذهب في النحو ( البند 4)
3-أجمع مترجموه أنه موصلي النشأة ، وقد ترجم لنا أن شارح الديوان كان من أهل الكوفة ( البند 2 ).(11/12)
4-لم يرد في كتبه التي ساقها مترجموه ذكر لأي كتاب من الكتب الأربعة التي أشار إليها شارح الديوان ( البند 7 ) .
5-لم يشر مترجموه إلى تعمقه في القراءات القرآنية التعمق الذي يجعله في عداد المقرئين المتخصصين ( البند 8 ) .
لهذه الأسباب ترددت في نسبة الشرح إلى ابن عدلان .
أما العبارة التي أوردها الأستاذ الفاضل مصطفى جواد فهي غير دالة على أن المؤلف ابن عدلان ، بل يمكن القول إنها جاءت في سياق الاستشهاد بها على رواية في الديوان ، وقد أوردها الشارح ، أو أحد العلماء فأدرجت في الشرح .
ويبدو لي أنه لابد من عودة إلى البحث والتنقيب بين علماء المئة السابقة لنقع على الشارح الذي ألّف التبيان في شرح الديوان.
شاكر الفحام
عضو المجمع من سورية
(1) العمدة (بيروت – 1988 م ) 1 : 22 ، 214
(2)شرح الواحدي (برلين – 1861م ) 1 : 3
(3) كشف الظنون : 809 – 812 ، تاريخ التراث العربي لسزكين – الترجمة العربية ، مج 2 ، ج 4 :31 –39
(4) شرح الواحدي 1 : 3
( 5 ) معجم المطبوعات لسركيس 2 : 1616 ، مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق ، مج 22 ، ص 38 ، 40
( 6 ) معجم المطبوعات لسركيس 2 : 1616 ، تاريخ الأدب العربي لبروكلمان –
الترجمة العربية 2 : 90 ، تاريخ التراث العربي لسزكين مج 2 ، ج4 : 35
( 7 ) كشف الظنون : 809
( 8 ) معجم المطبوعات لسركيس 1 : 295 ، 2 : 1616، تاريخ الأدب العربي لبروكلمان – الترجمة العربية 2 : 90،مجلة
المجمع العلمي العربي بدمشق ، مج 22 ، ص 38 ، ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح
أبي البقاء العكبري 4 : 380، تاريخ التراث العربي لسزكين مج 2،ج4 :37
( 9 ) ديوان أبى الطيب المتنبي بشرح أبي البقاء العكبري 4 : 377 – 385
( 10 ) وفي رواية : أن أبا محمد عبد المنعم وُلد سنة 545 هـ ( مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ، مج 22 : 44 ) .
( 11 ) النجوم الزاهرة 6 : 279(11/13)
( 12 ) مجلة الثقافة (القاهرة) العدد 17 ، السنة الأولى ( 5/3/1358 هـ- 25/4 /1939م ) ص 49 – 52 ، وانظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان (الترجمة العربية ) 2 : 90 رقم 9 ، تاريخ التراث العربي لسزكين مج 2 ، ج 4 : 37 ، رقم 24
( 13 ) مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق ، مج 22،ص37 - 47 ، 110 – 120
( 14 )ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح أبي البقاء العكبري4: 201،مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، مج 22،ص111ـ 112
( 15 ) شرح الديوان 1 : ب – ج ، 72، 2 : 21 ، 267 ، 358 ، 3 : 72 ،
125 ، 164 ، 184 ، 4 : 286
( 16 ) شرح الديوان 1 :ج ، 17،72،
81 ، 286 ، 2 : 267 ، 358 ، 3 : 72، 125 ، 164 ، 177 ، 4 : 286
( 17 ) شرح الديوان 4 : 217
( 18 ) شرح الديوان 1 : 63
( 19 ) شرح الديوان 3 : 78
( 20 ) شرح الديوان 2 : 248 ، شرح الواحدي ( ط برلين ) 1 : 59
( 21 ) شرح الديوان 2: 68
( 22 ) شرح الديوان 2 : 325 – 326
( 23 ) شرح الديوان 4 : 295
( 24 ) شرح الديوان 1 : 41
( 25 ) شرح الديوان 1 : 307
( 26 ) شرح الديوان 1 : 314
( 27 ) شرح الديوان 2 : 257
( 28 ) شرح الديوان 2 : 307
( 29 ) شرح الديوان 2 : 317
( 30 ) شرح الديوان 2 : 317 ، 391
( 31 ) شرح الديوان 4 : 59
( 32 ) شرح الديوان 2: 339 ، 4 : 120 ، 129
( 33 ) شرح الديوان 2 : 45
( 34 ) شرح الديوان 2 : 333
( 35 ) شرح الديوان 3 : 184
( 36 ) شرح الديوان 1 : 171
( 37 ) النجوم الزاهرة 6: 272 ، 279
( 38 ) شرح الديوان 2 : 129 – 130
(39) شرح الديوان : 81:1
( 40 ) شرح الديوان 1 : ب – د
( 41 ) شرح الديوان 1 : 1
( 42 ) شرح الديوان 1 : 8 – 9
( 43 ) شرح الديوان 1 : 22 – 23
( 44 ) شرح الديوان 1 : 161 – 167
( 45 ) شرح الديوان 2 : 80 ـ 81
( 46 ) شرح الديوان 4 : 12
( 47 ) شرح الواحدي 2 : 774 ، شرح الديوان 4 : 165(11/14)
( 48 ) فوات الوفيات 3 : 43-46 ، النجوم الزاهرة 7 : 226،بغية الدعاة 2 : 179 ، ذيل مرآة الزمان لليونيني 2 : 392 – 395 ، الوافي بالوفيات 21 : 308 – 314،معجم الأدباء 3 : 213 ، ( ترجمة أبي العلاء المعري)، وفيات الأعيان 1 : 76، 2: 17 ، 7 : 37 ، السلوك لمعرفة دول الملوك 1 : 572 ، تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب لابن الفوطي 4 : 501 – 502 ، إيضاح المكنون 2 : 112 ، هدية العارفين 1 : 711 ، مجلة المجمع العلمي العرلي بدمشق 22 : 112 – 120 ، الأعلام للزركلي 4 : 312 ، معجم المؤلفين 7 : 149 ، علم التعمية واستخراج المعمى1: 98 – 99
( 49 ) الانتخاب لكشف الأبيات المشكلة
الإعراب : 53 – 54
( 50 ) الانتخاب : 58
( 51 ) الانتخاب : 78
( 52 ) علم التعمية واستخراج المعمي
1 : 288 ، 302
( 53 ) علم التعمية 1 : 303(11/15)
الجزء
الرابع الثمانونالمحرم 1420هـ/ مايو 1999م(12/1)
أستاذى الجليل رئيس المجمع :
أيها السادة :
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد
فإن لكل شىء معاييرَ يَتفاضَلُ بها أفرادُه.
وكذلك الإنسان؛ يتفاضل أفرادُه فيما بينهم بمعاييرَ عديدة، يأخذُ بها الناسُ على مختلِف نَزَعاتهم، فقد يكونُ المالُ لدى بعضِ الناسِ هو المعيارَ المختارَ لبيانِ شأنِ الإنسانِ وقيمتِه، وقد يكونُ المعيارُ هو العلمَ، أو العملَ، أو قوةَ السلطان.. وغيرَ ذلك من المعايير التى تَنْبُعُ من ضمير المجتمعاتِ والشعوب، بما يَسُودُها مِن مُثُل وقِيَم، وعاداتٍ ومعتقدات.
ولكن الناس إذا كانوا يَتفاضَلُون بهذه المعايير _ فإن هذه المعاييرَ تَتفاضلُ هى كذلك فيما بينها بمعيارٍ آخر ينتظمُها جميعًا؛ لِتَدُورَ فى فَلَكِه، ذلك هو معيارُ الأخلاق، ولهذا عَدَّ الفلاسفةُ الأخلاقَ مِن أهمّ العلومِ المعياريةِ للإنسان.
فالمعاييرُ الإنسانيةُ كلُّها لا تنهضُ وحدها _ دون معيارِ الأخلاق _ لبيانِ شأنِ الإنسانِ وقيمتِه.
وفى القمة من معيار الأخلاقِ نَرى خُلُقَ الإيثار، وقد شَرَّفَه اللهُ تعالى بالثناء على أهله فى قوله الكريم :
" ويؤْثِرُون على أنفسهم ولو كان بهم خَصاصة ".
والحكمةُ البالغةُ تقول :
" ما استحقَّ أن يُولَدَ مَنْ عاش لنفسِه فقط ".
وعروة بن الورد _ على الرغم من جاهليتِه وصعلكتِه _ خَلَد مِن شعره هذا البيت المأثورُ، حيث يقول :
أُقَسِّمُ جسمى فى جُسُومٍ كثيرة
وأَحْسُو قَراحَ الماءِ، والماءُ بارِدُ
هكذا كان محمد شوقى أمين، وبهذا ولهذا عاش حياتَه كلَّها، أو عاش حياةَ الناس، بالتعبيرِ الصحيحِ الدقيق !
وإذا كان على كلِّ باحثٍ(13/1)
يَتصدَّى لدراسة الأفذاذ من أعلام الأدب والعلم والفن أن يبحثَ عن مفتاحٍ للشخصيةٍ التى يَدْرُسُها، حتى يَتَسنَّى له الدخول إلى عالَمِها الحافلِ بجلائلِ الأعمال _ فإننى حين أَمعنتُ فى النظر إلى شخصية محمد شوقى أمين، بأعوامِ عمرِه الثمانين، وجدْتُ مِفتاحَ شخصيتهِ الجليلةِ النبيلةِ مُتمثّلاً فى " الإيثار "، وقد تَطَوَّر "الإيثارُ " لديه حتى صار طبعًا وسليقة، ثم تَصاعَدَ حتى صار " إنكاراً للذات " !
وكم كنتُ حين أراه غارقًا فى طُوفان من شواغِله بالآخرين، أَصيح به فى احتجاجٍ ودُود : أين أنت يا رجل ؟ !
فكان يُجِيبُنِى مازحًا على طريقة اللغويين والنحاة :
" أَىٌّ هكذا خُلِقَتْ ! "
وكان يُضِيفُ أحيانًا بعد أن يُجَلْجِلَ بضِحْكتِه المعهودة :
هذا قَدَرِى يا إبراهيم، وإنى واللهِ لَراضٍ به، بل سعيد !
ولقد صَدَقَ واللهِ فيما قال .. فشوقى أمين قد تَخلَّى عن شوقى أمين منذ شبابه الباكر !
وكان والدُه الشيخُ " أمين العالم " من علماء الأزهر، له حلقةُ درسٍ ووعظ يَعْقِدُها فى بعض مساجدِ القاهرة، ولكنه حين طَعَنَ فى السِّنّ، ووَهَنَ العَظْمُ منه، وأَدركَه عَجزُ الشيخوخة، وأَقعدَه المرض، نهض ولدُه الأكبرُ شوقى، فحملَ عنه أمانةَ أُسرتِه، فكان راعِيَها، بل عائِلَها، وهو ما زال فى غَضارة عمرِه، ونضَارةِ شبابهِ، وكان بإيثارِه هذا راضيًا مرضيّا.
وقد تجلَّى هذا الإيثارُ السمحُ النبيلُ مِن بعدُ، حين تُوفِّىَ أَخٌ له عن أولادٍ مازالوا فى مَدْرَجِ طفولتِهم، فضَمَّهُم شوقى إلى كنفه، كما استظلَّ برعايته آخرون مِن أَقربائه، وإنى لأَعْلَمُ مِن هذا الكثير !
وليس هذا بعجيبٍ من شوقى، فقد كان نهرًا متدفقًا بالحب والحنان!
أيها السادة :(13/2)
وُلد محمد شوقى أمين فى منتصفِ العام العاشرِ من هذا القرن، والتحقَ فى طفولته بكُتّابٍ فى حارة الروم بحىّ الدربِ الأحمر بالقاهرة، فتلَقَّى فيه مبادئَ العلوم، وأَكملَ حِفْظَ القرآن الكريم، ثم التحقَ بالقسم الابتدائىِّ فى الأزهر، حيثُ تَفتَّحَتْ مواهبُه عن قُدراتٍ لغويةٍ فذَّة، ونُزُوعٍ عَرِم نَهِمٍ إلى الأدب العربىّ، فانطلقَ الصبىُّ الطُّلعَةُ إلى ذخائر اللغة، ومصادر الأَدب، يقرأ ويقرأ، حتى استوعبَ فى سنواتٍ قلائلَ ما يستوعبُه غيرُه فى عشراتِ السنين، ففاضَ مَوْرِدُه، واسْتَحصَدَ زرعُه، وصار مُؤَهَّلاً للعَطاءِ فى سخاء، وهو مازال طَرِىَّ العُود، غَضَّ الإهاب !
كان التعليمُ الأزهرىُّ قد بَدأَ منهجُه يأخذُ بالعلوم الحديثة، كالحساب والجَبْر والهندسةِ والكيمياءِ والطبيعة، وغير ذلك من العلوم التى لم يكن للأزهرِ عهد بها مِن قبل، فضاقَ الفتى شوقى أمين بهذه العلومِ البعيدةِ عن اللغةِ والأدب، والتى يُرْغَمُ على اسْتِيعابِها واجتيازِ امتحانِها، حتى ينتقلَ إلى مرحلةٍ أُخرى من التعليم الأَزهرىِّ الجديد.
وما كاد الفتى اللغوىُّ الأديبُ ينتقلُ إلى المرحلةِ الثانويةِ حتى آثَرَ أن يختارَ الدراسةَ الحُرَّةَ العِصاميَّة للغةِ العربيةِ وآدابِها على هذه الدراسةِ النظاميةِ الجديدةِ التى انتهجَها الأزهرُ فى عهده الحديث.
وقد قَوَّى هذا الإيثارَ لَدَيْه ما أَخَذَ ينتظرُه مِن حَمْلِ أَعباءِ أُسرته!
ولكنَّ الفتى شوقى لم يكن لَدَيْه مِن عُدَّةٍ يُواجِهُ بها الحياةَ سوى ثقافتِه اللغوية والأدبية، وقلمه الفتىّ المُرْهَف، فخاضَ غِمارَ الصِّحافة .. وكانت حينذاك فى العِشرينيّاتِ، وقد نَشَأَ الكثيرُ منها فى أحضان السياسة، حيث الأَحزابُ الوليدةُ تَخُوضُ تجربتَهُا الديمقراطية الطَّلِيعيَّةَ فى عالمنا العربىّ، ولكلِّ شىء فى إبّانِه حماسةٌ وَفورة، وعَجِيج وضَجِيج !(13/3)
نَأى شوقى بنفسه عن ذلك كلِّه، حتى لا يُغيره ما تُثِيره معاركُ الصُّحُفِ السياسيةِ فى جَوْلاتِها وَصوْلاتِها، وكَرِّها وفرِّها، وآثَرَ أنْ يَتَبَّوأَ مَقْعَدَ صِدْقٍ على المَنْهَلِ الصافِى للصِّحافةِ الأدبيَّة؛ فأَشَدُّ ما يُنْكِرُه شوقى أمين ما تَلْجَأ إليه الصَّحافةُ السياسيةُ مِن مُداهَنةٍ ومُخاصَمة، ومُداوَراتٍ ومُناوَرات، فهو رجلُ علمٍ وأدب، والعلمُ بَحْثٌ عن الحقيقة، والأدبُ غايتُه الحق، وكم مِن حقائقَ وحقوقٍ تُسْفَك دماؤُها على مَذْبَحِ السياسة !
أَمرٌ آخَرُ جَعَلَ شوقى يَعْزِفُ عن
الصِّحافة السياسية؛ ذلك أَنَّ جَوَّ السياسةِ قُلَّب، لا يكادُ يَصفُو حتى يَغيِم، وَتَيّاراتُها لا تَكادُ تهدأُ حتى تستحيلَ عواصفَ وأعاصِير، فكيف يَضَعُ مَصِيرَ أسرةٍ _ بل أُسَرٍ _ هو عائِلُها فى مَهَبِّ هذه الأَخطار ؟!
ولكن أَمرَ السياسةِ فى أواخرِ العشرينيّاتِ كانَ يَمُور بصراعٍ بين رجالِها الوطنييِّن الشُّرفاء والقَصْر، انتهى بأن دَفَعَ القصرُ بإسماعيل صدقى إلى رئاسةِ وزارةٍ عَطَّلَتِ الدستور، وكادتْ تُجْهِزُ على التجربةِ الديمقراطيةِ فى مَهْدِها، لولا أَنَّ شبابَ مِصرَ هَبَّ فى مظاهراتٍ عاصفة، تَعالى زَئِيرُها مُطالِبًا بعودةِ الدستور، وتحطيم اليدِ الحديديةِ التى تُمْسِكُ بخِناقِ الديمقراطية !
كان ذلك فى العام الثلاثين من هذا القَرن، حين كان شوقى قد بلغَ عامَه العشرين.
ولم يكن بِوُسْعِه _ وهو فى عُنفوان شبابِه _ أَنْ يُمْسِكَ بزمامِ غَضَبِه وهو يَرَى مظاهراتِ الشبابِ تجتاحُ مصرَ سخطًا ونقمةً على طغاتها المُسْتَبدِّين، وكان مصيرُه _ مع زعماءِ تلك الانتفاضةِ _ الاعتقالَ والسَّجْن، حيث أَمْضَى بعضَ أيام، خرجَ بعدها مِن سِجْنِه ليكتبَ مؤلَّفَه الأول : " مشاهدات سَجِين : عشرةُ آلافِ دقيقةٍ فى سِجْن مصر ".(13/4)
ثم أَصْدَر فى العام نفسِه مجَلَّة "الشاعر" التى كان مَقرُّها فى شارع حسن الأكبر بالقاهرة، بالقُرب من دار الكتبِ المصرية _ مَنْهَلِه الثقافِّى الذى لم يَنقطع عنه طَوالَ حياتِه_ وقد كان مَقَرُّ هذه المجَلَّةِ _ التى لم تَعِشْ طويلا _ مُنْتَدًى أدبيًّا لبعضِ الأَعلام من الأدباء والعلماء .
ومن الذكريات الطريفةِ التى حَدَّثَنِى عنها أن مَقَرَّ مجلة " الشاعر"، كان مِن الأماكن التى لجأَ إليها الشاعرُ الشعبىُّ الكبير"بيرم التونسى "، ليُقِيمَ فيها بعيدًا عن أَعيُنِ مُطارِديه من الشرطة، بعد أن صَبَّ على الملك فؤاد جامَّ أَزجالِه اللاذعةِ الساخرة !
ومن مواقفه المشهودةِ المحمودة كذلك تَصَدِّيه _ وهو الشابُّ الصغير _ لِكاتِبَيْن كبيريْن هما : العقاد والمازنىّ، حين هاجما أَميرَ الشعراء " شوقى " _ وموقفُهما من شعره معروف _ فكَتَبَ شوقى دفاعًا مجيدًا عن شوقى، رَدَّ على الكاتبيْن الكبيريْن كلَّ ما رَمَيَا به شعرَ أميرِ الشعراء، باقتدارٍ فَذّ، وجرأة باهرة، وقد عَبَّر أَميرُ الشعراء عن عِرفانه وامتنانِه لشوقى بِبطاقةِ دعوة أَرسلها إليه لِشُهودِ مسرحيتِه "مجنون ليلى " بدار الأُوبرا، وبدعوةٍ لزيارتِه فى داره ( كرمة ابن هانئ )، ولكن هذا اللقاءَ الموعودَ لم يَتِمّ، لأن أميرَ الشعراءِ كان على موعدٍ آخَرَ للِقاء ربِّه، حيث وافَتْهَ منيتُه !
أيها السادة :
لم يَمْتَهِنْ شوقى الصِّحافة؛ لتكون مهنةً أو حرفةً أصيلةً يقفُ عليها رزقَه، فقد دخلَها من باب الهِواية لا الامتهان؛ فهو لغوىٌّ أديب، وَقَف قلمه على كل ما يتصلُ باللغة والأدب من بعيدٍ أو قريب، وهو صاحبُ رسالةٍ فَرَّغ لها جُلَّ وقتِه وجُهدِه، وهى حمايةُ اللغةِ العربيةِ من كل لحنٍ أو تحريف، والدعوةُ إلى النهوض بها لِتُعَبِّرَ عن الحضارة المعاصِرة، بمسْتَحدثاتِها ومخترعاتِها فى العلوم والفنون.(13/5)
فقد كان قلمُ شوقى أمين يُلاحِقُ ما يَشيعُ على الأقلام والأَلسنةِ من أخطاءٍ لغويةٍ ونحوية، حتى ذاع صِيتُه بين شيوخ الفصحى وسَدَنَتِها حينذاك، ولكنه، وهو يُحاولُ أن يُطاوِل هؤلاء العمالقةَ فى عِلْمِهم، كان ينفردُ بينهم باجتذابِ أَلْبابِ القراءِ لِمَا يكتب، على الرغم مِن جفاء المَبْحَثِ اللغوىِّ ووُعُورَتِه لَدَى الكثيرِ من القراء، فقد كانت كتاباتُ شيوخِ الفصحى يَسُودُها وَقارٌ وصرامَةٌ وجَهامة، وهى تُؤاخِذُ المُخطئِين أو تُساجِلُ المُناظِرِين، أما شوقى أمين فقد كان يَسُوقُ تصويباتِه ومُؤاخذاتِه ومُساجَلاتِه رَشِيقةً أَنِيقة، تَقْطُرُ مودة، وتَفْتَرُّ عن بسمةَ مَرحٍ ودُعابة، فتنزلُ بردًا وسلامًا على مَنْ يُؤاخِذُهم ويُساجِلُهم، وتُكْسِبُه قَبُولاً حَسَنًا لَدَى قارِئِيه !
أما دعوتُه إلى النهوض باللغة العربية لِتُعَبِّرَ عن حضارتنا المعاصرة، بعلومِها وفنونِها وصناعاتِها _ فقد تَمَثَّلَتْ فى انضمامِه إلى كوكبةِ الدُّعاةِ لإنشاءِ مجمعٍ لغوىّ، وهى دعوةٌ تَنادَوْا بها منذ أَواخِرِ القرنِ الماضى، وآتَتْ بَواكِيرها فى مجمعِ البكرىِّ الذى أُنْشِئَ فى شارع الخُرُنْفش بالقاهرة فى العام الثانى والتسعين من القرن الماضى، وكان مِن أبرزِ أعضائِه الشيخُ محمد توفيق البكرى، والشيخُ الإمام محمد عبده، والشيخُ محمد محمود الشنقيطى، ثم توقَّف بعد أَشهرٍ قليلة. وبعد عَشْرٍ من السنين نهضَ نادى (دارِ العلوم) بتجديدِ هذه الدعوة، فى ندوةٍ امتدَّتْ أسبوعيْن، كان من أعلامها حفنى ناصف، ومحمد الخضرى، وحمزة فتح الله،وطنطاوى جوهرى، وفتحى زغلول.(13/6)
وفى سنة ستَّ عشرةَ من هذا القرن أَنشأَ أحمد لطفى السيد " مجمَعَ دارِ الكتب"، الذى رَأَسَه شيخُ الأزهر،الشيخُ سليم البشرى، وكان لأحمد حشمت وزير المعارف حينذاك محاولةٌ فى هذا السبيل، ولكن الثورةَ التى اجتاحتْ مصرَ عام تسعَةَ عَشَرَ عَلاَ صوتُها على كل صوت،ووَقَفَ الجميعُ جهودهم على إنجاحها حتى تبلغَ غايتَها مِن التَّحَرُّرِ والاستقلال!
وظَهرتْ بعد الثورة محاولةٌ لإنشاء مجمعٍ لغوىٍّ أهلىٍّ، حين تَأَلَّفَ مجمعٌ فى دار " إدريس راغب " بحىِّ الظاهر بالقاهرة، كان من أَبرَز أَعضائِه محمد رشيد رضا، وأحمد العوامرى، ومحمد صادق عنبر، الذى أَصْهَرَ إليه محمد شوقى أمين بالزواج من ابنتِه، التى كانت هى الأخرى أديبة شاعرة!
ثم حَمِيَتِ الدعوةُ إلى إنشاء مجمعٍ لغوىٍّ فى أواخِر العشرينيَّاتِ وأوائلِ الثلاثينيّاتِ، وخاض حَوْمَتها شوقى أمين حيث امتَشَق قلمَه الفَتىَّ الجرىء، مُستفزَّا غَيْرةَ الأدباءِ والعلماء على لغتِهم التى استباحَ حِماها العامِّىُّ والدَخِيل، واعترى هِمَّتَها قُصُورٌ قَعَدَ بها عن الوفاء بحقِّها فى أن تكونَ لغَة علم وفنٍّ وحضارة، وأن تستعيدَ مكانتَها المرموقةَ بين لغات العالم الكبرى، وتُراثُها العلمىُّ العريقُ خيرُ شاهدٍ على قُدرتها وجَدارتِها، حين انعقدَ لها اللواءُ على سائر اللغات، وصارتْ لها السيادةُ والرِّيادةُ فى العلوم والفنون والآداب، عِدَّة من القرون!
كتب شوقى أمين بجريدة الأهرام فى أوائل العام الثانى والثلاثين مقالاً عنوانه "حاجةُ اللغةِ العربية إلى أَكاديميَةٍ" جاء فى مُسْتَهَلِّه قولْه :
"أَشرقَ الأهرامُ _ فى صباح اليوم _ حاليًا صدرَه بمقالٍ كريم، من قلمِ حضرة صاحبِ السعادةِ زَنانِيرِى باشا، أعربَ فيه عن حاجةِ العصر الحالى إلى معهدٍ لغوىٍّ يأخذُ على عاتِقهِ أن يُوجِدَ مُستحدَثاتِ من الألفاظِ العربيةِ الفصحى، تَدُلُّ على مُستحدثاتِ المعانى العاليةِ العامة .(13/7)
ولا أَنْسَى فى مُقْتَبلِ حديثى أن أشكرَ لسعادةِ الباشا تنويهَه باسْمِى فى مُقْتَبل حديثِه، فلقد ذَكَرنِى فى مَعْرِضِ ذكرِه لمن يقرأُ لهم تعليقاتِهم على أَغلاط الكُتَّاب. ثم مضى يقول :
" والواقعُ أن الحاجةَ إلى المعهدِ اللغوىِّ حاجةٌ ماسَّةٌ لا يمُدُّها إلاّه … فعند المعهدِ اللغوىِّ يُصِيبُ الأدباءُ والصِّحافِيُّون ما يُذَلِّلوُن به تلك العقباتِ التى تعترضُهم فى حياة الأدبِ والصِّحافة. ومِن العجب العاجِب أن يبقَى المعهدُ اللغوىُّ إلى الساعة التى نحن فيها : فكرةً تتَماوجُ بها الرؤوس، وأُمْنِيَّةً تختلجُ فى النفوس، ولا هو شَأْنٌ ينتطحُ فيه عَنْزان، ولا هى مسألةٌ فيها قولان .. ونضربُ فى خَطَلٍ : حين نظنُّ أن الجهودَ الفرديةَ التى يبذلُها أنصارُ اللغةِ تُورِثُ كفايةً وغَناء، والحقُّ أن أثرَها وقتىٌّ إن صحَّ
أن يكون لها أثر . فهذه الجهودُ الفرديةُ يُعْوِزُها النظام المعنوىُّ الذى يَسْعَى سَعيَه لَدَى الأدباء، وتنقصُها القوةُ الروحيةُ التى تُؤْتِى أُكُلَها عند الكُتّاب، ولن يكونَ ذلك النظامُ، ولا تلك القوة، إلا حيث المجامعُ النبيلةُ الموصوفةُ التى تترامَى إِليها العيونُ، فى تقديرٍ لها، واعتداد بها".
ثم اختتَمه بقوله :
" أمامنا : المعهدُ اللغوىّ، وفينا _ بحمد الله _ رجالات : فى مُلْكِهم أن يُنْشِئُوه إنشاءً طَيّبا، ويُنبتوه نباتًا حَسَنًا، فيُؤتِي أُكُلَه مرتيْن بإذن الله " إذن : فليس يَبْقَى إلا الجُودُ والعزم، فهْل يَنْقُصُ رجالاتِنا هذان؟
أَلاَ نفوسٌ أَبِيَّاتٌ لها هِمَمٌ
أَمَا على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ ؟"
ولم يجنح بقلمِه إلى انتظارٍ يَتَرقَّبُ فى ظِلِّه ثمرةَ دعوتِه، بل أَخذ يُلِحُّ بها إلحاحًا فى مقالاتٍ متتابعة، منها مقالات عنوانها: " المجمعُ اللغوىّ _ لماذا يُراد ؟ "
جاء فى إحداها بجريدة الأهرام :(13/8)
" أَفْرُغُ الساعةَ باليراعةِ إلى استئناف الحديثِ عن المجمع اللغوىّ من جانبه العملىّ، بعد أن تحدثتُ عنه فى كلمتيْن سَلْفَتا من جانبه الشكلىّ، والحديثُ ذو شُجون.
وإذا كان المجمعُ اللغوىُّ إنما يُعْقَدُ للنهوضِ بالفصحى إلى مكانٍَ عَلِىّ، فعندى أنه لن يُوفِىَ على الغاية إلا حينَ تَتَوجَّهُ جهودُه نحو أُمورٍ ثلاثة لا مُنتَدَح له عن واحدٍ منها، وأولُ ذلك اشتقاقُ مُسْتَحْدَثاتٍ من الألفاظِ تَصِفُ مُستحدثاتِ المعانى، والأمرُ الثانى تَبْيِينُ ما شابَ كثيرًا من العبارات من أخطاءٍ وأغاليط، وثالثُ الأُمورِ إصلاحُ منطقِ الألفاظِ على ألسنةِ الخُطباءِ والأدباء ".
ثم عرضَ لفوضى الجهودِ الفرديَّةِ فى معالجة الكُتّابِ لِمَا جَدَّ على صعيدِ الحضارةِ الحديثةِ من مُستحَدثاتٍ تَقْتَضِى وَضْعَ مصطلحاتٍ علميةٍ وألفاظٍ حضارية .. فقال :
"والمجمعُ اللغوىُّ فى مَوْسُوعِه أن يُبِيدَ هذه الفوضى ويسدَّ حاجةَ رجال العلمِ والفنِّ بتعريبِ المصطلحاتِ العلمية والفنية، ونُحِبُّ أن نُشِيرَ إلى أن موقفَ المجمع من تلك المصطلحاتِ موقفُ سياسةٍ وتدبير، لا موقفُ تَعَسُّفٍ وتَعَصُّب، وليس من خيرِ العربيةِ أن نعتمدَ فى تعريبِ كلِّ المصطلحات على الاشتقاق؛ فيجب ألاَّ نُعانِىَ وضعَ اسمٍ للتَّرامِ _ مثلاَّ _ واسمُه كما تَرَى مصقولٌ عذب، فالسَّماحُ للدخيلِ قانونٌ مصطلحٌ عليه فى عصور العربية جمعاء، وجِدٌّ كافٍ فى كثيرٍ من المصطلحات العلميةِ أن تبقى فى وضعها العلمىِّ على شريطةِ أن تُنْسَجَ على مِنوالٍ عربىّ .. ذلك أَوْلىَ وأَجدَى " .
ولم يَكَدْ هذا العامُ _ العام الثانى والثلاثون _ يُشْرِفُ على نهايته حتى صدرَ مرسومٌ ملكىٌّ فى الثالث عشر من ديسمبر بإنشاء مجمعِنا اللغوىّ، وإن كان العملُ به لم يبدأ إلا فى الثلاثين من يناير عامَ أربعة وثلاثين .(13/9)
وقد حَدَّثنِى أخى شوقى أمين أَنَّ حلمى عيسى وزيرَ المعارفِ حينذاك هو الذى اختارَه للعملِ محررًا بالمجمع؛ وفاءً وعرفانًا بما بذلَه من جُهدٍ مشهود فى سبيل إنشائه !
أيها السادة :
نَوَّهْتُ من قبلُ بأن شوقى أمين كان خُلقُه الإيثار؛ آثَرَ أَنْ يُفْرِغَ نفسَه للغةِ العربيةِ وآدابِها، بعيدًا عما تَقْتَضِيه فُصُولُ الدراسة، وما تنتهى إليه مِن شهاداتٍ ودرجاتٍ علمية، وآثر أُسرتَه وعَشِيرتَه على نفسه، ثم ها هو ذا يُؤثِرُ المجمعَ على كل ما سواه، فوقَف عليه جُهدَهَ، وعكف عليه محررًا فى لجانه اللغويةِ وجلساتِ مجلِسه ومؤتمرِه، وبذلك افتقدتْ ساحةُ الصِّحافةِ فَتاها اللغوىَّ الأديب، فكم كان يَصُولُ فيها ويَجُولُ بقلمِه المِغْوار، الذى آثَر أن يَجْعَلَه فى رِباطِ المجمعِ إلى آخرِ رمقٍ فى حياته !
عَمِلَ شوقى أمين بالمجمع محررًا، ثم تَرقَّى إلى المحرر الأول، فنائِب رئيسِ التحرير فرئيسِ التحرير، وقد عَمِلَ إلى جانب ذلك مديرًا لمكتب رؤساء المجمع الأساتذة : محمد توفيق رفعت، وأحمد لطفى السيد، والدكتور طه حسين.
وقد آثرَ ألاَّ ينتظرَ حتى تُحِيلَه الحكومةُ على المعاش، فأَحالَ نفسَه قبل بلوغِه الستينَ بعام، واخْتِيرَ خبيرًا بلجان الأصول، والألفاظِ والأساليب، والمعجم الوسيط، ثم انْتُخِبَ لعضويةِ المجمع عامَ أربعةٍ وسبعين، حيث امتدَّ نشاطُه المجمعىّ إلى لجانٍ عديدة، فكان مقررًا للجنتىِ الأصول، والألفاظ والأساليب، وعضوًا بلجان اللهجات، والمعجم الكبير، والمعجم الوجيز، ولجنة الاقتصاد، ولجنة القانون.
وإنتاجه اللغوى المجمعى غزير متنوع يربو على مئة بحث، تتوزَّعها مجالاتٌ ثلاث: مجالٌ ينْحُو فيه إلى نحو العربية لتيسير بعض قواعدهِ وضَوابِطه، ومجالٌ ثانٍ يَعْمِدُ فيه إلى تصويبِ بعضِ ما شاعَ مِن ألفاظٍ وأساليبَ معاصرة، أما المجالُ الثالثُ فقد أَبانَ فيه فَصاحةَ الكثيرِ من اللغة الدارجة.(13/10)
وقد أَسهم شوقى أمين فى إعداد كثيرٍ من مطبوعات المجمعِ ومراجعتِها، منها : كتبُ أُصولِ اللغةِ، والألفاظ والأساليب، والقرارات العلمية، ومحاضر الجلسات، والمعجمان: الوسيطِ والوجيز، كما مثَّل المجمع فى كثير من المؤتمرات والندوات فى مِصر، وخارج مصر.
أما نشاطه خارجَ المجمع فقد كان مِن نافلةِ جُهدِه ووقتِه، حيث كان يلقِى محاضراتٍ فى معهد الدراسات الإسلاميةِ التابعِ للأزهر، ومعهدِ البحوثِ والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية، ومعهدي: الخدمةِ الاجتماعية، والإدارةِ والسكرتارية للفَتيات. كما اختِيرَ عضوًا بلجنةِ الدراسات الأدبيةِ بالمجلس الأعلى لرعاية الفنونِ والآدابِ والعلومِ الاجتماعية، وأَسَْهَمَ إسهامًا كبيرًا فى لجنةِ نَشْرِ المؤلفاتِ التيمورية ؛ فحقَّق ديوانَ عائشة التيمورية، وأَشرفَ على إخراج كُتُب : الآثارِ النبوية الشريفة، وأسرارِ العربية، والقياسِ والسَّماع، والتَّذكرةِ التيمورية، وأعلام الفكر الإسلامىَ.
كما أَفرَدَت مجلةُ الهلالِ بابًا لِطرائفِه الأدبيةِ والفكاهية، من العام الثالث والخمسين إلى العام الحادى والستين، وهى من ذخيرته الحافلةِ بكنوز اللغةِ والأدب، المُعبِّرةِ عن الكثير من جوانِب الحضارةِ العربية، على امتداد عصورِها وبيئاتِها. وقد صَدَرَتْ فى كتابٍ عنوانُه : " طرائفُ وفكاهاتٌ من تراثنا العربىّ ".
وقد صَدَرَ له من قبلُ: كتاب "التشريعُ الإسلامىُّ للأحوالِ الشخصيةِ والتكافُلِ الاجتماعىّ "، وكتاب : "الكتابة العربية"، وشاركَ فى تحقيق ديوانِ بشارِ بن بُرد، كما شارَك فى سلسلةِ المَطبوعاتِ التى تُصْدِرُها مطبعة الكيلانىّ بعنوان : "سبيلُ الله"، فأَخْرَج فيها قُطوفًا من كتاب "إحياءُ علومِ الدينِ " للإمام الغزالىّ، وقَدَّمَ لقصيدةِ محمود سامى البارودى : " كَشْفُ الغُمَّة فى مدحِ سَيِّدِ الأُمَّة ".
أيها السادة :(13/11)
كنتُ أَوَدُّ أن أُحَدِّثكم عن شوقى الشاعر، وهو صاحب مجلة " الشاعر " وكم أَسْمَعَنِى الكثيرَ من شعره، وكم أَلْحَحْتُ عليه فى جَمْعِه، ولكنه كان يَمُدُّ فى حبالِ تسويفِه حتى تداخَلَتْ وتاهتْ فى شَواغِله _ أو شواغِلِ الناس _ التى كانت تَأْخُذُ عليه أَقطارَ حياتِه، وإنى لأُهِيبُ بأُسرتِه أن تنهضَ بذلك، حتى يَرى القراءُ الجانبَ الإبداعىَّ مِن شوقى أمين، وهو لم يُفْلِتْ كذلك مِمّا عَهِدْناه فيه من مرحٍ ودعابة !وإنِّى لأََذْكُرُ من ذلك أبياتًا له حين عاجَلَه الشَّيْبُ والصَّلَع، وكان قد أَعدَّ صِبْغَة يَصْبُغُ بها شَعْرَه، فقال :
رَضيِتُ بالشَّيبِ تَعْرُونِى مَواضِحُه
والسِّنُّ لَمَّا تَزَل لِلَّهْوِ إبّانا
ما بالُ شَعْرِىَ قد جَفَّتْ مَنابِتُه
وارْتَدَّ مُنْجَرِدًا ما كان فَيْنانا
أَعْدْدَتُ للشَّيبِ صِبْغًا حين باكَرنى
يا لَيْتَ شَعْرِىَ ماذا أَصْبغُ الآنا؟!
ولعلَّ مِسْكَ الختامِ لكلمتى أبياتٌ قالَها شوقى حين قَعَدَ به المرض، يُناجِى ربَّه فيقول :
حَسْبِى دُعائِىَ ( ياربَّاه ) إيمانا
فامْنُنْ بعفوِكَ ياربَّاه إحسانا
إن كان ذنبى عظيمًا فى مُساءلَة
فأنتَ أعظمُ ( يا ربَّاه) غُفرانا
الذنبُ : ذنبٌ على عَمْدٍ لمعصيةٍ
وما تَعَمَّدْتُ يا ربَّاه عِصيانا
النفس أَمّارةٌ بالسُّوءِ إن ضَعُفَتْ
والضعفُ عذرٌ لِمَنْ سوَّيت إنسانا
إنىِّ إلى رحمةِ الرحمنِ مُفْتَقِرٌ
وقد دَعَوتُكَ ( يا رحمنُ ) رحمانا
روحى تَتوقُ إلى لقياكَ واثقةً
بأَن سَتَمْنحَنِى رَوْحًا ورَيْحانا
أُخْرَاكَ فيها خَلاصُ الرُّوحِ مِن كَبَدٍ
فيها التَّحَرُّرُ من أَوهام دنيانا
هَبْ لِى رضاكَ فما أَرْضَى به بَدَلاً
يا واهبَ الفضلِ، كلّ الفضلِ رضوانا
جَزاه الله فى جَنته الجزاءَ الأَوْفَى، بقدرِ ما
أََعْطَى لأُمَّته ولُغتِه ومجمعِه فَوَفَّى !
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
إبراهيم الترزى
عضو المجمع(13/12)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فإنى لا أعدو الصواب إذا قلت : إن من المؤلم أن يرى مجمع الخالدين أن من واجبه أن يبحث فى توحيد المصطلح العربى.
ذلك أن من المفروض أن يكون المجمع قد انتهى من بحث هذه المسألة منذ أمد بعيد، فقد مضى على تأسيس مجمع الخالدين أكثر من ستين سنة، مشتملاً على قمم من العلماء والفضلاء المتخصصين ممن يجيدون بعد اللغة العربية أكثر من لغة أجنبية .
وقد كانت قضية وجوب توحيد المصطلح هاجساً فى النفوس منذ عدة عقود من السنين . ومن المؤكد أن مكتبة المجمع تحتوى على بحوث قيمة فى هذه المسألة .
وليس من الفضول إذا قلت بأن هذه البحوث نداءات مخلصة تصدر إلى هذه الأمة بوجوب توحيد المصطلح ، ويبدو أن
هذه النداءات لم تلق أذناً صاغية على
الرغم من أننا جميعاً ندرك أن توحيد
المصطلح قضية يتحتم علينا أن تصبح مطبقة فى دوائر هذه الأمة منذ أمد بعيد . وعلى كل حال فإنى وغيرى لا يمكنه أن يأتى بجديد حين يؤكد بالبراهين القاطعة أن توحيد المصطلح أمر ممكن التطبيق إذا توفرت الإرادة الجازمة الحاسمة من أصحاب الكلمة النافذة وعلى رأسهم وزارات التربية والتعليم العالي ووزارة الأعلام . فنحن نعلم جميعاً أن وزارات التربية والتعليم العالي تهيمن على تعليم الصغار والكبار من النساء والرجال ، ومن المحقق أن فى ملفات هذه الوزارات بحوث لعلماء أجلاء بحثوا فيها توحيد المصطلحات وأن هذه البحوث تشتمل على نداءات ترى أن هذه المسألة يجب أن تكون واقعاً بأسرع ما يمكن ، ومعنى ذلك أن تكون فى مقرارات وزارات التربية والتعليم العالي لكي تكون هذه المسألة مغروسة فى نفوس الجميع .(14/1)
ويقال مثل ذلك لوزارات الإعلام التي تهيمن على أجهزة لا يخلوا منها منزل من المنازل مهما بلغ ضعف أصحابه الاقتصادى ، بل إن هذه الأجهزة أصبحت مصاحبة لكل فرد من الأفراد فى سفره وحضره،ونعنى بها التلفاز والمذياع بالإضافة إلى السينما والصحافة . ولست فى حاجة إلى توضيح ما لهذه الأدوات من تأثير بالغ فى النفوس والعقول ، ولست فى حاجة أيضا إلى توضيح أن الاختلاف فى استعمال المصطلحات بصورة عامة يعتبر من العلامات الواضحة على ضعف هذه الأمة وتفرقتها .
وكلنا يعلم أن ولاة الأمور يعلنون فى كل حين أنهم يبذلون كل ما يستطيعون من نشاط فى وحدة هذه الأمة أو تقاربها ، وكل من له أدنى إدراك يعرف أن التقارب بين الأمة العربية لا يمكن أن يتحقق إلا إذا قامت وزارات التربية والتعليم العالي ووزارات الإعلام فى جميع الدول العربية بعمل ما من شأنه تضامن هذه الأمة وتقاربها، وذلك بأن تكون مناهج التعليم وبرامجه مشتملة على تنفيذ ما يصدره مجمع اللغة العربية من قرارات وتوصيات، وهذا لا يكون إلا بصدور قرار سياسي يتضمن طلباً من جميع المؤسسات والوزارات بأن يكون عملها مستوحى من هذا التوجه . وإنه ليؤسفنا ألاّ نرى إلا القليل من هذا الذى نشير إليه، فما زالت وزارة الإعلام لا تنهى الإذاعة والتلفزيون عن استخدام اللهجات العامية ، وما زالت مناهج وزارة التربية إلا القليل منها بعيدة عن ما يخلق التقارب العربى ، فكل دولة تجتهد فى أن تكون مسيرة تاريخها مختلفة عن مسيرة التاريخ العربى العام كما أن عاداتها وتقاليدها تختلف عن بقيه الدول الأخرى .(14/2)
وليس من التجنِّي إذا قلت إن وزارات الإعلام تحاول أن توهم الناس بأن الدولة التى تنتمي إليها أفضل من غيرها من الدول العربية ، يجرى ذلك فى معظم إن لم أقل فى كل الدول العربية . يعرف ذلك كله من يتابع نشاط وزارات التربية ووزارات الإعلام فى الدول العربية ، ومعنى ذلك أن التمزق العربى يصبح أمراً مألوفاً إن لم أقل إنه مغروس فى النفوس ، فلابد من عمل شئ علمي يؤدى إلى التقارب العربى .. ثم إنى منذ مدة وجهت سؤالاً إلى رياسة المجمع عن مصير توصيات المجمع التى نبذل فى الوصول إليها جهوداً مضنية ؟
أظن بأنى لا أتجنى إذا قلت بأن مصيرها الرفوف والأدراج، إذن فإن من الأفضل
للمجمع أن يتدارس هذه القضية المهمة ، ونرجو أن يؤدى هذا التدارس إلى ما يدفع ولاة الأمور فى الدول العربية إلى إصدار قرارات تلزم الجهات المختصة بتنفيذ هذه التوصيات التى لا غنى عنها، لأنها صادرة عن مؤسسة يعمل فيها علماء ومفكرون لهم أرفع المكانة فى النفوس ، فلا يجوز أن يكون مصير ما يوصون به إلى الإهمال .
القرار السياسي وتوحيد المصطلح :
ومن المؤكد أن ولاة الأمور إذا أصدروا قرارًا بتنفيذ توصيات المجمع فإن من شأن ذلك أن يحدث أثراً قويا على كل الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، الأمر الذي يجعلنا قد خطونا خطوة فى التقارب العربى إلى الأمام.
أما عن توحيد المصطلحات فإنكم تعلمون بلا شك أيها الأساتذة الأجلاء أن مجمع الخالدين قد دعى إليه منذ مدة طويلة . وقد كتب بعض الأعضاء بحوثا فى هذا الشأن، ويبدو أن هذه النداءات المتكررة والبحوث القيمة الصادرة عن المجمع لم تجد ما تستحقه من استجابة عملية . وإننا لنرجوا أن يستعمل المجمع كل ما لديه من وسائل ليكون هذا النداء بوجوب توحيد المصطلح نداءً عمليًّا فى هذه الدورة .(14/3)
أمَّا عن الناحية العملية فإنه لابد لنا أن نقرر بأن لغة القرآن " أرقى اللغات السامية، كما يقرر دارسوا تلك اللغات ، فلا تعادلها اللغة الأرامية ولا العبرية ولا غيرها من هذا الفرع السامى ، وهى كذلك أرقى لغات العالم ، فهى تمتاز حتى عن اللغات الآرية لكثرة مرونتها وسعة اشتقاقتها . فإذا قيس ما يشتق من كلمة عربية فى صيغ متعددة ، لكل صيغة دلالة على معنى خاص، بما يقابلها من كلمة إفرنجية وما يشتق منها، كانت اللغة العربية فى ذلك – غالباً – أوفر وأغنى " ذلك ما يذهب إليه المرحوم العلامة أحمد أمين فى كتابه ضحى الإسلام جـ ( 1 ) ص ( 289 ) وهذه الميزة فى اللغة العربية تُمكن العلماء من وضع المصطلحات فى مختلف الفنون والعلوم والمخترعات الحديثة .
ومهما يكن من شئ فإننا فى أشد الحاجة إلى توحيد المصطلح، لأن هذا النهج يُعد من أهم العناصر التى تقارب بين شعوب الأمة العربية، فإن من شأن اختلاف أسماء المصطلح أن يسبب ضعف التفاهم بين العرب . ويتضح جسامة هذا الضرر حينما يكون اللقاء بين القادة العسكريين .. إذ أن كل قائد لا يستطيع أن يفهم عن أخيه القائد العربى حين تكون المصطلحات العسكرية مختلفة فيما بينهم . ويقال مثل ذلك فى لقاء العلماء الذين يقومون بترجمة البحوث العلمية ، فإن اختلاف المصطلح يجعل ما يقوم به أولئك العلماء من ترجمات شاقًا أعظم المشقة ، وكان من المفروض أن تتنبه الجامعة العربية لهذه القضية المهمة . ولكنها لم تفعل شيئاً من ذلك . ولقد تبنه الدكتور على القاسمى إلى هذه المسألة حيث يقول فى بحث مفصل: " إذا بحثنا فى أعمال جامعة الدول العربية منذ تأسيسها قبل أربعين عاماً تقريباً ، وفى أعمال وكالاتها المتخصصة والمنظمات التابعة لها لا نجد استراتيجية لغوية معلنة أو مضمرة تأخذ فى النظر خصائص اللغة العربية ومميزاتها وواقع أحوالها ، والتحديات التى تواجهها " .
على أن مكتب تنسيق التعريب فى الرباط(14/4)
التابع للمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة الذى أقام عمله على ما أنجزته مجامع اللغة العربية قد بذل جهداً مشكوراً فى بعض ما أصدر من بحوث يوضح فيها وجوب توحيد المصطلحات العربية .
وتقول لى ذاكرتى فيما تُسعفنى به: إن الأستاذ محمود شيت خطاب أصدر قبل مدة طويلة معجماً فى توحيد المصطلحات العسكرية، وهو معجم قيم جدًّا،وأرجو أن تكون قيادات الجيوش العربية قد أخذت به.
ولطالما شكا العلماء المتخصصون فى لغة القرآن من عدم العناية باللغة كما يجب أن تكون عليه . ويبدو ذلك واضحاً لمن يستمع أو لمن يتأمل بعناية فيما تنشره الصحف من مقالات وأحاديث،ويقال مثل ذلك فى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وفى المدارس على اختلاف فروعها .
القيادة المصرية وتوحيد المصطلح :
ولعل من أسطع البراهين على ما يعانيه المصطلح العربى من اختلاف هو ما نجده من اختلاف فى أسماء الشهور ، وفى أسماء النقود . فالشهر الثامن يسمى فى لبنان والعراق ( آب ) وفى مصر ( أغسطس ) وفى تونس ( أوث ) أما النقود فعندنا (الجنيه ، والدينار ، والريال ، والدرهم )
ولقد أصدر الدكتور محمد رشاد الحمزاوى بحثاً قيماً درس فيه تاريخ توحيد المصطلحات دراسة دقيقة مفصلة . وكان محقاً فى إشادته بجهود مكتب التنسيق التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لما قامت به من نشاط لغوى واسع، فكان من جملة ما قامت به من عمل لغوى أن أصدرت ما يقرب من 70 ألف مصطلح فى 23 علميًّا فى المرحلتين الثانوية والعالية من التعليم .
والذى قدر له أن يتابع مجلة اللسان العربى يتضح له أن كل عدد منها يشتمل على بحوث قيمة فى اللغة . ويتضح مما أشرت إليه أن توحيد المصطلح العربى بصورة عامة أمر مفروغ منه، فلتكن دعوة مجمع الخالدين إلى هذا الأمر دعوة أخيرة حاسمة…وفى تصورى أن هذه الدعوة لا
تكون كذلك إلا بإصدار قرار من قيادة مصر ، فإننا نعرف جميعاً أن لمصر أقوى الأثر . ومن(14/5)
المؤكد أن باقى الدول العربية ستحذوا حذو مصر العظيمة ، إذ لا توجد دولة من الدول العربية إلا وفيها عدد كبير من الخبراء فى التربية والتعليم وفى الإعلام، بل فى جميع المرافق ، وليس بعيداً أبداً أن تتبنى قيادة مصر هذه الخطوة الرائدة التى هى فى الواقع عنصر من أقوى العناصر للتقارب العربى .
ولست فى حاجة إلى القول بأن الأمة العربية فى أشد الحاجة إلى التقارب فيما بينها، لأن التمزق العربى قد بلغ حالة تدمى القلوب .
عبد الرزاق البصير
عضو المجمع المراسل من الكويت(14/6)
أراد الله سبحانه للغتنا أن تكون سهلة ميسرة ، وأن يكون القرآن الكريم – الذى هو قمة الفصاحة والبيان – دليلاً على يسرها ، وعنوانًا على سهولتها وقوة تأثيرها . فقال : ( 1 ) ولقد يسَّرنا القرآن للذكر فهل من مُدَّكِر " وقال: (2) نَزَل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذِرين . بلسان عربى مبين ". وغير ذلك من الآيات التى تدل على يُسر القرآن ، وقُرْبِ مأخذه ، وبالتالى على يُسر اللغة وسهولتها.
ومع ذلك وجدنا من العرب من لا يأخذ اللغة هَيِّنة سهلة ميسورة ، بل ظنوا أن هذا الأسلوب الواضح السهل ، لابد أن يكون وراءه أسرار خفيَّة ، تتطلب منهم أن يُعملوا فيها عقولهم ، ليقفوا على حقيقة ما يُراد به ، ودفعهم ذلك إلى ضروب من التقدير والتأويل ، والتماس العلل والأسباب ، فتشعبت آراؤهم ، وكثرت اتجاهاتهم ، وحاول كل منهم أن يوجِّه رأيه، ويستدل على صحة ما ذهب إليه.
وسأعرض نماذج مختصرة من هذه الآراء والاتجاهات ، التى لا تقف عند حد ما جاءت عليه الأساليب اللغوية من وضوح ويسر ، بل رفضت هذا الظاهر الواضح ، وما لت إلى التقدير والتأويل .
1- إلحاق علامة التثنية والجمع بالعامل
إذا كان الفاعل الظاهر مثنى أو جمعا. من ذلك ما جاء فى الأساليب العربية الصحيحة الفصيحة من وجود علامة متصلة بالعامل تدل على أن الفاعل مثنى أو جمع ، عندما يكون الفاعل المثنى أو الجمع اسمًا ظاهرًا مذكورًا فى الكلام .
فقد جاء ذلك فى القرآن الكريم ، وفى النثر والشعر ، قال تعالى : وأسَرُّوا النجوى الذين ظلموا "(3) وقال:" ثم عَمُوا وصَمُّوا كثيرٌ منهم "(4) .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لورقة ابن نوفل عندما قال له : ليتنى أكون حيًّا إذ يخرجك قومك :" أو مخرجىَّ " هم ؟ وأصلها : مخرجوى ؛ فجمع بين الواو التى تدل على جمع الذكور والذين فى الآية الكريمة، وكذلك فى الآية الثانية .
وفى الحديث الشريف جمع بين الواو وهم ، وهما للجمع المذكر .(15/1)
ومن الشعر قول عبد الله بن قيس الرُّقَيَّات فى رثاء مصعب بن الزبير :
تولَّى قتال المارقين بنفسه ... ... وقد أسلماه مُبْعَدٌ وحميمٌ
وقول الشاعر :
نصروك قومى فاعتززت بنصرهم ... ... ولو انهم خذلوك كنت ذليلا
وقول غيره :
نُسيا حاتم وأوس لدن فا ... ... ضت عطا ياك يابن عبد العزيز
وقول غيره :
نُتِج الربيع محاسنا ... ... ألقَحْنَها غُرُّ السحائب
وقول أبى عبد الرحمن محمد بن عبد الله العتبى:
رأينَ الغوانى الشيب لاح بعارضى
فأعْرضْنَ عنى بالخدود النواضر
وقول أُمية بن أبى الصلت :
يَلُومُوننى فى اشتراء النخيل ... ... قومى فكلهمُ ألوم
وقول الفرزدق فى هجاء ابن عفراء الضبى :
ولكن دَيافِىٌّ أبوه وأُمّه
بحوران يعصرن السليط أقاربه (1)
وقول عمرو بن ملقط الجاهلى :
أُلْفِيَتَا عيناك عند القفا ... ... أولى فأولى لك ذا واقية
وقول الشاعر :
بنى الأرض قد كانوا بنىَّ فعزَّنى ... ... عليهم لآجالِ المنايا كتابها
ففى كل هذه النصوص ، وفى غيرها ، نرى أن العامل قد اتصل به ما يدل على الفاعل الظاهر مثنى أو جمعا ، فاللغة لا ترفض هذا الأسلوب ، ولكنها تجيزه ، بدليل وجود هذه النماذج التى لا مجال إلى تضعيفها .
وبدليل أنهم قالوا : إن الاسم الظاهر إذا أعرب بدلا من الضمير ، أو أعرب مبتدأ مؤخرا ، وأعربت الجملة خبرًا مقدما كانت جائزة عند الجميع .
ولكن الخلاف يشتد إذا ما جُعل الدالُّ على التثنية أو الجمع حرفًا جىء به للدلالة على أن الفاعل مثنى أو جمع،فرفضه بعض ، وأجازه آخرون .
وهذا خلاف فى غير ما نطقت به العرب ، وفى غير ما قصدوا إليه ، وانحراف بالمسألة ، وإخراج لها من النطاق الذى كان يجب أن تقف عنده ، ولا تتعداه ، وهو أن اللغة العربية تعرف هذا الأسلوب، وتقبله ، ويستعمله كثير من أبنائها .
(شرح التسهيل لابن مالك2/116– 118 شرح الكافية الشافية لابن مالك2/582. الهمع للسيوطى 1/160،والدرر1/142).(15/2)
قيود اشترطوا توافرها فى بعض الأساليب .
ومن ذلك ما قاله كثير من النحويين من أن صيغتى التعجب القياسيتين لاتبنيان إلا من فعل، وشذَّ : ما أجدره بكذا ، بنوه من قولهم :هو جدير بكذا ، ولا فعل له .
وفى القاموس المحيط : جَدُر كَكَرُمَ . فليس بشاذٍّ على هذا .
وقالوا : وشذَّ ما أذرعَ المرأة ، أى ما أخف يدها فى الغزل .بنوه من قولهم : امرأة ذَراع ، أى خفيفة اليدين فى الغزل .
وقد ذكر ابن القطاع أنه سمع :ذَرُعت المرأة ، أى خفت يدها فى الغزل. وعلى ذلك لا شذود فيه .
وقالوا:لاتبنيان من الجلف،وهو الجافى الغليط.
وفى القاموس : وقد جَلُف جلافة وعلى ذلك لا شذوذ فى بناء التعجب منه .
وقالوا : يشترط لبناء صيغة التعجب من الفعل ألا يكون الوصف منه على وزن أفعل فعلاء ،لأن أفعل التفضيل لا يبنى منه، حتى لا يلتبس الوصف بالتفضيل ، ولما امتنع صوغ اسم التفضيل امتنع صوغ فعلى التعجب منه ، لأنهما يتشابهان فى أمور كثيرة . وجعلوا من النادر الذى يُحفظ ولا يُقاس عليه قول العرب : ما أحمقه ، وما أهوجه ، وما أرعنه .
ومع أنهم فى مواطن أخرى لا يبالون بهذا الالتباس ، كما فى تصغير الترخيم ، فإنه يكون بحذف الزوائد من الكلمة ، مثل : حميد فى تصغير : أحمد وحامد ومحمد ومحمود وحماد ، وحميد ، وحمدون ، وحمدان .
وكما قالوا : إن اسم المفعول واسم الزمان واسم المكان والمصدر الميمي من الفعل الزائد على ثلاثة أحرف يكون على وزن الفعل المضارع مع إبدال حرف المضارعة ميما مضمومة ، وفتح ما قبل الآخر ويفرق بينها بالقرائن .
واشترطوا كذلك ألا يستغني عنه بالمصوغ من غيره مثل :
"قال " من القائلة ، فإنهم لا يقولون : ما أقيله، استغناء بقولهم : ما أكثر قائلته .
قال ابن مالك فى التسهيل : وقد يغنى فى التعجب فعل عن فعل مستوف للشروط كما يغنى فى غيره ، مثل : ترك ، فإنه أغنى عن وَدَع .(15/3)
قلا يقال على رأيهم : ما أسكره ، وما أقعده ، وما أجلسه استغناء بقولهم : ما أشد سكره ، وما أكثر قعوده، وجلوسه ، ومع أنهم أجازوا فى الفعل المستوفى للشروط أن يتعجب من لفظه ، وأن يستعان بالتعجب من فعل آخر مستوف للشروط ، كأشد وأعظم ونحوهما ، مثل : ما أشد قوتة ، وما أعظم علمه .
فإذا كان ذلك جائزًا فى الفعل المستوفى للشروط ، فلماذا يُمنع التعجب من صيغة الفعل الذى سُمِعَ فيه الاستعانة بفعل آخر، ويقال إنه أغنى عنه غيره ؟ وهل سمعوا كل شئ حتى يحكموا هذا الحكم ؟
العطف بأم :
ذكر النحاة أن " أم " تكون متصلة فى موضعين :
أولهما – وهو الذى يعنينا – أن تكون مسبوقة بهمزة التسوية الداخلة على جملة ، سواءً ا كانت الجملة التى دخلت عليها الهمزة ، والجملة التى دخلت عليها "أن" فعليتين،أم كانت الجملتان اسميتين، أم كانتا مختلفتين.وقالوا:إن أم قد تقع بين مفرد وجملة . وإنه ليس من الضرورى وجود كلمة"سواء"بل يكفى وجود ما يدل عليها، وإن همزة التسوية قد تكون مذكورة فى الكلام،وقد تحذف عند أمن اللبس .
فالجملتان الفعليتان مثل قوله تعالى (1) : "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " .
والجملتان الاسميتان مثل قول متمم بن نويرة يرثى أخاه مالكا :
ولَسْتُ أُبالى بعد فقدى مالكا ...
... ... أموتى ناء أم هو الآن واقع
والجملتان المختلفتان مثل قوله تعالى : (2) "سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون".
والواقعة بين مفرد وجملة مثل قول الشاعر :
سواء عليك النَّفْرُ أم بِتَّ ليلةً ...
بأهل القِباب من عُميرِ بنِ عامر
وعدم وجود كلمة " سواء " لوجود ما يدل عليها بيت مُتَمَمٍ السابق .وعدم وجود همزة التسوية فى الكلام قراءة: "سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم"بهمزة واحدة، ومثل قول الشاعر السابق:سواء عليك.
أما عند وجود سواء وهمزة التسوية فيلزم العطف بأم .(15/4)
وبرى بعض النحاة – الدَّمامينى نقلاً عن السِّيرافى – أن الهمزة إذا كانت غير مذكورة فى الكلام جاز العطف بأو .
قال الدمامينى :فإن قلت:فما وجه العطف بأو ، والتسوية تأباه ، لأنها تقتضى شيئين فصاعدا ، وأو لأحد الشئين أو الأشياء ؟ قلت : وجهة السِّيرافى بأن الكلام محمول على معنى المجازاة ، فإذا قلت : سواء علىَّ قمت أو قعدت،فتقديره:إن قمت أو قعدت فهما علىَّ سواء . وعليه فلا يكون سواء خبرا مقدما ، ولا مبتدأ كما قيل ، فليس التقدير : قيامك أو قعودك سواء على ، أو سواء علىَّ قيامك أو قعودك . بل سواء خبر مبتدأ محذوف،أى : الأمران سواء ، وهذه الجملة دالة على جواب الشرط المقدم .
وهذا الأسلوب الذى ذكره السيرافى كثير الاستعمال فى عصرنا الحاضر ، فهو جارٍ على ألسنة المتحدثين ، وأقلام الكتاب .
ومن هذا نرى أن استعمال " أم " المتصلة عاطفة له أساليب كثيرة ، كلها صحيح فصيح ، فيجوز أن تذكر قبلها كلمة "سواء" أو يذكر ما يدل عليها ، وأن تكون قبلها همزة التسوية ،وألا تذكر ، وأن تذكر قبلها جملة وأن يذكر مفرد ، وأنه عند عدم ذكر الهمزة يجوز استعمال أم، ويجوز استعمال أو .
ومع ذلك لم تسلم من معارضة لبعض الاستعمالات ، فبعض الباحثين يرى أنه من الضرورى لِذِكْر"أمْ" ذكر همزة التسوية قبلها ، وبعضهم يلزم استعمال أم ويمنع استعمال أو بدلها عند عدم ذكر الهمزة ، والرأيان عندى ضعيفان ، لأنهما تعارضا فتساقطا ، والله أعلم .
النسب إلى فم :
فى القاموس : الفَم مثلَّثة أصله فُوهٌ ، وقد تُشَدَّد الميم .
وفى اللسان : الفرّاء : يقال : هذا فم ، مفتوح الفاء مخفف الميم ، وكذلك فى النصب والخفض : رأيت فُمًا ، ومررت بفَمٍ . منهم من يقول : هذا فُمٌ ، ورأيت فُما ، ومررت بفُمٍ ، فيضم الفاء على كل حال ، كما يفتحها فى كل حال .(15/5)
وأما بتشديد الميم فإنه يجوز فى الشعر ، ولو قال : من فَمِّه، بفتح الفاء لجاز . فأما: فو ، وفا، وفى ، فإنما يقال فى الإضافة ، إلا أن العجاج قال :
*خالط من سلمى خياشيم وفا*
قال : وربما قالوا ذلك فى غير الإضافة ، وهو قليل .
وفى الصحاح : الفَم أصله فَوْه، نقصت منه الهاء – فلم تحتمل الواو الإعراب لسكونها ، فعوض منها الميم ، فإذا صَغَّرْتَ أو جمعتَ رددته إلى أصْله وقلت : فويه وأفواه، ولا تقل: أفماه، فإذا نسبت قلت : فَمِىٌّ ، وإن شئت فَمَوِىّ ، يجمع بين العوض والحرف الذى عوض منه ، كما قالوا فى التثنية: فموان . قال: وإنما أجازوا ذلك لأن هناك حرفا آخر محذوفا وهو الهاء ،كأنهم جعلوا الميم فى هذه الحال عوضا عنها ، لا عن الواو ، وأنشد الأخفش للفرزدق :
هما نفثا فى فِىَّ من فمويهما …
قال : وفيه لغات : يقال : هذا فَمٌّ ، ورأيت فمًا ، ومررت بفَمٍ ، بفتح الفاء على كل حال ، ومنهم من يعربه فى مكانين يقول : رأيت فَماً ، وهذا فُمٌ ، ومررت بفِمٍ .
وفى كتاب سيبوبه 3/365-366 ، فى باب عنوانه : باب الإضافة ، وهو باب النسب : وأما فم ، فقد ذهب من أصله ، حرفان لأنه كان أصله فَوْه ، فأبدلوا الميم مكان الواو ، ليشبه الأسماء المفردة من كلامهم،فهذه الميم بمنزلة العين، نحوميم دم، ثبتت فى الاسم فى تصرفه فى الجر والنصب والإضافة ( يقصد النسب ) والتثنية، فمن ترك " دم " على حاله إذا أضاف – أى نسب – ترك " فم " على حاله ، ومن ردَّ إلى دم اللام ردَّ إلى فم العين فجعلها مكان اللام ، كما جعلوا الميم مكان العين فى فم، قال الشاعر :
وهو الفرردق:
هما نفثا فى فِىَّ من فمويهما…(15/6)
وقالوا : فموان ، فإنما تَرُدّ فى الإضافة ، كما ترد فى التثنية وفى الجمع بالتاء وتبنى الاسم كما تثنى به ، إلا أن الإضافة أقوى على الرد ، فإن قال : فمان فهو بالخيار، إن شاء قال : فَمَوِىّ ، وإن شاء قال : فَمِى ومن قال : فَموان ، قال : فموى على كل حال وعلق السيرا فِىُّ بقوله: كما يقال فى أخ:أخَوِىّ"من حيث قال:أخوان .
وكان أبو العباس المبرد يقول : من لم يقل: فمى فحقه أن يرده إلى الأصل ، والأصل فوه ، فيقول : فَوَهىّ .
وقد استدل سيبويه على أن "فم " أصلها : فوه ، بأنها تصغر على فويه ، قال – 3/453 : يدلك على أن الذى ذهب لام، وأَنَّها الهاء- قولهم : أفواه ، وحَذَفْتَ الميم، ورددت الذى من الأصل، كما فعلت ذلك حين كسّرته للجمع فقلت : أفواه . "
وإذا تتبعنا ما أجازه النحاة فى النسب من الصيغ المخالفة للقواعد التى وضعوها وجدنا كمًّا كبيرا ، ووجدنا أنواع المخالفة كثيرة مختلفة ، حتى إنه ليصعب استقصاؤها، كما يصعب الحكم على صيغة من صيغ النسب بأنها خطأ أو مردودة ، لأننا سنجد تغييرا فى حروف الكلمة ، بالزيادة أو بالنقص ، أو بهما معا، كما نجد تغييرا فى الحركات ، أو تغييرا فى الحروف و الحركات معا .
واليك نماذج من ذلك : مرو : مروزى – فوق:فوقانىّ . بادية: بدوى . عالية:علوى. طيِّىء:طائى.البحرين: بحرانى. دَهْر: دُهرى سَهْل: سُهْلى خَرِيف: خَرْفى وخَرَفى. حِيرَة:حارى. خُراسان: خُرْسِىّ وخُرَاسِىّ. وغير ذلك كثير.
5- الإتيان بـ "ما "بعد الاسم النكرة تذكر " ما " أحيانا بعد الاسم النكرة فى بعض الأساليب العربية ، وقد قال النحاة: إن"ما" تأتى لتزيد النكرة إبهاما ، أو تكون زائدة للتوكيد . ومن ذلك قوله تعالى : (1)
" إن الله لا يستَحْى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " وقال تعالى : (2)
" قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيًّا مَّا تدعوا فله الأسماء الحسنى "(15/7)
وجاء عن على كرم الله وجهه : أحبب حبيبك هونًا ما " أى حبا مقتصدا لا إفراط فيه . قال فى اللسان : وإضافة ما إليه تفيد التقليل، يعنى : لا تسرف فى الحب والبغض ، فعسى أن يصير الحبيب بغيضا ، والبغيض حبيبا ، فلا تكون قد أسرفت فى الحب فتندم ، ولا فى البغض فتستحى " مادة هون ".
وليس كل اسم نكرة يلزم الاتيان بـ"ما " بعده ، لأن النكرة صالحة للإطلاق على كل فرد من أفراد جنسها ، ولذا كان استعمال النكرة من غير ذكر"ما"هو الكثير الغالب ، ولا يؤتى بها إلا إذا أريد الدلالة على معنى من المعانى التى ذكرها النحاة . لذا جاءت النكرات فى القرآن الكريم ، وفى غيره كثيرا دون أن تلحقها ما قال تعالى - 3) "وخذ بيدك ضِغْثًا فاضربْ به ولا تحنث " وقال تعالى (1) :"فلما جَنَّ عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربى ". وقال (2):"حتى إذا أتوا على وادى النمل قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم". وقال : (3) " فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا ". وقال (4) :" وجاءت سيَّارة فأرسلوا واردهم ، فأدلى دلوه ، قال يا بشرى هذا غلام ".
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : تمرة خير من جرادة، وقال : تصدق ولو بشقِّ تمرة، وقال : اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب . وغير ذلك كثير فى القرآن الكريم والأحاديث النبوية ، والتراث العربى نظمه نثره .
صيغ قيل إنها ملازمة للبناء المجهول :
ذكرت كتب النحو واللغة صيغًا قيل إنها ملازمة للبناء للمجهول ، وبالرجوع إلى المعجمات اللغوية نجد أن كثيرًا منها استعمل منها المبنى للمعلوم ، ومن ذلك :
عُنِىَ وقد جاء فى القاموس المحيط : وعنى بالضم ، وكرضى قليل .
زُهى : وقد جاء فى القاموس المحيط : زُهى كعُنِىّ ، وكدَعَا قليلةٌ .
نتج وقد جاء فى القاموس المحيط : نُتِجَت الناقة كعنى نتاجا ، وأنتجت وقد نَتَجها أهلها .(15/8)
نُكب:وقد جاء فى القاموس المحيط :ونكبه الدهر نَكْبا ونَكَبا بلغ منه أو أصابه بنكبة . بُهت : وقد جاء فى القاموس المحيط :بَهَتَه كمنعه بَهْتا وبُهْتانا :قال عليه ما لم يفعل .
دُهش: وقد جاء فى القاموس المحيط :دَهِشِ كفرح فهو دَهِش تحير أو ذهب عقله من ذَهَل أووَلِهَ ، ودهُشِ كعنى فهو مدهوش .
شُغل: وقد جاء فى القاموس المحيط : الشغل بالضم وبضمتين وبالفتح وبفتحتين :ضد الفراغ وشغله كمنعه شَغلا ويضم وشُغِل كعنى .
طُلَّ : وقد جاء فى القاموس المحيط :… وهَدَر الدم أو ألا يثْأر به، وقد طل هو وبالضم أكثر، وطَلَلته أنا طَلاًّ وطُلولا فهو مطلول وطليل وأُطِل بالضم ، وأطله الله تعالى ، وطَلّ دمه يطَل كيزل ويمَل ،وأطِل بالضم فهر مُطَل .
أُهْدِر: وقد جاء فى القاموس المحيط : الهَدر ما يَبْطُل من دم وغيره ، هَدَر يَهُدِر ويهدُر هَدْرا وهَدَرا ، وهَدَرْتُه: لازم متعد ، وأهدرته فَعَل وأفعل بمعنى . ودماؤهم هَدَر محركة أى مُهْدَرة .
ثُلج صدره: وقد جاء فى القاموس المحيط : ثَلَجتنا السماء وأثلج يومنا وثلجِت نفسى كنصر وفرح ثلوجا وثَلَجا : اطمأنت .
هُزل : وقد جاء فى القاموس المحيط : … والهُزال بالضم نقيض السِّمَن ، وهُزِل كعنى هزالا وهَزَلَ كنصر هَزْلا ويضم ، هُزِلت أموالهم كهزلوا وكضربوا .
العطف على معمولي عاملين مختلفين:
يقول سيبويه في كتابه 1/65-66 : وتقول: ما كلُّ سوداءَ تمرة ، ولا بيضاء شحمة ، وإن شئت نصبت " شحمةً " ، وبيضاء في موضع جر ، كأنك أظهرت كل فقلت : ولا كل بيضاء . قال الشاعر أبو داود :
أكلَّ امرئ تحسبين امرأً
... ونارٍ توقد بالليل نارا(15/9)
فاستغنيت عن تثنية كل لذكرك إياه في أول الكلام ، ولقلة التباسه على المخاطب. وجاز كما جاز فى وقول : ما مثل عبد الله يقول ذاك ولا أخيه ، وإن شئت قلت: ولا مثل أخيه . فكما جاز في جمع الخبر ، كذلك يجوز في تفريقه ، وتفريقه أن تقول : ما مثل عبد الله يقول ذاك ، ولا أخيه يكره ذاك . ومثل ذلك : ما مثل أخيك ولا أبيك يقولان ذاك . فلما جاز في هذا جاز في ذاك ."
هذا كلام سيبويه ، ومنه يتبين أن وضوح الكلام. وعدم التباسه على المخاطب ، عامل له أثره في قبول الأساليب وعدم رفضها .
ويقول المبرِّد في الكامل 1/168-169 ، بعد أن ذكر قول أعرابى :
فقال لِىَ المكىُّ أمّا لِزَوْجة
... فسبعٌ وأما خُلّةٍ فثماني
وفي هذا الشعر عيب ، وهو الذي يسميه النحويون العطف على عاملين ، وذلك أنَّه عطف خلة على اللام الخافضة لزوجة، وعطف ثمانيا على سبع ويلزم من قال هذا أن يقول : مرّ عبدُ الله بزيدٍ وعمرٌ وخالدٍ ، ففيه هذا القبح ، وقد قرأ بعض القراء ، وليس بجائز عندنا : [ إنّ فى السموات والأرض لآيات للمؤمنين] " واختلاف الليل والنهار ، وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح آياتٍ " فجعل آيات فى موضع نصب ، وخَفَضَهَا لتاء الجميع ، فحملها على إنَّ وعطفها بالواو وعطف اختلافا على فى ، ولا أرى ذا في القرآن جائزا ، لأنه ليس بموضع ضرورة ، وأنشد سيبويه لعدى بن زيد العبادي " والصحيح أنه لأبي داود الإيادي : أكل امرئ تحسبين
فعطف على امرئ وعلى المنصوب الأول"
وذكر المبرد الآية في المقتضب 4/195، وقال فيه ما قاله هنا ، وقال إن الأخفش يجيزه .(15/10)
وفي إتحاف فضلاء البشر 389 : اختلف فى ( آيات لقوم يوقنون) و ( آيات لقوم يعقلون ) الثانى والثالث [ من سورة الجاثية ] فحمزة والكسائي ويعقوب بكسر التاء منصوبة فيهما عطفا على اسم إن ، أي : وإن فى خلقكم وإن فى اختلاف ، والخبر قوله : وفى خلقكم ، وفى اختلاف .. ووافقهم الأعمش ، والباقون برفعهما على الابتداء.
وفي المفصل وشرحه لابن يعيش 3/26 : (وقد حذف المضاف وترك المضاف إليه على إعرابه فى قولهم : ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة ، قال سيبويه : كأنك أظهرت كل فقلت : ولا كل بيضاء ، وقال أبو دواد :
أكل امرئ تحسبين … ويقولون : ما مثل عبد الله يقول ذاك ولا أخيه ومثله : ما مثل أخيك ولا أبيك يقولان ذاك ، وهو فى الشذوذ نظير إضمار الجار ).
قال الشارح : اعلم أن حذف المضاف وإبقاء عمله ضعيف فى القياس ، قليل فى الاستعمال ، أما ضعفه فى القياس فلوجهين:
أحدهما : أن المضاف نائب عن حرف الجر وخلف عنه ، فإذا قلت : غلام زيد، فأصله: غلام لزيد . وإذا قلت : ثوب خز، فأصله : ثوب من خز ، فحذفت حرف الجر ، وبقي المضاف نائبا عنه ، ودليلا عليه ، فإذا أخذت تحذفه ، فقد أجحفت بحذف النائب والمنوب عنه …(15/11)
والوجه الثاني أن المضاف عامل في المضاف إليه الجر ، ولا يحسن حذف الجار وتبقية عمله ، فمن ذلك قولهم في المثل : ما كل سوداء … /27 وبيضاء مخفوض أيضا على تقدير كل … وكان أبو الحسن الأخفش وجماعة من البصريين يحملون ذلك وما كان مثله على العطف على عاملين ، وهو رأى الكوفيين … ومثله عندهم : ما زيد بقائم ولا قاعدٍ عمرٌو … وسيبويه والخليل لا يريان ذلك ، ولا يجيزانه .. فإن قيل : حذف المضاف وإبقاء عمله على خلاف الأصل ، وهو ضعيف ، والعطف على عاملين ضعيف أيضًا ، فلم كان حمله على الجار أولى من حمله على العطف على عاملين؟ قيل : لأن حذف الجار قد جاء في كلامهم … فقد ثبت بهذا جواز حذف الجار في الاستعمال وإن كان قليلا ، ولم يثبت في الاستعمال العطف على عاملين .. وقد كثر التقلب بهذا المثل ، وأجازوا فيه وجوها من الإعراب وجملتها خمسة … فأما قول أبى دواد : أكل امرئ … فسيبويه يحمله على1 / 65 حذف مضاف تقديره كل … وأبو الحسن يحمله على العطف على عاملين … وهذا البيت أوكد ما استشهد به أبو الحسن ، وأما قولهم:ما مثلُ عبد الله … لم يكن بُدٌّ من تقدير مثل ،أو العطف على عاملين … "
وهكذا تستمر المناقشة لتنتهي إلى أن الحمل على تقدير مضاف أولى .
وفى الإنصاف مسألة رقم 65 : كما تقول العرب : ما كل بيضاء شحمة ولا سوداء تمرة ، يريدون : ولا كل سوداء … وقال الشاعر : أكل امرئ … أراد : وكل نار …. وهذا كثير في كلامهم .
وفي الكافية لابن الحاجب وشرحها للرضي 1/291:فإذا حذف [أي المضاف] فالأولى والأشهر قيام المضاف إليه مقام المضاف فى الإعراب كقوله تعالى: "واسأل القرية " وقد يترك عند سيبويه على إعرابه إن كان المضاف معطوفًا على مثله مضافا إلى شىء ، كما يقال فى المثل : ما كل سوداء … قال : ولو لم يقدر هنا مضاف معطوف على المضاف الأول ، لكان عطفًا على عاملين مختلفين ولا يجوز عنده ، وعند غيره يجوز ذلك فلا يقدر مضافًا .(15/12)
وفي شرح التسهيل لابن مالك 3/270: ثم أشرت إلى حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه مجرورا ، وأنه مقيس وغير مقيس ، فأما المقيس فما حذف منه مضاف مذكور قبله مثله لفظًا ومعنى ، بشرط كون المحذوف بعد عاطف منفصل بلا أو غير منفصل ، كقولهم : ما كل سوداء … وما مثل أبيك وأخيك يقولان ذلك ، وكقوله :
أكلَّ امرئ …
وكقوله :
ولم أر مثل الخير يتركه الفتى
ولا الشر يأتيه الفتى وهو طائع
وكقوله :
لَوَ انَّ طبيبَ الإنس والجن داويَا الْـ
لَذِى بىَ من عفراء ما شفيانى
وكقوله [ جرير ] :
لو أن عُصْم عمايتين وتذبل
... سمعا حديثك أنزلا الأوعالا
وكقوله [ القطامي ] :
ألم يَحْزُنك أن جبال قيس
... وتغلب قد تباينتا انقطاعا
والأصل : ما كل سوداء ولا كل بيضاء، ولا مثل أبيك ومثل أخيك يقولان، وأكل امرئ تحسبين امرأ وكل نار ، ولم أر مثل الخير ولا مثل الشر ، ولو أن طبيب الإنس وطبيب الجن،ولو أن عصم عمايتين وعصم يذبل ، وأن جبال قيس وجبال تغلب.
وظن بعضهم أن الحذف فى هذا النوع مشروط بتقدم نفى أو استفهام وليس ذلك شرطا ، بل يجوز مع عدمها ، كقول الشاعر:
لغير مغتبط مغرى بطوع هوى
... ونادم مولع بالحزم والرشد
ومثله :
كلُّ مُثر في رهطه ظاهر العز
... وذى غربة وفقرٍ مَهِين
وأما غير المقيس فما خالف المقيس بخلوه مما قيدته به .
وفي شرح الألفية لابن الناظم 403: وقد يحذف المضاف ويبقى المضاف إليه مجرورا ، بشرط أن يكون المحذوف معطوفا على مثله لفظا ومعنى …
وفي شرح الأشموني 2/206 : أكل امرئ … أي : وكل نار ، وقوله :
ولم أر مثل الخير يتركه الفتى
... ولا الشر يأتيه امرؤ وهو طائع
أى : ولا مثل الشر ، لئلا يلزم العطف على معمولى عاملين مختلفين … "(15/13)
وعلق الصبان في الحاشية بقوله : أى : وذلك ممنوع عند سيبويه ومن وافقه ، والعاملان في البيت الثاني : أَرَ ومثل ، والمعمولان : الخير وجملة يتركه الفتى ، والمعطوف على الخير ، الشرُّ ، وعلى يتركه الفتى ، يأتيه امرؤ .
وفي شرح التصريح 2/55 : … وإنما قدرناه مجرورا بـ كلٍّ محذوفه ولم نجعله مجرورا بالعطف على امرئ المجرور بإضافة كل إليه ، لئلا يلزم العطف على معمولى عاملين مختلفين … وذلك ممتنع ، لأن العاطف نائب عن العامل ، وعامل واحد لا يعمل جرا ونصبا ، ولا يقوى أن ينوب مناب عاملين ، هذا مذهب سيبويه والمبرّد وابن السراج وهشام ، وذهب الأخفش والكسائي والفراء والزجاج إلى الجواز … واختير الحذف دون العطف ، لأن حذف ما يدل عليه دليل مجمع على جوازه ، والعطف على معمولى عاملين مُخْتَلفٌ فيه كما قدمنا ، والحمل على المتفق عليه أولى من الحمل على المختلف فيه .
بعد هذا العرض لآراء النحاة في العطف على معمولى عاملين مختلفين نجد أن منهم من أجازه ، ومنهم من عارضه ، ونجد أن الأسس التي قامت عليها معارضة المانعين تتلخص فيما يلى :
أن حذف الجار وإبقاء عمله متفق عليه ، وأن العطف على معمولى عاملين مختلفين مختلف فيه ، والحمل على المتفق عليه أولى .
أن العطف على معمولى عاملين مختلفين لم تثبت فى الاستعمال .
وكلتا الحجتين غير مسلمة ، لأن الاختلاف فى أمر قاعدة لا يقتضي إلغاءها، وإنما أقصى ما يمكن أن يؤدى إليه هو تفضيل المتفق عليه لا منع المختلف فيه،هذا إذا ساعدت القرائن على هذا التفضيل.(15/14)
وأن القول بعدم استعمال العطف على معمولى عاملين غير صحيح ، بدليل أن هؤلاء المانعين يذكرون شواهد وأمثلة تدل على الاستعمال من أول سيبويه إلى ابن مالك الذى ذكر جملة من الشواهد والأمثلة، بعضها منسوب وبعضها غير منسوب ، كما ذكر المبرد قراءة جاءت على هذا الاستعمال ، وقد عزيت إلى حمزة والكسائي ويعقوب والأعمش ، ولا يصح أن يلتفت إلى اعتراضه عليها ، لأنه لا يملك هذا الاعتراض ، ولا إلى قوله بأن القرآن ليس بموضع ضرورة ، لأن الذين تناولوا الموضوع لم يقولوا إنه لا يكون إلا فى الضرورة .
فإذا أضفنا إلى ذلك أن هؤلاء المانعين يقولون: إن حذف المضاف وإبقاء عمله ضعيف فى القياس . قليل فى الاستعمال . وإن المضاف إنما يعمل نيابة عن حرف الجر، فحذفه فيه إجحاف بحذف النائب والمنوب عنه . وإن حذف حرف الجر – الذى هو أصل فى العمل – وإبقاء عمله قليل . إذا أضفنا ذلك وجدنا أن المانعين لا يستندون فى معارضتهم إلى حجة قوية ، وأن من الخير أن يكون وضوح الأسلوب وعدم التباسه على المخاطب كما قال سيبويه ، هو الأساس فى القبول أو الرفض.
ولهذا فإننى أرى أن الأسلوب صحيح ، وأنه يجوز القياس عليه ، أخذا بالأيسر ، واجتنابا لما فيه تكلف وتقدير .
ولعل مما يستوجب ذلك جريان هذا الأسلوب على ألسنة المتحدثين وأقلام
الكتاب في عصرنا ، في مثل قولهم : كان إقبال الرجال على معرض الكتاب كبيرًا والفتيات قليلا .
وقولهم : لوحظ في نتائج امتحانات هذا العام أن نسبة نجاح الطالبات مرتفعة والطلاب منخفضة .
وقولهم : لا شك فى أن التراخى فى تطبيق القانون يُعْقِبُ نتائج وخيمة والأخذ بالحزم ردودًا طيبة .
وقول بعضهم : إكرام اللئيم يُعْقِبُ الندامةَ والكريم الامتنان والسلامة .
عبد الرحمن السيد
عضو المجمع(15/15)
استأثر "النحو" بأكثر الجهود العلمية للباحثين فى موضوعات اللغة العربية ومسائلها، فصدرت عنه وعن "إحيائه" وتجديده وتقريبه وتيسير تدريسه: كتبٌ مستقلة، وفصول فى كتب، ومقالات، ونُظّمت له مؤتمرات وندوات، قدِّمت فيها بحوث، ودارت حولها مناقشات، وانتهت بنتائج وتوصيات. ومع ذلك ظلّ النحو حيث كان، ولم تنجح تلك الجهود كلها فى إقامة ألسنة المتحدثين وسلامتها من شيوع اللحن، واقتراف أغلاط لا تكاد تخلو منها فقرة من فقرات حديثهم فى محاضراتهم، وخُطبهم، ومرافعاتهم القانونية، وبثِّهم الإذاعى، مع أنهم درسوا هذا "النحو" ثمانى سنوات على الأقل فى مراحل التعليم العام دراسةً مفصلة، تتكرّر فيها بعض موضوعاته فى السنوات الدراسية المتتابعة، وذلك قبل أن يلتحقوا بمختلف التخصصات الجامعية من حقوقية واقتصادية وهندسية وطبيّة…وظلّت
المعضلة تدور على نفسها وتُديرنا معها،
حتى استشرت وتفاقمت وأصابت بدائها كثيراً من علماء الدين وأساتذة اللغة العربية نفسها. فزاد اللحن مع زيادة الدراسات والمؤتمرات والندوات والاقتراحات عن تيسير "النحو" وتعليمه. فما هو الداء الحقيقى؟ وأين يكمُن؟ وهل له من علاج؟ وهل أخطأته الجهود السابقة كلها؟
... ليس من هدفنا هنا أن نقف عند هذه الأسئلة عن النحو وتعليمه، وإنما اتّخذنا موضوع النحو مدخلاً يقودنا إلى الحديث عن مسائل أخرى فى أساليب تدريس اللغة العربية نرى أنها أدَّت إلى ضعف هذه اللغة عند الطلبة، ثم صحبهم هذا الضعف فى مراحل حياتهم، على حين كان المقصود من تلك الوسائل أن يكون فيها العلاج.(16/1)
... ذلك أننا نرى أحياناً عند غيرنا من الأمم ما يستهوينا، فنحب أن يكون عندنا، ونظنّ أنه وسيلة الحضارة وسبب التقدّم. نرى أمراً هناك فنريده هنا، دون معرفة بتغاير الحالتين واختلاف الطبيعتين، وشتّان ما هما، وما أبعد الذى بينهما!، رأينا هناك المَظْهَر فلم نَسْبُرِ المَخْبَر، وأعجبتنا هناك الصفة فلم ندرك حقيقة الموصوف، على حين اتضح ذلك كله لشاعرنا أبى الطيب حين قال:
وقد يتقارب الوصفان جدًّا
وموصوفاهما متباعدانِ
والأساليب التى تصلح للغة بعينها-أو لمجموعة من اللغات-لأنها تتفق وخصائصَها وتناسب طبيعتها، لا تصلح بالضرورة للغةٍ أو لغاتٍ تختلف عنها فى الطبيعة والخصائص. واللغة العربية لغة اشتقاقية، وأكثر اللغات الأوربية تركيبية، واللغة العربية مُعْرَبة، وجُلّ اللغات الأوربية الحديثة فقدت أبنية إعرابها.ولابدّ للناظر فى أساليب النهوض باللغات وتطويرها من أن ينظر فى طبائع تلك اللغات، لمعرفة مدى مناسبة الأسلوب لتحقيق غايته، وإلاّ انتهى الأمر إلى نقيض المقصود.
... ولكنّ بعض رجال التربية(*) يذهب مذهباً مغايراً، ويرى أن "بين اللغات جوانب مشتركة من حيث أسسُ تكوين
اللغات ومن حيث وظيفتها، فاللغات كلها تشترك فى أنها تتألف من حروف أو رموز تُسمَع وتُكتَب وتُقْرأ، وتتركب منها كلمات وجُمَل تُؤدِّى معانى معيَّنة، وتشترك كذلك فى شيوع الاشتقاق فيها قلّ أو كَثُر. وهى إلى ذلك متشابهة إلى حدٍّ غير قليل فى مجالات استخدامها. ومن هنا قد تلتقى أساليب تعليم اللغات فيما هو مشترك بينها ، وتركّز فى الوقت نفسه على ما تختصّ به لغة دون غيرها، كالإعراب فى العربية والألمانية".(16/2)
... وهذا كلام لا يكاد يختلف أحد معه فى مقدِّماته وشِقِّه الأول. فليس من شكّ فى أن"اللغات كلها تشترك فى أنها تتألف من حروف أو رموز تُسْمَع وتُكْتَب وتُقْرأ، وتتركب منها كلمات وجمل تؤدّى معانى معينة…" ولكنّ الذى نقصده باختلاف اللغات فى "الطبيعة والخصائص" شىء وراء هذه الأمور الظاهرة من الحروف أو الرموز التى تتألف منها كلمات وجمل…هو هذا الذى تنبّه له بعض العلماء من أسلافنا فعقدوا له كتباً مستقلّة ، أو
فصولاً فى كتب ، وأداروها على"خصائص العربية"(1) و "دقائق التصريف"(2) و "النظم"(3) فى تركيب الجمل ، وغيرها من المقوِّمات التى تدخل فى طبيعة اللغة ، وفى صميمها ، ولا تتناول المظاهر الخارجية المشتركة ، والتى تجعل للغة وتراكيبها "سرّاً" يحتاج إلى من يكتشفه ويفضّ ختامه(4). وهذا الذى قدَّمناه يجيب عن النتيجة التى انتهى إليها الاقتباس السابق فى شِقِّه الثانى، وهى "ومن هنا تلتقى أساليب تعليم اللغات فيما هو مشترك بينها…" وهذا صحيح لو كانت اللغة هى تلك الحروف أو الرموز، أى محض المظهر الخارجى دون الجوهر الداخلى.
... وأما ما جاء فى الكلام السابق من أن اللغات "تشترك كذلك فى شيوع الاشتقاق فيها قلّ أو كثُر" فهو حكم يحتاج إلى فضل بيان، ذلك أن الاشتقاق "القليل" لا يوصف بأنه "شائع"، والقلّة والكثرة هما اللتان تَفْصِلان بين خصائص اللغات وتَمِيزان لغةً من لغة، ومناط حديثنا على اللغات التى "يكثر" فيها الاشتقاق، بل
التى توصف بأنها لغات اشتقاقية، وليس على اللغات التى "يقلّ" فيها الاشتقاق بحيث تخرج من أسرة اللغات الاشتقاقية إلى أُسَرٍ أخرى غيرها.
... ويحتاج توضيح هذا الكلام النظرى إلى ضرب أمثلة من واقع تعليم العربية فى بعض بلادنا:
... فمن أمثلة ذلك أننا تعلمنا-فيما تعلمنا-ضرورةَ تعويد الطلاب القراءةَ الصامتة التى لا تتحرك فيها شفاههم، والتى(16/3)
تَخْطَفُ فيها عيونُهمُ الكلماتِ والجملَ خطفاً، لأن هذه القراءة الصامتة تزيد من سرعة القراءة، وتختصر الوقت الذى يقضيه المرء فى المطالعة، فى زمن تكاثَرَ فيه نتاج المطابع وتفجرت فيه المعرفة، وأصبح المرء لا يستطيع أن يتابع كل ذلك إذا لم يسرع فى القراءة ليوفِّر أطول وقت ممكن لقراءات أخرى. وهى حجَّة داحضة، لأن القراءة الصامتة السريعة التى تَخْطف فيها العينُ الكلماتِ والجُمَلَ خطفاً لا تتيح للقارئ تركيزاً للفكر، ولا تثبيتًا للمعرفة فى العقل ولا هضماً لها. وهى صالحة لقراءة القصص
والروايات، وكثير من الأخبار فى الصحف والمجلات، وسائر ضروب القراءة الخفيفة التى لا تحتاج إلى تدبّر، أو التى تستجلب التسلية، وقد تستدعى النوم. ولكنها لا تصلح لمن يريد أن يقرأ حتى هذه القِصصَ والروايات لتحليلها ونقدها والكشف عن خصائصها اللغوية والفنية، فكيف بمن ينصرف إلى القراءات الجادّة الأخرى: كتذوق الشعر الأصيل، أو فهم النصوص الأدبية، أو أى مادة علمية من المواد التى تفجرت بها المعرفة فى هذا العصر.
... ومع ذلك فإنّ بعضنا قد يرى أن القراءة الصامتة ربما كانت متفقةً وطبيعةَ بعض اللغات الأخرى ولاسيّما اللغةِ الإنجليزية، لأن كلمات هذه اللغة-كما يقولون-تُكْتَب كما تُقْرأ، وتُقرأ كما تُكْتَب، وهو قول يحتاج إلى فضل تمحيص، وربما ظهرت مجانبته للصواب ، إذْ ما أكثر الكلماتِ التى ترسّبت فيها-بسبب تطوّرها التاريخى-حروف سقطت فى النطق مع أنها بقيت فى الكتابة شاهدةً على أصلها القديم. فلو قرأنا تلك الكلمات أو تكلمنا بها مع نطق تلك الحروف كلّها، جاءت الكلمات غريبة على أسماع أهل تلك اللغة ومن يتكلمون بها، واستعجمت على فهمهم. أما اللغة العربية فلا نجد فيها شيئاً من هذه الحروف التى تَثْبُتُ فى الكتابة وتسقط فى النطق، بل إن كلماتِها تُنْطَق جميع حروفها المكتوبة(*).(16/4)
... فهم إذن لا يقصِدون بقولهم إنّ كلمات تلك اللغة "تُكْتب كما تُقْرأ وتُقْرأ كما تُكْتَب" حقيقةَ الأمر، ولا مدحًا للغة الإنجليزية، بقدر ما يقصدون ذمَّ اللغة العربية-بزعمهم-وعيبَها وانتقاصَها فى عيون أهلها ونفوسِهم، وزعزعةَ ثقتهم واعتزازِهم بها، لأنها لغةُ القرآن ولأنها فى طليعة مقوِّمات شخصيتهم. وحين يواجَه أصحاب ذلك الرأى بزيف دعواهم، نراهم يتسللون إلى تثبيت ذلك المعنى بالدوران حوله فيقولون: إن قارئ اللغةِ العربية يتردّد كثيراً فى نطق أكثرِ كلماتها إذا لم تكن مضبوطةً بالشكل، ويَسُكّون لذلك عبارة أخرى موجزة كالعبارة السابقة وهى قولهم:"اللغات تُقْرأ لتُفْهَم واللغة العربية يجب أن تُفْهَم أوّلاً لتُقْرَأ". ويستشهدون على ذلك بكلمات مثل: "كتب" فهل هى "كَتَب" أو "كُتِبَ" أو "كُتُبٌ". وهذا صحيح لا ريب فيه إذا كانت الكلمة مُفْرَدةً مقطوعة من عبارتها، أما إذا كانت جزءًا من جملة مفيدة فإن سياق الكلام ومعناه يَضْبِطان النّطق تلقائيًّا، أو سَرْعان ما يصححانه حين يقع فيه التباس. أما حين يكون حرفان على الأكثر من حروف تلك الكلمات المُلْتَبِسة مضبوطين بالشكل فإن الحجّة تسقط من أساسها. والشكل الواجب، بالقدر الكافى، أمرٌ لا غِنىً عنه فى كتب التعليم العام، ليتعوّد التلاميذ الصورة الصحيحة لنطق الكلمة نظراً، كما يتعودون نطقها الصحيح سماعًا، وقد أصبح هذا الشكل ميسوراً فى المطابع الحديثة.
... ثم إن القراءة الصامتة قد تصلح للغةٍ كاللغة الإنجليزية مثلاً، لأنهم غالياً ما يعتمدون فى تعلّمها على الكتاب ولا يحتاجون إلى السَّماع إلا فى كلمات معدودة. وقد كثرت عندهم كتبٌ بعنوان "تعلُّم اللغة بغير معلم".(16/5)
... ولكنَّ الأمر فى لغتنا على خلاف ذلك، فهى لغة اشتقاقية مُعْرَبة منقوطة، والاختلاف فى أبنية كلماتها وفى موازينها للدَّلالة على المعانى المختلفة إنما يكون بتغير الحركات وبعض الحروف. ومن قديم وقع "التصحيف" والتحريف لأن بعض المتعلمين كانوا يأخذون من "الصُّحُف" أى من الكتب، ولم يسمعوا من الشيوخ المعلِّمين. وأصبح الأخذ عن الشيخ عُرفًا تتميز به مجالس العلم ودُورُ التعليم فى حضارتنا، استمرّ قروناً إلى أن أخذنا طريقة "القراءة الصامتة"، وطبقناها على أطفالنا وناشئتنا، قبل أن يتمكنوا من لغتهم، ويسيطروا على
مخارج حروفها وأساليب نطقها؟
... وتنجلى الأمور حين نعرف أن مثل هذه النظريات التعليمية إنما هى تجارب يطبّقونها عندهم فى مدرسة أو عدد من المدارس التجريبية، ثم لا يلبثون أن يرجعوا عنها حين يظهر لهم فسادُها، ولكنَّ بعض الذين درسوا عندهم منّا يظنُّون أن تلك النظريات قوانين ثابته، وأنها الحقيقة التى لا مِرْية فيها وأنها الوسيلة للتطور والدخول فى العصر. وأقول "بعضهم" ،ومعاذ الله أن أنزلق إلى التعميم، فإن منهم من هم فى الغاية من الوعى والإدراك والتنبه لكثير مما أشرنا إليه.
... ألا يحتاج الأمر إذن إلى رويّة، وإلى فحص الأسلوب المستورَد وطبيعةِ اللغة لمعرفة مدى التوافق بينهما، حتى لا يكون الأسلوب المرجوّ للنجاة سبباً آخر من أسباب الضياع . ؟
... وقد علّق بعض رجال التربية على ما تقدّم من حديث بقوله:"إن استخدام القراءة الصامتة على سعة-فى العصر الحاضر-أمر ضرورىّ للطلبة بسبب التفجّر العلمى وأهمية الوقت فى مجالات الحياة، وليس معنى هذا أن يُحدث إضرار بالقراءة الجهرية، فلها قيمتها ووزنها كما جاء فى هذه الدراسة. وواقع مناهجنا أنها تأخذ بهذين النوعين من القراءة، وأن كُتُبَنا المطوّرة عُنيت بالتشكيل لدعم القراءة الجهرية، وكذلك الشأن فى أدلّة المعمين لتوضيح المسيرة فى تعليمها".(16/6)
... وقد ذكرنا فيما تقدّم ذكراً واضحاً لا لَبْس فيه أن حجة التفجّر العلمى وأهمية الوقت "حجة داحضة لأن القراءة الصامتة السريعة (تحقيقاً لأهمية الوقت) التى تَخْطَف فيها العينُ الكلماتِ والجملَ خطفاً، لا تتيح للقارئ تركيزاً للفكر، ولا تثبيتاً للمعرفة فى العقل ولا هضماً لها. وهى صالحة لقراءة القصص…" إلى آخر ما ذكرناه قبل صفحات.
... أما الحديث عن القراءة الجهرية فقد جاءت فى الملاحظة السابقة مقرونة بالقراءة الصامتة، بل ربما تابعةً لها. وهذا ما نراه قلباً للوضع. فالأصل أن يبدأ الطفل بالقراءة الجهرية وأن يقضى فيها سنواته الأولى حتى يتعود النطق السليم، ويألف إخراج الحروف من مخارجها الصحيحة. فلا تتآكل تلك الحروف وتتداخل الكلمات حين يتحدث بها المتحدث،كما يحْدُث الآن من كثيرين. ثم يبدأ تعويد التلميذ القراءة الصامتة من السنة الرابعة أو الخامسة وربما من السادسة. وبذلك يجمع بين فوائد الطريقتين.(16/7)
ومن أمثلة ذلك أيضاً أن أهل التعليم فى بعض البلاد الأخرى أخذوا بطريقة تعليم الأطفال الكلمةَ كلَّها، وأحياناً الجملة كلّها، دُفعةً واحدة، قبل البدء بتعليم الحروف مفردة. وتَعِبنا فى اقتباس هذا الأسلوب، وتخبّطنا فى تطبيقه، وطال تعبنا وتخبّطنا، إلى أن صار الطفل يقضى فى المدرسة أربع سنوات أو تزيد ولا يزال يجهل قراءة سطر واحد من غير الكلمات التى حفظها عن ظهر قلب-لا عن فهم ومعرفة-وأصبحنا نشكو من أن بعض هؤلاء الأطفال لا يزالون يجهلون كتابة أسمائهم صحيحة بعد هذه السنوات من التعلّم. وقد أدركت أمم أوربية أخرى الفروق بين لغاتها فى الطبيعة والأصول وبناء الكلمات وصياغة التراكيب، وخاصة تلك اللغاتِ الأوربيةَ التى لا تزال تحتفظ ببقايا من الإعراب(*)، فلم تأخذ بهذا الأسلوب فى تعليم لغاتها، لأنه لا يستقيم به أمرُها. ونحن أجدر من تلك الأمم بأن نتأنّى وندرس الفروق بين طبائع اللغات، ونعرفَ ما يصلح للغتنا فنأخذ به، قبل أن يستهوينا أسلوب غريب عن طبيعة هذه اللغة لأنه نجح عند غيرنا.
... ولكنّ بعض أساتذة التربية عندنا يرون "أن مدارسنا تأخذ بمحاسن الطريقتين الكلية والجزئية فى تعليم المبتدئين، ولا تقتصر على الطريقة الكلية. وقد اتّبعتْ كتُبنا المطوّرة الخاصة بالصف الأول الأساسى هذه الطريقة، معتمدة على خبرة سنوات طويلة ونتائج بحوث فى هذا المضمار فى عدة بلدان عربية".
... ونستطيع أن نستنتج من ألفاظ هذه الفقرة أن الجمع بين الطريقتين أمر حديث جدّاً ،لأنه لم تأخذ به إلا الكتب المطوّرة الخاصة بالصف الأول الأساسى، وأن هذا الجمع لم يكن قبل ذلك. وهذا أمر يدعو إلى الاستبشار بمستقبل أفضل للأجيال القادمة فى معرفة الحروف والكلمات وتعلّم القراءة. ويبقى أننى لم أفهم كيف تأخذ
مدارسنا "بمحانس" الطريقتين. فهل لهما مساوئ تُتْرَك ويَقْتصر الأخذُ على المحاسن؟ أو أن المقصود الأخذ بالطريقتين من حيث هما أسلوبان لتعليم القراءة.(16/8)
ويرى صاحب الملاحظات السابقة أننى اتجهت "إلى وضع المسؤولية الكبرى فى ضعف اللغة العربية اليوم على طرائق تدريسها. وهذا أمر جدلى فهناك أسباب كثيرة، ومنها أن عزة اللغة مرتبطة إلى حد كبير بعزة الأمة التى تتكلم بها وبمستوى المعلم الذى يعلمها لغة وإعدادًا، وبمدى صلة البيئة باللغة العربية أو بُعْدها عنها".
وأضاف "إن عدم قدرة بعض الأطفال على كتابة أسمائهم يعود إلى عدة أسباب منها: مستوى المعلم وإعداده، والفروق الفردية بين الأطفال، وبيئات الأطفال الثقافية والاقتصادية وصلتها بتنمية الاستعداد اللغوى قبل المدرسة. وغيرها من الأسباب إلى جانب الطريقة".
... وهذا كلّه حقّ، وأشكر الأستاذ الفاضل لذكره استكمالاً للموضوع.(16/9)
... ومن أمثلة ذلك أيضاً: أنه شاعت عند غيرنا طريقة تعليم الأدب وتاريخه: نثره وشعره ، على أساس البدءِ بالعصور الحديثة ثم الرجوعِ منها إلى العصور التى سبقتها عصراً عصراً. وتلك طريقة لا مفرّ منها، ولا بديل عنها، فى آداب تلك الأمم، لأن لغاتهم التى يستطيع معرفتها صغارُهم وكبارهم ومثقفوهم ومتعلّموهم، هى اللغة المعاصرة أو اللغة الحديثة التى لا تمتدّ فى العمر إلى أكثر من ثلاثمئة عام، فإذا وصلت إلى ما قبل ذلك بقليل استعصت عليهم، وانبهمت آدابها، واضطُرّوا إلى تيسيرها وتقريبها للتلاميذ فى مختلف المراحل بتعليمهم نماذج مختصرة مبسّطة فى طبعات خاصّة، ثم بتقديم الأصول للدارسين-حتى المتخصصين منهم-مقرونة بشروح مسهبة لتوضيح غوامض اللغة وغرائب الأسلوب. أما ما قبل أربعمئة عام فتكاد تكون لغات آدابهم لغاتٍ أخرى مختلفة عن لغتهم التى يعرفونها ويفهمونها الآن. ولكن اللغة العربية التى نعرفها ونكتبها ويتحدث بها فصحاؤنا إنما هى لغة واحدة مستمرة ممتدة على مدى سبعة عشر قرناً ، وكثيراً ما نقرأ شعراً جاهليّاً وأمويّاً وعباسيّاً فنحسّ كأنه كُتِب لنا فى أيامنا هذه. ولا حجّة لمن يستشهد بأبيات فيها كلمات غريبة وتراكيب مستعصية فى وصف الصحراء أو حيوانها أو ما يشبه ذلك من الموضوعات التى انفصلت عن حياتنا، وأصبحت غريبة عنا، فانفصلت بذلك ألفاظها وتعابيرها وأصبحت عسيرة على فهمنا . فهذا ارتباط طبيعى بين الموضوع والتعبير، أو بين المضمون والشكل، لأن الصحراء وحيوانَها والصيدَ فيها، لأن وصف أعضاء المطايا من الإبل والخيل وما يتصل بها من حياة كاملة متماوجة، أصبحت كلها بعيدة غريبة عنّا، وهكذا صارت الكلمات الدالّة عليها غيرَ مألوفة لنا، وتحتاج منّا إلى البحث عن معانيها فى المعاجم. ومع ذلك فإن كثيراً من هذه الألفاظ لا تزال مفهومة عند أهل البوادى والصحارَى الذين يألفون الخيل والإبل ، ولا يزال شعراؤهم يستعملون بعضها فى شعرهم(16/10)
"النبطى". أما الموضوعات الإنسانية العامة، المشتركة بين الناس، المستمرّة فى نفوسهم، فإن التعبير عنها مماثل لها فى القُرْب من النفوس، والأنس بها، وإدراك معانيها، منذ أقدم شعراء الجاهليةِ الذين وصل إلينا شعرُهم. ونستطيع أن نختار مئات النماذج من شعرنا ونثرنا خلال العصور المتعاقبة من مأنوس الكلام ومفهوم المعنى، وننشّئ عليها أطفالنا، ونربّى من خلالها أذواقهم، ليتمرسوا-فى المراحل المختلفة-بأسرار بيان لغتهم، ويألفوا بهجة ديباجتها ونصاعة تعابيرها، بدل الاغتراب عنها، والتخبّط فيما يلقَّنونه من بعض هذه الأساليب الحديثة، التى ارتضخ أكثرها العجمة، وارتضع الضعف، فألفاظها-حين تتفرق-عربية، ولكنها تتناكر وتتنافر حين تجتمع فى جملة متصلة.
... أليس هذا أيضاً موضعاً من مواضع التفكير والتدبّر، ومعرفة اختلاف اللغات وآدابها وما يناسبها من أساليب التعلّم والتعليم؟(16/11)
... ومن أمثلة ذلك هذه الدعوة القديمة المتجددة إلى إسقاط الإعراب، واستعمالِ لغةٍ عربية خاليةٍ منه فى الكتابة والكلام، على أساس قاعدة وضعوها هى "سَكِّنْ تَسْلَمْ"، ولئن جاز ذلك للعوامّ حين يتحدثون بلهجتهم المحْكيَّة، فكيف يجوز فى اللغة الأدبية، وفى المواقف العامّة للمثقفين، وفى دروس المعلمين الذين ينشِّئون أجيال المستقبل، فيسمع الناس منهم، ويتعلّم التلاميذ عليهم، لغةً منفصلة عن أصولها وقواعدها التى يتحدّث عنها المتحدثون ويعلّمها المعلمون فى دروس مستقلّة، معزولةً عن تطبيقاتها، مقطوعة عن استعمالاتها وعما يسمعه التلاميذ، فتصبح قواعد اللغة ونحوُها مجمَّدة متحجرة فى القواعد نفسها، ولا تنساب حيّةً نابضة فى الاستعمال من: تكلُّمٍ وقراءةٍ وسماع. وهو أمر مستنكر فى كلِّ حالة من حالات الحياة حين تنفصل النظرية عن الواقع، والقاعدة عن التطبيق، فكيف باللغة التى لا تحيا وتستمرّ وتتجدّد إلا من خلال استعمالها استعمالاً صحيحاً متكاملاً!! وكيف ستكون صلة الأجيال القادمة بتراثنا الشعرى والنثرى الذى لابدّ-لقراءته وفهمه وإقامة وزنه العَروضىّ-من إعرابه إعراباً واضحاً كاملاً؟ أتُرَى تَرمى هذه الدعوة-فيما ترمى إليه-إلى فصل الأمّة عن تراثها ومقوّمات شخصيتها بالتدريج؟ وقد نتج عن تسكين المتحدثين أن أصبحت همزات الوصل تُنْطَق بالضرورة همزاتِ قطع لوقوعها بعد حروف ساكنة ، وأصبحت آذانُنا وأذواقنا تعانى أشدَّ المعاناة آلامَ الاستماع إلى المذيعين والمعلقين- فى الإذاعتين: المرئية والمسموعة-وهم يرجموننا بهذه الهمزات، فيشوّهون جمالَ لغتنا.(16/12)
... وهذه الدعوة إلى التسكين إنما هى فى حقيقتها دعوة إلى التجهيل، وتدلّ على العجز عن التعلّم، وعلى سوء الفهم لطبيعة اللغة العربية، فالإعراب فى هذه اللغة جزء لا ينفصل عن طبيعتها وتكوينها، وعنصر أساسىّ فى بنائها، وليس حِليةً خارجية نضعها عليها حيناً، ونضعها عنها حيناً آخر. وليس من نتيجة لهذه الدعوة إلا التدرّج نحو وجودِ لغاتٍ متعدّدة تنفصل عن اللغة العربية وتعزلُها عن الحياة والاستعمال ثم تُميتها، كما حدث للغة اللاتينية حين انفصلت عنها اللغات المتعددة من إيطالية وفرنسية وإسبانية وتوابعها. والقياس هنا والتشبيه مع الفارق، فما أوسع البون بين اللغة اللاتينية واللغةِ العربية لغة القرآن التى بضياعها يضيع كتابُ الله، وأنَّى يكون ذلك وقد قال تعالى: (إنّا نحن نَزّلْنا الذِّكْرَ وإنَّا له لحافظون)(*)
... وأسباب ضعف تعلّم اللغة العربية كثيرة، بعضها منّا، وبعضها مدسوس علينا، تضافرت جميعها، فاستعان بها غيرنا ليوهمنا أن هذه اللغة فى جوهرها معقدة صعبة، وأن ضعف تحصيلها والمعرفةِ بها إنما
سببه اللغة نفسها، وليس هذه الأساليبَ الغريبة عنها، المخالفة لطبيعتها. وأخذ هذا الوهم يشيع بيننا، ويستقرّ فى نفوسنا، حتى أصبحنا نحن الذين نردده ونؤكده. ونسينا تاريخ هذه اللغة حين اشترك كثير من غير أهلها فى بنائها الثقافى الحضارى، فكان من هؤلاء المفسّرون والمحدِّثون والرواة والكتّاب والشعراء والعلماء والنحاة واللغويون، الذين ينتسبون إلى مختلف البقاع الإسلامية فى أصولهم أو فى نشأتهم، ومنهم من تعلّم العربية ولم تكن لسانَ طفولته، فنبغ فيها، وكتب وألّف، بل صار معلّماً للعرب يعلمهم قواعد لغتهم ونحوَها وصرفَها وبلاغتها ونقدها. ولم يقل أحد منهم حينئذ إن العربية لغة صعبة ليصرف نفسه ويصرف الناس عنها. فما بالنا اليوم نسمع هذا، ونقوله، ونصدّقه، ونجد فيه العذر الذى نتّكئ عليه ليسوّغ لنا جهلنا بلغتنا أو ضعفَنا فيها؟(16/13)
وحسبنا أن نستشهد بمثلين على معرفة غير العرب بالعربية وتعلّمهم لها على كِبَرٍ، فى زمن قصير: فقد "ذكر نصر بن علىّ قال: كان سيبويه يستملى على حمَّاد [ابن سَلَمة](1)، فقال حماد يوماً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحَدٌ من أصحابى إلا وقد أخذت عليه ليس أبا الدرداء. فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء. فقال حمَّاد: لحنتَ ياسيبويه. فقال سيبويه: لاجَرَم لأطلُبَنَّ علماً لا تُلحِّنُنى فيه أبداً. فطلب النحو ولزم الخليل"(2). فسيبويه إذن لم يتعلم العربيةَ ونحوَها صغيراً، ولكنه بدأ بطلب علومٍ أخرى كالحديث والفقه، وحين طلب العربية تعلمها وصار إمام النحو"وعمِل كتابه الذى لم يسبقه إلى مثله أحد قبله ولم يلحق به مَنْ بعده"(3).
... أما المثل الثانى فلا يقلّ وضوحاً ودَلالة ، قال القِفطىّ(4):
"حضر أبو منصور الجبَّان(5) فى مجلس علاء الدولة بن فخر الدولة ابن بُوَيْه، وفى المجلس أبو علىّ بن سينا الرئيس، وهو يومئذ وزير لعلاء الدولة، وجرى فصل فى اللغة تكلّم فيه الرئيس ابن سينا، فقال له أبو منصور: أنت منطيقىّ ما نعارضك، وكلامك فى لغة العرب ما نرضاه. فسكت أبو علىّ خجلاً. وبعد انفصاله من المجلس نظر فى اللغة وتبحّر فيها، وعمل رسائل أودعها نوعاً متوفّراً من اللغة. وسأل علاءُ الدولة ابنَ الجبَّان عما تضمّنه من الغريب، فعلم بعضه وأنكر بعضاً. فقال أبو علىّ [ابن سينا] الكلمة الفلانية معناها كذا، وهى مذكورة فى الكتاب الفلانى، وشرح جميعها، وأحال على الأصول. فخجل أبو منصور بن الجبَّان، وفطِن لِما فعله ابن سينا، واعتذر إليه اعتذاراً طويلاً..".(16/14)
... فابن سينا إذن لم يتعلم اللغة والنحو إلا بعد أن صار وزيراً، فنبع فى هذين العلمين كما نبغ فى غيرهما من العلوم. أما نحن، أبناءَ العربية، فإننا فى هذا الزمن العجيب نبدأ بتعلم العربية: شعرِها ونثرِها ونحوها، منذ نعومة أظفارنا ونقضى فى ذلك السنوات بعد السنوات، ثم نخرج من كل ذلك بخُفَّىْ حُنَيْن، بل لا يكاد كثير منّا يخرج حتى بهما!
... وإذا كنا قد تأثرنا بنظرياتٍ فى تعليم اللغة مما عند غيرنا، ومما لا يتفق وطبيعةَ لغتنا وخصائصَها، ومما هو عندهم أكثره من التجارب التى يحصرون تطبيقها فى مدارس تجريبية محدودة، وقد يرجعون عنها، ولكنها تظلّ عند بعض الطلبة الذين يدرسون هناك منّا، حقائقَ ثابتة يروِّون لها حين يعودون إلينا على أنها أحدث النظريات التى ستُصلِح حال التعليم فى بلادنا، ومرة أخرى أقول "بعض" ولا أُعمّم…وإذا كان كل ذلك قد زاد أحوالنا سواءً ا، ومعرفتَنا بلغتنا ضعفناً، فهل جرّبنا أن نولّى وجوهنا شطرَ ثقافتنا، وأن ندرس وسائل التعليم فيها وأساليبه ومصادره، وهى كلّها واحدة أو تكاد، من أقصى بلاد المسلمين فى الغرب إلى أقصى بلادهم فى الشرق ، وعلى امتدادها فى الشَّمال وفى الجنوب، على مدى ثلاثة عشر قرناً. وقد استطاعت هذه الثقافة أن توحِّد بين المسلمين على اختلاف أصقاعهم، وأن تزوّدهم بالعلم الدينى والدنيوى، وبالمعرفة المتطورة الأدبيةِ واللغوية والعلمية، النظرية والتطبيقية التى جعلت منهم أساتذة العالم قروناً متطاولة، وأحلَّتْهم منزلةً عالية فى تاريخ العلم والحضارة، حين كانوا يجمعون بين أصالة المنهج والفكر والانفتاح على معارف الدنيا من حولهم، دون خوف ولا تردّد، يأخذون منها ما يناسبهم وما يحتاجون إليه، فيتمثّلونه ويهضمونه حتى يصبح جزءاً من ثقافتهم فيزيدها أصالةً وخصبًا وقدرة على العطاء. ثم أخذت هذه الثقافة بالجمود والضمور والانغلاق واجترار ذاتها حتى نَفِدَ ما عندها، فعزلتها المدارس الحديثة(16/15)
وأنظمة التعليم الأجنبية لما فيها من دَفْقٍ جديد بهر الأبصار وخلب الألباب.
... فهل لنا-بعد أن زال بعضُ أثرِ ذلك من أبصارنا وألبابنا-أن ندرس أساليب تعليم لغتِنا: نحوِها وأدبها، من داخل هذه اللغة وثقافتها، وأن ندرس ما عند غيرِنا، لا لنخضع له ونقتصر عليه، ولكنْ لنعرفه ونقابله بما عندَنا، ونأخذ منه القدرَ الذى يفيدنا ونحتاج إليه لتطوير أساليبنا ووسائلنا التعليمية بما يناسب طبيعة لغتنا ومقوِّمات ثقافتنا.
... إن إخفاقنا فى الماضى القريب وفى الحاضر، لا يجوز أن يكون سبباً للتوقف، بل يجب أن يكون حافزاً لنا على الاستمرار فى البحث فى قضية تعليم اللغة العربية على الأساسين اللذين ذكرناهما، وهما: دراسةُ أساليب التعليم فى ثقافتنا والاستفادةُ من
تطور الأساليب الحديثة فى تعليم اللغات، دون أن تقسر لغتنا على ما يخالف طبيعتها.
وبعد،
... فهذه مجموعة من الآراء لا أَدَّعى لها الصواب، ولكنها جالت فى الخاطر، فرأيت أن أعرضها عليكم، وأنتم أهل العلم والفضل، لعلّى أقبَسُ من عملكم بعض ما يوضّح جوانبها، ويكمل نقصها، ويصحّح ما وقعتُ فيه من خطأ. والله سبحانه الموفّق للصواب.
ناصر الدين الأسد
عضو المجمع من الأردن(16/16)
في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الاثنين 28 من شعبان سنة1420هـ الموافق 6 من ديسمبر سنة 1999م، عقد المجمع جلسة علنية لاستقبال عضو جديد بالمجمع هو :
- الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي .
وقد ألقى كلمة المجمع في استقباله الأستاذ الدكتور محمود علي مكي عضو المجمع .
وفيما يلي نص الكلمات التي ألقيت في هذه الجلسة :(17/1)
في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الاثنين 7 من شعبان سنة 1420هـ الموافق 15 من نوفمبر سنة 1999م عقد المجمع جلسة علنية لاستقبال ثلاثة من أعضائه الجدد هم:
الأستاذ الدكتور أحمد هيكل .
الأستاذ الدكتور عبد القادر حسن القط .
الأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي .
وقد ألقى كلمة المجمع في استقبالهم الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع .
وفيما يلي نص الكلمات التي ألقيت في هذه الجلسة :(18/1)
يكثر فى كلام النحاة الأولين مجىء مثل هذه العبارات : " هذا موضع لا يدخله …" . ( الكتاب . (226/1 " وموضعه موضع اسم منون " ( 276 ) " وفى موضع ابتداء " (354 ) " . ولا يكاد فصل من فصول كتاب سيبويه يخلو من لفظة موضع أو ما يشتق منها وما يرادفها ( بل لا تكاد صفحة من هذا الكتاب تخلو من هذا المفهوم ولو ضمنيا ) . وكذلك هو الأمر بالنسبة لمفهوم المثال وما يقوم مقام المصطلح مثل الحدّ أو الباب ويعتقد الكثير من المحدثين أن هذه الألفاظ إنما معناها القاعدة النحوية ليس إلا . فهذه المصطلحات وإن كانت تحتمل هذا المعنى إذا نظرنا إليها بمنظار معلم العربية إلا أنها تشتمل على معان علمية دقيقة تتجاوز هذا التأويل المدرسى إلى أبعد حد كما سنراه .
فالكثير من النحو أو الأنحاء العربية – أى الضروب من الكلام (1 ) ـ التى سمعت من أفواه فصحاء العرب ودوّنها اللغويون يعتمد النحويون فى تفسيرها على مفهوم الموضع فما هو الموضع عندهم وهل مجرد موقع الوحدة اللغوية فى مدرج الكلام أو هو شىء أكثر من ذلك تجريدا وهل يوجد الآن فى علوم اللسان الحديثة ( أو اللسانيات ) شىء يماثل هذا المفهوم العربى الهام أو يقاربه ؟ ثم إن كان فى هذه العلوم الحديثة تصور قريب من هذا ففى ماذا يلتقيان وفى ماذا يختلفان ؟ وسنحاول فى الوقت نفسه أن تبين الأهمية العظيمة التى يكتسبها مفهوم الموضع فى تفسير بنية اللغة ونمثّل لذلك ، إن شاء الله ، باعتمادنا على العبارة المشهورة : " أقائم أخواك " التى شغلت عقول النحاة مدة طويلة .
جاء فى كتاب سيبويه : " ويبين لك أنها ليست بأسماء إنك لو وضعتها مواضع الأسماء لم يجز ذلك . ألا ترى أنك لو قلت : إن يضرب يأتينا لم يكن كلاما " ( 1/3 ) .(19/1)
ويقول المبرد فى هذا المعنى : " فمن ذلك الأسماء كم وأين وكيف وما ومتى وهذا وهؤلاء وجميع المبهمة ومنها الذى والتى ومنها حيث. واعلم أن الدليل على أن ما ذكر أسماء وقوعها فى مواضع الأسماء وتأديتها ما تؤديه سائر الأسماء " ( المقتضب ( 172/3 ) .
وجاء فى الكتاب : " ولو كان صفة لم يجز أن يدخل عليها اللام لأنك لا تدخلها فى ذا الموضع على الصفة " ( 375/1 ) . وأيضا : " وليس ( المفعول له ) فى موضع ابتداء ولا موضعا بينى على مبتدأ((186/1
و " لكنه موضع لا تدخله الألف واللام " (224/1) .
ويقول سيبويه أيضا : " وأما المستقيم القبيح فأن تضع اللفظ فى غير موضعه نحو. قولك قد زيدا رأيت وكى زيدا يأتيك " (8/1) .
عرفنا بما سبق أن للوحدات اللغوية مواضع خاصة فى تركيب الكلام فإذا وضعت فى غير موضعها فإما أن يقبح ذلك فى غير الشعر وإما أن يكون لحنا لم تتكلم به العرب . والموضع تعرف به أجناس هذه الوحدات فكل وحدة تستطيع أن تدخل فى موضع الأسماء أو موضع الأفعال أو موضع حروف المعانى فمعنى ذلك أنها تتدرج تحت أحد هذه الأجناس ويكون مجراها وحكمها ( = مسلكها وأحوالها ) مثل مجراها وحكمها . هذا، كما يقولون، حدّ الكلام وأصله . وقد يكون للعنصر الواحد أكثر من موضع فيتحوّل حكمه ومجراه بحسب الموضع فيجرى مجرى الباب الذى ينتمى إلى ذلك الموضع .(19/2)
يقول المبرد : " أما ( مَنْ ) فتكون فاعلة ومفعولة وغير ذلك … وموقعها فى الكلام فى ثلاثة مواضع :تكون خبرا معرفة إذا وصلت ونكرة إذا انكرت وتكون استفهامًا وجزاء " (172/3) ، وقد يقع الاسم موضع الحرف فيبنى ولا سيما إذا لزم هذا الموضع وهذا هو سرّ بناء كل الأسماء التى تقع فى موضع الحرف ويقتضى ذلك أنها تضمن معناه ـ دون أن يخرجها من كونها أسماء لأنها ـ وهذا شىء امتاز العرب باكتشافه ـ قد يقع الشىء فى موضعين أو أكثر فى نفس العبارة ومعنى ذلك أنه يستطيع أن يغطى أكثر من موضع فى عبارة واحدة وذلك مثل "مَنْ" (التى هى الأصل فى الاستفهام (1) وما الاستفهامتين والظروف التى تستعمل فى الاستفهام فإنها تقع فى موضع الحرف تكون بمنزلة الهمزة ( كما رأينا ) فتقدم وجوبا وتكون فى نفس التركيب فى موضع خبر فى مثل " أين زيد " فلا يكون هذا الخبر إلا مقدّما . وليس من الضرورى أن يكون مجرى الشىء مما ثلا تماما لمجرى الباب المنقول إليه وموضعه . وقد ألح النحويون على ذلك كثيرا : " وقد يقع الشىء موقع الشىء وليس إعرابه كإعرابه وذلك قولك مررت برجل يقول " ذاك " فيقول فى موضع قائل وليس إعرابه كإعرابه " الكتاب (280/1) و : "زيد فى قولك : يا زيد بن عمرو موضع نصب كما أن أم فى موضع جرّ فى قولك : يا ابن أم ولكنه لفظ كما ذكرت وهو على الأصل " (314/1) .(19/3)
فالموضع على هذا الأساس شىء ومحتواه أى ما يدخل فيه ، شىء آخر . ونستنتج من هذا أمرا مهما جدّا ( قد فات الكثير من اللسانيين الغربيين وأتباعهم من العرب ) وهو أن موقع الوحدة اللغوية فى مدرج الكلام غير موضعها.فالاهتمام بما ظهر فى اللفظ وموقعه أى الموقع الذى تقع فيه فى كلام محصّل (actualised= ) فى مكان محسوس من كلام ملفوظ بالفعل هو جوهر المذهب الذى اختص به المنتمون إلى المدرسة الاستغراقية أو القرائنية الأمريكية فالـ (2) Distribution عندهم هو استغراق القرائن التى يمكن أن تكتنف بها الوحدة أى جميع مواقعها الممكنة فى الكلام أو كما يقول عنها الرمانى : قسمة مواقعها ( فقد جاء فى شرحه : " ما قسمة المواقع إن المكسورة وأن " المفتوحة " ( شرحه 165/5 ) .
والدليل على عدم تطابق الموقع المحصّل المحسوس للوحدة والموضع عند النحاة العرب هو تمييزهم بين حالة الوحدة التى هى عليه فى اللفظ وما ينبغى أن تكون عليه بحسب ما يقتضيه القياس أو الباب وقد يتطابق اللفظ والموضع وقد يفترقان
فإذا جاء اللفظ مخالفا للموضع بحث النحاة عن العلة أى عن العارض الذى أخرجه عن أصله ووجهه .(19/4)
وإذا جاء الموضع وخالف ظاهره قيل إنه ردّ إلى أصله . ويبين ذلك قول سيبويه فى ( قبلُ وبعدُ ) مضمومتين: "قد يكونان فى موضع نصب وجر ولفظهما مرفوع فإذا أضفتهما رددتهما إلى الأصل"(311/1 ) وقال أيضا :" عملت (لا) فيما بعدها وإن كان موضع ابتداء كما عملت (مِنْ) فى الغلام وان كان موضع ابتداء ( فى : هل مِنْ غلام ؟ ) ( 354 ) وقال الخليل فى نحو " لا أم لى 000 ولا أب " كما أن الشاعر ممن قال فلسنا بالجبال ولا الحديدا " أجراه على الموضع ( 1 ) ( 352/1 ) . فالحمل على الموضع كثير فى كلام العرب. ولا ينبغى أن نذهب بعيدا فالموضع لا يمكن أن يكون الموقع الظاهر فى اللفظ، وبالفظ أى بظهور لفظة محسوسة فى مكان معين من الكلام كما هو الشأن عند القرائنيين الأمريكيين ( Slot ) لسبب بسيط وهو أولا اعتبار النحاة الموضع الذى تظهر فيه الوحدة فى مستوى التراكيب واحدا سواء قدمت أم أخرت وذلك مثل " ضربت زيد أو زيدا ضربت" فهذا يدل على أن الموضع المقصود عندهم غير الموقع اللفظى . وثانيا إطلاقهم كلمة الموضع على الخالى من كل وحدة وبعبارة أوضح على الموقع الذى كان يمكن أن تظهر فيه وحدة تنتمى إلى الباب من الوحدات التى تدخل عادة فى هذا الموضع. فبالنسبة الى جملة مثل " كتاب " كجواب للسؤال : ما هذا ؟ أو ما بيدك ؟ ففيها ثلاثة مواضع وهى: موضع الابتداء، وموضع المبتدأ، وموضع الخبر، ولم يظهر فى اللفظ إلا عنصر واحد فى موضع الخبر وكان يمكن أن تأتى كلمة " هذا " فى موضع المبتدأ بل وحرف التوكيد " إن " مع " هذا " إن رأى المتكلم أن التوكيد ههنا ضرورى ( بحسب مقتضى الحال ) .(19/5)
فبهذا يتضح أن الموضع هو موقع تقديرى واعتبارى أى مجرد تقتضيه بنية الجملة فى مستوى التراكيب وقد يكون خاليا فلا يظهر له أثر فى اللفظ المسموع فهو وضع معين يجب أن يكون عليه كل واحد من مكونات الجملة لفظا أو تقديرا فقد تخلو الجملة من بعض أجزائها إلا أن مواضعها موجودة متصورة مرسومة فى مثال الجملة أى نمطها وقياسها . وما يقال عن الموضع ههنا يمكن أن يقال عن الموضع فى مستويات أدنى منها .
ب ) الموضع فى مستوى ما نسميه فى النظرية الخليلية الحديثة باللفظة:
إن الاسم أو الفعل عند النحاة الأولين لا ينحصران فى مثل : كتاب ورجُل وفهرس وضرب وجلس وأمثلتهما أى لا يكون مثل كتاب هو الوضع الوحيد لما يسميه النحاة اسما وكذلك ضرب أو ضربت أو ضربوا لا تكون أفعالا هى وحدها . وذلك لأن فى مثل " كتاب " يمكن أن تدخل عليه أشياء خاصة بالاسم يمتاز بها وحده فتدخل عليه وتخرج كما يقول الخليل ( ولا تدخل على غير الاسم ) فهى منه إذن ( كثيرا ما يقول سيبويه : " هو من اسمه " ( 45-44/1 أو داخل فى الاسم : (28,89,84/ مشيرا إلى هذه الأشياء الداخلة عليه وقد ينفى ذلك بالنسبة إلى أشياء لا تدخل عليه فيقول " ليست من اسمه " أو منفصل عنه " (208.202) . وعلى هذا فعبارة " كتاب " تقتضى كاسم كامل الاسمية عددا من المواضع يكون كل واحد منها موضعا خاصا لإحدى الزوائد التى تدخل على الاسم ففى الاسم فى تصور الخليل وسيبويه أى كبنية ومثال ستة مواضع يمكن أن تخلو كلها مما تدخل فيها إلا الموضع المركزى وهو " الاسم المفرد " كما يقول سيبويه، وكل عبارة تتكون من هذه النواة مع زيادة خاصة فهى بمنزلة اسم(19/6)
مفرد أو اسم واحد (45-44.229-228/1) وكل هذه الدواخل يقول عنها النحاة إنها من تمام الاسم (الكتاب 323.306.128.45-44/1 وشرح الرمانى (133/2.91/3 . "فكتاب" هو بمنزلة " الكتاب " لأنه يأتى فى موضعه فى مستوى الجملة وبمنزلة " كتاب زيد " و " الكتاب الذى قرأته أمس " وبمنزلة " بالكتاب " فى موضع المعمول الثانى فلكل هذه الزوائد موضع فى بنية الاسم . فإذا قلنا " بكتاب " فهناك موضع تقديرى بين الباء وكتاب وهو موضع الألف واللام . وها هى ذى المواضع الستة :
حرف الجر ... أداة التعريف ... النواة الاسمية ... علامة الإعراب ... التنوين(1) أو المضاف إليه ... الصفة
2 ... 1 ... 0 ... 1 ... 2 ... 3
فكل هذه المواضع تكوّن مثال الاسم وحتى لا يقع التباس بين الاسم ككلمة مفردة ( أى مجردة مما يدخل عليها ) وبين الاسم مع الزوائد الداخلة عليه أطلقنا على هذا الأخير مصطلحا استعمله الرضى وابن يعيش وهو اللفظة ( الاسمية أو الفعلية ) ( انظر مقالاتنا عن اللسانيات الخليلية الحديثة ) .
ج) الموضع فى مستوى الكلم :
إن الكلمة (1) هى كل ما يمكن أن يدخل فى إحدى المواضع الخاصة باللفظة أو المواضع الخاصة بالوحدات التركيبية ( الجملة المفيدة ) (2) . فالكلمة التى يمكن(19/7)
أن تحلل إلى مكونات أصلية وزوائد هى الاسم المفرد المعرب والفعل المتصرف . ومن المعروف أن الكلمة المفردة المتصرفة تنحل إلى مادة أصلية ومثال أو وزن . فلكل واحد من هذين المكونين مواضع. فالأصل التقديرى يتكون من ثلاثة أو أربعة أحرف مرتبة ترتيبا مثل الكاف والتاء والباء فى كتب وكتاب وكاتب ومكتب فلكل حرف موضع هو رتبته . وأما مثال الكلمة وهو كما حدده الرضى ( بدقة عجيبة جدا ) : " عدد حروفها المرتبة وحركاتها المعينة وسكونها مع اعتبار الحروف الزائدة والأصلية كل فى موضعه " ( شرح الشافية 2/1 ) : ففيه مواضع الفاء والعين واللام ( فى الثلاثى ) وهى متغيرات ومواضع الزوائد وهى الثوابت بالنسبة للوزن . وههنا أيضا يعتبر الموضع اعتباريا وذلك لأن موضع الفاء أو العين أو اللام مثلا قد يكون خاليا وذلك مثل " فِ " أمر من " وفى " فموضع الفاء
وموضع اللام خاليان والفرق بين هذا المستوى وما فوقه من المستويات هو أن الخلو هنا هو قسرى واضطرارى وهو لعارض صوتى.أما فى مستوى اللفظة وما فوقها فهو من محض اختيار المتكلم ( بحسب غرضه ومقتضى الحال ). ثم هناك فرق آخر بين مستوى التراكيب وما تحته وهو أن العناصر الداخلة فى اللفظة والداخلة فى الكلمة لا يمكن أن يحصل فيها تقديم وتأخير أما المستوى الأعلى فيمكن ذلك فى بعض الأوضاع لكن بشروط معينة .
إن الموضع فى كل هذه المستويات هو كما قلنا عبارة عن موقع اعتبارى تدخل فيه مجموعة من العناصر تختص به فى الأصل . ونضيف شيئا مهمّا هنا يخص كيفية اكتشاف المواضع أو استنباط البنى والمثل عند النحاة الأولين وهو كالتالى :(لا ننسى أن الخليل كان من أبرز الرياضيين): يتولّد الموضع ( بهذا المعنى ) عن عمليتين اثنتين :
(1 بحمل عبارة على عبارات أخرى من جنسها لبيان تكافئها ( على المحور التركيبى ) إن كان هناك تكافؤ .(19/8)
(2 بمقارنة ترتيب عناصر كل عبارة لاكتشاف الترتيب المشترك بينها ( على المحور التصريفى الاستبدالى (1) ).والتركيب بين هاتين العمليتين ـ وهو القياس التمثيلى العربى ـ ينتج منه المثال أو البنية المجردة التى تجمع بين هذه العبارات من حيث بنيتها ليس إلا. وهذا هو " الجامع " الذى به يتعادل الحكم .
د) الموضع فى مستوى الخطاب ( وله علاقة بحكم الكلام من استفهام وخبر وأمر ونهى وشرط وغير ذلك ):
يستعمل النحاة العرب الموضع فى هذا المستوى كلما أضافوه إلى الكلام بحرف "من " : " وموضعها من الكلام ( كلهم أن يعمّ ببعضها ويؤكد ببعضها بعد ما يذكر الاسم ( الكتاب (274/1 أى موضعها بالنسبة إلى معانى الخطاب . و " واعلم أن لكم موضعين : أحدهما الاستفهام … والموضع الآخر(291/1 (2) . ويقول المبرد : " وإنما تنظر فى هذه المصادر إلى معانيها فإن كان الموضع بعدها أمرا أو دعاء لم يكن إلا نصبًا " (المقتضب (221/3) .ويقول الرمانى : " لأن التحذير مما يخاف منه وقوع المخوف فهو موضع إعجال لا يحتمل تطويل الكلام ( الأشباه ، (298/1 .
... ومما سبق نستنتج أن المثال عند النحاة العرب هو مجموعة من المواضع
الاعتبارية مرتبة ترتيبا معينا تدخل فى بعضها ،وقد تخلو منها العناصر الأصلية وفى بعضها الآخر الزائدة . ولا ينحصر المثال فى مستوى الكلم ( الأوزان ) بل يوجد فى كل مستويات اللغة بما فيها التراكيب وما فوقها .
... فمثال التركيب فى مستوى الجملة المفيدة يتكون من موضع الفعل والابتداء والنواسخ وهو موضع العامل ومن موضع الفاعل وهو موضع المعمول الأول ( المبتدأ والفاعل وما يقوم مقامها ) وموضع المعمول الثانى ( الخبر والمفعول به وما يقوم مقامهما ) وهى النواة وتدخل على هذه النواة مواضع للعناصر المخصصة ( الحال والتمييز والمفاعيل الأخرى ) .(19/9)
... ومثال اللفظة قد مضى تمثيله. وهناك مثال واحد للاسم وثلاثة مثل للفعل أما مثل الكلم أو أوزانها وأبنيتها (الاسم المفرد والفعل المفرد ) فقال النحاة بأنها تبلغ ألفا وثلاثمائة مثالا . وقد أحصى منها سيبويه ثلاثمائة تقريبا وهى أشهرها .
(2 " أقائم أخواك " كمثال لا يمكن أن تفسر بنيته إلا بالاعتماد على مفهوم الموضع.
-1 ما قاله الخليل وسيبويه
جاء فى الكتاب : " وزعم الخليل رحمه الله أنه يستقبح أن يقول : " قائم زيد " وذاك
إذا لم تجعل قائما مقدما مبنيا على المبتدأ … فإذا لم يريدوا هذا المعنى وأرادوا أن يجعلوه فعلا كقوله : يقول زيد وقام زيد قبح لأنه اسم . وإنما حسن عندهم أن يجرى مجرى الفعل إذا كان صفة جرى على موصوف أو جرى على اسم قد عمل فيه كما أنه لا يكون مفعولا فى "ضارب " حتى يكون محمولا على غيره فيقول : " هذا ضارب زيدًا " … ولا يكون " ضارب زيدا " على " ضربت زيدا " فكما لم يجز هذا كذلك استقبحوا أن يجرى مجرى الفعل المبتدأ " (278/1) . ذكر سيبويه هنا المواضع التى يحسن مجىء الصفة العاملة عمل الفعل فيها إلا موضعا واحدا وهو أهمها :أى موضع الفعل وذلك عند كلامه عن مواضع الاسم التى يمكن أن يقع فيها الفعل وخاصة المضارع ليبين علة رفعه . فقال " اعلم أنها إذا كانت فى موضع اسم مبتدأ … فأما ما كان فى موضع مبتدأ فقولك : يقول زيد ذاك … ومن ذلك أيضا : هلا يقول زيد ذاك " فيقول فى موضع ابتداء " (410-409 ) .
فى هذا الكلام شىء من الغموض وذلك بسبب استعمال سيبويه لعبارة " موضع مبتدأ ". فنتج عن ذلك أن التبس الأمر على كل من جاء بعده فاعتقدوا أن سيبويه أراد بهذا الموضع الاسم الذى يعمل
فيه الابتداء .
-2 ما قاله الأخفش وابن السراج:(19/10)
يقول ابن السراج : " وحسن عندهم : " أقائم أبوك " " وأخارج أخوك " تشبيها بهذا إذا اعتمد قائم على شىء قبله … فإذا قلت : (أقائم أبوك) فقائم مرتفع بالابتداء و(أبوك) رفع بفعلها وهما قد سدّ مسّد الخبر " (الأصول (33-32/1 . وتبعه أصحابه فى ذلك بالحرف مثل أبى على الفارسى (الإيضاح (35-34/1 والرمانى ( شرح الكتاب ، (136/2 وكذلك كل من جاء بعده . فمن أين لهم هذا التفسير ؟ والإجابة عن هذا السؤال توجد فى كتاب الأصول لابن السراج فقد ذكر أقوال الأخفش تلميذ سيبويه فى هذا النحو بالذات . قال : قال الأخفش : أقول : " إن فى الدار جالسا أخواك " فأنصب جالسا بإن وأرفع الأخوين بفعلهما وأستغنى بهما عن خبر إن كما أقول : أذاهب أخواك فأرفع أذاهب بالابتداء وأخواك بفعلهما وأستغنى بهما عن خبر الابتداء لأن خبر الابتداء جىء به ليتم الكلام … وتقول : إن فيها قائما أخواك وإن شئت قائمين أخويك فتنصب أخويك بإن وقائمين على الحال وفيها خبر إن وهو خبر مقدم ".انتهى كلام الأخفش ويواصل ابن السراج:وأجاز الفراء:إن قائما الزيدان وإن قائما الزيدون على معنى: إن من قام الزيدان ..(الأصول (287-286 .
... يظهر من هذا جليا أن الأخفش فهم من عبارة سيبويه " فى موضع اسم مبتدأ أو موضع مبتدأ " أن اسم الفاعل العامل عمل فعله هو مبتدأ وأن الابتداء وبالتالى ، هو الذى رفعه، وكونه مرفوعا يقتضى أن يكون له رافع مع علمه ـ وهو واضح ـ أن لهذه الصفة فاعل فلجأ إلى وجود هذا الفاعل ليفسر عدم وجود خبر بهذا المبتدأ مع أنه كلام تام .
3 - ما قاله الرضى:
وأول من انتبه، فى علمنا ، إلى ضعف هذا التأويل هو الرضى الاسترابادى . وقد ميّز قبله ابن الحاجب صاحب النص الذى شرحه ، بين المبتدأ الذى يلزمه خبر وهذا الذى يسميه مبتدأ أيضا لكن من نوع آخر وهو شىء يحتاج إلى توضيح. وامتاز الرضى هو وحده بأن قال:" وهذا ليس بشىء بل لم يكن لهذا المبتدأ أصل من خبر حتى يحذف ويسدّ(19/11)
غيره مسده ولو تكلفت تقدير خبر لم يتأت إذ هو فى المعنى كالفعل والفعل لا خبر له . فمن ثم تم بفاعله كلاما …ولهذا أيضا لا يصغّر ولا يوصف ولا يعرّف ولا يثنى ولا يجمع إلا على لغة أكلونى البراغيث " ( شرح الكافية (86/1 وقال
أيضا : " فهذه كلها مبتدآت لا أخبار لها لما فيها من معنى الفعل ولا يدخل نواسخ المبتدأ عليها لما فيها من معنى النفى فيلزم الصدر … ويجوز عند الأخفش والفراء : "إن قائما الزيدان وسوغ الكوفيون هذا الاستعمال فى ظن أيضا نحو : ظننت قائما الزيدان وكلاهما بعيد عن القياس (1) لأن الصفة لا تصير فاعلها جملة كالفعل إلا مع دخول معنى يناسب الفعل عليها كمعنى النفى والاستفهام أو دخول مالا بد من تقديرها فعلا بعده كالام الموصله . وأما إنّ وظنّ فليسا من ذينك فى شىء بل هما يطلبان الاسمية فلا يصح تقديرها فعلا بعدهما( المرجع نفسه ،(87 .
... كلام رجل عبقرى ! وعهدنا به يهجم بذهنه مثل الخليل على أدق المعانى العلمية وأعمقها . أما فيما يخص كلام سيبويه فلم يدرك الأخفش ومن تبعه فى ذلك أن عبارة الكتاب :" فى موضع اسم مبتدأ " هى مساوية لـ " فى موضع الفعل
المبتدأ " الكتاب (278/1 ( . فالفعل المبتدأ عنده هو الفعل الذى وقع فى موضعه الأصلى ( إذ قد يقع فى موضع الاسم ) أى موضع العامل فى الاسم غير الجار وهو الفعل والنواسخ والابتداء والدليل على ذلك أن سيبويه قال بالنص الصريح: إن اسم الفاعل هنا فى موضع ابتداء ثم إنه يسمى كل ما يغطى هذا الموضع مبتدأ وذلك مثل الفعل كما قلنا ( كتاب (458,410,278/1 . وقال عن " أنّ " إنها لا تكون إلا مبتدأة (461/1) . فالاسم المبتدأ ليس عنده ههنا الاسم الذى عمل فيه الابتداء كما فهمه الأخفش بل الاسم الذى يقع فى موضع الابتداء نفسه الذى هو موضع العامل فى الاسم لأنه يعمل عمل الفعل تماما ويتم به الكلام ويقوم(19/12)
مقامه فى موضعه وليس فى موضع الاسم الذى يعمل فيه الابتداء والدليل على ذلك ينحصر فى هاتين الحقيقتين :
-1 لا يتصرف اسم الفاعل(هنا فقط) تصرف الاسم ( التعريف والتمييز والتثنية
والجمع والوصف )
... -2 لا يمكن أن يحذف فى هذه الحالة الفاعل وغيره مما يعمل فيه ويجوز هذا أو ذاك فى الصفة العاملة عمل الفعل فى غير هذا الموضع : يقال : هنّ حواجّ بيتَ الله " بالنصب ( الكتاب 57/1 ) . والصفة العاملة هنا فى موضع خبر ( معمول 2 ) كما يجوز حذف معمول الصفة فاعلا أو مفعولا فى غير موضع العامل يجوز: مررت برجل ضارب أخوه عمرا وبرجل ضارب وهذا متعذر إذا جاءت الصفة العاملة فى موضع العامل فلا يحذف الفاعل لأنه به يتم الكلام . ويمكن أن يرسم هذا هكذا :
... انظر الجدول فى الصفحة التالية
... وبهذا الرسم تتضح أهمية الموضع ( فى داخل المثال ) العظيمة كما تتضح أهمية العملية الاستنباطية التى هى القياس التمثيلى ( حمل شىء على شىء لجامع بينهما ) ويستحيل فى هذا القياس الممثل بهذا الرسم أن تدخل إن أو ظننت على أقائم وسيبويه(مع شيخه الجليل والرضى ) هُم الذين تنبهوا إلى ذلك .
... أما إعراب هذه الصفة فهذا راجع إلى اصلها وهى الاسمية وكونها فى موضع الفعل لا يمنعها من هاتين الميزتين الاسميتين: دخول التنوين والإعراب . ويمكن أن تكون مجرورة ( مثل : غير قائم أخواك ) أو مرفوعة . أما الرفع فهو لتجردها وجوبا من العامل اللفظى رافعا أو ناصبا إذ هى فى موضعها وفى نفس الوقت لتجردها من الجار ( الذى قد يدخل عليها والجار من حدّ الاسم أى داخل فيه ) .(19/13)
... وهذا يفسر أيضا أن سيبويه يجعل عامل الرفع فى الفعل المضارع وقوعه فى موضع الاسم وهذا الاسم هو هذه الصفة لا أى اسم فلا يمكن أن يقال إن تجرّده من الناصب والجازم كما ذهب إلى ذلك الكوفيون ثم ابن مالك هو عامل الرفع فيه لأن ما يعمل ـ كما قال سيبويه ـ فى الاسم ـ وهو هنا التجرّد ـ لا يعمل فى الفعل ( الكتاب (409/1 وهذا تفسير خليلى
لم يتفطن له ابن مالك كعادته .
... إن هذه الطريقة فى تحليل الكلام واكتشاف البنية الجامعة للعدد الكبير من الأنحاء قد بناها النحاة الأولون ، كما رأينا ، على عدد من المفاهيم والتصورات وعدد من الأساليب فى علاج الكلام . فأما مفهوم الموضع ، كما وصفناه ، وكذلك المثال ( والوزن بالنسبة للكلمة ) فلا يوجد مثلها فى اللسانيات الغربية إطلاقا . والسبب فى ذلك أن النحاة لايقتضى التحليل عندهم فقط على ظاهر الكلام أى على اللفظ المسموع وحده كما هو الشأن عند اللسانيين المنتمين إلى مذهب البنية . فالنحاة العرب ينطلقون هم أيضا من اللفظ فى ظاهره ولكن لا يتناولون الكلام جملة جملة والقطعة بعد القطعة فيقابلوا بينها لاظهار الفوارق بينها من حيث صفاتها الذاتية بل يحملون هذا النحو على ذاك أى يجعلون الأنحاء الكثيرة من تلك التى تنتمى إلى باب واحد ( إلى مجموعة بالمعنى الرياضى ) بعضها بازاء بعض حتى يظهر الترتيب والنظم ( لا الصفات الذاتية فقط ) والمثال الذى يجمعها ويجعل منها بابا ويؤديهم هذا العمل القياسى الاستنباطى إلى استخراج مواضع أو أوضاع فى داخل المثال وهى العناصر المجرّدة التى يتكوّن منها المثال أو البنية وكل موضع تختص بالدخول فيه جنس من الوحدات اللغوية . وقد يكون فارغا مثل المجموعة الرياضية . وهذا الجمع الذى أشرنا إليه هو نفسه من قبيل العمليات الرياضية فهو فى اصطلاح الرياضيات الحديثة تطبيق مجموعة على مجموعة بالتكافؤ ( طردًا وعكسًا كما يقول علماؤنا القدامى ) . وكل هذا(19/14)
يفسر معنى ما قاله ابن جنى فى كتاب الخصائص عن الموضع : " وهذا يدلّك على قوة اعتقادهم أحوال المواضع وكيف يقع فيها . ألا ترى أن الموضع موضع جمع وقد تقدم فى الأول لفظ الجمع فتُرك اللفظ ومُوجب الموضع إلى الإفراد لأنه مما يؤلف فى هذا المكان (419/2 ) .
وبالله التوفيق
عبد الرحمن الحاج صالح
عضو المجمع المراسل
من الجزائر(19/15)
الاستشراق مصطلح أوربى يقصد به الاهتمام بكل ما يتصل ببلاد الشرق من العالم العربى على امتداده إلى آخر ما يعرف باسم الشرق الأقصى ، فهو مصطلح واسع فضفاض وإن كنا فى عالمنا العربى نعطيه دلالة أضيق تعنى دراسات الأوربيين حول حضارة العالم العربى الإسلامى بصفة خاصة .
... وحول الاستشراق الأوربى بهذا المفهوم دراسات كثيرة ، غير أننا سنختص بالحديث الاستشراق الإسبانى،أى ما أنتجه العلماء الذين كتبوا بالإسبانية حول ثقافتنا ومختلف مظاهر حضارتنا العربية الإسلامية. وفيما يتصل بالاستشراق بصفة عامة .
... وقد كان للاستشراق الإسبانى خصوصية تميزه عن استشراق البلاد الأوربية الأخرى . وتتركز هذه الخصوصية فى نقاط أهمها: أن ميدانه الرئيسى الأول كان تاريخ الأندلس وحضارتها وذلك لأن إسبانيا ظلت خلال
فترة طويلة من تاريخها (من القرن الثامن
الميلادى حتى القرن الخامس عشر على الأقل ) جزءاً من العالم العربى الإسلامى ، وهى ظاهرة انفردت بها هذه البلاد ، ولم تشاركها فيها إلا إيطاليا على نحو جزئى ، إذ إن أجزاء منها ( جزيرة صقلية وجنوبى شبه الجزيرة الإيطالية ) كانت أيضا تابعة للعالم العربى خلال ما يقرب من ثلاثة قرون . وترتب على ذلك أن الاستشراق الأوربى كان يدرس حضارة العرب والمسلمين من منطلق الفضول وحب الاستطلاع لحضارة غريبة عنه ، أما الاستشراق الإسبانى فإنه كان يرى فى دراسته للأندلس اهتماما بحقبة من تاريخ بلاده القومى، والتراث الأندلسى إنما هو تراث مشترك بين العالم العربى والحضارة الإسبانية نفسها . ومن ناحية أخرى فإن الاستشراق الأوربى كان فى أكثر أحواله ممهداً أو تابعاً للامتداد الاستعمارى للبلاد الأوربية ( ولا سيما إنجلترا وفرنسا ثم(20/1)
هولندا وبلجيكا والبرتغال )، فى آسيا وإفريقيا بما فيها العالم العربى والإسلامي. أما إسبانيا فلم تكن لها مستعمرات تذكر فى عالمنا فيما عدا الشريط الضيق المواجه لسواحلها فى شمالي المغرب . فالمطامع الاستعمارية لم يكن لها دور فى توجيه دراسات المستشرقين الإسبان إلا على نحو عابر طفيف . ومن الطريف أن نذكر حينما نتتبع تاريخ الاستشراق الإسبانى أن هذا الاستشراق كان هو السابق فى الظهور على كل ألوان الاستشراق الأوربى، وذلك لأنه منذ فتح العرب شبه جزيرة إيبريا ( إسبانيا والبرتغال ) حدث امتزاج كبير بين الفاتحين وأهل البلاد ، فتولد عن ذلك مجتمع مولد من كل العناصر التى كونته : عربية وبربرية وقوطية ولاتينية ، وهو مجتمع اتخذ فى غالبته من الإسلام دينا ومن العربية لغة . على أن هناك أقلية ظلت فى داخل هذا المجتمع محتفظة بديانتها المسيحية ، وهى أقلية أطلق عليها مصطلح المستعربين ، وذلك لأنهم تشبهوا بالعرب فى كل أوضاعهم وعاداتهم وكانوا يستخدمون العربية فى تعاملاتهم . وكان هؤلاء المستعربون هم نواة الاستشراق الإسباني قبل أن يعرف مصطلح الاستشراق بقرون طويلة . وقد أدى التفاعل بين الثقافتين العربية واللاتينية إلى أن تظهر فى مدينة طليطلة التى استولى عليها المسيحيون فى سنة 478 (1085 م. ) مدرسة تعرف بتراجمة طليطلة عملت على ترجمة العلوم العربية المختلفة من فلسفة وفلك ورياضيات وعلوم طبيعية إلى اللاتينية ، بل تمت أول ترجمة للقرآن الكريم فى هذه المدرسة وهى ترجمة ماركوس الطليطلى وتلتها الترجمة التى أوصى بعملها بيتر الجليل سنة 1143 م . فهذه الترجمات يمكن أن تعد النواة الأولى للاستشراق الأوربى فى القرن الثانى عشر الميلادى . وخلال القرن الثالث عشر اتسعت حركة الترجمة وشملت كل العلوم العربية وذلك فى ظل رعاية الملك الإسبانى ألفونسو العاشر الملقب بالحكيم ، وهى حركة تختلف عن سابقتها فى أنها لم تكن من العربية إلى(20/2)
اللاتينية ، بل إلى اللاتيتية الدارجة التى أصبحت اللغة الإسبانية .
... على أنه بعد هذا التفاعل الخصب الذى أصبح قاعدة للنهضة الفكرية والعلمية فى إسبانيا، بل فى القارة الأوربية كلها أتت فترة من القطيعة بين إسبانيا والثقافة العربية الإسلامية منذ أن أسقطت آخر دولة إسلامية فى الأندلس ( سنة 1492 ) إذ ساد إسبانيا المسيحية جو من التعصب الدينى حاولت فيه الكنيسة ومحاكم التفتيش محو كل أثر لحضارة العرب والإسلام التى كان لها الفضل فى نهضة هذه البلاد، وانتهى الأمر بطرد مئات الآلاف من الموريسكيين أى المتمسكين بإسلامهم من الشعب الأندلسى وإرغام من بقى منهم فى البلاد على التنصر . واستمرت هذه الحقبة المظلمة من تاريخ إسبانيا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر . وخلالها تجاهلت السلطات الحاكمة الماضى الأندلسى وعملت على طمس معالمه .
على أنه فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر وبحكم محاولة إسبانيا اللحاق بالركب الأوربى فى تيار ما يعرف باسم " التنوير " عاد الاهتمام بالدراسات العربية الإسلامية وبالماضى الأندلسى لإسبانيا ، فعمل الملك كارلوس الثالث على استقدام بعض الرهبان السوريين واللبنانيين من الموارنة لكى يدرسوا العربية ويهتموا بالمخطوطات العربية الموجودة فى مكتبة الإسكوريال . وكان أن اضطلع بمهمة فهرسة هذه الكتب الأب اللبنانى ميخائيل الغزيرى وأصدر هذه الفهرسة فى مجلدين كبيرين ( بين سنتى 1760و1770 ) وكان هذا العمل العلمى هو الشرارة التى انطلقت منها الدراسات العربية فى إسبانيا من جديد .(20/3)
فكان من أول من استفادوا من هذه المخطوطات أحد الآباء اليسوعيين وهو خوان أندريس . وحدث أن أصدرت السلطات الإسبانية قراراً بطرد اليسوعيين من إسبانيا ، فلجأ خوان أندريس إلى إيطاليا، وهناك ألف كتابا جامعاً فى ثمانية مجلدات حول نشأة الآداب الأوربية وتطورها ( سنة 1799 ) . ، وفيه يشيد لأول مرة بالحضارة العربية الأندلسية ، بل ويصرح بأن كل ظاهرة أدبية أو فكرية فى أوربا تدين بنشأتها إلى العرب، وكان من جانب هذا الأب اليسوعى ضربًا من الإلهام إذ لم تسعفه على ذلك الدلائل المادية المستمدة من النصوص . ولذلك رفض الباحثون الأوربيون نتائج أبحاثه وقالوا إنها من نسج خياله .
... وتلا ذلك كتاب أول تاريخ للأندلس قام به خوسيه أنتونيو كوندى الذى أصدر كتابه فى سنة 1820 وكان بدوره متعاطفا مع الحضارة الأندلسية ، ولكن كوندى وقع فى أخطاء كثيرة مرجعها إلى أن مصادره كانت كلها مخطوطة . وقد هاجمه المستشرق الهولندى رايتهارت دوزى مهاجمة عنيفة أدت إلى أن كتابه المذكور لم يلق قبولا من جانب العلماء الأوربين والإسبان .(20/4)
... ونلتقي بعد ذلك بشخصية تملأ القرن التاسع عشر ونعنى به باسكوال دى جايانجوس ( 1809 – 1897 ) وهو يعد رائد الاستشراق الإسباني الحديث ، وكان ينتمي إلى طائفة المستنيرين المتحررى الرأى ، وهذا ما اضطره إلى مغادرة بلاده التى كان يسيطر عليها المحافظون المتعصبون ، فقضى فى فرنسا وإنجلترا سنوات عديدة تعلم خلالها العربية ودرس العديد من المخطوطات المتصلة بالتاريخ الأندلسي، وكان من أجل أعماله ترجمته الإنجليزية لكتاب " نفح الطيب " وهو موسوعة أندلسية شاملة ، ثم الاهتمام بنشر بعض الموريسكين الذين كانوا يكتبون بالإسبانية ولكن بحروف عربية ، وغير ذلك من المخطوطات المهمة . على أن أهم أعماله كان رعاية المشتغلين بالدراسات العربية على اختلاف مجالات نشاطهم . فالتف حوله عدد كبير من تلاميذه كان لهم الفضل فى إرساء الدراسات الأندلسية على أساس راسخ متين .
... فكان هؤلاء التلاميذ: إدواردو سافيدرا الذى درس الفتح العربى لإسبانيا وفرانسسكو سيمونيت اللغوى الذى درس لغة عرب الأندلس ولغة المسلمين ولغة المستعربين وتاريخهم ( ولو أن هذا الباحث كان شديد التعصب ضد العرب والإسلام ) ولا فونتى ألكتترا الذى حقق كثيراً من النقوش العربية على الآثار الإسبانية ونشر بعض النصوص العربية المهمة .(20/5)
على أن أبرز هؤلاء التلاميذ هو فرانسسكو كوديرا السرقسطى(1836_ 1917م ) الذى كان من أجل أعماله نشر ما يسمى بالمكتبة الأندلسية فى عشرة مجلدات : تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي، والصلة لابن شكوال والتكملة لابن الأبار، ومعجم شيوخ الصدقى للمؤلف نفسه وفهرسة ابن خير . وكان هذا العالم يقوم بصف حروف هذه الكتب العربية بنفسه يعاونه فى ذلك تلميذه خوليان ريبيرا ( إذ لم يكن فى إسبانيا آنذاك عمال مطابع يعرفون جمع الحروف العربية ) ، كما نشر مجموعات مهمة من الدراسات الأندلسية المختلفة أظهر فيها فضل عرب الأندلس على إسبانيا ، وكان ينادى بأنه يجب الاهتمام بتدريس العربية التى رأى أنها ألزم للمؤرخ الإسبانى من اللاتينية . ومما يستحق الذكر أن شاعرنا الكبير أحمد شوقى كان قد اختار منفاه إلى أسبانيا، وبها قضى خمس سنوات ( 1914 _ 1919 ) فى مدينة برشلونة القريبة من سرقسطة حيث كان كوديرا ينشر كتبه ودراساته . ومن أسف أنه لم يتم لقاء بين هذين العلمين الكبيرين وهو لقاء كان يمكن أن يخدم الدراسات الأندلسية ويغذى شاعرية أمير شعرائنا أحمد شوقى .(20/6)
... وقد تخرج على كوديرا عالمان كبيران : خوليان ريبيرا (1858_1934) وأسين بلاثيوس (1871_1944) الأول كان من أشد الناس حماسة لبيان فضل عرب الأندلس على ثقافة إسبانيا وأوربا . فمن ذلك دراستان أثار بهما ضجة فى أوساط الأوربيين، جميعا الأولى بحثه حول الشعر الغنائي ونشأته (سنة 1912) وفيه يقول إن كل شعر غنائى فى إسبانيا وفى القارة الأوربية ( شعر التروبادور ) يدين بمولده للنماذج العربية ولا سيما الموشحة الأندلسية ، والثانية دراسته للملاحم (1915) وفيها يصر أيضا على أن عرب الأندلس هم أول من أنشأوا شعراً ملحمى الطابع احتذته بعد ذلك الملاحم الإسبانية والفرنسية . ولهذا العالم دراسات أخرى حول مختلف ألوان الثقافة الأندلسية كان لها أثر عظيم فى إثارة الاهتمام بماضي الأندلس الحضارى . وأما تلميذ ريبيرا الآخر أسين بلاثيوس فقد كان من آباء الكنيسة وكان اهتمامه موجها للحياة الرومية للمسلمين،فأصدر دراسات عديدة حول الغزالى والمتصوفة الأندلسية ( ابن مسرة القرطبى وابن العريف وابن عباد الرندى ) . وفى سنة 1919 أصدر دراسته حول الكوميديا الإلهية لدانتى، وفيها دلَّل على أن دانتى استوحى عمله من قصة معراج الرسول (- صلى الله عليه وسلم -)إلى السماء. وأنكر العلماء الإيطاليون نظريته، ولكن الأبحاث التالية والنصوص التى نشرت بعد وفاته أثبتت صحة آرائه حتى لم يعد أحد اليوم ينكرها. وكان من أهم أعمال أسين بلاثيوس دراسته لابن حزم وترجمته الكاملة لكتابه " الفِصَل " ثم كتابه عن ابن عربي وتصوفه.(20/7)
... ويأتى بعد ذلك شيخ الاستشراق الإسبانى وتلميذ ريبيرا وأسين وهو إميليو غرسيه غومس الذى يرجع له الفضل فى الترجمات الرائعة التى قام بها للشعر الأندلسي، ولكتاب طوق الحمامة لابن حزم ، ولنماذج من الأدب العربى الحديث والأيام لطه حسين، ويوميات نائب فى الأرياف لتوفيق الحكيم . وقد توفر فى السنوات الأخيرة من عمره لدراسة الموشحات والأزجال وتأثيرها فى الشعر الإسباني . هذا إلى دراسات أخرى كثيرة أخرجها خلال عمره الطويل (1905ـ1995)
... وعلى غرسية غومس تخرج عشرات من التلاميذ الإسبان والعرب ، وكان من بينهم من واصلوا عمله فى الدراسات الأندلسية وهم يملأون الآن جامعات إسبانيا المختلفة ، ومنهم من تخصص فى الأدب العربى الحديث، مثل بدرو مرتينث موتنابث الذى تكونت حوله مدرسة كبيرة تعمل على ترجمة الأدب العربى الحديث والمعاصر شعراً ومسرحاً وفنا قصصيا .
... وهكذا نرى الاستشراق الإسبانى يجتاز اليوم أخصب مراحل حياته، لاسيما بعد أن اعترفت الأوساط الإسبانية كلها بما للعرب من فضل على إسبانيا، وبعد أن أصبحت الحقبة العربية الإسلامية تعد أكثر صفحات التاريخ الإسباني إشراقا،وأكثرها منجزات فى كل وجوه النشاط الحضاري.
محمود على مكى
عضو المجمع(20/8)
كان عدد الأعلام الجغرافية الذى تشتمل عليه رحلة ابن بطوطة يصل إلى سبعة وخمسين وتسعمائة عَلَم ، أى ما يعادل أكثر من سبعة فى المائة من الأعلام التى أوردها ياقوت فى معجم البلدان ، وبذلك نتصور جيّداً مدى قوة حافظة الرجل التي استطاعت أن تستوعب كل تلك الأسماء محركةً مشكولةً مضبوطة ، دون أن يكون بين يديه مرجع أو مصدر يستعين به لاستحضارها .
... ولذلك اعتُبرت الرحلة المذكورة أغنى رحلة عربية وقفنا عليها فيما يتصل أيضا بحجم الأعلام الجغرافية التى تضمنتها، وإذا ما قارنا عدد هذه الأعلام بالأرقام التي وردت فى رحلة ماركو بولو البندقي فسيظهر لنا هذا قَزَماً أمام العملاق ابن بطوطة الطنجي !
ومن المهم أن أذكر منذ البداية أنني برجوعي إلى تحقيق تلك الأعلام فى
الجهات التى كانت توجد فيها، سواء أكانت بالقارة الإفريقية، شرقها أو غربها، أو كانت بالجزيرة العربية وما يتصل بها، أو كانت بآسيا الصغرى أو الوسطى، أو بإيلْخانية المغول فى تبريز، أو بلاد السند والهند والصين ، إلى أوربا شرقيها وغربيها 000 أقول : برجوعى إلى تلك الجهات للتأكد من ضبط الأسماء الجغرافية فى الرحلة كنت أكتشف ، فى صدر ما أكتشف ، أن تلك الجهات وتلك الأقاليم إنما تعتمد فيما تكتبه عن تاريخها على المعلومات التى قدمها ابن بطوطة عن تلك البلاد ! وهكذا كان ابن بطوطة حاضراً شاخصاً فى كل التآليف التى تحدثت عن المواقع الجغرافية التى مرَّ بها أو جرى ذكر لها فى مذكراته .
... ومِن صِدق الرجل وضبطه أنه متى لم تحتفظ ذاكرته باسم علم من الأعلام فإنه لا يتردد فى الاعتراف بأنه أُنسى ذلك
الاسم وأحيانا كان يكتفي بالتعبير عن العلم الجغرافي بذكر كلمة"المرحلة"أو كلمة"المنهل" دون تعيين أو تحديد 000(21/1)
... ولابد أن أذكر هنا أن بعض رجال الاستشراق ممن اهتموا بالمحطات التى مر بها الرحالة المغربي من أمثال الأستاذ كابربيل فيران (G.FERRAND) وقفوا موقف المتشكك إزاء بعض المعلومات التى وردت فى الرحلة وخاصةً فى أقصى بلاد آسيا : مثلاً 000 قَنْجَنْفُو بالصين 000 لمجرد أنهم لم يعرفوا موقع المكان 000 أو لم يجدوا له صدىً فى الأرشيف الذى بين أيديهم ، وهكذا فبالرغم من أن ابن بطوطة كان حريصاً على ضبط الأسماء بالحروف . أى أنه يقول بالنسبة للاسم ( قَنْجَنْفُو ) : إنها بفتح القاف وسكون النون وفتح الجيم وسكون النون الأخِيرة وضم الفاء والواو.
... أقول بالرغم من ذلك الضبط الذى يعبر عن ثقةٍ بما يرويه الرحَّالة ، كنا نلاحظ إصراراً من بعض الذين تتبعوا رحلته مِن الذين كان عليهم ـ كما نعتقد ـ أن يُدخلوا فى حسابهم إمكانيةَ تبدل المواقع وتغيّر الأسماء 000
... وإمعاناً فى البحث عن الوصول إلى الحقيقة لم أتردد فى الرحلة إلى الجهات التى كانت معنيةً بوجود تلك الأعلام الجغرافية على أرضها ، ولم أتردد كذلك فى مكاتبتها مهما نأت ، وأعترفُ بأنني استفدت من مركزي كرئيسٍ للمؤتمر العالمي للأعلام الجغرافية التابع للأمم المتحدة ، أقول استفدت من ذلك لأستفسر من هذا الوفد أو ذاك ، وهكذا. ففيما يتعلق بالأعلام فى الصين مثلاً توصلتُ من مصلحة الخرائط هناك إلى معلوماتٍ مدققةٍ حول مدينة الزيتون وصين كَلاَن وخان بالِق 000
... وكنت أذكر فى هذه المتابعات قول ابن هانئ :
... فى كلّ يومٍ أستزيد تجارباً
كمْ عالمٍ بالشىء وهو يسائل
... وأؤكد هنا أن أصعب عنصرٍ واجهني ، وأنا أحقق رحلة ابن بطوطة ، هو موضع الأعلام الجغرافية الذى كان يقف عقبةً كأداء فى طريقى بالرغم من كل النّجدات وكل الخرائط التى كانت تتناهى إليّ . (21/2)
... ولابد من القول : إن أسلافى ممن تولَّوا نشر الرحلة بمصر فى منتصف جمادى الثانية1871=1388 نقلاً عن الطبعة الباريسية، لم يولوا كبير اهتمام بوضع فهارس خاصة لتلك الأعلام .
وقد مرت على ذلك التاريخ تسعون سنة لتأتى دار عربية فى بيروت عام 1960 بفهرسٍ لهذه الأعلام لكن صاحب الدار لم يتوخ التمحيص الذى كان جديراً به ، بل إن تلك الدار حذفت الفقرات الخاصة بضبط الأعلام الجغرافية من صُلْب الرحلة
... وأتى زملاء آخرون فاجتهدوا من أجل تقريب الرحلة إلى الناس فكان منهم من أتى بفهرسٍ عام لم يفرق فيه بين الأسماء الجغرافية والشخصيةِ وأسماءِ الجماعات والهيئات 000 ولا أتحدث عما وقع فى بعض هذه الفهارس نفسها من تجاوزاتٍ واسترواحات .
... وفى مقابلة هذا صدرت باللغات الأوربية فهارس للأعلام الجغرافية والشخصية كانت ـ على كل حال ـ أكثر ضبطاً من محاولات الأولين ولو أن بعض الفهارس الأجنبية أهملت أيضاً ذكر بعض الأعلام .
... ومن غير أن أذكر هنا اسماً معيناً للسابقين واللاحقين ، أبادر إلى التَّنويه بكل تلك الأعمال لأنها ساعدتني كثيراً على استجلاء بعض الحقيقة أو بالأحرى على الإدلاء بدلْوي حول هذا الموضوع .
... وأعتقد أنه أصبح فى الإمكان اليوم أن نصنف الأعلام الجغرافية الواردة فى الرحلة ثلاثةً أقسام :
... الأول: وهو القسم المعروف المضبوط المحدد ، ومن حسن الحظ أن نسبة هذا الصنف تصل التسعين فى المائة . مما لايزال الناس يرددون صداه إلى اليوم ، طبعاً مع الاختلاف فى البنايات والمنشآت التى تطورت مع الزمن ، وأحياناً مع التحريف فى الأسماء على ما نذكره فى اسم دهلى مثلاً .(21/3)
... الثاني: تسعة فى المائة من الأعلام التى أوشك الباحثون أن يصلوا فيها إلى الحلول التى تقارب الحقيقة ، أى أن بعضهم يرى أن هذا العلم يناسب الموقع الفلاني أو الفلاني،نظراً للتشابه فى الحروف أو نظراً لاعتبار المسافات المذكورة أو نظراً لحيثيات أخرى اقتضاها وجود ما قد يشير إلى ظرفٍ أو حدثٍ يتزامن مع الأوصاف المقدمة من لدن الرحالة المغربي.
... القسم الثالث هو الذى أطلقنا عليه مناطق الظل وهو الذى لم تصل فيه المحاولات المبذولة إلى نتيجةٍ مضبوطة،نظراً لخلو نصوص الرحلة من ذكر التواريخ ومن تقديم المزيد من التفاصيل الأمر الذى ضاعف من الاحتمالات والافتراضات حتى لَسمعنا من الوزير الأول اليابانى السيد طاكو ميكى TAKOO MIKI فى خطاب رسمى عام 1976 ، أن ابن بطوطة يعد أول شخصيةٍ عربيةٍ زارت جزر اليابان فى القرن الرابع عشر. لقد قال ذلك أثناء مأدبة العشاء التى أقيمت فى طوكيو تكريما للأميرة المغربية لالة نزهة كريمة الملك محمد الخامس وزوجة الوزير الأول السيد أحمد عصمان الذى كان فى زيارة عملٍ لبلاد الصين (1) .
وقد أتيتُ فى التعاليق التى زودتُ بها تحقيقى للرحلة بتفاصيل عن تلك الأعلام مما توصلت إلى تحديد موقعه اعتماداً على الأوصاف وعلى الخرائط وعلى إفادات من سبقنى إلى الاهتمام بها من أهل العلم عرباً وعجماً .
... وأقتصر على ذكر بعض الأسماء على الترتيب الهجائي المغربي :
-1 آبِ حياة أو النهر الأصفر بالصين .
-2 أخندقان موقع بين المغرب الأوسط والأقصى .
-3 البرهْنكار فى بلاد الملايو .
-4 طوالِسى وعاصمتها كَيْلوكَرى ، بالمحيط الهادى .
-5 مُلْ جاوة وعلاقتها بسُمطرة000
-6القَلْهُرَة بالأندلس : جبل طارق .
-7قَمارة : الكامبودج .
-8سمهل بناحية جبال الهِمَالايا .
-9يوفى أو نوفى أحد ممرات النيل 000
... والملاحظ أن بعض هذه الأسماء الجغرافية حتى الذى بلغ غموضه فيها الحد الكبير ما يزال إلى الآن موضع دراسةٍ عند(21/4)
أصحاب تلك المناطق ذاتها . وقد لمست فى ( مانِيلاَّ ) أن رجال البحث فى معهد الدراسات الإسلامية بجامعة الفِلِبّيِن يقتنعون اقتناعاً كاملا بأن ابن بطوطة زار بلادهم ، وأنهم مدينُون فى حضارتهم إلى الذين حملوا الإسلام إلى ديارهم ، كما لمستُ فى الصين ، بكلية الآداب منها على الخصوص ، إصراراً زائداً على تصديق ابن بطوطة ومحاولة الوصول إلى استكشاف مذكراته بوضع الخرائط ذات المقاييس الكبيرة ، وعلى نحو هذا الاهتمام فى أقصى آسيا ، لمستُ هذه العناية فى إفريقيا الشرقية : مَقْدَشَوْ ، مَنْبَستى ، كُلْوَا وفى إفريقيا الغربية : مالِى وبَرْنُو ، إيوّالآَتن
... وإذا كانت الأعلام الجغرافية وضعت أساساً لتحديد المكان على أساس مّا من الأسس أو مناسبةٍ ما من المناسبات، فإن بعض تلك الأعلام لم يلبث أن أمسى رمزاً من الرموز التى تقصد إلى معنىً سياسى لاغِنى للمؤرخ عن الاستعانة به لمعرفة ما كان يروج فى دُنيا الأمس . وهنا نكتشف فى رحلة ابن بطوطة منجماً ثرياً لا حد له فيما يتصل بالتاريخ الوسيط 00 وقد اقتنعت فعلا بأن الرحلة تمثل تاريخاً لما أهمله التاريخ 00! وينبغى أن أعيد للذاكرة أن بعض الخلافات الحُدُودية التى توجد اليوم بين أمةٍ وأمة،أو جهةٍ وجهة . أخذنا نسمع فيها الاستدلال بما قاله ابن بطوطة قبل نحو من سبعة قرون 00! أو ليس هذا شاهداً ناطقاً على الدلالات السياسية التى اكتستْها بعض الأعلام فى الرحلة ؟!
... كثيراً ما يستعمل ابن بطوطة ـ وهو يتحدث عن علم جغرافى ـ عبارةً مثل قوله : وهذه أول عمالة بلاد كذا 000 أو هذه آخر عمالة بلاد كذا 000 وجدنا نظائر لهذا وابن بطوطة فى مصر ، وبالذات فى (قطيا ) حيث كانت دولة المماليك تحتاط من جواسيس ( إيلخانية التتر فى تبريز ) التى كانت تسيطر على ما سُمّى عراق العجم والعرب .(21/5)
... ولاننسى ما يُوحى به اسم عيذاب مما تحدث به الرحالة المغربى نفسُه من علاقاتٍ متأرجحة بين إمارة البُجَاة فى الجنوب المصرى وبين مركز الحكم فى الشمال 00 وفى حديثه عن إفريقيا السوداء ، لا ننسى أنه كان يرسم الخريطةَ السياسية الإفريقية 000 وفى حديثه عن قرية العُلا ببلاد بالجزيرة يذكر أنها آخر نقطة يصلها النَّصارى من بلاد الشام ولا يتعدَّونها 000 وعندما نذكر مدينة حَلَب التى لا يتعدى اسمها ثلاثة أحرف ، ينتصب أمامنا شخصُ أمير العرب مُهنَّا بن عيس الذى أجار الأمير فرَاسُنْقُور الفارّ من نقمة الملك الناصر 000 حيث ستؤدى المضاعفاتُ إلى التجاء الأميرين معاً إلى بلاد التتر 000 تاريخٌ سياسى كبيرٌ مثير منقوش على حَلَب :
نفيتَ عنك العُلا والمجْدَ والأدبا
وإن خُلِقْت لها-إن لم تزر حَلَبا !
... ووجدنا نظائر هذا عند الحدود الهندية حيث انتظر ابن بطوطة الإذن فى (ملْتان ) عاصمة السند ، ووجدنا مثل هذا وهو يذكر اسم مدينة ( لَكْتَوْتى ) العاصمة القديمة للبنْغال 000 وهو فى ( سِرْى لاْنكَا ) يتحدث عن المواقع الجغرافية التى تحتلها هذه الإمارة أو تلك مما يذكرنا فى جدور الخلافات التى نسمع بها اليوم عن التامول أو التاميل 00 ووجدنا نظانر هذا وهو فى الصين ينتظر إذن الخان الأعظم فى الدخول إلى إقليمه .
... وهو يتحدث عن هرمز من فارس وعن قلْهات التابعة لَنزْوَى قاعدةِ عُمان نستفيد أن الأمراء فى جهةٍ قد يكونون أمراء على الجهة الأخرى والعكس صحيح بمعنى أنه كان هناك مد وجزر فى الحكم بين ضفتَى الخليج !(21/6)
... وكان مما لازم الحديث عن العَلَم الجغرافى كمحطةٍ سياسية ما قرأناه عندما يذكر أرض الحجاز 000 مكة والمدينة . فهنا سنقف على جملةٍ من الأحداث التى اقترنت بوجود الأشراف الحَسنيين فى مكة والأشراف الحسنيين بالمدينة ، وعلاقات هؤلاء بمختلف الجهات التى تصنع القرار السياسى فى العالم الإسلامى : دولة المماليك بمصر والشام ، ومملكة بنى مرين فى المغرب ، ودولة بنى رسول فى ( تَعِزّ ) باليمن وإيلخانية العراق حيث السلطانُ أو سعيد بَهادُور تاسع إيلخانات مغول العراق وفارس .
... وعندما يذكر قونية فى آسيا الصغرى نتصور العاصمة الكبرى لمملكة السلاجقة بما اشتملت عليه من إماراتٍ كانت خاضعةً لُغَزاتهم باستثناء أرمينيا وطَرابِيزون ومرْمَرة .
... وعندما نذكر مدينة يزنيك (SMYRNE) نجد أن هذا الموقع يحمل معه دلالاتٍ سياسيةً عظيمةً تجلت فى الحِلْفِ الذى تم بين فرنسا وجنوة بمساعدة فرسان القديس يوحنا أصحاب جزيرة رُودِس لجعل حدٍّ لتحركات البطل عُمَر بك ابن محمد أَيدِين الذى كان يستهدف بقايا البيزنطيين فى اسطمبول والقسطنطينية العظمى ! وهكذا لم تعد كلمةُ ( يزنيك ) تحمل معناها كمدينة ولكنها أمست علماً يجسد العلاقات بين الشرق والغرب !! وهنا ، فى آسيا الصغرى حيث تتراكم الأعلام الجغرافية ذات الدلالات السياسية الكبرى نجد ( بِرْكِى ) التى اشتهرت بمقاومتها للدولة البيزنطية 00 ونجد بَرْصَى التى اجتمع فيها ابن بطوطة باختيار الدين أورْخان بك ابن عثمان الذى سيكون الشخصيةَ رقم اثنين فى الدولة العثمانية !
... ونجد قصطمونية أعظمَ مدينةٍ فى آسيا الصغرى والتى اقترن تاريخها بتاريخ غازى شلبى المشهور بإغراق السفن البيزنطية !!(21/7)
... وذكر مدينة ( السَّرَا ) عاصمة السلطان أوزْبِك خان الذى كان يحكم مناطق شاسعةً من آسيا الوسطى ، والذى عدَّه ابن بطوطة ضمن الملوك السبعة الذين كانوا أقطاب العالم آنذاك : ملك المغرب، ومصر ، والعراقين ، وتركستان ، والهند ، والصين . أقول ذكر ( السَّرا ) فى سائر قواميس الدنيا لا يمكن أن يمر دون ما ذكرٍ للمستودعات التجارية الأوربية التى عرفتها المنطقة .
... وقد لفت ذكرُ ابن بطوطة لمدينةِ أطْرَار ولمدينة قَرَاقُرُم أنظارَ المؤرخين لحركة المغول والتتر ، لأنهما أى قَرَاقُرُم وأطْرَار كان لهما حضور قوى فى حياة التتر . فقد كانت قراقرم عاصمتَهم الأولى وهى التى قصدتْها سفارة البابا برئاسة جان دوبلان كاربان Jean Duplan Carpin الذى دوَّن مذكراته الرائعة عن التشريفات والمراسم التى عرف بها بلاط قَرَاقُرُم مما يذكر فيما حكاه ابن بطوطة عن تلك الأبَّهة العظيمة لسلطان العراقين أبى سعيد بَهادور وسلطان القفْجَق أوزْبِك خان ، وسلطان الهند محمد بن تُغْلقُ الذى يحكى ابنُ بطوطة عن سريره الأعظم ومبخرته الضخمة .
... إن الذين يهمهم أن يعرفوا عن انطلاقة التتر نحو خوارزم وخراسان وما وراء النهر إلى بغداد عليهم أن يمرُّوا عبر
مدينة أطرار .
... ويُذكِّر اسمُ المدينة الهندية سِنْدابور باستنجاد ولى العهد فيها بجمال الدين أمير هِنَوَر التابع للسلطان هَرْيَب 000 حيث نجد أن جمال الدين يلبى النداء ويصحبه ابن بطوطة فى هذه الغزاة التى انتهت إلى معركة بحريةٍ هائلة .(21/8)
... وينبغي أن نلتفت لابن بطوطة وهو فى طريق عودته من المشرق يتحدث عن تونس وتلمسان ، ونُقارن بين الوضع السياسى أولاً عندما كان فى اتجاهه نحو المشرق ، وثانياً عندما كان عائداً ، لنكتشف أنه، أى ابنَ بطوطة كان فى الأول يتحدث عن مغربٍ توزَّعه قادةً متعددون 000 وكان فى الثانية يتحدث عن مغربٍ ذى قيادةٍ واحدة ، كيف والسلطان أبو عنان هو الذى غطى المبالغ المالية لافتداء طرابلس من ربقة الجنْويين الذين اجتاحوها !
... وبالرغم من أن اهتمامنا ينصب على الدلالات السياسية للعلم الجغرافى إلا أن هذا لا يمنع من الإشارة إلى دلالات الاسم الجغرافى على نواحى أخرى كالعمل الإنسانى الذى يوحى به اسم العلايا عند ذكر ابن بطوطة لمنظمة الأَخِيَّة، وكالعمل الحضارى الذى تذكرنا به كلمة (مالديف ) التى اعتنقت الإسلام بواسطة أحد المغاربة مما اعتُبر حدثاً كبيراً فى تاريخ العلاقات الحضارية بين الشرق الأقصى والمغرب الأقصى ! الأمر الذى سجل بمناسبة انخراطِ مالديف فى الأمم المتحدة يوم الخميس 1968/10/21 (1) !
... ولابد فى ختام هذا الحديث عن الأعلام الجغرافيةِ أَنْ لا نغفل عن بعض الهفوات التى وقع فيها ابن بطوطة كما وقع فيها سابقوه من الجغرافيين العَرَب ، ويتعلق الأمر باسم النيل الذى ـ إلى القرن الثامن الهجرى = الرابع عشر الميلادى ـ وجدْنا المصادر العربية تتحدث عن وجود أنهار لا صلة لها بنيل مصر ومع ذلك تحمل اسم النيل ! وها نحن مع ابن بطوطة الذى يذهب بعيداً فيذكر بصراحةٍ أن النيل ينحدر إلى بلاد النوبة من وادى النيجر الذى يُصر إصراراً على أنه النيل ! وقد غاب عنه اسم السفير ابن سُلَيم الأسوانى سفير الفاطميين لدى ملك النوبة والذى اهتم بمنابع النيل ، على نحو سَلام التَّرجمان الذى اهتم بسدّ يأجوج ومأجوج بتكليفٍ من العباسيين(21/9)
... وبعد ، فالذى أريد أن أخلص إليه أن الاهتمام بالعَلَم الجغرافى من قبل المجموعة الدولية يدخل فى صميم الحضارة الإنسانية، علاوةً على ما يعبر عنه من مختلف التعابير ، والعَلَم الجغرافى فى دُنْيا العرب ملىءً جداً بكل المعانى السامية ، ولذلك فإن الشعر العربى الحافل بذكر هذه الأعلام يجعل منه وثيقةً جغرافيةً تضاف إلى ما ألفَّوه حول مواقع البلاد واختلاف الآفاق .
... وسواء شعرنا أو لم نشعر فإن اقتصاد بلادنا وازدهاره يتوقف إلى حد كبير على مدى معرفتنا بمعالمنا جزءاً جزءاً وبقعةً بقعة، وإن التاريخ لحياتنا الأدبية ذاتِها لن يكون تاريخاً كاملاً إذا أهملنا هذا الكائن الذى نسميه"العَلَم الجغرافى "، وإن الاهتمام الذى تبديه الأكاديميات والمجامع العلمية فى السنين الأخيرة بالأعلام الجغرافية، تعبيراً له دلالته على مدى
إدراكها لما يؤديه العَلَم الجغرافى من زادٍ معرفىّ للإنسان ، ومن هنا أصبحت المؤلفات التى لا تهتم بفهارس الأعلام الجغرافية مؤلفاتٍ قليلة الفائدة بل إنها عرقلة فى طريق البحث العلمى .
... وبمقدار ما ازداد الحرص على الاعتناء بالعَلَم الجغرافى بمقدار ما ازدهر عِلْم الخريطة ، وقويت الدعوة إلى ضرورة احترام النطق بالعَلَم على نحو ما نطق به الأولون، حتى لا تلتبس علينا تبوك بنيويورك أو البيْت الأبيض بالدار البيضاء .!
عبد الهادى التازى
عضو المجمع
من المغرب
...
...(21/10)
كنت قد تحدثت عن الهمداني وكتابه الإكليل في مجلة مجمع اللغة العربية حديثا موجزا في سياق حديثي عن كتب الأنساب العربية ، عنيت فيه بالأنساب المذكورة في كتاب "الإكليل" . وأنا أعود الآن إلى تناول هذا الموضوع بمزيد من التفصيل والتوسع مع استيفاء موضوعات الكتاب الأخرى .
المؤلف
أ) عصره وبيئته :
عاش المؤلف في بلاد اليمن متنقلا ما بين صنعاء وريدة وصعدة ، وجاب أكثر بلاد العرب وجاور بمكة ودخل بغداد ، وكان قومه يقطنون في بادى الأمر البادية في "المراشي" ثم استقر جدّه في صنعاء .
وعصر الهمداني هو القرنان الثالث والرابع الهجريان ، وهو عصر ازدهار الحضارة العربية في المشرق والمغرب ، ففيه ترجمت الكتب العلمية والفلسفية ، وظهر العلماء الكبار والشعراء المبرزون ، وقد أفاد الهمداني من ازدهار العلوم في عصره
فوقف على علوم الهندسة والفلك والطب وغيرها ، وكذلك ظهرت في عصره أكثر الفرق الدينية والمذاهب الإسلامية وكان لها صداها في بلاد اليمن .
وكانت البيئة التي عاش فيها مسرحا للنزاعات القبلية والسياسية والصراع المذهبي والعقدي ، فكانت اليمن من المواطن التي نشطت فيها الدعوة الإسماعيلية وحركات القرامطة ، وقامت فيها الإمامة العلوية الزيدية على يد يحيى ابن الحسين العلوي وولديه محمد المرتضى وأحمد الناصر ، وكان لها سلطانها البعيد في بلاد اليمن .
وفي هذه البيئة كذلك نشب الصراع بين زعماء القبائل اليمنية ، وبينهم وبين ملوك حِمير والأئمة العلويين ، كلٌ يحاول بسط سلطانه على ما حوله . وفي كتاب الإكليل صور من هذا الصراع، وقد نال الهمداني طرف منه وكانت له مشاركة في جانب منه .
ب ) حياته :
مؤلف الكتاب هو أبو محمد الحسن ابن أحمد بن يعقوب بن يوسف بن داود ابن سليمان ذي الدمنة ، وينتهي نسبه إلى دومان بن بَكيل من قبيلة همدان ، وقد لقب بابن الحائك ، وأطلق على نفسه لقب "لسان اليمن" .(22/1)
وقبيلة المؤلف همدان من أضخم القبائل القحطانية اليمنية، وجذم قحطان يتفرع إلى فرعين كبيرين هما :كهلان وحمير ، ومن كهلان تتفرع قبائل كثيرة أشهرها : همدان ، والأزد ، وأنمار، وطيئ، ومذحج، ولخم، وجذام، وكندة. وتتفرع همدان بدورها إلى قبيلتين هما: حاشد وبكيل. ومازالت لقبيلة همدان كثرة عددية في اليمن في أيامنا هذه ، وكان لها شأن كبير قبل الإسلام وبعده . وقد هاجرت طوائف منها بعد الإسلام إلى العراق واستقرت في الكوفة . وكانت من أنصار علي بن أبي طالب وقاتلت معه في وقعة صِفِّين وأصيب منها خلق كثير وحالفها الأشتر على الثبات حتى الموت(1) . ولما استقر الأمر لمعاوية أصبح ولاؤها لبني أمية وكان لها دور في القبض على حجر بن عدي ، رجل الشيعة الذي قتله معاوية (2) . وكانت همدان تؤلف في بادئ الأمر أحد أسباع الكوفة ، تشارك فيه مذ حج وحمير (3) ، ولما ولي زياد بن أبي سفيان الكوفة سنة خمسين للهجرة لم يرض عن التوزيع القبلي في أسباع الكوفة والذي روعي فيه جمع القبائل المتقاربة في نسبها في كل سبع ، فعدل الأسباع وجعلها أرباعا ، قاصدا من ذلك جمع قبائل متباعدة في أنسابها في كل رَبع ، إطفاء لنار العصبية القبلية ، فجمع لذلك بين همدان وتميم في ربع واحد(4) . وقد ظل لقبيلة همدان الكثرة العددية في قبائل الكوفة حتى نهاية العصر الأموي(5).
أما اليمن فقد استقر فيها من بطون همدان من لم ينزح إلى العراق ، والهمداني يذكر لنا في كتاب الإكليل أسماء بطون همدان التي هاجرت إلى الكوفة .
وقد لقب المؤلف بابن الحائك ، وعلل القفطي إطلاق هذا اللقب عليه فقال : "فأما تلقيبه بابن الحائك ، فلم يكن أبوه حائكًا ولا أحد من أهله ولا في أصله حائك ، وإنما هو لقب لمن يشتهر بقول الشعر ، وكان جده سليمان بن عمرو المعروف بذي الدُمينة (أو ذي الدمة) شاعرًا ، فسمي حائكا لحوكه الشعر(1) " .
أما لقب " لسان اليمن" فقد أطلقه الهمداني على نفسه فعرف به .(22/2)
ولد الهمداني سنة 280هـ (2) في صنعاء ونشأ بها . وكان أجداد المؤلف يقطنون من قبل موضع المراشي ، وهو الوادي الثالث من أودية الجوف الكبرى في بلاد اليمن ، وموطن قبيلة بكيل . ثم انتقل أحد أجداد المؤلف وهو داود بن سليمان بن ذي الدُمينة هو وقومه إلى الرحبة من أعمال صنعاء ، مخالطين بلحارث ، ثم انتقل في أواخر أيامه ، هو وابنه يوسف ، إلى صنعاء فاستقر بها هو وأولاده ، ويذكر الهمداني أن قومه هؤلاء كان لهم بصر بالإبل لم يكن لأحد من العرب(3) .
ومن أخبار أسرته التي يرويها المؤلف أنه كان لأبيه ولدان :الحسن ، وهو المؤلف ، وأخوه إبراهيم . وزوجة المؤلف قريبته فاطمة بنت محمد بن إبراهيم ، وكان للهمداني ولد اسمه مالك توفي في
حياة أبيه فرثاه بعدد من القصائد(4) . وكان له ولد آخر اسمه محمد ، وهو الذي شرح قصيدة أبيه الدامغة ، وبه كان يكنى الهمداني . وقد عني المؤلف بذكر نسب عشيرته بني أدهم بن قيس بن ربيعة .. بن بكيل مفصلا حتى زمانه في الجزء العاشر من الإكليل ( 5 ) .
ولما شب الهمداني انصرف إلى تلقي ألوان المعارف عن جماعة من الشيوخ في التاريخ والجغرافية وعلم النسب والعربية وعلم الفلك وغيرها من العلوم .
لا نملك أخبارا وافية عن حياة الهمداني وما مر به من أحداث ، وكل مالدينا من أخباره مستخلص من مؤلفاته ، ومن كتاب الإكليل خاصة .
ومما يستخلص من مؤلفاته أنه قام برحلات وجولات في شتى بقاع بلاد العرب ، واليمن خاصة ، فقد دخل حضرموت وأخذ عن علمائها وطاف ببلاد الحجاز ونجد وجاور بمكة زمنا وأخذ عن شيوخها وأخذ الناس عنه ، وسار إلى العراق واتصل بعلمائها. وقد أفادته هذه الرحلات في تنمية معارفه(22/3)
اللغوية والأدبية والعلمية والتاريخية والجغرافية . ويذكر الخزرجي (1) أن الهمداني كان واسع الاطلاع على علوم العرب من نحو ولغة وأدب وشعر وأيام وأنساب ، وكذلك كان واقفا على علوم العجم مثل علم النجوم والهندسة والفلك(2) . وهذا ينبؤنا أن الهمداني تلقى معارفه عن شيوخ كثيرين في شتى ألوان المعرفة ، ولكننا لا نعرف أسماء هؤلاء الشيوخ فلم يتحدث عنهم ، كما أن من ترجموا له لم يذكروا أسماء شيوخه، وفي كتبه إشارات إلى من اتصل بهم من العلماء وأخذ عنهم ولاسيما في الأنساب، وسوف نعرض لمن أخذ عنهم في الأنساب في حديثنا عن كتاب الإكليل .
ومما عرفناه عن طبيعته وميوله أنه كان شديد التعصب للقحطانية ، وقد جر عليه هذا التعصب خصومة العدنانيين والمتعصبين لهم ، وقد نسبوا عليه أنه عرض بشخص الرسول عليه السلام بسبب هذه العصبية ، وهي تهمة باطلة نتحدث عنها بعد قليل ، وبدافع هذه العصبية قال قصيدته الدامغة التي عارض
بها قصيدة الكميت في الفخر بالنزارية .
لم يستقر الهمداني في بلدة واحدة من بلاد اليمن ، فقد نشأ في صنعاء ثم أقام مدة من الزمن بمدينة ريدة ، وقد ذكر ياقوت أنها على مسيرة يوم من صنعاء ذات عيون وكروم(3) . ووصفها الهمداني في كتابه "صفة جزيرة العرب" بقوله: "ثم من بعد صنعاء من قرى همدان في نجدها بلدة ريدة ، وبها البئر المعطلة والقصر المشيد وهو تُلقم ، ويسكنها العلويون."(4) ، وكانت ريدة موطن قبيلة حاشد الهمدانية ، أخت بكيل.
استقر الهمداني في ريدة بلدة قومه همدان، وكان على صلة مودة قوية بسلطانها أبي جعفر أحمد بن محمد الضحاك ، سيد همدان في زمنه . ويحدثنا الهمداني عن ابن الضحاك في سياقه نسب همدان فيقول :"فأولد الضحاك محمدًا ، فأولد محمد ابن الضحاك أحمد أبا جعفر سيد همدان في عصرنا وصاحب الوقائع والأيام ، وهو الذي يمدحه الهمداني ويقيد أيامه ، وهو منه خل وصاحب ، وشهد مئة وقعة وستًا كان أكثرها بين حزبه(22/4)
وبين يحيى بن الحسي العلوي ، وأسر ابنه محمد بن يحيى يوم إتوة، ثم صافاه ابنا يحيى: محمد المرتضى وأحمد الناصر ، وكان لهما نعم الصاحب والوزير على أمورهما ، ثم باعده القاسم بن الناصر ، فجرى بينهما ما ينطق به شعر الهمداني ، ودخل صعدة ثلاث مرات فاخر بها ، ودخل صنعاء كرتين فأحسن فيهما(1).
ومن هذا نستخلص أن الصلات بين الهمدانيين وأسرة الإمام العلوي بصعدةلم تكن دائما صلات مودة وصداقة ، ولم يكن للإمام العلوي سلطان على سيد همدان.
ولسبب لا نعرفه غادر الهمداني ريدة وأقام بمدينة صعدة، وفيها قبيلة خولان ، فأقام بها عشرين سنة . ويصفها ياقوت بقوله : " صعدة مدينة عامرة آهلة يقصدها التجار من كل بلد ، وبها مدابغ الأدم وجلود البقر التي للنعال ، وهي خصبة كثيرة الخير"(2) ، ووصفها الهمداني في صفة جزيرة العرب بقوله :"ثم من هذه السراة في بلد خولان بن عمرو بن الحاف مدينة صعدة، وكانت تسمى في الجاهلية جماع ، وهي كورة بلاد خولان وموضع البدباغ."(3) ، ومدينة صعدة من مدن اليمن المعروفة اليوم ، وهي إلى الشمال من صنعاء ، تبعد عنها تسعون ميلاً ، على مقربة من حدود المملكة العربية السعودية، وقد وصفها الأستاذ الأكوع وصفا مفصلا في هامش الإكليل(4) .(22/5)
غادر الهمداني إذن ريدة موطن قبيلة همدان إلى صعدة موطن قبيلة خولان ، وخولان هذه ليست خولان المعروفة بفكل والتي تنتمي إلى مرة بن أدد بن عريب بن كهلان ، وإنما هي قبيلة أخرى تنتمي إلى جذم قضاعة بن حمير . فتلك كهلانية وهذه حميرية ونسبها : خولان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة . وهذه القبيلة لم يذكر ابن الكلبي نسبها في كتابه : نسب معد واليمن الكبير ، وتابعه في هذا الإغفال النسابون بعده ، ومنهم ابن حزم في جمهرة أنساب العرب ، وخولان هذه استقرت في بلاد اليمن ولم تنزح إلى بلاد الشام ، شأن إخوتها القبائل القضاعية ، فخفي أمرها على النسابين . ويعلل الهمداني سبب إهمال النسابين غير اليمنيين إياها بقوله :"ولو كانت صعدة في القديم من البلدان التي رحل إليها أصحاب الحديث لانتشرت أخبارها كما انتشرت أخبار صنعاء (1) .
استقر الهمداني في صعدة ، وحاطته قبيلة خولان برعايتها ، وقربه رؤساؤها ، وأغدقوا عليه الصلات ، فأنشأ القصائد الغر في مديحهم ، وطاب له المقام فيها فأقام فيها عشرين سنة – حسبما يذكر – وهذه الإقامة الطويلة جعلته يقف على أنساب خولان على نحو واف نجد صداه في كتاب الإكليل ، فقد وقف وقفة طويلة عند نسب خولان وفصله غاية التفصيل ، في حين أنه أجمل القول في سائر قبائل قضاعة لشهرتها . ويقول في ذلك:"فسكنتُ بها عشرين سنة، فأطلت على أخبار خولان وأنسابها ورجالها كما أطلت على بطن راحتي ، وقرأت بها سجل محمد بن أبان الخنفري المتوارث من الجاهلية "(2) .(22/6)
على أن إقامته بصعدة لم تخل مما يعكرها ، فقد أثارت الشهرة التي نالها والمنزلة التي حظي بها لدى رؤساء خولان حسد شعراء صعدة ، فأخذوا يدسون له الدسائس ، وكانت صعدة مقر الإمام العلوي الزيدي الناصر لدين الله أحمد بن يحيى (ت325هـ) . فنمت إليه أمور جعلته يأمر بسجن الهمداني . والمصادر التي تحدثت عن سجنه لم تأت بسبب مقنع لذلك ، جاء في بعضها أنه لهج بتفضيل قبلة قحطان على عدنان وحقر ما عظم الله ، وتجاسر على انتقاص من اصطفاه الله " ( 3) .
ونحن نستبعد أن يقدم الهمداني على التعرض لمكانة الرسول عليه السلام فلم تكن عصبيته للقحطانية لتبلغ به هذا المبلغ، ونرجح أن خصومه من شعراء صعدة هم الذين عزوا إليه هذا الأمر ، ومن المحتمل أنهم أضافوا إلى قصيدته التي يفخر فيها بقحطان أبياتا تمس النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو صح أنه قال هذا الشعر لانفضت عنه قبيلة خولان ولما انتصرت له. والرواية الأدنى إلى الصحة هي التي تذهب إلى أن هجاء وقع بينه وبين شعراء صعدة فدسوا له عند الناصر العلوي ، فأمر بسجنه . وهذا الخبر مروي في صورة أخرى ، فقد ذكروا أن مهاجاة وقعت بينه وبين شعراء صعدة، فدسوا له عند الناصر، فكتب إلى أسعد بن أبي يعفر بصنعاء ، فأمر بسجنه . وهذا الخبر مستبعد في صورته هذه لأن المهاجاة إنما وقعت أيام كان الهمداني بصعدة . وراوي الخبر الأول هو محمدبن الحسن الكَلاعي(ت404هـ) ، وقد نقله عنه علي بن الحسن الخزرجي في كتابه "طراز أعلام الزمن في تراجم أعلام اليمن"(1). والذي يحملنا على الشك في صحة هذا الخبر ما جاء فيه من أن شعراء صعدة الذين هاجاهم الهمداني هجوا قومه قحطان لإغاظة الهمداني. ولا يبعد، في نظرنا ، أن يكون الإمام العلوي قد غاظه تعريض الهمداني بعدنان ، وهم قوم الإمام الناصر، فاستجاب لدسيسة شعراء صعدة وأمر بسجنه .(22/7)
وأيًا كان سبب سجن الهمداني فإن قبيلة خولان التي كانت تحوطه برعايتها غضبت لسجنه وطلبت إلى الناصر العلوي أن يطلق سراحه . وقد حدثنا الهمداني عن قيام قبيلة خولان بنصرته ، يرأسها سيد أكيل يحيى بن عبد الله بن زكريا الخولاني، في سياقة نسب سعد بن خولان فقال :"فأولد عبد الله يحيى بن عبد الله سيد أكيل … وهو أحد من قام بفك الهمداني من سجن العلوي بصعدة وأوجب فيه ، وكان رجل خولان ولسانها وذا رأسها"(2).
وقد قال المداني قصائد في مدحه لموقفه النبيل منه ، ومن ذلك قوله من قصيدة :
بل ساد كهلان بل سبى بني
... يشجب ما استجمعت عمائرها
تعجز سادتها عن كل مأثرة
... فيه وفي كفه مآثرها
أحرزها دونهم وليس لهم
... صالحة دولة يغادرها (3)
ومناصرة قبيلة خولان للهمداني تعللها مدائحه لرؤسائها والرجال البارزين فيها .
اضطر الناصر إلى إطلاق سراح الهمداني ، إرضاء لقبيلة خولان . على أنّ الهمداني آثر بعد ذلك مغادرة صعدة والعودة إلى بلد المولد والنشأة صنعاء للإقامة فيها . ولا نعرف على وجه التحقيق تاريخ انتقاله إليها ولكننا نقدر أن ذلك كان بعد سنة ثلاثمئة ، لأن مولده كان سنة ثمانين ومئتين . وقد أقام عشرين سنة في صعدة تضاف إليها المدة التي قضاها في صنعاء وريدة .
أما سبب انتقاله إلى صنعاء فيفسره في ظننا فساد صلته بالإمام العلوي وبشعراء صعدة وسجنه ، فعاد إلى صنعاء وفيها طوائف من قبيلة همدان .(22/8)
بيد أن إقامته بصنعاء لم تكن على ما يرجو من الاطمئنان والدعة ، لأنه تعرض للسجن مرة ثانية بسبب نزعه إلى هجاء من يسيء إليه ، فقد حمله حقده على الإمام العلوي الناصر أحمد ، لسجنه في صعدة ، على هجائه بشعره ، فلما بلغ هجاؤه الناصر أوعز إلى ابن أخيه أبي الفتوح أمير صنعاء فسجنه ، وقد وجد الأستاذ الأكوع خبر سجنه هذا في كتاب عن تاريخ اليمن مجهول المؤلف ، وجده في مكتبة الأمبروزيانا في إيطاليا ، وهذا نصه:" لما بلغ الناصر لدين الله أحمد بن يحيى الهادي عليه السلام أن الحسن بن يعقوب - أي الهمداني – تنقّصه في بعض أشعاره وثلبه ، وكان مقيما بصنعاء ، فكتب الناصر إلى أسعد بن أبي يعفر يعرفه بما بلغه من ثلب الحسن بن يعقوب له ، فورد كتاب الأمير أسعد إلى أبي الفتوح الخطاب ابن أخيه عبد الرحمن بن أبي يعفر،وهو أمير بصنعاء ، يأمره فيه أن يأمر بحبس الحسن بن يعقوب وتحديده (أي تكبيله بالحديد) ، فحدد وضمن الحبس، فأقام فيه وهو يوجه الأشعار إلى قبائل العرب من ولد قحطان يتذرع بهم إلى الناصر وإلى الأمير أسعد . فمن خاطب الناصر فيه قال : هو في سجن أسعد، ومن خاطب أسعد قال : هو في سجن الناصر(1) .
وقد استبعد الأستاذ الأكوع أن يقدم الهمداني على الهجاء لسمو نفسه ونبل خلقه ، ورجح مارواه محمد بن الحسن الكلاعي وهو أن شعراء صعدة هم الذين أوغروا عليه صدر الناصر بزعمهم أنه هجاه ، فعلوا ذلك انتقاما فيه لهجائه إياهم، ومن المحتمل أنهم افتعلوا أبياتا على لسان الهمداني في هجاء الناصر .(22/9)
ونحن لا نوافق الأستاذ المحقق فيما ذهب إليه ، فالهمداني كان معروفا بحدة الطبع ونزوعه إلى هجاء خصومه ، وقد هجا شعراء صعدة وهاجوه ، ثم هجا بعد خروجه من سجنه بصنعاء أسعد بن أبي يعفر بقصيدة الجار الدامغة . ونرجح أن ما وقع بين الهمداني وشعراء صعدة إنما كان قبل مقدمه إلى صنعاء ، أما سجنه في صنعاء فكان بسبب هجائه الناصر ، وفق ما جاء في الخبر المنقول من كتاب تاريخ اليمن .
أثار سجن الهمداني بصنعاء ثائرة رؤساء خولان وأصدقائه من أمراء اليمن ، وكانت خولان قد ملكت عليها قبل يحيى ابن الحسين بن القاسم بن إبراهيم الملقب بالهادي(1) . ثم انقادوا بعده إلى ولديه محمد بن يحيى والناصر أحمد (2) . فلما أمر الناصر بسجن الهمداني في صنعاء قدموا على الناصر أحمد وطلبوا إطلاق سراح الهمداني . ويحدثنا الهمداني عن هذا اللقاء في الجزء الأول من الإكليل فيقول: "فطلبوا فيه ، فأعلمهم أنه لم يسجنه وأن أسعد سجنه في جرم أجرمه إليه ، فركب منهم الحسن بن محمد بن أبي العباس إلى أبي حسان طالبا فيه ، فاعتذر وقال : إنما كتب إلي فيه الناصر أن أسجنه له ، فهو في سجنه عندي ، فاطلبوا إليه ،فإذا أنعم ، فيكتب إلي حتى أطلقه . فانصرف ،
وعاود جماعة العشيين ( 3 )، الناصر في الطلب، وأعلموه بما قال أسعد ، فأبعدهم وأغلظ لهم . فأغلظوا له وتباعد أمرهم وأظهروا له الخلاف ، وقاد الحسن بن أبي العباس بني جماعة وقاتلوه بمصنعة كتفى ، فسأل الناصر وجوه خولان أن يصرفوه ويعلموه أنه قد فتح له الهمداني (أي أطلقه) ، فرضي وصرف تلك الجموع ، ووادعه ، حتى صح له أن إطلاق الهمداني كان من جهة ابن زياد صاحب زبيد (4)(22/10)
لبث الهمداني في سجن أسعد ست سنوات ، من سنة خمس عشرة وثلاثمئة حتى سنة إحدى وعشرين وثلاثمئة(5)، وقد انتقم بعد خروجه من سجنه من أسعد بن أبي يعفر بأن نظم قصيدة طويلة في هجائه سماها "قصيدة الجار" وقد أثبتها الأستاذ الأكوع في الجزء الأول من الإكليل (6) ، وأولها :
خليليَّ إني مُخبر فتخبرا
... بذلة كهلان وحيرة حميرا
جـ ) وفاته :
لا تعرف سنة وفاة الهمداني ولا مكانها، والأخبار متناقضة حول هذين الأمرين، وتجعل إحدى الرويات وفاته في سنة أربع وثلاثين وثلاثمئة ، فقد أورد القاضي صاعد في طبقات الأمم ما نصه : "وجدت بخط أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله بن الناصر عبد الرحمن الأموي أن أبا محمد الهمداني توفي بسجن صنعاء في سنة أربع وثلاثين وثلاثمئة (1) ، وتابعت طائفة من الباحثين القدامى والمحدثين صاعدا فيما ذكره . بيد أن القفطي الذي أورد خبر صاعد ذكر ما يناقض هذا الخبر فقال :"وسار في آخر زمانه إلى ريدة من البون الأسفل من أرض همدان ، وبها قبره وبقية أهله" (2) .
أما أنه توفي في سجن أسعد بصنعاء فهذا الخبر لا يصح لأسباب : أولها أن خبر صاعد يعين زمن وفاته بسنة أربع وثلاثين وثلاثمئة ، في حين أن الهمداني بقي في سجنه حتى سنة إحدى وعشرين وثلاثئمة على ما قدمنا .
الثاني: ما ذكره القفطي من أنه سار في أواخر حياته إلى ريدة وتوفي بها ، فهو إذن لم يمت في السجن .
الثالث: أننا أوردنا خبر إطلاقه من السجن إرضاء لوجوه خولان أو بوساطة ابن زياد صاحب زبيد .(22/11)
الرابع : ثمة أخبار في كتاب الإكليل تدل على أن الهمداني عاش إلى ما بعد السنة التي ذكرها صاعد ومنها :أن الهمداني أورد في الإكليل خبر وفاة أبي حسان أسعد بن أبي يعفر ، وهو الذي سجنه ، فذكر أن وفاته كانت سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمئة (3) . وعلق المحقق في الحاشية على خبر وفاته – ولم يذكر المصدر الذي استقى منه الخبر- فذكر أنه لما مات أسعد أخفى خبر موته وجعل في تابوت عليه الحنوط والغالية حتى كانت سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة ، فأذيع خبر موته وأقيمت له جنازة حافلة شارك فيها الهمداني ، وقال في تلك المناسبة أبياتا في رثاء أسعد ومنها :
هذا أبو حسان في نعشه
قوموا انظروا كيف تسير الجبال(4)
فهذا الخبر يدل على أنه عاش إلى ما بعد سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة . ومنها ما أورده الهمداني في الإكليل في سياقه نسب محمد بن عبد الله الأوساني ونصه: "قال أبو محمد عبد الله بن سليمان الحلملي: رويت عن محمد هذا – أي الأوساني- سنة ست وخمسين وثلاثئمة،رحمه الله(1)، فإيراد هذا الخبر في كتاب الهمداني يدل على أنه عاش حتى سنة 360هـ على الأقل .
د) مكانته :(22/12)
حظى الهمداني بمكانة رفيعة في زمنه وبعده أهلته لها معارفه الجمة المتنوعة . فقد كان مؤرخا ولغويا ونحويا وشاعرا ونسابة وقارئا للمساند الحميرية وعالما بالفلك والهندسة . وقد وجدنا رجالات عصره يحرصون على تقريبه وتكريمه ورفع منزلته ، من هؤلاء أبو جعفر أحمد بن محمد بن الضحاك الهمداني ، ومحمد بن الحسن بن أبي العباس الخولاني ، وإسماعيل ابن إبراهيم النبعي الحميري ، وابن الروية المرادي (2)، وابن زياد صاحب زبيد وقد فصل القفطي (ت 626هـ) القول في المنزلة الرفيعة التي تبوأها فقال:" كان رجلا محسدا في أهل بلده ، وارتفع له صيت عظيم وصحب أهل زمانه من العلماء وراسلهم وكاتبهم . فمن العلماءالذين كان يكاتبهم ويعاشرهم أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري ، وكان يختلف بين صنعاء وبغداد ، وهو أحد عيون العلماء باللغة والعربية وأشعار العرب وأيامها ، وكذلك أبوه القاسم .. وكان يكاتب أبا عمر النحوي صاحب ثعلب ، وأبا عبد الله الحسين بن خالويه"(3).
وكان القفطي شديد الإعجاب بالهمداني ، كثير الثناء عليه ، ومما قاله فيه :"نادرة زمانه ، وفاضل أوانه ، الكبير القدر،الرفيع الذكر،صاحب الكتب الجليلة والمؤلفات الجميلة ، لو قال قائل إنه لم تخرج اليمن مثله لم يزل ، لأن المنجّم من أهلها لاحظ له في الطب ، والطبيب لا يد له في الفقه ، والفقيه لا يد له في علم العربية وأيام العرب وأنسابها وأشعارها ، وهو قد جمع هذه الأنواع كلها وزاد عليها(4) .
وأثنى عليه كذلك علي بن الحسن الخزرجي المؤرخ (ت 812هـ) بقوله : "هو الأوحد في عصره ، الفاضل على من سبقه ، المبرز على من لحقه ، لم يولد في اليمن مثله علمًا وفهمًا ، ولسانًا وشعرا ، ورواية وفكرا ، وإحاطة بعلوم العرب من النحو واللغة والغريب والشعر والأيام والأنساب والسير والمناقب والمثالب ، مع علوم العجم من النجوم والمساحة والهندسة والفلك "(1) .(22/13)
وينوه القاضي صاعد بالهمداني في أنه من العرب القلائل الذين اشتهروا بالفلسفة(2) .
هـ ) مؤلفاته :
إن الثقافة الواسعة المتنوعة التي تزود بها الهمداني أهلته لتأليف كتب في شتى ألوان المعرفة ، ولكن المؤلفات التي ذكرت له لا تشمل كل هذه المعارف ، فلم تذكر له كتب في اللغة والنحو ، ومن المؤسف أن أكثر مؤلفاته لم تصل إلينا ، ومن هذه الكتب المؤلفات الآتية ، وقد اعتمدنا في بيانها على ما أورده القفطي في إنباه الرواة وعلى ما ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون :
1 – كتاب القوى ، وهو في الطب .
2 – كتاب اليعسوب ، في فقه الصيد وحلاله وحرامه والأثر الوارد فيه وكيفية الصيد وعمل العرب فيه وما قيل فيه من الشعر . والقفطي يثني على هذا الكتاب ويذكر أنه مفيد للمتأدبين . وقد ألف الهمداني هذا الكتاب قبل كتاب الإكليل لأنه يذكره ويحيل عليه مرات متعددة في الإكليل في سياق حديثه عن فرسان العرب ورماتهم ومن أشتهر منهم بالقنص(3)
3 – كتاب المسالك والممالك باليمن ، وقد ذكر القفطي أن في حوزته نسخة منه.
4 – كتاب الجواهر العتيقة .
5 – كتاب أيام العرب .
6 – كتاب الطالع والمطارح وزيجه الموضوع.
7 – كتاب الحيوان .
8 – ديوان شعره : ويذكر القفطي أن الحسين بن خالويه الهمذاني لما دخل إلى اليمن جمع ديوان الهمداني وأعربه ، وأن هذا الديوان موجود بهذا الشرح والإعراب عند علماء اليمن ، وهم به بخلاء . ثم ذكر ما يتضمنه شعره فقال : "وشعره يشتمل في الأكثر على المقاصد الحسنة ، والمعاني الجزلة الألفاظ، والتشبيهات المصيبة الأغراض ، والنعوت اللاصقة بالأعراض ، والتحريض المحرك للهمم المِراض، والأمثال المضروبة ، والإشارات المحجوبة ، والتصرف في الفنون العجيبة (1) . ونقل السيوطي عن الخزرجي أن ديوانه يقع في ست مجلدات(2)(22/14)
ويعود فقدان كتب الهمداني إلى أسباب . منها : عصبيته الغالية للقحطانية التي حملت النزارية ومن يتعصبون لهم على إعدام كتبه وشعره . ومنها إقامته باليمن البعيدة عن حاضرة الخلافة ، وهذا الأمر يفسر فقدان كثير من المؤلفات اليمنية . ومن هذه الأسباب كذلك ضن علماء اليمن بما عندهم من مصنفات رجالهم، على نحو ما ذكره القفطي بشأن ديوان شعره . ولا ينبغي أن نغالي فيما ذكره القفطي حول إعدام كتبه ، والأستاذ حمد الجاسر يستبعد هذا الأمر ودليله أن الجزء الثالث الذى أظهر فيه عصبيته للقحطانية وصل إلى الشام وأطلع عليه ابن عساكر(3)
أما مؤلفاته التي وصلت إلينا فهي :
1 – كتاب الإكليل ، وسنفصل القول فيه فيما يأتي .
2 – كتاب صفة جزيرة العرب ، وهو من أهم المصادر الجغرافية في التعريف بجزيرة العرب ومواضعها ، ولاسيما بلاد اليمن التي جاء بها الهمداني وزار مواضعها بنفسه، وليس بين أيدينا كتاب يفضله في هذا الباب وقد طبع أكثر من مرة ، طبع للمرة الأولى في ليدن بهولندا سنة 1891م، وطبع مرة أخرى بمصر بتحقيق الأستاذ محمد بن عبد الله بن بليهد النجدي سنة 1953م، وطبع مرة ثالثة بتحقيق الأستاذ محمد بن علي الأكوع وإشراف العلامة حمد الجاسر .
3 – القصيدة الدامغة النونية ومطلعها :
ألا يا دارُ لولا تنطقينا
... فإنا سائلوكِ فخبرينا
وهي قصيدة طويلة قرابة ستمئة بيت في الفخر بقحطان ، عارض بها الهمداني قصيدة الكميت التي فخر فيها بالعدنانية ومطلعها :
ألا حُيِّيتِ عنا يا مدينا
... وهل بأس نقول مسلمينا
وقد شرح ولد الهمداني قصيدة أبيه ، وحصل عليها القفطي في جملة الكتب اليمنية التي أحضرها والده من اليمن ، وهو يذكر أن هذه القصيدة أحدثت له العداوة من النزارية والمتنزرة (1) .(22/15)
وهذه القصيدة مدرجة في نهاية مخطوطة برلين من كتاب الإكليل ، (الجزآن الأول والثاني )، وذكر الأستاذ الأكوع أن لديه نسخة منها مبتورا آخرها وأنه ألحق بها ما هو مذكور منها في الجزء الثاني من الإكليل وأنه سيقوم بتحقيقها ونشرها ، ولم نقف عليها .
4 – كتاب الجوهرتين العتيقتين المائعتين الصفراء والبيضاء .
ذكر الأستاذ نبيه أمين فارس محقق الجزء الثامن من الإكليل أن في كل من مكتبتي أو بسالا بالسويد وميلانو نسخة خطية منه . وذكر الأستاذ الأكوع أنه حصل على نسخة منه وأنه سيتولى تحقيقه ونشره ، كما ذكر الباحث لوفغرين في دائرة المعارف الإسلامية – الطبعة الحديثة- أن المستشرق تول Toll سيقوم بنشره في "أُوبسالا".
5 – كتاب سرائر الحكمة
وقد عرف به صاعد في طبقات الأمم فقال:"كتاب سرائر الحكمة وغرضه التعريف بعلم هيئة الأفلاك ومقادير حركات الكواكب وتبيين علم أحكام النجوم واستيفاء ضروبه واستيعاب أقسامه(2)
وقد وقع جزء من هذا الكتاب في يد الأستاذ محمد الأكوع وهو المقالة العاشرة منه ، واستخرج منه تاريخ مولد الهمداني وتاريخ سجنه (3)
* ... * ... *
كتاب الإكليل
كتاب الإكليل أهم كتب الهمداني ، ومما يدعو إلى الأسف أنه لم يعثر من أجزائه العشرة إلا على أربعة أجزاء هي الأول والثاني والثامن والعاشر . وقد علل القفطي فقدان أكثر أجزائه فقال:" وهو كتاب جليل جميل عزيز الوجود ، لم أر منه إلا أجزاء متفرقة وصلت إلي من اليمن، وهي الأول والرابع يعوزه يسير ، والسادس ، والعاشر ، والثامن ، وهي على تفرقها تقرب من نصف التأليف ، وصلت في جملة كتب الوالد(4) المخلفة
عنه ، حصلها عند مقامه هناك . وقيل إن هذا الكتاب يتعذر وجوده تاما ، للمثالب المذكورة فيه في بعض قبائل اليمن ، فأعدم أهل كل قبيلة ما وجدوه من الكتاب ، وتتبعوا إعدام النسخ منه ، فحصل نقصه لهذا السبب (1) .(22/16)
فالكتاب إذن كانت بعض أجزائه مفقودة منذ زمن القفطي (القرن السابع الهجري)، ومع ذلك فقد عثر على الجزء الثاني منه الذي ذكره القفطي في عداد الأجزاء المفقودة . وينقل الأستاذ نبيه أمين فارس عن أمين الريحاني في كتابه "ملوك العرب" أنه في أثناء وجوده في صنعاء قيل له إن كتاب الإكليل كاملا بعشرة أجزائه موجود في مكتبة الحضرة الإمامية (2). ولسنا نستبعد ذلك ، وكان علماء اليمن وحكامه يضنون بما عندهم من مؤلفات اليمن القديمة – على نحو ما ذكره القفطي– وعسى أن تسعف الأيام بالعثور على جميع أجزائه .
على أن فقدان بعض أجزاء الكتاب لم يحل دون معرفتنا بموضوعاتها، وقد ذكرها القفطي في الإنباه (3) ، وذكرها صاعد في كتابه (4) ، مع اختلاف يسير بينهما ، وموضوعات أجزاء الكتاب هي :
الجزء الأول : في المبتدأ ونسب مالك بن حمير .
الجزء الثاني : في أنساب ولد الهميسع من ولد حمير ونوادر من أخبارهم .
الجزء الثالث : في فضائل اليمن ومناقب قحطان .
الجزء الرابع : في سيرة حمير الأولى إلى عهد تُبع أبي كرب .
الجزء الخامس : في سيرة حِمْيَر الوسطى من أيام أسعد تبع إلى أيام ذي نواس .
الجزء السادس : في سيرة حمير الآخرة إلى الإسلام .
الجزء السابع : في التنبيه على الأخبار الباطلة والحكايات المستحيلة.
الجزء الثامن : في القبوريات وعجائب ما وجد في قبور اليمن وشعر علقمة بن ذي جدن وأسعد تبع .
الجزء التاسع:في أمثال حمير وحكمهم وتجاربهم المروية بلسانهم الموضوع للرطانة عندهم .
الجزء العاشر : في معارف همدان وأنسابها ونتف من أخبارها .
دراسة الكتاب
1 – الجزآن الأول والثاني :
مخطوطات هذين الجزأين ومطبوعاتهما(22/17)
مخطوطة كل من الجزأين الأول والثاني من الإكليل ومعهما القصيدة الدامغة عثر عليهما عام 1932 بين مخطوطات مكتبة برلين ، وقد أخذت عنهما نسخة مصورة نشرت عام 1943، وهاتان المخطوطتان تحتويان على رواية محمد بن نشوان الحميري للجزأين الأول والثاني من الكتاب ، وقد ألفهما قريبا من سنة 600 للهجرة ، وسنتحدث عن هذه الرواية فيما يأتي .
وتوجد مخطوطة للجزء الثاني وحده في القاهرة ، دار الكتب ، برقم ثان 5/410 . وذكر الأستاذ الجاسر أن لديه نسخة حديثة الخط من الجزء الأول (1).
وعثر الأستاذ محمد بن علي الأكوع على مصورة لمخطوطتي برلين لدى القاضي محمد بن عبد الله بن الحسين العمري واعتمدهما في نشر الكتاب . كما عثر على نسخة مبتورة تحتوي أنساب قحطان لم يذكر فيها اسم المؤلف ولا اسم الناسخ في مجلد واحد مع كتاب "طرفة الأصحاب" للملك الأشرف بن رسول وكتاب" الباب في معرفة الأنساب "لأبي الحسن أحمد بن محمد الأشعري ، وعلى ظاهر المجموعة تمليك باسم القاضي علي ابن حسن بن محمد الأكوع ، وقد سماها المحقق "النسخة المنقطعة" .
والنسخة التي اعتمدها المحقق الأستاذ الأكوع كثيرة الأخطاء والتصحيف والتحريف ، وتاريخ نسخها سنة ست وعشرين وثمانمئة بخط محمد بن أحمد بن الضريوة ، من قبيلة الهميسع بن حمير .
ويذكر الأستاذ الأكوع في مقدمة الطبعة الأولى أن المخطوطة التي وقف عليها هي جزء من كتاب ألفه محمد بن نشوان الحميري . وقد تحقق أنها كتاب الإكليل عينه ، لأن ابن نشوان نقل ما في كتاب الهمداني من أنساب حمير بنصه ، لم يكد يغير فيه إلا أشياء قليلة اختصارا أو إضافة ، ولهذا أجاز لنفسه أن يجعل عنوان الكتاب : الإكليل . فالكتاب الذي بين أيدينا ليس هو إذن كتاب الإكليل عينه وإنما هو اختصار له من عمل محمد بن نشوان .(22/18)
وما ذكرناه يفسر وجود مقدمتين للكتاب ، أولاهما لمحمد بن نشوان بن سعيد الحميري (1) وهو يصرح فيها بأن كل ما أتى به في أنساب حمير مأخوذ من كتاب الهمداني يقول مخاطبا شخصا كلفه تأليف كتاب في أنساب حمير :"سألت، أكرمك الله بأنواع كرامته، وأعاذك من صرعة الباطل وندامته ، أن أوضح شيئا من أنساب حمير وأخبارهم ، وما حفظ من سيرها وآثارها ، فأجبتك إلى ما سألت، وأشفعتك بما طلبت ، مؤتما بما ذكره الشيخ الفاضل المؤتمن لسان اليمن ، وفائق من كان فيه من الزمن ، الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني ، رحمه الله ، مما صححه من علمه الجليل ، وحققه في كتابه المعروف بالإكليل " . وبعد أن أثنى على الهمداني وعلمه أضاف :"فأثبت في النسب ما أتى به ، ذاكرا لما ذكره في كتابه ، غير أني اختصرت شيئا مما ذكره في النسب ، ليس هو في جملته بمحتسب ، بل هو مما ذكره من الاختلاف في التاريخ(2) . وتلي هذه المقدمة مقدمة الهمداني بلا فاصل بينهما ، ومن الإشارات الدالة على بعض ما أضافه محمد ابن نشوان إلى الكتاب ما نجده في الصفحة 279 من الجزء الأول ونصه :"شهاب من خولان ، فيكذب ذلك أهل المعرفة ، هذا قول الهمداني ، وغيره من النساب يرجح أن تكون من كلام ابن نشوان .
وذكر الأستاذ شكيب أرسلان أنه من المحتمل أن تكون أجزاء الكتاب كاملة في أيطالية ، في جملة الكتب التي جاء بها المستشرق غريفيني من اليمن ، على أنه لم يستطع التحقق من صحة هذا الأمر(3).
والأمر المحقق أنه لم يعثر حتى اليوم إلا على نسخة برلين الآنف ذكرها .(22/19)
نشر هذان الجزآن مرتين كلاهما بتحقيق الأستاذ محمد بن علي الأكوع، الطبعة الأولى في القاهرة سنة 1383هـ/1963م. وبعد نشرها نشر الأستاذ حمد الجاسر – أطال الله بقاءه – تصحيحات على هذه الطبعة الكثيرة الأخطاء نشرها في مجلة العرب عام 1967. وقد أفاد الأستاذ الأكوع من هذه التصحيحات لدى إعادة طبع هذين الجزأين فصحح كثيرا من الأخطاء التي وقعت في الطبعة الأولى ، واستفاد كذلك من الملاحظات التي أرسلها إليه الشيخ محمد بن علي الأشول اليحصبي حول متن الكتاب وحول التعليقات التي أوردها الأستاذ الأكوع في الحواشي(1).
وقد فرغ الأستاذ الأكوع من إعادة النظر في الجزأين وإعادهما للطبع سنة 1387هـ/1968م ، ولكن طبعهما تأخر لبعض الأسباب حتى عام 1976م ، وقد طبع في مطابع الجمهورية العراقية.
وعلى ما بذله المحقق الكريم من العناية في طبعة هذين الجزأين الثانية وتصحيح ما وقع من أخطاء في الطبعة الأولى ما يزال هذان الجزآن في حاجة إلى مزيد من إعادة النظر ، والأخطاء الطباعية فيهما كثيرة.
وقد بذل المحقق جهدًا مشكورًا في إثبات تعليقاته في حواشي الكتاب، لشرح بعض الألفاظ الغامضة وتعيين الأماكن التي وردت في المتن وترجمة الأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب ، ولكنه أطال كثيرا في هذه التعليقات وعرف بأعلام لا حاجة إلى التعريف بهم كالخلفاء الراشدين والأمويين ، وشرح معاني ألفاظ لا حاجة إلى شرحها .
ويؤخذ عليه أنه لم يصنع فهرسا لأعلام الأشخاص وأسماء المواضع وللأشعار الواردة فيه ونحو ذلك ، وهو أمر لا غنى عنه في كتب التراث .
وقد ضمن المحقق الجزء الأول قصيدة "الجار" التي هجا بها الهمداني ملك حمير أبا حسان أسعد بن أبي يعفر(2) .
موضوعات الجزء الأول
يبتدئ الجزء الأول بمقدمة محمد بن نشوان الحميري التي يقر فيها أنه لم يأت بجديد فيما أورده من كتابه ، فقد أثبت ما وجده في كتاب الهمداني مع شيء من الاختصار ، والحديث هنا عن أنساب حمير وأخبارها .(22/20)
وتلي مقدمة محمد بن نشوان مقدمة الحسن الهمداني التي صدر بها كتابه ، وقد استهلها بحمد لله والثناء على رسوله ، وضمن كلامه آيات من القرآن الكريم، ثم خلص إلى كلام عمر بن الخطاب في الحض على تعلم الأنساب ليتعارف الناس بها ، ثم أبان عن ولعه منذ حداثة سنه بتقصي أخبار الأمم الماضية وأنساب القبائل ، وقد وجدها مضطربة مختلطة ، ووجد النسابين قد عنوا بأنساب مالك بن حمير (أي قضاعة) وأهملوا نسب الفرع الثاني منها وهو الهميسع بن حمير وجهلوه لأنهم لم يرحلوا إلى اليمن ولم يلقوا رجالها ونسابها حتى إن محمد بن إسحاق سرد نسب الهميسع في خمسة أسطر ، ثم نوه بذكر نسابة حمير وقارئ مساندها أبي نصر محمد بن عبد الله بن سعيد اليعفري الحميري المعروف بالحنبصي ، وعنه أخذ جُل ما ذكره في كتابه من أنساب حمير ، قال :" فما أخذته عنه ما أثبته في كتابي هذا من أنساب حمير وحكمها ، إلا ما أخذته عن رجال حمير وكهلان من سجل خولان القديم بصعدة ، وعن علماء صنعاء وصعدة ونجران والجوف وخيوان وأخبرني به الآباء والأسلاف "(1) .
وقد وضع الهمداني أبا نصر في منزلة أرفع من منزلة سائر نسابي العرب، وختم مقدمته بكلمة في أقسام القبيلة العربية: الشِعب فالقبيلة فالعمارة فالبطن فالفخذ فالحبل فالفضيلة .
ويبدأ الكتاب بالكلام على مبتدأ الخلق، جريًا على سنة جمهرة المؤرخين القدامى، فبدأ بخلق آدم وذكر ما يرويه ابن اسحاق وابن عباس وغيرهما في خلق آدم وحواء وهبوطهما من الجنة وقتل قائن (قابيل) أخاه هابيل ، وذكر أسماء أبناء آدم الذكور والإناث وأن العقب في شيث ابنه وفي ذريته النبوة ، أما من تناسل من قابيل فقد هلكوا في الطوفان ، وذكر أن وفاة آدم كانت بمكة وقبره بجبل أبي قبيس(2).(22/21)
وفي فصل ثان يتحدث الهمداني عمن تناسل من قائن بن آدم ، ثم عمن تناسل من شيث بن آدم الذي تزوج أخته حزورة ، وساق نسب بني شيث إلى نوح النبي عليه السلام ، وذكر سني حياتهم، وتزوج نوح عزرة فأنجب منها أولاده الأربعة وهم : سام وحام ويام ويافث . وأورد المؤلف بعد ذلك الأحاديث المتصلة بعمر الدنيا حتى هجرة الرسول عليه السلام. ومعول الهمداني في هذه الأخبار على ابن إسحاق وابن الكلبي وعلى أحد شيوخ مكة الذين أخذ عنهم أثناء إقامته بها واسمه الخضر بن داود وعلى أبي معشر جعفر بن محمد البلخي (ت 272هـ). وهو يروي كذلك عن الصعديين ما سمعوه من إبراهيم بن عبد الملك الخنفري الذي قرأ كتب كعب الأحبار .
ثم أفرد الهمداني بابا لما جاء في ذكر نوح والطوفان من الشعر . ثم يتابع ذكر أنساب أبناء نوح من كل من أولاده حام وسام ويافث ، أما يام فقد غرق في الطوفان . والعرب العاربة كلها من ولد سام بن نوح وكانت تتكلم اللسان العربي(1) . ومن نسل أر فخشذ بن سام كان قحطان (أو يقطان) .
ثم عرض في باب نسب هود لما وقع من الخلاف بين النسابين بشأنه ، وجل نسابي قحطان على أن هودًا النبي هو قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام ، وهو يروي بعض ما قاله شعراء اليمنية كحسان بن ثابت والنعمان بن بشير في إثبات انتماء بني قحطان إلى هود النبي ، ولكن الهمداني لا يوافق حسان في كل ما ادعاه من انتماء هود وإدريس وصالح ويونس وشعيب وإلياس إلى قحطان.
ثم يعقد بابًا للفرق بين قحطان وعدنان وينتهي إلى أن قحطان ليس من نسل إسماعيل عليه السلام وإنما عدنان وحده ينتمي إليه ، ويؤول ما قاله الرسول عليه السلام لبني أسلم من خزاعة :" أرموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا". أن هذه القرابة إنما جاءت من الأمهات لا من الآباء (2) .(22/22)
وبعد هذه المقدمات شرع الهمداني في ذكر الأنساب القحطانية ، وقحطان عنده هو النبي هود عليه السلام، فيذكر أبناء قحطان بن عابر ، وأشهرهم يعرب،وهو يجعل جرهم من أبنائه ، ويذكر إصهار إبراهيم إلى جرهم باثنين من ولده: إسماعيل وبقشان . ثم يمضي في أبناء قحطان واختلاف النسابين في أسمائهم وتعدادهم ، ومنهم في قول بعض النسابين طسم وجديس وجرهم وحضرموت. وفي سياقه هذه الأنساب يتحدث عن حنظلة بن صفوان الذي تزعم طائفة من أهل اليمن أنه كان نبيًا إلى حمير وهمدان فقتله قومه . ثم يسوق النسب من يعرب إلى يشجب وإخوته ، ثم إلى أولاد يشجب سبأ الأكبر وإخوته ، ثم إلى حمير وكهلان ابني يشجب . والمؤلف يورد أشعارًا تتصل بهذه الأنساب .
نسب حمير
هذا الجزء والجزء الذي يليه من الإكليل وقفهما الهمداني على أنساب حمير، وقد بدأ بنسب مالك بن حمير الذي تنتمي إليه ، في رأي نسابي اليمن ، قبيلة قُضاعة الضخمة.
وقد تناول ابن الكلبي وغيره من النسابين أنساب هذه القبيلة ولكنهم أغفلوا ذكر إحدى قبائل قضاعة التي استقرت في بلاد اليمن ولم تنزح إلى بلاد الشام إلا قلة منها ، بخلاف قبائل قضاعة الأخرى ، وهي قبيلة خولان القضاعية التي نزل الهمداني في ديارها ، ولخولان مخلاف باليمن حاضرته مدينة صعدة. وقد أقام بها الهمداني ، وفق ما ذكره لنا ، عشرين سنة، فحاطته برعايتها وأغدق عليه رؤساؤها الهبات فجزاهم بمدائح كثيرة ، وخولان هي التي هبت لنصرته حينما سجن بصعدة وصنعاء ، ولهذا رأي الهمداني حقا عليه أن يفصل القول في نسبها ، أما سائر قبائل قضاعة فقد ذكر أنسابها على وجه الإيجاز.(22/23)
ونسب قضاعة في كتب النسابين العرب، وفي مقدمتهم ابن الكلبي ، يذكر فيه بين قضاعة ومالك بن حمير خمسة أسماء : قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة ابن زيد بن مالك بن حمير ، ولكن أصحاب السجل يذهبون إلى أن عدادهم أكثر من هذه الأسماء الخمسة ، وأنه نقص بعد أيام ، بختنصر شىء من علم العرب وساكني الحجاز والشام بالأنساب والأيام(1) .
ثم عقد الهمداني فصلا عنوانه : تصحيح نسب قضاعة ، وهو في هذا الفصل يقدم الأدلة من مقارنة التواريخ والأشعار والوقائع على أن قضاعة حميرية النجار وليست نزارية . ويلاحظ هنا أن المؤلف ينظر إلى المرويات حول تاريخ ولادة الرجال القدامى على أنها حقائق تاريختة لا يتطرق إليها الشك ، ويعقد مقارناته التاريخية على أساسها.
ويذكر الهمداني أن قوما صنعوا أبياتا على ألسن قوم من قضاعة ، ورووا أحاديث وأخبار ليدعموا زعمهم بأن قضاعة معدية ، وافتعلوا خبرا مفاده أن مالك بن حمير طلق زوجه الجرهمية فخلف عليها معد وهي حامل من مالك بقضاعة، فهي في زعمهم معدية النجار ، ولكن شعراء قضاعة أنكروا ذلك وقالوا أشعارًا في إثبات نسبتهم الحميرية(2) ، وهو يروي أحاديث منسوبة إلى الرسول عليه السلام تؤيد انتساب قضاعة إلى حمير، وقد أطال الهمداني القول في هذا الجانب واستغرق صفحات طوالاً من كتابه.
ولما فرغ من تصحيح نسب قضاعة انتقل إلى ذكر نسبها(1) ، وقد أوجز في ذكر قبائلها إيجازا شديدا ، ونسب قضاعة في كتاب النسب لابن الكلبي أكثر تفصيلا.(22/24)
على أن الهمداني حين بلغ قبيلة خولان القضاعية ، وهي خولان بن عمرو ابن ألحاف بن قضاعة . وقف عندها وقفة طويلة استغرقت ما يقرب نصف الجزء الأول من الكتاب. ويسوغ الهمداني إطالته في نسب خولان بقوله :" وقد ذكرنا نسب قضاعة ذكرًا مجملاً لشهرتها عند الناس ووقوف العامة عليها واستعمالهم لها وعمران قلوبهم بها وأسماعهم ، سوى خولان فإننا رأينا أن نشبع القول فيها لتلحق في التشجير والتعريف بباقي إخوتها من قضاعة ، ونحرص أن نأتي من ذلك بما يعرفه أهل نجد وبعض أهل الحجاز وكافة أهل اليمن ونجران ، ومن يبلغه رحلتهم ويبلغهم رحلته ، ولو كانت صعدة في القديم من البلدان التي رحل إليها أصحاب الحديث لانتشرت أخبارها كما انتشرت أخبار صنعاء"(2) . على أن السبب الأقوى لإطالة الهمداني في ذكر خولان إنما مرده إلى إقامته بصعدة ، ديار خولان ، مدة عشرين سنة ، ورعاية رؤساء خولان ورجالها له ، ونضالهم دونه حينما سجن بصعدة وصنعاء .
وقد تفرعت خولان من سبعة نفرهم: حِيّ ، وهو أكبرهم ، وفيهم كان البيت والرياسة ، وسعد، وهو الذي بصرواح، ورشوان، وهانئ، ورازح، والأزمع، وصحار، وهو أخو حي من أمه ، وهذان البطنان متواصلان من خولان إلى اليوم. هذا ما يذكره الهمداني ، ويذكر الأستاذ الأكوع أنهما مازالا موجودين حتى اليوم ويقطنان على مقربة من صعدة .
وفي سياقة نسب خولان يتحدث الهمداني عن الرجال البارزين فيهم ، ومنهم: عمرو بن زيد بن مالك ، سيد قضاعة في عصره والمجمع على رياسته ، ويحيى بن عبد الله بن زكريا سيد أكيل ، وهو أحد من قام في فك الهمداني من سجن العلوي بصعدة(3) ، وللهمداني مدائح فيه وقد رثاه بعد موته ، ومن قوله فيه:
إني لمثْنِ وشاكرٌ لك ما
... أوليتَ من منة وذاكرها(22/25)
ومنهم حُجر بن سعد أبو رعثة الأكبر الذي قام بحرب مذحج وأجمعت قضاعة على رياسته ، ومنهم محمد بن عباد بن كثير الذي قام برياسة قومه وبلغ في خولان مبلغا عظيما وأخضع بني رازح من خولان ، ثم أخذ منهم رهنًا وأسلمهم إلى رجال من قومه فقتلوا أسراهم فحاربته خولان بسببهم وقتلته وبسبب قتله قامت الحرب بين بطون خولان ، وخاصة بين بني سعد وبني ربيعة ولم تنطفئ إلا بمقدم الإمام الهادي الذي أمّرته خولان عليها بصعدة . ومنهم الحسن أبو الصباح بن أحمد ابن عبد الله بن محمد بن عباد الأكليلي ، وكان سيد خولان في زمن الهمداني ، ومنهم المسلم بن عباد بن عبد الله الذي ناصب العلويين العداء وقاتل عمالهم وشق عصا الطاعة عليهم . ومنهم عمرو بن يزيد بن سعد، كان سيد بني عوف في زمنه ولسان خولان ، وكان معاصراً لسيف بن ذي يزن، وخولان تقول إنه لم يقتل أحد من العرب مثل من قتل عمرو بن يزيد من السادة والعظماء.
وذكر من شعراء خولان المشهورين عبد الله بن محمد بن عباد ، وعبد الخالق ابن أبي الطلح الشهابي ، وقد روى جانبًا من شعر ابن عباد(1) .
وفي سياقة أنساب الربيعة من خولان يذكر الهمداني بطني عامر ومُر فيقول إنهما ممن ناصب الإمام العلوي الناصر بن الهادي العداء بسبب سجنه الهمداني ، وللهمداني شعر في مديحهما .
ثم يعقد الهمداني فصلا لا صلة له بنسب خولان يذكر فيه نسب قبيلة عنز ابن وائل الربعية ، وعذره في ذلك دفع الالتباس بين القبائل التي ذكرها وبين عنز ابن وائل ، لتشابه الأسماء .
ثم يعود إلى نسب خولان فيذكر اسم رجلين هما مسلمة بن يغنم ، من بني حي ابن خولان ، وابن المستنير الزبيدي ، فيقول إنهما كان علامتي نجد، وهما اللذان قيدا أنساب خولان وأيامها مع مذحج وبني سليم وهوازن وأيام خولان فيما بينها(2).(22/26)
وفي سياق نسب صحار بن خولان يذكر الهمداني آل أبي فطيمة، من أهل العشّة(3) ، فهم الذين قاموا مع إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد الرضي(1)،وأخربوا صعدة معه، وقاموا مع من قام من خولان على محمد بن عباد فقتلوه، وهم الذين قدموا على يحيى بن الحسين بن القاسم في الرس فملكوه بلد خولان وساروا معه إلى اليمن حتى ملكها(2) .
وآل أبي فطيمة هؤلاء ظل ولاؤهم للإمام الهادي ولولديه من بعده: محمد بن يحيى (ت 310هـ) والناصر أحمد بن يحيى(ت 322هـ) . وقد بويع الناصر هذا بالخلافة وانقادت له بلاد اليمن ، وكانت صعدة مقر خلافته . وهو الذي سجن الهمداني بصعدة – على ما بينا آنفا- ويذكر الهمداني أن آل أبي فطيمة هم ممن سعوا في إطلاق الهمداني لما سجنه أسعد بن أبي يعفر بصنعاء ، وتولى ذلك منهم الحسن ابن محمد بن أبي العباس ، فلما لم يجبهم الناصر إلى ما طلبوا أظهروا له الخلاف، وقاد له الحسن بن أبي العباس بني جماعة وقاتله ، حتى اضطر الناصر إلى إطلاق الهمداني من سجنه بصنعاء ، وقد
فخر الهمداني في إحدى قصائده بمناصرة خولان وابن زياد له (3) .
على أن الخلاف بين الناصر أحمد وخولان لم ينطفئ بإطلاق الهمداني، فيذكر المؤلف أن الناصر انتهز افتراق جماعة الربيعة بن سعد وطوائف من همدان فواقعهم بموضع حَمُومة، فقاتله زيد بن أبي العباس ، وكان فارس العرب، فهزمه، ثم هاجموا نجران يؤازرهم حسان بن عثمان ابن أحمد بن يعفر فكان بينهم يوم الباطن، والهمداني يذكر أنه من أعظم أيام العرب، وقد قتل فيه الحسن بن يحيى أخو الناصر، وما لبث الناصر أن توفي غمًا(4) .
ثم قامت بين الربيعة وزيد بن أبي العباس حرب قتل فيها زيد، وللهمداني قصائد قالها في تلك المناسبة يهجو فيها الربيعة وسعد بن سعد ويرثي زيدا .(22/27)
ويمضي الهمداني بعد ذلك في استقصاء أنساب بطون خولان الأخرى، البادية منها والحاضرة ، فيذكر نسب خولان العالية، وأنساب بني شهاب. وبذلك يتم الجزء الأول من الكتاب .
الجزء الثاني :
تناول الهمداني في هذا الجزء أنساب الهميسع بن حمير ، وهذا النسب لم ينل من عناية النسابين ما هو جدير به ، وقد ذكرنا تعليل الهمداني لصنيع النسابين هذا، وكتاب الهمداني هو المرجع الأوفى الذي وصل إلينا لأنساب الهميسع بن حمير ، فابن الكلبي تناول هذا النسب في إيجاز شديد ولم يشغل إلا حيزا صغيرا من كتابه الضخم ، في حين أن نسب الهميسع استغرق ما يقارب جزءا كاملا من أجزاء الإكليل العشرة .
وليس للجزء الثاني مقدمة مستقلة لأنه بمثابة التتمة للجزء الأول، فكلاهما في أنساب حمير ، وهو يبدأ بعبارة :"قال أهل السجل: أولد الهميسع بن حمير يامنًا وأيمن ولهسعًا والهاسع والمختسع ومتبعًا وأقرع". ونلاحظ أن الأسماء الواردة في نسب الهميسع بن حمير تتسم بالغرابة بالقياس إلى الأسماء العربية المالوفة ، في حين أن الأسماء الواردة في نسب قضاعة تشابه أسماء العدنانيين ، ولعل مرد هذا إلى التباين في البيئة التي عاش فيها كل من جذمي حمير، فقد استقرت جل قبائل قضاعة في بلاد الشام وشمالي الجزيرة العربية في حين بقيت بطون الهميسع في اليمن ، موطن الدولة الحميرية ، واللغة الحميرية تختلف عن لغة القبائل العدنانية، وقد روي عن أبي عمرو بن العلاء قوله :"ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا(1). واختلاف هاتين اللغتين من أقوى أسباب الشك في صحة ما روي من أشعار اليمانين القدامى .(22/28)
ويعرض الهمداني في هذا الجزء لما وقع من الخلاف في انتساب بعض القبائل اليمنية، ومنها قبيلة الصدف(أو الصدف)، فالخلاف بين النسابين حولها كبير . ويذكر الهمداني أن كثيرا من النساب يجعلونها من حمير (2) ، ولكنه ينقل عن علماء صعدة وأصحاب السجل القديم أن مالكا الذى تنسب إليه الصدف كان أخا ثور بن مرتع وهو كندة ، ثم وقع نزاع بين مرتع وبعض بطون حضرموت فاقتتلوا ودارت الدائرة على حضرموت والسلف ابني قحطان ، فخرجوا حتى دخلوا مدينة شبوة ( وهي مدينة إلى الجنوب الشرقي من صنعاء ) ، فأقاموا بها ومعهم أختهم رِهم الحميرية ، امرأة مرتع ، ومعها ابنها مالك بن مرتع صغيرا ، فنشأ في أخواله حضرموت وتزوج فيهم. وهذا سبب دخول الصدف في حضرموت. وقد أحدث بعض النسابين نسبا للصدف يصلهم بحضرموت.
ويخطئ الهمداني ابن الكلبي في اسم الصدف ، فالهمداني يسميه مالكا – كما قدمنا- وابن الكلبي يسميه شهالاً ، ويعلق الهمداني على ذلك بقوله:"وفي هذه المواضع المشكلة يأتي تخليط النساب ، إذ كانوا عن الأحياء التي ينسبونها بمكان بعد وشحط وتخليط البادية ، إذ لم يكن فيهم من يقيد ، وإنما سمع بعض من نقل إليه بقول بعض نسابة حمير القدماء إن عمرو ابن الغوث بن حيدان أولد حضرميًا وشهالاً ، فظن أن حضرميًا هو حضرموت ، وذلك منكر من الاستحالة(1) . وثمة خلاف في ضبط كلمة الصدف ، ضبطها الهمداني بضم الصاد والدال ، وضبطها صاحب القاموس وصاحب اللسان بفتح الصاد وكسر الدال.
وبعد انقضاء نسب الصدف عاد الهمداني إلى أنساب سائر حمير ، وجل بطون الهميسع بن حمير تتفرع من جيدان ابن عريب بن أيمن بن الهميسع . ومن بني عبد شمس بن وائل بن الغوث بن جيدان آل الصوار ، وفيهم الملك والبيت والرياسة والسياسة(2) ، وإلى هذا الحي تنسب تبابعة حمير .(22/29)
ومن ملوك حمير آل يعفر بن عبد الرحمن بن كريب الذين ملكوا اليمن سنة أربع عشرة ومئتين إلى يوم ألف هذا الكتاب-أى الإكليل- سنة ثلاثين وثلاثمئة(3) .
وفي سياق ذكر أنساب الهميسع يذكر الهمداني اسم إبراهيم بن عبد الحميد ابن محمد بن الحجاج المسوري ، من ولد شمّر ، وكان أمير مسور، وأجلى القرامطة عن إمارته . وقد عاشره الهمداني ونادمه في مسور(4) (وهي من أعمال صنعاء).
ومن الأخبار التي يشتمل عليها نسب الهميسع خبر مقدم إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق إلى اليمن على رأس المئتين، وإسراع بني سعد بن سعد إلى موالاته لتقوى به على اللأكيليين وبني شهاب وحمير ، وغدرهم ببني خنفر وأكيل وبني شهاب . وقد أثار صنعيهم أحمد بن يزيد فألّب أهل اليمن على إبراهيم ، وقام هو وطوائف من اليمانية مع عبد الله بن محمد ابن الأحول بن ماهان فطردوا إبراهيم بن موسى المشهور بلقب الجزار(1).
وفي سياقة نسب آل يعفر الحواليين يذكر المؤلف أبا حسان أسعد بن إبراهيم ابن يعفر ، وهو الذي سجن الهمداني بصنعاء . ويتحدث الهمداني عنه فيقول: "وأسعد هو أبو حسان ملك عصرنا ، وذهب على من قبله بالصوت، وهو الذي اجتث عرقاة القرامطة باليمن ، وهو فارس حمير في عصره". ويستمر في الثناء عليه بعد ذلك ، فلم يحمله حقده عليه على غمط حقه ووصفه بما يستحق ، وقد عين سنة وفاته بسنة اثنتين وثلاثين وثلاثمئة(2).(22/30)
وفي حديثه عن أنساب بني يحصُب يسوق خبر وفود الضحاك بن المنذر بن سلامة ذي فائش على معاوية بن أبي سفيان، والحوار الذي دار بينهما ، وفيه تحد لمعاوية وفخر باليمانية ، ومن ذلك قوله لمعاوية حين حط من قدر اليمانية :"مهلا يا معاوية ، فإن أولئك كانوا للعرب قادة ، وللناس سادة، ملكوا أهل الأرض طوعًا ، وجبروهم كرها، حتى دانت لهم الدنيا بما فيها، وكانوا الأرباب، وكنتم الأذناب، وكانوا الملوك وكنتم السوقة ، حتى دعاهم خير البرية ، بالفضل والتحية ، محمد صلى الله عليه وسلم ، فعززوه أيما تعزيز ، وشمروا حوله أيما تشمير، وشهروا دونه السيوف، وجهزوا الألوف بعد الألوف، وجادوا بالأموال والنفوس، فضربوا معدًا حتى دخلوا في الإسلام كرها ، وقتلوا قريشا يوم بدر فلم تطلبوهم بوتر ، فأصبحت يا معاوية تحمل ذاك علينا حقدا ، وتشتمنا عليه عمدا ، وتقذف بنا في لجج البحار، وتكف شرّك عن نزار ، ونحن منعناك يوم صفين ، ونصرناك على الأنصار والمهاجرين.." إلى آخر الحديث ، فغضب معاوية من كلامه وأمر بضرب عنقه، فحامت عنه رؤوس اليمانية التي كانت في مجلسه وخاطبت معاوية بمثل ما خاطبه به الضحاك ، وتهددته بمحاربته وشق عصا الطاعة عليه ، ومن هؤلاء عفير بن زرعة اليزني ، وكريب بن أبرهة ، ويزيد بن حبيب المرادي ، وناتل بن قيس الجذامي، فتراجع(22/31)
معاوية عن قراره، وولَى الضحاك إرمينية(1) . ونحن يساورنا الشك في صحة هذا الحديث الذي يغض فيه معاوية من شأن القبائل اليمانية ، وهم جل أنصاره ، يغض الطرف عن مفاخرة القحطانيين له وتحديهم إياه ، وأغلب الظن أنه من وضع بعض اليمانية ، ولم يرد ذكره في تاريخ الطبري ولا في المصادر التاريخية الموثوق بها . ويلي هذا الخبر قصائد لشعراء يمانين يفخرون فيها بقحطان ودفاع عن حسان بن ثابت في تهمة الجبن الذي نسب إليه ، فالهمداني يكذب هذا الخبر ودليله أن أحدا ممن هاجاهم لم يعيره بالجبن بل هو الذي عير غيره بالجبن . ثم يسوق أخبارا لرجال من اليمانية فخروا بقحطان بحضرة الخلفاء الراشدين وخلفاء بني أمية ، منها خبر عمرو بن سلمة الهمداني مع معاوية ، والهيثم بن الأسود النخعي مع عبد الله ابن مروان ، وعمرو بن معد يكرب مع عمر ابن الخطاب . وقد سأله عمر عن قبائل اليمن فوصف كل قبيلة بما يلائمها(2).
ويمضي الهمداني في إيراد أخبار القحطانيين ومفاخرتهم خلفاء بني أمية، فيروي خبر معاوية الذي أفحمه جواب عمرو بن سلمة الهمداني وجعله يتحامى تحدي اليمانية لئلا يسمع منهم ما لا يرضيه . فلما عاتبه أخوه عتبة في ذلك استدعى إلى مجلسه رجلا مغمورًا رث الملابس من أهل اليمن كان ببابه، وعرض أمامه بالقحطانية، فأجابه اليماني جوابًا مفحمًا ، فقال لأخيه: هذا ما عرضتمونا له. وساق الهمداني كذلك خبر الحوار الذي دار بين معاوية وشريك بن الأعور الحارثي ، فقد أجابه شريك جوابًا لاذعًا ثم قال أبياتًا يفخر فيها بنفسه وأولها:
أيشتمني معاوية بن صخر
... وسيفي صارمٌ ومعي لساني(22/32)
ثم أورد الهمداني خبر معاوية حين ولي ابن أخته عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي مصر فرده معاوية بن حديج – وهو يماني- ثم قدم على معاوية لائما إياه لتوليته عبد الرحمن على مصر . ثم يقول الهمداني بعد إيراد هذه الأخبار :"فأما أخبار معاوية مع الأنصار فكثيرة ، مثل رسالة قيس بن سعد(بن عبادة) إليه ، ويعقب على هذا الحديث بقوله:"وحذفه أولى" (3) . وإيراد هذه الأخبار ينم عن فرط عصبية الهمداني للقحطانية ، وهو أمر عُرف به .
ويعود بعد ذلك إلى سرد أنساب الهميسع بن حمير ، وفي خلال ذلك يذكر ما يحضره من أخبار ترفع من شأن اليمانية، كحديث العباس بن عبد الله المرهبي مع الوليد بن عبد الملك (1) .
وحين بلغ في سياقة الأنساب الحميرية نسب حضرموت بن تبع الأصغر أورد نسب شيخه الأوساني الذي روى عنه جانبًا كبيرا من أنساب حمير وأخبارها ، فهو محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد الأوساني . وبعد أن ذكر نسبه أورد خبرًا مرويا عن أبي محمد عبد الله بن سليمان الحِلَمْلَمي ونصه:" رويت عن محمد هذا ، أي الأوساني ، سنة ست وخمسين وثلاثمئة، وهو من عمره في ثمانين ، وكتبت عنه، وقتل في سنة ستين وثلاثمئة ، رحمه الله (2) . وهذا الخبر قرينة قاطعة دالة على أن الهمداني توفي بعد سنة ستين وثلاثمئة ، على ماذكرنا آنفا . وقد أورد المؤلف خبرا آخر حول الحِلَمْلَمِي ولقائه الأوساني(3) .
وبعد أن فرغ من سرد أنساب الهميسع بن حمير أورد شجرة نسبهم(4). ثم عقد أبوابًا لأمور تتصل بالأسماء الحميرية مثل : الأسماء المتفقة في البنية والمختلفة في النسب مثل يعرب بن قحطان ، ويعرب بن جيدان، والأسماء المتقاربة في نطقها نحو : سدد وجدد . والأسماء المتخالفة في البنية نحو:خَمِر وحُمَر، والأسماء التي تختلف فى النقط مع اتفاق البنية نحو:يحضب ويحصب.ونحو ذلك من ألوان الاختلاف والاتفاق في أسماء القبائل (5). وهذه الأبواب تفيدنا في تحقيق أسماء القبائل والبطون الحميرية .(22/33)
وفي نهاية الكتاب يعتذر المحقق من عدم إثبات القصيدة الدامغة التي يفخر فيها الهمداني بقحطان لأنه بدا له أن يفردها بنشرة مستقلة .
مصادر الهمداني فى هذين الجزأين ونهجه:
ألف الهمداني كتاب الإكليل ، أو فرغ من تأليفه،سنة ثلاثين وثلاثمئة للهجرة، وفق ما ذكره في الجزء الثاني من الكتاب (6) .
في القسم الأول من الكتاب الذي تحدث فيه الهمداني عن خلق آدم ومن تناسل منه وأخبار الأمم القدمية وأنساب الأنبياء والعرب القدماء ، وبدء الخلق وعمر الدنيا ، كان جل اعتماده على محمد بن إسحاق بن يسار (ت151هـ) في سيرته.
ومن المعلوم أن في سيرة ابن اسحاق أساطير وأخبارًا لا يُطمأن إلى صحتها، ولكن الهمداني ينقلها دون أن يعلن شكه فيها وكأنها حقائق تاريخية .
وأخذ الهمداني في هذا القسم أيضا عن علماء آخرين منهم : أبو معشر جعفر ابن محمد البلخي الفلكي (1) . وروى طائفة من الأخبار عن ابن عباس ولكنه لم يذكر سندها، وممن أخذ عنهم أيضا هشام ابن الكلبي(ت204هـ)، والهيثم بن عدي (ت207هـ) ، وابن هشام صاحب السيرة (ت218هـ) . وكذلك أخذ عن رجل اسمه قحطان بن عابر الخزاعي وترجمته مجهولة (2) .
أما في موضوع الكتاب الرئيس ، وهو أنساب حمير ، فكان جل اعتماده على أبي نصر محمد بن عبد الله بن سعيد اليعفري الحميري ، المشهور بأبي نصر الحنبصي(3) ، وقد صرح بأخذه عنه فقال
بعد أن أثنى عليه ثناء كثيرا :" فما أخذته عنه ما أثبته في كتابي هذا من أنساب بني الهميسع بن حمير وعدة الأذواء وبعض ما يتبع ذلك من أمثال حمير وحكمها"(4)(22/34)
على أنه أخذ هذه الأنساب من مصادر أخرى منها سجل خولان وحمير القديم بصعدة ، وهو سجل محمد بن أبان الخنفري ، أحد أقيال حمير في الإسلام، وكان معاصرا لمعن بن زائدة. وقد توارثته قبيلة خولان منذ أبى مسلم واحتفظت به، فوقف عليه الهمداني واستمد منه كثيرا مما أورده من أنساب حمير وأخبارها(5) . وأخذ كذلك عن طائفة من علماء اليمن وعن أسلافه وآبائه ، وهو يصرح بذلك فيقول بعد ذكره أبا نصر الحميري:"إلا ما أخذته عن رجال حمير وكهلان وسجل خولان القديم بصعدة ، وعن علماء صنعاء وصعدة ونجران والجوف وخيوان(6).
وقد ذكر أسماء طائفة من العلماء الذين أخذ عنهم، منهم محمد بن أحمد الأوساني الحضرمي، وكان قارئًا للمسانيد الحميرية(7) ، وقد تقدم ذكره ، وأخذ
عن أشخاص آخرين أخبارًا وأنسابًا منهم: أبو مالك الصباحي ، وعمرو بن زيد الغالبي ، والمسلم بن عباد ، وعبد الملك بن يغنم، وابن أبي الجعد الجماعي ، وأبو الهيذام ، ومحمد بن أحمد القهبي (أبو القهمي) السمسار، وأحمد بن إبراهيم الزعبلي ، وإبراهيم بن عبد الحميد الشمري(1) . كما أخذ عن عالم لم يذكر اسمه وإنما كان يدعوه الأبرهي (2). كذلك أخذ عن آخرين لم يذكر أسماءهم.
فكذلك نرى أنه أخذ أنساب حمير عن طائفة كبيرة من العلماء والنسابين ، وعن مساند حمير وسجل خولان . وكان الهمداني يقرأ المساند ويأخذ منها(3).
أما نهجه في سرد الأنساب فيقوم على ذكر الأب ثم يذكر أبناءه بعده. وهو يجري على الجملة الفعلية فيذكر فعل (أولد) أو (ولد) ويتبعه بالأولاد ، نحو قوله: وأولد سعد بن ناعمة جعشم الخير ، فولد جعشم الخير شرحبيل بن جعشم(4)(22/35)
وقد وضح جانبا من نهجه في نهاية الجزء الثاني من الكتاب فقال :"فمن نظر في هذا الكتاب فليعمل من الأسماء على ما وضعناه في صدره وفي عجزه من النسب وما قيدناه وحصرناه ، إلا ما لم نجد إلى تلافي ما قصر منه سبيلا في نسب خولان وهمدان، ومن الأخبار والسير على ما صححناه ووسمناه في تضاعيف الإكليل بالصحة، إلا ما اختلف فيه ، فقد نبهنا عليه وأشرنا إليه ، أو ما شذ فلم يعرفه إلا الواحد والاثنان من أهل اليمن ، دون الجماعة ، فقد أهملناه ورفضناه".
وكتابه لا يقتصر على الأنساب بل يشتمل إلى ذلك على أخبار وأشعار كثيرة لشعراء عدنانيين ويمنيين ، وتشغل الأشعار في كتابه جيزًا يكاد يوازي نصف الكتاب.
ويشتمل الكتاب كذلك على نظرات نحوية ولغوية وأدبية ، فهو يفرق مثلا بين معنى لفظي الظل والفيء(5) . وفيه تحقيق لبعض الأحداث التاريخية ، من ذلك مثلا إنكاره وقوع حرب بين حمير وقريش(6). وكان ربما خطأ النسابين في سردهم لبعض الأنساب(7) .
وقيمة هذين الجزأين تكمن في أنهما أوسع مصدر للأنساب الحميرية ، وفي اشتمالهما على أشعار وأخبار قد لا نجدها في مصادر أخرى .
* ... * ... *
الجزء الثامن :
مخطوطاته وطبعاته
هذا الجزء كان أوفر حظا من أجزاء الإكليل الأخرى، فقد وصلتنا منه نسخ خطية ومصورات كثيرة موزعة في مكتبات العالم ، أثبت بعضها الأستاذ نبيه فارس محقق هذا الجزء وهي :
1 – أربع نسخ في مكتبة برلين.
2 – ثلاث نسخ في المتحف البريطاني بلندن.
3- نسخة في مكتبة باريس الوطنية .
4 – نسخة في ميلانو .
5 – ثلاث نسخ في مكتبة الفاتيكان .
6 – نسخة في ستراسبورغ .
7 – نسختان في استامبول ، الأولى في مكتبة دار الفنون ، والثانية في مكتبة علي أميري أفندي.
8 – نسخة في مكتبة برنستون.
9 – نسخة مصورة في القاهرة(1)
وذكر الأب أنستاس الكرملي في مقدمة تحقيقه لهذا الجزء أنه اعتمد على نسخة كتبت سنة 549هـ ، وعلى نسخة أخرى اشتراها في الكاظمية (العراق).(22/36)
وقد طبع الجزء الثامن مرتين: أولاهما بتحقيق الأب أنستاس الكرملي ببغداد سنة 1931م. معتمدًا على أربع نسخ خطية ، وقد أخذ الأستاذ فارس على الكرملي أنه أهمل ضبط الأسماء وتعيين الأماكن ولم يذكر المراجع القديمة التي استفاد منها.
والثانية بتحقيق الأستاذ نبيه أمين فارس ، نشرها بجامعة برنستن بالولايات المتحدة ثم نشرتها بدون تاريخ ، مكتبتا درا الكلمة بصنعاء ودار العودة ببيروت ، وطبع في بيروت . وقد اعتمد على أربع نسخ خطية هي :
1 – مخطوطة المتحف البريطاني( 1382 ( or، وقد كتبت في حصن رادع في شهر رمضان سنة 1087هـ/1676م . بيد حسين بن أحمد بن صالح النصير الطاهر.
2 – مخطوطة برلين (1) ( or. 138) ، وقد كتبت في شعبان سنة 1085هـ/ 1674م .
3 – مخطوطة برلين (2) ( or. 382) تاريخ نسخها مجهول.
4 – مخطوطة برنستن ( or. 206) ، كتبت في ذي القعدة سنة 1117هـ/ 1706م بيد محمد بن أحمد بن صالح النصير الطاهر
وكان الأستاذ فيليب حتي قد عثر على هذه المخطوطة سنة 1925 بين مخطوطات مراد بك البارودي في برنستن، فدفعها إلى الأستاذ فارس وكلفه تحقيقها ونشرها بعد معارضتها بطبعة الكرملي ، ففعل ذلك ثم قام بترجمتها إلى الإنكليزية ونشرها بجامعة برنستن عام 1938 .
وقد استظهر الأستاذ فارس ، بعد اطلاعه على مخطوطات هذا الجزء أن أكثرها يرجع إلى أصل واحد ، ويلاحظ أن مخطوطتي المتحف البريطاني وبرنستن كتبهما أخوان هما : حسين ومحمد ابنا أحمد بن صالح .
وقد قام الأستاذ فارس بمقابلة نسخته بنسخة الأب الكرملي وأثبت ما رأى أنه الأصوب.
ومما يلفت النظر أن جميع هذه المخطوطات نسخت في زمن متأخر، باستثناء النسخة التي جعلها الكرملي النسخة الأم فتاريخ نسخها المئة السادسة للهجرة.
وقد نشرت مقتطفات من هذا الجزء، وأول من قام بذلك المستشرق مولر Muller، فقد نشر جانبا منه مستلا من مخطوطة المتحف البريطاني مع ترجمة ألمانية سنة 1879م .(22/37)
ومعولنا في دراسة هذا الجزء على الطبعة التي حققها الأستاذ نبيه أمين فارس.
موضوعاته :
موضوعات هذا الجزء تدور حول قصور اليمن المشهورة ومدنها ومساند حمير والقبوريات والمراثي والوصايا.
بدأ بصنعاء فذكر القصر المشهور فيها وهو قصر غُمدان، فذكر أن الذي بناه هو سام بن نوح ، ووصف القصر ثم تحدث عن صنعاء فذكر موضعها ووصفها وتحدث عن طباع أهلها وعاداتهم وعن جوها وثمارها . وهو يربط بين طباع أهلها وبين طالعها ، فأكثر أهلها يتحلون بطباع الزهرة والمريخ . ثم أورد بعض ما قاله الشعراء في نعتها ، ثم ينسب إلى عثمان بن عفان أنه أخرب قصر غمدان، وذكر ياقوت في معجم البلدان( مادة غمدان) مثل ذلك. والخبر عار عن الصحة، فليس ثمة ما يدعو عثمان إلى هدك هذا القصر الرائع البناء، والصحيح أن الذي هدمه هو أرياط الحبشي لدى استيلائه على بلاد اليمن (1) .
ثم نقض الهمداني ما ذكره أولا من أن سام بن نوح هو الذي بنى قصر غمدان فذكر أن الذي بناه هو إلي شرح يحضب(2) .
ورواية ثالثة في بناء قصر غمدان وهدمه ، فيذكر الهمداني أنه أول قصر بني في اليمن، وأنهم وجدوا فيه حجرا كتب فيه بالمسند : بناه غمدان . وذكر أن الرسول عليه السلام أرسل فروة بن مُسيك ليهدمه فلم يقدر على ذلك حتى أحرقه . وأن ذلك كان عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته حين قام فروة بن مسيك بقتل الأسود العنسي الذي ادعى النبوة ، وكان الأسود معتصما بقصر غمدان ، فقتل الأسود في السنة التي توفى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم(3) . وليس في المصادر التاريخية المعتمدة ما يثبت أن الرسول أمر بهدم هذا القصر .(22/38)
ثم ينتقل الهمداني إلى مدينة ظفار المعروفة بحقل يحضب ، فذكر قصورها: قصر ذي يزن ، وقصر ريدان، وقصر شوحطان، ويذكر ماروي عن محمد بن خالد من أن سليمان بن داود بعث مع بلقيس ملكة سبأ ، وهي ابنة إلي شرح ، شياطين فبنوا لها الحصون . وهذا الخبر لا يحققه الهمداني وأولو التمييز من أهل اليمن. ثم يصف مدينة ظفار وأبوابها وما قيل فيها من الشعر (4) .
وينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن معادن الجزع (5) باليمن وأوصافه ، وينقل عن بطليموس وصفا لموقع ظفار.
ويتحدث بعد ذلك عن إرم ذات العماد ، وأنها في تيه أَبْيَن ، ولكن لم يرها أحد إلا رجل زعم أنه رآها فوصفها لمعاوية. ويذكر الهمداني قولا آخر في موضع إرم وأنها موضع جيرون في دمشق(6) .
ثم يذكر مصنعة (7) ناعط وقصورها. وقد شاهد الهمداني بقايا مآثر
اليمن معد يكرب ، وسبوه ، وغيرها.
ويستمر فى تعداد قصور اليمن حتى يبلغ قصر تلقم بمدينة ريده ، ثم يعرض على مدينة ريدة فيصفها ويذكر أن أكثر سكانها من بكيل بن همدان . ويعود مرة أخرى إلى ذكر قصور اليمن ومدنها ومحافدها، ومنها براقش ومعين . ثم يذكر سدود اليمن : مأرب والخانق وريعان ، ثم كنوز اليمن ودفائنها، ثم الجبال المقدسة فيها(1)
ويفرد بعدئذٍ فصلا لحروف المسند ويرسم صورتها.
والباب الأخير من الكتاب – وهو أكبرها – باب القبوريات ، ويريد بها القبور وما وجد داخلها . وفي سياقها حديث عن موضع قبر هود بالأحقاف. وأكثر ما في هذا الباب مروي عن ابن الكلبي هشام بن محمد . ومن القبور التي يذكرها قبر قضاعة بن مالك بن حمير ، وقد كتب فيه بالمسند : أنا قضاعة بن مالك بن حمير إلخ .. وهذا الخبر يراد منه تأكيد انتساب قضاعة إلى حمير، وهو ظاهر الافتعال.
ويسوق الهمداني أخبارًا ، جُلها عن ابن الكلبي ، تتصل بقبور أخرى غير قبور اليمن، منها قبر طالوت ، وقبر قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل.(22/39)
ثم يفرد بابا لما حفظ من مراثي رجال حمير ووصاياهم، ومنها وصايا لهود ولقحطان بن هود مع إيراد شعر له ، ومرثية لحمير في جده سبأ بن يشجب.
ويعود بعد ذلك إلى القبور فيذكر منها قبر شداد بن عاد الحميري الذي بنىإرم ذات العماد ، وقبر لقمان بن عاد إلى جوار قبر هود ، وقبر الصعب ذي القرنين ويتخلل كلامه عن القبور طائفة من المراثي ، ومنها مرثية للقلمّس بن عمر وأفعى نجران في سليمان بن داود ، ومن القبور قبر بلقيس ، والمالك مالك ناشر النعم ، تلي ذلك طائفة من المراثي والصايا (2) وبهذا يتم الكتاب.
مصادر هذا الجزء وقيمته
أخذ الهمداني ما أورده في هذا الجزء عن جماعة من الأخباريين والرواة منهم محمد بن أحمد القهمي (وقهم بطن من همدان، وعمرو بن إسحاق الحضرمي، وشيخ الهمداني أبو نصر الحنبصي، ومحمد ابن أحمد الأوساني وأبو الغطريف مسلمة ابن يوسف الخيواني، وغيرهم ، كما نقل عن ابن الكلبي أكثر ما أورده في كتابه عن القبوريات ، وكذلك عن وهب بن منبه وعبيد بن شرية، وكذلك أخذ الهمداني بعض ما أورده من كتاب كلوديوس بطليموس.
وقيمة هذا الجزء أنه زودنا بمعارف هامة حول مدن اليمن القديمة وقصورها وآثارها ومساند حمير والقبوريات . ولكن هذا الجزء يشتمل على أساطير وأخبار كثيرة لا سند لها وهي من اختراع الأخباريين أمثال عبيد بن شربَّة، وابن الكلبي ووهب بن منبه ، كما يحتوي أشعار موضوعة افتعلها الرواة على ألسنة الأنبياء والملوك القدامى، كالشعر المنسوب إلى ملوك حمير وقحطان بن هود والصعب ذى القرنين ، وكل هذا لا يصح، وهو مقول بلغة عدنانية لم يعرفها أهل اليمن في عصورهم القديمة، وللهمداني في هذا الجزء شعر كثير يتصل بموضوعات الكتاب وفيه كذلك أشعار كثيرة لعلقمة بن ذي جدن، وفيه شعر كثير منسوب لقس بن ساعدة الإيادي ، ولم يكن قس شاعرًا ولم تكن اليمن موطنه ، ومن هنا ينبغي أن ننظر بحذر شديد في موضوعات هذا الجزء.(22/40)
وقد بذل المحقق ما وسعه من الجهد في تحقيق الكتاب، وأفاد من طبعة الكرملي ، وأكثر حواشيه تتصل باختلاف الروايات التي اعتمدها . على أن تحقيقه وتعليقاته لا تخلو من هنات، من ذلك على سبيل المثال ، تعليقه على قول الهمداني : حدّثني النخعي(1) ، فهو يترجم للنخعي في الهامش فيقول إنه إبراهيم بن يزيد النخعي المتوفى سنة 95هـ ، فكيف يحدث الهمداني وبينهما أكثر من مئتي سنة؟ ويرد اسم محمد بن خالد في رواية بعض الأخبار ، والمحقق يستظهر بلا دليل يقيني أنه محمد بن خالد بن عبد الله القسري، ومنها اختلاف في ضبط بعض الأسماء ففي صفحة 108 يذكر اسم مسلمة بن يوسف الخولاني ثم يذكره مرة أخرى فيجعله سلمة بن يوسف (154)، والصواب مسلمة ، وفهارس الكتاب غير وافية .
* ... * ... *
الجزء العاشر :
مخطوطاته وطبعاته :
توافرت من هذا الجزء عدة نسخ خطية ، منها نسخة المكتبة الوطنية بباريس، ونسخة في برلين ، وأخرى في أوبسالا بالسويد،ونسخة في المتحف البريطاني (1). ووجدت نسخ أخرى في بلاد اليمن .
حقق الكتاب وعلق حواشيه ونشره الأستاذ محب الدين الخطيب وطبعه في المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1368هـ/1948م ، وقد اعتمد في تحقيقه المخطوطات الآتية :
1 – نسخة مصورة في دار الكتب المصرية رقمها 5529، وهي النسخة الأم التي اعتمدها ، وهي ضمن مجموعة يبتدئ الإكليل منها بالصفحة 371، وهي تعود إلى القرن السابع الهجري ، وفيها تعليقات كتب في آخرها : سطره عبد الله المفضل ابن أمير المؤمنين المتوكل على الله ، حامدا مصليا سنة 696هـ . والمتوكل المذكور هنا هو المتوكل الزيدي الإمام العلوي في اليمن ، ولقب المتوكل لقب به طائفة الزيدية في اليمن ، ولعل المذكور هنا هو المطهر بن يحيى المتوفى سنة 697هـ .
2 – نسخة بخط إسماعيل بن أحمد الصديق، فرغ من نسخها سنة 1351هـ.(22/41)
3 – نسخة بخط يد عبد الملك بن أحمد العمري ، وفرغ من نسخها سنة 1357هـ، وهي منقولة عن أصل النسخة السابقة .
4 – نسخة بخط حسين بن أحمد الفائق ، مساعد حافظ المكتبة المتوكلية بجامع صنعاء ، وهي منقولة كذلك عن أصل النسخة الثانية .
ويتضح مما تقدم أن المحقق اعتمد نسخا متأخرة منقولة عن أصل قديم، إلى جانب النسخة الأم.
وقد عني الأستاذ الخطيب عناية فائقة. بتحقيق هذا الجزء ، وأثبت له حواشي لاختلاف الروايات وشرح بعض الألفاظ الغامضة وأسماء المواضع . ويحمد له عدم الإطالة في هذه الحواشي ، وهو الأمر الذي أخذناه على الأستاذ الأكوع . ثم أثبت في آخر الكتاب فهارس وافية لموضوعات الكتاب وأسماء الأعلام والمواضع والقبائل ، وهو ما فات الأستاذ الأكوع. وعلى ما بذل من جهد أخذ عليه الأستاذ الأكوع أنه أسقط في مطبوعته فقرات لا يتم الكلام بدونها ، وأنه ألصق بأبي محمد الهمداني هفوات هو منها براء (1) . وقد وعد بإثبات مآخذه على صنيع الأستاذ الخطيب في آخر الجزء الثاني ، ثم عنّ له تحقيق الجزء العاشر ففعل ونبه على أخطاء الأستاذ الخطيب ، ولم نقف على الجزء العاشر الذي حققه الأستاذ الأكوع . وكذلك نبه الأستاذ حمد الجاسر على ما وقع في هذا الجزء من هنات في ضبط أسماء بعض القبائل وفي بعض ما أورده في حواشيه في مقال له نشر في مجلة مجمع اللغة العربية(2) .
موضوعاته :(22/42)
أورد الهمداني في هذا الجزء أنساب كهلان بن سبأ، إتمام للأنساب القحطانية التي بدأها بأنساب حمير. وقبيلة حمير . وقبيلة كهلان أضخم من قبيلة حمير وبطونها أكثر عددا ، على أن الهمداني لم يتوسع في أنساب القبائل المنحدرة من كهلان، وإنما وقف وقفة مطولة عند نسب قبيلة همدان ، ففصل القول فيها غاية التفصيل ، ويكاد يكون هذا الجزء وقفا على أنسابها وأخبارها وشعرائها . وهمدان تتفرع إلى قبيلتين عظيمتين هما حاشد وبكيل ، وقد بدأ المؤلف بأنساب حاشد ، وهو كعادته يذكر الأنساب تتخللها الأخبار والأشعار . ومن أخباره أنه كان في محفد رئام بيت يحج إليه في الجاهلية وبه آثار عجيبة (3) .
وفي سياقة الأنساب يذكر ملوك همدان ورجالها البارزين ومنهم شراحيل ذو همدان .
وكانت همدان يوم صفين قد انحاز جلها إلى علي بن أبي طالب وانحاز إلى معاوية فريق منها ، وكذلك شأن قبيلتي كندة وحمير ، وكان رأس همدان الذي قاتل مع معاوية حمزة بن مالك(4). ويحدثنا الهمداني في سياقة نسب حاشد بن همدان أنه كان مع معاوية البراء بن وفيد الهمداني ، وكان صديقًا لعمرو بن العاص، فلما كان يوم صفين وسبق معاوية إلى الفرات ومنع أصحاب علي من وروده ، اعترض البراء على صنيع معاوية ، وقام لحاء بينه وبين عمرو بن العاص فقال شعرًا يعرض فيه بهما منه قوله:
لعمرو أبي معاوية بن حرب
... وعمرو ما لأيّهما وفاءُ
فلستُ بتابع دين ابن هند
... طوال الدهر ما أرسى حِراءُ
ثم لحق بعلي فقاتل معه حتى قتل(1) ولم تذكر المصادر التاريخية هذه الحادثة .(22/43)
ثم أورد خبر رجل آخر من همدان هو أبو مُعيد أحمد بن حمرة بن يريم ، من حاشد، وكان من شيعة علي في حرب صِفين ، فلما صير علي راية همدان إلى سعيد بن قيس الهمداني غضب ولحق بمعاوية . ثم ارتحل إلى اليمن ، فلما قدم بُسر بن أرطاة اليمن من قبل معاوية كان معينًا له في بلد همدان ، وقد أوقع بشيعة علي في بلد همدان وصنعاء ، وضرب من الأبناء(2) على المصرع اثنتين وسبعين رقبة ، فسُمي الموضع"المصرع" ، فارتدت الأبناء عن التشيع منذ ذلك اليوم. وهذه الأخبار لا ترد في المصادر التاريخية الأخرى.
ويذكر الهمداني أن من نسل أبي مُعيد محمد بن الضحاك بن العباس بن سعيد بن أبي معيد ، وابنه أبو جعفر محمد بن الضحاك كان سيد همدان في أيام الهمداني، وهو الذي قام بنصرته لما سجن، فمدحه الهمداني بشعره، وقد ذكرنا خبره آنفا.
ومن أخبار بني يأم من حاشد أنهم قتلوا رجلاً جبانًا منهم يقال له أنيت فقيل لبني يأم"قتلة جبانها". ومن بنى غريب بن جُشم بن حاشد بطن حَجور ، ويذكر الهمداني أنه بطن عظيم باليمن والشام والعراق يقارب نصف حاشد.
ومن أشراف حَجور بالشام يحيى بن معيوف الذي دخل على الوليد بن يزيد مع يزيد بن خالد القسري فقتلاه ثأرا بخالد بن عبد الله القسري. وفي الخبر ما يبين أن من أهم أسباب قتل الوليد بن يزيد الثأر لخالد بن عبد الله القسري الذي قتله الوليد (3) . وهذا الخبر يخالف مارواه الطبري في قتل الوليد بن يزيد(4).
ويذكر الهمداني أن معيوف بن يحيى ابن معيوف كان سيد أهل الشام دهره كله، وهو الذي أنقذها رونن الرشيد، وهو يومئذٍ ولي عهد،يوم حصر في أرض الروم، فلما استخلف الرشيد ولاه فلسطين(5) .
ولما فرغ الهمداني من أنساب حاشد ابن همدان انتقل إلى أنساب بكيل بن همدان ، فبدأ بشرح معنى بكيل فقال : معنى بكيل : زعيم ، وتبكلت بالأمر: تزعمت به ، والتبكل : التحشد والتجمع.
وفي سياق نسب بكيل يذكر من قام منهم بحرب خولان.(22/44)
ومن الأخبار التاريخية التي يذكرها في هذا السياق أنه لم يشهد يوم مرج راهط يمانية العراق إلا عياش بن أبي خيثمة وعبد الله بن يزيد ، أبو خالد القسري . ومن الأخبار كذلك خبر أنس بن معقل الهمداني الذي نقص الحجاج بن يوسف عطاءه ، فلحق بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، فلما كان يوم الجماجم جعل يدعو القوم إلى مبارزته ، فلا يبرز له فارس إلا قتله، فسعى الحجاج في استمالته وإرضائه (1) .
ومنها كذلك خبر الدُعام بن إبراهيم ابن عبد الله الأرحبي ، سيد همدان في عصره ، الذي استلب الملك من آل يعفر وملك بلدهم وتأمّر بصنعاء وجبيت له اليمن إلى ساحل عدن . وهو الذي خلع طاعة أبي يعفر لأنه لطمه وقتل محمد بن الضحاك ، فوقعت الحرب بين حاشد وبكيل بسببه . وبعد استيلائه على صنعاء أرسل الخليفة العباسي نجدة إلى أبي يعفر فخرج من صنعاء وحالف الإمام العلوي يحيى بن الحسين وأسلم إليه بلاد همدان(2)
وفي سياق أنساب همدان يذكر الهمداني أسماء بطون همدان التي هاجرت إلى الكوفة .
وحين بلغ الهمداني أنساب أدهم بن قيس بن ربيعة أثبت نسب قومه ، وذكر انتقال جده داود من المراشي إلى الرحبة ثم إلى صنعاء(3) .
وباستيفاء نسب بكيل بن همدان ينتهي هذا الجزء من الإكليل وهو الجزء الأخير .
مصادر هذا الجزء وقيمته :
استمد الهمداني مواد هذا الجزء، شأنه في الأجزاء الأخرى، من أفواه النسابين ، ولاسيما نسابي همدان ، وطائفة من العلماء . وأخذ كذلك من المساند التي كان يجيد قراءتها ، ومن الرجال الذين أخذ عنهم أحمد بن أبي الأغر الشهابي، ومحمد بن أحمد الأوساني الذي أخذ عنه كذلك أنساب حمير ، وكان قارئًا للمساند . ومنهم مسلمة بن يوسف الخواني ، والحسن بن حويت المعمرى ، ومحمد بن عيسى العثاري . وكان يتصل بنسابي بطون همدان ويأخذ عنهم أنسابهم، فأخذ مثلا عن نسابي اللعويين (آل ذي لعوة من بكيل) أنسابهم المسطرة في زبور قديم بخط أحمد بن موسى عالم البون في عصره .(22/45)
وقيمة هذا الجزء فضلا عن تفصيله أنساب قبيلة همدان تفصيلا لا نجده في مصدر آخر ، بيان أسماء بطون همدان ورجالها الذين غادروا اليمن إلى العراق والشام ، وإيراده أخبارا عن رجال همدان وبطونها في هذين القطرين، والأحداث التي مرت بهم ، وهذه الأخبار لا نجدها في المصادر التاريخية الأخرى .
ومما نستفيده من هذا الجزء توجيه الهمداني الاتهام إلى نسابي العراق والشام بأنهم تعمدوا تقصير أنساب كهلان وحمير ليضاهئوا بها عدة الآباء من ولد إسماعيل ، وقد امتنعت عليهم أنساب الهميسع بن حمير لأنها كانت محفوظة في خزائن حمير ، وكذلك أنساب الملوك من ولد عمرو بن همدان ، فأهملوها كي لا تقاس بها أنساب سائر بطون همدان (1)
وفي سياقة أنساب همدان بيان لأسماء شعراء همدان وفقهائها المشهورين، ومنهم الأجدع بن مالك فارس همدان وشاعرها في عصره ، والشاعر المعان بن روق ، ومالك بن حريم شاعر همدان وفارسها وأحد وصاف الخيل المشهورين ، والمجالد ابن ذي مرّان الشاعر وله خبر مع معاوية، وأعشى همدان أشهر شعراء هذه القبيلة واسمه عبد الرحمن بن الحارث ، من حاشد، وكان مقيما بالعراق ، ومن فقهاء همدان البارزين أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل (وقد أخذ عنه البخاري ومسلم وأصحاب الصحاح)، ومسروق بن الأجدع.(22/46)
كذلك نجد في الكتاب ذكرا لملوك همدان وأشرافها وفرسانها المشهورين ، ومنهم زيد بن مرب بن معد يكرب . ويذكر الهمداني أن زيدا وآله كانوا يحملون على الأكف ، وأن حربًا وقعت بين زيد وقومه من جانب وبين قبيلة تغلب وسائر ربيعة وعليها ربيعة بن الحارث ، أبو كليب ومهلهل ، فانتصر زيد عليهم . ومنهم سعيد بن قيس بن زيد الحاشدي ، وكان صاحب همدان بالعراق ومختصا بعلي بن أبي طالب ، وكان أحد الدهاة المشهورين . ومن رؤساء همدان كذلك قيس بن سيّار بن معاوية ، وعبد العزيز بن العباس الذي أبلى بلاء عظيما في قتال الضحاك الحروري ، وأبو خيثمة بن عبد الله الذي أبلى في القتال يوم القادسية وقتل في موقعة مع الخزر ، وأنس بن معقل المرهبي الهمداني ، ومنهم عبد الله بن عياش ، وكان من مسامري المنصور العباسي، وكان له فضل ثني المنصور عن الإيقاع بأهل البصرة لمناصرتهم إبراهيم بن عبد الله. ومن فارس همدان في اليمن مالك بن ملالة بن أرحب سيد همدان في عصره
وفارسها ، وهو الذي تولى حرب خولان وقضاعة اليمن .
ويلقي هذا الجزء بعض الأضواء على حياة الهمداني ، ومن ذلك أنه كانت له دار بحرة نجد وكان له نخل ووطن هناك(1).
والكتاب يحوي أشعارا كثيرة لشعراء همدان وغيرهم . فكذلك نرى أن هذا الجزء مرجع تاريخي وأدبي عظيم الفائدة .
إحسان النص
عضو المجمع المراسل
من سورية(22/47)
بسم الله الرحمن الرحيم
( أ )
1 - الأداء : إنجاز العبادة في وقتها المعين لها شرعا ، ويقابله القضاء .
2- الإباحة : (أنواع الحكم) ما جاز فيه الفعل والترك .
3- الإجازة : (السنة) إذن الراوية عن الشيخ .
4- الأجزاء : كفاية العبادة ، لكونها تم القيام بها على الوجه المطلوب شرعا .
5 –الإجماع : وفاق مجتهدى الأمة على حكم معين بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم .
6- الآحاد : (السنة) : وهم الرواة الذين لم يصل خبرهم إلى التواتر .
7- الإخالة : المناسبة التي يغلب الظن أنها علة الوصف للحكم .
8 – الإدراك : يشمل التصور والتصديق .
9 – الأصل : (القياس) هو الحكم المقيس عليه ، وقيل محله .
وأصول الفقه : هي الأدلة الإجمالية كالكتاب والسنة والإجماع والاستدلال
والقياس ، وكيفية الترجح وشروط الاجتهاد .
10 – الإضمار : تقدير حذف بعض الكلام . مثل قول الإمام = إنما جزاء الذين يحاربون الله ( رأيه : أن يقتلوا "إن قتلوا " ويقابله الاستقلال .
11 – الإعادة : تكرار العبادة لما أوجب فيها القضاء .
12- الإعلام: صفة الأمر قبل الإلزام مثل حكم الصلاة قبل دخول وقتها .
13- إلغاء الفارق: عدم اعتبار الوصف الموجود في نص شرعي لا يناط به الحكم.
14- الإلزام : صفة الأمر الجازم عند وجود شرط الوجوب كإقامة الصلاة في وقتها .
15- الإلهام : ما يتلقاه الأولياء في الرؤيا ونحوها .
16- الإيماء : (مسالك العلة) اقتران الوصف بالحكم ملفوظين ، نحو (فلا تقربوهن حتى يطهرن) الآية. أو لفظ الوصف وحده نحو وأحل الله البيع فصح البيع ولا يحكم القاضي وهو غضبان .
( ب )
17- البدعى : من ينتمي إلى أهل الأهواء، وترد روايته إن كان داعيا لنحلته .
18- البراءة الأصلية : الإباحة قبل بيان الحكم من الشارع ، كالخمر في أول الإسلام.(23/1)
19- البطلان : خالفة ذي الوجهين للشرع وهو مرادف للفساد خلافا لأبي حنيفة الذي يقول إن البطلان هو ما نهى لأصله كصلاة اختلت بعض شروطها أو أركانها.
20 – البيان : توضيح ما أشكل من الأحكام.
( ت )
21- التأسيس : تناول الطلب بتكرير الأمر بشيئين متعاقبين أو مع العطف .
22 – التابعي : (السنة) هو الراوى الذي أخذ عن الصحابة ، والتابعون طبقات.
23- التحمل ( السنة ) حفظ الخبر – ولا تشترط العدالة أوانه ، فالصبى وغير المسلم قد يتحمل خبرًا ثم يؤديه بعد البلوغ أو الإسلام فيقبل .
24- التخريج (الاجتهاد) رتبة من مراتب الاجتهاد .
25- تخريج المناط : استخراج المناسبة التي نيط بها الحكم.
26- التخصيص : قصر العام على بعض أفراده ، اعتمادا على دليل خارجي .
27- الترادف : وهو ما اختلف لفظا واتحد معنى ، كالأسد والليث .
28- التساقط : العودة إلى البراءة الأصلية عند تساوي دليلين ظنيين .
29- التصديق : إدراك الشىء الحكم عليه.
30- التصور : إدراك الشىء دون الحكم عليه.
31- التصويب : القول بأن كل مجتهد مصيب ولو اختلفوا ، والجمهوران المصيب واحد ، لأن الحكم واحد ، ولكن من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر .
32- التطوع : القيام بعبادة غير مأمور بها.
33- التعريض : وهو اللفظ المستعمل في معناه الأصلي ويتضمن إشارة تعرف بالسياق .
34- التقليد : التزام مذهب الغير بلا علم دليله .
35- التكرار : تكرار العبادة والراجح أن الأمر لا يفيدها إلا بقرينة .
36- التكليف : إلزام ما فيه مشقة أو طلب الفعل عموما .
37- التكميلي : هو ما يؤكد الضروري الواجب حفظه كالحد في قليل الخمر .
38- التماثل : تكرار أمر بفعل ما ، مثل صلِّ ركعتين ، صلِّ ركعتين وهو دون أداة العطف تأكيد ومعها تأسيس .
39- تنبيه الخطاب : يساوى مفهوم المخالفة .(23/2)
40- تنقيح المناط : تهذيب مناط الحكم باستبعاد الوصف غير المناسب كإناطاته الكفارة بالإفطار عمدا في حديث الأعرابي الذى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يضرب صدر وينتف شعره ويقول إنه أتى أهله في نهار رمضان .
41- التواتر : تواطؤ من يستحيل عليهم الكذب ، في الخبر .
42- تحقيق المناط : إثبات العلة المتفق عليها في الفرع كقولهم إن النباش سارق لأنه أخذ المسروق خفية من حرز .
(ج )
43- الاجتهاد : استفراغ الفقيه جهده لاستنباط الحكم .
44- الجرح (السنة) ما يقدح في عدالة الراوي .
45- الجلى : وينعت بالقياس المساوى لدلالة الموافقة .
46- الجنس : جنس الحكم مثل الولاية لأنها تشمل النكاح والمال ، وجنس الوصف كالجناية بالقتل والجراح .
47- الجهل : انتفاء العلم بالمقصود .
48- الجواز : مرادف للإباحة .
( ح )
49- الحاجي : هو ما يلحق بالضروري مثل البيع والإجارة .
50- الحتم : يساوي الفرض واللازم .
51- الحرام : ما ألزم الشارع باجتنابه .
52- الحسن : ما اعتبره الشارع لا العقل .
53- الحصر : وهو من أنواع التخصيص ومن أدواته ."إنما" .
54- الحظل : يساوي المنع .
55- الحقيقة : استعمال اللفظ معناه الوضعي وهو الحقيقة اللغوية ، وقد يُنقل اللفظ إلى الحقيقة الشرعية مثل الصلاة والزكاة .
56- الحكم : ما يقرره الشارع من فرض أو تحريم ، أو ندب أو كراهة أو جواز .
57- الحكمة : مقصد الشارع من الحكم ، كقصر الصلاة لتخفيف مشقة السفر ، وإفطار المريض والمسافر .
( خ )
58- الخاص : قصر الحكم على مسألة معينة ، كعناق أبي برده التي أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم أنها لا تجزء غيره .
59- الخبر : النص المتضمن لحكم ما .
60- الخصوص : صفة ما اقتصر على بعض أفراده ، وربما ورد العام المراد به الخصوص نحو إن الناس قد جمعوا لكم .
61- خطاب التكليف : هو ما يقتضي امتثال مضمون الحكم .
62- خطاب الوضع : هو ما يضعه الشارع من شروط وأسباب وموانع للحكم.(23/3)
63- الخفي : يوصف به قياس الشبه .
64- خلاف الأولى : ما استفيد النهى عنه بالأمر بضده .
( د )
65- الدليل : مستند الحكم من الأصول .
66- دليل الخطاب : يساوى تنبيه الخطاب ومفهوم المخالفة .
67- دلالة الوفاق: تساوي مفهوم الموافقة.
68- الدوران : وهو وجودي كوجود الحكم عند الوصف ، وهو الطرد وعدمي كانتفاء الحكم ومع الوصف،وهو العكس.
( ر )
69- الرخصة : حكم غير للسهولة لعذر ، كالقصر في السفر .
70- الرغيبة: تساوي الفضيلة،والمستحب.
( س )
71- السبب : يساوي العلة .
72- السبر والتقسيم : (مسالك العلة) حصر الأوصاف المقترنة بنص الحكم وإبطال ما لا يصلح علة .
73- الاستثناء : منه متصل كالحكم بالنقيض على جنس ما حكمت به أولا ، ومنه منقطع كالحكم على غير جنس المحكوم عليه أولا .
74- الاستحسان : تخصيص العام بالعرف، أو مراعاة الاستصلاح ، ولا يعتبر القول بأنه دليل ينقدح في ذهن المجتهد وتقصر عنه عباراته .
75- سد الذرائع : اجتناب المباح المفضى إلى الوقوع في الحرام .
76- الاستدلال : يشمل الأدلة التي ليست من الكتاب والسنة والاجماع والقياس .
77- الاستصحاب : إبقاء ما كان على ما كان .
78- الاستصلاح:يساوي المصالح المراسلة.
79- الاستقراء : إثبات الحكم للكلي يتتبع حكمه لجهل جزئياته .
80- السماع : (السنة) أخذ الراوي عن الشيخ مشافهه .
81- السنة : (الأحكام) ما واظب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أو أمر به الشارع أمرًا غير فرض ، كالعمرة والوتر، (السنة) قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره . ومنها صفاته الخُلقية والخِلقية ، وليس منها فعله الجبلي .
( ش )
82- الشبه: (القياس) وهو مسالك العلة إن استلزم المناسبة ، وحينئذ يكون قياسه قياس شبه لا قياس علة .(23/4)
83- الاشتقاق : قسم منه يسمى بالاشتقاق الصغير وهو القول بأن لفظا مشتقا مأخوذ من لفظ مشتق منه . كضارب من ضرب .ومنه قسم كبير وهو أصل الحروف مع اختلاف الترتيب مثل الجذب والجبذ .
84- الشرط : ما يلزم عن عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده الوجود .
85- شرط الأداء: وهو التمكن من الفعل.
86- شرط الصحة : هو ما يحصل به الاستعداد للفعل كالطهارة للصلاة .
87- شرط الوجوب : ما يلزمه الإنسان إقامة الفعل بسببه ، من غير أن يكون له فيه تدخل ، مثل دخول وقت الصلاة ، وهلال رمضان .
88- الشرع : هو مصدر أحكام ، ومناط التكليف .
89- الشك : ما يتساوى طرفا اعتقاده ، نفيا أو إثباتا .
90- الشهادة : (السنة) التصريح فيما يؤول إلى المرافعة أو التوثيق .
( ص )
91- الصحابي : (السنة) كل مسلم لقى الرسول ولو مرة واحدة ولو لم يرو عنه.
92- الصحة : استيفاء العبادة شروطها وأركانها اللازمة .
93- الصفة : إحدى عوامل التخصيص ، كاشتراط الإيمان في عتق الكفارة وقد لا يعتبر مفهومها في سائمة الغنم .
( ض )
94- الضرر : هو ما يلحق الإنسان من أذى لا يحتمله ، فتجب إزالته .
95- الضرورة : وهي كل ما يستلزم حفظ النفس ، والدين ، والعقل ، والنسب ، ويضاف لها المال والعِرض .
( ط )
96- الطرد : وجود الحكم مع وجود الوصف ، مع عدم العكس ، وهو من مسالك العلة المختلف في اعتبارها .
( ظ )
97- الظاهر : هو المعنى الراجح في لفظ يحتمل غيره .
98- الظرف : وهو من مفاهيم المخالفة ، في نحو قوله تعالى : "الحج أشهر معلومات"، ونحو قوله "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" .
99- الظن : ما رجح اعتقاده دون الوصول إلى اليقين .
( ع )
100- العام : اللفظ الذي يستغرق مدلوله جميع أفراد ما صلح له ، ومن صيغه العدد، مثل ثلاثة أيام وكل وجميع في سياق النفي وما بعد الذي وفروعه ، وأدوات الشرط والاستفهام ، والمعرف بأل والنكرة في سياق النبي .
101- العبادة : كل عمل طاعة وقربة .(23/5)
102- العدالة : صفة من تقبل خبره مفردا في الرواية ، ومنع غيره في الشهادة .
103- العدد : معتبر في مفاهيم المخالفة .
104- عدم التأثير : من القوادح .
105- العُرف : عادة حسنة التي يقرها الشرع .
106- العزيمة : ضد الرخصة .
107- العكس :
108- العلة : الوصف المعروف للحكم ، وبعضهم يجعلها مرادفة للسبب .
109- العلم :
( غ )
110- الغاية : وهي من مفاهيم المخالفة، في نحو قوله تعالى"حتى تنكح زوجا غيره"، فإن نكحت جاز زواجها من الأول .
111- الغريب : الوصف المناسب الذي لا يعتبر لأن الشارع ألغاه ، كإلزام الغير بكفارة تتابع الصوم بدلا من الإفطار .
112- الفتوى : بيان الحكم الشرعي من طرف المجتهد .
113- فحوى الخطاب : يساوي مفهوم الموافقة ، مثل تحريم ضرب الوالدين ، للنهي عن قول : أفٍ لهما .
114- الفرض : يساوي الحتم ، واللازم ، والواجب ، ويفرق أبو حنيفة بين الفرض والواجب ، فالفرض عنده ما أمر به بنص قطعي الدلالة على سبيل الإلزام .
115- الفرع : وهو الحكم الشرعي المتعلق بصفة الفعل،كقولنا إن الوتر سنة مؤكدة.
116- الفرق : من القوادح الفرق بين الأصل والفرع بإبداء وصف مختص بالأصل غير موجود في الفرع .
117- الفساد : يساوي البطلان إلا عند أبي حنيفة الذي قال إن الفساد ما نهي عنه كالإسكار في الخمر .
118- فساد الاعتبار : وهو من القوادح في العلة كقول الحنفية: إن الرجل لا يجوز غسله لزوجته بعد وفاتها لأنها أصبحت كالأجنبية عليه ، ولكنه مردود بغسل الإمام علي بن أبي طالب لزوجته فاطمة الزهراء .
119- فساد الوضع : وهو من القوادح ، كأن يحيد التحليل عن السنن القويم كاستنباط الحكم من نقيضه كمن يقول القتل عمدا جناية عظيمة لا تجب فيها الكفارة .
120- الفضيلة : تساوي المندوب والمستحب.
121- الفقه : هو العلم بالأحكام الشرعية المكتسبة من أدلتها التفصيلية .
122- الفور : المبادرة إلى إنجاز ما به أمر المكلف .(23/6)
123- القبيح : ما نهى منه الشارع .
124- القدح : (السنة) التجريح . (القياس) عدم سلامة علة الحكم .
125- القطع : الدليل اليقيني ويقالبه الظني.
126- القضاء : إعادة العبادة .
127- القلب : من القوادح ، وهو إثبات نقيض الحكم بنفس العلة : كقول الشافعي في بيع الفضولي : عقد في حق الغير بلا ولاية عله فلا يصبح قياسا على شراء الفضولي فلا يصح لمن سماه ، فنقول المعترض عقد فيصح كشراء الفضولي فإنه يصح لمن سماه إذا رضى ذلك المسمى له.
128- القول بالموجب : وهو تسليم الدليل على وجه العموم مع إنكار المعترض أن الدليل المسلم لا ينطبق على صورة الخلاف.
129- القوادح : مجموعة من الأوصاف تؤثر في سلامة العلة ، وقد نظمها أحدهم في بيتين هما :
نقض ، فكسر ، ثم فقد الانعكاس
... ففقد تأثير فقلب التباس
فالقلب ، فالفرق ، فسادين أرى
... فالمنع فالتقبيح إحدى عشرا
130- القياس : حمل معلوم الوصف والحكم على معلوم الوصف مجهول الحكم لعلة جامعة والمقيس عليه هو الأصل ، والمقيس هو الفرع .
( ك )
131- الكسر : من القوادح ، وهو تخلف الحكم عن الحكمة ، مثل عدم المشقة في السفر .
132- الكفاية : يساوي الأجزاء في العبادة، وعليها يترتب القبول .
133- كل : من أدوات العموم ويساوي مجموع الأفراد المعنيين .
134- الكلية : مدلول العام .
135- الكتابة : اللفظ المستعمل في معنى لازم ما وضع له ، مثل طويل النجاد عبارة عن طول القامة .
( ل )
136- اللازم : يساوي الحكم والواجب .
137- لحن الخطاب : المساوى من المفاهيم كإتلاف أموال اليتامى .
138- اللقب : مفهومه غير معتبر .
( م )
139- المؤول : الظاهر الذى حمل على المعنى المرجوح لقرينة .
140- المتشابه : ما استأثر الله بمعرفته ، وقيل بإمكان الراسخين فى العلم بالاطلاع عليه .
141- المجتهد : الفقيه الذى توافرت فيه شروط الاستنباط والقياس . وقد يكون مجتهدا مطلقا مثل أية المذاهب ، وقد يكون مجتهدا فى مذهب إمامه .(23/7)
142- المجمل : ما خفيت دلالته .
143- المجاز : وهو اللفظ الذي قصد به لازمه لقرينة .
144- المحكم : ما اتضحت دلالته ، ولم ينسخ حكمه .
145- المحل : (القياس) محل الحكم قد يعتبر الأصل الذي يقاس عليه .
146- المذهب : مجموعة الأصول والقواعد التي يبني عليها المجتهد آراءه وأحكامه .
147- مراعاة الخلاف : اعتبار أقوال الفقيه المختلفة فى قضية واحدة ، وهو من مبررات العمل بالعمل .
148- مسالك العلة : النصوص والايماءات والأوصاف التي تستدل بها على علة الحكم.
149- المستفيض : الحديث المشهور الذي لم يبلغ درجة التواتر .
150- المستحب : يساوي الفضيلة .
151- المشترك : ما اتحد واختلف في مدلوله ، مثل القرء .
152- المشقة : ما ثقل تحمله على الإنسان من أذى يبيح له الترخص كالسفر والمرض المبيحان للفطر في رمضان .
153-المصلحة : ما جلب منفعة لا تعارض الشرع.
154- المطلق : وهو ما صدق على كل واحد من أفراد جنسه مثل النكرة .
155- المعارضة : (من القوادح) إقامة الدليل على خلاف ما بنى الخصم عليه دليله .
156- المعرَّب : هو ما استعملته العرب من لغة غيرهم .
157- المعنى : وهو عند الشافعي يشبه علة الحكم .
158- المفتي : هو مجتهد المذهب الذى يحق به أن يقر الحكم بناء على أصول مذهب إمامه .
159- المقاصد : وهو كل ما تريد الشريعة تحقيقه مثل حفظ النفس ، والدين ، والعقل، والمال ، والنسب ، والعرض، وما يلحق بها من حاجى وتكميلى .
160- المقيد : هو ما زاد على مدلوله معنى إضافيا . نحو : فتحرير رقبة مؤمنة .
161- المكروه : ما نهى عنه الشارع من غير إلزام .
162- المناسبة : من مسالك العلة ، وهي كون الوصف مما يجلب مصلحة ، أو يدرأ مفسدة .
163- المناولة : (السنة) وهي أنواع الإجازة ، كأن يناول الشيخ كتابه ، ويجيز روايته عنه .
164- المندوب : ما أمر به الشارع من غير إلزام .(23/8)
165- المنع : (من القوادح) وهو عدم تسليم وجود العلة في الفرع ، كأن يقال في شهود الزور إذا تسببوا في قتل إنسان إن عليهم القصاص ، قياسا على المكرِه غيره ، فيقول المعترض العلة في الأصل الإكراه ، وفي الفرع الشهادة .
( ن )
166- النسخ : رفع حكم سابق ، بمحكم القرآن أو بالسنة .
167- النسيان : ذهاب ما علم .
168- النص : الحكم الواضح الدلالة ، بحث لا يقبل التأويل ، مثل آية صيام التمتع.
169- النظر : البحث عن دليل الحكم .
170- النقض : وهو من القوادح ، وهو تخلف الوصف عن الحكم .
171- النقل : صرف مدلول اللفظ من الوضعي إلى الاصطلاحي . وهو من أسباب الخلاف ، إذ يقول الحنفي في قوله تعالى:وحرم الربا : إن الممنوع "أخذ الربا" فإذا أسقط المزيد صح البيع وارتفع الإثم .
ويقول غيره، نقل لفظ الربا شرعا إلى العقد نفسه ، فهو فاسد ومحل إثم.
172- النكرة : هي من العموم إذا كانت في سياق النفي، وإلا فهي من قبيل المطلق.
173- النهي : هو اقتضاء طلب الكف عن الفعل .
174- النوع : في مباحث الصلة ، يطلق على الوصف الخاص بالأصل أو الفرع.
( و )
175- الواجب : يساوي الفرض خلافا للحنفية ، وقد توصف به السنة المؤكدة كالعمرة والوتر .
176- الوجادة : الرواية بما وجد مكتوبا ، واختلف في اعتبارها .
177- الوقف: عدم إصدار الحكم عند تكافؤ الأدلة .
محمد المختار ولد إبّاه
عضو المجمع المراسل
من موريتانيا(23/9)
هذا كتاب من الكتب القليلة التي تعنى بتدوين أسماء البلدان وتحقيق مواقعها، وتتبع تاريخها ، وهو يأخذ مكانه إلى جانب نظائره الهامة ، التى لا تتكرر إلا فى فترات متباعدة ، تحسب بالقرون أو على الأقل بعشرات السنين ، مثل البلدان لليعقوبى ( ت 280 هـ ) ، وياقوت الحموى ( ت 626 هـ ) والبيان والإعراب للمقريزى ( ت 845هـ ) والتحفة السنية لابن الجيعان(ت885هـ) والخطط التوفيقية لعلى مبارك (ت1311هـ ) ولذلك يعتبر هذا الكتاب صورة للعمران المصرى ، فى وقت معين ، تضاف إلى صور العمران المصرى فى أوقات سابقة ، صورة تلخص صورًا سابقة أو تجلوها وتشرحها أو تكمل ما سبقها من صور ، وهو وثيقة مهمة من وثائق وصف مصر ، فى العصر الحديث ،
سجلت أشكال العمران المصرى ، من قرى قديمة وحديثة ، مندرسة وباقية ، صغيرة وكبيرة ، وبلدان ومدن ، هذه الوثيقة النفيسة ذات قيمة كبرى لدارس جغرافية مصر وتاريخها ، المتبع لتطور عمرانها .
المؤلف ومنهجه :
ولد المؤلف محمد رمزى فى مدينة المنصورة يوم 17 من أكتوبر عام 1871. وكان أبوه عثمان بك رمزى ، من رجال الخديو ، وجده مصطفى أغا كسكة من رجال المدفعية الأتراك الذين عملوا مع سليمان باشا الفرنساوى فى تنظيم الجيش المصرى وتحديثه فى عهد محمد على .
وقد تلقى تعليمه فى المدارس الأميرية بالمنصورة والقاهرة . والتحق بمدرسة الحقوق الخديوية ، ولكنه لم يكمل دراسته بها ، والتحق بوزارة المالية بوظيفة كتابية
صغيرة ، ثم نقل إلى وزارة الداخلية بوظيفة معاون إدارة وظل يتنقل بين أسوان وأسيوط وميت غمر ومنيا القمح .
وعاد إلى وزارة المالية مرة أخرى ، وعمل فى لجان ربط الضرائب عام 1905 ورقى إلى وكيل مفتش مالية بمراقبة الأموال المقررة، وظل يعمل فى هذا المجال وتجول فى مديريات جرجا وأسيوط والمنيا وبنى سويف ، حتى أحيل إلى المعاش عام 1931 وتوفى عام 1945 .(24/1)
ويبدو من تاريخ حياة المؤلف أنه لم يكن مؤهلا إلا لكي يكون موظفًا إداريا فى الحكومة ، ولكن شيئًا مّا تحرك فى عقله ووجدانه ، وجعله لا يقنع بربط الضرائب على الأطيان ، أو بمعاينة الحياض والتحقق من المساحات ، أو قيد أسماء القرى والبلدان ، بل إنه بحسه المكانى والزمانى ، ذهب إلى أبعد من هذا وضرب فى أغوار التاريخ ، بحثًا عن أصول القرى والبلدان ، أصولها التاريخية وأصولها المكانية ، وقد اهتدى بحسه الجغرافى التاريخى ، إلى مبادئ مهمة توصل إليها علماء الآثار والجغرافيا التاريخية، فهذه أرض مصر ، توالت عليها العصور والحضارات فترسبت فيها سماتها طبقة بعد طبقة ، على مدى آلاف الأعوام ، طبقات التاريخ الفرعونى، ثم التاريخ الإغريقي الرومانى ثم التاريخ البيزنطى أو القبطى ثم التاريخ العربى الإسلامى ، وتركزت السمات الحضارية المتعاقبة فى أسماء المحلات العمرانية ، فهى علامة الوجود الإنسانى فى سطح الأرض ، وهذه العلامة تحمل الطابع الحضارى لفترات التاريخ المتعاقبة .(24/2)
وعندما يحاول الباحث أن يبحث فى أصول أسماء القرى والبلدان فإنما هو ينقب فى طبقات التاريخ ، كما ينقب الجيولوجى فى طبقات الأرض ، أى أنه ينقب فى البعد الثالث وهو البعد الزمني، ومن ثم لا تنفصل عنده الجغرافيا عن التاريخ ، الجغرافيا هى المكان ، ولكن لا وجود لمكان دون زمان ، والزمان يضع سماته أو بصماته على المكان ، وهى سمات حضارية ، تتمثل فى اختيار المواقع ، وإكسابها أهمية خاصة ، اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية ، ويتغير الزمان ، وتتغير الحضارات ، وتترك كل حضارة سماتها على المكان ، سمة بعد سمة ، وقد تتغير السمات ، كما قد تندثر ، وتزول أو قد تترك سماتها على حوض زراعى أو حقل.وهكذا يحدث التغير والتحول ، وقد يدق هذا التغير على العين فلا تلحظه فتندثر قرية من القرى ، بل مدينة من المدن ، ولكن اسمها يظل عالقًا بمكان ما ، أطلق عليه المؤلف وبعض المؤرخين اسم غيط بلا حيط، أى اسم قرية ذهبت ولم تترك حائطًا ، وأطلق اسماً على الأرض فقط ، أى على الغيط .
ولابد أن المؤلف كان ذا ثقافة تاريخية واسعة وكان لديه حس خاص بالمكان ، أى كان جغرافيا تاريخيا ، وإن لم يتبوأ مركزا أكاديميا معينًا، وكان يسمى وظيفته " الوظيفة الصامته " ، يحمل فى حقيبته خطط المقريزى وخطط على باشا مبارك ، يسترشد بهما فى تنقلاته فى الريف لتحقيق تاريخ البلاد المصرية وأسماء مواقعها ، وبذلك جمع بين الدراسة والبحث والتحقيق العلمى ، وبين الدراسة الحقلية ، وبذلك أكسب دراساته مصداقية نادرة .(24/3)
كما أنه أوغل فى مؤلفات إميلينو (جغرافية مصر فى العصر القبطى ، باريس 1893) وهنرى جويتيه ( قاموس الأسماء الجغرافية فى النصوص الهيروغليفية ، القاهرة 1925 ) وقيت ( مصر العربية، باريس 1937 ) وأبو صالح الأرمنى (الكنائس والأديرة المصرية ، اكسفورد 1895) ، وقادته أبحاثه إلى استقصاء أسماء المحلات العمرانية فى وظائفها المختلفة ، ما كتب عنها باللغة المصرية القديمة ، أو السريانية ، أو القبطية ، أو الإغريقية ، أو اللاتينية ، وقادته أيضا إلى دراسة التاريخ المصرى القديم ، غير أنه كان أكثر اهتمامًا بالتاريخ العربى الإسلامى ، فقرأ ما كتبه الرحالة المسلمون ، وما سجلته كتب الجغرافيين المسلمين ، مثل المقدسى وابن رسته من علماء القرن الرابع الهجرى ، المسالك والممالك لابن حوقل، والمسالك والممالك لابن خرداذبة ، والمسالك والممالك لابن مصعب البكرى، واهتم بصفة خاصة بقوانين الدواوين لابن مماتى ( ت 606 هـ ) ومعجم البلدان لياقوت الحموى ، وقرأ بعناية النجوم الزاهرة لابن تغرى بردى ( ت 874هـ ) وبدائع الزهور لابن إياس ( ت 930هـ ) وتاج العروس لمرتضى الزبيدى ( ت 1205 ) .
وقد ظل فى وظيفته بوزارة المالية ما يقرب من ثلاثين عاما ، وتغلغل فى القرى والنواحى منقبا محققا لما قرأ فى تلك الكتب حتى عرف أصولها أو كاد، وصار الحجة الكبرى بين الإخصائيين فى هذا الشأن، وعكف بعد بلوغه الستين على إظهار تلك التحقيقات فى شكل كتب واستدراكات ، وكان يحقق الأسماء الجغرافية على الخرائط ويزيد على جزازاته القديمة كل جديد .(24/4)
وعكف بعد إحالته إلى المعاش على كتابة التحقيقات الجغرافية لكتب تاريخ مصر فى العصر المملوكى ، مثل النجوم الزاهرة ، ونقل كتاب تحفة الإرشاد من مكتبة الأزهر ، بعد أن تبين له أنه يحتوى على أسماء البلاد المصرية ، التى وررت فى الروك الحسامى الذى عمل سنة 697هـ وتتبع هذا الكتاب عام 1933 حتى وجد نسخة مخطوطة له فى المعهد العلمى بدمياط ، وفى عام 1933 أيضا فكر فى إعادة طبع التحفة السنية لابن الجيعان ، وذلك لتصبح النسخة المطبوعة فى مصر سنة1898 لحساب دار الكتب المصرية ، والتعليق على أسماء القرى والمدن وما طرأ عليها من تحريف ولإظهار القرى الباقية والقرى المندرسة منها .
ويحتل كتاب التحفة السنية لابن الجيعان مكانا خاصا فى مكتبة محمد رمزى الجغرافية التاريخية ، فهو يقول عنه " وقد اتخذت كتاب ابن الجيعان أساسًا لأبحاثى ووثيقة رسمية بين ما ظهر قبله من الكتب التى من نوعه فى السنين السابقة على سنة 883هـ التى توافق سنة 1477 وبين ما ظهر منها بعد هذا التاريخ ، وبذلك أمكننى أن أعرف البلاد التى درست من الروك الحسامى ، والبلاد التى استجدت فى الروك الناصرى، ثم ما عرفته فيما بعد من دار المحفوظات بالقلعة والحجج بوزارة الأوقاف والمحاكم الشرعية، مما استجد وما اندثر من القرى المصرية فى عهد كتاب التحفة إلى اليوم .
وظل يكتب التعليقات الأثرية والجغرافية لكتاب النجوم الزاهرة ، الذى كانت تنشره دار الكتب المصرية ، من الجزء الرابع حتى الجزء التاسع ، أى من سنة 1933 إلى سنة 1945 ، وقد ظلت دار الكتب تنشر تعليقاته التى خلفها على هذا الكتاب إلى آخر الجزء الحادى عشر أى إلى سنة 1951 .
وقد نشر المعهد الفرنسى للآثار الشرقية بالقاهرة استدراكه على كتاب جغرافية مصر فى عهد القبط للمسيو إميلينو فى الجزء الثالث من كتاب ماسبيرو ، وذلك من ص 274 إلى ص 321 .(24/5)
وفى عام 1941 وضع " الدليل الجغرافى " لأسماء المدن والنواحى المصرية المعتبرة وحدة عقارية لحصر الأراضى وتحصيل الأموال المقررة ، وقدمه لمصلحة المساحة فطبعته على نفقتها ، ويستفاد من الصفحة ومن مقدمة الكتاب أنه من وضعه .
وكان رحمه الله دائم الاتصال بالعلماء ورجال الآثار المهتمين بتاريخ مصر وآثارها ، فتعرف على المرحوم الدكتور عزيز سوريال ، الذى أطلعه على نسخ مخطوطة مصورة بالفتوغرافيا فى مكتبات أوروبا ، من كتاب ابن مماتى فوجد فى الباب الثالث من هذا الكتاب ضالته المنشودة ، وهى أسماء جميع النواحى المصرية التى كانت وحدة مالية فى ذلك الوقت وراجع هذه النسخ التى كتبت قبل قرون من كتابه – قوانين ابن مماتى، ووجد أن جميع أسماء القرى قد وردت فى كتاب تحفة الإرشاد إلا القليل مما سقط سهوا وعددها 56 ناحية .
ولم يشغله هذا البحث المستمر فى أسماء القرى والنواحى فى أنحاء مصر المختلفة عن القيام بنبذة عن الوصف الطبوغرافى بالعباسية ، أو تلك التى تتوسطها المدرسة الإبراهيمية الثانوية ، ومدرسة بنبا قادن الثانوية ، أو تاريخ شبرا وروض الفرج وتحولات مجرى النيل فى منطقة القاهرة ، ومكان فم الخليج المصرى عند فتح العرب لمصر ، أى دراسة ميكروطوبغرافية لبعض المواضع .
وقد سبق له أن نشر عام 1925 مذكرة ببعض الأخطاء التى وقعت فيها مصلحة التنظيم فى تسمية الشوارع والطرق بمدينة القاهرة وضواحيها قدمها لوزير الأشغال حينئذ .
وله أبحاث عديدة لم تنشر ، عن التقسيم الإدارى لمصر فى عهد الفراعنة إلى اليوم ، وتاريخ مساجد القاهرة ، وشرح الخطط المقريزية والتعليق عليها والتعليق على أطلس مصر لعمر طوسون ، واستدراكات على ما كتبه جونييه وجون بول واميلينو وقيت .(24/6)
وكان رحمه الله ، بحكم خبرته العملية ودرايته العلمية واطلاعه الواسع عضوا فى المجلس الأعلى لحفظ الآثار العربية ، وعضوا فى لجنة تسمية شوارع القاهرة ، وعضوا فى لجنة التقسيم الإدارى ، وعضوا بمجلس حسبى مصر الاستثنافى .
وكان دائم العمل فى جزازاته التاريخية الجغرافية والتى بلغت نحو عشرة آلاف جزازة ، يراجعها باستمرار ، ويعدل فيها حتى آذنت شمس حياته بالغروب فى فبراير سنة 1945 .
الكتاب
ينقسم كتاب القاموس الجغرافى للبلاد المصرية إلى قسمين : القسم الأول عن البلاد المندرسة ويقع فى 478 صفحة من القطع الكبير ، والقسم الثانى عن البلاد الحالية ويقع فى أربعة أجزاء ، مضافا إليها مجلد يشتمل على فهرس عام لأسماء القرى والبلاد والمدن ، ويتضمن نحو 14080 اسما بينما كان عدد القرى والبلدان يزيد قليلا على ألفى قرية فى أى عصر من العصور .
القرية هى عماد العمران المصرى ، كما أن الزراعة هى عماد الاقتصاد المصرى ، وقد نشأت القرية نتيجة نشأة الزراعة نفسها فى حوض نهر النيل الأدنى ودلتيه وهى أحد المحاور الرئيسية التى يدور حولها الكتاب ، ويرتبط بالقرية الحياض الزراعية ، ومن ثم كان أحد محاور الكتاب الرئيسية هى مساحة الأرض وفك الزمام أو التأريع أو الروك ، وكلها مصطلحات للعمل المساحى للأرض ، ويتصل بها وحدة القياس المستخدمة كالقصبة والفدان، أما المحور الثالث فهو نظام الحيازة ، وأخيرا يأتى المحور الرابع وهو التقسيم الإدارى للبلاد .(24/7)
وقد نشأت القرية نتيجة استقرار الإنسان فى الأرض وبدء استخدامها فى إنتاج الطعام ، وهذا تطور حضارى كبير لابد وأنه استغرق ردحًا من الزمن. وكانت مصر من أوائل بقاع الأرض التى حدث فيها هذا التطور الخطير ، وشاركها فى هذا إقليم ما بين النهرين:العراق الأدنى، وحوض نهر السند وحوض نهر هوانج هو في الصين ، وحدث هذا التطور عندما قلت الأمطار التى كانت تهطل فى العروض الوسطى فوق ما أصبح فيما بعد يعرف بالنطاق الصحراوى الكبير ، الممتد من المحيط الأطلنطى حتى تخوم الصين ، عبر الصحراء الكبرى وشبه جزيرة العرب وإيران . وفي أثناء الفترات المطيرة كان الإنسان يعيش على جمع الثمار والتقاطها وعلى صيد الحيوان، وكان الإنسان يمر بدور حضارى طويل يسمى العصر الحجرى القديم وقد امتد هذا الدور نحو 500.000 سنة .
عندما حل الجفاف محل المطر فى هذا النطاق العريض ( من 15 إلى 30 شمالا ) اضطر الإنسان إلى الالتجاء إلى الواحات والعيون ، حيث يجرى الماء أو ينبثق طوال العام. وكان وادى النيل الأدنى ودلتاه خير ملجأ يأوى الجماعات البشرية ويجتذبها من الصحارى التى تحيط به،وتضافرت ظروف نباتية أخرى ، إلى جانب الظروف المناخية فى أن يهتدى الإنسان إلى معرفة الزراعة ، فنشأت مجتمعات زراعية على طول وادى النيل الأدنى بمصر فى تاريخ يقدر بالألف العاشرة إلى الألف السابعة قبل الميلاد. وبذلك دخل الإنسان فى مصر فى العصر الحجري الحديث ، وحقق أول ثورة إنتاجية فى تاريخ البشرية ، إذ تحول من مجرد مستهلك لما تقدمه له الطبيعة من طعام ، إلى منتج له، واستطاع أن يؤمن طعامه ، بعد أن كان يعيش تحت رحمة الطبيعة . والزراعة معناها أيضًا انتقاء أنواع معينة من المملكة النباتية ، يضع بذورها فى الأرض ويعتنى بها، كما أن استئناس الحيوان يعنى انتقاء أنواع معينة من المملكة الحيوانية يربيها ويعنى بها، وقد سارت الزراعة وتربية الحيوان أو رعيه جنبًا إلى جنب .(24/8)
وقد أظهر البحث الأثرى فى مصر فى عصر ما قبل التاريخ ، أن هناك عديدًا من القرى نشأت على ضفاف النيل من "مرمدة بنى سلامة "جنوبيّ محافظة البحيرة شمالا إلى شماليّ أسوان جنوبًا ،وذلك فى عهد سبق قيام الأسرات ، فيما يعرف بعصر ما قبل الأسرات ، ويقدر تاريخه بنحو 4500 سنة قبل الميلاد إلى نحو 200 قبل الميلاد ، وقد تمت فى هذا العصر إنجازات مهمة لها أبلغ الأثر فى وضع أسس العمران البشرى فى مصر ، منها تطهير وادي النيل الأدنى من النباتات الضارة والحيوانات المفترسة ، وتجفيف المستنقعات أى تهيئة الوادي للزراعة ، وإنشاء القرى وبنائها فوق أكوام صناعية تعلو فوق مستوى الفيضان ، وإقامة ضفاف وادي النيل أو ما يسمى الآن بجسور النيل ، لحماية الأرض الزراعية من طغيان الماء عليها ، وتقسيم الحياض وإنشاء أول نظام رى ربما فى العالم ، ولا تزال الجسور قائمة، ولا تزال المدن والقرى القديمة قائمة فوق التلال الصناعية،ولا يزال يحيط بها طريق دائري يسمى دائر الناحية ، ولا تزال قرى متكتلة تتكأكأ فيها حوائط البيوت ، ولم تتحرر القرى القديمة من تخطيطها القديم إلا بتقدم مشاريع الري الدائم ، وأخيرا وليس آخرا اكتشف مصريو ما قبل الأسرات التقويم الشمسي، حيث لاحظوا وصول بشائر مياه الفيضان مع شروق الشمس ووجود نجم الشعري اليمانية فى وقت واحد ، وعندما تتكرر هذه الظاهرات الطبيعية يكون قد مر حول كامل . وهناك دلائل على بزوغ أصول الكتابة ، فى هذا العصر الذى مهد لوحدة البلاد ، والذي عرف بعصر الأسرات ، وبدء التاريخ المصري .(24/9)
القرية هي أساس العمران المصري ، وقامت القرى فى العصور المتعاقبة على أسس قرى عصر ما قبل الأسرات فى الأعم الأغلب ، وتغيرت أسماء كثير من القرى أو حُرف أو انتقل إلى حوض زراعى فى حالة اندثارها ، وعندما دخل العرب مصر حشدوا جيشا عرمرمًا من المترجمين القبط واليونان، لحصر أسماء القرى المصرية.هذا الجيش أبقى على أسماء القرى بحالها أو حرفه قليلا ليصل إلى سمع العربى ، أو ترجم بما قارب فى اللفظ الكلمة العربية، وهذا على عكس ما فعله الإغريق عندما حكموا مصر ( عصر البطالمة ) ، فقد وضعوا لقراها ومدنها أسماء يونانية ، وإن كانوا أيضا ترجموا أسماء الآلهة بما يقابلها فى اليونانية ، ولحسن الحظ لم تنل هذه الأسماء اليونانية حظا من الشيوع لدى المصريين ، وعاد المصريون بعد زوال الحكم البيزنطي إلى أسماء قراهم ومدنهم القديمة ، وبذلك بقيت أسماء المدن المصرية وقراها المصرية حتى الفتح العربى .
غير أن الحكم البطلمى أنشأ عددا من المدن والقرى اليونانية فى الدلتا والصعيد ، أشهرها العاصمة نفسها ، الإسكندرية ، كانت بمثابة مستعمرات يونانية ، تسود فيها القوانين والأعراف اليونانية ، وكان يحرم عند إنشائها إقامة المصريين فيها .
ويسبق أسماء بعض القرى كلمة كفر، وهى كلمة سريانية تعنى قرية ، أما العرب فيسمونها كورة ، وقد شاع استعمال ميت وتعنى ميناء، وتطلق على القرى التى تطل على النهر أو الترع الكبيرة وبها مراسي للسفن ، كما تعنى كلمة بولاق ميناء أيضا ، كما شاع استخدام كلمة نجع أو نزلة بمنازل العربان ، وذلك فى العصر العثماني. أما كلمة أبعادية فقد استجدت فى عصر محمد على ، وكانت تطلق على الأراضى المستصلحة التى كان يقطعها محمد على لرجاله ، وكانت تبعد عن مراكز العمران، وقد استبدل بها كلمة عزبة، أما ما يستجد من مظاهر العمران فتسمى منشأة أو منشاة أو منشية .(24/10)
كانت أرض مصر منذ الفتح العربى إلى عصر محمد على أرضا خراجية ، أى ملكا صريحا لبيت المال أو السلطان أو الحكومة القائمة ، وكان الملتزمون أو المقطعون ( الذين تقطع لهم أراضى ) يدفعون ما عليها من المال خراجًا سنويا ، ما عدا الوقف والرزق والكروم والبساتين فكانت معفاة من الخراج نوعا ما،ولم يكن للملتزمين أو المقطعين حق الملك بأي حال من الأحوال ، ولما تولى محمد على أبطل الإقطاع والالتزام سنة 1228 هـ – 1813م ووزع أرض كل ناحية على أهلها، وقيد أطيان كل ناحية بأسماء واضعي اليد عليها ، لدفع الضريبة العقارية دون التملك أو التصرف فيها، وسميت هذه الأراضي بالأراضي البور لاستصلاحها ، على أن يربط على المستصلح منها العشر من غلتها ، وهذه سميت بالأراضي العشورية .
وقد استمرت الأرض الخراجية ملكا صريحًا للدولة حتى أواخر عصر إسماعيل عندما أصدر قانون المقابلة 1288 هـ – 1871م عندها سمح لواضع اليد بالتملك بعد أن يدفع أموال الأراضي الخراجية والعشورية ست سنوات، وبذلك أجاز إسماعيل ما لم يكن جائزا منذ الفتح العربى.
ومساحة الأرض الزراعية فى مصر ضرورية لتقدير الضرائب عليها ، وهى المورد الرئيسي للخزانة العامة ، وكانت الأرض تقدر مساحتها حينًا بعد آخر وتلك العادة كان معمولا بها قبل الفتح العربى ، وظلت بعده حتى الآن. كما تقدر مساحة الأراضى الزراعية بقدر درجة خصوبتها ، وكان هناك ما يشبه العقد بين الفلاح والحاكم، فعندما يحين وقت فيضان النيل يجتمع العلماء والوجهاء وأرباب الحرف ، فيما يمكن أن نعتبرهم ممثلين للشعب ، عند مقياس النيل بالروضة ، ويشهدون مقدار ارتفاع مياه الفيضان ويحررون مع رجال السلطان وثيقة ، يحرر فيها ما إن كان الخراج مستحقا على كل الأراضى ، أو يعفى ويخفض جزء منه ، يكون قد أغرق ( إن كان الفيضان مرتفعًا ) ولم يصل إليه الماء.(24/11)
ولقد عملت المساحة فى العهد العربى الأول فى خلافة هشام بن عبد الملك الخليفة الأموى وولاية الوليد بن رفاعة الفهمى على مصر ، وكانت مساحة أرض مصر الزراعية ثلاثة ملايين فدان تقريبا ، كما ورد فى كتاب فضائل مصر المحروسة لعمر بن محمد الكندي ، وفتوح مصر لابن عبد الحكم وخطط المقريزي (ج 1 ص 98 ) وكان ذلك عام 110هـ التى توافق 729 م .
وعملت مساحة ثانية فى خلافة المعتز بالله العباسى وإمارة أحمد بن طولون وكانت مساحة الأرض الزراعية مليونين ونصف مليون فدان ، وذلك فى عام 255هـ التى توافق 869م .
وذكر المقريزى ( ج : ص 73 ) أنه عثر على جريدة عتيقة بقلم بولس بن شفا الكاتب القبطى متولي الخراج فى الدولة الإخشيدية تشتمل على ذكر كور مصر وقراها إلى سنة 345 هـ قال فيها إن عددها 2395 قرية ، منها بالصعيد 956 قرية وبأسفل الأرض 1439 قرية .
وعملت مساحة فى عهد الدولة الفاطمية ، نقل أبو صالح الأرمنى منها أسماء القرى. ومن أهم المساحات التى عملت هو الروك الحسامى ، نسبة إلى حسام الدين لاجين سنة 697هـ (1298م ) فى عهد الملك الناصر صلاح الدين الأيوبى وقد وصلتْ إلينا نتيجة هذه المساحة فى كتاب تحفة الإرشاد ، وهى أقدم كتاب عربي مخطوط ظهر شاملا لأسماء القرى المصرية ، وقد سبق ذكر جهد المرحوم محمد رمزي فى نشر هذا الكتاب وكان عدد قرى مصر وقتذاك 2071 قرية .
وتمت مساحة أخرى لأرض مصر فى عهد الملك الناصر بن قلاوون ، سميت الروك الناصرى ، وذلك عام 715 هـ الموافق 1315 م ، وقد ذكر هذه المساحة المقريزى فى خططه ( ج 1 ص 87 ) .(24/12)
وقد تجدد ذكر هذه المساحة المعروفة بالروك الناصرى عدة مرات ، حتى استقرت فى كتاب ابن الجيعان المعروف بالتحفة السنية ، فى عهد الملك الأشرف قايتباى ( 883هـ ) ، ويتضح منها أن عدد قرى مصر 2480 قرية ، منها 1739 قرية بالوجه البحري و 741 بالوجه القبلي وقد بلغ مجموع عدد القرى القديمة، أى التى كانت موجودة إلى نهاية عصر المماليك وظلت قائمة إلى نهاية سنة 1943م 2171 قرية ، منها 707 قرية فى الوجه القبلي وفى الوجه البحري 1436 وفى مصلحة الحدود 28 قرية .
وقد تم عمل مساحة فى عهد محمد على،وهذا ما عرف بتأريخ سنة 1228هـ وقد ظلت كلمة تأريخ تستخدم ويقصد بها دفاتر المساحة حتى آخر عهد سعيد باشا ، ولم تكن هناك مصلحة للأعمال المساحية منذ الفتح العربى حتى عام 1879 وهى السنة التى أسست فيها مصلحة التأريخ .
وكانت القصبة هى وحدة القياس منذ الفتح العربى حتى صدر منشور بإبطال القصبة نهائيا ، واستبدل بها الجنزير المستعمل فى مصلحة المساحة منذ أول يناير سنة 1899 إلى الآن ، واستمرت عملية المساحة من سنة 1899 إلى سنة 1906 وعملت خرائط مساحية ودفتر مساحة ودفتر مكلفات ، ونشرت وزارة المالية جدولا بأسماء البلاد المصرية سنة 1910 ، وكان مجموع البلاد فيه 3775 ناحية ، كما أصدرت وزارة الداخلية عام 1928 جدولا بأسماء البلاد المصرية وكان مجموعها 3983 ناحية، وكانت جملة النواحي الحديثة لغاية نهاية سنة 1943 م 2092 ناحية ، منها 1022 ناحية فى الوجه القبلي و 1003 فى الوجه البحري و 60 فى مصلحة الحدود. قسم المرحوم محمد رمزى قاموسه إلى قسمين البلاد المندرسة والبلاد الحالية ، وفرق فى البلاد الحالية بين البلاد القديمة حتى نهاية عصر المماليك سنة 922 هـ 1517م والبلاد الحديثة التى تكونت بعد دخول العثمانيين مصر ، وجعل الحد الفاصل بين القرى القديمة والحديثة كتاب التحفة السنية لابن الجيعان ( ت 885هـ ) .(24/13)
وهذه بعض أمثلة مأخوذة من الجزء الخاص بالبلاد المندرسة :
أبوابيس : وردت فى الخطط التوفيقية مع أبو صير قوريدس ( أبو صير ) مركز الواسطى وقال إن الأسكندر أنشأها وسماها كليوباتريس .
أنصنا : ورد فى تاريخ مصر أنه كان يوجد فى شرقى النيل بالصعيد بلدة قديمة تسمى Besa " بيسا " وفى سنة 130م أنشأ الامبراطور هدريان الرومانى ملك مصر بأرض بيسا قبرا لغلامه انطونيو (أنطونيوس ) الذى غرق عندها فى النيل ثم بنى أعيان بيسا مساكنهم حول حدائق هذا القبر، فعرفت المدينة من ذلك الوقت باسم مدينة Antinoe تخليدا لذكراه، وبذلك اختفى اسم بيسا من عداد النواحى المصرية .
ووردت فى الخطط التوفيقية باسم بيز وقال إنها كانت موجودة قبل أنصنا .
ويقال لمدينة أنطنوية ENSENE أو ANCINA سماها العرب أنصنا وكانت قاعدة كورة أنصنا ويسميها القبط أنصله ENSENE والعامة يقولون مدينة النصلة .
ووردت فى معجم البلدان بأنها مدينة أزلية على شرقى النيل من الصعيد بمصر ، ووردت فى التحفة ضمن النواحى المالية من أعمال الأشمونين .
أهريت EHRIT : تبين لى مما ورد فى كتاب المسالك لابن حوقل بأن أهريت كانت واقعة شرقى النيل جنوبى ناحية بياض النصارى التى بمركز بنى سويف ، ومما ورد فى الانتصار أنها كانت واقعة على شاطئ النيل ، بدليل أنها ذكرت باسم أهريت وجزائرها ، ومما ورد فى التحفة السنية باسم أهريت من الأعمال البهنساوية ، ومما ذكره بروكس بأن أريت ARIT كانت بالقرب من Hipponn وهى التى تعرف باسم الحيبة الواقعة على الشاطئ الشرقى للنيل بمركز الفشن .(24/14)
فبناء على هذه البيانات وإقرار كبار السن من قرية الشيخ فضل تبين لى أن أريت التى وردت فى قاموس جوتييه وEHRIT التى وردت فى كتاب أميلينو هما اسمان لقرية واحدة، الأول اسمها المصري والثاني اسمها القبطي، وأن هذه القرية لا تزال موجودة وهى التى تعرف اليوم باسم الشيخ فضل الواقعة على شاطئ النيل الشرقى تجاه بنى مزار والقيس بمركز بنى مزار بمدينة المنيا، وقد تغير اسم هذه القرية فى العهد العثمانى نسبة إلى الشيخ فضل المدفون فيها .
أداريس : هى من المدن المصرية القديمة ، أنشأها الهكسوس جنوبى مدينة بيلوز على الشاطئ الشرقى للفرع البيلوزى باسم حات أورات AVART,VATAWART ومنها اسمها الرومى OVRIS ، ولما تولى الملك رمسيس الثانى حكم مصر اتخذها سكنا ومعسكرًا له وسماه PERRAMNSES أو مدينة رمسيس وقد ازدهرت هذه المدينة فى أيامه .
ولما انقطع وصول ماء النيل إلى تلك الجهة بعد أن كانت تروى أراضيها وبساتينها، ومدينة الفرما وما جاورهما من مياه فرع النيل المعروف بالبيلوزى نسبة إلى بيلوز وهى الفرما، خربت تلك المدن ولم يبق من آثارها إلا بقايا من التلول الصغيرة، ومدينة أواريس أو رمسيس قد اندثرت ومحلها يعرف بتل الخير أو الهر الواقع فى الشمال الشرقي لبلدة القنطرة على بعد عشرين كيلومترا ، وفى الجهة الغربية من السكك الحديدية الموصلة إلى العريش على بعد كيلومترين .
وظن بعض الباحثين أن مدينة أواريس أو رمسيس هى مدينة تيكو التى سماها الرومان هيرويونبوليس التى مكانها تل المسخوطة، كما ظن البعض الآخر أن أواريس هى بلدة هوارة المقطع التى بالفيوم وقد دل البحث على أن هذه الظنون فى غير محلها وأن الصواب هو، ما ذكرنا .
يتضح من هذه الأمثلة كيف كان محمد رمزي يرجع لكتب التاريخ القديم وكتب الرحلات والمراجع المملوكية ، وكيف يرجح رأيا على رأى ، ويدلى برأيه الخاص المدعم بالأدلة والأسانيد .(24/15)
وقد أصدر محمد رمزي الجزء الثاني من كتابه بتطور التقسيم الإدارى لمصر من عهد محمد على حتى عام 1945 . وقسم هذا الجزء من الكتاب ، أى الجزء الخاص بالبلاد الحالية كما ذكرنا إلى قسمين ، البلاد القديمة والبلاد الحديثة وجعل الفيصل بينهما ماورد فى كتاب التحفة السنية لابن الجيعان ، أى البلاد التى كانت موجودة حتى آخر العصر المملوكى . أما ما أنشئ بعد ذلك فى عصر العثمانيين وما بعده ، فاعتبره من البلاد الحديثة . وهذه أمثلة من المواد نستبين منها منهجه فى البحث .
الدُّقيِّ : هى من القرى القديمة ، وردت فى التحفة باسم حوض الدقى من صفقة الزنار من الأعمال الخيرية ، وفى تاج العروس : الدقى بضم الدال ، قرية صغيرة على شاطئ النيل الغربى تجاه الفسطاط .
وكان النيل يجرى تحت سكن هذه القرية ، كما هو مبين على خريطة القاهرة الملحقة بكتاب وصف مصر . ورسمتها البعثة الفرنسية طبع سنة 1809 والآن قد تحول النيل عن هذه القرية بسبب الإصلاح الذى عمل فى مجراه الحالى لتحويله من الغرب إلى الشرق سنة 1863 ،وبذلك أصبح مجراه يبعد عن سكن الدقى بمسافة كيلو متر واحد .
الطالبية : هى من القرى القديمة ، اسمها الأصلى طَلْبنيا ، وردت فى قوانين ابن مماتى من أعمال الجيزة ، ووردت فى تحفة الإرشاد طَنْبية من الأعمال المذكورة ، ثم حرف اسمها إلى الطالبية ، فوردت به كذلك فى قوانين ابن مماتى وفى تحفة الإرشاد ، ولم يرد فى التحفة ناحية مالية باسم الطالبية ، وإنما ورد الحصة بالطالبية ، مما يدل على وجود ناحية باسم الطالبية ووردت فى دليل سنة 1224 هـ وفى تاريخ سنة 1228 هـ .(24/16)
بولاق الدكرور : أصلها من القرى القديمة ، قال المقريزى عند ذكر جامع التكرورى إن هذه الناحية من قرى الجيزة، كانت تعرف بمنية بولاق ، ثم عرفت ببولاق التكرورى ……… وأقول إن الصواب فى شكلها هو بلاق بكسر أولها ، لأن أصل اسمها المصرى Bilag ، وهى كلمة مصرية قديمة معناها المرساة والموردة،وأطلق هذا الاسم على بولاق هذه لأنها كانت الموردة قبل إنشاء مدينة الجيزة.
بلصفورة : هى من القرى القديمة ، ذكر إميلينو فى جغرافيته قرية باسم POURO واسمها العربى بولسبور ، كما ورد فى كشف الكنائس ، وقال إنه محال أن يجد هذا الاسم بين أسماء القرى المصرية ، لاختفائه من جداول أسماء البلاد .
وبالبحث تبين لى أن هذه القرية لم تختف ، بل لا تزال موجودة وأن بولسبور هى بذاتها بلصفورة هذه ، فقط حرف اسمها ، بدليل أنها وردت فى قوانين ابن مماتي ، وفى تحفة الإرشاد وفى صبح الأعشى بلسبورة بالأخميمية وفى التحفة بلسفورة من الأعمال الأخميمية وفى تاريخ سنة 1231هـ برسمها الحالى ووردت فى الخطط التوفيقية باسم بنى صبورة ، وهو اسم مختلق لا أساس له والعامة يسمونها " بلسبورة " وهو اسمها القديم وبعضهم يقول بلزبورة .
وبعد ، ماذا نحن فاعلون بهذا الكتاب؟ لقد انقضى ما يقرب من نصف قرن على تأليفه ، وهو وثيقة تاريخية هامة، تحدد مرحلة من تاريخ مصر هى نهاية عهد الملكية ( 1952 نهاية حكم أسرة محمد على ) . وبدأت بعدها صفحة جديدة من تاريخ مصر ، تمتاز بالإصلاح الزراعى ، وتحديد الملكية . وتمتاز أيضا بالدخول فى مشاريع رى ومشاريع كبيرة . وإنجاز السد العالى وتحويل ما تبقى من حياض فى محافظات مصر الجنوبية إلى أراض تروى ريا دائما ، ونحن بصدد القيام بمشاريع استصلاح أراض جديدة ، فى شمال سيناء وفى شرق الدلتا وغربها، وبصدد تعمير أطراف الصحارى، والواحات ، والساحل الشمالي للبلاد وإقامة مشاريع سياحية وعمرانية على ساحل البحر الأحمر .(24/17)
وصفوة القول: نحن نشهد حركة عمرانية جديدة تضيف إلى خريطة مصر قرى جديدة ومدنًا وبلدانًا جديدة . مما يضيف إلى كتاب محمد رمزى صفحات جديدة لا يستهان بها .
إن هذا الكتاب لجدير أن يحفز الدراسات الجغرافية التاريخية ويدفعها إلى الأمام ، ولجدير أن يدفعنا إلى تطويره ، بإضافة معالم العمران الجديدة إلى سجل العمران المصري ، وتسجيل هذه المعالم ، وتأصيلها . كما فعل من سبقونا وآخرهم محمد رمزى . إن خريطة مصر العريقة فى العمران دائمة التجدد والتألق، لأنها مصر العتيقة ذات الشباب الدائم .
محمد السيد غلاب
عضو المجمع(24/18)
كانت الشام منذ العصر الجاهلي تتألف من مناطق إدارية هي : فلسطين والأردن ودمشق وحمص وقنسرين (حلب) ، واستمرت هذه التقسيمات الإدارية في العصور الإسلامية المختلفة ، مع تحويرات طفيفة كانت تقتضيها الظروف السياسية الداخلية والخارجية . وإن أهم ما يميز هذا الوضع الجغرافي والسياسي ، على مدى القرون الطويلة ، - منذ ما قبل الإسلام وفي العهود الإسلامية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918م ، وسقوط الخلافة العثمانية- ظاهرتان أساسيتان : فالظاهرة الأولى تشير إلى أن " أجناد الشام أو " كوره " أو أقسامه " ، كما كانت تسمى في مختلف العهود كانت تمتد جغرافيًّا من البحر الشامي ( الرومي ) غربًا إلى شمال الجزيرة العربية والفرات شرقًا .
وأما الظاهرة الثانية فتتمثل بأن إقليم الشام ، سواءً أأطلق عليها " سورية " في العهد البيزنطي أم الشام أم إقليم الشام أم بلاد الشام في العهود الإسلامية المختلفة ، كانت وحدة إدارية ، تشكل إحدى ولايات الدولة الإسلامية .
وقد أولى مجمعنا العتيد بالقاهرة ، الأدب الجغرافي العربي اهتمامه ، فجعله المحور الرئيسي لبحوثه في مؤتمرين متتاليين. وكان البحث في إقليم الشام يراودني منذ العام الفائت ، لأسباب كثيرة ، كان منها النوايا العدوانية الأجنبية لتغيير مفاهيمه الجغرافية التراثية التي استمرت أكثر من أربعة عشر قرنًا . وقد اخترت البحث عن جندَي " فلسطين " و" الأردن " ، لما تتعرض له بعض أجزاء هذه البلاد في الوقت الحاضر ، لتغيير هويتها ، وطمس معالمها العربية والإسلامية وتهويدها . وقد
اخترت أن أعرض هذا الموضوع عند جغرافي من أبناء القدس معروف بابن البناء المقدسي البشَّاري، وعند رحالة أندلسي قد زار الشام في أثناء الحروب الصليبية ، وهو المعروف بابن جبير ، وأن أتوقف عند رحالة مغربي طنجي عُرف باسم ابن بطوطة زار الشام بعد هزيمة الصليبيين وخروجهم نهائيًّا من مصر والشام .(25/1)
وربما كان من المفيد أن نُلْقي ضوءا على المفهوم الجغرافي لبلاد فلسطين والأردن من إقليم الشام في نهاية العهد البيزنطي وبداية صدر الإسلام ، وذلك من خلال مسار الفتوحات الإسلامية ومسالك جيوش الفتح .
قال أبو جعفر ( الطبري ) : ثم ضرب [ أي الرسول صلى الله عليه وسلم ] في المحرَّم من سنة إحدى عشرة على الناس بعثًا إلى الشام ، وأمَّر عليهم مولاه وابن مولاه أسامة بن زيد بن حارثة ، وأمره … أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والدَّاروم من أرض فلسطين …(1) ولما قفل أبو بكر
من الحج سنة اثنتي عشرة جهَّز الجيوش إلى الشام ، فبعث عمرو بن العاص قبل فلسطين،فأخذ طريق المُعْرقة على أيلة(2)، وبعث يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشُرحبيل بن حَسَنة – وهو أحد الغوث – وأمرهم أن يسلكوا التبوكية على البلقاء من علياء الشام(3) .
وكان أبو بكر قد سمَّى لكل أمير من أمراء الشام كورة ، فسمَّى لأبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح حمص ، وليزيد بن أبي سفيان دمشق ، ولشُرحبيل بن حَسَنة الأردن ، ولعمرو بن العاص ولعلقمة بن مُجزز فلسطين(4).
ومن الواضح أن أيلة والبلقاء والداروم من أرض فلسطين ، وأن البلقاء من علياء الشام ، والطريق إليها من التبوكية .
ويحدثنا الطبري قائلاً : فنزل يزيد البلقاء ، ونزل شُرحبيل الأردن – ويقال بُصرى – ونزل أبو عبيدة الجابية ، ثم أمدَّهم بعمرو بن العاص فنزل بغَمَر العربات(5) … قالوا : فأول صلح كان
بالشام صلح مآب(1)،وهي فسطاط وليس بمدينة ، مرَّ أبو عبيدة بهم في طريقه، وهي قرية من البلقاء ، فقاتلوه ، ثم سألوه الصلح فصالحهم . واجتمع الروم جميعًا بالعَرَبة من أرض فلسطين .
قالوا : فأول حرب كانت بالشام بعد سريَّة أسامة بالعَرَبة ، ثم أتوا الدَّاثنة – ويقال الداثن(2) .(25/2)
ويحدثنا الطبري عن مسار الفتوحات الإسلامية بالشام قائلاً : ثم سار خالد بن الوليد .. حتى أغار على غَسَّان بمَرْج راهط ، ثم سار حتى نزل على قناة بُصْرى، وعليها أبوعبيدة بن الجراح ، وشُرحبيل بن حَسَنة ويزيد بن أبي سفيان، فرابطوها حتى صالحت بُصْرى على الجِزْية، وفتحها الله على المسلمين فكانت أوَّل مدينة من مدائن الشام فتحت في خلافة أبي بكر .
ثم ساروا جميعًا إلى فلسطين مددًا لعمرو بن العاص ، وعمرو مقيم بالعَرَبات من غور فلسطين ، وسمعت الروم بهم ، فانكشفوا من جلق إلى أجنادين …
وأجنادين بلد بين الرملة وبيت جبرين من أرض فلسطين … وكانت وقعة أجنادين في سنة ثلاث عشرة لليلتين بقيتا من جُمادى الأولى (3) .
ويواصل الطبري الحديث عن مسار هذه الفتوحات ، فيقول : لمَّا فرغ المسلمون من أجنادين ساروا إلى فِحْل من أرض الأردن … حتى نزلت الروم ببيسان بثفوا أنهارها ، وهي أرض سبخة ، فكانت وحلاً ، ونزلوا فحلاً ، وبيسان بين فلسطين والأردن(4) ودخل المسلمون فحْلاً … فكانت في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة على ستة أشهر من خلافة عمر(5).
ويحدثنا البلاذري عن سبب هذه الوقعة أن هرقل لما سار إلى أنطاكية استنفر الروم وأهل الجزيرة وبعث عليهم رجلاً من خاصته وثقاته في نفسه فلقوا المسلمين بفِحْل من الأردن، فقاتلوهم أشد قتال وأبرحه حتى أظهرهم الله عليهم .. وتحصن أهل " فِحل " فحصرهم المسلمون حتى سألوا الأمان على أداء الجزية عن رؤوسهم والخراج عن أرضهم …(6) .(25/3)
وفتح شُرحبيل بن حسنة طبريَّة صلحًا بعد حصار أيام … وفتح أيضًا جميع مدن الأردن وحصونهم على هذا الصلح فتحًا يسيرًا بغير قتال ، ففتح بيسان ، وفتح سوسية ، وفتح أفيق ، وجرش وبيت راس، وقَدَس ، والجولان ، وغلب على سواد الأردن … وفتح شرحبيل عكا وصور وصفورية … وفى سنة تسع وأربعين خرجت الروم إلى السواحل ، وكانت الصناعة بمصر فقط فأمر معاوية ابن أبي سفيان بجمع الصنَّاع والنجارين ، فجمعوا ورتبهم في السواحل ، وكانت الصناعة في الأردن بعكا …
وقال الواقدي : لم تزل المراكب بعكا حتى ولي بنو مروان فنقلوها إلى صور … فهي بصور إلى اليوم ، وأمر أمير المؤمنين المتوكل على الله في سنة سبعٍ وأربعين ومئتين بترتيب بعكا وجميع السواحل وشحنها بالمقاتلة(1).
ويحدثنا الطبري في أحداث سنة خمس عشرة فيقول : " لما انصرف أبو عبيدة وخالد إلى حمص من فِحْل ، نزل عمرو وشرحبيل على بيسان،فافتتحاها، وصالحته
الأردن واجتمع عسكر الروم بأجنادين وبيسان وغَزَّة .وسار معاوية في جنده على أهل قيْساريَّة …(2).
ويواصل الطبري الحديث عن مسار هذه الفتوحات ، فيقول : ولما توجه علقمة إلى غَزَّة ، وتوجه معاوية إلى قَيْساريَّة ، صمد عمرو بن العاص إلى الأرطبون ، ومرَّ بإزائه ، وخرج معه شرحبيل بن حسنة على مقدمته ، واستخلف على عمل الأردن أبا الأعور … وكان الأرطبون قد وضع بالرَّملة جندًا عظيمًا وبإيلياء جندًا عظيمًا … ثم إن أرطبون انهزم في الناس فأوى إلى إيلياء (بيت المقدس)، ونزل عمرو أجنادين(3).
ويحدثنا البلاذي عن أمر فلسطين فيقول : كانت أول وقعة واقعها المسلمون الروم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أرض فلسطين ، وعلى النَّاس عمرو ابن العاص ، ثم إن عمرو بن العاص فتح غزة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه . ثم فتح بعد ذلك سبسطية ونابلس … ثم فتح مدينة لُدّ وأرضها ،ثم فتح يُبْنى وعمواس وبيت جبرين ، واتخذ بها ضيعة تدعى(25/4)
عجلان باسم مولى له ، وفتح يافا … وفتح رفح … وقدم عليه أبو عبيدة بعد أن فتح قِنِّسرين ونواحيها وذلك في سنة ست عشرة وهو محاصر إيلياء ، وايلياء مدينة بيت المقدس … ثم طلب أهل إيلياء من أبي عبيدة الأمان والفتح على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام من أداء الجزية والخراج، والدخول فيما دخل فيه نظراؤهم على أن يكون المتولي للعقد لهم عمر بن الخطاب نفسه . فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك فقدم عمر فنزل الجابية من دمشق ثم صار إلياء ، فأنفذ صلح أهلها وكتب لهم به ، وكان فتح إيلياء ( بيت المقدس )سنة سبع عشرة(1).
وقد عني الجغرافيون والرحالة العرب، منذ وقت مبكر بوصف الإقليم والمدن والمسالك والممالك وطبائع الناس وعاداتهم، وذلك لأغراض مختلفة ، وكان من أهمها مسالك الجيوش والبُرد والتجارة والحج، إلى جانب التعرف على عجائب البر والبحر. فوضعت المصنفات الجغرافية
المهمة منذ القرن الثالث الهجري .
وننتقل إلى أحد مشاهير الجغرافيين العرب، الجغرافي الشامي المقدسي ، ويقال له البشَّاري(2)من أهل القرن الرابع الهجري.
يحدد المقدسي " إقليم الشام " على الوجه التالي :" ويحد إقليم الشام من تخوم مصر نحو الشمال إلى بلد الروم ، فيقع بين بحر الروم وبادية العرب ، وتتصل البادية وبعض الشام بجزيرة العرب . ويدور على الجزيرة بحر الصين إلى عبادان من أرض العراق إلى القلزم(3) .
ويتحدث عن إقليم الشام فيقول : "إقليم الشام جليل الشأن ، ديار النبيين ، ومركز الصالحين ، ومعدن الأبدال(4)، ومطلب الفضلا، به القبلة الأولى ، وموضع الحشر والمسرى ، والأرض المقدَّسة ، والرباطات الفاضلة والثغور الجليلة والجبال الشريفة ، ومهاجر إبراهيم وقبره … ومولد المسيح ومهده … ويعدد المقدسي الأماكن التي باركها الله سبحانه وتعالى بالشام ،
ومشاهد الأنبياء(1).(25/5)
ويتحدث عن مركز إقليم الشام الجغرافي ، وتجارته الزاهرة فيقول : " … ثم البحر يمد على غربيّه . فالحمولات فيه إليه أبدًا ، وبحر الصين متصل بطرفه الأقصى ، له سهل وجبل وأغوار وأشياء ، والبادية على تخومه كالزقاق منه إلى تيما . وبه معادن الرخام وعقاقير كل دواء ، ويسار وتجار ولباقة وفقها ، وكتاب وصناع وأطباء(2) ولكن المقدسي ، ابن الشام ، يلتفت إلى ما آل إليه الحاضر ، بعد أن عرض ما عرض من رفاه وازدهار فيقول : " إلا أنهم على خوفٍ من الروم وفي جلا، والأطراف قد خربت ، وأمر الثغور قد انقضى ، وليسوا كالأعاجم في العلم والدين والنهى ، بعض قد ارتد وبعض للجزية في أداء ، يقدمون طاعة المخلوق على طاعة رب السماء ، عامتهم جهَّال أو غوغا ، لا نهضة في جهاد ولا حميَّة على الأعداء(3) وبعد أن يذكر المقدسي سبب تسمية الشام ، بهذا الاسم … يحدد الشام ويحاور وجهات النظر المختلفة ،
حوارًا نلمح من خلاله منهج المتكلمين وأهل المنطق ، يقول :" وأهل العراق يسمُّون كل ما كان وراء الفرات شاماً ، ولهذا أرسل محمد بن الحسن القول في دواوينه وليس وراء الفرات من الشام غير كورة قنسرين حسب والباقي بادية العرب، والشام من ورائها،وإنما أراد محمد التقريب والمتعارف بين الناس، كما يقال: لخراسان المشرق ، وإنما هو من ورائها وإنما الشام كل ما قابل اليمن ، وكان الحجاز بينهما . فإن قال قائل: ما تنكر أن يكون طرف البادية إلى حدود العراق من الشام ، ليصح ما قاله أهل العراق ، قيل : قد قسمنا الأقاليم ورسمنا الحدود ، فلا ينبغي لنا أن ندخل في إقليم من غيره . وأهل هذا العلم أن هذه الأرض المتنازع فيها أنها من جزيرة العرب ، ولو جعلها أحد من الشام لا مجازًا ، لكان لنا أن نقول له : حدود الشام التي رسمناها مُجمع عليها ، ومازدتم مختلف فيه ، وعلى من ادَّعى الزيادة الدليل(4) .
وإلى جانب هذا الأسلوب في الحوار،(25/6)
يتميز المقدسي ، بالاعتماد على الحقائق الجغرافية في تقسيم الأقاليم ، غير آبه بما هو دارج عند عامة الناس . ويتحدث عن تقسيمات إقليم الشام فيقول :" وقد قسمنا هذا الإقليم ست كور ، أولها من قبل أقور قنسرين ، ثم حمص ، ثم دمشق ، ثم الأردن ، ثم فلسطين ، ثم الشراة(1) … فأما قنسرين فقصبتها حلب ومن مدنها أنطاكية … إسكندرونة … حماة … معرة النعمان … وأما حمص فاسم القصبة أيضا، ومن مدنهاتدمر … اللاذقية ، جبلة أنطرسوس … وأما دمشق فاسم القصبة أيضًا ومدنها بانياس ، صيدا، بيروت أطرابلس … ناحية البقاع … ولد مشق ست رساتيق: الغوطة، حوران، البثنية، الجولان، البقاع، الحولة …
ويحدثنا المقدسي عن الأردن فيقول: وأما الأردن فقصبتها طبرية ، ومن مدنها قدس ، صور ، عكا، اللجون ، كابل ، بيسان ، أذرعات …
ومن الملاحظ أن المقدسي الشامي ، يجعل " أذرعات " من الأردن … ثم
يتحدث عن فلسطين ، فيقول : وأما فلسطين فقصبتها الرملة ، ومدنها بيت المقدس ، بيت جبريل ، غزة ، ميماس عسقلان ، يافه، أرسوف، قيْسارية،نابلس أريحا . عمان(2) . ومن الملاحظ أن المقدسي يجعل عمان جزءا من كورة فلسطين . ثم يتوقف عند الشراة التي جعلها كورة برأسها ، فيقول : " وأما الشراة فجعلنا قصبتها صُغَر ومدنها مآب ، معان ، تبوك ، أذرح ، ويلة ، مَدْين .. ".
ومما يلفت الانتباه قوله :" فجعلنا قصبتها " فقد تفرد المقدسي ، بجعل "صغر" قصبة الشراة وأضاف إليها تبوك ومدين … وربما أن التقسيمات الجغرافية إلى أقاليم ، التي أشار إليها في حديثه عن حدود الشام ، هي التي دفعته إلى هذا التخطيط ، وليس ما تعارف الناس عليه أو ما كان موجودًا في الواقع الإداري …
ويحدثنا المقدسي عن طبرية فيقوك : "طبرية قصبة الأردن ، وبلد وادي كنعان، موضوعة بين الجبل والبحيرة فهي ضيقة كربة في الصيف مؤذية ، طولها نحو من(25/7)
فرسخ بلا عرض ، والجامع في السوق كبير حسن قد فرش أرضه بالحصى على أساطين حجارة موصولة ".ثم يتحدث عن أهل طبرية وحياتهم الاجتماعية … وعراة من شدة الحرِّ ، ويمصون قصب السكر ، ويخوضون الوحل … ثم يشير إلى الطريق الذي يصل طبرية بدمشق ، فيقول : "وأسفل البحيرة جسر عظيم عليه طريق دمشق …والجبل مطلٌّ على البلد شاهق(1)
ويعرض المقدسي المدن التي تكون "كورة الأردن " ، فيصفها وصفًا جغرافيًا موجزًا ، ويتحدث عن حاصلاتها وثرواتها ويقدم معلومات قيمة عن السكان في كثير من الأحيان … فيذكر من الأردن ، "قدس" وهي على حد قوله :" مدينة صغيرة على سفح جبل ، كثيرة الخير ، رستاقها جبل عاملة ، بها ثلاث عيون شربهم منها ، وحمَّامهم واحد تحت البلد ، والجامع في السوق ، فيه نخلة ، وهو بلدٌ حارٌّ، ولهم بحيرة(2) على فرسخ تصب إلى بحيرة طبرية ، قد عمد إلى النهر فسُجر ببناء عجيب حتى يتبحر . إلى جنبها غابة حلفاء ، رفقهم منها ، أكثرهم ينسجون
الحصر ويفتلون الحبال . وفي البحيرة أنواع من السمك منه البني حمل من واسط ، كثيرة الذمة وجبل عاملة ذو قرى نفيسة وأعتاب وأثمار وزيتون وعيون ، المطر يسقي زروعهم ، يطلُّ على البحر ، ويتَّصل بجبل لبنان …
ثم يتحدث المقدسي عن أذرعات ، فيقول :" مدينة قريبة من البادية ، رستاقُها جبل جرش يقابل جبل عاملة ، كثير القرى ، وجلت طبرية بهذين الجبلين ". ثم يتحدث عن "بيسان" فيقول: "بيسان على النهر كثيرة النخيل ، وأرزاز فلسطين والأردن منها ، غزيرة المياه رحبة ، إلا أن ماءها ثقيل ". ثم يتحدث عن " اللجُّون " بأنها مدينة على رأس حد فلسطين في الجبال ، بها ماء،رحبة نزيهة ". ثم يتحدث عن "كابُل" بأنها مدينة ساحلية بها مزارع الأقصاب ، وبها بطيخ السكر الفائق ، ثم يذكر "الفراذية" بأنها قرية كبيرة ، بها منبر الأعناب والكروم ، بها ماء غزير وموضع نزيه(3).(25/8)
ثم يتحدث عن "عكا" فيقول :"عكا مدينة حصينة على البحر ، كبيرة الجامع ،
فيه غابة زيتون تقوم بسرجه وزيادة . ولم تكن على هذه الحصانة حتى زارها ابن طولون . وقد كان رأى صور ، ومنعتها واستدارة الحائط على مينائها ، فأحب أن يتخذ لعكا مثل ذلك المينا ، فجمع صُنَّاع الكورة وعرض عليهم ذلك ، فقيل لا يهتدي أحد إلى البناء في الماء في هذا الزمان ، ثم ذُكر له جدُّنا أبو بكر البناء ، وقيل إن كان عند أحد علم هذا فعنده ، فكتب إلى صاحبه على بيت المقدس ، حتى أنهضه إليه ، فلما صار إليه وذكر له ذلك ، قال : هذا أمر هين …"، ثم يعرض المقدسي كيفية بناء جده ميناء عكا..(1).
ثم يذكر من كورة الأردن "الجش" ويصفها بأنها قرية قريبة من القصبة ، موضوعة بين أربعة من الرساتيق ، قريبة من البحر . ثم يتحدث عن "صور " فيقول : مدينة حصينة على البحر ، بل فيه يدخل إليها من باب واحد على جسر واحد ، قد أحاط بها … وبين عكا وصور شبه خليج…(2).(25/9)
ثم ينتقل المقدسي من الحديث عن "الأردن " إلى الحديث عن فلسطين ، ونحن نولي حديثه أهمية خاصة عن فلسطين بخاصة وعن الشام بعامة ، لأنه ابن القدس الشامي .. ويبدأ حديثه عن الرملة ، فيقول :"قصبة فلسطين ، بهية حسنة البناء ، خفيفة الماء مرية واسعة الفواكه ، جامعة الأضداد بين رساتيق جليلة ، ومدن سرية ، ومشاهد فاضلة ، وقرى نفيسة ، والتجارة بها مفيدة ، والمعايش حسنة ، ليس في الإسلام أبهى من جامعها ، ولا أحسن وأطيب من حواريها ، ولا أبرك من كورتها ، ولا ألذ من فواكهها ، موضوعة بن رساتيق زكية، ومدن محيطة ، ورباطات فاضلة ، ذات فنادق رشيقة ، وحمامات أنيقة ، وأطعمة نظيفة ، وإدامات كثيرة ، ومنازل فسيحة، ومساجد حسنة ، وشوارع واسعة ، وأمور جامعة . قد خطت في السهل وقربت من الجبل والبحر ، وجمعت التين والنخل ، وأنبتت الزروع على البعل ، وحوت الخيرات والفضل ، غير أنها في الشتاء جزيرة من الوحل ، في الصيف ذريرة من الرمل ، لا ماء يجري ولا خضر ولا طين جيد ولا ثلج . كثيرة البراغيث عميقة الآبار مالحة ، وماء المطر في جباب مغفلة ، فالفقير عطشان،والغريب حيران ، وفي الحمَّام ديوان ، ويدور في الدولاب خدَّام . وهي ميل راجح في ميل ، بنيانهم حجارة منحوتة حسنة وطوب . الذي أعرف من دروبها :درب بئر العسكر، درب مسجد عنّبة، درب بيت المقدس درب بيعلة، درب لُد ، درب يافا، درب مصر ، درب داجُون. يتصل بها مدينة تسمى داجون ، فيها جامع ، وجامع القصبة في الأسواق ، أبهى وأرشق من جامع دمشق ، يسمى الأبيض ، ليس في الإسلام أكبر من محرابه ، ولا بعد منبر بيت المقدس أحسن من منبره . وله منارة بهية ، بناه هشام بن عبد الملك . وسمعت عمي يقول: لما أراد بناءه ، قيل له :إن للنصارى أعمدة رخام مدفونة تحت الرمل، استعدوها لكنيسة بالعة . فقال لهم هشام بن عبد الملك :إمَّا أن تطوروها ، وإمَّا أن تهدم كنيسة لُدَّ فنبني هذا الجامع على أعمدتها. فأظهروها(25/10)
. وهي غليظة طويلة حسنة . وأرض المغطى مفروشة بالرخام ، والصحن بالحجارة المؤلفة . وأبواب المغطَّى من الشربين والتنوب ، مداخله محفورة حسنة جدا(1).
وتأتي أهمية هذا الوصف ، أنه يصدر عن جغرافي مشهور ، كانت معرفته الشخصية وملاحظاته أهم مصادره ، فيسمى الدروب التي يعرفها ، على حد تعبيره … وينقل ما يرويه عن "عمه" ويفصل الحديث عن معيشة الناس ، ويدقق الوصف في بناء المسجد ونوع أبوابه … إلخ .
ثم ينتقل المقدسي للحديث عن "بيت المقدس" ، مسقط رأسه ، ويفصل الحديث عنها ، وعن المسجد الأقصى والصخرة المشرفة(2) . وكانت المعلومات الدقيقة التي أوردها المقدسي ، المصدر الذي استقى منه كل من كتب بعده عن "بيت المقدس "، لاسيما ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان .
فبيت المقدس ، ليست في مدائن الكور أكبر منها ، وقصبات كثيرة أصغر منها … لا شديدة البرد وليس حر ، وقلَّ ما يقع بها ثلج …".وينهي حديثه عن بيت المقدس بالجرايات الدائمة ووجود طبَّاخ وخبَّاز وخدَّام ، مرتبين ، يقدمون العدس بالزيت لكل من حضر من الفقراء، ويدفع
إلى الأغنياء إذا أخذوا . ويظن أكثر الناس أنه من قِرى إبراهيم . وإنَّما هو من وقْف تميم الدَّاري وغيره . والأفضل عندي التورُّع عنه"(1) . فهذه الجرايات تقدم من وقف تميم الداري . ويرى المقدسي الجغرافي الأديب الفقيه ، ترك هذه الجرايات للفقراء ، وأن يتورع عنه غير المحتاجين …
ويواصل حديثه عما يحيط بقصبة بيت المقدس ، وأنه على فرسخ من حبرى جبل صغير مشرف على بُحيرة صُغر وموضع قريات لوط ، ثم مسجد بناه أبو بكر الصباحي ، فيه موضع مرقد إبراهيم عليه السلام ، وقد غاص في القُف نحو ذراع . يقال :إن إبراهيم لمَّا رأى قَرَيات لوط في الهواء ، رَقَد ثَمَّ ، وقال : أشهد أن هذا هو الحقُّ اليقين .(25/11)
ويتفرد المقدسي بتحديده القدس على الوجه التالي . فيقول :" وحدُّ القدس ما حول إلياء إلى أربعين ميلاً ، يدخل في ذلك القصبة ومدنها واثنا عشر ميلاً في البحر وصُغر ومآب ، وخمسة أميال من البادية ، ومن قبل القبلة إلى ماوراء
الكسيفة وما يحاذيها ، ومن قبل الشمال تخوم نابلس . وهذه الأرض مباركة ، كما قال الله تعالى ، مُشجرة الجبال ، زريعة السهول من غير سقي ولا أنهار ، كما قال الرجلان لموسى بن عمران : وجدنا بلدا يفيض لبنًا وعسلا(2) .
ويتابع المقدسي الحديث عن مدن فلسطين فيقول : وبيت جبريل مدينة سهلية جبلية ، رستاقها الداروم ، فيه مقاطع الرُّخام ، وميرة القصبة ، وخزانة الكورة ، بلد الغوال والرخاء ، ذات ضياع جليلة ، إلا أنَّها قد خفت . وهي كثيرة المخنثين …
وغزة مدينة كبيرة على جادة مصر ، وطرف البادية ، وقرب البحر ، بها جامع حسن ، وفيها أيسر عمر بن الخطاب ، ومولد الشافعي وقبر هاشم بن عبد مناف.
وميماس على البحر حصينة صغيرة تنسب إلى غزة .
وعسقلان على البحر جليلة كثيرة المحارس والفواكه ، ومعدن الجُميز ، جامعها في البزّازين ، قد فرش بالرخام ، بهيَّة فاضلة ، طيبة حصينة ، قزُّها فائق
وخيرها دافق ، والعيش بها رافق ، أسواق حسنة ، ومحارس(1) نفيسة ، إلا أن ميناها ردي،وماؤها عذيبي ودلمها مؤذٍ.
ويافه على البحر صغيرة ، إلا أنها خزانة فلسطين ، وفُرضة الرَّملة ، عليها حصن منيع بأبواب محدَّدة ، وباب البحر كله حديد ، والجامع مشرف على البحر نزه ، وميناها جيد .
وأَرسوف ، أصغر من يافه ، حصينة عامرة بها منبر حسن ، بُني للرملة ثم كان صغيرًا فحمل إلى أرسوف .
وقيساريَّة : ليس على بحر الروم بلد أجل ولا أكثر خيرات منها ، تفور نعما ، وتتدفق خيرات ، طيبة الساحة ، حسنة الفواكه ، عليها حصن منيع ، وربض عامر قد أدير عليه الحصن ، شربهم من آبار وصهاريج ، ولها جامع حسن .(25/12)
نابُلُس : في الجبال كثيرة الزيتون ، يسمُّونها دمشق الصُّغْرى ، وهي في وادٍ قد ضغطها جبلان ، سوقها من الباب إلى الباب ، وآخر إلى نصف البلد ، والجامع وسطها . مبلَّطة نظيفة ، لها نهر جارٍ ، بناؤهم حجارة، ولهم دواميس(2) عجيبة.
وأريحا هي مدينة الجبَّارين ، وبها الباب الذي ذكره الله تعالى في"المائدة"(3) وبها مزارع النيل والموز الكثير والنخيل . رستاقها الغور ، وزروعهم تسقى من العيون ، شديدة الحَرِّ ، معدن الحيَّات والعقارب ، أهلها سمر وسودان ، كثيرة البراغيث ، غير أن ماءها أخفُّ ماء في الإسلام ، كثيرة الموز والأرطاب والريحان.
وعمَّان : على سيف البادية ، ذات قرى ومزارع ، رستاقها البلقاء ، معدن الحبوب والأغنام ، بها عدة أنهار وأرحية يديرها الماء ، ولها جامع ظريف بطرف السوق ، مفسفس الصحن . وقد قلنا : إنه شبه مكَّة ، وقصر جالوت على جبل يطلُّ عليها ، وبها قبرُ أوريَّا عليه مسجد ، وملعب سليمان ، رخيصة الأسعار ، كثيرة الفواكه ، غير أن أهلها جُهَّال وإليها الطرق الصعبة .
والرَّقيم :قرية على فرسخ من عمَّان ، على تخوم البادية ، فيها مغارة لها بابان صغير وكبير… وفي المغارة ثلاثة قبور. ثم يروي المقدسي قصة هذه القبور الثلاثة، في حديث مفصل … ويواصل المقدسي حديثه
عن "فلسطين" فيقول: ولهذه الكورة قرى جليلة ذات منابر، أعمر وأجلُّ من أكثر مدن الجزيرة، وهي مذكورة غير أنه لمَّا لم يكن لها قوة المدن في الآئين، ولا ضعف القرى في الخمول، وتردُّد أثرها بين الرتبتين، وجب أن نستظهر بذكرها، نُبيّن مواضعها، منها:
لُدُّ : هي على ميل من الرملة ، بها جامع يجمع به خلق كثير من أهل القصبة، وما حوله من القرى ، وبها كنيسة عجيبة، على بابها يقتل عيسى الدجَّال .
وكفْر سابا : كبيرة ، بجامع على جادة دمشق .
وعاقر : قرية كبيرة ، بها جامع كبير، لهم رغبة في الخير ، وليس مثل خبزهم على جادَّة مكة .(25/13)
ويُبْنَا : بها جامع نفيس ، معدن التين الدمشقي الفائق .
وعَمَواس : ذكروا أنها كانت القصبة في القديم ، وإنَّما تقدموا إلى السهل والبحر من أجل الآبار ، لأن هذه على حد الجبل .
وكَفَرْ سَلاَّم : من قرى قيساريَّة ، كبيرة آهلة ، بها جامعٌ على الجادَّة . ولهذه القصبة رباطات على البحر،يقع بها النفير، وتقلع إليها شلنديات الروم وشوانيهم ، معهم أسارى المسلمين للبيع ، كل ثلاثة بمائة دينار . وفي كل رباط قوم يعرفون لسانهم ، ويذهبون إليهم في الرسالات ، ويُحْمل إليهم أصناف الأطعمة . وقد ضُج بالنفير لما تراءت مراكبهم . فإن كان ليل أوقدت منارة ذلك الرباط ، وإن كان نهار دخَّنوا . ومن كل رباط إلى القصبة عدة منائر شاهقة ، قد رُتب فيها أقوام فتوقد المنارة التي للرباط ، ثم التي تليها ، ثم الأخرى ، فلا يكون ساعة ، إلا وقد أنفر من بالقصبة وضرب الطبل على المنارة ، ونودي إلى ذلك الرباط ، وخرج الناس بالسلاح والقوة ،واجتمع أحداث الرساتيق ، ثم يكون الفدا ، فرجل يشتري رجلاً ، وآخر يطرح درهمًا أو خاتمًا حتى يشترى ما معهم .
ورباطات هذه الكورة – أي فلسطين- التي يقع بهن الفداءُ : غزة ميماس ، عسقلان ، ماحوز ، أزدود ، ماحوز يُبنا ، يافه ، أرسوف(1) .
ويجعل المقدسي "مدين" من الشام فيقول :"ومدين في هذه الخُطَّة ، وثم الحجر الذي رفعه موسى عليه السلام حين سقى غنم شعيب . والماء بها غزير ، وأرطالهم ورسومهم شامية . ثم يتحدث عن "ويلة" – أيلة- فيقول:"وفي ويلة تنازع بين الشاميين والحجازيين والمصريين ، كما في عبَّادان ، وإضافتها إلى الشام أصوب ، لأن رسومهم وأرطالهم شامية . وهي فرضة فلسطين ، ومنها يقع جلابهم .
وتبوك : مدينة صغيرة بها مسجد النبي صلى الله عليه وسلم" (1).(25/14)
يقدم لنا المقدسي معلومات مهمة عن كورة فلسطين ، وقد بناها على المشاهدة والسماع ، فيتناول الجغرافية الطبيعية والحاصلات ، ويحدثنا عن السكان ، ويقدم لنا صورة وافية عن نظام الإنذار في الرباطات على ساحل البحر . وكذلك عن الكيفية التي يتم بها فداء أسرى المسلمين … ويعتبر المقدسي من أهم المصادر التي اعتمدها من جاء بعده من الجغرافيين . وهو المصدر الأساسي ، للشام ولاسيما فيما يتعلق بفلسطين والأردن … ويتحدث عن إقامته في أريحا فيقول في أثناء حديثه عن شؤون إقليم الشام :
"هو– أي الشام – إقليم متوسط الهواء، إلا من الشراة إلى الحُولة ، فإنه بلد الحر والنيل والموز والنخيل . وقال لي يومًا غسَّان الحكيم ، ونحن بأريحا : ترى هذا الوادي ، قلت : بلى . هو يمدُّ . إلى الحجاز ثم يخرج إلى اليمامة ثم إلى عُمان وهجر ثم إلى البصرة ، ثم إلى بغداد ، ثم يصعد إلى ميسرة الموصل ، إلى الرقة . وهو وادي الحر والنخيل ، وأشدُّ هذا الإقليم بردًا بعلبك وما حولها ، ومن أمثالهم : قيل للبرد أين نطلبك قال: بالبلقاء، فإن لم نجدك ؟ قال:بعلبك بيتي .
وهو – أي الشام – إقليم مبارك ، بلد الرخص والفواكه والصالحين … والسامرة فيه من فلسطين إلى طبرية ، ولا نجد فيه مجوسيًا ولا صابئًا . مذاهبهم مستقيمة ، أهل جماعة وسنة وأهل طبرية ، ونصف نابلس ، وقدس ، وأكثر عمَّان شيعة ، ولا ماء فيه لمعتزلي إنما هم في خفية . وببيت المقدس خلق من الكرَّاميَّة ، لهم خوانق ومجالس، ولا ترى به مالكيًا ، ولا داوديًا، وللأوزاعية مجلس بجامع دمشق .." (2) .(25/15)
فقد اهتم المقدسي ، برسم خريطة للمذاهب الإسلامية بالشام إلى جانب الخريطة الجغرافية والسكانية والاقتصادية . فالشام على عهده "قليل العلماء " ، كثير أهل الذمَّة ، وسكانه أهل جماعة وسنة … ويحدد الأماكن التي ينتشر فيها المذهب الشيعي ، وأن الاعتزال "في خفية" … وللكرامية خوانق ومجالس في بيت المقدس، وللأوزاعية مجلس بجامع دمشق ..وليس فيه مالكي ولا داودي .
فهذه معلومات دقيقة ، يقدمها المقدسي عن مذاهب الشام في عصره ، يصعب أن نجدها في مصادر أخرى .
ونعرض بعد ذلك إلى رحالة أديب أندلسي ، زار المشرق ثلاث مرات ، كان إحداها ما بين سنتي 578هـ – 581هـ، وهو المعروف بابن جُبير(1) في كتابه المعروف برحلة ابن جبير .
يحدثنا ابن جبير عن مشاهداته في هذه الرحلة فيقول :
"شاهدنا في هذا الوقت ، الذي هو شهر جمادي الأولى سنة 580هـ ، من ذلك خروج صلاح الدين بجميع عسكر المسلمين لمنازلة حصن الكرك ، وهو من
أعظم حصون النصارى ، وهو المعترض في طريق الحجاز ، والمانع لسبيل المسلمين على البر ، وبينه وبين القدس مسيرة يومٍ أو أشف قليلا ، وهو سراوة أرض فلسطين . وله نظر ، عظيم الاتساع متصل العمارة . يذكر أنه ينتهي إلى أربعمائة قرية . فنازله هذا السلطان ، وضيق عليه ، وطال حصاره(2).
ويحدثنا ابن جبير عن العلاقات التجارية بين المسلمين والفرنج هي هذه الفترة العصيبة فيقول:" واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الفرنج غير منقطع . واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكَّة كذلك . وتجار النصارى أيضًا لا يمنع أحد منهم ولا يعترض . وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم ، وهي من الأمنة على غاية . وتجار النصارى أيضًا يؤدونها في بلاد المسلمين على سلعهم ، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال . أهل الحرب مشتغلون بحربهم ، والناس في عافية ، والدنيا لمن غلب …(3) .(25/16)
وإن هذا الوضع الذي شاهده ابن جبير ، يثير عجبه ، ثم يجمل الحديث فيقول : " هذه سيرة أهل هذه البلاد (الشامية) في حربهم ، والفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك ، ولا تعترض الرعايا ولا التجار . فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلمًا أو حربًا . وشأن هذه البلاد في ذلك أعجب من أن يستوفي الحديث عنه . والله يعلي كلمة الإسلام بمنه "(1).
ويواصل ابن جبير حديثه قائلاً : "استهل هلال شهر جمادى الآخرة ، ليلة الأحد التاسع من شهر شنتبر العجمي (سبتمبر) ونحن بدمشق – حرسها الله- على قدم الرحلة إلى عكة ، فتحها الله ، والنماس ركوب البحر مع تجار النصارى، وفي مراكبهم المعدة لسفر الخريف المعروف عندهم بالصليبية … وكان انفصالنا منها (أي دمشق) عشيَّ يوم الخميس الخامس من الشهر المذكور ، وهو الثالث عشر من شهر شتنبر المذكور، وفي قافلة كبرة من التجار المسافرين بالسلع إلى عكة… (2) .
ويواصل حديثه قائلاً :"ورحلنا من تبنين ، دمرها الله ، سحر يوم الاثنين ، وطريقنا كله ضياع متصلة ، وعمائر منتظمة بسكانها كلها مسلمون ، وهم مع الإفرنج على حالة ترفيه . نعوذ بالله من الفتنة ، وذلك أنهم يؤدون لهم نصف الغلة عند أوان ضمها ، وجزية على كل رأس دينار وخمسة قراريط ، ولا يعترضونهم في غير ذلك . ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة يؤدونها أيضًا . ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم متروكة لهم . وكل ما بأيدي الإفرنج من – المدن بساحل الشام ، على هذه السبيل . رساتيقهم كلها للمسلمين ، وهي القرى والضياع . وقد أشربت الفتنة قلوب أكثرهم لما يبصرون عليه إخوانهم من من أهل الرساتيق المسلمين وعمالهم ، لأنهم ضد أحوالهم من الترفيه والرفق . وهذه من الفجائع الطارئة على المسلمين ، أن يشتكي الصنف الإسلامي جور صنفه المالك له ، ويحمد سيرة ضده وعدوه المالك له من الإفرنج ، ويأنس بعدله . فإلى الله المشتكى من هذه الحال ، وحسبنا تعزية وتسلية ما جاء في(25/17)
الكتاب العزيز : " إنْ هي إلا فِتْنَتُكَ تُضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " [الأعراف:155].
وبعدها يحدثنا ابن جبير عن عجبه الممزوج بالحزن والألم من هذه الحال التي أصبح عليها المسلمون ، يتوقف عند مدينة عكة فيقول :" ذكر مدينة عكة ، دمَّرها الله وأعادها [أي إلى حظيرة الإسلام] وهي قاعدة مدن الإفرنج بالشام ، ومحط الجواري المنشآت في البحر كالأعلام ، مرفأ كل سفينة ، والمشبهة في عظمها بالقسطنطينية ، مجتمع السفن والرفاق ، وملتقى تجار المسلمين والنصارى من جميع الآفاق … انتزعها الإفرنج من أيدي المسلمين في العشر الأول من المئة السادسة، فبكى لها الإسلام ملء جفونه …(1)
ليت شعري ماذا عسى أن يقول ابن جبير في القرن الخامس عشر للهجرة وأواخر القرن العشرين الميلادي لوزار
عكة وحيفا ويافا وعسقلان وطبرية وبيت المقدس وغيرها من البلاد التي مازال اليهود يحتلونها حتى يومنا هذا ، وما آل إليه حال المسلمين من التخاذل والتنازع والتمزُّق … فإلى الله المشتكى والمفزع !!!
ويواصل ابن جبير الحديث عن رحلته هذه فيقول :" ثم توجهنا إلى صور يوم الخميس الثاني عشر لجمادى المذكورة ، والموفي عشرين لشنتبر المذكور على البر … ثم يتوقف للحديث عن هذه المدينة فيقول: " ذكر مدينة صور دمَّرها الله تعالى ، مدينة يضرب بها المثل في الحصانة … قد أعدَّها الإفرنج مفزعًا لحادثة زمانهم ، وجعلوها مثابة لأمانهم…(2) . ثم يقول ابن جبير : "فأعلمنا أحد مشايخ أهل صور من المسلمين أنها أخذت منهم سنة ثماني عشرة وخمس مئة ، وأخذت عكة قبلها باثنتي عشرة سنة ، بعد محاصرة طويلة ، وبعد استيلاء المسغبة عليهم(3) .
وفي القرن الثامن الهجري ، نتوقف عند الرحَّالة المغربي الطنجي ابن بَطُّوطة(4)(25/18)
في كتابه المعروف برحلة ابن بطوطة المسمَّاة "تحفة النُّظَّار في غرائب الأمصار " .. وحدَّد يوم خروجه في رحلته التي استغرقت سبعًا وعشرين سنة قال : كان خروجي من طنجة مسقط رأسي ، في يوم الخميس الثاني من شهر رجب عام خمسة وعشرين وسبعمائة .
وسنتوقف في هذا البحث عند رحلته في فلسطين والأردن من بلاد الشام . ففي رحلته من غزة إلى القدس فعَسْقلان يقول: " ثم سرنا حتى وصلنا مدينة غزة ، وهي أوَّل بلاد الشام مما يلي مصر ، متسقة الأقطار، كثيرة العمارة ، حسنة الأسواق، بها المساجد العديدة ، والأسوار عليها.
وكان بها جامع حسن . والمسجد الذي تقام الآن به الجمعة فيها … وهو أنيق البناء ، محكم الصنعة من الرخام الأبيض . وقاضي غزة بدر الدين السلختي الحوارني ، ومدرسها علم الدين ابن سالم. وبنو سالم كبراء هذه المدينة ، ومنهم شمس الدين قاضي القدس .(25/19)
ثم سافرت من غزة إلى مدينة الخليل . صلى الله على نبينا وعليه وسلم تسليمًا . وهي مدينة صغيرة الساحة، كبيرة المقدار، مشرقة الأنوار ، حسنة المنظر ، عجيبة المخبر ، في بطن وادٍ ومسجدها أنيق الصنعة ، محكم العمل ، بديع الحسن ، سامي الارتفاع ، مبني بالصخر المنحوت. في أحد أركانه صخرة أحد أقطارها سبعة وثلاثون شبرًا . وفي داخل المسجد الغار المكرم المقدس . فيه قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، صلوات الله على نبينا وعليهم. ويقابلها قبور ثلاثة هي قبور أزواجهم . وعن يمين المنبر بلصق جدار القبلة ، موضع يهبط منه على درج رخام محكمة العمل إلى مسلك ضيق ، يفضي إلى ساحة مفروشة بالرخام،فيها صور القبور الثلاثة. ويقال إنها محاذية لها . وكان هناك مسلك إلى الغار المبارك ، وهو الآن مسدود . وقد نزلت بهذا الموضع مرات . ومما ذكره أهل العلم دليلاً على صحة كون القبور الثلاثة الشريفة هنالك ، ما نقله من كتاب علي بن جعفر الرازي ، الذي سمَّاه المسفر للقلوب عن صحة قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب . وأسند فيه إلى أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لما أسري بي إلى بيت المقدس ، مر بي جبريل على قبر إبراهيم فقال : انزل فصلِّ ركعتين،فإن هنا قبر إبراهيم، ثم مَرَّ بي على بيت لحم وقال:انزل فصلِّ ركعتين،فإن هنا وُلِدَ أخوك عيسى عليه السلام . ثم أتى بي الصخرة … وذكر بقية الحديث …(1)
ويواصل ابن بطوطة رحلته فيقول : "وبشرقيّ حرم الخليل قرية لوط عليه السلام. وهي تل مرتفع يشرف على غور الشام. وعلى قبره أبنية حسنة . وهو في بيت منها حسن البناء ، مبيض ولا ستور عليه . وهنالك بحيرة لوط وهي أجاج . يقال : إنها موضع ديار قوم لوط .(25/20)
وبمقربة من قرية لوط مسجد اليقين ، وهو على تلٌّ مرتفع ، له نور وإشراق ليس لسواه ، ولا يجاوره إلا دار واحدة يسكنها قيمه … وبالقرب من هذا المسجد مغارة فيها قبر فاطمة بنت الحسين بن علي عليها السلام . وبأعلى القبر وأسفله لوحان من الرخام في أحدهما مكتوب منقوش بخطٍ بديع :"بسم الله الرحمن الرحيم ، له العزة والبقاء،وله ما ذرا وبرا، وعلى خلقه كتب الفناء . وفي رسول الله أسوة حسنة . هذا قبر أم سلمة فاطمة بنت الحسين رضي الله عنه "(2)
وفي اللوح الآخر منقوش :صنعه محمد ابن أبي سهل النقاش بمصر ، وتحت ذلك هذه الأبيات …(3) .
ويواصل ابن بطوطة رحلته ، فيقول :" ثم سافرت من هذه المدينة إلى القدس . فزرت في طريقي إليه تربة يونس عليه السلام ، وعليها أبنية كبيرة ومسجد .
وزرت أيضًا بيت لحم ، موضع ميلاد عيسى عليه السلام. وبه أثر جذع النخلة. وعليه عمارة كثيرة . والنصارى يعظمونه أشد التعظيم . ويضيفون من نزل به .
ثم وصلنا إلى بيت المقدس ، شرفه الله، ثالث المسجدين الشريفين في رتبة الفضل ، ومصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعرجه إلى السماء . والبلدة الكبيرة ، منيفة بالصخر المنحوت .
وكان الملك الصالح الفاضل صلاح الدين بن أيوب جزاه الله عن الإسلام خيرًا، لما فتح هذه المدينة هدم بعض سورها . ثم استنقض الملك الظاهر هدمه خوفًا أن يقصدها الروم فيمتنعوا بها … والمسجد المقدس هو من المساجد العجيبة الرائعة ، الفائقة الحسن . يقال إنه ليس
على وجه الأرض مسجد أكبر منه … والمسجد كله فضاء وغير مسقف ، إلا الأقصى فهو مسقف ، في النهاية من إحكام الفعل وإتقان الصنعة ، مموه بالذهب والأصبغة الرائقة … ويصف ابن بطوطة المسجد … والقبة الصخرية ويتحدث عن المشاهد المباركة بالقدس الشريف ..(1).(25/21)
ويذكر من بعض فضلاء القدس ، قاضيه العالم شمس الدين محمد بن سالم الغزي ، وهو من أهل غزة وكبرائها . ومنهم خطيبه الصالح الفاضل عماد الدين النابلسي . ومنهم المحدث المفتي شهاب الدين الطبري . ومنهم مدرس المالكية وشيخ الخانقاه الكريمة أبو عبد الله بن مثبت الغرناطي ، نزل القدس . ومنهم الشيخ الزاهد أبو علي حسن المعروف بالمحجوب ، من كبار الصالحين . ومنهم الشيخ الصالح العابد كمال الدين المراغي . ومنهم الشيخ الصالح العابد أبو عبد الرحيم عبد الرحمن بن مصطفى من أهل أرز الروم.وهو من تلامذة تاج الدين الرفاعي، صحبته ولبستُ من خرقة التصوُّف(2) .
ويواصل ابن بطوطة رحلته بفلسطين، خارجًا من القدس متجهًا لزيارة ثغر عَسْقلان ، فيقول :
ثم سافرت من القدس برسم زيارة ثغر عسقلان . وهو خراب قد عاد رسومًا طامسة وأطلالاً دارسة . وقل بلد من المحاسن ما جمعته عسقلان ، إتقانًا وحسن وضع وأصالة مكان ، وجمعًا بين مرافق البر والبحر . وبها المشهد حيث كان رأس الحسين بن علي عليه السلام ، قبل أن ينقل إلى القاهرة ، وهو مسجد عظيم سامي العلو فيه جب للماء … وفي قبلة هذا المزار مسجد كبير يعرف بمسجد عمر، لم يبق منه إلا حيطانه ، وفيه أساطين رخام لا مثيل لها في الحسن ، وهي ما بين قائم وحصيد … وبظاهر عسقلان وادي النمل ويقال إنه المذكور في الكتاب العزيز . وبجبانة عسقلان من قبور الشهداء والأولياء ما لا يحصر لكثرته، أوقفنا عليهم المزار المذكور ، وله جراية يجريها له ملك مصر مع ما يصل إليه من صدقات الزوار(3).
وسنتوقف في هذا البحث عند
الأماكن التي يمر بها من جندي فلسطين والأردن ، في رحلته من عسقلان إلى حلب . يقول ابن بطوطة :(25/22)
" ثم سافرت منها – أى من عسقلان – إلى مدينة الرملة ، وهي فلسطين ، مدينة كبيرة ، كثيرة الخيرات ، حسنة الأسواق ، وبها الجامع الأبيض . ويقال إن في قبلته ثلاثمائة من الأنبياء مدفونين عليهم السلام، وفيها من كبار الفقهاء مجد الدين النابلسي.
ثم خرجت منها إلى مدينة نابلس ، وهي مدينة عظيمة ، كثيرة الأشجار ، مطردة الأنهار ، من أكثر بلاد الشام زيتونًا، ومنها يحمل الزيت إلى مصر ودمشق … وبها تصنع حلواء الخروب وتجلب إلى دمشق وغرها … وبها البطيخ المنسوب إليها ، وهو طيب عجيب . والمسجد الجامع في نهاية من الإتقان والحسن. وفى وسطه بركة ماء عذب(1).
ثم سافرت منها – أي من نابلس- إلى مدينة عجلون . وهي مدينة حسنة لها أسواق كبيرة وقلعة خطيرة ، ويشقها نهر ماؤه عذب(2) .
وبعد ذلك غادر ابن بطوطة مدينة عجلون ، من بلاد الأردن ، قاصدًا مدينة اللاذقية ، فيقول :" ثم سافرت منها بقصد اللاذقية ، فمررت بالغور ، وهو وادٍ بين تلال به قبر أبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأرض ، رضي الله عنه . زرناه ، وعليه زاوية فيه الطعام لأبناء السبيل ، وبتنا هنالك ليلة . ثم وصلنا إلى القُصَير ، وبه قبر مُعاذ بن جبل رضي الله عنه ، وتبركت أيضًا بزيارته .
ثم سافرت على الساحل ، فوصلت إلى مدينة عكة ، وهي خراب . وكانت عكة قاعدة بلاد الإفرنج بالشام ، ومرسى سفنهم . وتشبه قسطنطينية العظمى . وبشرقيّها عين ماء تعرف بعين البقر … وكان عليها مسجد بقي منه محرابه ، وبهذه المدينة قبر صالح عليه السلام .
ثم سافرت منها إلى مدينة صور وهي خراب . وبخارجها قرية معمورة وأكثر أهلها أرفاض . ولقد نزلت بها مرة على بعض المياه أريد الوضوء ، فأتى بعض أهل تلك القرية ليتوضأ فبدأ بغسل رجله ثم غسل وجهه .(25/23)
ومدينة صور هي التي يضرب بها المثل في الحصانة والمنعة ، لأن البحر محيط بها من ثلاث جهات . ولها بابان ، أحدهما للبر والثاني للبحر … وبناؤها ليس في بلاد الدنيا أعجب ولا أغرب شأنًا منه ، لأن البحر محيط بها من ثلاث جهاتها . وعلى الجهة الرابعة سور ، تدخل السفن تحت السور وترسو هنالك . وكان فيما تقدم بين البرجين سلسلة حديد معترضة ، لا سبيل إلى الداخل هنالك ، ولا إلى الخارج إلا بعد حطها . وكان عليها الحراس والأمناء ، فلا يدخل داخل ولا يخرج خارج إلا على علم منهم ..(1).
ثم سافرت منها إلى مدينة صيدا … وبخروجه من صور يكون قد غادر بلاد الأردن . ويحدثنا ابن بطوطة عن الطريق الذي سلكه من دمشق إلى المدينة المنورة حاجًّا فيقول :" ولما استهلَّ شوال من السنة المذكورة ، خرج الركب الحجازي إلى خارج دمشق ، ونزلوا القرية المعروفة بالكُسْوة . فأخذتُ في الحركة معهم . وكان أمير الركب سيف الدين الجوبان. (قتل فيما بعد ودفن بالبقيع سنة 728هـ)
من كبار الأمراء ، وقاضيه شرف الدين الأذرعي الحوراني ، وحجَّ في تلك السنة مدرس المالكية صدر الدين العماري . وكان سفري مع طائفة من العرب تدعى العجارمة ، أميرهم محمد بن رافع ، كبير القدر في الأمراء .
وارتحلنا من الكُسوة إلى قرية تعرف بالصنمين عظيمة . ثم ارتحلنا منها إلى بلدة زرعة وهي صغيرة من بلاد حوران ، نزلنا بالقرب منها .
ثم ارتحلنا إلى مدينة بُصرى ، وهي صغيرة . ومن عادة الركب أن يقيم بها أربعًا ليلحق بهم من تخلف بدمشق لقضاء مآربه ، وإلى بصرى وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعث ، في تجارة خديجة رضي الله عنها . وبها مبرك ناقته ، قد بنى عليه مسجد عظيم . ويجتمع أهل حوران لهذه المدينة ، ويتزود الحاج منها . ثم يرحلون إلى بركة زيزة(2) ، ويقيمون عليها يومًا. ثم يرحلون إلى اللَّجون ، وبها الماء الجاري(3).(25/24)
إن ذكر " اللَّجُّون " في مسار الحاج الذي يخرج من دمشق ويصل إلى "زيزة"
وينطلق منها إلى حصن الكرك ، يبدو غريبًا ، ولا يتفق مع واقع مسار الحاج ، إذا قصد " اللَّجُّون " المدينة التي تقع بين طبرية والرّملة … وإن المصادر التي بين أيدينا لا تذكر لنا موضعًا بن "زيزة" والكرك ، يحمل اسم اللَّجون … ومن المرجح أن يكن قد حدث تصحيف أو خطأ في نقل "النص" ، ولا يمكن أن يكون خطأ اقترفه ابن بطوطة ، لأنه يصف طريق الحج الذي سلكه هو نفسه . وقد يكون هنالك موقع آخر يحمل اسم اللجون لم تذكره المصادر !!!
ويواصل ابن بطوطة وصف مسار الحاج فيقول :" ثم يرحلون إلى حصن الكرك ، وهو من أعجب الحصون وأمنعها وأشهرها . ويسمى بحصن الغراب . والوادي يطيف به من جميع جهاته ، وله باب واحد قد نحت المدخل إليه في الحجر الصلد ، ومدخل دهليزه كذلك . وبهذا الحصن يتحصن الملوك ، وإليه يلجأون في النوائب … وأقام الركب بخارج الكرك أربعة أيام ، بموضع يقال له الثنية ، وتجهزوا لدخول البرية .
ثم ارتحلنا إلى مَعان وهو آخر بلاد الشام . ويذكر ابن بطوطة على طريق الحج " عقبة أيلة"(1) على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام .(25/25)
ولعلَّ اختيارنا لجغرافي شآمي مشهور من أبناء بيت المقدس ، ليتحدث عن جغرافية بلاد فلسطين والأردن ، يشير إلى أهميته وإلى كونه مصدرًا علميًّا من الدرجة الأولى . وعسى أيضًا أن يكون اختيارنا لرحَّالة أندلسي ، عرف باسم "ابن جُبَيْر"، زار بلاد الشام في ذروة الصراع الذي كان يخوضه المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله – ضد الصليبيين في فلسطين والأردن وسواحل الشام ، يزودنا بما سجَّله هذا الرحَّالة من مشاهدات جغرافية ، وانطباعات شخصية ، تترجم أحاسيس مسلمي الأندلس الذين كانوا هم أيضًا يخوضون صراعًا بقيادة الموحدين ضد الفرنج وحملاتهم الصليبية . وتحدثنا المصادر التي بين أيدينا ، أن كثيرًا من الحملات الصليبية المتوجهة إلى المشرق كانت تنزل في الأندلس، وتشارك في المعارك ضد المسلمين قبل أن تعاود مسيرتها نحو سواحل الشام ومصر …
وأخيرًا توقفنا عند الرحَّالة المغربي المعروف باسم ابن بطوطة ، الذي زار بلاد الشام وتوقف كثيرًا في مدن فلسطين والأردن . ووصف زيارته لبيت المقدس والحرم الإبراهيمي ، ومقامات الأنبياء وأضرحة الصحابة رضوان الله عليهم جمعيًا ، وذلك بعد اندحار الصليبيين
وخروجهم نهائيًّا من مصر والشام ببضعة عقود … ولله الأمر من قبل ومن بعد .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عبد الكريم خليفة
عضو المجمع
من الأردن(25/26)
يتراءى لبعض الحُرَّاص على صفاء اللغة العربية وخلوِّها من كل شائبة فيها شبهة عُجمة أن واجبهم يقتضيهم التصدي بلا هوادة لممارسة تعريب الألفاظ الأجنبية . وهم يعتقدون أن علماء العلوم الطبيعية والتكنولوجيا يسرفون في التعريب إلى درجة تشوه جمال اللغة وتعكِّر صفاءها . وبعض هؤلاء " الصفاويين " - كما سماهم قطب معاصر من المشتغلين بتعريب العلوم الطبيعية والتكنولوجية - يرون أن في ممارسة التعريب في العربية العلمية نوعًا من العجز عن استنباط كلام مناسب للمعنى المراد من متن العربية أو من تراثها العلمي ؛ أو يرونه عجزًا عن ترجمة صريحة للمصطلح الأجنبي بما يصلح أن يكون مصطلحًا عربي النِّجار . وما علم السادة الصفاويون أنهم بإنكارهم التعريب ، عندما يقتضي الأمر ذلك ، إنما يضعون العراقيل في طريق تطوّر اللغة العربية وازدهارها وقدرتها على الوفاء
بمطالب العصر ومواكبة الحضارة من حيث لا يريدون ذلك .
ولقد قيل: إن أية لغة لا تدخلها ألفاظ أجنبية لا تعد لغة حية متطورة آخذة طريقها نحو العالمية ومواكبة التقدم الحضاري . فالعربية نفسها إبَّان النهضة العلمية الإسلامية الكبرى في العصور الوسطى رفدت اللغات الأوربية بألفاظ كثيرة وبخاصة في عهد الترجمة من العربية إلى اللاتينية قبيل عصر النهضة الأوربية. والنظر إلى المعاجم الفرنسية مثلاً يوضح أنها تضم آلافًا من الكلمات الدخيلة منها 700 كلمة على الأقل أصلها عربي . والمعاجم الإنجليزية بها ألف كلمة على الأقل أصلها عربي ، منها 360 كلمة شاعت في الحياة العامة للناطقين بالإنجليزية . وليست العربية أقل شأنًا في هذا المضمار منذ القدم ؛ ورحم الله الشهابَ الخفاجيَّ صاحبَ " شرح درَّة الغواص " في القرن الحادي عشر الهجري، الذي قال " لو اقتصر السابقون في كلامهم على الألفاظ التي استعملها العرب العاربة والمستعربة فقط ، لعسر التكلم بالعربية على من بعدهم " .(26/1)
وإنه لمن الظلم أن يُرمى المجتهدون والمخلصون من نقلة العلوم الطبيعية والتكنولوجية إلى العربية بالإسراف في ممارسة التعريب والاقتراض اللغوي . والحقيقة أن هؤلاء العلماء من هذه التهمة براء ، فهم لا يصنعون إلا ما صنعه أسلافهم من العرب الأوائل وما صنعه عرب عصور النهضة الإسلامية الزاهرة في تعريب مالا تقدم اللغة فيه ما يستوفي شروط الاصطلاح المتعارف عليها دوليًا. وهم بالإضافة إلى ذلك ملتزمون فيما يصنعون بقرار مجمع اللغة العربية القاهري في التعريب ؛ ذلك القرار الذي ليس أدلّ على أهميته الكبرى ومسيس الحاجة إليه أن كان أول قرار يتخذه المجمع في أول دورة من دورات انعقاده في عام 1934م(1).وهذا نص القرار:"يجيز المجمع أن يُستعمل بعض الألفاظ الأعجمية عند الضرورة على طريقة العرب في تعريبهم".
ولقد فسر إبراهيم مدكور (2) عبارة " عند الضرورة " التي وردت بالقرار بقوله : " للعالِم كاملُ الحرية في اختيار اللفظ الذي يرتضيه لأداء الحقيقة العلمية ، فيستمده من الفصحى أو من العامية ، ويستعين عليه باللغات الحية أو الميتة . وقد يشكو من قصور اللغة وعجزها عن أداء ما يريد فيلجأ إلى وسائل أخرى منها التعريب . وقد رسم المجمع للتعريب قواعد تنظمه ، فَيعرِّب خاصة ما يدل على أسماء الأعيان وأعلام الجنس ( كالأكسجين والإنزيم والأيون والإلكترون ) ، وما يدل على عَلَمٍ من أسماء الأجناس والأنواع في النبات والحيوان والمواد الكيمائية ، وما ينسب إلى عَلَمٍ أو شخص أو اسم مكان " .(26/2)
وفي بحث آخر أكد إبراهيم مدكور(3) حق العلماء في التصرف باللغة لوضع المصطلح العلمي بقوله : "وليس بلازم أن يكون التعريب على أبنية العرب ، فالعلم هو تراث الإنسانية جمعاء ، ويجب أن يفسح المجال فيه لتبادل الألفاظ كما تتبادل الأفكار والمعاني " . وقد عقّب على هذا البحث عباس حسن عَلَمُ النحاة في العصر الحديث بقوله : "إني لأرى ألا نقف أمام المخترعات الحديثة ونكلف المجمع وضع ألفاظ عربية لها ، فإنا حينئذ نكلف أعضاءه عُسرًا ، فأنا لا أرى داعيًا لهذا التزمت من ضرورة اختيار ألفاظ عربية … إن بعض المخترعات قد يتجاوزها الزمن وتتغير قبل أن نصطلح على أسماء عربية لها " .
ولسنا نحن وحدنا الذين نضطر للاقتراض اللغوي للضرورة فإن هذا يصنعه أهل الغرب وغيرهم . وقد سبق الإشارة إلى ما في معاجمهم من نسبة لا تهمل من ألفاظ أصلها عربي . ويكفيني في هذا الصدد مثال لعله أحدثُ ما دخل متن اللغة العربية وغيرها في الآونة الحاضرة من الكلمات العربية ، وهو كلمة " Intifadah" التي دخلت حتى لغة الشعر الإنجليزية وغيرها( انظر ثريا مهدي علام Poems of the Intifadah, P.75).وما كان أيسرَ من ترجمة هذه الكلمة إلى الإنجليزية، ولكنْ هل تعبر اللفظة الإنجليزية المترجمة عن كل مقومات كلمة الانتفاضة؟
ولقد وقع التعريب في العربية في غير مجال العلوم الطبيعية منذ القدم لضرورات مقبولة وأحيانًا لغير ضرورة ، فلامرئ القيس مثلا بيت مأثور في الغزل يقول فيه:
مهفهفةٌ بيضاء غير مُفاَضةٍ
... ترائبها مصقولةٌ كالسَّجْنجَلِ
و" السَّجْنجَل " كلمة معَّربة قديمة لما نسميه اليوم المرآة وأصلها رومي وتعني أحيانًا الذهب والسبائك اللامعة .
ومن شعر عنترةَ قوله :
أراعي نجومَ الليل وهي كأنها
... قواريرُ فيها زئبقٌ يترجرجُ
و " الزئبقُ " فارسية وأصلها " زيوه" .
ولعل الأعشى كان أكثر من أغراه الاقتراض اللغوي من شعراء الجاهلية ، ومثال ذلك قوله :(26/3)
عليه دَيابوزٌ تسربَلَ تحته
... أرَنْدَجَ اسكافٍ يخالط عِظلِما
والبيت فيه كلمتان مُعرَّبتان هما : الدَيابوز " وهو ثوب ينسج على نيرين ، و " الأرَنْدَجَ " هو جلد أسود .
وقال الأعشى أيضًا :
لنا جِلَّسانٌ حولها وبنفسج
... وسَيْسَنْبَرٌ والمرزجوش مُنَمنَما
وفي البيت أربعة ألفاظ أعجمية معرِّبة مختلفة من الزهور . ويمكن أن يُعدَّ ما وقع في هذه الأبيات من تعريب ناشئًا عن ضرورة هي أن هذه الأدوات والمواد والمصنَّعات والأزهار لم تكن معروفة عند العرب القدماء فعرَّبوا أسماءها الأعجمية وأدخلوها في لغتهم .
وقد وردت ألفاظ أعجمية معربة كثيرة في شعر العصور التالية وبخاصة عند شعراء العصر العباسي وما بعده . وأختار من شعر هؤلاء مثالا لابن القيسراني (478-548) يمدح فيه الملك العادل نور الدين محمود الذي حارب بواكير الحملات الصليبية وأسر أميرها جوسلين الثاني ، قال :
صدعتَهُم صَدْعَ الزجاجة لايدٌ
... لجابرها ، ما كل كسرٍ له جَبرُ
فلا ينتحلْ من بعدها الفخرَ دائلُ
... فمن بارز الإبرنز كان له الفخر
لقد فضَّل الشاعر الكلمة المعرّبة وهي "الإبرنز" على الترجمة العربية (الأمير).
والكلمة المستعملة عرّبها الشاعر من اللفظ اللاتيني " Princeps" . فضَّل الشاعر الكلمة المعربة على الكلمة العربية لا لضرورة بل من باب الدقة ، لأن الألقاب لا تترجم ؛ وهم في لغاتهم يقولون : Emir و Sheikh و Pacha … إلخ ؛ ولا يترجمونها. ونحن كذلك نستعمل كلمات " سير " و " لورد " و " دوق" في كلامنا تعريبا ولا نترجمها .(26/4)
ومثل هذه المعرَّبات التي تقدم ذكرها ملأت الإنتاج العربي نثرًا وشعرًا وكتابةً علمية إلى الحد الذي حدا ببعض المعجميين إلى تصنيف معجمات خاصة بها مثل " المعرب " للجواليقي ( ت : 564 هـ ) . ولم يكد القرن الثاني الهجري أن ينتهي حتى ثار الجدل بين العلماء العرب حول معظم الكلمات العربية وما ورد منها في القرآن الكريم بخاصة . وقد أنكر أبو عبيدة بن المثنى وغيرُه وجود كلمات أجنبية في القرآن وقال قولته الشهيرة : " من زعم أن في القرآن لسانًا سوى العربية ، فقد أعظم على الله القول " . وأما القائلون بإمكان وقوع الألفاظ الأعجمية في القرآن ، فقد اعتمدوا على ما رَواه ابن عباس و مجاهد وابن عكرمة رضوان الله عليهم من أن أمثال ( سِجِّيل ، ومشكاة ، وأباريق ، واستبرق ، وقسورة ، وفردوس ) وغيرها، من غير لسان العرب ، وقالوا : "إن ابن عباس وصاحبيه من الصحابة أعلم بالتأويل من أبي عبيدة " . ثم حاول المتأخرون من العلماء التوفيق بين الرأيين، فنادوا بأن تلك الكلمات التي جاءت في القرآن ووصفت بالأعجمية إنما هي ألفاظ اقترضها العرب القدماء من لغات أجنبية ، صقلوها وهذبوا نطقها ، ثم شاعت في كلامهم قبل الإسلام ، فلما جاء الإسلام وجدها تكوِّن عنصرًا من عناصر اللغة العربية ، ووجد الناس لا يكادون يشعرون بعجميتها ، فَعُدت من اللسان العربي غير أنها على حسب أصلها البعيد أعجميةٌ وعرَّبها العرب .(26/5)
والتعريب اليوم أداة لا غنى عنها من أدوات تيسير الأداء العلمي العربي والعمل على توحيد المصطلحات . ومن عجب أننا لازلنا نرى له مستهجنين في عصرنا الحاضر ؛ ولقد كان القدماء أكثر منا جُرأةً على الأخذ من اللغات الأخرى ، وعلى صَهر ما يأخذونه من ألفاظ في لغتهم حتى يصير كأنه منها . ومن طريف ما يروى عن الكيفية التي كانت تدخل بها المعرَّبات اللغة في أزمنتها القديمة أن عليًا بن أبي طالب - كرم الله وجهه - كانوا قد أطعموه أكلة لذيذة ، فسأل عن اسمها فقيل له " فالوذج " ؛ فقال :" وما الفالوذج " ؟ فقيل له " هو طعام المِهرجان " ، فقال : " إذن مهرجونا منه كل يوم " ! فدخلت الكلمتان العربية ، واشتق من إحداهما فعل .
وما كانت الألفاظ المعرَّبة تستقيم على اللسان العربي حتى تشيع على ألسنة الناس وكأنها من المتن الأصيل للغة ، وحتى تُشتق منها الأفعالُ والمصادر وما يأتي منها . وقد اشتق القدماء من الديباج : دبَّج ، والديباجة ، والتدبيج … إلخ . ومثل ذلك صنعه المحدثون في بَسْتَر بسترةً، وفي فَبْرَكَ وكَهْرَبَ ومَغنَطَ وبَلشَف … إلخ . ومَن مِنَ الجمهور العام الآن يشك في أن كلمة " دلتا " غير عربية ؟ ومَن مِنَ الإنجليز سوى علماء اللغة من يعرف أن كلمة " alidade" (وهو جهاز يستعمل في عمليات المساحة ) كلمة مقترضة من العربية ، وأن أصلها العربي " العَضادة " . أو أن كلمة "cable" عربية وأصلها " كَبْلُ " ، بل إنه لمن المؤسف أن كثيرًا من المتعلمين العرب يظنون أن كلمة كبل مُعرَّبة !! وهي عربية قَحَّة . وقد سبقت الإشارة إلى دخول كلمة " Intifadah " أخيرًا إلى متن اللغة الإنجليزية وغيرها من لغات الغرب وجريانها على ألسنة الناس من جراء اطراد استعمالها في لغة الصحافة والإذاعة المسموعة والمرئية ، بل ما لبثت أن تأصلت في لغتهم حتى صارت من مفردات الشعر فيها . (Thoraya Allam: Poems of the Intifadah, P.75) .(26/6)
والأمثلة في هذا الباب لا حصر لها ، فالألماس أصلها أدماس وهي كلمة إغريقية ، وهناك أسفلت وبازلت وديزل وأردواز وبئر أرتوازية ومَكَنة … إلخ. وقد اشتقت منها الأفعال والصيغ الأخرى ، فقيل : سَفْلَتَ ومَيْكَن " وغير ذلك . ومن علم الجيولوحيا الحديث أسوق : بَريشة وجِرواق وأركوز وجرانيت وكُنجلومرات ومئات غيرها ، وكل صيغ الاشتقاق المطلوبة منها . كلها معربات أغنت اللغة العربية العلمية وجعلت الأداء العلمي بها ميسرًا لكل من يريد ذلك ، وكلها أقره مجمع اللغة العربية بالقاهرة ومؤتمره السنوي .(26/7)
وبعد،فمن العجب أن يتضح كل ذلك عن تاريخ التعريب في اللغة العربية والاقتراض اللغوي في اللغات الأخرى، ثم نجد من بعض المعاصرين العرب من يحذر من التوسع في هذا الباب خَشية على اللغة من الفساد وضياع الهُوية،أو من يعد ما جاء من معربات لمترجمي العلم الأوائل إلى العربية عجزًا عن إيجاد مقابلات عربية معتذرًا عنهم أنهم كانوا في الأغلب من الأعاجم! وإلى هؤلاء أسوق قول أحد أساطين العربية والتعريب من المعاصرين الدكتور عبد الكريم خليفة (5):"العلم في نمو وازدياد، ولابد أن تزداد معه المصطلحات والمسميات، فالتعريب إذن ضروري لحياة العلم،ولا خوف منه على كيان اللغة فإنما اللغة قائمة بحروف معانيها وأفعالها وصرفها ونحوها وبيانها وشعرها وخصائصها التي تمتاز بها ، وإن بضع مفردات غريبة عنها قد التجأت إليها ، فأضفت عليها رونقها الخاص وطبعتها بطابعها لا تؤثر في جوهرها ولا في هويتها ". وأسوق قول الدكتور أحمد شفيق الخطيب (6) في رسالته القيمة عن ألفاظ الحضارة بين العامي والفصيح : "ولئن كان المترجمون الأوائل ، وجُلّهم من الأعاجم،قد عرَّبوا عجزًا، كما يقال، فإني لا أريد أن أعتقد أن عبقرية ابن سينا كانت تعجز عن تخليق مقابلات تترجم مثيلات كيلوس وكيموس ونقرس وقولنج - ولا الكندي عاجز عن توليد ألفاظ تقابل مثيلات أنولوطيقا وريطوريقا وبوليطيقا ، وهو الذي أجاد شرحها في رسائله ، ولا البيروني والخوارزمي وابن الهيثم قاصرون عن استنباط بديلات لأمثال : زيج وجيومطري وأرتموطيقا وأسطرونوميا . وفي يقيني أنهم فعلوا ذلك رغبة في الدقة ومراعاة للحفاظ على الصلة العلمية مع سائر اللغات " .
وأخيراً ، ليطمئن " الصفاويون " ، فأهل العلوم الطبيعية والتكنولوجية لا يعربون إلا في حدود الضرورة ، ولا(26/8)
خشية على اللغة أصولاً ونحوًا وبلاغةً من مُعرَّباتهم ، فهي بالتعريب قد دخلت اللغة ويجب أن تخضع لقواعدها إعرابًا واشتقاقًا وما إلى ذلك ، هذا فضلاً عن أنها لن تدخل لغة الأدب إلا بمقدار يسير وستظل متنًا خاصًا تقريبًا للمشتغلين بالعلم الطبيعي وتطبيقاته التكنولوجية .
محمد يوسف حسن
عضو المجمع(26/9)
يتردد فى القرآن الكريم أن كل رسول من رسل الله أرسل إلى قومه وحدهم ما عدا محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنوح أرسل إلى قومه يدعوهم لعبادة الله ، ومثله إبراهيم ولوط ، وأرسل هود إلى عاد، وصالح إلى ثمود، وشعيب إلى أهل مدين وعيسى إلى بنى إسرائيل، أما محمد صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى جميع الناس ، يقول الله فى سورة الأعراف مخاطباً رسوله: " قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا " فمحمد مرسل إلى جميع الناس عربا وغير عرب . ويقول الله فى سورة يوسف وص والتكوير فى وصف القرآن : " إن هو إلا ذكر للعالمين " وفى سورة القلم : " وما هو إلا ذكر للعالمين " والعالمين جمع عالم (بفتح اللام) أى أن القرآن ذكر للعالم كله بأجناسه ، وجمع للدلالة على الاستغراق فهو موجه للعالم جميعه . ويقول الله لرسوله فى سورة الأنبياء " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين "
إذ أرسله إلى البشر جميعا بدينه القويم الذى يسعد الناس فى الدنيا والآخرة . ويقول الله فى سورة سبأ : " وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيرًا ونذيرا " فالله لم يرسل محمدا لقريش والعرب خاصة ، بل أرسله للناس كافة فى مشارق الأرض ومغادربها ليبلغهم رسالته ، مبشرًا من آمن به ، فوحَّد الله واعتنق شريعته الإسلامية وما بها من أوامر ونواهٍ بأن الله سيدخله جنته وينعم فيها نعيما أبديا ، وينذر من أشرك بالله وعبد آلهة متعددة ورفض رسالته وشريعته بأن مصيره إلى عذاب النار الأليم فى الآخرة . ويكرر الرسول فى أحاديثه أنه مرسل ـ كما يقول الله ـ إلى الناس جميعا ، فعن ابن عباس أنه قال : "بعثت إلى الناس كافة : الأحمر والأسود"، والعرب تسمى الأبيض أحمر، أى أنه بعث إلى البشر جميعا ، وفى حديث ثانٍ عن جابر بن عبد الله قوله : "كان النبي يبعث إلى قومه ، وبعثت إلى الناس عامة" .(27/1)
وهذه العالمية فى الدين الإسلامى والأمر الإلهي بتوجيهه إلى جميع الناس جعلت الله يفرض معها عل الرسول والمسلمين أن يتعايشوا فى ديارهم مع جميع مَنْ بها من أصحاب الديانات والملل-إلهية وغير إلهية- تعايشًا قويمًا ، وقد وضع القرآن الكريم قانونا عاما التزم به الرسولُ والمسلمون فى جميع عصورهم ، وهو : " لا إكراه فى الدين " . وبذلك كان الإسلام يكفل فى دياره لجميع الناس على اختلاف مللهم الحريةَ الدينية فلا يُجْبر أحد على اعتناق الإسلام مكرها قهرا ، بل يُتْرك الناس وما اختاروا لأنفسهم من الدين ، ولذلك يقول الله لرسوله فى سورة يونس منكرًا عليه شدة حرصه على إيمان المشركين من أهل مكة بالإسلام : " ولو شاء ربك لآمن مَنْ فى الأرض كلُّهم جميعا أفأنت تُكْرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين " بدينك إنه ينبغي أن تترك للمشركين من قريش حريتهم الدينية فإن شاءوا تبعوك وإلا فدعهم . والتزم الرسول ذلك فكان لا يكره ـ ولا يقبل أن يكره أحدُ صحابته ـ شخصا على الدخول فى الإسلام .وفى تفسير ابن كثير أن مسلمًا من الأنصار كان له ابنان نصرانيان فقال للرسول صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما على الإسلام فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ، فأنزل الله فيه آية " لا إكراه فى الدين ". وكانت المسلمون فى الأندلس طوال العصور الماضية لا يقبلون من أحد اعتناق الإسلام إلا بوثيقة يعلن فيها أمام قاض وشهود بأنه اختار الإسلام بكامل حريته. وفى تفسير ابن كثير عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمر أن لا يُتَصدق إلا على أهل الإسلام فأنزل الله قوله لرسوله : " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله". والله يقول لرسوله : إنك لست مكلفا بهداية المشركين ، ودع المسلمين يتصدقون على فقرائهم كما يتصدقون على فقراء المسلمين ، والصدقة إنما هى لابتغاء وجه الله لا لمراعاة حال مسلم ومشرك .(27/2)
وبالمثل يأمر الله المسلمين أن يعفوا عن أذى المشركين فى سورة الجاثية قائلا : " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله " ولا يسألونه فضله . والله يريد بهذه الآية والآية السابقة لها أن يكون بين المسلمين والمشركين صفاء حتى مع إيذائهم لهم . ويمتدح الله كرماء المسلمين أهل البر فى سورة الإنسان قائلا: " ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا " فهم يُطعمون الطعام على حبه، أى مؤثرين به المحتاجين من المساكين واليتامى والأسرى ، وكان الأسرى حينئذٍ من المشركين . روى ابن كثير عن ابن عباس أن أسرى معركة بدر من المشركين كانوا سبعين رَجلاً، وأمر الرسول أصحابه أن يكرموهم، فكانوا يقدِّمونهم على أنفسهم حين يحضر الغداء . وهذه الحرية الدينية وما رافقها من طلب المعاملة الكريمة للمشركين فضْلاً عن أهل الكتاب تدل – بحق _ على عالمية الإسلام،إذ فرض على المسلمين أن يتعايشوا مع المشركين فى محيط أمتهم قائلاً :"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين،ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم.إن الله يحب المقسطين ". وحتى المقاتلين منهم حين يأسرهم المسلمون ، يطلب الله إلى المسلمين أن يطعموهم ويكرموهم . وقد كفل المسلمون – فى كل ديارهم – لجميع أصحاب الملل دون أى استثناء المحافظة على معابدهم وأموالهم، وأن يؤدّوا شعائرهم بحرية تامة . وكانوا – منذ جيلهم الأول فى عصر الخلفاء الراشدين – يتعايشون فى ديارهم هذا التعايش الجماعى مع أصحاب الكتب السماوية،ومع الصابئة عبدة الكواكب فى شمالى العراق، ومع المجوس عبدة النار فى إيران ،مؤمنين بأن تلك مشيئة الله فى خلقه للأفراد والشعوب أن تختلف فيهم النزعات، وتختلف الآراء وتختلف الديانات والملل ، كما قال تعالى لرسوله فى سورة هود : " ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين". أى أمة تدين دينًا واحدًا ، وهو مالم يجعله الله للناس ، إذ جعلهم(27/3)
مختلفين ملة وعقيدة ودينا وسيظلون مختلفين ، لذلك ينبغى أن يرتضى المسلمون – فى ديارهم – كل من يخالفهم فى دينهم من أصحاب الملل، إلهيةً وغير إلهية .
أما الجزية التى فُرضت على المشركين، وأهل الكتاب فى الأقطار الإسلامية بالعصور الماضية، فلم تكن ضريبة دينية، إنما كانت ضريبة دفاع لأنهم لا يشتركون فى الجيش الإسلامى ولا فى الحرب ، ولذلك كانت لا تؤخذ إلا ممن يصلح لحمل السلاح ، فلا تؤخذ من الصبى ،ولا من الشيخ، ولا من المرأة، ولا من راهب، ولا من رجل دين، وكانت زهيدة فكانت غالبًا لا تتجاوز دينارًا واحدًا فى العام .(27/4)
وبهذه الصورة العالمية للإسلام كان المسلمون يعيشون فى ديارهم من إيران شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، متعاونين مع كل من عاش معهم من أصحاب الملل والنحَل ، وفى هذا المناخ الإسلامى الحضاري، كان يجتمع ذوو النحل المختلفة بمجالس علماء علم الكلام المسلمين، ويتحاورون فى نحلهم وعقائدهم، ويتناظرون بحرية تامة ، من ذلك مجلس بالبصرة – والحياة الإسلامية فى الأوج السياسي – وفى هذا المجلس يقول صاحب النجوم الزاهرة فى الجزء الثانى ص29 : "كان يجتمع فيه عشرة لا يعرف مثلهم : الخليل بن أحمد، صاحب علْم العروض وهو سُنى . والسيد الحميرى الشاعر وهو شيعى رافضى، وصالح بن عبد القدوس وهو ثنوى ( يؤمن بإلهين على دين مانى الإيرانى ) وسفيان بن مجاشع وهو صُفرى ( من الخوارج ) وبشار بن بُرد الشاعر وهو خليع ماجن ، وحماد عَجْرد وهو زنديق ، وابن رأس الجالوت الشاعر وهو يهودى، وابن نظير النصراني وهو متكلم ، وعمرو بن أخت الموبذ وهو مجوسى ، وابن سنان الحرَّانى الشاعر وهو صابئي . وهو مجلس كان لا يمكن أن يحدث مثله فى أى أمة، لولا أن القرآن ألزم المسلمين بالتعايش فى ديارهم مع كل أصحاب الملل والنحل ، وأنه لما خلق البشر، جعلهم بطبيعة تقضى باختلافهم فيما يعتقدون وينتحلون ، فعاملوا أصحاب النحل والملل معاملة حسنى ، وفتحوا لهم مجالسهم على هذا النحو، يتحاورون معا فى المعتقدات والآراء محاورات حرة . وظل ذلك طويلا فى مجالس علماء الكلام بالعصر العباسي . ففقيه مُحدِّث أندلسى يسمى أحمد بن محمد بن سعدى ، نزل بغداد فى الربع الأخير من القرن الرابع الهجرى ، وعاد منها إلى القيروان ، فسأله فقيهها ابن أبى زيد المتوفى سنة 386 للهجرة : هل حضرتَ مجالس أهل الكلام ؟ فقال : حضرت مجلسين ، وأول مجلس حضرته جمع الفِرَق كلها : المسلمين من أهل السُّنة والبدعة والكفار من المجوس والدهرية والزنادقة، واليهود والنصارى وسائر أجناس الكفر . ولكل فرقة رئيس(27/5)
يتكلم على مذهبه ويجادل عنه . وإذا جاء رئيس من أى فِرقةٍ كانتْ ، قامت الجماعة إليه قياسا على أقدامهم حتى يجلس فيجلسوا بجلوسه ، فإذا غَصَّ ( ازدحم )المجلس بأهله، تناظروا بالحجج العقلية . وقيل لى: ثم مجلس آخر للكلام ، فذهبت إليه ، فوجدتهم مثل سيرة أصحابهم السالفين" .
وهذا الخبر مثلُ سابقه، يصور كيف أن الإسلام ـ منذ ظهوره فسح المجالات فى دياره للتعدد فى الأقوام والديانات والعقائد والآراء والأفكار . فهذه مجالس المتكلمين ـ منذ احتدمت فى العصر العباسى ـ تضم بجانب علماء الكلام المسلمين متكلمين من الفرق كلها : من أهل السُّنة والبدعة المسلمين، ومن المجوس والمانوية والدهرية والزنادقة والصابئة، ومن اليهود والنصارى . وكل ذلك بفضل عالمية الإسلام التى وسعت كل الملل والنِّحل إلهية وغير إلهية، حتى المجوس والصابئة والزنادقة والدهرية،الذين لا يؤمنون بالآخرة .
ـ2ـ(27/6)
ومن عالمية الإسلام أن جعل العقل حَكمًا فى كل ما يتصل به خاصة فى الإيمان بالله ووحدانيته ، فالمسلم لا يكون مؤمنًا كاملاً إلا إذا عقل دينه واقتنع به عن بينة،والقرآن هو الكتاب السماوى الوحيد الذى يضع البينة أمام عقل الإنسان، ليؤمن بأن له إلها واحدا ، ويكررها عشرات المرات ، إن لم يكن مئاتِها ، وهى خَلقْه للآيات الكونية ، فإن من ينظر فيها ويتأمل، يَهْديه تأمله إلى أن لها خالقا صنعها ويدير نظامها . يقول جل شأنه : " إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس،وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخَّر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون " . والله يدعو الناس فى الآية إلى أن يتأملوا فى خلق السموات التى تبدو كقبة زرقاء ،وما يسبح فيها من كواكب ونجوم ، ويتأملوا فى خلق الأرض وما فيها من بحار وجبال وأنهار وزروع مختلفات ، ويتأملوا فى اختلاف الليل والنهار ،ظلمة وضياء ، وطولا وقصرا ، ويتأملوا فى الفُلك التى تجرى فى البحار بما ينفع الناس، من ركوبها والتنقل بها وحَمل تجاراتهم ، ويتأملوا فيما أنزل الله من السماء أى السحاب من مطر، فأحيا به الأرض بعد موتها بأنواع النباتات والأشجار والزروع والبقول والثمار والرياحين، ونشر فيها أنواع الحيوانات أليفة ووحشية، ودبَّر رزقها وعَّرفها مأواها، وتأملوا تصريف مهاب الرياح شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، والسحاب المذلل لحمل الأمطار المنقاد من جهة إلى جهة، ليسقط مطره عليها ، فتحيا ويعودَ إليها الحُسن والبهاء .إن فى ذلك كله لآيات تشهد بأن للكون خالقًا، جعل فيه هذا النظام البديع المحكم. ويذكر الله فى سورة يس ، قسمته اليوم للإنسان بين نهار خلقه مضيئًا كى يعمل فيه لمعاشه ، وليل خلقَه مظلمًا كى يستجمَّ فيه للراحة والنوم ، وبذلك جعل الله النهار معاشا والليل سكنا(27/7)
، ولو كانت الدنيا نهارا خالصا لكلَّت قوى الإنسان ، ولو كانت ليلا صِرفا لبطلت حركته . ويقول الله تعالى:" والشمس تجرى لمستقر لها": أى حتى مكان غروبها اليومى .ويشير الله بجريها إلى ما يترتب عليه من فصول السنة ،وأنها تجرى بنظام كونى محكم. ويقول إن القمر يجرى مثل الشمس فى منازل وصور ،حتى يصبح كعُرْجُون النخل القديم، ومجتمع شماريخه باصفراره وتقوسه . وهاتان المسيرتان للشمس والقمر مقدرتان بنظام دقيق ،" لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ". فلكل منهما مداره " ولا الليل سابق النهار " فلكل منها وقته المحدد المعلوم . وتلك آيتان كونيتان عظيمتان . وهما تدلان بوضوح على عظمة خالقهما وتدبيره الدقيق لهما ، وإن مداومة التفكير فيهما وفى آيات الله الكونية الأخرى فى القرآن ليملأ قلب الإنسان إيمانا بالله وعرفانا بألوهيته ووحدانيته ، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "لا عبادة كالتفكر فى الكون وما فيه من عجائب الخلق" .(27/8)
ويَنْعَى الله على الكفار إشراكهم فى عبادته آلهةً لهم وأنهم لم يفيدوا أى فائدة من العقل الذى أهداه إليهم فى معرفته والإيمان بألوهيته ، يقول : " لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون " والله ـ جل شأنه ـ يقول إن المشركين الكفار عطَّلوا قلوبهم أى عقولهم عن النظر فى ملكوته وآياته الكونية والتأمل فيها ، فلم تعد تفقه أو تدرك شيئا ، وعطلوا أعينهم فلم تعد تنظر فى الكون شيئا يهديها إلى الحق ، وعطلوا آذانهم فلم تعد تنتفع بما تسمع من القرآن وما فيه من الهدى إلى عبادة الله ، ويقول الله إنهم مثل الأنعام من الإبل والبقر والغنم فلا عقل لهم ولا إدراك ولا بصيرة " بل هم أضلّ " من الأنعام ، إذ لا يؤدّى بها ضلالها أن تسقط فى مهاوى الضلال ، لما ألهمها الله من معرفة مضارِّها ومنافعها ، أما المشركون فإنهم حجبوا عقولهم عن التأمل السديد فى الكون تأملا يهديهم إلى معرفة الله وعبادتهم له وحده ، وإنهم لغافلون عن سعادتهم فى الدنيا والآخرة. وإذا تركنا هذه المحاكمة الكونية إلى العقل ونظرنا فى المحاور العقلية العامة للدعوة الإسلامية فى القرآن الكريم وجدناها ـ كما لاحظ ابن رشد ـ تعود إلى ثلاثة محاور ، هى البرهان العقلى والعِظة والجدال السديد . ومن أمثلة البرهان العقلى فى القرآن الكريم استدلال الله على انتفاء الشركاء له فى الألوهية بقوله : " وما كان معه من إله إذًا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون " . والله يقول محتجًّا على من يدعون أنَّ معه آلهة أخرى إن ذلك يقتضى أن يستقل كل إله بطائفة من المخلوقات ، ويصبح كل إله عاجزا عن السيطرة على مخلوقات غيره ، مما يثبت العجز على رُبوبيته ، وهو محال فى حقيقة الألوهية . ودليل ثانٍ أنه لو كان فى الوجود آلهة أخرى ولكلِّ إلهٍ مخلوقاته لاصطدمت قدرته وإرادته بقدرة الآلهة(27/9)
الأخرى وإرادتها ، وتحاربوا ـ كما يتحارب الملوك فى الأرض ـ ابتغاء علو السلطان . والدليلان يؤديان إلى انتفاء شريك لله أو شركاء ، لأن الشريك ـ ومثله الشركاء ـ لن يكون بيده ولا بأيديهم ملكوت كل شئ فى العالم ،وهو تصور غير صحيح ، لأنه لا يمكن أن يحدث ، إنما هو إله واحد متصرف فى الكون ، تعالى وتنزه عن إشراك له فى ملكوته ـ ومن أمثلة العظة فى القرآن ما ذكرناه من عرض الله آياته الكونية على الناس لتتأمل عقولهم فيها وتنفذ إلى الإيمان به ووحدانيته ، ومثلُ ذلك قصص الرسل وأقوامهم فى القرآن الكريم ، فقد أكثر القرآن من تكرارها وتردادها ليتعظ الناس فلا يكذِّبوا الرسل بما جاء هم به من الهدى الذى يكفل لهم السعادة فى الدنيا والآخرة حتى يصيبهم ما أصاب المكذبين للرسل مثل ما أصاب قوم نوح من الطوفان وقوم هود من الريح العاصفة العاتية فدمرتهم وقوم صالح وما نزل بهم من صيحة وبيلة أتت عليهم إلى غير ذلك من قصص أقوام الرسل الذين كذبوهم فنزل بهم عقاب أليم فى الدنيا وينتظرهم عقاب أشد إيلاما فى الآخرة ، وهو قصص يراد به العظة والعبرة . ومن أمثلة الجدل الشَّديد أنه لما نزلت آية سورة الأنبياء الموجَّهة إلى أهل مكة : " إنكم وما تعبدون من دون الله حصبُ جهنم " أى حطبها يوم القيامة لقى ابن الزيعرى الشاعرُ الرسول صلى الله عليه وسلم فقال ألست تقول : " إنكم وما تعبدون من دون الله حَصَبُ جهنم " فقال الرسول بلى ، فقال : أكل ما يعبد من دون الله فى جهنم مع من عبدوهم لقد خُصِمْت ورب الكعبة " أى غلبت " ألست تزعم أن الملائكة عباد مكرمون وهم يعبدون فى خزاعة ، وهذه النصارى يعبدون المسيح وهذه اليهود يعبدون عزيرًا نبيهم ، فهل عزير والمسيح والملائكة سيكونون حصبا لجهنم . ولم يغضب الرسول حين سمع هذا الجدل بل قال له فى سماحة : اقرأ ما بعده : " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " . ومن تمام العقلانية فى الإسلام نهى الله(27/10)
والرسول عن السحر والتعلق به وبكل من يزعم أنه يؤثر فى الناس خاصة الكهان والعرافين والمنجمين ، فكل ذلك باطل وقبض الريح ويشدد الرسول فى النهى عنه، وبالمثل كان ينهى عن الخرافة وكل ما يتصل بها وعن كل شعوذة ويعد ذلك كله خروجا على الإسلام وتعاليمه .
_3_
ومن عالمية الإسلام دعوته القوية إلى العلم والتعلم حتى ليصبح ذلك شعارًا له منذ فجره الأول وطوال عصوره ، فقد أشاد الله بالقلم والعلم والتعليم فى أول آيات نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم حثًّا لأمته على تحصيل العلم،وأقسم الله فى أول سورة ( ن ) بالقلم وما يسطرون إرهاصًا بأن الأمة الإسلامية ستكون أمة علم وفكر وكتابة ، ويأمر الرسول والمسلمين فى سورة طه بأن يضرعوا إليه داعين أن يزيدهم علما ومعرفة . ويعلى الله فى القرآن دائما قَدْرَ العلم والعلماء إعلاء عظيما ، وقد جعله ميزة كبرى لآدم أبى البشر إذ قال للملائكة فى أوائل سورة البقرة:" إنى جاعل فى الأرض خليفة قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال: إنى أعلم مالا تعلمون، وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " وعجزوا فقال : " يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم "أمرهم بالسجود له تعظيما لعلمه.والله ـ بذلك ـ جعل منزلة علم آدم بالأسماء فوق منزلة تسبيح الملائكة بحمده وتقديسه مما يرفع مكانه العلم إلى أعلى مرتبة.ويكثر الرسول صلى الله عليه وسلم من دعوة المسلمين إلى العلم والتعلم، وكان يقول إن الخروج فى طلب العلم مثل الخروج للجهاد الحربِىّ فى سبيل الله ، وعلى ضوء سجود الملائكة لآدم كان الرسول يقول :فضل العالم على العابد كفضلى على أدنى الصحابة ، وهو بذلك يجعل منزلة العالم فوق منزلة العابد لربه ، وأشار الله فى القرآن إشارات مختلفة إلى العلوم الطبيعية والفلكية كما فى الآيات الكونية التى ذكرت أن الله خاطب بها عقل(27/11)
الإنسان لتهديه إلى الإيمان به . وبالمثل فى القرآن إشارات إلى العلوم الرياضية والطبية، كما فى آيات سورة المؤمنون وتصويرها المعجزة الطبية الربانية التى تعرض ـ بدقة ـ أطوار الجنين حتى يتخلق كائنا حيا . وبهذه الروح العلمية التى بثها القرآن والحديث فى نفوس العرب أقبلوا بعد الفتوح الإسلامية على ما لدى الأمم الأجنبية من معارف تتغذى بها عقولهم ، ونقل لهم عشرات من المترجمين ـ تموج بهم صفحات كتاب الفهرست لابن النديم ـ أهم ما فى الثقافات الهندية والفارسية واليونانية من علوم ، ونقلت إليهم الفلسفة اليونانية وانصهرت كل هذه الثقافات فى الفكر العربى ، وسرعان ما أخذ يظهر فى كل علم عالم عالمى مثل: جابر بن حيان الكيميائى، والخوارزمى الرياضى، والطبيب الرازى، وامتزجت الفلسفة بروحانية الإسلام ، وافتتح الكندى معاصر المأمون سلسلة فلاسفتها الإسلاميين العظام . وظلت الحضارة العربية وما تحمل من الفكر والعلم والفلسفة تقود العالم وحدها طوال خمسة قرون من القرن الثامن الميلادى حتى الثالث عشر ، وأكب الغرب على نقل علوم العرب وفلسفتهم فى الأندلس وصقلية منذ القرن الحادى عشر الميلادى واستحالت منارات له إلى حضارته الغربية الحديثة . وإنما استطردت هذا الاستطراد لأبيِّن مدى الطاقة التى بثها القرآن فى نفوس العرب بجعله علم آدم فوق تسبيح الملائكة لله ، وبَثَّها الحديث أيضا فى نفوسهم بجعله العلم الأفضل من العبادة ، وإن الرسول ليقول :" فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب". وبذلك ظل الإسلام دافعا لحركتنا العلمية والحضارية ومعانقا لها حتى بلغت الأوج معه فى العالمية .(27/12)
ومن عجب أن يقرأ بعض المثقفين عندنا ما حدث فى الغرب بالقرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاد من تنازع عنيف بين السلطتين الدينية والزمنية أو بعبارة أخرى بين الكنيسة والدولة ، وأيضا وقوف الكنيسة أحيانا ضد العلم والعلماء ، فنقلوا ذلك إلينا وحاولوا أن يطبقوه خطأ بين الإسلام والدولة ، وبين الإسلام والعلم ، وهم فى التطبيقين مخطئون خَطَأَيْن كبيريْن ، أما الخطأ الأول فلأن الإسلام ليس فيه كنيسة على نحو ما هو معروف فى المسيحية ، وأما الخطأ الثانى الذى يذهب أصحابه إلى أن الدين يعارض العلم - كما صنعت الكنيسة المسيحية أحيانا - فإن ذلك لم يحدث يوما بين الإسلام والعلم بل لقد دعا الإسلام ـ كما رأينا ـ المسلمين دعوة كبرى إلى التزود بالعلم زادًا يهيئهم للنبوغ فيه ، وقد هيأهم ـ فعلا فى العصور الماضية ـ لإحداث نهضة علمية عالمية ، ودفعَنا فى نفوس عصرنا الحديث إلى إحداث نهضة علمية مماثلة منذ عصر محمد على إلى عصر عباس نقلنا فيها العلوم الغربية إلى العربية ، واستحالت العربية لغة علمية تستوعب جميع العلوم الغربية فى القرن الماضى إلى أن وقف الإنجليز هذه النهضة العلمية المباركة، إذ جعلوا تعليم العلوم فى المدارس العليا بلغتهم الإنجليزية ، وهى تنحسر الآن عن بعض العلوم فى الجامعات وعن السنتين الأولى والثانية فى الكليات العلمية، والمأمول أن تنحسر نهائيا عن سنواتها جميعا وتنحسر معها تبعيتنا العلمية للغرب وتسترد العربية سيادتها اللغوية فى ديارها كاملة .
_4_(27/13)
ومن عالمية الإسلام نظامه الاقتصادى القائم على فرض زكاة الأموال على الأغنياء وما يتبعها من الصدقة ، فقد جعلها فريضة سنوية ، وقرنها فى كثير من آيات القرآن إلى الصلاة إذ جعلها عبادة له مثَلها، بل إنه ليقرنها أحيانا إلى الإيمان به تعظيما لها ، ويقول إنه يضاعف الجزاء عليها إلى سبعين ضعفا بل إلى سبعمائة كحبَّة بُذرت فى أرض خصبة ، ونالها غيث فأنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبةّ . ويَرْفق الله بآخذى الزكاة والصدقة ويلطف بهم أعظم لطف ورفق إذ يطلب إلى صاحب الصدقة والزكاة أن لا يمسَّ شعور آخدهما بأى إيذاء من قريب أو من بعيد ، وأن لا يتبع صدقته وزكاته بأى مَنٍّ على الفقير والمسكين، كأن يتطاول عليهما بأنه يطعمها أو لولاه لجاعا أو أنه ينبغى عليهما شكره، ونحو ذلك من ضروب المنِّ المؤذية للشعور ، ويقول الله : " قول معروف " أى كلمة طيبة " خير من صدقة يتبعها أذى " يلوثها أويسممها وكأن هذا الإيذاء للصدقة موجه إلى صاحبها فيقول : " والله غنى " عن هذه الصدقة " حليم " أى أنه لا يعاقب عليها فى الدنيا إنما يعاقب عليها فى الآخرة . ويستحب الله إخفاء الصدقة على الفقير حفظًا وصيانةً لماء وجهه ، ومحافظة على شعوره ، حتى لا يعلم بها أحد مهما كان قريبا أو غير قريب ، وكان يقال: خير المتصدقين مَنْ لا تعلم شماله ما أنفقت ـ وتصدقت به ـ يمينه . وعلى هذا النحو فرض الإسلام على المسلم أن يقدم من ماله سنوياً فرضا مكتوبا عليه للفقراء وللصالح العام ، وبذلك أصبح للفقير حق معلوم فى مال الغنى سوى ما يؤدِّيه من الصدقة راضيا ، مما يجعل أفراد الأمة تترابط ترابطا اقتصاديا ، ويسود بينهم تعاطف ومودة ، إذ يَبَرُّ الأغنياء الفقراء بِرًّا متصلا تدفعهم إليه عقيدتهم الروحية التى نزل بها الإسلام ، وهو بِرٌّ موجه لرضا الله عن صاحبه ، مما يجعله عبادة وزلفى إليه أملا فى أن يجزى صاحبه عليه الجزاء الأوفى .(27/14)
ومن عالمية الإسلام دعوته بقوة إلى المساواة بين أفراد النوع الإنسانى ، فهم جميعا أبناء أب واحد هو آدم ، ويقول الله إنه خلقهم شعوبًا وقبائلَ ليتعارفوا لا ليتفاخروا ولا ليتعاركوا ، بل ليعبدوا الله حق عبادته ، ويعلن الرسول لأمته:" أنه لا فضل لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى ولا لأحمر أى أبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى" .وهى صورة ضخمة من عالمية الإسلام إذ ألغى العنصرية نهائيا وفوارق الجنس واللون ، وجعل المساواة بين أفراد البشر قانونًا خالدا ، فالجميع متساوون سواء أكانوا عربا أم غير عرب ، وسواء أكانوا سودًا أم غير سود ، وسواء أكانوا بيضًا أم غير بيض .
أيها السادة :
بقى مقومان من مقومات عالمية الإسلام لا يتسع الوقت لبسط الحديث فيهما ، وهما العدل الذى لا تصلح حياة الأمم بدونه، والسلام ، والله ـ جل شأنه ـ يكرر فى
القرآن الكريم أنه خلق الكون بقوانين عدل تام دون تفريط أو إفرط ، ويأمر المسلمين أن يتخذوه قانونًا عامًّا فى كل ما يأتون من القول والفعل فى حياتهم وفى جميع علاقاتهم وفى القضاء والحكم . ويقول الرسول إن من يلتزمون العدل سيكونون يوم القيامة على منابر من نور . ونهى الله ورسوله عن الظلم بكل صوره وتوعَّدا الظالم بعقاب أليم فى الآخرة .
ودعا الله ورسوله دعوة كبرى إلى السلام وأن يعم الأرض وجعلاه التحية اليومية للمسلم، إذ يبادر من يلقاه من إخوانه المسلمين وغيرهم بقوله السلام عليكم ، وهى تحية تحمل فى أطوائها الأمان والمودة. والإسلام بذلك يدعو ـ منذ أربعة عشر قرنا ـ إلى أن يسود السلام فى العالم . وقد جعله الله اسمًا من أسمائه الحسنى . وسمى الجنة دار السلام، تحبيبًا للمسلمين فيه وحثًّا عليه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،
شوقى ضيف
رئيس المجمع(27/15)
مدخل
إذا كان تجديد الفكر هو أحد مستلزمات تجدد الحضارة والعُمران فى الاجتماع الإنسانى ، فإن لتجديد الفكر وجهود المجددين " تاريخ " تجب معرفته وينبغى استحضاره عند القيام بهذا الأمر . وهذا التاريخ يركز فى المقام الأول على الأفكار التى أثرت فى حياة الناس،وحظيت بانتشار واسع فى أوساطهم ودفعتهم فى اتجاهات معينة . وهو يحاول التعرف على العلاقة القائمة بين أفكار الخاصة من علماء وفلاسفة ومفكرين وأدباء ومثقفين وطرق العيش الواقعية للناس ، مبيناً كيف تعمل الأفكار فى هذه الدنيا .
لقد شهدت دائرتنا الحضارية العربية الإسلامية فى القرن الأخير اهتماما بتجديد الفكر فيها وبتاريخ الأفكار ، تجلى فى صدور عدد من الكتب التى تناولت التجديد والمجددين . وسار قومنا فى هذا
الاهتمام على منوال أجدادنا الذين عنوا بهذا الأمر وأرخوا للمجددين قرناً بعد قرن.
وقد لاحظ أمين الخولى فى كتابه "المجددون فى الإسلام " " دورية " التجديد معتبراً إياه " ثورة اجتماعية دورية يقوم بها عارف بالحياة متصل بها وعميق الفكرة عنها " . وعرض فى هذا الكتاب على التعريف بتاريخ الأفكار من خلال عرض كتابى السيوطى والمراغى الجرجاوى عن المجددين .
يتداعى إلى الخاطر- ونحن نستحضر جهود علمائنا فى القرن الأخير فى حقل تاريخ الأفكار - مثلٌ على ذلك ما قام به الشيخ حسين المرصفى فى رسالته الموجزة " الكلم الثمان " التى شرح فيها " كلمات جارية على ألسنة الناس لهجوا بذكرها فى هذه الأوقات ، كلفظ الأمة والوطن والحكومة والعدل والظلم والسياسة(28/1)
والحرية والتربية . وعرض لتطور مدلولاتها والأفكار التى تعبر عنها . كما يخطر على البال جهد أحمد أمين فى كتابه " زعماء الإصلاح فى العصر الحديث " وما قام به محمد إقبال فى " تجديد الفكر الدينى " ، وأبو الحسن الندوى فى " رجال الفكر والدعوة فى الإسلام " ، وعبد المتعال الصعيدى فى"المجددون فى الإسلام"، وزكى نجيب محمود فى " تجديد الفكر العربى " ، وفهمى جدعان فى " أسس التقدم عند مفكرى الإسلام فى العالم العربى الحديث " ، و"ينابيع الفكر العربى المعاصر " لعبد الفتاح الديرى ، " وتاريخ موجز للفكر العربى " لحسين مؤنس .
... إن جهود علمائنا هذه فى حقل تاريخ الأفكار تمهد الطريق أمام إسهام عربى معاصر فى دراسة هذا التاريخ بمنهج علمى فى إطار ما يمكن أن نسميه " علم تاريخ الأفكار " الذى يشهد اليوم ازدهاراً فى بعض أوساط الحضارة الغربية . وتدعونا هذه الدراسة من ثم إلى "تأصيل" هذا الفرع من علم التاريخ من خلال استحضار ما حفل به تراثنا من عناية بتاريخ تجديد الفكر والمجددين . وكم هو مفيد بين يدى القيام بهذه الدراسة أن نتعرف على الإسهام الغربى فى بلورة علم تاريخ الأفكار، كما أن من الضرورى أن نكثف الدعوة بين المثقفين للعناية بهذا العلم كى تحدث مراجعة لأحكام تصدر فى أوساطهم على العقل العربى " بقصوره" " وتناقضه " مستندة إلى شواهد تاريخية مفصولة عن سياقها أو تقدم فى مجالٍ غير مجالها ، ومثلٌ على ذلك حدث فى ندوة علمية مؤخراً حين أصدر البعض حكماً على الفكر السياسى العربى عبر العصور بأنه "يعانى اختلالاً أساسيا فى بنيته العامة"
مستشهدين بآراء بعض الصوفيين فى "السياسة " والسياسيين " من حقب مختلفة دون الالتفاف لآراء ذوى الشأن من علماء السياسة ودون اعتماد الدراسة المقارنة مع مجتمعات أخرى معاصرة .
الإسهام الغربى فى دراسة علم تاريخ الأفكار(28/2)
... فى تعرفنا على هذا الإسهام نعتمد على ما كتبه علماء غربيون عنوا بدراسة هذا التاريخ ، وبخاصة كرين برنتون فى كتابه " أفكار ورجال " الذى نقله إلى العربية محمود محمود ، وفرانكلين باومر فى كتابه " الفكر الأوربى الحديث " الذى نقله إلى العربية أحمد حمدى محمود ، ويوهان هويزنجا فى كتابه " أعلام وأفكار نظرات فى التاريخ الثقافى " الذى نقله إلى العربية عبد العزيز جاويد وراجعه زكى نجيب محمود ، وميشيل فوكو فى مقاله "مغامرة السلب : الأدب وتاريخ الأفكار" التى نقلها إلى العربية أحمد عبد الحليم عطية .
ما هو تاريخ الأفكار ؟
هو محاولة للتعرف على العلاقات بين آراء العلماء والفلاسفة والمفكرين والمثقفين فى الأمة وطرق العيش الواقعية للناس الذين يحملون على عواتقهم النهوض بواجبات الحياة المدنية. ومهمة هذا التاريخ هى إدراك دور المذاهب والأفكار التى تدفع الناس فى اتجاه معين . فهو يحاول أن يوضح كيف تعمل الأفكار فى هذه الدنيا ، وهو من ثم يهتم بالأفكار التى تحظى بانتشار واسع على صعيد حياة الناس من خلال الجماعات والحركات البشرية الكبيرة ، ولا يقتصر على أفكار القلة . ورغم أنه يدور داخل نطاق الفكر العقلانى إلا أنه يتناول أفكاراً ترتفع إلى درجة الإيمان والمعتقد . وهو يعِّرف بالقيم التى جاءت من الماضى وبالتعليل التاريخى لكيفية تأثر الناس بهذه القيم ، ويسجل دوراً خاصاً لمبدعى الأفكار وللمثقفين الذين يقومون بنشر هذه الأفكار،ويوليهم عناية خاصة .
ونصب عينيه أن يدرس العلاقة بين ما يقول الناس وما يقومون به فعلاً .
المشكلات الكبرى والأسئلة الدائمة:(28/3)
ينشغل تاريخ الأفكار بالآراء التى يعتنقها الناس بشأن المشكلات الكبرى ، على حد قول كرين برنتون ، منها المشكلات الكونية التى تبحث عما إذا كان للعالم معنى فى مقدور البشر أن يدركوه ، وما هو هذا المعنى ، ومنها المشكلات الخلقية التى تبحث عما إذا كان لما نعمل ولما نريد أن نعمل معنى من المعانى ، وتبحث أيضاً فيما نعنى فعلاً بالخير والشر ، والجميل والقبيح . وقد أوضح برنتون أنه استهدف من كتابه " أفكار ورجال " شرح ما أحسته مجموعات كبيرة من الرجال والنساء فى الغرب بشأن ما يتعلق بالإجابات عن المشكلات الكبرى فى مصير الإنسان . كما أوضح أن تاريخ الفكر عنده هو " مغامرات الأفكار " على حد تعبير الفرث نورث هوايتهد ، وأنه يفضل طرية فيه أساسها " أن التعليم هو عرض المشكلات " على طريق أساسها " أن التعليم هو تثبيت الأفكار " .
العمل فى تاريخ الأفكار -:(28/4)
إن رأى فرانكلين باومر يدور حول خمسة أسئلة وصفها بأنها " أساسية" وشرحها فى فصل من كتابه " الفكر الأوربى الحديث " جعل عنوانه " الأسئلة الدائمة " وقال عنها " إنها تمثل نظراتنا المتطورة إلى الله والطبيعة والإنسان والمجتمع والتاريخ " ، " وهى مكونات للرؤية الجامعة للحياة التى تعبر عنها الكلمة الألمانية weltanschauung ، وإن بزوغها بشكل متواصل فى الاجتماع الإنسانى يدعو إلى استنتاج " أن هناك عنصراً من الثبات وسط التغير التاريخى " . ولذا يمكن وصف هذه الأسئلة بأنها أساسية ودائمة . ويرى " باومر " أن تاريخ الأفكار ينكر أن هناك قوى لا تحس ولا تعقل مثل الكوارث الطبيعية أو التغيرات السكانية تقوم بدور ما فى التاريخ ، ولكنه يؤكد فى الوقت نفسه أن الأفكار كذلك تحرك التاريخ ، أى لا يمكن أن نرد التاريخ إلى علل آليه ، وأن الناس نادراً ما يقدمون على شىء حاسم إلا بتأثير أفكار عامة تعبر عن قيم " ويوتوبيات " ، فأنت إذا انتزعت من التاريخ هذه التطلعات التى اتخذت شكل الصيغة الفكرية ، فما الذى يبقى بعد ذلك؟(28/5)
... إن تاريخ الأفكار يتناول أفكاراً هى بمثابة " إيمان " ومعتقدات " . فنحن لا ننظر إليها ، على حد قول أورتبجا أى جاسيه فى كتابه " التاريخ نسقاً "، كفكرة فحسب ولكننا نؤمن بها " . ولذا فإنها تعد مفتاح أعماق فكر شعب أو عصر. وقد لاحظ باومر أن أهل الرأى يقومون بدور رئيسى فى تاريخ الأفكار . وهذا ما دعاه أن يُحبّذ وصف هذا النوع من التاريخ بالتاريخ الفكرى أو التاريخ الثقافى Intellectual History .ودور أهل الرأى يتضمن تحديد العلاقة بين المفكر وباقى المجتمع . فالمفكر يعكس أفكار أناس آخرين ويزيدها صقلاً ، لأنه على الرغم من عزلته النسبية عن صراعات الحياة العادية مُشارك بفعالية فى متابعتها وتقديم ما يحتاجه المجتمع من فكر نقدى. وتاريخ الأفكار يُعنى فضلاً عن المفكرين مُرَوِّجى الأفكار من عامة المثقفين لأن لهم دوراً فى تعميم الأفكار وترويجها ، وهو من ثم وثيق الصلة بالمثقفين الذين تشمل دائرتهم الواسعة فضلاً عن المفكرين والفلاسفة ورجال العلم وعلماء الدين والباحثين ، ورجال الأدب والفن المبدعين ، ناشرى الأفكار والجمهور القارئ الذكى .(28/6)
... لقد شاع مصطلح " التاريخ الثقافى " أوائل القرن العشرين فى الأوساط الثقافية الأوروبية،وذلك إثر تحول فى النظر إلى العلوم الإنسانية ومناهجها ، شرعه يوهان هويزنجا فى كتابه " أعلام وأفكار " بقوله:"حدث قرب نهاية القرن التاسع عشر أن خُيل للناس أن العلوم الطبيعية بما أحرزته من تطور باهر قد أشارت إلى الأبد إلى المعايير السوية للتضلع الحق فى العلم ، وأنها فرضت من ثم مناهجها على الفكر العصرى بوصفها السبيل الوحيد إلى المعرفة الحقة .. ولكن ما كاد التاريخ يتأثر تأثراً جدياً بهذه المدعيات حتى دوى صوت شعار " ليكن كما هو وإلا فلن يكون " . وقام عدد من الفلاسفة ببحث جوهر المعرفة التاريخية ممن تأثروا بآراء فلهلم دلتاى بين عامى 1894 و 1905، فأمدوا لأول مرة النظرية العصرية بالمعرفة، بالدراسات الإنسانية، بأساس اختصت به، وحرروها من كل أثر لتحكم العلوم الطبيعية فى معاييرها " .
... ينطلق " التاريخ الثقافى " من إدراك وجود علمٍ للتاريخ باعتباره روحاً موضوعية ، أى شكلاً لفهم العالم " ، ومن وعى " أن الإغراق فى التخصص التاريخى والمعرفة التاريخية قد يتحول إلى إنتاج لا روح فيه يكاد يكون ميكانيكيا بحتاً . ومن هنا فإن التاريخ الثقافى يستهدف الثقافة . وهو يتميز عن التاريخ السياسى والتاريخ الاقتصادى -كما يلاحظ هويزنجا- بتركزه على مباحث عامة تكون أشد عمقاً ، يتجه فيها العلماء إلى تحديد أنماط الحياة والفن والفكر مجتمعة كلها . ولذا فإن تفاصيله تنسب إلى حقل الآداب والفضائل والتقاليد والتراث الشعبى وآثار الزمان الخالية . وإن أهم عمل للتاريخ الثقافى هو فهم التركيب العضوى للحضارات ووصف مجراها الفعلى والنوعى المحدد .
مهمة مؤرخ الفكر:(28/7)
... إن مهمة مؤرخ الفكر كما أوضح كرين برينتون فى كتابه رجال وأفكار هى " أن يحاول استنباط مجموعة مركبة من العلاقات بين ما تكتبه قلة من الأفراد ، وما يقوم به فعلاً كثير من الأفراد "، وقد استشهد فرانكلين باومر فى كتابه بما كتبه لورد أكتون سنة 1880: " إن الهدف الكبير فى محاولة فهم التاريخ هو النفاذ فى أعماق الأشخاص والتقاط الأفكار . فللأفكار إشعاع ونماء ، ولها أسلاف وأخلاف " . وذلك تعبيراً عن اقتناع باومر " بضرورة " إدراك دور القوى اللاشخصية التى تسيطر على العالم ، أى المذاهب أو الأفكار التى تدفع الأشياء تجاه عواقب معينة بغير عون الدوافع المحلية أو الوقتية العارضة " . وهكذا فإن مهمة مؤرخ الأفكار هى " قيادة حركة الأفكار التى تُعَد علة الأحداث وليست نتيجة لها". ويمكننا هنا أن نستهدف بما قاله يوهان هويزنجا فى محاضرته " المثل التاريخية العليا للحياة " التى استهل بها عمله أستاذا للتاريخ بجامعة ليدن فى مطلع عام 1915 " أريد أن أحدثكم اليوم عن هذه المُثُل : عن الطريقة التى تؤثر بها المفاهيم التاريخية أو قد تسيطر بها تطور ثقافة أو دولة أو فرد . وأحدثك عن الطريقة التى تُقَدِّم بها الأفكار التاريخية نفسها أحيانا بوصفها أمثلة مباشرة يمكن محاكاتها ، وأحيانا باعتبارها رموزاً ثقافية ملهمة ، وعن الطريقة التى تحاول البشرية ـ إذ تنظر خلفاً وإلى أعلى مثال وهمى للكمال فى الماضى ـ أن تدفع نفسها أماماً بواسطة ذلك المثل الأعلى أو تقضى وقتها تحلم بمثل هذا الوهم الخادع " .
نشأة تاريخ الأفكار وازدهاره:(28/8)
... يُرجع المعنيون بتاريخ الأفكار فى دائرة الحضارة الغربية أصله الحديث إلى القرن الثامن عشر فى " عصر التنوير " الأوربى ، انطلاقاً من أن بعض فلاسفة ذلك العصر من أمثال فولتير حاولوا الربط بين التقدم وارتقاء العقل . ولكن الاهتمام بتاريخ الأفكار لم يلبث أن قلّ في القرن التاسع عشر ، حيث اتجه إلى فروع أخرى من التاريخ وبخاصة التاريخ السياسى ، كما يوضح باومر ، ثم قوى الاهتمام بتاريخ الأفكار منذ نهاية القرن التاسع عشر حين حدث نزاع بين مؤرخى التاريخ الحضارى ومؤرخى التاريخ السياسى حول مجال الدراسة التاريخية ، وطالب الأولون بتاريخ أرحب وأقل تقيداً بالسياسة يتضمن كل جوانب الحضارة ويعطى الجانب الفكرى حقه مع الجانب المادى . وقد استفاد تاريخ الأفكار أيضاً من التمرد الذى حدث على المذهب الوضعى حين برز التحدى لحتمية العلم وقال " دلتاى " : " إن العلوم الإنسانية تزودنا بوسيلة أفضل لإدراك الحقائق التاريخية والاجتماعية " .
... أعطى ولهلم دلتاى الذى يعد مؤسس تاريخ الأفكار ، الصدارة للتاريخ بين العلوم الفكرية ، وجعل العقل البشرى وما يصدر عنه من أفكار الفيصل فى مسائل التاريخ . وعكف على توطيد منهج دراسة تاريخ الأفكار ، ووسع من نطاقة ، بحيث أصبح يضم الفكر العقلانى الذى أكده هيغل ، ونتاج الخيال والإدارة الإنسانية كما يتجلى فى الأدب والفن والدين والفلسفة والعلم . وقام دلتاى بتأكيد مزايا تاريخ الأفكار عملياً بسلسلة دراسات باهرة للرؤية التاريخية للعالم . ولم يلبث لورد أكتون فى بريطانيا أن أشاد بجهود دلتاى ودعا للعناية بتاريخ الأفكار.(28/9)
... توطدت مكانة تاريخ الأفكار فى الربع الثانى من القرن العشرين وسط جو سياسى مشحون شهد صراعاً فكرياً عنيفاً فى الغرب . وكان لما حدث من تفتت متواصل فى المعرفة فى أوساط الحضارة الغربية دور فى تقدم تاريخ الأفكار لصد هذا الاتجاه . وأسهم عدد من أفضل المؤرخين والفلاسفة وعلماء الاجتماع فى ازدهار تاريخ الأفكار مثل أرنست كاسيرر وأرثر لفجوى الذى ادخل دراسة هذا التاريخ فى الولايات المتحدة الأمريكية. وهكذا اكتسب تاريخ الأفكار مكانة بين العلوم الحضارية ، إلا أنه لا يزال محتاجاً إلى تحديد أوضح .
... يتفق المشتغلون بتاريخ الأفكار على أن هذا العلم لا يزال بحاجة إلى تحديد أوضح . ويعمد باومر فى محاولته القيام بهذا التحديد إلى إبراز ما يتميز به تاريخ الأفكار عن فروع أخرى فى علم التاريخ . فمجاله أرحب من مجال تاريخ الفلسفة . لأنه ليس مقصوراً على أفكار القلة أو الموهوبين الذين يعنى بهم تاريخ الفلسفة. وتاريخ الأفكار مهتم بالأفكار التى تحظى بانتشار واسع ، كما قال " لنجوى " وهو يتتبع الأفكار فى أى نطاق يعثر عليها فيه، فمثلاً إذا كانت فكرة التطور العضوى التى بدأت عند علماء الحياة قد انتشرت ، فهى تستحق العناية بها لأنها أثرت فى العلماء والفلاسفة واللاهوتيين والمؤرخين، بل وفى الكتّاب والفنانين . وتاريخ الأفكار يختلف عن تاريخ الفلسفة بأنه يحاول أن يتجاوز الفكر الشخصى إلى الفكر العام ، وهذا يجعله معنيًّا بالمفكرين المبدعين للأفكار وبمروجى هذه الأفكار على السواء . كما أنه لا يرتكز على الأفكار الواضحة: ثمرة الفكر العقلانى المنهجى ، وإنما يهمه الكشف عن الأفكار التى تكون وراء كل الفكر الصورى أو تعد شرطاً له ، فهى بمثابة الافتراضات السابقة .(28/10)
... يلاحظ برنتون وهو يحاول تحديد تاريخ الأفكار أن مؤرخى الفكر يتعرضون لأفكار الفلاسفة ولآراء يعتنقها رجل الشارع على حد سواء ، ونصب أعينهم محاولة تعرف العلاقات بين آراء الفلاسفة والمفكرين والمثقفين ، وطريقة العيش الواقعية للملايين . فحين يتعرض مؤرخ الفكر لنظرية " العقد الاجتماعى " مثلا لايدرسها من حيث كونها من نواحى التفكير المشروع فحسب، بل هو يعالج فهم الأفراد العاديين لها وتأثرهم بها ورؤيتهم لحكامهم فى ضوئها ، وما إذا كانوا احترموا هذا العقد أم مزقوه . وهكذا فإنه يحاول أن يستنبط مجموعة مركبة من العلاقات بين ما تكتبه قلة من الأفراد وما يقوم به فعلا كثير من الأفراد . ويعتقد برنتون أن مهمة مؤرخ الفكر أصبحت أسهل بعد اختراع الطباعة وانتشار الصحف التى يعبر فيها الناس عن آرائهم وتنشر ما تقوله عامتهم، وتقرؤها دائرة واسعة من المثقفين . ويرى برنتون أن هناك ما يسوغ حصر تاريخ الفكر فيما يعرف بالفئة المثقفة ، وما يقوم به هؤلاء المثقفون من أفعال وأقوال وكتابات، وإن كان تاريخهم لا يشمل كل تاريخ الفكر . كما يلاحظ باومر أن تاريخ الأفكار يتميز عن التاريخ الحضارى بأن مجال اهتمامه الأساسى ينصب على أفكار الحضارة بمعناها الأسمى التى تتمثل في الفنون والعلوم والفلسفة وفى مستويات من التقنية .
ما هى مصادر دراسة الأفكار في هذا العلم ؟(28/11)
يقول المشتغلون بتاريخ الأفكار إن هذه المصادر عدة، فيها الأدب، وفيها الفلسفة، وفيها الدين وشعائره وما يحيط به فى أوساط العامة من معتقدات . ويفيد مؤرخ الفكر من بحوث المؤرخ الاجتماعي الذى يدرس أسلوب حياة الناس ومعتقداتهم . وهو يتعرف على الأفراد فى عصر من العصور من خلال هَذه المصادر جميعها . فيعمد مثلاً إلى قراءة " حكايات كانتربرى " لشوسر، وهو يدرس أفكار العصر الوسيط الأوروبي ، كما يقرأ ما كتبه فلاسفة ذلك العصر . وواجبه دومًا أن يجمع في صورة كاملة آراء الناس وأفعالهم المحسوسة ، وهذا هو حاله أن يعنى عناية خاصة بفلسفة التاريخ ليقدم إجابات عن الأسئلة الدائمة المتعلقة بالمُشكلات الكبرى .
يحرص مؤرخ الفكر على تصنيف جميع ضروب الأفكار التي تتضافر في تأليف ما يعرف بالمعرفة ، على حد قول برنتون . وعليه أن يقوم بمهمة البت في أي أنواع المعرفة صادق ، وهو يميز بين المعرفة التراكمية التي نجدها في العلوم الطبيعية والمعرفة اللاتراكمية التي نجدها في الأدب ، وهذا التمييز لا يعني مجال أن ما يصطلح عليه بالعلم في الغرب جيد نافع وأن الأدب والفن والفلسفة رديئة وغير نافعة . ويقع على عاتق مؤرخ الفكر أن يدرس آثار هذين النوعين من المعرفة على السلوك البشري ، وأن يتقصى العلاقة بينهما .
إن مؤرخ الفكر في عصرنا مدعو أمام القدر الكبير من الكتب أن يختار . فكيف يختار ويميز المهم من غير المهم ، وما يوصف بأنه " حي " متجنبًا ما يوصف بأنه " ميت " . "والحي " قد يعني ما تعتقد الغالبية العظمى من الناس صدقه ، على حد قول برنتون ، ويواجه مؤرخ الفكر مسألة وجود معرفة قياسية للقيم ، وإذا كان العلم ضمن المعرفة التراكمية يستطيع أن يبين لنا في كثير من الحالات المحسوسة ما هو حق وما هو باطل ، وما هو عملي وما ليس بعملي ، فإننا في إطار المعرفة اللاتراكمية نجد أنفسنا بحاجة إلى مرجعية نحدد في ضوئها ما هو طيب وما خبيث .(28/12)
نقد تاريخ الأفكار
لاقى هذا الفرع من علم التاريخ معارضين في دائرة حضارة الغرب، فلم يزدهر فى فرنسا – كما لاحظ ميشيل فوكو – الذي علل ذلك " بالشك الفرنسي لأي اتجاه يهدف إلى الشمول " . وقد أوضح الفرنسي ديرونت عام 1960في كتابه "مشكلات ومناهج تاريخ علم النفس الاجتماعي" موقفه المعارض لهذا العلم واصفًا إياه بأنه " يشبه جرابًا واسعًا ويعرض لكل ما سكت عنه التاريخ التقليدي " قائلاً :" إن تاريخ الأفكار ينعطف بشدة صوب كل من العقلية الخالصة والوجود المجرد للفكرة . وهو علاوة على ذلك ينعزل عن الخلفيات الاجتماعية التي يستمد منها أصله . فمن الواضح أنه يعد مجردًا ومثاليًّا، وتجاهل العمل الاجتماعي للافتراضات العقلية . "ولكن فوكو رأى "أن تاريخ الأفكار وقد أميط عنه اللثام يفصح عن تلألؤٍ وبريق وعن رواء الحنين للعودة إلى الشفافية الأولى الفطرية، كما يعبر عن توقع الصبح المُلهم فضلاً عن انبلاج الشفق " . والحنين هنا هو للكلمة الإلهية الصافية الواضحة بنور صدقها الذي تستلهم منه الأفكار دليلها وبرهانها . ( ميشيل فوكو مغامرة السلب : الأدب وتاريخ الأفكار – مجلة ديوجين العدد 97/153 ) .
كان جوهر النقد الموجه لتاريخ الأفكار هو اتهام مؤرخي الأفكار بأنهم ينطلقون من افتراض مسبق يقول:إن العقل أو الروح هو القوة القصوى وراء كل تقدم في التاريخ . ويقر باومر بأن هذا الاتهام صحيح إلى حد ما، ولكن إذا أحسنا الفهم سنرى أن تاريخ الأفكار يقوم بدور الوساطة بين التفسيرين " المثالي " والآلي " للتاريخ . ويعتقد أَتباع المثالية أن الفكرة ليست مجرد مستنسخ من أشياء موجودة خارج العقل ، إنها تمثل قوة لها فاعليتها تنبع من العقل ، وتحاول أن تعرض نفسها في العالم المادي " .(28/13)
لقد عني المشتغلون بعلم الأفكار بتأمل العلاقة بين الفكر والفعل ، فلاحظوا مثلاً أن فكرة الحرية تلد رغبة في استحثاث الفعل الفردي والجماعي – كما يقول فوييه – وأن الفكر يسعى لكي يتحول إلى فعل كما تسعى الكلمة لكي تصبح لحمًا – على حد قول هانيه الذي رأى فكر روسو متجسمًا في الثورة الفرنسية .
ولكن ما هي الأفكار ؟
أجاب عن هذا السؤال برنتون بأخذ الأفكار بمعنى واسع جدًّا ، كأي مثل ملموس لعمل العقل البشري يمكن التعبير عنه بالألفاظ . وضرب مثلاً بأن لفظة "آه" التي تصدر عن رجل يؤذي أصبعه بالمطرقة ليست فكرة ، أما قول الرجل " آذيت أصبعي بالمطرقة " فهو تعبير ساذج، ومن ثم فهو فكرة من الأفكار . فإذا قال الرجل " إن أصبعي تؤلمني لأني آذيتها بالمطرقة " فإن قوله يتضمن أفكارًا أشد تعقيدًا . ويمكن إذا تحدث عن الألم والجهاز العصبي، والألم وعلاقته بالإثم ، فإن الأفكار هنا تدخل مجالي العلم والدين. وقد وقف إدوارد كورنيش في كتابه " دراسة المستقبل " The study of the Future " متأملاً في الأفكار ، فقسمها إلى فئتي "المفاهيم " "والنظريات" . وعرّف المفهوم بأنه الصورة الذهنية لشىء ما . أما النظرية فإنها تربط بين مفهومين أو أكثر لتبين العلاقة بينهم . وهو يقول إن المفاهيم والنظريات هي نماذجنا الذهنية . وحين نقوم بمداورة مفاهيمنا ونقلها بطرق شتى يكون التفكير . ويسعد الإنسان حين يكتشف مفهومًا أو نظرية تتطابق تطابقًا جيدًا مع الحقيقة . وهو حين يريد أن يحل مشكلة يسعى كي يعيد إلى وعيه تلك المفاهيم والنظريات المتعلقة بهذه المشكلة .(28/14)
إن الأفكار هي التي جعلت قيام العُمران والحضارات ممكنًا . وكم من فكرة فعلت فعلها في الاجتماع الإنساني . ومثلٌ على ذلك فكرة تقسيم العمل . ومن الأفكار ما يكون مصدر إلهام وتأثير مثل فكرة الترقي بواسطة الاصطفاء الطبيعي عند داروين التي فعلت فعلها في حياة الغرب خلال القرن التاسع عشر . وللأفكار قوتها التي قد يصعب تقديرها ، ولكنها تمثل مصدرًا ثمينًا للقوة ، وهي من ناحية اقتصادية أكثر أهمية من المواد الخام والمعامل الصناعية وقوة العمل . والعجز عن الفعل كثيرًا ما يرجع إلى الافتقار لا إلى القوة العضلية والمال . والأفكار القوية تحدث تغييرًا جذريًا . والتعليم هو إعادة إنتاج جماعي وتوزيع للأفكار التي تثبت جدارتها . ومن هنا تأتي أهمية العناية بالتنمية المنهجية للأفكار في علم تاريخ الأفكار وعلم دراسة المستقبل على السواء.
مصطلح الفكر في حضارتنا :
آن لنا - بعد أن تعرفنا على الإسهام الغربي في بلورة علم تاريخ الأفكار - أن نتأمل في دلالة مصطلح الفكر في لساننا العربي ، توطئة للتعرف على الأفكار في حضارتنا .
الفكر بالكسر والفتح هو " إعمال الخاطر في الشىء" عند صاحب لسان العرب . وهو " إعمال النظر في الشىء" عند صاحب المحيط . وجمعه أفكار . وسيبويه يرى أنه لا يجمع . والفكرة عند الأصبهانى صاحب " المفردات في غريب القرآن " " قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم " . والتفكير هو " جولان تلك القوة بحسب نظر العقل " ، وذلك للإنسان دون الحيوان . ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب . ولهذا رُوي "تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله " . إذ أن الله مُنَزَّهٌ عن أن يوصف بصورة. وقد ورد لفظ " التفكر " في عدة آيات قرآنية. والتفكر عند الجوهري هو "التأمل". والاسم هو الفكر والفكرة .(28/15)
مصطلح الفكر عند الجرجاني يعني "ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول" . وذلك في التعريفات.وقد نقل عبد الرؤوف ابن المناوي صاحب " التوقيف في كل مهمات التعريف " عن الأكمل قوله: "الفكر حركة النفس من المطالب إلى الأوائل ، والرجوع منها إليها " . ونقل عن العكبري قوله " الفكر جولان الخاطر في النفس " .
يلفت النظر في تعريفات مصطلح الفكر في تراثنا أنها تربطه " بالخاطر " الذي هو عند الجرجاني " ما يرد على القلب من الخطاب أو الوارد الذي لا عمل للعبد فيه " . والخاطر في لسان العرب هو " ما يخطر في القلب من تدبير أو أمر " . ويقال خطر بالبال وعلى البال إذا وقع في البال والوهم . ويلاحظ ابن المناوي صاحب التوقيف " أن أصل تركيبه يدل على الاضطراب والحركة " كما ذكر المطرزي . " والخاطر اسم لما يتحرك في القلب من رأي أو معنى ثم سُمي محله باسم ذلك وهو من الصفات الغالبة " .
لقد عني علماء حضارتنا العربية الإسلامية بدراسة العلاقة بين الفكر والفعل . وأوجز ابن قيم الجوزية في فوائده شرح هذه العلاقة بقوله:" مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار ، فإنها توجب التصورات ، والتصورات تدعو إلى الإرادات ، والإرادات تقتضي وقوع الفعل ، وكثرة تكراره تعطي العادة " . ووصف هذا القول بأنه قاعدة جليلة . كما أوضح ابن قيم الجوزية في الفوائد أيضًا ما يمكن أن نسميه اليوم آلية هذه العلاقة قائلاً: " اعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر ، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر ، فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الإرادة ، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل ، فَتَستَحْكم فتصير عادة، فردّها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها " .(28/16)
كان ممن تأمل هذه العلاقة بين الفكر والفعل أبو حامد الغزالي الذي جعل التفكر موضوع الكتاب التاسع من ربع المنجيات من كتب إحياء علوم الدين . وقد أوضح " أن الفكر هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار ، وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم . وأكثر الناس عرفوا فضله ومرتبته ،لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره ومورده ومجراه ومسرحه وطريقته وكيفيته ، ولم يعلم أنه كيف يتفكر وفبماذا يتفكر ولماذا يتفكر ، وما الذي يطلب به ،أهو مراد لعينه أم لثمرة تستفاد منه فإن كان لثمرة فما تلك الثمرة أهي من العلوم أو من الأحوال أو منهما جميعًا ؟ وكشف جميع ذلك مهم " . وهذا ما حداه إلى أن يذكر فضيلة التفكر ثم حقيقة التفكر وثمرته ثم مجاري الفكر ومسارحه . وقد بيّن أن معنى الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة ، وجاء بمثال على ذلك . وميّز بين التقليد والمعرفة التي تأتي من خلال التفكر . ولاحظ " أن المعرفة نتاج المعرفة فإذا حصلت معرفة أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل من ذلك نتاج آخر . وهكذا يتمادى النتاج وتتمادى العلوم والفكر إلى غير نهاية " .
واضح أن أجدادنا عنوا بالنظر في الفكر والتفكر والتفكير ، على غير ما تصور البعض من أن عنايتهم اقتصرت على العلم والتعلم والتعليم ، وقد رأو في الفكر سبيلاً للمعرفة، ومكونًا للتصورات التي تأتي بالإرادات ومن ثم بالفعل .
والآن .. ماذا عن الاشتغال بتاريخ الأفكار في حضارتنا العربية الإسلامية ؟ هل حدث مثل هذا الاشتغال في الماضي ؛ وكيف نراه اليوم في الحاضر ؟
تأصيل تاريخ علم الأفكار :(28/17)
الحق أننا نجد عناية في أوساط علمائنا جيلاً بعد جيل بمتابعة تاريخ الأفكار، فقد أدرك هؤلاء العلماء أن التطور هو قانون الوجود قاطبة – كما يقول د. محفوظ عزام في " بحث مفهوم التطور في الفكر العربي " ، فكان أن درسوا التطور في اللغة وفي الأدب وفي الفقه وفي السياسة ، فلكل زمان دولة ورجال . واهتموا بالتصنيف والمفاضلة والترتيب . كما أن هؤلاء العلماء انطلقوا من فكرة " التجديد " التي أخذت بعدًا عقيديًّا بفضل " حديث التجديد " ليتتبعوا ما حدث من تجديد . وهكذا تستوقفنا كتب الأوائل والطبقات وتراجم أعلام القرون والكتب المختصة بالتجديد والمجددين . وإننا لواجدون في هذه الكتب رصدًا لأفكار فعلت فعلها في حياة الناس عبر العصور عصرًا بعد عصر .
لافتٌ للنظر أن الاهتمام بتجديد الفكر وتاريخ الأفكار تعاظم في أوساط حضارتنا العربية الإسلامية في القرن الأخير، كما سبق أن ذكرنا في مستهل هذه الدراسة . ومكننا أن نعزو ذلك إلى المرحلة التي عاشتها الأمة وما برز فيها من حاجة لهذا الأمر ، وإلى التفاعل الذي حدث مع الفكر الغربي . وقد رأينا كيف عني الشيخ حسين المرصفي بشرح الكلمات الثمان ، وهي تتصل مباشرة بدائرتي الإنسان والمجتمع . ويتداعى الخاطر كيف استشعر محمد إقبال الحاجة لتجديد الفكر الديني في الإسلام فأصدر كتابه وطرح فيه أسئلة تذكرنا بما سماه بأوامر " الأسئلة الدائمة " . فما طبيعة العالم الذي نعيش فيه كما صوره القرآن ؟ وما طبيعة الإنسان الذي يواجه هذا العالم؟ وقد أوضح أن الإنسانية تحتاج إلى ثلاثة أمور : تأويل الكون تأويلاً روحيًا ، وتحرير روح الفرد ، ووضع مبادئ أساسية ذات أهمية عالمية توجه تطور المجتمع على أساس روحي ، وكان العالم يعيش فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى .(28/18)
لقد حاول أبو الحسن علي الحسني الندوي أن يكتب تاريخًا للأفكار في حضارتنا العربية الإسلامية وذلك في كتابه "رجال الفكر والدعوة في الإسلام " الذي ألقاه محاضرات في جامعة دمشق أواخر الخمسينيات.وأذكر أنني حضرت تلك المحاضرات أثناء دراستي الجامعية هناك ، وقد استوقفني استهلاله إياها بقوله : " من الحقائق الأولية أن الحياة متحركة ومتطورة دائمة الشباب ، مستمرة النمو ، تنتقل من طور إلى طور ومن لون إلى لون ، لا تعرف الوقوف ولا الركود، ولا تصاب بالهرم والتعطل ، فلا يسايرها في رحلتها الطويلة المتواصلة إلا دين حافل بالحركة والنشاط ، لا يتخلف عن ركب الحياة ولا يعجز عن مسايرته وزمالته ، ولا تقصر عن خطواته، ولا تنفد حيويته ونشاطه " .وجعل محور كتابه تاريخ الإصلاح والتجديد . وحرص في فصله الأول على أن يبين أن من يؤلف في تاريخ الإصلاح " يجب أن يعيش في كتب الشخصيات العظيمة ومؤلفاتها وأفكارها مدة ويتذوق أدبها وفكرتها ويتنسم طيبها ، ويحاول أن ينتقل من جوه إلى جو هؤلاء الرجال ، ومن عصره إلى عصرهم ، حتى يعرفهم على حقيقتهم ويصورهم في حقيقتهم " . ومثل آخر يتداعى إلى الخاطر هو قيام زكي نجيب محمود في مطلع السبعينيات بكتابه " تجديد الفكر العربي " في محاولة للإجابة عن سؤال ألح عليه طويلاً " يسأل عن طريق للفكر العربي المعاصر يضمن له أن يكون عربيًّا حقًّا ومعاصرًا حقًّا " . ولسان حاله يقول " نعم لابد من تركيبة عضوية يمتزج فيها تراثنا مع عناصر العصر الراهن الذي نعيش فيه ، لنكون بهذه التركيبة العضوية عربًا ومعاصرين في آن . " وواضح أن تمثُّل التراث إنما يتحقق من دراسة تاريخ الأفكار" .(28/19)
الأمثلة عدة على محاولات عربية معاصرة جادة في دراسة علم تاريخ الأفكار وكتابته . ومن أحداثها كتاب زميلنا المجمعي حسين مؤنس " تاريخ موجز للفكر العربي " . وقد أوضح في مقدمة كتابه أنه ليس لدينا تواريخ كافية للفكر العربي ، وإن كان لدينا تواريخ للأدب العربي مثل تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف . كما أوضح في خاتمة كتابه أنه عني بتتبع الأفكار والحركات وتطوراتها ، واهتم بالجوانب الإنسانية والصدق وأمانة الفكر ومسؤوليته ، ورأى أن أي فكر نافع هو الحرية والعدل ، "لأن النسور المحلقة لا تعيش في الأقفاص ."(28/20)
نستطيع أن نلاحظ ونحن نقرأ هذه المحاولات العربية الجادة في علم تاريخ الأفكار أن كلاًّ من القائمين بها كان له منهجه في مقاربة موضوعه . وغالبًا ما يتحدث عن هذا المنهج بإيجاز أو بشىء من التفصيل في مقدمة كتابه أو في الفصل الأول منه . وقد جاء حديث أحمد أمين على هذا الصعيد في كتابه" زعماء الإصلاح في العصر الحديث" شديد الإيجاز. ونلاحظ أيضًا أن هناك تشابهًا بين الموضوعات التي جرى تتبعها في هذه المحاولات . وهي موضوعات متصلة بالأسئلة الدائمة الخمسة عن الخالق جلَّ وعلا، والطبيعة والإنسان والمجتمع والتاريخ. ولكن كل محاولة سلكت طريقها في معالجة هذه الموضوعات أو بعضها . ويتداعى إلى الخاطر ما أولاه أمين الخولي في كتابه " المجددون في الإسلام " لتتبع التطور الاعتقادي لدى المجددين وما نجمت عنه من آثار في حياة الناس . وقد وصف في حديثه عما قدم المجددون للحياة الدينية كيف كان الأشعري إمام العقيدة " يخلع فوق منبر المسجد الجامع عقيدة ، كما انخلعَ من ثوبه فعلاً أمام المشاهدين ، ليلبس ثوبًا معنويًّا جديدًا " . والجدول الذي أعده للتطور الاعتقادي العام يتضمن القضايا التي كانت تشغل الناس آنذاك بشأن العقيدة . والفكرة التي تتبلور على هذا الصعيد هي حق الفهم الصحيح للدين وحرية الاعتقاد . وقد مضى أمين الخولي في ختام كتابه يتحدث عما قدم المجددون للحياة الخلقية ، من شعور بالوحدة الاجتماعية ، وللحياة العلمية من سعة أفق وإجلال للعلم وتصحيح منهج التفكير والفدائية العلمية والتنفير من التقليد . وأخيرًا ما قدمه المجددون للحياة العملية من إصلاح العلاقة بين الدين والحياة العاقلة وتقديم نموذج رفيع للسلوك .
وبعد ………(28/21)
فواضح أن هذه المحاولات تسير قدمًا نحو تحديد دقيق لعلم تاريخ الأفكار يبين مكانه من علم التاريخ بعامة ، يبلور منهجًا لمقاربته ، ويرتب موضوعاته ، ويرسم خطوات العمل في إطاره . ويقينًا فإن ازدهار هذا العلم يساعد على النهوض بمسؤولية تجديد الفكر ، وإشاعة مناخ نفسي يتجاوز الإحباط، ويحثُّ على الفعل.
أحمد صدقى الدجانى
عضو المجمع المراسل
من فلسطين(28/22)
الجزء
الثانى والثمانونالمحرم 1419هـ/ مايو 1998م(29/1)
أولا - مؤلف هذا الكتاب "معجم البلدان الليبية "
عالم من علماء ليبيا الكبار، ومجاهد من المجاهدين في سبيل الله العظام ، شارك في معارك الجهاد ضد الغزاة الطليان ، وهاجر فيمن هاجر من الليبيين، تفاديا لملاحقتهم والتعرض لعقوباتهم والوقوع في أسرهم بعد المعارك الشرسة التي خاضوها ضدهم، وبعد أن قدَّموا كل ما يستطيعون دفاعا عن دينهم ووطنهم ، وغُلبوا عن مواصلة المقاومة والجهاد ، كانت هجرتهم أمرًا لا مفر منه، وضرورة لا محيد عنها ، وتدبيرا أملته ظروف المقاومة وتفوق العدو في العدد والعُدة ، وبذلك وصل الشيخ الطاهر الزاوي إلى القاهرة في يونيو سنة (1924م)، وكان التحاقه الثاني بالأزهر الشريف ، وإقامته بالقاهرة إلى سنة 1969م عندما قامت ثورة الفاتح العظيمة فعيَّنه مجلس قيادتها "مفتي الجمهورية العربية الليبية" . وبقي في هذا المنصب إلى أن
توفى –رحمه الله تعالى- في الخامس من مارس سنة 1986م ، ودفن بقريته "الحَرْشَا" التي ولد فيها، وظل يذكرها بكل حب وشوق ، وقال عنها في كتابه الذي نقدمه :"وهي بلدي وموطن عشيرتي وأجدادي ولدت بها سنة (1890م).
بلاد بها نيطت عليَّ تمائمي
... وأول أرضٍ مَسَّ جِلْدي ترابُها
وقبل هذا النص قال :" الحَرْشا قرية من قُرَى الزاوية، وتقع غربيها بنحو (3/كم) "، وقد فصل الحديث عنها أكثر من غيرها لعلمه بأحوالها وأنساب سكانها ووشائج الصلات بينهم ( من ص :112-116)، كما فصل الحديث عن نشأته وأطوار حياته، وما قام به من الأعمال الجليلة في الترجمة التي كتبها لنفسه ، وسجلت في كتاب "الأعضاء المراسلون لمجمع اللغة العربية ": (ص:85-87)، فقد كان عضوا مراسلا به إلى أن توفى رحمه الله تعالى،كما ذكر فيها مؤلفاته(30/1)
التي ألَّفها أثناء إقامته بمصر وبعد رجوعه إلى بلده ليبيا ، إذ المعروف عنه أنه كان يعيش عيشة العلماء الزاهدين الحريصين على المعرفة ونشرها، وأنه لا يتحرج في السؤال عن شىء لا يعرفه، وقد عرفت ذلك منه بنفسي لما كنت عليه من قوة الصلة به ، وهو لم يترك القراءة والكتابة والتأليف إلى أن توفى – رحمه الله تعالى -.
ثانيا - الكتاب"معجم البلدان الليبية": مصادره ومنهجه :
وفي الترجمة المذكورة نجد من مؤلفاته كتابه :"معجم البلدان الليبية"، وقد كانت طبعته الأولى سنة(1388هـ –1968م): قبل ثورة الفاتح بسنة ، ولأن موضوعه يدخل في أعمال دورة مؤتمر المجمع الحالية؛ فإنه يسعدني أن أقدِّمه في دراسة مختصرة وملاحظات وتصويبات قليلة، وأن أقدم نصوصا منه ونماذج لمنهجه في تحديد البلاد الليبية،فهي من الأعلام الجغرافية التي يجعلها المجمع في هذه الدورة موضوعه الرئيسى .
وقد قدَّم له بمقدمة جيدة تضمنت بيان ما يلي :
أ – الغرض من تأليفه :هو التعريف بالبلاد الليبية ، وتسهيل معرفتها على المواطنين الليبيين والعلماء والباحثين وغيرهم ،فإن كثيرا مما ذكر منها في الكتب مُفرَّق فيها تصعب معرفته ، قال :" وبعد فإن كثيرا من المؤرخين أصحاب الرحلات والجغرافيين – قديما وحديثًا – ذكروا بعض البلدان الليبية مفرّقة في كتب عربية وإفرنجية، يصعب على كثير من المواطنين معرفتها خصوصا في العصور الأخيرة، حيث أنشئت قرى جديدة ، واستحالت بعض القرى إلى مدن ، واستبحر عمران المدن واتسع محيطها ".(ص:5) – وهذا قول صحيح يسوِّغ لنا القول بأن كثيرا مما كتبه هو نفسه عن المدن الليبية، وعدد سكانها واتساع عمرانها، وازدهار الحياة فيها، يحتاج إلى مراجعة واسعة، وتعديل في كثير من الأحيان ، وسأقدم مثالا لذلك: مدينة طرابلس باعتبارها كبرى المدن الليبية وأزحمها .
ب – مصادره التي اعتمد عليها فى تأليفه وهي نوعان :(30/2)
الأول - معلوماته التي اكتسبها من مشاهداته في البلاد الليبية أثناء تجواله فيها: فقد أتاحت له فرصة وجوده في ليبيا من أكتوبر سنة 1919م إلى آخر ديسمبر سنة 1923م – ومن أكتوبر سنة 1964م إلى أكتوبر سنة 1965م أن يتجول فيها غربا وشرقا وجنوبا – في رحلات كثيرة. بيّنها في الهامش. وقد شاهد فيها كثيرا من أودية ليبيا ورباها وجبالها وعامرها وغامرها وكثيرا مما تركه الروم واليونان والبربر من أطلال القصور وخرائب الدور المنتشرة في بطون الصحراء والأودية ، ومجاري المياه وسفوح الجبال ، وكثيرا من مدنها وقراها وتعرَّف على كثير من سكانها إلى أن قال :" مما جعلني أفكر في كتابة معجم للبلدان الليبية ، وكنت أثناء رحلاتي أقيد بعض الملحوظات فيما يتعلق بأسماء البلاد والسكان وبعض الآثار التي مررت بها " وقال :" ولما استقَّر بي المقام في مصر في منتصف سنة 1924م، أخذت في مراجعة ما قيَّدته، وما علمته من مشاهداتي فوجدْت فيه ما شجعني على اعتزام جمعه ليكون نواة لمعجم البلدان الليبية ، واعتزمت الأمر " .
هذا هو مصدره الأول ، وهو مصدر أساسي لهذا الكتاب ، وثرى جدًا بالمعلومات لا غنى عنه ، وميزة كبرى له تجعله في صف معاجم البلدان ، وكتب الرحلات التي اعتمد مؤلفوها على المشاهدة والاطلاع الشخصي .(30/3)
الثاني - الكتب التي ذكرت البلاد الليبية: فقد رجع إلى كثير منها مثل " الروض المعطار في أخبار الأقطار " لأبي عبد الله محمد الحميري ، و " رحلة التيجاني " للأستاذ أبى محمد عبد الله التجاني، و" معجم البلدان " لياقوت الحموي، وغيرها من المراجع التاريخية والجغرافية. وقد ذكرها في فهرس خاص بها، وكانت نتيجة هذا الجهد الشخصي والمرجعي في قوله :" فجمعت ما أمكنني جمعه ، وعرَّفت جميع المدن ، وبعض القرى تعريفا مختصرا موضحا، وأرَّخت للمشهور منها سواء كانت موجودة قبل الفتح الإسلامي أو وجدت بعده " . و" ذكرت ما وصل إليه علمي من مدن أثرية وغيرها، وقرى وأمكنة وجبال وأودية ، ومساجد ومدارس وأبراج وعيون جارية وآبار لها شهرة ،وقصور جاهلية ضاربة في الصحراء هنا وهناك " .
وهذا النص يبين أصناف المسميات التي ذكرها في هذا المعجم وأنها تصل إلى أحد عشر نوعا أو معْلَما من معالم التاريخ والحضارة والدين والطبيعة .
ويبين النص السابق عليه أن تعريفه بها كان مختصرا واضحا،وأن التاريخ إنما كان للمدن المشهورة . وهذا هو الطابع العام للكتاب، والذي يدل عليه حجمه، فهو لا يزيد عن ثلاثمائة وثلاث وثمانين صفحة بالفهارس،وما ذكر فيه من أسماء الأصناف المذكورة يقرب من ألف اسم لم يكتب عن أغلبها غير سطر أو أسطر قليلة.
ج – سمات منهجه وهي :
1 – الإشارة إلى ما وقع في المدن والقرى والأمكنة من أحداث تسترعى النظر مثل الوقائع الحربية التي كانت بين الليبيين والطليان، أو بين الليبيين بعضهم مع بعض كما نبهت على بعض الأمكنة أنها غير معروفة " .
وهذه السمة من منهجه نجد لها شواهد كثيرة في الكتاب .
2 – ذكره اسمى البلد القديم والحديث إذا كان لها ذلك .(30/4)
3 – بحثه في كثير من الأسماء لمعرفة أصلها العربي أو غيره ، ومحاولته في بعض الأحيان إيجاد أصل لغوي لبعض الألفاظ المستعملة في طرابلس خصوصا في الشعر البدوي إلى أن يقول :" وبعض الألفاظ قد يكون ربطه بالأصل اللغوي غير واضح ولكنه يستأنس به ، ومثل هذه المحاولات قد يفتح بابا للبحث لمن يرغب في ذلك ، فلربما هداه بحثه إلى أوضح مما اهتديت إليه".
وهذا إنصاف منه وأدب من آداب العلماء الحريصين على الحقيقة ، وهو جانب يحتاج إلى المراجعة والتمحيص والتقويم .
ومن تمام هذه السمة أنه أشار إلى كثير من الأسماء التي ترجع إلى اللغة البربرية وإلى الأسماء التي تطلق على المكان والسكان .
وقد ذكر في بعض المناسبات بعض القبائل العربية فى ليبيا ، ونسبتها إلى أصولها الأولى .
4 – تحديده المسافات بين بلد وآخر، أو مكان وآخر بالكيلو متر – في كثير من الأحيان تسهيلا على القارئ والباحثين .
5 – ترتيبه ما ذكر فيه من أسماء على حروف المعجم ، يقول في نهاية مقدمته التي نقلنا منها ما سلف بتصرف :"وسميت ما جمعته ( معجم البلدان الليبية ) ورتبته على حروف المعجم : (أ،ب،ت) وها هو أقدمه إلى مواطنى ، وإلى المكتبة العربية في ثوب لا شك أنه ( نسيج وحده ) لأنه لم يسبق أن ذكرت البلدان الليبية في مثل هذا التفصيل المجمل .
وما كان من الأسماء مبدوءا بكلمة (ابن ) أو (أبو) أو (أم) ذكرته في حرف الهمزة ، وما كان مبدوءا بأداة التعريف (أل) ذكرته في الحرف الذي يليها مباشرة".
وهو يعتقد أن هذا المعجم يصور ليبيا تصويرا يسهل على من لم يعرفها أن يتصورها كما لو كان منها ، ومن خلاله يمكن معرفة كثير من تلك الوقائع الحمر التي خاضها الشعب الليبي مع الطليان مدة عشرين سنة؛ دفاعا عن وطنه وذودا عن كرامته .(30/5)
ولكنه لا يدعى أنه استوعب كل ما اشتملت عليه ليبيا من قرى وأمكنة ، وإنما ذكر ما وصل إليه علمه، وعثر عليه في بطون الكتب ، واستفاده من سؤال من وثق به، واطمأنت نفسه إلى صحة قوله. ويعتقد أنه ما فاته إلا القليل ، ويختم ذلك كله بقوله : " وعذري عما فاتني أني بذلك جهدي، وما وراء ذلك فعلى الشباب الليبي أن يقوم به وما ذلك عليهم بعزيز " ( المقدمة من ص 5 – 9 ).
ثالثًا – محتوى الكتاب :
ثم إن هذا المعجم يتكون – كما سبق – من ثلاثمائة وثلاث وثمانين صفحة ويشمل ما يقرب من ألف اسم من أسماء أصناف الأعلام الجغرافية التي سبق ذكرها، ويمكن تصنيف هذه الأسماء في المجموعات التالية .
1 – أسماء المدن والقرى : فقد ذكر كثيرا منها موزعة على حروف الهجاء ، مثل: أجدابية ، أطرابلس ، برقة ، بنغازي ، البياضة ، تاجورة ، تاورغاء ، ترهونة ، جادو، جالو ، جرمة ، درنة ، الزاوية الغربية ، زوارة ، سبها ، سلوق ، سرت الجديدة ، وسرت القديمة ، شحات ، صبراته ، طمينة ، طبرق ، غدامس ، غات…
ويجب أن يلاحظ أن البلدان الليبية التي غير الإيطاليون أسماءها فسموها باسم أحد زعمائهم أو بغيرهم ، رجعت إليها أسماؤها العربية بعد الاستقلال، خصوصا بعد إجلاء المستوطنين الإيطاليين عن ليبيا وكان عددهم كبيرًا في طرابلس ، وقد تم هذا الإجلاء بعد قيام ثورة الفاتح من سبتمبر في 7/10/1970م .
وأوضح مثل لذلك – فيما أعلم – طُمِّينة – وهي بضم الطاء وكسر الميم المشدّدة – ويقول المؤلف في التعريف بها:"طُمِّينة أرض زراعية جيدة التربية من أملاك أهل مصراته وتقع جنوبيِّها ، بنحو اثنى عشر (12) كم .(30/6)
وقد اغتصبها الإيطاليون، واستنبطوا فيها أربع عشرة نافورة ماء من جوف الأرض، لسقى الزراعة يندفع منها الماء بقوة عظيمة من ذات نفسه دون آلات رافعة ، وقد أنشأوا بها قرية كبيرة وسموها : " كريسبي " على اسم أحد الوزراء الإيطاليين الذين كانوا يحرِّضون حكومة روما على احتلال طرابلس ،وأطلق اسم كريسبي على الجهة كلها،وصارت تعرف به . وفيها بساتين كثيرة ومزارع واسعة وكان أكثر سكانها من الإيطاليين … وقد رحل عنها أكثر الإيطاليين ، وأصبح أكثر سكانها من العرب " .
وأقول : بل رحل عنها كل الإيطاليين أو رحلوا، وهي الآن منطقة عربية الاسم والسكان ومظاهر الحياة الدينية والاجتماعية،نالها ما نال البلاد الليبية كلها من التقدم والتطور وازدهار العمران وتوفر وسائل الحياة ، ومثلها في ذلك الدفنية التي تقع غربي مصراته بينها وبين زليتن ، والتي اغتصبها الإيطاليون – أيضا وسموها (غريبالدي ) أحد مشاهير الإيطاليين وغيرهما كثير .
2 – أسماء الأمكنة أو القرى أو الآبار أو الوديان أو غيرها التي قد يكون أصلها أسماء أشخاص – أو مازالت – وهي الأسماء المصدرة بابن، أو أب، أو أم ، وقد ذكر منها مجموعة كبيرة فى حرف الألف مثل :
أ – " ابن همَّال : اسم رجل مدفون بمكان غربي سرت بنحو (4كم ) وله مقام مشهور وبه سُمِّي المكان " ، وهو الآن – فيما أعلم يقع في طرف مدينة سرت الغربي وقد أقيم في المكان مسجد حديث البناء .
ب – " أبو رُقيّة : اسم ولي في زليتن وبه سمي المكان " .
ج – " أم الجوابي : بئر من كبار قِطِّيس ، ماؤها مُرّ وتقع جنوبي الزاوية بنحو (65/كم).
د – " أم العظام : واحة من واحات فزّان في الجنوب الشرقي من أم الأرانب " .
3 – أسماء الآبار – وقد ذكر طائفة كبيرة منها في حرف الباء – مثل :(30/7)
أ – " بئر أبي الكُنُود : بئر كانت بوسط مدينة طرابلس ، وكان يشاع بين سكان المدينة أن شرب مائها يورث الحمق ، وقد ذكر التجاني في رحلته أن رآها سنة (708هـ)، ورأى الناس يشربون منها ولا يتحرجون مع علمهم بما يقال عنها، وما زال كثير من سكان المدينة الطاعنون في السن يذكرونها ، ولم أهتد لمكانها " .
ب – " الغُبَىّ : تقع شرقي بنغازي إلى الجنوب قليلا بنحو ( 550 / كم ) .
ج – " بئر الميامين في أرض وِرْشِفَّانة " .
4 – أسماء الجبال وقد ذكر طائفة منها في حرف الجيم – مثل :
أ – " الجبل الأخضر : جبل يمتد في سهول برقة الشمالية الساحلية من الغرب إلى الشرق على مسافة ( 400 كم تقريبا ) ، خصب الأرض ،كثير الأشجار، كثير ينابيع المياه ، ولا يقل ما فيه من الينابيع عن ( 55 عينا ) .
ب – " جبل نَفُوسة ( بفتح النون وضم الفاء مخففة ) – هو سلسلة جبال صخرية تمتد من الغرب إلى الشرق ، وهو جزء من سلسلة جبال أطلس التي تبتدئ من بحر الظلمات،وتمر بمراكش والجزائر وتونس وطرابلس .
ويبتدئ جبل نفوسة من الغرب من غربي نالوت ، وينتهي بحدود غريان الشرقية ، وطول هذه المسافة حوالي (200 كم )، وتستمر سلسلة الجبل إلى النَّقَّازة ، وكلما مرَّت ببلاد سميت باسمها إلى مدينة الخمس، وتبلغ هذه المسافة حوالي ( 400 كم ) .
وكان جبل نفوسة ومازال إلى الآن موطن البربر ومحل إقامتهم الدائمة وممتلكاتهم الخاصة. وبعد أن استقر العرب في إفريقية شاركوا البربر في سكناه ، وأنشأوا فيه كثيرا من القُرى الخاصة بهم ، وتجد في سُفُوحه الشمالية والجنوبية كثيرا من الأراضي الخصبة والأراضي الفسيحة .
وفيه كثير من العيون الجارية : عين الترك في غريان ، وعين الرومية في يفرن وعين الرابطة، وعين الرياينة،والعين الزرقاء ( في جادو ) ، وعين ( أم القِرَب ( في الرحيبات ) ، وتختلف ينابيع هذه العيون قوة وضعفا، وأكثرها نفعا للزراعة عين الرابطة، وعين الرومية في يفرن .(30/8)
وسمي جبل نَفُوسة باسم قبيلة نفوسة البربرية التي كانت تسكنه ، ومازالت تسكنه ،وهي من أكبر قبائل البربر " .
5 – الجوامع والزوايا والمساجد – جمعتها لأنها متداخلة، ولأن المؤلف عبر بهذه الكلمات الثلاث – ويلحق بها المدارس التي ذكرها – فهي مدارس دينية قديمة – وأذكر منها كلها مما ذكره المؤلف ما يلي:
أ – " جامع أحمد باشا ( القرمانلي ) الذي حكم طرابلس من يوليو سنة 1711م إلى نوفمبر 1745م من أكبر جوامع طرابلس وأشهرها وأحسنها زخرفا وبناء على الطراز العربي الممتاز ، كأحسن ما يكون عليه الفن العربي من الإتقان والجمال " وقد أعيد بناؤه كأصله بكل ما فيه من إتقان وزخرف بعد إصابته بقنبلة طائرة في الحرب العالمية الثانية " ، وبه "مدرسة أحمد باشا " – التي ذكرها المؤلف في (حرف الميم) ، وقال عنها :" بناها أحمد باشا القرمانلي،معهدا لتعليم القرآن والعلم، وفيها حُجُر كثيرة ( خلاوي ) لسكنى الطلبة واستراحة المدرسين ، وأوقف عليها أوقافا للصرف منها على المحتاجين من الطلبة وهي ملحقة بالجامع".
ب - مسجد درنة – ذكره المؤلف في حديثه عن مكانه : (درنة ) ( في حرف الدال ، فقال :" وبها مسجد فخم يتكون سقفه من (42) قبه ، بناه حاكمها محمود بك درنة القرمانلي سنة ( 1101هـ) ، وقد أعاد الحديث عنه في ( حرف الميم) . مضيفا إلى ما سبق قوله :" وهذا المسجد من أفخم مساجد برقة " .
ج – مسجد الشعَّاب : مسجد أثري من مساجد طرابلس القديمة،بني في أوائل المائة الثالثة الهجرية، ابتدأ بناء هذا المسجد أحد الطرابلسيين وعجز عن إتمامه ، ولما علم الشيخ الشعاب بذلك استأذن صاحبه في إتمامه فأذن له أمام قاضى البلد، فأتمه الشيخ الشعاب ولزمه وعرف به " .
د – مسجد زروق :" بناه خادمه أحمد بعد وفاة الشيخ بنحو عشرين سنة، وسكن بجواره وتولاه أحفاده من بعده " .
ولما مرَّ به الأستاذ العياشي سنة 1073هـ وجد به حفيده أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد خادم الشيخ .(30/9)
وقد كان ملحقا به مساكن للطلبة : ( خلاوي )، ومدرسة لتعليم القرآن والعلم، ومثل هذا المسجد بملحقاته يسمى زاوية في العرف الليبي ، ولذلك أعاد الحديث عنه في بلده ( مصراته ) فقال:"وبها: ( أي مصراته) زاوية الزروق، وزاوية المحجوب، وزاوية المدني ، وكل منها تعلم أولاد المسلمين القرآن وبعض الدروس الدينية " .
والزوايا كان لها دور وشأن كبيران في المجتمع الليبى ، وتاريخه وحياته الروحية والعلمية، إذ كانت مساجد عبادة ومراكز تعليم – خصوصا في عهود الاستعمار – ومأوى للطلاب ومصدر إعاشة لهم بأوقافها التي أوقفها المحسنون عليها ، كما كانت ثكنات للجهاد، وتجمع المجاهدين ، ولذلك كانت محلَّ اهتمام المؤلف بما كانت تمثله من معنى تاريخي وروحي وحضاري .
د – وأبرز هذه الزوايا وأظهر نموذج لها زاوية الشيخ عبد السلام الأسمر، بزليتين التي قال عنها المؤلف :" من أشهر زوايا زليتين وتعرف بزاوية الشيخ ومهمتها تعليم العلم وتحفيظ القرآن، وفيها حُجُر كثيرة (خلاوي ) لسكنى طلبة العلم والقرآن أسست في حياة الشيخ عبد السلام سنة (900هـ) .
ولها أوقاف كثيرة يصرف منها على ما تحتاج إليه من إصلاح، وعلى الطلبة الغرباء والمدرسين . ولكثرة أوقافها توسع نظارها في الإنفاق على الطلبة المنتسبين إليها " .(30/10)
وأقول : هذه الزاوية من أشهر زوايا القطر الليبى، إن لم تكن أشهرها. وقد أصابها ومسجدها تغير واسع، وتطور كبير منذ استقلال ليبيا إلى الآن، إذ تحولت أولا إلى معهد ديني إعدادي وثانوي ، ثم حُول إلى مبنى جامعي كبير – في عهد الثورة – حوله عمارات لسكنى الطلاب تشغله الآن كلية للآداب والتربية تابعة لجامعة ناصر ، والمسجد جُدد تجديدا كاملا ، فأزيل مبناه القديم ، وبنى في مكانه مسجد جديد، واسع الأرجاء ،فخم البناء، جميل العمارة، بهىُّ المظهر ، ولم يفرغ من بنائه إلا منذ وقت قريب ، وكذلك مسجد زروق جدد تجديدًا كاملاً فخمًا ، وبكل واحد منها ثانوية للعلوم الشرعية والعربية إلى جانب تحفيظ القرآن الكريم ، وهذا التطور الذي أصاب هاتين الزاويتين أصاب كثيرا من الزوايا القديمة مع اختلاف الوضع والمستوى .
6 – العيون : عيون الماء :
ذكر المؤلف طائفة كبيرة منها في حرف العين – مثل قوله :
أ – " عين أبرد : عين ماء ببراك من بلاد فزَّان " وهي أولى العيون التي ذكرها ، وآخرها " عيون فزان " التي قال عنها عن كتاب " جغرافية ليبيا " :" تقدر عيون فزان بنحو (378) عينًا ، وأغنى المناطق بالعيون وادي الشاطئ، إذ يوجد فيه (277) عينًا .
7 – القصور : في حرف القاف ذكر المؤلف الكبير مجموعة كبيرة من القصور القديمة الأثرية ، والكثير منها يدل على أمكنة سميت بهذا الاسم، وقد زال أغلبها وبقيت آثارها، أو بعض الآثار الدالة عليها مثل قوله :
أ – " قصر الأركان : بقايا قصر قديم بوادي المردوم بأرض أورفلة " .
ب – " قصر حاتم : قصر قديم كان في وادي الحواتم ، وفي هذا الوادي آثار قديمة تدل على بقايا هذا القصر ، وقبيلة الحواتم ما زالت معروفة في ترهونة وينسب إليها وادي الحواتم ، وقصر حام وقعت فيه حروب هائلة بين إلياس أبي منصور رئيس الإباظية وصاحب جبل نَفُوسة ، وبين العباس بن أحمد بن طولون سنة 267هـ،هزم فيها ابن طولون شر هزيمة".(30/11)
8 – الوديان : في حرف الواو ذكر المؤلف طائفة كبيرة من الوديان لكثرتها في البلاد الليبية، وهو أمر طبعي لسعة مساحة ليبيا وغلبة التكوينات الطبعية الصحراوية عليها.
- هذه المجموعات من الأسماء هي أهم ما اهتم به مؤلف "معجم البلدان الليبية" من الأعلام الجغرافية .
رابعًا - ملاحظات وتصويب لبعض ما في الكتاب من الآراء والتفسيرات :
بعد هذا العرض الموجز لترجمة مؤلف كتاب " معجم البلدان الليبية" ، ولما احتوته مقدمته من تحديد مصادره،ووصف منهجه، ولما احتواه من الأسماء وأنواع الأماكن والبلاد، وذكر كثير من نصوصه في تحديد بعض ما تناوله .
بعد هذا أرى من الضروري إثبات بعض الملاحظات والتصويبات لبعض الآراء والتفسيرات التي وقعت من المؤلف وأراها غير صحيحة أو غير دقيقة ، وأعتبرها نماذج لما في هذا الكتاب من الآراء والتفسيرات التي يجب أن تراجع وتناقش ، وهي قليلة بالنسبة لما فيه من الآراء والمعلومات القيمة الصحيحة .
- وأبدأ بمناقشة ما كتبه عن طرابلس لذكره إياها في حرف الألف ( من ص :23-31) ملحقا بها أربع ورقات لصور من ميادينها، وشوارعها، وبعض معالمها الحضارية ، فهي أكبر المدن الليبية وأحفلها بالحوادث التاريخية والسياسية وتنوع الحياة الاجتماعية والعلمية والثقافية، وما كتبه المؤلف عنها معلومات قيمة وملاحظاتي قليلة وهي:(30/12)
1 – ينفرد المؤلف بالإصرار على أن اسمها الصحيح أطرابلس بإثبات الهمزة في أولها اعتمادا على أنه الاسم الذي سماها به العرب في أول رسالة كتبها الصحابي الجليل عمرو بن العاص- رضى الله عنه- ويقول: " وكلمة طرابلس ينطق بها الطرابلسيون هكذا طرابُلُس ، طرابُلْس ، أطْرابلس – بهمزة قبل الطاء وبضم الباء واللام ، وهذا هو الاسم الصحيح الذي سميت به منذ سنة (22هـ) أول ما فتحها العرب ، فقد جاء في جواب عمرو ابن العاص، الذي كتبه إلى عمر بن الخطاب … قوله : ( إن الله فتح علينا أطرابلس ) ، فكتاب عمرو بن العاص صريح في أنها أطرابلس ، وهو أول اسم عربي أطلق عليها ، وإذن فلا داعي للاختلاف في اسمها" ، ويقول :" ولا داعي إلى الاختلاف في ضبطها ، وما جاء في شعر بعض الطرابلسيين من قولهم : طرابلْس – بإسكان اللام فيما يظهر – أو طرابلُس إنما هو لضرورة الشعر "، وأقول:
هذا الجزم في أنها أطرابلس لم يقل به أحد من اللغويين ولا المؤرخين ، وإنما هم يختلفون في إثبات الهمزة لها أو طرابلس الشام ، ويصور هذا الاختلاف قول مؤرخ طرابلس، أحمد النائب الأنصاري الطرابلسي صاحب " المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب " قال في ( ص 9 منه ) :" وضبط اسمها على ما في القاموس طُرابُلُس بفتح الطاء وضم الباء واللام ، بلد بالمغرب، أورومية معناها ثلاث مدن – انتهى – .وذكر البكري وغيره أنها بزيادة الألف قبل الطاء " ، وقال التجاني في رحلته : " واختار بعضهم في الغربية زيادة الألف، وفي الشامية إسقاطها ، وعكس صاحب القاموس فجعل الهمزة للشامية" ، وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان (جـ3/25) :" طَرابُلُس بفتح أوله وبعد الألف باء موحدة مضمومة ولام أيضا مضمومة وسين مهملة ، ويقال:أطرابلس" فهو يجعلها طرابلس ، ويثبت أنه يقال : أطرابلس ، إشارة إلى الخلاف السابق .(30/13)
- ولا خلاف بينهم في ثبوت الاسم : طرابُلُس – مضموم الباء واللام ، ولا في هذا الضبط ؛ ولذا لا يصح ولا يجوز جعله من الضرورة الشعرية في شعر من أثبته من الشعراء في شعره ، كما رأى المؤلف الكبير، فهو قول لا نوافقه عليه ولا داعي إليه .
وقال المؤلف : إن الطرابلسيين ينطقونها بالأوجه الثلاثة وهو قول يحتاج إلى تمحيص ؛إذ ما أعرفه ولا يعتريه شك، أنه لا يوجد طرابلسي في العصر الحديث يكتب أطرابلس بالألف ، وإنما تكتب وتقرأ في الفصحى بضم الباء واللام وفتح الطاء ، وقد اطلعت على الطبعة الثانية من كتاب:"حكاية مدينة"طرابلس لدى الرحالة العرب والأجانب" – للكاتب الليبي الكبير الأستاذ خليفة التليسي، فما رأيته عبَّر – ولو مرة واحدة – بغير طرابلس-.
وأما في اللغة العامية فإنهم قد ينطقونها – فيما أعلم – إطرابلس – بكسر الهمزة على عادة الليبيين في تسكين كثير من أول الكلمات،وإلحاق همزة وصل بها، وبسكون الباء وكسر اللام وسكون السين والكثير أن ينطقوها طرابلس– بفتح الطاء وسكون الباء وكسر اللام وسكون السين.
وأما في كتب التُّراث الليبية التي تترجم للطرابلسيين، فإنا نجد فيها النسبة إلى أطرابلس،فيقال: أطرابلسي في بعض التراجم كما يقال : طرابلسي كما نرى في (جـ 2 ) من "المنهل العذب في تاريخ طرابلس العرب" .
2 – ويقول المؤلف الكبير فى (ص28) : "وفي العهد التركي سميت (طرابلس الغرب) لأن الترك كانوا يحتلون طرابلس الشام، فاضطروا أن يضيفوها إلى الغرب
تمييزا بين البلدين ، أما قبل العهد التركي فكانت تسمى طرابلس دون إضافتها إلى الغرب" .
ولا أرى هذا القول صحيحًا للأسباب التالية :(30/14)
أ – كتب التاريخ المعتمدة السابقة على العهد التركي يتكرر فيها كثيرا اسم طرابلس مضافا إلى الغرب بمعنى المغرب كما في كتاب "الكامل في التاريخ" للعلامة عز الدين ابن الأثير ، المتوفى سنة 630هـ فإن هذه التسمية "طرابلس الغرب" تتكرر في صلبه كثيرا ، أولها في هذا العنوان وما كتب تحته وهو "ذكر فتح طرابلس الغرب وبرقة" وقال بعده:"في هذه السنة : (سنة 22هـ) سار عمرو بن العاص من مصر إلى برقة، فصالحه أهلها على الجزية " وقال :"فلما فرغ من برقة سار إلى طرابلس الغرب " (جـ3/25). وينظر منه أيضا ص 89 جـ 11/91 -100 - 108 ، وغير ذلك كثير ، وينظر أيضا: "وفيات الأعيان" لابن خلكان المتوفى سنة (682هـ) – (جـ6/217) – تحقيق إحسان عباس . وينظر أيضا: "حكاية مدينة " ص (62) في نص عن "الدرر الكامنة" للحافظ ابن حجر المتوفى سنة (850هـ) .
ب – المؤلف لم يذكر لنا مصدرا لقوله، ولم يُشر إلى المراجع القديمة في استعمال هذا الاسم، وهي تذكر هذا الاسم (طرابلس الغرب) كثيرا كما سبق .
ج – التفريق بينها وبين طرابلس الشام بإضافة كل واحدة منها لما يميزها عن الأخرى كان أمرا واردا وضروريا في عصور الإسلام المختلفة؛ لشهرتهما ولمكانة كل منهما من خريطة العالم الإسلامي قبل الحكم التركي ، ولكثرة المنسوبين إليهما ، وهذا ما تحس به وأنت تقرأ حديث كتب التراث عنهما وأقوال العلماء فيهما ، ولكن ذكر المميز فيهما ليس بلازم في كل حين ، فكثيرا ما يترك لدلالة السياق أو القرائن اللفظية .(30/15)
3 – وقال الأستاذ المؤلف :"ويبلغ عدد سكان مدينة أطرابلس سنة 1967م (250000) نسمة" (ص 30) ، وهذا القول صحيح لتقيده بسنة (67) ، أما الآن فهو غير صحيح لبلوغ سكانها – الآن – أكثر من مليون نسمة حسب آخر تعداد، وهذه الزيادة في السكان صحبها – من غير شك – تطور كبير في مرافق المدينة واتساع عمرانها بنشوء أحياء جديدة كثيرة فيها، وشوارع وطرق ومؤسسات ومبانٍ كثيرة ، مثل مؤسسات التعليم التي لم يتعرض لها المؤلف الكبير مطلقًا ، ويكفي أن نعلم أن جامعة طرابلس: "جامعة الفاتح" هي أكبر الجامعات الليبية وأن عدد طلابها – الآن – أكثر من أربعين ألفا – فيما أعلم – وغير ذلك كثير .
- وهذه الملاحظة على ما ذكره في مدينة طرابلس المتعلقة بعدد السكان ومظاهر التطور والعمران، يصح تعميمها على كل المدن والقرى الليبية، فإن ما كتبه عنها كلها من هذه الناحية يحتاج إلى مراجعة وتوثيق .
4 – جودة هي الكراريم :
مما ذكره المؤلف الكبير في حرف الجيم (جودة) ، فقال : (جودة:هي جيمي (انظر جيمي) . وقال في التعريف بـ (جيمي) : جيمي : اسم مكان ببادية مصراتة، يقع جنوبيها، وهو من أملاكها، وبه بئر ، وفي أيام الحكم الإيطالي اغتصب الطليان هذه الأراضي وبنوا فيها قرية سموها جودة " .
والمعروف المؤكد أن جودة اسم إيطالي لقرية زراعية تقع في الجنوب الشرقي من مدينة مصران، وأن بعدها مباشرة طمينة التي سبق ذكرها ، وأن اسمها الأصلي الذي طمسه الإيطاليون هو الكراريم الذي رجع إليها بعد التخلص من الطليان ، ولو كان اسمها الأصلي جيمي – لرجع إليها ، وقد ذكر المؤلف الكراريم في حرف الكاف ولكنه لم يربطه بالاسمين السابقين، فقال :" الكراريم" مكان جنوبي مصراته بنحو (25كم) وقعت فيه معركة بين الطرابلسيين والطليان سنة 1922م".
فما كان يسمَّى بـ (جودة) هو الآن – الكراريم دون شك .
5 – بلاعزة جمع بلعزيّ لا بلعز :(30/16)
مما تعرض له المؤلف في تعريفه بقريته:" الحرْشا" أسماء القبائل التي تسكنها وكان من بينهم البلاعزة فافترض أن المفرد بلعز وأصله أبو العز قائلا : إن العرب قد تكتفي بالباء من أبو في الكنية فتقول في "أبو الحارث": بلحارث ، قال هذا مع أنه نقل عن شارح القاموس أن البلاعزة "نسبوا إلى جد لهم لقب ببلعز" – رواية عن صديق له بلعزي ، وأن النص الذي نقله عن الشارح نفسه يدل على أن النحت المذكور يكون فيما صُدِّر بابن مثل ابن الحارث أو بني الحارث فيقال بلحارث – وهو المعروف – ولكن حتى على صحة افتراضه يجب أن يكون مفرد بلاعزة بياء النسبة وتكون التاء في الجمع عوضا منها مثل : عبقري وعباقرة ، وأشعثي وأشاعثة، ولا يصح أن تكون جمع بلعز
لأنه اسم الجد المنسوب إليه، وليس اسما للواحد المجموع ، ولأن بلعز لا تزاد في جمعه التاء ، وإنما يقال : بلاعز مثل جعفر وجعافر ، فوزن بلعز فعلل لا فوعل وجمعه بإضافة ياء النسبة فعالله لا فواعل؛ ولذا كان من الخطأ الواضح قول المؤلف " وقد أجْرَوْا حكم المفرد على بلعز وجمعوها على بلاعزة، وفوعل يجمع على فواعل " .
إبراهيم عبد الله رفيدة
عضو المجمع المراسل
من الجماهيرية الليبية(30/17)
ظاهرة استعمال الخط العربى زُخرفا فى التصوير الأوروبى فى القرون الوسطى غنية عن إعلانها لأنها ظاهرة معروفة بين الباحثين المتخصصين فى هذا العصر من العالمين بتاريخ الفنون والعالمين بالحضارة العربية الإسلامية . وهى الظاهرة التى تولد منها أسلوب الزخرف المشهور باسم الأرابسك . ومن فضل الكلام أنها كانت ظاهرة طبيعية فى هذا العصر لتعدد العلاقات التجارية والعلمية فى أيام الحرب وأعوام السلم على السواء .
ونتيجة لتلك العلاقات التجارية بين جنوب أوربا والشرق الأوسط فى أيام الأيوبيين والمماليك ازداد تأثير الحضارة العربية الإسلامية فى المجتمعات الأوربية فى شمال البحر الأبيض المتوسط فى القرنين الرابع عشر والخامس عشر . ومن أهم هذه المجتمعات
المجتمع الموجود فى المدن الإيطالية التجارية المستقلة كالبندقية وجنوة وفلورنس .
فقد عرض العالم البريطانى A.H. Christie المعلومات الأساسية فى تطور استعمال الخط العربى فى الفن الغربى للقرون الوسطى فى مقالتين فى المجلة Burlington Magazine فى سنة 1922 (1) . وكان العالم الألمانى K. Erdmann يقوم بنشر نوع من الدليل المنظم لمئة وخمسة وأربعين مثالا من استعمال الخط العربى فى الفن الغربى للقرون الوسطى فى سنة 1953(2) وقد أهمل هذا العالم الأمثلة العديدة من الخطوط غير الكوفية كخط الثلث مثلا الذى نشاهده بالتصوير الإيطالى فى القرنين الرابع عشر والخامس عشر على الأخص .
أشار خبراء كثيرون إلى انتشار النفوذ
الشرقى وبصفة خاصة النفوذ العربى الإسلامى فى ذلك العصر الذى نلاحظه فى الفنون التطبيقية كما فى الفنون التشكيلية. ومن أسبابه طبعا وجود أشياء عديدة من أصل عربى إسلامى كأدوات منزلية وحلى من الفخار والصوانى والملابس الفخرية على الأقل فى منازل المواطنين الإيطاليين الموسرين الذين قاموا بالتجارة أو قاموا بتمويلها .(31/1)
والمشهور أن تجارة مناطق شرق البحر الأبيض المتوسط فى ذلك الوقت مربحة جدا لجودة منتجات الحضارة العربية الإسلامية . إذن فتقدير هؤلاء الموسرين تلك الأشياء ؛ وتصويرها فى اللوحات الرسمية نوع من تقديرها وتقدير أصحابها.
كذلك طلبوا تصوير ما أعجبهم وأثار دهشتهم ، لاسيما الملابس المطرزة وصوانى النحاس المنقوشة . ووفقا لجو العصر صور الفنانون ما رأوا بطريقة طبيعية وعلى أدق ما يمكن .وكانت النتيجة مدهشة ، خصوصا فى أعمال جيوتّو ( Giotto) ( 1266 – 1337 ) ومازاتسيو ( Masaccio) (1401-1429) وجانتيله دا فابريانو (Gentile da Fabriano) (1370-1427) الذين نشروا روائعهم فى فلورنس فى زمن طويل أو قصير . وامتازوا بالإحاطة التامّة بالأشكال ومعالجة طبيعية للأشخاص والمناظر . وكذلك نسخوا حتى تهاويل الأشياء المذكورة من أصل عربى إسلامى. ولم تعدْ حاجة إلى بيان مركز الخط فى الزخرفة العربية الإسلامية . ولكن لم يدرك أولئك الرسّامون الخط العربى كخط، فهموه كزخرفة فقط ، رخرفة ، زخرفة رائعة شبه منظمة فى وجهة نظرهم.
والعجيب أن رغم ذلك لا نستطيع أن نتعرّف على بعض الحروف بل بعض الكلمات الكاملة . وذلك نتيجة لمحاولتهم للتصوير الصادق بيد أنهم لم يفطنوا إلى معنى الزخرفة الصحيحة . كذلك نلاحظ على سبيل المثال فى أعمال جيوتّو أمثلة الملابس العربية وفى حواشيها المطرّزة أشباه الحروف العربية غير أننا نستطيع قراءتها. ولكن فى منظر واحد وهو التقديم فى الهيكل الموجود فى كنيسة صغيرة فى بادوفا اشتهرت باسم Cappella degli Scrovegni . وندرك فى هذا المنظر فى الطراز على صدر الطفل عيسى كلمة كاملة وهى الاسم (محمد) [صورة1]!(31/2)
مع أننا نلاحظ أشباه الحروف العربية المطرزّة فى أعمال الرسّامين المتأخرين وحتى فى تمثال الملك داود لفيروكيو (Verochio) نرى أغلبية أمثلتها فى هالات القدّيسين وخاصة فى هالات العذراء . وكان العالم الألمانى رودلف سلهايم (Rudolf Sellheim) فى سنة 1968 ( 1 ) يظنّ أن أشباه الحروف العربية الموجودة فى هالة العذراء الثلاثية الدرفات المشهورة بـ Regello triptych لمازاتسيو متفسّخ من الشهادة الإسلامية [ صورة 2] . وبعده ببعض السنين رأى فورستنير(M.Forstner) نفس الشهادة فى بعض هالات العذراء لجانتيله (2) . واتخذوا آخرون استنباطهما كجراس (L.Grassi) (3) وسبالانزانى (M. Spallanzani) (4) وكريسيانسن (K.Christansen) (5) .
وهذا غريب جدا مع أنهم أثبتوا حقيقة وجود الحروف العربية فى الهالات المذكورة . وغلطوا فى قراءة المكتوب نتيجة لإنكارهم طبيعة المادة التى نُقشت عليها الخطوط. إذا كان الحال كما نقترح هنا وكما اقترحنا قبل هذا فى سنة 1984 يعنى أن هؤلاء الرسّامين صوّروا صوانى عربية فالناحية المطلوبة البحث عنها لاكتشاف معنى المكتوب هى نفس النقوش العادية على تلك الصوانى . وأغلبية صوانى القرن الرابع عشر المعروفة مثلا من المتحف الإسلامى بالقاهرة وجدوا لها نقوشًا تقليدية لا نجد فيها الشهادة ، كما هو متوقع لأن وجود الشهادة على أدوات منزلية مهما كانت قيمتها مستحيلة فى الأعم والأغلب . والمعروف أن نجد عليها كثيرًا من العبارات التقليدية المتعارف عليها والعبارة المألوفة هى التى تبتدئ كالآتى : عز لمولانا السلطان الملك…(31/3)
وأصبح البحث سهلا بإدراك هذه الحقيقة . وفى الواقع نستطيع أن نرى فى كثير من اللوحات تتابع حروف يدل على كلمة(السلطان) مشوّهة قليلا أو كثيرا [صورة 2 + 3 ] . وكنت معتقدا صحة هذا المفتاح لسر معنى النقوش العربية على اللوحات المذكورة غير أنى ما عرفت مثلا واحدا دلّ على أكثر من هذا. ولحسن الحظ رأيت قبل بعض الأسابيع صورة لوحة لجانتيله دا فابريانو توضّح صحة ظنى وضوحا كاملا . وهى كسرة صورة العذراء المحفوظة بفيلا تاتى ( Villa Tatti) [ صورة 4] والتى أكملها جانتيله
فى سنة 1424 تقريبا . والعبارة العادية المذكورة واضحة [ صورة 5+6] حتى بأسلوبها المعتاد [ صورة 7] فى ذلك العصر وكذلك نستطيع أن نقرأ بسهولة : عز لمولانا السلطان الملـ … وأنا سعيد جدا أن أشارككم فى اكتشافى هذا الذى كشف لنا مصير صينية عربية أو بعض الصوانى العربية التى سفارت من وطنها إلى فلورنس .
فريد ليمهاوس
عضو المجمع المراسل
من هولندا(31/4)
للمغاربة -كما هو معروف – حظ مذكور وسهم موفور في الأدب الجغرافي ، وعندما يذكر هذا الأدب يذكر الورّاق والبكري والإدريسي والعذري والزهري وغيرهم من الأندلسيين والمغاربة الذين ألّفوا في المسالك والممالك .
وأما الرحلات المدوّنة فالمغاربة هم فرسانها ولهم قصبات السبق فيها ، وهي تملأ فهرسا خاصا بها لكثرة أعدادها ووفرة أنواعها.(1)
وإذا كان أمر المؤلفين الجغرافيين والرحّالين المغاربة معروفا لدى الدارسين فإن ثمة أفرادا منهم يمكن نعتهم بالجنود المجهولين في هذا الميدان،وأعني بهم الذين زودوا بعض المؤلفين في الجغرافيا بأخبار عن بلدهم أو عن بلدان زاروها أو عاشوا فيها.
وهؤلاء هم موضوع هذه الورقة المتواضعة، وسأقتصر فيها على مغاربة ورد ذكرهم في مسالك الأبصار للعمري وهم ممن روى عنهم من أهل البلدان المختلفة .
ومسالك الأبصار – كما هو معروف- موسوعة فى الجغرافية والتاريخ وهى إحدى
والتاريخ وهى إحدى ثلاث موسوعات ألفت في النصف الأول من القرن الثامن الهجري ، والأخريان هما نهاية الأرب للنويري، وصبح الأعشى للقلقشندي .
يقع كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، في سبع وعشرين مجلدا ، وقد نشرها كلها أخيرا بالتصوير السيد فؤاد سزكين ، وكان المرحوم أحمد زكي باشا عني بجمع نسخة تامة من هذا الكتاب وقام بتحقيق السفر الأول منه وطبع في مطبعة دار الكتب المصرية سنة 1924 .(32/1)
يتألف كتاب مسالك الأبصار من قسمين كبيرين : القسم الأول في الأرض، والقسم الثاني في سكان الأرض . أما القسم الأول ففيه نوعان : النوع الأول في ذكر المسالك ، والنوع الثاني فى ذكر الممالك وكل نوع منهما يشتمل على أبواب وفصول وأما القسم الثاني فيشتمل على أنواع أطولها النوع الذي جعله العمرى في الإنصاف بين المشرق والمغرب، وقد رد به على كتاب الشهب الثاقبة ، في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة لابن سعيد المغربي (2) ، ومبتدأ هذا النوع من أول السفر الخامس ومنتهاه في آخر السفر التاسع عشر ، وهذا النوع هو في الواقع معظم الكتاب، وطريقة العمري فيه أنه يذكر أولا المشهورين في كل علم من المشارقة ثم يأتي بعد ذلك بنظرائهم من المغاربة، وقد صنع هذا في القراء والمحدثين والفقهاء والفلاسفة والأطباء واللغويين والنحويين والبلاغيين والمتصوفين والوزراء والكتاب والشعراء .
وقد رجع في مشاهير المغرب إلى المصادر المغربية الكتابية غالبا ومنها الأنموذج لابن رشيق والذخيرة لابن بسام وقلائد العقيان لابن خاقان والمغرب لابن سعيد وغيرها .
ورجع في أخبار المعاصرين الأحياء من أولئك المشاهير إلى مصادر شفاهية أي عن مغاربة ممن اتصلوا به في القاهرة ودمشق وأشهر هؤلاء ولا شك أبو حيان الغرناطي شيخ العمري.(3)(32/2)
إن الذين يعنيني أمرهم هنا هم المغاربة الذين اعتمد عليهم شهاب الدين في الأبواب الجغرافية التي خصصها لبلاد السودان وبلدان أخبارًا متعددة ومتنوعة تتعلق بجغرافية البلدان المذكورة سواء منها الجغرافية الطبيعية أم السياسية وأعنى بهذه الأخيرة ما يتصل بالنظم الإدارية والرسوم الملوكية والعوائد الاجتماعية ، وقد كان الحُجاج المغربة -وكثير منهم كان من أهل العلم – يسألون في مصر وغيرها عن أحوال بلادهم ، ذكر ابن جبير في رحلته أنه لما وصل المركب إلى الإسكندرية " استنزل أحمد بن حسان – وهو رفيقه في الرحلة فطيف به مُرقبا على السلطان أولا ثم على القاضي ثم على أهل الديوان ثم على جماعة من حاشية السلطان ، وفي كل ذلك يستفهم ويقيّد قوله(4) وكان يطلب من بعض رجال الدولة الذين يتركون بلدانهم ويلجأون إلى بلدان أخرى أى شيىء في أخبار بلدهم وجغرافيته " وتعيين مدنه وتحديد ما بينها من المراحل(5) " ومن هؤلاء عبد الواحد المراكشي واليسع بن حزم والشريف الإدريسي والحسن الوزّان .
وقد رأى العمري الذي كان إمام وقته في معرفة الممالك والمسالك أن لا يكتفي فيها بما كتبه السابقون كالبكري والإدريسي وابن سعيد فأراد أن يعرف ما هي عليه هي وأهلها في وقته وعمد إلى
الاستكثار من السؤال عن كل مملكة ، وكان يقرب إليه الوافدين على مصر والشام من البلدان المختلفة ، ويستدعي منهم الحديث عن ممالكهم ، وهكذا اعتمد على الرواية الشفوية والنقل المباشر عمن " يعرف أحوال المملكة المنقول عنه أخبارها مما رآه بعينه أو سمعه من الثقات بأذنه"(6 ). وقد كان من هؤلاء مغاربة من أهل العلم والمعرفة وتتوفر فيهم شروط الأمانة في الضبط والصدق في الرواية ، روى عنهم العمري أخبارًا قيمة ، وتكاد تكون أحيانًا فريدة في بابها ، وبعضها لا يوجد في مصدر آخر . ومن الغريب أن هؤلاء المغاربة لا يلتفت إليهم عند الاستفادة من أخبارهم .(32/3)
وإذا كان الفضل في تدوين أخبارهم المفيدة يرجع إلى ابن فضل الله العمري فإن من حق أصحاب هذه الأخبار أن تعرف هويتهم ويذكر حقهم ، وقد وجدت أن الذين نشروا هذه الأخبار وكذلك الذين ترجموها مروا بأسماء هؤلاء المخبرين دون تعريف أو تعليق،كما أني لاحظت أن الباحثين لا ينسبون الأخبار المذكورة إلى أصحابها وإنما ينسبوها إلى العمري راويها.(8)
ولهذا أردت بمناسبة موضوع الأعلام الجغرافية المطروح للبحث أن أعرف بأصحاب تلك الأسماء التي لم يهتم بها أحد حتى الآن تذكيرا لحقوقهم وأفضالهم هم كذلك على البحث العلمي .
وأكثر هؤلاء ذكرا وأغزرهم خبرا هو الذي تكرر النقل عنه في صبح الأعشى بما يلى:" قال السلايحي" أو " قال السلابحي(8م)" ووردت هذه النسبة في مسالك الأبصار (نسخة أيا صوفيا)مرة هكذا:"السالجي(9)" وفي مخطوط الشيخ الطاهر بن عاشور من مسالك الأبصار وردت كما يلي:"السلالحي(10)" بالحاء وهكذا وردت أيضا في مخطوط الفقيه المنوني من الكتاب نفسه(11) ، وقد تركها كما هي المرحوم حسن حسنى عبد الوهاب في القطعة التي نشرها منه في وصف مملكتي إفريقية والأندلس(12 ) وتركها كذلك أيضا الفقيه المنوني في القطعة التي نشرها من الكتاب في وصف المغرب أيام السلطان أبي الحسن المريني ، وذلك في مجلة البحث العلمي(13) أولاً ثم في كتابه : ورقات عن الحضارة المغربية في عصر بني مرين(14 ).(32/4)
أما في نسخة أيا صوفيا فإنها فيما عدا المرة التي أشرت إليها تكتب دائما : "السلالجى" وهكذا هى في نسخة باريس وهذا هو الصواب ، ذلك أن صاحب هذه النسبة ينتمي إلى بيت من البيوتات القديمة في مدينة فاس وهو بيت بنى السلالجي الذي وصف بأنه كان " بيت ثروة وفقه(15) " وأشهر من عرف بهذه النسبة الإمام أبو عمر عثمان بن عبد الله السلالجي(16) مؤلف العقيدة المعروفة بالبرهانية(17) والمتوفى عام 594هـ وقد خصه عضو المجمع الراحل سيدي عبد الله كنون بحلقة من سلسلته: مشاهير رجال المغرب(18)، والسلالجي هذه نسبة إلى سليلجو وهو جبل أو بلد في نواحي فاس(19)، وقد تحدث مؤلف بيوتات فاس عن أحد أحفاد الإمام المذكور اشتهر بالشجاعة والنجدة(20) ثم قال:" وله أولاد فقهاء وأصوليون وأطباء بفاس الآن(21)" أي في القرن الثامن ، ومن هؤلاء فيما أحسب هذا السلالجي الذي تكرر ذكره في مسالك الأبصار نحوًا من ثلاثين مرة ، وفي أغلب هذه المرات يذكره العمري كما يلي :" قال السلالجي" أو "قال أبو عبد الله السلالجي" وقد ذكر مرتين اسمه الكامل وهو أبو عبد الله محمد بن محمد السلالجي(22) .(32/5)
ولما وقفت على هذا الاسم في السفر الرابع من مسالك الأبصار بحثت عنه في كتب التراجم المغربية فلم أعثر على شيء، ثم إني بتتبع أسفار المسالك وجدت أن العمري ترجم له في السفر الثالث عشر، وقد ذكره في باب الكتاب المغاربة قال : "ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن أبي البركات السلالجي . قدم مصر وأوى إلي، وثوى حوالي ، وبقي برهة أنيس وحدتي ، وجليس مودتي ، وكان ظريفا في هيئته ، لطيفا بخلاف فئته(23)" ولعل معنى هذه الفقرة الأخيرة أن السلالجي لم يكن مثل المغاربة الذين رآهم العمري ، ونحن نجد بعض هؤلاء يوصفون بالحدة والخشونة(24) ، ويبدو أن السلالجيين كانوا يجمعون بين لطف المعشر وحسن المظهر ، وقد وصف مؤلف كتاب بيوتات فاس أحدهم بقوله:" وكان ظريف الشكل حسن البزة(25) " وهي عبارة تتفق مع عبارة العمري ، وقد أشار شهاب الدين أيضا إلى عراقة بيت السلالجي وثرائه، وبعد أن ذكر أنه حج ورجع إلى مصر قال :"فأقام بالقاهرة ثم تعرف بي ، ثم تحول إلى قربي، وتأكدت بيننا المعرفة حتى صارت صحبة(26) وقد وجدت العمري في بعض ما يرويه عنه يقول فيه :" صاحبنا السلالجي(27)" وربما دل هذا على طول إقامة الرجل في مصر ولم يشر العمري إلى تاريخ وجود السلالجي في القاهرة أو مدة إقامته بها ، وإنما ذكر مغادرته لها فقال:"ثم سارت به قدمه إلى حيث قضى نحبه ، بلغني أنه مات بقابس ، وحبسه بها للمنية حابس(28)" وقال في قيمته العلمية والأدبية:"وكان الموسيقي جل ما يعرفه .. وكانت له في الأدب مشاركة ما قصر فيها ولا طال ، ولا وصف فيها بجهام ولا هطال(29)" ثم أتى العمري برسالة كتبها السلالجي إليه،ومعها قصيدة من شعره كعنوان على طبقة أدبه(30) وأظن أن شهاب الدين لم يكن منصفا تمام الإنصاف في حق صديقه ومفيده بأخبار المغرب وأهله .(32/6)
فقد كان للرجل مشاركة في الاطلاع ومداومة على الاستفادة ، ويدل على هذا أنه أفاد العمري بخبر غريب يتعلق ببلد كانم وذكر له أنه قرأ الخبر في ترجمة إبراهيم الكانمي التي وردت في السفر السابع من الذيل والتكملة(31) لابن عبد الملك المراكشي ، وهذا الكتاب هو معجم في الأعلام يقع في تسعة أسفار (32)؛ ومما يدل على اطلاعه واهتمامه بالعلم أن العمري عندما نقل عنه كلاما يتعلق بسبَخة الجريد في تونس شفعه بما يلي :" قال أبو عبد الله السلالجي: ووقفت في تونس على شرح القصيدة الشقراطسية الشهيرة البديعة وتخميسها وشرحها للقاضي الإمام أبي عبد الله محمد بن على التوزي المصري ورأيته قد تكلم في أوائلها عند ذكر ناظم هذه القصيدة وتعرضه لموطنه ومسقط رأسه شقراطس، وهي في غالب ظني على ما ذكر من إقليم الجريد ، ثم انجرّ الكلام إلى ذكر توزر فمدحها وأثنى عليها وذكر هذه السبخة والصحراء التي تليها وقال إن مدينة النحاس بها مما يلي هذه السبخة . قال السلالجي : وقفت على أول مجلدة من هذا الشرح وهو يكون في أربعة مجلدات كبار بمدينة تونس استعرته من بعض فضلاء توزر لمطالعته ، وشارح هذه القصيدة نقل هذه الحكاية أيضا ، وهو مشهور ثقة مأمون معروف من أهل العلم المشاركين في كل علم وله تصانيف كثيرة في الفقه والأدب " وهذا كلام يصدق على قائله أنه هو أيضا " من أهل العلم المشاركين في كل علم(33) " .(32/7)
وقد روى العمري عن السلالجي بعض الأخبار الأدبية وأثبت فى مسالك الأبصار ما أنشده السلالجي من أشعار بعض الشعراء المغاربة ومنهم محمد بن محمد المكودير وإبراهيم بن محمد التلمساني(34) ، وروى عنه قبل هذا طائفة كبيرة من أخبار المملكة المغربية في عهد بني مرين، وهي أخبار وإفادات تتعلق بنواح جغرافية واجتماعية وحضارية، وكان العمري يسأل السلالجي عنها فيجيبه إجابة عارف بأخبار بلده ويصفها وصف واقف على أحوال عصره ومصره، أما عصره فهو النصف الأول من القرن الثامن الهجري ، وأما مصره فهو مدينة فاس التي أعاد إليها المرينيون كرسي المملكة وبنوا فيها مدينة ملكية سميت بفاس الجديدة أو المدينة البيضاء ، وقد وصفها السلالجي وصفا مفصلا ونعت القصر الملكي فيها وما اشتمل عليه من قباب عاليه وغرف مرتفعة ورفارف علوية ومجالس سلطانية وبرك ممتدة وبساتين جليلة ووصف القناة التى كان يجلب بها الماء إلى هذا القصر من المكان المعروف بأسايسر(35).
يقول العمري :" وسألت السلالجي عن مقدار عمارة فاس عتيقها وجديدها ، فقال لي : تكون قدر ثلث مصر والقاهرة وحواضرهما لكن عالمها أقل، وبالغ في وصف دياراتها وأوطانها وما اشتملت عليه بساتينها المذ الثمار المطردة الأنهار وما بها من الرخاء الدائم والأمن والدعة(36)" .
وقد أورد العمري الوصف بتمامه منسوبا إلى السلالجي كما نقل عنه تعيين حدود المغرب وتعداد مدنه في عهد السلطان أبي الحسن المريني ، وقال في آخر هذا الفصل ما يلي:" ولقد قال أبو الحسن المريني في كتابه الوارد إلى حضرة السلطان بمصر مخبرا بفتوح تلمسان إن مملكته اتصلت من البحر المحيط إلى برقة(37)".(32/8)
وروى العمري عن السلالجي كلامه على قبائل زناته من بني مرين وبني عبد الواد التي كان يتألف منها الجيش في عهد السلطان أبي الحسن ووقف عند بعض شجعان بني مرين وقال : " يقال إن كل واحد منهم يعد بخمس مائة فارس ، وقد صورهم الفرنج عندهم في كنائسهم لعظم ما لاقوه منهم(38) " .
ويقول العمري عند الحديث على عدد هذا الجيش المغربي ما يلى :" وسألت السلالجي عن عدة العسكر لاختلاف الأقوال فيه . فمن مكثر إلى الغاية ومن متقارب ، وكان ابن جرار(39) قد قال لي قبل فتح السلطان تلمسان :
مائة ألف وأربعون ألفا ، فقال السلالجي : الذي نعرفه قبل فتح السلطان تلمسان أنه ما كانت تزيد جريدة جيشه المثبتين في الديوان على أربعين فارسا لا غير ، عدا حفظة المدن والسواحل ، وكان يمكنه إذا استجاش لحرب أن يخرج في جموع كثيرة جدا لا تنحصر بعدد ما(40) "
ويفهم من هذا النص أن السلالجي كان يستند إلى بعض الوثائق المدونة ، ونجد هذا أيضا في نص آخر ، فقد قال العمري أو نقل أن السلطان أبا الحسن المريني أسقط المكوس " وحل عقدة الضمان وكانت سببا للظلم والطلب المجحف ، وكان يقال : إنه بعد أن حل البلاد من الضمان تنقص الأموال فزادت وأدال الله بالعدل من البركات أضعاف ما كان(41) " ثم ذكر العمري بعد هذا الكلام ما يلي : " قال أبو عبد الله السلالجي : أما ما زاد وتثمر فلا أعلم كم هو ، وأما ما كان في عقدة الضمان في زمان السلطان أبي سعيد(42) والد هذا السلطان – خارجا عما كان يؤخذ من أصحاب الماشية من الإبل والبقر والغنم فهذا تفصيله :
فاس : مائة وخمسون ألف مثقال
مراكش : مائة وخمسون ألف مثقال
سبتة : خمسون ألف مثقال
اسفي : خمسة وعشرون ألف مثقاف
أغمات : خمسة وعشرون ألف مثقال
انفا : خمسة وعشرون ألف مثقال
أزمور : عشرون ألف مثقال
طنجه : ثلاثون ألف مثقال
بادس : عشرة آلاف مثقال
مكناسة : ستون ألف مثقال
صفرو : ستة آلاف مثقال
سجلماسة ودرعة:مائة وخمسون ألف مثقال.(32/9)
تازى : ثلاثون ألف مثقال
غصاصة ومليلة والمزمة:ثلاثون ألف مثقال
تيط : خمسة آلاف مثقال .
تيجاس : خمسة آلاف مثقال
وأما تطاوين والقصر الصغير فإنها لا يتحصل منها شيء . قال : هذا المبلغ هو الذي كان يجري عليه الضمان وقد كان يزيد وينقص باختلاف الأحوال والأوقات، وإنما هذا هو الغالب ولا كثير تفاوت فيما يزيد أو ينقص منه(43) "
أما المثقال الوارد في هذا الإحصاء فإننا نجد شرحه في كلام السلالجي أيضا حين سأله العمري عن المعاملات والأسعار فأجاب :"المثقال الذهب بمائة وعشرين درهما من الدراهم الصغار ، وهي ستون درهما من الكبار لأن كل درهم من الكبار بدرهمين من الصغار ، وكل درهم من هذه الدراهم الكبار يكون نظير درهم أسود في مصطلح أهل مصر والدرهم الأسود بمصر هو ثلث درهم نقرة من معاملة مصر والشام ، وهذا على جهة التقريب لا التحقيق ، وأما الدراهم الصغار فكل درهم منها نصف درهم كبير وهو نصف درهم أسود ويكون سدس درهم نقره من معاملة مصر والشام(44) "
ولا أعرف هل كان السلالجي يعتمد في المعلومات التي يدلي بها على ذاكرته أم أنه كان يرجع إلى أوراق كانت معه وقد قلت آنفا إنه يفهم من بعض النصوص التي تشتمل على شيء من الإحصاء أنه ربما كان يستند إلى بعض الوثائق المدونة.
لقد روى العمري عن السلالجي أيضا بعض ما يتعلق بالمكاييل والموازين والأسعار والحبوب والفواكه والأزهار والدواب والطيور وأرزاق الجند على اختلاف طبقاتهم من أشياخ كبار وصغار وسواهم مع ذكر مرتبات القضاه والكتاب وغيرهم(45).
وروى عنه أخيرا وصف للعمل اليومي للسلطان المريني وكيفية جلوسه للمظالم ونظامه في السفر وشعار دولته وعادته في العيدين ومصطلحه في المكاتبات(46).(32/10)
ويتبين من هذا كله أن العمري وجد عند السلالجي ما كان يبحث عنه من معرفة بأخبار المملكة المغربية وأحوالها ووقع منه على خبير ، ومن الغريب قوله – فيما نقله عنه العمري: " قال لي: إنه من أهل بيت توارثه بنوه ، وتدبره بعد جده أبوه ، وأنهم أهل انقطاع ما منهم من خدم السلطان في منصب،ولا نال منه جنى مجدب ولا مخصب(47) " فكيف استطاع سليل هذا البيت المنقطع عن السلطان الزاهد في المناصب أن يلم بما ساقه من معلومات ويحصل على ما ذكره من إحصاءات؟(32/11)
ومهما يكن من أمر فإن السلالجي لم يكن المغربي الوحيد الذي رجع إليه العمري في أخبار المملكة المغربية فقد رجع في هذا أيضا إلى شخص آخر هو العقيلي الذي تحرف اسمه أيضا في صبح الأعشى إلى العسلي(48) لكنه ورد صحيحا في مخطوطات مسالك الأبصار،وقد مر دارسون سابقون بهذا الاسم أيضا دون أن يعنوا بتصحيحه أو التعريف بصاحبه(49)، ومن حسن الحظ أني – بعد البحث – عثرت على ترجمته في السفر الثالث عشر من مسالك الأبصار ، فقد ترجم له العمري قبل ترجمة السلالجي مباشرة ؛ واسمه كما ورد في أول الترجمة هو أبو عبد الله محمد ابن عبد الواحد العقيلي البيري ، فالعقيلي – بفتح العين نسبة إلى عقيل بن أبى طالب رضى الله عنه أما البيري فهي نسبة إلى بيرة ، وهي من مدن مملكة غرناطة التي وصفها ابن الخطيب في رحلته الموسومة بمعيار الأخيار(50)، وقد ذكر العمري في ترجمة هذا الأديب الأندلسي أنه كان كاتبا للأمير أبي على عمر(51) بن السلطان أبي سعيد المريني وأنه اعتقل بعد فشل ثورة مخدومه على أخيه السلطان أبي الحسن(52) ثم أطلق هذا السلطان سراحه وعينه في ديوان الإنشاء وكان ممن حضر معه حصار تلمسان ودخلوها ثم إنه خرج حاجا وكان من قدره أن غرق المركب الذي كان فيه ، ولكنه نجا ببدنه ووصل إلى مصر ولا شيء معه(53) قال العمري :" وأول ما دخل القاهرة أتى إليّ ، ونزل في دار كان فيها جاري ، وتردد إليّ لسماع ما بلغه في المغرب من أشعاري " وقال أيضا :" كان قد بلغني صيته، ثم سوغني الدهر أني لقيته، فرأيته عذب الجنة ، حلو المنى(54) " وهذه عبارات واضحة الدلالة على ما كان من تواصل بين المشارقة والمغاربة ، ومن الغريب أن هذا الأديب الذى بلغ صيته إلى مصر والشام لا يوجد له ذكر في المصادر المغربية فهو كسابقه أبي عبد الله السلالجي وقد وقفت على ترجمة لمن اسمه أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الحق العقيلي(55) وفي ترجمته أنه كان في الكتابة السلطانية بالمغرب وأنه(32/12)
توفي بفاس سنة 758هـ . ووالد هذا وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الحق العقيلي كان من أهل العلم والأدب(56) ، ولا أدري صلتهما بالعقيلي الذي ترجم له العمري .
لقد روى العمري عن هذا العقيلي أخبارا متفرقة في الباب الثالث عشر من النوع الثاني في ذكر المسالك وهو ينعته بالإمام(57)،وهذا يدل على تقديره للرجل.
فمما رواه عنه أخبار الفرسان ذوي الشجاعة الخارقة الذين كان الواحد منهم – كمال قال – يعد بخمسمائة فارس مثل يوسف بن محمد بن أبي عياد بن عبد الحق ويعيش بن يعقوب بن عبد الحق وأبي عامر عبد الله المعروف بالعجب(58) .
ومن هذه الأخبار حديثه عن عيون الماء الجارية في مدينة فاس وقوله" إنها ثلاثمائة وستون عينا معدودة(59) " .
ومنها كلامه على الجيش في عهد السلطان أبي الحسن المريني وقوله :"أما جيشه الآن فيكون مائة وأربعين ألفا غير من يستجيش به(60) " .
ومنها وصفه للبحيرة أو البركة في مدينة مراكش قال :" وطولها ثلاثمائة وثمانون ساعدا على جانبها الواحد أربعمائة شجرة من النارنج وبين كل اثنتين إما ليمونة أو ريحانة(61) " .
ومنها حديثه عن معاصر السكر في هذه المدينة ، فقد ذكر أن بمراكش أربعين معصرة للسكر أو أزيد(62)" ونقل العمري بعد هذا أن المغاربة يفضلون العسل على السكر وذكر أن السكر لا يستعمل عندهم إلا في بعض الحالات كما أن الأرز لا يؤكل عندهم إلا في بعض المناسبات(63).
وقد روى العمري عن العقيلي أيضا إفادات أدبية فى السفر الثالث عشر من المسالك ، فمن ذلك ما جاء في ترجمة الشاعر ابن خاتمة ، قال العمري :" هو ممن حدثني الإمام أبو عبد الله العقيلي البيري عن أدبه ، وعرفنى ما عرفته على بعد البلاد به " وذكر بعد هذا أن العقيلي أخبره أنه ترك ابن خاتمة على قيد الحياة ثم أورد بعض ما أنشده المذكور من شعر ابن خاتمة وكان ذلك بالقاهرة المعزية سنة أربعين وسبعمائة(64) .(32/13)
وبعض الشعراء الذين روى العمري خبرهم وشعرهم عن العقيلي لا يعرفون في المصادر المغربية مثل حفيط بن عبيد بن محمد المربلي وأبي الحسن علي بن عمر الشاطبي وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن علي الهواري المالقي(65) .
ومع هذا فإن الأخبار التي رواها العمري عن العقيلي لا تضاهي قيمتها تلك التي رواها عن السلالجي سواء من حيث الكم أم من حيث الكيف ، ولعل العمري إنما ذكرها في سياق الموازنة والمقارنة حسب منهجه في الرواية الشفوية الذي يقول عنه :"وكنت أسأل الرجل عن بلاده ثم أسأل الآخر والآخر لأقف على الحق فما اتفقت عليه أقوالهم أو تقاربت أثبته،وما اختلفت فيه أقوالهم أو اضطربت تركته ثم إني أترك الرجل المسؤول مدة أناسيه فيها عما قال ثم أعيد عليه السؤال عن بعض ما كنت سألت، فإن ثبت على قوله الأول أثبت مقاله،وإن تزلزل أذهبت في الريح أقواله،كل هذا لأتروّى في الرواية وأتوثق في التصحيح(66)" .(32/14)
أنتقل بعد هذا إلى اسم آخر روى العمري عن صاحبه شيئا من أخبار مملكة غرناطة ، وهو كما ورد في بعض نسخ المسالك(67) وفي صبح الأعشى(68):أبو عبد الله السديد ، وهذا تصحيف والصواب أنه ابن الشديد – بالشين والتصغير – وقد عرف به ابن الخطيب في الإحاطة فقال: محمد بن محمد بن الشديد، من أهل مالقة ، يكنى أبا عبد الله" وذكر من حاله أنه شاعر مجيد وأنه "رحل إلى الحجاز لأول أمره ، فطال بالبلاد المشرقية ثواؤه ، وعميت أنباؤه(69) "، وقد قال فيه العمري في إحدى المرات :" صاحبنا أبو عبد الله ابن الشديد(70) " وربما دل هذا التعبير وكلام ابن الخطيب على أن هذا المالقي أقام مدة لا بأس بها في مصر ، ويبدو أن العمري اعتمد عليه في وصف مملكة الأندلس ، وقد ذكر اسمه مرتين خلال الوصف الذي كتبه عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة(71) ، وهذا الوصف يتسم بالإيجاز في التعبير والدقة في التصوير، وقد اكتفى به العمري واقتصر عليه ، أما القلقشندي الذي ينقل كثيرًا عن مسالك الأبصار فقد استبدل كلام ابن الشديد في وصف الأندلس بما ورد في تقويم البلدان لأبي الفدا وغيره .
لقد رجع أبو عبد الله الشديد إلى الأندلس بعد مقام طويل في مصر على ما يبدو ورفع بعد عودته إلى السلطان قصيدة" تدل على نفس ونفس ، وإضاءة قبس " كما يقول ابن الخطيب(72) وقد أشار فيها إلى رحلته إذ قال مخاطب السلطان المذكور:
لقد جبنا البلاد فحيث سرنا
... رأينا أن ملكك لا يرام(73)
وإذا كان الشديد والعقيلى والسلالجي قد رجعوا إلى بلادهم فإن ثمة أعلامًا آخرين ممن روى عنهم العمري قد طاب لهم المقام في مصر فتمصروا كما يقول شهاب الدين(74) .
ومن هؤلاء أبو الروح عيسى الزواوي الذي ولي القضاء بمصر واشتغل بالإفتاء والتدريس بزاوية المالكية(75) وخلفه فيها ولده علي الذي ولد بمصر(76) ، وهذا هو والد شمس الدين الزواوي ناظر الأوقاف بمصر(77).(32/15)
روى العمري عن أبي الروح هذا طائفة من الأخبار يصف في بعضها بلاد برقة عندما مر بها متوجها إلى مصر(78) ، ويتعلق بعض هذه الأخبار بمملكة مالي(79) وهي أخبار سمعها أبو الروح من منسا موسى سلطان مالي خلال مروره بمصر ، وثمة أخبار أخرى ذكر فيها أبو الروح للعمري بعض ما يعرفه عن الحفصيين والزناتيين(80) بحكم أنه ولد ونشا في زاووة وعاش في بجاية وقابس قبل استقراره في مصر .
ومن هؤلاء الذين استقروا بمصر واستفاد منهم العمري : شيخه أبو عبد الله محمد بن الصائغ الأموي(81) الذي هاجر من المرية حيث كان بيته المرواني العريق واستقر بالقاهرة وأصبح أحد أعلامها البارزين ، ومما روى عنه العمري حكاية وقعت لتجار من أهل الأندلس ركبوا مركبا قاصدين بلاد العدوة فضل بهم المركب في البحر المحيط ودخلوا فيما كان يعرف ببحر الظلمات ثم دفعهم الريح إلى سواحل بلاد السودان(82).
ومنهم أيضا أبو عبد الله ابن القوبع التونسي الأصل(83) قدم من تونس إلى القاهرة عام تسعين وستمائة وبقي فيها إلى أن توفى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة .
رجع إليه العمري في أخبار بلاده ومعرفة نظمها ورسومها على عهد الحفصيين وروى عند بتفصيل ما يتعلق بالنقود والمكاييل والموازين وطبقات الجند وأرزاقهم ومرتبات القضاة واختصاصات الوزراء والكتاب(84) .
وقد أثبت العمري ترجمة ابن القوبع في السفر التاسع مع الفلاسفة ومما ذكره في هذه الترجمة أنه كان يدرس الطب بالبيمارستان المنصوري وأنه كان لا يفتر عن مطالعة كتاب الشفاء لابن سينا(85).
أما ابن الصائغ المذكور قبله فقد ترجم له العمري مع النحويين وأطنب في الثناء عليه(86) ، كما أفاض القول في فضائل ابن القوبع وذكر أنه استجازه فأجازه(87) .(32/16)
وكما قابل العمري كلام السلالجي بكلام العقيلي كما ذكرنا آنفا فقد قابل كلام ابن القوبع بكلام تونسي آخر هو كما ورد اسمه في مسالك الأبصار(88) وصبح الأعشى(89) : القاضي أبو القاسم ابن بنّوه أو ابن نيون ، ولم أجد بعد طول بحث في المظان ذكرًا لهذا الاسم، وقد مر به المرحوم حسن حسني عبد الوهاب دون أن يتوقف عنده(90) ، وأظن أن في الاسم تصحيفًا ولعل صوابه : ابن زيتون ، وأفترض أنه القاضى أبو القاسم ابن زيتون الذي ولي القضاء بتونس ، ورحل إلى المشرق مرتين وسفر عن المستنصر بالله الحفصى إلى بعض ملوك المغرب(91).
وهذا القاضي الذي استشهد العمري بكلامه عن إفريقية الحفصية مثلما استشهد بكلام ابن سعيد عنها ليس من مصادر شهاب الدين الشفوية لأنه توفي سنة 691هـ أي قبل ميلاد العمري، فكلام ابن زيتون إذن رواه العمري بواسطة تلميذه ابن القوبع أو نقله من مصدر مكتوب .
وإذا كنت توصلت إلى معرفة أصحاب الأسماء السابقة وتمكنت من تصويبها والتعريف بها فإنني لم أجد شيئا حول اسم تكرر ذكره في الباب الذي خصصه العمري للحديث عن مملكة مالي وهو أبو عثمان سعيد الدكالي(92) ، فعلى هذا الرجل اعتمد العمري في أخبار هذه المملكة الإسلامية ، وتعتبر النصوص التي رواها عن من أهم النصوص الجغرافية والتاريخية حول مملكة مالي .
وقد روى العمري في السفر الأول عن هذا الدكالي بعض الأخبار المتعلقة بمنابع النيل وهو يبدأها بقوله:
" وحد ثني الشيخ الثبت سعيد الدكالي وهو ممن أقام بمالي خمسا وثلاثين سنة مضطربا في بلادها مجتمعا بأهلها ، قال : المستفيض ببلاد السودان إن النيل في أصله ينحدر من جبال سود تبان على بعد كأن عليها العمائم " قال الشيخ سعيد الدكالي: ولقد توغلت في أسفاري في الجنوب مع النيل .."(93) .(32/17)
ثم روى عنه في السفر الرابع أخبارا متعددة حول مملكة مالي افتتحها بقوله : "حدثني الشيخ الثقة الثبت أبو عثمان سعيد الدكالي،وهو ممن سكن مدينة نيني خمسة وثلاثين عاما واضطرب في هذه المملكة"(94).
لا أعرف كما قلت قبل قليل أكثر مما ورد في هذين النصين عن هذا الشيخ الدكالي ، وربما يفهم من كلامه الذي دونه العمري أنه زار بلاد الشام(95) وإيران وتوران(96) ، ويبدو أنه قضى آخر أيامه في مصر .
وقد كانت رحلته التي لا نعرف ظروفها وأسبابها إلى مالي في أوائل القرن الثامن الهجري ، وكانت إقامته فيها على عهد منسا موسى الذي عرف بالجود والعطاء والعطف على الغرباء(97) ولم يكن الشيخ سعيد الدكالي الوحيد في مالي يومئذ فقد كان القاضي بها دكاليا ، وقد تحدث ابن بطوطة – الذي دخل مالي بعد أن كان خرج منها الدكالي – عن قصة القاضي الدكالي المذكور مع السلطان منسا موسى وهذان الدكاليان ينسبان إلى قبيلة مشهورة في المغرب(99) ، وقد عرف أهلها بالترحال وفي بعض كتب التراجم ذكر لعدد من المرتحلين منهم(100) ، ولهذا لم يكن صدفة ظهور أول ركب شعبي للجاج المغربي في منطقة دكالة وقام بتأسيس هذا الركب الصوفي المغربي أبو محمد صالح الماجري الدكالي(101)، وكان نظام هذا الركب أشبه شىء بوكالة من وكالات الحج والسياحة في عصرنا ، وقد كان لوكالة أبي محمد صالح منازل للإيواء والاستقبال في بجاية والإسكندرية ومكة(102) وربما في غيرها .
إن أخبار مالي التي رواها العمري عن أبي عثمان الدكالي تتفق في جملتها مع الأخبار التي حكاها ابن بطوطة في رحلته، فالرحالتان المغربيان يلتقيان على سبيل المثال في وصف مجلس الملك وأبهته وحاشيته وتذلل رعيته له وعادتهم في ذر التراب على رؤوسهم أمامه تعبير عن طاعته أو شكره أو الإعجاب بكلامه(103).
ويتشابه كلام الرجلين أيضا في الحديث عن الأغذية والأطعمة والحبوب والثمار (104).(32/18)
وقد تفرد الدكالي بأخبار حول الجيش والحيوانات والسحر والصيد(105).
وتميز ابن بطوطة بسرد أخبار الناس الذين لقيهم في مملكة مالي وذكر ما أعجبه وما لم يعجبه فيها وفي أهلها(106) .
ولقد كان طول مقام الدكالي في مملكة مالي من أسباب ترجيح روايته على روايات غيره ، وقد استعمل العمري عبارة " وقول الدكالي أثبت " أكثر من مرة(107) ، كما أن الكشف عن آثار نيني Niani عاصمة مملكة مالى المندثرة جاء مصدقا لوصف أبي عثمان الدكالي لهذه المدينة(108).
سيكون آخر من أذكره في هذه الورقة المتواضعة التي خصصتها للحديث عن مصادر شفوية في مسالك الأبصار هو أبو محمد عبد الله بن نعيم الأنصاري القرطبي ، هكذا ورد اسمه في السفر الثاني من المسالك(109) ، وذلك عند الكلام على ما يعرفه عند البحريين بالقنباص أو الكنباص.
لقد نعت العمري هذا الرجل بأنه "الشيخ الأجل الرايس الأستاذ" وكلمة الرايس تدل كما هو معروف على رئيس البحر ، والمذكور كما يقول العمري أيضا: " خلع جلابيب شبابه في ركوب البحر الشامي وأذهب صدر عمره في التجول في أقطاره ، والتحول في أسفاره ، فقطعه شرقا وغربا وجنوبا وشمالا وبلاد إسلام وكفر حتى أحاط علما بأحواله وما هو عليه(110) " .
ويشبه أن يكون هذا الرايس حفيدًا لأبي عبد الله محمد بن نعيم الأنصاري القرطبي(111) وهو قرطبي الأصل فاسي المولد هاجر إلى المشرق في القرن السابع ، وكان يتردد بين مصر والحجاز ، وقد اشتهر بدفاعه عن الأشراف لدى الملك الكامل صاحب مصر(112) .
وسواء صح هذا أم لا فإن رجوع العمري إلى هذا القرطبي الأصل يدل على شهرة أهل المغرب بمعرفة أمور البحر وتعاطيهم لركوبه(113) ، وقد بدا هذا واضحا في الشرح الذي بسطه الرايس المذكور للرياح وأسمائها وأقسامها ودوائرها .(32/19)
ويدل على ذلك أيضا قول العمري في مكان آخر :"حدثني الرايس حسن المغربي أنهم كثيرا ما يعدلون في البحر عن السمت المستقيم من بلد إلى بلد طلبا للمرسى أو خوفا من العدو أو توعر الطريق لمجرى السفائن أو لأخد ماء أو زاد"(114).
فهل يدل رجوع العمري إلى مغربيين في أمر البحر على استعمال المغاربة في البحرية يومئذ بمصر؟ وأعود إلى الشرح الفني الذي بسطه الرايس القرطبي حول القنباص لأذكر أن الزميل الدكتور عبد الهادي التازي استشهد به في بحث له عنوانه: الخريطة البحرية في الغرب الإسلامي(115) ، وقد ساق الزميل العزيز ما وقف عليه فى مصطلح القنباص ومعناه.
وأود أن أضيف إلى ما ذكره في بحثه القيم أن ابن خلدون شرح أيضا هذا المصطلح في المقدمة فقال :"البلاد التي في حفافي البحر الرومي وفي عدوتيه مكتوبة كلها في صحيفة على شكل ما هي عليه في الوجود وفي وضعها في سواحل البحر على ترتيبها ومهاب الرياح وممراتها على اختلافها مرسوم معها في تلك الصحيفة ، ويسمونها الكنباص وعليها يعتمدون في أسفارهم(116)" وهذا شرح واضح لهذه الكلمة التي هى تعريب للكلمة الإسبانية compas.
وقد شاع استعمال هذه الكلمة المعربة في القرن الثامن الهجري ، ومن شيوعها أنها انتقلت من الحقل التقني إلى الحقل الأدبي فقد وجدتها في قصيدة لأبي إسحاق إبراهيم ابن الحاج النميري(117) وهو كالعمري وابن خلدون من أهل القرن الثامن الهجري ، قال متحدثا عن أعداء ممدوحه :
وتشاغلوا بالخوص في بحر الردى
... كتشاغل البحري بالكنباص(118)
والذي يقف على صورة القنباص في السفر الثاني من مسالك الأبصار(119) ويرى تكاثف خطوطها وتشعب اتجاهاتها يدرك حقيقة الصورة الشعرية ويتصور مدى تشاغل الناظر في القنباص لمحاولة التهدي إلى وجهته أو التخلص من ورطته.(32/20)
وبعد ، فقد دون في منتصف القرن الثامن الهجري عملان جليلان يقدمان صورة للمعمور من الأرض في ذلك الزمن ظهر أحدهما في المشرق وظهر الآخر في المغرب والأول يعتمد على السماع والثاني يقوم على المشاهدة، هذان العملان هما : مسالك الأبصار لشهاب الدين أحمد بن يحيى العمري ، والرحلة العالمية رحلة ابن
بطوطة اللواتي ، وكلا العملين ما يزالان في حاجة إلى المزيد من التحقيق والتعليق ، وهذا ما سنراه في المستقبل القريب إن شاء الله . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد بنشريفة
عضو المجمع المراسل
من المغرب(32/21)
السيد الأستاذ الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم
الزملاء الاجلاء ، السيدات والسادة
نحتفل اليوم بافتتاح مؤتمر مجمعنا السنوى فى دورته الثانية والستين ، وأشكر باسم المجمع السيد الاستاذ الدكتور وزير التعليم لمشاركته لنا فى هذا الاحتفال وأرحب معه بالزملاء المجمعيين الوافدين من الأقطار العربية والإسلامية والغْربِية ، وأحييهم تحية عرفان وتقدير لتجشمهم مشقة الرحلة إلينا كى يسهموا فى المؤتمر ببحوثهم العلمية القيمة ، ويتدارسوا ـ مع الزملاء المصريين ـ ما أنجزته لجان المجمع ـ طوال الدورة الماضية ـ من مصطلحات علمية تعد بالآلاف وقرارات لغوية سديدة. وما هذا المؤتمر إلا حلقة متصلة لمؤتمرات سنوية منذ ستين عاما عقدها المجمع لعرض ما قدمه للعربية من سبل النهضة بها ووفائها بمطالب العوم والفنون الغربية والحضارة العصرية .
وتعلمون ـ حضراتكم ـ أن العربية أدت دورا حضاريا تاريخيا مجيدا طوال(33/1)
خمسة قرون من القرن الثامن الميلادى إلى القرن الثالث عشر كانت فيه ـ وحدها ـ تقود العالم علميا كما كانت تقوده فلسفيا وفكريا مما جعل كثرة من الأوربيين فى إسبانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا وإلمانيا تهرع إلى قرطبة وطليلة فى الأندلس وإلى صقلية ، ويتعلمون العربية ، ويكبون فى القرنين الحادى عشر للميلاد والثانى عشر على ترجمة العلوم العربية والفلسفة الإسلامية إلى اللاتينية لغتهم العلمية العامة حينذاك ، واستحالت منارات تهدى أوربا فى مسالكها إلى حضارتها الغربية الحديثة . وأصاب الحضارة العربية لظروف مختلفة ركود امتد قرونا بينما أخذ الغرب يثب فى حضارته وثبات كبرى ، وعرفت ذلك مصر حين نزلت بها الحملة الفرنسية ، ولم تلبث فى عصر محمد على أن أخذت ترسل أبناءها إلى الغرب ليزودوا من علومه ويحاضروا بها الطلاب فى المدارس العليا وعادوا إلى مصر ، فصمموا على نقل جميع العلوم الغربية طبا وغير طب إلى العربية ومضوا يكثرون من ترجماتهم وتأليفهم فى العلوم ، ورفدهم فى هذا الدور المصرى من التعريب قسم الترجمة بمدرسة الألسن التى أنشأها رفاعة الطهطاوى حامل لواء النهضة العلمية فى القرن الماضى ، فقد تخرج فى هذا القسم عشرات من المترجميين الأفذاذ ، وتحت أيدى هؤلاء المترجميين وأساتذة المدارس العليا ـ بجهودهم الخصبة ـ تمت لمصر منذ الثلاثينيات فى القرن الماضى لغة علمية حديثة طوعوا فيها العربية لأداء العلوم الغربية دقيقا . وسرعان ما أخذت هذه اللغة تنتشر فى شقيقات مصر العربية ، وظلت مزدهرة بمصر فى مدارسها العليا نحو سبعين عاما إلى أن وقف الإنجليز ـ بمكرهم بعد احتلالهم لمصر بخمسة عشر عاما ـ هذه النهضة اللغوية العلمية المصرية بإحلالهم لغتهم االأنجليزية محل لغتنا العربية فى مدارسنا العليا .(33/2)
وقد تعاهدت أعضاء مجمعنا ـ منذ أنشىء سنة 1932 ـ أن يستعيدوا لمصر دورها اللغوى العلمى المجيد فى القرن الماضى باعادة وضعها للعربية الحديثة ، وألفوا لذلك اللجان العلمية ، ومضت تتحمل نسئوليتها فى خير صورة ممكنة وإن المجمع ليذكر اليوم لحضراتكم أنه استطاع أن ينجز عشر معجما علميا بحيث لا يكاد يوجد فى جامعاتنا علم عربى يدرس للطلاب إلا وقد نشر فيه المجمع معجما يساعد مساعدة فعالة فى تعريبه ومحاضرة طلاب الجامعات فيه بالعربية ، وسيظل المجمع يبذل جهوده العلمية حتى يصبح تعريب العلوم الغربية فى جامعاتنا المصرية حقيقة واقعة ، وحتى تستكمل العربية سيادتها فى وطنها كما استعادت الأمة استقلالها وسيادتها السياسية .
وانكم ـ ياسيادة الوزير الجامعى ـ تقودون نهضة كبرى فى التعليم بمصر والمجمع يهيب بكم أن تقودوا معها نهضة مماثلة فى تعريب التعليم الجامعى وأن توصوا سيادتكم ـ المجلس الأعلى للجامعات بدراسة هذا الموضوع ووضع الخطة الكفيلة بتنفيذه وأذكر لسيادتكم أن بعض كليات العلوم فى جامعاتنا أخذت فى تعريب المواد التى تدرس بها فى السنتين الأولى والثانية ، وفى بعض الكليات العلمية فى جامعاتنا الآن جمعيات للعملعلى تعريب العلوم . ونفاجأ من وقت الى آخر بأن أحد علمائنا فى جامعاتنا عرب المادة التى يدرسها لطلابه أو وضع فيها معجما علميا مما يؤكد أن تعريب التعليم الجامعى له أنصار متعددون ينادون به فى جامعاتنا نفسها . وهو ـ ولا ريب ـ مطمح عام للأمة ومجمعنا اللغوى الذى عمل له عشرات من السنوات متعاقبة ، وكلنا أمل فى أن تقودوا سيادتكم الجامعات المصرية إلى تحقيقه ، حتى تتخلص من تبعيتها العلمية للغرب كما تخلصت الأمة من تبعيتها السياسية له ، وحتى تبدأ مصر دورة علمية كبرى فى القرن الحادى والعشرين تفوق مرارا ـ إن شاء الله ـ دورتها العلمية فى القرن الماضى .(33/3)
وموضوع مؤتمرنا المجمعى هذا العام امتداد لموضوع مؤتمرنا فى العام الماضى ، وهو الأعلام الجغرافية نريد التثبت من صحة نطقها فى كل بلداتنا العربية بالمغرب والمشرق ، ومعرفة ما حدث من تغير النطق لبعض البلدان العربية القديمة خاصة فى اللغات الأجنبية ، مع الدقة فى رسم مواقعها على الخرائط الجغرافية .
وقد تجمعت لدى مجمعنا فى مؤتمر العام الماضى طائفة من الدراسات الجغرافية القيمة لتلك الأعلام ، وسنضم إليها الدراسات الجغرافية التى سيلقيها بعض أعضاء المؤتمر فى هذا العام ، ونخرجها فى كتاب يكون بين أيدى الباحثين للإطلاع عليه والانتفاع به .
أيها السادة
ببالغ الحزن والأسى أنعى الى حضراتكم ستة من أعضاء مجمعنا رحلوا عن دنيانا الفانية إلى الدار الباقية فى الدورة المجمعية الماضية وهم شيخ المجمعيين الأستاذ الدكتور إبراهيم بيومى مدكور الرئيس السابق للمجمع ، والأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الرازق البسيونى العالم اللغوى الثبت ، والأستاذ الدكتور عدنان الخطيب القانونى النابة العضو عن سوريا الشقيقة والإستاذ الدكتورؤ غرسية غومس شيخ المستشرقين فى إسبانيا والأستاذ الدكتور جاك بيرك شيخ المستشرقين فى فرنسا .
وبالأمس رحل عنا الأستاذ الدكتور حسين مؤنس شيخ المؤرخين المصريين وتلك سنة الحياة فكلنا إلى فناء وما دنيانا الإ جسر فى الطريق ونحن فيها ودائع ولابد يوما أن ترد الودائع .
ويسعدنى فى ختام هذه الكلمة أن أشكر كل من تفضلوا بتلبية دعوتنا للمشاركة فى هذا الحفل ، كما أشكر ضيوفنا من الزملاء المجمعيين راجيا لهم طيب الإقامة بيننا فى بلدهم مصر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،
شوقى ضيف
رئيس المجمع
كلمة الأستاذ الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم فى افتتاح المؤتمر
بسم الله الرحمن الرحيم
*السيد الأستاذ الدكتور رئيس مَجْمَع اللغة العربية مجمع الخلدين
*السادة .. الأعضاءُ الموقرون *السادة .. الضيوفُ المُكْرَمُون(33/4)
*السيدات والسادة الحاضرون
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
*من هذا المكانِ الوارفِ بالعلمِ والبحثِ والتحقيق والأستقصاءْ / المُزْدَهِى بالنعرفة / المُزْدانِ بالحقيقةِ الناصَعَهْ /من هذا المكانِ الحارسِ القوىّ الأمينِ على لغتِنا / لغةِ الكتاب الكريم / والرسول
محمد عليه أفضلُ الصلاةِ وأزكَى التسليْم /
من مَجْمعِ الخالدينِ / أَشرُفُ بالوقوفِ بينكم / وأَسعُد وأنا مَحُطوطُ بإعلامِ الفكرِ / وأساتذةِ العلم / وفقهاءِ اللغة / وأساطِيرِ البيان . /
*السيدات والسادة / أُحييكمِ ياحماةَ لغتِنا العربية / .. اللغةِ التى وَسِعَتَْ كتابَ اللهِ لفظاً وغايةً / وما ضاقت عن آبىٍ به وغطاتِ / كما وصفها شاعُر النيل حافظُ ابراهيم / فى قَولِه: /
وَسِعْتُ كتابَ اللهِ لفظاً وغايةً
وما ضِعَْعتُ عن آبىٍ به ةعِظتِ
*السيدات والسادةُ الأمناءُ على لغةِ الضاد / .. على الفصحى التى تباهَى بها الرسولُ محمدُُ صلى الله عليه وسلم / تباهِيًا نبيلا / يدعُو إليها وتركها فيقول / : أنا أفصحُ مَنْ نطق بالضاد / ..ويقولَ/ : إنَّ من البيان لسَحرًا / ويُكِرِّمُهُ الله تعالى بها / فى قوله الكريم / " فإِنما يَسَّرْناه بلسانِك لعله يتذكرون " /(33/5)
السيدات والسادة / : إن مَجمعَكم الموقرَ / وهو يحرصُ بأمانةٍ وإخلاصٍ على لغةِ القرآنِ الكريم / والرسول الصادقِ الأمين / لَيُكَرِّمُ عملَه هذاويرِيَنُهُ ويُنميهِ بما يأتى به دائما من الجديد المفيد / فى مجال البحثِ العلمِىّ والإجتماعِىّ والاقتصادىّ والسياسِىّ والتربوىِّ / وبما يضِرِبُ به بسهِم وافرٍ فى مجالِ مصطلحاتِ الطبّ والهندسةَ والعلومِ والفنونِ والآداب / وبما يُثرى به اللغةَ ويضمُن لها حسَرةَ البقاء / وجمالَ الأزدهار / وبما يّطّوِعُ من الفاظٍ ومعانٍ مستحدثة / وحاجاتٍ اجتماعية وعلميةٍ حديثةٍ / يعيشها عصرُنت الغربى هو فى أَمَسّ الحاجةِ إلى النهضةِ العلمية / واللحاقِ بركبِ الحضارة / وثورة العِلم والمعلومات / فى العالِم المتقدمِ . /(33/6)
. السيداتُ والسادة / لقدِ وَسِقَتْ لغَّتُنا العربيةَُ ألفاظاً عديدِةً أضافتها وأَثْرَتْ بها نفسَها .. فوَسِعَتْ منِ اللهجات وبعضِ ألفاظِ الأعاجم والقبائلِ المختلفة / التى تعيشُ فى الجزيرة العربيةِ وحولها / ولا نحفى عليكم ياأساتذةَ البحثِ والتحقيق والتدقيق ما اشتمل عليه كتابُ الله تعالى من بعض الألفاظِ الوافدةِ علَى العرب / واستطاع العربُ تطويعها وإثراء لفتيم بها/ وهذا يعنى الإشارة الواضحة إلى ضرورة الاستفادة مما حولنا / كما حثَّ على هذا بصراحة ووضوح بينا محمدٌ النبىُّ العربىُّ عليه الصلاة والسلام / فقال : " مَنْ تَعلمَّ لغةً قومٍ أَمِنَ فكرَهم " وبعٍلى لا أضيفُ جديدا – فأثتم أهُل العلم والمعرفة إذا قلتُ إن النبَّى محمدًا صلى الله عليه وسلم / وقد اهتم كثيرا بتعليم كتِابِ الوحى/ وعلى رأسهم زيدُ بنُ ثابت / الذى اخَتارَه الصِديق أبو بكر رضى الله تعالى عنه / اخَتاره لجمع القرآن الكريم / ولحان عليه الصلاة والسلام يأمُر زيَد بنَ ثابت / ومن معه بتعليمُ جميع لهجاتِ الجزيرة العربية ولفاتِها / ولغات ولهجات الدولِ المجاورة والمحيطةِ بالعرب / وهذا يعنى ضرورة طِلبِ العلمِ/ وتحصيله منِ مظاِنِّه / مهما يَعُدتَ الشُّقة / وطال السفر / لأن العلماء سيضيفون الجديد المفيدَ حتما /
السيدات والسادة
فى مناسبة تخليد ذكرى الأَعْلامِ العربِ والمسلمين / فإننى أذكرُ والعرفانِ الراحلَ العظيمَ الأستاذَ الدكتورَ إبراهيم مدكور / رئيس هذا المجمع الخالِد السابقِ / وأذكرُ له أيادَيةُ المعطاءةَ ، وفكرَة الخلاقَ فى إثراءِ اللغةِ العربيةِ وعلومِها وآدابِها /(33/7)
وكذلك العلومُ المختلفةُ فى شتى المجالاتِ التى تمَسَّ متاحِىَ الحياة / رحم اللهُ الراحلَ الكريم / وأسكنه فسيحَ جناتِه / وتغمده برحمته / لفاءَ ما قدم من عملٍ جليلٍ . كما يجبُ أن نذكرَ بالفضِل والعرفان فضيلَة الراحِل الكريم / الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر / الذى أثرى الفقه باجتهاداتِه / والعلمَ بآرائه / وشهرَ على رعاية الأزهر الشريف / ليقومَ برسالتِه العلميِة العالمية / رحمَ اللهُ الفقيدَ العظيمَ / وأسكنه فسيحَ جناته / وعوضَ أمةَ الإسلام عنه خيراً . كما يعز علينا أن ننعى عضو المجمع الموقر الفقيد الكريم الأستاذ الدكتور حسين مؤنس رحمة الله / وعوضنا عنه خيراً .
أرجو أن نقف جميعا دقيقة حداداً عليهم ونقرأ لروحهم الطاهرة الفاتحة .
. السيدات والسادة : وفِى مناسبةِ تخليد وإحياء ذكرى الأعلام العرب والمسلمين / فإننا نذكر من هؤلاء الأعلام ابن رشد وابن سينا وجابر بن حيان وابنَ ماجد والبيرونىَّ والزهِاوَىَّ / وابنَ الهيثم وغيرهم فى مجالات الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء / والفلسفةِ والجغرافيا والموسيقى / وفى مختلف العلوم والفنون والآداب .
. ولعلكم يا حماةَ العِلم والمعرفة خيرُ مَنْ يعلمُ هذا ويحققهُ / ولا شك أنكم تعرفون كيف كان الغَربُ يفَدُ إلى أولئك الأِعلام فىِ بلادنِنا لينهلَ من علومنِا وفنونِنا وآدابنا وبلا تحرج أو استكيا ولا أنَفَة /
لأننا نحن العربَ والمسلمين حينذاك كنا فعلا ناصيةَ القولِ والعمل والعلم / نظريةً وتطبيقا / فلا عجب أن يتوافد على بلادِنا طالبو العلم والمعرفة / ولعل التاريخ قد أثبت حقيقة ذلك بكل الفخر والأعتزاز /(33/8)
.السيدات والسادة / لم يأنف الغَرْبُ من طلب العلم عند العرب والمسلمين / حتى استطاع هذا الغَرْبُ الآن أن يرفَعَ لواءَ العلم والمعرفةِ ويصل إلى القمر / وهو فى سبيله الآن إلى الوصول إلى الكواكب الأخرى / كوكبا بعد آخر / وليتنا نتواضع فنصنعَ كما صنعوا لنصلَ كما وصلوا . /
. السيدات والسادة / إن الزمنَ قد دار وأصبح علماءُ الغرب الآن كما كان علماؤنا من قبل / أصبحوا يملكون ناصية العلم والمعرفة وإذا لم نستفده منهم كما استفاد وامنا من قبل فستبقى الهوَُه سحيقةً ولذا يجب أن نعبَر هذه الهُوةَ بأسرع ما يمكن / وبلا تحرج أو تردد
السيدات والسادة
إنّ أعلمَ الناسِ مَنْ طَلَب العلمَ دائما / وطلبَ علمَ غيرِه إلى علمه / ونَفَر فى طلبِ العلمِ / استجابةً لآوامرِ اللهِ عز وجل
" فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدين "
وفِى هَذا الصددِ / يُسعدنِى أَنْ أُشِير إلى ما تقوم به وزارةُ التعليمِ فى مجالِ تطويرِ التعلِيم / والأنفتاحِ على كُلِّ جديد / والسَعىِ نحو اكتساب العلم من مصادرِه / لنعيشَ عصرَ الفضاءِ وعصرَ التكنولوجيا / وعصر العِلم والمعلومات .
السيدات والسادة
إن وزارة التعليم توفد البعثاتِ الآن من المعلمين / بل ومن الطلاب / لتحصيلِ الجديد والحديث والمفيدِ فى مجالِ اللغات الأجنبية / والعلوم المختلفة / والوقوف على أحدث مجال اللغاتِ الأجنبية / فحسب / ولكننا نعملُ الآن على أن تكونَ اللغَةُ العربيةِ أيضا من الموادِ الداخلةِ فى هذا الإطار ../
. السيدات والسادة(33/9)
لقد عُنَيتَ الوزارة بالخط العربى وفنونةِ كمادةٍ دراسية / يخطى أبناؤنا باستعادة مجدِها / وتبحثُ الوزارةُ الأنَ تنظيمَ دوراتٍ تدريبية لمعلمى واساتذة اللغة العربيةِ فى مدارسِها فى الداخِل والخارجِ / وستشكلُ لجانُ لاخيارِ البعضِ من معلمى هذه اللغة القومية العريقة / لإرسالهم فى بعثات خارجية / للوقوف على كلِ جديدٍ فى مجال علمِ اللغة / وفقهها وآدابها وتبسيط ما عَضَلَ منها على أفهام تلاميذنا الصغار / لنجعلَ مَن لغتينا هذِه لغةً جميِلةً يستبسيغَُ العصرث جماَلَها ويستفيُد منها ويفيدُ بها ./
. السيدات والسادة
يسعدنى فى ختامِ كلمتى أن أشكر لِكم رائعَ ما تقوموم به من عمل جليل / وما تَقَدمونه من خير ببنى وطنكم / وما تبذلونه من جَهدٍ وفكرٍ خلاقٍ يبتغون به وجهَ اللهِ والوطن / الذى حياةً اللهُ تعالى بحاكمٍ منه آتاه نورَ البصيرةِ ونعمةً الإيمان والإخلاص للحق والخير والسلام / إنه الرئيس محمد حسنى مبارك هديَهُ اللهِ لَمصرَ راعيةَ الحرية والسلام / .. وفقكم اللهُ
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
دكتور حسين كامل بهاء الدين
وزير التعليم
كلمة الأستاذ إبراهيم الترزى الأمين العام للمجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الأستاذ الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم :
استاذى الجليل الدكتور شوقى ضيف رئيس المجمع :
أيها السادة
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وبعد
فها هو ذا مجمعنا يبلغ دورته الثانية والستين فى فلكه المجمعىّ ، وهو يزداد ـ بحمد الله ـ فتاءً وعطاء
فإذا كان المعهودُ فى الأشياء أن تَنْقص وتضمحلَّ بالإعطاء فإن العلم يزيد ويزدهر بذلك ، بل كلما ازداد العلمُ إعطاءً ازداد عطاءً ونماءً وازدهارا(33/10)
وهذا شأن المجمعيين ؛ فهم فى رِباطِهم العلمىِّ المجمعىِّ يعكفون على أعماله فى لجانهم ، ومجلسهم ، ثم فى مؤخرهم ، حيث يبلغون أقصى غايات العطاء والإعطاء من علمهم وجُهدهم ، فإن اللجان العلمية تدفع إلى ساحة مجلس المجمع آلاف المصطلحات ، فيضطرُّ المجلسُ إلى أن يعقد جلساتٍ إضافيةً ليُتاح له نظرُ هذه المصطلحات ، ولكن هيهات . أعان الله مؤتمرنا على نظرها ، والفراغِ منها ، إلى جانب ما يُعْرَض عليه من أعمال أخرى ، وما يقدَّم إليه من بحوث
وإليكم البيان أو التقرير السنوَّ المعهود
المؤتمر السابق
عقد مؤتمرنا ثلاثة عشرة جلسة ، منها أربع علنية ؛ أولها : جلسةُ الأفتتاح ، والثانية والثالثة خصِّصنا لمحاضرتيْن عامَّتيْن : " بين الفصحى والعامية المصرية " للأستاذ الدكتور شوقى ضيف رئيس المجمع ، و " السِّيرها ملتون جِب عضُو المجمع من بريطانيا " للأستاذ الدكتور عبد الهادى التازى عضو المجمع من المغرب ، والجلسةُ العلنية الرابعة عُقدت لتأبين المرحوم الأستاذ أحمد على عقبات عضو المجمع من اليمن ،وألقى كلمة المجمع فى تأبينه الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائى ، عضو المجمع من العراق .
أما الجلسات التسعُ الباقياتُ فكانت مغلقة ، نظر المؤتمر فيها ما أنجزتْه لجانُ المجمع ، وأَقَرَّه مجلسُه ، من مصطلحات فى الفيزياء ، والهندسة ، والجيولوجيا ، والطبِّ وعلوم الأحياء والزراعة ، والحاسبات ، والرياضيات ، والقانون الجوىِّ ، والتاريخ والآثار ، والجغرافيا ، والتربية وعلم النفس ، والشريعة ، والموسيقى .
كما نظر المؤتمر أعمالَ اللجانِ اللغوية ، فوافق على قراراتٍ اللجنةِ أُصول اللغة ،ولجنة الألفاظ والأساليب ، ومصطلحاتِ الفصائلِ اللغوية التى قَدَّمَتْها لجنة اللاكات ، كما وافق المؤتمر على طائفة جديدة من موادِّ المعجم الكبير .(33/11)
أما البحوث التى قُدِّمتْ إلى المؤتمر السابق فقد بلغتْ ستةً وثلاثين بحثا ، عالج أربعة عَشَرَ بحثاً منها الموضوعَ الرئيس للمؤتمر ؛ وهو " الأعلامُ الجغرافية العربية " وعالجت البحوث الباقية قضايا شتى فى اللغة والأدب والعلم والتعليم .
وفى الجلسة الختامية المؤتمر أصدرة توصيات منها ما يلى :
. يُوصى المؤتمر بالعمل على توحيد المصطلح العلىِّ بين المجامع والهيئاتِ العلمية ؛ للقضاء على البلبلة الناشئة عن تَعَّددِه فى البلاد العربية والإسلامية .
. يُوصى المؤتمر بتعريب الخرائط ؛ وذلك بالعودة إلى الأسماءِ الجفرافية بلغتها العربية الأصلية ، كما يدعوا الجامعاتِ فى الوطن العربى إلى اسثارة اهتمام الجمهورِ بالأَعلام الجغرافية ، وإبرازِ أهميتها رصيداً حضاريا.
. يُوصى المؤتمرُ وسائلَ الاتصال الجماهيرىّ ، ووزارات الإعلام ، وهيئات الاذاعتيْن المسموعةِ والمرئية بإعداد العاملين فيها إعدادً لغوياًّ دقيقاْ ؛ وذلك بَعقْدِ دوراتٍ ، تدريبية لهم على قواعد اللغة العربية ، وتنبيههم إلى ما يَشيِعُ على ألسنتهم من أخطاءٍ لغوية
. يُؤكد المؤتمرُ توصيتَه السابقةَ بإنشاء هيئة كبرى للترجمة ، تضع خطةً دقيقةً لها ، تُحدِّدُ الأّولوياتِ فى ترجمة العلوم والتكنولوچيا ، والعلومِ الإنسانية ، مع مُلاحقة التطوراتِ التكنولوچية والعلمية والعصرية،خدمة لتعريب التعليم الجامعى .
. يؤكد المؤتمرُ توصيتَه السابقةَ بحظْرِ كتابِة اللافتاتِ على المحالِّ التجارية وغيرها بلغاتٍ أجنبية ، وخْطرِ كتابة الأسماء الأجنبية بحروف عميةٍ .
المجلس واللجان(33/12)
عقد مجلسُ المجمع خمساً وثلاثين جلسة ، منها جلستان علنيتان الأولى : لتأبين المرحوم الأستاذ الدكتور إبراهيم البسيونى عضو المجمع ، وألقى كلمة تأبينة الأستاذ الدكتور محمد نايل ، والثانية : لتأبين شيخ المجمعيين المرحوم الأستاذ الدكتور إبراهيم مدكور رئيس المجمع الراحل ، ألقيت فيها كلمات للأستاذ الدكتور شوقى ضيف رئيس المجمع ، والأستاذ الدكتور محمود مختار عضو المجمع ، وإبراهيم الترزى الأمين العام ، وكان للشعر مرميتان : إحداهما للأستاذ الدكتور محمد يوسف حسن عضو المجمع ، والأخرى للأستاذ الدكتور عفيفى محمود الخبير بالمجمع وألقى كلمة كلية دار العلوم الأستاذ الدكتور حامد طاهر عميد الكلية ، وشارك فى التأبين من تلاميذ فقيدنا الجليل :الأستاذ الدكتور محمد عاطف العراقىّ ، والأستاذة الدكتورة زينبُ الخُضيْرىّ .والجلسات الباقيات للمجلس مغلقة ، نظر فيها مصطلحاتٍ فى الفيزيقا ، والطبِّ ، والچيولوچيا ، والنفط ، والهندسة ، وعلوم الأحياء ، والرياضيات ، والحاسبات ، والكيمياء ، والفلسفةِ ، والقانون ، والشريعة ، والأدب ، والتربية وعلم النفس ، والرياضةِ البدنية ، والتاريخ ولجنةِ الألفاظ والأساليب .
مطبوعات المجمع
أصدر المجمع الجزء الأول من معجم الرياضيات ، ومعجم الحاسبات فى طبعته الجديدة الموسَّعة .وتحت الصدور : المجموعة السادسةُ والثلاثون من مجموعة المصطلحات العلمية والفنية ، والجزءان : الخامسُ والسبعون والسادسُ والسبعون من مجلة المجمع ، والجزءُ السابعُ من " التكملة والذيل والصلة " للزَّبيدىّ .
صلات المجمع الثقافية
مَثَّل المجمعّ الأستاذ الدكتور شوقى ضَيْف رئيسُ المجمع فى الاحتفال بالعيد الماسىِّ لمجمعِ دمشقَ الشقيق . كما مَثّل المجمع الأستاذ الدكتور كمال بشر فى الندوة التى عقدها المجلُ الأعلى للثقافة عن " اللغة العربية والثقافية العلمية " .
أيها السادة(33/13)
تزداد مَجَرَّتُنا المجمعيةُ تأَلُّقاً عاماً بعد ام ، وقد حَظِيْت بتكريم ثمانية من زملائنا المجمعيين المصريين والعرب والمستعربين ؛ فقد كرمت الأكاديميةُ الإفريقيةُ للعلوم " بنَيروبِى " الأستاذ الدكتور محمود حافظ بوصفه أقدمَ العلماء البارزين فى مجال تخصصه بإفريقيا ، ومنحتهْ درعَ الأكاديمية ، كما كرُّمت هذه الأكاديميةُ الأستاذ الدكتور عطية عاشور بوصفه أحد الأعضاء المؤسِّسين لها عام خمسة وثمانين وتسعمِئةٍ وألف ، ومنحتْه كذلك درعَ الأكاديمية . كما حَظِىَ الأستاذ الدكتور عطية عاشور بتكريم الدولة الفرنسية ؛ فمنَحَتَهْ " وسام الاستحقاق الوطنىِّالفرنسىِّ " بدرجة فارس .
وأقامت نقابةُ المهنِ العلمية وأكاديمية البحث العلمى حفل تكريم للأساتذة الزملاء :
الدكتور محمود مختار ، والدكتور سيد رمضان هدامة ، والدكتور عطية عاشور .ومنحتْهم شهاداتِ تقديرٍ بوصفهم زوّاداً فى فروع العلوم الفيزيقية والرياضية .
كما مَنَح مجمعِّنا شهادة تقديرٍ للأستاذ الدكتور محمود مختار ؛ عرفانًا بفضله فى الإشراف على إدخال الحاسب الآلىِّ إلى المجمع ، والإفادة منه فى مختلِف أنشطتِه المجمعية : العلميةِ والإدارية . كما لا يفوتنى التنوية بفوز زميلنا الأستاذ الدكتور " على الحديدى " بالجائزة التقديرية من جامعة عَيْن شمس .
ومنذ أسابيعَ قليلةِ فاز بجائزة الملك فيصل
العالمية علاَّمةُ الجزيرةِ العربيةِ الشيخ أحمد الجاسر ، كما مَنَح السيدُ رئيس الجمهورية زميلَنا الأستاذ الدكتور محمود على مكى ، وزميلنا المستعربَ الإسبانىَّ "فيدِيكورْ يِنْتىِ"
عضو المجمع المراسلَ من إسبانيا جائزة أحسنِ كتابٍ فى مجال تحقيق التراث ، عن تحقيق " ديوانِ ابن قزْمان " .
ايها السادة(33/14)
لقد كان الوضوع المقترح للبحث فى مؤتمرنا السابق " الأعلامَ الجغرافية العربية " ، وقد عالجه زملاء من المصريين والعرب والمستغربين ببحوثِ شَرَّقَتْ وغرَّبتّ ، وأوغلتْ فى الأمكنة والأزمنة ، كما أمعنتْ فى الدراسة اللغوية والتاريخية والمكانية ، مُحلِّلةً مُعِّللةً محلَّ ما تَعْرِضِ له من بحث ودراسة ، ولكنها ـ مع ذلك مملِّه ـ لم تبلغ الغايةَ مِن موضوع الأعلام الجغرافية العربية ، ولم تَسْتَوْفِ جوانبه ، فأَصدر المؤتمر السابق قراراً بأن يتواصلَ البحثُ فيه ؛ فيكون هو الموضوع المقترح للمؤتمر هذا العام .
فالأعلامُ الجغرافيةُ ذاتُ صلةٍ وُثْقَى بحياة الإنسان ، نَشأتْ بنشأته ، وتَطَوَّرَتْ بتطَوُّرِه ، منذ هبط أَبو البشر آدمُ وأُمُّ البشر حواء ـ عليهما السلامُ ـ إلى الأرض ، وصار لهما أولادُُ وحَفَدةُُ هنا وهناك .
وقد ارتبطت الأعلام الجغرافيةُ فى نشأتها بالسَّعْى فى مناكب الأرض ؛ طلباً للرزق ، فكان على الأنسان أن يتخذَ أعلاماًيهتدى بها فى غُدُوِّه ورَوَاحِه ؛ حتى لا يَضِلَّ طريقَ عودتِه إلى أهله وعشيرته . ثم صارتْ أماكنُ تجَمُّعه واستقرارِه أعلاماً كبرى ، حين نشأت القرى ، ثم المدن ، كما ارتبطتْ بعضُ هذه الأعلام بأسماء القبائل والعشائر التى اتخذتْها مواطنَ وإقامةٍ حتى صارت لها أوطانا .
وكَثُرت الأعلامُ الجغرافية كثرةً هائلةً فى الأماكن التى لا تَنْعَمُ بتوطُّنٍ واستقرار ، مثل الصحارَى الشاسعةِ ، كالجزيرة العربية التى تتناثر فيها قبائلُ يغلبُ عليها التَّرحال ، وهى فى تنقلها من مكان إلى مكان تُطْلق أسماءً على كل موضع تَحُلُّ فيه وعلى ما حوله من معالم ؛ كالجبال ، والوهاد ، والودْيانِ ، والمياهِ ، والشجر ، فإذا رَحَلَتْ عن موضعها هذا ، وانتقلتْ إلى غيره حيث الماء والمرعى ، وألْقتْ على مال حوله أسماءً أخرى .(33/15)
وقد تظلُّ الأعلام الجغرافية للمناطق التى تَرْحلُ عنها القبائل أو العشائرُ حيَّةً باقية ، وقد ينثر بعضُها مع اندثار منازلها ورُبُوعها التى تصير أطلالاً ورُسُوماً دراسة . وكم يكون لهذه المنازلِ التى كانت عامرةً ذكرياتً حميمةً ، تجيشُ بها قلوبُ مَنْ عَمُروها ، فإذا مَرُّوا بأَطلالها ورُسُومها أثارتْ شَجَنَهم ، وطافتْ حولها ذكرياتُهم ، فوقَفُوا عليها ، وفى العَيْن عَبْرة ، وفى الفؤاد حبرْة ، فإذا كان الواقف بالرَّسوم والأطلال شاعراً بكاها بشعره … وقد كَثُرَ وقوفُ الشعراءِ بالرُّسوم والأَطلال ، وإنشادُهم الشِّعْرَ فيها ، حتى صار ذلك تقليداً يَلْتَزِمُ به كلُّ شاعر ، بل أَخذ الشاعرُ يلتمسُ خليلاً أو خليليْن ـ ويغلب أن يكونا مُتَخيَّلَيْن ـ فيوُقِفُهما الشاعرُ معه على طَلَلِه أو رَسْمِه الدارس ؛ ليُشاطِراه البكاء عليه " من ذلك قول امرئ القيس :
قِفانبكَ من ذكرى حبيب ومنزلِ
بسِقْط اللِّوىَ بين الدَّخُل فَحْومَلِ
فتُوضِحَ فالمقْراةِ لم يَعْفُ رَسْمُها
لِمَا نسَجَتْها من جنوبٍ وشمْأَلِ
وقُوفاً بها صحبى علىَّ مطيَّهِم
يَقولون : لا تَهْلِكْ أَسىَّ وتَجمَّلِ وظَلىَّ الشعراء يفتحون قصائدهم بالوقوف باكين على الرُّسُوم والأَطلال، وعلى أَحِبَّتهِم الذين أَقاموا فيها ، وصار ذلك الوقوفُ الباكى تقليداً للشعراء حتى لو لم يكن لهم طَلَلُُ أو رَسْم دارس ، وامتدَّ ذلك التقليدُ على مدى العصور ، بل تَجاوزَ التقليد الشعرىّ ، فقال يَسْخَرُ من الوقوف على ما دَرَسَ من أَطلال ورُسُوم
قُلْ لِمَنْ يبكى على رَسْمٍ دَرَسْ
واقفاً : ما ضَرَّ لو كان جَلَسْ !(33/16)
ولكنَّ هؤلاء الشعراءَ حَفِظُا بشعرهم الكثيرَ من تُراث الأعلام الجغرافية ، التى نرجوا أن ينهض الجغرافيون للبحث عنها ، والتَّعُّرفِ عليها 5 وقد نهض بذلك علامةُ الجزيرة العربية ، عضُو مجمعنا ، الشيخُ حمدُ الجاسر ، فأنفق الكثيرَ من جُهده وزهرةِ شبابِه وكهولِته فى إعداد مُعجمه الجغرافىِّ الضخم من الجزيرة العربية ، ولا ننس جُهوداً أخرى لعلماء آخرين فى الجزيرة ، منهم زميلُنا الشاعرُ الأستاذ عبدُ الله بنُ خميس .
وكم من أعلام جغرافيةٍ دارسةٍ تستنهضُنا إلى بَعْثها وإحيائها من جديد ، مثلِ " عكاظ " التى تقع بين مكةَ والطائف ، والتى ازهرتْ سُوقُها فى الجاهلية والإسلام ؛ وقد كانت سُوق تجارةٍ وثقافةٍ وشعر ، كما كانت سوقاً اجتماعيةً وسياسيةً ، حيث تُعقد فيها مجالسُ الصلح بين القبائل .ولكن هذه الكثرةَ الفائقةَ للأعلام الجغرافيةِ فى الصَّحارَى الشاسعةِ التى يكثر فيها التَّرحالُ كالجزيرة العربية تُقابلُها قِلَّةُُ من الأعلام الجغرافيةِ فى البُلدان التى تنشأُ على شواطىء الأنهارَ ، حيث الزَّرْعُ والضذَرْع ، والحياةُ المتحضرةُ المستقرة ، وحيث تنشأُ الدولُ والإمبراطورياتِ .
كما أن العُمرانَ المتحركَ فى الصحارى الذى يقفُ دائماً على أُهبة الرحيل والأنتقال من مكان إلى آخَرَ يُقابلُه عُمْرانُُ ثابتُُ مستقرُُّ مُزْدَهِرُُ على شواطىء الأنهار ، حيث تتناثر القرى والمدنُ على بساط آخضرَ يَمتدُّ هنا وهناك ؛ وهذه القرى والمدنَ لا تَنْعَمُ باستقرارها فحسب ؛ فهى فى نُمُوٍّ عُمرانىٍّ متطورٍ يتواصل ، بل إن الكثيرَ من هذه القرى والمدنِ سرعان ما تتقاربُ ويَجَمَعُها نَسَبُُ وصِهْر ، فتتوالدُ منها قُرىَّ ومدنُُ صغيرة !(33/17)
فالقاهرة التى نعرفهُا الآن لاليست هى القاهرةَ فى نشأتها الأولى : قاهرةً المُعِزِّ لدين الله ؛ فقد نشأتْ قبلها مُدُنُُ ثلاث : " الفُسطاط " العاصمُة الإسلاميةُ الأولى لمصر ، ومدينةُ "العَسْكَر "، ومدينة " القطائع "، ثم جَمَع بين قاهرة المُعِزِّ وهذه المدِ الثلاثِ نَسَب وصِهرْ ، فتوالدتْ منها أحياء وضواحٍ جديدة . وما زالت القاهرة وَلُوداً على امتداد أكثرَ من ألف عام ، يتكاثر حولها الأولاد والحَفَدة ، حتى صارت القاهرةُ قبيةً كبرى من مُدُن تَنْعَمُ فى آحضانها بدفء الرعاية والأَمان ، وتزدهرُ فى كَنَفِها بالحضارة المتجددة والعيش الرغيد !
بل إن " القاهرةَ الكبرى " أخذتْ تَخْطُبُ وُدَّها مدن كثيرة تُحيط بها ، من محافظات الجيزة ، والقليوبية ، والشرقية ؛ فتصبح القاهرة بذلك أُمَّا ذاتَ عشائرَ وبُطُونٍ من المدُن والضواحى ، وتَكْتَظُّ بالمئات من الأعلام الجغرافية
وهذا هو الشأنُ فى عواصم المشرقِ العربىِّ ومغربِه ، وفى سائر العواصمِ والمدن الكبيرة ، فى أرجاء المعمورة .
أيها السادة :
ليستْ هذه المرةَ الأولى التى يُشْغَلُ فيها مجمعُنا بموضوع الإعلام الجغرافية ؛ فقد عُنِىَ به منذ دَوْراتِه الأُلى ، بل أصدر المجمعُ قراراً بتكوين لجنةٍ من اعضائه العرب والمستعربين ؛لملاحقةِ الأخطاء فى الأعلام الجغرافية ، ورَدِّها إلى صوابها ، فى البلدان العربية وغيرها ، وكانت اللجنة مؤَلَّفةً من الأساتذة الأعضاء : حسن حسنى عبد الوهاب ، والأب أنستاس الكَرْمَلِىِّ ، وچب ، وليتمان ، وماسينيون ، ونلِّينو .
كما أصدر المجمعُ قراراتٍ فى دَوْرَتيْه : الرابعة والخامسة بشأن القواعدِ التى تُتَّبَعُ فى كتابة الأعلام الجغرافية .
وقد صَدَرتْ قوائمُ بتصويب الكثير من الأعلام الجغرافية فى بعض البلاد العربية وغيرها .(33/18)
والمجمعُ فى حرصة على تصويب الأعلامِ الجغرافية يَتَصدَّى لمعالجة موضوعٍ اسْتَشْرَى داؤُه فى كثير من البلدان العربية والإسلامية ، وبخاصة البُلدانً التى طُوِيَتْ صفحةُ عُرُبيِتها منذ قُرونٍ ، كالأندلس ، وصِقِلِّيَّة ، وكذلك البُلْدان الإسلاميةُ التى أَخذتْ تستردُّ حريتها واستقلالَها ؛ كالجمهوريات الإسلامية السِّتِّ التى كانت فى قبضضة ما كان يُعرف بالاتحاد السوفيتى ، والتى منها ابنُ بُخارى " محمدُ بنُ إسماعيلَ النجارىُّ " أميرُ المؤمنين فى الحديث الشريف ، وهناك بلْدان إسلامية أخرى كأفغانستان ، التى ينتمى إلى عاصمتها :" كابل " الإمام الفقيه الأعظمُ " أبو حنيفة النعمان "
وليس التحريف فقط هو ما ابْتُلِيَتْ به الأعلامُ الجغرافية ؛ فقد أْبتُلِيتْ بما هو أَدْهَى وأَمَرّ : ذلك هو الوهمُ الخاطىءُ فى تفسيرها ، وما يؤَدِّى إليه من جُنُوح عن الحقيقة والحقِّ إلى الخيال والضلال ، بل إلى الإضلالِ فى دراسة الأعلام الجغرافية .
ومن عجائب التَّوَهُّم فى تفسير الأعلام الجغرافية ما تَوَهَّمه البعضُ فى تفسير اسم " وادِى السِّباع " الذى يُطْلَقُ على وادٍ فى نواحى الكوفة ، فقال : إنه سُمِّىَ بذلك لأن السِّباع تكثر فيه وتتخذُه مَأْوىً لها .
ولو عُنِىَ ذلك الواهمُ بالبحث فى كتب المواضع والبلدان لأدْرَكَ أن هذا الوادى كانت تُقيمُ فيه امرأةُُ تُسَمَّى " أسماء بنتَ دُرَيْم " وهى على حَظٍّ وافرٍ من الجمال ، فمَرَّ بها رجلُُ يُسَمىَّ " وائلَ بنَ فاسط " فَبَهره جمالُها وهَمَّ بها . فقال " اسماء " غاضبةً متَوعِّدة : واللهِ لَئِنْ لم تَنْتَهِ لأَسْتَصْرِخَنَّ عليك مَنْ فى الوادى
فقال لها : إنذِى لا أَرَى أحدا
فقالت : لو دَعَوْتُ سِباعىِ لَمَنَعتْنىِ منك
فقال غيرَ مُصَدِّق : أَوَ تَفْهَمُ السِّباعُ عنكِ ؟ فصاحت أسماء : يا أسد ، يا ليث ، يا فهد ، يا نَمِر ، يا ذئب ، يا ثعلب يا كلب(33/19)
فأقبل إليها أبناؤُها مسرعين هاتفين : لَبَّيْكِ ياأُمّاه
فذُعِرَ وائلُُ وكاد يُغْشَى عليه ، ولكنَّ أسماءَ أَشارتْ إليه باسمه وهى تقول لأبنائها : هذا ضيفُُ نزل بكم فأحْسِنُوا إقراه
فقال وائلُُ مأخوذاً : ما هذا إلاّ " وادِى السِّباع "
فصار الأسمُ علماً لهذا الوادى .
وأعَعْجَبُ من ذلك ماذَكَرَه العلاّمةُ العراقىُّ الأستاذ " كوركيس عواد " ؛ فقد ذَكَر أن فى جنوبىِّ بغدادَ مَحَلَّلةً تُعرف باسم " رُخَيْتَة " ، وتقتَّدى لتفسير هذا العلم الجغرافىِّ أحدُ علماء اللغات ، فقال : إن هذا الأسمَ ( رُخَيْتَة ) مأخوذُُ عن اللغة السُّرْيانية ، وأن أصلهَا فى هذه اللغة " أُورْخَا ـ دْ ـ أَيْتَا " ، ومعناه فى السريانية " طريقُ البيعة "
ولكنَّ الحقيقةَ مالَبِثَتْ أن صَكَّتْ وجْهَ هذا التفسير اللغوىِّ ساخرةً منه ؛ فإن اسمَ " رُخَيْتَةَ " أُطلق على هذا الموضوع لأنَّ امرأةً اسمُها " رُخَيْتَةُ " كانت تملك بستاناً فيه ، عُرِف باسمِ " بستانِ رُخَيْتَه " ، ثم أُطلق اسُمها على المَحَلَّة كلِّها ، وصار علماً لها
ولإنى من هذا المنبر المجمهىذِ أُهِيبُ بشيخ الجغرافيين العرب الأستاذ الدكتور " سليمان حُزيِّن " ، عضو المجمع ومقرر لجنةِ الجغرافيا ؛ لِيُعيدَ السُّنَّةَ المجمعية الحميدةذَ التى بدأها مجمعُنا فى دوراته الأولى ؛ فَيَعْهَدَ إلى الأعضاء العرب والمستعربين بمعالجة التحريف والتَّوهُّمِ اللذينْ اْبتُلِيَتْ بهما الأعلامُ الجغرافية
كما أُهِيبُ من هذا المنبر المجمعىِّ بوزيرنا الأستاذ الدكتور حسين كامل بهاء الدين ؛ لِيُنْجِزَ وَعْدَه بالعمل على استصدار تشريعٍ يَحْظُرُ كتابةَ أسماءٍ أجنبيةٍ على المحالِّ والشركات وغيرهما ، أو كتابةَ هذه الأسماءِ الأجنبيةِ بحروف عربية باستصدار تشريعٍ يقضى بذلك وشكراً لكم أيها السادة ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
28 من شوال 1416هـ
18 من مارس 1996م
ابراهيم الترزى(33/20)
الأمين العام للمجمع
هذا وأُتْبِعُ تأْبينى بتهنئة
لشوقِى ضيفٍ بإجلال وتوقير
بل حقَّ مجمعنا أنى أهنئه
به رئيسا وقلبى جدّ محبور
قَدْ مَجْمَعَ العَرْبِ أستاذٌ بلاشَبَهٍ
من العظام أُولِى الفضل المشاهير
وإذا أُهنئه أدْرى بأنّىَِ قَدْ
هَّنأْتُ أستاذ أجيال الجماهير
جاءوه من كِلّ أقطار العروبةلم
تِلْفُوه يأْلو ولا يُرمْىَ بتقصير
تواضعا واهتماماً بالشباب وعِرْفاناً
بما فيه من مجد وتحرير
مواظبا مطمئنَّ النفس مجتهداً
مُرَابطا فى جهادٍ ثَمَّ مبرور
مُشاركا فى علوم الضادِ أجمعها
دَرْساً دقيقا بتوثيق وتيسير
محلّلا لأساليبٍ محقّقَ مَخْطوطٍ
مُعَلّمَ مُخْتَارٍ ومأثور
وناقدا قد عَهِدْنا فى براعته
حسن النقاش بعطف لا بتحضر
مصاحبا أدباءَ العصر صُحْبةَ ذى
ذَوْقٍ أفاد بتقديم وتأخير
مُؤلِفّاً ومبينا فى محاضرة
عميقةِ لبِس فيها هَذْرُ تقعير
مُهَذْبَاً فَطِناً حُلْواً مُعاشرَةً
من الرجال لَطِيفٌ غَيْرُ مغرور
وعالِماً وودوداً ذا مجاملة
للوافدين بلا أَيْنٍ وتقتير
وقد وجدنا لدَيْهِ الشاطبىَّ مع الدانِى
وحزب من القراء منصور
وعارفاً بالمعانى والبيانِ معاً
وفِتْنَةِ ابنِ هشام بابن عَصْفُور
وجيّدَ الخطِ حتَّى إِنَّ رقعَته
يَكاد يَشْرِق منها نوُر مسطور
فنسأل اللَّه تذليل الصِّعاب له
وئيمْنَ مَرضْاةِ ذى أَمْرٍ ومأمور
وأن يمَدَّ له عَمْر يحُفُّ به
فؤادُ كِلّ قريرِ العَيْنِ مسرور
ثم الصلاة لكيما يستجابَ لنا
هذا الدعاء بتحميد وتكبير
على النبىّ وآل والصحاب وتسليُم
عليهم بمّدٍ غير محسور
عبد الله الطيب
عضو المجمع من السودان
مَجدكَ الفذُّ سابقُ الأمجادِ
يتجلَّى كالشَّمسِ فى الأعيادِ
شارقٌ شامخُّ يطلُّ على الكوْ
نِ كإطلالةِ الحَيافِى البوادِى
هو قيثارةُ الزَّمانِ ونجوا
هُ ونبعٌ من حِكمةٍ وسَدادِ
فى رِحاب الجِنانِ صِيفَتْ عطايا
هُ لبرَوِى بها صَدَى الأجدادِ
لغةُ العُرب فِى حِماه تَراءتْ
كَعروسٍ تَميسُ فِى الأبرادِ(33/21)
بالبهاليلِ من ذُؤابة (عدنا
نَ )منَحتَ الجِراحَ خيرَ ضمادِ
ورعَيتَ الفُصْحَى وقد صَانَها الله
بهُ صِيتَانَ الأكْمام للأورادِ
كم بتاجِ العَلاءِ تَوذَجتَ هاماً
صِيِغَ من سُؤدُدٍ ، وحسُنِ ودادِ
أَيُّها المجمعُ الذىِ عَمَر النُّو
رُبهِ فى القُلُوبِ والأكبْادِ
والذىِ حَلَّ رافهاْ فِى ذُراهُ
يتهادَى الرَّبيعُ فِى المِيعادِ
بعد لَيْلٍ من الفِشاواتِ لماتٍ
مِنْه عشْنا عَلى مُدًى وقَتَادِ
أنتَ كالقلْعةِ الحصينةِ دَوماً
تَتَحدَّى سِهامَ كّلِ معادىِ
الحِّابا اليكَ تُهْدَى تِباعاً
كعقُودٍ تَشعُّ فى الأجيادِ
قد تَرشَّحتَ بالخُلُود وتبقى
ترْبَ هذا الخلودِ فى الآباء !
قَيِّها الصَّفْوةَ التىِ سِعد الظْ
يلُ بها من ذؤابةِ الأمجادِ
كلَّ عامٍ لَنا لِقاءٌ سَرِىٌّ
فى ذُرَى مَجْمَعٍ سَخىّ العتادِ
تتلاقَى أَبعادُه مُثقَّلاتٍ
تجديثٍ عَبْر الشُّجونِ الصَّوادى
فى سماءِ العروبةِ الآن يعلُو
مِن جَهَام الضَّبابِ ومضُ آرتدادِ
وآنطلاقٌ نحو السَّلام الذى جَا
ءَ كطفْلٍ مُشَّوهِ الأعْضاد
هًوَ حَرْبٌ قد آرتَدى ثَوبَ سَلْمٍ
خَابَ سَلْمٌ من شَفْرة الجلاَّدِ
أىُّ سَلْمُ مَغلَّفِ بالَّرزايا
هُو مَيْتُ مُعفَّرٌ بالرَّمادِ
الجنينُ الذَّىِ تعَسَّر حتَّى
ضاعَ لا يستثيرُ أىذَ آفتقادِ
خَادعٌ جَائوُ يخبِّىءُ ( القدْ
سِ ) قصيراً فىِ قبضةِ الأصْفادِ
بحَسبُ ( القدُسَ ) مَرتعاً آغتصابٍ
دُونَ حقّ فىِ شِرْعَة الأوغادِ
كُلَّ يومٍ يعيتُ فىِ غَاب ( لُبنا
نً ) ويزهو بالصاعَقِ الرَّعَّادِ
ويخالُ ( الجولانَ ) ضَيْعةَ باغٍ
وهْو حِصْنٌ ينأَى على القُصَّادِ
فَديارُ الأباء لن تَلْتمَ الأَرْ
ضَ ، ولَن يَستَند لَّها كَيْدُ عادىِ
بلَفِظٌ العُربُ كلَّ سَلْمٍ بَغيضٍ
ظاهِرِ الزَّيفِ دُنَ أىّ حَصاد !
لَيْسَ صُلْحاً أنْ يكْشِرَ الخَصْم عَن نَا
بٍ ، وان يَستَعِدَّ فى مِرصَادِ
أىّ صلْح ، وقلبُ كّلِ شهِيد
لم يَزَلْ نابغنْا بشْوقِ الجِهادِ ؟(33/22)
بتَشهىَّ لو عادَ من رحلةِ الموْ
ت ، لِيَشفِىِ مرارةَ الأحقادِ
أصْعبُ الصَّعْب أن يحيقَ بكَ الظُّلا
مُ مُلحَّا بجْورِهِ المُتمادِى
وتَرى الفِرَّ مَارحاً فى ديارا
أُسْدِ بَهْنَا بها قريرِر الوِسَادِ !
أيهَّا المجمعُ الحزين سَلاماً
وعَزاءُ يُهْدَى ليومِ التّنادىِ
قد صُعقْنا وقد مضى علم العصـ
رِ ، بِحُزْنٍ ما إنْ لهَ من نَفَادِ
وشَعُرُنا بما جدٍ فِى رُبانا
خَرَّ طوداً من أَرْسَخ الأطْوادِ
كانَ مِلءَ القلوبِ فَضْلاً وعلْماً
ورُؤًى عَبقريَةَ الإمْدادِ
أيُّها المجمعُ المحلَّق كالنجـ
مِ تُراثَ الآباء ةالأحفادِ
قد رعاكَ الرئيس خمسين عاماً
ما شكا الأبنَ من طويل السُّهادِ
نابهُ الرأى والجمىَ لَوْذَعىٌ
عزمُهُ فَوقِ هِمَّةِ الأسادِ
غادرَ الصَّرحَ عالياً مشْمحِرّاً
سْيدٌ للنَّدى عريقُ الرَّشادِ
ساطعُ لفِكر والشَّهامِة سمْح الـ
نفسِ راقٍ الذِروةِ الأجوادِ
" مَثلٌ للرذَجال تَنأى مراميـ
بهِ ، وحَادٍ للركبِ أكرمُ حادىِ
طَبعِّ الرُّوحِ إن دعتْه المُروء
تُ ، وطىءُ الأكناف للمُرتَادِ "
وسمىُّ ( الخليلِ ) مَفخرةُ الرُّسْ
لِ .. علىٌّ يسموُ على الرًّوَّادِ
كرِّموه فهو الجديرُ بِتكريـ
مِ لِما ضَمّ فِعْلُ من أَيادِ
وأذكُروه بكلّ نُبْلِ سَجايا
هُ فذكْراهُ راحلاً خير زادِ !
أَيَّها المجمع اضطبر إنَ فىِ الجوْ
بِةِ آَسادَ غَابةٍ وجِهَادِ
كلَّهم وافرُ العطاءِ حَوارىٌّ
مَلىءٌ بِعزذَةٍ وآعتِدادِ
ورَثوا الفَضْلَ كابراً عنَ كَبيرٍ
وَرَعَوةُ فىِ حِنكَةِ الأنْجادِ
مِنْهم العَبقَرىّ ( شَوقىِ ) المجلِّىِ
( ضَيْفُ ) أحلامِنا الذكىُّ القُؤادِ
حَمَل الرايةَ العريقَةَ وهو الْ
فَذَّ فىِ كُلِ مَحَفاٍ أَوْنَادىِ
فَبِهِمَْ يفخرُ الزمانُ وتَبقَى
شُعلَةُ المْجْدِ فىِ سناً واتِّقادِ !
حسن عبد الله القرشى
عضو المجمع المراسل
من السعودية(33/23)
يتردد فى القرآن الكريم أن كل رسول من رسل الله أرسل إلى قومه وحدهم ما عدا محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنوح أرسل إلى قومه يدعوهم لعبادة الله ، وكثله إبراهيم ولوط ، وأرسل هود إلى عاد وصالح إلى ثمود وشعيب إلى أهل مدين وعيسى إلى بنى إسرائيل أما محمد صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى جميع الناس ، يقول الله فى سورة الأعراف مخاطباً رسوله : ( قل ياأيها الناس إتى رسول الله إايكم جميعا ) فمحمد مرسل إلى جميع الناس عربا وغير عرب . ويقول الله فى سورة يوسف وصّ والتكوير فى وصف القرآن : ( إن هو إلا ذكر للعالمين ) وفى سورة القلم : ( وما هو إلا ذكر للعالمين ) والعالمين جمع عالم بفتح اللام أى أن القرآن ذكر للعالم كله بأجناسه ، وجمع للدلالة على الاستغراق فهو وجه للعالم جميعه . ويقول الله لرسوله فى سورة الأنبياء ( وما أرسلناك إلا رحمةَّ للعالمين )
إذ أرسله إلى البشر جميعا بدينه القويم الذى يسعد الناس فى الدنيا والآخرة . ويقول الله فى سورة سبأ : ( وما أرسلناك إلا كافذَةً للناس بشيرا ونذيرا ) فالله لم يرسل محمدا لقريش والعرب خاصة ، بل أرسله للناس كافة فى مشارق الأرض ومغادرتها ليبلغهم رسالته ، مبشرا من آمن به ، فوحَّد الله واعتنق شريعته الإسلامية وما بها من أوامر ونواهٍ بأن الله سيدخله جنته وينعم فيها نعيما أبديا ، وينذر من أشرك بالله وعبد آلهة متعددة ورفض رسالته وشريعته بأن مصيره إلى عذاب النار ألاليم فى الأخرة . ويكرر الرسول فى أحاديثه أنه مرسل ـ كما يقول الله ـ إلى الناس جميعا ، فعن ابن عباس أنه قال : بعثت إلى الناس كافة : الأحمر والأسود ، والعرب تسمى الأبيض أحمر أى أنه بعث إلى البشر جميعا ، وفى حديث ثان عن جابر بن عبد الله قوله : كان النبى يبعث إلى قومه ، وبعثت إلى الناس عامة .(33/24)
وهذه العالمية فى الدين الإسلامى والأمر الالهى بتوجيهه إلى جميع الناس جعلت الله يفرض معها عل الرسول والمسلمين أن يتعايشوا فى ديارهم مع جميع مَنْ بها من أصحاب الديانات والملل إلهيةَّ وغير الهية تعايشا قويما ، وقد وضع القرآن الكريم قانونا عاما التزم به الرسولُ والمسلمون فى جميع عصورهم ، وهو : ( لا إكراه فى الدين ) وبذلك كان الإسلام يكفل فى دياره لجميع الناس على اختلاف مللهم الحريةَ الدينية فى يُجْبر أحد على اعتناق الإسلام مكرها قهرا ، بل يُتْرك الناس وما اختاروا لأنفسهم من الدين ، ولذلك يقول الله ورسوله فى سورة يونس منكرا عليه شدة حرصه على إيمان المشركين من أهل مكة بالإسلام : ( ولو شاء ربك لآمن مَنْ فى الأرض كلُّهم جميعا أفأنت تُكْره الناس حتى يكونوا وؤمنين ) بدينك إنه ينبغى أن تترك للمشركين من قريش حريتهم الدينية فإن شاءوا تبعوك وإلا فدعهم . والتزم الرسول ذلك فكان لا يكره ـ ولا يقبل أن يكره أحدُ صحابته ـ شخصا على الدخول فى الإسلام .وفى تفسير ابن كثير أن مسلما من الأنصار كان له ابنان نصرانيان فقال للرسول صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرهمها علىالإسلام فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ، فأنزل الله فيه آية ( لا اكراه فى الدين ) .وكانت المسلمون فى الأندلس طوال العصور الماضية لا يقبلون من أحد اعتناق الإسلام إلا بوثيقة يعلن فيها أمام قاض وشهود بأنه اختيار الإسلام بكامل حريته . وفى تفسير ابن كثير عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمر أن لا يُتَصدذَق الا على أهل الإسلام فأنزل الله قوله لرسوله : ( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء وما تنفقوا من خير فلانفسكم وما تنفقون الا ابتغاء وجه الله ) والله يقول لرسوله : إنك لست مكلفا بهداية المشركين ، ودع المسلمين يتصدقون على فقرائهم كما يتصدقون على فقراء المسلمين ، والصدقة إنما هى لابتغاء وجه الله لا لمراعاة حال مسلم ومشرك . ويالمثل(33/25)
يأمر الله المسلمين أن يعفوا عن أذى المشركين فى سورة الجاثية قائلا : ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) ولا يسألونه فضله . والله يريد بهذه الآية والآية السابقة لها أن يكون بين المسلمين والمشركين صفاء حتى مع إيذائهم لهم . ويمتدح الله كرماء المسلمين أهل البر فى سورة الإنسان قائلا: ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا ) فهم يطعمون الطعام على حبه أى مؤثرين به المحتاجين من المساكين واليتامى والأسرى ، وكان الأسرى حينئذ من المشركين . روى ابن كثير عن ابن عباس أن أسرى معركة بدر من المشركين كانوا سبعين رجلا وأمر الرسول أصحابه أن يكرموهم فكانوا يقدِّمونهم على أنفسهم حين يحضر الغداء . وهذه الحرية الدينية وما رافقها من طلب المعاملة الكريمة للمشركين فضلا عن أهل الكتاب تدل – بحق _ على عالمية الإسلام إذ فرض على المسلمين أن يتعايشوا مع المشركين فى محيط أمتهم قائلا :"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) وحتى المقاتلين منهم حين يأسرهم المسلمون يطلب الله إلى المسلمين أن يطعموهم ويكرموهم . وقد كفل المسلمون – فى ديارهم – لجميع أصحاب الملل دون أى استثناء المحافظة على معابدهم وأموالهم وأن يؤدّوا شعائرهم بحرية تامة . وكانوا – منذ جيلهم الأول فى عصر الخلفاء الراشدين – يتعايشون فى ديارهم هذا التعايش الجماعى مع أصحاب الكتب السماوية ومع الصابئة عبدة الكواكب فى شمالى العراق ومع المجوس عبدة النار فى إيران مؤمنين بأن تلك مشيئة الله فى خلقه للأفراد والشعوب أن تختلف فيهم النزعات وتختلف الآراء وتختلف الديانات والملل ، كما قال تعالى لرسوله فى سورة هود : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) أى أمة تدين دينًا واحدًا ، وهو ملم يجعله الله للناس ، إذ جعلهم مختلفين ملة وعقيدة ودينا وسيظلون(33/26)
مختلفين ، لذلك ينبغى أن يرتضى المسلمون – فى ديارهم – كل من يخالفهم فى دينهم من أصحاب الملل إلهيةً وغير إلهية . أما الجزية التى فرضت على المشركين وأهل الكتاب فى الأقطار الإسلامية بالعصور الماضية فلم تكن ضريبة دينية إنما كانت ضريبة دفاع لانهم لا يشتركون فى الجيش الإسلامى ولا فى الحرب ، ولذلك كانت لا تؤخذ إلا ممن يصلح لحمل السلاح ، فلا تؤخذ من الصبى ولا من الشيخ ولا من المرأة ولا من راهب ورجل دين ، وكانت زهيدة فكانت غالبًا لا تتجاوز دينارا واحدًا فى العام .(33/27)
وبهذه الصورة العالمية للإسلام كان المسلمون يعيشون فى ديارهم من إيران شرقًا إلى المحيط الاطلسى غربًا متعاونين مع كل من عاش معهم من أصحاب المل والنحل ، وفى هذا المناخ الإسلامى الحضارى كان يجتمع ذوو النحل المختلفة بمجالس علماء علم الكلام المسلمين ويتحاورون فى نحلهم وعقائدهم ويتناظرون بحريةتامة ، من ذلك مجلس بالبصرة – والحياة الإسلامية فى الأوج السياسى – وفى هذا المجلس يقول صاحب النجوم الزاهرة فى الجزء الثانى ص 29 : كان يجتمع فيه عشرة لا يعرف مثلهم : الخليل بن أحمد صاحب علم العروض سنى والسيد الحميرى الشاعر شيعى رافضى ، وصالح بن عبد القدوس ثنوى ( يؤمن بإلهين على دين مانى الإيرانى ) وسفيان بن مجاشع صفرى ( من الخوارج ) ويشار ابن برد الشاعر خليع ماجن ، وحماد عجرد زنديق ، وابن رأس الجالوت الشاعر يهودى وابن نظير النصرانى متكلم ، وعمرو بن أخت الموبذ مجوسى ، وابن سنان الجرَّانى الشاعر صابئى . وهو مجلس كان لا يمكن أن يحدث مثله فى أى أمة لولا أن القرآن ألزم المسلمين بالتعايش فى ديارهم مع كل أصحاب الملل والنحل ، وأنه لما خلق البشر جعلهم بطبيعة تقضى باختلافهم فيما يعتقدون وينتحلون ، فعاملوا أصحاب النحل والملل معاملة حسنى ، وفتحوا لهم مجالسهم على هذا النحو يتحاورون معا فى المعتقدات والآراء محاورات حرة . وظل طويلا فى مجالس علماء الكلام بالعصر العباسى ، ففقيه محدِّث أندلسى يسمى أحمد بن محمد بن سعدى نزل بغداد فى الربيُّبْع الأخير من القرن الرابع الهجرى ، وعاد منها إلى القيروان ، فسأله فقيهها ابن أبى زيد المتوفى سنة 386 الهجرة : هل حضرتَ مجالس أهل الكلام ؟ فقال : حضرت مجلسين وأول مجلس حضرضة جمع الفرق كلها : المسلمين من أهل السنة والبدعة والكفار من المجوس والدهرية والزنادقى واليهود والنصارى وسائر أجناس الكفر ، ولكل فرقة رئيس يتكلم على مذهبه ويجادل عنه . وإذا جاء رئيس من أى فرقةٍ كانتْ قامت(33/28)
الجماعة إليه قياسا على أقدامهم حتى يجلس فيجلسوا بجلوسه ، فإذا غَصَّ ( ازدحم )المجلس بأهله تناظروا بالحجج العقلية . وقيل لى : ثم مجلس آخر للكلام ، فذهبت إليه ، فوجدتهم مثل سيرة أصحابهم السالفين .
وهذا الخبر مثلُ سابقة يصور كيف أن الإسلام ـ منذ ظهوره فسح المجالات فى دياره للتعدد فى الأقوام والديانات والعقائد والآراء والأفكار ، فهذه مجالس المتكلمين ـ منذ احتدمت فى العصر العباسر ـ تضم بجانب علياء الكلام المسلمين متكلمين من الفرق كلها : من أهل السنة والبدعة المسلمين ومن المجوس والمانوية والدهرية والزنادقة والصابئة ومن اليهود والنصارى . وكل ذلك بفضل عالمية الإسلام التى وسعت كل الملل والنحل الهيةَّ وغير إلهية ، حتى المجوس والصابئة والزنادقة والدهرية الذين لا يؤمنون بالاخرة .
ـ2ـ(33/29)
ومن عالمية الإسلام أن جعل العقل حكما فى كل ما يتصل به خاصة فى الإيمان بالله ووحدانيتة ، فالمسلم لا يكون كاملا إلا إذا عقل دينه واقتنع به عن بيْنة ،والقرآن هو الكتاب السماوى الوحيد الذى يضع البينة أمام عقل الإنسان ليؤمن بأن له إلهَّا واحدَّا ، ويكررها عشرات المرات ـ إن لم يكن مئاتِها ، وهى خَلقْه للآيات الكونية ، فإن من ينظر فيها ويتأمل يَهْديه تأمله إلى أن لها خالقا صنعها وديذَر نظامها ، يقول جل شأنه : ( إن فى خلق السموات والأرضْ واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخَّر بين السماء والأرض لآيالت لقوم يعقلون ) . والله يدعوا الناس فى الآية إلى أن يتأملوا فى خلق السموات التى تبدوكقبة زرقاء وما يسبح فيها من كواكب ونجوم ، ويتأملوا فى خلق الأرض وما فيها من بحار وجبال وأنهار وزروع مختلفات ، ويتأملوا فى اختلاف الليل والنهار ظلمة وضياء وطولا وقصرا ، ويتأملوا فى الفلك التى تجرى فى البحار بما ينفع الناس من ركوبه والتنقل بها وحمل تجاراتهم ، ويتأملوا فيما أنزل الله من السماء أى السحاب من مطر ، فأحيا به الأرض بعد موتها بأنواع النباتات والأشجار والزروع والبقول والثمار والرياحين ونشر فيها أنواع الحيوانات أليفة ووحشية ودبَّر رزقها وعَّرفها مأواها ، وتأملوا تصريف مهاب الرياح شرقا وغربا وشمالا وجنوبا والسحاب المذلل لحمل الأمطار المنقاد من جهة إلى جهة ليسقط مطره عليها ، فتحيى ويعودَ إليها الحسن والبهاء .إن فى ذلك كله لآيات تشهد بأن للكون خالقا جعل فيه هذا النظام البديع المحكم . ويذكر الله فى سورة يسّ قسمته اليوم للإنسان بين نهار خلقه مضيئاكى يعمل فيه لمعاشة ، وليل خلقَه مظلما كى يستجمَّ فيه للراحة والنوم ، وبذلك جعل الله النهار معاشا والليل سكنا ، ولو كانت الدنيا(33/30)
نهارا خالصا لكلَّت قوى الإنسان ، ولو كانت ليلا صرفا لبطلت حركته . ويقول الله : ( والشمس تجرى لمستقر لها ) أى حتى مكان غروبها اليومى ، ويشير الله بجريها إلى ما يترتب عليه من فصول السنة وأنها تجرى بنظام كونى محكم ويقول إن القمر يجرى مثل الشمس فى منازل وصور حتى يصبح كعُرْجُون النخل القديم ومجتمع شماريخه باصفراره وتقوسه . وهاتان المسيرتان للشمس والقمر مقدرتان بنظام دقيق ( لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ) فلكل منهما مداره ( ولا الليل سابق النهار ) فلكل منها وقته المحدد المعلوم . وتلك آيتان كونيتان عظيمتان . وهما تدلان بوضوح على عظمة خالقهما وتدبيره الدقيق لهما ، وإن مداومة التفكير فيهما وفى آيات الله الكونية الأخرى فى القرآن ليملأ قلب الإنسان إيمانا بالله وعرفانا بألوهيته ووحدانيته ، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : لا عبادة كالتكفر فى الكون وما فيه من عجائب الخلق .(33/31)
ويَنْعَى الله على الكفار إشراكهم فى عبادته آلهةً لهم وأنهم لم يفيدوا أى فائدة من العقل الذى أهداه إليهم فى معرفته والإيمان بألوهيته ، يقول : ( لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ) والله ـ جل شأنه ـ يقول إن المشركين الكفار وعطَّلوا قلوبهم أى عقولهم عن النظر فى ملكوته وآياته الكونية والتأمل فيها ، فلم تعد تفقه أو تدرك شيئا ، وعطلوا أعينهم فلم تعد تنظر فى الكون شيئا يهديها إلى الحق ، وعطلوا آذانهم فلم تعد تنتفع بما نسمع من القرآن وما فيه من الهدى إلى عبادة الله ، ويقول الله إنهم مثل الأنعام من الإبل والبقر والغنم فلا عقل لهم ولا إداراك ولا بصيرة ( بل هم أضلّ ) من الأنعام ، إذ لا يؤدّى بها ضلالها أن تسقط فى مهاوى الضلال ، لما ألهمها الله من معرفة مضارِّها ومنافعها ، أما المشركون فإنهم حجبوا عقولهم عن التأمل السديد فى الكون تأملا يهديهم إلى معلافة الله وعبادتهم له وحده ، وإنهم لغافلون عن سعادتهم فى الدنيا والآخرة وإذا تركنا هذه المحاكمة الكونية إلى العقل ونظرنا فى المحاور العقلية العامة للدعوة الإسلامية فى القرآن الكريم وجدناها ـ كما لاحظ ابن رشد ـ تعود إلى ثلاثة محاور ، هى البرهان العقلى والعِظة والجدال السديد . ومن أمثلة البرهان العقلى فى القرآن الكريم استلال الله على انتفاء الشركاء له فى الألوهية بقوله : ( وما كان معه من إله لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ) . والله يقول محتجا على من يدعون أنَّ معه لآلهة أخرى إن ذلك يقتضى أن يستقل كل إله بطائفة من المخلوقات ، ويصبح كل إله عاجزا عن السيطرة على مخلوقات غيره ، مما يثبت العجز على رُبوبيتَّه ، وهو محال فى حقيقة الألوهية . ودليل ثان أنه لو كان فى الوجود آلهة أخرى ولكلِّ إلهٍ مخلوقاته لاصطدمت قدرته وإرادته بقدرة الآلهة الأخرى(33/32)
وإرادتها ، وتحاربوا ـ كما يتحارب الملوك فى الأرض ـ ابتغاء علو السلطان . والدليلان يؤديان إلى انتفاء شريك لله أو شركاء ، لأن الشريك ـ ومثله الشركاء ـ لن يكون بيده ولا بأيديهم ملكوت كل شئ فى العالم ،وهو تصور غير صحيح ، لأنه لا يمكن أن يحدث ، إنما هو إله واحد متصرف فى الكون ، تعالى وتنزه عن إشراك له فى ملكوته ـ ومن أمثلة العظة فى القرآن ما ذكرناه من عرض الله آياته الكونية على الناس لتتأمل عقولهم وتنفذ إلى الإيمان به ووحدانيته ، ومثلُ ذلك قصص الرسل وأقوامهم فى القرآن الكريم ، فقد أكثر القرآن من تكرارها وتردادها ليتعظ الناس فلا يكذِّبوا الرسل بما جاء هم به من الهدى الذى يكفل لهم السعادة فى الدنيا والآخرة حتى ر يصيبهم ما أصاب المكذبين للرسل مثل ما أصاب قوم نوح من الطوفان وقوم هود من الريح العاصفة العاتية فدمرتهم وقوم صالح وما نزل بهم من صيحة وبيلة أتت عليهم إلى غير ذلك من قصص أقوام الرسل الذين كذبوهم فنزل بهم عقاب أليم فى الدنيا وينتظرهم عقاب أشد إيلاما فى الآخرة ، وهو قصص يراد به العظة والعبرة . ومن أمثلة الجدل الشَّديد أنه لما نزلت آية سورة الأنبياء الموجَّهة إلى أهل مكة : ( انكم ما تعبدون من دون الله حصبُ جهنم ) أى حطبها يوم القيامة لقى ابن الزيعرى الشاعرُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم فقال ألست تقول : ( انكم وما تعبدون من دون الله حَصَبُ جهنم ) فقال الرسول بلى ، فقال : أكل ما يعبد من دون الله فى جهنم مع من عبدوهم لقد خُصِمْت ورب الكعبة ( أى غلبت ) ألست تزعم أن الملائكة عباد مكرمون وهم يعبدون عزيرا نبيهم ، فهل عزير والمسيح والملائكة سيكونون حصبا لجهنم . ولم يغضب الرسول حين سمع هذا الجدل بل قال له فى سماحة : اقرأ ما بعده : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) . ومن تمام العقلانية فى الإسلام نهى الله والرسول عن السحر والتعلق به وبكل من يزعم أنه يؤثر فى الناس خاصة(33/33)
الكهان والعرافين والمنجمين ، فكل ذلك باطل وقبض الريح ويشدد الرسول فى النهى عنه ، وبالمثل كان ينهى عن الخرافة وكل ما يتصل بها وعن كل شعوذة ويعد ذلك كله خروجا على الإسلام وتعاليمه .
_3_
ومن عالمية الإسلام دعوته القوية إلى العلم والتعلم حتى ليصبح ذلك شعالرا له منذ فجره الأول وطوال عصوره ، فقد أشاد الله بالقلم والعلم والتعليم فى أول آيات نزلت على الرسول صل الله عليه وسلم حثا لأمته على تحصيل العلم وأقسم الله فى أول سورة ( ت ) بالقلم وما يسطرون إرهاصا بأن الأمة الإسلامية ستكون أمة علم وفكر وكتابة ، ويأمر الرسول والمسلمين فى سورة طه بأن يضرعوا إليه داعين أن يزيدهم علما وكعرفة . ويعلى الله فى القرآن دائما من العلم والعلماء إعلاء عظيما ، وقد جعله ميزة كبرى لآدم أبى البشر إذ قال للملائكة فى أوائل سورة البقرة : ( إنى جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم مالا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ) وعجزوا فقال : ( يا أدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم ) أمرهم : السجود له تعظيما لعلمه . والله ـ بذلك ـ جعل منزلة علم آدم بالأسماء فوق منزلة تسبيح الملائكة بحمده وتقديسه مما يرفع مكانه العلم إلى أعلى مرتبة . ويكثر الرسول صلى الله عليه وسلم من دعوة المسلمين إلى العلم والتعلم ، وكان يقول إن الخروج فى طلب العلم مثل الخروج للجهاد الحْربِىّ فى سبيل الله ، وعلى ضوء سجود الملائكة لآدم كان يقول الرسول فضل العالم على العابد كفضلى على أدنى الصحابة ، وهو بذلك يجعل منزلة العالم فوق منزلة العابد لربه ، وأشار الله فى القرآن إشارات مختلفة إلى العلوم الطبيعية والفلكية كما فى الآيات الكونية التى ذكرت أن الله خاطب بها عقل الإنسان لتهديه إلى الإيمات به . وبالمثل فى القرآن إشارات إلى(33/34)
العلوم الرياضة والطبية كما فى آيات سورة المؤمنون وتصويرها المعجزة الطبية الربانية التى تعرض ـ بدقة ـ أطوار الجنين حتى يتخلق كائنا حيا . وبهذه الروح العلمية التى بثها القرآن والحديث فى نفوس العرب أقبلوا بعد الفتوح الإسلامية على ما لدى الأمم الأجنبية من معارف تتغذى بها عقولهم ، ونقل لهم عشرات من المترجمين ـ تموج بهم صفحات كتاب الفهرست لابن النديم ـ أهم ما فى الثقافات الهندية والفرسية واليونانية من علوم ، ونقلت إليهم الفلسفة اليونانية وانصهرت كل هذه الثقافات فى الفكر العربى ، وسرعان ما أخذ يظهر فى كل علم عالم مثل جابر بن حيان الكيميائى والخوارزمى الرياضى والطبيب الرازى وامتزجت الفلسفة بروحانية الإسلام ، وافتتح الكندى معاصر المأمون سلسلة فلاسفتها الإسلاميين العظام . وظلت الحضارة العربية وما تحمل من الفكر والعلم الفلسفة تقود العالم وحدها طوال خمسة قرون من القرن الثامن الميلادى حتى الثالث عشر ، وأكب الغرب على نقل علوم العرب وفلسفتهم فى الأندلس وصقلية منذ القرن الحادى عشر الميلادى واستحالت منارات له إلى حضارته الغربية الحديثة . وإنما استطردت هذا الاستطراد لأبيِّن مدى الطاقة التى بثها القرآن فى نفوس العرب بجعله علم آدم فوق تسبيح الملائكة لله ، وبَثَّها الحديث أيضا فى نفوسهم بجعله العلم الأفضل من العبادة ، وإن الرسول ليقول : فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب . وبذلك ظل الإسلام دافعا لحركتنا العلمية والحضارية ومعانقا لها حتى بلغت الأوج معه فى العالمية .(33/35)
ومن عجب أن يقرأ بعض المثقفين عندنا ما حدث فى الغربق بالقرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاد من تنازع عنيف بين السلطتين الدينية والزمنية أو بعبارة أخرى بين الكنيسة والدولة ، وأيضا وقوف الكنيسة أحيانا ضد العلم والعلماء ، فنقلوا ذلك إلينا وحاولوا أن يطبقوه خطأ بين الإسلام والدولة ، وبين الإسلام والعلم ، وهم فى التطبيقين مخطئون خطأ كبيرا ، أما الخطأ الأول فلأن الإسلام ليس فيه كنيسة على نحو ما هو معروف فى المسيحية .
وأما الخطأ الثانى الذى يذهب أصحابه إلى أن الدين يعارض االعلم كما صنعت الكنيسة المسيحية أحيانا فإن ذلك لم يحدث يوما بين الإسلام والعلم بل لقد دعا الإسلام ـ كما رأينا ـ المسلمين دعوة كبرى إلى التزود بالعلم زادا يهيئهم للنبوغ فيه ، وقد هيأهم ـ فعلا فى العصور الماضية ـ لإحداث نهضة علمية عالمية ، ودفعَنا فى نفوس عصرنا الحديث إلى إحداث نهضة علمية مماثلة منذ عصر محمد على إلى عصر عباس نقلنا فيها العلوم الغربية إلى العربية ، واستحالت العربية لغة علمية تستوعب جميع العلوم الغربية فى القرن الماضى إلى أن وقف الإنجليز هذه النهضة العلمية المباركة ، إذ جعلوا تعليم العلوم فى المدارس العليا بلغتهم الإنجليزية ، وهى تنحسر الآن عن بعض العلوم فى الجامعات وعن السنتين الأولى والثانية فى الكليات العلمية والمأمول أن تنحسر نهائيا عن سنواتها جميعا وتنحسر معها تبعيتنا العلمية للغرب وتسترد العربية سيادتها اللغوية فى ديارها كاملة .
_4_(33/36)
ومن عالمية الإسلام نظامه الاقتصادى القائم على فرض زكاة الأموال على الأغنياء وما يتبعها من الصدقة ، فقد جعلها فريضة سنوية ، وقرنها فى كثير من آيات القرآن إلى الصلاة إذ جعلها عبادة له مثَها بل إنه ليقرنها أحيانا إلى الإيمان به تعظيما لها ، ويقول إنه يضاعف الجزاء عليها إلى سبعين ضعفا بل ومن عالمية الإسلام نظامه الاقتصادى القائم على فرض زكاة الأموال على الأغنياء وما يتبعها من الصدقة ، فقد جعلها فريضة سنوية ، وقرنها فى كثير من آيات القرآن إلى الصلاة إذ جعلها عبادة له مثَها بل إنه ليقرنها أحيانا إلى الإيمان به تعظيما لها ، ويقول إنه يضاعف الجزاء عليها إلى سبعين ضعفا بل إلى سبعمائة كحبَّة بُذرت فى أرض خصبة ، ونالها غيث فأنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبةّ . ويَرْفق الله بآخذى الزكاة والصدقة أعظم لطف ورفق إذ يطلب إلى صاحب الصدقة والزكاة أن لا يمسَّ شعور آحدهما بأى إيذاء من قريب أو من بعيد ، وأن لا يتبع صدقته وزكاته بأى مَنٍّ على الفقير والمسكين كأن يتطاول عليهما بأنه يطعمها أو لولاه لجاعا أوأنه ينبغى عليهما شكرة ونحو ذلك من ضروب المِّن المؤذية للشعور ، ويقول الله : ( قول معروف ) أى كلمة طيبة ( خير من صدقة يتبعها أذى ) يلوثها أويسممها وكأن هذا الإيذاء للصدقة موجه إلى صاحبها فيقول : ( والله غنى ) عن هذه الصدقة ( حليم ) أى أنه لا يعاقب عليها فى الدنيا إنما يعاقب عليها فى الآخرة . ويستحب الله إخفاء الصدقة على الفقير حفظا وصيانة لماء وجهه ، ومحافظة على شعوره ، حتى لا يعلم بها أحد مهما كان قريبا أو غير قريب ، وكان يقال خيرا المتصدقين مَنْ لا تعلم شماله ما أنفقت ـ وتصدذَقت به ـ يمينه . وعلى هذا النحو فرض الإسلام على المسلم أن يقدم من ماله سنوياً فرضا مكتوبا عليه الفقراء وللصالح العام ، وبذلك أصبح للفقير حق معلوم فى مال الغنى سوى ما يؤدِّيه من الصدقة راضيا ، مما يجعل أفراد الأمة تترابط(33/37)
ترابطا اقتصاديا ، ويسود بينهم تعاطف ومودة ، إذ يَبَرُّ الأغنياء الفقراء بِرا متصلا تدفعهم إليه عقيدتهم الروحية التى نزل بها الإسلام ، وهو بِرٌّ موجه لرضا الله عن صاحبه ، مما يجعله عبادة وزلفى اليه أملا فى أن يجزى صاحبة عليه الجزاء الاومى .
ومن عالمية الإسلام دعوته بقوة إلى المساواة بين أفراد النوع الإنسانى ، فهم جميعا أبناء أب واحد هو آدم ، ويقول الله إنه خلقهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا لا ليتفاخروا ولا ليتعاركوا ، بل ليعبدوا الله حق عبادته ، ويعلن الرسول لأمته أنه لا فضل لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى ولا لأحمر أى أبيض على أسود على أبيض إلا بالتقوى .وهى صورة ضخمة من عالمية الإسلام إذ ألغى العنصرية نهائيا وفوارق الجنس واللون ، وجعل المساواة بين أفراد البشر قانونا خالدا ، فالجميع متساوون سواء أكانوا عربا أم غير عرب ، وسواء أكانوا سود أم غير سود ، وسواء أكانوا بيضا أم غير بيض .
أيها السادة :ـ
بقى مقومان من مقومات عالمية الإسلام لا يتسع الوقت لبسط الحديث فيهما ، وهما العد الذى لا تصلح حياة الأمم بدونه والسلام ، والله ـ جل شأنه ـ يكرر فى القرآن الكريم أنهخلق الكون بقوانين عدل تام دون تفريط أو افرط ، ويأمر المسلمين أن يتخذوه قانونا عاما فى كل ما يأتون من القول والفعل فى حياتهم وفى جميع علاقاتهم وفى القضاء والحكم . ويقول الرسول ان من يلتزمون العل سيكونون يون القيامة على منابر من نور . ونهى الله ورسوله عن الظلم بكل صوره وتوعدا الظالم بعقاب أليم فى الآخرة .(33/38)
ودعا الله ورسوله دعوة كبرى إلى السلام وأن يعم الارض وجعلاه التحية اليومية للمسلم اذ يبادر من يلقاه من إخوانه المسلمين وغيرهم بقوله السلام عليكم ، وهى تحية تحمل فى أطوائها الأمان والمودة . والإسلام بذلك يدعو ـ منذ أربعة عشر قرنا ـ إلى أن يسود السلام فى العالم ، وقد جعله الله اسما من اسمائه الحسنى ، وسمى الجنة دار السلام تحبيبا للمسلمين فيه وحثا عليه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،
شوقى ضيف
رئيس المجمع(33/39)
كان لي أن عرضت في مؤتمر المجمع - في السنة التي انصَرَمَت - للأعلام الجغرافية في العراق ، وها أنذا أتبع ما كان لي في ذلك المؤتمر بشيء آخر أتعقّب فيه طائفة من الأعلام البلدانية في اليمن. وسأختار هذه الطائفة، فيكون لي فيها ملاحظات لغوية تاريخية ، وها أنذا أدرجها على حروف المعجم :
إِبّ :
قال ياقوت : قال ابن سِلفة هي بكسر الهمزة، وهي من قُرَى ذي جبلة باليمن ، وهي عندهم بكسر الهمزة.أقول:وهي بليدة جبلية مازالت معروفة ذات خضرة وشجر.
وهي عند الأصمعي بالفتح والتشديد. (1)
أقول أيضًا : لعلّ الفتح في همزتها أوجه، ولكن الاستعمال غلَّب الكسر . وإني لأذهب إلى هذا مستفيدًا من قوله تعالى : "وفاكهة وأبّا" (2)
وإني لأنظر إلى "الأبيب " في اللغة العبرانية (3) وهي كلمة بصيغة الجمع ،
والمفرد أبّ" و" فعيل " من صيغ أسماء الجمع في العبرية ، ومنه هذه الكلمة ، وكذلك "فعيل" من أبنية التكسير نحو : نخيل وعبيد وغيرهما .
دلنا أن نستأنس بـ " تل أبيب" من الحواضر التي أنشأها اليهود في فلسطين العربية إبان الحكم البريطاني غير بعيدة عن القدس - حَرَسها الله - وكأنها في الأصل موضع تلٍّ فيه زرع .
أَبْيَن :
من حواضر اليمن
ولا يعرف أهل اليمن غير فتح الهمزة
قال ياقوت : حَكَى أبو حاتم قال : سألنا أبا عبيدة كيف تقول: عَدَنُ أَبْين أو إبْيَن؟ قال : هما جميعًا .
وقال عُمارة بن الحسن اليمنى الشاعر : أبيَن موضع في جَبَل عَدَن .
وإلى أَبْيَن يُنسَب الفقيه نُعَيم ، عَشَريُّ اليمن ، وإنما سُمِّي عَشَريَّ اليمن ؛ لأنه كان يعرف عشرةَ فنونٍ من العلم .. (4)
الأتْلاء :
قرية من قُرَى ذِمار باليمن (1). وهي عزلة من بلاد عَنس فيما أضافه المقحفي فى معجمه .
أقول : و"ذمار" من حواضر اليمن وسآتي عليها .
أثافِث :
اسم قرية باليمن ذات كروم كثيرة .(34/1)
قال الهمداني " وتُسَمَّى أُثافة بالهاء، والتاء أكثر . قال : وخبَّرني الرئيس الكباري من أهل أَثافِت ،قال : كانت تُسَمَّى في الجاهلية " دُرْنا" وإياها أراد الأعشى بقوله :
أقول للشَّرب في دُرْنا ،وقد ثَمِلوا
شِيموا،وكيف يَشِيمُ الشَّارِبُ الثَّمِلُ
وكان الأعشى كثيرا ما يتَّجر فيها ، وكان له بها مِعْصَرة للخمر يعصر فيه ما جَزَل له أهل أثافة من أعنابهم .
قال الأصمعي : وَقَفتُ باليَمَن على قريةٍ فقلتُ لامرأةٍ : بِمَ تُسَمَّى هذه القرية ؟ فقالت : أما سمعت قول الأعشى :
أحبُّ أُثَافةَ ذاتَ الكرو
... م ، عند عصارة أعنابها(3)
الأَثلوث :
عزلة من مخلاف نَقَذ من وصاب العالي(4)
أقول : إن بناء أَفعول معروف في مواضع اليمن وقبائله . وقد رأيت أن أذكر هنا شيئا من هذا ثم أعود إلى ما أنا فيه من ذكر الحواضر منسوقة على حروف المعجم . ولم أجد شيئا من "أَفعول" في مصادر البلدان القديمة ، وليس في أبنية العربية "أفعول" بفتح الهمزة *
الأَجدون :
قال الأستاذ القاضي إسماعيل بن محمد الأعكوع في مقالة له نشرها في مجلة مجمع اللغة العربية من سنوات بدمشق : إن الأجدون منسوب إلى ذي جَدن وهو قَيْل من الأقيال اسمه : عَلَس بن يشرح ابن الحارث بن صفي بن سبأ ، وهو أوّل من غَنّى باليمن فلُقِّب بالجَدَن ، والجَدَن حسن الصوت . وقيل : جَدَن مفازة
باليمن يُنسَب إليها ذو جَدَن . والأَجدون : من حضرموت (1) .
الأَجروم :
قرية من عزلة بني شيبة التابعة لناحية الشمايتين في الحَجْرية (2) .
أقول : هل لي أن أقول : إن وجود بناء "أَفعول" في المملكة المغربية في الجهات البربرية في الأعلام هو بعض ما كان من أثر يمني قديم نجده في الأعلام في إفريقيا والأندلس ، ومن هذا " أريانة " في الأندلس وتونس وأصلها يمني قديم مازال في عصرنا وسيأتي ذكره .(34/2)
وسأتبع ما ذكرته مما وَرَدَ على "أَفعول" وأكثره مما صنَّفه اليمن في قولهم :"عُزلة" وهو موضع تجمّع سكاني صغير ، دون أن أفصِّل فيه إلا ما كان من أَفعول مما يتجاوز هذا الوصف ، وهذا هو : أَجرون ، الأَجشوب ، الأَجعود (3) ، الأَحبوب ، الأَحدوث ، الأَحدود ، الأَحروج ، الأَحسون ، الأَحضوض ، الأَحطوب ، الأَحكوم ، الأَحموم ،
الأَحنوش ، الأَحبوق ، الأَخدود (4)
الأَخدوع ، الأَخضوض ، الأَخطور ، الأَخلود ، الأَخمور، الأَدروب ، الأَذمور، الأَزهور ، الأَسروع ، الأَسلوم ، الأَشجور ، الأَشروع ، الأَشعوب ، الأَشمور ، الأَشموس ، الأَصبوح ، الأَصبور ، والأَصوت ، الأَصيور ، الأَضمور ، الأَطمول ، الأَظلوم ، الأَظهور، الأَعبود ، الأَعبوس ، الأَعجول(5) الأَعدول ، الأَعدون (6) الأَعذور ، أَعرود ، الأَعروش، الأَعروق، الأَعشور ، الأَعضود ، الأَعمور ، الأَعموق، الأَعنود ، الأَفروع ، الأَفيوح، الأَفيوش (6) الأَقحوز ، الأَقدور ، الأَقروض ، الأَكبوش ، الأَكروب ، الأَكروف، الأَكهوم ، الأَمجود ، الأَمروم، الأَملوك ، الأَنبوع ، الأَنجود ، الأَنقور ، الأَنهوم ، الأَهجور ، الأَهجوم ، الأَهزون، الأَهمول ، الأَهنوم (7) ، الأَهيون (8) ، الأَبدوع ، الأَيزوع ، الأَيزون ، الأَيفوع .
أقول:هذا جملة ما ورد في بناء"أَفعول" مما يدخل في "العُزَل"و"القبائل"وسائر المواضع.
أَرحب :
ناحية تابعة إلى محافظة صنعاء في الشمال الشرقي منها على مسافة خمسة كيلو مترات . وهي أيضًا قبيلة كبيرة من همدان تنسب إلى أرحب بن الدعام بن مالك بن معاوية بن صعب بن دومان بن بكيل بن جُشم بن خيوان بن نَوف بن همدان . (1).
إرْيان :
بلدة مشهورة تقع ضمن ناحية القفر بالجهة الغربية من يريم ، وتقوم على جبل بني سيف المطل على مجموعة من الأودية الخُضْر . يُنسَب إليها جماعة من أهل العلم . (2)(34/3)
أقول : قد قلت إن في تونس بليدة إلى جوار تونس تطل على البحر هي أريانة ، وهي المدينة التي قيل : إن مهاجرة الأندلس مصَّروها وأعطوها اسم المدينة الأندلسية ، فهل لي أن أقول : إن الذين أسسوا حكم المسلمين في إسبانيا كان فيهم ولا سيما جيش الفتح يمانيون اعتمد
عليهم الأمويون منذ عصر معاوية .
أَزال:
عُزْلة من ناحية الرظمة وأعمال يريم . وهي الاسم القديم لمدينة صنعاء نسبة إلى بانيها أزال بن يقطن .. أقول : وقد أحْيَا اليمنيون هذا الاسم فأطلقوه على مدارس وغيرها من مؤسسات .(3)
وأهل اليمن في حاضرنا يقولون "آزال" بالمدّ .
أقول : لابد أن يكون هذا الاسم من السبئية القديمة ، فقد وجدت هذه المادة من موادّ المعجم السبئي الذي استُفيدت موادّه من النقوش القديمة .
غير أنه ينبغي أن نعرف أن السبئية عربية جنوبية في اليمن ، ومن هنا تكون "أزال" مثل مادة " أَزَل" في العربية القديمة .
"والأَزَل " القِدَم . قال أبو منصور [الأزهري] : ومنه قولهم : هذا شي أزَليّ أي قديم . وذكر بعض أهل العلم أنّ أصل هذه الكلمة قولهم للقديم : لم يَزَل ، ثم نُسبَ إلى هذا فلم يستقم إلاّ بالاختصار فقالوا : يَزَليّ ثم أُبدِلت الياء ألفًا لأنها أخفّ فقالوا أَزَليّ، كما قالوا في
الرمح المنسوب إلى ذي يَزَن : أزَنيّ ، ونصل أَثربيّ "(1) .
وأقول أيضًا : لقد فات المشتشرقين الذين صنعوا المعجم السبئي(2) أن يفيدوا من العربية إضاءةً وإيضاحًا . وكان ينبغي للأستاذ محمود الغُول - رحمه الله - الذي شارك في صنعة المعجم أن يدلّ هذا الفريق الألماني على مكان العربية في هذا الدرس ، ولكنه لم يفعل .
ذي أشرق :
بلدة أثرية في سفح جبل التَّعْكَر بالجنوب الغربي من إِبّ، وأعلى وادي نَخْلان من ذي الكلاع .
قال الأستاذ القاضي محمد بن علي الأكوع : هي بلدة نزهة ، يمَّمها أرباب الصنائع وروّاد العلم … (3)(34/4)
أقول : أدرجتُ هذه البلدة الأثرية لأشير إلى المواضع اليمنية عامة التي تُصَدَّر بـ(ذو) وهي في الأغلب الأعمّ يمنية جنوبية وفيها : ذو أشرع وذو الكلاع وغيرهما .
باجِل :
مدينة في الشمال الشرقي من تِهامة على مسافة 55 كيلو مترًا من الحديدة . كانت عمارتها في القرن الرابع الهجري ، تتبع الحديدة إداريًّا .(4)
بَعْدان :
جبل مشهور يطل على مدينة إب من ناحية الشرق ، وهو على حد تعبير الحجري - ناحية واسعة جملة عُزَل..(5)
وجاء في "معجم البلدان " : بَعْدان ، بالفتح ثم السكون … مخلاف باليمن يقال لها البعدانية من مخلاف السَّحول ، قال الأعشى :
ببَعْدانَ أورَيمانَ أو رأس سلبه
... شفاء لمن يشكو السمائم باردُ
وبالقَصْر من إريابَ لو بتَّ ليلةً
... لجاءك مثلوج من الماء جامد(6)
أقول : قصدتُ أن أُثبت "بَعْدان" هنا لأشير إلى أن بناء "فَعْلان" خصوصية يمنية لشيوع هذا البناء فأنت تجد منه : كَهلان وقَحطان وخَولان وثَهلان وغير هذا من
الأعلام القديمة.وفي عصرنا هذا نجد سَيْلان وعَمْضان وحَرْدان وشَمسان(غير مثنى لشمس). وكأني أذهب إلى أن "عدنان" الذي في شمال بلاد العرب واختص به قوم هم العدنانيون من أصل يمني، فهو منسوب إلى "العَدَن" الذي هو "الأصل" في العربية والسبئية ، ومن هذا جاء معنى الإقامة ، ومنه قوله تعالى : "جنّات عَدْنٍ يدخلونها" وبهذا سُمِّيت حاضرة عَدَن وليس كما ذهب أحد اللبنانيين الذي بحث في موطن اليهود فزعم أنّها بلاد جنوب بلاد العرب، وكان من زعمه أن " عِدِنْ " في أدبيات اليهود وفي بعض أسفار العهد القديم هي مدينة عَدَن .
بُقْلان :
مخلاف وقبيل من حضور بن عديّ،(ناحية البستان قديمًا ) به محل " وقش" الأثري ، وبُقْلان أيضًا موضع في محافظة مأرب.(1)
أقول : يطلع علينا هنا بناء " فُعْلان" بضم الفاء ، وهذا قليل في العربية في بناء المفرد ، وهو يترشح للمبالغة في الصفات، ومن ذلك : حُمْران وشُقْران ،(34/5)
وقد سمّوا بهما ومن أولئك "حُمْران بن أعْيَن" ترجم له القفطي في "الإنباه" (2) و"شقران" من أسماء العبيد المماليك .
بُكال :
عُزلة من ناحية الجَبَى وأعمال رَيْمة، نُسب إليها نَوف بن فُضالة البكالي التابعي المتوفَّى سنة 95هـ ، من رجال الحديث وإمام أهل دمشق في عصره ، ذُكِر في الصحيحين البخاري ومسلم ، كما نُسب إليها عُمَر البُكالي الصحابيّ الذي جُزَّت أصابعه يوم اليَرموك، ثم عكف على تدريس الحديث في الشام ، وكان أفقه مَن بقي على وجه الأرض من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) .
بَيْنُون
قال ياقوت : اسم حصن عظيم قرب صنعاء ، يقال : إنه من بناء سليمان ابن داود- عليهما السلام- والصحيح أنه من بناء التبابعة .. (1)
أقول : ذكرت هذا لأنّ بناء "فَعْلُون " كثير في أسماء المواضع وأعلام الرجال في اليمن . وكأن هذا قد حُمل إلى إفريقيا والأندلس فشاع هناك في أسماء المواضع .
ولي أن أحمل على هذا "بَيْنونة "لموضع بين عُمان والبحرين . قال ياقوت: بينه وبين البحرين ستون فرسخًا .
تَبالة :
قال ياقوت : قيل تَبالة التي جاء ذكرها في كتاب مسلم بن الحجّاج : موضع ببلاد اليمن ، وأظنها غير تبالة الحجّاج بن يوسف ، فإن تبالة الحجاج بلدة مشهورة من أرض تهامة في طريق اليمن . وهي ممّا يُضرَب المثل بخِصْبها ، قال لبيد :
فالضَّيفُ والجارُ الجنيبُ ، كأنّما
... هَبطا تَبالة مُخصِبًا أهضامُها
وفيها قيل : أهوَنُ من تَبالةَ على الحجّاج،
قال أبو اليقظان : كانت تبالة أوّل عمل وَلِيَه الحجّاج بن يوسف الثقفي ، فسار إليها فلمّا قرب منها قال للدليل : أين تَبالة وعلى أيِّ سَمْتٍ هي ؟ فقال : ما يسترها عنك إلاّ هذه الأكمة ، أهوِنْ بها ولاية !
وكرَّ راجعًا ولم يدخلها ، فقيل هذا المثل. وبين تَبالة ومكة اثنان وخمسون فرسخًا ، وبينها وبين الطائف ستة أيام . وقد نُسِبَ إليها جماعة من الرجال . (2)
تَريم :
إحدى مدن حضرموت القديمة . (3)(34/6)
قال ياقوت : إحدى مدينتي حضرموت لأنّ حضرموت اسم للناحية بجملتها ، ومدينتاها شبام وتريم ، وهما قبيلتان سميت المدينتان باسميهما ، قال الأعشى:
طال الثواء على تَريم
... وقد نأتْ بكرُ بن وائلْ (4)
أقول : وشِبام وتريم مازالتا معروفتين في اليمن في عصرنا .
ولابد لي من الإشارة إلى أن جمهرة من المواضع والمدن وغيرها تبدأ بالتاء على
صيغة الفعل ، كما أن طائفة أخرى وردت على صيغة الفعل المبدوء بياء وسنأتي على ذكرها .
تَعِز :
قال ياقوت : قلعة عظيمة من قلاع اليمن المشهورات .(1)
قال الأكوع محمد بن علي : ظهرت بهذا الاسم على مسرح التاريخ في أواخر القرن السادس الهجري عندما تولى توران شاه الأيوبي سنة 579هـ ، ولم تحدّد المصادر التي بين أيدينا موقعها … وأما ما يُسمَى اليوم بتَعِز التي يضمّها السور والتي فيها جامع المظفر فكانت تسمَّى "عدينة"… (2)
أقول : ومن المفيد أن أشير إلى بعض المدن والمواضع المبدوءة بالتاء ذات الوجود التاريخي التي لم يبق منها سوى رسوم وأطلال منها "تَعْكَر" كما ضبطها ابن المجاور والواسعي ، وهي بضم لدى ياقوت ، وهو جبل منيف يقع في أرض ذي الكلاع .
و"تَعود" وتشير إلى العَوْد، وتَفيش قرية في حضرموت ( أشار إليها البكري في
"معجمه" 4/1273 و " تَنعم " قرية في خولان العالية . (3)
تِهامة :
هي السهوب الممتدّة على ساحل البحر الأحمر ، سميت بذلك لحرارتها وركود الريح فيها ، وتمتد من باب المندب جنوبًا إلى جيزان والقنفذة والليث شمالاً ، طولها نحو 500 كيلو متر وعرضها ما بين 30و40 كيلو مترًا وفيها من المدن: الحديدة ونجران وعَدَن وزَبيد والمخا والمهجم وحَرَض ولَحِج..(4)
أقول : وهي تتجاوز حدود اليمن فتكون تهامة الحجاز .
والاسم قديم ، ولا يعني أنه أخذ من معنى الحرارة وركود الريح ، ذلك أن مادة تهم سامية وتعني الأرض الخالية ، وهي بهذا المعنى في الإصحاح الأول من سفر التكوين .
ثَقْبان :(34/7)
بلد ووادٍ شماليّ صنعاء بمسافة 13 كيلو مترًا . ينسبه الأخباريّون إلى ثقبان ابن نَوف ذو ثعلبان بن شرحبيل ..(5)
أقول : كنت أشرت إلى أنّ بناء "فَعْلان" كثير في اليمن ، ومثل هذا في النقوش السبئية التي بقي منها شيء في اللغات اليمنية الدارجة التي هي عربية جنوبية .
جازان :
بلدة قديمة على ساحل البحر الأحمر من جهة صبيا وأبي عريش ، وهي فرضة تلك الجهة وبها معدن الملح . وإلى جازان ينسب وادي جازان النازل من بلاد خولان .. (1)
جُبَّأ :
مدينة أثرية غربي جبل صَبِر المطلّ على تَعِز ، وقد جاء ذكرها في النقوش القديمة باسم ( جباو )(2) نُسبَ إليها الملوك الجُبَّائيون ، كما خرج منها جمع كثير من الفقهاء والقراء …
جُباح :
قرية في حصن جُعُر من وُصاب العالي ، وجباح أيضًا بلدة في مِلْحان..(3)
الجُبْجُب :
اسم مشترك بين عدد من الأماكن، منها بلدة من عُزلة الجبل غربي آنِس
بمسافة ميلين ، وبلدة في عَنَس . (4)
الجَبَر :
ناحية تابعة لقضاء الشَّرَف المربوط بمحافظة حَجّة ، ينسبها الأخباريون إلى الجَبر بن عبد الله بن قادم بن زيد ..(5)
جِبْلة :
مدينة مشهورة بالجنوب الغربي من إب بمسافة 7 كم ، وتُسمَّى قديمًا مدينة النهرين ، لأنها كانت بين نَهرين كبيرين، ابتناها عبد الله بن محمد الصليحى سنة 458هـ وسمّاها (جِبْلة) باسم يهوديّ كان يبيع الفخار فيها قبل عمارتها …(6)
الجِراف :
قرية جنوبي " روضة حاتم " صارت في عصرنا مع التوسع العمراني جزءا من صنعاء . والجراف أيضًا قرية حميرية في بلاد حاشد على مقربة من خَمَر في شرقيها ، نُسب إليها بنو الجرافي أهل صنعاء وإب ، نُسب إليها جماعة من أهل العلم . (7)
جَرْبان :
عُزلة من ناحية وصاب السافل وأعمال ذِمار . وجربان أيضا قرية من
بلاد همدان إلى الشمال من صنعاء بمسافة 18 كيلو مترًا (1)
الجَنَد :(34/8)
بلدة مشهورة بالشمال الشرقي من مدينة تَعز، سُمِّيت بجَنَد بن شهران أحد بطون المعامز، وكانت من كبريات حواضر اليمن وأحد أسواق العرب المشهورة في الجاهلية والإسلام ، وأوّل مدينة أسس فيها مسجد على يد معاذ بن جبل الأنصاري ، بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في العام الثامن للهجرة ، ذكرها الراجز :
كلَّفَني حبّي إغناءَ الوَلَدْ
... والخوفُ أن يفتقروا إلى أحَدْ
تنقلاً من بلدٍ إلى بَلَدْ
... يومًا بصنعاء ويومًا بالجَنَدْ
نُسب إليها كثير من أهل العلم منهم أبو قرة موسى بن طارق الجَنديّ صاحب المسند ، والمؤرخ بهاء الدين الجَنديّ مؤلف " السلوك في طبقات الملوك "
قال القاضي محمد بن علي الأكوع : بلدة هي اليوم متشعثة لم يبق منها غير جامعها الأثري ومنارته السامقة آية
للماضي المشرق . (2)
الجُوف :
مدينة قديمة بالشمال الشرقي من صنعاء فيها مركز محافظة الجوف ، وتقوم في وادٍ بين جَبَلين وهذا الوادي يحفل بالمواقع الأثرية .
ونُسب إليها جماعات شتى . وأرض الجوف خصبة تزرع فيها الذرة البيضاء والحمراء والشعير والقطن والسمسم وغير هذا . (3)
حَجَّة:
مدينة كبيرة في الشمال الغربي من صنعاء ، بمسافة 127 كيلو متر ، على قمّة جبل ارتفاعة 1900 متر من سطح البحر . وهي مركز محافظة تتعبها نواحٍ عدّة . (4)
حَدّة :
قرية في ناحية بني مطر ، غربيّ صنعاء بمسافة قليلة ، كثيرة الشجر..(5).
الحُدَيدة :
أكبر مدن تهامة ، يرجع تاريخها إلى القرن الثامن الهجري ، وكانت مرفأ
للسفن ومركزًا للصيد ، وهي على بعد 226 كم من صنعاء . (1) .
حَراز :
صُقع واسع غربيّ صنعاء بمسافة 81 كم في رأس جبل حراز سُمِّي باسم حراز ابن زيد يرجع إلى حمير بن سبأ . وهو يتبع إداريًا محافظة صنعاء … (2)
حَضْران :
قرية في الشرق من بلاد آنِس ، ينسب إليها أحمد بن محمد الحضراني والد الشاعر إبراهيم الحَضراني. (3) وذو حضران قرية من عزلة أقيان التابعة لناحية شبام كوكبان .(34/9)
حَضْرَمَوت :
مدينة قديمة مازالت معروفة ، كانت تُعرف باسم "الأحقاف " وهي اليوم مركز محافظة نسب إليها طوال العصور جماعة من أهل العلم (4)
حُوث :
بلدة مشهورة في أعلى بلاد حاشد ، بها مركز الناحية . وهي مولد اللغوي نشوان بن سعيد الحميري صاحب "شمس
العلوم " و " القصيدة النشوانية "،ونسب إليها إبراهيم بن عبد الله الحوثي صاحب كتاب "نفحات العنبر " … انظر معجم المقحفي .
ذو خَشْران :
قرية في قاع جَهْران من عزلة المدارج ، تنسب إلى "ذو خَشران بن جهران بن يحصْب" ، تهدَّم منها مئة منزل في زلزال ديسمبر عام 1982م ، وفيها معدن الفضة . (5)
أقول : هذه القريةكغيرها من المواضع تُصَدّر بـ " ذو " وهو طريقة يمينية في التسمية في جنوب اليمن . وكأن "ذو" هذه غير ما نعرفه من نظيرها في العربية من الأسماء الستة التي لها طريقة معروفة في الإعراب ، فهي من تمام الاسم فتلزم الواو .
الاسم خشران بن جهران ، وهما من الأسماء اليمنية المختومة بالألف والنون ، وهي كثيرة وقد عرفت في النقوش السبئية .
وأقول أيضًا : إن بناء فَعلان يرد علمًا
للرجال وللقبيلة ويتصل بالموضع أو القرية أو المدينة التي تحفل بتجمّع سكاني وإني لأقف من هذا على :
خَوْلان :
هي من القبائل الكبرى ، وهي ثلاثة أقسام: خولان صنعاء، وخولان صعدة ، وخَولان قضاعة .
وتعرف خَولان صنعاء بـ (خولان الطبال) أو (خولان العالبة)، وقديمًا (خَولان أدد) ومنازلها شرقي مدينة صنعاء إلى قرب مأرب . نسبها الهمداني في الإكليل ( الجزء الأول) إلى مالك بن حمير، ثم عاد في الجزء العاشر فنسبها إلى كهلان ، وإلى هذا ذهب القلقشندي في " نهاية الأرب"(1).
أقول : ويؤيدني فيما ذهبت إليه أعلام المواضع والقرى الآتية : (2)
خَولان كُحلان (3) : قرية من عزلة عفّار إلى الغرب من حجّة .
وخَولان الطويلة : قرية من عزلة بني الخياط من ناحية الطويلة .
وخَولان أخرى : عزلة من جبل حبشي في الحجرية .(34/10)
وخَولان أيضًا : عزلة من المذيخرة ذكرها الجندي ، ومازالت إلى اليوم .
خَيْوان :
بلدة مشهورة في حوث إلى الجنوب من حرف سنيان وفي الشمال من صنعاء بمسافة 122 كيلو متر . تنسب إلى خَيْوان بن زيد بن مالك بن جُشَم بن حاشد ، ذكرها الهمداني قبل ألف عام وقال : هي من غرر بلد همدان وأكرمه تربةً وأطيبه ثمرة . (4)
دَبَر :
قرية خاربة في سخان بوادي الفروات قرب دار عمرو ، نُسِبَ إليها القاضي إسحاق بن إبراهيم الدَبَريّ الذي قصده الإمام الشافعيّ للاستماع منه ، وفيه قال :
لابدّ من صَنْعا وإنْ طال السَّفَرْ
ونقصد القاضي إلى هِجرة"دَبَرْ"(5)
أقول : المصراع الثاني من إجازة الإمام الشافعيّ مشيرًا إلى قصده في الذهاب إلى شيخه .
وسيأتي الكلام على هذا الرجز عند الكلام على "صنعاء". والهجرة في قول الشافعي معروفة في اليمن ، وهي المستقر
الذي يقصده طلاّب العلم .
دَثينة :
من الحواضر اليمنية القديمة وتقع في الشمال الشرقي من مدينة عَدَن فيما بين البيضاء غربًا وبلاد العوالق شرقًا . أشار إليها حمزة لقمان في كتابه " تاريخ القبائل اليمنية " وقال : إنها إحدى المناطق المهمة في أيام الممالك اليمنية القديمة التي كانت تعيرها قوافل الجمال ، وهي محمّلة بمنتوجات بلاد العرب السعيدة وبلدان الخارج (1)
أقول : ورد ذكرها لدى الرحالة العرب والأجانب .
دَرْوان :
عُزلة من ناحية الحَيْمة الخارجية وأعمال صنعاء وكانت سابقًا تتبع حَراز . ودروان أيضًا قريبة في الضواحي الشمالية الشرقية لمدينة حجّة كانت تعرف باسم "أدران" نسبة إلى أبى قبيلة من همدان ، وفيها قبر الإمام المطهّر بن يحيى المرتضى المتوفىّ سنة 697هـ (2)
دَمُّون :
بلدة خربة بحَضَرَمَوْت في السفح الشرقي لجبل الهَجَرَيْن شرقي تَريم ، كانت قديمًا جزءا من مدينة المنيظرة ، وقد سكنها الملوك من بني الحارث بن معاوية الذين منهم الشاعر الجاهلي امرؤ القيس ، وهو القائل :(34/11)
تَطاوَلَ الليلُ علينا دَمّونْ
دَمّونُ إنّا معشَر يَمانُونْ
وإننا لأهلنا مُحبّونْ
وقد وهم ياقوت فَرسَمها بالذال المعجمة(3) .
دَهْران :
حِصن قريب في شكله من المربَّع يسيطر على عزلة يَريس من جنوبها (4)
أقول : ذكر محقق كتاب " المفيد في أخبار صنعاء وزبيد" (5) في حاشية له: أنّ " دهران" تثنية دهر . وليس لي أن أذهب إلى هذا فالألف والنون تكملة عامة عُرِفت في اليمن القديمة في النقوش القديمة ، ومازال اليمنيون يستعملون
"شمسان ونجمان" ولا يريدون بها التثنية .
الدّهْناء :
بلدة في ضواحي رَداع من عُزلة العَرْش .و "دَهْنا" : محلة في قيفة من
أرض رَداع(1) .
أقول : وقد بسط البلدانيون الكلام في الدهناء لأنها من أعلام المواقع التي لها حضور في الأدب والتاريخ القديم .
دَوْس :
بطن من الأزد ، منهم أبو هريرة الدَّوسيّ الصحابيّ .
دَوْسان : حصن يُطلّ على مدينة المَهْجم(2)
دَوْهَن :
هو الوادي الرئيسي في حضرموت، وإليه يُنسَب عمر بن زيد الدوهني الحضرميّ ، عاش في القرن العاشر الهجري ، وله مصنّف في التاريخ (3)
أقول : قد يكون لي أن أثبت هنا أن "دَوْهان " من الأعلام في العراق لدى نفر ذوي أصول قبائلية يمنية معروفة ومنها قبائل الجُبُور .
ذُبْحان :
عزلة من ناحية الحجرية (المعافر)(4)
ويرى أحمد حسين شرف الدين في كتابه "تاريخ اليمن الثقافي " أن أصل الكلمة (ذَبحْن) وهو مصدر الذبح ، وكان القربان الذي يُقدَّم لهياكل الآلهة هو البخور والذبائح ، وتقوم النون مقام حرف التعريف في لغة (المُسنَد) مثل : وَثرن أي الوَثر وهو أساس البناء ، ومحفدن أي المحفد وغير هذا . (5)
أقول : ليس لي أن أوافق الأستاذ شرف الدين فيما ذهب إليه . ذلك أن الكلمة لو كانت مصدرًا هو الذَّبح لكان لنا منها "ذبحان" بفتح الذال ، وهي بهذا تتحوّل إلى الصفة كالذابح ولكني أراها " فُعْلان" بضمّ الفاء إفادة للمبالغة .(34/12)
ثم إن زيادة النون في الكلمة السبئية لا تعني قطعًا أنها للتعريف ، فقد وجدت النون في كلمات تشعرنا أنها علامة للاسمية كالتنوين في العربية وكزيادة الميم في اللغة الأكدية .
وقد ختمت ألفاظ في أعلام المواقع
والحواضر والقرى والعُزَل في اليمن بالألف والنون دون أن تبدل بفتحة فاء الكلمة ضمة، مثل ذَرحان وذَعْفان وذَهْبان وضَمران وذَودان ، ورحبان ، ورَدْنان ، ورَدْمان وغيرها .
وأما ذُمْران من قرى بلاد يَريم يُنسَب إليها بنو ذُمْران (1) فهي جمع كأنّ المفرد أذمَر نحو : السُودان والحُمْران والخُلْصان وغيرها .
أقول : إن المواقع في اليمن على ما يكون منها ذا أصول سبئية تشهد بها النقوش ، فقد أخذت من العربية التي عمّت بلاد العرب القديمة الكثير من مادتها اللغوية .
ولي أن أذهب إلى أن "ذُؤَال " من أودية زَبيد (2)لابد أن تشعرنا أن الوادي كان مسرحًا للذئاب ، ومن هذا جاء في العربية "ذُؤَالة " من أسماء الذئب ، و"الذَّأَلان" مشي الذئب . وقد حضر "الذئب" في أسماء مواقع عدّة في اليمن منها بنو ذويب ، وذياب ، وبنو الذيب ، وذيبان (3) .
كما صدرت مواقع بـ "ذي " نحو : ذي بِين ، وذي حازب ، وذي سُعال ، وذي سعد ، وذي الماء ، وذي مَرْمر (4)
أقول : و " ذي " هذه في صدور هذه الكلم ترجع إلى "ذو " القديمة في أسماء ملوكهم وآلهتهم ، ومن ذلك ذو جَدَن ومن هذا " ذو رائح " بطن من حمير يُنسَب إلى "ذو رائح بن ميمون" ، وتنتهي سلسلة النسب بحمير بن سبأ . (5)
رَداع :
مدينة كبيرة شرقي ذَمار (6) بمسافة 53 كيلو مترًا . ورد ذكرها في النقوش، وسكنها التُّبَّع شَمَّر يُرعش.(7)
ذو رُعَين :
عزلة من ناحية يَريم وأعمال إِبّ ، نسبها أهل الأخبار إلى القيل ذو رُعَيْن واسمه يَريم بن زيد وينتهي نسبه إلى حمير . (8)
رَيْدان :
حصن مشهور جنوبي مدين يريم بمسافة 17 كيلو مترًا . (9)
أقول:وقد ورد في النقوش القديمة"ذورَيْدان"
زَبار :(34/13)
قرية من خَوْلان بالقرب من جَحانة، إليها ينسب بنو زَبارة من ولد الأمير المعروف بـ "زَبارة" من رجال القرن العاشر للهجرة . (1)
زَبيد :
وادٍ مشهور في تهامة ثم البحر الأحمر ومصدره جبال العُدَين وأودية بَعْدان وغيرها .
وقد أُطلق اسم الوادي على مدينة زبيد الواقعة في منتصفه ". يقال إنّ الذي اختطها محمد بن زياد مؤسس أسرة بني زياد في القرن التاسع الهجري ، في حين يرى القاضي محمد بن علي الأكواع أنها قديمة ذكرها الجاهليون ، واتّخذها بنو أيوب عاصمة لهم في القرن الثاني عشر الميلادي . وممن نُسب إليها عبد الرحمن الديبع صاحب "بغية المستفيد" (2) .
زُبَيد :
بلدة قيل فيها في عَنْس جنوبي ذَمار، وهي أيضًا من مَذْحِج من ولد زُبَيد .. ومنهم عمرو بن معدي كرب (3) الزُّبَيدي الشاعر ، ومحمد بن الحسن بن عبيد الله بن مذحج الزُّبيدي الأندلسي الأشبيلي صاحب "مختصر العين" وقد طُبع شيء منه .(4)
زُقَر :
جاء في "معجم المقحفي للبلدان والقبائل اليمنية " أن زُقَر جبل في البحر الأحمر بالقُرب من ساحل زَبيد . (5)
أقول : وهذا "الجبل" الذي في البحر الأحمر كما تفيد عبارة "المعجم" جزيرة يمنية صغيرة مع الجزيرة الكبرى التى اعتدت عليها أرتريا فاحتلّتها وهي "حُنَيش الكبرى " في أول شهر ديسمبر من سنة1995م.
ولفظ " حُنَيش " على التصغير مصغَّر حَنَش بمعنى الأفعَى . و" حَنَش " من أعلام العرب في كل مكان ، ومازال معروفًا في طرائق التسمية .
وبنو حَنَش في اليمن من بيوت العلم . ومنهم الوزير العلاّمة حسن بن علي بن حسن حَنَش المتوفَّى سنة 1225هـ ونسبتهم إلى السلطان حنش من بني شهاب الأكبر الذي تفيد سلسلة نسبه فيرجع إلى كهلان بن سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان . (1)
السَّبيع :(34/14)
قبيلة من حاشد من ولد السبيع بن السبيع بن صَعب بن معاوية بن كثير بن مالك بن جُشَم بن حاشد . وهم من القبائل التي نزلت في الكوفة في أوّل عهود الفتوح الإسلامية ، ونُسِبت إليهم (خطّة السبيع ) بالكوفة مع خطط أخرى يمنية بالكوفة ، أشار إليها أبو الطيّب حيث قال :
أَمُنْسِيَّ "السَّكونَ " و " حَضْرَموتا"
... و(وَالدتي) و(كِنْدةَ ) و (السَّبيعا)
أراد بقوله :" والدتي" خُطة آبائه الجعفيين من سعد العشيرة من مذحج اليمانية.(2)
ذو سَحْر :
قرية في عزلة وادي الحار من بلاد عَنْس.
وذو سَحْر : بلدة في وادي الأجيار من بلاد سخان : تعرف اليوم بـ (جوزة سحر) أرض خصبة ذات زرع وكَرْم.(3)
أقول : وذو سحر من ملوك حِمير المثامنة.. (4) و(ذو سحر) تسمية صدرها "ذو" تضاف إلى غيرها فكانت للآلهة وعظام الرجال من الملوك والأمراء.
السَّحول :
قاع معروف ما بين مدينة إبّ جنوبا وحتى قَفْر يَريم شمالاً، يُنسَب إلى السحول في سوادة… بن جُشَم بن عبد شمس . والمعاصرون ينكرون هذه النسبة فيقولون: سحول بن ناجي بن أسعد التباعي الحميريّ (5) .
أقول : وقد ورد في قصائد عدة من الشعر الجاهلي ومنها قول طَرفة :
وبالسَّفح آياتٌ كأنَّ رسومَها
... يَمانٍ وَشَتْه رَيْدةٌ وسَحُولُ
و" رَيْدة " : وهي اسم لعدة بلدان يمنية. انظر " اليمن الكبرى " ص 81 ، 170.
السِّرّ :
وادٍ مشهور بالشمال الشرقي من صنعاء بمسافة 23 كيلو مترًا . نُسب لى "السرّ " جماعة من أهل العلم . (1)
السَّرْو :
وهو الاسم القديم لمنطقة هي سَرْو مذحج التي تُدعَى البيضاء ، وسَرْو حمير ، وهي اليوم يافِع وما جاورها من الأَجعُود، وقد ورد ذكرها في شعر الأعشى :
فنَجْرانُ فالسَّرْو من حِمْيَرٍ
... فأيُّ امرئٍ ما له لم يرمْ
وقال حسّان بن ثابت :
ونحنُ جَلَبْنا الخَيلَ من سَرْوِ حميرٍ
... إلى جاسمٍ بالمحنقات السناجِرِ(2)
سُقَطْرَى :(34/15)
جزيرة في المحيط الهنديّ شرقي عَدَن، احتَلّها البرتغاليون (1507-1511م) وكانت مأوى "قراصنة " البحر . ثم احتلها الإنجليز سنة 1876 واتّخذوها قاعدة أسطولهم . (3)
سَيْئُون :
المديرية الشمالية في المحافظة الخامسة من جنوب اليمن ، وهي من مدن حضرموت القديمة ، وكانت قبل استقلال جنوب اليمن عاصمة للدولة الكثيرية . وهي على سفح جبل سيئون . وقد اشتهرت هجرةً لطلاب العلم . لم يذكرها الهمداني ولا ياقوت . (4)
أقول : وفي اليمن جملة مواضع تختم بالواو والنون ومن هذه بَينون ودَمّون .
شاكِر :
من قبائل همدان ثم من بكيل من ولد شاكر بن نهم .. بن دَوْمان بن بكيل .. وبلاد شاكر ما بين مأرب ونجران . وشاكر بلدة في أرْحَب .
وبنو شاكر في صنعاء والأهنوم منهم جماعة من أهل العلم . (5)
شاوَر :
وبلاد شاور [ وهي بطن من حاشد الهمدانية ] في كحلان من نواحي حَجّة ، انتَسَب إليها جماعة من أهل طوال العصور. (6)
شِبام :
اسم مشترك بين أربعة بلدان في اليمن وهي : شبام كوكبان ، وشبام حضرموت ، وشبام الغِراس ، وشبام حَراز. (1)
شَبْوة :
منطقة أثرية فيما بين مأرب وحضرموت ، وكانت قديمًا عاصمة لدولة حضرموت . ومن المدن السبئية التي عرفت بشهرة تجارية … (2)
الشِّحْر :
مدينة وناحية في حضرموت، تُطلّ على البحر الهندي ، وقد عُرفت في المصادر التاريخية . (3)
الشَّرَف :
اسم مشترك بين جملة بلدان في اليمن أشهرها شَرَف حجور ، وهو جبل واسع في الشمال الغربي من حَجّة . وينسب إلى هذا "الشرف"بنو الشرفي..(4)
شَعُوب :
ضاحية صنعاء الشمالية ، وقد
دخلت في عصرنا مع التوسّع العمراني في صنعاء ، سُمِّيت باسم شعوب بن جشم ابن عبد شمس . وكان بها قصر حميري ورد في شعر عمر بن أبي ربيعة في قوله:
لعمرك ما جاوَرتُ غُمدانَ طائعًا
وقصر شَعوبٍ أن أكون بها صَبّا(5)
شَمْسان :
جبل مشهور في الشمال الغربي من مدينة عَدَن . وشمسان علم لقرية في ناحية الرُّجم وغير هذا (6)(34/16)
أقول : وشَمْسان من أعلام اليمنيين في عصرنا ، وهو " فَعْلان" ، وليس مُثنّى شمس .
شُهارة :
جبل مشهور في بلاد الأهنوم شمالي حَجّة ، من معاقل اليمن . احتلّه الترك العثمانيون سنة 995هـ . نُسب إليه عدد كبير من الأعلام ، ومن هؤلاء الشاعرة زينب بنت محمد الشهاري المتوفّاة سنة 1114هـ ، ترجم لها الزركلي في "الأعلام " (7)
شَوْكان :
بلدة في بني سِحام من خولان العالية، يُنسَب إليها بنو الشوكاني، منهم القاضي محمد بن علي الشوكاني شيخ الإسلام صاحب " البدر الطالع " و"فتح القدير " ووفاته سنة 1250 هـ (1).
صِرْواح :
اسم مشترك بين ثلاثة أمكنة في اليمن ، أهمها صِرْواح خَولان العالية : وهي مدينة أثرية شرقيّ صنعاء بمسافة 120 كيلو مترًا . قال أحمد حسين شرف الدين : إنّها عاصمة السبئيين قبل مأرب..(2)
صَعْدة :
مدينةمشهورة تاريخية إلى الشمال من صنعاء بمسافة 243 كيلو مترًا ، كان اسمها القديم ( جُماع ) ذكرها الهمداني في "الإكليل" . (3)
صنعاء :
عاصمة اليمن وأكبر مدنها وأقدمها تاريخًا، ولهذا تُسَمَّى مدينة (سام) وصلاً بما يقال إن سام بن نوح هو أوّل من
اختطّها . وقد رأيت أنها سُمِّيت "أزال" وذكر أهل الدرس الآثاري أنها كانت أحد مراكز السبئيين ، ولكنها لم تكن عاصمة لهم إلا منذ القرن الخامس للميلاد.
وقد ورد في النقوش اسم صنعاء كما ورد صنعَن .
وهي في وادٍ فسيح تحيط بها الجبال العالية فمن جهة الشرق تتصل بجبل نُقُم ، ومن الغرب تتصل بجبل (عيبان) ، وفيها من المعالم الأثرية قصر غمدان الذي يرجع تاريخه إلى القرن السادس الميلادي، وكذا الجامع الكبير ، ومسجد مُسَك بن فروة، ومسجد وهب بن منبِّه . (4)(34/17)
أقول : ليس لنا إلى أن نطمئن إلى النقوش وقراءتها ، فكثيرًا ما عَدَل أصحاب النقوش عن قراءاتهم الأولى كما وقع هذا لأكثر من نقش في قراءة الألمان الأوائل. وهذا قد يكون شيء منه فيما ذهب إليه الأستاذ أحمد حسين شرف الدين من أن "صنعَن" في النقوش هي الصانع ، والنون للتعريف .
أقول : إن شرف الدين أفاد أن في اليمنيين في عصرنا من لايزال يستعمل "صنعَن" ويريد بها " صنعاء " . ثم إن النون في صنعن وغيرها من الألفاظ القديمة اليمنية هي الألف واللام في الأسماء اليمنية ، والألف فتحة ممطولة ، لأننا لا نعرف لغة سامية خُتمت بأداة التعريف إلا ما قيل في الألف التي ختمت بها الألفاظ الآرامية التي تومئ على رأي الدارسين إلى معنى التعريف ، ثم فقدت هذه الألف وظيفتها وبقيت رسمًا لازمًا.(1)
صِنْهاجة :
قبيلة حميرية لها بقية في وادي حضرموت، وكانت تعرف بـ "شناهز"
وفي "تاريخ مصر " لابن الحكم أن غالبية قبائل صنهاجة هاجرت استجابة لنداء أبي بكر الصديق لفتح الشام مع قبائل يمنية أخرى ومنها يافع والمعافر.ثم دخلت
صنهاجة مصر في جيش الزبير بن العوام ، ثم اشتركت في فتح ( برقة ) بقيادة معاوية بن حديج الكندي الحضرمي، ثم تونس بقيادة حسان بن النعمان الغساني .. أما فروع صنهاجة الحميرية التي استقرت في إفريقية فقد اندمجت بـ " زناتة والمصامدة البربر حتى ظن أن صنهاجة قبيلة بربرية . (2)
الضالِع :
مدينة كبيرة في جنوب اليمن على بعد 96 ميلاً من عَدَن . (3)
ظَفَار :
اسم مشترك بين جملة بلدان يمنية أشهرها ظفار حمير ، جنوب يريم بمسافة 17 كيلو مترا . وهي عاصمة حمير بعد مأرب : يقال لها " ظفار الملك ". (4)
عَدَن :
مدينة كبيرة جنوبي تهامة عند مضيق باب المندب ، نسبها الأخباريون إلى
عدن بن سبأ بن يشجُب بن يعرب بن قحطان .
وقال الواسعي في تاريخه إنها سُمِّيت برجلٍ عَدَنَ فيها أي أقامَ . (1)(34/18)
أقول : أخذ الواسعي هذا المعنى من العربية ، والذى أراه أن " اسم المدينة " أعطى العرب معنى الإقامة فعرف في أدبهم ، وبهذا ورد قوله تعالى : "جنات عَدْنٍ يدخلونها " .
العُدَين :
مدينة في الغرب من إب بمسافة 30 كيلو مترًا تتبعها نواح وقرى . (2)
عسير :
منطقة كبيرة إلى الشمال من صعدة، ومن أشهر مدنها : ظهران و جيزان.(3)
عَمْران :
مدينة كبيرة شمال صنعاء ، ضبطها ياقوت بضم العين ذاهبًا إلى أنها أخذت من المصدر . وهي "عَمران" بفتح العين على شاكلة كثير من المدن التي وردت على "فَعْلان " . غير أننا نقف على "عُمران" بضم العين في "الجوف" وهي مدينة خربة . (4)
عَنْس :
ناحية واسعة غربي ذَمار ، نُسب إليها طائفة من أهل الفضل والعلم . (5)
ذو غَيلان :
من قبائل بكيل ، وغيلان جبل غربي صعدة . (6)
الغَيْل :
قرية خربة في صعدة وأخرى في نِهْم، وبلاد غَيل : جبال في المحويت ، وبنو الغيل من أهل صنعاء ، وغَيل باوزير من أودية حضرموت غربي الشحر نُسب إليها بنو باوزير . (7)
كُحلان :
اسم مشترك بين عدد من المناطق في اليمن : كُحْلان تاج الدين ، وكُحْلان الشَّرَف، وكُحْلان حَضْوَر(8) .
أقول : وهذا يؤيد ما ذهبت إليه في بناء " فُعْلان" الخاص بالألوان .
الكَلاع :
لما يُسَمَّى اليوم " العُدَيْن " والكَلاع: قبيل من حمير ، منه ذو الكلاع يزيد بن يعفر . وإلى هؤلاء نسب محمد بن الحسن الكلاعيّ المتوفى سنة 404هـ صاحب
القصيدة الرائية في أنساب حمير ومفاخرها وأيامها وملوكها وأقيالها . (1)
كَمَران :
جزيرة في البحر الأحمر إلى الشمال من الحديدة . ( 2)
الكُمَيْم :
مخلاف مشهور من أعمال ناحية الحدا جنوبي صنعاء . إليه ينسب بنو الكُمَيْم أهل صنعاء وذمار ، ويشمل القرى : قَهْلان والجهارنة والزيلة . وفيها آثار سبئية . والكُمَيْم قرية في خولان العالية من مخلاف اليمانية العليا . (3)
كِنْدة:(34/19)
قبيلة من ولد كندة بن عُفير بن عَدِيّ بن الحارث... بن زيد بن كهلان. وهي قبيلة مشهورة ذات بطون وأفخاذ أشهرها : السكاسِك ، والسَّكون ، وتُجيب …
قال أحمد حسين شرف الدين : هي إحدى القبائل السبئية التي هاجرت إلى حضرموت خلال الحملات التي وجَّهها
ملوك سبأ وريدان . وردت في النقوش التي عثر عليها في مأرب . (4)
كَوْكَبان :
حصن ومعقل شهير يُطل من الشمال الشرقي على مدينة شِبام الأثرية. قيل سُمِّي " كَوْكَبان " لأنه كان به قصران فيهما نقوش بالأحجار الكريمة . غير أن الهمداني ذهب إلى أن الحصن باسم كوكبان بن ذي سَفال، وذكر آخرون غير هذا. وقال الدكتور حسين العَمْري : إن كوكبان مركز نفوذ آل عبد القادر من أحفاد شرف الدين ، وكان هذا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريَّين . (5)
كهلان :
بطن من سبأ ، ينسب إلى كهلان ابن سبأ بن يَشحُب بن يَعرب بن قحطان. وكهلان قرية من أعمال مأرب.(6) ومن أشهر قبائل كهلان : الأزد وهمدان ومذحج وطيئ والأشعر
ولخم وجذام وكندة وخولان .
لَخْم :
بطن عظيم ينتسب إلى لخم واسمه مالك بن عَديّ… بن زيد بن كهلان بن سبأ. منهم المناذرة في الحيرة في العراق، وبنو عَبَّاد ملوك أشبيلية بالأندلس ، ومنهم بطون أخرى في مصر. (1)
مأْرِب :
من أقدم المدن اليمنية ، وهي عن صنعاء بمسافة 192 كيلو مترًا شرقا ، عاصمة السبئيين في القرن الثامن قبل الميلاد ، كانت على طريق التجارة بين الهند والصين وفارس إلى الغرب ، وفيها السد المشهور . ومأرب في عصرنا مركز مهم للبترول . (2)
المَخا :
مدينة مشهورة على البحر الأحمر غربيّ مدينة تَعِز بمسافة 94 كيلو مترًا . ذكرت في النقوش باسم ( موزا ). والمخَا: بلدة بحضرموت حكاها الهمداني في "صفة جزيرة العرب ". (3)
المَدان :
مدينة في جبل الأَهنوم مركز ناحية شهارة في محافظة حَجَّة نسب إليها جماعة من أهل العلم . وبنو عبد المدان من قبائل بني الحارث بن كعب في نجران . (4)(34/20)
المَقالح :
قرية من ناحية الشِّعِر وأعمال النادرة في الغرب : ومنها الأديب الشاعر عبد العزيز بن صالح المقالح مدير جامعة صنعاء.(5)
يافع :
بلدة في الشمال الشرقي من عَدَن ، وهي منطقة غنية بالآثار ، نسبت إلى يافع بن قاول ... بن زيد بن يريم ذو رُعَين الأكبر ، نسب إليها جماعة من أهل العلم.(6)
يُحابِر :
هو الاسم القديم لقبيلة مراد . (7)
يحْبرُ بن أخرم :
بطن من بكيل، من همدان (8)أقول: ولابد من الإشارة إلى كثرة بناء الفعل (يَفعُل )و(يفعِل)،و(يفعَل) في أعلام المواقع
والحواضر والقبائل في اليمن . وقد يكون لي أن أذهب إلى أن وجود هذا في خارج اليمن كان بسبب تاريخي يتصل باليمن . ومن هذا الاسم القديم للمدينة المنورة هو " يَثرِب " وهذا يرجع إلى أن أهل يثرب الذين مصّروها وسكنوها هم الأوس والخزرج وهما قبيلتان يمنيتان قحطانتان . ومثل هذا مدينة " يَنبُع " من مواني السعودية .
وقد يكون لي أن أدرج هنا :
يَحصِبْ :
قال ياقوت : مخلاف فيه قصر ريدان(1)
ويحصب : قبيلة من حمير تنتسب إلى يحصب بن مالك ... بن حمير بن سبأ(2)
ومن هذه الأسماء التي هي أفعال ذُهب فيها إلى الصفات الدائمة :
يَحمَد ( قبيلة من الأزذ ) (3) ، ويَحِير وهي عزلة من خُبان رُعَين (4)، وَيَخْتُلَ وهي عزلة شمالي المخا (5)،وذو يدوم من
قرى خَولان (6)، ويَريم وهي مدينة جنوبي ذَمار،(7) ويشكُر : قبيلة من بكر بن وائل، (8) وبنو يَعْفُر وهي عزلة من ناحية رَيْمة (9) ، ويَعْمُون موضع ذكره ياقوت (10)، ويُكَالِم من قبائل ذي الكلاع في العُدَين (11) ، ويَفُوز اسم مشترك لعدد من الحصون (12) ويَعُوق وهو صنم لهمدان وخَولان، قيل إنه كان في خَيْوان . (13)
يَتْرِب :
أقول : وجدت هذا في الشاهد اللغوي القديم وهو قول الأشجعي.(14)
وَعَدْت وكان الخُلفُ مِنْكَ سجيةً
... مواعيدُ عُرقوب أخاه بيَتْرِب(34/21)
جاء هذا في " مجمع الأمثال " و" لسان العرب " وكتب النحو القديمة . وقيل في المثل : ويروى " بِيَثْرِب " وأما من أثبت " يتْرِب " بالتاء المثناة فقال : إنها موضع باليمامة .
ولابد من العَود إلى اليمامة التي قيل فيها
إنها ما بين عُمان إلى الشِّحْر إلى حَضْرَمَوْت إلى عَدَن أبيَن وعلى هذا فأهل اليمامة من اليمن ، واليمامة من اليمن .
وأنا أميل إلى " يَتْرِب " في رواية البيت لأن في البيت دلالة لغوية تاريخية لم يفطن لها ناشروا المصادر النحوية ومنهم الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد - رحمه الله- وهي وجود " أخاه " بالألف والألف تلزم الأسماء الستة لدى أهل اليمن، وهذا معروف في جملة من شواهدهم .
ثم إن دلالة المثل تشير إلى البعد بكون الموضع في إحدى هذه الجهات البعيدة ، وإن كانت حكاية المثل كما بسطها الميداني تومئ إلى الصنعة وإني لأذهب إلى هذا مفيدًا من قول زهير :
كَانَتْ مَوَاعيدُ عُرقوبٍ لَهُمْ مَثَلاً
... وَمَا مَوَاعِيدُه إِلاَّ الأَبَاطِيلُ
اليمن :
قال ياقوت : قال الشرقي : إنما سُمِّيت اليمن لتيامنهم إليها . وقال ابن
عباس : تفرَّقت العرب فمن تيامن منهم سُمِّيت اليمن .
غير أن لياقوت رأياً ذهب فيه إلى غير هذا فقال : قُلتُ قولهم : "تيامَن الناس فسُمّوا اليمن " فيه نظر لأن الكعبة مربعة فلا يمين لها ولا يسار ، فإذا كانت اليمن عن يمين قوم كانت عن يسار آخرين وكذلك الجهات الأربع إلاّ أن يريد بذلك من يستقبل الركن اليماني .(1)
أقول : وقد أخطأ المستشرقون أصحاب المعجم السبئي ومعهم محمود الغول -رحمه الله - في أنهم أدرجوا مادة "يَمَن" والأصل الذي كان ينبغي أن يكون هذا في مادة " منن " التي تعني الفائدة والنماء(2)
ولي أن أختم هذه الطائفة فأشير إلى أن في معجم البلدان مواد كثيرة نسبها أهل العلم إلى اليمن لم يفد منها إخواننا في اليمن أصحاب الدرس التاريخي والآثاري.
إبراهيم السامرائى
عضو المجمع من العراق(34/22)
معنى الدعوة
جاء فى المعجم الوسيط " دعاه إلى الشيء: حثه على قصده، ودعاه إلى الدين وإلى المذهب: حثه على اعتقاده ، والداعية الذي يدعو إلى دين أو فكرة " ومن معانيها الدعوة إلى الطعام والشراب ولعلها أصل الكلمة .
ولازمت كلمة ( الدعوة ) نشر الدين الإسلامي وإيصاله إلى البشر وتوضيح أسسه وتعاليمه وما فيه من فضائل عالية وأخلاق سامية ، للإيمان به وليكون عقيدة الإنسان على أن تكون بالحسنى والكلمة الطيبة فقال تعالى : "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " (سورة النحل ، الآية 125) وفي التوجيه الإلهي دقة القصد ورقة الحوار حتى يقرب النفوس ولا يستفزها، ليقتنع العقل وترسخ العقيدة في اللاشعور وتصبح جزءا من الإنسان .
العرب قبل الإسلام
كان كيان العرب قائمًا على العادات القبلية الموروثة وما فيها من
محاسن ومساوئ، وكان العربى شديد الترحال وراء الكلأ، وكان في خيمته ينتقل من مكان إلى آخر ، لم يكن مستقرًّا كاستقرار مكة والمدينة (1) أمة بدوية ، الخيمة بيتها ، والإبل ثروتها ومعاشها .. اعتمد العربي على ذاكرته في تسجيل أمجاده وحفظ غزواته ، وحكايات الكرم والنخوة والإباء يرددها متى استقر في خيمته ، وكان الشعر مهوى الأفئدة ، لذلك بقى حيًّا ونسي النثر في الخطب التي كانت منتشرة ، وبرز من العرب خطباء لسن إلا أن الذوق الموسيقي المرهف غلب على الرواة فحفظ أكثر الشعر وضاع جل النثر . كان شديد الحفظ قوي الذاكرة فبرزت الرواية وارتفعت مكانة الرواة في حياته لحفظ الأنساب والمفاخر .. وكانت الأمية هي الغالبة لأنه لا يحتاج إلى الكتابة أو التدوين بعد الاعتماد على الذاكرة .
الرسائل قبل الإسلام(35/1)
إن انقطاع العربي في الصحراء وكثرة الترحال وتبديل الأماكن التي ينتجع فيها الكلأ أبعدته عن الاتصال بالحضارات المجاورة إلا من سكن العراق والشام . لذلك كانت الصلات مع الملوك والحكام المجاورين قليلة . وتتمثل هذه الصلات في الرسائل المحدودة التي أرسلها العرب إلى الحكام المجاورين وقد جمع أحمد صفوت " جمهرة رسائل العرب " بعد أن بذل جهدًا واستقراء لجمعها من مظان الكتب، لكنه لم يتوصل إلا إلى عدد قليل من تلك الرسائل التي أرسلت إلى الملوك من الولاة العرب الذين استقروا في السواد ، منها : رسالة المنذر الأكبر إلى أنوشروان وهي رسالة ليست ذات أهمية كبيرة ، فيها وصف لجارية .. ويظهر على الرسالة طابع الافتعال والمبالغة اللفظية والحسية .. فالفتاة " وطفاء كحلاء دعجاء حوراء .. أسيلة الخد شهية المقبل جثلة الشعر .. كاعب الثدي حسنة المعصم لطيفة الكف .. لفاء الفخذين رياء الروادف مكسال الضحى بضة المتجرد .."(1)ولعلها من افتعال الرواة .. ولم يذكر لنا أية رسالة عن القضايا السياسية والعلاقات التي
تربط العرب بكسرى .. وعندما يذكر الرسالة نجد الطابع الشعرى يغلب عليها .. فالمرسل ينظم المضمون شعرًا ومن تلك الرسائل رسالة عمرو بن هند إلى عامله بالبحرين وقد ذكرها تاريخ الأدب العربي لعلاقتها بالشاعر طرفة بن العبد وخاله المتلمس، وفيها النهاية المؤلمة لشاعر من شعراء العصر الجاهلي فقد قتل شابًّا نضر العود . (2)
ومن الرسائل القليلة التي وردت في العصر الجاهلي رسالة النعمان بن المنذر إلى كسرى .. ورسالة عبد المطلب بن هاشم إلى أخواله بيثرب والتحالف بين عبد المطلب وخزاعة . ورسالة عدي ابن زيد العبادي إلى أخيه الجارود . (3)(35/2)
وهي رسائل غلب عليها طابع الضعف أو الصنعة ولا يمكن أن توضع في مصاف النثر الفني .. ولم يبق من النثر الفني غير العظات والوصايا ، مثل وصايا أكثم بن صيفي إلى طيئ ، وكتابه إلى خميصة البارقي .. (4) وبذلك لن نجد أثرًا كبيرًا للرسائل في حياة العرب .. ولعلها ضاعت عبر السنين وعوامل
الطبيعة.وكان عند عمر بن الخطاب منها ملء صندوق ضاعت يوم الجماجم(1)
قريش والدعوة
جاء الرسول صلى الله عليه وسلم فدعا إلى التوحيد وإلى المساواة بين البشر ورفض عبادة الأوثان ، وكانت قريش مركز الثقل التجاري في الجزيرة ، وكانت الكعبة في مكة المكرمة المكان الذي تتمتع فيه قريش بالمكانة العالية .. لذلك حاربت الرسول خوفًا على سيطرتها الاجتماعية والاقتصادية والدينية، وخوفًا على مالها ومكانتها ودينها .
ثلاثة عوامل دعت قريشًا للخوف من الدعوة الإسلامية فحاربت الرسول بعنف ، لأنه هدم قواعد المجتمع الجاهلي التي تسند مكانة قريش .
بدأت الدعوة بالرسول وحده ثم التف حوله السابقون من المسلمين في مكة المكرمة، وبقيت الدعوة تنشر سرًّا ، كان الرسول شديد الصبر قوى الحجة مؤثر الشخصية وكان يعرض نفسه على القبائل ويحاول إقناعها ويتلو عليها القرآن(35/3)
الكريم . ففي بيعة العقبة الأولى أسلم ستة نفر من الخزرج وذهبوا إلى المدينة وبدأ نشر الدين الإسلامي (2) وفي السنة الثانية وافى من الأنصار اثنا عشر رجلا وبايعوا الرسول على عدم الشرك والسرقة والزنا وقتل الأولاد .. (3) وفي بيعة العقبة الثانية وكان عدد الأنصار ثلاثة وسبعين رجلا ومعهم من نسائهم امرأتان (4) بايعه الأنصار على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم وأن يحاربوا معه الأسود والأحمر وأن ينصروه على القريب والبعيد. (5) ولم يدون الرسول في ذلك شيئا وامتازت هذه البيعة بالتنظيم والتنسيق، ولما كان عدد الأنصار ثلاثة وسبعين رتب لهم نقباء وجعل أبا أمامة رئيسًا لهم فظهر التنظيم الأول في الدين الإسلامي، وتجلى فيه دقة العمل وسهولة الضبط وإيصال الدعوة بيسر وسهولة إلى أبناء المدينة، واتفق الرسول مع الأنصار اتفاقًا واضحًا في الدفاع عنه ونصرته وعدم تركه لهم بعد الانتصار على الكفار، وشرط لهم عند الوفاء الجنة . (6)
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى المدينة فأخذ يفقه المسلمين ويعلمهم القرآن الكريم، فبعدما كان يدعو إلى التوحيد ورفض عبادة الأوثان بدأ في وضع أسس الدين الإسلامي، ولما أمن المسلمون بدأت في المدينة المنورة صلاة الجمعة بالتقرب إلى الله تعالى بركعتين . (1)
ولبعد المسافات وضرورة إيصال الدعوة للبعيد من الناس بدأت كتابة العهود والرسائل . ويمكن أن نضع كتب البيعة والعقود والعهود الأولى ضمن الرسائل النبوية ، إذ بدأ بها الدعوة الأولى ووضع الأسس المتينة والقواعد الجديدة والمصطلحات الإسلامية لإرساء العقيدة الجديدة . وهي بداية النثر الفني في الأدب العربي وكانت هذه الرسائل مختلفة عن الخطابة والأمثال والحكم؛لسلاسة عبارتها وجزالة أسلوبها وتركيز معانيها ووضوح أهدافها الإسلامية وبعدها عن الصناعة اللفظية .
وضع أسس البناء للمجتمع الجديد(35/4)
ولما استقر الرسول الكريم في المدينة المنورة بعد الهجرة بدأ في تنظيم الحياة الاجتماعية، فقد جاء المهاجرون وكان فيها الأوس والخزرج واليهود .. وظهرت الاختلافات الفكرية وبرزت الجذور النفسية المتطاحنة، لكن الإسلام وطد الأمور وقضى على الحقد والكراهية والكبرياء القبلى فشمل المسلمين الحب والألفة والتضحية والمساواة وكرامة الإنسان وحريته .
إن تعاليم الدين الإسلامي كانت صريحة في رفع الظلم ونشر المساواة ورفع الجور عن المسلم ورفع مكانته ( لا يُقْتل مؤمن بكافر )، ولا ينصر كافر على مؤمن وإن ذمة المسلمين واحدة يجير عليُّهم أدناهم). (2) وحددت الصلات باليهود والمشركين وعرفت حقوقهم ومنع نصرة الجاني ( صفوت 3 ) وحرم جوف المدينة المنورة(صفوت 4) وأوصى الرسول بالجار وبالفضائل العالية.
الرسول والدعوة
امتاز الرسول الكريم بفكر واسع وتنظيم عقلي كبير وتخطيط ذهني متكامل ، ظهر في رسائله وكتبه وعهوده. كان يحسب لكل كلمة حسابها ولكل لفظ من ألفاظه موقعه وأثره في النفوس ، إن قوة شخصيته هي التي أخافت قريشًا ، وعذوبة حواره وسهولة إقناعه للناس ، دعت قريش إلى إبعاد الناس عنه وصم الآذان عن كلامه ولهم الحق، فإن الطفيل بن عمرو الدوسي (1) الذي ملأ أذنه بالقطن آمن به بعد أن سمع كلامه فقد قال : "ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرًا أعدل منه". وأسلم هو وقومه بعد أن قابل الرسول (2) وكان يرهبهم بالنار ويرغبهم في الجنة .
قامت الدعوة في مكة على الخير والسماحة والمساواة والتوحيد، وهي أمور أخافت قريشًا وبخاصة دعوته للمساواة ورفع مكانة البشر عن الوثنية، لأنه أعاد للإنسان كرامته ورفع مكانته الاجتماعية بالمساواة وبالتوحيد والقضاء على الظلم والطبقية والامتيازات التي تتمتع بها قريش. وفي المدينة المنورة بدأ بوضع التشريع وأسس الدعوة وقواعدها العامة .
رسائله داخل الجزيرة :(35/5)
بعد أن وطد الرسول الكريم دعائم الدين الإسلامي وبدأ الإسلام ينتشر في المدينة المنورة ، خطا الخطوة الأولى في تعليم الأنصار فقه الدين.واحتاج الأنصار إلى أسس محددة لفهم قواعد النظام الأساسي الجديد،ومن مكة المكرمة أرسل الرسول الكريم عدة أنظمة منها أنه حدد الفداء وضرورة مساعدة المحتاج من المسلمين وافتداء أسراهم، وألا تكون منزلة المسلم مساوية لمنزلة الكافر(3)
كان الرسول الكريم يواجه الشرك في مكة ويدعو إلى التوحيد وينظم المسلمين في المدينة، وأول مادة وضعها للمؤمنين من قريش وأهل يثرب ومن لحق بهم وتبعهم وجاهد معهم ( أنهم أمة واحدة من دون الناس ) (4) ثم جاءت مواد الدستور الأخرى تنص على أن يتكافلوا فيما بينهم ويتعاقلوا فيما بينهم ويفدوا عانيهم، وأن يكونوا كتلة واحدة ضد من تسول له نفسه إلحاق الأذى بأي مسلم منهم لأن المسلمين يوالي بعضهم بعضًا، وأن ذمة الله واحدة يجير عليُّهم أدناهم وهم أمة واحدة كالجسم الواحد فلا يجوز مصادقة الكافر.وحدد للمسلمين صلاتهم باليهود بوضوح وصراحة . كما حدد هذه الصلات بقريش ومواليها، وأكد على نصرة المظلوم ومصالحة المسلمين ، وإبداء النصح لمن خالف المسلمين، وحرم جوف المدينة المنورة. وكانت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار نقلة من الدعوة الشفوية إلى الكتابة لبعد المسافة. وبقى في مكة يعتمد على الإقناع المباشر الذي كان يخاف منه الكفار لمعرفتهم بقابلية الرسول الفذة في الإقناع وقرع الحجة بالحجة، حتى كانوا يسدون آذانهم خوفًا من سماعه حتى لا يتأثروا بحديثه، وكانوا يحذرون الناس من الاقتراب منه أو الحديث معه .
صلح الحديبية :(35/6)
كان هذا الصلح نقطة تحول كبيرة في تاريخ الدعوة الإسلامية فهي حملة قوة أراد بها الرسول دخول مكة المكرمة معتمرًا، فاضطربت قريش وخرجت إليه لأنه شن فيها حربًا نفسية عميقة الأثر ولأنها جاءت بعد المواقع الحربية الكبيرة؛ بدر الكبرى وأحد والخندق وغزواته لليهود . ودخل إلى عقر الديار في الحديبية وأذاع قوله: " لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونيِّ فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها" (1). واتفق مع قريش على أن ينصرف وأن تكون هدنة مدتها عشر سنين، وقد تألم المسلمون من هذا الاتفاق لأن فيه أن من جاء من قريش إلى المسلمين دون إذن وليه رد إلى قريش ،
ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه (2) حتى أن الرسول رد أبا جندل وهو يرسف في قيوده .
وعاد الرسول إلى المدينة بعد أن عرفت العرب مقدار قوة المسلمين،وكان الرسول رفيقًا بقريش وأعطى حرية كاملة للناس للدخول معه أو مع قريش .
وبعد أن صد الرسول عن عمرته يوم الحديبية قال : " أيها الناس إن الله بعثني رحمة للناس كافة .. فأدوا عني يرحمكم الله ولا تختلفوا عليَّ كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم". (3) وقد كثرت بعوث الرسول وغزواته ووصلت سبعًا وعشرين غزوة أما بعوثه فكانت ثمانيًا وثلاثين . ( 4 )
ونقضت القبائل الهدنة فكان ما أراده الله من نصر المسلمين، وتم الفتح المبين الذي أكد صدق الدين ونصر المسلمين .
نشر الدعوة في خارج الجزيرة :
وبعد هدنة الحديبية وقبل الفتح قال الرسول ( إن الله بعثني رحمة للناس كافة) ومعناه أن تنشر الدعوة إلى العالم كله
وبالفعل أرسل رسالتين إلى سادة العرب وقادتهم داخل الجزيرة وخارجها .
كانت فكرة رائعة أسمع فيها صوت الدعوة في أرجاء الجزيرة العربية وردد صداها العالم . وقد دلت الرسائل على سعة فكر الرسول ونظرته السليمة في بث الدعوة .(35/7)
وأخذت بعض القبائل تؤمن بما تناقلته قريش عن ظهور النبي وهي بعيدة عنه، بعد أن آثرت التريث، لأن قريشًا في سفراتها أخذت تشكك في نبوته صلى الله عليه وسلم .
كانت رسائله مركزة عميقة الأثر في النفوس ومن نصوص هذه الرسائل "أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين " (1) و( أدعو الله عز وجل ) (2) وهي الدعوة النفسية عندما يلقى تبعة الرعية على مسؤولية الملك (3) ويتخذ من القرآن الكريم سبيلا لتوضيح فكره وجلب القلوب باللين والموعظة الحسنة مثل " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا
وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون".(4) كان رسول الله يدعو إلى الإسلام وينتظر رد الفعل عند هؤلاء الملوك، ويعرف أثر الدعوة النفسي عند الشعوب، ولم يدخل في رسائله إلى تفاصيل تعاليم الدين، وكان أمله في إسلام أهل الكتاب أكثر من أمله بإسلام كسرى والمجوس واكتفى بالدعوة إلى الإسلام " أدعوك بدعاية الإسلام " لأن أهل الكتاب لهم قاعدة فكرية في الكتب المقدسة والأنبياء مما لا يملكه المجوس والفرس الذين يرون أنهم أعلى طبقة من العرب، لذلك شرح في رسالته قصده وطالب كسرى بالإيمان بالله ورسوله وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنه رسول الله الذي أرسله إلى الناس كافة لينذر من كان حيًّا .
ولصلات النجاشي بالعرب ومعرفته بهم وببعض تعاليم الدين من هجرة الصحابة أكد في رسالته له على التوحيد ، وتأكيده على
التوحيد لانتشار الوثنية بين البشر على أشكال مختلفة وأساليب متباينة،فمنهم من يعبد الأوثان والأصنام، ومنهم من يعبد الملوك والرؤساء (1) .
رسائله إلى العرب :
كتب الرسول إلى الحارث صاحب دمشق والمنذر بن ساوى ملك البحرين وهوذة صاحب اليمامة وإلى ملكى عُمان وإلى الأكيدر الكندى ملك دومة الجندل ووائل بن حجر وأهل حضرموت وغيرهم(2)(35/8)
وقد اختلفت هذه الرسائل باختلاف المرسل إليه، فقد دعا الحارث بن أبى شمر الغساني إلى الإيمان " بالله وحده لا شريك له ". وكان أكثر صراحة وحرية من ملك البحرين فقد قال :
" فإن من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم له ذمة الله وذمة رسوله ". وأعطى للمجوس خيارًا بدفع الجزية لمن لم يؤمن وكان من جراء ذلك أن أسلم جماعة من أهل البحرين ، ودفع الجزية المجوس واليهود .. إذ فرضت
الشروط المالية على العرب (3)
وفود القبائل العربية :
ولما انتشرت الدعوة بدأت وفود العرب تصل إلى المدينة، وكان الرسول يشرح لهم تعاليم الدين الإسلامي بنفسه، ويرسل مع الوفود رسائل مكتوبة تثبت هذه التعاليم .
فقد جاءه في تبوك صاحب أيلة وأهل جرباء وأهل أذرح وأهل ميناء .. فأمنهم الرسول على أموالهم ومن كان معهم من أهل الشام واليمن والبحرين على أن يدفعوا الجزية وفرض على أهل أذرح وجرباء مئة دينار تدفع كل رجب .. وفصل لهم القضايا المالية . (4)
وعندما جاءه وفد بني كلب أكد في مقابلته لهم على "إقامة الصلاة لوقتها وإيتاء الزكاة بحقها" (5) وعلمهم أصول إخراج الزكاة في الشياه والنخل والزرع. كما فرض عقوبة الجلد على المخالفين من أهل ثقيف بعد عودته من تبوك لمن يصيد الصيد ويعضد الشجر، ورأى ضرورة إخباره عن الذين يكررون
مخالفتهم لأوامره . ( 1 )
وكان يشهد على كتابة الكتب الصحابة الذين يحضرون الكتابة . (2)
ملوك حمير :
ولما عاد الرسول من تبوك إلى المدينة أرسل ملوك حمير رسلهم معلنين الإسلام ومحاربة المشركين .. فكان وصول وفد اليمن حدثًا كبيرًا من الأحداث الإسلامية فقد كان (ص) يتمنى من الله أن يهدي أهل اليمن وهو يحفر الخندق، وأسعده إسلام هذا القطر العربي الكبير للصلات الوثقى بين أهل الحجاز وأهل اليمن والرحم والقربى مع هذه القبائل العربية.(35/9)
لذلك أفاض الرسول الكريم في شرح تعاليم الإسلام لأهل اليمن وأكد على الناحية المالية وشرحها لهم . وقد عزز بخمسة من الصحابة الذين تفقهوا في الدين الإسلامي ومن"صالحى أهلي وأولي دينهم وأولي علمهم" كما قال: وهم معاذ بن جبل وعبد الله بن زيد ومالك ابن عبادة وعقبة بن نمر ومالك بن مرة ،
لنشر تعاليم الدين وتعليمهم فرائض الإسلام، مع أنه أفاض في رسالته .
وقد شرح لهم كيف يدفع المسلم الزكاة، وكيف يدفع أهل الكتاب الجزية وتكون لهم ذمة الله ورسوله، وقال بعبارة صريحة بضرورة جمع الصدقة التي " لا تحل لمحمد ولا لأهله ، وإنما زكاة يتزكى بها على الفقراء " . (3)
إن فرض الزكاة كان ضرورة لرفع مستوى الفقراء من المسلمين والضمان الاجتماعي والمالي الذي أكده على كل وفود العرب، فقد كتب إلى بني نهد: "لكم يا بني نهد من الوظيفة الفريضة"(4) وحدد قواعد الزكاة بدقة فقال: " لكم العارض ، والفريش ، وذو العنان الركوب والفلو الضبيس (5) لا يمنع سرحكم ولا يعضد طلحكم ولا يحبس دركم ولا يؤكل أكلكم ما لم تضمروا الإماق وتأكلوا الرباق" (6)
وفي رسالة أخرى أرسلها الرسول نجد أن اهتمامه الكبير بإسلامهم دعاه إلى
التقيد بقواعد الدين الإسلامي فعلمهم الوضوء وضرورة إتمامه وأمرهم بالصلاة وضرورة الخشوع وإتمام الركوع، وحدد لهم أوقاتها، وحث على حضور صلاة الجمعة، والغسل عند الذهاب إليها، وأكد على التوحيد ونشره بين القبائل وإلا كان جزاؤهم القطع بالسيف .. وأكد على أن التوحيد من أهم صفات المسلم .. كما علمهم فرائض الحج والعمرة وضرورة دراسة القرآن الكريم ومعرفة الشريعة وجزاء المسلم الجنة، والكافر النار.
وعاد إلى شرح القواعد التي تفرض الزكاة على المسلم . (1)
كانت تعاليم الدين الإسلامي لأهل اليمن صريحة وواضحة .(35/10)
وفي رسالة أرسلها إلى شرحبيل بن عبد كلال وأخويه نعيم والحارث .. مع عامله في اليمن عمرو بن حزم الأنصاري، وقد تليت الرسالة على أهل اليمن فقد ذكر السنن والفرائض والديات والعقول ، فجعل دية المؤمن مئة من الإبل إذا قتل عمدًا، وعن قطع الأنف كله واللسان والشفتين وفي البيضتين
والذكر وفي العينين الدية ، وجعل في الرجل الواحدة نصف الدية وفي المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع اليد والرجل عشرًا من الإبل، وفي السن خمسًا من الإبل وفي الموضحة خمسًا من الإبل، وإن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار(1)
خاتمة :
كانت رسائل النبي (ص) اللبنة القوية التي قام عليها الصرح الإسلامي الشامخ فقد بدأت بمعاهدة المشركين ثم قبول دعوته .. وفي رسائله كان يأخذ الأمور بالتدريج فالدين يسر وسهولة ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والرقة واللين .
بدأ بالتوحيد والدعوة إلى الواحد القهار ومحاربة الأوثان لأن الوثنية أسوأ أنواع الذل والطغيان .. وأراد أن يرفع من فكر البشر ويسمو بهم عن عبادة الشرك المادية سواء كانت وثنًا أو أميرًا أو ملكًا إلى عبادة الديان . ثم أتبعها بالصلاة ثم الزكاة وبعدها الحج . ومن الملاحظ أن هذه الرسائل تمتاز بأمور منها:
لطف العبارة ورقتها وسهولة ألفاظها وسلاسة عبارتها .
البعد عن التصنع اللفظي لتكون مفهومة لكل طبقات المجتمع الإسلامي .
دخول المصطلحات الإسلامية الجديدة، كالصلاة والزكاة والحج والجهاد والصدقة، والمشرك والكافر والفريضة والسنة والنافلة والحسنة والسيئة والنفاق ..
وغيرها من الألفاظ الإسلامية والمصطلحات التي لا يعرفها العرب بمثل ما اصطلح عليه الإسلام وإن كانت عربية .(35/11)
وقد اتخذ الخلفاء من بعدُ هذه الرسائل، وبخاصة تلك التي فرض فيها التعاليم الإسلامية، نموذجًا يسيرون في هديه .. ويقتبسون من فكره الواسع وعقليته الكبيرة صلى الله عليه وسلم .
يوسف عز الدين
عضو المجمع المراسل من العراق(35/12)
تمهيد :
تجمع المصادر التاريخية على أن أبا الطيب المتنبي ضاق ذرعًا بالحياة في رحاب كافور الإخشيدي لأسباب مختلفة أبرزها منزلة كافور الاجتماعية ، وأنه لم يحظ لديه بما كانت تطمح إليه نفسه ، غير أن كافورًا لم يكن ليخلي سبيله ، فهو يخشى إن أفلت من يده أن يوسعه هجاءً وذمًّا مثلما أوسعه مدحًا ، وقد كان يعلم أنه الشاعر الذائع الصيت، وأن شعره سرعان ما يستطير في الآفاق ، ولذلك كان كل منهما يُحاذر من الآخر، ويتوجس في نفسه منه .
ولكنَّ أبا الطيب ، وهو الشاعر الفارس الذي لم يستقر به المقام طويلاً في أي بلد ، أبت نفسه إلا تحررًا ، فاتخذ البيداء قلوصًا ، ولاذ بجانبها على نحو ما كان من شأن العرب في قول الأخنس :
لكل أناس من معد عمارة
... عروض إليها يلجؤون وجانب
وقول الذبياني :
فموضع البيت في صماء مظلمة
... تقيد العير لا يسري بها ساري
تدافع الناس عنها حين نركبها
... من المظالم تدعى أم صبار
أو كقول أحدهم :
قد شمرت عن ساقها فشمري
... واتخذي الليل قلوصًا تظفري
ودبر أمره بليل ، وأعد لفراره العدة في صمت وتكتم ، واهتبل فرصة اشتغال كافور يوم عرفة بأعطيات الجند ، وولى وجهه شطر المشرق،وبه عن طريق الشام حيدة ، وعن درب الحج ازورار كيلا يسهل على كافور طلبه . وكان أبو الطيب قد جسّ نبض كافور إذ استأذنه في الخروج إلى الرملة ( من أرض فلسطين) لغرض يقضيه ، فأبى وقال له: نكفيك ذلك ، ونرسل من يقضيه لك .
وكانت الطرق والدروب السالكة تحت سيطرة ولاته وعماله ، الأمر الذي جعل أبا الطيب يسلك طريقًا مجهولاً ، على نحو ما ذكره صاحب الإيضاح من أنه سار "على الحلل والأحياء والمفاوز المجاهيل والمناهل والأواجن ". ( خزانة الأدب 2/3353).(36/1)
ومن هنا نستطيع أن نؤكد أن أبا الطيب لم يمر ببلبيس في رحلته هذه ، وذلك أنه كتب إلى عاملها عبد العزيز بن يوسف الخزاعي يطلب منه دليلا ، فأنفذه إليه ، ولو كان يخطط للمرور بها، وهي على طريق الشام، لما أنفذ الدليل إليه.وقد مدحه بقصيدة مطلعها:(ديوانه ص556)
جزى عربا أمست بِبُلْبَيس ربها
... بمسعاتها تقرر بذاك عيونها
وهذا يناقض ما أورده عبد الوهاب عزام في ذكرى أبي الطيب نقلاً عن مخطوطة وقف عليها من أن أبا الطيب قصد عبد العزيز الخزاعي في بلبيس ، ونزل عنده حين مر ببلده هاربًا . وربما أوهم بعض حاشيته أنه سيتوجه إلى هناك للتضليل ، وهذا يفسر ما أقدم عليه كافور إذ كتب إلى عماله بالحوفين والجفار وغزة والشام وجميع البوادي ظنًّا منه أنه سلك طريق الساحل إلى بلاد الشام(ذكرى..ص136) وكان المتنبي قد حمل من الماء على الإبل من نهر النيل عُدة لعشر ليال ، وتزود من المؤونة لمدة عشرين يومًا . ونورد فيما يلي قصة خروجه العجيبة نقلاً عن عبد الوهاب عزام في " ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام " ( ص 137 - 142 ) .
" وكانت للأسود عليه عيون . وكان جميع جيرانه يراعونه حتى كان قوم يسهرون حذاء منزله يتفقدونه ويتعرفون من يدخل إليه ويخرج من عنده. ويفد كل يوم صاحب الخبر إلى بابه ، حتى يقف على حاله . وهو يعلم بذلك فلا يظهره لهم .
وكان يتسلّى بفاتك والحديث معه . وتوفى فاتك فعمل أبو الطيب على الرحيل . وقد أعد كل ما يحتاج إليه على مر الأيام في رفق ولطف لا يعلم به أحد من غلمانه ، وهو يظهر الرغبة في المقام. وطال عليه التحفظ ، فخرج ، فدفن الرماح في الرمل ، وحمل الماء على الإبل في الليل من النيل عُدَّة لعشر ليال ، وتزود لعشرين .
وكتب إلى عبد العزيز بن يوسف الخزاعي " الأبيات التي قدَّمتُها " وأخفى طريقه ، فلم يأخذوا له أثرًا حتى قال بعض أهل البادية :
هبه سار فهل محا أثره .
وقال بعض المصريين :
إنما أقام حتى عمل طريقًا تحت الأرض.(36/2)
وتبعته البادية والحاضرة ومن وثقوا به من الجند ، وكتبوا إلى عمالهم بالحوفين والجفار وغزة والشام وجميع البوادي .
"وعبر أبو الطيب بموضع يعرف بنجة الطير ، إلى الرثنة " ، حتى خرج إلى ماء يعرف بنخل في التيه بعد أيام ، وتسميه العامة بحرا فلقى عنده في الليل ركبًا وخيلا صادرة عنه ، فقاتلوه فأخذهم . وتركهم ، وسار حتى قرب من النِّقاب ، فرأى رائدين لبنى سُليم على قلوصين . فركب ، وطردهما حتى أخذهما ، فذكرا له أن أهلهما أرسلوهما رائدين ، ووعداه النزول ذلك اليوم بين يديه . فاستبقاهما ، ورد عليهما القلوصين وسلاحهما . وسار وهما معه حتى توسط بيوت بني سُليم آخر الليل . فضرب له ملاعب بن أبي النجم خيمة بيضاء ، وذبح له ، وغدا ، فسار إلى النقع ، فنزل ببادية من معن وسُنبُس . فذبح له عفيف المعنيّ غنمًا وأكرمه ، وغدا من عنده وبين يديه لصّان من جُذام يدلانه في الطريق . فصعد في النقب المعروف بتربان ، وفيه ماء يٌعرف بغرندل فسار يومه وبعض ليلته ، ونزل وأصبح فدخل حِسْمى .
وحسمى هذه أرض طيبة . تؤدي أثر النحلة من لينها . وتنبت سائر النبات مملوءة جبالا في كبد السماء متناوحة مُلس الجوانب ، إذا نظر الناظر إلى قلّة أحدها فتل عنقه حتى يراها ، بشدة ، ومنها ما لايقدر أحد أن يصعده . ولا يكاد القتام يفارقها . وذلك معنى قول النابغة :
فأصبح عاقلاً بجبال حسمى
... دُقاق التُّرب محتزم القتام
وقد اختلف الناس في تفسير هذا البيت ولم يعلموا ما أراد . وبكون مسيرة ثلاثة أيام في يومين ، يعرفها من رآها من حيث رآها ، لأنها لا مثيل لها في الدنيا ، ومن جبالها جبل يُعرف بأرَم ، عظيم العلوّ، تزعم البادية أن عليه كرومًا وصنوبرًا .(36/3)
فوجد بني فزارة شاتِين بها، فنزل بقوم من عديّ فزارة فيهم أولاد لاحق ابن مخلب . وكان مخلب هذا خرج يطلب ناقة له فقدها . وكانت فزارة قد أخذت غزيّا غزاها ، فكانت الأسرى في القِدّ بين البيوت ، فسمعه بعض الأسرى ينشد الناقة . فقال: هي بموضع كذا وكذا، وجدناها أمس ، فشربنا لبنها ، وتركناها لنعود فنأخذها ، فنادى مخلب: على شهادتكم يا معشر العرب . ثم عاد فلبس سلاحه وركب فرسه فقال : الغزيّ ضيوفي . فخلّصهم من القِدّ بعد اختلاف الناس وخوف الشر . فردّ عليهم كل شيء أخذ لهم ، وقراهم وسيرهم وقال :
إن تك ناقتي منعت غزيًّا
... تجر صرارها ترعى الرحابا
فأي فتى أحق بذاك مني
... وأجدر في العشيرة أن يهابا
وكان بينه وبين أمير بني فزارة حسان بن حكمة مودة وصداقة ، فنزل بجار للقوم ليوارى عنهم فلا يُعلم بما بينه وبينهم ، واسم الجار وردان بن ربيعة من طيء ، ثم من معن ، ثم من بني شبيب . فاستغوى عبيده، وأفسدهم عليه، وأجلسهم مع امرأته ، فكانوا يسرقون له الشيء بعد الشيء من رحله .
وطابت حِسمى لأبي الطيب ، فأقام بها شهرًا ، وكتب الأسود إلى من حوله من العرب ووعدهم . وظهر لأبي الطيب فساد عبيده ، وكان الطائي يرى عند أبي الطيب سيفًا مستورًا فيسأله أن يريه إياه فلا يفعل ، لأنه كان على قائمه ونعله ذهب من مئة مثقال . وكان السيف لا ثمن له . فجعل الطائي يحتال على العبيد بامرأته طمعًا في السيف ، لأن بعضهم أعطاه خبره .
فلما أنكر أبو الطيب أمر العبيد، ووقف على مكاتبة الأسود لكل العرب التي حوله في أمره ، أنفذ رسولاً إلى فتى من بني فزارة ثم من بني مازن ، ثم ولد هرم بن قطبة بن سَيَّار ، يقال له فليتة ابن محمد . وفيهم يقول بعض البادية :
إذا ما كنت مغتربًا فجاور
... بني هرم بن قُطبة أودثارا
إذا جاورت أدني مازنيّ
... فقد ألزمت أقصاها الجوارا(36/4)
وكان قد وافقه قبل ذلك على المراسلة . فسار إليه . وترك أبو الطيب عبيده نيامًا، وتقدم إلى الجمال ، فشد على الإبل وحمل خوفًا أن يحتبس عنه بعض عبيده ، فلم يعلموا حتى أنبههم ، وطرحهم على الإبل ، وجنّب الخيل ، وسار تحت الليل، والقوم لا يعلمون برحيله ، ولا يشكون أنه يريد البياض ، فأخذ طريق البياض ، فلما صار برأس الصوان أنفذ فليتة بن محمد إلى عرب بين يديه ، وتوقف .
وأخذ أحد العبيد في الليل السيف ، فدفعه إلى عبد آخر ، ودفع إليه فرسه ، وجاء ليأخذ فرس مولاه ، وانتبه أبو الطيب . وقال الغلام : أخذ العبد فرسي. يغالط بهذا الكلام . وعدا نحو الفرس ليقعد في ظهره ، فالتقى هو وأبو الطيب عند الحصان، وسلّ العبد السيف، فضرب رسنه، فضرب أبو الطيب وجه العبد فقسمه (فخرّ على رتمة ) وأمر الغلمان فقطعوه . وانتظروا الصباح . وكان هذا العبد أشد من معه وأفرسهم (الرتم: شجر له أغصان مُلس دقاق سباط والواحدة رتمة)
فلما أصبح أتبع العبد عليًّا الخفاجي وعلوان المازني ، وأخذا أثره فأدركاه عصرًا ، وقد قصّر الفرس الذي تحته ، فسألهما عن مولاه ، فقالا: جاءك من ثمّ، وأشارا إلى موضع ، فدنا منهما كالعائذ وهو يتبصر . فقالا له : تقدم . فقال : ما أراه ، فإن رأيته جئتكما ، وإن لم أره فما لكما عندي إلا السيف . فامتنع منهما. وعادا في غد ، ووافق عودة فليتة، فقال فليتة : لقد كان فيما جرى خيرة ، لأن الوقت الذي اشتغلتم بقتله فيه ، كانت سرب الخيل عابرة مع ذلك العلم، ولو كنتم زلتم عن موضعكم لحدّث بعضكم بعضًا ، فقال أبو الطيب ارتجالاً:
لَئِنْ تَكُ طَيِّئٌ كَانَتْ لِئَامًا
... فَأَلأَمُهَا رَبِيعَةُ أَوْ بَنُوهُ
وَإِنْ تَكُ طَيِّئٌ كَانَتْ كِرَامًا
... فَوَرْدَانٌ لِغَيْرِهِم أَبُوهُ
مَرَرْنَا مِنْهُ فِي حِسْمَى بِعَبْدٍ
... يَمُجُّ الُّلؤْمَ مَنْخِرُهُ وَفُوهُ
أَشَذَّ بِعُرْسِهِ عَنِّي عَبِيدِي(36/5)
... فَأَتْلَفَهُمْ ، وَمَالِي أَتْلَفُوهُ
فَإِنْ شَقِيَتْ بِأَيْدِيِهمْ جِيَادي
... لَقَدْ شَقِيَتْ بِمُنْصُلِيَ الوُجُوهُ
وقال فيه :
لَحَى اللهُ وَرْدَانًا وَأُمًّا أَتَتْ بِهِ
لَهُ كَسْبُ خِنْزِيرٍ وَخُرْطُومُ ثَعْلَبِ
فَمَا كَانَ مِنْهُ الْغَدْرُ إِلاَّ دَلاَلَةً
... عَلَى أَنَّهُ فِيهِ مِنَ الأُمِّ بِالأَبِ
إِذَا كَسَبَ الإِنْسَانُ مِنْ هَنِ عِرْسِهِ
... فَيَا لُؤْمَ إِنْسَانٍ وَيَا لُؤْمَ مَكْسَبِ
أَهَذَا اللَّذَيَّا بِنْتُ وَرْدَانَ بِنْتُه
هُمَا الطَّالِبَانِ الرِّزْقَ مِنْ شَرِّ مَطْلَبِ
لَقَدْ كُنْتُ أَنْفِى الْغَدْرَ عَنْ تُوسِ طَيِّئ
... فَلاَ تَعْذِلاَني رُبَّ صِدْقٍ مُكَذَّبِ
وقال أيضًا ( في العبد الذي قتله ) :
أَعْدَدْتُ لِلغَادِرينَ أَسْيَافًا
... أَجْدَعُ مِنْهُمْ بِهِنّ آنَافَا
لا يَرْحَمُ اللهُ أَرْؤسًا لَهُمْ
... أَطَرْنَ عَنْ هَامِهِنَّ أَقْحَافَا
مَا يَنْقِمُ السَّيْفُ غَيْرَ قِلَّتِهِمْ
... وَأَنْ تَكُونَ المِئُونَ آَلاَفَا
يَا شَرَّ لَحْمٍ فَجَعْتُهُ بِدَمٍ
... وَزَارَ لِلْخَامِعَاتِ أَجْوَافَا
قَدْ كُنْتَ أُغْنِيتَ عَنْ سُؤالِكَ بِي
... مَنْ زَجَرَ الطَّيْرَ لِي وَمَنْ عَافَا
وَعَدْتُ ذَا النَّصْلَ مَنْ تَعَرَّضَهُ
... وَخِفْتُ لَمَّا اعْتَرَضْتَ إِخْلاَفَا
لاَ يُذْكَرُ الْخَيرُ إِنْ ذُكِرْتَ وَلاَ
... تُتْبِعُكَ المقْلَتَانِ تَوْكَافَا
إِذَا امْرُؤٌ رَاعَنِي بِغَدْرَتِهِ
... أَوْرَدْتُهُ الغَايَةَ الَّتِي خَافَا
وسار أبو الطيب حتى نظر إلى آثار الخيل . ولم يجد فليتة خبرًا عن العرب التي طلبها . فقال له: أخرق بنا ، على بركة الله ، إلى دُومة الجندل ، وذلك أنه أشفق أن تكون عليه عيون بحسمى قد علمت أنه يريد البياض ، فسار حتى انحدر إلى الكفاف ، فورد البويرة بعد ثلاث ليال ، وأدركتهم لصوص أخذت آثارهم وهم عليها ، فلم يطعموا فيهم . وسار معهم حمصي بن القلاّب .(36/6)
فلما توسط بُسيطة ( وهي أرض تقرب من الكوفة ) رأى بعض عبيده ثورًا يلوح ، فقال : هذه منارة الجامع . ونظر آخر إلى نعامة في جانبها الآخر . فقال: وهذه نخلة . فضحك أبو الطيب، وضحكت البادية فقال :
بُسيطة مهلاً سقيت القطارا
... تركت عيون عبيدي حيارا
فظنوا النعام عليك النخيل
... وظنوا الصوار عليك المنارا
فأمسك صحبي بأكوارهم
... وقد قصد الضحك فيهم وجارا
وورد العقدة بعد ليال ، وسقى بالجراوي، واجتاز ببني جعفر بن كلاب. وهم بالبريت والأضارع ، فبات فيهم ، وسار إلى أعكش حتى ورد الرُهيمة . ودخل الكوفة في شهر ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة " فقال قصيدته التي مطلعها :
ألا كل ماشية الخيزلى
... فدى كل ماشية الهيذبى
وذكر فيها المواضع التي مر بها
قلت : وجبل أرم المذكور هو جبل رم الواقع إلى الشمال الشرقي من العقبة ، وجنوب القويرة وإلى الشمال من جبلي أم طلحة وجبل القطر .
ولنا على هذه القصة مأخذ نجمله في:
أنه ورد فيها أن بُسيطة أرض تقرب من الكوفة،وما هو بصحيح، إنما الصحيح أنها بين حسمى والجوف إلى الجنوب من شبيكة . وهذا الخبر الذي ساقه عن بعض عبيد أبي الطيب وما رأوه من النعام والمها حقه أن يتقدم فيأتي في خبر حسمى ، وقد خرج منها إلى عقدة الجوف ، وهو الكلام الذي جاء عقب ذلك ، ذلك أن بسيطة تناصي حسمى، بينها وبين الجوف ، وورد في القصة أنه "ورد العقدة بعد ليال وسقى بالجراوي " وهذا يوحي بأن الجراوي يلي الجوف على طريقه قبل المشرق ، ولكن الصحيح أنه يقع غربي الجوف على الطريق إليها .(36/7)
وأغلب الظن أن المتنبي سلك طريقًا يوازي طريق القاهرة السويس الصحراوي إلى الشمال قليلاً من خط عرض 30 درجة شمالاً ، وهذا الخط الذي يبدو أن جل المواقع التي سلكها تقع عليه أو إزاءه يمنيًا أو يسارًا بمسافات قصيرة إلى أن دخل الجوف ( في شمال المملكة العربية السعودية اليوم ) . إذ أخذ يتجه منها صوب الكوفة التي تقع على خط العرض 32 درجة شمالاً .
وربما كان الطريق الذي سلكه المتنبي هو ما عرف في تاريخ سيناء باسم درب الشعوى الذي يبدأ قريبا من رأس خليج السويس ، ويسير إلى الجنوب أكثر من درب الحج إلى أن ينتهي عند العقبة (عبد الرحمن زكي 80 ) ونعتقد أنه توجه للكنتيلا بعد نخل مباشرة ، ولم يتجه إلى الثمد والعقبة ، والشعوى هي الشعواء مقصورة أو العشواء مقصورة مقلوبة لوعورتها ومخاطرها .
وهذا الطريق كان مستخدمًا قبل درب الحج - على الأرجح - وقد سلكته جيوش صلاح الدين أثناء الحروب الصليبية ، عندما توجه لضرب حاميتي الكرك والشوبك ، وأبرز منازل هذا الطريق :شط السويس ، ثم ممر متلا ، فوادي الراحة ، إلى أرض التيه شمال عين صدر ( حيث تقوم قلعة صلاح الدين ) وفي هضبة التيه يسير الدرب شرقًا قاطعًا أعالي فروع البروك أولاً ثم يقطع وادي العريش نفسه شمال بئر أم سعيد بقليل ، ومنه إلى روافد وادي العريش الشرقية ، أي طريفية ووادي الرواق ، فالفيحي فوادي القريص ( حيث تقع بئر القريص) حتى يصل إل الثمد(عبد الرحمن زكي32)
ونعتقد أن المتنبي تقدم من وادي النثيلة إلى نخل ، فجبل أم علي ووادي العقبة ، فوادي المهشم . ولاشك في أن رحلة أبي الطيب كانت مقامرة على نحو ما يجسده قوله في إبله ( ديوانه 552 )
ضربت بها التيه ضرب القما
... ر إما لهذا وإما لذا
أي لنجاحٍ أو هلاك ، فكأنه امرؤ القيس إذ قال لصاحبه وقد بكى لما رأى الدرب دونه :
فقلت له : لا تبك عينك إنما
... نحاول ملكًا أو نموت فنغدرا(36/8)
" ومن الصعوبات التي كان يصادفها المسافرون بين السويس وهضبة التيه - منطقة الكثبان التي يصعب فيها سير الناس والجمال … والصعوبة الثانية نقب العقبة الذي كان على المسافرين أن يعبروه للوصول إلى العقبة . وهذا الجزء هو أشد أجزاء الطريق وعورة … أما الصعوبة الثالثة : فهي مشكلة الماء في كميته ونوعه ، فالآبار الموجودة في الطريق محدودة جدًا ، ولا نصادف الماء إلاّ حول نخل ، وفي بعض آبار متفرقة حول الثمد وهذا الماء لا يشربه المسافر إلاّ مضطرًا لقلة عذوبته وكثرة أملاحه " ( عبد الرحمن زكي 30،31 )، ومن ذلك بير المر وبير المبعوق شرق السويس.
وقد صادف خروج المتنبي من مصر شتاء عام 961م بدليل أنه دخل حسمى شتاء كما سيأتي ، و"أن أفضل شهور السنة لزيارة سيناء ، بل أجمل فصولها للسفر فيها والنزهة والسياحة هي الفترة التي بين آخر فبراير ( شباط ) والنصف الأول من شهر مايو ( أيار ) والتي بين أوائل شهر أكتوبر ( تشرين أول ) ومنتصف نوفمبر ( تشرين ثان ) (أبو الحجاج ص 125 ) ، ونورد فيما يلي أسماء البلدان والمواقع التي مرّ بها مجتهدين في تحديد مواقعها ، وسنذيل البحث بخريطة نتتبع فيها أعلام الطريق .
نجهُ الطير ( نجّة الطير )
جاء في خبر المتنبي أنه خرج من الفسطاط إلى هذا الموضع . قال ياقوت ، وضبطه دون إعجام الهاء : موقع بين مصر وأرض التيه . قلت : وما بين مصر ( القاهرة ) وأرض التيه ( سيناء ) هو صحراء قاحلة ، يخترقها الطريق المؤدي إلى السويس . ونعتقد أن الموضع المذكور يقع بين جبلي عتاقة جنوبًا وعويبد شمالاً.
ونعتقد أن الطريق الذي سلكه المتنبي يوازي درب الحاج المصري ، إلى الجنوب منه . وقد سلكه خوف العيون التي بثّها كافور ، ولأن المنطقة التي تقع إلى جنوب درب الحاج أوفر ماءً ، لاسيما ما كان منه في سيناء.(عبد الرحمن زكي ص 32)(36/9)
ولم نقف في مصادرنا على ذكر لهذا الموضع ، ووقفنا على موضع باسم "النواطير" الثلاثة ، وهو من منازل درب الحاج بين عجرود والعلوة إلى الشمال الشرقي من السويس ، ولا نستبعد أن يكون طريقه قد تقاطع مع درب الحاج في ذلك الموضع ، وأن تحريفًا قد اعترى اللفظ فإذا هو نجه الطير .
وثمة احتمال آخر يتسع له المقام ، هو أن جيم " نجة " قاف في الأصل نقة، وهي في الدارجة بمعنى النقرة ، وكأن الموضع رأس جبل أو شمراخ فيه ، يتكور في أعلاه ما يشبه أثر المنقار في مادة رطبة.
وجاء في وصف جبل حيطان (806م) الذي يحدد خانق الممر ( ممر متلا) مع جبل الجدي الذي يقع إلى الشمال منه أنه " ينتصب كالحائط " (جمال حمدان 192 ) وأن جبلاً بهذا الوصف يستهوي الطير ، وجدير بالذكر أن هذين الجبلين هما أعلى جبال تلك المنطقة ( جمال حمدان 158 ) . كما يحتمل أن يكون الموقع ماء يجتمع في نقرة صخرية على الطريق ، كأنهم شبهوه بنقرة الطير لأنها تردها . والمعروف أن المتنبي سار على المجاهيل والمناهل والأواجن .
وهنا نشير إلى أمرين :
أن الطيور غالبًا ما توطن في شماريخ الجبال ، لاسيما الجواح من الطيور البرية.
أن القاف تقلب جيما في بعض لهجات مصر الشرقية وسيناء ، ومن ذلك في الأعلام الجغرافية في سيناء ( جبل يلق، إذ يلفظ ويدون في بعض الكتب يلج، والقديرات، إذ تلفظ الجديرات، وعلى هذا لهجة نجد المعاصرة . وقد سألني أحدهم يوما : ما حال رفيجك يعقوب ؟ يريد رفيقك ) .
الدَّثنة ( الرَّثنة ) ( الدَّثينة )(36/10)
وهي المنزل التالي الذي نزل فيه المتنبي ، ولم يذكره ياقوت ، وإنما ذكر الدثينة ، وقال : ماء لبعض بني فزارة . قلت : كانت فزارة أيام المتنبي تنزل حسمى ، وله معهم صحبة ، ولعل بعضهم كانوا قد توغلوا في سيناء . وهي دون شك إلى الغرب من نخل ، ووردت في مصادر عبد الوهاب عزام ( 138 ) باسم الرثنة ، ولا نراه ، والأرجح عندنا أنها بالدال ، وهي التي ذكرها المقريزي (1/138) في خبر شداد بن هداد بن عاد ورمل الغرابي ( رمل الهبير ) إذ قال إنهم :"خرجوا من مصر إلى جهة وادي القرى فيما بين المدينة النبوية وأرض الشام ، وعمروا الملاعب والمصانع لحبس المياه … وزرعوا أصناف الزراعات فيما بين راية وأيلة إلى البحر الغربي ، وامتدت منازلهم من الدثنة إلى العريش والجفار في أرض سهلة " . ( والجفار رمل شمال سيناء ) . ويطلق اسم الهبير أو الغرابي على الرمل الممتد في الأرض من وراء جبل طيئ إلى أرض مصر … (المقريزي 1/182) أما ياقوت فجعله ما بين قطية والصالحية ، وقال : صعب المسالك ، وهذا يحصره في شمال غرب سيناء . وهو المقصود بقول الشاعر :
هي الديار فقد تقادم عهدها
... بين الهبير وأبرق النعار
( ياقوت : أبرق النعار ) .
وأخيرا هل نذهب بعيدًا فنقول : لعل الرثنة هي عين الرويث الواقعة إلى الجنوب قليلا من عين سدر ، إلى الجنوب الشرقي من جبل الراحة ؟
التِّيه
والدثنة 0( أو الرثنة ) في صحراء التيه التي اجتاز مغاربها إلى نخل التي تتوسطها . ونورد فيما يلي ما ورد في بعض المصادر عن هذه الصحراء :
قال الزبيدي في حد جند فلسطين : وفي جنوبه عدم البلاد وفحص التيه . والأصل فيه المفازة ، ومفازة تيهاء : يضل سالكها ( تاج العروس ) .(36/11)
وقال ياقوت : هو الموضع الذي ضل فيه موسى بن عمران عليه السلام وقومه ، وهي أرض بين أيلة ( العقبة ) ومصر وبحر القلزم ( الأحمر ) وجبال السراة من أرض الشام ( الشراة ) ويقال إنها أربعون فرسخًا في مثلها ، وقيل اثنا عشر في ثمانية … والغالب على أرض التيه الرمال، وفيها مواضع صلبة ، وبها نخيل ، وعيون مفترشة يتصل حد من حدودها (الشمالي) بالجفار ، وحد بجبل سيناء ، وحد بأرض بيت المقدس وما اتصل به من فلسطين ، وحد ينتهي إلى مفازة في ظهر ريف مصر إلى حد القلزم (السويس) ( وانظر المسعودي - مروج الذهب 1/62 ، 120 ، 212 ،260).
قلت : إنما سميت قبيلة التياها نسبة إليه ، وتنتشر هذه القبيلة اليوم في النقب جنوب فلسطين وسيناء وجنوب الأردن.
نَخْل
يتوسط هذا المنزل صحراء التيه ، وقد كانت نخل مركز سيناء في الأزمنة القديمة ، لموقعة ،ولماء فيه ، ويبدو أن المتنبي مر بنخل دون أن ينزل فيه ولو لتحليل راحلة وعير ، ولذلك قال في إبله وخيله ( ديوانه ص 552 ) .
فمرت بنخل وفي ركبها
... عن العالمين وعنه غنى
إذ يبدو أن ماءها لا يشرب إلا من ضرورة ، ولذلك كان في ركبها عنه غني، فمر به مسرعا ، ولعله لم يكن قد اطمأن بعد إلى أنه أفلت من حوزة كافور ، وأن عيره قد فصلت ، والمسافة بين القاهرة ونخل عن طريق صدر الحيطان 160 ميلا ، وهي مسيرة نحو من خمسة أيام ، ونعتقد أن المتنبي وصل إليها ومعه بقية من ماء النيل ، إذ تزود منه لعشر ليال ، وهذا ما جعله يمر بها مسرعا، ودون أن ينزل ، لاسيما أنه وجد عندها ركبا وخيلا صادرة عنها فقاتلوه ، وكان قد أخذهم ، فأسرع إلى النقاب .(36/12)
وقد اختلف في ضبطه ، فهو " بحر" استنادًا إلى ما ذكره عبد الوهاب عزام (138) ، وهذا محتمل ، لاستبحار موقعه واتساعه قريبًا من وادي العريش ، كما أن ثمة احتمالا آخر يتمثل في أن بعض المصادر ذكرت أن اسمها قديما كان نخر ، وكذلك سماها البكري حيث قال : وبطن نخر منهل من مناهل الحج ، وهي قرية ليس بها نخيل ولا شجر ، يسكنها نفر من الناس " ( أبو الحجاج ص121). قلت : لاشك أن عبارة البكري محرفة ، فقوله ( ليس بها نخيل ) يؤكد أن الكلمة هي " نخل " ، فكأنه يريد أن يبدي استغرابه لهذه التسمية مع أنها لا نخيل فيها. وربما نقل عنه صاحب الدرر . وهذا يجعلنا نميل إلى أن الصيغة الأخرى "بحر " هي أيضا تصحيف نخر، التي هي تحريف نخل. وقال أبو الحجاج (121) : وقيل أيضا: إنها سميت بذلك ( نخل ) لأن ترابها ناعم كأنما نخل بمنخل .
أما عبد الرحمن زكي فذكر أن بعض الباحثين يعيدون اسمها إلى أصل عبراني هو " نخل مصرايم " أي وادي مصر الذي أطلقه العبرانيون على وادي العريش (الذي يمر إزاءها ) عبد الرحمن زكي ص97) قلت : الوادي بالعبرية ناحل ، بالحاء ، أما الذين يلفظون الحاء خاء فإنهم اليهود الإشكنازيم ، وهذا التعليل ، بذلك مستبعد ، وإنما أسمى العبرانيون وادي العريش بذلك الاسم في شمالي سيناء ( قرب مدينة العريش التي هي حد مصر شرقًا ) وليس في وسط سيناء حيث بلدة نخل . ثم إنها كانت قديمًا تزرع بالنخيل وغيره ، وعدم وجوده فيها بكثرة لا يعني أنه لم يكن ، فكم من حائط كان وأصبح موقعه اليوم خاويا لا أثر فيه لشجر .
وقد أتيح لي أن أمر بنخل ثلاث مرات ، إذ زرت مصر عبر سيناء عامي 1986،1987م واجتزتها بسيارتي من نويبع إلى القاهرة مرورا بنخل . وقد تجددت زراعة النخيل فيها عندما أنشئت حديقتها سنة 1906م . وما نراها إلا سميت بما كان فيها قديمًا من النخيل خلافا لأبي الحجاج حافظ (ص121) .
النِّقاب
النقب هو الطريق إلى الجبل، قال الشاعر:(36/13)
يناقلن بالشمط الكرام أولى النهى
نقاب الحجاز …………
وتمتد في شرق سيناء سلسلة جبلية تنحدر غربا إلى التيه،وشرقا إلى وادي عربة الذي يمتد من البحر الميت إلى خليج العقبة في الجنوب الفلسطيني ، ومن جبال هذه المنطقة جبل أبو رضا قرب طابا ، وجبل الحمرا وجبل الصفرا وجبل سويقة وجبل أبو طوبار ، وتخترق هذه الجبال طرق (نقاب) تصل ما بين سيناء وجنوب فلسطين والأردن وشمالي السعودية ، ومن تلك النقاب نقب شتار جنوب البلقاء ، ونقب عازب جنوب فلسطين ، والنقيب بين تبوك ومعان ( ياقوت ) ونقب تربان الآتي ذكره ورأس النقب إلى الغرب من العقبة شمال طابا ، وآخر شمال شرق القويرة على الطريق من معان للعقبة .
ولم يمر المتنبي برأس النقب المفضي إلى ميناء العقبة ، لأنه قصد " تربان " الواقع إلى الجنوب الغربي من معان الأردنية ، حيث عين غرندل . وهذا يؤكد أنه توجه من نخل إلى تربان عبر نقاب الكونتيلا ، مجتازا جنوب جبل أم علي ووادي العقبة ( وهي غير العقبة المدينة المعروفة ) ووادي المهشم ثم الكونتيلا التي تقع قريبا من ملتقى وادي البيضا مع وادي الجرافي الذي يتجه جنوب "النقب" في جنوب فلسطين .
ونعتقد أن جبال شرق سيناء تمثل امتدادًا لجبال حسمى الواقعة إلى الشرق من خليج العقبة ، وقد أتيح لنا أن نزور السلسلتين ، ورأينا فيهما من التشابه ما يجزم بما قدمنا ، لاسيما أننا نعرف من خبر الخسف وتكون البحر الأحمر وخليجيه ما يؤكد أن المنطقتين كانتا رتقا من قبل . ويبدو أن الماء قد غمرهما ردحا من الزمن ، فأنت ترى الجبال مستوية أعاليها شديدة الانحدار أسنادها . وتصدق هذه المواصفات ما ورد في بعض كتب البلدان عن حسمى من أنها آخر مكان جلا عنه الطوفان ( ياقوت ) .(36/14)
ومن وصل إلى النقاب فعليه أن يحدد وجهته أين يريد ، فإن كان يريد الجزيرة فعليه أن يتجه جنوبا صوب العقبة على طريق الحاج إلى وادي القرى الواقع إلى الشمال من المدينة المنورة ، ومن أراد الشام والعراق فعليه أن يتوجه شمالا إلى تربان فمعان فوادي المياه من ديار كلب ببادية الشام ، فالسماوة إلى العراق ، أو يتجه من معان شمالا على درب الحج الشامي . وهذا ما ألمح إليه المتنبي بقوله : ديوانه ( 552 ) :
وأمست تخيرنا بالنقا
... ب وادي المياه ووادي القرى
وكان عليه أن يقول " أو" وادي القرى، لمقتضى النحو . وقد أخطأ من قال إن "النقاب" في هذا البيت موضع قرب المدينة، متوهما ذلك في ذكر وادي القرى (ياقوت واليازجي) ، لأن أبا الطيب لم يتجه جنوبًا لأبعد من حواشي حسمى الشمالية .
ويؤكد قول المتنبي " وأمست " أن عيره مرت بنخل آخر الليل ، فلم يأت المساء من اليوم التالي حتى وصلت إلى النقاب ، وهذا يؤكد أنه لم يمر بالثمد لأن ذلك يعني أنه قطع في ذلك النهار مسافة 73 ميلا ، أي ما يعادل 120 كيلو مترا تقريبا،إذ المسافة من نخل للثمد 39 ميلا ، ومنه إلى الكونتيلا 34ميلا. والأقرب منه أن يكون قد اجتاز وتر المثلث من نخل إلى الكونتيلا ، أي ما يقدر بتسعين كيلو مترا ، وهذه المسافة أيضا تعتبر أطول من مسيرة الراكب اثنتي عشرة ساعة ، لأنه لا يمكن أن يقطعها شَدّة واحدة ، مما يجعلنا نميل إلى أنه كان مساء ذلك اليوم قد أخذ في أول النقاب وأنه اجتاز السلسلة الجبلية مع الليل ، ما لم يكن عرس في وادي الجرافي وأصبح مصوبا نحو وادي عربة إلى تربان على نحو ما نجده في الخبر التالي .(36/15)
وذكر ياقوت موضعا باسم النقار ، وجاء في تعريفه أنه موضع في البادية بين التيه وحسمى ، له ذكر في خبر المتنبي لما هرب من مصر . قلت : بل هو النقاب محرفا . وكان دخوله النقاب آخر النهار إذ رأى رائدين لبنى سليم على قلوصين ، فركب وطردهما حتى أخذهما ، فذكرا له أن أهلهما أرسلوهما رائدين ووعداه النزول ذلك اليوم بين يديه ، فاستبقاهما ورد عليهما القلوصين وسلاحهما ، وسارا معه حتى توسط بيوت بنى سليم آخر الليل ، فضرب له ملاعب ابن أبي النجم خيمة بيضاء وذبح له وغدا فسار إلى النقيع .
النَّقيع
جاء في خبر المتنبي أنه اجتاز النقاب إلى موضع يعرف باسم النقع ( عزام ص 138) وذكره ياقوت باسم "البقع" وقال هو من ديار أبي بكر ، وأن المتنبي صدر عن ذلك الماء وصعد في النقب المعروف بتربان … ، كما ذكر " البقع " وهو موضع بالشام من ديار كلب بن وبرة . أما البديعي (ص126) فذكر الموقع باسم النقيع ، وقد اعتمدناه لعلاقته بالماء ، وهو أصلا الماء ينقع أو يستنقع في موضعه ، وهناك أكثر من " نقيع " في جنوب فلسطين والأردن ، ومن ذلك نقيع غور الصافي في جنوب البحر الميت. ولا شك أن هذا الموضع يتوسط المسافة بين نقاب الكونتيلا في شرق سيناء وجبل تربان جنوب الأردن ، وفي وادي عربة .
ونزل المتنبي في هذا الموقع ( النقيع ) ببادية من معن وسنبس ، فذبح له عفيف المعنيّ غنما وأكرمه، وغدا من عنده وبين يديه لصان من جذام يدلانه في الطريق،فصعد في النقب المعروف بتِربان.
تِربان
وفيه قال المتنبي يخاطب ناقته :
وقلنا لها : أين أرض العراق
... فقالت ، ونحن بتربانها
وقد أخطأ من ذهب إلى أن تربان هذا يقع قريبا من المدينة ، وإن كان هناك موضع يعرف بهذا الاسم ، وهو بعيد من العراق أيضًا ، أما قوله على لسان ناقته : ها ، فالإشارة إلى نجابتها وجَلَدها وسرعتها.
ونعتقد أنه المقصود بقول حسان بن ثابت ( ديوانه ص 368 ) .
فلما علا تربان وانهل ودقه(36/16)
... تداعى وألقى بركه وتهزما
وهو في مطر غزير ، والمعروف أن مطر تلك المنطقة من جنوب الأردن يكون غزيرا . ونعتقد أن عرب الترابيين من بادية سيناء والنقب وبادية الشام إنما سموا لعلاقة بهذا الجبل ونسبة إليه،وفيه غرندل المشهورة بعينها وقد فتحت أيام عمر بن الخطاب بعد اليرموك،وذكر القلقشندي أنها كانت عاصمة لمقاطعة الكرك وأطرافها ذات يوم(عن بلدانية فلسطين ص 195 ) .
وسار المتنبي بقية يومه وبعض ليلته ، ونزل ، فأصبح فدخل حسمى .
حِسْمَى
قال المتنبي في عيره ( ديوانه ص 552)
وهبت بحسمى هبوب الدبو
... ر مستقبلات مهب الصبا
يريد أن ركبه استشعر هنا مزيدا من النشاط ، فانطلقوا في حسمى كريح الدبور الغربية مولين قبل المشرق من حيث تهب ريح الصبا . وقد دخلوا حسمى أواخر الشتاء إذ طابت له فأقام بها شهرا ( عزام 139 ) ولا يكون ذلك إلا في أعقاب الشتاء حين تزدهي البادية بالأب ويطيب الهواء .
جاء في خبرها : أنها تقع في الطرف الشمالي من حرة بهل ( الهجري ص 231 ) .
وقال البكري ( 2/446 ) موضع من أرض جذام ، ويقال : إن الماء بقي بحسمى بعد نضوب الماء في الطوفان ثمانين سنة ، ومنه بقية إلى اليوم ، فهو ماء حسمى ، ذكره ابن دريد وغيره . وقال عنترة : ( شرح ديوانه 37،38 )
سيأيتكم عني - وإن كنت غائبا
... دخان العلندى دون بيتي مذود
قصائد من قيل امرئ يحتديكم
... وأنتم بحسمى فارتدوا وتقلدوا
يخاطب بني فزارة ، وقال ياقوت : هو أرض ببادية الشام بينها وبين وادي القرى ليلتان ، وأهل تبوك يرون جبل حسمى في غربيهم ، وفي شرقيهم شرورى ، وبين وادي القرى والمدينة ست ليال . قال الراجز :
جاوزن رمل أيلة الدهاسا
وبطن حسمى بلدا هرماسا
( في الجمهرة 3/386 هرماسا ) ، أي واسعا ، وأيلة قريبة من وادي القرى ، وحسمى أرض غليظة ، وماؤها كذلك لا خير فيه ، تنزلها جذام .(36/17)
وقال ابن السكيت : حسمى لجذام ، جبال وأرض بين أيلة وجانب تيه بني إسرائيل الذي يلي أيلة ، وبين أرض بني عذرة من ظهر حرة نهيا - بهل - فذلك كله حسمى . قال كثير :
سيأتي أمير المؤمنين ودونه
... جماهير حسمى قورها وحزونها
وفي أخبار المتنبي وحكاية مسيره من مصر إلى العراق ، قال : حسمى أرض طيبة … كما تقدم .
ومن جبال حسمى جبل يعرف بأرم ، عظيم العلو ، وعن البكري ( 2/448 ) أن أسامة بن زيد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : بشر ركيب السعادة بقطع من جهنم مثل قور حسمى . وقال ابن دريد ( الجمهرة 3/386 ، 3/409 ) : حسمى تقدير فعلى ، وهو ماء معروف لكلب .
وقال الهمداني ( ص 272 ) : وأما حسمى فبين فزارة ، وجذام ، وهي من حدود جذام ، وبحسمى بئر أرم من مناهل العرب المعروفة . وقال الهجري (1/235 ، 236 ) غضيان والعربة ولعلع من مدافع حسمى جذام . ويصف فلبي حسمى ( أرض الأنبياء ص 225 وحمد الجاسر 1/433-437 وشمال الحجاز لموزل ص 133 - 139 ) بأنها عبارة عن مكتبة ومتحف للصور ، يعرض فيها أدب العرب الأقدمين وفنهم، وهي غنية بالآثار إذا ما قورنت بتيماء وما جاورها .
ونعتقد أن اشتقاق الكلمة إنما كان نحتا من المركب الإضافي حسي ماء ، ثم اعتراه حذف بعض الأحرف .
وقال المسعودي في خبر أرم ( 2/15) إنه مسمى بإرم بن ثمود بن عامر بن سام بن نوح ، وجاء في المعجم الجغرافي للبلاد السعودية قول حمد الجاسر ( 1/76 ) : ويعلق الأستاذ موزل على قول ياقوت : فوق جبل أرم . - أورم حاليا - يمكن أن تنبت الكروم وأشجار الصنوبر قائلاً : ولكني لم أر شجرة واحدة من الصنوبر إلى الجنوب من عمان .(36/18)
وتحصر بعض الأطالس موقع حسمى بشمال المملكة العربية السعودية ، ولكن الصحيح هو أن حسمى تمتد شمالا إلى بطن الغول ومعان ، وحسمى هي التي أرادها ابن بطوطة ( 1/129 ) بقوله : ثم ارتحلنا إلى معان .. ونزلنا من عقبة الصوان إلى الصحراء التي يقال إن داخلها مفقود وخارجها مولود " . وتمتد غربا إلى سلسلة الجبال الواقعة شرقي سيناء إلى حدود صحراء التيه ، وتمتد شرقا إلى بُسَيطة والشُّبَيْكَة وأرض الصوان إلى الجنوب الغربي من وادي السرحان ، وإلى الجوش والعلم اللذين مر بهما المتنبي بين بسيطة والجوف . أما جنوبًا فإلى تبوك متصلة بجبال الشفا وجبال الحجاز ، وهذا التحديد يوافق مذهب ابن السكيت السابق ذكره .
وقول الراجز : رمل أيلة الدهاسا ، يريد الناعم ، وهو جزء من حسمى ، وذلك ما جعلهم يقولون في خبرها " إنها تؤدي أثر النحلة " أي لنعومة رملها فإن أثر النحلة يظهر فيه ، وهذا ينطبق أيضا على رمل "نخل" في وسط هضبة التيه .
وقول الراجز : بلدا هرماسا ، أي واسعًا، وما ندري إن كان لقوله " هرماسا " علاقة ببئر ابن هرماس الواقع فيها على طريق الحاج الذي يصل السعودية بالأردن مارا بالحزم فبئر ابن هرماس فذات الحج فحالة عمار فالمدورة داخل الحدود الأردنية .
وقد أتيح لنا أن نجتاز هذه المواقع وأن ننزل فيها إذ كثيرًا ما كنا نتوجه بين السعودية والأردن برًّا ما بين عامي 1962 و 1971م وبعد ذلك عام 1984م . ويلاحظ المسافر فيها ، أنها كما ورد في وصفها ، أرض غليظة وماء قليل ، وفلوات خاوية لا يشذ فيها سوى جبل يرتفع هنا وقارة تنبو هناك ، أو كثيب منهال ، قال النابغة الذبياني (ياقوت):
فأصبح عاقلاً بجبال حسمى
... دقاقُ التربِ محتزم القتام(36/19)
وجاء به ياقوت شاهدًا على جبال حسمى وأن القتام لا يكاد يفارقها .قال: وقد اختلف الناس في تفسير هذا البيت ولم يعلموا ما أراد . وبكون مسيرة ثلاثة أيام في يومين يعرفها من رآها من حيث رآها لأنها لا مثيل لها في الدنيا .
قلت : نظرًا لنعومة رملها ، ولجفافها وحرارتها فإن الغبار يخف فيها لأدنى ريح ، ولا يكاد القتام والهباء يفارقها ، ومن أشرف عليها رأى القتام يخيم عليها لاتساعها وانبساطها نسبيًّا ، وقول الذبياني قريبٌ من قول الشاعر :
إذا غوزن هاجرة بفيفٍ
... كأن سرابها قطع الدخان
والسراب لا يكون كالدخان ، وإنما أراد ما خف من الهباء ولعاب الشمس والأبخرة التي تنتشر في الأفق ، ونعتقد أن النابغة نزل حسمى أيام لجوئه للغساسنة عقب وعيد المنذر .
أما قوله : لم يعلموا ما أراد ، فلعله راجعٌ إلى ضبط البيت ، ونعتقد أن الصواب في ضبطه ضم الدقاق على أنه اسم أصبح وصاحب الحال المقدمة (عاقلاً) ومحتزم القتام حال أخرى ، أمّا خبرها فهو شبه الجملة (بجبال حسمى) ويكون المعنى : فأصبح دقاق الترب عاقلاً أي معقولاً لا يتحول من موضعه ( اسم فاعل بمعنى المفعول ) .
أما حرة نهيا ، بهل ، وهي مما ورد ذكره في شعر المتنبي ، لكن في غير رحلته من مصر إلى الكوفة ، فهي تقع إلى الشمال من حسمى ، وكان بينه وبين أمير بني فزارة (حسان بن حكمة) مودة وصداقة، وكان هذا بحسمى ، ولا شك أن تلك الصداقة تعود إلى وقت سابق ، أو ربما زار المتنبي تلك المنطقة من قبل حاجًا مع سيف الدولة أو بدر بن عمّار ، أو صيادًا، فنشأت بينهما هذه العلاقة ، وظلت من بعيد حتى قصده في طريقه من مصر إلى الكوفة ، فتجدد بذلك العهد لولا بوقة عبيده .(36/20)
ولكن أبا الطيب لم ينزل عند صديقه هذا ، وإنما أراد أن يوهم القوم ، فنزل عند جار لهم هو وردان بن ربيعة من طيئ ، ثم من معن ثم من بني شبيب، فاستغوى عبيد المتنبي بامرأته طمعًا في سيف مذهب كان معه ، وفي غيره من متاع المتنبي ، ويبدو أن وردان كان قد اطلع على سر المتنبي وأن كافورًا كان يطلبه ، ولذلك طمع في متاعه ، وهو الذي قال فيه يذمه ( ديوانه ص 557)
إن تك طيئ كانت لئاما
... فألأمها ربيعة أو بنوه
وإن تك طيئ كانت كرامًا
... فوردان لغيرهم أبوه
مررنا منه في حسمى بعبد
... يمج اللؤم منخره وفوه
أشذ بعرسه عني عبيدي
... فأتلفهم ومالي أتلفوه
وكانت حسمى آنذاك قد طابت مع ابتداء الربيع ، وأقام بها المتنبي شهرًا، غير أنه بدأ يتوجس من ملاحقة كافور ، ووجد من سوء معاملة القوم وانقلاب بعض عبيده عليه ما جعله ينفذ رسولاً إلى فليتة بن محمد من بني فزارة ثم من بني مازن ثم من ولد هرم بن قطبة بن سيّار ليدله على الطريق ، ويبدو أنه استجار بهم ليحموه مما بات يحيق به ، ويتضح ذلك من الأبيات التي وردت في رحلته على لسان أحد الأعراب : (عزام 139)
إذا ما كنت مغتربًا فجاور
... بني هرم بن قطبة أو دثارًا
إذا جاورت أدني مازني
... فقد ألزمت أقصاها الجوارا
وفاجأ المتنبي عبيده بالرحلة ، لأنه لم يعد يثق في كثير منهم ، ويبدو أنه علم أن خيل كافور تلاحقه ، وكان يوهمهم أنه سيعبر طريق البياض ، وبالفعل فقد سار فيها مسافة ثم عدل .
البَياض
جاء في خبر أبي الطيب " فأخذ طريق البياض ، فلما صار برأس الصوان أنفذ فليتة بن محمد إلى عرب بين يديه وتوقف " .
قلت : هناك في الجنوب الشرقي من الأردن منطقة تعرف بأرض الصوان ، وتمتد من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي ما بين باير وجبل الأثريات والحدود السعودية الممتدة بمحاذاة وادي السرحان من الشمال إلى الجنوب .(36/21)
وهناك عقبة الصوان إلى الجنوب الغربي من معان ، ولعل المقصود بها النقب ، نقب أشتار حيث الموقع المعروف برأس النقب ، وهي تفضي إلى درب الحج الشامي ، وتليها جنوبًا حسمى ، وبسيطة إلى الجنوب الشرقي ، وكذلك الشبيكة إلى الجنوب من أرض الصوان ، وهي التي قال فيها ابن بطوطة (1/129):" ثم ارتحلنا إلى معان ، وهو آخر بلاد الشام ، ونزلنا من عقبة الصوان إلى الصحراء التي يقال : داخلها مفقود وخارجها مولود " . وقد سلكها المتنبي من الجنوب إلى الشمال .
وجاء في بلدان ياقوت : أودات كلب : هي أودية تنسل من الملحاء ، وهي رابية مستطيلة ما شرَّق منها الأودات، وما غرَّب فهو البياض ". قال الشيخ حمد الجاسر ( شمال المملكة 1/236): وهذا البياض الذي يقع غرب الملحاء صحراء واسعة تنعدم فيها الجبال، ولكنها تحاط بالآكام من كل جهاتها ، وتمتد من الجنوب من المرتفعات الواقعة شمال واحة الجوف حتى ملتقى الحدود الشمالية (السعودية) بحدود الأردن، ويحف بها من الشرق الأرض المرتفعة التي كانت قديمًا تعرف بالملحاء، ومن الغرب حرة الرحا التي تمتد منها آكام ومرتفعات حتى واحة الجوف . ويحتمل أن تكون هذه المنطقة هي ما يعرف ببياض قرقرة الذي حدد الهمداني (ص272) موقعه بأنه يقع بين تيماء وحوران.
وقال الشيخ حمد الجاسر (1/237): وأرى هذا الموضع جزءا من البياض الواقع غرب الملحاء (السابق ذكرها) . وهناك وادٍ في حسمى ذكره الشيخ حمد (1/37) باسم الأبيض ، وقال إنه يقع في أعلى وادي عفال .
قلت : هناك منطقة إلى الشمال الشرقي من غرندل (تربان) قبل معان تعرف برأس مقطع الرحايا ، فهل يقع على طرف حرة الرحا الغربي ؟ وهل سميت به لأنها تقطع منها الأرحاء ؟ أو لأنها تشبه في استدارتها الرحا؟(36/22)
ولم يمعن المتنبي قدمًا في طريق البياض التي يبدو أنها تقود إلى شمال وادي السرحان والأزرق ، لأنه خشي أن تكون عيون كافور قد رصدت عليه الطريق ، فقد جاء في خبره وقد صار برأس الصوان (عزام 140 ): أن بعض عبيده قد انقلبوا عليه ، وأمر بضرب أحدهم ، فأدماه ، وكان أشد من معه وأفرسهم ، فولى متمردًا ، ولما أصبح أتبعه المتنبي عليا الخفاجي وعلوان المازني، ووافق ذلك اليوم عودة فليته ، وأخبرهم أنه رأى سرب الخيل عابرة من علم قريب منهم (خيل رجال كافور) وأشار إليه، ولذلك فقد عقد العزم على تغيير وجهته ، وقرر التوجه شرقًا على خط عرض 30 5 شمالاً تقريبًا ، ومال يمينًا طالبًا من فليتة بن محمد أن يخرق بهم إلى دومة الجندل (الجوف) ، وأسرع إلى الكِفاف.
الكِفاف وكَبْد الوِهاد
قال ياقوت: موضع قرب وادي القرى، وذكر قول المتنبي (ديوانه 553) :
روامي الكفاف وكبد الوهاد
... وجار البويرة وادي الغضا
قلت: يريد أن إبله وخيله عبرت تلك الأماكن في طريقها إلى الجوف ، ولكن قول ياقوت إن الكفاف قرب وادي القرى مستبعد ، والذي نراه أنه على مقربة من "كبد" الذي يقع إلى الجنوب الشرقي من الشبيكة قريبا من بسيطة التي تمتد عبر الحدود السعودية الأردنية . وما يزال هذا الموقع يعرف باسمه (الكبد) ولعله هو المقصود بكبد الوهاد ، سقط المضاف إليه وأقيم المضاف مقام المركب، وهذا باب تتسع له العربية ، والوهاد جمع وهدة، وهي الغائط الغائر قليلا من الأرض ، والطبيعة الجغرافية لتلك المنطقة تؤيد ذلك .
وقد ذكر ياقوت كبد الوهاد وقال : موضع في سماوة كلب . ولا نراه ، لبعد ما بين السماوة وهذه المرحلة من مراحل طريق المتنبي . ونعتقد أن أبا الطيب تابع مسيره شرقًا في بسيطة ، إلى البُوَيْرَة .
البُوَيْرَة(36/23)
وهي تصغير البئر ، ولعل طريقه كان في شمال بسيطة ، قريبًا من أرض الصوان ومنطقة وادي العناب على الحدود السعودية الأردنية، وجدير بالذكر أن آبارًا كثيرة تنتشر في المنطقة وإلى الشمال منها . قال ياقوت : والبويرة موقع قرب وادي القرى ، بينه وبين البسيطة. وذكر بيت المتنبي السابق .
قلت:بل هو في بسيطة نفسها،بل في شمالها وفي واد منها يعرف باسم وادي الغضا .
وادي الغضا
وهو جار البويرة في قول المتنبي، ولم يذكره ياقوت ، والغضا شجر الرمل كالأراك ، وقد أضيف الوادي إلى ما ينبت فيه من الشجر ، وهو كثير في تلك المنطقة وإلى الشمال والشرق منها ، جاء في الرحلة التنوخية (ص46)، " ويطبخ الأمير قهوته على نار الغضا التي تضارع بحرارتها ومدة دوامها فحم السنديان في ديارنا وتفوقه بعدم دخانها ورائحتها " يريد أمير دومة الجندل ( الجوف ) .
الجَوش والعَلَم
وهما جبلان في بسيطة مرّ بهما المتنبي، ولم يذكرهما في قصيدته المقصورة التي نظمها بعد وصوله إلى الكوفة ، والتي بسط فيها خبر رحلته من مصر ، والمواضع التي مر بها ، ولكنه ذكرهما في ميميته التي قالها بالكوفة يرثي أبا شجاع فاتكًا : (ديوانه ص 537)
طردت من مصر أيديها بأرجلها
... حتى مرقن بنا من جوش والعلم
تبري لهن نعام الدو مسرجة
... تعارض الجدل المرخاة باللجم
قال ياقوت في الجوش : جبل في بلاد بلقين بن جسر بين أذرعات ( درعة ) والبادية ، وقال : هما من حسمى على أربع ، أي أربع ليال . وعن السكري أن جوشًا شمال الجناب .(36/24)
قلت : تحديد ياقوت للموقع غير دقيق، أما موقعهما من حسمى فصحيح ، وهما في اتجاه الشرق منها . واجتهد الشيخ حمد الجاسر في تحديد موقعهما مرجحًا أن الجوش هو ما يعرف اليوم باسم الطبيق قرب الحدود الأردنية ، ولا نراه ، لبعدها عن سمته إلى الجوف . أما قول السكري فيحتمل أن يكون ، إذ أن ثمة موضعًا إلى الغرب من الجوف على مسيرة يوم يعرف بوادي الجناب إلى الغرب من الجراوي الذي مرَّ به المتنبي .
وجاء في ياقوت أيضًا (العلم): علم السعد ودجوج جبلان من دومة على يوم، وهما جبلان منيفان ، كل واحدٍ منهما يتصل بالآخر ودجوج : رمل مسيرة يومين يتصل إلى دون تيماء بيوم يخرج منه إلى الصحراء وهو الذي عناه المتنبي بقوله (السابق) وهما جبلان بينهما وبين حسمى أربع ليال .
قلت : وفي بسيطة موضع يعرف بقبعة العلم ، ولعله العلم المذكور ، وسيأتي ذكره فيما يلي ، وذكر المتنبي النعام في البيت الثاني يؤكد أن الجبلين في بسيطة لأنه ذكرها موطنا للنعام والمها على نحو ما سيأتي .
بُسَيْطَة
قال البديعي: إنها قرب الكوفة ، قلت : لا وجه لذلك ، ونراه التبس عليه الأمر ، فخلط بينها وبين البسيطة التي تقع بين مكة المكرمة والكوفة . وقال ابن بري (اللسان : بسط ) : بسيطة مصغرًا اسم موضع ربما سلكه الحجاج إلى بيت الله الحرام ، ولا يدخله الألف واللام .(36/25)
وفي التاج ( بسط ): بسيطة ، بالضم ، فلاة بين أرض لكلب وبلقين ، وهي بقفا عفراء وأعفر . وقال ياقوت : هو بقفا عفر أو أعفر. وقيل : بسيطة على طريق طيئ إلى الشام. وقال : أرض في البادية بين الشام والعراق ، حدها من جهة الشام ماء يقال له "أمرّ"، ومن جهة القبلة موضع يقال له قبعة العلم ، وهي أرض مستوية فيها حصى منقوش أحسن ما يكون ، وليس بها ماء ولا مرعى ، أبعد أرض الله من السكان ، سلكها أبو الطيب المتنبي لمّا هرب من مصر إلى العراق ، فلمّا توسطها قال بعض عبيده، وقد رأى (ورًا وحشيًّا :هذه منارة الجامع، وقال آخر منهم وقد رأى نعامة: وهذه نخلة ، فضحكوا، فقال المتنبي : (ديوانه 558 ، 559 )
بسيطة مهلاً سقيت القطارا
... تركت عيون عبيدي حيارا
فظنوا النعام عليك النخيل
... وظنوا الصوار عليك المنارا
فأمسك صحبي بأكوارهم
... وقد قصد الضحك فيهم وجارا
وقوله : أبعد أرض الله من السكان يجعلها موطنًا للنعام والبقر الوحشي ، وقوله : ليس بها ماء ولا مرعى يدعم كون البويرة السابق ذكرها فيها ، للتصغير ، وإنما صغرت بسيطة للتعظيم والتهويل كالخويخية والدويهية ، لانبساطها وهو حقيقة ، ونرى أنها المقصودة بقول الراجز (اللسان بسط) :
إنك يا بسيطة التي التي
... أنذرنيك في الطريق إخوتي
وقد رواه ابن سيده (المحكم ، بسط ) :
ما أنت يا بسيط التي
... أنذرنيك في المقيل صحبتي
لاقترانها في الروايتين بالإنذار ، لأنها مفازة تيهاء مجهل . وهي لاستوائها تشبه الرداء على نحو ما قال المتنبي في إبله وخيله ( ديوانه 553 ) :
وجابت بسيطة جوب الردا
... ء بين النعام وبين المها
وجاء في خبر أمرّ ( ياقوت - أمر ) ، هو أفعل من المرارة ، موضع في برية الشام من جهة الحجاز على طرف بسيطة من جهة الشمال ، وعنده قبر الأمير أبي البقر الطائي . وأنشد ابن الأعرابي :
يقول : أرى أهل المدينة أتهموا
... بها ، ثم أكروها الرجال فأشأموا
فصبحن من أعلى أمرَّ ركية(36/26)
... جلينا ، وصلع القوم لم يتعمموا
قلت: وأمرّ في روضة الشبيكة ، شمال بسيطة ، قال ياقوت في حدها : من نواحي الجوف ، بين قراقر وأمرّ .
ماء الجُرَاويّ
وخرج المتنبي من بسيطة وتوجه شرقا إلى ماء الجراوي الواقع إلى الغرب من الجوف ( دومة الجندل ) ، وقد ذكره ياقوت باسم الجروي ، بينما جاء شاهده بلفظ الجراوي ، وهو قول أبي الطيب (ديوانه 553) :
إلى عقدة الجوف حتى شفت
... بماء الجراوي بعض الصدى
وقال : هي مياه في بلاد بلقين بن جسر، وهي قلب على طريق طيئ إلى الشام (حمد الجاسر 1/315) .
وهو قبل عقدة الجوف (دومة) ، ولكنه قدمها في الذكر وحسب ، وقد ورد ماء الجراوي وتزود منه . قال التنوفي فيه ص (33): " وما زلنا نضرب في البيد غورًا ونجدا ، حتى جزنا بموضع يقال له النبك … وفي ثاني يوم أوردنا رواحلنا قليب الجراوي بعد أن لقينا من لفحات السموم في الفلاة ما هو لعمري أحرّ من دمع المقل ، فأنخنا لنروى ، فوجدنا الماء لقلة المتح ، كما يعلله البدو ، متغير اللون والطعم والرائحة ، وفيه مع ذلك خلق من الدود كثير ، فهرول صاحبي لينقع غلته من علبة الماء ، فصار يتجرعه ولا يكاد يسيغه … والجراوي (ص34) هذا على بعد نحو مئة كيلو متر من دومة الجندل … ومن الغريب أن ماء هذا القليب الآسن الوخيم كان مهجيًّا مقليًّا من القديم ، وذكر قول ياقوت وقول بعض الأعراب :
ألا لا أرى ماء الجراويّ شافيا
... صداي ولو روّى غليل الركائب
فيا لهف نفسي كلما التحت لوحة
... على شربة من ماء أحوض ناضب
قلت : عجيب أن التنوخي لم يذكر خبر أبي الطيب في هذا الموضع ، لاسيما أن بينهما من التشابه ما بينهما ، فكلاهما اتخذ من هذه البادية ملاذا من خصمه .
عُقْدَةُ الجَوْف(36/27)
أي قصبة الجوف ، والجوف نفسه ، وهي دومة الجندل ، وقد ذكرها ياقوت مع مواقع أخرى تحمل اسم الجوف، وحدها بأنها موضع في سماوة كلب بين الشام والعراق . وذكر قول أبي الطيب السابق . ويذكر اسم الجوف على المنطقة التي تتبعها وهي جملة القريات : دُومة وسكاكة والقارة وطبرجل . وقد أخطأ محرر دائرة المعارف البستانية في عده الجوف مختلفا عن دومة الجندل . جاء في مراصد الاطلاع (دومة) :
دومة الجندل بالضم ، ويفتح ، وأنكر ابن دريد ( جمهرة اللغة 2/301 وتابعه صاحب الروض المعطار ص 390 ) الفتح ، وعده من أغلاط المحدثين . وجاء في حديث الواقدي دوماء الجندل ، قيل : هي من أعمال المدينة حصن على سبع مراحل من دمشق بينها وبين المدينة . قيل: هي في غائط من الأرض خمسة فراسخ ، ومن قبل مغربه عين تثج ، فتسقي ما به من النخل والزروع ، وحصنها مارد ، وسميت دومة الجندل لأنها مبنية به ( بالجندل : الحجر ) وهي قرب جبلي طيئ ، ودومة من القريات من وادي القرى ، والقريات دومة وسكاكة وذو القارة ، وعلى دومة سور يتحصن به ، وفي داخل السور حصن منيع يقال له مارد ، وهو حصن أكيدر ابن عبد الملك ، صالحه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأَمَّنه ، وكان نصرانيا (انظر ياقوت دومة ، وحمد الجاسر 2/537 - 539 ) ، وذكر التنوخي (ص 41 ) أنها كانت من مغارس الزيتون قديمًا ، وهذا يؤيد ما سبق أن ذكرناه في " نخل " مركز تيه سيناء ، من أنها سميت به لعلاقة بالنخيل وإن لم تعرف به في الآونة المتأخرة ، وقد أورد التنوخي وصفا مفصلا لهذه البلدة وناحيتها وذلك في رحلته التي جمعناها ونشرناها مع شيء من الحواشي والتحقيقات .
صُوَر(36/28)
صور موضع خرج إليه المتنبي من الجوف، وهو استنادا لمقتضى الموقع من الجوف والكوفة ، يقع إلى الشمال الشرقي من الجوف ، بعد سكاكة . وهنا نذكّر بأن الكوفة تقع على خط عرض 32 درجة شمالا في حين أن الجوف تقع على خط عرض 30 درجة شمالا تقريبا . وهذا يعني أن ركبه سار في الاتجاه الشمالي الشرقي بزاوية مقدارها 45 درجة تقريبا .
ونعتقد أن صور جبل ، بدليل قول المتنبي (ديوانه ص 553 ) :
ولاح لها صور والصباح
... ولاح الشَّغور لها والضحى
لأن قوله "لاح" يعني "بدا" وهذان الفعلان أكثر ما يستخدمان مع المرتفعات. وقوله " والصباح " يعني مع الصباح ، أي آخر الليل ، وأول النهار. ونعتقد أنه خرج من الجوف مساء وأصبح في ذلك المكان . وجدير بالذكر أن المصورات الجغرافية تشير إلى موقع في ذلك المكان باسم " صوير " ولعله هو المقصود ، إذ أن البدو كثيرا ما يُصَغِّرون الأسماء المتداولة بكثرة .
وذكر ياقوت "صورى" وقال عن الواحدي ، عن الجرمي : هو ماء قرب المدينة ، وذكر بيت المتنبي السابق بصورى ، ولا نراه ، وأورد في (صور) قول الأخطل يذكر عمير بن الجناب:
أمست إلى جانب الحشاك جيفته
... ورأسه دونه اليحموم والصُّوَر
بضم الصاد . قلت لعله الموضع المقصود في بيت المتنبي .
الشَّغُور
وظاهر قول المتنبي أنه جبل يقع إلى الشمال الشرقي من صور ، على مسافة عشرين كيلو مترا تقريبا ، بدليل قوله في البيت السابق :
ولاح الشغور لها والضحى
أي بدا جبل الشغور مع الضحى قال ياقوت : هو موضع في بادية كلب ، معروف، بالسماوة ، قرب العراق . تقول العرب : إذا وردت شغورا فقد أعرقت .
وهذا الوصف ينطبق على ذلك المنزل من المنازل التي ذكرها المتنبي في قصيدته التي ترجم بهارحلته من مصر للكوفة ، نظرًا لقربه من الحدود العراقية السعودية .
الجُمَيْعِيّ
قال المتنبي ( 553 ) :
ومسّى الجميعيّ دئداؤها
... وغادى الأضارع ثم الدنا(36/29)
وهذا يعنى أن الجميعى إلى الشمال الشرقي من الشغور ، على مسافة تقارب أربعين كيلو مترا ، ويبدو أن المتنبي نزل فيه ، ثم سرى من آخر الليل . وتقديرنا للمسافة استنادا إلى قوله : ولاح الشغور لها والضحى ، وقوله : ومسّى الجميعي … أن بينهما مسيرة نحو من ثماني ساعات.
وذكر ياقوت هذا الموضع ، وضبطه بضم أوله ، وبألف في آخره " الجُميعَى " والصواب ما أثبتنا ، واكتفى بقوله : موضع . وفي البيت السابق ذكر لموقع آخر هو :
الأَضارِع
وظاهر قول المتنبي يشير إلى أنه نزل بعض ليلته على الجميعي ، وسرى من آخر الليل فأتى الأضارع غدوة .
وجدير بالذكر أن ياقوت الحموي خص الأضرع بالذكر ، ولكنه ذكر الأضارع عرضا في حديثه عن الدنا التالي ، إذ قال: من منازل الحاج . قلت: يريد حاج العراق .
الدَّنا
وهو ماء يقع إلى الشمال الشرقي من الأضارع السابق ، غير بعيد منه ، قال ياقوت:موضع بالبادية،وقيل: في ديار بني تميم بين البصرة واليمامة. قال النابغة:
أمن ظلامة الدمن الخوالي
... بمرفض الحبيّ إلى وعال
فأمواه الدنا فعويرضات
... دوارس بعد إحياء جلال
وقال : وذكر المتنبي بما يدل على أنه قرب الكوفة .
البِرِّيت
جاء في خبر رحلته أنه " اجتاز ببني جعفر ابن كلاب وهم بالبريت والأضارع، فبات فيهم " (عزام 142).
قلت : لعل الأماكن السابقة : الجميعي ، والأضارع ، والبريت والدنا ، متقاربة ، وكانت من منازل بني جعفر . وقد سبق أن ذكرنا أنه بات في الجميعي . ويقع البريت إلى الشمال الشرقي من خط الحدود السعودية العراقية، داخل العراق، ويرتفع نحوا من 349 مترا عن سطح البحر، لدى صدر وادي عرعر الذي يتجه إلى الجنوب الغربي .
قال ياقوت : البريت مكان بالبادية كثير الرمل . وقال شمر : يقال الخريت والبريت أرضان بناحية البصرة . وقال نصر : البريت من مياه كلب بالشام .(36/30)
قلت : هذه الأوصاف توافق موقع البريت على المصورات الجغرافية … ويبدو أنه انتقل بعدها فمر باللصاف ثم سلك شعيب أبو خمسات المفضي إلى الكوفة .
أَعْكُش
قال ياقوت: أعكش موضع قرب الكوفة. وذكر بيت المتنبي ( 553 ) :
فيا لك ليلا على أعكش
... أحم البلاد خفي الصوى
قلت : لاشك أن موقعه بين البريت والكوفة ، وأن اللصاف وشعيب أبو خمسات تقع فيه ، وكذلك الرهيمة التي سيأتي ذكرها .
الرُّهَيمَة
قال ياقوت : ضيعة قرب الكوفة، وقال السكوني : هي عين بعد خفية إذا أردت الشام من الكوفة ، بينها وبين خفية ثلاثة أميال ، وبعدها القُطيّفة . وذكرها المتنبي ، وأورد البيت السابق والذي يليه :
وردنا الرهيمة في جوزه
... وباقيه أكثر مما مضى
فزعم قوم أن المتنبي أخطأ في قوله : جوزه ، ثم قوله " وباقيه أكثر مما مضى " لأن الجوز وسط الشيء ، ولتصحيحه تأويل،وهو أن يكون أعكش اسم صحراء والرهيمة عين في وسطه،فتكون الهاء في جوزه راجعه إلى أعكش ، فيصح المعنى .
قلت : وهذا أعلى ، ونعتقد أن أعكش هو شعيب أبو خمسات الواقع إلى الجنوب الغربي من الكوفة ، وما نرى عكشته إلا لتشعبه وتعرجه ، فكأنه يرسم بذلك خمسة وراء خمسة 555 . ولذلك استوجب من المتنبي التعجب بقوله : يا لك ليلا على أعكش .
ولكن أبا الطيب ظفر آخر الأمر بما أراد، نجا من الهلكة في البيد المتناصية ، وتحرر من قيد كافور ، وبلغ الكوفة ، حيث بدأ رحلة جديدة .. ولكنها لم تطل .
ملحق
بما لم يرد من الأشعار التي ذكر فيها المواقع التي اجتازها في رحلته
قال وهو بالكوفة يرثي فاتكا ، أبا شجاع ، وكان قد توفي بمصر سنة 350 وذكر في بعض الأبيات مسيره من مصر: (ديوانه 5360) .
حتام نسارى النجم في الظلم
... وما سراه على خف ولاقدم
يريد خروجه من مصر،إذ كان يسري ليلا،كالنجم، لكنه تعب،والنجم لا يتعب.
ولا يحس بأجفان يحس بها
... فقد الرقاد غريب بات لم ينم
تسوّد الشمس منا بيض أوجهنا(36/31)
... ولا تسوّد بيض العذر واللمم
………………………………
... …………………………………
ونترك الماء لا ينفك من سفر
... ما سار في الغيم منه سار في الأدم
وفي هذا البيت إشارة واضحة إلى أنه خرج من مصر شتاء .
لا أبغض العيس لكني وقيت بها
قلبي من الحزن أو جسمي من السقم
طردت من مصر أيديها بأرجلها
... حتى مرقن بنا من جوش والعلم
تبري لهن نعام الدو مسرجة
... تعارض الجُدلَ المُرخاة باللُّجم
في غلمة أخطروا أرواحهم ورضوا
... بما لقين رضى الأيسار بالزَّلَم
……………………………
... ………………………………
تخدي الركاب بنا بيضا مشافرها
... خُضرا فراسنُها في الرُّغل واليَنَم
معكومة بسياط القوم نضربها
عن منبت العشب نبغي منبت الكرم
وفي هذين البيتين ما يؤكد سرعته في السير، والشد على الإبل ، وأن الوقت كان شتاء ، والأرض قد أعشبت ، والإبل تطأ العشب ، ولا تناهله أفواها لشدة العدو ، وقال يوما وكان خرج من مجلس كافور : (546 )
ما من يرى أنك في وعده
... كمن يرى أنك في حبسه
لا ينجز الميعاد في يومه
... ولا يعي ما قال في أمسه
يريد أنه مرهون بمواعيد كافور ، ولكن كافورا يعامله معاملة المحبوس عنده ، لأنه لا يفيه ما وعده ، ولا يطلق سبيله فيرتحل، وقال ليلة خروجه من مصر، ليلة عيد الأضحى 9/10 ذي الحجة سنة 350هـ:
عيد بأية حال عدت يا عيد
... بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم
... فليت دونك بيدا دونها بيد
…………………………
... ………………………………
إني نزلت بكذَّابين ضيفهم
... عن القرى وعن الترحال محدود
…………………………
... ………………………………
ويلمها خطة ويلمّ قابلها
... لمثلها خُلق المهْرِية القُود
يريد أنه عقد العزم على الفرار تلك الليلة. وقال عند وروده إلى الكوفة يصف منازل طريقه ويهجو كافورا. في شهر ربيع الأول سنة 351هـ . (ديوانه ص 551 - 555 )
ألا كل ماشية الخيزلى
... فدى كل ماشية الهيذبي
وكل نجاة بجاوية
... خنوف وما بي حسن المشي
ولكنهن حبال الحياة(36/32)
... وكيد العداة وميط الأذى
ضربت بها التيه ضرب القما
... ر إما لهذا وإما لذا
فمرت بنخل وفي ……
... ………………………………
إلى آخر الأبيات التي سبق ذكرها في المواقع.
يحيى جبر
عضو المجمع الفلسطيني(36/33)
اعتبر الفرنسيون اللغة العربية لغة أجنبية فى الجزائر ، كما اعتبروا لغتهم الفرنسية هى اللغة الرسمية ولغة السيادة ، وكان ذلك منهم موقفًا واضحًا من الدين الإسلامى أيضا، لأن اللغة العربية هى لغة القرآن الكريم ولغة الحضارة التى كتب بها تراث الدولة الإسلامية . ومن جهة أخرى كان موقفا سياسيا واضحًا أيضًا لأن العربية كانت فى العهد العثمانى هى لغة البلاد الإدارية والقضائية والتعليمية . فإذا استثنينا الجهاز المركزى بالعاصمة (الجزائر ) حيث كان الخلط بين العربية والتركية ، فإن إدارة الأقاليم والأوطان والجماعات والمدارس والمحاكم كانت كلها باللغة العربية . وهكذا فإن اعتبار اللغة الفرنسية هى اللغة الرسمية كان نفيًا لما عداها مما يعنى السيادة السياسية لفرنسا وضرب الدين الإسلامى ولغته وحضارته فى الصميم .
ولكن هذا لا يعنى استغناء الفرنسيين عن اللغة العربية . لقد فهموا أن حاجاتهم الإدارية والاجتماعية لا يمكن أن تنجز إلا
باستعمال هذه اللغة . وقاموا من أجل ذلك بمحاولتين تبدوان متناقضتين : الأولى هى إهمال تدريس العربية الفصحى فى المدارس القديمة وذلك بقطع مصادر الوقف عنها . (1) والثانية هى الاكتفاء بتدريس العربية الدارجة لضباط الجيش والراغبين فى العمل الإدارى من المدنيين الفرنسيين، فى حين أنهم تركوا المسلمين يحفظون القرآن وحده فى الكتاتيب بدون دراسة للعلوم المساعدة على فهمه وتفسيره . ومن ثمة بقى القرآن فى الصدور دون الكتب ودون تطبيق تعاليمه على الحياة العامة . وبذلك كادت تختفى العلوم العربية ( النحو والصرف والبلاغة والإنشاء والعروض ) والعلوم الدينية ( الفقه والتوحيد والحديث والتفسير ) لولا وجود الزوايا القليلة التى تأثرت هى أيضا بالوضع السياسى العام (الاستيلاء على الأوقاف ، والحروب ، والاضطهاد) ومع ذلك واصلت تعليم العلوم المذكورة ولكن بطريقة تقليدية .(37/1)
أما تدريس العربية الدارجة فقد تولاه الفرنسيون أنفسهم . حقا لقد بدأه بعض المستشرقين الذين رافقوا جيش الحملة ، مثل جونى فرعون ( وهو سورى - مصرى ) سنة 1832م ثم واصله لويس برينييه الفرنسى منذ 1836م.(1) ، وقد شاركه فى ذلك عدد آخر من المستشرقين الذين انتشروا فى غربى البلاد وشرقيها ، ومنهم شيربونو فى قسنطينة ، وما شويل فى وهران . وصدرت عن هؤلاء مجموعة من الكتب التعليمية بالعربية الدارجة والفرنسية ، وهى كتب تبدأ من اليسار إلى اليمين ، كما صدرت عنهم قواميس فى نفس الموضوع.وكان التلاميذ بين الخمسة عشر والثلاثين فى كل موسم .ومعظمهم كانوا عسكريين فى المرحلة الأولى ( إلى 1870م ) ، وكانت تعقد لهم المسابقات وترصد الجوائز، ثم كانت تنتظرهم الوظائف فى المكاتب العربية العسكرية وفى الإدارة المركزية ، كما أن بعض المدنيين قد استفادوا من هذه الدروس . وقد أصبح الخريجون عادة مترجمين بدرجات متفاوتة ( طبقات ) تحدث عنها
شارل فيرو فى كتابه (مترجمو الجيش الإفريقى ) ، ويمكن أن نسميهم هنا مستعربين .
وهل يعنى هذا أن الفرنسيين لم يدرسوا اللغة العربية الفصحى ؟ الواقع أنهم قد فعلوا ذلك ، ومنهم هوداس وشيربونو ودىسلان وبرينييه وكور . وقد اعتبروها لغة ضرورية لبلادهم من الناحية السياسية والتجارية والعلمية،ونشروا منها نصوصا عديدة ، وترجموا من تراثها الكثير ، ولاسيما فئة المستشرقين المتأخرة أمثال باصيه وفانيان وهوداس وماسينيون. وقد استعانوا بمجموعة من الجزائريين فى هذا المجال نذكر منهم محمد ابن شنب والحفناوى بن الشيخ وعلى بن سمايه ومحمود كحول ( ابن دالى ) وعمر بوليفة .
وعاشت العربية الفصحى أيضًا فى المدارس الرسمية الثلاث التى بدأت تعمل سنة 1850م(2) ومرت هذه المدارس بمراحل من حيث البرمجة : مرحلة التعريب الكامل ، ومرحلة الفرنسية الجزئية ( 1876م ) ثم مرحلة ازدواجية البرنامج ( العربى / الفرنسى ) حين(37/2)
وضعت تحت إشراف مستشرقين فرنسيين منذ التسعينيات من القرن الماضى. وكانت الدراسة بالفرنسية فى المواد الفرنسية ، كما أن الإدارة وطرق التعليم كانت أيضًا فرنسية . ولذلك كانت اللغة العربية الفصحى غريبة حتى فى المدارس الرسمية - فى المرحلتين الأخيرتين - فهى كما قلنا تدرس كلغة أجنبية ، وكانت وسيلة تعليمها هى اللغة الفرنسية طبعا ، وكذلك كان حال العربية فى مدرسة ترشيح المعلمين (1) أو فى الثانويات الفرنسية .
ذكرنا أن الفصحى ظلت تقاوم فى بعض الزوايا التى سمح لها بالنشاط التعليمى ، مثل زوايا زواوة ، وزاوية الهامل وزاوية طولقة . وكانت المساجد الرسمية قد حافظت أيضا على الفصحى إلى حد كبير من جهتين : الجهة الأولى هى الخطب الدينية ، فهى على بساطتها وسذاجتها كانت بالعربية الفصحى ، ومن ثمة تأتى العلاقة بين العربية والدين ، مما جعل بعض الفرنسيين يشبه العربية باللاتينية فى الكنائس ويحكم بأنها
لغة ميتة كاللاتينية أيضًا . والجهة الثانية هى بعض الدروس التى رخص بها الفرنسيون، وقد كانت الدروس فى أول الأمر مقتصرة على جمهور محدود من عامة الناس القريبين من المسجد وعلى موضوع محدود هو الفقه والتوحيد . ولكنَّ المدرسين كانوا- باستثناء عدد منهم- يستعملون اللغة القريبة من الفصحى بحكم النصوص التى ينقلون عنها وتأثرهم بالمدرسة " الرسمية " التى تخرجوا فيها . وكان هؤلاء المدرسون قد سمح لهم فى نهاية القرن الماضى بتطوير تدريبهم ليشمل الشباب والتلاميذ المرشحين للمدارس الرسمية الثلاث وليشمل أيضا موضوعات غير دينية كالنحو والأدب والبلاغة . وإلى جانب هذه الدروس " الرسمية " رخصت الإدارة لبعض المدرسين الأحرار بإلقاء دروس فى مساجد قراهم حول نفس الموضوعات . وهكذا كانت اللغة العربية الفصحى تنافس العربية الدارجة والبربرية " والفرنكفونية " . وكل ذلك كان قبل ظهور الحركة الإصلاحية بين الحربين ،(37/3)
وانطلاق مدارسها ودروسها فى التعليم والوعظ بالعربية الفصحى المتطورة.
وإلى جانب العربية والتركية كان بالجزائر غداة الاحتلال لهجات كثيرة عربية وبربرية ، بالإضافة إلى لهجة ساحلية ( لغة إفرنكية ) يتحدث بها أصحاب السفن وعمال الموانئ والتجار . إن اتساع رقعة الجزائر جعل استعمال لهجة واحدة غالبة وشيوعها أمرًا مستحيلا عندئذ . كما أن نظام الحكم نفسه ساعد على عزلة الناس بعضهم عن بعض، فهو حكم أقلية غريبة عن أهل البلاد ، فظلت متقوقعة على نفسها . ونتيجة لذلك كانت العاصمة فقط من حيث المركزية السياسية والسلطة . أما ثقافيًّا وحتى تجاريًّا فلم تكن هى عاصمة البلاد . وكان كل إقليم له عاصمته . وكانت السلطات الإدارية ( المخزنية ) قد جعلت البلاد تشكل وحدات (فيدراليات ) مستقلة ولكن دون حدود تجارية ولا تعليمية . وهذا الوضع كله قد ساعد على بقاء اللهجات مجهولة عند بعضها سواء أكانت لهجات عربية أو غيرها.أما التركية فلم تكن معروفة خارج
الإدارة المركزية بالعاصمة والثكنات . وقد كانت وسيلة التواصل بين الجزائريين هى اللغة العربية ، مهما تباعدوا فى المكان وهى لغة الكتابة عندهم ، ولغة الخطاب الرسمى ، واللغة الأدبية والدينية. وبها كانوا يتعلمون وبها يحررون السجلات القضائية والمداولات العرفية ، ويعقدون الاتفاقات الدولية والصفقات التجارية ، بالإضافة إلى تأليف الكتب وقرض الشعر .(37/4)
وكان على الفرنسيين منذ البداية أن يدرسوا اللغة العربية ولهجاتها لينجحوا فى مهمتهم . وقد فهموا ذلك رغم غيرتهم على لغتهم التى كانوا يسمونها لغة "السادة" وفهموا أنه لا التركية ولا اللهجات العربية أو البربرية ولا الخليط الساحلى الإفرنكى ( اللغة الإفرنكية ) سيجعلهم يفهمون الجزائريين وتراثهم . لذلك عقدوا العزم على تعلم العربية مهما كان الثمن ، وبرروا ذلك بأنه لا يمكن مطالبة المغزوين ( الجزائريين ) بتعلم لغة الغزاة(الفرنسيين ) فورا. وكان الرأى العام كله مع هذه الفكرة حسبما جاء فى كتاب فورميسترو Fourmestrout (1) .
ولقد أكد ذلك أكثر من واحد خلال فترة الاحتلال الأولى ، فهذا بريسون ، المتصرف المدنى سنة 1836م، كتب إلى المفتش العام للتعليم قائلا: إن مهمة فرنسا فى الجزائر تتوقف على دراسة اللغة العربية والتوسع فيها ، من أجل التعرف على الأهالى والاتصال بهم، كما أن الاستعمار نفسه ( الاستيطان واستغلال الأرض ) يتوقف على معرفة اللغة العربية . ولا يكفى فى ذلك الاعتماد على المترجمين . ومن جهة أخرى أكد بريسون على ضرورة دراسة اللهجات أيضًا كلما توسع الاحتلال فى الجزائر ، وأخبر أن الإدارة سوف لا تقبل مستقبلا من الفرنسيين إلا الذين يعرفون العربية والفرنسية (1).
وفى نفس هذا المعنى أعلن الدوق دورليان ، وهو ابن الملك لويس فيليب (قد شارك فى عدة حملات عسكرية ، واجتاز مع الجيش الفرنسى مضائق البيبان قادما من قسنطينة إلى العاصمة عن طريق البر سنة 1838م ، وهو الاجتياز الذى
تسبب فى أزمة ثم حرب بين الأمير عبد القادر والفرنسيين ) قال دورليان: إن معرفة اللغة العربية ضرورية لتقريبنا مع الجزائريين ، وإن الجيش الفرنسى الذى عبر البيبان كان يعرف العربية ومن ثمة كان نجاحه فى العبور ، ولم يكن الجيش فى حاجة إلى مترجمين لأن هؤلاء قد أساءوا فى نظره أكثر مما أحسنوا (2) .(37/5)
وهذا جان بوجولا ، مؤرخ عهد بوجو والمتحمس كثيرا لاستعادة الكنيسة الكاثوليكية أعلن أن الأوربيين كانوا ، سنة 1844م ، يتعلمون اللغة العربية لتكون علاقتهم مع الأهالى أكيدة ومنتجة . وأعلن أيضًا أن تعلم اللغة العربية شرط أساسى لتسريب الأفكار والعادات والثقافة الفرنسية إلى الأهالى . وطالب بحرية رجال الدين والنصارى فى تعلمها لكى يتصلوا بالأهالى ويبثوا الأفكار النصرانية عن طريقها .(3)
وكان المارشال بوجو قد أصدر قرارا بأن تكون اللغة العربية شرطا أساسيًا فى الوظيفة ابتداء من يناير 1847م . وجرى
التحضير لذلك بالمسابقات والجوائز والامتحانات . وكان لويس برينييه هو المشرف على هذا البرنامج . وهكذا عمت العربية فى الإدارة المدنية المركزية والمكاتب العسكرية المتصلة بالأهالى سواء فى العاصمة أو خارجها . ونشطت حركة الترجمة وتوسعت حلقات اللغة العربية فى وهران وقسنطينه . وبدأ الحديث عن إنشاء معهد عربى - فرنسى فى فرنسا لاستقبال أبناء العرب ثم أنشئ فى الجزائر المعهد النابليونى ( السلطانى ) بدلا منه سنة 1857م . ويقول أوغست كور إن العربية يمكن أن تقدم لفرنسا فوائد جمة لأنها كانت لغة الحديث منذ قرون . وهو يضيف بأن العربية لن تمكن الفرنسيين من فهم الذين يحكمونهم فقط ولكن ستمكنهم من تذويقهم طعم الحضارة الفرنسية . وتوسع كور فى هذا المعنى قائلا: إن دراسة أدب الجزائريين سيؤدى إلى معرفة عبقريتهم وأصالة فكرهم وشعرهم المؤثر ومعرفة كتبهم فى مختلف العلوم ، ومن ثمة معرفة أصول أفكارهم وأحكامهم وتقاليدهم .(1)(37/6)
وهناك آراء أخرى عديدة من العسكريين والمدنيين ، السياسيين والمستشرقين ، وكلها كانت تحث على تعلم اللغة العربية كوسيلة لفهم الجزائريين ونشر الثقافة الفرنسية بينهم . وقد أضيف إليها منذ آخر القرن الماضى مبرر آخر وهو بناء الروابط التجارية والسياسية مع البلاد العربية والإسلامية . ولكن هذه الآراء لم تكن آراء كل الفرنسيين فى القرن الماضى ، فقد انتصرت عندئذ السلطة فى فرض اللغة الفرنسية وأصبح المغلوبون هم الذين عليهم أن يتعلموا لغة الغزاة على حسب تعبير بعض الكتاب . والغريب أنه بقدر ما كان الفرنسيون مؤمنين بضرورة تعلم العربية لأنفسهم كانوا يمنعون الجزائريين من تعلمها ، رغم أنها لغتهم القومية والوطنية والدينية .
ومنذ التسعينيات انطلقت الدراسات الاستشراقية للهجات العربية فى الجزائر . ويعترف رينيه باصيه الذى كان مديرًا لمدرسة الآداب بالجزائر سنوات طويلة أن هذا الاهتمام بدأ حوالى 1890م . ونتيجة لذلك أخذ كل مستشرق يدرس لهجة أو أكثر فى المدن والأرياف ، فكان يذهب لزيارة المكان ويتصل بأهله ، وربما يستعين بتلاميذه الجزائريين فى الناحية ، ويأخذ فى جمع المادة والمقارنة ثم يكتب دراسة لينشرها مسلسلة فى المجلات ثم كتابا فى المطبعة . وهذا لا يعنى أن دراسة اللهجات العربية لم تبدأ إلا سنة 1890م، ولكن يعنى أن الخطة قد وضعت عندئذ لتطوير الدراسات وتوسيعها للوصول إلى غرض اجتماعى وسياسى، وهو حصر اللهجات ومعرفة الأصول اللغوية والعرقية للسكان، ومدى تأثير لهجة ما على ما جاورها، وكيف تنقلت القبائل عبر العصور واستوطنت جهات عديدة رغم أنها قد تكون من أصل واحد .(37/7)
وفى هذا النطاق صدرت دراسات عن اللهجات الآتية ( لاحظ أنها غير خاصة بالجزائر ) : دراسة عن أشراف سيق، ووهران ، وأولاد إبراهيم بسعيدة، وتلمسان ، ومدينة الجزائر وقسنطينة ، ثم لهجة طنجة ولهجة الحسنية بموريطانيا ، ولهجة الجبالة . وأنت لا تكاد تفتح كتابا أو مجلة عندئذ إلا وجدت دراسة عن لهجة كذا أو لهجة كذا .. LE PARLE ARABE DE . وقد اختص بعض المستشرقين بلهجة أو ناحية أو ظاهرة
أدبية ، مثل اهتمام الإسكندر جولى فى أول هذا القرن بالشعر العربى الشعبى فى البوادى .
وبينما كانت المؤسسات الحكومية ، بل الحكومة نفسها ، تدفع تكاليف الطبع وتخصص الجوائز لطبع الدراسات الخاصة باللهجات البربرية - فى الجزائر والمغرب - لا نجد الحكومة ولا مؤسساتها تساهم
فى طبع دراسات عن اللهجات العربية . وربما يعود ذلك إلى أن عددًا كبيرا من المؤلفات قد ظهرت بالعربية الدارجة منذ الاحتلال ، وقد أشرنا إلى ذلك . يقول رينيه باصيه : ظهرت منذ الاحتلال ، أكوام من المعاجم والقواميس وكتب المحادثة ومجموعات الرسائل بهدف تعليم العربية الدارجة . إنها مكتبة كاملة . أما الدراسة العلمية للهجات العربية فلم تبدأ إلا حوالى سنة 1890م . (1) ويؤكد هذا قول أوغست كور أن المسئولين الفرنسيين لم تختلف نظرتهم إلى اللغة العربية ( الدارجة ) لا فى أهمية دراستها من الناحية السياسية ولا فى مبدأ تعليمها إلى نهاية القرن التاسع عشر .(2) وكانت هذه القناعة العامة ترجع إلى التقرير الذى
كتبه سولفى ch. Solvet سنة 1846م وأوصى فيه بضرورة تعليم العربية (الدارجة ) لتوفير المترجمين الإداريين والاحتياطيين لدفع فكرة "التقدم" ودمج الأهالى إذا أمكن . (1)
أما عن تمسك الجزائريين باللغة العربية ونضالهم من أجلها فله أدبيات كثيرة لا يتسع المقام لذكرها هنا جميعا .(37/8)
ويكفى أن نذكر فصلا عما يسميه جوزيف ديبارمى بـ " ردود الفعل اللغوية " . لقد احتج أوائل الجزائريين ضد التعسف الذى ضرب مؤسسات التعليم العربى منذ الاحتلال وفرض الفرنسية .
ونشير هنا إلى قصة المفتى مصطفى الكبابطى سنة 1843م فقد كان موقفه الرافض لإدخال الفرنسية فى المدارس القرآنية سببا فى عزله من وظيفته ونفيه إلى فرنسا ثم الإسكندرية . (2) ويقول ديبارمى: إن الأهالى سرعان ما شعروا بالخطة الفرنسية وخطورتها على اللغة العربية ، لأنها خطة تؤدى إلى إماتة هذه اللغة ودراستها فقط كلغة ميتة ، فوقف الجزائريون ضد هذه الخطة من البداية .
وقد علموا أن الأساتذة الذين عينهم الفرنسيون منذ جونى فرعون ، كانوا يسمون أساتذة اللغة العربية الدارجة ، وأن هذه الدارجة لا تكتب ، وأنها لهجة شفوية ينشد بها المداحون فى الاحتفالات والأعراس وليالى الطرب . وكان ديبارمى ( وهو من تلاميذ باصيه ) ضد استعمال الفصحى ، لأنها لغة القرآن - اللغة المقدسة على حسب تعبيره - ولأنها تفصل الجزائريين عن الفرنسيين ، وتجعل هؤلاء لا يعرفون " أسرار المسلمين " لأن هذه الأسرار لا تكون إلا بالدارجة. (3)
ويقول المستشرق فيليب مارسيه سنة 1956م إن المتعلمين بالعربية فى الجزائر قليلون جدا، وهم، على حسب تقديره، لا يتجاوزون عشرة آلاف . وليس لهم معرفة بالنصوص الصعبة . ولكنه لاحظ أنهم سواء كانوا متعلمين أو نصف متعلمين أو مبتدئين فإن لهم رغبة مشتركة ومخلصة ، وأحيانًا رغبة حادة
فى معرفة أكثر عمقا للعربية والحصول من الفصحى على نصيب أوفر يستطيع أن يدغدغ عواطفهم ويشرف هيبتهم كمسلمين. (4) إن هذا الشعور الصادق(37/9)
لدى الجزائريين فى ضرورة تعلم لغتهم والالتصاق بها والمحافظة عليها كان واضحًا فى مختلف المطالب والعرائض الفردية والجماعية والحزبية التى صدرت عبر مراحل الاحتلال . ولنشر إلى مقالات أحمد بن بريهمات فى الثمانينيات من القرن الماضى ، وعرائض أهل قسنطينة فى نفس الفترة ، وكتابات محمد ابن رحال فى نهاية التسعينيات ، وعريضة رؤساء عدة بلديات من نواحى قسنطينة وهى العريضة المسماة " مقالة غريق " والموجهة إلى لجنة مجلس الشيوخ الفرنسى (1892م) . وفى 1904م طالب الوفد الزواوى ( القبائلى ) فى مجلس الوفود المالية بتكوين مدرسة رسمية فى بجاية على غرار مدرسة تلمسان وقسنطينة والثعالبية بالعاصمة،لتحفظ التراث العربى الإسلامى،ولكن السلطات الفرنسية رفضت الطلب متعللة بعدم وجود ميزانية.
وفى 1921م وقف محمد بن رحال أمام مجلس الوفود المالية ونادى بضرورة تعلم اللغة العربية فى المرحلة الابتدائية قائلا إنها هى اللغة الأم لملايين الأطفال
المسلمين . وقد تساءل ابن رحال :
كيف يعبر شعب بدون لغة عن أفكاره أو يتصور أفكار الآخرين ، أو يثقف نفسه ويصلح أخلاقه وسلوكه ؟ وهاجم أولئك الذين يرون آلاف الأطفال وهم لا مدارس لهم سوى كتاتيب فيها ألواح لحفظ القرآن وبعض الحروف العربية ، ويزعمون مع ذلك أنهم لا يتعلمون إلا التعصب ، ويطالبون من أجل ذلك بغلق هذه الكتاتيب . ولذلك نادى ابن رحال بتعضيد التعليم الإسلامى الابتدائى لأن المسلمين يدفعون الضرائب لميزانيته ، ولأن ذلك من مصلحة الجزائريين والفرنسيين معا " مصلحتنا ومصلحتكم".وكان هذا الرأى سببا فى الهجوم على صاحبه من قِبَل أعداء التعليم العربى من الكولون . وقد علمنا أن زملاءه النواب فى المجلس قد أيدوه (1).(37/10)
وقد نقل ديبارمى عن جرائد الوقت، ومعظمها صدر خلال العشرينيات، مثل النجاح والمغرب ( لأبى اليقظان ) والبلاغ والشهاب. فقال إن المغرب نشرت فى عددها الأول دعوة إلى الشباب ليتعلم العربية الفصحى ( 26 مايو 1930م ) لأنها لغة القرآن والرسول
صلى الله عليه وسلم . ونقل عن البلاغ قولها إن العربية لغة الملايين وإنها مقدسة (23 يناير ، 1931م ) أما النجاح فنقل عنها أنها كتبت مقالة عنوانها " اللغة العربية فى الجزائر " وقالت إنها هى أساس القومية المغاربية والدين الإسلامى . وقد نقل عن جريدة الإقدام سنة 1923م أنها قالت إن تخلى الإنسان عن لغته ( العربية) يعتبر انتحارا . وأخبرنا ديبارمى الذى تابع الموضوع بدقة ربما مبالغ فيها ، أن الأهالى جميعا يعتبرون المسألة اللغوية مسألة حياة أو موت للشعوب المغاربية . وهم الآن قد وضعوها موضع الدرس والاهتمام . وأعترف ديبارمى أن العربية الفصحى قد عرفت سقوطا تدريجيا خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر ثم تسارع سقوطها،على حسب رأيه،خلال النصف الأول من هذا القرن. ولكن الجزائر تشهد الآن (1931 ) "ثورة لغوية " وهو أمر لا يحتاج إلى تفسير . ذلك أن المثقفين بالعربية أصبحوا يرفضون الدارجة والفلكلور والشعر الملحون باعتباره " كلام العوام " (1)(37/11)
وقد فسر ديبارمى هذه الثورة اللغوية بالتطور السياسى لبلاد المغرب عمومًا . ذلك أن هذه المنطقة تتقوقع عادة حول نفسها إذا ما حاصرتها الدول الإسلامية (الخلافة من المشرق أو من المغرب ، كما يقول ) فتصبح مهتمة بالفكرة الإقليمية أكثر من الفكرة الإسلامية أو العالمية . أما فى وقته هو فقد أصبحت بلاد المغرب العربى محاصرة بدولة نصرانية ( فرنسا ) لذلك كان على أهل هذه البلاد أن يبحثوا عن قواعدهم فى الأصالة والرجوع إلى الجسور القديمة والروابط الإسلامية . وأول ما يفعله مواطن هذه البلاد عندئذ هو أن يتكلم لغته . واستشهد بكلام جريدة النجاح ( أول يناير 1931م ) الذى وجهته إلى الشباب طالبة منهم الإبقاء على الفصل بين العربية والفرنسية وأن لا يرطنوا بكلام عربى ممزوج بالفرنسية . وفى عدد آخر من النجاح نفسها ( 15 يناير 1930م ) قالت : إن العربية هى لغة آبائنا وأجدادنا ولغة نبينا وكتابنا المقدس ، وعلينا أن نحميها وننشرها . وأضافت البلاغ أن العربية والعقيدة توأم ( 21 أكتوبر 1930م ) وأن دراسة العربية تضمن للجزائرى الشخصية أو الذاتية والجنسية، فى حين أن دراسة الفرنسية تجعله لا يعرف ، حسب رأى ديبارمى ، سوى تاريخ فرنسا وأفكارها . وقالت النجاح إن النصوص باللغة العربية هو خدمة للوطنية. وروى ديبارمى أن أطفال المدارس إذا رددوا أن أجدادهم هم سكان بلاد الغال ( فرنسا ) فإن أطفالاً آخرين يجيبونهم بأن أجدادهم هم العرب المسلمون وأنهم يتصلون بهم عن طريق اللغة العربية كما يتصلون بالرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق الشرق .(37/12)
واللهجة العربية فى الجزائر - والمغرب العربى - يسميها ديبارمى فى شىء من السخرية البوربرى beurbri . وهى العربية الفصحى بعد أن عجمت ودخلت عليها الأصوات والتأثيرات البربرية وغيرها . وقد سخر ديبارمى حتى من أستاذه ( هوداس ) لأنه نصح باستعمال الفصحى بدل الدارجة ، وعندما طلب هوداس من المعلمين التحدث بالفصحى " ابتسموا منه " . وهكذا أصبحت الدارجة عند ديبارمى ومدرسته هى لغة أهل المغرب العربى المتبربرة. ولكن هل ذلك ينفى اللهجات البربرية ؟ إن ديبارمى لا يجيب على ذلك، ويكتفى بالقول إن جميع الأشعار الملحونة التى صيغت بالعربية الدارجة إنما هى فى نظره بالبوربرية . فهى موجودة فى أشعار الشعراء الذين مدحوا الأمير أو هجوه ، وهى موجودة فى النثر غير الخاضع للقواعد النحوية والبلاغية . وقد كانت هذه اللهجة الملحونة هى لغة الشعر والنثر - على حسب رأيه - عند الاحتلال . ولم يبق للعربية الفصحى عنده إلا مجال اللغات الميتة ، وهى النصوص الفقهية والقضائية والصلوات ، بعد أن حوصرت على كل الجبهات : وهو يعنى الجبهة الفرنسية والجبهة البوربرية ( الدارجة ) وجبهة اللهجات البربرية .(37/13)
وقد ذكرنا أن ديبارمى يعتبر الفصحى قد ماتت إلا فى بعد النصوص الدينية ، وأن البربرية أيضا قد تقلصت وكادت تضمحل فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر ، ثم تسارع سقوطها فى النصف الأول من القرن العشرين . وقد استشهد بكلام صاحب كتاب (الكنز المكنون) عندما قال إنه نشر الأشعار الشعبية الدارجة (البوربرية ) لأنه يعتقد أن الناس قد نسوها بعد أن كانوا راضين عنها فى الماضى ، ولعلهم قد أضاعوها تماما . ومن رأى ديبارمى أن صاحب الكتاب المذكور قد وجه تلك الأشعار إلى العامة " الأميين " الذين لا يتذوقون طعم الأدب ، ثم إلى طلبة الزوايا " المتعلمين " حيث مايزالون يتذوقون اللغة . ولكن الأمر اختلف بعد بضع سنوات ، وحدثت " الثورة اللغوية" على حسب تعبير ديبارمى ، وهى التى كانت تقودها الصحف العربية المكتوبة باللغة المقدسة وبلغة قريش القديمة وهى ظاهرة تحتاج فى نظرة إلى تفسير (1).
والذى ننتهى إليه من ذلك هو أن الجزائريين عن طريق نوابهم وصحفهم وسياسييهم قد نادوا بتعلم اللغة العربية وربطوا بينها وبين الدين ثم بينها وبين الوطنية والجنسية . ولا داعى لإيراد نماذج أخرى من منقولات جوزيف ديبارمى عن ردود الفعل اللغوى من خلال الصحف التى صدرت قبل1931م وقد نشأت جمعية العلماء فى هذه السنة (1931م) وكان برنامجها ينص على أن تعليم اللغة العربية يمثل حجر الزاوية فى(37/14)
وجودها ، وكل أدبيات الجمعية وجرائدها وخطب رجالها وأعمالهم تشهد على ذلك . ولا نرى داعيا لإيراد شواهد على ما نقول عنها (2) إنما نذكر أن المؤتمر الإسلامى الجزائرى لسنة 1936م قد طالب بالحرية الكاملة فى تعلم اللغة العربية وإلغاء كل ما اتخذ ضدها من إجراءات وقوانين والتوقف عن اعتبارها لغة أجنبية والاعتراف بها لغة رسمية (3) ومنذ 1933م نادى نجم شمال إفريقيا بتعليم اللغة العربية إجباريا وقد نصت المادة الثالثة من برنامجه على أن اللغة الرسمية للبلاد ستكون هى اللغة العربية. ونصت المادة السادسة على أن التعليم سيكون باللغة العربية ومجانا وإلزاميا فى جميع المراحل (4) وقد نادى المؤتمر العام لحزب الشعب الجزائرى سنة 1938م بإصدار مرسوم يجعل تعلم اللغة العربية إجباريًا فى جميع المستويات على غرار الوضع فى المغرب وتونس والمشرق العربى. كما طالب بتأسيس كلية للآداب العربية بجامعة الجزائر إلى جانب تدريس
التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع باللغة العربية، وتحويل المدارس الثلاث الرسمية إلى جامعات إسلامية يدرس فيها بالعربية أساتذة مسلمون (جزائريون ) (1).
وفى ( البيان الجزائرى ) الذى صاغه وقدمه فرحات عباس وزملاؤه باسم الشعب الجزائرى إلى الحلفاء 1943 وردت المطالبة أيضا بالاعتراف باللغة العربية لغة رسمية على قدم المساواة مع اللغة الفرنسية (2) وقد أكدت ذلك مختلف الوثائق الرسمية الصادرة عن فروع الحركة الوطنية بين 1945م و 1954م. ونتيجة لذلك الضغط المتواصل واعترافا بالأمر الواقع أعلن الفرنسيون سنة 1947م فى القانون الخاص بالجزائر أن تعليم اللغة العربية سيكون إجباريًا ورفعوا عنها صفة اللغة الأجنبية (3)
ومنذ الثلاثينات ظهرت حملة منسقة ضد اللغة العربية باعتبارها أحد مقومات الهوية الوطنية ، وتجلت الحملة فى غلق
المدارس الحرة والتأكيد على اعتبار العربية لغة أجنبية واضطهاد المعلمين الأحرار ،(37/15)
وعدم الترخيص بفتح المدارس، وقمع الصحف العربية، وصدور تصريحات معادية تولاها كبار المسئولين الفرنسيين، كما أطلقوا العنان لبعض الاندماجيين الجزائريين لمهاجمة القومية العربية والوطنية والدعوة إلى أن الفرنسية هى لغة الحضارة للجزائريين (4) كما أن الصحف الفرنسية ذات الاتجاهات المختلفة ، بما فيها الاتجاه الشيوعى والاشتراكى ، أخذت تهاجم اتجاه جمعية العلماء والحركة الوطنية . وقد صرح الجنرال (كاترو) بأن عشرين مدرسة فرنسية ستؤدى إلى اختفاء اللغة العربية تماما من الجزائر خلال عشرين سنة . ونادى وزير العدل ( ريكار ) وغيره بترجمة القرآن إلى الفرنسية وفرضها على الشعب، وحذف كل ما يمت بصلة إلى النخوة القومية من القرآن، وبمنع المسلمين من تعلم العربية .
وطالب بعض الفرنسيين أيضا بعدم الترخيص لأى معلم ليعلم بالعربية إلا بعد اجتياز امتحان خاص فى الفرنسية وكذلك غلق حدود تونس حتى لا يتسرب إليها الراغبون فى العلم بجامع الزيتونة .(37/16)
وردا على هذه الحملة ساهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمى بمقالاته فى البصائر . وانبرى عدد من العلماء الآخرين ورجال الحركة الوطنية يردون على استخفاف الفرنسيين وذيولهم باللغة العربية . وظهرت هذه الردود فى الصحف موجهة أحيانًا إلى الأفراد وأحيانًا إلى العموم . كما ظهرت فى شكل عرائض صادرة عن جمعية العلماء وأنصارها ومن جمعيات حرية الصحافة العربية ، ومنها تقرير وفد مدينة بوفاريك الذى قدم إلى لجنة التحقيق الفرنسية سنة 1931م لائحة طالبة برفع الحيف عن الجرائد العربية باعتبارها صحافة أجنبية(1) وسارت صحيفة النجاح فى هذا الاتجاه . ومنذ قرار ميشيل سنة 1933م كانت جمعية العلماء ترفع عقيرتها بالاحتجاج والشكوى لأن ذلك القرار أضر بمصالح الجمعية ومنعها من تعليم اللغة العربية ومن إصدار صحفها بانتظام. وتلاقت عبارات التنديد بالإجحاف فى حق العربية مع التنديد بدور الآباء البيض ( المبشرين ) ورجال التنصير فى الطعن فى الإسلام . وسلوك الإدارة بخلق النعرات العرقية . ومن ذلك حملة جوزيف ديبارمى ضد استعمال اللغة الفصحى . وحملة مارسال موران ضد الشريعة الإسلامية ودعوته لإخراج العرق البربرى منها ، وادعاءات جان سيرفيه بأن العربية الدارجة خليط من الفينقية وغير متصلة بالإسلام والمسلمين(2)(37/17)
وكان رد عبد الحميد بن باديس على لويس ماسينيون جزءاً من هذه الردود ، فقد ادعى هذا المستشرق أثناء سفره إلى القاهرة ذات مرة لحضور اجتماع مجمع اللغة العربية بأن " اللغة العربية ليست غريبة عنا - الفرنسيين - فهي جزء من تراثنا القومى "، فرد عليه ابن باديس قائلا : إن ماسينيون لو أراد حقا خدمة العربية لنصح حكومته الفرنسية بالتوقف عن الإساءة إليها فى الجزائر حيث هى محاربة وتعليمها مضطهد ولَطَالَبها بجعل اللغة العربية لغة رسمية ولَدعَا إلى حرية تعليمها . واستغرب ابن باديس من قول ماسينيون إن العربية من تراث فرنسا القومى ، مؤكدا له أن ذلك جاء مجاملة منه للمشارقة فقط ، وفيهم تلاميذه من أمثال طه حسين وزكى مبارك . أما الحقيقة فهى أن اللغة العربية. إنما هى " تراث القومية العربية فقط " وليس لفرنسا شأن فى ذلك ، بل أن اللغة الفرنسية هى تراث القومية الفرنسية فقط(1). أما الشيخ أبو يعلى الزواوى فقد هاجم ماسينيون لدعوته العرب إلى استعمال الحروف اللاتينية كما فعل الأتراك واتهمه باستعمال"الخزعبلات والسفسطات".(2)
ويروى ديبارمى أنه سأل أحد الجزائريين المثقفين بالعربية ليختبر غيرته الوطنية فقال له ديبارمى : إن الفرنسيين قد تخلوا عن اللاتينية .. فرد عليه ذلك "الطالب" الجزائرى قائلا:إن الفرنسيين لم يكونوا يقاومون احتلالا أجنبيا . ثم حاجج ديبارمى طالبًا آخر فى استحالة نشر اللغة العربية ( التى يسميها ديبارمى "لغة قريش" تبعيدًا لها عن الجزائريين )
فأخبره هذا الطالب أن معجزة الاستقلال تتحقق عن طريق الدين الحق والعقيدة الوطنية . فاستنتج ديبارمى من ذلك أن هذا الرأى يمثل خلاصة الوضع اللغوى وطموحاته فى الجزائر ، وهو ما يسميه برد الفعل اللغوى كما عرفنا (3).(37/18)
ولقد كافحت الصحافة والنوادى الجديدة من أجل تثبيت اللغة العربية الفصحى . واتفقت فى ذلك صحافة الحركة الإصلاحية وصحافة الطرق الصوفية والصحافة المستقلة . فأغلبها قد أيد نشر التعليم بالعربية الفصحى . ويصف ديبارمى دورها ودور النوادى بأنه ليس قيادة الرأى العام فقط ولكن بعث "لغة المستقبل " وهى حسب تعبيره "لغة قريش القديمة". وكان هدف هذه الصحافة هو تطوير اللغة العربية وتطويعها وجعلها مناسبة لشروط الحياة العصرية . إن الصحافة كانت تعطى درسًا يوميًّا للشعب عن اللغة الوطنية وكانت هذه الجرائد تسقط من وقت لآخر لعدم وجود القراء - ولم يقل ديبارمى إن سقوطها كان بسبب المنع
الإدارى . ولكن سرعان ما تظهر صحف أخرى تعوضها وتواصل الهجوم على الجهل . ويقول ديبارمى فى شىء من السخرية والمرارة أيضا:إن أبطال هذه الصحف يملؤون دائمًا حفر أجداثهم عارفين أن تضحياتهم لن تذهب أبدا سدى(1). إن المسألة اللغوية قضية حياة أو موت للشعوب المغاربية على حسب الجرائد الجزائرية،وهى شعوب كما يقول ديبارمى متفقة على ذلك، وعلى جعل العربية موضع دراستها واهتمامها الدائم. إن تلك الجرائد أصبحت تصف الإنتاج
البوربرى (الدارج ) بأنه كلام عوام وتتعجب من أن المشاركين فى الاحتفال المئوى سنة 1930م كانوا مهتمين بالفلكلور والأدب الشعبى لا بالقصيدة الفصيحة (2) .
وهكذا نرى أن إهمال الفصحى والعناية بالدارجة الذى بدأ مع الاحتلال قد تحول بعد مئة سنة إلى العكس على يد الشعوب المغاربية؛ أى العناية بالفصحى وقلة الاهتمام بالدارجة؛لأن الفصحى هى لغة الدين والتراث والقومية والاستقلال.
أبو القاسم سعد الله
عضو المجمع المراسل من الجزائر(37/19)
1- ثنائية الفصحى والدارجة:
في كل الأقطار العربية نجد لسان التخاطب يُخالف عن قواعد الفصحى. وهذا التباين يعود إلى القرن الأول للهجرة ، لمّا اختلط العرب بغيرهم من الشعوب التي اعتنقت الإسلام ، أو دخلت في حظيرته .
إلى جانب هذا الفرق بين الفصحى وما هو دارج بين الناس ، نلاحظ - ومنذ عهد بعيد أيضًا - اختلافات بين الألسنة العربية المتداولة ، فكل قطر يتميّز بلسان خاص به ، من حيث اللهجة - وهي نغمة النطق وموسيقا الجُملة - ومن حيث ما لبعض الألفاظ من معان تختلف من قطر إلى آخر . وقد يبلغ هذا الاختلاف حدًّا يجعل التفاهم غير يسير لأول وهلة بين أبناء الأقطار المتباعدة جغرافيًّا .
ولمّا كانت الفصحى هي أداة الثقافة والعلم منذ البدء ، وأن سواد الشعب ، ممن لا يحسنون الفصحى ، يبقون خارج عملية التثقيف ، فإن ذلك كان عاملا من عوامل التمييز بين طبقة " خاصة " وما
يُسمّى بـ " العامة " . لكن النهضة الحديثة التي شهدتها مجتمعاتنا العربية - بنسب مختلفة - بدأت تغيّر من هذا التقسيم المتحجّر بين عامة وخاصّة ، وذلك بفضل انتشار التعليم والثقافة ، ودخول الإذاعة والتلفزة كل البيوت . ولئن أخذت الشُقة تتراجع بين الفصحى والدارجة ، فإن عوامل ظهرت منذ نحو عقدين ، جعلت لسان التخاطب يضعُف ويتدهور ، معنًى وشكلاً . ويمكن أن نربط هذه الظاهرة الجديدة بالسّباق المحموم الذي دخلت فيه أغلب أقطارنا للخروج من التخلّف ودرء مظاهره ، واقتباس ما يبدو لها من وسائل - أو من مظاهر - التقدّم .(38/1)
نعم ، إن فهم الفئات الشعبية للفصحى في تحسّن مستمرّ . والعامية اغتنت بالعديد من الألفاظ والصيغ الآتية من الفصحى . لكن الحياة الحضرية والجهود المبذولة - بصورة فوضويّة أحيانا - من أجل تطوير الأوضاع ، والحرص على اللحاق بما يسمّى "ركب الحضارة " ، كل ذلك أفرز ، في كبريات المدن ، عوامل سلبية غيّرت من السلوك ومن لسان التخاطب - خاصة في صفوف الأجيال الصاعدة - فأَدخَلت عليها ضروبا من " التلوّث " .
ولئن ألححتُ في التنبيه إلى مخاطر هذه الظاهرة الجديدة ، فإنما ذلك لما تنطوي عليه من آثارٍ على نفسية الشباب وسلوكهم ، وفي آخر الأمر على انتمائهم الحضارى . فلغتنا - الفصحى كالدارجة - تقوم ، كسائر اللغات ، على هيكليات ، إذا ما اختلّت فقدت اللغة مرتكزاتها النفسية والاجتماعية . فاللغة من أهمّ وسائل ارتباط الفرد بالأسرة وبالمجموعة الوطنية : بواسطتها يلتقى الموروث الحضاري التليد ، ومن خلالها يعبّر ، بدوره ، عن مشاعر وأحاسيس ومعان تكيّف سلوكه ، وتنحت مواقفه من قضايا هامة ، وتثري اللسان الوطني بإضافات وتزيد من حيويته .
وخطورة هذه الظاهرة تتمثل خاصة في الانفصام الذي يحصل بين اللسان الدارج ومجموع التراث الحضاري الذي تتناقله الأجيال . فيقع للنابتة - وهي تسمية الشباب عند الجاحظ - انبتات يعطّل عملية النموّ والتطوّر التي لا تستقيم إلا متى كانت وترًا مشدودًا بين تراث الماضي وثراء الحاضر وإبداع المستقبل .
* ... * ... *
وختاما لهذه الملاحظات الخاصة بعلاقة اللسان بالعملية الحضارية - التي هي تراث دون انفصام ، وإبداع دون انقطاع - نقول :
إن الثنائية بين الفصحى والألسن الدارجة ظاهرة قائمة في كلّ أقطارنا العربية ، ولو بنسبٍ متفاوتة .(38/2)
والعناية برفع مستوى الدارجة ليست مناهضة للفصحى ، بل هى سعي للتقريب بينهما، وهي أيضا غيرة على الأصالة الحضارية لمجتمعاتنا . فاللسان الدارج ، متى تدعمت أصالته وزادت نقاوته ، كان خير تمهيد لامتلاك الفصحى وأقوى سند لها . أما إذا أصابه التفسّخ ، فإنه يزيد من أسباب الإغراء باللغات الأجنبية، ويكون عاملا من عوامل الهجرة الحضارية .
ولما كان من غير الواقعي إلزام شعوبنا العربية التكلّم بالفصحى ، في كل مستوياتها الاجتماعية ، فلابدّ من وقاية اللسان الدارج ، في كل قطر من أقطارنا، من الفساد الذي يُدخل الضَّيم على ذهنية المجتمع وعلى موروثه الحضاري .
وخلاصة القول فإن الدارجة الشائعة بين الناس لها وظيفة اجتماعية تشدّ المجتمع أن يتفكّك ، وأن يُجتثّ من أصوله العريقة . ذلك أن شخصية كل شعب تبرز من خلال لغته التي يتحدّث بها الناس يوميًّا في كل شؤون حياتهم ومعاشهم، ولو تكلّمت شعوبنا كلّها بالفصحى لظهرت فروق بينها من خلال ما تتوخّاه من تعابير وما تبتكره من صيغ وألفاظ أكثر لصوقا بمشاعرها ورؤاها ، وما تنحو إليه من سلوك .
أما الفصحى فلها رسالة ثقافية وحضارية - وأذن قومية - بفضلها تتمكّن شعوبنا من وعي انتمائها ومسؤوليتها في النهوض بهذه الرابطة التي هي من أهمّ ما يجمع بين العرب .
2 - رسالة الفصحى :
تضطلع الفصحى برسالة مزدوجة : فهي الأداة الجامعة بين الشعوب العربية قاطبة . وبهذا الاعتبار فرسالتها قومية . وللفصحى أيضا - باعتبارها أداة ثقافة وعلم - رسالة حضارية تعزّز الرسالة القومية .
أما الرسالة القومية التي تختصّ بها الفصحى فتتمثّل في أن الانتماء إليها -وإلى ثقافتها وحضارتها - إنما هو قوام عروبة شعوبنا . فالذي يجمع بين سائر الشعوب الملقّبة بالعربية ليس الانتماء العرقي ، بل الانتماء اللغوي والثقافي والحضاري .(38/3)
ونظرًا إلى اختلاف اللهجات المحلية ، فإن الوسيلة المثلى للتخاطب والاتصال بين العرب إنما هي اللغة الفصحى : بها يخطب الخطباء ، وبها تُكتب الوثائق التي هي المرجع في كل اتفاق بين أطراف عربية . غير أن اللغة التي يتمّ بها فعلا التخاطب في المحافل الرسمية لا تلتزم ضوابط اللغة الصحيحة . بل كثيرًا ما تحل محل الفصحى لغة ثالثة نسيجها الفصحى مطعّمة بألفاظ وصيغ من دارجة الشعب الذي إليه ينتمي الخطيب، وأحيانًا من اللسان المصري ، للاعتقاد السائد أنه مفهوم لدى الجميع .
* ... * ... *
والحق يقال ، إن المصريين صنعوا لغة لهم ، خاصة بهم ، تمتاز بموسيقا خلابة ، وبتقاطيع بديعة ، فيها من تراكيب الفصحى ، وفيها أيضًا ما يجانب الفصحى في التركيب ، وفي النحو والصرف ، وحتى في بعض النطق . والمتأمّل في هذا اللسان ، يلاحظ أنه تغلب عليه جملة من القوالب ، مستعملةً فى كل مستويات المجتمع المصري ، وترد على لسان " الباشا " ونسمعها من "الشغّال " والمصرية بليغة الأداء ، جميلة الأعطاف إذا ما اتُّخذت للغناء . وقد يتظرّف البعض بتقليدها - من باب المداعبة أو التهكُّم - ولكن أغلب العرب يركنون إليها عند الحاجة - حتى أولئك الذين علّم أجدادهم الفصحى لمن لم يكن يتكلّمها . والجميع يكنّون لها ، ولو في خفايا النفوس ، إعجابًا كبيرا . وكون هذا اللسان مفهوما في سائر الأقطار العربية راجع أيضا إلى ذيوع الأغاني والأفلام المصرية ، منذ عهد بعيد ، وإلى تأثير إذاعة القاهرة أيام عبد الناصر ، ثم اليوم إلى انتشار المسلسلات التلفازية التي يتمّ إنتاجها في مصر أو خارجها ، لكن بكُتاب وممثلين مصريين .
* ... * ... *
السؤال الذي يخامر أغلب المفكّرين ، ولكن لم تقع معالجته هو : ما الذي يحول دون بلوغ الفصحى ، في اجتماعاتنا الرسمية ، المرتبة التي لسائر اللغات الكبرى في مثل هذه المحافل ؟(38/4)
في كل أقطار أوربا ، تلتزم الشخصيات الرسمية لغة " فصيحة " عالية المستوى . بل إن ذلك من شروط الارتقاء إلى مراتب المسؤولية في سائر المجالات . لكن الأمر عندنا يبدو مختلفًا . فكأن إتقان اللغة الفصحى " أمر ثانوي"، والمدار كلّه على "المعاني" . لكن "المعاني" تفقد كثيرا من نصاعتها وإشعاعها إن لم يكن التعبير عنها بلغة فصيحة بليغة ، خالصة من اللحن . أما موقفنا من اللغات الأجنبية فعلى عكس ذلك ، إذ نعتبر أن اجتناب أدنى لحن عند التحدث بالإنجليزية ، أو الفرنسية ، أمر ضروري لمن بلغ مراتب عليا ، ودليل على المستوى الثقافي بالنسبة إلى النخبة عامة . فهل يجب أن نستنتج من ذلك أن الفصحى ليست جديرة بهذه العناية نفسها ؟ أم هي من العسر والتعقيد بحيث دخلت ضمنيًّا في عداد اللغات الميتة ، فيُسمح بالمراطنة فيها _ كما كان الرومان ، في أزمنة انحطاطهم ، يتكلّمون ما أطلق عليه "لاتينية المطبخ " ؟ لابدّ من وضع مثل هذه الأسئلة ، ليتّضح للجميع خطورة موقفنا من الفصحى التي نربأ بها عن أن تنحط إلى عربية المطابخ . الفصحى هي ، قبل كل اعتبار آخر ، لغة القرآن والحديث ، ولغة ثقافتنا طوال العصور ، أثرت التراث الإنساني ، وأشعت على بلاد أوربا قرونا - بعد تفريط الأوربيين في التراث اليوناني . ومن إعجاز لغتنا الفصحى أنها ، على مدى أكثر من أربعة عشر قرنا متتالية ، لم تشهد اندثارًا ، ولم يطوها التاريخ . حافظت على قوة نسيجها وروحية قواعدها ، رغم أنها تطورت تطوّرا كبيرا صيّرها لغة علم وفلسفة واقتصاد . وبفضل قابليتها للاشتقاق ، وقدرتها على استيعاب الدخيل من الألفاظ والتعابير ، استطاعت أن تؤدي ألطف المعاني وأدقّها. والأمر - من بين سائر اللغات الإنسانية - جدير بالملاحظة والاعتبار : إذ الفصحى تطوّرت - بحسب حاجيات المجتمعات المتتالية - دون تبديل ، وطوّعها أهلها لكل مأرب دون مسخ . وإن هي تلوّنت وتكيّفت وتنوّعت في كل الوجوه ، فهي(38/5)
باقية على أنماطها وهياكلها الأساسية . وفي ذلك عنوان حيويتها الدائمة التي تحدت التاريخ . وما طرأ عليها من ركود وجمود ، أثناء قرون التخلّف ، فإنما هو راجع إلى انهيار القوى الإبداعية في مجتمعاتنا ، وما أصاب الفكر فيها من وهن وخمول . أما اللغة الفصحى فهي دوما عتيدة ، قادرة على أداء الرسالات المتجدّدة .
* ... * ... *
وللوقوف على مدى التنوّع الذي عليه لغتنا الفصحى ، يكفي أن نتذكّر أنها تتلوّن بحسب الأقطار ، وداخل كل قطر ، بحسب الفئات الثقافية ، والشرائح الاجتماعية .
داخل كل قطر من أقطارنا ، تختلف الفصحى ، بحسب الخلفيات الثقافية ، والأوساط الاجتماعية . وأبرز الفروق بين لغة الجيل المتعلم في المعاهد التقليدية ولغة خريجي الجامعات الغربية - أو التى على شاكلتها من جامعاتنا العربية . فواضح أن لغة الشيخ الفاضل بن عاشور مثلا - وقد كان من أبرز أعضاء مجمعنا- تختلف عن اللغة التي كتب بها الأستاذ عبد الوهاب بكير في مجلة المباحث التونسية - وكان في مقدمة أساتذة العربية بالمدرسة الصادفية .
ولا أعلم مَن رمى الجسور بين الثقافتين التقليدية والعصرية مثل رجلين هما من أفذاذ كُتاب العربية : أحدهما من لا يزال يُجمع الناس على تلقيبه بعميد الأدب العربي ، أعني طه حسين الذي جمع بين أصالة اللغة التي تعلّمها من القرآن وكتب الحديث والفقه والأدب .. وبين ذهنية اللغة والثقافة الفرنسية التي اكتسبها في باريس .
فنثر طه حسين تحكمه ، في جزالته ، لغة القرآن ، وفي نصاعته ، دقة العقل الغربي ، وفي موسيقا جمله ، كونُه لا يكتب بيده ، بل يُملي فيستمع إلى إيقاعات كلماته قبل أن يرسمها على الورق " صاحبه " فيحرص على جعلها مسايرة لأوصال الفكرة التي تنشأ في خاطره ، ويُعنى بتوضيحها ، فيحلّل ويفصّل - حيث يُجمل غيره، ويكتفى بالإشارة والتلميح .(38/6)
فإشراق الجملة عند طه حسين آت من نصاعة الفكر وجزالة اللفظ ، ولكن أيضًا سعة النَّفَس - إذ العمى وضرورة الإملاء رسخا عنده نزعة إلى التريّث في النطق ، وإعطاء كل الحروف حق مخارجها وكل مداها . فأثَّر ذلك في سبك الجملة فجعلها تتفرع أوصالها في سعة وطمأنينة ، عند الإملاء ، وفي سائر أحاديثه المرتجلة .
أما الرجل الثاني ، فكاتب من بلاد المغرب الكبير - من تونس التي كانت منذ الفتح من أهمّ مراكز العربية والإسلام - كاتب انصرف ، منذ نعومة أظفاره ، إلى حفظ القرآن وسائر ما يُحفظ في بداية القرن ، استعدادًا لدخول جامع الزيتونة . ولكن الأقدار شاءت أن يتوجه محمود المسعدي إلى التعليم العمومي غير الزيتوني في تونس ، ثم إلى جامعة السوربون بباريس . فحذق الفرنسية وآدابها ، وبلغ من ذلك شأوا بعيدا كان يمكن أن يؤهله ، لو أراد ذلك، للكتابة بالفرنسية - مثل العديد من بني جيله في شمال إفريقيا . غير أنه اختار أن يكتب بالعربية منذ أول شبابه، "تأصيلا لكيان" ، كما يقول - لكيانه التونسي : بعروبته وإسلامه وأمجاد قومه.
ولم يكن من باب الصدفة أن ظهر في تونس _ بلد الحفاظ والاجتهاد معًا - كاتب فذّ مثل محمود المسعدي ، استطاع أن يؤلف بين متباينات : فقد كتب بلغة مُبدعة في أصالتها ، فأضفى عليها من روحه ومزاجه وثقافته . فإذا هذا المزيج بين لغة صمّاء كالحجر الصلد ، وما نفخ فيها من توهّجات وجدانه ، يتمخّض عن أدب نافذ إلى مغلقات الكيان ، ويختزل أوصال الزمان .
ولقد تعمّد المسعدي أن يكتب بلغة ضاربة في القدم . ولم يكن ذلك فقط لتشبّعه بالنصوص القديمة المؤسّسة لكيانه الروحي . كان ذلك منه أيضًا - في عهد كانت فيه تونس تحت الاحتلال - نضالا من أجل هويّة مجتمعه ، وأصالة ثقافته ، وكرامة أمته - بقدر ما كان بوازع جمالي ، وصبابة إلى أمجاد خلت .(38/7)
كتَب المسعدي بلغة رائعة الجمال ، هي إلى لغة القرون الأولى أقرب منها إلى لغة عصره ، آخذًا فيها بإيجاز صاحب "الأغاني " ، مع صرامة في الإيقاع ، واكتناز في العبارة ، وفُتوة في النفَس . ومن كل مؤلفاته تتضوّع حيرة في شأن الإنسان ومصيره ، وتساؤل - هو إلى الإيمان أقرب منه إلى الشك - عن غيب الوجود . ويكتنف كلّ كتاباته - ابتداء من قصة "المسافر" التي أعتَبِرُها ومضة من ومضات الأدب الحديث - مناخ من الإبهام والتلويح ، مع الاقتصاد في إظهار العواطف ، يُدخل أدب المسعدي في سياق الأدباء الفرنسيين المحدثين - من أمثال Paul Valery - أكثر مما يُدرجه في أدب المهجر الميّال إلى التبرّجات الوجدانية .
ولعل من الأسباب التي جعلت المسعدي غير ذائع الصيت في بلاد المشرق خلو كتاباته مما يمكن تسميته بعنصر "الطرب" الذي يُحبّه القارئ العربي في أشعارالمتنبّي ، مثلا ، بالأمس ، ونزار قبّاني اليوم ، ولا يجده فيما يكتبه التونسي أحمد اللغماني والفلسطيني محمود درويش : طرب الإيقاعات المتواترة ، والمحسّنات البديعية المتقابلة ، والتشابيه البعيدة المجاز - حتّى أن من علامات "الطرب" استعادة البيت المعجب ، فأصبحت سُنة عند تلاوة القصائد .
ولاشكّ أن كلاّ من محمود المسعدي وطه حسين يقوم أبلغ مثال على ما نريد تأكيده ، وهو أن لغتنا الفصحى هي ، في نفس الوقت ، مرآة لشخصية الفرد الذي يكتب بها ، وانعكاس لذهنية المجتمع -أو العصر- في سماته الفكرية والخلقية .
وبسبب هذه العلاقة الحميمة بين اللغة ومحيطها الاجتماعي ، نجد الفصحى تتلوّن أيضًا بحسب ذهنية كل شعب من شعوبنا . فلغة المغرب مغايرة للغة المشرق. ذلك أن المشرق ، بحكم تركيبته الثقافية والدينية - وربّما لشعوره ، واعيا أو غير واع ، أنه صاحب هذه اللغة الأول - فهو أميل إلى التصرف ، وأسرع إلى التطوير . أما المغرب ، فبحكم تلقّيه الفصحى مقترنة بالقرآن ، فهو شديد الحفاظ على نقاوتها وأصالتها.(38/8)
ويمكن إرجاع جملة الفروق بين لغة المشرق ولغة المغرب إلى ثلاثة أصناف: فروق لغوية ، ومميزات أسلوبية ، واعتبارات ثقافية .
فالقاموس يختلف من قطر إلى آخر ، إما بسبب استعمال كلمات قديمة بقيت في بلد واندثرت فيما سواه ، أو لاستعمال مفردات محليّة غير معروفة خارج القطر ، أو لاشتقاق ألفاظ لم يكتب لها أن تنتشر ، أو لتحميل مفردات أو اشتقاقات دلالات اجتماعية أو سياسية خاصة ببلد ، غير معروفة ، أو غير مقبولة ، في سائر البلاد العربية .
ثم إن المفاهيم العلمية الجديدة لم يكن لها عندنا اصطلاحات موحدة . فكثيرًا ما نجد اجتهادات مختلفة ، ولم تُعن الجهات المختصة بمعالجة الموضوع . لا سيما أن بعضنا لا يرى ضَيْرًا في إدماج كلمات حضارية بصيغتها الأجنبية ، والبعض الآخر يتحرّج من ذلك ، ويجتهد في البحث عن اشتقاقات ليست دوما موفقة.
ثم إن القطر الذي يملك وسائل إعلام واتصال أقوى هو الذي يتوصل إلى نشر قاموسه . ولعل أبلغ مثال على ذلك ترجمة " International " . ففي مصر يقال " دَوْلي " . والحال أن ما يرجع أمره إلى الدولة من مؤسسات يسمّى أيضًا دَوْليّا . ولما كانت العربية سمحة وتجيز ، عند الضرورة ، النسبة إلى الجمع ، اجتنابا للبس ، فينبغي أن نقول إذن "دُوَلي" للدلالة على ما يرجع بالنظر إلى عدد من الدول .
وترجمة كلمة " Privatisation "هي أيضا محل ارتباك بين أقطارنا . ففي المشرق تستعمل كلمة " خصخصة " التي جانبت الذوق . وفي بلاد المغرب يقال "خوصصة " وليست بأفضل من الخصخصة . والخلط في هذا المجال آت من أن ذوي الاختصاص في الاقتصاد لا يرون ، عند البحث عن مصطلحات جديدة ، فائدة في الاستنارة برأى أصحاب الاختصاص في اللغة ، فيقعون في مثل هذه الألفاظ الهجينة .(38/9)
أما المميزات الأسلوبية ، فالملاحظ في شأنها أنها من تأثير لغة أجنبية يغلب استعمالها في قطر أو إقليم . فالفرنسية أكثر تداولا في المغرب العربي ، ولذلك نجد أحيانًا سبك الجمل متأثرا ، عند الفئة المتعلمة في المعاهد الغربية ، بخصائص التركيب الفرنسي . أما في المشرق فالأغلب تأثير التراكيب الإنجليزية.
وأقرب مثال على دخول تراكيب أجنبية في الفصحى شيوع استعمال "هناك" لترجمة "There is" وهو تركيب غير عربي وغير ضروري . لكن عمَّت به البلوى في المشرق والمغرب على السواء، ولم أره ألبتة فيما قرأت من كتب طه حسين .
* ... * ... *
واعتبارا لخصائص كل من الثقافتين الفرنسية والإنجليزية ، فإن تأثير كل منهما يولّد لونا ذهنيّا متميّزا عند الكُتاب المتأثرين بالأنموذج الفكري الأجنبي . بل إن الأمر يؤول أحيانا إلى الكتابة بألفاظ عربية ، مجموعها يؤلف شيئا غريبا عن ذهنية أبناء العربية . وليس ذلك راجعا بالضرورة إلى عسر بعض الدراسات المعمقة . فقد يكون الانغلاق أيضا نتيجة تفكير سابق بمفاهيم أجنبية ، دون تكلّف مشقة التحويلات اللازمة إلى الذهنية العربية .
ويتصل بهذا النوع اعتقاد بعضهم أن اللغة العربية تعوزها الدقة التي عليها اللغات الأجنبية . ولهذا السبب يركن بعضهم إلى التفكير بلغة أجنبية في مرحلة أولى ، تحاميا للاندفاعات الخطابية التي تقترن بالعربية ، حسب تقديرهم . وهل من حاجة بنا إلى الردّ على هذا الرأي ؟ فالنص الأول المؤسس للفكر العربي -وهو القرآن- يبرهن على أن كل لفظ من ألفاظه له مدلول دقيق ، وأنه لا مجال في المفردات القرآنية للترادف المكرّر للمعنى . ثم إن كل آية من آياته تبلغ من البيان ، والدقة والإيجاز ، بحيث تصبح آية إعجاز في التعبير .
* ... * ... *(38/10)
من جملة الملاحظات السابقة يتّضح مدى تأثير اللغة ، باعتبارها أداة "تعبير" حضاري - أعني أداة لـ"عبور" مؤثرات حضارية من أمة إلى أخرى . وهي ظاهرة عامة وقديمة قدم الإنسانية . لكن لا ينبغي لها أن تنقلب إلى غزو حضاري أو إلى ما يورث التشويه والمسخ .
وبقدر ما نعتبر ضروريًا مُواصلة تطوير لغتنا الفصحى - هذه الأداة الرائعة البيان - فإنّا نرى لزاما مراقبة هذا التطوير ، حتى لا يتجاوز الحد الذي يقتضيه نموّ مجتمعاتنا وتوسع الفكر والعلوم عندنا .
وفي هذا الصدد ، لابد من متابعة محورين : قاموس اللغة، وتراكيبها. أما التراكيب ، فهي هيكل اللغة ، وانعكاس الفكر الذي تترجم عنه اللغة . ولكل لغة مناخها ومميزاتها الذهنية المرتبطة بما لأهلها من خصائص عقلية وخُلقية . ومن لوازم التوسّع الفكري أن يتبعه تطور في مستوى هيكل اللغة .
أما قاموس الفصحى ، فتنميته متواصلة منذ أقدم عصورها ، بواسطة الإدماج والاشتقاق . ولكل منهما ضوابط . فالاشتقاق تحكمه سلامة الذوق. والإدماج لا ضرر منه ، إن لم يصحبه غلو ، بغير ضرورة .
ثم إنه لا مناص ، في التعبير عن المعاني الجديدة ، من اعتبار سنة هي عامة في سائر اللغات : وهي أن الألفاظ كائنات حية ، تنمو وتذبل ، وتغتني بدلالات جديدة قد تضاف إلى ما قبلها، وقد تغلب عليه فتجعله في طي النسيان ، وهو ما حصل لعدد من المفردات نجدها فيما كتب في القرن الأول ، ولكنها غابت عن الاستعمال في القرون التالية .
وإن كان من ضوابط عامة لقضية التطوير ، فالاستعمال هو الذي يجدر اعتباره في أغلب الأحيان . فجريان العادة من الصعب معاكسته . وهو الذي -مثلا - فرض كلمة تليفون، وغلب استعمالها على كلمة "هاتف" وهو الذي رسّخ كلمة "الإذاعة" عوضا عن "الراديو" التي شاعت في أول الأمر واختصت اليوم بجهاز التقاط البث الإذاعي.(38/11)
ولكن من الواجب مقاومة الاستعمالات العقيمة ، مهما جرت العادة بالتلفّظ بها ( مثل دَوْلي بدلا من دُوَلي ، و"مرطّبات" لتسمية أنواع الحلوى فى تونس ، واستعمال " ينبغي عليه " خلافا للاستعمال الصحيح وهو "ينبغي له " (ثم هو لا يستعمل في معنى الوجوب ولكن في معنى الجواز والاستحسان). وكذلك من الضروري حماية الفصحى من الاشتقاقات الثقيلة المتكلّفة، والألفاظ الأعجمية التي لا ضرورة تدعو إلى إدماجها ، لوجود ما يقابلها في لساننا.
* ... * ... *
وخلاصة القول في هذا الصدد أن ما نريده للغتنا الفصحى إنما هو التطوير الحقيقي ، لا التغريب الذي هو نتيجة تغريب في الفكر . فأدباؤنا ومفكّرونا وعلماؤنا كثيرا ما ينطلقون في دراساتهم وتأملاتهم وتحليلاتهم من "مراجع" فكرية أو أدبية أو علمية - تابعة للثقافة الغربية، تأثرًا بما تلقوه في عهد دراساتهم الجامعية. وهو أمر لم يكن لهم منه بد. ولكن أليس الوقت قد حان لمراجعة مسيرتنا الفكرية على أسس مستوفاة الأصالة ؟ وفي ذلك عمل جبار ، على جامعاتنا ، في كل أقطارنا العربية ، أن تقوم به - بتنسيق حثيث من المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة - وبهدف ربط الفكر الحديث بمنطلقات عربية سقطت من ذاكرتنا في عهد التخلف . وبذلك يتمّ التسلسل الذي يجعل الفكر عندنا ينغرس في جذور عريقة . ولئن بدأت بوادر هذه المراجعة عند بعض مفكرينا ، فإنه لابد أن يصبح ذلك مشروعا قوميًا تضطلع به معاهد الدرس والبحث في الوطن العربي .
وتمهيدًا لذلك ، يجدر أن نعمد إلى أمهات المراجع العربية والإسلامية ، فنتناولها بالتمحيص ، ليتسنّى لنا الربط بينها ثم الربط بينها وبين الفكر المعاصر ، وإقامة السلسلة التي تجعل مسيرة الفكر عندنا واضحة المعالم . وإنّي على يقين أننا ، بفضل هذه المراجعة سوف نتمكن من استخراج "أدوات عمل" نعتمدها في مختلف اجتهاداتنا ، حتى لا نبقى أيتام تراثنا ، غرباء عن مائدة الفكر الإنساني.(38/12)
3- الفصحى في مقدمة مقوّمات الأمة
في حديثنا عن الفصحى ، وكذلك عن الدارجة ، حرصنا على بيان الصلة المكينة بين أداة التعبير وبين الذهنية الجماعية . ولئن كان من واجبنا أن نغار على أصالة لغتنا - دونما تشنّج ولا تزمّت - فإنما ذلك من باب الحرص على أهم مقومات مجتمعاتنا : وهي اللغة التي تمثل، في مستوى الدارجة ، خزّان التراث الحضاري لكل شعب من شعوبنا ، وفي مستوى الفصحى، خزَّان التراث القومي لجموع شعوبنا التي منها تتألف الأمة . ومن وسائل الحفاظ على تراثنا القومي صيانة الفصحى ودرء المفاسد عنها .
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد . فإذا نحن تأملنا في كل ما تضطلع به اللغة من مهام، فإنا نجد في مقدمتها تصوير "الفعل" المعتزم القيام به ويعتبر ذلك مرحلة أولى من تنفيذه . وبحسب نوعية التعبير - قوّته وضعفه - يتكيّف الفعل . وقد يتغلب التعبير ويطغى إلى حد أنه يُلغي الفعل ويحتل مكانة لدى الفرد أو الجماعة . فالفعل ينحت اللغة ، واللغة تنحت الفعل - أو تعطّله - والفعل بدوره له انعكاس رجعي على اللغة ، بحسب ما يصاحبه من ظروف ، أو ما ينتج عنه من ظواهر يُحتاج إلى التعبير عنها.
ومنذ بدء الحضارات الإنسانية ، والكلمة تتحكم في شؤون الإنسان ، أفرادًا ومجتمعات ، بما تحمله من حركة الفكر وانفعالات النفس ، وطموحات وقيم . فلذلك كان للكلمة دوما دور قائد في حياة الإنسان وتكييف مصيره - سواء بواسطة الدعوة الدينية أو التغنّيات الشعرية أو الخطب السياسية . فالكلام مكيّف لعقل الإنسان ووجدانه وسلوكه، بدونه لا تكتمل إنسانية الفرد ، ولا لحام القوم، ولا حضارة الأمة .
بهذا الاعتبار ، فإن العناية بلغتنا الفصحى واجب ثقافي وحضاري ، إذ هي ضرورية لنموّ المجتمعات العربية ، وواجب قومي في نفس الوقت ، لأن التحام سائر مجتمعاتنا العربية في أمة واحدة يتوقف على الاشتراك في اللغة الفصحى ، في استعمالها وتنميتها .(38/13)
ثم إنه لما كانت لغة العلم والثقافة والفكر عندنا ، هي الفصحى ، فأهمية هذه الأداة حيوية . ولا نعتقد أن الطاقات الفكرية لمجتمع ما يمكن تطويرها بلغة أجنبية ، من دون أن ينجر عن ذلك انسلاخ تدريجي عن الحضارة الأصلية الخاصة بذلك المجتمع ، وبالتالي مخاطر جسيمة على كيان المجتمع باعتباره وحدة حضارية قبل أن يكون وحدة اقتصادية .
فإن عمد شعب من شعوبنا العربية ، في مسيرته الإنمائية ، إلى اقتباس العلوم والتقنيات اللازمة ، دون هضمها وتحويلها إلى لغته ، ليتمّ له بذلك تملّكها و"الاستيلاء " عليها - حسب عبارة ابن خلدون - فمن الواضح أن عملية التنمية ستبقى عرجاء ، إذ هي لم تشمل اللغة الوطنية - أو القومية - وما إليها من طاقات المجتمع الحضارية . وبالتالي سيتولّد عن ذلك جملة من العلل الاجتماعية ، منها الهجرة الذهنية .
وبذلك ندرك مدى أهمية الفصحى في سياق تنمية مجتمعاتنا ، إذ التنمية ليست ممّا يُمكن استيراده من الخارج ، وإنما هي عملية يقوم بها المجتمع بنفسه ، من خلال الهضم والاستيعاب ، فكرا وتعبيرا ، بفضل أداة التملّك الأساسية لدى الإنسان وهي اللغة . وبدون ذلك تبقى التنمية سطحية ، غير منغرسة في تربة ثرية تفتّق الطاقات الذاتية التي هي مرتكز التنمية .
* ... * ... *(38/14)
فإذا كان الأمر كذلك ، فواضح أن تنمية الفصحى من شروط تنمية مجتمعاتنا، لأنها هي لغة العلوم والثقافة والتقنيات ، بالنسبة إلينا جميعًا . لكن ، لمّا كانت الفصحى ملكا مشتركا بين كل شعوبنا ، فذلك يُخرجها عن أن تكون لغة معزولة ، إذ يشترك في الانتساب إليها شعوب عشرين دولة ، تحتل منطقة من أهمّ مناطق العالم ، من الناحية الاستراتيجية . وهو ما يزيد في أهميتها ، وفي الوقت نفسه يمثّل عامل تسريع لنموّها بفضل تضافر جهود كل الشعوب المنتمية إليها . ومن ذلك نستنتج ضرورة تعاون شعوبنا في النهوض الثقافي والحضاري . ويتضامن هذا مع أسباب اقتصادية تفرض على دولنا إقامة مشروع إنمائي عربي ، إذ التنمية الشاملة الحقيقية لم تعد في متناول الشعوب المعزولة ، في عصر تسيطر فيه الكتل العظمى على الاقتصاد الدولي . وقد بينّا ذلك بيانا ضافيا في فصول أخرى غير هذا الحديث .
ولاقتناع دولنا ، أثناء السبعينيات ومطلع الثمانينيات ، بضرورة إقامة مشروع إنمائي مشترك ، شرعت في إعداد العدة له ، في قمة عمّان سنة 1980م لكن هذا العزم خارَ ، بسبب الحرب الإيرانية العراقية ، ثم انتكس إثر نكبة الكويت وما تبعها من مصائب زرعت اليأس من جدوى عمل عربي مشترك يتّصف بالإيجابية التي تحقق طموحات شعوبنا ومنعة دولنا .(38/15)
واليوم بعد مرور خمس سنوات على زلزال الخليج فهل من أمل في إحياء العزيمة على بعث المشروع الإنمائي العربي؟ الحقيقة أن هذا المشروع ولد ميّتا، لأنه كان يعاني ما كان يشكو منه العمل العربي المشترك في كل مراحله ، أعني أزمة الثقة بين دولنا ، لاختلافها في شؤون كثيرة وهامة ، منها تصوّر مصالحها الخارجية ، والاختيارات الداخلية في مجالات الاقتصاد والاجتماع والسياسة . ومما لاشك فيه ، أيضا ، أن العلاقات بين دولنا كثيرا ما اصطدمت بتصرفات البعض منها ، وبتجاوزات لفروض الاحترام المتبادل لسيادة كلّ منها. ولاشكّ أيضا أن فكرة "الأمن القومي" - في سياق هذه العلاقات المتوتّرة في أغلب الأحيان - لم تكن محل اقتناع ، بالنسبة إلى الجميع .
تلك تجارب مؤلمة ومأساوية أحيانا . لكن ، مهما بلغت هذه التجارب من الخطورة ، ومهما بقيت الجراح نازفة ، أليس من واجب رجال الدولة الذين يقودون سفينة أمّتنا أن يفكروا في الطرق الكفيلة بتجاوز هذه الأحقاد وهذه الرواسب؟ أليس لنا أسوة مقنعة فيما انتهجته أوربا الغربية ، بعد حروب دامية وأحيانا وحشية ؟ وقد وفقت هذه الدول إلى تنظيم مسيرة إنمائية جنّبتها الحروب البينية ، وضمنت لها مركزا دوليا مرموقا.
أنكون نحن العرب وحدنا ضحية اليأس والاستسلام للتشاؤم بالمستقبل . فننفض أيدينا من كل عمل مشترك ، ونكفر حتى بمعنى "الأمة العربية "؟ إن هذا الموقف اليائس مخالف - أولا وبالذات - للمصلحة الوطنية لكل دولة من دولنا ، إذ كل واحدة منها ، إذا بقيت منفردة معزولة في تعاملها مع الخارج ، ستكون عرضة للنهب الدولي ، وفريسة للقوى العظمى التي لا ترحم ، ولا تعتبر غير مصلحة شعوبها . أليست المصلحة الحقيقية تدعو كل دولة من دولنا إلى التفكير في طريقة الخروج من المأزق الذي تردّت فيه العلاقات العربية منذ 1990م ؟
* ... * ... *
وأودّ أن أختتم هذا الحديث بتأكيد ما توصلنا إليه من استنتاجات :(38/16)
أولها أن مصير لغتنا الفصحى مرتبط بمدى تطوّر مجتمعاتنا ، واجتهاد رجال الفكر والأدب والعلم عندنا في تطوير الفصحى التي يتخذونها أداة للتعبير عن شواغلهم وآرائهم وحصيلة بحوثهم ، لأن تطور مجتمعاتنا لا يتم إلا إذا كانت التنمية عملية شاملة لسائر القوى المادية والمعنوية . ولنا تجارب فى ذلك مقنعة ؛ فكلّما رُكّزت الجهود الإنمائية على العوامل الاقتصادية والتقنية وحدها ، أخطئ الهدف الذي هو النهوض الحضاري بالمجتمع ، لا مجرد التوسع الاقتصادي . وللغة دور محوري في التنمية، باعتبارها جملة من الشرايين الهامة، من خلالها يتدفق التطّور إلى سائر جسم المجتمع .
ثم إننا خلصنا إلى أن عملية التنمية في كل شعب من شعوبنا تصطدم بواقع دولي قاس ، وهو أننا في عصر سِمَتُه الغالبة "عولمة" الاقتصاد وسيطرة كتل عظمى عليه . فلا سبيل لشعب منفرد أن ينهض بشؤونه الإنمائية إلالائذًا بإحدى هذه الكتل ، اقتصاديا وتقنيًا ، ولكن أولا وبالذات ، لغويا وثقافيا . هذه منزلة سويسرا في انتمائها المزدوج إلى ألمانيا وفرنسا لغويا وثقافيا ، وكذلك البلاد الإسكندنافية ، إذ اختارت الإنجليزية وسيلة اتصال بالعالم المتقدم الذي يصنع العلم والتكنولوجيا . هذا مع عدم إغفال أن هذه الشعوب تنتمي جميعا إلى نفس الحضارة الغربية المسيحية ، وتتّخذ من الإنجليزية وسيلة اتصال بينها ، مما يسهل انتماء بعضها إلى بعض .(38/17)
أما شعوبنا فستكون ، في هذا العالم الذي صورنا ، مضطرة إلى أحد خيارين: إما السعي إلى التنمية ، كل على حدة ، وهذا يُفضي إلى انحسار حضارتنا وتقلص استعمال لغتنا في شؤون الثقافة والفكر والعلم ؛ وإما ، وهو الخيار الثاني ، التكتل فيما بينها لإنشاء قوة جماعية قادرة على النهوض بالمسؤوليات الإنمائية، اقتصادا وثقافة معا . وهذا الخيار لا يعني الانغلاق ، بل إنه لا يستقيم إلا بالتعاون، إلى أبعد الحدود الممكنة ، مع الكتل الكبرى ، لكن بما لا يهدد شخصيتنا الحضارية ولا ذاتيتنا الثقافية ولا حيوية لغتنا . وهو الخيار الأمثل ولكنه يتطلّب مراجعة جذرية للتنظيمات التي عليها العمل المشترك . وفي هذا الصدد ، لدولنا عبرة فيما أقامته أوربا الغربية بين دولها من اتحاد لم يلغِ سيادتها ، وحقق لها مكاسب وإنجازات عظيمة ليس أقلها استتباب السلم بينها منذ نصف قرن .
واعتقادي أن لا خيار لدولنا غير تنظيم عمل مشترك على أسس مستوحاة من التجربة الأوربية التي فتحت لأعضائها مجالات للتعاون ضاعفت من قوتها الإنمائية وأكسبتها في العالم وزنا عظيما . وبذلك تكون دولنا، في نفس الوقت ، قد خدمت مصالحها الوطنية الخاصة ، وفتحت لأمتها العربية عهدا جديدا يمكّنها من أن تطمح إلى العز والازدهار ، بإحياء ثقافتها وتنمية لغتها - لغة القرآن التي هي رباطها وعنوان تضامنها وتكافلها في كل الشؤون الأساسية ومنها وقاية أبنائها من مذلة البحث عن الرزق في أقطار يُسامون فيها أنواع الخسف .
* ... * ... *
إن العمل العربي المشترك محتاج ، في هذا الظرف إلى نفس جديد . ولن يُكتب له أن يتحرّك من عقاله إلاّ بدفع قوي - من إحدى دولنا أو كوكبة من دولنا - يعيد الإيمان بجدوى التعاون العربي ويمكِّن من تجديد آلياته وتصحيح مساره وضبط مقاصده .
وكلّنا يذكر الدور الحاسم الذي قامت به ، منذ تأسيس الجامعة ، الدولة المصرية ، بالتعاون مع عدد من الدول الأعضاء .(38/18)
والسؤال الذي يخالجنا جميعا اليوم ، أمام هذا الخِضَمِّ من التناقضات والخلافات والتمزقات ، هو : الآن وقد هدأ زلزال كامب ديفيد ، ألم يحن لمصر أن تستأنف رسالتها القومية وسط أسرتها العربية ؟ بل إن الهاجس الذي يساورنا جميعا هو:ألم يحن الوقت لتعود مصر إلى حمل رسالتها العربية؟ مصر النهضة ، مصر الكفاح من أجل العزة والكرامة العربية .
لكن يقيننا أيضا أن مصر قادرة على تحمّل هذه الرسالة بالوئام مع نفسها ، وأن قدرتها على ذلك من قوة تماسك شعبها وسماحة كل أبنائها .
الشاذلي القليبي
عضو المجمع من تونس(38/19)
سيداتى ، سادتى
باسم المجمع أشكر لحضراتكم تلبيتكم لدعوتنا وكريم مواساتكم فى تأبين زميل جليل ، هو المغفور له الاستاذ الدكتور حسين مؤنس ، وكانت وفاته الفجائية صدمة كبيرة هزت أعصاب المجمعيين والمؤرخين والعلماء فى مصر وجميع البلاد العربية ، فالفجيعة فيه كانت عامة شاملة . ومن سنن المجمع التى سنهارئيسه المرحوم الدكتور طه حسين أن يقيم حفل تأبين للراحلين من أعضائه تكريما لذكراهم الطيبة وتنويها بما نهضوا به من جهود علمية صادقة فى خدمة العربية والعلم والادب . وانى أبكى أخا من اخوانى الاقربين منذ أيام الدراسة فى كلية الاداب بجامعة القاهرة وعلما شامخا من أعلام مصر فى القرن العشرين وركنا من أركان نهضتنا العلمية والفكرية والأدبية .
وقد ألف ونشر - رحمه الله – المجلدات الضخام فى السيرة النبوية العطرة ، وفى علم الإسلام وخصائصه وثقافته وحضارته ،
وفى تاريخ الإسلام وفتوحه السلمية فى إفريقيا وآسيا وفى تاريخ المغرب العربى والاندلس الاسلامية . ومن مصنفاته تراث مصر القديمة ، والشرق الاسلامى فى العصر الحديث ، ومصر ورسالتها وعلاقتها بالعرب والدول الافريقية والبحر المتوسط ونور الدين بطل الحروب الصليبية والحضارة ، ونشأتها ومسيرتها فى الأمم وفى العصر الحديث ، ووضع أطلس تاريخ الإسلام ، وهو دائرة معارف كبرى تاريخية وجغرافية تنوء بها العصبة أولو القوة .(39/1)
وشارك الدكتور حسين مؤنس - منذ بواكير حياته – فى ترجمة الاعمال العلمية العربية القيمة ، من ذلك القسم الخاص باسبانيا والبرتغال فى كتاب تراث الاسلام وكتاب تاريخ الفكر الأندلسى لبالنثيا ، وهو موسوعة كبيرة فى الفكر الأندلسى من جميع جوانبه الثقافية والعلمية والادبية ، مع بيان أثر الفكر الاندلسى أدبا وفلسفة وعلما فى الفكر الاسبانى والاوربى . وحين جمع بين أستاذيته فى كلية الاداب وادارته للثقافة فى وزارة التعليم أنشأ مشروعه المشهور الالف كتاب ، ليزود الشباب المصرى بمواد كثيرة مترجمة من المعرفة
العامة ونشرت من هذا المشروع مئات من الكتب النافعة المفيدة . وترجم بعض مسرحيات اسبانية . وله تحقيقات علمية قيمة لطائفة مهمة من كتب التراث العربى والاندلسى .
وحين أسس لمصر معهد الدراسات الاسلامية بمدريد أنشأ له مجلة علمية تتناول
الاندلس فكرا وتاريخا وأدبا .
وكان الدكتور حسين مؤنس أدبيا بارعا وله مسرحيات وأقاصيص متنوعة صور فيها قضايا قومه تصويرا بديعا . ومنذ أن كان طالبا فى كلية الاداب يكتب فى الصحف والمجلات مقالا لا تكاد تحصى . ورأس تحرير مجلة الهلال سنوات متعاقبة ، وكان له مقال أسبوعى فى مجلة أكتوبر ظل يكتبه الى أن اختاره الله الى جواره .
الأستاذ الدكتور رئيس المجمع والسادة الزملاء ،(39/2)
شكراً جزيلا لكم أن سمحتم بعقد هذا التأبين فى رحابكم وحيث مضينا فى تأبين زميل عزيز ومؤرخ وافر المعرفة هو الأستاذ الدكتور حسين مؤنس محمود . والتأبين فيما هو معروف هو الثناء على الشخص بعد موته ، وهو افتقاد آثر الشىء ، على أن يقبل بخير . وقد ورد له تأبين قريب بقلم الأستاذ الدكتور محمود على مكى ، وأسند له رسالتان إحاهما لدرجة الماجستير عنونت بعنوان " الشرق الإسلامى فى العصر الحديث " ونشرت فى عام 1934 ،ورسالة أخرى لدرجة الدكتوراة نشرت بدورها فى عام 1947 بعنوان " فتح العرب للمغرب " " وكان فى كل من هاتين الرسالتين شىء يحتذى متنوع الثقافة ، ومن مظاهر الاهتمامات فى شخصيته ، وكان كثير الأسفار إلى الخارج ، وزار جامعات فرنسا وسويسرا وآلمانيا وانجلترا
وأسبانيا بخاصة ، وكثيرا ما مجد فيه فكر الأستاذ الدكتور طه حسين ، واعترف بمودة كبيرة للرسلين الكبيرين أبو ريده والنشار ، وعاش هو بينهم جميعا كأديب ناقد ، وكاتب ساخر ، ف غيى صخب أو تباعد ، وقد تأثر بإغراء الأندلس وصحوة المغرب وانفتاح مجالات أمريكا اللاتينية الناطقة بالاسبانية ، وكثرة المراكز المصرية للدراسات الإسلامية فيما بين عامى 1950 و1957 بخاصة .
وليس هناك من ينكر أن الدكتور مؤنس قد زود المكتبة العربية بعشرات وعشرات من المؤلفات والمقلات ذات الصيغة الأدبية والثقافية والصحافية ، وبهذا تنوعت الآراء بشأنها وشأن أمثالها .
ففى مجال تحقيقالتراث وتاريخ الاقتصاد القديم أصدرت طبعة ثانية للخراج ليحيى بن آدم القرشى ، وضوابط دار السكة ، والربا وخراب الدنيا ، ورياض النفوس للقيروانى . وعن ذخائر العرب عمل على نشر طبعة لابن الأبار ، ونشر للمقريزى النزاع بين بنى أمية وبنى هاشم .(39/3)
وفى مجال التاريخ نشر رسالته فى التاريخ الإسلامى ، كما نشر " أطلس التاريخ الإسلامى " " وموسوعة تاريخية " وظهر له " التاريخ والمؤرخون " ، وتاريخ موجز الفكر العربى " ، " وفجر الأندلس " وتراث الإسلام " ، " وحضارة الإسلام "، وتاريخ المساجد " ، والبطولات .
وفى مجال الجغرافيا نشرت " جغرافية العالم الإسلامى " والجغرافيا والجغرافيون " .
وفى الإسلاميات ظهر الفاتح الاسلامى ، وصور من البطولات العربية .
وفى السياسة ترجمت " ثورة الفلاحين " ، ومقدمات ثورة 1919 م . ومن القصص الرمزية حكايات خيرستان وظهر باشوات، وسوبر باشوات ، وظهرت إدارة عموم الزبر .
كان مؤنس من النماذج التى جمعت بين الأضداد ، وجمع هو بين اللامبالاة ومعاناة ابن البلد .
وكان من المفترض أن ينشر ألف كتاب فى السنة ، بمعدل نحو ثلاثة كتب فى اليوم الواحد بين مؤلف ومترجم – وصدرت بعدها طبعات رخيصة ميسرة لكل الطائف وتنتشر فى أمريكا الوسطى .
وإلى جانب كل هذه الاهتمامات والآمال كان للدكتور مؤنس كلفه بالموسيقى العربية والافرنجية والعزف عليها .
وكان له الإسهام فى مشروع الألف كتاب، ورئاسة معهد الدراسات بمدريد . وظهرت من قصصه المنشورة قصة آدم يعود للجنة ، وحكاية خيرستان ، - وعندما تشرق الشمس ، وإدارة عموم الزير . ، والفتوة – والخلخال …. إلخ .
وعندما استقر الدكتور مؤنس فى القاهرة تقلد عدة أعمال مالية وثقافية كان من أهمها الاشتراك فى مشروع الألف كتاب ، وأجاز عدة رسائل أكاديمية لتلاميذه فى الكويت والخليج والعراق فضلا على مصر – وهكذا ظهرت رسائل جامعيه عن تاريخ اندنيوسيا على مر العصور ، وتساريخ الدولة الفاطمية فى مصر ، وتاريخ القبائل اليمانية فى الأندلس وتاريخ البربر ، والإدارة المركزيه للدولة الأموية ، وغيرها كثير أيضا .(39/4)
وكللت أعمال الدكتور مؤنس أخيرا بالتقدير الكبير وعين عضوا فى المجلس الأعلى للصحافة ، والمجالس القومية المتخصصة ، ومجمع اللغة العربية الموقر – وتوفى إلى رحمة الله فى 17 مارس 1996م
بعد حياة حافلة وسمعة عريضة .
عبد العزيز صالح
29/5/96
كان رحمة الله أمة وحده !
كان هذا هو مايدور بخاطرى وأنا ألقى عليه نظرة الوداع الأخيرة ، وهو مُسَجًّى على فراشه . لم تكن تعلو وجهة تلل الصفرة والشحوب اللذان تتشح بهما وجوه الموتى ، بل كان وجهه ناضراً ومُوَرداً كالعهد به وهو فى عالم الأحياء … وكانت تعلو شفتيه ابتسامة ، وكأنها تعبير عن الرضا والراحة بعد حياة قضاها طولا وعرضا وأدى خلالها رسالته فأحسن الأداء.
فى لحظات تواردت على مخيلتى ذكريات علاقة حميمة اتصلت بيننا على مدى مايقرب من نصف قرن . كانت المشاهد والصور تتزاحم فى فكرى كأنها شريط سينمائى أسىء تقطيع فصوله ، فاختلطت فيه صور قريبة العهد لا يتجاوز عمرها أياماً بصور أخرى ترجع إلى سنوات طويلة وضت ، ولكنها كانت جميعا إلى النفس محببة إلى القلب .
كانت صلتى المباشرة به ترجع إلى منتصف الأربعينيات حينما جنست إليه مجلس التلميذ فى محاضرات التاريخ الإسلامى . وكانت مادة التاريخ مقسومة بينه وبين الدكتور حسن إبراهيم حسن ، فقد كان الدكتور حسن إبراهيم يدرس لنا تاريخ الدولة العباسية ، وكان مؤنس يحاضرنا فى تاريخ مصر الإسلامية . وكانت هذه المادة مشتركة بين طلبة قسم التاريخ وقسم اللغة العربية الذى كنت أنتمى إليه .
بين الصحافة والتاريخ:(39/5)
كثيرا ما كان يراودنى وأنا أستمع إلى محاضراته سؤال لم أهتد إلى جوابه إلا بعد زمن لا أذكر مدى طوله . فقد كنت أقرأ وأنا مازلت فى المرحلة الثانوية فى أقصى الصعيد لكاتب يدعى حسين مؤنس ينشر مقالاته فى مجلة " الاثنين " الأسبوعية التى كانت تصدرها دار " الهلال " كان كاتبا رشيق العبارة يتناول بالنقد بعض جوانب حياتنا وعيوب مجتمعنا فى فكاهة رقيقة وسخرية غير جارحة . وكنت أتابع تلك المقالات فى شغف إذ كانت أشبه بما كان القدماء يدعونه " السهل الممتنع " ، من بساطة تشد إليها القارئ وخفة ظل تسحوذ على اهتمامه .
أيكون هذا الكاتب الصحفى هو نفسه ذلك الأستاذ المتخصص الذى يحمل طلابه على الحوار والمناقشة ثم لايبخل عليهم بعد نهاية المحاضرة بجهد أو وقت لكى يوجههم ويجيب عن أسئلتهم رفيقاً بهم حانياً عليهم ؟ أم أنهما شخصان مختلفان جمع بينهما تماثل الأسماء ؟ ومضى وقت غير قليل قبل أن أعرف أن الاسمين لشخص واحد . وكان ذلل أول مظهر أكتشفه من مظاهر تنوع الثقافة وتعدد الاهتمامات فى شخصية حسين مؤنس .(39/6)
وكان المظهر الثانى هو ما تبين لى فى أثناء العطلة الصيفية لنفس السنة الدراسية التى كان حسين مؤنس يلقى علينا فيها محاضراته حول مصر الإسلامية . وكنت أقضى هذه العطلة فى بلدى " قنا " فى جوف الصعيد . وكانت فى دارنا مكتبة غنية مانت تشتمل على عدد كبير من الكتب الأدبية والتاريخية مما كان يعنى بجمعه أخى لأكبر رحمه الله . وبين هذه الكتبْ إذا بى أعثر على مجلد ضخم مطبوع على ما أذكر فى سنة 19034 وهو بعنوان " الشرق الإسلامى فى العصر الحديث " من تأليف حسين مؤنس . وعرفت أن هذا الكتاب كان رسالته التى تقدم بها لنيل درجة الماجستير ، ولعله كان أول كتبه فى ميدان الدراسات التاريخية ، وبعد شهور إذا بى ألتقى فى مكتبة جامعة القاهرة بكتاب آخر هو " فتح العرب للمغرب " لمؤنس أيضا .وهو رسالته لنيل درجة لدكتوراه ، وتاريخ نشره هو عام 1947 ، ثم بدراسة أخرى منشورة له فى حوليات كلية الآداب بجامعة القاهرة فى سنة 1948 ، وكانت باللغة الفرنسية وموضوعها " سقوط الخلافة الأموية فى قرطبة " . فكان عجبى يزداد من هذا الأستاذ الجامعى الذى يدرس تاريخ مصر الإسلامية ويكتب فى تاريخ الشرق الإسلامى فى العصر الحديث وينتقل بعد ذلك إلى تاريخ المغرب فى بداية حياته الإسلامية ، ثم يثبت إلى الأندلس فيتحدث عن حقبة مضطربة من تاريخها العربى . وهو فى ذلك يراوح فى الكتابة بين العربية والفرنسية ، ويضيف إلى كل ذلك كتابات يصعب تصنيفها ، فهى بين المقال الاجتماعى واللوحة القصصية والفكاهة الساخرة .
الأندلس : هواه الأول :(39/7)
ومضت على ذلك سنوات تخرجت خلالها من كلية الآداب ، ثم أوفدت فى سنة 1950 فى البعثة الأولى التى اختارها الدكتور طه حسين أثناء توليه لوزتارة المعارف للدراسة فىأسبانيا ، وذلك بمناسبة افتتاح المعهد المصرى للدراسات الإسلامية فى مدريد . وهناك علمت أن فكرة إنشاء هذا المعهد – وهو المؤسسة العلمية الوحيدة لنا فى الخارج – ترددت فى ذهن رائد ثقافتنا العظيم منذ سنة 1938 حينما أصدر كتابه " مستقبل الثقافة فى مصر " ، ولكن الفكرة لم تتجسم فى هيئة مشروع مكتمل إلا بفضل مذكرة كتبها حسي مؤنس فى أوائل الأربعينيات ، وذلك بعد زيارة كان قد قام بها إلى إسبانيا فى صيف سنة 1940 ، وكانت الحرب الأهلية الإسبانية قد وضعت أوزارها قبل ذلك بشهور والخراب يعم أنحاء البلاد . ولكن مؤنس كان يرى ببعد نظره أن من مصلحة بلادنا توثيق علاقاتنا بهذا القطر الذى عاش أسلافنا العرب فى رحابه نحوًا من عشرة قرون . على أن أول مدير لذلك المعهد الذى افتتحه طه حسين سنة 1950 كان أستلذنا الفاضل محمد عبد الهادى أبو ريدة أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة ، وبعد سنتين قامت ثورة يوليه 1952 ، فأتى إلينا مدير جديد هو على سامى النشار الذى ولى إدارة المعهد سنة واحدة . ثم إذا بحسين مؤنس يأتى إلى مدريد فى السنة التالية ، فيتولى إدارة المعهد سنة أخرى ( بين 1954 و 1995 ) . ومع قصر هذه المدة فقد كانت خيرًا وبركة على المعهد وعلى العاملين فيه من أمثالنا من الطلبة الذين كانوا يعدون رسائلهم لنيل الدكتواه . فقد كان مؤنس خيرعون لنا المضى فى عملنا وجازيناه خيرًا بخير ، فعاوناه على استكمال مكتبة المعهد حتى أصبحت من أغنى المكتبات العربية فى أسبانيا ، وعلى تحرير العدد الثانى من مجلة المعهد التى لم تلبث أن عذت من خير المجلات الأكاديمية فى أوربا بقسميها العربى والأوربى ، وكان مؤنس يجد الذى ورثه عن عمله فى الصحافة قد أرسى لها من التقاليد ما أصبح ضوابط(39/8)
متبعة فيما بعد سواء فى إخراجها وتبويبها أو فى محتوى مادتها العلمية التى حرص على أن تكون فى أرفع مستوى . ومن هنا خف إلى الاشتراك فى تحريرها عدد من كبار المستشرقين الإسبان والأوربيين . ولم ير مؤنس بأسا فى أن يفسح صفحات المجلة لنا وكنا لا نزال نُدِدَّر رسائلنا الجامعية ، ففى هذا العدد الثانى نشرت أول بحث لى حول " التشيع فى الأندلس " بالإضافة إلى الاشتراك فى باب نقد الكتب .لم يطل مقام حسن مؤنس فى إسبانيا ، فهو لم يتجاوز سنة واحدة ، ولكن ما أنجزه خلال هذا الزمن اليسير جعله دائم التطلع إلى إكمال ما بدأه هناك … وقد صور حنينه إلى هذه البلاد قوله فى مقدمة كتابه " رحلة الأندلس " :
" منذ ذلك الحين – يعنى زيارته الأولى لإسبانيا سنة 1940 – لم يخرج الأندلس من خاطرى أبداً : إذا كنت فيه فأنا بين آثاره ومغانيه ، وإذا كنت بعيداً عنه فأنا مع تاريخه أتأسله وأستوحيه "
فى مصر : مشروع الألف كتاب :(39/9)
فى سنة 1955 يعوذ مؤنس إلى مصر ، فتعهد إليه وزارة التربية بما كان يسمى إدارة الثقافة ، وكانت إدارة كبيرة تتبعها إدارات مختلفة للنشر والترجمة والتعاون العربى والعلاقات الثقافية الخارجية . وما كان أيسر على حسين مؤنس وأدعى إلى راحته أن يظل فى هذا المنصب الكبير موظفا مرموقاً مثل غيره من الموظفين فى أنتظار الترقية إلى وكيل وزارة … غير أنه كان طرازاً آخر من العاملين فى الدولة : كانت راحته فى تعبة وجهدده أشبه بالمتنبى الذى يقول إنه جوادُ أضرَّ بجسمه طول الجِمام ( أى الراحة ) ، فهو يحلم دائما بعمل كبير يعود بالخير على مجتمعه ووطنه … ومن هنا انبثق من فكره مشروع " الألف كتاب " فقد كان يرى أن الأمة – أى أمة – لا تنهض إلا بالثقافة حق للجميع . وإذا كان أستاذه طه حسين قد أعلن من قبل فى مقولة مشهورة أن التعليم مثل الماء والهواء وأن من حق كل فرد أن ينال قسطه من التعليم فإن مؤنس كان يرى أن الثقافة أيضا حق لكل مواطن وأن واجب الدولة هو أن توفر لكل فرد حظا من التثقف تيسره له وتجعله فى متناول يده بأيسر مئونة .(39/10)
وهكذا شرع مؤنس فى إعداد هذا المشروع الضخم : أن ينشر ألف كتاب فى السنة أى بمعدل نحو ثلاثة كتب فى اليوم الواحد ، على أن تتناول هذه الكتب – ما بين مؤلف ومترجم – كل مايعين على بناء المصرى الجدير بأن يواكب حضارة القرن العشرين … وتحولت إدارة الثقافة فى ظل المشروع الكبير إلى خلية نحل : الموظفون فيها يعملون ليل نهار ، ومعهم عاملون من خارج الإدارة … بعضهم عاكفون على إعداد قوائم بالكتب المختارة وعلى تكليف المؤلفين والمترجمون ، وآخرون للتعاقد مع دور النشر أو المطابع مع إلزام أصحابها بأن تكون الكتب فى متناول الجميع بقروش معدودة .بقروش معدودة . وبعد شهور قليلة آتت هذه الجهود أكلها ، فإذا بالشارع المصرى يمتلئ بهذه الكتب فى طبعات رخيصة تسد حاجة الجمهور إلى المعرفة بكل ألوانها . وإذا بهذا العمل الجليل الذى أطلق مؤنس شرارته الأولى يصبح معلماً من أهم المعالم المضيئة فى مصر فى أواخر الخمسينيات .
وكنت بعد أن أنهيت دراستى فى مدريد بنيل درجة الدكتواره واحداً من معاونى مؤنس فى إعداد هذا المشروع ، غير أنه رأى بعد ذلك أن من الخير المعهدنا فى مدريد أن أعود إليه لكى أواصل المسيرة التى بدأها هناك ، فانتقلت إلى إسبانيا وكيلاً للمعهد قائماً بعمل المدير ، فقد كانت درجتى الوظيفية – بالإضافة إلأى صغر السن _ لايستمع بأن أتولى هذا المنصب بصفة رسمية . وكان علىَّ أن أواصل هناك العمل فى ضوء الخطة التى كان قد رسمها مؤنس أثناء لمردارته الأولى للمعهد .(39/11)
ظل حسين مؤنس فى إدارة الثقافة ثلاث سنوات حقق خلالها من المشروعات – ولم نذكر إلا واحداً منها – مالم يتحقق فى هذه الإدارة من قبل على مدى سنوات طوال على انه كان لا يزال مرتبطاً بالأندلس وبمعهد مدريد يرى فيه – إلى جانب رسالته العلمية الأكاديمية – مركزاً يربط بين العالم العربى و العالم المنبثق من إسبانيا أى بلاد أمريكا اللاتينية الناطقة بالإسبانية . ومن هنا كانت رحلته الطويلة التى كلفته بها مصلحة الاستعلامات فى أول سنة 1957 لزيارة هذه البلاد وإنشاء عدد من المراكز الثقافية فيها . وكانت حولة جاب فيها تلك القارة الهائلة الاتساع من المكسيك إلى شيلى مرورًا بالإكوادور وبيرو وبوجوتا ، وفى كا من عواصم هذه اليلاد أنشاً مع زعماء الجالية العربية بها مركزاً أو معهداً ثقافيا يكون على صلة بمعهدنا فى مدريد .
الأندلس من جديد :
لعل حسين مؤنس كان يشعر بالرضا بعد إنجازه الكبير فى إدارة الثقافة ، غير أن أداءه المتميز فى هذه الإدارة لم ينسه أرض الأندلس التى ارتبط بها منذ زيارته الأولى فى سنة 1940 ، وهكذا عاوده الحنين إلى هواه الأول ، وكأنه ينشد مع شاعرنا القديم :
نقل فؤادك حيث شئت مع الهوى
ماالحب إلا للحبيب الأول
ومن هنا لم يتردد فى العودة إلى مدريد ليكون مديراً من جديد لمعهدنا هناك فى سنة 1958 وفى هذا المنصب ظل حتى بلوغه سن التقاعد فى سنة 1969 . وظلت معه وكيلاً للمعهد حتى سنة 1965 . ولعل هذه السنوات الاثنتى عشرة كانت أكثر عهود تلك المؤسسة المصرية ازدهاراً وعطاءً وأكثر مراحل عمر مؤنس خصوبة وإنتاجاً فى الوقت نفسه .(39/12)
كنا نعمل فى المعهد صباحاً ومساءً لا ننقطع عنه إلا نحو ساعتين فى وسط النهار. كانت المجلة معرضاً لما خصلت بر من أبحاث علمية اشترك فى كتابتها مصريون وعرب وأوربيون حول الحضارة الأندلسية بمختلف جوانبها . مطبوعات المعهد بالعربية والإسبانية تكاثرت وازداد الطلب عليها . لم يكن أسبوع يخلو من محاضرة يلقيها أحدنا الحديثة فى مدينة إسبانية حول موضوع متعلق بالأندلس أو بالثقافة العربية الإسلامية القديمة أو الحديثة فى مدينة كبيرة أو صغيرة ، أو من ندوة تشترك فيها ، وقد أقتضى ذلك منا جولات لا تنقطع فى أنحاء شبه الجزيرة ، العلماء المستشرقون الإسبان وغيرهم من الأدباء و الأساتذة الجامعيين يترددون بغير انقطاع على المعهد محاضرين أو مشتركين فى أبحاثنا ، وبالتعاون معهم نظمنا ما يعرف باسم الجلسات الأندلسية التى كان يعقد لها مؤتمر سنوى يقام كل عام فى إحدى العواصم الإسبانية ، وأصبح ذلك تقليداً مستمراً . الاهتمام بالثقافة العربية و الإسلامية تيزايد متمثلا فى إقبال عدد كبير من الطلبة على دورس اللغة العربية التى ينظمها النعهد وفى تردد الجمهور على ما يلقى فيه من محاضرات أو ينظم من ندوات أو حلقات دراسية . ولم يكن ذلك يمنعنا من نشر كتب و مقالات فى مجالات العالم العربى وصفحه . وكنا نعمل أيضا على تعريف جمهورنا العربى بالأدب الإسبانى عن طريق الترجمة أو الدراسة .(39/13)
خلال هذه السنوات أصدر حسين مؤنس عددًا لا يكاد يحصى من المكتب و المقالات بين تأليف و ترجمة وتحقيق نصوص . وكانت دائرة عمله الواسعة بطبيعتها تزداد اتساعًا ، فهو – إلى جانب تخصصه فى الدراسات الأندلسية – يكتب فى تاريخ الإسلام فى الشرق والغربوترد علية كتب بالعربية وبمختلف اللغات الأوربية فيكتب عنها عارضاً وناقداً ، ويوافى صحيفة الأهرام أوغيرها بمقاولات ذات طابه أدبى يعرض فيها الجديد من النتاج الأدبى الأسبانى والأوربى ، ولهذا فقد كان اسمه مألوفاً فى العالم العربى من الكويت إلى المغرب الأقصى وخارج هذا العالم فى العواصم الأوربية والأمريكية .
كنا نتخذ من حسين مؤنس قدوة فى التنوع والخصوبة والأنفتاح على كل ألوان الثقافة . وكنت أعجب من قدرة هذا الرجل على العمل وصبره عليه ، ومن طاقته العجيبة على الاشتغال فى أكثر من موضوع فى وقت واحد ، وما أكثر ما كنت أدخل عليه مكتبه فأراه
مع تصريفه لأعمال المعهد الإدارية
– وقد بسط أمامه أوراقا ما يكتبه تحقيقًا لنص تراثى قديم ، ثم لايلبث أن يترك ذلك إلى ترجمة كتاب أومقال ، وينتقل إلى تحرير مقال أدبى ، وهو فى أثناء ذلك لا يكف عن القراءة والتعليق على ما يقرأ ، ثم يستأنف العمل فى هذا أو ذاك من الموضوعات التى يشتغل بها بغير أن يضيق ذرعاً بهذا التنقل ، وكأن كل شىء جاهز فى ذهنه لايحتاج منه إلى أدنى توقف .
وهو مع كل ذلك يحب الحياة ويقبل عليها ويحسن المتعة بها ، فلا يحرم نفسه من شىء منها : يستجيد الطعام فيجب أطيبه ، وترتاح للنزهة فى أوقات فراغه وإن كانت قليلة ، وهو مألف للناس لايغلق بابه دون أحد ، وإذا تحدث فعلى حديثه طلاوة ساحرة وعباراته لا تخلو أبداً من فكاهة محببة أو نادرة مستطرفة .
سنوات الكويت :(39/14)
بعد بلوغ مؤنس سن التقاعد كان عليه أن يعود إلى مصر ، ولكنه لم يستقر فيها إلازمناً قصيراً . إذا لم تلبث جامعة الكويت أن دعته ليلحق فيها بقسم التاريخ . وفى البلد العربى الشقيق قضى ثمانى سنوات كان يباشر العمل خلالها أستاذاً للتاريخ الإسلامر بمختلف فروعه ، وقد أستأنف هناك كل ألوان نشاطه ، فنشر فيها بعض كتبه وأعاد نشر ما سبق له تأليفه ، وفى مجلات الكويت العلمية والسيارة كانت أبحاثه ومقالاته لا تكاد تنقطع . ولم ينس اشتغاله المستمر بالصحافة ، فكان له عمود يوحى فى صحيفة " القبس " بعنوان " كلمة طيبة " وكان يسجل فيها ما يعن له من خواطر حول مختلف الموضوعات السياسية والاجتماعية والفكرية . ولم يحل كل هذا النشاط بينه وبين القلوف على تحرير جديد للسيرة النبوية فى عدة مجلدات باللغة الإنجليزية ، وهو مشروع طموح كان بدأ العمل فيه فى مدريد ثم واصله بعد ذلك بعد عودته إلى مصر ، إلا أنه لم يقدر له أن يخرجه قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى .
عودة الطير المهاجر : " الهلال " :
بعد أكثر من عشرين سنة فى هجرة متصلة كان على حسين مؤنس أن يقضى السنوات الأخيرة من حياته فى مصر ، ففى أواخر السبعينيات قرر العودة من الكويت ، فانتظم فى جامعة أستاذاً متفرغاً فى قسم التاريخ ، وهو القسم الذى بدأت حياته العلمية فيه . وفى الوقت نفسه عاوده الحنين إلى الصحافة التى جمع بينها وبين عمله الأكاديمى منذ مطلع حياته . وكان من الاتفاق السعيد أن تكون عودته الصخحيفة أيضا إلى دار " الهلال " التى بدأ عمله فى إحدى مجلاتها وهى " الأثنين " منذ أوائل الأربعينيات . فقد اختارته الدار العريفة رئيساً لتحرير مجلة " الهلال " الشهرية التى ظلت منذ إنشائها فى سنة 1892 من أبرز معالم نهضتنا الثقافية .(39/15)
وقد استمرت صلتى بمؤنس لم تنقطع خلال تلك السنوات . وكنت قد قضييت فى مصر أربع سنوات بعد عوتى من أسبانيا . ثم دعانى المعهد المكسيكى أستاذاً زائراً فى سنة 1969 ، وهناك قضيت سنتين دعتنى بعدهما جامعة الكويت أستاذاً بها ، فرافقت أستاذى حسن مؤنس هناك فى نفس الجامعة على مدى ست سنوات عدت بعدها إلى مصر فى آخر سنة 1978 .
وفى " الهلال " تجدد لقاؤنا ، وكأن حياتى قد ارتبطت بحياته فى الغربة وفى الوطن ، فقد طلب إلىَّ أن أعاونه فى تحرير المجلة ، فكنت أكتب فيها باباً شبه ثابت بعنوان " من ديون العرب " وهو يقوم على الإجابة عن أسئلة يبعث بها القراء إلى المجلة يستفرون فيها عن بيت شعر مجهول القائل أو عن قصة مثل مشهور أو خبر لا تعرف تفاصيبه ، وكانت تجربة طريفة سعدت فيها بلقاء قراء " الهلال " . كما كنت أكتب فى الهلال مااتسع الوقت له من بعض الأبحاث أو المترجمات .
أما افتتاحيات مؤنس لأعداد المجلة ، وما كان ينشره فيها من مقالات أو تحقيقات فإنها تعد قطعا أدبية رائعة . وكان بحكم سعة ثقافته وتنوعها يعالج فيها موضوعات بالغة الطرافة والتباين من تعليقات سياسة إلى اجتماعية أو فنية . كانت مثل المقالات التى بدأ بها العمل فى مجلة " الأثنين " غير أنها – بعد تلك الخبرة الطويلة فى الحياة والزاد العلمى والثقافى الذى حصله على مدى السنوات السابقة – كانت أعمق غوراً وأغزر فوائد وأكثر تألفا ونضارة .
ثم واصل مؤنس بعد ذلك الكتابة الصحفية فى مجلة " أكتوبر " فكانت مقالاته الأسبوعية فى هذه المجلة من أروع ما ازدانت به هذه المجلة ، وكان يقدم فيها أحيانا صفحات من تاريخنا وتراثنا وأحيانا أخرى تعليقات نقدية لما يراه فى مجتمعنا
المعاصر أو معالجة لبعض قضايا الساعة .(39/16)
ولم يمنعه ذلك العمل الدؤوب من استئناف جهوده البحثية . وكان قد انتخب عضواً فى مجمع اللغة العربية ، وشاء خطى أن أنتخب معه فى نفس الجلسة .فتزاملنا أيضا فى هذه المؤسسة العنيدة . وكان نشاطه فى المجمع كالعهد به : يشارك فى عدد من لجانه مقرراً أو عضواً ، كما كان يساهم فى مؤتمره السنوى بأبحاث أو محاضرات نالت دائما إعجاب الجميع . ولم ينقطع عن جلسات المجمع إلا بعد أن أقعده المرض قبل وفاته بنحو سنتين ، بعد أن جاوز الثمانين من العمر .
إنتاج لا مثيل له فى غزارته وجودته :
لو أن المرء تأمل ما خلفه قلم حسين مؤنس من كتب ودراسات لما تمالك نفسه من العجب : كيف ينتمى كل هذا النتاج إلى قلم واحد ، وهو كثير على جيل من الباحثين ؟ فى ميدان الكتابة التاريخية يكفى أن ننظر إلى مؤلفه الجامع " فجر الأندلس " الذى يقع فى نحو 750 صفحة ، وفيه يتناول تاريخ الأندلس خلال نصف قرن فحسب . فهو من الدقة والعمق والاستقصاء بحيث لا نريد . وكتابه عن "الجغرافية والجغرافين فى الأندلس" ويقع فى مثل هذا العدد من الصفحات بعد أكبر بحث فى هذا الموضوع الذى يجمع فيه بين المعارف الجغرافية والتاريخية . ومثل ذلك يمكن أن يقال عن كتابه عن " التاريخ والمؤرخين " وعن " الحضارة " المنشور فى الكويت ، وعن " مصر ورسالتها " وهذان المتابان الأخيران خلاصة لتجارب مؤنس وقراءاته فى التاريخ العام ، فهما دراسة تنتميان إلى ما يمكن أن يسمى بفلسفة التاريخ ، فهما أشبه بمقدمة ابن خلدون فى شمول الإحاطة بمسيرة الإنسانية وعمق النظرة إلى بواطن الأمور ومغزاها العميق لا إلى التاريخ فى ظاهر أحداثه .
وفى كتابيه " صور من البطولة " و " سيرة نور الدين محمود " دروس على القارئ المصرى والعربى أن يستوعبها حتى يؤمن برسالةأمته فى قافلة الحضارة الإنسانية . هذا ولم نتحدث عن مقالاته وأبحاثه التاريخية حول الأندلس والشرق العربى والإسلامى ، ولو جمعت هذه النقالات(39/17)
لألفت عدداً كبيراً من المجلدات الضخمة .
وفى ميدان تحقيق التراث يكفى أن نشير إلى عمله فى إخراج كتاب " الحلة السيراء " لابن الأبار البلنسى ، و " رياض النفوس " للفقيه أبى بكر المالكى القيروانى ، و " أسنى المتاجر " للونشريسى ، وهو كتاب حول أوضاع المسلمين الموريسكيين الذين خضعوا لدولة إسبانيا المسيحية ، و " ضوابط دار السكة " للحكيم أبى الحسن على بن يوسف ، وهو كتاب يعالج موضوعاً اقتصادياً بحتا .
وفى ميدان الترجمة علينا أن ننوه بترجمته لدراسة المستشرق الإسبانى غرسية غومى عن " الشعر الأندلسى " ولكتاب جونثالث بالنثيا عن " تاريخ الفكر الأندلسى " وهو أشبه بموسوعة ضخمة حول الثقافة الأندلسية . والحقيقة أن فى إطلاق اسم الترجمة على هذا الكتاب ظلماً لحسين مؤنس ، ففيه من الإضافات والنصوص الكاشفة ما يجعل مؤنسا مشاركة فى تأليفه .هذا عن الترجمة العلمية ، وأما الترجمة الأدبية فلحسين مؤنس مشاركة قيمة فيها . فقد ترجم عن الإسبانية مسرحية للوركا هى " الزفاف الدامى " ولعميد المسرح الإسبانى فى عصره الذهبى لويى دى بيجا مسرحية " فونت أوبخيونا " أو " ثورة فلاحين " وهما من أجمل نصوص الأدب الإسبانى القديم والحديث ، وله ترجمة أخرة عن الإنجليزية لمسرحية جون شتاينبك " ثم غاب القمر " .
وفى ميدان الإبداع الأدبى نجد له أيضا إنتاجاً متميزاً أذكر منه " حكايات خيرستان " وهى مجموعة من القصص الرمزية ، و " أهلا وسهلا " وهى رواية طويلة ذات مغزى سياسى واجتماعى و " الطريق الأبيض " وهى مسرحية ، بالإضافة إلى مجموعات من القصص القصيلاة لعل أبقاها فى أذهان القراء قصته المشهورة التى تتجلى فيها قدرته الساخرة " إدارة عموم الزير " حول البيروقراطية المصرية ، وكان
من ذيوع هذه القصة أن ذهبت " إدارة
عموم الزير " مثلا سائراً بين الناس .
* ... * ... *(39/18)
وبعد فإن إنتاج حسين مؤنس فى سائر الميادين يتعذر استقصاؤه ، وهو يحتاج فى تنوعه ودلالاته وجودته الفائقة يتطلب أكثر من دراسة . وإنما ألمحنا إلى عدد قليلمنه على سبيل التمثيل لا الإحصاء .
رحم الله هذا القلم الذى لم يخلد إلى راحة والذى كان غذاءً روحيا وعقليا ممتعاً لجمهور عريض من القراء على مدى أكثر من مصف قرن !
رحم الله حسي مؤنس وتغمده برضوانه وأجمل فيه عزاء أسرته وعزاءنا وعزاء دار الهلال التى انتمى إلى أسرتها خلال شطر كبير من حياته .
رحم الله حسين مؤنس ، فقد كان أمة وحده ! …
الأستاذ الدكتور رئيس مجمع اللغة العربية
الأساتذة أعضاء المجمع الكرام
السيدات والسادة .
اسمحوا لى بالنيابة عن أسرة المرحوم الأستاذ الدكتور حسين مؤنس أن أشكر لكم صادِقَ مشاعرِكْم ، وجميلَ تقديرِكم ، وطِيبَ وفائِكم . والحقُّ أن ما تقومون به اليومَ إنما هو بعضُ دوركِم فى الحياة الثقافية والعلميةِ للأمة ، وأنتم فى القلبِ من هذه الحياة ، وتقومون بدور الرائد الذى يهدى أهله ، ويقود خطاهم إلى طريق المعرفة والتقدم . وإذا كانت اللغة هى وعىْ الأمةِ وعلامة نهضتها فإن توليكم لأمور لها ، والقبامْ برعايتِها وصيانتِها ، إنما هو تولِ منكم للأمة فى أعز ما تملك ، ورعاية وصيانةٍ لأسمى ما تمارس .
وقد كان والدى رحمه الله فخورا بعملِكم، حريصا على صلتِه الأصيلة بهذا المجمع الكريم ، حفيا بعلاقته بأعضائه الكرام .
وحين تؤكدون ، اليوم ، اعتزازكم بوالدى، وتقديرَكم لإنجازِه ، وحرصَكم
على تراثِه ، فإنما تؤكدون الأصيل فى حمايةِ وصيانةِ المنجزَ المتميز من ميراث هذه الأمة .ولذلك ، أكرر لكم الشكر باسم المرحوم الآستاذ الدكتور حسين مؤنس .
وأدعو الله لكم جميعا بطيب الصحة والعافية .
والسلام عليكم ورحمة الله
منى مؤنس
استاذ مساعد بكلية الاداب
بجامعة القاهرة
29/5/1996
أيها السادة :(39/19)
اننا مهما تحدثنا عن الاستاذ الدكتور حسين مؤنس فلن نستطيع الاحاطة بأعماله العلمية والادبية الرائعة . وأنا أشكر الاستاذين الفاضلين الدكتور عبد العزيز صالح والدكتور محمود مكى على ما صورا فى تأبينهما للدكتور حسين مؤنس من
أعماله المجيدة . وانى أتقدم باسمى واسم المجمع بالعزاء الخالص لاسرته وللسيدة الجليلة صاحبة العصمة حرمه وللسيده الفاضلة كريمته الدكتورة منى الاستاذة بقسم اللغة الانجليزية بآداب جامعة القاهرة. وأشكر جميع الحاضرين لمشاركتهم لنا فى حفل هذا التأبين .(39/20)
تقع بلدة تيماء بشماليّ المملكة العربية السعودية على مسافة 420كيلو مترًا شمال المدينة المنورة ، وكانت تتبع إمارة حائل، وهي اليوم تتبع إمارة تبوك ، ويقدر سكانها بسبعة آلاف نسمة(1).
وهي من الواحات الزراعية الخصبة، وقد كسبت أهميتها التاريخية لوقوعها على طريق القوافل التجارية التي كانت تربط الجزيرة العربية بالعراق بواسطة عرار ووادي العبيد ، ثم بالشام بواسطة البتراء ومعان وغزة ، ولموقعها الاستراتيجى على أطراف النفودات المعروفة بنفودات البتراء من الشمال وغزيَّة من الشرق، والحيزاء من الجنوب الشرقي .
وتتصل هذه النفودات بالنفود الكبير أعظم صحاري الجزيرة العربية والمعروف عند الجغرافيين العرب برملة عالج، وهو يمتد شمالاً إلى وادي السرحان ، وجنوبًا إلى جبلي أجأ وسلمى ( جبل شمَّر ) وشرقًا إلى مدينة حائل وغربًا إلى تيماء(2).
ولوقوعها على طريق الحاج الشامي، تكلم عنها عدد من الرحالة والمؤرخين العرب، واصفين موقعها وآثارها ، منهم ياقوت الحموي في معجم البلدان وأبو عبيد البكري في المسالك والممالك . وابن الفقيه في البلدان، والإصطخري في مسالك الممالك، وأبو الفداء في تقويم البلدان ، والمقدسي في أحسن التقاسيم والقزويني في آثار البلاد وأخبار العباد، وقال عنها المقدسي المتوفى سنة 380هـ/990م إنه ليس بالحجاز أجلَّ وأعمر وأكثر تجارًا وأموالاً منها بعد مكة(3).
كما وصفها الإصطخري إبراهيم بن محمد المتوفى سنة 346هـ/957م قبله في كتابه مسالك الممالك بمثل ذلك.
وجاءت في عدد من قصائد الشعراء الجاهليين ، نكتفي هنا بقول امرئ القيس:
وتيماء لم يُترك بها جذع نخلة
... ولا أُطُمًا إلا مشيدًا بحندل(4)(40/1)
والأُطُم البناء الشامخ جمعه آطام وكانت الآطام منتشرة في شماليّ الجزيرة العربية. وقد أورد السمهودي في كتابه خلاصة وفاء الوفا بمدينة المصطفى (5) أسماء عدد من آطامها ، كالسعدان والزيدان والأجش والأشنف والضحيان ، ولا تزال أطلال الأخير قائمة حتى اليوم .
وفي مطلع قرننا الميلادي كانت تيماء محطة من محطات سكة حديد الحجاز التي قام السلطان عبد الحميد بإنشائها بمعاونة عدد من الدول العربية والإسلامية، والتي بدئ العمل فيها سنة 1900م وانتهى سنة 1908هـ (6).
وأهم من كتب عن تيماء من المؤرخين المعاصرين الأستاذ الشيخ حمد الجاسر الذي زارها سنة 1390هـ/1970م وأفرد لها فصلاً مطولاً في كتابه ( في شمال غرب الجزيرة العربية ) والأستاذ عبد القدوس الأنصاري الذي زارها في التاريخ نفسه وبسط الكلام عنها في كتابه ( بين التاريخ والآثار ) وحافظ وهبة مؤلف كتاب ( جزيرة العرب في القرن العشرين ) المطبوع في الرياض سنة 1381هـ/1961م، وفؤاد حمزة مؤلف كتاب ( قلب جزيرة العرب ) المطبوع في الرياض سنة 1388هـ/1968م ، ولمجىء ذكرها في جغرافية بطليموس والحوليات الأشورية والبابلية كحوليات تيغلات بلاسر ونابو نيدوس كما سيأتي بيانه ؛ فقد زارها عدد من الباحثين والرحالة الأجانب ، نذكر منهم من يلي، وقد جاء وصف رحلاتهم ونتائجهم في مؤلفات موسل وفلبي وديتلف نيلسون :
1- تشارلز دوتي Charles M. Doughty الرحالة البريطاني الذي وصل إلى تيماء سنة 1877م واستنسخ منها نقوشًا لحيانية وثمودية ونبطية ، نشرت سنة 1884م بترجمة الباحث اللغوي جوزيف رينان J. Renan ، أما كتاب رحلته فقد نشر بكامبرج سنة 1888م في مجلدين بعنوان :( رحلات في صحراء الجزيرة العربية )Travels in Arabia Deserta .
2- الرحالة الإنجليزي يوليوس أويتنج Julios Aoiting الذي زارها سنة 1877هـ بصحبة تشارلز دوتي ، وجمع نقوشًا ثمودية ونبطية نشرت في لندن سنة 1914م .(40/2)
3- الرحالة الفرنسي شارل هوبر Charles huber الذي وصل إليها سنة 1884م واستنسخ منها عددًا من النقوش ، نشرها بكتاب رحلته (رحلة في بلاد العرب) Journal d'un Voyage in Arabia الذي نشر في باريس سنة 1888م ، ومنها ما نشره بمجلة الجمعية الجغرافية سنة 1892م بعنوان:(نقوش من وسط الجزيرة العربية) Inscriptions Recueillies Dans l'Arabie Centrale وقد أعاد نشر النقوش الثمودية مع مجموعة دوتي واويتنج : الدكتور انوليتمان E. Littmann وهـ مولر H.Muller وفان دن برندن Ven Den Brenden وكتب عنها بإفاضة ديتلف نيلسون Nelson detilf ورود دكاناكس detilf Rodo Kanakis وفريتز هومل F.hommel وقام بترجمة أبحاث هؤلاء الثلاثة وتكميلها الدكتور فؤاد حسنين علي في كتابه (التاريخ العربي القديم) المطبوع بالقاهرة سنة 1958م ، كما قام أويتنج بدراسة النقوش النبطية ونشرها في برلين سنة 1885م . وقد تمكن هذا الرحالة الجريء (هوبر) بمساعدة أحد سكان تيماء بنقض صخرة ضخمة بها نقش مطول من جدار أحد منازل تيماء ثم نقلها على ظهر جمل إلى العلاء فمعان فدمشق ومنها إلى باريس ، واتضح في باريس أن النقش أرامي يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد ، أقامه أحد الكهنة كنُصْبٍ على معبد ( صُلم هجَّام) كبير المعبودات التيماوية القديمة ، وقد تضمن النقش أسماء معبودات قديمة أخرى منها : أشير وذو محرم وأسيراء وسنجلاء ، ويوجد النقش حاليًا بمتحف اللوفر في باريس ويعرف بمسلة تيماء ، وقد قمت خلال زيارتي لباريس سنة 1974م بدراسة النقش ونشر محتواه بكتابي (اللغة العربية في عصور ما قبل الإسلام) .(40/3)
4- وفي سنة 1910م زار المنطقة-ومنها تيماء- البعثة الفرنسية المعروفة ببعثة جوسن وسافيناك Jussen et Savignac Mission وكان عمل هذين الباحثين - وهما من الآباء الفرنسيسكان - من أجلّ أعمال البحث الأثري والإبيقرافي في شبه الجزيرة العربية ، ولم تقتصر زيارتهما لبلدة تيماء فحسب ؛ بل قاما بالاطلاع على آثار ونقوش المواقع الأثرية خارجها كجبل غنيم والخَبْوْ وبين الآكام الصخرية المنتشرة في غربي تيماء وشماليها، وقد نشرت رحلتها في باريس سنة 1914م بعنوان: Avoig de Archeologigue in Arabia, paris 1914 كما نشرت نتائج أبحاثهما ودراستهما وما جمعاه في رحلتهما من معلومات ونقوش ثمودية ونبطية في باريس خلال الأعوام 1904م ، 1911م ، 1914م في ثلاثة مجلدات ، الأول عن القدس والبتراء ، والثاني عن مدائن صالح ، والثالث عن تيماء والعلاء وحرة تبوك ، وكلها بعنوان : (بحوث أثرية عن جزيرة العرب) A.T. jaussen and R. Savignac Archaelogical en Arabie 4 Vol. Paris, 1904, 1911, 1914, 1920
وجاء في النقش رقم 138 من نقوش جوسن وسافيناك ما يفيد وجود علاقات تجارية بين بابل والجزيرة العربية .
لقد كانت أبحاث جوسن وسافيناك الأساس الأول والأكبر الذي اعتمدت عليها المؤلفات المستفيضة عن الحضارة النبطية في مثل مؤلفات كرامر وكونتينو A.K ramer ; J. contineau ، وعن الحضارة اللحيانية فى مثل مؤلفات فريدريك وينيت وفريتز كاسكل F.V.Winnett W.caskel وعن الحضارة الثمودية في مثل مؤلفات مولر وفان دن برندن (V) .H. Muller; Van den brenden .(40/4)
5- الرحالة التشيكوسلوفاكي الويس موسل Alois Musil الذي زار تيماء خلال تجواله بشماليّ الحجاز ونجد سنة 1917م وأورد عنها معلومات كثيرة في كتابه (شماليّ الحجاز ) The North of Hejaz الذى طبع في نيويورك سنة 1926م ، وقام بنشره مترجمًا إلى العربية الدكتور عبد المحسن الحسيني ، وطبعت الترجمة بالإسكندرية سنة 1352هـ/1952م . ولموسل كتابان آخران أحدهما شماليّ نجد The North of Negd وقد طبع في نيويورك سنة 1928م ، والعربية الصخرية Arabia petraea وقد طبع في فينا 1907م ولم يترجما حتى الآن .
6- الرحالة والبحاثة الإنجليزي هاري سان حون بريدجر فلبي S.J.B. Philby الذى اعتنق الإسلام وسمي الحاج عبد الله فلبي ، الذي زار تيماء ضمن مازاره من مناطق الآثار بشمال غرب الجزيرة العربية سنة 1951م وأفرد لها في كتابه أرض مدين Land of Madian فصلاً مطولاً، وصف فيه زيارته لبلدة تيماء والخوبة وجبل غنيم ، متتبعًا آثار من سبقه وبالأخص الويس موسل ، وقد قام بترجمة الكتاب المذكور عمر الديراوي ونشر في بيروت سنة 1385هـ/1965م بعنوان (أرض الأنبياء ) .
7- الباحث الإنجليزي جيرالد لانكستر هاردينج G. Lankster Hlarding صاحب كتاب (آثار الأردن ) المنشور سنة 1965م بترجمة سليمان موسى ،وقد زارها ضمن البعثة الأمريكية التي زارت تيماء والعلاء ومدائن صالح سنة 1962م، ونشر بحثه في مجلة ( باسور ) البريطانية بنفس العام BASOR, NO 168, 1962, P. 9-12 .
8- الباحثان الكنديان فريدرك وينت ووليم ريد F.V. Winett and W.L Read. اللذان كانا هما الآخران ضمن البعثة الأمريكية ، وكان كتابهما وعنوانه (كتابات أو مدونات من شمال الأسرة العربية ) الذي طبع بترونتو سنة 1971م من أهم وأشمل ما كتب عن آثار ونقوش المنطقة Ancient Record : From north Arabia, Toromto, 1970 .(40/5)
وقد كشفت دراسات هؤلاء الباحثين العرب والأجانب أن (تيماء) أخذت حظًّا من الازدهار في التاريخ القديم ، ولذا فقد ورد ذكرها بأسفار التكوين وأيوب وأشعيا من التوراة ، وفي جغرافية بطليموس وحوليات تيغلات بلاسر الآشوري ( 475 - 727 قدم) كما جاءت في حوليات الملك البابلي نابو نيدوس ( 555 - 538 ق م) كواحدة من الأماكن التي غزاها في شماليّ الجزيرة العربية حسبما جاء في نقشه الذي عثر عليه سنة 1965م بحران وأودع بالمتحف البريطاني .
ويفيد هذا النقش الذي قام بدراسته ونشره سدني سميث S. Smith في مجلة بابليون التاريخية Babylaniun Historical p.89، أن هذا الملك البابلي قد استقر بتيماء وبنى بها قصرًا على غرار قصره في بابل بعد أن تجول في المدن المجاورة كدادان -العلاء - وخيبر وفداك ويثرب ، وعقد صلحًا مع المصريين والعرب،وقد نُشر هذا النقش مترجمًا في مجلة الدراسات الأناتولية Antolian Studies, The Harran Inscription of Nabonidus vlll,1958, P.P. 35, 69, 78.(8)
وأهم من كتب عن تيماء واصفًا مبانيها وآثارها ومزارعها وسكانها الأستاذ الشيخ حمد الجاسر في كتابه ( في شمال غربي المملكة ) ومن قبله موسل وفلبي ، وقال فلبي: إن أبرز أسرها عندما زارها سنة 1371هـ/1977م أسرة آل رمَّان بن هتيمي التي تولت إمارتها من سنة 1281هـ/1864م إلى سنة 1369هـ/1950م .
وقد زرتها سنة 1398هـ/1977م وكنت حينها في طريقي إلى دمشق وكتبت عن تاريخها وآثارها ضمن كتابي ( المدن والأماكن الأثرية في شمال وجنوب الجزيرة العربية ) المطبوع بالرياض سنة 1404هـ/1984م ، واطلعت من آثارها على أطلال سورها وقصر زللوم وبئر هدَّاح .
والمدينة ذات شوارع ضيقة وتدل أحجار خرائبها الضخمة المتناثرة على أنها كانت مليئة بالعمران كما قال امرؤ القيس في شعره السابق ذكره .(40/6)
ويطل عليها من الناحية الجنوبية الغربية تل مرتفع قال عنه الأستاذ عبد القدوس الأنصاري إنه بالنسبة لتيماء كجبل سَلْع للمدينة المنورة ، وحصن مرحب بالنسبة لخيبر (9) ويوجد بقمته ركام من الأحجار يسميه السكان قصر السموءل ، وتحكي المؤرخات العربية أن السموءل بن عاديا الذي عاش بالتاريخ الجاهلي كان له بتيماء قصر يسمى (الأبلق) وفيه قالت ملكة تدمر قولها المشهور:" تمرد مارد وعز الأبلق "، وذلك عند ما غزتهما وصعب عليها احتلالهما ، و ( مارد ) هو حصن دومة الجندل بشماليّ المملكة العربية السعودية .
وجاء في شعر الأعشى مادحًا شريح بن السموءل:
بالأبلق الفرد من تيماء منزله
حصن حصين وجار غير غدَّار(10)
وزعم بعض المؤرخين أن السموءل كان إسرائيليًّا ، على دين موسى عليه السلام كما رأى البعض الآخر ومنهم الأستاذ حمد الجاسر أنه كان عربيًّا قحطانيًّا (11) ، وذهب بعض المستشرقين إلى أنه شخصية وهمية اخترعها أهل الأخبار لما سمعوا من أقاصيص مذكورة في التوراة . (12)
ولي بحث في الموضوع سبق أن نشر بجريدة الرياض ( العدد : 548 في 7 من رمضان 1403 هـ ) حول شخصية السموءل أوضحت فيه بالأدلة العلمية أن ( سموى إل ) اسم لقبيلة تيماء لورودها في عدة نقوش ثمودية تيماوية مجاورة لقبيلة ماسا ، نشرها البروفسر فريدرك وينيت في كتابه سالف الذكر . (13)
وأقول إنه لو صح وجود شخصية تسمى السموءل قد حكمت تيماء فهو دون شك عربي لا إسرائيلي ، لأنه يصعب على يهودي دخيل على بلاد العرب أن يتملكها وفيها ملوكها وزعماؤها وقبائلها ذات المنعة والقوة المشهورة عبر التاريخ .(40/7)
وتتواتر الأخبار التي تفيد أن تيماء قد سكنها اليهود إلى جانب قبيلة طيئ العربية ، كما سكنوا غيرها من الأماكن الحجازية كخيبر والعلاء ويثرب ، وتفيد تلك الأخبار أنهم قد وفدوا إلى الحجاز في القرن الأول للميلاد عندما هاجم تيتوس الروماني أورشليم ، أما البعض الآخر فيقول إن فرارهم من فلسطين كان عندما احتل بخت نصر الملك البابلي فلسطين . (14 )
ومن الأماكن التي زرتها في تيماء وما حولها : قصر بن رمان أحد أمراء تيماء السابقين ، وقصر الرُّضَم وهو ملىء بالنقوش الثمودية التي سبق أن نسخها وصورها كل من هوبروفلبي ، ويقع بشمالها جبل غنيم وهو يرتفع عن سطح البحر 4000 قدم ، ويوجد فيه من النقوش الثمودية واللحيانية ما قد يكون أقدم من الكتابات السبئية والمعينة الموجودة في معين وصرواح ومأرب باليمن والمعروفة بالمسند والتي مرت بمراحل من التحسُّن والتطوُّر .
ويبدو من الآثار الموجودة على قمة هذا الجبل وصور الأصنام وأطلال المباني ومعبد ثمودي لصنم تيماء المسمى ( صُلم هجَّام ) وغير ذلك من الآثار ؛ أن حصنًا قد شيد على قمته لما يتمتع به من الحصانة والشموخ والاستراتيجية ومن يدري فقد يكون هو حصن ( الأبلق ) الذي يقول فيه السموءل :
لنا جبل يحتله من نجيره
... منيع يرد الطرف وهو كليل
هو (الأبلق) الفرد الذي شاع ذكره
... يعز على من رامه ويطول
رسا أصله تحت الثرى وسما به
... إلى النجم فرع لا يُنال طويل
ومطلع قصيدة السموءل:
إذا المرء لم يدنس من اللوم عرضه
... فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
... فليس إلى حسن الثناء سبيل
وهي طويلة وبليغة ولها شهرتها لدى مؤرخي الأدب العربي .
أحمد حسين شرف الدين
عضو المجمع المراسل من السعودية(40/8)
مجلة مجمع اللغة العربية
-(41/1)
أسماء من بلادنا(/)
فيما يلى طائفة من أسماء البلاد والأمكنة فى بلدنا أوجزت الحديث عن كل منها :
حلفا ويقال أيضا وادى حلفا:
هذه البلدة فى أقصى شمال السودان. الاسم عربى مأخوذ من اسم الحلفاء أو الحلفا ( مقصورة ) والحلفاء نوع من الكلأ معروف . وعيب على عتبة بن ربيعة سيد بني عبد شمس فى ملأ من قريش أنه ردّ على حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه حين قال فى يوم بدر ( أنا أسد الله ) بقوله ( أنا أسد الحلفاء ) . وإنّما أراد عتبة أن يصرّ على كفره ويقول لحمزة أنا أسد وكفى ، أنا أسد مخوف كهذه الأسود المفترسة المتربصة فى الحلفاء . فالعبارة لمن تأمّلها ليست ضعيفة حقًا من حيث اللغة والبيان ، ولكنها عبارة كافر مصرّ على كفره ، ليس إلاّ . وكأنه يقول لحمزة دعني من قولك أنا أسد الله وهلم للقتال .
هذا ومدينة حلفا القديمة قد غمرها النيل بعد اكتمال بناء السد العالى . وقد كانت فُرْضة تبحر منها الباخرة النيلية
الجميلة إلى أسوان فى واد جميل تشرف غابات النخيل على النيل من ضفتيه . وكان بإزاء مدينة حلفا على الشاطئ الأيسر أثر فرعونى قديم فى موضع يسمّى ( بوهين ) . والأثر حصن ضخم من اللبن أحسب أن بناءه كان فى عهد الدولة الحديثة على زمان رمسيس أو بعده بقليل . وأحسب أن " شوقى " رحمه الله لم يصب حقا حيث قال :
وتاج من فرائده ابن سيتى
ومن خرزاته خوفو ومينا
فإنّه قد يكون ابن سيتي فريدا ، ولكن لا يمكن أن يقال عن " خوفو " باني الهرم الأكبر ولا عن " مينا " مؤسس دولة مصر القديمة إنّهما خرزتان بالنسبة إليه . بل هو وإن يك من الفرائد ليس فى تاج مصر القديم بالنسبة إليهما إلاّ خرزة على ما كان من اتساع فتوحه . فمعاوية بن أبى سفيان مثلا ليس بخرزة فى تاج الملك الأموى بالنسبة إلى الوليد بن عبد الملك .(/)
وقد زرت حصن ( بوهين ) فى سنة 1960م . ثمّ إنى زرت من بعدُ فى سنة 1961م مدينة القيروان ورأيت مسجدها وبعض آثارها القديمة . وقلت من كلمة نظمتها ونشرت من بعد فى ديوان لى :
وفى القيروان الطلول النواطـ
ـق أطلال بوهين لا تنطق
فأخذ أحد مواطنىّ الفضلاء علىّ وقال يلومنى بكلمات فرنسية وكان يحسنها ولا أحسنها : لماذا الموازنة ؟ قلت له بالعربية إن الشعر قل أن يحسن صاحبه تفسيره ونقده ، ومن أجل ذلك قال أبو الطيب وهو سيد الشعراء :
أَنَامُ مِلءَ جُفُونى عَنْ شَوَارِدِها
وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرَاهَا وَيَخْتَصِمُ
ولا أريد أن أشبه نفسى بأبى الطيب وإنما أريد أن أحتمى به . ولا ريب أن أطلال " بوهين " الآن لا تنطق لأن الماء غامرها. وقد تعلم- أصلحك الله - أن الطلول مهما تكن ظاهرة غير مغمورة فإنها لا تنطق ولذلك قال لبيد :
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا
صمّا خوالد ما يبين كلامها
أم تنطق ؟
أليس عنترة يقول :
أعياك رسم الدار لم يتكلم
حتّى تكلم كالأصمّ الأعجم
دنقلا أو دمقلة أو دنقلة : ( أى دنقلة القديمة ويقال لها العجوز ) الميم والنون حرفان متقاربان وكثيرا ما يقع بينهما الإبدال وفى القاموس المحيط للفيروز أبادى أن دنقلة عاصمة بلاد النوبة وأنّ سيدنا بلالا أصله من ناحيتها . ولعله أخذ هذا من الجاحظ إذ ذكر فى البيان أو الحيوان أن أصل سيدنا بلال من النوبة والصحيح أن سيدنا بلالا كان من أهل مكّة وُلِدَ بها هو وأبوه واسمه بلال بن رباح وابن حمامة وهذه أسماء عربية ، وقد أشار إليها أبو العلاء المعرّى فى لزوميته :
أياديك عدت من أياديك صيحة
بعثت بها ميت الكرى وهو نائم
هتفت فقال الناس أوس بن معير
أو ابن رباح بالمحلّة قائم
ونعم أذين المعشر ابن حمامة
إذا سجعت للذاكرين الحمائم
(/)
ولم أجد عند من يعرف لغة النوبة تفسيرا لاسم دنقلة . ويذكر أنها كانت فى الدهر القديم بلاد خيل . ويقال إن ملوك نينوى فى الزمان القديم كانت تعجبهم الخيل التى تجلب من دنقلة يباهون بها لقوّتها . وبلغنى أنّه فى دنقلا إلى الآن خيل جياد ، فلا يعلم أهى من خيلهم القديمة أم هى مما جاء به المماليك فى هربهم من محمد على باشا ، إن يك نجا منهم عدد فهرب ، فقد سمعت من ينكر قصة وثوب محمد مراد بفرسه من القلعة يزعم أنّها خرافة . وفى صعيد مصر وفى السودان ممن ينتسب إليه أناس ، فتأمل .
والذى شاهدناه وعرفناه أن الحمير المجلوبة من دنقلة من جياد الحمير ، فارهة عالية ، تزيّن بالقصّ المزخرفة، حتى كأنّها لو بسطت ما عليها من جلد وشعر فافترشته لكان كما تكون الزُّربِيَّة الجميلة.
وياليت شعرى هل كانت ( خيل بربرا ) التى وصفها امرؤ القيس حميرا من هذا النوع الدنقلاوى الفاره ؟ قال :
بكى صاحبى لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنّما
نحاول ملكا أو نموت ونعذرا
على كل مقصوص الذنابى معاود
بربد السّرى بالليل من خيل بربرا
إذا زعته من جانبيه كليهما
مشى الهيدبى فى دفّه ثم فرفرا
والعرب قلما تذكر الحمير ( الأهلية) فى شعرها ، على أن جلّ اعتمادها فى حواضرها وفى اليمن والأحساء ومكّة ويثرب كان عليهن . قال الراجز يذكر بعض عمل الحُجَّاج ودفعهم من عرفة إلى مزدلفة :
نحن دفعنا عن أبى سيارة
حتّى أجاز سالما حماره
وقال النميرى حين سأله الحجّاج عن الأبيات التائية التى يذكر فيها زينب الثقفية :
ولما رأت ركب النميرى أعرضت
وكن من أن يلقينه حذرات
إنه ما كان إلا على حمار مع صاحب له فذلك ركبه .
وقال الفرزدق :
ألا لعن الإله بنى كليب
ذوى الحمرات والعمد القصار
وفى كتاب الله العزيز : ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ) .
(/)
وفى تأريخ اليعقوبى أن الخيل العربية أصلها من خيول الجن ، عشرة منها عبرت البحر وخرجت من ساحل جدّة ، ثم صارت من بعد إلى أجياد أو إلى حيث ألّفها جدّ العرب إسماعيل بن إبراهيم عليهما السّلام . وللأستاذ الزميل العلامّة الشيخ حمد الجاسر مقدّمة حسنة فى هذا الباب فى كتابه النفيس عن أنساب الخيل القديمة وقد أهدى إلىّ نسخة منه فى صحب زرنا منزله الكريم فى الرياض ، جزاه الله خير الجزاء .
وفى ابن الكلبى " أن خيل العرب التى أصلها من الجن طارت هاربة من سليمان لما طفق مسحا بالسوق والأعناق فصارت إلى حرّة بنى سُليم . فهل كان العُبَيْد من نسلها ؟ أعنى العبيد الذى قال فيه العباس بن مرداس السلمى رضى الله عنه لمّا تألّف رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقرع بن حابس وعيينة ابن حصن فأعطاه دونهم وكان هو وقومه قد أبلوا بلاء حسنًا يوم حنين :
أتجعل نهبى ونهب العبيـ
ـد بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس
يفوقان مرداس فى مجمع
وما كنت دون امرئ منهما
ومن تضع اليوم لا يرفع
والخيل التى ذكرها اليعقوبى ليست من خيل سليمان . وما أحسبها انبثقت من البحر ، أو قذف بها من أعماقه وكانت بسحرها العفريتى ساكنة فيها ، بل الراجح عندى إن صح خبرها - (وهو إن شاء الله صحيح أو أحسبه صحيحًا ) أنها عبرت البحر على سفينة جاءت من الساحل الغربى . ولعلها إنما كانت بضاعة جلبت من دنقلة القديمة العجوز على النحو الذى كان يُعْهد على دهر ملوك نينوى الأولين وقد كان منهم من غزا يثرب فى المائة الثامنة قبل الميلاد، وذلك زمان مقارب أو معاصر لزمان الأسرة الخامسة والعشرين من الأسر الفرعونية ، ويقال إن من أسباب مسير "بعنخى " أول فراعنة تلك الأسرة إلى طيبة ما سمعه من أن ولاة طيبة لا يحسنون القيام على الخيل وكان هو لها محبّا وعلى صونها غيورًا .
(/)
وأهلنا الجعليون وهم عرب ينتسبون إلى سيد العباس بن عبد المطلب يقولون حين يتحدثون عن "دنقلة" (ضنقلة) بالضاد لا الدال . وأكثر ما تكون الضاد فى لسان الجعليين منقلبة عن الذال . من ذلك قولهم " الضّهب" أى "الذّهب" . ومنه قولهم ضهب يضهب أى ضلّ الطريق ، كأنّ الأصل فيه ذهب به يذهب به على غير هدى . وصيغة "فِعِل" بالكسر فى فُعِل المبنى للمفعول مما ذكره سيبويه فى الكتاب .
ونقول فى عاميتنا ضِرِبْ أى ضُرِبَ وسِرِق أى سُرِقَ والمضارع يَضْرَبْ أى يُضْرَب ويَسْرَق أى يُسْرَق . وفى الأمثال عندنا : ال يَسْأَل ما بيَضْهَب ، وقد ينطقونها : ال يسعل ما بيضهب أى الذى يسأل لا يضلّ الطريق .
وقالت قينة الجعليين المغنية فى أغانى الدّلُّوكة ( والدّلوكة طبل رنّان يستعمل فى الأعراس وأحسب اسمه من اسم ملكة فرعونية قديمة يقال لها دلوّكة ) .
يوم الشوف بيشوف الشوف
ما حضر قسمة الخوف
ضكر الفيل الناجع
قلبه أصم خاتى الضِّلّ
أى يوم ينبغى أن يتبين المرء الأمور ببصر وبصيرة فإنه يفعل ذلك ، إنّه يشوف الأمور أى يراها بجلاء .
ولما قسّم الخوف بين الناس لم يحضر هو قسمته ولم يكن له منه نصيب . وهو كالفيل الذكر الذى فارق القطيع وانتجع الأجمات البعيدات فى صرامته وشجاعته وقلبه أصم مجتمع قد أخطأه كل ذلّ . ويقال إن فحل الفيلة إذا فارق القطيع فإنه يكون شديد التوحيش شجاعًا لا يطاق .
ونلاحظ هنا انقلاب الضاد عن الذال فى ضكر وضل أى ذكر وذلّ .
والأبيات من شعر قينة بطحانية والبطاحين فرع من بدو الجعليين .
وقال شاعر من الجمع وهم بدو آخرون من الجعليين :
عقيلة البكار ( أى الأبكار )
لابسة الضّهب تلاّل
أى لابسة قرطا من الذّهب . تلاّل بتشديد اللام الأولى أى قرط كبير ، اشتقاقه من التليل وسمى تلاّلا لأنه يظهر جمال التليل أى العنق . قال أبو الطيب يصف الفرس العائم وهذا لعلّه من نسل خيل اليعقوبى البحرية :
تراه كأن الماء مرّ بجسم
(/)
وأقبل رأس وحده وتليل
ويقال عند الجعليين ضنب فى ذنب وجضل فى جذل أى جذل الحطب وجضام فى الجذام والعياذ بالله منه ، وهلم جرا .
ونقول بعد: هل " ضنقلة " أصلها ذنقلة بالذال " ؟ وهذه مختصرة من قولهم "ذو أنقلة " ثم سقطت الألف فصارت ذنقلة - وهذا كأنّه علم شبيه بصيغ بعض الأعلام اليمنية كقولهم ذو يزن وذو ظليم ، وذو كلاع ، وذو رعين ، وذو نواس ، وذو شناتر وهل المعنى ذو النقلة أى الانتقال السفر أو ذو أنقلا -ذقلا- أى ذو الحافر ؟ وكأن اللفظ اللاتينى ungla بمعنى حافر مأخوذ من أصل كنعانى والكنعانية أخت العربية كما قال صاحب القاموس المحيط . ويكون على هذا معنى ذنقلة أى بلد الحافر أى بلد الخيل .
وهل أصل الخيل العراب من خيل ضنقلة - ذنقلة - دمقلة ؟ وهى كما قدمنا دنقلة القديمة العجوز لا الحديثة التى إنما هى حاضرة عصرية ؟
وهل جاء منها حصان عمرو بن معد يكرب الزبيدى الذى عابه الأمير الباهلى بأنّه هجين فقال عمرو : هجين عرف هجينا مثله ؟
مقرات :
(/)
اسم جزيرة عن منحنى النيل فى ناحية أبى حمد إلى شلال الحماب بعد أن اجتاز وادى الحمار ، متّجها جنوبا كأنه يريد أن يعود إلى الأقاليم الاستوائية التى منها نبع فرعه الكبير المسمّى البحر الأبيض أو النيل الأبيض ، ولكنه بعد أن يصل قرية الدبّة يتّجه شمالا نحو شلال دنقلة أو كرمة التى تقع شمالى دنقلة الحديثة . من عجيب أمر شلالات النيل أنّها تعد عدا معكوسا لأن بواخر محمد على باشا بدأت سيرها من الشمال إلى الجنوب معاكسة لسير تيار النيل ، فقيل لشلال أسوان الشّلال الأول وهكذا إلى آخر شلالات النيل شمالى الخرطوم واسمه السّبلوقة أو السبلوقة بالقاف التى كالكاف ، وحرّفت بآخره إلى كاف خالصة تحت تأثير النطق الإفرنجى . وقد سمعنا بعضهم يقول : ( أنا ماشى كارتوم) أى إلى الخرطوم يتفرنج بذلك . وسبلوقة أصلها من السّبل أى المطر ومن كسر السّين فكأنّه بدأ بها شبه ساكنة كعادة البداوة فى خطف الكلام ثمّ تخلص من السكون إلى الكسر . وأحسب أن ابن جنّى قد أشار إلى شىء من نحو هذا فى الخصائص . وأمّا ( أوق ) و ( أيق ) فللنسبة فى استعمال أهل النيل فى بلادنا . وعلّها نوبية وأقرب عندى أنها من نوع عربى الأصل ، وذلك أن أوق وأيق بالقاف وآنج كلها قريبة من ياء النسبة العربية . وقد تصير هذه جيما كما فى : البرنج أى البرني فى قول الآخر :
خالى عويف وأبو علج
المطعمان اللحم بالعشج
وبالغداة فلق البرنج
وقد تقلب الياء جيما على أية حال فى نسب وغيره كما فى قول الآخر :
رب العباد إن قبلت حجتج
فلا يزال شاحج يأتيك بج
وفى بدونا من يقول اليمل فى الجمل . وقد تقلب الجيم دالا كما فى الدحش أى الجحش .
(/)
وكأنّهم قالوا سبلى فى الفصيح ثم صاروا بها إلى سبلج سبلق سبلوق . والله أعلم وشلاّل السبلوقة هو الشّلال السادس فى العدّ المعكوس ولشلالات النيل الستة أسماء ذكرنا منها شلال أسوان ، وهو الأول كما قدمنا وله بقية شمالى السّد العالى . والشلال الثانى جنوبى وادى حلفا الغريقة كأنما كان من بعض أرجائها فى بلاد النوبة السفلى فى موضع يقال به " جمى " وباسمه كان يسمّى الشلال . ولعلها كلمة نوبية الأصل ، ولعلها لا تخلو من نفس أصل عربى كأنه من اليم ، ويقال للماء فى الرمل الجمّام من جم الماء يجم ، وكان النيل تتقسمه صخور الشلال ورماله أيام التحاريق ، وهو الآن جميعه فى بحيرة السدّ تتلاطم فوق صخيراته الغريقة فى أعماقه أمواج عيلم جديد .
ومقرات التى جرّت إلى هذا الاستطراد لعل أصلها عربى وتكون على هذا أختا للتى فى معلقة امرئ القيس حيث قال :
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمال
وإنما سميت المقرات فى بيت امرئ القيس لاجتماع ماء الغيوث فيها. وقال الأعشى:
شتّان ما يومى على كورها
ويوم حيّان أخى جابر
أظل فى تيهاء مسجورة
وأنت بين القرون والعاصر
والقرو الحوض . وقد نأنس ههنا بقول حبيب :
ولو كان يفنى الشعر أفناه ماقرت
حياضك منه فى العصور الذّواهب
ولكنه صوب العقول إذا انجلت
سحائب منه أعقبت بسحائب
وخبّرني مواطن من أهل مقرات أن معنى مقرات الحوض وذلك لأن النيل فى جانبها أو بعض جوانبها كحوض لما يحيط بها من الجنادل وما يتخللها منها . فالكلمة على هذا عربية . وكثيرا ما تتحول الضمة إلى كسرة أو العكس أو يلتقيان كقولنا فى العامية طُوال وكُبار وصُغار أى طِوال وكِبار وصِغار . وقد تعلم أيها القارئ الكريم أنهما قد تلتقيان فى الفصيح . وذكروا أن أبا الطيب كان ينشد :
تريدين لِقيان المعالى رخيصة
ولابد دون الشهد من ابر النحل
(/)
بكسر اللام من لقيان وقالوا إن ضمها أفصح أو هو المحفوظ . وقد كان أبو الطيب من حفظة اللغة ، وذكر أنه كان يحفظ جمهرة ابن دريد عن ظهر قلب . ومن حفظ حجة على من لم يحفظ .
الأُبَيَّض :
بضم الهمزة وفتح الباء وكسر الياء المشدّدة تصغير الأبيض ، هكذا نُطْق المثقفين وكتب الجغرافية وما أشبه لها الآن . والنطق العامى الصحيح بهمزة موصولة ولام مكسورة كأنّها مشدّدة هكذا أَلِبيِّض .
الأبيّض كبرى مدن غرب السودان القريب ويقال له كردفان وأشهر عند الجعليين إلى زمان قريب كردفال باللام وكان سفرهم إليها كثيرا من أجل التجارة والجلب ويقال للتاجر جلاّبى وللتجّار جلاّبة ثمّ صار يطلق هذا على أهل النيل عند أهل غرب السودان . وكانوا إنما يرون منهم التجار ، ويعجبهم منظرهم وثيابهم . ويتوهّمون عندهم الغنى . وقالت مغنية " الدلوكة " :
شدّوا له فوق ال يتاتى
مناى ليك تاجر مو زيّاتى
أى عاصر لزيت السمسم . ال يتاتى أى البعير الجيد . يتاتى أى يخطو كالصغير الذى يعلّم المشى بعد أن كان يحبو خطوة خطوة . ويقال لهذا النوع من تعليم الطفل المشى بعد الحبو بعاميتنا (التاتاى) أى التأتاء، والتأتأة فى الكلام معروفة . وقال مادح الرسول صلى الله عليه وسلم الحاج الماحى يذكر أمله أن يفوز فى الآخرة بحورية من الحور العين :
ألاعب فيها بالتاتاى
وهى من قصيدة له مطلعها
قوافل درّجن بيجاى
طالبات الرسول ملجاى
وديوانه رحمه الله تعالى مطبوع ومشروح
(/)
والأعلام لا تعلل كما ذكر الخليل . ومع هذا لن يبرح الناس يطلبون لها التعليل ووجوه التأويل ، وتلك لهم شنشنة . وسمعت أن الأبيض أو قل ألبيّض سميت بذلك لأنّها كانت أرض زراعة فى الخريف - أى موسم المطر - وكان لأحدهم حمار أبيض مربوط هناك ، فكان الناس يشيرون إلى موضع عريشهم أو اجتماعهم أو مخيمهم أو تايتهم بالقرب من آريّه كقولهم عند ألبيّض أى عند الحمار الأبيض بالتصغير كما ذكرنا آنفا من طريقة نطقهم ، ثم صار ذلك قرية ومدينة ، وقال المهاجرون لحرب جراب الفول الباشا الذى كان يحكمها ثائرين عليه مع المهدى :
السيد اياه السيد
المهدى أل فى الأبيض ( البيض)
ثم نطق الإعلاميون العصريون كما قدمنا بالهمزة مضمومة وبالباء مفتوحة وضبط كذلك فى الخرائط .
الأبواب :
يقال إن هذا هو الاسم التأريخى للمنطقة الواقعة جنوب نهر أتبرا إلى شندى. ويرى بعضهم أنها تشير إلى الطرابيل أى الأهرام بناحية البجراوية وهى نحو من ستة وأربعين هرما وإلى القصور التى بناحية المصورات والنقعة شرقى النيل بين شندى وود بان النقا.
ولم أجد تفسيرا شافيا ، والمؤرخون يذكرون أن اسم الأبواب هكذا وجدوه وهو الاسم التأريخى لبلد الجعليين . وعندى أنه قد يكون هذا الاسم محرّفا من " أرباب " وهى كلمة تطلق على سيد القوم وشيخ القبيلة . وأحسبها خليط من أصل عربى وأصل بجاوى . أما الأصل العربى فهو رب وأما الأصل البجاوى فهو ( آب ) وهى أداة جمع ونسبة . فبنو نافع يقال لهم نافعاب وبنو حسن حسناب . وهذا كقول العرب المغيرات فى بنى المغيرة والتويتات فى بنى تويت وكلاهما من قريش . وأرباب الجعليين أى سيدهم وملكهم والأرابيب الذين معه عسى أن يكونوا هم المرادين بهذا اللفظ ووقع فيه ما وقع فصير به إلى الأبواب ولا معنى لها إلاّ أن يكون معنيا بها القصور وهو بعيد وليس بالموضع قصور وإنّما أهرام وخرائب وكلمة الطرابيل المستعملة أقوى دلالة عليها .
الأضيّة :
(/)
اسم بلدة تقع غربى الأبيض فى الطريق إلى الفاشر والكلمة عربية الأصل تصغير أضاة أى بحيرة ونطقها ألضيّة بهمزة وصل ولام مكسورة وضم الهمزة إعلامى حديث .
النّهود :
بلدة أخرى فى الطريق إلى الفاشر عاصمة دارفور - والنّهود مرادفة فى المعنى من حيث هى لفظ عربى لقولهم النهوض - أى ينهد أو ينهض منها إلى النجعة والسفر . قال أبو تمام :
لم يغز قوما ولم ينهد إلى بلد
إلا تقدمه جيش من الرعب
أراد بلم ينهد لم ينهض وليست الدّال هنا منقلبة عن الضّاد ولكن نهد لغة فى نهض.
الحصيحيصة :
وينطقونها الآن الحصاحيصة ولا أدرى من بدأ هذا النطق الذى لا معنى له. وفيها محطة للسكة الحديدية . فعلّ أحد الكتبة خيل إليه أن الإمالة بعد الصاد منقلبة عن ألف .
والكلمة مصغرة من حصحاصة أى حصاة. هذا وجه ، ووجه آخر بمعنى تمحص وتحقق وتدفق فى الأمر ونقول فى العامية فلان حصحاص وحصيحيص بالتصغير .
وردّ ذلك إلى " حصحص الحق " ليس ببعيد. والحصيحيصة الآن مدينة كبيرة فيها تجارة ومال وهى فى منطقة غنية بالزراعة فى أرض الجزيرة على الشاطئ الأيسر من النيل الأزرق على بعد نحو أربعين ومئة كيلو متر من الخرطوم وفيها معمل نسيج. وبالشاطئ الشرقى بالقرب منها غير بعيد مزرعة الجنيد ومعمل لقصب السكر أنشئ فى أيام الرئيس عبود رحمه الله وإزاءها بالشاطئ الشرقى مدينة رفاعة، وأخذت اسمها من قبيلة رفاعة التى تمتد مراعيها شرقى النيل الأزرق إلى قريب من أعاليه بعد سنار وفى أرض البطانة ، وهى الأرض الواسعة الواقعة بين الأتبراوى - أى نهر أتبرا ويقال الآن عطبرة ولا أدرى لماذا يقال ذلك - وفرعى النيل الأزرق الدندر والرهد - أما الرهد فمعناها النهر ، والدندر أحسبها اسما صوتيا من صوت الأسد . قالت المغنية تمدح موسى ود جلى :
ادر يوية يوم رِكِبْ دَفَّر
طلع ظيته شال بنات بربر
ولا بياكل الملاح أخدر
ولا بيشرب الخمر يسكر
(/)
الادر هو الأسد وهذه حكاية صوته ويويه صوت الخائفين منه من زغاريد النساء للخوف . ظيته أى صيته . شال بنات بربر أى ذهب وارتفع من غرب البلاد حتى وصل بندر بربر فى شمالها . أخدر أى أخضر واللفظة بالدال فى الفصيح . قال الشاعر :
خدراية فتخاء لبد ريشها
من الطل يوم ذو أهاضيب ماطر
ومن ذلك قولنا فى العامية " الطير الخدارى" .
وقد نظم الشيخ بابكر بدرى رحمه الله أسماء مراكز مديرية النيل الأزرق ، وكانت عاصمتها فى أيام الحكم الثنائى - ومازالت - ودمدنى . قال :
حصيحيصة سلم رفاعة قبلها
وود مدنى الكرسى مناقلها الأدنى
سلم أى مركز المسلمية وهى قريبة من ودمدنى ورفاعة قبلها للقادم من الخرطوم والمناقل أدنى المراكز من ودمدنى .
الطين أو أبطين أى أبوطين :
جزيرة بالقرب من مقرات والاسم عربى كما لا يخفى وقد وردت فى أغنية. فزعموا أن الشبان سمعوا هذه الأغنية ومعها ضربات الدلوكة و " سيرة " نساء عرس . و " السَّيرة " هى مسيرة من الشبان والشواب وأهل العرس وقد تكون فيها زينة من الخيل والحمير والإبل مع المشاة . فخفوا ليشهدوا الفرح ويشاركوا فى سروره . وكان صوت الدفوف والدلاليك وأصوات الغناء قريبة رخيمة أخّاذة مطربة . ولكنهم لم يجدوا السيرة ولا شيئا يدلّ عليها . كانت فى الهواء . كانت حفل عرس للجن يتغنى مغنيهم هكذا :
يا الساكنين قبالة الطين ( أب طين )
وقرنك مرقد الوزين
كدى يا يم لل بتوق
العينة ام سحاب وبروق
أى يا هؤلاء الساكنون بالقرب من أو بمقابلة جزيرة ( أب طين ) أو الطين . ما أجمل شعرك كأنّه فى طوله وغزارته العشب الناعم الذى يرقد عليه الأوز - كذلك يا أماه عجبا لهذه التى تتوق بعنق ووجه براق كالغيث الذى فيه سحاب وبروق .
هذا المقطع هو أول الأغنية التى أنشأها مغنى الجن وقد حرصت على أن أحصل عليها كاملة وأنا فى سبيل ذلك إن شاء الله تعالى وله الحمد أولا وأخيرا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
(/)
عبد الله الطيب
عضو المجمع من السودان(/)
هذه أول مرة في حياتي أكتب في التأبين ، لأنه موقف يثير في النفس شجونا وآلاما تهز النفس وتحرك المواجع الدفينة … التي نتجلد في كتمانها وهي تغلي كالمرجل في القلب ، ونخفيها، وهي تتوقد كالأتون في الحنايا، وتُذكي الذكريات، وتُوقظها في دياجير نومها، لكنها تنساب بهدوء، وتعيد أيامنا الماضية مع الصفوة الممتازة من الرواد العمالقة، الذين تركوا الفانية إلى دار الخلود، وإلى رحمة الله تعالى . إنه موقف الحزن الكئيب ، والأسى المحض ، فيه عِبرة وعَبرة . أين زملاؤنا الذين كانوا شذى تعبق فيهم جنبات المجمع، وكان الحب يرفرف بجناحيه علينا، ورفيف الود يتدفق من قلوبهم فيسعدنا لطفهم وتسرنا بشاشتهم، وتفرحنا رقة حديثهم، وفيض علمهم، ودفق ذكائهم، ولمح أذهانهم ؟
ففي كل حنية من حنايا القاهرة،وفي كل منعطف من منعطفاتها، كان لنا أحباب يملأون فراغ الروح وحرمان النفس بالدعوات والزيارات . عندما
تسعدني القاهرة وتضمني إلى صدرها الحنون . الراحلون الكرام نُذُر الموت لنا. ليس في الكون حقيقة غير الموت !
لا أدري على من أبكي؟ولمن أرثي ؟ ولكني أنوح حزنا، وأجهش حسرة وأذوب لوعة !
أأبكي على نفسي ؟ أم أبكي على الأساتذة الكرام ؟ أم على الإنسان الذي لا يحس بالقدر المحتوم ؟ أم أبكي على البشرية التي لا تعتبر ؟ أم على الإنسانية التي لا تتعظ ؟!
رحم الله الأثري، فقد أثار تأبينه في نفسي مواجع الذكريات وعميق الآلام ، وحسرات الحزن والأسى والشجون النائمة نومًا عميقا في شغاف القلب وسويداء النفس، فجدد الألم وأيقظ الحسرة .(42/1)
احترت كيف أبدأ في التأبين؟وكيف أذكر أعماله وقد عاش أكثر من تسعين سنة ؟ منها سبعون ، أو ثمانون كما قال عن نفسه ، في الإنتاج العلمي والبحث والتتبع في حقول التعليم والتوجيه التربوي، والعمل في الجمعيات الدينية ومشاركاته الكثيرة في الصحف والمجلات، ومساهماته في الشعر الأصيل والفكر الملتزم .. ومع كل هذا العمر الطويل والإنتاج المستمر المتعدد الجوانب لم تُوله وسائل الإعلام والنقاد ودارسو الأدب ما يستحق من اهتمام؛ ولم يُكتب عنه ما يوازي إنتاجه إلا بعد أن تجاوز التسعين … فلم يُكتب عنه إلا صفحات قليلة في كتب تُعد على الأصابع ، ولعلي أول من اعتنى به عندما أصدرت كتابي ( شعراء العراق في القرن العشرين ) سنة 1969م فقدم لي ترجمة حياته، واخترت نماذج من ديوانه المخطوط .
من هو الأثري ؟
محمد بهجة بن محمود بن الحاج عبد القادر بن الحاج أحمد بن محمد أغا . أصله من ديار بكر. هاجر جده الأعلى إلى أربيل، ثم انتقل إلى بغداد وأصبح من تجارها المعروفين، وتزوج الحاج أحمد من أسرة بغدادية من قيس .. وامتد نفوذ الأسرة التجاري إلى الهند في تجارة الخيل.(1)
وقد عاش والده منغص العيش، ولم يعسر،ولما توفيت زوجته الشابة تركت له خمسة بنين صغارًا،كان الأثري هو الأكبر ومات ثلاثة من أبنائه فحزن عليهم حزنًا شديدًا حتى أصيب بالفالج، وبقي سنتين طريح الفراش، محبوس اللسان،وتوفى سنة 1930م وهو في السابعة والخمسين (2) فأثر موته في الأثري تأثيرًا كبيرا فنظم قصيدة منها :
يا بنفسي أبي الكريم وروحي
... ليت أنّا كنا على ميعاد
أتُراني أذوقُ بعدك طعمًا
... لحياتي ، وأنت عني غادي
يبتغي لي الرفاق سلوى، وسلوا
... ي ضريح في جنب قبرك بادي
وأمه زينب تركيه الأصل من كركوك. وكانت شديدة الحب لابنها البكر، ومنها أخذ التركية . ولما ماتت تزوج والده وخلف من زوجه الثانية أربع بنات حمل الأثري أعباء تربيتهن .. وتعليمهن .
لماذا سُمى بالأثري ؟(42/2)
يقول الدكتور عبد العزيز البسام ما ملخصه بأن الأثري كان يدرس على أستاذه علي علاء الدين الألوسي ( مراقي الفلاح )، فاعترض على شارح الكتاب ولم يعجبه الشرح، ورفضه ورجاه أن يعفيه من قراءة هذا الكتاب وشرحه، فقال له: ما تريد أن تقرأ؟ قال: أريد أن أتعرف على الفقه الإسلامي الحقيقي ، فقال له أستاذه:فأنت أثري إذن.فسأله ما تعني هذه الكلمة؟قال له:الأثري هو الذي يتبع أثر الرسول عليه الصلاة والسلام قولاً،وفعلاً.وراقته الكلمة وتسمى بها.(1)
ثقافته ودراسته :
تعلم قراءة القرآن الكريم والكتابة في كتاتيب حيه في الرُّصافة،وأتم قراءة القرآن وهو في السادسة، ثم درس في مدرسة البارودية الابتدائية،وكانت ثلاث سنوات وتعلم الفرنسية بصورة خاصة، ولكن اللغة التركية بقيت مصاحبة له ،ولم أسمعه مرة واحدة يذكرها أو يتحدث بها، ودرس في الرشدية العسكرية، وتركها لمرض أَلَم به ثم دخل المدرسة السلطانية حتى احتل الإنكليز بغداد 1917م فأغلقوا المدارس فدخل مدرسة الأليانس اليهودية حتى لا يبقى بدون دراسة،ولأنها الوحيدة التي سمح الإنكليز بفتحها ومعه سبعة عشر طالبًا،اختلفوا مع الطلاب اليهود فتركوها بعد اعتداء اليهود عليهم(2)
الصُّدفة المفيدة :(42/3)
ومن الصُّدف المفيدة أن والده طلب منه قراءة جريدة عربية وهو في السابعة عشرة من عمره فلم يحسن قراءتها. (3) وكانت بداية تحول في حياة الأثري، إذ وجهه إلى دراسة اللغة العربية فدرسها على الشيخ محمود بن علي، نحوا وصرفا وفقها. ثم درس على الشيخ عبد المحسن الطائي المدرس في النعمانية،ولكن التحول المهم كان دراسته على الشيخ علي علاء الدين الألوسي. (4) وكانت هذه الفترة بداية التحول الذي نقله من اللغة التركية إلى اللغة العربية والعلوم الإسلامية، فقد استعذب اللغة وتذوقها، والتذ بحلاوة جرسها،وحلو ألفاظها، وطلاوة كلماتها، وسحر بيانها، وجميل بلاغتها. (5) وكان للأستاذ الألوسي أعمق الأثر في هذا الاتجاه عندما بدأ يدرس عليه الأدب العربي، مع النحو والصرف والفقه والحديث الشريف ، فقد درس عليه مقامات الألوسي ، ورحلته غرائب الاغتراب، وهي رحلة أبي الثناء الألوسي
إلى الأستانة، كتبها بأسلوب جميل وسجع لطيف، وكان يصف كل يوم طلوع الشمس بوصف لا يكرره في الأيام التالية.
فتح الشيخ قريحته فنظم فيه أول قرزمته الشعرية . وقد درس عليه ستة أشهر، بقي يذكرها بالإعجاب والتقدير لأنها أثرت في حياته تأثيرًا واضحًا، ثم أصيب أستاذه بالفالج وتوفي سنة 1320هـ .
الأثر الكبير :(42/4)
ويظهر أثر العالم الكبير الأستاذ محمود شكري الألوسي في ثقافته وتعليمه فقد لازمه هذا الأثر طوال حياته، وقد كان الأولسي من أعلام عصره فدرس عليه أكثر العلوم العربية، كالنحو والصرف والبيان والبديع والعروض والفرائض والحديث والتاريخ وأدب البحث والمناظرة، كما تعلم عليه تحقيق المخطوطات، فقد كان ينسخ له بعض الكتب ويهديها أستاذه لأعلام العصر، فقد نسخ له كتاب الخيل لأبي عبيدة فأرسله إلى أحمد زكي باشا، ومن كتب أستاذه التي درسها عليه وحققها (الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر )، وطلب منه نسخ (مثالب العرب) للكلبي، والرد عليه . فكانت أسسه في التحقيق قوية حتى غلب التحقيق على التأليف، وقد كان الألوسي مصابًا في المثانة، واستفحل فيه المرض، وتوفي سنة 1314هـ فرثاه بقصيدة منها :
ما أنس لا أنسى أيامًا بصحبته
... حَلَت فمرت وساءت بعد أحوالا
صحبت شكري من الأعوام أربعة
... حتى بلغت به في العلم آمالا
لولاه لولاه لم أدرك بلوغ منى
... والبدر لولا ضياء الشمس مالالا
إني لأبكيه ما ناحت مرزأة
... ثكلى ترن مدى الأيام أعوالا
وكانت هذه التلمذة سبيلاً لتعارف الأثري على أصدقاء الألوسي ومحبيه في الأقطار العربية، فقد لازمت شهرة الألوسي الأستاذ الأثري، وأخلص له كل الإخلاص، فقد عُين بعد موت أستاذه عضوًا مراسلاً في مجمع دمشق، واستمر في تحقيق كتب أستاذه ولما مات وجدوا بعض هذه الكتب المحققة، لم تطبع مثل (العقد الثمين في مباحث التضمين ) وشرح أرجوزة الألوان. وحقق (المسك الأذفر) . وهو كتاب تراجم علماء القرنين الثالث عشر والرابع عشر .
وبعد موت محمود شكري الألوسي استقل بنفسه واعتمد على ما تعلم من العلم، ودخل الحياة العملية في التدريس والوظائف، وقد لخّص الدكتور البسام مؤهلات الأثري بقوله :(42/5)
"كانت له ثروة علمية وأدبية وافرة في علوم العربية وآدابها، وفي العلوم الإسلامية، تفوق المعهود فيمن يتصدر للتدريس في المدارس الثانوية، وتجاوز إلى إمكان الاضطلاع بمثل هذه المهمات في التعليم العالي" (1) .
وظائفه وأعماله الإدارية :
بدأ حياته العلمية سنة 1924م مدرسًا في مدرسة التفيض الأهلية، ثم عمل في وزارة المعارف سنة 1926م في الثانوية في بغداد لتدريس اللغة العربية وكانت الثانوية الوحيدة في العراق، إذ إن التعليم في العهد العثماني كان محدودًا بالمدارس الدينية التي في المساجد والجوامع مع بعض الكتاتيب لتدريس الطلاب .
ولما احتل الإنكليز العراق لم تكن في جميع أنحاء العراق غير (103) مدارس
من ضمنها الكتاتيب والمدارس الأهلية ومدرستان واحدة للحقوق والأخرى السلطانية،ولم يكن يتجاوز عدد الطلاب في جميع أنحاء العراق(2) 81013 طالبًا. ثم عين مديرًا لأوقاف منطقة بغداد سنة 1936م ثم عين مفتشًا اختصاصيًا في وزارة المعارف سنة 1937م وشارك في سنة 1941م في حركة رشيد عالي الكيلاني بقصيدة واعتقل بعدها .. (3) . وبقي في التعليم حتى عينه ياسين الهاشمي في الأوقاف بعد أن أوفده مع بعثة كبيرة ضمت عددًا من النواب والطلاب لتوثيق الصلات بين العراق ومصر، وأوكل إليه مهمة دراسة سير الأوقاف والمدارس الدينية المصرية، وبخاصة الأزهر الشريف ومعاهده. وقد سافر هذا الوفد إلى مصر وفسلطين ولبنان وسورية يحلم بهدف بعيد الطموح كان يريد الهاشمي تحقيقه هو الوحدة العربية .. وكتب الأثري تقريرًا مفصلاً عن هذه الزيارة، وذكر مقابلته لشيخ الأزهر مصطفى المراغي وأنه رحب به ولقي منه الترحيب والتقدير. وإن الصحف ذكرت مقابلاته وأعماله . (4)(42/6)
لكن أعداء الفكر العربي في العراق من غير العرب خافوا من طموح الهاشمي والوحدة التي قد لا يجدون لهم مكانا فيها، فتم التآمر عليه بانقلاب قادة بكر صدقي في سنة 1936م وأخرج الهاشمي من الوزارة ، إلى دمشق ومات كمدًا، ولم يسمح بدفنه في العراق، فدفن إلى جوار صلاح الدين الأيوبي .. وكان الأثري في دمشق فعاد بعد قتل قائد الانقلاب فعين في وزارة المعارف . وفي سنة 1941م اعتقل لأنه شارك بقصيدة ألقاها من الإذاعة منها :
غمزوا إباءك فاضطرمت إباءَ
... وحشدت جون والثرى والماءَ
راموك للذل المقيم وقد مضى
... دهر تسام به الشعوب سباءَ
ويقي في المعتقل ثلاث سنوات، ولما أفرج عنه مع من أفرج عنهم من الشعراء والساسة والأدباء بقي يعيش على راتبه التقاعدي وموارده المالية الخاصة حتى 1947م فألفت لجنة التأليف والنشر والترجمة التي حولت إلى المجمع العلمي العراقي في السنة نفسها، فدخل المجمع مع الأعضاء الآخرين، وكان عددهم عشرة أعضاء ، وفي وزارة السيد محمد الصدر أعادت هذه الوزارة كل المفصولين وأنصفتهم، فأعيد إلى المعارف مع ترقيته درجتين في التفتيش الاختصاصي الذي بقي فيه عشرين سنة . والحق أنه كان موجها تربويًا، ولم يكن مفتشًا اختصاصيًا. فما جرح إحساس مدرس، ولا آذى أحدا. إنما كان يعين المدرسين ويناقشهم على انفراد. فقد ذكر الدكتور أحمد مطلوب أنه كان في ثانوية كركوك، ولما قابله بعد الدرس قال له: إنه تألم لإبعاده عن بغداد وإرساله إلى كركوك، وسأله إن كان يحب العودة إلى بغداد فرد عليه بالإيجاب وبالفعل نقله إلى بغداد .
وقد أسهم في التدريس في كلية الشرطة ودار المعلمين العالية وبعد 14 تموز عُيِّن مديرًا عامًا للأوقاف في 21 تموز، مرتبطا برئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، ولما قضي على الزعيم أحيل على التقاعد في 10/2/1963م .(42/7)
وجاءت حكومة عبد السلام عارف وكان رئيس الوزارة أحمد حسن بكر فشنت حربًا على كل من تعاون مع عبد الكريم قاسم، وكان هو عضوًا في المجمع، وكنت أمينًا له، وشاءت الظروف أن يموت رئيس المجمع الدكتور ناجي الأصيل في الأيام الأولى، وكانت الدولة تريد الإصلاحات في كل نواحي الحياة العامة فاغتنمت هذه الفرصة، ووضعت قانونا جديدا للمجمع عوضًا عن النظام الذي أصدرته وزارة المعارف سنة 1947م وسع فيه صلاحيات المجمع وأعطاه القانون الجديد شخصية حكيمة مستقلة، وزاد عدد الأعضاء إلى عشرين وأصبح المجمع متصلاً برئيس الوزراء بعد أن كان تابعا لوزير المعارف، ولما اختير الأعضاء لم يدخل اسمه معهم، لأنه كان قد تعاون مع الحكومة السابقة وبذلك تدخلت السياسة في صلب العمل العلمي وفرضت رأيها .
الحزن في حياته :
الحوادث والآلام تقوي صلب الرجال، وتبني إرادتهم على قاعدة متينة من الثبات والقوة عندما تتحول إلى اللاشعور الإنساني، وتتراكم في الوجدان الداخلي .. وتؤثر في سلوك الإنسان القوي فيصبح جادا في عمله حساسًا في تصرفاته، وقد أثرت في الأثري الفواجع فقد ماتت أمه ثم أبوه وإخوته، ومات أستاذه علي علاء الدين بعد ستة أشهر من الدراسة عليه، واتصل بمحمود شكري وكان مريضًا، ونقل من عمله في الأوقاف. فأثرت الآلام في روحه الحساسة وآذته الحوادث من بداية عمر المراهقة التي تركت آثارها طوال حياته، فأصبح جادا شديد الحساسية، يغضب إذا شعر بكلمة تمس مشاعره وكرامته ولو كانت عفو الخاطر وبحسن نية . وقد قال عنه محمود المعروف وهو من أوائل من كتب عنه سنة 1947م(1) :
" لقد رأيته مرة والشرر يقدح من عينيه والعرق يتصبب من جبينه ، وهو ينتفض كما ينتفض السبع ريع عرينه فهب يحميه، وإذا هو في منعة العزة والإباء وقد ثار لأن أحد كبار موظفي الدولة حاول أن يمس كرامته في تكليفه كتابة موضوع معين غفل من التوقيع"(2)(42/8)
وعمل الأثري مدرسًا ومديرًا للأوقاف ومفتشًا اختصاصيًا، فكانت له دائما الكلمة الأولى، فخلق عمله فيه اعتدادًا بالنفس وتمسكًا بالرأي .
الرجل الموثق :
كان الأثري شديد العناية بما كتب عنه حتى وإن كانت سفرة إلى البصرة أو الإشراف على طبع كتبه المدرسية في دمشق، ويذكر الدعوات التي لباها، والتي اعتذر عنها أو رفضها، ويحتفظ بالجرائد والمجلات التي تذكره، وهذا التوثيق ساعد الذين كتبوا عنه وكان يقرأ ما كتب عنه قبل النشر، ويدخل على البحث ما يلائمه ويحذف ما لا يراه مناسبًا، فقد قال الدكتور أحمد مطلوب في الدراسة التي قدمها في حفل تكريمه بأنه قرأ البحث وأضاف إليه تعليقات ذكرها الدكتور أحمد مطلوب في الدراسة (1) .
وهو الذي كتب لي ترجمة حياته ونشرتها في كتابي (شعراء العراق في القرن العشرين )، وذكر لي بأنه من مواليد سنة 1904م لأنه كان في العمل ولكنه لما تقاعد زاد سنتين على عمره، ومن الوثائق التي احتفظ بها ما سجله الدكتور عدنان الخطيب في ذكرياته، بأنه تمكن من دعوة الأستاذ الأثري لحضور الاحتفال بأحمد شوقي، وأنه قابله وقال إنه لفت بأدبه وروايته قلب أمير الشعراء، فقربه منه وجعله موضع رعايته، مما ترك أعظم الأثر في نفسه، وكان من أثر هذا اللقاء أن رثاه سنة 1932م بعد موته وقال :
ألا ، لست أنسى منك مجلس حكمة
... على بردى قد مرّ مذ سنوات
خيالا كلذات السرور على الهوى
... وخفقا كلمح الثغر والوجنات
أخذت هوى نفسي ببشرك طافحا
... وآنستني باللطف والبسمات (2)
وذكر في وثائقه الأماكن التي سافر إليها، ومن حضر في المؤتمرات، وبخاصة الأسماء الكبيرة والأقطار العربية التي مثلوها، ويذكر ألقابهم ووظائفهم وأعمالهم، ومن دعاه منهم، والمكان الذي ألقى فيها قصيدته، وأنه ألقى قصيدته في المؤتمر الإسلامي سنة 1931م تحت قبة المسجد الأقصى في 17 رجب 1350هـ وأنه كان أصغر الأعضاء سنًّا وتناقلت الصحف القصيدة ومطلعها :(42/9)
لمن الوفود تسيل سيل الوادي
... مُليءَ الحمى منها وغص النادي
ولولا وثائقه ما قدر باحث على الحصول على جرائد ومجلات الوطن العربي التي مضى عليها ستون سنة ذكرها الدكتور المشهداني في بحثه-بله - الجرائد والمجلات العراقية الصادرة سنة 1934م – 1936م.
وكان يؤرخ لكل انتداب ويصفه، فقد ذكر حفل حصوله على جائزة الملك فيصل سنة 1986م بأن الحفل كان فخمًا رأسه سمو ولي العهد، وقد أنشد فيها قصيدة حارة العواطف استبدت بإعجاب السامعين من عِلْية القوم والأدباء ورجال الصحافة (1) .
وقد كنت أتمنى أن يذكر مؤرخو حياته الجو العام الذي كان يعيش فيه في تقلبات الحياة، فقد عاش في الدولة العثمانية والدولة العراقية وأحدث العراق، منذ الملك فيصل الأول وابنه غازي والوصي على العرش و ( 14تموز) وحكم عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف وأحمد حسن البكر والوقت الحاضر . فلم يذكر مؤرخو حياته لماذا أرسل الهاشمي الوفد إلى البلاد العربية؟، وما عمل هذا الوفد الضخم؟ ومن هم هؤلاء الأعلام الذين سافروا معه؟ وما الطموحات العربية للهاشمي؟ وتقلب الأحداث في العراق لأن الأثري كان جزءًا لا يمكن بتره واستلاله من البيئة الفكرية والسياسية والاقتصادية كما صنع الذين كتبوا عنه .
مطبوعاته :
من تتبع المطبوعات التي ظهرت باسمه، يظهر لنا بأن الأثري كان محققًا أكثر منه مؤلفا، فقد حقق كتب أستاذه التي درسها عليه مثل (بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب ) ثلاثة أجزاء. و(تاريخ نجد )،و( تاريخ مساجد بغداد)، وهو أول كتاب حققه وأضاف إليه و(الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر) و (الماء وما ورد عن شربه ) و ( النحت وبيان حقيقته )، وثلاثة كتب لم تطبع .
كما حقق كتبًا أخرى منها (أدب الكاتب)للصولي،و( جريدة القصر وجريدة العصر)لعماد الدين الأصفهاني، و( مناقب بغداد)لابن الجوزي،وكتاب (النغم) ليحيى المنجم،و( صورة الأرض) للادريسي، وهي خارطة الشريف الإدريسي .(42/10)
الكتب المدرسية :
وقد انصرف إلى ناحية تربوية مهمة هي تأليف الكتب المدرسية، فقد غطى بمؤلفاته التعليم الابتدائي منفردًا بأكثرها ، بداية من الصف الثالث الابتدائي إلى الصف السادس، ومرحلة المتوسط، وإعداد المعلمين . أو مشاركًا بعض المختصين في التربية، وجميعها في اللغة العربية، قراءة وتاريخ أدب .
التأليف :
ألَّف عددا من الكتب منها : (أعلام
العراق ) وهو أول كتاب له عن الأسرة الألوسية وعلاقته بها، لاسيما أساتذته منهم سنة 1926م، و (محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية ) و ( محمد عبد الوهاب داعية التوحيد والتجديد ) في العصر الحديث. وجمع مقالات كتبها سنة 1930م في جريدة البلاد في الرد على الأستاذ أحمد حسن الزيات عن (مأساة الشاعر وضاح )، وعلاقته بأم البنين طبعت سنة 1935م وكتاب عبد المحسن الكاظمي، ألقاه في معهد الدراسات والبحوث العربية. ولا أدري لِمَ لم يطبع؟ مع أن المعهد يطبع المحاضرات بعد إلقائها مباشرة. فقد طبع لي ستة كتب بعد إلقائها محاضرات فيه .
الترجمة :
ترجم مع الأستاذ عزيز سامي من التركية ( الخطاط البغدادي علي ابن هلال) المعروف بابن البواب تأليف الكاتب التركي سهيل أنور. وله عليه تعليقات وتحقيقات طبعت بعد ذلك .
المخطوطات :
وله عدد من المخطوطات التي لم تطبع منها: ثلاثة كتب لأستاذة محمود شكري الألوسي، و ( نزهة المشتاق في اختراق الآفاق ) بلغت ثلاثة عشر كتابا. وبذلك فالأستاذ الأثري محقق أكثر منه مؤلفًا .
كما أسهم في كتابة المقالات في الجرائد والمجلات التي تعني بالقضايا الدينية بالدرجة الأولى. ونشرت في العراق وخارجه .
كيف عرفته ؟:(42/11)
كنت درست كتابه ( المدخل إلى الأدب العربي ) وأنا طالب في المتوسطة فأعجبت بأسلوبه وجمال عبارته فاحتفظت بالكتاب. وجاءني مفتشًا اختصاصيًا وأنا أدرس اللغة العربية في دار المعلمين (بعقوبة) فوجدته رجلاً يحترم المدرسين، ويقدر العاملين. ثم لما حضرت للماجستير أهداني كتابه ( أعلام العراق ) وهو خاص بالأسرة الألوسية. وفيه ثناء وإعجاب بمن درسّه منهم، وذكرياته معهم فكنت أذكره في كل مناسبة أدبية وفكرية. وقلما يخلو كتاب من كتبي من اسمه. وكان اسمه يتردد في الجرائد والمجلات التي كنت أعود إليها. فقد أسهم في الحركة الفكرية الأدبية في ما بين 1920م – 1930م وكان الأدب في العراق يتأثر بالأدب في مصر. ويقرأ الأدباء الجرائد والمجلات التي تردهم منها، وكانت حركة الديوان قد أثرت في الجو الأدبي في العراق، وورد ذكر المازني وشكري والعقاد في الصحف والمجلات. وقد انقسم الأدب إلى مؤيد ومحافظ ومحايد ، ولما نشر قاسم أمين كتابه (تحرير المرأة) كان صداه في العراق واضحا فانتصر بعضهم للسفور وبعضهم للحجاب وساقوا الحجج والبراهين، وجرت معارك قلمية في الصحف، وكان من المؤيدين للسفور جميل صدقي الزهاوي، ومعروف الرصافي .. وقد هاجم الأثري الرصافي بعنف وشدة بمقال، لأن الرصافي نظم عدة قصائد في هذا الصدد ومنها قصيدة عينية يدعو فيها إلى إنصاف المرأة، وإلى سفورها لأنها إنسان رقيق جميل ومن القصيدة قوله :
وأكبر ما أشكو من القوم أنهم
يعدون تشديد الحجاب من الشرع
أفي الشرع إعدام الحمامة ريشها
وإسكاتها فوق الغصون عن السجع
وقد أطلق الخلاق منها جناحها
... وعلَّمها كيف الوقوع على الزرع
ويظهر لي أن الرصافي أثار الأثري في المقطع التالي :
يقولون لي إن النساء نواقص
... ويدلون فيما هم يقولون بالسجع
فأنكرت ما قالوه والعقل شاهدي
... وما أنا في إنكار ذلك بالبدع
والله ما إن ضقت ذرعًا بقولهم
... ولكنما قد ضاق في قولهم ذرعي
أفرق دعواهم إذا ما طعنتها(42/12)
... ولو أنها كانت من الدين في درع
فقال عنه أنه طالب خلاعة، وأنه جاهل، ثم رماه بالكفر والضلال والمروق ، والطريف أن ينشر الرصافي رده في جريدته (الأمل). ورد عليه بلطف وعلل هذا القول باندفاع الشباب وحماسته. وبالفعل نظم الأثري بعدها قصيدتين في تأييد حق المرأة، وهاجم في إحداها الإنسان الذي يسوَد وجهه إذا قيل له جاءته أنثى قال :
عجبت للمرء وكم
... داعية للعجب
إن بشروه بابنة
... يبت صريح الغضب (1)
واستفدت منه لأنه يحتفظ بقصائد ووثائق متعددة لم أرها عند غيره، فعندما أردت أن أكتب عن بوادر الفكرة العربية والقومية في القرن التاسع عشر احتجت لبعض النصوص فزودني قصيدتين لرائد في هذه الدعوة من آل الشاوي (1)
شعره :
يمتاز شعره بالجزالة وقوة الأسلوب ووضوح المعاني وسموها الخلقي والالتزام بالمثل الإسلامية . نابع من جذور الثقافة العربية متمسك بعمود الشعر بكل حدوده الفنية، ولم تؤثر فيه التيارات المعاصرة فنجد في شعره أثر العصر الأموي بوضوح مع نفحات من جو الشاعر أحمد شوقي ، النفي وأسلوبه الشعري ، ونظم في موضوعات متعددة جديدة، فقد قال في القمر الصناعي قصيدة سماها "معجزة العلم" خاطب فيها العلم .
واليت في البدء الأعاجيب الكبر
... فكيف لو جاوزت أطوار الصغْر
فكن على الخَلق سلامًا وندى
... ولا تكن شرًا ولا آلة شرّْ
يا فالق الذرة باقتداره
... ووردها منك بإذن والصََّدرْ
يا عِلم لو جازك غير طامع
... لكنت كالرحمة رفقا وأبرّْ(2)
وبقى أثر شوقي في شعره حتى آخر حياته، لأنه كان معجبًا أشد الإعجاب فيه. ففي قصيدته التي نظمها يشكر الحاضرين على الاحتفال الذي أقامه له المجمع قال :
بنا من العشق للعلياء والقيمِ
... ما بالشمائل من صفو ومن كرمِ
إنه جو قصيدة شوقي :
ريم على القاع بين البان والعَلم
... أحلّ سفك دمي في الأشهر الحُرم
وفي قصيدته :
غمزوا إباك فاضطرمت إباءَ
... وحشدت جوك والثرى والماءَ(42/13)
نجد الجو الفني والأدبي والحكم والموعظة واضحة ومتأثرة بقصيدة شوقي في رثاء عمر المختار :
ركزوا رفاتك في الرمال لواءَ
... يستنهض الوادي صباح مساءَ
وبقي على جزالة الشعر وقوة النسج ومتانة العبارة واستعمال الكلمات التي تحتاج إلى شرح بالنسبة للجيل المعاصر لصعوبة الفهم ولم يخرج عن عمود الشعر إلا في قصائد محدودة كانت أقرب إلى
الموشحات؛ لأنه لم يلتزم قافية واحدة ونظم في عديد من البحور. ويظهر أثر القرآن الكريم بوضوح في شعره وعمق إسلامه وتعلقه بالله تعالى فقال :
قلبي بغيرك لم يرقَّ شغافُه
... يا ربِّ فاجنبْ حبي الأخطارا
عن كل وجه قد صرفتَ عبادتي
... وعبدتُ وجهك وحده مختارا
أغراض شعره :
الإسلام في شعره :
أبرز ظاهرة في شعره التيار الإسلامي فهو الذي أسس جمعية الشبان المسلمين اقتداء بمصر،لذلك كان سامي المثُل واضح المنهج. فقد ألقى قصيدة في الجمعية الإسلامية سنة 1350هـ وذكر تمزق الأمة الإسلامية وتأخرها عن ركب العالم فقال:
أين مني وثوبها حرر الخلـ
... ق وسلطانها أذل المظالم
ما أرى اليوم ؟ موطنًا مستباحًا
... ورعايا تُسام سوم السوائم
وفي قصيدة ألقاها في (جمعية الشبان المسلمين ) يظهر تمسكه بالرسول الكريم فيقول في ذكراه :
خلت العصور وأنت أنت الأوحدُ
... ذكرى مقدسة ومجد سرمدُ
تتضاءل العظماء عندك والسما
... وتحط شاهقة ويصغر سؤددُ
حرصه على اللغة العربية :
قال يمدحها:
تنزَّل قرآن بها ما تلوته
... صحوت على معنى أعز عظيم
تَملأَ منه بالرواء محمد
... وآتى به الدنيا أريج شميم
الوحدة العربية :
وقد كان من أوائل الدعاة إلى الوحدة العربية على أن تكون قاعدتها إسلامية، قال :
ألا فاسلكوها وحدة عربية
لها من هدى الإسلام روح ومظهرُ
لأن العروبة والإسلام لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر .
إن العروبة والإسلام ما فتئا
... هنا بواديك في عزٍّ وتمكينِ(42/14)
ولم يكن الشرقي يفرق بين العروبة والإسلام والشرق في بداية عصر النهضة فقد قال شوقي :
إن العروبة لفظ إن نطقت به
... فالشرق معناه والإسلام والضاد
وعندما مات ياسين الهاشمي داعي الوحدة العربية قال :
يا ناشد الوحدة الكبرى ليبعثها
... حلمًا لخلقٍ وأقطارًا لأقطارِ
وكان إحساسه موزعًا بين البلاد العربية في فلسطين ولبنان وسورية والأردن والشام والمغرب ومصر،والأقطار التي كانت ترسف تحت الاستعمار الأجنبي فنظم عددًا من القصائد في قضاياها، وبقي محافظًا حتى آخر قصيدة نظمها في تكريمه على نسجه القوي وجزالة عبارته الشعرية وحافظ على رأية باستمرار بأن :
الشعر ما روَّى النفوس معينه
... وجرت برقراق الشعور عيونُه
ووصف الشاعر بأنه هو الذي يعاني التجربة والإحساس الصادق بقوله :
الشعر من وهج الشعور
... ونار أشواق الضمير
نغمٌ، وإيقاعٌ، وعاطفةٌ،
... (م)تموج في الصدور
وبقي محافظًا محافظة كبيرة في شعره ولم يخرج على عَروض الخليل أو يتأثر بالتيارات الجديدة والحياة المعاصرة ، كما تأثر بها معروف الرصافي والزهاوي والشبيبي والكاظمي. فقد لزم القافية الموحدة وإن نظم بعض القصائد التي اختلفت قوافيها مثل شعراء النهضة الجديدة. لكننا لم نجد فيه التطور العصري الذي يلائم حركات النهضة الحديثة لذلك لم يألفه الجيل الذي جاء بعده، ولم يعكف عليه أحد الشعراء والنقاد لدراسته وإبراز محاسنه الكثيرة،ولم يرقّ شعره حتى في غزله الذي لا يهز قوله قلوب العشاق إنما يرضى العقل ويتحدث عن الحب وكأنه ظاهرة من الظواهر الخارجية فقد نظم بفتاة أندلسية لعلها دليلة الآثار قال:
حسناء تزهو مثل رأد الضحى
... ما أضوأ الحسن بها ما أتم
إنسانة قد لامست ناظري
... أنسيت غزلان الغلا والعجم
في غرف الحمراء طافت معي
وسحرها ينقلني لا القدم
تذكي بي الشجو ولولا النهى
... تمسكني ذاب الفؤاد سدم
أودعت ، إذ ودعتها خافقي
... فوق ثراها وافيًا بالذمم
شطر لحسناء رعت ذمة(42/15)
... حبًا وشطر للتراث الأشم
ولعل عدم العناية بأدب الأثري وشعره تولدت من أن الدولة لم تشجع التيار الإسلامي بداية من عهد الاحتلال الذي كان يؤكد على الآشوريين والكلدانيين والبابليين، ويترك التاريخ الإسلامي ليضعف الرابطة الإسلامية التي كانت تربط العراق بالدولة العثمانية واستمرت على هذا النهج الحكومات بعدها فلا تعجب إن ابتعد النقاد والمؤرخون عن الأثري ولم يكتب عنه غير عدد محدود من المؤرخين يعدون على الأصابع. وقد عده الجيل شاعرًا بعيدًا عن التأثر بالآراء الجديدة التي كانت تنتشر في الهلال والمقتطف والمقطم وغيرها من الجرائد المصرية، ثم إن الأثري اهتم بالأمور التربوية وانصرف إليها انصرافا كبيرًا، وكان شعره كما قال الدكتور البسام:" مصدرًا غنيًا للتربية بمعناها المحدود أو معناها الواسع " لاهتمام الشاعر بقضايا الأخلاق وتوثيق الصلات بين الإسلام والأمة العربية .
مواقفه السياسية :
ونظم في قضايا العرب وضد الاستعمار في كل الأوطان العربية وشارك في سنة 1941م بقصيدة يؤيد فيها رشيد عالي الكيلاني مطلعها :
غمزوا إباءك فاضطرمت إباء
... وحشدت جوك والثرى والماء(42/16)
وبقى الشاعر بعيدا عن الحياة العامة بعد إحالته على التقاعد سنة 1963م حتى الحرب الإيرانية العراقية التي أعادت إليه مساهمته الشعرية الكبيرة خلال أعوامها وقد أشار مؤرخو حياته بنشاطه خلالها وأدهشتهم حركته الواسعة وهو في الشيخوخة. قال الدكتور عدنان الدوري:"وقوفه ثمانية أعوام يجاهد الحرب الإيرانية الباغية مع أمته شاعرًا يشيد ببسالة الجيش العراقي، ورسول إعلام إلى الأقطار العربية في قارة إفريقيا ومصر والسودان وتونس والمغرب " وقال:"حين بدأت الحرب في أيلول 1980م ، بادر الأستاذ الأثري فأنشد أولى قصائده الجهادية من دار الإذاعة. وإلى نظم القصائد . ورحل وهو تحت وطأة الشيخوخة ووهن العظم ثلاث رحلات إعلامية إلى الأقطار العربية الأفريقية في السنوات1983م،1985م،1987م)(1) وأكد الدكتور محمود الجادر ذلك والدكتور أحمد مطلوب بأن قصائده كانت تتدفق كتدفق القذائف على الأعداء. وأذيعت قصيدته القادسية الجديدة من دار الإذاعة، ولعلها كانت أسبق قصائد الشعراء. وفي ديوانه خمس قصائد في الحرب العراقية الإيرانية منها قوله :
لا يأفِكَنَّكم الأفكاك حسبكم
... ما خيّلوه فأغواكم وما رجموا
إن الأعاريب والقرآن شاهدهم
... إخوان صدق لإخوان الصفا سلم
فيمَ الشناءة تغلي في نفوسكم
... عليهم ولم الشحناء والنقم؟
أمن سواهم رسول الله منتجب
... وآله والإمام المرتضى العلم
من غيرهم أدخل الإسلام أرضكم؟
... فكان بينكما آل وملتأم
الثُّمالة :
وبقى الأثري وقّاد الذهن ثَرَّ القريحة حتى أواخر عمره، فقد ألقى بعد أن جاوز التسعين 1993م قصيدة في حفل تكريمه سماها (طاقات وفاء وتقدير ) بدأها بالنثر وقال عن هذا الحفل بأنه:"فذٌّ في صورته وصيغته الإجماعية لا تعرف له سابقة في تاريخ العراق " .
دلت القصيدة على قدرته على العطاء فقد قاربت التسعين بيتًا منها :
بنا من العشق للعلياء والقيم
... ما بالشمائل من صفو ومن كرم
نهوى الجلال ونصفيه الهوى نزهًا(42/17)
والنبل في الصنع والإخلاص في الذمم
ونكتسي العز أَحسابًا مكرمة
قد ما جَدَتْ بذُكاءَ البذل في الأزم
كذا جُبلنا ولم نفقد سجيتنا
... في غابر الناس أو في حاضر الأمم
ووصَّى أن يكون الإنسان معتمدًا على نفسه وقدرته وأن يكون عصاميًّا ولا ينسى فضل قومه عليه أو أمته :
كن في الحياة عصاميًا وكن أبدًا
... حليف قومك لا تبعد ولا ترم
وافتخر بالعرب قومه الذي صنعوا التاريخ فقال :
قومي هم صنعوا التاريخ إذ ملكوا
... أعفة عظماء النفس والهمم
مشوا إلى جنبات الأرض في يدهم
... فرقان ربي يهدي الخلق للسلم
دعوا إلى الله فانقاد الأنام لهم
... شوقًا إلى الله والتوحيد والقيم
وقد نال ما لم ينل أحد سواه من أعضاء المجمع أو المفكرين أو العلماء، فقد كرمته الدولة العراقية لبلوغه التسعين؛ إذ اقترح الدكتور منذر الشاوي أحد وزراء التعليم العالي في11 تشرين الأول1992م
في إحدى جلسات المجمع تكريمه كما خطط لهذا التكريم باقتراح تشكيل لجنة حدد لها مجالات العمل شاعرًا وناثرًا وأوصى بأن يدرس حياته الباحثون. وسبب هذا التكريم بأن الدول الأخرى تكرم العلماء والأدباء، وطلب أن يسجل ما يدور في حفل التكريم في كتاب وتوفير الوسائل الكافية له، وأن تسمى قاعة باسمه ، ونفذ المجمع الاقتراح بحذافيره خلال أربعين يوما، وأقيم له حفل التكريم في 22 تشرين الثاني 1993م وساهم أعضاء المجمع الدكاترة صالح أحمد العلي، ونوري القيسي - وعبد العزيز البسام، وأحمد مطلوب. وألقيت قصيدتان للدكتور مصطفى نعمان البدري، والشاعر نعمان الكنعاني، وأسهم من خارج المجمع الدكتور محمود الجادر والدكتور حسام النعيمي، وقدمت له هدايا من ممثل رئيس الجمهورية ، ومن المجمع العلمي العراقي، ووزارة الأوقاف وجامعة بغداد، واهتمت وسائل الإعلام بالحفل، وكان قد منح جائزة الرئيس
صدام حسين سنة 1989م للإنتاج الأدبي، ودرجة الدكتوراه من جامعة بغداد سنة 1982م .(42/18)
وأخيرًا حاولت رسم صورة قريبة للأستاذ الأثري معتمدًا على المصادر التي كتبت عنه وأهمها: كتاب تكريمه وكتابي (شعراء العراق في القرن العشرين)، ومجلة (الفيصل) وعلى معرفتي الشخصية به مدرسًا ومفتشًا اختصاصيًّا، وزميلا في المجمع العلمي العراقي. وأتمنى أن أكون قد وفقت .
وهو بحاجة إلى دراسة موسعة متأنية لا يكفي بحث واحد لإنسان أسهم ثمانين سنة في حقول التربية والتحقيق والشعر والتأليف .
رحم الله الأثري، وأرجو أن يغفر الله له ولنا جميعًا . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
يوسف عز الدين
عضو المجمع المراسل
من العراق(42/19)
إن ترجمة إنتاج أي كاتب أو شاعر أجنبي - بحسب اعتقادي - لدى أي شعب من الشعوب ليست بالبساطة مسألة لغوية ، إذ يرتبط ذلك بتواجد شخص الذي يعرف اللغة المعنية والقادر على ترجمته بالمستوى الأدبي اللائق . إذ واقع الترجمة في حد ذاته لا يعني بأن الإنتاج المعنى المترجم يلقى على الأقل القبول أو الاهتمام به بين سكان أحد الأقطار . ولا يوجد خلاف في ذلك بالنسبة للتقبل المجري للأدب العربي ، وبشكل خاص لنجيب محفوظ . وللتفهم الصحيح لهذا الواقع ، فإنه يجب أن نرجع، من أجل ذلك ، إلى الماضي لنلقي نظرة تاريخية تساعد على تفهم الأرضية المناسبة والظروف العامة للاهتمام بالحضارة العربية وبصفة خاصة الأدب العربي . ومن المفيد الإشارة إلى تلك السمات المميزة الخاصة التي تفرق بين ذلك الاهتمام وبين الاهتمامات الأوربية العامة .
وإننا نركز قبل كل شيء على أن الخطوط العامة للاهتمامات المجرية بالثقافة
العربية تتبع المتجهات الأوربية غير أنه وجدت دائما لذلك سمات ذاتية خاصة . وهكذا فقد تنامى الاهتمام في أوربا وبالمجر منذ بداية عصر النهضة والإصلاح بدراسة اللغات السامية ، وضمن إطارها اللغة العربية . إذ برزت وقتذاك المجادلات العقائدية ودارت حول الكتاب المقدس للمسيحية أي حول " العهد القديم" وهي المجادلات التي حاول المشاركون فيها إظهار وجهات نظرهم الصحيحة متذرعين وملتجئين للغته الأصلية أي العبرانية ليتخذوا منها الحجج المؤيدة لما يريدون إثباته .(43/1)
وقد أيقظ الاشتغال بالعبرانية وبشكل طبيعي اهتمامهم ببقية اللغات السامية ، وبالدرجة الأولى اللغة العربية . وكان لابد من أن يتعرفوا على الدين الإسلامى والقرآن . والجدير بالذكر أن بعض المتجهات البروتستانتية المجرية ، التي رفضت مذهب "الثالوث المقدس" استندت في حججها على كتابات المؤلفين المسلمين المختلفة . وعلى هذا الأساس لم يكن من مجرد الصدفة أن بدأ تعليم اللغة العربية بالمجر ( بجامعة ناجسومباط ) في عام 1637م .
وإلى جانب الدوافع الدينية ، فقد بدأت بشكل خاص - اعتبارا من القرن الثامن عشر في أوربا الغربية - تتعمق عوامل جديدة ساعدت على تنامي الاهتمامات بالشرق وضمن إطارها العالم الإسلامي والعربي .ووقتذاك دفعت العلاقات التجارية والسياسية والمطامع الاستعمارية إلى ضرورة التعرف على الشرق أيضًا . ومن الواضح أن تلك الدوافع لم تظهر بالمجر وذلك بحكم وضعيتها الجغرافية والسياسية ، وقد اتجهت بدلا من ذلك نحو الشرق وفق مبررات مجرية .*
وإلى جانب المصالح السياسية والاقتصادية اليومية لعب في ذلك دور أهم يتمثَّل في أن المجريين - كما هو معلوم - قد قدموا إلى موطنهم الحالي من الشرق ، في أواخر القرن التاسع ، وذلك بعد أن عاشوا من قبل فترات طويلة مع قبائل تركية في الأقاليم الجنوبية للاتحاد السوفيتي اليوم. ويرجع الفضل في التعرف على الفترة المبكرة للتاريخ المجري ،
أي على المصادر الأولى المكتوبة لهذا التاريخ ، وهي كتابات الرحالة والجغرافيين العرب المسلمين أمثال : ابن فضلان وابن رسته والبكري والمسعودي والإصطخري .
لذا لا يثير الدهشة أن تصبح قضية دراسة المجريين عبر مؤلفات هؤلاء وعبر الثقافة العربية والإسلامية قضية وطنية . وقد تنامت بشكل خاص في النصف الأول من القرن التاسع عشر تلك الفكرة وذلك عندما اكتسحت أوربا الأفكار القومية وعند تشكل المفهوم الجديد للدول القومية .(43/2)
ولقد ساعدت هذه الأرضية التاريخية على انتشار الرومانسية في المجر ، وهي كانت النزعة الأدبية السائدة في أوربا في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر . والمعلوم أن هذه النزعة أعرضت عن الكلاسيكية المقلدة للحضارة اليونانية اللاتينية وتحولت إلى الماضي القومي وإلى العصور الوسطى وإلى الشعر الشعبي . وقد بحثت الرومانسية بشكل قوي عن السمات المميزة لها ووجدتها بين أشياء أخرى في
اكتشاف العلاقة الشرقية . وقد أبرزت الأفكار الأخرى للرومانسية الاهتمام بموضوعات شرقية . وعلى سبيل المثال ، فإن الوجدانية قد صورت شخصية المرأة على أسس أنماط شرقية . وقد بحثت فكرة الحرية الرومانسية عن الإنسان الطبيعي الذي لم تفسده الحضارة ووجدته في الشرق . في نفس الوقت الذي ربطت محبة الصوفية الرومانسية بالشرق ، كما لعبت الأفكار الشهوانية دورا يربط هؤلاء بالشرق أيضًا . وفي أسلوبهم الأدبي أغرموا باستخدام الأساليب الشرقية المعتمدة على الألفاظ المزهرة . وشغفت الرومانسية بتلك النزعة الأخلاقية التعليمية التي كانت تغلب على الآداب الشرقية . وبشغف كبير فتش دعاة الرومانسية عن النوادر والغرائب ، وهكذا أدى اشتغالهم بالشرق إلى مردودات جديدة لموضوعات وأفكار أدت إلى إثراء آدابهم الخاصة . وبشكل آخر فإن عدم معرفة الأكثرية بالشرق إلى جانب بعد المسافة قد جعلت الكاتب يقوم بحبك خيوط روايته بمزيد من الحرية . ومن المعروف فإن " ألف ليلة وليلة " كانت من أكبر المؤثرات على تشكل اهتمامات الرومانسية الأوربية بالشرق ، وذلك عند ما نشرت في أوائل القرن الثامن عشر ترجمة جاللاند الفرنسية لألف ليلة وليلة .(43/3)
ولقد سادت بالمجر - بدون شك - تلك المؤثرات الرومانسية ، غير أنه ظهرت بشكل خاص بعض الملامح المعينة عليها . ولما كان المجريون قد أعلنوا انتماءهم إلى الأصول الشرقية ، لذلك ساد اللجوء إلى استخدام كناية " شعب الشرق "، لذلك كان الاستشراق أمرا طبيعيا منذ سنوات القرن الثامن عشر . وشكل هذا نوعا من البحث عن الذات بالنسبة للأمة ، إذ أنه إلى جانب الأصول الشرقية للمجريين ربطتهم بالعالم الشرقي أيضا بعض الحقائق مثل : الفنون الشعبية - بعض السمات الشرقية للموسيقى - بعض الأشكال التي تعتبر شرقية والمحببة في الآداب والتراث الشعبي مثل النوادر والأمثال والموضوعات الشرقية المختلفة .
وإلى جانب ذلك ، وخلال الفترات التاريخية المتأخرة للمجريين الذين توطنوا بالغرب ، فقد بقيت علاقاتهم مباشرة مع الشعوب الشرقية المختلفة ، وإن لم يكن ذلك في بعض الحالات في شكل محظوظ. فلقد تعرضوا خلال القرن الثالث عشر إلى إبادة التتار مثل ما حدث في بغداد عاصمة الخلافة العباسية ، كما تعرضوا للاحتلال العثماني في القرن السادس عشر والذي استمر لمدة 150 عاما .
ووقعت لذلك الموضوعات الشرقية في المجر داخل دائرة الاهتمامات التاريخية. وقد اكسب ذلك الوعي التاريخي الاستشراق المجري طابعه المميز المستقل. والذي يميز الاستشراق المجري وقتذاك. إن مصادره المادية لم تكن بالدرجة الأولى من المنابع الأصلية ، ولكنه بالأساس اعتمد على تراجم ومؤلفات المستشرقين الألمان والفرنسيين والإنجليز . وقد اقتبسوا منهم الكثير .
لذا لم يكن بمجرد الصدفة أن يكون أثر ألف ليلة وليلة أكثر فعالية بالمجر . فلقد ظهرت الترجمة الألمانية فقط في عام 1825 ، وبدأت تظهر بانتظام منذ عام 1829 ترجمتها المجرية ، والتي شارك فيها فورشمارتي أحد كبار الشعراء المجريين .(43/4)
ومن الموضوعات الشرقية المميزة القصة الغنائية الشعبية المسماة " العربي والقاتل" ، التي تصور تقاليد الضيافة العربية . وتحكي قصة البدوي الذي قَرَى ضيفَه - وفق تقاليد الضيافة - وظهر بأن ذلك الضيف هو قاتل لابنه ، ورغم ذلك استمر في ضيافته ولم يقم بأذيته ، طالما تمتع بقدسية الضيافة .
لم يكن فورشمارتي مترجما لألف ليلة وليلة فقط ، بل أنه وقع بنفسه تحت تأثيرها بالكامل ، إذ استعمل عناصرها الأساسية في أشعاره . ففي أشهر درامياته: (تشونجور وتونده ) ، فقد استغل في مضمونها الفكري ثلاثة متجولين : التاجر الجوال والأمير والعالم. وترجع أشكال شخصياته إلى ألف ليلة وليلة نفسها . فسفينة التاجر الجوال تغرق وتتشتت جيوش الأمير ويدفع الشك العالم إلى الجنون ، معلنا بذلك بأن كفاح الإنسان هو غير واضح الأهداف وبدون فائدة .
وبصرف النظر عن ألف ليلة وليلة ، فإن القصة يمكن أن تعتبر من أحدث الألوان الأدبية المشتهرة . وهي تنبع من الترجمات ومن الأعمال الأصيلة أيضًا . ونلتقي في الأخيرة بالدرجة الأولى ابتداء من أعوام العشرينيات ، وفي سنوات الأربعينيات حيث تصدر أكثريتها.ونذكر على سبيل المثال فقط تراجم يوجيف بايظا الناقد الأدبي المشهور الذي ترجم رواية واشنطن ارفينج المسماة " وردة الحمراء " التي ليست من مؤلفات كاتب شرقي ، غير أن موضوعها يرتبط بعرب المغرب .
ومن بين الروايات الأدبية ذات الوشائج العربية نذكر " اثبوبيكا " لهيليودوروس ، وبرغم أنها تتناول موضوعا قديما إلا أنها من حيث المكان ترتبط بمصر ، والمترجمة من الألمانية . وقد خلفت آثرا كبيرا فى الأدب المجري .(43/5)
وفي حقل الشعر ، نقلت إلى المجرية أشعار حافظ الفارسي . وأول أشعار عربية ترجمت إلى المجرية كانت في القرن الثامن عشر - قام بها يانوش لاكوش - غير أنها لم تتم من الأصل العربي بل كانت من المنتخبات اللاتينية التي جمعها الإنجليزي وليام جونز والتي وجهت الأنظار في أوربا لأول مرة إلى الشعر الشرقي .
بينما قام يانوش ريبيتسكي الذي يتقن العربية بمهارة بترجمته إلى المجرية العديد من الأشعار العربية، ووضعها في القالب الشعري معتمدًا على أسسها الأصلية . ومما يميز معرفته اللغوية أنه بمناسبة افتتاح قاعة الصور في عام 1846 قام بالترحيب بحاكم البلاد ، الأمير يوجيف في ثوب قصيدة عربية .
وقام العالم اللغوي الشهير بال هونفالفي بترجمة حكايات لقمان في عام 1840، بينما قام جابور فابيان في 1825 بترجمة لأقوال عربية . ونشر يوجيف بونوكري في عام 1834 مجموعة من الأمثال العربية . وهذا النوع من الضروب الأدبية يلقى القبول المناسب بين الحكم الشعبية التي تُغْني الأدب المجري .
ولن تكتمل الصورة المعطاة عن التراجم الأدبية ما لم نذكر أولى التراجم للقرآن التي نقلته في عام 1831 من اللاتينية للمجرية .
وباستعراض مواقع وأماكن الأحداث ومواضيع المؤلفات الأدبية التي ظهرت مترجمة أو مقتبسة يمكننا أن نقرر بأنها تتضمن بشكل طيب تلك المؤلفات التي ترتبط بشكل من الأشكال بمصر .
وقام في أواخر القرن الثامن عشر الشاعر المجري الكبير تشوكونائي بالترجمة المجرية لنص الأوبرا الشهيرة الناي السحري والتي تجري أحداثها في مصر القديمة . وتقدم شعبيتها النموذج الطيب للاهتمام الأوربي بمصر .(43/6)
وفي إحدى قصص يوكائي أكبر الكتاب الروائيين المجريين في ذلك القرن والمسماة الوردة المصرية ، تتم أحداثها في مصر وذلك قبل ألفين عاما . وتظهر آثار الاستشراق قوية لدى بيتر فايدا في إحدى رواياته وعنوانها " تمثال ممنون " وهي ذات موضوع مصري وكتبها في عام 1836 . وفي رواية أخرى له يتناول
أحداثًا متعلقة بصلاح الدين .
ويلعب الدور المهم بين السمات الرومانسية حب الترحال والسفر . وشاركت يوميات الأسفار بشكل كبير في جعل الشرق أكثر شعبية أيضًا . وفي السابق كانت الأسفار تستدعيها الضرورة : فهي إما سفارة أو للقيام بالحج أو القيام بأعمال التبشير ، وفي أسوء الأحوال الوقوع في الأسر . وبالنسبة للرومانسية فإن الأسفار ضرورة نفسية .
وقد احتلت مصر المكانة البارزة المرموقة في كتب وصف الرحلات السابقة ، ومن أقدم تلك الرحلات ، تلك الرحلة التي قام بها في عام 1613 تاماش بورشوش الذي كان سفيرًا للأمير الترانسلفاني جابور باتوري إلى الباب العالي ، والذي زار مصر أيضًا . بينما كان فرنتس توت دبلوماسيا في القسطنطينية والذي زار مصر في عام 1771 . وخلاله بزغت لأول مرة فكرة بناء قناة السويس . وقد قام باطلاع السلطان العثماني عليها . بينما قام رحالة مجري آخر في عام 1845 بالتعرف على الحوذي السابق لمحمد علي وذلك بالإسكندرية ، وكان مجري الأصل ويتحدث سبع لغات .
وقد احتلت الإسكندرية ضمن مصر المكانة الأكثر شعبية والمحببة بين جمهور القراء المجريين ، لذلك قام فورشمارتي في عام 1828 بترجمة رحلة جيمس ادوارد إلى الإسكندرية ، والتي كانت قد ظهرت بالأصل في مجلة ألمانية .(43/7)
إن ظهور الموضوعات الأدبية الشرقية ومن بينها العربية قد عملت على استكمالها الدراسات العلمية التي كانت بالأساس إما تراجم لمؤلفات غربية أو جزئيا أعمال مجرية أصيلة . ويجب علينا هنا أن نذكر شامويل ديتشي الذي نشر في عام 1803 مؤلفه الشامل لتاريخ مصر . وقد اشتغل أحد المؤلفين المجريين بالإسلام ، وذلك عن طريق ترجمة من الألمانية لاطروحة ظهرت في عام 1811،وكانت عن حياة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). ونلتقي كذلك بالعديد من الدراسات ذات الموضوعات التاريخية وعلى سبيل المثال التي تهتم بمصر الحديثة وبمحمد علي وببدو الجزيرة العربية وبالوهابيين . بينما قام ريبيتسكي، السابق ذكره، بعدة دراسات ناقشت الشعر العربي .
وبتقييم نشأة الاستشراق المجري ، يمكننا القول بأنه بالرغم عن جميع الحالات التي تعمقت جذورها بشكل طيب في البيئة المحلية ، إلا أن الموضوعات الشرقية كانت في كثير من الأحوال ما هي إلا ذرائع يستغلها الكاتب لكي يجد الفرصة المناسبة للتعبير عن نظراته الشخصية . وفي مثل هذا المفهوم ، فإن الفرق يبرز بين بعض الشخصيات في مدى تملكهم للمعارف الدقيقة المتعمقة للموضوع الشرقي . ونجد أن البعض لديه القدرة فقط على إطلاق أسماء شرقية الأصل على أبطاله، بينما الآخرون لديهم القدرة على إشعارنا بمدى تعرفهم الدقيق على المواقع الشرقية ، وأقدر هؤلاء هم المماثلون لفورشمارتي القادرون على تصوير الروح الشرقية .
وفي جميع الحالات فإن الطابع المشترك السمة في الأعمال الأدبية ذات الموضوعات الشرقية ، هو النظرة المتعاطفة المحبة للشرق .
وتميز النصف الثاني من القرن التاسع عشر بأن وسائل المواصلات المتطورة بوتيرة متسارعة ، قد عملت على تقريب المسافات بشكل كبير بين أوربا والشرق الأوسط ، وبذلك قدمت الإمكانات التي لا يمكن مقارنتها في السابق ، وذلك للتعرف الشخصي للكثير بواقع الشرق .(43/8)
ونحن إذا فكرنا في كتب الرحلات المهتمة بمصر والصادرة باللغة المجرية في ذلك الوقت ، فإننا بدون مبالغة يمكننا التأكيد على تواجد تلك العلاقات الوثيقة بين البلدين مثل الحال اليوم . فلقد تواجدت جميع تلك الظروف المهيئة لتشكيل صورة واقعية للشرق وللتعرف على الشرق الحقيقي .
غير أن كارثة الحرب العالمية الأولى، قد جعلت ذلك من المحال . فلقد قسمت الحدود أوربا إلى وحدات صغيرة عملت على إعاقة المواصلات ، وقد عمل ذلك الواقع على توغل المصاعب الجمة في شرق أوربا ، وهذا ما انطبق على المجر أيضًا . ولذا يمكننا القول بأنه من وجهة النظر المجرية ، فإن الشرق قد ابتعد عنها مثل ما كان عليه في بداية القرن التاسع عشر . ولقد اضطرت الدولة التي قامت على حطام الإمبراطورية النمساوية المجرية إلى الالتفاف للداخل . ولعله ليس من المبالغة تقرير أن الاهتمام الموجه للشرق قد انعدم . وأن هذه العزلة تظهر في تقبل بعض الأفكار الغربية أيضًا ، والتي عملت على الحد من مفاهيم الأدب العالمي .
إن الفكرة الأساسية لهذا التفكير هو أن الأدب العالمي ليس حاصلة الآداب القومية ، بل هو ذلك الأدب الذي لا يخص أحد الشعوب بل الذي يعني شيئا لجميع شعوب العالم . والأدب العالمي يضم محصلة تلك المؤلفات الأدبية بأكملها التي عن طريق تأثيرها وقيمها تلعب دورها لدى كل الشعوب المثقفة والتي تصل إليها .
وهكذا فإن آداب الشعوب الشرقية القديمة والحديثة لا تنتمي إلى محيط ذلك المفهوم ، إذ رغم تواجد قيمها ، فإنها لم تؤثر على الآداب الغربية ولم تخط نحو الأدب العالمي ولم تشكل جزءا من التراث المشترك للإنسانية . ويستثنى من ذلك أدب العرب ؛ لأن أهم مؤلفاتهم يمكن قراءتها مترجمة ، ولأن آثارها تسهم في نشأة الآداب الغربية وتشكيلها . ومن الواضح أنه لا يمكن الحفاظ على هذا التضييق المصطنع للأدب العالمي .(43/9)
إن التغيرات التي حدثت عقب الحرب العالمية الثانية ، قد عملت على الانعزال داخل أوربا من جانب ، ولكنها أتاحت الإمكانية للتعرف القريب على العالم الثالث، وإلى إنشاء علاقات ثقافية إلى جانب العلاقات الاقتصادية مع هذا العالم . وقد أصبح ذلك ممكنا عقب عام 1956 فيما يتعلق بالدول العربية .
أما كيف أن الاهتمام بالعالم العربي لم يخمد قبل عام 1956 ولعشرات السنين ، وكيف أنه بعد عام 1956 قد تنامى بعد الانفتاح السياسي ، فإن الفضل في ذلك يرجع إلى عبد الكريم جرمانوس المستشرق المجري المرموق . إن ذلك العالم الذي اعتنق الإسلام في سنوات الثلاثينيات ، ثم أدى فريضة الحج بعد ذلك ، قام لسنوات طويلة كمؤسسة ذات فرد واحد على خدمة نشر وجلب الشعبية للثقافة العربية بالمجر . وقد ربطته وشائج الصداقة الوثيقة مع أبرز الكتاب والشعراء العرب ، ومن بينهم نجيب محفوظ أيضًا . وقد أتاحت له سفرياته المتكررة للدول العربية المختلفة ، وبصفة خاصة لمصر فرص ذلك ، وقد شرفه العالم العربي بالعضوية في معظم مجامع اللغة العربية .
وتتركز أهمية جهوده المبذولة في خدمة الأدب العربي في ضربين : أولهما كتبه التي تناولت أسفاره إلى العالم العربي والتي عن طريقها عرف القارئ المجري بما يخفى عليه من معرفة بالشرق العربي ، وكانت كتب رحلاته معدة وفق خبراته العلمية وذات صفة إيجابية وموضوعية . فقد استطاعت أن تلقى الاهتمام المتزايد من الجماهير المجرية وزرعت في نفوسهم التعاطف مع الشرق .. وثانيهما هو سعيه الحثيث لجعل الأدب العربي أكثر قبولا لدى المجريين ، فكتب باللغة المجرية تاريخ الأدب العربي ، وأعدَّ منتخبات للشعر العربي ، وشجع حركة الترجمة الفنية لروائع الأدب العربي .(43/10)
ووصفه أحد مريديه بأنه، أي جرمانوس ،هو شخصية من شخصيات القرن التاسع عشر التي تأخرت عن عصرها . وحقيقة لقد كان جرمانوس مثل كبار رومانسيي القرن الماضي الذين كان أدب الرحلات بالنسبة لهم ضرورةً روحية وبلسمًا للنفس . ونحن إذ نجري المقارنة بين القراء المجريين في الخميسنيات وبين قراء القرن الماضي نجد من الصعوبة عليهم تخطي حدود البلاد إلى الشرق والذين يقرأون عنه كنوع من الفرار من واقعهم اليومي المحزن . لذا لم يكن من الصدفة أن تطبع ترجمته الذاتية المسماة " في ضوء الهلال الساطع " عدة طبعات وكانت من أكثر المؤلفات الأدبية شعبية في الخمسينيات .
ولقد برز فرق جوهري بين الاستشراق الحديث والاستشراق الرومانسي للقرن التاسع عشر ، إذ أنه اليوم يمكن تقديم الشرق مباشرة ومن ترجمات المؤلفات الأصلية ذاتها ، مع أن الترجمات - بسبب قلة من يتقنون العربية في البداية - كانت تتم في العادة من غير العربية ، بل كانت على أساس التراجم الإنجليزية والفرنسية أو الروسية . كما توقف لجوء الأدب المجري إلى اقتباس موضوعات شرقية ، إذ أن الكتاب عندما لجئوا إلى ذلك في القرن الماضي كانوا يستغلون الرداء الشرقي للتعبير عما يجيش في أنفسهم من انفعالات مكبوتة . إذن فليس من المغالاة أن نقرر في هذا الصدد بأن أدب المغامرات العلمية الخرافية بدأ يلعب الدور الذي لعبه الأدب الشرقي في القرن الماضي .(43/11)
وقد وجه المترجمون بالدرجة الأولى اهتمامهم إلى كبار الكتاب المصريين أمثال : محمود تيمور وطه حسين وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوي ، إذ قاموا بترجمة العديد من قصصهم ، ومن بينها " الأيام " في عام 1962 . والمثير للاهتمام أن نجيب محفوظ الذي لم تتركز عليه الأضواء ، لم ترد أي من قصصه في المجموعة القصصية التي نشرت في عام 1960 . غير أن جرمانوس قام في عام 1962 بنشر مؤلفه عن تاريخ الأدب العربي من البداية وحتى اليوم ، لم يقم فقط بالتعريف في مؤلفه بنجيب محفوظ ، بل ويقدم بعض تفاصيل من روايته "زقاق المدق " إلى المجرية ، وبذلك نقل الصورة الملموسة لعنوان الرواية والذي تضمن من ناحية المحتوى التعبير الأكثر صدقا من ترجمة العنوان في الطبعة الإنجليزية .
وفي عام 1965 ظهرت ترجمة "بداية ونهاية " في 3000 نسخة . وكان هذا العدد هو المعدل المتوسطي وقتذاك ، وقد جانب الناشر التقدير إذ سرعان ما نفذت الطبعة . وقد كانت الدراسة الملحقة بالرواية تناقش إنتاج نجيب محفوظ على ضوء الإيديولوجية العقائدية الماركسية الرسمية وقتذاك . لذا ركزت ثقلها بالدرجة الأولى على حياة الطبقة البرجوازية الصغيرة التي نقلت الرواية صورة صادقة وحيّة لها ، وعلى حياة أهم الطبقات الاجتماعية . وإلى جانب التعبير المبسط فإنها تعترف بأن محفوظ ليس فقط أكبر الكتاب المصريين بل ومن أكبر الكتاب العرب . وكان الخطأ الوحيد المنسوب إلى المؤلف هو مغالاته في ذكر التفاصيل النقدية التي شكلت عبئا على الرواية وعلى القارئ .(43/12)
وفي عام 1974 ظهرت مجموعة قصصية لكتاب اليوم ، وقد شملت قصتين لنجيب محفوظ هما " شهر العسل " و " تحت المظلة " . وقد استكملت تلك المجموعة ترجمة حياة نجيب محفوظ وتقديره ، إذ أنها قررت بأن نجيب محفوظ هو من أشهر الكتاب التجريبيين . وقد ضمت المجموعة إلى جانب نجيب محفوظ أسماء لامعة في الأدب العربي مثل الشرقاوي ويحيى حقي ومصطفى محمود ويوسف إدريس . وكان عدد نسخ الطبعة 4500 نسخة ، جانب التقدير فيها الناشر إذ تجاوز الطلب عدد النسخ المطبوعة .
وفي عام 1976 ظهرت مجموعة قصصية أخرى ، وقد ضمت إحدى قصص نجيب محفوظ وهي قصة " جوار الله " .
وفي عام 1981 ظهرت قصة نجيب محفوظ المسماة " الزعبلاوي " ، وذلك في مجلة " العالم الكبير " وهي دورية تهدف إلى التعريف بالآداب الأجنبية . وقام المترجم بالتعريف في نفس المجلة برواية " ميرامار" على أساس ترجمة إنجليزية لها . وقد ذكر في هذا الصدد بأن ميرامار مثل " بنسيون فوترين " لبلزاك تنقل الصورة الواقعية للعصر وذلك عن طريق أشخاصها . وكان أبطال الرواية الرئيسيون هم شخصيات الطبقة المثقفة الخاسرة والمصورة لأضغاث أحلام الخمسينيات والستينيات . وحسب رأي كاتب المقال ، فإن مضمون ما تضعه ميرامار هدفا لها هو أن مثقفي البرجوازية الصغيرة قد استنفذوا دورهم ، وفي أن الخادمة زهرة قد تشكل شخصية قابلة للتجدد .
وعندما حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل في عام 1988 ، قامت دورية "العالم الكبير " من جديد بذكره ، وقد نشرت في عام 1989 ترجمة قام بها أرنويوهاز لقصة " عابرو السبيل " وهي التي قامت باستكمال الصورة الحية لنجيب محفوظ لدى القراء المجريين . وتبرز المقالة التحليلية المرافقة للترجمة بأن أبطال نجيب محفوظ هي لشخصيات تبدو أنها تخلفت عن شيء ما في ركب الحياة وذلك بشكل عفوي .(43/13)
ويرجع نجاح شعبية نجيب محفوظ في المجر إلى عدة أسباب منها أننا نجد فيها الصورة الصادقة لعالم بعيد ، والذي قام نجيب محفوظ بتصويره باسمي وسائل الكتاب . وفي القصص المترجمة إلى المجرية يكتشف القارئ المجري بعض السمات التي تندمج جيدا - بالنسبة للكثيرين - فقط في الصورة الشرقية التي قد حددتها حكايات ألف ليلة وليلة . وأَعتقد أن السمات المصيرية العفوية التي تظهر في الزعبلاوي وفي " عابرو السبيل " ، تذكرنا بشكل قوي بمصير شخصيات ذات أدوار مصيرية في ألف ليلة وليلة .
وإذا بحثنا عن الإجابة عن السؤال في ماهية مؤلفات نجيب محفوظ التي نقدمها للجمهور المجري - الذي استحفظ اسمه وأَحبَّه-نُنَوِّه بأن دورية " العالم الكبير " لم تعرف عفويا برواية ميرامار ، التي هي في حد ذاتها رائعة أدبية والتي تكتسب بالنسبة للقارئ المجري خصائص جذابة ، وهي أن أحداثها تدور بالأسكندرية . وحيث أن الأسكندرية قد أصبحت شعبية لا يمكن لأي ناشر يرغب في الاستجابة لرغبة القراء وذوقهم تجاهل ذلك ، لذا نذكر مؤلفا صدر في سنوات الأربعينيات ولقي الرواج ،برغم أنه لم يبلغ المستوى الأدبي الرفيع وهو " ليلة في القاهرة " لكلير كينيت ، والتي وقعت حوادثها بالإسكندرية في سنوات الثلاثينيات . وقد عمّقت شعبية الإسكندرية لمدة طويلة لدى القارئ المجري. وفي سنوات السبعينيات قوى الاهتمام بالإسكندرية وذلك بنشر ترجمة أشعار كافافيس شاعر الإسكندرية الكبير، وكذلك بنشر الترجمة المجرية لرباعية دوريل عن الإسكندرية .
ومن الأكيد أن يحظى بنفس الاهتمام مؤلف آخر لنجيب محفوظ والذي تدور أحداثه بالإسكندرية وهو رواية "السمان والخريف" . وإلى جانب ذلك ، لا نتناسى بطبيعة الحال معظم مؤلفات نجيب محفوظ الأخرى التي تحمل كل منها رسالة موجهة للإنسانية العالمية .(43/14)
ولا يمكننا أن نتجاهل مدى شعبية نجيب محفوظ بالمجر إذا لم نذكر أيضًا أن مؤلفات نجيب محفوظ هي جزء مهم من المادة الدراسية لطلاب قسم اللغة العربية بجامعتنا في بودابست ، وعلى سبيل المثال، فإن آخر ما يقرأ على طلابنا هو "ثرثرة فوق النيل " وهي الرواية التي لقيت استحسانهم جميعا . هذا ولا نتناسى أيضًا أن العديد من طلابنا قد اختار لموضوع أطروحته أدب نجيب محفوظ، وذلك اعتبارًا من بداية الستينيات .
شاندور فودور
عضو المجمع المراسل
من المجر(43/15)
في الساعة الخامسة من مساء يوم الخميس 11 من ذي القعدة سنة 1417هـ الموافق 20 من مارس(آذار) سنة 1997م
أقام المجمع حفلاً لاستقبال الأستاذ الدكتور شاكر الفحام عضوًا عاملاً بالمجمع.
وهذه هي الكلمات التي ألقيت في الحفل:(44/1)
ليس من اليسير أن يقدم متحدث شيئًا جديدا لهذه الصفوة من العلماء . وهذا الشعور كاد يدفعني إلى الإحجام عن المثول بين أيديكم متحدثًا ، ولكنني رأيت ألا بأس بأن نتذاكر بعض الأمور ، والذكرى تنفع المؤمنين . ثم إني أزعم أن عندي فكرةً أحببت أن أعرضها عليكم، وهي وجود ترابط عضوي وثيق بين عناصر هذا الثالوث الذي جعلته عنوانًا لحديثي : الإسلام ، واللغة العربية ، والعلم . والعطف هنا مقصود أن يكون مع الترتيب ، فسوف أحاول أن أقيم الدليل على أن العلم الحديث في الحضارة الغربية المعاصرة ، يستمد أصوله من الإسلام واللغة العربية معًا ، وأنه صنيعتهما.
ولعل الجديد، أو الغريب،هو وضعي اللغة العربية في هذا المضمار ، أي في تأصيل العلم الغربي الحديث ، ولكن هذا هو ما سوف أحاول أن أجلوه بعد قليل. وهو طبعًا ، غير الحديث عما سجله التاريخ من كفاءة اللغة العربية كفاءة تامة
للوفاء بمتطلبات العلم والحضارة . وأكتفي الآن بشاهدين ، غاية ما يرتجى منهما الحياد ، ولا ينتظر منهما الانحياز للغة العربية ، فهما إذن شاهدا عدل . أولهما الدكتور G.A. Russell ( 1981 ) ، الأستاذ بمعهد ولكوم لتاريخ الطب في لندن ، في معجم حديث لتاريخ العلوم باللغة الإنجليزية . فبعد أن استعرض الأستاذ المعالم الجوهرية للعلم الإسلامي ، قال ما ترجمته : " … وكانت العربية هي أداة هذا النشاط العلمي كله . فلما كانت اللغة العربية لغة القرآن ، أصبح لها أهمية خاصة في الإسلام . بيد أن طبيعة اللغة العربية نفسها هي التي قامت بالدور الحاسم ، فمرونتها الرائعة قد مكنت المترجمين من دمغ مفردات محكمة دقيقة للمصطلحات العلمية والتكنولوجية أو ابتكارها . وهكذا اتخذت لغةٌ للشعر اللغةَ العالمية للعلم والحضارة " ( 215 .p).(45/1)
أما الشهادة الثانية فجاءتني منذ بضعة أسابيع ، حين حمل إلى البريد آخر عدد من دورية " Metascience " ، وفيه يعرض Srephen Gaukroger ، الأستاذ بكلية الفلسفة بجامعة سيدني ، موسوعة عن العلم العربي صدرت في لندن عام 1996. ويصدِّر الأستاذ عرضه بما ترجمته : " كانت اللغة العربية لغة العلم من القرن التاسع حتى نهاية القرن الحادي عشر ، بمعنى أنها كانت اللغة العالمية لعلماء المسلمين من سمرقند إلى غرناطة، أيًّا كانت لغاتهم الأصلية ؛ وبمعنى أن الحضارة العربية كانت مستودع العلم الكلاسيكي والمبتكرات العلمية المعاصرة في ذلك الزمان " . ولي تحفظ على مدى الزمن الذي أشار إليه الأستاذ ، فكثير من مؤرخي العلم يبدأونه من القرن الثامن ، ويمدونه حتى نهاية القرن الخامس عشر ، الذي ظهر فيه ابن خلدون .
وأعود لموضوعي الذي أعتقد أن العلاقة الوثيقة بين أركانه الثلاثة ، تُرَدُّ إلى أربعة عناصر :
نظرة الإسلام للعلم ، وتقديره للعلم والعلماء .
سماحة الإسلام ، ونظرته إلى القيمة الإنسانية العامة ، ومساواته بين المسلمين على اختلاف ألوانهم وأعراقهم .
دور اللغة العربية ، لغة للقرآن الكريم ، وللدولة الآخذة في الاتساع ، دون تعسف أو إجبار.
نظرة الإسلام المتكاملة إلى الحياة.
وسأعرض لهذه العناصر الأربعة المتداخلة، بشيء يسير من التفصيل الذي يسمح به الوقت المتاح .(45/2)
أما عن العنصر الأول ، فاحتفال القرآن الكريم بالعلم والعلماء معروف مشهور ؛ ويكفي للدلالة عليه التكريم العظيم للعلماء في قوله تعالى من سورة آل عمران:"شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكةُ وأولوا العلم قائمًا بالقسط"(18) . فقد شُرِّف العلماء بالاعتداد بشهادتهم مع شهادة الله ، عزّ وجلّ ، وملائكته الأبرار . والمؤمنون كلهم يشهدون أنه لا إله إلا الله ، ولكن هذه التشريف للعلماء يدلنا على أن شهادتهم لها وزن خاص لأنها تقوم على أساس مختلف ، وهو إدراكهم لمعنى العدل والقسط في أفعال الله . فكل شيء عنده - سبحانه وتعالى - لحكمة ، وبمقدار ، وهم أقدر الناس على فهم ذلك . " فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " (الزمر:9).
ويتجاوب هذا المعنى في نفسي مع ذكر خشية العلماء لله في موضع آخر : "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمراتٍ مختلفًا ألوانها ، ومن الجبال جُدَدٌ بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود . ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك ؛ إنما يخشى الله من عباده العلماء ؛ إن الله عزيز غفور"( فاطر : 27 ، 28 ) .
فخشية الله الحقَّة قد وقرت في نفوس العلماء بعد تنبههم إلى هذا التنوّع الرائع في مخلوقات الله . والتنوّع مع الوحدة إعجاز في الخلق ما بعده إعجاز . وفي هذا إشارة إلى أن معرفة أولئك العلماء بأصول هذا التنوع وبعض أسراره المذهلة في صميم جينات الأحياء وتاريخ تكوين الصخور ، والتي مازال العلماء يكشفون منها كل يوم جديدًا ، هي التي تبعث في نفوسهم الخشية اللائقة بجلال بديع السموات والأرض وعظيم قدرته . والعلم الذي يشير إليه القرآن الكريم هو كل العلم على إطلاقه واتساعه ، والعلماء هم كلّ العلماء ، وليسوا علماء الدين وحدهم كما زعم بعض المتزمتين .(45/3)
وشيء يسير من استقراء لفظ العلم في القرآن الكريم يزيد لنا الأمر بيانا وتأكيدا . فعندما يخاطب الحق ، جل شأنه ، رسوله صلوات الله عليه ، في سورة البقرة :" … قل إن هدى الله هو الهدى ، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير " (120) ، وفي سورة طه : "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ، وقل رب زدني علمًا " (114) ، يكون العلم هنا هو ولا شك العلم الإلهي اللدني بمعناه الشامل . أما في موضع آخر من سورة البقرة:" وعلَّم آدم الأسماء كلها ، ثم عرضهم على الملائكة ، فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم " (31 ، 32) ، فكتب التفسير تقول - من بين ما تقول - إن الله علم آدم " أسماء الأجناس وعرفه منافعها " .. وهذه هي علوم الدنيا اللازمة لخليفة الله في أرضه. وكذلك عندما يلفت الخالق المبدع أنظارنا إلى بعض أوجه حكمته في خلق القمر:" وقدَّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب"(يونس: 5) ، فالعلم هنا بمعنى ما يحصله الإنسان في حياته ، أي بمعنى كل ما يدركه عن طريق حواسه وفكره.
وإننا لو تتبعنا الفعل " علم " في القرآن الكريم لوجدناه منسوبًا إلى الله تعالى وإلى الناس فرادى وجماعات وبالتعميم والتخصيص وفي أزمنة مختلفة ، وإلى الجنة وإلى النفس … إلخ . وليس هذا على سبيل الحصر ، وإنما للدلالة على اتساع معنى اللفظ ، في اللغة وفي الاستعمال القرآني حتى يشمل العلم المنسوب إلى كل هؤلاء الفاعلين المختلفين والمتفاوتين في نوع علمهم ومقداره وقدره .(45/4)
والقرآن الكريم حافل بذكر آيات الله في خلقه متخذا من التفكُّر فيها مدخلا رحيبا إلى الإيمان بالله ، عن طريق استشعار وحدانيته سبحانه ، وإدراك قدرته وبديع صنعه . ويتخذ القرآن الكريم أساليب بلاغيةً متنوعة في الدعوة إلى النظر في هذه الآيات ، فهي تأتي تارة أمرًا صريحًا :" قل انظروا ماذا في السموات والأرض … "(يونس:101) وتارة في أسلوب حضٍّ جميل :" أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت . وإلى السماء كيف رفعت . وإلى الجبال كيف نصبت . وإلى الأرض كيف سطحت " (الغاشية : 17-20) ، في حين تأتي في مواضع أخرى بصيغة تقرير قاطع :"أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء… " (الأعراف:185). بل إن الأمر بالنظر يقترن في مواضع أخرى بضرورة السعي والحركة وديناميَّة البحث :" قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق …" (العنكبوت : 20) .
وجاءت السنة النبوية الشريفة مؤازرة ومفسرة لهذه التوجيهات القرآنية الربانية ، ومرشدة إلى كيفية اتباعها ، فيبشرنا الرسول الكريم ، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، بأن مجلسنا هذا للحديث عن العلم ، مجلس مبارك إن شاء الله ، تحفه الملائكة ، وتنزل عليه السكينة ، وتغشاه الرحمة ، ويذكره الله في الملأ الأعلى . بل إنه ، صلى الله عليه وسلم ، يزيدنا سعادة بقوله :" إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الماء . وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب …" ومثل هذا في السنة الشريفة كثير .(45/5)
وتعلم المسلمون هذا الدرس وفقهوه. فيقول الإمام الشافعي ، رضي الله عنه :" طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ". ويقول أبو الدرداء :" مذاكرة العلم ساعة خير من قيام الليل " . ويقول الحسن البصري :" يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء فيرجح مداد العلماء " . وليس بالمستغرب بعد هذا أن يكون ثاني كتاب في صحيح البخاري ، بعد كتاب "الإيمان" مباشرة ، هو "كتاب العلم" . أما أبو حامد الغزالي فجعل " كتاب العلم" أول الكتب الأربعين التي قسم إليها " إحياء علوم الدين " . ونشط المؤلفون إلى تصنيف كتب كثيرة في العلم وآدابه ، لعل من أوفاها " جامع بيان العلم وفضله " ، لابن عبد البر القرطبي في القرن الخامس الهجري . ولا مراء أن معظم هؤلاء المؤلفين ينصرف لفظ "العلم" عندهم إلى علم الحديث بالذات في المحل الأول ، ولكنني أسارع بالتنويه بأمرين : أولهما ما قدمته من عموم لفظ "العلم" في اللغة والاستعمال القرآني. وثانيهما أن منهاجية توثيق العلم - أي علم - قد أسسها وأقامها على أحكم وجه علماء رواية الحديث الشريف .
وأول ما يفتح الباب أمام العلم الصحيح هو إزالة حُجُب الأوهام والخرافات . كُسفت الشمس يوم مات إبراهيم ، الابن الحبيب للنبي عليه الصلاة والسلام ، فقال النّاس : انكسفت لموت إبراهيم . وهنا ينبري النبي ، المعلم الهادي، فيقول للناس :" إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ". فيتأكد للمسلمين أن الشمس والقمر يجريان على سنن أقامهما الله عليها . وفي ضوء هذا الإرشاد وأمثاله من القرآن الكريم والسنة المشرفة ، والتفتح العقلي على علوم الأسبقين ، برع المسلمون في دراسة الفلك واكتشاف نواميسه . ولكن هناك خط فاصل بين علم الفلك وخرافات التنجيم ، يحدده الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، فيقول :" من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه ، لم تقبل له صلاةٌ أربعين يومًا" .(45/6)
ثم ينبغي أن يكون هناك منهاج علمي، وأول أسسه تلمس البرهان الصحيح والدليل المقنع . وفي هذا يعلمنا القرآن الكريم :" قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" : (النمل : 64). ويحذرنا معلمنا الهادي ، صلى الله عليه وسلم ، في ضوء الأحكام القرآنية القاطعة : " إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث". وتتآزر آيات القرآن الكريم والأحاديث الصحاح في حث المسلمين على تحكيم العقل والتحذير من اتباع الهوى والانقياد الأعمى لأقوال السابقين. ومن منهاج العلم أيضًا ، الدقة والأمانة ، وهما ، فيما أرى ، شعبتان من القاعدة العامة التي يسميها الإسلام " التقوى" ، أي مراقبة الله في كل ما نفعل أو نقول. وفي هذا يقول الرسول ، صلى الله عليه وسلم :"تناصحوا في العلم ، فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله، وإن الله سائلكم يوم القيامة".ومن الأمانة أن يقول الإنسان :"لا أعلم " إذا سئل عما لا يعرفه .سئل الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، أمام الملأ من الناس عن الساعة (أي يوم القيامة ) فقال بقطع ووضوح :" ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " . وهكذا نجد ابن عبد البر يقول إن حد العلم - أي تعريفه - هو " ما تيقنتَه وتبينتَه "و"على هذا فمن لم يستيقن الشيء وقال به تقليدًا فلم يعلمه" . وكل هذا نجده في المناهج العلمية الرائعة التي كتبها النظَّام وابن الهيثم والبيروني والرازي وابن سينا ، وغيرهم من أعلام علماء المسلمين . وقد كانت قضية المنهج عند علماء المسلمين موضع عناية خاصة من الباحثين المحدثين (انظر ، مثلا ، فرانتز روزنتال ، 1980 ) .(45/7)
ثم كان على المسلمين أن يفقهوا في تبين ووضوح الحد الفاصل بين ما هو من الدين والوحي وما هو من علوم الدنيا التي يجب عليهم أن يكتسبوها بالدراسة والملاحظة والتجربة العملية . وكان أسلوب النبي ، صلوات الله وسلامه عليه. في تعليم صحابته ، رضوان الله عليهم ، هو الأسلوب العملي والأسوة الحسنة . ففي مناسبة تأبير النخل في المدينة المنورة، أرسى النبي صلى الله عليه وسلم ، القاعدة العظيمة التي أراد أن يسير عليها المسلمون في جميع عهودهم :" أنتم أعلم بأمور دنياكم " . وقال لهم :" إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي ، فإنما أنا بشر ". ما أعظمك يا رسول الله ، ففي هذا توجيه للناس إلى ضرورة اعتمادهم على تجاربهم الشخصية والاستنباط الصحيح من نتائجها . ومن أبلغ ما قاله الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، لحث الناس على التفكير وإطلاق عقولهم من كل قيد ، أنه أخبرهم أن للمجتهد أجرًا إذا أخطأ وأجرين إذا أصاب . فلماذا إذن يحجم المسلمون عن التفكير ومحاولة الإبداع ، وهم مأجورون على كل حال، ما داموا يجتهدون بعد أن تتوافر لهم شروط الاجتهاد وأدواته ؟ ليت أقواما من مسلمي هذا الزمان يفقهون هذا القول.(45/8)
عند الاستعداد لمعركة بدر الكبرى، اختار النبي منزلا ، أي موقعًا ، قريبا من الماء كي يرابط عنده المسلمون استعدادًا للقاء المشركين . وهنا تقدم إليه الحباب بن المنذر الأنصاري ، يسأل : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزل أنزلكه الله ، ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم :" بل هو الرأي والحرب والمكيدة". فأشار الحباب بمنزل استراتيجي آخر أفضل وأحصن من سابقه . فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال له : " لقد أشرت بالرأي". والدروس هنا كثيرة وعظيمة : الاجتهاد المفتوح في أمور الدنيا ، حتى في حضرة النبي نفسه وعلى خلاف رأيه ، وهناك الشورى ، وهناك سعة صدر القائد وتواضعه وسعيه إلى الحقيقة والمصلحة العليا . وهناك أيضًا الشجاعة الأدبية عند الجندي ووضوح فلسفته بين التزام الطاعة وحرية الرأي ، ودقته في أن يستبين الحد الفاصل بين ما هو من أمر الوحي الإلهي ، وما هو من واجبات الاجتهاد البشري . ومرة أخرى ، ليت قومي يفقهون .
وهكذا نطمئن إلى انتفاء أية وصاية على طلب العلم والاجتهاد بالرأي ،وإلى أن المسلمين أمروا أمرًا بطلب العلم والتوصل إليه بمداخله الطبيعية بالملاحظة والتجربة والتفكير السليم .
وأما عن العنصر الثاني ، وهو سماحة الإسلام ، فأدلته معروفة مشهورة أيضًا . " لا إكراه في الدين ، قد تبين الرشد من الغي … " ( البقرة : 2 ) . ويحترم المسلمون الأديان السماوية السابقة ولا يفرقون بين أحد من رسل الله ، وهذا جزء أساسي من إيمانهم وعقيدتهم . ولما كان الإسلام هو الدين الخاتم فهو دين الناس جميعًا ، يُدْعَوْن إلى الدخول فيه اختيارًا واقتناعا ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، كما أن النبي ، عليه الصلاة والسلام ، هو خاتم النبيين والمرسلين ، الذي أرسل إلى جميع الناس :" وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا " (سبأ : 28) .(45/9)
وأعلن النبي ، صلى الله عليه وسلم، أنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى . ولذلك كان من صحابته الأجلاء سلمان الفارسي، وصهيب الرومي ، وبلال الحبشي . وكان يستشيرهم ويأخذ برأيهم . فمن ذلك ما حدث في غزوة الأحزاب ، حين أشار سلمان الفارسي ، رضي الله عنه ، على الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، بحفر خندق يعترض طريق الجيش الزاحف إلى المدينة ، وهي فكرة غير عربية أربكت جيش المشركين . ثم إن الرسول الكريم ، صلى الله عليه وسلم، علَّم المسلمين أن الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها ، وأن العلم يؤخذ ( في غير أمور الدين ) ولو من عند المشركين . فأمر النبي سعد بن أبي وقاص بالتداوي عند الحارث بن كَلَدَة ، غير المسلم الذي تعلم الطب في فارس ، واستعان النبي صلى الله عليه وسلم ، بدليل خِرِّيت ، أي حاذق، غير مسلم ، وهو عبد الله بن أريقط ، في رحلة هجرته الخطيرة إلى يثرب .
وهذان العنصران معًا ، أي تقدير الإسلام للعلم وسماحته ، جعلا من العقلية الإسلامية عقلية متفتحة متعطشة للعلم ، تسعى لكل علم نافع ، ولو في الصين ، وتتقبله دون عائق من جنس أو لون أو دين . وهكذا لما انتشر الإسلام ، واختلط العرب بغيرهم من الأمم ، هبوا ليقوموا بأكبر عملية نقل وحفظ للتراث العلمي للإنسانية جمعاء في التاريخ ، فقد ترجمت العلوم من الإغريقية والسريانية ، وبدرجة أقل من السنسكريتية والبهلوية ، إلى اللغة العربية ، كما هو معروف .(45/10)
والجو المرحب بالعلم والحاني على العلماء في دولة الإسلام الفتية حفظ تراث الإنسانية العلمي من الاندثار، وجعل جداول العلم التي كادت تنضب ينابيعها في مصر القديمة وبابل وبلاد اليونان والإسكندرية وفارس وجنديسابور والهند والصين،جعلها تصب في بحر صاف جديد . ومضت حركة النقل العظيمة قدما، واستمرت نحو 150 عامًا ، انتقلت بعدها كنوز الحضارات السابقة وعلومها إلى اللغة العربية ، وأصبحت ميسورة للمتعلمين والباحثين في كل علم، يتناولونه بالفهم والتمحيص والتحليل الدقيق والنقد الثاقب ، في أمانة بالغة وأدب جم ، ثم يبتكرون علومهم ويضيفون آراءهم ونتائج بحوثهم ، ويصوغون العلم صياغة لها أهداف وقيم جديدة ، فيخرج علما جديدا قويا عمليا عالميًا . وهذا هو الشيء العظيم الذي قد لا ينتبه إليه الدارسون ، وهو تحويل العلوم- لأول مرة في التاريخ - إلى مسألة عالمية وإلى تراث إنساني يثور على القوميات والتعصبات الضيقة. وهكذا انصهرت الحضارات السابقة في بوتقة الحضارة الإسلامية المتفتحة السمحة الفتية . ولعل هذا هو أعظم أفضال الإسلام على العلم ، الذي تلقفته أوربا - على تردد وصد - علمًا موحدًا ناضجًا ، هُضم ومثل وأعيد صوغه في صورة جديدة . فكان هذا من أقوى دعائم ازدهار العلم منذ عصور النهضة الأوربية فيما بعد ، والذي نعيشه الآن، ونسميه العلم الغربي . وهكذا يتضح لنا أن عالمية العلم هي ثمرة وانعكاس لعالمية الإسلام ، التي حدثنا عنها أستاذي الدكتور شوقي ضيف العام الماضي ، من هذا المنبر ، ثم نشر عنها كتابًا قيما منذ بضعة أشهر .(45/11)
وأما العنصر الثالث ، وهو العربيةُ لغةً للعلم ، فيتصل بهذه النقطة التي انتهينا إليها ويكملها . فقد أصبح لهذا العلم الذي جاء من أقطار الأرض لغة واحدة ، هي لغة القرآن الكريم التي يعتز بها كل مسلم ، بل إنها قد أصبحت - طواعية واختيارا - لغة الحياة في معظم أرجاء العالم الإسلامي ، فحلت تمامًا محل القبطية المصرية ، والآرامية ، واليونانية ، واللاتينية ، وأصبح معظم العالم المتحضر وقتذاك يتحدث اللغة العربية ، وألَّف أبو بكر الرازي ، المولود في فارس ، كتبه العظيمة في الكيمياء والطب باللغة العربية، وكذلك فعل البيروني ، الذي عشق العربية وقال إنه لأحب إليه أن يهجى بها من أن يمدح بالفارسية ! وغيرهما كثير . وسرعان ما أصبحت العربية لغة العلم العالمي عدة قرون ، كما قدمت، حتى إن إتقانها كان شرطا للتعلم والاشتغال بالعلم خارج نطاق الدولة الإسلامية . وقد كتب روجر بيكون ، في القرن الثالث عشر الميلادي ، يقول: إني لأعجب لمن يريد أن يتضلع في الفلسفة والعلم وهو لا يعرف العربية !
وتوحيد لغة العلم والحضارة والحياة، كان له أثر آخر بعيد المدى . فإنه قد أزال الحواجز بين لغة العلماء ولغة الشعب، فجعل مفاهيم العلم ونتائجه ومبتكراته متاحة لجماهير الشعب، للثقافة والتطبيق . ( وهذا هو أحد أسباب دعوتنا لتعريب لغة العلم في بلادنا الآن). وهكذا لم يصبح العلم عالميًا فحسب ، وإنما أصبح جماهيريًا شعبيًا أيضًا . وهذه نقلة حضارية بعيدة المدى ، ولم يسبق لها مثيل . فلنتأمل ، ولنوازن بين هذا الموقف وقيام العلم في أوربا في عصر النهضة ، فقد كان تداوله والاشتغال به هناك - إلى عهد غير بعيد- مقصورًا على الذين يتقنون اللاتينية الميتة البعيدة عن الحياة والناس .(45/12)
وأبلغ مثال عندي على شعبية الثقافة العلمية في دولة الإسلام، هو قيام جماعة "إخوان الصفا" في البصرة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري ( أو العاشر الميلادي) . فإننا إذا نحينا الجوانب السياسية والمذهبية ، اتضح لنا أن هذه الجماعة هي جمعية علمية تعليمية تثقيفية في المحل الأول . ويقول مؤرخ العلم الحجة هولميار E.J.Holmyard في افتتاحية عدد أبريل من الدورية اللندنية العالمية Endeavour إنها واحدة من أقدم الجمعيات العلمية التي تحققنا من وجودها ، وإن اهتمامات أعضائها لتتفق كثيرًا واهتمامات الذين أقاموا الجمعية الملكية في لندن بعد قرون . وقد ألف الإخوان رسائلهم الاثنتين والخمسين في مختلف أبواب الفلسفة والعلم ، لتذيع بين طلاب الثقافة العلمية في عصرهم .
وتوحيد لغة الحياة ولغة العلم له أثر آخر بعيد المدى ، وهو تيسير التعلُّم والتعليم . والرسول صلى الله عليه وسلم، جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ، وأعلى منزلة التعليم . خرج ذات يوم فرأى مجلسين ، أحدهما يدعون الله عز وجل ويرغبون إليه ، والثاني يعلِّمون الناس ، فقال :"أما هؤلاء فيسألون الله تعالى فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم ، وأما هؤلاء فيعلِّمون الناس وإنما بعثت معلمًا "، ثم عدل – أى اتجهَ- إليهم وجلس معهم .(45/13)
وقد رسم الرسول ، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، تفاصيل آداب التعليم والتعلّم ، من توقير وإجلال للمعلّم ، وعطف على المتعلّم ، وتشجيع للمصيب ، ورفق بالمخطئ ، وتكرار للشرح ، وضرب للأمثال ، واستعمال لوسائل الإيضاح ، وأسلوب الحوار . وفي هذا كله حديث يطول ( انظر ، مثلا يوسف القرضاوي ، 1985 ) . وأكتفي بقوله ، عليه الصلاة والسلام :" علِّموا، ويَسِّروا ولا تُعَسِّروا ، وبشروا ولا تنفروا…" ، وقوله :" العالم والمتعلّم شريكان في الأجر ، ولا خير في الناس بعد " . وقد أوصى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بالترحيب بالمتعلم والبشاشة له ، وإكرامه . ولذلك كان العلماء من التابعين يرحبون بمن يقصدهم للعلم قائلين : مرحبًا بوصية رسول الله ، صلى الله عليه وسلم !
ثم نأتي ، أيها الجمع الكريم ، إلى العنصر الرابع ، وهو نظرة الإسلام المتكاملة للحياة ، وما نسميه الآن :"العلم والقيم " و " سوشيولوجية العلم " . فالعلم الغربي عندما بدأ في أوربا في عصر نهضتها على أكتاف العلم الإسلامي ، تجرد من كثير من مُثُلِه الإسلامية الأصيلة وقِيَمِه الرفيعة . فقد بُهر الناس بالكشوف العلمية ، بعد طول جهل في عصورهم المظلمة ، وافتتنوا بها غاية الافتتان ، وتصور بعضهم أن العلم وحده هو الحقيقة وأن الدين حديث خرافة ، وقالوا إن العلم يقيس ويحسب ويضع القوانين الصادقة ويعالج موضوعات تدركها حواسنا وفيها أسباب معاشنا ورفاهتنا ، فمالنا حاجة بعد بما وراء ذلك . واتخذ العلم عمومًا موقفا صَلِفًا متعاليا مغرورا ، متجردا من أي قيم دينية أو أخلاقية أو إنسانية ، أو يكاد . بل إن القوم قالوا إن العلم الجيد الحق هو الذي يبرأ من هذه الأمور جميعا . وقوَّى من هذا الموقف أن رجال الدين في أوربا ناصبوا العلم منذ ظلام العصور الوسطى عداء سافرًا ، واضطهدوا العلماء اضطهادا مريرًا . وكان لذلك أسبابه السياسية والتاريخية.(45/14)
وهذه المشكلة لم تكن قائمة أبدا في العلم الإسلامي . ويرجع الفضل في هذا ببساطة إلى صميم مبادئ الإسلام الأساسية ، كما قدمنا . فالإسلام دستور متكامل للحياة كلها ، بجميع مناشطها ، ومشبع للنفس في كل نزعاتها ، والعلم والإسلام متعانقان . ويكفي للتدليل على هذا تأملنا في قوله تعالى ، من سورة آل عمران :" إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب . الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا ، سبحانك ، فقنا عذاب النار " (190، 191) . فهنا الإيمان ، متمثلا في ذكر الله في جميع أحوال الذَّاكر ، محصور بين الالتفات إلى آيات الله الكبرى في خلق الكون ونظامه ، والتفكير في روائع ذلك وأسراره - وهذا هو العلم كله - ثم ينتهي الأمر بالمؤمن الباحث المتفكر إلى الإيمان بالحساب واليوم الآخر وإلى دعاء الله ؛ والدعاء مخ العبادة . ولهذا كان معظم علماء المسلمين الأوائل فقهاء متمكنين أيضا من علوم الدين .
وفي العقدين الأخيرين من هذا القرن اتجه فلاسفة العلم في الغرب اتجاها قويا نحو أمرين : أولهما "العلم والقيم" Science and Value و " سوشيولوجية العلم" Sociology of Science ، وأصبحت تؤلف فيهما مجلدات وتُعقد ندوات ومؤتمرات دولية ، وتُنشأ لهما جمعيات علمية جديدة ودوريات متخصصة . وكان من أبرز الذين رفعوا صوتهم ، في عقد الثمانينات ، بالنذير والتحذير من آثار العلم الغربي المدمر نيكولاس ماكسويل الذي تتلخص دعوته في عنوان كتابه المثير : " من المعرفة إلى الحكمة - ثورة في أهداف العلم وطرائقه " (Maxwell,1988) . ومن هنا أخذ فلاسفة العلم المحدثون يطامنون من استعلاء العلم ويكفكفون من غلواء العلماء (عبد الحافظ حلمي ، 1979) ، وأصبحوا ينادون باجتماعية العلم ، وأن العلم نشاط إنساني يرتبط بقيم المجتمع ، فيتأثر بها كما يؤثر فيها (O'Hear,1989).(45/15)
وهذه المصالحة التي يحاول الغرب أن يصل إليها ، بعد طول فرقة وعداء ، كانت عنصرا أساسيا في العلم الإسلامي منذ فجر بزوغه ، كما قدمنا ، فقد أقام الإسلام العلم وثيق الوشائج بالمجتمع الإسلامي وقيمه . فالعلم يُطلب ويُعْطَى في ضوء ما قدمنا من قيم رفيعة وضوابط رشيدة ، ثم إنه يجب أن يكون موجها إلى الخير . فمن ذلك ما تعلمه المسلمون من نبيهم ، صلى الله عليه وسلم ، من أن يستعيذوا بالله من علم لا ينفع . والمنفعة هنا كلمة شاملة لكل ما يحقق أسباب الخير المادية والمعنوية للبشرية جمعاء ، بل لبيئة الأرض التي استخلف الإنسان لعمارتها ورعايتها .
لا يستطيع أحد إنكار دور الإغريق في تقدُّم العلوم ، ولكن من الخطأ الفادح أو الجهل الفاضح اعتباره الدور الوحيد - كما يفعل بعض مؤلفي الغرب وأتباعهم من أنصاف العلماء . وقد تميز العلم الإسلامي على العلم الإغريقي الفلسفي النظري في أساسه ، باهتمامه بالنواحي التطبيقية ، ومن ثم كانت مع النهضة العلمية نهضة ثقافية أو تكنولوجية واسعة : في أجهزة الرصد الدقيقة والساعات ، وأجهزة البحث الكيميائي ، وأدوات الجراحة ، ومعدات الزراعة والري ورفع الماء ، ومختلف أنواع الصناعات ، والأساطيل وعدة الدفاع ، وفنون البناء والنسيج ، بل والتزيين ووسائل الترف والرفاهية (انظر ، على الأخص : AL-Hassan and Hill, 1986 ) . ولا ينتهي إعجابي بابن عبد البر الذي كان ، في القرن الخامس الهجري، يَعُدُّ السباحة و " الفروسة " والزى (أي صناعة " الموضات") والتزويق ( أو "الديكور" ) علوما ! وينتقد الجزري (في القرن الثاني عشر الميلادي ) أولئك الذين لا يتحققون من الجدوى العملية للأجهزة التي يصممونها ، ويقول إن كل " علم صناعة " لم يُختبر عمليا مشكوك فيه (المصدر السابق - وتأمل تعبيره : "علم صناعة ") .(45/16)
وعن القيم في العلم ، أحكي لحضراتكم الواقعة الآتية . دعيت سنة 1981 ، للاشتراك في حلقة بحث مغلقة عقدت في ستوكهولم ، تحت عنوان "المعرفة والقيم في العلم والتكنولوجيا ، في الإسلام والغرب . وقد دعي إلى تلك الحلقة ، التي نظمتها مؤسسة "الإسلام والغرب" مع "الاتحاد الدولي لمعاهد الدراسات المتقدمة " ، نحو من عشرين عالما من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وإنجلترا وفرنسا والسويد وإيطاليا من جانب ، ومن مصر وباكستان والسعودية والأردن من جانب آخر . وكان علماء الغرب يسألوننا : هل عندكم في الإسلام ما ينقذ الحضارة الغربية التي كاد يدمرها العلم ؟ وفي إحدى الجلسات ذكرت للمجتمعين معنى الحديث الشريف :" هلاك أمتي عابد جاهل وعالم فاجر " ، وعلقت قائلا : كلا الجانبين في عصرنا الحاضر ناقص ، فلو أننا ضممنا ما عندنا من إيمان وهدى الأنبياء والرسل والقيم الدينية السامية إلى ما عندكم من علم وقوة لانصلح حال الدنيا ونجت من الهلاك . وقال منظم الحلقة السويدي : لو أننا سمعنا بهذا الحديث النبوي من أول الأمر لجعلناه شعارا لحلقتنا هذه !(45/17)
ويدعو ضياء الدين سردار في كتابه المنشور عام 1989 عن " استكشاف العلم الإسلامي" إلى الاهتمام بقضية القيم في العلم . ويقول إنه جاب العالم الإسلامي ، من شواطئ السنغال والمغرب إلى المحيط الهادي وجزر إندونيسيا ، بتكليف من المجلة العلمية العالمية الذائعة Nature ، فوجد المسلمين المشتغلين بالعلوم الحديثة شديدي الاهتمام بعلاقة أعمالهم بمعتقداتهم الدينية وقيمهم الأخلاقية ، وأن بعضهم شديدو القلق أيضا من ارتباط دراساتهم وأعمالهم بقيم المجتمع العلمي الغربي الذي لا ينتمون إليه (Sardar, 1989) . وأرى ، كما قدمت ، أن تراثنا العلمي قائم على دعائم من القيم والمثل الإسلامية القويمة التي ينبغي علينا تعرفها وتحديدها ونشرها بين علماء المسلمين المعاصرين،حتى يتبعوها قدر استطاعتهم لترتاح نفوسهم وضمائرهم . (و"سرداد"كان أحد المسلمين الذين دعوا إلى حلقة ستوكهولم التي أشرت إليها) .
أيها الجمع الكريم(45/18)
هاأنذا قد انتهيت من رسم الخطوط العريضة للعناصر الأربعة التي أحكمت الرباط بين ثالوث الإسلام واللغة العربية والعلم ، وأقامت دعائم العلم الإسلامي. أما ثمرته وعطاؤه فكانا شيئا عجيبا حقا، أذهل كل المنصفين من الباحثين الذين عُنوا بدراسة التراث الإسلامي العلمي دراسة موضوعية دقيقة . فقد قفزت الحضارة الإنسانية قفزة هائلة لا أستطيع الآن حتى مجرد الإشارة إلى بعض ملامحها. ويقرر بعض الباحثين أن عدد مخطوطات التراث العلمي الإسلامي المسجلة في مكتبات العالم ، والتي بقيت بعد الفقد أو البلى وعدوان التتار والمغول وغيرهما ، بنحو ربع مليون مخطوطة . وأما المخطوطات غير المسجلة فلا يعلم عددها إلا الله . وكل هذا الذي نقوله عن العلم الإسلامي لا يعدو جزءا من الحقيقة الكاملة ، التي مازالت في حاجة ماسة إلى جهود عالمية مكثفة تستغرق الأعوام الطوال . هذا على الرغم من الدراسات الكثيرة التي قام بها المستشرقون والعلماء العرب في القرنين الماضيين على الأخص . والحق يقال : يرجع معظم الفضل في توجيه الأنظار إلى التراث العلمي العربي وجلاء بعض نواحيه إلى جهود المستشرقين الذين قاموا بترجمة عيونه، في تبتل وعشق ، إلى لغات الغرب وتناولوها بكثير من الدراسة والتحليل .
أما عن تأثير حضارة الإسلام في حضارة الغرب المعاصرة ، فالشواهد عليه، والشهادات له كثيرة ، ولكن لعلي أكتفي بما قاله " وكنز" ، الأستاذ في جامعة تورونتو في كتاب له بعنوان "مقدمة في الحضارة الإسلامية " ، فهو خلاصة بليغة معبرة ، حيث يقول ما ترجمته:" على وجه العموم،استعار الغرب من الشرق الأوسط عمليا كل النسيج الأساسي للحضارة ". ( Wickens, 1976).
ولكن هذا كله أساسه جوهر العلم الذي قدمته الحضارة الإسلامية إلى الغرب ، إذ قدمته علما عالميا ، عمليا تطبيقيا ، جماهيريا ، يتضمن في صميم بنيانه أسس منهاجه المتحرر من كل وصاية وقيد إلا من معايير قيمه الأخلاقية الرفيعة .(45/19)
وأعود فأذكِّر بالدور الذي قامت به اللغة العربية في هذا الإنجاز العظيم ، ولكنني أقول إنها إنما قامت بهذا الدور بفضل تفتح عقلية قادة المسلمين وعلمائهم ، الذين سادوا زمانهم ، وفقهوا دينهم ، وملكوا ناصية لغتهم ، فتصرفوا تصرف السادة الأحرار . لم تملكهم اللغة التي عشقوها وأجلوها ، ولو أن ذلك قد حدث لجمدوا وجمَّدوها ، ولكنهم أحسنوا توظيفها في الحضارة الجديدة المتفتحة أمامهم ، فطوعوها وأغنوها ، وجعلوها - كما رأينا – عنصرًا أساسيًا في قيام هذه الحضارة ، بل في صياغة علم عالمي مازالت الإنسانية تجني ثماره المتجددة .
وهذا هو الدرس الذي يجب علينا أن نعيه ونترسمه في هذا الزمان .
اللهم أنر بصائرنا ، وسدد خطانا ، وهيئ لنا من أمرنا رشدا ، وأنت - سبحانك - ولي التوفيق .
وأشكر لحضراتكم جميل صبركم ، وكريم إنصاتكم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد الحافظ حلمي محمد
عضو المجمع(45/20)
للتعريب معانٍ كثيرة ، منها الكلام المهذب، ومنها نقيضه : الكلام القبيح ، وله معانٍ أخرى كثيرة غير تلك ، غير أن له أيضًا معاني اصطلاحية ، منها معناه القديم ، وهو جعل صيغة اللفظة الأجنبية ذات جَرْسٍ عربيّ ، كما في تعريب كلمة philosophia بكلمة فلسفة ، ومنها الحديث، وهو بدلالته العامة ، جعل المجتمع ، بموظفيه ، ولغته ، وتقاليده ، عربيًّا ، وبدلالته الخاصة ، استعمال اللغة العربية بدلاً من اللغة الأجنبية ، ومنه تعريب التعليم . وهذا المعنى الأخير هو المقصود في هذا الحديث .
والتعليم العام ، كما هو معروف، معرَّب كله في العراق . ومثل ذلك يقال في تعريب الموضوعات الإنسانية في التعليم العالي . غير أنّ تدريس العلوم ، ولا سيما التطبيقية منها ، كالطب والهندسة ، مازال أكثره غير معرَّب ، على الرغم من كثرة ما عقد لذلك من مؤتمرات وندوات وما انتهت إليه من
توصيات ، وما كُتب فيه من بحوث ودراسات ، وما صدر من تشريعات وقرارات ، على مدى العقود الخمسة الأخيرة ، وكلها تنادي بوجوب تعريب التعليم ، على مختلف مستوياته ، بلا استثناء .
فما السبب في عدم تعريب هذا القدر الكبير من التعليم الجامعي عندنا؟
لنتذكر أولا ، أن اللغة هي من أهم مقومات الوحدة القومية ، وهي عنوان الولاء والانتماء ، وأن في تساهل أي أمة بترك لغتها إلى لغة غيرها ، معنى المساس بالسيادة والهوية القومية .(46/1)
ولهذا الأسباب ، نجد أن أكثر الشعوب ، سواء من هي من الدول العظمى ، أو التي هي أقل منها مستوى، لا ترتضي لها عزتها وكرامتها أن يكون التعليم عندها بغير لغتها القومية . ويكفي أن نعد من تلك فرنسا ، وروسيا ، وألمانيا، واليابان ، وهنكاريا ، ويوكوسلافيا ، واليونان ، وتركيا ، وغير ذلك كثير.وحتى العبرية،التي هي في عداد اللغات الميتة، بات الصهاينة يستملونها في التعليم في بعض جامعاتهم.ولا يمكن لعاقل أن يقول إن لغات كل هؤلاء الأقوام أكثر طواعية للتعليم من اللغة العربية .
إن مما يؤسف له حقًا أن تستمر هذه الحال، من بقائنا عالة على لغة أجنبية في تعليمنا الجامعي . وكل ذلك بسبب ما يختلقه بعض الأساتذة من صعوبات ومعوقات ، على درب التعريب ، مما لا وجود له في الواقع .
إن الغالبية العظمى من أساتذة العلوم في جامعاتنا ، كانت دراستهم باللغة الإنكليزية، والكتب التي استعملوها هي أيضًا باللغة الإنكليزية ، ومن ثم فهم يجدون أسهل عليهم أن يدرسوا باللغة التي درسوا بها ، وأن يستعملوا الكتب المكتوبة بتلك اللغة ، من أن يبذلوا الجهد لتهيئة المحاضرات ، والتدريس ، وإعداد الكتب المنهجية ، وكتابة الأسئلة الامتحانية ، ونحو ذلك ، باللغة العربية ، التي لم يعتادوا على استعمالها في التعليم الجامعي .
وقد تبع ذلك ، أنهم يختلقون مختلف العقبات أمام تعريب التعليم الجامعي .(46/2)
يحتج بعضهم بأنه ليس في المتيسر من المصطلحات ما يكفي لسد حاجة التعريب . إن هذه الحجة واهية أساسًا ، فالمفروض أن المصطلحات في أي لغة ، توضع وتنمو من خلال استعمال تلك اللغة . ولم يسمع أحد بأن أيّا من البلاد التي ذكرنا انتظر حتى قدمت له المصطلحات كاملة غير منقوصة . ومثل ذلك لم ينتظر أسلافنا من العلماء قرارات من المجامع والهيئات العلمية واللغوية ، عندما وضعوا مصطلحات الصفر ، والجبر ، والفلك ، والمنطق ، والجيب ، والظل ، والقاطع ، وقطعة الدائرة ، وقطاعها ، ومئات غيرها من المصطلحات العلمية ، في العصور التي ترجموا فيها علوم اليونان والهند ، ثم طوروها ، وأضافوا إليها الكثير من عندهم.
والمعروف أن عشرات الدلالات العلمية الجديدة ، ومصطلحاتها ، تظهر وتضاف يوميا إلى جميع الاختصاصات في العالم المتقدم ، في هذا العصر الذي يتميز بالسرعة الهائلة للتقدم العلمي . وليس في إمكان أي من العلماء والباحثين والمتخصصين ، أن ينتظر كلما عنت له فكرة ، أو جابهته دلالة علمية جديدة ، ريثما تنظر فيها المجامع والهيئات العلمية المتخصصة ، وتقر مصطلحًا لها . ولو حصل مثل ذلك لتأخرت مسيرة العلم . وإنما يجتهد العالم والباحث في اختيار مصطلحه ، ويستعمله . ويمكنه أن يعود إلى ما تيسر من المعجمات اللغوية والاصطلاحية ، وقد يشاور بعض أهل اللغة ، كلما دعت الحاجة إلى ذلك .
هذا ، وإن ما أعدته المجامع ، ومؤتمرات التعريب ، ومركز التعريب في الرباط ، والاتحادات والجمعيات العلمية، والهيئات المتخصصة ، وبعض الأفراد العلميين ، من مصطلحات علمية ، مطبوعة بهيئة معجمات ، أو مجاميع اصطلاحية ، يبلغ مئات الآلاف . وقد أُدخل منها في حسَّابة في المغرب ، نحو ستمائة ألف مصطلح . إن كل هذه المصطلحات ، وغيرها ، سيبقى على رفوف المكتبات ، وفي خزائن الكتب، ما لم تستعمل في عملية التعريب .(46/3)
وأغرب من التذرع بغياب المصطلحات أن يدعي آخرون بأن من الضروري الانتظار ، ريثما توحَّد المصطلحات المتعدِّدة ، المتخذة لدلالة علمية واحدة . ولكن كيف توحد هذه المصطلحات ، ومن يوحدها ، إن لم تأخذ طريقها إلى الاستعمال ؟
لقد ضخم بعضهم قضية عدم توحيد المصطلحات ، حتى جعل منها العقبة الكأداء في طريق التعريب . وهذا هو الخطأ بعينه . فليس من الممكن ، ونحن في عصر تتقدم فيه العلوم ، وتظهر الفكر والدلالات والكشوف العلمية الجديدة ، بسرعة هائلة ، أن ينتظر العلماء كل مرة، حتى تجتمع هيئة معينة لتوحيد المصطلحات التي تشيع لدلالة علمية واحدة ، ليتمكنوا من استعمال المصطلح الموحَّدِ المُقَر .
ولهذا السبب بعينه ، لا يمكن أن تسلم أي لغة حية ، ينتشر استعمالها على رقعة كبيرة من الأرض ، أو تستعمل في أكثر من قطر واحد من تعدد بعض المصطلحات للدلالة العلمية الواحدة .(46/4)
ففي اللغة الإنكليزية مثلا ، يُسَمِّي بعضهم حوض تجمع مياه الأمطار ، لتصب في نقطة معينة من النهر watershed، ويصطلح آخرون على تسميته catchment، وبعضهم يسميه catch basin ، ويدعوه آخرون drainage area ، ويطلق عليه غيرهم اسم gathering ground . ومثل هذا كثير . وأكثر منه أن يشيع للدلالة العلمية الواحدة لمصطلحات أو ثلاثة فقط ، كما في استعمالهم مصطلحات crown و soffit و vertex، لدلالة علمية بعينها، وهي أعلى جزء في الوجه الداخلي من العقد المستعمل في المجاري ؛ أو في استعمالهم مصطلحي evapo-transpiration وconsumptive -use لمعنى الماء الخارج من التربة بفعل التبخر والنتح . وقد يزيح أحد المصطلحات المستعملة لدلالة علمية معينة، سواء مما يستعمل للدلالة نفسها ، كما في إزاحة مصطلح water table لمصطلح phreatic surface ، وكان كلاهما مستعملا للدلالة على سطح الماء الجوفي، أو كما في إزاحة مصطلح (المياه الجوفية) في العربية ، مصطلح (المياه الخفية ) ، وكان هذا الأخير ، هو المستعمل قبل نحو عشرة قرون .
وهكذا … فإن الاستعمال وحده هو الذي ينتخل ، ويغربل ، ويبقي المصطلح الأنسب ، أو الذي هو أكثر خطأ من سواه . وقد يظل عدد من المصطلحات شائعًا لدلالة علمية واحدة ، أمدًا طويلا، ولا يزيح أي منها سواه ، ولا تتأخر مسيرة العلم ، وإن تكن الحالة المثلى ، هي أن يستعمل مصطلح واحد ، للدلالة العلمية الواحدة .
ومن أمثلة تعدد المصطلح العلمي في العربية استعمالهم مصطلحات (الرَّقّاص) في العراق ، و(الخطّار) في سوريا ، و(النوّاس) في لبنان، و(البندول) في مصر، وهو لفظ أعجمي ، لشيء واحد بعينه . وقد يستمر ذلك زمنًا طويلا،ومثله كثير.
وعلى أية حال ، لا داعي للمبالغة في خطورة الأمر . فلن يؤثر ذلك كثيرًا في تقدم العلم ، وإن يكن الأفضل هو التوحيد ، كما سبق بيانه .(46/5)
ومن المعوقات المختلقة على العربية ظلمًا وعدوانًا، إدعاء عدم طواعيتها للغة العلمية والتعريب ووضع المصطلحات . لقد كان ذلك من آثار عهود الاستعمار وحكم الأجنبي ، الذي كان يحاول ، بشتى الوسائل ، أن يضلل أبناء هذه الأمة، ليدخل في روعهم أن العربية لا تصلح لدراسة العلوم ، وأنها لغة الأدب والشعر فحسب . ومن المؤسف حقًا أن ينطلي مثل تلك الافتراءات على بعض الناس ، فيظلوا منخدعين بها حتى زمننا هذا .
ويمكن القول بأن للعربية من الخصائص ما يجعلها من أطوع اللغات للتعليم والعبارة العلمية . وليس على العالم والباحث إلا أن يمارسها ، ويوظفها في أعماله العلمية ، ليتعرف دقائقها ، ويطلع على إمكاناتها العظيمة في التوسع والاستيعاب .
ففي العربية مثلا من وفرة الأوزان الاشتقاقية ما قد لا نجده في أحسن اللغات، التي تسمى في هذه الأيام اللغات الحية . وقد أحصى بعضهم بضع مئات من هذه الأوزان . ولكل وزن منها واحد أو أكثر ، من المعاني والدلالات ، التي يمكن استعمالها وتوظيفها للتعبير العلمي . وليس هذا مجال استعراض كل ذلك غير أن من المفيد الإشارة إلى ملامح من بعض ما تمتاز به هذه اللغة ، على اللغات الأوربية ، من تلك الخصائص .
فإن التعدية القياسية للثلاثي اللازم ، بالهمزة ، من سمات العربية ، التي لا نجد ما يماثلها في اللغات الأوربية ، التي يلجأ فيها، في الأغلب ، إلى استعمال أكثر من كلمة واحدة لهذا الغرض ، أو يستعمل فيها الفعل نفسه للزوم والتعدي ، من دون تمييز . وقد تكون تعدية اللازم العربي أيضًا بالتضعيف ، في بعض الأحيان . فيقال في تعدية الفعل (ذهبَ ، أذهَبَ ) وفي (جَمَد ، جمَّدَ ) . وأمثال هذه الأفعال المُعَدَّاة ، ومصادرها ، مثل (الإذهاب ، والتجميد ، والإزاحة ، والتبريد ) وغيرها، ذات فائدة كبيرة في لغة العلوم .(46/6)
أما في الإنكليزية مثلا ، فيقال في (أذهب ، ونوَّمَ ، وأنسَى) مثلا made go وput to sleep ، و caused to forget أو made forget ، أو يستعمل للمتعدي ما يستعمل للازم من دون تمييز . فيقال مثلا في (بَرَد وبرّد ) كليهما cooled ، ولا يتضح المراد إلا في سياق الكلام .
وعلى العكس من ذلك ، من خصائص العربية أيضًا : المطاوعة وبها يصاغ الفعل اللازم المطاوع من المتعدي، على غرار (انقطع، وانحل ، واجتمع وانتشر ، والتصق واختفى ، وتشتت وتجمد) من ( قطع، وحل، وجمع، ونشر، وألصق، وأخفى ، وشتت، وجمد ) وهذه الأفعال ، ومصادرها، وهي ( الانقطاع والانحلال ، والاجتماع والانتشار ، والالتصاق والاختفاء ، والتشتت والتجمد ) ، والكثير من أمثالها ، كلها كبير الفائدة أيضًا في اللغة العلمية ، لدلالتها على التأثر بفعل خارجي .
ومن خصائص العربية الاشتقاقية ، التي تميزها من اللغات الأوربية أيضًا ، قياسية صوغ اسمي الزمان والمكان ، بلفظ واحد لكل منهما ، على غرار (المسْبح ، والمغرب ، والمتلقى ) لمكان السباحة ، وزمن الغروب ، ومكان الالتقاء أو زمانه . أما في الإنكليزية فهي تصاغ من فعل بعينه بأكثر من كلمة واحدة فيقال مثلا swimming pool ، و time of sunset، و meeting time أو meeting place.
ومما يميز العربية أيضًا كثرة أوزان ما يمكن اشتقاقه من أسماء الآلة ، التي تصاغ من الثلاثي قياسًا بأوزان ( مِفعَل ، ومِفعال ، ومِفعلة ) ، وقد تصاغ بوزن اسم الفاعل ومبالغته، مذكرًا أو مؤنثًا، ومن المزيد بوزن اسم الفاعل أيضًا . فيقال:(مِلقط،ومِرفاع، ومِعزقة ، ونابض، وقاطرة،وجرَار،ودبَابة، ومكثِّف، ومُبرقة، ومُفاعِل،ومبرِّدة ).ومثل ذلك كثير،وكله عظيم النفع في وضع المصطلحات العلمية.(46/7)
وثمة أوزان اشتقاقية أخرى كثيرة ، تنفرد بها العربية ، مما يمكن استعماله لمعانٍ علمية معينة ، كما في وزن ( التفاعُل) ، للعمليات أو العلائق العلمية المتبادلة ، مثل (التجاذب ، والتوازن، والتفاعل ، والتعادل ، والتناظر ) ؛ ووزن (التفعيل)، لمعنى التكثير ، كما في (التقطيع ، والتكسير ، والتجميع ) وغير ذلك كثير.
ويفيد المصدر الصناعي لمعنى الحالة التي يتصف بها الشيء . وهو ذو أهمية كبيرة في الاصطلاح العلمي . ويمتاز في العربية عنه في الإنكليزية مثلا بقياس صياغته بإلحاق ياء النسبة والهاء بآخر الصفة ، أو الاسم ، أو المصدر ، أو حتى الجملة في بعض الأحيان ؛ في حين أنه لا يمكن صياغته في الإنكليزية بطريقة واحدة لكل هذه الأشياء . وهكذا يقال (الحساسية والمطيلية ، والشعبية والداروينية ، والاشتراكية والاحتمالية، واللاأدرية، والماهية ) من ( حساس ومَطيل ، وشَعْب وداروين ، واشتراك واحتمال، ولا أدري ، وما هو ) .
وغير كل هذه ، من الأوزان الاشتقاقية المفيدة في الاصطلاح العلمي ، مما تمتاز به العربية من سواها ، كثير مما لا يمكن إحصاؤه في هذه العجالة .
وينقل كثير من الأوصاف إلى الاسمية في أكثر اللغات ، لتسمية أشياء بعينها ، كما في استعمال (الهشيم) بالعربية للنبات اليابس المهشم ، و (الخطّاف) لنوع معين من الطير ، وكلاهما في الأصل من الأوصاف . غير أن مجال العربية في ذلك أوسع من كثير من اللغات ، ومنها الإنكليزية، لأن الصفة في العربية تأتي بصيغة التذكير والتأنيث . وهكذا يقال ، (الدقيق) لطحين القمح ، و(الدقيقة) لجزء من ستين جزءا من الساعة ، و(الطائر) لواحد الطير ، و(الطائرة) للمركبة الهوائية المعروفة .(46/8)
والعربية اختزالية بطبيعتها ، سواء في رسم حروف كلماتها ، أو في تركيب جملها ، فلو أريد كتابة لفظة (كتب) بالإنكليزية ، لاحتيج إلى ستة حروف . ولو أريد ترجمة (استعنتك ) إلى الإنكليزية لقيل I asked for your help بخمس كلمات ، أو I turned to you for your help بسبع كلمات .
وفي حروف العربية تسعة أصوات ليست في الإنكليزية ، وهي الحاء ، والخاء ، والصاد ، والضاد، والطاء ، والظاء، والعين، والغين، والقاف. في حين أن العربية لا ينقصها من أصوات الحروف الإنكليزية سوى خمسة ، هي صوت ch كما في جمجمال ، وg كالذي في بابا كركر ، وP كما في قره تيّة ، وSكالذي في measure ، وVكما في هاقانا.وقد أقر أكثر المجامع كتابتها على التوالي جيما بثلاث نقاط (جـ) ، وكافًا بشرطتين ( كَ) ، وباء بثلاث نقاط (ب) ، وزايا بثلاث نقاط (ز) ، وفاء بثلاث نقاط (فـ) ؛ وهي موجودة في أكثر صناديق الطباعة . وغير خافٍ أن وفرة أصوات حروف العربية ، مما يجعلها أكثر طواعية لصياغة الكلمات والمصطلحات من سواها .
وللمجاز في العربية معنى أخَصُّ من معنى المصطلح فالمصطلح قد يكون لفظًا استعمل لغير معناه اللغوي ، بشرط وجود علاقة ، من قريب أو من بعيد ، بين المعنى المستعمل فيه ، والمعنى اللغوي ، كاستعمال كلمة (الضَّرْب) لتكرار العدد بقدر معين ، مع أن أصل معناه اللغوي هو الإصابة باليد وبالعصا أو نحو ذلك ؛ وقد يكون استعمال اللفظ بمعناه اللغوي نفسه ، كما في (الجريان ، والذوبان) ؛ أو يكون لفظًا جديدًا مشتقا ، أو مقيسا، أو مولدًا ، أو حتى مُعرَّبًا من كلمة أجنبية. أما المجاز فهو مقصور على المعنى الأول للمصطلح أي أنه لفظ استعمل لغير معناه اللغوي ، بشرط وجود علاقة بين المعنى المستعمل فيه ، والمعنى اللغوي .(46/9)
وفي المجاز غنى وموسعة كبيرة في اللغة العربية . فإن معنى (الأخذ) مثلا، هو التناول . ولكن للأخذ عدة استعمالات مجازية غير هذا . فيقال (أخذ يفعل كذا ، أي طفق ) و ( أخذه وأخذ به : أمسكه ) ، و(أخذ إخذهم : تخلق بأخلاقهم ) ، و ( أخذ فلانا : حبسه)، و(أخذه بذنبه: عاقبه عليه)، و(أخذ عنه: نقل)، و (أخذ في الكلام: بدأ)، و (أخذه بالأمر:ألزمه )،و(أخذ الله فلانًا: أهلكه)، و(أخذ حذره : تيقظ)، و(أخذ على نفسه:تعهد)،و(أخذت فيه الخمرة:أثرتْ) و( أخذ فيه السير:أضعفه )، و(أخذ على فمه:منعه من الكلام)، و( أخذ على يده: منعه عما يريد فعله) . وعلى غرار هذا خرجوا من (الضرب)، على المجاز ، بنحو أربعين معنى ودلالة . وكل هذه المعاني المجازية ، وأمثالها مما يسهل ويغني مهمة اختيار المصطلح العربي .
أما بعد ، فإن الاحتجاج بصعوبة تعريب التعليم الجامعي ، لعدم تيسر الكتب المنهجية ، والمجلات العلمية ، والتمسك بأنه لابد من الانتظار والتريث حتى تعد تلك الكتب ، كل ذلك من الأعذار المردودة أساسا . فإن الذين ينهضون بمهمة التعريب ، هم وليس سواهم، المعول عليهم في إعداد الكتب المنهجية ، ومن بعدها كتب المراجع . إنها نغمة يسمعها الجميع منذ عشرات السنين بلا طائل ، ولا تُعد كتب ، ولا يُسار في التعريب .
وفي الحقيقة : إن العمليتين يجب أن تسيرا جنبًا إلى جنب ، وليس لإحداهما أن تسبق الأخرى . فتُعد المحاضرات في البدء، ويُسار في تعريب التعليم ، وتُجمع مادة المحاضرات لتهيئة الكتاب المنهجي. وهذا يُطور بمرور الزمن ، ومع تطور المناهج . ثم يأتي من بعد ذلك إصدار المجلات العلمية ، ليقبل عليها ويستفيد منها قراؤها ، بعد أن يكونوا قد ترسخت لديهم المقدرة على استيعاب اللغة العلمية ، لغة التعريب .(46/10)
أما عن اللغة الأجنبية ، فلن يكون من الصعب تخصيص ساعة أو ساعتين أسبوعيًا ، في السنتين الأوليين من الدراسة الجامعية ، لتدريس الحد الأدنى من لغة وظيفية تمكن الطلبة من العودة إلى بعض المراجع الأجنبية عند الحاجة ، وتمهد للنخبة النابهة منهم متابعة الدراسة العليا والتخصص في الجامعات الأجنبية .
وأخيرًا إن كل المعوقات المدعاة والمختلقة في طريق التعريب تتهاوى وتتهافت … إن المعوق الوحيد هو التخوف من أن تعريب التعليم الجامعي سيتطلب من
الأساتذة الجامعيين ، من دون شك ، بذل الكثير من الجهود . ولكن متى كانت قضايا بناء الصرح الحضاري ، وتحقيق الأصالة العلمية ، وتدعيم روح الولاء والانتماء ، وكلها متعلق بمصير الوطن والأمة - مما لا يستحق أن تبذل كل الجهود من أجله ؟
جميل عيسى الملائكة(46/11)
مقدمة :
تُطرح قضية التعريب ، في الوطن العربي ، منذ فترة طويلة ، على مستويات مختلفة ، وفي العديد من المناسبات ، ومن ثم فإنها قضية قديمة وجديدة في آن واحد. ولعله من المفيد أن نشير إلى أننا لا نتحدث - في هذه الدراسة- عن التعريب بمفهومه الخاص باستخدام العرب ألفاظا أعجمية على طريقتهم في النطق واللفظ والأسلوب ، أو كما ورد في المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة:" التعريب : صبغ الكلمة بصبغة عربية عند نقلها بلفظها الأجنبي إلى اللغة العربية"،إنّ ما نتحدث عنه هو التعريب في مفهومه الشامل الذي تدخل فيه الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية ؛ التعريب الذي يهتم بجعل اللغة العربية لغة الحياة كلها ، فكرًا وشعورا وعلما وعملا. ونظرًا إلى أننا نتناول موضوع التعريب من خلال تجربة مكتب تنسيق التعريب التابع للمنظمة العربية للتربية
والثقافة والعلوم (بجامعة الدول العربية )، فإننا قبل أن نتحدث عن هذا المكتب وبعض المهام المنوطة به ، ومن أهمها توفير المصطلح العربي الموحد ، وسنتطرق إلى آراء بعض الباحثين حول التعريب وصلته بالمصطلح ، وما للمصطلح الموحد - بصفة خاصة - من أهمية في عملية التعريب . وفي هذا الإطار ، لابد من الحديث عن مؤتمرات التعريب " ، وعن التعاون المثمر القائم بين المكتب والمجامع العلمية واللغوية العربية والهيئات المتخصصة والخبراء .
واستشرافًا للقرن الواحد والعشرين، سنتحدث عن التعريب في الخطة متوسطة المدى الثالثة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، هذه المنظمة التي تبذل، منذ إنشائها ، قصارى جهدها من أجل أن تكون اللغة العربية قادرة على اقتحام مجالات المعرفة الإنسانية كافة ، أسلوبا ومنهجا ومصطلحا .
التعريب وصلته بالمصطلح ، وما للمصطلح الموحد - بصفة خاصة - من أهمية في عملية التعريب :(47/1)
كلنا يدرك الحاجة الملحة إلى إيجاد مقابلات عربية للمصطلحات العلمية والتقنية الجديدة التي تمطرنا بها يوميا لغات أجنبية ، لتصبح لغتنا العربية قادرة على مسايرة هذه اللغات في التعبير عن الاختراعات الجديدة والدلالة على المستحدثات المبتكرة .ومع ذلك ، فإن عملية توفير المصطلح يجب أن لا تعرقل عملية التعريب ، بل لابد من المضي في التعريب ، لتهيمن اللغة العربية في جميع مجالات حياتنا اليومية وفي مقدمتها التعليم والإدارة … كما أنه على الجهات المختصة أن تضاعف الجهود - في نفس الوقت - بغية توفير المصطلح العربي الذي هو جزئية هامة من عملية التعريب.
ذلك أن العمليتين تكمل إحداهما الأخرى.
يقول أحد الباحثين :
" … ألححتُ على قضية المصطلح لأن هذه القضية في طليعة ما يتعلل به الزاهدون في التعريب والمشككون في الاقتدار على المضي فيه ، على حين أن قضية المصطلح - من حيث هو ألفاظ يعبر بها عن مسميات ومعان مفردة - ليست بصميم المشكلة ، بل قد تكون - على ما لها من شأن - أهون جوانبها ، وإنما صميم المشكلة هو الاقتدار على وعي المعاني العلمية وتصورها ثم الإبانة عنها ، ولن يتم حلها وتذليل صعابها إلا بالتصميم على ذلك والشروع فيه وإن اضطررنا - ولو إلى حين - إلى استعمال المصطلحات الأجنبية بلفظها الأجنبي . هذا مع أن الأعمال التي قامت بها في هذا الباب مجامعنا العلمية واللغوية - وفي طليعتها مجمع اللغة العربية بالقاهرة ومكتب تنسيق التعريب، والجامعات التي تدرس بعض العلوم بالعربية - تقدم قاعدة صالحة لتعميم تعريب العلوم … إن قضية التعريب أمانة في عنق كل منا وما علينا بعد إلا أن نخلص النية ونصدق في العمل ليتم لنا ما نطمح إليه "(47/2)
ولعلنا نجد التعبير عن هذه الحاجة القومية والعلمية في المعاهدة الثقافية التي صادق عليها مجلس جامعة الدول العربية سنة 1945 ، والتي نصت في المادة الحادية عشرة منها على وجوب توحيد المصطلحات ، كما نص ميثاق الوحدة الثقافية الذي صادق عليه مجلس جامعة الدول العربية عام 1964 على السعي لتوحيد المصطلحات العلمية والحضارية ودعم حركة التعريب . ونظرًا إلى أهمية التنظيم والتنسيق والمتابعة،في هذه العملية، فإنه يسعدنا أن يكون مكتبنا لتنسيق التعريب هو الجهة العربية المكلفة بتنسيق جهود الدول العربية في هذا الميدان .
ومن هنا فإن "المشكلة الحقيقية في قضيتي التعريب والمصطلح ، ليست إلا مشكلة تنسيق وتنظيم . ذلك أن اللغة العربية تستعمل استعمالات مختلفة ، وتوظف في كل دولة ، توظيفًا يخضع لسياستها وقوانينها ، فمثلا استعمال اللغات المحلية في أجهزة الإعلام ، وفي الإنتاج الفني والأدبي ، وفي لغة التدريس إلخ ، يختلف من بلد إلى آخر فمؤسسات الترجمة ، الرسمية والتجارية، تعمل إلى جانب المبادرات الشخصية ، إلى جانب نشاط الأكاديميين من أساتذة الجامعات ، والباحثين، كل يعمل في ظل نظام معين، ومن هنا ، فلم يعد هناك رقابة لغوية على دقة الترجمة؛ فأصبحت الكلمة الأجنبية تترجم بكلمات متعددة إلى العربية ، بكلمات متقاربة في المعنى ؛ وذلك يعود فيما يعود إليه ، إلى اتساع المفردات العربية من ناحية ، وقد يعود إلى عدم التمكن من اللغة العربية أو من اللغة الأجنبية التي يترجم منها من ناحية أخرى . وحصيلة هذا كله ، هي بلبلة في اللغة العربية نفسها ، ونشوء أساليب ذات طابع محلي في التعبير العربي . وهذه الظاهرة التي تقوم في مجال الترجمة والتعريب تنعكس بالضرورة على المصطلح .. ".(47/3)
وفي إطار الترابط التكاملي بين المصطلح والتعريب ، الذي أشرنا إليه قبل قليل ، نريد أن نؤكد حقيقة يتفق عليها أغلب المختصين وهي أن التعريب يلعب دورا إيجابيا وفاعلا في عملية الحصول على المصطلح . ولا نريد أن يفهم من هذا أننا نقلل من أهمية إيجاد المصطلح بصفته أداة هامة من أدوات التعريب ، وإنما نريد أن نؤكد - إن كان الأمر يحتاج إلى تأكيد - أن العمليتين يجب أن تسيرا جنبا إلى جنب ، بحيث لا تتقاعس في عملية التعريب متعللين بعدم وجود مصطلحات عربية للمقابلات الأجنبية .(47/4)
" إن وقفة بسيطة على المراد بكلمة (مصطلح) يمكن أن تدل على الكثير في هذا الشأن . فاللفظ الذي يضعه فرد أو هيئة لدلالة علمية أو حضارية معينة لا يمكن أن يصبح (مصطلحا) إلا بعد أن (يَصطلحَ) ويتواضعَ عليه المشتغلون بذلك العلم أو المعنيون بذلك الجانب من الحضارة . أما قبل ذلك فهو لا يعدو كونه لفظا مقترحا دعت إليه الحاجة الآنية للتعبير عن فكرة علمية أو حضارية. ومن ثَم فلن يمكننا الحصول على أي مصطلح ، بالمعنى الحقيقي ، إلا بعد وضع اللفظ المقترح في حيز (الاستعمال) أي أن (التعريب) هو الذي يضع لنا المصطلحات ، وليس العكس ، ولابد لنا من أن نَدخل في مجال تعريب العلم لنحصل على مصطلحاته ، إنّ حجة القائلين بالتريث في التعريب ريثما تكتمل المصطلحات متهافتة أساسًا فهي تنقضُ نفسها بنفسها… وأشد بطلانًا من ذلك ادعاء بعضهم ضعف اللغة العربية وعجزها عن وعاية علوم العصر والنهوض بمتطلباتها ، وتلك أظلم تُهمَة اقترفها الأجنبي بحق لغتنا ، في زمن الاستعمار والتبعية ، وبقيت مخلفاتها تضلل عقول بعض الجهال حتى يومنا هذا. فليست العربية بأقل عطاء من عشرات اللغات التي اعتز بها أهلها ، ولم تسمح لهم مشاعرهم القومية بالتخلي عنها ، فاستعملوها للعلوم ، فاستوعبتها جدا ولم تَقْصُرْ عنها في شيء . بل إن العربية أغنى في خصائص الاشتقاق والمجاز والقياس من كثير من اللغات التي باتت تُدعى اليوم باللغات الحية زيادة في الثلب والنكاية في لغتنا " .(47/5)
ولا يفوتنا ، في هذا المقام ،بأن نذكر أن اللغة تقوى بقوة أهلها وتضعف بضعفهم ؛ فعندما كانت العربية في أوج ازدهارها استطاعت أن تستوعب ، بصدر رحب ، كل التراث الفلسفي والعلمي في ذلك العصر ، فنقلت إلى المكتبة العربية كنوز وذخائر الفكر والعلوم والثقافة الأجنبية . ويشهد الجميع على أن النهضة الحديثة في أوربا قد اعتمدت أساسا على ما انتقل إليها من تراث العرب العلمي والحضاري . خاصة فيما يتعلق بالطب والكيمياء والفلك والرياضيات .
ولقد ظلت اللغة العربية ، على مر العصور تمثل أقوى رباط هذه الأمة ، وذلك على الرغم مما لحقها من قصور في العصور المتأخرة بسبب ما فرضه المستعمر من غزو لغوي وتشكيك في قدرتها على أن تكون لغة علم قادرة على الوفاء بحاجات العصر المتطورة .
وبحق لنا أن نتفاخر بأن اللغة العربية تحتل اليوم - على المستوى العالمي - مكانة مرموقة ، وما علينا إلا أن نجعلها تستعيد كامل دورها العلمي بالتعبير عن منجزات الحضارة التكنولوجية الحديثة ، وذلك عن طريق تعريب العلوم بمختلف أنواعها مما يمكن أبناء هذه الأمة من الإبداع والابتكار؛ لأن الأمة لا يمكنها أن تبدع وتخترع إلا بلغتها . ويستنتج مما سبق أن التقصير والعيب فينا، لا في لغتنا.
إن " المصطلح العلمي أداة البحث ولغة التفاهم بين العلماء ، وليس ثمة علم بدون قوالب لفظية تؤديه،ويوم أن ينهض العلم ويخطو إلى الأمام، تنمو مصطلحاته، وتدق ألفاظها ، وتتحدد معانيها . وإذا كانت العلوم في سير مطرد، وحركة دائبة ، فإن مصطلحاتها لابد أن تلاحقها وتتابع السير معها ، ولا يمكن أن تتحقق نهضة علمية بدون نهضة لغوية واصطلاحية تسايرها جنبا إلى جنب .(47/6)
… وقيمة لغة العلم في أن يلتقي عندها العلماء ، وهي ولا شك اصطلاح وقد قيل قديمًا " لا مشاحة في الاصطلاح". ومن العيب أن نلتقي عند اللفظ الأجنبي ثم نختلف في مقابله العربي. واستقرار الاستعمال وشيوعه وذيوعه يمنح المصطلح العلمي قوة تحقق فيه أسباب البقاء والحياة . والمعجمات العلمية وسيلة ناجعة من وسائل البحث والدرس، وعليها أن تأخذ باللفظ الشائع والاستعمال السائد ، وعلى هيئاتنا العلمية والثقافية أن ، تعد معجمات متخصصة يُقرها المشتغلون بالعلم في كل مادة ، وتلك رسالة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، والمجامع اللغوية والعلمية ، واتحاد المجامع . وبذا نحقق وحدة المصطلح العلمي في العالم العربي جميعه كما حققها أسلافنا في النهضة الإسلامية الكبرى ".
وفي السياق نفسه ، فإن وحدة المصطلحات اللغوية تلعب دورا كبيرا في وحدة الأمة ، والعكس صحيح بحيث "… يستطيع الباحث أن يقيس تقدم الأمة حضاريا ويحدد ملامح ثقافتها عقيدة وفكرا بإحصاء مصطلحاتها اللغوية واستكناه مدلولاتها ، بل يستطيع أن يقطع بوحدة الأمة الفكرية والسياسية من وحدة مصطلحاتها اللغوية في الإنسانيات والعلوم والتقنيات .
لقد واجهت الأمة العربية في القرن العشرين مشكلة خطيرة تتلخص في ازدواجية المصطلح العلمي والتقني في الوطن العربي ، ونعني بذلك تعدد المصطلحات العربية للمفهوم الواحد واختلافها من قطر إلى آخر ، ويكمن الخطر في ظهور لغات علمية عربية متعددة في الوطن العربي مما يهدد وحدته القائمة أساسا على وحدة لغته التي هي وعاء الحضارة العربية الإسلامية وقوامها منذ قرون عديدة " .(47/7)
وقد " ربط المغرب ، منذ أن خفقت راية الإسلام على هذه الديار ، بين اللغة العربية والقرآن الكريم ، دستور هذا الدين ، الذي نفذ إلى قلوب وعقول المغاربة منذ ذاك . وأصبحت قدسية الإسلامي تتمثل في قدسية هذه اللغة التي جاء بها القرآن … لم تخرج الأمة العربية الإسلامية عن قانون الصيرورة التاريخية المعهودة ، فأتى عليها حين من الدهر اضطرت خلاله إلى تسليم تلك المسؤولية العلمية إلى أمم غيرها ، كما أتى عليها حين من الدهر ، كانت فيه مطمعا ومبتغى لاغتنام خيراتها الطبيعية،بعد ما كانت معينًا جادًّا بسخاء ، بخيرات عقلية أغنت الحضارة والناس . لم تقف المساعي الإنسانية الباحثة خلال فترة الغفوة هذه ، وبعد أن استرجعت الأمة العربية ما ضاع منها من حق في الحرية والقرار ، استرجعت صورة ماضيها العلمي المجيد ، فرأت أن تجديد هذا الماضي لا يتم إلا بإغناء لغتها وبعث روح العصر فيها ، لتتحمل نفس المسؤولية السابقة . ولم تغب هذه الفكرة عن المغفور له محمد الخامس ، فدعا إلى إنشاء مكتب تكون مهمته ، بذل الجهد، اعتمادا على تجارب عربية كان لها نفس الشعور ، حتى يستدرك لهذا الغرب الإسلامي ، شماليّ إفريقيا ، ما فاته في لغته مدة ظلام الاستعمار . وقد استعظمت جامعة الدول العربية هذا المجهود ، ورأت أن من حقها أن توفر له سبل الاستمرار بعد ما رأت أمامها أعمالا مجسمة هي نتيجة جهود كان سلاحها الإيمان ومعتمدها الآمال . ثم إن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، سيرا على خطوات الجامعة ، وفّرت هي أيضًا كل السبل ليصبح عمال هذا المكتب ( مكتب تنسيق التعريب ) ، عملا قوميا لا تمثل فيه التجربة المغربية إلا أسه ومنطلقه ، فزودته بعطاءات تنوعت وتعددت ، منها الخبرة البشرية واللقاءات العلمية والندوات والمؤتمرات ، وما لهذه جميعا من توصيات أصبحت دستورا للعمل الذي ساهمت فيه كل الأمة العربية.
لمحة تاريخية عن المكتب :(47/8)
تأسس مكتب تنسيق التعريب بقرار من مؤتمر التعريب الأول الذي عُقد بالمغرب من3إلى7من إبريل سنة1961م.
ألحق المكتب بجامعة الدول العربية في 16/3/1969م ، بقرار من مجلس الجامعة ، وألحق بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتاريخ 8/5/1972 ، بقرار صادر من الأمانة العامة لجامعة الدول العربية .
من مهام مكتب تنسيق التعريب :
جاء في النظام الداخلي للمكتب الصادر بتاريخ 27/1/1973 ( بعد انضمامه للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ) ما يأتي :
"يقوم المكتب بالمساهمة الفعالة في الجهود التي تبذل في الوطن العربي للعناية بقضايا اللغة العربية ومواكبتها للعصر ، واستجابتها لمطالبه ، وذلك عن طريق :
تنسيق الجهود التي تبذل للتوسع في استعمال اللغة العربية في التدريس بجميع مراحل التعليم وأنواعه ومواده، وفي الأجهزة الثقافية ووسائل الإعلام المختلفة.
تتبع حركة التعريب وتطور اللغة العربية العلمية والحضارية في الوطن العربي وخارجه بجمع الدراسات المتعلقة بهذا الموضوع ونشرها أو التعريف بها .
ج - تنسيق الجهود التي تبذل لإغناء اللغة العربية بالمصطلحات الحديثة ولتوحيد المصطلح الحضاري في الوطن العربي بكل الوسائل الممكنة .
د - الإعداد للمؤتمرات الدورية للتعريب.
ويقوم المكتب في سبيل تحقيق أهدافه بالعمل في المجالات الآتية :
تنمية اللغة العربية ونشر الثقافة الإسلامية في الخارج ، وذلك بالتوسع في إصدار المعاجم المتخصصة في ميادين المعرفة وإبراز دور الحضارة العربية الإسلامية في نمو المعرفة الإنسانية، ووضع المصطلحات العربية الموحدة للمفاهيم الجديدة وتعميم استعمالها وتداولها ، والإفادة من التقنيات الحديثة في نشر اللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية في الداخل والخارج .
نشر المعلومات والاستفادة منها ، بواسطة بنك المصطلحات ، وتتبع وخزن الرصيد المصطلحي المستجد، ودعم المكتبة بالمراجع والكتب والدوريات .(47/9)
التعاون مع الأمانة العامة لجامعة الدول العربية والمنظمات المتخصصة والمنظمات والهيئات الإقليمية والعالمية ، قصد الوقوف على الأساليب الحديثة في المعجمية والمصطلحية والإسهام في البحوث والدراسات وإبراز أعمال المنظمة في مختلف الميادين العلمية والثقافية والإعلامية وذلك :
بتتبع ما تنتهي إليه بحوث المجامع اللغوية، والعلماء، ونشاط الأدباء والمترجمين، وجمع ذلك كله وتنسيقه وتصنيفه تمهيدًا للعرض على مؤتمرات التعريب .
بالتعاون الوثيق مع المجامع اللغوية والهيئات والمنظمات التعليمية والعلمية والثقافية في البلاد العربية .
بالإعداد لعقد الندوات والحلقات الدراسية الخاصة ببرامج المكتب .
بإصدار مجلة دورية لنشر نتائج أنشطة المكتب .
بنشر المعاجم التي تقرها مؤتمرات التعريب .
غير ذلك من الأعمال الكفيلة بتحقيق أهداف المكتب .
توحيد منهجيات وضع المصطلح العربي:
إيمانا من مكتب تنسيق التعريب بضرورة إيجاد منهجية موحدة لوضع المصطلحات العلمية الحديثة ، قام المكتب بالتعاون مع المجامع اللغوية والعلمية العربية والهيئات المصطلحية المختصة ، بعقد ثلاث ندوات متخصصة :
ندوة توحيد منهجيات وضع المصطلحات العلمية الجديدة - الرباط 18-20 فبراير 1981م.
ندوة تطوير منهجية وضع المصطلح العربي ، وبحث سبل نشر المصطلح الموحد وإشاعته عمان(الأردن)6 -9/9/1993م.
ج - ندوة التقنيات الحاسوبية في خدمة المصطلح العلمي والمعجم المختص. طنجة (المغرب) 21 - 22/4/1995م .
وقد خرجت الندوة الأولى بمجموعة مهمة من المبادئ الأساسية الواجب مراعاتها عند وضع المصطلح . ودرست الندوة الثانية مجموعة مختارة من الدراسات والبحوث المتعلقة بالتصور النظري لمنهجية وضع المصطلحات .
ونظرا لأهمية البحوث والدراسات والتوصيات الصادرة عن هذه الندوة (ندوة عمان ) فقد أخرجها المكتب في عدد خاص من مجلة " اللسان العربي " هو العدد 39 لسنة 1995 م .(47/10)
وجاءت الندوة الثالثة (ندوة طنجة) لتعالج الجانب الحاسوبي التطبيقي ووضع المبادئ العامة لاستغلال الحاسوب في المجال المصطلحي . ويعكف المكتب حاليا على الإعداد لعقد ندوة - خلال سنة 1997م - بعنوان : التطبيقات الحاسوبية العربية في المجال المصطلحي ، استكمالا لندوة طنجة آنفة الذكر .
طريقة عمل المكتب في إعداد المصطلحات قبل عرضها على مؤتمرات التعريب للمصادقة عليها :
يتعاقد المكتب مع فريق عمل من الأساتذة والخبراء المتخصصين في مجال مُعين لإعداد مشروع أولي لمعجم مُعين في مادة معينة . يرسل المشروع إلى الجهات المختصة في الوطن العربي لدراسته وإبداء الملاحظات عليه ، قبل عرضه على ندوة متخصصة لدارسته . يعاد طبع المشروع ، بعد دراسته من قِبل الندوة، ويرسل مرة أخرى إلى المؤسسات العربية المختصة لدراسته وتنقيحه ، تمهيدًا لعرضه على مؤتمر للتعريب . بعد أن تعرض المشروعات المعجمية على مؤتمر للتعريب ، يقوم المكتب بطبع ونشر وتوزيع ما تم إقراره من هذه المشروعات، في صيغة معاجم موحدة .
مؤتمرات التعريب :
مؤتمرات التعريب هي السُّلطة العليا صاحبة القرار السياسي بالنسبة للسياسة الخاصة بمكتب تنسيق التعريب ، وتنعقد هذه المؤتمرات بصفة دورية كل سنتين ، أو عند الاقتضاء ، على مستوى وزراء التربية والتعليم في الوطن العربي أو من يمثلهم . ويشكل المؤتمر لجانا متخصصة تعكف ، أثناء انعقاده على دراسة المشروعات وأوراق العمل التي يعرضها المكتب على المؤتمر لدراستها وتمحيصها واتخاذ القرارات المناسبة بشأنها .
نبذة عن مؤتمرات التعريب :
- المؤتمر الأول للتعريب :(47/11)
عقد مؤتمر التعريب الأول بالمملكة المغربية فيما بين ثالث وسابع أبريل سنة 1961م ، بغية تحقيق معنى التعريب في كل مرفق من مرافق الأمة العربية في كل بلد من بلاد العرب . وقد أوصى المؤتمر بأن يصبح هيئة دائمة وأن يستمر انعقاده دوريا،وينشأ له مكتب دائم مقره المملكة المغربية ، تحت إشراف الجامعة العربية ، وتمثل فيه جميع البلاد العربية ، مهمته أن يتلقى ويتتبع ما تنتهي إليه بحوث العلماء والمجامع اللغوية، ونشاط الكتاب والأدباء والمترجمين ، ويقوم بتنسيق ذلك كله وتصنيفه ومقارنته ليستخرج منه ما يتصل بأغراض المؤتمر لعرضه على المؤتمرات المقبلة . وهذا المكتب هو : مكتب تنسيق التعريب بالرباط .
كما أوصى المؤتمر بأن تكون اللغة العربية لغة التعليم لجميع المواد في جميع المراحل والأنواع، وفي كل قطر عربي دون أن يعني ذلك منع تدريس اللغات الأجنبية كلغات .
وقد أوصى المؤتمر الدول العربية بوضع خطة لتوحيد وسائل الإعلام العامة ؛ من صحافة وإذاعة وسينما وغيرها ، لتكون وسيلة من وسائل التعريب ونشر اللغة الفصيحة بين طبقات الشعب المختلفة وتقريب لغة التخاطب من الفصحى .
وكان المؤتمر ، في جميع توصياته ، يرمي إلى " بناء جيل عربي واع مستنير ، يؤمن بالله وبالوطن الأكبر ، ويثق بنفسه وأمته ويستهدف المثل العليا في السلوك الفردي والاجتماعي ، ويستمسك بمبادئ الحق والخير ، ويملك إرادة النضال المشترك وأسباب القوة ، والعمل الإيجابي، متسلحا بالعلم والخُلق ، لتثبيت مكانة الأمة العربية المجيدة وتأمين حقها في الحرية والأمن والحياة الكريمة " .
المؤتمر الثاني للتعريب :
عُقد مؤتمر التعريب الثاني في الجزائر من الثاني عشر حتى العشرين من شهر ديسمبر (كانون الأول) 1973م.
وقد تضمنت وثيقة المؤتمر جملة من المبادئ والاتجاهات والتوصيات نذكر منها:
أولا :المبادئ :(47/12)
اللغة مقوم رئيسي من مقومات وجود الأمة واستمرارها . وكل خطر يهدد اللغة هو خطر يهدد شخصية الأمة واستمراريتها وارتباط ما بين أجيالها .
إن تأصيل العلوم وانتشار المعارف في أمة من الأمم لا يكون إلا بلغتها . ولذلك فإن لحاق البلاد العربية بالحضارة العلمية المعاصرة ومواكبتها لها ، ثم مشاركتها فيها، ويجب أن يبدأ باستخدام اللغة العربية لغة للتدريس ، وإعداد المصطلحات العلمية الموحدة لذلك .
إن تأصيل اللغة لا يقتصر على الأخذ بها في مرحلة دون مرحلة، وإنما يجب أن يمازج مراحل التعليم كلها منذ بدايتها ، حتى يتيسر لأبناء هذه اللغة أن يعايشوها معايشة كاملة تساعد بعد ذلك على التصرف بها وتطويرها .
إن ما لحق اللغة العربية من قصور في العصور المتأخرة لا يعود إلى العربية نفسها وإنما يرتد إلى ما فرضه الغزو اللغوي - على درجات متفاوتة - من مباعدة بينها وبين أصحابها،ومن تشكيك فيها ، وعزلها عن الحياة والمجتمع. والتجارب اللغوية المعاصرة في العالم تثبت ، على نحو لا يقبل الشك ، أن دؤوب أصحاب اللغة على الأخذ بها وإشاعة استعمالها في كل الميادين النظرية والعلمية ، والدراسات العلمية والإنسانية - كفيل بتمكينها من الوفاء بحاجات العصر المتطورة .
إن اللغة العربية قادرة - بحكم طبيعتها وخصائصها وتراثها الذي أسهمت فيه في الحضارة الإنسانية-على أن تكون لغة العلم الحديث : تدريسًا وتأليفًا وبحثا .
إن الدعوة إلى تدريس العلوم باللغة العربية والعناية بهذه اللغة لا تعني إهمال الاهتمام بتدريس اللغات الأجنبية ولا تقصد إليه .
ثانيًا: الاتجاهات :
إن المؤتمر ينعقد في ظل غاية رئيسية هي : توحيد المصطلح العلمي .(47/13)
الأعضاء الذين يشاركون فيه من البلاد العربية يصدرون عن إيمانهم بملاحقة التطور العلمي ومصاحبته، ولكنهم يلاحظون أن نقل المصطلح العلمي أو وضعه أو الأخذ به تفاوت بين قطر وآخر تفاوتًا أضحى يحتم عليهم توحيد هذ المصطلح تمهيدًا للغة علمية مشتركة .
وهم يدركون أن أسباب هذا التفاوت تعود إلى فقدان العمل المنظم في هذه السبيل ، فقد أسهمت فيه مجامع وجامعات ، وهيئات وأفراد ، وكان أكثر النقل فيه عن اللغتين الفرنسية والإنجليزية ، واتخذت في اصطناعه أساليب مختلفة من الوضع والترجمة والنحت والتعريب . ولذلك فإن توحيد هذا المصطلح يرتبط بسلسلتين من العوامل : عوامل تتصل باللغة العربية والتعليم العربي والطباعة العربية . وعوامل أخرى تتصل بالظروف الاجتماعية والسياسية . ولابد لذلك من أن يتخذ العمل في المصطلحات وجهة تتلخص في دراسة هاتين السلسليتن دراسة علمية ، واصطفاء ما يؤدي إلى الالتقاء والتوحيد ، والابتعاد عما يقود إلى التفرق والتشتت .
إن اختيار المصطلحات العلمية في هذا المؤتمر لمقابلة المصطلحات العلمية الأجنبية لا يؤلف غاية في ذاته بقدر ما يكون سبيلا إلى غايات أخرى هي تطبيق هذه المصطلحات واستعمالها في كل مجالات الأداء والإبلاغ : في المدارس والأندية ، وفي وسائل الإعلام وفي الدوائر والمكاتب ، وذلك في عمل مشترك عام يعايش المجتمع في كل طبقاته وفئاته وفي كل مراحله التعليمية ، حتى يتم التفاعل بين اللغة والمجتمع على نحو يقود التطور الفكري والتطور اللغوي في خطين متكاملين ، يقطع الطريق على التفاوت أو التناقض الذي نشهده أحيانًا بين الحياة واللغة وتطبيقاتها المختلفة .(47/14)
إن اختيار المصطلح العلمي في نطاق التعليم العام في المؤتمر الثاني للتعريب لا يعني أن المؤتمر يريد أن يقف باللغة العلمية عند حدود التعليم الثانوي ، ولكنه يعتبر أن عمله هذا تمهيدًا للخطوة التي يجب أن تلي بعد ذلك ، أي نحو المصطلح العلمي في التعليم الجامعي . ذلك لأن تدريس العلوم بالعربية في المرحلة الثانوية وحدها نوع من العمل الناقص لا يضمن تحقيق الغاية المرجوة … ولهذا فإن المؤتمر يأخذ بالاتجاه إلى تدريس العلوم باللغة العربية في التعليم العالي كله في الجامعات والمعاهد ، ويؤكد أن هذه البيئات العالية تشكل ميدانًا بالغ الأهمية يجب أن تتجلى فيه إرادة الأمة العربية في صيانة لغتها وإعطائها الفرص الحقيقية والمنتجة للتعبير عن المفاهيم الفكرية للعصر ومنجزاته التطبيقية والتقنية ، ويرى المؤتمر في التجربة التي قدمتها بعض الأقطار العربية والتي أعطت أطيب ثمارها تأكيدًا لسلامة هذا الاتجاه ولضرورة الأخذ به .
إن النتائج التي انتهى إليها المؤتمر في هذه المصطلحات التي تدراسها، مقدمة لاستخدامها في التعليم والتأليف ووضعها موضع التجربة والممارسة . غير أن اختيار المصطلح لا يعني تجميده ، فالمصطلحات العلمية بطبيعتها عمل مستمر متصل .
ثالثًا : التوصيات :(47/15)
أوصى المؤتمر باتباع منهجية للعمل في مشروعات المصطلحات في المستقبل على أن تتناول هذه المنهجية مراحل العمل كلها في الإعداد والدراسة والإقرار. ففي الإعداد : لابد من عمل أولي منظم يتناول استقصاء المصطلحات القديمة وجمع المصطلحات الحديثة . وفي الدراسة: لابد من اللجوء إلى نظام المراحل المتدرجة فتتقدم مراحل الجمع والاستقرار والاستقصاء على أية مرحلة ثم تأتي مرحلة اللجان المتخصصة والندوات للتمحيص والغربلة قبل مرحلة المؤتمر العام ولجانه للمصادقة . وفي إقرار المصطلحات : لابد من استلهام هذه الأصول والقواعد والتقيد بها لتتوافر للمصطلحات : السلامة في اللغة ، والسهولة في الأداء ، والوضوح في الفكر، والدقة في التعبير .
وفي الالتزام ، يرى المؤتمر أن قضية المصطلح العلمي لم تنل من العناية في التنفيذ قدر ما نالت من عناية في الإعداد والدراسة والإقرار ، وأنه إذا كانت قضية المصطلح عملية مستمرة فإن ذلك يقتضي ألا يستمر الجدل النظري حولها إلى ما نهاية له ، وأنه لابد من أن يخرج هذا النقاش النظري إلى مرحلة التطبيق والتجربة العلمية حتى يكون استخدام المصطلح هو الذي يحقق امتحانه والحكم عليه .
ولذلك فإن أعضاء المؤتمر يذهبون إلى وجوب الأخذ بمبدأ الالتزام بهذه المصطلحات، يلتزمونها هم في مدراسهم وجامعاتهم وبحوثهم ومعاجمهم، ويدعون إليها حتى حين يكون تدريسهم باللغة الأجنبية ، ثم يهيبون بالسلطات المختصة أن تلتزم بها ، ما كان ذلك ممكنا ، في المدارس والإدارات والمؤسسات ووسائل الإعلام والشركات؛ حتى تكون جزءا حيا من الحياة العلمية والعملية والإدارية، وحتى يتحقق لها أكبر قدر من الشيوع والاستقرار .(47/16)
والمؤتمر حين يؤكد هذا المبدأ، يؤمن بأنه لابد من إتاحة الفرصة أمام الأقطار العربية - حسب قدرة كل قطر وظروفه- للأخذ بذلك ، آملا أن يكون الجهد في الأخذ بهذا المبدأ أقوى من الصعوبة، وأن يكون التعارض بين الرغبة والإمكان أدنى إلى غلبة الرغبة على عوائق الإمكان .
وقد صادق مؤتمر التعريب الثاني على توحيد قوائم مصطلحات صدرت في ستة معاجم ، في موضوعات : الحيوان والنبات والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والرياضيات، تشتمل على 17761 مصطلحا بثلاث لغات (العربية - الإنجليزية - الفرنسية )
المؤتمر الثالث للتعريب :
عُقد مؤتمر التعريب الثالث بطرابلس (ليبيا) من 7-16/2/1977م .
أكد المؤتمر من جديد أهمية العامل اللغوي في الحياة العربية ، كما أكد قدرة اللغة العربية على الوفاء بالتقدم العلمي والاجتماعي ، بما لها من خصائص ذاتية، وما في تراثها من زاد غني ساعدها على أن تكون لغة الحضارة ، ويرى أنها بهذه الخصائص والقدرات ، وبما عند أبنائها من إيمان وعزم ، قادرة على أن تستأنف مسيرتها الحضارية بنجاح أكيد .
وبالنسبة للتعريب ، يرى المؤتمر أن الأمة العربية يجب أن تكون قد تجاوزت في أقطارها كلها فترة التفكير في التعريب ، إلى الأخذ به،والتماس كل الوسائل، وقطع الطريق على مراحل التشكيك فيه،واعتباره - في المرحلة الحاضرة - هدفا أساسيًا من أهدافها،وأسلوبا رئيسيًا من أساليب تحقيق وجودها الفكري وشخصيتها الحضارية ، ووحدتها النفسية واللغوية .
وقد صادق المؤتمر على توحيد مجموعة مصطلحات في موضوعات التاريخ والجغرافيا والفلك والفلسفة والمنطق وعلم النفس والصحة وجسم الإنسان والرياضيات والإحصاء تبلغ 10393 مصطلحا باللغات الثلاث (العربية - الإنجليزية - الفرنسية )
المؤتمر الرابع للتعريب :
عُقد مؤتمر التعريب الرابع بطنجة (المملكة المغربية ) في الفترة من 20 إلى 22/4/1981م .(47/17)
أكد المؤتمر مرة أخرى إيمانه المطلق بأن "اللغة العربية " - وهي لغة القرآن الكريم- أقوى الروابط التي بقيت تربط بين أجزاء البلاد العربية لتجاوز عوامل التجزئة والتقسيم التي تعانيها .
وبخصوص حركة التعريب في الأقطار العربية ، قدم رؤساء الوفود المشاركة مذكرات مكتوبة عن جهود بلادهم في ميدان تعريب التعليم ، وأثارت هذه المذكرات مناقشات مستفيضة دار أكثرها حول الحقائق الآتية :
للغة العربي - إذا قيست باللغات الأخرى - مقدرات رائعة تمكن لها من مواكبة العلوم والمعارف ومسايرة تطورها، بحكم خصائصها الذاتية من جهة ، وبحكم تجربتها الحضارية من جهة أخرى ، وهي تجربة تمثلت في احتواء علوم العصور قبلها ، علوم الرومان واليونان وشعوب الشرق ، وفي استيعاب الحضارة الإسلامية بكل ما جددت وحصلت من علوم وفنون .
التعليم باللغة العربية ليس استجابة للمشاعر القومية ولا زلفى لها ولكنه كذلك استجابة للحقائق التربوية التي أثبتت أن تعليم الإنسان بلغته أقوى مردودًا وأبعد أثرًا، وأنه أحفل بالنتائج الخيّرة من الناحيتين الكمية والكيفية .
إذا كان هذا هو شأن اللغة العربية وقدرتها وامتيازاتها وتاريخها ومكانتها الحضارية وعائداتها على التعليم بها ، فإنه آن الأوان لتكون هي لغة الحياة العلمية ، ولغة الحياة التعليمية في مراحلها كلها، ولغة الحياة اليومية على اختلاف مستوياتها ، ولغة الحياة الإدارية في كل جوانبها .
وبعد أن درس المؤتمرون بعض الظروف التي تحيط بالتعريب ، ووقفوا على الآراء التي تكتنفه ، وهي آراء تتأرجح بين الأناة وبين مجارات الزمن ، انعقد الاجماع على أنه من الخير لو استطاعت الدول العربية أن تتخذ في ذلك قرارا سياسيًا حتى لا يظل الأمر عرضة لتكرار القول وإعادته في هذا التعريب . وانتهى المؤتمرون إلى التوصية الآتية :(47/18)
يكرر المؤتمر ، مرة جديدة ، بعد سلسلة من المرات السابقة أمله في أن يتحقق هذا التعريب في خطوط متوازية في نطاق التعليم ، وفي نطاق الإدارة ، وفي نطاق الحياة اليومية .
وقد صادق المؤتمر على توحيد مجموعة أخرى من المصطلحات في موضوعات : الكهرباء ، وهندسة البناء، والمحاسبة ، والنجارة ، والتجارة ، والنفط، والجيولوجيا، والحاسبات الإلكترونية ، تبلغ 23000 مصطلح بثلاث لغات (العربية - الإنجليزية - الفرنسية ) .
المؤتمر الخامس للتعريب :
عُقد مؤتمر التعريب الخامس بعمان (المملكة الأردنية الهاشمية ) في رحاب مجمع اللغة العربية الأردني ، في الفترة من 21 - 25 سبتمبر (أيلول) 1985م .
أكد المؤتمر ما سبق أن أقره في المؤتمرات السابقة من توصيات خاصة بالمبادئ التي يرتكز عليها التعريب في الوطن العربي، كما أوصى من جديد باتباع منهجية للعمل في مشروعات تعريب المصطلحات، تتناول مراحل العمل جميعا في الإعداد والدراسة ، والإقرار .
وقد بارك المؤتمر الأعمال التي أنجزها مكتب تنسيق التعريب والتي ساعدت على تدعيم تعريب العلوم في مراحل التعليم العام .
وصادق المؤتمر على توحيد مجموعة أخرى من المصطلحات تبلغ 40067 مصطلحا في موضوعات: الفيزياء ، والتربية،وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا، والكيمياء ، واللسانيات ، والألعاب الرياضية ، والزراعة ، والإحصاء ، والسكك الحديدية .
المؤتمر السادس للتعريب :
عُقد مؤتمر التعريب السادس بالرباط في الفترة من 26 - 30/9/1988م.(47/19)
أكد المؤتمر ما سبق أن أصدره من توصيات في مؤتمراته الخمسة السابقة . وقد ألح بصفة خاصة على أن اللغة العربية مقوم رئيسي من مقومات وجود الأمة العربية ، وأن تأصيل العلوم لا يكون إلا بلغة الأمة … وأن ما يهدف إليه التعريب هو بالدرجة الأولى توحيد المصطلح العلمي ، وتطبيق هذا المصطلح، واستعماله ، وتداوله في كل مجالات الحياة أداء وإبلاغاً ، وأن القرار السياسي لا غنى عنه لنقل المصطلحات العربية إلى المجال التطبيقي .
وقد وضع المؤتمر أمام المختصين أهم الأفكار والملاحظات والاقتراحات التي قدمها السادة المؤتمرون عند معالجتهم لموضوع منهجية تعريب العلوم ، تتلخص في أن ثمة أربع منهجيات كبرى في التعريب هي :
المنهجية التكنولوجية وتتجلى في أن نوفر للغة العربية الوسائل التقنية التي تنقصها ، وفي طليعتها الحرف العربي، وقاعدة المعلومات اللازمة .
المنهجية العلمية وتكمن في كيفية وضع المصطلحات وتوحيدها وتنميطها .
المنهجية التنسيقية التنظيمية وتتجلى في كيفية تنظيم أعمالها في التعريب داخل البلد الواحد ثم بين البلاد العربية .
منهجية السياسة اللغوية إذ إنه لا توجد حتى الآن سياسة لغوية في الوطن العربي .
وقد صادق المؤتمر على توحيد مجموعة مصطلحات تبلغ 10465 مصطلحًا ، في موضوعات : الموسيقى ، والآثار ، والجغرافيا ، والاقتصاد ، والقانون .
المؤتمر السابع للتعريب :
عُقد مؤتمر التعريب السابع بالخرطوم في الفترة 25/1/1994-1/2/1994.(47/20)
أكد المؤتمر ما سبق أن أقرته مؤتمرات التعريب الستة السابقة من ضرورة العناية باللغة العربية والتعريب . وقد جاء في كلمة السيد المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر : …" إن الإشكاليات الموروثة والمتراكمة عبر تحولات اجتماعية وثقافية متفاوتة ومتباينة تدعونا إلى تناول موضوع التعريب من زوايا متعددة . فالتعريب في سياسة المنظمة ، مثلما هو في نظر عدد من المفكرين العرب ، ليس رصفا لقوائم المصطلحات لهذا العلم أو ذاك ، بلغة واحدة أو بعدة لغات، بل هو جزء مهم وحيوي من خطط المنظمة الآنية والمتوسطة والبعيدة المدى . فهو في استراتيجية إدارة العلوم مسعى طموح يهدف إلى نقل التكنولوجيا واستيفائها في الوطن العربي مع تأصيل يمهد للابتكار وليس عن طريق تقليد سطحي ومجرد نسخ يؤدي إلى الاستلاب والمسخ . وبذلك يصبح استعمال العربية استعمالا مبدعا في المخابر والجامعات ومراكز البحوث ، بما يجعل من التعريب في استراتيجية دائرة الثقافة بالمنظمة تنويرًا للفكر العربي وإعادة تكييفه حتى يصبح قادرا على محاورة نظيره الأجنبي ، يساويه اندماجا في حضارة العصر ، ويأخذ عنه دون أن يكون عالة عليه . وهو في سياسة إدارة التربية تطويع للعلوم وتمكن من مفاتيح التكنولوجيا بما يؤدي إلى تعريب التعليم العلمي الجامعي في إطار حركة إبداعية صاعدة تضمن ارتفاع المستوى ، منهجا ومدرسة ، أستاذًا وطالبًا " .
وصادق المؤتمر على توحيد مجموعة مصطلحات بلغ عددها 12667 مصطلحا بثلاث لغات (العربية - الإنجليزية - الفرنسية ) ، في موضوعات: السياحة ، والزلازل ، والبيئة ، والطاقات المتجددة .(47/21)
كما صادق على "نظام الرموز العلمية للغة العربية " الذي أقرته الندوة التي عقدها اتحاد المجامع اللغوية العربية بعمان 1987م، وكلف مكتب تنسيق التعريب بإعادة نشره وتوزيعه على الجهات المختصة في الوطن العربي ، وهو ما قام به المكتب سنة 1996م.
وقبل الانتهاء من الحديث عن مؤتمرات التعريب يطيب لنا أن نشير إلى أن مكتب تنسيق التعريب يعكف حاليًا على الإعداد لعقد مؤتمري التعريب ، الثامن والتاسع ، في مؤتمر واحد ، أواخر السنة الجارية 1997م . وبالإضافة إلى البحوث التي ستلقى في المؤتمر ، فقد أعد المكتب تسعة مشروعات معجمية ، سيعرضها على المؤتمر للمصادقة عليها ، تمهيدًا لطبعها وتوزيعها على الجهات المختصة في الأقطار العربية. وتتناول هذه المشروعات موضوعات:المياه، الاستشعار عن بعد،التقنيات التربوية،الإعلام، الفنون التشكيلية ، الأرصاد الجوية ، الهندسة الميكانيكية المعلوماتية،وعلم البحار . كما يعكف المكتب على إعداد تسعة مشروعات معجمية أخرى ، في مجالات: الصيدلة،الطب البيطري، تقنيات الأغذية، المورثات (الجينات)، الحرب الإلكترونية، الأدب والنقد ، الإدارة العامة والمرافق المختصة ، العادات والتقاليد والأزياء ، والغزل والنسيج ، وذلك للعرض على مؤتمري التعريب العاشر والحادي عشر .
التعريب .. في الخطة متوسطة المدى الثالثة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (1997 - 2002)
من أهداف الخطة متوسطة المدى الثالثة:
العناية باللغة العربية وتطوير أساليب تدريسها في مختلف المراحل التعليمية .
الارتقاء بالتعريب وتطوير الترجمة في الوطن العربي .
وقد وضعت المنظمة في هذه الخطة برنامجا تحت عنوان : تحسين نوعية التعليم العالي والجامعي ، من أهدافه :
العمل على تعريب التعليم العالي والجامعي في الكليات التي مازالت تدرس بغير العربية ، مع الاهتمام بتعليم اللغات الأجنبية . ومن أنشطة هذا البرنامج :(47/22)
متابعة تنفيذ توصيات مؤتمر وزراء التعليم العالي بتعريب التعليم العالي والجامعي.
وضع خطة قومية لتعريب البحوث العلمية ، وبخاصة في مجالات الدراسات المستقبلية والعلوم الطبية والهندسية والفيزيائية الحديثة .
وتشتمل الخطة على برنامج بعنوان:تعميم التعريب وتطوير الترجمة في الوطن العربي
ويهدف هذا البرنامج إلى :
دفع عملية التعريب في بعض الأقطار العربية .
سيرورة اللغة العربية وانتشارها في مناحي الحياة كافة .
الارتقاء بالترجمة وتطويرها إنماء للفكر العربي .
تمكين اللغة العربية من التطور المستمر .
ومن أنشطة هذا البرنامج :
العمل على تعريب التعليم بمختلف مراحله وشُعبه بصورة مرحلية ومدروسة.
تعريب المصطلحات العلمية والتقانية المستحدثة .
تعريب الإدارة في بعض الأقطار العربية بالتنسيق مع المؤسسات المتخصصة .
تعريب الأعمال الفكرية والعلمية المتميزة .
وتتضمن الخطة برنامجا تحت عنوان "إقامة الشبكة العربية للمعلومات التربوية والثقافية والعلمية وربطها بالشبكات العالمية المتخصصة في هذه المجالات .
من أهداف هذا البرنامج :
بناء شبكة عربية للمعلومات في مجالات عمل المنظمة تكون أطرافها مرافق المعلومات بالدول العربية .
ومن أنشطة هذا البرنامج : تعريب الأدوات والبرمجيات والمراجع المهمة في مجال المعلومات والإحصاء، خاصة الصادرة عن الاتحاد الدولي للمكتبات (IFLA) والاتحاد الدولي للأرشيف (ICA) والاتحاد الدولي للمعلومات والتوثيق (IFID) على الخط المباشر (OCLC) وناشر تصنيف ديوي العشري - مؤسسة فورست برس ، واليونسكو ، والمركز الدولي للتنمية والبحوث (IDRC ) وتوزيع هذه البرمجيات والأدوات المعربة على أوسع نطاق في الوطن العربي ، إما عن طريق الإهداء أو البيع بأدنى تكلفة ممكنة.
الخاتمة :(47/23)
التعريب قضية كبيرة ومعقدة وذات أبعاد متعددة ، والعقبات التي تقع في طريق تحقيق هذا النوع من القضايا تكون عادة كثيرة ومتشعبة تشعب القضية نفسها ، ومن ثَم فإنه يستحيل التغلب عليها بين عشية وضحاها . ومع ذلك فإن المشاكل التي تواجهها عملية التعريب لا يستعصي حلها على أمة عظيمة مثل أمتنا العربية ، أمة غنية بإيمانها وإرادتها وتصميمها ، وبأبنائها وعلمائها النابغين المبرزين الذين تعج بهم المؤسسات العلمية ومراكز البحث في كل مكان من المعمورة . يؤكد ذلك ما نراه من تجارب عملية ناجحة ، في بعض الأقطار العربية ، حيث أصبح التعريب شاملا وكليًّا في الكثير من القطاعات ، بل وفي أجهزة الدولة كلها (التجربة السورية) .
ومع أننا اعتبرنا موضوع التعريب موضوعا شائكا ومعقدا ، فإن ذلك يجب أن لا يصيبنا بالإحباط أو التراخي ، بحيث نظل ننتظر ونتردد ، في عملية التعريب ، إلى ما لانهاية له . إن السماء لا تمطر ذهبًا ؛ وهي كذلك لا تمطر حلولا للمشاكل . لابد أن نتحرك . لقد طال الانتظار ، والزمن لا يرحم ، خاصة أننا اليوم في عهد السرعة . وحتى لا نظل نردد ما ردده الآخرون من قبلنا ، حول هذا الموضوع ، دعونا نقرر – ولنكن صريحين – أن مفتاح هذه القضية العربية المصيرية (قضية التعريب ) يوجد بأيدي أصحاب القرار في أقطارنا العربية، لابد من اتخاذ قرار سياسي حاسم وملزم في هذا الموضوع ، قرار لا يفتح الباب أمام أي استثناء، لأننا لاحظنا - بالتجربة - أن الاستثناء في أحيان كثيرة يصبح هو القاعدة ، وهذا ما حدث فعلا بالنسبة للتعريب، عندما تقرر أن يكون متدرجا، وفي قطاعات معينة، إلى أن يتم الاستعداد لتعريب القطاعات الأخرى، خاصة فيما يتعلق بالتعليم العالي والجامعي.(47/24)
والقرار السياسي - على أهميته - لا يكفي وحده للوصول إلى الهدف المنشود، ذلك إنما أشرنا إليه آنفا من أن مفتاح التعريب يوجد بحوزة أصحاب القرار ، نعني به أنه لابد من وجود إرادة معززة بقناعة ، لدى كل الأوساط العربية الفاعلة ، من أجل خوض عملية التعريب ، كلٌ فيما يخصه ، وعلى جميع المستويات . ولنأخذ - على سبيل المثال - تعريب التعليم العالي ، في التخصصات العلمية خاصة ؛ لقد ثبت – بالتجربة – أن جميع الأساتذة العرب ، وحتى الذين تلقوا تعليمهم بلغات أجنبية ، قادرون – إذا ما توافرت لديهم القناعة - على إلقاء محاضراتهم وإعداد بحوثهم باللغة العربية ، وأن العدد القليل من هؤلاء الأساتذة يتلقى ، في ذلك صعوبات طفيفة يتم التغلب عليها في فترة وجيزة . مع ملاحظة ارتفاع درجة استيعاب المواد العلمية لدى الطلبة بفضل تلقيهم العلم باللغة الأم .
لقد حاولنا ، في هذه الدراسة ، أن نُذكّر ببعض الجهود العربية التي بُذلت بغية تذليل الصعوبات التي تعترض عملية التعريب ، وذلك من خلال تجربة مكتب تنسيق التعريب وما قام به في هذا المجال ، بالتعاون مع المجامع العلمية واللغوية العربية، والجامعات والهيئات العربية المتخصصة .
ويسعدنا أن نلاحظ أن أمتنا العربية أصبحت، بعد الجهود المشار إليها، تمتلك
أدوات العمل اللازمة لخوض غمار عملية التعريب الشامل ، دون وجل أو تردد . ونحن على يقين من أن النجاح سيكون حليفنا . " وما ذلك على الله بعزيز " .
أسلمو ولد سيدي أحمد
الخبير بمكتب تنسيق التعريب بالرباط(47/25)
للتعريب مواقع كثيرة من الأهمية ، أذكر منها أربعة.
أولا - الموقع القومى - وذلك أن اللغات عنوان للأمم والقوميات ولشخصية الفرد والمجموعة،وقد ذكر الجاحظ أن اللغات بينها تغاور كما بين الناس وقال أبو الطيب:
إنما أنفس الأَنيس سباع
... يتفارسن جهرة واغتيالا
من أطاق التماس شيء غلابا
... واغتصابا لم يلتمسه سؤالا
وقد تغلب لغةٌ لغةً كما يغلب أناس أناسا، ومن غلب سلب ، ومن عزّ بزّ ، وقال تعالى : " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ". وإذا غلبت أمة أمة عمدت إلى أن تغلب لغتها أيضًا وإلى أن تصير اللغة الأخرى صاغرة لها ذليلة ثم تموت أو كأنْ قد .
فالحرص على العربية والتعريب واجب لدرء هذه المذلة . وقد غزتنا اللغات الإفرنجية ولاسيما اللغة الإنجليزية، حتى قد أوشك أن يغزو حرف هجائها حرف هجائنا . وحتى صرنا نستعير منها
ما يفسد به لساننا ولا يزيده، كقول بعضهم: " بنشر " لإصلاح العجلات وسد خرومها، وكقولهم:"استراتيجية" وقد تعنى عنها كلمة - خطة - وتخطيط ومعناهما واضح .
وقد رأيت على أحد إعلانات شركة للأسفار ( بالفلاين كاربت إلى بيت الله الحرام ) وما أخذت ( فلاين كاربت ) إلا من ألف ليلة حيث ذكرت بساط الريح،فتأمل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أقبلت الفِتَن كقطع الليل المظلم ".واعلم أيها القارئ والسامع الكريم أن منها فتنة المسيح الدجال . وهو هذا العصر الذى نعيش فيه، فبالله نعوذ وبه نلوذ، ولا تلوِيَنَّكَ أصلحك الله صفاته المذكورة الحسية عن الأخذ بهذا المعنى الرمزى ، فهو إن شاء الله لا يخلو من أن يكون له وجه من الصواب والله أعلم.(48/1)
ثانيًا : الموقع التعليمى وهو ثلاثة أبواب . باب التعليم الأولى، ولا ينبغى أن نَعدو مذهب القدماء فى البداية بالقرآن . وقد تناول بعض هذا الباب ابن خلدون فى المقدمة تناولاً حسنًا ، فنبه على أن البداية بالقرآن فيها بركة، وفيها تعويذ للناشئة من مس الشيطان . ثم يضاف إلى هذا أن فيها إشعارًا بأن الناشئ قد بدأ يجاوز درجة الطفولة إلى درجة أعلى منها تقربه من النضج رجلا أو امرأة ، وذلك أن الصغير يشاهد الكبار يُصَلُّون ويسمعهم يُؤَذِّنون ، ويصله ترتيل القرآن من وسائل الإعلام، إن لم يُغَلِّبْ أهلُ داره عليها المسلسلات الأجنبية الفظيعة، وهى شر نسأل الله درأه وأن يصرف عنا عِبْئَه!
وكان أكثر الأولين يأخذون الصغار بالحفظ من سورة الناس إلى البقرة والفاتحة ويضربونهم على ذلك ، ثم يأخذون بتعليمهم العربية والفقه .
ونحن الآن قد جعلنا نؤثر طريقة البدء بالتهجى غير المرتبط بالقرآن نحو ألف أرنب، با بط، ونحو ( الجمل جمل حمد) (الولد دخل) على النحو الذى فى بعض كتيبات أطفالنا الآن . وطريقة القدماء لو تأملنا أجود .
وليس أَرَبِى المفاضلة بين أسلوب الأوائل والمعاصرين وإنما التماس السبيل إلى ما هو أجْدَى. وإقحام الفصحى على الصغار أنَها لغتهم- وهم يسمعون فى منازلهم اللسان العامى الشائع لا الفصيح المعرب- يوقع فى أعماقهم نوعًا من النفور والازدواجية النفسية الموفية على شفًا من النفاق . البداية بالقرآن أصوب لأنهم يعلمون أنه كتاب الله وأن لغته لغة المسجد لا لغة المنزل . وإتباعُ البداية بالقرآن دَرْسَ النحو سُلوكٌ به إلى جِدِّ الدرس ، وفيه تَنْبيهٌ على أن اللغة الفصحى لا تُتَنَاوَلُ قَطْفًا دانيا يسيرا ولكن لابد فى تحصيلها من مجهود .(48/2)
ولقد صنع الأقدمون مختصرًا جيدًا هو الأجرومية وشرحوها شرحًا واضحًا وطريقة الأجرومية وشروحها فيهما تعويل على الحفظ، والحفظ فى مادة النحو أمر لا مَفَرَّ منه ، ومن خير ما كُتِبَ للناشئة فى النحو مختصرًا وافيًا كتاب قواعد اللغة العربية لحفنى ناصف وأصحابه رحمهم الله، وكتب الدروس النحوية الممهدة له . وعندى أن هؤلاء أجود من كُتّاب النحو الواضح ، لأن جانب الالتزام بخطوات "هربارت " الخمس أحدث تطويلاً فيه عناء على المدرس والتلميذ معا ، وكتب العربية المحبوبة السودانية ونحوها مما كتب لتبسيط النحو والتخلص من كتب ابن مالك وابن هشام ومذهبها عند الشراح والمحشين باطل يجب طرحه .
ولابد فى المرحلة الثانوية من درسٍ كابن عقيل والتوضيح ومغنى اللبيب وذَرْءٍ من العروض والمعانى والبيان والبديع، وينبغى أن تكون قد سبقت ذلك فى المرحلتين الابتدائية والوسطى اختيارات جياد من الشعر والنثر ككتاب أدبيات اللغة العربية وكالمنتخب فى أدب العرب، وكجمهرة خطب العرب لأحمد زكى صفوت . ولابد فى المرحلة الثانوية من درس عدد من مقامات الحريرى والبديع، وباب من الحماسة على الأقل، وجميع المعلقات العشر، وعدد حسن من قصائد المفضليات الطوال .
ثم يصحب هذا منذ البدء أخذ التلاميذ بالتطبيق والإنشاء، حتى إذا صاروا إلى المرحلة الثانوية أُخذوا بكتابة المقالات والبحث والنظر فى القاموس واللسان والصحاح، وجعل بيد كل منهم تلميذًا أو تلميذة معجم ينظر فيه ويستعين به .(48/3)
وخير الوجوه ليتعلم التلاميذ لغة العلم أن يُؤخذوا بكتابة المقالات لا بحفظ مذكرات الأستاذ . وجميع هذا يمكن تخصيص عام كامل له فى أواخر المرحلة الثانوية، كما يصنع البريطانيون فى المرحلة التى يسمونها الصف السادس، وهى تهيئ الطالب تهيئة حسنة للأخذ بأسباب التلقى الجامعى الواعى الرشيد . ومما يجب أن يدخل فى باب البحث فى هذا الطور تعويد الطلاب بنين وبنات على أساليب القدماء العلمية فى المتون والشروح ، ولا تخفى ضرورة تزويدهم بمعرفة مادة كافية وافية من علوم الدين من فقه وتوحيد وحديث . وعلينا أن نيسر شروحًا قريبة المأتى لبعض أمهات الكتب فى هذا المجال مثل الموطأ والمختصر، وجوهرة التوحيد، وتهافت الفلاسفة، ومقدمة ابن خلدون، وإحياء علوم الدين،ورسالة القشيرى،وهلم جرّا.
هذا وعندما يصير الطالب إلى الجامعة ينبغى أن يكون قد أتقن درس اللغة الإنجليزية على الأقل، وينبغى أن يكون قد عُوِّدَ فى درسها على قراءة الكتب العلمية فى مختلف أبواب العلوم . ومن شر ضروب التصنيف للطلاب عندنا قسمتهم إلى طريقين علمى وأدبى. وفى الكثير الغالب أن ينخرط الأذكياء النجباء فى الطريق العلمى، ويترك المتوسطون ومن دونهم للطريق الأدبى ويكون من هؤلاء من بَعْدُ المدرسون، أضعفهم مدرسو العلوم الاجتماعية والآداب وخاصة آداب اللغة العربية، ولا يمكن أن ينهض تعريب الأمة وبيانها من بعدُ على مثل هذا الأساس الضعيف وإنك لا تجنى من الشوك العنب !
ولا علاج لهذا الداء إلا أن تعمل الدول المعربة على إكرام المعلم، كما قد تعمل على إكرام الطبيب ودرجات المهنيين التى تليه كالمهندسين والبياطرة والصيادلة.
قال الشاعر :
إن المعلم والطبيب كلاهما
... لا ينصحان إذا هما لم يُكْرمَا(48/4)
فكيف يخفى على أُولى الألباب أنهم حين يكرمون الطبيب ولا يكرمون المعلم لن يجدوا من المعلم نصحا، وتنهار من أجل هذا الجانب الضعيف جميع الجوانب التعليمية بما فيها جانب إعداد المهندس والطبيب .
عندى أنه يجب أن يكون تصنيف الطلبة للجامعة مرتبًا على طريق واحد يؤخذ فيه الطلبة بإتقان العربية والإنجليزية والرياضيات الدنيا والعليا، وصنوف من العلوم النظرية والجغرافيا والتاريخ والفقه والحديث والخط والرسم، وتبنى الشهادة المدرسية فى أدنى درجاتها على تحصيل جيِّد فى ست مواد على الأقل ثنتان وَجُوبِيَّتَان : إنشاء اللغة العربية ونحوها وإنشاء لغة أخرى كالإنجليزية ونحوها ، ثم إذا اختار طالب العربية مثلا علينا تجنب تكرار الكتب والمواد التى مر به درسها أو درس مشابه لها فى المراحل السابقة ، وفى تعليم العربية الآن منذ البداية الأولى إلى درجة التعليم العالى والإجازة الكبرى تكرار مرهق ، خال من الإتقان والدراية والأصالة حقا . وعندى أقل مما ينبغى أن يؤخذ به طالب العربية فى الجامعة أن يكون قد حفظ القرآن وعرف تجويده ورسمه، وأن يكون قد قرأ الكتاب، ومفصل الزمخشرى، وشرح الرضى للكافية والشافية ، وتعمق العروض، واطلع على جمهرة ابن دريد وتهذيب الأزهرى وقرأ كامل المبرد وكتب الحديث،وهذا باب واسع يلزم فيه حضور محاضرات يُعدها أساتذة علماء تكون لها متابعة من معيدين محبين للعربية عارفين بها أقوياء فيها ، وينبغى أن يكون لجميع هؤلاء وظائف من المال والجاه جيدة عالية، وأن يكون لهم فى المجتمع مكان ومنزلة مرموقة .(48/5)
وإذا اختار طالب غير العربية لزم أن يكون على اتصال بالعربية وثقافتها فى باب اختصاصه، إذا كان طبيبا مثلاً ألزم بالاطلاع على أمهات كتب طب العرب مما كتب ابن سينا والرازى وابن زهر مثلا، ومما كتبه مصنِّفو كتب العلاج والأقرابازين، فإن ذلك يُعوده على باب من التحصيل ربما وجده من بعدُ نافعا. ولقد شهدت أناسا من أوربا يحرصون على اقتناء مخطوطات عربية فى غرب إفريقية تتناول أصنافا من العلاج بالأعشاب والعروق، وهؤلاء يعكفون على درس لغتها التي بالنسبة للمثقف المتوسط من أبنائنا كالطلاسم المغلقات بجد وصبر عظيم ، وما أحسب اهتمام الغرب هذه الأيام بغابات إفريقية المطرية إلا قد انبعث في أصله من تجارب من هذا الفرع الذى قدمتُ ذكره .
وإذا كان متخصصا فى الهندسة مثلا ألزم بالاطلاع على مصنفات القدماء فى هذا المجال، كخطط المقريزى وكمنظومات ابن ماجد وابن الياسمين وهلمّ جرّا . وعندى أن من باب ضياع الزمن إضافة ساعات وجوبية فى علوم العربية لطلاب الهندسة والصيدلة يحضرونها كارهين ويكون أساتذتها المكلفون بها أشد كراهية لها، ولا يجدون من الطلبة ما يشجعهم على الإقبال عليها ولا يكون لديهم من التحصيل والعلم ما يدفع الطلبة إلى شهود الساعات التى هم مكلفون بها لتثقيفهم . وكأن هذا الآن مذهب عام فى أكثر جامعات بلاد العرب تدفع إليه دوافع قومية، وحظُّه من حاق العلم وأساليب التثقيف حق ضئيل!
ثالثًا : موقع لغة التدريس فى الجامعة. ويوشك الإجماع أن يكون قائمًا على ضرورة التعريب، أى تعليم الطلبة بالعربية، وقد أخذت بلاد بهذا الوجه بإلزام سياسى، ويذكر أن العلوم العصرية كانت تُعَلَّمُ فى مصر مثلاً بالعربية حتى ألزم كرومر الناس بدرسها بالإنكليزية . وهذا داخل فى ما قدمناه أولاً من باب منح الأمم ولغاتها .(48/6)
وقد خطت العلوم العصرية خطا واسعة من التقدم، وكل يوم يوشك أن يطرأ أمر تقنى أو علمى جديد . وقد وضع مجمع اللغة العربية بالقاهرة معجمًا كبيرًا وافيًا لمصطلحات العلوم الحديثة ، ويضيف إليها فى مؤتمره كل عام قدرًا عظيما، وقد اقتدت به مجامع وهيئات للتعريب كثيرة فى بلاد العربية .
ولكن أمرين هامين لا يزال مغفولاً عنهما فى مجمعنا هذا وفى سائر مجامع العربية. الأول إيجاد معجمات لرموز عربية لا تعتمد كل الاعتماد على الرموز المستعملة عند الإفرنج، وقد يقال إن الرموز نفسها فى العلوم الحديثة لغة - وعالمية العلم تقتضى توحيد رموزه. وفى هذا نظر ، لأن القومية والكيان القومى يدخلان كلاهما فى هذا الباب ، ولا أحسب أن أهل الصين أو اليابان لا يعدون رموز الأوربيين والأمريكانيين فى علومهم ، بل قد نعلم أن اليابانيين مثلا لم يكونوا يضعون على أصناف ما يصدرونه من بضائع غير اللغة الإنكليزية وربما شفعوها بشيء من الفرنسية أو الألمانية . أما الآن فهم يضعون الحرف اليابانى أولا ويشفعونه بترجمة له، وكأنهم يقولون للمشترى قد آن لك أن تتعلم لغتنا. ونحن نقرأ بعدُ فى كتاب الله"وتلك الأيام نداولها بين الناس " . ومن الأخطاء الشائعة أن أمم المسلمين دخلها تأخر وجُمُود بعد القرن السادس الهجرى - والحق أن عكس ذلك قد حدث، فقد دخلت أمم المغول والتتار فى الإسلام عن طواعية، وأسسوا ملكا عظيما فى الهند وفى بلاد ما وراء النهر، وبنى فى زمان تيمورلنك الاسطرلاب العظيم، وكان للمسلمين سبق لا ريب فيه فى ميادين النظريات العلمية والصناعة والملاحة أخذ أوائلها عنهم الأوربيون فى نشأتهم الفتية، ثم اتلأب بهم طريق النهضة العلمية الحديثة بعد ديكارت فتفوقوا على أمم الإسلام. وقد اتسعت رقعة الإسلام حتى وصلت إلى بلاد جاوة والصين والماصين، ويوشك هؤلاء مسلمين وغيرهم أن يتفوقوا على أوربا فى تقنياتها الحديثة و"لَبِّثْ قليلا ينزل الهيجا جَمَل " .(48/7)
ولعل دور إفريقية وفيها كانت أوائل الحضارة ليس ببعيد أن يعود من جديد والله تعالى أعلم - هذا إن لم تقم الساعة من قبل، وقد نعلم أنها كلمح البصر أو أقرب .
والأمر الثانى المغفول عنه هو الترجمة. ولعلنا إن نظرنا إلى أوائل نهضة المسلمين أن نهتم كمثل اهتمامهم بالترجمة، وقد نعلم أنهم قد أقبلوا عليها منذ بدايات بصيص النهضة إليهم قبل انبثاق شمس الإسلام بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد تقدم دعوة التوحيد ظهور نبىِّ بنى عبس الذى ضيعه قومه وقُس بن ساعدة وزيد بن نُفيل، وبعض الحنفاء فى قريش وغيرها، ثم كبار الشعراء. ذكر صاحب كتاب الزينة أن أبا عمرو بن العلاء زعم أنهم قد كانوا فى العرب بمنزلة أنبياء بنى إسرائيل فى بنى إسرائيل، وقد عرف بعض العرب الفارسية كعدىِّ بن زيد وابنه، وطلب بعضهم العلم عند سُريان جندى سابور كالحارث بن كَلدَة وابنه النَّضْر، وأخطأ لكليرك إذ نسب إلى النبى قتل النضر بن الحارث هذا، وإنما كان المقتول النضر بن الحارث القرشى أخا قتيلة بنت الحارث المذكورة فى السيرة والحماسة، وهذا خطأ يجب التنبيه عليه .
وقد حثَّ النبى صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت على تعلم العبرية، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يعرف العبرية، وحرص خالد بن يزيد على ترجمة علوم يونان وكان له قدم فى الكيمياء، وكان خُبيب بن عبد الله بن الزبير كأنه ذو اتجاه متشابه، وكلاهما كان ابن خليفة. وقد حرص العباسيون على تشجيع الترجمة حتى انتقل إليهم علم يونان كله، لا بل لعل أدبهم قد ترجموه. وفى كتاب البهبيتى الذى فى تأريخ الأدب العربى إلى القرن الثالث زعم أن العرب قد عرفوا أوزان الشعر اليونانى ، وقد ترجموا قول أفلاطون بوزن يونانى حيث قال :
يا نار أدنى من أفلاطون
فإن به إليك حاجة ما
وهذا مما ذكره القفطى فى ترجمته له فى تأريخ الحكماء .(48/8)
وعلى الترجمة عوّل الأوربيون فى أوائل أخذهم بأسباب النهضة، فترجموا كتب الموسيقا، ولعلنا إن نقبنا على مخطوطات الترجمات الأولى فى هذا الباب أن نعثر على غرائب من المعلومات يكشف لنا أمر قِدَم حضارتنا فى هذا الباب، ولا شك أنهم قد ترجموا شعر العرب من قدمائهم ومحدثيهم. وفى أوائل القرن السابع عشر ترجم أربينوس الهولندى شعر أبى الطيب إلى اللاتينية،و ذكر جون أُوبرى فى ترجماته القصار أن بعض البريطانيين ترجم الكتاب المقدس إلى العربية ليؤثر بذلك على المسلمين مبشرًا فيهم بالمسيحية. وهذا باب واسع ليس مجال الخوض فيه بَلْهَ التفصيل فى هذا الموضع، وإنما مرادنا فقط أن ننبه على أهمية ترجمة الكتب الأمهات فى مختلف العلوم ليكون ذلك فاتحة إلى تهيئة أسباب النهضة العلمية الحديثة من طريق لغتنا .
وترجمة الكتب الأمهات تحتاج إلى نفقة تقوم بها الدول، وهذا الباب كالمُعْرَضِ عنه، وأمر الترجمة موكول لمجهود الأفراد وهذا محدود المدى، وأكثر ما يقع فى باب الروايات والأدبيات وبعض علمائنا يُقْدِمُ على التأليف ولكن هذا ليس له من قوة التأثير كما يكون لترجمةٍ من كتاب أُمٍّ فى بابه معلوم يترجم وتُعاود ترجمته من حين إلى حين،ليضاف إلى ذلك ما يجدُّ من كشف .
ونحن فى مجمعنا فى الخرطوم قد آثرنا أن نقدم الترجمة، وأمر متابعتها تقوم به الهيئة العليا للتعريب ونحن نتعاون معها وهى بدورها تتعاون مع المجامع فى الباب الذى هي مُقدمة عليه، وقد أوصلنا إليها عمل مجمع القاهرة فى ألفاظ الأحياء وغيرها .(48/9)
ومن الكتب التى نحن مقدمون على ترجمتها الآن كتاب الزراعة فى السودان الذى أعده الدكتور توتهيل وزملاؤه وطبع طبعتين سنة 1948م وسنة 1949م . وأمامنا غيره عدد من الكتب الأمهات التى كُتِبَتْ عن السودان أيام الحكم الثنائى، ومن أهمها كتاب حيوانات السودان ونباته، وكتاب طيور السودان وحيتان النيل والبحر الأحمر، ومجموعة مجلة السودان SUDAN NOTESAND RECORDS فى وقائع مدونات فى مادة غزيرة .
رابعًا : أعنى رابع المواقع الأربعة التى قدمتُ نيتى على ذكرها فى أول هذه الكلمة - الجانب الإعلامى ، وهذا خطير للغاية ، فى جميع أبوابه، فى الإذاعة والصحافة والتلفزة ، ولا ريب أن عددًا من الإعلاميين أُولو قَدَمٍ فى صِحَّة العربية والحفاظ على حسن أساليبها، ولكن الغالب الآن نوع من الأسلوب المتساهل فى تراكيب جمل العربية المُقْدِمِ أحيانًا كثيرة فيها على أخطاء بعضها عن جهل وبعضها عن تعمد . وقد كان للصحافة فى مصر حرص شديد على الأسلوب النقى السليم . ولكن معظم الصحف العربية الآن قد ساغ لها نوع من ضروب الاستعمال التى لا تستحسنها العربية الصحيحة - كاستعمال فيما مكان بينما وكتكرار كلما، وكسبق الواو لاسم الموصول وهو إنما يوصف به ما قبله كقولهم: " سفير كذا من الدول والذى قال "، والحديث عن شخص واحد لا عن شخصين، وتعداد الأخطاء الشائعة مما يضيق عنه المجال ويضيق به الصدر .
وللإعلام دور مهم فى التعليم لو يقوم به ، وفى كثير من مؤسسات الإعلام جَوْرٌ على الأدباء لاحق بما سمَّاه القدماء حِرْفة الأدب . وذلك أن كثيرًا
من مؤسسات الإعلام تضن على الأدباء بما يستحقون، وتتعالى عليهم وتعاملهم معاملة المتسوِّلة، وتعدو على حقوقهم .
ودور النشر فيها للأديب العربى ظلم مجحف، وهذا باب يخرجنا من البحث إلى الشكوى. والله المستعان وله الحمد أولاً وأخيرا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .
عبد الله الطيب
عضو المجمع من السودان(48/10)
على نحو ما قام به العالم المصري تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (ت845هـ-1442م ) في كتابه ( البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب) قام العالم المغربي أبو عبد الله محمد ابن العياشي بالكتابة حول القبائل العربية في المغرب (1)، وكما استمد الأول معلوماته من شيخه العلامة ابن خلدون فقد وجدنا أن الثاني بدوره يعتمد بالأساس على كتاب العِبَر لابن خلدون .
وقد ألف بلعياشي كتابه هذا على شرف الأميرة لالة حليمة زوجة السلطان مولاي إسماعيل ووالدة نجله الأمير زيدان الصغير، باعتبارها سيدة تنتسب لقبيلة سفيان التي هي بطن من بطون أَثبج بن ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر بن صعصعه بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن
عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان . وقد سمى بلعياشي كتابه "البستان في نسب أخوال سيدنا ومولانا زيدان " .
ويبدو أن الأمير زيدان كان مكلفًا من لدن والده السلطان مولاي إسماعيل بمباشرة الشؤون الخارجية ، الأمر الذي يفسره وجود بعض الخطابات منه إلى حاكم جنوة حول إرسال بعثة مغربية ، تطلب إلى الحاكم أن يعتني بها ويقضي الغرض الذي من أجله راحت البعثة ، وكانت الرسالة تحمل تاريخ أول محرم 1112هـ = 18 يونية 1700م (2).
أما عن الأميرة لالة حليمة فقد ورد اسمها ضمن اللائحة الطويلة للذين أو اللاتي حملت إليهم الهدايا السنية من لدن السفير البريطاني شارلس ستيوارت عام 1719م بمكناس .
لقد كان اسمها إلى جانب السلطان مولاي إسماعيل وزوجته أم العز وبلقيس وخناتة ، وقد اختصر اسمها هكذا لالة (هيمة) ونعتت بالأميرة الأولى … ومن الطريف أن نجد اسم محمد ابن العياشي ضمن هذه اللائحة التي تنعته بأنه كاتب الملك (1) .
ومن حسن حظ بلعياشي أن يقوم بتأليف هذا الكتاب الذي كان الأثر الوحيد الذي حفظ له الذكر بعد المصير الذي كان ينتظره - هو وآخرون - بعد وفاة السلطان العظيم مولاي إسماعيل !!(49/1)
لقد كان بلعياشي كاتبا وفقيها ومدرسا وعالمًا بل كان رجل دولة له دوره في حل القضايا الكبرى التي شغلت الرأي العام في المغرب ردحا من الزمان.
وعندما يذكر الباحث اسم بلعياشي صاحب "البستان" لابد وأن يخطر بباله السؤال عما إذا كانت له صلة بالمجاهد بلعياشي المتوفى عام 1051 هـ / 1641م والذي ينتسب لأصله العربي من بني مالك وبني سفيان والذي كان له دور
مهم في تحرير بعض الثغور المغربية (2). أما عما إذا كانت له صلة بالرحالة أبي سالم العياشي المتوفى سنة 1090هـ/1679م والذي ينتسب على ما يذكر لآيت عياش(3).
وأعتقد - حسبما تعطيه القراءة الأولى للتأليف - أن صاحبنا بلعياشي له صلة بالمجاهد العياشي فهو عربي من سفيان - ومن ثمة نجده - من خلال المخطوطة - إلى جانب العرب فيما حل بهم من ويلات . ونجده من جهة أخرى يميل دائمًا إلى تجنب كل ما يحدث تصدعا بين العرب والبربر، فهو يروي الحديث الذي أورده الشطيبي في كتابه الجُمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن لي أنصارا ولذريتي أنصارا فأنصاري الذين آووا ونصروا ، وأنصار ذريتي البربر الذين يؤون ذريتي ويكرمونهم (4).
لقد قلنا : إن لابن العياشي موضوع حديثنا دورا في حل القضايا الكبرى ، وأقصد في صدر ما أقصده القضية التي عرفت في التاريخ تحت اسم " قضية
العبيد" والتي حُررت فيها عشرات المراسلات ودُونت حولها التآليف والفتاوى التي كان منها ما وجه إلى علماء الأزهر الشريف بمصر .
وتتلخص في رغبة السلطان مولى إسماعيل ( 1671هـ / 1727م ) لتكوين جيش قوي يكون قادرًا على طرد الأجنبي من سائر الثغور المغربية المحتلة ويكون قادرا كذلك على توحيد البلاد تحت قيادة واحدة .(49/2)
لقد كان بلعياشي في صدر من استُخرج رأيهم حول الجواب عن سؤال: أي قبيلة يتخذ المغرب منها جنده ؟ فقال ابن العياشي : " إن المنصور السعدي (ت1012 = 1603) كان يتوفر على جيش ما لبث أن تفرق في القبائل فعليكم الآن جمعه، واتخذوه جيشا للخدمة لأنه مملوك لبيت المال ".
وهنا عهد الملك إلى بلعياشي بالنيابة عنه في هذه المهمة الدقيقة وسماه قاضي القضاة ، ولم يخف ابن العياشي من
المسؤولية العظيمة الملقاة عليه ، حيث وجدناه يستعين بوكيل الملك الباشا عليلش الذي أخذ في شراء العبيد الموزعين في القبائل المغربية،التي كانت تتنافس حول امتلاك عدد أكثر من العبيد!!
ويبدو لي أن قاضي القضاة بلعياشي كان يعرف جيدًا بأن له خصوما سياسيين يتربصون به الدوائر، لكنه كان شجاعا مؤمنا بأفكاره،ولذلك فما كان يهمه شيء أكثر من أن يكون هو مقتنعا بأفكاره ..
ولم تمر شهور حتى الْتأم هذا الجيش وشاهد الناس آلاف الجنود يقفون إلى جانب السلطان المولى إسماعيل وأمامهم جميعا صحيح الإمام البخاري يؤدون القسم عليه بأنهم يعملون للصالح العام، فسمى الجيش منذئذٍ بجيش البخاري(1).
فماذا عن جديد هذه المخطوطة فيما يتصل بالقبائل العربية ومنازلها (2)؟
يعتمد بلعياشي على ما قدمه ابن خلدون (3) ، وعلى ما كتبه ابن حزم في كتابه "جمهورة العرب" (4) ولكنه يقوم(49/3)
بمجهود مشكور عندما يحسن جمع أطراف الموضوع في اختصار وتركيز وتوضيح كذلك مضيفا إلى المعلومات التي استقاها من المصادر السابقة ما يجعلنا نشعر بأن الرجل ليس مجرد ناقل يردد ما قاله الأولون، ولكنه يثري الموضوع بما استجد عنده من إفادات ، وخاصة فيما يتعلق بالمواقع التي اتخذها العرب لمُقامهم في عصره مما قد يساعد على رسم خريطة جغرافية لمعرفة خطوط تحركهم من الجزيرة العربية ، من الطائف إلى شاطئ النيل ، إلى إفريقية ومرورهم ببرقة… ثم استيلائهم على ما كان بيد صنهاجة بإفريقية من المدن والقرى والضواحي واستقرارهم بها إلى المبادرة التي قامت بها دولة الموحدين .
بعد هذا يقوم بتقديم طبقات العرب بمن فيهم:
الطبقة الأولى : العرب العاربة الذين أخذوا وصفهم من أنهم أول من تكلم بالعربية ومن هؤلاء قوم باليمن والحجاز والشحر الذي يجلب منه العنبر المضروب به المثل في الجودة كما يلاحظ بلعياشي .
ثم تأتي الطبقة الثانية : وهم العرب المستعربة ، وقد سُموا هكذا لأنهم أخذوا اللسان العربي ممن قبلهم من العرب .
وأما عن الثالثة : فهي الطبقة التي نعتت بالتابعة للعرب وهم شعوب نزار ابن معد بن عدنان .
وأخيرًا تأتي الطبقة الرابعة وهم المستعجمة أي العرب الذين خالطوا العجم بسبب ما كان لهم من الظهور في الدولة الإسلامية،ولما استعجمت ألسنتهم وتحولت عن اللسان المضري سماهم علماء التاريخ عربًا مستعجمة .
وبظهور الإسلام الذي أصبحت سائر البلاد المفتتحة وطنه وجدنا أن طائفة من العرب تزحف نحو بلاد المغرب ناشرة عقيدة الإسلام ولغة القرآن مما عرفناه في كل كتاب تحدث عن تاريخ الغرب الإسلامي .
وهكذا فإلى جانب الفاتح العظيم عقبة بن نافع الذي " وصل سنة 682=62 البحر المحيط ببلاد أسفي فأدخل قوائم فرسه في البحر ثم قال : اللهم إني لم أخرج بطرًا ولا أشِرًا وإنك لتعلم أنا نطلب أن تُعبد ولا شريك لك في الأرض" (1) .(49/4)
إلى جانب عقبة … وما تبعه من أقوام … قام آخرون بهجراتٍ فرديةٍ من أمثال الإمام إدريس بن عبد الله، الذي وصل المغرب بعد نحوٍ من قرن من وصول عقبة بن نافع فأسس الدولة الأولى في المغرب الأقصى (1).
إلى جانب ذلك تمت هجراتٌ أخرى غيرت معالم الخريطة البشرية للمغرب الكبير … وقد ابتدأت عندما كان يحكم الفاطميون مصر،وشعروا بأن الصنهاجيين المتآمرين باسمهم في إفريقية أخذوا يتمردون عليهم ويستبدلون بهم الخلافة في بغداد !!
فهنا خطرت فكرة للوزير الحسن بن علي اليازوري ( 441هـ / 1049م) الذي وجدناه يستنفر القبائل العربية المقيمة بصعيد مصر ليرسل بهم إلى إفريقية …
ولم يلبث الصنهاجيون أن اصطدموا بأولئك العرب الذين كانوا يطمحون فعلا إلى السلطة ووجدناهم : بني سُليم وبني هلال يتوزعون أطراف المغرب الأدنى (2)
ولابد ، ونحن نذكر وقوف الناصر ابن علناس إلى جانب عرب الأثبج ضد بني عمهم عرب زُغبة ، أن نشير إلى وقوف البابا كريكوار السابع إلى جانب
الناصر بحسب ما تكشف عنه رسالة تاريخية نقلنا صورتها عن وثائق حاضرة الفاتيكان، كما نقلنا نصوص رسالة صارخة من يوسف بن تاشفين إلى الناصر المذكور (3) .
وفي أعقاب هذه الأحداث صفا الجو في المغرب الأقصى لعبد المؤمن بن علي 1147=541 فنهض لفتح ما بقي من المغرب الأوسط والمغرب الأدنى، وهنا كان اصطدامه بالزعماء العرب وكان له لقاء فاصل معهم …
وقد احتفظ لنا التاريخ ببلاغٍ حرر بتلمسان بتاريخ أول ربيع الثاني عام548هـ ووجه من الخليفة عبد المؤمن إلى أهل مراكش يخبر بحركة الموحدين في البلاد الشرقية، وظفرهم على الأعراب بناحية سطيف .
فمن خلال هذا البلاغ نعرف عن اتجاه الموحدين إلى فتح قلعة بني حماد وقسنطينة ، ونعرف عما كان يدور بين الموحدين وبين الأعراب من تبادل رسائل ورسل … وعما كان يصل للقيادة الموحدية من أخبار عن استنفار"الأشقياء"
لجميع مَن ببلاد إفريقية وما يتصل بها إلى جهات الإسكندرية …(49/5)
وأتت قبائل هلال بن عامر من عرب اليمن … ولم تزل جيوشهم على جهات قسنطينة تتوارد … بوادي الأقواس ، بجهات سطيف إلى أن خاطبونا بعزمهم على الغزو ونحن إذ ذاك بمتيِّجة … وعندما أشرقت شمس الضحى ، كانوا قطب الرحى … واستمر القتل فيهم مسيرة أربعين أو خمسين من الأميال … فذل المأمور منهم والآمر، وحاق الويل بهلال بن عامر . !!
ثم انقسمت جيوش الموحدين صبيحة اليوم الثاني إلى أقسام أخذ كل منها سبيلاً غير سبيل غيره حتى انتهوا إلى أوائل بلاد إفريقية (1)
وفي رسالة لاحقة من فحص متيجة بتاريخ الاثنين 24 من ربيع الثاني عام 555هـ، من الخليفة عبد المؤمن إلى طلبة فاس أكد فيها خبر هزيمة عرب إفريقية ودخولهم تحت طاعة الموحدين (2) … وهي من إنشاء إبي القاسم القالُمي.
" … وكان من هذا القبيل الرياحي، فَخِذٌ منهم يعرف ببني محمد لاحظتهم السعادة بطرف غير خفي … وهي وافرة العدد … زعيم أمرها أبو يعقوب يوسف ابن مالك وفقه الله …
وأما جُشَم فذهبت بأميرها أيضا مذهب الانتقال … وكل من هذين الحيين الجشمي والفخذ الرياحي عزم على أن يختط بالمغرب …
وأما قبائل الأَثْبَج وزُغْبة فوصل أعيانهم يمدون يد الاستتابة …
وقد تحدث تاريخ ابن صاحب الصلاة، وهو معاصر للأحداث عن استياق قبائل بني رياح وبني جُشَم وبني عدي من بني هلال نحو المغرب بأعدادٍ يضيق بها الفضاء (3).
وقد رأى الخليفة عبد المؤمن بعد أن نجحت خطته أن يجعل من تلك القبائل العربية جيشًا يستعين به على مواجهة العدوان المتوالي في الأندلس على المسلمين على ما نقرأه من خلال السفارات والوفادات التي تتردد على الخليفة عبد المؤمن (4).
ولما توفي عبد المؤمن ( 10 جمادى الآخرة 17=558 مايه 1163 ) سار ابنه وخلفه أبو يعقوب يوسفKعلى نهجه في جلب العرب واستئناسهم وتسخيرهم في مصالح الدولة …(49/6)
ومن هنا سجلنا عددًا كبيرًا من القصائد التي غيرت اللهجة في الحديث عن بني هلال على ما نقرأه في رائية أبي العباس الجراوي التي يقول في مطلعها :
أحاطت بغايات العلا والمفاخر
... على قدم الدنيا هلال بن عامر
وقد كان من القصائد الرائعة البائية التي يقول ابن طفيل في مطلعها :
أقيموا صدورَ الخيل نحو المغارب
... لغزو الأعادي واقتناء الرغائب
وكذلك القصيدة اللامية التي يقول فيها ابن عياش من جملة ما يقول :
بنى العم من عليا هلال بن عامر
... وما جمعت من باسل وابن باسل
ونتيجة لكل هذه الخطابات وجدنا أن الأرض المغربية ترجُّ بآلاف من البيوتات العربية …
لقد كان عدد الخيل الواصلة من إفريقية أربعة آلاف فرس، ومائة وخمسين حملا من المال الصامت، وكان الذي وصل من تلمسان ألف فرس ومائة وخمسين حملا من المال الصامت على حد تعبير ابن صاحب الصلاة الذي يحكي عن الأمر بالاستعراض الذي تم يوم 2 ربيع الثاني 13=566 دجنبر 1170 (1) وقد أحضرت الطبول المربعة الأشكال من أيام المهدي وأضيف إليها من غيرها ما انكمل فيها مائة طبل … واستوى أمير المؤمنين على صهوة فرسه الأشقر الأغر … والوزير أبو العلا راجلا على قدميه لصق ركابه وبين يديه … وفي ساقة أمير المؤمنين على مقربة منه السيد أبو عبد الله محمد والي جانبه وسائر الأخوة الصغار وهو على هيأته المؤيدة، والطبول قاصفة. وأقبلت عساكر العرب من أهل إفريقية … فأشار إليهم أن تحمل العساكر الوافدة بعضها على بعض جريًا ولعبًا وفرحًا وطربًا … وأخذ العهدَ عليهم … ونزلوا في ضيافته خمسة عشر يومًا … وقد صنع لهم ما تقدمت العادة به : نهرًا من رُبٍّ ممزوج بالماء يشربون ويطربون ..
فماذا بعد هذا عن مواقع هذه القبائل ومنازلها في مخطوطة ابن العياشي؟(49/7)
لقد كان في الواردين البطن الكبير الذي كان يعرف قبل دخوله إلى المغرب بالأثبج وبالهلاليين … وتسموا بعد دخولهم المغرب بسفيان … وقد ذكرهم ابن خلدون بالأسامي الثلاثة وهم الذين عمروا منطقة أزغار وما والاه من فحص العرايش إلى سلا إلى الحوض المجاور لبلد (مختار) من حوز مكناسة الزيتون .
ويستمر بلعياشي في ذكر القبائل العربية فيذكر أن من بطون بني هلال بني رياح وأن يعقوب المنصور لما نقلهم للمغرب كان في صدرهم مسعود بن سلطان بن زمام رئيس الدواودة ، الذي أنزله المنصور هو وقومه في بلاد الهبط بين قصر كتامة المعروف بالقصر الكبير إلى أزغاز إلى ساحل البحر الأخضر (يعني بحر الظلمات) حيث استقروا هناك على نحو ما كان بالأثيج الذي من بطونه سفيان ومن حفدته عشيرة الضحَّاك والعاصم وطليق (1).
وفي معرض حديث ابن العياشي عن المعقل قال نقلا عن ابن خلدون إن هذا القبيل لهذا العهد من أوفر قبائل المغرب وأن مواطنهم مفترقة بالمغرب الأقصى، فبعضهم مجاور لبني عامر من زغبة في مواطنهم من أرض تلمسان…
وأما بنو حسان فهم من فخذ ابن محمد بن معقل ومواطنهم من درعة إلى المحيط ويتولون بلاد نول قاعدة إقليم السوس .
وكان دخول هذا الحي من المعقل إلى المغرب مع الهلاليين في عدد محدود واعترضهم بنو سُليم على الحوز فأزعجوهم عنه، وتحيزوا إلى الهلاليين فنزلوا فيما يلي ملوية ورمال تافيلالت فكثروا في صحاري المغرب الأقصى بسبب جوارهم للهلاليين … وقد جاوروا أيضًا زناتة وكانوا أحلافا لهم … وقد انغمست فيهم قبائل من رياح ومن الأثيج ومنهم أولاد سجير الذين منهم البطن الذي بحوز مكناسة الزيتون … كما أن منهم أولاد عبد الله . ومواطنهم ما بين تلمسان إلى وجدة إلى منتصف وادي ملوية … وتنتهي رحلتهم إلى قصور توات . وأما الثعالبة فهم الذين يوجدون ببسيط متيجة بالمغرب الأوسط .(49/8)
وعن بني منصور من المعقل نذكر أن مواطنهم تخوم المغرب الأقصى ما بين ملوية ودرعة، ومن جملة بطونهم الأحلاف في شرق المغرب .
وأما الشبانات فإن مواطنهم كانت بنواحي ملوية إلى أن استصرخهم السلطان أبو الحسن علي الزكندري صاحب السوس (1) .
ولم يفت صاحب البستان الحديث مرتين اثنتين عن التمرد الذي قام به بنو غانية أصحاب ميورقة وكانوا عُمّالا ليوسف بن تاشفين وأولاده من بعده، لقد قصدوا بأسطولهم في نحو ثلاثين سفينة إلى بجاية واحتلوها عام 581 هـ/1185م ، عندها قام عرب إفريقية بمناصرة المتمردين، الأمر الذي أغضب الخليفة المنصور فكانت له مواقف صارمة إزاءهم ، وقد انتهى الأمر بهم إلى الطاعة حيث وجدنا عددًا كبيرًا منهم ينقلون إلى المغرب وفيهم طوائف من قبائل جُشَم ورياح والعاصم وسفيان ، فأنزل سفيانَ هذه بسائط تامسنا، وأنزل رياح بأزغار وأرض الهبط، وأنزل بني جابر بسائط تادلا … وأنزل الخلط فيما بين تامسنا وتادلا إلى حوز مراكش …
وعندما ذكر بلعياشي في (البستان) ما كان ينسب للعرب من تخريب وتشغيب ردد القولة المنسوبة للمنصور
الموحدي والتي تقول : إن إدخاله العرب للمغرب كان أول ما ندم عليه من ثلاثة أمور (2) .
ويعود صاحب (البستان) لقبيل سفيان ، وهم من بني هلال كما قلنا فيذكر أنهم حضروا مع يعقوب المنصور غزوة الأرك ( 9 من شعبان 591 = 18 يوليو 1194 ) التي شهدت بدورهم في ذلك الفوز العظيم الذي يقول فيه أبو العباس الكراوي :
هو الفتح أعيا وصفُه النظمَ والنثرا
... وعمت جميع المسلمين به البشرى
لقد كان على رأس سفيان شيخهم جرمون الذي خلفه من بعده زعماء آخرون كان منهم مسعود بن كانون ومن تبع هؤلاء، وقد تميزوا جميعًا بالجزالة والبسالة في حرب الأعداء على حد وصف ابن خلدون .(49/9)
وقد اتصلت الرياسة بالنسبة لهم ، في بني جرمون إلى عهد السلطان أبي عنان حيث وجدنا أن الشيخ الذي كان يتولى أمرهم يحمل اسم يعقوب بن علي بن منصور بن عيسى بن يعقوب بن جرمون.
وحيث إن التأليف كان برسم الأمير زيدان، وأُمُّه من آل سفيان، فقد حرص صاحب (البستان) على تتبع أخبار رجالات هذا البيت الذي كان من رجاله في حدود المائة التاسعة الشيخ أبو العباس أحمد الحارثي السفياني نزيل مكناسة الزيتون ورفيق الشيخ ابن سليمان الجزولي صاحب كتاب "دلائل الخيرات"(1) وأستاذ أبي عبد الله محمد بن عيسى الفهدي شيخ الطريقة العيسوية والشيخ أبي الرواين والشيخ المختاري …
هذا إلى الذي ظهر أيضًا من شخصيات بني سفيان أثناء المائة العاشرة من أمثال أبي زيد عبد الرحمن السفياني العاصمي الشهير بسُقّين الذي لم يخل كتاب من الحديث عنه سواء في المغرب أو المشرق (2) … وأمثال أبي الحسن (3) وأمثال القائد العظيم إبراهيم السفياني
الذي كان يؤازر ولي عهد المنصور بفاس محمد الشيخ،وكذا ولده محمد بن إبراهيم قائد أزمور الذي كان يتوفر على أكثر من ألف فارس كلهم من بني سفيان .
ولما توفي أحمد المنصور الذهبي ارتحل قبيل سفيان من دكالة للغرب فألفوا قبيلة مختار … ومازالت بقية من أحفاده بفاس وسلا وغيرهما إلى هذا العهد يقول صاحب (البستان) :
"ومن هذا الحي من سفيان قبيلة "المعارف" الذين ينتسبون للأمير عريف ابن يحيى السويدي الوزير والسفير الشهير الذكر في عهد بني مرين، وخاصة أيام السلطان أبي الحسن وابنه أبي عنان (4) .
ومن هذا البيت السويدي ينحدر الشيخ علي بن حسين الذي صاهره أمير المؤمنين السلطان المولى إسماعيل جد الدولة العلوية على ابنته السيدة حليمة
والدة الأمير زيدان التي تركت لها بمدينة فاس أثرًا معمارًا لا تبليه الأيام (1) …(49/10)
وبعد هذه الإلمامة بالبستان ، هل لنا أن نقول : إننا قادرون على رسم خريطة دقيقة لمنازل العرب في الديار المغربية وأقصد بالديار المغربية مجموع الفضاء الذي امتدت إليه دولة الموحدين ودولة بني مرين من بعدهم ؟ ذلك ما كان الحافز لي على قراءة هذا المخطوط من جديد … وذلك أيضًا ما كان وراء مراجعة ما قاله العلامة ابن خلدون، وما ردده مؤلفون آخرون قبل وبعد ابن خلدون . وقد وجدت الجواب عما كنت أريد من خلال هذا (البستان) نفسه على نحو ما تلمسناه ونحن نتصفح مصادر أخرى لتاريخ المغرب .
لقد كان الجواب يتلخص في أنه من المتعذر - إن لم نقل من المستحيل - أن نصل إلى رسم هذه الخريطة بأمانة (2) مادمنا نقرأ - عبر مسيرة التاريخ الطويل- أن القبائل لم تكن تستقر في مكان على الدوام ولكنها كانت تتحول وتتنقل عن طواعية واختيار أحيانًا،أو عن
قسر وإجبار تارة أخرى .
لقد كان مما قاله صاحب البستان: "… وأجلو الكثير من قبائل العرب من بلادهم ومواضع قرارهم وانقطعت السبيل … وكثر الهرج بين القبائل حتى فني الكثير من قبائل العرب .
ونتيجة لكل ذلك وجدنا أن الأسماء أيضًا تدخلها التغييرات على مر الأيام فقد يتحول الاسم العربي إلى اسم عليه مسحة لهجة أخرى والعكس صحيح ، أي أن بعض الأسماء البربرية يتحول إلى أسماء عربية، الأمر الذي يزيد في وضع علامات الاستفهام ! وعلى ضوء هذا نلاحظ أيضًا أن لغة التعامل اليومي نفسها قد تتحول من عربية إلى لهجة أخرى، ومن تلك اللهجة إلى عربية ، وهذا ما يحمل على الشك أيضًا في قدرتنا على وضع خريطة لمنازل البربر أيضًا …
ولهذا فإن المتتبع للموضوع يقف أمام إجماع الباحثين على أنه ليس هناك إجماع من المؤرخين على تحديد موقف واحد من معالم هذه الفسيفساء التي تتكون منها الشرائح الاجتماعية في(49/11)
المغرب ، وإن أصدق ما يمكن أن يقوله المرء دون أن يخشى أي اعتراض عليه هو أن صفة المغربي تظل الصفة الصادقة الوحيدة التي تطلق على المواطن بديار المغرب .
وبعد ، فإذا كان هناك من يريد أن يعرف عن تغلغل القبائل العربية بالمغرب فما عليه إلا أن يقرأ مخطوطة (البستان) للوزير بلعياشي ليتأكد من أن معظم أسماء الأسر التي نسمع عنها في الجزيرة
العربية شمالا وجنوبًا وشرقًا وغربًا ، توجد لها بالمغرب خُؤولة وعُمومة ، ومن ثمة فإن دراسة تاريخ العرب بالمشرق دون ما التفات إلى المغرب تعتبر دراسة مبتورة، والعكس صحيح ، فإن دراسة تاريخ العرب بالمغرب دون العودة إلى الجذور الأولى تبقى دعوى غير ذات جدوى .
عبد الهادي التازي
عضو المجمع
من المغرب(49/12)
العربية لغة، يصدق عليها ما يصدق على جميع اللغات الإنسانية من قوانين النشوء والتطور ، والاتجاه إلى التوحُّد أو التفكُّك والاندثار . فهذا هو شأنها منذ تاريخ نشأتها ، الضارب بعيدًا فى أعماق التاريخ حتى اختارها سبحانه وتعالى لغة للقرآن الكريم، الذى أنزله وحيًا على قلب الرسول الأمين ، محمد صلى الله عليه وسلم . وقد حدّد هذا الحدث الإلهي اتجاه العربية الفصحى إلى التوحُّد ، وجعلها لغة خالدة بخلود الكتاب العزيز . فهي لغة ثابتة من حيث نحوها وصرفها ونطقها ، وهي لغة نامية ومتطورة من حيث أساليبها وألفاظها ومصطلحاتها ودلالاتها . ولم تعد العربية هذه لغة أمة معينة من الناس فحسب ، ولكنها أصبحت لغة تخصُّ كل مسلم . فانسابت مع تعاليم هذه العقيدة السمحة لتخاطب بنى البشر ، لإقامة دولة الإسلام على مبدأ المساواة ، بين جميع الأجناس والألوان وشعارها " لا فضل لعربي على
أعجمي إلا بالتقوى "، و" الناس سواسية كأسنان المشط " ، و " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " . وسارت العربية الفصحى، لغة القرآن الكريم ، حاملة دعوة الإسلام إلى الأمم كافة . وسرعان ما أصبحت لغة الدولة ولغة العقيدة ولغة الحياة . فلم يمض قرنان من الزمان ، على تأسيس الدولة الإسلامية ، حتى أصبحت العربية الفصحى لغة العلم والفكر ، وانتقلت من مرحلة الترجمة والنقل والتعريب إلى مرحلة التأليف والإبداع فى جميع مجالات الفكر والمعرفة . فهي لغة الأدب والفقه إلى جانب لغة الفلسفة وعلم الكلام وعلوم الأوائل من طب وهندسة وفلك ورياضيات وكيمياء . وتقف مؤلفات الكندي وابن سينا والبيروني والفارابي وابن رشد ، وابن زهر ، وغيرهم من أعلام التراث العربي الإسلامي ، شاهدةً على قدرة العربية على التعبير عن حصيلة ما وصلت إليه المعرفة الإنسانية ، ومن ثمّ الانطلاق إلى الإبداع والتأليف ، بل إلى إنتاج العلم والكشف عن مناهجه المختلفة .(50/1)
وعندما أراد كُتّاب " رسائل إخوان الصفا " في حوالي القرن الرابع الهجري، أن يُقَرِّبوا الفكر الفلسفي والعلمي إلى عامة المثقفين ، لم يجدوا وسيلة أجدى من أن يصوغوا الفكر الفلسفي والعلمي والاجتماعي بلغة عربية فصيحة سهلة مطواعة ، بأساليبها المختلفة من النثر العلمي حتى فن القصة .
لقد أردنا في هذا العرض الشامل أن نبرز ما تميَّزت به العربية في مسيرتها التاريخية والحضارية ، وفي الوقت نفسه أن نبيّن ارتباط العربية من حيث كونها لغة من لغات بني البشر بالفكر ، وإنتاج المعارف والتعبير عنها ، من خلال تجربتها الحضارية المبدعة ، على امتداد عدة قرون. وربما كان من المفيد ونحن نعرض الجانب اللغوي من مسيرة حضارتنا العربية الإسلامية أن نتساءل عن طبيعة اللغة وماهيتها ، وعن مستوياتها وأشكالها، سواء أكانت محكية أم مكتوبة . وكذلك عن علاقتها بالفكر؟ وهل يمكن أن يفكر الإنسان بدون اللغة ؟ وغير ذلك من القضايا التي باتت تُكوِّن "علم اللغة" .
وربما كان من المفيد أن نتوقف عند الرأي القائل :" والحقيقة هي أن كل لغة درسناها حتى الآن ، مهما بدا المجتمع الذي يستعملها بدائيا ، أو غير متحضر من نواحٍ أخرى ، قد برهنت عند فحصها على أنها نظام اتصال معقد ومتطور جدًا … وأن ما يستطيع عالم اللغة قوله في فكرة التطور الثقافي من البربرية إلى الحضارة، هو أنه لم تُكتشف أية علاقة متبادلة ما بين المراحل المختلفة للتطور الثقافي التي مرت بها المجتمعات ، ونوع اللغة المنطوقة في هذه المراحل . فعلى سبيل المثال لا يوجد شيء يمكن اعتباره نوعًا من اللغات يصلح للعصر الحجري ، كما أنه لا يوجد نوع من اللغة يكون (بقدر ما يتعلق ذلك ببنية اللغة النحوية العامة ) صفة متميزة لمجتمعات جمع الطعام أو رعي المواشي من ناحية، أو المجتمعات الصناعية الحديثة من جهة أخرى … "( * )(50/2)
ولا شك أن هذا الرأي قد بني على دراسة " نُظُم اللغة " من حيث بنيتها النحوية ، وفي إطار المقولة : بأن اللغات ما هي إلا منظومات من الرموز … تبنى بكاملها تقريبا على أساس العرف الخالص أو الاختياري ، وأن هذه الرموز تتصف بالمرونة والقابليَّة للتكيُّف والتوسع". (1)
ويبدو لنا أن قابلية اللغة ،أية لغة، للتوسع ، هي قابلية غير محدودة ونعني بها قابلية اللغة لإدخال كلمات ومصطلحات جديدة في مجموعة مفردات اللغة . وهذا ناموس طبيعي درجت عليه جميع اللغات التي احتلت مراكز السيادة والريادة السياسية والحضارية ، منذ نشأة اللغات في تاريخها السحيق ، وحتى يومنا هذا .
ولا يقتصر هذا التطور على توسع اللغة ، بإدخال كلمات ومصطلحات جديدة ، في مجموعة مفرداتها ، ولكنه يشمل تكيُّف اللغة وفق ظروفٍ معينة ، يؤدي إلى ظهور تركيبات جديدة تمس قواعد اللغة ، مع مرور الزمن . وهنا لابُدَّ أن نفرق بين قضيتين : قضية توسع اللغة باستيعابها كل ما هو جديد من حيث الألفاظ والمصطلحات ، وهي قابلية غير محدودة ، كما يجمع عليها معظم الباحثين اللغويين ، وبين قضية ، تمس ثوابت اللغة في قواعد نظمها وتراكيبها . ولاشك أن لقابلية التكيف
أو التعديل حدودًا ، إذا تجاوزتها تكون قد أخلَّت بجوهر اللغة وثوابتها الأصلية ، فيصبح الحديث عن لغة أخرى . ويتساءل الباحثون في " علم اللغويات "، فيما إذا كانت هنالك حدود لها النوع من قابلية التكيف والتعديل .. وإذا وجدت فما هي هذه الحدود ؟ .(50/3)
وربما كان من المفيد في هذا المجال أن نثبت خلاصة ما ذهب إليه مؤلف كتاب اللغة واللغويات ، إذ يقول :" … وطبعًا توجد اختلافات كبيرة في مجموع المفردات ما بين اللغات المختلفة ، وقد يكون من الضروري إذن من تعلم لغة أخرى أو على الأقل تعلم مجموعة من المفردات المتخصصة ، إذا أراد أحدنا دراسة موضوع معين ، أو التحدث عنه بشكل مُرضٍ . ومن هذه الزاوية ، قد تكون إحدى اللغات أكثر تهيؤًا من غيرها لخدمة أغراض معينة ، إلا أنَّ هذا لا يعني أن إحدى اللغات أغنى أو أفقر جوهريًا من غيرها " . (2) ونحن نرى أن الباحث يقيم نظريته هذه على فرضيات علمية ومحاكمات منطقية ، وذلك في غياب الاكتشافات اللغوية التجريبية التي
تعتمد الأسس العلمية . فيقول :" ويمكن افتراض أن كل اللغات الحيَّة ، هي بطبيعتها أنظمة اتصال فعَّالة . ومع تغير حاجات المجتمع الاتصالية ، فإنَّ لغة هذا المجتمع نفسها ، سوف تتغير لتلبية هذه الحاجات الجديدة . وسوف تتسع مجموعة المفردات ، إما بالاستعارة من اللغات الأخرى ، أو بخلق كلمات جديدة من الكلمات الموجودة . ولا يعني افتقار ما يسمى أحيانًا بلغات العالم المتخلَّف إلى كلمات تدل على مفاهيم العلم والتكنولوجيا الحديثة ومنتوجاتها المادية ، أن هذه اللغات بدائية ، أكثر من اللغات التي تحتوي على مثل هذه الكلمات . إن هذا يعنى ببساطة أن بعض اللغات لم تستعمل،حتى الآن على الأقل، من قبل أولئك المشتغلين بتطوير العلم والتكنولوجيا " . (1)(50/4)
وينهي الأستاذ ليون جونز بحثه هذا، قائلاً :" وفي الختام ، يجب أن نؤكد أن المبدأ القائل بأنه لا يوجد لغات بدائية ، ليس اكتشافًا تجريبيًا من اكتشافات الأبحاث اللغوية ، بقدر ما هو فرضية علمية . ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن اللغات قد تختلف في درجة تعقيدها اللغوي ، وأن علماء اللغة لم يكتشفوا هذه الاختلافات بعد . إن إنكار وجود مثل هذا الاحتمال ، لا يعتمد على أسس علمية ، مثله في ذلك مثل الزعم بأن اللغة اللاتينية أكثر عراقة وتعبيرًا من أية لغة من اللغات الأسترالية البدائية ". (2)
ونحن في الوقت الحاضر نجد لغات ليس لها تجربة حضارية وتاريخية ، وقد لا يتجاوز الناطقون بها مليونًا أو بضعة ملايين ، قد استطاعت أن تكون لغة العلم في جميع مجالاته ومستوياته ، وأن تصبح كذلك لغة التقنيات الحديثة . والأمثلة على ذلك كثيرة ، ومنها لغات شعوب الاتحاد السوفيتي سابقًا قبل انهياره. فاللتوانيون ، يدرسون الطب والهندسة وجميع العلوم والتقنيات باللغة اللتوانية ، وقد لا يتجاوز الناطقون باللغة اللتوانية المليون ونصف المليون نسمة . ومثل ذلك في إستونيا ، ولتيفيا ، والشيشان والداغستان وجورجيا .. إلخ. وكذلك لغات شعوب يوغوسلافيا سابقًا، وأيضًا اللغة الفنلندية والبلغارية … والألبانية … إلخ .. أليست هذه الأمثلة تدعم بصورة عملية ما ذهب إليه صاحب كتاب " اللغة واللغويات " الذي وضع كتابه في الثمانينيات من هذا القرن… ويذكرنا هذا بما ذهب إليه الإمام الحافظ أبو محمد علىّ بن حزم الأندلسي، في كتابه الإحكام في أصول الأحكام ، إذ يقول :
" وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات . وهذا لا معنى له ، لأن وجوه التفضيل معروفة ، وإنما هي بعمل أو اختصاص ، ولا عمل للغة ، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة ، وقد قال تعالى : " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم " . (1) ويواصل ابن حزم حديثه قائلاً :(50/5)
" وقد غلط جالينوس فقال " إن لغة اليونانيين أفضل اللغات ، لأن سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع . قال عليّ : وهذا جهل شديد لأن كل سامع لغة ليست لغته ، ولا يفهمها ، فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ، ولا فرق. " (2)
ويفند الإمام الحافظ ابن حزم ، صاحب كتاب" المحلى" وكتاب "الفصل"
دعوى من يقول بأفضلية لغةٍ على لغة ، فيقول :" وقد قال قوم : العربية أفضل اللغات لأنها بها نزل كلام الله تعالى .
قال عليّ : وهذا لا معنى له ، لأن الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه . وقال تعالى :" وإن من أمة إلا خلا فيه نذير " (3) وقال تعالى : "وإنّه لفي زُبُر الأوّلين . (4) فبكلِّ لغةٍ قد نزل كلام الله تعالى ووحيه … " وينتقل ابن حزم إلى مكوِّنات اللغة فيقول: " … وحروف الهجاء واحدة لا تفاضل بينها ولا قبح ، ولا حُسْن في بعضها دون بعض . وهي تلك بأعيانها في كل لغة . فبطلت هذه الدعاوى الزائفة الهجينة"(5)وكما سخر الإمام ابن حزم من"جالينوس" ، فقد سخر سخرية شديدة من اليهود الذين قالوا : إن العبرانية هي أفضل اللغات،قال: "وقد أدَّى هذا الوسواس العامي باليهود،إلى أن استجازوا الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية،وادعوا أن الملائكة الذين يرفعون الأعمال لا يفهمون إلا العبرانية، فلا يكتبون عليهم غيرها . وفي هذا من(50/6)
السخف ما ترى . وعالم الخفيات وما في الضمائر ، عالم بكل لسانٍ ومعانيه ، عز وجل لا إله إلا هو . وهو حسبنا ونعم الوكيل " (1) وإذا كان الإمام ابن حزم وقف هذا الموقف العلمي من قضية "أفضل اللغات" ، فإنَّ موقفه من تفسير ظاهرة بسط النفوذ العلمي والفكري ، للغةٍ من اللغات ، يضع الأسس العلمية اللغوية ، لما ذهب إليه كثير من الباحثين في علم اللغات في الوقت الحاضر . يتحدث ابن حزم عن اللغة اليونانية ، لغة العلم والفكر ، في عصره والعصور التي سبقته فيقول :" وقد قال قوم : إن اليونانية أبسط اللغات ، (2) ولعلّ هذا إنما هو الآن ". وفي تفسيره هذه الظاهرة اللغوية يضع "اليونانية " في موقعها من حيث هي لغة من لغات البشر ، تحكمها قواعد وقوانين عامة ، فيقول:" فإن اللغة يسقط أكثرها ويبطل ، بسقوط دولة أهلها ، ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم ، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم . فإنما يفيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها ، قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم… وأما من تلفت دولتهم،
وغلب عليهم عدوهم ، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمون لهم موت الخواطر ، وربما كان ذلك سببًا لذهاب لغتهم ، ونسيان أنسابهم وأخبارهم ، وبيود علومهم . هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورة " (3)
ونحن لا نجد في الوقت الحاضر هذه المفاهيم بعيدة عما عرضه بعض علماء اللغويات في الثمانينيات من القرن العشرين .
وإذا كانت اللغات تتساوى من حيث الجوهر ، فإنها لا تجرى جميعًا على منوالٍ واحد في "تأليف" الألفاظ أو "تركيبها" للتعبير عن المعاني والدلالات المختلفة ، فإن لكل لغة طريقتها أو طرقها في "نظم" الكلام .(50/7)
لقد حاولنا في هذا العرض السريع وضع اللغة العربية في مكانتها بين اللغات الحيَّة مع استشرافنا لقضيتين أساسيتين تحددان مسيرة العربية الفصحى التاريخية: إحداهما ما تميزت به هذه اللغة الفصيحة من قدرة بيانية للتعبير عن أدق الأحاسيس الإنسانية والانطلاق إلى
الكون من حولها ، وقد دونته شعرًا فيما بات يعرف فيما بعد " ديوان العرب " . والأخرى تتمثل في نزول الوحي بالنص القرآني ، يتحدى بإعجازه ما عرفت به أمة العرب من بلاغة القول وفصاحة اللسان ، وحملت العربية "الفصحى" رسالة الإسلام السماوية إلى بني البشر كافة . وتهيأت لها الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية إلى أن تصبح لغة العلم والفكر والأدب ، الأولى في العالم ولعدة قرون .
ونحن عندما نتحدث عن اللغة إنما نتحدث في الوقت نفسه عن الفكر . وقد أدت البحوث اللغوية والنفسية في العصر الحديث إلى تقرير الروابط المتينة بين اللغة والفكر ، وإلى ملاحظة وجود هذا الحبك المتين بين التعبير والتفكير . ومن أهم هذه النظريات في اللغة ، تلك التي تقول: إن العلاقة التي تربط الفكر بالكلمة هي علاقة صميمية، فالفكر والكلمة جسم واحد ، لا يحصل فكر بدون أن تحدث لغة ، ولا تحدث لغة لا تكون ذاتها فكرًا… (*)وربما كان من المفيد أن ننبه إلى أن الحديث عن اللغة ، إنما يقصد المعنى الذي يحسن الوقوف عليه وهو ما يسمى بالاصطلاح النحوي الجملة. وهو تفسير للمقولة التي مؤداها : أننا نفكر بجمل .
وكلما كانت الفكرة واضحة كان التعبير عنها بلغة سهلة ودقيقة . وإن غموض العبارة دليل على غموض الفكرة وعدم وضوحها في ذهن الكاتب أو المتحدث .(50/8)
ونحن عندما نتحدث عن دقة التعبير ووضوحه وسهولة تداعي الألفاظ والتراكيب والجمل ، فإنما نعني ضمنًا إجادة اللغة . وقد بات من المسلمات أن الإنسان يستطيع أن يستوعب بلغة "الأم" أضعاف أضعاف ما يستوعبه باللغة الأجنبية ، مهما كانت درجة إتقانه لهذه اللغة . وبعبارة أخرى فإننا لا نجيد لغة من اللغات مثل إجادتنا لغتنا "الأم" وهذه حقيقة باتت معروفة لدى جميع الباحثين اللغويين والتربويين ، وهي شرط أساسي للانتقال من مرحلة التبعية الفكرية إلى مرحلة الإبداع والمشاركة الحضارية الأصيلة ، في مختلف مجالات الآداب والعلوم والفنون .
وربما حان الوقت ، بعد هذا العرض الشامل ، لأن نتساءل : ما حال اللغة العربية الفصحى ، لغة العقل ؟ وما موقعها في مجال الإبداع العلمي والأدبي والفني في العصر الحديث ؟ وما حجة هذه السياسات اللغوية في معظم أقطار الوطن العربي ، التي ما زالت تفرض لغات أعجمية للتدريس والبحث العلمي في الجامعات والمؤسسات العلمية ؟ وتعمل بمختلف الوسائل على إقصاء العربية عن مجالاتها العلمية والحيوية متذرعة بذرائع واهية لا تصمد أمام البحث العلمي والمنطق السليم .
فقد أصبح عدد الجامعات الحكومية والأهلية في الوطن العربي حوالي مئة جامعة ، ينظمها اتحاد الجامعات العربية الذي تأسس منذ سنة 1966م . ونحن إذا استثنينا الجامعات في سورية والسودان بصورة خاصة التي تدرس بالعربية الطب والهندسة وجميع العلوم والتقنيات - فإن جميع الجامعات بما فيها جامعة الأزهر الشريف ما زالت تتخذ من اللغة الإنجليزية أو الفرنسية لغة للتدريس والبحث العلمي في كليات الطب والهندسة وغيرها من الكليات .(50/9)
ونحن اليوم ، والأمة العربية تقرع أبواب القرن الحادى والعشرين ، وقد أثخنتها الجراح ، وأثقلتها الحروب المصطنعة والهزائم المصممة والاستسلام المهين أمام العدو ، لنجد من واجبنا أن نعيد النظر في السياسات اللغوية في جامعاتنا ومؤسساتنا العلمية والتربوية . وليس ذلك لأنها تحدد هويتنا الحضارية فحسب، ولكن باعتبارها العنصر الأساسي للتقدم العلمي والمشاركة المبدعة في بناء الحضارة الحديثة . وإن هذا الدور الفكري والعلمي الرائد الذي قامت به العربية في تاريخها الزاهر ولعدة قرون ، هو الدور الذي تدعى إليه في هذا العصر من أجل نهضة علمية وفكرية، تعيد للأمة العربية مكانتها بين الأمم ، وتحررها من ربقة التبعية الفكرية وتنقذ كياناتها المتهافتة من الضياع والاندثار . فاللغة هي القاسم المشترك بين كل وجوه النشاط في الفكر البشري ، فما علم من العلوم إلا والعقل الإنساني يتكئ فيه على اللغة (*) وقد رأينا سابقًا مدى اتصال اللغة بالفكر وإنه اتصال أبدي .
وفي ضوء هذه الحقائق اللغوية بصورة عامة وفي ضوء ما تميزت به العربية الفصحى ، لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف بثوابتها في النحو والصرف والنطق،نتساءل عن هذه السياسات اللغوية التي فرضت على الجامعات والمؤسسات العلمية العربية !! فقد بات واضحًا ، تهافت الحجج التي مازال ينادي بها من يقف وراء فرض اللغة الإنجليزية في المشرق العربي ، وفرض اللغة الفرنسية في المغرب العربي ، لغتين للتدريس الجامعي والبحث العلمي في الجامعات والمؤسسات العلمية العربية.(50/10)
لقد مضى أكثر من نصف قرنٍ على بعض هذه الجامعات ، وهي تتخذ من الإنجليزية أو الفرنسية لغة للتدريس والبحث العلمي . ونجد من حقنا ، والحالة هذه ، أن نطرح هذا السؤال الرئيسي : ماذا أضافت هذه الجامعات والمؤسسات العلمية التي تتخذ من اللغات الأجنبية لغة للتدريس الجامعي والبحث العلمي ؟ أقول : ماذا أضافت من جديد إلى المعرفة العلمية ؟ ماذا أبدعت من نظريات علمية ؟ وماذا اخترعت من تقنيات ؟ بل ما هي مساهماتها الأصلية في الفكر العلمي العالمي ؟ وإن الإجابة عن هذا السؤال الكبير ، ستكون بالسلب ، اعتمادًا على ما نشاهده ونعلمه يقينًا . وإن المنطق السليم ونواميس العقل البشري والنفس الإنسانية والقوانين التي تحدد مكانة اللغة في المنقول والمعقول ، ودورها في الإبداع ، كل ذلك يقرر الإجابة السلبية . فالإنسان لا يمكن أن يبدع إلا من خلال لغته " الأم " . وإن الفكر العلمي يتأصل في جماهير الأمة من خلال اللغة القومية ، فيؤدي ذلك إلى ارتفاع مستوى المهن العلمية . ومن المعروف أن الفكر العلمي يتأصل من خلال انسيابه إلى ثقافة الجمهور ، فيتحول الفكر من خلال اللغة إلى قوة فاعلة ، وإلى واقع ينبض بالحياة .
وإن أهم ما يميز نهاية القرن العشرين التقدم المذهل والتطور المتسارع لوسائل الاتصالات الجماهيرية ، مثل الحاسوب بأجياله المختلفة التي تتعاقب سريعًا ، وكذلك الدخول في عصر "الإنترنيت " الشبكة العالمية للمعلومات .(50/11)
وهذه جميعها ، بتقنياتها المتقدمة تنبئ بـ " ثورة معلوماتية " ، تكون أهم ميزات القرن الحادى والعشرين . وهذا يعني أن اللغة ستكون في مركز اهتمام الباحثين والتقنيين ، نظرًا لدورها الرئيسي في إنتاج المعرفة . وهذا ما يفسر التطور الكبير الذي طرأ على علم اللغة الحديث والصوتيات ، وهو المجال الذي لابد للغة العربية أن تخوض فيه على غرار ما تفعله الإنجليزية والفرنسية والألمانية بل واليابانية والصينية ، إذا أردنا لأمتنا نهضة علمية وحضارية مبدعة ، تساير الأمم المتقدمة ، وتشارك مشاركة أصيلة في بناء الحضارة الحديثة .(50/12)
وإذا قال قائل : إن أحكامك هذه مبنية على افتراضات ومناقشات جدلية . وقد أُسلِّم بذلك في غياب ما يقتضيه المنهج العلمي ، بإقامة دراسات علمية وميدانية لقضية اللغة العربية في جامعاتنا ومؤسساتنا العلمية في الوطن العربي . أليس من المستهجن ، وقد انقضى على أكثر هذه الجامعات حوالي نصف قرن ، ولم تقم أي منها ، بدراسة علمية وميدانية لموضوع فرض اللغة الأجنبية، إنجليزية كانت أو فرنسية ، لغة للتدريس والبحث العلمي في الجامعات والمؤسسات العلمية العربية ! أليست هذه قضية أساسية تمس هوية الأمة ، كما تمس سيادتها وتقدمها العلمي والفكري والحضاري… إن طلبتنا في جامعاتنا عرب، قد عاشوا في بيئة عربية ، وقد أنهى معظمهم الدراسة الثانوية باللغة العربية ، ثم يأتون إلى الجامعات في أقطارهم كي يبدأوا الدراسة باللغة الإنجليزية أو الفرنسية ، في محيط جميعه ناطق بالعربية. فرفاقهم عرب ، بل في الأغلب الأعم يكونون من أبناء جلدتهم في القطر الواحد . وأساتذتهم من أبناء قطرهم أو عرب على غالب الأحيان … وهم مع ذلك يدرسون بلغة أعجمية ، لا يحسنونها، ولا يستطيعون بها حوارًا … ومع ذلك كله ، يزعم أصحاب القرار -هداهم الله- أنهم يفعلون ذلك من أجل الانفتاح والتقدم … وليت شعري على ماذا يبنون هذا الزعم !! وقد أهملوا الاحتكام إلى المنهج العلمي في تقويم ظاهرات الانحراف هذه .
وربما كان من المفيد أن أذكر تجربة متواضعة قام بها مجمع اللغة العربية الأردني بعد أن فرغ من المرحلة الأولى في تعريب التعليم العلمي الجامعي . ( *) فانتدب أستاذين اثنين من جامعة اليرموك في الأردن ، متخصصين بالتقويم ، من أجل إقامة دراسة علمية ميدانية تهدف إلى تقويم الكتب العلمية المقررة للسنة الجامعية الأولى بكلية العلوم ، التي كان المجمع قد فرغ من ترجمتها . وقد شملت مواد الرياضيات والفيرياء والكيمياء والأحياء والجيولوجيا .(50/13)
وكان من حسن الطالع أن أساتذة الرياضيات والأحياء والجيولوجيا في الجامعة الأردنية ، وأساتذة الرياضيات في جامعة اليرموك، قد بادروا في العام الجامعي 1980 - 1981م إلى تدريس طلاب السنة الجامعية الأولى وكلياتها كتب الرياضيات والأحياء والجيولوجيا التي تمت ترجمتها من اللغة الإنكليزية إلى اللغة العربية . وبذلك فقد تهيأ أمام الأستاذين اللذين قاما بهذه الدراسة العلمية الميدانية وجود طلبة قد درسوا باللغة العربية مواد الرياضيات والأحياء والجيولوجيا في السنة الأولى بكلية العلوم في الجامعة الأردنية ، مستعملين الكتب المقررة ، التي تمت ترجمتها من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية ، وكذلك وجود طلبة في جامعة اليرموك قد درسوا باللغة العربية مادة الرياضيات ، مستعملين الكتاب المقرر الذي تمت ترجمته من اللغة الإنكليزية إلى اللغة العربية .
وفي الوقت نفسه كان هنالك طلبة السنة الأولى من العام الفائت وقد درسوا في الجامعة ذاتها وبالكلية نفسها ، هذه المواد باللغة الإنكليزية مستعملين الكتب المقررة بلغتها الأصلية - الإنكليزية قبل أن تتم ترجمتها .. وقد تم توزيع استبيانات الطلاب على المشمولين بالدراسة في الجامعة الأردنية .. في النصف الثاني من شهر نيسان (إبريل ) سنة 1981م . وهذا يعني قرب انتهاء العام الجامعي ، إذ تعقد الامتحانات النهائية في النصف الثاني من شهر آيار (مايو) . وجاءت هذه الدراسة في حوالي ثمانين صفحة ، مع الملحقات من الجداول والاستبيانات .
وربما كان من المفيد أن نورد بعض ما ورد في هذا "التقويم" ، لما له من دلالات مهمة ، وفيما يلي بعض المقتطفات :
أقرت الغالبية العظمى من المترجمين بأنها هي التي اختارت الكتب العلمية الجامعية للترجمة إلى اللغة العربية … وأن ذلك الاختيار تم بموافقة مجمع اللغة العربية الأردني (ص25).(50/14)
أقرت غالبية المترجمين أن عملية اختيارهم للترجمة كانت قد تمت من قبل مجمع اللغة العربية بالتعاون مع الأقسام الأكاديمية التي ينتمون لها(ص25).
أجمع المدرسون على أن جميع أعضاء هيئة التدريس لا يقومون بتدريس الكتب المترجمة باللغة العربية ، لأن بعض هؤلاء المدرسين يفضلون التدريس باللغة الإنكليزية على اللغة العربية . وقد استدرك بعض المدرسين قائلين :" إن بعضهم (أي أعضاء هيئة التدريس ) يدرسون المادة المترجمة باللغتين العربية والإنجليزية ، ومرد ذلك تفاوت قناعات أعضاء هيئة التدريس في أهمية لغة التدريس للطالب .(ص28)
يرى بعض المدرسين أن قضية عملية التعريب في الجامعات الأردنية تحتاج إلى قرار سياسي ،لأن تلك العملية لها أبعادها القومية والحضارية(ص28)
انتقد بعض المدرسين زملاءهم الذين يدرسون باللغة الإنكليزية قائلين : إن هؤلاء المدرسين سلبيون ، وهم يدرسون باللغة الإنكليزية ، لاعتقادهم أن السلطة في الجامعة تحبذ التدريس باللغة الإنكليزية على اللغة العربية (ص28).
عندما سئل طلاب السنة الأولى الجامعية في الجامعتين الأردنية واليرموك ، إن كانوا من أنصار عملية التعريب ، أن يكتبوا خمسة أسباب يرون أنها ضرورية لتعريب الكتب العلمية الجامعية المقررة في الجامعات الأردنية ، وأن يرتبوا تلك الأسباب تنازليًا بحسب أهميتها .
وكان نسبة من أجاب على هذا السؤال من طلاب الجامعتين نحو 51% من عينة فئة الطلاب في هذه الدراسة . وكانت الأسباب المتعلقة بأهمية التعريب التي أوردها من أجاب على هذا السؤال مرتبة تنازليًا بحسب أهميتها، على النحو التالي :
1: زيادة قدرة الطلاب على الفهم والاستيعاب .
2: تنمية إحساس الطلاب بالانتماء القومي.
3: زيادة قدرة الطلاب على التفاعل الصفي.
4: إغناء اللغة العربية وتنميتها .
5: توفير الوقت والجهد للطالب وارتفاع مستوى تحصيله لمحتوى المادة الدراسية .(50/15)
وقد أورد الطلاب عددًا من الأسباب الأخرى التي يرون أنها تكمن خلف تأييدهم لعملية تعريب التدريس في الجامعات الأردنية . وكان من أهم تلك الأسباب الموضوعات التالية مرتبة تنازليًّا بحسب أهميتها ، وتالية في أهميتها للأسباب الآنفة الذكر :
1: المساهمة في تطوير الحضارة العربية وتعزيز تراث الأمة .
2: قناعة الطلاب بمرونة اللغة العربية وقدرتها على استيعاب الرموز والمصطلحات العلمية المعاصرة .
3: قناعة الطلاب بأن قدرة طلاب السنة الأولى الجامعية في اللغة الإنكليزية متدنية لدرجة تعيقهم عن استعمال تلك اللغة أداة للتعلم .
4: إيمان الطلاب بالارتباط القوي بين الدين الإسلامي واللغة العربية ، مؤكدين حقيقة نزول القرآن الكريم باللغة العربية.
5: قناعة الطلاب بأنه لما كان التدريس في المرحلة الثانوية باللغة العربية فإنه لابد من مواصلة استعمال اللغة العربية أداة للتدريس في المرحلة الجامعية، لأسباب تتعلق باستمرارية المنهج في التدريس ، ولتعوُّد الطلاب على هذا الأسلوب .
6: تأكد الطلاب أن حاجتهم إلى اللغة العربية في عملهم الوظيفي في المستقبل أكثر إلحاحًا من حاجتهم إلى اللغة الإنكليزية على اعتبار أن لغة العلم والعمل والتخاطب في وظائفهم في المستقبل سوف تكون على الغالب باللغة العربية (1) . وقد خلصت هذه الدراسة إلى بعض النتائج المهمة ، منها :(50/16)
" لقد كان الاتجاه العام لطلاب السنة الأولى الجامعية في الجامعات الأردنية نحو التعريب لصالح تلك العملية. ولا يستغرب الباحثان مثل هذا الاتجاه الإيجابي ، وقد يرجعانه ، على حدَّ تعبيرهما ، إلى شعور الطلاب بأثر عملية التعريب في حضارة أمتهم العربية ولغتها القومية ، بالإضافة إلى أثرها (أي عملية التعريب ) في تحسين مستوى تحصيلهم الأكاديمي . ويؤيد ذلك ، أن نحو 75% من طلاب السنة الأولى الجامعية في الجامعتين: الأردنية واليرموك ، أشاروا إلى خطورة التدريس باللغة الإنكليزية على اللغة العربية ، وأهمية عملية التعريب في تأصيل العلوم والتكنولوجيا في الفكر العربي … " إلخ (2) .
وإن من أهم النتائج التي توصلت إليها هذه الدراسة ، هو أن الطلبة الذين درسوا مادة الأحياء بكلية العلوم في الجامعة الأردنية في العام الجامعي سنة 1980 - 1981 باللغة العربية قد درسوا مادة أوسع وبصورة أعمق مما درسه طلاب السنة الأولى من مادة الأحياء باللغة الإنجليزية في الجامعة نفسها وبكلية العلوم ذاتها . وهبطت نسبة الرسوب من 34% عند الطلبة الذين درسوا باللغة الإنكليزية إلى 3% عند الطلبة الذين درسوا باللغة العربية .. ومما له مغزاه أيضًا في هذه الدراسة ما جاء في إحدى التوصيات التي تقول :"بمواصلة السعى لاستصدار قرار سياسي لتعريب التدريس ، ومواصلة ترجمة الكتب الأجنبية إلى اللغة العربية في الجامعات الأردنية ". (1)
وعلى صعيد التجارب الفردية وفي أثناء إعدادي هذا البحث فقد دار حديث بينى وبين أحد أساتذة البيولوجيا بكلية العلوم في الجامعة الأردنية (2) ، حول موضوع تعليم المواد العلمية الجامعية باللغة العربية ، ويسرني أن أجمل هذا الحديث فيما يلي :(50/17)
بدأ الأستاذ الكريم تعليم مواد البيولوجيا العامة ، وعلم الأجنَّة وعلم الخلية ، وعلم الأنسجة والتحضيرات المجهرية، باللغة الإنكليزية بكلية العلوم في الجامعة الأردنية ، عندما كان معيدًا فيها سنة1970-1971.وبعد عودته من بعثة الدكتوراه سنة 1975م استمر يدرس جميع المواد المذكورة باللغة الإنكليزية ، وكانت نسبة النجاح حوالي 85% .
وأردف قائلاً ، وفي سنة 1980م ، اشتركت مع زملاء آخرين بتعليم مادة البيولوجيا العامة باللغة العربية ، واستعملنا كتاب البيولوجيا الذي تبنَّى ترجمته مجمع اللغة العربية الأردني ، وكانت نسبة نجاح الطلبة 96% . وبعد أن عرض الأستاذ الفاضل نتائج تجربته ، قال : وقد دفعتني هذه التجربة سنة 1982م إلى تدريس مادة التحضيرات المجهرية الضوئية باللغة العربية ، وكتبت كتابين في هذا المجال باللغة العربية ، ونشرتهما دار " جون وايلي " العالمية للنشر . واستعمل الكتابان في عدة جامعات أردنية وعربية .
وفي حديثه عن تطور خبرته وازدياد قناعاته باستعمال اللغة العربية ، قال :
" بعد ترسيخ خبرتي في تعليم أكثر من مادة بيولوجية باللغة العربية . تعمقت قناعتي باستعمال اللغة الأم في تدريس المواد العلمية بهذه اللغة الكريمة . فبدأت بتدريس مادة علم الأجنة باللغة العربية ، وكتبت كتابين في هذا التخصص ، دعمت طبعهما الجامعة الأردنية " . وواصل حديثه عن تعزيز خبرته في مجال تعليم البيولوجية باللغة العربية ، قائلاً : "وفي سنة 1993م بدأت بتدريس مادة علم الأنسجة بلغتنا الحبيبة ، وأنجزت مشروع كتاب في هذا التخصص . كما أنني وضعت كتابًا في بيولوجيا الإنسان ، دَعَمَتْ نشره جامعة القدس المفتوحة ، وهو الآن يستعمل في جميع فروعها " .(50/18)
وبعد ذلك انتقل بنا الحديث عن الدراسات العليا بكلية العلوم ، ونحن نعلم جميعًا مع الأسف ، أن اللغة الإنكليزية هي لغة التدريس ، من حيث الواقع ، في جميع الكليات العلمية والمهنية في الجامعات الأردنية وفي الدراسات العليا على وجه الخصوص . وحدَّثني الأستاذ عن تجربة متواضعة قام بها في الدراسات العليا ، رأيت إثباتها ، لما لها من دلالات عملية . قال:" درَّست خلال الفصل الماضي مادة دراسات عليا في "بيولوجيا التشكل " باللغة الإنكليزية. وسجَّل في تلك المادة ثلاثة عشر طالبًا . وكان على طلبة المادة تقديم ندوات أسبوعية،تتناول نشرات علمية عالمية، باللغة الإنكليزية. وأعطيت الطلبة الخيار بالنسبة إلى اللغة التي يمكن استعمالها في تقديم الندوات . وكانت المفاجأة - على حد تعبيره - أن اختار خمسة طلاب تقديم بحوثهم باللغة العربية. وكان إجماع الطلبة بأن فهمهم مواضيع الندوات التي قدمت باللغة العربية،كان أكثر بكثير من فهمهم المواضيع التي قدمت باللغة الإنكليزية" .
وقد عقب الأستاذ على هذه النتيجة، التي فاجأته - على حد تعبيره - فقال :" أستطيع القول بكل موضوعية بأنَّ نسبة نجاح الطلبة في جميع المواد التي درستها باللغة العربية تراوحت بين 97% و 100% وفي غالب الأحيان كانت النسبة 100% وبكل موضوعية أقول : إن الطلبة الذين درسوا مادة علم الأجنة باللغة العربية ، اختاروا دراسة مادة ثانية لاحقة في علم الأنسجة باللغة العربية . وكان الطلبة متحفزين لذلك ، وهذا ما سيتبلور في الفصل الثاني القادم إن شاء الله . وانتهى الحديث .(50/19)
لا شك أن هنالك تجارب فردية كثيرة في جميع أقطار الوطن العربي ، وإن هذا الوضع ليزيدنا يقينًا كي نتساءل : لماذا لا تقوم مؤسسة للبحث العلمي بدراسات علمية وميدانية للقضية اللغوية في الجامعات في الوطن العربي ، سواء أكانت تدرس هذه الجامعات باللغة العربية ، أم تدرس بلغة أعجمية ، وذلك من أجل تقويم أعمالها والتعرف إلى مشكلاتها وقضاياها ؟
وعلى الرغم من حالة التمزق والانقسام السياسي التي فرضت على أمتنا العربية ، فاللغة العربية الفصيحة ، لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ، هي اللغة الجامعة لجماهير الأمة العربية ، في مختلف أقطارها وفي أحلك ظروفها . وهي الوسيلة الوحيدة لشيوع المعرفة العلمية والفكر العلمي ، والخروج بها من بيئة الاحتكار بين طبقة المتخصصين إلى جماهير المثقفين وأصحاب المهن والتقنيين. فإن ذيوع المعرفة العلمية والفكرية في أوساط جماهير الأمة ، من خلال العربية الفصيحة الموحَّدة ، ركن أساسي من أركان تأصيل المعرفة ، والارتقاء بالمستوى العلمي والمذهني والثقافي . وهو السبيل الوحيد إلى نهضة علمية وفكرية مبدعة وأصيلة . فالعربية قادرة على استيعاب كل جديد والتعبير عنه تعبيرًا واضحًا ودقيقًا . وقد رأينا سابقا مدى ارتباط اللغة بالفكر ، وأن وضوح الفكرة يستدعي وضوح اللغة ودقة التعبير . وإن الثورة المعلوماتية التي بزغ فجرها مع نهاية هذا القرن الحادى والعشرين لتدعو الأمة العربية من خلال إمكاناتها المادية الهائلة أن تطوَّع التقنيات الحديثة في خدمة اللغة العربية ، حفاظًا على كيانها وهويتها على غرار ما تصنعه الأمم المتقدمة في خدمة لغاتها . فاللغة تحيا بالاستعمال . وإن سيادة اللغة العربية في أوطانها ، بأن تكون لغة التدريس الجامعي والبحث العلمي واللغة الحيَّة في جميع مرافق الدولة ومؤسساتها العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية ، يعتبر ركنًا أساسيًا لاستكمال سيادة الأمة وتحررها . وهذا(50/20)
الطريق هو الوسيلة الوحيدة لتجاوز حالة التبعية الفكرية والتأخر العلمي والثقافي ، إلى آفاق التقدم والإبداع والمشاركة الأصيلة في بناء الحضارة العالمية الحديثة .
ونسأله تعالى السداد في الفكر والعمل ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
عبد الكريم خليفة
عضو المجمع من الأردن(50/21)
انتخاب تسعة أعضاء عاملين بالمجمع:
فى جلسة الاثنين 24 من المحرم سنة 1420 هـ الموافق 10 من مايو سنة 1999م تم اختيار تسعة أعضاء جددًا عاملين بالمجمع من المصريين وهم :
الأستاذ الدكتور أحمد عبد المقصود هيكل فى المكان الذى خلا بوفاة الدكتور حامد عبد الفتاح جوهر .
الأستاذ الدكتور أحمد علم الدين الجندى فى المكان الذى خلا بوفاة الدكتور أبى شادى الروبى .
الأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر فى المكان الذى خلا بوفاة الأستاذ محمود محمد شاكر .
الأستاذ الدكتور شفيق إبراهيم بلبع فى المكان الذى خلا بوفاة الدكتور إبراهيم عبد الرازق بسيونى .
الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكى فى المكان الذى خلا بوفاة الأستاذ عبد الكريم العزباوى .
الأستاذ الدكتور عبد القادر حسن القط فى المكان الذى خلا بوفاة الدكتور إبراهيم بيومى مدكور .
الأستاذ فاروق محمد البغدادى شوشة فى المكان الذى خلا بوفاة الدكتور محمد السيد غلاب .
الأستاذ الدكتور محمد عماد الدين فضلى فى المكان الذى خلا بوفاة الدكتور حسين مؤنس محمد .
الأستاذ الدكتور محمود فهمى حجازى فى المكان الذى خلا بوفاة الأستاذ مصطفى أمين يوسف .
وقد صدر قرار الأستاذ الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم العالى والدولة للبحث العلمى رقم 1857 لسنة 1999 باعتمادهم أعضاء عاملين بالمجمع .
أعضاء راحلون :
فُجع المجمع فى هذه الدورة بفقد خمسة من أعضائه المصريين استأثرت بهم رحمة الله تعالى وهم :
الدكتور محمد السيد غلاب
وقد أقام المجمع حفلاً لتأبينه فى الجلسة العشرين من جلسات مجلس المجمع يوم الاثنين 28 من شوال سنة 1419 هـ الموافق 15 من فبراير سنة 1999م وألقى كلمة المجمع فى هذا الحفل كل من الدكتور سليمان حزين ، والدكتور كمال دسوقى عضو المجمع .
الأستاذ عبد الكريم العزباوى(51/1)
وقد أقام المجمع حفلاً لتأبينه فى الجلسة الثانية والعشرين من جلسات مجلس المجمع يوم الاثنين 6 من ذى القعدة سنة 1419 هـ الموافق 22 من فبراير سنة 1999م . وقد ألقى كلمة المجمع فى هذا الحفل الأستاذ إبراهيم الترزى الأمين العام للمجمع .
فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى
وقد أقام المجمع حفلاً لتأبينه فى الجلسة الثالثة والعشرين من جلسات مجلس المجمع يوم الأربعاء 8 من ذى القعدة سنة 1419 هـ الموافق 24 من فبراير سنة 1999م . وقد ألقى كلمة المجمع فى هذا الحفل الدكتور محمد نايل أحمد عضو المجمع .
الدكتور عبد السميع محمد أحمد
وقد أقام المجمع حفلاً لتأبينه فى الجلسة الخامسة والعشرين من جلسات مجلس المجمع يوم الاثنين 13 من ذى القعدة سنة 1419هـ الموافق الأول من مارس سنة 1999م . وقد ألقى كلمة المجمع فى هذا الحفل الدكتور عبد الرحمن محمد السيد عضو المجمع
الدكتور عبد العظيم حفنى صابر
قد أقام المجمع حفلاً لتأبينه فى الجلسة الثامنة والعشرين من جلسات مجلس المجمع يوم الاثنين 2 من المحرم سنة 1419 هـ الموافق 19 من أبريل سنة 1999م . وقد ألقى كلمة المجمع فى هذا الحفل الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع .
تقدير وتكريم :
اختير الأستاذ الدكتور شوقى ضيف رئيس المجمع عضوًا شرفياً بالمجمع العلمى العراقى.
تكريم الأستاذ الدكتور شوقى ضيف رئيس المجمع فى الحفل الذى أقامته جامعة القاهرة لتكريم الرواد من أبنائها.
حصول الأستاذ الدكتور محمود على مكى على درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة " ريكاردو بالما " بجمهورية بيرو .
تهنئة المجلس للجنة الهندسة على تقديمها باكورة عملها فى إخراج أول معجم مجمعى فى العلوم الهندسية .
ضم أعضاء المجمع إلى لجانه :
ضم الأستاذ الدكتور أحمد سالم الصباغ إلى لجنة الفيزيقا للإفادة من علمه الوافر فى هذا التخصص .
خبراء جدد بالمجمع :(51/2)
اختير فى هذه الدورة عدد من الخبراء الجدد للإفادة من خبرتهم فى اللجان العلمية واللغوية المختلفة وهم :
الدكتور عبد الحكيم راضى أستاذ النقد والبلاغة بكلية الآداب بجامعة القاهرة خبيرًا بلجنة الأدب .
الدكتور عبد الحميد مدكور أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة خبيرًا بلجنة الفلسفة .
الدكتور حافظ شمس الدين عبد الوهاب خبيرًا بلجنة النفط .
الدكتور محمد إبراهيم العدوى رئيس
قسم الإلكترونات بكلية الهندسة بجامعة حلوان خبيراً بلجنة الهندسة .
الدكتور فيصل عبد السلام الحفيان ، أمين معهد المخطوطات العربية خبيرًا بلجنة إحياء التراث .
صلات المجمع الثقافية :
أقام مكتب تنسيق التعريب بالرباط ندوة اختصت بالنظر فى المنهج العلمى الذى يتبعه المجمع فى وضع المصطلحات. وقد مثل المجمع فى هذه الندوة فى المدة من الثالث إلى السادس من فبراير سنة 1998م .
إهداء إلى مكتبة المجمع :
أهدى الأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمى محمد عضو المجمع مكتبة المجمع معجمًا فى البيولوجيا بعنوان : ”Henderson’p Dictionary. Of Biological Terms " .(51/3)
لقد أحسنت مصر صنعًا عندما فكرت في أن يحتضن مجمع اللغة العربية منذ نشأته ( عام 1933 ) كوكبة من أعلام رجال الاستشراق أمثال أوكيست فيشر (August Fischer ) (ألمانيا) ، وكارلو نالّينو ( Carlo Nallino ) (إيطاليا) ولوي ماسينيون ( Luis Massignon ) (فرنسا) وأ.ج.فينسينك(A.J.Wensinch ) (هولندا).
لقد كانت مبادرة المجمع آنذاك بمثابة إشادة بما قدمه المستشرقون من خدمة جُلَّى للغة العربية ، وما أسهموا به من جهد في سبيل إحياء تراثنا الفكري.
وإن مجرد استعراض عابر للعناوين التي ظهرت طوال العقود الماضية مما اهتم به المستشرقون في شتى الحقول ليعبر بصدق عن أنهم كانوا جديرين بذلك التكريم الذي قدمته إليهم مصر باختيارهم أعضاء في أول مؤسسة أكاديمية تظهر على أرض الكنانة …
فعلا وجدنا في رجال الاستشراق من اهتم بأبي عبيد البكري أمثال البارون دوسلان Deslane ، ومن اهتم بالشريف
الإدريسي كالأستاذ دوخوي (De Goeje)، ومن اهتم بابن جبير كالأستاذ رايت (Wright) ومن اهتم بالعُمري كالأب دوكوينيس (De Guignes) ومن كتب عن علاقات المشرق بالمغرب أمثال ماريوس كانار ( M.Canard ) ومن اهتم بمصنفاتنا الإسلامية كالأستاذ ليون بيرشى (L.Bercher)الذي ترجم رسالة ابن أبي زيد القيرواني ، وبيرون Perron الذي استطاع أن يترجم مختصر الشيخ خليل المصري في فقه المالكية ، ولكأنما قيض الله لكل تراث من يهتم به من هؤلاء أو يدل على أماكن وجوده في مختلف جهات المعمورة.(52/1)
أريد التأكيد على أن المبادرة التي تنبه إليها مجمع القاهرة منذ نحو من سبعين سنة كانت تنم عن نظر بعيد وحكيم في الوقت الذي كان المجمع يتهيأ فيه لأداء رسالته السامية للعمل من أجل نشر اللغة العربية وتوسيع دائرة البحث فيها وحولها… وها نحن اليوم في حديث مقتضب عن أحد أولئك الذين سعدوا بالانتساب إلى هذا المجمع ردحًا من الزمان ، وأقصد الأستاذ جاك بيرك الذي كان عوَّض في هذا المجمع رفيقه وأستاذه البروفيسور لوي ماسينيون، والذي استقبله الدكتور طه حسين كعضو مراسل من أعضاء المجمع ووصفه آنذاك "بالمستشرق"(1) .
ولد جاك بيرك في الجزائر سنة 1910. وهناك تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي قبل أن يلتحق بجامعة السوربون في باريز لتلقي دراسته العليا وللاستعداد للمشاركة في مباراة تؤهله للالتحاق بالجامعة الفرنسية .
لكن المقام لم يطب لجاك بيرك في باريز فحزم حقيبته عام 1932 للعودة إلى الجزائر حيث قدمه والده أوكيستان المتوفى سنة 1946 ، إلى أحد الحكام لتأهيله للعمل الميداني …
وهنا وجدنا أن جاك بيرك يدشن حياته العلمية، فيأخذ في الكتابة حول بعض القضايا التي تمر من حواليه ، وهكذا ظهر له بالجزائر بحث فقهي عام 1936 يحمل عنوان : مساهمة في دراسة العقود المبرمة في الشمال الإفريقي ، وقد اهتم على الخصوص بعقود خاصة بتربية الماشية في ناحية بني مسكين (2) .
وأرى من المفيد أن أنبه منذ البداية إلى أن إنتاج جاك بيرك يمكن أن نوزعه إلى ثلاثة أنواع على الأقل .
الأول: ما يدخل في إطار تآليفه المستقلة ابتداءً من هذا الكتيب الذي صدر له كما قلنا عام 1936 حول العقود الخاصة بتربية الماشية وانتهاءً بمحاولته ترجمة القرآن الكريم بعد مسيرة ستين سنة ، وتندرج هنا المحاضرات التي كان يلقيها بين الفينة والأخرى هنا أو هناك…(52/2)
النوع الثاني: ما يدخل في إطار إسهاماته العلمية مع الآخرين ، ويدخل في هذا القسم ما كتبه بالاشتراك مع زميلٍ له أو زملاء مما يعرف بالتأليف الجماعي ، كما يدخل فيه نوع الكتب التي تصدر بمناسبة تكريم عالم من العلماء مما يحمل عادة اسم " ميلانج " أو "منوعات " كما يدخل فيها المؤلفات التي كانت تصدر تحت إشرافه …
النوع الثالث:ما يدخل ضمن المقدمات التي أنشأها لعدد من الكتب التي ألفها غيره،وهذه المقدمات وحدها تعتبر ذخيرة علمية رائعة، لأنه لم يكن يكتبها مجاملا ومشجعًا فقط، ولكنه كانيكتبها كإسهام منه خاص في إثراء الموضوع وإغنائه …
وكما يمكن أن يوزع إنتاجه على هذا النحو يمكن كذلك أن يأخذ منحى آخر في توزيعه.ذلك أن نتناول إنتاجه من حيث الموضوعات التي تطرق إليها، والتي يمكن تقسيمها إلى أحد عشر قسمًا:
فهناك التآليف العامة،والتآليف المتعلقة بالإسلام ، والتآليف الخاصة بالفلسفة، والمتصلة بعلم الاجتماع ، وبالعلوم السياسية،وكذلك بالاقتصاد ، وبالقانون، وبالفنون الجميلة،والمتعلقة باللغة واللسنيات وبالأدب ، وأخيرًا بالتاريخ …
لقد كان له حضور جيد في مختلف تلك الحقول ، لكني فضلت أن أرتب إنتاجه على السنين التي عاشها حتى يمكن أن نتتبع تطور خطواته الأكاديمية في شتى الاتجاهات لقد تراءى لي جاك بيرك يتأقلم مع سائر الموضوعات التي تتصل باختصاصه… وكنت أتذكر دائمًا العبارة التي تقال عند ذكر المشاركة المتميزة لبعض مشايخنا فيقولون:"فلان سُيُوطي زمانه" :كان جاك بيرك فعلا"سيوطي زمانه " .
وكان مما حبب إليَّ الاهتمام به علاوة على علاقتي الشخصية به أنه كان يعتز بالانتماء إلى هذا المجمع ، ويكفي أنه حَلَّى بهذا الانتماء آخر إنتاج له قبل أن يدركه أجله … وأنه عاش مع عالم الإسلام وعالم العروبة ردحًا من الزمان ، يفكر فيما نفكر في،ه وتتردد أنفاسه فيما نردد فيه أنفاسنا نحن .(52/3)
يضاف إلى كل هذا أنه خدم لغة العرب بنقل أصداء مباهجها ومفاتنها إلى عالم الغرب ، على نحو ما نقل إلينا نحن أصداء البيئة الغربية ، ومن هنا كان جسرا من الجسور المهمة التي ربطت بين الشرق والغرب .
نعم ، لقد تزامن تأليفه الأول الذي سمعنا عنه مع أيام خدمته العسكرية حيث طرأ الحدث الذي سيغير مجرى حياة جاك، لقد رمت به الأقدار إلى المغرب الأقصى ، وهناك شغف الشاب جاك بهذا المغرب فقر رأيه بعد انتهاء الخدمة العسكرية على البقاء فيه … ولم يكن من الصعب عليه أن يجد وظيفة مناسبة في تلك الظروف التي كان الفرنسيون فيها يبسطون يدهم على سائر مرافق البلاد.
وهكذا قضى جاك بيرك بضع عشرة سنة في الوظيفة متنقلا من ناحية إلى أخرى . وهنا وجدنا أن جاك بيرك لم يضيع وقته فكتب تقريرًا من نحو عشر صفحات عن بعض الجهات من الأرض المغربية ، وقد اهتم في هذا التقرير بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي بمنطقة الغرب ، وبالأعراف المتعامل بها هناك ، وبالتعاون في حقل الإنتاج في المجال القروي،وقد نشر هذا التقرير في حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي(1).
ولم يلبث أن أصدر دراسة تتجاوز مئتي صفحة حول تاريخ البادية في بلاد المغرب الكبير تناول فيها البِنْيات الفلاحية والزراعية والنظرية الاجتماعية، وقد طبع هذه الدراسة بمدينة طنجة (2) .
وهكذا اندمج جاك بيرك بحكم وظيفته في الأجواء الثقافية والعلمية في الجهات التي عمل فيها ، وتعرف على عدد من الشخصيات المغربية نظرا لإلمامه باللغة العربية .
وقد استهوته مدينة فاس أكثر من أي جهة أخرى فربط اتصاله ببعض الأدباء والفقهاء في العاصمة العلمية التي - كما نعرف - تحتضن أقدم مسجد جامعة عرف في التاريخ الإسلامي على أنه مدرسة لرجال الفكر في شتى الاتجاهات والتخصصات المعروفة على العهد القديم .(52/4)
وقد رأيناه يلتفت إلى هذه المعلمة الكبرى في تاريخ المغرب بل وفي تاريخ الإسلام بصفة عامة حيث نجد له بحثا مركزا عن هذا المسجد الجامعة بعنوان : دور جامعة إسلامية ، نشره كذلك في حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي عام 1938 (3) .
لقد أخذ بيرك يجد متعة في الاهتمام بالنوازل الفقهية وبما يسمعه ويقرأه عن العقود التي تبرم بين المتعاملين وفتن بالحاسة الفقهية التي يتمتع بها المتعاقدون.
وكل هذا كان بحاجة إلى أن لا يقطع جاك صلته بفقهاء فاس ومثقفيها أمثال القاضي محمد بن عبد العزيز بناني والعالم عبد الحفيظ الفاسي، ومحمد بن سعيد المكناسي، من الذين كانوا يجدون في الحديث إليه ما يساعدهم على فتح آفاقهم على فضاءات أخرى كانوا في حاجة إلى التعرف عليها، وقد أغراه ذلك الجو العلمي في فاس فاجترأ على الاشتغال بنوازل الفقيه الشهير سيدي المهدي الوزاني : نوازله الكبرى المعروفة بـ " المعيار الجديد " تمييزًا لها عن معيار الونشريسي …
هنا وجدنا جاك يؤلف كتابه حول "نوازل المزارعة " : دراسة وترجمة وقد طبعها بالرباط عام 1940 (1) .
وفي إثر هذا ظهر له بحث طريف عن ظاهرة البيع بالمزاد العلني بمدينة فاس كتبه بالمشاركة مع زميله بوسكي (G.H.Bousquet) ونشره في المجلة الاقتصادية والسياسية عدد مايه 1940(2).
ويتأكد من خلال تعقب الخطوات العلمية الأولى لبيرك أن الاهتمامات التي هيمنت عليه إنما كان يجد صداها في مدينة فاس التي يمكن القول من الآن بأن فضلها-أي فاس-على بيرك يظل شاخصا قائمًا باسطا ظلاله على حياة الرجل !
وربما أخذ ينسى أنه موظف تابع لأطر الحماية الفرنسية ، وأخذ ينسى أنه مراقب مدني ! فهو دائم الصلة بالأوراق ودائم الصلة بأصدقائه من فاس …(52/5)
إنه هذه المرة يشتغل على كتاب كان المجمع العلمي في ميلانو وقف عليه، ويتعلق الأمر بمجموع الفقه الذي روي عن الإمام الشهيد زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أول كتاب دون في الفقه الإسلامي … هذا
الكتاب قام جاك بيرك بالاشتراك مع زميله بوسكي G.H.Bousquet بترجمته وتقديمه والتعليق عليه حيث نشره بمعهد الدراسات الشرقية بالجزائر عام 1941.
وبمرور الأيام كانت معارف جاك بيرك مع المغاربة ، وخاصة مع أهل فاس، تنمو وتكبر بقدر ما تنمو فيه الرغبة في البحث عما يتصل بالمجتمع الإسلامي والقانون المغربي … وهنا كان تأليفه : "محاولة حول المنهج القضائي المغربي" الذي طبعه بالرباط عام 1944 ، وهو يتناول الحديث عن الفقه الإسلامي والاجتهاد والعادات (3).
وفي أوائل الأربعينيات جدَّ في الساحة المغربية حدث لم يمر دون أن تصيب شظاياه زميلنا جاك بيرك … فلقد قام ، في إطار وظيفته الرسمية،بإعداد تقرير مهم عن المشكل الزراعي بالمغرب عرف
بالتقرير الأصفر، كان يتضمن رأيه في السياسة الفلاحية الجديدة لفرنسا بالمغرب. وقد صادف هذا التقرير تقديم عريضة الاستقلال من لدن الوطنيين المغاربة عام 1944 الأمر الذي لم ترضه فرنسا بطبيعة الحال … وبما أن جاك بيرك
كان ممن لا يسير دائما في ركب المعمرين فقد اقتُرح إبعاده عن المدينة وتعيينه في منطقة نائية عن الحاضرة !!
فهل حدَّ من نشاطه مقامه بعيدًا عن المدينة ؟
لقد وجد في تلك الأمكنة النائية ما يحمله على المضي في طريق البحث والتنقيب بل ومواصلة السير نحو تغيير الاتجاه كلية ، أي إنه أمسى يعمل على نيل لقب أكاديمي يغنيه عن تلك الوظيفة التي كان يشعر معها بأنه في غير مكانه ، وأنه غير ميسَّر للخدمات التي كانت تُنتظر منه ، فماذا إذن عن جديد بيرك فيما بعد 1944 ؟
لقد صدر له بحث بعنوان : وثائق قديمة حول العرف العقاري لإقليم سكساوة، نشره في المجلة الإفريقية عام 1948 وهو يتضمن معلومات تاريخية(52/6)
وحقائق عن السكان في الأطلس الكبير من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر (1).
وقد قام في السنة الموالية بعمل فقهي جليل ، ذلك ترجمة وتحقيق تأليف أبي
علي حسن بن رحال التدلاوي المعداني تلميذ الشيخ اليوسي ، هذا التأليف يحمل اسم ( تضمين الصناع ) وهو يحدد المسؤولية المدنية الملقاة على كاهل الصانع(2).
وفي السنة الموالية عام 1950 ظهر له بحث يحمل عنوان" وثائق صغيرة حول التاريخ الاجتماعي للمغرب" عن أرشيف قاض من البادية ، نشره في المجلة الإفريقية عام 1950 وهو يتضمن معلومات تاريخية اجتماعية قضائية (3).
وقد نشر في نفس السنة 1950 معجمًا توثيقيًا عربيا بربريا (شلحيا) يعود للقرن الثامن عشر ويتضمن بدوره معلومات تاريخية واجتماعية وقضائية وعدلية إلى جانب المعلومات الإنثولوجية(4).
وقد قرأنا له " حقيقة وشعر " حول سكساوة، نشره كذلك في المجلة الإفريقية عام 1953 والبحث بدوره يحتوي على معلومات أنثروبولوجية وثقافية وأخلاقية تتصل بسكساوة (5).
وفي نفس السنة 1953 صدر له بحث هام يعالج مشاكل أساسية حول علم
الاجتماع الشرعي في إفريقيا الشمالية ، وقد نشره في مجلة الدراسات الإسلامية عام 1953 وهو يتضمن معلومات عن النظام القضائي والاجتماعي(1).
وفي هذه الأثناء صدر له بحث جيد عن سكساوة بعنوان العصور القديمة لسكساوة، زوَّده بالصور والرسوم ونشره في مجلة (هيسبريس ) المعروفة ببحوثها المتخصصة (2).
وفي سنة 1954 تناول مشاكل الديموغرافية في بلاد البربر، فقام بدراسة حول قبائل إقليم إيمينتانوت حيث كان يشغل منصب المراقب المدني شاركه في هذا البحث شوفاليي لومور Chevalier Lemore ، ونشره في المجلة الاقتصادية والاجتماعية المغربية ، وهنا سنعرف عن السكان وعن الأسر ومشاكل الهجرة بمنطقة سكساوة (3).(52/7)
وفي سنة 1955 كتب جاك بيرك بحثًا عن الأدب المغربي والمشرقي في أثناء القرن السابع عشر،نشره في مجلة(أرابيكا) وهي مجلة متخصصة في الدراسات العربية،
والبحث هذا يتناول حديثًا عن الرحلة
والتصوف الإسلامي والأدب المغربي والثقافة العربية (4).
وقد كلل هذه البحوث المتلاحقة بالعمل الجليل الذي قام به 1955 وهو يشغل تلك الوظيفة في الأماكن النائية بالأطروحة المهمة التي نال بها درجة دكتوراه في السوربون والتي تحمل عنوان: "البِنْيات الاجتماعية للأطلس الكبير " وهي التي خط بها طريقه نحو العمل الأكاديمي الجاد (5).
لقد انتخب جاك بيرك من الآن أستاذًا في كوليج دوفرانس مكان الأستاذ لوي ماسينيون الذي أحيل على التقاعد .
وهنا احتفظ جاك بيرك بهذا الكرسي الذي تربعه مستشرقون أفذاذ من أمثال ويليام مارسي، وليفي برفنصال، وريجيس بلاشير .
ولم يشغله هذا الكرسي عن نشاطه الدائم، فبالرغم من أنه ظل في الكوليج على صلة بطلبته يؤطرهم ويوجههم بأسلوبه الذي عرفناه عنه فقد ظل إلى جانب ذلك يكتب ويؤلف في شتى الموضوعات ، لم يكن ليعرف الراحة
إطلاقًا وقد عرفنا له بحثًا بعنوان "استثمار بالمغرب" نشره في الحوليات الاقتصادية والاجتماعية والحضارية سنة 1955(1).
ومن آثاره سنة 1956 بحث بعنوان (مائة وخمس وعشرون سنة من السوسيولوجيا المغربية ) نشره في الحوليات كذلك (2).
وكان من عيون تدخلاته هذا العام 1956 الدرس الافتتاحي الذي ألقاه يوم السبت أول دجنبر 1956 في كوليج فرنسا: (كرسي التاريخ الاجتماعي للإسلام المعاصر ) (3).
وقد وقع اختيار بيرك ، كموضوع للإسهام في كتاب (منوعات Mélanges ) الذي صدر برسم أستاذه لوي ماسينون ، وقع اختياره على عنوان : وثيقة من الأطلس الكبير ، نشرها المعهد الفرنسي بدمشق عام 1956-1957 (4).
وصدر له كتاب بهذا التاريخ حول مصر، ويتعلق الأمر بالتاريخ الاجتماعي لقرية مصرية في القرن العشرين (5).(52/8)
ثم كان كتابه الذي ترك له صدى عام 1958 حول شخصية علمية مغربية عاصرت السلطان المولى إسماعيل جد الأسرة العلوية الحاكمة ، ويتعلق الأمر بالشيخ اليوسي : وقد أهداه بخطه للأستاذ علال الفاسي معيدًا إلى ذاكرته ما كان جرى بينهما من حديث عن أوكيستان المغربي (6)!!
وقد نشرت له الكراسات التونسية (مجلة العلوم ) 1958 دراسة بعنوان حواضر ومدن صفيح(7)
ثم بعد هذا قدم لكتاب ألفه توما توفيق بعنوان : قرية جبلية من لبنان ، وقد نشر في لاهاي عام 1958 ، ويجب أن نؤكد هنا مرة أخرى على أن تقديم تأليف مّا من لدن بيرك لا يعني مجرد زهور تقدم إلى المؤلف بدافع من مجاملات ومكايسات، ولكن التقديم عند بيرك يعني إسهامًا فعليًا من إثراء الكتاب وإغنائه(8)
وفي مجال اللغة العربية نشر له معهد الدراسات العليا بباريز عام 1960 مقدمة حول الأضداد في اللغة العربية(1)
وقد طلبت إليه جماعة على رأسها روبير ديكلواتر R.Descloitres أن يقوم بتقديم تأليف لها عن جزائر مدن الصفيح فاستجاب لطلبها بإنشاء مقدمة جيدة ظهرت عام 1961(2)
وفي نفس العام ظهرت له دراسة بعنوان "عبارة ودلالة في الحياة العربية" نشرتها له المجلة الإفريقية للأنثروبولوجيا : الإنسان L'Homme (3) .
كما ظهر له عام 1962 بحث بعنوان: (في النجف وكربلاء بالأمس) نشر في مجلة أرابيكا المعروفة ، كما نعرف ، بتخصصها في الدراسات العربية(4).
وفي نفس السنة 1962 ظهر له بحث في مجلة (العالم الثالث) عن العلوم الاجتماعية وإزالة الاستعمار (5).
وقد أسهم عام 1962 في (منوعات) ليفي بروفنصال حول المصلحين الدينيين بالمغرب …
وقد ظهر له عام 1963 بحث في النظام(52/9)
الزراعي ببلاد المغرب، ضمن أعمال أخرى صدرت عن الإصلاح الزراعي بالمغرب، تناول فيه بيرك الاستثمار الفلاحي والإنتاج والتخطيط والحق العقاري ، وقد شارك في هذه الأعمال جان دريش ،والمهدي بنبركة، وروني جومون وآخرون . وقد ترجم هذا البحث إلى اللغة الإنجليزية (6).
وقد ظهر له بحث عن (التاريخ والرقص) نشره في مجلة Esprit شهر يوليه غشت عام 1963.
وفي إطار (متنوعات) تكريم العالم الفرنسي المعروف شارل أندري جوليان قدم ملاحظات تتصل بالفنون الجميلة حول الزربية المغربية نشرت في مجلة دراسات مغربية عام 1964.(7).
وقد استجاب لرغبة صديقيْه : راول ولورا مكاريوس، فكتب مقدمة على تأليف لهما يحمل عنوان مختارات (Anthologie) في الأدب العربي المعاصر ضمناه مختارات عن أدباء مصر ولبنان والعراق وسوريا والسودان وتونس والجزائر والمغرب … كانت المقدمة
مركزة رائعة كونت وحدها بحثًا جيدًا حول الموضوع من سائر جهاته (1).
وقد ظهر له في حقل الحقوق عام 1964 تأليف يمكن أن نترجمه بانفصال عن العالم ، وهو يهتم بتفكك الاستعمار وظهور حركات التحرير الإسلامية من سنة 1965 وهو التاريخ الذي استرجع فيه المغرب استقلاله إلى عام 1963(2).
وقد أسهم عام 1965 في منوعات عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين … وظهرت له في نفس السنة قصيدة حول الجزائر نشرتها مجلة ESPRIT في عددها شهر شتنبر 1965.
وضمن التأليف الجماعي (معايير وقيم في الإسلام المعاصر Normes et valeurs) قرأنا له عام 1966 ملاحظات حول الفن الإسلامي… (3)
كما قرأنا له عن حالة تسوية بين الحقوق الجامعية والحقائق المحلية ، وعن دعم الإسلام … وعن الإسلام بناء على بعض الشهادات العربية المعاصرة …
وأخيرًا في موضوع الفلسفة عن قضية دريفيس وقضايا عربية مشابهة ، مشيرًا لما حدث في مصر بالنسبة لطه حسين وعلى عبد الرازق …(52/10)
وقد أسهم جاك بيرك عام 1967 في (منوعات) محمد الفاسي التي حرص الفاسي على صدورها قبل أن يتوفاه الله! فكتب بيرك موضوعا يحمل عنوان Un arabisant chez les Diola (4).
وكتب في نفس العام 1967 كتابًا بعنوان مصر بين الإمبريالية والثورة (5).
وفي هذه السنة قدم لكتاب ألفه بورجيس هيرفي ، وكان الكتاب يحمل عنوان (الجزائر في محنة الحكم 1962 - 1967 ) (6)
كما قدم في نفس العام لكتاب أندري ديمير سمان بعنوان الأسرة التونسية والعصور الجديدة (7)
وقد صدر له بحث في مجلة الثقافة الإنسانية1967 بعنوان:من سفح المقطم(8).
وصدرت له هذا العام 1967 أبحاث ضمن تأليف جماعي عن الازدواجية في
الثقافة العربية . كان منها (هلينية وكيمياؤون عرب) وحول ابن رشد والالتباس في الفقه والتعابير الغامضة في العربية (1).
وصدر له عام 1969 بحث بعنوان "حياة اجتماعية وتغيرُّات العالم" ، نشره في مجلة الإنسان والمجتمع (2).
وفي هذه السنة 1969 نشر بحثًا بعنوان الإنسان والتطور (3).
وقد استجاب في هذه السنة للأستاذ كرونيبوم Grunebaum الذي طلب إليه أن يكتب مقدمة لكتابه (الهوية الثقافية للإسلام) هذا الكتاب الذي ترجمه من الإنجليزية روجي ستيفرا R.Stuveras(4). وقد أعيد عام 1989 طبع هذا الكتاب نظرًا لأهميته .
وفي (المنوعات) المؤلفة برسم الإسلام عام 1969 كتب عن "العواصم الإسلامية في المتوسط من وجهة نظر ابن خلدون والمَقَّرَيْن (5).
وقد ظهر له عام 1970 بحث حول بني هلال في القرن الخامس عشر الميلادي بحسب مخطوط يتعلق بالقضاء ونشره في الحوليات وهو يتحدث عن التاريخ الاجتماعي والاقتصادي (6)
وقد استجاب لرغبة جاك كولان J.Couland الذي ألف كتابًا بعنوان"الحركة النقابية في لبنان من عام 1919 إلى عام 1946 "فكتب له مقدمة ظهرت عام 1970 وقد عُرب هذا الكتاب عام 1974 من لدن نبيل هادي ونشرته دار الفارابي ببيروت(7).(52/11)
وفي عام 1970 كتب حول موضوع يتعلق بالفقه الإسلامي وبالذات حول نوازل مازونة، كان مفيدًا للمهتمين بالأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية والنظام القضائي، وقد نشره في مجلة الدراسات الإسلامية (Studia Islamica)(8)
وفي نفس السنة 1970 كان له حديث بعنوان (عودة من الصورة) نشره في المجلة
الدولية Diogéne (1) وفي هذه السنة أيضًا 1970 صدر له كتاب:الشرق الثاني…(2).
ثم كتب عام 1972 مقالة بعنوان عودة إلى مازونة نشره في الحوليات (3)
ولم يتردد هذا العام في أن يكتب مقدمة على الكتاب الذي ألفه كوديو أتيليو بعنوان (علال الفاسي أو تاريخ حزب الاستقلال) ونحن نعرف سلفًا عن علاقته بالأستاذ علال الفاسي، فلقد قام بيرك بزيارته أثناء وجوده في منفاه بالكابون ، عندما شارك بيرك في مؤتمر في برازافيل عام 1944 على ما يذكره بيرك في هذا المقدمة التي لم ينس فيها أن يصف الأيام التي نفي فيها الملك محمد الخامس من قبل الاستعمار الفرنسي بالأيام المحزنة… (4)
وفي نفس العام 1972 كتب عن المنطق الانتخابي، وقد نشر البحث في مجلة (ديوجين) العالمية (5) .
وفي نفس السنة 1972 كتب عن الجديد حول بني هلال، ونشر ذلك في مجلة الدراسات الإسلامية، وكان المقال مما يهم
الذين يشتغلون حول القبائل العربية وما قال عنها ابن حزم وابن خلدون وغيرهما (6) .
وكتب أيضًا بهذا التاريخ 1972 عن علماء تونس في القديم والحديث ، ونشرت مقالة الكراسات التونسية (7) .
وفي عام 1973 ظهر له كتاب (العرب) الذي طبع عدة مرات كان آخرها عام 1979 (8) . وفي نفس العام كتب عن قادس بالقيروان بحسب مخطوطة تونسية، ونشر بحثه في مجلة الغرب الإسلامي والمتوسط (9) .
وبرسم " منوعات " لوتورنو عام 1973 كتب عن قضاة من القيروان بحسب مخطوطة تونسية .(52/12)
وقد أسهم جاك بيرك في الموضوعات المتعلقة بالقضية الفلسطينية على انفراد،وبالمشاركة مع الآخرين ، وهكذا قرأنا له مساهمات في التأليف الذي صدر عام 1973 تحت عنوان "الفلسطينيون والأزمة الإسرائيلية العربية(10) .
وفي كتابه (اللغة العربية حاضرا) الذي ظهر عام 1974 تناول عددا من
القضايا التي تهم العالم العربي والإسلامي(1) .
وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية عام 1978 من لدن روبير سيطوري من جامعة أوستن - طيكساس بريس .
كما ظهر له في نفس العام 1974 تأليف (المغرب تاريخ ومجتمعات) تناول فيه عددا من القضايا التي تتصل ببلاد المغرب بمعناه الواسع ، بما فيها الإصلاح والوقف والتاريخ الاجتماعي(2) . الخ
وبمناسبة الذكرى الأربعين لوفاة صديقه القديم الأستاذ الرئيس علال الفاسي 1974 أسهم بكلمة عبر فيها عن عواطفه نحو الزعيم الذي قال عنه : "لقد حُرم الإسلام من مفكر حريص على التوفيق بين ما هو جديد وما هو أصيل … " (3) .
وفي مجال العلوم السياسية كتب عن "الجزائر والواقع المعاش " ونشر ذلك في المجلة الدولية : ديوجين (4) .
كما قدم لكتاب صدر عام 1974 لمنجى صيادي بعنوان : الجمعية الوطنية الأولى العصرية في تونس : الجمعية الخلدونية 1958 - 1896 .
وبالاشتراك مع الزميل الدكتور مصطفى الشكعة صدر له عام 1974 أيضًا كتاب بعنوان (الجمالية منذ قرن ) : محاولة في التاريخ الاجتماعي لحيٍّ بالقاهرة (5) .
ولا نغفل له دراسة نشرها في الجزائر عام 1974 في مجلة (مغرب Maghreb ) عن استفتاء الأمير عبد القادر لعلماء فاس حول الجهاد … (6) .
وصدر له عام 1975 مقال بعنوان مفاهيم جديدة للتقدم نشره في ديوجين(7)
وقدم عام 1976 لتأليف صدر عن بوتي أوديت بعنوان الأغواط (محاولة في التاريخ الاجتماعي ) (8) .
وظهر له عام 1976 كذلك بحث بعنوان:"المدُّ الوطني والديمقراطية القاعدية في الأمة العربية"1925 - 1915 نشره ضمن(52/13)
تأليف جماعي بعنوان : حول الخطّابي وجمهورية الريف (1) . وقد عرب هذا التأليف ونشر في دار ابن رشد بيروت1980.
وقد صدر له عام 1976 بالاشتراك مع دومينيك شوفاليي وآخرين تأليف (العرب من خلال وثائقهم ) وهو تأليف في غاية الأهمية (2) .
وصدر له كتاب ، بعنوان (العرب من الأمس إلى الغد ) ، طبع لثالث مرة عام 1976 وقدم له في آخر طبعاته زميله السير هاميلتون جيب . وقد ترجم هذا الكتاب إلى الإنجليزية والإيطالية والإسبانية، كما ترجم إلى العربية من لدن بعض الأساتذة في دار الكتاب اللبناني بيروت : الدكتور علي سعد الذي لم يلبث أن أعاد النظر في الترجمة وطبعها من جديد في الثمانينيات ، ثم ترجمها العالم المصري خيري حماد بعنوان (العرب تاريخ ومستقبل ) وطبعتها الهيأة المصرية العامة للتأليف والنشر عام 1971 .
وفي مقدمته لهذا الكتاب أثنى على المغاربة الذين يتميزون عن غيرهم بما سماه "العبقرية الخشنة " !
وقد ظهر عام 1977 تأليف للدكتور طه حسين بعنوان : (فيما وراء النيل) ، عبارة عن قطع مختارة ترجمها من العربية إلى الفرنسية كل من جاك بيرك وميشل حايك، وأنور لوكا ، وأندري ميكيل(3)
وفي نفس العام كتب في "منوعات" طه حسين حول : الإسلام من منظور طه حسين (4)
وهذا كتاب ظهر عام 1978 من تأليف جاك بيرك بعنوان (من داخل المغرب العربي) من القرن الخامس عشر وإلى القرن التاسع عشر ، ويتضمن تعليقات بيليوغرافية وبحوثًا تاريخية كما يتضمن حديثًا عن الإسلام (5) وعلماء الإسلام .
وفي نفس العام 1978 ظهر كتاب له في جزءين اثنين بعنوان " من الفرات إلى الأطلس " عرفنا من خلاله الكثير من المعلومات المهمة ، ومن بعض فصوله عرفنا أن كثيرًا من أطراف المغرب - مزوضة مثلا - ما تزال تعيش إلى اليوم نفس التقاليد والأعراف التي عرفتها محاكم المياه في بلنسية في العصور الوسطى، مما تحدثت عنه كتب تاريخ(52/14)
الغرب الإسلامي . وأن الضبط والإتقان في توزيع ماء السقي بالمغرب، وخاصة بضواحي المدن، بلغ في الدقة والتحري وكأنما لكل ورقةٍ ورقة نصيبها من الماء الذي ينوبها، الأمر الذي حيَّر الذين عاشوا أو سمعوا عن المؤسسات التي تشرف على توزيع الماء (1) .
وفي عام 1978 أيضًا وجدناه يستجيب لرغبة صديقه بيرج مارك فيكتب مقدمة لكتاب : التاريخ وحضارة العرب والعالم الإسلامي (2) .
وقد نشرت له المجلة الثقافية الشهرية (المعرفة) في عددها رقم 192-191 لعام 1978 كلمة بعنوان (رجل في سبيل غرناطة مرتقبة ) .
وعندما قام عام 1979 جان كروسجان ( Jean Grosjean) بترجمة القرآن تطوع جاك بيرك بكتابة دراسة كمقدمة للموضوع (3) .
ومن تآليفه التي لقيت رواجًا كبيرًا كتابه "المغرب بين جربين" الذي وجدنا له عام 1979 طبعة ثالثة مع زيادات وهو كتاب يهم المشتغلين بحركات الاستعمار
والأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية والبحث التاريخي (4) ، ونعتقد أن هذا الكتاب هو الذي أشار إليه بيرك وهو يكتب مقدمة تأليفه السالف الذكر: العرب من الأمس إلى اليوم، والذي نعت فيه العبقرية المغربية بأنها خشنة ( Rude génie) !
وبعد هذا وفي نفس العام 1979 يأتي اهتمامه بالمعلقات العشر فيقدم لها ويترجمها من اللغة العربية ، وأعتقد أن إقدامه على ترجمة المعلقات العشر ، بالإضافة إلى ما قام به من دراسة وتقديم لترجمة جان كروسجان للقرآن، هو الذي سيكون وراء تفكيره في أن يقوم بترجمة القرآن على ما سنرى (5) …
وقد ختم السبعينات ( 1979) بالتقديم لكتاب روني كايي حول الرحلة إلى تنبكتو (6) .
وفيما يتعلق بالتراث الإسلامي وجدنا جاك بيرك يقوم عام 1980 بإعداد مقدمة مهمة لكتاب مقتبس من تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري يحمل اسم(محمد خاتم الأنبياء )الذي ترجمه
هيرمان زطانبرك (ZOTENBERG) (1) ، والذي طبع مرة أخرى عام 1983 .(52/15)
وفي إطار تكريم فيرنان بروديل تساءل عن وجود المارّانوس المسلمين بفاس (2) .
وقد ظهر له في الحقل الأدبي عام 1980 كذلك محادثات (عربيات) مع ميريز عكار (3) .
وفي الميدان الاجتماعي قدم عام 1980 لكتاب فاروق بن عطية وهو بعنوان : الجزائر ركام أو حاضرة : الاندماج الحضري بالجزائر (4) .
وفي نفس السنة 1980 كتب عن الإسلام في مواجهة التحدي (5) .
وفي إطار التآليف العامة ظهر في باريز عام 1981 تأليف مهم تحت إشرافه يحمل عنوان بيليوغرافيا للثقافة العربية المعاصرة (6) .
وقد قدم عام 1981 لكتاب ألفته ندى توميش بعنوان تاريخ الأدب الرومانيسكي في مصر العصرية (7) .
وفي نفس العام 1981 قدم كذلك لكتاب ألفه بالإنجليزية غالي شكري
بعنوان "مصر : صورة لرئيس 1981 - 1971:السادات في طريقه إلى القدس"(8).
وقد ظهر بحث بالإنجليزية حول السياسية والوطنية بالمغرب والصحراء من عام 1919 إلى 1935 ، بمجلة التاريخ العام بإفريقيا : البحث لجاك بيرك وترجمه 1985 - 1981 Heinemann (9) وهو يحتوي على تاريخ الوطنية المغربية والصراع الدولي إلخ.
وفي سنة 1981 كذلك خصص دراسته الختامية في كوليج فرنسا لموضوع بعنوان أندلسيات (10) .
وفي سنة 1982 عندما ألفت بوتي أوديت P.Odette عن " حضور الإسلام في اللسان العربي" كتب لها مقدمة أضفت على الكتاب حُلة جديدة (11)
وقد حرص جاك بيرك على أن يواكب أصداء الثورة الإسلامية في إيران وهو المهتم بالإسلاميات ، ولذلك وجدناه يقوم عام 1982 بعد ثلاث سنوات من الثورة الإيرانية بتقديم تأليف كتبه على شريعتي بعنوان (تاريخ ومصير) وهو عبارة عن قطع مختارة ومترجمة عن
الفارسية من لدن حميد ويفاري دِهيلانكور ( N.Yavari d'Hellencourt )(1)(52/16)
وقد أصدر جوزيف لوسيوني - وهو من الذين كانوا يهتمون بالأوقاف الإسلامية على عهد الحماية الفرنسية بالمغرب-، أصدر بحثًا عن المؤسسات الحبسية بالمغرب منذ بدايتها إلى عام 1956 وهو التاريخ الذي استرجع فيه المغرب استقلاله ، هذا البحث لم يكن غير جاك بيرك صالحًا لكتابة مقدمة عنه في بداية الثمانينيات بما عرف فيه من تضلع من الموضوع (2).
وقد صدر لجاك بيرك عام 1982 كتاب مهم حول بعض العلماء الأصليين الثائرين من بلاد المغرب الكبير في القرن السابع عشر ، وهو يتناول الحديث عن العلماء والحركات السياسية والإسلامية(3)
وقد ظهر له عام 1983 كتاب بالإنجليزية بعنوان ميلاد جديد للعرب : آلام وأفراح ، ترجمه عن الفرنسية كينتان(4) .
وبالاشتراك مع زميله القديم جوليان كولو J. Couleau عرفنا له كتابًا طبع لثاني مرة عام 1984 بعنوان : ذاهبون إلى المغرب (5) .
كما صدر له في هذا العام 1984 كتاب "حول الإسلام في عهد هذا العالم"(6) .
وعندما ألف أحليم المستغانمي عن "المرأة والكتابة في الجزائر عام 1985 " قام بكتابة مقدمة احتوت على ما يهم المشتغلين بالأدب المغربي المعاصر إلخ (7).
ولعلنا لا نعرف أن والد بيرك أوكيستان كان هو كذلك من حَمَلة القلم، ومن ثمت وجدناه يحرر " كتابات عن الجزائر " وقد عُني الولد جاك بتلك الكتابات وجمعها وقدمها عام1986(8)
وقد حضرت له حديثًا ألقاه في مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1986 بعنوان "من حاضر المجتمعات العربية إلى تراثنا الكلاسيكي ومن تراثها إلى الحاضر"، حيث استمعنا إليه يقول :
"إن سوء التفاهم بين عالم الغرب وعالم الإسلام المتفاقم بسبب التوتر السياسي قد تضاعف منذ أوائل الفترة التي ظهرت بها حملة نابليون في مصر مع أنه قد انسحب بسرعة تاركًا وراءه - كما يقول حتى الآن بعض المؤرخين المصريين - عناصرَ نهضة المستقبل". (1)(52/17)
وفي بحر سنة 1987 قدم لكتاب ألفه سلام صادق بعنوان : الإسلام والمسلمون في فرنسا (2) .
وفي نفس العام 1987 كتب بحثًا حول: " الثقافة الإسلامية وفرنسا" نشره ضمن أعمال الجمعية الفرنسية والهجرة المغربية(3) .
وفي عام 1988 نشر بيرك مقالاً له بعنوان : " في القبيلة بشمال إفريقيا" ، نشره في تأليف بعنوان : في الأنثروبولوجيا والتاريخ ، حالة المغرب العربي" ، اهتم به المتخصصون في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية في العصور الوسطى (4) . وكان ذلك إسهامًا منه في المنوعات المهداة إلى لوسيان فيفر …
وفي عام 1989 شعر - وقد أشرف على سن الثمانين- بأن من واجبه أن يفكر في إعداد مذكراته التي كانت ضرورية لكل الذين عرفوه وقرأوا عنه ، وهناك كان كتابه ( مذكرات العَدْوتَيْن ) (Mémoires des deux rives) وقد ضمنه الكثير من المعلومات عن حياته وخاصة بالديار المغربية، ويشعر المرء وهو يقرأه بأنه فعلا أمام رجل ظاهرة، لا يعرف للراحة سبيلا، وأنه استطاع أن يشق طريقه معتمدًا على نفسه وعلى جهده(5).
وفي عام 1990 قدم لكتاب أَلَّفه الزميل الأستاذ عبد الكريم غلاب تحت عنوان "دَفنّا الماضي "والذي ترجمه إلى الفرنسية بعنوان "الماضي المدفون "فرانسي جوان (6).
وقد تلقف العالم العربي الإسلامي خبر محاولته لترجمة القرآن بالكثير من الاهتمام، لما كانوا ينتظرونه من عالم متضلع في اللغة العربية ، متصل باستمرار بالبيئة الإسلامية ومتمرس في الكتابات المتعلقة بقضايا العروبة والإسلام.
لقد ظهرت بالفعل الطبعة الأولى عام 1990 من هذه الترجمة التي استغرقت منه كما يقول ست عشرة سنة من العمل الجاد .
وقد أتي في نهاية هذه الترجمة بدراسة تقع في أزيد من ثمانين صفحة بعنوان : (عند قراءة جديدة للقرآن ) أورد فيها أجوبته على ما يمكن أن يُطرح من أسئلة(1) .(52/18)
ومن المهم أن نعرف أن الرجل كان يقدر أهمية الخطوة التي أقدم عليها بترجمته للقرآن ، ولذلك فليس من الغريب أن نقرأ في مقدمته للترجمة مثل هذه الكلمات التي لا تخفى دلالتها : إنه لا يمكن أن يُنتظر من شخص واحد مجموع الخصائص التي يستلزمها مشروع كهذا -من المسؤول عنه، فإلى المعارف الفقه - لغوية الجادة ، وإلى المعرفة الجيدة بتفسير النص وأسباب النزول، ينضاف شيء من الحدس الروحي والحس النقدي للتاريخ ، والحساسية الأدبية … فماذا يمكن أن يقال عن الجمع بين هذه الوظائف كلها ، ومَن الذي يزعم الطموح إلى ذلك، أو تكون لديه الوقاحة ليطالب بذلك غيره ، وهل ينبغي تفويض الأمر مستقبلاً إلى فرق ، وهل على مترجم جديد أن يعتذر عن المغامرة أو على الأصح عن الانتهاك ؟ هذا الانتهاك الذي يُهوِّن من أمره أنه اقترف من قبل الكثيرين قبلي … إذا ما أضفنا هذا إلى ما ورد من كلامه في مجلة (استوديا إسلاميكا) حينما قال : إنني لممتنٌّ كثيرًا لجميع الذين نبهوني إلى ما وقعت فيه من هفوات أو أخطاء أو سهو، وإني لأتقبل بكثير من الاهتمام كل ملاحظة جديدة فلا أحد منزه عن الخطأ ، والمناقشة هي الوسيلة لتعميق التأويل في صالح الجميع " .
وبمناسبة التقائنا جميعًا في القاهرة في اجتماع مؤتمر مجمع اللغة العربية يبراير 1991 لم يكن الحديث يدور إلا عن ترجمته القرآن التي كانت حديثة الظهور. وقد اقترحتُ عليه وقتها أن يقدم الترجمة أمام أعضاء المجمع، لكني لاحظت أنه - على ما أذكر - غير متحمس لذلك …(52/19)
هنا في بناية المجمع … وفي بعض المآدب التي جمعتني به عند طائفة من الأصدقاء، أو في بعض اللقاءات التي كانت تجمعنا في بعض المكتبات … كان الرجل يردد الأفكار التي سمعناها عنه في التعريف بالترجمة ، تلك الأفكار التي تتلخص في أنه كعالم باحث يرحب بكل الذين يتعقبون أفكاره، وقد قام بالفعل بالاتصال بعدد من أساتذة الأزهر الشريف لاستمزاج رأيهم حول عدد من القضايا التي تتصل بالترجمة …
ونعود إلى تأليف جاك بيرك بعد ظهور ترجمته للقرآن لنذكر أنه عندما ألف جان بول شارناي 1991 حول الحياة الإسلامية في الجزائر بحسب الأحكام القضائية للنصف الأول من القرن العشرين ، قدم جاك بيرك للكتاب المذكور بما نعهده فيه من إثراء وإغناء للموضوع(1) .
وكذا كان الأمر عام 1991 عندما تصدى سيريل كلاص C. Glasse إلى وضع قاموس موسوعي للإسلام … فقد وجدنا أن جاك بيرك يضع له عام 1991 مقدمة تناسب الموضوع (2) .
وكذلك رأيناه يقوم سنة 1993 بتقديم كتاب ألفه بيرنار بوتيفو Bernaed Botiveau
بعنوان القانون الإسلامي والحقوق في المجتمعات العربية (3) .
وفي نفس السنة 1993 صدر له تأليف حول محادثات مع جان سور Jean Sur(4).
وفي عام 1994 استجاب لزنَّاد بوشرارة فكتب له مقدمة عن كتابه Les lieux du corps en Islam (5) .
وفي عام 1995 صدر له تأليف طريف حول كتاب الأغاني بعنوان (موسيقى على ساحل الوادي : الصفحات الأكثر جمالا من كتاب الأغاني) (6) .
وقبل أن يتوفاه الله أواخر الشهر السادس من عام 1995 صدرت له طبعة جديدة لمحاولته ترجمة القرآن مشفوعة بدراسة تفسيرية على نحو الطبعة السابقة(7) .
وقد أدركته الوفاة وله كتاب تحت الطبع يحمل عنوان (العرب والإسلام ونحن) ظهر عام 1996 ، ويحمل إلى جانب جاك بيرك اسم زميله جان سور سالف الذكر (8) .(52/20)
ونحن إذا ما رجعنا إلى تقاريره التي قدمها إلى وزارة التربية الوطنية الفرنسية، وكذا تقاريره إلى منظمة اليونسكو كخبير منذ عام 1955 فسنقف على تقارير كان يكتبها بعد رويَّة وتفكير وبعد كثير من استقصاء الآراء واستيعاب الموضوع ، لا يهمه أن ينهي تقريره في وقت محدد بقدر ما يهمه أن يكون تقريره مرضيًا لفكره وضميره .
ومن غير أن نهمل ميدان الأطاريح التي كان يُشرف عليها، أو يناقشها لابد أن نذكِّر بعشرات الرسائل العلمية المفيدة التي أسهم فيها إشرافًا أو مناقشة، والتي اعتبر تدخله في أثنائها بمثابة علم جديد يضاف إلى المعلومات التي قدمها الباحثون المرشحون لنيل ألقاب أكاديمية…
يضاف إلى هذا أن المهتمين من عيون الطلبة وحتى من بعض الأساتذة كانوا يجدون متعة في الاستماع إليه وهو يثير بعض التعقيبات التي لم تكن تخطر على البال … وكثيرًا ما كان يمزج نقاشه بالدعابات التي تهدف إلى شحذ ذهن أو إزالة غفلة ، وقد حضرت ذات يوم بعضًا من هذه المجالس العلمية التي كانت ثريَّة بالأفكار الصائبة ، والتعقيبات المفيدة التي تكون محل مناقشات ومراجعات فيما بعد.
وإذا ما حاولنا أن نقوم بحفريَّات فيما يتصل بموضوع (جاك بيرك السياسية) فسنجد له ، والحق يقال ، مواقف ينبغي أن نذكرها له مرورًا بالتاريخ، وخاصة فيما يتصل بآرائه إزاء التحرر من الاستعمار والاستغلال الذي كان يجثم بكلكله على صدور بعض البلاد العربية والإسلامية … وسأكتفي في هذا الباب - ونحن أكاديميون قبل كل اعتبار- أن أحيل على بعض استجواباته التي خَصَّ بها بعض الإذاعات أو بعض الصحف ذات الشهرة العالمية (1)
فإذا ما فتحنا ملف ما قيل عن مؤلفاته من تعاليق ، وما كتب عليها من مقالات، فسنجد أنفسنا أمام مئات الجزازات ومئات الأسماء من الذين تعقبوا مؤلفاته ودراساته بالكثير من العناية والاهتمام … وسنجد أننا أمام عالم قائم بذاته يحمل اسم جاك بيرك (2) .(52/21)
تلك جولة في أعمال هذا الرجل الجليل، مرتبة على سني حياته، وهي تشهد، إن كنا في حاجة إلى شهادة، بأن الرجل كان من طينة خاصة فيما يتصل بنشاطه المتوالي وفيما يتصل كذلك بحرصه على أن يبقى في الجو الذي ألفه منذ شبابه : الجو العربي الإسلامي الذي وصفه في مقدمة كتابه عن العرب من الأمس إلى اليوم ، وخاصة الجو المغربي الذي ملأ عليه أجواء حياته منذ البداية …
لقد قدَّرت فيه نشاطه المتواصل منذ أن تعرفت عليه عندما كنت اجتمع معه عند بعض الشخصيات المغربية … وعندما كنت سفيرًا لبلادي في بغداد وفي طرابلس ،وعندما كان يتردد على العراق وليبيا، وقد أكبرت جهوده وخاصة في السنين الأخيرة من حياته التي تضاعفت فيها أعماله وكثرت تنقلاته .
لقد زار المغرب آخر ما زاره في أواخر فبراير 1995 بدعوة من مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، حيث ألقى محاضرتين: الأولى حول ترجمته للقرآن، والثانية حول الاندماج الحضاري .
سألته : ألا تشعر بالتعب وأنت تتجشم هذه المتاعب؟ فكان جوابه : إنه يشعر بالمتعة الكبرى وهو يسهم بإضافة كلمة جديدة، يذكره الناس بها، إن الوسيلة
الوحيدة التي تجعلك صحيح الجسم دائمًا هي ( يؤكد بيرك ) أن تظل على صلة بما يُغْنِي معلوماتك ويؤثث ذاكرتك .
تلك كلمات سمعتها منه ونحن نتوادع،تعمدت إيرادها أمامكم،وإذا كان المشرق وراء التعريف بجهود جاك بيرك من خلال ما ترجمه له من تآليف ، وما كتب عنه من مقالات فإن المغرب يُقدر جيدًا ما قدمه بيرك للمكتبة العربية على شتى الأصعدة وفي مختلف الحقول …
ومن هنا رأينا أن المؤسسات الرسمية بالمغرب ، وكذا المؤسسات الحرة : مؤسسة الملك عبد العزيز، وكذا العديد من الأساتذة والكتاب يقومون برد الجميل إلى بيرك بما نشروه وكتبوه (1) مما يحملنا على الدعوة إلى القيام بتعريب سائر إنتاجه وخاصة ما يتصل منها بلغتنا وبيئتنا …(52/22)
وغداة اليوم الذي توفى فيه طلبت إلى إذاعة طنجة، بصفتي عضوًا في مجمعكم الموقر، أن أعطي بالتليفون نبذة عن نشاطه أذاعتها على التوّ …
وبعد … فكل الرجاء من زملائنا قادة المجمع، وأقصد إلى السيد الرئيس
وإلى كل العناصر الفاعلة في المجمع أن يحتفظوا لرجال الاستشراق بكراسي لهم بين زملائهم الآخرين في هذا المجمع ، بل أن يفكروا في توسيع دائرة نشاطهم سيما وقد أصبح للاستشراق في كل بلد من بلاد العالم رجال ونساء يهتمون بالدراسات العربية والإسلامية في كل حقول المعرفة … وبهذه المناسبة أرشح اسم الأستاذ أندري ميكيل لملء كرسي العضو الراحل جاك بيرك …
لقد أتيحت الفرصة لي كي أشارك في أثناء السنتين الماضيتين في عدد من المؤتمرات التي احتضنت طائفة من رجال الاستشراق، وقد سررت بظاهرة طريفة،
تلك هيمنة الأمانة في البحث العملي على معظمهم ، وتجاوز الأفكار التي كان بعضهم يحاول أن يزرعها في أوساط الضعاف من المثقفين . لقد أصبحت للاستشراق اليوم أبعاد تعتمد على تعميق المعرفة والاستفادة من كل الطاقات لخير العلم، والعلم وحده !
وأعتقد أن على مجمعنا أن يستمر في مواصلته لرجال العلم أينما كانوا وبالروح العلمية البناءة الهادفة إلى تحقيق المزيد من العطاء، والمزيد من النماء .
أشكر زملائي على حسن إصغائهم .
عبد الهادي التازي
عضو المجمع من المغرب(52/23)
الجزء
الرابع والثمانونالمحرم 1420هـ/ مايو 1999م(53/1)
قضية التعريب هي إحدى القضايا المتصلة بتفاعل الحضارات . وقد ظهرت بوضوح في حياتنا العربية منذ أكثر من قرن حين قوي احتكاك الحضارة الغربية بحضارتنا العربية الإسلامية ، في أعقاب تمكن الغزو الاستعماري الأوربي من احتلال عدد من أقطار وطننا العربي الكبير .
لا تزال هذه القضية مطروحة بقوة في حياتنا العربية تشغل أذهان أهل الفكر وأهل الحكم على السواء ، تختلف بشأنها الآراء والمواقف والسياسات ، ويحتدم حولها الجدل فتثور مشاعر وتحدث انفعالات ، ويتصل الحوار .
يتداعى إلى خاطري كلما تابعت هذا الحوار في المحافل العلمية حول هذه القضية موضوع تفاعل الحضارات ، وأجدني استحضر ما قرره المختصون بعلم الحضارة من سنن هذا التفاعل ، فاستشعر الحاجة إلى مقاربة قضية التعريب في ضوء سنن التفاعل الحضاري
بغية تحقيق فهم عميق لما يحدث في إطارها ، يجعل المعنيين أقدر على التعامل معها ومعالجتها .
سأحاول في هذا الحديث القيام بهذه المقاربة ، بتحديد القضية أولاً بإيجاز ، ثم استحضار بعض سنن التفاعل الحضاري المتصلة بها ثانيًا . ثم النظر في ضوء ذلك في نشوئها وتطورها ، والوقوف أمام أمور فيها ثالثًا ، مستجيبًا للدعوة الكريمة التي وجهها مجمع اللغة العربية لبحث هذه القضية وقد جعلها الموضوع الرئيسي لمؤتمره لعام 1997م.(54/1)
حين نحاول تحديد قضية التعريب بإيجاز ، نعود إلى معنى التعريب في اللسان العربي ، ثم نتوقف أمام المعنى الاصطلاحي الذي نما واتسع مع بروز قضية التعريب وتطورها ، وقد رغبت إلى أحد شيوخ خبراء المصطلح العربي زميلنا المجمعي الأستاذ أحمد شفيق الخطيب أن يتفضل ويعلمني برأيه في تحديد مفهوم مصطلح التعريب ، فكتب " التعريب: عرّب ، يعرّب ، تعريبا . - عرّب النصّ: جعله عربيا ، إما بالنقل من لغة غير العربية إلى العربية ، أو بجعله عربيا مقبولا من حيث المتطلبات اللغوية (القواعدية) والاجتماعية . - وعرّب اللفظة : ترجمها إلى العربية من لغة أخرى ، أو صاغها من أصلها الأجنبي بصيغة تتلاءم والسليقة العربية . - وعرّب التعليم : جعله باللغة العربية . والمقصود به التحول عن تعليم المواد التي تدرس حاليا باللغات الأجنبية (عدا اللغة الأجنبية ذاتها ) إلى تدريسها باللغة العربية . - وعرّب الإنسان : ربّاه التربية العربية وعرّفه بتقاليدها وقيمها ومفاهيمها ، بحيث تستحوذ العربية على فكره وقلبه ، وحصنه ضد " التعريب " الفكري والثقافي والاجتماعي . - وعرّب العلم : وطنه ورسّخ جذوره في البيئة العربية باستخدام كافة الوسائل التي تنقل العلم إلى مختلف القطاعات ، لا الجامعية والأكاديمية فقط بل الصناعية والتجارية والزراعية والحياتية عامة ، بحيث تغدو اللغة العلمية العربية جزءً ا من حياتنا اليومية في المدرسة والبيت والمصنع، وتغدو الثقافة العلمية العربية جزءً ا من ثقافة الصانع والطالب والمعلم والصحافي والأديب كما صاحب الاختصاص الفني .(54/2)
إذا كان لفظ التعريب في اللسان العربي يدل على الكلام المهذب ومعانً أخرى كثيرة ، وإذا كان مصطلح التعريب في القديم كان يعني جعل صيغة اللفظة الأجنبية ذات جرس عربي ، كما يقول الدكتور جميل عيسى الملائكة في بحثه "التعريب واختلاق المعوقات " ، فإن المعنى الاصطلاحي الحديث الذي ذكره الأستاذ أحمد شفيق الخطيب يبين أن قضية التعريب متصلة بتفاعل الحضارات ، ولها طبيعتها الحضارية . وهي تتضمن في داخلها العلاقة بين الذات والآخر . فتعريب النص واللفظة والتعليم ، يتعلق باللسان الذي هو أحد أركان هوية الإنسان ، ومعه ركن العقيدة وركن التراث تاريخًا وثقافة . وتعريب الإنسان والعلم ، يتعلق بالبناء الحضاري والعمران من خلال الاستجابة لتحدي حضارة الآخر وعمرانه في نطاق التفاعل الحضاري معه .(54/3)
نستحضر ما توصل إليه المختصون بعلم الحضارة فيما يتعلق بظاهرة تفاعل الحضارات وسنن التفاعل الحضاري . فيتداعى إلى الخاطر حديث أسلافنا عن العمران في الاجتماع الإنساني ، وما قام به ابن خلدون من بلورة " علم العمران البشري والاجتماع الإنساني " في مقدمته الشهيرة لكتابه " العِبَر … " ، وسبقه في استخدام مصطلح " الحضارة" كما يتداعى إلى الخاطر استخدام مصطلح "الحضارة" في الغرب الأوربي منذ القرن الثامن عشر الميلادي مع مصطلح "الثقافة" ، والعناية بظاهرة نشوء الحضارات وازدهارها وانحطاطها وأفولها، في نطاق دراسة علم التاريخ،وظهور عدد من المختصين بدراسة هذه الظاهرة في دائرة الحضارة الغربية في القرن العشرين. من أبرزهم أوزوالد شبنجلر صاحب الكتاب الشهير "انحطاط الغرب " وأرنولد توينبي صاحب الكتاب الشهير "دراسة في التاريخ " والبرت شفايتزر الذي ألف " فلسفة الحضارة " وبيترم سوروكين الذي ألف " المجتمع والثقافة والشخصية " . ويتداعى إلى الخاطر أيضًا اهتمام الفكر العربي بدراسة ظاهرة الحضارة ، وإسهامات عدد من المفكرين العرب ، من بينهم ساطع الحصري في تآليفه عن الثقافة والاجتماع وابن خلدون ، ومالك بن بني في تآليفه في سلسلة " مشكلة الحضارة ، وزكي نجيب محمود، في عدد من كتبه ، وقسطنطين زريق، في كتابه الجامع " في معركة الحضارة " ، وجيل تالٍ من المفكرين العرب تابع الاشتغال بعلم الحضارة.(54/4)
حدد علماء الحضارة مفهوم مصطلح الحضارة ودلالاته التي بلغت سبعًا في معجم وبستر الموسوعي غير المختصر . وأبرز هذه الدلالات ما جاء في المعجم الوسيط من أنها " مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني ومظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي في الحضر" . كما نظر هؤلاء العلماء في شروط الحضارة وتعددها في إطار وحدة الاجتماع الإنساني ، وفي مظاهرها المادية والمعنوية والشخوص ، وفي قوامها من "النظم " " والقيم " والمفاهيم " ، وفي التغيرات التي تطرأ عليها، وعوامل التغير الحضاري، وفي مقاييس التحضر التي فيها إبداع خلقي وآخر جمالي وحرية فكرية وعدل ونظم وأشخاص قدوة تعبيرا عن الإبداع والتحرر والكرامة . وبحث علماء الحضارة أيضًا في تفاعل الحضارات وسبل هذا التفاعل ووسائله وسننه .
الحضارات تتواصل وتتفاعل وتتبادل وتتلاقى، فيؤدي ذلك كله إلى مظاهر ونتائج . ومن سبل التفاعل الحضاري ووسائله الغزوات والفتوح والحروب في زمن الحرب وانتقال الأشخاص في زمن السلم . ومن خلال هذه السبل تنتقل منجزات الحضارة المادية والأفكار والمعتقدات. وقد عرف التاريخ الإنساني في القرون الخمسة الأخيرة الاستعمار الحديث سبيلا لاحتكاك الحضارة الغربية التي اعتمدته بالحضارات الأخرى ، فكان أن حدث " تسلط " حضاري يعتمد القوة الغاشمة والقهر جعل " التفاعل الحضاري" في ظله مفتقدًا جو الرضا الذي يزدهر فيه التواصل والتبادل والتلاقم ، وسبب بروز ردود أفعال عليه.(54/5)
إن من ظواهر التفاعل الحضاري أن التأثير يسري عادة من الحضارة الأرقى إلى الحضارة الأخرى ، وأن الحضارتين تتبادلان التأثير مهما كان الفارق كبيرا بينهما ، وأن بعض عناصر الحضارة المتصلة بمنجزاتها المادية والتقنية هي أسرع انتقالا للأفكار والمعتقدات . ويضيف قسطنطين زريق ظاهرة رابعة مؤداها أن نفاذ العناصر والمقومات من حضارة إلى أخرى لا يعتمد على قدرة الأولى فحسب بل على تهيؤ الأخرى لقبولها واقتباسها . وظاهرة خامسة هي أن التواصل الحضاري يؤتي خير ثماره حين يجري في جو من السلم والرضا والحرية والتفاهم. ولعل أهم ما ينجم عن التفاعل الحضاري في إطار هذه الظواهر مجتمعة هو التفاعل بين الحضارة وتراثها في تواصل زماني يقترن بتفاعلها مع الحضارة الأخرى في تواصل مكاني .
هذه واحدة من سنن التفاعل الحضاري تستحق الوقوف أمامها لإحسان التعامل معها . وهناك سنن أخرى تتعلق بملابسات هذا التفاعل والمواقف التي تبرز في الحضارة المتأثرة .(54/6)
موقف أول يقفه البعض في الحضارة المتأثرة من الحضارة الأخرى هو موقف الرفض المطلق المقترن بالتشبث بالتراث . وقد أسمى توينبي متخذيه " المتعصبين ". وشاعت في دائرتنا العربية تسمية "الانكماشيين" التي استخدمها وليد قمحاوي في كتابه " النكبة والبناء" . وموقف ثانٍ هو موقف القبول المطلق المقترن بالعداء الشديد للتراث . وقد اسمى توينبي متخذيه " الهيروديين"، نسبة إلى الملك هيرود الذي عاش في زمن عيسى عليه السلام وتشبه بالرومان الذين احتلوا منطقتنا آنذاك . وشاعت تسمية "الانغماسيين" للدلالة عليهم . وهؤلاء من وصفهم مالك بن نبي" بأن لديهم القابلية لأن يستعمروا " . وقد أشار زريق إلى أن بين هذين الموقفين مواقف مختلفة تتباين في مدى الرفض والقبول ، وهي الغالبة عند تواصل الحضارات وتفاعلها . والحق أننا نستطيع أن نتحدث عن موقف ثالث عني كاتب هذا البحث بدراسته في بحوثه ، وأسماه موقف "الاستجابة الفاعلة " . وقد توصل من خلال هذه الدراسة إلى أمرين بشأنه .
الأمر الأول أنه يتميز عن الموقفين السابقين بأنه " فعل " بينما هما ينتميان إلى "رد الفعل" . فالاستجابة الفاعلة هي مواجهة تحدي الحضارة الأخرى ببناء موقف حضاري قائم على إدراك كنه الحضارة وجوهرها ، أساسه إعمال الفكر وإمعان النظر . وواضح أن موقفي الانكماش والانغماس ، وكل منهما رد فعل ، يفتقران إلى عنصر الفكر الذي هو ما يميز الاستجابة الفاعلة .
الأمر الآخر أن الدائرة الحضارية تشهد انتقال شخوصها البارزة وأعلامها خلال مسيرة حياتهم بين المواقف الثلاثة في غالب الأحيان . فيمرون بموقف انكماشي وآخر انغماسي ليستقروا على موقف الاستجابة الفاعلة .
هل لنا بعد هذا الاستحضار لسنن التفاعل الحضاري أن نرى قضية التعريب في ضوئها ؟(54/7)
يستطيع دارس التاريخ أن يلاحظ يسهولة حين يستذكر التاريخ العربي أن أمتنا العربية خبرت الاحتكاك الحضاري منذ فجر الحضارة . وذلك بحكم موقع وطنها العربي من القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأوربا ، الذي جعل بعض طرق التجارة بين الأقطار والدول تمر من الجزيرة العربية والهلال الخصيب ووادي النيل وواحات إأريقيا وساحلها في الشمال منها .
تتداعى إلى الخاطر هذه الحقيقة ، حقيقة خبرة العرب بالاحتكاك الحضاري، حين نقارب قضية التعريب التي تعيشها الأمة العربية في ضوء سنن التفاعل الحضاري . وقد استقرت هذه الخبرة في فكر الأمة وضميرها عبر تاريخ طويل حافل بتواصل الحضارات . وتبرز أمامنا في هذا التاريخ ثلاث مرات من هذا التواصل حدثت قبلا .
المرة الأولى في تاريخ منطقتنا العربية القديم إبان ازدهار حضارات الرافدين والنيل والهلال الخصيب، سومرية وبابلية وآشورية ومصرية وكنعانية ، وتواصلها مع حضارات آسيا وأفريقيا ثم أوربا حين ازدهرت حضارة الإغريق .
والمرة الثانية إبان الحمل بالحضارة العربية الإسلامية قبيل بعثة محمد بن عبد الله- صلى الله عليه وسلم -وفي أعقابها حين بلغت هذه الحضارة أوجها ، حيث تفاعل العرب مع الحضارت فارس والهند والروم والصين وأفريقيا .
والمرة الثالثة حين تفاعلت مع هذه الحضارة العربية الإسلامية حضارة أخرى ناشئة في أوربا منذ حرب الفرنجة التي بدأت في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي .(54/8)
أقبلت أمتنا في المرات الثلاث على التواصل الحضاري الذي تم في جو السلم والرضا في أغلب الأحيان . وأتقنت فن التفاعل بما فيه من تبادل تأثير وعطاء وأخذ . وكثيرة هي الأمثلة التي تستوقفنا في المرة الأولى ، وقد حفظتها الملاحم والمتون والكتابة على الطين وعلى أوراق البردي ، بالحرف المسماري والرسم الهيروغليفي والأبجدية الكنعانية ، ولا يتسع المجال هنا لأكثر من هذه الإشارة إليها . وما أكثر الأمثلة على التفاعل في المرة الثانية التي شهدت بلورة أجدادنا العرب صيغة "إيلاف" قريش في العلاقات التجارية الدولية المذكورة في القرآن الكريم مقترنة بالإشارة إلى رحلة الشتاء والصيف ؛ وشهدت ازدهار مراكز الترجمة في بغداد ونصيبيين والرُّها ودمشق وحواضر الإسلام الأخرى من لغات حضارات ذلك العصر من هندية وفارسية ويونانية إلى اللسان العربي ؛ كما شهدت انتشار محافل الحوار والعناية بالترحال وكتابة أدب الرحلات وكتب المسالك والممالك والتأليف في مختلف العلوم .(54/9)
في المرة الثالثة أقبلت شعوب أوربا على النهل من مَعين الحضارة العربية الإسلامية المزدهرة بعد أن تعرفوا عليها أثناء حروب الفرنجة التي استقطبت جماعات منهم ، في الأندلس وصقلية . وكانت أمتنا تعطي بسخاء العلوم المزدهرة في منائر العلم فيها . وإذا كانت دراسة سُبل انتقال المعرفة من دائرتنا الحضارية إلى دائرة الغرب الحضارية قد رسمت صورة واضحة عن بعض فترات هذه المرحلة من التفاعل الحضاري ، فإنه لا يزال أمامها مساحات واسعة لم يتم ارتيادها بعد ، وبخاصة وأن دراسات حديثة ظهرت في أوربا تبين أن المرحلة امتدت حتى النص الثاني من القرن التاسع. ومن أمثلة هذه الدراسات ما كتبه فان كونينكسفلد الهولندي عن "دور الأسرى المسلمين في أوربا الغربية خلال القرون الوسطى المتأخرة " ، وقد قدم هذا البحث للمؤتمر العام السابع للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر، صيف عام 1995 ، وتابع فيه ما حققه الباحث البلجيكي فيرلندن . ويقوم سالفاتوري بونو الإيطالي ببحوث تعني بالتفاعل الحضاري بين حضارتنا العربية الإسلامية والحضارة الأوربية على صعيد حوض البحر الأبيض المتوسط من خلال مؤسسته SIHMED . وبقدر ما يسجل لهؤلاء العلماء المستشرقين وأمثالهم فضل الأمانة العلمية في رسم صورة كاملة لهذا التفاعل ، بقدر ما يلاحظ المشتغل بعلم تاريخ الأفكار مع أرسكين تشايلدر كيف عمد كثير من مؤرخي الأفكار الغربيين إلى ما أسماه "فقدان الذاكرة " في تعاملهم مع هذا التفاعل. ويمكننا أن نرى بوضوح في المرات الثلاث تجلي سنن التفاعل الحضاري التي استحضرناها.(54/10)
اختلفت طبيعة احتكاك أمتنا بالحضارة الغربية منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، حين بدأت تواجه الغزو الاستعماري الأوربي بدءً ا من غزوة بونابرت الفرنسية الاستعمارية لمصر وفلسطين عام 1798 . وقد تتالت موجات هذا الغزو ، ونجحت الأولى منها في فرض الاحتلال الفرنسي على الجزائر عام 1830 والاحتلال البريطاني على عدن عام 1839. ثم على ساحل الخليج، ثم نجحت الموجة الثانية في فرض الاحتلال الفرنسي على تونس عام 1881، والاحتلال البريطاني على مصر عام 1882 فالسودان عام 1896 ، والاحتلال الإيطالي على ليبيا عام 1911 والاحتلال الفرنسي على المغرب الأقصى عام 1912 . ثم جاءت الموجة الثالثة أثناء الحرب العالمية الأولى - كما يسميها الأوربيون - بالاحتلال الفرنسي والبريطاني للعراق والشام وتجزئة هذه الديار أواخر عام 1917م.
أصبح الاحتكاك الحضاري بالغرب هذه المرة مطبوعًا بطابع الاستعمار الحديث بما فيه من "تسلط" حضاري يعتمد القوة الغاشمة والقهر . فكان أن برزت قضية التعريب ، ولا تزال مستمرة حتى اليوم ، يكتنفها ما يسببه التسلط من مناخ غير صحي للتفاعل الحضاري .
حين نستحضر مسار هذه القضية على مدى قرنين من السنين ، ونتأمل في هذا المسار في ضوء سنن تفاعل الحضارات محللين، نخرج بمجموعة أفكار نجملها في نقاط :(54/11)
أولا - الخط البياني لمسار قضية التعريب هو محصلة قوة التسلط الحضاري الغربي وقوة المواقف الثلاثة منه ، الانكماشي والانغماسي، والاستجابة الفاعلة . ويلاحظ على هذا الخط أنه كان يشهد صعودًا ونزولا في تذبذب ، ولكنه في اتجاه الصعود معبرًا عن تفوق قوة الاستجابة الفاعلة وعن انبعاث حضاري. ويمكننا أن نميز في مسار القضية ، مرحلة استمرت منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى بداية الموجة الأولى الاستعمارية ، شهدت صورًا من الاستجابة الفاعلة بعد أن نجح صمود الأمة في صد الغزوة الفرنسية وإلحاق الهزيمة بها . كما نميز مرحلة أخرى تلتها، استمرت حتى مطلع العشرينيات من القرن العشرين بعد الحرب الأولى . وهذه اشتد فيها التسلط الاستعماري الحضاري مستهدفًا إخضاع الأمة باستلاب هويتها وتكريس تبعيتها . ونميز مرحلة ثالثة استمرت منذ مطلع العشرينيات حتى السبعينيات من هذا القرن. وقد شهدت صراعًا حادًا بين موقفي الانكماش والانغماس في أوساطنا من جهة وبين التسلط الحضاري الاستعماري وتيار الاستجابة الفاعلة النامي من جهة أخرى.ونميز مرحلة رابعة منذ السبعينيات واجهت فيها أمتنا وأمم أخرى في عالمنا سعي قوى الهيمنة الدولية فرض"عولمة كوكبية " مستخدمة أساليب متطورة من التسلط الحضاري وموظفة "ثورة الاتصال"بوسائلها الإعلامية الفعالة. وهي تشهد احتدام المعركة بين التسلط الحضاري الغربي وتيار الاستجابة الفاعلة . ويمكننا أن نستحضر أمثلة كثيرة على الصراع الدائر في قضية التعريب في كل من هذه الحضارة .(54/12)
ثانيًا - وضع التسلط الحضاري الغربي نُصب عينه استهداف اللسان العربي أوًلا بغية هز الهوية العربية بإضعاف أحد أركانها ومن ثم الركنين الآخرين: العقيدة والتراث . فألصق بهذا اللسان نقائص كثيرة واتهمه بالعجز عن استيعاب مصطلحات العلوم ، بل واتهم حرف كتابته وقواعده ونحوه . كما استهدف المستعمر الغربي بتسلطه التربية والتعليم بغية فرض منهج يعتمد التلقين دون التفكير الإبداعي ، ليكون متلقيه تبعًا له إمّعَة ، يسلم له بالقيادة بدعوى أن الغرب هو الحضارة والغربي هو المتحضر المتقدم، دون إعمال مقياس التقدم المعتمد حضاريًا في قياس أفعال هذا الغربي، واستهدف المستعمر الغربي بتسلطه أيضًا القرار السياسي في قمة هرم المجتمعات العربية ، من خلال دعم " التغريب الانغماسي وتمكين أسراه من التحكم في المجموع .
لقد كان لتيار الانكماش رد فعله على هذا التسلط في المجالات الثلاثة ، ولا يزال . كما كان لتيار الانغماس الذي ذهب بعيدًا في تغريبه إلى حد تبني الفرنكفونية والإنجلوفونية على صعيد اللسان ، وإلى حد المناداة جهرًا بأن نصبح غربيين "نأكل ما يأكلون ونشرب ما يشربون ونلبس ما يلبسون ونتعلم ما يتعلمون " كي نتقدم ونلحق بالركب على صعيد التربية والتعليم ، وإلى حد الدعوة للرضا بالتبعية لهم على صعيد الحكم كي نتجنب غضبتهم ويكفوا عن أن يعتبرونا أعداءهم ومن ثَم يقبلونا في معسكرهم . وقد تميز رد الفعل الانكماشي بعنفه وقصر نفسه وعزلته.
كان لتيار الاستجابة الفاعلة استجابته الفاعلة لتحدي هذا التسلط، التي تميزت باعتمادها الفكر وطول النَّفَس، وببروز قادة تيارها أعلاما للأمة يلتحمون بأبنائها ويستلهمون إرادتها ويحسنون التعبير عنها . وقد اكتسب هذا التيار خبرة متزايدة في التعامل مع قوى الهيمنة الدولية . كما حرص على العلم المؤسسي ، فقامت في أوساط الأمة مؤسسات رسمية وأهلية تعبر عن الاستجابة الفاعلة في مختلف الميادين .(54/13)
ثالثًا - تستنفر " عولمة الكوكبية" طاقات خاصة الأمة العربية ليستجيبوا لتحدياتها ، وتقدح زناد الفكر في تيار الاستجابة الفاعلة للإجابة عن سؤال " ما الذي ينبغي عمله ؟ " ويوضح هذا الفكر بين يدي الإجابة أن معالجة قضية التعريب تبدأ من النفْس . ذلك " لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" كما ردد الإمام محمد عبده قبل قرن ، وأكد مالك بن نبي وهو يطرح شروط النهضة مستذكرًا . كما يوضح أن جهود النهضة في الأمة حققت انبعاثًا صاعدًا في محصلته متطلعًا أن يبلغ غايته بتحقيق المشروع الحضاري الغربي .
البدء من النفس يقتضي العناية بالحوار بين التيارات الثلاثة في الأمة ، ويتحمل تيار الاستجابة الفاعلة بحكم طبيعة الفعل فيه وخبرته بتياري الانكماش والانغماس مسؤولية المبادرة إلى هذا الحوار والصبر عليه ، وتوظيف طاقات قيادات التيارين حين يتجهوا إلى الالتحاق به ، وفق إحدى سنن التفاعل الحضاري . وتتداعى إلى الخاطر أمثلة عن العطاء السخي الذي قدمه أعلام عرب على صعيد الفكر حين انتقلوا من "الانغماس " إلى الاستجابة الفاعلة . وقد حرص واحد منهم على أن يعلن تحوله بكتابة مقال " توبة قلم" أشار فيه إلى ما كان يردده في مرحلة التغريب الانغماسي التي مكث فيها سنين ، ثم شرع في العطاء للفكر العربي .
هذا الحوار في دائرة الذات الحضارية يضع نُصب عينه بلوَرة سُبل الحفاظ على الهوية ، والحسم في مسألة اعتماد لسان الأمة للتعليم مع ضرب الأمثلة العملية على ما يتصف به هذا اللسان من قدرة على تلبية جميع متطلبات النهوض الفكري والعلمي والتقني ، فضلا عن حفاظه على نموذجه سليما بفضل القرآن الكريم . ومما يساعد على الانتصار في مسألة اعتماد اللسان العربي ما نشهده من صحوة تتعلق بالعقيدة ، وما أثمره تفاعل الأمة مع تراثها وفقًا لسنة حضارية من إغناء للحياة الفكرية فيها.(54/14)
يضع هذا الحوار نُصب عينه أيضا اعتماد حرية الفكر والإبداع والخروج من أَسر التقليد ، وتوفير المناخ اللازم للإبداع من حرية تعبير وسيادة وديمقراطية شورية وتوخٍّ للعدل الاجتماعي وسعي للتجدد الحضاري وحفاظ على حقوق الإنسان الذي كرمه ربه . وسيؤدي النجاح في تحقيق تقدم على هذه الصُعد إلى دعم القرار السياسي النابع من "الذات " المعبر عنها ، وتحريره من ضغوط قوى الهيمنة الدائبة على محاولة التحكم فيه .
إن معالجة قضية التعريب تتضمن أيضًا، بعد الوفاء بمتطلبات تغيير النفس ، المبادرة للتفاعل مع الآخر بثقة بالقدرة على هذا التفاعل الحضاري على أساس من النِّدِّية وبرغبة في الانفتاح على هذا الآخر، وتبادل العطاء الحضاري، له والأخذ الحضاري منه ، انطلاقا من معرفة جوانب قوته وضعفه ، ومن الإدراك بأن عصر عولمة الكوكبة يفتح آفاقا رحبة للتفاعل على مختلف الصُّعد ، ومن وعي المرحلة التي تعيشها اليوم حضارة الغرب بخاصة . ويضع هذا التفاعل مع الآخر نُصب العين تعاون حضارات عالمنا على أساس من النِّدِّية
وفي جو من السلم والرضا لبناء عمران حضاري إنساني يحمي أمن الأرض من خطر طغيان قوى الهيمنة عليها وإفساد بيئة الحياة فيها ، ويحمي بني الإنسان من خطر هذا الطغيان عليهم ، ويحمي الإنسان من معاناة الغربة في داخلة .
نعم … إن قضية التعريب لها جميع هذه الأبعاد حين نقاربها في ضوء سنن تفاعل الحضارات . ولا بديل لنا عن كسبها والانتصار فيها ، ليستمر التعمير ويزدهر العمران . وإن للقدوة فيها والأسوة الحسنة دورًا خاصًّا يقوم به أعلام الأمة شخوص حضارتها وفقًا لإحدى سنن التفاعل الحضاري .
أحمد صدقي الدجاني
عضو المجمع المراسل من فلسطين(54/15)
أيها الأخوة الزملاء :
نجتمع اليوم لتأبين الأستاذ الدكتور أبي شادي الروبي عالم الطب المعروف وعضو المجمع الراحل ، الذي استأثرت به رحمة الله. تغمد الله الفقيد ، وأسكنه فسيح جناته، وألهم آله الصبر والسلوان .
الزملاء المجمعيون :
سيداتي ، سادتي :
إنه ليعز عليَّ أن أقف لأودع صديقًا علمًا شامخًا من أعلام كلية الطب والمجمع اللغوي، ومهما أمَّلنا لمن نودهم ونقدرهم حق قدرهم العلمي أن يمتد بهم العمر وتطول آجالهم نفتقدهم فقيدًا عزيزًا إثر فقيد، وتلك هي الدنيا، لكل إنسان فيها عمر مرسوم وميقات محتوم" فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون". ولا نملك إزاء الراحلين السابقين منا إلا التسليم بقضاء الله الذي لا رادَّ لقضائه ولا معقِّب لحكمه ومشيئته .
كان الأستاذ الدكتور أبو شادي الروبي – طيب الله ثراه – طبيبًا موسوعيًا فذًا قلما يجود الزمان بمثله ، فهو طبيب وفيلسوف وعالم ولغوي وموسيقي غزير المعلومات في كل فرع من فروع المعرفة ، ظفر به مجمع اللغة العربية ولجنته الطبية في سنة 1972م إلى أن لبَّى نداء ربه ، وظل في هذه السنوات الطوال البالغة خمسًا وعشرين سنة يغدو إلى المجمع في جلساته الأسبوعية كل يوم اثنين لمناقشة علمائه المجمعيين في ما وضعوا للمصطلحات العلمية العربية في كل علم وفن من مقابلات وتفسيرات عربية ، وقلما كانوا يختلفون معه لذهنه الثاقب ورأيه الصائب.
وكان يعكف في اللجنة الطبية المجمعية مع مقررها الأستاذ الجليل الكبير الدكتور حسن علي إبراهيم والأستاذ الدكتور النابه محمد عماد الدين فضلي – لمدة جلستين أو ساعتين أسبوعيًا – على نقل المصطلحات الطبية الغربية إلى اللغة العربية مختارين لها دائمًا مقابلات وتفسيرات فصيحة دقيقة ، يرجعون فيها إلى علمهم الواسع بالعربية واشتقاقاتها الكثيرة ، كما يرجعون إلى أسلافهم من أطباء العرب ومؤلفاتهم .(55/1)
واشتهر الدكتور أبو شادي الروبي بأنه كان يكاد يحفظ موسوعة ابن سينا الطبية المسماة باسم القانون . وقد أخرجت اللجنة الطبية الموقرة حتى الآن ثلاثة أجزاء من معجمها الطبي النفيس ، وإن المجمع اللغوي ليفاخر بهذا المعجم الطبي الفريد، لا المعاجم الطبية وحدها التي وضعها علماء وأطباء أجلاء في القرن العشرين، بل أيضًا جميع المعاجم العلمية في القرن؛ لتميزه باختياره مصطلحات عربية دائمًا،وندرة ما يعربه من مصطلحات غربية بنطقها الأجنبي بينما تكتظ معاجم طبية وعلمية متعددة بتعريب المصطلحات الغربية بنطقها في لغاتها مع إبدال حروفها اللاتينية بحروف عربية .
ومما يذكر للمغفور له الدكتور أبي شادي الروبي في المجمع بالحمد والثناء أنه كان عضوًا بارزًا في لجنة ألفاظ الحضارة ، وقد أنجزت أخيرًا معجم الموسيقي مع خبيرة اللجنة الدكتورة عواطف عبد الكريم، وكان للدكتور الروبي فضل غير قليل في صقل مصطلحاته العربية المقابلة للمصطلحات الموسيقية الغربية . ولعلي بهذه الكلمات الموجزة صورت ما للدكتور أبي شادي الروبي في المجمع من أعمال علمية ولغوية قيمة ، وإنها لتسجل له في صحف المجمع بالفخر على مدى الدهر .(55/2)
وللدكتور أبي شادي الروبي عمل رائع يتصل بأعمال المجمع ومؤتمراته السنوية ، وهو "محاضرات في تاريخ الطب العربي"، وهي قسمان : محاضرات بالعربية ومحاضرات بالإنجليزية ، وأولى محاضراته بالعربية: محاضرة بديعة عن التراث الطبي العربي . ويقول إنه يتميز بأربع سمات ، السمة الأولى عالميته في المنبع والمصب فقد كان قبله طب كل أمة قديمة خاصا بها ، وعرف أطباء العرب كل ما كان لدى الأمم القديمة وخاصة اليونان من معارف طبية ، وأصبح للعرب طب ازدهر قرونًا متعاقبة ، وصب في أوربا وجامعاتها عبر صقلية والأندلس قرونًا متوالية . وبذلك كان الطب العربي عالميًا في منبعه ومصبه. والسمة الثانية للطب العربي في رأي الدكتور الروبي أصالته ويقول : يخطئ من يتهمون العرب بأن دورهم الحضاري في الطب وغيره كان دور الناقل وأنهم عاشوا عالة على الفكر اليوناني . وذكر الدكتور الروبي لطائفة من كبار أطباء العرب إضافاتهم العلمية القيمة في رصيد المعرفة الطبية في مجال الطب الإكلينيكي .(55/3)
ويقول الدكتور الروبي : ظل تعلم الطب في الغرب معتمدًا على أمهات كتب الطب العربي حتى نهاية القرن السادس عشر الميلادي وشطر من القرن السابع عشر . والسمة الثالثة للطب العربي – في رأي الدكتور الروبي – أنه كان يعتمد على التجربة وملازمة المرضي والتفقد لأحوالهم، وطبق أطباء العرب مبدأ طبيًّا – يظن أنه حديث – وهو استعمال العينة الضابطة ليعرف منها جدوى العلاج ، وينقل الدكتور الروبي فقرة عن المستشرق الإنجليزى براون كتبها في تاريخه للطب العربي يقول فيها :" لقد أفلح العرب في التعبير بنجاح عن المصطلحات الفنية اليونانية .. واللغة العربية فضلا عن وجود العدد الوافر بها من المفردات التشريحية والطبية العربية الصحيحة قادرة على تكوين مشتقات لها دلالات خاصة من جذور الكلمات تصبح فور تكوينها مفهومة . ومن هذا القبيل وجود صيغة خاصة في العربية للدلالة على الألم هي صيغة ( فُعَال ) ، فهذه الصيغة تتخذها أسماء معظم الأمراض والعلل: كالصُّداع والزُّكام والجُذام والدُّوار … وهكذا يتضح أن اللغة العربية علمية صالحة صلاحية تامة لوضع مصطلحات فنية ملائمة ، وقد صنعت ذلك فعلا للعالم الإسلامي كله سواء كان لسان القوم اللغة العربية أو الفارسية أو التركية … إلخ .
وكأني بعالمنا الكبير الفذ الدكتور أبي شادي الروبي يرد بهذه الفقرة للمستشرق (براون) على من يقولون من أبناء العربية خطأ إنها لا تستطيع اليوم أداء العلوم الغربية ، وهذا المستشرق الإنجليزي لا يقول إنها تؤديها فحسب ، بل يقول إنها هي التي دفعت اللغات الإسلامية المعاصرة، مثل التركية إلى أدائها للعلوم الغربية .(55/4)
والسمة الرابعة للطب العربي – في رأي الدكتور الروبي – الموسوعية إذ كان أطباء العرب يحرصون على تثقيف أنفسهم ثقافة عامة بأكثر العلوم والمعارف في عصورهم ، ويستدل على ذلك بتصنيف متواتر عند العرب لأطبائهم ، إذ يقسمونهم قسمين : فلاسفة أطباء، وأطباء فلاسفة ، ويقول إن الأولين – وهم الفلاسفة الأطباء- درسوا الطب كجزء من المعرفة لا غنى عنه لطالب الفلسفة، ويمثل لهم بابن سينا الذي حفظ القرآن في العاشرة،وتفقه في الدين والرياضة والمنطق والفلك ، وفي السادسة عشرة تعلم الطب وفاق فيه الأوائل والأواخر ، ويذكر الدكتور الروبي أنه ألف في علوم الدين واللغة والفلسفة والهندسة والفلك وطبقات الأرض والموسيقى . وألف في الطب موسوعته الضخمة : "القانون" من مليون كلمة ، ولخصها لتلاميذه شعرًا في أرجوزة من ألف بيت . ويمثل أيضًا لهذا الصنف من الفلاسفة الأطباء بابن النفيس الطبيب المصري مكتشف الدورة الدموية الثانية وبابن زهر الأندلسي صاحب الموشحات الشعرية المشهورة . ويلم بالقسم الثاني من أطباء العرب وهم الأطباء الفلاسفة ، ويمثل لهم بالرازي ويقول إن الطبيب العربي كان يحرص على تثقيف نفسه ثقافة عامة بأكثر معارف عصره .
وينهي الدكتور الروبي هذه الدراسة الدقيقة للتراث الطبي عند العرب بقوله : إن تراث العرب في الطب كان مفخرة ، ولا يزال قادرًا على أن يمنحنا قيمًا للحاضر والمستقبل معًا .
وجعل الدكتور الروبي موضوع محاضراته الأولى في القسم الإنجليزي : "الشرق يلتقي بالغرب" ردًّا على كلمة الشاعر الإنجليزي كبلنج:"الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبدًا. وقال الدكتور الروبي عن الطب العربي:" تاريخ الطب وأنه مر بثلاثة أطوار:(55/5)
طور كان العرب ينقلون فيه عن اليونان علومهم وفلسفتهم ، وطور ثانٍ ازدهر فيه الطب العربي، وطور ثالث كان ينقل فيه الطب العربي إلى اللاتينية. ويقول الدكتور الروبي: إن الغرب نقل أمهات كتب الطب المهمة مثل كتاب الحاوي للرازي المشتمل على علوم الطب ، ونقل كتاب القانون في الطب لابن سينا الذي ترجم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي ، وظل يطبع في أوربا عشرات المرات حتى القرن السابع عشر ، ومثله موسوعة الجراح الكبير أبي القاسم الزهراوي في الطب والجراحة وبها كثير من رسوم الآلات الجراحية وأكثرها من اختراعه . وينقل الدكتور الروبي عن كتاب " تأثير الإسلام في أوربا بالقرون الوسطى" لمونتجومري الأستاذ بجامعة إدنبره قوله عن إنجازات العرب في العلوم والفلسفة : "حينما يتعرف المرء على مدى كتابات العرب وتجاربهم وفكرهم يتأكد أنه لولا تأثيرهم على الغرب في العلم والفلسفة ما أمكن أن يصل إلى ما وصل إليه في تقدمه". يقول : "ولم يكن العرب مترجمين للفكر اليوناني فقط ، بل كانوا أيضًا مساهمين حقيقيين فيما حملوا عن اليونان بحيث مارسوه وهذبوه وأضافوا إليه تطبيقاتهم مما تعلمته عنهم أوربا وجعلها تنفذ إلى تقدم هائل" . وبجانب كل ما قدمت كان الدكتور الروبي موسوعيَّ المعرفة والثقافة ثقف نفسه بأكثر معارف عصره من العلوم واللغة والموسيقى والطب، وشغل نفسه في شطر كبير من حياته ببيان الفروق بين مناهج العلماء القدماء والمحدثين استقرائية واستنباطية وبين مناهج الفلاسفة قديمًا وحديثًا على نحو ما يتجلى في كتابيه : "فلسفة العلم قديمًا وحديثًا "، و"من منطق الفلاسفة إلى منطق الأطباء " . وهو يعرض في الكتابين أدق الدقائق العلمية والفلسفية.(55/6)
وتدرج الأستاذ الدكتور أبو شادي الروبي في وظائف كلية الطب بقصر العيني، حتى أصبح رئيس مجلس قسم الأمراض الباطنية ، وله أعمال طبية عظيمة ، مثل تحديث طب الجهاز الهضمي وإدخال الوسائل الحديثة في تشخيص الأمراض وخاصة مرض الكبد وأمراض مصر المتوطنة . ولغزارة علمه بالطب وفروعه تشرفت بعضويته فيها مجالس وجمعيات ولجان طبية متعددة تكون سجلا حافلا له بما قدم للطب والأمة من خدمات طبية كثيرة . وله عشرات البحوث في مجال الطب الباطني نشرت في الدوريات المصرية والعالمية ، سوى مؤلفاته الفريدة في طب المناطق الحارة والأمراض المعدية والجهاز الهضمي والكبد . وان عظيمًا في ممارسته العملية للطب وتشخصيه لعلل المرضى ونفوذه إلى العلاج المنقذ الشافي . وما من مريض كان يدخل عيادته متشائمًا يائسًا إلا خرج منها متفائلا آملا ، وكان يعرف أثر العوامل النفسية في المريض ، وكان لذلك يعطيه دائمًا الثقة في شفائه من مرضه.
أيها السادة :
كان الدكتور أبو شادي الروبي دائمًا رقيق الحاشية ، حلو الشمائل ، وكان يتميز بطمأنينة النفس وصفاء العقل وطلاقة الوجه وسداد الفكر وصواب الرأي . وقد أدى للطب والفكر الفلسفي وللعربية ومصطلحاتها الطبية والحضارية والموسيقية
أعمالا قيمة باقية تجعله ينتقل من دارنا الفانية إلى دار الخلود راضيًا مرضيًا . وسلام الله عليه يوم فقدنا ، ورفع الله منزلته في أخراه ، وجعل جنة الفردوس مسكنه ومثواه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
شوقي ضيف
رئيس المجمع
العالم الأجل الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية :
العلماء الأجلاء أعضاء المجمع :
سيداتي وسادتي :(55/7)
كم يشق علينا أن نجتمع اليوم لتأبين فقيدنا العزيز عضو المجمع المغفور له الأستاذ الدكتور أبو شادي الروبي الذي اختطفته المنية فجأة، وكان بالأمس القريب بيننا في هذا المحراب ملء السمع والبصر،حياة دافقة تفيض بالعلم والعرفان – ولكن هذه سُنة الحياة، ما نحن إلا ودائع في هذه الدنيا تُسترد إلى بارئها في ميقات يوم معلوم وتمضي إلى الرفيق الأعلى لتحيا حياة أخرى هي خير وأبقى . وكل حي إلى فناء ولكل إنسان أجل محتوم وقدر مقدور "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ". صدق الله العظيم .
سيدي الرئيس :
سيداتي سادتي :
يعلم الله كم أشفقتُ على نفسي عندما عُهد إلي أن أُعدَّ كلمة المجمع في تأبين الراحل الكريم، لأني استشعرت العجز عن
الحديث عنه كما ينبغي أن يكون الحديث عن عالم موسوعيٍّ عظيم، كما خشيت ألا يسعفني البيان لأعبر أصدق تعبير عما يعتلج في الصدور من مشاعر الأسى على فراق هذا الأخ العزيز ، أو أُصور لكم قدره الحق رائدًا من رواد النهضة العلمية والطبية في مصر .
ولكني سأحاول قدر استطاعتي ومكني أن أقوم بهذه المهمة ، وأستبيحكم عذرًا إن أنا قصرت في الإحاطة بكل جوانب هذه الشخصية الفذَّة وأعمالها الخالدة . وإذا كان مجمعنا الموقر قد استنَّ هذه السُّنن الحميد وهو أن يكرم ذكرى أعضائه الذين مضوا إلى رحاب الخالدين وأن ينشر لهم صفحات ناصعة وضّاءة من تاريخهم المجيد وإنجازاتهم الرائدة، لنستشف من خلالها الحكمة، ونستوحي منها العلم والمعرفة، ونرى فيها المثل الرفيع والقدوة الصالحة، فإن المجمع بذلك أيضًا يضرب أروع الأمثال في الوفاء في زمن عزَّ فيه الوفاء .
سيدي الرئيس – سادتي العلماء :
سيداتي وسادتي :(55/8)
لستُ في حاجة إلى القول إن مصر فقدت برحيل الدكتور أبي شادي الروبي قمة من قممنا السامقة، وعالمًا جليلاً من علمائنا الأعلام، سطع نجمُه وتألق في ميادين الطب والعلوم والثقافة حتى أصبح ملفت الأنظار في كل مكان، في غزارة علمه وعمق فكره وسعة أفقه، وغدا بذلك نسيج وحده بين أقرانه من العلماء وأساتذة الطب المعاصرين.
عمل جاهدًا طوال قرابة نصف قرن ينشر نور العلم ويُعلي مناره، ويأخذ بيد الطلائع من شباب علمائنا وأطبائنا في رحاب الجامعة والمؤسسات الطبية والعلمية الأخرى، ويُعني بتنشئة أجيال منهم يعلمهم ويدربهم لتتَّقِد فيهم جذوة العلم والعرفان . وقد مضى يحقق هذا الهدف، وما كان ليميل عنه إصبعًا إلا ليميل إليه ميلا .
سيدي الرئيس - سيداتي وسادتي :
عرفتُ الفقيد العزيز قرابة ثلاثين عامًا في رحاب الجامعة، وفي الجمعيات العلمية والثقافية، وفي هذا المحراب حين توثقت أصرة المحبة والمودة بيننا، وكان خلال هذه السنوات مثلاً يحتذى في العطاء والوفاء والعمل المثمر البناء .
ولد الفقيد العزيز في الخامس من شهر مارس عام 1925م في حيّ القلعة بين مساجده وآثاره الإسلامية والعربية، فنشأ نشأة طيبة تمسك فيها بأهداب الدين وفضائله، عاش في بيت علمٍ وأدبٍ وكرم في المحتد . فقد كان جده المرحوم محمد أبو شادي المحامي ممن رافقوا سعد زغلول في حياته السياسية – والفقيد ابن وحيد تكبره ثلاث شقيات وقد سُمي أبا شادي تيمنًا باسم خاله الدكتور أحمد زكي أبو شادي عميد كلية الطب بجامعة الإسكندرية – وهو الأديب الشاعر الطبيب الشهير مؤسس مدرسة أبولو مع الدكتور إبراهيم ناجي .(55/9)
التحق الفقيد بمدرسة الحلمية الابتدائية وما أن أتم دراسته بها حتى مضى إلى مدرسة الحلمية الثانوية ومدرسة بمباقادن الثانوية، وهنا تفجرت ملكاته وتبدَّى ذكاؤه اللماح، وولعه الشديد باللغة العربية الذي بدأ في سن مبكرة، وكذلك تفوقه في اللغة الإنجليزية، فحصل على جائزة الثقافة العامة في اللغة الإنجليزية وهو في الرابعة عشرة من عمره، ثم على جائزة الأدب التوجيهي في اللغة العربية لطلبة التوجيهية (الثانوية العامة) عام 1941م، وكانت حول مسابقة في قراءة عشرة كتب لأدباء معاصرين منها "الأيام " لطه حسين ، و"المنتخبات" للطفي السيد و"وحي الرسالة" للزيات ، و" فيض الخاطر " لأحمد أمين ، و" تحرير المرأة " لقاسم أمين ، و"أهل الكهف " لتوفيق الحكيم ، و"ديوان إسماعيل صبري " – وقد امتحنه في التوجيهية المرحوم الدكتور طه حسين والمرحوم الأستاذ على الجارم – واستمر ولعه باللغة العربية حتى اليوم وكذلك نهمه الشديد في القراءة في شتى فروع المعرفة من طب وعلم وثقافة وفلسفة وموسيقى وتاريخ ولغة .
وبعد أن أنهى الدكتور الروبي دراسته الثانوية بتفوق، حيث كان خامس التوجيهية عام 1941م التحق بكلية العلوم بجامعة فؤاد الأول ( القاهرة حاليا ) ونال درجة بكالوريوس العلوم في الكيمياء والأحياء عام 1946م، ثم انتقل إلى كلية الطب وتخرج فيها عام 1950م وحصل على درجة البكالوريوس في الطب والجراحة، ثم واصل دراسته العالية فحصل على دبلوم طب المناطق الحارة عام 1952م، ثم على دبلوم الأمراض الباطنة عام 1953م، ثم حصل على درجة الدكتوراه في طب المناطق الحارة عام 1955م، عين بعدها مدرسًا بكلية الطب عام 1956م ومضى في مدارج الرقي أستاذًا مساعدًا فأستاذًا ورئيسًا لقسم الأمراض المتوطنة ولمجلس أقسام الباطنة بكلية طب جامعة القاهرة وذلك حتى عام 1985م، ولما بلغ السن القانونية ( الستين) أصبح أستاذًا متفرغًا عام 1986م وظل يشغل هذا المنصب حتى لقي وجه ربه .(55/10)
وإبّان حياته الجامعية سافر في عدة بعثات ومهمات علمية للدراسة،واكتساب الخبرة العلمية، وبصفة خاصة في أمراض الجهاز الهضمي حتى غدا من رُوّاده وأساطينه في مصر والعالم العربي. ففي عامي 1959م و 1960م توفر على دراسات أمراض الجهاز الهضمي في بريطانيا ، ودرس النظائر المشعة عام 1964م بالقاهرة وعلوم المناعة عام 1966م ببيروت ، ومناظير الألياف الزجاجية الضوئية في طوكيو عام1969م، والوسائل الحديثة في تشخيص وعلاج أمراض الجهاز الهضمي ببرستول بإنجلترا عام 1983م ، كما شارك في المئات من المؤتمرات والندوات، ومجموعات العمل العلمية العالمية.
وقد ساعد ذلك في إغناء معارفه الطبية العلمية والعملية، فأنشأ مدرسة يعتد بها في طب المناطق الحارة، وأشرف على العديد من طلاب الدراسات العليا لدرجتي الماجستير والدكتوراه في هذا المجال، وعمل على تدريب الكثيرين منهم.وكان للدكتور الروبي نشاط بحثيٌّ كبير، فقد نشر ثمانين (80 )بحثًا علميًّا في مجالات الطب الباطني، وبخاصة في أمراض المناطق الحارة والحميات، وأمراض الجهاز الهضمي والكبد.(55/11)
وقد ألَّف الدكتور الروبي عددًا من الكتب في الطب وتاريخه، كتبها بلغة عربية اتَّسمت بالسلاسة والوضوح والمكنة والاقتدار، منها كتاب عن طب المناطق الحارة والأمراض المعدية ، وكتاب عن الكبد والمرارة والبنكرياس وأمراضها وعلاجها والوقاية منها ، وكتاب عن الجهاز الهضمي وأمراضه والوقاية منها – وعن تاريخ الطب نشر كتاب " الموجز في تاريخ الطب والصيدلة عند العرب " وكتاب "محاضرات في تاريخ الطب العربي" ويضم إحدى عشرة محاضرة منها "الأرجوزة في الطب لابن سينا ،" والتراث الطبي عند العرب " و " الطب الروحاني للرازي " و "ابن النفيس فيلسوفًا". كما اشترك في مؤلف كبير عن تاريخ الطب في مصر ضمن " موسوعة تاريخ الحركة العلمية في مصر " التي أصدرتها أكاديمية البحث العلمي – ومن فرط ولعه بتاريخ الطب عند العرب فإنه كما يقول عنه أستاذنا الدكتور حسن إبراهيم عندما استقبله عضوًا بالمجمع – " يكاد يحفظ كتاب " القانون في الطب لابن سينا عن ظهر قلب "، وشارك أيضًا في تحقيق "الكليات " في الطب لابن رشد – كما كتب العديد من المقالات والدراسات منها " الطب عند المسلمين " في موسوعة الحضارة الإسلامية ، " نحو طب متكامل " و " مستقبل الإنسان "، و"ابن رشد طبيبًا" و"حركة الترجمة وتعريب الطب " وغيرها. وكذلك أعد مقررًا شاملاً عن تاريخ الطب قام بتدريسه سنين عدة لطلبة كليات الطب بجامعات القاهرة وأسيوط وقناة السويس .(55/12)
ومن إنجازاته البارزة إنشاء وحدة مناظير وفحوص الجهاز الهضمي والكبد بكلية الطب بجامعة القاهرة ومستشفى قصر العيني، وعمل على تطويرها وإدارتها وهي أكبر وحدة من نوعها في منطقة الشرق الأوسط، تفحص أكثر من عشرة آلاف مريض سنويًا – وقد درس فيها مئات الأطباء من مصر والبلاد العربية الإفريقية، وهو أول من أدخل مناظير الجهاز الهضمي في مصر، وكان أول من اشترى منظارًا للجامعة على نفقته الخاصة، وأهداه للكلية والقسم – ورفض أن يكون العمل بالمنظار وسيلة للكسب في عيادته الخاصة وكان ذلك فيما أَعتقد انطلاقًا من نفس أبية شماء، تموج بفيض من نوازع القناعة والخير .
سيدي الرئيس: سادتي العلماء :
إذا كان الدكتور الروبي طيب الله ثراه قد بلغ شأوًا بعيدًا في ميدان الطب ، وتألق بين أقرانه المعاصرين حتى غدا من أغزرهم علمًا وأعمقهم أثرا، ومن أرفعهم منزلة وقدرًا، فإن نشاطه وفكره امتدَّا إلى آفاق رحبة من المعارف الإنسانية، من أدب وثقافة وفلسفة وفن ولغة وتراث علمي عربي – كان شغفه بالأدب كبيرًا، فهو يقول عن نفسه: " كانت اهتماماتي متعددة، وكان لي نزوع مبكر إلى الأدب، واشتغلت بالكتابة زمنًا حتى كدت أن أترك دراسة الطب لأعمل بالصحافة" (وكان قد مارسها محررًا بالقطعة بدار أخبار اليوم لعدة سنوات). ويستطرد قائلا: " كان عزائي في تلك الفترة القلقة من حياتي كلمة قرأتها لأديب روسيا العظيم (شيخوف) وكان أيضًا طبيبًا ممارسًا قبل أن يكون أديبًا وجمع بين المهنتين سنوات أفادت فيها كل واحدة من الأخرى وكان (شيخوف) يقول في ذلك: "الطب زوجتي والأدب معشوقتي عندما أملُّ إحداها أقضي الليلة مع الأخرى ".
وهكذا عشت أيامي وليالي موزع الولاء والعشق بين الاثنين وشيئًا فشيئًا تعددت المعشوقات، تطرق الأدب إلى الفن وتطلع العلم إلى الفلسفة – واليوم تأتي اللغة وعاء كل فكر ومفتاح كل قول تطالبه هي الأخرى بنصيبها، بل بأن تكون لها الخطوة الأولى" .(55/13)
وكانت هذه كلمات منه يوم استقباله عضوًا بمجمع الخالدين .
ومن اللافت للنظر حقًّا أنه كان رحمه الله شديد الاهتمام بالفلسفة ومناهجها وكان رأيه أن قراءة الفلسفة بالنسبة له أصعب وأعمق من قراءة كتب وبحوث الطب،وكان من أكثر من حبَّبه في الفلسفة كتب (ويل ديورانت) : كتابه " قصة الفلسفة "، وكتاب " الابتهاج بالفلسفة " و"المجتمع المنفتح وأعداؤه"،حيث تعلم منها طريقة البحث والمنهج العلمي في حرية النقد والإبداع وحرية التخمينات والتقنيات .
وفي محاضراته الرائعة عن" فلسفة العلم قديمًا وحديثًا "،التي ألقاها بالجمعية المصرية لتاريخ وفلسفة العلوم، ونشرت في كتاب استعرض في شمولية تاريخية باهرة قال:
"العلم ما قبل أرسطو ، والمنهج الاستقرائي – الاستنباطي الأرسطي – ثم تحفظات على أرسطو في القرن السابع عشر، ثم طبيعة المعرفة العلمية بين الشك واليقين في القرن الثامن عشر – ثم منهج البحث العلمي، المنهج الفرضي الاستنباطي في مواجهة المذهب الاستقرائي في القرن التاسع عشر – ثم يناقش آراء (كارل بوير) وأفكاره في إعادة صياغة المنهج الفرضي – الاستنباطي في مواجهة المذهب الاستقرائي في مطالع القرن العشرين –"وفي خاتمة كتابه استعرض آراء بعض فلاسفة العلم والمنطق " كيف ينمو العلم ويتقدم " .(55/14)
وقبل وفاته نشر رائعته الأخيرة " من منطق الفلاسفة إلى منطق الأطباء "،وكانت هي أيضًا محاضرة ضافية ألقاها بالجمعية المصرية لتاريخ وفلسفة العلوم عام 1992م وفيها تبدَّى عمق فكره وقراءاته الواسعة في فلسفة العلم وعلوم المنطق – وقد شملت محاضرته عرضًا شائقًا عن منطق الفلاسفة ومنطق الرياضيين، ثم منطق العلماء، وأخيرًا منطق الأطباء الذي قال فيه: " إن المنطق يقوم بدور أساسي في الطب علمًا وعملا أولا على المستوى النظري، أي في بناء النظريات ومدى صحتها. وثانيًا على المستوى العلمي كما في البحوث الطبية وإجراء التجارب. وثالثا على المستوى الأخلاقي، وهو موضوع حساس وشائك يرتبط بالقيم والمعنويات ، ويمتد من الدين إلى السياسة مرورًا بعلوم التاريخ والاجتماع والاقتصاد، إلا أن أهم مجال لدور المنطق في الاستعمال اليومي للأطباء الممارسين هو دوره في التشخيص.وسأكتفي بهذه الكلمات عن ميول الفقيد الفلسفية ،التي ذكرها أيضًا وحللها في مكنة واقتدار أستاذنا الجليل الدكتور شوقي ضيف.وكتب عنها كذلك بجلاء زميلنا الأستاذ الدكتور كمال دسوقي بصحيفة الأهرام الغراء، وتكلم عنها الأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي في كلمته في حفل تأبين الفقيد في لجنة الثقافة العلمية منذ أيام .
سيدي الرئيس، سادتي العلماء :
سيداتي وسادتي :(55/15)
كان الدكتور أبو شادي الروبي أيضًا فارسًا في ميدان الثقافة العلمية أبلى فيها أحسن البلاء وعمل على نشرها بآرائه وأفكاره وكتبه ورسائله ومحاضراته في مختلف الهيئات والجمعيات. ولعل أهم إنجاز عملي في هذا المجال إسهامه الفعال في إنشاء لجنة الثقافة العلمية في المجلس الأعلى للثقافة، وكانت له فيها صولات وجولات في نشرها وتأصيلها وترسيخها بين جمهرة الشباب والمتعلمين، من منطلق واعٍ مستنير يرى في الثقافة العلمية أداة ودعوة للإنسان مؤداها أن يعيش عصره بمشكلاته وأحداثه العلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وأن يكون له منها رأي وموقف . وأن ينفتح على آفاق رحبة من العلم والمعارف الإنسانية، وأن يلم بفنونه وتراثه وأمجاده، وأن يجعل من الأسلوب العلمي والتفكير العلمي المنهاج والنبراس . والأمل كبير أن القائمين على هذا الصرح الثقافي أن يواصلوا رسالته ويترسَّموا خطاه، وأن يرعوا " منتدى أصدقاء الثقافة العلمية " الذي أنشأه وتبنّاه .
كان الفقيد أيضًا ذا ولع شديد بالموسيقى ملكت عليه كل جوانحه منذ سنٍّ مبكرة، فالتحق بمعهد شولتز للموسيقى وهو طالب صغير ليتعلم العزف على الكمان، وقد واصل دراسته لهذا الفن الرفيع حتى برع فيه – وقد تأثر كذلك بالموسيقى الكلاسيكية الروسية لاحتوائها على أنغام من الشرق، مثل كلاسيكية كورساكوف "شهرزاد "، ومعزوفة " مغامرات عنترة " وقد دفعه هذا إلى السفر إلى روسيا وزيارة الجمهوريات الإٍسلامية لمعرفة تأثير الشرق في روائع الموسيقى الكلاسيكية الروسية – ومن الطريف أن من أوائل مقالاته في الصحافة وهو طالب كانت عن الموسيقار تشيكوفسكي، واستعار عنوانها من مقولته الشهيرة " لولا الموسيقى لَجُننتُ "، وكان تعليق الموسيقار محمد عبد الوهاب أن قراءة هذه المقالة يعطيه الإحساس بأنه يستمع إلى لحن موسيقى جميل .(55/16)
وإذا كان الفن الرفيع قد ملك عليه جوانحه ووجدانه فقد ملكت اللغة العربية عليه كذلك عقله وجنانه في سن مبكرة أيضًا، وقد ألمحت إلى ذلك في مطلع حديثي عندما فاز بجائزة الأدب في اللغة العربية ولما يبلغ الرابعة عشرة . وعندما شُغل بعد ذلك بالكتابة الصحفية وبالقراءة الواسعة في كتب الأدب والثقافة وفي المتون، وفي تأليف العديد من الكتب باللغة العربية – كانت هذه الخلفية سبيله إلى مجمع الخالدين عندما رشحه المغفور له الدكتور محمد كامل حسين عضو المجمع خبيرًا بلجنة الطب عام 1972م ثم انتخب عضوًا بالمجمع عام 1987 وظل خلال هذه السنوات الطوال يسهم بجهود بارزة في إنجاز الآلاف من المصطلحات الطبية، وفي إصدار معجم كبير في هذا المجال بل وفي مصطلحات الموسيقى وألفاظ الحضارة أيضًا كان له فيها باع طويل .
ومع هذا العالم الموسوعي والطبيب الأديب المتعدد المواهب والثقافات لم يكن غريبًا أن يفوز بعدة جوائز منها جائزة الدولة التقديرية في العلوم الطبية عام 1993م ، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1985 ، وجائزة الجمعية المصرية للجهاز الهضمي في استخدام المناظير عام 1974 ، ودرع نقابة الأطباء، والميدالية الذهبية من وزارة الصحة عام 1986م، وذلك عدا الجائزتين في اللغتين العربية والإنجليزية اللتين فاز بهما في مقتبل عمره .
كما أفسحت له مختلف الهيئات والجمعيات والمجامع العلمية والطبية مكانا لعضويته بها أو رئاسته لها، وهي تربو على الثلاثين عددًا سأذكر بعضًا منها على سبيل المثال :(55/17)
عضويته بمجمع الخالدين،والمجالس القومية المتخصصة،والمجمع العلمي المصري، ومجلس البحوث الطبية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، ومعهد طب المناطق الحارة، ومعهد تيودور بلهارس،والهيئة العليا للأدوية.كما كان نائبًا لرئيس المجمع المصري للثقافة العلمية، وللجمعية المصرية للكبد، وعضوًا باللجنة القومية،والجمعية المصرية لتاريخ وفلسفة العلوم،ومستشار الهيئات دولية،وممثلا لمصر في هيئة الصحة العالمية وغيرها.
سيدي الرئيس: سادتي العلماء: سيداتي وسادتي :
إذا كان سجل الراحل الكريم زاخرًا هكذا بهذه الصفحات الناصعة الوضاءة التي تعكس أعماله وإنجازاته الباهرة ، وإذا كان تاريخ الطب والعلم والثقافة في مصر حين يُكتب سيكون الفقيد من معالمه الشامخة ودعائمه الراسخة،فإنه أيضًا كان على خلق عظيم .
كان طيِّب القلب، دمث الطبع، حلو الشمائل والسجايا، رفيع النفس، رقيق الحاشية،جم التواضع، وعف اللسان، سمحًا في قوله وعمله،سمحًا في لقائه وحديثه، سمحًا في أخذه ورده، كان خيِّرًا وكريمًا مع مرضاه،عطوفًا ودودًا،وخدومًا إلى أبعد الحدود.
أيها الراحل الكريم :
لقد مضيتَ فجأة إلى رحاب الخالدين ويعلم الله كم تفطَّرت عليك قلوب وسالت عليك دموع ، مضيتَ بعد أن قدمتَ لوطنك أجلَّ الأعمال، ونشَّأتَ أجيالاً من أبنائك وحواريِّيك، سوف يترسَّمون خطاك، ويسيرون على نهجك ويواصلون رسالتك الخالدة ، ولن ننسى أنك كنت لنا في هذا المحراب إشعاعًا وإشراقًا؛ نستمتع بطلاوة حديثك وعمق فكرك وأصالة علمك ورجاحة عقلك .
أيها الراحل الكريم :
أرحلت حقًا عن مجالس علمنا
... كلا لذلك لن أقول وداعًا
كيف الوداع وأنت باق بيننا
... عِلْما أصيلا بنيت منه قلاعا
كنت الكلام العذب في أعماقنا
... نهفو إليه نمتع الأسماعا
قد مجدوا فيك الأصالة والنهى
... وخلائق علوية وطباعا
وعزيمة جبارة وركانة
... لماحة وتوقدا لماعا
أزحت عنا عبء كل وجيعة
... تأسو الجراح تضمد الأوجاعا(55/18)
رحمك الله أيها الزميل العزيز رحمة واسعة وأنزلك منازل الأطهار والأبرار فقد كنت في الحياة نورا يهدي الناس سواء السبيل وستظل في الممات ذكرى تنفع المؤمنين .
والسلام عليكم ورحمة الله .
محمود حافظ
نائب رئيس المجمع
سيدي الرئيس :
أرجو أن يلتمس لي السادة الكرام أساطين العربية العذر في عدم إلمامي باللغة العربية؛ لأنني مهما حاولت التعبير بها عما أحس فإنني مقصرة أمامكم .
والذي أود أن أبدأ به حديثي نحو الراحل العزيز ، أن كل ما ذكره السادة الأفاضل الذين ألقوا كلماتهم نحو أخي صادق كل الصدق .
ويحضرني آخر لقاء كان بيني وبينه – رحمة الله عليه – وكان هذا اللقاء قبل أسبوع من رحيله ، حيث كلفه الملك فهد ابن عبد العزيز ملك السعودية بافتتاح المركز الثقافي الذي أنشأته المملكة العربية السعودية "بجبل طارق" في المملكة المغربية.
والذي لفت نظري في هذا اللقاء أنه -رحمه الله- أخرج ورقة نقدية فئة خمسة جنيهات استرلينيه،على أحد وجهها صورة للملكة "إليزابيث"،وعلى الوجه الآخر فارس عربي بسيفه والحصون العربية خلفه حتى نعلم أن العرب لا تزال آثارهم موجودة حتى الآن في جنوب غرب أوروبا
وأقصد بها " الأندلس " سابقًا . ثم قلت له أرجو أن تعاهدني على أننا نقضي الإجازة الصيفية القادمة إن شاء الله في الأندلس ؛ لأنني قرأت عنها كثيرًا ، ولم أرها حتى الآن.
ثم غادرني على أن نلتقي بعد أسبوعين، لأنه كان يعزم الذهاب إلى الإسكندرية ، فكانت متعته أن ينزل إلى البحر ويمارس العوم في شاطئ ميامي حتى يصل إلى الجزيرة ، وكان ينافس الشباب في هذه المتعة حتى يطمئن على صحته .(55/19)
ومن متعه أيضًا متعة القراءة ، فكان لا يخلو إلى النوم قبل أن يقرأ نحو ساعتين . ويؤيد ما أقول أنه عندما سافر إلى أمريكا نزل ضيفًا على " نجلي " ، ثم رجع بثلاث شنط مليئة بالكتب ، فلما اكتظت الشقة بالكتب اضطر إلى أن يستأجر شقة أخرى حتى يقتني فيها ما يمتلكه من الكتب والدوريات العلمية وما إلى ذلك .
وستهدى هذه الكتب جميعًا إلى قصر العيني لتكون في مكتبة تحمل اسمه .
أما الأشرطة الموسيقية التي كان يقتنيها، لأن الموسيقى كانت من أولى هواياته ، فإن السيدة الدكتورة سامحة الخولي ستتفضل بإيداعها في مكتبة أكاديمية الموسيقى .
ومما يجدر الإشارة إليه أن له كتبًا مازالت تحت الطبع لا يحضرني أسماؤها الآن ، وكان رحمه الله يحرص على كتابة تاريخ حياته ؛ لأن الدكتورة سامحة الخولي أشارت عليه أن يكتبها بنفسه .
لقد كان أخي رحمة الله عليه . يتمتع بكثير من خصال الخير ، ودماثة الخلق ، وكثرة الظرف ، وهذا مما أفقده أنا كثيرًا .
وإنني مازلت حتى الآن أشعر أنه لم يمت ، بل إنه في سفر وسيعود بين لحظة
وأخرى ، لأن المصاب جلل ، وشاء قدر الله أن يرحل عنّا فجأة . وإنني لا أمَلُّ من الدعاء إلى الله أن يتغمده برحمته ، بقدر ما نفع الناس وأزال عنهم آلام أمراضهم ، فقد كانت دماثة خلقه أن يعالج المرضى نفسيًا أولا قبل أن يعالجهم عضويًا ، فلم يكن الربح المادي هدفه بقدر ما يكون الربح الإنساني .
وفي ختام كلمتي أجد القلب يتفطر من الحزن ، والعين تبيض من البكاء ، ولكن لا أقول إلا ما يرضي ربنا :
" إنا لله وإنا إليه راجعون ".
وأشكركم على واجبكم هذا . أطال الله في عمركم ومدكم بالصحة والعافية .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
زينب الروبي(55/20)
من بين الأهداف التي وضعها مجمع اللغة العربية بالقاهرة نصب عينيه منذ إنشائه العمل على تعريب العلم وذلك بوضع المصطلحات العلمية والمعاجم والاهتمام بالترجمة وذلك من منطلق واع مستنير يعد تعريب العلم والتعليم في مصر قضية وطنية لها أبعادها العلمية والاجتماعية والثقافية وهي وثيقة الصلة بلغتنا القومية وكياننا العربي وكذلك بمستقبل الأجيال الصاعدة بمختلف مراحل التعليم في مصر .
وفي سبيل ذلك كان موضوع تعريب العلوم والتعليم بؤرة الاهتمام في المؤتمرات التي يعقدها المجمع منذ سنوات -وها هو يعيد الكرة هذا العام ويجعل التعريب الموضوع الرئيس لهذا المؤتمر والذي يتصدى له علماء المجمع والعلماء الأشقاء من المجامع اللغوية العربية بالدراسة والبحث والاستقصاء إيمانا بضرورته أو حتميته التي تزداد يوما بعد يوم بعد ازدياد الجفوة بين اللغة العربية
ودارسيها والناطقين بها وما يبدو في الأفق من أزمة حادة تتمثل في ابتعاد أو عزلة اللغة العربية بمفرداتها وكلماتها وأصالتها عما يجري اليوم على الألسنة في كل مكان - وكذلك ما يبدو من ترد وهبوط في مستوى الخريجين والتعليم في مراحله المختلفة - وأيضا ما نشهده اليوم من انتشار مدارس اللغات الأجنبية في مصر والتي لا تولي اللغة العربية في مناهجها إلا أقل القليل وهو أمر جد خطير على مستقبل أبنائنا فكريا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا .(56/1)
والدعوة إلى التعريب واتخاذ اللغة العربية لغة للعلم تنطلق من وعي أصيل يستشرف الآفاق الرحبة لهذه اللغة ويرى في قوتها وحيويتها وثرائها وشمولها قدرة فائقة على استيعاب التطور المتلاحق في شتى قطاعات العلم والمعرفة وعلى مواكبة الإيقاع السريع في حركة العلم والتقدم العلمي والتكنولوجي وكذلك على مُكنتها الهائلة على التعامل مع ذلك الفيض الغزير من المصطلحات العلمية الجديدة التي تزخر بها العلوم الحديثة والمستحدثة التي انبثقت من ثورة الاتصالات والإلكترونيات وثورة المعلومات والحاسبات والهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية وعلوم الفضاء والبيئة وغيرها .
ومبعث الاهتمام أيضًا بالتعريب ونقل العلوم إلى اللغة العربية يستمد جذوره من تلك النهضة العلمية الإسلامية التي تألقت في سماء الأمة العربية وبلغت أوجها في عصر الخليفة المأمون ( 786 - 832م) حين أخذ المسلمون ينهلون من موارد العلم ويترجمون الكتب الإغريقية والسريانية والفارسية وينقلون إلى اللغة العربية مختلف الذخائر العلمية وبذلك انتقل إلى لغة العرب تراث الأمم ذات الحضارات القديمة وتلت ذلك نهضة علمية خصبة واسعة تميز الإنتاج العربي فيها بالجد’ والأصالة وبإضافات جادة أضافها عدد من العلماء الأعلام العرب إلى هذه التراجم من مبتكراتهم وكان هذا نتيجة تفاعل التراث الأجنبي الدخيل مع التراث العربي الأصيل - كان هذا العصر عصرا ذهبيًا بالنسبة للغة العربية لغةً للعلم زخرت بآلاف المصطلحات والمقابلات والمأثورات - ومازلنا نحن المشتغلين بالعلوم ننهل حتى اليوم من نبعهم الفياض كؤوسا مترعة بالعلم والمعرفة بلغة عربية جزلة معطاءة اتسعت آفاقها الرحبة لمختلف العلوم والفنون ..(56/2)
وأحيانا ما يقف المرء معجبا بذلك الإنتاج الغزير لهؤلاء العلماء الأعلام أمثال ابن سينا ( 980م ) وله مئتان وستة وسبعون كتابا ، والرازي ( 854-932م) وله مئتان وأربعة وعشرون (224) كتابا ، والكندي ( 185 - 252هـ) وله مئتان وثلاثون ( 230) كتابا ، وابن الهيثم ( 965 - 1038م) وله مئتان ( 200 ) من الكتب .
الدعوة إلى التعريب في مصر :
وفي مصر ترجع الدعوة إلى تعريب العلوم والعمل في سبيله إلى سنوات بعيدة خلت حين جدت مصر في نقل العلوم الحديثة إلى العربية في عصر محمد علي وما بعده بغية استعمالها في التدريس في المدارس العليا ومن هذه الجهود ما قامت به مدرسة الطب والصيدلة عام 1833 من ترجمة 86 كتابا أجنبيا في عدة تخصصات لتعليم الطب والصيدلة ولم تلبث هذه الكتب بعد نجاحها أن أخذت طريقها إلى تركيا والجزائر وتونس ومراكش .
كما قام عدد من المبعوثين الأوائل بعد عودتهم من بعثاتهم في فرنسا بالتدريس في المعاهد العليا باللغة العربية وقدموا إلى مكتبتنا العلمية رصيدا كبيرا من كتبهم ومعرباتهم ومؤلفاتهم نذكر منهم على سبيل المثال :(56/3)
أحمد حسن الرشيدي أحد أعلام مدرسة الطب المصرية ومن أعماله ومؤلفاته : رسالة عن تطعيم الجدري ، ضياء النيريين في مداواة العينين ، طالع السعادة والإقبال في علم الولادة ، الدراسة الأولية في الجغرافيا الطبيعية . وأيضا محمد على البقلي الذي ألف كتبا عربية في الجراحة ، محمد الشافعي في الأمراض الباطنة ، محمد ندى ومن كتبه وترجماته حسن البراعة في فن الزراعة ، الحجج البينات في علم الحيوانات ، نخبة الأذكياء في علم الكيمياء ، الأزهار البديعة في علم الطبيعة . وعلى رياض في الصيدلة والسموم ومحمد الدري في الأمراض الوبائية ، ومحمد بيومي في الحساب والجبر والهندسة الوصفية ، ومحمود الفلكي الذي عاد من بعثته في فرنسا عام 1859 وتقلد بعد ذلك منصب الأستاذية في العلوم الرياضية بمدرسة المهندسخانة-هذا بالإضافة إلى ذلك الرصيد الضخم من الكتب والتراجم والمؤلفات باللغة العربية التي قام بها أو أشرف عليها شيخ المترجمين في عصره رفاعة رافع الطهطاوي(1801-1873) ومعاونوه في العلوم الهندسية والرياضية والجيولوجية والفلكية والطبية والجغرافية والتاريخية وألفاظ الحضارة والفنون وغيرها .
ومما هو جدير بالذكر أن عددا من اللغويين والمتخصصين كانوا يعاونون هؤلاء العلماء في تعريبهم وترجماتهم ومؤلفاتهم وينقحون أعمالهم ويثرونها بمقابلات من التراث العلمي العربي للمصطلحات العلمية الأجنبية كما حدث في أول معجم طبي اضطلع به عمر التونسي مع أعلام من مدرسة الطب هو معجم"الشذور الذهبية في الألفاظ الطبية".(56/4)
وبذلك تجمعت في مصر إبان النصف الأول من القرن التاسع عشر وما بعده بسنوات حصيلة ضخمة من علوم الغرب نقلها إلى اللغة العربية هؤلاء العلماء وأضافوا إليها من مبتكراتهم ومؤلفاتهم ومن التراث العلمي العربي مما ساعد في حركة التنوير وتدريس العلوم في المدارس والمعاهد في ذلك الوقت بلسان عربي مبين-ولا شك أن ازدهار حركة التعريب والرجمة كانت لها اليد الطولى في هذه النهضة العلمية التي سادت في ذلك العصر.
ولكن مما يدعو إلى الأسى أن هذه المسيرة الوثابة في تعريب علوم الغرب ونقلها إلى اللغة العربية قد توقفت بعد ذلك حين نكيت مصر بالاحتلال البريطاني عام 1882 وجثم على صدرها لسنوات عدة وعزلت اللغة العربية عزلا تاما عن تدريس العلوم الحديثة التي فرض المستعمر دراستها بلغته وقد مهد لهذا الانقلاب ومسايرته ترسيخٌ لفكرة عجز اللغة العربية عن تدريس أي علم حديث وملاحقة التقدم العلمي - وقد روج لهذه الدعوة عدد من المثقفين قبيل الثورة العرابية - واحتدم الصراع بين حماة الشخصية الوطنية والدعاة إلى لغة أجنبية وقد أثار ذلك الشعور الوطني الذي ظل يعتمل في صدور الوطنيين المخلصين الذين رفضوا التخلي عن لغة الأمة والتفريط في لسانها وعلى الرغم من ذلك عجز الضمير الوطني عن التصدي لفرض اللغة العربية على المجال العلمي - ولكن لم يقف علماؤنا مكتوفي الأيدي أمام هذا الوضع المثير فقامت دعوة حمل لواءها عبد الله النديم في مجلة الأستاذ عام 1892 للمضي في تعريب المصطلحات العلمية لاستخدامها في تعليم العلوم الحديثة ووجدت هذه الدعوة استجابة عملية في اجتماع رأسه محمد توفيق البكري في أوائل 1893 وحضره عدد من أئمة الكتاب والعلماء في ذلك العصر ووضعوا لائحة لمجمع لغوي علمي وتدارسوا في سبع جلسات، ومن بين ما تدارسوه عدد من المصطلحات العلمية - وفي العام نفسه (1893) ظهرت مجلة "المهندس" وقدمت تجربة عملية لكتابة البحوث العلمية باللغة العربية الفصحى(56/5)
دحضا للقائلين بعجزها في مجال البحث والتدريس ثم تتابعت الجهود بعد ذلك في هذا السبيل إلى أن أسست الجامعة المصرية الأولى الأهلية عام 1908 .
إنشاء الجامعة المصرية :
بدأ التفكير في إنشاء الجامعة مع مطلع القرن العشرين ثم تبلورت الفكرة نتيجة الوعي الثقافي والسياسي في عام 1908 حين تأسست الجامعة الأهلية واقتصرت الدراسة فيها على بعض فروع الأدب والفلسفة وكان قيامها ترسيخًا لفكرة الجامعة مشعلا للتنوير ومنارا لنشر العلم والمعرفة في البلاد ثم تحولت إلى جامعة حكومية - الجامعة المصرية في عام 1925 وكانت بذلك فاتحة نهضة علمية وثقافية حديثة في مصر وكان التدريس أساسا باللغة العربية التي استعادت مكانتها مرة ثانية - وكما يقول أستاذنا الدكتور عبد العزيز صالح قد استدعت الضرورة في المراحل الأولى من إنشاء الجامعة استقدام عدد قليل من العلماء الأجانب والمستشرقين للتدريس بالجامعة في بعض العلوم وكانت تترجم محاضرات هؤلاء إلى اللغة العربية وتلخص للطلاب- وفي السنوات التالية أخذ عدد المصريين العائدين من بعثتهم بالخارج يزداد ازديادا مطردا ولم يلبث هؤلاء أن تولوا مهام التدريس بالجامعة في معظم الكليات والمعاهد العليا باللغة العربية باستثناء بعض الكليات .(56/6)
ومع تطور النهضة العلمية والتعليمية واتساعها في مصر في الخمسين سنة الأخيرة أصبح لدينا في مصر في الوقت الحاضر اثنتا عشرة ( 12) جامعة بالإضافة إلى جامعة الأزهر ولبعض هذه الجامعات فروع تعليمية تضم عددا من الكليات المتخصصة ، وإلى أن تكتمل كلياتها ستصبح في وقت قريب جامعات إقليمية جديدة قائمة بذاتها - وتضم هذه الجامعات مئتين وخمس عشرة ( 215 ) كلية ومعهدًا جامعيا يدرس بها أكثر من ثلاثة أرباع المليون ( 174 ، 754 ) من الطلاب في العام الجامعي 1995/1996 وذلك بالإضافة إلى واحد وثلاثين (31) من المعاهد العليا التابعة لوزارة التعليم ويدرس بها مئتان وسبعون ألف (270000 ) طالب - وبالجامعات المصرية أيضا ستة وتسعون ألفا (96000 ) من طلاب الدراسات العليا.
أما جامعة الأزهر فبها عشرون كلية ( 20 ) تضم 65810 من الطلاب وسبعة آلاف وخمسمائة ( 7500 ) من طلاب الدراسات العليا - وكل هذه الإحصاءات عن العام الجامعي 1995/1996 .
وبالإضافة إلى هذه الجامعات الحكومية توجد الآن بمصر خمس ( 5) جامعات خاصة وأكثر من مئتين (200) من مراكز ومعاهد البحث العلمي .
وقد شهد ربع القرن الأخير في مصر الجانب الأكبر من هذه الزيادة الهائلة في أعداد الطلاب والكليات والمعاهد ، وازدادت تبعا لذلك أعداد أعضاء هيئة التدريس بالجامعات - ومن بين هؤلاء الطلاب نحو ربع المليون ( 250000) من الطلاب يدرسون معظم مقرراتهم باللغة الإنجليزية وهم طلاب كليات العلوم والهندسة والطب البشري وطب الأسنان والصيدلة والطب البيطري والمعهد العالي للتمريض ومعهد العلاج الطبيعي ويقوم بالتدريس لهم نحو عشرين ألفا من الأساتذة والأساتذة المساعدين والمدرسين والمدرسين المساعدين والمعيدين وذلك بخلاف أعداد أعضاء هيئة التدريس بجامعة الأزهر .(56/7)
وهناك قلة قليلة من المقررات في بعض هذه الكليات تدرس باللغة العربية - كما سيتضح فيما بعد - وجملة القول أن نحو 30% من مجموع طلاب المرحلة الجامعية الأولى في مصر ونحو 50% من مجموع أعضاء هيئة التدريس في هذه المرحلة يَدْرسون ويُدَرِّسُون باللغة الإنجليزية في الوقت الحاضر، إذ تجذب الأستاذ المادة العلمية المتاحة في مراجعها العلمية الأجنبية، ويخشى استخدام اللغة العربية فيحتاج إلى جهود مضاعفة في الترجمة والإعداد هو في غنى عنها حين يستخدم اللغة الأجنبية وياليت هذه اللغة لغة سليمة حقا وقد زاد سوء الحال بتكدس الطلاب بالآلاف مما جعل مهمة الأستاذ بالغة الصعوبة وعجز الطلاب عن استيعاب المادة العلمية وفهمها وهضمها تماما بهذه اللغة الأجنبية ويكفي أن نطلع على أوراق إجاباتهم لنرى المستوى العلمي واللغوي المتردي في هذه الأيام ومع ذلك نرى عزوفا عن التدريس بلغتنا القومية مع أن قانون الجامعات المصرية حرص على النص على أن تكون اللغة العربية لغة التعليم والتدريس أما تأجيل إعمال هذا النص الذي منحه القانون في بعض الأحوال فكان لأجل موقوت ولكنه للأسف استمر منذ إنشاء الجامعة حتى اليوم .(56/8)
وعلى الجانب الآخر نرى صورا مشرقة وضاءة لأساتذة بجامعاتنا المصرية خاضوا التجربة - تجربة التدريس باللغة العربية في عزم وإصرار وأبلوا فيها أحسن البلاء دحضا للفرية التي يروجها المعارضون لتعريب العلوم والطب بصفة خاصة وهي أن اللغة العربية قد تقصر عن الوفاء بمتطلبات التعبير والتدريس بها في العلوم والطب وغيرها . وعن ملاحقة التطور العلمي السريع في هذا العصر - ومن بين هؤلاء العلماء عالم البيولوجيا والطب الدكتور محمد ولي الذي ظل يدرس علم الحيوان والتشريح والأنسجة لطلاب إعداديات الطب ولطلاب العلوم بجامعة القاهرة طوال خمسة وعشرين عاما بالعربية . ومازلنا نذكر له محاضرته "العربية لغة العلم " التي ألقاها عام 1934 بالمجمع المصري للثقافة العلمية والتي فند فيها حجج المعارضين للتدريس باللغة العربية في الجامعات - وقد ناشد في محاضرته مجمع اللغة العربية وكان في مراحل إنشائه الأولى أن يتوجه بجهوده نحو جعل اللغة العربية لغة للعلم إلى أن قال من فرط إيمانه بالقضية " ولا يكون هذا إلا إذا تشيد المجمع على أساس من هذا المبدأ ودق قلبه بما يبعثه فيه من الجد واليقين وسرت نفحات هذه النهضة العربية في دمه فتخللت جميع أجزاء جسمه فأصبح علميا عربيا في الشكل والجوهر وأملنا في هذا المجمع كثير وثقتنا فيمن يقومون عليه عظيمة " هذا ما قاله أستاذ جامعي كبير منذ أكثر من ستين عاما - ولو امتد به العمر حتى اليوم ليعرف كيف أن المجمع لازال يعمل جاهدا نحو تحقيق هذا الهدف ويعقد حوله المؤتمرات، منها مؤتمر هذا العام - كلها زاخرة بالدراسات والمحاضرات آخرها المحاضرة القيمة لأستاذنا الجليل الدكتور شوقي ضيف عن " العربية لغة علم راسخة " والتي ألقاها في المؤتمر الماضي .(56/9)
عالم آخر من علماء مصر البارزين آمن بالعربية لغة للعلم هو الأستاذ الدكتور أحمد زكي عالم الكيمياء وعضو المجمع واللغوي الأديب، ومن تابع محاضراته وكتاباته وبخاصة في مجلة العربي لرأى كيف كانت اللغة العربية طوع قلمه يطرق بها مختلف الموضوعات العلمية ويصف بها المستحدث من علوم العصر في مكنة واقتدار وكانت كتاباته في العلم بلغة الضاد قمة في الأداء والاستقصاء . وكانت له جهود كبيرة في الدعوة منذ الثلاثينيات إلى ترجمة أمهات الكتب العلمية الأجنبية إلى اللغة العربية .
ومن بين هؤلاء العلماء أيضا الأساتذة مصطفى نظيف وإسماعيل مظهر والدكاترة إبراهيم مدكور وعلي مشرفة وكامل حسين وكامل منصور ، ومحمد مرسي أحمد، وعبد الحليم منتصر ، وعلي محمد كامل الذي درّس علوم الطاقة باللغة العربية بهندسة عين شمس ، وعائشة عبد الرحمن التي كتبت عن اللغة العربية ودراسة العلوم بالجامعة ، وعبد الحافظ حلمي محمد، ومحمود حافظ وغيرهم، وهؤلاء ومن سبق ذكرهم قادوا المسيرة في مصر في الدعوة إلى تعريب العلوم وتعريب التعليم العالي والجامعي وقد كتبوا مقالات كثيرة منها " العربية لغة علمية ، نقل العلوم إلى العربية ، نشر الكتب العلمية باللغة العربية ، لغة تدريس العلوم في الجامعات ، تعريب العلم وكثيرا ما حاضر هؤلاء العلماء في العلوم والطب باللغة العربية وحققوا كتبا رائدة من تراثنا العلمي العربي .
ويجدر بي في هذا المقام أن أنوه بجهود عالم جليل هو الأستاذ الدكتور محمد سليمان أستاذ الطب الشرعي بجامعة القاهرة الذي درّس هذا العلم باللغة العربية وقاد مع زملاء له من المؤمنين بتعريب الطب حركة جادة لتحقيق هذا الهدف . ومنذ سنوات في مايو 1981 وافقت لجنة قطاع الدراسات الطبية التابعة للمجلس الأعلى للجامعات على السماح باستخدام اللغة العربية في التدريس بكليات الطب .(56/10)
واهتماما بهذه القضية صدر قرار عن المؤتمر العشرين لاتحاد الأطباء العرب في جلسته الختامية التي عقدت بالقاهرة في الثاني والعشرين من يناير عام 1988 خاص " بتعريب مناهج كليات الطب وأن يكون عام 1988 عام بدء تعريب الطب في كلياته المختلفة في الوطن العربي على أن يتم ذلك تدريجيا في السنوات العشر القادمة" . كما أوصى المؤتمر أن تكون البحوث في مؤتمرات اتحاد الأطباء العرب باللغة العربية ومناشدة منظمة الصحة العالمية عقد اجتماع لعمداء كليات الطب في العالم العربي لمناقشة موضوع البدء في عملية تعريب الطب .
وفيما أعلم عقدت عدة اجتماعات وكان الجدل حول هذا الموضوع بين مؤيد ومعارض وكما يقول الأستاذ الدكتور أبو شادي الروبي عضو المجمع إنه حين عرض قرار وزراء الصحة العرب بضرورة التزام الجامعات بالانتهاء من تعريب الطب مع نهاية القرن الحالي - حين عرض هذا القرار على مجلس كلية الطب بجامعة القاهرة تبين أن 75% من الأساتذة للأسف رفضوا ما جاء به تجنيا على اللغة العربية أنها قد تقصر عن الوفاء بمتطلبات التدريس بها وقد تعزلهم عن التقدم العالمي في مجال الطب وبحوثه وقد فاتهم أن جامعة دمشق تقوم بتدريس الطب باللغة العربية منذ أكثر من خمسين عاما ونيف حتى اليوم كما أن معظم جامعات العالم تدرس العلوم والطب بلغاتها القومية .(56/11)
وفي هذا السياق أيضًا تجدر الإشارة إلى أن الستينيات وأوائل السبعينات قد شهدت محاولات جادة للتدريس باللغة العربية للسنوات الإعدادية بكلية الطب وكانت النتائج عظيمة من حيث استيعاب الطلاب للمادة العلمية وتفهمها في سهولة ويسر وللأسف الشديد عُدل عن ذلك وعاد التدريس باللغة الإنجليزية استجابة لما طالبت به كلية الطب في أوائل السبعينيات . وربما كان عدم توافر المراجع العلمية الحديثة باللغة العربية ترجمة وتأليفا وتعريبا أحد الأسباب في هذه النكسة - أضف إلى ذلك افتقار المدرس الجامعي والعالي إلى التأهيل الأمثل للتدريس بالعربية السليمة بدلا من ذلك الخليط من لغة أجنبية ضعيفة متردية وعربية عامية دارجة . ويجدر بي أن أشير هنا أن بين الدراسات الرائعة التي كتبها العالم الجليل الأستاذ الدكتور عبد الكريم خليفة رئيس مجمع اللغة العربية الأردني دراسة قيمة حقا في موضوع تأهيل أعضاء هيئة التدريس بالجامعة للتدريس باللغة العربية وهي دراسة جديرة بالعناية والاهتمام .
أهمية الكتاب في تعريب العلوم
من المشاهد أن المكتبة الجامعية في مصر لا تزال كما قدمنا فقيرة حتى اليوم في الكتب والمراجع العلمية الحديثة المؤلفة باللغة العربية أو المترجمة إليها بكليات العلوم والهندسة والطب بفروعه المختلفة والصيدلة وبعض المعاهد العليا باستثناء بعض المقررات الدراسية في بعض هذه الكليات،إذ لها كتبها بالعربية لأنها تدرّس بهذه اللغة - وسبب ذلك الذي نشهده من قلة المستحدث من المراجع العلمية العربية هو العزوف عن التأليف أو الترجمة في غيبة الحافز الذي يدفع إلى ذلك - ومرد ذلك أيضا إلى الأزمة التي تمر بها حركة الترجمة بوجه عام .(56/12)
وغني عن البيان أن الترجمة ضرورية لتحقيق التواصل الفكري الدائم بيننا وبين العالم الغربي الذي تتقافز خطواته في معارج الرقي والتقدم . كما أن اللغة العربية تزدادغني وثراء بالترجمة وتتسع آفاقها بالحضيلة الجديدة التي تضاف إلى مذخور تراثها وتصبح أقدر على تأدية رسالتها في عصر العلم والتقدم العلمي والتكنولوجي بفضل عملية التلاحم التي تضطلع بها الترجمة،ولاشك أن لكل ذلك انعكاساته الإيجابية على التعليم باللغة العربية في جامعاتنا ومعاهدنا العالية.
والجدير بالذكر أن الترجمة قد ازدهرت في مصر في عصور سابقة - في عصر رفاعة الطهطاوي شيخ المترجمين الذي قاد أكبر حركة للترجمة في عصره وبلغ عدد ما ترجم نحو ألفين من الكتب والرسائل في مختلف العلوم والفنون - وكان منهج الطهطاوي في ترجمة المصطلحات أو المفردات الأجنبية هو أن يحدد في ذهنه معاني هذه المفردات ثم ينقب عن ما يتلاءم معها من المفردات العربية في المعاجم العربية وأحيانا يلجأ إلى تعريب المصطلح الأجنبي فيضعه بنصه مع بعض تعديل يتلاءم مع النطق العربي وكان يرى أن هذه المصطلحات المعربة يمكن أن تأخذ طريقها إلى اللغة العربية كغيرها من المصطلحات المعربة عن اليونانية والفارسية وغيرها وكان لهذه الجهود أثرها العميق في النهضة العلمية والثقافية في مصر .(56/13)
كما تجدر الإشارة إلى أيام "المقتطف" الذي بدأ نشاطه في مصر عام 1985 وامتد أكثر من خمسين عاما وكان يحفل بمختلف التراجم والموضوعات العلمية والمصطلحات باللغة العربية ، أو إلى أيام لجنة التأليف والترجمة والنشر التي أنشئت عام 1914 وزودت المكتبة العربية على مدى ثلاثين عاما بطائفة من الكتب والمؤلفات والتراجم التي كانت عونا كبيرا للتعليم العالي والجامعي ، أو إلى أيام المجلس الأعلى للعلوم في أواخر الخمسينات ( 1956) حين أشرف على برنامج لترجمة أمهات الكتب والمراجع في العلوم الأساسية الجامعية إسهاما في تدريسها باللغة العربية ودعما لحركة تعريب العلوم، وقد زود الكثير من هذه الكتب بكشافات تضم المصطلحات العلمية الأجنبية ومقابلاتها باللغة العربية - وهكذا فعلت مؤسسة فرانكلين حين بدأت في الستينات في ترجمة العديد من المؤلفات العلمية الرائدة إلى اللغة العربية بهدف الاستفادة بها في التعليم الجامعي وكذلك في نشر الثقافة العلمية وهكذا فعل مشروع "الألف كتاب" الذي نهضت به وزارة الثقافة بوزارة التربية والتعليم وتولته بعد ذلك هيئة الكتاب - ولكن من المؤسف حقا أن الكثير من هذه الكتب والمراجع الجامعية التي نقلت إلى اللغة العربية قد أهملت وطواها النسيان، إذ أن العزوف عن التدريس بالعربية قد وأد معظمها وأجهض الجهود المضنية التي بذلت في سبيل إنجازها .
بارقة أمل وتفاؤل :
وسط هذا الأسى على ما فات يتبدى على الجانب الآخر ما يبعث على التفاؤل والأمل فقد بدأ تدريس بعض المقررات باللغة العربية في بعض كليات العلوم والهندسة والطب البيطري في بعض الجامعات والمعاهد العليا تطمح إلى بعضها فيما يلي وهي بداية طيبة على طريق تعريب العلوم نرجو لها الاطراد والنماء :(56/14)
أولا في كليات العلوم : تدريس الرياضيات في السنتين الأولى والثانية باللغة العربية وكذلك علم البيئة النباتية وفسيولوجيا النبات بعلوم عين شمس . وتدريس علوم الكيمياء والفيزيقا والنبات والحيوان والجيولوجيا والرياضيات في السنة الأولى بعلوم المنصورة باللغة العربية. وتدرس علوم السنة الإعدادية بعلوم الأزهر باللغة العربية وكذلك علوم الأجنة والتطور والبيئة والتصنيف في السنوات الأخرى .
ثانيا في كليات الهندسة :
تدرس علوم السنة الإعدادية باللغة العربية وتشمل الرياضيات والفيزيقا والميكانيكا والكهرباء والهندسة الوصفية وغيرها - كما تدرس مقررات أخرى بالعربية في خواص المادة والمساحة والحجوم والكميات في السنتين الأولى والثانية بهندسة عين شمس ويدرس كذلك علم السكك الحديدية والطرق وتخطيطها بالسنة الرابعة .
ثالثًا : في كليات الطب البيطري:
تدرس علوم الوراثة وتربية الحيوان والاقتصاد الزراعي باللغة العربية .
رابعًا : في كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان :
عزوف واضح عن التدريس باللغة العربية حتى الآن . ولو أنه في بعض المواد كالطب النفسي بجامعة عين شمس يجوز للطالب أن يجيب باللغة العربية وتوجد كتب ومؤلفات في هذا الفرع وفي غيره كالصحة العامة والأمراض العصبية والرمد وتدرس بعض هذه المقررات باللغة العربية في جامعة الأزهر وغيرها .(56/15)
وفي السنوات الأخيرة ظهرت حركة طيبة بكلية الطب بجامعة الأزهر حيث يقوم بعض أساتذتها بالتأليف باللغة العربية في بعض تخصصاتهم من العلوم الطبية، منهم الأستاذ الدكتور محمد عبد العزيز محمد الذي وضع أول كتاب ضخم ( 559 صفحة ) عن العين وطب العيون باللغة العربية وكذلك أول كتاب لغوي رمدي وعنوانه " الأصل العربي لمفردات طب العيون أثبت فيه أن اللغة العربية هي الأم لجميع اللغات وقد أشاد مجمع اللغة العربية بهذا المؤلف حين عكف على دراسته، كما نشر الدكتور عبد العزيز كتابا آخر عن أم الغلوق" أو الجلوكوما ( المياه الزرقاء ) باللغة العربية - كذلك وضع الأستاذ الدكتور عبد اللطيف موسى عثمان ثلاثة مجلدات عن أمراض الجهاز العصبي باللغة العربية - والأستاذ الدكتور عبد المجيد إبراهيم اللبان وآخرون يعدون كتاباتهم في تخصصات أخرى إسهاما منهم في تعريب العلوم الطبية والطبيعية بجامعة الأزهر ونرجو أن تمتد هذه الحركة المباركة إلى الجامعات الأخرى في مصر .
دور مجمع اللغة العربية وهيئات أخرى في النهوض بتعريب العلوم في مصر :(56/16)
تشهد مصر منذ سنين نشاطا ملحوظا من هيئات علمية ولغوية تعمل جاهدة في صبر وأناة على اتخاذ اللغة العربية لغة للعلم وتطبيقاته وفي مقدمة هذه الهيئات مجمع اللغة العربية بالقاهرة الذي يقوم - من بين مهامه اللغوية والعلمية والأدبية الكبرى - بمهمة وضع المصطلحات العلمية . ويسير المجمع على نهج واضح ومستقر لوضع هذه المصطلحات يلتزم به، فحين تتصدى اللجان العلمية (20لجنة) لترجمة مصطلح أو تعريبه تدرس المصطلح معنى ومبنى وأصله اللاتيني أو اليوناني، وتبحث عن أفضل المقابلات له باللغة العربية، وترجع في ذلك إلى مختلف المعاجم اللغوية ، وقد تجد مقابلا أو مأثورا دقيقا غير مطروق في كتب العلم القديمة يؤدي المعنى فتأخذ به وتصطفيه ليشيع استعماله، ثم يعرف المصطلح تعريفًا علميا دقيقا . ويمر المصطلح في مراحل من الدراسة والتمحيص كفيلة بصقله وصوغه الصياغة المثلى بدءا باللجنة العلمية المتخصصة ثم بمجلس المجمع ثم بمؤتمره السنوي .
وتجدر الإشارة إلى أن التقدم العلمي المذهل في مجال العلم والمعرفة والذي نشهده اليوم في ثورة المعلومات والحاسبات وثورة الاتصالات والإلكترونات والهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية وعلوم الفضاء والبيئة وغيرها كل ذلك جاء إلينا بسيل منهمر من المصطلحات الحديثة والمستحدثة - فإذا استعصى علينا أن نجد لها المقابلات العربية المناسبة لجأنا إلى التعريب كما عرب العرب قديما فأخذوا عن اليونانية والهندية والسوريانية والفارسية والتركية وكما عرب المحدثون عن الإسبانية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية ومع ذلك فإن اللغة العربية كانت ولا تزال من الثراء بحيث يمكنها أن تستوعب الكثير مما تفرزه هذه الثورات العلمية الحديثة من مصطلحات.(56/17)
وقد أنجز المجمع أكثر من مئة وخمسين ألف مصطلح في مختلف التخصصات، عدا عدة آلاف أخرى تحت الإعداد ومن بين هذه المصطلحات نحو خمسة وخمسين ألف مصطلح علمي وتكنولوجي متخصص أخذ جزءٌ كبير منها طريقة نحو المعاجم العلمية المتخصصة التي أصدرها المجمع وهي أربعة عشر معجما منها معجم الجيولوجيا ومعجم الفيزيقا ومعجم الحاسبات ومعجم الكيمياء والصيدلة ومعجم البيولوجيا في علوم الأحياء والزراعة ومعجم النفط ومعجم المصطلحات الطبية ومعجم الهندسة ومعجم الرياضيات ومعجم الفيزيقا النووية ومعجم الهدرولوجيا ومعجم القانون - هذا بالإضافة إلى ست وثلاثين مجموعة من مجموعات المصطلحات التي أقرها المجمع .
وغني عن البيان أن هذه الحصيلة اللغوية الهائلة من المصطلحات العلمية المشروحة والمعرّفة تمثل دعما قويا لحركة تعريب العلوم والتعليم ومعينا زاخرا وعونا للمؤلفين والمرتجمين الذين ينقلون الكتب العلمية الأجنبية إلى اللغة العربية أو لأساتذة الجامعات والمعاهد الذين يدرّسون علومهم باللغة العربية حين يكتمل الشوط وتخطو حركة التعريب في كليات العلوم والطب والهندسة خطوات فسيحة إلى الأمام ويصبح التدريس فيها بلسان عربي مبين - وتحضرني في هذا المقام مقولة لأستاذنا الجليل الدكتور شوقي ضيف " علينا التأكيد على أهمية تعريب العلوم لأن معنى ذلك التخلص من التبعية للغرب أو التبعية العلمية بعد أن تخلصنا من التبعية السياسية وينبغي أن نتخذ الوسائل الممكنة للتخلص من هذه التبعية لكي تعود للعرب نهضتهم العلمية الحقيقية .(56/18)
وتجدر الإشارة هنا أيضًا إلى عمل معجمي يعد قمة في الأداء والاستقصاء هو معجم العالم الطبيب الدكتور محمد شرف والذي أصدره عام 1926 في العلوم الطبية والطبيعية شاملا أكثر من أربعين ألف مصطلح إنجليزي ومقابلاتها وشروحها باللغة العربية - وكذلك إلى معاجم أخرى رائدة للمعلوف وأحمد عيسى ومصطفى الشهابي والبعلبكي وغيرها وكذلك إلى بعض المعاجم القديمة وتمثل لنا عونا كبيرا في نقل العلوم إلى اللغة العربية .
ويقتضي الإنصاف أيضا أن ألمح إلى جهود الاتحاد العلمي المصري الذي واصل نشاطه منذ نشأته عام 1956 في اتخاذ اللغة العربية لغة للعلم وفي سبيل ذلك اهتم بموضوع المصطلحات العلمية وإيجاد المقابلات العربية المناسبة لها وقد أنجز منها بضعة آلاف ونشرها الاتحاد في كتبه وقد أشرف على هذا العمل وحباه بعلمه وخبرته عالم جليل هو الأستاذ مصطفى نظيف رئيس الاتحاد آنذاك وعضو مجمع اللغة العربية وقد عاونه في ذلك أستاذ جليل كنا معه هو الدكتور عبد الحليم منتصر الذي دفع بهذه المصطلحات إلى المؤتمرات العلمية العربية وكان آخرها مؤتمر بغداد عام 1966 - كما تجدر الإشارة إلى أن الجمعيات العلمية في مصر والتي قفز عددها إلى مائة وعشرين جمعية علمية، الكثير منها ينشر دراساته وتلقى محاضراته باللغة العربية متخذا العربية لغة للعلم مثل الاتحاد العلمي المصري والمجمع المصري للثقافة العلمية وجمعية المهندسين والمجمع العلمي المصري (بعض محاضراته ) والجمعية المصرية لتاريخ وفلسفة العلوم والجمعية المصرية لتعريب العلوم التي يرأسها الأستاذ الجليل الدكتور عبد الحافظ حلمي عضو المجمع وتقوم بنشاط مرموق. أما الجمعيات التي تنشر بحوثها بلغة أجنبية فيلحق بالبحث ملخص باللغة العربية وهذا يحدث أيضًا في البحوث التي تنشر في المجلات الجامعية والمجلات العلمية الأخرى والتي بلغت بضع مئات في السنوات الأخيرة،ويكتب فيها الآلاف من أعضاء هيئات التدريس بالجامعات(56/19)
ومراكز ومعاهد البحوث في مصر - كما أن الرسالات العلمية لدرجتى الماجستير والدكتوراه والتي تكتب باللغة الإنجليزية تكون دائما مذيلة بملخصات ضافية باللغة العربية وتوجد من هذه الرسالات قرابة خمسين ألف رسالة حافلة بمادة علمية هائلة ومصطلحات علمية باللغة العربية .
نشاط آخر مرموق ذو صلة بنقل العلوم إلى اللغة العربية يقوم به منذ سنوات مركز الأهرام للترجمة العلمية ولعله الوحيد من نوعه على نطاق كبير ويعد اليوم أنشط هيئة علمية تقوم على أمر ترجمة كتب في الرياضيات والكيمياء والتكنولوجيا والطب وعلوم الأحياء والحساب الآلي وغيرها، وقد صدر منها عدد كبير كما أصدرت بعض المعاجم في العلوم المستحدثة كالكمبيوتر، وكذلك عددا من الموسوعات العلمية - وإذا كانت هيئة الكتاب أكبر هيئة حكومية في هذا المجال إلا أن الكتب العلمية التي تصدرها هي قُلّ لا كُثر لا تكاد تشفي علة أو تنقع غلة .
ومع كل النشاط الذي تقوم به هذه الهيئات وغيرها في مصر في نقل العلوم إلى اللغة العربية فلا زالت مصر والدول العربية في المؤخرة بالنسبة لغيرها من الدول وفي إحصائية لمنظمة اليونسكو عن تراجع الترجمة في الوطن العربي ذكر أن نصيب هذا الوطن من إنتاج الكتب المترجمة في عام 1970 كان 1 في الآلف بالنسبة لما انتج في سائر أنحاء العالم وكان نصيب الدول الإفريقية 7 في الألف أما في عام 1986 أي بعد ستة عشر عاما تراجع ما ترجم في الوطن العربي إلى 6 في الألف، لتحتل بذلك المركز الأخير بينما تقدمت الدول الإفريقية إلى 12 في الألف، وليس التراجع في الكم فقط بل في الكيف أيضا، وقد تقلص الإنتاج المترجم في مجال العلوم الأساسية والتطبيقية إلى درجة لافتة للنظر .(56/20)
وفي دراسة إحصائية أخرى مماثلة عن ما تصدره بعض الدول من كتب مترجمة إلى لغاتها أو مؤلفة كل عام أذكر أن اليابان ( نحو 115 مليون نسمة ) لا تزال تحتل المركز الأول في العالم للسنة الثالثة عشرة على التوالي بإصدارها نحو 32 ألف كتاب أو عنوان جديد سنويا وتحتل روسيا ( 120 مليون نسمة ) المركز الثاني بإصدار 28 ألف كتاب في العام تليها الصين 0 1.2 مليار نسمة ) وتصدر 27 ألف كتاب تليها ألمانيا ثم أمريكا وتصدر تايوان 14 ألف كتاب سنويا منها 11 ألف كتاب مترجم وتصدر هولندا ستة آلاف عنوان منها أربعة آلاف عنوان مترجم .
أما الدول العربية ( 22 دولة ) بتعداد يصل إلى 170 مليون نسمة فيبلغ ما تصدره نحو تسعة آلاف كتاب جديد سنويا في الوقت الذي يبلغ ما تصدره إسرائيل ( 3.5 مليون نسمة ) نحو عشرة آلاف كتاب بالعبرية سنويا معظمها مترجم عن لغات أخرى - ومع ذلك فليس ببعيد أن يدور الزمن دورته وتعود للعالم العربي الريادة الفكرية كما كان .
الاهتمام باللغات الأجنبية والانفتاح على التقدم العلمي العالمي :(56/21)
إذا كنا ندعو لقضية تعريب العلوم والتعليم بالجامعات ونعمل لها لتصبح حقيقة واقعة لاعتبارات قومية وعلمية واجتماعية إذ أن الفكر الأصيل لا يخُلق في الأمة إلا إذا كانت تعلم بلغتها وتكتب وتؤلف بلغتها، فيجب في الوقت نفسه ألا يتبادر إلى الذهن أننا نريد الانغلاق على أنفسنا بل العكس هو الصحيح ، هو الانفتاح على العالم الخارجي، على علمه وفكره ومنجزاته الحديثة في العلوم وتطبيقاتها ومواكبة الإيقاع السريع الذي نشهده في هذا العصر عن حركة العلم والتقديم العلمي والتكنولوجي - ولا شك أن ذلك يعتمد في المقام الأول على إتقان لغة أجنبية من اللغات الحية كالإنجليزية أو الفرنسية نطل بها إطلالات نيرة ومثمرة على العالم الخارجي وآفاقه العلمية الرحبة - علينا الاهتمام بتعليمها في أثناء المرحلة الجامعية بل وفي مرحلة التعليم العام لأننا أصبحنا في عصر لا يجوز فيه لخريج الجامعة طبيبا كان أم مهندسا أن يقف عند لغته القومية إذا أراد أن يتابع التقدم العلمي العالمي في مجاله وتخصصه _ وغلى عهد قريب كان تعريف الأمي في اليابان من لا يعرف لغة أجنبية واليوم أضافوا إليها لغة الحاسوب - وإذا كان تعلم لغة أجنبية ضروريا لطالب المرحلة الجامعية ليتسع بها أفقه ويستعين بها على مزيد من الدرس والاطلاع الخارجي فإنه واجب أساسي وحتمي بالنسبة للأساتذة والمدرسين والباحثين وطلاب الدراسات العليا إذ لا يمكن أن يجري أي منهم بحوثه أو ينشر إنجازاته وهو بمعزل عن منجزات العلم والعلماء في كل مكان ودون أن يتم التواصل بينه وبين العلماء في الخارج ولن يتأتى ذلك دون إتقان لغة أجنبية حديثًا وكتابةً وفكرا، وتجدر الإشارة إلى أن برامج الدراسة في كليات العلوم تشمل برنامجا خاصا لتدريس اللغة الإنجليزية لطلاب السنتين الأولى والثانية وبرنامجا لتدريس اللغة الألمانية لطلاب السنتين الثالثة والرابعة وآخر مكثفا لطلاب الدراسات العليا - ومع ذلك فلا زلنا بعيدين(56/22)
تماما عن ما نبتغيه من معرفة أو إتقان للغة أجنبية ويلزم المزيد من الاهتمام والجدية في هذا المجال .
الاهتمام باللغة العربية :
لست في حاجة إلى القول إن تعريب العلوم وكذلك تعريب التعليم يتطلب رفع مستوى اللغة العربية لدى القائمين عليها والمشتغلين بها والدارسين والمدرسين على حد سواء ،بعد أن هبط هذا المستوى وبلغ درجة من الضعف والاستهانة تبدت في مختلف مراحل التعليم وأشاعت الألم والحسرة بين سدنة اللغة العربية وكثيرا ما تصدت أقلام لمأساة اللغة العربية وإن مجرد إلقاء نظرة عابرة على أوراق إجابة التلاميذ وكذلك الطلبة في الجامعات جعلنا نقف على حال اللغة العربية في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا بل وفي مناح كثيرة من حياتنا من هبوط مستواها ومعرفة متدنية بها، ومما يدعو إلى الأسى أن الكثير مما نأكل وما نلبس وما نتداوى به وما نستخدمه من أدوات الصناعة والزراعة ومختلف الفنون وما يقع عليه بصرنا وما تسمعه آذاننا وما تلمسه أيدينا مستورد أو مصنوع بلفظه الأجنبي ويطلبه الناس بلفظه الدخيل على اللغة، وانتشرت كتابة اللافتات الأجنبية بحروف عربية وأصبح كل ذلك جزءا من حياتنا ، وتلك هي الخطورة الكامنة التي تحدق باللغة العربية والتي تدعو اليوم إلى وقفة صارمة قبل أن تصبح اللغة العربية غريبة بيننا بعد أن كنا في شبابنا بل في أولى مراحل التعليم نقرأ كليلة ودمنة لأبن المقفع والعبرات والنظرات للمنفلوطي .(56/23)
لذلك علينا من بين ما نعمل له النهوض بقضية التعريب وحل مشاكلها، أون نعمل أيضا على تأهيل المدرسين بالجامعات والمعاهد لتدريس العلوم باللغة العربية من جهة وعلى رفع مستوى الطلاب بالجامعات من جهة أخرى وذلك بوضع مناهج وبرامج متطورة لتدريس اللغة العربية وقواعدها الأساسية ويجب أن يتم ذلك أيضًا في جميع مراحل التعليم قبل الجامعي ليكتمل بذلك البناء اللغوي للطلاب على كل مستوياتهم - بل يذهب البعض إلى ضرورة العناية باللغة العربية في مراحل الطفولة ليستقيم اللسان مبكرا نطقا وتعبيرا . وبهذا التكامل يستقيم الأمر لدى الأساتذة والطلاب على حد سواء ويصبح تعليم
العلوم عربيا وبلسان عربي مبين .
وفي معرض التدليل على ثراء اللغة العربية بالمصطلحات والمترادفات شدني ما قاله الأستاذ الدكتور محمود الرخاوي مقرر لجنة التعريب باتحاد الأطباء العرب من أن " هناك " علميا " ما يثبت أن اللغة العربية الفصحى هي أم اللغات الهندية والأوربية وأصل الكلام فاللغة العربية كانت الأصل والمنبع بينما تمثل اللغات الأخرى قنوات وروافد لها (فمثلا نحو 80% من أفعال اللغة السكسونية و75% من أفعال اللاتينية تأتي من أصل عربي ) ويؤيد هذا أن عدد الجذور في اللغة العربية يزيد على ستة عشر ألف (16000 ) جذر بينما اللغة السكسونية بها ما يزيد قليلا على ألفي ( 2000) جذر .
اقتراحات وتوصيات
قبل أن أختم كلمتي أود التأكيد على النقاط الآتية :(56/24)
أولا : علينا أن نستمر في دعوتنا لتعريب العلوم والتعليم العالي والجامعي في مصر وأن نعمل لذلك بجهد الطاقة حتى يصبح التعريب حقيقة واقعة وأن نتصدى بالحجج الدامغة لهؤلاء الذين يقفون ضد هذه القضية القومية ويعملون على عرقلة مسيرتها وذلك من منطلق أن اللغة العربية قادرة على استيعاب مقتضيات التطور العلمي والتكنولوجي في هذا العصر ، وأن شعوبا شتى صغيرة أو كبيرة تستخدم لغتها في تدريس العلوم وفي البحوث العلمية والتطبيقية دون أن يكون ذلك ، عائقا لها في شيء .
ثانيًا : دعوة المجلس الأعلى للجامعات والمسؤولين عن التعليم العالي والجامعي في مصر إلى تبني هذه القضية ووضع خطة شاملة لها وتدرس وسائل تنفيذها وأن تسهم الجامعات إسهاما كبيرا في تشجيع التأليف باللغة العربية والترجمة إليها وأن تُعد المكتبة العلمية العربية في مختلف التخصصات وذلك للنهوض بمستوى التعليم والبحث العلمي .
ثالثا: العمل على توحيد المصطلحات العلمية في الوطن العربي للقضاء على بلبلة قائمة في استعمال المصطلح الواحد بمقابلات عربية مختلفة في البلاد العربية وقد بدا ذلك واضحا في الندوات التي ينظمها اتحاد المجامع اللغوية العربية (وكانت آخر هذه الندوات في دمشق في ديسمبر 1996لدراسة معجم البيولوجيا) وفي المعاجم التي يقوم بإعدادها مكتب التنسيق بالرباط . ونأمل في مضاعفة الجهود التي يقوم بها اتحاد المجامع اللغوية في هذا السبيل .(56/25)
رابعًا : إنشاء هيئة أو مؤسسة كبرى للترجمة والتأليف تضع خطة دقيقة لها تحدد فيها الأولويات في ترجمة العلوم والتكنولوجيا والعلوم الإنسانية مع ملاحقة التطور السريع في حركة العلم والبحوث العلمية والتكنولوجية وذلك لخدمة تعريب العلوم وتعريب التعليم الجامعي - وتوجيه عناية خاصة إلى ترجمة مجموعات متكاملة من أمهات الكتب والمراجع العلمية الأجنبية في مختلف التخصصات وكذلك تشجيع التأليف فيها - ويلحق بهذه الهيئة معهد لإعداد المترجمين وتدريبهم .
خامسا : ضرورة التوسع في تعريب المصطلحات العلمية وفي وضع المعاجم العلمية المتخصصة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية وقد أسهم مجمع اللغة العربية في ذلك بإصدار أربعة عشر معجما في مختلف التخصصات العلمية وغيرها وتحت الإعداد معجمات أخرى في العلوم الحديثة والمستحدثة _ ونوصي هنا أن يبادر المجمع بإهداء أعداد كبيرة من هذه المعاجم ومجموعات المصطلحات إلى مختلف الكليات الجامعية والمعاهد في مصر للاستفادة بها في تشجيع حركة التعريب ونقل العلوم إلى اللغة العربية بفكر عربي .
سادسا : توجيه عناية خاصة إلى تعليم اللغات الأجنبية في مراحل التعليم العام والتعليم العالي والجامعي ثم في مرحلة الدراسات العليا ووضع البرامج الكفيلة بإتقانها ليتاح الانفتاح على العالم الخارجي ومتابعة التطور العلمي والتكنولوجي في هذا العصر .
سابعا : تكثيف العناية باللغة العربية في جميع مراحل التعليم وبخاصة في مرحلة التعليم الجامعي وتطوير برامجها وطرق تدريسها مع العمل على تأهيل أعضاء هيئة التدريس بالجامعات . والمعاهد العليا للتدريس باللغة العربية .
ثامنًا : التأكيد على ضرورة إعداد ملخصات باللغة العربية لجميع البحوث والدراسات التي تنشر باللغة الأجنبية في المجلات العلمية، ودعوة الجمعيات إلى الالتزام بهذا الواجب القومي .(56/26)
تاسعًا : على الإعلام بروافده الثلاثة أن يكثف عنايته باللغة العربية في برامجه وبين المشتغلين به والوافدين عليه بخطبهم وأحاديثهم .
هذه اقتراحات وتوصيات حول استخدام اللغة العربية لغة للعلم وللتعليم في الجامعات والمعاهد طالما رددتها المؤتمرات والندوات واتحاد الجامعات ومنظمة اليونسكو واتحاد الأطباء العرب كما نص عليها قانون الجامعات ومنذ أكثر من ستين ( 60) عاما حتى اليوم فلا تزال القضية - قضية التعريب - قيد البحث ولم يتحقق الأمل الذي لازلنا نتطلع إليه - ولا أراني في حاجة إلى التأكيد أنه إذا أريد لهذه القضية الحل فعلى الدولة أن تحسمها بقرار سياسي ملزم بوفر لها كل الإمكانات ويضع لها الخطة والبرنامج للعمل والتنفيذ والانطلاق باعتبارها قضية قومية ووطنية وثيقة الصلة بكياننا العربي ومستقبل التعليم في مصر .
واختم كلمت بأبيات من قصيدة عن اللغة العربية للشاعر الراحل محمد البرعي يمجدها ويدعو فيها المجمع أن يأخذ بيدها مما ألم بها ويقول :
من خط بالقلم الحروف الأولى
... الله خص بنورها التنزيلا
لغة البيان وقد شَرُفْتِ بأحمدٍ
... يدعو وينشر للحديث فصولا
الله نزَّلها عليه معلما
... واختارها لغة تنير عقولا
عاشت قرونا منذ أن ولد الهدى
... فتبوأت قمم اللغات أصولا
الناطقون بها حماة تراثها
... صانوا حماها فتية وكهولا
يا مجمع الفصحى وحصن تراثها
... لا زلتَ ظلا البيان ظليلا
قد كنت منذ نشأتَ قوة عزها
... تقضي لها حقًّا عليك نبيلا
واليوم قد هبت عليها عجمة
... كانت على لغة البيان وبيلا
فانهضْ وخذ بيد البيان فإنه
... لم يرض غيرك للبيان كفيلا
وشكرا جزيلا لكم .
والسلام عليكم ورحمة الله .
محمود حافظ
نائب رئيس مجمع اللغة العربية(56/27)
الأساتذة الزملاء أعضاء المجمع الأجلاء
السيدات والسادة:
لقد حظي مجمعنا القاهري بصفوة من أعلام المجمع الدمشقي، كانوا من مؤسسيه ودعائم قراراته، إمامًا بعد إمام، وعالمًا لا يبارى تلو عالم، على مدار الستين في هذا القرن ، وأولهم محمد كرد على، مؤسس مجمع دمشق وحامل لواء النهضة الأدبية في موطنه الذي دفع مجمعه إلى تعريب لغة الدواوين التركية، ودفعه مع أعلام الجامعة السورية إلى تعريب التعليم الجامعي. ومؤلفاته في الأدب والتاريخ والاجتماع مشهورة ، وبالمثل بحوثه المتنوعة الخصبة التي ألقاها في مجمعنا طوال عشرين عامًا أمضاها فيه . ورافقه في تأسيس مجمعي دمشق والقاهرة الأستاذ الجليل عبد القادر المغربي ، الذي ظل يمد مجمعنا في دوراته المتعاقبة ببحوث لغوية وعلمية طوال ربع قرن ، وهي مسجلة جميعًا في مجلة مجمعنا. وتلاهما في مجمعنا إمام كبير كان - بدوره - رئيسا لمجمع دمشق ، ويعد في الطليعة من
الكتاب المؤثرين في نهضة سوريا القومية والعلمية ، وكان صوته يُدوي في دورات المجمع القاهري بما يعرض من بحوث في المصطلحات العلمية ، وهي بحوث نفسية تزدان بها مجلة مجمعنا ، وله معجم الألفاظ الزراعية بالفرنسية والعربية، يشتمل على نحو عشرة آلاف مصطلح علمي، وله معجم ثان بالإنجليزية والفرنسية ، وكُتب مختلفة في الزراعة وما يتصل بها . ومعجماه وكتبه من المراجع الأساسية للعلماء والدارسين . وخلفه على رياسة مجمع دمشق ،وعضوية مجمعنا طبيب كبير هو الدكتور حسني سبح الذي طالما درس بعناية ما تصنعه لجنة الطب من مصطلحات ، وفي كل دورة للمجمع كان صوته يدوي في أرجائه بملاحظاته العلمية القيمة ، وهو من دعاة اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية الذين عملوا على تأسيسه وإخراجه من حيز الأماني إلى الفعل .(57/1)
وكان يشاركه في مجمع القاهرة ومجمع دمشق نائبه القانوني الكبير الدكتور عدنان الخطيب ، وله مؤلفات قانونية معروفة ، وكان يحمل إلى دورات مجمعنا سنويا بحوثا لغوية تنم عن نزعته القومية وتعلقه بتوحيد المصطلحات العلمية بين البلاد العربية ، وله بحث لغوي قيم في نقد الطبعة الأولى للمعجم الوسيط، انتفع به مجمعنا في طبعته الثانية . وكان يزامله في مجمعنا عَلَم من أعلام جامعة دمشق هو الأستاذ سعيد الأفغاني في رئيس قسم اللغة العربية بها ، وكان يثري مؤتمرات مجمعنا من حين إلى حين ببحوث لغوية قيمة ، وله كتب ومصنفات بديعة منها: "الإسلام والمرأة"، و"حاضر اللغة العربية في الشام"، سوى تحقيقاته لبعض الكتب، ودراساته عن ابن حزم الأندلسي قراءة أو تفسيرًا وهو ما أداه إليه اجتهاده ، ويتحدث بكلمة عن بشَّار بن بُرد وديوانه ورواته، ومن اختاروا من ديوانه وخاصة الخالدَيْن في كتابهما : المختار من شعر بشار،ويستقصي المؤلفين الذين تحدثوا عنه ، ثم يعرض تعليقاته على أبيات الأجزاء الثلاثة من الديوان - والتعليق عنده لا يقتصر على ما رجح عنده أنه الصواب ، بل يضم إليه تحقيقا في الأحداث التاريخية ، كما يضم تحقيقا واسعًا في كل ما يذكر بالديوان من أعلام أي عشائر عربية ، ولا يترك خبرا ولا رواية تساعدان على ما يرجحه من تصويبات إلا ويذكره ، مع موازنات كثيرة بين أبيات بشّار وأشعار السابقين له والتالين . والتعليقات - بذلك - ليست تصحيحات لأبيات بشار مع الرجوع الواسع لمعاجم اللغة فحسب ، بل هي دراسة أدبية وعلمية عميقة تصور ثقافة الدكتور شاكر المتنوعة الواسعة بالشعر العربي وشعرائه وكل ما يتصل بأشعارهم من أخبار ، وهي مثل دقيق لما يتطلبه تحقيق الدواوين من جهد مضاعف وعناء شديد .(57/2)
والمقال الذي رأيت أن أعرضه - على حضراتكم - للأستاذ الدكتور شاكر محمد الفحام - هو قراءة في كتاب الفهرست لابن النديم ، وهو - كما يقول مؤلفه:"وفهرست كتب جميع الأمم من العرب والعجم بلغة العرب في أصناف العلوم ومصنفيها وأعمارهم وبلدانهم ومناقبهم ومثالبهم، منذ ابتداء كل علم إلى زمن تأليف الفهرست سنة سبع وسبعين وثلاثمائة . ولم يعن القدماء بترجمته".مما جعل الأستاذ الدكتور شاكر يجمع خيوطها من كتابه " الفهرست" وكان أبوه وراقا وعني بتربيته وتعليمه وتخريجه على يديه مما جعله وراقا كبيرا، بل أكبر وراق في المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن ، وعضو مراسل في المجمع العلمي الهندي بعليكره في الهند، وعضو مجلس الأمناء لمعهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية .
وهو ركن بارز في اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية ، وحين اتخذ الاتحاد في العام الماضي قرارا بإقامة ندوة لدراسة المصطلحات في معجم علوم الأحياء والزراعة، اقترح الأستاذ الدكتور شاكر محمد الفحام أن تقام الندوة في مجمعه الدمشقي، ووافق الاتحاد ووزع المعجم على المجامع لدراسته ، وألف له الدكتور شاكر لجنة علمية من أعضاء المجمع، وجامعة دمشق وسجلت آراءها في مجلد كبير ، وأقيمت الندوة في الثاني من ديسمبر الماضي ، وحضرها علماء المجامع والهيئات العلمية من الرباط إلى بغداد ، وغمرها الدكتور شاكر والحكومة السورية بضيافة كريمة وحفاوة عظيمة، ونجحت نجاحًا باهرًا،وقررت أن يكون معجم المجمع القاهري في علوم الأحياء والزراعة أساسا لتوحيد المصطلحات في تلك العلوم بالوطن العربي.
أيها السادة :(57/3)
اليوم ينضم إلى هذه الصفوة من الأعلام الدمشقيين علم مجمعي وجامعي فذ هو الأستاذ الدكتور شاكر محمد الفحام رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق ويسعدني أن أنوب عن مجمعنا في استقباله، وأنا أهنئه بثقة مجمعنا به عضوًا عاملا جديدا، يقدر مكانته العلمية والأدبية أبناء الضاد في ديارنا العربية .
ومعروف أن شغفه بالدرس والبحث جعله يستكمل دراساته في كليه الآداب بجامعة القاهرة وينال منها درجة الدكتوراه مع الثناء الجم من أساتذته ، وعاد إلى دمشق وتولى مناصب وزارية متعددة ، وعين سفيرًا لدولته في الجزائر فترة، فرئيسًا لجامعة دمشق، فعضوًا في مجمع اللغة العربية " الدمشقي " فنائبًا لرئيسه ، فرئيسًا له منذ سنة 1993م .(57/4)
ولم تُصرف الأستاذ الدكتور شاكر الفحام مناصبه الكثيرة التي كانت تلقى عليه أعباء جساما عن البحث العلمي والأدبي ، مما جعل مؤلفاته ودراساته وتحقيقاته تكثر كثرة مفرطة ، وأنا ألمُّ بها إلماما ، فله في التأليف كتب متميزة في مقدمتها : كتابه عن الفرزدق الشاعر الأموي الذي نال به جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي، لتحليلاته البارعة وشعره ورسمه الدقيق لخصائصه الفنية، مع حسن عرضه بأسلوبه الرصين . وتتوالى بحوثه ومقالاته في مجلة مجمع دمشق حتى لتتجاوز عشرين مقالا وبحثا ، وفيها أحاديث عن أعضاء المجمع الدمشقي الراحلين مثل: الأمير مصطفى الشهابي، وحسني سبح، ومحمد كامل عياد، وأحمد راتب السفاح، ومقالات عن عبد العزيز اليمني الراجلوتي، وابن سينا في ذكراه الألفية، والسيوطي في ذكراه المئوية ، ومقال عن المصطلح العلمي في نطاق تعريب التعليم العالي . وتتوالى عشرات المقالات في المجلات العريقة ، منها آراء في تربية الشباب العربي ، ونظرات في المعاجم العربية الحديثة ، وإشكالية المصطلح وضعا وتوحيدا ، والمقدسي الجغرافي ورحلاته . وله تحقيقات كثيرة في مقدمتها كتاب اللامات لابن فارس ، سوى تعريفه بكثير من المصنفات النفيسة وتراجم محققة اختارها من مخطوطات كتب مهمة ، ونقد لبعض الدواوين ، وبحوث تتناول بعض الشعراء المشهورين والمغمورين .(57/5)
وأعرض - على حضراتكم - عملا واحدًا هو كتابه : "نظرات في ديوان بشار بن بُرد" الذي حقق أجزاءه الثلاثة المنشورة العالم التونسي الجليل محمد الطاهر بن عاشور ، وأعانه الأستاذان محمد رفعت فتح الله ومحمد شوقي أمين في مراجعة الجزأين الأول والثاني وطبعهما ، وانفرد الأستاذ محمد شوقي أمين بمراجعة الجزء الثالث وأشرف على طبعه . والكتاب تعليقات وتصحيحات لبعض أبيات الأجزاء الثلاثة وبدأه الأستاذ الدكتور شاكر بكلمات مأثورة وقطوف من أشعار بشّار ومقدمة يقول فيها: "إن صحبته لديوان بشار جعلته يخالف المحقق والمراجعين في قراءتهم وتفسيرهم لبعض الأبيات" . إن الأستاذ شاكر الفحام شخصية علمية مجمعية عريضة متعددة الجوانب في وجوه النشاط اللغوي والأدبي، ومهما قلت فلن أستطيع أن أوفيه حقه ، وأن مجمعنا ليرحب به عضوا عاملا في أسرته المجمعية، سدد الله خطاه وكتب له دوام التوفيق .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شوقي ضيف
رئيس المجمع
أستاذي الجليل الدكتور شوقي ضيف
رئيس المجمع :
أساتذتي وزملائي أعضاء المجمع الأجلاء:
أيها الحفل الكريم :
سعدت أبلغ السعادة يوم أُعلمت أن مجمع اللغة العربية قد شرفني بانتخابي عضوا عاملا ، وشعرت بالرضا والاعتزاز. وتواردت على مخيلتي صور أولئك الرجال العظام الذين شيدوا بأعمالهم المجيدة هذا الصرح الشامخ لمجمع الخالدين ، وصاغوا بدراساتهم ومباحثهم ما هيأ للعربية المبينة أن تظل مواكبة للعصر ، ملبية لحاجات أبنائه ، ترف بشبابها الدائم وطاقاتها المتجددة .
ما أجمل سيرة الخالدين! ، وما أجل ما صنعوا!. صانوا العربية وحافظوا على سلامتها ، وقعدوا لها لتكون أكثر مرونة وأقدر على التلاؤم ، وأحيوا تراث الأجداد فربطوا بين حاضر الأمة وماضيها، وقدموا ما قدموا من دراسات هي الكنز الثمين، نئل إليه ونفيد منه ، وكانوا القدوة لخالفيهم ، يكمل لا حق(57/6)
ما بدأه سابق ، والبناء يعلو ويسمو ، والجنى الطيب يوافى في إبانة لا يتخلف . ومجمع الخالدين في عطاء دائم ، يلبي ما يراد منه ، ويستشف المستقبل فيعد له عدته "كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أُكُلَها ضعفين" .
رحم الله السلف الصالح الذي شيد فأعلى . ومد الله في أعمار من خلف ، يوالون البناء ، ويزيدون في العطاء ، لتظل العربية المبينة سيدة في دارها ، تنمو وتزدهر وتشع في الآفاق ، وليبقى مجمع الخالدين منار هدى ، تعشو إلى ضوئه العيون .
إني لأتطلع إلى هذه الثروة النفيسة التي قدمها الأساتذة الأعلام المجمعيون والإعجاب يملأ نفسي . لقد تناولوا مختلف قضايا العربية ، وعرضوا مقترحاتهم البناءة التي تحفظ للعربية أصالتها ، وتمنحها الطواعية لتلبي ما يراد منها . فإذا رُحتَ تستعرض ما تم راعك ما تطالع من كنوز تجدها منسوقة أنواعا: يتدرج قسم منها في بحوث أصول اللغة ، وقسم يعالج الألفاظ والأساليب ، وثالث يتناول طرائق التعريب ووضع المصطلحات ، وهناك الدراسات التي تبحث في الأصوات واللهجات مفيدة من معطيات العلوم اللغوية الحديثة .
أما وضع المعاجم فقد بلغ الغاية في التنوع استجابة لمختلف المطالب ، فهناك المعجمات اللغوية : الوجيز والوسيط والكبير ، وهناك معجمات المصطلحات العلمية ، وألفاظ الحضارة والفنون ، وهناك معجم ألفاظ القرآن الكريم .يضم إلى ذلك ما تم تحقيقه ونشره من معجمات التراث المختلفة .
وإننا لنتطلع إلى حلول القرن الحادي والعشرين يملؤنا التفاؤل بأن تحل العربية محلها الأسمى بين اللغات العالمية .(57/7)
أليس من الحق أن أصف الأساتذة المجمعيين الأجلاء الذين صانوا اللسان العربي المبين ، وهو المقوم الأول من مقومات الأمة،وحافظ وحدتها، والعاصم لها من الشتات ، بأنهم الخالدون حقا ؟. قاموا بأعمال رائعة لا مثيل لها،وسيظلون السدنة المخلصين لهذه اللغة الشريفة ، يحيطونها بعنايتهم لتبلغ مكانتها السامية الجديرة بها. وإنهم بإذن الله لفاعلون .
هأنذا أقف اليوم في رحاب مجمع الخالدين ، يلفني الخشوع والتهيب لجلال الموقف . وأول ما أبدأ به أن أزجي الشكر، كل الشكر إلى أستاذنا الجليل الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع ، وإلى نائب الرئيس الأستاذ الدكتور محمود حافظ ، والأمين العام الأستاذ إبراهيم الترزي . وأتوجه بشكري الخالص إلى أساتذتي وزملائي من أعضاء المجمع الذين أولوني ثقتهم ، وأضفوا عليَّ من جميل رأيهم وكريم فضلهم ثوبا سابغا، فضموني إلى صفهم ، وفسحوا لي مكانا بينهم ، وإني لأرجو أن أكون عند حسن الظن فأفي ببعض ما عليَّ .
وإني لأصفي الشكر أطيبه وأحسنه أستاذي الجليل الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع الذي أغدق عليَّ من فضله ونبله ما عظم به صغيري ، وكثر به قليلي . وإن بضاعتي من العلم لمزجاة. ولكنه المعلم المربي أبى الإ كرمًا وسُمُوًّا ليظلني بجناحيه ، ويأخذ بيدي إلى حيث يحب لي ، فجزاه الله عني خير الجزاء وأوفاه .
وتقتضي سُنة المجمع وأعرافه التي درج عليها أن أتحدث عن الراحل الخالد سلفي في هذا المقعد الأستاذ الدكتور عدنان الخطيب رحمه الله وأسكنه فسيح جناته .
ولد الدكتور الخطيب في سنة 1914م بدمشق ، ونشأ في أسرة توارثت العلم ، وتلقى علوم اللغة والفقه منذ صباه ، وأحب العربية الحب الجم ، وأكب على دراستها ومطالعة كتبها .
واختار الدكتور الخطيب بعد دراسته الثانوية الالتحاق بكلية الحقوق بجامعة بغداد ، ونال إجازة الحقوق سنة 1942م ، ثم حصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق من جامعة باريس سنة 1947م .(57/8)
وشهد في أثناء مقامه ببغداد ثورة رشيد عالي الكيلاني على الإنكليز عام 1941م ، ومما قاله في ذلك:" وما أنسى لا أنسى يوما من أيام عام 1941م، وقفت فيه في بغداد مع فتيه أعدوا أنفسهم للاشتراك في حرب التحرير العراقية ، نستمع إلى الشاعر الأثري يخاطب العراق بصوت حمله الأثير إلى سمع الملايين في مختلف أرجاء الوطن العربي قائلا من قصيدة طويلة :
غمزوا إباءك فاضطرمت إباء
... وحشدت جوك والثرى والماءَ
وختم الشاعر قصيدته قائلا :
يا ساعةَ التحريرِ عُرْسُك قد أنى
... إن البشائر لُحْنَ والبشراءَ
وكما نعلم فإن الثورة أخفقت ، وتغلب الإنكليز ، وطورد الثوار الوطنيون، واعتقل الأستاذ محمد بهجة الأثري ثلاث سنوات .
آثر الأستاذ الخطيب بعد عودته إلى دمشق أن يشق طريقه في المجالين اللذين أحبهما وعني بهما : الحقوق والدراسات العربية ، وقد أوتي فيهما نصيبا موفورا .
مارس المحاماة حتى نهاية عام 1944م ، ثم انتسب إلى سلك القضاء في عام 1945م ، وتقلب في المناصب القضائية المختلفة ، يرقى من منصب إلى منصب حتى كان آخر ما أسند إليه منصب رئيس مجلس الدولة ، فظل فيه خمس سنين ( 1969م - 1974م ) ليحال بعدها على المعاش ( التقاعد ) لبلوغه سن الستين .
وخلف في الدراسات القانونية مؤلفات هامة ، انصب جُلها على دراسة القوانين الجزائية وشرحها ، ضمنها عصارة مطالعاته الطويلة ، وخلاصة خبرته التي اكتسبها في حياته الوظيفية، وفي التدريس في كليتي الشريعة والحقوق بجامعة دمشق ، وفي معهد الدراسات العربية العالي بالقاهرة .
ويأتي على رأس تلك المؤلفات وهي كثيرة : شرح قانون العقوبات - القسم الخاص ( جزآن ) ، والوجيز في شرح المبادئ العامة في قانون العقوبات ( ثلاثة أجزاء ) ، والنظرية العامة للجريمة في قانون العقوبات السوري . وكان آخر ما أصدره في هذا الباب كتاب : حقوق الإنسان في الإسلام .(57/9)
وحبر إلى جانب ذلك كثيرا من المقالات النفسية التي نشرها في المجلات ، تناول في طائفة منها مباحث لها شأنها في القانون ، وعرض في أخرى لجملة من الكتب الحقوقية معرفا وناقدا لها. كان الفقيد رحمه الله مثقفا ثقافة قانونية واسعة، مما جعله مرجعا لأصدقائه وقاصديه في كل ما يستعصي عليهم فهمه. وكان لا يصدر رأيا أو يعالج مشكلة حتى يتثبت بالرجوع إلى أمهات المصادر القانونية . وكان متمسكا في مسلكه بمبادئ الشرف والاستقامة ، محافظا على كرامة الوظيفة وهيبتها ، فرفع ذلك من شأنه ، وأعلى من مقامه وقدره زملاؤه وعارفوه حق التقدير ، وأحلوه من نفوسهم المحل الأرفع .
وكانت براعة الأستاذ الخطيب في اللغة والأدب وما يتصل بهما في وزن مقدرته الحقوقية ، لا يطغى جانب منهما على أخيه . لقد تملكه حب العربية منذ النشأة فوفاها حقها من الدرس والبحث، وكان يرى في مجمع اللغة العربية بدمشق حصن العربية الشامخ ، فوثق صلته بأعضائه ، حماة العربية ، الرافعين بناءها السامق . قام بذلك في عهد مبكر من حياته ، في نحو الثلاثين من عمره، فقد ضم ثبت محاضرات المجمع عناوين أربع محاضرات له في مجال القانون ألقاها في سنوات : 1943م، 1944م، 1946م، كما ضمت مجلة المجمع أول مشاركة له على صفحاتها عام 1949م ، وكان عنوان مقالته : النهضة العربية في العصر الحديث ، وتلتها عدة مقالات تناولت تعريفا بالكتب ونقدا لها .
وكان الأستاذ الخطيب شديد الإعجاب بالأستاذ محمد كرد علي، رئيس المجمع،يرى فيه مثله الأعلى. وحين أصدر كتابه:لغة القانون في الدول العربية، قال في إهدائه :" إلى الأستاذ الجليل محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي ، إجلالا وتقديرًا، وزادته الأيام قربا منه وإعجابا به ، فافتن من بعد في الترجمة له وسط سيرته تنويها بمزاياه،وإشارة بمناقبه.(57/10)
وانضم الأستاذ الخطيب إلى مجمع الخالدين بدمشق عضوا عاملا في عام 1960م ( 6/10/1960م) ، وأصبح المجمع شغله الشاغل ، فأكب على كتب العربية ينهل من معينها العذب الزلال ، واتسع ميدان نشاطه ، فكتب في العربية، والكشف عن خصائصها وعرض لإصلاح ما وقع فيه الباحثون من أغلاط، وعني بالتأليف في موضوعات تضيف جديدًا أو تنير غامضًا. ومن أبرز مؤلفاته:
كتاب المعجم العربي بين الماضي والحاضر ، وكتاب المعجم العربي، ونظرات في المعجم الوسيط ، وكتاب لغة القانون في الدول العربية .
واستجابة لإعجابه العميق بالشيخ طاهر الجزائري أحد رجال النهضة والإصلاح البارزين في الشام ، ألف كتابه : الشيخ طاهر الجزائري ، وكشف عن أعمال هذا المصلح الفذ الذي " قضى عمره في السعي إلى الإصلاح والتجدد" كما يقول الأستاذ محمد كرد علي .
وللأستاذ الخطيب مقالات شتى تناولت مباحث لغوية مختلفة، أو عرضت للتعريف بالكتب ونقدها .
وبلغ اعتزاز الأستاذ الخطيب بالمجمعيين وما قاموا به مداه ، فإذا هو يقف جزءا صالحا من نشاطه على بسط سير أولئك المجمعيين . ولقد نجح في تقديم مجموعة طيبة من تراجمهم ، وكان الموفق في تصويرهم بما أوتيه من موهبة بالغة ، فإذا هو ينفذ بنظراته الثاقبة إلى الصفات والسجايا الأصلية لمن يتحدث عنه ، ويسعفه الاطلاع فإذا هو يستقصي أحوال المترجم له وأعماله ، لا يكاد يغادر منها شيئًا .
ترجم للأعضاء المؤسسين الثمانية ، وترجم لكبار المجمعيين العاملين والمراسلين الذين وفاهم الأجل، من أمثال الأمير مصطفى الشهاب، والدكتور شكري فيصل، والأستاذ عبد الله كنون والأستاذ أحمد حسن الزيات، والأستاذ ساطع الحصري، والدكتور عمر فَرّوخ والدكتور أحمد عبد الستار الجواري والدكتور صبحي المحمصاني، والأستاذ محمد بهجة البيطار ، والشاعر بدوي الجبل.(57/11)
ولعل الزمن يسعف في جمع تراجم أولئك المجمعيين الأعلام في سفر أو أسفار، وهي ترسم صورة صادقة لهذه المرحلة المهمة من حياتنا اللغوية والثقافية منذ مطلع القرن العشرين .
لقد أمضى الدكتور الخطيب في رحاب مجمع الخالدين بدمشق خمسا وثلاثين سنة، عمل فيها بدأب ونشاط حتى لبى نداء ربه ( يوم الأحد 29/4/1416هـ – 24/9/1995م) فكانت الفجيعة فيه كبيرة، رحمه الله الرحمة الواسعة .
وبعد ، فإن من تمام الحديث أن نشير إلى نشاط الفقيد في مجمع اللغة العربية بالقاهرة .
لقد كان رحمه الله شديد الحرص على حضور المؤتمر السنوي الذي يعقده مجمع القاهرة . وكان يعد أيامه في القاهرة ربيع عمره ، يلقى زملاءه وأصدقاءه في المجمع ، يجد المتعة والراحة في مجالستهم ومذاكرتهم ، ليعود إلى دمشق وقد ملأ وطابه بذكريات جميلة تكون له خير زاد .
وإنه ليتحدث ، والفرح يغمر قلبه ، عن عام 1971م ، حديث الرضا والغبطة، إنه العام الذي كان بدء انتظام حضوره إلى مؤتمر المجمع بالقاهرة سنويا دون انقطاع . وقد أخذ نفسه بتسجيل وقائع المؤتمر ابتداء من ذلك التاريخ، (الدورة السابعة والثلاثون ).
ولما احتفل مجمع اللغة العربية بالقاهرة بعيده الذهبي عام 1984م سارع الدكتور الخطيب فنشر كتابا بعنوان : العيد الذهبي لمجمع اللغة العربية ( 1934م - 1984م ) ضمنه وقائع احتفالات المجمع بعيده الذهبي ، ثم وقائع مؤتمرات المجمع لأربع عشرة دورة مجمعية خلت ( الدورة المجمعية السابعة والثلاثون 1971م - الدورة المجمعية الخمسون 1984م ) ، وأورد في الفصل الأخير مسردا لمقررات مجمع اللغة العربية في خمسين عاما .
وكان الدكتور الخطيب من شهود الجلسة التي عقدت بمنزل الدكتور طه حسين وبرياسته ، وتم فيها تأسيس اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية عام 1971م وانتخب أمينًا عامًّا مساعدًا للاتحاد، فحاز ثقة زملائه ، وظل في منصبه طوال حياته .(57/12)
وانضم الدكتور الخطيب إلى مجمع الخالدين بالقاهرة ، وكان أحد الأعضاء العاملين الثمانية الذين استقبلهم المجمع في العاشر من مارس ( آذار ) عام 1986م في أثناء انعقاد مؤتمره السنوي في دورته الثانية والخمسين . وتوثقت صلة الأستاذ الخطيب بالمجمع، وكان يلزم نفسه أن يقدم بحثا في المؤتمر . وقد وقع عليه الاختيار غير مرة ليلقى كلمة الوفود المشاركة . وعلى صفحات مجلة المجمع بالقاهرة تطالعك عدة بحوث له .
ولقد أمضى الدكتور الخطيب في كنف مجمع الخالدين بالقاهرة تسع سنوات ونيفا ، كانت حافلة بالعمل والنشاط . وخلف في نفوس زملائه
وأصدقائه وعارفيه ذكريات تنفح طيبا وتضوع أريجا .
خير ما أختم به كلمتي أن أجدد شكري لأستاذي الجليل الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع ، ولأساتذتي وزملائي أعضاء المجمع الذين آثروني بزمالتهم وأحلوني بساحتهم ، أعمل بجانبهم لأعلاء شأن العربية . ونسأل الله العلي القدير أن يحفظ هذا الصرح الشامخ الذي شيده المجمعيون الخالدون ليمضي في طريقه الصاعدة في صحبة العربية المبينة تتلألأ بإشراقها وألقها .
شاكر الفحام
عضو المجمع من سورية(57/13)
أستاذي الجليل الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع :
أساتذتي وزملائي أعضاء المجمع الأجلاء:
أيها الحفل الكريم :
الأستاذ سعيد الأفغاني عالم فذ من علماء العربية ، أولاها عنايته البالغة ، ووقف حياته يدرُسها ويدرِّسها . وكان رحمه الله ، طُلَعة تواقا إلى المعرفة ، فأكب على كتب التراث ، يروي نهمه للعلم ، فاتسعت آفاق المعارف التي حذقها ، فولجها مؤلفا تارة ، ومحققا تارة أخرى ، وخلف ثروة نفيسه من تآليفه وبحوثه وتحقيقاته .
ولد ، رحمه الله وأغدق عليه سحائب رضوانه ، بدمشق عام 1909م في أواخر أيام الدولة العثمانية ببلاد الشام. وهو سعيد بن محمد جان الأفغاني الدمشقي . وكان والده من الصالحين. هاجر من كشمير إلى بلاد الشام ، وسكن دمشق ، ودعاه الناس بالأفغاني. وتزوج من دمشق من أسرة الأبيض ،
وأنجب سعيدًا وأختا له ، ثم توفيت زوجه، وكان عُمْر سعيد حينذاك ثلاث سنوات ، فوقف الوالد حياته على تربية ولديه ، ولم يتزوج (1) .
التحق الأستاذ سعيد بالدارسة الابتدائية ( 1918 - 1923 ) ، وأتم الدراسة الثانوية ( 1923 - 1928م) ، ثم درس في مدرسة الآداب العليا بدمشق (1929 - 1932م) . ومارس التعليم متنقلا في كل مراحله : بدأ معلما ابتدائيا في قرية منين قرب دمشق سنة 1928م ، فمدرسا إكماليا في المتوسطة التجارية بين سنتي 1929م – 1940م ، فمدرسا ثانويا بين سنتي 1940م – 1946م ، ثم أصبح مدرسا في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة دمشق منذ عام1948(2).(58/1)
وفي عام 1956م أوفد لزيارة أقسام اللغة العربية ودور الكتب في بلاد أوربية وعربية مختلفة ، منها فرنسا وإسبانيا وتونس ، فأتاح له ذلك أن يطلع على كثير من نفائس التراث مثل حجة القراءات لأبي زرعة ، وملخص إبطال القياس والرأي ، وكتاب التقريب لحد المنطق ، وكلاهما لابن حزم ، وقد عثر عليها جميعا في تونس ، والإفصاح في شرح أبيات مشكلة الإعراب للفارقي ، وقد عثر عليه في المكتبة الوطنية بباريس (ووقع في عنوان المخطوطة بعض الخطأ)(3).
وفي أول يناير (كانون الثاني) 1957م سمي أستاذا في قسم اللغة العربية بكلية الآداب ، ثم أصبح رئيس القسم في عام 1958م ، وانتخبه المجمع العلمي العراقي سنة 1960م عضوا مؤازرا.وصار عميدًا لكلية الآداب بجامعة دمشق في سنة 1961م،ومثل في السنة نفسها(1961م) جامعة دمشق في حلقة تيسير النحو التي انعقدت في القاهرة بكلية دار العلوم (4)،ومثلها أيضا في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية .
وفي سنة 1962م اشترك في المهرجان الألفي لمدينة بغداد وذكرى فيلسوفها الكندي . وفي سنة 1963 دعته جامعة طهران فزارها وألقى محاضرتين فيها . وفي السنة نفسها مثل جامعة دمشق في مهرجان ابن حزم والشعر العربي الذي انعقد بقرطبة (13/5/1963م)،وألقى فيه محاضرته النفيسة: نظرات في اللغة عند ابن حزم (5) .
وفي سنة 1970م انتخبه مجمع اللغة العربية بالقاهرة عضوا مراسلا . ومنذ هذا التاريخ أخذ الأستاذ الأفغاني يشارك في أكثر مؤتمرات المجمع ببحوث تطالعك في مجلته .(58/2)
وظل الأستاذ الأفغاني رئيسًا لقسم اللغة العربية بكلية الآداب (جامعة دمشق) حتى إحالته على المعاش (التقاعد) في 1/1/1969م . ولكن حبه للتدريس والعربية دعاه إلى تلبية طلب الجامعة اللبنانية ، وجامعة بيروت العربية للتدريس فيها ثلاث سنين (1968م-1971م)، ثم دعته الجامعة الليبية للتدريس (1972-1977)(6).وشارك في ملتقى ابن منظور بمدينة قفصة بتونس . ودعته الجامعة الأردنية للتدريس سنة 1980م ، ثم جامعة الملك سعود سنة 1984م.
انضم الأستاذ الأفغاني إلى مجمع الخالدين بالقاهرة ، وكان أحد الأعضاء العاملين الخمسة الذين استقبلهم المجمع في الخامس من شعبان سنة 1411هـ الموافق 20 من فبراير (شباط) سنة 1991م ، وقد ألقى كلمة المجمع في استقبال الأعضاء العرب الجدد الأستاذ الدكتور شوقي ضيف ( وكان آنذاك الأمين العام للمجمع ) ، وألقى الأستاذ سعيد الأفغاني كلمة الأعضاء الخمسة الجدد(7) .
وعانى الأستاذ الأفغاني في أواخر عمره من متاعب صحية ألمت به ، فقيد ذلك من حركته ، ومال إلى العزلة ، وأحس من بعدُ قسوة الحياة حين فقد قرينة حياته ، وأخيرا أوى إلى مكة المكرمة ليقضي بقية حياته بقرب ابنته ، تعنى به وتشرف على أموره ، حتى لبى نداء ربه في مساء يوم الثلاثاء 11/10/1417هـ - 18/2/1997م عن عمر يناهز الثامنة والثمانين رحمه الله الرحمة الواسعة ، وأغدق عليه سحائب رضوانه ، وأنزله منازل الأبرار المتقين .
لقد كان التدريس أحب شيء إلى قلب الأستاذ الأفغاني . وإن طلابه ليذكرون له مقدرته الفائقة في إفهامهم قواعد العربية ، وإلحاحه في مطالبتهم بأن يتقنوا ما ألقي إليهم الإتقان كله . وقد تخرج به طلاب كثيرون ، مايزالون يحفظون له جميل صنيعه ، ويكنون له الإكبار والإجلال .
وألف في النحو عدة كتب لتكون مراجع لطلابه والآخذين عنه . وهي كتب نفيسة في بابها . منها :(58/3)
الموجز في قواعد اللغة العربية وشواهدها ، وقد عالج فيه الشواهد وانتقاءها ، وتحدث عن قواعد الاحتجاج بها .
في أصول النحو (ط1/1951م): ودرس فيه موضوعات : الاحتجاج ، والقياس ، والاشتقاق ، والخلاف . وقد طبع الكتاب مرارا ، وما يزال مرجعا يئل إليه الدارسون .
من تاريخ النحو .
مذكرات في قواعد اللغة العربية ( 1955م ) وهي أمالٍ لطلاب السنة الأولى ترشدهم وتقود خطاهم ، وتُعوِّدهم طريق البحث والرجوع إلى المصادر .
وتتميز عبارة الأستاذ الأفغاني في هذه الكتب بالدقة والوضوح والبعد عن التطويل .
على أن الأستاذ الأفغاني لم يقصر نشاطه على التدريس ، وما يستتبعه من تأليف يدور في فلكه ، بل خرج إلى التأليف في ميادين أفسح .
لقد كان الكتاب صديقه المحبب وجليسه ، رافقه طوال حياته ، ولازمه ملازمة ظله ، فأطل على رياض من العلم مؤنقة ، وفاض قلمه بكتب عالج فيها موضوعات شتى ، تستمد أصالتها من تراث العربية ، وتتصف بالجدة والطرافة. يأتي في مقدمتها :
كتاب : "أسواق العرب في الجاهلية والإسلام" .
وهو من أوائل الكتب التي صنفها ، صدرت طبعته الأولى بدمشق سنة 1937م ، فلقي القبول وحظي بالانتشار، فطبع غير مرة (ط2/1960م،ط3/بيروت 1974م).
وقد قدم المؤلف بين يدي كتابه كلمة تحدث فيها عن دوافعه لتأليف كتابه مبينًا " مقدار الحاجة إلى بحث يعرض لأسواق العرب وما كانت عليه في الجاهلية والإسلام ، وما قامت به من عمل في خير العرب ولغتهم ". وأشار إلى ما بذل من جهد جهيد ينقب في المصادر وهي جِدُّ شحيحة، حتى تمت له مادة الكتاب الذي تنحصر بحوثه بين عهد الجاهلية والقرن الثاني للهجرة (8).
وجعل كتابه ثلاثة أبواب :
أما الباب الأول ( ص 13-87) فعرض لأمور الجاهلية في أنواع بيوعها وموقف الإسلام منها ، وحديث عن رِبا الجاهلية ، وذكر للمحلِّين والمحرمين والحُمس .(58/4)
والباب الثاني (ص89-190) يتناول أحداث قريش التجارية ، فيتحدث عن قريش التجار ، وإيلاف قريش ، وحرب الفجار ، وحلف الفضول.
ولابد أن نذكر ما يلقاه حلف الفضول في أيامنا هذه من حفاوة المنظمات الدولية .
وكأن البابين كانا تمهيدًا وفرشا للباب الثالث ( ص 191 - 452 ) الذي عالج لُب الموضوع وهو "أسواق العرب في الجاهلية والإسلام" ، وقد بدأ الأستاذ الفاضل بأسواق الجاهلية فعددها عشرين سوقا يأتي في مقدمتها سوق عكاظ وسوق مجنة وسوق ذي المجاز .
ثم ينتقل إلى الأسواق في الإسلام ، وبيان أن الحال قد تبدلت ، لأن الحواضر تكثر فيها الأسواق الدائمة ، فلم يشتهر في الإسلام سوق لم تكن في الجاهلية إلا سوق المربد في البصرة التي ورثت سوق عكاظ .
لقد استرعى هذا الكتاب النفيس اهتمام الباحثين والدارسين بتَفَرُّده ، فقد جمع فأوعب ، واستقصى ما جاء في الكتب المصادر فضم ما تفرّق ، ودقق النظر ، فأتى كتابا باكورة في بابه .
ومن كتبه المشهورة : "الإسلام والمرأة" (دمشق 1945م) .
وقد اقتصر الأستاذ الأفغاني في دراسته على مرحلة محدودة ، وبين دافعه إلى ذلك فقال : " فرأيت أن أحاول دراسة المرأة بين جاهليتها وإسلامها ، دراسة تستند إلى النصوص المجمع عليها ، والوقائع الصادقة المتواترة ، مقتصرًا على عصرها الأول ، وهو للمرأة العربية عصرها الذهبي بلا مراء " .
وكان هذا الكتاب تمهيدًا لكتاب تالٍ أصدره بعنوان :
عائشة والسياسة (القاهرة - 1947م) (9)
وله كتاب : "حاضر اللغة العربية في الشام " ، وهو مجموعة محاضرات ألقاها في معهد الدراسات العربية العالية بالقاهرة عام 1961م ، وبسط فيها حياة اللغة العربية في الشام في الخمسين عامًا الماضية (10) .
وأحب الأستاذ الأفغاني ابن حزم الأندلسي حبًا مَلك عليه نفسه ، وأعجب به الإعجاب كله ، يقول :(58/5)
" وكل من قرأ تراث ابن حزم بإمعان أكبر فيه العقل الواسع والفكر الخصب والغور البعيد والعبقرية العجيبة . وليس أحد يدرس حياته إلا غمره التقديس لمجاهد رفع من شأن الحرية الفكرية ، وذهب بها كل مذهب ، فعاش من أجلها شريدا ، ومات في سبيلها مجاهدا شهيدا"(11).
وقد عني به عناية خاصة ، وأكبَّ على دراسة كتبه ، وتحقيق بعض آثاره. فألف كتابه :
ابن حزم ورسالته في المفاضلة بين الصحابة (دمشق – 1940م).
وهو قسمان : أولهما تناول فيه حياة ابن حزم (ص 7-150) ، فدرسها دراسة واسعة،وأحاط بجوانبها، ودل على سجايا ابن حزم وأخلاقه وذكائه المتوقد وعبقريته، وأفصح عن تلك الصلة التي تشده إلى ابن حزم ، وخلص من دراسته إلى القول:"…فكأن[ابن حزم] أفحل ذهن انبثقت عنه الأندلس في جميع عصورها . وهو في رأيي الذهنية الفريدة التي تمثل الثقافة الأندلسية أصدق تمثيل، ولست أرى هذه الميزة لآخر سواه"(12).
أما القسم الثاني فهو تحقيق رسالته في "المفاضلة بين الصحابة" . وهي رسالة سبق أن طبعت في كتاب : "الفِصَل في الملل والأهواء والنِّحل " لابن حزم ، فآثر الأستاذ الأفغاني إعادة تحقيقها لينشرها بين الناس مجلوة في قالب علمي متقن، وقد تدارك ما وقع في الطبعة الأولى من تحريف ونقص .
ومع إعجابه الشديد بابن حزم لا يخفى حسرته على ما تجلَّى في أسلوبه من عنف لا موجب له ، قد جرَّ عليه ألوان البلاء . (13).
ثم نشر له ترجمته التي أوردها الإمام الذهبي في كتابه "سير النبلاء"(1941م)، فأظهر هذه الدرة الخطيرة من مخبئها المخطوط ، محققة مدققة .
وعاد فحقق له كتابه : "ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل" (جامعة دمشق - 1960م) وقد نحا ابن حزم فيه منحى الظاهرية الذين أبطلوا القياس والرأي وما دار في فلكهما من الاستحسان والتقليد والتعليل .
ويختم دراساته لابن حزم بكتابه :
نظرات في اللغة عند ابن حزم (جامعة دمشق - 1963م).(58/6)
وكان في الأصل موضوع محاضرته التي ألقاها في مهرجان ابن حزم ، وهو مَثَلٌ للجهد الجاهد الذي بذله الأستاذ الأفغاني ليجمع النُّبذ المفرقة من آراء ابن حزم ، الموزعة في كتبه . فأورد آراءه في اللغة عامة ، ثم عرض لآرائه في اللغة العربية وعلومها في عصره ، مفصِّلا القول في ذلك ، متتبعا آراءه في كتبه المختلفة . ولكن الأستاذ الأفغاني لم ينسَ أن يبدأ كلمته بالاحتياط فِعل العلماء المحققين فهو يقول : " أريد أن أحتاط في الأول ، فأقرر أن ما وصلت إليه من أحكام موقوت ، إلى أن نظفر من آثار ابن حزم بما يغير منها ، فابن حزم - كما تعلمون- من الأفذاذ الذين لا يستطاع علميا إرسال الحكم فيهم باتًّا حاسما ، لأن معظم آثاره مفقود ، فإن أمكن تقدير ما نُشر منها وهو القليل ، فلن يمكن بحال إطلاق الأحكام الشاملة ، حتى في نظرتنا إلى لغته ، فقد يظن بعض الناس أن في الاطلاع على بعض كتبه غنية في تصوير لغته وأسلوبه ، وهيهات ، فلكل موضوع معجمه وتراكيبه وأسلوبه…" (14).
* ... * ... *
ولئن جود الأستاذ الأفغاني في مؤلفاته ، وقدَّم نظرات جديدة أغنت المكتبة العربية ، إن له جانبا آخر برع فيه براعة فائقة هو تحقيقه كتب التراث تحقيقا بلغ فيه الغاية .
كان رحمه الله يتأنَّى ويتروَّى في اختيار المخطوط الذي يريد تحقيقه ، وكان يؤثر المخطوط النادر الفريد الذي يضيف إلى العلم إضافة جديدة ، ثم يتوفر عليه تجويدًا وتدقيقًا حتى يجلوه في أحسن معرض، ويقدم للمخطوط المحقق بمقدمة تطول أو تقصر تتناول صفة المخطوط ، ومؤلفه ، وموضعه من الكتب المؤلفة في بابه ، مما ييسر للقارئ أن يمضي في قراءته مطمئنًا ، قد ذلل له كل صعب.
من كتبه المحققة :
كتاب "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" للزركشي (1939م).
والجزء الخاص" بترجمة السيدة عائشة من كتاب سير النبلاء" (1945م).
وقد أفاد منهما في تأليف كتابه : "عائشة والسياسة" .(58/7)
وحقق أيضًا كتابين لابن الأنباري هما :
"الإغراب في جدل الإعراب" (1957م).
"ولمع الأدلة" ( 1957م).
وحقق كتاب :
"تاريخ داريا للقاضي عبد الجبار الخولاني" (دمشق = 1950م/جامعة بنغازي – 1975م)
وكانت داريا " أعظم قرى أهل اليمن بغوطة دمشق"تبعد عن دمشق بنحو ثمانية كيلو مترات جنوبًا إلى الغرب(15).
ويذكر الأستاذ الأفغاني في مقدمة طبعته الثانية للكتاب أن تاريخ داريا قد صدرت طبعته الأولى قبل خمسة وعشرين عاما عن مصورة لنسخة المتحف البريطاني، ولكن الحظ أسعده بنسخة جيدة في المكتبة الأحمدية بتونس ، فرأى إعادة تحقيق الكتاب ، ووفَّاه حقه من العناية والتحقيق والتصحيح (16).
والمادة الأساسية في تاريخ داريا هي تراجم مَن نزل داريا مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين الأكابر، وطبقة بعدهم ، وأصحاب أبي سليمان الدارياني ( ت نحو سنة 215هـ) من أهل داريا السُّكان فيها .
وبلغت التراجم سبعة وأربعين ترجمة من أهل الحديث في داريا . لقد سلك الخولاني في تأليف كتابه طريقة علماء الحديث في التاريخ .
وقد ذكرتُ في الفقرة الخاصة بمؤلفاته والتي تحدثتُ فيها عن صلته الوثيقة بابن حزم عن تحقيقه لرسالة ابن حزم في :
المفاضلة بين الصحابة .
وكتابه في ملخص إبطال القياس والرأي.
وعن تحقيقه لترجمة ابن حزم التي أوردها الإمام الذهبي في كتابه سير النبلاء .
ومن أشهر الكتب التي حققها أيضًا:
كتاب الإيضاح في شرح أبيات مشكلة الإعراب للفارقي .
وهو كتاب نادر وصف مؤلفه الفارقي مضمونه بقوله :" فاعتمدت في ذلك على جمع أبيات ألغز قائلها إعرابها ، ودفن في غامض الصنعة صوابها ، وكانت ظواهرها فاسدة قبيحة ، وبواطنها جيدة صحيحة ، وجئتُ بها على حروف المعجم شيئا فشيئا … وأوضحتُ شكلها، وفصلتُ مجملها ، مع الاستكثار من النظير والشاهد ، فلم أُبقِ فيها شبهة للمتأمل … " (17).(58/8)
والكتاب بشواهده وتوضيح مشكله من الكتب الفرائد ، فأبياته بمشكلاتها تعد من الألغاز ، وتشوق المطالع أن يتابع القراءة ليجد الحل وتوجيه الإعراب.
ولهذا الكتاب خبر طريف. فقد وجد الأستاذ المحقق مخطوطته بالمكتبة الوطنية بباريس . وقد جاء عنوانها على النحو التالي :
"توجيه إعراب أبيات ملغزة الإعراب " للرماني .
وخُيِّل إليه بعد البحث أن النسخة وحيدة ، وبعد أن أتم التحقيق والطبع (دمشق - 1958م) تنبه إلى ما جاء في العنوان من خطأ في تسمية الكتاب وتسمية مؤلفه ، فألصق بالنسخ المطبوعة قبل توزيعها نشرة تهدي القارئ إلى الصواب.
ثم عاد فجدَّد تحقيق الكتاب باعتماد ثلاث نسخ : نسخة المدينة المنورة ، ونسخة باريس ، ونسخة دار الكتب المصرية . وطبع الكتاب بعنوانه الصحيح وهو "الإفصاح" طبعتين : سنة 1974م، وسنة 1980م (8) .
ويأتي في ختام كتبه المحققه كتاب غاية في النفاسة هو كتاب :
حجة القراءات (منشورات جامعة بنغازي - 1974) لأبي زرعة عبد الرحمن بن محمد بن زنجلة من رجال المئة الرابعة .
وقد مهد الأستاذ المحقق بين يدي الكتاب بدراسة تناولت القراءات وتاريخها وأصحاب القراءات الأربع عشرة ورواتهم (ص 7-73) ، فيسَّر للقارئ أن يكون على بيِّنة مما سيمر به في متن الكتاب .
وكانت تعليقات المحقق غاية في الدقة والإفادة . إنها تأخذ بيد قارئها لئلا يجانبه الصواب .
وللأستاذ المحقق مشاركة وإشراف على تحقيق كتاب "المغني" لابن هشام .
* ... * ... *
ويبقى أن نشير إلى ما للأستاذ ; الأفغاني من مقالات وبحوث كثيرة نشرها في المجلات العربية المختلفة مثل: مجلة "الرسالة"لأحمد حسن الزيات، ومجلة "الثقافة" لأحمد أمين ، ومجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، ومجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ، وسواها . وهي تشتمل على فوائد جمة ، وتنير جوانب غامضة .(58/9)
وتحضرني الإشارة إلى المساجلات النفيسة التي نشرت على صفحات مجلة الرسالة حول كتاب المتنبي بين مؤلفه الأستاذ الكبير محمود محمد شاكر والأستاذ سعيد الأفغاني ، والتي جُمعت بعدئذ ونشرت في كتاب "المتنبي" بطبعته الجديدة .
ونرجو أن يتصدى باحث فاضل لجمع هذه المقالات الموزعة وضمها بين دفتي كتاب .
عُرف الأستاذ الأفغاني بالاستقامة والنزاهة والمواقف الصلبة ، وبالخلق الوعر إن جاز لي أن استعير تعبير أبي تمام في رثاء محمد بن حميد الطوسي .
ولم يتسع في صلاته بالناس ، بل اقتصر في علاقاته على طائفة يسيرة من الأصدقاء .
وكان في تدريسه حريصًا على تهيئة طلابه للبحث، ومناقشة الآراء والترجيح بينها ، وتدريبهم أن يعتادوا مراجعة المصادر الأساسية ويحسنوا الإفادة منها . وتتراءى جوانب من منهجه التَّدريسيّ في تلك الأمالي التي كان يقدمها إلى طلابه .
وهو من الكُتّاب المجوِّدين ، كان يُعنى بأسلوبه، ويتأنق في كتابته ، وتتميز عبارته بالجزالة والدقة والوضوح والبعد
عن التطويل .
وبلغ في تحقيقه الغاية ، فكان يجتهد في البحث عن أصول المخطوط الذي يزمع تحقيقه ، ويقدم بين يدي الكتاب المحقَّق ما ينير للقارئ خطة الكتاب، وموقعه بين الكتب المؤلفة في بابه . ويختار أن يكون المخطوط من الكتب النوادر التي تغني المكتبة العربية وتضيف إليها جديدا .
رحم الله الفقيد الغالي وأسكنه فسيح جنانه .
شاكر الفحام
عضو المجمع من سورية(58/10)
في الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم الاثنين 29 من شعبان سنة 1418هـ الموافق 29 من ديسمبر سنة 1997م ، أقام المجمع حفلاً لتأبين المرحوم الأستاذ
الدكتور أبي شادي الروبي عضو المجمع .
وهذه هي الكلمات التي ألقيت في الحفل:(59/1)
أقول : كثر الحديث في التعريب من لدن اللغويين العرب وغيرهم ، كما عكف على هذا أصحاب العلوم في عصرنا . وكان من كل ذلك أن وصل جملة هؤلاء إلى ضرورته وإلى الوسائل والسبل في تحقيقه . وكنت قد شاركت في هذا السعي فكان لي شيء منه ألقيته في هذا المجمع العامر ، وفي ندوات ومؤتمرات أخرى ، وقد كان لي من جملة مشاركاتي تلك كتاب آمل أن أوافق إلى طبعة ثانية لما كان لي من إضافات عليه.
لقد عرضت للمعرَّب القديم فوقفت وقفات طويلة على "المعرَّب" للجواليقي ، وعلى الألفاظ الفارسية المعربة ، لأدي شير مطران سعرد ، وعلى " المعيار " وغيرها فرأيت أن العلماء العرب الأوائل لم يكونوا أهل دراية وافيه بما هو فارسي من الألفاظ العربية ، فأنت تجد ابن دريد
في " الجمهرة " يرد إلى الفارسية وإلى أهل اليمن كثيرًا مما لم يكن له بها من علم ، وقد كان هذا دافعًا للقول في "مناكيره " المعروفة . وقد يكون مثل هذا لدى الجواليقي في " المعرب " . لقد ذهب هذا إلى أن " الكنيسة " فارسية الأصل ، وهو يقول فيها : قيل إنها فارسية ثم يضيف : وقيل إنها حبشية .
ألا ترى أنه لم يعرف البعد بين ما هو فارسي وبين ما هو حبشي ؟ ثم إنه يستعمل الفعل"قيل"، وهذا شيء من ضعف ، وفي المعرب غير هذا .
وكنت أتوقع أن يكون لمحقق الكتاب الأستاذ الجليل تعقيب على هذه المسائل .
أقول : وقد رأيت بعد هذا أن أذهب إلى الفرس لأبسط القول فيما أخذوه من العربية وما كان لهم فيه(**)،
فأتعقب هذا وأدرجه على نظام المعجم .(60/1)
ولابد من الإشارة قبل أن أبدأ بذكر هذه الألفاظ إلى أن الكلمة العربية التي استعارها الفرس قد ألحق بها " لاحقة " فارسية ، أو أنهم أدرجوها في مركب فارسي فتكون إما الأولى وإما الثانية . ولي أن أشير إشارة أخرى إلى أن أغلب هذه الألفاظ العربية المستعارة تدل على أسماء معنى،كالمصادر المجردة،ومواد أخرى تتصل بالفكر والعقل كألفاظ العقيدة وما يتصل بالفِرَق وما يكون من الفلسفة .
وإليك أخي القارئ هذه الكلمات مع تعليقات يقتضيها هذا الدرس :
( آ )
آب حيات :
بمعنى " ماء الحياة " .
تعليق :
أقول : إن الكلمة مركبة من " آب " وهي كلمة فارسية بمعنى " ماء " وأخرى عربية هي " حيات " بمعنى " الحياة " وقد كان للفرس في هذه الكلمة وغيرها بسط التاء ، كما سنرى .
آب دَهان :
بمعنى " لعاب أو بصاق " .
تعليق :
أقول : وجاءت كلمة " آب " في هذا
المركب، وكانت قد مرت بنا في الكلمة السابقة ، وأما " دهان " فهي الدهن " العربية . وكأنهم في صنعتهم هذه ذهبوا إلى ما أرادوه في " المركب " .
آب وهوا :
بمعنى " جملة ما يتصل بالمعلومات الجوية" أو قل: " نشرة الأنواء " التي تستفاد مما يُبث مما يتعلق بالجو .
تعليق :
وفي هذا المركب ترد " آب " الكلمة الفارسية ، و" هوا " بمعنى " الهواء " من العربية .
آتش نِثار :
كلمة مركبة يكنى بها عن " الباكي الحزين " .
تعليق : وأما " آتش " ففارسية معناها "النار " ، وقد يتوسع فيها إلى ما يشبه النار في الصفة كالحرارة فيما تكوَّن مما يُحرق . ويذهب بها إلى لوعة العشق ، وإلى جهنم وغير هذا. وأما " نثار " فهي عربية لمح فيها ما أرادوه من الدموع.
آداب دان :
بمعنى " العارف بالرسوم والتشريفات" وهذا في كلمة " آداب " وهي جمع " أدب " . ولنا في استعمال "أدب " هذا المعنى توسعا فكان يقال : "الآداب الملوكية أو السلطانية ". وأما "دان" فكلمة فارسية وهي لاحقة تلحق بكلمات كثيرة وتعني "المكان أو الزمان".
آشفته دماغ :(60/2)
بمعنى " مضطرب الحواس، مغموم".
تعليق :
والمركب فارسي أوله " آشفته " بمعنى "مضطرب أو مهتاج " .
أما الثاني فهو " دماغ" من العربية .
آشفته راى :
بمعنى "متردد". وكلمة " راي " هي الجزء الثاني من "رأي " المصدر للفعل "رأي".
آفتاب لِقا :
بمعنى " من هو غاية في الجمال ، وجهه كالشمس " .
تعليق :
" آفتاب " بمعنى الشمس " و" لِقا " بمعنى "لقاء" وهو المصدر من "لقي" في العربية.
أَبْجَد خوان :
أقول : إن هذا المركب يفيد من هو "مبتدئ".
تعليق :
" أَبْجَد " مركب في العربية من الألف
(الهمزة) والجيم والتاء . وهو أحد المركبات الأبجد: أبجد ، هوز ، حطي ، كلمن ، سعفص ، قرشت ، ثخض، ثم الظاء . وهذه غير " الألف باء " التي نعرفها ونستعمل دَرْجها وهي : أ،ب،ت،ث،ج… ثم آتي إلى الكلمة الفارسية التي ألحقت بها ليكون من الكلمتين "مركب" بمعنى "مبتدئ". و"خوان" وهذه في التركيب بمعنى "خواننده" وهذه بمعنى "قارئ".(1)
أبجد رَوَان ساخْتَن :
بمعنى " حفظ الحروف الأبجدية ".
تعليق :
أقول : تقدم القول في " أبجد " ، فأما "روان" فهي : بمعنى " الذاهب أو الجاري بسرعة " فكأن هذه تشير إلى أن القارئ المبتدئ وصل في تعلمه للقراءة إلى مرحلة السرعة دون توقف أي أتم القراءة .(2)
وأما كلمة " ساختن " فهي بمعنى الإعمار أو البناء أو الصنعة ذات الترتيب والنظام.
وأنت ترى أن الفرس قد وصلوا في هذا المركب بجملة فوائد ، وما أظن أن هذا يشير إلى إحكام اللغة .
أبجد زَر :
وهذا المركب بمعنى " شعاع الشمس".
تعليق :
أقول:و"زَر"في هذا المركب"بمعنى"الذهب الخالص "، وكأن صنعتهم هذه للوصول إلى هذا المدلول تأتي على سبيل التشبيه .
إبلاغيّه :
وهذه بمعنى " ورقة إعلام أو تبليغ صادرة عن جهة رسمية " .
تعليق :(60/3)
أقول : " إبلاغيّه " من المصدر في العربية وهو إبلاغ " غير أن الزيادة وهي الياء المشددة فالهاء لم تكن على طريقة العرب في "المصادر الصناعية " (1) ذلك أن الهاء لازمة ولا تتحول تاء " كما في العربية كقولنا مثلا : "النظرية النسبية في المعرفة التكنولوجية " .
أَبْلَهانه :
بمعنى "البَلَه " أو "البلاهة " وهذه من خفة العقل وقد يذهب بها إلى "الجنون".
تعليق :
أقول : والكلمة عربية ، ولكن البناء الذي ينتهي بالألف والنون والهاء الساكنة كثير في الفارسية فهم يقولون مثلا : "عاقلانه" (2) أي بهيئة فيها عقل. وسيأتي من هذا بعض ما استعير من العربية .
إثبات كَرْدن :
بمعنى " إثبات أو تثبيت أو تصديق ".
تعليق :
أقول : أما " إثبات " فمصدر أثبت " في العربية ، وأما "كردن" فكلمة فارسية ركبت مع "إثبات" وهي بمعنى "عمل" أو "صنع " . وهذه ترد إضافة مساعدة في جملة مما استعير من العربية .
أَثَر بذير :
بمعنى " متأثر ، منفعل " .
تعليق :
أقول : لقد وصل الفرس إلى هذا المعنى الذي يندرج في مصطلحات علم النفس من كلمة " أثر" العربية . وقد تعجب أن يكون لهم هذا من كلمة دلالتها عامة . إن "الأثر" في العربية قد تحول من الإدراك الحسي كأثر القدم ونحو ذلك إلى شيء آخر توسعًا حتى انتهى كلمة فنية ، استعملت في نواح عدة .
وأما كلمة " بذير " الفارسية التي ألحقت بـ " أثر " وركبت فيها لإفادة أن يكون من المركب قبول وانفعال وتأثر .
أثر بذيرفتن :
بمعنى " التأثر أو الانفعال ".
تعليق :
لقد مر بنا القول في " بذير " ، وكنا قلنا في كلمة " أثر " العربية ما تقتضيه ، فأما : فتن فما أظن إلا أنها لزيادة الفعل ، وكأني أستبعد أنها شيء من " فتنة " العربية التي استعارها الفرس كما سنرى.
إجاره بَها : (1)(60/4)
أقول : "الإجارة " بالتاء معروفة في العربية ، وهي معروفة في كتب الفقه وأصول الفقه وفي الكتب القانونية في العربية بمعنى " تأجير " الملك واستيفاء الأجر ولهاد حدودها وشروطها في المظانّ التي تقدمت . وقد استعارها الفرس فلزمتها الهاء في الآخر في الأحوال كافة شأنها شأن ما استعاروه من ألفاظ عربية مختومة بالتاء المعقودة . وقد يبقون التاء ويحولونها إلى تاء مبسوطة في الرسم نحو : حيات وحَيرت وهما حياة وحيرة .
و"بَها " كلمة فارسية بمعنى" قيمة أو ثمن" فيكون المركب بمعنى " قيمة الإجارة".
إجاره دار :
بمعنى " مؤجر ، مالك يؤجر ملكه ".
تعليق :
أقول : وترد كلمة "دار" الفارسية في ألفاظ كثيرة ليكون منها ومما قبلها ما هو قائم بالشيء أو صاحبه ، (2) وهذه لازمة لاحقة لتركيب ما هو"اسم فاعل".
أَجامِر :
بمعنى " شرذمة من الأشرار والمتشردين".
تعليق :
ذكر أصحاب المعجمات الفارسية أن "أجامر"عربية وهي جمع ولم يثبتوا المفرد.
أقول : وليس لنا في العربية في مادة "جمر" هذه الكلمة التي بنيت على "أفاعل" وهو من أبنية التكسير مما وصف بـ " منتهى الجموع" . وهذا يعني أن الفرس كان لهم هذا السعي فبنوا من "جمر" هذه الكلمة ، وصرفوها إلى "جماعة من أشرار" (3).
و " الجمير " في معجمات العربية مجتمع القوم ، و" الجمرة " قبيلة لا تنتمي إلى أصل مشهور. و" جمرات العرب" قبائل
معروفة هي : بنو الحارث بن كعب، وبنو عبس ، وبنو النمر .
ثم إن معنى الكثرة والتجمع يرد في كثير من ألفاظ هذه الأسرة .
اجتناب كَرْدَن :
بمعنى " تجنَّب أو ابتعاد " .
تعليق :
أقول "الاجتناب " " مصدر " اجتنب" بمعنى " تجنَّب " ، وأما اللاحقة " كردان" فقد سبق الكلام عليها .
إجلاسيّه :
بمعنى " موعد جلسة لجمعية أو هيئة".
تعليق :(60/5)
أقول : " اجلاسيّه " من الفعل " أجلس" غير أن بناءها على هذا لا نعرفه في العربية. إن مصدر " أجلس " "الإجلاس" غير أن الفرس ذهبوا إلى "إفعاليه " ، ثم صرفوا اللفظ إلى هذه الخصوصية الدلالية. انظر "إبلاغيَّه".
احتياج داشتَن :
بمعنى " حاجة "
تعليق :
أقول : " احتياج " مصدر للفعل "احتاج" في العربية ، واللاحقة " داشتَن" فارسية تأتي لمعان هي : الملكية والمواظبة والتعهد . ولا أدري لم كان منهم هذا التركيب ؟ لأن "الحاجة" قريبة من "الاحتياج، وليس لي أن أعرف وجه زيادة هذه اللاحقة "داشتن" .
أحوال بُرْسي:
بمعنى "السؤال عن الحال والصحة".
تعليق :
أقول : "أحوال" في العربية جمع "حال" وهي تدخل في السؤال عن الصحة شيء مستفيض في الألسن الدارجة . وأما الزيادة اللاحقة "برسي" فهي من "بُرسيدن" بمعنى "سؤال ".
إحيا كَرْدَن:
بمعنى " إحياء ، تجديد".
تعليق :
أقول : و " إحيا" هو المصدر "إحياء" والفعل " أحيا" وقد مرت بنا " كردن".
أخبار نويس:
بمعنى " صحفيّ أو كاتب أخبار ".
تعليق :
أقول : "أخبار " جمع خبر في العربية ، وأما "نويس" فهو أمر بمعنى "اكتب".
أَخْتَر ثُريّا:
كناية عن " دموع العاشق الساخنة".
تعليق :
إن " أختر" من الفارسية ، ومن معانيها اسم ملاك موكل على الأرض ، وأحد منازل القمر ". و" ثريا" النجم وهذا معروف في العربي .
اختيار دار :
بمعنى " مختار أي صاحب الاختيار ".
تعليق :
أقول:وقد مر الكلام على"دار" الفارسية.
أداكَرْدَن:
بمعنى "دلال، غُنج ، تقليد ".
تعليق :
أقول : واصل " أدا " هذه هو "أداء" وهذا من العربية وأداء العمل أو الشيء، القيام به، وقد يصرف إلى ما هو حسن فيقال : حسن الأداء لدى المغني أو الممثل أو غيرهما .
إدامه دادَن :
بمعنى "إدامة " والكلمة مصدر الفعل "أدام" ، وأما الزيادة اللاحقة "دادَن" ففارسية وتعني " الصنع أو الإيجاد".
أدب آموز :(60/6)
بمعنى "أديب أو أستاذ أو متعلم " ، وأما اللاحقة " آموز " فيؤتي بها للإعراب عن اسم الفاعل.
أدب خانه :
بمعنى "مدرسة أو كتاب " أو مستراح" ، وقد أُتبعت بـ " خانه" الفارسية بمعنى "منزل" .
تعليق :
أقول : و " أدب خانه" بمعنى "المستراح" أو" المرحاض" معروف في عامية العراقيين ولا سيما في بمعض الحواضر.(1)
أدب كَرْدَن:
بمعنى "تربية أو تنبيه أو سياسة "(2)
تعليق :
أقول : وانصراف كلمة "أدب" إلى "التربية" معروف في الألسن الدارجة العربية . ومن هنا احتمل اللفظ معنى "العقاب" لأن في العقاب تأديب وتربية. وقد رأيت هذا لدى الأقدمين ، فابن خلدون في كتاباته قد استعمل الأدب بمعنى "التقويم والتربية" ويندرج في هذا كله العقوبة . وأقول أيضا إن أهل العلم في القرن الثالث الهجري وسائر القرون قد استعملوا الأدب فأرادوا به التعليم والتربية والتقويم .(3)
أدبيات :
بمعنى "آداب".
تعليق :
أقول : وقد رأينا في العربية في مطلع هذا القرن كتبًا بعنوان "أدبيات" وهي شعر ونثر. ولعل هذه الكلمة التي استعمل فيها الفرس صنعتهم قد وصلت إلينا من الأتراك العثمانيين الذين أفادوا كثيرا من الفارسية كما أفادوا أكثر من ذلك من العربية .
إدراك كَرْدَن:
بمعنى "إدراك ، فهم ".
ادَّعانامه:
بمعنى " حكم "
تعليق :
هذا ما ذهب إليه الفرس ، وهو في العربية " ادعاء" وينصرف إلى الإعراب عن حق أو أمر . وكثيرا ما ذهب أهل العلم إلى أن"الادعاء" الكذب.وأما "نامه" بمعنى "كتاب أو رسالة أو شهادة".
أقول وقد كنت أسمع في العراق كلمة "شهادات نامه " للشهادة التي يحصل عليها المتعلم.و" لَعْنَت نامه " بمعنى "اللعنة " وكانت تقال في الدعاء على الملعون.
أديبانه :
بمعنى " خاصّ بالأدب أو بهيئة الأدباء ".
تعليق :
انظر " أبلهانه " .
إرادات داشتن :
بمعنى " إخلاق أو تعلق ومحبة ".
تعليق :
قلت : لقد توسع الفرس فيما استعاروه من العربية فكان لهم هذا .
إراده كردن :(60/7)
بمعنى " عزم وتصميم ".
إرث بَر :
بمعنى "وارث".
تعليق :
أقول : "الإرث" معروف وهو من العربية، وأما اللاحقة "بَر" فيؤتى بها لصوغ اسم الفاعل .
إزاربا:
بمعنى " سروال " .
تعليق : أقول " الإزار" معروف ، وأما اللاحقة "با" فهي فارسية بمعنى "رِجْل ونشمل الفخذ والساق والقدم.(*)
أساسنامه:
بمعنى " ما يكتب من الشروط لتأليف حزب أو تأسيس شركة ".
تعليق : وقد أسلفنا القول في " نامه".
أسباب كِشي:
بمعنى " حمل ونقل أثاث بيت ".
تعليق :
أقول : لقد ذهبوا بكلمة "أسباب " وهي جمع "سبب" إلى غير معناها ، بل أكسبوها خصوصية . (*)
إسهال خَوني :
بمعنى : إسهال فيه دم " .
تعليق :
أقول و " الإسهال " من العربية الحديثة ، فلا نجدها في معجماتنا القديمة بهذه الخصوصية الطبية . وأما " خُوني " ففارسية من " خون " بمعنى " الدم " .
إصلاح بذير :
بمعنى " قابل للإصلاح ".
أصل دان :
بمعنى " عارف بالأصول وحقائق الأمور"، وأما "دان" ففارسية وقد مرّت بنا بكونها تزاد للزمان والمكان ، وهي هنا تفيد ما يمكن أن يكون "صاحب الأمر " أو " ذو " في العربية .
أصلي زادَه :
بمعنى " أصيل " ، و" زاده " بمعنى " ابن". وتزاد هذه في ألفاظ كثيرة كما سنرى .
أعليحضرت :
لفظ يخاطب به الملك ، والمركّب كلّه من العربية .
التماس آميز :
بمعنى " ملتمس أو راجٍ .
تعليق : "الالتماس " مصدر " التَمَس" في العربية ، وأمّا " آميز " اللاحقة فهي زيادة لصوغ اسم الفاعل .
التماس كردَن :
بمعنى " تضرّع أو رجاء وطلب الشفاعة".
الله بختي :
بمعنى " اتفاقًا أو مصادفةً ".
تعليق :
أقول : و " بَخْت " الفارسية عُرفت في العربية واستعملت . وهي في عصرنا في الألسن الدارجة أكثر منها في الفصيحة المعاصرة . وقد تصرف المعاصرون بها فكان منها " بخيت " و " مبخوت " لصاحب " البخت " وهو الطالع الحَسَن.
أَمْنية :
بمعنى أصحاب المحافظة على الأمن من رجال الشرطة . والأصل فيها " الأمن".
أوّلين :(60/8)
بمعنى " الأوَّل " .
إيراد :
بمعنى " ما هو خال من القيمة " من عذر وغيره ".
تعليق :
وهذا شيء مما صرفه الفرس من الألفاظ العربية إلى غير ما هي له في الأصل ، وقد أشرنا إلى ألفاظ عدة فيما كان لنا من هذا الموجز .
إين قَدْر :
بمعنى " هذا القَدْر " و " إين " هو اسم الإشارة المفرد " هذا " وجمعها " إينان".
( ب )
با أدب :
بمعنى " مؤدَّب أو مهذّب " . وهذا المركب من "با " الفارسية التي تفيد معنى " مع " أو تكون بمعنى " ذو " أي صاحب .
با أصل :
بمعنى " أصيل " .
بآب حمّام ضيافَت كردَن :
تعليق : في هذا التركيب كلمتان عربيتان هما " حمّام وضيافة " ، والتركيب عبارة فيها تحية وأدب من الرجل الذي يدخل الحمام ويرى صديقًا له فيه، فهو يحييه بسكب الماء الساخن بين قدميه . ويسمّي الفرس هذا و"ضيافة الحمام".
با تجربه :
بمعنى " مجرّب ، خبير " .
با حاصل :
بمعنى " ذو فائدة " .
باحرارت :
بمعنى " ذو حرارة أي فعّال " .
باخَبَر :
أي " خبير ، مطّلع " .
بادْ دَبور "
بمعنى " ريح الدَّبور " .
بادْ دركف :
بمعنى " مفلس ، فارغ الكفّ " .
باد سخا :
كناية عن "الدنيا والناس وأهل السخاء".
با ديانت :
بمعنى " ذو دين ، وَرِع " .
باطل كردن :
بمعنى " إبطال " .
باطن بِين :
بمعنى " العارف بباطن الأمور " .
تعليق:و"بِين"كلمة فارسية وهي الأمر من " ديدَن " وهذه بمعنى " النظر أو التطلّع".
باغ وَحْش :
بمعنى " حديقة الحيوان " .
تعليق : في هذا المركب تأتي كلمة "باغ" الفارسية بمعنى " بستان " ، ثم " وحش" بمعنى الحيوان من العربية .
أقول : وفي عامية العراق أجد " بُقجه" بمعنى البستان الصغير ، وهذه هي "باغجه"، والكلمة مختومة بـ " جَه " وهي أداة التصغير في الفارسية . وأجد أيضًا في عاميّة العراق " باغونجي" بمعنى "البستاني " وهذه من " باغبان " الفارسية و " بان " فيها بمعنى " حارس أو محافظ".(60/9)
وقد تحوّلت الباء في نطق العراقيين إلى الواو ، وهذا كثير في باب البدل بين الباء والواو ، و " جي " من التركية في النسبة وهي كثيرة في أسماء أصحاب الحِرَف.
باقي داشتن :
بمعنى " بقاء، ثبات، عدم أداء كل شيء".
تعليق : و " داشتن " بمعنى مواظبة وطول… " .
باقي ما نْدَكَى:
بمعنى " دوام ، تأخّر " .
تعليق : و " ما ندكي " بمعنى " التخلّف والعجز " .
باقي ما نْدَكي :
بمعنى " بقاء ، ثبات ، تأخر ".
تعليق:و"ما ندَكَى"تعني البقاء،أو التخلف.
باقي مانْدَه :
بمعنى : ثابت وباق ، والبقية من الحساب".
تعليق : و : مانده " بمعنى " البقية أو الفَضلة " .
بانوي مشرق :
كناية عن "الشمس" .
تعليق : أقول : في الجزء الأول كلمة أصلها من " بانور " وهي كلمة احترام وتشريف تقال للسيّدة وجمعها " بانوان".
بَحْث كردن :
بمعنى " البحث في الأمر " ، وقريب من هذا "بحث شُدَن" بمعنى " مورد البحث".
بُخار شُدَن :
بمعنى " التبخّر " .
بَدخشِ مُذاب :
كناية عن " النبيذ الأحمر " .
بَرات :
كلمة عربية الأصل وهي " براءة " . ودخلت في استعمال الفرس " بَرات كردن" بمعنى " تحويل الحوالة" .
بَرأَثر :
بمعنى " على الأثر ، عَقِب " .
تعليق : و " بر " بمعنى على أو فوق " .
بَرسبيل :
بمعنى " على الطريق ، على المنوال " .
بَرْق آسا :
بمعنى " كالبَرْق في السرعة ".
تعليق : أقول : واللاحقة " آسا " لبناء اسم الفاعل ، وهذه إحدى لواحق عدّة لهذا الغرض .
بَرْقكَير :
بمعنى " ماصَّة الصواعق " .
تعليق : أقول : و " كَير " من " كَيرا" بمعنى " جاذب".
بَرِوفق :
بمعنى " موافق ، مطابق ".
بساط آرَسْتَن :
بمعنى " فرش الأرض " .
تعليق : و " آرسْتَن " بمعنى " تزيين أو ترتيب " .
بساط جيدَن :
بمعنى " ترتيب السُّفرة ".
تعليق : و " جيدَن " من معانيها " بسط الشيء " .
بسَبَب :
بمعنى : " بدليل ، بجهة " .
بَسْته رحم :
بمعنى " عقم " .(60/10)
تعليق : وهذا يأتي من معاني : بَسته " التي فيها معنى "مربوط،مسدود أو مقيّد…
بَسْط دادَن :
بمعنى " توسيع ، شرح ".
بِسمِل كردَن :
بمعنى " ذبح " .
تعليق : أقول : و " بِسمِل " مُجتَزأ من "بسم الله الرحمن الرحيم " ، ولذلك أطلقوا " بِسْمِل " على كل حيوان مذبوح.
بِسيارفَن :
بمعنى " كثير المعرفة ، عارف بأبواب الحِيلَ " .
تعليق : وقد ذهبوا بـ " فَنّ " العربية مع الزيادة السابقة إلى ما ذهبوا إليه .
وأما " بِسيار " الفارسية فتفيد "الكثير الوافر " .
بشارَت رَس :
بمعنى " بشير أو قاصد … " .
وفي هذا نجد " رس " أضيفت إلى "بشارت" للوصول إلى اسم الفاعل ، غير أني لم أهتد إليها .
بشارت كردن :
بمعنى " تبشير " .
بِطور كُلّي :
بمعنى " بشكل عام " .
تعليق : أقول : المركب كله من العربية . إن " بطور " هي الباء الجارّة ، والمجرور "طور" ثم جاء الوصف " كليّ " .
بعَلاوه :
بمعنى " بالاضافة " .
تعليق : وهذه من العربية السائرة في قول المعربين " علاوة على ذلك ".
بَغْي كردن :
بمعنى " ظلم ، تجاوز … ".
بِكارَت كِرِفتن :
بمعنى " إزالة البكارة للفتاة ".
تعليق : و " كرفتن " مصدر فارسي بمعنى " أخذ وحصول ، وتسلم … " .
بَلاكَش :
بمعنى " متحمِّل مبتلٍ " .
تعليق : أقول : "بلا" هو المصدر " بلاء" وأما " كش" فهي لاحقة لإفادة بناء اسم الفاعل .
بلا كَردان :
بمعنى " دافع البلاء، حارس ، حافظ …".
تعليق : أقول : و " كَردان " بمعنى " ما أحاط بالشيء كالطوق ".
بلا كِرِفته :
بمعنى " مبتلى ، مشغول " .
تعليق : أقول : و " كرفته " فارسية . انظر رقم 96 .
بُلبل زَبان :
بمعنى " حلو اللسان ، فصيح " .
تعليق : و " زبان " بمعنى " لغة "
بُلبل نَوا :
بمعنى " حَسَن الصوت كالبلبل ".
تعليق: أقول: " نَوا " بمعنى" نغمة ، واسم لحن موسيقي معروف لدى العرب".
بلحاظ :
بمعنى " بملاحظة ، بالنظر ".
تعليق : والمركب هو الجار والمجرور "بلحاظ" وكلّه من العربية .(60/11)
بَلَد :
بمعنى " عارف، مطّلع، دليل في الطريق".
تعليق : أقول: إن الكلمة " بَلَد " عربية، ولكن الفرس حرفوها إلى دلالة أخرى.
ومن هذا " بَلَد شدَن " بمعنى " التعرف".
بَلْعنده :
بمعنى " بالع ".
تعليق : ويندرج في هذا : "بَلْعيدن" بمعنى "بَلْع"أي المصدر،و"بلعيده"بمعنى "مبلوع".
بَلْكِه:
بمعنى "على كل حال ، ربما أيضا ، علاوة على ".
تعليق : يقول الفرس إن "المركب" من "بل" العربية ، و"كه" أداة للموصول وللاستفهام والشرط والتفسير والتعليل ، وبمعنى "حتى ".
أقول : وفي عامية العراقيين : بلكت " أو " بلكي " بمعنى " ربما " . (*)
بُلَنْد إراده :
بمعنى " ذو إرادة عالية ، رفيع الهمة ".
تعليق : أقول : " بلند " بمعنى " مرتفع، عالٍ، محترم، ولهذه الدلالة ذهب به إلى العلمية.
بُلَنْد أركان :
بمعنى "عالٍ ، قدير ، محترم ".
بَليغانه :
بمعنى : بهيئة بليغة ".
تعليق : أقول : وهذا مثل " أَديبانه وأبلهانه وغيرهما " وهي بناء فارسي، وسيمر بنا شيء منه .
بليغ ُشَدن :
بمعنى : " بلاغة " .
بِنا برآن :
بمعنى : "بناء على ذلك ".
تعليق : و" بنا " في هذا التركيب هو "بناء" المصدر في العربية ، و"بر" بمعنى "على" وقد مرت بنا . وأما "آن" فهو إشارة للبعيد أو الغئب .
بِنا بَرإين :
بمعنى " وبناء على هذا …". و"إبن" إشارة للقريب وقد مرّت بنا .
بِنا كرَدن :
بمعنى "بناء أو تعمير ".
تعليق : ويندرج في هذا " بنا كير " بمعنى بناء ، معمار .
بِنِسبَت :
بمعنى " بمناسبة ، على حسب ، بمقابلة".
تعليق : أقول : وقد توسّعوا في تحديد دلالة نسبة العربية فابتعدوا عنها .
بنَقد :
بمعنى "فورًا ، نقدًا ".
تعليق : وهذا الجار والمجرور قد صُرف لدى الفرس إلى شيء آخر بعيد عنه .
بولدان:
بمعنى " مبوَلة ".
تعليق : وقد مر بنا كلمة " دان " الفارسية ودلالتها على "المحل".
بهاريّات :
بمعنى "قصائد ربيعية ".(60/12)
تعليق : أقول : الكلمة مجموعة بالألف والتاء من العربية ، والواحدة ، "بهاريَّة " منسوبة إلى "بهار" بمعنى الربيع . وهذه الكلمة معروفة في الأدب العباسي ، ومازال شيء منها في الألسن الدارجة .
بِهَرْحال:
بمعنى"على أيّ حال ، في جميع الأحوال".
تعليق : و " بِهَرْ " كلمة فارسية في هذا التركيب بمعنى " لأجل" ، من جهة".
بي تجربه :
بمعنى " غير مجرّب ".
تعليق : أقول : "بي" للنفي ، وقد تسبق الاسم فيكون صفة .
بي تربَيت :
بمعنى " بلا تربية ، بلا أدب ".
بي ترديد :
بمعنى " بلا شك ، بلا تردّد".
بي حساب :
بمعنى " من دون حساب ، بلا حد ، بلا فائدة ".
بي حوصله :
بمعنى " من دون صبر ".
تعليق : أقول : إن دلالة " الحوصلة " معروفة في " خَلْق الطير " ، غير أننا لم نجدها معروفة في نحو هذا في التوسّع ، ولكنّنا نجد هذا في بعض الألسن الدارجة كما هي الحال في عامية أهل العراق.
بي خيال :
بمعنى " بلا خيال ، بلا فكر ، بلاغمّ ، فجأة ، بلا إرادة ".
بيرَحم:
بمعنى " قاس ، ظالم ".
بيرَحْمي :
بمعنى " قسوة ، ظلم ".
بي زَحْمَت :
بمعنى " بلا تعب ، من دون شفقة ، وقد يراد بها ما يقال في ألفاظ المجاملة نحو "لطفًا " .
تعليق : أقول : إن الفرس قد يأخذون الكلمة العربية مما هو مستعمل في الألسن الدارجة ، ومن هذا استعارتهم " زحمة " من استعمال بعض أهل البلدان العربية .
بي سبَب :
بمعنى " بلا سبب ، بغير دليل ".
بي سَر وصدا :
بمعنى " ساكت ، من غير صوت أو حركة".
بي سليقة :
بمعنى " بلا ذوق ، بلا لطف ".
تعليق : أقول : وهذا من ذهابهم إلى غير معنى " السليقة " في العربية .
بي سيرت :
بمعنى " بلا أدب ، فاسق ".
بي سيرتي :
بمعنى " فسق ، فجور ".
بي شُبْهه :
بمعنى " بلا شك ".
بيضه بَنْد :
بمعنى " حزام الفتق ، أو " بنطال " خاص بالرياضة العنيفة " .(60/13)
تعليق : أقول : يراد بـ " بيضه " في هذا المركب " الخصية " ، وهذا مستعار من الألسن الدارجة لدى العرب . و" بند" بمعنى "رباط" وقد استعاره العرب في فصيحهم وعامياتهم .
بَيعانه :
بمعنى " عربون البيع ".
تعليق : أقول : إن بناء " بيعانه " أي " فعلانه " مما ولده الفرس ، وقد مر بنا شيء من هذا .
بَيْعت كردن :
بمعنى " تعهد بالبيع ".
بَيعنامه :
بمعنى " وثيقة البيع ، وقد تكون للشراء أيضًا " .
بيمُحابا :
بمعنى " بلا أدب ، بلا تكلف " .
(ب)
يا بِرِكاب :
بمعنى " حاضر ، مهيأ ".
تعليق : أقول " يا " بمعنى رِجْل تشتمل على الفخذ والساق والقدم ، وقد تصرف إلى " القدم " وحدها . وكأن التركيب يوحى إلى أن "المركوب " أي المطيّة أو السيّارة حاضرة .
يادَرِركاب:
بمعنى"راكب أو على أهبة السفر، محتَضَر، ويقال للشراب وقد أوشك أن يفسد .
يادَرهوا:
بمعنى " من دون إحكام أو تفكير ، ويقال للكلام لا أساس له ".
ياركاب بَرداشتَن :
بمعنى " ركوب أو امتطاء ".
تعليق : أقول : و " بَرْداشتَن " مصدر بمعنى " أخذ أو اختيار أو تحمُّل أو جَني المحصول ".
ياعَلَم خَوان :
بمعنى " الواقف تحت الراية يوم عاشوراء تيلو دعاء ".
تعليق : أقول : و " خَوان " من "خَوانَنْده " بمعنى " قارئ ".
ياكْراي :
بمعنى " ذو رأي نقي أو صافٍ ، عالم ".
تعليق : أقول : و " باك" بمعنى " النقي النظيف الصافي ". (*)
يُخْتَه راي:
بمعنى " مجرب ، عاقل ".
تعليق : أقول : و " يُخْتَه " في الأصل بمعنى " مطبوخ أو ناضج " ، وكأن الفرس قد ذهبوا به توسُّعًا ومجازًا إلى هذا كأنه الرأي الناضج أو المطبوخ ".
يُرادّعا :
بمعنى " دعيّ ، مخاصم " .
تعليق : أقول : و " يُر" بمعنى مملوء ، مشحون، كثير ، مشبع ".
ير إفادكي :
بمعنى " غرور ، تكبّر ، ادّعاء ".
يري سِيَرت :
بمعنى"مَن سيرته مثل" يري" أي "إبليس".
يريشان حال :
بمعنى " مضطرب ، سيء الحال ".(60/14)
تعليق : أقول : و " يريشان " بمعنى " حيران ، مضطرب ، مغموم ".
يسَر عَمو :
بمعنى " ابن العمّ ".
تعليق : و "يسَر " بمعنى " ابن أو طفل ".
يَنْج أركان :
بمعنى " أركان الإسلام الخمسة ".
يُوشيده حرف :
بمعنى " كلام مبهم ، الرمز في الكلام ".
تعليق : أقول : و " يُوشيده " بمعنى " المستور أو المبهم ".
يير تعليم :
بمعنى " معلّم ، وقد يذهب به إلى معلّم العلوم الدينية".
تعليق : أقول : و " يير " بمعنى " مُسِنّ أو معمّر ".
ييش إمام :
بمعنى " إمام الجماعة في الصلاة ".
تعليق : أقول " و " ييش " بمعنى "قُدّام".(*)
ييش حرف :
بمعنى " المتقدم في الحديث ، صاحب الغلبة في الكلام".
بيش خِدمَت :
بمعنى " خادم ".
( ت )
تابوت كِش :
بمعنى " حامل التابوت " .
تأثر أنكير :
بمعنى " مؤثر ، محزن ".
تعليق : أقول : و " أنكير " لاحقة للوصول إلى بناء اسم الفاعل .
تأثير كردن :
بمعنى " نفوذ ، تأثير ".
تَحتِ نظر كِرِفْتن :
بمعنى مراقبة ".
تحريك آميز "
بمعنى " كلام مثير " .
تحسين كردن "
بمعنى " تحسين ".
تحصيل كردن :
بمعنى " كسب ، جمع ، جباية الضرائب…".
تحصيل كرده :
بمعنى " مثقف ، مطلع ".
ترجيح بَند :
بمعنى " ضرب من الشعر الفارسي ينظمه الشاعر فيأتي بأبيات من بحر واحد وقافية موحدة ، ثم يأتي بأبيات أخرى من البحر نفسه بقافية أخرى . ويفصل هذه القطع أبيات متحدة الوزن دون القافية ، وعكسه يدعى " تركيب بند ".
ترديد كردن :
بمعنى " تردّد ".
تصادف كَرْدن :
بمعنى " اصطدام أو ما يكون من حوادث المرور ".
تعليق : أقول : وهذا بعض مما غيّروا فيه دلالة الأصل العربيّ توسّعًا .
تعبير نامه :
بمعنى " كتاب تعبير الرؤيا " أي تفسيرها.
تعريف كردَن :
بمعنى " تعريف أوبيان ".
تعزيه خَوان :
بمعنى " قارئ الشعر في أيام ما يدعونه "العزاء " وهو تأبين الإمام الحسين وغيره من الأئمة .
تعليق : وقد مرّ بنا أن " خوان " بمعنى "قارئ".
تفاخُر كردن :(60/15)
بمعنى " تفاخر ".
تفاوت كردن :
بمعنى " تفريق ، اختلاف ".
تفضيل نِهادن :
بمعنى " تفضيل ، ترجيح ".
تعليق : أقول : و " نهادن " مصدر بمعنى " وضع " .
تكدّي كردن :
بمعنى " استجداء ".
تكيه كاه :
بمعنى " متكأ ، ملجأ ، نقطة الارتكاز ".
تعليق : أقول : لم يأخذ الفرس " تكية" من فصيح العربية أي مادة " اتكأ " ، بل إنهم أخذوها من بعض الألسن الدارجة العربية التي فيها " التكية " مما يسمى في بعض البلدان"زاوية"وهي"الخانقا" القديمة.
تماشا :
بمعنى " نزهة ، تفرج ، تطلع ".
تعليق : أقول : بني الفرس من الفعل العربي " مشى " بناء " تماشا " ، ثم ذهبوا به توسّعًا إلى ما كان لهم .
ومن الغريب أن هذا البناء الفارسي "تماشا" بما حمل من معنى ليس في فصيح العربية قد استعاره العرب في بعض بلدانهم فقالوا : " طمش أو تطمَّش " بمعنى تجوّل بقصد التنزُّه .
توصيف :
بمعنى " وصف ، بيان ، شرح ".
تعليق : أقول : ليس في العربية المضاعف من " وَصَف " ولكن الفرس ولدوه .
توضيح دادَن :
بمعنى " بيان وإيضاح ".
( ث )
ثابت ساخْتَن :
بمعنى " إثبات ".
تعليق : أقول : "ساختن " مصدر فارسي بمعنى بناء ، عمارة ، وضع ، تصنيع …".
ثابت شُدَن :
بمعنى " تحقيق ، برهان ".
ثابت كردن :
بمعنى " إثبات ، تصحيح ، تصديق ".
ثانيه شُمار :
بمعنى " عقرب الساعة الذي يشير إلى الثواني ".
تعليق : أقول : و " شمار " بمعنى " عدد أو رقم أو حساب ".
ثَرْوتمَنْد :
بمعنى " ثريّ ، غنيّ " .
ثلث بَذير :
بمعنى " كل شيء يقبل القسمة على ثلاثة".
ثَناخَوان :
بمعنى " مدّاح أو من يقرأ الثناء ".
ثَناكردَن :
بمعنى " مدح ، شكر ".
ثَنا كويَنْده :
بمعنى " مدّاح ، شاكر ".
ثَوابْكار :
بمعنى فاعل الخير .
( ج )
جادة صاف كُن :
بمعنى " المدحلة " التي تمهد الأرض . و"صاف كن " من العربية أيضًا وصرفوها إلى "التصفية ".
جادّه كشيدن:
بمعنى "تسوية الطريق ".(60/16)
تعليق : أقول : و " كشيدن " مصدر بمعنى " مدّ أو بسط وتطويل ".
جادة كوبيدَن :
بمعنى " تسوية الأرض " أيضًا . و" كوبيدن " تعني في الأصل " جبل ".
جانب دار :
بمعنى "حام" . و"جانب داري " : حماية.
جاه طلب :
بمعنى " الراغب في الوصول إلى أعلى المراتب " .
تعليق:أقول:إن كلمة " جاه" قد استعارها العرب ولم يغيروا في بنائها ولا في معناها.
جُبران كردن :
بمعنى " تلافي الخسارة وإصلاح الكسر ".
تعليق : أقول : "جبران " مصدر مثل "الجَبْر" استعير من الألسن الدارجة .
جداوزن :
بمعنى " مختلف الوزن ".
جَدَل كردن :
بمعنى " منازعة ، محادثة ، خصومة ".
تعليق : أقول : وقد ذهبوا في "الجَدلَ " إلى الخصومة خاصة .
جدوَل كَش :
بمعنى " مخطّط الجدول ، أو القلم الذي يخط به ".
جراحَت بَنْد :
بمعنى " ضماد الجراح ".
تعليق: لقد مرَّ بنا أن"البند" هو "الرباط".
جراحَت ديده :
بمعنى " مجروح " .
جَرْح كَرْدن :
بمعنى " رد الشهادة " .
تعليق : أقول : و"جَرْح " في هذا التركيب مما هو في العربية في الحديث الشريف في مصطلح "الجرح والتعديل ".
جُرعه نوش :
بمعنى " شارب الخمر ، ثمل ".
تعليق : أقول : و " نوش " تعني "الترياق" كما تعني " العَسَل ".
جُرْم دار :
بمعنى " مجرم " . و " جُرْم شناسي " بمعنى " شنعية البحث في الإجرام " .
جِري :
بمعنى جراية ، راتب ".
جمع آوَردن :
بمعنى " جمع ، تحصيل ".
تعليق : أقول : و " آوَردن " مصدر يعني"إحضار " ، إظهار ، توليد ، إتيان".
جُمْلَكي :
بمعنى "جميعًا ، تمامًا ".
جواب دادَن :
بمعنى " إجابة ، إعطاء الجواب ".
جوابْكو :
بمعنى " مجيب ".
جواهر خانه :
بمعنى " مخزن الجواهر ".
جَور كردن :
بمعنى " جور ، ظلم ".
(ج)
جار تكبير :
بمعنى " أربع تكبيرات ".
تعليق : أقول : هذا في الصلاة على الميت.
جار رئيس :
بمعنى " العناصر الأربعة ".
جهار نفْس :
بمعنى : " الأربع " من النفس وهي "الأمارة واللوامة والمهلمة والمطمئنة ".(60/17)
( ح )
حاجبانه :
بمعنى " ما هو من الحجاب ".
تعليق : أقول : وهذا مما ولده الفرس على بناء " فاعلانه ".
حاجي لَتقلَق :
بمعنى " من صفته طول القد والهيئة ".
حادثه جو :
بمعنى " الجريء والمغامر ، والباحث عن الجديد ".
حاشا كردن :
بمعنى " محاشاة ، إنكار ".
تعليق : أقول : وقولي : " محاشاة " من العبارة الشهيرة " حاشا لله ".
حاشيه نِشين :
بمعنى " الجالس في طَرَف المجلس " . و"نشين " من " ينشسته " وتدل على "المقعد".
حاصِلّخير :
بمعنى : مثمر ، يقال للأرض المنتجة ".
حاصل كردن :
بمعنى " تحصيل ، جمع ".
حاكم نشيِن :
بمعنى " مقر الحاكم ، أي المدينة ".
حاكي :
بمعنى " الحاكي ، المخبر ".
حال :
بمعنى " الآن ، وهيئة الشيء وطريقته ، وحال الإنسان " .
ومنها " حالا " بمعنى " في هذا الوقت".
حال آمَدَن :
بمعنى " سمنة،ضخامة ". و"آمَدَن " مصدر
يعني القُدوم والمجيء، والحضور، والظهور، والولادة.
حال آوَرْدَن :
بمعنى إدخال السرور، و " آوردن " بمعنى " إحضار، والوضع في الشيء ، وتوليد…".
كرَدان :
بمعنى " مغيّر الأحوال ، الله تعالى " . وقد مرّت بنا " كردانة ".
حالي كردن :
بمعنى " إفهام ".
حايل شُدَن :
بمعنى " حائل ، فاصل ".
حباب دار :
بمعنى " كالحباب ".
تعليق : أقول : وكلمة " دار " بمعنى "شِبْه ".
حبسكاه :
بمعنى " سجن " ، و" كاه " لاحقة تدل على الزمان والمكان والمحل .
حراج :
بمعنى " مزايدة ، أو رخصة ".
تعليق : أقول : و"حراج" هذه مستعارة من بعض الألسن الدارجة العربية للبيع الإشهاري الذي تكون فيه "مزايدة" .
حرامْ خَوار :
بمعنى " آكل الحرام ، المرتكب بقبول الرشوة ".
تعليق : أقول : و " خَوار " بمعنى " مأكول أو حقير ".
حرامْزاده :
بمعنى " ابن حرام ، لقيط ، وقد يكنى به عن الماهر في الحيلة ".
حرامْ كردن :
بمعنى " تحريم ".
حرف زَدَن :
بمعنى " تكلم أو تحدث ".
تعليق:أقول:و"زدن"من معانيها"الضرب".
حرفْكير :(60/18)
بمعنى " منتقد ، عائب ".
حَرَكت كردن :
بمعنى " تحريك ".
حُرمْت داشْتن :
بمعنى " احترام ".
حَرَمْخانه :
بمعنى " قسم " الحريم " في المنزل" ومثله حَرَمسراي ".
حروفْجين :
بمعنى " عامل لصف الحروف " . و"جين" بمعنى " طيَّة أو ثنية ".
حُزن آلود :
بمعنى " مخزون " . و" آلود " من اللواحق لصوغ اسم الفاعل .
حُزن آوَر :
بمعنى " صاحب الحزن أو جالبه " . و"آوَر " بمعنى " صاحب أو مالك ".
حسا بْدار :
بمعنى " محاسب " . ومثله " حسا بْدان ". وحسا بْداري " بمعنى دائرة المحاسبات .
حسا بْكَر :
بمعنى " دقيق في جوانب الأمور " . و"كَر" من اللواحق لصوغ اسم الفاعل.
حسدْناك :
بمعنى "حسود". و"ناك " لاحقة للوصف.
حَسْرَتْ خوردن :
بمعنى " أسف ، غم ّ ".
تعليق : أقول : والأصل في " خوردن " أنها " طعام ".
حِس كردن :
بمعنى " إحساس " .
حَشَرَه شِناس :
بمعنى " عالم بالحشرات " . و " شِناس " بمعنى " عالم أو خبير " .
حشره كَش :
بمعنى " الآلة للرش تقتل الحشرات ".
حشيشْ كشيدن :
بمعنى " تدخين الحشيش ".
حصار دادَن :
بمعنى " حصار ، محاصرة ".
حصَّة بَخَش :
بمعنى " مقسم الحصص " . و " بَخَش" بمعنى " حصة " أيضًا .
حصّه دار :
بمعنى " شريك ، ذو حصة ".
حق بَزُوه :
بمعنى " الباحث عن الحق ".
حقْ دار :
بمعنى " صاحب حق ".
حق شِناس :
بمعنى " المعتقد بالحق ، العارف بالله ، المؤدي للحق ".
حَقكزُار :
بمعنى " عادل " . و " كزار " من "كزارا" بمعنى " مؤدي الحديث ".
حقْكوى :
بمعنى " القائل للحق ، طير الحق ".
حُقُّه باز :
بمعنى مشعوذ صاحب مكر ، عيار " .
حُقُّه زَدَن :
بمعنى "مخادعة ".
حقيقت بِين :
بمعنى "الناظر لحقائق الأمور،العارف بها". و" بين " بمعنى " الأمر من ديدَن".
حكايتْ كردن :
بمعنى " رواية ، حكاية " .
حِكمتْ آميز :
بمعنى كلام فيه حكمة ".
حُكمْران :
بمعنى " حاكم ، والٍ ".
حُكم نِويس :
بمعنى " كاتب بلاغات الدولة ".
حكيمانه :(60/19)
بمعنى " كلام بحكمة ".
حكيم باشي :
بمعنى " رئيس الأطباء " . و " باشي " لقب تركي عثماني عسكري بمعنى "رئيس ".
حَلال زاده :
بمعنى " ابن حلال ".
حلال كردن :
بمعنى " تحليل ، إجازة " .
حَلَب :
بمعنى " صفيحة " تَنْك " .
حَلَبي ساز :
بمعنى " صانع الآلات ( تنكجي ) ".
حماسه سراي :
بمعنى " شاعر الحماسة ".
حمّام كِرِفْتَن :
بمعنى " استحمام " .
حله آورَدن :
بمعنى " حملة ، هجوم " .
حمله وَر :
بمعنى " مهاجم ، مغير " .
حوْر سِرَشْت :
بمعنى " حورية أي جميلة كالحور ".
حوصله داشتن :
بمعنى " تحمّل فرصة انتهاء العمل ".
تعليق : وقد مرَّت بنا " حوصلة " وإشارتها إلى " الحرج والضيق ".
حَويج :
بمعنى " لوازم المطبخ " . وهذا بعض تصرفهم بالأبنية والدلالة .
حويح دار :
بمعنى " طباخ ".
حَيات بَخْش :
بمعنى " واهب الحياة ".
حيا دار :
بمعنى " حَيِيّ ، خجول ".
حَيْرَت آورَ :
بمعنى " محير " .
حيَرتْ أنَكيز :
بمعنى " محير متعجب ".
حيرت زده :
بمعنى " حائر " .
حيله باز :
بمعنى " صاحب مكر وحيلة ".
حيله كار :
بمعنى " مكار محتال ".
حيله ناك :
بمعنى " محتال ، مكار ".
( خ )
خاتم بَسْتَن :
بمعنى " تنزيل الحاج وغيره في سطح شيء…". و " بَسْتَن " بمعنى " ربط ، أو شد … " .
خاتَم ساز :
بمعنى " صانع الأختام والنقوش " . و"ساز " من معانيها " صُنع " .
خاتمه دادَن :
بمعنى " خاتمه ، إنهاء ".
خادم باشي :
بمعنى " رئيس الخدم ".
خارج آهَنْك :
بمعنى"مخالف العزف الموسيقي،غير موافق" و" آهنك " بمعنى" غناء صوت موزون ".
خاصّكي :
بمعنى " نديم الملك ، مقرَّب " . و " كي" لاحقة للوصول إلى المصدر .
خاطر آزار :
بمعنى " مزعج ، أمر مزعج " .وأما "آزار" فهي لاحقة لصوغ اسم الفاعل .
خاطر آزرَده :
بمعنى " ملول ، متأثر " . و"آزرده " لاحقة لصوغ اسم المفعول .
خاطر آسوده :
بمعنى " مرتاح الفكر ".
خاطر آشُفْته :
بمعنى " مضطرب الفكر ".
خاطر بَريش :(60/20)
بمعنى " حمل ، أمر غير ملائم ".
خاطر بَسَند :
بمعنى " جذّاب ، مقبول " .
خاطر جَمع :
بمعنى " مطمئن " .
تعليق : والكلمتان كلاهما من العربية . و"خاطر جمعي " بمعنى " اطمئنان ".
خاطرخَواه :
بمعنى " عاشق ، محب …". و "خواه" من "خواهنده " بمعنى " آمل أو راغب " .
و "خاطر خواهي بمعنى " عشق ، محبة".
خالْكوب :
بمعنى " ضارب الوشم ". و"خالكوبيدَ" بمعنى " ضرب الوشم " .
خامْ راي :
بمعنى " ناقص العقل . و" خام " بمعنى " غير مطبوع ، غير مجرّب ".
تعليق : وكلمة : خام " مما استعاره العرب كما هو " فج ، وغير ناضج …".
خاينانه :
بمعنى " بخيانة ".
خَبَر آوَر :
بمعنى " حامل الخير " .
خَبَر جين :
بمعنى " جاسوس " . و " خَبَرجيني " بمعنى " جاسوسية " .
خبر دادَن :
بمعنى " اطلاع ، إعلان " .
خبر دار :
بمعنى " مطّلع ".
خبر تِكار :
بمعنى " مراسل صحفي ".
خَتْنَه سوران :
بمعنى " احتفال بمناسبة ختان الأولاد ".
تعليق : أقول : قول الفرس " ختنه " جاء وابه من " ختان " وهذا على طريقتهم في
التصرف بالأبنية العربية .
خَجِالت زده :
بمعنى " خجول " .
تعليق : أقول : وهذا مما ولّدوه في مادة "خجل " وليس لنا في العربية " خجاله".
خجالت كشيدن :
بمعنى " خجل ".
خجته طالع :
بمعنى " حسن الطالع " . و " حجته " بمعنى " حسن أو مبارك ".
خَجْلَتْ آوَر :
بمعنى " مخجل ".
خَجلت زَده :
بمعنى " خجل ".
خذا حافظ :
بمعنى " حفظك الله " جملة دعاء تُقال في التوديع ".
خِدْمتانه :
بمعنى " هدية أو هدية الحاكم ".
خِدْمتكار :
بمعنى"خادم".و"كار"بمعنى"حرفة أو عمل" ومثل هذا " خِدْمَتكَر " و "خِدْمَتكزار ".
خرابات :
جمع " خرابة " والجمع مع الأصل من العربية بمعنى "الخراب " وقد يكنى بها عن
الحانات أو بيوت الدعارة .
خَراب كردن :
بمعنى " تخريب ".
خَراجكُزار :
بمعنى " دافع الضريبة ".
خَرجْي دادَن :
بمعنى " إعطاء المال للمعيشة ، نفقة لأهل البيت ".
خَرحمّالي :(60/21)
بمعنى " سخرة " . و " خر " بمعنى "حمار".
خُرْد نفس :
بمعنى " حقير النفس ".
خَرْطبع "
بمعنى " أحمق ".
خِرِفْت :
بمعنى " أبله ، جاهل " .
تعليق : أقول : إنه من أبنية الفرس الخاصة أفادوه من المصدر " حَرَف ".
خَرْفَهم :
بمعنى " إفهام الأبله ".
خِرْقة بوش :
بمعنى " درويش أو صوفيّ ".
خرقه تُهي كردن :
كناية " عن الموت " .
خرقة كردن :
بمعنى " تقطيع ، تمزيق ".
خروج كردن :
بمعنى " عصيان " .
خِزانه دار :
بمعنى " مدير الصندوق " . و" خزانه داري " بمعنى " رئاسة الصندوق ".
خُشْك دِماغ :
بمعنى " مغموم ، حزين " .
خَطَرناك :
بمعنى " مُهلك ".
خَطْ زَدَن :
بمعنى " رسم خط ، حذف ".
خَط كَش :
بمعنى " مسطرة " .
خط كشيدَن :
بمعنى " رسم خط ، محو ".
خِلافكار :
بمعنى " من يرتكب المخالفات ".
خَلْوتْكاه :
بمعنى" مكان الاستراحة ، غرفة المرأة…".
خلَوْت نِشين :
بمعنى " منزوٍ ".
خُمار آلود :
بمعنى " مخمور ".
خمير كير :
بمعنى " صانع الخمير ، خباز ".
خمير مايه :
بمعنى " خميرة للخبز أو اللبن ".
خِنجر أوزن :
بمعنى"الضارب بالخنجر".ومثله"خنجركِش".
خوُش بَيان :
بمعنى " حلو الحديث ".
خوش حال :
بمعنى " مسرور ، سعيد " .
خوش خدمت :
بمعنى " حسن الخدمة " .
خوش خط :
بمعنى حسن الحظ ، أو كتابة واضحة ".
خيال أنديش :
بمعنى " كثير الخيال " . و " خيال باف " بمعنى " ناسج الخيال ".
خيال بَسْتن :
بمعنى " تخيّل ، توهُّم ".
خيال بَرَست :
بمعنى " متخيِّيل ، شاعر ، عاشق ".
خِير خَواه :
بمعنى " صاحب خير ".
خيلباش :
بمعنى " رئيس الخيالة ، الفرسان ".
خيمه زدن :
بمعنى " نصب الخيام أي نزول ".
خيمه شب بازو :
بمعنى " خيال الظل ".
( د )
داد كاجنائي :
بمعنى " محكمة الجنايات ".
تعليق:أقول:"داد"من معانيها"قانون وعدل".
دارشان :
بمعنى " صاحب شأن ".
داو طلب :
بمعنى " مقدِّم طلب لعمل أو وظيفة ".
دايره زدن :
بمعنى " الوقوف بشكل دائري ".
دخيل بستن :(60/22)
عبارة تقال لمن يتوسل في ضريح إمام ، وينذر المال إذا حلت عقدته حيث يعقد عقدة في قطعة قماش ويتركها .
درجة دار :
بمعنى " مدرّج " . و " دَرَجه حال " بمعنى في الحال أو حالاً ".
"خيال آمدن ":
بمعنى " تصوّر ، تذكّره ".
دَرزمَان :
بمعنى " في الحال ، فورًا ".
درس خَوان :
بمعنى " تلميذ ، صاحب درس ". و "درسكاه " بمعنى "مدرسة ".
درَوقت :
بمعنى " في الحال ، حالاً ". و"درهر حال" بمعنى " على أيّ حال ".
دَعْوَت كردن :
بمعنى " دعاء ، نداء " . و "دُعاي باران" بمعنى " صلاة الاستسقاء " . و"دعوتكر" بمعنى "داع ، مناد " . و " دعوت نامه" بمعنى " بطاقة الدعوة ".
دعوى دار :
بمعنى " مدَّعٍ ، متظلِّم ".
دَغَد :
بمعنى " محتال ، مكار " . و " دَغَد داري" بمعنى "نفاق " . و " دَغَدزَن " بمعنى "محتال ".
دقيقة كير :
بمعنى " منتقد " و " دق كردن " بمعنى "اعتراض ، مؤاخذة " . و " دق كرفتن" بمعنى " لوم ، عيب " .
دكانكار :
بمعنى " صاحب الدكان ".
دِماغ يَرور :
بمعنى " مفرح ، معطرّ " .
دنيا خوْرَدن :
بمعنى " الإفادة من نعم الدنيا ".
دَواساز :
بمعنى " صانع الدواء ، صيدلاني ".
دو حُجره خَواب :
كناية عن " العينين ".
دو حورْ لقا :
كناية عن " العقل والنفس ".
دولَتخانه :
بمعنى " قصر السلطنة " . و " دولتخواه" بمعنى " مريد الخير " . و " دولتسراي " بمعنى "قصر" .
دولتمند :
بمعنى "غني ، ثري " . و " دولتمندي " بمعنى " غِنَى ، ثراء " . و " دولتيار " بمعنى " سعيد ، غنيّ ".
دِهِشْت أنكيز :
بمعنى " مخيف ، مدهش " ، ومثلها "دهشتناك ".
( ذ )
ذخيره نَهادن :
بمعنى " ادّخار ".
ذَرّه بين :
بمعنى " مكبِّرة " . و " ذرّه بيني " بمعنى "مجهريّ".و"ذرّه برور"بمعنى"مربيّ الذرة".
ذوب كردن :
بمعنى " إذابة ".
دوق كردن :
بمعنى " إظهار الشاشة " . و " ذو قناك " بمعنى " لذيذ ".
ذيجاه :
بمعنى " ذو مقام ".
ذيحق :(60/23)
بمعنى " صاحب حق " . و " ذي روح " بمعنى " ذو روح ، حيّ ".
( ر )
راتِبه خَوار :
بمعنى " الذي يقبض مرتّبه ".
راحَت طلب :
بمعنى " طالب الرحمة ، محبّ الكسل ".
راح روح :
بمعنى " لحن من ألحان الفرس القديمة ".
راستِ اعتقاد :
بمعنى " نفي الاعتقاد ".
رِبا خَوار :
بمعنى " آكل الرِّبا ".
رِبا خوردن :
بمعنى " الاستفادة من الربا ".
رِحلَت :
بمعنى " موت ، وفاة ".
رَد شُدَن :
بمعنى " عبور ، مرور ، رفض ، عدم القبول ، رسوب في الامتحان ".
رد كردن :
بمعنى " الإعطاء ثانية ، عبور ، رفض ".
رَسْمانه :
بمعنى " بشكل رسمي ".
رسولْدار :
بمعنى" رئيس التشريفات الخارجية ".
رَشْوَه خَواء :
بمعنى " مرتشٍ " .
رشوة خور :
بمعنى " مرتش ".
رَصَد بند :
بمعنى " راصد " ، و " رَصَدكاه" بمعنى "مرصد ".
رض جويي :
بمعنى " السعي لكسب الرضا ".
رضايت آميز :
بمعنى " مقرون بالرضا ".
رضايت بخش :
بمعنى " واجب الرضا ".
رضوان جايكاه :
بمعنى " مقام الجنان " تقال في الكلام على الأموات ".
رضوان كَدَه :
بمعنى " مكان كالجنة ".
رطوبت سَنْج :
بمعنى " ميزان الرطوبة ".
رَعْد آسا :
بمعنى " كالرعد " .
رَعْشه ناك :
بمعنى " مرتعش ، مسبب الارتعاش ".
رفيق باز :
بمعنى " المحب لصحبه ".
رَقصان :
بمعنى " في حالة الرقص ".
رَقص كردن :
بمعنى " رقص ".
رقصيدن :
بمعنى " رقص ".
رُقعه نِوبس :
بمعنى " كاتب الرقاع أي الرسائل ".
رقم آموزْد :
بمعنى " معلم الكتابة ، معلم الحساب ، معلم الرسم ".
رقم زدن :
بمعنى " تحرير ، كتابة ، رسم " .
رقمْزَده :
بمعنى " محرر ، مكتوب ، منقوش ".
رقمْزَن :
بمعنى " كاتب ، محرر ، رسام " ، و"رقمزني " بمعنى " كتابة ، رسم " .
رقم كار :
بمعنى " المشير إلى الحروف والعلامات ، كاتب ، محاسب ".
رقم نِويس :
بمعنى " كاتب ، محاسب ".
روز مَره :
بمعنى " كل يوم ، يومي ".
روشن فِكر :
بمعنى " أفكار جديدة وواضحة ، الناظر في الأمور بمنظار متجدد ".(60/24)
روشَن قياس :
بمعنى " صاحب فراسة ".
روضة خَوان :
بمعنى"ذاكر مصيبة الأمام الحسين في كربلاء".
تعليق : وهذه في عامية العراقيين "روضخون".
روضه كاه :
بمعنى " بستان ، جنة ".
رياسَت طلب :
بمعنى " طالب الرئاسة ".
رياكار :
بمعنى " منافق ، مراءٍ ".
( ز )
زَبان حال :
بمعنى " لسان حال المتكلم ".
تعليق : و " زبان " بمعنى " لغة ، لسان".
زَحَمت أفْزا :
بمعنى " مُتْعَب ".
زَحمت دادن :
بمعنى " إزعاج ، إيلام ".
زحمتكِش :
بمعنى " كادح ".
زحمت كشيدن :
بمعنى " تحمّل المشقة ، تعب ".
زِمامدار :
بمعنى " صاحب الزمام ، رئيس القوم ".
زِناكار :
بمعنى " زانية ".
زَن جَلَب :
بمعنى " امرأة سيئة الخلق ".
زَوال بذير :
بمعنى " زائل ، فانٍ " ، و " زوال بذيرفتن" بمعنى " فناء ، زوال ".
زود شعري :
بمعنى " ارتجال الشعر بديهةً ".
زودفَهم :
بمعنى " سريع الفهم ".
زيادَت كرَديدَن :
بمعنى " ازدياد ، كثرة ، و " زياده روي" بمعنى " إفراط ، تجاوز ".
زيارت كردن :
بمعنى " زيارة لقبر للتبرك ".
( س )
سابقة دار :
بمعنى " ذو سابقة للخير أو الشر ".
سابقة سالار :
بمعنى " دليل القافلة أو قائد الجيش ، بني الإسلام ".
ساحِل كاه :
بمعنى " ساحل ، شاطئ ".
ساحل نشِين :
بمعنى " الساكن على الشاطئ ".
ساده لوح :
بمعنى " سليم القلب ، أحمق ، أبله " ، أقول : قد يكون الوصف بالحمق أو البله لأنه صافي الضمير .
ساده وضع :
بمعنى " شخص غير متكلف ".
ساعَت ساز :
بمعنى "صانع الساعات أو مصلحها "، و"ساعت شمار " بمعنى " عقرب الساعة"، و " ساعت شِناس " بمعنى " العارف بالساعة والوقت " ، و " ساعت قروش" بمعنى " بائع الساعات " ، و " ساعَتَك" بمعنى " ساعة صغيرة أو فترة قليلة ".
ساكن كردن :
بمعنى " إسكان ، إسكان الحركة ".
سَبَق دادَن :
بمعنى " تعليم ، تدريس ".
سَبُك أسلحة :
بمعنى " خفيف السلاح ".
سَبَكروح :
بمعنى " مسرور ، ضاحك ، بلا تكلّف".
سَبَك عنان :(60/25)
بمعنى " فارس سريع ، سريع السير ".
سَبَك لِقا :
بمعنى " بشوش ، سهل اللقاء ، مطيع ".
ستون فَقرات :
بمعنى " العمود الفقري ".
تعليق : أقول : كأن المركب الفارس نُظِر فيه إلى " العمود الفقري ".
سجده كاه :
بمعنى " محل العبادة ، مكان للسجود".
سجده كزار :
بمعن " ساجد " . و" سجده كزازي " بمعنى " سجود ".
سحر آميز :
بمعنى " جذاب ، ذو سحر ".
سَحَر كاه :
بمعنى " وقت السَّحَر ".
سُخره :
بمعنى"مقهور، مطيع، ضحكة، سخرية ".
تعليق : لقد خلط الفرس في " سخره " بين معناها في العربية وبين السخرية " بمعنى " الاستهتار ".
سُخره كير :
بمعنى " من يُسخِّر الناس للعمل سخرة".
سُخَن فَهم :
بمعنى " أديب ، مفوّه ، سريع الفهم ".
سِدْره نِشين :
بمعنى " الملاك المقرّب ".
تعليق : كأن هذا مستوحى من قوله تعالى " سِدرة المنتهى ".
سَدْ كُشادَن :
بمعنى " فتح السد وإطلاق المياه ".
سَرايَت كردن :
بمعنى " سريان المرض ".
سَرْبَر خط :
بمعنى " مطيع ".
سِرْبوش :
بمعنى " كاتم السِّرّ ".
سَر بشخِدْمت :
بمعنى " رئيس الخدم ".
سَر جُمله :
بمعنى " رأس ، عمدة ، ويكنى به عما هو خلاصة أو منتخب شيء أحسن ".
سَرحال :
بمعنى " مسرور ، نشيط ".
سَرْحد :
بمعنى " حدّ ، طَرَف ". و " سَرْحدْدار" بمعنى " حامي الحدود والثغور ".
سُرخط :
بمعنى " نموذج للخط ".
سَرْد بيان :
بمعنى " غير مرضي كلامه ".
سَرْ غزل :
بمعنى " مقدمة النسيب في الشعر ".
شركحلي :
بمعنى " ما هو أسود ".
سر مَشْق :
بمعنى " ما يكتبه الخطاط نموذجًا للمتعلّمين ".
سَفَر جُسْتن :
بمعنى " سفر ".
سفر دوست :
بمعنى " المحبّ للسفر ".
سِفْلكان :
بمعنى " سفلة ، حقيرون " . و "سِفلكي" بمعنى " حقارة ".
سَقَرَكه :
بمعنى " جهنم ، سَقَر ".
سقوط كردن :
بمعنى " سقوط ، انحطاط أخلاقي ، وقوع المرأة في الفاحشة ".
سَكْرت :
بمعنى " سكرة الموت ".
سِكّه زَدن :(60/26)
بمعنى " شرب النقود ، سك العملة " . و"سكه شناس " بمعنى العارف بالنقود ".
سلاح خانه :
بمعنى"دار السلاح".و"سلاحدار"أو سلحدار " بمعنى"صانع السلاح ومسلح، جندي ".
سلامانه :
بمعنى " ما يدفع من المال للبشرى ". و "سلامت جُوي " بمعنى " السائر في طريق السلامة أو الساعي للصلح و " سلامتكاه " بمعنى " مأمن " . و " سلام وساندن " بمعنى " إبلاغ التحية " و " سلام فرستادن " بمعنى " تسليم ".
سلسلة جُنبان :
بمعنى " محرك السلسلة " ويكنى بها عن
المحرك " أو السبب والوسيلة ".
سلطان زاده :
بمعنى " ابن الملك ". و" سلطنت ران " بمعنى " سلطان " . و" سلطنت طلب : بمعنى " الميال إلى النظام الملكي ".
سَمْياش :
بمعنى " رشاشة السموم والأدوية " . و "سم دار " بمعنى " ذو سم " . و " سم شنا " بمعنى " العارف بالسموم ".
سمعَك :
بمعنى " سماعة الصُم ".
سواد نظام :
بمعنى " الجنود الفرسان ".
سَوْدا بَرَسْت :
بمعنى " مطيع هواه ، ذو خيالات باطلة". وسودا بيمودن " بمعنى " تخيل خاطئ". و "سودا جاي " بمعنى "مكان منفعة أو محل تجاري " . و " سودازده " بمعنى "مجنون".
سَهْل أنكاز :
بمعنى " مهمل ، غير مقيّد ".
سياسَتمدار :
بمعنى " سياسي ".
سياه لون :
بمعنى " أسود اللون ".
سِيَلاب :
بمعنى " انحدار الماء ، سيل ".و"سيلابكند" بمعنى " ما يحدث بسبب السيل من شقوق و سيلابكير " بمعنى "أرض منخفضة يجتمع فيها الماء ". و "سِيَل خِيز " بمعنى " حركة السيل السريعة".
( ش )
شاهد :
بمعنى " محبوب ، معشوق ". و"شاهدوش" بمعنى " حَسَن المحيّا ".
شايع كردن :
بمعنى " انتشار ".
شَجَره نامه :
بمعنى " شجرة النسب ".
شراب انداختن :
بمعنى " سلب الخمرة " . و " شرابخانه " بمعنى " خمّارة " . و " شرابْخوَار " بمعنى "شارب الخمرة " .
تعليق : " يدخل الشراب " في كلمات أخرى مركبة وجملتها ذات صلة بالخمر.
شرافتَمَند :
بمعنى " شريف ، أصيل ".
شَرْ أنكيز :(60/27)
بمعنى " مثير للشر " . و" شر أنكيزه " بمعنى " فتنة أو فساد ".
شرح دادَن :
بمعنى " شرح ، بيان " .
شَرَفياب :
بمعنى " الحاصل على الشَرَف ".
شرق شِناس :
بمعنى " مستشرق " . و " شرق شناسي" بمعنى " استشراق ".
شِرْكَت كُنَنده :
بمعنى " شريك ، مرافق ".
شش جهت :
بمعنى " الجهات الست ".
شَعْبَده باز :
بمعنى " مشعوذ ".
شِعر سراي :
بمعنى " شاعر ".
شُعله خِيز :
بمعنى " ملتهب أو لامع " و " شُعْله زدن" بمعنى " اشتعال " و" شعلة ناك بمعنى " ذو شعلة ". و " شعلة ور " بمعنى " مشتعل".
شَفابَخْش :
بمعنى " الطبيب أو الدواء الشافي" . و "شفاخانه " بمعنى "دار الشفاء".
شفا عَتكر "
بمعنى " الشفيع ".
شفاهي :
بمعنى " شفوي ".
شِكايَت نامه :
بمعنى " ورقة الشكوى ".
شَكَر حرف :
بمعنى " عذوبة الشفاه ".
شِكِسته خاطر ".
بمعنى " مغموم ، مضطرب ".
شكسته مزاج :
بمعنى " ذو مزاج عليل ".
شَمْعدان :
بمعنى " مكان الشمعة ".
شوخ طبع :
بمعنى " مَرِح من يمزح ".
شوريد خاطر :
بمعنى " مجنون ، عاشق ، محزون ".
شَوق أنكيز :
بمعنى " مُشوِّق ".
شُهْرت بَرَس :
بمعنى " محبّ الشهرة ".
شَهِنْشاه فَلَك :
بمعنى " الشمس ".
شَهْوَت أنكيز :
بمعنى " ذو رغبة أو شهوة ".
شِير فَهم كردن :
بمعنى " الإفهام بصعوبة ".
شيوع يافتن :
بمعنى " شيوع ، اشتهار ".
( ص )
صابر شُدَن :
بمعنى " صَبْر ".
صاحب خِرَد :
بمعنى " عاقل ".
صاحب دَرد :
بمعنى " مريض ، مصاب ، مجذوب ".
صاحبدِل :
بمعنى " جريء ، شجاع ".
صاحب سُخَن :
بمعنى " متكلّم ، ناطق ".
صاحِبْقران :
بمعنى : صفة لأي مولود يولد في ليلة اقتران زحل والمشتري .
صاحبي :
بمعنى " نوع من نسيج حريري ، أو ضرب من العنب الأحمر كبير الحبّات".
صادر شُدَن :
بمعنى " صدور ، إرسال ".
صافكار :
بمعنى : " مصلح صفائح السيارات ".
صاف كردن :
بمعنى : " تصفية ، تنقية ، حلاقة الذقن".
صباح كُنان :
بمعنى " ملقي تحية الصباح ".
صُبحانه :(60/28)
بمعنى " طعام الإفطار ".
صُبح جهرة :
بمعنى " أبيض اللون ".
صبح خَنْد :
بمعنى " بشوش ، ذو الضحكة الشبيهة بالصبح ".
صبح خَوان :
بمعنى " بلبل ، أو الطير يغرّد صباحًا ".
صبح دِل :
بمعنى " صافي القلب ، نقي ".
تعليق : اجتزئ بهذا القدر من الكلمات المركبة التي يؤلف " الصبح " جزءً ا منها. ومثل هذا ما من " صبوح ".
صبر آمدَن :
كلمة تقال عندما يعطس أحدهم فيستدعي ذلك التوقف قليلا عما هو فيه من عمل . ومن هذا " صبر داشتن " بمعنى " اصطبار أو احتمال ".
صُحبت آراسْتن :
بمعنى " مجالسة ، مصاحبة " ، وكذلك " صُحبت داشتن ".
صِحّت خانة :
بمعنى " مستشفى " . و " صِحّت مند " بمعنى " صحيح الجسم " . و" صِحّت يافتن " : شفا سلامة ".
صَحرابُر :
بمعنى " طاوي الصحراء ، سريع السير ".
تعليق : أقول : وتدخل " الصحراء " في مركبات عدة .
صَحْنه ساز :
بمعنى " ممثل " .
صَخره كدار :
بمعنى"ثاقب الصخر ، المتجوِّل في البادية".
صَدا دار :
بمعنى " ذو صدى أو ذو صوت " . وكلمة "صدى " العربية تدخل في "مركّبات " عدّة .
صدارت جوي :
بمعنى " طالب المراتب العالية ".
صَدْر نِشين :
بمعنى " المتصدر في المجلس ، أو وزير أو زعيم ".
صَدَف دَهان :
بمعنى " ذو فم كالصدف ، ذو كلام مفيد وجذاب " . وتدخل صَدَف " في جملة " مركبات " أخرى .
صِدق آميز :
بمعنى " مقرون بالصدق " . وتدخل "صدق " في " مركبات " أخرى .
صَدْمه كشيدن :
بمعنى " تحمّل المشقة ".
صُراحي كشيدن :
بمعنى " شرب الخمرة الصراح" . وتدخل " صراحي " في "مركبات " أخرى.
صَرْع دار :
بمعنى " مصروع " . وتدخل " صرع " في غير هذا .
صرف شام :
بمعنى "حفلة العشاء " . وتدخل "صرف" في " مركبات " أخرى . وكذا تدخل " ص وهي " الصفاء " بمركبات عدّة.
صف آرا :
بمعنى " اصطفاف " وتدخل " صف " في غير هذا .
صَفرا بَرْسَرِش زدة :
بمعنى " التحول من الفرح إلى الحزن " . وتدخل " صفرا " في غير هذا .
صِفر كردن :(60/29)
بمعنى " التخلية والتفريغ ".
صَفير خوَاند :
بمعنى " صافر ، مغن " ، وتدخل "صغير"
في غير هذا .
صلاح أنديش :
بمعنى " ذو مصلحة ، صاحب خير " . وتدخل " صلاح " و " صلح " في غير هذا .
وأختم حرف الصاد فأقول :
وجدت في هذا الحرف " صميم ،وصغة، وصنم ، وصواب وصورة ، وصوفي ، وصيد وصيغة " [ بمعنى زواج المتعة] وصيقل ، وغير هذا .
( ض )
أقول : وجدت في هذا الحرف : ضامن وضايع وضبط ، وضخم ، وضرّاب ، وضرب ، وضعيف، وضياء ، وكلها في مركبات لتدل على دلالات فيها شيء من معاني هذه الألفاظ في العربية .
( ط )
وقد وجدت في " الطاء ".
" طاعة ، وطاقة ، وطاق ، وطالع ، وطبع ،وطبق، وطبل ، و" طرّاح " بمعنى " مِعمار،ونقّاش " وطراد وطراز وطربه وطرح،وطرف،وطعام ، وطعنة ، وطفل، وطفيلي،وطلاق وطلاء،وطلب ، وطلوع وطمع،وطهارة ، وطيّ ، وكلها في مركبات مع ألفاظ فارسية .
( ظ )
وقد وجدت في هذا الحرف :
ظالم ، وظل ، وظاهر ، وظرف ، وظفر، وظلمة ، وظُلْم .
( ع )
وقد وجدت في حرف العين :
عابد [ وفيه عابدانه من أبنيتهم بمعنى كالعابد] ، عاجز ، [ عاجلانه ] ، عادة، عارض ، عارف، عارية ، عازم ، عاشق، عاصي ، عاطف ، عافية ، عاقبة، عالَم ، عالِم، عالٍ ، عايق ، عباد، عبارة ، عبرة، عبور ، عبير ، عجب ، عجم ، عجول ، عدالة ، عدل ، عذاب، عذر ، عرّابة ، عربدة ، عرش ، عرض ، عرضة ، عرق، عروس ، عزاء ، عزب ، عزّة ، عزلة ، عزيمة ، عسكر ، عشق ، عش،عشوة ، عصار ، عصب ، عضو، عطاء ، عطر ، عطسة ، عطش ، عقب ، عقد ، عقل ، عقيق ، عقم ، عكس ، علاج ، علاقة ، علامة ، علة ، علق، علف ، علم ، عمد، عمر ، عمل ، عنن، عناية، عنبر ، عود، عورة ، عهد، عيال ، عيب ، عين.
أقول : دخلت هذه الأصول العربية مع لواحق وسوابق فارسية للوصول إلى ما يريد الفرس في خصوصيات دلالية .
( غ )
ووجدت في حرف الغين :(60/30)
غارب ، غارة ، غار ، غاشية ، غاصب، غافل ، غال ، غالب ، غالية ، غايب ، غبار ، غبن ، غدر ، غذاء ، غراب، غرامة ، غرس ، غرض ، غرق ، غُرم ، غرور، غريب، غسل، غصص ، غضب، غفران، غفلة، غلاف،غلام، غلط ، غلّ، غُلّة ، غَلّة ، غليان ،غمم، غنيمة، غَور، غوطة ، غول ، غيب ، غيرة .
أقول : وهذه تدخل مع لواحق وسوابق فيكون منها مركبات مفيدة .
( ف )
ووجدت في هذا الحرف :
فاجر ، فارغ ، فاسد ، فاسق ، فاشٍ ، فاصل ، فاضل ، فال [ بمعنى فأل ] ، فايدة، فتق، فتنة ، فتيلة ، فحص ، فخر، فداء،فراسة، فراش، فراغ ، فراق ، فرح، فضل ، فطير، فقع ، فلان ، فلك، فهم .
( ق )
ووجدت من هذا :
قاب ، قادر ، قبول ، قدّ ، قدح ، قدر ، قدم ، قرار ، قربان ، قصب ، قصص ، قطب ، قطر ، قلم ، قوت ، قول ، قوة، قهر ، قيء.
( ك )
ووجدت في هذا الحرف :
كتاب ، كتف ، كحل ، الكليم .
( ل )
ووجدت في هذا الحرف :
لا أبالي ، لعاب ، لعبة .
( م )
مأتم ، المال ، مجلس ، مخلف ، مرجان.
( ن )
أقول : وفي هذا الحرف ترد كلمات عربية سبقت بسوابق فارسية ، وقد وردت الكلمات العربية في الأحرف المتقدمة مع لواحق فارسية .
نشأة ، نصيحة ، نطاق ، نظم ، نظير ، نعل ، نفس ، نقر ، نكتة .
( و )
وجود ، وجه ، وحشه ، ورق ، وزير ، وعد ، وفاء ، وقائع ، وقت ، وقوف ، وكيل ، ولاية ، ولي .
( هـ )
هواء .
( ي )
ياقوت ، يتيم .
إبراهيم السامرائي
عضو المجمع من العراق(60/31)
السيد الأستاذ الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم :
السادة أعضاء المجمع عاملين ومراسلين
السيدات والسادة :
اجتمعنا اليوم للاحتفال بافتتاح مؤتمر المجمع السنوي للنهوض بالعربية لغة القرآن الخالدة بخلوده . وأقدم باسم المجمع واسمي الشكر الصادق للأستاذ الدكتور حسين كامل بهاء الدين لتفضله بافتتاح مؤتمر المجمع والتنويه بجهوده اللغوية والعلمية . والترحيب بأعضائه الوافدين إليه من البلدان العربية والغربية ، وإني لأحييهم تحية زاخرة بعواطف الحفاوة والترحيب بهم جميعًا من عاملين ومراسلين ، وإن من حقهم علينا أن نشكر لهم هذه التلبية الكريمة لدعوة المؤتمر وإثرائه ببحوثهم العلمية القيمة ، وسيزداد مؤتمر المجمع هذا العام ثراء في بحوثه بمن انضم إليه من الأعضاء الجدد عربا وغربيين وأهنئهم وأهنئ المجمع بهم ، متمنيا لجميع الزملاء الوافدين طيب الإقامة بيننا في بلدهم الثاني مصر .
وقد اتخذ المجمع في هذه الدورة سنة حميدة : أن يفتح أبوابه لندوات الهيئات اللغوية والجمعيات العلمية ليرعاها وليتفاعل معها أخذا وعطاء ، فهي فيه تعرض بحوثها في كثير من القضايا التي تشغل الأمة ، وهي تتعرف على ما أنجزه المجمع من مصطلحات علمية وقرارات لغوية . وكانت أول ندوة لجمعية انعقدت فيه ندوة جمعية لسان العرب التي لم تترك جانبا من جوانب تعليم العربية في مراحل التعليم المختلفة إلا اتسعت بالبحث في تيسيرها به ، مع عرض النواحي التربوية في تعليم العربية وبيان ما ينبغي من وجوه النقص في المعلم وإعداده. ومنذ أيام قليلة أقامت الجمعية المصرية لتعريب العلوم في المجمع ندوة لها عن الأرقام ومكانتها في قضية التعريب ، وألقيت فيها بحوث علمية قيمة صور فيها المحاضرون نقل العرب للأرقام عن الهنود وتطويرهم للعمليات الحسابية ونقل الغرب لها وللأرقام عن العرب .(61/1)
وكانت العلاقات قبل الدورة الحالية انقطعت منذ سنوات طويلة بين المجمع والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم
فأعيدت، وبالمثل كانت انقطعت بين مجمعنا ومجمع بغداد ، فأعيدت ، وشارك في مؤتمرنا الآن - مشكورا - رئيسه الدكتور ناجح الراوي .
وكما فتحت أبواب المجمع لعقد ندوات لجمعيات لغوية وعلمية فيه فتحت أبواب اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية لانضمام الهيئات العلمية في بلداننا العربية إليه ، حتى لا تكون قراراته في توحيد المصطلحات العلمية قاصرة عليه بل تشاركه فيه الهيئات العلمية في الوطن العربي دعمًا لتوحيدها وشيوعها .
وكتب إلىّ الدكتور عبد اللطيف بربيش كاتم سر أكاديمية المملكة المغربية أنها تطلب الانضمام إلى الاتحاد ورحب أعضاء الاتحاد بالأكاديمية آملين أن تقتدي بها الهيئات العلمية في ديارنا العربية ، حتى يصبح للمجامع اللغوية والهيئات العلمية مؤسسة مشتركة تعمل على توحيد لغتنا العلمية ومصطلحاتها في الوطن العربي جميعه . واتخذ اتحاد المجامع قرارًا في العام الماضي بأن تدرس المجامع اللغوية معجم الأحياء والزراعة لمجمع القاهرة في ندوة تعقدها لمناقشة مصطلحاته العلمية ، واقترح الأستاذ الدكتور شاكر الفحام رئيس مجمع دمشق - مشكورًا - أن تعقد الندوة في مجمعه .
ووافق الاتحاد ووزع المعجم على المجامع، وظلت تدرسه أشهرًا . وفي اليوم الثاني من شهر ديسمبر الماضي انعقدت الندوة في مجمع دمشق وحضرها أعلام من جميع المجامع اللغوية ومن الأكاديمية المغربية ومن المنظمة العربية ومن الجامعات السورية . ودارت بالندوة في مصطلحات المعجم مناقشات علمية خصبة ، واتفقت هذه الكوكبة من العلماء الإجلاء على التوصية بأن يتخذ هذا المعجم أساسا لتوحيد المصطلحات في علوم الأحياء والزراعة بالوطن العربي ، وهي أول مرة يصبح فيها للمجمع اللغوي القاهري معجم عربي موحد للمصطلحات العلمية في ديارنا العربية .(61/2)
وموضوع مؤتمرنا هذا العام هو قضية التعريب للعلوم الغربية وتعليمها الجامعي ، وسبق أن عقد مجمعنا لذلك مؤتمرات متعددة ، لأنها قضية خطيرة ، هي قضية مصير الأمة العربية ومكانتها بين الأمم ، فهل تظل تقترض العلوم من الغرب أو يتضافر علماؤها على توطينها في ديارهم بلغتهم العربية مثل جميع الأمم الأوربية مهما كانت صغيرة ، لأنها ترى في ذلك حفاظًا على هويتها وشخصيتها العلمية كما تراه ضروريًا لاستيعاب أبنائها العلوم وتمثلها ، إذ لا يختلف اثنان في أن تعلم أبناء الأمة العلوم باللغة الوطنية التي تعد قوام أفكارهم ووجدانهم يجعلهم يحسنونها ويتقنونها بخلاف تعلمهم لها بلغة أجنبية ، مهما بذلوا من القراءة المتصلة والجهود الشاقة . ومن أكبر الأدلة على ذلك أن الأوربيين أنفسهم حين كانوا يتعلمون العلوم - في عصورهم الوسطى - باللغة اللاتينية ، كما هو معروف ، ظلوا متخلفين علميًا طوال قرون متعاقبة . وهو ما جعلهم حينئذ يطلبونها عند العرب ويكبون على كتبهم العلمية ويتدارسونها في جامعاتهم ، حتى إذا صمموا - مع أوائل العصر الحديث- أن يتعلموا العلوم بلغاتهم الوطنية أتقنوها وأخذوا يقفزون فيها قفزات كبرى متوالية أتاحت لهم نهضتهم العلمية الحديثة .(61/3)
وهو ما نريده لأمتنا العربية في تعلم العلوم الغربية أن نعدل عن تعليمها للشباب العربي بلغة أجنبية حتى لا يكون مثلنا مثل الأمم الغربية في العصور الوسطى حين كانت جميعًا تتعلم العلوم باللغة اللاتينية وظلت فيها متخلفة حتى عدلت عنها إلى لغاتها الوطنية ، وهو ما يمليه الواجب على أساتذة أمتنا في الجامعات أن يعربوا العلوم العربية فيها للشباب العربي مثل ما حدث في سورية الشقيقة، وليس بصحيح ما يقال من أن تعريب التعليم الجامعي سيؤدي بالشباب إلى الضعف في اللغات الأجنبية مما يخاف معه من انغلاقهم، وعدم استطاعتهم مسايرة التيار العلمي العالمي وملاحقته ، ونحن حين ندعو إلى تعريب التعليم الجامعي ندعو معه إلى العمل على إتقان الشباب الجامعي للغة أوربية ، وهي إما الإنجليزية في بعض البلدان العربية وإما الفرنسية ، بحيث يكونون أكثر قدرة من خريجي الجامعات الآن على الاطلاع في مواد تخصصهم على الكتب والدوريات العلمية الأجنبية . وإن مجمعنا ليأمل من مجلس الجامعات الأعلى أن يبادر بتعريب التعليم الجامعي، وأن يتخذ الخطوات الكفيلة بالبدء فيه وتنفيذه، حتى يتحقق للأمة العربية في القرن القادم الحادي والعشرين نهضة علمية عالمية مثل نهضتنا العلمية العالمية التي قادت بها العالم علميًا وحضاريا في القرون الماضية .
وفي ختام كلمتي أشكر - باسم المجمع - السادة الحاضرين جميعا لتفضلهم بمشاركتنا في الاحتفال بافتتاح المؤتمر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شوقي ضيف
رئيس المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الأستاذ الدكتور رئيس مجمع الخالدين ورئيس اتحاد المجامع العربية الذي يسعدني لقاؤه ويظلنى فكره ويرشدني بحثه ويثريني نبله :
الأعضاء الموقرون من المصريين والعرب والمستعربين :
الضيوف المكرمون
السيدات والسادة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(61/4)
إنه لمن دواعي سرورى أن أحظى بهذا اللقاء الكريم،وهو وإن كان على المستوى الرسمي في العام مرة، فإننا نعيش آثاره وثماره طول العام نَجْني من ثمراتِه اليانعة لنا ولأبنائنا في مختلف مدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا ومؤسساتنا التربوية والتعليمية بل وفي مختلف محافلنا في شتى العلوم والفنون والآداب .
السيدات والسادة: ونحن الآن في قلعة الفصحى وآدابها ومع حماتها وأساطين البيان وجهابذة العلوم والفنون في مختلف الفروع فإننا نحس بأننا نسبح في فيض
من نور العلم والمعرفة والمعلومات في عصر العلم والمعرفة والمعلومات والتقدم المذهل في مختلف المجالات فمرحبًا بكم جميعًا ضيوفًا وآل بيت في هذا الحصن العظيم وهذه الساحة الرحيبة لغذاء الفكر والوجدان نرحب بكم في بيتكم ونتمثل بقول الشاعر :
يا ضيفنا لوزرتنا لوجدتنا
... نحن الضيوف وأنت رب المنزلِ السيدات والسادة: إن لغتنا العربية التي وَسِعتْ كتاب الله تعالى لفظًا وغاية وما ضاقت عن آي به وعظات لهى اللغة التي لم تنغلق على نفسها فقد فتحت أبوابها على مصاريعها تستقبل وتستوعب العديد من ألفاظ لغات كثيرة ولهجات كثيرة ولا يضيق صدرها بالعديد من المصطلحات الأجنبية واستخدامها، وهي مزهوة مجلوة بما حشدت لأمتها من كلمات ومعانٍ ومستحدثات فكرية وعلمية وفنية وأدبية على الساحة الإنسانية، كلها فلم تأنف من لفظٍ أو كلمة أو عبارة ليست من أصلها مادامت في النهاية ستكون من ثروتها وفي حوزتها عربية أو معربة، فسلاف عصيرها في النهاية هو العربية الفصحى. لقد امتصت لغتنا العربية ما قدم لها من خلاصة الغذاء من الداخل أو الخارج بعد هضمه فصار دمًا عربيًا فصيحًا يجري في شرايين الفصحى لغة كتاب الله الكريم .(61/5)
السيدات والسادة : وإن كتاب الله الكريم الذي جاء بلسان عربي مبين فشرف هذه اللغة وبلغ بها المدى سموا ورقيا وسيادة. لقد نزل كتاب الله تعالى بهذه اللغة بكل ما استوعبته من كلمات أعجمية هضمتها فصارت عربية تشيع بين العرب وفي كلامهم، وليس معنى هذا أن كتاب الله تعالى أعجمي وعربي، حاشا لله وإنما هو كتاب عربي مبين أما ما دخل العربية من ألفاظ من اللغات الفارسية والحبشية والرومية والهندية والسريانية والعبرانية والنبطية والقبطية والزنجية والتركية والبربرية كما حصرها الإمام السيوطي في كتابه " المتوكلي " فقد عربها العرب قبل الإسلام وقبل نزول القرآن الكريم لقد عربها العرب بألسنتهم واستعملوها في مخاطباتهم وصارت من مفردات لغتهم العربية وكما يقول ابن الخطيب في كتابه " الفرقان " :
" إن القرآن الكريم قد نزل بما تنطق به العرب بألسنتها وتفهمه بعقولها ولم ينزل بما هو شاق عليهم غريب عن أذهانهم "
السيدات والسادة: وعلى سبيل المثال لا الحصر فإنه من الألفاظ الأعجمية التي صارت عربية من الحبشية كلمات: "شطر والجبت والطاغوت والقسورة والأرائك والدُّرِّيّ " .
ومن الفارسية : الإستبرق ومقاليد وأباريق وبيع وكنائس وسندس وسلسبيل والمجوس والياقوت والمرجان .
ومن الرومية:كلمات: الفردوس والقسط والقسطاس والرقيم والصراط والقنطار.
ومن السريانية:جنات عدن والطور وهيت لك والقيوم واليم والأسفارُ أي الكتب والقُمَّل وصلواتٌ .
ومن اللغة العبرية : أخْلَدَ وهُدْنَا ومرقوم وحِطَّةٌ والأسباط ورَاعِنا والقسِّيسُون في قوله تعالى :" ذلك بأن منهم قسّيسِين ".
ومن النّبطية وهي لغة قومٍ من الأعاجم كانوا بالعراق كلمات: الحواريين والملكوت ورهوًا وكان وراءهم مَلِكٌ … وإصْرِى والسَّفَرةِ ولاوزر .
ومن اللغة القبطية: مَناص .. ومُزْجَاة .. فناداها مِنْ تحتِها والجاهلية الأولى
ومن التركية: كلمة غَسَّاق .
ومن الزنجية : حَصَبُ .(61/6)
ومن البربرية:كلمات المُهل والحميم ويُصْهَرُ به .
وهذه كلها على سبيل المثال لا الحصر ولأنها صارت عربية وشاعت وذاعت وأثرت الفصحى فقد حَفَل بها الكتاب الكريم، إشارة منه بأن كتاب الله للإنسانية كلها، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. قال تعالى: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا ". صدق الله العظيم .
السيدات والسادة : إن جهود المجمع في التعريب لمحمودة له ومأثرة من مآثره العظيمة، وإن الجهد المضني الذي يبذله المجمع في إثراء لغتنا القومية وانفتاحه على علوم العالم وآدابه وفنونه ولغاته لهو الأمل المشرق للفكر العربي كله، والنافذة الفسيحة التي نطل منها على العالم أجمع والأمل الذي يحدونا لعبور تلك الفجوة للحاق بركب الحضارة والتقدم وعصر التكنولوجيا الحديثة والمبتكرات والمعلومات .
السيدات والسادة : لنا في كلام الله تعالى وكتابه الكريم أسوةٌ حسنة، فقد جاء مُيَسَّرا ومُيسِّرًا بعيدًا عن حوشي الكلام وتعقيداته من ألفاظ وتراكيب ، جاء معجزة في اليُسر والسهولة على خلافِ ما دَرَج عليه العربُ في الجاهلية قبل الإسلام، جاء يحمل النور والهدى والرشاد بما انطوى عليه من الخير والحق والجمال جاء يفتح الآفاق ويحمل الإشارات لنهضة علمية عربية إسلامية أذهلت العالم كله، وصنعت أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ تقوم على العلم والعدل والحق والحرية والمساواة ، حتى وفد العلماء والأفذاذ من جميع أنحاء العالم لينهلوا من عذب ثقافة الإسلام وحضارته، ولأن اللغة العربية في ذلك الحين كانت لغة العصر والعلم والتقدم والثقافة والحضارة انكب على دراستها طلاب المعرفة في العالم كله ، فقد كان العالم العربيُّ موطن العلم والثقافة بعلمائه ومفكريه وأدبائه وفلاسفته وحكمائه.(61/7)
السيدات والسادة: وإن نظرة متأنية واعية فاحصة لكتاب الله الكريم لتدرك الفرق الكبير بين ألفاظه وعباراته وتراكيبه وألفاظ الجاهلية وعباراتها وتراكيبها وكذلك احتواؤه العديد من الألفاظ العصرية اليسيرة التي تشد القارئ والدارس فيعيها بسهولة ويسر، جاء معجزة السهل الممتنع جاء الكل في واحد.
السيدات والسادة : جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منسجمًا مع كتابه الكريم في سيمفونية رائعة، فيقول صلى الله عليه وسلم " أنا أفصح من نطق بالضاد، ويقول " إن من البيان لسحرًا". وطلب إلى كتاب الوحي أن يتعلموا لغات ولهجات العالم حولهم .
السيدات والسادة : إنه لمن المفيد أن نؤكد - ونحن نطور التعليم - أننا نجعل للغة القرآن الكريم المقام الأول والمكانة الأولى بالرعاية إلى جانب التربية الدينية في مدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا وزيادة الجرعة الدينية الدوائية النقية المصفاة من التطرف والتعصب أو الجنوح إلى اليمين أو اليسار، فنحن أمة وسط وخير أمة أخرجت للناس .
السيدات والسادة : يسعدني أن أعلن من هذا المكان العلمي العظيم أن وزارة التعليم تعمل الآن على تحديث اللغة العربية وتطويرها، وذلك بتيسيرها على الدارسين دون إخلال بقواعدها أو خروج على أهدافها ومراميها، كما أن الوزارة تنظم الآن دورات تدريبية لمدرسي اللغة العربية للتدريب على حسن الاطلاع والإجادة والبحث والتنقيب وتقويم اللسان العربي، واستخراج الكنوز العلمية والفنية والجمالية في لغتنا الجملية كما تعد الوزارة لمزيد من البعثات لمعلمي وموجهي اللغة العربية إلى الخارج وكذلك لبعض الطلاب المجيدين المبدعين.
السيدات والسادة :تعد الوزارة الآن جوائز مالية وأدبية كبرى للفائزين والمبدعين في مسابقات الإبداع اللغوي والأدبي والمسرحي التي تنظمها الوزارة وتنظم مسابقات بين المعلمين والطلاب في مجال الكتابة والقصة والشعر .(61/8)
السيدات والسادة : لقد تقرر أن تحتوي مكتبات الوزارة والمكتبات الأخرى على كُتب التراث العربي بعد تنقيته من الشوائب وتصفيته من المدخولات الضارة أو المغرضة مع تيسيره وتبسيطه، لتكون القراءة للجميع، هذا المشروع القومي العظيم لسيدة مصر السيدة سوزان مبارك قرينة السيد الرئيس ،فهو قلادة العلم والثقافة والأدب والفن التي يتحلى بها الدارسون والقراء .
السيدات والسادة : تُعد الوزارة كذلك لمسابقات يشترك فيها الطلاب والمعلمون والموجهون وقيادات التعليم للكتابة والإبداع مقالات وشعرا وقصة ورواية عن مشروع مصر القومي،مشروع مبارك لإنشاء واد جديد ودلتا جديدة هذا المشروع العظيم غير المسبوق منذ التاريخ بإضافة مصر أخرى بجانب مصر الأولى
تشغل مساحة 25% بدلا من 5% بما يفيض بالخير والنماء والازدهار، ويحقق أملا طالما تمنيناه وتمناه كل المحبين للخير والرخاء في مصر والعالم كله
السيدات والسادة : يسعدني وأنا أختم كلمتي هذه أن أزجي المزيد من الترحيب والتوقير والإجلال لكم جميعًا، وبالدعاء لمصر العظيمة ورئيسها مبارك وشعبها الكريم ولشعوب الأمة العربية والإسلامية وقياداتها الرشيدة .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
حسين كامل بهاء الدين
وزير التعليم
الأستاذ الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم :
الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع :
الأساتذة الزملاء :
أيها السادة :
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ،وبعد
فها هو ذا مؤتمر دورتنا المجمعية الثالثة والستين يجمعنا في رحابه ، وينتظمنا في عِقْده ، وبين يديه حصادٌ مجمعيٌّ تناهز عدته ثلاثة آلاف من المصطلحات العلمية والأدبية والفقهية والفنية ، والقرارات اللغوية ، والموادِّ المعجمية ، أنجزتها لجان المجمع ومجلسه ؛ لينظرها المؤتمر ، ويمنحها شهادة ميلادها اللغويّ !
وإليكم البيان المجمعيّ المعهود في جلستنا الافتتاحية .
المؤتمر السابق :(61/9)
عقد المؤتمر خمس عشرة جلسة ؛ منها خمسٌ علنية : أولاها جلسة افتتاح
المؤتمر ، وخُصصت جلستان منها للتأبين: أَبَّن بعضُ الأشقاء العرب في إحداهما شيخ المجمعيين الراحل المرحوم الأستاذ الدكتور إبراهيم مدكور ، وأبن في الثانية الزميل المرحوم الأستاذ الدكتور عدنان الخطيب الأمين العام لمجمع دمشق ، وألقى كلمة المجمع في تأبينه الزميل الأستاذ الدكتور شاكر الفحام رئيس مجمع دمشق . وخُصِّصَت الجلستان العلنيتان الرابعة والخامسة لمحاضرتين عاميتين : أولاهما لمحاضرة عنوانها " عالمية الإسلام " للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع ، والأخرى لمحاضرة عنوانها " النحو ليس الإعراب ، والإعراب ليس النحو "الأستاذ الدكتور كمال بشر عضو المجمع.
وكانت الجلسات العشر الباقيات مغلقة ، نظر المؤتمر فيها مصطلحات في الفيزيقا ، والطب ، والجيولوجيا ، والكيمياء ، وعلوم الأحياء ، والهندسة ، والرياضيات ، والنفط ، والتربية ، وعلم النفس ، والشريعة ، والفلسفة ، والقانون الدولي العام ، والأدب ، والتاريخ والآثار، والرياضة البدنية .
وأقرَّ المؤتمر ما عُرض عليه من قرارات " لجنة الألفاظ والأساليب " وهي الألفاظ والأساليب التالية :
التَّثْوِير : في مثل قولهم :" تثوير الصناعة " ؛ أي القيام بثورة لإصلاحها، أو بتغييرها تغييرًا جذريًا .
المحسوبية .
التحضير أي تحويل القرية أو الريف إلى حضر .
التخصيصية ، والخَصْخَصة .
ما خال عليه كذا .
يُخايُلُنِي ؛ أي يتراءى في خيالي .
رُتُوش .
مُشاطِئة ؛ في مثل قولهم :" الدولُ المُشاطِئةُ للبحر الأحمر " ؛ أي المُشارِكةُ في الوقوع على شاطئ البحر الأحمر .
عَوْلَمة ؛ أي جَعْلُ الشيء عالميًا .
التّفْعيل ؛ للدلالة على زيادة الفَعّالية .
التَّفْويج : في مثل قولهم : " تفويج الحجاج أو المسافرين " .
التَّقاطُر .
التَقَى زيدٌ عَمْرًا .
خُذْ كذا ، وإلاّ كذا .
أتُريد كذا ، وإلاّ كذا .(61/10)
كما نظر المؤتمر طائفة جديدة من مواد المعجم الكبير ، من " خ ب ع " إلى "خ ذ ى " .
أما البحوث المقدمة إلى المؤتمر من الزملاء الأعضاء فقد بلغت خمسة وعشرين بحثا ، عالج أكثرها موضوع المؤتمر ، وهو " الأعلام الجغرافية العربية " وعقد اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية - خلال المؤتمر - جلسة انتخب فيها الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيسًا للاتحاد ، وإبراهيم الترزي أمينًا عامًّا له ، والأستاذ الدكتور شاكر الفحام والأستاذ الدكتور عبد الكريم خليفة أمينين عامين مساعدين .
وأصدر المؤتمر - في جلسته الختامية - توصيات منها ما يلي :
يُوصي المؤتمر بضرورة الاهتمام بتعليم اللغة العربية من حيث مادتها ومناهجها ،وأساليب تقديمها ، وأوقاتها المخصصة لها ، مع الاهتمام بإعداد المعلم القائم عليها ، ورعايته.
يوصي المؤتمر بتدريس اللغة العربية في جميع الكليات الجامعية، والمعاهد العليا، وأن تكون مادةً أساسية .
يوصي المؤتمر باستعمال الأعلام الجغرافية العربية الأصيلة ، وضبطها ، والنطق بها نطقًا صحيحًا ، في الدوائر التعليمية والإعلامية ، مع العناية بتحقيق ذلك على الخرائط المُعدَّة له .
يؤكد المؤتمر توصياته السابقة بأن يلتزم رجالُ الدولة في العالم العربي اللغة العربية الفصحى في جميع خطبهم وبياناتهم .
يؤكد المؤتمر توصياته السابقة بأن تُسرع الحكومات العربية بإصدار تشريع يَحْظُرُ كتابة اللافتاتِ على المحالِّ التجارية وغيرها بلغاتٍ أجنبية ، أو كتابة أسمائها الأجنبية بحروف عربية.
المجلس واللجان :(61/11)
عقد مجلس المجمع ستًّا وثلاثين جلسة، نظر فيها مصطلحات في الطب، والفيزيقا ، والهندسة ، والرياضيات ، والمعالجة الإلكترونية ، وعلوم الأحياء والزراعة ، والجيولوجيا ، والنفط ، والكيمياء والصيدلة ، والجغرافيا ، والتاريخ والآثار ، والفلسفة ، وأصول الفقه ، والتربية ، وعلم النفس ، واللهجات، والألفاظ والأساليب ، وأصول اللغة ، والأدب ، والموسيقا .
وكل هذه المصطلحات العلمية واللغوية والفقهية ، والأدبية ، والفنية ، والقرارات اللغوية ، ، سينظرها المؤتمر ، مع طائفة جديدة من موادِّ المعجم الكبير. وقد انتخب مجلس المجمع الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائبًا لرئيس المجمع، والأستاذ الدكتور شاكر الفحام عضوًا عاملاً في الكرسيِّ الذي خلا بوفاة المرحوم الأستاذ الدكتور عدنان الخطيب عضو المجمع من سورية . وجَدَّد مجلس المجمع انتخاب إبراهيم الترزي أمينًا عامًّا للمجمع ، واختار تسعة أعضاء مراسلين هم :
الدكتور أحمد بن محمد الضُّبيب ( من السعودية ).
الدكتور محمد بن عبد الرحمن الرُّبَيِّع (من السعودية ) .
الدكتور عبد الوهاب بوحديبة ( من تونس ) .
الدكتور عبد اللطيف بربيش ( من المغرب ) .
الدكتور عباس الجراريّ ( من المغرب)
الدكتور محيي الدين صابر (من السودان) .
الدكتور على فهمي خُشَيْم ( من ليبيا)
الدكتور أكمل الدين إحسان أُغْلِي (من تركيا ) .
الدكتور نيقولا دوبريشان ( من رومانيا ) .
مسابقة إحياء التراث :
فاز بالجائزة الأولى في هذه المسابقة الدكتور عادل سليمان عن تحقيق كتاب " المنتخب في محاسن أشعار العرب " المنسوب للثعالبي ، وفاز بالجائزة الثانية الدكتور محمد جبر الألفي عن تحقيق كتاب "الظاهر في غريب ألفاظ الشافعي".
صلات المجمع الثقافية :(61/12)
عقد اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية ندوة في مجمع دمشق خُصِّصَتْ لنظر " معجم علوم الأحياء " الذي أصدره مجمعنا بالقاهرة للعمل على توحيد المصطلح العلمي ، وقد رأس الندوة الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع ورئيس اتحاد المجامع ، ومثل مجمعنا فيها الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع ومقرر لجنة علوم الأحياء والزراعة ، والأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي عضو المجمع وعضو اللجنة .
وقد ضَيَّفَ مجمعنا ندوتين عُقِدَتا في داره ، تحت رئاسة الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع : أولاهما لجمعية لسان العرب ، والأخرى للجمعية المصرية لتعريب العلوم بُحِثَتْ فيها الأرقام ومكانتها في قضية التعريب ، وقَدَّم الأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي عضو المجمع ورئيس الجمعية مذكرةً إلى مجلس المجمع بشأن عرض الموضوع على المؤتمر، ووافق المجلس على ذلك ؛ للأهمية البالغة لهذا الموضوع ، الذي اختلفت بشأنه الآراء والمواقف ، في مشرق عالمنا العربيّ ومغربه ، حيث نستخدم نحن في المشرق أرقامنا المعهودة، ويستخدم أشقاؤنا في المغرب الأرقام التي يستخدمها الغربيون ، باعتبارها الأرقام العربية الأصيلة !
أيها السادة :
لقد ازدادت مَجَرَّتنا المجمعية تألقًا هذا العام ؛ بفوز الأستاذ الدكتور بدوي طبانة عضو المجمع بجائزة الدولة التقديرية في الآداب ، وباختيار الأستاذ الدكتور عطية عاشور عضوًا بمجلس اليونسكو الاستشاري للعلوم، للتخطيط للعلم في القرن الحادي والعشرين .
أيها السادة :
إن أكثر القضايا اللغوية ، والعلمية ، والأدبية ، والفنية ، ، التي تزدحم بها ساحة البحث ، وتشغل الناس ، قضايا تنشأ عن طبيعة عصرها ، وتطور مجتمعاتها وبيئاتها ، فهي قضايا تولد ، ثم تيفع ، ثم تشيخ ، لتحل محلها قضايا أخرى تنتمي إلى عصرها الجديد ، وما يعتري مجتمعاتها وبيئاتها من تطورات ومشكلات .(61/13)
ولكن هناك قضايا أخرى لا تنتمي إلى عصر ، أو مجتمع ، أو بيئة ، لأنها قضايا ولدت مع الإنسان ، وسوف تظل باقية ما بقي الإنسان !
وفي طليعة هذه القضايا " قضية التبادل اللغويّ " ؛ وهي قضية موغلة في القِدَم ، ولكنها - مع ذلك - لا تُدركها شيخوخة؛فقديمها جديد، وجديدها قديم!
ومن هذه القضايا في وطننا العربيّ " قضية التعريب " .
ونقول لمن يتوجسون منه ، ويشيحون عنه ، ويعدونه ماسا بكرامة لغتنا العربية: إن التعريب لدينا قديم قديم ، وهو عام يشمل اللغة وغيرها ، وسيظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فالتبادل اللغوي وغير اللغوي تفرضه طبيعة الحياة!
فمنذ وجد الإنسان على الأرض أخذ يستخدم اللغة وسيلة للتفاهم والتعايش ؛ ولغة الإنسان هنا – بمفهومها العام – ليست مقصورة على الكلمات ؛ فهي تشمل الإشارات والحركات وغيرها من وسائل التعبير والتفاهم ، فللفرح ، والغضب ، والترحيب ، والإعراض ، وغير ذلك ، لغاتٌ من الإشارات والحركات ، مشفوعةٌ بالكلمات ، ومجردة من الكلمات .
وكما قال شاعرنا " أحمد شوقي " :
وتَعَطَّلَتْ لغةُ الكلام .. وخاطبتْ
... عَيْنَيَّ في لغة الهوى عَيْناكِ
بل إن الشاعر " محمد إقبال " - في حكمته الصوفية - يرى الألفاظ شَرَكًا يمسك بتلابيب حكمته ، فيقول (بترجمة الدكتور عبد الوهاب عزام ) :
لا يُقِيم الحكيمُ في شَرَكِ الَّلفْظِ
... ولا بالحروف كان حَفِيّا(61/14)
وإذا كانت الشعوب تتبادل لغة الكلمات فإنها كذلك تتبادل لغة الإشارات والحركات ؛ وقد عربنا نحن العديد منها في عصرنا الحديث ، وإذا كان العرب قد عرَّبوا الكثير عن الغربيين فإن هؤلاء أيضًا قد غرَّبوا الكثير عن العرب ؛ وبخاصة في العصور الوسطى حين كانت الحضارة العربية الإسلامية قدوة لكل الحضارات ، وكانت لغتنا العربية سَيِّدةَ اللغات ، بل إن علومًا كاملة غربها الأوربيون عن العرب ؛ كعلم الجبر ، كما غَرَّبوا الكثير الكثير من مصطلحات العلوم والآداب والفنون .
ومن العجب العجاب أن بعض المصطلحات العربية التي غُرِّبتْ ، ثم شاعتْ لدى الغَرْب ، ينقلها بعضنا ، ثم يأخذون في تعريبها باعتبارها مصطلحات غربية ، ولم يدركوا - كما قلت في كلمة سابقة - أن تحت قبعات هذه المصطلحات عمائم عربية !
وهكذا نرى أن"التعريب" و"التغريب" من الظواهر اللغوية الصحية،للغتنا ولغات الغربيين ، وأن هذا التبادل اللغويّ الشائع بين اللغات أمر فطري ، تقتضيه طبيعة اللغات ؛ فإذا انعزل شعبٌ بلغته عن سائر الشعوب المتحضرة فإنه يظلُّ بدائيًّا مُتَخلِّفًا في أدغال لغته ومجاهلها ! فالتواصلُ اللغويُّ يُحقِّق التقدم والازدهار الحضاريَّ ، وبخاصة في المجال العلميّ ، فالعلم بطبيعته عالميّ ، والنظريات العلمية بلا وطن ولا جنسية ، وإذا لم يتنفَّس العلمُ في أجواءٍ عالمية اختنقتْ أنفاسه ، وأدركه الضُّمُورُ والذبولُ والجمود !
وقد زاد من إتاحة الأجواء العالمية للعلم ذلك التقدم الباهر لوسائل الاتصال، عَبْرَ القارّات ، وأجواز الفضاء، الذي تحقق بفضل العلم ؛ فهو منه،وإليه!
ولهذا كلِّه صار التعريبُ ضَرْبة لازب ، وضرورة علمية وحضارية ، ولغتنا العربية تزداد به حيوية وقوة ، وثراء وعطاء .(61/15)
والتعريب في لغتنا العربية يضرب بجذوره إلى نشأتها ، وشواهده ناطقة في الأدب الجاهليّ ، وفي القرآن الكريم الذي صارت المُعَرَّباتُ فيه عربية ؛ وكذلك في الحديث النبويّ الشريف .
وقد كان الشعراءُ يستملحون المُعرَّبات ، فأكثروا منها في أشعارهم مُسْتَطْرِفين مُسْتَظْرفين :
فالجولان السوريَّة مُعَرَّبة - ردَّ الله غُربتها وحَرَّرها - ورد ذكْرُها في قول مِلْحةَ الجَرْمِيّ :
كأنَّ قُرادَىْ زَوْرِه طَبَعَتْهما
... بِطِينٍ من الجَوْلانِ كُتّابُ أعجمِ وإسرائيل معربة،وفيها لغات،منها إسرال، وإسرائين ( بالنون ) ، ومن طريف ما يُرْوَى بشأنها أن أعرابيًّا صاد ضَبًّا في باديته ، ومضى به إلى السوق ، فلمّا رآه أهل السوق ضحكوا هازئين قائلين : هذا الضَّبُّ ممّا مُسخ من بني إسرائيل فأخذ الأعرابيُّ يصيح منشدًا :
يقول أهلُ السوقِ لمّا جِينا :
هذا ورَبِّ البيتِ إسرائينا
والطَّيْلَسانُ معرب ، وقد أنشد فيه عالمُ النحو واللغة " ثعلب " :
كُلُّهُمْ مُبْتَكرٌ لِشانِهْ
كاعِمُ لَحْيَيْه بطيلسانِهْ
وآخَرٌ يَزِفُّ في أعوانهْ
فإن تلقَّاك بقَيروانهْ
أو خِفتَ بعضَ الجور من سلطانهْ
فاسجدْ لِقرد السَّوء في زمانهْ
والفُجْلُ معرب، ومعروف أن أكلَه يُؤدِّي إلى التَّجشُّؤ؛ فقال شاعر يهجو رجلاً :
أَشْبَهُ شيءٍ بجُشاءِ الفُجْلِ
ثِقْلاً على ثِقْلٍ ، وأيُّ ثِقْلِ !
والبَهْرَجُ وهو الرَّدِيءُ من الدراهم ، مُعرَّب ، وأصلُه " نَبَهْرَج " ، وقد عرَّبه العربُ وذاعَ بينهم ، وأنشد فيه اللِّحيانيُّ قولَ الشاعر :
قالت سُلَيْمَى قولةً تحرُّجا :
يا شيخُ، لابد لنا أن نَحجُجا
قد حَجَّ هذا العامَ مَنْ تَحَرَّجا
فابْتَغْ لنا جَمّالَ صِدْقٍ فالنَّجَا
لا تُعْطِه زَيْفًا ولا نَبهْرَجا(61/16)
وقد عرَّب العربُ الكثير من صنوف الحلوى ، وأشهرُها " الفالوذج " ويقال له :" الفالوذ " ، وهو معرب " بالوده " وقد لَهِجَ به الشعراء ، من ذلك قولُ شاعر يهجو أحدَ الأمراء البخلاء :
أميرٌ يأكلُ الفالوذً سِرًّا
... ويُطْعِمُ ضَيْفَه خُبْزَ الشَّعِير
وأعْلَى الألقابِ الجامعية مُعَرَّب ، وهو لقبُ " أستاذ " ، وقد شاع بين أصحاب الحِرَفِ بلفظ " أُسْطَى " .
والدستور أبو القوانين لفظه مُعَرَّب .
وكذلك " البازار " بمعنى السُّوق ، وقد ورد في قول شاعر يطلب توليته على ساحل " البَحْرَيْن " :
فوَلِّني ساحلَ البَحْرَيْن أَجْلُبُه
... بسُوقِ سَعْدِكَ بازارًا بلا ثَمَنِ
هذه أمثلة قليلة مما يشيع من المعرَّبات في شعرنا العربي .
وقد سُمِّيَ الجِنّ والإنس بأسماء معربة؛ فإبليس رأسُ الشياطين وشيخُ الكَفَرةِ الفَجَرةِ معرَّب ، وإن حاول بعضُ اللغويين نسبته إلى العربية ؛ فجعله مشتقًّا من " أَبْلَسَ يُبْلِسُ " بمعنى يئس ؛ لأن إبليس يئس من رحمة الله تعالى .
والفرزدق الشاعر المشهور اسمُه معرب ، ومعناه الرغيف الذي يسقط في التَّنُّور ، أو فُتاتُ الخُبز وقِطَعُ العجين .
بل إنَّ اسمَ أشهر نُحاةِ العربية " سيبويه " معرب ، ومعناه " رائحة التُّفّاح " ، وباسمه سُمِّيَ كثير، منهم " سيبويه المصريُّ" وهو من أَنْبَهِ الأدباء الظرفاء في الدولة الإخشيديَّة .
أيها السادة :
لقد شُغل المجمع بقضية التعريب منذ دورته المجمعية الأولى عام أربعة وثلاثين ، وأصدر بشأنه قرارًا يُجيز الأخذَ به عند الضرورة ، وأخذ أعضاء المجمع يُتابعون النظر فيه دورةً بعد دورة ، وأصدروا بشأنه قراراتٍ تُحدِّد نهجَه ، وتضع ضوابطَه ، وأجازوه على غير أوزان العرب المعهودة ؛ للحاجة المُلِحَّة إلى الأخذ به ، والتوسع فيه ، حتى تُلاحِقَ العربية هذه الحشود الهائلة من مصطلحات العلوم في عصرنا الحديث ، الحافل بالمستحدثات والمخترعات ، في مختلف المجالات .(61/17)
وآخرُ الجهود المجمعية في هذا السبيل تأليفُ لجنة تضع منهجًا لإعداد المصطلح العلمي العربي ، المُعرَّبِ وغير المعرب ، مقررُها الأستاذ الدكتور محمود مختار ، وأعضاؤها : الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائبُ رئيس المجمع ، والأساتذة الأعضاء : الدكتور أبو شادي الروبي ، والدكتور أحمد مدحت إسلام ، والدكتور سيد رمضان هدارة ، والدكتور عبد الحافظ حلمي ، والدكتور عبد الرازق عبد الفتاح ، والدكتور عطية عاشور، والدكتور محمد يوسف حسن .
وقد أرست اللجنة قواعد أساسية لوضع المصطلح العلمي وتعريفه وأصدرت توصيات عالج بعضها تعريب المصطلحات ، وقد أقر المجلس والمؤتمر عمل اللجنة ، ووزع مطبوعه على المجامع، والجامعات ، ومراكز البحوث العلمية ، والباحثين ، للإفادة منه في توحيد المصطلح العلمي العربي .
وقد عُنِيَ المجمع بموضوع التعريب في مدلوله الآخر ؛ الذي يَعْنِي تعريب العلم والتعليم ؛ فقد عالج قضيته في مؤتمرات مجمعية عديدة ، وتلاحقتْ فيه بحوثُ أعضائه ، داعية إليه ، واضعة أسسه وقواعده ، حتى يتحقق لأمتنا العربية أملُها المنشودُ في تعريب العلم والتعليم .
وها هو ذا مجمعنا يعاود بحثه في هذا المؤتمر .
أيها السادة :
أشكر لكم سعيكم الكريم إلى شهود حفل افتتاح المؤتمر ، وأخُصُّ بالشكر زملاءنا الوافدين ، من عرب ومستعربين.
وأقول لوزيرنا العزيز :
لقد تكررتْ مناشدتي بالعمل على استصداركم التشريع المنشود ، الذي يحظر اتخاذ الأسماء الأجنبية ، وكتابتها بحروف عربية ، على المحالِّ التجارية والشركاتِ وغيرها .
وآمُلُ ألاَّ أقف منكم في مؤتمرنا القادم موقفَ المُناشدةِ والرجاء ، بل موقف الشكر والثناء ، بعون الله تعالى وتوفيقه .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
إبراهيم الترزي
الأمين العام لمجمع اللغة العربية
بسم الله الرحمن الرحيم
معالي الأستاذ والزميل العزيز الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم :(61/18)
سيدي الأستاذ الدكتور الرئيس شوقي ضيف :
السادة الزملاء الأعزاء :
السيدات الفُضليات :
لقد شعرت بالسعادة الكبرى تغمرني وأنا أتكلم باسم سائر زملائي المنتسبين للمجمع عربًا ومستعربين ومستشرقين . أتكلم باسمهم لأقدِّمَ الشكر إلى (مصر) التي تستضيف هذا اللقاء الكبير .
(مصر)هذه الكلمة التي نجدها أمام عيوننا كلما فتحنا أي كتاب في أي موقع كان، عبقرية شامخة متعالية برجالها الأفذاذ وقادتها عبر التاريخ .
وأرى من المناسب أن أردِّد هنا ذلك التعبير القديم الذي أورده عن مصر ابنُ بطوطة الرحالةُ المغربيُّ الشهير عندما قال: "إن كوكب تعديلها لا يبرح عن منزل السعد ". لقد وجدنا مصر في الأرشيفات الأوربية والآسيوية والإفريقية . في كل
جهات الدنيا هناك حضور لمصر على مختلف الأصعدة في شتى المجالات والحقول.
وأنا أتحدث باسم المجمع لابد لي أن أشيد بهذه المَعْلمةِ الحضارية الكبرى التي تحتفي منذ أكثر من ستين سنة برعاية حقول معرفية بارزة تشع على سائر أجزاء العالم العربي .
وأعترف أمامكم أنني في كل دورة أحضرها أزداد اطلاعًا وخِبرة.
السيد الوزير - السيد الرئيس :
أشعر - وأنا أتحدث باسم السادة الحاضرين - أنَّ عليَّ دَينًا مطوقا به وأنا في المغرب أن أذكر ما يربط بعضنا بعضا من علاقات على الصعيد الثنائي .
فلقد ظل المغرب على صلة مستمرة بمصر منذ العصور القديمة على مستوى السفراء وعلى صعيد العلماء والقادة .
ونعرف كثيرًا عن ( رواق المغاربة ) في الأزهر الشريف، ونقول لكم اليوم:إن ما تتخذه مصر من قرارات على صعيد اللغة العربية نجد صداه في مختلف الجهات العربية ومنها المغرب . ومن هنا فإن ما يربط مصر وبالمغرب يضرب في جذور التاريخ .
وأذكر بهذه المناسبة أن اللسان ما يزال رطبًا بذكر الرئيس الجليل فخامة السيد حسني مبارك لأخيه جلالة الملك الحسن الثاني في المغرب تلك الزيارة التي خلدتها سائر أجهزة الإعلام .(61/19)
وما نزال نتذكر جلالة الملك وهو يخلع على أخيه فخامة الرئيس البرنوص المغربي الأخضر، تعبيرًا عن التقدير والحب والإكبار .
السيد الوزير
باسم الحاضرين أرجو أن ألتمس منكم أن ترفعوا لفخامة الرئيس الجليل شكرنا على استضافة مصر وأريحية مصر هذه القاعدة وهذه المدينة التي تُذكرني ببيت للشاعر العربي المعاصر سلطان عويس :
كَأنَّهَا جَنَّةٌ في الأرْضِ قَدْ وضِعَتْ
قَدْ أنْزَلُوهَا مِنَ الفِرْدَوْسِ وانْصَرَفُوا
وكل الأمل أن يبارك الله خطوات مصر راعية للعلم حافظة للفكر .
وفي الختام أُجَدِّدُ الشكر على تشريفكم لي وحسن إصغائكم .
عبد الهادي التازي
عضو المجمع من المغرب
تَنَفَّس مَشْرِقُهَا المبْتَسِمْ
... وطَارَ بها فَوْق شُمِّ القِمَمْ
صَبَاحٌ نَدِيٌّ يَهزُّ النُّفُوس
... يُضِيءُ البِطاحَ ويعلُو الأَكَمْ
تسامَتْ لِتُعلِي الصُّروحَ الأُباةُ
... ومَن وَرِثُوا عالياتِ الهِمَمْ
أبَتْ أنْ تَلِينَ لغَيرِ الشُّمُو
... خِ لتُجلَى بِه دَاجياتُ الظُّلَمْ
وأبناؤها في مجالِ الصُّمودِ
... غَطارِفةٌ زُيِّنُوا بِالشَّمَم
لهم أبدًا مَوْضِعٌ لا يُنَالُ
... لِغَيرِ الأمَاجِدِ أهْلِ الذِّمَمْ
وقَد مَهَّدُوا سُبُلَ المعجِزَاتِ
... لِفكْر الكُماةِ حُماةِ القَلَمْ
فَلِلَّهِ ما بَذَلُوا مِنْ جُهُودٍ
... وَلله ما رَفَعُوا مِنْ عَلَمْ
هي (الضَّادُ) مَرْحَى لِمَا أَبْدَعَتْ
... وَمَا أطلقت مِنْ عِنَانِ الكَلِمْ
عَلتْ فَوْقَ هامِ القُرون الفِسَاحِ
... وأزَرتْ بِكل صُروفِ القِدَمْ
تَبَاهَى بِهَا العَرَبُ الأَكْرمُونَ
... مَدَى دَهْرِهِمْ واسْتَنارَ العَجَمْ
وَعَمَّ نَدَاها أقاصِي البَسيـ
... ـطةِ غَنَّى بآلائِها كلُّ فَمْ
وتَوَّجَها اللهُ سَامِى الجَلالِ
... بِقُرآنِهِ رَبِّ كُلِّ الحِكَمْ
فكانَتْ إطارًا لآياتِه
... وكانتْ مَنَارًا لِهَدْي الأمَمْ
وكانتْ لِسان النُّهى العَبْقَرِيَّ
... يَبُثُّ الحياةَ ويَشْفِي السَّقَمْ !(61/20)
فأَعْظِمْ بها نَفْحةً للسُّموِّ
... وأَكْرِمْ بِهَا مِشْعلا يَضْطَرِمْ !
* ... * ... *
دِيارَ البطولاتِ يا أمُةً
... تحلَّتْ بِكلّ عريقِ الشِّيَمْ
تَداعَتْ عَلينا جُمُوعُ الطُّغاةِ
... وجَمْعُهُم مِن غُثَاءِ الرِّمَمْ
وَأَنْصَارُهُمْ شَرُّ من يُرتَجَى
... لِدَرْءِ الظُّلاماتِ مِمَّن ظَلَمْ
وَلكنَّهُ الحَقُّ أقْوى يَدٍ
... وَأصْلَبُ إنْ جَارَ بَغْيٌ وعَمّْ
سَينْتَصِرُ الحَقُّ مَهْما جَنَوا
... وَيَنْدحِرُ الباطِلُ المُنُهزِمْ
* ... * ... *
بني العُرْبِ والجَمْرُ مِلءُ القُلُوبِ
... ودُنيا العُروبَةِ ثَأْرٌ، ودَمْ
وأكبادُنا تكْتَوي بالجِراحِ
... يَسحُّ بها القَهْرُ سَحَّ الدِّيَمْ
عَلامَ تَخاذُلُنا ، والأذَى
... يُعربِدُ في دارِنا والأَلَمْ
وشَرُّ ( يَهُوذَا ) مُحِيقٌ بِنَا
... وَأَفْعالُه تَسْتَبيحُ الحُرَمْ
سلامٌ على(القُدْس)مسرى(الرسول)
... ومَهْدِ (النُّبوَّاتِ ) تِرْبِ الحَرَمْ
سلامٌ على(القُدْسِ)هَلْ أصْبَحَتْ
... مَنَاراتُه مَسْرحَ المجترم
ومَن يَسْتَهِينُ بردِّ الحقوقِ
... ليستوطنِ الأرْضَ حُرَّ القَدَمْ
وليس يُبالِي بِنُصْحِ النَّصِيحِ
... ولا يستجيبُ لِمَدْحٍ ، وَذَمّْ
تَبَنَّى انتكاث عُهودِ السلامِ
... فما عَهْدُهُ غَيرُ مَا يَجْتَرِمْ
نُنادِيه بالعَدْلِ لكِنَّهُ
... عَنِ العَدْلِ والحَقِّ بادِي الصَّمَمْ
وفي كُلِّ يَوْمٍ لَهُ وَطْأةٌ
... يَصُبُّ بِهَا صَاعِقَاتِ الحُمَمْ
يَؤُجُّ بـ (لُبنانَ) نارَ الجَبَانِ
... ويَصْرَعُ أبْنَاءَ ه كَالغَنَمْ
فَما مِنْ صِدَامٍ يَصُدُّ العِنَادَ
... ولا مِنْ ( رشيدٍ ) ولا (مُعْتَصِمْ)
وَمَا مِنْ (صَلاحٍ )بشيرِ البِلادِ
... بسَاح الفِدَاءِ يُزيحُ التُّهَمْ
فَكُلُّ سِلاحٍ لنا الاحْتِجَاجْ
... لَدَى المهدِرِين جَمالَ الْقِيَمْ
وَهَلْ يَستَجِيبُ رَدِيءُ الفِعَالِ
... لِيُرجِعَ مِنْ حَقِّنَا المُهْتَضَمْ؟(61/21)
يَثُوبُ إِلىَ الرُّشْدِ في فِعْلِهِ
... وَيَنْأَى بِه عَنْ جُمُودِ الصَّنَمْ
غُرورٌ ، وَمَصْرَعُهُ مُوبِقٌ
... وَحُلْمٌ سَيُودِي بمَنْ قَدْ حَلِمْ
فإنْ لم نَرُدَّ أذَى كَيْدِهِ
... مَعًا سَنَعُضُّ بَنَانَ النَّدَمْ
فَضُمُّوا الصُّفُوفَ بِعزْمِ الرِّجالِ
... ورُدُّوا مآسِيَهُ بالقَسَمْ
وَإِنْ أَوْفَضَتْ خَيْلُنَا للجِهَادِ
... سَيَنْصُرُنا الله نصرًا أَتَمّْ
وأبطالُ يَعْرُبَ مهما نَسُوْا
... فَهُمْ والدٌ وأخٌ ، وابنُ عَمّْ
* ... * ... *
دَرَاكِ فَكَمْ فُرْصَةٍ إنْ نَأَتْ
... أطَاحَتْ بِكُلِّ شَرِيفِ العِظَمْ
وأعْقَبَتِ الحسراتِ الكبارَ
... وحَطَّمَتِ الرُّوحَ حَتَّى العَدَمْ
* ... * ... *
إِلىَ مَجْمَعِ (الضَّادِ) شُدَّ الرِّحَالَ
... لِتلْقَى الجَنَى، مُسْتَفِيضَ النِّعَمْ
وتَلْقَى الجَهابِذَةَ المصْطَفَيْنَ
... هُمُ العالِمونَ ، أُسُودُ الأَجَمْ
حُماةُ حِمَى الضَّادِ ناديهمو
... تشعُّ بِهِ نَفَحاتُ الكَرَمْ
ومَا مِنْهُمُو غيرُ فَذِّ الطِّمَاحِ
... بدُنْيا الثقافةِ فردٌ عَلَمْ
أفاضُوا الذخائر في حِكْمةٍ
... وَلمَْ يَسْتَجِيبُوا لِدَاعِي السَّأَمْ
سَيَجْزيهُمُوا اللهُ خَيْرَ الثَّوابِ
... لمِا بَذَلُوا حَالِيًا كالنَّغَمْ !
حسن عبد الله القرشي
عضو المجمع المراسل
من المملكة العربية السعودية(61/22)
معنى التعريب في فكرنا اللغوي القديم وضوابطه ، وصور منه*
للأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الله رفيدة
أولا : ضرورة توافُر الصحة اللغوية والوضوح في المعرَّب :
التعريب موضوع مهم في فكرنا اللغوي القديم ، فقد اهتم به هذا الفكر منذ أول كتاب وضع فيه ، وهو كتاب سيبويه العظيم ، وكل ما كُتِب فيه من بعده وفي طريقته وضوابطه الأساسية ومنهاج العرب فيه، مبني على ما جاء فيه ومؤسَّس على أصوله التي أصَّلها، ووصف به واقعة في لغة العرب ، إذ ما جاء في الكتاب هو وصف دقيق لطريقتهم أو منهاجهم في التعريب ، وهو في الوقت نفسه تحديد وبيان لما يجب أن يكون عليه التعريب من الالتزام بنظام العربية في نطق الكلمات، وما تتركب
منه من حروف، وما يجب أن يتّسم به من مواءمةٍ للذوق العربي السليم ، وما يجب أن يعتاده، ويقدم له من الأبنية والأساليب الفصيحة،حتى إن الكلمات العربية الخالصة العروبية يشترط علماء البلاغة لفصاحتها وتقبل الذوق السليم لها ثلاثة شروط أساسية تجعلها مقبولة فيه ، خفيفة على الألسنة ، متداولة بين الناس ، مفهومة منهم ، وهذه الشروط الثلاثة معروفة في مقدمات (1) كتب علوم البلاغة العربية، وهي – باختصار وتصرف :
أ- السلامة من تنافر الحروف الذي يكون بالتقارب الشديد في مخارجها أو تباعدها فيه، بحيث تكون الكلمة ثقيلة على اللسان
يعسر النطق بها ، والحكم في ذلك للذوق السليم المتمرِّس بنظام الفصحى وأساليبها، فما مجَّه هذا الذوق وعدَّه ثقيلا عسير النطق ، فهو متنافر ثقيل سواء أكان متقارب الحروف أم متباعدها ، أم غير ذلك مما قد تكون صيغته أو تركيبة حروفه غير مألوفة في اللسان العربي .
ب- السلامة من مخالفة الوضع اللغوي، وهي أن تكون الكلمة مخالفة لمقاييس العربية وما سنَّه العرب في بناء كلماتها ، وما استنبطه علماء النحو والصرف منها من الأصول والقواعد لقياس كلام المولدين عليها، سواء أكانت الكلمة مفرة أم جمعًا .(62/1)
ج- السلامة من الغرابة ، وهي أن تكون الكلمة وحشية غير ظاهرة الدلالة على المعنى الموضوعة له لعدم تداولها في لغة العرب الخلص، فيُحتاج في معرفتها إلى بحث وتنقيب طويلين في معاجم اللغة إذ لا يذكرها إلا القليل من اللغويين ، أو لعدم استعمالها – عند العرب الفصحاء - بالمعنى الذي استعملت فيه أو أريد منها ، فيحتاج إلى تخريجها على وجه بعيد أو تأويل غريب .
شروط الكلام الفصيح :
وكما يشترط في الكلمة المفردة هذه الشروط فإن ثمة شروطًا في الكلام المركب ليكون فصيحًا وذلك بأن يسلم مما يلي :
أ- من ضعف التأليف ، وهو الخروج عن قواعد اللغو والنحو المطَّردة في تركيب الكلام وصياغة الأساليب .
ب- ومن تنافر الكلمات، بحيث لا يكون اتصال بعضها ببعض مما يسبب ثقلها على السمع وصعوبة أدائها باللسان .
ج_ ومن التعقيد بقسميه: التعقيد اللفظي ، وهو أن يكون الكلام خفيّ الدلالة على المعنى المراد بسبب سوء تركيبه وترتيب كلماته، بالمخالفة لقواعد النحو ونظم الكلام الفصيح .
والتعقيد المعنوي، الذي يتمثل في استعمال المتكلم أو الكاتب الكلمة أو الكلمات في غير معانيها الحقيقية أو غير معانيها الموضوعة لها .
إن تحقيق هذه الشروط أمر ضروري أو أمر مهم؛ للحصول على أسلوب علمي صحيح الكلمات والتراكيب ، واضح الأداء والمعاني ، إذ لا يُطْلَب في هذا الأسلوب سوى الصحة والوضوح .
وإذا كان هذا في الكلمات العربية والأصل والكلام المركب منها، فإن منهج العرب في التعريب يُؤذِن بأنهم كانوا حريصين أشد الحرص على تذويب المعرب في لغتهم وصبغه بصبغتها، وطبعه بطابع أساليبها وصياغة كلماتها إذا ما اضطروا إلى الاقتراض اللغوي ، وهو أمر واقع لا ريب فيه ، ويرجع ذلك إلى عاملين رئيسَيْن : عامل الاتصال والاختلاط بالأعاجم ، وعامل الحاجة إلى أخذ أشياء غير معروفة في المجتمع العربي ، فتدخل العربية بأسمائها الأعجمية ، فإذا انقضى زمن عليها تدخل في ضمن اللسان العربي حتى(62/2)
ليخيل إلى من لا يعرف أصلها أنها
عربية الأصل والنجار (1) .
وهذا هو منهج القرآن الكريم في التعريب ، حتى أنكر كثير من العلماء أن فيه شيئًا منه، مع قول بعض الصحابة والتابعين وكثير من العلماء بوجوده فيه ، فقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام – توفيقًا بين الرأيين: " وكلاهما مصيب إن شاء الله تعالى ، وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل ، فقال أولئك على الأصل،ثم لفظت به العرب على ألسنتها فعربته فصار عربيّا بتعريبها إياه فهي عربية في هذه الحال " (2).
وهذا المنهج هو الذي يجب أن يتبع وأن نسعى لتحقيقه خصوصًا في هذا العصر الذي اتسعت فيه ميادين التعريب فشملت الألفاظ والأساليب وأصنافًا من العلوم، والثقافات، والمصطلحات، والمفاهيم الحضارية، والإنسانية مما يؤثر في الألسنة والعقول
والسلوك ، فإذا لم نخضعه لمناهج تفكيرنا اللغوي والعقلي، فإنه يكون خطرًا على مستقبل أبنائنا وأجيالنا العربية الإسلامية ، وعلى لغتنا العربية الفصيحة الموحدة .
ضرورة علوم العربية للمعرّب :(62/3)
ثم إنه لا شك أن علم اللغة بمعناه القديم عند علمائنا اللغويين ضروري جدًّا لمعرفة الكلمات الفصيحة المروية عند العرب المتضمنة لمقاييسها، التي يجب أن تُبنى عليها كلمات الناس المقيسة ، فهو علم الرواية : رواية كلام العرب وجمعه في المعاجم والتمييز بينه وبين الكلام غير المروي عنهم، مثل المعرب والدخيل أو المستعمل في معان لم تضع العرب الكلمات لها ؛ ولذا نجد العلامة الأستاذ نصر الهوريني في تقديمه للقاموس المحيط يعرِّفه بقوله :" وأما حد الفن – علم اللغة- فهو علم يبحث فيه عن مفردات الألفاظ الموضوعة من حيث دلالتها على معانيها بالمطابقة " – ويقول: وقد علم بذلك أن موضوع علم اللغة المفرد الحقيقي ، ولذلك حدَّه بعض المحققين فقال :" وعلم اللغة هو علم الأوضاع الشخصية للمفردات"،ويقول:"وغايته الاحتراز عن الخطأ في حقائق الموضوعات اللغوية والتمييز بينها وبين المجازات والمنقولات العرفية"، قال بعض المحققين:" معرفة مفردات اللغة نصف العلم؛ لأن كل علم تتوقف إفادته واستفادته عليها ".
فهو علم مهم في التعريب وإمداد المعرب بما يحتاج إليه من الكلمات العربية الفصيحة ، ومصادر هذا العلم المقروءة: القرآن الكريم ، وكلام العرب الفصيح – شعرًا ونثرًا – في الجاهلية وصدر الإسلام، ثم أساليب العلماء والفصحاء وتراثهم الفكري،- وكذلك – علم الصرف، فهو العلم الذي يختص بالجانب القياسي من اللغة، فيحلل كلماتها، ويصوغ القوانين والقواعد الكلية لصياغة الكلمات وبيان موازينها، ومعرفة ذواتها في أنفسها من غير تركيب ، وبه يمكن تحويل الكلمة إلى أبنية مختلفة لضروب من المعاني لا تحصل إلا بذلك التحويل ، فهو علم الاشتقاق القياسي الذي يعتبر أكبر وسيلة للتوسع اللغوي السليم، وإكثار مواد اللغة وتشعيب، كلماتها، وإدخال غير العربي في دائرة المقاييس والأوزان العربية، وإعطائه الصبغة العربية .(62/4)
ويضاف إلى ذلك علوم الأساليب والتراكيب: علم النحو ، وعلم المعاني ، وغيرهما من العلوم العربية المساعدة ، فهي ضرورية لتحقيق الأسلوب الصحيح الذي سبق لنا وصفه إلى جانب كثرة الاطلاع والتمرس بالأساليب الفصيحة .
ومعرفة اللغة أو اللغات المعرَّب عنها اللفظ معرفة دقيقة عميقة ، ومعرفة معنى اللفظ المعرب معرفة دقيقة، إن التعريب أصبح عملاً علميًا متخصصًا وواقعًا حيويًّا ضروريًّا ولغويًّا معقدًا في طرفيه: اللغة الأجنبية المأخوذ منها، واللغة العربية الآخذة، فلابد من إتقانهما أو التعاون بين المتخصصين في كل واحدة منهما، كما هو حاصل في المجمع ، لأنه قد يكون من الصعب على الشخص الواحد التعمق فيهما، والجمع بينهما جمعًا متساويًا أو متقاربًا قويًّ، فوق أن المعرب أصبح أغلبه كلمات وأساليب وموضوعات علمية متخصصة لا يعرفها معرفة دقيقة إلا المتخصصون فيها .
التعريب فصاحة وبيان :(62/5)
ما أسلفته في هذه المقدمة لبحثي حاولت أن أثبت به أن التعري يجب أن يتوافر فيه أمران : الصحة اللغوية، ووضوح الدلالة : دلالة المفرد والأسلوب أو الكلمة والكلام ، وهو أقل ما يجب في الأسلوب العلمي، عندما يكون عربيًّا محضًا وكلماته عربية محضة ، فيجب أن يطبق ذلك في الكلمات والأساليب الدخيلة؛ لأنها إدخال لخلايا غريبة في جسم اللغة العربية، فلابد أن تكون موائمة له صالحة للانصهار فيه والذوبان في هيكله ونظام فصاحته ، ولعل مما يزكي هذه النظرة تسميته بالإعراب والتعريب، وهما بمعنى واحد يعنيان الفصاحة والإبانة والوضوح ، قال ابن منظور(1) :" وقال أبو عبيد : إنما هو يعرَّب بالتشديد ، يقال : عرَّبْتُ عن القوم إذا تكلمت عنهم ، واحتججت لهم،وقيل:إن أعرب بمعنى عرّب " ، وقال الأزهري(2) :" الإعراب والتعريب معناهما واحد وهو الإبانة ، يقال : أعرب عنه لسانه وعرّب أي أبان وأفصح ، وأعرب عن الرجل : بيَّن عنه، وعرَّب عنه: تكلم بحجته "، ويقول شهاب الدين أحمد الخفاجي: "واعلم أن التعريب نقل اللفظ من العجمة إلى العربية ، والمشهور فيه التعريب وسماه سيبويه وغيره إعرابًا وهو إمام العربية فيقال حينئذ معرّب ومُعْرَبٌ " (3) .
ثانيا : المعرب في كتاب سيبويه :
هذا وإني لألمح في صنيع سيبويه– وهو أول المتحدثين عن التعريب من علماء العربية والقدوة لغيره فيه – لألمح أنه يدخله في علم الصرف، ومباحث أمثلة الكلم العربية، وأوزانها الواردة عن العرب من الأسماء والصفات غير المعتلة والمعتلة ، وما قيس من المعتل الذي لا يتكلمون به ولم يجئ في كلامهم إلا نظيره من غير بابه "،وهو الذي يسميه النحويون التصريف والفعل" (4)، يسميه النحويون لعهده هذا الاسم ويحصرونه في مباحث قليلة تتعلق بالتمرين على إيجاد كلمات على أوزان ما بنت العرب من كلمات، ثم إجراء ما تجريه العرب في كلماتها المعتلة من تغيير في الكلمات المقيسة عليها،وكانوا يرون أن التصريف جزء(62/6)
من النحو. يقول العلامة رضي الدين الأستراباذي في شرح الشافية (1) : " واعلم أن التصريف من أجزاء النحو بلا خلاف من أهل الصناعة، والتصريف على ما حكى سيبويه عنهم : هو أن تبني من الكلمة بناء لم تبنه العرب على وزن، ثم تعمل في البناء الذي بنيته ما يقتضيه قياس كلامهم - كما يتبين في مسائل التمرين – إن شاء الله تعالى"، ولكن المتأخرين من النحاة انتهوا إلى أن التصريف تشمل مباحثه كل ما يتعلق بالكلمة العربية المفردة من الجانب القياسي في اللغة – كما سبق أن ذكرت - وبذلك أصبح هذا العلم كثير الأصول محددة المباحث والأبواب قسيما للنحو لا قسما (2) منه .
في إطار نظرة سيبويه السابقة للتصريف وهو أنه وسيلة للبناء والتغيير ، ذكر الإعراب أو التعريب
فعنونه بقوله:" هذا باب ما أعرب من الأعجمية(3) " ثم قال :" اعلمْ أنهم مما يُغيرون من الحروف الأعجمية ما ليس من حروفهم ألبتة " (4) وهذا الصنيع يشعر أن تغيير اللفظ الأجنبي أو الأعجمي الذي فيه حروف غير عربية أمر لابد منه ولا محيد ، وهو لا يفترض هذا الحكم افتراضًا ، وإنما يصف واقعًا لغويًّا كان عليه العرب ، وجاءت في إطاره كلماتهم المعربة ، فهو يدمج التعريب فيما بنت العرب من الأسماء والصفات والأفعال ، ويبدأ حديثه عنه بالتغيير ، تغيير الحروف الأعجمية بحروف عربية مناسبة ، وهذا يوحي بأن تغيير الكلمة المعربة أمر مبدئي وتصرف مرغوب فيه ، وهو يستدعي النظر إليها من ناحيتين:
الناحية الأولى: من حيث بنية الكلمة وحروفها المركبة منها ، فإذا كان فيها بعض الحروف الذي لا يوجد له نظير(62/7)
في العربية فإنهم يوجبون إبعاده واستبدال حرف عربي به قريب منه يؤدي معناه مثل الحرف الذي بين الجيم والكاف في اللغة الفارسية فإنه ينطق ويكتب جيمًا عربية خالصة ، وقد يجعل قافًا أو كافاً ، وهو إبدال ضروري لابد منه ، يقول سيبويه : اعلم أنهم ( أي العرب ) مما يغيرون من الحروف الأعجمية ما ليس من حروفهم ألبتة " (1)، ثم يعقد بابًا آخر لتفصيل هذا الإجمال بعنوان " هذا باب اطراد الإبدال في الفارسية"،(2) وهو واضح الدلالة على وجوب التغيير في الكلمة المعربة إذا كان فيها ما يوجب التغيير في نوع الحروف أو الصبغة والوزن، ومن أقواله في هذا الباب قوله : "يبدلون من الحرف الذي بين الكاف والجيم الجيم لقربها منها ولم يكن من إبدالها بدٌ ؛ لأنها
ليست من حروفهم وذلك نحو الجربز(3)والأجر(4) والجورب(5) "، وقوله: " وربما أبدلوا القاف (أي جعلوها بدل الحرف المذكور؛ لأنها قريبة أيضا، قال بعضهم : " قربز "، وقالوا: " كربق وقُرْبَق "، ومثل الهاء التي تكون في أواخر الكلمات الشبيهة بهاء السكت العربية في مثل كُوسَهْ (6) ومُوزهْ (7) فإنهم يبدلونها جيمًا أيضًا، قال سيبويه : " يبدلون مكان آخر الحرف الذي لا يثبت في كلامهم – إذا وصلوا – الجيم ، وذلك نحو كُوسَه ومُوزَه ، لأن هذه الحروف تُبْدَل وتحذف في كلام الفرس – همزة مرة وياء مرة أخرى، فلما كان هذا الآخر لا يشبه أواخر كلامهم صار بمنزلة حرف ليس من حروفهم ، وأبدلوا الجيم ؛ لأن الجيم قريبة من الياء ، وهي من حروف البدل،والهاء قد
تشبه الياء ، ولأن الياء قد تقع آخره ، فلما كان كذلك أبدلوها من الكاف، وجعلوا الجيم أولى؛ لأنها قد أبدلت من الحرف الأعجمي الذي بين الكاف والجيم فكانوا عليها أمضى "، وأضاف :" وربما أدخلت القاف عليها كما أدخلت عليها في الأول فأشرك بينهما، وقال بعضهم : "كُوسَق "، وقالوا : كربق ، وقالوا : قُرْبَق ".(62/8)
ومثل الحرف الذي بين الباء والفاء، فإنهم يبدلونه فاء وربما أبدلوه باء ، يقول سيبويه : " ويبدلون من الحرف الذي بين الباء والفاء الفاء نحو الفِرِند(1) ، والفندق (2) ، وربما أبدلوا الباء لأنهما قريبتان جميعا ، قال بعضهم : البِرِنْد (1) ".
ويختم سيبويه كلامه بقاعدة كلية موجبة شاملة وهي قوله :" فالبدل مطرد في كل حرف ليس من حروفهم يبدل منه ما قرب منه من
حروف الأعجمية ".
ومثل تغيير الحرف الذي ليس من حروفهم، تغييرُهم حركات الكلمة التي ليست من حركات كلماتهم ، قال سيبويه : " ومثل ذلك تغييرهم الحركة التي في زَوْرَ وأَشوبْ فيقولون: زُورٌ وأشوبٌ ، وهو التخليط؛ لأن هذا ليس من كلامهم " .
زور وأشوب جعلهما الجواليقي مثالاً لما أبدل العرب حركته ، وقد شُكلت الأولى في الكتاب بفتح الزاي وسكون الواو والراء ، ورُسمت الثانية بعلامة مد الهمزة قبل التعريب ثم شُكلت الأولى بالضم ، والثانية بهمزة غير ممدودة. وقال الدكتور محمد حسن عبد العزيز :" وفسَّره الشيخ طاهر الجزائري بقوله : و " زُور " بالضم بمعنى القوة معرب من زور بضمة مشوبة بالفتحة فأبدلت فيه هذه الضمة بضمة خالصة، وهذا الإبدال لازم لعدم وجود الضمة
المشوبة في العربية المشهورة (1) "
قد يبدل الحرف العربي في الكلمة المعربة وليس بواجب ، وأما الحرف الذي هو من حروف العرب، فإنه لا يطرد ولا يجب، يقول سيبويه :" وأما ما لا يطرد فيه البدل فالحرف الذي هو من حروف العرب نحو سين سراويل وعين إسماعيل أبدلوا للتغيير الذي قد لزم ( أي : لزم بدخول الكلمة في العربية ) كما يأتي في الناحية الثانية، فغيروه لما ذكرت من التشبيه بالإضافة (أي النسبة) فأبدلوا (سين سراويل) من الشين نحوها في الهمس والانسلال من بين الثنايا، وأبدلوا من الهمزة العين؛ لأنها أشبه الحروف بالهمزة (2)، وقالوا: قفشليل، فأتبعوا الآخر الأول لقربه في العدد لا في المخرج".(62/9)
الناحية الثانية: من حيث وزن الكلمة وهيئتها من الملاحظ أن العرب كثيرًا ما يغيرون أوزان الكلمات التي يدخلونها في لغتهم، ويحرصون أشد الحرص أن يكون وزنها سائغًا في أذواق أبناء العربية مقبولاً في أوزانها ، ولكنهم قد يقبلون إبقاء الكلمة على وزنها الأول وتركيبها إذا كان يشبه وزنًا من أوزان العربية مركباً من حروف مقبولة فيها .
ولذلك نستطيع أن نجعل ما ذكره سيبويه من صيغ المعرب عند العرب ثلاثة أقسام ، وقد بدأ حديثه عنها بقوله (3) : " فربما ألحقوه ببناء كلامهم، وربما لم يلحقوه " ، ثم ثنَّى بتفصيلها فقال :
أ- فأما ما ألحقوه ببناء كلامهم فدِرْهَم (1) ألحقوه ببناء هِجْرع ،
وبهْرج(2) ألحقوه بسَلْهَب وديِنَار(3) ألحقوه بدِيَماس ودِيبَاج(4) ألحقوه كذلك .
وقالوا: إسحاق(5) فألحقوه بإعصار، ويعقوب(6) فألحقوه بيربوع، وجَورب(7) فألحقوه بفوعل، وقالوا : آجور(8) فألحقوه بعاقول ، وقالوا : شبارق(9) فألحقوه بعُذافر،ورستاق(10) ألحقوه بقِرطاس،ولما أرادوا أن يعربوه ألحقوه ببناء كلامهم كما يلحقون الحروف بالحروف العربية".
فهذا القسم تصرفوا فيه،وألحقوا كل بناء منه ببناء من أبنية كلامهم وأوزانه، ولم يتركوا فيه حرفًا من غير حروفهم.
ب- القسم الثاني ما غيروه عن وضعه الأعجمي وبنائه قبل التعريب، ولكنهم لم يلحقوه إلحاقًا كاملاً بأوزان الكلمات العربية وأحكام صيغها وأنواع التصرف فيها بالاشتقاق والتحويل، والذي حملهم على تغييرها أن الكلمة الأعجمية أو غير العربية، يحتم دخولها العربية،(62/10)
بتعريبها، إبدال حروفها غير العربية حروفًا عربية – كما سبق – فحملهم تغيير الحروف على تغيير الحركات، كما يغيرون بنية الكلمة العربية وحركاتها فى الإضافة:أى نسبة الشيء إلى غيره، وربما حذفوا بعض حروف الكلمة المعربة كما يحذفون في هذه النسبة، ويزيدون حروف الكلمة فيما يبلغون به البناء وما لا يبلغون به بناءهم : (أي ما يلحقونه بأبنية كلماتهم وما لم يلحقوه) ، قال سيبويه في هذا القسم : " وربما غيروا حاله عن حاله في الأعجمية مع إلحاقهم بالعربية غير الحروف العربية فأبدلوا مكان الحرف الذي هو للعرب
عربيًّا غيره ، وغيروا الحركة، وأبدلوا مكان الزيادة ولا يبلغون به بناء كلامهم؛ لأنه أعجمي الأصل ، فلا تبلغ قوته عندهم إلى أن يبلغ بناءهم، وإنما دعاهم ذلك أن الأعجمية يغيرها دخولها العربية بإبدال حروفها ، فحملهم هذا التعبير على أن أبدلوا وغيروا الحركة، كما يغيرون في الإضافة (أي:النسبة) إذا قالوا:هنيّ نحو زباني(1) وثقفي(2)، وربما حذفوا كما يحذفون في الإضافة، ويزيدون كما يزيدون فيما يبلغون به البناء،وما لا يبلغون به بناءهم، وذلك نحو آجر(3) وإبرَيْسَم(4) وإسماعيل(5) وسراويل(6) وفيروز(7) والقهرمان (8) ".
" قد فعلوا ذا بما ألحق ببنائهم وما لا يلحق من التغيير والزيادة والحذف لما يلزمه من التغيير ".
ومن هذا النص ندرك أن تغيير الكلمة المعربة عند إدخالها العربية أمر مألوف وواقع في منهج التعريب العربي، وهو يكاد يكون عامًّا في كل الكلمات المعربة، شاملاً للحروف غير العربية حرفاً عربيا آخر ، والحروف الواقعة في مواقع الزيادة ، وقد يزيدون في الكلمة المعربة حرفًا أو أكثر ، وقد يحذفون بعض حروفها ما يحذفون من الكلمة العربية المنسوبة ، كما يشمل هذا التغيير حركات الكلمة وطريقة تشكيلها .
ودخول الكلمة الأعجمية في العربية يحمل على ذلك كله ويقتضيه وهو(62/11)
ما يحمله سيبويه في قوله :" وقد فعلوا ذا بما ألحق ببنائهم وما لم يلحق من التغيير والإبدال والزيادة والحذف لما يلزمه من التغيير ".
ج- القسم الثالث في كلام سيبويه – من المعرَّب هو ما لم يغيروا بناءه الذي كان له في لغته الأولى قبل التعريب بشرط أن تكون حروفه عربية خالية من غيرها ، قال سيبويه: " وربما تركوا الاسم على حاله، إذا كانت حروفه من حروفهم (حروف العرب) كان على بنائهم أو لم يكن، نحو خراسان(1)، وخرَّم (2)، والكُرْكُم (3).
وربما غيروا الحرف الذي ليس من حروفهم، ولم يغيروه عن بنائه في الفارسية نحو فرند(4) وبقَّمْ (5)، وآجر(6) وجربز (7) ".
هذا وقد ختم سيبويه الباب الثاني من باب الإعراب أوالتعريب السابق ذكرهما وتفصيل ما فيهما بقوله :" فهذه حال الأعجمية، فعلى هذا فوجهها " (1)
هذه هي أقسام المعرب، وأحكام بنيتها، وحروفها. ومنهج العرب في التعريب كما يصف ذلك كله ويحدده سيبويه في كتابه الخالد، وهو ما نجده في كتب النحاة الذين اهتموا بذكر المعرب من بعد سيبويه ، فقد تبعوه ولم يخرجوا عما ذكره ، وإن كان بعضهم قد زاده تفصيلاً واستخرج بعض الأحكام والضوابط التي لا نجدها واضحة في كتاب سيبويه .
وسيأتي بعض الحديث عن التعريب ومنهجه في المعاجم اللغوية .
ثالثا:المعرب لأبي منصور الجواليقي:
هذا الكتاب مهم جدًّا، وأحسن ما عرف من كتب المعرَّب إلى الآن ، وقد زاد حسنًا، وارتقت قيمته وصحةُ نصوصه بتحقيق الأستاذ الكبير أحمد
محمد شاكر – رحمه الله تعالى – إياه ، وقد رأيت أن أقدِّم – هنا – ما ذكره الجواليقي فيه في هذا الموضوع الذي فصَّله سيبويه، لأنه في الموضوع نفسه، وإجمال لما ذكره سيبويه ، ثم تفصيل له بالتطبيق والأمثلة التي سبق كثير منها ، وقد ذكره الجواليقي بعنوان " باب معرفة مذاهب العرب في استعمال الأعجمي " ، قال تحت هذا العنوان :(62/12)
" اعلم أنهم كثيرًا ما يجترئون على تغيير الأسماء الأعجمية إذا استعملوها ، فيبدلون الحروف التي ليست من حروفهم إلى أقربها مخرجًا، وربما أبدلوا ما بعد مخرجه أيضًا ، والإبدال لازم لئلا يدخلوا في كلامهم ما ليس من حروفهم ، وربما غيروا البناء من الكلام الفارسي إلى أبنية العرب ، وهذا التغيير يكون بإبدال حرف من حرف، أو زيادة حرف، أو نقصان حرف، أو إبدال حركة بحركة، أو إسكان متحرك، أو تحريك ساكن ، وربما تركوا الحرف على حاله لم يغيروه"(1).
إنه إجمال لما فصَّله سيبويه وتوضيح لبعض نصوصه، مما يجعل كلام سيبويه بيانًا لمنهج العرب في التعريب ولمذاهبهم فيه ، وأنه الأصل والمصدر الذي استقى منه كل الكاتبين في التعريب من بعده.
ثم إنه من المعلوم أن أبا منصور الجواليقي قد جمع في كتابه هذا كلَّ ما وصل إليه علمه منه ، وقال في مقدمته : "وهذا كتاب نذكر فيه ما تكلمت به العرب من الكلام الأعجمي ونطق به القرآن المجيد ، وورد في أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين ، وذكرته العرب في أشعارهم وأخبارهم ليعرف الدخيل من الصريح ، ففي معرفة ذلك فائدة جليلة ، وهي أن يحترس المشتق فلا
يجعل شيئًا من لغة العرب لشيء من لغة العجم ".
وقد رتبه على حروف المعجم مراعيًا الحرف الأول فقط من الكلمات المعربة التي ذكرها .
رابعا : المعرب في بعض كتب النحو الأخرى :
لم أر في أكثر كتب النحو المتداولة اهتمامًا بذكر المعرب وأحكامه ، ولكننى أذكر كتابين من كتب النحو المشهورة ومصادره الممتازة ، اهتم مؤلفاهما بذكره على اختلاف في المنهج والمقدار وهما:
أ- "الأصول في النحو"(2) للإمام أبي بكر بن السراج النحوي المتوفي سنة (316هـ).
ومن المعروف المؤكد أن هذا الكتاب مبني على كتاب سيبويه وأصوله، فهو ترتيب لمسائله،وتوضيح للغامض منه، وتحديد لقواعد النحو(62/13)
والتعاريف والأقسام فيه، مع اجتهاد مؤلفه وإضافته الكثير من آراء النحاة الآخرين البصريين والكوفيين ، ومما يظهر فيه اعتماده على سيبويه ما ذكره في المعرب، فهو اختصار وتوضيح لما في الكتاب : بابي التعريب السابق والتفصيل السابق لهما ، قال ابن السراج : " باب أبنية ما أعرب من الأعجمية " ، " الكلام الأعجمي يخالف العربي في اللفظ كثيرًا ، ومخالفته على ضربين : أحدهما مخالفة البناء ، والآخر مخالفة الحروف .
فأما ما خالف حروفه حروف العرب ، فإن العرب تبدله بحروفها ولا تنطق بسواها، وأما البناء فإنه يجيء على ضربين : أحدهما : قد بنته العرب بناء كلامها وغيَّرته كما غيرت الحروف التي ليست من حروفها ، ومنه ما تكلمت به بأبنية غير أبنيتها، وربما غيَّروا الحرف العربي بحرف غيره؛ لأن الأصل أعجمي" (1).
ثم فصل هذا الإجمال بعض
التفصيل بأسلوب نقي واضح وبأمثلة من الكلمات المعربة، كلها من أمثلة سيبويه وقد تقدَّمتْ .
ب – الثاني :" ارتشاف الضرب من لسان العرب " للإمام أبي حيان الأندلسي المتوفى سنة ( 745هـ) ، ونرى في هذا الكتاب اهتمامًا واضحًا بالمعرب ، فقد تعرض له في موضعين من هذا الكتاب – فيما أعلم – هما :
الأول بعنوان :" فصل الأسماء الأعجمية " ، ذكره في ضمن أحكام وأقسام أبنية الأسماء المجردة والمزيدة ، وما ذكره في هذا الفصل هو تلخيص وتحديد لما ذكره سيبويه، وسبق تفصيله .
قال أبو حيان :" صنَّف أبو منصور الجواليقي فيها( في الأسماء الأعجمية) كتابًا حسنًا ، ودلائل العجمة مذكورة في بابِ ما لا ينصرف ، والأسماء الأعجمية على ثلاثة أقسام : قسم غيرته العرب وألحقته بكلامها، فحكم أبنيته في اعتبار الأصلي والزائد والوزن حكم أبنية الأٍسماء العربية الوضع مثل دِرهم وبَهْرَج.
وقسم غيرته ولم تلحقه بأبنية كلامها ولا يعتبر فيه ما يعتبر في القسم الذي قبله نحو آجر وإبرَيْسَم .
وقسم تركوه غير مغير .(62/14)
فما لم يلحقوه بأبنية كلامها لم يعدَّ منها وما ألحق عدَّ منها ، مثال الأول: خُراسان لا يثبت به فُعالان ، ومثال الثاني : خُرَّم (1) ألحق بسُلَّم، وكُركُم ألحق بقُمقُم "(2) .
والحكم الواضح الذي استفدناه من هذا التقسيم الموجز الواضح أن المعرَّب الذي ألحقته العرب بأبنيتها يعتبر منها وتجري عليه أحكامها في اعتبار الأصلي والزائد والوزن ، والأمثلة كلها تقدمت في أمثلة سيبويه.
خامسًا : ما يعرف به الأعجمي الدخيل في العربية :
الموضع الثاني الذي تعرض فيه أبو حيان للمعرّب هو " باب ما لا ينصرف " كما ذكر هو نفسه في الموضع الأول .
وقد ذكر في هذا الموضع (3) العلامات اللفظية التي يعرف اللفظ الأجنبيّ المعرب بها أو ما سماه هو "دلائل العجمة " ، ذكرها في الارتشاف(4) مختصرة في الباب المذكور ، ونقلها الإمام السيوطي في المزهر (5) من شرحه الكبير للتسهيل: " تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد " لابن مالك ، وعنونها بقوله :" فصل قال أئمة العربية تعرف عجمة الاسم بوجوه"، وهي بتصرف وإضافة للشرح:
أ-النقل ، بأن ينقل أحد أئمة اللغة العربية أن كلمة مستعملة في اللسان العربي هي معربة منقولة من لغة أخرى، وهو دليل قوي معتبر في مصادرنا ومعاجمنا اللغوية ، وهي ملأى بنقول أئمة العربية الصحيحة ، من أمثال أبي بكر بن دريد المتوفى سنة (321هـ) ، وأبي منصور الأزهري المتوفى سنة (370هـ) ، وإسماعيل بن حماد الجوهري المتوفى على كثير من الكلمات التي يذكر بعضهم أنها معربة، ويجعلها آخر غير عربية محضة، أو هذا يفسرها بتفسير، وذاك يفسرها بتفسير آخر مثل كلمة البُخت والبُختية–بضم الباء فيهما- قال صاحب اللسان (1) :" البُخت والبُختية : دخيل في العربية أعجمي معرب وهي الإبل الخراسانية .. وبعضهم يقول: إن البخت عربي
وينشد لابن قيس الرُّقَيّات :
يَهَبُ الألفَ والخيولَ ويسْقي
... لبن البُخْتِ في قِصاع الخَلَنْجْ"(62/15)
والذي قال: إنها عربية هو ابن دريد في الجمهرة(2)، قال : " والبُخت جمع بختيّ عربي صحيح " ، ولكنه جعل البَخت بفتح الباء معربا فقال : " والبَخت فارسي معرب ، وقد تكلمت به العرب وهو بخت الجد " : أي الحظ ، وهذا النص نقله صاحب اللسان (3) وأضاف إليه قوله: " قال الأزهري : لا أدبي أعربي هو أم لا ؟ ورجل بخيت : ذو جد ، قال ابن دريد: ولا أحسبها فصيحة".
ومع ملاحظة ما قد يكون في هذه النقول من الأحكام الناقصة أو المستعجلة مما يقوله (4) المتعمقون في الدراسات اللغوية الحديثة واللغات، التي كانت تنقص كثيرًا من الأئمة
السابقين والمتخصصين في اللغة العربية في العصر الحديث .
ثم إن هذا الدليل أصبح دليلاً تاريخيًّا يفيد في الحكم على الكلمات التي عربت في الماضي في الجاهلية وصدر الإسلام من اللغات التي احتكت بها العربية في ذلك العصر وهي لغات معينة على رأسها الفارسية .
ب-الدليل الثاني خروج اللفظ المعرب عن أوزان الأسماء العربية نحو إبْرَيْسَم - فإنه لا يوجد لهذا الاسم نظير عربي يشاركه في الوزن ، ومثل خراسان فإنه لا يثبت به فعالان كما سبق ، ومثل بقم فإن وزنها " فعل " بتشديد العين لا يوجد في الأسماء العربية إلا نادرًا، ولذا قال ابن منظور(1) :" فثبت أن فعَّل ليس في أصول أسمائهم،وإنما يختص بالفعل ".
ج-الثالث أن يكون أوله نونًا ثم راء نحو نرجِس، فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية ، وفي نرجس يقول الجوهري (2):" نرجس معرب والنون زائدة لأنه ليس في الكلام فَعْلِل ، وفي الكلام: نَفعِل " أي: فِعْل، وفي تاج العروس للزبيدي جدال في إثبات عربية الكلمات التالية "نرز" (3) و"نرس" (4)و"نرش" (5)، فقد قيل: إنها معربة لوجود الراء بعد النون في أولها.(62/16)
د-الرابع أن يكون آخره زايًا بعد دال نحو مهندز فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية وقال الجواليقي(6) : " وليس في كلامهم زاي بعد دال إلا دخيل من ذلك " الهندار" والمهندز، وأبدلوا الزاي سينا فقالوا :"المهندس".
هـ- أن يجتمع في الكلمة الصاد والجيم مثل الصولجان والجصّ ، وفي الجصّ يقول صاحب اللسان(7) :
" الجصُّ والجص معروف الذي يطلى به وهو معرب، قال ابن دريد:هو الجصُّ ولم يقل الجَصّ (بفتح الجيم )، وليس الجص بعربي وهو من كلام العجم ".
و-السادس أن يجتمع في الكلمة الجيم والقاف نحو المنجنيق ، وفي هذا يقول الجوهري= (1) :" الجيم والقاف لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب إلا أن يكون معربًا أو حكاية صوت نحو " الجردقة " وهي الرغيف و " الجرموق " الذي يلبس فوق الخف و " الجرامقة " قوم بالموصل أصلهم من العجم و " الجوسق " : القصر و "جِلِّق" بالتشديد وكسر الجيم واللام موضع بالشام و "الجُوالق " وعاء، والجمع الجوالق بالفتح – والجواليق أيضًا ".
ز-السابع أن يكون اللفظ خماسيًّا أو رباعيًّا عاريًا من حروف الذلاقة، وهي " الباء والراء والفاء واللام والميم
والنون" ، فإنه متى كان عربيًّا فلابد أن يكون فيه شيء منها نحو سفرجل وفرزدق وجعفر وجوهر .
هذه أدلة معرفة اللفظ الأعجمي في تراثنا اللغوي ومعاجمه ، قدمناها مشروحة مفصَّلة بخلاف ما ذكرت عليه في المصدرين السابقين (2).
سادسًا : المعرب وتعريفه في المعاجم اللغوية:
المعاجم اللغوية هي المصادر الأولى للمعرب الذي عربته العرب الفصحاء ، وللمولد الذي دخل اللغة العربية من بعدهم ، فهي التي جُمِع فيها كلام العرب الفصيح وفُرِّق فيها بين العربي الأصيل والمعرب والدخيل، وكتب المعرب التي جمعت المعرب وخصصت له- مثل معرب الجواليقي – أكبر شاهد على ذلك فأكثر ما فيها منسوب إلى مؤلفي هذه المعاجم أو منقول منها،وكذلك ما قدمناه في هذا البحث من تفسير وتوثيق للكلمات(62/17)
المعربة المذكورة في كتب النحو ، ومن بيان لأدلة معرفة المعرب إنما كان بالرجوع إليها والاعتماد عليها ، وقد علمنا أن الدليل الأول منها هو نقل أئمة اللغة الذي سُجِّل في هذه المعاجم والمرجع إليها فيه .
ويصدق هذا القول على كل معاجمنا المعتمدة المتداولة ، مثل جمهرة اللغة لابن دريد ، وتهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري ، والصحاح لإسماعيل الجوهري – وغيرها .
فالجمهرة – مثلاً – يعتبر من المعاجم الصغيرة، ولكنه جمع مادة غزيرة من المعرب والمولد وكلمات كثيرة منها، بلغ فهرسها ثماني صفحات بعمودين في النسخة المحققة، وقد أحسن صنعًا الدكتور رمزي منير بعلبكي محقِّقه بصنع هذا الفهرس، فأفاد فائدتين : فائدة إبراز ما في هذا المعجم القيم من الألفاظ المعربة والمولدة ، فعنوان هذا الفهرس
يجمعهما. وفائدة معرفتها وسهولة العثور عليها والرجوع إليها .
ويبلغ اهتمام ابن دريد بالمعرب ذروته فيعقد له بابًا في آخر الكتاب بعنوان: " باب ما تكلمت به العرب من كلام العجمة حتى صار كاللغة".
ويذكر تحته كلمات كثيرة معربة يخللها بكثير من الآراء والشواهد وأحكام المعرب مثل ما فعل في ثنايا الكتاب .
ويظهر لي أن المصدر الأول – من المعاجم اللغوية – للمعرب، ولذلك كثرت النقول عنه، واعتمدت أقواله فيه، ولولا خوف الإطالة لضربنا لذلك بعض الأمثال، أو لسقنا بعض النماذج الموضحة.
الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية لإسماعيل بن حماد الجوهري:
وهو أيضًا معجم ممتاز ومصدر مهم جدًّا للمعرب، وقد كَثُرت النقول عنه في معاجم المتأخرين مثل لسان العرب لابن منظور، وتاج العروس للزبيدي ، وقد سبق لي نقل بعض أقواله في المعرب.
تعريفه للمعرب :(62/18)
ويظهر لي أن هذا الإمام اللغوي هو أول من اهتم بتعريف المعرب من المعجميِّين الكبار المشهورين ، قال في معجمه المذكور :" وتعريب الأعجمي أن تتفوه به العرب على منهاجها ، تقول:عرَّبته العرب وأعربته أيضًا" (1)، وقد نقل هذا التعريف كثير من أئمة اللغة الكبار – كما يأتي .
وأنا أفهم من قوله :" على منهاجها " أنه على منهاجها في التعريب ، وهو ما سبق وصفه من كتاب سيبويه وغيره وبيان أقسامه ، فهذا التعريف تقرير لما قاله سيبويه واستخلاص منه ولا يختلف معه ، ومعنى " تتفوه به " : تلفظ به أفواهها وتجريه في كلامها على نحو ما ذكر سيبويه وقسَّم ، إذ ما تتفوه به العرب يشمل ما حمل على نظيره العربي لإمكان حمله عليه وإلحاقه به –
وهو الكثير – وما لم يحمل على نظيره العربي فتكلموا به كما تلقوه بشرط أن يكون خاليًا من الحروف غير العربية – كما سبق – لذا فإني أخالف ما قيل عن الجوهري :" اشترط في الكلمة المعربة أن تتفوه بها العرب على منهاجها في بناء ألفاظها ، وهو منهج يخالف ما انتهى إليه سيبويه"،(2) وهو تعريف وليس بمنهج، إذ هو لم يطبق عليه بما يوافق هذا التفسير أو يدل عليه ، ولم يتوسع في شرحه بذكر أمثلة له تجعلنا نحكم بهذه المخالفة لسيبويه ، بل إن تطبيقاته الكثيرة على هذا التعريف وما ذكره من الكلمات المعربة وأحكام المعرب في ثنايا كتابه " الصحاح " لا يختلف عما ذكره المعجميون الآخرون في المنهج العام ، ومن ذلك قوله(3) : " البَهْرَج : الرديء من الشيء وهو معرب يقال: دِرهَمٌ بَهْرَج"، وقد
تقدمت هذه الكلمة في أمثلة سيبويه للمعرب – وقال عنها ابن دريد(1) : " والبَهرج: الباطل وهو بالفارسية نِبَهره ".
إن منهج العرب في التعريب هو ما وصفه سيبويه، وانتهى إليه الجوهري فعبر عنه تعبيرًا موجزًا محكمًا على أسلوبه في التعبير المحكم .(62/19)
وهل من المعقول أن تبني العرب كل المعربات بمنهج بناء ألفاظها وهي تنقلها من لغات أخرى تختلف عن لغتهم قليلاً أو كثيرًا في بناء كلماتها وحروف هجائها.
والجوهري في تعريفاته وذكره للمواد اللغوية وتحديده للمعاني دقيق محكم موجز ، وقد نقل علماء (2) اللغة والنحو تعريف الجوهري المذكور، ولم يروه مخالفًا لما انتهى إليه سيبويه ولا مذهبا مستقلاًّ عن الآخرين، وذلك دليل على موافقتهم
عليه، واعتمادهم إياه على تفسيره السابق ، فهو يمثل رأي هؤلاء الأئمة كلهم، وليس تعبيرًا عن مذهب خاص بصاحبه كما رأى بعض العلماء .
تعريف الفيومي للمعرب :
عرف الشيخ أحمد بن محمد بن علي المقرئ الفيُّومي المتوفى سنة (770هـ) في معجمه الصغير الشهير " المصباح المنير" بقوله : " والاسم (المعرب) الذي تلقته العرب من العجم نكرة نحو إبْرَيسَم، ثم ما أمكن حمله على نظيره من الأبنية العربية حملوه عليه، وربما لم يحملوه على نظيره، بل تكلموا به كما تلقوه، وربما تلعبوا به فاشتقوا منه، وإن تلقوه علمًا فليس ( بمعرب) وقيل فيه أعجمي مثل إبراهيم وإسحاق "(3) .
وهو تعريف واضح أجمل فيه الفيومي منهج العرب في التعريب بما يزكي تفسيري السابق لتعريف(62/20)
الجوهري ، قاصرًا اسم المعرب على ما كان نكرة من الأسماء ، وأما ما كان علمًا من الأسماء غير العربية، فإنه يسمى أعجميا، ولا يقال: إنه معرب، ومضيفًا قوله :" وربما تلعبوا به فاستقوا منه "، أي: ربما تلعب العرب وتلهَّوا بالاشتقاق من الكلمة المعربة ، وكأنه يقصد أن هذا الاشتقاق ليس كثيرًا لتعبيره بـ "ربما"، وأنه ليس بعمل جاد قياسيّ لأن اللعب ومنه تلعب ضد جدَّ ، وقد نقل(1) الإمام السيوطي أقوال أئمة اللغة بمنع اشتقاق الاسم المعرب، ولكنه ذكر ما يفيد أنه قد يشتق منه ، مثل كلمة لجام – وهي معرب لغام – التي ذكر السيوطي جميع المشتقات؛الأسماء والأفعال منها، وقال:"وليس تبينهم لأصله (أي: تبيين اللغويين لأصل المعرب) الذي نقل عنه وعرب منه باشتقاق له؛ لأن هذا التبيين مغزى والاشتقاق مغزى آخر،وكذا كل ما كان مثله"، وهذه ملاحظة قيمة يجب اعتبارها
واستحضارها، وقد ذكر الفيومي كلمة " لجام " في حرف اللام وذكر خلافًا في كونها معربة ، وذكر الأفعال المشتقة منها، قال : " اللجام للفرس قيل : عربي ، وقيل معرب ، والجمع : لُجُم مثل: كتاب وكتب ، ومنه قيل للخرقة تشدها الحائض في وسطها " لجام "و " تلجَّمت " المرأة: شدت اللجام في وسطها و " ألجمت " الفرس " إلجاما " : جعلت اللجام في فيه، وباسم المفعول سمى الرجل".
وذكر صاحب القاموس المحيط هذه الكلمة في " ل ج م " وقطع بكونها معربة، فقال : " اللجام- ككتاب- للدابة فارسي معرب " ، وذكر كثيرًا من مشتقاتها .
ومن الكلمات المعربة التي ذكرها الفيومي كلمة " المجوس " ، قال المجوس أمة من الناس، وهي كلمة فارسية و " لمجس " صار من المجوس ، كما يقال : تنصَّر وتهوَّد إذا صار من النصارى أو من اليهود و " مجَّسه "
أبواه جعلاه مجوسيًّا ".
فكأن هذه الكلمة مما تلعب به العرب بالاشتقاق منها .(62/21)
وبذلك نعلم أن الاشتقاق من الاسم المعرب أمر مأنوس وغير منكور ، ونعلم من هذا التعريف وأمثاله أن التعريب تلق أخذ من لغة أخرى بحكم الالتقاء بين جماعتين من الناس ، والحاجة إلى الكلمة المعربة ، وليس عملاً نظريًّا تصنف فيه الكلمات وتعد في قوائم للاستعلام والتداول في غير لغتها .
سابعا: الفرق بين المعرب والمولد والمصنوع :
الإمام السيوطي جعل المعرب "النوع التاسع عشر " في كتابه " المزهر " (1) وعنونه بقوله : " معرفة المعرب " ، وبدأ حديثه عنه بتعريفه فقال : " هو ما استعملته العرب من الألفاظ الموضوعة لمعان في غير لغتها".
قال الجوهري فى الصحاح :"تعريب الاسم الأعجمى أن تتفوَّه به العرب على منهاجها، تقول : عربته العرب ، وأعربته أيضًا ".
وجعل المولد " النوع الحادي والعشرين " (2) بعنوان " معرفة المولد" وبدأ الحديث عنه بتعريفه فقال:" وهو ما أحدثه المولدون الذين لا يحتج بألفاظهم ، والفرق بينه وبين المصنوع أن المصنوع يورده صاحبه على أنه عربي فصيح ، وهذا بخلافه".
وفي مختصر العين للزبيدي : " المولد من الكلام المحدث " .
وفي ديوان الأدب للفارابي يقال : " هذه عربية وهذه مولدة " .
وقد نقل هذين التعريفين العلامة مرتضى الزبيدي في مقدمة شرحه للقاموس : " تاج العروس من جواهر القاموس " (3).
فالمعرب ما تفوهت به العرب الذين يحتج بكلامهم ، وأدخلته في
لغتها،وهو ما وصفه سيبويه ومنهجهم في استعماله وأقسامه،وسجَّلته المعاجم اللغوية مما سبق الحديث عنه تفصيلاً .
والمولد ما أحدثه المولدون الذين لا يحتج بألفاظهم ، والمولدون هم المتكلمون بالعربية الذين جاؤوا بعد عصر الاستشهاد، ودخول اللحن في كلام العرب ، وقد جاء في لسان العرب (1) قوله: " وإنما سمي المولد من الكلام مولَّدًا إذا استحدثوه ولم يكن من كلامهم فيما مضى " ، وقوله :" والمولد: المحدث من كل شيء ، ومنه المولدون من الشعراء إنما سموا بذلك لحدوثهم " .(62/22)
والمصنوع : المفتعل الذي يورده صاحبه على أنه عربي فصيح ، وهو بخلافه ، أي : يكون ادعاؤه فصاحته غير صحيح ومرفوض .
وبذلك ننتهي إلى أن الوصف بـ "المعرب" خاص بما عربته العرب الذين يحتج بكلامهم ويستشهد به في اللغة وعلومها، وشهاب الدين أحمد
الخفاجي جمع في كتابه " شفاء الغليل فيما دخل كلام العرب من الدخيل " بين المعرب والمولد ، فقال في أوله بعد ذكر المعرب للجواليقي :" وأضفت إليه فوائد ونظمت في لباته فرائد وضممت إليه قسم المولد وهو إلى الآن لم يدون في كتاب ".
ثامنًا: نتائج وملاحظات :
بعد هذه الجولة في المعرب في فكرنا اللغوي القديم نستطيع أن نستخلص مما ذكرناه في هذا البحث النتائج والملاحظات التالية :
1-أن التعريب كان أمرًا واقعًا في لغتنا العربية منذ عصرها الأول ، وأنه كان مادة لغوية معروفة عند أئمة اللغة الأوائل، فهم الذين رووه وسجلوه في معاجمهم ولا يوجد من يخالفهم فيه ، بل من جاء بعدهم – كثير منهم توسعوا فيه وقدموا فيه دراسات قيمة وكتبًا جامعة منطلقين من أسس الأوائل ونظرتهم إليه ، لأنه من المعلوم لديهم جميعًا ، ومن المسلم به أن اقتراض اللغات بعضها من بعض أمر واقع
مسلم به ولا جدال حوله، ومن هذه اللغات لغة العرب ، وقد زاد هذا الأمر وضوحا في العصر الحديث، فكان الاهتمام به كبيرًا واسعًا لشدة الحاجة إليه في ميادين كثيرة من العلم والمعرفة وشؤون الحياة المختلفة .(62/23)
2-أن التعريب في عصر الفصاحة السليقية كان للكلمات الاسمية الدالة على أشياء حسية من أسماء الألبسة، والأشربة، والأدوية ، والنقود، والأواني، والأماكن، والأبنية، والمصنوعات – وأشباه ذلك – بنقلها إلى العربية ، ولم يكن للجمل والأساليب والأفعال ولا للمعاني ، فلا نجد في الكلمات المعربة المسجلة في المعاجم فعلاً واحدًا ولا في كتب النحو، بدليل ما وصفنا من منهج سيبويه فيما ذكره من المعرب وأقسامه ومنهج العرب في التعريب وهو ما يؤيده عمل اللاحقين المؤلفين في المعرب مثل أبي منصور الجواليقي الذي خصص كتابه " المعرب " للأسماء المفردة المعربة، وهي حقيقة
تؤيدها الدراسات اللغوية التاريخية التي اهتم أصحابها ببيان اتصال العرب بغيرهم من الأمم المجاورة وأنهم لم يكونوا منعزلين، وأنهم استفادوا لغويًّا وأدبيًّا من هذه الأمم، مثل ما فعله المرحوم الأستاذ الدكتور أحمد أمين الذي توسع(1) في هذا الموضوع ولكنه لم يقدم دليلاً على هذا الاتصال والاستفادة سوى الكلمات المعربة فقال :" ودليلنا الآن على هذه الاستفادة ما أخذه العرب من كلمات كثيرة فارسية ورومانية ومصرية وحبشية، نقلها هؤلاء التجار وأمثالهم وأدخلوها في لغتهم وجعلوها جزءاً منها وأخضعوها لقوانينها وتعلق بها القرآن الكريم " .
وهذا الذي قررناه هنا هو أهم النتائج التي انتهت إليها المناظرة التي جرت في حفل نادي دار العلوم عام (1908م) بين الشيخين : محمد الخضري وأحمد الإسكندري، كما لخصها الدكتور محمد حسن عبد العزيز في كتابه : " التعريب في القديم
والحديث ص 174-175".(62/24)
3- أن منهج العرب في التعريب قائم على تغيير الكلمة المعربة عن وضعها في اللغة المأخوذة منها بما يجعل حروفها كلها عربية، إن كان جلها أو بعضها غير عربي، وهذا إبدال واجب ، وبما يخضعها لأوزان كلمات العرب أو يقربها منها تقريبًا يجعلها سائغة في الذوق العربي ، سهلة النطق على ألسنة أبناء العربية، مقبولة لا ينفر منها سمعهم ، ولا يوحي نطقهم بها أنهم يرتضخون كلمات أجنبية، أو أنهم عرب لغتهم غير العربية ، ويكون هذا التغيير بإبدال حرف من حرف ، أو زيادة حرف ، أو نقصان حرف ، أو إبدال حركة بحركة ، أو إسكان متحرك ، أو تحريك ساكن .
وأما بالنسبة لأبنية الكلمات وأوزانها، فإن العرب – بحكم مبدأ التغيير والتصرف فى الكلمات المعربة- ألحقوا أكثر المعربات بأبنيتهم وأجروا عليها أحكامها في اعتبار
الزائد والأصلي والوزن ، والاشتقاق منها أحيانًا ، وما غيروه ولم يلحقوه بأبنيتهم لا تجري عليه هذه الأحكام، ولا يعتبر فيه ما اعتبر في النوع الأول، وقد يقبلون إبقاء الكلمة المعربة على صيغتها الأصلية ، وهي قسمان : قسم لا نظير له في أوزانهم، فلا يلحقونه بشيء منها ولا يثبت به وزن قياسي في لغة العرب ، وقسم له نظير فيها ، فإنهم يلحقونه بنظيره ولا يجرون عليه الأحكام القياسية التي يجرونها على النوع الأول .(62/25)
4-النحويون هم الذين وصفوا منهج العرب في التعريب وحددوا ضوابطه وأقسامه باعتبار استعمال العرب إياه ، ولكنهم لم يعرفوه ، وإن عرفه اثنان – فيما أعلم – من اللغويين أصحاب المعاجم، الأول الجوهري في الصحاح، وتعريفه قد سبق ذكره وشرحه ، وهو الرائج في معاجم اللغة الكبرى، فهو يمثل مذهبهم جميعًا ويلخص منهج العرب في التعريب كما وصفه سيبويه والنحويون من بعده ، فهو ينتهي إلى ما انتهى إليه سيبويه ولا يختلف معه، ولا مع غيره من النحاة ، والثاني الفيومي صاحب المصباح، وقد أثار في تعريفه إياه قضيتين مهمتين : الأولى أن التعريب إنما كان في الأسماء النكرات فهي المعربة ، وأما الأسماء الأعلام المنقولة إلى اللغة العربية من اللغات الأخرى فهي أعجمية غير معربة ، والثانية أن العرب قد يشتقون من الكلمات المعربة – مثل كلمة " لجام "– وهو تعريف واضح أجمل فيه منهج العرب في التعريب ، ولا يختلف في مضمونه عن تعريف الجوهري.
5-الاشتقاق من المعرب الملحق بأبنية العرب فعلته العرب وأجرته في كثير من الكلمات المعربة ، وأما ادعاء اشتقاقها وادعاء أصول ترجع إليها فغير مقبول ولم يقل به أحد من اللغويين ، وتبيين اللغويين لأصول الكلمات المعربة التي نقلت منها أو عربت منها ليس باشتقاق لها ، لأن التبيين مغزى والاشتقاق مغزى آخر – كما يقول الفيومي ويقول شهاب الدين أحمد الخفاجي :" ولا يصح الاشتقاق فيه؛ لأنه لا يدعي أخذه من مادة الكلام العربي" (1)
وجعل الجواليقي فائدة معرفة المعرب أن يحترس المشتق، من الخلط بينه وبين العربي المحض فقال :"ففي معرفة ذلك فائدة جليلة ، وهي أن يحترس المشتق فلا يجعل شيئًا من لغة العرب لشيء من لغة العجم " (2)(62/26)
6-لم يصرح أحد من اللغويين فيما نقلت عنهم في هذا البحث ولا في غيره – فيما أعلم – أن التعريب قياسي ، فكل أقوالهم وشروحهم ورواياتهم كانت وصفًا لاستعمال العرب المعرب ومنهجهم فيه بإسناد ذلك إليهم، فما دخل اللغة بعدهم يعد مولدًا لا معربًا – كما سبق – في الفرق بينهما ، ولذلك كان قول الشهاب الخفاجي: "وهو سماعي فما عربه المتأخرون يعد مولدًا وكثيرًا ما يقع في كتب الحكمة والطب ، وصاحب القاموس يتبعهم من غير تنبيه على هذا ، ولعل سماعيته مخصوصة بغير الأعلام إذ كل ينادي بعلمه من غير نكير"، ممثلا لرأي جميع اللغويين والنحويين ، ويؤكد
ما جاء في مجلة المجمع (1) احتجاجا لقرار المجمع في المعرب والمولد ، وهو : "لم يلهج الناس في نصف القرن الماضي بمسألة من مسائل اللغة مثلما لهجوا بمسألة جواز التعريب للمحدثين أو منعه مع إجماع أئمة اللغة على منعه للمحدثين " .
وليس معنى كونه مولدًا أنه مرفوض في كل الأحوال، بل إنه قد يكون الأخذ به واستعماله أمرًا ضروريًّا على أن تكون صياغته وحروفه على منهج العرب في التعريب، ولذلك كان قرار المجمع شاملاً للمعرب والمولد منظمًا للأخذ بهما .
قرار المجمع في المعرب والمولد أصح تعبير عن منهج العرب في التعريب:
7- تأسيسا على كل ما سلف في هذا البحث أرى أن أصح تعبير وأكمله عن منهج العرب في التعريب وما يجوز لنا استعماله من الألفاظ الأعجمية من المعرب والمولد وما لا يجوز هو قرار المجمع الصادر
منذ أكثر من ستين عامًا والمنشور في
العدد الأول من مجلة المجمع (ص33-34) وهو:
أولاً: قرار المعرب :
" يجيز المجمع أن يستعمل بعض الألفاظ الأعجمية عند الضرورة على طريقة العرب في تعريبهم ".(62/27)
وجاء في الاحتجاج له وشرحه – في العدد نفسه (ص202)- : "فعبارة القرار تقتضي إجازة استعمال بعض الأعجمي في فصيح الكلام، وتقييده بلفظ "بعض"دون جنس الألفاظ يفيد أن المراد الألفاظ الفنية والعلمية التي يعجز عن إيجاد مقابل لها لا الأدبية، ولا الألفاظ ذات المعانى التي يتشدق بها مستعجمة زماننا من أبناء العرب والمراد من العرب في القرار: العرب الذين يوثق بعربيتهم، ويستشهد بكلامهم، وهم عرب الأمصار إلى نهاية القرن الثاني، وأهل البدو من جزيرة العرب إلى أواسط القرن الرابع".
ثانيا : قرار المولد :
" المولد هو اللفظ الذي استعمله المولَّدون على غير استعمال العرب – وهو قسما
أ-قسم جروا فيه أقيسة كلام العرب من مجاز أو اشتقاق أو نحوهما ، كاصطلاحات العلوم والصناعات وغير ذلك، وحكمه أنه عربي سائغ .
ب-وقسم خرجوا فيه عن أقيسة كلام
العرب ، إما باستعمال لفظ أعجمي لم تعربه العرب ، وقد أصدر المجمع في شأن هذا النوع قراره : إما بتحريف في اللفظ أو في الدلالة لا يمكن معه التخريج على وجه صحيح ، وإما بوضع اللفظ ارتجالاً.
والمجمع لا يجيز النوعين الآخرين ".
والله أعلم
إبراهيم عبد الله رفيدة
عضو المجمع المراسل من ليبيا
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...(62/28)
التعريب : دائرته وأبعادها
للأستاذ على رجب المدني
أسعدني رئيس مجمعنا الجليل إذ تفضل فضمَّن رسالة دعوتي للحضور تعبيرًا عن سعادته بأن أُعد بحثًا أُسهم به في الموضوع الرئيسي لدورة هذا العام وهو (التعريب ) .
وما ذلك إلا لأن هذا الموضوع يمثل بالنسبة لي (الحلم) الذي ما برح - منذ ما يزيد عن نصف القرن - يحتل الجزء الأوسع من اهتمامي وإيماني باتصاله بكل القيم التي تشكل التزامنا حيال عقيدتنا وحضارتنا، وكرامتنا، ودفاعنا عن الصرح الحضاري الذي شيده أسلافنا .
إنني أعلم من مفهوم التعريب المراد منا أن نتحدث في إطاره، أنه يتركز في بحث أنجع الوسائل وأيسر السبل التي تمكن من استيعاب أجيالنا الحاضرة واللاحقة لما استجد من علوم على أيدي حضارات (أملت عليها شهوة الانفصال عن المنبع، وشهوة المنافسة والثأر والاحتواء والغلبة المادية والانتشار ) أن تقيم هذا الصرح العلمي المادي الذي نشاهده والذي يقوم في معظمه على أسس من معارف أبرزها أسلافنا في عصور النهضة الإسلامية التي شيدوا أركانها وخلفوا معالم مجدها ( مع تجاهل أولئك في الكثير الأكثر واعتراف في القليل الأقل بتلك الحقائق والأُسس).(63/1)
إنني لا أريد أن يفهم أحد أني أنطلق هنا من مفهوم الدفاع عن أمجاد قديمة اختصنا بها التاريخ الإنساني ؛ لأنني لم أنطلق يومًا فى تفكيري ورؤيتى إلا من منطلق إيماني بوحدة الأسرة الإنسانية، تلك الوحدة التي تستبعد فضل ( عربي على أعجمي إلا بالتقوى ) ، والتي تقوم على مفهوم الأب الواحد والأم الواحدة، كما يَبِينُ من أبحاثي السابقة والأسانيد التي أوردتها في هذا المجال من القول ( مما لا أرى داعيًا لتكراره هنا ) ، غير أني أحب أن أضيف في هذا الصدد إلى ما سبق أن قلته بعضًا مما لم أقله، من شأنه أن يضع نقطًا على بعض الحروف ويبدأ خطوة ( لا يحسن تجاهلها ) في طريق (الألف ميل ) التي ستنتهي إلى إدراك حقيقة تُعرِّف الإنسان ( في كل مكان ) بجوهر العربية ، وما إذا كانت لغة أو منتمى عرقيًّا ، وتصنيفها كمصدر لما توالد في محيط الأسرة البشرية من لغات ولهجات منذ آدم عليه السلام .
إن الاستقراء الواعي والمتأني والبعيد عن كل المؤثرات الخارجة عن نطاق (البحث العلمي المتجرد) سوف يصل بالإنسان إلى إدراك الحقيقة ناصعة خالية من الزيف وبعيدة عن التضليل .
وإن ضرورة التحديد والتركيز لتقضي ( من وجهة نظري ) بتجزئة الموضوع إلى عناصر يتم تناول كل منها في بند مستقل يمكن من الإحاطة بأبعاده.
ولذا فقد رأيت أن أضمن هذا البحث بنودًا، أحاول في كل منها
الإجابة على سؤال من الأسئلة التالية:
ما هي اللغة التي تخاطب بها أبو البشر الأول ( آدم عليه الصلاة والسلام ) مع زوجه وبنيه وأحفاده؟
هل القومية العربية تقوم على وحدة اللغة أو الانتماء العرقي ؟
هل اللغة العربية لغة كسائر اللغات أو أن لها ( من وجهة نظر تاريخية وروحية) تميزًا عالميًّا يضعها في مركز التفرد والمصدر لغيرها من اللغات؟
هل صحيح أن اللغة العربية تفردت في مرحلة من التاريخ (اعتورها الجزر والمد ) بمركز الصدارة والريادة في مجالي العلوم والحضارة الإنسانية ؟(63/2)
إن هذه الأسئلة الأربعة هي ( بين العديد من الأسئلة المتصلة بها ) أهمها وأجدرها بالتركيز عليها في هذا البحث على الأقل .
وإن الإجابة عليها ستتكفل بتأكيد حقيقة أن التعريب لا يعني فقط أن نُعَرِّبَ ما لدى الآخرين مما نحن في حاجة إليه لمسايرة ركب الحضارة المعاصرة ، وإنما يجب أن نميط القناع عن وجه الحقيقة التي ستخاطب العقل الإنساني والضمير الإنساني بما يستهدف العودة إلى وحدة الجذور التي انطلقت منها شجرة أبناء آدم وحواء الوحيدة الفريدة ، والتي لا تسمح تلك الحقيقة بأن تنافسها شجرة غيرها في كوكبنا لتقسيم البشر إلى أكثر من قومية ومُنتَمى .
وإني لألتمس العون من الله وحده في محاولتي الإجابة على كلٍّ من الأسئلة الأربعة :
إن أهم تلك الأسئلة وأدعاها للجدل والاختلاف إنما هو السؤال الأول الذي أخشى ألا يدع واقع الإنسان المعاصر مجالاً للاقتناع بمضامين إجابتي عليه ، إلا إذا تحقق له قدر من الاهتمام الجدي يجعله موضوع حوار عقلي منفصلاً عن نوازع العاطفة والأثرة ! … منطلقًا في تجريد مطلق إلى آفاق البحث العقلي الصادق في أعماق التاريخ؛ للتعرف على أهداف الوجود الإنساني السامية فوق هذا الكوكب في اقتناع، ومحاولة إقناع وتحرر من قيود الذات العامة والخاصة .
إن الاعتراف الإيماني الذي تلتقي حوله مختلف المعتقدات الإنسانية بحقيقة المعجزة في خلق الإنسان الأول ( آدم عليه السلام ) الذي أراد الله أن يكون وزوجه المصدر لما بث منهما من رجال كثير ونساء ما برحوا يتعاقبون ويخلف بعضهم بعضًا فوق هذا الكوكب ، هذا الاعتراف يقتضينا أن نعترف أيضًا بأن اللغة التي أخذ يُعرب بها آدم ( أي يفصح ويبين كما تقول القواميس ) عما في نفسه في مواجهة حواء زوجه أولاً ، ثم في مواجهة ما رزقه من بنين وحفدة وما تعاقب بعد هؤلاء من خليقة ، إنما كانت ( أي تلك اللغة ) هي العربية التي لا تعني تسميتها سوى الإفصاح والإبانة .(63/3)
وما اسم آدم ( حسبما تعرفه قواميس العربية ) إلا الكلمة العربية الأولى التي اقترنت بخلق آدم عليه السلام.
فالأُدْمَةُ في العربية السُّمْرَةَ ومنها أَدُمَ فهو آدم ، وهو الاشتقاق الذي اختاره الله اسمًا لأبي البشر دالاًّ على ما اتسم به من سمرة تعاقبت كلون غالب على بنيه من بعده تلاؤمًا مع طبيعة الحياة على كوكب الأرض التي تجعل من اللون الأسمر أكثر الألوان انسجامًا مع تلك الطبيعة .
وإذا كانت أول كلمة اقترنت بخلق آدم عربية كما نرى ، فأحرِ بما تعاقب بعدها من مفردات تُعرِب ( أي تفصح وتبين ) عما يقصد ناطقها ، أن تكون هي اللغة العربية أيًّا كان تركيبها وكيانها اللفظي، وما دخل عليه من تطوير وتغيير حتى عصر الملك نمروذ الذي يروي التاريخ أنه أول عصر بدأت فيه اللهجات واللغات تتعدد وتنتشر، تبعًا لانتشار الإنسان وتعدد ألوانه ومشاربه وأنماط
حياته وتباعد مواقع تجمعاته .
وإذا رجعنا إلى العديد من مصادر التاريخ كالبداية والنهاية لابن كثير، وموج الذهب للمسعودي، وبعض دوائر المعارف والموسوعات التي لا نرى أن نطيل بسرد نصوصها، فإننا نجد فيها ما يؤكد، حقيقة، أن اللغة العربية هي اللغة الأولى التي تكلمها آدم وذريته إلى ما بعد الطوفان وحتى عهد ( نمروذ )، كما سبق أن أشرت ، وما على من يبتغي التأكد مما أقول إلا أن يتقصَّى تلك المراجع ، فسوف يجد فيها ما يؤكد أن آدم لم يقتصر على نطق العربية نثرًا وإنما نظمها شعرًا عربيًّا يرثي به ابنه هابيل عليه السلام، وأن أبياتًا من الشعر العربي أيضًا وُجدت مكتوبة على قبر أبينا إبراهيم الخليل عليه السلام .(63/4)
أخلص من هذا التحليل إلى القول بأن الله حين خلق آدم اختار له العربية لغة بدأها باسمه ثم بما علمه من أسماء : (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أبنئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ) الآيتان 30 – 31 من سورة البقرة .
وليس ثمة ما يحول دون أن نؤسس رؤيتنا على أساس من الاعتقاد بأن النصوص القرآنية ( في مختلف الأحداث التي تحدثت عنها ) إنما أوردت النص العربي الذي استعمل في تلك الأحداث (وليس ترجمة له) .
وعندما يستقر إيمان المؤمنين على ما ذهب إليه العديد من كبار أئمة الإسلام، كالإمامين البخاري وأحمد ابن حنبل، من أن القرآن ( قديم قدم الله ) فإننا لا نملك إلا أن نعتقد أن العربية ( كلغة ) قديمة قدم الله أيضًا إذ أن خصوصية القرآن (بين ما يسند لله من قول ) تجعلنا نعتقد أن الله قد صاغه منذ الأزل بلسان عربي مبين، وليس بنافٍ لهذا أن يكون الله قد أنزل كتبًا بلغاتِ من أنزلت إليهم، بعد أن انتشرت لغات غير العربية، فاقتضت أن يُرسل إليهم الرسل بألسنتهم ليبينوا لهم ؛ ولا يستقيم أن يقال: إن الله قد نقل القرآن إلى العربية، عندما بدأ إنزاله على محمد؛ لأن إعجازه إنما ينبعث من نفحة النطق الإلهي بنصوصه .
ولأن العربية التي آثرَهَا الله بصفتي الإعراب والإبانة،وأنزل بها القرآن على محمد لتكون لغة الخطاب للناس جميعًا والرباط الذي يربطهم بآصرة الآخرة الإيمانية في الرسالة الخاتمة، وضمنها نصوصًا لأوجه حوار دارت بينه وبين الملائكة، وبينه وبين آدم، وبينه وبين إبليس، ثم بينه وبين العديد من الرسل (عليهم الصلاة والسلام ) ، بل وبينه وبين غير البشر من خلقه كالأرض والسماوات ، هذه اللغة لا يمكن أن يكون الله قد آثر عليها لغة سبقتها، أو لحقتها، ولا يمكن إلا أن تكون لغة الله الأولى .(63/5)
ولئن كانت اللغات واللهجات قد أخذت تنتشر وتتعدد منذ عهد نمروذ كما أسلفنا، فإن ذلك لا يصلح دليلاً ولا سببًا لنفي حقيقة أن اللغة الأولى والأم هي العربية، ولنا أن ندعم اعتقادنا هذا بالدعائم التالية :
أن الشعوب التي ظهرت إثر الطوفان إنما هي الشعوب العربية المتمثلة في عاد وثمود وطسم وجديس والعمالقة ، وهي الشعوب التي أفرزت ما بعدها من شعوب ذات لهجات ولغات متعددة بقدر ما طرأ عليها من تشتت، وما باعد بينها من مسافات ، مما يؤكد أن إبراهيم عليه السلام وقومه إنما كانوا امتدادًا لها، احتفظوا بالكثير من نصوصها، ثم تلاحقت مع القحطانية ( في قصة جرهم المشهورة ) على عهد إسماعيل ابنه - عليه السلام - الذي تعده بعض مصادر التاريخ التي أشرت إليها، أول من حقق للعربية" التهذيب الأول " من مراحل التهذيب الثلاثة حسبما أوردته دائرة معارف القرن العشرين في الجزء السادس صفحة 281 من الطبعة الثالثة الصادرة سنة 1971 م عن دار المعرفة( بيروت ).
وما أظن شيئًا مما أورده القرآن من حوار بينه، وبين الملائكة في قصة خلق آدم، وما لحقه من حوار معه ومع إبليس وآدم وأهله وبنيه، ثم بين نوح وقومه، وهود وقومه، وصالح وقومه، وإبراهيم وقومه، وبينه وبين ابنه إسماعيل،وما كان منهما من دعاء مشترك لله ، قد كان بغير اللغة العربية التي ارتضاها الله لغة لخاتم كتبه الموجه إلى جميع البشر في النبوة الخاتمة.
ولا يفوتني أن أشير هنا إلى ما أورده المسعودي بالجزء الأول من كتابه (مروج الذهب ) طبعة 1983 الصادرة عن دار الأندلس، وذلك بالصفحة (51) فما بعدها مما يلي نصه:(63/6)
" ونزل نوح من السفينة ومعه أولاده الثلاثة وهم: سام، وحام، ويافث وكَنَّاتُه الثلاث أزواج أولاده، وأربعون رجلاً وأربعون امرأة ، وصاروا إلى سفح الجبل فابتنوا هنالك مدينة وسموها ثمانين" … ( وهو اسمها إلى وقتنا هذا وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة للهجرة ) واندثر عقب هؤلاء الثمانين نفسًا ، وجعل الله نسل الخليقة من نوح من الثلاثة من ولده، وقد أخبر الله عز وجل بذلك بقوله :" وجعلنا ذريته هم الباقين " الآية77 من سورة الصافات والله أعلم بهذا التأويل. انتهى المسعودي .
وأهم ما يعنينا من هذا الاقتباس من مروج الذهب أمر الثمانين واستعمال عددهم اسمًا لمدينتهم مما يلقي الضوء على حقيقة أن العربية كانت هي لغتهم، وحقيقة أن كل ما ورد من خطاب نوح عليه الصلاة والسلام لقومه وابنه يَام ودعائه لربه، إنما كان بالعربية التي كانت لغته ولغة قومه:
" فإن توليتم فما سألتكم عليه من أجر إن أجري إلا على الله ، وأمرت أن أكون من المسلمين " الآية 72 من سورة يونس . ( من خطاب نوح لقومه )
" ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين".الآية 42 من سورة هود .
ومن منطلقنا هذا لن نكون راكبي شطط، لو قلنا واعتقدنا أن كل حوار ورد في القرآن بين الله ورسوله وبين أولئك الرسل وأقوامهم، إنما تم بنفس النصوص العربية التي أوردها القرآن، وإن استعمال بعض أولئك الرسل وشعوبهم لبعض ما استجد من لغات،منذ عهد الملك (نمروذ)، الذي امتد ملكه خمسمئة سنة ، في مخاطبة أقوامهم لا ينفي بالضرورة أن أولئك الرسل وبعض من أرسلوا إليهم قد ورثوا العربية بالقدر الذي يسَّر لهم استيعاب مضامين تلك النصوص، واستعمال ما استعملوه منها مما لا يشكل منافاة لمضمون قوله تعالى " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم". الآية 4 من سورة إبراهيم .(63/7)
وإذا كان التبيين إنما يعني الشرح والإيضاح فإن نفي المنافاة يتأكد .. ولا يبقى من تَعارُض أن تكون تلك النصوص القرآنية استعملت بنصها، وأن تكون الألسن واللهجات الخاصة قد استخدمت في النطاق الأوسع من الإيضاح والشرح والتبيين.
حضرات الزملاء الأجلاء :
إنني أتجنب الإطالة عليكم بالاكتفاء بهذا القدر من الإجابة على السؤال الأول تاركًا لحضراتكم ( بما تميزتم به من سعة الاطلاع بالقدر الذي قد يزيد على ما تيسر لي ) أن تضيفوا ما ترون في هذا المجال من القول ؛ وأمضي مستعينًا بالله للإجابة على السؤال الثاني :
ولابد لنا قبل أن نمضي في الإجابة على هذا السؤال من أن نورد عددًا من النصوص القرآنية والنبوية التي نستند إليها فيما نعرضه من رؤية وتحليل :
" نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين " إلى آخر الآيات 193 – 194 –
195 من سورة الشعراء.
" الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر ألاَّ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم " الآية 97 من سورة التوبة " .
" ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم" الآية 98 من سورة التوبة ".
ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم " الآية 99 من سورة التوبة .
حديث : " ليست العربية في أحدكم من أب أو أم وإنما هي لسان ، فمن تكلم العربية فهو عربي".
حديث : " تعلموا العربية وعلموها الناس فإنها لسان الله يوم القيامة ".
حديث خطبة الوداع :" أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد،كلكم من آدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
دلالات هذه النصوص(63/8)
إنه لغني عن التأكيد ( الذي إنما يدفع إليه عادة شك المخاطب ) أن نقول إن العربية ليست إلا لسانًا أراد الله له في المدى الأقصى لتقدم الإنسان ووعيه واستيعابه لمضامين الكتاب التي اتخذها الله لسانًا له، أراد أن يتطور على نحو متدرج كرباط قومي يتسع حتى يشمل جميع الناس الذين يحملهم هذا الكوكب ؛ فتتحقق إذ ذاك المشيئة العلوية التي اقتضت أن يكون كل بني آدم وحواء الأسرة الإنسانية الكبرى، التي تحدثت عنها الآية الأولى من سورة النساء وضمنتها حديثًا عن الأرحام مطالبة إياهم أن يتقوا الله فيها .
وإنما تنطلق قوميتنا العربية ( التي نعتز بها اعتزاز الرائد بريادته) من هذا المضمون، الذي لا يقيم وزنًا لمفهوم الأعراق، والمنتميات العرقية، والقبَليَّة والعصبية قدر ما يقيمه من وزن لقومية اللسان التي تتكفل وحدها بتيسير التخاطب ( والتعارف الذي جعله الله السبب الأوحد لما جعل عليه البشر من شعوب وقبائل) : ( يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " الآية 13 من سورة الحجرات.
فالقومية الحق التي أراد الله أن تكون الإطار الإنساني للبشرية كلها، إنما هي (قومية العربية ) كلسان يجمعها ويتيح لفرقائها التعارف، والتآلف، والتعاطف، والعمل للخير المشترك بعاطفة العرق الواحد المنحدر من آدم وحواء عليهما السلام ؛ ذلك العرق الذي لا يستبيح قطعه أو توزيعه إلى أعراق تتعارض وتتساقط إلا أولئك الذين يسعون لأن يقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ويفسدوا في الأرض .(63/9)
وإذا تلمسنا الأدلة والإشارات إلى حقيقة ما تقدم فما علينا إلا أن نقف عند الحكمة الإلهية، التي جعلت القرآن ينصرف عن تمجيد الأعراق والقوميات ولا يتحدث عن خاتم أنبيائه ورسله للناس جميعًا إلا بما يتصل بصفات الكمال الخُلُقيّ دون أن يذكره بانتمائه العربي لأنه بُعث للإنسانية كلها كعظيم من عظمائها الذين يرتفعون فوق نعرات الجاهلية وتبجحها بالأنساب والأعراق ؛ بل إنه آثره بأن يكون من ذرية إسماعيل الذي تنتمي إليه العرب المستعربة حتى لا تدعى العرب العاربة تميزًا لها بانتمائه إليها على نحو يثير تحسسًا أو نقصًا لدى من ليسوا من العرب العاربة ؛ ولقد أضاف إليه تشريفًا جعله ينحدر من أزكى ثلاثة دماء عرفت في المنطقة الوسطى التي اختارها الله موطنا (للأمة الوسطى)، مما يؤكد تميزه وأهليته لأن يكون رسولاً للإنسانية كلها وفق ما أراد الله له ، وما كان اعتزازه الدائم بالانتماء لقريش التي كانت تمثل في معظمها ذلك المزيج الطاهر الزكي من الدماء الثلاثة إلا ليؤكد على حقيقة ما ذكرنا من أنه رسول الإنسانية كلها الذي لا تحكمه عصبية الانتماء إلى عرق بعينه من شأنه أن يدعى التميز على غيره من الأعراق ؛ ولذا فإنه استعاض عن استعمال وصف (العربي) بوصف (المؤمن)، ولم يكن من بين تعاليمه شعار ( العربي أخو العربي)، وإنما كان شعاره الأوحد ( المؤمن أخو المؤمن ) ومضى في توسيع دائرة القرابة بين مختلف الانتماءات إلى الحد الذي جعله يقول عن سلمان ( الفارسي أبًا وأمًّا ) : "سلمان منا أهل البيت "متجاهلاً كل ما يفصل الإنسان عن أخيه الإنسان مما اصطلح الناس قديمًا وحديثًا على الاعتداد ( بل والاعتزاز ) به .(63/10)
ونزل القرآن العظيم ليقول: " لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، رضي الله عنهم ورضوا عنه، أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون " الآية 22 من سورة المجادلة .
وغني عن الإيضاح ما تنوه به هذه الآية من قومية الإيمان وإخراج الآباء والأبناء والإخوان والعشيرة من دائرتها، إن كانوا يحادون الله ورسوله. أما مغايرونا في العقيدة الذين لا يتسمون بهذه السمة العدوانية في مواجهة الله ورسوله والمؤمنين، فإن الله لم يستنكر علينا أن نبرهم، ونقسط إليهم، ونحترم جوارهم. وحقوقهم الإنسانية ولو لم تصلنا بهم تلك القرابة الوشيجة .
" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين ، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" الآية 8 ، 9 من سورة الممتحنة .
وفي هذا تأكيد على حقيقة أن سماحة الإيمان لا تسمح للمؤمن بأن يتخذ من العداء والعدوان سلاحًا على من لا يتفق معه في العقيدة ، وأن حقه مقصور على ردِّ ما يقع عليه من عدوان، وما ذلك إلا لأن تعاليم القرآن وحدها كفيلة ( وهي تخاطب عقل الإنسان ووجدانه ) بأن يستأصل من صدره شأفة الحقد، وتستميله إلى سبيل المحبة والتعاطف والتعايش، حتى مع من يختلف معهم في الرأي أو العقيدة أو من يستشعر منهم عداوة له .
" ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم". الآيات 33، 34، 35 من سورة فصلت .(63/11)
نخلص في الإجابة على السؤال الثاني إلى القول بأن العربية ( كلغة ) هي في ذاتها منتمًى قومي بدأت دائرته ضيقة حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم بدعوة القرآن لتفتح بابها؛ كي تتسع وتتدرج في اتساعها إلى الحد الذي يجعلها لغة الناس جميعًا، وقومية الناس جميعًا مستمدة تميزها هذا مما أوردنا من حقائق تصُبُّ في حقيقة واحدة هي أنها ( لغة القرآن ) الذي أنزِل للناس جميعًا باعتبارهم أبناء أسرة كبيرة مترامية الأطراف ينحدر أبناؤها جميعًا من أب واحد هو آدم، وأم واحدة هي حواء ، وما كان لرباط من هذا القبيل أن يتسع للعديد من القوميات والأعراق والعصبيات، ويتجاوز قدسية الرحم الواحدة ، أيًّا كانت فوارق الرأي والمعتقد .
أما السؤالان الثالث والرابع، فيحسن بنا أن نجيب عليهما بجواب واحد لما بينهما من ترابط وتداخل في
المنطلق والغاية .(63/12)
ولعلي أعفي نفسي والزملاء الذين يتفضلون بالصبر الجميل على سماعي من الاستطراد والإطالة عندما أقول إن التميز التاريخي والروحي الذي تحدث عنه السؤال الثالث يبدو واضحًا من التحليل الذي أوردته في الإجابة على السؤالين الأول والثاني، على نحو لا يتطلب مزيدًا من التأكيد على تميز العربية تاريخيًا وروحيًّا مما يؤكد أن الإجابة على السؤال الرابع إنما تستقي إيجابياتها مما برز من مجموع المزايا والمؤشرات التاريخية والروحية، وما تعالت به أصوات المنصفين، من علماء الغرب والشرق ممن لا تربطهم بالعربية رابطة، من اعتراف واضح وصريح ومنصف (في العديد من مصادرهم ) بالدور الفعال الذي أدَّتْه النهضةُ العلمية العربية في العصور الوسطى للحضارة الإنسانية، مما أدى إلى الأخذ بأيدي غير العرب من الظلمات إلى النور آنئذ؛ وأهَّلَ أحفادهم وأصحاب إرثهم لأن يستردوا من الحضارة المعاصرة دينًا لأسلافهم يضاعف شجاعتهم على أن يقتحموا ميدانها بعزيمة صاحب الحق، الذي ينهض من كبوته ليسترد مكانه بين الآخرين الذين استمدوا جُلَّ أسس حضارتهم السليمة من ميراث أجداده، وهو الميراث الذي انتزعوه من خلال غارات ظالمة استباحوها لأنفسهم؛ لاستلاب ذلك الميراث من أهله الشرعيين ، ثم التآمر لعزلهم عن نتائجه والحيلولة بينهم وبين التقدم العلمي الذي يمكنهم من أن يقفوا أندادًا لهم وشركاء مرفوعي الرأس، ويحُولوا دون أن تستباح بلادهم وثرواتهم؛ لينعم الغاصب بلبابها، ويترك أهلها يتمرغون في القشور .
سادتي الزملاء الأجلاء :
آن لي أن أتلمس سبيلي لإنهاء هذا البحث ببعض الآراء والمقترحات، التي آمل أن تحقق إضافة إلى ما تتفضلون بإصداره من قرارات، تستهدف تحريك قطارين للتعريب يسيران متوازيين وبسرعة العصر إلى مداهما المأمول ، على نحو ما سأوضحه في الأسطر التالية :(63/13)
إنني أحب أن أركز على ما أراه ضروريًّا من خطوات تهدف إلى جعل التعريب ينطلق في خطين متوازيين : أولهما يمضي إلى المدى الأبعد في تعريب المصطلحات على نحو أسرع وأشمل وأعمق بالقدر الذي يختصر المسافة الزمنية؛ للوصول لحلم تعريب المناهج العلمية كافة ، وسبيلنا إلى ذلك أن نستفيد من العلماء المختصين ( على أعلى المستويات) في استخدام الحاسوب بكثافة أشد وأدق وأعمق؛ حتى نجعل المصطلحات في متناول من يستهويهم التعامل مع أجهزته أكثر مما يستهويهم التعامل مع الكتب والأبحاث المكتوبة، التي لم يعد يقبل على اقتنائها والإفادة منها إلا القليل.
وهذا المنهج المقترح هو ما يمكن أن نسميه ( استيراد المعرفة من خلال التعريب) ولست أراه وحده السبيل الموصل إلى تعريب المناهج، إذا لم يقترن به تحريك قطار موازٍ يسرع بنا إلى تعميم تعليم العربية على مستوى شعوب الأرض كافة باستخدام وسائل التقنية الحديثة، التي يحتل الحاسوب أيضًا محل الصدارة فيها، إلى جانب تقنيات أخرى يحسن بنا أن نكل تحديدها والإرشاد إليها إلى نخبة من العلماء المتخصصين، وبجانبهم نخبة مختارة من الفنيين في مختلف وسائل الاتصال ونقل المعلومات، على النحو الذي تتذوقه أمزجة الناس العاديين، وبالطرق التي درجت عليها الدول المتقدمة، وبلغت بها مراحل متقدمة في تعليم لغاتها، على نحو جعل المسافة بيننا وبينها لا تختلف في تصور الكثير من الناس عن مسافة ما بين القطبين .(63/14)
وإني اختم برجاء مُلِحٍّ أن يتفضل مجمعنا في دورته المباركة هذه فيضمن قراراته قرارًا بتشكيل لجنة موسعة تضم من يرغب من الأعضاء ( وآمل أن أتشرف بأن أكون واحدًا منهم ) إلى جانب عدد غير قليل من علماء المجمع الخبراء، وغيرهم ممن تؤهلهم خبرتهم الفنية العالية في مختلف التخصصات التي لا غنى عنها؛ لإعداد برنامج عالمي يساعد على طي مسافات الزمن، وجعل العربية تحتل حيِّزَها اللائق في أذهان وأدمغة الناس في كل بقعة من بقاع الأرض؛ فنقطع بذلك أهم الأشواط لتعريب الإنسان وتحقيق (قومية العربية ) التي تمكن كل إنسان من أن يقرأ القرآن بلغته؛ فينهل من إعجازه وإشباعه العقلي ما يوحِّد
عقول البشر جميعًا حول أهداف الإخاء والمحبة والأسرة الواحدة والسلام الشامل .
على رجب المدني
عضو المجمع من الجماهيرية
العربية الليبية العظمى(63/15)
العامِّي الفصيح
من المعجم الوسيط*
( من الجزء الثانى :باب الطاء ـ باب الظاء ـ باب العين )
للأستاذ الدكتور أمين على السيد
تقديم :
ضمن بحوث مؤتمر الدورة السادسة والخمسين(سنة 1410هـ –1990م) في الجزء الأول ، وهو الجزء السادس والستون ، وتاريخه ذو القعدة 1410هـ مايو 1990م نُشِر بحث لى تحت عنوان :
" العامي الفصيح : شذور من وحى هذا العنوان "
وقد صدَّرتُ هذا البحث بكلمة موجزة عن نشأة اللغة العامية وبعض سماتها من ندرة الإعراب ، واختلال قواعد التصريف ،وحرية النحت ، وإدماج بعض الكلمات في بعض، والمزج بين الكلمات، ومسخ النطق ببعض الحروف، وعدم مراعاة الترتيب عند تركيب الجمل، وغير ذلك من الظواهر .
وحين وضع المجمع " العامي الفصيح " ليكون مجالاً لبحث في المؤتمر، اتجهت إلى المعجم الوسيط، واقترحت توزيع مادته على السادة الزملاء أعضاء المجلس الموقر ، لاستخراج ما فيه من العامِّي الفصيح ، ولما لم يتم هذا رأيت أن أبدأ بنفسي بتقديم الموضوع ، ثم اتجهت إلى المعجم الوسيط فقرأت منه أربعة أبواب : باب الهمزة ـ باب الباء ـ باب التاء ـ باب الثاء . وأخرجت منها المفردات التي توضع تحت عنوان " العامِّي الفصيح " .
وفي مؤتمر الدورة السابعة والخمسين تقدمت بحرفين من حروف الهجاء تحت عنوان " العامي الفصيح من المعجم الوسيط "وهما: باب الجيم ـ باب الحاء .
وفي مؤتمر الدورة الثامنة والخمسين
تقدمت بأربعة أحرف، تحت العنوان المذكور هي:باب الخاء ـ باب الدال ـ باب الذال ـ باب الراء .
وفي مؤتمر الدورة التاسعة والخمسين تقدمت بأبواب ( الزاى، والسين،والشين، والصاد، والضاد ) وهي خاتمة الجزء الأول من المعجم الوسيط .
ثم أعود في مؤتمر الدورة الثالثة والستين لأقدم أبواب ( الطاء والظاء والعين ) من المعجم الوسيط ) .
باب الطاء(64/1)
الطابور ... : جماعة العسكر ، والصف . والطابور الخامس - من العوام من يعرفه ، وهم أنصار العدو من أهل البلد أو المقيمين فيه ، وهو دخيل .
طأطأ ... :من الشيء : خفض من شأنه . وطأطأ رأسه : خفضه . والعوام تسهل الهمزة ، وتسهيل الهمزة عند كثير من القبائل العربية شائع مشهور .
الطب :والطبيب والطبيبة، وطببة من
معجمهم ، ومن كلامهم من حب طب .
طبخه : أنضجه،وشواه.وطبخ الطوب أحرقه . وطبخ الطعام، وانطبخ الطعام. والطباخ: الطاهي. والطبخ بمعنى المطبوخ. والمطبخ : موضع الطبخ،والجمع مطابخ – كل هذا من العامي الفصيح .
طبطب : الماء والسيل ونحوهما:صوت في تلاطمه. والطبطبة:حكاية صوت الماء ونحوه، وحكاية وقع الأقدام عند السير – هذه المعاني لا يعرفها العوام، ولكنهم يعرفون اللفظ ويستعملونه بمعنى آخر، فيقولون: طبطب على اليتيم، بمعنى مسح على كتفيه ووضع يده على ظهره سمة للحنان والعطف عليه، والطبطبة عندهم: الحنان والتدليل.والطبطابة معروفة عند كثير منهم وهى خشبة عريضة ، تُلعَب بها الكرة .
طبع : يعرف العوام كثيرًا من
استعمالات هذه المادة،فيعرفون طبع الكتب والصحف والمجلات. والطباعة: حرفة الطباع أو الطابع. والمطبعة بفتح الميم: اسم المكان المعد لطباعة الكتب. والمطبوع :ما طبع.ومن كلامهم فلان مطبوع على حب الخير. ومنه فلان تطّبع بطبع فلان، أي تخلق بأخلاقه . وتطبيع العلاقات يعرفه رجل الشارع.وطبع الرجل أولاده على كذا : عوَّدهم عليه .
طبق : يؤكل فيه.والطبقة الدرجة والمرتبة. والمطبقية :ما نصف فيها الأطباق. والطابق، والطابوق، وانطبق،ومطابق،ويطابق، وغيرها من المشتقات يعرفها العوام .
طبل : الطبل معروف عندهم ومثله الطبلة. والطبلية التي يؤكل عليها والطبال صاحب الطبل، أو الضارب عليه، أو الماهر فيه .(64/2)
طبن :العوام يستعملون (الطابونة) ويجمعونها على طوابين ، ويطلقونها علي المخبز أو الفرن ، وقد أثبتها المعجم الوسيط على أنها من استعمال المحدثين .
طث ... : العوام يعرفون هذه المادة بإبدال
... الثاء سينًا ،فيقولون :طس فلان فلانًا بمعنى :ضربه ودفعه ،وقد وردت في الفصيح كما سيأتي :
طجن : الطاجن صحفة تتخذ من الفخار، ينضج فيها الطعام في الفرن ،ويصفون هذا الطعام بأنه مطجن .وجمع الطاجن طواجن، والكلمة معربة ومعروفة .
طحطح : الشيء طحطحة:كسره وبدده إهلاكًا، ويقولون: فلان مطحطح – بكسر الميم في أوله - إذا كان شيخًا هرمًا .
طحل : الطحال معروف عندهم في الإنسان والحيوان ،ويضمون الطاء .
طحلب : والطحلب كذلك،ولكنهم يجعلون الطاء تاء أو دالاً ويجمعونه علي طحالب .
طحن : الحب وغيره طحنًا: صيره دقيقًا،
والطاحونة وجمعها طواحين، والطحان الذي يعمل في الطاحونة، والطحن ، والطحين، والمطحن آلة الطحن ومكانه، وجمعها مطاحن.وانطحن الحب، والعامة يسمون هذه الآلة : مطحنة - بفتح الميم، والفصيح كسرها .
طخَّ : الشيء طخًّا: رماه وأبعده، وطخ: شرس وساء خلقه، وتجرى علي ألسنتهم عبارات تحتوى على هذه المادة،كقولهم: فلان طخ فلانًا بالبندقية، وقولهم : طخَّه بلسانه أي شتمه ويطلقون على الأحمق صفة طخاخ .
طرأ : ومشتقات هذه المادة من معجمهم فيقولون"طرأ لفلان عذر، ويقولون: اعتذر فلان لأمر طارئ. وحالة طوارئ . وقانون الطوارئ .
طرب : من معجمهم: الطرب بمعنى الغناء وبمعنى الارتياح، ويسمون
المغنى الحسن الصوت بالمطرب.
الطوربيد : معروف لهم وهو دخيل .
الطربوش : معروف لهم أيضًا وهو دخيل وجمعه طرابيش .(64/3)
طرح : يعرفون من هذه المادة : الطرح،وطرح البحر في مصر : ما يعلو على ضفة النيل من الغرين ويزرع،ويعرفون الطرحة وبخاصة طرحة العروس ، والمطرح : المجلس والمسكن ونحوهما،والمطرحة: ما يطرح بها الخبز في الفرن( وهي مولدة ) ويجمعونها على مطارح. ومن كلامهم: فلان جلس مطرح فلان، أو أخذ مطرح فلان في العمل .
طرد : يعرفون هذه المادّة، ويستخدمون مشتقاتها في أحاديثهم : كالطرد والطارد والمطرود ومطاردة اللصوص، والطرد يرسل في البريد ونحوه ، والطرادة والطراد من السفن الحربية الكبيرة، ويجمعون المطرود على المطاريد،ولهذا الجمع وجه في الفصحى .
طرز : يعرفون التطريز والطرزى ويجعلون طاءها تاء ، والطراز والمطرز، ويقولون هذا الشيء أحدث طراز، وهذا طراز آخر.
طرش : الطرش ثقل السمع ، والأطرش الأصم،وفلانة طرشاء ، ولكنهم لا يمدون آخره بل يقولون :هي طرشة، بالتاء بدل الألف الممدودة .
طرطر : يعرفون من هذه المادّة: الطرطور- بفتح الطاء - وهو القلنسوة الطويلة الدقيقة الرأس، ويجمع على طراطير.ويستعملون الطرطور مجازًا للشخص الذي لا فائدة فيه . ويقولون هذا الشيء مطرطر بمعنى مرتفع على سبيل المجاز أيضًا .
طرف : طرف كل شيء آخره، وفلان يجلس في طرف الصف،وطرفت عينه من ضربة أو غيرها، وفى العقود يقولون: فلان طرف أول وفلان طرف ثان ، والجمع أطراف( وهو مولدَّ) ويعرفون الطرفاء ولكنهم يجعلونها بالتاء ويقولون : طرفة .
طرق : يعرفون الطريق والطرقة والطارق والمطروق والطرق، وانطرق الحديد بالمطرقة ومن كلامهم : لكل إنسان طريقته في الحياة. ومنه هذا مكان مطروق .
طرم : طرمت بيوت النحل : امتلأت من العسل. وأطرمت أسنانه علتها الخضرة . والطرم الشهد. هذه المعاني لا يعرفها العامَّة، ولكنهم يستخدمون الطرم في موضع الثرم، وهو سقوط الأسنان .
طرى : من معجم العوام طرى بكسر(64/4)
الطاء والراء والفصيح: طرى . والصفة منه طرىّ ومنه الطراوة أيضًا ومن كلامهم طرّاه أي جعله طريًّا .
الطازج : عند العوام طازة - بتاء بدل
الجيم ، وهي معربة وأصلها ( تازة ) .
الطست : إناء كبير مستدير من نحاس أو نحوه يغسل فيه معروف عندهم بالشين المعجمة. ويعرفون طس فلانًا "طعنه أو خاصمه أو ضربه. والطست معرب ( تشت ) والجمع : طسوت .
الطشت : الطست وقد أقر المجمع استعمال العوام لها بالشين .
الطشاش : من المطر:الرشاش.والطشاش: ضعف البصر، ومنه المثل : الطشاش ولا العمى، وهو من معجمهم .
الطعم : والطعام كل ما يؤكل ، والتطعيم بزرع غصن من غير شجره ليتكون منهما ثمر جديد،وطعم الخشب بالصدف ونحوه، واستطعم الشيء : وجد طعمه لذيذًا. والطعم:ما تدركه حاسة الذوق من طعام أو شراب. والطعم: ما يلقى للسمك وغيره لاصطياده، والمصل يحقن به الجسم ليكتسب مناعة من المرض . والطعمية معروفة(وهي محدثة). والمطعم :مكان يقدم فيه الطعام بالثمن ويجمعونه على مطاعم . كل هذا من معجم العوام .
الطعن : العيب، والطعن في الأحكام القضائية،والطعن بالرمح ونحوه، والطعن في العرض أو في الرأي أو في الحكم ، والطاعون كل هذا معروف عندهم .
الطغام : أرذال الناس وأوغادهم . بعض العوام يعرف هذا ، ويعرف أن الطغومة هي الدناءة والضعف والحمق .
الطغيان : من معجم العوام : فلان طغى بمعنى جاوز الحد. وفلان طاغية بمعنى عظيم الظلم، وفلان طاغوت من الطواغيت.الطغيان سبب من أسباب الخراب، وأطغاه المال والسلطان.
الإطفاء : يعرف العوام:المطافئ بأنواعها المختلفة، ولا يعرفون مفردها وهو المطفأة، ويستدعون رجال الإطفاء إذا شب حريق في مكان ما .
الطفح : طفح الإناء أو النهر أو الحوض ونحوه طفحًا: امتلأ حتى فاض من جوانبه، ومن كلامهم طفح الكيل – إذا جاوز الأمر حده .
طفس : يعرفون مقلوبها فطس أي مات، ويعرفون طفس طفاسة بمعنى قذر واتسخ،وهو طفس .(64/5)
طفف : يعرفون تطفيف الكيل والميزان، وهو البخس،ويعرفون الآية الكريمة :"ويل للمطففين " والطفافة: الشيء اليسير . والطفيف الشيء القليل .
طفل :يعرف العوام من هذه المادة مشتقات كثيرة منها الطفل والأطفال والطفولة والتطفل والطفيلي الذي يغشى الولائم دون دعوة .
طفا : الشيء فوق الماء : علا ولم يرسب، ويعرفون: الأشياء الطافية على سطح الماء .
الطقس : الطقس والطقوس معروفة عند النصارى. والعوام يعرفون الطقس بمعنى حالة الجو، وهي محدثة وجمعها طقوس.
طق : طق طقا – صوت . طقطق : صوت أو كثر صوته .
الطقم : مجموعة متكاملة من الأدوات تستعمل لأغراض خاصة،وجمعه أطقم (مجمعية) .
الطلب : مادة معروفة عند العوام بأكثر مشتقاتها مثل طلب – يطلب – اطلب – طالب – مطلوب – الطلاب – الطلبة – المطلب – المطالب – الطلب – الطلبات …
الأطلس : يعرفه أولياء الأمور من أبنائهم الطلاب .
طلسم : الساحر ونحوه:كتب طلسمًا، ومن كلام الصوفية:سر مطلسم وحجاب مطلسم وذات مطلسم : غامض. ويقال طلسمه أي أزال غموضه ووضوحه وفسره .
طلع : مادة معروفة عندهم أيضًا بأكثر مشتقاتها مثل: طلع . يطلع . أطلع . طالع . وطالع المقال مطالعة: قرأه. وطلع النخل معروف – ومن كلامهم: لفلان تطلعات – الاستطلاعات معروفة عندهم لكثرة جريانها على الألسنة وفي الصحف والمجلات. وكذلك الطلائع.ومن كلامهم :صاحب الطلعة البهية. ويعرفون طليعة الجيش ، ومطلع الفجر ، والمطلع عندهم مكان الطلوع في مرتفع من المرتفعات .(64/6)
طلق :العوام يعرفون من هذه المادة أكثر ما تدل عليه فيعرفون طلاق المرأة من زوجها ، ويعرفون طلاقة الوجه ، وطلاقة اليد بالخير، وطلاقة اللسان ، والطلق يصيب المرأة في المخاض وهو وجع الولادة، ويعرفون إطلاق الأسرى، وإطلاق الماشية لترعى، وإطلاق الخيل للسباق، وإطلاق المدفع ، وهذا الاستعمال مولد، ويعرفون الانطلاق بمعنى الذهاب والمرور ومضي الخيل إلى الغاية في السباق، ويعرفون الطالق من النساء وهي المحررة من قيد الزواج.ويقولون رجل مطلاق، أي كثير التطليق للنساء .
طل :من معجم العوام هذه المادة وهم يقولون أطل علينا بمعنى دنا واقترب، والطل المطر الخفيف، والندى والطل:ما بقي شاخصًا من آثار الديار. ويستعملون الطل بمعنى البرد الشديد ، ولهذا الاستعمال صلة بالاستعمال الفصيح ؛ لأن المطر قد يصحبه برد في الغالب .
طلمس : من معجمهم: طلمس الكتابة بمعنى محاها أو أزال بعض حروفها .
طلى الشيء بكذا : دهنه بما يستره .
طمر الشيء طمرا : ستره – وطمر البئر ردمها - وطمر المطمورة ملأها بالطعام أو غيره والطمر الثوب الخلق البالي. والمطمورة مكان تحت الأرض قد هيئ ليطمر فيه البر والفول ونحوهما .
طمس الشيء : شواهه أو أزاله .
طمطم : مع كلامهم مطمطم بمعنى ممتلئ. والطماطم معروف عندهم، ويطمطم في معجمهم معناه يتكلم بما لا يفهم .
طمع : الطمع، وطمعه، يتطمع – بالإدغام: يطمع وكسر ياء المضارع. والطماع: الكثير الطمع. والمطمع: الطمع وما يطمع فيه .
طم الشيء : كثر – طم فلان الحفرة بالتراب:ردمها وسواها بالأرض . والطم : الماء الكثير ، والطامة يعرف العوام أنها يوم القيامة .
اطمأن : من معجمهم : اطمأن فلان في مسكنه بمعنى استقر . واطمأن القلب بمعنى: سكن بعد انزعاج . وبعضهم ينطق كلمة " الطمأنينة " يريد بها الاطمئنان.ويقولون: فلان عنده اطمئنان أي ثقة وعدم قلق .(64/7)
طما الماء :ارتفع وملأ النهر.والطمى يحمله السيل ويستقر على الأرض رطبًا أو يابسًا من معجمهم .
الطنيب :من وجبت عليك إجارته وحمايته، ومن عباراتهم: أنا طنيب فلان أي مستنجد به .
الطنبور : آلة من آلات اللعب واللهو والطرب ذات عنق وأوتار. وآلة من آلات الري تدار باليدين . ( محدثتان )
الطَّنْج : الصنف والنوع ومن عبارات الأمهات لأبنائهم : فلان ليس من طنجك فلا تصاحبه .
الطَّنْجرَةُ :قدر أو صحن من نحاس أو نحوه من المعروف عندهم .
طنطن : دندن. الطنطنة : كثرة الكلام والتصويب والكلام الخفي والدندنة .
طَنَّفَ : طنَّفَ فلان للأمر : فعله . ومن كلامهم : فلان يطنف عندنا كل حين أي يزورنا .
طنَّ طنينًا : صوت ورَنَّ. يقال: طن الذباب، وطن النحاس، وطن العُود وطنت الأذن.والطُّن:وزن للأثقال، يقدر كيلو جرام ، والجمع أطنان. والطنّان: فعّال من طنَّ يقولون: قصيدة طنانة أو طنانة رنانة، يريدون : ذائعة الصيت والذكر في الأقطار . والطنين نوع من الأصوات كصوت الناقوس والعود، ويقال:خطبة أو مقالة أو قصيدة لها طنين أي صدى وذكر وجلجلة في المحافل .
الطَّهارة : النقاء من النجاسة والدنس والبراءة من كل ما يشين . وطهارة الحائض أو النفساء : انقطاع الدم أو الغسل "وطَهّر الشيء بالماء وغيره جعله طاهرًا. وطهّر الولد: ختنه. وطهر القناة أو الترعة: أخرج ما رسب فيها من الغرين (محدثة)، والطاهر النقى، ومن كلامهم :فلان طاهر الثوب أو الذيل أو العرض أي نزيه شريف، والطاهر من الماء : الصالح للتطهر به – كل ما استعمل من هذه المادة من معجم العوام.
الطاهي : الطباخ والجمع طهاة ،
والطهى:الطبخ والإنضاج من معجمهم .
الطوب : واحدته طوبة - قيل : إنها لغة مصرية قديمة.والطوّاب: صانع الطوب .
طوبة ... :خامس الشهور القبطية – هذا كله معروف لهم .(64/8)
طاح : طاح الشئ من يده:سقط. وطوّحه: ضيّعه أو: توهه. وتطّوح:جاء وذهب فى الهواء وغيره، وتطوّح فى البلاد ونحوها :ذهب هاهنا وهاهنا .
الطّود : الجبل العظيم.والمُنطاد: ضرب من الطائرات، يصنع من النسيج ويملأ بغاز الهيدروجين،ويطير في جو السماء، حاملاً في أسفله سلة كبيرة تستعمل في الركوب ونحوه (محدثة )ويعرفها العوام.
طار : طار الشيء:حام حوله – طوّره: حوّله من طور إلى طور.تطوَّر: تحول من طور إلى طور(مج) التطوّر: التغير التدريجي الذي يحدث في بنية الكائنات الحية وسلوكها ،ويطلق أيضًا على التغير التدريجي الذي يحدث في تركيب المجتمع.والطوار :جانب الطريق المرتفع قليلاً يمر فوقه المشاة(محدثة). والطور: المرة والتارة. والحدّ – يقولون: تعدى فلان طوره أي جاوز حده وقدره.والحال والهيئة – يقولون: فلان على طوره، ولكنهم يضمون الطاء ويجعلون الواو حرف مد،بعد أن كانت حرف لين من فتح الطاء .والطور بضم الطاء : الجبل .
الطاس : إناء من نحاس ونحوه يشرب
فيه أو به، والعامة يقولون: طاسة .
الطاووس : طائر حسن الشكل كثير الألوان، يبدو كأنه يعجب بنفسه وبريشه، ينشر ذَنَبه. ويطلقونه على الجميل من الناس ونحوهم .
طوش : طوّش فلانًا : خصاه وجَبَّ ذكره، والطواشى:الخَصِىّ،وهم طواشية –هذا من معجم العامة.
الطاعة : الطاعة: الانقياد .وطاوعه فيه: أطاعه .ومن كلام العوام: أمر مطاع ،وأمرك مطاع . وطوّعت له نفسه كذا : أطاعته وزينته وشجعته عليه.وانطاع له: خضع وانقاد. وتطوّع : تكلف الطاعة، وتنفل وقام بالعبادة طائعًا مختاراً دون أن تكون فرضًا – وتطّوع للجندية، وهم يقولون :اطّوع، بالقلب والإدغام، وأصله تطوع. واستطاع الشيء: أطاقه وقدر عليه وأمكنه.ويقولون: هو طوع يدك أو إرادتك أي منقاد لك. ويعرفون الطّيِّع بمعنى الطائع. والمطاوع : المطيع الموافق. والمطواع من يسرع إلى الطاعة .والمطَّوِّع : المتطوع للجهاد أو لعمل الخير .(64/9)
طاف :طاف حوله وبه وعليه وفيه:دار وحام. وطوّف مبالغة في طاف. وتطوّف: طاف . الطائف: حارس البيوت، ومن كلامهم : الطوّافة حاضرون- الطوّاف حول الكعبة معروف عندهم والطوف عندهم بضم الطاء: جدار ونحوه يقام حول قطعة من الأرض. الطوفان: ما كان كثيرًا أو عظيمًا من الأشياء أو الحوادث بحيث يطغى على غيره، والفيضان العظيم كالذي أهلك قوم نوح. والطوّاف : الكثير الطوَاف ، وموزع البريد في القرى ( مولد ) والمطاف: الطواف ، وموضع الطواف حول الكعبة وغيرها. والمطوِّف: من يقوم على إرشاد الحجاج إلى ما يتعلق بمناسك الحج .
طاق : طاق الشيء طوقّا :قدر عليه . طوَّقه الطُوق وبه :ألبسه إياه –والطاقة بمعنى القدرة وما يستطيع الإنسان أن يفعله بمشقة، وطاقة الزهر أو الريحان: عيدان أو زهر.والطوق:القدرة، وكل ما أحاط بشيء خلقة كطوق الحمام، أو صنعة كطوق الذهب والفضة يحيط بالعنق ، والعامة تضم الطاء .
طال : طال الشيء طولاً:علا وارتفع. وأطال عليه الليل وغيره: طال ؛ وأطال الشيء: جعله طويلاً ، وقالوا أطال الله بقاءة: مدَّ في عمره.وأطوله أطاله، وطاول فلانًا في الدين ونحوه: ما طله وتأخر في أدائه،طوّل الدابة : أرخى لها حبلها، وتطاول عليه: اعتدى والطاولة: لعبة النرد (دخيل ) والمائدة(دخيل) والطوال: الطول ومدى الدهر، ويقولون:لا أكلمه مدى الدهر، والطّوالة:مذود البهائم (محدثة ) والطُّول : مقابل القِصَر أو القرض،والطويل خلاف القصير أو العريض ويقولون: فلان باعه طويل أي جواد، وطويل اليد (عند المعاصرين) الخائن واللص أو السريع الاعتداء باليد .
طوى : طوى الشيء طيًّا : ضم بعضه على بعض ، أو لف بعضه فوق بعض ،وطوى السر: لم يظهره، وطوى بطنه: أجاع نفسه. ومن كلامهم : فلان حسن الطوية ، أي نقى الضمير.والمطواة:سكين صغير ذو نصل أو نصال تطوى في النصاب(محدثة) والعوام ينطقونها بفتح الميم وحذف المد فيقولون : مطوة.(64/10)
طاب : طاب الشيء:جاد وحسن ولذ وصار حلالاً،وطابت الأرض : أخصبت، وطابت نفسه عن الشيء : تركه راضياً، وطيَّب الشيء :صيره طيبًا ، وطيب خاطره: أرضاه ولاطفه ومازحه أو هدَّأه وسكنه، والأطيب يثنى فيقال: الأطيبان وهما الأكل والنكاح، أو النوم والنكاح أو الشحم والشباب، والطيب : ما يتطيب به من عطر ونحوه والطيِّب:الأفضل من كل شيء، ومنه قولهم:طيب العيش وطيب الحياة، والطّيب: كل ما تستلذه الحواسّ، وكل من تخلى عن الرذائل وتحلى بالفضائل . يقولون : فلان طيب القلب أي طاهر الباطن، وامرأة طيبة أي عفيفة ، ونفس طيبة أي راضية بما قدر لها، وكلمة طيبة أي حسنه جيدة، وبلدة طيبة أي كثيرة الخير، ومساكن طيبة أي طاهرة، والمطايب:خيار كل شيء وأفضله .ومما ابتكره العوام قولهم: فلان مطيباتى أي يزين الأشياء عند البيع أو الشراء أو غيرهما من أنواع التعامل .
أطاح : أطاحه : أى أهلكه وأذهبه .
وطيّحه : طوّحه وأذهبه .
طاخ طاخ أي تلطخ بالقبيح أو الباطل من قول أو فعل ، وجهل وطاش وتكبر – والطائخ: الأحمق والقذر لا خير فيه . وزمن الطِّيخة أي زمن الفتنة والحرب. لا يستخدم العوام شيئًا من هذه المعاني لكنهم استخدموا كلمة (طاخ) اسم صوت للطلق الناري، وكأنهم أخذوها من الطيخة بمعنى الحرب .
طار :طار الطائر ونحوه طيرًا وطيرانًا : تحرك وارتفع في الهواء بجناحيه، وطار فلان إلى بلد كذا : سافر بالطائرة إليه.ومن كلامهم :من جاور الحداد تطاير عليه الشرار. وتطيّر بمعنى تفاءل وتشاءم.والطائر من الحيوان: كل ما يطير في الهواء بجناحين ويقال في الدعاء للمسافر: على الطائر الميمون. والطائرة معروفة وتستعمل في النقل وفى الحرب وهى (محدثة ) كذلك المطار والطيار .
طاش : طاش طيشًا وطيشانًا : اضطرب وانحرف.يقال : طاش فلان أي نزق وزل وطاش عقله: خفّ وتشتت وطاش السهم أي لم يصب الهدف. والطائش : الأهوج، والذي لا يصيب إذا رمى .(64/11)
طيَّن : مبالغة في طأنه بمعنى لطِّخه بالطين ، والطيان:صانع الطين ومباشره، والطين معروف ، والطينة قطعة منه .
باب الظاء
الظبي :الغزال، وهو معروف عندهم، ويشبهون به،فيقولون :مشية غزلانية .
ظَرُف : يعرفون من هذه المادة: الظرافة والظرف،ولكنهم يضمون الظاء في الظرف ،ويعرفون : الظريف بمعنى الحسن، ويعرفون:تظارف أي تكلف الظرف وليس بظريف ،ومثله:تظرّف ، ويعرفون :استظرف فلانًا أي عده ظريفًا. والظرف: الوعاء وكل ما يستقر فيه غيره، والمظروف: ما اشتمل عليه الظرف ،يقال :بعثت بالرسائل مظروفة ( وهذه محدثة ).
ظفر : يعرف العوام من هذه المادة الظفر ولكنهم يقلبُون الظاء ضادًا ويجمعونه على(ضوافر ).
ظلف : الظِّلف : الظفر المشقوق للبقرة والشاة والظبى ونحوها ،ولم أسمع منهم إلا "ذوات الأظلاف" سمعتها من بعضهم.
ظَلَّ : تقلب الظاء ضادًا في استعمال الظل والمُظِلّ،ومن كلامهم: فلان كان شجرة مضلة ، أي كان يعطف على غيره ونطق العوام بسكون الميم في أول الكلمة وبالضاد بدل الظاء . وبعضهم ينطق الكلمة بالظاء عندما يتحدث عن الظلال في الرسم وقد يخرج لسانه في الظاء فيكون النطق فصيحًا. ومنهم من يقول:استظل فلان بشجرة ، وظلّل فلان فلانًا بكذا .ومن كلام العوام : نعمل لك"ضُلِّيلة " ولعل أصلها ظليلة من قولهم :ظل ظليل ،ثم صغرت وقلبت الظاء ضادًا ، فصارت "ضُلّيلَة " .
ظلم : مادة كثيرة الدوران على ألسنتهم وكذلك مشتقاتها وهم يستعملون الظلم كثيرًا في أحاديثهم وكذلك يستعملون: ظَلَمَ ،ويظلم ،وظُلم وظالم ومظلوم والمظلمة أي ما يطلبه المظلوم . وتظلَّم : شكا الظلم، وتظالم القوم : ظلم بعضهم بعضًا.والظلام: ذهاب النور. ومن معجمهم .ليلة ظَلْمَة بإبدال الظاء ضادًا ومنه: أظلمت الدنيا في عين فلان ،
وأظلم البيتَ : جعله ظلامًا .(64/12)
ظن : الظن :إدراك الشيء بغير يقين ، أو إدراك الشيء مع ترجيحه. ويستعملون من هذه المادة الفعل فيقولون:ظننت وأظن ويا فلان ظن كما تشاء ، والظَّنان عندهم كثير الظن، وظن السوء من معجمهم ، لكن من النادر إخراج اللسان عند نطق الظاء .
ظَهَرَ : ظهر الشيء : تبين ،وأظهر فلان الشيء: بينه ومن عباراتهم : يظهر أن فلانًا سافر ، أو الظاهر أن فلانًا سافر ونحوها . ويعرفون : التظاهر والمظاهرات وظِهَارة الثوب ولكنهم يجعلون الظاء ضادًا ويكسرونها، والظهر خلاف البطن، يقولون : فلان يقرأ القرآن عن ظهر قلبه أي من حفظه دون نظر في المصحف. والظُّهر:ساعة الزوال والظهير: المعين ، وأحد لاعبي كرة القدم ، والمظهر: الصورة التي يبدو عليها الشيء .
باب العين
عبأ : عَبَأ الشيء بمعنى هيأه أو جعل بعضه فوق بعض لا يعرفونها مخففة وإنما يشددونها ويسهلون الهمزة فيقولون:عَبَّى الشيء يعبيه بكسر حرف المضارعة، ويعرفون التعبئة عند الحرب . والعباءة معروفة عندهم، ولكنهم يقلبون الهمزة ياء وهى فصيحة كما جاء في القاموس المحيط ( العباية : ضرب من الألبسة كالعباءة ) وستأتي في (عبا ) .ويعرفون الأعباء التي يتحملونها ،ولا يعرف المفرد منها إلا قليل منهم .
عَبّ : عب الماء أي شربه بلا تنفس أو مَصَّهُ .
عبث : يعرفون العبث بمعنى عمل ما لا فائدة فيه ، ويبدلون الثاء سينًا .
عبد : يعرفون العبادة والعبودية ،
ويعرفون قول الناس: عبد الله وأعبد الله، وفلان يتعبد أي ينفرد بالعبادة، والاستعباد معروف وكذلك:العابد والعُبَّاد، والعبِاد بمعنى الخضوع لله. والعبد: الرقيق، وقد انتهى الرق. وكل إنسان عبد لله . وعبَّاد الشمس : نبات معروف والمعبد: مكان العبادة. ومن العوام من يعرف العبادلة لمخالطتهم أهل العلم .(64/13)
عبر : عبر النهر عبورًا: قطعه من شاطئ إلى شاطئ ، وكذلك الطريق.والعبرات بمعنى الدموع، وعبير الزهر ، وفلان يعبر عما في نفسه، وعَبّر الرؤيا:فسرها . واعتبر الشيء : اختبره وامتحنه واعتد به (مولد)وعابر السبيل : المسافر. والعبارة بمعنى الكلام. والعبرة: الاتعاظ والاعتبار بما مضى، والعجب . والعبور من الغنم : ما كانت فوق الفطيم من إناث الغنم،والعامة تقول : عبورة ،بالتاء في آخرها .
عَبَسَ : يعرف العوام قوله تعالى (عبس وتولى ) – ويقولون:فلان عبَّس حين رآني أي :تجهم ،والعابس والعَبُوس والعباس من معجمهم.
عبط : يقولون :رجل عبيط أى أبله غير ناضج ، وهذا تعبير محدث.
عبق : من هذه المادة يقولون: عبّق (بالتشديد) بمعنى ملأ المكان برائحة طيبة، أو بالدُّخان أو غيره. وفى الوسيط: عبَّق رائحة الطيب : ذكاها .
عبقر : من كلامهم :فلان عبقرىّ بمعنى : لا يفوقه أحد .
عبل : يقولون:جاء فلان بعَبَلِهِ أي: غير مُعنَى بهندامه ونظافته وأصله من الشجر يكون عليه ورقه لا يشذب ولا يُهذَّب (محدثة) .
عبا :يستعملون المضعف من هذه المادة فيقولون: عبى المتاع والجيش ونحوهما، بمعنى هيأ وجهز وأعدّ.والعباية هي العباءة كما تقدم في (عبأ) وعُبُوَّة الشيء: مقدار ما يملؤه مثل : عبوة كيس القطن قنطار (محدثة).
عتب : يعرفون من هذه المادة: العتاب والمعاتبة وعاتبه وتعاتبوا ويقولون : ما عتبت باب فلان أي ما دخلت داره، واستعتبت فلانًا أي: استرضيته، ويعرفون: عتبة الباب أي خشبته التي يوطأ عليها .
عتد ... : من العامة من يعرف العتاد بمعنى : عدة كل شيء، ومنهم من يعى قول الله تعالى : { وأَعْتَدَتْ لهن متكأً } .
عترس : عترس فى الأمر:أخذ فيه بالجفاء والعنف، والعِتريس: الغضوب الجبار والعامة تفتح العين والفصيح كسرها .
عتق : يعرفون من هذه المادة : أعتق العبد،وعتّق الخمر،وخمر معتقة، والشيء العتيق أي القديم ، والبيت العتيق أي الكعبة .(64/14)
عَتَل : عتله عتلاً أي جرّه جرًّا عنيفًا وجذبه فحمله،والعتّال :الحمال بأجرة، والعَتَلَهُ: عمود قصير من حديد له رأس عريض يهدم به الحائط، ويقلع به الشجر والحجر، والعُتُلّ: الشديد من كل شيء، ومنه: رجل عُتُلّ أي جاف غليظ .
عتَم : عتم الليل: أظلم، وعَتَّم:دخل في وقت العَتَمة،وعَتَمَةُ الليل: ظلام أوله بعد زوال نور الشفق .
عَتِهَ : يعرفون العته بمعنى نقص العقل وسوء التصرف، ويقولون:فلان معتوه .
عتا : من كلامهم:فلان من العتاة أي من المستكبرين المتجاوزين الحد. والعاتي عندهم الجبار الذي لا يرحم .
عَثَّت : عثت العثة الصوف أي أكلته، والعثة : حشرة تلحس الجلود والفراء والألبسة والبسط . العوام تعرفها ، وتجعل الثاء تاء، وتكسر العين .
عثر : عثر على الشيء أي وجده ، والعوام يعرفون هذا ويجعلون الثاء تاء .
عثمان : لا يعرفون أن العثمان فرخ
الثعبان ولكنهم يسمون بعثمان.
عجب : من معجم العوام صيغ كثيرة مأخوذة من هذه المادة منها: هذا الأمر له العجب، وأعجبه الشيء: عجب منه وسُرَّ به، وعجّبه:جعله يعجب، وتعجب من الشيء : استهواه واستماله، واستعجب: اشتد تَعَجُّبُهُ ، ويقولون :هذا أمر عجيب، وقصة عجيبة، وشيء عجيب. وهى عجيبة .
عجر : من العجائب – وليس لأسلوب التعجب القياسي عندهم استعمال مما سمع على ألسنة العوام قولهم :فلان كله عجر وبجر،وقولهم :نحن نعرف عجره وبجره،وهم يقصدون العيوب والمثالب .
عجرف : تعجرف على القوم أي تكبر، وفى فلان عجرفة أي جفوة في الكلام وخُرْق في العمل، وعجارف الأيام : أحداثها وصروفها وقالوا: فلان متعجرف، وأكثرهم ينطقونها فصيحة .(64/15)
عجز: عَجَزَت المرأة أى صارت عجوزاً كبرت و أسنت. و عجزَ عن الشيْء :ضعف.و لم يقدر عليه، فهو عاجز و الجمع عجزة ويعرفون ملجأ العجزة والأيتام. وعجّزت المرأة:صارت عجوزاً، و عجَّزْتُ فلاناً:ثبطته و عوّقته. والعجوز:الهرم،للذكر و الأنثى،و أيام العجوز معروفة عندهم، و المعجزة للأنبياء والرسل معروفة عندهم وهي أمر خارق للعادة يجيْء تأييداً للنبوة.
عجعج : نسمعهم يقولون عمن يكثر صياحه ويقل عمله: فلان عجعاج .
عجل : من معجمهم: العجلة من الشيطان. وفى العجلة الندامة ، والعجلة: السرعة وعجَّل الشيء، وتعجَّله : أخذه بسرعة واستعجله، والعجل: ولد البقرة والجمع : عجول . وعجلة القيادة: العجلة التي يوجه بها السائق السيارة ونحوها(محدثة) والعجلة : الدراجة معروفة . والمعجَّل: المقدم،ومنه معجل الصداق وهو ما يدفع من المهر عند عقد النكاح .
عجم : يعرفون الأعجمي بأنه واحد العجم ،وربما يطلقونه على الأخرس ويقولون:لسان أعجمي أي غير عربي ، والعجم غير العرب، والواحد منهم عجمي. والعجماء : البهيمة ، ولكنهم يحذفون المدة والهمزة ويجيئون بالتاء في آخرها فيقولون عَجْمَة .
عجن : عجن الدقيق بالماء: خلطه ولاكه. والعجّان : من مهنته العجْن. والعجين:الطحين المعجون بالماء . والمعجن : ما يعجن فيه والعوام يفتحون الميم. والمعجنة - بكسر الميم ما
يعجن به – والمعجون من الأدوية ما عجن .
العجوة :ضرب من أجود التمر بالمدينة. والعوام يعرفون العجوة بأنها ما يخلط من التمر بعضه ببعض ويركم .(64/16)
عَدَّ : عد الدراهم وغيرها :حسبها وأحصاها . وعَدّد الشيء أحصاه. وعدّدت النائحة : ذكرت مناقب الميت . واعتدت المرأة :دخلت في عدتها بعد الطلاق أو وفاة الزوج. واعتدت:انقضت عدتها. واعتد بالشيء : أدخله في الحساب والعدّ، ويقولون : هذا شيء لا يعتد به أي لا يهتم به. ومن كلامهم:تعدّدت الأسباب.. واستعدّ له : تهيأ ، والاستعداد للأمر معروف عندهم.والتعداد: إحصاء السكان في فترات معينة(محدثة) والعدد : مقدار ما يعد، والأعداد.والعدّاد: آلة تستعمل لقياس الزمن أو سرعة بعض الآلات أو الكمية المستهلكة من الماء أو الكهرباء أو الغاز أو نحوها ( مجمعية ) والعُدَّة ما يستعمل في العمل من أدوات، والعامة يكسرون العين. والعدَّة للمرأة: مدة تقضيها بلا زواج بعد طلاقها أو وفاة زوجها .
عدس : العدس معروف عند العوام ومنهم من يفتح العين والدال ، ومنهم من يسكن الدال ،وإذا لم ينقشر يقال له :عدس أبو جبة . والعدسة في المنظار الطبي وفى آلات التصوير وفى المكبرات يعرفها العوام .
عدل : عدل في حكمه إذا حكم بالعدل، وعدل عن هذا الأمر أي رجع عنه، وعادل بين الأمرين أي سوَّاهما، ومنه معادلة الشهادات، وعَدَّل الشيء إذا أقامه وسوَّاه ، وعَدَّل الشاهد إذا زكاه، واعتدل إذا توسط بين حالين ويقولون: ماء معتدل، أي بين الحار والبارد، وجو معتدل، أي بين الحرارة والبرودة، وجسم معتدل، أي بين الطول والقصر،أو بين البدانة والنحافة، والتعادل بين الفريقين في المباريات الرياضية وغيرها، واعتدال الليل والنهار، والعدالة ورجال العدالة، والمعدَّل في التقدير، والعديل : المثل والنظير، وعديل الرجل : زوج أخت امرأته ، ومن أعلام الذكور: عادل ، ومن أعلام النساء عديلة - كل هذا وغيره من معجم العوام .(64/17)
عدم : عدم المال إذا فقده،وفلان معدم أي فقير ، وهو عديم الحيلة ، أي عاجز عن تصريف أموره، وحكم القاضي بالإعدام، أي بإزهاق روح المجرم ، وحال فلان عدم، وهو عديم، أي فقير لا مال له. ونبات عديم الرائحة (مولد) والمعدوم غير الموجود، ويقول العامة:فلان عدمان بمعنى ضعيف أو مريض، وهذه الصفة لم ترد في القاموس المحيط ولا في لسان العرب ولا في المصباح المنير .
عدن : يعرفون من هذه المادة: المعدن والمعادن، ويقولون: فلان معدنه طيب،وهو معدن الخير والكرم، معنى الأصل ، ويفتحون الدال والفصيح كسرها .
عدا : من معجمهم: سباق العَدْو. والعداؤون. والعُدْوان على حق الغير . وفلان يعادى فلانًا أي يخاصمه ويصير عدوًّا له . واعتدى عليه بمعنى ظلمه . وكذلك: تعدّى. ويستخدمون العبارة الكريمة: { لا عدوان إلا على الظالمين } والمعَدِّيَّةُ : المركب يعبر عليها من شاطئ إلى آخر ( محدثة ).
عذب ... : يعرفون : الماء العذب، والشراب العذب، والحديث العذب.وعَذَّبَ فلانًا: عاقبه ونكل به. والعذاب: العقاب والنكال، وكل ما شقّ على النفس ويعرفون الحديث الشريف: "السفر قطعة من العذاب"ويعرفون عذبة العمامة، ولكنهم يجعلون الذال دالاً .
عذر : عذر فلانًا فيما صنع: رفع عنه اللوم فيه، ومن عباراتهم: لفلان العذر في هذا الأمر . واعتذر فلان أي صار ذا عذر، واعتذر عن فعله : تنصَّل واحتج لنفسه.تعذَّر عليه الأمر: شق وتعسر. واستعذر إليه : قدم إله الاعتذار .والعذر : الحجة التي يعتذر بها. والعذراء: البكر ، وأحد بروج السماء والمعذرة: الحجة .
عذل : عذله بمعنى لامه ، ومنهم من يحفظ المثل القائل : "سبق السيف العذل ".والعُذَّال بمعنى اللُّوَّام تجرى على ألسنة العامة وتشيع في أغانيهم . وكذلك العواذل. ولكنهم يستعملون الجمعين للمذكر والمؤنث .(64/18)
عرب : من معجمهم: العَرَب والعُرْب والأعرابيّ والأعراب، وتَعَرَّب بمعنى تشبَّه بالعَرَبِ. والعَرَبُ : أمة من الناس سامِيَّة الأصل، منشؤها جزيرة العرب، والنسب إليها: عربي ، ويقال:لسان عربي، ولغة عربية، والعربة معروفة عندهم ولكنهم ينطقونها (عَرَبيّة)وقد يضيفون إليها كلمة (كارّو) .والعَرْبون بفتح العين فصيح وهو ما يعجل من الثمن على أن يحسب منه إن مضى البيع . وعربنه : أعطاه العَربون .
عَرْبَد : ساء خلقه ،وعربدة السكران ، والعربيد عندهم بفتح العين الكثير العربدة والشرير ومن يؤذى الناس فى سكره .
عرج : العرج والعَرَجان والأعرج والعُرْج معروفة عند العامة والفعل عَرَج بفتح الراء والفصيح كسرها . والمعراج الذي عرج عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء من معجمهم ، وتعاريج النهر منعطفاته من معجمهم .
عَرَّ :عرَّ فلانًا : لقبه بما يشينه وساءه ورماه بما يكره. والمعتر: الفقير ، والمعَرَّة:الأذى والإساءة والمكروه .
عرس : العرس : الزفاف والتزويج. والعروس: المرأة وكذلك الرجل والعروسة: الزوجة (محدثة) والعريس: الزوج والجمع: عرسان.
العرش :الملك وسرير الملك، ويقولون : استوى الملك على عرشه، والعريش:ما يستظل به،وما يصنع للعنب كي يعلوه،والعريش : السقف، وعَرَّش البيت سقفه .
العرصة : قرص من الطين المحروق أو صفيحة من الحديد تثبت في التنور لينضج عليها الخبز وغيره (مولد).(64/19)
عرض :عرض له أمر،وعرض له عارض، وعرض الأمر على صاحبه، وعرض الشيء : أظهره لذوى الرغبة في شرائه ،وعرض الدابة على الحوض: سامها أن تشرب ، وعارض فلانًا معارضة : جانبه وعدل عنه ،وعارض الكتاب بالكتاب: قابله به،وعارض فلانًا: ناقضه في الكلام والرأي، ( في القضاء ) عارض في الحكم الغيابي: رفعه إلى المحكمة التي أصدرته طالبًا إلغاءه أو تعديله (مجمعية) وعَرَّض الشيء:جعله عريضًا، وعرَّض فلانًا لكذا : جعله عرضة له. واعترض عليه : أنكر قوله أو فعله،تعارضا: عارض أحدهما الآخر، تعرَّض: تصدَّى، وتعرَّض فلان لكذا: صار عرضة واستعرض القائد الجند، واستعرض عضلاته، والعارض: الآفة تعرض في الشيء، والمانع، والعارضة: يقال : إجازة عارضة يمنحها الموظف لعارض طرأ له (مولدة ) وعارضة الأزياء معروفة.والعرض خلاف الطول،وعرض الحال:طلب مكتوب يقدم إلى صاحب الأمر أو صاحب السلطان؛دفعًا لظلم أو جَرًّا لغنم (محدثة) والعرض : ما يمدح ويذم من الإنسان،والعوام يفتحون العين والفصيح كسرها. والعرض بضم العين جانب الشيء ومن كلامهم: ضرب به عرض الحائط ، وأعراض المرض : ما يحسُّه من الظواهر الدالة على المرض (مج) والعريضة : الصحيفة تعرض بها حاجة من الحاجات، وعريضة الدعوى (محدثة) والمعارضة، في القضاء، وفي السياسة.والمعرض: مكان تعرض فيه الأشياء .
عرف : من معجمهم،وكذا عارف وعريف، وعُرف الديك، وعرَّف فلانًا الأمر، واعترف بالشيء ، واعترف بذنبه، وتعارفوا، وتعرف إلى فلان، واستعرف، والعُرْف، والتعريف،والتعريفة(مج)والعَرَّاف، وعرفات، ويوم عرفات، وعرفة، والحكم العرفي، والمعرفة والمعارف، والمعروف خلاف المنكر .(64/20)
عرق :يعرفون العرق بمعنى رشح الجلد، والوصف: عرقان، كما يعرفون العراق والعِرْق بمعنى مجرى الدم في الجسد ومن معارفهم: حقنة في العرق، وبمعنى خشبة مرتفعة طويلة يعرَّش بها سقف البيت ونحوه، والعَرَق:شراب مخمّر مقطر مسكر، يتخذ في مصر والعراق من البلح، وفى الشام من العنب (محدثة) والعَرَق:أجر الأجير أو العامل مجازًا (محدثة ) .
(عرقب):الدابة : قطع عرقوبها، والعرقوب من الإنسان ومن الدابة معروف عندهم، ولكنهم يفتحون العين والفصيح ضمها.ويطلقون كلمة عرقوب على أركان الأرض الزراعية التي لا يصل إليها المحراث، ومن كلامهم : عرقب الأرض أي عزقها وشقها لكي يزرعها مع غيرها، ويسمون كل ركن عرقوبًا بفتح العين أيضًا وهى من المعنى المدون في قول المعجم : والعرقوب من الوادي: ما انحنى منه والْتَوَى ،
والطريق الضيق في الجبل .
المعركة : موضع القتال الذى يعتركون فيه (ج) معارك .
العرمة :الكُومة من القمح المدوس الذي
لم يُذرَّ،والعوام يقولون :الكوم .
العرمرم : يقولون:جيش عَرَمْرَم أي كثير.
العروة : من الكوز:مقبضه ،ومن الثوب والقميص مدخل الأزرار، والعروة عند الزراع :موعد زراعة بعض أصناف الخضر التي تزرع أكثر من مرة في السنة، يقال : إن البطاطس تزرع في عروتين من السنة،وهذا المعنى الأخير أخذه المجمع مما جرى على ألسنة الزراع، ودوَّنه في المعجم الوسيط .
عَرِى : يعرفون من هذه المادة كلمة عريان،ويكسرون العين وهى بالضم .
عزب :ويعرفون العازب والعُزَّاب والعزوبة لمن لا زوج له ، ويقولون:فلان تعزّب زمانًا ثم تأهل، وكذلك المرأة. والأعزب: العازب. والعِزبة: مزرعة فيها مسكن المالك وحوله بيوت الفلاحين (محدثة) .
عزر : فلانًا أي لامه ،والتعزير :اللوم والتأنيف .(64/21)
عَزَّ : فلان بمعنى قوى وبرئ من الذل، وعز الشيء : ندر وقلّ فلا يكاد يوجد، وعز عليه أن يفعل كذا: شقَّ عليه، وهو عزيز عليه أي يحبه ومن دعائهم: أعزك الله - ومن كلامهم : فلان يعتز بكذا أي يحفظه ويدافع عنه . وفلان أعز من فلان أي أقوى وأشد. والعزة: القوة والغلبة.ويحفظون:"لله العزة". والعزيز:اسم من أسماء الله تعالى، ويسمون أبناءهم:عبد العزيز. والمعز: من أسماء الله تعالى ومعناه الواهب العزة لمن يشاء .
عَزَقَ : الأرض أي شقَّها ،وعزق الحقل:كشف تربته السطحية ليتعرض ما تحتها للهواء وأشعة الشمس ( مولد ) .
عَزَلَ : عزله أي أبعده ونحاه،ويقال:عزله من منصبه، ويقال : عزل التبن عن القمح،وعزل المرضى عن الأصحاء بمعنى أنزلهم في مكان منعزل اتقاء العدوى.وانعزل عنه: تنحى وبعد، والأعزل من الناس:من لا سلاح معه. والعازل الكهربائي (مجمعية ) والعُزلة والانعزال من معجمهم ، ومنه : فلان بمعزِل عن كذا .
عزم : عَزَم فلان عزيمة إذا جدَّ وصبر. وعزم على فلان:أمره وشدَّد عليه. وعَزَّم الراقي : قرأ العزائم، وعَزَم على الأمر: أراد فعله وعقد عليه نيته.والعزْم:الصبر والجد. والعزيمة: ما عزمت عليه ، ومنهم من يعرف الفرق بين العزيمة والرخصة، ويعرف الحديث الشريف: " إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه " .
عَزِىَ : يَعْزى عزاء إذا صبر على ما نابه - يعرفون العزاء،ومن كلامهم : يقصر العزاء على تشييع الجنازة . ومنه : عَزَّيْتُ فلانًا أي صبرته لما أصابه. وبرقية العزاء، وكثرة التعازي مما يجرى على ألسنتهم .
عَسَرَ : يعرفون من هذا الأصل: العسر ضد اليسر، ويقرؤون قول الله : { إن مع العُسْر يسرا } وعسر الولادة أي صعوبتها. وعسر المدين أي ضيق ذات اليد. وفلان أعسر أي لا يعمل إلا بيده اليسرى. وفلان معسر أي مفتقر ضيق الحال.والعُسرة:ضيق ذات اليد، ومنهم من يحفظ قول الله : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } .(64/22)
عَسَّ : فلان: طاف بالليل يكشف عن أهل الريبة، وعسعس بمعنى فتش وبحث.
عسف :من هذه المادة عرفوا : تعسَّف بمعنى ظلم، وفلان متعسِّف أي ظالم .
عسكر : العسكر: الجيش . عسكر القوم بالمكان: تجمعوا. والعسكري: الجندي (مولدة ) والمعسكر: مكان العسكر ونحوهم .
عسل : العسل معروف.وعَسَّل النائم: نام
نومًا خفيفًا (محدثة ) والعَسَّال : مستخرج العسل من موضعه وبائعه .والعسل الصافي مما تخرجه النحل من بطونها ،ويطلق على ما يتخذ من الرطب وقصب السكر . والعسل الأسود: عسل قصب السكر (محدثة ).والعَسَلي :ما كان بلون العسل.والمعسول : المخلوط بالعسل.وهو معسول الكلام أي حلو المنطق ومعسول المواعيد أي صادقها .
عسى : من محفوظهم : لعل وعسى ، من لَعَلَّ … من عَسَى .
عشب : العشب والأعشاب من مفرداتهم .
عشر : عشَّرت الناقة: صارت عشراء. تعاشر بالمعروف أو تفارق بالمعروف. يوم عاشوراء .بالقصر: عاشورا، وأكثرهم يلحقون تاء التأنيث بآخره فيقولون: عاشورة. العَشَرة مستعملة عندهم في العدد مذكرًا ومؤنثًا. العُشْر: جزء من
عشرة أجزاء من الشيء .عشيرة الرجل : بنو أبيه الأقربون وقبيلته. وهو حسن العِشْرة أي المخالطة والمصاحبة.وهو عِشَرِىٌّ أي يحب مخالطة الناس .
عُشّ : عشّ الطائر معروف، وعَشَّش الطائر: بنى له عشًا،وهم يكسرون العين والفصيح ضمها، ويجمعون العش على عشاش بسكون العين ، وكأنهم يريدون الجمع في الفصحى وهو : عِشاش وأعشاش .
عشق : يعرفون العشق وهو أشد الحب، ويعرفون العاشق والعاشقة والعشيق والمعشوق ويعرفون التعشيق وعشق الشيء بآخر أدخل طرف أحدهما بين أطراف الآخر.
عشم : العشم بمعنى الطمع ، وتعشّم فلان متعشم مع تغيير الضبط أي بكسر الميم وسكون التاء واشتقوا منها : عشمان .(64/23)
عَشَا :عشا فلان أي ساء بصره ليلاً،وهو أعشى وهي عشواء، وأعشى فلانًا: أطعمه العشاء، وعشَّاه : أطعمه العشاء أيضًا،وتعشَّى: أكل العشاء، ويقال:تَغَدَّ به قبل أن يتعشّى بك ، والعَشَاء:طعام العشِىّ،والعشاء:أول ظلام الليل، أو من صلاة المغرب إلى العَتَمَة، والمساكن العشوائية التي بنيت دون مراعاة لنظام المباني، وكأنها أخذت من قولهم : ركب العشواء أي خبط أمره على غير هدى .
عصب : عصب الشيء عصبًا:طواه ولواه وشده - يقال: عصب رأسه بالعصابة . وعصب الشجرة: ضم ما تفرَّق من أغصانها بحبل. وعَصَّبه أي شده بالعصابة -وتعَصَّب: شد العصابة. وتعصب القوم عليهم : تجمعوا . وتعصَّب فلان :كان ذا عصبية ويقال:تعصَّبت له،وتعصَّب معه :نصره. والعِصَابة :ما يشد به من منديل أو خرقة ، والجماعة من الناس - والعَصَب:ما يشد المفاصل ويربط بعضها ببعض. والعُصْبَة : الجماعة من الناس .وعَصَبة الرجل: بنوه وقرابته لأبيه، أو قومه الذين يتعصبون له وينصرونه. والعصبّي : من يعين قومه على الظلم،أو من يحامى عن عصبته ويغضب لهم ، ويقال : رجل عصبيّ أي سريع الانفعال (محدثة) والعصبيَّة : المدافعة عمن يلزمك أمره.وبعضهم يحفظ العبارة القرآنية: ( هذا يوم عصيب) أي شديد الحر أو شديد الهول .
عصد : لا يعرف العامي من هذه المادة إلا العصيدة،وهى دقيق يضاف إليه ثلاثة أمثاله من الماء كيلاً ،ولا يزال يحرك على نار هادئة، حتى يغلظ قوامه ،فيُصَبّ عليه السمن واللبن المحلى بالعسل أو السكر .(64/24)
عصر : عصر الشيء عصرًا: ضغطه ليستخرج ما فيه، يقال : عصر الثوب وعصر الليمون.والإعصار: ريح تهب بشدة وتثير الغبار . والعصارة :ما يؤخذ من الشيء إذا عصر .والعصر : الوقت في آخر النهار إلى احمرار الشمس . وصلاة العصر .والعصر : الدهر والزمن ينسب إلى ملك أو دولة أو حدث مثل عصر الذرة.والعصَّارة : آلة تعصر بها الفواكه و نحوها (مج) والعصير: ما يؤخذ من الشيء عند عصره، مثل عصير البرتقال . والمعصرة: المكان يعصر فيه السمسم ونحوه لاستخراج الزيت.
العصعص : أصل الذَّنَب ، وهو العُصعُوص .
عصفت :الريح إذا اشتد هبوبها،فهي ريح عاصف أو عاصفة من العواصف يقال: يوم عاصف، وليلة عاصفة ، أي تعصف فيها الرِّيح.
عصفر : الثوب وغيره إذا صبغه بالعصفر، وهو نبات يستعمل زهره تابلاً ،ويستخرج منه صِبْغٌ أحمر تصبغ به الثياب ونحوها، والعصفور : جنس طير ،والأنثى: عصفورة. ويقال : زقزقت عصافير بطنه إذا جاع ، وطارت عصافير رأسه إذا تَكَبَّر ، والعُصْفورة : خشبة على شكل العصفور يغلق بها الباب (محدثة).
عصلب :الرجل أي كان شديد العصب، والعصلب : القويّ الشديد الخَلْقِ من الرجال .
عصلج :الشيء: تعسّر واشتد (محدثة ) .
عصم :عصم الله فلانًا من الشر أو الخطأ: حفظه ووقاه ومنعه . ويعرفون معنى قوله تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا } واعتصام العمال بمصانعهم ،أو الطلاب بمعاهدهم، حتى تجاب مطالبهم. والعاصمة: المدينة التي بها مقر الحكم ،وسموا أبناءهم بعاصم،وحفظوا المثل القائل: ما وراءك يا عصام ؟ وقالوا :فلان عصاميّ أي ساد بشرف نفسه،وحفظ كثير منهم قول النابغة :
نفس عصام سودت عصاما ...
... ... وعلمته الكرَّ والإقداما
ويعرفون العصمة بضبطها الفصيح، ويقولون: العِصمةُ لا تكون إلا لنبى ، والعصمة بمعنى رباط الزوجية يحله الزوج متى يشاء ،وللمرأة حله ، إذا اشترطت ذلك في العقد .(64/25)
العصا : ما يتخذ من خشب وغيره للتوكؤ أو الضرب،وقد يلعبون بالعصا كما يلعبون بالسيف، ويقولون للمستذل:عبد العصا، ومنهم من يحفظ قول الشاعر :
العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه المقالة
والعِصِىّ المملوحة : نوع من الخبز على شكل العصيات الصغيرة (محدثة ) .
(عصاه) : يعصيه معصية وعصيانًا : خرج من طاعته وخالف أمره فهو عاص وعَصِىّ.وتَعَصَّى عليه واستعصى وهو مستعص. والعصيان:الامتناع عن الانقياد.
(عَضَّه ) :أمسكه بأسنانه،والعَضّ ، وعضَّض الشيء: عضه عضًّا كثيرًا .ومن كلامهم :هذا الولد عضَّاض يَعَضُّ أيَّ يد تمتد إليه .
عضل : العَضَلة معروفة عندهم، ومن كلامهم: فلان شديد العضلات. ومنهم من يقول : هذه المسألة معضلة أي مشكلة لا يهتدي لوجهها، ومنهم من يعرف الداء العضال أي الذي لا دواء له.
العُضْو :جزء من مجموع الجسد كاليد والرجل والأذن، والمشترك في حزب أو شركة أو جماعة أو نحو ذلك ، وهو عضو وعضوة (مجمعية) والجمع أعضاء . والعضوية: صفة العضو في جماعة(مجمعية) ومن كلامهم: سقطت العضوية عن فلان .
عَطَبَ : فى مجمعهم من هذا الأصل : عطَّب التشديد، ويعطب، ومعطِّب بكسر الطاء اسم فاعل، وبفتحها اسم مفعول ، ولا يضمون الميم التي في أولها وإنما يسكنونها،مجتلبين همزة وصل قبلها ( امعطِّب - امِعطّب )
عَطِر : هذه المادة بكل مشتقاتها ومصادرها في معجم العوامل مع بعض التغيير في الضبط فالعطر مثلاً بكسر العين في الفصيح، ولكن منهم من يضمها، وعَطّره مُستعملة بضبطها الصحيح ، ومعطر - بتسكين الميم واجتلاب همزة وصل.والعطارة:حرفة العطار. والمعطر عندهم بكسر الميم التي تضم في الفصيح،والعطار: بائع العطر ونحوه .
عطس : عطسًا وعطاسًا،وعطَّسه ، والعطسة - من معجمهم بمعنى اندفاع الهواء من الأنف بعنف لعارض .
عطش : العطش: إحساس بالحاجة إلى شرب الماء،وهو عطشان وهى عطشانة،وفلان متعطش لرؤية فلان، أو متعطش إلى كذا ، وعطّش فلانًا : أظماه .(64/26)
عطف : العطف بمعنى الحنان والرحمة ،
وتعطَّف عليه : وصله وبَرَّهُ وأشفق عليه،وتعاطف القوم: عطف بعضهم على بعض، واستعطف فلان فلانًا، سأله أن يعطف عليه، والعاطفة : القرابة والشفقة والصلة، ومن كلامهم : فلان عاطفي ، وفلان يمشى ورا عواطفه - بقصر كلمة (وراء ) والفصيح المد، وهم لا يستعملون كلمة (وراء) إلا مقصورة، ومن أسمائهم : عاطف للمذكر، وعواطف للمؤنث .
عطل : من كلامهم : فلان عُطُل ـ بضم أوله وثانية مخالفين الفصيح (عَطِل ) ومعناه تعطَّل أي بقى بلا عمل،ومنه: عطّل الشريعة أي أهملها ولم يعمل بها، والعُطْل والعاطل والعطلة، بمعنى بقاء العامل بلا عمل، والعطلة مدة يوم أو أكثر تعطل فيها الدواوين والمدارس ( محدثة ) وتسمى العطلة الأسبوعية، وعندهم العطلة الشهرية والعطلة السنوية ، والعطلة الموسمية كعطلة جنى القطن مثلاً .
عَطَنَ : عطن التيل :ألقاه في الماء ليلين وترق أليافه (مولد)وفلان واسع العطن أي واسع الصبر والحيلة عند الشدائد وسخىّ كثير المال. وضده: ضيق العطن . والمعطن: مكان عطن التيل ونحوه وجمعُه معاطن .
عطا :يستعمل العوام هذا الفعل بمعنى أعطى ، فيقولون: فلان عطانى كذا،وكذلك يستعملون: يعطى بكسر حرف المضارعة ، فيقولون : فلان يعطي، ومن دعاء الأمهات لأولادهم قولهن: ربنا يجعلك تعطي ولا تستعطي. كما يستعملون العطية والعطاء مقصورًا ، ومن أسمائهم :عطية للمذكر، وعطيات للمؤنث .(64/27)
في العدو أي الجري كاجتهاده الأول.
(57)ولأن الثور عدا أول الأمر عدواً سريعًا حين ولَّى وحوله جنابان من الغبار فقد تقدم على الكلاب وجعل يتهمل شيئاً في جريه ، وانطلقت الكلاب وراءه بعدو شديد يختلين الأرض بأظافرهن ، أي ينتزعن ما عليها من نبات الخَلَى وهو العشب الرطب وهن مسرعات . اختلى يختلي أي اقتطع الخَلَى يقتطعه وسبق تفسير الخلي بأنه العشب ويقال له الرطب بضم الراء ما دام رطبًا بفتحها والحشيش إذا كان يابسًا والكلأ أعمّ ، "والشاة يلع " أي الثور يعدو عدوًا جيداً ولكن غير مفرط السرعة تقول ولع الثور يلع ولعًا . على مهلته أي على تقدمه عليهم وسبقه لهن بجريه الأول .
(58)أي هذه الكلاب دنت ولكن لم يلتبسن به أي لم يخالطنه بعضهن له وقتالهن ، والكلاب واثقات أنه إن كر عليهن راجعًا فسيقتل منهن ويجرح وهن سيعضضنه ويجرحنه وتسيل الدماء منه ومنهن ، وكن خائفات من قرنه الذي سيهاجمهن به .
(59) يُرْهِبُ الشَّدَّ إذَا أرْهَقْنَهُ
وإذَا بَرَّزَ مِنْهنَّ رَبَعْ
سَاكِنُ الْقَفْرِ أخُو دَوّيَّةٍ
فإذَا ماآنَسَ الصَّوتَ امَّصَعْ
ويروى :يلهب الشد ويهذب الشد
والشد هو الجري الشديد ، وإهذابه وإلهابه أي الاشتداد فيه وكذلك يرهبه أي ينقل شعوره بالرهبة والخوف إلى جري قوائمة ، فجريه جري خوف يريد به لنفسه النجاة من الهلاك ، إذا أرهقته هذه الكلاب أي اقتربت من إدراكه فإنه يشتد في جريه اشتداداً ، فإذا برز منهن وابتعد مسافة رَبَعَ أي كف من اشتداد الجري ووقف ليستريح وليستعد لهن .(65/1)
هو ثور مسكنه الفقار، أخو الدَّوية أي الصحراء التي يُسمع فيها بالليل دوُّ الجن لخلوها من الناس ولتهيج الرياح في مداها الواسع . الثور معتاد على دوي الصحراء.وهو ذو سمع حاد . فمتى أحس صوتا يدل على حركة إنسان كحركة كلاب الصيد أو رنة الأوتار التي ترمى عنها السهام أو نحو ذلك فإنه يمصع أي يسرع الجري إسراعًا . امصع أي انطلق مسرعًا أصله من مصع فصار انمصع ثم ادغمت النون في الميم.
تعليق :
واضح أن الثور نجا بامصاعه فلم تدركه الكلاب التي كانت واثقة أنه متى عطف نحوها فإنه سيقتلها بقرنه الحاد ، ولم تصبه السهام التي كان يرسلها الصائد فتنطلق الكلاب مع إرساله لها .
وكذلك امصعت ناقة الشاعر في إسراعها لتدرك به سليمى التي حل أهلها بعيداً عن مكانه :
حَلَّ أهْلِي حَيْثُ لا أطْلُبُها
جَانِبَ الْحِصْنِ وحَلَّتْ بِالْفَرَعْ
أي حل أهلي في مكانٍ لا أستطيع أن أطلبها فيه لابد من السير إلى حيث حلت بالفرع .
وأشعرنا سويد أن ناقته قد بلغت به
المكان الذي قصده بسيره السريع وامصاع ناقته كما امصع الثور حين أرهقته الكلاب .
وهكذا ينتهي الفصل السادس وينتقل بعده الشاعر إلى الفخر ، إذ كما انتصر الثور على الكلاب انتصر هو أيضًا على مشقه الصحراء وخلص إلى مطلوبه ولحق محبوبه ، فحق له أن يفتخر بنفسه وبقومه .
(61)من هذا البيت يبدأ الفصل السابع من القصيدة وهو فخر مباشر بضمير المتكلم الجمعي (نا):
كَتَبَ الرَّحْمنُ ، والحَمْدُ لَهُ ،
سَعَةَ الأخْلاَقِ فِينَا والضَّلَعْ
الضلع هو احتمال المسؤولية الاضطلاع أي القيام التام بأمور الناس وتقول هو مضطلع بحوائج الناس إذا كان قويًا على ذلك قادراً عليه والضلع يدل على القوة والشدة وأصله من الضلاعة أي شدة الاضلاع ـ ضلع الرجل فهو ضليع .
والتعابير في هذا البيت إسلامية . وقوله سعة الأخلاق فيه لفظ السعة وهو الذي استعمله في أول القصيدة
حيث قال :
فَوَصَلْنَا الْحَبْلَ منها ما اتَّسَعْ(65/2)
(62)وكتب الله لنا أيضاً أهل إباء وعزة نأبى الدنايا ولا نخضع مثلما يخضع الشخص الذي يكثر عليه الأعداء ولا يجد نصيراً . المكثور الذي كثر عليه أعداؤه وغلبوه ـ كنع كنوعًا أي ذل وخضع .
(63)وكتب الله لنا أننا نبني المعالي، هذا عطاء الله ، أعطانا الله ، والله يرفع من يشاء ويضع من يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء . ولا يخفى أن هذا الكلام إسلامي الروح ليس من كلام الجاهلية .
(64)والله جل جلاله لا يريد في إرادته العالية أن يحولنا عن هذه الحالة العالية أبد الدر ، فأنتم يا حسادنا دونكم جُرع الموت المرة فتجرعوها من غيظكم على ماخصنا الله به من الفضيلة وللموت جرعات مرة : حِوَلاً : تحويلاً . جرع الموت منصوبة بفعل مقدر أي اشربوا جرع الموت غيظًا . أو منصوبة على أنها صفة معنوية لقوله " وبناء للمعالي " بناء يجرعكم غيظًا ، يجرعكم جرع الموت . بناءً جرع الموت لكم أي كجرع الموت لكم من شدة إغاظته لكم.
(65)إباء الدنيات وبناء المعالي وسعة الأخلاق والضلع والقوة على احتمال شدائد الأمور والاضطلاع بالمسؤوليات العظام ، هذه نعم الله رباها فينا وخصنا بها وهذا صنيع الله الذي صنعه ومن يستطيع أن يصنع مثل صنع الله عز وجل . قال تعالى : ( صُنعَ اللهِ الَّذيِ أتقن كلَّ شيٍء ) صدق الله العظيم . سورة النمل ـ آية 88".
ربَّ يربُّ : أي أصلح الشيء وأتمه .
(66)يقول الشاعر بعد أن وصف قومه بسعة الأخلاق وأن ديارهم ديار العز:كيف أقدر على الاستقرار بعيداً عنهم وأنا رجل حر ذو عزة وإباء في بلاد ليس فيها اتساع بلادي ،لا في حسن الأخلاق ولا في كرم المعيشة. شاحط: بعيد الدار. متسع: اتساع ، مصدر ميمي من اتسع .
تعليق :
زعم أحد شيوخ أبي محمد الأنباري وهو أبو جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح أن أبا عكرمة شيخ الأنباري وصاحب رواية قصائد المفضليات التي هي الآن بأيدينا قد أخطأ في ترتيب الأبيات التي تقدمت . وأن ترتيبها الصحيح هو هكذا :(65/3)
كَتَبَ الرَّحْمنُ ، والحَمْدُ لَهُ ،
سَعَةَ الأخْلاَقِ فِينَا والضَّلَعْ
وإباءً لِلدَّنِيَّات إذَا
أُعْطِيَ الْمَكْثُورُ ضَيْمًا فكَنَعْ
وبِناءً لِلْمَعالِي ، إنَّما
يَرْفَعُ اللُهُ ومَنْ شاءَ وَضَعْ
نِعَمٌ لِلّهِ فِينَا رَبَّهَا
وصَنِيعُ اللهِ ، واللهِ صَنَعْ
كَيْفَ باسْتِقْرَارِ حُرٍ شَاحِطٍ
بِبِلادٍ ليسَ فيها مُتَّسَعْ
لا يُرِيدُ الدَّهْرَ عنها حِوَلاً
جُرَعَ المَوْتِ ولِلْمَوتِ جُرَعْ
ومن أجل هذا زعم المستشرق كارلوس ليال أن في الأبيات من القسم الثاني من القصيدة ( من البيت 45 إلى 108 ) فجوات .
وتابع الأستاذان عبد السلام محمد هرون والشيخ أحمد محمد شاكر رحمهما الله المستشرق ليال فرتبا القصيدة في تحقيقهما كما رتبها هو في ترجمته ( ص197ـ198 من طبعة القاهرة الأخيرة ) .
وقد احترس ليال فلم يرتب الأبيات في النص العربي إلا بترتيب الرواية الأصيل الذي أخذه أبو محمد الأبنارى عن أبي عكرمة الضبي عن ابن الأعرابي عن المفضل الضبي نفسه ـ رحمهم الله جميعًا .
على هذا النحو لايجوز تغيير الترتيب الذي جاءت به الرواية الصحيحة من أجل النقد الذي انتقد به أبو جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح رواية عكرمة .
والمعنى واضح صالح مستقيم وجيد بحسب الرواية الأصيلة . ويصير إلى معنى آخر بحسب الترتيب المغيَّر :
كَيْفَ باسْتِقْرَارِ حُرٍ شَاحِطٍ
بِبِلادٍ ليسَ فيها مُتَّسَعْ
لا يُرِيدُ الدَّهْرَ عنها حِوَلاً
جُرَعَ المَوْتِ ولِلْمَوتِ جُرَعْ
إذ يصير الذي لا يريد التحول هو الشاعر الحر الشاحط .
يبدو أول الأمر أن ظاهر هذا المعنى
مستقيم ، ولكن المتأمل له يرينا عدم استقامته . قوله :
" كَيْفَ باسْتِقْرَارِ حُرٍ شَاحِطٍ " يدل على أنه يريد التحول عن هذه الديار التي هو فيها شاحط أي بعيد وليس فيها متسع . وقوله من بعد(65/4)
" لا يُرِيدُ الدَّهْرَ عنها حِوَلاً " يناقض هذا المعنى . نعم يجوز أن تقول كيف يستقر ولا يطلب أن يتحول ، وهذا الأسلوب فيه تطويل وتكرار . والصواب التزام الرواية التي جاء بها الأنباري مسلسلة عن شيوخه . والله تعالى أعلم .
لاحظ أن الشاعر وصف نفسه بأنه حر وشاحط وهي نفس الصفة التي وصف بها حبيبته :
حُرَّةٌ تَجْلُو شَتِيتًا واضِحًا ( البيت 2)
شاحِطٍ جَازَ إلى أرْحُلِنَا ( البيت 9 )
ووصف الدار التي يريد الاّ يستقر فيها بأنها ليس فيها متسع.وفي أول القصيدة:
فَوَصَلْنَا الْحَبْلَ منها ما اتَّسَعْ
ووصف قومه من بعد بسعة الأخلاق.
والمحبوبة في الشعر القديم كثيراً ما تكون رمزاً يرمز به الشاعر إلى نفسه وإلى قومه وإلى آماله ومطالبه وأمانيه.
(67)من هذا البيت يبدأ الفصل الثامن من القصيدة وقد مهد لهذا الفصل الذي جاء فيه بوصف عدوٍ له جمع الحقد والنفاق والمكر والحسد لقوله الذي قاله من قبل في نعت قومه ونعم الله عليهم. والله لا يريد بمشيئته العالية سبحانه وتعالى تحويل شيء من ذلك عنهم وليذق عدوهم المرارة وجرع الموت ـ قال سويد :
رُبَّ مَن أنْضَجْتُ غَيْظًا قَلْبَهُ
قد تَمَنَّى لِيَ شَرَّاً لم يُطَعْ
كما ترى هنا تحول الشاعر من ضمير
المتكلم الجمع إلى ضمير المتكلم المفرد
وكشف لنا عن نفسه بوضوح وصراحة جهيرة ـ قال :
(71)هذا العدو الخبيث يغتابني والغيبة خلق ذميم وصفها الله في كتابه العزيز فقال : " ولاتَجَسَّسُوا ولايَغتَب بَعضُكم بعضًا أُيُحِبّ أحدُكم أن يأكُلَ لحمَ أخيهِ ميتًا "
فإذا كانت غيبة المرء لأخيه مثل أن يأكل لحمه وهو ميت ، فهذا طعام وخيم ، وداء فظيع يَّدرعه أي يلبسه ويكسو به نفسه .
مطعم وخم أي خبيث غير سائغ . داء يدرع أي يُلبس .(65/5)
(72)هذا العدو لم يضرني ـ ضاره يضيره ضيراً وضاره يضوره ضَوْرًا أي ضره يضره ضرراً ـ أي لم يضرني بشيء غير حسده لي . وحسده يضره هو قبل أن يضرني(15)، وهو بحديث غيبته لي يصوت تصويتًا قبيحًا ، لا يزيد على كونه صوتًا قبيحًا بأي شيء ـ في قبحه مثل صوت البومة بالليل. صياح قبيح بغيض .
زقت البومة تزقو زُقاءً ، ونعب الغراب نعيباً وزقاً الضَّوَع وهو ذكر البوم . والضوع أيضًا طائر طائر ، ولكنه ذو صوتٍ عالٍ غير جميل ، وليس لهذا الطائر من قوة غير صياحه. فعلى هذا يكون المعنى هذا الشخص يغتابني حسداً لي ، وذلك لا يضرني ، كلامه عني مجرد صياح لا فائدة فيه ، كصياح هذا الطائر .
(73)وهذا الشخص منافق ، إذا لاقيته يبادرني بالتحية، وإذا غبت يغتابني ـ هذا معني قوله :
وإذَا يَخْلُو لَهُ لَحْمِي رتَعْ
أي إذا غبت فإنه يجد نفسه كأنه خالٍ ليس معه أحد ، ولحمي أمامه يأكله ويرتع فيه بغيبته .
(74)بغضه لي عميق في نفسه .كلما أغيب فيفقدني ينبع أذاه وذباب شره مستسر:أي بغضه في داخل نفسه يسره لي إذا رآني حياني كاذبًا والشنء لي كامن في نفسه أي الكراهية لي كامنة مستسرة في نفسه. الشنء والشنآن بسكون النون والشنآن
بفتح النون الكراهية والبغضاء .
افتن الشاعر في بيان كراهية هذا الحاسد له وغيبته له . فمرة هي كصياح الطائر الذي لا فائدة وراءه. ومرة هي داء ملبوس، وطعام وخيم . وذباب نابع من فمه بالأذى . ووحشية
ترتع في اللحم .
(75)ساءَ ماظَنَّوا وقد أبْلَيْتُهُمْ
عند غاياتِ الْمَدَى كَيْفَ أقَعْ أي ساء ظنهم الفاسد حين ظنوا أنهم سيغلبونني . لقد أبليتهم ، أي قد عرفوا بلائي ومقدرتي وقوتي عند غايات مدى النضال والسباق بيني وبينهم . قد عرفوا كيف أصنع وكيف أنتصر عليهم وعلى أمثالهم .(ماظنوا) .. .. أي ظنهم . كيف أقع: أي كيف أصنع. كيف وقع نضالي ومسابقتي حين يسابقونني ويناضلونني(65/6)
(76)وهو صاحب مِئَرة أي إحنة وحق لايسأم هذا الحقد ولا يرجع عنه وإذا أخذ في طريق الشر أوقد ناره حتى تسطع واستمر يوقدها .
مئرة أي حق وجمعها مِئَر . مثل إحنة
وجمعها إحن .
(77)ولكنني أنا لا أبالي بعداوته وعندي القدرة على ردعه . لأني شاعر فصيح مجيد . إذا هاجمت عدواً لى بالشعر صقعته برجم يصيب مقاتله
لا يخطئ ولا يرتد .
حين أرمي ليس رميي طائشًا لايصيب ولا مرتجعًا يسقط قبل الوصول إلى الهدف فأحتاج إلى إعادته .
(78)فارغ السوط ، أي أنا فارغ البال عن أن أكون مشغولاً بأمثال هذا من أعدائي . ولكني على أتم الاستعداد ، إذا ضربت أوجعت ولم أتعب ـ لايتعبني الذي هو مثل الكبير من الإبل. ولا الذي هو مثل الدقيق النحيف منها .
استعار هنا ركوب الإبل وركوب الخيل للتعبير عن مقدرته على الصراع لأعدائه ، والراكب يجرك حصانه وبعيره بالسوط . فيقول راحلتي لاتحتاج إلى ضرب فهي سريعة ماضية ، وسوطي فارغ ولكني إذا احتجت إلى استعماله فلن يتعبني بعيد أو فرس كبير ولا بعير أو فرس دقيق صغير .
الثَّلِب الكبير من الإبل ، ومنها كلمتنا العامية " تلِب " والشخت النحيف الضعيف . والضرع الضعيف . (79)هذا الشخص وأمثاله من أعدائي ألا يعلمون أنني الآن شيخ مجرب ، قد يدل على نضجي وتمام تجربتي شيب رأسي وطلعه ، فكيف ينتظرون مني أن أكون ذا سقطات وزلات يحسبونها على ويعيبونني بها .
قالوا لما ثار أعداء الحجاج عليه وحاربوه وانتصر عليهم في يوم رستاقأباذ ، خطب وتمثل في خطبته بهذا البيت من شعر سويد بن أبي كاهل :
كَيْفَ يَرْجُوَن سِقَاطِي بَعْدَ ما
لاحَ في الرَّأسِ بَيَاضٌ وصَلَعْ
أي كيف يرجون أن أتساقط وأضعف وأزل وقد أحكمتني التجارب ونضج العمر ولاح الشيب والصلع في رأسي.(65/7)
هذا آخر الفصل الثامن من القصيدة ويجيء بعده الفصل التاسع . ويستمر الشاعر في نعت هذا العدو ، ويصف الآن جهده الضائع ، ويشبه نفسه وقومه وعزهم بالصخرة الملساء الصماء العالية المرتفعة التي لاتنال .
(80) وَرِثَ البِغْضَةَ عَنْ آبائِهِ
حَافِظُ الْعَقْلِ لِمَا كان اسْتَمَعْ
(81) فَسَعَى مَسْعَاتَهُمْ فِي قَوْمِهِ
ثمَّ لم يَظْفَرْ ولاَ عَجْزًا وَدَعْ
(82) زَرَع الدَّاءَ ولم يُدْرِكْ بهِ
تِرَةً فَاتَتْ ولا وَهْيًا رَقَعْ
جعل الشاعر هذه الأبيات مقدمة لوصفه المجهود الضائع الذي يبذله عدوه في محاولته أن يضره .
قال إنه ورث العداوة والبغضاء عن آبائه . استمع منهم طعنهم فينا وغيبتهم لنا. حفظ عقله ما سمعه منهم. بئس ما سمع وبئس ما حفظ . وقد استمر في سعيه كمثل سعيهم من البقاء على العداوة، والقول الكاذب الخبيث . ولذلك لم يظفر بشيء ، ولم ينجح ولم يفلح . ومع هذا لم يفتر عن هذا الجهد الضائع فيتركه .
ولا عجرًا ودع ، أي لم يظفر بشيء
ولم يترك المجهود العاجز الذي لم
يجئه بأي نفع .
وَدَعَ يدع أي ترك يترك . يدع مستعملة ، وودع نادرة جاءت في هذا البيت وفي أشياء قليلة رويت ويعتبر هذا الفعل " ودع " مهجوراً (16) .
هذا الشخص الخبيث باستمراره في العداوة والغيبة وإيقاد نار الشر لم يصنع صنعًا مفيداً . بل زرع في نفسه مرضًا ، وهذا المرض الذي زرعه لنفسه وفي نفسه لم ينل به نجاحًا في أي أمر ، لم يدرك به ثأراً فاته فينتقم بذلك من عدوه ، ولا رقع به مكانًا واهيًا من أمور قومه .
تِرة بكسر التاء وفتح الراء أي ثأر . وهيًا : مكانًا واهيًا يحتاج إلى رقعة وإصلاح .
(83)أخذ بعد الأبيات المتقدمة يصف المجهود الضائع الذي يقوم به عدوه :
مُقْعِيًا يَرْدِي صَفَاةً لم تُرَمْ
في ذُرَى أعْيَطَ وَعْرِ الْمُطَّلَعْ(65/8)
الإقعاء في الناس كهيئة قعود الكلب ، يقعد الإنسان على استه أي على دبره وقدماه منتصبان . است همزتها وصل وتدل على العجز من الإنسان والحيوان ، وعلى الدبر وما حوله ونحن نبين معناها هنا لأنها ستجيء من بعد في البيت 98 .
يردي بالحجر والمِرداة والمِردي الحجر الذي يرمي به ، وأهل الجبال
قد يتقاتلون بالحجارة وغيرهم قد يفعل ذلك وقد رمى سيدنا داود عليه السلام جالوت بحجر فقلته .
صفاة : صخرة . الجمع صفا . والصفا من مشاعر الحج إذ السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة . " لم تُرم " لم يرمها أحد لعظمها وعلوها ووعورة المسلك إليها . ذرى جمع ذروة، وذروة الشيء أعلاه أي في أعلى جبل . أعيط عال مرتفع . العيط بفتح العين والياء طول العنق وهو أعيط أي رقبته طويلة وهي عيطاء والأعيط الأبي الممتنع . والجبل العالي الذي له قمة عالية أعيط . وجبل التاكة وهو جبل كسلا أعيط ، إذ له جزء كأنه رقبة طويلة وهو صخرة عالية ممتنعة. وجبل حراء وهو جبل الوحي وجبل النور بمكة أعيط .
يقول هذا الشخص بمجهوده التافه كمثل من يكون مقعياً في قعوده وبيده حجارة يريد أن يرمي بها صخرة في رأس جبل رفيع ممتنع وعر المسالك وعر المطلع ، أي المكان المشرف العالي منه صعب المسالك لا يستطاع الوصول إليه لمن يريد أن يصعده ويطلع من هناك على الدنيا حوله . المطَّلع أي مكان الاطّلاع، اسم مكان.
(84)هذه الصخرة وعنى بها نفسه وقومه معقل آمن أي حصن حصين ، من أوى إليه وجد الأمن الكامل . وقد حاول زحزحتها الأعادي من قبله فلم يقدروا على ذلك . لم يستطيعوا أن يقتلعوها من مكانها .
(85)هذه الصخرة وعنى بها قومه وديارهم كما عنى نفسه وصلابة موقفه ورفعة قدره وشرفه ـ هذه الصخرة غلبت الأمم مثل عاد ومن جاءوا بعدهم وقد أبت أن تخضع ولذلك لايمكن إذلالها ـ ليست تُتضع أي ليست توضع في مرتبة وضيعة .(65/9)
وههنا جاء الشاعر بمبالغة وغلو لأنه قد كان من بني يشكر، وبنو يشكر من بني بكر، وبنو بكر من القبيلة الكبرى الضخمة ربيعة، وربيعة كلهم من بني عدنان، وعاد من العرب البائدة، وكان زمان عادٍ قبل زمان سيدنا إسماعيل الذي تنسب إليه قبائل عدنان كلها وقبل زمان سيدنان إبراهيم الخليل .
وإنما أراد سويد أن يقول مجدنا قديم وقد غلبنا الأمم القديمة .
(86)صخرتنا عالية لايراها الناس إلا وهي فوقهم مشرفة عليهم .
ثم حول الشاعر صخرته من طبيعة الحجر الجامد الراكد في مكانه إلى صفة السيد المتصرف . أي نحن سادة نأتي ما نشاء ونترك ـ ندع ـ ما نشاء ولايرانا الناس أمثال هذا العدو إلا ونحن فوقهم متصرفون كما نشاء.
(87)هذه الصخرة المنيفة ذات الحيوية والتصرف والمجد مشرفة يراها هذا الجاهل الحاسد فوقه ومع هذا يستمر في رميها بحجارته ولن يبلغ من غرضه شيئًا ، شأنه في هذا شأن الغبي الذي يصنع الخطأ ويظن أنه صواب ويصنع الصنع الرديء ويظن أنه جيد .
الرعة بكسر الراء الشأن والهيئة
ونصبها ههنا لأنها في معنى المفعول
المطلق . يصنع هذا العدو هكذا صنيع الجاهل الذي يعجبه ما يصنعه وإن كان قبيحًا .
(88)أي استمر يرمي الصخرة العالية بحجارته التي لا تصنع بها شيئاً حتى تعب من الرمي،وحتى كَمِهَتْ عيناه أي عميتا ، والأكمه هو الذي يولد أعمى والكمه العمى الذي يولد به الأكمة . أو العمى عامة . وهذا الرجل اشتد عمى عينيه وأظلمتا فكأنه ولد أكمه ولم ير النور قط ؛ وذلك من شدة شعورة بالغيظ والإخفاق . ولما عميت عيناه اضطره ذلك أن يكف عن الرمي. فكف كارهًا وهو يلوم نفسه . لَحَى يلحى: لام يلوم . لحاه الله أي لعنه الله . كف هذا الرجل كارهًا وجعل يلوم نفسه حين اضطره عماه إلى أن يكف عن الرمي .(65/10)
(89)وذلك حين رأى أنه لم يضر الصخرة . وقد بينا أن الفعل ضار يضير ضيراً بمعني ضر يضر ضراً وضرراً ومثل ضار يضور، وهو غير كثير الاستعمال. هنا يضير أكثر في الاستعمال وقريء به القرآن،في سورة آل عمران الآية120" وإنْ تَصْبِرُوا وتتقوا لا يَضُرٌكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا" وفي قراءة أبي عمرو " لايضِرْكُم " لام نفسه وكف حين رأى أن جهده لم يضر الصخرة، ورأى أنها خلفاء أي ملساء لامطمع في زحزحتها أو كسرها أو إيقاع أي ضررٍ بها .
رأى الأولى والثانية بمعنى أدرك وعلم وأيقن. أو رأى الأولى قلبية والثانية بصرية قبل أن يفقد بصره يأسًا وغيظًا.
أو قوله كمهت عيناه مبالغة أي أظلمت الدنيا في عينيه بسبب إخفاقه فكأنه ولد أعمى . جهد جيمها مفتوحة أو مضمومة كلاهما صحيح وجاءتا في كتاب الله تعالى . والجُهد هو الطاقة . أخلق وخلفاء أي أملس وملساء:ملاسة.
(90)هذه الصخرة الخلقاء صلبة تكسر قرن من ينطحها ، وإذا رميت بمردي ـ المردي: الحجر الذي يرمي به . وقد مر شرحها في شرح البيت
(83) ـ وإذا رميت هذه الصخرة بحجر انشق ذلك الحجرة وتهشم . انجزع أي انكسر وانقطع .
(91)هذه الصخرة إذا رام هذا الشخص ، إذا طلب هذا الشخص زحزحتها عن موضعها أو اقتلاعها أو كسرها أعياه ذلك ولم يستطعه ، وقصَّر به أن يبلغ مراده من زحزحتها وقلعها ضعفه وذلته ـ ليست لديه العُدة التي يكسرها أو يقتلعها بها وهو هزيل ضعيف . الجدع: سوء الغذاء . جعل هذا مثلاً لضعفه . ومن قبل قد قال في البيت (62) :
وإباءً لِلدَّنِيَّات إذَا
أُعْطِيَ الْمَكْثُورُ ضَيْمًا فكَنَعْ(65/11)
المكثور: القليل النصير. كقوله هنا: أعيا به " قِلَّةُ العُدَّةِ قِدْمًا والجَدَعْ " ـ أي قلة الاستعداد القديمة في قومه وفي أصله ، وسوء الغذاء والضعف القديم في قومه وأهله ونفسه .جعله كأنه لا عدة له ولا غذاء يتقوى به. لديه مبالغة في تصوير فشله وعجزه. وهذا آخر الفصل التاسع وجعله تمهيداً للفصل العاشر الذي يصف فيه مباراة هذا العدو له ، والصراع البياني والخصومة التي كانت بينهما . ولقد كان من عادة العرب المنافرة وذلك أن يختصم الرجلان إلى حكم معروف فيتكلم هذا ثم هذا ويسمع الحكم كلامهما ثم يصدر حكمه ، فمن حكم له كان هو المنتصر . وكانت المنافرة شعراً أو خطبة أو هما معاً ـ والوصف الذي ساقه سويد ههنا يدل على أنها كانت شعراً يذكر فيها فرار شيطان عدوه وانهزامه ، وكانت العرب تزعم أن الشاعر له شيطان يعينه.
(92) :
وعدوٍ جاهِدٍ نَاضَلْتُهُ
في تَراَخِي الدَّهْرِ عنكم والْجُمَعْ
وهذه هي بداية الفصل العاشر . وهو هنا يخاطب قومه وينبههم إلى أن هذا الحاسد الذي يكيد له هو ، بلا شك هو أيضًا حاسد لهم وعدو لهم جاهد أي باذل طاقة عظيمة في العداوة .
يقول لهم عندما أخذ الزمان في
التراخي يا قوم ، وقلت الجمع أي الجماعات التي تنتصرون بها وتنصركم جاء هذا العدو الجاهد في عداوته ليوقع بكم الأذى والضرر فانبريت أنا له وناضلته فاعرفوا هذا من أفعالي . قوله في تراخي الدهر يدل على أنهم ضعفوا لتراخي الدهر عنهم وعدم إعانته لهم، ولتراخي جماعات الناس عن نصرهم ـ أخرجهم من هذا الضعف إلى ما كتبه الله لهم من النعم والكثرة وإباء الدنيات ما بذله هو في الدفاع عنهم ورد خصومهم .
(93) فَتَسَاقَيْنَا بِمُرٍ نَاقِعٍ
في مَقامٍ لَيْسَ يَثْنِيِه الْوَرَعْ
وصف الخصومة بينه وبين العدو ، فذكر أنهما تخاصما بوضوح وبكلام مرّ في مقام مشهود، لم تثنهما فيه هيبة أو تراجع عن أن يتبادلا من الكلام ما هو كالسمِ الناقع من شدة مرارته .(65/12)
(94)وشبه تراميهما بمر الكلام بالمناضلة وهي المراماة بالسهام .
وإنما هي سهام البيان والشعر
والخصومة .
قال: رماني هذا الخصم ورميته بنبال من القول ، ترامينا بسهام ذات سم قد نقع أي ذات سم شديد من شدة مرارتها .
ترامينا وأعدائي حضور، يرون قوتي ومراماتي لخصمي الذي كان يدافع عنهم كما أنا كنت أدافع عن قومي .
(95)ترامينا بنبال مذروبة أي حادة من نوع لم يقدر على صنعته إلا صانع لم يطق : لم يستطع . صنع : صانع ماهر ، تقول رجل صَنَعٌ وصَنَاعٌ وكذلك امرأة صَنَاعٌ وصَنَعٌ أي حاذقة ماهرة في صناعتها .
(96)هذه النبال خرجت بسبب عداوةٍ بينة كانت بيننا منذ أيام الشباب ، إذ دهرنا جذع. والجذع هو الشباب من الخيل ، وكانت قديمة بين قومنا في الزمان الأول .
(97)تحارضنا : تقاتلنا قتالً مريراً يصير به أحدنا حرضاً أي هالكًا .
وقال بعض الشراح : تحارضنا أي
حرض بعضنا بعضاً وهذا الشرح غير
جيد لأن معناه يناقض آخر البيت.
يقول: تقاتلنا قتالاً مريراً حتى الموت. وقال المشاهدون والحكام: إن الذي يطلب المعونة هو المنهزم. والقوم الحاضرون إلا من حكموا بأنه ضرع أي ضعيف ، إذْ قارب صاحبه أ ن يقتله قالوا له هذا يكفي ، هو المنهزم وأنت المنتصر .
(98)لما اشتد قتالنا ورأى أني سأهلكه ولَّى هاربًا لا يحمي استه (17) ، لا يحمي دبره ، أي أعطاني ظهره هاربًا فلو شئت أصبته في ظهره ولكنه أعلن الهزيمة، ووقع عنه طائر الإتراف أي البغي والعدوان والغرور وانكشف ضعفه وذله .
(99)خرَّ من الهزيمة على وجهه مكسور الأنف لا يستطيع أن يشمخ بأنفه كما كان يفعل ، مكسور النفس خاشع العين مذلة لا يستطيع أن يرفع طرفه وصار بمنزلة الأصم الذي لا يسمع .
(100) فر مني ، وهرب شيطان
غروره ، شيطان كبريائه شيطان
فصاحته وشعره ، فر إلى حيث لا يجد فائدة ولايستطيع أن يعطي شيئًا أو يمنع مني ما أريد أخذه ـ هنا آخر الفصل العاشر ويليه الحادي عشر من البيت (101) إلى (107) .(65/13)
(101)هنا يبدأ الفصل الحادي عشر ، فر مني والفرار الآن لا ينفعه ، لأن عبء الهزيمة ثقيل على ظهره التي يحملها وهو فار ، وسيضع نفسه في مكان مذلة حقير ـ متضعة أي الموضع الذي سيضع في نفسه ، سيتضع فيه ، موضع مذلة ، متضع مذلة .
مُتَّضع اسم مكان من اتَّضع أي صار وضيعًا أو وضع نفسه في موضع ما وهنا هو موضع ذل . أوقر يوقر إيقارًا : تقول أوقرت الدابة أي وضعت عليها الأوقار أي الأحمال ، واحدها وِقر بكسر الواو وهو موقر الظهر أي على ظهره أحمال ثقيلة من الهموم أو الهزيمة في هذا البيت .
(102)هذا العدو رأى مني مقامًا
صادقًا ثابتًا صابراً على الشدة شجاعًا إذا أوجعني برميه لم أظهر جزعاً يدل على أني متألم بل أكتم ذلك صبراً وهو لم يستطع أن يصبر فغلبته .
(103)ورأى مني لسانًا فصيحًا حسن التصرف قاطعًا مثل السيف .
هذا البيت بديع في إيجازه وقوة تعبيره وقد تمثل به الدكتور طه حسين في رثائه لسعد زغلول باشا الزعيم المصري الكبير.
(104)يذكر سويد انثيال البيان عليه . فر شيطان خصمه منهزماً ولكن شيطانه هو جاءه بمدد جديد عندما نفدت مادة خصمه وصار كراكب الحراء الذي ذهب جميع الماء الذي في قربه .
قال جاءني صاحب ذو إجابة وإغاثة ، ذو غيث أي ذو إجابة وهو زفيان أي خفيف سريع في إجابته ، وجاءني عند إنفاد القرع عندما أنفد خصمي قُرعه ، والقرع جمع قُرعة وهي قربة الماء ، أنفدها أي جعلها تنفد ـ نفد الشيء بقتح النون وكسر الفاء بعدها دال مهملة أي انتهى وفني والمضارع ينفد بفتح الفاء بعدها دال مهملة . نفد الشيء نفادًا وأنفده إنفادًا .(65/14)
(105)أتاني هذا الصاحب المساعف مندفعًا ناصرًا لي من تلقاء نفسه مع العلم بأنني لم أناده ولم أنفده قرعي كما قد أنفد خصمي قرعه . جاءني صاحبي هذا وهو شيطان شعري وقال لي لبيك أي إجابة لك بعد إجابة . وصاحبي هذا جريء لا يبالي ، يحتقر الناس الذين حولي من الخصوم ومن والاهم ويقول القذع ماهراً فيه ـ القذع: القول المر اللاذع الموجع .
(106)صاحبي هذا ، عندما أنفد خصمي قرعه وصار مَعين بيانه يابسًا، صاحبي هذا جاءني ببحر زاخر من القول . صاحبي هذا ذو عباب أي كبحر ذي موج . خمطٍ آذيُّه ، أي تياره هادر جارف .
خمِط الفحل فهو خمِط أي هدر فهو هدَّار وغضب وهاج وفحل خمط أي هائج . وآذيُّ خمط أي تيار هائج .
الآذيُّ : التيار . يرمي بالقَلَع أي يرمي
السفينة ذات الشراع . القلع: الشراع جمعه قلوع . والبحر الهائج يكب السفينة العظيمة فتغرق فيه .
(107)زغربي أي كثير الماء زاخر . مستعز بحره أي بحره عظيم لا يستطاع عبوره فهو ذو عزة ونفور. لعظمه والتطام أمواجه . وليس للماهر فيه مطلع أي إشراف ـ مصدر ميمي من اطلع أي أشرف . أي لا يستطيع الماهر أن يرقي فوق أمواجه ويُشرف من فوقها مهما يكن سباحًا أو ملاحًا ماهراً . هنا بلغ الشاعر ذروة فخره .
بحره هو زاخر ـ وأعانه شيطانه ببحرٍ من البيان عظيم فانتصر الانتصار الباهر .
(108)وأخيراً يجيء الفصل الأخير وهو بيت واحد ، جعله الشاعر مقطعاً لقصيدته أي ختامًا لها :
هَلْ سُوَيْدٌ غَيْرُ لَيْثٍ خَادِرٍ
ثَئِدَتْ أرْضٌ عليهِ فَانْتَجَعْ
هل أنا إلا مثل الأسد الهزبر الباسل الذي حين يجد الأرض قد نديت وفسد المكان الذي يقيم فيه ، يتركه وينتجع
غيره ؟ .
تعليق :
1-أول القصيدة :
بَسَطَتْ رَابِعَةُ الْحَبْلَ لَنا
فَوَصَلْنَا الْحَبْلَ منها ما اتَّسَعْ
يشتمل على معنى من الملامة . لما بسطت الحبل وصلناه واستمررنا نواصله ما دام الوصل مستمراً وما دامت العلاقة واسعة المجال .(65/15)
هل حدث في الأمر تغيير يدعو لمراجعة النظر ـ كما ذكرنا ، النسيب الذي يبدأ به الشاعر يتضمن روح المعاني والأغراض التي يريد أن يتناولها . لذلك قال الناقد ابن رشيق إن الشاعر إذا انفتح له نسيب القصيدة " فقد ولج من الباب ووضع رجله في الركاب " .
2-بعد أن افتخر الشاعر بقبيلته الكبرى بني بكر وقال عن ديارهم :
(30) مِنْ بَنِي بَكْرٍ بِها مَمْلَكَةٌ
مَنْظَرٌ فِيهِمْ وفيهِمْ مُسْتَمَعْ
وبعد أن فخر بقومه الأقربين من بني
يشكر وقال :
كَتَبَ الرَّحْمنٌ ، والحَمْدُ لَهُ ،
سَعَةَ الأخْلاَقِ فينَا والضَّلَعْ
(62) وإباءً لِلدَّنيَّات إذَا
أُعْطِيَ الْمَكْثُورُ ضَيْمًا فكَنَعْ
بعد هذا الفخر نجده يقول :
وعدّوٍ جاهِدٍ نَاضَلْتُهُ
في تَرَاخِي الدَّهْر عنكم والْجُمَعْ
وتراخي الدهر والجمع معناه أن أحوالهم ساءت وهذا عكس الفخر الذي تقدم . هنا عتاب لقومة أن يعرفوا له حق دفاعه عنهم وحمايته لهم حين كانوا في أشد الحاجة إلى ذلك .
3-يقول في البيت (66) :
كَيْفَ باسْتِقْرَارِ حُرٍ شَاحِطٍ
بِبِلادٍ ليسَ فيها مُتَّسَعْ
هو الحر الشاحط . فما هذه البلاد التي ليس فيها متسع ؟
هنا الشاعر يعاتب قومه ويريد أن يقول إن بلاد قومه قد ضاقت عليه لأنهم لم يعرفوا فضله ولم يقدروه حق تقديره ويذكروا له دفاعه القوي عنهم .إذن فليهاجر :
هَلْ سُوَيْدٌ غَيْرُ لَيْثٍ خَادِرٍ
ثَئِدَتْ أرْضٌ عليهِ فَانْتَجَعْ
الليث الخادر هو الكاسر المرهوب الذي يربض في عرينه وهو خِدْره أي أجمته. والأجمة هي الغابة . ويقال للأسد أيضًا مخدر ومخدر بكسر الدال وبفتحها أخدر الأسد أي لزم أجمته وهي خدره . وأخدر العرينُ الأسدَ أي ستره فهو مُخدَر .
تعليق ثان :
وصف سويد نفسه بأنه هو الذي دافع عن قومه وأنه ناضل عنهم، والمناضلة هي المراماة بالسهام ـ ووصف خصمه بأنه يروم زحزحة صخرة ملساء عالية يرميها ،وظل يفعل ذلك حتى تعب وكمهت عيناه .(65/16)
مع أن الصخرة الموصوفة جعلها الشاعر رمزاً لشرف قومه وعزتهم ورفعتهم ، هي أيضًا رمزاً له هو ـ إنه هو الصخرة الرفيعة الخلقاء .
الصورة التي صور بها الصخرة رائعة ، ومما يزيدها روعة أنه أعطى الصخرة حيوية . فهي ليست حجراً جامداً ، ولكنها حجر ذو حيوية وتصرف كما قدمنا ذكر ذلك في الشرح .
وقد تأثر سويد في نعته للصخرة بشعراء كبار سبقوه . من أهمهم وأقدمهم شاعر بني يشكر الحارث بن حلزة (18) اليشكري صاحب المعلقة التي أولها :
آذَنَتْنَا بيَيْنِها أسْمَاءُ
رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ
وهي المعلقة السابعة في ترتيب المعلقات .
ووصف فيها عز قومه وذكر خصومهم وتحداهم فقال :
فَبَقِينَا عَلى الشَّنَاءةِ تَنْمِيـ
ـنا حُصُونٌ وعِزَّةٌ قَعْساءُ
أي بقينا على عداوتنا لخصومنا ترفعنا حصوننا وعزتنا العالية الرفيعة التي تغيظهم .
قَبْلَ مَا اليَوْمِ بَيَّضَتْ بعُيُونِ النَّـ
ـاسِ فيها تَغَيُّظٌ وإبَاءُ (19)
أي من الدهر القديم غاظت أعداءها .
صوَّرها هنا بصورة الصخرة العالية.
قعساء معناها عالية وثابتة وهذه صفة الجبل وصفة صخورة . ثم وصف أعداء قومه من الناس أنهم يرومون رمي هذه العزة القسعاء وهي ثابته كصخرة الجبل فلا يستطيعون ، وقد بيضت بعيون الناس أي أعمتهم برفعتها وعجزهم عنها ـ وهذا نفس المعنى الذي جاء في قول سويد :
كَمِهَتْ عَيْناهُ حتَّى ابْيَضَّتَا
وقوله فيها تعيُّط أي ارتفاع رأس وعنق وإباء أي امتناع . ومن هنا أخذ سويد قوله :
(83) مُقْعِيًا يَرْدِي صَفَاةً لم تُرَمْ
في ذُرَى أعْيَطَ وَعْرِ الْمُطَّلَعْ
وقد جاء بكلمة الإباء في قوله :
(62) وإباءً لِلدَّنِيَّات إذَا
أُعْطِيَ الْمَكْثُورُ ضَيْمًا فكَنَعْ
ثم يقول الحارث ( كلمة الحارث وهي عَلَم تكتب بوجهين بالألف بعد الحاء وبدونها والوجه الثاني أكثر عند القدماء ) ـ يقول :
وكأنَّ المَنُونَ تَرْدي بنَا أرْ
عَنَ جَوْنًا يَنْجابُ عَنْهُ العَماءُ (20)(65/17)
مُكْفَهِرّاً عَلى الحَوَادِثِ ما تأْ
تُوه للدّهْرِ مُؤْيِدٌ صَمَّاءُ
يقول الحارث كأن الدهر ( المنون ) يرمي بحجارته جبلاً أسود اللون عظيمًا ( أرعن ) يتفرق السحاب من حوله مكفهراً ، شديد السواد ، عند الحوادث ، يراه الأعداء مكفهراً من الغضب والقوة لا تؤثر فيه من حوادث الدهر الداهية، المؤيد: الشديد الصماء.
شبه الحارث بن حلزة قومه بالجبل العظيم ذي الصخور العظام الشامخ على الدهر الذي لا يزحزحه من يرميه وقد يئس الأعداء من التغلب عليه فابيضت عيونهم من الإعياء والإخفاق .نفس الصورة فصلها سويد ووضحها . صورة الحارث فخمة هائلة .
وصورة سويد كما قدمناه ذات حركة وتحدٍ شديد …
وقد نظر سويد أيضًا إلى صخرة الأعشى في معنى قريب من معناه حيث قال :
كناطحٍ صخرةً يومًا ليُوهِنَها
فلم يضِرْها وأوهى قَرْنَهُ الْوَعِلُ
أي كثور ينطح صخرة ليكسرها
ويضعفها فلم يضرها ولكنه ضر قرنه ـ قال سويد :
(90) تَعْضِبُ القَرْنَ إذَا نَاطَحَهَا
وإذَا صابَ بها الْمِرْدَى انْجَزَعْ
تعليق ثالث عن بعض محاسن هذه القصيدة :
1-أولاً أبيات الحب :إنه يعطى القلوب شجاعة وهي العاشر والحادي عشر ، والبيت الحادي عشر من روائع الشعر العربي ومن أبيات الحكمة :
وكذَاكَ الحُبُّ ما أشْجَعَهُ
يَرْكَبُ الْهَوْلَ وَيَعْصِى مَنْ وَزَعْ
2-ثانيًا وصف السهر :
(12) فأبِيتُ اللَّيلَ ما أرْقُدُهُ
وبِعَيْنَيَّ إذَا نَجُمٌ طَلَعْ
(13) وإذَا ما قُلْتُ لَيْلٌ قد مَضَى
عَطَفَ الأوَّلُ مِنهُ فَرَجَعْ
3-ثالثًا أبيات الحديث الجذاب من محبوبته وتشبيهه له بالرقى التي يداوي بها الملدوغ والملسوع ، لما تحدثه في نفس العاشق المشتاق من الشفاء ، وما تضمنته من أخبار العرب وخرافاتها حيث زعموا أن الوعول تطرب للغناء ويصيدها الصيادون به فشبه نفسه بالثور الوحشي الذي اصطاده صوت محبوبته الرخيم :
(18) ودَعَتْنِي بِرُقَاهَا إنَّها
تُنْزِلُ الأعْصَمَ مِن رَأسِ الْيَفَعْ(65/18)
(19) تُسْمِعُ الْحُدَّاثَ قَوْلاً حَسَنًا
لو أرادُوا غَيْرَهُ لم يُسْتَمَعْ
4-رابعًا : الأبيات التي مدح بها قومه بني بكر في جملتها فخر جيد ومن أجوده قوله :
(30) مِنْ بَنِي بَكْرٍ بِها مَمْلَكَةٌ
مَنْظَرٌ فِيهمْ وفيهِمْ مُسْتَمَعْ
(31) بُسُطُ الأيْدِي إذَا ما سُئِلُوا
نُفُعُ النَائِلِ إنْ شَيءٌ نَفَعْ
(32) مِنْ أُناسٍ لَيْسَ مِنْ أخْلاقِهِمْ
عَاجِلُ الفُحْشِ ولا سُوءُ الْجَزَعْ
قوله من أناس فيه معنى يالهم من أناس ، ما أعظمهم من أناس .
5-خامسًا : وصفه للعدو وتصويره لحسده وغيظه وأحقاده ونفاقه تصويراً دقيقًا حيَّاً معبِرّاً :
(67) رُبَّ مَن أنْضَجْتُ غَيْظًا قَلْبَهُ
قد تَمَنَّى لِيَ شَرَّاً لم يُطَعْ
(68) ويَراَنِي كالشَّجَا في حَلْقِهِ
عَسراً مَخْرَجُهُ ما يُنْتَزَعْ
(69) مُزْبِدٌ يَخْطِرُ مالم يَرَنِي
فإذَا أسْمَعْتُهُ صَوْتِي انْقَمَع
6-سادسًا : قوله وهو من أبيات الحكمة المأثورة :
(79) كَيْفَ يَرْجُوَن سِقَاطِي بَعْدَما
لاحَ في الرَّأسِ بَيَضٌ وصَلَعْ
7-وسابعًا آخر القصيدة كله شديد الحيوية قوي العبارات بارع وذلك من البيت الثاني والتسعين إلى آخر القصيدة .
د. عبد الله الطيب
عضو المجمع
من السودان
حواشٍ وتوضيح :
(1)كتب المستشرق الإنجليزي Charles games Lyall اسمه بالعربية هكذا:كارلوس يعقوب ليال .أما كارلوس فهي الصيغة الأسبانية لاسمه، ويعقوب صيغة أخرى لجيمز الإنجليزية. الفرنسيون يقولون لجيمز " جاك " وهي مختصرة من جاكوب أي يعقوب .
(2)هرون تكتب بألف بعد الهاء وبدونها هكذا ( هارون ـ هرون ) وكان الشيخ محمد هارون والد الشيخ الدكتور عبد السلام محمد هرون ثاني من تولى منصب قاضي القضاة بالسودان أيام الحكم الثنائي وكان الشيخ محمد شاكر والد الأستاذ محمود محمد شاكر وأخيه الشيخ أحمد أول من تولى هذا المنصب .(65/19)
(3)ذهب الجدة : يجوز هنا تذكير الفعل وتأنيثه لأن الجدة ليست مؤنثًا حقيقًا. تقول ذهبت الجدة وذهب الجدة، ولكن ذهبت لا تصلح هنا لأنها تخل بوزن البيت . ويجوز تذكير الفعل مع الجمع وإن كان يدل على مؤنث حقيقي.
قال تعالى :
(وقالَ نِسوةٌ في المدينة امرأتٌ العزيزِ تُراوِدُ فتها عن نَفسهِ قد شغَفهَا حُبًّا إنَّا لَنراَها في ضلالٍ مُبين) " سورة يوسف : 30 " .
(4)"منظر فيهم وفيهم مستمع " ـ منظر مبتدأ مع أنه نكرة لأنه كأنه موصوف ، أي منظر جميل فيهم وانظر رقم(8) فيما بعد من الحواشي.
(5)أي تبدو أقرابها أي جوانبها باليات أي مثل الأشياء البالية ، مثل قطع الثياب البالية وكأنها قطع متفرقة رقيقة من السحاب .
باليات منصوبة بالكسرة نيابة عن الفتحة حال إذ المعنى ورب فلاة واضحة أقرابها أي نواحيها حال كونهن بالياتٍ مثل القطع المتفرقة من السحاب . جَمَعَ ( باليات ) لأنه يريد نواحي الفلاة ، أقراب الفلاة .
ثم الفلاة نفسها لاتساع نواحيها كأنها جمع فيجوز رد الحال إليها لأنها جمع في المعنى . والذي ذكرناه أول الأمر واضح وقريب إن شاء الله تعالى .
(6)أيضًا يجوز لك أن تشرح البيت (7) فتقول : فتراها مسرعة عاصفة في جريها منعلة بنعال الحداد التي تقيها من الصخور ، الوَقَع بفتحتين أي الصخور جمع وقعة بفتح القاف والعين أي صخرة .
(7)نهل بوزن فرح ينهل نهلاً أي شرب أول الشرب. وعل يعل ويعل بكسر العين وبضمها علا وعلالا أي شرب الشربة الثانية أو شربة بعد شربة تباعًا .
(8)قوله " منظر فيهم " يشعر بعنصر مفاجأة . هذه المفاجأة تدل على أن الشاعر أراد أن ينبهنا على هذا المنظر . لذلك قوله " منظر فيهم " معناه " منظر موصوف ، منظر عجيب منظر صفته موجودة فيهم " . لذلك جاز ههنا أن تكون النكرة مبتدأ بها .
(9)صبور جمعها صُبُر ونجيب جمعها نُجُب ونفوع جمعها نُفُع وقضيب جمعها قُضُب ـ هذه أمثلة ومرت بُسُط بضمتين جمع بسيط .(65/20)
(10)عيّ هي عيي بوزن رضي وأدغمنا الياء في أختها فصارت عيّ وفي القرآن في قراءة مشهورة :
(إذ أنتم بالعُدوة الدّنيا وهُم بالعدوة القُصوى والرَّكبُ أسفلَ منكُم ولو تواعَدتم لاختلفتُم في الميعادِ ولكن لِيقضيَ اللهُ أمرًا كانَ مفعولا ليَهِلكِ من هَلَكَ عن بيّنةٍ ويَحيَى من حَيَّ عن بيِنّةٍ وإنَّ اللهَ لسميعٌ عليِم ) صدق الله العظيم " سورة الأنفال : 42 " .
حيّ أي حيي وقرأ بعضهم بها . والعدوة بضم العين وبكسرها كلاهما قريء به .
(11)كفء وكفو أي نظير وبهما قرأ القراء . " ولم يكن له كفواً أحد " . ( الإخلاص : 4 ) .
قرأ بعض القراء بضمتين وواو بدون همزة وهي قراءة حفص عن عاصم وقرأ آخرون بضمتين وهمزة وبعضهم بسكون الفاء ووجوه القراءة كثيرة في هذا الحرف ولكن الذي نقرأ به ما تقدم
ذكره: كفوءًا ـ كفوًا أحد .
(12)إذا جاء بيت الشعر بقافية في عجزه سمي مصرعًا وسمي هذا تصريعًا نحو :
فَدَيْنَاكَ منْ رَبْعٍ وإنْ زِدْتَنا كَرْبا
فإنَّكَ كُنْتَ الشَّرْقَ للشَّمْسِ والغَرْبا
والمتأخرون من علماء العَروض استحدثوا اصطلاحًا سموه التقفيه وفرقوا بينه وبين التصريع وهذا تفصيل قصدوا به التفرقة بين الأشعار التي يكون فيها الصدر والعجز دائما من وزن واحد مثل :
قِفَا نبكِ من ذِكرى حبيبٍ ومنزلِ
والتي يختلف وزن صدرها عن عجزها إلاَّ في بيت التصريع مثل " فديناك من ربعٍ وإن زدتنا كربا " قال الشاعر في نفس القصيدة :
ومَنْ صَحِبَ الدُّنْيَا طَوِيلاً تَنَكَرَتْ
عَلى عَيْنِهِ حتَّى يَرَى صِدْقَها كِذْبا
عجز البيت هنا أطول من صدره . آخر الصدر وزنه ( مفاعلن ) وآخر العجز وزنه ( مفاعيلن ) هذه التفرقة الاصطلاحية ليست بذات أهمية بالغة
فاعلم أصلحك الله .
(13)ذكر الأنباري في البيت (46) :
حَلَّ أهْلِي حَيْثُ لا أطْلُبُها
جَانِبَ الْحِصْنِ وَحَلَّتْ بِالْفَرَعْ(65/21)
أن أبا عكرمة الضبي رواه هكذا ثم قال والرواية جانب الحضر وهي مدينة الموصل . وقال في البيت (45) إن الرواية يدع بكسر الدال . فهذا لا يدل دلالة قاطعة على أنها رواية أبي عكرمة .
لذلك قلنا بقولنا لعله لا بأس أن تفتح الدال ولعل بعضهم كان يرويها هكذا والله تعالى أعلم .
(14)مندفعًا : حال من الضمير اسم كأن .
(15)الضر بضم الضاد اسم للضرر والضر بفتح الضاد مصدر ضر يضر ضراً
(16)قال سيبويه في أول كتابه : "يقولون يدع ولا يقولون ودع استغنوا عنها بترك " . وقال صاحب النهاية "ودع الشيء يدعه ودعا إذا تركة " فالمسألة فيها خلاف ، والصواب أن يقال " يدع كثيرة في الاستعمال وودع قليلة وجاءت في البيت (81) من هذه القصيدة .
(17)الأسماء التي تبدأ بهمزة الوصل عشرة معدودة وهي : ابن وابنة وابنم ( بمعنى ابن ) واثنان واثنتان وامرأة واسم واست وايمن الله وايم الله .
(18)الحرث والحارث وجهان في الكتابة كما مر في الحاشية رقم (2)عن هارون وهرون ومثل ذلك إبرهيم وإبراهيم وإسمعيل وإسماعيل تكتب بالألف وبدونه وكذلك إسحق وإسحاق .
(19)قبل ما اليوم : أي قبل اليوم . بيضت بعيون الناس أي بيضتها وجعلتها عميًا كقولك ذهب به أي صيرة ذاهبًا أو أذهبه ، جعله يذهب . تعيط : ارتفاع ، وقد مر شرح البيت مختصراً .
(20)تردي : ترمي . ينجاب : ينكشف . العَمَاء : السحاب .
هذا ومن الله التوفيق وله الحمد أولاً وأخيراً وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
" انتهت الحاشية " .(65/22)
تقرير عن ندوة
" الأرقام ومكانتها في قضية التعريب"*
20 فبراير 1997م
للأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد
ارتأت " الجمعية المصرية لتعريب العلوم " أن تمهد لإقامة مؤتمرها السنوى الثالث (12و13 مارس 1997م ) بعقد ندوتين، إحداهما عن" الأرقام ومكانتها فى قضية التعريب "، والأخرى عن " الرموز ومكانتها في قضية التعريب" .
وذلك لأننا قد لاحظنا أن الشجون في المؤتمرات العامة عن التعريب تتشعب وتتداخل ، وتتكرر الأحاديث في قضية قديمة متجددة ـ وقد تفتقر الرؤى فيها إلى التحديد والتركيز .
وعقدت الجمعية ندوتها الأولى ( "عن الأرقام" ) يوم الخميس 20/2/1997م، فى رحاب مجمع اللغة العربية ، وبرئاسة رئيسها . وكان الإقبال على حضور الندوة ممتازًا ، كذلك كان حضور رجال الإعلام بارزاً، كما أن اهتمام وسائل
الإعلام بالندوة كان، قبل عقدها وبعده ، واضحًا ( نشرتُ بجريدة الأهرام مقالاً قصيرًا ، يوم السبت 8/2/1997م، عن تاريخ الأرقام ، مع التنويه .
... وافتُتحت الندوة بتلاوة مباركة لما تيسر من القرآن الكريم ، ثم بكلمة ضافية ألقاها الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع ورئيس الندوة ، حيا فيها الجمعية والحاضرين ، منوِّها بأهمية الحساب والأرقام ، ومستعرضًا تاريخ العدد والحساب في الأمم السابقة ، مُنتهيًا إلى الدور البارز الذي قام به العلماء المسلمون في هذا المجال. ثم تحدث الأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد معرِّفا بالجمعية وتاريخها وجهودها السابقة وبرنامجها لهذا العام ، وشاكراً للأستاذ الدكتور شوقي ضيف أنْ فتح أبواب(66/1)
المجمع للهيئات الجادَّة المهتمة بقضايا اللغة والتعريب،ومستعرضًا تاريخ الأرقام الهندية العربية ، ومنوِّها بأن الجمعية قد شكَّلت لجنة لدراسة موضوع الأرقام دراسة موضوعية تعتمد الأسلوب الإحصائيّ الهندسيّ التحليليّ لصورتي الأرقام الشائعتين،ومدى توافق كل منها مع الخط العربي. تم تكلم الأستاذ الدكتور محمد عبد الله الشامي رئيس لجنة الأرقام والرموز بالجمعية ليقدم عرضًا وجيزًا لعمل اللجنة ، وعارضًا برنامج الندوة .
وتضمَّن برنامج الندوة سبعة بحوث ، أضيف إليها بحثٌ ثامن لطبيب مصري ، حضر من السعودية ليقدم للندوة فكرته الخاصة المبتكرة لنظام جديد من أشكال الأرقام. وكانت البحوث السبعة المقدمة كما يأتى :-
1- الأرقام الحسابية العربية .
للأستاذ الدكتور بديع توفيق محمد حسن.
2- المنهج والتربية في الأرقام .
للأستاذ الدكتور ابن النيل الصيرفي
3- بعض مشاكل الرقم في العربية
المعاصرة.
للأستاذ الدكتور محمد عبد الله الشامى .
4-تجانس الأرقام الهند عربية مع أشكال الحروف العربية وأشكال حروف لغات أخرى .
للأستاذ الدكتور محمد يونس الحملاوى، والدكتور محمد يسري النحاس.
5- نحو نظرة متكاملة لقضية الرقم العربي المشرقي والمغربي .
للدكتور محمد يسري النحاس ، والأستاذ الدكتور محمد يونس الحملاوي.
6- دراسة تحليلية لتاريخ نظام العد ودوره في تقدم الرياضيات
للأستاذ الدكتور نادى كمال عزيز جرجس.
7- الأرقام في تراثنا العربي .
للدكتور عبد الخالق يوسف سعد.
وكان أهم ما أثمرته البحوث المقدمة وما دار حولها من نقاش ما يلي :
1- تمحيصٌ لتاريخ الأرقام المشرقية ( التي تعرف في الغرب باسم " الهندية " ) والأرقام المغربية ( التي تعرف في الغرب
باسم "العربية"، وأحيانا باسم "الغبارية").
وظهر ما يقارب الاتفاق الكامل على أن كلتيهما هندية عربية .(66/2)
2- نحا بعض البحوث منحًى هندسيا إحصائيًّا تحليليًّا لدراسة أشكال منظومتَىْ الأرقام وحروف اللغة العربية وبعض اللغات الأخرى . وكانت هذه البحوث تهدف إلى :
أ- تبيين مدى ملائمة الأرقام المشرقية للحروف العربية .
ب- تجديد مدى كفاءة تَعَرُّف كلٍّ من الأرقام المشرقية والمغربية بين حروف عربية .
جـ- محاولةِ استنتاج النشأة الأولى للأرقام المشرقية والمغربية من دراسة علاقة كل منهما بأشكال حروف اللغتين الآرامية والسنسكريتية (ويثير هذا الاتجاه جدلاً غير قليل ).
3- تدل هذه الدراسات على أن الأرقام المشرقية أكثر توافقًا مع الخط العربيّ، وعلى أنه ليس هناك ما يدعونا ، في مصر والمشرق العربيّ ، لنبذ الأرقام المشرقية
واستبدال المغربية بها .
4- فضلا على هذه النواحي العملية ، تَمَسُّك المشرق بالأرقام المشرقية فيه حفاظ على تواصل التراث العربي القديم بالحاضر ، ومحافظةٌ على هُويتنا ، ويُسْرٌ لاتصالنا بالبلاد الإسلامية التي تستخدم الأرقام المشرقية . ( اسُتخدمت الأرقام المشرقية باطراد منذ أواخر القرن التاسع الميلادي ، فقد ظهرت فى مخطوطة لكتاب الجبر والمقابلة للخوارزمي ، عام 820م) .
5- ثمة أدلة من التراث تظهر جواز قراءة الأرقام المشرقية من اليمين إلى اليسار ، أي بدءاً بالآحاد ثم العشرات وهكذا ، أو من اليسار إلى اليمين ، أي من الخانات العليا إلى الدنيا .
6-المشكلتان الملحتان في الأرقام المشرقية، هما : الرقم2، والصفر الذي يكتب نقطة، وقُدِّمت بعض الاقتراحات .
7- قيل على الجانب الآخر: إن الأرقام المغربية لها صفة الذيوع العملي والتكنولوجي ، كما في الساعات الرقمية وأجهزة القياس المختلفة ، التي يستخدمها عامة الناس في العالم، مشرقه ومغربه ولكن العلامة العشرية، التي تمثل بنقطة ، قد تكون مصدراً خطيراً لأخطاء فادحة .(66/3)
8- هناك حاجة ملحة لأن تتولى هيئة مسؤولة، كمجمع القاهرة للغة العربية ، عمل دراسة تؤدى إلى توصيف قياسي للأرقام المشرقية ، على نحو ما تم بالنسبة للخط العربي وقد أوصى المجتمعون في الندوة بأن تُقدَّم خلاصةُ ما انتهت إليه من نتائج إلى مجلس مجمع اللغة العربية ، لعرضها على المؤتمر السنوي للمجمع وإثارتها فيه ، لاسيّما وأن هناك دعاوى ملحة تروّج لإحلال الأرقام المغربية محل المشرقية فى بلاد المشرق .( ووافق مجلس المجمع على ذلك ) .
على هامش الندوة :
قدم الأستاذ الدكتور سعيد النجار خطابا كان قد وجهه إليه،فى 27/10/1987م، الدكتور عبد الحسن زلزلة ، الأمين المساعد للشؤون الاقتصادية بجامعة الدول العربية وقتئذٍ ، مشفوعًا بمذكرة حول الموضوع ، يتضح منها ما يلي :
1-أثير موضوع الأرقام في المؤتمر الأول للتعريب، الذي انعقد في المغرب عام
1961م ؛ ثم عُقدت في تونس عام 1963م حلقة دراسية لتوحيد الأرقام العربية فأوصت الدولَ العربية بتعميم الأرقام الغبارية ( العربية) ، وأقر مجلس جامعة الدول العربية هذه التوصية في مارس 1965م .
2- أيَّد مؤتمر التعريب الثاني ، الذي عقد في الجزائر عام 1973م، القرار السابق ، ولكنه أوصى بمتابعة دراسة الموضوع . ولما طُلب من المجمع العلمي العراقي بيانُ الرأي فيما انتهت إليه حلقة تونس ، كلف المجمع " أحد الباحثين "بوضع تقرير في الموضوع ، فانتهى الباحث إلى القول : " إن كُلاًّ من الأرقام المشرقية والمغربية ذو أصول عربية ، وهما يتساويان بانتسابهما إلى العرب ، ومن الأصح أن يعمم استعمالهما فى البلاد العربية فى الوقت الحاضر كشكلين متميزين من أشكال الأرقام العربية ، وذلك من أجل تحقيق وحدة ثقافية عربية فى الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه " ، فاعتمد المجمع العراقي هذا التقرير ونشره فى مجلته .
3- عُرض موضوع استخدام الأرقام(66/4)
المغربية بدلاً من المشرقية على مؤتمر مجمع اللغة العربية بالقاهرة في دورته الأربعين عام 1974م ، فأحال الموضوع على لجنة الرياضيات التي قدمت تقريرًا إلى مؤتمر المجمع في دورته الحادية والأربعين عام 1975م فأوصى المؤتمر بإحالة الموضوع إلى اتحاد المجامع العربية .
*والظروف لا تسمح بفتح باب المناقشة في الموضوع وتفاصيله الآن ، ولكن قد يرى المؤتمر ، مثلا :
1-التوصيةَ بتأييد استمرار بلاد المشرق
العربي في استخدام الأرقام المشرقية ، وعدم العدول عنها إلى الأرقام المغربية .
2- التوصيةَ بإحالة موضوع وضع المواصفات القياسية للأرقام المشرقية إلى لجنة الرياضيات بمجمع اللغة العربية بالقاهرة .
3- دراسة القضية برمتها ضمن أعمال مؤتمر المجمع فى دورته القادمة.
والله ولىُّ التوفيق .
عبد الحافظ حلمي محمد
... عضو المجمع
ورئيس الجمعية المصرية لتعريب العلوم(66/5)
( شرب الملح )
قصيدة للأستاذ الدكتور يوسف عز الدين
هذه خفقات نفس شاعر حائرة في اضطرام الحياة المعاصرة، تصور قلق الشاعر وحيرته وخوفه من المستقبل الغامض :
ربة الشعر هل علمت بصب
بين هجر تشقينه وبقرب ؟
والعشيات رخمت صوت وجد
همسات النجوم من كل درب
أترى يوقد الحنين رواء ؟
من أتون الجراح ينزف قلبي
ليت شعري والرمل رمل بلادي
ومياهي بها ، تساغ لشرب
نزفت من جراحها موج هم
ترتوي من دماء أهلي وصحبي
يشرب الملح كل عضو جريح
أيداوى بالملح جرح المحب؟
* ... * ... *
كم رضعنا من التفرق سماً
لدغته أسنان أفعى وذئب
ليت شعري وفي الفؤاد شجون
فوقت سهمه مصيبة شعب
أترى توقد الجراح حنينًا
وأتون الجراح تملأ جنبي
* ... * ... *
فمتى نسرج المعالي خيولا
تملأ المجد من مفاخر عرب
وتغني مفاخر الفوز مجدًا
بالسرايا لتنتشي سوح حرب
* ... * ... *
شهداء النضال فى كل ساح
وارتوى من دماهم كل شعب
وتغنت بهم ثغور المعالي
وزهت فيهم السماء بشهب
بدمانا نذود كل شنار
بشباب ما هاب حمأة حرب
حرقوا ذلة الهوان بعزم
مهدوا فى الخلود أصعب درب
* ... * ... *
في فمي مضغة من النار سكرى
مذ بلينا منهم بأفدح خطب
أمنا ربة المفاخر فاضت
شرف أصلها ، وأمي ، حسبي
* ... * ... *
كيف ترضين أمة العرب أني
فى تراب الهوان أدفن حبي
أبوار وأنت فيض جدود ؟
نشرت فى الوجود أروع خصب
ليت شعري وفى الليالي الحيارى
خير أحلامنا تصاب بجدب
والغطاريف من أمان عراض
بجنود كوقفة النصر غلب
ودمانا تسقي الثري والثريا
وينامون فى حرير المحب .
* ... * ... *
أمنا هذه الرمال ومنها
أشرق النور وازدهى كل شعب
سطع النور ضاحكاً من سناها
وهواها ما بين جفن وهدب
قد تحملت من قروحك سقماً
ثم زيدت طعنات حقد وغصب
ورمال الصحراء خجلى الروابي
من طعين أحبها أى حب
أنا أسقي تلك الروابي جراحي
كيف أضحت جدباء من بعد خصب؟
نهش الصل زهرة الفجر غدراً .
أوما ترعوي الذئاب لحب ؟
* ... * ... *(67/1)
من سيشري هموم قلب جريح
وشجوناً تفيض من كل صوب ؟
ترضع الصخر نجمة الصبح ظمأى
ودجاها يصب صدر المصب .
أنا أفديك يا بلادي بروحي
وبسمعي وخاطري وبلبي
اسرجي الخيل والسرايا ذنوباً
ووفائي العميق نحوك حبي .
* ... * ... *
يا رمال الصحراء حبك شرعي
قد تغنت بها مزامير عتبي
أضرمي فى اللحون حبًّا عظيمًا
ثم عبي من المكارم عبي
إن ربعاً لا يعرف الحب ربع
ليس والله من قبيلي وشعبي
أنا كسرت ريشتي ويراعي
بعدما ضيعوا حروفي وكتبي .
* ... * ... *
شمخت بالإباء نفس كريم
قد سقوه من كل ظلم وكرب
إن أرضي أرض البطولات أرض
ما ونت رهبة لجوع وجدب .
* ... * ... *
وأنوف كالمجد تشمخ فخراً
تنشر المكرمات فى كل شعب
ضاع منا الطريق للمجد حتى
ضل ملاحنا طريق المصب .
* ... * ... *
وارتوى البحر من مياه السواقي
وهو نبع لكل خير وخصب
يا رمال الصحراء فالجو خال
نامت الأسد واكتوى كل شعب
امرحي يا ضباب من غير خوف
واستزيدي من كل جحر ونقب
فالوجوه الحيرى تغط بنوم
أبدي كنوم أحجار درب .
* ... * ... *
أتراني حملت هم بلادي
والحنايا مقروحة بين جنبي
وبوجهي من كالحات الليالي
يبسم الهم من شجون بقلبي
نهشت مهجتي فأن جريحاً
قلب صب من ظلم نهش وسلب
يا مطايا الصحراء يا حفنة الرمل
يا حجارة الصخر هبي .
ليس للعلم فى الديار مكان
ومكان العبيد في كل صوب
يوسف عز الدين
عضو المجمع
المراسل من العراق(67/2)
مقررات تعريب التعليم الجامعي*
في مجال العلوم الإنسانية
للأستاذ الدكتور كمال محمد دسوقي
1- مدخل صدق:
عاصرتُ تجربة تعريب التعليم الجامعي للعلوم الإنسانية في مرحلة الطلب بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة 1942م إلى 1946م حيث كان يتزايد عدد أعضاء هيئة التدريس المصريين المرحومين: الشيخ مصطفى عبد الرازق، والدكاترة منصور فهمي ، وعثمان أمين ، ويوسف مراد، ومحمد الخضيرى ، وعبد العزيز عزت ..والذين أطال الله بقاءهم: إبراهيم بيومي مدكور، وعلى عبد الواحد وافى، وعبد الرحمن بدوي ، ومحمد عبد الهادي أبو ريدة في حين أن عدد الأساتذة الأجانب يتناقص وهم :
بربيه ، وما سنيون، وكراوس ، وبرستيانى ، ولا مونت، وموروسير .. كانت المحاضرات تلقى بلغة المحاضر ـ
عربية أو أجنبية، وكنا ندون محاضراتهم بالسرعة الإملائية التي كانوا يتعمدون المحاضرة بها . لكن المراجع كانت كلها باللغة الأجنبية ( وكذلك كان تدريس اللغة اللاتينية بجميع أقسام الكلية باللغة الإنجليزية أو الفرنسية ) .
وكان محظورًا علينا أن نرجع للترجمات أو المؤلفات فى العربية التى بدأت تظهر على استحياء عن لجنة التأليف والترجمة والنشر ـ كقصة الفلسفة اليونانية والحديثة ، وفلسفة الذرائع (البراجماتزم)، ومحاورات أفلاطون والمدخل إلى الفلسفة.. وعن دار الكتب المصرية كالطبيعة وما وراء الطبيعة والأخلاق لأرسطو ـ ترجمة المرحوم أحمد لطفي السيد ، بل تاريخ الفلسفة اليونانية فالحديثة للمرحوم يوسف كرم ( رغم الاعتراف به كنص دراسي(68/1)
متفوق ) _ بدعوى الأسلوب القصصي أو الأدبي لا المذهبي الفلسفي فى الحالة الأولى ، وضرورة الرجوع للمصادر فى لغتها الأم لا إلى الترجمات ـ مهما حسنت ـ فى الحالة الثانية ، ووجوب أن يعيش الطلاب حياة الفليسوف ومؤلفاته بلغته ونص كتاباته وأقواله فى عصره .. فى الحالة الثالثة ، وعمومًا كان هذا لنزعة كهنوتية محافظة على مستوى الدارسين ونصوص الدراسة كليهما .
ولما لم نكن ضعافا فى اللغات الأجنبية لتكويننا المبكر على إجادتها قراءة وكتابة، حيث كان مناط التفوق والامتياز هذه الإجادة للغات الأجنبية التى يكشف نقل المكتوب بها من أفكار إلى اللسان والفكر العربيين ( بقراءاتنا الخاصة وأثناء المناقشات والبحوث ) عن تمكن طالب الامتياز أيضًا من ناصية اللغة العربية (بل حفظ القرآن – كما اكتشف بعض الأساتذة فى أسلوب كاتب هذا المقال )، فقد كنا أهلا للاطلاع والتعلم باللغة الأجنبية والمناقشة والبحث والامتحان باللغة العربية . وشمرنا عن ساعد الجد فى
تطعيم مذكرات الأساتذة بقراءات خاصة مترجمة أو ملخصة ـ حتى أنني لأحتفظ فى مذكراتي إلى اليوم بترجمة مادة ميتافيزيقا ومادة إدراك كلى .. بدائرة المعارف الكبرى ( الفرنسية ) وكان الجدل حول تعريب مصطلح يستدعي إظهار القدرة على الرجوع لأمهات الكتب والمعاجم العربية من جانب الأستاذ (والطالب الذى لديه موهبة لغوية). فكم أخذ منا لفظ "ترانسندنتال" عند كانت ـ بل كتابة اسم كانت نفسه بالعربية . أهو كنت ؟ أم كانط ؟ أم كنط ؟ مع أستاذنا المرحوم عثمان أمين .(68/2)
كذلك فقد كان الأساتذة المصريون ـ على تمكنهم من اللغات الأجنبية وإجادة استخدام العديد منها ، لدرجة إعطاء المصطلح أثناء المحاضرة بلغته الأصلية (ولو كانت القديمة المهجورة، لكنها لغة العلم كاللاتينية واليونانية ) وتدريس النص بلسان قومه ولو كان الألمانية ( التى لم يكن يدرسها غير طلاب الامتياز منذ السنة الثالثة،وبقدر لا يكفي لاستخدامها إلا بعد التخرج والتمرين ) –كانوا ذوي
علم وفضل، يحرصون – إلى جانب الاغتراف من اللغات التى درسوا هم أنفسُهم بها – على العطاء باللغة القومية ( التى لم يكونوا أقل تمكنًا منها ). ومن سماحة نفوسهم وملء مراكزهم، كانوا يتواضعون فيعرضون علينا أثناء المحاضرة أن نقترح اللفظ العربي لمصطلح أجنبي تقف عنده ألسنتهم؛ لأنهم ما فكروا فى تعريبه قبيل الدرس أو قد فكروا عند الاستعداد للدرس فلم يستقروا على رأي فيه. وكم كان يسعدهم أن ينطق أحدنا باللفظ العربي رمية من غير رامٍ – فيفرحون به ويعتمدونه وتسير المحاضرة. لم تكن لديهم عقدة الأجنبي بقدر ما كان رسالة لهم التدريس والتأليف فى العربية، والواحد منهم الذى كان متبحرًا فى العربية إلى جانب دراساته الأجنبية كان غواصا على درر اللفظ يملأ فمه عند الإلقاء مسعفا غرابة اللفظ على سمع الطلاب بما هو ترجمة له ، ومردفا الدهشة بالتحليل اللغوي لكلا اللفظين، العربى والأجنبي ليطابق بينهما . أما الذي هو لتوِّه عائد من البعثة أو هو قد عاد من زمن ولكن عربيته لم تستقم بعد- كالمرحومين عزت ومراد على الترتيب – فقد كان إما جريئًا مغامرًا فى استحداث اللفظ الذي يستقيم به المعنى ولو أثار الضحك ( كالمرحوم عبد العزيز عزت وهو يقول : الدينا ميك سوسيال، الاستاتيك سوسيال – اكتبوها كده ) ، أو متشكِّكًا مترددًا هيابا كالمرحوم يوسف مراد الذي انتهى به الأمر إلى اصطناع مهمة تعريب المصطلحات النفسية قبل ظهور جماعة علم النفس التكاملى التى أنشأها لنا سنة 1944 –(68/3)
1945م .
بهذه المعاناة الحية التي عشناها فى مرحلة الطلب لازدواجية ـ بل تعدد ـ لغة التدريس فى قسم الفلسفة العريق بآداب القاهرة ، خلصنا إلى تعريب العلوم الإنسانية من اجتماع وفلسفة وعلم نفس. فحيث توافرت الرغبة والقدرة لدى الدارس والمدرس لم يكن هناك ما يوقف سير القافلة ، وما دامت المادة العلمية التى نعربها مفهومة- فى لغتها الأصلية- الفهمَ الصحيح الذي لا يخطئ هدف الكاتب أو سياق النص ، لم يكن ثمة عقبة تعترض السير فى تعريب المصطلح وترجمة العبارات بالدقة التى– إذ لا تخرج على النص الأجنبيّ ـ لا تجافى أيضًا حسن الصياغة العربية ؛ لذا فإن الترجمة صاحبت التعريب نشرًا وساندته تأليفًا . فكما بكرت ترجمة حنا خباز لجمهورية أفلاطون، ولطفي السيد لأعمال أرسطو، وزكى نجيب لمحاورات أفلاطون، والخضيرى لمقال د يكارت .. تأخر تأليف على عبد الواحد للأسرة والمجتمع والمسؤولية والجزاء ، وعثمان أمين لكتابيه عن ديكارت والرواقيين ، ويوسف مراد لمبادئ علم النفس العام ، وعبد الرحمن بدوي لربيع وخريف الفكر اليوناني وأفلاطون وأرسطو ..التي هي فى معظمها محاضراتهم الملقاة بالعربية لسنوات طويلة فلم يكن التأليف للطلاب وقتئذ مرغوبًا فيه لكيلا يركنوا إلى النص العربي ويقصروا عن قراءة المراجع الأصيلة، كما كانت تسيطر علينا حكمة سقراط المقللة لأهم ية الكلمة المكتوبة والمقروءة، إذا قيست إلى الحوار
الفلسفي وحديث العقول والأرواح .(68/4)
وأسهمت يافعًا بترجمة "مدارس علم النفس المعاصرة " لود ورث . ففي شتاء 1944م، وكنا نختلف لدار المعارف في مقرها القديم بالفجالة ، تذاكر نفر من المدرسين : يوسف مراد، وفريد أبي حديد، وأمين مرسى قنديل، وأبي مدين الشافعي، وأنيس منصور .. حاجة هذا النص إلى الترجمة . وأصبحتُ فاستعرته من مكتبة الجامعة ، ثم حصلت على طبعة جديدة منه أهدانيها الماسوف على شبابه الممتاز أبو مدين الشافعيّ ، وشرعت فى الترجمة إلى أن فاجأت الأستاذ بعد شهرين بنصف الكتاب مترجمًا ومعدًّا للطبع فى مجموعته التي كان قد أنشأها ـ جماعة علم النفس التكاملي – حيث اعتمده ثاني كتبها . وكانت تجربة – يكفى أن تقرأ ثلاثة السطور الأخيرة من خاتمة تقديم الترجمة لتدرك الشكوى من عناء التعريب ومشقة الرجوع للمعاجم ومعايشة النص:
"وما أشق أمانة الترجمة على من عانى تجربتها ، فليكن للمترجم من حسن ظنك وسعة أفقك ما لا تكبر معه هفوة
محتملة،أو زلة قلم غير مقصودة، أو وجهة نظر، أو قول مخالفة " (1) لقد كنا وقتها نعتبر الترجمة أشق من التأليف ، ولا نختلف حول ترجيح الاهتمام بالمعنى والأسلوب العربي (مع الالتزام بالنص ) على مجرد الترجمة الحرفية ، لكننا الوقت نفسه كنا نتهيب التأليف ونستكثره على طالب الدراسات العليا، ولا نفعل ذلك بالنسبة للترجمة .
وفى مدرسة "جماعة علم النفس التكاملي" تهيأ لنا منبر " مجلة علم النفس " التي كنا فيها ننشر البحوث، والمقالات، وملخصات الكتب الحديثة، ونفهرس المصطلحات المعربة التي نلتزم بها كجماعة فى كتاباتنا المؤلفة والمترجمة كرسائل وأطروحات(2) . وكان لدينا قناعة بأن ما يتفق عليه كتعريب لمصطلح لا ينبغي لأحدنا أن يشذ عنه ولو لم يقبله بذا قبلت على مضض تعريب موضوع التجربة فى(68/5)
المعمل بالفحوص subject وبدأت آلفه وأسيغه، ودافعت عن توحيد المصطلحات على أى نحو اتفق عليه عندما حمل المرحوم الأهواني على أستاذنا واتهمه بالعجمة فى بعض مصطلحات كتابه: "مبادئ علم النفس العام "بمجلة الرسالة القديمة للزيات (1948م) - لأننا كنا نعتبر تعريب المصطلحات مهمة مؤقتة بعدها ننطلق فى الكتابة العربية ونبحث فى المعمل ونطور مادة العلم ذاتها. وهكذا أجزنا ألفاظ التقمص (من لبس القميص ) والنكوص والتبرير والإسقاط والاستبار والتشريط وغيرها من مصطلحات التحليل النفسي والسلوكية التى تصف عمليات النفس الباطنة والسلوك الظاهر على الترتيب .
من أجل هذا عزَّ على ـ بعد ثلاثين سنة من هذه الجهود واستقرار مصطلحات العلم على نحو يمكن معه القول : قديم شائع خير من جديد مهجور – أن يطلع
علينا زملاء لنا فى كلية التربية بالجامعة اللبنانية ، ومنهم من كان معنا تلك الفترة أو بعدها بقليل فى القاهرة ، بمحاولة تجديد للمصطلحات تغرب فى النحت والاشتقاق وتبلبل مسيرة الكتابة فى علم النفس .
وأغرب من هذا أنها تنسب التعريب لبلدلها العربي وتقابل التعريب ( اللبناني) هذا بالتعريب (المصري ) السابق ، فتنص مرارًا على أن الترجمة "المصرية " لهذ1 اللفظ هي كذا ! وتساجلنا على صفحات جريدة "النهار" التى لم تبخل بدورها فى إذكاء جذوة الحوار على مدى سبع مقالات من جانبى وخمس أو ست مقالات ردود، ورد على الرد من جانب الزملاء (1) وآمل أن يكون قد اتضح لهم جوهر ما أريده، وهو ألا ننشغل عن تقدم العلم فى العربية بالارتداد عما تم الاستقرار عليه من مصطلحات، وألا نجعل ثمة تعريبا مصريًّا، وآخر لبنانيًّا، وثالثًا سوريًّا أو(68/6)
عراقيا ..فليس من مصلحة علم النفس _ بعد ما قطع الشوط الطويل منذ أوائل الأربعينيات فى بلادنا ـ أن يعدل عن ترجمة "اختبار نفسي" إلى " روائز " وتقمص إلى "تماهى" ( من الماهية بدل الهوية ) ،" وتنبؤ إلى "تنذر " ، و " شبق " إلى "غلمة "، " وتفكك " إلى " اندثار" و"صدق الاختبار " إلى " أمانة الروائز " بما لها من إغراب ينصرف معه الدارسون عن الاشتغال بمادة العلم إلى البحث فى اللغتين العربية والأجنبية عن المصطلح – وهذا قليل من كثير من المصطلحات التي جاء فيها الزملاء بالجديد الذي تستغرق الألفة به أجيالاً وأجيالاً لكي يسهل استخدامه على السجية ـ مثلما حدث لنا منذ خمسة وثلاثين عامًا حتى الآن .
2-تلقائية التعريب :
تلك كانت تجربتنا لتعريب التعليم الجامعي فى مجال العلوم الإنسانية، عرضتها بشيء من التفصيل والمسرحة؛ لأنني من ثنايا هذا
العرض سوف أستخلص مقومات التعريب التى لا يتم بدونها – مع تحفظ لابد منه وهو : أن التعليم فى مصر لم يكن فى يوم من الأيام أجنبيًّا كله ، حتى فى مراحل التعليم قبل الجامعية وقبل إنشاء الجامعة المصرية الأهلية سنة 1958م بغالبية من الأساتذة الأجانب من كل الجنسيات . فالروح العربية للمصريين المتعلمين ببعثات فى الخارج كانت أسبق من الجامعة فى تعريب العلم الغربي ـ المادي منه والإنساني – والمثقفون المصريون كانوا يتلقون العلم أجنبيًّا ليفكروا فيه وينطقوه عربيًّا .وتلك سمة من سمات الشعب المصري فى كل عصور غزوات الغرب والشرق لبلاده: أن يطبع ثقافة الغزاة بطابعه ويحيل ما جاؤوا به من فكر حضاري إلى ما لديه هو من قبل ليذوب الجديد الطارئ فى تليده العريق، وينقذف الوارد الوافد على الأصيل الأثيل فيدمغه وحسب، من غير أن يزيله أو يقضي عليه؛ لأن كل جديد على الثقافة العربية كان ينبني على أصالة حفظ القرآن، وتقويم اللسان العربي بعلوم التجويد ، والنحو، والصرف، والبلاغة ..(68/7)
التي تكتسب مهاراتها في الكتاتيب منذ الطفولة ، فلا يؤثر في جوهرها التعليم بالغرب . كذلك فلم تخلُ الجامعة المصرية الأولى من فطاحل المصريين فى كل التخصصات إلى جانب أكبر علماء الإنسانيات فى الغرب الأوربي .
وما من شك فى أن هذه التجربة الحية التى عشناها بقسم الفلسفة الموحد فى كلية آداب القاهرة (1942-1946م) - حيث درسنا تاريخ الفلسفة بمختلف عصورها، والمنطق، والاجتماع، وعلم النفس، والأخلاق، وسائر العلوم الاجتماعية ( من قبل أن ينشعب هذا القسم الآن بآداب الإسكندرية إلى أربعة أقسام آخرها الأنثروبولوجيا) قد حدث مثله فى بقية أقسام العلوم الإنسانية بالآداب وفى كليات الحقوق والتجارة والاقتصاد والعلوم السياسية بضمنها فى جامعة القاهرة والإسكندرية ( التي أنشئت أول الأربعينيات ). بل لعله كان يحدث مثله ـ بمعاناة أكبر ـ فى الكليات العملية رغم أن التدريس فيها كان ولم يزل
حتى عهد قريب باللغة الإنجليزية . وأسوق مثالاً لهذه المعاناة للتجربة بحيوية الكتاب وأصالتهم وحماسهم الذي ألفه الأستاذ المهندس حسن حسين فهمي (1) – ذلك الكتاب الذي أوصى بنشره مجمع اللغة العربية ، وتلك التجربة التي قرظها الدكتور طه حسين فى مقدمة الكتاب بما هو أقل ما يقال فى خوض معركة تعريب العلوم المادية بجهود فردية على يد أستاذ هندسة جليل. كذلك أعبر – فى هذا الصدد – عن أكبر تقدير واحترام لجهود الدكتور محمد شرف واضع معجم المصطلحات الطبية والطبيعية والفلكية(2) العظيم الذى ذلل تدريس الطب والعلوم الطبيعية والحيوية من نبات وحيوان وتشريح ووظائف أعضاء ، والذي يعتبر أهم ما فيه أصالة المؤلف فى الإحاطة باللغة العربية المعجمية التي ليس بعدها فى الرجوع إلى المصادر الأصلية للتراث زيادة لمستزيد .(68/8)
حدث هذا من قديم ولا يزال الدكتور أنيس فريحة (1995م) (3) . " يردد عجز العربية عن اللحاق بالعلوم والفنون ، بحجة أن العرب لم يشاركوا فى صنع الحضارة الأوربية التي تعمل منذ ثلاثة قرون ، وقد انقطع مددهم لحضارة الغرب قبل ذلك ، وأن التفكير العربي وقف فى التاريخ عند نقطة بعينها ، فمن الطبيعي أن تجد العربية نفسها الآن عاجزة عن اللحاق بالعلوم والفنون - حيث إن لغة كل شعب هي مرآة حياته ، وأنك تطلب المستحيل من لغة الاسكيمو ـ التي هي أداة حسنة للتعبير عن حياتهم – أن تنقل حضارة الغرب بروحه وفكره وعلمه .. "فمع اعترافه بأن اللغة العربية غنية بمفرداتها فى نواح كثيرة ، عظيمة الإمكانيات فى اشتقاقها وقياسها، يحتج بأنك قد تجد فى العربية مئة اسم لشيء واحد في حين أنك لا تجد لفظة واحدة لأشياء تقع تحت حواسنا . ويضرب مثلاً
كلمة (صوت ) التي لها فى الإنجليزية تسعة ألفاظ ، وكلمة (لغة أو لسان ) التى لها فى الفرنسية أربعة ألفاظ ـ هكذا
voice ... ... intonation
sound ... phonology
noise ... ... langue
accoustics ... language
pitch ... ... parole
tone ... ... parler
resonance
وهو لو أعمل ذهنه ـ فضلاً عن أن يرجع للمعاجم العربية – لوجد أن لكل مفردة من هذه المفردات الأجنبية أكثر من مرادف فى العربية . كما يقرر ـ مع العجب ـ أننا الشعب الوحيد الذي يجب أن يفهم ليقرأ ، في حين أن جميع شعوب الأرض تقرأ فتفهم -أى إن كل اللغات أهلها يقرؤون ليفهموا ، أما نحن فنفهم لنقرأ ( قراءة صحيحة ) . والسبب فى ذلك - كما يقول - اقتصار العربية فى كتابتها على الحروف الصامتة لا المصوتة vowels(مثال : فستكون) - مما يذكرنا بالحوار (البيزنطي ) الذي تحاج به اثنان من العرب : لم لا تقول ما يفهم ؟ ولم لا تفهم ما يقال ؟
3-الإنسانيات بطبيعتها فكر مشترك:(68/9)
إلى جانب كون التعريب فى العلوم الإنسانية يجيء هكذا طبيعيًّا طيعا ومتدرجا سهلا - بفضل رغبة وقدرة الدارس والمدرس كليهما على تملك ناصية الأفكار والمفاهيم العلمية بلغتهما القومية؛ لتنعكس الأفكار معبرا عنها باللسان العربي على قضايا العرب السلوكية الاجتماعية الإنسانية ، وبفضل تمكنهما من اللغتين الأجنبية والعربية كلتيهما ( لكن فى غير حماس للغة الموضوع أو بلد البعثة الدراسية، وبوطنية تتحمس لإعلاء اللغة الأم فى استيعاب ما هو مشترك بين الناس من فكر ) .. يمكننا أن نضيف إلى ذلك طبيعة العلوم الإنسانية ذاتها من حيث :
1- إنها تدرس موضوعات وقضايا هي واحدة في العقل الإنساني لا يختلف التفكير فيها أو فهمها عبر الثقافات أو يعسر استيعابها مهما تفاوتت درجة التقدم فى الحضارة بل الرقى فى المدينة . فهي أكثر ربطًا للدارس ببيئته وحضارة بلده ولسان قومه فيما تنقل من أفكار - لأن سياق اللغة فيها سياق فكرى لا مجرد سياق تعبيرى .
2- إن مصطلحات العلوم الإنسانية اشتقاقات ونحوت لغوية - لارتباط المصطلح بفكرة عامة أو مفهوم كلى مجرد– على خلاف اصطلاحات العلوم المادية التى تدمغ أشياء، ومواد، وآلات، ومستحدثات صناعية، أو تكنولوجية قد تكون غريبة على تصور أو تخيل الدارس والمدرس باللغة العربية ، فهي مصطلحات ثقافية مادية لا تجريدات العقل الإنساني الواحد عند كل بني الإنسان تعبيرا عن الفكر المشترك .
فإذا سلمنا بحقيقة الترابط بين اللغة والموضوع - سواء لغة المواقف الاجتماعية اليومية، أو لغة الكتابة والقراءة فى القانون أو الفلسفة - مع توافر الدور أو الهدف الذي تتوخاه من استعمال اللغة - مما أثبتت التجربة أنه يجعل استعمال اللغة للناطقين بها فى الأصل ( مع إتقان اللغة الإنجليزية كلغة دراسة وإقامة طويلة(68/10)
فى بلادها ) مسلمة لا شية فيها، مقابل التردد والاستعانة بكلمات عربية لإيضاح الفكر عند الحديث فى الأمور نفسها باللغة الإنجليزية ، وعمومًا استعمال الفصحى لدى مناقضة الأمور السياسية أو الدينية وكثرة ترديد المفردات والمعاني الأجنبية لدى الحديث فى أمور ميكانيكية تتعلق بالآليات بشكل خاص (1) .. إذا سلمنا بحقيقة الترابط هذه بين اللغة والموضوع، وأثر ذلك فى تحديد خصائص الأسلوب التعبيرى ، عرفنا لماذا كان تعريب الإنسانية أيسر منه بالنسبة للعلوم المادية : إن العلوم الإنسانية بطبيعتها علوم عقلية تثير أفكارا ومفاهيم عامة يشترك فى تلقيها الناس جميعًا ، وموضوعها التجريدات والتعميمات السلوكية والاجتماعية والثقافية التى فطر العقل الإنساني فى كل مكان على الانطباع بها وإدراكها وتمثلها.
ثم إن العلوم الإنسانية -مهما استوردت المستحدث من الأفكار واستعارت(68/11)
الأجنبي من الثقافات ـ لا يمكن الاستفادة بها إلا إذا طوعها العقل وطابقها بالبيئة ، فهي تنقل الفكرة أو المفهوم أو النظرية منصهرة فى بوتقة محلية ومقيسة على واقع ايكولوجى . وسواء تقبل أصحاب العلوم الإنسانية فى البلد المنقول إليه ( أو نبذوا )فكرة مستوردة ، فالمحك لدى القبول أو الرفض هو الملاءمة لعقل الناقل وبيئته وبلده ( مثال: نظم الزواج، والطلاق، والميراث، والبنوة ..فى الأسرة ، والاقتصاد، والتشريع، ونظام الحكم .. )، والعكس صحيح بالنسبة لاستعارة الثقافات المادية والتكنولوجيات:حيث يتم نقل الاختراع أو الاكتشاف وربما الأخذ بهما والاستفادة منهما؛ قبل استيعاب الفكرة العلقية التي تساندهما أو النظرية العلمية التي يقومان عليها – فى لغة بلدهما الأجنبي – فضلا عن البدء فى تعريب الفطرة أو النظرية .فلا جدال إذن فى حقيقة كون العلوم الإنسانية أيسر تعريبًا ( لأنها تنقل الفكر الواحد إلى لغة قابلة لاستيعاب الأفكار، والجهد حينئذ هو فى سهولة التعبير ) من العلوم المادية ( التي تنقل أفعال المواد والأشياء والصناعات ووظائفها وتراكيبها فى لغة البلد الذي أوجدها قبل التفكير فيها، أو التعبير عنها بهذه اللغة وتمهيدا لتعريب هذا الفكر العملي والوظيفي المادي ) ( مثال : استخدام التلفزيون ، ومن قبل المذياع والهاتف واللاسلكى والسيارة .. بخبرة أجنبية قبل دراسة آليتها فى لغتها ثم تعريب هذه الآليات لتدريسها بالعربية )(68/12)
ولتوضيح أكثر نذكر بحقيقة أن لكل شيء تركيبه ووظيفته، سواء المادي أو المعنوي ، وأن علماء نفس الطفل وأصحاب العلوم الاجتماعية على علم بأن الكائن الإنساني فى نموه وارتقائه يتعرف على الوظيفة والاستخدام قبل أن يتساءل عن التركيب والبناء ، ويستجيب للـ ( كيف ؟ ) قبل الإجابة عن السؤال بـ ( ماذا؟ ) و( لماذا )؟ : الطفل يضع قدميه في حذاء والده ويلبس نظارته، والبنت تستخدم سرًّا أدوات زينة أمها - قبل أن يعرف الجميع مم تتركب هذه الأشياء وما فائدتها - أي يعرف كيف تستخدم قبل أن يعرف مجرد اسمها: هكذا الأمر بالنسبة لاستعارة الثقافات : الوظيفة والاستخدام عملية أسبق من التفهم العقلي أو النظري لتركيب المادة المصنوع منها الشيء والاسم الذي يطلق عليها، أو الفكرة التي تساند أداءها لوظيفتها وفاعليتها . بذا فإن جوهر تعريب الماديات نقل تسمية غريبة على الذهن واللسان لمسمى غير مفهوم بعدُ فكرته أو تركيبه مهما يكن معروف الفائدة والاستعمال ، فيجيء الربط بين التسمية والمسمى عفويًّا تحكميًّا - مقابل كون تعريب الإنسانيات عملية نقل أفكار شائعة وسائغة بعلامة أو إشارة تعبيرية لا تخفى على عقل الناقل والمنقول إليه ولسانهما ، ثم تعلمها باقتران تداعى الأفكار المقيد واسترجاعها من الذاكرة بعقلانية التفكير والتعبير .(68/13)
والفرق في الحالين إذن هو في مطابقة التفكير والتعبير . فإن تكن اللغة هي لسان العقل وعبارة الفكر - أي الفكر معبرًا عنه، والعقل ناطقًا ومتكلمًا بصوت عال، وإن يكن الفكر – بعبارة أخرى– تعبيرًا صامتًا والكلام تفكيرًا بصوت مسموع ، ففي الإنسانيات بل العقليات بوجه عام ( رغم كونها، وربما بسبب كونها ، تعمل على مجردات ذهنية وتعنى بالعلل البعيدة والغائبة ) يتطابق التفكير بالأجنبية والتعبير بالعربية ، في حين أن العلوم المادية التي تعمل على المحسوسات بل الملموسات، وتعنى بالعلل القريبة والفاعلة، قد يظل التفكير فيها باللغة الأجنبية مفارقا للتعبير بالعربية، أو على الأقل يلزم استحضار التسمية الأجنبية فى الذهن لحظة التعبير أو التحدث أو الكتابة بالعربية مهما شاع المصطلح العربي .
4-الاصطلاح اتفاق على صلاحية :
أما الطبيعة الثانية للعلوم الإنسانية ، التي يسرت تعريبها أسبق من غيرها، فهي أن اصطلاحات هذه الطائفة من العلوم تسميات لفظية للمعاني المجردة والأفكار العامة، أو المدركات الكلية والمفاهيم العقلية، يسهل وجودها أو إيجادها بالاشتقاق أو النحت في اللغة العربية بوفرة وغناء – أما تسميات مواد الطبيعة، والكيمياء، والصيدلة .. الحديثة الاكتشاف، وأسماء الأجهزة والأدوات والمعدات ، التي يتوالى اختراعها في الغرب وتسمى بأسماء ذات أصول يوناينة أو لاتينية قديمة (مهما تصر فهي إنجليزية أو ألمانية أو فرنسية حديثة ) فقد لا يسهل إيجاد اللفظ العربي المقابل لبعضها بأي نحت أو اشتقاق، ويتعين نطق وكتابة بعضها في أكثر الأحيان كما تنطق أو ترسم في لغتها الأجنبية .(68/14)
إن اصطلاحات فلسفية واجتماعية وقانونية واقتصادية ..كالمثالية والواقعية، والوجود والعدم، والنشوء والارتقاء ، والهيولى والصورة، والجوهر والعرض ، والكم والكيف ، والجريمة والعقاب ، والمسؤولية والجزاء ، والعرض والطلب ، والرأسمالية والاشتراكية والشيوعية ، والتقدم والتقهقر،والتطور والتغير ، وحرية التجارة ، laissez-passer,laissez-faire ..
كلها ألفاظ ترد على ذهن الدارس العربي فور سماعها أو قراءتها بالإنجليزية أو الفرنسية لأول مرة ـ مهما حلا له للدقة أن يقول (الهيولي )أو ينطق بالعبارة الفرنسية الدالة على حرية التجارة .
ويتوقف الأمر دومًا على ما لدى العربي من ثورة لغوية هي محصلة قراءاته اليومية ولغة تخاطبه المهنية . فما له، في العربية، اللفظ الذي يعطي دلالته الأجنبية كاملة يثب إلى الذهن ويستقر باسمه ومعناه ، وما ليس له بعدُ تعريب ما أو ترجمةٍ، اصطلح عليها باتفاق أو اختلفت حولها الآراء .. يحلل اللفظ الأجنبي إلى جذره الأصلي ويبحث له في العربية عن جذر مقابل، ثم تصاغ ترجمته بتفعيلة اسم الفعل أو الفاعل أو المفعول أو المصدر أو الحال التي هو عليها .
والحق يقال إن الكثير من اصطلاحات الهندسة والطبيعة والكيمياء والنبات والحيوان والتشريح والفيزيولوجيا - مما هو اسم فعل أو وصف لعمليات تحليل وتركيب وتفاعل وتشغيل ـ هو اشتقاقات لغوية أيضا يسهل تعريبها ، حتى ما ينقل منها بالرسم كالميكنة والتقنية والاستاتيكا والدينامية والطوبولوجيا والجيولوجيا .. أما أسماء المواد والآلات أو الأجهزة طبيعية ، ومصنوعة، فهي التي قد تجعل تعريب هذه العلوم لا يخلو من(68/15)
استعمال اللفظ الأجنبي بالضرورة كما ينطقه أهله بلسانهم في ثنايا السياق بالعربية . إذ كيف يترجم المعرب الكلمات التالية: مغنسيوم ، كلوريد ، كلسيوم ، أو كسجين ، بوتاسيوم ..؟ وكيف يعرب أسماء أدوية الصيدلة ( أقربازين ): يود ، أنسولين ، كافيين ، نيكوتين ، أدرينالين ، هيموجلوبين … بأفضل من نقلها كما تنطق به في لغتها وبرموز كتابتها الأجنبية التي تجعل تعريبها مجرد رسم لا ترجمة ؟ لقد أجاز العرب الأوائل - على ما لهم من طول باع في مفردات الفصحى - أن يرد خلال كتاباتهم العربية ألفاظ : اللوجوس ، الهيولانى ، الاستقص ، الميتافيزيقا ، السوفسطيقا ، الثيولوجيا .. وكان لهم في ذلك أسوة بما ورد في القرآن مع ألفاظ فارسية كالسندس والإستبرق ..
فإن يكن تعريب سياق النص ( وهو من قبيل اللغة الجارية التي يكتب ويقرأ بها الناقل إلى العربية ) أمرًا سهلاً على المعرب
- حيث يسبق لسانه الفكر الذي يخلص
إليه من النص الأجنبي وتسعفه العربية بالتعبير الملائم - فإن أمر المصطلحات هو ما يعترضه من حين لآخر .
وفى هذا لسنا أول النقلة للعربية ، إذ لدينا تراث ثرٌّ يحفل بكل تليد وطريف في هذا المضمار ، ولن تختلف وسائلنا في تعريب المصطلحات - قواعد ومزاولة- عما اتبعه أوائل النقلة للعلوم الدخيلة على حضارة العرب - في إطار السير على مذهب القائلين بضرورة الدوام على الاشتقاق والتعريب أولى من مذهب القائلين بالتشدد من علماء اللغة الذين يتشبثون بالسماع عن عرب الجاهلية والمخضرمين- لكيلا تجمد اللغة عن النمو والاتساع لاستيعاب العلوم الحديثة - هذه الوسائل - بل القواعد، هي(1) :
1- اشتقاق كلمات جديدة من أصول عربية أو معربة للدلالة على المعنى الجديد.
2- تحوير المعنى اللغوي القديم للكلمة العربية وتضمينها المعنى العلمي الجديد .
3- ترجمة كلمات أعجمية بمعانيها .
4- تعريب كلمات أعجمية وعدها صحيحة .(68/16)
بعبارة أخرى ، إن " وضع المصطلح يجب أن يمر بالمراحل الآتية ـ إن لم تلفح الأولى ، جُربت التالية" (1) .
- التفتيش عن المقابل العربي الفصيح في المعاجم اللغوية .
- التفتيش عن المقابل العربي الفصيح في التراث العرب ولو أهملته المعاجم .
- الالتجاء إلى المشتقات القياسية ، أو تضمين اللفظ القديم معنى جديدًا ، أو النحت من كلمتين أو أكثر .
- التفتيش عن الألفاظ المولدة في التراث العربي الصادر بعد عصور السلامة اللغوية.
- قبول الألفاظ العامية التي لا يوجد لها مقابل فصيح كما نرى عند أهل الصنائع.
- قبول بعض المصطلحات العلمية الأجنبية التي شاعت في لغات العالم -
كما في علوم النبات والحيوان .
أما " كيف يمكن للعالم العربي أن يتخلص من مشكلة المصطلح؟ " فثمة اقتراحات وتوصيات كثيرة أجملها المسؤولون أخيرًا(2) . . بعضها للمختصين ( يعرفونه جيدًا) والبعض للهيئات ( جمعيات ومجامع وجامعات..) وهو حاصل فعلا ، ولا بأس من التذكير به:
1- اختلاف المصطلحات ينبغي للقضاء عليه الإكثار من عدد المؤتمرات العلمية .
2- ينبغي للمصطلحات أن يضعها المتخصصون من أعضاء المجامع العلمية كل حسب اختصاصه ، ثم تعرض على المجامع اللغوية لإقرارها .
3- توحيد المصطلحات العربية تحت إشراف الجامعة العربية ، أي المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وبمعاونة أعضاء المجامع الأربعة بالقاهرة ودمشق
وبغداد وعمان .
4- تتبع الأساتذة لما تقره المجامع اللغوية من المصطلحات وتطبيقهم إياها في تدريسهم وتأليفهم .
5- قبول المصطلحات العلمية العالمية بألفاظها اللاتينية، كما تقبلها جميع اللغات ومن ضمنها الروسية .
6- الاقتصار على التعريب الحرفي للمصطلحات ذات الطابع الدولي وتوفير الجهد على المجامع اللغوية.(68/17)
7- الإكثار من ترجمة أمهات الكتب العالمية وإيجاد لجان متخصصة في التأليف في مختلف الفروع باللغة العربية، وانعقاد لجان دائمة تابعة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تضم أساتذة الجامعات ورجال الصناعة من أجل توحيد المصطلحات العلمية .
8- إدخال الألفاظ العامية التي لا يوجد لها مقابل في الفصحى مثل مصطلحات أهل الصنائع .
9- قيام مكتب التنسيق بمهمة التوجيه والتعريب .
10- نشر معجم لمصطلحات التقنية الأجنبية مع جميع مقابلاتها العربية.
11-إصدار قاموس عربي علمي عصري تساهم فيه جميع الهيئات العلمية بالوطن العربي .
12- عقد حلقات على نطاق الوطن العربي لبحث مسألة تجديد اللغة العربية تحت إشراف مكتب تنسيق التعريب .
5-التعريب للتدريس: الأستاذ والطالب:
يتضح، إذن، أن تعريب العلوم للتعليم الجامعي اليوم ـ وهو أمر واجب تحتمه ضرورة نقل الثقافات في بلاد تقدمتنا حضاريًّا إلى لغنتا وفكرنا ، بل هو " أهم وسائل تقدمنا العلمي" (1) – يركز على جانب الأسلوب أو السياق ( ليؤدي النصُّ العربي في يسر وسلامة الفهم الذي يؤديه النص الأجنبي لأصحاب لغته وأهل لسانه) ثم على جانب الألفاظ المفردة ( التي اصطُلح في اللغة المنقول إليها على أن تبعث في ذهن القارئ معنى معينًا
غير مجرد اللفظ أو التسمية اللغوية ، وغير أو ضد أو دون .. معناه اللغوي أو الدارج ، فيحاول الناقل أن يأتي في العربية باللفظ الذي يثير في ذهن القارئ العربي هذا المعنى الخاص المصطلح عليه للفظ الأجنبي في سياق النص الأجنبي .(68/18)
وأيا ما كان الأمر ، فلسنا في هذا العصر المتأخر أول النقلة ، ولن نتعدى شروط النقل العامة في مختلف العلوم، تلك التي اتبعها القدماء من المؤلفين والمصنفين العرب، وما يراعيه حتى اليوم كل قائم بالمهمة – شعر بذلك أم لم يشعر . لقد خضنا التجربة كما سبق القول بطريقة طبيعية وعلى السجية ، ودون جدل حول ما إذا كان التعريب ضروريًّا أو ضارًّا ، غاية في ذاته أو وسيلة ، أو شعور بحقيقة كون المصطلحات في الدراسات الأدبية والإنسانية أيسر منها بكثير في العلوم الصحيحة ، أو إدراك لدعوى (1) أن اللغة
العربية صالحة كأداة في تلقين الدراسات الأدبية والإنسانية، غير صالحة لتلقين التقنيات ، بل غيرآ بهين بكون " العربية لا يمكنها أن تحتل فجأة مكان اللغات العلمية" ، أو متسائلين عما إذا لم نكن نحن" الجيش الجرار من المترجمين" المطلوب انتدابه ليكون لاهثًا في ملاحظة ما يستجد من مؤلفات في العلوم الإنسانية(2) .
فالذي يتكلم اليوم عن التعريب للتدريس يطرق بابًا مفتوحًا على مصراعيه، إذ إن هذا الهدف هو في وجدان المعرب مؤلفا كان أم مترجمًا - فضلا عما تزخر به أخيرا صحيفتا "اللسان العربي " و" اتحاد الجامعات العربية "من مقالات أغلب ما ينادى به كتابها معمول به فعلا، وهو وصف لواقع الحال، ومجرد تعبئة تنسيق وتوحيد للجهود الفردية والرسمية بكل بلد حسب
المرحلة من التقدم والتأخر في تعريب التعليم التي يمر بها . فشروط النقل العامة للتعريب من أجل التعليم هي(1) :
1- تحرى لفظ عربي يؤدى معنى اللفظ الأجنبي - وهذا يقتضي أن نكون مطلعين اطلاعًا واسعًا على الألفاظ العلمية المبثوثة في المعاجم العربية وفى مختلف كتبنا العلمية القديمة .(68/19)
2-إذا كان اللفظ العلمي الأجنبي جديدًا، أي ليس له مقابل في لغتنا ، ترجمناه بمعناه كلما كان قابلا للترجمة ، أو اشتققنا له لفظًا عربيًّا مقاربًا . ونرجع في وضع اللفظ العربي إلى وسائل الاشتقاق المعروفة وإلى المجاز والنحت ، نستفيد أولا من كل إمكانيات لغتنا ولاغضاضة بعدُ في أخذ الأعجمي(2) :
3-وإذا تعذر علينا وضع لفظ عربي بالوسائل المذكورة عمدنا إلى التعريب مراعين قواعده قدر المستطاع .
ومن الضروري أن يضاف لهذه الشروط المعمول بها في نقل مختلف العلوم الحديثة إلى العربية، القواعدُ التي وضعها مجمع اللغة العربية المصري (3) . مثل تفضيل العربي على المعرب القديم إلا إذا اشتهر ، وتفضيل الاصطلاحات العربية القديمة على الجديدة إلا إذا شاعت ، وتفضيل الكلمة الواحدة على الكلمتين أو أكثر، كلما أمكن ذلك ، والاقتصار على اسم واحد للمعنى الواحد .
ولا خلاف كذلك على كون " تعريب المدرسة أساس كل تعريب "، " والمدرسة من الكتاب إلى الجامعة"، "وتعريب التعليم من المعلم إلى الكتاب" (4) - حتى نكون قد عربنا جماعة تقوم بتعريب الجماعات ، وتعريب الاجتماع، وتعريب البيوت.. وهذا يتطلب منا " إعداد كتب موحدة . ومصطلحات موحدة، ومعلم عربي يستطيع أن يؤدى رسالته العربية في كل(68/20)
قطر عربي (1) ." فإن تكن أكبر عقبة تلقانا في هذا الطور هي تعريب المعلم نفسه ـ ويجب أن نحتاط لهذا (2)" .
وإذا " كانت العوائق النابعة من اللغة العربية ذاتها (كالقواعد من نحو وصرف والخط العربي .. التي جمدت ولم تتطور ، وقصور المصطلحات التي لا تجاري المخترعات والاكتشافات بنفس السرعة..) لا تنفرد بها لغتنا بل تشاركها وتزيد عليها فيها الألمانية والروسية من غير أن يمنع ذلك استخدامهما في العلوم ونحن نرسل أبناءنا ليدرسوا بهما " .. إلى جانب العوائق النابعة من القائمين بالتدريس أنفسهم الذين مرنوا على استخدام اللغة العربية دارسين ومدرسين؛ فصارت لسانهم وقلمهم .. (3) كلها مما يمكن التغلب عليه في المراحل الأولى لتعريب التعليم ، حيث كان التعليم – أقصد الجامعي منه فحسب – باللغة الأجنبية ، فقد استقر " اتفاق الجميع – لاعتبارات قومية وعلمية واجتماعية – على أن اللغة
العربية هي الأداة الطبيعية للتعليم الجامعي، وأنه إذا عدل عنها في نطاق العلوم فذلك لأجل محتوم ، ولا يبقى إذن غير الاهتمام بالأستاذ والطالب والكتاب فيما يتصل بالنقل من الأجنبي إلى العربية " .
ووجه الضرورة للتعريب ـ بالنسبة للطالب الجامعي أولاً – أن الدارس ( لضعف مستوى لغته الأجنبية ) يحارب في جبهتين ؛ لأن " جامعاتنا – بسبب الهبوط المستمر في مستوى اللغات الأجنبية عند الطلاب، الذي يلاحظه القائمون بالتدريس ، ( إن لم تعرب ) – تزيد الأمر تعقيدًا . فإذا حاول الطالب العادي الاطلاع على المراجع الأجنبية اصطدم بحاجز اللغة الذي يكبل تفكيره ويصرفه عن الموضوع ويفصله عن تتبع تسلسل المعنى مما يضطره إلى بذل جهد مضاعف، وإنفاق كثير من الوقت فى محاولة استيعاب أجزاء يسيرة وصفحات معدودة، إنه يشتت طاقته الفكرية في ناحيتين مختلفتين : أولاهما : فهم المقصود(69/1)
اللفظي ، وثانيتها: استيعاب المغزى العلمي(4) . فحاجة الطالب إذن لتلقي العلم الأجنبي بالعربية نابعة من ضعف مستوى تحصيله للغة الأجنبية في المراحل قبل الجامعية .
وقد تنعكس الآية بالنسبة للأستاذ - بأول أجيال التعريب على الأقل - فتصبح المشكلة لدى الذين درسوا بالخارج على غير تمكن من العربية أو استعادة لها، هي سهولة جريان اللفظ الأجنبي أو العبارة الأجنبية على اللسان أو القلم، وبالتالي نرى ازدواجية أو ثنائية لغة التدريس .ولا غضاضة في ذكر المصطلح الأجنبي على الفور بعد اللفظة العربية، كما لا ضرر من اقتباس العبارة الأجنبية الأصلية عقب النطق بها بالعربية - حتى في كتابة أسماء الأعلام؛ ليسهل النطق بها . لأن تعريب العلم للتدريس لا ينافى التفكير فيه وفهمه بعقل قومه كما عبروا عنه بلسانهم ، ولأن في ذلك تقوية في الوقت نفسه للغة الأجنبية، وربطًا لمعانيها بالعربية ، وتمكينًا
للمتفوقين من الطلاب الذين سيصبحون أساتذة يغترفون الجديد من مصادره الأولى، أن يرجعوا للنصوص الأجنبية . فما دامت العربية هي لغة التدريس أساسًا، فمن المفيد التذكير دائما بالمصطلح الأجنبي تحقيقًا للفوائد التي ذكرناها .وهذا ما أراعيه شخصيًّا في محاضراتي وطباعة كتبي، حيث لا يخلو سطر عربي من لفظة أجنبية، أو يرد تعريب مصطلح لا يتبعه الأصل ـ مهما تذمَّر الطابعون .
وعمومًا ، فإن متطلبات النقل إلى العربية ، أي ما يشترط فيمن يقوم بالتعريب ، ما يلي :
1- الإلمام الواسع بمادة العلم والإحاطة الكاملة بما يرد فيه من أسماء ومسميات في أمهات مراجعه وعيون مؤلفاته .
2- المعرفة الكاملة بألفاظ ومفردات وتراكيب عبارات اللغة المنقول منها - لغة الكتابة العلمية الأجنبية في هذه المادة، ومفردات ألفاظها العلمية المصطلح عليها.(69/2)
3- الاطلاع الدائم والمستمر على كتب التراث العربي في المادة نفسها، والألفة الكاملة بما ورد على لسان وأقلام الكاتبين فيها- من دلالات ألفاظ، ومعاني جمل وعبارات .
4- ملكة تلبيس اللفظ للمدلول، والاسم للمسمى، والعبارة للفكرة - فيما بين المنقول منه والمنقول إليه - مع تمييز واعٍ لما عساه يتلبس بمرادف أو مجانس أو مطابق أو مضاد ، في اللغة الأجنبية والتعريب .
5- حاسة واعية بالشائع من الخطأ، والمهجور من القول،لتجنب الناقل للعربية عدم الوقوع على التسمية الصحيحة من بين ما هو موجود، أو إطلاق الاسم على غير مسمى، أو على الخارج عن الموضوع.
6- مداومة الرجوع للمعاجم العربية والأجنبية كليهما في اللغتين المنقول منها وإليها ، للتيقن من أن المعنى الذي يراد الدلالة عليه باللفظين فى اللغتين هو وحده المقصود .
6-الترجمة والتلخيص والتأليف :
وإذ يوفق للفظة الصحيحة التي لا تخطئ هدف ترجمة المصطلح الذي يتعرضه من حين لآخر - خصوصًا في النصوص الافتتاحية من كتاب أي مؤلف يأخذ عنه (لأنه بعد ذلك يتكرر استعمال المؤلف الأصلي لرصيد مصطلحات علمه أو اصطلاحاته هو الخاصة في لغته )- فإن أمر تعريب النص الأجنبي لا صعوبة فيه إذا كان الناقل مترجمًا متمكنًا من اللغتين المنقول منها وإليها. وهنا لابد من أن أفرق بين ما إذا كان الناقل مترجمًا أو ملخصًا أو مؤلفًا . فإن يكن مترجمًا، فلا ينبغي له إلا أن يسير مع النص جملة جملة وعبارة وعبارة .(69/3)
لابد له من غير شك أن يقدم ويؤخر ، يبدأ بالفعل بدل الاسم ( لكون التعبير فى اللغات الأجنبية بالجمل الاسمية ذات المبتدأ والخبر أكثر منه بالجمل الفعلية ذات الفعل والفاعل أو نائب الفاعل )، ولكن لا يجوز له بأي حال من الأحوال أن يحذف جملة اعتراضية أو يتجاوز عبارة توضيحية أو يتخطى بعض الأمثلة ولو كانت من قبيل التزيد والتكرار، أو يتغاضى عن ظرف زمان أو مكان أو حال ..لأن فى ذلك تفويتًا على القارئ العربي لتحديدات أو تحفظات أو تبسيطات فى الأسلوب والعرض، لا شك أن المؤلف قد قصد إليها قصدًا مهما تكن طبيعة أسلوبه وعرضه، ومستوى القراء الذي يكتب لهم. إنك إذا ترجمت مؤلفًا لأحد الكتاب من العلماء أو الأدباء إلى لغتك - منشورًا باسمه كمؤلف – فلا يحق لك أن تتصرف على أي نحو فيما يقول (فضلاً عن أن تقوِّلَه ما لم يقل ) وإنما توصل أفكاره بحذافيرها لقارئك العربي على مسؤوليته هو كمصدر أساسي لهذه المعلومات ، وتهبه لقراء ترجمتك على حاله من تعبيره وتفكيره، وبالصورة ذاتها التي رسمها قلمه لفكره .
كنت مراجعًا لأحد الكتب المترجمة في مجموعة الألف كتاب التي كانت تصدرها إدارة الثقافة المصرية، وكان المترجم زميلاً فاضلاً وصديقًا عزيزًا، اشتغلنا معًا في صدر حياتنا بتدريس اللغة الفرنسية، كان متمكنًا من الفرنسية وأديبًا في العربية ، لكنه – بروح الفنان والمعلم وبهواية البساطة والوضوح – كان يسقط عبارات بأكملها من النص، ويتصرف بحذف ما هو مكرر أو تفسيري ، ويتجاوز أية عبارة غامضة، أو تلك التي يلزم لصياغتها الرجوع للمعاجم للكشف عن لفظة غريبة عليه ( اسم شخص كانت أو اسم بلد أو اسم موضع ..) إن أمانة نقل العلم إلى اللغة القومية لا تتعين بأكثر مما تتعيَّن في الترجمة . وإذ المترجم مصور لأفكار وآراء غيره ، فلا ينبغي إلا أن ينقل الصورة كما هي – حتى بغير ( رتوش ) لمسات التجميل أو التحسين أو الإخراج.(69/4)
ولقد يعمد بعض المترجمين إلى إخفاء آراء للمؤلف تكون مخالفة لآراء قومهم هم – في الدين أو الخلق أو السياسة أو الاجتماع . والمترجم ليس حاميًا للمؤلف من آراء لم يخش هو من إعلانها وإذاعتها، كما لا ينبغي له من الناحية الأخرى أن يكذب أهله بإخفاء ما يراه الآخرون حقيقة لا يريدون أن تخفى عليهم ، ولو تعلم هؤلاء بلغة قوم المؤلفين الأجانب فى أصولها بدلاً من ترجمتها للعربية – مثلا - لأمنوا مكرهم . فخير ما يحدث حينئذ أن يورد المترجم آراء الأجنبي كما هي ، ويعلِّق عليها أو يدافع عن قومه بنقضها. ومثلها كان يفعل في جيلنا ( ببراعة وعدم قصور أو تقاعس ) العلامة أبو ريدة، وهو يرد على المستشرقين في مؤلفاتهم عن الحضارة الإسلامية والفلسفة الإسلامية .
فأما إذا كان الأمر يتعلق بالتلخيص للتأليف أو التصنيف، فإن مهمة المؤلف والمصنف تكون أيسر إذ يحق له أن يختار ما يأخذ به وما يدع. وإذ هو مجمع لآراء الكثيرين في نقطة بعينها بدلا من كون المترجم ناقلا لتسلسل أفكار مؤلف واحد في موضوع واحد ، فهو بالخيار – لغرض الاختصار – بين أن يسقط المتكرر والمتشابه والمسبوق .. دائمًا مع الإشارة أو التنبيه لما فعل ، و بين الحرص على ألا يقول المؤلف الأصلي ما لم يقله، أو يُحسِّن المترجم أو يقبح من آراء المؤلف وأفكاره إلا في معرض الرد أو التعليق أو النقد .. بحيث يكون واضحًا تمامًا ما هو للمؤلف الأصلي وما هو للناقل .
ولأن"ناقل الكفر ليس بكافر" فللمعرب(69/5)
هنا حرية حركة أكثر من الترجمة . فبالإضافة لحق اختيار ما يأخذ وما يدع ، ليس ثمة التزام بالرد أو الدفاع إلا إذا أراد أو استطاع . والغالب أنه لا يحتاج لهذا إلا إذا تعلّق الأمر بمسائل تختلف فيها الآراء أو تصطرع حولها الأفكار، والحال كذلك – من باب أولى – عندما يكون المعرب مؤلفًا لمختلف الآراء ومصنفًا لشتى الأفكار – حيث ينطبق عليه دائما الالتزام بدقة العرض مهما أوجز أو لخص ، وعدم التطاول بالنقد إلا إذا غاص في عقل المؤلف ووثق مما يريد قوله؛ ولأن " المعنى في بطن الشاعر "فلا يجوز لناقد أن يتصدى بالنقد إلا إذا عرف عن النص ما يعرف عنه صاحبه وأكثر،إذ إن هذا الـ (أكثر) هو الذي يجيز له أن ينقد – كما علمنا من قديم الإمام الغزالى إذ يقول : " فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه، والاطلاع على كنهه رمى فى عماية .. وعلمت يقينًا أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم ، حتى يساوى أعلمهم فى أصل (ذلك ) ثم يزيد عليه ويجاوز درجته ، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائلة . وإذا ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساد حقًّا " (1) .
وكما أن الترجمة تقتضي فيها الأمانة العلمية نقل كل ما قاله المؤلف الأجنبي حرفيًّا في النص، ولا بأس من التعليق أو الرد بهوامش الصفحات –دون إضافة أو حذف أو تبديل – فهي تقتضي أيضًا الأمانة العلمية في التأليف بأن ينسب المؤلف العربي إلى من ينقل عنهم من الأجانب ، وأن يوثق النص العربي في كل موضع رأي أو فكرة باسم صاحب هذا الرأي أو تلك الفكرة، فإذا عُرِضت أية نقطة لا إشارة لمصدرها، تكون منسوبة إليه هو بخيرها وشرها – مما يكون أيسر منه تكرار الإشارة للمرجع الأصلي ولو
توالت وتكررت الإشارات. ولا نبارك في
التأليف للتدريس الجامعي أن تجيء صفحات النص طوال الكتاب خلوا من أية إشارة مرجعية، ثم يحشد المؤلف في خاتمة الكتاب ما لا فائدة في حشده إن(69/6)
صح أنه أخذ عنه كله أو رجع إلى بعضه كمصدر ثانوي فضلاً عن ضرورة تحري المرجع الأصلي . أنا أعلم أن صعوبات تتصل بالطباعة هي التي تحول دون ذلك ، لكن أمانة تعليم الطلاب الأمانة العلمية، وهم ينقلون عن المؤلفات العربية في بحوثهم ورسائلهم ـ ناسبين لمؤلف أستاذهم كل من أخذه عن الغير من دون إشارة مرجعية بكل موضع أخذ عن الغير - تتطلب منا غير ذلك، وأحيي الطريقة المبتكرة للإشارة للمرجع في صلب النص بذكر رقم المرجع في الترتيب الأبجدي، يتلوه رقم الصفحة فيه وإن كنت شخصيًّا أشق على نفسي بجعل قارئي يعيش معي آراء ونظريات المؤلفين الأجانب الذين أرجع لهم وآخذ عنهم، لا أظهر إلا حيث يقتضي المقام التلخيص أو التفسير أو النقد ، ويكون واضحًا تمامًا أن هذا لي وإن قل .
وسواء الترجمة والتأليف ، لا غنى عن تعريب كتابة اسم العَلَم أو اسم الشيء
الذي عرب كيفما نطق .. قبل إيراد كتابته بالحروف اللاتينية أو غيرها . ففي ذلك فائدتان هما: إقرار التعويد على النطق به في العربية نطقًا سليمًا، وتذليل صعوبة الفهم للقراءة بدل القراءة للفهم التي أشار إليها الدكتور أنيس فريحة. ويراعى في ترجمة الأعلام أيضًا ألف التسكين للأسماء الأجنبية التي يبدأ نطقها بالسكون ، والمعرفة بالتفاعيل من أجل الاشتقاق، والتحويل والنحت ، والصياغة العربية اللفظية الدالة على اسم الفعل ، أو اسم المرة، أو اسم الزمان،أو اسم المكان ، أو الحال .. مما يرد فى علوم البلاغة والمعاني والبديع ..تجنبا للأخطاء الشائعة كقولنا " حكم عليه بالسجن " تنطق بكسر السين بدل الفتح . وبهذا الصدد أتمنى على المترجمين للعربية والمؤلفين فيها أن يَدَعُوا اللفظ الذي قد يختلط بغيره في الكتابة العربية عند الطبع لتشابه بينهما أو تطابق …أو عسى أن يقرأه البعض على عجل ، أو بعمى قلب أو بصيرة لفظًا آخر يترتب عليه التحريف في المعنى أو استثارة السخرية . فجزى الله خيرًا عن العربية(69/7)
الإمام علي بن أبى طالب وأبا الأسود الدؤلى ونصر بن عاصم في تنقيط الحروف الأبجدية واحدة أو مثنى أو ثلاث أعلى أو أسفل الحرف لينطق صحيحًا بوضع النقط فوق الحروف . وأسوق دعابة الجهول الذي ينطق الحديث الشريف: " المؤمن كيس قطن(1) " وإمام المسجد الضرير الذي قرئ له بتصحيف الحديث الشريف أيضًا " لا تصلح الصلاة إلا بخشية وقُفة وسكينة وفار " (2) -ماذا لو صدقه بإيمان العجائز فعمل به ؟
في كتاب لي عن " اختيار الأفراد " يشيع استخدام كلمتي اختيار واختبار (نفسي أو عقلي )، فما كان أحرصنى على دقة مراجعة وتصحيح تجارب الطبع، وفى كتاب آخر عن " دينامية الجماعة " نبهت القارئ إلى أن لا تختلط عليه اشتقاقات ألفاظ معربة هي غاية في التقارب اللفظي مثل : توافق وتواقف ، تحصيص وتخصيص ، أدائى وأداتى ..
وعمومًا ، لا غنى عن الذوق الفني في اختيار اللفظ وإيراد السياق - بحيث لا يختار من بين جملة مترادفات غير أبسطها(69/8)
فهمًا ، وأقربها إلى الحسن وأرقها وقعًا على الأذن أو العين ، وأسلسها انسياقا مع العبارة.وتلك هي عبقرية نقل الفكر الأجنبي بلسانه الأعجمي إلى فكر قومي بلسان عربي مبين – التي يفتقدها الكثير من الترجمات بل المؤلفات في العربية ، حيث يبدو النص رطانة جوفاء تستغلق على الفهم .. إذ المترجم أو المؤلف – بافتراض فهمه الكامل لما يريد نقله إلى العربية من معنى - يتقعر في تخير ألفاظ لغته العربية تكلفًا منه للتبحر فيها ، مما يحدث لنا ونحن نكتب بالإنجليزية أو الفرنسية ، حيث نعمد إلى إظهار الثراء في مفردات وتعابير اللغة الأجنبية، فيجيء السياق مليئًا بالنشازات والمزالق التي تستوقف ذهن القارئ الأجنبي كاشفة عن العجمة، حتى ولو لم تشغله عن فهم المعنى، ومثيرة ابتسامة الرثاء عند كل (مطب) لغوي على طريق أسلوب غير ممهد . وهنا أتذاكر ما كنا نتندر به عن أستاذنا المرحوم أحمد أمين،حين أراد أحد المستشرقين أن يكتب له عبارة إهداء على أحد كتبه ، فلم يجد في معجم مفردات ابن سيده بين ألفاظ:فيض، نبع، نهر ، سيل، بحر ، غزير .. غير كلمة ( خرارة ) – فكتب له شاكرًا إياه على خرارة علمه.
حقًّا إنه ينبغي للمعرب ألا تخلو خزانة كتبه من كل ما يلزم من معاجم اللغة العربية واللغات الأجنبية التي هي في حوزته كمصدر من مصادر علمه بفنه وتخصصه ، بل الأصول القديمة التي تعد هذه اللغات الأجنبية تطورًا لها ، وكذلك كافة المراجع العامة الموسوعية، والخاصة التفصيلية، التي يهديه الرجوع إليها لحدود المعنى المقصود أن يحيط به المصطلح إحاطة جامعة مانعة ، ثم – بتوافر هذا الرصيد المرجعي لديه – لا يتوانى ولا يقعد عن عناء تناول هذه المراجع لاستشارتها- من الطرفين – حتى في مصطلح ثبت له في ذهنه وأنس إليه أو رضي عنه. فعساه - مع مداومة التنقيب في المعاجم، لا يجمد عند مصطلح أو لعله يجد ما هو أفضل .(69/9)
وبتواضع رجل العلم، ينبغي للمؤلفين في اختصاصهم ألا يغمطوا اجتهاد السابقين حقه من التقدير . فإذا جاء أحدنا بلفظة موفقة كترجمة لمصطلح وليس لدينا لها تعريب مما جاء به، تبعناه شاكرين إلى أن يتسنى للجميع إيجاد ما هو أفضل – بدلاً من أن نظل هكذا " كل حزب بما لديهم فرحون"، فتتكاثر المصطلحات وتتنافر ويعسر على الدارسين الجدد الترجيح والاختيار . لا شك أن لزملائنا في علم النفس مثلاً ما يبرر تمسكهم بالتعزيز ترجمة لـreinforcement التي درجنا على تسميتها التدعيم . لكن اللفظ الإنجليزي يحمل من معاني التقوية والتثبيت أكثر مما يدل على العز أو الاعتزاز ، كما أن الكتابة العربية لكلمة "تعزيز" قد تختلط بكتابة كلمة "تعزير" التي هي في نفس الموضوع بمعنى التوبيخ كعقاب ، وربما أيضًا بكلمة "تغرير" – مما سبقت الإشارة لوجوب تفاديه. إن روح الرضا هذه بما هو سليم ومقبول ( مقابل الحرص على التفرد والرغبة في التجديد ) هي قبل أي شيء آخر ( كنشر أعمال مجامع اللغة ومكتب تنسيق التعريب … ) وسيلة توحيد المصطلحات المؤدي لوحدة الفكر في الكتابات العربية. فإذا كان التعريب تثقيفًا وتحضيرًا للأقطار العربية عن طريق نقل ثقافات وحضارات أجنبية إليها، فالنقل بطريقة موحدة هو المحقق لهذه الغاية .
7-تشريعات نقل الكتب والملخصات:(69/10)
مع أنني كنت أترجم كتاب " مدارس علم النفس المعاصرة " الذي أشرت إليه آنفا لحساب دار المعارف بتكليف من أستاذنا رئيس جماعة علم النفس التكاملي في مطلع النصف الثاني من أربعينيات هذا القرن ، دفعتني حماسة الشباب للكتابة للناشر الأمريكي رونالد بريس طالبًا الإذن بحق المؤلف لإخراج الترجمة العربية إلى النشر، وجاءني الرد بأنه لا يهمهم "في الوقت الحاضر " إخراج ترجمة عربية لهذا الكتاب وأنني لابد أن أتفق معهم سلفًا على حق المؤلف هذا . وتحمست أكثر ، فكتبت للسفير الأمريكي بالقاهرة(حيث كنا نختلف لمكتبة شارع الشيخ بركات ) طالبًا التوسط لدى الناشرين لثقتي في أنه يهم أمريكا أثناء الحرب العالمية، وبعدها تعريب المؤلفات الأمريكية لقراء العربية، وبعد محاولات من جانبه أفادني بأننا قد "اصطدمنا بصخرة عاتية" فى شخص هؤلاء الناشرين الذين يصرون على الاتفاق مقدمًا على حق المؤلف، ظنًّا منهم أن عشرات الآلاف من النسخ سوف تباع بمئات آلاف من الدولارات . ولم ألزم الصمت ولم أُخِف الأمر على الأستاذ الناشر ودار النشر، إلا عندما تأكدت أن مصر ليست ملزمة باتفاقيات النشر الدولية . وزاد اطمئناني بعد ما درست القانون، وطلبت من ( المرحوم )دكتور مختار القاضي كتابًا يتعرض لهذه القضية ، فأعطاني كتاب ( حق المؤلف ) (1) الذي كان رسالته للدكتوراه في كلية الحقوق ( 58/1959م) ومنه استيقنت أنه يحق لنا ترجمة المؤلفات الأجنبية بعد مرور خمس سنوات على ظهورها من غير أن نخشى رجوع الناشر علينا بالمطالبة المالية وهكذا – فيما بعد أول الستينيات – كنت أؤجل طبع الكتاب من مكتبة " الثورة الإدارية " التي أنشأتها، وريثما تمر على نشره في بلاده خمس السنوات اللازمة .
فالمادة الثامنة من القانون المصري رقم(69/11)
354 لسنة 1954م لحماية حق المؤلف تنص على أن حق المؤلف لمصنف بلغة أجنبية ( وحق من ترجم هذا المصنف من لغته الأصلية إلى لغة أجنبية أخرى) ينقضي بمضي خمس سنوات بالنسبة لكل شخص يقوم بترجمة هذا المصنف إلى اللغة العربية ، وبشرط ألا يكون واضع المصنف الأصلي أو المترجم إلى لغة أجنبية أخرى قد قام بنفسه أو بواسطة غيره بترجمته إلى العربية قبل مضى خمس السنوات. فإذا فعل حفظ حقوق التأليف خمسين سنة بعد وفاته. وتبدأ مدة الخمس السنوات من تاريخ أول نشر للمصنف الأصلي، أو أول ترجمة للمصنف الأصلي إلى لغة أجنبية ينقل عنها إلى العربية .
والمادة الخامسة من مشروع قانون الجامعة العربية لحماية حق المؤلف (23سبتمبر 1947م) تنص على أن: "يتمتع بالحماية من قام بترجمة مصنف إلى لغة أخرى ، وكذلك من قام بتلخيصه أو تحويره – بما فى ذلك إظهار كل صور المصنفات الموجودة بشكل جديد . ولا
تخل هذه الحماية بحقوق مؤلفي المصنفات الأصلية".ثم تضيف المادة 11 أنه:" يسقط حق المؤلف فى ترجمة مصنفه إلى العربية إذا لم يباشر هذا الحق بنفسه أو بواسطة غيره فى مدى عشر سنوات من تاريخ أول نشر للمصنف . وتجوز ترجمة المصنفات إلى اللغة العربية بعد مرور سنة من تاريخ طلب التصريح بترجمتها ممن آل حق الترجمة دون قيامه بها . وفى هذه الحالة يعوض المؤلف أو من آل إليه حق الترجمة تعويضا عادلا … "(69/12)
فلما كان المؤلف الأصلي لأي مصنف تنقله إلى العربية له حق مادي ( هو فرصة الكسب التي تفوتها عليه الترجمة ) وحق أدبي ( هو الاستيقان من قدرة المترجم على إيراد الترجمة في أمانة ودقة ) ، ولكيلا يكون النقل أو التحويل بالترجمة خيانة كما يقول المثل الفرنسي ، وإتلاف الترجمة السيئة جزاء جريمة التقليد هذه كاعتداء على حق المؤلف المادي والأدبي، حَفِظ القانون للمؤلف حق كونه صاحب الحق المطلق على مصنفه من الناحية المادية والأدبية ، كما حفظ القانون حق عدم إضاعة مجهوده بإتلاف أو تغيير المعالم إذا كان النزاع المطروح خاصا بترجمة مصنف إلى اللغة العربية خلافًا لحكم المادة الثامنة (بحيث يقتصر الحكم فى النزاع على تثبيت الحجز التحفظي على المصنف المترجم وفاءً لما تقضى به المحكمة للمؤلف من تعويضات وعموما وضع المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة للمؤلف وفاء للغة القومية للبلاد فلا يسرى الإتلاف إلا فى حالة واحدة هي إجراء الترجمة قبل سقوط حق المؤلف الأصلي فى الإذن بها، وبشرط أن تكون الترجمة سليمة ، ومن لغة أجنبية إلى اللغة العربية لا العكس .(69/13)
هذا عن ترجمة المؤلفات الأجنبية إلى اللغة العربية . أما عن النقل من المصنفات الأجنبية للأغراض العلمية فثمة تسامح كبير فى كل تشريعات حماية حق المؤلف، وجواز نقل مقتطفات من مصنفات الغير خدمة للكتب الدراسية والثقافية العلمية وكتب الأدب والتاريخ والعلوم . وتجرى التفرقة بين ما إذا كان الكتاب المنقول عنه يتضمن كشفًا جديدًا أو نظرية جديدة – حيث لا " جريمة تقليد " للكشف أو النظرية ، بل للمصنَّف الذي يحوى الكشف أو النظرية (بوصفهما أحدهما أو الأخرى عملية سلبية ليس للمؤلف إلا فضل معرفتها والتعريف بها ) ..أم يتضمن اختراعًا ( لا جريمة تقليد فى ترجمة كتابة صاحبه عنه للآخرين ، بل فى تطبيقه والإفادة منه عمليا وماديا ) . كما يقسم النقل إلى العربية عن المؤلفات الأجنبية إلى ثلاثة أنواع:الاجتزاء citation بمعنى التسجيل الحرفي الدقيق لبعض ما ورد فى مصنف المنقول عنه (وهو ليس جريمة تقليد ما دام المصنّف لم يُنقل بكامله)، والتصنيف أو الجمع compilation الذي هو تجميع وتنسيق وتبويب مختارات من عدة كتب بمجهود التأليف الشخصي الظاهر فيها ( الذي ليس تقليدًا أيضًا )، ثم اقتباس الفكرة الذي لا يمس الشكل، ولا شأن له بنقل النص المعبر عن الفكرة فى الأصل ( وهو أيضا ليس واجب الحماية وليس ممنوعًا بالنظر إلى حقوق التأليف )
لكن الاجتزاء لكي يكون مباحًا ينبغي(69/14)
أن يقتصر على أجزاء قليلة من المصنف (لا يجوز نقله كله أو أغلبه ) . فالنقل الواسع من مصنفات الغير – ولو بحجة التعليق على النص – محرم فى القضاء الفرنسي، كما أن الاختصار ممنوع أيضًا. ومعيار القلة والكثرة فى الاجتزاء ألا يغنى الكتاب الناقل عن الكتاب الأصلي وينافسه ( أي ألا يعفى الكتاب الجديد قارئه من الرجوع إلى المصدر المنقول عنه). ثم إن النقل ينبغي أن يكون لغرض علمي . فالكتب الدراسية وكتب الأدب والتاريخ والعلوم والفنون يباح النقل فيها عن المصادر الأجنبية للأغراض التعليمية – لتوضيح فكرة أو إجراء نقد .. طالما أن المصنف منشور من عدة نسخ وليس بعدُ مخطوطًا، وبشرط أن يشار إلى المصدر المنقول عنه – أي يذكر بوضوح المرجع الأصلي واسم مؤلفه .
8-خاتمة :
التعريب واقع معاش بقدر ما هو ضرورة قومية . ووجه الحاجة إليه أساسا التعليم. فإذ النقل عن ثقافات أخرى تقدمتْنا فى التحضر والمدنية هو سبيلنا الذي لا سبيل غيره للحاق بالركب واستعادة التفوق، وطالما أن الأيام دول، وأن العلم والتكنولوجيا هما الآن وسيلة التقدم ، فلا مناص من استيعاب العلم والتكنولوجيا . والتعريب في العلوم الإنسانية أيسر منه بكثير في العلوم المادية - بالنظر لوحدة العقل الإنساني الذي يتقبل المفاهيم والمجردات الفكرية التي هي موضوع الإنسانيات . والتشريعات والقرارات القومية والقطرية لكل بلد عربى تشجع على تدارك ما فاتنا من علم وفن . والمنظمات الإقليمية العربية قطعت الشوط على طريق تذليل التعريب وتوحيد المصطلحات ..مما يجعل المنادى بتوصيات للتعريب الآن ، بأي جانب من جوانب القضية ، كالذي يستجمع كل قوته ليدفع بابًا مفتوحًا على مصراعيه . كما أن الجهود الفردية والجماعية في الوطن العربي بعامة وبكل بلد عربي على حدة، لم
تأل جهدًا أو تدخر وسعا فى تعريب التعليم من القاعدة إلى القمة – حتى ما(69/15)
كان منها إلى عهد قريب مستعمرًا أو مغترًبا ثقافيًّا ولغويًّا . فلا نجد ما نختتم به هذا المقال خيرا من ترديد افتتاحية الجرجانى لأسرار البلاغة (1) وكأنه معنا اليوم فى قضية التعريب – إذ يقول :
" اعلم أن الكلام هو الذي يعطي العلوم منازلها ، ويبين مراتبها ، ويكشف عن صورها ، ويجني صنوف ثمرها ، ويدل على سرائرها ، ويبرز مكنون ضمائرها .. فلولاه لم تكن لتتعدى فوائد العلم عالمه ، ولا صح عن العاقل أن يفتق عن أزاهير العقل كمائمه ، ولتعطلت قوى الخواطر والأفكار عن معانيها .. ولكان الإدراك كالذي ينافيه من الأضداد ، ولبقيت القلوب مقفلة على ودائعها ، والمعاني مسجونة فى مواضعها، ولصارت القرائح عن تصرفها معقولة ، والأذهان عن سلطانها معزولة … "
كمال محمد دسوقي
عضو المجمع(69/16)
سبق التنويه بمضامين هذا البحث بين " العربية والتعريب" مقرونة ببحث آخر قدَّمه الزميل الأستاذ الدكتور محمود حافظ في مجالات الدراسة، والتدريس، والبحث، والتأليف منذ ما قبل إنشاء الجامعات المصرية الحديثة نفسها . ومع ذلك فلا تزال الشوائب تشوب أساليب مناقشاتها وأحاديثها الأكاديمية أحيانًا ، ويتطلب القضاء على هذه الشوائب ما يلي :
أولا: دعوة الجهات الأكاديمية المختصة إلى بذل الاهتمام بالتخطيط الشامل لاستكمال تعريب ما لم يعرب من العلوم المتنوعة في التعليم الجامعي ، تأكيدًا على أولوية اللغة القومية ، وعملاً على توحيد لغة التعليم، وزيادة حصيلة الطلاب من مضامين مواد الدراسة .
ثانيًا: التدريج في تحقيق هذا المطلب على
مراحل متلاحقة بالنسبة للمرحلة الجامعية الأولى بخاصة ، وبما يتناسب مع طبيعة كل دراسة وإمكاناتها، وخطط كل قطاع من القطاعات الجامعية التي لم يتم تعريب علومها . ( وذلك مع مراعاة التوسع في الوقت نفسه في التأهيل باللغات الأجنبية بمثل ما اقترحته التوصيات 9،11،13،14،15، من هذا البحث بالنسبة للمرحلة الأولى، والتوصيات من 16 إلى 20 بالنسبة لما يليها من المراحل .
ثالثًا: حتمية اعتبار ما يتم من تعريب العلوم حافزًا من حوافز تنمية مدارس قومية فكرية وعملية،ذات أهداف ومناهج واهتمامات متميزة، دون قصره على ما يهدفه صالح الدراسة والطلاب من تيسير
عملية التعليم، أو تزكية اللغة القومية فحسب .
رابعًا: الدعوة إلى وضع أساسيات اللغة العربية الفصحى،في موضع الاعتبار الفعلي والرعاية القصوى من قِبَل الهيئات الجامعية في أنشطتها المختلفة بالتفصيل الذي سبق شرحه،وحفز الدارسين على الالتزام الدائم بها في المناقشات والشروح والتطبيقات الشفهية، فضلاً عن الأعمال والاختبارات التحريرية .(70/1)
خامسًا: مضاعفة الجهود القائمة حاليًّا لاستيفاء تعريب التعبيرات والمصطلحات العلمية الأجنبية المستحدثة ، بالبدائل والمترادفات العربية الدقيقة في مختلف التخصصات الأكاديمية والتكنولوجية ، وزيادة المتداول من معاجمها العربية المطورة، وتوحيد مصطلحاتها في البلاد العربية والتنسيق بينها، وتيسير نشرها على نطاق واسع .
سادسًا: تدعيم وتعميم ما أنجزته بعض المؤلفات والمترجمات العربية الحديثة من إلحاق موادها بفهارس جامعة للمصطلحات الأجنبية المتداولة فيها مقرونة بما يلائمها من التعبيرات العربية والاشتقاقات المعربة المناسبة لها، مع إمكان الحفاظ معها على صيغ الرموز الاصطلاحية الأجنبية التي اكتسبت صفة العالمية أو تصعب ترجمتها إلى اللغة العربية.
سابعًا: استثمار قابلية اللغة العربية القومية الفصحى لتوليد المعاني والصيغ العلمية والتقنية المستحدثة على أسس ميسرة من القياس والاشتقاق والاقتباس والابتكار ، في تزكية الانتماء الفكري واللغوي لدى الطلاب الجامعيين، وتوجيههم إلى التمرس العملي على اعتبارها اللغة الصحيحة من المعايير الجوهرية لتوضيح المحتويات الفكرية وتحديد المعاني ومنع الالتباس في مضامين العلوم .
ومعاملة الأخطاء اللغوية والتجاوزات البيانية في إنتاج الطلاب وتعبيراتهم الشفهية واختباراتهم التحريرية معاملة الأخطاء العلمية حتى لا يستهينوا بأحد النوعين لحساب الآخر، ثم تأكيد هذه المطالب في مجالات الدراسة العليا بوجه أخص .
ثامنًا: مضاعفة الجهود القائمة لإحياء عيون التراث العربي العلمي وتحقيقه ونشره، وتحديث معالجته في دراسات مقارنة تجمع بين التأصيل وبين المعاصرة .(70/2)
وتوجيه الجامعات بتضمين دراسات العلوم مختارات منتقاة من مصادر التراث القومي المتميزة، التي جمعت بين الثراء اللغوي والإبداع العلمي، وذلك بما يزكي معاينة الأستاذ والطالب لقدرة البيان العربي السليم على مجاراة مطالب العلوم في كل عصر،ويكشف عن المبادئ العربية والمستعربة لهذه العلوم، أو يكشف عن جذورها المصرية والعربية القديمة حيثما وجدت .
تاسعًا: الضرورة الملحة إلى المزيد من التوسع في تعريب كل ما يمكن ترجمته من المؤلفات الأجنبية الرائدة في علومها ، وموسوعاتها الكبيرة وبحوثها الجديدة، وهو عمل متشعب يتطلب إنشاء جهاز قومي ضخم، يلاحق التزايد الكبير في الكم والنوع لمؤلفات العلوم والفنون المتنوعة ، ويكفل الصلة المباشرة بكل مستحدث فيها،ويتولى تصنيف المعلومات وتيسير نشرها وتداولها وتوضيح ما يمكن أن تتولاه القطاعات المتخصصة للجامعات ومراكز البحوث لتصنيف مفرداته وتقديم الأهم على المهم منه .
عاشرًا: الحث على تنفيذ ما نادت به بحوث سابقة، من إعادة تقويم المناهج بالنسبة للغة العربية ومحتواها، وطرق تدريسها، واختباراتها، في مراحل التعليم العام تقويما موضوعيًّا شاملاً ، بما يقضي تنفيذه على القصور الواضح فيما أصبح عليه المستوى اللغوي والتعبيري العربي الذي يخرج طلاب الثانوية العامة به، ويلتحقون بعده بالتعليم الجامعي.وهذا مع التوكيد على ما نكرر ذكره من صلة الترابط الفكري واللغوي، والتكامل العلمي بمدى التوفيق التربوي أصلا في تكون العقلية المتفتحة بين طلاب اليوم وباحثي الغد، وتدريبهم على مواصلة التعلم الذاتي عن رغبة واقتناع .(70/3)
حادي عشر : بحث إمكانية تطوير فصول اللغات الأوربية ذات المستوى الرفيع بمدارس التعليم العام ( والمدارس النموذجية بخاصة ) حتى تجتذب إليها أكبر عدد من ذوي المواهب اللغوية من الطلاب ، وحتى تقوم ببعض ما تقوم به المدارس الأجنبية، وتحل محل مدارس اللغات الخاصة ما أمكن . ومن شأن هذا الإجراء أن يكفل للمدارس الحكومية سمعة طيبة في بلدها، وأن يقلل من ظاهرة الولاء المدارس اللغات الأجنبية، بما هو أكثر من الولاء للغة القومية بين تلاميذ المدارس الحالية؛ الأجنبية والخاصة، كما يقلل من الانقسام في المشاركة الوجدانية والاندماج الشخصي واللغوي بينهم وبين زملائهم حين التحاقهم بالوسط الجامعي العام .
ثاني عشر: إعمال ما سبق أن طالبت به بحوث عدة من ضرورة التشدد العملي من قبل أجهزة الإعلام المنوعة ، في تنقية مواضيعها وعناوينها وإعلاناتها المقررة والمقروءة والمسموعة والمصورة من كل ما يخالف بنية اللغة العربية الصحيحة وسلامة التعبير ، ودقة المعارف العلمية تفاديًا للآثار الانتكاسية التي تصدم المتعلمين والناشئين في الحياة اليومية ، فيحاكيها بعضهم ويرفضها بعضهم الآخر .
ثالث عشر:وجوب الإقرار بأن ضرورات استكمال تعريب العلوم والتعليم وتزكية قومية اللغة العربية وتحديثها أكاديميًّا ، لا تحول- بحال من الأحوال - دون وجوب التأهيل المكثف باللغات الأوربية في كل مجالات التعليم ومضاعفة البرامج العلمية والثقافية الأجنبية بين الدارسين . وكذلك مضاعفة فرص المشاركة العلمية بين هيئات التدريس الجامعية العربية وبين مثيلاتها في الخارج .
ولا يُنكر أن عددًا من الوسائل الفعالة في هذا السبيل قائم بدوره فعلاً في الجامعات وأن بعضها الآخر يتطلب توسيع مداه، وقد ورد منها في العرض الموسع لهذا التقرير ما يمكن إجماله فيما يلي :(70/4)
رابع عشر: التزام كل مرحلة جامعية بتخصيص ساعات محددة لبرامج ملائمة في لغة أجنبية حية تدرس بأسلوب يتناسب مع نوعية التخصص وأهدافه ، بحيث يتناول هذا الأسلوب بنية اللغة المعنية وآدابها ، أو يتناول مصطلحاتها العلمية والفنية والتكنولوجية التخصصية ، أو يتناول مختارات من نصوصها ووثائقها في مجال معين ، أو يقوم على الاستفادة من مصادرها ومراجعها لإعداد البحوث السنوية ، أو يتيح ممارستها عمليًّا قراءة وكتابة، وتداولها في مادة أو أكثر من مواد التخصص .
خامس عشر: الاهتمام بأقسام ومعاهد ودبلومات الترجمة من وإلى اللغات الأجنبية في الجامعات، مع ضرورة توافر أعضاء هيئات التدريس المتخصصة والمكتبات والأجهزة الحديثة اللازمة لها، مع ربط ذلك بفتح مجالات العمل لخريجيها في تخصصاتهم .
سادس عشر: تكثيف التعامل باللغات الأجنبية في مراحل الدراسات العليا بخاصة، بحيث تتحتم دراسة مادة على الأقل من موادها بلغة أجنبية مع زيادة التفرغ المؤقت للمعيدين والمدرسين المساعدين بالجامعات لاكتساب خبرات فعلية متقدمة في لغة أجنبية أو أكثر .
سابع عشر:الحرص على أن تكون رسائل الماجستير والدكتوراه مشفوعة بموجز وافٍ باللغة العربية وآخر باللغة الأجنبية .
وتأكيدًا للنتيجة العملية لهذا النص يحسن أن تتولى كل حولية أو دورية جامعية نشر الملخصات الأجنبية ( أو العربية ) لما تجيزه جامعتها من الرسائل، وهو مطلب يخرج بها عن دائرة المحلية ، ويفيد في التعريف بمضامينها في الداخل وفي الخارج .
وعوضًا عن هذا يمكن إلزام كل صاحب رسالة أكاديمية تُقَّدم باللغة العربية،باجتياز اختبار خاص سابق يقوم على مناقشة وتحليل عدد من المراجع الأجنبية المتصلة برسالته ، قبل السماح بمناقشتها .(70/5)
ثامن عشر: إتاحة فرص المهام العلمية وإجازات التفرغ العلمي، للمدرسين والأساتذة المساعدين المؤهلين بالدكتوراه من الجامعات المصرية، لفترات مناسبة يقضيها كل منهم في بلد أجنبي متقدم ، حتى يعايش اللغة الأجنبية بين أهلها، ويلتزم خلالها بإعداد بحث علمي في تخصصه يقوم به في الخارج منفردًا أو متعاونًا مع غيره .
تاسع عشر: رصد أكبر ما يمكن رصده من موازنات وجهود؛ لتوفير ما يتطلبه عمل الأستاذ والطلاب في المكتبات والمختبرات الجامعية، من مراجع وموسعات، ودوريات أجنبية، وأجهزة وأفلام علمية ، وبطاقات وتسجيلات
مبرمجة بمعلومات عن كل تخصص، مع التسليم بأولوية هذه المطالب على كل ما تدعمه الدولة من احتياجات الجامعات وطلابها .
عشرون:التوسع في اعتبار ترجمة المؤلفات الرئيسية من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية،وكذلك الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأجنبية، من الإنتاج العلمي للقائمين بها من أعضاء هيئة التدريس الجامعي ، إذا ما ألحقوها ببعض التعقيبات الضرورية لها .
عبد العزيز صالح
عضو المجمع(70/6)
أربعون عامًا مع المصطلح
من البطاقات إلى الحَوْسَبَة *
للأستاذ الدكتور محمد هيثم الخياط
هُنَّ بضعٌ وأربعون سنةً في ركاب المصطلح.
بَدَأنَ في النصف الأول من عَقْد الخمسين من هذا القرن ، يوم كنتُ أسْفرُ بين عَلَمَيْن من أعلام المصطلح العلمي في هذا العصر ، هما أستاذايَ: الدكتور مرشد خاطر،وأبي الدكتور أحمد حمدي الخياط . وكانا في تلك الحقبة كهلَيْن يَطآن أعتاب الشيخوخة . وكانا يعملان معًا في إعداد موسوعتهما التي أسمياها " معجم العلوم الطبية " . وكان يصعب عليهما أن يجتمعا كثيرًا لمناقشةِ ما يَضَعان من مصطلح ، فكنتُ - كما قلتُ - أسْفِر بينهما ، أنقل لكلٍ منهما رأي أخيه . ثم بدأت أقحمُ رأيي بين الفينة والفينة ، وكان إذ ذاك فجًّا بالغ الفجاجة ، فكانا يصبران عليَّ ، ويحتفيان بما أقول احتفاء تعليم لا احتفاء قبول. ولكن آراء الفتى لم تلبث أن
تناضجت وأخذت تنال القبول شيئًا فشيئًا. وكانا قد فرغا أو كادا - مع زميلهما الأسَتاذ الدكتور صلاح الدين الكواكبي ، طيَّب الله ثراهم جميعًا - من إعداد الإخراجة العربية لمعجم المصطلحات الطبية الكثير اللغات للدكتور كليرفيل ، فكنت أقرأ ملازم هذا المعجم الموحِّد الأول بعد طبعها ، وأعددت قائمة طويلة بألفاظ ظننت أنها أفضل في الدلالة على المعنى من بعض ما وضعوه من مصطلحات . ولا تَسَلْ عن فرحة الفتى يوم ارتضوا جلَّ ما اقترحه ، وألحقوه بالمعجم على أنه تصويب … كان ذلك في نظره يومًا مشهودًا .
ثم نشرت سنة ثمان وخمسين كتابًا لي في ثمانين وأربعمئة صفحة ، أسميته "الكيمياء السريرية العامة"،وحاولتُ فيه أن أجد أو أضع لكل مصطلح أجنبي
مصطلحًا عربيًّ النجار يقابله. وقد كان غاية في المشقة ، ولاسيما في ميدان الكيمياء ، وهو ميدان عسير الارتياد ، وقدمت - بين يدي الكتاب - مقدمة طويلة في ثماني صفحات، أستأذنكم في أن أنقل منها ذلك الجزء الذي يتصل بالمصطلح :
قلت :(71/1)
" لا عجب إذن أن أكون قد جهدتَّ جهدي لكي تكون لغة هذا البحث عربية سليمة، وأن أستعمل من المصطلحات ما أقرَّه أساتذتنا الأجلَّة في كلية الطب في دمشق ، بناة صرح النهضة العلمية القومية في هذا العصر ، وإن يكن من جملة المصطلحات ما قد يعتبر جديدًا ، سعيتُ في وضعه بجهد خاص ، وبولع في اللغة ورثته عن أستاذي الوالد رعاه الله ، ورأيت أن أعقب هذا البحث بدليل لها، واخترت منها المقاييس العامة والمفردات التي هي أكثر تداولاً ، فجعلتها في بطاقة صغيرة ربطتها بالكتاب ليسهل الرجوع إليها في كل حين . وإذا كنت قد حاولت أن أبتعد عن المصطلحات الصعبة أو التي قد يبدو فيها شيء من النُّبُوِّ والتقعُّر لأول وهلة ، فإني أعتقد أن هذه الكلمات مهما بدا لنا من غرابتها خير وأقل عجمة من أن نستخدم كلمة أجنبية في أبحاثنا ، ولو أن ذلك لا يبلغ حدَّ التعصب إلى ألاَّ نستعمل أية كلمة أجنبية على الإطلاق. ولطالما رأينا الناقدين في أوائل هذه النهضة يستهجنون طائفة من الألفاظ التي استعملها بعضهم لحاجة العصر، ثم دار الزمن في دورته ، فلم يلبث أن هذبها الاستعمالُ واستساغها الذوقُ فأصبحت مألوفة . "
"ولطالما ظن الكثيرون - وأنا منهم - أن هناك ألفاظًا استأثرت بها اللغاتُ الأجنبية ، يضيع كل جهد في البحث عن مقابل لها في العربية ، إلى أن أسعدني الحظ مؤخرًا ، فأظفرني بطائفة من المفردات التي يراها القارئ في أثناء هذا البحث، وهي تقابل تلك الألفاظ الأجنبية أتم مقابلة . "
" وإذا كنت قد استبدلت بعض المصطلحات الجديدة ، بكلمات وُضعت قديمًا وشاعت وهي في حقيقتها خاطئة، فإنما ذلك لاعتقادي أن الخطأ لا يكون صوابًا ، وأن الحق حق منذ خلقه الله إلى يوم القيامة ، وأن تعارف الناس على الباطل واتفاقهم عليه ، لا يكون عُذرا لإبقائه والاستمساك به ".(71/2)
" ولن تزال هذه المصطلحات في صقل وتعديل ، حتى تغدو في المستقبل أقرب ما تكون إلى الإتقان والتوحيد إن شاء الله ، وتكثر الكتب العربية العلمية وتثمر وتزداد . "
" وليس يعني التأليف بالعربية والتعليم بها ، إضعافًا لتعلم اللغات الحية الأخرى ، ولا تأخيرًا عن اللحاق بركب العلم الحثيث السير ، كما يزعم ذلك بعض عملاء الاستعمار الذين يسوؤهم تخلص عقليتنا وعلومنا من العبودية الفكرية ، فهذه العصابة الغاصبة في فلسطين ، قد أخذ علماؤها ينبشون اللغة العبرية التي أكل الدهر عليها وشرب وفعل غير ذلك؛ ليستخرجوا من دارسها مفردات تغنيهم عن استعمال الكلمات الأجنبية في
الاصطلاح واللغات الأجنبية في التعبير . "
" إنما السبب في ذلك الضعف وذلك التأخر ، ضعف في أساليب تعليم اللغة الأجنبية في المدارس من جهة ، وعزوف عن التوسع فيها من قبل الطلاب من جهة أخرى، وليس يقبل عاقل أن يعالج الخطأ بالخطأ ، وأن نضحي بلغتنا على مزاياها العديدة، لتلافي ذلك الضعف وذلك الكسل ، وإنما علاج ذلك تقوية ذلك الضعف ، وإنهاض الهمة ، وتبيان أهمية التوسع المقبل والتتبع المستمر . ولعل في إعداد هذا البحث، على تعدد مصادره واختلاف لغاتها، دليلاً متواضعًا على ما أقول . "
انتهى ما أردت اقتباسه .
* ... * ... *
وعلى الرغم مما قلته عن محاولتي الابتعاد عن المصطلحات الصعبة أو التي يبدو فيها شيء من النُبُوِّ والتقعُّر ، فإن هذا الكتاب نفسه استعجم عليّ عندما أعدت قراءة بعض صفحاته بعد حين ! ومن هنا بدأتْ رحلتي مع المصطلح تتماوج: تستَعْسر أحيانًا، فأتعصَّبُ للكلمات العاربة بل البائدة لا أرتضي بها بديًلا، وتمشي مستقيمة الصَّوْب أحيانًا لا تزيغ يمنةً ولا يَسْرة، وتجنح أحيانًا كثيرة مَجْنَحَ الرُخَص ، فأستبيح في سبيل الضرورة العلمية أشياء لم أكن لأبيحها لنفسي لولا ذلك .(71/3)
ثم جاءت خطوةٌ مهمة على درب تعريب التعليم الطبي . فقد ألَّف " اتحاد الأطباء العرب " سنةَ ست وستين لجنةً لتوحيد المصطلحات الطبية ، تضمُّ صفوةً من المؤمنين بوجوب التوحيد، المتمكنين من المعرفة بالطب واللغة ، من الأقطار التي فيها كلياتُ طب وطنية راسخةُ القَدَم ، وعَهدَ إليها أن تنهض بإعداد معجمٍ موحد للمصطلحات الطبية ، يَضُمُّ من الكَلم أكثرها تداولاً في التعليم والتأليف والممارسة ، وتجتهد فَتَضَعَ لكلٍّ منها لفظًا يقابله من أصلح التعابير .
وقد أحسن الظنّ بي أعضاء اللجنة فألحقوني بهم وضمُّوني إليهم ، وبدأت بذلك مرحلة جديدة في رحلتي مع المصطلح . وقد مثَّلت اللجنة في أعضائها مراحل التطور الفكري لواضع المصطلح. فقد كان من أعضائها السابقون الميسرون،وأعني، على الخصوص،أستاذينا الجليلين حسني سبح ومحمد أحمد سليمان تغمّدهما الله برحمته وأحسن إليهما، كما كان من أعضائها من انضموا حديثًا إلى المسيرة ، وأشهدُ لقد كانوا من أكثر الناس حرصًا على ما يعتقدون أنه سلامة اللغة ، وحمية للألفاظ الأصيلة ، بل كانوا يُصرّون ما استطاعوا على استعمال الألفاظ الثلاثية الأحرف ، قالوا : لأنها أعرق في العربية وأكثر اختصارًا؛ وعلى استعمال مصطلح يتألف من كلمة واحدة ولو شق اشتقاقها في مقابل اللفظة الأجنبية الواحدة، حرصًا على الانسجام والتناسق ؛ ويصرون على الكلمات العاربة وينفرون من الكلمات المستعربة أو الدخيلة، فلا يقبلون بما يقبلون منها إلا كما يقبل المضطر أن يأكل من الموقوذة أو المنخنقة. ووجدتني بين هؤلاء وأولئك . فأنا أرى في السابقين ما أطمح إليه وأرنو من سلامة اللغة ووضوح اللفظ وسلاسة التعبير، وأبصر في الآخرين نفسي قبل عشرة أعوام فأحن إليها وأضن بها . وكثيرًا ما كان الجدال يحتدم ، والاتفاق على اللفظة الواحدة يستغرق ساعاتٍ طوالاً ، حتى لقد قلت مرة ترطيبًا للجو:
إذا ما رُمْتَ تعريبًا فأقدِمْ(71/4)
ودَعْكَ من العزيز المستحيلِ
وجانبْ كلَّ حوشيٍّ غريبٍ
... وإن يكُ من ثلاثيِّ الخليلِ
وخُذْ ما تستطيع من ابن سينا
... ولو قد شابَهُ بعضُ الدخيلِ
سترضى أمُّك الفُصحى ولكن
... سيغضب منك "فلان… "
وفلانٌ هذا كان أشدَّنا في الحرص على سلامة العربية والغيرة عليها ، ومحاذرة أن تشوبها شائبة ، والرغبة في أن تبقى مسلَّمة لاشيةَ فيها . وكان من إخواننا أعضاء اللجنة من يفتأ يذكِّر إخوانَه بأننا نضع مصطلحات للاستعمال والتداول، لا عينات تُحَنَّط ويُحتَفَظُ بها على رفوف المختبرات .
ولكن تجربة اللجنة كانت غنيَّةً ثريَّة ، وأثمرت الطبعات الأولى، والثانية،والثالثة من " المعجم الطبي الموحد " ، وهو – بكل تواضع –مَعْلَمٌ من المعالم المهمة على درب تعريب العلوم الصحية في العصر الحديث ، أي نقلها إلى اللسان العربيّ ، والتفاعل معها من قِبَل الفكر العربيّ ، واستيعابها من قِبَل عامَّة العرب وخاصَّتهم، كلٌ بحسبه .
وقد تقبل الناس هذا المعجم بقبول حسن وأحلُّوه مكانًا حسنُا ، على الرغم من بعض ما فيه من كلمات مستوعرة ، وارتضوه بما أنه موحد ، يحاول أن يَلُمَّ لهذه الأمة بعض شعثها ، واستعمل الكاتبون في تآليفهم ومقالاتهم جُلَّ ما فيه من ألفاظ، وكان لوضعه موضعَ التداول أثرٌ كبير في الحكم على صلاحية مصطلحاته ، وعونٌ كبيرٌ لنا في إعداد الطبعة الجديدة التي ندعو الله عز وجل أن يعين على إخراجها قريبًا، وقد زاد عدد ألفاظها من خمسة وعشرين ألف مصطلح إلى مئة وخمسين ألف مصطلح .(71/5)
وقد تجلّى هذا العون في بَلْوَرَة الموقف الذي ينبغي اتخاذه في صَوْغ المصطلحات. وقد سبق لي – في مجمع اللغة العربية الأردني – أن ذكرت بعضًا من مواد " مجلة الأحكام العدلية " التي أخذت أتهدّى بها في هذا الصدد. فمن ذلك المادة الخامسة من مواد " المجلة " التي تقول : " الأصلُ بقاء ما كان على ما كان "، والمادة السادسة التي تقول: " القديم يُتْرَك على قِدَمه ". ففي هاتين المادتين أصلٌ جليل يحسن أن نأخذ به في مجال المصطلحات، فنتركَ المصطلح القديم على قدَمه ما كان صالحًا ، ولا نَعِدلَ عنه إلا لمسوغ واضح. وبذلك نستبعد شطرًا صالحًا من مصطلحات أسلافنا من مجال المناقشة . ذلك أنه " ما ثبت بزمان يُحكم ببقائه، ما لم يَقُم الدليلُ على خلافه" كما تقول المادة العاشرة من مواد " المجلة " ، وأن " الاجتهاد لا يُنقَض بمثله " كما تقول المادة السادسة عشرة . فلا نغيِّرُ المصطلح لشهوة التغيير،كما يحدث مع الأسف في كثير من الأحيان .
وأصلٌ آخر نجده في المادة السابعة عشرة من " المجلة " التي تقول :" المشقة تجلب التيسير " ، يعني أن الصعوبة تصير سببًا للتسهيل. والأصلُ فيها قولُه تعالى: " يريد الله بكم اليُسر ولا يريد بكم العُسر"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا".وما أحرانا أن نهتدي بهذا الهدي الكريم ، فنتفق على أن نستعمل من الكلام أيسره وأسهله، ونبتعد عن غريبه ومستصعبه، وعمَّا ينفر الناس من اعتناق المصطلحات العلمية العربية ويصدُّهم عن الإيمان بالتعريب .
وثمّة أصلٌ ثالث نستنبطه من مواد " المجلة " السادسة والثلاثين إلى الثانية والأربعين، وهي التالية: " العادة محكَّمة"، " استعمال الناس حجةٌ يجب العمل بها "، " لا يُنكر تغيُّر الأحكام بتغيُّر الأزمان " ، و" الحقيقة تُترك بدلالة العادة" ، " إنما تعتبر العادة إذا اطّردت أو غلبت" ، " العبرة للغالب الشائع لا النادر ".(71/6)
وفحوى هذا الأصل المهم ، أن نعير
استعمالَ الناس ما يستحقُّه من اهتمام . وللناس مسلكٌ عجيب في استحسان الألفاظ أو استقباحها ، وكثيرًا ما يحار المرء فيه، ولا يستطيع أن يعثر له على تعليل .
فقد تقبَّل الناس مثلاً – خاصَّتُهم وعامَّتهُم – لفظة " الإذاعة " بقبول حَسَن، ولم يجدوا حَرَجًا في استعمالها على أوسع نطاق ، أو في أن يقولوا "المذيع " و " المذيعة ". ولكنهم توقفوا في استعمال لفظة " المذياع " فلا تكاد تستعمل – إن استُعمِلت - إلا في أضيق الظروف ، والله أعلم كيف ذلك كان !
وقد اقترحتُ لفظة " الحاكي" – وهي لفظة لطيفة خفيفة الدم– لتقابل ما يستعمله الناس باسم " الفونوغراف" أو " الغراموفون: " أو " البيك آب " .. ولكنها ماتت ، وعاشت الألفاظ الأجنبية المقابلة لها ، على اختلاف في البلدان والمجتمعات .
وقد استحبَّ الناس لفظة " الفشل "– وأصلُ معناها الضعف – ففضّلوها على" الإخفاق " و " الخيبة "، واستعملوها في مثل " الفشل الكلوي " ، واشتقُّوا منها " الإفشال " و " الفاشلين ".
وعندما أصاب الزلزال القاهرة ، تَضَعْضَعَ بنيان بعض المباني ، فقررت الحكومة أن تُجري لها عملية " تمكيث ". ولكن الناس جميعًا شاؤوا أن يسمعوا "التمكيث" على أنه "تنكيس"، وهو – كما لا يخفى – عكسُ المراد .
ولو ذهبتُ أُعدِّدُ الأمثلة لضاقَ بيَ الوقت ، ولكنني أرى من الخير أن نتخذ مبدأ من مبادئ منهجيتنا في وضع المصطلح العملي وتوحيده ، تحكيمَ العادة، والعمل- باستعمال الناس على أنه مُسَوِّغ للترجيح إذا صحَّ مصطلحان ، ذلك مع التقيُّد بالقَيْدَين الأخيرين اللذين وردا في " المجلة " : "إنما تعتبر العادة إذا اطَّردت أو غلبَتْ "والعبرة للغالب الشائع لا النادر ". وقد كان أستاذنا الجليل الدكتور حسني سبح - رحمه الله- كثيرًا ما يردد المقولة المعروفة :" الخطأ المشهور خيرٌ من الصواب المهجور".(71/7)
أما الأصل الرابع الذي رأيت من الخير اقتباسه من مواد " المجلة " ، فقد وجدتُه في المواد الحادية والعشرين، والثانية والعشرين، والثانية والثلاثين . تقول الأولى: "الضرورات تبيح المحظورات " ، وتقول الثانية :" الضرورات تقدر بقدرها"، وتنص الثالثة على أن " الحاجة تُنَزَّل منزلة الضرورة ".
وقد سَبَق لي أن تحدَّثتُ في هذا المجمع المبارك عمَّا أسميته " نظرية الضرورة العلمية " ، وقلت: إن علماء العربية اكتشفوا أن ثمَّة "أصلاً " كان عليه بنيان هذه اللغة الشريفة ، وحاولوا أن يتصوروا كيف كان. ثم تبيّن لهم أن ثمَّة منزعًا دائمًا إلى " الخروج على الأصل" ، وإلى " الخروج عن القياس على الأصل"؛ وتلك عمليةٌ تُزاولها الجماعة ويُزاولها الأفراد، وتتجلى فيها حيوية اللغة وحَرَاكُها. فإذا مارستها العربُ جماعةً كانت مقبولةً على الإطلاق وحلت محل الأصل ، وإذا مارسها الأفراد كانت مقبولة في بعض الأحوال وأطلق عليها اسم " الضرورة " . وهي تتجلى في اتجاهين اثنين : الاتجاه الأول هو الخروج على الأصل اقتداء بما فعلته الجماعة اللغوية في بعض الأحوال ، والاتجاه الثاني هو العودة إلى الأصل ببعض ما أخرجته الجماعة اللغوية عن أصله .
وقد دعوتُ - ولا أزال أدعو- إلى الاعتداد بهذين الاتجاهين في ركوب الضرورة ، والاقتداء بهما في سبيل الدقة العلمية ، وإنْ كنتُ أفضِّل أن تقوم الجماعة اللغوية العلمية بذلك – وهي لجان التوحيد، والمجامع، واتحاد المجامع – فتستمد الألفاظ المولدة على الضرورة من السلطان الجماعي قوةً كقوة الخارج على الأصل فيما أخرجته الجماعة اللغوية عن أصله حتى أصبح أرسخ من الأصل .
* ... * ... *(71/8)
هكذا تطوَّر موقفي من قواعد وضع المصطح، فأصبحتُ بعد تشدُّد وتزمُّت أومن باتباع هذه القواعد العامة التي أسلفت الحديث عنها وهي: أولاً: ترك القديم على قِدَمه ما كان صالحًا ، وعدمُ العدول عنه إلا لمسوِّغ قوي، وثانيًا : الحرصُ على المصطلحات السهلة الميسَّرة المقبولة،والبُعد قدرَ الإمكان عن الألفاظ المتوعِّرة ، وثالثًا : اعتبارُ استعمال الناس حجةً يجب العمل بها،والبحث عن بديل مناسب لأيِّ مصطلح يرفضه الجمهور ، ورابعًا: إباحة المحظور في سبيل الضرورة العلمية وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة.
ومن أجل ذلك عَدَلْتُ في الإخراجة الجديدة للمعجم الطبي الموحد عن كثير من الألفاظ التي ظنَنَّاها أفضل مما كان يستعمل قديمًا، ثم تبيَّن لي أننا لم نكن على حق ، وتجنَّبتُ- ما استطعتُ- المصطلحات التي ينبو لفظُها أو يصعب نطقها ، واستبعدت الكلمات التي لم يقبلها الناس –وأعني بالناس أولئك الذين استعملوا المعجم الطبي الموحد في التأليف والكتابة بالعربية والترجمة إليها في غضون السنوات الأربع عشرة الماضية– واستبدلتُ بها ما استحبّه الناس، إن صح، أو ما ظننتُ أنه أكثر مقبولية،إن صح التعبير ، واستَبَحْتُ في سبيل الضرورة العلمية كثيرًا من الأوضاع التي منها ما أقرَّه هذا المجمع المبارك من قبل ، ومنها ما أتمنى أن يُقرَّه هو أو اتحاد المجامع ، فيضبط للناس قواعد وضع المصطلح، وييسرها عليهم في الوقت نفسه .(71/9)
وإنْ أنْسَ لا أنْسى أن أشير إلى إصرارٍ كان منا على أن نجد مصطلحًا مؤلفًا من كلمة واحدة في مقابل الكلمة الأجنبية الواحدة. وقد وُفِّقنا في كثير من الألفاظ حقًّا ، ولكن التوفيق جانبَنا في غيرها . فقد استعملنا " لا " مركبة مع كثير من الكلم ، لتقابل تلك الألفاظ التي تبتدئ بأداة النفي "a" في اللاتينية . فإذا بنا أمام طائفة من المصطلحات لم يقبلها الجمهور. إذْ قلنا مثلاً؛ "اللاخطوية"، و"اللاقرائيّة "، و " اللاحسابية "و"اللاجلوسيّة "وما أشبه ذلك. فلما قلنا: " تعذُّر الخطو" و " تعذُّر القراءة "و" تعذُّر الحساب "و" تعذُّر الجلوس" رحبوا، بها والحق معهم ، فقد أصبح المصطلح تعريفًا في الوقت نفسه مثل قولنا: "التهاب المعدة "، و " التهاب الأمعاء " . هذا مع أن الناس تقبلوا واستعملوا بكل توسع ألفاظًا من مثل " اللامركزية " ، و "اللانهائية " !
أعود إلى سنواتي الأولى مع المصطلح، فأذكر أن أبي - رحمه الله- اشترى مقطاعًا يقطع الورق ، وكان يخصص سُوَيْعَةً كل عشيَّة يقطع ما تراكم لديه من أظرُف الرسائل التي تأتيه ، وكانت كثيرة إلى بطاقات صغار ، أعْتَدَها لكتابة المصطلح عليها بلفظَيْه العربي والأجنبي ورقمه، من ألفاظ "معجم العلوم الطبية ". كما اتَّخذ بطاقات كبارًا لكتابة مصطلحٍ مصطلحٍ مع تعريف كل منها . وقد كنت أصطحب بعض هذه البطاقات معي أنَّى ذهبتُ أو رَحَلت، فكان العمل عليها هيِّنًا ميسورًا. وتلك طريقة عملية مألوفة كان أسلافنا يعمدون إليها، فيكتبون في جذاذات كثيرًا مما كانوا يرغبون في تسجيله للرجوع إليه.(71/10)
أما وقد ظهر الحاسوب بإمكاناته العريضة ، فقد كان لزامًا أن نستفيد منه في العمل المعجمي والمصطلحي إلى أبعد الحدود . وقد سنَّ هذه السنة الحسنة أخونا العلاّمة الجليل الأستاذ أحمد الأخضر غزال في مكتب الدراسات والأبحاث للتعريب في الرباط فصنع قاعدة للمعطيات المصطلحية، لا أعرف قاعدة أوسع منها ولا أوْعَب، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة إن شاء الله .
وقد اقتدينا به في هذه المرحلة الأخيرة من مراحل إعداد الإخراجة الجديدة من " المعجم الطبي الموحد " ، فأدخلنا المصطلحات التي بلغت مئة وخمسين ألفًا في الحاسوب . ولا تَسَلْ عما تحقَّقنا لذلك من فائدة . فقد ساعدنا ذلك على ضبط المصطلحات ، وشكلها ( تشكيلها ) ، ودقة ترتيبها ، والتأكد من أننا لم نستعمل اللفظة العربية الواحدة لأكثر من مقابل أجنبي واحد . ثم إننا استطعنا – بإضافة روامز خاصة – أن نصنِّف المصطلحات بحسب الموضوع، بحيث نستطيع – متى نَجَز المعجم برمّته إن شاء الله – أن نستخرج عشرات من المعاجم التخصُّصية.
وللحَوْسَبَة فوائد غير ذلك كثار .
فهي تُيَسِّر إيصال حصيلة العمل المصطلحي إلى المستفيدين بأسرع وقت وأهون سبيل ، سواء استُنسخَتْ على أقراص لدنة floppy disks ، أو على أقراص مكتنزة compact disks بذاكرة مقصورة على القراءة CD-pOMs . ثم إن الحَوْسَبَة تيسِّر التعرف على مواقف المستفيدين من المصطلحات ، وتتيح التعديل والتنقيح والتشذيب بحسب مقتضى الحال . وخلاصة القول أن المصطلحات العلمية والتقنية تصبح بفضل الحَوْسَبَة أشبه بكائنات حية: تولَد، وتسجَّل ، وتنمو، ويُراقب تطوُّرها ، وتتحرّك بين الفروع العلمية المختلفة .
وقد كان لابد من إعداد عدد من البرامج الحاسوبية لإتاحة البحث في مفردات المعجم باللغة العربية أو الأجنبية، ولإتاحة البحث في مفردات المعاجم الفرعية المتخصصة المنبثقة عنه ، ولتصفح(71/11)
مداخل المعجم باللغة العربية أو الأجنبية ، ولحفظ وطباعة نتائج البحث بسهولة في نهاية كل جلسة من جلسات العمل عليه . ثم توزيع المعجم بشكله المُحَوْسَب لاختباره من قِبَل عددٍ كبير من الزملاء الذين يستعملون مصطلحاته ، استجلابًا لآرائهم .
وقد أدخلنا في برنامج مستقل جُلَّ المصطلحات العلمية الطبية والبيولوجية التي أصدرها هذا المجمع المبارك ، وسوف نستكمل هذا الإدخال قريبًا إن شاء الله ، ونقدم دراسة مفصَّلة عن حَوْسَبَة مصطلحات المجمع في المؤتمر القادم بحول الله .
وبعد ، فقد طالت هذه الرحلة مع المصطلح ، ولكنني أرجو أن يكون في استعراضها بعض فائدة . ولله الأمر من قبلُ ومن بعد .
محمد هيثم الخياط
عضو المجمع المراسل من سورية(71/12)
إسهام في وضع مصطلحات علم القراءات
للأستاذ محمد المختار ولد إبّاه
علم القراءات والتجويد من أكثر العلوم الشرعية صعوبة وتعقيدًا حتى أصبحت دراسته حكرًا على ذوي الاختصاص،فلم تنزل مادته إلى مستوى العامة، ولم تنتشر بين الخاصة بصفتها ثقافة إسلامية ؛ ومن أسباب هذه الصعوبة ارتباطها عادة بحفظ القرآن الكريم ، وهذا الحفظ يحتاج إلى جهد خاص متواصل ليس في مقدور كثير من الناس ، ولاسيما في عهدنا المعاصر الذي لم يعد الاعتماد فيه على الذاكرة منهجًا في التربية والتعليم واستغنى الناس عن الحفظ بسبب سهولة العودة إلى المراجع المتاحة.
ثم إن لهذا العلم مصطلحات خاصة ، بعضها يندرج في علم الأصوات مثل صفات الحروف ، وبيان مخارجها ، وبعضها من صميم القراءات، مثل الرواية،
والطريق ، والمتواتر، والشاذ، والأصول، وفرش الحروف ، ومسائل الوقف الابتداء وهي مصطلحات لازالت متناثرة في مؤلفات مختلفة ، متنوعة الموضوعات .
وإسهاما في الجهود المتكررة التي تقوم بها لجنة الشريعة في مجمعنا الموقر ، فإني أعرض مجموعة من مصطلحات علم التجويد ، آملا أن تعين القائمين على هذا العمل بقسط – ولو قل- في هذا المضمار، وذلك بعد فحصها ومراجعتها إن اقتضى الحال من طرف السادة العلماء المشاركين في هذه اللجنة. وإذا ما أقرها المجمع ، فإني أرجو إدراجها ضمن معجم مصطلحات العلوم الشرعية، بعد أن سبق له أن أقر مصطلحات الحديث النبوي ؛ ونظر في مصطلحات أصول الفقه التي عرضت عليه في السنة السالفة .
الألف
1- الإمام :
أحد المصاحف العثمانية، أو المصحف الذي بقي عند الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه .
2-الاستعلاء:
وصف لسبعة حروف يجمعها قولك: "قظ خص ضعط "،وسميت بذلك لاستعلاء اللسان إلى الحنك الأعلى عند النطق بها .
3-الانفتاح:وهو صفة لغير الحروف المطبقة .
4-الإطباق: و يقابل الانفتاح، و هو من صفات القوة، و حروفه الصاد، و الطاء، و الظاء .(72/1)
5-الانسفال: و هو يقابل الاستعلاء ، و أسفل حروفه الياء .
6- الأصول: أحكام قواعد عامة، مثل مذاهب القراء في المد و القصر ، و الإمالة و الفتح، و الإدغام و الإظهار.
7- الإمالة: النطق بالمد المفتوح جانحًا نحو الياء ، و بالفتحة نحو الكسرة.
8- الإشباع: إطالة حركة المد التي قد تصل إلى مقدار ست ألفات في بعض الروايات عن حمزة وورش .
9- الإضجاع : الإمالة الكبرى.
10- الابتداء : استئناف القراءة أولاً،
أو بعد الوقف .
11- الانحراف : من صفة للام.
12-الإظهار : يقابل الإدغام ، و هو قطع الحرف الساكن ما بعده كإظهار النون في قوله تعالى : من حولكم .
13-الإخفاء : واسطة بين الإدغام و الإظهار نحو التلفظ بالنون الساكنة قبل الباء .
14-الإدغام: إدخال صوت الحرف في الذي يليه، و يأتي في المتماثلين إذا سكن أولهما نحو رد و في الحرفين إذا تقارب مخرجاهما،مثل:و قالت طائفة. و إذ ظلموا،و هذا هو الإدغام الصغير، أما الكبير فهو إدغام المتماثلين، و المتقاربين،و لو لم يكن أولهما ساكن مثل:فيه هدى، و خلقكم .
15- الإثبات : ضد الحذف .
16- الاستطالة : وصف للضاد لأنه جمع بين الجهر، و الاستعلاء، و الإطباق، واستطال عند النطق به حتى اتصل بمخرج اللام.
17- الأداء : اختيار الرواية في التلاوة، ويسمى أيضا بالأخذ .
18- الإشمام : الإشارة بالشفاه إلى الحركة بعد السكون .
19- الاختلاس : انتقاص الحركة، والميل بها إلى السكون.
... مثل قراءة أبي عمرو بن العلاء في " بارئكم ".
الباء
20-البدل: يضاف إلى المد الذي يأتي بعد الهمز نحو ءامن ، و هو متوسط عند بعض القراء.
21- بين - بين: صفة للتسهيل المتوسط بين التحقيق و حركات الهمزة .
التاء
22- التدوير : عبارة عن التوسط فى الأداء بين التحقيق و الحدر ، و هو المختار عند أكثر أهل الأداء .(72/2)
23- التحقيق : تحقيق الهمز عند النطق به من مخرجه ، و تحقيق القراءة الاجتهاد في الترتيل ، مع إشباع الإمداد و إتمام الحركات، و تفكيك الحروف ، و اعتبار مواضع التشديد و الوقف .
24-التجويد : مراعاة قواعد الأداء ، و النطق بالحروف وفقا لمخارجها ولصفاتها المعروفة ، وهو واجب عند القراء ، و يقول : ابن الجزري في مقدمته:
والأخذ بالتجويد حتمٌ لازم
من لم يجود القرآن ءاثِم
وهو إعطاء الحروف حقها من صفة لها ومستحقها .
25- التواتر: تواطؤ جمع كثير من القراء على رواية متصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم .
26-التطريب : التلاوة بلحون أهل الغناء .
27- التحزين : التلاوة بما يشبه البكاء.
28- التعسف: التكلف في التلاوة، أو في التلفظ بالحروف .
29-التفكيك : تقطيع النطق بحروف الكلمة .
30-الترعيد :ترديد ما يشبه الهمز في الإمداد، و هو من محظورات الأداء.
31-الترقيص : التلاوة على أوزان الأسجاع القصيرة بلحون المطربين.
32-التخفيف: ضد التشديد مثل قراءة كُذِبوا بدل من كذّبوا.
33- التام: صفة للوقف في محل استكمال المعنى ، مثل رؤوس الآي نحو الوقف على البسملة.
34-التعانق : ترابط بين حكم وقفين في موضعين ، بحيث إن وقفت على أحدهما تعين الوصل في الموضع الآخر مثل : "الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " . ويشار إليه عادة بثلاث نقط .
35-التفشي:وصف للشين لأنه انتشر في مخرجه حتى قرب من مخرج الطاء.
36-التسهيل: التخفيف من النطق بالهمزة فينطق بها بين الهمزة والياء إن كانت مكسورة، وبين الهمزة والألف إن كانت مفتوحة ، وبين الهمزة والواو إن كانت مضمومة.
37-التلاوة : كيفية قراءة القرآن.
38-التهوع : المبالغة في تحقيق بعض الحروف كالهمزة مثلاً.
الجيم
39-الجهر: قوة الاعتماد على الحرف عند خروج صوته مع منع النفس من الجريان عند النطق به ساكنا وحروفه 19 وهي التي لم تذكر في الهمس .
الحاء
40- الحسن : نحو الوقف على بسم الله(72/3)
41-الحلق: وتنسب إليه حروف معروفة وهى الهمزة، والهاء، والعين، والغين، والخاء، والحاء .
42-الحدر:الإسراع في التلاوة مع مراعاة بيان الحروف ، وتقويم اللفظ، ومنه القراءة بالقصر الجائز، والاختلاس والبدل والإدغام، وهو معروف في مذهب ابن كثير وابن جعفر وقالون ورواية الأصبهاني عن ورش .
43- الحشو: الكلمة في وسط الآية.
الذال
44- الذلاقة : نسبة إلى طرف اللسان وفي حروفه الراء والنون .
الراء
45- الرواية :ما أخذه مشاهير الرواة عن الأئمة ، مثل رواية قالون عن نافع، والبَزي عن ابن كثير ، والدوري عن أبي عمرو وعن الكسائى .
46- الرسم : شكل كتابة المصحف التي قام بها الصحابة في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه .
47- الطريق : ما اختاره أحد علماء القراءات من روايات القراء مثل طريق الأزرق عن ورش .
48- الرؤوس: رؤوس الآيات هي الكلمات التي تنتهي بها الآية ، ولها أحكام خاصة بها في الوقف ، والإمالة والفتح .
49- الرخاوة : وهي وصف لستة عشر حرفًا ، ليست منها الشديدة المذكورة، ولا المتوسطة التي يجمعها " لن عمر " وهي التي يجري الصوت فيها عند سكونها مثل الظاء والضاد .
50-الروم : إضعاف النطق بالحركة دون ذهابها نهائيًّا .
السين
51-السند:مجموعة رجال الرواية بين القارئ والإمام .
52-السكتة: إيقاف القراءة قليلا دون تنفس .
الشين
53-الشكل : وضع علامات الحركات، وأول من قام به أبو الأسود الدؤلي– وجعله نقطا؛ فالفتحة نقطة فوق الحرف ، والكسرة نقطة تحته ، والضمة نقطة بين يديه .
54- الشدة: وصف لحروف ثمانية يجمعها قولنا : أجدت كقطب . وشدة الحرف قوة الاعتماد في نطقه ومنع جريان النفس معه إذا كان ساكنا مثل " الحْق " والحج ".
55-الشاذ: هو ما يقابل المتواتر أي ما عدا الروايات العشر المعروفة.
56- الشفوية: نسبة إلى الشفتين، والحروف الشفوية هي الواو والباء والميم والفاء .(72/4)
57- الشجرية : والحروف الشجرية هي الجيم والشين والياء نسبة إلى مفرج الفم .
الصاد
58- الصلة : قد يقصد به مد هاء الضمير نحو فيهي هدى ، أو ميم الجمع ، عليهمو ؛ أما الوصل فهو ما يقابل الوقف.
59- الصفير : (حروف ) وهي الصاد والسين والزاي.
الضاد
60- الضبط: كل العلامات التي في المصحف الزائدة على الرسم ، مثل: الشكل والنقط ، وعلامات الإمداد.
61-الغنة :صوت خاص يخرج من الخيشوم لا عمل للسان فيه ، يظهر في مثل إدغام النون في الميم .
الفاء
62-فرش الحروف: بسط الأحكام في الكلمات التي اختلف فيها القراء اختلافا خاصا بكل كلمة . مثل : " عند الرحمن " و " عباد الرحمن "
63-الفتح: النطق بالمد المفتوح دون إمالة .
القاف
القراءة :ما نسب إلى أحد الأئمة : مثل قراءة نافع، وابن كثير، ومن هو مثلهم .
64-القلقلة : وصف لخمسة حروف ويجمعها قولك " قطب جد" وسميت بذلك لأنها إذا وقف عليها قلقل اللسان .
65- القصر: ويقابل المد المشبع والمتوسط.كاختصار بعض القراء في المد المنفصل على المد الطبيعي ، وقد يقابل الوصل في هاء الضمير وميم الجمع .
66- القبيح: صفة للوقف في محل لم يكمل فيه المعنى، وعلى من اضطر للوقوف عنده أن يعيد الكلمة التي وقف عليها .
67-القرآن: الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز وللتعبد بتلاوته .
الكاف
68- الكافي : مثل الوقف على نهاية كلام مفهوم المعنى ، نحو : ألا إنهم هم السفهاء.
اللام
69-اللين : صفة تطلق على الألف لزومًا، وعلى الواو والياء في حالة مدهما ، وتسمى أحرف المد .
... اللثوية – نسبة إلى اللثة ، ويوصف بها الظاء والذال والثاء .
الميم
70- الموصول : في الرسم ما غلب قطعه ، ثم ورد موصولا نحو " وألو استقاموا على الطريقة ".
71-المقطوع: في الرسم ما غلب وصله، وورد مقطوعا نحو " مال هذا الرسول".
72-المصحف: الكتاب المتضمن للقرآن الكريم وحده(72/5)
73- المخرج : المكان الذي ينطلق منه الصوت في الفم، مثل انطلاق العين من الحلق، والقاف من أقصى اللسان، والميم من الشفتين .
74-المصمت:صفة للحروف غير الذلقية.
75- المد : منه ما هو طبيعي مثل ألف قال،وواو يقول، وياء قيل،ومنه ما هو زائد، وهو ما قد يأتي قبل السكون والهمز وبعضه متصل مثل:"جاء ، ودواب، ومحيايْ".ومنه ما هو منفصل مثل و" ما أنفقتم من نفقة " الآية.
النون
76-النقط: وضع النقط التي تميز بين الحروف التي يشبه بعضها بعضا ، مثل الباء والتاء ، وأول من قام به في المصاحف يحي بن معمر مقيل نصر ابن عاصم الليثي.
77- النقل : تحريك الساكن الذي قبل الهمزة بحركتها ، وحذفها ، نحو :"هلَ أَتى على الانسان"، فحركة همزة الإنسان نقلت إلى أل التعريف ، وحذفت الهمزة .
78- النطعية : نسبة إلى نطع الفم وهو الغار الأعلى أي سقفه ، والحروف النطعية هى الطاء والدال والتاء.
الهاء
79- الهواء : مخرج حروف المد لأنها لا تسند على جزء معين في الفم .
80-الهذ أو الهذرمة، وهي سرعة التلاوة ولا يجوز منه ما يخل بقواعد التلاوة.
81- الهمز: أداء الهمزة بالتحقيق ، أي دون إبدال أو تسهيل .
82- الهمس : ضعف الاعتماد على الحرف عند التلفظ به مع جريان النفس ، وحروفه يجمعها " حثه شخص فسكت "
الواو
83- الوقف :قطع القراءة في مكان معين ، ويكون بإسكان المتحرك، نحو : لا ريب – أو بمد المفتوح – نحو غفورا.
محمد المختار ولد إبّاه
عضو المجمع المراسل
من موريتانيا(72/6)
الإبدال*
للأستاذ الدكتور محمد نايل أحمد
تحدثت في بحث سابق عن رافد من روافد هذه اللغة، وهو" التعاقب" (1)
أشرت فيه إلى ما فعله أبو عليّ القالي، إذ أفرد له الجزء الثاني كاملا في أماليه. واليوم أتحدث عن رافد أعظم، هو أكثر نفعًا وأبعد أثرًا في قضية التنمية اللغوية ، إنه الإبدال ، وقد يشتبه الأمر أحيانًا في التفريق بين الإبدال والتعاقب ، بل خَلَط بينهما كثير من المؤلفين ومن هنا أجد من الخير أن أنقل كلمة ابن فارس فى التفريق بينهما، إذ عقد للإبدال فصلاً بعنوان مستقل في كتابه "الصاحبىّ" (2) جاء فيه: "من سنن العرب إبدال الحروف ، واقامة بعضها مقام بعض ، فيقولون : مدحَه ومدهَه … وهو كثير مشهور ، ألَّف فيه العلماء . فأمَّا قول
الله جلّ ثناؤه " فانفلق فكان كل
فِرق" (3) فاللام والراء يتعاقبان، كما تقول العرب: [ فَلَق الصبح وفَرَقُهُ ].
فهو يرى أن الإبدال يجيء فيما تشابه فيه الحرفان جرسًا وصوتًا ( تقارب المخارج) وأن التعاقب فيما تباعد فيه الحرفان،وهذا هو الفرق الذي ينبغي الالتزام به للتفريق بينهما ، دفعًا للخلط والارتباك.
وبينما لم يحظ التعاقب إلا بالجزء الثاني من الأمالي ، حظى الإبدال بكتابين مستقلين ، وبفصلين محدودين في كتابين آخرين ، بدأ بكتاب ابن السِّكِّيت (244هـ) الذي أصدره المجمع اللغوي في عام 1978 ثم كتاب أبي الطيب اللغوي 351هـ الذي صدر في دمشق في عام 1960، وبفصل في "الخصائص " لابن جني(4)
( 392 هـ)، وآخر في الصاحبي"(1) لابن فارس (395هـ).
واهتمام العلماء بالإبدال، وكثرة تأليفهم فيه ، يدل على أهميته الكبرى في باب التنمية اللغوية ، وأنه رافد عظيم النفع في إمداد اللغة بالألفاظ بلا حدود مع إسعاف العلماء في ترجمة مصطلحات العلوم ، إذ يقدِّم لهم أكبر عون في تعريب هذه المصطلحات .(73/1)
ونظرة متأنية فيما جاء بكتب الإبدال ، من النصوص التي حدث بها هذا التصرف، تبعث العجب من قدرة العرب على تلوين الخطاب ، وتنويع الأساليب.يروي أبو عبيدة (1) من كلامهم ( بيني وبينه قاب رمح،وقاد رمح: أي قدر رمح ) ، ثم (قيدَ رمح وقيب رمح ) ، كما يروي الأصمعي قولهم : قد عاث فيه وهاث فيه .. إذا أفسده ، وتريَّحَ السحاب وتريَّهَ : إذا جاء وذهب (2)– هذا
التصرف في ألفاظ اللغة بهذا القدر من التغيير ، وبهذا التوسع العجيب في التبديل والتحوير ، وفي جرأة لا تكاد تقف عند حد ، يعطينا مؤشِّرًا واضحًا بأن هذه اللغة ليست ميراثًا جامدًا ، يأبى التصرف والتبديل ، وإنما هو ضوء أخضر ، يفتح الطريق أمامنا للسير كما ساروا ، وبالنهج الذي نهجوا. بل نحن أشدُّ منهم حاجة إلى اتباع هذه المسيرة التّقدُّمية، لإشباع اللغة بالجديد من الكلمات لتعيش في العصر، وتقضي حاجة التقدم المذهل في علوم الحياة التي تنمو يومًا بعد يوم.
إن الوقوف في مجال الألفاظ عند القدر الذي استعملوه يوشك أن يكون عقوقًا لهذه اللغة ، وصدًّا لها عن وسائل النّمو والحياة ، وملاحقة العصر في نمو حضارته وثقافته ".
ولا أجد حرجًا في القول بأن الفطرة اللغوية في شعوبنا العربية،
تُولِّد من الألفاظ والأساليب قدرًا جعل لجان المجمع تتابعها بالدارسة والتفصيح ، إنها الفطرة التي لا تزال تنبض في عروقنا ، وترفض الحجر أو التحجُّر في منطقها وأسلوب التعامل الواعي مع اللغة في حياتها ، وهو ما تتابعه لجنة الألفاظ والأساليب في هذا المجمع ، لتفصيحه وإقرار استعماله ، ما دام لا يخرج عن أساليب العربية الموروثة .
إن وسائل التنمية اللغوية لا تزال في حاجة إلى المزيد من الدراسة ، وإلى استثمارها وتوظيفها في مواجهة التقدم العلمي والحضاري ، الذي
يطالعنا بالجديد يومًا بعد يوم ، لنثبت واقعيًّا أن لغتنا لا تزال حية ، تنمو وتلد وتتكاثر ، وتتمتع بكل مقومات الحياة الحضارية .(73/2)
إن على علماء اللغة عامة ، وعلماء المجامع خاصة، تبعة ثقيلة، أن يبعثوا الحياة في لغتهم، وأن يقوموا بإمدادها بالدراسات المتخصصة العميقة ، في كل فروع اللغة، ليعيدوا إليها شبابها وحيويتها، إنها محفوظة بحفظ الكتاب الذي نزل بها ، والمطلوب فقط هو تحريك الدماء في عروقها ، ليظل نبض الحياة فيها قويًّا.
محمد نايل أحمد
عضو المجمع(73/3)
التعريب
حديث قديم ومتجدِّد
1881 – 1923م
للأستاذ أحمد شفيق الخطيب
تمهيد
الحديثُ في موضوع التعريب وعنه قديم ومُتجدِّد – المُتجدِّد منه أذكرُ أني استمعت فيه إلى فيضٍ مُقنعٍ منه في هذه القاعة من زملاءَ أكارم أذكر منهم - على سبيل المثال لا الحصر - الدكاترة والأساتذة مع حفظ الألقاب : عبد الكريم خليفة، ومحمود حافظ،وكمال محمد بشر، وأبا شادي الروبي، وعدنان الخطيب ، ومحمد يوسف حسن، وكمال محمد دسوقي، ومحمد رشاد الطوبي، وعبد الحافظ حلمي محمد،وعبد العزيز الرفاعي، ويوسف عز الدين.
وهذه الكلمات،على عِلمي، تضمُّها محاضرُ جَلسات مجلس ومؤتمر مجمع اللغة العربية. وبالتأكيد تضم محاضر جلسات مجامع اللغة العربية ومؤسساتُ اللغة
العربية المثيلة في عمّان، ودمشق، وتونس، والرباط، وغيرها مقالات مثيلة . هذا إضافةً إلى محاضر اتحاد الجامعات، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومؤتمرات الوزراء والمسؤولين عن التعليم العالي والبحث العلمي في الوطن العربي ومقرَّراتهم التي تُفرح الأُذن ولا تُطرِبُ نتائجُها القلب . وكلُّها تجمع على ضرورة تنفيذ التعريب فورًا دون أن يعني ذلك بحالٍ من الأحوال إهمال اللغة الأجنبيَّة كصلةٍ وثيقة بين المثقَّف العربي ، مهما كان اختصاصه، والثقافات العالمية.
لكني في الصفحات التالية أعرض لحضراتكم مقتطفاتٍ من مقولاتٍ تعود إلى أكثر من مئة عام اخترتُها بتصرُّف بسيط * تدور كُلُّها حول موضوعنا في هذا المؤتمر .
لعلَّ تلك الجُهود لرجالاتٍ أحبُّوا اللغة العربية، تُضيف إلى جُهودكم وجهود محبي العربيَّة حاليًّا ومستقبلاً مزيدًا من الحماسة والاندفاع ، جهادًا في سبيل تحقيق هذا الهدف الذي يقول فيه أحد مقررات المؤتمر الثاني للوزراء والمسؤولين عن التعليم العالي والبحث العلمي في الوطن العربي في تونس عام 1983م .(74/1)
" إذا كان التعريب في الحياة العربية قرارًا سياسيًّا ، فهو في حقيقته قرارٌ تربوي وتعليمي وفي جوهرة خِيارٌ حضاري " .
وفيما يلي أُعيد معكم عقاربَ الزمن إلى موضوع التعريب ومستقبل اللغة العربية قبل قرنٍ من الزمان .
تعليم العرب العلوم في اللغة العربية
هو أحسن منه في غيرها
( 1881م )
بقلم المعلم عبده كحيل
هذه قضية يقول بصدقها كثيرون من الأجانب . ولا أخال لها مُنِكرًا عربيًّا سواءٌ نطق بها مرتجلاً عن هوى أو أوردها عَقِب التروّي والإمعان . ولكي يصحَّ صِدقُها أمام الجميع أقول :
اللغة
إن اللغة العربية لغة غنية تُعَدُّ من أغنى اللغات التي زانها العلم وحسَّنها التمدن . لغة طبيعية الهجاء بخلاف الفرنسية وبالأحرى الإنجليزية مثلاً . أما الصعوبة العظمى فيها وهي الحركات غير الصرفية والنحوية التي توضع عند البعض إزاء الهجاء في غيرها فليست أعظم من صعوبة حروف العلة في سواها ، ويزيلها الاستقراءُ والمزاولة كما يتم لحروف العلة هناك. لغة بديعة الاشتقاق الذي يساعد كثيرًا على اختلاف كلمات تستدعيها الضرورة وتطلبها مقتضيات الحال . لغة يزيدها النحت حياةً ويغنيها عن ذل الاستعارة وشين السرقة من لغات الغير . لغة كريمة الأصل إذ لها الحظ الأوفر من تلك اللغة الأصلية أو الطبيعية . ذلك لي عليه أدِلة لا يَسع المقام إيرادها . وإنما أُشير إليه إشارةً باشتقاق آدم من أديمها ، وحواء من حياتها ، وقايين من قنيتها إلخ ؛ وبحكاية الأصوات، مثل: نَقّ، ودق،وطق، وأزيز الرعد والطائرة ، ومُواء القط ، وعواء الذئب والكلب إلخ . لغة عذبة اللفظ سلِسَة النطق تعشق سماعَها الأُذُن ويطرَبُ بها الذوقُ السليم .
الطالب(74/2)
إن الدواعي التي تسوق الإنسان إلى دراسة لُغة غيرهِ متفاوتة.فمنها طلب المنفعة المادّية بالترجمة والتجارة وغيرهما. ومنها دراسة لغة قوم قصد إفادتهم أدبيًّا أو روحيًّا . ومنها لمعرفة الكتب الدينية في اللغة التي جاءت فيها بدءًا ، كدرْس غير عربي العربيةَ لمعرفة القرآن، وكدرْس غير مسيحي العبرانية والكلدانية والسريانية واليونانية لمعرفة التوراة والإنجيل . ومنها تمكن المرء في لغتهِ لافتقارها إلى غيرها كدرس إنجليزي مثلاً اللاتينية واليونانية . ومنها مقابلة اللغات مع بعضها للتوصل إلى حقائق أو إثبات حقائق تاريخية .
الطلبة في بلادنا يكفيهم أن يتمكنوا من فهم اللغة التي يقصدونها والترجمة منها إلى العربية وليس على كلهم أن يجدُّوا ليصيروا قادرين على التأليف ودرس العلوم فيها. ولذلك يكفيهم أن يدرسوا اللغة الغريبة سنتين أو ثلاثًا . ولكن إذا سبقوا لدرس العلوم في غير لغتهم فيجب حينئذ تفرُّغهم لدرس اللغة التي يعلّم فيها خمس أو ست سنوات يشتغلون فيها بكل جد قبل أن يدخلوا باب العلوم . وهكذا يضيعون الوقت الطويل والمال الجزيل ولا يكونون متضلعين في لغتهم. فإن كان الطالب من المعسرين فلا تسعهُ ذات اليد أن يخسر معظم وقته إلاَّ إذا أغناه المغنى .
وإن كان من الموسرين فخيرٌ لهُ أن يتوجه إلى ذات البلاد التي عليه أن يدرس العلوم في لغتها حيث هناك يسهل عليه كثيرًا إتقان اللغة وضبطها . وما من طالب عربي يتح لهُ الله أن يدرس ما يود من العلوم في لغتهِ التى رضعها وألفها حتى عشقها ،ويعدل عنها في بلادِه إلى الدرس في لغة أجنبية وهو غير مكره ولا مطمع بأكثر مما يناله في لغتهِ . ولكم سمعت طالبًا يئن متأوِّهًا من مجرد سماعهِ إنه سيدرس في(74/3)
اللغة الإنجليزية أو الفرنسية . وربما عدل بعض الطلبة عن الدرس بسبب ذلك نظرًا لتيقنهم ( وهو يقين حق ) أنّ تعلمهم العلوم في اللغة العربية أسهل وأجمل وأكمل وأفضل . هذا ما يلوح لي في هذا الموضوع الذي يستدعي كل تبصُّر واهتمام قبل نقل الأقدام . وبناء على ما تقدم أقول مؤكدًا ومختتمًا : حقًّا إن تعليم العرب العلوم في لغتهم هو أحسن منه في غيرها .
[ النشرة الأسبوعية ج 11(1881) ص 158 - 159 ]
التعليم في لغة غريبة
( 1881م )
بقلم المعلم إبراهيم كفروني
يترتب على تعلُّم العلوم في لغة أجنبية ربح وخسارة .أما الريح فهو في سرعة تعلّم اللغة، وأما الخسارة فهي في بطء تحصل العلم المقصود . غير أن ما يكسبهُ الطالب بالإسراع في تعلم اللغة يخسرهُ بما ينقص من إدراكهِ العلم المطلوب وبما يلزم لهُ من الوقت الزائد لأجل تحصيلهِ إياهُ . وكثيرًا ما يُشاهَد ذلك في الذين يدرسون العلوم من السوريين في اللغة الفرنسية فإنك تراهم متضلعين في معرفة اللغة يحسنون التكلم بها والكتابة غير أنك إن سألتهم عمَّا تعلموهُ رأيت أن ما يعرفونهُ من العلم هو دون الطفيف، وكذلك من يتعلم منهم العلوم في اللغة الإنجليزية يستفيد
كثيرًا في معرفة اللغة ويسرع في تعلمها غير أنه يقصِّر في تحصيل العلم المقصود ، فربما اقتضى له لتعلَّم الحساب البسيط ثلاث سنوات وللجغرافيا مثل ذلك وللجبر أربع سنين وللمثلثات المستوية والكروية سنتان وللمساحة سنة. وكان في مُكْنتِه أن يتعلم كل ذلك في اللغة العربية في برهة سنتين أو أقل من ذلك .(74/4)
ولا يخفى ما في التعلم بلغة غريبة من المصاعب على الدارس والمدرس معًا . فإن الدارس لا يدرك المعاني حق الإدراك كما يدركها في لغته وربما اقتضى لهُ أن يدرس اللغة ثلاث سنين – على الأقل- قبل أن يصير قادرًا على تعلم علمٍ فيها مهما يكن بسيطًا وهيِّنًا.أما المدرّس فإنه يلقى من تلميذه عرق القربة ، ويُبلى منه البلاء العظيم، يضيق صدرهُ من ركاكة عباراته، ويُبَحُّ صوتُه وهو يقصد أن يفهمَه ولا ينتفع شيئًا . وكثيرًا ما يقع في حيرة لا يدري أتلميذهُ غير فاهم المعنى أو أنُه لا يفهمه ويعجز عن إيضاحهِ لقصورهِ في اللغة .
وإن من الناس من غرضهُ تعلّم اللغة الأجنبية ومنهم من غرضهُ تعلّم العلوم. فننصح للأول ألاّ يقتصر في درس اللغة التي يطلبها على تعلّم الجداول والمحاورات بل أن يؤثر على ذلك تعلّم علوم في تلك وربما كان الأولى أن تكون تلك العلوم ممّا تعلَّمُه في لغته . وننصح للثاني الذى غرضهُ تحصيل العلوم أن يدرسها في لغته بالألفاظ التي يألفها والعبارات التى يفهمها والاصطلاحات التي تعوَّدها فإن لها وقعًا في نفسهِ وتأثيرًا لا تؤثّره الألفاظ والعبارات والاصطلاحات التي في اللغات الأجنبية .
[ النشرة الأسبوعيةج11( 1881 ) ص 206 ـ 207 ]
لغة التعليم
(1881م)
بقلم الدكتور فضل الله عربيلي ب.ع ، د. ط ـ الولايات المتحدة في أمريكا
حضرة مدير النشرة الأسبوعية المحترم .(74/5)
إن مسألة جعل التعليم باللغات الأجنبية أصلاً بالمدارس العربية لمن المسائل المهمَّة، وفي البحث عنها أمور كليَّة ينبغي ملاحظتها لمن يعزُّ وطنهُ ويهمُّهُ تقدُّم البلاد.ولا يخفى - في هذه المسألة - أن المقصود ليس تفضيل لغة على سواها ولا أيّ اللغات أفضل وأصلح لتعليم العلوم بها، دون تحديد المكان والزمان،بل أتعليم العلوم باللغات الأجنبية في صقعٍ عربي أفضل من تعليمها باللغة العربية أم لا، هي المسألة .فتعليم العلوم بلغة أجنبية لا يقتصر على أبناء العصر الحاضر فقط بل يتجاوز إلى الأعصر المستقبلة .وإذا سَلَّمنا بأفضلية هذا التعليم فعلينا أن نتصور بإزائنا أن تلامذة هذا العصر سيكونون أساتيذ أبناء الأعصر القادمة وعلماء هذا الزمن الذين هم ضابطو اللغة وحافظو قوانينها ،سيُبدَلون بعلماء أجنبيين نظرًا لتعليمهم ،وذو البصيرة يعلم ما في نهاية تلك السلسلة المتصلة وما في الانقلاب من الضر على اللغة الوطنية وأهلها .
لعمري إن من يقول بأصوبية التعليم باللغات الأجنبية فكأنه يقول بأصوبية وجوب التكلم بتلك اللغات في كل حالٍ بين أفراد كل عائلة عربية ، ونزع اللغة الوطنية تدريجًا حيث تحل محلها لغة أجنبية، فتصبح لغة الجرائد والمطابع(74/6)
والأشغال العمومية والخصوصية والتأليف والمدارس؛ لأن مدارس البلاد إنما هي مجتمع أفراد العيال، وما البلاد إلاَّ أهلها وأعمالها ، وليس الجامع لهم إلاَّ لغتهم الوطنية . ففي ذلك أمركُلي ونظرٌ خفيُّ قلَّ من يرضى بهِ. عقيب التأمل والإمعان إذ لم يُرَلهُ سالفٌ في بلاد أخرى إن كان في الأعصر الحاضِرة والغابرة، ولم نسمع بأمةٍ استصوبت تعليم أولادها وهم فى بلادهم بلغة أجنبية فجعلتها أصلاً واللغة الوطنية فرعًا في التعليم، سواء في الأمم المتمدنة أو غير المتمدِّنة، بل نرى أن الأمم أجمع يتعبدون للغتهم إذ هي رباط الأمة وسلسلة الأعمال ويجتهدون لإغنائها وتحسينها بإدخال الترجمات والتأليف الأجنبية التى ينبوعها المدارس ،وضمها إلى مكتبتها. على أننا لا نسلم أن اللغة العربية هي أضعف وأفقر اللغات حتى تكون مقدامًا لهذا العمل .فلو نظرنا إلى الأمة الجرمانية مثلاً فإننا لا نراها تبتدِئُ بتعليم أولادها العلوم الرياضية في مدارسها باللغة الفرنسية على أن للفرنسية الشهرة بها . ولو نظرنا أيضًا إلى الأمة الفرنسية فلا نراها تجعل لغة التعليم في مدارسها الجرمانية في الطبيعيات على أن لأهل هذه اللغة الشهرة وطول الباع بها. فمن ذلك يظهر لنا أن لا أحد يرضى بأن يسلب أصالة لغتهِ مراعاة لذلك .
فإن قيل إن هاتين اللغتين على غاية من السعة وتعداد المؤلفات ،فيجاب على ذلك أن في العربية سعة أيضًا ، ولم تتعدد المؤلفات بهما إلاَّ بالسعي والهمة لإيجادها للمتعلمين بلغتهم الأصلية ،وجرّ آراء الآخرين إليها،والمحافظة عليها وليس بالقاء عليها بالهجران والإعدام ، بحيث جُعلت فرعًا في المدارس التي إنما هي في الضابط والحافظ للغة .
ففي مدارس الأستانة مثلاً ترى الهمة مصروفة الآن بترجمة كتب التعليم إلى اللغة التركية والتعليم بها على أنها أضيق من العربية كثيرًا وأكثر معلمي تلك المدارس من الأوربيين وما ذلك إلا لأنها لغة الدولة والأهالي .(74/7)
[ النشرة الأسبوعية ج 11(1881) ص 325 ـ 327 ]
تعلُّم المرء العلوم في لغته التي نشأ فيها هو أيسر منهُ في غيرها
( 1881م)
بقلم المعلم إلياس جرجس بهنا الريشاني
هذه القضية - قضية تعلُّم المرء العلوم في لغته التى نشأ فيها - حُجتها في صدر كلٍّ من أولي البصيرة والعرفان إنْ أجنبيًّا وإن عربيًّا سيما إن نظر فيها بعين الحق؛ لأنها لسان حال كل ابن لغةٍ ،يستطيع بها درس ما يشاءُ وتدريس ما يشاءُ وكتابة ما يحلو أضعاف ما يستطيعه في غيرها، فلذلك يعسُر عليه جدًّا إبدال لغته الطائعة لقلمهِ ولسانه لغةً يتلعثم لسانُه عن النطق بما كثر فيها من الألفاظ الغريبة غير المألوفة عندهُ، ويوهن عزم فكرتهِ – قبل أن يفوز بمعرفة اصطلاح أهليها بها وإيعاب جميع شواذها ولا سيما إن تفاقمت كما في الإنجليزية . هذا وكثيرًا ما يحجز قلمهُ عن استمرار كتابة كلمات أنستهُ إياها صعوبة التهجئة حتى يدركها بنظرة من قاموسها إن كان بحوزته قاموس، أو بسؤال لأحد من ذويها، عن هذه الكلمات التي لا يستطيع أن يلفظ المتعلم واحدة منها إلاَّ على يد أستاذ ولو كان ذا إلمامٍ في القراءة لِكثرة ما تضمنتهُ من الأحرف النافلة: وهكذا يضيِّع قسمًا من ثمين أوقاته قبل إظهار معنًى أو تأدية برهان بلا داع . فلذا في مقدرة ابن اللغة أن يتعلم أكثر العلوم بلغته قبل أن يتضلع بلغةٍ أجنبية . اختبرت هذا في ذاتي وصرح بهِ كثيرون ممن لا يراعون حرمة الجانب انتصارًا للحق . قال أحد النجباء: "بكل صراحةٍ أقول ولا أخشى لومة لائمٍ إنه يسهل علىَّ جدًّا الفوز بأكثر الفنون بلغتي قبل أن أتضلع بلغةٍ أجنبية أذوق من صعوبتها تباريح الكرب " .وقال آخر وهو يئن مُتحسرًا: "إن تعليم العلوم بلغة أجنبية في المدرسة الكلية حرمني إدراك ما أتمناهُ منها " مع أن لهُ من المبادئ في ذات اللغة ما يحملهُ إلى ذلك . فما تقدَّم حدٌّ عام لا يتجاوزهُ أبناءُ اللغة العربية واقفين وصارخين. الحق أولى أن يقال .(74/8)
تعلُّمنا العلوم فى لغتنا التي نشأنا فيها هو أيسر لنا منهُ في غيرها وهاك في ذلك بعض الأدلة .
أولاً : لأن لها بين اللغات الحظّ الأوفر
لكونها لغة واسعة النطاق أثيرة الشموس عذبة الألفاظ بعيدة الشواذ محكمة
الأصول مضبوطة القيود .
ثانيًا : لأن بواسطتها تعمُّ العلوم بلادنا وتمتد من الخاصة إلى العامة بدون مشقة وذلك لأننا نقتدر بها على بث أفكارنا بما تعلمناهُ بطرق شتى لا يمكننا بثها لو تعلمنا بلغة أجنبية تصدنا عن فهم الحقائق بوجه السرعة وعن إيضاحها بعبارات سهلة مفهومة عند الاقتضاء كما شُوهد من أهل التجربة والاختبار .
ثالثًا : لا يوافق أحوالنا غيرها.وذلك من جهة عدم إمكان كوننا طلبة علوم تحت يد أساتيذ مع سهولة كوننا مطالعين. هذا والأساتيذ منا الذين قد تضلعوا ببعض لغات الأجانب يفضلون ترجمة الكتب العلمية عليهِ في تعليمها في المدرسة ،فعلى هذا يكون المترجمون أكثر من المعلمين، والمطالعون أكثر من الطلبة ،فحينئذٍ يمكننا الفوز بالبغية في وقت ليس بمستبعد .
رابعًا : إن لأكثرية الصوات حقًّا في الحكم على هذه المسألة .فإنهُ قد ظهر لي جليًّا من أن الذاهبين إلى الإبدال هم جزءٌ صغير بالنسبة إلى الكل،فلا يسلم الكل بما يرومهُ البعض من إبدالهم بلغتهم سواها، ويشق على الكثيرين فقد العصبية الكائنة بينهم التي يرغب القلائل فقدانها بجعل العربية فرعًا وغيرها أصلاً . والحق وتابعوهُ لا يرتضون بذلك على الإطلاق.
وأخيرًا إن المحبة والأمانة تجبراننا على ألا نتعدى لغتنا إلى غيرها لأنهُ ليس من العدل سرعة العذل . فلا يحق لنا أن ننكث عهود الصداقة ونصرم حبال المودة بيننا وبين لغتنا ونميتها بجعلها فرعًا . فلا يترك الولد والدتهُ لكونها رثة الثياب،ولا يتغرب إلى غير وطنهِ ليميتها جائعة عريانة، بل ليرجع ويكسُ والدتَه مقدِّمًا لها ضرورياتها مما كسبهُ في غربتهِ .
[ النشرة الأسبوعيةج11(1881)ص 373 ـ 374 ](74/9)
استبدال لغة التعليم بالعربية
في الكلية السورية الإنجيلية عام1882
خسارة لا تعوّض
( مُذكِّرات نُشرت عام 1956م )
بقلم العالم منصور جرداق
أبنتُ سابقًا أن العمدة قررت أن تكون الإنجليزية لغة التدريس في دوائر الكلية العالية بدلاً من العربية قبل وقوع الثورة على اللغة العربية ببضع سنوات.والمشهور أن فكرة إبدال الإنجليزية بالعربية ، أي جعل أو اتخاذ الإنجليزية بدلاً من العربية، منسوبة إلى الدكتور بوست .ولكن العمدة قررت الاقتراح أو الإبدال ولم يذكر قط أن أحدًا عارضة أو اعترض عليه. ويحق لكل عاقل منصف الاستنتاج أن يستنتج أن الغاية الرئيسية من نقل التعليم إلى اللغة الإنجليزية هي أن تكون عمدة الكلية وإدارتها بيد الأمريكان ، الذين يجب أن يكونوا دومًا أسياد الموقف والمسيطرين على شؤون المدرسة وتوجيه سياستها،بدلاً من أن يسيروا تحت رحمة الوطنيين بسبب عقبة اللغة ، لأنه يتعذر على من جدّ ويجد من أساتذتهم الأمريكانيين إتقان العربية ليعلِّموا بها ويؤلفوا ( المقتطف مجلد 9 ص 633 ) .(74/10)
وسُمِّيت المدة الأولى في تاريخ اللغة في الكلية بالعصر الذهبي ، وذلك لأن العربية كانت لغة المدرسة ، وبها كانت تدرس كل فروع العلوم في الدائرة العلمية والدائرة الطبية ، فضلاً عن علوم اللغة الخاصة من صرف ونحو وبيان وبديع وعروض وقافية . ولكن بعد النقل والإبدال غلبت الإنجليزية على العربية فأخذت محلها وصارت العربية من ذلك الحين إلى الآن فرعًا بعد أن كانت أصلاً، فأهمل فيها تدريس العلوم جملة وتمّ للإنجليزية الفوز وأصبحت سائدة ترفل في مطارف غلبتها وظهورها ، وانسحبت العربية عن مواقف عزِّها على منابر العلوم والفنون إلى زاوية علومها الخاصة بها ، وانصرفت النفوس عنها وضجر المتعلمون منها فرأوها طويلة الذيول لكن على غير طائل، وكثيرة الشروح، ولكن لا تشرح صدرًا وبذلك عمدت المدرسة جهدها في إرجاع العربية إلى رونقها الأول فلم تستطع إلى ذلك سبيلاً .
اللغة جسم حيّ نامٍ وليس المراد أن تبقى اللغة ويبقى أهلها كما كانت وكانوا في عصر البحتري والخوارزمي ، ولو استطاع أحد أن يحصي كم دخل العربية من العبرانية والسريانية والقبطية والفارسية والرومية من الألفاظ والتراكيب حتى قبل الإسلام وبعده ببضعة قرون ، لَوَجد أن العربية كانت حينئذٍ لغة حية نامية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية الآن. ولقد عدّ الدكتور يعقوب صروف في الصفحة الأولى من جزء الأقراباذين من قانون ابن سينا الذي ألَّفه في بداية القرن الخامس بعد الهجرة، مئة اسم من أسماء النباتات وسائر المواد الطبية فوجد الدخيل منها لا يقل عن سبعين اسمًا وقد ذكرها ابن سينا كلها كأنها أسماء مألوفة في أيامه. وكما كان العلماء من أطباء ورياضيين وفلكيين في ذلك الحين يرحبون بكل كلمة أجنبية تزيد غناء العربية غناء كان الأدباء والشعراء أيضًا لا يستنكفون من استعمال المعرَّبٍ .(74/11)
والذي أعرفه جيِّدا أن الدكتور كرنيليوس فانديك هو مؤلِّف الباثولوجيا والبيان والبديع والعروض القوافي والجبر والهندسة والكيمياء والفلك والجغرافيا والنقش في الحجر ، ومترجم التوراة من لغاتها الأصلية ترجمة شهد له بصحتها أكابر علماء الأرض وابن حور ، واللغوي الذي أتقن عشرًا من اللغات القديمة والحديثة ،والذي درس جيدًا قانون ابن سينا وأبقى في النسخة التي درسها ( الموجودة الآن في مكتبة الدكتور يعقوب صروف ) آثارَ علمِه وتدقيقه بما ترجمه فيها من الكلمات الطبية لما يرادفها في اللاتينية أو اليونانية ـ إن الدكتور فانديك جمع الأسماء العلمية والعبارات والاصطلاحات العربية التي وضعها واستخدمها علماء العرب في الطب والفلك والرياضيات والطبيعيات بمساعدة أستاذيه في اللغة العربية الشيخ ناصيف اليازجي والشيخ يوسف الأسير- أقدر وأشهر علماء اللغة العربية في عصرهما – ثم راجعها بنفسه في مظانها ومحَّصها وقابلها بما ورد في الكتب اللاتينية المترجمة من العربية وأخيرًا بما ورد في الكتب الإنجليزية والفرنسية والألمانية المترجمة من اللاتينية ، وقد فعل ذلك بكل عناية وتدقيق ، وبعدئذ باشر التأليف في المواضع المشار إليها ،فأتت كتبه حجة في الأسماء والتعابير والاصطلاحات العربية وحذا حذوه، لدرجة تذكر، زملاؤه الدكاترة ورتبات وبوست ولويس فأغنوا اللغة العربية ومكانتها بما ألفوه وترجموه ووضعوه في مختلف المواضيع ولكن حينما نقل التعليم في الكلية من العربية إلى الإنجليزية نضب ذلك المعين الكبير .
ونستنتج مما ذكر أن اللغة العربية - كلغة- خسرت خسارة كبيرة لا تعوض بسبب استبدال لغة التعليم في المدرسة الكلية وجعلها الإنجليزية بدلاً من العربية، وهذا أمر بديهي لا يحتاج إلى برهان.(74/12)
ومهما قيل لتبرير نقل التعليم من العربية إلى الإنجليزية بحجة أن الإنجليزية أوفر كتبًا وأوسع بحثًا وأن العربية لا تتسع للبحث في العلوم العصرية وتعريب الأسماء والألفاظ والاصطلاحات العلمية الحديثة والتأليف، فهذا تعليل لا سبب حقيقي جوهري - وما أبعد الفرق بين السبب والتعليل - ولإثبات ذلك أقول: إن اللغة العربية اتسعت قديمًا للترجمة والتأليف حينما أمر الخليفة المأمون بترجمة الكتب العلمية من اليونانية والهندية والفارسية والسريانية وغيرها . وكذلك اتسعت حديًثا للترجمة والتأليف حينما أو فد محمد علي الطلبة المصريين للدرس في أوربا وأمرهم بعد عودتهم بترجمة الكتب العلمية إلى العربية، وحينما فتحت الكلية أبوابها وجعلت التعليم باللغة العربية وصار على المترجمين والمؤلفين الجدد أن يحذوا حذو الفارابي وابن المقفع وابن سينا وابن رشد فيبقوا الكلمات العلمية على وضعها وهي تعدّ بالألوف وعشرات الألوف فتغنى العربية بها، ويسهل على المتعلمين تناولها ، أو أن يفتشوا عن مرادف لها في العربية ويهملوا ما لا يجدون له مرادفًا وما تتعذر ترجمته.
وبهذه المناسبة أحب أن أصرّح برأيي في هذا المقام لأنني عانيت الترجمة والتأليف والتدريس أكثر من نصف قرن فأقول : إن العربية ـ لغتنا الشريفة ـ لغة حيَّة نامية اتسعت في الماضي وتتسع الآن في الحاضر وسوف تتسع في المستقبل للترجمة والتأليف ولا يضيرها قط دخول الأسماء الغربية، فقد دخلها ألوف من الكلمات السريانية، والعبرانية، والمصرية، واليونانية، وغيرها ولم تزدها إلا غنى وستدخلها ألوف أخرى ولا تزيدها إلا غنى ولها أسوة بالإنجليزية والفرنسية والألمانية . والكلمات تتنازع البقاء مثل الأحياء ولا يمكث منها إلا كل ما هو صالح ونافع ومفيد . فعلينا ألاّ نكون عثرة في سبيل
هذا النمو الطبيعي المبارك .(74/13)
"أول ثورة مدرسيَّة في العالم العربي" منصور جرداق،مجلة أوراق لبنانية[ ج12، السنة الثانية،1956م ص 569ـ 574]
التعليم بالعربية والإفرنجية
(1893م)
بقلم مُنشئا المقتطف
(يعقوب صروف وفارس نمر )
إن تعليم العلوم الطبيعية والرياضية بلغة أجنبية له مزايا خاصة بهِ تميزهُ من وجوهٍ شتى. وذلك أن هذه العلوم متقدمة نامية واشتغال الأجانب بها جارٍ على ساق وقدم فلا يكاد يمضي شهر إلاّ وتكشف فيهِ أمور كثيرة غير معلومة ، ويغير كثير من المعلوم أو يعدَّل تعديلاً يجعل ما يؤلف هذا العام في علم يعد قديمًا يكاد لا يعول عليه بعد بضعة عشر عامًا . ولذلك ترى أن من أراد ابتياع كتاب في علم من هذه العلوم فأول ما يسأل عنهُ تاريخ طبع الكتاب ليعلم زمان تأليفهِ . وهذا عامٌّ في تلك العلوم كلها ولكنهُ متفاوت كما هو معلوم عند أربابهِ . ولما كان المؤلفون الأوربيون والأمريكيون مجارين للمشتغلين في هذه العلوم كانت كتبهم المدرسية أصلح للتدريس من كتب غيرهم. ولذلك يجد الإنسان في اللغات الأجنبية أصلح الكتب لتدريس التلامذة وتوسيع عقولهم مما يتعذَّر وجودهُ بالعربية في أحوالنا الحاضرة، غير أن للمسألة وجهًا آخر لا تروج مصلحة البلاد إلاّ بالنظر إليهِ . فلغة الأمة بأسرها هي اللغة العربيَّة. وترقية الأمة علمًا وعقلاً إنما تكون بالواسطة التي تتفاهم بها، وذلك يقتضي أن يكون فيها الأساتذة والمعلمون والمؤلفون والمصنفون، وكلهم يبثون معارفهم في أمتهم بلغتها . وإلاّ اقتصرت الفائدة على الذين يحصلون العلوم فلا تتعدّاهم إلى سواهم . والاختبار يشهد أن من يتعلَّم علمًا بلغةٍ لا يتكلف الكتابة فيهِ بلغةٍ أخرى إلاّ إذا اضطر إلى ذلك اضطرارًا أو إذا كان لهُ مطمع آخر .(74/14)
فإذا كانت مدارسنا لا تدرِّس العلوم الطبيعية والرياضية إلاَّ بلغة أجنبية، وكان الدارسون منا لتلك العلوم يجهلون اصطلاحاتها العربية ويستصعبون التعبير عنها بلغتهم العربية، فلا يبقى أملٌ في التأليف والاشتغال بها، ولا تستفيد الأمة
شيئًا من المعارف التي حصَّلوها،ولا تكون المدارس الحاضرة أساسًا يبنى عليهِ مستقبل الأمة، ولا يكون لتلك العلوم حظ من الانتشار في هذه الديار ، ولا يكون للأمة كلمة حظ من الاشتغال في ترقيتها على توالي الأعصار .
وهذا الذي نقولهُ مؤيد بالمشاهدة والاختبار؛ فقد أو شكت المؤلفات العلمية أن تنتفي من الديار الشرقية بعد استبدال اللغات الأجنبية في تعليم العلوم باللغة العربية . ولنا في ذلك كلام طويل لا تستوفيه هذه العجالة.فحسبنا ما تقدم دليلاً على وجوب تعليم العلوم في المدارس الأميرية بلغة الأمة لا بلغة غريبة عنها ، وذلك ليس إنكارًا للنفع العاجل الذي ينتفعهُ الطلاب من التعلُّم باللغة الأجنبية وإنما هو اعتماد على أن النفع العميم الآجل خير من النفع المحصور العاجل .
[ المقتطف ج17( 1893 ) ص673- 675 ]
التدريب على التعريب
( 1903 م)
بقلم الأب أنستاس ماري الكرملي
لقد أصبحنا في زمان ضاق دونه نطاق اللغة العربية . وغدا أبناؤها في حاجة ماسّة إلى إدخال المصطلحات الأعجمية في مصطلحاتها العلمية والصناعيّة؛ إذ ليس اليوم من كاتب يكتب عن شيء عصريّ، أو ينتدب لتأدية رسم فكري، أو تصوير أمر فطري ، إلاّ ويتخذ لذلك قوالب غريبة ، وصورًا ألوانها جديدة قشيبة. وهذا ما تشهد به الصحف التي تجوب الأقطار ، والكتب العربية التي تؤلف في جميع الديار . وإن كان الجميع يشعر بهذا الخلل في اللسان ، ووجوب إدخال الأعجمي فيه على تراخي الزمان ، فإنهم لم يتفقوا في الكم والكيف لما يتصوّره كل حزب من وراء ذلك على اللغة من الحيف.(74/15)
أمّا من جهة " الكم " فإن البعض منهم " أفرطوا" في استعمال الدخيل أيّ إفراط، حتى أثار في كثيرين الهياط والمياط ، واشتد فيهم الصخب والعياط، ومنهم من " فرّط" (1) أيّ تفريط، حتى عُدّ ممن ليس من هذا العصر الجديد النشيط، بل ممّن إذا قيل له تمم يقول "حتى يجيء نشيط "، ومنهم من ركب متنًا " وسطًا" جامعًا بين الطرفين ، يأخذ الزين ، ممّا في الاثنين ، ويدفع الشَّين إلى مطارح البَيْن والحَيْن . وهذا الرأي يكاد يكون الرأي الغالب في هذه الأيّام ، وعليه يعول العلماء الأعلام . أما من جهة " الكيف " فإن منهم من ذهب إلى وجوب إدخال اللفظة الأعجمية بهيئتها وصيغتها الأجنبية .ومنهم من قال بأن تُفرغ الكلمة أولاً بقالب عربي ، ثم توزن بميزانٍ قُرشي . فإن كان فيها ما يثقِلُ الميزان، أو يُوقِر الآذان ، طرحت تلك الزيادة، وإن أضرّت بالفائدة أو الإفادة،ثم يسجل مكانها ، ويُزَلّم صوغها وبنيانها ، وبعدئذٍ تبرز الفرائد من وراء ذلك القناع، لترصَّع بها أصداف الأسماع، وإن كان فيها ثلم أو نقصان ، يُزاد عليها بعض الزيدان ، لتلحق بأحد الأوزان العربية، والصيغ المسموعة عن أئمة اللغة المُضَريّة .وأمّا على أيّ وجهٍ تكون هذه
الزيادة أو هذا الطرح ،فممّا يطول فيه الشرح؛ لأنهم تركوه إلى الأهواء والأذواق، أو ما انعقد تحت هذا الباب أو هذا النوع من الرواق .(74/16)
ومنهم من قال لا حاجة لنا إلى إدخال كلم أعجمية في اللغة العربية ، بل يوضع فيها ما يغني معناها ، فيغني مَغناها ، وذلك على الطريقة التي دخلت بها الكلمة العصريّة في اللغة الأجنبية . وفي كل هذه المذاهب من الآراء ما أثار بين أصحابها حربًا سجالاً ، واستلزم لشرحها مقالات طوالاً . وبعد أن أجلنا النظر في ما كتب هؤلاء الأدباء ، ووقفنا على ما عثرنا عليه في كتب القدماء النجباء الألبّاء، لخّصنا هذه المقالة . لعّلها تكون للعاثر إقالة ، وللجائع عُجالة ، هذا وقد اعتمدنا في كلّ ما حرّرناهُ على أقوال الأئمة ، مؤيدين كل رأي بماله من الأسانيد المهمة ، مستخلصين من نصوصهم بعض قواعد ظواهر، تكاد تزري بالفرائد النوادر ، لا بل بالخرائد النواضر .
1-دفع رأي مَنْ يُفرِط في إدخال الألفاظ
الأعجمية في اللغة العربية:(74/17)
إذا أنعمت النظر في ما يكتبه هؤلاء الأدباء ترى ألفاظهم الأعجمية لا تخلو من أحد هذه الأمور الثلاثة، وهي : كلم دخيلة لا مرادفات لها في العربيّة. وكلم لها مرادفات فيها ولكنهم يجهلونها، وكلم يمكن أن يوضع لها مرادفات من نفس اللغة . غير أن هؤلاء الكتبة لا يلتفتون إلى هذه الفروق، بل كثيرًا ما نراهم يدوّنون الألفاظ الأجنبية شغفًا بها وتشيُّعًا لأصحابها، وافتخارًا بإدخال ألفاظ غريبة لا يفهمها جمهور القرّاء تبجُّحًا بالتبحُّر في العلم والمعرفة، وادعاء بهتك حجب المجهولات . هذا وإنّنا نعترض عليهم بقولنا: إذا كنتم تُدخلون الكلمة الفلانية الأعجمية بدون علّة أو بعلة وهمّية، فِلِمَ لا تدخلون الكلمة الثانية والثالثة والرابعة بل اللغة بحذافيرها ؟ وإذا كان الهوى و الحكم في هذه الدعوى فسدت كل حجّة ؛ لأنه ليس من قائد يقود الهوى ولا من رادع يردعه . وهوى هذا غير هو ذاك، وما يرحب به زيدٌ يدفعة عمرو ، وعليه فما تلبث اللغة أن تصبح ألعوبة بيد هؤلاء الأقوام المتباينين في المشارب والمذاهب، ولا تعتم أن تنقلب طمطمانية أو رُطينَى أو لغة مبلبلة لا يفهم فيها الواحد لغة الآخر .(74/18)
ويعترضون : إن العرب لمّا نقلوا كتب الأعاجم إلى لغتهم أدخلوا كثيرًا من الألفاظ العلمية والاصطلاحية من لغات الأجانب، فلماذا يجب علينا أن نكون أغيرَ على العربية من أصحابها الأولين عليها ؟ قلنا: إن ناقلي كتب الأقدمين فريقان: فريق عارف بالعربية وطرقها وأساليبها وشعابها ، … إلخ ، وفريق لا يعرف منها إلاّ قواعدها العامّة الكافية لإصلاح كلامه وتخليصه من شوائب الخطأ والخطل. فالطائفة الأولى لم تُدخل في العربية إلاّ الشيء النزر الذي لا مندوحة عنه، ومن هذا الفريق مترجمو كتب الحساب، والهندسة، والفلسفة، والمنطق، وعلم الفلك، وعلم ما وراء الطبيعة،والتوراة،وعلم الآداب، والأخلاق ونحوها . فإنك لا تكاد ترى في جميع هذه العلوم إلاّ القليل من الدخيل ، وأمّا الفريق الآخر فلا يكاد يكلّف نفسهُ عناء في إيجاد الألفاظ العربية المقابلة للأعجمية؛ ولذا اجتزؤوا بتدوين الألفاظ على ما هي في أصلها. ومن هؤلاء المعريين مترجمو علم الطب، وعلم الطبيعيات، وعلم المواليد أي الجماد والنبات والحيوان، وما كان من هذا الباب .إلاّ أنه لمّا وقعت تلك الترجمات بعد ذلك في أيدي الفصحاء من العرب؛ طرحت كثيرًا من الألفاظ الدخيلة وأبقت منها ما شاع وذاع وخفّ على الأسماع، إذ لم يعد سبيل إلى إماتتها كما يتحققه كل امرئ خال من الغرض .
والخلاصة من هذا الفصل أنه لا يجوز لنا أن نرحب بكل غريب، ونضيف كل دخيل، إن لم يكن ثمّ مالا يغنينا عنه أو ضرورة تلجئنا إليه . وعليه فلا يحُسن بنا أن نجاري الكتبة المعجمين في كل ما يكتبونه أو ينقلونه لنا بل علينا أن نتخذ من الألفاظ الأعجمية ما يفي بالمقصود أو يصلح المفسود .
2- دفع رأي مَن يفرِّط في إدخال الألفاظ الأعجمية في العربية :(74/19)
بين كتبة العربيّة في هذا العصر جماعة لا يقبل أصحابها بل ولا يريدون أن يسمحوا لكلمة أعجميّة أن تدخل لغتهم . غير أن معظم هؤلاء الأفاضل أناس لا خبرة لهم باللغات الأجنبية، أو إن أردت فقل ليس لهم خبرة تامّة، أو ليس لهم وقوف على ما يستحدثهُ كل يوم علماء البلاد الأجنبيّة، وما يخترعونهُ من الآلات والأدوات الصناعيّة، وما يستنبطونه من مجهولات الطبيعة وأسرارها الخفية ، وما ينشئونه من المصنّفات العلميّة المشحونة من المعاني الدقيقة، والأفكار الأنيقة والتصاوير البديعة، والأوصاف العجيبة التي لم تعنّ على بال السابقين ولم يطفُ طَيْفها في مَطاف مخيّلة الأوّلين. وقول البعض: إن الكلمات الدخيلة تبلغ نحو مئة كلمة هو من المزاعم الصبيانيَّة تفندها الحقيقة في كل زمن إذا ما أحبّ الباحث الصادق النيّة الوقوف عليها بخلوص الطويّة .
هذا ولنا أسوة بسائر الأمم ولغويها وكتبتها ومصنِّفيها،فإنهم لا يدخلون كلمة غريبة في لسانهم إلاّ إذا أرادوا أن يعبروا بها عن صورة معنويّة جديدة، أو يتوخّوا فائدة من اللفظ أو غاية ،لا يصلون إليها إذا اتخذوا ألفاظ لغتهم سبيلاً إلى ذلك، أو إذا لم يجدوا لها مرادفًا في لغتهم ، أو إذا كانت اللفظة في لسانهم تقصر عن تأدية المطلوب من الكلمة الدخيلة . وعليه فمجاراتنا إياهم في هذا الميدان ، مما يحمده كل إنسان، وينطق بالثناء عليه كل لسان.(74/20)
وبدون أن نأتسي بالأجانب فلنقتفِ آثار من تقدّمنا من العرب وكتّابها الضلعاء، فلقد رأيناهم لا يأنفون من اتخاذ الألفاظ الأعجميّة كلّما دعت الضرورة إليها . ولنا من الأعجمي الذي سبق ظهور الإسلام ودخل في إبان انتشاره أو بعدهُ بقليل أو كثير، ما يضمن لنا جواز الأخذ من الأعاجم كلّما مسّت إليه الحاجة، أو قصرت اللغة عن تأديته، أو وضع مرادف لهُ .ورُبّ معترض يقول : إن الأخذ عن الأعاجم إهانة في حق اللغة العربيّة الواسعة كأنّها ترميها بشائبة النقص ، قلنا : لا إهانة في ذلك ولا منقصة؛ لأن هذا يكون إذا كانت اللغة قاصرة عن تأدية الأمور العاديّة أو الطبيعية أو الحاجيّة أو ما شابهها. وأمَّا ما في عدا ذلك فلا .
[ المشرق ج 6(1903)ص644-649]
شكوى اللغة العربية
(1903م)
بقلم حافظ إبراهيم
رجعتُ لنفسي فاتّهمتُ حصاتي
... وناديتُ قومي فاحتسبتُ حياتي
رمَوني بعُقم في الشباب وليتني
... عقمتُ فلم أجزع لقول عداتي
ولدْتُ ولمَّا لم أجد لعرائسي
... رجالاً وأكفاء وأدتُ بناتي
وسِعتُ كتابَ الله لفظًا وغايةً
... وما ضِقتُ عن آيٍ بهِ وعِظاتِ
فكيف أضيق اليومَ عن وصف آلةٍ
... وتنسيق أسماءٍ لمُخترعاتِ
أنا البحر في أحشائِهِ الدُّر كامنٌ
فهل ساءَلوا الغوَّاصَ عن صدفاتي
فيا ويحَكُم أبلى وتَبْلى مَحاسني
ومنكم وإن عزَّ الدواءُ أُساتي
فلا تكلِوني للزمان فإنني
أخاف عليكم أن تحين وفاتي
أرى لرجِال الغرب عِزًّا ومَنْعةً
وكم عَزَّ أقوامٌ بعِز لُغاتِ
أتوا أهلهم بالمعجزات تَفنُّنًا
فيا ليتكُم تأتون بالكلمات
أيُطرِبُكُم من جانب الغَرب ناعبٌ
يُنادي بوأدي في ربيع حياتي
ولو تزجُرون الطير يومًا علمتمُ
بما تحتهُ من عَثرة وشَتاتِ
سَقى الله في أرض الجزيرة أعظُمًا
يعِزُّ عليها أن تلين قناتي
حفِظْنَ وِدادي في البلى وحفظتهُ
لهنَّ بقلب دائم الحسراتِ
وفاخرتُ أهل الغرب، والشرقُ مطرقٌ
حياءً بتلك الأعظُم النخرات
أرى كلَّ يوم في الجرائد مزلقًا(74/21)
من القبر يُدنيني بغير أَناة
وأسمعُ للكتّاب في مصرَ ضَجَّةً
فأعلم أن الصائحين نعاتي
أيهجُرني قومي عفا الله عنهُم
إلى لُغة لم تتَّصل برُواةِ
سرتْ لوثةُ الإفرنْج فيها كما سرى
لُعاب الأفاعي في مَسيل فراتِ
فجاءت كثَوبٍ ضمَّ سبعين رُقعة
مُشكّلة الألوان مختلفاتِ
إلى مَعشر الكتّاب والجَمْعُ حافلٌ
بسطتُ رجائي بعد بَسط شَكاتي
فإمّا حياةٌ تبَعث المَيتَ في البِلى
وتُنبت في تلك الرُّموس رُفاتي
وإما مَماتٌ لا قيامة بعدهُ
ممات لَعَمري لم يُقَسْ بَممات
[ المقتطف ج28(يوليو1903)ص552]
التعريب (1908م)
بحث نادي دار العلوم في القاهرة برئاسة القاضي الفاضل حفني بك ناصف في مسألة التعريب أي نقل الكلمات الأعجميَّة كالتلغراف والتليفون إلى اللغة العربية وذلك في ثلاث جلسات . ففي الجلسة الأولى تلا اثنان من أعضائهِ خطبتين مسهبتين، الأولى تجيز التعريب الآن بل توجبه وتبيِّن شرائطه، وقد نشرناها في هذا الجزء من المقتطف ، والثانية لا تجيزهُ الآن بل تقيم الأدلة على أن زمانهُ قد مضى ، وما جاز للعرب في زمن تكوُّن اللغة العربيَّة والتوسُّع فيها لا يجوز لنا الآن . وفي الجلسة الثانية تناظر الخطيبان في هذا الموضوع وشاركهم بعض الأعضاء والحضور.
وفي الجلسة الثالثة تُلِيَت خطب نفيسة في هذا الموضوع نفسه، نشرناها في المقطم ، وأكثر الخطباء أكّدوا على وجوب التعريب إذا دعت الحال إلى ذلك. وبعد بحث طويل دام أربع ساعات وافق الأعضاء على القرار التالي وهو :
" بعد سماع ما قالهُ جميع الخُطباء في موضوع تسمية المسميات الحديثة قرر نادي دار العلوم أن يكون العمل على النحو الآتي : ـ يُبحث في اللغة العربيَّة عن أسماء للمسميات الحديثة بأي طريق من الطرق الجائزة لغة ، فإذا لم يتيسَّر ذلك بعد البحث الشديد يُستعار اللفظ الأعجمي بعد صقله ووضعه على مناهج اللغة العربية، ويستعمل في اللغة الفصحى بعد أن يعتمده المجمع اللغوي الذي سيؤلف لهذا الغرض " .(74/22)
[المقتطف ج33(مارس1908)ص267]
أسلوبنا في التعريب
(1908م)
بقلم منشئا المقتطف
(يعقوب صروف وفارس نمر )
سئلنا عن الأسلوب الذي نجري عليهِ في
التعريب أي في ترجمة الكلمات الأعجمية
أو نقلها إلى العربيَّة .وكان يجدر بالسائل أن يتوسع في السؤال حتى يشمل التعبير عن بعض المعاني التي لم تخطر على بال العرب؛ فإن تعريبها أو التعبير عنها بالعربيَّة لا يخلو من مشقة، قد تزيد على مشقة نقل الألفاظ أو ترجمتها . ويسهل إرجاع الأساليب التى جرينا عليها في الترجمة والتعريب إلى القواعد التالية .
القاعدة الأولى: الكلمات الأعجمية التي نعرف لها كلمات عربيَّة ترادفها نترجمها بمرادفاتها . ونريد بالكلمات الأعجمية الكلمات التي من اللغات الأوربية ونقصد بالكلمات العربية كل ما رأيناهُ في كتب اللغة والأدب جاريًا على الأوزان العربيَّة ، ولو كان أصلهُ يونانيَّا كقلم أو فارسيًّا كإبريق، أو سريانيَّا كقيس، أو قبطيَّا كسلطان، أو حبشيًّا كمشكاة،وكل ما كان كذلك ولم يكن جاريًا على الأوزان العربية كسالامندرا وجندبيدستر وقنطاريون .
ولهذه القاعدة شواذ قليلة فلا شواذ في الأفعال أي إننا لا نستعمل فعلاً أعجميًّا
إذا وجدنا له فعلاً عربيًّا .(74/23)
ولا شواذ في الحروف إلاّ في "ده" الفرنسوية و"أوف" الإنجليزية و"فون" الألمانية في مثل لورنزو ده مديسي،وبرنس أوف ويلس، وفون كريمر ، فإن هذه الثلاثة ، حروف إضافة أو نسبة، ويُستغنى في العربية عنها . ولكن شيوعها في ما ترد فيهِ من الأسماء المركبة يجعل الاستغناء عنها عثرة في سبيل إدراك المعنى بسهولة. فالذي يقرأ كلمة برنس أوف ويلس يدرك حالاً أنهُ لقب ولي عهد إنجلترا ولكنه إذا قرأ برنس ويلس،أو أمير ويلس، فقد يظن أن المراد بذلك شخص آخر غير ولي العهد . وأما الأسماءُ ففيها كثير من الشواذ حيث شاعت الكلمة الأعجميَّة وصارت أدل على المراد من الكلمة العربية مثل كلمة برنس المذكورة آنفًا . فإنهُ يُفضل استعمالها في بعض الأماكن على استعمال كلمة أمير، فلوقلنا أمير أوف ويلس أو أمير ويلس بدلاً من برنس أوف ويلس، لظن القارئ أو السامع أننا نريد شخصًا آخر غير ولي عهد إنجلترا . وقد تدلُّ القرينة على المراد ولا يُكتفَي بها لأنه يشترط في حسن التعبير أن يؤدى المعنى المراد إلى ذِهن السامع بأقل ما يكون من الوقت والكلفة والإسراف في القوة العصبيَّة. وقد كان علماءُ العرب المبرّزون مثل: ابن الأثير، وابن سينا، وابن البيطار يجرون هذا المجرى أيضًا، فقد كانوا يستعملون الكلمة الأعجمية التي ألفتها الأسماع، وصارت أدل من الكلمة العربيَّة على المعنى المراد . ولكن إذا أمن اللبس وأمن أيضًا تشويش ذهن القارئ أو السامع، فضلنا اللفظ العربى على اللفظ الأعجمي، فنقول: الأمراءُ أعضاءُ العائلة الخديوية، ولا نقول برنسات العائلة الخديوية. ونقول أمراء أوربا، ولا نقول برنسات أوربا .(74/24)
ومن هذا القبيل ( أي من قبيل الكلمات الأعجميَّة التى نفضل استعمالها أحيانًا على استعمال الكلمات العربية أو المعرَّبة قديمًا)، كلمة ( داءِ المفاصل ) فإننا قد نستعمل كلمة روماتزم بدلاً منها. وكلمة ( توتيا ) فإننا قد نستعمل كلمة ( زنك ) بدلاً منها . وكلمة ( نشادر ) فإننا قد نستعمل كلمة (أمونيا ) بدلاً منها مراعين فى ذلك كلهِ مقامات الكلام من التخصيص والتعميم، وما نتوقعهُ من فهم السامع أو القارئ. مثال ذلك: أنك تجد في الأخبار العلمية في الجزء الماضي كلمة ( روماتزم ) بدلاً من داء المفاصل ، لأن المفهوم من داء المفاصل أنه يقع في مفاصل اليدين أو الرجلين، وقلّما يخطر على بال غير الأطباء أنه يصيب الظهر ، فلما رأينا أن الشفاءَ المُشار إليه في تلك النّبذة كان في الظهر اخترنا كلمة روماتزم، وقد صارت مألوفة عند الجمهور ، وذكرها لا يشوّش ذهن القارئ مثل ذكر كلمة ( داء المفاصل ) وإطلاقها على داءٍ في الظهر ، إذ المراد تأدية المعنى المطلوب إلى ذهن السامع من أقرب الطرق، وبأقل ما يكون من الكلفة فالمقام لا يسمح بأن يظهر الكاتب سعة علمه بألفاظ اللغة .(74/25)
القاعدة الثانية :الكلمة التي لا نعرف لها مرادفًا في العربية، ولكننا نرجح أو نظن أن لها فيها مرادفًا، نفتش في ما عندنا من المظان ونسأل عنهُ ونبحث ، حتى إذا ظفرنا به ووجدنا أنه يؤدي المعنى المراد تمامًا استعملناهُ دون غيره من ذلك كلمة (mercenaries ) فإن معناها الجنود المستأجرة من بلاد أخرى، على ما كانت العادة تجرى به في الأزمنة القديمة فلما أردنا تعريب هذه الكلمة، قلنا لابدَّ من أن يكون العرب استعملوا كلمة تدلُّ على هذا المعنى . فوجدنا فى بعض المظان كلمة (مسترزقة) مستعملة للجنود المستأجرين. ومعناها الاشتقاقي يدل على معناها الاستعاري فاعتمدناها . ومنه كلمة ( tributary ) أي النهر الصغير الذي يصبُّ في النهر الكبير ، فإننا وجدنا لها في كتب الرحلات القديمة كلمة ناصر، والجمع نواصر . ورأينا أنه يسهل إدراك المراد بها من معناها الاشتقاقي، فعوَّلنا عليها، وهلمَّ جرًّا .(74/26)
وإذا وجدنا أن اللفظ الأعجمي أو العامي الذي ليس عربيًّا كثير الشيوع، واستعمال غيره يضيع الفائدة على القراءِ اضطررنا أن نعدل عن اللفظ العربي أو اللافصيح إلى اللفظ الأعجمي أو العامي، مثالُ ذلك: أننا وجدنا كلمة تقاوي مستعملة في هذا القطر بدلاً من كلمة بذار. وكلمة السباخ البلدي مستعملة بدلاً من كلمة زبل . وكلمة كوبري مستعملة بدلاً من كلمة جسر. وكلمة طمي بدلاً من كلمة إبليز . وكلمة بوسطة بدلاً من كلمة بريد . فحاولنا في أول الأمر التشبث بالكلمات العربية مثل بذار وجسر أو المعرَّبة مند عهد طويل، مثل: بريد، ولكننا رأينا أن تشبثنا هذا يضيع الفائدة على جمهور القراء . فإن الفلاح المصري لا يستعمل إلاّ كلمة تقاوي ولا يفهم إلاّ كلمة تقاوي ولا يستعمل إلاّ كلمة كوبري ولا يفهم من كلمة جسر إلاّ حافة مجرى الماء. وإذا أسمعته كلمة بذار مرة في الأسبوع أو في الشهر سمع كلمة تقاوي مئة مرة أو ألف مرة . فرأينا أن محاولة تغيير لغة العامة في هذه الكلمات وأمثالها ضرب من العبث، وإضاعة للوقت، وتضييع للفائدة ، فجاريناهم في ما نكتبه لهم، أمَّا ما نكتبهُ لأنفسنا أي إذا خطر لنا خاطر وأردنا التعبير عنهُ نظمًا أو نثرًا، فإننا نعود إلى بذار وبريد، وجسر وإبليز . وأكثر الذين لا يراعون فهم الجمهور يكتبون لأنفسهم لا للجمهور .
القاعدة الثالثة : الأعلام الأعجمية التي رأيناها شائعة الاستعمال كتبناها حسب استعمالها سواءٌ كان قديمًا، مثل: إبراهيم ويوسف، أو حديثًا مثل: ألمانيا وأمريكا وفرنسا ووليم وهنري . والأعلام الأعجمية التي لم يكن استعمالها شائعًا كتبناها كما يلفظها أهلها أو بأقرب ما يكون من لفظها الأصلي مثل بيكنسفيلد وكرومر وهارفي وروزفلت .(74/27)
والأعلام التي عُرّبت منذ زمن قديم بلفظ مخالف لما تلفظ بهِ الآن عند أهلها، مثل: البندقية لفينيسيا، وصقلية لسيسيليا، فهذه الأعلام نتابع الأقدمين فيها عند أمن اللبس ، ولا سيما إذا كان الكلام عن حادثة تاريخية قديمة . فإذا ذكرنا حروب الأتراك مع أهل فينيسيا ، قلنا مع البنادقة. ولكن إذا أردنا أن نشير على زارع أو صانع أن يجلب مادة ما لزراعته أو صناعته من البندقية ، لم نذكرها بهذه اللفظة بل عدنا إلى كلمة فنيس أو فينيسا ، حتى إذا طلب البضاعة من تاجر أو عميل أوربي لم يخطئُ هذا مرادهُ .
والأعلام التي أخذها الإفرنج عن العرب وحرفوها،مثل:القاهرة، وقرطبة، وإشبيلية، نكتبها حسب أصلها العربي إذا عرفناهُ
وأمن اللبس .
القاعدة الرابعة : في تعريب النكرات الجديدة التي لا مرادف لها في العربي إذا رأينا أن الكتِّاب عربوها قبلنا وشاعت الألفاظ التي وضعوها لها، فالغالب أننا نجاريهم ولا نحاول وضع ألفاظ أخرى لها. ولذلك تابعنا أساتذة المدرسة الكلية السورية في تعريب الأكسجين والهيدروجين والنيتروجين والفسفور وهلمَّ جرًّا . وجاريناهم في مثل مغنط فعلاً من المغنطيس، وكهرب من الكهرباء، وترفن فعلاً يراد بهِ كسر جانب من عظم الجمجمة بعملية جراحية . وجارينا جمهور الناس في استعمال التلغراف والوابور والسيمافو والفرقاطة .(74/28)
وإذا لم نرَ أن الكتّاب سبقونا إلى تعريبها عنينا باستعمال الكلمة التي نقدِّر لها طول البقاء .فلما اخترع التليفون وقرأنا عنه بعد اختراعهِ ببضعة عشر يومًا، عرفنا مزيتهُ حالاً، وثبت لنا أنه سيشيع شيوع التلغراف في كل الأقطار،ويصل إلى بلادنا اسمهُ معهُ ، ولا يهتم التجار الذين يأتون بهِ بكلمة جديدة نضعها لهُ ، حتى فرضنا أننا وجدنا فعلاً عربيًّا معناهُ تكلم الإنسان مع غيره عن بعد واشتققنا منه اسمًا لهذه الآلة، فإن هذا الاسم لا يتغلَّب على اسم تستعمله الأمم المتمدنة كلها . ونرى الآن أننا أحسنّا؛ لأننا لم نخالف أمم العالم في الإغارة على اسم وضعه مخترع هذه الآلة لآلتهِ، وإبدالهِ باسم نضعه نحن لها . وقس على ذلك الفونوغراف والميكروفون والأوتوموبيل .
ولما جاء بعض الأمريكيين إلى بيروت بالبيسكل - وكان يتكون من عجلتين إحداهما كبيرة جدًا، والأخرى صغيرة جًّدا ، وفي ركوبِه مشقة كبيرة - ظننا أنه ليس مما يشيع استعمالهُ، وأن التريسكل ذا العجلات الثلاث يتغلَّب عليهِ ، فلم نستعمل الاسم الإفرنجي بيسكل ولكننا استعملنا كلمة درّاجة، وأطلقناها على الآلتين. والدرّاجة كلمة عربية تؤدي المعنى المراد بسهولة، والإفرنج أنفسهم الذين وضعوا كلمة بيسكل لذات العجلتين والتريسكل لذات العجلات الثلاث يعدلون عن الكلمتين أحيانا كثيرة ويبدلون بهما كلمة سيكل أي عجلة، ولذلك فالسعاة في مصر يسمون هذه الآلة "عجلة " وهم – بهذه التسمية - أحكم منا ومنهم؛ لأنهم يستعملون هذا الاسم.(74/29)
وغنيُّ عن البيان أننا التزمنا أن نجاري العلماء في المصطلحات العلمية التي تفقد دلالتها بتعريبها كالحامض الكبريتوس، والكبريتيك،والمتاكبريتيك،والهيبوكبريتيك، والهيبوكبريتوس؛ لأن لكلٍّ من هذه الملحقات والزوائد معنًى خاصًّا يدلُّ على تركيب المادة المسماة بهِ، كما يعلم دارسو الكيمياء ، فمن يسمي الحامض الكبريتيك بالحامض الكبريتي كمن يسمي الفرس حمارًا لأن لكل منهما رأسًا وذنبًا، والتزمنا أن نجاريهم أيضًا في الأسماء العلميَّة كلها، سواءٌ كانت حيوانية، أو نباتية، أو تشريحيَّة، أي سواءٌ كانت أسماء حيوانات، أو نباتات، أو أعضاء في جسم الإنسان والحيوان والنبات ، جارين في ذلك كلهِ مجرى المسعودي، وابن سينا، وابن البيطار، ونحوهم من الأعلام الذين كتبوا في العلوم الطبيعيَّة على أنواعها . والذين خالفونا في ذلك كان خطؤهم أكثر من صوابهم . مثال ذلك: أن الأطباء كلهم يسمون الشريان الكبير الخارج من القلب باسم الأورطي، وقد سماه ابن سينا كذلك ، وقال: إن أرسطو طاليس يسميهِ بهذا الاسم ، إلاّ أنك ترى في المقالة السابقة أن المرحوم الشيخ إبراهيم اليازجي لم يعجبْهُ هذا الاسم فقال:يجب أن يترجم بالأبهر، ولكن صاحب القاموس يقول: إن الأبهر هو الظهر وعرق فيه ووريد العنق والأكحل . وقال صاحب التاج: إن أجمع الأقوال فيه قول ابن الأثير: إنه عرق منشؤهُ من الرأس، ويمتد إلى القدم.
ويُستنتج من كل ما قرأناه عن وصف هذا العرق أنه وَريد لا شريان ، وإذا ثبت أنه الأكحل، فالأكحل وريد حتمًا -كما نص عليه ابن سينا - وأما الأورطي فشريان، ويليق بكل المترجمين أن يطالعوا قانون ابن سينا ليروا كيف كان علماءُ العرب يترجمون هذا من حيث الألفاظ الأعجمية. أما المعاني فإما أن تكون حقيقة أو مجازًا، وكلٌّ منهما إما أنه مألوف عند العرب وخلفائهم ، وإما أنه غير مألوف ، فهذه أربعة أنواع من المعاني المختلفة :(74/30)
الأول: الحقيقي المألوف مثل ركوب الفرس وشرب الخمر ، فالمعاني التي من هذا القبيل نترجمها يما يدل على معناها فنقول: شرب الشاي وشرب الفسنت وشرب سر الملك أو نخبه، واستخرج الراديوم واستخرج الفنول .
والثاني: الحقيقي غير المألوف نترجمهُ بلفظهِ أو بما يقاربهُ ، كصوَّت لهُ وأطلق المدفع. فإن التصويت في الانتخاب معنى جديد لم يكن معروفًا على الصورة الحاضرة، وكذلك إطلاق المدافع؛ لأن المدافع لم تعرف عند العرب إلاّ في أواخر عهدهم في الأندلس بعد وضع اللغة. وأهالي الشام يقولون: قوَّس المدفع والبندقية، وهذه المقولة مستعارة من شدَّ قوس الوتر لرمي السهم. وقد نستعمل كلمة رمى من الرماية أي رمي السهام، فنقول رماهم بالقنابل أو بالطرابيد .
والثالث:المجازي المألوف مثل:أيقظ الفتنة،
وأمات العواطف، ومزَّق الشمل، ووقف منهُ مزجر الكلب ، فإننا قلما نجد صعوبة في العثور على ما يرادفهُ في العربية.
والرابع: المجازي غير المألوف مثل: لعب دورهُ ، وذر الرماد في العيون ، وبعدي الطوفان. فالاستعارات التي من هذا القبيل نفتش أولاً عمّا يرادفها، أو يقاربها من الاستعارات العربيَّة، فإن لم نجدهُ واستحسنا الاستعارة الإفرنجية لخفَّة لفظها وسهولة إدراك معناها؛أبقيناها على حالها، أي ترجمناها ترجمة حرفية بتصرُّف أو بغير تصرُّف حاسبين أنها ربح تكتسبه اللغة. ويظهر لنا أن كل الذين تقدَّمونا من المترجمين الأولين، مثل: الطوسى، وابن المقفَّع، وابن حنين، جروا هذا المجرى حتى في ما وضعوه في العربية من الكتب والرسائل؛ ولذلك تجد لكلٍّ منهم تعابير خاصَّة بهِ ليست من مناحي العرب .(74/31)
فالحاجة إلى التعريب وأساليب التعريب لا يعرفها ولا يقوم بها إلاّ أصحاب كل فن في فنهم.فالجرَّاح الذي قرن العلم بالعمل، والتعلُّم بالتعليم، يعلم ما تحتاج إليهِ صناعتهُ من التعريب، والصيدلاني الذي قرن العلم بالعمل، والتعلم بالتعليم، يعلم ما تحتاج إليه صناعتهُ من التعريب . وقس
على ذلك الفلكى، والفسيولوجى، والبيولوجى، والجيولوجي، والنباتي، والرياضي، والنوتي، وقائد الجيش، وصانع الآلات والأدوات . وأما أن تقيم نحويَّا، أو منطقيًّا أو مؤرخًا، أو مُنشئًا لوضع كلمات في علم الفلك، وعلم الهندسة، وعلم النبات، وعلم الحيوان، والعلوم الطبيَّة، والطبيعية، والرياضيَّة، فمثل تخويلك قاضيًا تطبيب الأبدان، وطبيبًا تصوير الألوان. نعم إنه لابد من الاستعانة بعلماء اللغة الذين يحفظون متونها ويسهل عليهم استحضار ألفاظها ، ولكن يستحيل الاستغناء بهم عن العلماء المختصِّين أو الذين لهم ألمام واسع بمختلف العلوم والفنون، وقد قرنوا العلم بالعمل زمانًا طويلاً، وخلاصة المقال أننا نبذل جهدنا في اجتناب الكلمات والأساليب التي ليست عربية ، فنفتش عن مرادفاتها، أو نترجمها بما يؤدي معناها إلاّ إذا وجدنا أنها قد شاعت وصارت مفهومة، أو أنها ستشيع حتمًا وتتغلب على غيرها، أو أنها أعلام لا تترجم . ولا نجهل أننا قصرنا مرارًا فاستعملنا ألفاظًا واستعارات غير عربية ولها ألفاظ واستعارات عربية ، ولكننا لم نفعل ذلك عن قصد إلاّ حيث وجدنا غير العربي أصلح من العربي .(74/32)
هذا ومما يحسن ذكرهُ هنا أننا أطلقنا كلمة مكروب على كل الأحياء المكروسكوبيَّة قبل أن يطلقها عليها علماءُ أوربا وأمريكا فكنا نعرّب المقالة من مقالاتهم وفيها كلمة باشلس فنضع بدلاً منها كلمة مكروب ، وفيها كلمة بكتيريا فنترجمها بكلمة مكروب لكي لا نشوش أذهان القراء بذكر ألفاظ غريبة إنما يراد بها تخصيص هذه الأنواع. ثم جعل الكتاب الأوربيون يجرون هذا المجرى أيضا فشاعت كلمة مكروب في كتاباتهم، كما شاعت عندنا ولا ندّعي أنهم فعلوا ذلك اقتداءً بنا كلاّ ، إنما الحاجة إلى الاقتصار على كلمة واحدة دعتهم إلى ذلك كما دعتنا .
واللغة جسم حيٌّ نامٍ، وشأن من يحاول منعها من النمو شأن الصينيين الذين يربطون أقدام بناتهم لكي لا تنمو وتبلغ حدها الطبيعي ، ولكن إذا كان النمو مُشوهًا فلابد من تقييده وتهذيبه. ولا يراد باللغة وأهلها أن تبقى ونبقى كما كانت وكانوا في عصر البحتري والخوارزمي وإلاّ لزمنا ألا نتخذ غير الجَمَل مطيَّة وغير السيف سلاحًا . وهذه خطة لم يجرِ عليها العرب بل نرى بين إنشاء أهل القرن الأول والثاني وإنشاء أهل القرن السادس والسابع نظمًا ونثرًا من الفرق الجلي مالا تجد أكثر منهُ بين إنشاء أهل هذا القرن وتلك القرون،كما يتضح للباحث المحقق . ولو استطاع أحد أن يُحصي كَم دخل العربية من العبرانية، والسريانية، والقبطية، والرومية من الألفاظ والتراكيب حتى قبل انصرام القرن الثالث، لوجد أن العربيَّة كانت حينئذٍ لغة حية نامية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية الآن، وأن الذين يريدون الرجوع بها إلى الصدر الأول، وإقفال أبوابها دون الجديد يعملون على موتها وتضييق سبل المنشئين والمعربين وناشرى لواء العلوم والفنون.
[المقتطف ج33(يوليو 1908م) ص559 - 565 ]
جعل العربية لغة التدريس في البلاد العربية سبيل إلى ترقية اللغة العربية وتعزيزها
( 1923 م)
بقلم الأستاذ أنيس المقدسي من مقال له حول وسائل ترقية اللغة العربية(74/33)
اللغة العربية اليوم تحتاج إلى رجال متضلعين من آدابها وتاريخ رجالها ويعرفون فوق ذلك ما أنتجه الفكر الغربي
من أنواع العلوم والفنون فيختارون الأفضل منها، ويمزجونه بمحاسن ما ظهر في تاريخ العرب العلمي، ثم يبرزونه للناس أفكارًا صحيحة قد ألبسها البحث وحسن النظر ثوبًا لغويًّا جميلاً بعيدًا عن السخافة والركاكة خاليًا من التشدق والتكلف . ولا مشاحة أن للصحافة يدًا في ذلك، فيجب على الحكومة أن تسن القوانين لتمنع بها غير الأكفاء من ولوج بابها كما تفعل بالأطباء والصيادلة ومن جرى مجراهم .
إن جعل العربية لغة التدريس في البلدان العربية هو أمرٌ مهمٌّ جدًّا، وربما كان أهم(74/34)
الوسائل لترقية اللغة ورفعها إلى مستوى اللغة الحية . ولكن هذا مرتبط بحالة البلاد السياسية والعمرانية . وقد ألمحنا إلى ذلك في كلامنا عن ترقية اللغة العربية لتصير لسان قومية قوية. لماذا يهمل أبناؤنا لغتهم ويتهافتون على اللغات الأجنبية ؟ سؤال لابد من النظر فيه هنا . والجواب عليه ـ لحاجتين سياسية واقتصادية. فالسياسية أن البلدان العربية اليوم تحت سيطرة الأجنبي، وذلك يقتضي نفوذ لغته وامتصاصها حياة اللغة الوطنية كما هو مشاهدٌ في كل مكان . والاقتصادية أن أكثر الأموال التي توظف في البلدان العربية راجعة إلى شركات أجنبية ، وذلك كافٍ لتقوية النفوذ اللغوي الأجنبي فيها . ناهيك بأن المهاجَرة وحدها تقتضي أن يكون للغات الأجانب تأثير عظيم جدًّا . فلا وسيلة إذن لتقوية اللغة العربية في أحوال كهذه، إلا أن تدعمها الأحزاب الوطنية التى ترمي إلى الاستقلال، وأن تحمل الحكومات المسيطرة على البلدان العربية على احترام لغة البلاد بجعلها وحدها اللغة الرسمية ولغة التدريس في المدارس الابتدائية والعالية ، فتتقوى وينشأ فيها روح التأليف والتنقيب العلمي ويكثر المصنفون في اللغة العربية ، ويألف أبناء العربية مع الزمان الصور العلمية والاصطلاحات الفنية بلغتهم ، فيجرى الاشتقاق والتعريب والوضع مجرى طبيعيًا، وتصبح اللغة بيسير من الزمن لغة صالحة للعلم والحضارة الحديثة. وليس ذلك بمستحيل أو بعيد، إذا أرادت ذلك الشعوب العربية ، ولابد من دعوة عامة منظمة يقوم بها حزب وطني منظم تكون غايته إحياء اللغة العربية وتعميم نشرها . ويجب أن تبدأ هذه الحركة في مصر وسوريا؛ لأنهما منبع الحركات العلمية، وتأثير الأجانب فيهما أكثر من تأثيرهم في سواهما، ومتى تم للبلاد ذلك فعندئذ يكفي أن يتعلم أبناؤها اللغات الأجنبية كما يتعلمون اليوم اللغة العربية في المعاهد الأجنبية .
[الهلال ج 32(1923م)ص245-252]
تدريس العلوم بالعربية
في الجامعة الأمريكية(74/35)
(1923م)
بقلم سليمان أبي عز الدين
إن الاعتماد على لغة البلاد في تلقين العلوم لكل أمة لها وحدة جنسية ولغة صالحة للتعليم؛ أمر طبيعي وقاعدة عامة . فتلقينا العلوم بلغة أجنبية فيه شذوذ عن هذه القاعدة لا مبرر لهُ، بل هو مضر بنا علميًّا ومضعف للغتنا وقوميتنا .
فالعلم أسهل تناولاً على الطالب وأرسخ في ذهنهِ إذا درسهُ بلغتهِ التي رضعها مع اللبن مما لو درسهُ بلغةٍ أجنبية . تفوُّق الكثيرين من مُتخرجي الجامعة في عهدها الأول عهد التدريس باللغة العربية يؤيِّد ذلك .
أما العدول عن التدريس بلغتنا؛ فإنه يضيق نطاق التأليف بها،كما أنهُ يحول دون اقتباسها كثيرًا من الاصطلاحات العلمية والفنية التي تساعد على نموها ؛ فبالاقتباس نمت جميع اللغات الحية ، واللغة العربية نالت قسطًا وافرًا من ذلك في أثناء الفتح الإسلامي، وفي أثناء امتزاج الأمة العربية بغيرها من الأمم ، وعندما نُقلت إليها علوم اليونان وغيرها في عهد العباسيين .
أما الضرر القومي من التعليم بلغة أجنبية فظاهرٌ كل الظهور في جميع أنحاء سوريا حيث ترى القوم مختلفي المشارب والنزعات وقد تضعضعت أركان قوميتهم الأصلية دون أن يكتسبوا قومية الأمة التي تلقوا العلوم بلغتها . وهذا من أهم أسبابا ضعف مجموعنا رغمًا عما هو مشهور عن قوَّة أفرادنا .
فمنعًا لهذه الأضرار يجب العمل بحزم وثبات عل إعادة التعليم باللغة العربية
وتذليل العقبات التي تحول دون ذلك .
أما المصاعب، التي يقال إنها اعترضت في سبيل التعليم باللغة العربية في ما مضى، فهي :
1-عدم وجود الكتب العربية اللازمة للتدريس .
2-عدم وجود مطولات ومجلات علمية تمكن طلاب العلم من التوسع فيها وتتبُّع سير العلوم في تقدمها المتواصل .
3-افتقار اللغة العربية للاصطلاحات العلمية الحديثة .
4-عدم وجود أساتذة أكفاء يقومون بتدريس العلوم باللغة العربية .(74/36)
وقد قيل أخيرًا بوجود عقبة خامسة وهي: أن التدريس باللغة العربية يحرم كثيرين من الطلبة الأروام والأرمن من تلقي العلوم فى الجامعة .
وفي ما يلى رد تفصيلي على كل اعتراض على حدة :
1-إن وجود كتب التدريس في العربية يتوقف على وجود التدريس بهذه اللغة؛ لأنها إذا وجدت ولم تستعمل للتدريس فإنها لا تصلح لأي غرض آخر، وسيضيع كل ما ينفق عليها من الوقت والمال سدًى .
فقرِّروا التدريس باللغة العربية تنشأ الكتب اللازمة لها . فالمقدرة على التأليف موجودة، ورواج الكتب مكفول؛ لأن نطاق المعارف في بلادنا آخذ في الاتساع، ومدارس دمشق والعراق لغتها العربية ، كما أن الحكومة المصرية قد شرعت في تحويل التدريس إلى اللغة العربية .
2-أما قلة عدد المطولات والمجلات العلمية فناشئٌ عن حصر التعليم بلغات أجنبية، وهذا يجعل أهل العلم أكثر طلبًا للتبحر في العلوم في كتب اللغة التي تلقوا دروسهم بها ، على أنه رغمًا عن هذا فقد أدَّت النهضة العلمية الحديثة إلى تأليف بعض المطولات وإنشاء مجلات علمية وفنية باللغة العربية كالمقتطف، والمجلة الطبية المصرية، والمجلة التجارية، ومجلة المضمار التي تبحث في مواضيع الرياضة الجسدية .
3-إذا صح الزعم أن اللغة العربية مفتقرة إلى الاصطلاحات العلمية الحديثة؛ فهي(74/37)
تستوي في ذلك بغيرها من اللغات، فسائر اللغات الحديثة اقتبست ما افتقرت إليه من اللغات القديمة كاليونانية واللاتينية . واللغة العربية في كل عصر كانت تقتبس من غيرها ، كما أن غيرها اقتبس منها. فإليها نُقلت قبلاً علوم الأقدمين وفنونهم وفلسفتهم ومنها نُقلت إلى اللغات الأوربية ، وبها كان التدريس في جميع الأقطار العربية حينما كانت بضاعة العلم رائجة في العراق وسوريا ومصر والأندلس. وأهم أسباب العدول عن التدريس بها في القطر المصري سياسية لا فنية . وهاهي الحكومة المصرية الحالية تنوي الرجوع إلى التدريس بها ، ودمشق والعراق معتمدتان عليها . فكل ما تقدم يسقط حجة القائلين بعدم صلاحيتها للتعليم لافتقارها إلى الاصطلاحات العلمية .
4- إن وجود عدد غير يسير من الأساتذة الوطنيين في الجامعة الأمريكية،وفي المكتب الطبي الفرنسي في بيروت وفي مدارس الحكومة في دمشق وبغداد؛ من الأمور التي تدحض قول القائلين بعدم كفاية أساتذتنا لتدريس العلوم؛ فالكفاية والكفاءة تتوقفان على الاستعداد الفطري والاقتباس بالدرس والممارسة . ولا أظن أن أحدًا ينكر على السوريين حسن استعدادهم الفطري ولاسيما أنّ أمر الدرس والممارسة ميسرٌ لمن شاءَ، ومدارس أوربا وأمريكا مفتوحة أبوابها لمن طلب التوسع والتخصص . والخطة الحكيمة التي اتخذتها الجامعة الأمريكية بإيفاد أساتذتها إلى جامعات الولايات من الأمور التي تساعد على استيفاء شروط الكفاية . ونحن نسلم بأنه لو كان المطلوب تحويل التعليم من الإنجليزية إلى العربية دفعة واحدة؛ لشعرنا بالافتقار إلى أكفاء لتدريس بعض العلوم ، ولأن غرضنا هو التحويل التدريجي، والشروع فيهِ من الصفوف الابتدائية، ثم التدرج منها إلى الأعلى فالأعلى، سنة فسنة ، ومن ثمّ يتسع الوقت لاستعداد الأساتذة الأمريكيين والشرقيين لتلقين العلوم التي يدرِّسونها بلغة هذه البلاد .
[مجلة الكليَّة ج9(1923)ص117-120]
مستقبل اللغة العربية(74/38)
مرتبط بالمستقبل السياسي والعمراني للمتكلمين بها .
(1920م)
أنطون الجميّل في ردِّه على استفتاء مجلة الهلال حول مستقبل اللغة العربية
المعروف أنه لا قيام للغة إلا بقيام دولة تؤيدها وتناصرها . وعلى قدر ما يكون نفوذ الدولة وبَسطةُ أملاكها ونُمو عمرانها
بين الدول، يكون مقام لغتها بين اللغات؛ هكذا كان شأن اليونانية في عصر أبطال الإغريق ، واللاتينية في عهد قيصر ، والعربية في زمن بني العباس، والفرنسية في عصر لويس الرابع عشر ، والإنجليزية في أيامنا هذه.
[ الهلال ج28(1920)ص585-587]
فما أشبه أمسِ باليوم !
أحمد شفيق الخطيب
عضو المجمع المراسل
من فلسطين(74/39)
التعريب
مفهومه وتجاربه بين ماضي اللغة وحاضرها
والتجربة الفلسطينية *
إعداد
الدكتور يونس عمرو رئيس مجمع اللغة العربية الفلسطيني
عرض وتعليق : الدكتور حسن عبد الرحمن السلوادي
عضو المكتب التنفيذي لمجمع اللغة الفلسطيني
مقدمة :
التعريب، مسألة من أكثر المسائل إلحاحا في موضوعات الدرس اللغوي الحديث والمعاصر في علوم العربية ، ولعل السبب في ذلك أن اللغة العربية في هذه الفترة من حياتها الطويلة، تعرضت إلى تيارات من رياح التأثير الخارجي ، لم يسبق لها أن تعرضت لمثلها من قبل في مراحل حياتها السابقة، فضلا عن تقطع الأوصال بين أوطانها، والاختلاف البيّن بين المرتكزات الثقافية والفكرية، التي راحت تسود في كل وطن على حدة، بفعل أعمال الاستعمار الحديث،التي كان
من أهم أهدافها ، العمل على ضرب اللغة العربية واضمحلالها، طعنها في الإسلام. علمًا بأن التعريب كظاهرة في اللغة العربية،لم يكن جديدًا، بل واكب هذه اللغة منذ القدم وسايرها في العصور المختلفة، سواء عصور الازدهار أم عصور الضعف .
ولأن التعريب مهم في حياة اللغة العربية، سنعمد في هذه الورقة إلى بيان مفهومه ، والتفريق بينه وبين غيره من المصطلحات التي تحمل المفهوم نفسه أو تبتعد عنه ، ثم سنتعرض إلى جانب من تجارب العرب وجهودهم في التعريب في(75/1)
الماضي والحاضر، مع إفراد وقفة لجهود الفلسطينيين في هذا المجال، خاصة وأنهم عاشوا فترة لا يستهان بها تحت الاحتلال الإسرائيلي، كان لها بالغ الأثر على لغتهم العربية وثقافتهم ، من خلال تغلب العبرية لغة إسرائيل ، ثم بيان المخاطر التي تحيق بثقافة الفلسطينيين بعامة ، وبلغتهم العربية بخاصة، إذا ألقي الحبل على الغارب ، وقوبل هذا الأمر بالاستهتار، تلك المخاطر التي تنبه لها الفلسطينيون ، وبذلوا جهودًا مختلفة لمقاومة التأثير الصارخ للعبرية في العربية ، بصورة تكاد تكون مرعبة ، وبخاصة في لغة الخطاب الاجتماعية والحرفية ، وفي أوساط مختلف الفئات العمرية، تلك الجهود التي تكللت بإنشاء مجمع اللغة العربية الفلسطيني، مع إبراز العقبات التي اعترضت إقامة هذا المجمع ، والمشاكل التي مازالت قائمة على الطريقة.
التعريب:(75/2)
لما كانت اللغة ظاهرةً إنسانيةً من خصائص المجتمع البشري،وتخضعُ خضوعًا مطلقًا لتلك الخصائص، والتي من أهمها نظام التبادل العام المادي والفكري ، ذلك النظام الذي أثر تأثيرا مباشرًا في علاقة اللغات الإنسانية،سواء في قطاعات المجتمع الواحد، أم فيما بين المجتمعات المختلفة، ومظاهر التطور الحضاري عبر العصور تقف شواهد على التبادل بين لغات البشر، وآثار ذلك واضحة كل الوضوح ، وبخاصة بعد التقدم المهم الذي جرى في مجالات البحوث اللغوية ، وعلم اللغة في العصر الحديث ، تلك البحوث التي أثبتت أن اللغة السنسكريتية مثلاً – لغة الهنود القدماء المقدسة– مازالت ذات وجود في لغات أوروبية حديثة، كاللغة الإنجليزية أو اللغة الألمانية، بل أثبتت هذه البحوث، أن مجموعة من لغات بلادنا القديمة ، البابلية والآرامية والفينيقية الكنعانية ، والعبرية، والحبشية ، والعربية، ما هي إلا بنات للغة واحدة، هي اللغة السامية، كما ثبت التقارب بين لغات مختلفة جعلها تنظم في عائلات ذات خصائص موحدة،ثبت أيضًا وجود جزء من التأثير التأثر بين لغات لا تنحدر من أصول موحدة .
إن التعصب البشري لنقاء الجنس ، أثر إلى حد ما على التعصب للغة، في تصور لنقائها وأفضليتها عن غيرها من اللغات، وهذا أثبت فشلاً ذريعًا، حين ظهر مع الزمن فقر هذه اللغة،الذي أدى بها إلى الاقتراض من اللغات التي قدر لها الاحتكاك بها ، وبخاصة في مجال المفردات، ذلك الاقتراض الذي عرف بالدخيل، هذا المصطلح الذي توقف عنده العلماء العرب للتعريف به،وهل هو مرادف للمعرب !؟.(75/3)
لقد تنبه علماء العربية القدامى (1) إلى كلامهم بعد أن تحولوا ببنيته الأجنبية إلى البنية التي توافق العربية ، وأخضعوه تماما إلى قواعد الصرف العربي، مثل كلمة (درهم ) اليونانية الأصل ، التي أخضعوها للوزن الصرفي ( فِعْلَلَ )، كما أخضعوها لنواميس الاشتقاق العربي، وهو المنهج الأول، والثاني تمثل في تغيير طفيف في حروف الكلمة المعرّبة ، إلى حروف عربية توافق إمكانات النطق العربي، مثل كلمة (صمويل)، المحورة عن ( شموئيل )، وأما الثالث، فقد أدخله العرب كما هو دون تغيير، مثل كلمة ( بُستان )، وهي نفسها
( بوستان ) الفارسية، وهنا اتفق الباحثون العرب، على أن ما أخذه العرب دون إجراء تغيير على بنيته، إنما هو من الدخيل، وضربوا الأمثلة لذلك (2) .
إن المتتبع لمسألة الدخيل في اللغة ، يجد أنها تعتبر جزءاً من مناهج الاقتراض اللغوي التي لجأ إليها العرب، والتي يمكن لها أن تكون جهداً من جهودهم في التعريب،بمعنى أن التعريب أعم من الدخيل ويشمله،حتى أن القدامى من علماء العربية لم يلتفتوا إلى هذا الفارق بين الدخيل والمعرب، واعتبروا كل ما ليس من أصل عربي، ودخل إلى العربية على أي من المناهج السابقة الذكر، معرّبًا بل إن أحدهم خصَّص كتاباً لهذا المعرّب، لم يفرق فيه بين معرب ودخيل، وهو أبو منصور الجواليقي وكتابه ( المعرب ).
وعليه، فيمكن القول: إن مصطلح التعريب هو الأعم والأشمل، وهو الواجب الاستخدام في الظاهرة اللغوية ، وذلك بناء على عمومية مصطلح المعرّب وشموله لكل
ما دخل إلى العربية وهو أصلاً ليس منها ، سواء دخل بوساطة منهج الاشتقاق أو النحت أو التوليد- لفظياً كان أو معنوياً -زيادة على ما دخل كما هو دون تغيير، واعتبر دخيلاً، وقد عرض أستاذنا الدكتور حسن ظاظا آراء العلماء القدامى عرضاً موفقاً، يبرز مفهوم عدم التفريق بين المصطلحين، بل يؤيد أن كل دخيل معرب (1).(75/4)
وأما عن كيفية استقبال العرب لما هو ليس من كلامهم،فقد كانوا يحدثون تغييراً يتلقون، إذ يبدلون الحروف التي ليست من حروف العربية ، إلى تلك الأقرب في مخرجها، أو يغيرون في حركة الحرف أو يسكنونه ، أو أنهم يلجؤون إلى حذف حرف أو زيادة آخر،فمثلاً ما كان يأتيهم من الحروف بين كاف وجيم، كانوا إما أن يجعلوه كافاً أو جيماً أو يستبدلوه قافاً، مثل كلمة كربج (2)، استخدموها كربج، وقربق. وهكذا فإن الأمثلة كثيرة يمكن
الرجوع إليها في مصادر اللغة (3).
غير أن العرب في بعض الأحوال، استقبلت ما هو معرب دون تغيير وأبقته كما هو في أصل مصدره دون تغيير ، مثل سجنجل الرومية .
جدير بالذكر أن العرب في تعاملهم مع المعرب ، سلكوا مناهج محكمة في استقبالهم له ، فمنه ما غيروه ليتوافق وعاداتهم اللغوية ، ثم ألحقوه بكلامهم كما لو كان عربيًّا فصيحًا ، وقسم آخر غيَّروا فيه، ولكنهم لم يلحقوه من حيث البنية والوزن، فبقي فيه ما يدل على أنه دخيل . والثالث الذي استقبلوه كما هو دون تغيير، والمتتبع لجهود السلف في مجال تتبع الدخيل وضبطه يدرك إلى أي مدى كان القدامى حريصين على إنماء اللغة وإثرائها ضمن القيود التي تحفظها من الجمود أو التخلف أو المسخ والانهيار ، وما دام الأمر كذلك، فقد واصل المحدثون من علماء العربية المسلك نفسه في منهج
من الرقابة والتصدى لتيار الجديد الجارف، وظهور فجوات واسعة في مجالات التعبير أمام التطور السريع في حياة العصر الحديث، ولنقف على المصطلحات الحديثة التي أطلقت على مناهج التعريب، واشتغل بموجبها علماء العربية المحدثون .
أولاً: المعرب: وصف اللفظ الذي دخل إلى اللغة العربية من لغة أخرى في عصر الاحتجاج اللغوي، ووضع كما هو في المعنى المقصود به في أصله، مثل : السراط، والزنجبيل ، والإبريق ، والسندس وغيره .(75/5)
ثانياً: الدخيل : وصف اللفظ الذي آخذه العرب المتأخرون عن عصور العرب الفصحاء الذين يحتج بكلامهم ، أي بعد عصر الاحتجاج ، بحيث استخدم اللفظ الدخيل كما هو أو بتحريف طفيف ، كما سبقت الإشارة، مثل : كوفية (1)، وجمرك (2)، والبابور، واللمبة ، والموتور ، والتلفون ، والتلفزيون وغيرها .
ثالثاً: المولّد : وصف للفظ عربي البناء ، تحول به العرب المحدثون من معناه الأصلي في القديم ، إلى معنى آخر جديد، يتوافق ومستجدات العصر ، مثل : الجريدة تحول المعنى من جريدة النخيل ، إلى معنى الصحيفة ، القطار ، تحول عن معنى القافلة القديم ، إلى معنى ( الترين ) قطار السكة الحديد (3) .
رابعاً: العامِّي : وصف للفظ خرج عن مجراه الفصيح ، ليدخل قيد الاستعمال في اللغة المحكية الواسعة الانتشار بين الناطقين بالعربية مما عرف باللهجات العامية، مثل: (كِدَا) المصرية من الأصل كذا، و (هيك) الشامية من الأصل هكذا، و (هكّي ) المغربية من الأصل هكذا نفسه ، ومثل هذا كثير .
خامسا: اللحن : وصف للفظ نال منه التحريف أو التصحيف الصوتي، بحيث خرج عن صورته الفصيحة، نطقا وكتابة،
مثل: ( عريس)، تحريف للكلمة (عروس) التي تدل على الذكر والأنثى، حرفت بتحويل الواو ياء لتدل على الذكر ، وبقيت الكلمة الفصيحة لتدل على الأنثى فقط، ومنها (جردون)، المحرفة لحنا عن كلمة (جرذان) الفصيحة، ومثل كلمة (تور) المحرفة عن كلمة (ثور) الفصيحة ، بتصحيف من الثاء المثلثة إلى التاء المثناة(1).(75/6)
وهكذا فقد وجد أن التعريب ضروري للغة، لكي تساير التطور الحضاري والفكري ، وهذا ما أدركه علماء العربية المحدثون منذ القرن التاسع عشر، بحيث أشار كل منهم إلى هذه المسألة،وأبدى رأيه فيها،وإن كان بعضهم يؤيد التعريب ، والبعض الآخر يدعو إلى التوليد متهيِّبًا من التعريب، إذا كان سيتم عشوائيًّا، فترى الشيخ إبراهيم اليازجي يطالب بألا تُعرب لفظة من الألفاظ إلا بعد أن تجرى عليها تغييرات تلائمها مع طبيعة اللغة العربية، وتتجانس مع ألفاظها، ومحمد كرد علي هو الآخر ، يشير إلى مثل هذا عند الشيخ أحمد فارس
الشدياق ، الذي من جهوده المتحفظة من التعريب العشوائي نشرة لألفاظ أجنبية وفي مقابلها مقابلاتها العربية، وجهود أخرى للشدياق لجأ فيها إلى التوليد ، ومنها ابتكار لكلمة الجريدة، والمؤتمر ، والحافلة، والمنطاد، والسلك البرقي (التلغراف)،وجهود أخرى أكثر، تواصلت للغويين العرب المحدثين، من أمثال الشيخ خليل اليازجي ، الذي لجأ إلى التوليد ، فوضع كلمة الجواز دليلاً على وثيقة السفر ، وكلمة الردهة للساحة في الدار ، والقفاز للباس الكفين ، والنوط للنيشان أو الوسام، والصبحة لوجبة الصباح ( الترويقة بالعامية اللبنانية)،ولا تكاد ترى اسماً من أسماء هؤلاء العلماء والكتاب، وبخاصة اللبنانيون منهم،إلا وجدت جهداً له في هذا الميدان ، قل أو كثر ، ونذكر منهم الدكتور خليل سعادة، والمعلم شاكر شقير، والشيخ نجيب الحداد ، والدكتور بشارة زلزل، والشيخ عبد الله البستاني، وغيرهم كثر ، وقد أحصاهم بدقة متناهية الدكتور حسن ظاظا في كتابه كلام
العرب، مما لا يتسع له المقام هنا .(75/7)
إن الجهود المختلفة في ميدان إثراء اللغة في العصر الحديث، تضاربت فيها المواقف بين مؤيد للتعريب ومعارض له لينحاز إلى التوليد،حفاظاً على أصالة اللغة وثروتها اللفظية، وخوفاً من أن تختلط هذه الثروة في تراكم هائل، لا يمكن معه معرفة الأصيل من غيره، بل لا يمكن معرفة الأصول التي انحدر منها كل جانب من هذه الألفاظ أو تلك ، حتى عمد البعض من علمائنا المحدثين إلى دعوة نعتبرها ذات أهمية، ألا وهي دعوة الدكتور حسين نصار إلى وضع معاجم ثلاثة تحصر الأصيل وتفصله عن غيره، بل تفصل بين الأصيل والساميّ الأصل والدخيل ، وذلك بأن يخصص معجم للأصيل ، ومعجم آخر للمشترك مع الساميات، ومعجم ثالث يخصص للدخيل ، وقد لقيت دعوته هذه وقعاً طيباً في الأوساط اللغوية العربية (1) .
الدعوة إلى إنشاء المجمع اللغوي :
لما كانت هذه الجهود التي ذكرنا منها
ما يعتبر نزراً من شيء كثير، كلها فردي يخضع للاجتهاد الشخصي،ولا يقوى على الانتشار والتعميم ، بل لا يُلزِم أحد فيه أحداً ، فإن الحاجة ظهرت إلى ضرورة إخضاع هذه الجهود إلى مؤسسة رسمية ذات سلطة علمية، فكانت الدعوة إلى إنشاء المجمع اللغوي، كمؤسسة هي الأقوى والأكثر تأثيراً على التعريب وضبطه ونشره، فكان من أوائل علماء العربية في العصر الحديث من دعا إلى إنشاء مجمع لغوي، تنحصر مهمته في التعريب، الأستاذ محمد الخضري، حين حدد مهمة المجمع بحصر الأسماء والأعلام الأجنبية،ثم إجراء بحث موسع للعثور على مقابل عربي لها، فإن تعذر يجري تعريبها وهذا ما ذكره الدكتور إبراهيم مدكور في كتابه ( مجمع اللغة العربية في ثلاثين عاماً. ص15 ) .
إن هذه واحدة من الإرهاصات الأولى لوعي علماء العربية في فهم مشكلة التعريب الفردي، وقصوره عن تعميم الكلمة المعربة أو المولدة والحفاظ عليها ،(75/8)
إذ ما زلنا نميل إلى استخدام كلمة (باص ) بدلاً من ( حافلة ) ، و( تلفون ) بدلاً من ( هاتف )، رغم السهولة والتعميم والانتشار. وهكذا فقد تواصلت الدعوات في مختلف أنحاء الوطن العربي لإنشاء مجمع رسمي للغة ، حتى قدر لهذه الدعوات أن ترى النور ، في إنشاء أول مجمع رسمي للغة في دمشق،باسم (المجمع العلمي العربي بدمشق ) . وقد أعلن عن مولده في الثامن من شهر حزيران يونيو من العام 1919م، وقد لقي الدعم المالي من الحكومة السورية آنذاك، ولولا هذا الدعم لما رأى النور،وجعلت لهذا المجمع شخصية اعتبارية مستقلة،كمؤسسة، ذات استقلال إداري ومالي، ولعل السبب الرئيسي في دعم الحكومة للمجمع السوري، هو أنها استقلت عام 1918م عن الدولة العثمانية، وظهرت فيها حركة وطنية قومية، نادت بتعريب سجلات الدولة، وتأليف الكتب المدرسية باللغة العربية، مما جعل الحاجة ملحة للأدباء واللغويين، الذين عليهم أن يضعوا البدائل للمصطلحات التركية والفرنسية، التي كانت سارية في لغة السجلات ودواوين الدولة، مما دفع إلى تشكيل لجان للترجمة والتأليف، كانت هي نواة مجمع اللغة الأولى، فصدر المرسوم الرسمي بإنشاء المجمع ، مشفوعاً بتولي الأستاذ محمد كرد علي رئاسته ، الذي يمكن اعتباره المؤسس للمجمع السوري ، وهذا ما ذكره محمد كرد علي نفسه ، ومجلة المجمع العلمي العربي بدمشق ( 40- 6- 8 ) لسنة 1965م .
وهكذا باشر المجمع العلمي بدمشق مهماته في خدمة اللغة العربية وإنمائها ، في مناهج وأساليب مختلفة ، لسنا هنا بصدد صدها وتتبعها ، وإن كانت جهوده ذات أثر فاعل في إثراء اللغة وصيانتها في مجالات التعريب، مما يمكن الاطلاع عليه في نشرات المجمع وبحوثه وخاصة من خلال مجلته .(75/9)
وفي عام 1932م، صدر مرسوم حكومي، يقضي بإنشاء المجمع اللغوي الثاني في القاهرة، وهو ( مجمع اللغة العربية المصري )، وقد حدد المرسوم أغراض هذا المجمع التي تبرز الفرق الواضح بين ظروف إنشائه ، وظروف إنشاء مجمع دمشق ، إذ إن هذه الأغراض في مجملها تنص على خدمة اللغة العربية وآدابها، وعلومها، والناطقين، بها في كل أوطان العرب،ولأهمية هذه الأغراض،وصلاحيتها كأهداف لمطلق المجامع العربية في كل زمان ومكان ، نلخصها في الآتي :
أولاً: المحافظة على سلامة اللغة العربية ، وجعلها قادرة على تلبية احتياجات العلوم والفنون في التقدم الحاصل، وجعلها ملائمة لمتطلبات الحياة المعاصرة ، بحيث يتم وضع معاجم وتفاسير ووسائل مختلفة، تبين ما يمكن أن يؤخذ به وما يجب تركه من الألفاظ والتراكيب.
ثانياً: وضع معجم تاريخي للغة العربية ، وإجراء بحوث تبين تاريخ بعض الكلمات العربية ، وتغير مدلولاتها .
ثالثاً : دراسة اللهجات العامية الحديثة في مصر وغيرها من الأقطار العربية .
رابعاً : البحث والدرس لكل ما يؤدي إلى تقدم اللغة العربية وازدهارها .
كما تضمن مرسوم إنشاء المجمع أن تكون له مجلة خاصة به، تنشر فيها أبحاثه التي ينبغي أن ينشر فيها ما يجب استخدامه من ألفاظ اللغة وتراكيبها،وما يجب البعد عنه، وهذا واضح فيه هدف ضبط التعريب والتوليد اللغوي، كأهم مسألتين تواجهان اللغة وإنماءها ، أو اندثارها واضمحلالها .
وفي عام 1934م، عينت لجنة المجمع التي شكلت أعضاءه ، الذين جعلوا على ثلاثة أصناف هي: عاملون ، وفخريون ، ومراسلون ، فكان من بينهم رجالات من أهل اللغة والأدب والفكر،في مصر والعالم العربي ، وكذلك من بعض الدول الأوربية من المستشرقين الألمان والإنجليز والفرنسيين والطليان .(75/10)
لقد استطاع مجمع اللغة العربية المصري، أن يحقق الهدف الأكبر الذي أنشئ من أجله، ألا وهو الحفاظ على اللغة وأصالتها ، إلى جانب إثرائها وإنمائها بكل ما يلزم لتطورها ومجاراتها لاحتياجات العصر، ومنشوراته وندواته ومؤتمراته المتواصلة منذ نشأته إلى هذا اليوم،تشهد على ذلك،وبخاصة في مجالات التعريب، الذي دعا إليه مجمع اللغة العربية المصري كمنهج لا مفر منه أمام تنوع وتشعب البحوث العلمية ومستجداتها المتسارعة ، بحيث كان الأخذ بالتعريب ، استئناسًا بما فعله أجدادنا القدامى، حين اخذوا المصطلحات العلمية عن اليونانية واللاتينية والهندية والفارسية والتركية والساميات ، مما يجيز لنا الأخذ الآن عن الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية وغيرها .
غير أن مجمع القاهرة، قد تطرق بجهود أخرى، وإن قلت، إلى عملية تيسير قواعد اللغة ، إلى جانب الإنماء اللفظي، فدعا الكتاب والأدباء إلى السير حسب قواعد اللغة ونحوها ، وعدم مخالفتها .
والمتتبع لمنشورات المجمع المصري ، يلاحظ الجهود العظيمة التي خدم فيها العربية، وبخاصة من خلال جهوده المعجمية، وعلى رأسها المعجم الوسيط الذي ظهر في عام 1960م، وغيره من المعاجم والدراسات .(75/11)
وفي العراق ، ظهرت محاولات لإنشاء مجمع لغوي، بدأ في عام 1925م، ثم في عام 1926 م، وبقيت تتعثر حتى أعلن عن إنشاء ( المجمع العلمي العراقي ) عام 1947م بقرار من وزارة المعارف العراقية، سار على خُطَى المجمع المصري في أغراضه وأهدافه، التي ترتكز في مجملها على إثراء اللغة وإنمائها، والمحافظة على سلامتها وضبط التعريب فيها، غير أن هذا المجمع لم يصدر عنه أي معجم حتى الآن ، وجل اهتمامه انصب على المصطلحات بالنقل والتعريب والاشتقاق، وهذا ما أكده الدكتور مصطفى جواد عضو المجمع في كتابه ( المباحث اللغوية في العراق ص 122 ) ، وهكذا فتعتبر جهود المجمع العراقي في مجال المصطلحات ، والكلمات التي تختص بمظاهر الحضارة المعاصرة ، مميزة له، بل إنه ما زال يوجه نشاطه إلى مجال الألفاظ أكثر من غيرها من مجالات اللغة، مما يمكن الوقوف عليه في مجلة المجمع .
لأن مجامع اللغة العربية في مجملها ، أنشئت تحقيقاً للهدف الأكبر لها، وهو التعريب وضبطه والسيطرة عليه في إثراء الثروة اللفظية العربية بما ينقصها أو تحتاجه، فقد دأبت المجامع اللغوية العربية ، والهيئات والمؤسسات والحكومات إلى عقد المؤتمرات والندوات الخاصة بالتعريب؛ ولأن هذا ما كان من المهمات الأساسية للمهتمين بشؤون العربية الغيورين عليها في مختلف البلاد العربية، فقد أنشئ (المكتب الدائم لتنسيق التعريب بالرباط ) عام 1961م ، تحقيقاً لتوصية أحد مؤتمرات التعريب التي دأب العرب على عقدها في مختلف الأمصار، ذلك المؤتمر الذي عقد في الرباط فيما بين الثالث والسابع من شهر نيسان ( أبريل ) عام 1961م. بحيث جعل هذا المكتب تحت مظلة جامعة الدول العربية، وانبثقت عنه شعب في الأقطار العربية، تنصب على مواصلة العمل على المصطلحات العلمية والحضارية في العالم العربي، وقد حددت لهذا المكتب أغراضه وأهدافه نوجزها فيما يلي:
أولاً: إنشاء مكتب في كل بلد عربي يسمى ( الشعبة الوطنية للتعريب ) .(75/12)
ثانياً: تقوم كل شعبة بجمع حصيلة الأعمال التي تنتج عن أعمال التعريب
سواء في المجامع، أو الهيئات والمؤسسات المتخصصة، وكذلك النشرات والمحاضرات والكتب التي تتعلق بهذا المجال ، وتزود به المكتب في الرباط .
ثالثاً: ينسق المكتب في الرباط بين ما يصله من نتاج، وينشره ليكون بين يدي المشتغلين بالترجمة والتعريب (1)، ولأجل فاعلية هذا المكتب فقد أصدر مجلة خاصة
ببحوثه وأعماله، هي ( مجلة اللسان العربي)، التي حوت أعدادها حتى الآن عددًا ضخمًا ومهمًا من البحوث اللغوية ، وبخاصة في مجال التعريب .
إن هذا المكتب، قد توغل في خدمة اللغة العربية من خلال مسألة التعريب ، بحيث شكل لجانًا استشارية لغوية ، يمكنها أن تجيب عن أي تساؤل يطرأ في هذا المجال ، بل إن هذا المكتب باشر تصحيح الأخطاء الشائعة في التعابير اللغوية العامة مثل اللافتات وأسماء الشوارع ، وتوعية الناطقين بالعربية إلى كل خطأ يقعون فيه مخالف لقواعد اللغة ومفرداتها وأوزانها ،
بل إن من أروع ما استنَّه المكتب،تخصيص أسبوع من كل عام لقضايا التعريب ، فقد جعل أسبوع عام 1978م ، تحت شعار ( العربية لغة العلم والتكنولوجيا عام 2000 ) (1) .
وفي ظروف مشابهة لظروف نشأة المجامع اللغوية العربية الأخرى،أنشئ مجمع اللغة العربية الأردني في عمان، وبقرار رسمي، ليسهم هو الآخر في إنماء اللغة وتطويرها ، جنبًا إلى جنب مع المجامع اللغوية الأخرى. (1)
التجربة الفلسطينية والمجمع الفلسطيني:
لا شك في أن التجربة الفلسطينية في مجال التعريب، تعتبر متواضعة للغاية، ولعل للفلسطينيين عذرهم في ذلك، فهم أناس عاشوا النكبة التي تعرضوا لها في مختلف البقاع التي وجدوا فيها،سواء على أرضهم تحت الاحتلال، أم في المهاجر.هذا من غير نسيان جهود علماء فلسطينيين أسهموا في جهود التعريب من خلال المشاركة في مواقع وجودهم في الأوطان العربية ،(75/13)
سواء بجهود فردية، أم خلال المجامع العربية، وبخاصة المجمع المصري، والمجمع الأردني .
إن حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي سنوات عديدة ، أورثت ظروفًا خاصة متميزة تختلف كثيرًا عن ظروف سائر الشعوب العربية في الفترة المعاصرة ، وبخاصة في المجال الثقافي والحياة العامة، أمام الهجمة الشرسة للثقافة الإسرائيلية، التي نعترف بأنها باتت تغزو مناحي الحياة العامة، سواء من خلال الاحتكاك المباشر بين الشعبين في التعامل اليومي، أم على مستويات التجارة والاقتصاد، والزراعة والصناعة، والأعمال الخاصة والعمال ، بالإضافة إلى التغلغل الذي جرى من خلال وسائل الإعلام الإسرائيلية المسموعة والمرئية والمكتوبة ، وخاصة تلك التي تنطق باللغة العربية .
إن ما سبق ذكره ، أثر تأثيرًا مباشراً في جانب غلبة اللغة العربية في هذه المجالات،على اللغة العربية، بحيث انتشرت
العبرية على ألسنة الفلسطينيين انتشارًا واسعًا، وبدرجات متفاوتة، نحن بحاجة إلى إجراء دراسة عملية تبين عدد الفلسطينيين الذين يعرفون أو يتقنون العبرية .(75/14)
ولعل أخطر ما في الأمر،أن العبرية من خلال ألفاظ أو تراكيب،بدأت تتطرق إلى اللهجة الفلسطينية المحكية، وعلى جميع المستويات العمرية،من الكبار إلى الصغار، بل إن الكثير من المصطلحات والأسماء العبرية ، تمكنت من ألسنة الناطقين الفلسطينيين وحلت محل نظائرها العربية ، بصور تكاد تكون تامة، حتى أن الكثيرين نسوا تمامًا تلك النظائر العربية، والأخطر من ذلك أن كلمات عامة من اللغة العربية، أصبحت تستخدم استخدامًا واسعًا وشعبيًا بين الفلسطينيين في خطابهم اليومي فيما بينهم، وليس بينهم وبين اليهود، ومن ذلك مثلاً، كلمة (بسيدر) ، التي تقابلها بالعربية الفصحى ( حسنًا ) أو ( نعم )،وبالعامية (ماشي)،وعبارة ( علما كوم ) ، التي تقابلها بالعربية الفصحى عبارة (في الموقع ) أو (في المكان نفسه ) ، وبالعامية ( على المحل )، وغير ذلك الكثير من الألفاظ والعبارات،التي تستخدم في الأوساط كلها المثقفة وغير المثقفة ، بل إن الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال، فرضت على قطاع كبير من الناس، تعلم العبرية كتابة وتعبيرًا، وليس تعلمًا محكيًا فقط، جاء بحكم الاختلاط الناجم عن أيّ من الأسباب كالعمال والتجار مثلاً .
إن ما سبق ذكره، بات يشكل بعدًا مؤرقًا للمثقفين الفلسطينيين بعامة، وللمتخصصين في اللغة من كتاب وأدباء وأساتذة جامعات بخاصة، ويضاف إليه، كون فلسطين مهد الأديان وموئل الرسالات، مما جعلها قبلة للكثيرين من الأجانب الذين يقيمون في مدنها المقدسة كالقدس وبيت لحم، أو يأتون للزيارة حجّاً أو سياحة، بحيث لو قدر لك أن تمشي في أحد شوارع القدس، مُطرقًا السمع منعمًا النظر،فلسوف تسمع ناطقين بلغات أجنبية اثنتين أو ثلاث أو أكثر في آن واحد، كل هذه الأحوال والظروف ، استرعت انتباه المثقف والمتخصص اللغوي الفلسطيني ، وجعلته يفكر في هذه المشكلة بحجم معين .(75/15)
إن أول توجه استرعى الانتباه، ما لاحظه أساتذة اللغة العربية ، من تدهور حل بها في أساليب تدريسها، أو التدريس بها في الجامعات والمعاهد الفلسطينية ، فكانت المبادرات الأولى للوقوف على هذه المشكلة ، تلك المبادرات التي تعتبر تجارب فلسطين للحفاظ على العربية ، وضمان حمايتها ومسايرتها للتطور العصري ، وسوف نتتبع هذه المبادرات .
أولاً: ( ندوة فلسفة التعليم الجامعي والدعوة إلى تعريبه)يوم 20/12/1985م في القدس .
قد نظمت هذه الندوة بمبادرة من المتخصصين وأساتذة اللغة العربية في الجامعات والمعاهد الفلسطينية، في ظل الأحوال والظروف التي سبق الحديث عنها، فضلاً عن وضع من الخلل في لغة التعليم في هذه الجامعات، وسوء وضع اللغة العربية ومكانتها كأداة للتعليم ، وقد تبنى مجلس التعليم العالي الفلسطيني هذه الندوة ، التي نشرت أوراقها ومناقشات المشاركين فيها ضمن كتاب خاص بعنوان: ( فلسفة التعليم الجامعي والدعوة
إلى تعريبه ) .
يمكن الوقوف على رأي المجلس بل غرضه وفهمه لهذه الندوة من خلال تقديمه للكتاب في العبارة التالية :" إن اللجنة التنفيذية – لمجلس التعليم العالي – ومن إدراكها لأهمية وجود فلسفة للتعليم العالي، ومن إحساسها بضرورة التعريب للتعليم العالي والفلسطيني، وكجزء من تعريب التعليم في الوطن العربي بأسره ، دعت إلى عقد هذه الندوة الرائدة، التي يشارك فيها هذا الحشد المبارك ، إيمانًا منها بأنها تجربة لابد من خوضها آجلاً أم عاجلاً .
وفي مبررات عقد هذه الندوة، يقول الدكتور ذياب عيوش – عضو المجلس في حينه – مبررًا الطلب من المجلس لعقد هذه الندوة ، ما جاء في الكتاب (ص9) :" ما زال عدد كبير من أساتذة الجامعات في الأرض المحتلة، يدرس بلغة غير اللغة العربية، إما لعجز في نقل المصطلحات الأجنبية إلى اللغة العربية، أو لاعتقادهم بأن لغتنا لا تصلح للتعامل مع العلوم الحديثة ، أو لأسباب أخرى تتعلق بعدم(75/16)
توافر المراجع العربية الجيدة ".
إن أهم ما يميز هذه الندوة ، هو دعوة أساتذة الجامعات الفلسطينية من المتخصصين باللغة العربية وغيرهم من أساتذة الكليات الأخرى، فضلاً عن ممثلين من النقابات المهنية والكتاب والأدباء والإعلاميين. وقدمت في الندوة ثلاث ورقات :
الأولى:بعنوان: (فلسفة التعليم الجامعي في الوطن المحتل والدعوة إلى التعريب) ، إعداد الدكتور ذياب عيوش ( المتخصص في علم الاجتماع)،الذي قدم ورقة متميزة في موضوعها، ركز فيها على ضرورة تعريب التعليم الجامعي في عرض متنوع الأسباب والمظاهر ، حتى يقول في معرض ورقته (الكتاب، ص30 و 31):"وتعريب التعليم العالي ينبغي أن يبدأ بالعناية بتدريس اللغة العربية منهجًا وكتابًا ومعلّمًا …".
ثم يقول ( الكتاب، ص32) :" إن مشكلة التعريب، ليست أكاديمية أو معجمية قاموسية، على الرغم من أهمية تعريب المصطلحات وإثراء اللغة بالكلمات التي تعبر عن المفاهيم الحديثة ، علمية ، وصناعية ، وتقنية ، وإنما هي مشكلة وضع العربية في المكان الذي يتطلبه مقامها كلغة لأمة واحدة …".
ثم أعقب الورقة نقاش أثْرَى مضمونها، بحيث أجمع المشاركون على ضرورة تعريب التعليم العالي الفلسطيني،من خلال الارتقاء باللغة العربية، ووضعها في المكان الذي يليق بها، من واقع الشعور بالاعتزاز بها كلغة قومية،تصلح لكل مجالات التعبير، وتقوى على أن تكون لغة التعليم الجامعي.(75/17)
الثانية: بعنوان : ( تجارب في التعريب من الماضي والحاضر )، إعداد الدكتور ياسر الملاح ( وهو متخصص في اللغة العربية )، عرض فيها مفهوم التعريب وجهود العرب القدامى في الاقتراض اللغوي من لغات الأمم السابقة ، وأهم الكتب العربية القديمة التي تناولت هذا الموضوع ، ثم عرج على جهود العرب المتأخرين في التعريب، فلمس كل جهد فردى أو جماعي، وبخاصة جهود المجامع اللغوية العربية ، ثم ينتهي إلى التأكيد على تعريب التعليم الجامعي والابتعاد عن ثنائية اللغة فيه ، معتبرًا أن القضية قضية وطنية ، ورسالة حضارية، يجب الحرص عليها والسعي إلى المحافظة عليها . ثم اتبع عرض الورقة بنقاش بين المشاركين أثرى مادتها وركز مضمونها ونتائجها .
الثالثة: بعنوان: ( تعريب التعليم الجامعي. كيف ؟ ) ، إعداد الأستاذ زهير الكرمي ( وهو متخصص في علم الأحياء )، لقد أكدت هذه الورقة على مسألة تعريب التعليم الجامعي ، باعتباره ضرورة وطنية وقومية، غير أنها حذرت من انحدار اللغة الفصحى، وانحياز الناطقين العرب في مجتمعنا نحو العامية ، خاصة وأن الكثيرين منا يخطئون أخطاءً فاحشة، ولا يهتز لهم رمش، وعليه ، فإن هذه الورقة تنادي بالإصلاح من حال اللغة على ألسنة الناطقين قبل القراء ، بأن يتعلمها الطفل تعلمًا صحيحًا إلى جانب لغة أجنبية أخرى، لضرورة مواكبة الجديد في العلم ، بحيث يكبر هذا الطفل، ويكبر علمه معه . ثم تدعو الورقة إلى التعريب المباشر للمصطلحات، دون إجهاد النفس في الترجمة إلى العربية . ثم اختتم النقاش حول هذه الورقة ، ليدخل في طرح عدد من التوصيات الخاصة بالندوة كلها ، وكان من أهم هذه التوصيات :
(1) ضرورة إنشاء مجمع لغوي عربي فلسطيني، يسهم فيه علماؤنا إسهامًا فاعلاً في إثراء اللغة بالمصطلحات، وإيجاد البدائل للغريب الوافد .(75/18)
(2) أن يكون تعليم اللغة العربية إلزاميًّا بمقدار معلوم من الساعات في السنة الأولى، ولا يعفى أي طالب من هذه الساعات مهما كان تخصصه .
(3) عقد ندوات أخرى مستمرة ومستفيضة ، وأن تعتبر هذه الندوة البداية في مشروع ضخم .
(4)تدريس مقررات جامعية في الترجمة والتعريب .
ثم ذيل الكتاب بتفاعلات إعلامية في الصحف والمجلات الفلسطينية،التي أجمعت كلها على أهمية هذه الندوة وأكدت على ضرورة التعريب في الجامعات والمعاهد الفلسطينية، فبعض هذه الصحف طرح استبانة للرأي حول هذا الموضوع، كما أن الأصوات جميعًا طالبت بمواصلة هذا العمل .
ثانيًا: ( ندوة حاضر اللغة العربية وأساليب تدريسها في الجامعات الفلسطينية ) .
جاء انعقاد هذه الندوة، تواصلاً لتوصيات الندوة الأولى ( فلسفة التعليم الجامعي )، بدعوة من مركز الأبحاث الإسلامية في القدس،التابع لجامعة القدس، في اليومين 27، 28 من شهر آيار ( مارس ) عام 1987م ، وشارك فيها عدد كبير من أساتذة اللغة والأدب في الجامعات والمعاهد، وعدد آخر من المهتمين بشؤون اللغة، وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور إسحق موسى الحسيني - رحمه الله - رئيس المركز،عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وقد جرت الندوة بالتنسيق مع مجلس التعليم العالي الفلسطيني .
عُرِضت في الندوة أوراق كثيرة متنوعة، تناولت مجال التعليم، وعلوم اللغة العربية، ولإنجاح هذه الندوة ، باعتبارها جهدًا جادًّا للتعامل مع قضية اللغة العربية وحالها التي يمر بها المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال،تم تشكيل لجنة مشرفة على هذه الندوة وما يلحقها من ندوات وجهود ، برئاسة الدكتور إسحق موسى الحسيني، وأعضاء هذه اللجنة كلهم من ذوي الاختصاص والمسؤولية في الجامعات الفلسطينية ، وهم :
1-الدكتور إسحق موسى الحسيني – جامعة القدس – رئيسًا .
2-الدكتور حسن عبد الرحمن السلوادي – جامعة القدس – عضوًا .
3-الدكتور ياسر الملاح – جامعة بيت لحم – عضوًا .(75/19)
4-الدكتور يونس عمرو– جامعة الخليل – عضوًا .
5-الدكتور ناجي عبد الجبار – جامعة بيرزيت – عضوًا .
إن هذه النخبة، كانت نواة الهيئة التأسيسية لمجمع اللغة العربية الفلسطيني فيما بعد ، في مراحل الدعوة إلى تأسيسه، مما اقتضى التنويه هنا .
وإنصافًا لتلك الحال التي عرضت في تلك الندوة من وضع اللغة العربية ، وموقف المتخصصين الفلسطينيين من هذا الوضع الذي أهمهم وأتعبهم ، فقد نشرت أعمال الندوة كاملة في كتاب كامل من قبل مجلس التعليم العالي، واستكمالا لهذا الإنصاف، نتطرق للأوراق التي عرضت في هذه الندوة بإيجاز .
الورقة الأولى:بعنوان:( برامج اللغة العربية وآدابها في الجامعات الفلسطينية)، إعداد : الدكتور ناجي عبد الجبار (وهو متخصص في اللغة العربية ) من جامعة بيرزيت .
جاءت هذه الورقة في قسمين: الأول: تناول برامج اللغة العربية كما هي في دوائر التخصص في مختلف الجامعات الفلسطينية، مع مناقشة الإيجابيات والسلبيات، القوة والضعف في كل جامعة على حدة، مقارنة بسائر الجامعات .
والثاني ، فقد طرح تصورًا لبرنامج مقترح لتخصص منفرد شامل يمكن تطبيقه في الجامعات، ركز على نوعية الطالب والمعلم في قسم اللغة العربية، فالطالب لابد أن يكون من المتفوقين في اللغة العربية قبل الدخول إلى دراستها، ثم عليه أن يواصل هذا التفوق، وكذلك ضرورة وجود معلم قوي في هذه اللغة وفروعها، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ثم عرض قائمة من البحوث والموضوعات بشمولية ممتازة، تكون لازمة للمتخصص في علوم العربية وآدابها، ثم أعقبت الورقة بنقاش أثرى موضوعها .
الورقة الثانية:بعنوان : ( تقويم الكتاب الجامعي المقرر لمواد اللغة العربية وآدابها )، إعداد كل من:د.كرم زرندح ( متخصص في اللغة العربية )، ود . إحسان الأغا ( متخصص في التربية وعلم النفس) وكلا الأستاذين من الجامعة الإسلامية في غزة .(75/20)
وقد عرض الباحثان لهدف الورقة بقولهما :" يهدف هذا البحث إلى تحديد مواصفات الكتاب الجامعي في مجال اللغة العربية بصفة عامة، وذلك بقصد مساعدة المعلم والطالب على اختيار الكتب اللازمة لدراسة المقررات الجامعية في اللغة العربية، وتحديد الأسس اللازمة لوضعها بعين الاعتبار عند تأليف الكتب اللازمة لطلاب الجامعات في دراسة مقررات اللغة العربية … " ( الكتاب ، ص50 ) .
تم تواصل الورقة بيان مواصفات الكتاب الجامعي المتخصص بشكل عام، وكتاب اللغة العربية بشكل خاص، مع التركيز على أهمية لغة الكتاب، وبالذات كتاب اللغة العربية، ثم انتهت الورقة باستبانة تلزم بتقويم الكتاب الجامعي بصفة عامة. ثم جرى نقاش حول هذه الورقة أثرى مادتها وأهدافها .
الورقة الثالثة: بعنوان: ( علم اللغة، موضوعاته وأساليب تدريسه ) ، إعداد : الدكتور ياسر الملاح (متخصص في اللغة العربية ) من جامعة بيت لحم .
تركز هذه الورقة على مفهوم علم اللغة وموضوعه على أنه موضوع حديث، مع عرض لآراء العلماء المحدثين حول هذا الأمر من أجانب وعرب ، ثم هناك عرض مفصل لمصطلحات العربية من علم اللغة إلى فقه اللغة، والنحو والصرف، مع بيان لموقف علماء العربية القدامى من هذه المصطلحات وفهمهم لها ، مع التطرق إلى المناهج الحديثة لدراسات العلوم اللغوية ، التي عرضت بصورة دقيقة للغاية، بحيث يبدأ تدريس علوم اللغة، بالأصوات وتشكيلها، ثم علم الصرف، والمعجميات، ثم علم النحو ، ثم علم الدلالة، وتتطرق الورقة كذلك إلى الاتساع التخصصي الميداني لعلوم اللغة، مثل علم اللغة الصناعي، وعلم اللغة الاجتماعي، وعلم اللغة النفسي، إلى أن يصل الباحث إلى المنهج المحدث في دراسة العلوم اللغوية فيقول :
" … ولكن العلماء استطاعوا خيرًا تصنيف مجالات علم اللغة إلى قسمين كبيرين هما :
1-علم اللغة النظري .
2-علم اللغة العملي .(75/21)
ويعنى القسم الأول برسم معالم النظرية اللغوية ودقائق هذه النظرية . كما يعنى القسم الثاني بتطبيق علم اللغة في الحياة والاستفادة منه في المجالات العملية". ( الكتاب ، ص 68) .
وهكذا ، تواصل الورقة عرض مضمون يأتي على جهود العرب القدامى في مجالات علوم اللغة المختلفة ، مقارنة بما يدعي العلماء الغربيون بأنها من مبتكراتهم، ليتبين أن العرب سبقوهم إليها بزمن بعيد، بما في ذلك جهود القدامى في مجال الاقتراض اللغوي والتعريب،وأساليبهم إلى ذلك .
فيما يتعلق بالكتاب الجامعي للغة العربية، يعرض الباحث إلى مبادرة متقدمة سبق أن قام بها عدد من أساتذة العربية في الجامعات الفلسطينية تهدف إلى تأليف جماعي لكتاب موحد في علوم العربية وآدابها، يطرح للتدريس، بحيث بادر عدد من الأساتذة المتخصصين في أواخر عام 1983م ، إلى القيام بهذا العمل وهم :
1-د.أحمد نعيم القراعين من جامعة بيرزيت .
2-د. محمد جواد النوري من جامعة النجاح الوطنية في نابلس .
3-د. محمود أبوكتة من جامعة بيت لحم.
4-د. ياسر الملاح من جامعة القدس .
5-د. يونس عمرو من جامعة الخليل .
التقى هؤلاء لمناقشة إمكانية العمل ، غير أنهم لم يحققوا نجاحًا لظروف مختلفة ، ورغم ذلك فإن هذا الموضوع ما زال ملحًّا في التواصل إلى كتاب اللغة العربية الجماعي .
وبعد،فإن الباحث يتطرق إلى مقترحات لخطط تدريس مقترحة تضمن التكامل في دراسة اللغة العربية وآدابها في الجامعات
والمعاهد الفلسطينية .
وتتميز هذه الورقة عن غيرها من الأوراق ، بأن ذيَّلها صاحبُها بقائمة كبيرة من أسماء الكتب والمؤلفين في مختلف مجالات علوم اللغة العربية من العصر الحديث، لتكون دليلاً سريعًا للدارس الجامعي والأستاذ على حد سواء . ( الكتاب ، ص 86 – 93 ) .
الورقة الرابعة : بعنوان: ( علم اللغة والساميات)، إعداد الدكتور يونس عمرو ( متخصص في اللغة العربية والساميات) ، من جامعة الخليل .(75/22)
تعرض هذه الورقة، إلى نظرية نشأة اللغة ، وموقف علماء العربية الأوائل منها بين توقيف واصطلاح ، مع التركيز على الجانب التاريخي لمكانة العربية بين اللغات السامية الشقيقة، مما أمكن معه اعتبار اللغة العربية حاملة لخصائص الساميات كافة، وعلى جميع المستويات الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية، والأدوات والضمائر ، بحيث يمكن من خلال الدرس المقارن بين العربية والساميات الأخريات، حل الكثير من الألغاز على المستويات كلها، وبخاصة الألفاظ ودلالتها، وقد تضمنت الورقة عددًا من الأمثلة على الدرس المقارن لألفاظ مختلفة توجد في العربية وشقيقاتها الساميات ، مما يدعم الحاجة الملحة إلى عمل معجم ساميّ مقارن ، يخدم – في تركيز – كثيرًا من دلالات ألفاظ يتعامل معها البعض تعاملاً خاطئًا مثل كلمة - ملاك)، والتي تعني رسول حسب الأصول السامية،كمشتق من المادة السامية (لأك)، ومزيدها ( ألأك ) بمعنى (أرسل)، لا يخفى ما لهذا اللون من الدراسة من دور في خدمة التعريب، وتأصيل ما يعتقد بأنه من الدخيل .
وقد نوقشت هاتان الورقتان الثالثة والرابعة معًا،مما أثرى مضمونهما ومادتهما.
الورقة الخامسة : بعنوان:( جهود تيسير النحو في الماضي والحاضر)، إعداد: الدكتور حسن السلوادي( وهو متخصص في اللغة العربية ) ، من جامعة القدس .
أشارت الورقة إلى أن الدعوة إلى تيسير اللغة وتبسيط قواعدها ليست حديثة العهد كما يظن، بل إنها كانت مواكبة لنشأة النحو، إذ يقول الباحث: " … لا يغيب عن أذهاننا تلك الثورة التي أعلنها عمارة الكلبي على طريقة المستعربين ، وهجومه على جمود النحاة واللغويين متعاليًا عليهم بطبعه وسليقته العربية حين قال :
كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم
... وبين قوم على إعرابهم طبعوا
ما كل قولي مشروحًا لكم فخذوا
... ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا(75/23)
ولا يغيب عن أذهاننا أيضًا ضجر الجاحظ وتذمره من أصحاب النحو،الذين استبد بهم جمود القريحة وغلبة الصنعة والتكلف، حتى رأيناه يوصي الصبية ومؤدبي الخاصة، بألا يشغلوا قلب الصبي بعويص النحو ومسائله الوعرة … " ( الكتاب ، ص 103 ، 104 )
وتواصل الورقة عرض مواقف العلماء القدامى الذين دعوا إلى تيسير النحو وقواعد اللغة ممن عاصروا نشأة النحو أو أتوا بعدها، حتى جاء دعاة لهذه المسألة في العصر الحديث، من أمثال حفني ناصف ، وعلي الجارم، وإبراهيم مصطفى ، وخليل السكاكيني، وطه حسين، وإسحق الحسيني، وشوقي ضيف، وغيرهم ممن نقدوا قواعد النحو، ودعوا إلى تبسيط هذا العلم وتيسيره على إفهام القارئ والمتعلم العربي، باختزال قواعده إلى عدد قليل ، كما فعل الدكتور شوقي ضيف ، في مقالته: ( تيسير النحو ) التي نشرت في مجلة مجمع اللغة العربية محاضر وجلسات ( ج 47 ، ص 11 ) .
وهكذا تواصل الورقة عرض المحاولات كافة ، والتي سعى من خلالها العلماء المحدثون إلى عرض صورة من تبسيط القواعد بتفصيل دقيق ، إلى أن تبين جانبًا آخر من ضرورة تيسير النحو، وهو إعداد معلم اللغة إعدادًا يساير هذا التيسير ، لتحقيق المبدأ المطلوب،وهو تيسير وتبسيط تعليم هذا الفرع الجاف من فروع اللغة العربية .
ثم ينهي الباحث ورقته، بمقترحات اللجنة الوزارية المصرية لتيسير النحو والصرف 1938م ، وقرارات المؤتمر الثقافي العربي الأول في اللغة والقواعد ، وتوصيات مجمع دمشق ، وتوصيات مجمع العراق ، وتوصيات ندوة اتحاد المجامع اللغوية في الجزائر 1976م .( الكتاب ، ص 112 – 117). وكلها تجمع على أن تيسير علم النحو والصرف، وتبسيط تعليمه ضرورة ملحة.
الورقة السادسة: بعنوان: ( تدريس النحو العربي في مراحل التعليم الجامعي ، مشكلات وحلول ) ، إعداد : الدكتور محمود أبوكتة (متخصص في اللغة العربية) من جامعة بيت لحم .(75/24)
لا تعتبر هذه الورقة أن المشكلة تكمن في النحو نفسه بين قديمه وجديده، بل تكمن المشكلة في طرائق تدريسه وتعددها،وكل ما يسهم في تكوين هذه العملية، ابتداءً بالمعلم، فالمتعلم، فاللغة المتعلمة .
ولهذا يطرح الباحث سؤالين اثنين لحصر المشكلة هما :
1-ما سبب تعثر المتعلمين في الدرس النحوي ؟
2-ما أمثل طريقة يمكن اتباعها في تعليم الدرس النحوي ؟ (الكتاب،ص 119 ).
ثم تحدد الورقة المشكلة وحلها في معرض الإجابة على السؤالين ، في أن النقد الموجه إلى علم النحو يتأرجح بين نقد السلف، وتبرئة الخلف، أو صب النقد على مادة النحو نفسها، في جدل لا طائل تحته، أو التوقف عن المسائل الخلافية ، والقواعد الفرعية، بدلاً من الاهتمام بالقضايا والقواعد الكلية والأساسية ، وإثقال المعلم والمتعلم والمنهاج بالمسائل الخلافية وتعدد وجوه الإعراب ، في أول مراحل التعليم الجامعي ، ثم الوقوع في شرك التعليل النحوي الذي يحيد بالمتعلم عن الهدف الأصيل من تعلم النحو ، وهو إجادة النطق السليم، والتركيز على فلسفة الإعراب ، والاحتكام إلى قواعد المنطق العقلية الجدلية .
ومن الحلول التي تطرحها الورقة لهذه المشكلة، التنسيق في تأليف الكتاب الجامعي المنهجي، الذي يجمع بين اتساع المادة في الكتاب القديم، ومنهج العصر الحديث ولغته ووضع منهج مبسط ودقيق للمادة المراد تدريسها ، وجعلها أولاً وقبل كل شيء واضحة في ذهن المعلم ، الذي يجب أن يكون متخصصًا بل مؤهلاً تأهيلاً فيه الكفاية لصاحبه، لا بحيث يستطيع أن يعطي .
الورقة السابعة: بعنوان: (الدرس الصرفي، أساليبه وجدواه ) ، إعداد : الدكتور يحيى جبر ( متخصص في اللغة العربية ) من جامعة النجاح الوطنية .(75/25)
تعرف الورقة بعلم الصرف وعلاقته بغيره من علوم العربية، كالمعاجم وعلم النحو، وتبرز مصاعب هذا العلم، التي من أهمها كثرة القواعد التي لا يمكن الإحاطة بها وحفظها، بمعنى أن إشكالات علم الصرف هي نفسها إشكالات علم النحو، وهكذا فيتتبع الباحث بدقة مواقف القدامى من هذا العلم ومصاعبه ، والطرق التي اقترحوها لتدريسه، ثم يعرض الباحث الأساليب التي يمكن أن تتبع لتدريس علم الصرف، وإن كان يقر بأنها متداخلة مع أساليب تدريس النحو، فيحصرها في أربعة نلخصها في الآتي :
1-الأسلوب الاستقرائي : ويعتمد على تداعي المعاني التي تستند إلى المعلومات السابقة مع التطبيق النصّي وحل التمارين.
2-الأسلوب الاستنتاجي : وهو بوضع القاعدة ، ثم طرح الأمثلة المناسبة لها .
3-الأسلوب الاستجوابي: يقوم على تحضير سابق للموضوع، ثم يستجوب الدارس فيما درس، ومن خلال نقاش وأخذٍ وردٍ تثبت المعلومات .
4-أسلوب المحاضرة : وهو بإلقاء المحاضرة من قبل المعلم، والطلبة يستمعون ويسجلون .
غير أن الباحث يعرض طريقة أخرى للتدريس، يسميها بالطريقة الاقتضائية حيث يقول عليها:"… ولعلها خير الطرق، حيث تقوم على تدريس المعارف اللغوية أثناء الدروس الأدبية والمطالعات، بطريقة عملية دون تخصيص حصص مستقلة لتلك المعارف … " ( الكتاب ، ص 132 ) .
ثم أعقبت الأوراق حول أساليب التدريس بنقاش ، بين المشاركين تضمن عددًا من المقترحات التي تصب في المصب نفسه لهذه الأوراق .
الورقة الثامنة: بعنوان: ( أساليب تدريس البلاغة)، إعداد:بسام القواسمي (متخصص في اللغة العربية ) ، من جامعة الخليل .(75/26)
تبين هذه الورقة علاقة البلاغة بفنون العربية، من الأدب إلى النحو إلى النقد، ثم غايات ووسائل تدريسها، والتي في مجملها تنادي باختيار النصوص الجيدة المشوقة الجذابة - ويتم الاعتماد عليها في شرح المطلوب من مجالات البلاغة ، مع الابتعاد قدر الإمكان، عن التعريفات والتقسيمات والتفريعات التي تغرق الطالب في متاهات تجعله ينفر من البلاغة كعلم وفن .
ثم تعرض الورقة إلى أساليب تدريس البلاغة بين القديم والجديد ، وتلمس مواطن الخطأ في ذلك .
الورقة التاسعة: بعنوان : ( أهمية الإحصاء في دراسة بعض الظواهر العروضية ) ، إعداد: الدكتور عادل أبي عمشة ( متخصص في اللغة العربية ) من جامعة النجاح الوطنية .
تبدأ هذه الورقة ببيان وجهة نظر حول صلاحية المنهج الإحصائي التحليلي في درس العروض،كونه يعتمد على قوانين ثابتة من البحور إلى القوافي، وقد اختار الباحث مسألة ( الرويّ ) كظاهرة عروضية ملفتة للنظر في القصيدة العربية قديمًا وحديثًا، ولأنه أهم حروف القافية، بل هو الذي تبني عليه القصيدة، إذ يلتزم في أبياتها جميعًا وتنسب إليه،ليقال هذه قصيدة رائية، أو ميمية، أو سينية .
وأهم ما توصل إليه الباحث قوله : " … نلاحظ أن أكثر حروف الهجاء ، بل كلها مما يصلح أن يكون رويًّا ، لكنها لا تستعمل جميعًا بنفس القدر !؟ ( الكتاب، ص 145 ) .
وتعرج الورقة على دراسة تطبيقية تناولت ثلاث مجموعات من عيون الشعر العربي، هي المفضليات، والأصمعيات ، وديوان الأعشى الكبير، وصنفت قوافيها حسب الروي في جدول واحد ، لتتوصل إلى نتيجة ثابتة متقاربة جدًّا في استخدام الحروف بين القصائد المختلفة، مع بيان أكثر الحروف استخدامًا في هذا المجال ، بحيث تبين أن حرف الميم من أكثر الحروف العربية استخدامًا للرويّ في القصيدة العربية .(75/27)
أما عن أساليب تدريس العروض ، فتبين الورقة، أن بعض المدارس تجعل العروض فرعًا من مجالات اللغة، بأن يضم إلى البلاغة أو الصرف ، والبعض الآخر ، يتعامل معه كعلم مستقل .
وتتدرج الورقة في بيان مراحل تدريس العروض، بأن تبدأ بالتعريف به كعلم أو فن، وعلاقته بالموسيقى حسب مبادئ الخليل بن أحمد واضع هذه المبادئ، ثم يأتي دور الكتابة العروضية، ثم الحديث على المصطلحات العروضية، المتعلقة ببيت الشعر، والصدر والعجز، والمقاطع العروضية، مثل الأسباب و الأوتاد ، والفواصل ، أو المصطلحات المتعلقة بالعلل الخاصة بالتغيرات التي تطرأ على تفاعيل العروض ، أو الضرب ، أو الحشو .
وتنتهي الورقة بعدد من المقترحات حول تدريس مادة العروض أهمها، أن يعامل هذا العلم على أنه مستقل، ولا يربط بأيٍّ من فنون العربية الأخرى أو علومها .
ثم جرى نقاش للورقتين،هذه وسابقتها أثرى مادتهما .
الورقة العاشرة: بعنوان: (تقويم أساليب تدريس الأدب العربي القديم في كليات الآداب بالجامعات الفلسطينية ) ، إعداد : د.محمد صيام ( تخصص في اللغة العربية )، ود. حسان ألاغا ( تخصص مناهج وطرق تدريس ) ، وكلاهما من الجامعة الإسلامية في غزة .
تبدأ هذه الورقة بإبراز دور شخصية المدرس في التأثير على تعليم المادة في الجامعة، ولذلك لا بدّ من إخضاع هذه الشخصية إلى التقويم المستمر .
ثم تبين الورقة الضرورة الملحة لتدريس الأدب القديم، حيث إنه المنهل الغزير الذي نهل منه أدباء العربية منذ القدم حتى عصرنا الحاضر كمصدر وأساس للأدب العربي عبر العصور، بل إنه مصدر من مصادر لغة الدين الإسلامي ، وتاريخ العرب والعربية، ولذلك فإن تدريسه في المدارس والجامعات يحظى بأهمية خاصة، بدأ بالعصر الجاهلي، ثم بعصور الإسلام .(75/28)
تعرض الورقة إلى عدد من أساليب تدريس الأدب القديم ، كان من أهمها ، ربط الطالب بالمكتبة ، ذلك الأسلوب الذي يؤكد على المدرس نفسه، في أن يكون قدوة لتلاميذه ، فيضفي عليهم من شخصيته الأكاديمية ما يفيدهم ويعينهم على الاطلاع على الأدب ومراجعه .
وتنتهي الورقة بعدد من المقترحات الداعمة لأساليب التدريس أهمها ، الدراسات المقارنة بين تدريس الأدب القديم وغيره من الأنواع الأدبية، بهدف التقويم المستمر ، ليتبين الطالب الفروق بين هذا الأدب وتلك الأنواع .
الورقة الحادية عشرة: بعنوان: (في أساليب تدريس الشعر العربي الحديث والمعاصر )،إعداد:الدكتور ياسر أبي عليان ( تخصص لغة عربية)، من جامعة الخليل .
تبدأ الورقة ببيان أهمية هذا الشعر مع ربطه بالأدب القديم وبما لدى الأمم الأخرى، وتسليط الضوء في تدريس الأدب والشعر الحديث ، على دوره في تصوير الحياة العامة للشعوب .
وتقسم الورقة فنون الأدب الحديث فيما يلي: الأدب المعاصر، وبيان ما يتضمن من فنون ، والأدب المهجري ، ومفهومه وفنونه ، ثم الأدب الفلسطيني ، وما يصور من مأساة الشعب الفلسطيني ،
ثم الأدب المقارن ، وأهميته في بيان مواطن الشبه والاختلاف في أحوال الشعوب . وتنادي هذه الورقة بضرورة الاطلاع على الآداب الأوربية الحديثة . ...
وتتطرق الورقة من بعد إلى اتجاهات هذا الشعر، وهي: الاتجاه الوطني، والاتجاه القومي، والاتجاه الإسلامي، والاتجاه الإنساني ، فتبين تغطية هذا الشعر لهذه الاتجاهات كافة بثراء كامل .
ثم تتناول الورقة فنونًا من الشعر الحديث والمعاصر ، من حيث الشكل ، وما طرأ من تجديد في هذا المجال .(75/29)
وتنتهي الورقة ببيان مشكلات تدريس هذا الفن، من عدم توافر الكتب المناسبة ، بالإضافة إلى كثرة الأخطاء اللغوية التي تضع مهمة صعبة على عاتق الأستاذ الجامعي، وقلة مصادر البحث المتاحة للطالب، وضيق صدر المحاضرين ، الذين إذا خالفهم الطالب في رأي ينحاز للقديم ضد الجديد تثور ثائرتهم .
ثم جرى نقاش حول الورقتين الأخيرتين أثراهما وبخاصة في مجال التعريف بالمصطلحات .
الورقة الثانية عشرة: بعنوان : ( طرق تدريس مادة النقد الأدبي القديم )، إعداد: الدكتور سمير شحادة ( متخصص في اللغة العربية )، من جامعة بيرزيت .
تعرض هذه الورقة مناهج تدريس النقد القديم، وهي: المنهج التاريخي، ويقوم على تحديد سمات العصور التاريخية ، والمقارنة بينها. ثم المنهج الفني، ويقوم على تحديد الأصول الفنية الموضوعية ، التي يجب أن تتوافر في النص الأدبي ليكون صالحًا للبقاء . والمنهج التطبيقي، ويقوم على رصد الملاحظات والنصوص النقدية التي تمثل مسيرة النقد الأدبي القديم ، من ملاحظات جاهلية، فإسلامية فأموية فعباسية، حتى تلك التي وردت في بطون الكتب النقدية المختلفة عبر العصور .
ويبدي الباحث تجربته الشخصية في تدريس النقد، فيعلن أنه حاول السير حسب منهج من هذه المناهج ، غير أنه لم يستطع ، مما اضطره إلى الأخذ بأسلوب توفيقي بينها جميعًا .
تنتهي الورقة بمقترحات أهمها: اتباع المناهج السابقة كافة، وإيجاد الكتاب(75/30)
تعليم اللغة العربية للناطقين بلهجة من لهجاتها
في مراحل التعليم الهولندي *
للأستاذ الدكتور فريد ليمهاوس
الحقيقة أنّ سبب هجرة العرب إلى هولندا مجهول إلى حدٍّ ما.ولعل السبب قلة عدد المهاجرين نسبيّا فربما لا يزيد عددهم عن ربع المليون. وإن كان عدد المنتسبين إلى الشرق الأوسط غير ضئيل فأغلبيتهم من ريف المغرب العربي أصلاً .
ابتدأت موجة الهجرة فى أواخر الخمسينيات، وبلغت أوجها فى الستينيات وأوائل السبعينيات . وقد اكتسب الدفعات الأولى من العمال الأميين البسطاء - الذين وقعوا فى الفخ كمعظم المهاجرين إلى أوربا وقتذاك -قوتًا بسيطًا وادّخرت مبالغَ زهيدة؛ لتحويلها إلى الوطن؛ لتيسير معيشة أسرهم هناك،ولكن لم يتمكن أولئك المهاجرون من كسب الثروة المطلوبة؛ للعودة إلى الوطن ، ولبدء
صفحة جديدة فى حياتهم مع قومهم.
والنتيجة معروفة ، فبدل العودة إلى أسرهم مكثوا بالبلاد الواطئة إليها كما مكث غيرُ العرب من العمال الأجانب فى هولندا وسائر بلاد أوربا.
وبدأ الفصل الثاني من تاريخ هذه الهجرة بجمع شمل الأسر فى هولندا، واندماجهم فى المجتمع الهولندي . وربما لا ييئس أكثرُهم من العودة إلى الوطن يومًا ما وبحكم العادة يتعلّم أولاد العرب القاطنون هولندا فى المدارس الهولندية ، التى كانت تقوم على تدريس المناهج الهولندية ؛ فلم يدرسوا اللغة العربية رغم أن أغلبيتهم يتكلم لهجة من لهجاتها . وبطبيعة الحال افتقر شباب العرب المقيمون فى هولندا إلى دراسة اللغة الأصلية . واعترفت السلطات التربوية بحق(76/1)
تدريس اللغة الأصلية الخصوصية . وكان هذا الاعتراف وفقًا للمبدأ الذي مُنح للفريزيين الأصليين المقيمين فى محافظة فريزيا، حق تعلُّم لغتهم الخاصة المختلفة عن اللغة الهولندية، على الأقل فى السنوات الثلاث الأولى من مرحلة التعليم الابتدائي . وطُبِّق هذا الحق على أولاد الأتراك والمغاربة المقيمين فى هولندا بتقديم البرنامج المعروف بعنوان (OETC) Onderwijs in Eigen Taal en Cultuur أى (تعليم اللغة والثقافة الخاصة الأصلية ) .
ابتدأ البرنامج سنة 1974م، وكان يُدَّرس في أول الأمر بالإضافة إلى الدروس الهولندية المقررة فى مرحلة التعليم الابتدائى . ورغم وجود مصاعبَ شتّى - مثل :قلة المدرسين، ونقص المناهج التعليمية ، وانخفاض عدد الحصص ، التى كانت تقل فى معظم الأحيان عن ثلاث ساعات فى الأسبوع- ازداد عدد التلاميذ المشتركين فى هذا البرنامج، لأول مرة، فقد بلغ عدد التلاميذ الذين اشتركوا فى برنامج تعليم اللغة والثقافة العربية فى سنة 1982م – على سبيل المثال - عشرة آلاف تلميذ تقريبا، أى 60% من التلاميذ المستهدفين. وبفضل ملاحظات النقد من جانب الوالدين، وتصحيح المناهج التعليمية المتوافقة مع موقع التلاميذ فى البيئة الهولندية غير العربية، التى كانوا يعيشونها ويتعايشون معها تحسّنت نتائج هذا النوع من تعليم اللغة العربية للتلاميذ الناطقين بلهجة من لهجاتها ،ومع ذلك تُعتبر هذه النتائج محدودة بطبيعة الحال فكانت هناك مشكلة .
وللمشكلة ناحيتان: أولاً: لم تكن لغة أولئك التلاميذ الناطقين باللغة العربية وأهليهم هى اللغةَ الفصحى بل اللغة الدارجة - وفى الأغلب الغالب كانت لهجة من لهجات المغرب - وثانيًا: بيئتهم المدرسية هى البيئة الهولندية وجميع المقررات الأخرى كانت تُدرس باللغة الهولندية.(76/2)
ولا عجب أن النتائج محدودة فعلا إذا قورنت بالمستوى المحقّق فى البلاد العربية بعد اختتام التعليم الابتدائي . ومع ذلك فالمهم أن نسبة كبيرة من أولاد العرب المقيمين في هولندا آنذاك كانت تجيد إلى حدٍّ ما اللغة العربية.
ومن عهد قريب أدُرِجت مادة اللغة العربية ضمن المناهج الدراسية فى المدارس الإعدادية الهولندية ونتيجةً لذلك أصبحت اللغة العربية – لأول مرة – مادة رسمية في الجدول الرسمي القومي للتعليم الإعدادي الهولندي عام 1995م وتم التقدير الأول لمستوى النتائج في شهر سبتمبر من العام الماضي في مؤتمر صغير أُقيم في دار المعهد المركزي لوضع الامتحانات وتطويرها Centraal Instituut voor Toets Ontwikkeling (CITO) وليس هذا خاتمة المطاف حيث بدأت المناقشات لإدخال اللغة العربية كمادة رسمية في جدول الامتحانات الرسمي حتى في التعليم الثانوي .
وعلى الرغم من كل هذه التطوّرات الإيجابية، فأغلبية الطلبة الذين ينتمون إلى الجالية العربية والذين يدخلون الجامعات الهولندية ومعاهد الفنون التطبيقية،هم ناطقون بلهجة من اللهجات العربية وليسوا قادرين على قراءة اللغة الفصحى أو كتابتها، أو حتى النطق بها بمستوى مُرضٍ. والسبب كما أوضحتُ فيما سبق أن اللغة العربية لم تدخل في بعض المدارس الإعدادية إلا منذ عهد قريب ولم تدخل المدارس الثانوية حتى الآن .
ومع ذلك نلاحظ في الجامعات الهولندية أن أغلبية الطلبة العرب المندمجين في المجتمع الهولندي راغبون في استخدام اللغة العربية الفصحى؛ قراءةً وكتابةً وحديثًا .ولذلك يختار البعض منهم اللغة العربية التي تُدرس في أقسام اللغة العربية كمادة فرعية ويحضرون الدروس والمحاضرات في هذه الأقسام ،غير أن هذه الدروس مخصصة للطلبة الهولنديين الذين لا يعرفون اللغة العربية على الإطلاق .(76/3)
ويمكن أن نلخّص المشكلة فيما يلي : تعليم مادة اللغة العربية الفصحى في الجامعات الهولندية يسير وفق قواعد اللغة الهولندية ومفهومها، وليس من منطلق اللهجات. وكان من نتيجة ذلك تناقص دوافع الطلاب وتركهم الدروس، مع أن الرغبة مازالت موجودة وليس السبب الوحيد أن إجادتهم للغة العربية تدعم هويتهم العربية على مستوى لغوى يتناسب مع مستوى ثقافتهم الهولندية، بل لأن إجادة اللغة العربية كانت تزيد من فُرض الحصول على وظيفة في سوق العمل. فتزداد أهمية اللغة العربية كتابةً وحديثًا في المنشآت والهيئات الهولندية والأوربية في الميادين الثقافية والدينية والاقتصادية التي تُجرى اتصالات مع العالم العربي مثل: البنوك، ومؤسسات التصدير، وجمعيات المساجد، ووزارات الخارجية، والسفارات العربية… إلخ .
إنّ انتماءهم للحضارتين الأوربية والعربية مع خبرتهم الخاصّة فى ميدان دراستهم، يزيد كفاءتهم للقيام بالوساطة المتمرسة بين الحضارتين في مجالات شتى .
بناءً على ذلك قمنا في الشعبة العربية من قسم لغات الشرق الأوسط وحضاراته في جامعة خرونينغن بتهيئة مشروع لتطوير برنامج جامعي خاصّ لتعليم اللغة العربية للطلبة الناطقين بلهجة من لهجاتها، وطلبنا التمويل المادي من المركز المتخصص بشؤون التعليم العالي للطلبة من أصل أجنبي Expertise Centrum Hoger Onderwijs Allochtonen . ولقد حصلنا على موافقة المركز في تمويل المشروع في بداية هذا الشهر .(76/4)
وسيشاركني في وضع المنهج الزميلان المدرّسان في القسم السيدة فريدة جواد، والسيد نصر الملاح . وسنستند في تطوير هذا البرنامج المذكور إلى المنهج المشهور الذي قام بإعداده جماعة من الخبراء العرب تحت إشراف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وهو " الكتاب الأساسي في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها " ( 3أجزاء ) للأساتذة: السعيد محمد بدوى، وفتحى على يونس، ومحمد حماسة عبد اللطيف ، ومحمود الربيعي، ومحمود البطل. وهدف مشروعنا هو إعداد كتاب مرافق لهذا المنهج المفيد يشرح الاختلافات البارزة بين اللهجات واللغة الفصحى للطلبة الناطقين بلهجة من اللهجات العربية . ونريد أن نعرفهم هذه الاختلافات فى جميع دروس الكتاب الأساسي وعلى مستوى الصوت أو اللفظ، على مستوى الصرف والنحو، وكذلك على مستوى القاموس . وهدفنا الأساسي هو إتاحة الفرصة للطلبة
لتقوية إلمامهم باللغة العربية الفصحى بطريقة سليمة بعد إتمام كل دروس الكتاب الأساسي.وبالتالي نأمل باعتبارنا قسمًا متخصصًا فى لغات الشرق الأوسط تابعًا لجامعة خرونينغن أن نساهم فى تطوير المجتمع الهولندي المتعدّد الثقافات بإذن الله . ونأمل كذلك أن نفيد من الخبرة العريضة العميقة فى هذا المجال الموجود لديكم أيها الزملاء الأعزاء ولدى سائر الخبراء فى العالم العربي إن شاء الله .
فريد ليمهاوس
عضو المجمع المراسل من هولندا(76/5)
توحيد التعريب في البلاد العربية
الصعوبات والحلول
للأستاذ الدكتور يوسف عز الدين
ضرورة التعريب :
إن تعريب العلوم والفنون والآداب من اللغات الأجنبية ضرورة حضارية؛ لأنه النافذة التي نطل منها على حضارة الغرب ، ونعرف مسيرته الفكرية وتطوره العلمي وتقدمه التكنولوجي ؛ فتصبح الرؤية واضحة أمامنا لواقعه الحضاري وتطوره التقني.
والتعريب يعيد ثقة العالم العربي بنفسه وبعلمه وقدرته الشخصية على الإنتاج والإبداع بلغته ، فتتطور وينفسح المجال العلمي أمامه ، ويُزْكي التطور في جذوره الأصالة في نفسه؛ فيتسع أفقه في تجاربه، فيطور مادته، ويجدد في أسلوبه عندما تكون المخترعات الحديثة طوع يديه، ويصبح قادرًا على الاستفادة الكاملة منها .. ولا يكون مستعمًلا أو مستهلكًا لها دون أن يقدر على صيانتها وإدامتها والسيطرة على عملها بسهولة ويسر .إن فهم الآلات الصناعية ومعرفة أسلوب تشغيلها خير سبيل للسيطرة على المخترعات، والاستفادة منها الفائدة المرجوة من الباحث والدارس والتاجر والعالم .(77/1)
والتعريب قادر على احتواء الحضارة المعاصرة مهما تعددت أشكالها وقواعدها العلمية .. وبذلك لن نستورد الآلات والمصانع والخبراء؛ لأن الاستيراد والاستهلاك لن يكونا حضارة متقدمة إذا لم نسيطر على المخترعات ونصنعها في أوطاننا وسوف نكون عالة على ما يُصدِّر لنا الغرب بحسب هواه ورغبته .. وهذه اليابان ،والصين ،وروسيا ، وأخيرًا ماليزيا، وتايوان، وكوريا لم تتقدم إلا بعد احتواء هذه المخترعات،وبعد أن فهمت أسرارها، صنعت ما يفيدها؛ لأنها ترجمت إلى لغاتها كل ما كتب عنها لكي تفهمها فهمًا دقيقًا ، ويسيطر أبناؤها عليها دون وساطة الخبراء الأجانب والمهندسين الذين يصحبون هذه الآلات إلى بلادهم؛ فالعالم الذي درس العلوم بلغته سيستوعب أدق الأجزاء وأوسع التجارب والخبرات في الآلات التي تصنعها الدول الصناعية المتقدمة، ومتى استوعب الأمور الدقيقة في التجربة العلمية والآلة الحديثة فسوف يثق بنفسه ؛ لأنه يشعر بالقدرة على الفهم والاستيعاب ،فيحترم لغته ويتفاعل بها مع العلوم الحديثة ويطورها ، ويبدع في تجاربه ولن يحس بالنقص أو الانبهار أمام التكنولوجيا الغربية، والنظريات العلمية المتطورة .
إن استيعاب العالم لمفردات لغته وفهم ألفاظها وجذورها الحضارية يسهل عليه التطبيق الميداني، والدراسة النظرية؛ لأنه فهم محتويات المواد التي تعامل معها بلغته وعرض مكوناتها وموادها بدقة وعمق ، وانفتح أمامه
ميدان الفكر العلمي.
فالتعريب عامل مهم في الإبداع في التجارب العلمية والمستجدات الحضارية العلمية المتطورة .. ويصبح العالم العربي عاملاً مساعدًا في تطوير العلوم المعاصرة ويشارك في مضمار التقدم العلمي والتقني.(77/2)
ولعل من أهم فوائد التعريب التخلص من الاستلاب النفسي، الذي يحدث عند بعض الدارسين والمفكرين عندما يقارن بين واقعة العلمي وبين العالم المتطور، ويعجب بالغرب وعلومه ولغته. فقد أيقن بعض الدارسين أن لغة الغرب هي لغة القوي المتطور ولغة الذرة، والصاروخ، والحاسب الآلي، وفيها ضمان للانفتاح على العالم والتخلص من الازدواجية النفسية التي يعاني منها وانفصام الشخصية الذى آذاه .
المعرب والمترجم :
هناك اختلاف واضح بين الترجمة والتعريب فعلى قدرة المترجم وفهمه اللغات يكون قادرًا على فهم العبارة وتعريبها وصياغتها بأسلوب عربي فصيح وصياغة عباراته بحسب الذوق العربي السليم .. وهناك صلة لا شعورية بين اللغة والفكر الإنساني، يتحكم فيها المترجم لجذور اللغتين وتاريخهما، وتظهر في انتقاء الألفاظ وصياغة العبارات، ومن فهم الاختلاق الجذري يكون قادرًا على تعريب المعاني ووضع المصطلحات بسهولة ويسر؛ لأن الدقة العلمية وفهم الألفاظ وجذور الكلمات تعين المترجم على الصياغة السليمة والأسلوب الفصيح، وتكون النتائج العلمية دقيقة ؛ لأنه سوف يبتعد عن الاقتباس اللغوي الكامل والحرفي، بعد أن استوعب العلوم التي يعرب منها ويصبح شديد الوعي بالذات الحضارية وبلغته وجذورها .
الاستجابة النفسية :(77/3)
إن اقتناع المترجم والمعرب بجهده العلمي، وثقته النفسية، وإيمانه بقدرة لغته من أهم العوامل التي تظهر على عملية التعريب؛ لأن التعبير الداخلي يظهر على الكلمات والألفاظ والجمل التي يعربها ومتى أحس باللذة الروحية فسوف تؤثر في عمله الذهني وإنتاجه العلمي؛ لأن صلة اللغة بالعلوم والفنون والآداب صلة تفاعل عميقة الجذور. وعلى قدر سبرغور العلوم وفهم اللغة يكون الإقناع النفسي بجدوى عمله، واتساع مداركه في فهم الأجزاء الدقيقة التي احتوى معانيها وعرَّبها وبخاصة أن قدرة اللغة العربية وطاقتها الكبيرة من العوامل المساعدة على الفهم الدقيق؛ لأن إرثها التاريخي والحضاري زاخر بالقابلية الواسعة، وأن غناها بالمفردات والمرادفات والاشتقاق تساعد المعرِّب على مرونة العمل وحرية التعريب .
مصر الرائدة :
وقد نجحت عملية التعريب في مصر عندما آمن القائمون عليها في زمن محمد علي باشا بأنهم يخدمون أمتهم؛ فقد كانوا من الأزهريين ذوي الثقافة العربية الأصيلة وترجموا كتب الطب، والفلك، والكيمياء ،والفيزياء ولو استمرت هذه العملية لوفرنا على أنفسنا كثيرًا من الجهود والعناء النفسي، وتخلصنا من القلق الروحي وضياع الثقة باللغة العربية وبقدرة النفس العلمية والإيمان بأمتنا. وقد بقيت اللغة العربية صامدة برغم حكم الدولة العثمانية، والفرس، والمماليك، والإنجليز، والطليان، والفرنسيين، والأسبان للأقطار العربية . بل احتوت هؤلاء وأصبحوا بفضلها مسلمين وتأثروا بحضارتنا وعلومنا .(77/4)
هناك اختلاف كبير بين العقلية الشرقية والعقلية الغربية، وقد انبهر بعض الدارسين بالغرب لقوته، وتاه وقلق؛ لأنه لم يدرس حضارة الإسلام وجذور اللغة العربية؛ لذلك وجدنا هؤلاء يحومون حول النص ولا يقدرون على التعريب الدقيق؛ لأنهم كانوا بعيدين عن إحدى اللغتين، فقد فكروا باللغة الغربية فكان تعريب النص غير مفهوم عربيًّا، وعندما يفكر العربي بلغته يبتعد عن القيد اللغوي الأجنبي فيجيد في التعريب بعد قراءة النص؛لأنه استوعبه وفهمه.
لذلك كان المعربون المصريون زمن محمد علي باشا قادرين على فهم النص الغربي؛ لأن لهم قاعدة عربية أصيلة، إذ فرض محمد علي باشا التعريب على أعضاء البعثات التي عادت بعد الدراسة ووجدنا في تعريبهم سلامة اللغة وفصاحة الألفاظ ودقة الكلمات، ومن هذه الكتب التي عربت :
1- الأزهار البديعة في علم الطبيعة ، تأليف مسيو بيرون معلم الكيمياء بمدرسة الطب ، جمعه من كتب الفن الفرنسية وترجمه يوحنا عنجوري، مع مساعدة المؤلف لمعرفته اللغة العربية، وصححه يونس الواعظ المصحح .
2- التشريح العام ، تأليف كلار، ترجمة عيسوي النحراوي، وصحح الكتاب عوض القناتي وعلي العدوي وقابله مع بيرون الكيماوي .
وقد وضعت المؤسسات العلمية زمن محمد علي باشا معجمًا كبيرًا في عدة مجلدات سُمِّي قاموس القواميس الطبيعية .
ولابد من ذكر الجهود العلمية الأخرى في إصدار يعسوب الطب، التي كانت تختار المقالات العلمية من مختلف المصادر وتنشرها، وجهود روضة المدارس في هذا الصدد .
الصعوبات أمام التعريب :
تقف أمام توحيد التعريب بل التعريب نفسه، كما كان في الجزائر، عدة عقبات مصطنعة منها :
1- عدم إيمان بعض الدارسين بالتعريب نفسه، إذ يضع الدارس العقبات تهربًا من التعريب، وكسلاً من ممارسته وشعورًا بالنقص فيظن اللغة الأجنبية تكسبه زهوًا وفخرًا .(77/5)
2- الاعتذار بأننا يجب أن نعرِّب كل ما صدر عن الغرب من العلوم، حتى تكون المعلومات العلمية متوافرة؛ ليكون التعريب سهلاً عليهم، وتكون لدينا حصيلة لغوية كافية .. وهذا العذر بعيد عن الواقع؛ لأن عملية الانتظار حتى يتم هذا التعريب سيضيع فرصًا من الاستفادة من التطور السريع للاكتشافات العلمية، ونحن بحاجة إلى مسايرة الركب الحضاري .
3- الادعاء بأن التعريب سوف يكون سببًا في تدني المستوى العلمي . فهل هبط هذا المستوى في اليابان، والصين، وروسيا، والدول التي تدرس العلوم بلغاتها؟ أم أنها أبدعت وتقدمت وتطورت ؟ لقد حدث العكس ،فقد جاء التطور نتيجة فهم النظريات العلمية الجديدة بلغاتها وممارسة التجارب الكثيرة في الأمم الأخرى،كما أن بعض الأقطار العربية، تدرس العلوم باللغة العربية، وقد تفوق الخريجون منها لما ذهبوا لإكمال دراساتهم العليا في بلاد الغرب.
4- ادعاء بعض الدارسين بأن اللغة العربية لا تستوعب المصطلحات العلمية للمخترعات الجديدة، وقد برهن مجمع اللغة العربية بالقاهرة والمجامع العربية الأخرى على خطأ هذا الرأي بما أصدرت من معجمات متعددة في مختلف العلوم، إضافة إلى أعمال المؤسسات العلمية والجامعات ومراكز التعريب، التي سهلت الدراسة والبحث العلمي الرصين باللغة العربية لطلاب العلم الذين يدرسون باللغة العربية .
5- القول بأن المصطلحات التي وضعت لا تطابق المعنى العلمي والحقائق الحديثة . ونسى هؤلاء أن المصطلح هو ما اصطلح عليه المختصون في أمر من الأمور، فقد وضع الإسلام كلمات جديدة لم تكن معروفة بهذا المعنى قبل ظهوره، فالزكاة معناها نماء الشيء، والصلاة أصلها الدعاء ثم أطلقت على شعائر محددة معروفة ، والكفر معناه التغطية، فقوله تعالى : "أعجب الكفار نباته" أي: الزراع؛ لتغطيتهم البذور في الأرض والستر وغيرها من المصطلحات. وقد أورد ابن فارس في فقه اللغة الكثير من هذه المصطلحات والمعاني ..(77/6)
ومما لاشك فيه أن هذا القول الخاطئ جاء نتيجة الانعزالية والإقليمية .
6- جهل بعض الدارسين باللغة العربية ومعرفتهم المحدودة باللغة الأجنبية، حال دون استيعابهم لعملية التعريب بصورة دقيقة فلجؤوا إلى اتهام اللغة العربية بعدم قدرتها على احتواء نصوص اللغة الأجنبية وعدم قابليتها لهضم المصطلحات العلمية في استيعاب معانيها ومضمونها .
7- عدم وجود أجهزة للتنسيق بين المؤسسات العلمية والتعاون فيما بينها كالجامعات، والمجامع، ومؤسسات التعريب فكل مؤسسة تعرب ما تريد، وتظهر عددًا من المصطلحات المتنافرة فتحول دون توحيد عملية التعريب والاستفادة من الخبرات الكثيرة التي يبذلها العلماء .
8- قلة المصادر العلمية في المكتبات العامة، ومكتبات الجامعات، والمجامع لكي يستفيد المعرب من وجودها ويرجع إليها طالب العلم ليقوي قابليته لفهم العلوم الجديدة. فمن الضروري إنشاء مكتبات متخصصة تخدم الفكر العلمي والبحث الدقيق لتكون بين يدي طلاب العلم .
تعريب العرب :
إن من يدرس ما ينشر في الصحف ووسائل الإعلام، ويتصل بالجمهور العربي في كل مدينة يجد تفشي الكلمات الأجنبية في الصناعات المتعددة بل حتى في طعامنا نجد كلمات لا يفهمها إلا أبناء القطر الواحد، مع أن اللغة العربية تدرس في المدارس والجامعات والمعاهد .(77/7)
وقد سمعت أن بعض مدرسي اللغة العربية يدرسونها باللغة العامية مثل تدريس الكيمياء والفيزياء، والطب، ويجب أن نتذكر الجهود المضنية التي بذلها الرسول- صلى الله عليه وسلم- حتى جمع العرب على لغة قريش التي نزل بها القرآن الكريم؛ فقد تفرقت هذه اللغة واختلفت ؛ وأخشى اليوم الذي يقال فيه لغة القاهرة، ولغة الإسكندرية، والرياض، والطائف، والموصل، وصنعاء، والرباط، وغيرها من البلدان العربية، كما حدث في اللغات الأوربية .. فتسمع في الشارع شكمان، ومارشير، وكنداسة، وساندويج، وكفرات، وتايرات، وترنجات، وطربيزة، وجرباية، وكويل، والشوب، والطور. وها أنا أقدم قائمة ببعض الألفاظ في البلاد العربية :
مصر: معلقة ، فرن ، لب ، فول سوداني، علبة ، مفك .
العراق : خاشوكة ، مخبز أو تنور ، حب، فستق عبيد ، قوطية ، درنفيز.
ليبيا : كاشيك ،كوشة ، زرعية ، كاكاوية ، حكية ، كشفيتة .
المملكة العربية السعودية: ملعقة، مخبز أو تنور، فصفص، لوز، علبة، مفك.
سوريا : خاشوكة ، فرن أو تنور ، بزر ، فستق ، علبة ، مفك .
ومن المصائب أنني سمعت بدويًّا يقول لصاحبه ( أوكي )، وهناك أكثر من إذاعة لبنانية تتحدث باللهجة اللبنانية ولا أدري إن كانت لغة بيروت، أو لغة صيدا، أو صور هي التي تتحدث بها .
الحلول المقترحة لوحدة التعريب :
1- وضع صيغ علمية موحدة ومصطلحات متشابهة؛ ليسهل على الدارس فهم النص العربي في كل أقطار الدنيا العربية بصورة واضحة، وقد سهلت المؤسسات العلمية هذه
الخطوة وإن اختلفت المسميات .(77/8)
2- تدريس لغة أجنبية مع اللغة العربية لتسهيل العودة إلى المصادر الغربية؛ لأن الطالب متى أتقن لغته ولغة أجنبية أخرى فسوف تسهل عليه الاستفادة من المصادر والمراجع، فيعد الدارس إعدادًا علميًّا على أسس قوية واتجاه سليم، وإذا بدأت هذه العملية من المدارس الثانوية فسوف يكون الطالب مستعدًّا لفهم النص العربي والأجنبي في وقت واحد وسوف تكون الدراسة بالعربية سهلة عليه نظرًا لطاقته الفكرية.
3- ضرورة التنسيق والتنظيم بين المؤسسات التي تعنى بالتعريب في الوطن العربي؛ لأن التنسيق لا يكاد يذكر بين أصحاب الاختصاص ، وتبادل الخبرات والتجارب يتم بالاجتماعات الدورية، وقد فكرنا في العراق في هذه الاجتماعات وعقدنا أول اجتماع في بغداد، ثم في القاهرة، ولكن الأقطار العربية الأخرى لم تستجب لهذا التنظيم والتوحيد والتنسيق.
4- عقد دورات ولقاءات دورية يتبادل فيها المختصون الخبرات والنتائج التي توصلوا إليها في التعريب وإجراء مناقشات واسعة النطاق في هذا الصدد .
5- ولتسهيل عملية توحيد التعريب لابد من وضع ضوابط عامة، وقواعد محددة لأساليب التعريب يسير في هديها الدارس والمعرب، ويجب أن تعمم على المختصين للأخذ بها. ووضع هذه القواعد من مهمة المجامع ومراكز التعريب والجامعات .
6- وقبل كل هذا لابد من وجود المراكز العلمية للتعريب - وهي موجودة في بعض الأقطار العربية -مهمتها المساعدة على العمل، وتسهيل مهمة المعرب ، وطبع المؤلفات وإصدار نشرات دورية ومجلة خاصة بالتعريب، والوقوف أمام الانعزالية والإقليمية التي تحول دون
تبادل الخبرات والتجارب بين هذه المؤسسات .(77/9)
7- إصدار نشرات ومجلات موحدة الهدف تجمع ما توصلت إليه هذه المؤسسات من مصطلحات، وآراء وتجارب، وخلاصة الأمور التي تهم المعرب التي تصدرها المؤسسات العربية ، والعمل على تنسيق جهودهم وتنظيم عملية التعريب ، تكون بين يدي القارئ للاستفادة اليومية منها، وتباع بثمن رمزي وتستدرك على ما تجده في المؤسسات من ترجمة المقالات العلمية.
وقد سبقنا إلى هذا العمل رفاعة الطهطاوي عندما أصدر مجلة (روضة المدارس ) الصادرة ما بين عامي 1265 و1268هـ ، و( روضة المدارس ) تجربة رائدة ،مع ( يعسوب الطب ) التي كانت تختار المقالات الجديدة من المجلات الغربية وتترجمها وتضعها بين أيدي الدارسين .
8- التعريب الميداني، وقد قامت المجامع بتعريب الكثير من أدوات السيارة والمكائن، والحرف وأخذت الجيوش العربية تستعمل أسماء آلات الحرب باللغة العربية، بعد أن صدر المعجم العسكري الذي أصدرته جامعة الدول العربية .
ويمكن أن يبدأ التعريب الميداني في المدارس الصناعية، والمعاهد الجامعية؛ ليخرج المهندس وهو مزود بأسماء الآلات العربية، وينشرها بين العمال عندما يدخل الحياة العملية في المصانع، والمعامل؛ لتكون أكثر انتشارًا بين أبناء الحرف .(77/10)
9-ويمكن الاستفادة من المصطلحات العربية في التراث العربي بالعودة إلى كتب العلوم عند العرب، كما استفادت حركة التعريب في زمن محمد علي باشا وأخرجت الألفاظ والمصطلحات التي استعملها العرب، وأخرجت الحركة الألفاظ والمصطلحات القديمة من معانيها إلى المعاني الجديدة؛ لتلائم حاجات الحضارة المعاصرة وفقًا للأسلوب العربي، وقد اخترع هؤلاء بعض الكلمات ووصفوا بعض المصطلحات التي لم يجدوها في هذه الكتب، وكان المعرب فى ذلك الزمن أزهريًّا شديد الفهم وكان يقابل المؤلف الأجنبي بعد أن تتم ترجمة الكتاب، ولا شك فى أن كتب التراث كثيرة المصطلحات، فقد استفاد الغرب من ( القانون ) في الطب لابن سينا وبقي مصدرهم حتى القرن السابع عشر ، كما استفادوا من كتب الحسن بن الهيثم، والخوارزمي،ومن هذه الكتب:
الحاوي في الطب للرازي .
مفاتيح العلوم للخوارزمي .
مصنفات في علم الكيمياء لجابر بن حيان .
مقالة في الضوء للحسن بن الهيثم .
القانون في الطب لابن سينا .
جامع مفردات الأدوية والأغذية لابن البيطار .
وغيرها من كتب العلوم والفلك والجغرافيا .
إن الأسلوب العلمي الذي وضع في فترة محمد علي باشا ، فترة انتقال حضاري ، وبعث علمي ، ونهضة جديدة. وقد تطور العلم الآن تطورًا كبيرًا، اختلفت فيه الأساليب العلمية في البحث بما وصلته المخترعات الحديثة، لكن يمكن الاستفادة من هذه المرحلة فقد كانت أول مرة يلتقي فيها علماء الأزهر بالعلوم الحديثة ، ولهذا كانت تراكيب اللغة جديدة والمصطلحات متقنة وإن اختلف المعاصرون معها، ولكنها تعطينا طريقة التعريب، وتظهر حرصهم على اللغة.
النشر الواسع :(77/11)
قلت إن نشر ما تصل إليه المؤسسات العلمية ، من الضروريات الأساسية لتوحيد التعريب، وأنا أعود فأؤكد على ضرورة وصول جميع الآراء والأفكار إلى جميع المؤسسات بتبادل الخبرات والتجارب، وإن كانت هذه النتائج مختلفة فيمكن فلا مانع من وضع أكثر من مصطلح لكلمة واحدة؛ لأن النشر في المؤسسات العلمية مازال محدودًا ، وتحكمه عدة عوامل ، من أهمها الضيق المالي الذي تعاني منه هذه المؤسسات ، مع شح الدول عليها بالمال الذي يساعد على اتساع الانتشار .. وأتمنى أن تؤسس مطابع خاصة بكل مؤسسة ؛ لتتمكن من طبع النتائج بأعداد كبيرة، وإنشاء هيئات علمية خاصة تنشر نتائج التعريب من معاجم، ومجلات،وكتب علمية مختصة بفروع المعرفة ويناط بهذه الهيئات صلاحيات لتشجيع التعريب وطبع إنتاج العلماء على نطاق واسع على أن تباع هذه المطبوعات بأسعار رمزية لتزيد من التوعية العامة عند أكبر عدد من الناس .
الجامعة العربية :
إن جهود الجامعة العربية محدودة في التعريب، ونشر اللغة العربية. ويمكنها مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم من الإسهام في توحيد هذه العملية القومية ، وفي الجامعة العربية اتفاقيات ثقافية مشتركة صدرت عن الحكومات العربية سنة 1946 م، ومنها المادة التاسعة التي تنص على الوصول باللغة ( العربية ) إلى تأدية جميع أغراض التفكير والعلم الحديث، وجعلها لغة الدراسة في جميع المواد في مراحل التعليم في البلاد العربية ، ووحدة التعريب أهم قاعدة ترتكز عليها هذه الأغراض .(77/12)
ومع كل ما يبذل من جهد كبير في الجامعات العربية والمجامع والمؤسسات فلم تحقق وحدة التعريب ما نرجوه لها من انتشار، وكنا نأمل أن تلتزم هذه المؤسسات بوحدة التعريب بالتنسيق والتعاون، وتبادل الخبرات، وكثرة الاجتماعات، ولكن حوائل كثيرة رسمية وغير رسمية تعوق هذا التنسيق وأهمها: قلة المال، وعدم تشجيع الحكومات على الفكرة بالقياس إلى المصروفات التي تصرف على الحفلات والزيارات والمجاملات المتعددة .
إن عملية توحيد التعريب تسير ببطء مع ما تبذله المؤسسات العلمية من جهود كبيرة، وعلى الحكومات مؤازرة هذه الجهود لجعل اللغة العربية لغة العلم والفكر، والشارع، والمهنة، والوقوف أمام وسائل الإعلام التي تنشر اللهجات العالمية بكل جرأة .
ولابد أن أنوه بالعمل الذي قامت به الجزائر، وجهودها في تطبيق قانون اللغة العربية الذي جُمِّد فترة طويلة، إذ صادق المجلس الوطني الانتقالي ( مجلس الأمة المؤقت ) في 17/12/1996م على تعميم اللغة العربية ورفع التجميد عن القانون، الذي صدر في 1961م، وأدعو الله أن يأخذ بيد المخلصين لتطبيق هذا القانون وأن ينتبهوا إلى الصعوبات والعراقيل التي سوف توضع أمام هذا التطبيق .
الخاتمة :
إن توحيد التعريب،ونحن في هذه المرحلة، أسهل من أن تمر فترة طويلة ويستحيل فيها تحقيق هذا الهدف؛ فالعالم يتقدم بسرعة صاروخية في جميع المجالات العلمية، والفكرية، والفنية، وأصبحت حتى اللغة التي يدرسونها ويتحدَّثون بها ويضعون مصطلحات فى ضوئها تضيق بكثرة هذه المخترعات والتطور العلمي الكبير فما موقفنا نحن ونحن في بداية الطريق إن كنا قد عرفنا الطريق السليم نحو أهدافنا العلمية بصورة واضحة ؟(77/13)
إن من أول الخطوات التي يجب أن نخطوها تنسيق الجهود في حركة التعريب، والتعاون العلمي، والتنظيم الإداري في جميع المؤسسات والجامعات والمجامع، ويحاول مجمعكم القيام بكل طاقاته عندما تبنى ( اتحاد المجامع العربية ) لأن توحيد التعريب هو الخطوة الحضارية والقاعدة القوية في التطور العلمي والتكنولوجي .. وتكون هذه القاعدة قائمة على وضع تشريع أنظمة وقوانين تسن في الدول العربية، وعلى رأسها الجامعة العربية التي تشرع قبل ذلك في إعطاء امتيازات خاصة للمعرِّبين ،ومن يقفون عمرهم في خدمة توحيده ودفع عجلته إلى الأمام؛ لإتمام الغاية المنشودة من التطور الحضاري للأمة العربية وتجنيد العلماء في خدمة هذا الغرض؛ لنقل علوم الغرب كما صنعت روسيا، واليابان، والصين، حيث ترجمت الفكر الغربي الذي يستمد المصطلح العلمي جذوره منه، فلسهولة فهم هذا المصطلح يجب فهم الجو الفكري له ومعرفة المنهج العلمي الذي وضع هذا المصطلح وبهذا يكون التعريب كاملا؛ لأن فهم الحياة العلمية التي أدت إلى المصطلح والمنهج الذي سار فيه سوف يكون أكثر
فهمًا وقربًا للعالِم والمتعلم وأصحاب الحرف بخاصة .
وأخيرا : الإيمان الصادق بأن المعرب يقوم بخدمة علمية حضارية لوجه الله ولتقديم أمته، فقد قال الخوارزمي في القرن الثالث الهجري في مقدمة كتابه (الجبر والمقابلة ) ما موجزه: إن التأليف يكون احتسابًا للأجر؛ لأن فيه مشقة في كشف أسرار العلم وغوامضه .. ونذكر أن حكام بغداد لما فرضوا الأجور للأساتذة بكى الناس في المساجد،
وقالوا: إن العلم كان لله وأصبح للمال .
وبخاصة أن مهمة المعرب والمترجم ليست سهلة ، وليس كل من يعرف لغتين قادرًا على التعريب.
نرجو أن يسدد الله خطانا ويلهمنا خدمة اللغة العربية والإسلامية .
يوسف عز الدين
عضو المجمع المراسل من العراق(77/14)
معجم المصطلحات البحرية في الكويت
للأستاذ عبد الرازق البصير
كان النشاط الاقتصادي في منطقة الخليج عامة، وفي الكويت خاصة، مقصورًا على استخراج اللؤلؤ من البحر وهو نشاط عسير أشد العسر؛ لأن الذين يقومون بهذا العمل يستخدمون أدوات بدائية؛ فهم لا يعرفون الأدوات الحديثة ، والعاملون في هذه المهنة كثيرًا ما تتعرض حياتهم للخطر، فالذي يغوص في البحر لاستخراج اللؤلؤ ، لا يستخدم الجهاز الحديث الذي يمكنِّه من التنفس ، وإنما يستعمل شيئًا يسمى "الفطام " وهي قطعة صغيرة تصنع على صورة المقراض يضعها الغواص على أنفه، وتُصنَع من عظام السلاحف، كما يذكر ابن بطوطة فى رحلته، ج1 ص 177، وتضغط هذه الأداة على أنفه بصورة مؤلمة، ولو أردت ذكر الأدوات التي يستعملها الغواصون لخرجت عن القصد، ويشترك في مهنة الغوص من الكويتيين ألوف من الناس، وكم ابتلع البحر من أولئك المكافحين !
كما تعرض الكثير منهم إلى أمراض مختلفة في عيونهم وآذانهم وأجسامهم، على أن هناك مهنة أخرى للبحارة الكويتيين ، وهي نقل التمر إلى الهند وشرق إفريقيا، واستيراد الخشب لسقوف المنازل وصناعة السفن، وهذا العمل فيه كل المشقة .
وقد أُلِّفَت كتبٌ في الغوص ، تحدث فيها مؤلفوها أحاديث مفصلة، وصفوا فيها حياة أولئك البحارة المكافحين .
وقد رأى مؤلف هذا المعجم (معجم المصطلحات البحرية فى الكويت ) المرحوم أحمد البشر الرومي أن يذكر أسماء معظم السفن وأجزاءها باذلاً جهدًا مضنيًا؛ فإن أسماء تلك السفن ليست كلها عربية يسهل تفسيرها ، وإنما هي مأخوذة من الفارسية والإنجليزية والهندية، لهذا نجد المؤلف يذكر ما يستطيع أن يذكره من مصادر وأصول ألفاظها ، وسنذكر في هذا البحث ما يتسع له المجال من أسماء السفن ومنها :
أبغلة(78/1)
نوع من السفن الكويتية الشراعية ، تستخدم للأسفار البعيدة وحمل البضائع من الكويت والعراق إلى الهند وشرق إفريقيا ، والبغلة تشبه السفن البرتغالية القديمة ، وهي من أقدم أنوع السفن التي استخدمها الكويتيون للسفر في البحار العالمية .
وطول الواحدة ما بين 120 و150 قدمًا ، وعرضها ما بين 18 و 30 قدمًا، وارتفاعها ما بين 30 و40 قدمًا، وحمولتها لا تزيد عن 400 طن ، والمفروض أن هذا الاسم أطلق على هذه السفينة؛ لقوتها وقدرتها على تحمل الأسفار البعيدة ، فالبغل حيوان معروف من فصيلة الحصان ، لهذا فالبغل يملك صلابة الفرس وصبر الحمار ، ومن المعروف أن البغل مركب من هاتين الفصيلتين، وهذا مجرد ظن ؛ لأن المؤلف لم يذكر سبب التسمية .
البتيل
سفينة متوسطة الحجم ، ذات شراعين ، وحمولة البتيل في السفر تتراوح ما بين 15 و16 طنًا ، وتُستعمَل هذه السفينة في رحلات الغوص على اللؤلؤ ، وتتسع لحوالي ثمانين شخصًا،وتمتاز بشكلها الغريب، الذي يشبه سفن الفينيقيين والفراعنة ، وتتكون قاعدة البتيل التي يبني عليها هيكله من وصلتين- على خلاف السفن- أفقيا ، أما الثلث الأخير من ناحية المؤخرة ، فيتراوح ارتفاعه ما بين 12 إلى 16 درجة تبعًا لما يطلبه مالك السفينة عند صناعتها .
وقد ورد لفظ البتيل في الشعر العربي بمعنى الهضيم الدقيق ، قال يزيد بن الطَّثرية :
عقيليه أما - مِلاث إزارها
... فِدعْص وأما خصرها فَبتِيلُ
وقد رجعت إلى لسان العرب
لابن منظور ، فلم أجد تفسيرًا ، يتلاءم مع اسم سفينة البتيل ، ويقال مثل ذلك عن "المعجم المساعد" للأب أنستاس ماري الكرملي، ومعجم " دوزي " وهذه لفظة مشهورة لدى ملاحي دجلة ، وربما تكون هندية .
بقارة
نوع من السفن تشبه البتيل انقرضت، وكانت آخر بقارة في الكويت سنة 1914م ( وتنطق بالجيم القاهرية).
البوم(78/2)
نوع من السفن الشراعية ، حاد المقدمة والمؤخرة ويستخدم الصغير منها في الغوص، ويستخدم منها للقظاعة ، أما الكبير منها فيستخدم في رحلات التجارة لقطع المحيط إلى الهند وزنجبار ، والبوم شائع في الخليج العربي منذ أمد بعيد ، ويغلب على ظني أن المنية عاجلت المؤلف قبل أن يبلغ مناه في التحقيق، وقد سمعت منه- رحمه الله - أنه اقتنى قاموسًا بالتركية والفارسية؛ ليتمكن من تحقيق أصل المفردات، من أين مصدرها؟ وعلى كل حال فإن الشيخ جلالاً الحنفي يقول في معجم الألفاظ الكويتية : إن لفظة البوم من اللهجات الآرية، والبستكية، والكراشية، والأوزية، وهي لهجات فارسية يتحدث بها سكان الساحل الإيراني الجنوبي نقلاً عن معجم أحمد اقتداري بالفارسية .
دنجية
( تلفظ بالجيم المصرية ) ، وهي نوع من السفن الشراعية الهندية، أقل انتشارا من الكويتية، وتشبه البوم الكويتي، ولكنها تختلف عنه في مقدمتها التي تشبه مقدمة الشوعي .
6- سنبوك
سفينة من السفن الشائعة في الخليج، مقدمتها زاوية حادة، ومؤخرتها شبه مربعة. يستخدم النوع المتوسط منها بحثًا عن الخليج للغوص بحثًا عن اللؤلؤ ، وفي اليمن يُصنع نوع كبير منه يجتاز به اليمنيون المحيطات إلى الهند وزنجبار ، ويمتاز السنبوك الكويتي بالنقوش الجميلة التي تزين مؤخرته .
وقد جاءت لفظة السنبوك في رحلة ابن بطوطة بلفظ ( صنبوق ) .
7- شوعي
سفينة لا يختلف نوعها عن نوع السنبوك وشكله، إلا في شكل اللوح الذي بأعلى المقدمة ، وتختلف أحجام الشواعي، فمنها ما هو بحجم القارب الصغير ، ويستخدم لصيد السمك قرب السواحل ، ومنها ما يقارب حجمُه حجم السنبوك ، وكثيرًا ما يحوَّل الشوعي إلى سنبوك، إذا كان كبيرا، ويستعمل الشوعي في الكويت فقط دون سائر بلدان الخليج.
8- صياد
والجمع صياييد ، ويطلق لفظ "صياد" على السفينة من سفن صيد السمك التي تستخدم الشباك .
9- ماشوه(78/3)
قارب صغير يستخدم للتردد بين السفينة والساحل؛ لنقل البحارة وبعض الأمتعة الخفيفة ، ومؤخرة الماشوه مربعة وأصل الكلمة آرامية من "ماكونا" مجلة لغة العرب ج11، أيار ( مايو ) 1914م.
ثم يبدأ المؤلف بذكر بعض أجزاء السفينة.
10- أرقبة السكان
رقبة الدفة ، وهو الموضع الذي تشد فيه حبال التوجيه الكبيرة، وعصا السكان بالنسبة للسفن الصغيرة ، وتسمى هذه الخشبة التي تدخل في رأس السكان كانه.
11- برد
جانب السفينة الخارجي في منتصف السفينة إلى مؤخرتها .
12- بندار
مخزن في مؤخرة السفينة، وغالبًا ما يكون في السفن الصغيرة والمتوسطة ، والتي غالبًا ما تمارس عملها داخل الخليج العربِّي ، والقيِّم على هذا المخزن يسمى "بنداري".
13- تركيت
التركيت أصغر الأشرعة، ويستعمل
في حالة الرياح الشديدة فقط .
14- خدعة
والجمع خداع ، والخدعة ، فى موضعينْ على يمين ويسار السفينة بالقرب من منتصف السفينة تجاه مؤخرتها ، وهي عبارة عن غرف صغيرة من الخشب في عنبر السفينة ، وكان أصحاب سفن الغوص يقيمون هذه الغرف الصغيرة لخزن ما يزيد عندهم من المحار ، أما السفن الكبيرة التي تستخدم في السفر فلم يكن يُبْنَى فيها مثل هذه الغرف ، واللفظ يحتمل أن يكون مشتقًّا من الخدع ، وهو إخفاء الشيء، وبه سمي المخدع والخادعة، وهو البيت الصغير الذي يكون داخل البيت الكبير ، قال الراغب : كأن بانيه جعله خادعًا لمن رام تناول ما فيه .
15- ماكري
والجمع مواكر، والماكري خشبة لا يزيد طولها عن 12 سم محدبة، وفي وسطها ثقب، تثبت على المواضع التي أعدت لربط الحبال، فيقوم الماكري بمسك الحبال عن الانزلاق ، ويكون بمثابة كُلاَّب من الخشب ، والكلمة قد تكون من الأوردية، ماكري ومانكري، وفي تونس تسمى قربول .
16- خن
عنبر السفينة، ويطلق لفظ الخن أيضًا على كل ما غطاه سطح السفينة، والخن كلمة فارسية بمعنى بيت الطابق السفلي من السفينة " المعجم الذهبي " معرب " المعجم الوسيط ".(78/4)
17- مجداف
والجمع مجاديف، وتتنوع أشكال المجداف ، ففي سفن الغوص يكون رأس المجداف الذي يباشر الماء قطعة من الخشب مربعة الشكل تلصق بالمجداف وتربط بالحبال، ويوجد في سفن الغوص الكبيرة ثمانية عشر مجدافًا ، ويقل العدد تبعًا لحجم السفينة ، وتستخدم هذه المجاديف لتحريك السفينة من مكان إلى مكان في المغاص بحثًا عن محار اللؤلؤ ، والمجداف يتكون من:"زبان" و"صوار" و" غربية "و"صف"وظرب"و"طلا " ، وقد ورد في نشوار المحاضرة ج3ص 128 لمؤلفه القاضي الحسن بن علي التنوخي " علقت مجدافي في الكرك"، وتدل العبارة من السياق على أنه توقف عن التجديف ووضع مجدافه على الكرك، وفي تونس يسمى "المجداف": مقداف، والصف":فراص، أما الطلا فيسمى "مزاب" ، والزبان : " شطرمب".
مصطلحات العمل البحري
اجمع
كلمة يوجهها النواخذة لرئيس السمة ليجمع ما عند البحارة من اللؤلؤ بعد الفلق، ثم يقدم ما اجتمع لديه من البحارة للنواخذة .
أخذ
مصطلح يقال عند سبر أعماق البحر لمعرفة عمق الماء ، فيقول من يقيس الأعماق: (أخذ ) أي وصل المسبار القاع وعرف العمق ، ثم يخبر بعد ذلك بمقدار العمق بعد أن يتأكد من العلامات المثبتة بالحبل ، أما إذا لم يصل المسبار القاع ، فإنه يقول: ( ما يأخذ )، ويحدث ذلك إما لعمق الماء أو لشدة سرعة سير السفينة ، ويكون في مسيرة السفينة فقط ، أما في حالة الوقوف فلا يستخدم ذلك .
ادحجت
وتنطق باللهجة الكويتية ادحيت، ويقال ادحيت الضربة أي أن الرياح الشديدة فاجأت السفينة ، وكانت ضربة الرياح شديدة ، واللفظ مشتق من اللفظ الفصيح دحج ، فيقال: الريح دحجت الشيء، أي جرته من موضع إلى موضع .
بريخة(78/5)
عملية جر حبل المرساة لرفعها ، وتستخدم البريخة: بصفة خاصة في سفن الغوص ، نظًرا لطول حبل المرساة والبرخ في اللغة بمعنى القهر، والتبريخ : الخضوع (اللسان : برخ )، ويحتمل أن يكون لفظ البريخة مشتقًّا من البرخ نظرًا لأن سحب حبل المرساة يرغم السفينة على التقدم نحو عين الريح أو التيار .
تنور
التنور هو البحث عن المحار بواسطة منظار الماء ، وهو عبارة عن صندوق مستطيل الشكل ، قاعدته من الزجاج يرى من خلاله قاع البحر واضحًا ، والغاية من استعمال هذا الصندوق منع تموجات الماء التي تحجب الرؤية ، وقديمًا كان الغواصون يتنورون المحار بدون هذا المنظار بأن يلقوا على سطح الماء قليلاً من دهن السمك ، فيقضي الدهن على عقد الماء التي تمنع الرؤية ، فينظرون من حافة السفينة إلى سطح الماء فيظهر القاع واضحًا، وكانوا يتبعون هذا الدهن الطافي على سطح الماء مع حركة التيار، وفي اللغة: التنور هو الرؤية من بعيد، فيقال تنوروا النار، أي تبصروها من بعيد.
وكثيرًا ما يتعرض البحارة إلى أمراض بسبب كثرة استعمالهم للماء المالح ، وكان علاجهم علاجًا بدائيًّا كاستعمال " الجفت " وهو مسحوق كستنائي، يستخرج من ثمر شجرة البلوط ويستخدم علاجًا للالتهابات وقد وصف هذا الدواء ابن البيطار في الجامع لمفردات الأدوية .
وكذلك يتعرض الغاصة لمرض يسمى " الطنان " وهو ألم بين العينين عند نهاية أعلى الأنف يحدث في أثناء الغطس عند بعض الغاصة وعلى الأخص في المياه التي يزيد عمقها عن سبع قامات.
أما الحالة الغذائية فإنها تقتصر على التمر، والسمك، والأرز،والخبز.
ولا تسل عن طريقة إعداده ، فإنها تعد إعدادًا ، يكون في حالة لا يأكله إلا المضطر ، وهذه إضافة من الكاتب، أضافها بعد معرفة مؤكدة .
ويلاحظ أن المؤلف قد زار مصانع السفن الشراعية القديمة في تونس ومصر، فاقتبس من مصطلحات هاتين الدولتين للسفن ، وقارنها بمصطلحات السفن في الخليج.(78/6)
ولكي يكون لدينا تصور لعدد السفن البحرية في الكويت، فإننى أو ضِّح أنها بلغت - عام 1920م - نحو 1200 سفينة ، نقلاً عن إحصائية الموظف المسؤول عن السفن في جمرك الكويت آنذاك .
وإذا علمنا أن سكان الكويت في ذلك الحين يبلغون حوالي مئة ألف نسمة أو أقل ، تبين لنا أن مهنة الغوص والسفر تستأثر بأغلب سكان
الكويت ، لهذا نجد بعض المهتمين بالتاريخ الاجتماعي للكويت ، قد عنوا به عناية لا بأس بها ، فألَّفوا عددًا من الكتب، تحدَّثوا فيها بالتفصيل عن كل ما له صلة بهذه المهنة، فقد تحدَّثوا عمَّا تُدره هذه المهنة من مكاسب ومالها من نظم وقوانين، تطرقوا إلى ما يتصل بالسفن من أسماء وغيرها ، مما يعني أن الإلمام بهذا البحث بصورة دقيقة يقتضي أن يكون البحث مطولاً، قد لا يحتمله هذا المجال .
عبد الرازق البصير
عضو المجمع المراسل
... من الكويت(78/7)
النَّحوُ حِصْنُ الْعَربيَّةِ
للأستاذ الدكتور كامل جميل ولويك
*القسم الأول
النحو من حقائق الفصحى
... لقد ترك السابقون للاحقين شيئاً أو أشياء، وليس صحيحاً ما يتردد على الألسنة أحياناً: ما ترك السابق لللاحق شيئاً .
... ورد فى كتاب " الأشباه والنظائر" للسيوطى أن النحو علم نضج ولم يحترق، ولكنى لا أدرى أين ذلك العلم الذى نضج واحترق، فإنّ التجديد فى العلم قائم ما قام فى الإنسان فكر متجدد، وقائم ما استمر بحث ونظر، وقد وضع سبحانه وتعالى فى الإنسان عقلاً يبنى ويجدد البناء ما دامت الحياة؛ والمهم فى الأمر أن يقدم المؤلف أو الكاتب ما ينفعُ جيله والأجيال القادمة، فيكون أخفش زمانه فى متداركه؛ والخليل فى عينه، وأبا عمرو بن العلاء فى وقفه وابتدائه. ...
... ضع أمامك الآن صورة النحو
المقنن والمقعد ثم انظر للنحو فى القرن الأول الهجرى، فإنك لا ترى شيئا يصلح أن يسمى قاعدة، كانت السليقة فى القمة ولكن ترجمة السليقة إلى علم ومعرفة محددة لم تكن قائمة. وانظر فى صورة النحو فى أواخر عهد المماليك الجراكسة المكرمين، فإنك واجد صوراً هائلة من الأحكام والقواعد والضوابط، إن هذا النمو فى الاتجاه النحوى لا يماثله نمو فى أى لغةِ من لغات العالم، وهذا شىء يعتز به علماء هذه الأمة ومثقفوها .(79/1)
وأكاد أرى علماءنا فى القرنين السادس والسابع الهجريين قد شُغلوا بتلك الدواهى العظام التى أصابت الأمة الإسلامية فى الهجمتين الصليبية والتتارية، وهالهم الأمر فصرفهم عن البحث والدراسة العميقة ردحاً من الزمن وأصبح الجهاد همهم وشغلهم الشاغل، وكان المنطق يقتضى أن يكون ذلك، لأن كيان الدولة كله قد انهار، ولا يرون أمامهم الإ سيوفاً مصلتة على رقاب المسلمين، فحلّ السؤال عن حال أمراء المسلمين والمسلمين ومدن المسلمين وقراهم وأشخاصهم محل البحث والدراسة؛ وانجلى انتصار المسلمين فى عهد الأيوبيين والمماليك المكرمين عن ارتفاع سيوفهم ثم سيوف العثمانيين وليس عن علوم قوية فى اللغة والنحو والبلاغة، إنهم أمة إسلامية مقاتلة، ولكن نمو العربية فيها بطىء جداً؛ قوة عسكرية هائلة وحب لله وشريعة الله، ولكن حصونهم الثقافية لغةً ونحواً وفقهاً وشريعة وبحثاً ودرساً لم تكن على مستوى القوة
العسكرية .
... نتج عن القرنين حركة جمع لقواعد النحو السابقة ثم بُعدٌ عنها وتجاوز لأهدافها بالتشعب والتفريع حيناً، وبالجدل العقلى والتصورات الذهنية حيناً آخر، ونتج عنه أشياء كثيرة منها المنظومات النحوية، وكان أبرزها (الفية ابن مالك ) وشغل العلماء بشرحها وضرب الأمثلة على قواعدها، وسيطرت ومازالت تسيطر على كتب النحو، ووضع السيوطى ألفية شاملة تستدرك ما فات ابن مالك، ولكن الفلاَح لم يحالفها كما حالف (ألفية ابن مالك) ؛ وتبع ذلك الحواشى وهى عقد نحوية مستحكمة فى الإعراب والتصورات الذهنية والمماحكات الإعرابية؛ وربما يحزن دارس النحو أن يقرأ فى إعراب جملة واحدة كتابا صغيرا سمى باسم الجملة المشهورة " ضربى زيدا قائما" ؛ أو حتى أو إذن أو ما كان على وزن فُعلى، أو غير ذلك.(79/2)
... انقطعت الصلة أو كادت تنقطع بين المنهج الأول الذى قام عليه النحو نظرية وتطبيقا، والمنهج السائد فى القرنين السادس والسابع الهجريين وما بعدهما، وجاء دعاةُ الإصلاح فى القرن الرابع عشر الهجرى الذى كتب الله تعالى لنا فيه العيش والأجل المسمى، جاءوا بمؤلفات عديدة وكان الهدف منها تيسير النحو، وأظن أن إطلاق دعاة التيسير عليهم أدق من دعاة الإصلاح، فطبعوا ونشروا ودرست كتبهم في المدارس من الصف الأول الابتدائي إلى آخر صف من صفوف الثانوية كما درست بعض الشىء فى الجامعات، ولكن المتخصصين حافظوا على التزامات القرنين السادس والقرن السابع الهجريين، فصورة النحو من أقدم العصور حتى الآن كما يلى:
... المنهج التأسيسي فى عهد الخليل وسيبويه، وتطور هذا المنهج إلى أن بلغ الذروة على يد ابن مالك فى القرنين السادس والسابع الهجريين، وشروحات ألفية ابن مالك المستفيضة، ثم الحواشي التي امتدّت حتى نهاية القرن الثالث عشر الهجري ثم محاولات التيسير فى القرن الرابع الهجرى، ليفهم الناس القواعد النحوية الأصولية من دون تشعيب أو تفريع.
... ولقد جعلت هذه التيسيرات منه علمًا عادياً يستطيع الدارس أن يفهمه ويستمتع به إلى حد ما ؛ أزالتْ عنه أغْشية الحواشي والتشعيبات والتفريعات والمماحكات؛ ولكن هذا لا يكفي، وسوف يصيبنا التجمد إن رضينا بهذا الحال، إذن ليس لنا من الاستمرار بُد.
... فالخطوة التالية هي: ربط(79/3)
القواعد النحوية الميسرة بالمعاني، والمحافظة على هذه القواعد بعيدة عن التصورات والمماحكات والتشعيبات. وسأذكر هنا نماذج موجزة ثم يأتى التفصيل فيما بعد، وهذه الخطوة إن كُتب لها التوفيق ستجعل النحو مادة معنوية مؤثرة، ستجعل للنحو قيمة كقيمة اللفظ، فالمعنى لا يتضح إلا بفهم اللفظ ثم فهم التركيب، وعند التقائهما لفظاً وتركيباً نصل للمعاني الدقيقة؛ وهذا الارتباط سيكون له أعظم الأثر في تجديد صورة النحو ودفعها للأمام ليصبح النحو مادة تؤثر في الفكر والمعاني، وتوضح للقارئ والسامع أن هذه الحركات لها عملها في الجمل؛ إنها ليست حركات شكلية ناتجة عن قواعد صماء ، بل نظام فكري لغوي
معنوي متكامل.
... اتلُ قول الله تعالى: { إنما يخشى اللهّ من عباده العلماءُ } ، وحافظ على حركة ( العلماء) بالضمة، لا يجوز لك أن تغير أو تبدل فيها لأن المعنى مرتبط أشد الارتباط بهذه الضمة.
... اتْلُ قوله تعالى: { ووصى بها ابراهيمُ بنيه ويعقوبُ } ، وحافظ على الضمة في كلمة( يعقوب) فإن الإخلال بها يغير المعاني، إن وضعت فتحة على كلمة يعقوب فسوف يتغير المعنى، وإن وضعت كسرة فقد خرجت عن ضوابط القواعد النحوية من دون مسَّوغ أو عله.
اتلُ قوله تعالى: { واتقوا الله الذي
تساءلون به والأرحامَ } ،حافظ على الفتحة إن أردت واتقوا الأرحام، أي اتقوا قطع الأرحام، ولكنك هنا تجد عدة قراءات، من القراء من يقرؤها بالكسرة(والأرحامِ)ومنهم من يقرؤها بالفتحة (والأرحامَ ) ، ومنهم من يقرؤها بالضمة ولكل منها معناه.
اتْلُ قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلَكُم إلى الكعبيْن }(79/4)
هل نستطيع أن نقرأ كلمة (وأرجلكم) بالنصب والكسر؟ نعم نستطيع ذلك، ويدخل العقل في بلورة المعنى الذي بُني على تغيير الحركة، وقد تداول القراء الحركتين، وهم يعلمون أثر ذلك في الوضوء غسلاً أو مسحاً، وإذا لم تتدخل السنةُ في حسم الموقف فلنا حق الخيار كمؤمنين نفكر ونجتهد وتدخل اللغة في فكرنا واجتهادنا .
... نحن الآن فى حاجة ماسة لتجديد النحو، نحن الأقدر فى عصرنا على التجديد والتطوير فقد اتضحت لنا رحلة النحو من البادية حيث جمعوا أساليب ينطق بها أهل البادية بالسليقة وشهدنا وضع المصطلحات فى أول دَرْجها ثم فى عصور تطورها ، وشهدنا تأليف الكتب النحوية، بدأت بكتاب سيبويه وهو كتاب شامل لأكثر القواعد النحوية، وانتهت بكتب تيسير النحو التى راجت سوقها فى البلاد العربية لتعليم الناشئة وتسهيل القواعد على الدارسين، وما بين هذه وتلك مررنا على معالم للنحو تعرفنا برحلته منذ البداية حتى هذا العصر.
كيف يكون التجديد؟
... إنّ الإجابة عن السؤال التالى
توضح لنا طريق التجديد، والسؤال هو : لماذا وضع علماء العربية علم النحو؟ ولماذا أصروا على مواصلة المسيرة فيه؟(79/5)
... أما الجواب فهو: وضعوه استجابة لداعيين: أولهما:لضبط اللفظ كما ضبطه أهل السليقة، حرفاً بحرف، وهو الضبط البنائي وهي مبادرة لحفظ لغتهم من الخلل الذي طرأ عند اعتناق الشعوب الإسلام ولم يكن لهم معرفة بقواعد اللغة وضوابطها، فضموا وفتحوا وكسروا على مااتفق لهم لفظه، وكيفما وقع معهم، فتألم رجال مفكرون من الأمة لأنهم رأوها لغة عظيمة جميلة نافعة مؤثرة ورأوها يعتورها الخلل، فأرادوا حفظ كيانها، وهذا الضبط في اللفظة الواحدة ذو اتجاهين، حركات فوق الحروف أو تحتها لمعرفة الكلمة المفردة، فكلمة مثل (سَمِعَ ) تختلف عن (سَمْع ) وتختلف عن (سُمِع)وثانيهما: لضبط الحركة الإعرابية لأن الكلمة المركبة تختلف فيها حركة الحرف الأخير فى الأسماء والأفعال المعربة باختلاف موضعها في الجملة، فكلمة (الطائرة) تختلف حركتها باختلاف موضعها مثل: ارتفعت الطائرةُ، شاهدتُ الطائرةَ، نزل الركابُ من الطائرةِ؛ وهذا هو الضبط الإعرابي، وكل من الضبطين له وظيفته.
... وكلا النوعين من الحركات يؤثر في المعاني، وقد اشتهرت قراءة الآية الكريمة { إنَّ الله بريءٌ من المشركين ورسولُه } شهرةً هائلة، قالوا إن تلاوة كلمة(ورسوله) بالكسر تخرج الآية عن معانيها المقصودة إلى معانٍ مضادةِ، والعياذُ بالله؛ والأمر لا يتوقف على آية أو آيتيْن، بل يتعدى ذلك إلى الاستعمالات الكثيرة جداً في كل
عبارة.
الحركات الإعرابية:(79/6)
لكِل لغةٍ من لغات العالم قواعد تنتظمها، ولها ضوابط معينة يلتزم بها أهل تلك اللغة، ولم تكن اللغة العربية بدعاً من اللغات، فلها قواعدها وضوابطها، وقد امتازتْ هذه القواعد والضوابط بدقتها البالغة، فكانّ لكل كلمة أو حرف في هذه اللغة قواعد خاصة بها أو به، وليس هذا للمبالغة أو للزهو، وإنما النظرة الموضوعية الخالصة تبينّ ذلك، وسأضرب مثالين مما يتيسر لي وللقارئ للنظر فيهما، ولتكن الكلمة( جلس)، وليكن الحرف الفاء، ولا تظن أن الأمر محصور بجلس أو بالفاء، فأنت في خيرةٍ من البحث، خُذْ أي فعل أو أي حرف.
... كلمة جلس: هي فعل ماضٍ
لأنها تدل على حَدَثِ في زمن ماضٍ، وكلمة جلس فعل لازم لأن هذا الفعل لا يأخذ مفعولاً به، وإنما يكتفي بفاعله؛ ونأخذ من كلمة جلس عدة أسماء نسميها المشتقات: كاسم الفاعل جالس، واسم المفعول مجلوس، والصفة المشبهة جليس، وصيغة المبالغة جَلاس، واسم المكان والزمان مَجْلسِ، واسم الهيئة والمرة جَلسة أو جِلسه، كما يتحول الفعل الماضي (جلس) إلى مضارع وأمر، ويتحول إلى متعدٍ …… الخ.
... ولا أريد أن أشقَّ على القارئ بكلمة( جلس) فإن قواعدها وضوابطها عديدة، ولكنها جزء من هذه اللغة ، واللغة العربية تشتهر بقواعدها وضوابطها.
... وكلمة(ف) أي الحرف الفاء له قواعده وضوابطه، فالفاء يأتى للعطف مثل: نزل المطر فابتلت الأرض، مات صاحبنا فقُبر، وهو عطف يفيد التعقيب المباشر، ويأتى الفاء ليفيد السبب مثل: لا تكثر من لوم صديقك فتندم وتفيد الاستثاف أي البدء بكلام جديد مثل قوله تعالى: "فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام"، والفاء في جواب الشرط كقوله تعالى:
{ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسنَ منها أو ردوها } ويستطيع القارئ أن يميز بين الفاءات الثلاث الواردة { فمن تمتع بالعمرة… أيام } فلكل منها موضعه .(79/7)
... وأما الحركات الإعرابية فهي جزءٌ من هذه المنظومة الرائعة في ضوابط اللغة ، وقد تسلم راية النحو طائفة من العلماء عن طائفة من العلماء بحثاً ودراسةً وتنقيباً ، كما تسلمها مدينة عن مدينة، وجيل عن جيل حتى صار النحو علمًا قوياً راسخاً تجد فيه لكل حالة من حركات الكلمة الإعرابية ضمن التركيب ضابطاً يضبطها، وقاعدةً محدةً تنتظمها .
... ليس المطلوب من كل عربي أو مسلم أو دارس للغة العرب أنْ يحيط بقواعد العربية كلها،وإنما يأخذ كل منهم من هذا الأمر بقدر، وليس المطلوب أن نحيط بقواعد (المقتضب) للمبرد، ولا (بألفية ابن مالك)ولا (بالمفصل) للزمخشري ولا (بالأشباه والنظائر ) للسيوطي وغيرها، ولكنا نعالج ما نحتاج إليه في لغتنا باليسر والسهولة لفهم المعاني التي نبحث عنها، فنستعين بهذه القواعد النحوية التي نحتاجها في بعض الأحيان، ولكن المطلوب إدراك شيء جوهري: إن العلماء وضعوا علمّا شاملاً متعمقاً للغة العرب، فلا تسأل عَن ظاهرة لغوية، أو كلمةٍ أو حرف أو تركيب إلا وجدت له نظاماً خاصاً يسلكه؛ لقد حافظ هذا العلم على الصورة الحية للغة في وقت عنفوانها .
... لم يجد الذين نادوا بالتسكين بدل الحركة الإعرابية حجة قوية منطقية تسندهم، كما لم يجد العامية حجة تظهر سلامة مذهبهم، وسواء أصدقت النية أم لم تصدق فإن التدليل والبرهنة على كلا المذهبين كان ضعيفاً جداً؛ لقد ظلت اللغة بحركاتها الإعرابية المعروفة الآن معرفة تامة هي الأصل والجوهر وتراث الأمة وسمة من سماتها الخالدة .
نقض الحركة الإعرابية :
... نعني بالحركات الإعرابية تلك(79/8)
الحركات التي تكون على أواخر الكلمات، فالجملة: اللهُ غنيٌ عَنْ عباده، تشتمل على حركات إعرابية، فلفظ الجلالة عليه الضمة ، وكلمة(غنيٌ) عليها تنوين الضمة، وكلمة( عبادِهِ) على الدال منها الكسرة، لكنَّ كلمتي عَنْ، والهاء في عبادهِ عليهما سكون وكسرة، وقد اصطْلح على تسمية السكون بعلامة بناء، وعلى حركة الضمير أي الكسرة على الهاء بحركة بناء، ولكن النحويين اعتادوا اتباع حركات البناء في الجمل المعربة لحركات الإعراب .
... فالإعراب شيء متغير، فكلمة (اللهُ) في الجملة السابقة مبتدأ مرفوع بالضمة، ولكن إذا قلتَ : إنَّ اللهَ غفورٌ، أصبحت حركة لفظ الجلالة علامة نصب، لقد تغيرت الحركة بتغير العامل، وهذا النوع من الحركات المتغيرة هو ما يسمى بالحركات الإعرابية .
... لا يُدخل النحويون الحركات في كلمة ( سُمِعَ ) في الحركات الإعرابية، وإنما هي حركات بنائية، وهي أقرب إلى الصرف منها إلى علم النحو، لقد حُصرت الحركات الإعرابية بأواخر الكلمات فقط، على أن تكون قابلةً للتغير بتغير العوامل؛ ولكنّ النحاة يذكرون كلتا الحركتين في إعرابهم الجمل، يقولون: نامَ الطفلُ، نام فعل ماضٍ مبني على الفتح، الطفلُ فاعل مرفوع بالضمة؛ أي حركة الميم للبناء وحركة اللام للإعراب .
... وما معنى كلمة ( أعرب ) ؟
لا أريد الخوض في معانيها المتعددة، ولكني أرى أن المعنى الأبرز الذي تلتقي عنده كافة المعاني هو ( أبان)، أي كشف وأظهر وهذا يعني أن العرب عندما سموها حركات إعرابية قصدوا إلى أنها تكشف المعاني، وتقرب المعاني إلى الأذهان، فكأن المعاني مغلقة وتقوم الحركات الإعرابية بفتق الإغلاق، وإزالة الحجب، وإبانة المعاني.(79/9)
... ما الذي يدعو بعض الناس في العصر الحاضر إلى إطلاق لغة سيبويه على النحو العربي، إذ تسمعهم يقولون عن شخص يهتم بلغته ونحوه، جاء سيبويه وذهب سيبويه! كأنهم يهزءون من الرجل الذي ألف أول كتاب علمي في التاريخ في موضوع النحو والإعراب، ربما لم يعرفوا أنّ سيبويه رجل مؤمن فارسي، وكان حريصاً على فهم لغته وقرآنه كما يحرصون هم على الحياة، وربما لم يعرفوا أنَّ غلطةُ واحدة في مجتمع علمي، أو مجلس شريعة بفهم اللغة هو الذي حركه ليضع علمّا يحفظ به لسانه من الزلل، ويحفظ ملايين الألسنة غيره، تقول كتب تاريخ النحو المختلفة: إن سيبويه كان يستملي الحديث على حماد بن سلمة بن دينار البصري، وبينما هو يستملي قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - " ليس من أصحابي إلا من لو شئتُ لأخذتُ عليه ليس أبا الدرداء" فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء، ظناّ منه أنّ ليس هنا ناسخة، ولم يدرك أنها أداة استثناء، فقال حماد: لحنت يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت، ليس أبا الدرداء، فقال سبويه: لاجِرم، لأطلبَنّ علمّا لا تلحنني فيه أبداً، وطلب النحو، وأخذ عن الخليل بن أحمد وعن يونس بن حبيب وعيسى بن عمر وغيرهم وبرع في النحو وصنف كتابه الذي لم يسبقه إليه أحد مثله ولا لحقه أحد من بعده في نفس مستواه وسلامة اتجاهه.
... هذه لغة سيبويه، إنها علم النحو والإعراب، إنها ثقافة بكر في عالم اللغة، إنها ضوابط اللغة كما سمعت عن العرب، وتقنين لهذه الضوابط في قواعد عامة ومصطلحات، إنها تمسك بالأمثلة، وفروق في المعاني بين جملة وجملة إذا اختلف حركات الإعراب؛ أو قل إذا اختلفت الحركات أينما وقعت مع ميل وتركيز على حركات الإعراب.(79/10)
... إذن ما الداعي لنقض الحركات الإعرابية إذا كانت جزءاً من هذه اللغة الشريفة بشرف كتاب الله؟ لقد اختارها سبحانه وعاءً لكتابه الكريم الدائم حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولقد كانت الحركات وما تزال مكوناً أساسياً من مكونات اللغة في القرآن وغير القرآن .
النقض المعارضة :
... ما السبب، وما علة السعي للنقض؟ لماذا نامت العقلاء عن نقض أي ظاهرةٍ لغويةٍ في التاريخ لأي لغة من لغات شعوب الأرض إلا عن لغة العرب لغة كتاب الله؟ لماذا نرى سهاماً كثيرة من صوب1 هذا وصوب ذلك تسدد لتطعن لغةً شريفة محافظة أحبها أهلها وكرموا فصحاءها ونصبوا أسواقاً لشعرائها؟ ما السر؟ ليس لنا من البحث بُدّ !
شرفها وعظمتها سبب النقمة عليها:
... يبدو أنَّ شرفها وعظمتها وتأثيرها كانت هي الأسباب لقيام المعركة ضدها، وأظن أن لغتنا لو كانت ميتةَ أو كالميتة لما تألبت عليها القوى، فإن الميت يدفن، ولكنّ الحيّ القوي ذا الخطر والشأن هو الذي يحسب له حساب ويُقاوم، وسأذكر الآن حلقات متسلسلة من معاداة اللغة وطعنها، ستذكر بإيجاز لأن الغرض من الدراسة لا يقتضي التفصيل والاتساع .
أولاً- دعاة القضاء على الفصحى:
... تولى أهمَ شؤون مصر بعد احتلال بريطانيا رجال أجانب ذوو شأن وكانت السلطات تسمع لهم، وتحث الشعب على التجاوب معهم، وقد كان جهد هؤلاء الرجال مركزاً على القضاء على الفصحى، فهي ركن من أركان الترابط في الأمة ووعاء كتابها العظيم، ولذلك ألف القاضي الإنكليزي ولمور أحد قضاة محكمة الاستئناف الأهلية بمصر كتاباً سماه (لغة القاهرة ) واقترح أن تكون لغة العلم والأدب، كان ذلك عام 1902، واستمر في معاداته وطعونه إلى أن مات عام 1932.(79/11)
... ودعا مهندس الري الانجليزي وليم ولكوكس عام 1962إلى هجر اللغة العربية، وظل يدعو لذلك إلى أن مات، ومن أقواله: "طريقة الكتابة العربية الكلاسيكية القديمة لا يمكن أن ينمو بها أدب حقيقي ويتطور، طريقة الكتابة العقيمة بحروف الهجاء المعقدة".
... وجرى في الطريق ذاته أي الدعوة لهجر العربية وإحلال العامية عدة نشطاء منهم : لندبرج الذي اشترك في مؤتمر اللغويين المنعقد في ليدن عام 1883 وانبرى يدعو لاحلال العامية محل الفصحى، وكارل فورس أمين عام المكتبة الخديوية بالقاهرة الذي ألف كتاب ( قواعد اللغة العامية في مصر ) ، وغير هؤلاء عدد كبير.
... وتأثرت أقلام عربية وعقول عربية بدعوة أولئك لأنّ للاستعمار صولةً وأدوات وأساليب، قال سلامة موسى في مجلة الهلال عام 1972: "التأفف من اللغة الفصحى التي نكتب بها ليس حديثاً إذ هو يرجع إلى قبل ثلاثين سنة حين نعى قاسم أمين على اللغة الفصحى صعوبتها ، وقد اقترح أن يُلغى الإعراب فتسكن أواخر
الكلمات كما يفعل الأتراك" لقد كان لفعل الأتراك لغوياً أثر سلبي شديد على العرب وتبنت مجلة مجمع اللغة العربية سلسلة من المقالات كتبها عضو المجمع عيسى اسكندر المعلوف تدعو إلى إحلال العامية محل الفصحى .(79/12)
وقام أحمد لطفي السيد بجهد في سبيل إعلاء راية العامية، واقترح أسلوباً لكتابة الكلمات العربية كما في الإنجليزية فمثل كلمة محمد تكتب (موحامْماد) ، واذا نونت الدال تصبح [ موحامْمادون ] كما اقترح الأب انستاس الكرملي إصلاحاً مماثلاً لفكرة أحمد لطفي السيد ؛ كانت هذه الفئة متصلة بأرباب السياسة ، وليس طريقهم بعيداً عن طريق الساسة في فصل مصر نهائياً عن العالم العربي الإسلامي، وقطع علاقتها بلغة القرآن الكريم، وقد عبر عبد العزيز فهمي أحد أعضاء المجمع وأحد السياسيين البارزين في عصره عبر عن محاولة فصم عرا الارتباط بين مصر وأمتها بأن اقترح كتابة العربية بالحروف اللاتينية، وألقى خطابين في المجمع 1944، وترحّم على مصطفى كمال الذي أبدل الحروف اللاتينية بالعربية؛ إنه لم يبتعد عن طريق المستشرق كامغماير الذي قال صراحةَ : " إن قراءة القرآن العربي وكتب الشريعة الإسلامية قد أصبحت الآن مستحيلة بعد استبدال الحروف اللاتينية بالعربية".
ثانياً-:وقفة مجيدة في مناصرة الفصحى :
... كافح كتاب في مصر وغير مصر من بلاد العرب من المثقفين النشطاء دعوات التغريب، وأجادوا في وقف الهجمة الشرسة في العشرينيات والثلاثينيات، ووضعوا دعاة التغريب في مآزق الرد، فالشعراء :منهم حافظ إبراهيم، وشوقي وعبد المطلب. والكتاب: منهم خليل اليازجي ومحمود مسعود، وطاهر الطناجي وغيرهم كثير لم يضعوا أسلحتهم؛ لأن حمل الأسلحة ظل ضرورياً ؛ وكان سلاح اللغة والأدب أمضى الأسلحة.
ثالثا- في عصرنا الحاضر:
... وفي عصرنا الحاضر أي
النصف الثاني من القرن العشرين انجرفت طوائف كبيرة من الأمة لتدرس في الخارج، إذ لم تتهيأ لها الفرص الكافية للدراسة في أوطانها،(79/13)
ورجعت هذه الطوائف معجبة بالأسلوب الغربي حياةً وتوجيهات، وإن تسمع لهم تدرك أنهم لا يرضون عن شيء تقريباً لا في الحالة السياسية ولا في الاقتصادية، وأصاب الامتعاض لغتنا ولكن ثبت أن تأثرهم سطحي، فإنك أن وقفت بحسم تعطي وتبين جدارة هذه اللغة بالحياة اعترفوا بالحقيقة، واعترفوا أنهم لا يحيطون بأسرار اللغة وجمالها لا في النحو ولا في غير النحو .
الصحف والمجلات :
... وأكثر ما يتبرم بالفصحى ولا سيما النحو منها هم كُتاب الصحف والمجلات، يظنون أن الفصحى ذلك الكلام الغريب من الكلام المحشى في المعاجم، ولكنهم لم يعرفوا أنّ أدباءنا ولغويينا الكبار ومن بينهم الإمام السيوطى الذى يقول بصدق وأمانة؛ إن الكلام المتداول الواسع الانتشار الذي تستعمله في منطقك وكتابك هو الأفصح، وإنما يشترطون شروطاً يسيرة سهلة هي ألا يكون مخالفاً لمقاييس اللغة، فإن عُرفت هذه الحقيقة عُرف أن كلام الصحف والمجلات وأخبار الإذاعة والتلفزة هي الأكثر استعمالاً فهي الأقرب إلى الفصاحة بشرط ألا تخالف القياس لغةً ونحواً .
... إن الشاعر الكاتب جبران خليل جبران وقع في الحفرة، وتلمس من كلامه أن اللغوي هو الباحث عن الكلام الغريب في القواميس: يقول جبران: "لكم منها القواميس والمعجمات والمطولات ولي منها ما غربلته الأذن وحفظته الذاكرة من كلام مألوف مأنوس تتداوله ألسنة الناس في أفراحهم وأحزانهم"(1) لو اطلع جبران على كتاب (المزهر) للسيوطي وقرأ فصل الفصاحة لما قال كلمةً مما قاله، فالفصيح هو المستعمل وليس الذي في
القواميس والمعجمات.
... ولقد دعا الكاتب المشهور قاسم أمين إلى التخلص من النحو وإسكان اللغة لتسهيل الدراسة والفهم والقراءة، ودعوته ليست بعيدة عمن
دعوا للعامية لتسهيل الفهم والدراسة والقراءة ، وإذا قلنا قاسم أمين أو أحمد لطفي السيد فإنما نذكر تيارين ونذكر رموزاً لهما.
قال الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار:(79/14)
أما الدعوة إلى إلغاء الإعراب فهي من دعوات هدم الفصحى حتى تكون مثل العامية وعندئذٍ تذوب الفصحى في العامية، والإعراب في الفصحي ضرورة لا يمكن أن تكون الفصحي إلا به، والغاؤه بتسكين أواخر الكلمات يطيل زمن النطق بالجملة …الخ .
... ثم إن إلغاء الإعراب بتسكين أواخر الكلمات يلغي قواعد الشعر والنَّظم ويقضي على الوزن والموسيقى والنّظم وإلغاء الإعراب يفقد القرآن جمال الأسلوب ووثاقة التركيب (2) .
... والدكتور إبراهيم أنيس ذهب مذهبهما معاً، وعلل لهما بأسباب علمية فنية ؛ وهذه هي أسبابه "سقوط الحركات من أواخر الكلمات في حالة الوقف لأكبر دليل على أن الأصل في الكلمات ألا تكون محركة الآخر وإن ما حرك منها في وصل الكلام كان لأسباب صوتية دعا إليها الوصل؛ إن سقوط هذه الحركات من أواخر الكلمات في حالة الوقف لا يغير من معنى العبارات ولا يشوه من الصيغ"(1).
... وقال في الوصل وزيادة الحركات: "وقد قرر بعض المتقدمين من ثقات العلماء أنّ الحركة الإعرابية لا تعدو أن تكون لوصل الكلمات بعضها ببعض في الكلام المتصل، ولذلك جاز سقوطها في الوقف وجاز سقوطها في بعض المواضع من الشعر، وإن اعتبروا هذا من
الضرورات الشعرية.. يقول سيبويه: "وزعم الخليل أنّ الفتحة والكسرة والضمة زوائد وهن يلحقن الحرف ليوصل إلى التكلم به (2) .
... وقال في إسكان القراءة "ومنذ رويت قراءةُ أبي عمرو بتسكين أواخر الكلمات في عشرات من الآيات القرآنيّة والخلاف محتدم بين النحاة وقراء القرآن، فالنّحاةُ لا يرونَ جواز حذف الحركات الإعرابية إلا في الوقف، ويرون أنَّ ما روي عن أبي عمرو ليس حذف الحركة بل اختلاسها" (3) .
... وقال في لغة الصحف:"ويكفي للبرهنة على أن لا علاقة بين معاني
الكلام وحركات الإعراب أن تقرأ خبراً صغيراً في إحدى الصحف على رجل لم يتصل بالنحو أي نوع من الاتصال فسنري أنه يفهم معناه تمام الفهم"(4)، تحدث عن الوقف،والإسكان،(79/15)
والصحف ، والعامية وما رآه معززاً لحذف الحركة الإعرابية.
إذن: وجد من الأدلة ما يكفي فيما يقدر لحذف الحركة الإعرابية، منها ما هو قديم ومنها ما استجد، كعادة الباحثين، يذكرون القديم لبيان الجهة التاريخية التي تؤيد أسبابهم وسنقف عند كل سبب، ونعالج قيمته ووجاهته ودلائله، ثم يذكر الرأي الحق.
خلاصة الآراء الناقضة:
جمع الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس بحكم مجيئه في النصف الثاني من القرن العشرين آراء من سبقوه،فذكر العامية وذكر آراء قطرب، واستشهد بإسكان أبي عمرو وفكرة الخليل بن أحمد عن الحركات، ولكن الإسكان شغله أكثر من سائر الموضوعات في كتابه من أسرار اللغة .
... إنّ هذا الجمع يساعد الباحث، لأنه يحشد الآراء كلها في مرجع واحد، وسوف يتناول الباحث تلك الأدلة المتعلقة بخصائص العربية وأسرارها وفنيَّتها بالمعالجة وبالموضوعية والعلم، بعيداً عن مواطن الظن ودوافع الشك، إنه علاج علمي موضوع،وبالله التوفيق.
*القسم الثاني :
حذف الحركة الإعرابية ؟
أدلتها ومعالجتها :
... لقد ذكرت عدة أدلة لبيان أن الحركة الإعرابية لا تؤثر في المعاني، وذُكر أن هذه الحركات ما هي إلا رسائل لتسهيل النطق والتكلم، وليس لها في المعاني أثر وذكرت أدلة عن قراءات أبي عمرو بن العلاء، أنه كان يسكّن الحركات الإعرابية ولا يؤدى التسكين إلى اختلاف في المعاني،ولو أدى إلى ذلك لما أخذ به أبو عمرو وهو قارئ حجة، واستدل المنادون بحذف الحركة بقراءة الصحف واللهجات العامية، إذ كلا المصدرين يخلو من الحركات الإعرابية ولكنّ المعاني تظل معروفة ومفهومة، ولا يؤدى الخلاف بين قارئ في الصحيفة يَشْكُلُ الكلمات كما تيسر له وقارئ آخر يَشْكُلُها بطريقة أخرى لا يؤدي هذا إلى اختلاف في المعاني؛ كما لا يؤدى هضم الحركات الأعرابية لدى العامة إلى اختلاف الأفكار والمعاني؛ فأفكارهم تصل إلى المستمعين إليهم بسهولة ويُسر .(79/16)
... وتوقف بعضهم كثيراً عند الوقف وهو ظاهرة مهمة من ظواهر الإسكان، وهو يعني في اصطلاح الحركات تسكين الحركة الإعرابية في آخر الجملة عندها تقف على هذه الكلمة؛ فسورة العصر فيها ثلاث آيات تنتهي كل منها براء عليها حركة إعراب : { والعصر، إنّ الإنسان لفي خُسٍر، إلا الذين آمنوا وعًملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبِر } ؛ فالوقف عليها من دون هذه الحركات الإعرابية لا يضير المعاني.
... إذن مجمل القول: إن الناس تشق على أنفسها بدراسة طويلة معقدة، ولا أثر لهذه الدراسة النحوية في مفاهيم وأفكارهم، فعليهم أن يتركوا هذه الدراسات، وعليهم أن يريحوا لغتهم من التأفف والضّجر من هذه
الحركات الإعرابية المعقدة.
... لم أجد أكثر من هذه الاستدلالات، إذ كانت العامية والصحافة والوقف وما ذكر عن أبي عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد هي التعلات ولا تعلات غيرها .
... إنها أمور هينة، أُحيطت بهالة من التساؤلات واللفظ الفخم، ولكنها لا تحوي من أهدافها الاستدلالية شيئاً يُذكر؛ واللغةُ حصينة إلى درجة منيعة تستطيع ببساطة أن تثبت سلامتها وعافيتها.
مع أبي عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد:
أ-الإسكان في قراءة أبي عمرو:
روى عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يسكّن في عدة آيات قرآنية، وفي هذا يقول الدكتور أنيس : " أما رأي القراء في قراءة أبي عمرو فيلخصه لنا قول أبي عمرو الذاني: والإسكان أصح في النقل وأكثر في الأداء وهو الذي أختار وآخذ به، وقراءة أبي عمرو بالإسكان نقلها لنا تلميذه اليزيدي ورويتْ لنا عن طريق السوسي الذي يعد أصح روايةً وأدق نقلاً لتوفره على قراءة أبي عمرو وتخصصه فيها ) (1) .(79/17)
... والهدف واضح في هذا الاستدلال، فإن أبا عمرو كان شيخ قراء البصرة وهو أحد السبعة الذين يعتدُ بقراءتهم روايةً، فإذا قرأ بالتسكين أي بتسكين حركات الإعراب في كتاب الله، وهو الكتاب المقدس الذي نؤمن بأنه وصل إلى بيوت المؤمنين كما أنزله الله على رسوله، فالآيات هي هي، والحركات الإعرابية هي هي، فإن أسكنا فقد صح للمنادي بالإسكان أن يسكن جميع الحركات الإعرابية في اللغة العربية بكل مصادرها، لأنَّ المصدر الأول لِلُغة قَبلَ الإسكان، فهل يصح هذا التصور لقائله بهذه السهولة؟
ماذا أسكن أبو عمرو :
...
إن هذا الرأي فيه تعميم أكثر مما يقتضيه صنع أبي عمرو، ولو أنا أخذنا بالكلمة المحددة وفقاً لما صنعة أبو عمرو لما عممنا ونادينا بتسكين الحركات الإعرابية، ولما قلنا ( وقراءة أبي عمرو بالإسكان )، فما صنعه أبو عمرو كان كما يلي:
... ... قال الموصلي يشرح قراءة الإسكان:"وأسكن أبو عمرو على لغة بني أسد وتميم الراء من: ويأمرهم، ويأمركم، وتأمرهم، وينصركم، ويشعركم، حيث وقعت كلها تخفيفاً، ولتوالي الضمات في الأربعة المتوسطة، وأسكن أبو عمرو على لغة بني أسد وتميم الهمزة من بارئكم من قوله تعالى: { فتوبوا إلى بارئكم ذلك خير لكم } (2)، وقال الأشموني "قد تسكن ضمة الإعراب بقصد التخفيف وقد قرأ أبو عمرو { وينصركم ويشعركم ويأمركم } "(3)، وقال ابن الجزري معقباً على قراءة
أبي عمرو: "إن بعض أهالي مكة قرءوا ( نعبد ) بإسكان الدال ووجهها التخفيف كقراءة أبي عمرو: يأمركم بالإسكان " .
... وكان في كتاب الحجة لابن خالويه ذكر لهذا كله، قال: " قوله تعالى إلى بارئكم، رواه اليزيدي عن أبي عمرو بإسكان الهمزة فيه ، وفي قوله : يأمركم وينصركم ويلعنهم ويجمعكم وأسلحتكم يسكن ذلك كله كراهية توالي الحركات، وحكى سيبويه عن هارون باختلاس الهمزة فيما رواه اليزيدي عنه بالإسكان" (1).(79/18)
... وقال السخاوي:" وقد ثبت الإسكان عن أبي عمرو والاختلاس معاً، ووجه الإسكان أن من العرب من يجترئ بإحدى الحركتين عن الأخرى،
قال: وقد عزا الفراءُ ذلك إلى بنى تميم وأسد وبعض النجديين ذاكراً أنهم يخففون مثل يأمركم فيسكنون الراء لتوالي الحركات" (2).
ا
الخلاصة :
... ونتيجة هذه الأفكار، وخلاصتها كما يلي :
1-لم يكن الاستقراء لقراءة أبي عمرو شاملاً، ولذلك كان الحكم غير وافٍ .
2-الاستقراء التام يدل على أن أبا عمرو أسكن في مواطن محددة لسببين أحدهما كراهة توالي الحركات ، وثانيهما للتخفيف .
3-لم يذكر أحد من القُراء أو غيرهم، أن أبا عمرو كان يحرّك أو يسكن كيفما اتفق له لأن الحركات الإعرابية أو عدمها سواء، لم يقل أحد من النحويين ذلك؛ ولا أدري كيف تسرب هذا التصور إلى كتاب ( من أسرار اللغة).
4-إنّ أبا عمرو كان يحرك في آيات القرآن الكريم كلها، وإن رجع أحد إلى كتاب التيسير للداني، أو الحجة لابن خالويه، أو شرح شعلة على الشاطبية للموصلي أو النشر لابن الجزري يجد لكل كلمة تقريباً حركة يتمسك بها أبو
عمرو تمسك رواية وسنة لا تمسك ابتداع واختراع ؛ ولا يتساهل في
تغيير هذه الحركة مطلقاً .
ب ـ مع الخليل بن أحمد :
... ... تحدث الخليل بن أحمد عن الحركات، ولم يحدد أي حركات يريد هل هي الحركات الداخلة في بناء الكلمة كما يدخل الحرف في بنائها أو الحركات الإعرابية فكلمة (يُمَثل) فيها ثلاث حركات بنائية، هي الضمة والفتحة والكسرة، وفيها حركة إعرابية واحدة هي الضمة على اللام، قال سيبويه ذاكراً رأي الخليل في الحركات ما يلي:" وزعم الخليل أنّ الفتحة والكسرة والضمة زوائد وهنّ يلحقن الحرف ليوصل إلى التكلم به"(*). ويجب أن نفهم معنى زوائد، ويجب أن نميز بين يلحقن الحرف أو يلحقن الحرف الأخير في الكلمة .
... إن كلام الخليل ليس غامضاً، فهويعني كل حرف في الكلمة وكل حركة على الحرف أينما وقع الحرف(79/19)
في أول الكلمة أو وسطها أو آخرها، وأينما وقعت الحركة، وسبب وضع الحركة ليسهل النطق به وليسهل وصل الحروف بعضها إلى بعض، فكلمةُ (يُمثَل)، تُسهِّلُ الضمةُ على الياء النطقَ بهذا الحرف وتسهل وصله مع الحرف الثاني أي الميم كما تسهل حركة الميم وصله بالثاء وهكذا؛ فالخليل يذكر خصيصة من خصائص العربية وهي تسهيل نطق الكلام ، فلفظه يمثل: يُ ، مَثْـ ، ثِـ ، لُ لا تنطق إلا بهذه الحركات؛ هذا ما يعنيه الخليل .
... وأما في كتاب ( من أسرار اللغة) فقد ذكر العنوان: ليس للحركة الإعرابية مدلول، وقال د. أنيس بعد ذلك: " لم تكن تلك الحركات الإعرابية تحدد المعاني في أذهان العرب القدماء، بل لا تعدوا أن تكون حركات يحتاج إليها في الكثير من الأحيان لوصل الكلمات بعضها ببعض" (*) ، وقد استشهد بقول الخليل
بعد ذلك مباشرة فكان أول استدلال للكتاب المذكور عن حذف الحركات الإعرابية لأنها فيما يرى لا مدلول لها؛ فيقول سيبويه:" وزعم الخليل أن الفتحة والكسرة والضمة… التكلم به" ، وقال :" ومع هذا تمسك معظم العلماء بالحركات الإعرابية بل إن منهم من اعتبرها دلائل على المعنى" الحقيقة أنهم جميعاً تمسكوا بذلك وليس معظمهم باستثناء قطرب وذلك لأنهم اعتبروها دلائل على المعاني حقاً .
... لم أجد من العلماء من أخذب فهم ( من أسرار اللغة ) أي الحركات زوائد بمعنى يمكن الاستغناء عنها ، إن عبارة الخليل تعني أن الحركة أينما وقعت تفيد في النطق والوصل، لأن كلمة ( يُمَثَل ) إذا أراد أن ينطقها من دون هذه الحركات فإنهّا تكون عسيرةً جداً، ولذلك قال عبارته المشهورة الرائعة:" ويلحق الحرف ليوصل إلى التكلم به، أي أينما وقع الحرف"، وفي كل الحروف: الباء والتاء والثاء والجيم في أي كلمة كانت هذه الحروف، وبأي حركةٍ وردت، لأن الحرف في العربية لا ينطق ساكناً بل محركاً .(79/20)
... وقال السيرافي شارح كتاب سيبويه في هامش الكتاب:" يعني أنّ الفتحة تزاد على الحرف ومخرجها من مخرج الألف وكذلك الكسرة من مخرج الياء والضمة من مخرج الواو، لأن الكلام لا يخلو منهن أو بعضهن".
فالفتحة تزاد ليسهل التكلم بالحرف وكذلك الضمة والكسرة، وذكر السيرافي كلمة (مخرجها ) أي طريقة نطقها، فليس الموضع موضع حركات إعرابية، وليس الموضع موضع البحث عن الدلائل والمعاني، بل الموضع النطق والمخرج والتكلم، وذكر السيرافي العلاقة بين الحركات وحروف المد، وكلاهما يعين على النطق والتكلم.
... هذه حكاية الحركات الزوائد، فالباء حرف ساكن لا نتوصل إلى النطق به إلا بالحركات، فهو مرةّ مضموم(بُ) ومرةّ مفتوح(بَ) ومرةّ مكسور(بِ)، وذلك في مثل :بُن، تل، بِه، بُرتقال، بَلد، بِلاد.
... وموضوع الحركات الزائدة عند سيبويه جاء تالياً لهذا الموضوع[هذا باب علم حروف الزوائد]:وهي عشرة أحرف، وبدأ سيبويه يَعُدُ العشرة ويفصّل مواقع عملها وأذكر هذين الحرفين مما ذكر:"وأما السين فتزاد في استفعل وأما الميم فتزداد أولاً في مَفعول ومِفعال ومَفْعل ومَفْعِل ومُفْعِل ومُفْعَل) (*) ، فهل هذا يعني الاستغناء عن الميم والسين والحروف الزوائد العشرة؟
... هل يعني سيبويه بالحروف الزوائد العشرة أننا نستطيع حذفها لأنها لا مدلول لها كما أن الحركات الزائدة لا مدلال لها؟ إذن نستغني عن الألف والياء والسين والميم وغيرها.
... لا أقول معظم العلماء لا يقول ذلك بل أقول إن أياً من العلماء القدماء لم يقل ذلك، لأنهم علموا أن الحروف الزائدة والحركات الزائدة
هي مكونات أساسية لبناء الكلمة، وقد سميت الحركات زوائد لأننا نحتاج في الكلمة الواحدة لمعانٍ جديدة فنغير مواقع الحركات، فكلمة دَرَسَ تصبح دُرِسَ دَرِس نَدْرُسٌ، وكلمة قَلَبَ، وقَلْب، وهكذا.(79/21)
... والأمر لا يحتاج إلى تأويل أو تصوير، فإن منهج الخليل بن أحمد كان يقوم على الحقائق المباشرة، ولم يكن بحث الزوائد في كتاب سيبويه ليدل من قريب أو بعيد على أنّ الحركات الزوائد والحروف الزوائد يمكن الاستغناء عنها، إنها من أسس اللغة، إنها بنيان الكلمات فإن كلمة: فَهِم لها معنى واحد، ولكنها بالزوائد لها معانٍ كثيرة، فماذا نعني بكلمة:استفهم، وكلمة تفاهم، والمشتقات منها: فهيم، وفاهم، ومفهوم، فَهّامة إنها معانٍ جديدة من الحروف الزوائد، وكذلك الحركات الزوائد، تعطي معاني جديدة بتغييرها، فالمقصود بالزائد أنه ليس من بنية الحرف، ولكن لا بد منه للنطق والتوصل إلى التكلم به، وعندما تركب الكلمة يظهر أثر هذه الزوائد في النطق والمعنى كما ظهر أثر الحرف الزائد في المعنى.
... فقول الخليل" يصبُ في هذه البحيرة التي تلتقي فيها روافد جمالية تثرى الفصحى وتكشف عن سر من أسرارها، إنها الحركة التي تيسر النطق وتوصل إلى التكلم بسهولة." كأن الخليل يفسر قوله تعالى { لسان عربي مبين } فالحركة تسهم في سلاسة اللسان وإبانته .
... والمدقق في الأمر يرى أنَّ الحركة الإعرابيّة لها عملان: الأول- تسهيل نطق الحرف الأخير مع سابقه ومع الكلمة التالية. وثانيهما- أنها تؤثر في المعاني، وسيكون لنا موقف في الصفحات القادمة نبينّ فيه ارتباط المعاني بهذه الحركات الإعرابية .
جـ ـ مع الوقف:
... إذا كنت تقرأ موضوعاً، فإنك في آخر كل عبارة أو جملة في هذا الموضوع تتوقف لتلتقط نفسك ، ومن
ثَمَّ تواصل القراءة والوقف يكون على الأغلب بالسكون، ولكنه قد يأتي بالألف أو الواو أو الياء أي بحروف المد، وذلك مثل:(79/22)
... قرأتُ الكتابْ، وقرأتُ كتابي، لقد ضُمَّتْ مسألة الوقف إلى الآراء الداعية إلى إلغاء الحركة الإعرابية، ووجدوا أن الوقف أحد الأدلة القوية على تسكين أواخر الكلام لأن الحركة لا تقدم معنى ولا تغير في معنى فقال ( أي الدكتور أنيس ) : "إن شيوع الوقف بما يسمى السكون أو بعبارة أدق سقوط الحركات من أواخر الكلمات في حالة الوقف لأكبر دليل على أن الأصل في الكلمات ألا تكون محركة الآخر، وأنّ ما حرك منها في وصل الكلام كان لأسباب صوتية، دعا إليها الوصل(*)، وقد أشار الدكتور إلى المصدر الذي أخذ عنه وهو(sandhi Pheno-mens)
... هذا ما ذكره، ويبدو أن استقراء الوقف في هذا الموضوع لم يكن
شاملاً كما لم يكن استقراء أقوال الخليل وقراءة أبي عمرو شاملاً، ولبيان الحق نذكر ما يلي؛ أي نذكر جملاً يتنوع حال الوقف فيها :
1-قد أفلح المؤمنون ـ لم تحذف حركة الإعراب، لأنها الواو وليس النون؛ وكتاب الله عامر بالأسماء والأفعال المنتهية بالواو والنون أو الياء والنون مثل: رب العالمين، ومثل أيها الكافرون، ومثل: الظالمون، ومثل: بالصالحين… الخ.
2-قال تعالى: { سلاسلَ وأغلالاً وسعيرا } ، الوقف بالألف، وقد سمى علماؤنا الفتحة جزءاً من الألف، فالحركة موجودة، والمنصوب كله يوقف عليه بالألف؛ ويوجد أسماء وأفعال تنتهي كأصل بالألف مثل والضحا، سجى، قلى، الأعلى، هوى، غوى، الهوى…
3-قال الشاعر: صبتْ نفسي إلى العليا ـ ما تصبو، فالوقفِ بالواو وهو حركة مد كما نعلم، ومثل ذلك ما انتهى مَن الأسماء أو الأفعال بالياء مثل: وصلنا إلى الوادي، وكقوله تعالى: { ذلك ما كنا نبغي } ، ومثل: نعم أنا لا أدري.(79/23)
4-يعلم كل قارئ في كتاب الله أن ورود الأفعال المضارعة يعملون، ويكسبون ويذكرون، ويتّطهرون، ويؤمنون، ويمكرون، ويعلمون، ويفترون ويعدلون، ويتقون، ويصدقون، ويظلمون، ويشكرون ويفلحون وأمثالها، كثير جداً جداً وهذه الأفعال مرفوعة بالنون ولا يوقف على حركتها الإعرابية إلا بها، لأن علامة الرفع هي النون، وهذه النون موجودة ولا نستطيع حذفها، فالمضارع إذا لم يسبق بعامل الجزم أو النصب تثبت فيه النون، وهذه النقطة ثلمة في الموضوع السكون؛ كما كان الوقف بالألف والواو والياء ثلمات أيضاً .
5-تصور الحركة ولو سقطت: أنّ كلمة مثل ( الكبير ) لها معنى، ولكنك لا تحصر هذا المعنى في شيء واحد إذا سمعت الكلمة مقطوعة عن غيرها، فتظن أن الكبير جبل، وتظن أنه فيل، أو إنسان ضخم، أو فعل يستحق التقدير، وهكذا، ولكن وضع الكلمة ضمن تركيب معين مع حركتها يدل على العلاقة بين الكلمات بعضها ببعض ويتحدد معنى الكبير، قال تعالى: " يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير" وإذا قيل لقد سقطت حركة ( كبير ) وسكناها، وبرغم ذلك ظل المعنى واضحاً فأنا نقول: إن الحركة في ذهن العربي قائمة، إنه أسكنها لظرف طارئ وهو الوقف والتقاط النفس وتقسيم المعاني العامة إلى معان مفردة، ولكن الذهن يحيط بالعلاقة التي تسببها الحركة كما لا يغيب عن بالنا أثر الحركة البنائية، وندركها ولو لم تكن مكتوبة، وإذا أعطينا فرصة أشرنا لحركاتها تقول مخاطباً المفرد المذكر: لقد ظهر لي أن المشكلة حلت عندما جئتَ أنتْ .
... نحن في الوقف نتصور ذهنياً حركة (أنتْ) ونعرف أنها بالفتحة ، ولا تظنها كسرة أبداً. وتقول مخاطباً المفردة المؤنثة: لقد ظهر لي أن المشكلة حلت عندما جئتِ أنتْ .
... فنحن أيضاً نتصور الحركة ذهنياً، ونعرف أنها الكسرة، ولا يظنها فتحة أبداً. وسبب ذلك أن المعاني السابقة أعطتنا فكرة واضحة عن الكلمة الأخيرة.(79/24)
... ونربط بين كلمتي قتالٌ وكبيرٌ، ولم نربط بين قتالٍ الأولى المجرورة وبين كبير المرفوعة، لأن الحركة تمنع هذا الربط، لماذا نجيز لأنفسنا القول: إن السكون هو الأصل برغم عثورنا على مئات الآلاف من الأبيات من الشعر المستشهد به وهو محرك بل ومشبع بالحركة عند آخر البيت، فالحركة هي الأصل، والوزن الموسيقى لكل بيت يدل على أن الحركة هي الأصل، والنغم القرآني يدل أن الحركة أصل، وقد استخرج الخليل بن أحمد 15 بحراً من أوزان الشعر، ولم يكن ذلك إلا بعد معرفة لكل تفعيلة، والتفعيلة تقوم على المقاطع المتحركة والساكنة، فإذا تناول
بيتاً مثل :
يميناً/ لنعم السيدان / وجدتما/
U -- U -- U --
على كلّ حال من / سحيلٍ / ومبرم/
U -- U -- U --
فعولن مفاعيلن فعول مفاعلن
... وجد أن الحركة الأخيرة مشبعة فبدل الكسرة إشباع للكسرة حتى تتحول إلى ياء؛ وقف الشاعر عليها كما نقف عليها الآن، وهي بكسرة مشبعة، فماذا بقي بعد ذلك؟ وقد أورد ابن جني مثالاً يصور فيه وجود هذه الحركة في ذهن الأعرابي، وأثرها في ربط الكلام بعضه ببعض ضمن التركيب الواحد، قال ابن جني يصف لقاءه بابن عساف التميمي :"كيف تقول ضربتُ أخوك؟ فقال: ضربْتُ أخاك، فأدرتُ على الرفع فأبى وقال: لا أقول أخوك أبداً، قلت فكيف تقول ضربني أخوك؟ فرفع، فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول أخوك أبداً ؟ فقال: إيش ذا اختلفت جهتا الكلام " (*) فعلاقة
الحركة بالتركيب والمعنى قائمة، وقد علم ابن جنى من إصرار ابن عساف التميمي على تثبيت (الواو) في الأسماء الخمسة في حال الرفع، وعدم الانزلاق إلى الألف أنَّ المعنى سيختلف لو قبل التغيير، فأصر الأعرابي على الواو للرفع وعلى الألف للنصب. إن هذه الحركات تعبير عن معانٍ محددة في الذهن؛ وليس الأعرابي بدْعاً من الأعراب، فهم كذلك، وقد نقلت عنهم اللغة وهم يحفظون حركاتها ويحافظون عليها .(79/25)
... ويجدر بنا أن نقف مع الخليل بن أحمد وقفة تقدير واستذكار، لقد سألوه وهو يضع قواعد النحو والإعراب والمعاني عن العلل، إذ يقول يرفع هذا الاسم لسبب كذا وكذا، وينصب هذا الفعل لسبب كذا وكذا، لو أرادوا معنى كذا لقالوا كذا، ويذكر سيبويه له 522 رأياً معللةً في الحركة الإعرابية وأسبابها.
... " قالوا له : عن العرب أخذتها
أم اخترعتها من نفسك؟ فقال: إن
العرب نطقت على سجيتها وطباعها وعرفتْ مواقع كلامها، وقام في عقولها علله وإن لم ينقل ذلك عنها واعتللتُ أنا بما عندي أنه علة لما عللتُه منه فإن أكن أصبتُ العلة فهو الذي التمستُ " (*) ، هذا هو قول الخليل ومنهجه وليس ما تعجلوا بفهمهم أن الحركات زوائد أي لا تتمسكوا بها
د ـ مع الصحافة :
... الأسلوب الصحفي الآن واسع الانتشار، ولهذا الأسلوب خصائص متعددة، منها ما يتعلق بالأسلوب نفسه، ومنها ما يتعلق بالقائمين عليه، وقد عايشتُ هذا الأسلوب والقائمين عليه عدة سنوات، كانت المعايشة ميدانية، ولذلك كان لها أثر في فهمه وفهم القائمين عليه على قدر ما شاء الله لي.
... أهم خصائصه أنه كلام سهل، لا تحتاج فيه إلى معجم لتبحث عن معنى غريب أو كلمة غير شائعة
الاستعمال، ومنها الحركات الإعرابية، بل قُلْ حذف جميع الحركات الإعرابية، ومنها تعلق الأسلوب فكرةً بالواقع القائم، وارتباطه بالحدث ارتباطاً لا ينفصم، فهو لا يصور حادثة تاريخية قديمة، ولا يصور مراحل أدبية سابقة، ولكنه ينقل إلى قارئ الصحيفة أو مستمع الإذاعة والتلفاز صورة الواقع عن الاقتصاد أو الاجتماع أو السلام أو الحربِ أو السياسة أو العلم أو الثقافة وهو واقع يهم القارئ ويسأل عنه.(79/26)
... وأما القائمون عليه فلهم حظ من اللغات الأجنبية، ويلجؤون إلى الترجمات كثيراً، ويحل على ألسنتهم كثيراً لفظ أجنبيّ للتعبير عن الواقع العربي في نقطة من نقاط البحث أو الشرح أو البيان إنهم لا يجدون إلا (Exploration) للتعبير عن استكشاف النفط، ويرون كلمة (Design) أوضح من التخطيط يظنونه أقرب إلى التعبير في هذه النقطة من الكلمة العربية بل
يرونها أدق إيضاحاً، لا أريد أن أضرب أمثلة كثيرة فإن هذا متداول ونسمعه كل يوم .
... إذن عليك أن تنتظر تبرماً منهم بسبب هذه الحركات الإعرابية ذات المنظومات الدقيقة المحكمة لأنهم لم يألفوها ولا تعجبْ إذا لمستَ شيئاً غريباً من بعض الصحفيين، لا تعجب إن سمعتهم يقولون لغة سيبويه، ولغة زيدٍ وعمروٍ، ولغة الإعراب، فإن البيئة تفرض هذا التبرم وتلك الغرابة، أعني بيئة الترجمة والثقافة الأجنبية وتوارد الأخبار عن بلاد أجنبية تحكم العالم، إنّ هذا يضعف الصلة بالعربية كلها هذا واقع نراه ونلمسه ونعايشه؛ وكنا نستطيع أن نضع لغتنا في المقام الأسمى أمامهم ليعرفوا أن لغتنا حية، ونبضها قويّ، واستيعابها واسع .
... إنّ الحركات الإعرابية اختفت من الصحافة، كما اختفت من اللهجات العامية، وسبب ذلك أنَّ موضوعات اللغة العامية ، وموضوعات الصحف
والمجلات جلية واضحة وهي مفهومة بمعناها وفكرتها بسبب تداولها، والتعامل اليومي معها؛ لا نريد أن يكون حذف الحركات الإعرابية من الصحف منطلقاً للمطالبة بإلغائها كلها، إنك تنزع عن جسمك كثيراً من الثياب في الصيف، ولكن فعل ذلك في كل الفصول ضار .
حذف الحركة في اللغة كلها :
... لسنا بكل تأكيد مع الرأي القائل: " يكفي للبرهنة على أنْ لا علاقة بين معاني الكلام وحركات الإعراب أن تقرأ خبراً صغيراً في إحدى الصحف على رجل لم يتصل بالنحو أي نوع من الاتصال فسنرى أنه يفهم معناه تمام الفهم مهما تعمدنا الخلط في إعراب كلماته" (*).(79/27)
... الدعوة هنا واضحة لنزع كل الثياب، إن الحذف سيؤدي إلى اختلاط المعاني في لغة الصحافة اختلاطاً ما، ولكنه سيؤدي إلى تشويشها تشويشاً شاملاً إذا وقع في لغة الأدب للشعراء
والكتاب ولغة القرآن والحديث النبوي، إنه سيدمر إذا أخذ به الفصحى؛ وسأضرب أمثلةً على هذا الاختلاط والتشويش، ولن يعجزك شيء إن أردت البحث، فستجد أمامك وفرة .
أمثلة على الحركة :
1-قال المذيع: أقبل اللبنانيون على شراء أغذيةِ يومِ أمس
والصواب هو: أقبل اللبنانيون على شراء أغذيةٍ يومَ أمس .
الجملة الأولى تختلف في معناها ومضمونها عن الجملة الثانية، ويقع الاختلاط فيها شيئاً ما لدى العامي والفصيح .
2-وأما في اللغة الفصيحة فأضرب هذا المثل: قال المؤذن: أشهدُ أنَّ محمداً رسولَ الله، قال ابن قتيبة في كتابة ( عيون الأخبار )، سمع أعرابي هذا الأذان، فقال: ويحك يفعل ماذا؟
لقد دُمر المعنى الذي أراده النبي- صلى الله عليه وسلم - ؛ كلمة رسول خبر عن محمد، فيجب رفعها، ولما نصبها المؤذن لم تصبح خبراً فسأل الأعرابي يفعل ماذا أي
أين الخبر ؟
3-وهذا مثل أراه يقع بين بين ، أي بين الفصحى والأسلوب الصحفي، وهو يحتاج لشيء من التفكير .
قال الكاتب الصحفي: يرافق الملكَ في الجولة عدداً من المسؤولين .
ولكن الصواب هو: يرافق الملَك في الجولة عددٌ من المسؤولين .
والمعنى بين الجهتين مختلف، الجملةٌ الأولى لم تعط للملك قَدْرهُ، ولكن الثانية أعطت، إن هذا مصدره الحركة الإعرابية، والتلاعب فيها يؤدي إلى اختلاف في المعاني .
موضوعات الصحافة:(79/28)
... إنّ الموضوعات العامة التي تتناولها الصحافة تسهل على الناس فهمها، لأنها من بيئة الناس وواقعهم وشغلهم الشاغل، فأسفار المسؤولين، ولقاءاتهم، وتصوير المشروعات والكلام عنها، ونقل أخبار المعارك والصراع، إنها أمور تسمع كثيراً وتشاهد الآن كثيراً فأي حديث عنها يكون مفهوماً؛ وليس سبيل الفهم وجود الحركات أو حذفها ولكن السبيل تصويرها لواقع يعيشه كل إنسان معاصر.
الحرف ( ال ) :
... الغريب أننا تقبلنا منذ عام 1967حتى الآن اختلاف السياسين في فهم النص الإنجليزي لقرار 242 الصادر بسبب الأراضي المحتلة، يقولون في الحوار: الانسحاب من أراضي محتلة، يختلف عن الانسحاب من الأراضي المحتلة؛ إنّ ( ال ) التعريف من صميم النحو عندنا فإذا أردنا الحوار فيها خمس دقائق أظهروا التبرم، لا حول ولا قوة إلا بالله، يريدون أن يهدموا لغة حية محافظة، بينما تحاول الأمم المتماسكة إحياء لغاتها الميتة !.
شمولية النحو وأمثلة عليها :
... ليست الحركة الإعرابية هي النحو كله، فالنحو شامل لاستعمال الكلمة، إفراداً وتثنية وجمعاً، والنحو يبحث في التصغير والنسب ومعاني الظروف وحروف الجر، وغير ذلك كثير، وهذه أمثلة من صميم النحو، وهي بسبب الترجمات تفقد رونقها العربي :
أ- لندن تصعَد أزمة رشدي مع طهران:
لو كانت الجملة مستقلة، وليس لها في أذهان القراء تمهيد واسع، لكان معناها:
... لندن وطهران معاً تصعدان أزمة رشدي ضد…… فكلمة مع ظرف يفيد الصحبة، لكن كثرة الأخبار في الموضوع تجعل الإنسان يفهم المقصود من دون تدقيق في معنى هذه الكلمة أو تلك .
ب ـ توقفتْ المفاوضات فيما استمر إطلاق النار.
لم يستعمل العرب كلمة (فيما) بدل كلمة (بينما)، فهذا الجار والمجرور (فيما) استعمل للاستفهام، أو استعمل للاسم الموصول، نقول: فيمَ أنت من ذكراها؟ ونقول: فيما كانوا فيه يختلفون.
... إذن الصواب هو : توقفت(79/29)
المفاوضات بينما استمر إطلاق النار، وربما تأتي (بينما) و (بيناً) بمعنى واحد، وقد ذُكر:" بيناً نحن نسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لكن في لغة الصحافة تأتي كلمة على لسان صحفي لم يدقق في الكلمة معنّى واستعمالاً، ثم يشيع الخطأ، والأجدر أن نكون حريصين على وضع الفصحى في موقعها المناسب.
جـ ـ يُقال كثيراً : لم تتبينّ لنا الحقيقة المرجوّة لحد الآن .
... كيف اقتحمت عبارة ( لحد الآن) على الوسائل الإعلامية لغتها؟ يغلب على الظن أن أحد الإعلاميين في البدء كتب لحد الآن كترجمة لعبارة until now ثم شاعت حتى صارت من حقائق اللغة الإعلامية اليومية .
أما الصواب فقولنا: لم تتبين الحقيقةُ المرجوة حتى الآن.
... ولنا في شواهد لغتنا ما يثبت هذا الاستعمال (حتى الآن) بدل عبارة (لحد الآن ) قال سبحانه : " سلام هي
حتى مطلع الفجر" .
د ـ خبر إذاعي ( مونت كارلو 11/7/97 الساعة 10 ليلاً ) .
قال المذيع: [ فإن عجز الميزانية 3.5% كان يجب أن يكون 3% في الحد الأعلى وهذا يقلل المناورة لجهة وعود الناخبين ولذلك على الحكومة التقشف أو زيادة الضرائب، وهذا يعطى القوة لجهة دخول فرنسا لعملة أورو ] .
إني من مجمل الأخبار ومجمل الفكرة التي تحدث عنها المذيع أستطيع أن أحدد المعاني التي تريدها، ولكن دراسة الجملة كتركيب ولفظ ومعنى كما هي أمامنا لا تؤدى إلى الفهم الدقيق المطلوب؛ فليس الأسلوب الصحفي موفقاً دائمًا في إعطاء المعاني، إن هذا الخبر لا يهم الإنسان الأردني في بلادنا كثيراً ولذلك لا يستطيع الإلمام به لأنه لا يجد من البيئة ما يسهل له الغموض، ولكن لو كان الخبر الغامض عن إغلاق الضفة الغربية وقطاع غزة، لعلم من فوره ما المقصود بالإغلاق ولكان المبهم فسره بما يحتويه مخزونه من المعرفة السابقة .
هـ ـ ورد في كتاب ( من أسرار اللغة ) .(79/30)
... ورد في كتاب ( من أسرار اللغة ) (*) أزواج من الجمل مثقفة المعاني فيما يرى، ولم يختلف الأمر بينها إلا في حركة واحدة في الجملة كلها في إحدى الكلمات، إنها منصوبة مثلاً ثم تجرّ بالكسرة ولكن المعنى يظل كما هو. قال الدكتور أنيس: " إنّ بعض حالات النصب لا تكاد تختلف في معناها عن بعض حالات الجر مثل: قمتُ بهذا ابتغاءَ وجه الله، قمت بهذا لابتغاءَ وجه الله. فلِم كانت كلمة ابتغاءَ في الأولى منصوبة وفي الثانية مجرورة ؟ "يقصد أن الجملتين بنفس المعنى، وذلك برغم اختلاف الحركات الإعرابية .
... "ومثل: جاءني من باع السمكَ، جاءني بائعُ السمكِ. لم كانت السمك في الأولى منصوبة وفي الثانية مجرورة؟ "، فالجملتان بنفس المعنى،
واختلاف الحركات لا قيمة له، ومثل: سهرتُ الليلة الماضية، سهرتُ في الليلةِ الماضية؛ حدث كل هذا الأسبوع الأول من ولادته، حدث كل هذا في الأسبوع الأول من ولادته.
... هل هذه الأزواج الأربعة تحمل معنى واحداً؟ هل كل جملتين من نفس الزوج لهما معنى واحد فقط لا يختلف في شيء عن نظيره؟ ألم يؤثر دخول اللام ولا اسم الموصول (مَنْ )ولا حرف الجر في؟ إن مثل هذه الأمثلة متداول وقد رغبت في جمع عدة آراء فيها كاستطلاع ورصد إجابات فيما يقال الآن:
... لقد ساءلت الأساتذة من مختلف الدرجات، وساءلتُ من حولي من مختلف الثقافات عن هذه الجمل مجتمعة أو متفرقة، وفقاً لما يقتضيه المقام، فأسأل: ( هل جملة صليتُ ابتغاءَ وجه الله) تحمل نفس المعنى لجملة(صليتُ لابتغاءِ وجه الله)؟كلهم يذكر فرقاً وإن اختلفوا في تحديده.(79/31)
... وساءلت: هل جملة (جاءني بائع السمكِ) لا تختلف في معناها عن: (جاءني من باع السمكَ)؟لقد سألت في هذا الزوج أُناسا لهم حظ متوسط أو قليل من ثقافة العربية وأسرارها، ولكن الإجابة دلت على الفرق، الأولى بائع معروف معين، والثانية قد لا يكون باع سمكاً إلا مرة واحدة، يوجد في الأولى تعريف قوي ويوجد في الثانية شيء من التنكير.
... وأما الظرفان الليلة والأسبوع فكان جواب الجميع أن الفرق قائم بينهما، فالسهر أو الشيء الذي حدث استغرق الليل كله والأسبوع كله، ولكنهما في حالة الجر يفيدان الجزئية، أي السَّهر في جزء من الليل والحدوث في جزء من الأسبوع.
... كانت الجملة الأولى: (ابتغاء وجه الله)، و (لابتغاء وجه الله) أدق على الجميع في الإجابة، لأنها أرقى الجمل، فالفرق قائم لكن الحيْرة شديدة في حجم الجملة الثانية حرف اللام وهي تفيد هنا التعليل، ولكن المفعول لأجله(ابتغاء) يفيد التعليل فيكون وضع اللام من قبيل الحشو، أضف لذلك أنك باعدتَ بين قيامك وابتغائك باللام، فتكون الجملة الأولى أقرب إلى المعنى المطلوب، وأدق في نيل الهدف.
... لقد فرق أساتذة النحو بين جملة: كادتُ الشمسُ تطلع، وكادت الشمسُ أن تطلع. فقالوا إن الجملة الأولى تعني القرب الشديد، وأما الثانية فالقرب ليس شديداً لأنك أدخلت شيئاً بين كاد وتطلع مما أبعد الفترة؛ وقد استشهدوا بكتاب الله تعالى:" يكاد زيتُها يضىء"، و" يكاد البرق يخطف أبصارهم" ، فالإضاءة والخطف قريبان جداً .
البحث الحق:(79/32)
... إنَّ الجهد في سبيل ضرب أمثلة متقاربة في تراكيبها كما سبق، ولكنها تختلف في الحركات الإعرابية بقصد الوصول إلى قناعة إلغاء هذه الحركات جهد غير مثمر، فإن هذه اللغة الشريفة وردت إلينا بلفظها وتركيبها محركةً وهذه الحركة لها دور في المعنى والنطق وتداولتها مئات الأجيال الواعية المفكرة بهذه الصورة القوية المحافظة المبينة وقدمت بها أكبر كنوز الثقافة في العالم، وكان الأوْلى بحث آثار هذه الحركة لنكشف بعض أسرارها المفيدة للغة؛ ونعرف دقائق أسرارها، علينا أن نحسن اختيار البحث.
... كان جميلاً جداً من الباحث أو الباحثين أنْ ينظروا في غير هذين السببين أو السرين من أسرار الحركة أي غير إفادة المعنى وتسهيل النطق لربط الحروف بعضها ببعض، إذن لقدموا خيراً جديداً للغة، لكنْ أن نظل في هذه المواقف المقلدة في كل شيء سطحي وظاهري حتى في اللغة فإن خسارتنا محققه؛ وا أسفا على أمة العرب التي تريد وأد لغتها الحية العملاقة بينما أسباط بني إسرائيل تسعى لأحياء لغة ميتة!.
خلاصة البحث:
لقد هدفت هذه الورقة إلى بيان العلاقة الحميمة بين النحو والمعاني، ورفض الأفكار التي تنادي بالعامية أو حذفت الحركات الإعرابية، وقد استندت الورقة إلى آراء شيوخ لغويين ونحويين ممن كان لهم باع طويل في اللغة والنحو، كما استندت إلى أمثلة عديدة تبين قوة الصلة بين النحو والمعاني في اللغة الفصيحة.
وقد تعرضت بعض التعرض لآراء الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس التي ضمنها كتابه ( في أسرار اللغة)، كما تعرضت لآراء شيخ سابق هو قطرب تلميذ سيبويه وبينت أن ما ذكراه من تقليل شأن النحو بتلك الأمثلة التي بنيا عليها آراءهما كان ضعيف الأصول والأركان ولا يرقى إلى درجة الحجج والاستدلالات .
وكانت الأمثلة التي ذكرتها قرآنية، وأوضحت علاقة الحركات فيها بالمعاني، وقد توقف البحث عند استشهاد الدكتور أنيس بقراءة الإسكان لدى أبي عمرو بن العلاء واستشهاد(79/33)
بقول الخليل بن أحمد:
" أن الحركات زوائد " أي الحركات الإعرابية زوائد، وبذا يمكن الاستغناء عنها، وأشرت إلى أن ما قصده أبو عمرو والخليل بعيد كل البعد عما
فهمه الدكتور منها.
ولا بد من القول: إن النحو ركن من أركان اللغة، وأحد حصونها القوية ولا تسير اللغة سليمة فصيحة من دونه .
دكتور كامل جميل ولويك
...
...
...
...(79/34)
ثانيًا: تأبين الأستاذ الدكتور محمد السيد غلاب
عضو المجمع
فى الساعة الثانية عشرة ظهر يوم الاثنين 28 من شوال سنة 1419هـ الموافق 15 من فبراير سنة 1999 م أقام المجمع حفل تأبين المرحوم الأستاذ الدكتور
محمد السيد غلاب عضو المجمع
وفيما يلى نص الكلمات التى ألقيت فى هذا الحفل :
أولاً – افتتاح الجلسة
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
نحتفل اليوم بتأبين مجمعي عظيم هو الأستاذ الدكتور محمد السيد غلاب ، إذ سبقنا إلى الدار الآخرة ، ولكل منا زمن محتوم وأجل معلوم، كما قال تعالى:" فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون". وقد عمل الأستاذ الدكتور محمد غلاب فى جامعة القاهرة سنوات طويلة ، وكذلك فى المجمع ، فقد ظل به خبيرًا نحو ثلاثين سنة ، ثم أصبح عضوًا عامًلا فى المجمع ، حيث عمل فى لجنة الجغرافيا ، وله بحوث عظيمة تشهد له ، وكان أستاذًا مستنيرًا مثقفًا ثقافة واسعة ، وكما ألَّف فى الجغرافيا فقد ألَّف فى الأدب الهلينى ، والرمانتيكية الفرنسية ، وكتب عن الفارابى وابن سينا، وكتب أيضًا عن الفلسفة الشرقية ، والمذاهب الفلسفية المعاصرة ، فهو حقيقة عاش للعلم وللبحث وللدراسة ، وأنتج كثيرًا من الأعمال ، بجانب ما خَرَّج فى جامعة القاهرة من الطلاب ، والمؤلفات الجغرافية القيمة ، ولاشك أن فجيعة الجامعة فيه ، وفجيعتنا جسيمة ، ولكن هذا قدر الله .. ونحن جميعًا مستسلمون له . ويتفضل الأستاذ الدكتور كمال محمد دسوقى بإلقاء كلمة المجمع نيابة عن أعضائه فى تأبين الراحل الكريم.(80/1)
أولاً : عطاء الفكر
* فكر شوقي ضيف في طهران :
لا يقتصر جهد وخلاصة فكر الدكتور شوقي ضيف على إثراء المكتبة العربية فقط ، ففي الآونة الأخيرة ظهرت عدة ترجمات لمؤلفاته في الإسلام والنقد الأدبي باللغات الأجنبية ، وقد ترجم مؤخرا الباحثون الإيرانيون إلى اللغة الإيرانية كتابه (في النقد) ، كما ترجم إلى الصينية كتابه (الأدب العربي المعاصر في مصر) .
كذلك فقد تقدمت الباحثة الإيرانية شكول السادات برسالة إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة الحرة الإسلامية في طهران تحت عنوان : (الآراء النقدية للدكتور شوقي ضيف في النحو والبلاغة) ونالت الدرجة العلمية بتقدير امتياز، ولقد عرضت الباحثة في الفصل الأول من دراستها للسيرة الذاتية لشوقي ضيف ودراساته وأساتذته. أما في الفصل الثاني فتناولت فيه نظرياته النقدية في النحو العربي . وفى الفصل الثالث عرضت الباحثة لنظرياته النقدية في البلاغة العربية وأطوارها مع مقارنة بين
البلاغة العربية والغربية .
* ... * ... *
* درع فارس الثقافة الجماهيرية :
الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية تسلم درع فارس الثقافة الجماهيرية من مصطفى عبد الله الصحفي بالأخبار الذي تسلمه نيابة عنه في مؤتمر أدباء الأقاليم الذي أقيم مؤخرا في الأسبوع الماضي بمرسى مطروح .
* ... * ... *
*ترجمة الأستاذ الدكتور شوقي ضيف؛ المنشورة باللغة الإنجليزية في
Eneyclopedia Of Arabic Literature, London – New York 1998 :
ضيف، شوقي (ولد سنة 1910 )(81/1)
... عالم مصري ومؤرخ للآداب وناقد ومحقق للتراث.حصل على ليسانس الآداب في اللغة العربية وآدابها من الأساتذة المرموقين المتميزين؛ كتبه الجامعية الكثيرة وأعماله المرجعية وإشرافه على الطلاب من دول عربية كثيرة تعد من الأسس التي جعلته أحد الشخصيات المؤثرة بشكل واضح في الدراسات العربية المعاصرة، له تاريخ الأدب العربي في تسعة مجلدات، وإلى جانب ذلك كتب عن التطور الفني للشعر والنثر في الثقافة العربية، وهما: الفن ومذاهبه في الشعر العربي ( 1943)، والفن ومذاهبه في النثر العربي(1946 ) ، وله كتب مثيرة أخرى في موضوعات مختلفة، وعن شخصيات متعددة من أعلام الأدب العربي القديم والحديث ، وحقق مخطوطات مهمة لابن حزم وغيره ، وكتب تاريخيا للبلاغة العربية بعنوان:
البلاغة تطور وتاريخ 1965 ، وكتابه عن: مدارس النحو العربي، من أكثر الكتب استخداما . وله محاولة مهمة في : تجديد النحو العربي القاهرة 1982 . أما سيرته الذاتية فقد نشرت بعنوان: (معي)
سيرة ذاتية في مجلدين1981،1988.
... وتقديرا لجهوده في الدراسات العربية منحته مصر جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 1979، ونال جائزة الملك فيصل في الأدب العربي سنة 1984، وانتخب رئيسا لمجمع اللغة العربية سنة 1996.لمزيد من القراءة عنه:
على،أحمد يوسف، قراءة أولية في كتابات شوقي ضيف، القاهرة 1989.
دسوقي ، عبد العزيز ، شوقي ضيف وجهوده النقدية ، القاهرة 1986 .
وادي ، طه ( محرر ) شوقي ضيف ، سيرة وتحية ، القاهرة 1992 .(81/2)
في العدو أي الجري كاجتهاده الأول.
(57)ولأن الثور عدا أول الأمر عدواً سريعًا حين ولَّى وحوله جنابان من الغبار فقد تقدم على الكلاب وجعل يتهمل شيئاً في جريه ، وانطلقت الكلاب وراءه بعدو شديد يختلين الأرض بأظافرهن ، أي ينتزعن ما عليها من نبات الخَلَى وهو العشب الرطب وهن مسرعات . اختلى يختلي أي اقتطع الخَلَى يقتطعه وسبق تفسير الخلي بأنه العشب ويقال له الرطب بضم الراء ما دام رطبًا بفتحها والحشيش إذا كان يابسًا والكلأ أعمّ ، "والشاة يلع " أي الثور يعدو عدوًا جيداً ولكن غير مفرط السرعة تقول ولع الثور يلع ولعًا . على مهلته أي على تقدمه عليهم وسبقه لهن بجريه الأول .
(58)أي هذه الكلاب دنت ولكن لم يلتبسن به أي لم يخالطنه بعضهن له وقتالهن ، والكلاب واثقات أنه إن كر عليهن راجعًا فسيقتل منهن ويجرح وهن سيعضضنه ويجرحنه وتسيل الدماء منه ومنهن ، وكن خائفات من قرنه الذي سيهاجمهن به .
(59) يُرْهِبُ الشَّدَّ إذَا أرْهَقْنَهُ
وإذَا بَرَّزَ مِنْهنَّ رَبَعْ
سَاكِنُ الْقَفْرِ أخُو دَوّيَّةٍ
فإذَا ماآنَسَ الصَّوتَ امَّصَعْ
ويروى :يلهب الشد ويهذب الشد
والشد هو الجري الشديد ، وإهذابه وإلهابه أي الاشتداد فيه وكذلك يرهبه أي ينقل شعوره بالرهبة والخوف إلى جري قوائمة ، فجريه جري خوف يريد به لنفسه النجاة من الهلاك ، إذا أرهقته هذه الكلاب أي اقتربت من إدراكه فإنه يشتد في جريه اشتداداً ، فإذا برز منهن وابتعد مسافة رَبَعَ أي كف من اشتداد الجري ووقف ليستريح وليستعد لهن .(82/1)
هو ثور مسكنه الفقار، أخو الدَّوية أي الصحراء التي يُسمع فيها بالليل دوُّ الجن لخلوها من الناس ولتهيج الرياح في مداها الواسع . الثور معتاد على دوي الصحراء.وهو ذو سمع حاد . فمتى أحس صوتا يدل على حركة إنسان كحركة كلاب الصيد أو رنة الأوتار التي ترمى عنها السهام أو نحو ذلك فإنه يمصع أي يسرع الجري إسراعًا . امصع أي انطلق مسرعًا أصله من مصع فصار انمصع ثم ادغمت النون في الميم.
تعليق :
واضح أن الثور نجا بامصاعه فلم تدركه الكلاب التي كانت واثقة أنه متى عطف نحوها فإنه سيقتلها بقرنه الحاد ، ولم تصبه السهام التي كان يرسلها الصائد فتنطلق الكلاب مع إرساله لها .
وكذلك امصعت ناقة الشاعر في إسراعها لتدرك به سليمى التي حل أهلها بعيداً عن مكانه :
حَلَّ أهْلِي حَيْثُ لا أطْلُبُها
جَانِبَ الْحِصْنِ وحَلَّتْ بِالْفَرَعْ
أي حل أهلي في مكانٍ لا أستطيع أن أطلبها فيه لابد من السير إلى حيث حلت بالفرع .
وأشعرنا سويد أن ناقته قد بلغت به
المكان الذي قصده بسيره السريع وامصاع ناقته كما امصع الثور حين أرهقته الكلاب .
وهكذا ينتهي الفصل السادس وينتقل بعده الشاعر إلى الفخر ، إذ كما انتصر الثور على الكلاب انتصر هو أيضًا على مشقه الصحراء وخلص إلى مطلوبه ولحق محبوبه ، فحق له أن يفتخر بنفسه وبقومه .
(61)من هذا البيت يبدأ الفصل السابع من القصيدة وهو فخر مباشر بضمير المتكلم الجمعي (نا):
كَتَبَ الرَّحْمنُ ، والحَمْدُ لَهُ ،
سَعَةَ الأخْلاَقِ فِينَا والضَّلَعْ
الضلع هو احتمال المسؤولية الاضطلاع أي القيام التام بأمور الناس وتقول هو مضطلع بحوائج الناس إذا كان قويًا على ذلك قادراً عليه والضلع يدل على القوة والشدة وأصله من الضلاعة أي شدة الاضلاع ـ ضلع الرجل فهو ضليع .
والتعابير في هذا البيت إسلامية . وقوله سعة الأخلاق فيه لفظ السعة وهو الذي استعمله في أول القصيدة
حيث قال :
فَوَصَلْنَا الْحَبْلَ منها ما اتَّسَعْ(82/2)
(62)وكتب الله لنا أيضاً أهل إباء وعزة نأبى الدنايا ولا نخضع مثلما يخضع الشخص الذي يكثر عليه الأعداء ولا يجد نصيراً . المكثور الذي كثر عليه أعداؤه وغلبوه ـ كنع كنوعًا أي ذل وخضع .
(63)وكتب الله لنا أننا نبني المعالي، هذا عطاء الله ، أعطانا الله ، والله يرفع من يشاء ويضع من يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء . ولا يخفى أن هذا الكلام إسلامي الروح ليس من كلام الجاهلية .
(64)والله جل جلاله لا يريد في إرادته العالية أن يحولنا عن هذه الحالة العالية أبد الدر ، فأنتم يا حسادنا دونكم جُرع الموت المرة فتجرعوها من غيظكم على ماخصنا الله به من الفضيلة وللموت جرعات مرة : حِوَلاً : تحويلاً . جرع الموت منصوبة بفعل مقدر أي اشربوا جرع الموت غيظًا . أو منصوبة على أنها صفة معنوية لقوله " وبناء للمعالي " بناء يجرعكم غيظًا ، يجرعكم جرع الموت . بناءً جرع الموت لكم أي كجرع الموت لكم من شدة إغاظته لكم.
(65)إباء الدنيات وبناء المعالي وسعة الأخلاق والضلع والقوة على احتمال شدائد الأمور والاضطلاع بالمسؤوليات العظام ، هذه نعم الله رباها فينا وخصنا بها وهذا صنيع الله الذي صنعه ومن يستطيع أن يصنع مثل صنع الله عز وجل . قال تعالى : ( صُنعَ اللهِ الَّذيِ أتقن كلَّ شيٍء ) صدق الله العظيم . سورة النمل ـ آية 88".
ربَّ يربُّ : أي أصلح الشيء وأتمه .
(66)يقول الشاعر بعد أن وصف قومه بسعة الأخلاق وأن ديارهم ديار العز:كيف أقدر على الاستقرار بعيداً عنهم وأنا رجل حر ذو عزة وإباء في بلاد ليس فيها اتساع بلادي ،لا في حسن الأخلاق ولا في كرم المعيشة. شاحط: بعيد الدار. متسع: اتساع ، مصدر ميمي من اتسع .
تعليق :
زعم أحد شيوخ أبي محمد الأنباري وهو أبو جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح أن أبا عكرمة شيخ الأنباري وصاحب رواية قصائد المفضليات التي هي الآن بأيدينا قد أخطأ في ترتيب الأبيات التي تقدمت . وأن ترتيبها الصحيح هو هكذا :(82/3)
كَتَبَ الرَّحْمنُ ، والحَمْدُ لَهُ ،
سَعَةَ الأخْلاَقِ فِينَا والضَّلَعْ
وإباءً لِلدَّنِيَّات إذَا
أُعْطِيَ الْمَكْثُورُ ضَيْمًا فكَنَعْ
وبِناءً لِلْمَعالِي ، إنَّما
يَرْفَعُ اللُهُ ومَنْ شاءَ وَضَعْ
نِعَمٌ لِلّهِ فِينَا رَبَّهَا
وصَنِيعُ اللهِ ، واللهِ صَنَعْ
كَيْفَ باسْتِقْرَارِ حُرٍ شَاحِطٍ
بِبِلادٍ ليسَ فيها مُتَّسَعْ
لا يُرِيدُ الدَّهْرَ عنها حِوَلاً
جُرَعَ المَوْتِ ولِلْمَوتِ جُرَعْ
ومن أجل هذا زعم المستشرق كارلوس ليال أن في الأبيات من القسم الثاني من القصيدة ( من البيت 45 إلى 108 ) فجوات .
وتابع الأستاذان عبد السلام محمد هرون والشيخ أحمد محمد شاكر رحمهما الله المستشرق ليال فرتبا القصيدة في تحقيقهما كما رتبها هو في ترجمته ( ص197ـ198 من طبعة القاهرة الأخيرة ) .
وقد احترس ليال فلم يرتب الأبيات في النص العربي إلا بترتيب الرواية الأصيل الذي أخذه أبو محمد الأبنارى عن أبي عكرمة الضبي عن ابن الأعرابي عن المفضل الضبي نفسه ـ رحمهم الله جميعًا .
على هذا النحو لايجوز تغيير الترتيب الذي جاءت به الرواية الصحيحة من أجل النقد الذي انتقد به أبو جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح رواية عكرمة .
والمعنى واضح صالح مستقيم وجيد بحسب الرواية الأصيلة . ويصير إلى معنى آخر بحسب الترتيب المغيَّر :
كَيْفَ باسْتِقْرَارِ حُرٍ شَاحِطٍ
بِبِلادٍ ليسَ فيها مُتَّسَعْ
لا يُرِيدُ الدَّهْرَ عنها حِوَلاً
جُرَعَ المَوْتِ ولِلْمَوتِ جُرَعْ
إذ يصير الذي لا يريد التحول هو الشاعر الحر الشاحط .
يبدو أول الأمر أن ظاهر هذا المعنى
مستقيم ، ولكن المتأمل له يرينا عدم استقامته . قوله :
" كَيْفَ باسْتِقْرَارِ حُرٍ شَاحِطٍ " يدل على أنه يريد التحول عن هذه الديار التي هو فيها شاحط أي بعيد وليس فيها متسع . وقوله من بعد(82/4)
" لا يُرِيدُ الدَّهْرَ عنها حِوَلاً " يناقض هذا المعنى . نعم يجوز أن تقول كيف يستقر ولا يطلب أن يتحول ، وهذا الأسلوب فيه تطويل وتكرار . والصواب التزام الرواية التي جاء بها الأنباري مسلسلة عن شيوخه . والله تعالى أعلم .
لاحظ أن الشاعر وصف نفسه بأنه حر وشاحط وهي نفس الصفة التي وصف بها حبيبته :
حُرَّةٌ تَجْلُو شَتِيتًا واضِحًا ( البيت 2)
شاحِطٍ جَازَ إلى أرْحُلِنَا ( البيت 9 )
ووصف الدار التي يريد الاّ يستقر فيها بأنها ليس فيها متسع.وفي أول القصيدة:
فَوَصَلْنَا الْحَبْلَ منها ما اتَّسَعْ
ووصف قومه من بعد بسعة الأخلاق.
والمحبوبة في الشعر القديم كثيراً ما تكون رمزاً يرمز به الشاعر إلى نفسه وإلى قومه وإلى آماله ومطالبه وأمانيه.
(67)من هذا البيت يبدأ الفصل الثامن من القصيدة وقد مهد لهذا الفصل الذي جاء فيه بوصف عدوٍ له جمع الحقد والنفاق والمكر والحسد لقوله الذي قاله من قبل في نعت قومه ونعم الله عليهم. والله لا يريد بمشيئته العالية سبحانه وتعالى تحويل شيء من ذلك عنهم وليذق عدوهم المرارة وجرع الموت ـ قال سويد :
رُبَّ مَن أنْضَجْتُ غَيْظًا قَلْبَهُ
قد تَمَنَّى لِيَ شَرَّاً لم يُطَعْ
كما ترى هنا تحول الشاعر من ضمير
المتكلم الجمع إلى ضمير المتكلم المفرد
وكشف لنا عن نفسه بوضوح وصراحة جهيرة ـ قال :
(71)هذا العدو الخبيث يغتابني والغيبة خلق ذميم وصفها الله في كتابه العزيز فقال : " ولاتَجَسَّسُوا ولايَغتَب بَعضُكم بعضًا أُيُحِبّ أحدُكم أن يأكُلَ لحمَ أخيهِ ميتًا "
فإذا كانت غيبة المرء لأخيه مثل أن يأكل لحمه وهو ميت ، فهذا طعام وخيم ، وداء فظيع يَّدرعه أي يلبسه ويكسو به نفسه .
مطعم وخم أي خبيث غير سائغ . داء يدرع أي يُلبس .(82/5)
(72)هذا العدو لم يضرني ـ ضاره يضيره ضيراً وضاره يضوره ضَوْرًا أي ضره يضره ضرراً ـ أي لم يضرني بشيء غير حسده لي . وحسده يضره هو قبل أن يضرني(15)، وهو بحديث غيبته لي يصوت تصويتًا قبيحًا ، لا يزيد على كونه صوتًا قبيحًا بأي شيء ـ في قبحه مثل صوت البومة بالليل. صياح قبيح بغيض .
زقت البومة تزقو زُقاءً ، ونعب الغراب نعيباً وزقاً الضَّوَع وهو ذكر البوم . والضوع أيضًا طائر طائر ، ولكنه ذو صوتٍ عالٍ غير جميل ، وليس لهذا الطائر من قوة غير صياحه. فعلى هذا يكون المعنى هذا الشخص يغتابني حسداً لي ، وذلك لا يضرني ، كلامه عني مجرد صياح لا فائدة فيه ، كصياح هذا الطائر .
(73)وهذا الشخص منافق ، إذا لاقيته يبادرني بالتحية، وإذا غبت يغتابني ـ هذا معني قوله :
وإذَا يَخْلُو لَهُ لَحْمِي رتَعْ
أي إذا غبت فإنه يجد نفسه كأنه خالٍ ليس معه أحد ، ولحمي أمامه يأكله ويرتع فيه بغيبته .
(74)بغضه لي عميق في نفسه .كلما أغيب فيفقدني ينبع أذاه وذباب شره مستسر:أي بغضه في داخل نفسه يسره لي إذا رآني حياني كاذبًا والشنء لي كامن في نفسه أي الكراهية لي كامنة مستسرة في نفسه. الشنء والشنآن بسكون النون والشنآن
بفتح النون الكراهية والبغضاء .
افتن الشاعر في بيان كراهية هذا الحاسد له وغيبته له . فمرة هي كصياح الطائر الذي لا فائدة وراءه. ومرة هي داء ملبوس، وطعام وخيم . وذباب نابع من فمه بالأذى . ووحشية
ترتع في اللحم .
(75)ساءَ ماظَنَّوا وقد أبْلَيْتُهُمْ
عند غاياتِ الْمَدَى كَيْفَ أقَعْ أي ساء ظنهم الفاسد حين ظنوا أنهم سيغلبونني . لقد أبليتهم ، أي قد عرفوا بلائي ومقدرتي وقوتي عند غايات مدى النضال والسباق بيني وبينهم . قد عرفوا كيف أصنع وكيف أنتصر عليهم وعلى أمثالهم .(ماظنوا) .. .. أي ظنهم . كيف أقع: أي كيف أصنع. كيف وقع نضالي ومسابقتي حين يسابقونني ويناضلونني(82/6)
(76)وهو صاحب مِئَرة أي إحنة وحق لايسأم هذا الحقد ولا يرجع عنه وإذا أخذ في طريق الشر أوقد ناره حتى تسطع واستمر يوقدها .
مئرة أي حق وجمعها مِئَر . مثل إحنة
وجمعها إحن .
(77)ولكنني أنا لا أبالي بعداوته وعندي القدرة على ردعه . لأني شاعر فصيح مجيد . إذا هاجمت عدواً لى بالشعر صقعته برجم يصيب مقاتله
لا يخطئ ولا يرتد .
حين أرمي ليس رميي طائشًا لايصيب ولا مرتجعًا يسقط قبل الوصول إلى الهدف فأحتاج إلى إعادته .
(78)فارغ السوط ، أي أنا فارغ البال عن أن أكون مشغولاً بأمثال هذا من أعدائي . ولكني على أتم الاستعداد ، إذا ضربت أوجعت ولم أتعب ـ لايتعبني الذي هو مثل الكبير من الإبل. ولا الذي هو مثل الدقيق النحيف منها .
استعار هنا ركوب الإبل وركوب الخيل للتعبير عن مقدرته على الصراع لأعدائه ، والراكب يجرك حصانه وبعيره بالسوط . فيقول راحلتي لاتحتاج إلى ضرب فهي سريعة ماضية ، وسوطي فارغ ولكني إذا احتجت إلى استعماله فلن يتعبني بعيد أو فرس كبير ولا بعير أو فرس دقيق صغير .
الثَّلِب الكبير من الإبل ، ومنها كلمتنا العامية " تلِب " والشخت النحيف الضعيف . والضرع الضعيف . (79)هذا الشخص وأمثاله من أعدائي ألا يعلمون أنني الآن شيخ مجرب ، قد يدل على نضجي وتمام تجربتي شيب رأسي وطلعه ، فكيف ينتظرون مني أن أكون ذا سقطات وزلات يحسبونها على ويعيبونني بها .
قالوا لما ثار أعداء الحجاج عليه وحاربوه وانتصر عليهم في يوم رستاقأباذ ، خطب وتمثل في خطبته بهذا البيت من شعر سويد بن أبي كاهل :
كَيْفَ يَرْجُوَن سِقَاطِي بَعْدَ ما
لاحَ في الرَّأسِ بَيَاضٌ وصَلَعْ
أي كيف يرجون أن أتساقط وأضعف وأزل وقد أحكمتني التجارب ونضج العمر ولاح الشيب والصلع في رأسي.(82/7)
هذا آخر الفصل الثامن من القصيدة ويجيء بعده الفصل التاسع . ويستمر الشاعر في نعت هذا العدو ، ويصف الآن جهده الضائع ، ويشبه نفسه وقومه وعزهم بالصخرة الملساء الصماء العالية المرتفعة التي لاتنال .
(80) وَرِثَ البِغْضَةَ عَنْ آبائِهِ
حَافِظُ الْعَقْلِ لِمَا كان اسْتَمَعْ
(81) فَسَعَى مَسْعَاتَهُمْ فِي قَوْمِهِ
ثمَّ لم يَظْفَرْ ولاَ عَجْزًا وَدَعْ
(82) زَرَع الدَّاءَ ولم يُدْرِكْ بهِ
تِرَةً فَاتَتْ ولا وَهْيًا رَقَعْ
جعل الشاعر هذه الأبيات مقدمة لوصفه المجهود الضائع الذي يبذله عدوه في محاولته أن يضره .
قال إنه ورث العداوة والبغضاء عن آبائه . استمع منهم طعنهم فينا وغيبتهم لنا. حفظ عقله ما سمعه منهم. بئس ما سمع وبئس ما حفظ . وقد استمر في سعيه كمثل سعيهم من البقاء على العداوة، والقول الكاذب الخبيث . ولذلك لم يظفر بشيء ، ولم ينجح ولم يفلح . ومع هذا لم يفتر عن هذا الجهد الضائع فيتركه .
ولا عجرًا ودع ، أي لم يظفر بشيء
ولم يترك المجهود العاجز الذي لم
يجئه بأي نفع .
وَدَعَ يدع أي ترك يترك . يدع مستعملة ، وودع نادرة جاءت في هذا البيت وفي أشياء قليلة رويت ويعتبر هذا الفعل " ودع " مهجوراً (16) .
هذا الشخص الخبيث باستمراره في العداوة والغيبة وإيقاد نار الشر لم يصنع صنعًا مفيداً . بل زرع في نفسه مرضًا ، وهذا المرض الذي زرعه لنفسه وفي نفسه لم ينل به نجاحًا في أي أمر ، لم يدرك به ثأراً فاته فينتقم بذلك من عدوه ، ولا رقع به مكانًا واهيًا من أمور قومه .
تِرة بكسر التاء وفتح الراء أي ثأر . وهيًا : مكانًا واهيًا يحتاج إلى رقعة وإصلاح .
(83)أخذ بعد الأبيات المتقدمة يصف المجهود الضائع الذي يقوم به عدوه :
مُقْعِيًا يَرْدِي صَفَاةً لم تُرَمْ
في ذُرَى أعْيَطَ وَعْرِ الْمُطَّلَعْ(82/8)
الإقعاء في الناس كهيئة قعود الكلب ، يقعد الإنسان على استه أي على دبره وقدماه منتصبان . است همزتها وصل وتدل على العجز من الإنسان والحيوان ، وعلى الدبر وما حوله ونحن نبين معناها هنا لأنها ستجيء من بعد في البيت 98 .
يردي بالحجر والمِرداة والمِردي الحجر الذي يرمي به ، وأهل الجبال
قد يتقاتلون بالحجارة وغيرهم قد يفعل ذلك وقد رمى سيدنا داود عليه السلام جالوت بحجر فقلته .
صفاة : صخرة . الجمع صفا . والصفا من مشاعر الحج إذ السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة . " لم تُرم " لم يرمها أحد لعظمها وعلوها ووعورة المسلك إليها . ذرى جمع ذروة، وذروة الشيء أعلاه أي في أعلى جبل . أعيط عال مرتفع . العيط بفتح العين والياء طول العنق وهو أعيط أي رقبته طويلة وهي عيطاء والأعيط الأبي الممتنع . والجبل العالي الذي له قمة عالية أعيط . وجبل التاكة وهو جبل كسلا أعيط ، إذ له جزء كأنه رقبة طويلة وهو صخرة عالية ممتنعة. وجبل حراء وهو جبل الوحي وجبل النور بمكة أعيط .
يقول هذا الشخص بمجهوده التافه كمثل من يكون مقعياً في قعوده وبيده حجارة يريد أن يرمي بها صخرة في رأس جبل رفيع ممتنع وعر المسالك وعر المطلع ، أي المكان المشرف العالي منه صعب المسالك لا يستطاع الوصول إليه لمن يريد أن يصعده ويطلع من هناك على الدنيا حوله . المطَّلع أي مكان الاطّلاع، اسم مكان.
(84)هذه الصخرة وعنى بها نفسه وقومه معقل آمن أي حصن حصين ، من أوى إليه وجد الأمن الكامل . وقد حاول زحزحتها الأعادي من قبله فلم يقدروا على ذلك . لم يستطيعوا أن يقتلعوها من مكانها .
(85)هذه الصخرة وعنى بها قومه وديارهم كما عنى نفسه وصلابة موقفه ورفعة قدره وشرفه ـ هذه الصخرة غلبت الأمم مثل عاد ومن جاءوا بعدهم وقد أبت أن تخضع ولذلك لايمكن إذلالها ـ ليست تُتضع أي ليست توضع في مرتبة وضيعة .(82/9)
وههنا جاء الشاعر بمبالغة وغلو لأنه قد كان من بني يشكر، وبنو يشكر من بني بكر، وبنو بكر من القبيلة الكبرى الضخمة ربيعة، وربيعة كلهم من بني عدنان، وعاد من العرب البائدة، وكان زمان عادٍ قبل زمان سيدنا إسماعيل الذي تنسب إليه قبائل عدنان كلها وقبل زمان سيدنان إبراهيم الخليل .
وإنما أراد سويد أن يقول مجدنا قديم وقد غلبنا الأمم القديمة .
(86)صخرتنا عالية لايراها الناس إلا وهي فوقهم مشرفة عليهم .
ثم حول الشاعر صخرته من طبيعة الحجر الجامد الراكد في مكانه إلى صفة السيد المتصرف . أي نحن سادة نأتي ما نشاء ونترك ـ ندع ـ ما نشاء ولايرانا الناس أمثال هذا العدو إلا ونحن فوقهم متصرفون كما نشاء.
(87)هذه الصخرة المنيفة ذات الحيوية والتصرف والمجد مشرفة يراها هذا الجاهل الحاسد فوقه ومع هذا يستمر في رميها بحجارته ولن يبلغ من غرضه شيئًا ، شأنه في هذا شأن الغبي الذي يصنع الخطأ ويظن أنه صواب ويصنع الصنع الرديء ويظن أنه جيد .
الرعة بكسر الراء الشأن والهيئة
ونصبها ههنا لأنها في معنى المفعول
المطلق . يصنع هذا العدو هكذا صنيع الجاهل الذي يعجبه ما يصنعه وإن كان قبيحًا .
(88)أي استمر يرمي الصخرة العالية بحجارته التي لا تصنع بها شيئاً حتى تعب من الرمي،وحتى كَمِهَتْ عيناه أي عميتا ، والأكمه هو الذي يولد أعمى والكمه العمى الذي يولد به الأكمة . أو العمى عامة . وهذا الرجل اشتد عمى عينيه وأظلمتا فكأنه ولد أكمه ولم ير النور قط ؛ وذلك من شدة شعورة بالغيظ والإخفاق . ولما عميت عيناه اضطره ذلك أن يكف عن الرمي. فكف كارهًا وهو يلوم نفسه . لَحَى يلحى: لام يلوم . لحاه الله أي لعنه الله . كف هذا الرجل كارهًا وجعل يلوم نفسه حين اضطره عماه إلى أن يكف عن الرمي .(82/10)
(89)وذلك حين رأى أنه لم يضر الصخرة . وقد بينا أن الفعل ضار يضير ضيراً بمعني ضر يضر ضراً وضرراً ومثل ضار يضور، وهو غير كثير الاستعمال. هنا يضير أكثر في الاستعمال وقريء به القرآن،في سورة آل عمران الآية120" وإنْ تَصْبِرُوا وتتقوا لا يَضُرٌكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا" وفي قراءة أبي عمرو " لايضِرْكُم " لام نفسه وكف حين رأى أن جهده لم يضر الصخرة، ورأى أنها خلفاء أي ملساء لامطمع في زحزحتها أو كسرها أو إيقاع أي ضررٍ بها .
رأى الأولى والثانية بمعنى أدرك وعلم وأيقن. أو رأى الأولى قلبية والثانية بصرية قبل أن يفقد بصره يأسًا وغيظًا.
أو قوله كمهت عيناه مبالغة أي أظلمت الدنيا في عينيه بسبب إخفاقه فكأنه ولد أعمى . جهد جيمها مفتوحة أو مضمومة كلاهما صحيح وجاءتا في كتاب الله تعالى . والجُهد هو الطاقة . أخلق وخلفاء أي أملس وملساء:ملاسة.
(90)هذه الصخرة الخلقاء صلبة تكسر قرن من ينطحها ، وإذا رميت بمردي ـ المردي: الحجر الذي يرمي به . وقد مر شرحها في شرح البيت
(83) ـ وإذا رميت هذه الصخرة بحجر انشق ذلك الحجرة وتهشم . انجزع أي انكسر وانقطع .
(91)هذه الصخرة إذا رام هذا الشخص ، إذا طلب هذا الشخص زحزحتها عن موضعها أو اقتلاعها أو كسرها أعياه ذلك ولم يستطعه ، وقصَّر به أن يبلغ مراده من زحزحتها وقلعها ضعفه وذلته ـ ليست لديه العُدة التي يكسرها أو يقتلعها بها وهو هزيل ضعيف . الجدع: سوء الغذاء . جعل هذا مثلاً لضعفه . ومن قبل قد قال في البيت (62) :
وإباءً لِلدَّنِيَّات إذَا
أُعْطِيَ الْمَكْثُورُ ضَيْمًا فكَنَعْ(82/11)
المكثور: القليل النصير. كقوله هنا: أعيا به " قِلَّةُ العُدَّةِ قِدْمًا والجَدَعْ " ـ أي قلة الاستعداد القديمة في قومه وفي أصله ، وسوء الغذاء والضعف القديم في قومه وأهله ونفسه .جعله كأنه لا عدة له ولا غذاء يتقوى به. لديه مبالغة في تصوير فشله وعجزه. وهذا آخر الفصل التاسع وجعله تمهيداً للفصل العاشر الذي يصف فيه مباراة هذا العدو له ، والصراع البياني والخصومة التي كانت بينهما . ولقد كان من عادة العرب المنافرة وذلك أن يختصم الرجلان إلى حكم معروف فيتكلم هذا ثم هذا ويسمع الحكم كلامهما ثم يصدر حكمه ، فمن حكم له كان هو المنتصر . وكانت المنافرة شعراً أو خطبة أو هما معاً ـ والوصف الذي ساقه سويد ههنا يدل على أنها كانت شعراً يذكر فيها فرار شيطان عدوه وانهزامه ، وكانت العرب تزعم أن الشاعر له شيطان يعينه.
(92) :
وعدوٍ جاهِدٍ نَاضَلْتُهُ
في تَراَخِي الدَّهْرِ عنكم والْجُمَعْ
وهذه هي بداية الفصل العاشر . وهو هنا يخاطب قومه وينبههم إلى أن هذا الحاسد الذي يكيد له هو ، بلا شك هو أيضًا حاسد لهم وعدو لهم جاهد أي باذل طاقة عظيمة في العداوة .
يقول لهم عندما أخذ الزمان في
التراخي يا قوم ، وقلت الجمع أي الجماعات التي تنتصرون بها وتنصركم جاء هذا العدو الجاهد في عداوته ليوقع بكم الأذى والضرر فانبريت أنا له وناضلته فاعرفوا هذا من أفعالي . قوله في تراخي الدهر يدل على أنهم ضعفوا لتراخي الدهر عنهم وعدم إعانته لهم، ولتراخي جماعات الناس عن نصرهم ـ أخرجهم من هذا الضعف إلى ما كتبه الله لهم من النعم والكثرة وإباء الدنيات ما بذله هو في الدفاع عنهم ورد خصومهم .
(93) فَتَسَاقَيْنَا بِمُرٍ نَاقِعٍ
في مَقامٍ لَيْسَ يَثْنِيِه الْوَرَعْ
وصف الخصومة بينه وبين العدو ، فذكر أنهما تخاصما بوضوح وبكلام مرّ في مقام مشهود، لم تثنهما فيه هيبة أو تراجع عن أن يتبادلا من الكلام ما هو كالسمِ الناقع من شدة مرارته .(82/12)
(94)وشبه تراميهما بمر الكلام بالمناضلة وهي المراماة بالسهام .
وإنما هي سهام البيان والشعر
والخصومة .
قال: رماني هذا الخصم ورميته بنبال من القول ، ترامينا بسهام ذات سم قد نقع أي ذات سم شديد من شدة مرارتها .
ترامينا وأعدائي حضور، يرون قوتي ومراماتي لخصمي الذي كان يدافع عنهم كما أنا كنت أدافع عن قومي .
(95)ترامينا بنبال مذروبة أي حادة من نوع لم يقدر على صنعته إلا صانع لم يطق : لم يستطع . صنع : صانع ماهر ، تقول رجل صَنَعٌ وصَنَاعٌ وكذلك امرأة صَنَاعٌ وصَنَعٌ أي حاذقة ماهرة في صناعتها .
(96)هذه النبال خرجت بسبب عداوةٍ بينة كانت بيننا منذ أيام الشباب ، إذ دهرنا جذع. والجذع هو الشباب من الخيل ، وكانت قديمة بين قومنا في الزمان الأول .
(97)تحارضنا : تقاتلنا قتالً مريراً يصير به أحدنا حرضاً أي هالكًا .
وقال بعض الشراح : تحارضنا أي
حرض بعضنا بعضاً وهذا الشرح غير
جيد لأن معناه يناقض آخر البيت.
يقول: تقاتلنا قتالاً مريراً حتى الموت. وقال المشاهدون والحكام: إن الذي يطلب المعونة هو المنهزم. والقوم الحاضرون إلا من حكموا بأنه ضرع أي ضعيف ، إذْ قارب صاحبه أ ن يقتله قالوا له هذا يكفي ، هو المنهزم وأنت المنتصر .
(98)لما اشتد قتالنا ورأى أني سأهلكه ولَّى هاربًا لا يحمي استه (17) ، لا يحمي دبره ، أي أعطاني ظهره هاربًا فلو شئت أصبته في ظهره ولكنه أعلن الهزيمة، ووقع عنه طائر الإتراف أي البغي والعدوان والغرور وانكشف ضعفه وذله .
(99)خرَّ من الهزيمة على وجهه مكسور الأنف لا يستطيع أن يشمخ بأنفه كما كان يفعل ، مكسور النفس خاشع العين مذلة لا يستطيع أن يرفع طرفه وصار بمنزلة الأصم الذي لا يسمع .
(100) فر مني ، وهرب شيطان
غروره ، شيطان كبريائه شيطان
فصاحته وشعره ، فر إلى حيث لا يجد فائدة ولايستطيع أن يعطي شيئًا أو يمنع مني ما أريد أخذه ـ هنا آخر الفصل العاشر ويليه الحادي عشر من البيت (101) إلى (107) .(82/13)
(101)هنا يبدأ الفصل الحادي عشر ، فر مني والفرار الآن لا ينفعه ، لأن عبء الهزيمة ثقيل على ظهره التي يحملها وهو فار ، وسيضع نفسه في مكان مذلة حقير ـ متضعة أي الموضع الذي سيضع في نفسه ، سيتضع فيه ، موضع مذلة ، متضع مذلة .
مُتَّضع اسم مكان من اتَّضع أي صار وضيعًا أو وضع نفسه في موضع ما وهنا هو موضع ذل . أوقر يوقر إيقارًا : تقول أوقرت الدابة أي وضعت عليها الأوقار أي الأحمال ، واحدها وِقر بكسر الواو وهو موقر الظهر أي على ظهره أحمال ثقيلة من الهموم أو الهزيمة في هذا البيت .
(102)هذا العدو رأى مني مقامًا
صادقًا ثابتًا صابراً على الشدة شجاعًا إذا أوجعني برميه لم أظهر جزعاً يدل على أني متألم بل أكتم ذلك صبراً وهو لم يستطع أن يصبر فغلبته .
(103)ورأى مني لسانًا فصيحًا حسن التصرف قاطعًا مثل السيف .
هذا البيت بديع في إيجازه وقوة تعبيره وقد تمثل به الدكتور طه حسين في رثائه لسعد زغلول باشا الزعيم المصري الكبير.
(104)يذكر سويد انثيال البيان عليه . فر شيطان خصمه منهزماً ولكن شيطانه هو جاءه بمدد جديد عندما نفدت مادة خصمه وصار كراكب الحراء الذي ذهب جميع الماء الذي في قربه .
قال جاءني صاحب ذو إجابة وإغاثة ، ذو غيث أي ذو إجابة وهو زفيان أي خفيف سريع في إجابته ، وجاءني عند إنفاد القرع عندما أنفد خصمي قُرعه ، والقرع جمع قُرعة وهي قربة الماء ، أنفدها أي جعلها تنفد ـ نفد الشيء بقتح النون وكسر الفاء بعدها دال مهملة أي انتهى وفني والمضارع ينفد بفتح الفاء بعدها دال مهملة . نفد الشيء نفادًا وأنفده إنفادًا .(82/14)
(105)أتاني هذا الصاحب المساعف مندفعًا ناصرًا لي من تلقاء نفسه مع العلم بأنني لم أناده ولم أنفده قرعي كما قد أنفد خصمي قرعه . جاءني صاحبي هذا وهو شيطان شعري وقال لي لبيك أي إجابة لك بعد إجابة . وصاحبي هذا جريء لا يبالي ، يحتقر الناس الذين حولي من الخصوم ومن والاهم ويقول القذع ماهراً فيه ـ القذع: القول المر اللاذع الموجع .
(106)صاحبي هذا ، عندما أنفد خصمي قرعه وصار مَعين بيانه يابسًا، صاحبي هذا جاءني ببحر زاخر من القول . صاحبي هذا ذو عباب أي كبحر ذي موج . خمطٍ آذيُّه ، أي تياره هادر جارف .
خمِط الفحل فهو خمِط أي هدر فهو هدَّار وغضب وهاج وفحل خمط أي هائج . وآذيُّ خمط أي تيار هائج .
الآذيُّ : التيار . يرمي بالقَلَع أي يرمي
السفينة ذات الشراع . القلع: الشراع جمعه قلوع . والبحر الهائج يكب السفينة العظيمة فتغرق فيه .
(107)زغربي أي كثير الماء زاخر . مستعز بحره أي بحره عظيم لا يستطاع عبوره فهو ذو عزة ونفور. لعظمه والتطام أمواجه . وليس للماهر فيه مطلع أي إشراف ـ مصدر ميمي من اطلع أي أشرف . أي لا يستطيع الماهر أن يرقي فوق أمواجه ويُشرف من فوقها مهما يكن سباحًا أو ملاحًا ماهراً . هنا بلغ الشاعر ذروة فخره .
بحره هو زاخر ـ وأعانه شيطانه ببحرٍ من البيان عظيم فانتصر الانتصار الباهر .
(108)وأخيراً يجيء الفصل الأخير وهو بيت واحد ، جعله الشاعر مقطعاً لقصيدته أي ختامًا لها :
هَلْ سُوَيْدٌ غَيْرُ لَيْثٍ خَادِرٍ
ثَئِدَتْ أرْضٌ عليهِ فَانْتَجَعْ
هل أنا إلا مثل الأسد الهزبر الباسل الذي حين يجد الأرض قد نديت وفسد المكان الذي يقيم فيه ، يتركه وينتجع
غيره ؟ .
تعليق :
1-أول القصيدة :
بَسَطَتْ رَابِعَةُ الْحَبْلَ لَنا
فَوَصَلْنَا الْحَبْلَ منها ما اتَّسَعْ
يشتمل على معنى من الملامة . لما بسطت الحبل وصلناه واستمررنا نواصله ما دام الوصل مستمراً وما دامت العلاقة واسعة المجال .(82/15)
هل حدث في الأمر تغيير يدعو لمراجعة النظر ـ كما ذكرنا ، النسيب الذي يبدأ به الشاعر يتضمن روح المعاني والأغراض التي يريد أن يتناولها . لذلك قال الناقد ابن رشيق إن الشاعر إذا انفتح له نسيب القصيدة " فقد ولج من الباب ووضع رجله في الركاب " .
2-بعد أن افتخر الشاعر بقبيلته الكبرى بني بكر وقال عن ديارهم :
(30) مِنْ بَنِي بَكْرٍ بِها مَمْلَكَةٌ
مَنْظَرٌ فِيهِمْ وفيهِمْ مُسْتَمَعْ
وبعد أن فخر بقومه الأقربين من بني
يشكر وقال :
كَتَبَ الرَّحْمنٌ ، والحَمْدُ لَهُ ،
سَعَةَ الأخْلاَقِ فينَا والضَّلَعْ
(62) وإباءً لِلدَّنيَّات إذَا
أُعْطِيَ الْمَكْثُورُ ضَيْمًا فكَنَعْ
بعد هذا الفخر نجده يقول :
وعدّوٍ جاهِدٍ نَاضَلْتُهُ
في تَرَاخِي الدَّهْر عنكم والْجُمَعْ
وتراخي الدهر والجمع معناه أن أحوالهم ساءت وهذا عكس الفخر الذي تقدم . هنا عتاب لقومة أن يعرفوا له حق دفاعه عنهم وحمايته لهم حين كانوا في أشد الحاجة إلى ذلك .
3-يقول في البيت (66) :
كَيْفَ باسْتِقْرَارِ حُرٍ شَاحِطٍ
بِبِلادٍ ليسَ فيها مُتَّسَعْ
هو الحر الشاحط . فما هذه البلاد التي ليس فيها متسع ؟
هنا الشاعر يعاتب قومه ويريد أن يقول إن بلاد قومه قد ضاقت عليه لأنهم لم يعرفوا فضله ولم يقدروه حق تقديره ويذكروا له دفاعه القوي عنهم .إذن فليهاجر :
هَلْ سُوَيْدٌ غَيْرُ لَيْثٍ خَادِرٍ
ثَئِدَتْ أرْضٌ عليهِ فَانْتَجَعْ
الليث الخادر هو الكاسر المرهوب الذي يربض في عرينه وهو خِدْره أي أجمته. والأجمة هي الغابة . ويقال للأسد أيضًا مخدر ومخدر بكسر الدال وبفتحها أخدر الأسد أي لزم أجمته وهي خدره . وأخدر العرينُ الأسدَ أي ستره فهو مُخدَر .
تعليق ثان :
وصف سويد نفسه بأنه هو الذي دافع عن قومه وأنه ناضل عنهم، والمناضلة هي المراماة بالسهام ـ ووصف خصمه بأنه يروم زحزحة صخرة ملساء عالية يرميها ،وظل يفعل ذلك حتى تعب وكمهت عيناه .(82/16)
مع أن الصخرة الموصوفة جعلها الشاعر رمزاً لشرف قومه وعزتهم ورفعتهم ، هي أيضًا رمزاً له هو ـ إنه هو الصخرة الرفيعة الخلقاء .
الصورة التي صور بها الصخرة رائعة ، ومما يزيدها روعة أنه أعطى الصخرة حيوية . فهي ليست حجراً جامداً ، ولكنها حجر ذو حيوية وتصرف كما قدمنا ذكر ذلك في الشرح .
وقد تأثر سويد في نعته للصخرة بشعراء كبار سبقوه . من أهمهم وأقدمهم شاعر بني يشكر الحارث بن حلزة (18) اليشكري صاحب المعلقة التي أولها :
آذَنَتْنَا بيَيْنِها أسْمَاءُ
رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ
وهي المعلقة السابعة في ترتيب المعلقات .
ووصف فيها عز قومه وذكر خصومهم وتحداهم فقال :
فَبَقِينَا عَلى الشَّنَاءةِ تَنْمِيـ
ـنا حُصُونٌ وعِزَّةٌ قَعْساءُ
أي بقينا على عداوتنا لخصومنا ترفعنا حصوننا وعزتنا العالية الرفيعة التي تغيظهم .
قَبْلَ مَا اليَوْمِ بَيَّضَتْ بعُيُونِ النَّـ
ـاسِ فيها تَغَيُّظٌ وإبَاءُ (19)
أي من الدهر القديم غاظت أعداءها .
صوَّرها هنا بصورة الصخرة العالية.
قعساء معناها عالية وثابتة وهذه صفة الجبل وصفة صخورة . ثم وصف أعداء قومه من الناس أنهم يرومون رمي هذه العزة القسعاء وهي ثابته كصخرة الجبل فلا يستطيعون ، وقد بيضت بعيون الناس أي أعمتهم برفعتها وعجزهم عنها ـ وهذا نفس المعنى الذي جاء في قول سويد :
كَمِهَتْ عَيْناهُ حتَّى ابْيَضَّتَا
وقوله فيها تعيُّط أي ارتفاع رأس وعنق وإباء أي امتناع . ومن هنا أخذ سويد قوله :
(83) مُقْعِيًا يَرْدِي صَفَاةً لم تُرَمْ
في ذُرَى أعْيَطَ وَعْرِ الْمُطَّلَعْ
وقد جاء بكلمة الإباء في قوله :
(62) وإباءً لِلدَّنِيَّات إذَا
أُعْطِيَ الْمَكْثُورُ ضَيْمًا فكَنَعْ
ثم يقول الحارث ( كلمة الحارث وهي عَلَم تكتب بوجهين بالألف بعد الحاء وبدونها والوجه الثاني أكثر عند القدماء ) ـ يقول :
وكأنَّ المَنُونَ تَرْدي بنَا أرْ
عَنَ جَوْنًا يَنْجابُ عَنْهُ العَماءُ (20)(82/17)
مُكْفَهِرّاً عَلى الحَوَادِثِ ما تأْ
تُوه للدّهْرِ مُؤْيِدٌ صَمَّاءُ
يقول الحارث كأن الدهر ( المنون ) يرمي بحجارته جبلاً أسود اللون عظيمًا ( أرعن ) يتفرق السحاب من حوله مكفهراً ، شديد السواد ، عند الحوادث ، يراه الأعداء مكفهراً من الغضب والقوة لا تؤثر فيه من حوادث الدهر الداهية، المؤيد: الشديد الصماء.
شبه الحارث بن حلزة قومه بالجبل العظيم ذي الصخور العظام الشامخ على الدهر الذي لا يزحزحه من يرميه وقد يئس الأعداء من التغلب عليه فابيضت عيونهم من الإعياء والإخفاق .نفس الصورة فصلها سويد ووضحها . صورة الحارث فخمة هائلة .
وصورة سويد كما قدمناه ذات حركة وتحدٍ شديد …
وقد نظر سويد أيضًا إلى صخرة الأعشى في معنى قريب من معناه حيث قال :
كناطحٍ صخرةً يومًا ليُوهِنَها
فلم يضِرْها وأوهى قَرْنَهُ الْوَعِلُ
أي كثور ينطح صخرة ليكسرها
ويضعفها فلم يضرها ولكنه ضر قرنه ـ قال سويد :
(90) تَعْضِبُ القَرْنَ إذَا نَاطَحَهَا
وإذَا صابَ بها الْمِرْدَى انْجَزَعْ
تعليق ثالث عن بعض محاسن هذه القصيدة :
1-أولاً أبيات الحب :إنه يعطى القلوب شجاعة وهي العاشر والحادي عشر ، والبيت الحادي عشر من روائع الشعر العربي ومن أبيات الحكمة :
وكذَاكَ الحُبُّ ما أشْجَعَهُ
يَرْكَبُ الْهَوْلَ وَيَعْصِى مَنْ وَزَعْ
2-ثانيًا وصف السهر :
(12) فأبِيتُ اللَّيلَ ما أرْقُدُهُ
وبِعَيْنَيَّ إذَا نَجُمٌ طَلَعْ
(13) وإذَا ما قُلْتُ لَيْلٌ قد مَضَى
عَطَفَ الأوَّلُ مِنهُ فَرَجَعْ
3-ثالثًا أبيات الحديث الجذاب من محبوبته وتشبيهه له بالرقى التي يداوي بها الملدوغ والملسوع ، لما تحدثه في نفس العاشق المشتاق من الشفاء ، وما تضمنته من أخبار العرب وخرافاتها حيث زعموا أن الوعول تطرب للغناء ويصيدها الصيادون به فشبه نفسه بالثور الوحشي الذي اصطاده صوت محبوبته الرخيم :
(18) ودَعَتْنِي بِرُقَاهَا إنَّها
تُنْزِلُ الأعْصَمَ مِن رَأسِ الْيَفَعْ(82/18)
(19) تُسْمِعُ الْحُدَّاثَ قَوْلاً حَسَنًا
لو أرادُوا غَيْرَهُ لم يُسْتَمَعْ
4-رابعًا : الأبيات التي مدح بها قومه بني بكر في جملتها فخر جيد ومن أجوده قوله :
(30) مِنْ بَنِي بَكْرٍ بِها مَمْلَكَةٌ
مَنْظَرٌ فِيهمْ وفيهِمْ مُسْتَمَعْ
(31) بُسُطُ الأيْدِي إذَا ما سُئِلُوا
نُفُعُ النَائِلِ إنْ شَيءٌ نَفَعْ
(32) مِنْ أُناسٍ لَيْسَ مِنْ أخْلاقِهِمْ
عَاجِلُ الفُحْشِ ولا سُوءُ الْجَزَعْ
قوله من أناس فيه معنى يالهم من أناس ، ما أعظمهم من أناس .
5-خامسًا : وصفه للعدو وتصويره لحسده وغيظه وأحقاده ونفاقه تصويراً دقيقًا حيَّاً معبِرّاً :
(67) رُبَّ مَن أنْضَجْتُ غَيْظًا قَلْبَهُ
قد تَمَنَّى لِيَ شَرَّاً لم يُطَعْ
(68) ويَراَنِي كالشَّجَا في حَلْقِهِ
عَسراً مَخْرَجُهُ ما يُنْتَزَعْ
(69) مُزْبِدٌ يَخْطِرُ مالم يَرَنِي
فإذَا أسْمَعْتُهُ صَوْتِي انْقَمَع
6-سادسًا : قوله وهو من أبيات الحكمة المأثورة :
(79) كَيْفَ يَرْجُوَن سِقَاطِي بَعْدَما
لاحَ في الرَّأسِ بَيَضٌ وصَلَعْ
7-وسابعًا آخر القصيدة كله شديد الحيوية قوي العبارات بارع وذلك من البيت الثاني والتسعين إلى آخر القصيدة .
د. عبد الله الطيب
عضو المجمع
من السودان
حواشٍ وتوضيح :
(1)كتب المستشرق الإنجليزي Charles games Lyall اسمه بالعربية هكذا:كارلوس يعقوب ليال .أما كارلوس فهي الصيغة الأسبانية لاسمه، ويعقوب صيغة أخرى لجيمز الإنجليزية. الفرنسيون يقولون لجيمز " جاك " وهي مختصرة من جاكوب أي يعقوب .
(2)هرون تكتب بألف بعد الهاء وبدونها هكذا ( هارون ـ هرون ) وكان الشيخ محمد هارون والد الشيخ الدكتور عبد السلام محمد هرون ثاني من تولى منصب قاضي القضاة بالسودان أيام الحكم الثنائي وكان الشيخ محمد شاكر والد الأستاذ محمود محمد شاكر وأخيه الشيخ أحمد أول من تولى هذا المنصب .(82/19)
(3)ذهب الجدة : يجوز هنا تذكير الفعل وتأنيثه لأن الجدة ليست مؤنثًا حقيقًا. تقول ذهبت الجدة وذهب الجدة، ولكن ذهبت لا تصلح هنا لأنها تخل بوزن البيت . ويجوز تذكير الفعل مع الجمع وإن كان يدل على مؤنث حقيقي.
قال تعالى :
(وقالَ نِسوةٌ في المدينة امرأتٌ العزيزِ تُراوِدُ فتها عن نَفسهِ قد شغَفهَا حُبًّا إنَّا لَنراَها في ضلالٍ مُبين) " سورة يوسف : 30 " .
(4)"منظر فيهم وفيهم مستمع " ـ منظر مبتدأ مع أنه نكرة لأنه كأنه موصوف ، أي منظر جميل فيهم وانظر رقم(8) فيما بعد من الحواشي.
(5)أي تبدو أقرابها أي جوانبها باليات أي مثل الأشياء البالية ، مثل قطع الثياب البالية وكأنها قطع متفرقة رقيقة من السحاب .
باليات منصوبة بالكسرة نيابة عن الفتحة حال إذ المعنى ورب فلاة واضحة أقرابها أي نواحيها حال كونهن بالياتٍ مثل القطع المتفرقة من السحاب . جَمَعَ ( باليات ) لأنه يريد نواحي الفلاة ، أقراب الفلاة .
ثم الفلاة نفسها لاتساع نواحيها كأنها جمع فيجوز رد الحال إليها لأنها جمع في المعنى . والذي ذكرناه أول الأمر واضح وقريب إن شاء الله تعالى .
(6)أيضًا يجوز لك أن تشرح البيت (7) فتقول : فتراها مسرعة عاصفة في جريها منعلة بنعال الحداد التي تقيها من الصخور ، الوَقَع بفتحتين أي الصخور جمع وقعة بفتح القاف والعين أي صخرة .
(7)نهل بوزن فرح ينهل نهلاً أي شرب أول الشرب. وعل يعل ويعل بكسر العين وبضمها علا وعلالا أي شرب الشربة الثانية أو شربة بعد شربة تباعًا .
(8)قوله " منظر فيهم " يشعر بعنصر مفاجأة . هذه المفاجأة تدل على أن الشاعر أراد أن ينبهنا على هذا المنظر . لذلك قوله " منظر فيهم " معناه " منظر موصوف ، منظر عجيب منظر صفته موجودة فيهم " . لذلك جاز ههنا أن تكون النكرة مبتدأ بها .
(9)صبور جمعها صُبُر ونجيب جمعها نُجُب ونفوع جمعها نُفُع وقضيب جمعها قُضُب ـ هذه أمثلة ومرت بُسُط بضمتين جمع بسيط .(82/20)
(10)عيّ هي عيي بوزن رضي وأدغمنا الياء في أختها فصارت عيّ وفي القرآن في قراءة مشهورة :
(إذ أنتم بالعُدوة الدّنيا وهُم بالعدوة القُصوى والرَّكبُ أسفلَ منكُم ولو تواعَدتم لاختلفتُم في الميعادِ ولكن لِيقضيَ اللهُ أمرًا كانَ مفعولا ليَهِلكِ من هَلَكَ عن بيّنةٍ ويَحيَى من حَيَّ عن بيِنّةٍ وإنَّ اللهَ لسميعٌ عليِم ) صدق الله العظيم " سورة الأنفال : 42 " .
حيّ أي حيي وقرأ بعضهم بها . والعدوة بضم العين وبكسرها كلاهما قريء به .
(11)كفء وكفو أي نظير وبهما قرأ القراء . " ولم يكن له كفواً أحد " . ( الإخلاص : 4 ) .
قرأ بعض القراء بضمتين وواو بدون همزة وهي قراءة حفص عن عاصم وقرأ آخرون بضمتين وهمزة وبعضهم بسكون الفاء ووجوه القراءة كثيرة في هذا الحرف ولكن الذي نقرأ به ما تقدم
ذكره: كفوءًا ـ كفوًا أحد .
(12)إذا جاء بيت الشعر بقافية في عجزه سمي مصرعًا وسمي هذا تصريعًا نحو :
فَدَيْنَاكَ منْ رَبْعٍ وإنْ زِدْتَنا كَرْبا
فإنَّكَ كُنْتَ الشَّرْقَ للشَّمْسِ والغَرْبا
والمتأخرون من علماء العَروض استحدثوا اصطلاحًا سموه التقفيه وفرقوا بينه وبين التصريع وهذا تفصيل قصدوا به التفرقة بين الأشعار التي يكون فيها الصدر والعجز دائما من وزن واحد مثل :
قِفَا نبكِ من ذِكرى حبيبٍ ومنزلِ
والتي يختلف وزن صدرها عن عجزها إلاَّ في بيت التصريع مثل " فديناك من ربعٍ وإن زدتنا كربا " قال الشاعر في نفس القصيدة :
ومَنْ صَحِبَ الدُّنْيَا طَوِيلاً تَنَكَرَتْ
عَلى عَيْنِهِ حتَّى يَرَى صِدْقَها كِذْبا
عجز البيت هنا أطول من صدره . آخر الصدر وزنه ( مفاعلن ) وآخر العجز وزنه ( مفاعيلن ) هذه التفرقة الاصطلاحية ليست بذات أهمية بالغة
فاعلم أصلحك الله .
(13)ذكر الأنباري في البيت (46) :
حَلَّ أهْلِي حَيْثُ لا أطْلُبُها
جَانِبَ الْحِصْنِ وَحَلَّتْ بِالْفَرَعْ(82/21)
أن أبا عكرمة الضبي رواه هكذا ثم قال والرواية جانب الحضر وهي مدينة الموصل . وقال في البيت (45) إن الرواية يدع بكسر الدال . فهذا لا يدل دلالة قاطعة على أنها رواية أبي عكرمة .
لذلك قلنا بقولنا لعله لا بأس أن تفتح الدال ولعل بعضهم كان يرويها هكذا والله تعالى أعلم .
(14)مندفعًا : حال من الضمير اسم كأن .
(15)الضر بضم الضاد اسم للضرر والضر بفتح الضاد مصدر ضر يضر ضراً
(16)قال سيبويه في أول كتابه : "يقولون يدع ولا يقولون ودع استغنوا عنها بترك " . وقال صاحب النهاية "ودع الشيء يدعه ودعا إذا تركة " فالمسألة فيها خلاف ، والصواب أن يقال " يدع كثيرة في الاستعمال وودع قليلة وجاءت في البيت (81) من هذه القصيدة .
(17)الأسماء التي تبدأ بهمزة الوصل عشرة معدودة وهي : ابن وابنة وابنم ( بمعنى ابن ) واثنان واثنتان وامرأة واسم واست وايمن الله وايم الله .
(18)الحرث والحارث وجهان في الكتابة كما مر في الحاشية رقم (2)عن هارون وهرون ومثل ذلك إبرهيم وإبراهيم وإسمعيل وإسماعيل تكتب بالألف وبدونه وكذلك إسحق وإسحاق .
(19)قبل ما اليوم : أي قبل اليوم . بيضت بعيون الناس أي بيضتها وجعلتها عميًا كقولك ذهب به أي صيرة ذاهبًا أو أذهبه ، جعله يذهب . تعيط : ارتفاع ، وقد مر شرح البيت مختصراً .
(20)تردي : ترمي . ينجاب : ينكشف . العَمَاء : السحاب .
هذا ومن الله التوفيق وله الحمد أولاً وأخيراً وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
" انتهت الحاشية " .(82/22)
"بَسَطَتْ رَابعَةُ الحَبْلَ لَنا "
للأستاذ الدكتور عبد الله الطيب
عضو المجمع
تعريف بالقصيدة
هذه القصيدة التي مطلعها :
بَسَطَتْ رَابعَةُ الحَبْلَ لَنا
فَوَصَلْنَا الحَبْلَ منْها مااتَّسَعْ
تُعرفُ بأنها عينية سويد بن أبي كاهل. معنى عينِية: أن قافيتها حرف العين . والقصائد العربية كثيراً ما تعرف بحروف رويّها وهي القوافي . فيقال مثلاً قصيدة بائية وميمية وعينية.والقوافي نوعان:مطلق ومقيد.
... القوافي المطلقة هي التي يكون الروي، أي الحرف الأخير الذي يجري عليه الترنم فيها متحركا مثل قول الشاعر :
ألا هُبِيّ بِصَحْنِكِ فاصْبَحِينا
... " النون " حَرْفُ الروي وهي متحركة بالفتحة وبعدها ألف الإطلاق.
القوافى المقيدة هي التي يكون
حرف الروي فيها ساكنا مثل هذه
القصيدة :
فوَصَلْنَا الْحبْلَ منها مااتَّسَعْ
والبحر الذي على وزن هذه القصيدة
اسمه الرمَل وهو أحد البحور التي بين أمرها الخليل بن أحمد - رحمه الله - في علم العروض.ووزن البيت الأول:
فَعِلاتُنْ فعلاتن فَعِلُنْ
فَعِلاتُنْ فاعلاتُنْ فاعِلُنْ
وهذه القصيدة هي الأربعون في مجموعة المختارات الشعريةِ المعروفة باسم المفضليات ، نسبة إلى العالم الراوية الكبير المفضل الضبي الذي كان معلماً للمهدي العباسي ابن الخليفة أبى جعفر المنصور. وكان قد جمعها له واختارها من القصائد القديمة الطوال التى رواها هو عن أشياخه، ورواها عنه العلماء، وأقبلوا على درسها وشرحها.
عاش المفضل الضبي فى القرن
الثاني للهجرة، ولا نعلم تاريخ ولادته ولا وفاته على وجه التحديد، وكان حياً إلى سنة 176هـ، ومن كبار من أخذوا العلم عنه الكسائي والفرّاء، وهما كبيرا شيوخ الكوفيين فى علوم النحو واللغة والقراءات والتفسير والأدب.(83/1)
وسويد بن أبي كاهل صاحب القصيدة شاعر مخضرم بفتح الراء وبكسرها. كلا الوجهين صحيح. والمخضرم هو الذي شهد الجاهلية وعاش فيها ثم أسلم وعاش فى الإسلام. المخضرم بفتح الراء أي الذي خضرمه الإسلام عن حال الجاهلية أي قطعه عن حال الجاهلية. والمخضرم بكسر الراء أي الذي خضرم أي قطع آذان إبله، يجعل ذلك علامة تدل على أنه ترك الجاهلية ودخل فى الإسلام.
وكان سويد بن أبي كاهل شاعرًا محترفاً للشعر، يمدح ويهجو ويفتخر بقبيلته بني يشكُر . وبنو يشكر من كبريات قبائل العرب ينتسبون إلى بكر بن وائل، ومنهم الحارث بن حلزة اليشكري صاحب المعلقة التي مطلعها:
أذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أسْمَاءُ
رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ
وعاش قبل زمان سويد بن أبي كاهل بنحو مِئة سنة ، أما سويد بن أبي كاهل فقد بلغ أشده واستوى في الجاهلية ، وأدرك الإسلام وهو على الأرجح بين الثلاثين والأربعين ، أقرب إلى الثلاثين ، أو لعله دونها بشيءٍ يسير . وقد عاش في الإسلام إلى 65هـ أو بعدها بيسير .
وهذا بعدُ حين نبدأ في شرح القصيدة ثم نتبع ذلك بعض التعليق عليها ، وقد اعتمدنا على الشرح الكبير للمفضليات الذي ألفه أبو محمد القاسم ابن بشار الأنباري المتوفى سنة 305هـ ، ويعرف بالأنباري الكبير،وهو والد الأنباري الصغير وهو أبو بكر بن الأنباري ، شارح المعلقات.وقد حقق هذا الشرح الكبير.
قال سويد بن أبي كاهل اليشكري :
1 بَسَطَتْ رَابِعَةُ الْحَبْلَ لَنا
فَوَصَلْنَا الْحَبْلَ منها ما اتَّسَعْ
حُرَّةٌ تَجْلُو شَتِيتًا واضِحًا
كشُعَاعِ الشَّمْسِ في الْغَيْمِ سَطَعْ
صَقَلَتْهُ بِقَضِيبٍ نَاضِرٍ
مِنْ أراكٍ طَيّبٍ حَتَّى نَصَعْ
أبْيَضَ اللَّوْنِ لَذِيذًا طَعْمُهُ
طَيّبَ الرِيّقِ إذَا الرِيّقُ خَدَعْ
تَمْنَحُ المِرآةَ وَجْهًا واضِحًا
مِثْلَ قَرْنِ الشمَّسِ في الصَّحْوِ ارتْفَعْ
صَافِيَ اللَّوْنِ وطَرْفًا سَاجِيًا
أكْحَلَ العَيْنَيْنِ ما فيه قَمَعْ(83/2)
وقُرُونًا سَابِغًا أطرْافُهَا
غَلَّلَتْها رِيحُ مِسْكٍ ذِي فَنَعْ
هَيَّجَ الشَّوْقَ خَيالٌ زائرٌ
مِن حَبِيبٍ خَفِرٍ فيهِ قَدَعْ
شَاحِطٍ جَازَ إلى أرْحُلِنَا
عُصَبَ الْغَابِ طُرُوقًا لم يُرَعْ
10آنِسٍ كان إذَا ما اعْتَادَني
حالَ دُنَ النَّومِ مِنّي فامْتَنَعْ
11وكذَاكَ الحُبٌ ما أشْجَعَهُ
يَرْكَبُ الْهَوْلَ وَيَعْصِي مَنْ وَزَعْ
12فأبِيتُ اللَّيلَ ما أرْقُدُهُ
وبِعَيْنَيَّ إذَا نَجُمٌ طَلَعْ
13وإذَا ما قُلْتُ لَيْلٌ قد مَضَى
عَطَفَ الأوَّلُ مِنهُ فَرَجَعْ
14 يَسْحَبُ اللَّيْلُ نُجُومًا ظُلَّعًا
فَتَواليهَا بَطيئاتُ التَّبَعْ
15 ويُزَجّيها على إبْطَائِها
مُغْرَبُ اللَّوْنِ إذَا اللَّوْنُ انْقَشَعْ
16 فَدَعَانِي حُبٌ سَلْمَى بَعْدَ مَا
ذَهَبَ الْجِدَّةُ مِنّي والرَّيَعْ
17 خَبَّلَتْنِي ثُمَّ لمَّا تُشْفِنِي
فَفُؤادِي كُلَّ أوْبٍ ما اجْتَمَعْ
18 ودَعَتْنِي بِرُقَاهَا إنَّها
تُنْزِلُ اْلأعْصَمَ مِن رَأسِ إليفَعْ
19 تُسْمِعُ الْحُدَّاثَ قَوْلاً حَسَنًا
لو أرادُوا غَيْرَهُ لم يُسْتَمَعْ
20 كَمْ قَطَعْنا دُونَ سَلْمَى مَهْمَهًا
نازحَ الْغَوْرِ إذَا الآلُ لَمَعْ
21 في حَرُورٍ يُنْضَجُ اللَّحْمُ بِها
يأْخُذُ السَّائِرَ فيها كالْصَّقَعْ
22 وتَخَطَّيْتُ إليها من عِدًي
بِزَماعِ الأمْرِ والهَمِّ الْكَنِعْ
23 وفَلاَةٍ واضِحٍ أقْرَابُهَا
بَالياتٍ مِثْلَ مُزفَتِّ الْقَزَعْ
24 يَسْبَحُ الآلُ على أعْلاَمِها
وعَلى الْبِيدِ إذَا إليوْمُ مَتَعْ
25 فَركِبْنَاها على مَجْهُولِها
بِصِلابِ الأرْضِ فيهِنَّ شَجَعْ
26 كالْمَغَالي عارِفَاتٍ لِلسٌرَى
مُسْنَفَاتٍ لَمْ تُوَشَّمْ بالنَّسَعْ
27 فَتَرَاها عُصُفًا مُنْعَلَةً
بِنِعَالِ الْقَيْنِ يَكْفِيها الْوَقَعْ
28 يَدَّرِعْنَ اللَّيْلَ يَهْوِينَ بِنَا
كَهُوِيّ الْكُدْرِ صَبَّحْنَ الشَّرَعْ
29 فَتَنَاوَلْنَ غِشاشًا مَنْهَلاً
ثُمَّ وَجَّهْنَ لأرْضٍ تُنْتَجَعْ(83/3)
30 مِن بَنِي بَكْرٍ بِها مَمْلَكَةٌ
مَنْظَرٌ فِيهِمْ وفيهِمْ مُسْتَمَعْ
31 بُسُطُ الأيْدِي إذَا ما سُئِلُوا
نُفُعُ النَّائِلِ إنْ شَيءٌ نَفَعْ
32 مِنْ أُناسٍ لَيْسَ مِنْ أخْلاقِهِمْ
عَاجِلُ الْفُحْشِ ولا سُوءُ الْجَزَعْ
33 عُرُفٌ لِلْحَقِّ ما نَعْيَا بِهِ
عِنْدَ مُرّ الأمْرِ ما فِينَا خَرَعْ
34 وإذَا هَبَّتْ شَمالاً أطْعَمُوا
في قُدُورٍ مُشْبَعَاتٍ لم تُجَعْ
35 وَجِفانٍ كالجوابي مُلئَتْ
مِن سَمينَاتِ الذُّرَى فِيها تَرَعْ
36 لا يَخَافُ الْغَدْرَ مَن جَاوَرَهُمْ
أبداً منهُمْ ولا يَخْشَى الطَّبَعْ
37 ومَسَامِيحُ بما ضُنَّ بِهِ
حَاسِرُو الأنْفُسِ عن سُوءِ الطَّمَعْ
38 حَسَنُو اْلأوْجُهِ بِيضٌ سادَةٌ
ومَرَاجِيحُ إذَا جَدَّ الْفَزَعْ
39 وُزُنُ الأحْلاَم إنْ هُمْ واَزَنُوا
صَادِقُو الْبَأسِ إذَا الْبَأس نَصَعْ
40 ولُيُوثٌ تُتَّقَى عُرَّتُهَا
سَاكِنُو الرّيِحِ إذَا طَارَ الْقَزَعْ
41 فَبِهِمْ يُنُكَى عَدُوٌّ وبهِمْ
يُرْأبُ الشَّعْبُ إذَا الشَّعْبُ انْصَدَعْ
42 عَادَةٌ كانتْ لهم مَعْلُومَةٌ
فِي قَديِمِ الدَّهْرِ لَيْسَتْ بالْبِدَعْ
43 وإذَا ما حُمِّلُوا لَمْ يظْلَعُوا
وإذَا حَمَّلْتَ ذَا الشِّف ظَلَعْ
44 صَالِحُو أكْفَائِهِمْ خُلاَّنُهُمْ
وسَراةُ الأصلِ والنَّاسُ شِيَعْ ...
45 أرَّقَ الْعَيْنَ خَيَالٌ لَمْ يَدِعْ
مِن سُلَيْمَى فَفُؤادي مُنْتَزَعْ
46 حَلَّ أهْلِي حَيْثُ لا اطْلُبُها
جَانِبَ الْحِصْنِ وَحَلَّتْ بِالْفَرَعْ
47 لاَ أُلاَقِيها وقَلْبِي عِنْدَها
غَيْرَ إلْمَامٍ إذَا الطَّرْفُ هَجَعْ
48 كالتُّؤامِيَّةِ إنْ بَاشَرْتَها
قَرَّتِ الْعَيْنُ وطَابَ الْمُضْطَجَعْ
49 بَكَرَتْ مُزْمِعَةً نِيَّتَها
وَحَدَا الْحَادِي بِها ثُمَّ انْدَفَعْ
50 وكَرِيمٌ عِندَها مُكْتبَلٌ
غَلِقٌ إثْرَ الْقَطِينِ الْمُتَّبَع
51 فكأنِي إذْ جَرَى الآلُ ضُحىً
فَوْقَ ذَيَّالٍ بِخَدَيْهِ سَفَعْ(83/4)
52 كُفَّ خَدَّاهُ على دِيبَاجَةٍ
وَعلى المَتْنَينِ لَوْنٌ قد سَطَعْ
53 يَبْسُطُ المَشْيَ إذَا هَيَجْتَهُ
مِثْلَ مايَبْسُطُ في الخَطْوِ الذَّرَعْ
54 رَاعَهُ مِن طَيّيٍء ذُو أسْهُمٍ
وضِرَاءٍ كُنَّ يُبْلِينَ الشِرَعْ
55 فَرآهُنَّ ولمَّا يَسْتَبِنْ
وكِلاَب الصَّيْدِ فيهنَّ جَشَعْ
56 ثُمَّ وَلي وجَنَابَانِ لَهُ
من غُبارٍ أكْدَرِيٍ واتَّدَعْ
57 فَتَرَاهُنَّ على مُهْلَتِهِ
يَخْتَلِينَ الأرْضَ والشَّاةُ يَلَعْ
58 دَانياتٍ ما تَلَبَّسْنَ بهِ
واثِقَاتٍ بِدِمَاءٍ إنْ رَجَعْ
59 يُرْهِبُ الشَّدَّ إذَا أرْهَقْنَهُ
وإذَا بَرَّزَ مِنْهنَّ رَبَعْ
60 سَاكِنُ الْقَفْرِ أخُو دَوّيَّةٍ
فإذَا ما آنَسَ الصَّوْتَ امَّصَعْ
61 كَتَبَ الرَّحمنُ،والحَمْدُ لَهُ،
سَعَةَ الأخلاَقِ فينَا والضَّلَعْ
62 وإباءً لِلدَّنِيَّات إذَا
أُعْطِىَ الْمَكْثُورُ ضَيْمًا فكَنَعْ
63 وبِناءً لِلْمَعالي،إنَّما
يَرْفَعُ اللهُ ومَنْ شاءَ وَضَعْ
64 لا يُريِدُ الدَّهْرَ عنها حِوَلاً
جُرَعَ المَوْتِ ولِلْمَوتِ جُرَعْ
65 نِعَمٌ لِلّهِ فِينَا رَبَّهَا
وصَنِيعُ اللهِ ، واللهُ صَنَعْ
66 كَيْفَ باسْتِقْرارِ حُرٍ شَاحِطٍ
بِبلادٍ ليسَ فيها مُتَّسَعْ
67 رُب مَن أنْضَجْتُ غَيْظًا قَلْبَهُ
قد تَمَنَّى لِيَ شَرَّاً لم يُطَعْ
68 ويَراَنِي كالشَّجَا في حَلْقِهِ
عَسِرًا مَخْرَجُهُ ما يُنْتَزَعْ
69 مُزْبِدٌ يَخْطِرُ ما لم يَرَنِي
فإذَا أسْمَعْتُهُ صَوْتِي انْقَمَعْ
70 قَدْ كَفانِي اللهُ ما فِي نَفْسِهِ
ومتَى ما يَكْفِ شَيْئًا لا يُضَعْ
71 بِئْسَ ما يَجْمَعُ إنْ يَغْتَابَنِي
مَطْعَمٌ وَخْمٌ ودَاءٌ يُدَّرَعْ
72 لَمْ يَضِرْنِي غَيْرَ أنْ يَحْسُدَنِي
فَهْوَ يَزْقُو مِثْلَ ما يَزْقُو الضُّوَعْ
73 ويُحَيِيّنِي إذَا لاَقَيْتُهُ
وإذَا يَخْلُو لَهُ لَحْمِي رَتَعْ
74 مُسْتَسِرٌ الشَّنْءِ لَوْ يَفْقِدُنِي
لَبَدَا منهُ ذُبَابٌ فَنَبَعْ(83/5)
75 ساءَ ما ظَنَّوا وقد أبْلَيَتُهُمْ
عند غاياتِ الْمَدَى كَيْفَ أقَعْ
76 صاحِبُ الْمِئْرَةِ لا يَسْأمُها
يُوقِدُ النَّارَ إذَا الشَّرٌ سَطَعْ
77 أصْقَعُ النَّاسِ بِرَجْمٍ صائبٍ
ليسَ بالطَّيْشِ ولا بالمُرْتَجَعْ
78 فارِغُ السَّوْطِ فما يَجْهَدُنِي
ثَلِبٌ عَوْدٌ ولا شَخْتٌ ضَرَعْ
79 كَيْفَ يَرْجُوَن سِقَاطِي بَعْدَ ما
لاحَ في الرَّأسِ بَيَاضٌ وصَلَعْ
80 وَرِثَ البِغْضَةَ عَنْ آبائِهِ
حَافِظُ الْعَقْلِ لِمَا كان اسْتَمَعْ
81 فَسَعَى مَسْعَاتَهُمْ في قَوْمِهِ
ثمَّ لم يَظْفَرْ ولاَ عَجْزًا وَدَعْ
82 زَرَعَ الداَّءَ ولم يُدْرِكْ بهِ
تِرَةً فَاتَتْ ولا وَهْيًا رَقَعْ
83 مُقْعِيًا يَرْدِي صَفَاةً لم تُرَمْ
في ذُرَى أعْيَطَ وَعْرِ المْطَّلَعْ
84 مَعْقِلٌ يَأمَنُ مَنْ كانَ بهِ
غَلَبَتْ مَنْ قَبْلَهُ أن تُقْتَلَعْ
85 غَلَبَتْ عاداً ومَنْ بَعْدَهُمُ
فأبَتْ بَعْدُ فَليْسَتْ تُتَّضَعْ
86 لا يَرَاها النَّاسُ إلاَّ فَوْقَهُمْ
فَهْي تَأتِي كَيْفَ شَاءَتْ وتَدَعْ
87 وَهْوَ يَرْمِيها ولَنْ يَبْلُغَهَا
رِعَةَ الجاهِلِ يَرْضَى ما صَنَعْ
88 كَمِهَتْ عَيْناهُ حتَّى ابْيَضَّتَا
فهُوَ يَلْحَى نفسَهُ لمَّا نَزَعْ
89 إذْ رَأى أنْ لم يَضِرْها جَهْدُهُ
ورأى خَلْقاءَ ما فيها طَمَعْ
90 تَعْضِبُ القَرْنَ إذَا نَطَحَهَا
وإذَا صابَ بها الْمرِدَى انْجَزَعْ
91 وإذَا ما رَامَهَا أعْيَا بِهِ
قِلَّةُ العُدَّةِ قِدْمًا والجَدَعْ
92 وعدوٍ جاهِدٍ نَاضَلْتُهُ
في تَراَخِي الدَهْرِ عنكم والْجُمَعْ
93 فَتَسَاقَيْنَا بِمُرٍ نَاقِعٍ
في مَقامٍ لَيْسَ يَثْنِيهِ الْوَرَعْ
94 وارْتَمينْا والأعادِي شُهَّدٌ
بِنِبَالٍ ذَاتِ سُمٍ قد نَقَعْ
95 بِنِبَالٍ كُلٌها مَذْرُبَةٌ
لم يُطِقْ صنعتها إلاَّ صَنَعْ
96 خَرَجَتْ عن بِغْضَةٍ بَيِّنَة
في شَبابِ الدَّهْرِ والدَّهْرُ جَذَعْ
97 وتَحَارضْنَا وقالُوا : إنَّما(83/6)
يَنْصُر الأقْوامُ مَنْ كانَ ضَرَعْ
98 ثُمَّ وَلي وهْوَ لا يَحْمي اسْتَهُ
طائِرُ الإتْرَافِ عنْهُ قد وَقَعْ
99ساجِدَ المَنْخِرِ لا يَرْفَعُهُ
خَاشِعَ الطَّرْفِ أصَمٌ الْمُسْتَمَعْ
100 فَرَّ مِنِّي هاربًا شَيْطانُهُ
حَيْثُ لا يُعْطِي ولا شَيْئًا مَنَعْ
101 فَرَّ مِنّي حِينَ لا يَنْفَعُهُ
مُوقَرَ الظَّهْرِ ذَلِيلَ المُتَّضَعْ
102 ورَأى مِنّي مَقَامًا صَادِقًا
ثَابِتَ المَوْطِنِ كَتَّامَ الوَجَعْ
103ولِسَانًا صَيْرَفِيَّاً صَارِمًا
كحُسَامِ السَّيْفِ ما مَسَّ قَطَعْ
104 وأتانِي صَاحِبٌ ذُو غَيِّثٍ
زفْيَانٌ عِنْدَ إنْفَادِ القُرَعْ
105 قَالَ لَبَّيكَ وما اسْتَصرْخْتُ
حاقِرًا لِلنَّاسِ قَوَّالَ القَذَعْ
106 ذُو عُبَابٍ زَبِدٍ آذِيُّهُ
خَمِطُ التَّيَّارِ يَرْمِي بِالْقَلَعْ
107 زَغْرَبِيٌ مُسْتَعِزٌ بَحْره
ليس لِلماهِرِ فيهِ مُطَّلَعْ
108 هَلْ سُوَيْدٌ غَيْرُ لَيْثٍ خَادِرٍ
ثَئِدَتْ أرضٌ على فانْتَجَعْ
تمهيد للشرح :
زعم المستشرق الكبير كارلوس يعقوب ليال في مقدمة ترجمته لهذه القصيدة أنها قصيدتان معًا من وزن واحد وقافية واحدة ، الأُولى تبدأُ من البيت الأول إلى البيت الرابع والأربعين ، والثانية تبدأ من البيت الخامس والأربعين إلى آخر القصيدة.
وزعم أن القصيدة الأولى متماسكة وأن القصيدة الثانية فيها اضطراب وفجوات وتنتهي بوصف قوى للمساجلة التي كانت بين الشاعر وخصمه .
وذكر الأستاذان عبد السلام محمد هارون" والشيخ أحمد محمد شاكر ـ رحمهما الله ـ في شرحهما وحديثهما عن هذه القصيدة أنها من أغلى الشعر وأنفسه ، قالا :" وقد فضلها الأصمعي وقال كانت العرب تفضلها ـ تقدمها وتعدها من حكمها ، وكانت في الجاهلية تسميها اليتيمة لما اشتملت على من الأمثال " .(83/7)
ولقد نظرت في القصيدة وتأملت معانيها وعجبت أول الأمر للزعم الذي زعمه المستشرق كارلوس ليال، إذ القصيدة بلا ريب كلٌ واحد ، متماسكة جداً ، ليس فيها فجوات أو اضطراب كما سنبين من بعد إن شاء الله تعالى .
كما قد عجبت لهذا الذي يروى عن الأصمعي ـ رحمه الله ـ حيث قال إن العرب كانت في الجاهلية تُسميها اليتيمة . ذلك بأن القصيدة إسلامية الأسلوب من مبدئها إلى نهايتها ، لم يذكر فيها الشاعر شيئًا من مآثر الجاهلية الكبرى التي حرّمها الإسلام كالخمر والميسر .
فإما أن تكون القصيدة كلها نظمت في الفترة التي كان فيها سويد مسلمًا. وإما أن يكون قد سمع القرآن قبل إسلامه وتأثر ببيانه وهذا أمر يوجد في لعض أشعار الأعشى ولبيد قبل إسلامهما . وقد كانت قريش تحرض الشعراء وتشجعهم أن يباروا القرآن استجابة للتحدي الذي تحداهم به ـ قال الله سبحانه وتعالى :
" وإن كُنتُم في ريبٍ ممَّا نزلَّنا على عَبدِنا فأتوا بسُورةٍ من مثلهِ وادعُوا شهداءكم من دُون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتَّقوا النَّار التي وَقودُها النَّاس والحِجارةُ أُعدَّت للكافرين "
صدق الله العظيم( سورة البقرة الآيات: 23،24 )
وقال تعالى : " قل لئِن اجتَمعتِ الإنسُ والجِنُّ على أن يأتُوا بِمِثل هذا القرءانِ لا يَأتون بمثلِه ولو كان بعَضُهم لبعضٍ ظهيرا".( سورة الإسراء الآية : 88).
روحُ القصيدة وسياقها وكثير من ألفاظها وأساليب بيانها كل ذلك يشهد بتشبعها بالمعاني الإسلامية ، ولذلك نرجح أنها نظمت في الإسلام وأن تسميتها باليتيمة كانت ـ والله تعالى
أعلم ـ في الإسلام لا الجاهلية .
تتكون القصيدة من اثنى عشر فصلاً.
الفصل الأول:من البيت(1) إلى البيت(7) وهو الجزء الأول من المقدمة النسيبية. بدأ سويد قصيدته كعادة الشعراء القدماء بالنسب يهييء به الأذهان حتى تستمع إليه . في هذه البداية النسيبية وصف لنا محبوبته فأعطانا صورة جميلة عنها .(83/8)
الفصْلُ الثاني : من البيت (8) إلى البيت (19) . فيه الجزءُ الثاني من المقدّمةِ النسيبية ، ذَكَر الشاعِرُ فيه طَيْفَ الخيالِ وسَهَرَ العاشقِ يتذكَّرُ أحِبَّاءهُ ويُراقِبُ النجومَ ويتذكَّرُ مَحَاسِنَ محبوبتهِ وطِيبَ حديثها . سمَّاها الشاعِرُ هنا سَلْمَى وكان في البيت الأول سمَّاها رَابِعَةَ ، والشاعرُ قد يُسَمي محبوبَتَهُ بأكثرَ من اسمٍ واحدٍ . ويجُوز أنَّ رابِعةَ وَصْفٌ لها ، أي هي رَابِعَةٌ أي عاطِفَةٌ علينا وهذا يناسب قوله " بسطت رَابِعَةُ الْحَبْلَ لنا " ربع
على كذا يربع : عطف .
الفصْلُ الثالث: فيه وَصْفٌ للصحراء وحرّهِا والسيرِ فيها من البيت (20) إلى (29) . وقد وَصَفَ الشاعِرُ سَفَرًا على ظُهُورِ الْخَيْلِ وجعلَ ذلك تَمْهِيدًا للوصول إلى ديار قوْمِه بني بكر ومدحهم .
الفصل الرابع: من البيت (30) إلى البيت (44) . وفيه مدح قبيلته الكبيرة بني بكر – ذكر حسن منظرهم وحسن حديثهم وسعة فضلهم وقديم مجدهم .
الفصل الخامس: من البيت (45) إلى البيت (50) .عاد إلى ذكر طيف الخيال والشوق وذكرى المحبوبة ، يهيىء بهذا النسيب المختصر سامعيه إلى دفعة (1) جديدة من القول الذي سيبلغ به مراده فيما بعد . وختم هذا الفصل القصير بمعنى يدل على شدة الشوق الذي يحث صاحبه على طلب اللحاق بأحبابه .
الفصل السادس: من البيت (51) إلى (60). ذكر فيه سفره ليلحق ، وجعل السفر هذه المرة على ناقة أو جمل ليدل على بعد المسافة،ونعت
راحلته بالسرعة والقوة فزعم أنه أحس وهو عليها كأنه يمتطي ثورا وحشيا تطارده كلاب الصيد ومعهن صاحبهن الصياد الذي يرمي بسهامه القاتلات . ومع ذلك نجا الثور ، وهذا يدلنا على أن الشاعر يرمز بذلك إلى نجاته هو وانتصاره . ذكر الجاحظ في كتاب الحيوان أن الشعراء تقتل الثور الوحشي والحمار الوحشي وما أشبهه في قصائد الرثاء ، وتجعله ينجو للدلالة على معنى الانتصار وفي مجال المدح والفخر .(83/9)
الفصل السابع: من البيت(61) إلى البيت (66). افتخر الشاعر بقبيلته ، وفي استعماله ضمير المتكلم للجمع (نا) دليل على أنه يخص قبيلته بني يشكر ، فقد مدح القبيلة الكبرى بني بكر من قبل ، ثم إنه جعل نهاية هذا الفصل تعجبا من حال نفسه ، كيف يستطيع القرار فى بلاد ليس فيها متسع ـ ويعجب المرء من هذا التبرم، لماذا جاء به الشاعر بعد فخره بنعم الله عليه وعلى قومه.وإنما جاء بهذا الاستفهام الإنكاري الدال على التبرم ليجعله تمهيدًا لذكر عدوه المنافق الحسود الذي تكاد تضيق الأرض به وبالناس لما انطوت عليه نفسه من الشر والأحقاد .
الفصل الثامن: من البيت (67) إلى (79). يصف فيه الشاعر عدوه الحاسد الحاقد المنافق بمكره ومكايده وغيظ قلبه وصفًا دقيقًا حيًا ويخلص إلى أنه لا يخشاه ولا يبالي ، ويجد من نفسه القوة على أن يتغلب على أمثاله.
الفصل التاسع: يمثل الجزء الثاني من صفة الشاعر لعدوه الحاسد من البيت(80) إلى (81) . وشبه نفسه ومنزلته بالصخرة العالية الملساء ، وهذا العدو لايستطيع أن يزلزلها من مكانها، وهي منيفة فوقه غائظة له كل الغيط بارتفاعها وإشرافها على .
الفصل العاشر:من البيت (92) إلى (100). فيه الجزء الثالث من وصف عدوه وقد ضمنه خبر المساجلة التي دارت بينهما وكيف قهره بفصاحته ورصانة شعره حتى انهزم هاربًا
صاغِرًا مغلوبًا .
والفصل الحادي عشر: من البيت (101) إلى (107). وصف فيه انتصاره وقدرة شيطان شعره .
الفصل الثاني عشر: بيت واحد جعله قمة تعبيره ونهايته وجاء به على صيغة الاستفهام ليقرر بذلك المعنى ويؤكده لا بغرض التساؤل .
شرح المفردات ومعاني الأبيات :
(1)بسطت رابعة الحبل لنا : مدت رابعة حبل المودة والوصال إلينا وعطفت علينا فلذلك قبلنا مودتها ووصلنا حبلها مدة استمرارها في العطف علينا ومواصلتنا .(83/10)
بسطت : أي مدت ( المضارع يبسط بضم السين ) . الحبل هنا معناها الوصل والمودة والعلاقة الطيبة . ما اتسع أي مدة اتساع ذلك ـ مدة استمرار ذلك في حال وصال متسع ومودة متسعة (ما) هنا يقال لها (ما) المصدرية الظرفية لأنها تدل على المدة والمصدر معًا : ما اتسع أي مدة اتساعه . رابعة اسم المحبوبة أوصف لها بمعنى عاطفة وواصلة أو هي المولودة الرابعة لأمها ، والوجه الأول هو الجيد ، لأن الشاعر قد يستعمل أكثر من اسم واحد للمحبوبة في قصيدته ، وقد يتضمن الاسم معنى مناسبًا للسياق الذي يورده فيه . هي اسمها رابعة وهي أيضًا عاطفة لأنها مدت حبل المودة وبسطته لنا .
(2) حرة : أي أصيلة صافية اللون تجلو فمًا حلو الحديث ، أسنانها المفلجة تبدو فيه كأنها لؤلؤ شتيت منثور مشرق لمّاع مثل شعاع الشمس الساطعة وسط الغيم .
هذا البيت في صفة المرأة الجميلة جيد شديد الحيوية إذ وصف لنا أخلاقها وأصلها بأنها حرة ، ووصف لنا ثغرها بأنه شتيت أي مفلج الأسنان كأنها لؤلؤ براق ، وهذا يدل على تبسمها وحسن حديثها ، وشبهه بالشمس وسط الغيم لأن حوله لون الشفتين واللثات وهو ضارب إلى السمرة .
( 3) صقلته أي نظفته بقضيب أي
بقطعة من غصن ناضر أي ناعم من شجر الأراك الطيب الرائحة ، استاكت به حتى نصع لون أسنانها أي وضح وصفا . صقل مضارعها يصقل بضم القاف . نصع مفتوحة الصاد في الماضي والمضارع .
(4) أبيض اللون أي هي حرة تجلو ثغرا مفلجا أبيض لون الأسنان لذيذا طعمه لمن يكون له حظ سعيد بتقبيله وحينئذ سيجد ريقه طيبا لا يتغير إذا تغير ريق النساء الأخريات . وذلك أن الريق يتغير بعد النوم ." إذا الريق خدع " أي إذا الريق تغير ونقص وجف . خدع يخدع بفتح الدال في الماضي والمضارع .والعرب تقول : أتيناهم بعدما خدعت العين وهدأت الرِجْل أي في متأخر من الليل بعدما نامت العين وهدأت الحركة .(83/11)
(5) تمنح المرآة أي تعطي مرآتها وجها جميلا أي حين تنظر في المرآة تعطي هي المرآة عطية حسنة هي وجهها الواضح الجميل الهيئة الصافي اللون البراق المضيء كأنه جانب الشمس حين يرتفع في الصحو أي في سماء انقشع عنها السحابُ ، فالشمس فيها منيرة باهرة – الصحو بصاد مهملة أي غير منقوطة ، مفتوحة بعدها حاء مهملة ساكنة ثم واو . منح بفتح النون مضارعها مثلث النون يمنَح يمنُح يمنِح ، كلها صحيحة وأجودها كسر النون ، ولذلك أجود الوجوه أن تقرأ : تمنِح المرآة الخ ..
(6) صافي اللون ، صفة لقوله وجها واضحا صافي اللون-وطرفا ساجيا : أي تمنح المرآة وجها صافيا في لونه وطرفا كحيلا أي عينا كحيلة أي عليها زينة الكحل أو كأنها بطبيعتها مكحولة من حسنها وجمال منظرها الساحر-
ساجيا : من سجا يسجو أى هَدَأ وسكن .قال تعالى : والضحى والليل إذا سجا " أى هدأ وسكن- والطرف الساجي أي الهادئ الوديع ." ما فيه قمع " أي خال من وجع أو ورم . أي نشأت صحيحة العينين لم يصبها رمد يسبب لها القمع في جوانب جفنها وعينها – القمع وجع وبثور وأورام تصيب جانب العين. كلمة الطرف تدل على البصر والعين ولكنها لا تثنى ولا تجمع، وطُرِفت العين تطرف بكسر الراء في المضارع أي نظرت ، وطُرِفت عينه بالبناء للمجهول أي أصابها شيء . قمعت عينه بكسر الميم تقمع بفتح الميم قمعا بفتح القاف والميم أي أصابها داء القمع الذي تقدم شرحه .(83/12)
(7) وتمنح المرآة أيضا منظر شعرها الجميل . وقرونا أي خُصلا من الشعر – قرونا مفعول به ، لقوله تمنح الذي تقدم . سابغا أطرافها أي خُصلا من الشعر أطرافها غزيرة كاسية . وقد أدخلت فيها المسك الكثير والطيب الزاكي الرائحة . غللتها أي أدخلت فيه . غَل في المكان يغُل أي دخل وغللتُه أنا في المكان أي أدخلته . غللتها ريحَ مسك أي أدخلت فيها ريح مسك : ذي فنع : أي ذي كثرة . الفنع بفتح الفاء والنون أي الكثرة . فنع فلان يفنع بكسر النون في الماضي وفتح النون في المضارع أي كثر ماله
وفنع مال فلان أي كثر . قال الشاعر
أبو محجن الثقفي :
وقد أجودُ وما مالي بِذِي فَنَعٍ ...
... وأكْتُمُ السّرَّ فيه ضرْبَةُ العنُقِ
وفنعُ المسكِ كثرته وانتشار رائحته . ريحَ مسك – ريح منصوبة مفعول به لغلَّلتها وأنشدها بعض الرواة برفع ريح على معنى تغللتها ريح مسك والرواية الجيدة هي النصب وفاعل غلَّتها المحبوبةُ التي وصفها الشاعر.
تعليق :
هذه الأبيات التي تقدم شرحها من (1) إلى (8) هي الجزء الأول من النسيب أي القسم الخاص بذكرى المحبوبة ووصفها ، والشاعر العربي يُضمِّن النسيب إشارات إلى أغراضه التي يتناولها في القصيدة . المحبوبة هنا عاطفة والشاعر على صلة حسنة معها وسيدوم على ذلك ما دامت هي على ذلك .
وسنبين فيما بعد - إن شاء الله - أن هذه المحبوبة كأنها رمز لقبيلة الشاعر ولنفسه ولانتصاره على خصومه .
تهتم العرب في نسيبها بوصف الثغر لأنه يدل على الابتسام وحسن الحديث ، وبوصف الطرف لأنه يعبر عن العواطف ويدل على الشخصية .(83/13)
لم تكن نساء العرب حُمْر الألوان أو شُقر الألوان . ولم تصف شعراء العرب في جاهليتها وفي أيام الإسلام الأولي نساءها بتوريد الخدود (*) وإذا قالوا امرأة بيضاء عنْوا بذلك أنها جميلة . وربما وصفوا اللون نفسه فذكروا أن فيه صُفرة كبيض النعام أو كالفضة التي مازجها ذهب أو الروضة التي شعَّت عليها شمس الأصيل أو الأُترجَّة أي البرتقالة الفواحة الطيبة الرائحة .
الفصل الثاني وهو الجزء الثاني من النسيب :
(8) هيج الشوق خيال ـ أي زارني طيف الخيال من المحبوبة وهيج شوقى إلى لقائها . هذا الخيال زارني من عند محبوبتي ذات الحياء والتحشم والوقار امرأة خفرة بفتح الخاء وكسر الفاء أي تستحي وتتحشم. الخَفَر بفتح الخاء والفاء أي الحياء . حبيب خفِر
بكسر الفاء أي حبيب حيي فيه قدع : أي فيه وقار وانقباض عن الظهور والجراءة . قدعت فلاناً عني أقدعه وأقدعت فلانا أقدِعه أي رددته عني وفلان يقدَع نفسه عن الدنايا أي يتعفف، وفيه قدع أي فيه عِفة ووقار- ويقدع نفسه عن الأمور التي يهابها . القدع بفتح القاف والدال أي التعفف والتهيب والانقباض بسبب الحياء والعفة .
هيج شوقي خيالٌ زارني من حبيب كثير الحياء والهيبة للمخاطر لوقاره وعفته .
من عادة شعراء العرب إذا وصفت
طيف الخيال وصفته بأنه يركب الأهوال ويتخطاها مع أن المحبوب نفسه شديد الهيبة والحياء .
(9)شاحط : بعيد : شطحت ( بفتح الحاء وكسرها ) الدار أي بعدت تشحَط أي هذا الطيف الذي زار في المنام قد جاء من حبيب بعيد جداً عني. وقد جاز هذا الخيال مسافة
الصحراء حتى زارنا في أراحلنا ونحن مسافرون وبيننا وبين دياره غابات كثيرة فيها الشوك والهوام والسباع والأهوال ، مع ذلك هذا الطيف قد جاز ـ أي قطع ـ عصب الغابات أي مجموعات الغابات التي بيننا وبينه ـ طُروقًا أي ليلاً ولم يخفْ ـ لم يرعْ أي لم يرعْه شيء أي لم يخفه شيء . تقول راعه الأمر يروعه أي أخافه يخيفه .(83/14)
(10)آنسٍ ـ صفة للحبيب الخفِر ولطيفه الزائر، أي مؤانس وملاطف. وهذا الطيف كان كلما اعتادني أي كلما عاودني بزيارته أرقني وحال بيني وبين النوم فامتنع النوم عني .
تقول: عاده كذا واعتاده وعاوده ، كلٌّ معناها واحد ـ يقال تعتادني الحمَّى كل ثلاثة أيام وتعودني وتعاودني . قال الشاعر ذو الرُّمة يذكر محبوبته :
تَعْتَادُنِي زَفَرات من تَذَكُّرها
تَكادُ تَنْفَضُّ منهنَّ الحيازيم
أي زفرات شديدة تؤثِّر في الصدر
هزتها حتى توشك الضلوع أن تنكسر وتنفصل .
(11)وكذَاكَ الحُبُّ ما أشْجَعَهُ
يَرْكَبُ الْهَوْلَ وَيَعْصِي مَنْ وَزَعْ
هذا البيت من أبيات الحكمة الرائعة .
لما ذكر الشاعر طيف الخيال ونسبه إلى محبوبته الحبيبة الهيوب تَعجب منه كيف استطاع أن يتجاوز الأهوال والغابات ويصل إلى ؟ كيف جسر على تخطي هذه الأهوال مع أن صاحبته امرأة لا تقدر على ملاقاة هذه الأهوال؟
والحق أن الحبيبة التي زاره طيفها لم تزره هي نفسها ، ولا أرسلت طيفها إليه. ولكن الذي صور له صورتها وجعل طيفها يزوره فى المنام هو تفكيره هو نفسه فيها ، وعقله الباطن هو الذي صورها له . وقد بين هذا المعنى لنا من بعد الشاعر أبو تمام حيث قال :
زارَ الخيالُ لها بل أزارَكَهُ
فِكْرٌ إذا نَامَ فكرُ الخَلْقِ لم ينَمِ
أي زارك خيالها لا بل جعله يزورك
تفكيرك فيها ، وذلك أنك بتفكيرك فيها الدائم لا ينام عقلك حتى حين ينام الناس وتنصرف عنها وعن غيرها أفكارهم .
إذن فعقل الشاعر وفكره هو الذي اقتحم الليل ونسي أهوال الصحراء وعُصب الغاب وتجاوز جميع ذلك إلى الحبيب الحيي الهيوب الشاحط الدار أي البعيد الدار ، وإنما فعل فكره ذلك بجراءة الحب وشجاعته :
وكذَاكَ الحُبٌ ما أشْجَعَهُ
يَرْكَبُ الْهَوْلَ وَيَعْصِي مَنْ وَزَعْ(83/15)
ويعصى من نهاه . الوازع هو الذي يُنَظّمُ أمْرَ الناس ويمَنَعهم من الفَوْضَى. ولابدَّ للنَّاس من وَزَعةٍ ، أي الناس يحتاجون إلى وَزَعةٍ جمع وازِع ، مثل كَتَبة جمع كاتب وعَمَله جمع عَامِل وقَرَأة جمع قارِيء . وَزَعُ يزع فهو وَازِع وهم وَزَعَةٌ .
في الحديث : من يَزُع السلطانُ أكثر مِمَّن يَزُع القرآن ـ أي يكفّه خوفُ السلطان من ارتكاب الخطأ أكثر ممن يَكفُّ القرآن بمواعظه
وتذكيره .الفعل وَزَع مثل وَضَع ووَزَن مضارعه بفتح الزاي ( يزع مثل يَضَفُ وبكسرها يَزِعُ مثل يَزِنُ ).
كما تجرَّأ هذا الطيف فتخطَّى الأهوال ، كذلك الحبُّ يركبُ الأهوال ويتحداها ويَعْصِي من يريد نَهْيَهُ وكَفَّه عن اندفاعِه في سبيلِ الحبِ .
(12)ثم بعد هذه الحكمةِ تحدَّث الشاعرُ عن تأريقِ الحبِ له حتى سَهِرَ وجعل يراقب النجوم وقال :
فأبِيتُ اللَّيلَ ما أرْقُدُهُ
وبِعَيْنَيَّ إذا نَجُمٌ طَلَعْ
أي أقضِي الليل ساهراً فأرى كلَّ نجم أوانَ طلوعِه .
(13) وإذَا ما قُلْتُ لَيْلٌ قد مَضَى
عَطَفَ الأوٌلُ مِنهُ فَرَجَعْ
والحقيقة أن أول الليل لا يعطف مرة أخرى وينثني راجعًا بعد ذهابه ، ولكنَّ من يسْهَرُ الليل ويأرق ويفكر تمضي الساعات عليه بطيئة فيظن أن الليل قد كر راجعًا وقد زيد طوله.
قال الفرزدق :
يَقُولُونَ طالَ اللّيلُ واللّيلُ لم يَطُلْ
ولكنَّ من يشكُو من الحُبِ يَسْهَرُ
وقال النابغة الذبياني ، وقد تأثر شاعِرُنا سويد بقوله إذْ كان مشهورًا :
كِليني لِهَمّ ياأُمَيْمَةَ(*) نَاصِبِ
وليلٍ أُقاسيه بطِيءِ الْكواكبِ
تَطاوَل حتى قلْتُ ليس بمُنْقضٍ
وليْسَ الذي يَرْعَى النجوَم بآيبِ
توهم أنَّ النجوم بهائم ترعى وهي بطيئة هائمة وقد ذهب راعيها ولن تعود ـ فهذا تمثيل مثله لبطئها ولمراعاته لها .(83/16)
(14)هذا الليل يسحب نجومه ، يجرها جراً ، وهي من بطئها كأنها حيوانات ظالعة أصابعها وجع أو جرح في الرجل فهي تظلع من أجل ذلك . والنجوم تتبع بعضها بعضا ، والنجوم المتأخرة بطيئة جداً في اتباعها للنجوم المتقدمة . ظلع بضم الظاء وتشديد اللام المفتوحة جمع ظالع ، والجمع على صيغة فُعَّل وفُعَّال مطَّرد في كل
كلمة على وزن فاعل أو فاعلة ، ولكن صيغة فُعَّال مثل كُتَّاب وعُمَّال وقُرَّاء أكثر ما تستعمل للمذكر ، وصيغة فُعَّل تستعمل للمذكر والمؤنث ، وقد تستعمل صيغة فُعَّال أحيانًا للمؤنث ؛ قال القُطَامي يتحدث عن النساء :
أبصارُهنَّ إلى الشُّبَانِ مائلَةٌ
وقد أراهُنَّ عَنِيّ غَيْر صُدَّادِ
أي غير ذوات صُدود .تواليها جمع تالٍ أي النجوم التي تتلو ما أمامها تتبعها بطيئات التَّبع أي بطيئات الاتّباع، تقول تبعت فلانًا أتبعه تبعا واتبَّعتُه اتباعا وأتْبعته أتبعه إتباعًا ـ كلها متقاربات في المعنى .
(15)ويُزَجّيِها على إبْطَائِها
مُغْرَبُ اللَّوْنِ إذَا اللَّوْنُ انْقشَعْ
أي هذه النجوم بطيئات يتبع بعضها بعضا .
ويزجيها أي يسوقها . تقول أزجيت راحلتي وزجيتها أي سقتها برفق مضارعه أزجى يُزجي ومضارع زَجَّى يُزجي.وبضاعة مُزجاة أي قليلة.
يقول الشاعر هذه النجوم البطيئات وراءها سائق يسوقها برفق وبلا إسراع هذا السائق مغرب اللون أي فيه بياض وحمرة يعني الفجر ، حين لون الليل الأسود ينقشع أي يأخذ في الزوال ثم يزول . انقشع الليل أي مضى وذهب .
أصل كلمة المُغرب في وصف الخيل للحصان الذي يكون في وجهه بياض وعند ملتقى أطرافه بجسمه حمرة ـ أي هو غريب في لونه ، والشاعر عني بالمغرب اللون الصبح ، لأن الفجر الكاذب يلوح بحمرته عموديا كذنب منتفش ، ثم يجيء الفجر الصادق، وهو بياض أفقي ثم يجيء الشفق الأحمر وتنكشف الدنيا وينقشع لون الليل بسواده .
(16) راقب الشاعر النجوم وتذكر
أشواقه وحبه فقال :
فَدَعَانِي حُبُّ سَلْمَى بَعْدَ مَا(83/17)
ذهَبَ (3)الْجِدَّةُ مِنِيّ والرَّيَع
سمى محبوبته " سلمى " بعد أن كان
قد سماها رابعة ، الجدة بكسر الجيم وتشديد الدال المفتوحة أي الشباب الأول ، والريع بفتح الياء بعد الراء المشددة المفتوحة أي ريعان الشباب وشدته وعنفوانه .
بين لنا الشاعر هنا أنه قد تقدمت به السن وأن حبه لرابعة وهي سلمى كان في زمان الشباب ، وحينئذ بسطت مودتها ووصلها له . وهو يتذكر جميع ذلك ولا ينساه ويشتاق إلى زمانه .
(17)ولقد أحبها حبا شديداً كأنه جنون وكأنها خبلته أي أصابت عقله بجنون من حبها .
يجوز أن تقول خبلتني بدون تشديد وخبَّلَتني بالتشديد ، رُوي البيت بالوجهين. تقول خبلُه الحب يخبلُه بضم الباء في المضارع خبلاً وخبله الحب يخبله تخبيلاً .
وروي البيت أيضًا هكذا : خبَّلتني ثم
لمّا تُشفني بالحاء المهملة أي صادتني بحبالها أي بشرك حبها . تقول حبلتُ
الصيد أحبُله بضم الباء في المضارع.
شفاه يُشفيه وأشفاه يشفيه ، ثلاثي
ورباعي .
يقول الشاعر هذه المحبوبة شغفتني حبًا ، جننتني أو صادتني بحبها ولم تداوني من مرض الحب إلى الآن ففؤادي ذاهب وراءها في كل جهة متفرّق بالشوق إليها في كل أوب أي في كلّ وجه من الدنيا وفي كل مكان ـ " كلَّ أوب " أي في كل مكان. كل منصوبة على الظرفية .
(18)ثم ذكر الشاعر أن من أسباب حبه لها ، ومن الوسائل والحبائل التي اصطادته بها ، حديثها الساحر من فمها الباسم الجميل الذي وصفه من قبلُ فقال :
حُرَّةٌ تَجْلُو شَتيتًا واضحًا
كشُعَاع الشَّمْسِ في الغَيْمِ سَطَعْ
ثم قال :
أبْيَضَ اللَّوْنِ لَذِيذًا طَعْمُهُ
طَيّبَ الرّيقِ إذَا الرّيقُ خَدَعْ(83/18)
والعرب تزعم أن الوَعِل أي الثور الوحشي الأعصم الذي في يديه بياض يكون في أعالي الجبال ، وهو سريع شديد الحذر عسير الصيد ، فالصيادون يحتالون لصيده ، وكذلك أُنثى الوعل ، ويقال لها الأُرْويَّة بضم الهمزة وسكون الراء بعدها واومكسورة بعدها ياء مفتوحة مشددة وتاء التأنيث الجمع أراوى آخرها ألف لينة . قالوا : والأروية والوعل يطربان للصوت الجميل ، فإذا أراد الصيادون صيد الوعل أو أنثاه الأروية نصبوا الأشراك وتغنوا بأصوات جميلة فيجيء الوعل وتجيء الأروية وتستمع وتطرب فيقعان في الشرك .
الرُّقية وجمعها الرقى هي ما يتداوى به الإنسان من السم والسحر . أحيانا تكون شيئًا يشرب أو نحو ذلك وأحيانًا تكون دعاء وكلمات كقراءة الفاتحة مثلا للسعة العقرب .
زعم الشاعر أنه كالوعل البري شراسة وقوة وامتناعًا ، ولكن سلمى دعته بحديثها العذب المؤثر كما تؤثر الرقية في الملسوع والملدوغ والمسحور . حديثها العذب المطرب المؤثر الذي يمكن أن يصطاد الوعل به فينزل لاستماعه من أعلى الجبل.
اليَفع أي المكان المرتفع .
يقول الشاعر إنها أثرت في بحديثها الجميل المطرب الذي ينزل له من يكون صعب المنال مثلي ومثل الوعل الجبلي فيقع في الشرك .
(19)استمر الشاعر في وصف حديث سلمى العذب فقال إنها تسمع المتحدثين إليها حديثها الحسن ولو طلبوا غيره من غيرها من الناس لم يجدوه . هي وحدها تملك هذا القول الرائع المؤثر الذي تصطاد به القلوب.
الحُدَّاث أي الذين يحدثونها . تقول هو رجل حدث بضم الدال وحدث بكسر الدال أي كثير الحديث وحدث بكسر الحاء وسكون الدال وهم حُدَّاث.
تعليق :
إلى هنا انتهى الجزء الثاني من الغزل، ومن عادة الشعراء إذا ذكروا المحبوبة وأشعروا أن أسباب حبهم ما زالت باقية زعموا أنهم سيلحقون بالمحبوبة ، فيجعلون ذلك وسيلة إلى وصف الطريق والراحلة والصحراء وطبيعة البيئة التي يعيشون فيها .
ثم يكشفون المعاني الرمزية التي يشيرون إليها بنسيبهم .(83/19)
الشاعر هنا سيقطع الصحراء على ظهر الخيل ، والعرب لا تقطع المسافات الصحراوية الشاسعة بالخيل ولكن بالإبل . ولكن الغرض الذي يخبرنا الشاعر بأنه يريد الوصول إليه هو ديار قبيلته العظيمة بني بكر . وإذن ركوب الخيل يرمز به إلى الفروسية والقتال . وقد وضع قبيلته بني بكر موضع المحبوبة التي يشتاق الشاعر إليها ويطلب اللحاق بها .
وكما وصف الشاعر سلمى أو رابعة بأنها بسطت مودتها له ، وبأنها جميلة المنظر حلوة الحديث ، كذلك وصف قومه بني بكر بالسماحة وبسط اليد كرمًا كما وصفهم بحسن الخُلق والمنظر وجودة الحديث : " منظرٌ فيهم وفيهم مُسْتمعْ " (4) .
والآن ننتقل إلى شرح الفصل الثالث وهو السير والصحراء والخيل التي ركبها ، من البيت (20) إلى (29) .
(20)المَهمَه: الصحراء ، الجمع مهامِه
ممنوع من الصرف ، لصيغة منتهى الجموع نازح بعيد . غور الصحراء بُعدها واتساعها . نازح الغَور : بعيد المسافة . الآل هو سراب أول النهار.
يقول الشاعر: كم وكم قطعنا من أجل الوصول إلى سلمى صحراء وصحراء كانت بيننا وبينها ، صحراء بعيدة المدى ، سافرنا فيها وسرابها يلمع وحرها شديد .
(1)في ريح حارة ـ الحرور بفتح الحاء هي ريح النهار الحارة وتقابلها السَّموم بفتح السين وهي ريح الليل الحارة ـ سافرنا نهارًا والريح حارة حرّاً تلتهب له الدنيا ويمكن إنضاج اللحم على رمضائه ، والسائر فيها تصيبه من الشمس ضربة شديدة كأنها صاعقة ـ الصقع حر في الرأس . وصقعت الشيء: ضربته أصقعه بفتح القاف صقعًا والصقع بمعنى وجع الرأس بفتحتين على الصاد فتحة وعلى القاف فتحه .
وتقول صعِق فلان، بالمبني للمعلوم ، يصعق وصُعق يُصعق بالمبني للمجمهول أي أصابته صاعقة ويقال أيضا صاقعة والفعل صقَع يصقَع .
نضِج الشي بكسر الضاد ينضَج بفتحها في المضارع نُضجًا بضم النون وفتحها ولا تقل " نضوجًا " فهي غير صحيحة ـ والشيء ناضِج ونضِج وأنضجته أنا إنضاجًا .(83/20)
(22)وكم تخطيت من أجل اللحاق بسلمى ولشوقي إليها ، كم تخطيت من ديار فيها أعدائى ، تجاوزت هؤلاء الأعداء بشجاعتي وقوة عزمي وملازمتي للجد والعزيمة .
عُدى بكسر العين وبضمها أي أعداء . بزماع الأمر : بالجد في الأمر . الزماع بفتح الزاي مثل السحاب في الوزن وبكسر الزاي مثل الكتاب في الوزن،هو الجد في الأمور وقوة العزيمة . كنع الأمر يكنُع كنُوعاً أي قرب.أعوذ بالله من الخنوع والكُنوع والقُنوع ـ الخنوع طأطأة الرأس مذلة وخضوعًا . الكنوع الدنو من الناس لتملقهم وللتذلل لهم ، والقنوع سؤال الناس . وكنع بكسر النون يكنع أي لزم الأمر . " الأمر الكنع " بكسر النون أي الملازم أي سافرت بحزم وجد وعزيمة قوية ملازمة .
(22)وكم من فلاه أي صحراء واضحة الجوانب أي لامعة الجوانب بضوء الشمس تبدو نواحيها وسط السراب والغبرة . مثل قطع السحاب المتفرقة (5)
وفلاة : صحراء جمعها فلوات . أقراب جمع قُرْب بضم القاف أي جنب وقُرْب الحيوان هو جنبه الذي فيه كُليته . واضح أقرابها أي واضحة أقرابها ، جر واضحة لأنها نعت سببي لفلاةٍ وأقرابها فاعل وهو جمع تكسير ويجوز تذكير الفعل وتذكير النعت السببي مع جمع التكسير ـ كأنك قلت وفلاة وضح أقرابه أي وضحت أقرابها فهي واضحة أي بيِّنة ولامعة في ضوء الشمس .
مُرْفَت ، أصل هذه الكلمة من الرفات أي العظام البالية المتكسرة، والقَزَع جمع قَزعة وهي السحابة المتفرقة وكذلك قطعة الشعر التي تبقى في رأس الصبي . والعرب تقول لقطع السحاب المتفرقة قزع وقنازع ، وكذلك لبقايا الشعر المتفرق ـ ويقولون ما بقي في رأس فلان إلا قنازع أي قطع متفرقات من بقايا الشعر وارْفتَّ الشيء أي تفرق وتكسر . " مُرفت القزع " أي قطع السحاب المتفرقة .(83/21)
(24)هذه الفلاة يسبح السراب على تلالها ومرتفعاتها وعلى جميع أرجائها وبيدائها حين يرتفع النهار . السراب الذي يرتفع قرب الزوال عند أول ارتفاع النهار هو الآل ، أعلام جمع عَلَم وهو التل والجبل والمكان المرتفع الظاهر . البِيد جمع بيداء أي مكان قفر ، والبيد القفار الخالية ، ومَتَع اليوم يمتَع " بوزن منع يمنَع " ومتع النهار أي ارتفعت شمسه .
(25)فركبنا هذه الفلاة الواضحة الأقرب التي تبدو نواحيها كالسحاب المتفرق المتشتت ، كأنه ثياب قطعها بالية متفرقة ، ركبناها بالرغم من أنا لا ندري مجاهلها وأهوالها بخيل صلاب الأرض ـ أي صليبات الحوافر ، فيها خفة وإسراع ، شجع بالتحريك أي خفة وإسراع . الأرض هنا بها الحوافز وبقوله صلاب الأرض دل على أنها القوائم ولكنه هنا عني الخيل .
وتقول العرب صلب الشيء فهو صلب بضم الصاد وصليب وصلب بضمتين وشدة والجمع صلاب .
(26)وهذه الخيل كالمغالي أي كالسهام الواحد مغلي بكسر فسكون ، وهي عارفات بالسُّرى وهو سير الليل ومسنفِات بكسر النون أي متقدمات مندفعات أو مسنَفات بفنح النون أي مقدمات مدفوعات إلى الأمام ، لم تجعل عليها سيور تترك على جلودها وشمًا أي أثراً كأنه الوشمة أي النقش عل الجلد ، المغلي أي السهم اشتقاقها عن غلا بالسهم يغلو به أي رمى رميًا شديداً والمسافة التي يقطعها السهم في أشد الرمي اسمها غلوة بفتح الغين والجمع غلاء .
والعرب تقول جري المذكيّات غلاء أي جري الخيل الجياد لا يحكم عليه مرة واحدة ولكن بجريات متعددة .
والسِناف بكسر السين خيط يشد به حزام الإبل ، والإسناف في الحرب هو التقدم ، وأسنفت الناقة وأسنفت الفرس أي تقدمت ورواية البيت بكسر النون من مسنفات وبفتحها ، وقال الشاعر : لم توشم بالنسع لكيلا يتبادر إلى ذهنك من قوله مسنفات أنها إبل فنفى أن تكون مشدودة الحزام بسير أو نسعة تؤثر على جلدها . والنسعة بكسر النون السير وجمعها نسع بكسر ثم فتح.(83/22)
(27)فترى هذه الخيل عصفًا(بضماين) أي سريعات عاصفات مثل الريح ، ولحوافرها الشديدات نعال حديد مما صنعه القين ، والقين هو صانع ، وأكثر ما تطلق على الحدَّاد والجمع قيون . والقينة الصانعة وأكثر ما تطلق على المغنية هذه النعال الحديدية تقيها الأذى من ضربها للحجارة ضربًا شديًدا وهي على أرض فيها صلابة وحجارة . الوقع بفتحتين أي الضرر الذي يلحق بالحافر . تقول العرب وقع الحافر يوقع وقعًا بوزن وجع يوجع وجعًا والمعنى متقارب (6) .
(28)هذه الخيل قد اندفعت في الليل وكستها ظلمته وسواده فكأنه درع عليها وهذه الخيل يهوين بنا هويًا أي يندفعن بنا مسرعات كأنها القطا الكدر الألوان التي جاءت مسرعة إلى ورود الماء وجعلت تهوي إلى الشرع أي إلى المكان الذي ترد فيه الماء ـ العرب تقول لمورد الماء شريعة وشرع بالتحريك ومشرعة . والقطا ترد الماء عند الفجر وأول الصباح ، والقطا نوعان نوع فيه سمرة وهو الكُدر والواحدة كُدرية فيه سواد وهو الجون والواحدة جونية .
(29)والقطا حين ترد تشرب بخفة ومن دون إسراف شرب الشارب من الماء قليلاً قليلاً قيل شرب غشاشًا . وقال الشاعر :
لا أذوقُ النَّومَ إلاَّ غِراراً
مثلَ حسوِ الطَّيرِ ماءَ الثّمادِ
أي أنا قليلاً قليلاً مثل حسو الطير من ماء الثماد جمع ثمد وهو الماء القليل على وجه الأرض والكلمة معروفة في عاميتنا نقول " تمد "
قال سويد :
فَتَنَاوَلْنَ غِشاشًا مَنْهَلاً
ثُمَّ وَجَّهْنَ لأرْضٍ تُنْتَجَعْ
أي تناولن شرابًا قليلاً قليلاً ثم توجهن إلى أرض يردن انتجاعها أي القصد إليها والإقامة بها. المنهل مكان الشراب أو الشراب نفسه. نَهِلَ يَنْهَلُ أي شرب الشربة الأولى. الشراب الأول نَهَلٌ والثاني عَلَلٌ(7) وجه بمعنى توجّه.
تعليق:
قوله "ثمَّ وجّهن لأرض تنتجع" يعنى أرض قومه بني بكر. ولقد قال من قبل فى البيت (20):
كَمْ قَطَعْنا دُونَ سَلْمَى مَهْمَهًا
نازِحَ الْغَوْرِ إذَا الآلُ لَمَعْ(83/23)
فزعم أنه قطع المهمه من أجل اللحاق بسلمى ، وهنا قال إن خيله توجهت لأرض طيبة ينتجعها الناس ، يطلبون المرعى فيها ، النجعة بضم النون أي طلب المرعى والكلأ ( أي الحشيش الذي يرعى ) وانتجع أي طلب المرعى ، ومكان منتجع أي طيب فيه مرعى وتحسن به الإقامة .
ولذلك زعمنا أن سلمى أو رابعة كما هي محبوبة توصف بحسن المنظر وحسن الحديث هي أيضًا رمز لديار الشاعر ولقومه. وهذا الأسلوب كثير في الشعر، حتى في شعرنا العامي موجود ، فقد قال خليل فرح رحمه الله:
عز في هواك عز نحن الجبال
يعني يا بلدنا العزيز نحن كالجبال الراسية في حبك والدفاع عنك .
(30) ثم فسر الشاعر هذه الأرض التي تُنْتَجَعْ وبيَّن حقيقتها أنها ديار قومه بني بكر وهم فيها كالملوك وهي مملكتهم أي الديار التي يملكونها ويدافعون عنها ويقيمون فيها مآثرهم ومفاخرهم :
مِنْ بَنِي بَكْرٍ بِها مَمْلَكَةٌ
... ... مَنْظَرٌ فِيهم وفِيهم مُسْتَمَعْ
مستمع مصدر ميمي من استمع . أي هذه الديار التي فيها مملكتهم هم فيها أهل منظر جميل (8) وحديثهم يجذب الأسماع إليه . وهم فيهم منظر وفيهم مستمع أي ما يستمع إليه .
تذكر أيها القارئ قوله من قبل في رابعة بعد أن وصف ثغرها ووجهها وطرفها وشعرها وخُصَلَةُ السابغة :
تُسْمِعُ الْحُداثَ قَوْلاً حَسَنًا
لو أرادُوا غَيْرَهُ لم يُسْتَمَعْ
(31) وتذكَّر أيها القارئ الكريم أيضًا قوله في أول القصيدة عن رابعة في أول النسيب الذي نسب فيه :
بَسَطَتْ رَابِعَةُ الْحَبْلَ لَنا
فَوَصَلْنَا الْحَبْلَ منها ما اتَّسَعْ
وهنا في هذا البيت الحادي والثلاثين يقول في مدح قومه والفخر بهم :
بُسُطُ الأَيْدِي إذَا ما سُئِلُوا
نُفُعُ النَّائِلِ إنْ شَيءٌ نَفَعْ
استعمل في الدلالة على مروءتهم وكرمهم نفس اللفظ الذي استعلمه من قبل وهو البسط . وبسط الأيدي بالمعروف مدها بالمعروف .(83/24)
وصف قومه بأنهم كرام يبسطون اليد بالكرم حين يُسألون وعطاؤهم سمح يعطونه بنفس سخية ولذلك يكون نافعًا . إن شيء نفع فعطاؤهم من الأشياء النافعة حقًا وبعض عطاء الناس لا يقع لأنهم لم يبذلوه بسماحة النفس .
بُسُط جمع بسيط هو المسماح الكريم المتهلل ويجوز أن نجعلها جمعًا للباسط يده بالمعروف ولكن صيغة فُعُل بضمتين الغالب فيها أن تكون في الجمع لفعول وفعيل (9) .
ونُفُع بضمتين جمع نفوع أي عظيم النفع والفائدة مثل نفاع في المعنى والنائل هو العطاء .
(32) قومي من أناس أهل فضل وخير وخلق حسن ، ليس في طبعهم الإسراع إلى القول الفاحش ولا عدم الصبر عند المصيبة . قوله لا يُسرعون إلى الفحش ولا يعجلون إليه عنى به أنهم لا يكون منهم فحش في القول أبدًا حتى يعجلوا به كعجلة غيرهم . ولم يرد نفي العجلة وحدها ولكن أراد نفي الفحش كله عنهم . والجزع هو كما قدمنا القول ، عدم الصبر عند المصيبة ، جَزِعَ يجزع جزعًا فهو جَزِعٌ وجزوع .قال تعالى : " إنَّ الإنسانَ خُلِقَ هلوعًا إذا مسَّهُ الشَّرُّ جزوعًا وإذا مسَّهُ الخيرُ منوعًا " صدق الله العظيم .
(33) وقومي أهل صدق وعدالة وجد يعرفون الحق حين يكون لهم أو عليهم، وعندما يجىء أمر كريه مُرّ فهم ليسوا ضعفاء ولكن يواجهونه بقوة.
عي وعيي بالأمر أي أعياه الأمر ولم يستطعه (10) . خَرِعَ يخَرع خرَعا أي ضعف والخرع الضعيف والخرع الضعف - وخرع الرجل في أمره إذا لان في أمره وتساقط من العجز والضعف .
(34) ثمَّ ذكر كرم قومه بالطعام في زمان الحاجة وأشد ما كان الناس يحتاجون إلى زمان الشتاء عندما تهب الرياح من الشمال – الشمال بكسر الشين الجهة والشمال بفتح الشين الريح التي تجيء من الشمال ويقال لها الشمأل بالهمز .(83/25)
قومي يطعمون الطعام في زمن الحاجة وأشد ما كان الناس يحتاجون إلى الطعام زمان الشتاء عندما تهب الريح شمالا ويطعمونه كثيرا طيبا مطبوخا في قدور ضخام ضامنات للشبع ولا يضعون فيها شيئا قليلا . تقول العرب أجاع فلان قدره أي لم يجعل فيها لحما كثيرا .فقوله هنا " في قدور مشبعات لم تجع " أي مملوءة فيها اللحم الكثير .
(35) ويُنقل اللحم من القدور إلى جفان كبيرات كل جفنة كأنها جابية من اتساعها . الجفنة وعاء كبير يوضع فيها الطعام وقد تصنع من الخشب ومن النحاس ومن غير ذلك . والجابية هي حفرة الساقية التي فيها الماء.هذه الجفان مملوءة بلحم من لحم الإبل السمينات الأسنمة– الترع بالتحريك الامتلاء . أترع إناءك أي أملأه . الذرى : ذروة كل شيء أعلاه وذرى الإبل أسنمتها ولحم السنام من أطيب اللحم .
وقوله :" وجفان كالجوابي " أخذ من القرآن ، إذ ذكر الله سبحانه وتعالى الجن الذين كانوا يعملون لسيدنا سليمان فقال تعالى :
"يعملونَ لهُ ما يشآءُ مِن محاريبَ وتماثيلَ وجِفَانٍ كالجوابِ وقُدورٍ راسياتٍ " صدق الله العظيم " سورة سبأ الآية : 13 " .
(36) وقومي أوفياء لا يخاف من جاورهم أن يغدروا به أو أن يطمعوا في ما عنده فيحسدوه ويتعدوا عليه . الطبع بالتحريك العيب وسوء الطمع–قالوا والطبع صدأ ووسخ يركب القلب من شدة الطمع وفساد الخُلُق– قال الشاعر :
لا خيرَ في طمعٍ يُدنِي إلى طبع
وغُفَّةٌ من قِوَامِ العيشِ تكفينِي
الغُفة من العيش أي البلغة من العيش، القليل الذي يقيم به المرء قوت يومه . وهذا البيت يدل على أن الطبع شر من الطمع .
(37) وقومي كرماء مساميح أهل جود يجودون بالنفيس الذي يبخل به الناس ونفوسهم طيبة خالية من الطمع السييء . حسر نفسه عن كذا أي كفها ومنعها من كذا، المضارع يحسر بضم السين فهم يمنعون أنفسهم من الطمع السييء .(83/26)
ضن بالشيء يضن به الفتح ويضن به بالكسر أي يبخل وضن بالشيء بالبناء للمجهول أي بخل به وهذا الشيء علق الشيء علق مضنَّة وعلق مضنة بفتح الضاد وكسرها أي نفيس مما يبخل به.
(38) وقومي حسنو الوجوه مشرقوها لم يعن أنهم بيض الألوان كالإفرنج فالعرب لم تكن تعرف في ألوان هذا اللون . وقومي أهل شجاعة وشرف وليسوا جبناء ولا يخافون إذا جاء زمان الفزع أي الخوف واستنجد بهم الناس ليحموا ويدافعوا . مراجيح أي ثابتون لا يخفون جزعًا . إذا جد الفزع إذ صار الاستنجاد من أجل الدفاع والحماية أمر جد وحزم . والفزع بمعنى النجدة وقت الخوف والتعاون بين الناس على ذلك مستعملة في لغتنا العامية . وأصل معنى الفزع الاستغاثة والإغاثة عند الخوف . ويدل أيضًا على الخوف . وأفزعت فلانًا أخفته . وفزع فلان إلى فلان أي استغاث به أو أغاثه ونصره . وكان أنصار الرسول صلي الله عليه وسلم ورضي تعالى عنهم يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع وذلك لإخلاصهم وصدق إيمانهم .
(39)وُزُنُ الأحلام أي راجحوا العقول، تزيد أحلامهم أي عقولهم على غيرهم إذا وازنا بينهم وبين غيرهم ، وهم شجعان عند البأس أي في الحرب حين تشتد ، هو ذو عقل زين أي راجح ، وحلم فلان حلمًا فهو حليم أي راجح العقل له أناة وروية وتفكير في عواقب الأمور وهم وزن الأحلام ـ وزن جمع وزين .
صادقو البأس أي يصدقون القتال شجعانًا في الحروب . البأس الشدة والقتال والحرب . " إذا البأس نصع " أي اشتد ووضحت شدته ويروى :
رُجُحُ الأحْلاَمِ إنْ وُزِنُوا
صَادِقُو الْبَأس إذَا الْبَأسُ وقَعْ
أي عقولهم راجحة ، رجح جمع رجيح
وهم مراجيح مساميح ومراجيح لا مفرد بها في الاستعمال ، ومساميح مفردها مسماح وهو مستعمل .(83/27)
(40) وقومي في شجاعتهم مثل الأسود التي تتقى أي تخاف وصولها. والعرة : الأذى أي يخاف الناس الأذى الذي تسببه هجمتها الشديدة . وهم حلماء ليسوا بخفيفين تطير أحلامهم مع كل ريح . هم أهل هدو وأناة . عبر عن هذا بقوله : ساكنو الريح أي ريح أحلامهم أي ريح عقولهم ساكنة لا تهيج كالإعصار ذي الغبار الذي يكدر الدنيا ثم يصير إلى لا شيء . ريحهم ساكنة وهم هادئون حين يخف غيرهم من الناس الذين يتطايرون كقطع السحاب المتفرقة التي تسوقها الريح لخفتها وخلوها من الفائدة إلى جهات مختلفة .
وذم سيدنا على بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه- قومًا فقال إنهم يجتمعون ( كما يجتمع قزع الخريف ) يعني أنهم يجتمعون متفرقين ويتفرقون من
بعد.
(41)لمّا وصف قومه بالشجاعة وأنهم أسود تخاف صولتها قال فبهم تحدث النكاية في العدو والانتقام منه . وبهم يضم الشق إذا حدث شق وانصداع في أمور الناس . رأبت الشيء أرأبه أي أصلحته . والشِّعب الشيء المتفرق انشعب الإناء أي انشق . رأبت شعب الإناء أي أصلحته . والشِّعب أيضًا الشيء الملتئم ، فالكلمة من الأضداد ، ومن قولنا هم شعب واحد . انصدع الشعب أي انشق الشيء الملتئم ونكيت في العدو أنكي بكسر الكاف أي صنعت به الضرر والأذى . ونكأت القرحة أنكأها أي قشرتها نكأ . انصدع أي انشق . الصدع : الشق .
(42)وقومي مجدهم قديم ، وعادة الشرف فيهم قديمة ، وليس شرفهم بالشيء الجديد الذي ليس له أصل راسخ .
(43)وقومي يحتلون ثقال الأمور التي يكلفهم واجب المروءة إياها . لايعجزون عنها ويظلعون لثقلها كما يظلع البعير الذي يوضع فوقه أكثر مما يتحمل من الأحمال . والشِّف بكسر السين الزيادة . أي هم يطيقون كل ما يكلفونه ولايعجزون ولا يظلعون كما يظلع البعير ذو الشف أي الزيادة من الأحمال التي ثقلها يزيد على طاقته .
والأحمال التي يعينها هنا مثل إخراج المال للضيافة والمعاونة في دفع الديات من أجل الصلح بين القبائل .(83/28)
(44)ولأن شرف قومنا معروف فإنهم لايؤاخون إلا من كان مثلهم في شرف الأصل وصلاح الأخلاق . قال الشاعر :
عن المرءِ لاتسأل وسَلْ عن قرينِه
فكلٌ قرينٍ بالمقارِن يقْتَدِي
فهم لايؤاخون من كان وضيع الأصل قليل الخير ولذلك فإخوانهم نظراؤهم الأخيار وسراة الأصل من الناس أي كرماء الأصول من الناس . أكفاء من كفء والكفء هو النظير (11) . وسراة جمع سري والسري هو السيد الشريف من الناس . قال الشاعر :
لايصلحُ الناسُ فَوْضَى لاسراةَ لهم
ولا سراةَ إذا جهَّالُهم سادُوا
أي إن قومي على طريق بين من المروءة والصلاح والمحافظة على الشرف ومن كان على هذا الوجه وعلى هذا الطريق كان من خلانهم . وقومي سراة الأصل يؤاخون سراة الأصل. بقية الناس أصناف متفرقون، شيع متفرقة كل طائفة يتشيعون ويتعصبون لأنفسهم وكلمتهم كتفرقةـ هذا معنى سويد : "والناس شيع "أخذه من قوله تعالى : " إنَّ الذين فَرقُوا دِينهُم وكانوا شِيَعًا لستَ منهُم في شيءٍ " أي أنت برئ من تفرقهم وضلال أمرهم. ( سورة الأنعام: 159) .
تعليق :
إلى هنا ينتهي القسم الذي ظنه المستشرق كارلوس ليال قصيدة قائمة بنفسها. والحق كما قدمنا أنه عبارة عن أربعة فصول من هذه القصيدة الأثنى عشر ، جعلها كلها تمهيدًا لما سيأخذ فيه من بعد من الفخر ببني يشكر ثم من الخصومة بينه وبين عدوه الذي ناضله وانتصر هو عليه.
وقد ذكرنا أن المعاني التي افتتح بها نسيبه من عطف المحبوبة ، وبسطها حبل المودة ، وحسن حديثها ، وجمال منظرها ، وسحر كلامها ، وكمال خلقها هي نفسها المعاني التي مدح بها
قبيلته الكبرى بني بكر .
وبعد مدحه القبيلة الكبرى يندفع اندفاعة جديدة يجيء أولاً فيها بشيء من النسيب يحرك به نفسه وسامعيه، ثم يصف رحلته ليلحق بالمحبوب ثم يفتخر بقومه وقد جعل رحلته كما هي دالة على طلب اللحاق بالمحبوب هي أيضًا رمز ليصل إلى ذكرهم والافتخار بهم .(83/29)
ومن بعد يأخذ في ذكر عدوه وما كان بينهما من الخصومة والمساجلة ثم كيف انتصر عليه بفصاحته وبيانه وثبات جنانه ( أي قلبه )
(45) أرَّقَ الْعَيْنَ خَيَالٌ لَمْ يَدِعْ
مِن سُلَيْمَى فَفُؤادِي مُنْتَزَعْ
في هذا البيت ما يسمى "بالتصريع(12). وهو أن يكون البيت في أثناء القصيدة فيه قافية في صدره وفي عجزه . والشعراء يفعلون هذا عندما يبدأون فصلاً جديداً في القصيدة أو يأخذون في بيان معنى جديد . مثلاً بدأ امرؤ القيس معلقته بقوله :
قِفَا نبكِ من ذِكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسِقطِ اللّوى بينَ الدَّخول فحَوْمَلِ
هذا مطلع القصيدة وهو مقفى في
الصدور والعجز وهذا تصريع وكثير من مطالع القصائد تكون مصرعه . ثم قال من بعد في صفة الليل والحديث
عنه :
ألا أيُّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلِ
بصُبْحٍ وما الإصْباحُ مِنك بأمثلِ
فهذا البيت مقفى في صدره وفي عجزه وهذا التصريع . كذلك هنا في هذه القصيدة.وروي هذا البيت بكسر دال يدع أي يتدع ويقر ويمكث .ولا بأس أن تفتح الدال (13) وتقرأ :
أرَّقَ الْعَيْنَ خَيَالٌ لَمْ يَدَعْ
أي لم يدعني فأنام، وعندي أن الرواية بفتح الدال لعلها صحيحة لأن وزن " يدَعْ " مناسب لوزنه " منتزَعْ " ويستحسن في القوافي المقيدة أي ذات السكون أن تكون حركة الحرف الذي قبلها متشابهة . والأنباري الكبير الذي نحن معتمدون على شرحه وروايته لم ينص على منع " يدع " المفتوحة الدال ولكنه بين أن الرواية " تدع بكسر الدال " ولم يذكر أنه رواها هكذا عن شيخه .
وروي أن أبا عمرو قال لم يدع من الدعة والسكون أي لم يتَّدِع ولم يتقارّ حين جاءنا ـ أي مضى بسرعة ولم يمكث . وأبو عمر المذكور ههنا هو بندار الكرخي أحد شيوخ الأنباري الكبير . ومن تكرار الأنباري لشرح هذه الكلمة وسوقه الحجة على ذلك يلوح لنا بأن آخرين ربما كانوا يروون البيت بفتح الدال من" لم يدع " والله تعالى أعلم .(83/30)
يقول سويد ، عائدًا إلى معنى الطيف والذكرى ليجدد نشاط نفسه إلى الاندفاع إلى البيان والتعبير :
إني أرقت . أرق عيني خيال زارني من الحبيب ولم يمكث طويلاً . ألمَّ بزيارته فهيج شوقي وأرق عيني . وهو طيف خيال زارني من سليمى. فكأنما انتزع فؤادي انتزاعا من شدة الشوق إليها .
تنبه أيها القارئ الكريم إلى أنه صغر اسم سلمى فجعله سليمى وهذا يناسب ما سيصير إليه من بعد من الحديث عن قبيلته الصغرى بني يشكر ثم عن نفسه . والتصغير يستعمل للتحبيب وللتلميح .
والعرب كثيرا ما تزعم في أشعارها
أن المحبوبة من قبيلة أخرى ، هذا أسلوب لهم وإن كانت من نفس القبيلة.
(46) يقول : هذه المحبوبة بعيدة الدار
من داري . حلت جانب الحصن وهو موضع بعينه . وقيل الرواية الصحيحة " حل قومي جانب الحضر " والحضر مدينة قديمة بالعراق وهي مدينة الموصل، وبنو يشكر كانوا بدواً وربما طلبوا المرعى فأبعدوا النجعة إليه. والفرع موضع بين الكوفة والبصرة فجعل محبوبته من القبائل التي تسكن هناك، ليعبر عن بعدها وشوقه إليها ، وصعوبة لقائها .
(47)قال ولبعدها هذا فأنا لا أستطيع لقاءها مع أني أحبها وقلبي مشغول بها وهو أسير عندها . إنما ألقاها إذا نامت عيني . يأتيني طيفها ويزول بسرعة. فلقائي لها إلمامة يسيرة بها في المنام حين يهجع الطرف .
(48)ثم وصف ما رآه من جمال بشرة طيفها في المنام . قال هي كالتُّؤامية أي بشرتها ناعمة صافية كالدرة التُّؤامية ، أي التي يجيء بها الغواصون من الخليج في الساحل الذي يقال له تؤام وهو ساحل عمان والبحرين حيث يغاص على اللؤلؤ .
هذه المرأة ناعمة البشرة إن ظفر المرء بها قرت عينه ، أي سرَّ سروراً عظيمًا وأعجبه مضجعه بقربها وسره اضطجاعه إلى جانبها.
(49)ولكن لاسبيل إلى ذلك لأنها قد بكرت أي هبت من أول الصبح مُزمِعة عازمة على نية السفر ، وقد حدا الحادي بالرحيل واندفعت جِمالها مبتعدة بها واندفع الحاي بالإبل في الصحراء .(83/31)
(50)وتركني هائماً . وترك رجلاً كريماً ، هو أنا ، مكبلاً في حبها ، وقلبه ذاهب وراء الحي الذي ارتحل وارتحلت فيه محبوبته .
يقال : غلِق الرهن أي فاتت مدة خلاصه ولم يستطع صاحبه أن يرده والشعراء تزعم أن قلبها مرهون عند المحبوبة وقد غلق الرهن أي فاتت مدته وعسر فكاكه ، والقطين الأهل الساكنون معاً . أي قلبه قد اتبع هؤلاء الراحلين هؤلاء القطين الذين كانوا معهم في الحي قد ساروا واتبعهم فؤادهم فهو بحبه لهم أسير مكبل عندهم . هذا آخر الفصل الخامس .
تعليق :
لأن قلبه مرهون عند المحبوبة وأسير لقطينها الراحل ، فإن الشاعر لا يستطيع إلا أن القطين الراحل ، الحي الذي رحل بمحبوبته . وقد فعل ذلك . ولأنه هذه المرة مضطر إلى قطع مسافات رمال الصحراء البعيدة ، فقد ركب ناقة وأسرعت به وهي قوية قادرة على قطع المفازة العظيمة والشاعر يشبهه بالثور الوحشي ويصور شدة نشاطها ويزعم أن هذا الثور حفت به كلاب الصيد ، وحاول رميه صاحبها ولكنه نجا وانطلق فلا يجري شيء مثل جريه ـ ناقتي كهذا الثور بنشاطه ونجاته هو أيضاً رمز لنفسه ولدفاعه عنها وانتصاره على خصمه .
(51)ومن هنا يبدأ الفصل السادس وفيه وصف الرحلة على الناقة والثور الوحشي . يقول سويد : فكأني مندفعاً(14) فوق راحلتي وقد جرى السراب في الضحى عند بدء الحر في الاشتداد وارتفاع الشمس وسطوعها ، كأنني على ظهر ثور وحشي طويل الذيل (ذيال) وفي خديه خطوط حمر ضاربة إلى السواد . الأسفع هو الذي كأنه محروق بالنار خالط حمرته لون سواد .
السفع بالتحريك والسفعة السواد الضارب للحمرة. والثور الوحشي لونه أبيض إلا وجهه وقوائمه ، وجهه فيه سفع وكذلك قوائمه .
(52)كُفَّ خَدَّاهُ على دِيبَاجَةٍ
وَعلى المَتْنَينِ لَوْنٌ قد سَطَعْ(83/32)
الديباج نوع من الثياب فاخر يضرب إلى السواد والحمرة . خدَّا هذا الثور كأنَّما كُفٌا أي ضُمَّ على ديباجة ، أي كأنهما قطعة من الديباج مضمومة، لحمرتهما الضاربة إلى السواد أو سوادهما الضارب إلى الحمرة، وعلى المتنين أي على جانبي الظهر لون قد سطع أي قد بدا باهراً ساطعًا بياضه في ضوء الشمس .
(53)يَبْسُطُ المَشْيَ إذَا هَيَجْتَهُ
مِثْلَ ما يَبْسُطُ في الخَطْوِ الذَّرَعْ
الذرع هو العجل الصغير وهو نشيط يبسط خطوه مرحاً ولعبًا لصغره ومرحه . يقول هذا الثور الوحشي يبسط المشي أي يسرع فيه ويشتد إذا هيجته ويكون في وثبه ونشاطه واتساع خطواته شبيهًا بالذَّرع وهو ولد البقرة الصغير . وهذا الوصف بحركة النشاط المرحة كما ينطبق على الثور الوحشي ينطبق على راحلته المشبهة بالثور الوحشي ، وينطبق على الشاعر نفسه لأن نشاط راحلته طرف من نشاطه هو .
ولاشك قد تنبهت لاستعمال الشاعر للفظ " يبسط " وتكرار هذا اللفظ في القصيدة . جعله أول الأمر لرابعة المحبوبة . ثم لقومه بني بكر " بسط الأيدي " ثم الآن للثور الوحشي "يبسط المشي إذا هيجته " .
(54)هذا الثور الناشط فاجأه فراعه أي أخافه صائد من بني طييء ، وكانوا معروفين بجودة الرمي ، من أسهم يرمي بها ومعه ضراء أي كلاب ضارية متعودة على الصيد ، مدربة ، واحدها ضرو للذكر وضروة للأنثى وضريت الكلب تضرية دربته ليكون ضارياً بالصيد .
يقول هذا الصياد معه قوسه وأسهمه ومع ذلك كلابه الدوارب بالصيد ، الضارية المعودة عليه ، التي تبرهن بقوة جريها على مقدرتها الفائقة وتبلي أوتار الصائد أحسن البلاء أي تعطيه عن مقدرتها أجود دليل . تقول اختبرت فلانًا فأبلى بلاءً حسنًا أي فجاز الاختبار بتفوق.(83/33)
الشرع بكسر الشين وفتح الراء جمع شرعة وهي الوتر في القوس ومنه يكون الرمي . وإذا أراد الصائد إغراء كلابه بالثور ، وشد الوتر ورمى فأرنَّ كان ذلك علامة يغري بها كلابه ، فهن ينطلقن وراء الثور مع انطلاق السهم ويبلين بجريهن أحسن البلاء ، ويبرهن للأوتار التي ترسل السهام أنهن سريعات كالسهام، أنهن أيضًا هن سهام يبارين السهام نفسها في السرعة وفي صدقهن الاندفاع إلى الصيد .
تقول بلوته أي اختبرته فأبلى أحسن بلاء . وبلا الصائد كلابه يبلوهن أي اختبرهن فأبلين أحسن البلاء . وبلت الشرع الكلاب أي اختبرتها حين أُرسلت مرمية عنها السهام فأبلتها الكلاب وكن يبلينها بسرعة جريهن أي يعطينها نتائج نجاح باهر من السرعة.
وهذه مبالغة لأن الكلب لا تبلغ سرعته سرعة السهم ، ومن قبل قد جعل سويد خيله كالسهام التي يغلي بها في الرمي فقال في البيت (26)
كالْمَغَالِي عارِفَاتٍ لِلسُّرَي
مُسْنَفَاتٍ لَمْ تُوَشَّمْ بالنِسَعْ
(55)فرأى الثور الكلاب ولم يستبنهنّ إما بسبب الغبار الذي أثاره جريهن وإما لبعض الضعف في بصره إذ جنس الظباء موصوف ببعض الضعف في بصره .
و" كلاب الصيد فيهن جشع " أى حرص وإفراط في شهوة ما سيكون لهن طعامًا لأن الصائد سيعطيهن لحم الثور متى الصيد عليه .
(56)لما تبينهن الثور وأيقن أنهن يردن صيده ولى هاربًا وحوله جنابان من غبار أكدري اللون أي فيه كدره الغبار ثم بعد اندفاعه الجري الأولى اتدع أي سكن وهدأ شيئًا ولم يجتهد(83/34)
فقد زادت الألف لتحاذي الفاصلة التي قبلها: بصيرًا، والتي بعدها : شديدًا،وقوله تعالى:( فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا( (الأحزاب67) فقد زاد حرف الألف ، وأصلها: السبيلَ ، لتحاذي الفاصلة التي قبلها والتي بعدها ، وقوله تعالى: ( يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا الله وأَطَعْنَا الرَّسُولا ( (الأحزاب 66) بزيادة الألف لتحاذي بقية فواصل السورة(1).
ومن مظاهر المحاذاة الصوتية عن طريق الزيادة في القرآن الكريم إثبات هاء السكت في قوله تعالى: ( مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ،هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَه( (الحاقة 28، 29) فأصل ماليه: مالي، وأصل سلطانيه: سلطاني ، ثم زادت هاء السكت لتحدث المحاذاة مع الفاصلة التي قبلها والتي بعدها؛ في قوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ
إنِّي ظَنَنْتُ أنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ((الحاقة
18 ،19 ،20).
وكذلك في قوله تعالى ( وَمَا أَدْرَاكَ
مَاهِيَه ( وأصلها : ما هيَ، وزادت الهاء لتحاذي ما قبلها : فأمه هاوية ، وما بعدها: ( نَارٌ حَامِيَةٌ ((القارعة 9، 10 ،11).
ومن ذلك قوله - - صلى الله عليه وسلم - - : "ليس في حَجْرة ولا بَغْلة زكاة"؛ والحَجْر: الفرس الأنثى ، لم يدخلوا فيه الهاء؛ لأنه اسم لا يشركها فيه المذكر ، والجمع : أحجار، وحُجُورة،وحُجُور، وإلحاق الهاء هنا لمشاكلة كلمة : بَغْلة، وهو باب واسع(2).
وجاء في التاج: سأل الرشيد اليزيدي والكسائي عن قصر الشراء ومده، فقال الكسائي : مقصور لا غير، وقال اليزيدي: يُمدُّ ويُقصر، فقال له الكسائي: من أيْن لك ؟ فقال اليزيدي: من المثل السائر: لا يُغترُّ بالحُرَّة عام هدائها، ولا بالأَمَة عام
شرائها ، قال المناوي : ولقائل أن
يقول إنما مدّ الشراء لازدواجه مع ما قبله فيحتاج لشاهد غيره(1).(84/1)
ومن أمثال العرب التي تحققت فيها المحاذاة بالزيادة قولهم : "لا يُنْبِتُ البَقْلَة إلا الحَقْلَة" (2)؛ أي لا يلد الوالد إلا مثله، وقال الأزهري : يُضرب مثلاً للكلمة الخسيسة تخرج من الرجل الخسيس، وقال ابن سيده: وأراهم أنَّثوا الحقلة في هذا المثل لتأنيث البَقْلة، وبذلك تتحقق المحاذاة بينهما عن طريق زيادة تاء التأنيث .
وفي حديثه - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا عُمَيْر، ما فَعَل النُّغَيْر؟" والنُّغَر طائر صغير مثل العصفور، وبتصغيره جاء الحديث (3)، وإنما صغَّره الرسول - صلى الله عليه وسلم - رغم أن الكلمة تدل على الطائر الصغير لكي تحاذي كلمة: "عُمَيْر" قبلها . ومن مظاهر المحاذاة الصوتية عن طريق الزيادة قوله تعالى : ( ولو شاء الله لسلَّطهم عليكم فلقاتلوكم( (النساء 90)
فقد زادت اللام في "فلقاتلوكم" لمحاذاة اللام في "لسلطهم" وهي جواب "لو" ، فالقياس: لسلَّطهم عليكم فقاتلوكم، وإنما زادت اللام للمحاذاة، ومثله قوله تعالى: (لأُعذّبنَّه عذابًا شديدًا أو لأذبحنَّه أو ليأتينِّي بسلطان مبين ( (النَّمْل21)، فاللام في "لأعذبنَّه ، لأذبحنّه " لام القسم، أمَّا اللام في "ليأتينِّي" فإنما جاءت للمحاذاة، فليس هذا موضع قسم ، لكنه لما جاء على إثر ما يجوز فيه القسم أُجرى مجراه(4) .
ومن ذلك قوله تعالى : ( يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلا أنفُسَهُمْ((البقرة9) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: "وما يخادعون" بزيادة الألف لمحاذاة اللفظ الأول، وبذلك تكون المفاعلة من الجانبين(5).
ومن مظاهر المحاذاة الصوتية عن طريق الزيادة إدخال (ال)التعريف
على العلم؛ وذلك في قول الشاعر:
رأيْتُ الوليدَ بنَ اليزيدِ مباركًا
والأصل : الوليد بن يزيد؛ ولكنه أدخل (ال) عليها لتحاذي كلمة: الوليد قبلها، قال ابن جرير: حسَّن دخول اللام في اليزيد الإتباع للوليد(1).(84/2)
4- الإمالة : مصدر الفعل : أملته وأميله إمالة ، والميل: الانحراف عن القصد؛ يقال: مال الشيء، ومال الحاكم: إذا عدل عن الاستواء. والإمالة في الاصطلاح عدول بالألف عن استوائه وجنوح به إلى الياء، فيصير مخرجه بين مخرج الألف المفخَّمة وبين مخرج الياء(2).
وقد تُتَّخذ الإمالة وسيلة من وسائل تحقيق المحاذاة الصوتية بين الكلمات؛ ففي القرآن الكريم قُرِئ بالإمالة ( والشَّمْسِ وضُحَاهَا ( (الشمس1) ، والضحى اسم مقصور وهو جمع ضحوة كقرية وقُرى، والقياس يأبى الإمالة؛ لأنه من الواو
وليس فيه كسرة، وإنما أمالوه حين قُرن بـ : جلاَّها ، ويغشاها وكلاهما مما يُمال لأن الألف فيهما من الياء، لقولك: جلَّيته، وكذلك ألف يغشى، لقولك في التثنية : يغشيان، فأرادوا المشاكلة ، ولو انفردت كلمة الضحى وحدها لم تمل، وإنما أُميْلَتْ لازدواج الكلام حين اجتمع مع ما يُمال(3).
وكما أمالوا في "الشمس وضحاها" أمالوا أيضًا في : "والضحى، والليل إذا سجى" وذلك لتحقيق المحاذاة بين الكلمات.
وقد أمالوا الفتحة في قوله تعالى:( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أولى الضرر ( (النِّساء 95) في كلمة الضَرَر وكذلك في قوله تعالى: ( وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ (( آل عمران 40)،وفي قولهم: من الضرر، ومن الكبر، ومن الصغر ، ومن المحاذر، والفتحة تُمال كما تُمال الألف، لأن الغرض من الإمالة هو(84/3)
مشاكلة الأصوات وتقريب بعضها من بعض، وذلك موجود في الحركة كما هو موجود في الحرف؛ لأن الفتحة من الألف، وقد كان المتقدمون يسمون الفتحة الألف الصغيرة، والضمة الواو الصغيرة، والكسرة الياء الصغيرة، لأن الحركات والحروف أصوات، وإنما رأى النحويون صوتًا أعظم من صوت فسموا العظيم حرفًا والضعيف حركة، وإن كانا في الحقيقة شيئًا واحدًا، فلذلك دخلت الإمالة في الحركة كما دخلت الألف؛ إذ الغرض إنما هو تجانس الأصوات وتقريب بعضها من بعض، فكل ما يوجب إمالة الألف يوجب إمالة الحركة التي هي الفتحة، وما يمنع إمالة الألف يمنع إمالة الفتحة، وأكثر ما جاء ذلك مع الراء المكسورة، تقول: من الكبر، ومن الصغر... إلخ فأمالوا الفتحة بأن أجنحوها إلى الكسرة فصارت بين الفتحة وبين الكسرة(1).
5- فكُّ ما استحقَّ الإدغام :
كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه لنسائه: "ليت شِعْري أيتكُنَّ صاحبةُ الجملِ الأَدْبَبِ، تخرج فتنبحها كلابُ الحوْأَب" ؟ أراد : الأَدَبّ ، وهو الكثير الوبر؛ وإنَّما فكَّ التضعيف ليوازن ويحاذي به كلمة: الحوْأب(2).
القسم الثاني : المُحاذاة الصرفية
نعني بها: تغيير يطرأ على بنية الكلمة وصيغتها لكي تتفق مع كلمة سابقة عليها أو لاحقة بها في الوزن الصرفي، ومن خلال حصر الألفاظ التي تحققت فيها المحاذاة الصرفية يمكن تصنيفها في عدة صور: مجيء المشتق على غير قياس، والجمع على غير قياس، وتحويل المجرد إلى مزيد والعكس، والاستغناء بالمفرد عن المثنى أو الجمع والعكس، وإيثار بعض صيغ المشتقات ، والإتباع.
أولا: مجيء المشتق على غير قياس:
كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "أعيذه من كلِّ عامَّة ولامَّة ومن شرِّ كلِّ سامَّة "قال أبو عبيد:ولم يقل مُلِمَّة،(84/4)
وأصلها من ألْمَمْتَ بالشيء تأتيه وتلمُّ به؛ ليزاوج قوله:"ومن شرِّ كلِّ سامّة"(1)، وقال ابن فارس: ومثله قولهم: "أعوذ بك من السامّة واللامَّة ، فالسامة من قولك: سَمَّتْ إذا خصَّتْ، واللامّة أصلها من ألمّت، وكان حقُّه أن يقول: من السامّة والمُلِمَّة، لكن لما قُرنَتْ بالسامة جُعلت في وزنها(2).
وجاء في الخبر: "خير المال سِكَّة مأبورة،أو مُهْرة مأمورة" والسّكة : السطر من النخل، والمأبورة: الملقَّحة، والمهرة المأمورة:كثيرة الولد، أراد: خير المال ما كان زرعًا أو نتاجًا، والفعل من: مأمورة آمر ، وكان القياس يقتضي أن يقول: مُؤْمَرة، وإنما أتى بها :مأمورة، فلما ازدوج اللفظان جاءوا بمأمورة على وزن مأبورة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ارجعن مأزورات غير مأجورات ، وإنما هو موزورات من الوِزْر(3).
ومن المحاذاة الصرفية عن طريق
مجيء المشتق على غير قياس قول النابغة الذبياني:
كِليني لهمٍّ يا أميمةُ ناصبِ
... وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِ
فالفعل من :ناصب: أنصب، وكان القياس أن يُشتق اسم الفاعل منه على: مُنْصِب، ولكنه أراد تحقيق المحاذاة مع: الكواكب، بدليل قول أبي طالب: ألا مَنْ لِهَمٍّ آخر الليل مُنْصِبِ(4). وناصب : مُتْعِب، وفعله : أنصب ، فهو من الوصف الذي لم يجر على فعله، وجاء على معنى: ذي نصب(5). ومن ذلك أيضًا : هو البشير النذير ، وكان القياس يقتضي أن يُقال : المُبشِّر؛ لأنها من الفعل : بَشَّر، والمُنْذِر؛ لأنها من الفعل أنذر ، ولكن حدثت المحاذاة بين الكلمتين عن طريق مجيئهما على غير قياس .
ويقول الثعالبي : ومن سنن العرب أنها قد تحذف من الكلام بعضه لتتحقق المحاذاة ؛ كما في قولهم : ليلٌ
نائمٌ ؛ أي يُنام فيه، وليلٌ ساهرٌ ؛ أي يُسهر فيه، وفي القرآن الكريم: ( في يوم عاصفٍ (؛ أي يومٌ عاصفُ الرِّيح، وقد حدث الحذف لتتحقق المحاذاة (1) .
ثانيًا : الجمع على غير قياس :(84/5)
قد يجمع العرب الكلمة على غير قياس لتحاذي كلمة قبلها أو بعدها، يقول ابن فارس: ومن سنن العرب المحاذاة، وذلك أن تجعل كلامًا ما بحذاء كلام فيؤتى به على وزنه لفظًا وإن كانا مختلفين؛ فيقولون : الغدايا والعشايا، فقالوا: الغدايا، لانضمامها إلى العشايا(2).
وفي اللسان : وقالوا : إني لآتيه بالغدايا والعشايا، والغداة لا تُجمع على الغدايا ، ولكنهم كسَّروه على ذلك ليطابقوا بين لفظه ولفظ العشايا، فإذا أفردوه لم يكسِّروه.
وقال ابن السّكِّيت في قولهم: إني لآتيه بالغدايا والعشايا ، قال : أرادوا
جمع الغداة فأتبعوها العشايا للازدواج، وإذا أفرد لم يجز، ولكن يُقال : غداة والجمع غدوات لا غير (3) .
ومن ذلك أيضًا قول القُلاخ بن حُبابة، وقيل ابن مُقْبل :
هَتَّاكِ أخبيةٍ ولاَّجِ أبوبةٍ
... يخلطُ بالبرِّ منه الجِدَّ واللِّينا
فكلمة : باب تُجمع قياسًا على أبواب وبيبان؛ وإنما قال أبوبة للازدواج لمكان أخبية، ولو أفرده لم يَجُزْ ، وكان الوزير ابنُ المَغْرَبِيِّ يسألُ عن هذه اللفظة على سبيل الامتحان، فيقول: هل تعرفُ لفظة تُجمع على أَفْعِلة على غير قياس جمعها المشهور طلبًا للازدواج، يعني هذه اللفظة ؛ وهي أبوبة (4).
ثالثًا:تحويل المجرد إلى مزيد والعكس:
قد يتحوَّل الفعل المجرد إلى فعل مزيد، وقد يتحول المزيد إلى مجرد لتحقيق المحاذاة بين كلمتين ، ومن
ذلك ما جاء في الصِّحاح:قال الفرَّاء: يُقال : هنأني الطعام ومَرَأني، والفعل مرأ تحوَّل إلى مجرد، وأصله: أمرأني، فإذا أتبعوها كلمة هنأني قالوها بغير الألف ، فإذا أفردوها قالوا:أمرأني بزيادة الهمزة في أوله(1).
وفي اللسان : قالت العرب: أكلتُ طعامًا فهنأني ومرأني ، معناه إذا أُفْرِد: أمرأني ، فحذف منه الألف لما أُتبع ما ليس فيه الألف (2) .(84/6)
ومن ذلك أيضًا قول العرب: له عندي ما ساءه وناءه، والفعل : ناء لا يتعدى،والقياس أن يقال: أناءه ، وإنما حذف الهمزة ليحاذي الفعل: ساءه، وفي اللسان: أراد ساءه وناءه، وإنما قال : ناءه وهو لا يتعدى ، لأجل: ساءه ، فهم إذا أفردوا قالوا: أناءه، لأنهم إنما قالوا : ناءه، وهو لا يتعدى لمكان ساءه ليزدوج الكلام(3) .
وأما تحويل المجرد إلى مزيد من أجل تحقيق المحاذاة ما قاله الكُميت :
أَبْرِقْ وأَرْعِدْ يا يزيـ
... ـد فما وعيدُك لي بضائِرْ
فالفعلان:أبرق،وأرعد مجردان:بَرَق، ورَعَد، ففي حديث أبي مُلَيْكة:" إنَّ أمَّنا ماتت حين رَعَد الإسلام وبَرَق" بغير همزة، والأمر منهما:ابْرُق،وارْعُد،كما يقول ابن أحمر :
يا جُلَّ ما بَعُدَتْ عليكَ بلادُنا
فاْبْرُقْ بأرضِكَ ما بدا لَكَ وارْعُدِ
ولم يكن الأصمعي يرى بيت الكُميت حُجَّة؛ لأنه عنده مولّد ، وإنما قال : أَبْرِقْ، وأَرْعِدْ للازدواج ، ولتحقيق المحاذاة بين الفعلين (4) .
ومثله قوله عليه الصَّلاة والسلام: "مَنْ حفَّنا أو رفَّنا فليقتصد"؛ أي مَنْ خدمنا أو أطعمنا ، وكان الأصل: أتحفنا، فأتبع حفَّنا رفَّنا(5). وتحقق بهما معًا المحاذاة.
رابعًا:الاستغناء بالمفرد عن المثنى أو الجمع والعكس :
قد تتحقق المحاذاة بين الكلمات عن طريق
الإتيان بالمفرد في موضع التثنية أو الجمع، ومن ذلك قوله تعالى : ( فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ( (1)(طه 117)،وكان القياس يقتضي: فتشقيا إلا أن الحس الجمالي في القرآن الكريم أبي إلا أن يحقق المحاذاة بين الفواصل القرآنية ؛ في الآية السابقة عليها: إلا إبليس أبى ، والآية التالية: ألا تجوع فيها ولا تعرى .(84/7)
ومن ذلك قوله تعالى : ( إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ((2)(القمر 54) كان القياس يقتضي أن تُجمع على : أنهار ، لجمع جنَّات، ولكن الفاصلة في السورة من أولها إلى آخرها تنتهي بالراء وقبلها حرفٌ متحرِّك،حتى عنوان السورة:القَمَر، فجاءت الآيات منسجمة في نهاية بديعة، وقد تحققت المحاذاة بين الكلمات التي انتهت بها كل آية ، وكقوله تعالى:( وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا( (3)(النِّساء 69)،والقياس رُفقاء . وإنما استغنى بالمفرد : رفيقًا عن الجمع : رُفَقَاء لتحقيق المحاذاة
الصرفية، والتزام الفاصلة قبلها وبعدها، وكذلك قوله تعالى : ( وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ((4) (التحريم 4)، وكان القياس يقتضي جمع كلمة: ظهير جمعًا سالمًا أو مُكسَّرًا على: ظهيرون، أو ظُهَراء، ولكنه استغنى بالمفرد عن الجمع لتحقيق المحاذاة (5).
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: ( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا( (6)(الفرقان 74) قال أبو عبيدة: إمامًا هو واحد يدل على الجمع كقول المسيب بن زيد الغنوى: في حلقكم عظمًا وقد شُجينا ، حيث وضع الحلْق موضع الحلوق، و "إن المتقين في جنات ونهر" ، وكان القياس يقتضي جمع إمام على أئمة، واجعلنا للمتقين أئمة، ولكن المحاذاة بين نهايات الآيات هي التي جعلت المفرد في موضع الجمع أو المناسبة .
والمناسبة أمر مطلوب فى اللغة العربية، يرتكب لها أمور من مخالفة
الأصول؛ يقول ابن الصائغ: وقد تتبعت الأحكام التى وقعت فى آخر الآى مراعاةً للمناسبة فعثرت منها على نيِّفٍ وأربعين حكمًا (1)(84/8)
ومن ذلك أيضًا قول العرب: أقبل الحاجُّ والداجُّ ، والحاجُّ الذين يحجُّون، والداجّ الذين معهم من الأُجراء والمكارين والأعوان ونحوهم،وهذان اللفظان وإن كانا مفردين فالمراد بهما الجمع، كقوله تعالى: ( مستكبرين به سامرًا تهجرون((المؤمنون 67)، وإنما وُضع المفرد موضع الجمع لتحقيق المحاذاة بين الكلمتين: الحاجُّ والداجّ ، ولا تتحقق لهما لو جُمعا (2).
ومن مظاهر الاستغناء بالمفرد عن المثنى في القرآن الكريم من أجل الفاصلة قوله تعالى:(إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا((3) (الشمس 12) فإنهما رجلان:قُدار وآخر معه،ولم يقل:أشقياها، للفاصلة، ولتحقيق المحاذاة بين الآيات .
أما من مظاهر الاستغناء بالمثنى عن المفرد قوله تعالى : ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ( (4)(الرحمن 46)قال الفرَّاء : أراد جنَّة ، كقوله تعالى: ( فَإنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ( (5) ، فثنى لأجل الفاصلة، والقوافي تحتمل من الزيادة والنقصان مالا يحتمله سائر
الكلام (6) . ومنه قوله تعالى: ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ( (7)، فاللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من الماء المالح لا من العذب ، ولكنه استغنى بضمير المثنى: "منهما" عن الإفراد والتفصيل؛ لتظل الفاصلة القرآنية وتتحقق المحاذاة (8) . ومن مظاهر الاستغناء بالجمع عن المفرد لتحقيق المحاذاة قوله تعالى : ( لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ ( (9)، والقياس :ولا خُلَّة، كما في الآية الأخرى: (لا بَيْعٌ فيه ولا خُلَّةٌ ولا شَفَاعةٌ( (البقرة 254) ، وإنما جاء بالجمع للفاصلة والمحاذاة.
خامسًا : إيثار بعض الصيغ :(84/9)
قد تؤثر اللغة بعض الصيغ دون بعض؛ لأنه من خلالها تتحقق المحاذاة بين الكلمات ؛ ففي القرآن الكريم : ( وَالتّينِ والزَّيْتُونِ ، وَطُورِ سِينِينَ ، وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ( (1) ،فقد آثر القرآن: سينين على الأصل : سيناء، وذلك لتحقيق المحاذاة بين الفواصل القرآنية: التين، سينين ، الأمين . ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسيًّا( (2)، فقد آثر صيغة فعيل على فاعل من أجل الفاصلة . وقوله تعالى:(إنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ( (3) باستعمال صيغة فُعال وإيثارها على فعيل .
وقد يؤثر القرآن الكريم وضع "فاعل" موضع "مفعول" والعكس؛ ففي قوله تعالى: (حِجَابًا مَّسْتُورًا( (4) وُضع "مفعول" موضع "فاعل" والمعنى حجابًا ساترًا، وفي قوله تعالى : ( إنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا( (5) وُضع أيضًا "مفعول"
موضع "فاعل"؛ والمعنى : إنه كان وعده آتيًا.
وقد يقع "فاعل" موقع "مفعول" في قوله تعالى: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ((6) والمعنى في عيشة: مرضيَّة، وفي قوله تعالى: (مِن مَّاءٍ دَافِقٍ( (7) والتقدير: مدفوق .
وإيثار بعض هذه الصيغ جاء لتحقيق الفاصلة، وكذلك لتحقيق المحاذاة بين نهايات الآيات، ومنه قوله تعالى : (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا( (8) ، والتقدير: مأمونًا فيه ، فجعل الفاعل مكان المفعول، وقوله تعالى:( وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً( (9) ، والتقدير : مُبْصَرًا بها، فقد جعل اسم الفاعل في موضع اسم المفعول (10) .
وقد تتحقق المحاذاة بإيثار صيغة الجمع للعاقل على صيغة الجمع لغير العاقل ، أي بإجراء غير العاقل مجرى العاقل ، كما في قوله تعالى:(84/10)
(رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ((1)؛فقد أجرى الشمس والقمر والكواكب مجرى العاقل،وكذلك قوله تعالى:( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ((2). فأسند للفعل واو الجماعة، وعامل الليل والنهار معاملة العاقل ، كل ذلك من أجل تحقيق المحاذاة ومراعاة الفواصل(3).ومن مظاهر المحاذاة أيضًا العدول عن صيغة الماضي إلى صيغة الاستقبال من أجل الفاصلة والمحاذاة ؛ كما في قوله تعالى :
(فَفَرِيقًا كَذّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ( (4) ، والقياس كان يقتضي : وفريقًا قتلتم(5).
ومن ذلك تذكير اسم الجنس أو تأنيثه حسب ما تقتضيه المحاذاة ، كما في قوله تعالى : ( أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِر((6)، وقوله تعالى:( أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاويَة( (7)، فاستعمل في الأولى : منقعِر لتحاذي ما قبلها وما بعدها من آيات ، واستعمل في الثانية : خاوية للسبب نفسه، فسورة القمر فواصلها:
الراء، وسورة الحاقة: فواصلها التاء المربوطة ، وبذلك تحققت المحاذاة في اللفظ والمعنى أيضًا (8) .
سادسًا : الإتباع :يُعدُّ الإتباع صورة من صور المحاذاة الصرفية وهو من سنن كلام العرب،وقد عرَّفه أحمد بن فارس بقوله: هو أن تتبع الكلمةُ الكلمةَ على وزنها أو رويّها إشباعًا وتأكيدًا ، وقد سُئل بعض العرب عن ذلك فقال : هو شيء نَتِدُ به كلامنا ، وذلك قولهم: ساغبٌ لاغبٌ ، وهو خَبٌّ ضبٌّ ، وخرابٌ يبابٌ ، وقد شاركت العجمُ العربَ في هذا الباب(9) . وفي كتاب الإتباع والمزاوجة يقول ابن فارس : هذا كتاب الإتباع والمزاوجة ؛ وكلاهما على وجهين : أحدهما أن تكون كلمتان متواليتان على رويٍّ واحد ، والوجه الآخر : أن يختلف الرويَّان ، ثم تكون بعد ذلك على وجهين أحدهما: أن تكون الكلمة الثانية ذات معنى معروف ، إلا أنها
كالإتباع لما قبلها ، والآخر : أن تكون الثانية غير واضحة المعنى ولا بنية الاشتقاق (1).(84/11)
وقد عقد أبو علي القالي للإتباع بابًا هامًا في أماليه ، وجعله على ضربين : ضرب يكون فيه الثاني بمعنى الأول فيؤتى به توكيدًا ؛ لأن لفظه مخالف للفظ الأول؛ وضرب فيه معنى الثاني غير معنى الأول(2).
ولن نتحدَّث عن الإتباع الذي تمَّ دون تغيير صرفي للكلمة التابعة للسابقة عليها، وإنما يهمنا الكلمة التي خالفت القاعدة أو القياس الصرفي من أجل أن تحقق المحاذاة مع الكلمة السابقة عليها(3).
ومن المحاذاة الصرفية التي تحققت عن طريق الإتباع بمخالفة القياس قول العرب:هو أسوانٌ أتوانٌ، فأسوان من قولهم: أسى الرجل يأسى: إذا حزن ، وأسوان؛ أي حزين، وأتوان من قولهم : أتيته، ومعنى
قولهم : أسوان أتوان: حزين متردد يذهب ويجيء من شدة الحزن؛ وكان القياس يقتضي أن يُقال : أسوان أتيان؛ ولكن قلبت الياء واوًا على لغة هذيل التي تقلب الواو ياءً ؛ ودليلنا قول خالد بن زهير الهذلي :
يا قومِ ما بالُ أبي ذؤيب
... كنتُ إذا أتوتُه من غَيْبِ
ويقول العرب : شيطانٌ ليطانٌ ، وليطان مأخوذ من قولهم: لاط يلوط؛ أي لصق، ويُقال : للولد في القلب لوطة، أي حب لازق ، ومعنى قولهم: شيطان ليطان؛ شيطان لصوق، وكان القياس يقتضي أن يُقال : شيطان لوطان، ولكن قلبت الواو ياء لتحقيق المحاذاة بين الكلمتين . ويقول العرب: عييٌّ شيىٌّ ، وشَيِيٌّ أصله: شوىٌّ ، ولكنه أُجْرِىَ على لفظ الأول ليكون مثله في البناء .
ويقول العرب: خبيثٌ نبيثٌ ، النبيث هو الذي ينبث شرَّه ؛ أي
يُظهره، وكان قياسه أن يقول: خبيث نابثٌ ، فقيل: نبيث لمجاورته لخبيث .
ويقول العرب : فَدْمٌ لدْمٌ ، والفدْم: العيي البليد ، واللَّدْم ، أصلها : اللَّطْم ، بالطاء، وهو الملطوم، كما قالوا : ماء سَكْب؛ أي مسكوب ، ودرهم ضرْب أي مضروب ، وقد أُبدلت الطاء دالاً لتشاكل الكلام وتحقق المحاذاة .(84/12)
ويقول العرب: حَسَنٌ بَسَنٌ، وبَسَنٌ أصلها : بسٌّ ، وبسَّ السويق بسًّا إذا لتَّه بسمن أو زيتٍ ليكمل طيبه، وقد حُذِفت إحدى السينين وزيدت فيه النون، وبُنى على مثال : حَسَنٌ ، ومعناه: حسن كامل الحسن، إذ مذهبهم في الإتباع أن تكون أواخر الكلم على لفظ واحد ، مثل القوافي والسجع ، ولتكون مثل : حَسَن.
ويقول العرب: حَسَنٌ قسَنٌ ، وقَسَنٌ أصلها : قَسٌّ ، والقَسُّ : تتبع الشيء وطلبُه ، فكأنه حَسَنٌ مقسوس ؛ أي متبوع مطلوب، ثم عُمل بقسّ ما عُمل ببسّ ، فحذفت إحدى السينين
وزادت فيه النون وبنى على مثال : حَسَنُ (1).
ويُقال : "لبَّيْك وسعديك" ، أي إسعادًا لك بعد إسعاد ، وقد أُضيف إليها الياء والكاف لتحاذي : لبَّيْكَ وإذا أُفردت لا تأتي على هذه الصيغة ، قال سيبويه : كلام العرب على المساعدة والإسعاد ، غير أنَّ هذا الحرف جاء مُثنَّى على سَعْدَيْك ولا فِعْل له على سَعِد (2) . ويُقال : "اللهمَّ سَمْعًا لا بَلْغًا" يُضرب هذا المثل في الخبر لا يُعجب؛ أي نسمع به ولا يتم، وكلا الكلمتين جاء على غير قياس ؛ فالسَّمْع مصدر وُضع موضع المفعول؛ أي : مَسْموع، والبَلْغ مصدر كذلك وُضع موضع الفاعل؛ أي : بالغ، ونُصبت الكلمتان على تقدير : اجعله؛ أي الخبر مسموعًا لا بالغًا ، ورُوي المثل بالرفع كذلك : "سَمْعٌ لا بَلْغٌ " على حذف المبتدأ (3) .
ويقولون : هَنِيءٌ مَرِيءٌ،وهو من قولهم: هَنَأَني الطعام ومَرَأَنِي فإذا
أفردوا لم يقولوا إلا أمرأني ، ولم يقولوا : مرأني (1).
ويُقال تفرَّقت إبله شِذَر بِذَر؛ أي تفرقت في كل وجه ، ويٌقال : شَذَربَذَر، بفتح الشين والباء، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن عمر - رضي الله عنه - شَرَّد الشِّرْكَ شَِذَرٌ مَِذَرٌ – بفتح الشين والميم وكسرهما-، وأصلهما في اللغة: الشَّذْر ، والبَذْر (2) ، ولكن لما كُسرت الشين كُسرت معها الباء، ولما تحركت الذال في الأولى تحركت في الثانية .(84/13)
ومن المحاذاة الصَّرفية عن طريق الإتباع قوله عليه الصلاة والسلام "عَقْرَى حَلْقَى" أي عقرها الله، وأصابها بوجع في حلقها، وأصحاب الحديث يقولون: عَقْرَى حَلْقى بوزن غضبى، حيث هو جارٍ علىالمؤنث ، والمعروف في اللغة التنوين على أنه مصدر فعل متروك اللفظ تقديره: عقرها الله عَقْرًا وحَلَقَها الله حَلْقًا ،
وإنما جاء على فَعْلى للمحاذاة(3) .
القسم الثالث : المُحاذاة النحوية:
وهي على أربعة أنواع: محاذاة في علامات الإعراب؛ الرفع ، والنصب والجر، على نحو:هذا جُحْرُ ضبٍّ خَرِبٍ، ومحاذاة عن طريق التقديم والتأخير، على نحو تقديم شبه الجملة على المفعول به في قوله تعالى: (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ بِهِ عَلَيْنا تَبِيعًا( [الإسراء 69] من أجل تحقيق المحاذاة ومراعاة الفاصلة القرآنية ، وهناك محاذاة عن طريق الحذف ، على نحو حذف المفعول به في قوله تعالى:(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى( [ الليل 5 ] ، وقوله تعالى: ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى( [الضحى 3 ] ، وأخيرًا هناك المحاذاة عن طريق إتباع ضمير المذكَّر لضمير المؤنَّث .
أولا: المحاذاة في علامات الإعراب :
ونعني بهذا أن الكلمة قد تُكسر أو تُفتح أو تُضم لا حَسَب موقعها الإعرابي
من الكلام ، وإنما يحدث ذلك تبعًا للكلمة التي قبلها، ليحدث بهما معًا المحاذاة أو الموازاة ؛ وقد عقد لها الثعالبي فصلاً في كتابه فقه اللغة وسر العربية؛ وسمَّاه : فصل في الحمل على اللفظ والمعنى للمجاورة ، والعرب تفعل ذلك فتقول : هذا جُحْرُ ضبٍّ خربٍ ، والخرب نعت الجُحْر لا نعت الضب ، ولكنَّ الجوار حُمِل عليه،كما قال امرؤ القيس :
كأنَّ ثبيرًا في عرانين وَبْلِهِ
... كبيرُ أناسٍ في بجادٍ مُزمَّلِ
فالمُزَمَّل نعت للشيخ لا نَعْت للبجاد، وحقه الرفع ولكن خفضه للجوار، وكما قال آخر:
يا ليْت شيخك قدْ غدا
... متقلِّدًا سيفًا ورُمْحَا(84/14)
والرُّمح لا يُتقلَّد ، وإنما قال ذلك لمجاورته السيف، وفي القرآن الكريم : ( فأجْمِعوا أمرَكم وشركاءَكم( (يونس71)، لا يُقال : أجمعتُ الشركاء،وإنما يُقال : جمعتُ شركائي
وأجمعت أمري،وإنما قال ذلك للمجاورة.
وعامة العرب تقول : جاء البردُ والأكسيةُ ، بضم الأكسية على أنها معطوفة على البرد، أو بنصبها على أنها مفعول معه؛ والتقدير : جاء البرد مع الأكسية ، والأكسية لا تجيء؛ ولكنْ للجوار حقٌّ في كلام العرب (1).
ومن المحاذاة النحوية قول الأخطل:
جزى الله عنِّي الأعورَيْن ملامةً
... وفروةَ ثَفْرَ الثورةِ المتضاجمِ
والمتضاجم من صفة الثَّفْر إلا أنه خفضه على الجوار كما قال امرؤ القيس: كبيرُ أناسٍ في بجادٍ مُزمَّلِ(2) .
ومن المحاذاة النحوية نقل حركة الإعراب إلى ما قبلها في الوقف؛ نحو: هذا بكْر، ومررت ببكْر، وفي ذلك يقول ابن جني: وأجازوا النقل لحركة الإعراب إلى ما قبلها في الوقف؛نحو:هذا بكْرْ ، ومررت ببكْر ألا تراها لما جاورت اللام بكونها في العين، صارت لذلك كأنها في اللام لم
تفارقها (1).
ومن مظاهر المحاذاة النحوية قول الحطيئة:
فإياكم وحيَّةَ بطن واد
... هَمُوزِ الناب ليس لكم بسى
فيمن جرّ : ( هموز الناب ) على أنها نعت لـ: بطن، أو وادٍ؛ على الرَّغم من أنها نعت لـ: حيَّة ، وقول العجاج :
كأنَّ نسْج العنكبوت المُرْمَلِ .
وإنما صوابه: المُرْمَلا لأنه نعت لكلمة: نَسْج لا نعت لكلمة: العنكبوت ، وأما قوله: كبيرُ أناس في بجاد مزمَّل
فقد يكون أيضًا على هذا النحو من الجوار (2). ومن المحاذاة النحوية: ما أنشده أبو زيد:
من أيِّ يومَيَّ من الموتِ أفِرُّ
... أيومَ لم يُقْدَرَ أم يومَ قُدِرْ .
بفتح الراء في :يُقْدَرَ ، أراد أيَوْمَ لم يُقْدَرْ أم يومَ قُدِر، ثم خفف همزة "أم" فحذفها وألقى حركتها على راء(84/15)
(يقدر ) فصار تقديره: أيوم لم يُقْدَرَمْ ، ثم أشبع فتحة الراء فصار تقديره: أيوم لم يُقْدَرَ امْ، فحرَّك الألف لالتقاء الساكنين ، فانقلبت همزة ، فصار تقديره: يُقْدَرَ أم ، واختار الفتحة إتباعًا لفتحة الراء (3) .
ومن المحاذاة النحوية : قول العرب: أشْرِقْ ثبيرْ، كيما نغيرْ (4) ، أي نُدْفَع للنحر؛ فلما سُكِّنت كلمة : ثبيرْ ، كان لابد من تسكين الفعل المضارع المنصوب: نغيرْ، لكي تحدث المحاذاة بين الكلمتين : ثبيرْ، نُغيرْ. ومن ذلك قوله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام( (النِّساء1) فقد قرأ حمزة " والأرحامِ " بكسر الميم محاذاة للهاء في "به"(5). ومن ذلك قول الشاعر :
تَرَاهُ كأنَّ اللهَ يَجْدَعُ أنْفَهُ
... وعَيْنَيْه إِنْ مَوْلاهُ ثابَ لَهُ وَفْرُ(6)
فقد عطف " عينيه " على " أنفه" لتحقيق المحاذاة،والقياس : يجدع أنفه،
ويفقأ عينيه،ومثل ذلك ما أنشده الفرَّاء:
عَلَفْتُها تبنًا وماءً باردَا
... حتَّى شَتَتْ هَمَّالةً عَيْنَاهَا (1)
فقد حاذى بين كلمتي : تبنًا وماءً، وأصلها : علفتها تبنًا ، وسقيتها ماءً ، وقال آخر :
إذا ما الغانياتُ برزْنَ يومًا
... وَزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونَا
حاذى بين: الحواجب والعيونا في النصب، فالعيون لا تُزَجَّجُ ، وإنما أراد: وزجَّجْنَ الحواجبَ ، وكحَّلْنَ العيونا(2)
وما إتباع صفة المنادى للمنادى في الإعراب إلا صورة من صور المحاذاة النحوية؛ لأنه من باب جعل الاسم والصفة فيه بمنزلة اسم واحد؛ وفي هذا يقول سيبويه : هذا باب ما يكون الاسم والصفة فيه بمنزلة اسم واحد ينضم فيه قبل الحرف المرفوع حرف وينكسر فيه قبل الحرف المجرور الذي ينضم قبل المرفوع ،
وينفتح فيه قبل المنصوب ذلك الحرف، وهو : ابنم ، وامرؤ ، ومثل ذلك قولك: يا زيدَ بنَ عمروٍ ، وقال الراجز: يا حَكَمَ بنَ المُنْذِرِ بنِ الجارُودْ. وقال العجَّاج: يا عُمَرَ بنَ مَعْمَرٍ لا مُنْتَظَرْ (3) .(84/16)
وقال ابن يعيش في شرح المفصَّل : لما كثر إجراء (ابن) صفة على ما قبله من الأعلام إذا كان مضافًا إلى علم أو ما يجري مجرى الأعلام من الكنى والألقاب، فلما كان (ابن) لا ينفك من أن يكون مضافًا إلى أب وأم وكثر استعماله ، استجازوا فيه من التخفيف ما لم يستجيزوه مع غيره، فحذفوا ألف الوصل من (ابن) لأنه لا ينوي فصله مما قبله إذ كانت الصفة والموصوف عندهم مضارعة للصلة والموصول من وجوه ، وحذفوا تنوين الموصوف أيضًا ، كأنهم جعلوا الاسمين اسمًا واحدًا لكثرة الاستعمال، وأتبعوا حركة الاسم الأول حركة
الاسم الثاني ، لأنك عقدت الصفة والموصوف وجعلتهما اسمًا واحدًا، وصارت المعاملة مع الصفة والموصوف كالصدر له، ولذلك لا يجوز السكوت على الأول(1).
ومن المحاذاة النحوية قول الفرزدق:
ولكِنَّ نِصْفًا لو سَبَبْتُ وسَبَّني
بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ من مَنافٍ وهَاشِمِ
فهاشم في البيت معطوف على:بنو عبد شمس لا على مناف،وإنما كُسِر للجوار(2).
وما الإبدال في قوله تعالى :( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ( بنَصْب صراط على أنها بدل من الصراط ما هي إلا صورة من صور المحاذاة النحوية؛ لأنه يجوز فيها الرفع على الابتداء، ولكن المحاذاة جاءت أفضل، ومثله قوله تعالى:(لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ،نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ( بإتباع " ناصية " الثانية
للأولى "الناصية" ،ومنهم من قرأ قوله تعالى: (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئةٍ تقاتل في سبيل الله ( (آل عمران 13)بجرِّ كلمة "فئة" وهي قراءة مجاهد والحسن البصري والزهري وحميد ، والجر على وجهين: على الصفة ، وعلى البدل (3) ، ومن ذلك قول كُثيِّر عزة :
وكُنْتُ كذِيْ رِجْلين : رِجْلٍ صحيحةٍ
... ورِجْلٍ رمى فيها الزمانُ فَشُلَّتِ
فحاذى بين كلمة : رِجْلَيْن ، وكلمتي : رِجْل في الجر، وكان يمكنه أن يرفع على الابتداء ، ولكنه آثر المحاذاة(4).(84/17)
ومما ورد مجرورًا على الجوار في القرآن الكريم قوله تعالى: ( عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإسْتَبْرَقٌ( [الإنسان21]، فقد قرأ حمزة والكسائي وخلف العاشر بخفض : خُضْر، وإستبرق على الجوار لكلمة : سندس، ومن توجيهات النحاة لجر كلمة :
خضر : أنها نعت لسندس، وأما إستبرق فهي عطف نسق على سندس(1) . ومن مظاهر المحاذاة النحوية في علامات الإعراب صرف ما لا ينصرف ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيرًا( [ الإنسان 4 ]، فقد قرأ نافع والكسائي وأبوجعفر وهشام بالتنوين، وذلك للتناسب وتحقيق المحاذاة : سلاسلاً،أغلالاً، سعيرًا ، وقوله تعالى: ( وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ، قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ( [الإنسان 15 ،16]، قرأ نافع وشعبة والكسائي وأبو جعفر بتنوينهما معًا: قواريرًا. قواريرًا، وبذلك تحققت المحاذاة بينهما (2) ومن ذلك قراءة عاصم وغيره :( وَجِئْتُك مِن سَبَأٍ بنَبَأ يَقينٍ( [النمل22]،بتنوين كلمة: سبأ لتحاذي ما بعدها: نبأ.(3) ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لبلال بن رباح: "أنفِقْ بلالاً ، ولا تَخْشَ من ذي
العرش إقلالا" فقد صرف كلمة: بلالا لتحاذي كلمة: إقلالا، كما استعملها على الأصل: مفعول به، وليس: منادى مبنى على الضم؛ لأنه علم؛ والأصل في المنادى أنه في محل نصب مفعول به (4) ،ومن المحاذاة النحوية في باب التوكيد قول الشاعر:
يا صَاحِ بَلِّغْ ذَوِي الزوجاتِ كلِّهِمُ(84/18)
أنْ لَيْس وَصْلٌ إذْا انحلَّتْ عُرَى الذَّنَبِ. فقد جرَّ كلمة: كلِّهم، وكان القياس يقتضي النصب، لسببين : لأن الكلمة توكيد لذوي وليست توكيدًا للزوجات ، ولأنها لو كانت توكيدًا للزوجات لقال: كلهنّ ، وإنما الذي حمله على الجر هو المحاذاة؛ أي لكي تحاذي كلمة : الزوجات في الجر (5) . وفي باب الجزم ذهب الكوفيون إلى أن جواب الشرط جُزم لمجاورته المجزوم؛ وهو فعل الشرط؛ كما في قوله تعالى: (ومن يفعلْ ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة(
(الفرقان 68 ) ؛ فقد جُزم : يفعل لاسم الشرط مَنْ ، وجُزم : يلق لمجاورته: يفعلْ ، وجُزم الفعل: يضاعفْ على البدل لمجاورته الفعلين: يفعلْ ، يلق، وقد كان أبو علي الفارسي ينشد في مثل ذلك: "قد يؤخذ الجار بجرم الجار"(1) .
ومن المحاذاة النحوية بسبب الجوار في باب التأنيث قولهم: "الشمس طلعت" فإنه لا يجوز حذف تاء التأنيث؛ لأن الفعل جاور الضمير المستتر، وكذلك قولهم: قامت هند؛ لا يجوز حذف التاء؛ لمجاورتها للاسم الظاهر الحقيقي التأنيث، فلو فصلت بينهما جاز حذفها ، وما كان ذلك إلا لأجل المجاورة (2) .
ومن الدليل على تحقيق المحاذاة مراعاة للقرب والمجاورة قولهم: خَشَّنْتُ بصدرِه وصدرِ زيدٍ،فقد أجازوا في المعطوف:صدر وجهين ، الخفض والنصب ، الخفض على أنه معطوف على المجرور بالباء : بصدره ،(84/19)
والنصب على أنه مفعول به للفعل خشَّن، ولكنهم اختاروا الخفض هنا؛ لأن الباء أقرب إلى الاسم المعطوف من الفعل ؛ فكان الإعمال للثاني أولى للقرب والمجاورة؛ وفي ذلك يقول ابن يعيش : اختار البصريون في باب التنازع إعمال الثاني؛ لأنه أقرب إلى المعمول، فرُوعِيَ فيه جانب القرب وحرمة المجاورة. ومما يدل على رعايتهم جانب القرب والمجاورة أنهم قالوا : هذا جُحْرُ ضبٍّ خربٍ ، وماءُ شنٍّ بارِدٍ، فأتبعوا الأوصاف إعراب ما قبلها وإن لم يكن المعنى عليها؛ لأن الضب لا يوصف بالخراب والشن لا يوصف بالبرودة ، وإنما هما من وصف الجُحْر والماء (3) .
ثانيًا:المحاذاة النحوية عن طريق الحذف:
مثل حذف المفعول به في قوله تعالى:
(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى([ الليل5] ، فالفعلان:أعطى ، واتقى متعديان يحتاجان إلى مفعول به، ولكن حُذف
هذا المفعول لتتحقق المحاذاة بين الآيات السابقة عليها واللاحقة لها، وقوله تعالى: ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى([ الضحى3] فالفعل: قلا من الأفعال المتعدية ، والقياس: وما قلاك. ولكن حُذف المفعول به لتتحقق المحاذاة ، وتتسق الفاصلة . ومن ذلك حذف مُتعلِّق " أفعل التفضيل " نحو قوله تعالى: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى([طه7]، والتقدير : وأخفى من السرِّ،وقوله تعالى: ( وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى([الأعلى17]، والتقدير : خير وأبقى من الدنيا (1) .
ومن ذلك حذف الفاعل ونيابة المفعول،نحو قوله تعالى:( وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى([الليل 19]، فالفعل: تُجزَى استتر فيه المفعول؛ الذي ناب عن الفاعل، والتقدير : يَجْزى اللهُ النعمة (2) .
ثالثًا : التقديم والتأخير : تتحقق المحاذاة النحوية عن طريق تقديم المعمول على العامل ، كما في قوله(84/20)
تعالى: ( أَهَؤُلاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ( [سبأ 40] ، والتقدير كانوا يعبدون إياكم، وفي قوله تعالى: (إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ( [الفاتحة5]، والتقدير : نعبدك ونستعينك، وفي قوله تعالى : (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ( [القمر41]، والتقدير : ولقد جاء النُّذُر آل فرعون ، ومن ذلك تقديم خبر كان على اسمها ، نحو: ( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفوًا أَحَدٌ( [الإخلاص4] ، والتقدير:ولم يكن أحدٌ كفوًا له ، ومنه تقديم ما هو متأخِّر في الزمان،كما في قوله تعالى:(فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى( [النجم25] ، ولولا مراعاة الفواصل والمحاذاة لقُدِّمت كلمة "الأولى" كما في قوله تعالى: ( لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ( [القصص70]، ومن ذلك تقديم الفاضل عل الأفضل، كما في قوله تعالى: ( آمَنَّا بِرَبِّ هَرُونَ وَمُوسى( [طه 70]، ومن ذلك تقديم الضمير على ما يفسِّره نحو قوله تعالى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى([طه 67] (3) ، ومن
ذلك تقديم النعت الجملة على النعت المفرد؛ كما في قوله تعالى: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا([الإسراء 13]، فكلمة : كتابًا نُعتت أولاً بالجملة الفعلية:يلقاه ، ثم نُعتت بالمفرد: منشورًا مراعاة للفاصلة، وتحقيقًا للمحاذاة (1) . ومن ذلك أيضًا تأخير الوصف غير الأبلغ عن الوصف الأبلغ، كما في قوله تعالى : (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(وقوله تعالى: ( رَءُوفٌ رَّحِيمٌ( [التوبة 128]؛لأن الرأفة أبلغ من الرحمة(2) . ومن ذلك تقديم شبه الجملة على المفعول به؛ كما في قوله تعالى: ( ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا([الإسراء 69]، فقد جمع بين المجرورات: لكم ، به، علينا، لأن الفاصلة اقتضت تأخير المفعول به: تبيعًا(3).
رابعًا:إتباع ضمير المُذكَّر لضمير المؤنث:
من الوسائل النحوية التي تحققت(84/21)
بها المحاذاة إتباع ضمير المذكر لضمير المؤنث في قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم رَبَّ السموات السبع وما أظللْن ، وربَّ الأرضين وما أقللن، وربَّ الشياطين وما أَضْلَلْنَ" والقياس يقتضي : وما أضلّوا بضمير الذكور؛ لأن الشياطين من مذكر مَنْ يعقل، وإنما أتت بنون النسوة إتباعًا لكلمتي : أظللن ، أقللن (4)،وكذا ما جاء في حديث المواقيت : "أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم - وقَّت لأهل المدينة ذَا الحُلَيْفة ولأهل الشام الجُحْفة، ولأهل نجد قَرْن المنازل ، ولأهل اليمن يَلَمْلَم هُنَّ لَهُنَّ ولِمَنْ أتى عليهنَّ من غيرهنَّ ممن أراد الحج والعمرة " ، والقياس: هنَّ لهم؛ أي لأهل ذي الحُلَيفة وما ذُكِرَ معها ، وإنما قيل: لهنَّ إتباعًا لقوله: هنَّ(5) .
رجب عبد الجواد إبراهيم
كلية الآداب – جامعة حلوان
أهم المصادر والمراجع :
1-ابن أبي الإصبع المصري : بديع القرآن ، تحقيق د. حفني محمد شرف،
مكتبة نهضة مصر ، القاهرة ، الطبعة الأولى،1957.
- تحرير التحبير ، تحقيق د. حفني محمد شرف ، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، القاهرة ، 1995.
2-ابن الجزري: تقريب النشر في القراءات العشر، تحقيق إيراهيم عطوة عوض، دار الحديث ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، 1992م .
3-ابن السكِّيت: إصلاح المنطق، تحقيق عبد السلام هارون وأحمد محمد شاكر ، دار المعارف ،القاهرة ، 1987م.
4-ابن جنِّي : - الخصائص ، تحقيق محمد على النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثالثة ، 1986م.
-المحتسب ، تحقيق على النجدي ناصف وعبد الحليم النجار وعبد الفتاح شلبي، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، 1994م .
-المنصف، تحقيق محمود مصطفى وعبد الله أمين، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1954م.
5-ابن خالويه : - الحجة في القراءات السبع، تحقيق عبد العال سالم مكرم، دار الشروق، القاهرة،1987م.(84/22)
- إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم، مكتبة المتنبي ، القاهرة ،د.ت.
6-ابن دريد: جمهرة اللغة، حيدر آباد، الهند، 1345هـ.
7-ابن سيده: المخصص، دار الكتاب الإسلامي ، القاهرة ، د.ت.
8-ابن فارس : - الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، تحقيق عمر فاروق الطباع ، مكتبة دار المعارف، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1993م.
-الإتباع والمزاوجة ، تحقيق كمال مصطفى ، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1947م.
9-ابن قتيبة : - تأويل مشكل القرآن، تحقيق السيد أحمد صقر، دار التراث ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، 1973م.
- أدب الكاتب، تحقيق على فاعور، دار الكتب العلمية، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1988م.
10-ابن مجاهد : - كتاب السبعة في القراءات ، تحقيق د. شوقي ضيف،دار المعارف ، القاهرة، الطبعة الثانية ، 1400 هـ .
11-ابن مكي الصقلي : - تثقيف اللسان وتلقيح الجنان، تحقيق د. عبد العزيز مطر، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1995م.
12-ابن منظور: - لسان العرب، طبعة دار المعارف ، القاهرة ، د.ت.
13-ابن هشام الأنصاري : - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت ، الطبعة الأولى، 1999م.
14-ابن يعيش : - شرح المفصل ، مكتبة المتنبي، القاهرة، د.ت.
15-أبو البقاء الكفوي: - الكليات ، تحقيق محمد المصري وعدنان درويش ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، الطبعة الثانية ، 1993م.
16-أبو جعفر الرعيني : - تحفة الأقران فيما قُرئ بالتثليث من القرآن، تحقيق على حسين البواب ، دار المنارة،جدّة، الطبعة الأولى، 1987م.
17-أبو حيان الأندلسي: - البحر المحيط ، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلى محمد معوض ، دار الكتب العلمية، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1993م.
18-أبو الطيب اللغوي : الإتباع ، تحقيق عز الدين التنوخي ، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق ، 1961م.(84/23)
19-أبو علي الفارسي : - الحجة في علل القراءات السبع، تحقيق على النجدي ناصف وعبد الحليم النجار وعبد الفتاح شلبي ، ومراجعة محمد على النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983م.
20-أبو علي القالي : - الأمالي، والذيل عليها ، والتنبيه للبكري، دار الجيل ودار الآفاق الجديدة ، بيروت ، الطبعة الثانية ، 1987م.
21-أبو هلال العسكري : - كتاب الصناعتين ،تحقيق على البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم ، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة ، الطبعة الأولى، 1952م.
22-البخاري: - الجامع الصحيح، تحقيق طه عبد الرءوف سعد، دار الحرم للتراث ، القاهرة ، 2000م.
23-الثعالبي : - فقه اللغة وسر العربية ، تحقيق سليمان سليم البواب، دار الحكمة ، دمشق، الطبعة الثانية ، 1989م.
24-الجوهري: - تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الثالثة، 1984م.
25-الحريري:دُرَّة الغوَّاص، شرحها وحواشيها وتكملتها ، تحقيق وتعليق عبد الحفيظ فرغلي، دار الجيل، بيروت ، الطبعة الأولى، 1996م.
26-الدمياطي البنَّاء: - إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر، وضع حواشيه الشيخ أنس مهرة، دار الكتب العلمية ، بيروت، الطبعة الأولى ، 1998م.
27-رضي الدين الأستراباذي: - شرح شافية ابن الحاجب، مع شرح شواهده، تحقيق محمد نور الحسن ومحمد الزفزاف ومحمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر العربي، بيروت، 1975م.
28-الزَّبيدي: - تاج العروس من جواهر القاموس، دار صادر مصورة عن المطبعة الخيرية، القاهرة ، 1307هـ.
29-الزمخشري:- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، رتبه وضبطه وصححه مصطفى حسين أحمد، دار الريان للتراث؛ الطبعة الثالثة،1987م.
- أساس البلاغة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الثالثة، 1985م.(84/24)
30-سيبويه: - الكتاب، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الثالثة،1988م.
31-السيوطي: الأشباه والنظائر في النحو،دار الكتب العلمية،بيروت،د.ت.
-المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق محمد أحمد جاد المولى، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي البجاوي ، دار التراث، القاهرة، الطبعة الثالثة، د.ت.
- الإتقان في علوم القرآن ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار التراث، القاهرة ، الطبعة الثالثة، 1985م.
الشنقيطي : - الدرر اللوامع على همع
الهوامع، وضع حواشيه محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت ، الطبعة الأولى،1999م.
32-عبد القادر البغدادي:- خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، تحقيق عبد السلام هارون، المطبعة الأميرية، القاهرة، 1299 هـ.
33-الفارابي: - ديوان الأدب، تحقيق د.أحمد مختار عمر، ومراجعة د.إبراهيم أنيس ، مطبوعات مجمع اللغة العربية، القاهرة ، 1974م.
34-الميداني : - مجمع الأمثال ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة السعادة ، القاهرة ، 1959م.(84/25)
... ScOrPiOnE ... S c O r P i O n E 4IH ? ژ ےے "(85/1)
البدل فى الجملة العربية
دراسة فى ضوء علم اللغة النفسى
للأستاذ الدكتور علي محمد المدني
بلغ علم اللغة الحديث مبلغا عاليا من التطور بتشعبه إلى فروع عديدة ، منتفعا في ذلك بغيره من العوم الحديثة التى اتصل بكثير منها بسبيل أو آخر، معتمدا في تحقيق هذا الاتصال على المناهج العلمية الحديثة. ولعل من أهم العلوم التى استعان بها علم اللغة الحديث : علم النفس ، وعلم الاجتماع العام ، وعلم الأجناس البشرية ، وعلم الوراثة ، وعلم الحياة العام ، وعلم وظائف الأعضاء وعلم التشريح ، والفيزياء ، والتاريخ ، والجغرافيا، وغيرها (*) .
... وتقتصر هذه الدراسة على صلة علم اللغة بعلم النفس، ونقتصر من علم اللغة على النحو العربى، ونقتصر من النحو العربى على باب البدل متخذين منه، نموذجا دراسيا تطبيقيا،فى مجال علم اللغة النفسى.
ولقد خصص هذا الباب بهذه الدراسة، لما يبدو فيه من وثيق الصلة ببعض مظاهر السلوك النفسى الذى يعنى به علم النفس .
... ومبلغ علمى أنه لا توجد دراسات تطبيقية في هذا المجال ، بمعنى أننى لم أقع على شىء من المحاولات العلمية، التي تعنى بإبراز الجوانب النفسية فى باب من أبواب النحو العربى . هذا من جانب ومن جانب آخر هذا الجهد محاولة للنفوذ إلى دراسة البنية العميقة فى الجملة البدلية فى اللغة العربية ، بواسطة الكشف عن الإيماءات النفسية التى يمكن التوصل إليها ، من خلال تحليل البدل بالاعتماد على تعريف النحاة به أولا ، وتتبع وظيفته فى الكلام ثانيا ، ومحاولة الكشف عن الموقف النفسى لكل من المتكلم والسامع ثالثا .
...
والملاحظ أن الدراسات العربية التطبيقية فى علم اللغة النفسى تتوجه غالبا إما إلى لغة الطفل ، أو إلى عيوب النطق، أو إلى بعض الظواهر اللغوية العامة، وهى مع ذلك قليلة فى عمومها بالنظر إلى سعة جهود الغربيين فى هذا الحقل (1) .(86/1)
... ويحسن بنا أن نقدم لهذه الدراسة ببيان صلة علم اللغة بعلم النفس . وهى صلة وثيقة جدا ، فعلم النفس يدرس القواعد العامة التى تحكم سلوك الإنسان بوجه عام ، وأما علم اللغة ، فإنه يتناول نوعا واحدا من أنواع السلوك ، وهو اللغة التى يتكلم بها الإنسان (2) .
واللغة عبارة عن مجموعة أصوات لها مدلولات معينة ، يتعارف عليها كل من المتكلم والسامع ، عن طريق
عمليات عقلية متعددة منها : الوعى والإدراك والتذكر والفهم والمعرفة وغيرها من العمليات العقلية، التى يعنى بها علم النفس فى حين يعنى علم اللغة بالعبارات المنطوقة (3) التى تكون مجموعة أصوات ، يرتبط بها عند كل من السامع والمتكلم ـ تصور ذهنى لغوى .
ويتبين من هذا أن مهمة علم اللغة موجهة إلى الرسالة التى يريد المتكلم أن ينقلها إلى السامع ، فى حين أن من مهمات علم النفس دراسة العمليات العقلية التى تسبق إنتاج الرسالة (4) .
ويرى علماء النفس أن اللغة هى الوسيلة التى يمكن بوساطتها تحليل أى صورة أو فكرة ذهنية إلى أجزائها أو خصائصها ، بحيث يمكن تركيب هذه الصورة مرة أخرى فى أذهاننا ، أو
أذهان غيرنا ، بوساطة تأليف كلمات ووضعها فى ترتيب خاص (1) .
ولا ريب أن المواقف النفسية التى يمر بها كل من المتكلم والسامع لها أثرها البالغ فى التعبير والاستيعاب ، فقد تكون جمل المتحدث منتظمة أو مضطربة ، وقد يسرد كلامه سريعا أو بطيئا (2) وفى المقابل قد يستوعب المتلقى كل ما يسمعه ، وقد يستوعب بعض ما يسمعه من محدثه . وكل ذلك تبعا لصفاته الذهنية ، وحالته النفسية من انتباه وغفلة ، أو ذكاء وجهل ، أو راحة وقلق ، أو غيرها من الصفات والمواقف النفسية المختلفة التى يظهر أثرها واضحا فيما يطلق عليه " اللغة الانفعالية " وذلك في مقابل " اللغة النحوية " التى تعنى بسلامة التركيب ، وفقا لقواعد معينة .
ويرى بعض الدارسين أن اللغة(86/2)
الانفعالية هذه أسبق ظهورا من اللغة النحوية،( وهذا واضح فى لغة الطفل )حيث يتم التعبير عن الفكرة فى بدايتها تعبيرا مختلطا بعناصر انفعالية ، قد تضطرب فيها القواعد النحوية ، ثم يتلاشى الانفعال تدريجيا إلى أن يظهر الكلام واضحا مترابطا ، محكما بالقواعد النحوية (3).
... على أن هذه اللغة الانفعالية لاتنفصل بأى حال عن اللغة النحوية، وإن اضطربت القواعد والألفاظ عند المتكلم أحيانا ، فى حالات الانفعال .
... هذا وقد تطورت الدراسات اللغوية النفسية فى السنوات الأخيرة تطورا واضحا ، بحيث ظهر فرع مستقل من فروع الدراسات اللغوية ، عرف بعلم اللغة النفسى ، أو علم النفس اللغوى(4) (Psycholinuistics) الذى يعزى الفضل فى نشأته إلى عالمى
النفس ميلر (George Miller) وأزجود(1)
. (Charles Osgood)
ولكن بعض الدراسين يرى أن التأسيس الحقيقى لهذا الفرع،يرجع الفضل فيه إلى تشومسكى (Chomsky 1975و1965و1975) الذى عنى به عناية كبيرة فاتضحت معالمه علي يديه،إلى درجة أن بعض اللغويين يرى أنه من الصعوبة بمكان الخوض فى مجال علم اللغة النفسى من غير رجوع إلى بعض مؤلفات تشومسكى(2) . ... ولو رجعنا إلى كتاب جان بروشا(jan Prucha ) الموسوم مصادر المعلومات فى علم اللغة النفسى (Information Sources in Psycholinguistics) ؛
لتبين لنا سعة حقول الدراسة فى هذا العلم، فهناك علم اللغة النفسى العام ،
وعلم اللغة النفسى التطبيقى، وفروع اللغة النفسى بمختلف مباحثه كالأسلوبية،والتفكير اللغوى، والسلوك اللغوى النفسى، والأصوات اللغوية النفسية ، والكتابة النفسية أو علم نفس الكتابة باعتبارها وسيلة اتصال(3)، والدلالات اللغوية النفسية ، والجوانب النفسية فى القواعد النحوية أو علم النفس النحوى،إن صح التعبير.(86/3)
... وهذا الفرع الأخير من علم اللغة النفسى هو الذى يعنينا فى هذه الدراسة، وبمعنى آخر سوف نتناول الجانب النفسى المتصل بالبدل فى اللغة العربية، من غير أن ندخل فى تفاصيل باب البدل على النحو المبثوث فى كتب النحو العربى؛ فذلك أمر قد كفيناه قديما وحديثا(4). وسنكتفى من
هذا الباب بما يخدم الدراسة اللغوية النفسية إن شاء الله .
... تعددت تعريفات النحويين للبدل، ولكنها كلها محصورة فى معنى واحد، يدل على أن البدل هو التابع المقصود بالحكم ـ قصدا مستمرا ـ بلا واسطة (*)، نحو سافر أبو عمرو زيد، فالمقصود بالحكم هنا هو زيد وليس أبا عمر .
... وابتداء يلاحظ فى هذا التعريف لفظ " القصد " يعنى قصد المتكلم الذى يوجه خطابه إلى متلق يسمعه. والقصد شعور وتصور ذهنى فى باطن النفس والجملة السابقة تركيب لغوى سليم، وقد يبدو فيها الإشكال بادىء ذى بدء فتتعدد احتمالات المعانى فيها بين قصد المتكلم ، وفهم المتلقى، وسياق الكلام، والموقف الذى قيلت فيه، فيمكن من خلال ذلك كله ومن خلال النفوذ إلى البنية العميقة فى التركيب ـ أن نخرج باحتمالات منها:
1-أن كلا من المتكلم والسامع يعرف
أن هناك أكثر من شخص يكنى بأبى عمرو، فينصرف التصور الذهنى إلى عدة أشخاص، فيأتى البدل ليحسم المعنى مؤكدا ومقرر أن واحدا ممن يكنون بأبى عمرو هو مقصود المتكلم.
2-وربما اعتمد المتكلم على البدل فى كلامه بسبب تردد طرأ على نفسه، لشكه فى علم السامع أن أبا عمرو هو زيد ، فيقطع هذا الشك بالبدل .
3-وفى مثل هذه الحالات من التردد ربما تنطلق الجملة فى البداية بسيطة من فعل وفاعل هكذا سافر أبو عمرو، وسرعان ما يتذكر المتكلم أن مخاطبه لا يعرف أبا عمرو، ولكنه يعرف زيدا. وعقب هذا الإدراك يأتى الكلام ـ بعد سكتة على ( عمرو) ـ متبوعا بالبدل ، ليزيل اللبس الذى علق بذهن المخاطب .(86/4)
4-وقد يصدرالكلام على النحو الذى يريده المتكلم، ولكن بصورة لاشعورية، فيستخدم البدل مثلا من غير أن يتعمده، أى بصورة عفوية.
وبمعنى آخر ينطلق فى سلوكه اللغوى هذا بدافع لاشعورى عام. وهو "الدافع الذى لا يشعر به الفرد أثناء قيامه بالسلوك أيا كان السبب فى عدم الشعور به"(1) . وبهذا المعنى العام يفسر كثير من الحاجات والاتجاهات النفسية والعادات الدافعة ومستوى الطموح ومستوى الطموح، على أساس أنها دوافع لاشعورية (2) .
... وعلى هذا النحو من التفسير النفسى للغة ، يمكن القول إن الإنسان كثيرا ما يعبرعما فى نفسه لاشعوريا. فعندما يقال :( سافر أبو عمرو زيد ) قد يحمل المعنى على أحد الاحتمالات الثلاثة السابقة ، وقد لايحمل على أحدها بل يحمل على دافع اللاشعور ، وهو احتمال رابع .
... ومن هذا كله يتبين أن اللغة فى عمومها تتعلق بعمليات نفسية مختلفة، يعيشها صاحبها قبل أن يظهرها منطوقة. وتبدأ هذه العمليات النفسية بمجرد شعور المتكلم بالحاجة إلى
توصيل رسالة ما إلى سامعه، ثم يستتبع هذا الشعور التفكير فى طريقة التعبير عن هذه الحاجة، وقد يمر بتردد فى إخراج العبارة( الرسالة )، كما أنه يحتاج إلى تذكر معرفة علم السامع بالمتكلم عنه. وربما قفزت صياغة الفكرة إلى لسانه لا شعوريا من غير تفكير .
... وقد فطن أسلافنا إلى مثل هذه العوارض النفسية التى تمر بالمتكلم، ففسروا البدل على أساسها، يذهب الصيمرى فى تفسير( بدل بعض من كل )ويسميه (بدل الشىء من الشىء وهو بعضه) إلى أنه يحتمل وجهين:
"أحدهما أن يكون الكلام مبنيا على الثانى الذى هو البدل، إلا أنه كرر ذكره توكيدا، وذلك أن القائل قد يقول:رأيت قومك،وهو يريد البعض، فيفهم ذلك عنه.وإذا قال:رأيت قومك أكثرهم، فقد ذكر البعض الذى قد كان يجوز أن يعلم من غير ذكره توكيدا..
... والوجه الثانى : أن يكون(86/5)
المتكلم لم يقصد البدل فى أول كلامه، إنما بدا له أن يبين ما أراد بعد الاقتصار على الأول فذكر البعض للتبيين"(1) .
... وبأدنى تأمل إلى الوجه الثانى فى تفسير الصيمرى، يتبين أن ثمة ترددا يساور المتكلم، فيجعله يوضح كلامه بمزيد بيان .
... وهذا التردد ـ كما يفسره علماء النفس ـ ما هو إلا رد الفعل الظاهر لما هو معروف بالتنافر المعرفى(Cognitive dissonanace)(2). على أن التردد والعفوية ليس هو التفسير الوحيد فى لجوء المتكلم إلى البدل فى كلامه، فقد قرر أسلافنا أن المقصود بالبدل هو بيان الحكم وتوكيده وتقريره، لأن فيه إسناد الشىء مرتين: مرة إلى المبدل منه،وأخرى إلى البدل.قال
ابن عصفور: " البدل إعلام السامع بمجموع اسمين أو فعلين على جهة تبيين الأول أو تأكيده"(3). فمثال التبيين قولك: حضر المعلم زيد. ومثال التأكيد قولك:جدع زيد أنفه، إذا كان المقصود هو قطع الأنف خاصة، فإذا أتيت بلفظ الأنف فقد أكدته .
... ويؤكد علماؤنا هذين المعنيين فى البدل، حين يطلقون عليه "التبيين"(4)و"التفسير"و"الترجمة"لأنه ترجمة عن المراد بالمبدل منه، وتفسير وتبيين له وتكرير(5) "ذلك لأن الشىء يكرر بلفظه، أو بغير لفظه للتوكيد.
... وتلك هى وظيفة البدل فى العربية، إذا استثنينا منه البدل المباين، لأن المراد من هذا النوع هو ما باين فيه البدل المبدل منه على نحو ما
سيأتى. قال الصيمرى موضحا وظيفة
البدل فى اللغة:
... "اعلم أن البدل يجىء فى الكلام على تقدير وقوعه موقع الأول، من غير إلغاء الأول، وإبطال الفائدة بذكره، ولكن على أن البدل قائم بنفسه، غير مبين عن الأول بيان النعت الذى هو تمام المنعوت.
والدليل على هذا أنك إذا قلت: زيد رأيت أخاه عمرا)، جعلت (عمرا) بدلا من الأخ، فلو كان التقدير إزالة الأخ وإبطال الفائدة به،لكان تقدير اللفظ:زيد رأيت عمرا،وهذا فاسد، فقد بان بأن البدل غير مبطل للمبدل منه.(86/6)
... وإنما الفائدة بذكر البدل، أن الشىء الواحد قد يكون له أسماء مشتقة من معان، فيشتهر ببعضها عند قوم، وببعضها عند آخرين، فإذا جمعتها فى لفظك فقد بينته من جميع وجوه البيان، ألا ترى أنه قد يعرف بعض الناس أخا زيد بعينه ولا يعرف
اسمه، وبعضهم يعرف اسمه ولا
يعرف أنه أخو زيد؟ فإذا قلت: زيد رأيت أخاه عمرا، فقد جمعت له الاسم والأخوة، فعرفه من لم يعرفه من الجهتين جميعا، فكذلك إذا قلت:مررت بزيد رجل صالح، فقد يجوز أن يعرف زيدا، ولا يعلم أنه رجل صالح، فقد ذكرت صلاحه ليعرفه المخاطب كما عرفته"(*).
وهذا الذى ذهب إليه الصيمرى، من أن البدل لا يعنى إلغاء المبدل منه، لا يصلح فى البدل المباين ـ كما سيأتى ـ وإن صح فى بقية أقسام البدل .
والبدل المباين ثلاثة أقسام هى: الغلط والنسيان والإضراب ، وهذه الأقسام الثلاثة من البدل المباين، تجعله من أظهر الموضوعات النحوية المتصلة بالجانب النفسى فى النحو العربى، وذلك مسوغ يدعونا للوقوف عليه وقفة متأنية.
وأقسام البدل المشهورة أربعة هى:
1-بدل المطابقة(أو بدل كل من كل)
2-بدل بعض من كل
3-بدل الاشتمال
4-البدل المباين
... وهناك قسم خامس، اختاره السيوطى ـ خلافا لجمهور النحاة ـ وهو بدل كل من بعض(1).
... والقسم الذى يعنينا كثيرا من هذه الأقسام فى هذه الدراسة هو البدل المباين بأنواعه الثلاثة: بدل الغلط وبدل النسيان، وبدل البداء أو الإضراب. وقد جمع ذكرها سيبويه بقوله:
... "وإنما يجوز رأيت زيدا أباه ، ورأيت زيدا عمرا ، أن يكون أراد أن يقول: رأيت عمرا، أو رأيت أبا زيد، فغلط أو نسى، ثم استدرك كلامه بعد، وإما أن يكون أضرب عن ذلك فنحاه، وجعل عمرا مكانه"(2).
... وإذا ما تأملنا السلوك النفسى وجدنا أن الغلط والنسيان والبداء أو الإضراب ، من أشهر مظاهره التى(86/7)
عنى بها علماء النفس، وأفردوها بالدراسة النظرية والتجريبية. ومن هنا كان التلاحم بين النحو باعتباره فرعا من فروع علم اللغة، وبين علم النفس الذى يعالج كل واحد من الموضوعات الثلاثة السابقة باعتباره مظهرا من مظاهر السلوك النفسى، فبينما يعالج النحو كل واحد منها على أنه مكون من مكونات الكلام فى اللغة العربية، يعالج علم النفس كل واحد
منها بوصفه سلوكا نفسيا عند الإنسان.
أولا - بدل الغلط :
... وذلك فى نحو قولك:أكلت عنبا تفاحا)، حيث يسبق لسانك إلى ذكر الأول، وأنت تقصد الثانى، فتقول: أكلت عنبا، فتتدارك الغلط فى الحال، فتقول: تفاحا.
... فهذه صورة من بدل الغلط، وهى الاستدراك بعد النطق بالكلمة (المبدل منه) كاملة بحروفها الثلاثة (ع ن ب ) . وقد يقع الاستدراك قبل إتمام
النطق باللفظ، فيقطع المتكلم كلامه على حرف العين أو النون مثلا، فيقول:أكلت عِ 000 تفاحا)، أو:أكلت عِنَ 000 تفاحا). وربما خرج صوت النون بدون حركة،واستدرك المتكلم على نفسه قبل أن يخرج حركتها، وعندئذ يكون كلامه على هذا النحو ( أكلت عِنْ 000 تفاحا).
... وغالبا ما يكون ذلك كله مصحوبا بتردد واضح فى النطق، مما قد ينتج عنه حبسة(1) أو تأتأة طارئة لحظة قطع الكلام.
... وهذه التأتأة ظاهرة لغوية نفسية تعترى المتكلم بسبب الحرج الواقع عليه من سبق الخطأ إلى لسانه. وهى ليست تلك التى تناولها كل من اللغويين وعلماء النفس بوصفها أحد عيوب النطق، لأن التأتأة المعيبة غالبا ما تكون ملازمة صاحبها ، بل وقد
تكون بسبب خلل فى جهاز النطق،
وأما هذه فهى طارئة. إلا أنه قد يجمع بين نوعى التأتأة عامل واحد، هو العامل النفسى الذى فسرناه بالحرج.(86/8)
... وهذه الصورة الثانية من بدل الغلط، التى يقع فيها اللفظ المبدل منه قبل إتمام النطق به، صورة لم يعن بها النحويون العرب، لأنها فيما يبدوا غير داخلة عندهم فى باب البدل ، إذ لم يذكر فيها المبدل منه تاما( يعنى قطع اللفظ عن النطق قبل إتمامه ) .
ومهما يكن من أمر فى تقسيم البدل عند النحاة العرب ، فالحقيقه أن هذه الصورة جزء مكمل لدراسة بدل الغلط.
... ومعنى بدل الغلط: البدل الذى كان سبب الاتيان به الغلط فى ذكر المبدل منه، لا أن البدل هو الغلط (2).
... والواضح أن هذا النوع من الغلط، إنما يقع بسبب سبق اللسان إلى
ذكره غلطا، كما صرح بذلك أبو حيان فى ارتشاف الضرب(3). وقال ابن
يعيش: " وإنما يكون مثله فى بدأة الكلام، وما يجىء على سبيل سبق اللسان إلى مالا يريده فيلغيه حتى كأنه لم يذكره، وذلك نحو(مررت برجل حمار)، كأنك أردت أن تقول ومررت بحمار)، فسبق لسانك إلى ذكر الرجل، فتداركت وأبدلت منه ما تريده"(1).
ومثل هذا النوع من الغلط إنما يقع بدافع لا شعورى، يمكن أن يفسر بالسهو، أو الغفلة أو العجلة أو غير ذلك من الأعراض النفسية، ك (Disorder) الذى قد يؤدى إلى خطأ أو بطء فى الإدراك، ينتج عنه الغلط فى التعبير(2).
... والدافع اللاشعورى بمعناه العام هو الدافع الذى لا يشعر به الفرد أثناء قيامه بالسلوك، أيا كان السبب فى عدم الشعور به(3). ويرى فرويد– زعيم مدرسة التحليل النفسى ـ أن وراء كل هفوة دافعا لا شعوريا ، لا يفطن
الإنسان إلى وجوده أو صلته بالهفوة(4). وعلى هذا يمكن تفسير بدل الغلط فى قول القائل : ( أكلت عنبا تفاحا)، بأن المتكلم كان يشتهى العنب أصلا، وبقيت هذه الشهوة لأكل العنب ملازمة له فى العقل الباطن (اللاشعورى )، ثم أكل التفاح، ولكن لسانه سبقه إلى ذكر العنب؛ لذلك الارتباط اللاشعورى به، ثم تبين له الغلط فصححه حالا . وهذا الدافع اللاشعورى يمكن أن يتعدد، لتعدد المواقف النفسية التى يمر بها المتكلم.(86/9)
ثانيا- بدل النسيان:
... لقد أحسن النحاة العرب فى تقسيمهم البدل؛ إذ جمعوا كلا من بدل الغلط، والنسيان والبداء فى قسم واحد، هو البدل المباين، بل إن من النحاة من جمع بدل الغلط وبدل النسيان فى قسم واحد، وسماه بدل الغلط(5).
... ولو تأملنا الأنواع الثلاثة لتبين
لنا أنها مرتبطة بصلة نفسية وثيقة، وكثيرا ما يذكر الغلط والنسيان فى سياق واحد، وقد جاء فى الحديث" رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" .
... وكما فسرنا وقوع بدل الغلط فى الكلام، بوجود دافع لاشعورى، فإن النسيان أيضا قد يكون وراءه دافع لاشعورى، كما يقرر ذلك علماء النفس، حيث"اتضح أن كثيرا من حالات النسيان تكون تعبيرا مباشرا عن دوافع لاشعورية"(1). ومثاله فى البدل قول القائل: ( فاز زيد عمرو)، ويقصد الإخبار عن فوز عمرو لا زيد، ولكنه نسى فقدم ذكر زيد، يعنى اعتمد ذكر ما هو غلط، ليس لسبق لسانه إلى ذكره، وإنما لنسيانه المقصود، ثم أدرك الصواب فذكره حالا مكان الخطأ. والفرق بين سبق اللسان إلى الخطأ وبين النسيان جلى ،
ويربطهما دافع لاشعورى كما سبق. وقديما قيل: إن الغلط يتعلق باللسان، والنسيان يتعلق بالجنان وهو القلب(2).
... والنسيان ـ كما يعرفه علماء النفس ـ هو فقدان طبيعى جزئى، أو كلى، مؤقت، أو دائم، لما اكتسبناه من معلومات ومهارات حركية "(3).ومن النسيان: النسيان بالكبت، الذى يمكن اعتبارة نسيانا بالتداخل ـ تداخل رغبة لاشعورية، لايفطن الفرد إلى وجودها ، مع رغبة شعورية هى القصد الظاهر للفرد، كما هى الحال فى فلتات اللسان وزلات القلم(4) .
... والرغبة اللاشعورية الكامنة فى نفس القائل فى الجملة السابقة( فاز زيد عمرو) هى رغبته فى فوز زيد، لاعمرو، ولكن هذه الرغبة لم تتحقق، إذ فاز عمرو، فبقيت فى لاشعور المتكلم، وعندما أراد أن يخبر عن الفوز ، غلبه الدافع اللاشعورى ، فكان(86/10)
ظاهر كلامه أنه أبدل من زيد عمرا. وأما القصد الحقيقى للمتكلم فهو( فاز عمرو) .
... وعلى هذا يمكن تفسير النسيان ـ بما فى ذلك النسيان فى التعبير اللفظى عن الشىء ، ـ يعنى بدل النسيان ـ يمكن تفسيره بمبدأ حتمية السلوك Pychic deteminis ، والحتمية اعتقاد بأن أى حادث فى الطبيعية ، له أسباب وليس مجرد الصدفة الحضة. وتعنى الحتمية فى الإنسان، إن أى عمل يقوم به أو أى فكرة أو أى انفعال[يصدر منه] له أسبابه، وإن كانت هذه الأسباب معقدة، [ يصعب ] معرفتها لتعقد الكائن الحى نفسه ، وتعقد بيئته. فالسلوك وراءه دافع، فإن لم تكن هذه الدوافع شعورية، فهى دوافع لاشعورية، فزلات القلم واللسان والنسيان، أو أى حادثة من الحوادث، كلها تخفى وراءها رغبات مستترة، كما أنها ترمى إلى هدف(1).
ثالثا- بدل البداء أو الإضراب:
... (البداء) لغة، الظهور يقال : بدا الشىء يَبْدو بَدْوًا وبَدَاءً وبَدًا أى ظهر. ويقال : بَدا لى بَداءٌ، أى تغير رأيى على ما كان عليه. وقال الفراء: بدا لى بَداءٌ أى ظهر لى رأى آخر. وقال ابن الأثير: والبَداء: استصواب شىء علم بعد أن لم يعلم(2).
... ومن هذا يتبين أن مصطلح البداء فى البدل، يدل على إثبات لفظ مكان لفظ بعد أن يظهر للمتكلم رأى آخر، يحمله على تغيير كلامه، بحيث لا يهدم التركيب كله، ولكنه يبدل لفظا بلفظ. وقد وضح السيوطى هذا المعنى الاصطلاحى بقوله:" وهو مالا تناسب بينه وبين الأول[- يعنى المبدل منه-] بموافقة، ولاخبرية، ولا تلازم، بل هما متباينان لفظا ومعنى نحو( مررت برجل امرأة). أخبرت أولاً أنك مررت برجل ، ثم بدا لك أن تخبر أنك مررت بامرأة ، من غير إبطال الأول ، فصار كأنهما إخباران مصرح
بهما"(1). وهذا معناه أن المتكلم يذكر المبدل منه عن قصد وتعمد، ثم يوهم أنه غالط لكون الثانى أجنبيا.
... وقال ابن عصفور:" هو أن تبدل لفظا تريده عن لفظ أردته أولاً ثم أضربت عنه"(2).(86/11)
... وأما( الإضراب) لغة فهو من أضْرَبَ عن الشىء يضرِب إضْرابا، أى كف وأعرض وصرف عنه(3). والكف فى بدل الإضراب، يكون عن المبدل منه إلى البدل.
... ومن هذا التعريف اللغوى يتبين أن الطرح ـ يعنى طرح المبدل منه ـ مقصود فى بدل الإضراب على اختلاف بين النحاة فى ذلك. ولكنهم متفقون على أن البدل عندئذ يكون على معنى حرف الإضراب. ولايقع هذا الإ بسبب تردد يطرأ على سلوك المتكلم ولذلك قالوا: إنه لايقع فى قرآن ولا شعر فصيح ولا فى كلام صادر
عن روية وفطانة، وإنما يكون على جهة سبق اللسان(4)، ويتضح من هذا أنه يجمع بين البداء والإضراب عامل نفسى واحد، هو التردد، الذى سبق أن تبين لنا أنه رد فعل ظاهر للتنافر المعرفى(Cognitive dissonance ) ، مما يجعل المتكلم مضطربا، يصدر منه اللفظ، ثم يبدو له غيره، فيبدل منه أو يضرب عنه إلى غيره، كما فى قول القائل( أكلت خبزا تمرا)، فأخبر أولاً أنه أكل خبزا، ثم بدا له أن يخبر أنه أكل تمرا، فأبدل من الخبز تمرا عن قصد لا عن خطأ، أى أنه أضرب عن الأول ( الخبز) ـ بعد أن قصده ـ وذكر الثانى؛ وإنما وقع هذا الإضراب بسبب تردد طرأ على المتكلم.
... وهذا التفسير الذى أخذنا به فى وقوع بدل البداء أو الإضراب ، قد لا يصلح فى جميع أحوال هذا البدل، فقد ذكر النحاة أن هذا النوع من البدل
يعتمد فى الكلام كثيرا للمبالغة والتفنن فى الفصاحة… كقولك :(هند نجم بدر شمس)، كأنك ـ وإن كنت معتمد الذكر ـ تغلط نفسك، وترى أنك لم تقصد فى الأول إلا تشبيهها بالبدر، وكذا قولك بدر شمس(1).
... هذا وقد وقف سيبويه على الأنواع الثلاثة وفرق بينها فقال:(86/12)
"هذا باب المبدل منه، والمبدل يشرك المبدل منه فى الجر، وذلك قولك: مررت برجل حمار، فهو على وجه محال، وعلى وجه حسن" فأما المحال فأن تعنى أن الرجل حمار، وأما الذى يحسن فهو أن تقول (مررت برجل)، ثم تبدل الحمار مكان الرجل فتقول: حمار؛ إما أن تكون غلطت أو نسيت فاستدركت، وإما أن يبدو لك أن تضرب عن مرورك بالرجل ، وتجعل
مكانه مرورك بالحمار، بعدما كنت أردت غير ذلك"(2).
... ومن هذا يتبين أن " القصد "
هو الحد الفاصل بين الأنواع الثلاثة
للبدل المباين، يعنى هل المبدل منه مقصود قصدا أولا؟،لأن البدل لابد أن يكون مقصودا على ماسبق إليه اللسان، فهو بدل الغلط. وإن قصده المتكلم، ثم تبين له فساد قصده، فهو بدل النسيان. وأما إن تعمد قصده ثم وهم أنه غالط، لكون الثانى أجنبيا، فهو بدل البداء أو الإضراب(3).
... وبعد، فهل البدل فى الكلام العربى مؤشر من مؤشرات المرض فى النطق، لدى المتحدث، معدود فى الاضطرابات اللغوية التى عنى بها علم النفس اللغوى؟
... لقد تبين لنا ـ فيما سبق ـ صلة البدل المباين ببعض مظاهر السلوك النفسى، كالنسيان والغلط والتردد والاضطراب والحبسة والتنافر المعرفى وزلات اللسان، وكل هذه المظاهر أعراض مرضية .
... ومن هنا يبدو أن كثرة اعتماد
البدل المباين فى الكلام يدل على اضطراب فى السلوك اللغوى لدى
المتحدث، مما يعد من العوارض المرضية المنافية للفصاحة والانطلاق فى الكلام. وذلك مما يعيق مقدرته على تنسيق الوحدات اللغوية وانتقائها انتقاء متأنيا .
... والملاحظ فى ذلك كله أن الاضطراب يصيب المستوى اللفظى فحسب، وأما التركيب النحوى فإنه يبقى سليما. ولعل البدل فى مثل هذه
الحالات علاج للمحافظة على سلامة التركيب وإن وقع الاضطراب فى النطق.(86/13)
هذا فيما يتعلق بالبدل المباين أما بقية أنواع البدل، فلاشك أنها لا تدل على عوارض مرضية، بل الاعتماد على أحدها يدل على زيادة إيضاح فى الكلام، لأن المتكلم إنما يلجأ إليه لبيان الكلام وتوضيحه وتأكيده.
الدكتور على محمد المدنى
كلية الآداب – جامعة البحرين
مصادر البحث
1-ارتشاف الضرب من لسان العرب، لأبى حيان الأندلسى، تح, أحمد النماس، مطبعة المدنى .
2-أسس علم النفس العام، سعد جلال، مكتبة المعارف الحديثة، القاهرة، 1980.
3-أصول علم النفس، أحمد عزت راجح، المكتب المصرى الحديث للطباعة والنشر، الاسكندرية، 1973م.
4-البيان والتبيين، تح. عبد السلام هارون، مؤسسة الخانجى، القاهرة د.ت.
5-التبصرة والتذكرة، لعبد الله بن على الصيمرى، تح. فتحى أحمد على الدين، دار الفكر، دمشق، 1982م.
6-التعلم، نظريات وتطبيقات تربوية، أحمد عبادة، دار الحكمة، البحرين، 1993.
7-التوابع فى الجملة العربية، محمد حماسة عبد اللطيف، مكتبة الزهراء، القاهرة.
8-التوابع فى النحو العربى، محمد يسرى زعير، دار الطباعة المحمدية، القاهرة، 1979م.
9-حاشية الصبان على شرح الأشمونى على ألفية ابن مالك، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1363هـ.
10-سيكولوجية اللغة والمرض العقلى، جمعة سيد يوسف، سلسلة أعلام المعرفة، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1990م .
11-شرح التصريح على التوضيح، خالد الأزهرى، انتشارات ناصر خسرو، طهران.
12-شرح الرضى على الكافية، للرضى الأستراباذى، تح. يوسف حسن عمر، جامعة قاريونس، 1978م.
13-شرح المفصل، عالم الكتب، بيروت، د.ت.
14-علم اللغة، مقدمة للقارئ العربى، محمود سعران، ص69، دار النهضة العربية، بيروت، د.ت .
15-علم اللغة النفسى، عبد المجيد سيد أحمد منصور، جامعة الملك سعود، الرياض، 1982.
16-علم النفس اللغوى، نوال محمد عطية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1982.(86/14)
17-كتاب سيبويه، تح. عبد السلام هارون، عالم الكتب، القاهرة،1983م.
18-لسان العرب ( بدا ) .
19-اللغة العربية أصولها النفسية وطرق تدريسها، عبد العزيز عبد المجيد، دار المعارف بمصر، القاهرة 1961م.
20-اللغة وعلم النفس، لموفق الحمدانى، وزارة التعليم العالى والبحث العلمى، بغداد.
21-محاضرات فى علم النفس اللغوى، حنفى بن عيسى، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1980م.
22-مصطلحات النحو الكوفى، دراستها وتحليل مدلولاتها، عبد الله الخثران، هجر للطباعة والنشر، القاهرة، 1990.
23-المقرب، لابن عصفور، تح أحمد عبد الستار الجوارى، وعبد الله الجبورى، مطبعة العانى، بغداد، 1986.
24-همع الهوامع شرح جمع الجوامع، للسيوطى، تح. عبد العال سالم مكرم، دار البحوث العلمية، الكويت، 1979م.
25-Atkinsons, k et al, Introduction to psychology, Harcourt Brace Jovanovich College Publishers, New York, 1991.
26-Foss, D. j., and Hakes, D.T., psycholinguistics, An Introduction to The Psychology of Language, Prentice- Hall, Inc, New jersey, 1978
27-Hartly, J., The Psychology of written Comunication, Kogan Page, London, 1980
28-Kess, J. f., Psycholinguistics Introductory Prespectives, Academic Press, New York,1976
29-Prucha, J., Information Sources in Psycholinguistics, Mouton, The Hague, Paris, 1972
30Riebe,R.W.,(editor),Psychology- of Language and Thought, Plenum Press, New York, 1980.P.3(86/15)
جهود العلامة شوقى ضيف
ومنهجه في كتابه
الوجيز في تفسير القرآن الكريم
للأستاذ الدكتور محمد أبو الأنوار
مدخل :
إن الاشتغال بدراسة النص القرآني الكريم علم خاص يحتاج إلى أدوات خاصة ، وإلى ممارسة تنشأ عنها خبرة بل ملكة .
وهناك باحث ودراسات علمية واسعة حول العلوم والثقافات والأدوات التي يحتاج إليها مفسر النص القرآني الكريم ، وتعريف واسع بمصادر التفسير،وبالأمور التى علي المفسر أن يتجنبها،وتحديد لقواعد ورؤى الترجيح للرأى وهناك مؤلفات معترف بمنزلتها وقيمتها فى علم التفسير .
والأصل العام أن القراءة فى كتب التفسير التراثية والإفادة منها علم خاص يتميز فيه خواص الخواص . وقد رأينا أساتذة متخصصين فى علم التفسير يقعون فى أخطاء فادحة نبه
إليها صراحة أئمة التفسير من القدماء.
ومن أبرز العلماء الذين تكلموا فى علم التفسير وتبعاته ، وعللوا لاختلاف المفسرين ما قدمه العلامة ابن تيمية ، وما بذله أئمة العلماء فى مباحث علوم القرآن .( انظر: دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن قتيبة . أ.د محمد السيد الجليند، وانظر:التفسير والمفسرون. أ.د محمد حسين الذهبي، وانظر : طبقات المفسرين للحافظ شمس الدين الداوودي ، وانظر : البرهان فى علوم القرآن للزركشي ، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي ، ومناهل العرفان في علوم القرآن لمحمد عبد العظيم الزرقاني 000 وانظر تعليق عبد القاهر الجرجاني حول من يتعاطى التفسير بغير علم : دلائل الإعجاز(ص 304 ـ 305 ) تحقيق محمود محمد شاكر
ط .الخانجي 1984م) .
ومعلوم أن علم التفسير مر بمراحل وأدوار :(87/1)
المرحلة الأولي : تبدأ من التفسير فى عهد النبي صلي الله عليه وسلم ، ثم عصر الصحابة ، ثم التابعين ، ثم تأتى مرحلة عصور التدوين التى عرف فيها أئمة لكل منهم دوره ومنهجه وطريقته ، وظلت موصولة إلى عصرنا الذي نحياه .وضمت التفاسير ـ منذ القدم ـ اتجاهات مذهبية، كالسنة والشيعة باختلاف عقائد أصحابها،والخوارج، والصوفية، وتفسير الفقهاء ومن أشهرهم القرطبي، ثم التفسير العلمي عند القدماء كالإمام الغزالي ، والجلال السيوطي وغيرهما، ثم عند المحدثين، ومن أشهرهم الشيخ طنطاوى جوهري، ثم تفاسير إلحادية تناول بعضها بالعرض والتحليل فضيلة المرحوم الأستاذ الدكتور محمد حسين الذهبي ، في مؤلفه القيم " التفسير والمفسرون " وكذلك عرّف فضيلته بالتفاسير الأدبية الاجتماعية فى العصر الحديث ، وشيخ هذا الاتجاه الإمام محمد عبده ومن والاه على طريقته ، ثم الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي ، وقد ظهرت في الساحة بعد هؤلاء تفاسير متعددة لكل منها قيمته فى اتجاهه .
... وتتمثل جهود أستاذنا العلامة الأستاذ الدكتور شوقي ضيف في تفسيره:"الوجيز في تفسير القرآن الكريم" ( غرة رجب 1415هـ= 1995م ) ، وكان قد صدر له قبل ذلك تفسير"سورة الرحمن"،وسور قصار( 1390 هـ ) ، وبعد هذا الأخير صدر له عمل كبير القدر هو تحقيق كتاب" السبعة فى القراءات ". لابن مجاهد : أحمد بن موسى التميمي أبو بكر مجاهد ( 245هـ = 859م : 324هـ = 936م ) وصدر هذا التحقيق عام ( 140 هـ = 1988م).
... وتحقيق هذا الكتاب عمل جليل، وإذاعته فضل مشهود ، ونفع لا ينقطع مداه، وتيسير لعلم تجب العناية به ، والحفاظ عليه ، فمقامه تقنين وتثبيت الحفظ لكتاب الله قراءةً ونطقًا ، والكتاب إلى جانب ذلك سجل الأصوات العربية في قواعد نطقها ومخارج حروفها كما هى مقررة فى كتابها المعجز الخالد " القرآن الكريم".(87/2)
... والجهد المبذول في هوامش الكتاب يمثل موسوعة علميه في التأصيل له والتعريف بأعلامه ، وتيسير الفهم لسياقاته المتعددة وضبطها، وهو جهد شديد الصبر واسع العطاء. والمقدمة بين يدى الكتاب غزيرة العلم واسعة النظرة دقيقة العرض فى التعريف والتأصيل لابن مجاهد .
... ولايبعد عن مجال فهم القرآن ودراسته كتابه الممتع الذى صدر حديثًا ( يناير 2000م ) وهو" محمد خاتم المرسلين " .
... ويشرفني أن أشير بين يدى هذه الدراسة إلى أنني لم أتناول هذا البحث من فراغ، فقد شغلت نفسي دائما بالنظر والدراسة في فهم النص القرآني الكريم منذ صغري قبل دخولي الجامعة طالبًا مبتدئاً ، وكان أول نشر لمقالاتي فى ذلك عام 1969م ، وقد عنيت بنشر سلسلة خاصة تحت عنوان : "من أسرار الإعجاز فى الأسلوب القرآني الكريم" وما زلت أتابعها كلما تيسر الوقت والجهد،سعيًا إلى نشر مؤلف فى ذلك.
وقد تيسر لى بصفة رسمية أن أقوم لأعوام متتالية بتدريس مادة دراسات أدبية ولغوية من القرآن الكريم بقسم الأدب بكلية اللغة العربية بجامعة أم القرى ، وفرحت بغير حدود لقيامي بهذا الواجب المشرف ، واقتنيت لذلك مكتبة كبيرة وافية ، وكانت هذه المادة مقررة أيضا على طلاب كليات الشريعة ، وأصول الدين إلى جانب الكليات الأخرى بالجامعة باعتبارها مقرراً اختياريًا، وقد لاقت بحمد الله رواجًا كبيراً لدى الطلاب .
... وما أن جاءت فرصة الاحتفاء والتكريم لأستاذنا العلامة الأستاذ الدكتور شوقى ضيف حتى وجدتني للوهلة الأولي أختار هذا البحث من بين عطائه المترامى الأطراف .(87/3)
... على أنى أشهد أن منجم الجواهر النادرة ، ومحيط العطاء من المعارف الذى لا ساحل له في العربية بفروعها ، والدراسات الإسلامية بشتى مجالاتها ، إنما هو في أمهات كتب التفسير وعلوم القرآن بل إن فيها ماليس في الكتب المتخصصة في علومها ، ولا سيما ما يتصل بالدراسات النحوية واللغوية والبلاغية التي تقود إلى فقه أنواع الدلالة وضروب الإيحاء بما فيها المستوى الإشاري في اللغة وآدابها .
... أبرز خطوط منهجه فى دراسة النص القرآني الكريم فى كتابه: "الوجيز" .
... يبدأ عمله فى التفسير بتعريف أهم موضوعات كل سورة ، في تركيز ووضوح بارزين .
... ويتضح في جهده استقصاؤه
للتفاسير الكبرى ، وتجنبه لسرد آراء المفسرين ، وكذلك عدم النص على آراء النحوية والبلاغية في الصيغ القرآنية، وكذلك القراءات وأسباب النزول ، حيث لكل فن من ذلك كتبه المطولة ، وعدم النص على ذلك لا يعنى التخلي عن الإفادة منها ، وتحرير المراد في ضوء مباحثها ، التي تقود إلى دقة الفهم ، وتحرير المعنى الذي يقتضيه السياق في فهم النص القرآني الكريم .
... وكذلك يتجنب تمامًا الإسرائيليات في موضوعات قصص الأنبياء ، ويرى أنه يجب تجنبها تمامًا من التراث التفسيري .
وكذلك نحَّى عن هذا التفسير ما قاله غلاة التشيع والتصوف ، لأن منهجهم لا يوافق الأصول العلمية التي يجب اتباعها في تأويل الآيات طبقًا لمقاييس علوم القرآن وقواعد علم الأصول . ...
... ويلاحظ علي منهجه أنه فى تفسيره " سورة الرحمن وسور قصار" كان يبسط القول ويتوسع في عرض مادته ، ولكنه فى تفسيره" الوجيز " كان يعمد إلى الإيجاز الثرىّ الواضح ، والمستوعب لأطراف أهم ما يقال .
عناصر إضافته :(87/4)
يتضح لمن يتأمل أعمال أستاذنا في هذا المقام أنها تقوم علي فقه وبصر بأسرار العربية في شتى مجالاتها ، ومعرفة عميقة بأبعاد الدراسات الإسلامية في شتى فروعها، وفى القلب منها المعرفة الدقيقة بمباحث علوم القرآن الكريم . ... وقد كان لزاد سيادته الوافر الواسع في ذلك كله آثاره الكبرى فيما قدم فى دراساته للنص القرآني ، وهذا مما يؤكد مقولتى دائمًا : بأن الثقافة العربية الإسلامية طائر لا ينهض إلا بجناحين : هما الدراسات العربية العميقة ، والدراسات الإسلامية المدققة الواسعة معًا ، وبغير ذلك يكب هذا الطائر على الثرى ، إذا كان باحثًا في العربية وحدها دون ثقافة إسلامية واسعة ، أو كان باحثًا في الدراسات
الإسلامية دون ثقافة عربية واسعة .
... وقد أبدع أستاذنا العلامة شوقي ضيف في مجالين بارزين نتيجة زاده العلمي الخاص بهذين الرافدين .
الأول منهما :
أسلوبه في الأخذ والانتقاء من مصادر التفسير الكبرى ، فعند التحري والنظر فى هذه المصادر نجد أن ما اختاره ، أو ارتضاه منها ، أدخله في نسيج فهمه الخاص ، ولم ينقله نصًّا بل يعرض ما يرضاه منه بعد أن يصبح مادة داخل إطار فهمه ورؤيته ونسيجًا فى لحمة عرضه وتحليله ، وهو في الوقت ذاته ينسب ما يرضاه من آراء ورؤى العلماء لأصحابها علي نحو من القدرة الفائقة علي الفحص والتحري في الاختيار وفى طريقة التقديم الجديد : عرضًا وتحليلاً ورؤية .
والآخر منهما :(87/5)
... الوصول إلى لفتات ورؤى يتميز بها، وهي كثيرة وافرة ، وإن كان قد وصفها في مقدمة "الوجيز" بانها قليلة في الحين بعد الحين ، ويرى الباحث المتأمل في دراساته للنص القرآني الكريم : الفهم المدقق ، والبصر المتألق ، والاستيعاب الذي يحفل بشوارد الأسرار واللفتات ، في وجازة شديدة الوضوح وسهولة سخية العطاء كل ذلك مع النظرة الواسعة الشاملة في الاستبصار بفهم القرآن بالقرآن ، ومع وضوح الثقافة العصرية في الفهم والعرض والتحليل، وعلى سبيل المثال تتبعه المتميز لما يتصل بتكريم العقل، ومنزلة العلم، وإلى جانب ذلك كله وضوح آثار التطور العلمي في الدراسات العربية والإسلامية .
... والآن ننتقل من التنظير إلى التطبيق، ومن الوصف إلى التجسيد ، فيما يتصل بلب لباب منهجه فى الأخذ المبتدع، وفى إضافة اللفتات والرؤى التى يتسم بها اجتهاده ، وتتنوع فيها بصائره :
المثال الأول :
... نتوقف مع الآية السابعة من سورة البقرة : " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غِشاوةٌ ولهم عذاب عظيم " .
وسوف نقف مع الآية الكريمة في معنى " الختم " فقط : في الكشاف للزمخشري ( 467هـ ـ 538هـ ): نجد أنه ذكر في تفسير معنى "الختم " باعتباره مجازًا ، وفي تعليل إسناده إلى الله تعالي خمسة وجوه (1/26ـ28 ) .
ثم يأتي الفخر الرازى ( 544 هـ ـ 604هـ ) : فيذكر جملة مسائل ، وفي المسألة الثانية عشرة منها وجوه في فهم معنى"الختم"(1/ 54 وما بعد).
ثم يأتي القرطبي ( ت 671هـ ) فينص على أن أهل المعاني قالوا في وصف الله تعالي قلوب الكفار عشرة أوصاف منها : الختم والطبع والضيق والمرض والريَّن والموت والغشاوة .. إلخ ، وهو مبحث سبق إليه الفخر الرازي ، وأيد كل معنى منها بآية من القرآن الكريم .
ثم وضح القرطبي : أن "الختم" يكون محسوسًا في المعاني السابقة ويكون معنى كما في الآية الكريمة معنا . فالختم على القلوب : عدم الوعي عن الحق سبحانه .(87/6)
... وأنت واجد في هذه الرحلة الطويلة الدقيقة في جنبات هذه التفاسير ونظائرها غزارة المواد العلمية والفكرية ورؤى التحليل الذكي الدقيق المعجب ، بما يؤكد أن جهود هؤلاء الأئمة كانت وما تزال وستظل تمثل قيمة علمية هائلة مترامية الأطراف لا حدود لعطائها ووجوه الإفادة منها والتعلّم عليها .
... وفي ضوء العرض السابق فإن اللفتة البارعة المركزة التي قدمها أستاذنا العلامة شوقي ضيف تبقى لها خصوصية في تشخيصها وطريقة عرضها : إنه تبصرَّ كل هذه الينابيع ، وأحاط بأبعادها وروّى رؤاه بزادها ، ولكن زاده من العلم بالعربية وأسرارها ، والدراسات الإسلامية بسعتها ودقتها ، جعله يفهم المعنى من شتى وجوهه ، ويبتدع فيه حتى يخرج سويًّا على هذا النحو الذي استوى فيه المعنى مرضيا شديد الشفافية والغزارة، وهو قوله في " الوجيز " ص8 " : " الختم فى الآية تمثيل لتصميم الكفار على كفرهم ، وعدم إصغائهم للهدى واتباعه ، وإسناد "الختم " إلى الله للدلالة على أنه لايزول عنهم لتماديهم في الكفر ، فهذا التمادي سببه لا نتيجته " (أى سبب الختم ) .
... ثم يضيف ما هو من منهجه وهو الاستبصار بالقرآن في كل رؤية، حيث يقول : " والقرآن يكرر أن الإنسان ينال جزاءه ثوابًا وعقابًا حسب اختياره لعقيدته وأعماله، كما في قوله تعالى : " قل يأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ، ومن ضلَّ فإنما يضلُّ عليها وما أنا عليكم بوكيل " ( يونس 108 ) .
... وهو في هذا الاستشهاد القرآني الأخير استغنى عن ألوان من التأويل في مناقشة المعتزلة وغيرهم في القول بخلق أفعال العباد ( الفخر الرازى 1/54 - 55 ) .(87/7)
... والعناصر الآنفة في استبصار المعنى والكشف عن زواياه المهمة ، لا تجدها بهذه الدقة وذلك الإيجاز الذى يفيض بالوضوح ، فى المباحث المطولة التي تراجعها في الأمهات السابقة، في عشرات الصفحات ، وعديد من المباحث على أهميتها وجلالها مادمنا بسبيل تيسير فهم القرآن لمن يطلب فهمه في دقة وسهولة ووضوح .
... وأقرب نص لدى الزمخشرى يتناول فكرة التمثيل في معنى الختم عبارته التي تحتاج إلى مزيد بيان يوضحها ويسهل فهمها ،( وقد وضعته بين أقواس فيها )وهى قوله(1/26) : " وأما التمثيل ( فإنه) حيث لم يستنفعوا ( بالجوارح ) في الأغراض الدينية التي كُلِّفوها وخلقوا من أجلها ( كانوا كأنما ) ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها ( والحجاب عبر عنه ) بالختم والتغطية " .
... وأقرب نص يمس فكرة السبب والنتيجة في القول الآنف الذكر عند العلاّمة شوقي ضيف هو عبارة الفخر الرازي ، الثقيلة التبعة في الفهم والعرض والتحليل حيث يقول " فإنه سبحانه لما حكم عليهم بأنهم لايؤمنون ( يقصد الإشارة إلى الآية السابقة على الآية التي معنا ) وهي قوله تعالى : "إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لايؤمنون "( 6ـ البقرة ) ذكر عقبه ما يجرى مجرى السبب الموجب له ، لأن العلم بالعلة يفيد العلم بالمعلول ، والعلم بالمعلول لا يكمل إلا إذا استُفيد من العلم بالعلة ، فهذا قول من أضاف جميع المحدثات إلى الله تعالي " ، ثم ينتقل الفخر الرازى إلى محاورة المعتزلة فيما قالوه فى
هذا السياق ( 1/55 ) .(87/8)
... وواضح أشد الوضوح أن القارئ لا يجد فى هذا العرض والتحليل للفخر الرازي ما يأخذ بيده إلى ما قاله شوقي ضيف ، وما أن تصل إلى المعنى الواضح فيما كتبه وقدمه حتى تجد الرؤية محكمة بين يديك ، وتحس أنك ظفرت بالجوهر المراد في السياق ، وفي الوقت نفسه وضحت لك المعالجة للقضايا الكبرى التي سكت عنها شوقي ضيف كالجبر والاختيار ، وضروب التحليلات المجازية من استعارة وتمثيل لدى الزمخشرى ، والتحليلات العقلية الجدلية لدى الفخر الرازي . ...
... ومع ذلك كله فإنني أؤكد مرات ومرات أنني لست فى هذه المقارنات أقلل بحال من الأحوال مما حوته وقدمته الأمهات الكبرى في تفسير القرآن الكريم ـ فحاشا لله أن أضل هذا الضلال ـ فهي كنز العطاء المتصل، ومحيط المعرفة بغير ساحل، بل هي الطريق الذي يصل بنا إلى ما بعده ، والمعلم الذي نتتلمذ عليه بكل فخر لنا ، وكثيراً ما نتعثر دون
الارتفاع إليهم .
... وإنما القصد أن هذه الأمهات في عطائها لا يحتملها إلا باحث متخصص موهوب ، وهو يخرج منها بعطاء واسع المدى من التحليلات والمناقشات والرؤى ، ويعز عليه أن يعرض ما أخذ منها من ذاكرته بل هو محتاج عند مجرد عرضه للتعريف به إلى كلام خصيصًا لذلك ، يطول مداه وتثقل تبعته .
... وبعد هذا الاحتراس الواجب أقول : إنك تجد بسهولة براعة الفهم ودقته ، وسلامة العرض وجدته فيما أضافتْه المحاور الموجزة الواضحة لدى العلامة شوقي ضيف في فهم "الختم " فى الآية الكريمة .
... وهذه السمات عندي آية من آيات عطاء القرآن في كل عصر وجيل فهولا ينفد عطاؤه مهما اتسع ما قيل من قبل في محاولة فهمه ، وهذه آية من آيات عطاء القرآن الكريم
الموصول المدى إلى أن تقوم الساعة.
المثال الثانى :
نتوقف فيه عند النظر لدى كبار المفسرين في معنى سجود الملائكة لآدم فى قوله تعالي : "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين " ( 34 ـ البقرة )(87/9)
... نجد الفخر الرازي قد أطال وأفاض في تتبع الموضوعات ودقائقها، وقد راجعته قراءة ومتابعة من الآية التاسعة والعشرين ، وهي قوله تعالى : " هو الذي خلق لكم ما فى الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شىء عليم " ( 29 ـ البقرة ) إلى آخر ما كتبه في الآية الرابعة والثلاثين التي معنا الآن . والمواد العلمية عنده تستغرق من صفحات الفخر الرازي على كبرها ودقة حروفها اثنتين وتسعين صحيفة .
... ورجعت إلى جوهر الفكرة التي دققها صاحب الكشاف في سياق الآية الكريمة : " وعلَّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " ( 31 ـ البقرة )
... يقول الزمخشرى : " ثم عرضهم أى عرض المسميات 000 ـ على الملائكة ـ وإنما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت ( إن كنتم صادقين ) يعني في زعمكم أني أستخلف فى الأرض مفسدين سفاكين للدماء ، إرادة للرد عليهم وأن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا ، فأراهم بذلك وبين لهم بعض ما أجمل من ذكر المصالح في استخلافهم في قوله تعالى :"إنى أعلم مالا تعلمون " وقوله تعالي : " ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض" استحضار لقوله لهم : " إني أعلم مالا تعلمون " إلا أنه جاء على وجه أبسط من ذلك وأشرح " ( الكشاف1/62)
... والمحور المقابل لما ذكره
الزمخشرى عند الفخر الرازي في مباحثه المطولة هو قوله في سطور قليلة : " اعلم أن هذا هو النعمة الرابعة من النعم العامة على جميع البشر ، وهو أنه سبحانه وتعالى جعل أبانا آدم مسجود الملائكة ، وذلك لأنه تعالى ذكر تخصيص آدم بالخلافة أولاً ، ثم تخصيصه بالعلم الكثير ثانيًا ، ثم بلوغه في العلم إلى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم " (الفخر الرازي 2/230 ) .(87/10)
... وجاء أستاذنا العلامة شوقي ضيف بعد استيعابه لهذا العطاء العلمي الواسع ، واستطاع بنفاذ بصيرته ، وزاده العلمي أن يستخرج رؤية شديدة الوضوح والإحاطة عميقة الدلالة تأخذ بحجز ما ترامي من أطراف القول وتضيف إليه بالبصيرة النافذة والرؤية الجامعة حيث يقول : " والله جل شأنه بأمره الملائكة السجود لآدم جعل منزلة علم آدم بالأسماء فوق منزلة تسبيح الملائكة بحمده، مما يرفع مكانة العلم وهو ما جعل الإسلام يعانق العلم
في جميع عصوره" ( الوجيز ص 16)
... إن قيمة المعرفة الجامعة المستبصرة أنها تهدي إلى براعة التشخيص الذي يستوعب أطراف المعاني ويعتصر رحيق الدلالات والإيحاءات، ويأتي في وضوح جامع، وإيجاز على القيمة مفعم الغزارة .
... وكما قلت في شرح منهج العلاّمة شوقى ضيف إنه يتوقف كثيرًا أمام عناية القرآن الكريم بالعلم ، وما أكثر السياقات التي ذكرها في ذلك . وهذا أثر من آثار ثقافة العصر المتميزة .
المثال الثالث :
... وفيه نتوقف مع الآية الكريمة "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبَيْنَ أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا " (72 ـ الأحزاب )
... يقول العلامة شوقي ضيف : "عرض الأمانة علي السموات والأرض والجبال تصوير لعدم قابليتها جميعًا لحمل هذه الأمانة العظمى لبيان ثقلها، وأن أعظم ما في الوجود لا يستطيع تحمُّلها 000 "( الوجيز ص760 ) ...
... وهذه العبارات الدقيقة أحاطت بتحليلات كثيرة لدى المفسرين لا سيما ما قاله الزمخشري من المجاز في هذا المقام ، وقد أطال في ضرب الأمثلة ، وتحليلها على المستويات التعبيرية التي اختارها لبيان أن الكلام تمثيل .
... من ذلك قول الزمخشرى: إن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقَه محالٌ في نفسه غيرُ مستقيم، فكيف صحّ بناءُ التمثيل على المحال ،
وما مثالُ هذا إلا أن تشبّه شيئًا والمشبَّه به غيرُ معقول 0000 " (*) (الكشاف 3/249 )(87/11)
... وقد شرح العلامة الزمخشري ذلك فقال: "المُمثّل به في الآية ، وفي قولهم ( يعني فى المثل العربي ) : "لو قيل للشحم أين تذهب لقال : أُسوّي العوج " (ثم يقول الزمخشري) : "وتصور مقالة الشحم محالٌ، ولكن الغرض أن السِّمن في الحيوان مما يُحسن قبيحه، كما أن العُجْفَ مما يُقبح حَسَنه فصوَّر أثر السِّمن فيه تصويرًا هو أوقع فى نفس السامع، وهى آنس، وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف، وكذلك
تصويرُ عِظَم الأمانة، وصعوبة أمرها، وثقل حملها والوفاء بها " (3/249)
ثم يمضي ليقول المُمَثّل به فى الآية وفى المثل العربي : " مفروض والمفروضات تُتَخيل فى الذهن كما المحققات ( وهنا ) مُثّلت حال التكليف فى صعوبته ، وثقلِ مَحْمله بحالِه المفروضة لو عُرِضت علي السماوات والأرض والجبال لأبَيْنَ أن يَحْملِنها وأشفقن منها "( 3/249ـ250) فإذا قست هذا التحليل على سعة علمه ومَرْمى تدقيقاته بعبارة تفسير " الوجيز " الآنفة الذكر في صدر الكلام للعلاّمة شوقي ضيف وهي : " عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال تصوير لعدم قابليتها جميعًا لحمل هذه الأمانة العظمى لبيان ثقلها، وأن أعظم ما في الوجود لا يستطيع حماها (ص706 ) لوجدت المعنى هنا أشد وضوحًا وتركيزًا وسهولة ، وهو في الوقت نفسه وفّي بعناصر القول عند الزمخشرى على تعدد مراميه ، ولم يُحْترس على شئ منه ، كما فعلنا في الهامش على عبارة الزمخشري الآنفة هناك .
... ثم يمضي " الوجيز " مستوعبًا أهم وأبرز ما قيل قبله في الفخر الرازى ( 25/235 ) وفى القرطبي (14/253 ) ومن قبلهما الزمخشري (3/249 ) ليقول :(87/12)
... " واختلف المفسرون فى تفسير الأمانة، فقيل: هي التكاليف الشرعية، وقيل : هى الصلاة، وقيل : هى طاعة الله، وقيل الإيمان، وقيل : العقل، ويمكن أن تكون الإيمان، أي توحيد الله وعبادتُه ، وبذلك جاء الرسلُ جميعًا ، ودائما كانت كثرة أقوامهم تكذبهم ، ولا تعتنقه 000 وأَولي في رأيي (أي رأي العلامة شوقى ضيف) أن يكون المراد بالأمانة العقل الذي يميز الإنسان من سائر المخلوقات ، والذي من شأنه أن يهديه إلى طريق الهدى ، وبه تكونت أطوار الحياة الإنسانية ، وكل ما يتصل بالإنسان من حضارة وعلوم، وهو ـ أي العقل ـ الذى يميز الإنسان من الجبال وجميع الجمادات والكائنات 000 إذ يتيح له أن يفكر حرًّا فى كل شىء ـ عقيدة وغير عقيدة ـ ويختار ما يؤمن به أو يعمله بعد أناة ورؤَّية عقلية 000 " (ص706 )
... ولاشك أن الاحتفاء بالعقل هو احتفاء بالعلم لأن العقل آلته ووعاؤه ، وبغير العلم هو آلة معطلة إلا من هوامش الأمور .
... وإذا كانت الإحاطة والارتواء من معارف السابقين والأخذ منها فى ضوء معرفة علمية ذات بصيرة فيما تضيف وتحلل تتضح في هذا العرض، وذلك التحليل، فإن أثر الثقافة الحديثة المعاصرة واضحة أشد الوضوح في هذا الفهم وذلك التحليل؛ حيث اعتبارات العقل بزاده العلمي الممتد إلى آفاق المستقبل .
... وهكذا تصبح اللفتاتُ الجديدة ثمرة الثقافة العصرية، وثمرة الشخصية التي أبدعتها بما لها من
خصائص ومميزات تتسم بها .
المثال الرابع :
مع سورة الفلق :
" قل أعوذ برب الفلق " .عند تتبع هذه الآية الكريمة في أوسع التفاسير عرضًا وتحليلاً ، وهو التفسير الكبير للفخر الرازي نجد أن المسائل والوجوه التي ذكرت حول هذه الآية بلغت اثنتين وثلاثين مسألة ووجهًا ، وبعد استيعابها نقف أمام ما كتبه العلامة شوقي ضيف فنرى كيف تعامل مع هذه المسائل والوجوه :(87/13)
... " قل " يا محمد وهو خطاب يشمل أمته، " أعوذ " ألجأ إلى واق ، يقال: عاذ إلى فلان وبفلان ."برب أضواء الصباح فتكتسح الظلام كما تكتسح جنود الخير الشرور المحيطة بالإنسان" ( الوجيز ص1047)
... فهو هنا تجاوز المباحث الخاصة بالكشف عن ربط السورة وما بعدها بمعاني سورة "الإخلاص" قبلها، لأن هذه الوجوه محاولة استبصار ، وتجاوز كذلك المباحث الخاصة بأسباب النزول ، وجدل المعتزلة حولها ( الفخر الرازى: 32/186-188) ، ثم تجاوز وجوه التعليل فى معنى الاستعاذة وفوائدها فى قوله تعالى :" قل أعوذ " ( الفخر الرازي : 32/188-189 ، ونظم الدرر للبقاعي 22/406-408): واتجه إلى الأصل العام في الفهم اللغوي للنص الذي يشمل المعاني التي قالها المفسرون، وكشف عن وجه الخطاب فى خصوصه وعمومه، وأنه يشمل أمة محمد صلي الله عليه وسلم . (*)
... ثم قال : (الفلق):الصبح وربه الله . فاستغرق في ذلك جملة مباحث منها ثمانية وجوه في التعليل لتفسير (الفلق) بالصبح ، ثم قال : (وربه هو الله ) فاستغرق بذلك خمسة وجوه للتعليل لاختيار لفظ (الرب)
دون لفظ (الله) فى هذا السياق.
... ثم استغرق في السياق معنى : أن فالق الصبح هو رب الخلق والإيجاد فهو رب جميع الكائنات ، وما الصبح إلارمز قوي وصورة باهرة في استغراق معنى مطلق الخلق والإيجاد ، وهنا استوعب ثلاثة وجوه من التعليل دون أن يرد شيئًا منها (راجع : الفخر الرازي 32/190-192 )
... ثم نأتي للآية الثانية وهى قوله تعالى : " من شر ما خلق "
وقد أدار علماء التفسير فى المطولات لاسيما الفخر الرازي جدلاً عقليا يردون فيه على من ينفقون ، ومن ينسبون خلق الشر إلى الله تعالي ، وهو جدل لا يخدم جوهر الدلالة بقدر ما يثير مباحث كلامية( الفخر الرازى : 32/192-193) .
... ويأتي العلامة شوقي ضيف فيترك هذه المسائل الشائكة ، والتي لاتوافق فطرة الإيمان ، وإنما أثارها بعض الملاحدة كما وصفهم بذلك الفخر الرازي .(87/14)
وأستاذنا شوقي ضيف إذ يتجنب مسائل الحوار في ذلك يورد ما لم تورده بعض كتب التفسير الكبرى حيث يقول : " يلاحظ : ابن قيم الجوزية : أن الله أضاف الشر في الآية إلى المخلوقات ، فالشر لايتصل بخلقه ، فخلقه يتنزه عن كل شر،إنما يتصل بمخلوقاته000". وهو في ذلك سد بابًا لجدل واسع . (الوجيز ص1047) ثم نأتي إلى قوله تعالى: " ومن شر غاسق إذا وقب "
فيتجاوز أقوال المفسرين التي هي عند الحصر سبعة أقوال ليعزز المعنى الذي يستوعبها فيقول : " ومن شر غاسق إذا وقب، أي ليل إذا اشتد ظلامه ، لما يكون فيه من السباع والهوامِّ
واللصوص000 " ...
ويرجح بدقة العلماء قائلا : "ولعل هذا الرأي أكثر سدادًا " ( الوجيز ص 1047 ) .
... ولا يخفى في هذا السياق : أن الظلام أشد أعوان العدو على الإنسان، والظلام كما هو حلكة السواد فإنه يشمل مجازاً ـ عندي ـ الجهل والتعمية عن كثير مما ينتفع به حذرًا، فيؤتى الحذر من مأمنه ، وقد راجعت ( نظم الدرر للبقاعى 22/410 ) في ذلك فإذا به يقول : "ومن شر غاسق، أى مظلم 000 سواء كان أصلاً في الظلام حسيًّا أو معنويًّا 000 ". وهذا كلام يعزز فكرة المجاز في فهم الظلام .
... هنا ( في الوجيز ) تتجلى ـ كما سبق في الآيات السابقة ـ خاصية عرض اللباب النافع لأصول المعاني المبسوطة في مسائل ووجوه لدى كبار المفسرين كالزمخشري ، والفخر الرازي ، ثم الشيخ محمد عبده ـ مع وضوح النظرة القرآنية الشاملة للموضوع قيد النظر والتحليل ( أعني في الوجيز )(87/15)
... يقول أستاذنا العلامة شوقي ضيف في وجازة ووضوح واستيعاب: " أخذ بعض المفسرين بظاهر الآية فقال : إن النفاثات هن النساء الساحرات اللاتي ينفثن أو ينفخن في عُقد خيط راقيات عليه من يردن إيذاءه، والسحر إنما هو تمويه بالتخاييل كمن يرى السراب من بعيد فيخاله ماءً ، وإذا كان جل شأنه ذكره ( أي: السحر) بسورة البقرة ، فإنه يحكى بذلك عقيدة المخاطبين . وحاول الزمخشرى أن ينفي عن الآية فكرة السحر، إما بأن المراد بالنفاثات في العقد : الكيّادات، أخذاً مما جاء في وصف النساء بقصة يوسف من قوله تعالى : " إن كيدكن عظيم " (28/يوسف ) . وذهب الشيخ محمد عبده في تفسير الآية : إلى أن المراد بالنفاثات : النمّامات ، المقطِّعات لروابط الأسرة بنميمتهنّ ، فشبَّههُنّ الله بأولئك الساحرات المشعوذات000" (الوجيز ص1047 ) ، (وراجع للمقابلة: الكشاف 4/244، والشيخ محمد عبده في تفسير جزء " عمَّ " ص 181 ـ 182 ط أولى1322هـ)
... والعلاّمة شوقي ضيف على منهجه في الوجازة الشافية لم يتوسع في عرض لطائف الشيخ محمد عبده، ومن أطراف توليدات وتنبيهات الإمام محمد عبده قوله : " وماذا علينا لو فهمنا من السحر الذي يفرق بين المرء وزوجه تلك الطرق الدقيقة( يعني النميمة ) التي تصرف الزوج عن زوجته والزوجة عن زوجها ، وهل يبعد أن يكون مثل هذه الطرق مما يتُعلم وتُطلب له الأساتذة ، ونحن نرى أن كُتبًا ألِّفت ودروسا تُلقى لتعليم أساليب التفريق بين الناس لمن يريد أن يكون من عمال السياسة في بعض الحكومات ، وقد يكون ذكر المرء وزوجه من قبيل التمثيل ، وإظهار الأمر في أقبح صورة 000 وسياق الآية لايأباه " ( تفسير جزء " عمَّ " ص 183 ط أولى ) .(87/16)
... وهكذا نرى في " الوجيز " لأستاذنا شوقي ضيف سعة الإحاطة ودقة الفهم وبراعة العرض ولطف الإشارة المختارة ، طبقًا للمنهج الذي قرره في مقدمة تفسيره للقرآن الكريم ونرى استيعابًا لما سبقه وهضمًا للجوهر الذي يراه منه ، مع إضافات إليه في جدة عرض وإخراج مستقلين مميزين .
... ثم نصل إلى الآية الخامسة والأخيرة في هذه السورة :
" ومن شر حاسد إذا حسد "
... بالرجوع إلى جامع البيان لابن جرير الطبري (ت 310 هـ) ثم إلى الكشاف للزمخشري ( 467هـ ـ 538 هـ ) والفخر الرازي في التفسير الكبير( 544هـ ـ 604هـ) والقرطبي ( ت 671هـ ) ثم نظم الدرر للبقاعي ( ت 885هـ ) ثم روح المعاني للألوسي( 1217هـ ـ 1270هـ ) وتفسير جزء " عمَّ " للشيخ محمد عبده ( 1266هـ _ 1849 ـ 1323هـ 1905 ) ثم للوجيز في تفسير القرآن الكريم للعلامة شوقي ضيف - تبين لي أن أوفي وأجمع ما قيل بعد القرطبي يوجد عند الشيخ محمد عبده ، وعند الدكتور شوقي ضيف على النحو التالي :
... يقول الشيخ محمد عبده : "الحاسد الذي يتمنى زوال نعمة محسوده ولا يرضى أن تجدد له نعمة، وهو إذا حسد أنفذ حسده وحققه بالسعي والجدّ فى إزالة نعمة من يحسده ـ من أشد خلق الله أذى ، ومن أخفاهم حيلة ، وأدقهم وسيلة . وليس في طاقة محسوده إرضاؤه بوجه من الوجوه، ولا في استطاعته الوقوف على ما يدبره من المكايد ، فلا ملجأ منه إلا إلى الله وحده 000 " (تفسير جزء عمَّ " ص 184 ) ويأتي(الوجيز) ليقول : " الحسد تمني الشخص زوال نعمة الآخرين ، وهو أول ذنب جسيم عُصِى الله به في السماء والأرض . أما في السماء فحسد إبليسُ آدمَ حسدًا منعه من السجود له حين أمره ربه ، فطرده من الجنة ، وكتب عليه اللعنة إلى يوم الدين . وأما في الأرض فحسدُ قابيل لأخيه هابيل حسدًا أدّاه إلى قتله ، فكان أول من سَنَّ القتل في الأرض بسبب الحسد،وفي الحديث النبوي :"الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النارالحطب"(الوجيزص1047 )(87/17)
... والإشارة إلى حسد إبليس لآدم، وقابيل لهابيل أصلها موجود في القرطبي ، ولكن ليس بهذا العرض الوافي، مما يؤكد أن تفسير ( الوجيز) من القواعد المرعية فيه النظرة الشاملة للموضوعات في القرآن الكريم، وقد اتضح لنا ذلك في سياقات متعددة رصد هذا البحث بعضها بعناية.
... وهكذا يبقى اختيار ( الوجيز )
وعرضه لمادته مُتَّسمًا بالإحاطة والعمق والإضافة علي وجازته ، وسهولته ، وتميّز طريقته في العرض الخاص به .
* ... * ... *
* شيخ العربية وحامي حماها ، وقائد سدنتها ، وفرسان مسيرتها : الاحتفال بكم من الكمالات التي يشرُف بها من يشارك فيها .
* ياشيخنا الجليل لقد اتخذتم سُلم العلم مَرْقيً، ومدرجة البحث ملاذًا محببًا، ونبل الغاية وطهر المقصد زادًا .
... فأعلى الله منزلتك ، ورفع مقامك عليا في تاريخ العربية والإسلام، مع الأعلام المرموقين من أئمة العلم والدرس في تاريخ هذه الأمة .
* شيخنا الجليل العلامة شوقي ضيف: تهنئةً لك بما قدمت ، ودعاء لك بطول العمر ووفرة العطاء .
ورضى الله عنك وأرضاك دائمًا .
محمد أبو الأنوار
الأستاذ المتفرغ بكلية دار العلوم
بجامعة القاهرة(87/18)
المحاذاة في اللغة العربية
للأستاذ الدكتور رجب عبد الجواد إبراهيم
المدخل
المحاذاة ظاهرة صوتية، صرفية، نحوية، دلالية، ولعلَّ أول مَنْ استعمل هذا المصطلح في العربية هو اللغوي أحمد بن فارس (ت395هـ) عندما عقد لها بابًا في كتابه الصاحبي سمَّاه :
باب المحاذاة(1)، وعرَّفها بقوله:معنى المحاذاة أن يُجعل كلامٌ بحذاء كلامٍ ، فيُؤتى به على وزنه لفظًا وإن كانا مختلفين ، ومثَّل لها بقولهم: "الغدايا والعشايا" ، فقالوا الغدايا لانضمامها إلى العشايا ، والغَدَاة لا تُجمع على الغدايا، وإنما تُجمع على غَدَوات لا غير ، ولكنهم كسَّروه على ذلك؛ ليطابقوا بين لفظه ولفظ العشايا، فإذا أفردوه لم يكسِّروه، ومثَّل لها أيضًا بقوله عليه الصلاة والسلام يُعوِّذ الحسن والحسين: " أعيذكما بكلمة الله التامَّة، من شرِّ كلِّ سامَّة ، ومن كل
عين لامَّة"، فالسامَّة مِنَ الفعل الثلاثي سَمَّتْ، واللاَّمة من الفعل الرُّباعي :
ألمَّتْ، وكان القياس يقتضي أن يقول: مُلِمَّة، ولكن لما قُرِنَتْ بالسَّامَّة جُعلت على وزنها(2) .
وقد سمَّاها بعض اللغويين : المزاوجة أو الازدواج، فأحمد بن فارس نفسه وضع كتابًا سمَّاه : الإتباع والمزاوجة(3) ، ساق فيه كثيرًا من الكلمات التي تُدرج تحت المحاذاة أيضًا ، كما عقد ابن قتيبة (ت267هـ) في كتابه: أدب الكاتب بابًا سمَّاه : باب تأويل المستعمل من مزدوج الكلام، ومن أمثلته : له الطِّمُّ والرِّمّ، لا يعرف هِرًّا من بِرٍّ، القومُ في هِيَاط ومِيَاط، ما به حبَضٌ ولا نَبَض، وهو لكَ حِلٌّ وبِلٌّ، هو لا يُدالِسُ ولا يُؤالِسُ(4) يُدْرج تحت المحاذاة أيضًا.
كما سمَّاها أصحاب المعاجم العربية
في مواضع متناثرة : الازدواج ، والتزاوج، والمزاوجة، ففي ديوان الأدب للفارابي (ت350هـ) : "يقال: أخذني من ذلك ما قَدُم وما حَدُث ، لا يُضمُّ حَدَث في شيْءٍ من الكلام إلا في هذا الموضع، وذلك لمكان الازدواج(1).(88/1)
وفي صحاح الجوهري (ت393هـ): يُقال : تَعْسًا له ونَكْسًا، وإنما هو نُكْس بالضم، وإنما فُتح هنا للازدواج . وفيه أيضًا : ويقال : هَنَأني الطعام ومَرَأني، إذا أتبعوها هنأني قالوها بغير ألف، فإذا أفردوها قالوا : أمرأني (2).
وفي لسان العرب لابن منظور (ت711هـ): قال ابن مقبل:
هتَّاكِ أخبيةٍ ولاَّجِ أبوبةٍ
... يَخْلطُ بالبِرِّ منه الجِدَّ واللِّينا
فإنما قال: أبوبة للازدواج لمكان
أخبية، ولو أفرده لم يَجُزْ . وفيه أيضًا: له عندي ما سَاءه ونَاءه ، وإنما قال: ناءه، وهو لا يتعدَّى؛ لأجل سَاءه ، فهم إذا أفردوا قالوا : أنَاءه، لأنهم إنما قالوا : ناءه، وهو لا يتعدى لمكان ساءه ليزدوج الكلام(3) .
وفي تاج العروس للزَّبيدي (ت1205هـ): وأمَّا قوله - صلى الله عليه وسلم - لزائرات القبور: "ارجعنَ مأزوراتٍ غيرَ مأجورات"؛ أي آثِمات، والقياس: موزورات فإنه للازدواج؛ أي لما قابل الموزور بالمأجور قلب الواو همزة ليأتلف اللفظان ويزدوجا(4).
وقد سمَّى الثعالبي( ت 429هـ ) هذه الظاهرة بالمجاورة؛وعقد في كتابه: فقه اللغة وسر العربية فصلاً سمَّاه:في الحمل على اللفظ والمعنى للمجاورة ، وساق أمثلة منها: هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ ، بكسر كلمة "خرب" رغم أنها نعت للجُحْر لا نعتٌ للضبِّ ، وقول
امرئ القيس:
كأنَّ ثَبيرًا في عرانين وَبْلهِ
... كبيرُ أناسٍ في بَجَادٍ مُزَمَّل
بخفض كلمة " مُزَمَّل " رغم أنها نعت للشيخ لا نعتٌ للبجاد(1) .
وسمَّاها في موضع آخر من كتابه:حفظ التوازن ، وعقد فصلاً لها بقوله: العرب تزيد وتحذف حفظا للتوازن وإيثارًا له ، أما الزيادة فكما قال الله تعالى: { وتظنون بالله الظنونا } ، وكما قال : { فأضلونا السبيلا } ، أما الحذف فكما قال جلَّ اسمه { والليل إذا يَسْرِ } وقال : { الكبير المتعال } ، و { يوم التناد } ، { يوم التلاق } (2) .(88/2)
أما ابن جنِّي(ت392هـ)فقد سمَّى هذه الظاهرة: الجوار، وعقد لها بابًا في الخصائص؛ سمَّاه: باب الجوار، وجعله على ضربين: أحدهما تجاور الألفاظ ، والآخر تجاور الأحوال، فأما
تجاور الألفاظ فعلى ضربيْن: أحدهما
في المتصل ، والآخر في المنفصل(3).
وقد تبعه في ذلك ابن هشام (ت761هـ) في : مغني اللبيب بقوله: إن الشيء يُعطي حكمَ الشيء إذا جاوره؛ كقول بعضهم: "هذا جُحْرُ ضبٍّ خَرِبٍ" بالجر، والأكثر الرفع، وقول امرئ القيس :
كأنَّ أبَانًا في عرانين وَبْلِه
... كبيرُ أُناسٍ في بجادٍ مُزمَّلِ(4)
وتبعهما أيضًا السيوطي (ت911هـ) ؛ ففي كتابه: الأشباه والنظائر في النحو لخَّص ما قاله ابن جنِّي في الخصائص وما قاله ابن هشام في مغني اللبيب ، وساق للجوار أمثلة متعددة(5).
أما علماء البلاغة والدراسات القرآنية فقد سموا هذه الظاهرة : المناسبة؛ ففي تحرير التحبير لابن أبي الإصبع (ت654هـ) عقد بابًا للمناسبة وجعلها على ضربين : مناسبة في المعاني ، ومناسبة في الألفاظ، فالمعنوية أن يبتدئ المتكلِّم بمعنى ثم
يُتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ؛ كقول الله سبحانه وتعالى: { لا تُدْركُه الأبصارُ وهو يُدْركُ الأبصارَ وهو اللطيفُ الخبير } ،فإنه – سبحانه – لما قدَّم نفي إدراك الأبصار له،عطف على ذلك قوله: { وهو اللطيف } ، خطابا للسامع بما يفهم، ولما قال: { وهو يدرك الأبصار } ، عطف على ذلك قوله : { الخبير } ، تخصيصًا لذاته سبحانه بصفات الكمال، لأن كل من أدرك شيئًا كان خبيرًا بذلك الشيء .
وأما المناسبة اللفظية فهي توخِّي الإتيان بكلمات متَّزنات ، وهي على ضربين: تامة وغير تامة ، فالتامة أن تكون الكلمات مع الاتِّزان مقفَّاة ، وأخرى ليست بمقفَّاة، فالتقفية غير لازمة للمناسبة، ومن أمثلة المناسبتين الناقصة والتامة الشعرية قول أبي تمام
(طويل):
مَهَا الوَحشِ إلاَّ أنَّ هَاتَا أوانِسُ
... قنا الخطِّ إلا أنَّ تلكَ ذَوابِلُ(1)(88/3)
فقد ناسب أبو تمام بين: مها وقنا مناسبة تامة، وبين الوحش والخط، وأوانس وذوابل، مناسبة غير تامة، وهذا البيت من أفضل بيوت المناسبة لما انضمّ إليها فيه من المحاسن، فإن فيه مع المناسبتين التشبيه بغير أداة، والمساواة ، والاستثناء، والطباق اللفظي، وائتلاف اللفظ مع المعنى والتمكين (2) .
وقد عقد السيوطي في الإتقان بابًا لائتلاف اللفظ مع اللفظ وائتلافه مع المعنى، أي أن تكون الألفاظ يلائم بعضها بعضًا، بأن يقرب الغريب بمثله والمتداول بمثله؛ رعايةً لحسن الجوار والمناسبة(3).
كما ذكر السيوطي عن ابن الصائغ أنه وضع كتابًا سمَّاه : إحكام الراي في أحكام الآي قال فيه: اعلم أن المناسبة أمر مطلوب في اللغة العربية ، يُرتكبُ لها أمور من مخالفة الأصول ، وقد تتبعت الأحكام التي
وقعت في آخر الآي مراعاة للمناسبة، فعثرت منها على نيِّفٍ وأربعين حكمًا(1).
ومن خلال استقرائي لكتب اللغة والنحو والمعاجم العربية وجدت أن المحاذاة موجودة في هذه المستويات الأربعة، وهذا البحث سيدرس هذه الظاهرة في ثلاثة مستويات في اللغة العربية: في المستوى الصوتي، والصرفي ، والنحوي، وبذلك قسَّمت البحث إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول : المحاذاة الصوتية، وقسَّمت المحاذاة الصوتية قسمين: محاذاة في الحركات، ومحاذاة في الحروف أو الأصوات، والقسم الثاني: المحاذاة الصرفية، وجاءت في عدة صور: إيثار بعض صيغ المشتقات ، والجمع على غير قياس، وتحويل المجرد إلى مزيد والعكس، والاستغناء بالمفرد عن المثنى أو الجمع والعكس ، والإتباع .
أما القسم الثالث فهو المحاذاة النحوية، وهي على أربعة أنواع : محاذاة في
علامات الإعراب، ومُحاذاة عن طريق الحذف ، ومحاذاة عن طريق التقديم والتأخير، ومحاذاة عن طريق الإتباع في الضمائر.(88/4)
أما المحاذاة الدلالية فهي متناثرة في كتب البلاغة وعلوم القرآن ، وهي عندهم نوعان: محاذاة في الألفاظ ؛ أو ما يُسمَّى في البلاغة بالمماثلة ، أو المزاوجة، أو الترصيع، أو المناسبة اللفظية، ومحاذاة في المعاني؛ وهي المناسبة المعنوية(2).
القسم الأول: المحاذاة الصوتية
وهي نوعان: محاذاة في الحركات؛الضم أو الفتح أو الكسر أو السكون،ومحاذاة في الأصوات عن طريق القلب،أو الحذف، أو الزيادة ، أو الإمالة ، أو فك الإدغام .
أولاً : المحاذاة في الحركات :
قد تتغير بنية الكلمة من حيث الفتح أو الكسر أو الضم أو السكون
لتتفق مع كلمة أخرى وتحاكيها؛ ويتحقق بهما معًا المحاذاة الصوتية ؛
ومنه قول العرب: أشدُّ العطش حِرَّة على قِرَّة،ويعنون به: أشد العطش ما كان في يوم بارد،والقياس فتح الحاء: حَرَّة،ولكنهم كسروا الحِرَّة لمكان القِرَّة(1).
وقال ابن دريد: الحَرَّة – بالفتح – حرارة العطش والتهابه، ومن دعائهم: رماه الله بالحِرَّةِ والقِرَّةِ ؛ أي بالعطش والبرد، كُسر للازدواج، وهو شائع(2).
وفي التاج:والجَبَرية – بالتحريك-خلاف القَدَرية،وهو كلام مولّد،وتسكين الباء في الجَبَرية هو الأصل؛ لأنه نسبة إلى الجَبْر – بالتسكين - ، وقالوا في التحريك إنه للازدواج؛أي لمناسبة ذكره مع القَدَرية(3).
ومن ذلك أيضًا ما رواه اللسان: كانت امرأة من العرب يُقال لها : أم خارجة يُضرب بها المثل فيُقال : أسرع من نِكاح أم خارجة، وكان الخاطب يقوم على باب خبائها فيقول:
خِطْب ! فتقول: نِكْح !، ويقول: خُطْب! فتقول : نُكْح(4)
وقد تحققت بذلك المحاذاة الصوتية بين الكلمتين في حالتي : كسر الفاء وضمها.(88/5)
ومنه أيضًا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند دخول الخلاء : اللهم إني أعوذ بك من النِّجْس الرِّجْس الخبيث المُخْبِث"، قال الفرَّاء: إذا قالوا: النِّجْس مع الرِّجْس أتبعوه إياه، فقالوا: رِجْس نِجْس بالكسر، وإذا أفردوه قالوا: نَجَس بالفتح؛ كما في قوله تعالى: { إنما المشركون نَجَس } للواحد والاثنين والجمع، وإنما كسروا: نِجْس لمكان رِجْس؛ التي هي مكسورة على كل حال(5).
ومنه أيضًا قول العرب: "تَعْسًا له
ونَكْسًا " بفتح النون في نَكْسًا،وقياسه: نُكْسًا بالضم، وإنما فُتح هنا للازدواج(6).
وكذلك قول العرب : جاء بالطِّمِّ والرِّمِّ، والطِّمُّ: البحر ، والرِّمُّ : الثرى، أي جاء بالرَّطب واليابس، والطَّمُّ – بالفتح- هو البحر فكُسرت الطاء ليزدوج مع الرِّمّ؛ فإذا أفردوا الطِّمّ فتحوه(1).
وأيضًا قول العرب:جاء بالضِّيحِ والرِّيح، والضِّيح : الشمس ، وجاء بالضِّيح والريح؛ أي جاء بالمال الكثير، والضِّيح أصله : الضِّحُّ،وإنما أُشبعت الضاد بالكسرة الطويلة لتحاذى الكلمة التي بعدها: الرِّيح(2).
وفي حديث ابن مسعود: أنَّه سلَّم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلِّي ، فلم يرُدَّ عليه السلام، قال : فأخذني ما قَدُم وما حَدُث"؛ أي همومه وأفكاره القديمة والحديثة، ولا يُقال: حَدُث – بضم الدال – إلا مع قَدُم كأنه إتباع ، وقال الجوهري: لا يُضمُّ حَدُث في شيء من
الكلام إلا في هذا الموضع ، وذلك لمكان قَدُم على الازدواج(3).(88/6)
وفي ديوان الأدب: ومن أمثالهم : السَّراح من النَّجاح، والسَّراح – بفتح السين – الاسم من التسريح، وضَبْطُه: السِّراح – بكسر السين - ، ولكن فُتحت السين لتحاذي كلمة النَّجاح(4). وفيه أيضًا : المِنْخِر لغة في المَنْخِر،والمِنْتِن لغة في المُنْتِن، والأصل فيهما: مَنْخِر ومُنْتِن، فكُسر أوائلهما إتباعًا للعين وشبهًا بِفِعْلِل(5) ، وفي ذلك يقول ابن يعيش: منهم من يقول مُنْتُن بضم التاء إتباعًا لضمة الميم، ومنهم من يقول: مِنْتِن بكسر الميم إتباعًا لكسرة التاء؛ إذ النون لخفائها وكونها غُنَّة في الخيشوم حاجز غير حصين(6). ومن المحاذاة الصوتية في الحركات ما جاء على لغة تميم من كسر فاء صيغة فَعِيل إذا كانت العين أحد الحروف الستة الحلقية : أ. هـ . ع. غ. ح. خ، وكذلك صيغة فَعِل إذا كانت صفةً أو فعلاً أو اسمًا ، وما كَسْر الفاء إلا لتحاذي العين وتتبعها ،
فيقولون : لِئِيم، وشِهِيد، وسِعِيد، ونِحِيف، ورِغِيف، وبِخِيل، وبِئِيس، ويقولون أيضًا: شِهِدٌ ، ولِعِبٌ ، وضِحِكٌ، نِغِلٌ، ووِخِمٌ، وفِخِذٌ. وهناك من غير التميميين من قال: مِغِيرة ومِعِين ، أتبعوا الكسرة الكسرة، كما قالوا : مِنْتِن، وأُنْبُؤُك وأَجُوءُك، يريد أُنْبِئك وأَجِيئك ، وقالوا في حرف شاذ: إِحبُّ ونِحِبُّ ويِحِبُّ ، شبَّهوه بقولهم: مِنْتِن(1). وأنشد سيبويه للأخْطَل:
إذا غَاب عنَّا غاب عنَّا فُراتُنا
... وإن شِهْدَ أَجْدَى فَضْلُه وجَدَاوِلُه
والشاهد فيه تحريك الشين بالكسر إتباعًا لحركة عينها قبل الإسكان ، وهذا الإتباع مُطَّرِد فيما كان ثانيه أحد حروف الحلق ، وكان مبنيًا على فَعِل، فعلاً كان أو اسمًا في لغة بني تميم(2).
ويقرِّر اللغويون أن كل فِعْل جاء على فَعِل بكسر العين، وعينه حرف حلقي يجوز فيه كسر الفاء إتباعًا لكسر العين؛ نحو : نِعِمَ وبِئِسَ(3).(88/7)
ويؤكد سيبويه أن الألف الموصولة في الأفعال مكسورة دائمًا، إلا إن كان الحرف الثالث مضمومًا فتضمُّها ، وذلك قولك: اُقْتُل ، اُسْتُضْعِفَ، اُحْتُقِرَ، اُحْرُنْجم، وذلك أنك قرَّبت الألف من المضموم إذ لم يكن بينهما إلا ساكن فكرهوا كسرة بعدها ضمة، وأرادوا أن يكون العمل من وجه واحد، ولا يقصد سيبويه من قوله: "يكون العمل على وجه واحد"، إلا تحقيق المحاذاة بين الحركات، كما فعلوا ذلك في : مُذُ اليومُ يا فتى ، كما ساق سيبويه من الشعر ما يؤكد هذه المحاذاة في الحركات كقوله: وقالوا: اضْرِبِ الساقَيْنِ إِمُّكَ هابِلُ. فالشاهد فيه : إتباع همزة إِمُّك لكسرة نون " الساقين" كما روى أيضًا: "إِمِّك هابل" بإتباع ميم "إمِّك" لكسرة الهمزة، فيكون في هذا الشطر إتباعان، ومنهم من يرويه: "الساقينُ أُمُّك" بإتباع نون "الساقين" لهمزة "أمك"،ويُروى للنعمان
بن بشير الأنصاري،ومنهم من نسبه لامرئ القيس:
وَيْلُمُّها في هواءِ الجوِّ طالبِةً
ولا كهذا الذي في الأرض مَطلوبُ أراد : "ويلُ أمها" فحذف الهمزة استخفافًا ، ثم أتبع حركة اللام حركة الميم(1). ويروى لنا ابن جني في المحتسب أنَّ أهل البادية قرأوا: "الحمدُ لُله" مضمومة الدال واللام ، كما قرأ إبراهيم بن أبي عبلة وزيد بن عليٍّ والحسن البصري: "الحمدِ لِله" مكسورتين، ثم يؤكد أن المحاذاة أو الإتباع كثر في كلامهم وشاع، ولذا أتبعوا أحد الصوتين الآخر، وشبهوهما بالجزء الواحد وإن كانا جملة من مبتدأ وخبر، فصارت "الحمدُ لُله" كعُنُق وطُنُب، و" الحمدِ لِله" كإِبِل وإِطِل. وفي قوله تعالى: { وإياك نستعين } قرأها الفضل الرُّقاشي " وَأَيَّاك" بفتح الهمزة ، إتباعًا لما قبلها "الواو" وما بعدها "الياء" . وأمَّا قوله تعالى :(88/8)
{ أنعمتَ عليهم } فقد ساق لها ابن جني عشر قراءات، منها ما لا يُفسَّر إلا بالإتباع في الضم : عليْهُمُ، عليْهُمُو ، أو بالإتباع في الكسر: عليهِمِ ، عليهِمِي(2). وما قول سيبويه إن الهاء تُكْسَر إذا كان قبلها ياء أو كسرة، إلا بسبب المحاذاة؛ فالهاء خفية كما أن الياء خفية، وهما من حروف الزيادة ، فكما أمالوا الألف كسروا الهاء، وقلبوا الواو ياء؛ لأنه لا تثبت واو ساكنة وقبلها كسرة، فالكسرة ههنا كالإمالة في الألف لكسرة ما قبلها وما بعدها ، وذلك قولك:مررت بِهِيِ قبل، ولديْهِيِ، ومررت بدارِهِى قبل(3). وأما قوله تعالى : { ولا الضالِّين } فقد قرَأَ أيوب السختياني: " ولا الضَأَلِّين" بالهمز المفتوح، ويفسِّر ابن جنِّي ذلك بقوله: ووجه ذلك أن الألف ساكنة وهي مجاورة لفتحة الحرف قبلها، والحرف الساكن إذا جاور الحركة فقد تنزله العرب منزلة المتحرك بها؛ من ذلك
قولهم في الوقف على بَكْر: هذا بَكُرُ، ومررت ببكِرِ، ألا ترى حركتي الإعراب لما جاورتا الراء صارتا كأنهما فيها. ومنه قول جرير :
لَحَبَّ المُؤقدانِ إلىَّ مُؤْسى
... وجَعْدَةُ إذ أضاءهُما الوَقُودُ
فهمز الواو في الموضعين: المؤقدان، مؤسى، لأنهما جاورتا ضمة الميم قبلهما، فصارت الضمة كأنها فيهما، والواو إذا انضمت ضمًّا لازما فهمزها جائز، نحو: أُقِّتت في "وُقِّتت" وكذلك الفتحة قبل الألف لما جاورتها صارت كأنها فيها، وقد قرأ عمرو بن عبيد" فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إنسٌ وَلا جَأَنُّ" الرحمن39 ، مع ملاحظة تحريك الهمز في الكلمتين : الضَأَلِّين ، جَأَنُّ؛ لتحدث المحاذاة في الفتح، كما حدثت في قول كُثيِّر في مدح عمر بن عبد العزيز :
وأنتَ ابنُ ليلى خيرُ قومِك مَشْهدًا
... إذا ما العوالي بالعبيط احْمَأَرَّتِ
وقوله في مدح عبد العزيز بن مروان:
وللأرضِ سُودُها فتجلَّلتْ
... بياضًا وأَمَّا بِيضُها فادْهَأَمَّتِ(1)
ويذهب الفرَّاء إلى أن كلمة : مُنْذُ(88/9)
أصلها مركبة من كلمتين: مِنْ ، وذو التي بمعنى الذي في لغة طيِّئ، ثم قُلبت كسرة الميم ضمة لتحاذي ضمة الذال بعدها(2).
ومن المحاذاة أيضًا في الأفعال أن الأصل في الفعل المضارع أن تختلف حركة عينه عنها في الماضي؛ ولذا يُقال: ضَرَب يضْرِبُ، ونَصَر يَنْصُر، فما كان ماضيه على فَعَل، مفتوح العين، فإن مستقبله يأتي بالضم أو بالكسر ، ولكن لا يأتي مستقبله بالفتح إلا أن تكون لام الفعل أو عين الفعل أحد حروف الحلق الستة؛ وذلك لتتحقق فيه المحاذاة؛ لأنهم ضارعوا بفتحة العين في المضارع جنس حرف الحلق؛ لما كان موضعًا منه مخرج الألف التي منها الفتحة(3).
وفي قوله تعالى: { والسَّماءِ ذاتِ الحُبُكِ } (الذاريات 7) ، يقول أبو حيان الأندلسي، فيمن قرأ "الحِبُك" بكسر الحاء وضم الباء: إن هذا مما اتّبَع فيه حركة الحاء لحركة تاء "ذات" في الكسر، ولا يُعتدُّ بالساكن لأنه حاجز غير حصين(1).
وأمَّا قراءة كسر الباء مع كسر الحاء "الحِبِك" فقرأ بها أبو مالك الغفاري والحسن ووجهها أن يكون الأصل حِبْكًا بكسر الحاء وسكون الباء ثم حُرِّكت الباء بالكسر إتباعًا لحركة الحاء، ومنه قول الشاعر :
أرتْنِىَ حِجْلاً على ساقِها
فهشَّ الفؤادُ لذاكَ الحِجِلْ
وقال الآخر :
علَّمنا إخوانُنا بنو عِجِلْ
... شُربَ النبيذِ واعتقالا بالرِجِلْ
ففي البيت الأول حُرِّكت الجيم لمحاذاة حركة الحاء في الكسر وفي الثاني حُرِّكت الجيم أيضًا لمحاذاة
العين والراء(2).(88/10)
وفي قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا أن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } (النساء 25) قرأ يزيد بن قطيب "المُحْصُنَات" بضم الصاد ، ووجه ذلك في اللغة هو تحقيق المحاذاة بين الميم والصاد؛ وفي ذلك يقول أبو حيان: "وضم الصاد إتباع لضم الميم، كما قالوا "مِنْتِن" ولم يعتدوا بالحاجز؛ لأنه ساكن ، فهو حاجز غير حصين(3). وفي قوله تعالى: { وصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ } ( الرعد 33) ، قرأ ابن وثَّاب " وصِدُّوا " بكسر الصاد، ووجهها أن أصله " صُدِدُوا " بضم الصاد وكسر الدال، ثم كُسرت الصاد إتباعًا ومحاذاة للدال ، ثم أدغما فقالوا: صِدُّوا، وهي لغة بني ضبَّة، وكذلك قرأ ابن وثَّاب والحسن وغيره { هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إلَيْنَا } ( يوسف 65) بكسر الراء : رِدَّتْ، وأصلها أيضًا : "رُدِدَتْ " ثم كُسرت الراء لتحاذي
الدال، ثم أُدغم المثلان(1). وفي قوله تعالى : { عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } (سبأ 48) قرأ حمزة وأبو بكر "الغِيوبِ " بكسر الغين، ووجهها أنه لما اجتمع ضمَّتان وياء وواو استثقلوا ذلك، فحولوا ضمة الغين كسرة للتناسب مع الياء بعدها، ونظيره: شِيوخ، وبِيوت، وجِيوب، وعِيون، بكسر الشين والباء والجيم والعين(2).
وأمّا قوله تعالى : { فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ } (الإسراء 23) فقد قرأ هارون وأبو السمَّال بالضمِّ والتنوين " أُفٌّ" وبالضم وغير التنوين " أُفُّ" ، للمحاذاة والإتباع، بين الهمزة والفاء ، كما كسروا الميم في "مِنْتِن" إتباعًا لكسرة التاء مع كون الحاجز ظاهرًا، فالمحاذاة هنا أولى لأن الحاجز مدغم(3). وأما قوله تعالى: { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } (المائدة6) فقد قرأ بجر اللام من(88/11)
"أرجُلِكم" ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة، وأبو بكر، وأنس، وعكرمة وغيرهم، وللغويين في ذلك تأويلات منها: أن الجرَّ جاء للجوار؛ أي لمجاورة اللام في "أرجلكم" السين في "رؤوسكم" ، وبذلك تحققت المحاذاة بينهما بالجر، وقد ضعَّف الرعيني وأبو حيَّان ذلك ، فقال الرعيني : الخفض على الجوار تأويل ضعيف؛ لأن الصحيح من الخفض على الجوار مع قلته ألا يكون إلا في النعت لا في العطف ، كما أنه مختص بالشعر، لكنه مردود عليه بأمرين : ورود الحمل على الجوار في النثر؛ كالقول المشهور: هذا جُحْرُ ضبٍّ خَرِبٍ ، كما أن الزمخشري أيَّد ذلك(4). وقال ابن هشام : "وأرجِلكم" بالخفض إنه عطف على أيديكم لا على رؤوسكم؛ إذ الأرجل مغسولة لا ممسوحة ، ولكنه خفض لمجاورة : رؤوسكم(5). وأما
قوله تعالى : { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُم }
(الكهف29) ، فقد قرأ أبو السمال بضم اللام "وقُلُ" إتباعًا لحركة القاف قبلها ، ولكي تحدث المحاذاة بينهما(1). وقوله تعالى: { اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } ( البقرة16) قرأ أبو السمال بفتح الواو في "اشتَرَوَا"ووجهها أنها فُتحت إتباعًا لحركة الفتح على التاء والراء قبلها(2). وكذلك قوله تعالى: ( فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ( (البقرة94) فقد قرأ أبو عمرو بفتح الواو في "فتمنَّوَا " لمحاذاة فتحة النون قبلها(3) .
وأما قوله تعالى : ( لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ(( التوبة 42) فقد قرأ الحسن البصري بفتح الواو في "لو" إتباعًا لحركة اللام قبلها(4)وقوله تعالى: (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ( (مريم96)، فقد قرأ أبو الحارث الحنفي بفتح الواو في " وَدًّا" إتباعًا(88/12)
لحركة الدال بعدها، وأمَّا السبعة فقد قرأوا بضم الواو إتباعًا لحركة النون قبلها (5).وفي قوله تعالى :( وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي ((مريم4) قرأ السبعة بفتح الهاء في "وهن" لمحاذاة الواو قبلها(6). ومن مظاهر المحاذاة الصوتية في الحركات قول العرب: "اللهمَّ اجعلنا من المُنْسيِّين في قلوب المُؤْذِيِّين " فقد حاذوا بين " المُنْسِيِّين والمؤذيِّين، وكان القياس يقتضي أن يُقال: المَنْسِيِّين – بفتح الميم – لكنهم ضموها لتحاذى الميم في المؤذيِّين التي كان قياسها أن تكون بياء واحدة: المؤذين ، ولكن زادت فيها الياء لتحاذي ما قبلها(7). ومن ذلك قول بعض الأعراب :
لَئِنْ بعثَتْ أمُّ الحُمَيدين مائِرًا
لقدْ غَنِيَتْ في غيرِ بُؤْسٍ ولا جُحْدِ والجُحْد قياسه : الجَحْد بفتح الحاء، وإنما ضُمَّت لمحاذاة الكلمة السابقة عليها وهي : بُؤْس ، كما قالوا :رِجْسٌ
نِجْسٌ، إذا أتبعوا ، فإذا أفردوا قالوا: نَجِس بفتح فكسر(1).
ومنه قوله تعالى : ( إنها ترمي بشَرَرٍ كالقَصَر((المرسلات32 ) بتحريك الصاد،لمحاذاة الكلمة السابقة عليها : شَرَر(2)، ومن ذلك أيضًا ما يحدث لكلمتي : ابنم ، وامرؤ في الرفع والنصب والجر، ففي الرفع : ابنُمٌ ، وامْرُؤٌ،وفي النصب: ابنَمًا وامْرَأ، وفي الجر: ابِنِم، وامْرِئٍ، وما ذلك إلا بسبب قانون المحاذاة في اللغة(3).
وفي هذا يقول السيوطي: "وإتباع حركة الحرف الذي قبل آخر الاسم المعرب لحركة الإعراب في الآخر، وذلك في امْرِئٍ وابنم، فإن الراء والنون يتبعان الهمزة والميم في حركتهما ؛ نحو : ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ( (النساء176) ، و ( مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ ((مريم28)، و( لِكُلِ امْرِئٍ مِّنْهُم(88/13)
مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ ((النور11)، وكذا ابنم ولا ثالث لهما في إتباع العين اللام. وكذلك إتباع حركة الفاء اللام؛ وذلك في مِرْئ وفمٍ خاصة؛ فإن الميم والفاء يتبعان حركة الهمزة والميم في بعض اللغات؛ فيقال : هذا مَرْؤٌ وفَمٌ، ورأيت مَرْأ وفَمًا ، ونظرتُ إلى مَرْءٍ وفَمٍ، ولا ثالث لهما(4).
وفي الكشاف قرأ أبو جعفر من رواية ابن جماز: ( وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا( (البقرة34) قرأ بضم التاء "الملائكةُ" إتباعًا لضم الجيم ، ولم يعتد بالساكن فاصلاً ، ووافقه الشنبوذي(5).
ومن المُحاذاة الصوتية في الحركات أنَّ مِنَ العرب مَنْ يُحرِّك الآخر كتحريك ما قبله، فإن كان مفتوحًا فتحوه، وإن كان مضمومًا ضَمُّوه ، وإن كان مكسورًا كسروه، وذلك قولك : رُدُّ ، وعَضَّ ، وفِرِّ يا فتى ، واقْشَعِرِّ، واطْمَئِنِّ ، واسْتَعِدِّ ،
واجْتَرَّ، واحْمَرَّ وضَارَّ؛ لأن قبلها فتحة وألفًا، فهي أجدر أن تُفتح، ورُدُّنا، ولا يُشِلِّكم الله، وعَضَّنا ومُدُّنى إليك ولا يُشِلِّك الله وليَعَضَّكم . ومن ذلك قول جرير: غُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيْرٍ(1) بإتباع الضاد المشددة للطاء المشدَّدة أيضًا. ومن المحاذاة الصوتية في الحركات أيضًا إتباع حركة العين للفاء في الجمع بالألف والتاء؛ نحو : تَمْرة تَمَرَات، بالفتح، وسِدْرة سِدِرَات؛ بالكسر ، وغُرْفة غُرُفات؛ بالضم(2) . ومن ذلك إتباع حركة اللام للفاء في البناء على الضم في كلمة : مُنْذُ؛ فإن الذال ضُمَّت إتباعًا لحركة الميم، ولم يعتد بالنون حاجزًا، ونظيرها في ذلك بناء : بَلْهَ على الفتح إتباعًا لفتحة الباء، ولم يعتد باللام حاجزًا لسكونها(3)، ومن ذلك ما أنشده سيبويه ونسبه لرجل من أزد السراة :
أَلاَرُبَّ مولودٍ وليسَ له أبٌ
... وذي وَلدٍ لمْ يَلْدَهُ أبوانِ(88/14)
أراد بالمولود الذي ليس له أب عيسى عليه السلام ، وأراد بالذي لم يلده أبوان آدم عليه السلام، والشاهد في : يَلْدَه، فقد التقى ساكنان:اللام والدال،ثم حُرِّك الدال بحركة أقرب المتحركات إليها على الياء ، وهي الفتحة ؛ لأن الساكن حاجز غير حصين، جعلوا حركته كحركة أقرب المتحركات منه، وعاملوه كما في كلمة: أَيْنَ ، وكَيْفَ(4).
ومن المحاذاة الصوتية في الحركات إتباع حركة الفاء للعين في لغة من قال في: لَدُنْ: لُدُ، قال ابن يعيش: من قال لُدُ بضم الفاء والعين فإنه أتبع الضمَّ الضمّ بعد حذف اللام(5).
ومنها إتباع حركة فاء كلمة لحركة
فاء أخرى لكونها قُرنت معها، وسكون عين كلمة لسكون عين أخرى أو حركتها لحركتها كذلك، قال ابن دريد في الجمهرة: تقول ما سمعت له جَرْسًا إذا أفردت ، فإذا قُلْتَ :ما سمعتُ له حِسًّا ولا جِرْسًا، كسرت الجيم للإتباع؛ أي كسروا فأتبعوا اللفظََ اللفظَ(1).
ثانيًا: المحاذاة في الحروف(الأصوات): ونعني بها : تغيير يطرأ على الكلمة في أحد أصواتها من أجل أن تحاذي كلمة قبلها أو بعدها، ولها خمس صور؛ هي : القلب، والحذف، والزيادة، والإمالة، وفكُّ ما استحقَّ الإدغام.
1- القلب: ويكون ذلك بقلب أحد الأصوات إلى صوت آخر لتصبح الكلمة في مجموع أصواتها محاذية لكلمة بعدها أو قبلها، ففي حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - "ارجعْنَ مأزوراتٍ غيرَ مأجوراتٍ" حاذت كلمة: مأزورات بالواو، لأنها مأخوذة من الوِزْر، وهو الذنب، ولكنه أتبع: مأجورات، ويقال:
رجلٌ موزور غير مأجور، ولما قابلوا الموزور بالمأجور قلبوا الواو همزة ليأتلف اللفظان ويزدوجا(2).(88/15)
وقد يكون الجوار سببًا هامًا من أسباب تحقيق المحاذاة ، وقد عقد ابن جني بابًا في الخصائص سمَّاه: باب الجوار، وجعله على ضربين:أحدهما تجاور الألفاظ ، والآخر تجاور الأحوال، فأما تجاور الألفاظ فعلى ضربيْن :أحدهما في المتصل،والآخر في المنفصل، فأما المتصل، فمنه مجاورة العين للام بحملها على حكمها،وذلك قولهم في: صُوَّم:صُيَّم ، فقد شبَّهوا باب صُوَّم بباب عِصِىّ فقلبه بعضهم ، ومثله قولهم في جُوَّع: جُيَّع ؛ قال الشاعر:
ومعرَّضٍ تغلى المراجلُ تحتَه
... بادرْتُ طبختَها لرهط جُيَّع
وأنشدوا : لولا الإله ما سكنَّا خَضَّما
... ولا ظَلِلْنا بالمَشَاء قُيَّما
وأصلها : قُوَّما من قام يقوم .
وعليه ما أنشده محمد بن حبيب من
قول النابغة الجعدي :
بُرَيْذينةٌ بلَّ البراذينُ ثَفْرَها
وقد شربَتْ من آخر الصيفِ أيَّلا وقد أجازوا فيه أن يكون أراد: جمع آئل؛ أي خاثر، من قولهم : لبن آئل؛ أي خاثر، وآل اللبن يئول إذا خثر، فقُلبت العين حملاً على قلب اللام(1).
ومن الجوار في المتصل قول جرير بن عطية من قصيدة يمدح فيها هشام بن عبد الملك:
كَحَبِّ المؤقدانِ إلىَّ مُؤسى
... وجعدةُ إذا أضاءهما الوقودُ
وأثر الجوار في البيت إبدال الواو في "الموقدان" و "موسى" همزة لمجاورتها للضمة قبلها، فكأنها مضمومة ، والهمز يجوز في الواو المضمومة ؛ نحو: أُجوه في: وجوه، وأُقِّتت في وقِّتت(2) . ومن ذلك قراءة أبي حيوة : ( وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُؤقِنُونَ( (البقرة3) بالهمز .
ومن الجوار في المنفصل قول العرب للرجل إذا قدم من السفر:أوبةً وطوْبةً؛ أي أُبْتَ إلى عيش طيِّب ومآب طيِّب،والأصل في طوْبة: طيْبة، من طاب يطيب، فقالوه بالواو لمحاذاة أوْبة، وقال ابن خالويه: إنما قالوا : طَوْبة، لأنهم أزوجوا به أوْبة(3).(88/16)
ومن مظاهر المحاذاة الصوتية عن طريق القلب قول العرب"أنكحْنا الفَرَا فسنرى" والفَرَا أصلها : الفَرَأ ؛ وهو الحمار الوحشي ؛ وقد أبدلوا من الهمزة ألفًا ليحاذي: فسنرى،أو كما قال ثعلب: فإنما هو على التخفيف البدلي موافقةً لسنرى، لأنه مَثَلٌ ، والأمثال موضوعة على الوقف، فلمَّا سُكّنت الهمزة أُبْدِلت ألفًا لانفتاح ما قبلها ، ومعناه : قد طلبنا عالى الأمور فسنرى أعمالنا بعد(4).
ومن ذلك أيضًا قول خالد بن زهير الهُذَلي:
يا قوم مالي وأبا ذؤيب
... كنتُ إذا أتوْتُه من غيب
يَشُمُّ عِطْفي ويبُزُّ ثوْبي
... كأنَّما أريْتُه بريْب
ففي البيت الأول قال: أتوْتُه، وأصله: أتيته بالياء من الفعل أتى ، وإنما قلب الياء واوًا لتحاذي التاء المضمومة بعدها، ومنه قول العرب : رجل أسوانٌ أتوانٌ؛ أي حزين؛ وقياسه: أتيان من أتى، ولكنه حاذى بين أسوان وأتوان(1). وقول السليك بن السلكة السعدي:
سيكفيكَ صَرْبَ القومِ لحْمٌ مُعرَّضٌ
... وماءُ قُدُورٍ في القصاع مَشِيبُ
مشيب أصلها: مشوب، من الفعل: شاب يشوب ولكنه قلب الواو ياء ليحاذي بين فاء الكلمة وعينها(2) .
ومن المحاذاة الصوتية عن طريق القلب ما قاله أبو النجم :
فلستُ بالجافي ولا المجفيِّ،
والمجفيّ أصلها: المجفوّ، من الفعل جفا يجفو،ولكنه أراد أن يُحدث المحاذاة
بين الجافي والمجفي، ولذا قلب الواو ياء. قال الفرَّاء : بناه على جُفى، فلما انقلبت الواو ياء فيما لم يسمِّ فاعله بنى المفعول عليه، ومعنى الرجز: إنه حسن الخلق كريم يحب الناس ويحبونه(3). ومن ذلك أيضًا قول عبد يغوث بن وقّاص الحارثي :
وقد عَلِمَتْ عِرْسى مُلَيْكةُ أنني
... أنا الليْثُ مَعْديًّا عليه وعادِيَا
وأصل : معديًّا: معدوَّا، من الفعل عدا يعدو، وقد قلب الواو ياء لتحدث المحاذاة بين : معديَّا ، وعاديَا(4).
وقال منظور بن مرثد الأسدي:
أزْمَانَ عيْنَاءُ سُرُورُ المَسْرُورْ
... عيْناءُ حَوْرَاءُ من العِيْنِ الحِيْرِ(88/17)
فقال : الحِيْر وكان قياسه : الحُوْر بالواو، ولكنها لما جاءت بعد كلمة : العِيْن أراد أن يحاذي بينهما(5).
وقال منظور أيضًا :
هل تعرفُ الدارَ بأعلى ذي القُوْر
... قد دَرَسَتْ غَيْرَ رمادٍ مكْفُورْ
مُكْتئبِ اللونِ مَرِيحٍ مَمْطوْرْ
قال : مَرِيح ، وأصلها، مَرُوح، من الفعل راح يروح، وقد قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها(1) .
وقال حُميد بن ثور الهلالي :
ويَأْوِي إلى زُغْبٍ مساكينَ دونَهُمْ
... فَلاً لا تخطَّاهُ الرِّفاقُ مَهُوبُ
فكلمة : مَهُوبُ ، أصلها : مَهيب، من الفعل هاب يهيب، بناه على قول من قال: قد هُوبَ الرجلُ ، وقلب الياء واوًا للمناسبة بين لام الكلمة وعينها(2).
ومن المحاذاة الصوتية عن طريق القلب كتابة المصحف؛ مثلا إنهم كتبوا : ( وَاللَّيْلِ إذَا سَجَى ( (الضُّحى2). بالياء وهو من ذوات الواو، لمَّا قُرن بغيره مما يُكتب بالياء؛ والضحى، وقد نظم في ذلك أبو البقاء
الكفوي قوله:
قَدْ يُقْرنُ بي امرؤٌ فيُعْطَى شأني
... كالليلِ إذا سَجَى ليأتيني(3)
وفي الحديث الشريف: إن المنافق إذا وُضع في قبره سُئل عن محمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به ، فيقول لا أدري، فيُقال: "لا دَرَيْت ولا تَلَيْتَ ولا اهتديت" ومعنى: ولا تليت: ولا تلوت؛ أي لا قرأت ولا درست، من الفعل تلا يتلو، فقالوا : تليت بالياء ليعاقب بهاء الياء في دَرَيْت؛ وليزدوج الكلام مع : دَرَيْتَ واهتديت.(4) وفي الصِّحاح: يُقال: لا دَرَيْتَ ولا تليْتَ ؛ تزويجًا للكلام، والأصل: ولا ائتليت، وهو افتعلت من قولك: ما ألوتُ هذا؛ أي ما استطعته؛ أي ولا استطعت(5).
وفي الأساس : "تقول العرب:"الموت طريق ميتاء، وهو لكل حيٍّ ميداء" والقياس: مِئْتَاء بالهمز، على وزن مِفْعَال من أتيت؛ أي طريق(88/18)
يأتيه الناس، والدليل على أن الكلمة بالهمز قوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر : "لولا أنه وعد حق وقول صدق وطريق مئتاء لحزنّا عليك يا إبراهيم" ، وإنما قلبت العرب الهمزة ياء في:"ميتاء" لتحاذي كلمة: ميداء(1).
ومن المحاذاة أيضًا قول العرب: فلان كريم المواتاة ، جميل المواساة" بقلب الهمزة واوًا في الكلمتين : المواتاة ، والمواساة، وأصلها : المؤاتاة من آتى ، والمؤاساة من آسى، وإنما قُلبت الهمزة واوًا لتحقيق المحاذاة رغم أن الجوهري نسب ذلك إلى لغة العامة ، والأصل تحقيق الهمز(2). وقد يحدث عكس ما سبق؛ أي تتحول الواو إلى همزة لتتحقق المحاذاة؛ في قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم إني أعود بك من الألْس والألْق"، فالألْس: الخداع والخيانة ، والألْق : الجنون ، وأصل
الألْق : الوَلْق وإنما قلبت الواو همزة لتزدوج مع الكلمة السابقة عليها، وهي الألس ، وتتحقق بهما معًا المحاذاة الصوتية(3).
ومن ذلك قول العرب : "إنه لأَمورٌ بالمعروف نَهُوٌّ عن المنكر " ،قال ابن بَرِّي: كان قياسه أن يُقال : نهىٌّ ؛ لأن الواو والياء إذا اجتمعتا وسبق الأول بالسكون قُلبت الواو ياء، ومثل هذا في الشذوذ : قولهم في جمع فتىّ فتوٌّ ، وإنما قلبت الياء واوًا لتتحقق المحاذاة بين : أَمُورٌ ، ونَهُوٌّ(4)
ومنه أيضًا قول العرب : "أثقلُ من البِرْذَوْن ، وأضرُّ من الجِرْذَوْنِ" ، والبِرْذَوْن: الدابة ، وقيل: ضرب من الخيل من غير نتاج العِراب، والجِرْذَوْن أصلها: الجِرْذَان، بالألف؛ وهي نوع من الأحناش، وقيل من السِّباع ، وقيل الذكر الكبير من الفأر ، وإنما قُلبت الألف واوًا في : الجِرْذَوْن
لتحاذي كلمة: البِرْذَوْن قبلها(1).(88/19)
ويقول العرب أيضًا:"في أَذُنِه طَرَشٌ، وفي جلده بَرَشٌ" والبَرَش أصله: البَرَص، ولكن العرب كرهوا أن يقولوا : البَرَص –بالصاد– فقلبوا الصاد شينًا،وأطلقوا على جذيمة بن مالك: الأبرش، وكان به بَرَص، فكنوا به عنه،ومن هنا دخلت مادة (برش) في المعاجم العربية لتدل على كل ما فيه نُقَطٌ بيض، إلى جانب تحقق المحاذاة بين كلمتي:طَرَش،وَبَرش، ويبدو أنَّ المحاذاة هي التي جعلت العرب يستعملون الكلمة بعد ذلك بالشين إلى جانب السبب النفسي الذي أشار إليه أصحاب المعاجم(2). وجاء في تثقيف اللسان لابن مكي : فأمَّا قولهم: جعله الله فالا لا يفيل" ؛ أي لا يخيب ، فعلى تسهيل الهمزة ليتجانس الكلام، والأصل : الفأل ضد الطيرة ، مهموز ، كما قالوا : جئته بالغدايا
والعشايا ، و"ارجعن مأزورات غير مأجورات"(3).
2- الحذف : قد تزيد العرب صوتًا أوتحذف صوتًا لتحقيق التوازن بين الكلمات؛ ومما حذفته العرب لتحقيق المحاذاة بين الكلمات قول لبيد بن ربيعة:
إنَّ تَقْوَى ربِّنا خيرُ نَفْلْ
... وبإذن الله ريثى وعَجْلْ
فكلمة عَجْلْ أصلها : عَجْلى بإلحاق ياء المتكلم، ولكنه حذفها وسَكَّن عين الكلمة ولامها لتحاذي كلمة: نَفْلْ. ومنه قول الأعشى :
ومن شانئٍ كاسفٍ وجهه
... إذا ما انتسبْتُ له أنكَرَنْ
فكلمة : أنكرن أصلها : أنكرني بإلحاق ياء المتكلم ، ولكنه حذفها واكتفى بنون الوقاية ساكنة لتحاذي قافية الأبيات(4).
وقد ورد في القرآن الكريم كثير(88/20)
من الحروف المحذوفة لحفظ التوازن بين الكلمات ولتحقيق المحاذاة بين الفواصل القرآنية ؛ كما في قوله تعالى: ( وَاللَّيْلِ إذَا يَسْرِ((الفجر4)، ويسْرِ أصلها :يسرى بالياء، وحُذفت الياء لتحقيق المحاذاة مع ما قبلها وما بعدها من آيات،وقوله تعالى: ( الْكَبِيرُ الْمُتَعَال((الرَّعد 9)،وأصلها المتعالى، وقوله تعالى: (يَوْمَ التَّلاقِ ( و (يَوْمَ التَّنَادِ ( (غافر 15، 32)، بحذف ياء المنقوص مع أن الاسم معرَّفٌ بأل، وكلام العرب لا يحذف ياء المنقوص المعرَّف بأل ، وإنما حُذف هنا لتحقيق المحاذاة الصوتية.ومنه قوله تعالى: ( فكيف كان عذابي ونُذُر( وقوله تعالى: ( فكيف كان عقاب ( بحذف ياء الإضافة في الآيتين ؛ وأصلها : ونذري ، عقابي ، كل ذلك من أجل تحقيق الجانب الجمالي في الكلام المتمثل في المحاذاة أو المناسبة بين الكلمات ، كما في قوله تعالى أيضًا:
( وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ( (مريم 28)، فحذف منها تاء التأنيث، وأصلها: بغيَّة، فلما حُوِّلت عن فاعل نقص منها حرف (1). وكقوله تعالى:( إنَّ هَؤلاءِ ضيفي فلا تفضحون ((الحِجْر68) وأصلها فلا تفضحوني ، وفي أساس البلاغة: تقول العرب: "لم يزل يقرِّظ أحياكم ، ويؤبِّن موتاكم " (2) فقد حُذفت الهمزة من"أحياءكم" لإحداث المحاذاة مع كلمة : موتاكم . ويقول الفقهاء : "إذا استقا فقا في رمضان "والقياس : استقاءَ فقاءَ – بالهمز والمد فيهما جميعًا – وإنما سُهِّل الهمز لتتحقق المحاذاة بين الكلمتين : استقا، فقا (3) . ومنه قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ( (المؤمنون 99)، والقياس ارجعوني – بياء المتكلم – ولكن حُذفت للفاصلة القرآنية والمحاذاة الصوتية(4).
وفي التاج : والحِرّ بالكسر وتشديد الراء : فرْج المرأة لغة في المخففة ؛ لأن العرب استثقلت حاءً(88/21)
قبلها حرف ساكن فحذفوها وشددوا الراء ، وهو في حديث أشراط الساعة: يستحل الحِرّ والحرير ، قال ابن الأثير: هكذا ذكر أبو موسى في حرف الحاء والراء، وقال : الحِرُ بتخفيف الراء: الفرْج، وأصله: حِرْح بكسر الحاء وسكون الراء ومنهم من يشدِّد الراء وليس بجيد ، فعلى التخفيف يكون في ح ر ح ، وإنما حذف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحاء من الكلمة الثلاثية لتحدث المحاذاة بين : الحر والحرير(1) .
3- الزيادة : وأما ما زادته العرب من أصوات في الكلمة لتحقيق المحاذاة، قولهم:"لكل ساقطة لاقطة" ويعنون به : لكل نادرة من الكلام من يحملها ويشيعها بين الناس، وكان ينبغي أن يُقال : لكل ساقطة لاقطٌ ، ولكنهم أدخلوا الهاء في كلمة اللاقطة ليزدوج الكلام وتتحقق المحاذاة (2) .
ومن المحاذاة الصوتية عن طريق
الزيادة بقاء حرف العلة مع وجود أداة جازمة تقتضي الحذف؛ كما في قوله تعالى: ( لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ( (طه77) ، وقوله تعالى: ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى ( (الأعلى6) ، على القول بأنه نهى(3) . ويقول العرب في أمثالهم: بفيه الْبَرَى، وحُمَّى خيبري ، وشرُّ ما يُرى ، فإنه خيسرى" ، والْبَرَى هو التراب، وخيبرى هي خيبر ، وخيسرى : الخُسران والهلاك، ونلاحظ زيادة الألف في : خيبر، وخيسر ، لتحدث المحاذاة بين الكلمات الأربع : البرى ، خيبرى، ما يُرى، خيْسرى، ولا يُقال: خَيْبَرى وخيسرى بالألف إلا في هذا الإتباع فقط، أما في غير هذا فيقال : خيبر وخيسر بدون الألف (4) .
وفي القرآن الكريم زادت بعض الحروف لتتحقق المحاذاة بين الفواصل القرآنية ؛ كما في قوله تعالى : ( وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا((الأحزاب10)،(88/22)
بسم الله الرحمن الرحيم ، نحتفل اليوم بتأبين مجمعي عظيم ، هو الأستاذ الدكتور محمد السيد غلاب ، إذ سبقنا إلى الدار الآخرة ، ولكل منا زمن محتوم وأجل معلوم ، كما قال تعالى " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ".
وقد عمل الأستاذ الدكتور محمد غلاب في جامعة القاهرة سنوات طويلة ، وكذلك في المجمع ، فقد ظل به خبيرًا نحو ثلاثين سنة ، ثم أصبح عضوًا عاملا في المجمع، حيث عمل في لجنة الجغرافيا ، وله بحوث عظيمة تشهد له ، وكان أستاذًا مستنيرًا مثقفًا ثقافة واسعة ، وكما ألف في
الجغرافيا فقد ألف في الأدب الهليني ، والرومانتيكية الفرنسية ، وكتب عن الفارابي وابن سينا ، وكتب أيضًا عن الفلسفة الشرقية ، والمذاهب الفلسفية المعاصرة ، فهو حقيقة عاش للعلم وللبحث وللدراسة ، وأنتج كثيرًا من الأعمال ، بجانب ما صنع في جامعة القاهرة من الطلاب ، والمؤلفات الجغرافية القيمة ، ولا شك أن فجيعة الجامعة فيه ، وفجيعتنا جسيمة ، ولكن هذا قدر الله ونحن جميعًا مستسلمون له ، ويتفضل الأستاذ الدكتور كمال دسوقي بإلقاء كلمة المجمع نيابة عن أعضائه جمعيًا في تأبين الراحل الكريم .
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي رئيس المجمع الجليل
السادة الزملاء الأجلاء
سيداتي ، وسادتي
عظَّم الله أجر سعيكم الكريم لمشاركتنا في تأبين واحد من أعز الرجال وأحبهم إلى الله والناس ، قد رحل عن دنيانا بعد عشرة طويلة نبيلة قضاها في البذل والعطاء بمحبة ووفاء ، مخلفًا لكم طول العمر والبقاء حتى اللحاق به في يوم لقاء – ذلكم هو المغفور له بإذن الله الأستاذ الدكتور محمد السيد حسين على غلاب، تقبله الله في جناته وواسع رحمته ورضوانه، وأنزله منازل الأبرار والصالحين من عباده .
محمد اسمه – خير الأسماء ما عبد وحمد.(89/1)
والسيد والده – الذي سيده في أهله بالعلم والإيمان – " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " ، وزوده بالتقى وخشية الله " إنما يخشى الله من عباده العلماء " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى .
وغلاب لَقبُه – لما غلب على سائر شمائله من سجيَّتَي الاعتداد بالنفس والصلابة في الحق – كما قال هو عن نفسه ( ويشهد له معاصروه بصدق ما قال ) في كلمة حفل استقباله عضوًا بالمجمع غداة الأربعاء الخامس والعشرين من رجب الفرد سنة خمس عشرة وأربعمائة وألف من الهجرة الموافق الثامن والعشرين من ديسمبر سنة أربع وتسعين وتسعمائة وألف – مسديًا الشكر والعرفان لوالديه اللذين – بالصبر والإصرار – ربياه أحسن تربية ، داعيًا لهما بأن تقر روحاهما الطاهرتان رضىً عنه ، وأن يتغمدهما الله بسابغ رحمته، ومبديًا الوفاء لشريكة حياته التي آزرته ورعته منذ أكرمه الله بالاقتران بها وهو طالب بعثه وطوال مسيرة حياته حتى حسن الختام أيما إكرام . فقد جسدت له معاني اسمه ولقبه والانتساب لوالده من الغلبة على أقرانه ونظرائه ، والسيادة في محيط عمله وعشرته وزملائه ، والحمد والثناء عليه مِن كل من عرفه وعاشره . وبتحملها عنه أعباء تربية أبنائه النّجباء كان يزجى التحية إلى شخصها وهو يصدر أول مؤلفاته بالإهداء إلى أسامة وأيمن ومي" ، وبما أتاحت له من كامل التفرغ للتفكير والاطلاع والتأليف والبحث وهبه أرستقراطية الفكر وحرية الإبداع … لا تغفل عنه عينُها الحانية وقلبها الرؤوم في غدوه ورواحه ، في نومه ويقظته ؛ مما كنا نغبطه عليه ونحن بأسراتنا في ضيافتهما بالخرطوم على مأدبة إفطار رمضان أو سحوره ، وفي كل تجمع عائلي لأية مناسبة … وهو يتصدر مجلس الرجال وتحتفي هي بمتكأ الزوجات ، حين ينفعل هو فيحتد صوته في مناقشة مسألة علمية أو قضية سياسية – فلا نكاد نسمع همسها الخافت إليه باسمه عن بعد ووصول الإشارة إليه بطرفة عين حتى تنبسط أساريره ويعتدل مزاجه(89/2)
ويعود إلى القهقهة والانشراح . لذا لم يكن يخفي ( في أية احتفالية بترقيته أو تكريمه في كل مجال عمل به أو مكان عاش فيه ) التعبير بالامتنان لهذا الجو العاطفي الذي يرجع إليه الفضل بعد الله في هذا الشعور " بالدفء العائلي " الذي يحتضنه ويحيط به احتضان الخاتم للإصبع ، والسوار للمعصم . وصدق الله العظيم إذ يقول " والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ، أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ". ولقد امتحنه الله في شيخوخته فيما وهبه من عزة وسؤدد – ولله ما أعطى ولله ما أخذ ؛ إذ فقد ابنه البكر رجل الأعمال النابه وما يزال في ميعة الشباب ، فاعتصر قلبه ، واشتدت علته ، وجعل يتحامل على نفسه في أداء رسالته وهو يذوب حسرة وأسى ؛ فضاعفت السيدة العظيمة وراء الرجل العظيم رعايتها له ولآسرة ابنهما وأحفادهما حتى تحمل الصدمة راضيًا بقضاء الله وقدره . ولم يكد يتعافى من إصابته الأولى التي حجبته عنها أسبوعين حتى تعجل الانضمام إلينا وهو الذي لم يستسلم طوال حياته للمرض أو ملازمة الفراش ، إلى أن نعته إلينا ذات صباح ونحن ننتظره لجلسة الغد في السادس والعشرين من أكتوبر سنة سبع وتسعين وتسعمائة وألف . وإنا لله وإنا إليه راجعون، إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب .(89/3)
تلك كانت شخصية فقيدنا العزيز التي تبلورت من خلال تنشئة أسرته له وتنشئته هو لأسرته . وإن شعور الرضي والامتنان والوفاء والعرفان بالجميل الذي أورثته هاتان التنشئتان الصالحتان لينعكس إسقاطًا منه على كل من كان لهم دور بعد ذلك في حياته وكأنما لم يكن هو قد تشرب في جوانحه مشاعر الوفاء والعرفان تلك . فهو في تقديم نفسه لزملاء المجمع ، يذكر بالفضل والامتنان أساتذته الذين أوصلوه إلى هذا المكان ، ويكاد يخلع عليهم المزايا التي لا شك أن استعداده هو الفطري قد أهله لاكتسابها عنهم – وإلا فقد درس على نفس هؤلاء الأساتذة الكثيرون من أترابه قبله وبعده فلم يكتسبوها ، وربما تمرد بعضهم عليها – خصوصًا بعد أن كبر أحدهم فزامل أستاذه وصار ندا ويطمح في خلافته : فمصطفى عامر بتفكيره المرتب الدقيق ، محمد عوض محمد بأدبه الرفيع وتجواله الفكري الواسع ، محمد متولي بحرفيته الشديدة وتدقيقه الأشد ؛ بل والتر فتزجيرالد الذي أخذه بالشدة والصرامة في بعثته بإنجلترا مثلما كان يفعل به محمد عوض في مصر … وإنه ليكيل المدح والثناء بكل أدب النفس الرباني وتواضع رجل العلم الحقيقي – حتى بعد أن(89/4)
جهود مجمع اللغة العربية بالقاهرة في تعريب
المصطلح العلمي
للأستاذ الدكتور محمد حسن عبد العزيز
توطئة
... مجمع اللغة العربية بالقاهرة من ثمار النهضة العربية الحديثة ، وتلبية لحاجة شعرت بها الأمة العربية لكي تكون لغتها الفصحى وافية بمتطلبات الحياة المعاصرة وملائمة لمقتضيات الآداب والعلوم والفنون .
... لقد بدأ زعماء النهضة الفكرية الطهطاوي وعلى مبارك والشدياق ومحمد عبده وحفني ناصف .. وغيرهم يحسون بما في العربية من، عجز وقصور ، وبأن مفرداتها لا تفي بحاجات أهلها في مجالات التعبير المختلفة . وجَهَد هؤلاء – فيما كتبوا أو ترجموا – في معالجة هذا العجز وهذا القصور ، لكن جهودهم لم تكن كافية أو محققة لما تطلعوا إليه، فنشطت بينهم الدعوة إلى إنشاء هيئة تقوم على اللغة العربية ، تنهض بها
في غير طفرة , وتسير بها إلى الأمام في حزم وحكمة .
ظهر مجمع ( البكري ) سنة 1892، وكان معنياً بألفاظ الحياة اليومية وتنقيتها من الدخيل والعامي، ولكنه لم يعمر طويلا ، ثم انعقدت ندوة أبناء دار العلوم سنة 1908، وألقيت فيها بحوث في اللغة العربية ووسائل تنميتها، وانتهت الندوة بقرار في تعريب المسميات الحديثة، وبالدعوة إلى إنشاء مجمع للغة العربية، وتأليف لجان لاقتراح الألفاظ الفصاح للشائع في لغة الناس من العامي والدخيل.
وفي عام 1916 كون أحمد لطفي السيد مجمع ( دار الكتب ) على غرار الأكاديمية الفرنسية ، ودرس بعض المصطلحات وألفاظ الحياة العامة ، .. بيد أنه لم يعمر طويلاً
فانفض على إثر قيام ثورة 1919 .
وفي عام 1932 صدر مرسوم(90/1)
بإنشاء ( مجمع اللغة العربية ) صدى لتلك المحاولات السابقة ، وبدأ دور انعقاده الأول في يناير 1934 ، وفي هذه الدورة المباركة وضع لائحته، وحدد أهدافه ووسائل تحقيقها، وما إن فرغ المجمعيون من هذه الإجراءات حتى تفرغوا لمهمتهم الأصلية ، وعنوا خاصة بأصول اللغة وأقيستها العامة ، وقدموا فيها بحوثًا قيمة ،واتخذوا قرارات فيها تجديد وسعة .
وقد حرص المجمع – منذ إنشائه - على تحقيق هدفه في أن يحافظ على سلامة اللغة العربية ، وأن يجعلها وافية لمطالب العلوم والفنون في تقدمها ، وملائمة لحاجات الحياة الحديثة ، وتنوعت وسائله في تحقيق هذا الهدف، ومن تلك الوسائل:
تيسير اللغة متنا وقواعد وكتابة ورسم حروف ، وتوفير المصطلحات العلمية ، وألفاظ الحضارة ، وتهذيب المعجمات اللغوية ، ووضع معجم تاريخي شامل العربية،وتشجيع الإنتاج الأدبي،وإحياء التراث القديم في اللغة والأدب .
وما زال المجمع - بحمد الله - قائمًا على تحقيق تلك الأهداف مصطنعًا إليها أيسر الوسائل وأنجعها، وما زال المجمعيون - برعاية الله – عاكفين بروية وفي صمت على العمل في الحفاظ على الفصحى وتنمية ثروتها وتيسير استعمالها للوفاء بأغراض الناس بعامة والعلماء بخاصة .
1-جهود المجمع في وضع الأسس المنهجية للاصطلاح
... وقد واجه رجال النهضة من الأدباء والعلماء مشكلة المصطلح بقدر ما سمحت لهم ظروفهم ومعارفهم ، فكانوا يؤدون الحقائق العلمية أداء لا يخلو من تعجل ونقص وقصور ، ومن ثم كانت مهمة المجمع عسيرة ، ومع ذلك فلم يتردد في أن يضطلع بالعبء – على ثقله – منذ الدورة الأولى لانعقاده . ومن ثم أعد لهذا الأمر عدته فتعددت لجانه العلمية المختصة بأبواب المعرفة المتعددة ، وهي في أغلبها لجان مصطلحات ، وبدأت أعمالها في جمع المصطلحات من مظانها القديمة ومصادرها الحديثة وتوثيقها ومراجعتها وإقرارها .(90/2)
... ولم يستقم للمجمع لأول وهلة – ومع توفر كم عظيم من المصطلحات – منهج واضح لوضع المصطلحات وإقرارها ، بيد أن هذا المنهج – بتنامي أعمال اللجان العلمية وحرصها على متابعة التقدم العلمي المتسارع ، وبروز عوائق في نقل المصطلحات من مصادرها الحديثة – بدأ يتضح شيئًا فشيئًا ليستقر في نهاية الشوط .
... وسوف نغمط المجمع حقه إذا توقفنا في البحث عن هذا المنهج في قراراته العلمية لأنها – في أغلبها تتعلق بالنواحي الإجرائية الخاصة بجمع المصطلحات ودرسها ونشرها – فلم تعتن تلك القرارات بالأبعاد النظرية للمنهج بقدر عنايتها بصناعة المصطلح وتأليف المعجمات . بيد أن الأمر سوف يكون في نصابه إذا ما وضعنا في الاعتبار البحوث التي ألقاها أعضاؤه في مجلسة أو في مؤتمره أو نشرت في مجلته الرصينة.
... ولهذه البحوث أهمية كبيرة ، لأنها لا تمثل أصحابها فحسب بل تمثل – في الغالب – رأيًا مستقرًا بين المجمعيين يكاد يصل إلى مرتبة القرارات في الاحتجاج .
... وقد أوفت هذه البحوث بهذا الجانب المنهجي خير الوفاء على ما سنراه بعدُ .
1-2 المصطلح بين العلماء واللغويين
... المصطلح – كما يقول الدكتور إبراهيم مدكور : أداة البحث ولغة التفاهم بين العلماء .. وهو جزء من المنهج العلمي ، ولا يستقيم منهج إلا إذا قام على مصطلحات دقيقة تؤدي الحقائق العلمية أداء صادقًا .. والمصطلح ثمرة من ثمار العلم يسير بسيره ويتوقف لوقوفه .. وتاريخ
العلوم إلى حد ما تاريخ لمصطلحاتها".
... ويقول – في مدى حرية العالم
في وضع المصطلح – وللعالم أن يختار اللفظ الذي يرتضيه لأداء الحقيقة العلمية ، وحقه في وضع مصطلحة واضح ، وحريته ينبغي أن تكون كاملة .. لأنه هو الباحث عن الفكرة ولابد له أن يبحث عن الثوب الذي يلائمها فيضع لها اللفظ المطابق، مستمدًا إياه من الفصحى أو العامية ومستعينًا بلغات حية أو ميتة " .(90/3)
... ويقول عن طبيعية العلاقة بين العالم واللغوي : وقد يشكو العلماء من قصور اللغة عن أداء ما يريدون فيلجئون إلى الرموز والإشارات ، كما صنعوا في الرياضة والكيمياء ، وللغويين شكواهم من تهجم العلماء على اللغة ، ويأخذون عليهم أنهم ربما اشتقوا على غير قاعدة ، ونحتوا في غير داع ، وعربوا وأدخلوا ألفاظًا أجنبية " .
... ويقول في حسم تلك المشكلة : ولا شك أن في اللغة فنًا ، وأن للفن قيوده وأوضاعه ، ولكن لا شك في أن للعلم دقته ، وأن الحقيقة العلمية يجب أن تؤدي أداء صادقًا ، وعلى هذا لا يصح أن تقف قدسية متن اللغة حجر عثرة في سبيل تقدم البحث العلمي ".
1-3 اللغة العلمية
... اللغة العلمية – كما يحدها الدكتور محمد كامل حسين : هي من حيث صفاتها العامة يجب أن تطابق روح العلم الذي تتناوله وطبيعته ، ويجب أن تكون محدودة الألفاظ واضحة المدلولات، بسيطة الأسلوب، وأن تكون قابلة للنمو الذي لا حد له ، وأن تسمح طبيعتها بالتصنيفات العلمية الحقة التي تنبني على صفات لها خطرها ، ولا ينبغي – على أية حال – أن يضحي فيها بشيء من الدقة والوضوح في سبيل الفصاحة أو الجمال ، ويحسن أن تكون بعيدة عن متشابه القول في اللغة العامة .
1-4 صفات المصطلح العلمي
... يحددها الدكتور محمد كامل حسين بما يأتي :
- أن يكون لفظًا لا عبارة حتى يسهل تداوله .
- أن يكون محدد المعنى تحديدًا تامًا، ولهذا حسن تجنب الاشتقاق من ألفاظ الحياة العامة . ولكي يتجاوز العلماء هذه المشكلة لجئوا إلى اللغات الميتة ، فأشتقوا منها وحددوا لألفاظها مدلولات لم يقل بها أحد ، واستباحوا في هذه السبيل كل خطأ وتجاوز وتأويل ، ولم يكن ذلك مستطاعا في لغة حية .
- أن تكون المصطلحات – بطبيعتها – قابلة للتنسيق العلمي .
- أن تكون قابلة للنمو والزيادة .(90/4)
... وبمراعاة تلك الصفات أقام العلماء بناء علميًا ضخمًا قوامه عدد لا يكاد ينحصر من الألفاظ الجديدة التي توافق طبيعة العلوم ، ونجحوا في جعلها رموزاً دقيقة واضحة فيها فائدة الرمز وسهولة التداول ، وبساطة العلاقات ، وتفادوا كل عيوب لغة التفاهم وملابسات المعاني المرتبطة بالألفاظ العامة ".
1-5 المصطلحات منظومة
... لقد كان المجمعيون واعين تمامًا بأن المصطلحات العلمية ليست مفردات فحسب ، بل منظومة تنعقد بينها علاقات ، ومن ثم يفسر بعضها بعضًا .
يقول الدكتور أحمد عمار : المصطلحات العلمة تسودها علاقات نظامية انسجامية أملتها مقتضيات الترتيب المنهاجي " ومن ثم فقد أوجب عند الإجراء : ألا تترجم أشتاتًا وفرادى إلا إذا كانت منقطعة الصلة بأية مصطلحات سواها تمت إليها بقربي . أما إذا كانت مرتبطة بمصطلحات أخرى في أصل الاشتقاق أو في ضروب التصريف أو في العلاقات المعنوية كالضدية أو التغاير أو التناظر فمن الواجب أن تسلك في مجموعة مطردة التساوق ، ومن شأن هذا المسلك : إضفاء مزية التنظيم العلمي والانسجام الصياغي على رصيدنا المصطلحي وفقًا للمنوال العلمي ، وتيسير حفظ المصطلحات المصوغة بهذه الطريقة لا على حدتها فحسب ، بل على التقابل مع نظائرها الأجنبية " .
1-6 ما ينبغي أن يتوفر في منظومة المصطلحات العربية
... لعله من فضول القول أن نتحدث عن حاجتنا إلى منظومة مصطلحية عربية لكل علم من العلوم ولكل فرع منها وأن نتحدث عن عجزنا عن ملاحقة ما يستحدث من مصطلحات في اللغات الأجنبية ، ولكنه حديث لا بد أن يقال .(90/5)
... وقد كان المجمع حريصًا غاية الحرص على أن يوفر تلك المنظومة بكل سبيل ، وقد تبين للمجمعيين منذ بدأت اللجان العلمية المختصة بالمصطلحات علمها أنهم لن ينجحوا في هذا العمل إلا إذا توفرت له دواعيه من تهيئة العربية له بتوسيع أقيستها وأحكامها العامة وتيسير الانتفاع بأبنيتها ، ومن وضع القواعد المنهجية التي تجرى عليها اللجان في أعمالها ، وقد كان بلاء المجمعيين في الأمرين حسنًا ، وسنعود إلى الأمر
الأول في موضعه من البحث .
... أجمل المجمع هدفه من وضع
المصطلحات – ما دامت قائمة على منظومة متوفرة في اللغات الأجنبية – في : أن تكون موائمة لنظائرها الأجنبية في كل ما هو من خصائصها، ومن شأن هذه المواءمة أن تسد الفجوة العلمية السحيقة بيننا وبين التقدم العلمي ، وأن تكون العلاقة بين المصطلح العربي والأجنبي علاقة متبادلة .
... وقد بذل الدكتور أحمد عمار غاية الجهد في رسم خطة منهجية وافية لصوغ المصطلحات ، وأوجزها في مجموعة من القواعد مشفوعة بشروحها وأمثلتها ونكتفي هنا بعناوينها الرئيسية :
1-مضاهاة الإفراد اللفظي بمثله ، أي ترجمة المصطلح المفرد بمفرد مثله ، ولهذا فضل مصطلح ( الصُمات ) ترجمة للمصطلح aphasia على (احتباس الكلام ) .
2-إفراد المصطلح الواحد بترجمة
واحدة وقصرها عليه ، والمقصود الاقتصار على ترجمة واحدة للمصطلح الواحد والتزامها في جميع استعمالاته مثل ترجمة depression تارة بالضيق وأخرى بالاكتئاب والأولى أن تترجم بـ ( الاكتبات ) الذي معناه الامتلاء غمًا . ...
3-مقابلة المترادفات بأمثالها : وينشأ ذلك غالبًا من الجمع بين التسمية العلمية والدارجة ولا سيما في الأمراض الشائعة فمرض ( السل ) مثلاً يسمى :
phthisis, consumption, tuberculosis ويمكن أن تقابل هذه المترادفات على التوالي بـ:( الدرن والسُل والسُحاف).(90/6)
4-توخى وضوح الدلالة وتجنب إبهامها . ومن أمثلة الإخلال بهذه القاعدة ترجمة sporadic cases بالحالات المنتشرة ، والمقصود هو حدوث الإصابة ببعض الأمراض على نحو فردى لا جماعي ، وفي أماكن متباعدة لا في مكان منحصر ، والتعبير بالانتشار قد يؤدي عكس المعنى المراد ، والأصوب أن يترجم بالحالات المتفرقة لا المنتشرة .
5-مقابلة التعدد اللفظي بمثله . ولا داعي إلى التزام ما لا يلزم من الإفراد اللفظي في ترجمة التسميات المتعددة الألفاظ ، والأحجى ترجمتها بما يساويها عددا ، ومن ثم يترجح(الشفة الأرنبية ) في ترجمة :
hare lip على ( العُلْمة ) .
6-تجنب الإغراب والابتذال في غير ضرورة ملجئة .
7-توحيد ترجمة المصطلحات المشتركة بين مختلف العلوم، إذا كان المصطلح مشترك الاستعمال بمعنى واحد بين علوم مختلفة ، ومن أمثلة تعدد ترجمات المصطلح الواحد ترجمةcrisis بالبُحران في علم الأمراض وبالأزمة في الطب الباطني.
8-مراعاة صلات الترابط الاشتقاقي والتصريفي والمعنوي بين المصطلحات . ومن أمثلة العثرات المسببة عن إغفال هذه القاعدة أن مشتقات الأصل الأجنبي Trophy وهي : Trophic Nerve, Trophic Disturbance, و Dystrophy, Atrophy, Hypertrophy : قد ترجمت بألفاظ متباعدة لا ترابط ولا تناسق بينها وهي : عصب الاغتذاء ، وحَثل وسَغَل ، وضمور ، وضِخَم .
9-الترخص في التحلل من القديم إذا لم تتوافر صلاحيته للاستعمال الاصطلاحي الحديث .
10-إيثار الألفاظ النادرة التداول ، والغرض من ذلك هو تخصيص الكلمة بمعناها العلمي ، وضنا بهذه المعاني عن الابتذال ، وتحرزا من إقفار اللغة من رصيدها من الألفاظ المتداولة ، ولهذا يفضل في ترجمة المصطلح Deficiency Diseases المصطلح العربي أمراض الإعواز على أمراض النقص .
11-التوسع في تطويع اللغة للاشتقاق، لأن الاشتقاق هو الطريقة المثلى لصوغ المصطلحات العلمية وهو أقرب إلى طبيعة اللغة العربية .(90/7)
12-قصر التعريب ( النقل الصوتي )
على مقتضيات الضرورة وتوخى
الخفة .
13-استعمال النحت جائز ، ولكنه غير مستحب ، لأنه نادر في العربية، واللجوء إليه مشروط .
1-7 المنهج المعتمد وإجراءات تحقيقه
... وفي سنة 1980 قدم الدكتور محمود مختار إلى المجمع نهجًا علميًا في ترجمة المصطلحات أو تعريبها كي يستنير بها العلماء كافة . وقد أقره المجمع وأبلغه المجامع والهيئات اللغوية والعلمية في البلاد العربية ، ومما جاء فيه :
1-وضع المقابل الإنجليزي أو الفرنسي بإزاء المصطلح العربي ، مع الاستضاءة بالأصل اللاتيني أو الإغريقي إن وجد ، ومع مراعاة أن يتفق المصطلح العربي مع المدلول العلمي للمصطلح الأجنبي دون تقيد بالدلالة اللفظية الحرفية .
2-إيثار الألفاظ غير الشائعة ، فتفضل
كلمة ( امتزاز ) على( امتصاص سطحي ) لأن المصطلحات العلمية تحتاج إلى كلمات تحمل معناها دون أي لبس .
3-التعريب عند الحاجة الملحة . وذلك إذا كان المصطلح يعود إلى أصل يوناني أو لاتيني أو شاع استعماله دوليًا أو كان منسوبًا إلى عَلْم عرف به بين العلماء مثل ديناميكا dynamics .
4-عد المصطلح المعرب عربيًا وإخضاعه لقواعد اللغة في الاشتقاق والتصريف ، فالكلمة المعربة ( أيون ion ) تثنى وتجمع فيقال : أيونان وأيونات ، ويوصف بها فيقال جهد أيوني ويشتق منها مثل : أيَّن وتأيُّن ..الخ .
5-صوغ المصطلح في مفردة ، ما أمكن لأن ذلك يساعد على تسهيل الاشتقاق والنسبة والإضافة .
6-توحيد المصطلحات المشتركة عربية أو معربة ذات المعنى الواحد بين فروع العلم المختلفة .
7-تحديد مصطلحات علمية دقيقة تفرق بين الألفاظ المترادفة أو المتقاربة المعنى فمثلاً : resistance تقابل المقاومة بينما تقابل reluctance الممانعة .
8-يعرف المصطلح تعريفًا بينا واضحًا .
9-يكتب اسم العلم الأجنبي وكذلك المصطلح المعرب بالصورة التي ينطقان بها في لغتها .(90/8)
10-تكتب المصطلحات الأجنبية في المعاجم مبدوءة بحروف صغيرة ما لم تكن أعلامًا ، ويلاحظ في المصطلح العربي المقابل ألا يعرف بالألف واللام تيسيراً للكشف عنه في المعجم.
2- طرق الوضع
... لم ي رج المجمع – كما يقول الدكتور مدكور : عن وسائل الوضع اللغوي المألوفة ، فقال بالاشتقاق والنحت والتعريب ، ولكنه يسر أمرها وأفسح مجال تطبيقها ، وأقر فيها أصولاً ما أجدر المؤلفين والمترجمين أن يفيدوا منها ".
... وقد كان قرار المجمع في التعريب الذي صدر في الدورة الأولى بداية بحث ومراجعة حتى عهد قريب جدًا ، يقول القرار : يجيز المجمع أن يستعمل بعض الألفاظ الأعجمية عند الضرورة على طريقة العرب في تعريبهم وكذا كان قراره في تفضيل المصطلح العربي القديم على الجديد وجواز استعمال الألفاظ المولدة واللذان صدرا في الدورة نفسها .
2-1 المصطلح العمي بين اللفظ العربي والمعرب
... وقد كان علاج المجمع لهذه الموضوعات في هذه المرحلة من حياته المديدة المباركة بشيء من الحذر والحيطة ، فقيد التعريب بالضرورة والتوليد بعدم مخالفته للقياس ، ومن ثم استمر البحث والجدل فيها واتجه الرأي – فيما يتصل بالمصطلحات خاصة – إلى اتجاهين : الاتجاه الأول يؤثر التعريب، ولكنه يستخدم اللفظ العربي في أحوال ، والاتجاه الثاني يؤثر اللفظ العربي ولكنه لا يمنع التعريب في أحوال .
2-1-1 الاتجاه الأول :التعريب أولاً
... ويمثله الدكتور محمد كامل حسين وكان – رحمه الله – يرى أن مشكلة المصطلحات العربية أكبر مما يتصورها اللغويون التقليديون ، وأن فهمنا لأبعادها ليس كافيًا للأسباب الآتية :
1-أن ما نصوغه من المصطلحات في بعض العلوم أقل مما يستحدث منها .(90/9)
2-أن ما كان منها معروفًا عند القدماء لا يفيدنا كثيرًا ولأن أكثر المصطلحات القديمة مفردة لا تتبع نظامًا خاصًا ، ولأن اختلاف المناهج، ومذاهب التفكير العلمي يجعل التطابق بين مدلولات المصطلحات القديمة والجديدة محالاً.
3-أن مشكلة المصطلحات ليست مجرد بحث عن ألفاظ ؛ لأن طبيعة المصطلحات تجعلها صورة حية لتطور العلوم ، وهي تدل على ما في تاريخ العلم من صواب أو خطأ ، وهي جزء لا يتجزأ من أساليب
التفكير العلمية .
... وهنا نجئ إلى لب المشكلة ، هل يمكن وضع نظام عربي خاص للمصطلحات ؟
... لا يخفى الدكتور محمد كامل حسين انحيازه إلى العلم وضوابطه المحكمة ومصطلحاته المستقرة ، لأن مستقبل الأمة العربية يرتبط بتقدمها العلمي ، ومن ثم فإنه يقرر : ليس أمامنا – بكل أسف – فرصة لإيجاد نظام مصطلحي ، لقد قام بناء المصطلحات على الأصول التي أخذت عن اليونانية واللاتينية ، واصبح من المستبعد أن نغيرها مهما يكن السبب في وجودها ، المهم أنها موجودة فعلاً وأنها جزء من نظام عام، وأنها تطبعت بطابع التفكير العلمي ، فأصبحت جزءاً من العلوم وإيجاد أسس جديدة محال وعبث ".
... ماذا بقى لنا إذاً ؟
... يقول : بقيت طريقة التعريب ،
ولا يريد الدكتور محمد كامل حسين أن يطلقها إطلاقًا عامًا بدون قيد ، ولكنه – مع ذلك – لا يريد أن يجعلها مما لا يباح إلا عند الضرورة القصوى ، وهذه مقترحاته :
1-كل مصطلح علمي خلق خلقًا جديدًا خاصًا ، ويكون من أصل كلاسيكي ، ويكون دالاً على عين من الأعيان يجب تعريبه كالأكسجين والأيدروجين.
2-كل مصطلح علمي خلق خلقًا جديدًا خاصًا ، ويكون من أصل كلاسيكي ويكون دالاً على تصور علمي خاص يجب تعريبه ، مثال ذلك ( الأنزيم ) و ( الأيون ) هذه لا تترجم ، لأن ترجمتها تذهب بقيمتها العلمية .(90/10)
3-كل مصطلح يتبين أنه جزء من تصنيف يجب تعريبه ، ومن هذه أسماء الأجناس والأنواع في الحيوان والنبات ، وسلسلة المواد المتشابهة كيميائيًا .
4-أما الألفاظ العلمية المشتقة من اللغة العامة مثل ( المناعة ) immunity و(الكبت ) Refoulement فتترجم من غير شك ، والفرق بين الاثنين أن (الأكسوجين ) يفهم وتعرف خواصه كلها من غير أن نفهم أصول الكلمة ، أما المناعة فيستحيل فهمها دون معرفة معناها العام .
2-1-2 الاتجاه الثاني:الترجمة أولاً
... في هذا الاتجاه جرت محاولات عديدة نقف عند واحدة من أهمها : محاولة الدكتور مصطفى الشهابي في مجال علوم النبات والحيوان . ... يلخص الشهابي خطته في ترجمة هذه المصطلحات أو تعريبها على النحو الآتي :
أولاً : الألفاظ الدالة على الشعب والطوائف والرتب
وهذه الألفاظ قسمان : قسم له في لغاتهم وفي لغتنا أسماء مشهورة كالطوائف الخمس في شعبة الفقاريات وهي السمك والضفدعيات والزحافات والطير والثدييات ، وقسم وضعوا له في اللغة العلمية أسماء تدل على أهم صفات فيه كقولهم في طويئفات السمك أو في رتبها مثلاً ما ترجمته غضروفيات الزعانف ، ولينات الزعانف وشائكات الزعانف … الخ . ولا مجال هنا للتعريب ، وترجمة الألفاظ بمعانيها هو المجال الأوسع .
ثانياً:الألفاظ الدالة على الفصائل والقبائل
الحيوانات والنباتات التي لها أسماء عربية قديمة أو حديثة تكون أسماء فصائلها عربية . أما التي لها أسماء معربة فتكون أسماء فصائلها معربة، فيقال : الفصيلة الكلبية والضبعية .. الخ . أما في الفصائل المنسوبة إلى أسماء معربة مثل : الفصيلة السيكاسية والصقلابية والفوقسية وأشباهها فتعرب .
ثالثا : الألفاظ الدالة على الأجناس(90/11)
وهي من حيث أصولها قسمان : قسم سمى بأسماء أعلام .. ولا خلاف في تعريب تلك الأسماء مثل الزهرة المعروفة بـ ( دهلية Dahlia نسبة إلى عالم سويدي اسمه دهل ) . أما إذا كان لأحدها اسم عربي صحيح أو مولد أو عامي سائغ مشهور فهو يسمى به مثل النبات المسمى بـ ( غنداليا Gundelia ) فهو على اسم أحد العلماء ، وكان من الواجب الاكتفاء بتعريبه ، ولكن لهذا النبات اسمًا عربيًا شهيرًا هو ( العكوب ) لا يجوز إهماله ، أما القسم الثاني من الأسماء العلمية للأجناس النباتية فيشتمل على أسماء اشتقت أو اقتبست من اليونانية أو من اللاتينية ، ودلت على صفات بارزة لأجناس تلك النباتات ، فما عرف له اسم عند القدماء جرينا على استعماله مثل : القمح والشعير والخردل … الخ . أما الأجناس التي لم يعرفها القدماء ، وليس لها أسماء عربية ، فالقول فيها: إذا كان اسمها قابلاً للترجمة في كلمة عربية واحدة مثل جنس الزهر المسمى ( فلوكس Flox ) فترجمته بالعربية (القبس) وإذا لم يكن عرب، والتعريب أصلح من الترجمة إجمالاً.
رابعًا: الألفاظ الدالة على السلالات والأصناف
... وألفاظها مختلفة قد تكون نعوتًا أو أرقامًا أو حروفًا أو غير ذلك ، فالنعوت والأرقام كثيرًا ما تترجم ، أما البقية فستعمل في مختلف اللغات بلغاتها .
2-2حد التعريب أهو ضرورة أم قيد؟(90/12)
... تبين مما قلناه أن الباحثين لا يختلفون في أن التعريب لا مندوحة عنه في المصطلحات العلمية ، ولكنهم يختلفون في حدوده ومداه ، فقرار المجمع لا يستحب الترخص فيه، ويستصوب قصره على الضرورة، وبعض هؤلاء يجعل حد الضرورة استعصاء ترجمة المصطلح ترجمة ملائمة بطريق الاشتقاق ، والدكتور محمد كامل حسين مع أنه يعتده وسيلة ناجحة في إيجاد المصطلح – لا يستحب إطلاقه إطلاقًا عامًا بدون قيد، لكن القيد عنده لا يصل إلى حد الضرورة ، وحد القيد وجوب تعريب المصطلحات العلمية الخاصة ذات الأصل الكلاسيكي الدالة على عين من الأعيان أو الدالة على تصور علمي خاص ، أو التي تعد جزءاً من تصنيف علمي عام ، أما الألفاظ العلمية المشتقة من اللغة العامة فيجب ترجمتها .
... والخلاف بين هذين الاتجاهين هو – بعامة – من قبيل الخلاف على أيهما أولى بأن نبدأ به ، حيث ينبغي أن نبدأ عند الدكتور الشهابي بالترجمة على حين ينبغي أن نبدأ بالتعريب عند الدكتور محمد كامل حسين .
2-3 الأولويات
... وفي تلك المرحلة من الحوار المتواصل بين هذين الاتجاهين دعا الدكتور الشهابي إلى الفصل بينهما ، ولخص القواعد التي ينبغي اتباعها فيما يأتي على التتابع :
1- تحرى لفظ عربي يؤدي معنى اللفظ الأعجمي .
2- إذا كان للفظ الأعجمي معنى علمي جديد لا مقابل له في العربية ، ترجم بمعناه كلما كان قابلاً للترجمة، أو اشتق له لفظ عربي مقارب .
3- إذا تعذر على الناقل الكفء وضع
لفظ عربي بالوسائل المذكورة عمد إلى التعريب مراعيًا قواعده على قدر
المستطاع .
... وقد استحسن المجمع تلك القواعد وارتضى أن يلتزم بها في أعماله، بل أكدها في عيده الخمسيني، ودعا الباحثين والعلماء إلى النهج عليها .
3-1 قرارات المجمع في تيسير الوضع اللغوي(90/13)
... لم يكن لدى المجمع منذ دورته الأولى وإلى فترة من عمله خطة واضحة لمعالجة الموضوعات اللغوية، بل كان الأمر مرهونًا باهتمامات أعضائه ، وبما يتقدمون به من مقترحات ، أو بما تتعرض له لجانه من مشكلات ، ومع ذلك فقد مضى إلى غاية بعيدة في تيسير قواعد العربية وتوسيع أقيستها ، وبذلك تخطى كثيرًا من العقبات التي تعترض سبيل العلماء والكتاب وغيرهم . وبهذا التيسير أزال حرجًا ووسع ضيقًا حتى بلغ الغاية المطلوبة حين أجاز الوضع للمحدثين بكل طرق الوضع المعروفة من اشتقاق ومجاز ونقل ونحت وتعريب . وفي ذلك إثراء للغة وتطويع لها حتى تفي بمطالب الحياة العصرية في علومها وفنونها وشئونها اليومية ، والمجمع حين توجه هذه الوجهة لم يبتدع قواعد جديدة ، ولم يخرج بقراراته عن طبيعة اللغة ونظامها الموروث ، وكان شأنه دائمًا كما يقول الدكتور مدكور : الحرص على يستأنس بما ذهب إليه الأقدمون من يسر وتيسير ، وكان معتمده في ذلك ما قرره الأقدمون من كبار علماء العربية من أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب ".
ومن القرارات الهامة الخاصة بالأصول العامة
- الأخذ بالقياس ليشتمل ما قاسه العرب وما لم يقيسوه .
- الاحتجاج بلفظ الحديث النبوي الشريف .
-السماع من المحدثين ، وإطلاق السماع من قيود الزمان والمكان .
- فتح باب الوضع بوسائله المعروفة.
جواز التوليد فيما جرى على أقيسة
العرب من مجاز أو اشتقاق أو نحوهما.
- تكملة فروع مادة لغوية لم تذكر بقيتها المعاجم .
... ومن قراراته في المسائل النحوية وبخاصة ما يتصل بتيسير التعبير في الجمع والنسب .. وغيرهما:
- جواز جمع ( فَعْل ) على ( أفعال ) بغير استثناء مثل : أبحاث وأمجاد .
- جواز جمع (فاعل) على ( فواعل ) مثل فارس وفوارس .
- جواز جمع المصدر عندما تختلف أنواعه، مثل نشاطات وفراغات .
- جواز جمع اسم الفاعل واسم المفعول المبدوءين بميم زائدة جمع تكسير مثل : محاصيل ومعاجم .(90/14)
وغير ذلك مما قصره النحاة على السماع .
- النسب إلى لفظ الجمع عند الحاجة كإرادة التمييز ونحوه فيقال : كواكبي وأخلاقي ، والمشهور أن ماله واحد من لفظه ينسب إليه بلفظ الواحد فيقال
في نحو مدارس مدرسي .
- النسب إلى ( فَعلية ) و ( فُعيلة ) بحذف الياء وإثباتها . فيقال طبيعي وطبعي .
- جواز النسب إلى جمع المؤنث السالم في الأعلام وما يجرى مجراها دون حذف الألف والتاء . فيقال : الساداتي والآلاتى .
وغير ذلك مما منعه النحاة أو قصروه على السماع
... وقد رأى المجمع كذلك أن أحكام التذكير والتأنيث لا تقل تشعبًا واضطرابًا عن أحكام الجمع والنسب فرأى وضع قواعد لها ميسرة . فدعا إلى :
-جواز تأنيث كل مؤنث بإلحاق التاء به فيقال : ناهدة وكاعبة .
-كل ما لم يرد فيه نص فالأنثى بالهاء والمذكر بدون هاء من غير توقف على نص .
-كل ما ليس مؤنثًا حقيقيًا كأسماء
الجماد إذا لم تكن فيه علامة التأنيث كالدلو والبئر والأرض والسماء ..
يجوز تذكيره وتأنيثه .
وغير ذلك مما قصره النحاة على السماع .
3-2 التعريب
... بعد قرار المجمع بجوار التعريب عند الضرورة ، لم يتوقف البحث فيه ، وتوالت القرارات ، فصدر قراره بتفضيل اللفظ العربي على المعرب القديم إلا إذا أشتهر المعرب ، وبتفضيل المعرب على الصورة التي نطقت بها العرب .. الخ ثم صدرت قراراته المفصلة برسم الألفاظ الأعجمية بحروف عربية ، ووضع لها ثلاثا وعشرين قاعدة أستوعبت أكثر صورها .
وقد خضعت هذه القواعد لتنقيحات مستمرة ، بل تعرضت لنقد المجمعين أنفسهم،لأن المجمع حين أقرها– عَّول بوجه خاص على الأعلام المأخوذة عن الإغريقية واللاتينية وتأثر بطرق تعريبها القديمة، والتعريب اليوم لا يقتصر عليها ، بل يمتد إلى لغات أخرى غربية وشرقية ، كما أن هذه القواعد كانت كثيرة ومعقدة فلم يسهل على الدارسين الانتفاع بها .
وقد اهتدى المجمع في هذه المرحلة بمجموعة من المبادئ :(90/15)
-تطبيق قواعد كتابة الأعلام الأجنبية على أسماء الأشخاص والأماكن والمصطلحات العلمية المعربة ، لأنها بمثابة الأعلام .
-يكتب العلم الأجنبي على حسب نطقه في موطنه ، ويستثنى من ذلك الأعلام التي اشتهرت بنطق خاص .
-يحسن إلى أن تستقر الصورة المعربة أن تكتب معها بين قوسين صورته الأجنبية .
-في رموز العربية ما يكفى للتعبير عن الحروف الساكنة والحركات ، ومن ثم لا داعي لرموز جديدة ما عدا p ويرمز لها بباء تحتها ثلاث نقط وV ويرمز لها بفاء فوقها ثلاث نقط . وللمقابلة بين الحروف ضوابط تقرب من العشرين .
-يتوصل إلى النطق بالساكن في أول العلم بألف وصل تشكل بحركة تناسب ما بعدها أو بتحريك الحرف الساكن الأول فيه .
3-4 الاشتقاق
... عنى المجمع في المرحلة الأولى من إنشائه بالاستعانة ببعض الصيغ التي يمكن أن تؤدي مدلولات خاصة ، وقد أنجز المجمع آنذاك بعض ما هدف إليه ، ونظر في خلاف اللغويين في القياس على المستعمل منها ، ورأى فائدة كبيرة في قياسها ليتوافر للباحثين أداة طيعه يستخدمونها في بناء ما يحتاجون إليه من كلمات من أي جذر شاءوا دون أن يتوقفوا على سماعه من العرب ، ومن ثم فقد انتهى إلى عدد من القرارات منها :
-يصاغ قياسا من الفعل الثلاثي على وزن ( مِفْعل ) و ( مفعال ) للدلالة على الآلة التي يعالج بها الشيء ، ثم توسع فيما بعد فأجاز أن يصاغ من الثلاثي المتعدي اسم آلة على وزن ( فعَّالة ) مثل : ثلاجة ، وهي صيغة شائعة بين المحدثين وكانت نادرة الاستعمال عند العرب ، وأجاز كذلك صوغ اسم الآلة على ( فِعال ) مثل إراث ، و( فاعلة ) مثل ساقية ، و( فاعول ) مثل : ساطور .
-يصاغ للدلالة على الحرفة من أي باب من أبواب الثلاثي مصدر على وزن ( فِعالة ) ، ثم توسع فيما بعد وأجاز عل هذا الوزن ما يشبه الحرفة من المصاحبة والملازمة نحو: العمادة والقوامة .
-صوغ ( فُعال ) للمرض .(90/16)
-صوغ ( فَعَل ) من العضو للدلالة على إصابته مثل رأسه أي أصاب رأسه .
-صوغ ( تَفْعال ) للتكثير والمبالغة .
-صوغ ( تفاعل ) للمساواة والاشتراك.
-صوغ ( افتعال ) للالتهاب .
وغير ذلك من الصيغ التي كانت من عُدة لجانه العلمية في وضع المصطلحات .
ومن أشهر قراراته في المعاني العامة:
-قياس التعدية بالهمزة .
-قياس التعدية بالتضعيف ، وقياس ( فعَّل ) للتكثير والمبالغة .
-قياس المطاوعة في الأفعال:( فَعَل ) الثلاثي مثل قطعته فانقطع ورميته فارتمي ، و ( فعَّل ) نحو فرحته ففرح ، و ( فاعل ) نحو : باعدته فتباعد ، و ( فعلل ) وشبهه نحو : دحرجته فتدحرج .
-قياس ( استفعل ) للضرورة والطلب نحو : استخرجته ، وللاتخاذ أو الجعل نحو : استهدفت الشيء أي جعلته هدفا.
-قياس المصدر الصناعي نحو : القابلية والمسئولية .
... وغير ذلك مما يمكن الرجوع إليه في مجموعة القرارات العلمية .
وبعد أن استوفى المجمع البحث في الصبغ المشهورة ، سكت عن هذا الموضوع فترة ، ثم عاد إليه وابتعث صيغا غير معروفة ، ونظر في شيوعها بين المحدثين ، كما أحصى ما ورد منها في الفصيح وما نسب إليها
من معان .
ومن قرارات تلك المرحلة الأخيرة .
-صوغ ( فَعول ) لما يتعاطى من دواء ونحوه ، مثل : سفوف وذرور .
-صوغ ( فُعْلة ) اسما للطائفة المجتمعة من الشيء نحو حزمة وكثبة ، ولما يتوسط الشيء نحو وصلة ولحمة ، ولموضع الفعل أو الشيء القليل نحو غرفة ونزفة .
-صوغ ( تفاعل ) للتكرار والموالاة أو لوقوع الفعل في مهلة أو تدرج مثل : تدافع وتصاعد .
-زيادة النون في ( فعلن ) وما يشتق منها مثل : عقلن وعضون .
-صوغ ( تمفعل ) نحو : تموضع وتمفصل .
... وقد كان لهذه القرارات الأخيرة أثر محمود في تيسير المصطلح العلمي ، وفي نفي الحرج من استعمال تلك الأوزان في بعض المعاني المستحدثة .
3-5 النحت
... من أعضاء المجمع من يرى(90/17)
أن الاشتقاق هو أهدى سبيل وأيسره في توليد الألفاظ ، لأن اللغة العربية لغة اشتقاقية أساسا ، بيد أن بعضا آخر رأى أنه وحده لا يكفي ، لأن عمله مقصور على أوزان أو قوالب معينة مهما كثرت فلن تستوعب جميع المعاني العقلية ، واقترحوا طريقة النحت لكي تعالج هذا القصور وتستوفي بها هذه المعاني ، وجزم بعضهم بأنه يوفر لنا كلمات مفردة مستساغة لا لبس فيها بحيث يصبح لكل مصطلح علمي مقابل عربي مكون من كلمة واح دة ذات معنى محدد .
... وقد كان هذا الموضوع من أهم ما شغل المجمع ففي الدورة الرابعة عشرة أجاز النحت للضرورة العلمية ، ثم عاد إليه مرة أخرى بعد أن استوفت لجنة الأصول بحثة، وهذا هو قراره .
... " النحت ظاهرة لغوية احتاجت إليها اللغة قديما وحديثا ولم يلتزم فيها الأخذ من كل الكلمات ولا موافقة الحركات والسكنات وقد وردت من هذا النوع كثرة تجيز قياسيتة ومن ثم يجوز أن ينحت من كلمتين أو أكثر اسم أو فعل عند الحاجة على أن يراعى ما أمكن استخدام الأصلي دون الزائد ، فإن كان المنحوت اسما اشترط أن يكون على وزن عربي ، والوصف منه بإضافة ياء النسب ، وإن كان فعلا كان على وزن (فعلل) إلا إذا اقتضت غير ذلك الضرورة ، وذلك جريا على ما ورد من الكلمات المنحوتة " .
... وقد تخلص القرار السابق من قيد الضرورة ومن تخصيص النحت بالمصطلحات العلمية ، وهو ما حرص عليه قراره الأول ، ومن ثم زال الحرج من استعماله ، كما أنه أجاز القياس على المسموع منه ، وحدد قواعد صوغه ومن ثم فقد ورد استعماله في مصطلحات المجمع ، وإن كان ذلك قليلا جدا نحو : فوسطحى - above surface وبلمهة dehydration .
3-6تعريب اللواصق
... طرحت هذه القضية على مائدة(90/18)
البحث في المجمع منذ إنشائه ، وتطور البحث فيها باتساع الحاجة إلى المصطلحات العلمية وباهتمام المجمع بتوفيرها ، وكان الهدف مقابلة المصطلحات الأجنبية التي تتضمن مثل هذه اللواصق بمصطلحات عربية أو معربة تؤدي معناها بصورة مطردة، وتنوعت طرق المقابلة على النحو الآتي :
أولاً : مقابلة اللاصقة ( سابقة أو لاحقة ) بصيغة عربية
أ-وافق المجمع على ترجمة المصطلحات التي تتضمن اللاحقة scope - مما يدل عل آلة للقياس أو للكشف بصيغة (مِفْعال) فيقال: مخيال في epidiascope والمصطلحات التي تتضمن اللاحقة meter - مما يدل على آلة للقياس بصيغة ( مِفْعل ) فيقال مرقب في Telemeter … الخ
ب-تترجم المصطلحات المنتهية باللاحقة able - بالفعل المضارع المبني للمجهول ويترجم الاسم منها بالمصدر الصناعي ، فيقال : يؤكل في mangeable ولا يؤكل في immangeable ويقال المشروبية في potability .
جـ-استعمال صيغة ( افتعال ) مما ورد منه فعل أو لم يرد للدلالة على الالتهاب ، وكان قد اقترحها الدكتور رمسيس جرجس في مقابل اللاحقة اليونانية it is - ومن ثم يقال : امتعاد في gastritis .
د-استعمال صيغة ( تِفْعال ) للمبالغة والتكثير مما ورد منه فعل أولم يرد وكان قد اقترحها الدكتور رمسيس جرجس للمصطلحات المبتدئة – بالسوابق – super – hyper - , over .
هـ-استعمال صيغة ( مفاعلة ) للدلالة على المشاركة وكان قد اقترحها الدكتور رمسيس جرجس لترجمة المصطلحات المصدرة بالسوابق – con – com-, sym -, syn فيقال : معايشة في symbiosis بمعنى الرفقة الحتمية لحيين مختلفين ليس أيهما طفيليا ..الخ
و-اقترح الدكتور رمسيس جرجس
استعمال صيغة ( فعلم وفعلمية ) للدلالة على الضخامة في مقابل السوابق – mega-, megalo , macro فيقال : كبدمية أي ضخامة الكبد في megalohepatia ..الخ
ثانيًا : تعريب اللواصق(90/19)
... وهو أسلوب شائع اضطر إليه المجمع وبخاصة في مصطلحات الكيمياء فعربت للاحقة ide بـ ( يد) فقيل : أنهيدريد في anhydride ..الخ ومن الملحوظ أن بعض هذه اللواصق قد أضيف إلى كلمات عربية فقد قيل مثلا : ذهبوز في aurous ..الخ
ثالثًا : مقابلة اللاصقة بكلمة عربية
... وكان هذا الأسلوب وما زال مفضلا في اللجان للمجمع ، فقد تقرر في مرحلة مبكرة من تاريخ المجمع اتخاذه ، فترجمت السابقة – hyper بكله فرط فقيل : فرط الحساسية في hypersensitiveness .. الخ
رابعًا : مقابلة اللاصقة الأجنبية بلاصقة عربية
... ومن أمثلة ذلك ترجمة
اللواصق like -, form -, oid التي تدل على التشبيه والتنظير في المصطلحات العلمية بالنسب مع الألف والنون مثل : غداني في endenoid .. الخ
خامسًا : مقابل اللاصقة بجزء من كلمة منحوتة
... وكان الدكتور رمسيس جرجس من أوائل الذين دعوا إلى تلك الطريقة ودعا إلى عديد من صورها، فهناك مثلا مئات من المصطلحات تنتهي باللاصقة ectomy -ويقصد بها الاستئصال ، فننحت من استأصل حرفي (صل)وتكمل(فعلله) من الكلمة الثانية ففي tonsillecotomy نقول صلوزة استئصال اللوزتين ..الخ
... وبهذه الطرق وفق المجمع إلى اقتراح حلول تشمل ما يزيد عن أربعين سابقة وثلاثين لاحقة ، ومن ثم غنمت العربية المعاصرة لأول مرة في تاريخها قواعد يمكن اعتمادها نهائيا ، ومع ذلك لم يطرد استعمال هذه الطرق على هذا النحو المقترح حتى في أعمال المجمع نفسه ، والسبب في ذلك أن المجمع ما كان يريد إلزام العلماء والمترجمين بطريقة واحدة .
... وقد أعاد المجمع النظر في الموضوع برمته وقدم ما يزيد على مائتي لاصقة إلى الباحثين سنة 1980، ومقترحاته في صوغها وقد حرص عندئذ على أن يؤكد أنه أوردها على سبيل المثال لا الحصر لتكون قياسا أو منهجا يحتذى به .
3-7 معايير المجمع في القياس وفي قبول الاستعمالات المحدثة(90/20)
... يختلف النحاة فيما يطرد وما يشذ من كلام العرب وفيما يصح أو لا يصح من كلام . وقد استخلصت من قرارات المجمع ومن احتجاجاته لها المعايير الآتية :
المعيار الأول : موقف النحاة القدامى من الظاهرة المدروسة
... ومنزع المجمع إلى ذلك أن له بحكم لائحته:أن ينظر في قواعد اللغة ليتخير – إذا دعت الضرورة – من
آراء أئمتها ما يوسع دائرة أقيستها .
المعيار الثاني : شيوع الظاهرة في الفصحى المحتج بها .
... يحرص المجمع في الاحتجاج لقرارته بالرجوع إلى مادة اللغة العربية في عصور الاستشهاد بل وفي غيرها أحيانا للتعرف على مدى شيوع الظاهرة ، وكأنه يعيد جمع المادة التي دونها القدماء ، وعلى سبيل المثال فقد اعتمد في قراره بجواز الاشتقاق من اسماء الأعيان على ما يزيد على مائتي فعل مشتق من اسم عين من (القاموس المحيط ) فحسب ، ومن ثم قال بقياسه ، على الرغم من أن النحاة قصروه على السماع .
ومفهوم القياس عند المجمعيين قائم على الحمل على الوارد الكثير ، والكثير قد يكون بمثال واحد إذا لم يسمع غيره في بابه .
فإذا وردت أمثلة كثيرة لصيغة من الصيغ في معنى من المعاني كان ذلك دليلا على أنه يسوغ لنا أن نبني على مثال هذه الصيغة لإفادة هذا المعنى ، وان لم يسمع هذا اللفظ بعينه ، وبهذا ينفتح باب الوضع في المصطلحات العلمية بخاصة لاستعمال هذه الصيغة في هذه المعانى ( أنظر ما سبق في ص 13-15 )(90/21)
المعيار الثالث : شيوع الظاهرة في الفصحى المعاصرة ( السماع من المحدثين ) لم يكن الهدف من إنشاء المجمع المحافظة على سلامة اللغة فحسب ، بل جعلها وافية بمطالب العلماء وغيرهم ، وإذا كان الهدف الأول جعله حريصا على قواعد اللغة وأقيستها لا يخرج عليها ، ولا يغير فيها ، فإن الهدف الثاني جعله حفيا بكلام المحدثين سمعيا لما يشيع منه ، ويحتاج إليه . وفيما يتصل بالمصطلح فقد أباح لأجله ما لا يتاح في غيره ، وأعطى للعلماء حرية أوسع في صوغ المصطلح ، يقول الدكتور مدكور : إن مبدأ الحرية العلمية يحملنا على أن نسلم بأن قداسة متن اللغة لا يصح أن تقف عثرة في سبيل البحث العلمي والتقدم " وعلى ما فهم معنى الضرورة في قرارات المجمع على أنه صوغ المصطلحات العلمية ، ومع ذلك فق وضع المجمع قيودا بحيث لا تكون هذه الحرية مطلقة وهي أن يمارس صانع المصطلح حريته في إطار قواعد عامة متفق عليها .
3-8- القياس
... تزيد الصيغ أو القوالب التي يمكن أن تصب فيها مادة العربية أو جذورها عن ألف صيغة ، وهذه الثروة العظيمة ليس لها أهمية كبيرة إلا إذ أتيح لنا أن نستخرج منها ما نحتاجه من كلمات بصورة مطردة أو قياسية .
... وقد أدى الاشتقاق القياسي – من حيث هو مبدأ توليدي – دورا عظيما في توفير منظومة المصطلحات العلمية في العصر العباسي الزاهر،وفي عصر النهضة .
... وفي مجمع اللغة العربية عاد هذا المبدأ إلى سابق عهده ليسهم بأعظم دور في توفير ما يحتاج إليه العلماء من مصطلحات ، وما يزال
واعدا بدور أكبر إذا ما أحسن
استخدامه .
... وقد كانت نظرة المجمع إلى القياس من حيث هو أداة منتجة استجابة لما قضت به لائحته من النظر في قواعد اللغة ليتخير من آراء أئمتها ما يوسع دائرة أقيستها لتك ون أداة سهلة للتعبير عن المقاصد العلمية وغير العلمية .(90/22)
... أنعم المجمع النظر في كثير من القواعد والأقيسة التي صاغها النحاة فترخص في كثير منها ، وأباح القياس فيما أصلة السماع ، وسعى إلى إباحة بعض ما منعه لنحاة ، أو إلى توسيع ما ضيقوه ، وقد كان هدفه – كما قلت غير مرة – تطوير العربية بحيث تكون وافية – من ذاتها وبأدواتها – بمطالب العلوم والفنون وشئون الحضارة والمعاش وتيسيرها على مستعمليها بتخليصها مما شاب بعض قواعدها من اضطراب وتشعب واستثناء ، كما وضح في قراراته التي أشرنا إلى بعضها في تضاعيف هذا
البحث ، وهي تؤكد في النهاية إيثارة
طرد القواعد وتعميم الأحكام .
خاتمة المطاف
... لقد نجح المجمع في وضع الأسس النظرية والمنهجية التي توضح كيف تتم العملية الاصطلاحية، كما أنه نجح في تحديد طرق الوضع في العربية وترتيبها من حيث الأولوية ، ومن حيث ملاءمتها لطبيعة اللغة العربية ووفاؤها بالمقصود ، ونجح كذلك في تهيئة العربية لهذه العملية بتوسيع أقيستها ، وإحياء عدد كبير من الصيغ المهجورة لتؤدي المعاني التي يحتاج إليها العلماء والمترجمون ، وأباح القياس فيها ، كما أنه أقر كثيرا مما شاع بين العلماء والأدباء من ألفاظ وأساليب محدثة كان يعترض على استعمالها على نحو أو آخر .
... ولهذا أرى أنه من العبث أن يهمل هذا العمل الذى بدأ منذ ستين عاما تتعاوره يد التدقيق والتنقيح حتى استقر في النهاية على تلك الأسس الواضحة السالفة ، وأن يبدأ كثير من الباحثين أو صناع المعجمات المتخصصة من البداية التي بدأ منه المجمع فيستغرقون في البحث في الأسس النظرية والمنهجية وفي مشكلات التطبيق .
... والأجدى من ذلك كله أن يلتزموا جميعا بقرارات المجمع وأن يهتدوا بمنهجه وأن يستخدموا مصطلحاته التي بلغت ألوف الألوف في المجالات العلمية المتعددة ، وبذلك يوفروا على أنفسهم الجهد والوقت ويتجنبوا عقبات غير هينة في التطبيق.(90/23)
... ومع تقديري العميق لعمل المجمع في بناء منظومة مصطلحية علمية في العربية ، وفي اقتراح خطة منهجيه لتوفير مصطلحات موائمة للأغراض العملية المختلفة ، وفي وضع جمله صالحة من المعجمات المتخصصة – مع تقديري لهذا كله فإنني أرى أن خطة المجمع في وضع المصطلحات وفي مَعْجَمَتها لم تعد صالحة ، وأن ما يخرج كل عام من مصطلحات لم يعد كافيا في هذا الوقت الذي تتسارع فيه المنجزات العلمية في كل مجال،وما ينبني على ذلك من ظهور مالا ينحصر من المصطلحات الجديدة أو من المصطلحات التي أعيد تعريفها .
... لم يعد يكفى – بعد انتشار الهيئات العالمية المعنية بالمصطلحات أن تعكف كل لجنة من لجان المجمع العلمية على معجم ما في مجالها تقضى معه سنوات في تعريبه وتنقيحه وفقا للأسس المجمعية ثم تعمل على نشرة – كالمعتاد – منجَّما في مجموعة المصطلحات الخاصة بالمجمع ، فإذا ما توفر لها قدر مناسب أعادت نشرة أيضا منجَّما في أجزاء ، وبذلك قد يستغرق هذا المعجم الذي هو في الغالب متوسط الحجم عشرات من السنين ، ومن ثم يكون الزمن والعلم قد تجاوزاه ، ولا تتحقق الفائدة المرجوة منه .
... إن الخطة التي أقترحها تقوم
على اختيار معجم مناسب للأغراض التي يتغاياها المجمع في معاجمه المتخصصة ثم تكلف لجنة من العلماء أهل الاختصاص لترجمته واستكماله، ومع اللجنة عضو مجمعي يراجع وينقح ويتحقق من استيفائه لمعايير المجمع في الاصطلاح ، وتحدد مدة قصيرة لإنجاز هذه المرحلة . وبعد الانتهاء منها يعرض على اللجنة المعنية لمراجعته كاملا ، ثم يوزع على أعضاء المجمع لتسجيل ملاحظاتهم ، ليعرض بعد استيفائها على مجلس المجمع فمؤتمره لإقراره، وبذلك يتوفر لنا معجم متخصص كامل في كل مجال علمي أو فرع ، ثم تتكرر تلك المحاولة في معجم آخر يواكب التقدم العلمي ، ويستوفى ما غاب عن المعجم السابق .
( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني )
أ.د.محمد حسن عبد العزيز(90/24)
الخبير بالمجمع
المراجع
حسين ( د . محمد كامل ) :
... اللغة والعلوم – مجلة المجمع ج 12 .
... القواعد العامة لوضع المصطلحات العلمية ، مجلة المجمع ج 11 .
عبد العزيز ( د . محمد حسن ) :
... القياس في اللغة العربية – دار الفكر العربي بمصر .
... الوضع اللغوي في الفصحى المعاصرة – دار الفكر العربي بمصر.
... التعريب بين القديم والحديث – دار الفكر العربي بمصر .
... النحت في اللغة العربية – دار الفكر العربي بمصر .
عمار ( د . أحمد عمار ) :
... المصطلحات الطبية ونهضة العرب في صوغها – مجلة المجمع ص 8 .
... دعوة إلى التزام خطة منهجية في صوغ المصطلحات الطبية –البحوث والمحاضرات دورة 27 .
مجمع اللغة العربية بالقاهرة :
... مجمع اللغة العربية في ثلاثين عاما د إبراهيم مدكور .
... مجمع اللغة العربية في خمسين
عاما د. شوقي ضيف .
... مجموعة القرارات العلمية في خمسين عاما . شوقي أمين .
مختار ( د . محمود ) :
... السوابق واللواحق – مجلة المجمع ج 46 .(90/25)
ورقة بحث
لغة القرآن في حياتنا اليومية
للأستاذ الدكتور حسن الساعاتي
تمهيد :
من أهم العناصر الأساسية في الثقافة ، إن لم يكن عنصرها الرئيسي اللغة التي يخاطب بها الناس بعضهم بعضا ، فينقلون أفكارهم ويتفاهمون في إطار ما تحمل اللغة من معان ، أدخلت في أذهانهم من خلال التنشئة الاجتماعية في البيت والجيرة والمدرسة . وهذا هو البيان الذي علمه الرحمن الإنسان ، ذلك الحيوان الناطق الذي استطاع أن يستبدل بلغة الإشارة الرمزية لغة اللسان المعبرة عن المعاني التي يتم بها التواصل وانتقال الأفكار بين البشر .
ولما كانت التجمعات البشرية تختلف فيما بينها وفق الظروف الجغرافية والبيئة الاجتماعية والثقافية لكل منها ، فقد أصبح لكل تجمع قومه الذين يتفردون بشخصية عامة تميزهم عن غيرهم في اللغة والفكر ، والقيم والعادات الاجتماعية ، التي تتبلور فتصبح أعرافا وتقاليد لها معاييرها ، التي إن قننت صارت شرائع وقوانين وأخلاقا تضبط السلوك البشرى وتوجهه في كل قوم يتكون من تجمعهم وتواصلهم وتعاملهم بعضهم مع بعض مجتمع متميز بشخصية قومية دالة تنفرد بطابعها الثقافي ، الذي تعد اللغة عنصرا رئيسيا بالغ الأهمية فيه .
اللغة العربية في المجتمع المصري :(91/1)
من اللافت أن لغة الشعب المصري، التي كانت سائدة قبل الفتح العربي في القرن السابع الميلادي ، والتي كانت تعد اللغة الطبيعية التي انبثقت في المجتمع المصري وكانت وعاء ثقافته عبر قرون مديدة ، قد أفل نجمها وانحسرت وظيفتها التواصلية لدى الشعب المصري بوفود اللغة العربية على ألسنة العرب الفاتحين ، الذين استقروا في البلاد وأخذ عددهم يزداد زيادة طبيعية بالتناسل ، وزيادة غير طبيعية بتفاطر الوافدين من الجزيرة العربية كمهاجرين وتجار . وهكذا بدأ انتشار الثقافة العربية في المجتمع المصري ، وأخذ يقوى تدريجيا ويعم، فامتزجت الثقافة العربية بالثقافة المصرية مكونة ثقافة إسلامية ركيزتها اللغة العربية ، لغة القرآن الكريم ، الذي يسره الله تعالى للذكر والتواصل فأصبحت لغة القرآن متغلغلة في فكر المصريين بفئاتهم المختلفة في حياتهم اليومية يتخاطبون بها ، ويستخدمونها في شتى الأغراض وهي طيعة ثرية سهلة ، وقد استجاب القرآن الكريم بلغته العربية المقدسة لشدة تدين المصريين الذين وجدوا في كلام الله تعالى كل ما يبتغون ، وبخاصة التبرك والاطمئنان والأمان والسلامة ، فاقتبسوا منه آلاف الكلمات والعبارات في تصريف شؤونهم في حياتهم اليومية ولكنهم طوعوا هذه الكلمات والعبارات العربية الفصحى بلسانهم العامي الطبيعي ، فصاغوها عامية فصيحة فأصبح تعرف بين اللغويين بفصحى العامية وقد أحصيت هذه الكلمات والعبارات الواردة في كتاب كلمات القرآن للشيخ حسنين محمد مخلوف وعددها حوالي خمسة آلاف وسبعمائة وعشرين ، فوجدتها لا تقل عن ألفين ومائة وسبعين ونسبتها حوالي 38% وهذه النسبة سترتفع بشكل لافت ، إذا أحصينا ما في القرآن الكريم كله من كلمات وعبارات نستخدمها في حياتنا اليومية المعيشة في العصر الحاضر . ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر كلمات مثل : أهدنا ، ختم ، يمدهم ، يعمهون ، فراشا ، استوقد ، نقدس ، يسومونهم، بلاء ، جهرة ، الغمام ، مشربهم ،(91/2)
المسكنة، هزوا ، بكر ، فاقع ، مسلمة، يتفجر ، ويل ، ثفادوهم خزي ، قفينا ، غلف ، يستفتحون، اضطره ، أرنا ، يزكيهم ، صبغة ، ينقلب ، ينعق، البر، الضراء، يطيقونه ، درجة ، فرجالا ، الحكمة ، تثبيتا ، تغمضوا ، إلحافا ، عسرة ، يملل . وهذه من كلمات سورة البقرة الواردة في كتاب كلمات القرآن . ومن العبارات الواردة في كتاب الله على سبيل المثال لا الحصر: كتب عليكم ، حدود الله ، فتح الله عليكم ، بغير حساب ، قرضا حسنا ، كفر سيئاتنا ، خلق الله ، طوعت له نفسه ، كلمات الله ، استكثرهم من الإنس ، يا بني أدم ، أنك باعيينا ، ما شاء الله ، إن شاء الله ، لا تؤاخذنى ، وما صبرك إلا بالله ، إن أجري إلا على الله ، قطعن أيديهم، يدبر الأمر، لتفتري علينا ، حق عليه، يعلم السر، الذي عنده علم ، سلام عليكم ، لا مرد له ، يصلون على النبي ، الحمد لله ، هو الفتاح العليم ، لن يغنوا عنك ، له الكبرياء، فما يغني عنهم، بنينها بأيد، أمَّن هذا ، الإنسان على نفسه بصيرة، خِتامه مسك .
استخدام لغة القرآن الكريم في الحياة اليومية
استخدم الشعب المصري لغة القرآن(91/3)
في شتى شؤونهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية فكانت لغته معينا لهم يقتبسون منه ما يوفى بحاجتهم ويحقق أغراضهم الدينية والدنيوية، لقد اقتبسوا من لغة القرآن كثيرا من أسمائهم ذكورا وإناثا ، ووفق التوجيه النبوي ،" خير الأسماء ما عُبِّد وحُمِّد " وهكذا أكدوا العبودية لله تعالى بأنهم وضعوا كلمة عبد قبل أغلب أسماء الله الحسنى فكان على قائمتها :عبد الله ، وعبد الرحمن ، وعبد الملك ، وعبد الرحيم ، وعبد السلام ، وعبد ربه ، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. واقتبسوا منه أسماء المصطفى عليه الصلاة والسلام، وعلى رأس قائمتها: محمد ، أحمد ، طه ، ياسين ، وأضافوا إليها محمدي، محمود ، حمدي ، حماده ، كما اقتبسوا من لغة القرآن أسماء الإناث مثل : هدى ، رحمة ، زاكية ، مؤمنة، سكينة، نعمة ، صابرة ، إحسان ، نور، فوز ، لبنه ، وأسماء أخرى كثيرة اقتبسوها لمعانيها الطيبة التي يرجون منها الخير والبركة لبناتهم.
واستخدم كثير من المصريين القرآن الكريم يتلى في بيوتهم ومحال تجارتهم بما يعرف بـ " الراتب " لأنهم رتبوا لذلك كثيرا من حفظة القرآن الكريم وبخاصة الأكْفاء المأمونون منهم ، فيستمعون إلى كلام الله ويلتقطون منها ما يستخدمونه في شتى شؤونهم مع التركيز على المواعظ الهادية التي تنير حياتهم وتباركها لهم . ومنذ أوائل الستينيات وإذاعة القرآن الكريم تقوم بدور الراتب وتنشر لغة القرآن بين الشعب وبخاصة المتدينون منهم " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " (الزمر 18 )(91/4)
ويتناغم مع تدين الشعب المصري ، تبرك الكثيرين منهم بآيات من القرآن الكريم في صورة معلقات توفر على كتابها خطاطون مبدعون ، فكان بعضها تحفا تشع جمالاً وحكمة ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر :"رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري" ( طه 25،26 ) و"هذا من فضل ربي "( النمل 40 )" وما بكم من نعمة فمن الله ( النحل : 53 ) ، "وكان فضل الله عليك عظيما" (النساء : 113 ) ، "وقل ربِّ زدني علما" ( طه 114 ) ، إن ينصركم الله فلا غالب لكم" ( آل عمران 160 ) ،" نبئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم"(الحجر 149)،" ما شاء الله لا قوة إلا بالله"( الكهف 39 ) ، " ألا بذكر الله تطمئن القلوب ( الرعد 28 ) ، " بسم الله الرحمن الرحيم" ( الفاتحة : 1 ) .
ومن استخدام المصريين لغة القرآن الكريم ما يقتبسونه في معاملاتهم الاجتماعية ، فهم يحصنون أنفسهم ضد الحسد بقوله تعالى :" ما شاء الله لا قوة إلا بالله" ، التي صاغ الصائغون من الكلمات الثلاث الأولى معلقات من الذهب أو الفضة ليزين بها الجيد ويحدث بها الحفظ وأصبحت تعرف في هذا المجال من الثقافة المصرية بـ " الماشالَّة " ورصيفتها في هذا المجال معلقة صغيرة جدا من الذهب أو الفضة بشكل كف اليد بأصابعها الخمسة ، رمزا للآيات الخمس التي تتكون منها "سورة الفلق " التي تقي حاملها المعتقد في فاعليتها " من شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد " وهكذا طوع التفنين المادي لخدمة الاعتقاد المعنوي .(91/5)
ومن الاستخدام الاجتماعي للغة القرآن ، قولهم بعد الانتهاء من المأكل والمشرب ، الحمد لله والتعقيب على ذلك بقولهم :" هنيا " وقولهم عند الشدائد " صبرك بالله " المقتبسة من قوله تعالى " وما صبرك إلا بالله " (النمل : 127 ) وقولهم أيضا إن الله مع الصابرين ، المقتبسة أيضا من قوله تعالى" إن الله مع الصابرين" (الأنفال 66 ) وقولهم عند زوال الغمة " فرجت " المقتبسة من الآية التاسعة من سورة المرسلات " وقولهم في العزاء سعيكم مشكور المقتبسة من قوله تعالى " وكان سعيكم مشكورا " ( الإنسان : 22 ) ، والتعقيب على ذلك بقولكم " ذنبكم مغفور " المأخوذة من الآية الثالثة من سورة غافر " ، وتهديدهم من يماطل في رد الدين " ادفع بالتي هي أحسن " المقتبسة بالنص من القرآن الكريم ( فصلت : الآية 24) وتسليمهم لله تعالى في كل أمورهم اتباعا لقوله تعالى :" لله الأمر من قبل ومن بعد " (الروم الآية 40 ) وتوكيلهم الله في ذلك أيضا تنفيذا لقوله: " لا اله إلا هو فاتخذه وكيلا " (المزمل : 9 ) .
ومن أطرف ما أتذكره في استخدام لغة القرآن الكريم في الحياة الاجتماعية ، أنى حضرت خطبة أحد الأقارب وأنا غلام صغير ، وكان الخاطب متزوجا قدره ثمانية جنيهات. وتكريما لزوجته تمسك بهذا القدر في خطبته الجديدة ، إذ عندما طلبت من شقيق المخطوبة تعيين صداقها قال : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا " ( التوبة 36 ) فقال له الخاطب على الفور " منها أربعة حرم " فضج الحاضرون بالضحك .(91/6)
هذا ويستعمل المصريون في معاملاتهم الاجتماعية كلمات من لغة القرآن الكريم ذات دلالة شديدة على أخلاقهم في سلوكهم بعضهم مع بعض وعلى ما يعتمل في نفوسهم من انفعالات قوية عميقة الأثر . ومن ذلك كلمة " أشكرك " والرد عليها بقولهم: الشكر لله. من قوله تعالى :" واشكروا لى " ( البقرة 152 ) أو الرد عليها بكلمة : " العفو " من قوله تعالى :" خذ العفو " ( الأعراف 199 ) أو قوله "قل العفو " ( البقرة 219 ) ، أي ما فضل عن قدر الحاجة ، كذلك قول المخطئى لا تؤاخذني أو ماتؤخذنيش" كما ورد في سورة الكهف على لسان موسى عليه السلام " لا تؤاخذني بما نسيت " ( آية 73) ويردد المصريون في رجائهم عبارة " اعمل معروف " المأخوذة من قوله تعالى " إلاَّ أنْ تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " (الأحزاب 6 ) . ومن اللغة الانفعالية التي يستعملها الناس في ظروف مؤثرة ، الكلمات القرآنية:" عوجا" (آل عمران: 99 ) و"كفر عنا سيئاتنا"(آل عمران:193)، و" " موتوا بغيظكم " (آل عمران 119 ) ، و" لا يضركم كيدهم شيئا " ( آل عمران:120 ) ، و: "يمسسكم قرح"( آل عمران:140)، و" زحزح " ( آل عمران : 185 )، و" يؤذون " ( النساء:16 )،و"غل" (الحجر: 47) وذلك على سبيل المثال لا الحصر .
ومن الاستعمالات القرآنية أيضا، اقتباس لغة القرآن لوضع أسماء لبعض المؤسسات ، مثل مؤسسة "القرض الحسن " ( البقرة 245 )، و"جمعية"عباد الرحمن" (الفرقان:63)، و"مدرسة " العروة الوثقى" ( لقمان: 22 )، و جامع " الفتح" (النصر:1) ، و"مؤسسة الهندي " (البقرة:120) ، "ودار الشفاء"(يونس: 57)، و " شركة سلسبيل"( الإنسان: 18 )،و"جمعية الإخوان المسلمين " من : "ونزعنا ما في صدورهم من غل أخوانا على سرر متقابلين "(الحجر:47)، و" جماعة حزب الله " (المجادلة : 22 ) ولما كان الشيئ بالشيئ يذكر فقد كان بالتلفزيون المصري لعدة سنوات برنامج ديني ناجح اقتبس اسمه من القرآن الكريم ، وهو" نور على نور"(النور:35 ).(91/7)
واقتباس المصريين من لغة القرآن فى حياتهم الاقتصادية أمر يستحق الذكر ، فهناك معلقات تحمل آيات قرآنية يعلقها أصحاب بعض المهن في مجالهم . فيعلق الخياط – قوله تعالى " وكل شيء فصلناه تفصيلا"( الإسراء 12)،ويعلق الحلاق من قوله تعالى :" تعرف في وجوههم نضرة النعيم" (المطففين: 24) أو " وزيناها للناظرين " ( الآية 16 ) من سورة الحجر ويعلق الحداد : " وألنا له الحديد " " ( سبأ الآية 10 ) ويعلق صاحب المطعم " كلوا واشربوا هنيئا " ( الطور : 19 ) ويعلق السماك :" ومن كلٍ تأكلون لحما طريا " ( فاطر :12 ) ويعلق المأذون " وزوجناهم بحور عين " ( الطور : 20 ) ويعلق الشربتلي " وسقاهم ربهم شرابا طهورا (الإنسان :21 ) .
أما الكلمات والعبارات المقتبسة من لغة القرآن الكريم والمستعملة في المجال الاقتصادي فكثيرة وواضحة المعاني مثل :" رؤوس أموالكم " (البقرة : 279 )، و" ينفقون أموالهم " (البقرة :262) "ولهم أجرهم"( البقرة : 262 )، و" كسبتم " ( البقرة: 267 )، و" البيع "و" الربا "(البقرة 275 )، و"دين"(البقرة:282 )، و"يشترون " وأيضا " ( آل عمران:77 ) "ورهان" (البقرة: 283 )، و"يحاسبكم" (البقرة:284).
ويرتبط الحساب بالمجال الاقتصادي فيستعمل المصريون من لغة القرآن الكسور مثل :ثمن وسدس وربع وثلث وثلثين ، والأرقام مثل : اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وسبعة وثمانية وتسعة والأعداد كأحد عشر ، واثنى عشر ، وتسعة عشر ، وعشرين وسبعين ومائة ومائتين وألف وألفين وخمسين ألفا ومائة ألف. وبالحساب تتصل القسمة التي اقتبست أيضا من لغة القرآن "تلك أذن قسمة ضيزى "(النجم: 32 ) و " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا " ( الزخرف: 32 ) .(91/8)
وفي المجال السياسي ، اقتبس المصريون من لغة القرآن الكريم كلمات:ملك ( الكهف :75 ) ، ووزير( طه :29 )،وحزب (الروم:32 ) ، وشورى (الشورى:38 )،وحكم وعدل من قوله تعالى:وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل "( النساء:58) ، وظلم ( غافر : 31 ) ، و مما يذكر بهذا الصدد أن حزب الوفد قد اقتبس اسمه من لغة القرآن الكريم من قول الله تعالى :" يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " ( مريم:85) ومن الكلمات التي كانت شائعة في المجال السياسي في ثلاثينيات هذا القرن كلمة " مذبذب " المقتبسة من قوله تعالى " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " ( النساء 143 ) وذلك في المنافسة الشديدة بين حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين .
خاتمة
مما سبق من بحث استعمالات الشعب المصري بفئاته المختلفة ، لغة القرآن الكريم في مجالات شتى من الحياة اليومية ، يمكن استخلاص النقاط البارزة التالية :
أولاً - اللغة العربية لغة القرآن قوية ذات قدرة فائقة، مكنتها من إزالة ما قبلها من اللغة في مجتمع غريب عنها، استطاعت الاستقرار فيه .
ثنايًا - استقرار اللغة العربية في المجتمع المصري ناجم عن ثرائها الذي جعلها تنتشر في ربوعه وتصبح وعاء ثقافته الواسعة المتشعيه .
ثالثًا - اللغة العربية لغة جميلة
لموسيقية النطق بها وعذوبة لسانها، لخضوعها لأحكام تجعل الآذان تلتذ بسماعها ، حتى وإن كان نطق عامة الشعب بها قد تخفف من هذه الأحكام في معاملاته التي تحتاج سرعة الانطلاق .
رابعًا - اللغة العربية مستوعبة لشتى معاني الأفكار والتصورات المعنوية غير المحسوسة وبخاصة الانفعالي منها ، وكذلك لشتى ماديات الحياة اليومية .
خامسًا - اللغة العربية سهلة ميسرة
بليغة ، لسانها مبين شجع الشعب على استعمالها في مجالات متنوعة من الحياة اليومية .(91/9)
سادسًا - اللغة العربية وحدت الشعب المصري بجميع فئاته ودرجاته ؛ فجرت على ألسنتهم لهجتها العامية المنبثقة من لغة القرآن الكريم ، واستعملوها في مجالات الحياة اليومية .
سابعًا - لغة القرآن العربية يفصح بها اللسان المصري العامي عما يجول في الذهن من معانيٍ وما يتراءى فيه من صور ، فأصبحت فصحى العامية لغة الشعب التي لا يختلفون في فهمها والتواصل فيما بينهم بها .
د. حسن الساعاتى(91/10)
من المعلوم أن النقاش حول كون أصل الشعر الدوري الأندلسي ، أي التوشيح والزجل، عربيا أو أعجميا ، كان ولا يزال من أهم ميادين الجدال الأدبي في قرننا هذا، إن لم يكن أهمها جميعًا ، وإنما ذلك لسببين رئيسيين ، أحدهما أن الأخبار الموثوق بها عن تلك الأصول في التراث قليلة غامضة، وثانيهما أن هذه القضية متعلقة بقضايا ومصالح أخرى غير علمية بحتة، مما أدى إلى تفسيرات مغرضة، عن وعي أو بغيره ، منبعثة من الحماس القومي ومن الحرص على حل تلك القضية على نحو معين، ولو كان ذلك بغير مقتضى مناهج العلم الصحيح ، ولا غرو ، فإن جميع قضايا الأندلس قلما تخلو من صلة وثيقة بكل من العالمين العربي والغربي ، فلا تكاد تطرح على بساط المناقشة حتى يبادر كلا الطرفين إلى ادعاء حقه في المنازع فيه، وإن كان فيه أخذ ورد ، ولا أدلَّ على ذلك من شدة اللهجة
التي استعملها بعض الأساتذة المحترمين عند التعرض لهذا الموضوع أحيانًا، ولكأنهم باعة بضاعة أرخص من العلم الغني عن المناداة ، فضلا عن المفاصلة والمشاجرة ، ومنهم من تجاوز ذلك إلى اتخاذ حيل غير لائقة بكرامة مراتبهم كحجب المخطوطات المحتوية على الأخبار الثمينة عن زملائهم بقصد الانفراد بمنافعها والتحكم في تفسير مضمونها ، بل بنية إجراء تحقيقها على وجه متفق وميولا غير علمية ، عن طريق تحريف الأصل وعدم التصريح بالتصحيحات المفروضة فيه، إلى طرق أخرى غير مقبولة عادة لدن أهل العلم والصلاح . ومن حسن حظ العلماء العرب أن معظم ذلك إنما جرى في الغرب، فتخلصوا من خوض غمار معركة قل من سلم منها وغنم فيها ، بل قل من رجع عنها بأكثر من خفَي حُنَيْن .(92/1)
يرجع ذلك طبعًا إلى أن العلماء العرب، مع طول اطلاعهم على التوشيح والزجل اللذين سموهما الفنين عادة واختصارًا ،لم يروا فيهما على مر القرون غير استنباط أندلسي طريف كانوا يعدونه من مفاخر أهل الأندلس التي شاركهم فيها المشارقة فيما بعد ، فلم يعلقوا على الأمر مزيدًا من الأهمية ، إذ رأوا المغاربة والمشارقة أجمعهم عربًا ، وحسبوا تراث الجميع تراثا واحدًا لم يختص ببعضه بعضهم دون بعض ، وهو رأي سديد قد أثبت صحته ما أسفر عنه النقاش في هذه الفترة الأخيرة ، ولا بأس على كل حال بهذا النقاش الذي زادنا يقينا ببراهين وأدلة ما كنا لنهتدي إليها لولا ما كان من النزاع .
أما العلماء الغربيون فإنهم ، عندما تعرفوا على وجود الفنين في أواخر القرن الماضي واطلعوا على عدد من نماذجهما في بعض المخطوطات المشرقية قبل المغربية، وكان رائدهم في ذلك الأستاذ الألماني هارتمان ، فسرعان ما لاحظوا الفوارق البنيوية الواقعة بينهما وبين الشعر العربي المُقَصَّد ، فتبادر إلى عقول بعضهم أنها عسى أن ترجع إلى أصلهما الأندلسي، وليس هذا بعيدًا عن الصواب كل البعد كما سنبينه فيما يلي ، وظن بعضهم أن مصدر ذلك الاستنباط الغريب إنما هو بقاء تراث شعبي رومنسي أو أسباني قديم ذي شأن عظيم في أراضي الأندلس،بحيث إن العوام من الملل الثلاث، أي المسلمين والنصارى واليهود، ظلوا يؤلفون ويلحنون ويغنون أغانيهم الشعبية الرومانسية الأثرية بأعاريضها الأصلية وبنيتها الدورية ومواضيعهم الخاصة بهم زعما مدة من الزمن بعد غزو العرب ، كشأنهم فيما قبله ، ثم أتى بعض الشعراء الأندلسيين المعجبين بها ، فنسجوا على منوالها الموشحات في مرحلة أولى ، بلغة عربية فصيحة ما عدا خرجاتها العامية أو الأعجمية ، ثم تجاوزوا ذلك المقدار من الجرأة والتحرر من قيود التقاليد في مرحلة ثانية ، فوضعوا الأزجال العامية من أولها إلى آخرها ، وسنرى بعد قليل أن هذا التخمين خاطئ .(92/2)
وانصرمت السنون وتعاقبت الأجيال وتوالى اكتشاف مراجع جديدة للفنين عقب تحقيق مخطوطات كثيرة محتوية على موشحات وأزجال من أمثال " دار الطراز" لابن سناء الملك و " كتاب العاطل الحالي والمرخص الغالي " لصفي الدين الحلي و " جيش التوشيح " لابن الخطيب ، الخ ، واتخذ العلماء العرب وبعض المستشرقين معهم موقفا محترسا من هذه الآثار وما فيها من أخبار متناقضة وغوامض لغوية وعروضية في بعض الأحايين ، مزاولين للبحث في خصائصها الشكلية والمضمونية والجمالية ، معترفين بأن فيها ما يخالف المعتاد في الشعر المقصد مخالفة عرضية غير مطردة ، مع إمكان إرجاع ذلك إلى تطور الأساليب العربية في الأندلس على نحو شاذ نوعًا ما بحكم البعد الجغرافي والتاريخي واختلاف الذوق وتأقلمه .
على أن بعضا آخر من المستشرقين ، لاسيما منهم الإسبان مواطنيَّ ، لم يقفوا عند حد هذا الاعتراف الناتج عن التواضع المفروض على كل عالم فرضا مطبوعا على شروط العلم الإنساني والاقتناع بأن اليقين غير حاصل إلا بعد طول التأمل والتذرع ببينات كثيرة ، وأسرعوا ، وفي مقدمتهم الأستاذ خوليان ريبيرا ، إلى القولة الثانية المشار إليها آنفا ، أي ، أن تلك المخالفة ، مع كونها عرضية فقط ، كانت تدل في زعمه على أن الموشح والزجل مشتقان حقا عن شعر رومانسي الأصل كان الأندلسيون قد عربوه تعريبا سطحيا، أي في اللغة فقط ، مع إبقائهم على أعاريضه وأدواره ومواضيعه الرومانسية الأثرية .(92/3)
ولم يستطع الأستاذ ريببرا أن يدلي ببرهان قاطع على رأيه هذا ، مع أنه معتمد في مذهبه على ما هو معلوم وثابت بالفعل من أن سكان الأندلس كانوا مزدوجي اللغة يتحدثون بالعربية والأعجمية معا إلى أيام المرابطين ، وعلى مقدمة خاطئة ، وهي أن ازدواج اللغة يترتب عليه ازدواج الثقافة على كل حال، وليس الأمر كذلك ضرورة ، كما هو معروف ، فلم يكن لزعم ريبيرا هذا كبير صدى في أيامه لاطراد شعور أهل العلم بأن أسس نظريته متقلقلة . ولكن المقادير شاءت أن تكتشف الخرجات الأعجمية الملحقة بالموشحات العبرية في أواخر الأربعينيات على يد الأستاذ غارسيا غوميس ، وهو تلميذ ريبيرا المخلص لآراء معلمه ولعصبيته الغالية ، فجعلها هو أقوى دليل على صحة نظرية أستاذه المهجورة آنذاك ، وبدأ يدعو لها ثانية في سلسلة من الأبحاث ، من تحقيقه لنصوص تلك الخرجات ودراسته لدار الطراز إلى تحقيقه لديوان ابن قزمان الذي أبلى فيه بلاء حسنا وقدم به خدمة كبيرة للعلم بالنسبة إلى المحاولات الشبيهة السابقة له ، باذلا في هذه المبادرة كلها جهدا جسيما بقصد تقطيع جميع الموشحات والأزجال الأندلسية المعروفة عندئذ وفقا لمبادئ الشعر الإسباني . ولم يعدم هذا النشاط الجدير بالإعجاب والتقدير حقا لما اتصف به من الجد والاجتهاد أثرا ملموسا في الدوائر العلمية العالمية ، إذ تمكن من إقناع الكثيرين من العلماء الغربيين ، وحتى بعض العرب ، بصحة بعض نظريته أو كلها ، إلى درجة أن كبار المتخصصين في هذا الميدان ذهبوا مذهبه أو على الأقل أضربوا عن مناهضته إضرابا تاما أو كادوا، لما كانت الخرجات الأعجمية إلى جانب شواهد الازدواجية اللغوية الأندلسية تقارب في أنظار الجميع إثبات الازدواجية الثقافية التي هي أساس تلك النظرية ، وتحملهم على تصديق ما ادعاه غارسيا غوميس من أن للأندلسيين شعرًا رومانسيًا قائما بذاته موروثا من أسلافهم الجاهليين .(92/4)
وكان عموم العلماء العرب المعتنيين بهذا الأمر أثناء ذلك ما برحوا يعتقدون أن البنية الدورية للفنين إنما تولدت من التسميط ، الذي اخترعه الشعراء المحدثون من أمثال أبي نواس في القرن الثاني ، وأن بنيتهما العروضية هي الأخرى مطورة من الأعاريض الخليلية المتأخرة التي وضعها بعض تلاميذ العلامة البصري في أيامه أو بُعَيْدها ، وكلا الأمرين صحيح ، ولكن هؤلاء العلماء المعاصرين ، وأخص منهم بالذكر المستحق بل الواجب أستاذنا الجليل الجهبذ المرحوم عبد العزيز الأهواني، لم يستطيعوا أو لم يريدوا أن يقفوا في وجه ذلك التيار الجارف موقفا مكافحًا مدافعين عن رأيهم ومضادين لعكسه ، أولا لأن الحجج الفاصلة لم تكن متوفرة بعد ، إذ كان تقطيع الفنين الخليلي غير خال عن بعض المشاكل العملية ، وثانيًا لأنهم أو معظمهم ، على خلاف خصمهم المتحمس في نعرته القومية ، كانوا يعطفون على الأندلس والإسبان معًا، فلم يثر حفيظتهم زعم وجود ثقافة أعجمية في حوزته إلى جانب الثقافة العربية ، بل بدا ذلك لهم أمرا طبيعيا رحبوا به ولم يحثهم على طلب الأدلة المفندة لهذا الاحتمال البعيد ، مع أنها في متناول اليد ، إذا أمعنا النظر في الحقائق التاريخية المثبتة وفي اختلاف معنى الألفاظ " أعجمي " و " رومنسي " و"إسباني" ، مع أن في المسألة إمكان إثارة جدال ملي نبا عنه حسن ذوقهم،فنعم علمهم وأدبهم!(92/5)
على أن الأستاذ غارسيا غوميس كان قد شط في الأمر شططا لم يكن من اليسير التغاضي عنه عندما اقترح تقطيع الموشحات بأعاريض غير عربية ، فلم يلبث أن جاءه رد فعل صامت أو صريح من مصادر شتى، لعل أخطره شأنا وأدله على خطئه كتاب المرحوم الدكتور سيد غازي الصادر سنة 1979م تحت عنوان "الموشحات الأندلسية " ، الذي لم ينبس فيه بكلمة نقد على نظرية غارسيا غوميس مباشرة ، إلا أنه حدد بنى الأبيات والأنماط العروضية تحديدا مقنعا لا يدع محلا للشك في أنها هي الصحيحة ، في حين أن بعض المستشرقين أخذوا ينتقدون تلك النظرية انتقادا صريحا فتح باب الشر بين الطرفين الذي انتهى إلى كلام غير لائق بهما وبذكره هنا ، على أنه أنبه النيام وأطلع الجميع على أنها مبنية على أسس غير راسخة فشارك في الجدال حول قضية العروض خاصة بحاثون مختلفون أولو نزعات متباينة ، يجوز تقسيمهم إلى طرفين متناقضين تناقضا تاما ، هما أنصار العروض الخليلي البحت ، وأكثرهم من تلاميذ شترن الإنكليز من أمثال ألن جونز وجرير أبو حيدر وثيودور غورتون ، وانضم إليهم الأستاذ شولر الألماني ، وأصحاب النظرية الرومانسية ، رئيسهم غارسيا غوميس مع بعض أتباعه المحليين الأصاغر مِمَّنْ لا نحتاج إلى تسميتهم ، وانضم إليهم الأستاذ جيمز مونرو الأمريكي ، فكانت اليد العليا للطائفة الأولى ، على الرغم من عجزهم عن حل جميع مشاكل تقطيع الفنين على أساس العروض الخليلي بصورة كاملة مقنعة نهائية ، إلا أنهم أحَلُّوا الهزيمة بأصحاب النظرية العروضية الرومانسية بقوة حججهم وأظهروا رِكَّتَها، وإن لم يتخل أصحابها عنها ، فإن الرأي العام العلمي العالمي كان قد عاد إلى الصواب وأمسى يرتاب في صحة أقوال جرت العادة بتصديقها قُبَيْل ذلك حتى ثبت أنها مجرد أوهام .(92/6)
وقد أجبرتني الظروف ريث ذلك على الضرب بسهم ونصيب في هذا الجدال ، مكرها لا بطلا ، بسبب اتصال الميدان وعلاقتي الودية إذ ذاك بالأستاذ غارسيا غوميس واهتمامي المعقول بأبحاثه في الزجل، إذ كنت عندئذ منكبا على دراسة خصائص عامية الأندلس . فحاميت عن شيخنا ما قدرت عليه وحَسُنَ بي ، إلى أن أدركت حقيقة الأمر، فاضطرني الصدق إلى مصارحته بأن أكثر الحق مع معارضيه ، فنبذني نبذا أعاد لي الحرية والحق في الإدلاء بآرائي ، فنشرت إثر ذاك تحقيقا أول لديواني ابن قزمان والششتري وسلسلة من المقالات أثبتُّ فيها أن عروض التوشيح والزجل عروض خليلي محور في الأندلس ليطابق كلام أهله المتميز دون الفصحى واللهجات المشرقية باستبدال النبرة بكمية المقاطع الأصلية ، وهي النظرية الثالثة المتوسطة بين النظريتين الأخريين الجابرة لخللهما ، وقد شرحتها بالعربية في مقدمتي لتحقيقي الثاني لديوان ابن قزمان الصادر بالقاهرة سنة 1995م.(92/7)
إلا أن هناك مجالين اثنين مازال أصحاب النظرية الرومانسية يتمنعون بهما مدافعين عنها متذرعين بحجج يزعمون أنها تفت في عضد القائلين بانتساب عروض الفنين إلى الطراز الخليلي ، هما بنيتاهما الموضوعية والدورية ، فقد ادعوا أن مواضيع الخرجات الأعجمية إسبانية الأصل والنوع ، مخالفة لمواضيع الشعر العربي المعهودة، كما قالوا إن تقسيم الموشحات والأزجال المميز إلى أدوار ليس نتيجة لتطوير التسميط، بل أسلوبٌ موروث عن الشعر الأعجمي الأثري المفروض وجوده على أساس خرجات الموشحات نفسها لا غير. أما النقطة الأولى – أي افتراض الخلاف الجوهري بين مواضيع الشعر العربي المقصد وبين مواضيع الفنين أو بعض أجزائهما كالخرجات ، لاسيما منها الأعجمية ، فإن آخر الأبحاث قد بينت بطلان ذلك الرأي وصحة عكسه، ومن هذا الباب إثبات تلميذي الهولندي الأستاذ أوتو زفارجيس في أطروحته المقدمة إلى جامعة نيميخن سنة 1995م وقد صدرت أخيرًا من مطابع دار بريل للنشر ، أن الخرجات الأعجمية لو ترجمت إلى لغة ثالثة لما أمكن فرزها من أخواتها العربية ، وإني قد قصدت نفس هذا الغرض ببحث ألقيته على حضراتكم في دورة سنة 1995م وتحت عنوان "الخرجات المسماة بالأعجمية في الموشحات الأندلسية " ، خلاصته أن بعض القراءات المعتمدة سابقا لهذه النصوص في الغرب كانت تحرف أصولها أو تفرض عليها تفسيرًا خاطئًا يحولها عن معانيها الأصلية الدالة على سيطرة الإسلام والعروبة على المجتمع الأندلسي إلى معان مختلفة تغلب عليها المبالغة في إيهام أنه مجتمع مزدوج اللغة والثقافة ، متردد بين إسلام المولدين وتعربهم التدريجي ومسيحية الذميين وتمسكهم بالأعجمية ، على عكس الواقع المجرب من تساوي أهل الملتين من حيث سرعة التعرب ، ضربت مثلا لذلك تحويل عيد الأضحى إلى عيد الفصح ، وصوم رمضان إلى صوم الأربعين ، والسهو عن ذكر سورة يس إلخ ، ذلك إلى جانب تحريفات أخرى تقحم في تلك الخرجات الأعجمية بعض(92/8)
أساليب الشعر الأوربي كأغاني الصبح والأزواج الغيارى ومفهوم الحب الصالح ، وكل ذلك معدوم فيها ، وإنما خيل إلى محققي هذه النصوص أنه موجود لما ارتأوه من أنها منتمية إلى نموذج ثقافي أوربي ، ولا أقول إن هذا السلوك صادر عن المغالطة وسوء النية في جميع الأحوال ، بل أرى أكثر ذلك راجعا إلى الاغترار الناتج عن الحماس الفكري وعدم التضلع في اللغة العربية والحضارة الإسلامية.
على أنني كنت وعدتكم في عنوان هذه المحاضرة بإطلاعكم على أدلة جديدة على الأصول العربية لبنية التوشيح والزجل الدورية ، وهذا هو الهدف الرئيسي من حديثي إليكم اليوم ، ولم يكن ما سبقه غير تهيئة له وتذكار بسوابقه، وقد حان وقت التصدي لقلب المسألة . وذلك أن موالي نظرية الأصل الرومانسي لهذين الفنين ما انفكوا متشبثين بإنكار تولدهما من التسميط ، مع كونه تعليلا معقولا جدا ، بحجة أن صيغة هذا أ أ أ هـ ، في حين أن صيغة الموشح الأصلية هـ هـ أ أ أ هـ هـ ، وصيغة الزجل الأصلية هـ هـ أ أ أ هـ ، ومن الجلي أن الفرق بينها جميعا يسير منحصر في مضاعفة القفل وإسباق البيت اختياريا بمطلع مشاكل في حالة الموشح خاصة ، وهذا ضروري في الزجل الذي لا يكاد يكون أقرع إلا في حالات نادرة جدا أو متأخرة ، مع عدم مضاعفة قفله على عكس الموشح . ولكنهم بالغوا في أهمية هذه الفروق ، فجعلوها مانعا حتميا دون إمكان تولد بعض هذه الصيغ عن بعض ، علما منهم بأن الاعتراف بذلك مزيل لأهم أسس النظرية الرومانسية، وأصروا على المطالبة بشرح كاف شاف لأسباب وقوع ذلك التطور وكيفيته ، وهذا ما لم يكن حتى الآن في متناول اليد .(92/9)
ولكن الحق يتجلى ، ولو بعد حين ، ومن غريب الصدف ، أو بالأحرى من نتائج الاجتهاد والمثابرة اللذين يجب الاقرار بهما لمعظم المعتنين بهذه القضية ، أن الأستاذ مونرو الموالي للنظرية الرومانسية ، أثبت أخيرا أن خرجات كثيرة لموشحات مشهورة مقتبسة من أزجال شهيرة هي الأخرى ، فاستنتج من ذلك ، وهو برهان قاطع لا ينكر ، أن الزجل أقدم حتما من التوشيح ، على عكس الرأي السائد سابقا لدى العلماء من أنه مجرد تقليد عامي له . ولكن الأستاذ مونرو لم يهتد ولم يهتد غيره حتى الآن إلى أن أقدم الأزجال التي اقتبسها الجيل الأول من الوشاحين خرجات لموشحاتهم عند اختراعها ، أي عند تطويرها من المسمط ، لم تكن دورية البنية بعد كالأزجال المعهودة ، بل كانت أبسط من ذلك عبارة عن بيتين مقفيين فقط كالدوبيت المشرقي ، والغريب في القصة أن الشواهد بذلك كانت أمام عيوننا منذ زمن طويل في مقدمة ابن قزمان لديوانه التي تحتوي ما لا يقل عن ستة أزجال من هذا الطراز البدائي ، كنا نخالها ، لاقتناعنا بأن الزجل لا يكون إلا دوريا دائما ، قطع أزجال عادية ذكرها ابن قزمان مختصرة ، وليس الأمر كذلك ، أولا لأنه يذكر زجلا آخر دوريا في نفس الموطن يثبت أنه لم يقصد الاختصار هنا ، وثانيا لأن لدينا زجلا آخر من نفس هذا الطراز البدائي راجعا إلى سنة 300 ، وقد عثرت عليه أثناء تحقيقي للمجلد الخامس من المقتبس لابن حيان .
فيتبين من ذلك كله :
أن الزجل القديم كان عبارة عن دوبيت يقوله الشعب بالعامية أو بالأعجمية ببنية عروضية خليلية محورة من القرن الثالث فصاعدًا على الأقل ، كما يثبته تقطيع ذلك الزجل الراجع إلى سنة 300 .(92/10)
أن ابن بسام قال الحق ، وأفادنا خبرا كان يكفينا لمعرفة حقيقة هذا الأمر لو لم تتسلط على عقولنا الهواجس ، عندما قال عن مخترع التوشيح محمد ابن محمود القبري الضرير إنه " كان يصنعها على أشطار الأشعار غير أن أكثرها على الأعاريض المهملة غير المستعملة ، يأخذ اللفظ العامي والعجمي ويسميه المركز ويضع عليه الموشحة " ، وفي كلامه هذا تلخيص عجيب قد أسيء فهمه مع إفادة كاملة للعناصر المميزة للتوشيح ، أي أن عروضه خليلي ، فإن الأعاريض المهملة جزء من العروض العربي ، وإن قل استعمالها ، كما بينه المرحوم الأستاذ سيد غازي في كتابه " في أصول التوشيح" (ص65) ، وأن المركز أو الخرجة كلام عامي أو أعجمي موزون بالعروض الخليلي ، وإلا فكيف أمكن بناء الموشح عليه ، إلا أنه لم يسمه زجلا لأن هذا المصطلح كان قد أصبح مخصصا في أيامه للزجل الدوري المعهود الذي نشأ بعد التوشيح مقلدا لمبادئ بنيته الدورية ، عندما أراد بعض الأدباء المولعين بفنون الشعب من أمثال ابن قزمان أن يُحَلُّوهُ بِحِلىَ التوشيح مع الحفاظ على ملاحة لغته العامية ، فجعلوه مسمطا واتحذوا له مطلعا في مرحلة أولى ، ثم ضاعفوا أقفاله على غرار أقفال الموشح ، وهو الزجل الموشح المحدث بعد الزجل الأصلي ، وربما أدخلوا فيه التضمين ، أي القوافي الباطنة في الأقفال ، فأخيرًا التضفير ، أي أمثالها في الأغصان ، وسائر ما نجده من المحليات الشكلية في التوشيح من ترئيس وتذييل ، إلخ .(92/11)
والآن فقد اتضح لنا ما كنا نجهله من قبل وهو سبب الاختلاف في صيغتي الموشح والزجل مع تولدهما معا من المسمط ، فمن البديهي أن مخترعي التوشيح، وهم شعراء مثقفون مولعون بالأدب الشعبي ، إنما قصدوا أن يزيدوا على ظرافة المسمط المتنوع القوافي بعض ملح كلام العوام ، فاستبدلوا بسمط الدور الأخير زجلا من الطراز القديم البدائي المتكون من بيتين مقفيين فقط على سبيل التصريع ، فاضطروا لأجل التناسب إلى مضاعفة الأسماط الباقية كذلك ، وربما أسبقوها بمطلع مشاكل ، فتولد من ذلك الموشح الأصلي بمطلعه الاختياري وأدواره المتكونة من ثلاثة أغصان وسمطين أي قفلين ، وبخرجته العامية أو الأعجمية بدلا منهما في الدور الأخير ، ثم إن بعضهم قطعوا شوطا جديدا وهموا باستنباط شعر موشح عامي كله ، فعادوا يلتفتون إلى التسميط بالطبع لكونه مثال الدورية الأصلي في الشعر العربي ، غير أنهم في هذه المرة لم يحتاجوا إلى استبدال شيء مليح من أقوال العوام بسمط من أسماطهم ، إذ كانوا قد جعلوا الكلام كله عاميا على غرار الزجل القديم الشعبي الأصل ، وإنما صدروه بمطلع ذي سمطين شأن الموشح ، الذي كان قد أصبح أسوة مقتفاة ومثالا مرموقا ذا تأثير في جميع أصناف الشعر الدوري . ومن الجدير بالملاحظة أنهم ما كادوا يستغنون عن المطلع في الزجل ، على خلاف الحال في الموشح الأقرع ، وقد بان سبب ذلك الآن أيضًا ، فإن الزجل الأقرع لا فرق بينه وبين المسمط ما عدا اللغة ، ومن خصائص هذه الطائفة من الشعراء المحدثين المغرمين بالفنون الشعبية الولوع بجميع أصناف التجديد والإبداع شكلا ومضمونا بمقدار كرههم للتقليد والاتباع في هذين البابين ، وهذا بعينه ما حملهم أيضًا على التكثير من التعديلات في الأعاريض الخليلية وعلى تعقيد البنية الدورية إلى درجة بعيدة، كما هو مشهور وجاء ذكره في جميع المؤلفين من أمثال ابن سيناء الملك والحلي ، وكما ينعكس فيما بلغنا من آثار الفنين .(92/12)
والآن نفهم أيضًا لماذا يسمى ابن قزمان الزجل موشحا في بعض مواطن ديوانه ، مع أنه إمام الزجالين في أيامه وواضع الكثير من قوانين الزجل المحدثة ، وإن لم يكن مخترعه فقد كفاه ذلك أن ينسب إليه ، ولا شك في أنه كان أحرى من يعلم الفرق بينه وبين الموشح ، وبيان ذلك أن العوام المتعودين على الأزجال القديمة البدائية غير الدورية عندما وقفوا على أول الأزجال الدورية المحدثة أطلقوا عليها اسم الموشحات لتقارب نمطيهما ، فجرى هذا الاستعمال على ألسنتهم فمنها أخذه ابن قزمان المحاكي لكلام العوام في أزجاله ، ولو عرف الخطأ فيه ، ولا يمت هذا بصلة إلى ما اتفق في أيامه وبعده من أن بعض الزجالين لم يستطيعوا أو لم يريدوا أن يتبعوا قاعدة ابن قزمان في عدم جواز اختلاط العامية بالفصحى في الزجل، فوضعوا أشعارا شأنها هذا تَسَمَّتْ بالمزنم ، وأشهرهم الششتري الذي لا يكاد يسلم شعره من هذه الصفة .
ويظهر على أساس ما تقدم أن تاريخ العروض العربي في الأندلس منقسم إلى فترات متتالية كما يلي :
في الفترة من الفتح إلى أيام الأمير عبد الرحمن الأوسط ، أي ، النصف الأول من القرن الثالث بالتقريب ، قد سقط العروض عن الاستعمال وضاع علمه لدى الأندلسيين ، اللهم إلا من رحل منهم إلى المشرق وتعلمه فيه ، لتغير مقاييس لغتهم وفقدانها للإيقاع الكمي المميز للعربية المشرقية الذي يعتمد عليه العروض الخليلي ، وترتب على ذلك زوال قول الشعر عن ديارهم ، إلا ما قل وندر منه ، واشتهارهم بذلك العجز والجهل عند المشارقة معروف، فلذلك ما نسب عباس بن فرناس إلى الجنون عندما حاول أن يشرح العروض لأهل بلده إثر رجوعه من العراق .(92/13)
عادت المياه إلى مجاريها بُعَيْد ذلك لعناية بني أمية القرطبيين بالثقافة العربية ورعايتهم للغة والأدب ، فبدأ الشعر يروج ويزدهر ثانية ، ومعنى هذا الواقع التاريخي والمثبت من وجهة تحليله اللغوي الفونولوجي أن العروضيين والشعراء كانوا قد اكتشفوا طريقة تسمح لآذان الناس بسماع إيقاع الأعاريض الخليلية ، ونظريتي في ذلك أن الوسيلة المتخذة لتمكين ذلك إنما كانت إقامة النبرة مقام كمية المقاطع ، كما أشرت إليه أعلاه ، وقد برهنت على ذلك في مؤلفاتي حول اللهجة لأندلسية وعروض الفنين .
عمت البلوى بعد ذلك بالشعر الموزون جميع طبقات المجتمع الأندلسي، من الخواص المجيدين للفصحى الذين وضعوا دواوين قصائد مأثورة ، إلى العوام الذين لم يعرفوا غير العامية أو الأعجمية ، فوضعوا بهما تلك الأزجال البدائية المذكورة آنفا المنعكسة في الخرجات واستودعوها رصيدهم من العواطف والعبر ، ومنها ولا شك ما رجع إلى أسلافهم الجاهليين من العجم والعرب والبربر والقوط واليهود إلخ، إلا أنها قاطبة قد صارت موزونة ومقفاة طبقا لقوانين الشعر العربي المجلوب من الشرق ، مع تحوير العروض على الطريقة المحلية الموصوفة فيما سبق .(92/14)
اهتم بعض الأدباء الأندلسيين خلال ذلك بكل ما أحدثه الشعراء المشرقيون الذين كان لهم نفوذ عظيم في أدب المغرب ، من عناية بتجديد الشعر شكلا ومضمونا ، وبفنون الشعب الشعرية ، فمن المفروض أن إحدى نتائج هذا النشاط ، وهو التسميط الذي راج رواجا لا باس به في المشرق ، استعمل في الأندلس أيضًا، كما يثبته إكثار الأدباء اليهود الأندلسيين من استعماله في القرن الرابع عند أول إحيائهم للأدب العبري ، وهم يقلدون نماذج حضارة العرب في أدنى تفاصيلها عندئذ، وإن لم ترو لنا مسمطات عربية أندلسية لهذا العصر ، فلعل ذلك راجع إلى أن جامعي المنتخبات الأدبية أحجموا عن إدراجها فيها لتطرف أذواقهم واعتبارها " خارجة عن أغراض الأدب العربي " ، على حدِّ قول ابن بسام في الموشحات ، أو أن اختراع التوشيح المبكر ربما أدى إلى إهمال سريع وتام للتسميط ومحا أثره قبل اكتماله وازدهاره ، مع أنه كان بكل تأكيد الحجر الأساسي الذي بنى أصحاب التوشيح اختراعهم عليه عندما ركبوا عليه الزجل القديم ، كما سبق شرحه .
أقبل بعض أولئك الشعراء المحدثين المولعين بأدب العوام في مرحلة ثانية على التسميط والزجل القديم من جديد، إلا أنهم لم يدعوا في أولهما في هذه المرة أي لفظ فصيح ، بل جعلوه فنا كل كلامه عامي ، مع مراعاته الدائمة للعروض المحور وللبنية الدورية المميزة للتسميط فبالتالي للموشح ، فنشأ من ذلك الزجل المعهود ، ثم الزجل الموشح المقلد لصيغة التوشيح تقليدا تاما ، فنجح كلاهما مثل نجاح التوشيح والشعر المقصد سابقا ، وراجت وازدهرت جميعا في الأندلس مكرمة معززة مطلوبة لدى الخاصة والعامة إلى نهاية أيامه ، وأما انتشار الفنين إلى سائر العالم العربي أيضًا فهي قصة مشهورة .(92/15)
زملائي الأعزاء ، أقول لكم ، وهذا ختام حديثي إليكم اليوم ، إنني لست من السذاجة بحيث أظن أن الجدال حول أصول الشعر الدوري الأندلسي قد انتهي، إذ أعلم أن العناصر الفكرية المتصلة به لا تزال عاملة ، ولست أيضا من الإعجاب بحيث أتمنى أن ينقطع نقاش هذا الموضوع، لإنني أومن بأن في النقاش منافع شتى وأضواء كثيرة ، ولكنني ما كنت صريحا لو أخفيت تأكدي الآن ولأول مرة بعد زمن طويل من أن هذا التفسير لمراحل نشوء الشعر الدوري الأندلسي وعناصر تكوينه والعوامل الفعالة في تطويره أقرب إلى الفهم ، فبالتالي في ظني أقرب من الصحة ، من أية نظرية أخرى سابقة له بنفس الصدد . وإن كنت قد أصبت الحق، فإن الفضل أو جزءا كبيرا منه لمن سبقني وأرشدني برشاده أو وعظني بضلاله، وجزءا آخر كبيرا جدا لأساتذتي المصريين، عبد العزيز الأهواني وحسين مؤنس ومحمود مكي وغيرهم ، الذين ألفيتهم في إسبانيا عند نعومة أظفاري محبين ومحترمين للثقافتين العربية والإسبانية
معا مقسطين بينهما ، بينما كان آخرون يتعصبون ويظلمون خصماءهم وأنفسهم، فحظيت أنا هكذا بمن علمني الإنصاف والحياد في القضايا العلمية ، وأن لا ولاء فيها إلا للحق . وإنني اليوم لمعتز بالتتلمذ عليهم ، شاكر لهم على تلقينهم لي بعض علمهم وخلقهم ، وخصوصا على هبة اللغة العربية الثمينة التي أسدوها إليَّ وأثروني بها، والحمد لله الذي جمعني بهم ، ولا توفيق بدونه .
فيديريكو كورينتي
عضو المجمع المراسل من إسبانيا(92/16)
الزملاء المجمعيون ، سيداتي وسادتي :
الفصحى لغة عريقة تتعمق في التاريخ إذ نشأت منذ نحو ستة عشر قرنًا ، وهي -بذلك- أقدم اللغات الحية زمنًا وأطولها حياة ، تولدت من لهجة قريش وارتفعت إلى منزلة لغة أدبية لعرب الجزيرة العربية في الجاهلية ، وإنما اختارت قبائل الجزيرة لهجة مكة القرشية لتكون لغة أدبية عامةً لها لأن مكة كانت مهوى أفئدتهم بسبب مركزها الديني الروحي والاقتصادي المادي فكانت حارسة الكعبة بيت عبادتهم ، وكانت قوافلها التجارية تجوب الجزيرة شمالاً وجنوبًا وشرقًا ، وكان العرب يجتمعون بها في أعيادهم الدينية وفي الأسواق المحيطة بمكة ، وبخاصة في عُكاظ ينشدون فيها أشعارهم ، ويحتكمون إلى النقاد لإعلان أسماء المتفوقين فيهم . وكانت القبائل العربية ترى الحبشة تسيطر على اليمن ثم الفرس ، ويسيطر الروم على القبائل في الشمال الغربي للجزيرة ،
والفرس على القبائل في الحيرة والشمال الشرقي ، فتجمعت قلوبهم حول مكة التي لم تدِن يومًا لسلطان أجنبي فكانت رمز استقلالهم وعاصمة ديانتهم الوثنية ، وكان طبيعيًا أن يشعروا بسمو لهجتها ، وأن يتخذوها لغتهم الأدبية التي يصوغون فيها أدعيتهم الدينية وأشعارهم . ونوَّه أسلافنا بجمال اللهجة القرشية الفصحى وتفوقها على اللهجات العربية من مثل قول أحمد بن فارس :"إن قريشًا أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغة " ويقول أبو نصر الفارابي : "كانت قريش أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق وأحسنها مسموعًا وأبينها إبانة عما في النفس ".(93/1)
وحظيت هذه الفصحى القرشية بنزول القرآن الكريم فيها وما صبّ بها من إشاعات بلاغية وربانية بحيث لم يتح لأمة من الأمم كتاب يماثله في روعة البيان، وظن الأسلاف أن هذه الروعة وحدها مدار إعجازه وحدها ووقفوا عندها يصورونها في مباحث قيمة ، وفاتهم من وجوه إعجازه أنه ينقل من يتلوه ومن سمعه إلى حضور رباني يملك عليه لبه وقلبه، ويستولي على كيانه ، فيستسلم للرسول ويعلن إليه إسلامه على نحو ما كان يحدث للمسلمين القرشيين الأولين وما حدث لعمر بن الخطاب ، فقد كان كافرًا وملأه خاله أبو جهل أكبر أعداء الرسول حَنقًا عليه وغضبًا لتفريقه الجماعة في مكة، وأقسم لخاله ليقتلنه وتقلد سيفه، وسار في شوارع مكة وفيها علم أن أخته فاطمة وزوجها سعيد بن زيد أسلما ولم يكن يعلم، وسمعهما يتلوان القرآن قبل دخوله البيت فدخل غاضبًا في عنف ، وضرب أخته فقالت له: قد أسلمنا فاصنع ما بدالك . يقول عمر: - كما في عيون الأثر – فرأيت كتابًا في ناحية من البيت، فقلت لأختي أعطنيه ، ولم أزل بها حتى أعطته لي ، فإذا فيه سورة الحديد ، وقرأت في أولها (بسم الله الرحمن الرحيم) فذُعرت ورميت الصحيفة من يدي ثم رجعتْ إليَّ نفسي فإذا فيها : ( سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) فكلما مررت باسم من أسماء الله ذُعرت ثم ترجع إلي نفسي حتى بلغت الآية : ( آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) وبلغتُ إلى قوله : ( إن كنتم مؤمنين ) فقلت أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله . ووضع عمر سيفه في غِمده وذهب مهرولا إلى رسول الله وأعلن إليه إسلامه . وفي هذا الخبر ما يصور بدقة ما أقوله من أن القرآن الكريم يمسك بزمام تاليه وسامعه ، بحيث يستسلم لله ورسوله، وهو إعجاز عبر عنه عمر بقوله إنه كان يذعر كلما تلا اسمًا من أسماء الله .(93/2)
وسمع الوليد بن المغيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم- وهو يتلو بعض آيات من القرآن وكان من ألد أعدائه ، فتوجَّه إلى نفر من قريش قائلا:"والله لقد سمعت من محمد كلاما، ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنِّ وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة " . وقد شعر بوضوح أن آيات القرآن تباين كلام الإنس من شعرائهم الفصحاء كما تُباين كلام الجن الذي كان يزعم كُهانهم أنهم ينطقونهم به ، فهو ليس شعرًا موزونًا مما كان ينطق به شعراؤهم ، ولا سجعا مقفىًّ مما كان ينطق به كهانهم. إنه نمط جديد باهر يؤثر في النفوس والقلوب.
وقد عملت هذه الفصحى القرآنية على تقريب ما بينها وبين اللهجات القبلية إذ كان العرب يتلونه آناء الليل وأطراف النهار ، وتغلغلت هذه الفصحى باليَمَن في الإنحاء الداخلية التي كانت لا تزال تتكلم اللغة الحميرية . ولما فُتِحت البلاد الإسلامية أخذت هذه الفصحى تسود شرقًا وغربًا إذ كانت تلاوةُ القرآن فرضًا مكتوبًا على كل مسلم، ويقول الله تعالى: ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكا ونحشُرُه يومَ القيامةِ أعمى قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتَها وكذلك اليوم تُنْسى ) وبذلك تحول المسلمون في جميع أقطار البلاد الإسلامية إلى حفظه للقرآن يتلوه كبيرهم وصغيرهم ، حتى من سكنوا منهم في رءوس الجبال وفي الصحارى النائية مما جعل المسلمين في كل بقاع الأرض ينطبعون بطوابع الفصحى القرآنية.
وتتميز فصحى القرآن بأسلوبهم الرصين مع الجزالة والعذوبة وقربها من الأفهام حتى تلمس شغاف القلوب ، أسلوب واضح يلذ الآذان حين تستمع إليه والأفواه حين تنطق به والأفئدة حين تصغى له ، وقد استطاع أن يفتح قلوب الشعوب حين فتح العرب الأمصار من أواسط آسيا إلى المحيط الأطلنطي فإذا جميعها تهْجُر لغاتِها وتزايل ألسنتها ، وتحل فيها جميعًا لغته الصافية الشفافة بألفاظها الناصعة المستحسنة في الآذان وعلى الأفواه.(93/3)
وهذا الأسلوب الرائع هو الذي أقام عمود العربية وحافظ على مقوماتها وأوضاعها في العالم العربي الكبير إلى اليوم، وكان المظنون حين حملت العربية في العصر العباسي علوم الأوائل السابقين لها جميعًا والفلسفة اليونانية أن تحدث تغيُّراتٌ وانحرافات في أوضاع العربية ، ولم تحدث، إذ وسعتها العربية باشتقاقاتها وصيغها الكثيرة، وتمثَّلت كل ما نقل إليها من الحضارات السابقة : الهندية والفارسية واليونانية من علم وفكر وفلسفة ، وأضافت في جميع المجالات الفلسفية والعلمية إضافاتٍ باهرةً جعلتها تنفرد بقيادة العالم علميًا وفلسفيًا وحضاريًّا وأخذت تذيع علومها وفلسفتها في أوربا وأقطار العالم لمدة ستة قرون من القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي إلى القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي ملأت فيها الأرض علمًا وأدبا وفلسفة .(93/4)
وحدثت خطوب وأحداث كثيرة ماتت لغات كانت ناطقة ومنتشرة مثل اللغتين اليونانية العتيقة واللاتينية ، وبَلِيَتْ منها فصحى العربية بلاء كثيرًا جعل حضارة الأمة العربية وما يُطْوَى فيها من العلوم والفلسفة تكاد تتوقف ويصيبها عُطلٌ شديد ، غيرَ أنها لم تمت وظل لواؤها مرفوعًا طوال عدة قرون خمدت فيها وركدت إلى أن وصلت إلى القرن التاسع عشر الميلادي بعد كل ما أصابها من الكوارث والخطوب سليمةً دون أن يعتريها شيء من الفساد أو الاختلال . وكانت مصر قد بدأت نهضة علمية ، فضمتها إلى صدرها وأخذت تنقل إليها العلوم الحديث للغرب ، وأدتها أداء دقيقًا، وسرعان ما كوَّنت مصر منها لغة علمية في القرن الماضي انتفعت بها جاراتها العربية، وعرَّبت – مع العلوم الغَرْبيَّة – القانون الفرنسي وعلم الاقتصاد ويسميه العرب عِلْمَ المعاش . ولم تلبث مصر في العقود الأخيرة من القرن الماضي أن بدأت ترجمة الآداب الأوربية وما ينطوي فيها من الأعمال القصصية والمسرحية . وكانت فصحى الشعر في هذه العقود قد تخلَّصت – على يد البارودي – من أغلال البديع الثقيلة ومن أساليبه الركيكة الغثة وأصبح الشعر يصور حياة الشاعر ومشاعره وحياة أمته مع استعارته من أسلافه إطارهم الشعري، غير أنه يملؤه بروحه وبشخصيته وبأمته وأحداثها السياسية مما اختلف عليه من أيام نعيم وأيام بؤس ونفي في سرنديب.(93/5)
ونمضي إلى القرن العشرين فيخلف حافظ وشوقي البارودي ، أما حافظ فشدَّ إلى قيثارة الفصحى وترا وطنيًا ثائرًا ملأ به قلوب الشعب المصري حماسة وصلابة لمنازلة الإنجليز المحتلين لدياره ، وهو فيه يعد سابقًا لشعراء مصر والبلاد العربية ، وشدَّ مع هذا الوتر وترا عربيا وكان أو ما وقع فيه من نغم نداء قويا للمصريين والعرب لإغاثة الفصحى ضد أعدائها المستعمرين إذ هاجمها قاض إنجليزي بمحكمة الاستئناف الأهلية يسمى ويلمور ألف كتابا عن لغة أهل القاهرة سنة 1902 دعا فيه لاتخاذ العامية لغة للآداب والعلم في مصر ، وأحدث الكتاب هِزَّةً حادَّة في مصر والبلاد العربية . وردَّ عليه ردا عنيفا حماة الفصحى وفي مقدمتهم حافظ إبراهيم إذ نشر ضد دعوته قصيدته: "اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها " مصوبا أبياتها – كالسهام – إلى دعوته فقضت عليها قضاء مبرما وفيها يقول على لسان الفصحى :
وسعتُ كتاب الله لفظًا وغاية
... وما ضقت عن آيٍ به وعطات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
... وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدركامن
... فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
وحافظ يرد في هذه الأبيات على ما كان يردده أعداء الفصحى من أنها لا تحمل مصطلحات العلوم الغربية ومخترعات الغرب، ويقول إن هذا ليس من قصور ذاتي فيها إنما هو قصور في أهلها ، ويقول حافظ إنه يكفيها فخرًا أنها وسعت كتاب الله وآياته المحكمة مشيرًا بذلك إلى أن دعوة ويلمور باستخدام العامية تحمل في طياتها دعوة إلى القطيعة بيننا وبين القرآن الذي يضمه المصريون إلى صدورهم وقلوبهم وهدمت القصيدة دعوة ويلمور من أساسها ، واضطر إلى مغادرة مصر في غير رجعة .(93/6)
ويقف حافظ مع سورية ولبنان ضد الاستعمار ، مسلطا عليه نارا حامية من أشعاره ويستشعر بقوة ما بين مصر والبلاد العربية الشقيقة من أخوة ، وينتصر دائمًا للشيخ محمد عبده فيما كان يأخذ به نفسه من الإصلاح الديني ، ويشدُّ إلى قيثارة الفصحى وترا جديدا سبق به معاصريه من شعراء العربية غير منازع ، وأقصد وتر الشعر الاجتماعي الذي يصور فيه عِلَلنا الاجتماعية والأخلاقية ، مع الدعوة إلى البر بالفقراء والبؤساء ، وحثَّ الأثرياء على بذل أموالهم للملاجئ والجمعيات الخيرية.
وشدَّ شوقي إلى قيثارة الفصحى وترًا اجتماعيًّا بديعا كما شدَّ إليها وترا وطنيًّا رائعًا اشترك فيهما الوطني والاجتماعي مع حافظ، وله فيهما أبيات نادرة مثل قوله:
وطني لو شُغِلْتُ بالخلد عنه
... نازعتني إليه في الخلد نفسي
فحتى لو كان ينعم في أعطاف الخلد وجنبات الجنان لن ينساه ولن يغرب عن خياله ، فمصر معبودته بتراثها العبق . وشد في قيثارة الفصحى وترا عربيًا في غاية الروعة ، وقصائده في دمشق قلما تجد دمشقيًا لا يحفظها ولا يتغنى بأبياتها ، من ذلك قصيدته القافية التي نظمها حين صوَّب الفرنسيون عليها مدافعهم ، وفيها يدعو السوريين إلى استمرار الثورة على الفرنسيين وبذل دمائهم وأرواحهم في سبيل ما يريدون من الحرية والاستقلال ، يقول :
وللحرية الحمراء بابٌ
... بكل يدٍ مضرَّجةٍ يُدَقُّ(93/7)
وشد إلى قيثارة الفصحى وترا تاريخيًّا تغنى فيه بتاريخ مصر وأمجادها الفرعونية غناء حارا ، وله في هذا التاريخ قصائد فريدة مثل قصيدته في أبي الهول وقصيدته في اكتشاف قبر توت عنخ آمون وقصيدته: النيل وفيها صور تاريخ الفراعنة وأمجادهم الحضارية العريقة ، وذكر تابوت موسى وقصة يوسف وإخوته ومريم وعيسى ونزول الإسلام في مصر واستضاءتها بأنواره مجسما في ذلك كله شخصية النيل المعنوية بجانب شخصيته الحسية . وشدَّ إلى قيثارة الفصحى وترًا دينيًّا بمدائح للرسول صلى الله عليه وسلم، يتفوق فيها على جميع معاصريه ، ومن أروعها يتيمته الفريدة التي سمَّاها البردة والتي نظمها على غرار مَدْحه نبوية للبوصيري تحدث فيها عن سيرة الرسول وشمائله العطرة ، وردَّ فيها على أعداء الإسلام الذين يزعمون أنه إنما انتشر بالسيف وسفك الدماء قائلا:
قالوا غزوتَ ورُسْلُ الله ما بُعِثُوا
... لقتل نَفْسٍ ولا جاءوا لسفك دَمِ
جَهْلٌ وتضليل أحلامٍ وسَفْسَطَةٌ
... فَتَحْتَ بِالسَّيْفٍ بَعْدَ الفَتْحِ بالقَلَمِ
ولو أن هؤلاء الأعداء قرءوا القرآن وما فيه من قوله تعالى :" وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " لعرفوا أن حروب الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن عدوانية إنما كانت دفاعية . ولشوقي أبيات كثيرة نادرة في مديح الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله في افتتاح قصيدة في ذكرى المولد النبوي :
وُلد الهدى فالكائنات ضياءُ
... وفَمُ الزَّمَانِ تبسُّمٌ وثناءُ
ويتحدث في فواتحها عن مولده وما حدث فيه من خوارق متعددة . وشوقي عبقري الشعر العربي الحديث ، وقد احتذى الشعراء في مصر والبلدان العربية نماذجه ونماذج حافظ في الشعر الوطني والاجتماعي ، وبذلك أظلت مدرستهما : مدرسة الإحياء في العالم العربي من الخليج إلى المحيط .(93/8)
ونشأ جيل جديد يمثله عبد الرحمن شكري وإبراهيم المازني وعباس العقاد اتجه بفصحى الشعر وِجهًة لم تُعْرَف لها قديمًا إذ جعلوا قصائدها تعبر عن معانٍ إنسانية عامة وعن الطبيعة والكون وعن النفس ودخائلها ومطامحها وآلامها وأحلامها ، واستغرق هذا الجيل منزع الرومانسية في الغرب ، ولكل منهم دواوين متعددة . وخلفت هذا الجيل مدرسة أبولو ، ويتألق فيها إبراهيم ناجي وعلى محمود طه أما إبراهيم ناجي فغرق في المنزع الرومانسي الأوربي إلى أذنيه، فجعل شعره ذاتيًّا وجدانيًّا يتغنى فيه بحب شقي عاثر غناء كله ألم وشجن وقلق ممض وكأنه يتجزع الحياة من كوب ماء مرير ، وكان على محمود طه مثل ناجي يتأثر بالمنزع الرومانسي الوجداني ، وعنى في شعره برصف الألفاظ الخلابة التي تؤثر في قارئه برنينها وألحانها المتلاحقة . وله ولصاحبه – مثل شعراء المدرستين السابقتين – تجديدات في الأوزان والقوافي .
ويشيع – منذ أواسط القرن العشرين- نمط جديد من الشعر يتخفف من أثقال العروض، فيلغي القافية المطردة إلغاء تامًّا، ويلغي معها فكرة الشطر والبيت ، فالقصيدة من هذا النمط الجديد لا تتكون من أبيات بل تتكون من سطور متلاحقة، ولا تستبقي من العروض الموروث للشعر العربي سوى التفعيلة إذ يعتمد عليها في سطوره ، ولذلك سموا هذا النمط شعر التفعيلة ، ومن شعرائه الممتازين نازك الملائكة بالعراق، وصلاح عبد الصبور بمصر ومنذ ظهر شعراؤه كثرة مفرطة في العالم العربي .(93/9)
ومما يذكر لشوقي أنه أدخل في فصحى الشعر العربي فنًّا شعريًّا جديدًا هو فن الشعر التمثيلي الغربي ، وقد أراد به أن يقاوم تيار اللغة العامية الذي طغى على المسرح المصري ، ونجح في ذلك نجاحًا منقطع النظير ، وفتن الشباب بأعماله التمثيلية لإرضاء عواطفهم الوطنية والعربية، ولتمصيره هذا الفن الأوربي إذ جعله فنًّا مصريًّا عربيًّا لأول مرة في تاريخنا الحديث ، وقد ألف فيه ثلاث مسرحيات ترضي العواطف الوطنية وهي مصرع كليوباترا وقمبيز وعلى بك الكبير، ومسرحيتين ترضيان العواطف العربية الإسلامية ، وهما مجنون ليلى وعنترة ، وألحق بهما مسرحية نثرية هي أميرة الأندلس . وخلفه عزيز أباظة واتخذ منه إمامًا يتبع خطاه ، فينظم على قيثارة الفصحى مسرحية وطنية هي شجرة الدر ومسرحيات عربية ، هي قيس ولبنى والعباسة والناصر وغروب الأندلس سوى مسرحياته شهريار وقافلة النور وأوراق الخريف .
وعلى هذا النحو ازدهر الشعر العربي في القرن العشرين وازدهرت معه فصحاه إذ وقع الشعراء على قيثارتها مالا يكاد يحصى من الدواوين ذات الاتجاهات الجديدة لا في مصر وحدها بل في جميع أقطار العالم العربي ، سوى ما صاغ لها شوقي وعزيز أباظة من الشعر التمثيلي المسرحي .(93/10)
وإذا انتقلنا من فصحى الشعر إلى فصحى النثر في القرن العشرين لاحظنا – منذ فواتحه – أن الكتَّاب تخلصوا من أسلوب السجع وما كان يثقله من أغلال البديع ، وتحولوا إلى أسلوب مرسل خال من العوائق ، وأخذوا يُمَرِّنونه في موضوعات سياسية واجتماعية وفي أداء ما يترجمونه من الموضوعات والمعاني الغربية ، وظهر حينئذ خطباءُ وكتابٌ كبارٌ مثل مصطفى كامل ومصطفى لطفي المنفلوطي وأحمد لطفي السيد ، أما مصطفى كامل فكان خطيب الأمة السياسي ، الذي ينازل الاحتلال الإنجليزي منازلة حادة ، ويعد مؤسس الخطابة السياسية في مصر والبلاد العربية ، ونماها بعده سعد زغلول وخطباء الأحزاب السياسية ، واقترنت بها الخطابة القضائية ، إذ نقلنا نظام القضاء الغربي وما يتصل به من المحامين المدافعين عن المُدَّعِين والمتهمين ، ونبغت في الخطابة القضائية طائفة كبيرة من المحامين . ونهضت مصر بهذين اللونين من الخطابة في الأدب العربي الحديث ، فهي التي أتيح لها من بين البلاد العربية أن تنشط فيهما ، إذ كانت الحريات مكبوتة في تلك البلاد بسبب خضوعها للترك أو لفرنسا ، ولم ينقل إليها مبكرًا النظام القضائي الغربي كما نقل إلى مصر .
وأما مصطفى لطفي المنفلوطي فكان محررا في صحيفة المؤيد ، ولم يكن يكتب في السياسة إنما كان يكتب في بعض جوانب حياتنا الاجتماعية مقالات نشرها في تلك الصحيفة بعنوان " نظرات " تحول فيها إلى ما يشبه مصلحا اجتماعيا ، إذ يتحدث فيها عن عيوب المجتمع وما يتصل بها من مساوئ الأخلاق ، ويدعو إلى البر بالفقراء مصورا حياتهم وما فيها من هوان، كما يدعوا إلى التمسك بالفضائل. وهو يعني – في نظراته – بفصحى سلسلة عذبة يتيح لها جرسا حسن الوقع في النفوس ، وظل الشباب في عصره وبعده يعجبون به إعجابًا شديدًا .(93/11)
وكان أحمد لطفي السيد محرر صحيفة الجريدة ، وكان في مقالاته بها يعنى بتلقين الشعب المصري حقوقه وواجباته السياسية وما ينبغي أن يسود فيه من مبادئ الحرية : حرية الفرد وحرية الأمة وكان لا يزال يحاول تربية الشعب وتعريفه بما ينبغي له من النظم السياسية والاجتماعية السديدة ومن الاستقلال الذي ينزل من الأمة منزلة الخبز والماء. وكل ذلك يؤدي بفصحى جزلة رصينة .
ونمضي بعد الحرب العالمية الأولى في هذا القرن فتنشأ عندنا الأحزاب ويؤسس كل حزب لنفسه صحيفة ينشر فيها آراءه في السياسة والحكم . وأخذت صحف الأحزاب وما عاصرها من مجلات أدبية كالهلال والمقتطف تنقل إلى القراء بحوثا في الأدب والفكر الغربيين ، وألحقت بصحف الأحزاب مجلات أدبية مثل السياسة الأسبوعية والبلاغ الأسبوعي ، ونشطت الكتابات الأدبية ، ويحمل لواءها العقاد والمازني في الكتابات النقدية وطه حسين ومحمد حسين هيكل في المثل العليا في الأدب ونقده – ولعباس العقاد وطه حسين حوار واسع في منزعهما للتجديد مع مصطفى صادق الرافعي الذي كان يحمل راية القديم ويدافع عنه دفاعًا حارا ، وكان سلامة موسى ثائرًا على القديم ثورة عنيفة ويدعو بقوة إلى نبذ كل ما يتصل به من علم وأدب ونظم سياسية ، ولا بأس عنده أن نجعل لغتنا أقرب إلى العامية .
وكان سلامة موسى يقف وحده ، فإن أدباء مصر المجددين من أمثال طه حسين وهيكل وعباس العقاد والمازني كانوا يجمعون على أن يظلوا – ويظل معهم الكتاب في مصر وغير مصر – مع الفصحى الرصينة الناصعة البديعة ، فهم يحرصون على الإعراب وعلى ألفاظ الفصحى السائغة التي تقررها المعاجم ، وهم في هذا الإطار يجددون تجديدًا لا يخرجون به عن أصول الفصحى ، وإنما يثريها وينميها بفكر جديد .(93/12)
ومما لا ريب فيه أن هؤلاء المجددين العظام من أدبائنا أحدثوا في الفصحى العربية مرونة واسعة وقد أخذت جماعتهم تتكاثر وتتسع لعناصر من الشباب الذين حذقوا اللغات الأجنبية وفقهوا بدقة الآداب الغربية مثل توفيق الحكيم الروائي ومحمود تيمور القصصي بحيث أصبحنا بين الحربين العالميتين الأولى والثانية في هذا القرن نملك أدبا مصريًّا عربيًّا جديدًا نبت في وطن مصري على أيدي طائفة من المصريين .
وتتطور حياة المصريين العلمية والأدبية بعد الحرب العالمية الثانية تطورا واسعًا لسبب مهم ، وهو أن الجامعات المصرية أنشأت أجيالا متخصصة في كل فرع من فروع العلم والأدب الغربيين ، ونتج عن ذلك أن أصبحت الفصحى لسانا لكثير من ألوان الأدب والعلم ، ونشأت بيننا طبقة من العلماء تحسن التعبير العلمي والأدبي . واتسعت ترجمة الفكر الغربي ، وحقا كان قد سبق إلى ذلك كبار الأدباء السابقين مثل المازني وطه حسين ومحمد حسين هيكل ، وقد تلاهم الشباب الذين تخرجوا في الجامعات، وأقبلوا على ترجمة الفكر من جميع اللغات الأوربية التي ثقفوها كما أقبلوا على بسط المذاهب الأدبية الغربية من كلاسيكية ورومانسية وواقعية ورمزية وسريالية ، واشتركت معهم في هذه الجهود الخصبة أدباء البلاد العربية من الشباب وغير الشباب .(93/13)
ونشأ عن ذلك أن أخذت حياة الأدب العربي المعاصر تتصل بحياة الآداب الغربية ، إذ أخذ الشباب في مصر وغير مصر يحاول إحداث نماذج من المسرحيات والقصص تطابق نماذج الغربيين في هذين الفنين على نحو ما هو معروف عن توفيق الحكيم ومحمود تيمور ويحيى حقي ونجيب محفوظ وغيرهم كثيرون ممن يجيدون الفن المسرحي والفن القصصي . وأخذت مسرحيات توفيق الحكيم تترجم إلى اللغات الأجنبية ، وتمثل على بعض مسارح الغرب في فرنسا والنمسا وإيطاليا. وترجم إلى اللغات الأجنبية قصص كثيرة لمحمود تيمور ويحيى حقي ونجيب محفوظ ولقصاصين آخرين في مصر والبلاد العربية ، وظفرت بعض قصص نجيب محفوظ بجائزة نوبل العالمية ، وهو اعتراف بأن أدبه عالمي إنساني وأن أدبنا العربي يرقى إلى مرتبة الآداب العالمية الحية الكبرى .
وحتى الآن لم أتكلم عن الصحافة وتأثيرها الكبير في الفصحى وقد نشأت عندنا الصحافة في الثلث الأخير من القرن الماضي ، وأخذت تعنى بالشعب وتصوير ميوله وأهوائه السياسية، وكان ذلك تحولا كبيرًا بالفصحى ، إذ كان طال بها العهد في مخاطبة الحكام والأمراء والطبقة المثقفة في الأمة ، وكانت تخاطبهم بلغة مسجوعة تراكمت عليها أعشاب البديع ، وهي الآن تخاطب الشعب ، فكان طبيعيًّا أن تنفي السجع وأعشاب البديع عن لغتها وتخاطبه بلغة سهلة واضحة يستطيع أن يفهمها توا.
وتصادف أن المطبعة أظهرت محرري الصحف على أعمال أدبية للأسلاف من أمثال ابن المقفع كتبت بأسلوب مرسل ليس فيه سجع ولا بديع ، فتحولوا إلى الكتابة بهذا الأسلوب ، حتى يفهم الشعب ما يريدون أن يقولوه ، وحتى لا يجد مشقة في هذا الفهم .(93/14)
ويتولى الصحافة والصحف في القرن العشرين محررون نابهون كثيرون أخذوا يبسطون أساليبهم الصحفية تبسيطًا لا ينزل بها إلى مستوى العامة والابتذال ، وفي نفس الوقت لا تعلو عليهم ولا ترتفع بحيث يشعرون بشيء من العسر في قراءتها وفهمها ، أساليب سهلة وواضحة حتى لا يعزفهمها على الطبقات الدنيا في الشعب إذ تريد الصحف أن تذيع وتنتشر في جماهيره . ومن أجل ذلك يحتاج الصحفي دائمًا إلى التبسيط في تفكيره وأسلوبه . وإذا كانت الفكرة التي يريد أن يبلغها إلى الجماهير الشعبية مرتفعة في نفسها حاول بكل ما يستطيع أن يبسطها إلى أقصى حد، حتى تكون واضحة للجماهير ، وحتى لا تجد أي مشقة في فهمها ، ولابد أن يختار لها فصحى سهلة مبسطة غاية التبسيط . ومع تعاقب العقود في القرن الحاضر بلغت الصحافة المصرية من تبسيط الفصحى أقصى حد ممكن .
والصحافة – بذلك – أنشأت لنا فصحى جديدة بين العربية الموروثة والعامية التي نتداولها في حياتنا اليومية ، ففيها فصاحة الأولى ، وفيها سهولة الثانية وقربها من الأفهام . وأتاحت الصحافة المصرية لهذه الفصحى المصرية الجديدة أن تنتشر لا في مصر وحدها بل في العالم العربي جميعه، إذ تقبل عليها الجماهير القارئة في البلاد العربية في لبنان وسوريا والأردن والعراق والحجاز والسودان وبلدان المغرب ، وأصبحت الفصحى الصحفية المصرية هي الفصحى الشائعة في البلاد العربية . وتكثر الصحف في مصر والعالم العربي منذ منتصف القرن الحاضر، حتى ليصدر منها يوميا مئات وتكثر معها المجلات الأدبية ويبلغ قراء بعض الصحف في مصر مليونا وأكثر ، وأعجب أن يقول بعض الكتاب إننا في حاجة إلى لغة وسطى بين اللغة الموروثة والعامية ، والصحافة قد أوجدت له هذه اللغة وهو والجماهير يحملونها ويقرءونها صباح مساء، ولو جمعت في أي بلد عربي لتكونت منها تلال .(93/15)
ولم تتفرع من الفصحى في القرن العشرين فصحى الصحافة وحدها ، وقد تفرعت منها فصحى أدبية متنوعة تنوعا واسعا بتنوع الفنون التي استحدثتها مصر في القرن الحاضر ، وفي مقدمتها فن المقالة وقد أُفْرِدَت لها مجلات أسبوعية مثل السياسة الأسبوعية والبلاغ الأسبوعي والرسالة والثقافة ومجلات شهرية مثل الهلال وكانت تعنى المقتطف بعرض الحركة العلمية عند الغربيين وتصوير نظرياتها المختلفة بخلاف المجلات التي سبقتها فقد عنيت بالأدب ومباحث الغربيين العميقة في الفكر والأخلاق والفلسفة والاجتماع والاقتصاد . ومنذ أواسط القرن تتكاثر المقالات في الصحف وتتكاثر المجلات ، ويصبح لكل كلية علمية مجلة .
ولم يكن للفصحى في الماضي سوى المقامات التي تصور مغامرات أديب متسول يخلب سامعيه ببلاغة عباراته ، وكنا قد أخذنا نتأثر بالأدب الغربي ولم يلبث هيكل في العقد الثاني من القرن الحاضر أن كتب قصة اجتماعية طويلة مستضيئًا فيها بالقصص الغربي وتقاليده ، ويكثر بعد الحرب الأولى في هذا القرن الشباب الذين يكتبون الأقصوصة كتابة فنية . ويُكثر محمود تيمور من الأقاصيص والقصص الاجتماعية الطويلة ، ويبلغ الذروة في فن القصة ، ويشاركه في القصة الطويلة طه حسين واصفًا الحياة المصرية المازني متجها في قصصه إلى التحليل النفسي ، ويتكاثر معهم القصاص من الشباب ، ونمضي بعد ثورتنا المصرية فيحدث انفجار في كتابة القصة عندنا سواء من حيث كثرة القصاص أو من حيث كثرة ما ينتجون من القصص بالفصحى ، مما يُصَوِّرُ نشاطا هائلا بفن القصة في القرن العشرين ، ونال الأستاذ نجيب محفوظ في هذا الفن – كما أسلفنا – جائزة نوبل الأدبية .(93/16)
ولم تعرف الفصحى فن المسرحية قبل القرن العشرين ، وما تتقدم إلى العقد الثاني من هذا القرن حتى يلمع اسم كاتبين مسرحيين هما فرح أنطون وإبراهيم رمزي دَرَسَا أصول هذا الفن الغربي وألَّفَا فيه مسرحيات تاريخية واجتماعية،وتضع الحرب العالمية أوزارها، وينشط التمثيل المسرحي وتؤلِّف له مسرحيات اجتماعية مختلفة ، وتنشئ الدولة في سنة 1934 الفرقة القومية كما تنشئ المعهد العالي للتمثيل ، ويظهر توفيق الحكيم ، ويثب بالتأليف المسرحي وثبة كبرى ، ويُرْسِي قواعده في النثر كما أرساها شوقي في الشعر ، ويتابع نشر مسرحياته البديعة . وكما حدث بعد
الثورة انفجار في فن القصة ، وتكاثر مؤلفوها في مصر وغير مصر حدث انفجار مقابل في فن المسرحية وتكاثر مؤلفوها وتكاثرت المسرحيات .
وواضح من كل ما أسلفت أن الفصحى ازدهرت في القرن العشرين ازدهارًا عظيمًا ، فقد تفرع منها فصحى صحفية مبسطة يحملها الملايين من الجماهير المصرية والعربية يوميًا ، وبث في فصحى النثر كبار الأدباء نضرة ورونقا رائعين . وليس ذلك ما حققته فحسب ، فإنها أدت أداء بديعًا ما استحدثناه من فنون المقالة والقصة والمسرحية وبذلك عاشت – طوال القرن العشرين – في النثر والشعر جميعًا حياة مزدهرة أعظم ما يكون الازدهار وأروعه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شوقي ضيف(93/17)
حضرات السادة الزملاء :
لقد آن لأم الحقائق أن ترفع القناع عن وجهها وتنقض على ما تراكم من زيف وتزييف وتزوير لحقائق التاريخ جعل منه ( في معظمه ) أكذوبة كبرى يأنف الضمير الإنساني من استمرارها والسكوت على بواعثها الأنانية الظالمة القائمة على التمكين للأقوياء والتجهيل بكل ما هو تراث إنساني صادق من شأنه أن يحقر غرائز الشر والأثرة وتزكية الذات، تلك الغرائز التي ما انفكت تعمل عملها في ظلم الضمائر الميتة وابتغاء متاع رخيص ، منذ أن قدم الإنسان على التدوين والتأريخ . وما كان لكل أولئك الطغاة الذين تحدث عنهم القرآن في مختلف عهود تواجدهم أن يسمحوا لمدونات التاريخ (إلا فيما عصم الله ) أن تزكى الحقيقة على باطلهم .
ولولا القرآن وما إصطلحت عليه العقول الراشدة من تسليم بمدوناته وقصصه وأخباره ( وهو الكتاب الصادر عن خالق هذا الكون بكل ما لابس هذا الخلق من إعجاز ) لما تسنى لنا أن ندرك من حقائق التاريخ شيئًا يزيد على ما أراده الأقوياء والبغاة وعباد ذواتهم الذين سخروا كل ما بأيديهم من ذهب المعز وسيفه لإشباع شهواتهم في الاستئثار بما يدونه التاريخ لتزكيتهم والحاق وصمات الضعف والمهانة بمن إستهدفوهم بالعداء ممن كانوا مؤمنين بالحقيقة صادقين في عرضها وسردها حتى تمكنوا من أن يطمسوا من معالم التاريخ كل ما خرج من تحت مظلة القرآن والصحيح الأصح من سنة الرسول الذي أنزل عليه .
أعود لأقول أنه قد حان لأم الحقائق أن تبين للناس ويدركوها من خلال
الإقناع والتحليل الذي يستمد قوته وجديته من إيماننا بهذا الكتاب العظيم وكل ما انطوى عليه من إيماءات وإشارات تكفي ( المؤمن به ) لأن يكوِّن من خلالها قناعته التي لا تقبل أي قدر من الشك .
إن هذه الحقيقة هي أن العربية لسان الله وما كان للسان غير لسان الله خالق كل شيء بإعجازه الخارق أن يزاحمه على ادعاء الأولية والأسبقية .(94/1)
وفيما يلي أرقام تخص مجموع الأدلة المؤكدة لحقيقة أن العربية لسان الله تعالى:
(1) أول منطلق يؤكد حقيقة أن القرآن لسان الله يتمثل في أسمائه الحسنى التي وردت في الآيات 24-23-22 من سورة الحشر ، فهي جميعًا أسماءٌ عربية لا تشوبها عجمى،وما كان الله ليتخذ لذاته أسماء من لغة لم يكن قد اختارها وأعدها بقدرته وإعجازه لتكون لغته(وبالأحرى لغة مخلوقيه الذين أعد لهم كتابه الخاتم الشامل لينزله على خاتم رسله المتميز بالرسالة العامة ) .
(2) اللغة التي كانت لغة الحوار بين الله وملائكته عندما اتجهت مشيئته لخلق آدم عليه السلام من طين وما تم من حوار بينه عز وجل وبين إبليس وبينه وبين آدم الذي علمه الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة وفق ما ورد في الآيات 30 إلى 39 من سورة البقرة وكذا الشأن بالنسبة لموضوعات الحوار الذي تعاقب مع كافة الرسل وبعض أقوامهم مما يتيسر الرجوع إليه بين دفتي المصحف لكل باحث ينشد الحقيقة . كل هذا الحوار الذي تم على نحو ما نقرؤه (بلسان عربي مبين ) ما كان له أن يتم إلا باللغة التي أعدها لغة خطاب بينه وبين خلقه في الدنيا ويوم القيامة وفقا لما أشار إليه حديث : ( تعلموا العربية وعلموها الناس فإنها لسان الله يوم القيامة).(94/2)
(3) وحري بنا أن نؤصل أسماء عدد من الأنبياء والرسل الأولين وبعض أبناء آدم الأولين بدأً من ابنه الأكبر شيت عليه السلام الذي ( وإن لم يرد اسمه في القرآن) إلا أن الآثار أكدت أنه كان أول نبي بعد والده وأن خمسين من الصحائف قد أنزلت عليه ، وكذا الشأن بالنسبة لأبنيه هبيل وقبيل وحفيده النبي إدريس عليه السلام، ونبي الله نوح عليه السلام وأبنائه الثلاثة (الذين جعلهم الله هم الباقين ) . ثم نبي الله هود الذي كان أول رسل الله (عقب الطوفان ) إلى قوم عاد ثم رسول الله صالح عليه السلام الذي تلاه إلى ثمود وما كان لي أن ألجأ في التأصيل العربي لكل تلك الأسماء إلا إلى أهم قواميس اللغة العربية وأكثرها دقة واستيعابا وتدليلا على أصالة المفردات العربية ، وهو (لسان العرب لأبن منظور) الذي لا أتصور أحدا ينكر عليه جهده الخارق في هذا السبيل رحمه الله وأعظم أجره وجزاءه.
فهو بالنسبة لآدم يراه مشتقا من أَدُمَ بمعنى سَمُرَ ( والأُدمة السُّمرة التي تعلو البشرة وغيرها مما يقرب من لون أديم الأرض ) وهذا اشتقاق عربي لا غبار عليه ولا لبس فيه .
وبالنسبة لحواء يرى أن المرأة الحواء هي ذات الشفتين السمراوين أو الخضراوين أو الحمراوين الضاربين إلى السواد ( وهي ميزة جمالية تزيد المرأة كمالا عند العرب) وأما شيت عليه السلام فإن القاموس يشير إلى أن ( الشِّية) هي البقعة البيضاء تتوسط الجلد الذي يصطبغ بلون مغاير وهو تميز جدير بأن يقتبس اسمًا لعزيز .
وأما هبيل عليه السلام : فلعله مما درج عليه قولهم : ( أهتبل الصيد بمعنى بغاه وتكسبه ، ويقال الهابل بمعنى الكاسب ، واللهبِلُّ : الرجل العظيم ، وقيل الطويل . والهابل الكثير الشحم واللحم . وهُبَل اسم رجل معدول عن (هابل) وهو معرفة (أي علم) وبنو هبيل بطنٌ في العرب . انتهى من لسان العرب .(94/3)
وأما قبيل : فمعناه الكفيل والعريف ومعناه الجماعة ( تزكية له وتفاؤلاً بأن تكون له قوة الجماعة والقبول ، وقبيل بمعنى مقبول ومعناه المستقبل ، ومعناه الارتجال في الخطابة إلى غير ذلك مما تفيده الكلمة من معان لا داعي لسردها اتقاء الإطالة .
وبالنسبة لنبي الله إدريس عليه السلام فقد أورد لسان العرب بالنص : (ويقال سمي أدريس عليه السلام لكثرة دراسته كتاب الله تعالى ؟ … ) ودرس الحنطة أي فصلها عن سنابلها ، ودرس الناقة أي راضها ، ودرس الكتاب ، والمدارسة المذاكرة أو التَّعَلُّم .
وأما بالنسبة لرسول الله نوح عليه الصلاة والسلام فيقول اللسان: النُّوحة: القوة ، وهي النّيحة أيضًا ، وتنوح الشيءُ تنوحًا إذا تحرك وهو متدلٍ ونوح اسم نبي معروف . وقومه بنو راسب ( كما ورد في البداية والنهاية لابن كثير نقلا عن ابن جبير وغيره ).
وأما ما يخص أبناء نوح عليه السلام : سام وحام ويافث فإنه وإن كانت صلة الاسمين الأولين بالعربية واضحة بما لا يتطلب مزيدًا من الإيضاح فبالنسبة ليافث يكفي أن نورد عبارة لسان العرب بنصها: (يافث من أبناء نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام وقيل هو من نسله الترك ويأجوج ومأجوج وهم إخوة بني سام وحام فيما زعم النسابون وأيافث موضع باليمن كأنهم جعلوا كل جزء منه (أيفث) اسمًا لا صفة.
وفي عبارته حول اتصاله بنسله من الترك أو يأجوج ومأجوج تأكيد لحقيقة أن كل الأجناس التي تعاقبت هي ذات انتماء للعرق العربي الذي تفرد منذ آدم . أما بالنسبة لرسول الله هود عليه الصلاة والسلام فيرى أنه من هاد يهود هَوْدًا أو تَهَوُّدًا بمعنى تاب وأناب .
وهو اشتقاق عربي لا لبس فيه وفيه دليل على أن اسم يهود إنما جاء منه امتدادًا للعربية التي كان ينتمي إليها هود وقومه (عاد) (وهم من العرب البائدة وهذا يؤكد الأصل العربي لليهود ) .(94/4)
وأما عاد الأولى : فهم قوم هود من العرب البائدة ، قال اللسان : هم قوم هود عليه السلام ، وقال الليث : وعاد الأولى هم عاد بن عاديا بن سام بن نوح عليه السلام ( أهلكهم الله )(*) ، وأما عاد الأخيرة فهم بنو تميم ينزلون رمال عالج عصوا الله فمُسخوا نسناسًا لكل إنسان منهم يدٌ ورجلٌ من شق انتهى من اللسان.
وأما ثمود فيقول لسان العرب : وثمود قبيلة من العرب الأول يصرف ولا يصرف، ويقال إنهم من بقية عاد، وهم قوم صالح على نبينا وعليه الصلاة والسلام بعثه الله إليهم وهو نبي عربي واختلف القراء في إعرابه في كتاب الله عز وجل فمنهم من صرفه ومنهم من لم يصرفه ، فمن صرفه ذهب به إلى الحق لأنه اسم عربيٌ مذكر ، ومن لم يصرفه ذهب به إلى القبيلة وهي مؤنثة . انتهى لسان العرب .
وإذا راعينا أن قوم عاد وثمود يمثلان الانتشار الأول للبشرية بعد الطوفان وأن نوحًا وبنيه وقومه إنما كانوا عربًا فإن هذا يقودنا بإقناع واقتناع إلى حقيقة أن ما تحقق انتشاره من بشر خلال الحقبة التي تفصل بين عاد وثمود وبين عهد نمروذ الذي أورد المسعودي أنه عاش خمسمائة عام وشهده في آخرها سيدنا إبراهيم (أبو الأنبياء) عليه السلام ( وحاوره) إنما كانوا امتدادا لبقايا عاد وثمود من العرب ، وأن الدماء التي سرت في جسد إبراهيم عليه السلام وبنيه إنما هي دماء عربية ، وأن العبرية التي جاءت ( على أصح الآراء ) من عبوره عليه السلام لنهر دجلة إلى فلسطين، لا تغير شيئا من حقيقة دمه العربي الذي كان دما أهله لأن ينسبنا الله إليه في قوله:"ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ".(94/5)
ومن هنا نعبر بسلام إلى الحقيقة الكبرى وهي أن العرب هم الأصل الأصيل للبشرية كلها ، وأنه لا مجال للقول بتعدد الأعراق والانتماءات إلا من خلال مفتريات التاريخ وتجاهل هذه الحقيقة الكبرى التي نأمل أن تتكاتف جهود الأبرار من البشر لتأكيدها حفاظًا على وحدة الأسرة الإنسانية على النحو الذي أعلنه الله في الآية الأولى من سورة النساء (الآية1):"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام " لافتًا انتباهنا للرِّحْمِ الأولى التي صدرنا عنها جميعًا ( رِحْمِ حواء عليها السلام ) .
حضرات الزملاء الأجلاء :
من الحقائق التي تمتنع على الشك ولا يجوز (في النطاق الإسلامي على الأقل ) أن تكون موضع شك: أن جميع ما أنزل الله من كتب وصحف قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام بالرسالة العامة إلى كل الناس ( إنسهم وجنهم ) قد اختفى ولم يعد له من أثر منذ أن رفع المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إلى السماء.
وأن ما يتداول من كتب ( غير القرآن) ينسب إلى السماء لا يعدو كونه مصنفات بشرية لأناس تصدروا الدعوة إلى معتقدات لا تقوى على تأكيد مطابقتها للتعاليم الواردة في الكتب والصحف المنزلة التي قُدِّر لها أن تختفي .(94/6)
وانطلاقًا من هذا اليقين نستطيع أن نقول أن الكتاب السماوي الأوحد الذي يتضمن خطاب الله المباشر لخلقه إنما هو القرآن المنزل على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الكتاب الذي صاغه الله بالعربية ( الخالصة ) التي سبق أن تخاطب بها رسول الله إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام والتي اختلفت الآراء بين أن يكون قد تلقنها بالوحي (فيما اعتقده المؤمنون الأولون في صدر الرسالة الإسلامية) أو أن يكون تلقنها باصطلاح بينه وبين قبيلة جرهم التي نشأ في حضنها ثم صاهرها وساعده الوحي السماوي على أن يطور النطق بهذه اللغة بالحوار معها كجزء من مسلسل التمهيد لبعثة محمد عليه السلام .
( وقد أشارت إلى هذه التفاصيل الأخيرة دائرة معارف القرن العشرين فيما كتبته عن التهذيبات الثلاث التي طرأت على اللغة العربية ).
لقد تضمن القرآن في العديد من أجزائه تفاصيل الحوار بين الله ورسله وملائكته وإبليس ونقل إلينا أقوال هؤلاء جميعًا وغيرهم من أقوام الرسل فيما تم من حوارهم مع رسلهم على نحو لا تستدعي الإحاطة به كثيرا من التحليل ، ولكن يكفي في ذلك الرجوع إلى تلك النصوص بقدر أكبر من التروي والتمعن في مضامينها وكيف أنها نصوص قاطعة لكونها لم تأت وليدة ترجمة أو رواية عن لغة أخرى وإنما تمت بين الله تعالى وكل تلك الأطراف وغيرها بلغة القرآن الذي أوردها.
ولا تنافي بين هذه الحقيقة والحقيقة التي وردت في قوله تعالى:( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) . إذ أن ما طرأ على البشرية منذ عهد نمروذ من تشتت في أطراف الأرض(هربًا من طغيانه وظلمه وفتكه ) كان السبب في نشوء كل ما نشأ من لهجات كادت أن تخفي معالم اللغة الأم "الغربية " نتيجة ما اضطرت إليه كل تلك الفصائل المشتتة من ابتداع مفردات وتعبيرات لعبت البديهة والحاجة الآنية والأصوات والإشارات دورها الفاعل في ابتداعها وإدخالها على اللغة الأم.(94/7)
وكان من أثر ذلك أن أمد الله كل من اصطفاه من رسل إلى تلك المجموعات البشرية بالقدرة على أن يخاطب كل منهم قومه بلسانهم ؟ … ولم يقل بلغتهم لأن اللغة تسمو على ما قد يكون دخيلا عليها ولا تفقد به شخصيتها المتميزة .
فخطاب كل رسول لقومه بلسانهم لا ينفي أن يكون أولئك الرسل قد تلقنوا لغة القرآن تأهيلا لهم للتخاطب مع الله ، ولا ينفي أن يكون الحوار الذي تم بين بعض أولئك الرسل وأقوامهم قد تم وفقًا للنصوص الواردة في القرآن خصوصا إذا علمنا أن تلك الأقوام إنما كانت تحتل الرقعة الوسط من الأرض التي بعث إليها الله رسله والتي لم تكن قد انفصلت عن العربية الأم كما يتضح من نسبة معظمها إلى العرب البائدة كعاد وثمود وطسم وجدبس والعماليق ، ولعل أبرز ما تم استحداثه من مفردات طرأت على العربية إنما تمثل فيما يسمى باللغة العبرية التي لا تعدو حتى يومنا هذا أن تكون في معظم مفرداتها ونصوصها لغة عربية حاول التحريف المفتعل أن يخفي معالمها دون جدوى وهي لا تختلف في تسميتها عن العربية إلا بتقديم وتأخير بين حرفين من حروفها هما الراء والباء .
أما ما سوى ذلك من فصائل بشرية طرأت في المناطق النائية عن المنطقة الوسط التي أشرنا إليها ، فإنها لم ترتق ( باستثناء البوذية في العهود الأولى لنشأتها ) إلى مرتبة الأقوام الذين خصهم الله برسل من بينهم ، وبذلك ينتفي أن يكون لهم أي دور في رسالات السماء وإنما هيئوا ليتلقوا الرسالة العامة التي شاء الله أن يختص بها محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا (للناس كافة بشيرا ونذيرا …).(94/8)
وهذا ما يذهب بنا مذهب القول بأن الإسلام الذي شرعت منه شريعة محمد الخاتمة قام على مبدأ ناسخ للمبدأ الذي تضمنته آية : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) بل وإنما ختمت بقوله تعالى ( ليبين لهم ) لتحمل إشارة إلى أن إرسالهم بلسان أقوامهم لم يكن اعترافا من الله بكل تلك الألسن التي ابتدعت وإنما كان لتمكينهم من استيعاب ما يتلى عليهم من أوامر الله وتعاليمه إلى أن يحين الوقت في تقدير الله لبعثة خاتم الأنبياء الذي تبرز ببعثته مشيئة الله في أن يلتئم شمل الأسرة الإنسانية التي بدأت بآدم أبا وحواء أما والتي لا يتحقق فيها الامتثال لتعاليم الله والخضوع لمشيئته إلا بالتئامها حول كتابه الخاتم ( الذي التزم بحفظه والحيلولة بينه وبين التحريف والاختفاء ؟) وحول اللغة التي أنزله بها على محمد صلى الله عليه وسلم دون أن يضمنه أي نص بالنسبة للفظ (عربي) إلا فيما يخص هذا الكتاب واللسان الذي نزل به ليتحقق من خلاله (الإعراب) عن مشيئة الله الحقيقية( منذ الأزل ) ويؤكد به أن العربية هي لسانه تعالى وجعل محمدًا ( صلى الله عليه وسلم ) يضمن خطابه للناس قوله : (تعلموا العربية وعلموها الناس فإنها لسان الله يوم القيامة ) وما كانت العربية لتكون لسان الله يوم القيامة لو لم تكن لسانه منذ الأزل ، ( فهو منزه عن التغير في ذاته أو صفاته ) وهو أعدل من أن يخاطب عباده ويحاسبهم يوم القيامة بغير اللغة التي شرعها لهم منذ بدء خلقه إياهم ، ثم ألزم خاتم أنبيائه بأن يدعوهم لتعلمها وتعليمها للناس، حتى لا يحرموا شرف الاستيعاب لخطاب الله الذي سيتم بلسانه العربي (كما يفيد الحديث الشريف الذي يعد أمرًا من أوامره صلى الله عليه وسلم الواجبة الامتثال والتنفيذ . والتي يتوقف عليها كل ما ينتظر من الناس من فهم مباشر للقرآن وإعجازه ( الذي لا ينصاع للترجمة ) وما ينتظر منهم بالتالي من إيمان برسالة الإسلام إيمانًا يكون يقينيًا أساسه(94/9)
القناعة التي لا تحتمل الشك أو التردد أو السطحية .
وما كان لشيء من ذلك أن يتحقق إذا تقاعس المسلمون الذين ميزهم الله بأن يتكلموا لغة القرآن ( العربية ) ويكونوا (سدنة) لها عن الامتثال للأمر النبوي المتمثل في قوله عليه الصلاة والسلام : (وعلموها الناس ! ..) .
حضرات السادة الزملاء :
إن التاريخ الإنساني الحق لا يمكن أن يستقى من خلال ما تعاقب من نصوص (ما برح الهوى منذ نشأة التاريخ يلعب دوره الفعال المؤثر ) في تدوينه وفقا لمشيئة ذوي القوة والنفوذ وذوي المصالح والغالبين على اختلاف عصورهم ونزعاتهم .
ولن يكون للإنسانية مصدر للتاريخ الإنساني الصادق إلا ما تحالف منه مع القرآن وقصصه وإشاراته . وسار على نهجه .
ونهج القرآن قد تحدد منذ اللحظة التي خاطب الله فيها ملائكته بقوله (العربي المبين ! ) : ( إني جاعل في الأرض خليفة)، فقد تلقى رد من خاطب من ملائكته بقوله ( عربي مبين أيضًا ) ، ثم تتالى ما تم من حوار بينه وبين ملائكته وآدم وإبليس وما علم آدم من الأسماء كلها وما أطلقه من تسمية لآدم وحواء هي من صميم المشتقات العربية ثم ما تم من خطاب وحوار بينه وبين من تتالى من رسله منذ نوح عليه السلام ، وبين نوح وقومه والثمانين الذين حملتهم السفينة معه، والذين انشؤوا أول مدينة على الأرض فور نزولهم على سفح الجودي (وسموها مدينة الثمانين ) وقال عنها المسعودي أنها لا تزال تحمل هذا الاسم حتى تاريخ تدوينه لهذا النص ( أي سنة 332 للهجرة ) في كتابه (مروج الذهب ).(94/10)
ثم ما تتالى من خطاب بين الله وبين رسوليه هود وصالح اللذين كانا أول رسولين بعد انحسار الطوفان أرسلا إلى قوميهما اللذين لم تختلف الآراء في كونهما ( من العرب البائدة ) وما تم بين ذينك الرسولين وقوميهما من حوار دون القرآن أهمه ، ثم ما تتالى من خطاب وحوار بين الله وأنبيائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وداود وسليمان وعيسى من الرسل الذين بعثوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم .
وما تم بين كل أولئك وبين أقوامهم وبين الملائكة الذين أرسلوا إلى بعض أولئك القوم لمعاقبتهم وبينهم وبين الرسل، مما دونه الله في القرآن الخالد ، كل ذلك لا يدع مجالا للشك ولا للقول بأن لغات أخرى قد اختارها لغة خطاب بينه وبين رسله وملائكته ، أو بين رسله وأقوامهم ، لأن في ذلك إيهامًا بأن القرآن لم يتضمن في هذا الصدد إلا مجموعة من نصوص مترجمة وهو إيهام يصل إلى حد التطاول على مقام الله وقدرته وإعجازه الذي أودعه نصوص كتابه . وهذا ما لا يحل لمسلم مؤمن بالله وكتابه أن يعتقده أو أن يقوله … تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا .
فالإيمان بكتاب الله يتطلب ضمنيًّا الإيمان بلغته التي أنزله بها لأنها في ذاتها جزء من إعجازه حيث لا يكتمل ذلك الإعجاز إلا بها ، وهي على ذلك داخلة ضمن التزام المؤمنين بالقرآن وذلك بتعلمها وتعليمها إلى حد الإتقان ومراعاة سلامة قراءته بها دون لغة وسيطة ودون لحن . وعلى ذلك يمكن القول بأن تعليم اللغة العربية السليمة وحمايتها من عبث اللهجات الدخيلة عليها، مما يدخل ضمن الفروض الأساسية الملقاة على عاتق المسلمين المؤمنين بالقرآن وشمول دعوته وواجب تعميم تلك الدعوة باعتبارها موجهة للناس كافة .
وهو في حده الأدنى فرض كفاية يتعين على الصفوة من المسلمين أن ينهضوا به وفي مقدمتهم مجامع اللغة العربية وولاة أمور المسلمين في مختلف ديارهم وأمصارهم.
حضرات السادة الزملاء :(94/11)
لقد كان لأحداث الطوفان وما لحقها من تدمير وإهلاك لقومي عاد وثمود وما لابس عهد نمروذ الذي امتد خمسمائة عام من طغيان وفتك ، الأثر الكبير فيما بدأ من انتشار في أطراف الأرض وتشتت عزل شراذم العرب بعضهم عن بعض وأدى إلى نشوء متطلبات اقتضت نشوء لهجات ومصطلحات وأسماء لما قد جد من مسميات خرج الكثير منها عن إطار اللغة الأم وتباينت فيه تلك اللهجات والمصطلحات والأسماء على نحو أدى إلى ما صار يبدو لغات مغايرة .
ولكن الله تدخلت إرادته وقدرته لحفظ اللغة الأم من خلال نبيه ورسوله إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام الذي تم على يديه التهذيب الأول الذي تمخض عما سمي ( باللغة الخالصة ) وهي اللغة التي نزل بها القرآن الكريم على محمد عليه الصلاة والسلام ، وقد رأى ( المؤمنون الأولون ) على حد التعبير الذي أوردته دائرة معارف القرن العشرين في هذا الصدد ) إن هذه اللغة الخالصة قد أوحي بها إلى إسماعيل عليه السلام باعتباره أبا للعرب المستعربة التي اقتضت مشيئة الله أن يبعث من بينها محمدًا خاتم الأنبياء الذي تلقى القرآن وحيًا من ربه والذي هيأه الله للرسالة العظمى العامة الشاملة بأن جعل دمه الزكي ملتقى لأزكى الدماء التي التقت في جده إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام فلا يكون لفئة بعينها الانفراد بشرف انتمائه إليها وحدها . وهي حكمة بالغة جعلت عقلاء البشرية منذ بعثته يضاعفون من إكبارهم واحترامهم له الأمر الذي بدا واضحًا في استقبال ملوك الأرض آنئذ لرسائله إليهم بكل ما ذكره التاريخ من تعظيم وتكريم).(94/12)
وقد لعبت قريش دورًا واضحًا فيما تحقق من تهذيب ( هو التهذيب الثالث على ما ذكرته دائرة معارف القرن العشرين ) أدى إلى استمرار اللحمة بين (اللغة الخالصة التي سبق ذكرها ) وبين لغة التخاطب التي تميزت بها قريش على سائر بطون العرب وفصائلها ، الأمر الذي هيأ العرب لاستقبال القرآن على النحو الذي جاء ميسرا وخاليا من كل تعقيد وتنافر وأدى إلى انطلاق فصحى قريش في ربوع الأرض تنشر الإشعاع الفكري على نحو أثار حفيظة من تصدوا لمحاربة الدولة الإسلامية ورسالتها الإنسانية فكان بدء الكيد للعربية باعتبارها قوة محركة لكل ذلك المد ، وتمخض الفكر المعادي عن حيلة دس اللهجات العامية وتشجيعها والتمكين لها على النحو الذي بدأ منذ العصر العباسي يكسر طوق الفصحى ويحقق الانصراف المشئوم عنها في أوساط العرب إلى الحد الذي جعلها تختبئ في مدارك النخبة القليلة من الدارسين والحانين عليها ، وما نزال نرسف في أغلال ذلك الكيد ، حتى انفصلنا أو نكاد عن ميراثنا وتراثنا العربي في جميع مقوماته المعروفة لدى كل من قرؤوا التاريخ الصادق للعرب والمسلمين الأولين . لقد حرصت على أن أوجز ما وسعني الإيجاز، فلم انطلق بكل ما يقتضيه المقام من تحليل وتدليل تجنبًا للإملال ، ولكن يقيني من أن ما تعلمونه أكثر مما أعلمه هو ما حملني
على أمر الإيجاز مكتفيًا بما أوردت في استمالة مدارككم المحيطة لإعطاء هذا الموضوع ما يستحقه من تحليل وتكميل .
والله يوفقكم والسلام عليكم
علي رجب المدني
عضو المجمع من ليبيا(94/13)
كان أبرز حدث تراثي كتب في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي على صعيد العالم الإسلامي والعربي هو الحدث الذي تمثل في التأليف الرائع الذي أنجزه شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن بطوطة في رحلته : تحفة النظار … التي تعتبر اليوم الرحلة الأولى في تاريخ البشرية جمعاء.
ولقد كان في صدر ما اهتم به الباحثون الذي عُنوا بهذا العمل الجليل سواء عند الخطوات الأولى عندما اكتشفوا مختصراتها أو عند الخطوات الثانية عندما توفروا على النص الكامل للرحلة ، أقول في صدر ما عنوا به قضية اللغة المستعملة في الرحلة ، وكذا الأسلوب الذي كان يعبر به هذا الرحالة عن أفكاره وتصوراته حيث قرأنا لبعضهم مقارناتٍ ومفارقاتٍ بين أسلوب ابن بطوطة المتميز عندهم بالوضوح والجلاء وبين أسلوب ابن جبير مثلاً الذي وجدوا فيه نوعًا من الغموض والخفاء .
وقد كان في مقدمة الملاحظات التي برزت واضحة فيما يتصل بلغة الرحلة أن الرجل احتفظ لنا بطائفة من الكلمات والمفردات التي لا تنتمي فقط إلى المعجم العربي ، وهكذا وجدنا أن الرحالة المغربي –على نحو ما كان من المَقدسي- ينتبه إلى وضع قواميس محلية لمختلف البيئات التي اتصل بها أثناء رحلته حتى يُعرّف قراء اللغة العربية بالألفاظ المختلفة من مكان إلى مكان، بل إنه أي ابن بطوطة ، كان يُرجع بعض تلك الكلمات والمفردات إلى أصولها في أكثر الأحيان ، وقد وصل عدد الكلمات الأجنبية التي استعملها ابن بطوطة إلى نحو من ستمائة كلمة ، كنا نلاحظ ابن بطوطة أثناء استعمالها يقوم بتأصيلها ، كما أشرنا . وبذلك أعطانا فكرةً عن الحياة اللغوية في القرن الثامن الهجري، ونظرًا لأهمية هذا الجانب اللغوي في الرحلة فإنه لم تفتني الإشارة إليه في عددٍ من المقاطع عند تحقيقي الرحلة(*) سواء عند تعليقاتي على النص أو عند صياغتي للمقدمة …(95/1)
ومن الإنصاف أن أشيد هنا بالجهود المبذولة من لدن بعض العلماء العرب الذين تتبعوا لغة ابن بطوطة وتناولوها بالبحث والتمحيص .
وأذكر في صدر هؤلاء زميلنا الراحل عضو المجمع العلمي العراقي الأستاذ الدكتور سليم النعيمي الذي خصص بحثا قيما لهذا الموضوع نشره على التتابع في ثلاث مجلدات في مجلة المجمع العلمي العراقي رقم 24 و 25 و 26 بتاريخ 1394= 1974 – 1395 = 1975 .
لقد حلق الأستاذ النعيمي رحمه الله في ذلك البحث الذي عنونه هكذا : (ألفاظ من رحلة ابن بطوطة ) وقد كان مما امتاز به بحث الأستاذ النعيمي أنه كان يحيل في تصنيفه لمعجمه ، يحيل على أرقام الصفحات وأرقام المجلدات التي صدرت في طبعة باريز منذ سنة 1858 أي قبل قرن ونصف من الزمن . هذه الطبعة التي تعتبر الأساس الوحيد لكل ما صدر في المشرق من رحلاتٍ سواء في مصر أو لبنان على ما هو معروف .
إن الإحالات على تلك المجلدات يعتبر وحده عملاً علميًّا أمينًا ذا مرجعية دولية، وأعتقد أنه لهذا السبب أيضًا اختار زميلنا الأستاذ محمد الفاسي رحمه الله أن يكون مرجعه في مقالاته عن ابن بطوطة التي نشرها في مجلة المغرب منذ عام 1930 ، أن يكون مرجعه تلك الطبعة الفرنسية التي تمت كما قلنا أثناء الخمسينيات من القرن الماضي .
ومعلوم أن سائر الذين اهتموا بالرحلة من مستشرقين إنجليز وتشيكيين وألمان وإسبان وبرتغال إلى آخر اللائحة الطويلة، كل أولئك اختاروا أن يكون مرجعهم في الحديث عن الرحلة هو طبعة باريز أوساط القرن التاسع عشر لأنها كانت المنطلق الأساس فأصبحت بمثابة المخطوط .
وقد صدر لزميلنا الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي مقال في مجلة البحث العلمي التي كنت أشرف عليها ، صدر له(95/2)
مقال هناك في العدد 26 بتاريخ يوليه 1976 وكان بحثه يحمل عنوان : الألفاظ الدخيلة في رحلة ابن بطوطة ، وقد اعتمد فيه على عمل أكرم البستاني ، طبعة صادر عام 1960، ونحن نعلم عما تعرضت له طبعة صادر من تجاوزات …
وقد قرأت بعض ما كان يصدر بين الحين والآخر من مقالات في المغرب والمشرق عن لغة ابن بطوطة ، ولكن أهم ما ظهر في السنوات الأخيرة هو البحث الذي أصدره في مايه 1994 الدكتور محمد عادل خلف عبد الجواد ، وكان يحمل عنوان" "الملاحظات اللغوية للرحالة العربي ابن بطوطة". وقد أردف الدكتور خلف هذا البحث بآخر صدر له في أكتوبر من نفس السنة بعنوان :"معجم ألفاظ ابن بطوطة غير العربية " ، غير أن الدكتور خلف اعتمد في بحثيه معًا على طبعات مصر أو لبنان من غير أن يرجع إلى الطبعة الباريسية ولم يكلف نفسه عناء البحث عن طبعة باريز وبالحرى عن مخطوطات الرحلة التي وصلت الآن نحو الثلاثين …
وهكذا تجمعت لدينا اليوم – لحسن الحظ – بحوث جادة من شأنها أن تفيدنا كثيرًا فيما يتصل بلغة رحلة ابن بطوطة الأمر الذي يمكن القول معه بأننا نتوفر اليوم على جرد كامل للمفردات التي يتضمنها قاموس الرحلة .
وهذا ما أريد أن أستعرضه باختصار في هذه المناسبة … وأذكر منذ البداية أن الرحلة تحتضن نحوًا من اثنتي عشرة مادة لغوية أجنبية إضافة إلى الكلمات المغربية التي سنخصص لها الحيز الأكبر من هذا البحث .(95/3)
فهناك عدد كبير من الكلمات الفارسية ومنها على سبيل المثال الإبريق والأترج والديباج والهميان إلى أخر اللائحة الطويلة . وهناك طائفة من الكلمات التركية أو المغولية كذلك ، كان منها كلمات أفندي ، وبخشي وتماق وقبان وقمز واليراق وولاق ووطاق إلخ . وهناك العدد الكبير من الكلمات الهندية من أماثل دولة كتوال وكفتار وساج وريبول والتنبول ، ولم يفت ابن بطوطة ، وهو في بلاد السند والهند ، أن يشير إلى النقوش الهندية القديمة التي وقف عليها في إقليم لاهري أولاري بندر كما تسمى اليوم، على نحو ما يفعله وهو يقف في مصر على النقوش الهيروغليفية .
وهناك عدد من المفردات التي طرقت سمع ابن بطوطة وهو في جزيرة مالديف من أمثال بستو ودنقرة وفال وكتي وكردوي وكلكي ومالم ومانياك وبسياه إلخ.
هذا إلى جانب استعمال عدد من الكلمات المالية ( نسبة إلى مالي ) في غرب إفريقيا من أمثال بنبي ، بيدر ، تكشيف ، توري ، دقنو ، صغنغو ، وغرتي ، ومنسا ، وفراري .
ومن اللغات التي طرقت أسماع ابن بطوطة لغة البجاة المقيمين على ساحل البحر الأحمر وهي من اللغات المنطوقة الغير المكتوبة .
كما أن من اللغات التي أشار إليها الرحالة المغربي اللغة الصومالية التي يسميها اللسان المقدشي نسبة إلى مقدشو حاضرة بلاد الصومال ، ويسجل ابن بطوطة هنا ملاحظة هامة ، وهي أن أهل الصومال يطلقون على سلطانهم اسم " الشيخ" ، وهو اللقب التشريفي الذي يطلقه حتى اليوم سكان الجزيرة العربية على ملوكهم، كما وهو اللقب الذي استعمله بنو وطاس
المغاربة على أمرائهم وقادتهم .
وفي طريق ابن بطوطة إلى الصين ألم بما نسميه اليوم ماليزيا : ( مل جاوة ) حيث أشار إلى لغتهم التي يعترف ابن بطوطة بأنه لم يعرفها ..
ومن المعرف أن لغة الملايو هي إحدى اللغات المالوية التي كانت لغةً بساحل سومطرة .(95/4)
ويشير ابن بطوطة بعد هذا إلى اللغة البورمية التي مر بأهلها ، وهي إحدى اللغات التُّبتِية – الصينية ، مر بها واتصل بقوم البره نكار .
وهناك عدد من الكلمات الصينية من أمثال بالشت وبركالة وجنوك وستي وقان وككم إلخ . وهناك طائفة من الكلمات المصرية سمعها الرحالة وهو يتنقل عبر مصر مثل الأكارم والأكاديش والحرافيش إلى آخر اللائحة التي يمكن الرجوع إليها .
ولم يفت ابن بطوطة – وهو بمصر أن يلاحظ كما أشرنا سابقا وجود نقوش مصرية قديمة في بربي مدينة أخميم مذكرا أن أحدا لم يهتد لقراءتها في عهده ، ولم يكن يعرف أن هذه النقوش ستقرأ بعد نحو من ستة قرون .
ومع هذا فإن الرحلة لا تخلو من استعمال كلماتٍ من أصل يوناني أمثال الأبنوس والأنيسون والبواقيل ونول إلى آخر الكلمات .
وأخيرًا فإن هناك عددا من الألفاظ الرومية من أمثال كلمة الرّي والكِيرة والشطي والإصقالات . والمهم من خلال كل هذا أننا نرى ابن بطوطة لم يجد صعوبةً في أداء تلك الكلمات الأجنبية بالحرف العربي المتداول بيننا الأمر الذي يؤكد أن الجهاز العربي صالح لاستيعاب سائر الأصوات وأنه قادر على أدائها بدون إخلال في الأداء .
ولا أودع هذا الموضوع دون أن أشير إلى أن هناك عددًا من المفردات العربية التي استطاعت أن تقتحم قواميس الأمم الأخرى وتفرض نفسها لتكون إلى جانب تلك اللغات امثل أمير طومان – أمير هَزار – رسول دار – شرْع بندر ، ملك عرض ، قبور عاشقان .
أما عن الكلمات المغربية المستعملة في رحلة ابن بطوطة ، فهي هكذا حسب الترتيب الهجائي المغربي مع الإحالة على المجلدات الأربعة وأرقامها المعتمد عليها من لدن الباحثين المهتمين بالرحلة على الصعيد العالمي .
الأبزار IV ، 77-76(95/5)
يعني الأبزار عند المغاربة ما يُعرف بالفلفل الأسود ، وهي حبوب سوداء ، شجراتها شبيهة بشجر الدوالي . ويثمر عناقيد صغارًا حبها كحب أبي قنينة ، وإذا كان أوان الخريف قطفوه وفرشوه على الحصر في الشمس . ولا يزالون يقلبونه حتى يستحكم يبسه ويسود . والعامة ، كما يقول ابن بطوطة ، يزعمون أنهم يقلونه بالنار ، وقد رأيته بمدينة قالقوط يصب للكيل كالذرة عندنا .
أبيْرُون IV ، 112
هذا اسم بربري لنوع من السمك وجده في مالديف ، شبه به ما يسمى عندهم قلب الماس ، لحمه أحمر ، رائحته كرائحة لحم النعام ، ويقطعون السمكة أربع قطع ويطبخونها يسيرًا ثم يجعلونها في مكاتيل من سعف النخل ويعلقونها للدخان، فإذا استحكم يبسه أكلوه ويحمل منها إلى الهند والصين واليمن . واللفظ في المخطوطات هكذا الليرون . ويعني في اللسان البربري نوعًا خاصا من الطون .
الإحرام I ، 18
هذا غير الإحرام الذي يرتديه الحجاج، ولكنه ثوب يجعل على الرأس ويمتد إلى الأكتاف.
أزواج الحرث IV ، 347
كلُّ الذين علقوا على هذه العبارة المغربية الصميمة أخطأوا في معرفة القصد منها ، فتعتبر "حرث زوجين" يعني مساحة من الأرض قدرها بعضهم بخمسة عشر هكتارا ، فالزوجان هنا ليس الذكر والأنثى كما فهموا ، ولكن القصد إلى الثورين أو البغلين اللذين يجران المحراث. وكان العاهل المغربي يمنح بعض المحتاجين قطعا أرضية فلاحيةً مقدار حرث زوجين لكل فرد ، وقد يكون العطاء أزواجا كثيرة وهكذا فإن الترجمة الفرنسية الصحيحة :
Paires de boeufs pour labourer la terre
أنلي III ، 130 ، IV، 378، 394
كلمة بربرية ، حب مائل إلى الخضرة
موجود بكثرة بالجنوب المغربي ، وقد يطلق عليه اسم إيلان ويوصف لتقوية العظام حتى ليمزجوه بالحليب الذي يقدم للرضيع . ويسمى بالفرنسية mil أو millet.
أفراج II ، 369(95/6)
أفراج أو أفراق تعريب افراك بالجيم المعقودة ، لفظ بربري . أطلق على السياج المحيط بالخيام التي تنصب لإقامة الملك وحاشيته أثناء ترحاله ، وهو يعني مدينة متنقلة بكامل مرافقها وأجهزتها ، صُنعت من شقاق الكتاب الأبيض والملون وتحتوي على عدد من القباب والخيام على مختلف الأحجام ، فيها ما هو صالح لقاعات استقبال ، كما يحتوي افراك على المسجد والمدرسة ، كل له مكانه ومثواه . وقد خصص ابن الحاج النميري فصلا بكامله لوصف هذه المعلمة الحضارية الكبرى التي خفى معناها على بعض الناشرين فراحوا يؤولون !
أقروف II ، 379 ، 388 .
لفظ بربري الصيغة والكلمة تعني ما يعبر عنه دوزي : ضرب من تيجان الرأس المستعملة بالمغرب . أقول : وما تزال بعض نساء الشمال المغربي يتزينَّ به عند المناسبات وربما كان أقروف ( وليس أخروق كما تحرفت عند ترجمان معجم الملابس ) يشبه ما أدركناه مما يسمى بالحنطوز الذي تزين به السيدات رؤوسهن .
الاسفنج IV ، 392
الإسفنج ، وينطق به المغاربة مخففًا السفنج. نوع من الفطائر المعروفة مثقوبة الوسط حيث تسلك في دومة خاصة يتناولونها على الخصوص عند الصباح والذي يعدها يسمى السفاج ولهم حوانيت خاصة في بعض الأسواق ، والمحتسب هو الذي يراقب جودة الزيت المستعملة في قلي السفنج كما يراقب نظافة السفاج .
بابا II ، 279 ، 416 ، IV ، 177
يذكر ابن بطوطة أن كلمة بابا عند الأتراك تعني الأب بتفخيم الباء . وهنا يقدم ملاحظة دقيقة فيذكر أن البربر في المغرب يستعملون اللفظ بمعنى الأب أيضًا لكنهم بخلاف الأتراك ينطقون بالباء مرققة. وهو ما كنا نسمعه في بيوتنا .
البحيرة IV ، 476
في الاصطلاح المغربي تعني الأرض التي يغرس فيها مثل البطيخ والدلاع والقثاء مما له زريعة وتجمع على بحائر وقد حسبها بعض الناشرين تصغيًرا لبحرة !
بخيت II ، 201(95/7)
من الأسماء التي كانت تعطى للجواري في المغرب على عهد ابن بطوطة الذي لاحظ استعمال نفس الاسم عند أهل عُمان الذين لهم شبه قوي بأهل صنهاجة .
البراءة I ، 112
يستعمل ابن بطوطة كلمة البراءة بمعنى الجواز أو الاذن أو التفويض ، وما يزال المغاربة إلى الآن يستعملون كلمة ( البرا) هكذا مختصرة بمعنى الرسالة .
بطة II ، 159
ظرف يجعل فيه نحو الزيت .
البلاط I ، 200-199
يستعمل ابن بطوطة كلمة البلاط في الممرات التي تربط بين شرق المسجد وغربه فهناك المسجد صاحب البلاطات الثلاث وهناك صاحب الأربعة . وأريد القول : إن رجال المعمار اليوم يسمون الممرات التي تربط الشمال بالجنوب في المسجد بالاسكوب ويجمع على أساكيب.
البوجة IV ، 307
هذا اللفظ حير بعض المعلقين الذين ذهبوا مذاهب شتى ، وهو يعني بكل بساطة المحفة، وما يزال بمدينة فاس باب من أبواب القصر الملكي يحمل اسم باب البوجات خاص بالحريم .
بوقينية IV ، 77
في معرض حديثه عن الفلفل الأسود : الإبزار ، شبه حبوبه بحب أبي قنينة . وقد حار المعلقون في البحث عن هذا النبات الذي يعرف في شمال المغرب الذي ينتسب إليه ابن بطوطة ، ويكثر في المناطق الجبلية التي تستعمله لعدة أغراض ، وفي الأمثال المغربية:"غرسته حبق خرج لي بوقنينة" يعني كنت أقصد إلى شيء فوجدت شيئًا آخر".
تازرت II ، 218-217(95/8)
في معرض حديثه عن بعض أسماك منطقة الخليج : (شير ماهي) شبهه بنوع من الأسماك في المغرب يعرف بتازرت ، ومعلوم أن هذه الكلمة بربرية الصيغة أما عن معناها فإن الأمر يختلف بين أن ينطق بالزاي مفخمة أو مرققة ، فإذا كانت مفخمة فإنها تعني المذاراة ، وعلى هذا يكون القصد إلى السمك الذي يتميز ذيله بأنه شبيه بالمذارة ، له أسنان ، وإذا كانت الزاي مرققة فإن معناه التين وعلى هذا يكون القصد إلى لون قشرة السمك التي تشبه لون قشرة بعض أنواع التين المزركش . ولعل قصد ابن بطوطة إلى نوع السمك المنتشر في المطاعم الخليجية المعروف تحت اسم هامور .
تاسر غينت IV ، 394
تعرب هذه الكلمة إلى سرغينة كما هو معروف بالمغرب ، وهي جذر عطري الرائحة يوجد على ساحل المحيط ويجلبه التجار إلى بلاد السودان ، وما نزال إلى اليوم نحرق هذا النوع وخاصة عند بعض المناسبات الخاصة مثلاً عند النفساء .
التبريح IV ، 145
هذه الكلمة تعني في المغرب الإعلام العلني، برحوا بالملك على أنه سيقوم بسفر نحو جهة من الجهات ، بمعنى أعلموا به وأشهروه بين الناس ، والبراح هو الذي يقوم بعملية هذا الإعلام، وقد خفي هذا المعنى على بعض الناشرين الذين التبس عليهم معنى الكلمة الذي قلناه بمعنى التبريح الذي يعني الضرب المبرح !
التليس II ، 123-35
نسيج غليظ من الشعر أو الخوص يجعل على ظهر الدابة يحمل الحبوب وما أشبه، ويجمع على تلاليس . ذكر بطوطة أن بعض أعضاء الأسرة الملكية في إيذج جعلوه على ظهورهم لما فقدوا بعض الأمراء ، كما ذكر أنهم غطوا به بعض الجثث المطروحة .
التهليل III ، 387
التهليل في الاصطلاح المغربي ظرف صغير يكون من جلد أو فضة أو ذهب يجعل فيه نحو المصحف أو كتاب دلائل الخيرات . وكان مما يهديه ملوك المغرب إلى بعض الرؤساء في العصور القديمة ، وربما حمله الملوك والأمراء كتعويذة أو تميمة .
الثريا II ، 265(95/9)
يطلقها ابن بطوطة على (النجفة) ذات المصابيح المتعددة تعلق في السقف لتنير الحجرة .
الجامور II ، 13 ، 406
عبارة عن عمود يحمل عددًا من التفاحات المموهة بالذهب ، يجعل على راس الخيمة الملكية أو على رأس منار مسجد كبير فيكون تاجًا لها . قد تكون هذه التفاحات ثلاثا وقد تتجاوز ذلك ، وقد استعملها قبل ابن بطوطة العبدري في رحلته الحجازية . ولعل اللفظ مأخوذ من جامور النخلة وهو جمارها .
الجاوي III ، 234 IV ، 228
نوع من البخور ينسب إلى مدينة جاوة ، ويستعمله المغاربة في المناسبات الدينية ، في ليلة القدر من شهر رمضان مثلا .
الجبذ I ، 340
يستعمل الجبذ في المغرب بمعنى الجذب .
الجزار III ، 380
يستعمل في المغرب عوض القصاب .
الجفن II ، 350
في اصطلاح رجال الأسطول المغربي يعني قطعة من قطع الأسطول ، وقد تجمع على أجفان، راجع حديث الجزنائي في زهرة الآس عن ميناء خولان بضواحي مدينة فاس.
الجلاس II ، 163
وعاء من معدن أو فخار يجلس عليه لقضاء حاجة الإنسان .
الجلبان III ، 131 IV ، 335
عندما يذكر ابن بطوطة البسيلا المصرية يقول: إنها صنف من الجُلبانُ يريد بذلك تعريف المغاربة بما عندهم بما عند الآخرين.
الجُمعة II ، 286
نعرف أن الجمعة هي اليوم السادس من الأسبوع ، لكن ابن بطوطة يستعمل اللفظ أحيانا على نحو ما يعرفه المغاربة مما يني:الأسبوع، فمعنى قوله أنهم يحضرون ما يكفيهم للجمعة أنهم يستعدون لما ينفعهم طوال الأسبوع ، وعندما يقال في الجمعة القابلة يكون القصد في الأٍسبوع المقبل .
جوز الطيب II ، 186
هذه المادة التي تدخل في إطار التوابل عند المغاربة مجلوبة من الشرق لكنها معروفة بالمغرب بهذا الاسم وقد شبه بها ابن بطوطة الفوفل الهندي .
الحانوت II ، 81
بينما نجد أن الحانوت في اللغة العربية تعني دكان الخمار نجد أن ابن بطوطة يستعملها بالمعنى المغربي الذي يعني المتجر الذي يباع فيه ما يحتاج الناس إليه .(95/10)
حب الملوك II ، 391 – 1 ، 186-185
هذا هو الفاكهة التي تشبه حبات العنب والمعروفة في الشرق تحت اسم الكرز (CERISE) ، وللمغرب احتفال سنوي اليوم بظهور حب الملوك . يقيمونه في مدينة صفرو القريبة من فاس .
الحريرة III ، 131
نوع من الحساء يمتاز بثرائه في المواد التي يتألف منها ، وهي مشهورة عند المغاربة وبخاصة عند الإفطار أيام رمضان، وتكون مع الكسكسو الصحن الرئيسي في الديار المغربية ، ولها أصل في اللغة العربية .
الحزب I ، 40
استعمله ابن بطوطة بمعنى الورد والدعاء ، وليس الفرقة أو الجماعة وهكذا استعملها عندما تحدث عن حزب البحر للإمام الشاذلي .
حنيشة الجنة III ، 103
ذكرها ابن بطوطة وهو يتحدث عن تناول أهل جناني ( الهند ) للسقنقور ، وقال : إنها دويبة شبيهة بأم جبين التي يسميها المغاربة حنيشة الجنة إلا أنها لا ذنب لها .
الحصير I ، 51-11 ، 164
يستعمل كثيرا في المغرب ويعني به الفراش من الدوم أو الديس أو الأسل ويختلف شكله من جهة إلى أخرى بالمغرب ويجمع على حصر أو حصاير .
الحسك III ، 79 – IV ، 3
جمع الحسكة : عبارة عن أداة تحمل الشمع ، يغرزونه في بعض قناتها أو قنواتها المتعددة ، وعندما ذكر ابن بطوطة الشمعدانات قال : إن أهل المغرب يعرفوها بالحسك .
الحضرة II ، 6
استعملها ابن بطوطة بمعنى العاصمة وأهل الحضرة في اللغة خلاف البادية .
الحوت I ، 109 – II ، 426 – IV ، 170
الحوت عند المغاربة يطلق على السمك بسائر أنواعه ، ولا يختص كما هو الحال عند المشارقة بالسمك الكبير الذي ابتلع سيدنا موسى ! والحوات صياد السمك أو بائعه .
الخابية IV ، 251
نوع من الأواني التي يخزن فيها نحو السمن والزيت والخليع وتجمع على (خوابي) وتستعمل بكثرة عند المغاربة حتى في أمثالهم الشعبية .
الخرشف IV ، 240
نوع من الخضر المحببة عند المغاربة وثمره هو ما يعرف عندهم باسم (القوق) أو (الأرتشو) شبه بأوراقه أغصان شجر اللبان.
الخليع IV ، 138(95/11)
معروف عند المغاربة ، وهو عبارة عن قديد يطبخ بالتوابل في الزيت والشحم بعد تيبيسه ويُصبَّر ، ويتخذ منه المغاربة زادهم وخاصة أيام الشتاء وقد ورد ذكره في كتب التاريخ على أنه يتزود به في الأسفار والحروف وحالات الحصار .
الخصة II ، 136
حوض ينبجس منه الماء : الفوارة أو الفسقية .
الخواجة II ، 116
كلمة تعني ، كما يبدو التاجر أو الغني ، وما يزال اللفظ معروفا بالمغرب ، ولو أنه يعني في المشرق الأوربي أو المسيحي .
ذراعة III ، 186
لباس يرتديه المغاربة بدون أكمام ، تكون فوق الألبسة الوسطانية ، ويظهر أن الاسم آت من أن مرتديها يكون مكشوف الذراع.
الدكانة II ، 174
مرتفع يجلس الناس عليه يشرف على موقع معين وتجمع على دكاكين وهي غير الدكان.
دوالي العنب II ، 205
جمع داليه والمغاربة يسمون أشجار العنب داليه ، وليس الكرم الذي يطلق عليه عندهم التين أو الكرموس .
الدويرة IV ، 232
تصغير دار وغالبا ما يقصد بها المطبع أو (المشتمل) .
الرب III ، 23
(بضم الراء) مشروب يتخذ من العنب أو التمر ، وقد عرف استعماله عند المغاربة منذ عهد الموحدين في العصر الوسيط، ومايزال باب في مدينة مراكش يحمل اسم باب الرب وقد دخل اللفظ لغة قشتالة .
الرتب IV ، 348
جمع رتبة بمعنى الأتاوة ، في حديثه عن العاهل المغربي أشار إلى الرتب التي تؤخذ في الطرقات يعني الضرائب ، وما يزال الآن اسم الترتيب يعني حقوق الباب .
الرجل I ، 215
يطلقه ابن بطوطة على الزوج فيقول مثلا: هذا رجلها أي زوجها والمغاربة إلى الآن يستعملون هذا التعبير .
الرشوة III ، 12
استعملها كشيء ممنوع ومحرم في بعض الجهات .
الري III ، 318 – IV ، 18
يستعمل ابن بطوطة هذه الكلمة القشتالية التي تعني الملك ونحن نعلم عن صلة الرجل بالأندلس وتأثره بلغة جيرانه .
زاد المال II ، 201
اسم لبعض الجواري،وقد لاحظ الرحالة أن هذا الاسم يتحد فيه العمانيون والمغاربة باعتبار أن صنهاجة من أصل عربي .(95/12)
الزاوية العظمى IV ، 352
يطلق ابن بطوطة الزاوية العظمى على معلمة حضارية هامة اختفت نتيجة الإهمال ، ويتعلق الأمر بدار ضيافة عظيمة كانت مبنية على ساحل وادي فاس .
الزبانية III ، 301
يطلقها على حراس الملك واللفظ يستعمل اليوم أيضًا لهذا المعنى وهو من أصل عربي.
الزردخان IV ، 404
نوع من القماش يعرف بهذا الاسم إلى ما قبل عهدٍ قريب .
الزلّيج II ، 225-130
تشكيلة جميلة من قطع الخزف هي ما يسمى في المشرق بالقاشاني ، والمحترف لهذه المهمة يسمى الزلايجي .
طابق اللحم II ، 342
يطلق ابن بطوطة كلمة طابق على نصف الخروف أو نحوه ، والعبارة ولو أن لها أصلا عربيا لكنه تنوسي وبقيت آثاره بالمغرب .
الطاحوني II ، 380
يستعمل في المغرب عوض الخراص .
الطارمة II ، 353
بيت من خشب يكون في غرفة أو حجرة، ويظهر أن أصل اللفظ فارسي .
الطاقية III ، 48
غطاء الرأس وتجمع على طواقي .
الطريدة III ، 109
مركب نهري أو بحري ، وقد استعمل المغاربة هذا اللفظ وعرف عنهم .
الطفل III ، 57-56
نوع من الطين يستعمل كالغاسول معروف بهذا الاسم في الشمال .
الطيفور II ، 285-391
يجمع على طيافير : عبارة عن مائدة كبيرة يجعل فيه نحو الفواكه أو الطعام أو حتى بعض الحلويات ويكون لها غطاء يحتفظ بطراوتها وشكلها .
الظهير I ، 421-25 – II ، 34
يستعمل في المغرب بمعنى المرسوم الملكي ويجمع على ظهائر وليس على ظهراء ، وقد كان أول تأليف مغربي ذكره بهذا الاسم ، حسب علمي ، هو ابن صاحب الصلاة في كتاب المن بالإمامة الذي يتناول تاريخ الموحدين .
الكركم II ، 103
نوع من التوابل يُحرفه المغاربة إلى الكركب (بالباء) يستعمل أحيانا عوضا عن الزعفران عندما يعز وجود هذا !
الكمْخة III ، 87
نوع من القماش ما يزال يحتفظ بهذا الاسم ، ذكره ابن بطوطة ضمن الهدايا عندما تحدث عن سفارته للصين نائبا عن ملك الهند .
الكعك II ، 304-218 – III ، 11(95/13)
وربما ينطق به المغاربة بالحاء بدل العين ومنه لقب الكحاك والكعاك إلخ .
الكشكول II ، 2
عبارة عن ظرف يستعمله الفقراء في الاستجداء .
الكْسكْسُو IV ، 394
هكذا ورد ذكره في الرحلة بتقديم الكاف على السين وليس الكُسكس كما أطلق عليه ذلك من قبل بعض الناس وهكذا أيضًا ورد اسمه مكتوبا في المصادر الطبية على عهد الموحدين في العصر الوسيط.
اللحاف III ، 380
الفراش عند المغاربة ويجمع على لحوف.
الليمون أو الليم المصير II ، 185
يُعنى به الليمون المصبر ، وقد اعتاد المغاربة أن يصبروا الليمون في الملح ، يجعلونه مع الزيتون المصبر على صحون خاصة من الطعام كمقبلٍ من المقبلات.
اللُّبان ( حصا ) II ، 214
يطلق المغاربة كلمة ( حصا لبان ) على المادة العطرية التي تأتينا من عُمان، يستعملونها للبخور كما يستعملونها كدواء للبحة وإصلاح الصوت، واللفظة متداولة جدًا بين أبناء المغرب.
ماء الزهر 111 – 231 - 130
يطلق ماء الزهر عند المغاربة على الزهر الذي يقطفونه في إبانه وكانت الأسر المغربية تتوفر على قطارات يستعيرونها فيما بينهم حتى تتوفر كل أسرة على نصيبها من هذه المادة العطرية طوال أيام السنة.
ماء الورد I ، 417-247
ما قلناه عن ماء الزهر نقوله عن ماء الورد مع ملاحظة أن الأول يستعمل عند الحاجة إلى ما يبعث الحرارة في الجسم بينما يستعمل ماء الورد إبان فصل الصيف لأن من طبيعته التبريد .
المارستان IV ، 347
يستعمل المغاربة هذا اللفظ محرفًا عن البيمارستان ويعنون به المستشفى وخاصة ما يعني المرضى بالأعصاب . وتتوفر بعض العواصم المغربية على مارستانات .
مانع II ، 420-349
هذا النعت يطلقه ابن بطوطة بمعنى صعب، جبل مانع : صعب التسلق ، رجل مانع صعب المزاج .
المتسبب IV ، 373
هو التاجر،لأنه يأخذ بالأسباب ليربح عيشه.
مَتيِّجَة I ، 17(95/14)
هذا علم جغرافي لبعض المواقع المعروفة في المغرب الأوسط ، وقد تعمدت ذكره هنا لأن بعض الناشرين توهموه أداة نقل وركوب لدى المغاربة وذلك عندما قال ابن بطوطة : توجهنا على متيجة إلى جبل الزان !
المحلة II ، 70
يطلقها ابن بطوطة على الفيلق العسكري المقيم في جهة من الجهات لحماية المواقع، ونحن نعرف الحديث عن محلة السلطان في كتب التاريخ .
المجشر III ، 400
أو المدشر ، أو الدشر بمعنى الدوار أي المجمع الذي تقيم فيه فخذة قبيلة أو جماعة، ويجمع على مداشر .
المحتسب II ، 184
هذا لقب إداري وظيفي نعتقد أنه اختفى في العالم الإسلامي اليوم وظل ابن بطوطة يردده لأنه كان ببلاده ، وللتاريخ نذكر هنا أن اللقب ما يزال حيًّا حاضرًا في بلاد المغرب الأقصى .
المرتبة II ، 393
هي التي يحرفها المغاربة إلى مضَرْبة : كما سيأتي .
الملْف II ، 311
نوع من الجوخ ظل معروفا منذ تاريخ جولات ابن بطوطة ، ونعتقد أن اللفظ منسوب إلى مدينة أمالفي الإيطالية التي كان المغرب يستورد منها هذا النوع الرفيع من القماش .
المخزن III ، 290-185
المخزن يطلقه ابن بطوطة على الحكومة المغربية،وهو تعبير عرف منذ العصر الوسيط وما يزال مستعملاً إلى اليوم، وكلمة المخزني تعني الحارس ويجمع على مخازنية .
المِصرية IV ، 93
تعني في المغرب الدويرة الصغيرة التي تكون تابعة للدار الكبرى يأوي إليها شباب الأسرة أو يستقبل فيها رب الأسرة أصدقاءه ، وقد وردت بكثرة في النصوص المغربية ، وربما كان الاسم آتيا من اختراع أحد المغاربة الذين وجدوا هذا النوع من السكن موجودا بمصر . وتجمع على المصاري أو المصريات .
المضربة III ، 380
عند المغاربة فراش للجلوس والنوم ، أنظر مادة المرتبة .
المقَيَّرة IV ، 12(95/15)
من الكلمات التي حيرت التراجمة والناشرين فراحوا يبحثون عن أصلها في اللسان الفارسي ، ومنهم من قرأ الكلمة منيرة بالنون ، والكلمة بالمغربية مُقَيَّرة أي إنها وسخة كأنها مطلية بالقار ، بمعنى الزفت . والمغاربة إلى اليوم يقولون ثوب مُقيَّر ويعنون ثوبا تركبه الأوساخ .
المسفِّر IV ، 246
يعني المجلد ، وقد دأب المغاربة على نعت الكتاب بأنه مجلد ويسمون الذي يقوم بعملية التسفير مُسَفِّر … والسفر الجزء من الكتاب .
المشْوَر II ، 428-235
III ، 289-288-278-271-10
كلمة تطلق عند المغاربة على الساحة القريبة من القصر الملكي لأنها كانت مجمعًا للشورى ، وتستعمل كثيرًا في كتب التاريخ المغربي .
مينا سبتة II ، 349
كلمة ( مينا ) تعني أنف جبل سبتة ، قارن بينه وبين أنف جبل صنوب .
النبق III ، 125 – IV ، 394
تحدث ابن بطوطة عن النبق على أنه من الأشجار المعروفة ببلاد المغرب وتحدث عن دقيق النبق كذلك ، وهو أي دقيق النبق معروف وخاصة في تارودانت بالجنوب المغربي .
النقرة IV ، 335-334
يطلقها ابن بطوطة على الفضة وينعت بها، كما رأينا – دراهم النقرة .
النوبة III ، 70
يطلقها عن الدور ، حانت نوبة فلان أي دوره .
صاحب العلامة III ، 35
هذا التعبير أيضا حير بعض الناشرين الذين رأينا منهم من ظن أن العلامة هي بتشديد اللام فقرأها على أنها العالم الكبير ! والواقع أنها تقصد إلى وظيفة سامة في الدولة تعني الكاتب الخاص الذي يرسم التوقيع الملكي .
صاحب السجادة II ، 293-292
الموظف المكلف من قبل القصر يحمل السجادة التي يصلي عليها العاهل ، ويشبه الوظيف(صاحب الصلاة)في العصر الوسيط.
الصاري IV ، 146(95/16)
الصاري العمود الذي يكون وسط المركب ويتصل به عود يدخل فيه ويسمى هذا العود بالقرية وقد جاء في تعبير لابن بطوطة أن الركاب ذات مرة يئسوا من الحياة ، بعدما شاهدوا من اضطراب البحر، فرموا بالصاري ورموا بالقرية بفتح القاف وكسر الراي على وزن هدية ، وليس القصد إلى القربة بالباء كما فهم بعض الناشرين !
الصحفة I ، 238
ج صحاف تستعمل عند المغاربة عوض الصحن الذي يخصونه بصحن البيت أو المسجد .
الصعتر II ، 164
نبات مشهور لا يخلو بيت مغربي منه يستعملونه في الطبخ وفي التعطير وبعضهم ينطق به زايا عوض الصاد .
الصفصاف III ، 191
يستعمل المغاربة هذا الاسم في الشجر المعروف بطوله وهندامه . وكثيرا ما يغرس عند الحدود بين ملكية ( بكسر الميم) وأخرى .
الصقورة III ، 65
عصابة كانت معروفة بالمغرب على عهد ابن بطوطة تتألف من بعض ذوي الأطماع والأغراض الخاصة تقوم بالإغارة على من تقصده لإرهابه أو تصفيته ، وربما كان لهم شبه بطائفة (الفداوبة) التي تحدث عنها ابن بطوطة في المشرق ( I ، 162-171-167) . ولفظ الصقورة يعني جمع صقر : الطائر المعروف بانقضاضه على فريسته من حبار وما شبابه .
الصومعة II ، 358
يطلق المغاربة الصومعة في الغالب على المئذنة أو المنارة ، وتجمع على صوامع التي يكثر استعمالها عن المشارقة على مدلول آخر: منارة الرهبان …
الصينية II ، 76
عبارة عن آنية منبسطة أغلب ما تكون من الفضة ، ولا ندري أصل إطلاق هذا الاسم على الصحن . وهذه من الألفاظ التي تربط المغاربة بالصين على نحو ما يربطهم الشاي الأخضر !
العفصة III ، 125
يعرف المغاربة هذا النوع من النبات . ولذلك شبه به ابن بطوطة نبق الصين الذي يقصد به ما يسمى في المغرب الزفزف وفي المشرق العناب .
العود القماري III ،234 – IV ، 167 ، 240(95/17)
نوع رفيع من الطيب الذي ولع به المغاربة من قديم وكانوا يرسلون التجار لاستيراده من قمار بالهند ، ويستهلكه المغاربة بكثرة رغم ارتفاع ثمنه ، وفي علامته يقول أحدهم :
ثلاثة في العود محمودة
... وتلك في العنبر لا تحمد
صلابة فيه وثقل به
... ولونُه الأسود الحالك !
العولة
عبارة عن الزاد الذي يختزنه المغاربة في إحدى الحجرات من سمنٍ وزيتٍ وخليع وفواكه مجففة .
الغالية IV ، 116
من أنواع العطور التي دأب المغاربة على استعمالها وخاصة في بعض المناسبات الخاصة .
الغيطات II ، 482-126 – III ، 110
جمع غيطة آلة طرب حادة الصدى يستعملها شمال المغرب بكثرة ، والشخص الممارس لها يحمل اسم الغياط على نحو النفار الذي يستعمل النفير .
الفَرَجية II ، 376 IV ، 220-219
نوع من الثياب يلبس فوق اللباس الوسطاني ، والتسمية آتية من أن هذا اللباس يحتوي على زرر تفرج عند الحاجة، وليست لباسا للرأس كما فهم بعض الناشرين !
فرق II ، 409
استعملها المغاربة بمعنى وزع والمصدر التفريق فمعنى فرق عليهم العطايا أو الهبات: أي وزع عليهم الصلات .
الفرشك I ، 359
كلمة يستعملها المغاربة إلى الآن في الفاكهة الطرية ، يحرفونها إلى (فريشك) . ويقول صاحب تاج العروس أنها تعنى الخوخ . وذكرت بعض المصادر أن أصل الكلمات يوناني وقد ورد ذكر اللفظ في الاتفاقيات "المغربية الدولية " .
الفُقاع III ، 207-124
هذا من المواد التي حيرت المعلقين عجما وعربا ، وهي تعنى بكل بساطة الفطر أو الكماة ، وينطق المغاربة القاف كافا معقودة لكن زملاءنا رأوا فيها ما يوحي بأنه نوع من النبيذ ونحن نعلم عن رأي أهل الهند في الملوك الذين يشربون الخمر .
الفقوص IV ، 435-392
هو ما يسمى في المشرق بالقثاء ، وهي فاكهة صيفية على ذلك العهد لأنها تبرد الحرارة، وقد يبدل المغاربة صاده إلى سين.
الفوطة II ، 199(95/18)
دأب المغاربة على إطلاق هذا اللفظ على القطعة من الثوب الذي يحرم بها الحاج أو ينشف بها الجسم عند الخروج من حمام وتجمع على فوط .
قاقلة IV ، 144-240
هذا علم جغرافي لمدينة جنوب المعبر (الهند) ، أوردته هنا لأذكر أن المغاربة يحتفظون بذكره على أنه مورد لمادة منبهة عطرة يستعملونها في أطعمتهم مع تحريفها إلى (قاع قلة ) وهي ما يسمى عند المشارقة بالهيل الذي يضيفونه إلى القهوة.
القبرية II ، 15
القبرية هي شاهد القبر الذي يتضمن اسم الميت وتاريخ وفاته وقد خفيت الكلمة على بعض الناشرين فصوبها إلى تبرية وقالوا : إنها نسبة إلى التبر .
القرة IV ، 351
تعنى (الكثيرا) باللفظ القشتالي الأجنبي وتستعمل عند المغاربة اقتباسًا من جيرانهم، وقد خفيت على بعض الناشرين تحولوها إلى كلمة الغزاة !
القنصار IV ، 351
كثر تفسير الناس للقنطار . ويعطيه ابن بطوطة تفسيرا هو الذي كان المغاربة يعرفونه في عصره ، ويعنى عشرة آلاف دينار وليس يعنى ما يعنيه القنطار اليوم في استعمالنا .
القصبة IV ، 296
يستعملها ابن بطوطة على نحو ما هي عند المغاربة : المدينة التي يقيم فيها الحاكم ، أي العاصمة فإذا قال : إن هذا المكان هو قصبة البلاد فإنه يعنى أنها مصدر الحكم ، وما تزال كلمة القصبة سارية إلى الآن على اللسان .
القفة I ، 345
كلمة تعنى الكيس من الدوم الذي تجعل فيه الأغراض وتجمع على قفف .
القفطان I ، 150 – II ، 381
لباس يرتديه النساء والرجال على السواء ، والكلمة متداولة وتعنى ما تعنيه كلمة الفستان في المشرق وأصلها تركي .
القسطل II ، 324
يتحدث عن كثرة القسطل بتركيا وهو معروف بالأندلس والمغرب ، وربما نطق به المغاربة قسطال .
القيسارية I ، 151 – III ، 4
كلمة مستعملة بالمغرب في كل مدينة على الخصوص وتعني السوق الذي تحيط به الأسوار حيث يتجمع معظم التجار على اختلاف بضاعتهم من لباس أو ما شابه، والكلمة كما هو معروف من أصل يوناني.(95/19)
السبنية IV ، 142
لفظ يستعمل إلى الآن في المغرب ، ويعنى شبه منديل تحفظ فيه الألبسة ويجمع على سباني أو سبنيات .
السبيل I ، 112
يستعمله بمعنى الوقف أو الحبس ، ساقية السبيل أو جنان السبيل بمعنى أن للعموم الاستمتاع به .
السردين II ، 197
نوع من السمك الصغير ، وقد استعمل اللفظ في عدة لغات وبما أن ابن بطوطة أتى طنجة فقد كان يتتبع الحديث عن السردين الذي استغرب من أن أهل ظفار يطعمونه دوابهم !
السماط I ، 206
استعمله ابن بطوطة بمعنى الصف من الدكاكين ، وقد عرف بفاس سماط العدول يعني الحوانيت الذي يباشر فيها العدول مهامهم .
السنداس IV ، 93
كلمة مغربية تعني ثقب المرحاض .
الشاشية II ، 56 – III ، 34 – IV ، 407
هذا اللفظ ما يزال يستعمل بالمغرب على نحو ما استعمله ابن بطوطة من غطاء الرأس يكون على شكل هرمي ويجمع على شواشي وتنسب إلى مدينة شاش على ما يبدو .
الشريحة II ، 45
استعملها ابن بطوطة على نحو ما يستعمل بالمغرب إلى اليوم ، التين تشرح وتيبس لتقدم في الفصول التي لا يتوفر فيها التين.
الشكارة III ، 352
وعاء من الجلد تحفظ فيه النقود وغيرها مما هو ثمين ، وأصلها آت من الشكر لله على ما أعطى .
الشقاشق IV ، 413
جمع شقشاق ، وهو طائر " معروف " بالمغرب ، وربما أطلقه أهل تلمسان على بلارج .
الشيخ II ، 183
يعني في الاصطلاح المغربي بالنسبة لفترة بنى وطاس ، أواخر بني مرين ، الملك والسلطان، ويظهر أن استعمال هذا اللفظ بذلك المعنى أتى للجزيرة العربية من إفريقيا الشرقية وبالذات مقديشيو على ما أسلفناه من التقديم .(95/20)
تلك طائفة من الكلمات المستعملة في المغرب تصل إلى مائة وخمسة وثلاثين كان فيها ما هو مغربي صرف وفيها ما له أصل في اللغة العربية إذا ما حاولنا مقاربته بما يوجد في المعاجم ، وفيها ما هو مقتبس من لغة ثالثة ليست مغربية ولا عربية ، وقد أغفلت ذكر بعض المفردات مما تردد الرأي فيها بين نسبتها إلى هذا الصنف أو ذاك ، وإني لمدين لكل من صوب أو حذف أو أضاف ، فلقد كان المهم عندي أن أؤكد أن المغرب ظل حاضرا في ذاكرة ابن بطوطة ، وأنه أي ابن بطوطة لم ينتظر معرفة البديل باللغة العربية ليكتب
مذكراته ولكنه كان حريصا على أن يعجل الفائدة لقرائه ، ومن هنا ساغ له أن يركب متن الاستعمال الدارج محترما في ذات الوقت القواعد العربية كما هي معروفة عند سائر الناس في المشرق والمغرب وبذلك استطاع الحفاظ على الأصالة من جهة ، وقدم لنا فكرة عن القاموس المغربي المتداول من جهة أخرى .
عبد الهادي التازي
عضو المجمع من المغرب(95/21)
الإطار الجديد
تقنيات المعلومات تتجاوز حدود المكان وتتيح الصلة عبر الأقطار والقارات.
حركة الترجمة تمثل رافدًا مهما لمتابعة الجديد في العالم ، ومن الضرورة أن تكون العربية لغة التعبير عن الجديد .
المعلومات التوثيقية أصبحت متاحة في المكتبات الكبرى في دول العالم المتقدمة في إطار شبكة قوية تمكن من المشاركة في المعلومات .
المنطقة اللغوية العربية تضم مجامع لغوية وعلمية متعددة وجامعات كثيرة وهناك رغبة في التعاون والتكامل .
بنوك المصطلحات في عدة دول متقدمة قدمت على مدى نحو ربع قرن خبرة واضحة في توحيد
المصطلحات وتقنينها في اللغات الأوروبية.
المهام المتزايدة لمجامع اللغة العربية:
استمرار المهام التقليدية للمجامع : إعداد المعاجم، إثراء اللغة بالألفاظ والأساليب ،تيسير النحو التعليمي، المسابقات الأدبية،وتناقص الاهتمام بالبلاغة (قارن خطة الأكاديمية الفرنسية 1635م ومجامع اللغة العربية بدمشق ثم القاهرة وبغداد وعمان والمجامع الجديدة).
نمو المتطلبات اللغوية للحياة المعاصرة في إطار تقدم العلم واستيعاب التعليم والإعلام لملايين الأفراد .
تزايد الاهتمام بضرورة التخطيط اللغوي للحفاظ على وحدة المنطقة اللغوية العربية لمواجهة الانقسام والضياع في نسق المنافسة العالمية .
التقنيات المتقدمة :
تتيح التقنيات المتقدمة في مجالات المعلومات درجة عالية من السرعة في الاتصال بين منتج المصطلح والمستفيد منه ، مع ضمان التجديد الدائم للمصطلحات والمعلومات المصطلحية والشمول في التغطية الموضوعية .
الإمكانات التقنية ممكنة بتكلفة عالية في حالة الإفادة عبر الدول والقارات من البحث الآلي المباشر (Online ) ، ويمكن أن تقتصر هذه الطريقة على المؤسسات الكبرى.
تخزين المعلومات (المصطلحات والمعلومات المصطلحية ) على الأقراص المكتنزة ( CD-Rom ) ذات الإمكانات الهائلة يجعل الإتاحة سهلة وزهيدة التكاليف.
معاجم المصطلحات :(96/1)
من المفيد إتاحة المصطلحات التي أقرتها مجامع اللغة العربية ( نحو 100.000 مصطلح ) من خلال الأقراص المكتنزة ، لأغراض خدمة المستفيدين .
من الممكن إتاحة المصطلحات التي وافقت عليها مؤتمرات التعريب .
من الممكن لأغراض البحث تخزين كل المصطلحات المتداولة مصنفة بأكثر من طريقة للنظر فيها والإفادة منها بعد إقرار المناسب منها.
التنمية الدائمة للمعجمات :
أصبحت المعجمات العامة الصادرة عن جهات علمية في العصر الحديث أعمالا قابلة للنمو والإكمال والتجديد . ويحقق تخزين كل معجم ، وما يتضمنه من مداخل وشروح في الحاسب ، أن يتم عمل التعديلات بشكل دوري وهكذا تتاح طبعة جديدة في كل عدد من السنين.
المعجمات المصطلحية للعربية مع لغات أخرى يمكن تنميتها وتجديدها بمتابعة المعجمات الجديدة في العالم بالطريقة نفسها.
المصطلحات في الحاسب :
يمكن تخزين المصطلحات في الحاسب طبقًا للمواصفات الحديثة المتعارف عليها في علم المصطلح، وذلك في إطار تصنيف محدد للفروع التخصصية ، يأخذ المصطلح مكانه في منظومة مصطلحات التخصص . وقد تتعدد مواقعه في حالة استخدامه في تخصصات متباعدة . ويكون مع كل مصطلح مقابلاته بلغات أخرى ، مع مجموعة المعلومات المعرفة للمفهوم والمحددة لدلالة المصطلح .
التعاون الدولي في بنوك المصطلحات ممكن ويوفر جهدًا كبيرًا ، وذلك بالإفادة من الجهود المبذولة في الحصر والتعريف والمقابلات ، ويكون العمل العربي هادفًا إلى إيجاد المقابلات العربية.
القضايا والقرارات اللغوية :
القضايا اللغوية المتاحة في كتب النحو واللغة والمعاجم يمكن أن تخزن وتصنف بطرق مناسبة لتتاح للمستفيدين بطريقة سهلة .
قرارات المجمع في أصول اللغة والألفاظ والأساليب وغير ذلك تكون متاحة أيضًا من خلال التقنيات المتقدمة .
المهام التسجيلية :
يقتصر التسجيل الميداني لألفاظ المهن وغيرها على خدمة أغراض البحث في المجامع والجامعات .(96/2)
تكون المتابعة اليومية لمطبوعات مختارة من كل الدول العربية بهدف رصد الجديد وتقديمه للجان المختصة ببحثه لاتخاذ قرارات بشأنه ، وإتاحته بعد إقراره بشكل مناسب وعاجل .
المدونة العربية :
استكمال الثروة العربية من المفردات والتراكيب من خلال رصد واسع للاستخدام الحقيقي عند أعلام التأليف وغيرهم على مدى القرون أصبح عملا ممكنًا بالإفادة من التقنيات المتقدمة على نحو أسهل مما كان متعارفًا عليه من قبل . وهذا عمل جليل وجدير بأن تخطط له المجامع اللغوية .
يمكن توزيع مهام تسجيل هذه الثروة اللغوية على عدة مؤسسات عربية تعمل في داخل أقطارها بتخطيط وتنسيق وإشراف من المجامع اللغوية . ويتكامل العمل بعدة طرق ومن خلال تقنيات متقدمة .
المعلومات اللغوية والمصطلحية :
يشارك أيضًا في تقديم المعلومات اللغوية والمصطلحية :
الباحثون اللغويون في الجامعات ودور النشر المتخصصة في المعجمات ، وذلك بهدف إثراء الثروة اللغوية والمصطلحية بإرسال ما لديهم للبحث ، ولا يتاح للاستخدام العام إلا بعد البحث والإقرار.
المترجمون يقدمون اقتراحاتهم في ضوء خبرتهم المباشرة في مجالات تخصصهم ومجالات ترجماتهم ، ولا تتاح المصطلحات المقترحة للاستخدام إلا بعد البحث والإقرار.
المستفيدون :
يستفيد من إتاحة هذا الرصيد الكبير الذي أقرته أو تقره المجامع فئات من المتعاملين بالمصطلحات ، وفي مقدمتهم:
أ- المترجمون . ... ب- المؤلفون .
ج-الباحثون اللغويون .
د- الباحثون التخصصيون .
هـ المنظمات الدولية .
ز- الناشرون ومؤلفو المعجمات .
ح – الإعلاميون .
العلاقة مع المؤسسات المعنية بوضع المصطلحات :
تكون خطة التنفيذ في المقام الأول في إطار شبكة تجمع المجامع اللغوية ومكتب التعريب بهدف تكامل الجهود.
إتاحة المصطلحات المعتمدة يكون لفئات المستفيدين من خلال البث المباشر في شبكة محلية أو من خلال الأقراص المكتنزة .
العلاقة مع الجامعات :(96/3)
تكون الإتاحة المباشرة للمصطلحات لخدمة الجامعات على نحو يجعل المدة الفاصلة بين إقرار المصطلح في المجامع وإتاحته للمستفيدين تقل إلى الحد الأدنى.
إتاحة هذه المصطلحات على المستوى العربي بشكل موحد يقضي – إلى حد بعيد – على اتجاهات الانقسام .
شبكات المعلومات :
دخول هذه المصطلحات إلى
شبكات معلومات دولية يكون قياسًا على ما يتم حاليًا في المعلومات الببليوجرافية .
دخول هذه المصطلحات المعتمدة إلى شبكات المعلومات يمكن من إتاحتها – أيضًا – للأفراد ، وفي مقدمتهم : المترجمون ، المؤلفون ، والباحثون من مختلف فئاتهم ، والإعلاميون وغيرهم من يتطلب عملهم الإفادة من هذه المصطلحات ذات الأهمية المتزايدة في الحياة المعاصرة .
محمود فهمي حجازي
عضو المجمع(96/4)
1- المجامع أكاديميات لتعريب لغة العلم:
منذ نشرت بأهرام 25 مارس 1997م قرارات الدورة الثالثة والستين لمؤتمر مجمع اللغة العربية مؤكدة على لسان رئيسه الدكتور شوقي ضيف أن تعريب العلوم الغربية في جامعاتنا مطلب مصيري – يؤيده في ذلك رئيس مجمع الأردن د.عبد الكريم خليفة ورئيس مجمع السودان دكتور عبد الله الطيب وغيرهما … وتقرير أمين المجمع الأستاذ إبراهيم الترزي أن قضية التعريب شغلت المجمع منذ دورته الأولى عام 1934م وحتى الآن… وتطمين الدكتور حسين كامل بهاء الدين – الذي ترفع إليه بحكم منصبه قرارات مؤتمر المجمع السنوية الذي يفتتحه – أن وزارة التعليم تعمل على تحديث اللغة العربية وتطويرها ، وذلك بتيسيرها على الدارسين دون إخلال بقواعدها أو خروج على مراميها وأهدافها …".
توالت منذ نفس اليوم وفي نفس الصحيفة (أهرام 25 مارس 1997م) الحملات على مجمع اللغة : ممثلا في رجاله :" هل المجمع اللغوي وقف على الشيوخ الذين لا يُسلِّم الواحد منهم حتى يودع" … وفي أعماله : مطلوب ثورة في مجمع اللغة العربية ( الشعب 22/4/97) – في أعقاب مؤتمر تعريب العلوم الثالث بجامعة عين شمس – الذي يسأل المجمعيين : كيف تختارون الأعضاء والخبراء … رحمكم الله ، وفي بطء إجراءاته : المجمع يحتاج إلى 400 سنة لإنجاز معجمه الكبير إذا استمر أداؤه بنفس الأداء الحالي … (كمحاكمة) لمجمع اللغة العربية في المجلس الأعلى للثقافة (الوفد 3 مايو 1997) – حيث كان احتجاج الدكتور كمال بشر على مكان عقد الندوة (الذي يفترض أن يكون المجمع وليس المجلس ) وإشارته إلى تهامس البعض بسعي المجلس لسحب البساط من تحت أقدام المجمع فيما يتعلق بقضايا اللغة العربية، بدليل إعلان د. جابر عصفور في افتتاح الندوة عن تعاون وشيك بين المجلس ووزارة التعليم فيما يتصل بهذه القضية – التعاون الذي كان أجدر به أن يتم بين المجمع والوزارة .(97/1)
فعلى خلاف الدراسات الموضوعية الجادة لقضايا اللغة العربية ، الغَيورة على "تحديث اللغة وتحديث الفكر " و "إنقاذ اللغة من الجمود والعزلة عن الحياة " باستشارة عقول أكبر من عقول اللغويين الخُلَّص في أمر ما يُدرس للناس " – الأمر الذي لا يقضى فيه ببعض التوصيات … للأستاذ الدكتور مصطفى ناصف ؛ إلى جانب رابع وخامس المقالات العلمية المتقدمة للأستاذ سامي خشبة عن الإيديولوجية اللغوية المصرية التي سبقت تكون الأيديولوجية القومية العامة لدى المثقفين المصريين الحداثيين الأوائل كتعبير عن الهوية الثقافية الحقيقية للمصريين (الأهرام 29/11/1996) … تجنح مقالات أخرى إلى الاتهام الصارخ لوزارة التعليم بأن سعي الدكتور شوقي ضيف (بشجاعة يندر أن نجدها عند غيره ) إلى جعل التعليم في جامعاتنا عربيًا ؛ بأن المشكلة ليست في المجمع ، ولكن في القرار السياسي الملزم الذي (تؤيده) الحكومة – حتى لا (تُدفَن) قرارات المجمع في وزارة التعليم ( الأخبار 24/7/1996).(97/2)
وفي (محاكمة) مجمع اللغة العربية بالمجلس الأعلى للثقافة عن " حاجة المجمع إلى 400 سنة لإنجاز معجمه الكبير إذا استمر أداؤه بنفس المستوى الحالي " الذي اعترف الرئيس الجديد للمجمع (لمراسل الأخبار 24/7/96) أنه هو الذي أوقف العمل به رغم وفرة الميزانية المخصصة له اعتراضًا منه (بعنف) على خطته الحالية وعدم اتفاق الإنجاز مع الإنفاق … لكي يعاود العمل في بدء الدورة بعد تشكيل لجان جديدة من خارج المجمع … يتكرر اتهام المجمع في هذه (المحاكمة) بأن العمل به رهين المحبسين ) : الرغبة في الكسب السريع من ناحية ( فيما يتعلق بجهود الأفراد والشركات التجارية ) والبطء الشديد والتمسك بالموروث فيما يتصل بعمل المجمع من ناحية أخرى !! ويفتأت على الراحل العظيم الدكتور مدكور برَدِّه حين طلب منذ سبع سنوات ترشيح من يشترك مع صندوق الإنماء العربي في إصدار معجم يعتمد على الحاسب الآلي قائلا : وماذا بعد المعجم الوسيط ؟ ليس في الإمكان أبدع مما كان !!!(97/3)
ومن قبل – في " مواجهة ساخنة مع العميد السابق للدراسات العربية (الدكتور إبراهيم عبد الرحمن ) نجد المطالبة بإعادة النظر – لا في جوائز الدولة التقديرية فقط – بل في عضوية المرأة والشباب بمجمع اللغة – حيث يقال " إن دور مجمع اللغة الجليل في خدمة اللغة العربية يتطلب اختيارًا(موفقًا ) للأعضاء، لكننا نراه أحيانًا يحجب العضوية عن بعض الشخصيات التي يمكن أن تثريه ، كما أنه لا يزال حتى الآن عازفًا عن ترشيح المرأة رغم وجود (وجوه ) نسائية تصلح لهذا الدور . فيعاود أمين المجمع الأستاذ إبراهيم الترزي الرد على هذا الاتهام الأخير – في إطار حديثه عن كيفية الترشيح وإجراءات الانتخاب للعضوية – بأنه ليس لدينا أي موقف ضد المرأة ، فمنذ الستينيات رشحت شخصيات نسائية شهيرة لم تحصل أي منها على الأصوات الكافية … (العربي عدد 450 مايو 1996م) . أما السبب الذي لم يذكره فهو ما جاء بحديث الدكتور إبراهيم عبد الرحمن ذاته من انقسام أعضاء المجمع الذين يرشحون زملاءهم إلى فريقي اللغويين والعلميين وأن ضرورة تحقيق التوازن تحتم أحيانًا استكمال النقص في أعضاء اللجان العلمية المستحدثة – وآخرها الحساب العلمي والمعلومات ، الهندسة الوراثية …إلخ بما لا يحتاج معه المجمع إلى مزيد من الأعضاء اللغويين إلا للانضمام لهذه اللجان العلمية المستحدثة .(97/4)
ويظل اشتعال الآراء يحتد ، واضطرام الجدل يشتد ، ما بين تفاؤل بأن لغتنا العربية قادرة على مواجهة القرن الحادي والعشرين قدرتها في الماضي على توحيد الأمة الإسلامية وتحقيق القومية العربية (د.شوقي ضيف ، مؤتمر جمعية لسان العرب الرابع بجامعة الدول العربية ، 15/16نوفمبر 97)، وفي معرض كون اللغويين يكتبون تاريخ القرن بكلمات انتشرت في العالم كله (عماد غازي ، الدستور ، 3/12/97 بعنوان " بكرة أحلى من النهاردة " الكلمات المائة عن جريدة التايمز لدار النشر كولينز – أحمد غازي) … والدعوة إلى عقد الندوات والمؤتمرات عن اللغة العربية ككائن حي مشحون بالتراث وكتعبير عن الهوية : كيف ننقذها من أخطار تتعرض لها داخليا وخارجيا – وأهمها : تحديات الواقع، العلاقة بالتنمية الشاملة ، التشابك مع العامية ( الأهرام 13/6/97) . فأخطاء الفساد والأفساد اللغويين ليس عيبًا – حيث خير الخطائين التوابون ، والأخطاء في ذاتها منهج للتقويم والإصلاح (الأهرام 23/5/97)، وبالاتجاه " نحو فهم أشمل للغة وكسب للمستقبل نحتاج إلى أن نعمل في وقت واحد على تطوير جذري لكل من علوم اللغة العربية والبحث العلمي التطبيقي – لغرض تطويع تكنولوجيا المعلومات للغة العربية ذاتها حتى نستطيع بناء الحاسبات الإلكترونية وبرامجها المتنوعة ومكتباتها ومخازن معلوماتها بناء أصيلا باللغة العربية ( سامي خشبة ، الأهرام 18/7/97)، كما أن بالإمكان التوظيف (الثقاتنموي) للبرنامج الثقافي ( محمد ماهر قابيل (الأهرام 24/10/97) ونحن بسبيل "البحث عن الثقافة العربية (د. محمد علي الكردي ، الأهرام 10/10/97) ، وعن " أيديولوجية للتعليم المصري " د. محمد سكران ( نفس العدد من الأهرام ) بالتجدد بدلا من القفز على الثقافات ، وبقراءة تجربتي اليابان والاتحاد السوفيتي (أ.د. فوزي فهمي أهرام 9/5/97)، واسترجاع التجربة المشرفة في الثقافة العلمية التي قام بها العلامة المصري الدكتور على(97/5)
مصطفى مشرفة في الثلاثينيات أو الأربعينيات مع الفارق في الإمكانيات ( أ.د. حامد عبد الرحيم عيد .الأهرام 10/10/97) مع مراعاة كون ما يسمى الثقافة العلمية هو مجرد معرفة علمية – عند مراجعة دور أسلوبنا التعليمي فيها ( أهرام 3/10/97)، ومراعاة " أولوية الهدف الاجتماعية في التعليم ونقل التكنولوجيا " (أ.د. أحمد عبد الجواد 9/5/97).
2- والمدارس والجامعات مؤسسات للتعليم بالعربية :
يتضح إذن من الكتابات الصحفية الساخنة منذ بدء الحملة على توصيات مؤتمر مجمع اللغة العربية التي يتكرر التأكيد عليها كل عام تحميل المجمع مسئولية كون " اللغة العربية في أزمة – سواء التي نكتبها والتي نحياها ، وأن لابد من المناداة بإنقاذها من الجمود والعزلة عن الحياة وتحديثها بتحديث الفكر والشعر في عصر الثقافة الهشة الذي نعيشه ( د. مصطفى ناصف ، الأهرام الأدبي 1/7/97). وينسى المزايدون على المجمع المسددون سهامهم نحوه من خارجه من المسئولين عن التعليم والإعلام والثقافة والفكر أن انفتاح المجمع على جماهيرهم بتكرار توصياته السنوية إنما هو إبراء لذمته من التقصير في المسئولية كأكاديمية لتعريب لغة العلوم والتكنولوجيا التي تلزمهم ، فالأزمة التي يشكون منها إنما ترجع لعدم استجابتهم – كل في مجاله – للتوصية المجمعية بالأخذ بما يكفل الانتفاع بما انتج المجمع من قرارات وما أعد من قوائم ومعاجم مصطلحات ، بل وبما أجرى بشأنه من اتصالات مع التنفيذيين في الوزارات المعنية بتلك القرارات.(97/6)
إن المجامع اللغوية والعلمية – سواء نشأت كمجامع لغة أو لجان تأليف وترجمة ونشر أو مجامع دار العلوم أو الكتب … أهلية أو ملكية – في مصر وسوريا والعراق والأردن منذ مطلع القرن – تنص مراسيم إنشائها الرسمية على أن تكون أغراضها أكاديمية تتمثل في: 1- المحافظة على سلامة اللغة العربية، وجعلها وافية بمطالب العلوم والآداب والفنون ، وملائمة لحاجات الحياة المتطورة ، ب – النظر في أصول اللغة العربية وأساليبها ، لاختيار ما يوسع أقيستها وضوابطها ، ويبسط تعليم نحوها وصرفها، وييسر طريقة إملائها وكتابتها. ج – دراسة المصطلحات العلمية والأدبية والفنية والحضارية وكذلك دراسة الأعلام الأجنبية ، والعمل على توحيدها بين المتكلمين بالعربية. د – بحث كل ماله شأن في تطوير اللغة العربية والعمل على نشرها ، هـ – بحث ما يرد للمجمع من موضوعات تتصل بأغراضه السابقة .
وتنص المادة الثالثة من قانون إعادة تنظيم مجمع اللغة العربية بالقاهرة رقم 14 لسنة 1982م على أن تكون وسائل المجمع لتحقيق أغراضه :
وضع معجمات لغوية محررة على النمط الحديث في العرض والترتيب ، ومعجمات علمية اصطلاحية خاصة أو عامة ذات تعريفات محددة .
بيان ما يجوز استعماله لغويًا ، وما يجب تجنبه من الألفاظ والتراكيب في التعبير .
الإسهام في إحياء التراث العربي في اللغة والآداب والفنون ، وسائر فروع المعرفة المأثورة .
دراسة اللهجات العربية قديمها وحديثها دراسة علمية لخدمة الفصحى والبحث العلمي .
دراسة قضايا الأدب ونقده ، وتشجيع الإنتاج الأدبي ، بالتنويه به أو بعقد ندوات ومسابقات فيه ذوات جوائز ، أو بأي وسيلة أخرى.
إصدار مجلات أو نشرات أو كتب تحوي قرارات المجمع وأعماله وبحوث أعضائه وغيرهم – مما يتصل بأعمال المجمع .
توصية الجهات المختصة باتخاذ ما يكفل الانتفاع بما ينتهي إليه لخدمة اللغة وتيسير تعميمها وانتشارها وتوحيد ما فيها من مصطلحات .(97/7)
الدعوة إلى عقد المؤتمرات والندوات التي تتصل بأغراض المجمع والاشتراك فيما يدعى إليه المجمع من مؤتمرات وندوات تتصل بأغراضه .
توثيق الصلات بالمجامع والهيئات اللغوية والعلمية في مصر وفي خارجها .
اتخاذ أية وسائل لتحقيق أغراض المجمع .
ولقد نهض مجمع اللغة العربية الأم فور إنشائه باختصاصات لجان أصول اللغة ،واللهجات ، والألفاظ والأساليب، والأدب ، وإحياء التراث … فيه – بإعداد وإصدار معاجم اللغة : الوجيز ، والوسيط، وما تم من الكبير ، ومعجم ألفاظ القرآن الكريم ، ومجموعة القرارات المجمعية العلمية في أصول اللغة والألفاظ والأساليب ، ونشَر من كنوز التراث العربي : عجالة المبتدي وفضالة المنتهى ، التكملة والذيل والصلة ( ستة أجزاء ) ، ديوان الأدب للفارابي ( أربعة أجزاء)، كتاب الأفعال ( أربعة أجزاء ) ، كتاب الجيم ( أربعة أجزاء ) ، والتنبيه والإيضاح عما وقع في الصحاح (جزءان) ، وكتاب الإبدال ، وكتاب الشوارد … حتى إذا كاد يستوفي رسالته كمجمع لغة أضاف إلى ختصاصاته مهمة المجامع العلمية وشكل منذ منتصف الخمسينيات بضع عشرة لجنة إعداد مصطلحات تعريفات العلوم الأساسية والكونية والإنسانية : التي أنجزت قوائم فمعاجم ستين ألف مصطلح (في تقدير الأستاذ الدكتور شوقي ضيف بالعيد الخمسين للمجمع 1984) أضيف إليهما بعد ذلك حتى سنة 1990 ولا يزال يضاف ثمانية آلاف مصطلح طب (الجزء الثاني) ، خمسة آلاف كيمياء وصيدلة ، خمسة آلاف أحياء وزراعة كجزء ثان ظهر سنة 1988م) ، 4500 مصطلح فيزياء حديثة (جزء ثان 1986م) 1250 فيزياء نووية … وهكذا في معاجم علوم الرياضيات والهندسة ، والهيدرولوجيا ، الجيولوجيا ، النفط ، المعالجة الإلكترونية للمعلومات … ولا تزال تضاف كل عام قوائم جديدة لكل علم مما يعرض على المؤتمر السنوي لإقراره . ولما تعذر إهداء ما تطلبه الهيئات والأفراد من أعمال المجمع أعدت قوائم بالموجود منها وما نفد لإعادة طبعه، وعهد إلى(97/8)
كبريات دور النشر بتوزيع هذه المطبوعات المجمعية بثمن التكلفة ، وصدرت طبعات خاصة من الوجيز والوسيط لإمداد وزارات التعليم بالبلاد العربية بما يلزمها منها للتوزيع على طلاب المدارس بمراحل التعليم الوسطى وقبل الجامعية .
ولم يكن غائبًا عن ضمير ووجدان أعضاء اللجان العلمية أن تعريب العلوم سواء عند إعداد قوائم فمعاجم المصطلحات الخاصة بكل علم ولدى الترجمة والتأليف في موضوعات العلوم المادية الحديثة – خصوصًا في البلاد التي كانت مستعمرة ولا تزال تدرس حتى في مراحل التعليم الأولى بالفرنسية أو الإنجليزية – أن هذا التعريب إنما هو لغرض التعليم والتدريس ، فحين يختلف خبراء إحدى اللجان حول ما إذا كان تعريب أحد المصطلحات ينقل بالترجمة أو بالمعنى، التراثي الفصيح أو الدارج العامي … يرجح الجميع ما يفهمه الدارسون وما يجري الأخذ به عند أهل الصنعة – إدراكًا منهم أن تيسير نقل الثقافات المعاصرة إلى لغتنا هو أهم وسائل تقدمنا العلمي قبل أن يكون ضرورة قومية حتمية لجعل العربية صالحة لاستيعاب مستجدات العلوم والتكنولوجيا الحديثة . ولئن كان المجمعيون في القاهرة لم يتعجلوا ( وربما لا يزالون مختلفين حول ) المبادرة بالترجمة والتأليف باسم المجمع في علوم الطب والصيدلة والرياضيات والهندسة والزراعة والأحياء والفيزياء والكيمياء … مثلما فعلت مجامع سوريا والأردن ( وفي الجزائر وتونس والمغرب ) التي نشأت كمجامع علمية – هي لجان ترجمة وتأليف ونشر – لدواعي وطنية قومية غايتها تخليص نظم التعليم من لغة المستعمر ، وتحرير العقل العربي من تغريب فكره وثقافته – فما ذلك إلا لأن التعليم في مصر – حتى أثناء الاستعمار – كان عربيًا في المدارس والجامعات الأهلية والرسمية – إلا ما استثنى لاتصاله بالعلم الغربي ووجود أساتذة أجانب ، وأن أساتذة الجامعة المصريين كانوا قد ترجموا وألفوا في هذه العلوم كتبًا أساسية ومعاجم مصطلحات بالقدر الذي يسد حاجة(97/9)
التعليم العالي منها ، فلم يبق على المجمعيين إلا التوصية بتعريب تدريس ما لا يزال الخلاف حوله قائمًا (كالطب ) – مستعينين في ذلك بما ظهر من آلاف مصطلحات الطب وتعريفاتها لغرض تمام تعريب دراسة الطب .
ومع أن المجمع – شأنه شأن كافة الهيئات الأكاديمية العلمية والبحثية – لا يملك إلا الخروج بتوصيات يضعها تحت نظر المسئولين عن التنفيذ واتخاذ القرار ، فهو لم يقف عند حد تعميم مطبوعاته من معاجم تحديد ألفاظ وصياغة عبارات ومفاهيم لغة العلوم والفنون والآداب ، وتيسير الحصول عليها لكل من يريد أو يلزمه الانتفاع بها ، فقد تجاوز رئيس المجمع بصفة أستاذيته لأجيال أساتذة تدريس اللغة العربية وآدابها بأقسام كليات الآداب المعروف بها قبل رئاسته للمجمع – بالاتصالات الشخصية المباشرة بالمسئولين عن التعليم والإعلام والثقافة والفكر لاستحداث إشاعة استعمال اللغة السليمة إن لم يكن الفصحى في شتى مرافق الحياة اليومية ويتلقى منهم الوعود بأنهم حريصون على الأخذ بما يوصي به في هذا السبيل . ولعل رجال التربية الذين هم الأكثر استجابة لتعريب التعليم وإعلاء تدريس اللغة العربية على اللغات الأجنبية وتعديل برامجها ومقرراتها وطرق الامتحان فيها ودرجات هذا الامتحان … هم الأقل تعريضًا بالمجمع من أهل الثقافة والإعلام الذين يعجزهم التصدي لقضية استخدام اللغة السليمة في المقالات الصحفية وبرامج الإذاعة والتلفزة – بل لغة الشارع والخطاب الديني والسياسي … وتلبية مطالبات استصدار تشريعات وقوانين تُعاقب على عدم سلامة لغة الحديث والكتابة والإعلان عن السلع التجارية وعروبة لافتات المحال والأماكن العامة … الأمر الذي لم يعد من الممكن السيطرة عليه في ظل الانفتاح على الثقافات الأجنبية – اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا – في ظل ثقافة العولمة والشركات المتعددة الجنسيات ومدارس اللغات ولغات حوسبة وبرمجة المعلومات وشبكات الاتصال التي تعم كافة المجالات .(97/10)
ففي الندوة التي عقدت تحت شعار "النهوض باللغة العربية " (أكتوبر97) – مع التسليم بأن " العربية مفتاح تراثنا العربي والإسلامي " ، وأن "دار العلوم حافظت على اللغة العربية قرنًا وربع قرن ولا تزال " ، ومع التأكيد على أن "التفكير السليم لا يستقيم إلا بلغة صحيحة" … يقال إن " النهوض باللغة العربية لابد أن يسير في ثلاثة مجالات : الواقع السيئ للغاية اليوم في مناهج تعليم اللغة ومراحله المختلفة ، ضعف أداء معلم اللغة وما يعانيه من ظروف اقتصادية متواضعة ، سوء تنظيم محتوى فروع اللغة الذي لازلنا نصممه بشكل منفصل : نحو/نصوص/قراءة …كما يجري التساؤل: هل نعود إلى مناهج الأربعينيات لإصلاح اللغة العربية ؟ إن ما حدث في امتحان المرحلة الثانية لطلاب الثانوية العامة الحديثة كخطأ فني أو طباعي ينبغى محاسبة المسئولين عن وقوعه ليدل دلالة واضحة خطأ نمط الأسئلة التي تطلب إعطاء ثلاثة مترادفات أو متضادات لكلمة معينة وتحديد أيها المطلوب ، ثم على أن كتب الوزارة في اللغة العربية خاصة يخضع تأليفها لنفوذ طائفة من الكبار داخل دواوين الوزارة أو خارجها – ولو أن الوزارة أرادت لعهدت بتأليف كتبها إلى أساتذة من الجامعات في لجان سرية بل محايدة أشبه بلجان الترقيات العلمية في نظامها الجديد !! (د. مصطفى رجب ، الأهرام الأدبي ، 27 مايو 97). وفي آخر تساؤلات الأهرام أيضًا للكاتب إبراهيم حجازي ( 16 يناير 98 ) : مع هذه المناهج ؛ إلى أين نحن ذاهبون ؟ نجد القول بأن الاتهام يشير إلى الكتب المدرسية التي تكرس الحفظ والاستظهار وتجعل لكل سؤال إجابة واحدة . فليس في الكتاب المدرسي تدريب على حل المشكلات أو مناقشة للأحداث الجارية أو توظيف للمعلومات بحيث يقبل عليها المتعلم لأنها ذات قيمة وذات مغزى في حياته . وما يزيد الطين بلة ، أن بعض مؤلفي الكتب الخارجية هم أنفسهم مؤلفو الكتب المدرسية . والمعلم المسكين المحشور بين أربعين تلميذًا في الفصل(97/11)
وبين الحصة ذات الأربعين دقيقة لا يملك إلا أن ينقل ما في الكتاب إلى أدمغة المتعلمين.
كل هذا – وكثير غيره كل يوم تقريبًا – ولا زال الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة الدكتور جابر عصفور يقرر أنه " بعد ثلاث ندوات قومية عقدها المجلس خلال هذا الموسم ؛ لم يحدث تناغم كامل بين أدوات الثقافة والإعلام والأوقاف والتعليم في إطار المهمة التي يراها المجلس للعمل بلجانه كعقل للثقافة المصرية – وهي تأسيس الاستنارة وتأصيلها وإشاعتها في كل مكان ، مادام يضم التيارات الفكرية التي تقبل بمبدأ الحوار والتعددية ، ويحترم حق الاختلاف ، ولم يستبعد نفسه كالأصوليين أو يقف عقبة في سبيل الاستنارة والتنوير وبعمل ضدها كبعض مناطق الرسالة المرئية في الإعلام ومخربي المشروع القومي للتعليم حتى على مستوى أساتذة الجامعات ، والتطرف والتعصب والجهالة والإظلام في الممارسة الديمقراطية(الأهالي 22 أكتوبر 1996م) كما لا تزال ثقافة الشارع تزحف وتسيطر في كل الأنحاء وعلى كافة الأصعدة : المرور ، اللافتات ، الطعام ، الطرز المعمارية ، النوادي والمقاهي – ممثلة في الضوضاء والنصب والاحتيال (د.سعيد إسماعيل على – أخبار الأدب 30/11 ، 7/12/1997م) وفي مؤتمر بور سعيد الأدبي يضج المشاركون : الإهمال يشوه المشهد ، وثقافتنا بلا مشروع (أخبار الأدب 4 يناير 98) ، ومن قبل ومن بعد يصرخ كمال حبيب ( الشعب 17 مايو97) ضد ثقافة الإثارة والتحريض وتوصيات مؤتمر مجمع اللغة العربية السنوية التي لا تنفذ : كفى إذلالا للغة العربية ، أوقفوا زحف اللغات الأجنبية !! إن اكتشاف جامعة أكسفورد البريطانية العريقة أن نسبة ملحوظة من طلبة الجامعة خصوصًا دارسي الأدب الإنجليزي لا يعرفون كيفية استهجاء الكلمات ، وعددهم في تضاعف مستمر … (الأهرام21/1/1998 ) ومأزق مواجهة نظام التعليم الأمريكي تحديات القرن الحادي والعشرين حيث تتراجع أهمية مواد التعليم الأساسي – خاصة العلوم(97/12)
الإنسانية لصالح العلوم الحديثة المرتبطة باحتياجات السوق كإدارة الأعمال والمحاسبة وعلوم الاتصال … (أهرام 28 يناير 98) الأمر الذي يضعف قدرة الطلبة على التفكير الناقد والإبداع وتحويلهم إلى أدوات مبرمجة … لم يؤديا برجال التعليم الإنجليز والأمريكان إلى اتهام اللغويين بظلم لغتهم القومية لحساب لغة الحاسبات وشبكات الاتصال – مادام أن هذا مصير القوميات في صراعها مع العولمة تأهبًا للاندماج في نظام عالمي جديد قبل حلول الألف الثالث للميلاد .
3- واللغة والدين قوام الهوية الثقافية والإعلام الثقافي :(97/13)
ذلك أنه لما كانت الثقافة بالتعريف هي نماذج وأساليب الحياة الاجتماعية كلها – العائلي والاقتصادي والديني والأخلاقي والتربوي والجمالي والسياسي واللغوي والعلمي – خصوصًا المعبرة منها عن روح الأمة ونفسية الشعب ، وبما أن القومية قوامها وحدة الفكر واللغة والجنس والأماني المشتركة بنمو وعي سياسي أو (أيديولوجية) ولاء الفرد للوطن نتيجة الشعور بالانتماء ووحدة المصير ومسئولية اشتراك الجميع في تحقيق تلك الأهداف ؛ فاللغة هي أكثر عناصر الثقافة ثباتًا إذا قيست بعوامل الجنس والدين والمصير المشترك التي تزخر الساحة الثقافية بتعدديتها وتنوعها ليضج المُعتَرك الثقافي عند مناقشة أي قضية أو مشروع يراد به النهوض بالأمة إلى غاياتها ( بالنظر في حاضرها لاستلهام ماضيها واستشراف مستقبلها ) بخلافات تسمية الحركة تجديدًا أو تحديثًا ، صحوة أو بعثا أو تنويرا ، عقلانية أو علمانية … وبالنظر إلى متغيرات العصر ومتطلبات السياسة القومية والمحافظة على الهوية الثقافية تعم الاتهامات بالرجعية أو التقدمية ، الأصولية أو العلمانية ، التراثية أو العصرنة ، وفي الانفتاح على ثقافات الغير : الندية أم التبعية … بل تسود مهاترات الوصف بالظلامية الانغلاقية في مواجهة الانفتاحية التنويرية ، النفطية العروبية ، الاستثمارية ، الشرق أوسطية (لتمرير الصلح مع إسرائيل) … فلكل شيء في حياتنا ثقافته – على نحو ما أن " ثقافة الفساد أو الجنس في البيت الأبيض ليست غريبة على المجتمع الأمريكي "(الأهرام 4 فبراير 98) ، وأن ثقافة البطالة تنتشر في أوروبا ( الأهرام 8 فبراير 98). لكن أهم ثنائيات الثقافة – في عصر الإرهاب والعنف المتطرف الذي نعيشه – هي الصراع بين الرَّجعية والتنوير، الأصولية والحداثة وما بعد الحداثة .(97/14)
ويتجلى صراع هذه الثنائية البالغة من التطرف حد عدم إمكان الوسطية والاعتدال – أول ما يتجلى – في ساحة التعليم بالعربية – بالنظر إلى أن تعليم اللغة القومية يرتبط بتعليم الدين والدراسات الإسلامية فيواجه وزير التعليم الذي يئن من الشكوى من تنامي التطرف بين جدران المدارس ولا يكف عن الدفاع – حتى فيما يرفع عليه من قضايا أولياء الأمور – ضد حجاب التلميذات ، ونظام التحسين بين الإقرار والإلغاء ، وإنشاء أو إلغاء كليات الطب الخاصة وفروع الجامعات الأجنبية في مصر … وسط حملات الصحافة الصارخة : مَن يرُد للتعليم اعتباره ؟ 6 وزراء وضعوا ست استراتيجيات للتعليم خلال 15 سنة فقط، 5 مليارات جنيه حجم الإنفاق الشهري، 40% من مدارس مصر غير صالحة،والدروس الخصوصية تهدم الأسرة الفقيرة وتشيع السلبية بين الأغنياء، الشهادة لم تعد تعبر عن خبرة حاملها أو مؤهلاته الحقيقية – أعيدوا للمدرس احترامه المادي والأدبي ثم تحدثوا عن التعليم ( الأحرار 30/9/96) … فالتجارة بالتعليم كارثة ، ورفع يد الدولة عن التعليم خطر على الأمن القومي (الأهرام 4 نوفمبر 97) ، وعن الامتحان الصعب لمجلس الشعب في قانون الثانوية المعدل : القانون غير مدروس ويحتاج من جديد لإعادة عرضه على المتخصصين ، تطبيق التعديلات الجديدة هذا العام مخالف للدستور ( الأهرام 10 ديسمبر 97) – هذا بينما في رؤية عميد سابق : نظام الدراسة بكليات التربية فاشل (الأهرام 30 يونيو 97) ، وفي تحليل أستاذ التربية العريق سعيد إسماعيل على هناك " شروخ في جدار كلية التربية – أهمها أن التحسين لم يكن راجعًا إلى تحسين في نظم وبرامج كليات التربية بأنواعها المختلفة – خصوصًا بحث أوضاع كليات التربية النوعية وتطويرها وضمها إلى الجامعات بدعوى توفير معلمين لبعض التخصصات التي لم تكن تُعد لها كليات التربية (الأسبوع 5 يناير 98) – مع رجاء الكثيرين إلى وزير التعليم العالي التريث في اتخاذ هذه الخطوة…(97/15)
يواجه وزير التعليم ووزير التعليم العالي – اللذان أصبحا يعملان في وزارة واحدة لتنفيذ السياسة التي يقرها مجلس الوزراء ( الأهرام 4 نوفمبر 97 ) القضية التي أثارها المسئولون بكلية الآداب جامعة الزقازيق فرع بنها ( وغيرهم ) بقولهم : إن الحرص على مستقبل الثقافة في مصر يقتضيهم إعادة النظر في لوائح أقسام اللغة العربية التي تقلل من الاهتمام بالثقافة الإسلامية بشكل يتدنى إلى نصف الاهتمام بالثقافة الأجنبية الحديثة حتى لو كانت هذه اللوائح قد نفذت بالفعل … هذا الاهتمام المكثف الذي هو أكثر من الزحف الذي يتمثل في واقع توزيع الساعات المقررة طوال السنوات الأربع بل الطغيان للثقافة الأجنبية على الدراسات الإسلامية – التي حصرها أصحاب القضية في ثماني ساعات علوم قرآن وتفسير وحديث بالفرقتين الأولى والثانية ، وجاء في رد العميد أنها اثنتان وعشرون ساعة باعتبار الفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامي والحضارة الإسلامية مواد ثقافة إسلامية بالمفهوم الواسع لا الضيق الذي نشر به الأستاذ سامح كريم محرر صفحة الأهرام الأدبي عن هذه القضية – يقينًا منه بأن اللغة العربية وآدابها نشأت في أحضان بلاغة العلوم الإسلامية وخاصة القرآن والحديث فوضع المسألة تحت نظر المسئولين بأسلوب هادئ إيمانًا منه بأسلوب أدب الحوار الذي يليق بأهل العلم فلَم ينله إلا غضب العميد ورئيس الجامعة مما حسبوه استجارة بالصحافة فاتُّهِمَ بضيق الأفق وعدم الدقة في حقائق القضية التي جوهرها تجريح الزملاء بعضهم لبعض لتحقيق مآرب شخصية … واكتفى بنشر رد الأستاذة والأستاذ المساعد مع رد العميد معتذرًا عن عدم النشر لأصحاب الردود والبرقيات التي جاءته من الأساتذة وأولياء الأمور والطلاب وكلها تطالب بإعادة النظر في هذه اللائحة .(97/16)
معنى هذا أن الداعين للاهتمام بالدراسات الإسلامية في قسم يجمع اللغة العربية والدراسات الإسلامية لا يعتبرون الفلسفة الإسلامية والتصوف الإسلامي والحضارة الإسلامية .. دراسات إسلامية بالمعنى الواسع تضيف أربع عشرة ساعة إلى ثماني ساعات علوم القرآن والتفسير وعلوم الحديث بالفرقتين الأولى والثانية بالمفهوم الضيق لهذه الدراسات ؛ كأنما علوم اللغة وعلوم الدين نقيضان لا يجتمعان ، مثيرين بذلك ضرورة التفرقة بين ما هو عربي وما هو إسلامي سواء في الفكر الفلسفي والحضارة العربية – بالنظر إلى وجود علماء وفلاسفة غير مسلمين (من النصارى واليهود بل المجوس والصابئة) ومفكرين من الفرس والأتراك والتتار ليسوا عربًا ( باعتبار الدين والجنس على الترتيب ) هذا الخلاف الذي لا يزال قائمًا وتتوارثه الأجيال والثقافات كلما تجددت منذ المستشرقين في القرن التاسع عشر لأغراض في نفوسهم فات أوانُها ولا داعي لتجديدها كقضية زائفة حتى لو حسمت بخصوصية العروبة كقومية داخل عالمية الإسلام كدين ، مؤكدين على أن إهمال التفرقة بين ما هو عربي وما هو إسلامي هو سبب مشاكلنا الثقافية كلما ثار الخلاف حول ما بين الحكمة والشريعة من اتصال ، وعلاقة القياس والإجماع في أصول الفقه وفي أصول الحكم (اللذين تصدى للدفاع عن عروبتهما الأخوان مصطفى وعلي عبد الرازق ) بمنطق أرسطو اليوناني – إلى حد الاتهام بالقول بدين عربي وفلسفة إسلامية – وتكفير التفكير في تأويل التنزيل ، إعمال العقل في النقل ، وازدواجية الوصل الظاهر مع الفصل الباطن بين الحقيقتين عن تقية لا تقوى … وفي فلسفة ابن رشد العلمانية التنويرية التي لعروبتها لا لإسلاميتها مهد بها الغرب لنهضته الأوروبية الحديثة ويراد استعمالها اليوم لأغراض سياسية إعلامية: هل هوية الفيلسوف عربية أم إسلامية ؟ وهل الفلسفة الإسلامية المشرقية بيانية عرفانية كامتداد لعلم الكلام والمغاربية عقلية برهانية كامتداد للمنطق(97/17)
والرياضيات ؟
وبينما ينعقد بكلية دار العلوم في الفترة من 5 إلى 6 إبريل 97 المؤتمر الدولي الثاني للفلسفة الإسلامية تحت عنوان : الفلسفة الإسلامية وبناء الإنسان المعاصر حيث تتخذ توصيات نبذ التعصب والانغلاق والدعوة إلى معرفة (الآخر ) والتحفظ على منجزات العلم حين يصطدم بالمبادئ الأخلاقية … ضمن استراتيجية ثقافية تعمل على تنمية الحس النقدي وترسيخ جذور الانتماء لدى المواطنين مع الاهتمام بالتكوين الأخلاقي للفرد باعتباره الدعامة الرئيسية في حركة التنمية الشاملة … " تنظم وزارة الثقافة المصرية ندوة تحت عنوان ندوة ضد الثقافة الإسلامية باستخدام مصطلحات الظلام والظلامية والانغلاق والتعصب والرجعية بدلا من الاسلام – ويتساءل محرر جريدة الشعب (20 مايو 1997م) كيف يتأتى لنا أن ندعو إلى دور حضاري إسلامي لمصر في أفريقيا والسلطات المصرية تحاصر الدعوة الإسلامية والعمل السياسي للإسلاميين والمفاهيم الحضارية الإسلامية في عقر دارنا ؟ - هذا مع صورة مكبرة للدكتور محمد السيد حبيب والدكتور الشيخ السيد عسكر في قفص الاتهام : إن الحكومة المصرية تضرب أفضل قوى الأمة عندما تضرب الحركة الإسلامية ، وبعنوان ضخم بعرض الصفحة كلها : المصالحة بين الحكم والإسلاميين ضرورة لنهضة مصر وتطوير دورها الحضاري في العالم الإسلامي .(97/18)
وفي ندوة فكرية موسعة عقدت بحزب العمل لمناقشة " حقيقة رسالة فيلم المصير " يقول جمال البنا " إن أزمة يوسف شاهين مخرج الفيلم تعود إلى اغترابه الثقافي في تناول موضوع ابن رشد مثلما فعل في فيلم المهاجر وأن علينا لذلك الاحتراس منه :"فالعلمانيون الآن يختزلون ابن رشد في المنظومة الفكرية المادية " – كما قال عبد الوهاب المسيري، "والمعاصرون ينهج بعضهم نهج الاستشراق الالحادي الغربي في التشكيك في إسلامية ابن رشد " – على حد قول الدكتور حسن الشافعي " . وفي نفس الصفحة بجريدة الشعب عن الندوة (24 أكتوبر 97) " المسئولون بهيئة الكتاب يواصلون العبث بالقيم والعقيدة ، جريمة بحق العقيدة الإسلامية في إصدارات مهرجات القراءة للجميع " . أما في ندوة مركز ابن خلدون قبل ذلك بعام (30/9/96) فيقول حاتم جمال الدين تحت عنوان : العلمانيون والإسلاميون ألعوبة في يد السلطة ، فهي تشجع هؤلاء على أولئك تارة وأولئك على هؤلاء تارة أخرى – بدليل موقف د. محمد سيد طنطاوي من قضية د. نصر أبو زيد حين قال وهو لا يزال مفتي الديار المصرية " إن كتابات نصر أبو زيد ليس بها ما يسيء ، ولكنه بعد توليه مشيخة الأزهر تبدل رأيه هذا إلى النقيض . ففي حالته وحالة زميله الدكتور حسن حنفي أحد أقطاب اليسار الإسلامي في مصر تظل المصايد منصوبة للإيقاع بهم في هذا الفخ ليخرجوا كاسبين المعركة الإعلامية وينخرطوا في معارك أخرى قضائية – ولو بنشر التقارير العلمية بضغط الحزب الوطني – مع خصومهم من التيار الإسلامي المتطرف .(97/19)
ولنسترجع معًا عناوين صفحة الدين والحياة بجريدة العربي على مدى ثلاثة أسابيع الخامس والثاني عشر والتاسع عشر من مايو 1997م – تؤيدها مقالة جريدة الأهالي بتاريخ 7 مايو 1997م- بعنوان مفاجأة : كاتب بيان تكفير حسن حنفي لم يقرأ كتبه ، من الذي يسمح لـ (جبهة العلماء ) بخرق قانون الجمعيات ؟ بقلم عبد اللطيف وهبة الذي قدم لها بقوله : بعد إدانة د. فرج فودة وفيلم المهاجر ، مرة أخرى تخرج علينا مدافع جمعية "جبهة علماء الأزهر " إيذانًا ببدء عصر جديد من تكفير رموز المجتمع المصري الثقافية والمستنيرة . وبعد د. نصر حامد أبو زيد بدأت فصول نفس السيناريو ضد د. حسن حنفي أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة القاهرة . وذلك من قبل أعضاء تلك الجمعية الذين خشوا المواجهة الفكرية وآثروا المواجهة الظلامية – طبقًا لما ورد من الأحداث التي صاحبت إقامة ندوة عن الشيخ محمود شلتوت بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر … حيث كانت عناوين جريدة العربي بعد ذلك بأيام : دراسة هامة يكتبها الدكتور عبد المعطي بيومي : ليس دفاعًا عن حسن حنفي لكن دفاعًا عن سماحة الإسلام : البعض يمارس شهوة الاستعلاء على الناس باسم الحرص على الإسلام ، من حسن حظ الدكتور حنفي أن مهاجمه ليس في مقدرته في فهم علم الكلام ، الآن نستطيع القول أن الأزهر غزاه المتطرفون وهذا شيء خطير ، وأحذر من كارثة ستصيب الجميع إذا لم نطهر الأزهر من التطرف . وكما أوردت صفحة الأهالي ضمن مقالها : اتحاد الكتاب يقول : بيان علماء الأزهر يهدد الاستقرار الاجتماعي ، يورد مقال العربي تعقيبًا : علماء الأزهر يطالبون وزيرة الشئون الاجتماعية بالتصدي لانحرافات "جبهة التكفير " - كما يقرر سليمان شفيق بجريدة الأهالي أن مصادر أزهرية مطلعة أكدت أن تكفير د. حسن حنفي من قبل الشيخ يحيى إسماعيل حبلوش ترتبط بالصراع بين جبهة علماء الأزهر من جهة ورئيس جامعة الأزهر الدكتور أحمد عمر هاشم وفضيلة شيخ الأزهر د.(97/20)
سيد طنطاوي من جهة أخرى – حيث كانت قد عقدت جلسة مصالحة بين الطرفين بمكتب رئيس الجامعة في يناير الماضي ولكن الخلاف تجدد بعد دعوة رئيس الجامعة الدكتور حسن حنفي في الندوة الشهيرة التي عقدت بمقر جامعة الأزهر وحاولت جبهة كبار العلماء منعها . وعلمت الأهالي أن الدكتور حسن حنفي سوف يؤم طلبة الأزهر للصلاة قريبًا بمقر الجامعة – في إشارة منه لدحض تكفير حبلوش له ، وتأكيدًا على أن الصراع ليس بين اليسار واليمين ، بل بين الأفندية والمعممين الإسلاميين .
وكانت عناوين صفحة الدين والحياة بجريدة العربي في الخامس من مايو بالبنط العريض والصور الفوتوغرافية : عملية تكفير الدكتور حسن حنفي : عجزوا عن مناقشته فاصدروا فتوى بخروجه من الإسلام. جبهة علماء الأزهر تواصل هوايتها في تكفير المثقفين بعد أن قتلت فرج فودة وشردت نصر أبو زيد . عميد أصول الدين يقول : أعضاء الجبهة يمارسون الإرهاب علنًا ومطلوب التصدي لهم قبل خراب البلاد . رئيس جامعة الأزهر : لا صلة لنا بهذه الجبهة . السعدي فرهود : كنت رئيسًا للجبهة وأعلن براءتي من كل ممارساتها . وفي نهاية الصفحة بيان مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان بعنوان " تكفير الدكتور حسن حنفي بمثابة تحريض على القتل " . وتستمر عناوين صفحة الدين والحياة بجريدة العربي في العدد التالي 19/5/97" وملف جبهة التكفير على مكتب وزيرة الشئون الاجتماعية : " حتى لا تتكرر المأساة .. الحل هو الحل . شيخ الأزهر : لا أعرف شيئًا اسمه " جبهة علماء الأزهر" ، ودور الأزهر لا ينتهي عند الثانية ظهرًا . لجنة الفتوى : ليس من اختصاص هذه الجبهة إصدار الفتاوى. وزير الأوقاف : إنهم يجعلون أنفسهم أوصياء على الناس ويسيئون للإسلام . عضو سابق بالجبهة : لم أكن أتصور أن يلعبوا دور محاكم التفتيش .(97/21)
ولا تكاد تهدأ العاصفة الهوجاء حتى تهب أكثر تخريبًا ودمارًا بإيضاح حيثيات الحكم ببراءة كتاب " رب الزمان " (للدكتور سيد القمني ) أن التعارض بين وجهتي نظر التكفير الأزهري وكفالة حرية الرأي والتعبير التي قررها الدستور إلا بأن يناضل الطرفان لإثبات الأمر أو نفيه وصولا إلى وجه الحق … بما لا يمثل ضررا عامًا يستوجب الحجر على حرية المؤلف … فقد " صدر في أوائل نوفمبر الماضي كتاب تحت شعار : كتاب بكتاب ورأي برأي – في أربعمائة صفحة من القطع الكبير ، على صدر غلافه شيطان بشع الصورة ، عنوانه الآيات البينات لما في أساطير القمني من الضلال والخرافات ، بقلم الدكتور عمر عبد الله كامل ، قراءة وتقديم الدكتور يحيى إسماعيل أمين عام جبهة علماء الأزهر الشريف ، إصدار مكتبة التراث الإسلامي – كإعادة محاكمة تحت مظلة الشرعية الدينية مع حيثيات الإدانة والقرار والحكم … ليقول المؤلف أنه لن يقوم بالرد على ما جاء به من " فتوى القتل وفلسفة التزوير " – وهو عنوان المقال في جريدة الأهالى 14 يناير 1998) بل يعمد إلى كشف حجم المساحة المطاطية التي يتمتع بها ضمير التأسلم السياسي ومنهجه في المحاكمة ومدى شرف وسائله في الإدانة واتخاذ القرار بما أورده من مجموعة التهم التكفيرية ". وإلى جانب صورة غلاف كتاب " النبي إبراهيم التاريخ المجهول" للدكتور سيد القمني نقرأ عناوين صارخة بالنبط العريض : مناهج الألباب فيما يحويه التكفير من خراب . المكفرون يرون التاريخ المصري كفرًا وإنجازاته أصنامًا . فقهاء الظلام أعداء القومية والمصرية والعلم والتاريخ والعقل – مثلما الخطاب الديني " في الفصل الثاني منه عن التراث بين التأويل والتلوين كتعسف تفسير ، وكمشروع لليسار الإسلامي في مصر .
4- تشويه مقدسات التراث وتجريح رموزنا الفكرية :(97/22)
هكذا وصل الإيقاع برموز الإسلام الثلاثة : شيخ الأزهر الحالي الذي كان من قبل مفتيًا " يختلف عن شيخ الأزهر السابق د. جاد الحق على جاد الحق في شخصيته كمعلم بينما الآخر قاضي شرعي ملتزم " – وبين مفتي جمهورية مصر العربية د. نصر فريد واصل (قبل وبعد ولايته) والدكتور أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر – الممثليين للمؤسسات الإسلامية الدينية في مصر ) التي انتهت بعد دفاع مرير يوميا وفي كل المناسبات وبشتى وسائل الإعلام إلى إصدار بيان للناس (15/2/98) تعلن فيه اعتزازها بقبول النصح من كل ذي رأي أو قلم شريف وتحذر أصحاب الأقلام الصفراء من ممارسة الإفك وافتراء الأكاذيب والولوغ في الفحش بالطعن في الأعراض واقتحام حمى الحرمات الأسرية والشخصية … بما يترتب عليها من الفتنة وحدوث ما لا يحمد عقباه دفاعًا عن الشرف والعرض … وتضع الأمر كله بين يدي القضاء المصري العادل الذي يملك وحده أن يردع (الباحثين عن الشهرة) من المنحرفين برسالة الصحافة المصرية عن دورها الكبير في خدمة الحق والحقيقية الذين يستغلون حرية الصحافة لتجريح الشرفاء ويوظفون حرية الكلمة لخدمة أهوائهم المشبوهة .. الإيقاع بين هذه الرموز الممثلة للأزهر ( مشيخة وجامعة) ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية ومجمع البحوث الإسلامية من جهة … وبين علماء الأزهر الذين برزت منهم " جبهة علماء " اختلفت مع الشيخ من قبل في تغيير فتواه وهو مفتى بما صدر عن مجمع البحوث الإسلامية 1966 من أن المعاملات البنكية معاملات ربوية ، وكذلك في قضايا الختان ونقل الأعضاء وتكفير د. حسن حنفي ( الذي أشرنا إليه)… وأخيرًا معارضة استقبال السفير الإسرائيلي الذي ( رفض الفنانون والفنانات استقباله واستقبله مع الأسف شيخ الأزهر (دكتور يحيى إسماعيل ، الدستور 10/12/97) – بدعوى أنه لا حق له أن يتسامح في دين الله ، وأن ينحاز للحكومة بحكم تعيينه في منصبه بدل انتخابه – خلافًا(97/23)
لنيافة الأنبا شنودة المتمسك بموقفه من التطبيع ورفضه بغير مواربة الذهاب إلى فلسطين ، ولفتوى الشيخ محمد عليش مفتي المالكية بالديار المصرية ( ردًا على سؤال المجاهد الكبير الأمير عبد القادر الجزائري ) علماء مصر حول موقف أحد سلاطين المغرب الذي قدم العون والغذاء للفرنسيين المحتلين للجزائر … أن ذلك حرام قطعًا بإجماع ضرورة – التي يرجو حازم غراب (الشعب 22/10/96) من التذكير بها أن لا يعلق شيخ الأزهر فتواه فيما يسمى " المؤتمر الاقتصادي " – المعروف أنه حرص أمريكي على تعايش المصريين والعرب مع دولة الصهاينة اقتصاديًا واجتماعيا وسياحيا ونفسيا – على إرادة أهل الحكم والقرار .
وواضح أن ما يقصده بيان ممثلي المؤسسات الإسلامية بالأقلام الصفراء المنحرفين من الكتاب بحرية الصحافة وحرية الكلمة إلى تجريح العلماء الشرفاء لخدمة أغراضهم المشبوهة .(97/24)
فمع أن وسائل الإعلام المرئية والمسموعة لم تسلم من النقد اللاذع لبرامجها الثقافية ( فضلا عن الترفيهية والفنية ) التي تهدد هويتنا العربية والإسلامية باختراقها في عقر دارها (على حين وقفت فرنسا ضد إتمام اتفاقية الجات لخوفها على ثقافتها من غزو الثقافة الأمريكية ). فالدكتور محي الدين عبد الحليم رئيس قسم الصحافة والإعلام بجامعة الأزهر يؤكد أنها كثيرًا ما تفتقر إلى التخطيط العلمي والكوادر المبدعة – مما أدى إلى الاعتماد بشكل مكثف على البرامج الأجنبية التي تحمل من المفاهيم والمعاني ما قد يؤثر بالسلب على عقل المتلقي ووجدانه . أما " الكابتن غزالي" فهو يعلن تشاؤمه من وضع استراتيجية صحيحة للإعلام المصري . " فطوال الأربعة والعشرين عامًا الماضية سُيِّدت برامج شوهت الشخصية المصرية ، والآن والوطن في خطر حقيقي ألا يمكن تصحيح هذا الوضع قبل فوات الأوان ؟ ( أخبار الأدب 14 ديسمبر 97 ) : أية ثقافة وأي إعلام ؟ مؤتمر أدباء الأقاليم "مكلمة " عادية جدًا وفرصة للقاء الأصدقاء – برامجنا الثقافية مهمشة ، وهويتنا مهددة بالاختراق .(97/25)
وفي لقاء الوزير : التفاصيل تطغى على قضايا الثقافة الحقيقية ، الأدباء يقولون : المحور عن الثقافة ، والإعلام الذي تجاهلَنا – الحوار أو انقراض المثقفين، النقاد : ما المسروق بأفضل من السارق. – هذا فضلا عن اتهام فاروق جويدة للتليفزيون بامتهان التاريخ قائلا : كيف تسمح الدولة من خلال أخطر أجهزتها الإعلامية بأن تقدم صورة مزيفة عن أحداث تاريخية لا أساس لها من الصحة؟ لقد كانت خطايا التليفزيون في حق التاريخ صارخة للغاية على موائد الشهر الكريم هذا العام ، وهي تحمل دلالات خطيرة جدًا في أكثر أجهزتنا الإعلامية انتشارًا وتأثيرًا . نحن لا ننكر قيمة التاريخ لأنه ذاكرة الأمة ، ولكن هناك فرقًا بين أن يكون التاريخ درسا وأن يكون التاريخ ملهى ليليًا أو قصص حب ساذجة . مثال ذلك : تخبط ثوار يوليو في سراديب القصور الملكية يطاردون الأميرات ( على شاشات التليفزيون ) ، برنامج كوميدي يسخر من صلاح الدين الأيوبي ويجعل منه مدربًا كرويًا في فريق المقاولون العرب، ومن فتح القدس مباراة كروية ساخرة وسخيفة تهزأ من حوار البطل العظيم مع أعدائه ( الأهرام 1/2/98).(97/26)
لكن الشكوى المريرة في بيان ممثلي المؤسسات الدينية الإسلامية – وفي خطاب الأستاذ أنيس منصور للسيد الرئيس بعاموده اليومي في جريدة الأهرام بنفس اليوم – هي من حملة الأقلام الصفراء الذين ينزلقون إلى ممارسة الإفك ، وافتراء الأكاذيب ، والولوغ في الفحش بالطعن في الأعراض واقتحام حمى الحرمات الشخصية والأسرية … التي رفع بشأنها الرجل الفاضل العالم الكبير وزير الأوقاف دعوى ضد ما نشرته جريدة النبأ – ففي مناظرة عقدتها جريدة الدستور تحت شعار (منصور يا دستور) بين الدكتور سيد البحراوي أستاذ النقد الأدبي بقسم اللغة العربية كلية آداب جامعة القاهرة والدكتور محمود الربيعي أستاذ الأدب العربي المقارن بالجامعة الأمريكية قال الأول – في كلمات صريحة ومخيفة عن الدستور الصحيفة والصحفيين: الدستور سعت إلى جذب الجمهور فانساقت وراء " الجمهور عايز كده" ، والرغبة في تحطيم المحرمات تتم بخفة وطيش . قارئكم لا يهتم إلا بالإفيهات والجنس وأخبار الحفلات ، الدستور تستخدم لغة الحرفيين وسكان حواشي المدن … بينما قال الثاني: الدستور نجحت في جذب القارئ لكل صفحة فيها . جريدة كانت ضرورية لكسر الأحادية والركود السائد ولا يمكن التخلي عنها . شبعنا من الموافقة ثم الموافقة – أحيانًا باسم الاستقرار وأحيانًا باسم الأخوة . سألني أحدهم : همه بيجيبوا الكلام ده كله في أسبوع منين ؟ وبالفعل فإن عناوين صفحات جريدة الدستور 7 إلى 10 بتاريخ 10/12/97 كانت كالتالي : تحت عنوان كتاب السلطة / السلطة والكتاب : هيكل سكن عقل عبد الناصر وأسكن السادات عرش مصر . قال له السادات : الناس لن يظلوا يقرأون لكاتب واحد فرد عليه : أليس ذلك أفضل من أن يكتب كل الكتاب لقارئ واحد هو أنت ؟ إحسان عبد القدوس : طريقة هيكل دائمًا الاستيلاء على الرأس الكبير في أي مكان. ناصر الدين النشاشيبي : عبد الناصر كان ينهي خطابه ويسأل هيكل إيه رأيك فيرد هيكل : تمام يا فندم ! دكتور(97/27)
فؤاد زكريا : هيكل يقدم للسادات وجهًا ساطعًا في 71 ووجهًا مظلمًا في 83 ويخدع القراء ويبرئ نفسه دائمًا ! عبد الناصر : هيكل يسكن داخل عقلي ويعرف ما أريد حتى لو لم أبح به.
أما عناوين مانشتات " الدستور" عن أنيس منصور كأحد كتاب السلطة فهي: أنيس الجليس لسيادة الرئيس : جيهان السادات قاومت نفوذه لأن دمه ثقيل ، وأنيس كان يصطحب فايز حلاوة إلى الرئيس لفرفشته . طفل فلسطيني قال للسادات في القدس يا يهودي فشتمه أنيس . السادات قال له : عبد الناصر فصلك بسبب مقال ( حمار الشيخ ) وأنا شايف إنك تستحق الشنق . وعن موسى صبري تقول الجريدة : على طول الخط رفع شعار : تمام يا فندم . السادات قال عنه : الوحيد اللي فاهمني ثم أهانه على شاشة التليفزيون وقال له : معلهش أهي جت فيك . اصطدم مع أستاذيه مصطفى أمين والحمامصي وعمل رقيبًا على مقالاتهما من أجل السادات . النشاشيبي: كان يميل إلى إرضاء زوجة الزعيم قبل إرضاء الزعيم نفسه . وأخيرًا عن إبراهيم سعدة ككاتب للسلطة تقول الدستور بالبنط العريض : قطع السادات كل الألسنة التي طالبت برقبته . طلب السادات فصله مرتين ثم عينه رئيسًا لتحرير أخبار اليوم نكاية في مصطفى أمين واحسان عبد القدوس . طلب من الرئيس مبارك حوارًا أو خبرا لـ (مايو) كل أسبوع ولم يلب الرئيس طلبه . صلاح نصر طلب منه تقارير عن الصهاينة … وهيكل سأله : لماذا تهاجمني وأنا لم أسيئ إليك ؟ ثم سمير رجب عنوان واحد كبير : من القطار إلى صالة كبار الزوار . ولا تقف اراجيف الدستور عند المعاصرين من الكتاب وإنما تخوض في أسرار الساسة : السابقون كيف يرون بعضهم : ففتح الله بركات يقول : لا أئتمن خالي سعد زغلول على فرخة ، وعبد الرحمن فهمي ضم فتح الله إلى الوفد لكي يمنعه من الحديث عن سعد زغلول بما لا يليق في مجالسه الخاصة ، وعدو الشعب (إسماعيل صدقي) يقول : كانت له أخطاء ، ومن الذي لا يخطئ ؟ عيوب سعد كانت كما يقول الفرنسيون(97/28)
عيوبًا تلازم الصفات الكبيرة وقد أوقع بيننا الكثيرون ولم ينجحوا – إذ توفى سعد وهما أصدقاء بينهما كل حب وإعجاب . الجبرتي يتعاطف مع المماليك ويهاجم محمد علي ويسخر من أسرته … فيدفع ابنه ثمنًا لذلك، وتلك كانت الوسيلة الوحيدة التي نجح بها محمد علي في تكميم فم الجبرتي إلى الأبد … وأخيرًا عن خناقات كبار المؤرخين مع بعضهم البعض هل هي علاقات وئام أم صدام؟
ويضج عدد 14 يناير 98 من الدستور أيضًا بعناوين الإثارة الصارخة . ففي صفحة 15 " صوت عالي وصدى أعلى " : لا يا شيخ الأزهر … لا تُشبِّه لقاءك بحاخام إسرائيل بلقاءات الرسول (ص) ليهود المدينة – غلطة وزير الثقافة التي وقع فيها زميله الياباني بعد نصف قرن: هل ستحتفل اليابان بقصف أمريكا لها كما نحتفل بغزو الفرنسيس ؟ بعد الصراع بين النجمة المعتزلة شمس البارودي والممثلة الناشئة ريم البارودي … نحن نفتح ملف عائلة البارودي ! مصيبة: رئيس جامعة القاهرة يهاجم أبناء العشوائيات ، فمن أين إذن جاء زعماء مصر ومشاهيرها … وهي مقالات بعث بها قراء جريدة الدستور الذين تشبعوا بطريقتها في التهويل والتشهير . أما صفحة 16 من نفس العدد بكاملها تحت عنوان : سطور ساخنة : فتخصص لكبير مفكري الإسلام السياسي الذي حل مؤخرًا في جريدة الشعب مكان الشيخ محمد الغزالي – الذي عمره الآن 67 سنة قضى منها عشر سنوات كاملة في صفوف الماركسية حيث كان قيادة بارزة في الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) ودخل السجن متهما بالشيوعية لست سنوات قبل أن يفرج عنه ويقذف به نظام عبد الناصر إلى شاطئ الإسلامية إذ يقول ردا على متهميه بالتحول الفكري: إن المتحولين نوعان : الأول ينكر ماضيه ويمحوه بأستيكه وأحيانا يهيل عليه التراب ، والثاني يعتبرها مرحلة قد مضت وحلقة فكرية من حلقات تطوره العقلي لا ينكرها بل يعود إليها بإصلاح ونقد ذاتي ، وربما اعتمد بعضا منها ضمن مشروعه الفكري في مرحلة ما بعد التحول. وأنه(97/29)
من النوع الثاني هذا، فلم يحدث له تحول فكري بل تطور (كما حدث للأشعري والشافعي وطه حسين)، و"عندما رأيت ليلة القدر وأنا يساري" . فأشجع المتحولين فكريا هيكل باشا ، وتحول طه حسين كان سلبيا ، أما سلامة موسى فكان عميلا حضاريا .اليسار كان يترك الناس يلحدون بإرادتهم . نعم كنت قيادة في (حدتو) وسجنت بتهمة الشيوعية لست سنوات . محمود أمين العالم مؤهل ليكون شيخ طريقة . د. رفعت السعيد يلبس جلبابا أكبر من حجمه . د.حسن حنفي أفرغ الإسلام من محتواه . العشماوي لا يعرف الفرق بين الفطرة والفطيرة . ما كتبه د. نصر أبو زيد يتناقض مع إعلانه الإسلام . الشعراوي اجتذب لاعبي الطاولة والدومينو من على المقاهي . لا أتصور أن سيد قطب راض عن جماعات العنف . والعنوان الرئيسي لهذه الآراء الفاضحة بتلك " السطور الساخنة" : قتل السادات أخَّرَ المصريين ولم يغير النظام .(97/30)
لكن الأعجب من هذا كله أن يلحق بنفس العدد من الجريدة " مجلة خاصة تصدر في شهر رمضان باسم (الراشدون) "-عن الخليفة الثالث " عثمان ذو النورين" – إليك عناوين أربع صفحاتها الكبيرة : بدءا بما كتبه المفكر الكبير حسين أحمد أمين عن ثالث الخلفاء ورابع من استجاب لدعوة الإسلام : عثمان : أتعبه عمر وأحبته قريش وأنقذ الأمة من اختلاف في القرآن – إلى تساؤلات : هل كان عثمان بن عفان حاكمًا فاشلا ؟ولماذا ثار المسلمون ضده؟ في عهده أقبل المسلمون على طيبات الحياة الدنيا ، فارق كبير بين المعارضة التي قادها أبو ذر الغفاري والتآمر على الدولة بقيادة يهودي ادعى الإسلام –صدق أو لا تصدق : ابن أبي بكر أحد المتهمين بقتل خليفة المسلمين . وفي أعلى الصفحة الأولى للمجلة : لماذا قاد ابن أبي بكر مؤامرة قتل عثمان ؟ الدور الخفي لمعاوية في قتل عثمان – أبو ذر زعيم المعارضة في عهد عثمان : هل كان اشتراكيا ؟ صورة بالحجم الطبيعي لسيدنا عثمان – المصريون ودورهم في قتل عثمان. وأسفل الصفحة – بعد تساؤل محمد عبد القدوس السابق – يأتي اتهام سيد خميس لعثمان بأنه – رغم سوابقه البيضاء في الإسلام التي لم تمنع من انفجار بدايات الفتنة الكبرى في عهده – لم يستمع لنصائح عمرو بن العاص بأن يقتدي بسلفه الفاروق عمر ، فالمليونيرات في عهد عثمان : جمال الدين الأفغاني والمسعودي وسيد قطب ومحمد عمارة يرسمون ملامح الغنى الفاحش في ذلك العصر ( اكرم القصاص )؛ ولبلال فضل : أبو ذر زعيم المعارضة في عهد عثمان لم يكن المعارض الوحيد ، بل كان معه عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود ، فهل كان اشتراكيا أم ضحية اليهود ؟ إن أحمد أمين يزعم أن أبا ذر كان منفذًا لأفكار اليهودي ابن سبأ ، لكن ابن سبأ لم يكن إلا وهما من الأوهام. حسن البنا تحدث عن اشتراكية أبي ذَرّ ، لكن لجنة الفتوى طعنت فيه إرضاء للملك فاروق . الخلافات بين المسعودي وابن الأثير ومحمد عماره وسليم العوا حول(97/31)
ما إذا كان أبو ذر قد اختار منفاه أم نفاه عثمان . وعن مسئولية ابن سيدنا أبي بكر عن حادث اغتيال عثمان ؛ يقول نزار يونس : لم يكونوا جماعة من التأثرين بل كانوا أشخاصًا معروفين ومحددين ، وعن الدور الخفي لمعاوية بن أبي سفيان في قتل سيدنا عثمان : يقول بلال فضل أيضًا أنه "راح ضحية الأقارب العقارب " فلم يدرك خطورة دورهم ولا خطورة أهدافهم . فقميص عثمان كان وسيلة قريش للاستيلاء على السلطة ، وقتل عثمان كان أكثر فائدة لها من موته على فراشه . عثمان أخطأ عندما قرب مروان الذي نفاه الرسول إلى الطائف . مروان هو الذي زور كتاب عثمان المزعوم وهو الذي كان المتآمر الأساسي على قتله – وعلى الصفحة الرابعة في (مُخربشات) تراث الأمة لعماد غازي : المصريون لعبوا دورًا أساسيًا في اغتيال عثمان لهذه الأسباب ، رغم أنه كان هناك أيضًا مصريون متشيعون لعثمان ، الحزب العثماني في مصر ساعد معاوية في الاستيلاء عليها (أشرف أنس) ، قصة ذات الصواري – أول طلعة بحرية (حمدي عبد الرحيم)، وعما إذا كان ما حدث لعثمان مشاغبة دهماء لم تجد من يكبحها – كما قال العقاد: يقول حلمي النمنم : إن تولية عثمان لعبد الله بن أبي السرح كانت شؤمًا على المسلمين فقد ظلم المصريين ففتح باب الفتنة وكانت الكارثة عندما واجه مسلمو مصر عثمان : إن كنت كاذبًا استحققت الخلع – أما قراءة علاء الدين عرفات لرؤية طه حسين لعثمان فهي أن " الفتنة الكبرى " كانت ستقع لا محالة بعثمان أو بغيره .(97/32)
لا غرابة إذن – بعد هذا التشويه لمقدسات التراث القومي والديني وتجريح رموز الثقافة العربية الإسلامية – أن يسود الشقاق والانقسام وجهتي النظر المتطرفتين لكل ما يعرض للنقاش والحوار من قضايا الثقافة والإعلام – فمع تخصيص ملحق للأهرام عدد 19 نوفمبر 97 عن " ملامح العالم في القرن الحادي والعشرين " عناوين مقالاته الرئيسية على ثماني صفحات " العالم مشدود بين الكونية والقومية ، دنيا محمولة على كابلات ، العالمية ثقافة من لا ثقافة له ، لكن المحلية تقهر العالمية أحيانًا، في أوربا صراع أفكار أم حرب أعراق ، أفريقيا تسقط في هاوية التمزق ، النازية هل تجد موطئ قدم في ورسيا ، الشيوعية في شرق ووسط أوربا تطارد اقتصاد السوق الحرة ، أجراس الكنيسة المحافظة تقرع بموجة جديدة من التطرف ، التطرف الصهيوني خطر على إسرائيل أيضًا … وعمومًا ليس هذا هو العالم الذي نتمناه – ونحن نتطلع إلى " ثورة يابانية في مجال العمل " ، وإلى " وظائف أكثر وأفضل " … وفي غير وعي بما يتهدد الثقافة العربية في بلادها من نكسات " المحاكمة ثمنًا للدفاع عن اللغة العربية في الجزائر " حيث مَثُل أمام محكمة الاستئناف في العاصمة الجزائرية رئيس جمعية الدفاع عن اللغة العربية الدكتور عثمان سعدي في دعوى كانت قد رفعتها ضده جمعية الأمازيغية المعبرة عن الثقافة البربرية لمقاله الذي تعرض فيه لنشاطات الأكاديمية البربرية في باريس ومحاولتها منع تعميم العربية ونشر اللغة البربرية بالحروف اللاتينية وتقسيم الشعب الجزائري على أساس لغوي ( العربي 19 مايو 97) … أو لمحاولة إعادة " تتريك الإسلام " في الاحتفال بالذكرى الستين لوفاة أتاتورك – الخامسة والسبعين لقيام الجمهورية التركية التي نشرت عنه يوم 17 نوفمبر جريدة "صباح " التركية الواسعة الانتشار بعنوان: آخر وصية لأتاتورك العبادة باللغة التركية – حيث في نادي طوزلا الروتاري تحدث المثقف التركي جمال قوطاي العلماني(97/33)
البالغ من العمر تسعين عامًا مذكرًا بخطبة أتاتورك (4 فبراير 1923) في جامع زاغانوس باشا بمدينة باليق أسير التي استمرت ساعة ونصف كأول إشارة منه لرغبته في تتريك العبادة (الذي وضع مشروعه سنة 1936م) ومطالبًا الرئيس ديميريل بضرورة تحقيق هذه التوصية … مما رد عليه الدكتور محمد حرب رئيس مركز بحوث العالم التركي بفشل تنفيذ أمر الأذان للصلاة بـ (طائرى أولو دور) بدل الله أكبر ، وعودته إلى الرفع بالعربية عام 1950م، وأن ترجمة معاني القرآن الكريم لا تجوز الصلاة بها ، كما لا يمكن أن يكون هناك قرآن تركي يتلى كما يتلى القرآن بلغته العربية … كما يقول العالم الإسلامي الأستاذ الجامعي خير الدين كرمان في مقاله بجريدة الشفق الجديد (23فبراير 97).(97/34)
وإذا كان المثقفون الأتراك مدركين أن عناصر وضباط الجيش التركي هم حماة الكمالية العلمانية التركية تنفيذًا لخطة المُنظِّر اليهودي العثماني للحركة القومية العلمانية التركية مائير كوهين في كتابه "الروح التركية " الذي يجردها فيه من كلا القومية العربية والدين الإسلامي بادعائه أن " مبدأ العلمانية أحد الأعمدة الرئيسية في تركيا الجديدة ، وأنه يطابق كل المطابقة النظام السياسي والاجتماعي للأتراك القدماء قبل الإسلام – حين لم يجعلوا في أي وقت من الأوقات ولا في أي عهد من العهود أدنى أهمية للدين في حياتهم العامة . فالأتراك بالفطرة ليسوا في حاجة ماسة إلى الدين ، ولا كانوا مهتمين قط في أي عهد من عهودهم قبل إسلامهم أدنى اهتمام بالعقائد الدينية !!! فما بال المثقفين المصريين لا يدركون خطورة هدمهم للتراث العربي الإسلامي وهم يتناولون كل قضايا الثقافة التي تمس هويتهم الذاتية والقومية ويتحاملون على الذين يدافعون أكثر إيمانًا منهم بتراثهم الحضاري التاريخي والإنساني من المستشرقين والمستعربين إلى حد اعتناق الإسلام عن اقتناع ويقين ؟ فجارودي الذي يحاكم بتهمة معاداة السامية لانتصاره لهم ودعوته لوحدة إسلامية بعيدًا عن الاختيار السياسي أو المذاهبي ووقف مفاوضات السلام المهزلة والكفاح المسلح وسحب أموال العرب من أمريكا … يُهرع البعض للدفاع عنه بينما يشكك آخرون في صدق إسلامه ونواياه وعقيدته، وكتاب أثينة السوداء الذي يرد اعتبار الحضارة المصرية بقوله إن الأوربيين لصوص سرقوا حضارة مصر القديمة لأنفسهم بالأدلة والبراهين التاريخية والأثرية القاطعة يعارضه بحدة مراد وهبة قائلا إن المصريين القدماء عرفوا التطبيقات العملية لا النظريات العلمية في الرياضيات والعلوم – حتى الفراعنة لم يملكوا علومًا بل خرافات أسطورية وفكر ديني والتنويريون الأوربيون هم الذين أقاموا عصر العقل وحققوا نهضة علمية . والدعوة للاحتفال بالذكرى(97/35)
التنويرية للحملة الفرنسية على مصر يقوم الشجار حول ما إذا كان يُحتَفل بغزو الفرنسيين بدهاء تاريخي أم بترودولاري في حملة ثورة يوليو لتحرير اليمن،وفي إعادة قراءة التراث : هل سرق ابن خلدون نظريات إخوان الصفا؟ وهل كل رموزنا الفكرية الأخرى منذ امرئ القيس شخصيات وهمية أم لصوص؟
5- انعدام التكامل الثقافي على المستويين الفردي والاجتماعي :
لما كانت اللغة العربية – لغة القرآن وعقيدتنا الإسلامية – هي الثابت بين متغيرات الجنس والدين والأماني المشتركة التي تولد روح الأمة ونفسية الشعب بوحدة الفكر في القومية والوطنية والانتماء والولاء ومسئولية الجميع في الإيمان بالمصير المشترك – في مجالات الحياة الاجتماعية بمؤسسات العلم والتعليم والإعلام والثقافة التي تعمل على تكامل الهوية والثقافة للفرد والمجتمع – ولكل من هذه المؤسسات أجهزته وأدواته التي تعمل لجانها ومجالسها ومجامعها وجمعياتها على توحيد لغة العلم والتعليم والفكر والإعلام والثقافة الجماهيرية فيما يوجه كل منها من خطاب تربوي وسياسي علمي خلقي ديني واقتصادي وأدبي واعلامي … فإنه يحدث حين يتعذر على المؤسسة – في جو التنافس والتسابق الذي يؤدي إلى التفرق والتشتت وصراع الآراء لتداخل الاختصاصات وتعدد العوامل المؤدية إلى الهدف المشترك … أن تتنصل من عدم نجاح مساعيها بإلقاء اللوم على غيرها لتشركه معها في المسئولية – وفي أحسن الظروف ، ابتغاء التعاون والتواصل والتنسيق والاندماج – وربما الانفتاح عليه وغزوه في عقر داره لتحميله المسئولية كاملة .(97/36)
فإذا نظرنا لمؤسسات العلم والتعليم والتعلم والثقافة والإعلام وجدنا لمجمع اللغة العربية ومعاهد وكليات الجامعة والمجلس الأعلى للثقافة ، نفس اللجان والأقسام العلمية والأدبية التي تمارس كل منها اختصاصاتها الرسمية المحددة لها بقانون إنشائها وحكم لائحتها وأعضائها المنتخبين أو المعينين . وكثيرًا ما يحدث أن يجمع عضو إحدى المؤسسات بين أستاذية الجامعة وعضوية المجمع اللغوي ولجنة الثقافة والإعلام – وربما عضوية المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، أو مجمع البحوث الإسلامية، أو أكاديمية البحث العلمي … فيؤثر ذلك على تفرغه لطبيعة العمل في كل جهة إن لم تؤد به إلى خلط المهام المكلف بها كل منها أهي مجرد تعريب العلوم وتيسيرها أم عملية تعليمها للأجيال أم التثقيف والتخاطب أم أسلمتها وتراثيتها وأجنبيتها … مما يحبط عمل زملائه في الجهة الأخرى الذين يتطلعون إلى الفوز مثله بالجمع بين عضوية مجمع الخالدين والترشيح لعضوية البحوث الإسلامية أو جائزة الدولة التقديرية بالمجلس الأعلى للثقافة أو أكاديمية البحث العلمي ، أو الصحافة والإعلام … هذا في الوقت الذي يوجد به في كل تلك المؤسسات خبراء وعاملون لعشرات السنين لم تؤد بهم الترشيحات المتعاقبة في مواقعهم للفوز بتلك العضويات المرموقة التي يتطلع إليها ويفوز بها الساعون لنيلها من خارج المؤسسة ؛ مما يساعدهم عليه ويؤيدهم فيه المنفتحون على الغير لتبادل المؤازرة والتعضيد في الجبهتين .(97/37)
ولقد كان مجمع اللغة العربية في عهده الجديد هو الأكثر انفتاحًا على الجامعات والجمعيات العلمية والثقافية الأخرى وهو يتعدى مهمته في تنسيق وتوحيد تعريب مصطلحات العلوم والفنون والآداب مع اتحاد المجامع اللغوية والعلمية التي يرأسها فيتوسع في ضم الجديد منها ويقبل للعمل تحت مظلته وفي رحابه مؤتمرات جمعيات خاصة كلسان العرب وجمعية تعريب العلوم … بما يخشى معه أن لا تؤدي التعددية والخصوصية إلى التوحيد والاتفاق بدل التفرد والافتراق فيما لم تلتزم به مجامع شقيقة عضو بالمجمع الأم في المشرق والمغرب ولا تزال – كما في كتابة الأرقام بحروف عربية أصيلة ، والحاسوب بدل الحاسبات … إلخ ، ويضطر المجمع إلى تبني الخلافات المحلية والاجتهادات الفردية والجهود الأهلية في استعمال اللغة الفصحى كلغة للتأليف والتعليم والإعلام بما يسبغ عليها من مشروعية – مثلما أن إنشاءه للجنة ثقافية تعقد ندوات مناقشة قضايا اللغة والأدب تنقل إلى ساحته الشماء خلافات العلماء والأدباء (الذين لا يرون أنفسهم أدنى من أن يكونوا أعضاء بالمجمع ) في طروحات مواقفهم المتميزة من هذه القضايا وهم يعرضونها على جمهور الحاضرين من أعضائه وعلى المعجبين بآرائهم وتجديداتهم التي طالما استمعوا إليها في ندوات ثقافية أخرى خارج المجمع وهم إنما حضروا ليوجهوا الأسئلة والتعقيبات المؤيدة لها أو المعارضة في مقر المجمع اللغوي العتيد – للتصديق عليها وتوثيقها .(97/38)
ويقينًا فإن انفتاح المجمع على الإعلام الصحفي خصوصا الذي تعدى مجرد نشر توصيات مؤتمره السنوي ( التي لا ضَيرَ في تكرارها في حدود اختصاصه ) إلى استقبال الصحفيين والإدلاء لهم بأحاديث تبشر بعدم اقتصار المجمع على النهوض بمسئولياته عن تعريب العلوم وتيسير الانتفاع بها بل الاتصال الشخصي بالمسئولين عن التعليم والإعلام للأخذ بهذه التوصيات – مما عبر عنه الصحفي بعبارات اتهام لهؤلاء (بدفن) القرارات في وزارة التعليم ، وسحب المجلس الأعلى للثقافة البساط من المجمع للتعاون بدلا منه مع وزارة التعليم ، وعدم صدور القرار السياسي بالتعريب الذي تؤيده الحكومة … ورغم وصف الرئيس بـ (الشجاعة) التي يندر أن نجدها عند غيره، وبـ (العنف) الذي أوقف به سير العمل بالمعجم الكبير رغم توافر الميزانية ليبدأ العمل فيه بلجان جديدة … فقد انعكس هذا الاتهام للآخرين اتهامات للمجمع في حجب العضوية عن الشخصيات التي يمكن أن تثريه، وعزوفه عن ترشيح المرأة، وأن العمل به لا زال (رهن المحبسين) التمسك بالموروث والرغبة في الكسب السريع ، وتطويع تكنولوجيا المعلومات للغة العربية لإمكان بناء برامج الحاسبات المتنوعة ومكتباتها ومخازن معلوماتها … وعموما (محاكمته) والدعوة إلى إحداث (ثورة) على رجاله وإجراءات اختيار أعضائه وبطء سير العمل به … وتحميله المسئولية أولا وأخيرا عن أزمة الهوية الثقافية التي نعيشها بسبب جمود اللغة وعزلتها عن الحياة … الأمر الذي تنزل بالمجمع من علياء سمائه في برجه العاجي إلى معترك الحياة الثقافية التي تموج بالاتهامات بل المهاترات لأغراض شخصية–وكما تدين تدان،والبادي أظلم.(97/39)
وليس خافيًا أن جهود المجلس الأعلى للثقافة التي لا تكل ولا تمل من الحوار بالندوات والمؤتمرات (التي تعقد يوميا بل العديد منها في اليوم الواحد بأكثر من مكان) إنما تهدف إلى عبور الهوة بين الأصالة والمعاصرة ، التراثية والكمبيوترية … للوصول من التقاء الثقافتين إلى ثقافة واحدة قبل أن تسد هذه الفجوةَ إجباريا المحليةُ الخصوصيةُ داخل المعلوماتية الكوكبية . لكنها وهي في سباقها مع الزمن لتحقيق تلك الغاية تصطدم بعراقيل التطرف والإرهاب الفكري الذي يسود مؤسسات المجتمع المدني الأسرية والتربوية والدينية والسياسية والاقتصادية والسياحية- مما تواجهه الدولة (إلى جانب الإجراءات الأمنية ) بحشد جهود هذه المؤسسات المدنية للتصدي لهؤلاء المتطرفين الذين يضرون بأرواحهم وأرزاقهم . ولا تقتصر مواجهات أصحاب الرأي والرأي الآخر على من هو أهل لقرع الحجة بالحجة في جو من حرية التعبير عن وجهة النظر ، بل يتطوع من ليس أهلا أو غير ذي صفة أو مصلحة في رفع دعاوى إن لم يكن بالردة للمطالبة بتطليق الزوجة … فإلي الحد الذي دفع بالدولة إلى تقنين دعاوى الحسبة . ولعل أول محاكمة منذ سقراط الإغريقي لأستاذ فلسفة كانت يوم 15/5/95 حين مثل الدكتور عاطف العراقي أمام محكمة (جنايات) المنصورة بتهمة تأويل بعض الأحاديث النبوية التي رفعها عليه قبل ثلاثة أشهر من المحاكمة أحد المحامين بالسنبلاوين استنادًا إلى ما نشرته مجلة اللواء الإسلامي على مدى أربعة أسابيع وصدور الحكم بالبراءة في نفس الجلسة . وكما كان النشر الصحفي هو المحرض على رفع دعاوى الاتهام ، فإنه هو أيضًا ناشر الكسب الإعلامي بالبراءة … على أن يترك للفرقاء (الأهل) في التخصص التقاضي حول خصوماتهم الفكرية .(97/40)
فلا سبيل إذن أمام المجلس الأعلى للثقافة ، للتعجيل بتهيئة بلادنا لدخول عالم الكوكبية المعلوماتية الجديدة ، غير مواصلة عقد ندوات حوارات المثقفين فيما بينهم ، ابتغاء تحقيق التكامل الثقافي على مستوى المجتمع العام - على غرار ما حدث في ندوتين عقدهما في رحابه خلال شهر فبراير الجاري ، في ذكرى رحيل اثنين من كبار الشخصيات التي تحقق لها التكامل الثقافي كنموذج – الأولى للعالم المنطقي الطبيب الأديب الموسيقي الإنسان دكتور أبو شادي الروبي – وقد طبق عليه نموذجه في التكامل الثقافي مهندس البرمجة الرائع الدكتور نبيل علي ، والثانية لفيلسوف الوضعية المنطقية العقلاني الوجداني التنويري المجدد للعقل العربي وأستاذ فلاسفة ومفكري الجيل الدكتور زكي نجيب محمود – وقد ختمت أنا المناقشة حوله بتطبيق نموذج التكامل الثقافي هذا على شخصيته المبدعة الخلاقة .(97/41)
وخلاصة نموذج تحقيق التكامل الثقافي على مستوى الفرد ( الميكرو) أن يدخل في مفهوم التكامل عمومًا مفاهيم أساسية هي : التوازن والاندماج وتعدد الأبعاد والتناسق والتمحور والتواصل والفاعلية ، وأن يعمل التكامل الثقافي في عصر المعلومات على سد الفجوة بين الثقافتين اللغوية والكمبيوترية ، بين تكنولوجيا المعلومات والإنسانيات ، وتوظيف المعرفة لا الطنطنة بها بحيث تكون المعرفة ممارسة عملية وفعلا لا قولا، وأن تتخذ الثقافة كمحرك أول للتغير المجتمعي بحيث يجيئ التكامل الثقافي على مستوى المجتمع العام (الماكرو) حصيلة تكامل الخطابات : العلمي ، التربوي الأدبي، السياسي ، الإعلامي ، الاقتصادي، الديني … وتصارعها ، ربط التعلم بتظرية التعليم الكمبيوترية( كما في الهندسة الوراثية وتعليم الخلايا السرطانية أن لا تنتشر ) وبنظرية التعلم الذاتي لبياجيه وتوظيف الذكاء الاصطناعي في التنبؤ ورسم سيناريوهات حل المشاكل الآنية والمستقبلية . وفي التعامل مع ظواهر فرط المعلومات وضخامة المعلوم وتعدد الثقافات لا غنى عن مداومة التثاقف لتنمية القدرة على التثقف وتنوع القدرات الذهنية للمثقف: بتوسيع ذاكرته لا لمعلومات بل لمفاهيم. وحيث تكنولوجيا المعلومات تعطينا العديد من الحلول يتدرب المثقف على عدم التطبيق الصارم للقواعد ، واستخدام الأساليب غير القاطعة ، والتواصل والتعاون مع الآخر (الذكي ) . وللصمود إزاء التعقد في الحياة اليومية الحديثة بسبب تداخل العلوم في كل موقف، لابد من تكامل الخريطة الذهنية للفرد بين الأدب والفن مع الزمان والمكان ونظام الحكم والقيم واللغة – مهما يكن أن اللغة
أكثر قبولا من غيرها للحوسبة – حيث لا علم في المستقبل المنظور إلا إذا كان قابلا للتسجيل بالحاسبات ، ومهما يكن أن تكامل تكنولوجيا المعلومات والإنسانيات تسحق بُعدَي المكان والزمان .
كمال دسوقي
عضو المجمع(97/42)
كثر الكلام في السنوات الأخيرة بين جمهرة العلماء والمثقفين في مصر عن مستوى اللغة العربية في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا وجوانب أخرى من حياتنا اليومية والذي بلغ درجة ملحوظة من الهبوط والضعف مما أشاع قلقا بالغا بين سدنة اللغة العربية وحماتها والقائمين فيها.
ومنذ عهد ليس ببعيد إبَّان أيامٍ خلت كانت اللغة العربية هي اللغة الفصحى وكان معتنى بها تدريسًا وتلقينًا وكتابةً وإذاعةً مرئيةً ومسموعةً ولكن أصبح الآن بين اللغة ودارسيها والناطقين بها جفوةٌ صارمةٌ وحلّت محلها اللغة الدارجة أو خليطٌ بين الفصحى والعامية – والحقُّ إن اللغة تعاني اليوم من أزمة حادة بسبب ما يجري اليوم على الألسنة في كل مكان فالكثير مما نأكل وما نلبس وما نتداوى به وما نستخدمه من أدوات الصناعة والزراعة ومختلف الفنون وما يقع عليه
بصرنا وما تسمعه آذاننا وما تلمسه أيدينا مستوردٌ أو مصنوعٌ بلفظه الأجنبي ويطلبه الناس بلفظه الدخيل على اللغة وأصبح كل ذلك جزءً ا من حياتنا .
ومما زاد الأمر سوءً ا ما نشهده اليوم من هجمة اللغات الأجنبية والتي امتدت أيضًا إلى وسائل الإعلام إلى درجة إدخال المقطع " كو " ( اختصار كلمة Company أي شركة ) على أسماء الأعلام والشركات فأصبحنا نقرأ على لافتات المحلات التجارية مسميات مثل يوسف كو للمقاولات ، هيدكو للأعمال الهندسية ، وأرامكو للبترول وفاركو للأدوية – كما انتشرت لافتات بأسماء أجنبية مكتوبة بحروف عربية مثل سوبر ماركت ، وفاين فودز ، هوم سيرفس ، ميريلاند وغيرها .
ومما يبعث على القلق أيضًا انتشار مدارس اللغات في مصر في السنوات
الأخيرة فهي تُسهم في هذه الهجمة الشرسة على اللغة العربية إذ لا تولي اللغة العربية في مناهجها إلا أقل القليل وهذا أمر جدّ خطير على مستقبل أبنائنا فكريا وثقافيا واجتماعيا ويدعونا ذلك إلى وقفة صارمة ضد هذا التيار .(98/1)
ومن اللافت للنظر عن هجمة اللغات الأجنبية على اللغات الوطنية للشعوب وغزو اللغة الإنجليزية والانبهار بكل ما هو أمريكي ما قاله فيديريكو ماير مدير اليونسكو في محاضرته التي ألقاها في تونس منذ شهور عن التطورات الثقافية والاقتصادية والسياسية في العالم محذّرًا من خطورة العولمة التي تتجه بقوة إلى صبغ العالم بثقافة واحدة ولغة سائدة واحدة حتى تفقد الشعوب هويتها وتنصهر في بوتقة ثقافة العولمة .
وعن الموضوع نفسه تحدث أستاذنا الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع في محاضرة له بالجامعة العربية منددا بثقافة العولمة ولغة العولمة ومندّدا بخطرها على هويتنا الوطنية والثقافية ولغتنا القومية .
ومن المصادفات القريبة ما كتبه أستاذٌ غيورٌ على اللغة العربية هذا الأسبوع في إحدى مجلات دار الهلال ( المصور ) وكأنه على موعد لما نتصدّى له اليوم من مختلف قضايا اللغة العربية إذ يقول :"اللغة رَمْزُ أمَّتنا وبها نزل القرآن وحين يضيع هذا الرمز تضيع معه الهوية والهدف ولذلك علينا الحفاظ عليها ونبتعدُ عن كل ما يفسدها .
وكانت وسائل الإعلام من قبل تقوم بهذا الدور ، وبذلك شاركت في إعداد أجيال تحرص على اللغة العربية وسلامتها ولكن ما يحدث الآن هو العكس تماما ويتبدى هذا في الكلمة المسموعة والكلمة المرئية حين تجري على الألسنة لغة عامية دارجة هابطة المستوى تبرأ منها لغتنا الجميلة، لذلك لابد لأصحاب الأقلام الحرة أن يتصدوا لهذه الظاهرة حتى لا تمتد لما هو أبعدُ من ذلك فيضيع منا الرمز ونفقد الهوية ".
الاهتمام باللغة العربية :(98/2)
لست في حاجة إلى القول إن اهتمامنا باللغة العربية ينبع من عقيدة دينية ثم من عاطفة وطنية وقيم حضارية وضرورات اجتماعية - هي وعاء الفكر ووسيلة الاتصال والتفاهم ورابطة القومية – هي اللسان المبين الذي حفظه الله مع الذكر الحكيم وهي الوعاء الذي يحوي خبرات أهلها وتجاربهم ومعارفهم وفنونهم ومثلهم العليا وسائر ضروب ما تنتجه قرائحهم والذي يحتفظ كل ذلك من جيل إلى جيل عبر العصور – واللغة العربية إلى هذا كله الأداة الأساسية التي نستخدمها في نقل مختلف العلوم والفنون والمعارف إلى الناشئة في مراحل تعليمهم العام والعالي والجامعي وهي كذلك أداة نشر الثقافة بأوسع معانيها وتراثنا وحضارتنا عن طريق مختلف وسائل الإعلام كما هي الأداة التي يستخدمها الإنسان في تثقيف نفسه بنفسه وفي تعلمه الذاتي مدى حياته – ومن هنا تبدو أهمية اللغة العربية وأهمية تعلمها وتعليمها لا باعتبارها مادة دراسية مقررة فحسب ولكن باعتبارها محورا أساسيا في بناء الإنسان بكل جوانبه ومحورا للعملية التعليمية في كل مراحل التعليم ومحورا للنشاط الإنساني في المجتمع وفوق كل ذلك الاعتبار الديني فكل شعائر الإسلام وأركانه تدعو إلى تعلم اللغة العربية ثم كان القرآن الكريم الباعث إلى أكثر العلوم العربية الخالصة سواء العلوم الدينية من تفسير وحديث وفقه وتشريع أو العلوم الدنيوية من نحو ولغة وبلاغة وغيرها وقد حمل الأزهر الشريف في مصر هذه الرسالة أكثر من ألف عام .
عبقرية اللغة العربية :(98/3)
وعن عظمة اللغة العربية وعبقريتها ما شهد به المستشرقون المنصفون فقد قال المستشرق جرونياوم في مقدمته لكتاب تراث الإسلام :" إن اللغة العربية هي محور التراث العربي الزاهر – وهي لغة عبقرية لا تدانيها لغة في مرونتها واشتقاقها وهذه العبقرية في المرونة والاشتقاق اللذين ينبعان من ذات اللغة جعلتها تتسع لجميع مصطلحات الحضارة القديمة بما فيها من علوم وفنون وآداب وأتاحت لها القدرة على وضع المصطلحات الحديثة لجميع فروع المعرفة " – وكذلك يقول المستشرق الألماني بروكلمان الذي أرح للفكر والتأليف العربيين في العصر الجاهلي حتى الآن في سلسلة كتبه الشهيرة " تاريخ الأدب العربي " يقول إنه بفضل القرآن الكريم بلغت اللغة العربية من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أي لغة أخرى .
وفي معرض التدليل أيضًا على ثراء اللغة العربية أن هناك علمًا ما يثبت أن اللغة العربية الفصحى هي أم اللغات وأصل الكلام بينما تمثل اللغات الأخرى قنوات وروافد لها – وكما يقول الأستاذ الدكتور محمود الرضاوي مقرر لجنة التعريب باتحاد الأطباء العرب فإن 80 من أفعال اللغة السكسونية ، 75 من أفعال اللاتينية تأتي من أصل عربي ، ويؤيد هذا أن هذا عدد الجذور في اللغة العربية يزيد على 16000 ستة عشر ألف جذر بينما في اللغة السكسونية ما يزيد قليلا على ألفي (2000) جذر في حين لا تحتوي اللغة اللاتينية إلا على ثمانمائة (800) جذر مع ملاحظة عامة أخرى أن اللغة العربية تخرج منها مشتقات وتراكيب قد تجل عن الحصر.(98/4)
ودليل آخر ( كما يقول أستاذ الفلسفة فريد تادرس ) فإن عدد أبنية كلام العرب وكما يقرر الخليل بن أحمد في كتاب " العين " يبلغ 412 و 305 و 12 كلمة ولذلك فهي– أي اللغة العربية – أكثر لغات العالم أصوات ومقاطع إذ بها 28 ثمانية وعشرون حرفا غير مكرر ، بينما في اللغة الإنجليزية ستة وعشرن(26) حرفا ومنها مكرر – وفي هذا السياق يصفها سليمان البستاني مترجم إلياذة هوميروس بأنها " أطول اللغات الحية عمرًا وأقدمها عهدًا وأكثرها ثراء بالألفاظ والمعاني مستشهدًا على ذلك بالإلياذة فهي بكل بلاغتها وسائر منظومات هومروس على علو شأنها لم تُقم اللغة اليونانية دعامة ثابتة حتى في بلادها " لكن اللغة العربية وحدت اللسان بين العرب وانتشرت بين آلاف المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وفي كل مكان .
لمحة تاريخية عن اللغة العربية في مصر :
عرفت مصر اللغة العربية بعد الفتح إبَّان القرن السابع الميلادي (عام 640م) وعندما دخلها العرب كانت اللغتان القبطية واليونانية سائدتين في البلاد وقد استقدم الفاتحون معهم مترجمين للتفاهم مع أهل البلاد في ذلك الوقت وقد استمر الحال على هذا المنوال قرابة قرن من الزمان إلى أن صدر أمر بإحلال اللغة العربية في الهيئات الحكومية وابتدأت اللغة العربية تتغلغل في البلاد مع انتشار أهلها – ووفد على مصر بعض العلماء العرب الذين كتبوا وألفوا بالعربية مثل ابن يونس في القرن العاشر والبغدادي في القرن الثاني عشر والثالث عشر وغيرهما – وقد عاشت اللغة العربية مع اللغة القبطية عدة قرون في مصر إلا أن هذه الأخيرة أخذت تنحسر رويدا رويدا بحلول أواخر القرن الثامن عشر وكانت العربية قد استقرت وعم استعمالها في مصر كلها .(98/5)
وفي أوائل القرن التاسع عشر بدأ الحكم التركي لمصر وتعصبت العناصر التركية التي تولت الحكم للغتهم وتخلف تعليم اللغة العربية وشاعت العامية حتى في المكاتبات الرسمية ثم جاء الاحتلال البريطاني ( 1882) وقصر اهتمامه على المرحلة الابتدائية من التعليم فتراجعت اللغة العربية إلى معقلها بالأزهر ودار العلوم وأخذ المحتلون يحاربون اللغة العربية ويفرضون لغتهم على مواد التعليم كله لتجذب المتعلمين بها إلى حظيرة ذوي الثقافة الإنجليزية ورأوا أن إحلال العامية المصرية محل اللغة العربية قد يحقق مآربهم فنادوا بذلك صراحة وقد آثار ذلك الشعور الوطني الذي ظل يعتمل في صدور الوطنيين المخلصين من قادة الشعب إلى أن قامت ثورة عام 1919م وصدر في أعقابها دستور 1932 فأعاد سعد زغلول بجرة قلم اللغة العربية لغة للتعليم في جميع المدارس الحكومية ثم إخضاع التعليم الأجنبي للإشراف المصري ومحاربة الدعوة إلى استخدام العامية – وتقلص بذلك نفوذ دنلوب وغيره من المستشارين البريطانيين الذين كانوا نكبة على التعليم بصفة عامة وعلى اللغة العربية بصفة خاصة .
وبدأت بعد ذلك نهضة علمية وتعليمية تمثلت في إنشاء الجامعة المصرية عام 1925 والتوسع في إنشاء المدارس الابتدائية والثانوية والمعاهد العليا ثم أنشئ مجمع اللغة العربية عام 1932 فكان نصرا كبيرا للغة العربية والحفاظ على سلامتها والعمل على أن تكون وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها ملائمة لحاجات الحياة في العصر الحاضر .
اللغة العربية في التعليم العام في مصر
الوضع الحالي بالنسبة لتعليم اللغة العربية :(98/6)
اهتمت مصر في ربع القرن الأخير وقبل ذلك بالتعليم الفني فزاد عدد المدارس زيادة مطردة في كل رجًا من الأرجاء في الحضر والريف على حد سواء – وفي العام الدراسي 1995/1996 بلغ عدد المدارس الحكومية في المراحل المختلفة من التعليم ابتدائية وإعدادية وثانوية وفنية 21.299 مدرسة عدا المدارس الخاصة (وكان نصيب رياض الأطفال من هذا العدد 2060 مدرسة ، التعليم الابتدائي والإعدادي 188 و 16 مدرسة ، الثانوي العام 1452 مدرسة ، الثانوي الفني 1599 مدرسة ) وإذا أضفنا إلى هذا العدد المدارس الخاصة والمعلمين والمعلمات ومدارس أخرى وما زاد من مدارس في العام الدراسي 96/97 يصبح العدد نحو 25000 خمسة وعشرين ألف مدرسة (كما ذكر ذلك وزير التعليم في معرض حديثه عن التعليم بالمجالس القومية المتخصصة ) .
وبالنسبة لعدد الطلاب فيبلغ في العام الدراسي 95/96 750 و 739 و 10 عشرة ملايين وسبعمائة وتسعة وثلاثين ألفا وسبعمائة وخمسين طالبا في مراحل التعليم العام والفني ( ومن هذا العدد الكلي 702 و 266 طفلا في رياض الأطفال ، 437 و 470 و 7 تلميذا في التعليم الابتدائي والإعدادي ، 387و817 طالبًا في المدارس الثانوية ، 424و785 طالبا في الثانوي الفني) وإذا أضفنا إلى هذا العدد الكلي طلاب المدارس الخاصة وطلاب وطالبات المعلمين والمعلمات ومدارس أخرى وما زاد من عدد الطلاب في العام الدراسي 96/97 يصبح العدد أكثر من اثنى عشر مليونا من الطلاب في جميع مراحل التعليم العام والفني.(98/7)
وبالنسبة لعدد المدرسين في هذه المراحل فيبلغ العدد 850.000 ثمانمائة وخمسين ألف مدرس يتدرب منهم الآلاف على تكنولوجيا المعلومات والوسائل التعليمية الحديثة والمستحدثة باستخدام الكومبيوتر والإنترنيت ، ومن هذا العدد يبلغ عدد مدرسي التعليم الفني 748و235 مدرس منهم 649و56 في التعليم الصناعي، 618و85 في التعليم الزراعي ، 481و93 في التعليم التجاري وقد زاد هذا العدد في العام الدراسي 96/97 ، 97/98 وكذلك عدد مدرسي المراحل الأخرى من التعليم العام .
وقد تضخم عدد الطلاب في المدرسة الواحدة إلى نحو ألفين ( 2000 ) وبخاصة في المرحلة الثانوية في بعض الحالات ، الأمر الذي يعوق عملية الإشراف والإدارة على الوجه الأكمل . كما ارتفعت كثافة الفصول المدرسية حيث يصل العدد فيها إلى ستين (60) تلميذا أو أكثر في الفصل الواحد مما يؤثر سلبيًّا على العملية التعليمية ومستوى الأداء .
وتتصدر اللغة العربية مناهج الدراسة في هذه المراحل من التعليم العام . ويقوم بتدريسها عدة آلاف من المدرسين من ذوي المؤهلات والمستويات المختلفة مما سنعرض له في حينه – ولكن الحقيقة اللافتة للنظر في هذا العام أن العجز في مدرسي اللغة العربية في التعليم العام والتعليم الفني ودور المعلمين والمعلمات طبقا لإحصائية 85/1986بلغ 852و12 مدرسًا ومُدرسة زاد زيادة كبيرة في العام الدراسي 95/96 ، 96/97 بازدياد العدد الكبير من المدارس التي أنشئت في السنوات الأخيرة كذلك ازدياد عدد الطلاب باطراد.
المشكلات الأساسية في تعليم اللغة العربية:
يجابه تعليم اللغة العربية في مراحل التعليم العام في مصر في الوقت الحاضر ومنذ سنوات مشكلات أو صعوبات نتناولها في ما يلي :
أولا – معلم اللغة العربية وضعف مستواه وإعداده :(98/8)
على الرغم من تقدم الوسائل التكنولوجية الحديثة واستخدام المواد التعليمية المبرمجة في تعليم اللغة إلا أن المعلم كان ولازال وسيظل أساسا مكينا من أسس العملية التعليمية والتربوية ولاشك أنه يحتل قلب المشكلة أو حجر الزاوية فيها – ومن الملاحظ في مصر أن معلمي اللغة العربية يتم إعدادهم في الوقت الحاضر في عدد من الكليات هي كلية دار العلوم وكليات اللغة العربية بجامعة الأزهر وأقسام اللغة العربية بكليات الآداب وأقسام اللغة العربية بكليات التربية – وكانت دار العلوم منذ إنشائها من أهم الينابيع التي تزود التعليم العام في كل مراحله بمدرسي اللغة العربية وكانوا مؤهلين كاملا لتدريس هذه اللغة إذ كانوا مزودين في مراحل تعليمهم السابقة بأسس قوية تتمثل في حفظ القرآن الكريم والدراسات الدينية والعربية العملية – ولكن بعد انضمام كلية دار العلوم إلى جامعة القاهرة أصبحت تستقبل طلابها من حملة الثانوية العامة من ذوي المجاميع المنخفضة فأدى ذلك إلى ضعف مستواهم في اللغة العربية وكذلك أصبح الحال بالنسبة لطلاب أقسام اللغة العربية وخريجيها في الكليات الأخرى ، ومما يزيد الحال سوءا أن الغالبية العظمى من هؤلاء الخريجين يوجهون إلى تدريس اللغة العربية دون تأهيل تربوي ودون تدريب على طرق التدريس .(98/9)
ومن المشاهد أيضًا ضعف إقبال الطلبة على كليات اللغة العربية وأقسامها بالجامعات المصرية وقبول أقل الطلبة مجموعًا سدًا للحاجة كمًّا لا كيفًا – الأمر الذي أدى إلى عجز ظاهر في مدرسي اللغة العربية اللازمين لمراحل التعليم العام وضعف مستواهم ، وقد زاد المشكلة حدة الأعداد الكبيرة التي تعار للتدريس في الأقطار الأخرى وهؤلاء يتم اختيارهم من أكفأ العناصر وأكثرها خبرة – وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن تعدد الكليات التي يتخرج فيها معلمو اللغة العربية أدى إلى عدم التناسق بين المناهج والمقررات الدراسية بهذه الكليات واهتمام أغلب هذه الكليات باللغة كلغة وعدم اهتمامها باللغة ومكوناتها كجزء لا يتجزأ من حياة الإنسان في مراحل نموه المختلفة وفي مستوياته الحضارية المتباينة وغني عن البيان أن اللغة كالكائن الحي تتأثر بالبيئة والمناخ الذي تحيا فيه وهي تنمو وتتطور في مضمون صورها فتخشن في ظل البداوة وترق وتلين في ظل الترف والمدنية وتتأثر برقي الثقافة وتقدم العلوم والمعارف .
ثانيًا : ازدواج اللغة :
وهذا أيضًا تمثل مشكلة في تعليم اللغة العربية فهناك لغة التخاطب أو العامية التي يتعامل بها الناس في حياتهم اليومية العامة والخاصة وهناك لغة الكتابة في معاهد التعليم وفي الكتب والصحف غيرها من المجلات – ولاشك أن للغة التخاطب التأثير القوي بما تتمتع به من نفاذ وأداء وسعة انتشار وتلقائية ومزاحمة للغة الفصحى في وسائل الإعلام وهذه تغزو الصغير والكبير وتحاصر المتكلم في كل بيت بل في كل فصل من فصول الدراسة في المدارس والمعاهد وغيرها من مجالات الحياة المختلفة.
ثالثًا – مشكلات وصعوبات أخرى . وهي تتمثل في :
افتقار كتب القراءة إلى التدرج اللغوي والتخطيط العلمي السليم لها حتى ينتقل فيها التعليم انتقالا طبيعيا من خطوة إلى الخطوة التي تليها .
عدم توافر معجم لغوي حديث لأي مرحلة من مراحل التعليم العام.(98/10)
عدم توافر مواد القراءة الحرة للتلميذ في مختلف المراحل وبخاصة في مرحلة الطفولة ويتصل بذلك قلة العناية بالمكتبات المدرسية واختبار الكتب الصالحة والمشوقة.
ازدحام مناهج النحو بكثير من القواعد مع صعوبتها .
اضطراب المستوى اللغوي بين كتب المواد بل بين كتب اللغة العربية في الصفوف المختلفة .
قلة الاهتمام بين مدرسي اللغة العربية وغيرها من مدرسي المواد الأخرى باستخدام اللغة العربية الصحيحة في تدريسهم .
قلة استخدام الوسائل والمعينات التعليمية الحديثة في تعلم اللغة .
هذه هي أهم المشكلات أو الصعوبات التي تواجه اللغة العربية وتعليمها في مصر في الوقت الحاضر وتحتاج إلى تضافر الجهود وإلى إجراء الدراسات العلمية الجادة في جميع الهيئات والمؤسسات والجامعات التي تعمل في مجال تعليم اللغة العربية وذلك للنهوض بها وارتقائها – وتجدر الإشارة هنا إلى الدور البناء الذي يقوم به مجمع اللغة العربية بالقاهرة والمجامع العربية الأخرى في هذا المجال ويرى البعض ضرورة إنشاء مركز لتطوير تدريس اللغة العربية أسوة بمراكز تطوير اللغتين الإنجليزية والفرنسية .
اقتراحات وتوصيات للنهوض باللغة العربية في التعليم العام :
هناك أمور واعتبارات هامة في تدريس اللغة العربية وتعليمها لا تلقى العناية الكافية ويجب الأخذ بها للنهوض باللغة العربية ومن هذه الاعتبارات :
1- أن يستقر في أذهان القائمين على تدريس اللغة العربية والمخططين لمناهجها الدراسية وأهدافها أن اللغة العربية عنصر أساسي من مقومات الأمة والشخصية العربية وأنها لغة القرآن الكريم والتراث الحضاري الإسلامي وأنها وعاء للمعرفة بكل جوانبها ووسيلة للتفكير والتعبير ولا تكون مجرد مادة مستقلة بذاتها للدراسة وأن ترتبط بالمجمع وتتفاعل معه لتكون أداة سهلة وطيعة للتعبير عن مشكلاته وقضاياه القومية .(98/11)
2- أن يكون البدء بتعليم اللغة عن طريق نقل الطفل أو التلميذ في المرحلة الأولى من مراحل التعليم العام نقلا رقيقا متدرجًا من لغته المختلطة إلى اللغة السليمة بعناصرها الأساسية الأربعة وهي الحديث والاستماع والقراءة والكتابة ويكون ذلك عن طريق المران والتدريب والاستخدام مع الإفادة من القدر المشترك بين العامية والفصحى ومع ترقية العامية إلى الفصحى في تدرج وفي رفق ( مثل : حنسأل تصبح سنسأل ، وكدا تصبح كذا ، ده تصبح ذا أو هذا )
ومعنى هذا أن هناك هدفين يجب العمل على تحقيقهما ، أحدهما : تشجيع استخدام القدر المشترك بين العامية والفصحى ، وثانيهما : ترقية العامية بردها في ذهن التلميذ إلى أصولها العربية ما أمكن ذلك وعن طريق المران أيضًا ننقل التلميذ رويدا رويدا إلى التشكيلات السليمة في اللغة الفصيحة .
3- تنمية الميل للقراءة والاطلاع كهدف أساسي من أهداف التعليم بل هو وسيلة تعليم الإنسان نفسه وإتاحة فرص الاستماع إلى مختارات من القراءة شعرًا ونثرًا أو قصصا ونصوصا .
4- ضرورة التخطيط لكتب القراءة فلها في كل مرحلة من مراحل التعليم العام وظيفتها ففي المرحلة الأولى على سبيل المثال يكتسب التلميذ عن طريق المهارات الأولية ثم تزداد التراكيب في علاقاتها ومستوياتها مسايرة نضج التلميذ وخبرته ويزداد تبعا لذلك المحصول اللغوي عند التلميذ .
5- ضرورة التنسيق بين مناهج اللغة العربية في مراحل التعليم العام الثلاث لإيجاد تكامل دقيق يوحد غايتها ويراعي تدريجيا ويوجه طريقة التدريس فيها ويحميها من التكرار . كما ينبغي أن تترك للمدرس مجالا للتجديد والابتكار .(98/12)
6- مراعاة التنسيق أيضًا في تأليف كتب اللغة العربية للمراحل الثلاث بحيث يؤلف الكتب وحدة متصلة تحقق أهداف كل مرحلة بطريقة متوازنة من ناحية التركيز أو الإسهاب أو البساطة أو التعمق وغزارة المادة أو قلتها وتعدد الأمثلة أو قدرتها إلى غير ذلك من عناصر تأليف الكتب الدراسية ويكون الكتاب في كل مرحلة قادرًا على جذب انتباه الطالب مثيرًا لملكاته حتى يحبه ويألفه ويأنس إليه .
7- ضرورة إيجاد تكامل بين تدريس اللغة العربية وتدريس المواد الأخرى من حيث الحرص على استخدام اللغة الفصحى في جميع مواد الدراسة .
8- العمل على تيسير قواعد النحو للمراحل الثلاث وكذلك الرسم الإملائي وضرورة إصدار معاجم لغوية ومصورة لكل مرحلة من هذه المراحل وكذلك العناية بالمكتبات المدرسية .
9- الارتفاع بمستوى مدرس اللغة العربية وتأهيله علميًا وثقافيًا ولغويا وتربويا ويشمل هذا أيضًا مدرسي المواد الأخرى.
10- استخدام الوسائل والمعينات التعليمية والتقنيات الحديثة كالحاسوب في تعليم اللغة العربية .
11- العناية بتحفيظ التلاميذ في مختلف مراحل التعليم العام قدرا مناسبا من القرآن الكريم ليستقيم لسانهم وترسخ اللغة العربية السامية في وجدانهم مع الاهتمام بالثقافة الدينية الإسلامية وحفز الشباب إلى دراستها .
12- توجيه الاهتمام بالخط العربي وتيسير الحروف والتقليل من صورها بما يحفظ لها جمالها بما لا يُبعدها عن الاتصال بالتراث وذلك للأهمية البالغة في اقتصاديات الطباعة واقتصاديات مبادئ الكتابة والقراءة .
13- ضرورة العمل على إنشاء مركز قومي لتطوير تعليم اللغة العربية يدرس واقعًا ويطور مناهجها وطرق تدريسها ويعني بتأهيل مدرسيها كما يضع سياسة تأليف الكتب والمراجع ويعمق الاستفادة من بحوث مجمع اللغة العربية واتحاد المجامع اللغوية العربية. كما يضع السياسة اللازمة لترقية المستوى اللغوي لجمهرة المواطنين.(98/13)
14- الدعوة بأن تكون لغة الصحافة وأجهزة الإعلام المسموعة والمرئية ودور النشر هي اللغة العربية الصحيحة وذلك للقضاء على ظواهر الانحراف في الأداء اللغوي وعلى الخروج على القواعد وتحريف الألفاظ والعبارات وكذلك الدعوة إلى أن يهتم المتحدثون الخطباء بالحديث باللغة العربية بصفائها ونقائها وكل ذلك له انعكاساته على التلاميذ والطلاب من الأجيال الصاعدة .
سادتي العلماء الأجلاء :
هذا عرض متواضع عن قضية اللغة العربية في التعليم العام في مصر في الوقت الحاضر ألمحت فيه إلى تاريخها وواقعها والمشكلات التي تحيط بها وتحاصرها – وأتبعت ذلك بتوصيات ومقترحات تهدف إلى حل هذه المشكلات وإلى الارتفاع بمستوى اللغة العربية .
واستميحُكُم عذرًا أني لم أتعرض في حديثي اليوم إلى واقع اللغة العربية في التعليم العالي والجامعي فقد تناولت هذا الموضوع بإسهاب في محاضرتي التي ألقيتها في مؤتمر العام الماضي وفي هذا المحراب عن قضية التعريب في مصر .
والأمل كبير أن تتضافر الجهود نحو تحقيق الهدف الذي نسعى إليه بالنسبة للغتنا العربية باعتباره هدفًا قوميًا وثيق الصلة بكياننا العربي وانتمائنا الوطني ولتعود اللغة العربية إلى سابق عهدها من المجد والسؤدد ونحن بالغُوه بإذن الله .
وشكرا جزيلا والسلام عليكم ورحمة الله
محمود حافظ
نائب رئيس مجمع اللغة العربية(98/14)
((((((((((((((
( (
( (
( (
( (
( (
(((((((((((((((99/1)
((((((((((((((
( (
( (
( (
( (
( (
(((((((((((((((100/1)
تلك سُنَّةٌ حسنة ، سَنَّها أخونا المجمعيُّ اللُّغوي المحقِّق الثَّبْت ، الأستاذ الجليل أحمد الأخضر غزال ، يوم اقتحم غيرَ هيّاب مجال حَوْسَبَة المصطلحات العلمية العربية ، ففتح لنا بذلك فتحًا مبينًا، وألْحَبَ لنا الجادّة، وعبَّد لنا المحجَّة، فله أجرُ هذه السُنَّة وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة إن شاء الله .
وقد أتيح لي أن أشهد بدايات هذه المبادرة الجريئة ، في عَقْد السبعين من هذا القرن ، يوم استضاف الأستاذ الأخضر في معهد الدراسات والأبحاث للتعريب في الرباط ، حاضرة المملكة المغربية ، جلسة من جلسات إعداد المعجم الطبي الموحد ، ثم أتيح لي بعد عَقْد من الزمان ، سنة خمس وثمانين ، أن أشرُف بصحبة كوكبة من أعلام اتحاد المجامع ، في ندوة
تعريب التعليم العالي والجامعي ، التي عقدت في الرباط كذلك ، وأن أطلع معهم على ما قطعته هذه المسيرة من أشواط . وكان قائد ركب المنتدين الذي زار المعهد ، شيخُنا الأستاذ الدكتور إبراهيم بيومي مدكور تغمده الله برحماته، ولعل أستاذنا الدكتور محمود حافظ لا يزال يذكر تلك الزيارة . فقد أعجبنا جميعًا أيما إعجاب بهذا العمل : أن تدخر كل معلوماتك المصطلحية في جهاز يقال له الحاسوب computer ، له أبجدية قوامها حرفان اثنان أو رقمان اثنان أو قُلْ: بِتَّان bits اثنان بلغة الحاسوب إن شئت : "صفر" و "واحد" تُبنى منهما آلاف مؤلفة من العبارات أو الجمل الحاسوبية التي تبدو لك إذا طالعتها شبيهة بأرقام الهاتف ، كل رقم هاتفي يتألف من ثمانية
بِتَّات ، ويطلق عليه اسم " البَيْت " byte : بَيْت الحاسوب إن شئتم مقارنةً ببيت الشعر !(101/1)
أقول : تُدْخِل هذه المُعْطَيَات data أي أبيات القصيدة الحاسوبية في هذا الجهاز اللطيف ، فما أسرع ما يَلْتَقِم هذه المُدْخَلات inputs ، ثم لا يلبث أن يقوم باعتمالها أو معالجتها processing وفق برنَامج معيَّن زوّدتَه به من قبل ، ثم يتيحها لك مُخْرَجَات outputs ميسورة التناول كبيرة الفائدة ، منسجمة كلّ الانسجام مع ما أمليتَ في هذا البرنامج .
هذه إذن هي أعضاء الحاسوب : فأعضاء الإدخال أشبه بحواس الإنسان الخمس التي تتلقف المعلومات من محيط المرء تلقُّفًا ، منها مثلا لوحة المفاتيح keyboard التي تشبه مفاتيح الآلة الكاتبة؛ ومنها أيضًا تلك الفُرضة في جسم الحاسوب التي يمكن أن يولَج فيها قرصٌ يحتوي على المعلومات أو التعليمات . أما أعضاء الإخراج فهي أشبه بوسائل التعبير التي يعبّر المرء بها عمّا يريد من صوت وإيماء وحركة وأسارير ، منها مثلا شاشة الجهاز التي تقرأ عليها ما يريد الحاسوب أن يعبِّر عنه من معلومات ، تُعرَض عليك مكتوبةً أو مرسومة ، ملوَّنةً أو غيرَ ملوّنة، مصحوبة بصوت ، أو صامتة ؛ ومنها الطابعة printer التي تسطر هذه المعلومات مكتوبة أو مرسومة على ورق .(101/2)
ولكن واسطة العقد وجوهرة الجهاز هي ذلك العضو الشبيه بالدماغ في هذا الكائن العجيب ، وهو يتألف من ثلاثة أقسام : ذاكرةٌ memory تختزن ما يرد من معلومات وتعليمات ، وذهنٌ ذكي يقوم بإجراء العمليات الحسابية والمنطقية Arithmetic and Logic Unit(ALU) ، وعقلٌ يتحكّم في سائر مقومّات الحاسوب وينسّق بينها ويضبط مناشطها . أما ذهنُ الحاسوب وعقله فكثيرًا ما يطلق عليهما معًا – ومعهما بطاقات الإظهار والقرص الصلب – اسم : وحدة التحكم المركزية CPU . وأما ذاكرة الحاسوب فذاكرتان : ذاكرةٌ دائمة لا تمحى وإنما تُقرأ فقط Read Only Memory (ROM) وذاكرةٌ وقتيةُ الحفظ عشوائيةُ الإتاحة Random Access Memory (RAM) تُقرأ ما كانت لازمة ثم تُمحى ويُكتب على آثارها متى انتفت الحاجة إلى بقائها .
أعود إلى زيارتَيْ معهد التعريب في الرباط فأقول : تمنى أستاذنا الدكتور حسني سبح رحمه الله وأحسن إليه ، في الزيارة الأولى ، وتمنَّينا معه ، أن يتاح لنا مثل ذلك في مجمع اللغة العربية بدمشق ، وتمنى أستاذنا الدكتور مدكور في الزيارة الثانية وتمنَّينا معه ، أن يتاح مثل ذلك في مجمع اللغة العربية بالقاهرة .(101/3)
وقد ظلّت الزيارتان والأمنيتان غضَّتَيْن في خاطري ، حتى يسر الله لنا في المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية ، أن نحقق ذلك في هذه المرحلة الأخيرة من مراحل إعداد الإخراجة الجديدة من "المعجم الطبي الموحد "،مستخدمين نظامًا حاسوبيًا لتخزين المعلومات واسترجاعها وتوثيقها ، ابتكرَتْه منظمة اليونسكو سنة خمس وثمانين ، وعرَّبَتْه جامعة الدول العربية ، وهو نظام يعمل في بيئة متعددة اللغات ، ويُستخدم في أكثر من أربعين ألف مؤسسة في العالم ، في الوقت الحاضر لما أثبته من كفاءة ومصداقية في التعامل . فباستخدام هذا النظام – وهو يدعى اختصارًا CDS/ISIS – أدخلنا المصطلحات الطبية التي بلغت مئة وخمسين ألفًا في الحاسوب باللغَتَيْن العربية والإنكليزية. ولا تَسَلْ عمّا تحققنا لذلك من فائدة . فقد ساعدنا ذلك على ضبط المصطلحات، والتأكد من صحة هجائها باللغتين ، وعلى شكلها ( تشكيلها ) ودقة ترتيبها ، والتأكد من أننا لم نستعمل اللفظة العربية الواحدة لأكثر من مقابل أجنبي واحد . ثم إننا استطعنا – بإضافة روامز خاصة – أن نصنِّف المصطلحات بحسب الموضوع ، بحيث نستطيع – متى نَجَزَ المعجم برمّته إن شاء الله – أن نستخرج عشرات من المعاجم التخصصية .
على أن فوائد الحَوْسَبَة computerization لا تقتصر على ذلك . فهي تُيَسِّر إيصال حصيلة العمل المصطلحي إلى المستفيدين بأسرع وقت وأهون سبيل ، سواء استُنسخَتْ على أقراص لدينة floppy disks أو على أقراص مكتنزة compact disks بذاكرة تُقرَأ فقط CD-ROMs . ثم إن الحَوْسَبَة تُيَسِّر التعرف على مواقف المستفيدين من المصطلحات،وتتيح لنا–نحن سَدَنَة المعجم دون سوانا – التعديل والتنقيح والتشذيب بحسب مقتضى الحال.
وخلاصة القول أن المصطلحات العلمية والتقنية تصبح بفضل الحَوْسَبَة أشبه بكائنات حية : تُولَد ، وتسجَّل ، وتنمو ، ويُراقب تطوُّرها ، وتتحرك بين الفروع العلمية المختلفة .(101/4)
على أن حَوْسَبة المعجم الطبي الموحد، قد فتحت لنا الباب لحَوْسَبَة مصطلحات المجمع . فقد تراءى لنا أن المصطلحات التي أقرّها هذا المجمع الموقّر في مؤتمراته لا يجوز بحالٍ أن تبقى حبيسة محاضر المجمع وقماطره، محجوبة عن عامة الناس ، اللهم إلا ثُلَّةً من أولئك الذين يعرفون سبيل الحصول عليها ويسارعون إلى اقتنائها . فأوّل غرض من أغراض المجمع كما نَصَّ على ذلك مرسوم إنشائه " أن يحافظ على سلامة اللغة العربية ، وأن يجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدُّمها ، ملائمة على العموم لحاجات الحياة في العصر الحاضر" . ولذلك فقد كان أحدَ قرارات المجمع في السنوات الأولى لإنشائه " عرضُ الكلمات التي يقرها المجمع على الجمهور ، متقبلا ما يوجَّه إليها من النقد الصادق على مدى عامٍ من عرضها، وبهذا القرار يكون المجمع قد أشرك معه أهل العلم وأصحاب الرأي كافة .. " كما قال الدكتور محمد توفيق رفعت باشا رئيس المجمع سنة ست وثلاثين . وهو ما أكده الأستاذ الدكتور إبراهيم مدكور عام اثنين وستين بقوله عن هذه المصطلحات : "على أن الاستعمال هو الفيصل في الحكم على مدى صلاحيتها . ونحرص الحرص كله على نشرها في أوسع مجال ممكن ، فنضعها تحت أنظار الباحثين من عرب ومستعربين ، ونهديها للمجامع العلمية والجامعات، ونبعث بها إلى وزارات التربية والتعليم في العالم العربي ، ونرحب بكل ما يُبدَى عليها من ملاحظات ، ولا نتردد في أن نعيد النظر فيها إن دعا الأمر".
فكيف يتأتى في عصرنا هذا "عرضها على الجمهور " و " نشرها في أوسع مجال ممكن " ، إن لم تستعمل الوسائل العصرية الحديثة في بث المعطيات وإشاعة المعلومات.(101/5)
من أجل ذلك خطر لنا أن نستفيد من تجربتنا في حوسبة المعجم الطبي الموحد، فننطلق من البرنامج الحاسوبي الذي استعملناه لهذا الغرض ، ونستخدمه بعد تعديله بعض الشيء ، لإدخال جميع ما أصدره المجمع من مصطلحات منذ إنشائه حتى اليوم في ذاكرة الحاسوب . وقد أنجزنا جُلَّ ذلك بعون الله ؛ أما التعديل الذي أدخلناه على البرنامج فلم يَزِدْ على وضع جميع المقابلات التي صيغت على مدى السنين في مقابل اللفظة الأجنبية الواحدة ، وعلى تسجيل سنة إصدار المصطلح ، أي السنة التي منحه فيها مؤتمر المجمع شهادة الميلاد ، وعلى مَظِنَّة وجوده في مختلف مطبوعات المجمع، وعلى الاستفادة من تصنيف ديوي Dewey العشري المستخدم في المكتبات ، لتبويب المواضيع التي تنتمي إليها المصطلحات .
هذه الثروة اللفظية الثمينة هي اليوم بين يدي أعضاء المجمع الموقرين وخبرائه ، مكتَنزةٌ في الحاسوب ، سهلةُ المتناول ، يسيرة التداول . بمعنى أن الخطوة الأولى التي كثيرًا ما تكون أصعب الخُطُوات قد فُرِغ منها أو يكاد . وإذا كنّا قد اقتصرنا في هذه المرحلة على إدخال المصطلحات دون تعاريف ، فإننا نقوم الآن بإضافة هذه التعاريف ، وأملُنا أن نفرُغَ من ذلك في غضون شهر أو شهرين بحول الله .
فماذا بعد ؟(101/6)
في المجمع الآن عشرةٌ من أحدث الحواسيب سَعِدَ المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بتزويد المجمع بها . وأول ما أقترحه ، أن يتفضل الأستاذ الرئيس فيخصَّ كل لجنة من لجان المجمع بحاسوب تحتفظ به في غرفة اجتماعها . هذا الحاسوب يشتمل على ذاكرتين اثنتين : ذاكرة تُقرأ فقط ، وتضمُّ هذه الذخيرة المجمعية الكاملة، وهي متاحة اليوم في أقراص مكتنزة CD-ROMs ، وذاكرةٌ تُمحى وتُثبَت، وهي خاصة بكل لجنة على حدة ، تضيف إليها المصطلحات الجديدة ، وتعدل مصطلحاتها السابقة إذا لزم الأمر ، ولو أنني أوصي في المراحل الأولى على الأقل ، بمواصلة ما جرت عليه العادة ، من تدوين هذه الإضافات أو التعديلات في محاضر اللجنة الورقية بادي الرأي ، ثم يقوم محرر اللجنة المختص بإدخال ذلك في الذاكرة القابلة للتبديل . ثم تمرّ هذه المصطلحات الجديدة والمعدلة بما كانت تمر به في العادة من مراحل الإقرار في مجلس المجمع ثم في المؤتمر ، حتى إذا ما أقرَّت أضيفت إلى الذخيرة المجمعية الكاملة . وبذلك يُحافَظ على المسيرة المعهودة في إصدار المجموعات السنوية ، وتضاف إليها – دون أن تحل محلها – هذه الوسائل الحديثة .
أما اقتراحي الثاني فيتلخص في أن تُرْبَطَ هذه الحواسيب جميعًا بشبكة محلية LAN ، تُشْحَن بشبكة داخلية للمعلومات intranet ، بحيث تستطيع كل لجنة أن تطَّلع على ما توصلت إليه اللجان الأخرى أولاً بأول ، دون أن تكون لها القدرة على التحوير والتبديل فيها . ويتطلب ذلك توافر جهاز إضافي يقال له المِخْدام server، وسوف يكون من دواعي سعادتنا في منظمة الصحة العالمية أن نزود المجمع به.(101/7)
ولي بعدُ اقتراح آخر . فحواسيب الدنيا كلُّها تستطيع اليوم أن تتواصل وتتحاور ، من خلال شبكة عالمية للمعلومات internet ، يدعونها أحيانًا الشبكة الشُعِّية webnet تشبيهًا لها بالشُّعِّ وهو بيت العنكبوت . وتستطيع كل مؤسسة بل كل فرد أن يتّخذ لنفسه صفحة أو موضعًا في هذه الشبكة . فاقتراحي الثالث يتمثل في أن يتخذ المجمع الموقّر لنفسه مثل هذه الصفحة أو الموضع، فتكون ذخيرته المصطلحية المُقَرَّة متاحةً للعالم أجمع ، يستطيع من شاء أن يطّلع منها على ما شاء ، دون أن يستطيع لها تغييرًا أو تبديلاً . وبذلك تتحقق الغاية التي تَغَيَّاها السلف الصالح من المجمعيين ، في إتاحة هذه المصطلحات لخاصَّة الناس وعامّتهم . وسوف يتلقَّى المجمع من مختلف أصقاع المعمورة ، بالبريد الإلكتروني – وهو متاحٌ الآن في المجمع – مراسلات نافعة ممن يريد أن يعلق على بعض المصطلحات بملحظ ، أو يُغني مادتها برأي ، أو تعريفها باقتراح تبسيط أو فَضْلٍ إيضاحٍ أو إضافة . ثم إن لذلك حسنة أخرى ، ألا وهي زيادة تعريف الناس بالمجمع ومطبوعاته ومنشوراته ، مما يزيد الطلب عليها والإقبال على اقتنائها زيادة كبيرة .
ولعل ما توصلنا إليه يشجع المجامع الأخرى على أن تقتدي بهذا المجمع الموقر، وتحذو حذوه في الشروع بحوسبة المصطلحات ، ثم إقامة شبكة داخلية للمعلومات في كل منها ، توطئة لإقامة شبكة مجمعية عربية تربط بين مجامع اللغة العربية جميعًا وتسمح باجتسار الفجوات القائمة حاليًا بين المجامع وتساعد على توحيد المصطلحات من جهة، وعلى مواكبة السيل المنهمر من الألفاظ التي تتولد هنا وهناك تولُّد الكمأة مع تباشير الربيع .
مُنىً إن تكن حقًا تكن أعذبَ المنى
... وإلا فقد عشنا بها زمنًا رَغْدًا(101/8)
وبعد ، فإن حَوْسبة مصطلحات المجمع، تتيح لكثير من الباحثين ومُعِدِّي رسائل الماجستير والدكتوراه ، أن يقوموا بإجراء عديد من الدراسات التحليلية لهذه الذخيرة اللغوية الثمينة . وأنا على مثل اليقين من أنهم سيخرجون منها بحصيلة قيمة من الدرسات الجادَّة . وقد اغتنمت مناسبة حديث اليوم إليكم ، فقمت بدراسة تحليلية بدائية جدًا لما اختزنته ذاكرة الحاسوب من مصطلحات المجمع ، أعرض حصيلتها على حضراتكم في أربع ملاحظات:
الملاحظة الأولى : أن العدد الإجمالي لما أدخلناه من المصطلحات التي أقرّها المجمع في مؤتمراته على مدى السنوات الماضية ، يبلغ مئة وأربعين ألف مصطلح ، والعدد الكلي لا يزيد على ذلك كثيرًا .
وأن عدد ما أقر منها في كل سنة مبين في الجدول الأول .
وأن عدد ما ينتمي منها إلى كل علم من العلوم مبين في الجدول الثاني .
الملاحظة الثانية : أن المجمع لم يلجأ في الغالب إلى ضبط المصطلحات بالشكل ، فمصطلح " معط عام " مثلا يمكن أن يراد بها المَعَط العام بفتحتين على الميم والعين ، بمعنى سقوط الشعر الشامل alopecia universalis . كما يمكن أن يراد بها المُعْطي العام universal donor الذي نستطيع نقل الدم منه إلى الناس كافَّة . ومصطلحا "الخِلط" بكسر الخاء ، واحد الأخلاط أي سوائل البدن humor ، و" الخَلط " بفتح الخاء ، بمعنى المزج mixing يُرسمان بصورة واحدة وهكذا . وهذا في ظني أمر لابُدّ من تلافيه، لأن المجمع مرجعٌ في ضبط المصطلحات كما أنه مرجعٌ في وضعها . وتدارُكُ ذلك سهل ميسور إن شاء الله .
الملاحظة الثالثة : أن الأحرف المستعملة بحاجة إلى اتفاق عليها أيضًا . فالهمزة توضع أحيانًا فوق الألف أو تحتها – خطأ أو صوابًا – أو أنها تُهمل فلا تُكتب . والياء في آخر الكلمة تكتب أحيانًا معجمة بنقطتين من أسفل ، وتترك في كثير من الأحيان مهملة بلا نقط ، فيقرؤها معظم إخواننا العرب غير المصريين ألفًا مقصورة .(101/9)
والملاحظة الرابعة : أن الألفاظ العربية تتعدد في مقابلة اللفظة الأجنبية الواحدة . وهذا أمر مقبول في قلَّةٍ قليلة من الحالات، حين تكون للمصطلح الأجنبي الواحد عدة مَعَانٍ . ولكنه أمر غير مستساغ في غير ذلك من الأحوال . وما كان لهذا الأمر أن يُكتشف بسهولة لولا استعمال الحاسوب ، لأن تصرُّم السنين يُنسي واضع المصطلح ما وضع من قبل ، لاسيّما حين تتعدد حقول العلم . ولكن تدارك ذلك سهل ميسور أيضًا إن شاء الله.
بارك الله في هذا المجمع العظيم وفي عطائه، وجعل يومَه خيرًا من أمسه ، وغَدَه خيرًا من يومه، وأيّده بمَدد من عنده، وأنجح مسعاه في خدمة لغة التنزيل العزيز.
محمد هيثم الخياط
عضو المجمع المراسل من سوريا(101/10)
كان لأبناء العربية المتحمّسين لقوميتها الحديثة مطمع أن يجعلوا اللسان الفصيح هو المتداول في التواصل اليومي على وجه مشابه لما تم للمثقّفين ومقاربيهم في أوربا وامتداداتها في استعمال الصحيح من ألسنتهم في التداول والتواصل اليومي بالكلام . وقد كانت في البلاد العربية ، وخاصة في مصر والشام نهضة طيبة وإنتاج علمي وتعليمي وأدبي نفيس .
ثمّ جعلت ترتفع أصوات تهمس بنوع انتكاس من الدعوة إلى استعمال الحرف اللاتيني،واللسان العامي. وحاربتها الأمة العربية بسلاحين،سلاح الدعوة إلى الوحدة الجامعة بين العرب ولا يكون ذلك أبدا بلهجات العرب المختلفة النطق والمعادن والأساليب وإنما يكون باللغة الفصيحة والاقتراب كل الاقتراب من منهجها وأساليبها وبيانها نطقا وكتابة. وسلاح الدين واللغة العربية الفصيحة هي لغة الكتاب والسنة وحضارة الإسلام وعلومه.
ثم نشأ لسان مشترك بين العرب من طريق وسائل التواصل والأعلام الحديث ملفق من اللغة الفصيحة والأساليب الدارجة بين الطبقات المثقفة كرجال الدين والتعليم والصحافة والقادة الخطباء السياسيين والشعراء المنادين بالحرية المنددين بالاستعمار وبرجال الأدب والنقد والقصة والمسرح .
وصحبت نشأة اللسان الفصيح المشترك التلفيقي على النحو الذي قدمناه حركة أخذ وتعريب ونزعة شبه شعوبية من بعض طالبي التشبه بالافرنج واللحاق بهم في نوع من عجلة وتقليد أعمى .
وعادت مرة أخرى دعوة إلى العامية متمثلة في التزام المسلسلات المسرحية في سائر بلاد العربية لغة اللسان العامي ، وتخالط ذلك روح منافسة بين الألسن العامية كأنها تريد أن تضاهي سيرورة عامية القاهرة .(102/1)
وتوجد مسلسلات فصيحة اللسان إلا أن التكلف في التعبير الذي ينبغي أن يصدر بروح الطبيعة والفطرة هو الغالب عليها . مما يقوي أو يظن أنه يقوي أصحاب القول بأن اللغة الفصيحة لا تصلح كل الصلاحية للبيان العصري . ويلحق بهذا القول الشعوبي النزعة ما ينادي به المنادون من أمر الشعر الحر والقصيدة النثرية .
ويدعو بعض الفضلاء المربين إلى وضع خطّة تربوية جادة تهدف إلى إحلال اللغة الفصيحة محل العامية في المدى البعيد، معتمدين على قول بعض النظريات العصرية بأن لتعليم اللغات فترة فطرية المنهج كفترة الرضاعة التي تبدأ بطبع الطفل وفطرته بعد مولده . فيقال إن هذه الفترة تنتهي بانتهاء السنة السادسة ويكون الدماغ بعدها معدًّا للتعلم فيتعلم اللغة كما يتعلم غيرها من المعارف وفي هذا عناء من التلقي لا يبلغ في اليسر مبلغ الفطرية .
وعندي أن اللغة الفصيحة ينبغي أن تدرس بأسلوب يبلغنا المقصد الأول من درسها وهو معرفة لغة القرآن والحديث والبيان الأصيل الذي جاء به نعت القرآن من لدن حكيم حميد . وذلك أن نبدأ بخط أحرف الهجاء لنقرب الناشئ من معرفة صورها في سن مبكِّرة كالرابعة مثلا ثم نأخذ بتعلمه القرآن بدءا بالفاتحة للتبرك ثم اصعادًا من سورة الناس إلى سائر سور المفصل ثم بعد ذلك تعليم اختيارات من الشعر تحفظ ويصاحبها النحو ثم نعلم بعد ذلك الحديث والفقه فإذا بلغ الناشئ السابعة كان قد احتوى صدره علمًا وافيا من آيات القرآن ومتون الشعر ونصوص الحديث .
ثم بعد السادسة وذلك في سن السابعة يسار بالناشئ والناشئة على درب التعلم الحديث على أجود طرقه مع الاستفادة من أساليب الإعلام والتواصل الحديثة .(102/2)
ومع هذا كله لابد من الحفاظ على أصالة اللغة الدارجة في كل بلد عربي لما تتضمنه من روح الجزالة والبيان الأول . وقد فطن الأوائل إلى أن جزالة العربية قد داخلها لين الحضارة فلم يستشهدوا بجيل يشار على قوة تعبيرهم وتمكنهم من جوهر فصاحة اللغة وختموا باب الاستشهاد بابن هرمة وبالغ أبو عمرو بن العلاء فكره الاستشهاد بابن قيس الرقيات على فضله ولم يتابعه في ذلك العلماء . وذكر ابن جني في الخصائص أن فصاحة العرب الأولى بقيت منها بقايا إلى زمانه إذ مرّ بأعراب بالبادية قال أحدهم وهو يخاطبه ( يحير ) فأصلحه صاحب له فقال ( يحار ) وعلق ابن جني على ذلك بوصف المتنبي بالصدق فيما يقول .
والخبر الذي ساقه ابن جني عن أبي الطيب عظيم الأهمية لدلالته على لون مما نذهب إليه من أن فصاحة البداوة الأولى لن تزال إلى يومنا هذا باقية منها بقايا وعلينا أن نتفطن إلى ذلك . وعلينا أن نتنبه إلى أن رسائل الإعلام والتواصل الحديثة ربما عصفت بهذه البقية النادرة الباقية ومن أول أوجه التنبه أن نقف الحملة الجائرة عليها فلا ينبغي أن نحسب أنها شيء معاد للسان الأول الفصيح بل شيء داعم له ومعين على المحافظة عليه . ولعلنا كلما ابتعدنا عنه نبتعد من حيث لا نشعر عن أصول الفصاحة والجزالة . ولعلنا إن تأملنا بعض ما بأيدينا من كتب اللغة والنحو أن نفطن إلى أنها قد غفلت عن أشياء مازالت تحتفظ بها اللغة الدارجة مثلا شاف يشوف . في كتب اللغة معناها جلا ويستشهد بيت عنترة :
ولقد شربت من المدامة بعدما
... ركد الهواجر بالمشوف المعلم
وتذكر بعد اشتقاقات وكلمات كلها يمكن أن نستنبط منها بيسر وبلا تكلف أن الاستعمال الدائر السائر في كل بلاد العربية الآن من أن شاف معناها نظر ورأى صحيح – قالوا وذكر ذلك صاحب التاج عن ابن الأعرابي بعث القوم شيّفة لهم أي طليعة ومن الشواهد قول قيس بن العيزارة الهذلي :
وردنا الفضاض قبلنا شيفاننا
... بأرعن ينفي الطير عن كل موقع(102/3)
وأن شيفان مشفعة من شاف لا يخفي وكذلك شيفة وفي القاموس اشتاف الرجل إذا تطاول ونظر والبرق شام ولعمري أن قولنا شام كقولنا شاف في هذا المجال .
ومثال آخر كلمات تدل على زمان كقولنا في دارجتنا دابه جا توه جا وقول أهل مصر زمانه جايي . قال تعالى في سورة آل عمران ( 195) " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " . قال الطبري أصل الفور ابتداء الأمر يوجد فيه ثم يوصل بآخر وإلى نحو من هذا ذهب الزمخشري في الكشاف واستشهد بقول أبي حنيفة في الأمر على الفور لا على التراخي وفسر يأتوكم من فورهم هذا من ساعتهم هذه .
وفي سورة يوسف (47) تزرعون سبع سنين دأبا " فسره الزمخشري بمعنى دائبين في العمل وحرف الزمخشري أبو عمرو وهمزته ساكنة والحرف بفتح الهمزة وسكونها والاختلاف بين البصريين والكوفيين في جواز فتح الساكن ليس موضع النظر الآن إذ كلاهما قراءة صحيحة والوجه ما ذهب إليه الطبري حين جعل الدأب هنا بمعنى العادة وكان صاحب هامش طبعته الحلبية ظن أنه فسر على أن الهمزة ساكنة وأحسبه لم يتنبه إلى أن الطبري كوفي المذهب في أمر السكون والفتح والوجه الذي ذهب إليه في التفسير أقوى من وجه الزمخشري ويدخل في باب الزمنيات التي قدمنا والعامة يقولون دابه جا ويجي دابا أي من الآن فصاعدا وهذا باب طويل فلا نريد أن نطيل فيه .(102/4)
والذي يعنينا هو ما قدمناه من أن الدارجة الأصلية فيها نفس من روح البيان الأصيل يخشى عليه من غزوة اعلاميات العصر ودخول العجمة من طريق العبارات الصحفية والإعلامية المترجمة فيفسد ذلك ذوق الناس في العربية ولله در السباعي رحمه الله في كتابه عن الأدب الجاهلي إذ ذكر أن من البيان ما يستطاع في أعماق دارجة القاهرة بين النساء اللاتي لا يكتبن ولا يقرأن . وقد فطن المأمور عبد القادر مختار رحمه الله ، الذي كان مأمورا مصريا بمدينة القطينة بالنيل الأبيض بالسودان في أوائل هذا القرن الميلادي فصنع مسرحية سماها المرشد السوداني ضمنها عجائب من بلاغة العامة طبعت بالخرطوم سنة1908م وقد نبهت بعض المشرفين على جوانب أدبية ثقافية في بلدنا إلى مكانها وآمل أن تعاد طباعتها ، ومؤلف آخر ضمن كتابه من فصاحة اللغة العامية وبيانها أمثلة نادرة صاحب كتاب ( في شان الله ) .
وقد حفظت الأشعار الدارجة عندنا في السودان ثروة عظيمة من علوم الدين في الفقه والسيرة والتصرف وضمنت مدح النبي صلى الله عليه وسلم بحب
عظيم ذي صدق وحرارة وفي كثير من قصائد المدح النبوي يصف الشاعر الناقة التي يقصد بها القبر الشريف من لدن بدء تربيتها إلى حين وصولها إلى باب السلام ومن سمع مثل هذا الشعر لم يسارع بتهمة معلقة طرفة أنها مصنوعة .
ونسأل الله التوفيق .
عبد الله الطيب
عضو المجمع من السودان(102/5)
أقول : عرض الخطأ أو التجاوز اللغوي بكل فروعه للغات عامة ، ومازلنا نرى المعنيين بالمسائل اللغوية يبسطون القول في هذا . لقد بدأ اللغويون هذا الدرس في منتصف القرن الثاني للهجرة، وكانت لهم فيه وقفات وأقوال. ثم بدا لهم في القرن الثالث أن يتوسعوا،وزاد هذا في القرون التي تعاقبت،فكان لنا مصنفات حبسها أصحابها على الخطأ وإصلاحه أو تصحيحه.
لقد فات أولئك المتقدمين ما أثر عن أبي عمرو بن العلاء فيما حكاه يونس بن حبيب ، قال : "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلاّ أقلّه ، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير ".(1)
وجاء أيضًا من كلامه فيما رواه الأصمعي: " سمعت أعرابيًا يقول : فلان لغوب(2) جاءته كتابي فاحتقرها ، فقلت
له : أتقول : جاءته كتابي ؟ فقال : أليس بصحيفة ؟ ".
قال أبو عمرو : فحمله على المعنى ، وقد جاء ذلك كثيرًا في كلامهم(3) .
قلت : لقد هُرع اللغويون في دأبهم في التصحيح وتوهّموا أنهم يملكون العربية وفاتهم أنهم لم يدركوا ذلك وقليل ما هم. لقد فاتهم أن يدركوا ما بين أيديهم من شعر ونثر وجهلوا الكثير من القرآن ومن الألفاظ الإسلامية . وكان في اختلافهم في هذا دليل على أنهم لم يطمئنوا إلى الصواب، غير أنهم توهموا غير هذا فذهبوا في تصحيحهم وإصلاحهم(4) .
وقد اهتم اللغويون بالتصحيح متعقبين أقوال النحاة، ومن هذا قول ابن قتيبة:(5) "وإذا نسبت إلى اسم مصغَّر كانت فيه الياء أو لم تكن،وكان مشهورا ألقيت الياء
منه،تقول في جَهَينة ومُزينة:جُهَنيّ ومُزَنيّ، وفي قريش:قرشي،وفي هُذَيل: هُذَليّ، وفي سُلَيم: سُلَميّ إلا ما أشذوا، وكذلك إذا نَسَبتَ إلى فَعيل أو فعيلة من أسماء القبائل والبلدان وكان مشهورًا اكتفيت منه الياء مثل:ربيعة وبجيلة وحنيفة تقول:رَبَعي وَبجَليّ وحَنَفيّ،وفي ثقيف ثقفي، وفي عينيك عتكي،وإن لم يكن مشهورا لم تحذف الياء في الأول ولا الثاني".(103/1)
أقول : ذكر قول ابن دريد هذا مصطفى جواد – رحمه الله في كتابه " المباحث اللغوية في العراق " فقال : "ولذلك يجب أن نقول : بديهي وغريزي وقبيلي وطبيعي"(1) وأيد قوله هذا بما أثبته في أقوال أهل الأدب واللغة فقال :
قال أبو حيان التوحيدي في بعض أخبار مقاريوس :" ثم أقبل على زيموس وقال له: "ما أبعد شبه معدتك من المعادن الطبيعية".(2)
وقال الجاحظ : "الكرم الغريزيّ" .(3)
أقول : إن هذا درج عليه جمهرة المعربين
في النسب إلى ما فيه الياء مما ورد على فعيل وفعيلة وحذفهم للياء دون أن يدركوا ما قيل في ذلك من أقول أهل العلم ، كان بسبب ما أثبته النحاة في إطلاق القاعدة . وهذا يدلّ على أنهم لم يستوفوا الاستقراء .
ومن هذا ذهاب المعاصرين إلى تخطئة النسب إلى الجمع والصواب لديهم أن النسب إلى المفرد ، وهذا مأخوذ من قول النحاة الذي أثبتوه فاعتمده مصنفو الكتب التعليمية في عصرنا .
لقد نبه على هذا مصطفى جواد وأشار إلى كلام الفصحاء فقال :
قال الجاحظ : "لو شئنا أن نقول إن سهر الكلب بالليل ونومه بالنهار خصلة ملوكية لقلنا ، ولو كان خلاف ذلك لكانت الملوك بذلك أولى ".(4)
أقول : وجاء في "فقه اللغة " للثعالبي في تفصيل حركات اليد :
"… فإن مد يده نحو الشيء كما يمد الصبيان أيديهم إذا لعبوا بالجوز فرموا بها
في الحفرة فهو السَّدْو ، والزَّود لغة صبيانية في السدو ".(1)
أقول : وقد درج أهل التصحيح في عصرنا على هذه القاعدة التي ثقفوها في الكتب التعليمية فقالوا : القانون الدولي ، والبنك الدولي ، والعلاقات الدَّولية ، وكان ينبغي أن يقال في كل ذلك الدُّولي والدَّولية والنسب إلى الجمع هو المراد.
وقد سمعنا قديمًا : الأنصاري والشعوبي والملوكي .
وفيما نسب إلى ما يتصل بالحرف والصناعات ، وبيع المواد عرفنا : النُدوري والأمشاطي والمغازلي والمحاملي والجلودي وغيرها .(103/2)
وكأن أهل التصحيح سمعوا مصطلح الأصولي " و"الأصولية" في الصحافة المعاصرة فسكنوا .
أقول : و"الأصولي" و"الأصولية" في صحف عصرنا غير "الأصولي " القديم. لقد أراد المعاصرون بـ "الأصولي" الملتزم بالإسلام التزاما شديدا ، وكأنهم أرادوا
به المتعصب للإسلام ، ولكنهم هربوا من ذكر الحقيقة كما يريدون ذهبوا إلى ضرب من التعمية .(2)
أقول : إن " الإصولي " في كتب الرجال وصف أو نعت للرجل العالم بـ "أصول الفقه" ، فأين هذا مما نحن فيه ؟
ولابد أن نعود إلى القاعدة النحوية التي تقيد النسب إلى المفرد وليس للجمع ، وفي هذا غلّط الحريري في كتابه " درّة الغواص …" خواصَّ عصره لاستعمالهم "الصُحُفِي " نسبة إلى جمع " الصحيفة " لمن يقتبس من الصحف فقال : "ويقولون لمن يقتبس من الصحف " صُحُفي " فينسبون إلى الجمع قياسا على قولهم : "أنصاري وأعرابي " ، والصواب عند البصريين "صَحَفي " نسبة إلى المفرد "صحيفة" كحنفي نسبة إلى "حنيفة" ، فإنهم لا يرون النسب إلى واحد الجمع إلا أن يجعل الجمع علما للمنسوب إليه كمدائن وكلاب فيقال : مدائني وكلابي، أو كان في النسب إلى الواحد القياس
كأعرابي ، فإنه لو قيل عربي لالتبس بالمنسوب إلى العرب وبينهما فرق مذكور في محلّه ، ومن هنا يعلم أن قياسهم عليه غير صحيح ، وأما أنصاري فشاذ لا يقاس عليه أيضًا .
أقول : إن هذا الذي تشبث به البصريون لا يمكن أن يكون لهم حجة في إثبات الجواز إلى المفرد ، والصواب أن المعرب يذهب إلى حاجته التي يتبين فيها الإفهام . وقد يكون لي أن استشهد بما هو " دولي " في لغتنا المعاصرة ، فإنه يشير إلى ما يكون بين الدول وليس فيما يخص دولة واحدة .(103/3)
وقال الشهاب الآلوسي في " شرح الطرة": "… ثم إن المانعين استثنوا صورا منها أن يكون الاسم المنسوب إليه علما كأبناء للبلدة المشهورة وهي اليوم بلاقع ، و"فرائض" علم للعلم المشهور ، ومنها أن يغلب على الشيء حتى يلحق بالعلم كأنصار لغلبته على أنصار –صلى الله عليه وسلم - في الأوس والخزرج ، وهي إما جمع نصير أو ناصر ".(1)
وجاء في " معجم الأدباء ( ط . دار المأمون ) : " وينسب إلى الجمع إذا كان حرفة كالأمشاطي والمحاصلي والجواليقي"، ومثله الحصري والخرانطي والأنماطي والأكفاني وغير ذلك " (2)
أقول : وذهب مصطفى جواد في تصحيحاته إلى أن النسب إلى الجمع صحيح لما فيه من فائدة الإفهام ، واستظهر بما وجده لدى أهل العلم فقال : "التذاكري" هو بائع التذاكر وكذلك الآثار ، وقال: وقد قالوا " الرسائلي " للذي يحمل الرسائل .
قال ابن الفوطي ج 4 ورقة 10 في "مجمع الآداب" في النسخة الظاهرية في ترجمة المملوك سعادة وهو عز الدين أبو الحسن سعادة بن عبد الله الرومي المستظهري الخادم الرسائلي .
وكذلك الساعاتي وهو علي بن رستم بن الساعاتي الشاعر المعروف .
أقول : إن أهل التصحيح لم يأخذوا بما هو معروف في استعمال الكتاب ، بل تبعوا أقوال النحاة واللغويين الأوائل
بصريين وكوفيين . وهذا ما فعله الحريري في "درة الغواص" الذي أثار رد اللغويين الذين لم يتقيدوا بما فرضه أوائل اللغويين والنحويين.
وكان ينبغي لأهل التصحيح أن يفيدوا مما استعمله الجاحظ وأبو حيان التوحيدي وغيرهما .
إننا نجد مثلا القفطي في إخبار الحكماء يقول: :روفس حكيم طبائعي خبير بصناعة الطب في وقته …". ومن هذا ما قالوا لآسي الجراحات " الجرائحي والجراحي، والأول أشهر .
مما ينبغي لأهل التصحيح(103/4)
أقول : كان ينبغي لأهل التصحيح أن يبعدوا عنهم ما سُطر في كتب النحو ، وينظروا إلى استعمال النحاة في كتبهم الأخرى غير النحوية . لم ينظروا مثلا في لغة المبرد في " الكامل " و"الفاضل ، ولم ينظروا في الفائق " للزمخشري ، ولم ينظروا في كتب القرآن الأخرى .
أقول : كأن أولئك قد وجدوا أن العربية واسعة ، وكأن الإمام الشافعي قد أدرك
ضيق اللغويين والنحويين في باب التوكيد فقد ورد من كلامه في "المواهب الفتحية": جاء عامة القوم ، وأخذ عامة المال ، وبقي عامة النهار .(1) وقد تجد في "الكشاف" للزمخشري قوله :"كافة الأحوال" أو نحو هذا .
وقالوا مثلا : لا تدخل "قد" على فعل منفي فلا يقال : قد لا يكون هذا ، ولكني وجدت هذا لدى أصحاب المعجمات. وكأني وجدت النحاة واللغويين الذين سطروا في كتبهم ما عرفناه من قواعد النحو والصرف غير مزودين فيما ذهبوا فيه بكثير مما ورد في كلام أهل اللسن والفصاحة . وإذا كان هذا قد حصل فكيف يتصدى مصحح قديم فيصحح معتمدًا على ما قرره النحويون ؟ لقد قال النحاة مثلا بعدم جواز وصف ما يُكسَّر في الجمع بـ"فعلاء" فلا يقال مثلا : "صحائف بيضاء" لأن الصواب "صحائف بيض" ، وكأنهم تبعوا في استقرائهم الناقص ما ورد من قوله تعالى : ومن الجبال جدد بيض
وحُمر مختلف ألوانها وغرابيب سُود "(1)
وفاتهم أن طرفة بن العبد من شعراء الجاهلية قال :
وفيهم رأينا الغيم فيه كأنه
... سماحيق تُربٍ وهي حمراء حَرْجَفُ
والمسألة بالخيار ، وفي العربية سعة، وهذا جائز مثل أن يأتي الوصف لما هو مجموع جمعا لقول الأعشى :
الواهب المئة الهجان وعيدها
... عُوذًا تُزَجّي خلفها أطفالها
وقد جاءت " المئة الهجان" موصوفة بـ"فعلاء" في قول الحطيئة :
الواهب المئة الهجا
... ن معًا لها وَبَرٌ مظاهِرْ
دهماء مدفأة الشتا
... ء كأن بركتها حظائر
ومن هذا الذي ذهبوا فيه التخطئة وهو صحيح بدلالة وروده في قول امرئ القيس:
تبيت لبوني بالقُرِّية أُمَّنا(103/5)
... وأسرحُها غبّا بأكناف حائل
تلاعبُ أولادُ الوعول رباعها
... دُوَيْنَ السماء في رؤوس المجادل
مكللة حمراء ذات أسرةٍ
... لها حبك كأنها من وصائل
وإذا قال باعث بن صريم وهو ممن أثبتهم أبو تمام في "حماسته" :
وكتيبة سُفع الوجوه بواسل
... كالأسْدِ حين تذب عن أشبالها
قد قدت أول عنفوان رعيلها
... فلفقتها بكتيبة أمثالها
ووصف " الكتيبة " بـ "سُفْع" فقد وصفها حسان بن ثابت بـ "خضراء" في قوله :
لما رأى بَدْرًا تسيل تلاعه
... بكتيبةٍ خضراء من بَلخَرزجِ
وليس لي إلا أن أجعل قوله _ صلوات الله وسلامه عليه – مفيدا لي في الإشارة إلى سعة العربية وهو " إياكم وخضراء الدمن".
ما ورد مما حمل على اللحن لدى الأوائل وما أدى في عصرنا إلى ضرب من "السرقات العلمية "
أقول : لا أريد باللحن هنا التجاوز على العربية نحوًا وصرفًا، وذلك لأن الكثير من هذا قد عرض للغات عامة ونبهوا عليه. ولكني أريد به البعد في استعمال الكلمة عن دلالتها والذهاب بها إلى طرائق لا نعرفها في طرائق المعربين في القرنين الأول والثاني . وقد تكون مبتعدة عن عربية التنزيل والمشهور في الحديث الشريف.
ومن الطبيعي أن تكون عربية الذين أسلموا في القرون الأولى من غير العرب غير ما نعرف من عربية إخوانهم من المسلمين العرب ، وأن تكون الأصوات العربية فيها معدولة عن حقائقها اللغوية .
ولا أعرض هنا لما أثبته الجاحظ من قول أحد تجار الدواب الذي باع المسلمين دوابَّ رديئة فاستنقطه الحجاج عن ذلك فأجابه : "شريكاتنا في هوازها وشريكاتنا في مدانيها وكما تجيء تكون " ، أي أن هذه الدواب قد وصلت على ما هي عليه من رداءة من شركائه في بلادهم الأهواز والمدائن .(1)
ومن الطبيعي أن يحمل المسلمون الجدد شيئا حمل الضيم على عربيتهم . وقد يكون من هؤلاء من كانت أمهاتهم غير(103/6)
عربيات وآباؤهم عرب. وينبغي ألا نغفل أن يكون شيء مما عرض للعربية من ابتعاد عن الصواب يسبب ما عرفه المجتمع الإسلامي في القرنين الأول والثاني من العبيد الرقيق والجواري غير العربيات . لقد عرفنا من هذا من الصحابة الأولين بلال بن رباح أول من رفع الأذان في عهد رسول الله وهو عبد حبشي لابد أن يكون ذا لكنه حبشية . وإلى هذا يومئ قوله تعالى : "لسان الذي يُلحدون إليه أعجمي"(2) . وذكر الجاحظ أن سحيم عبد بني الحسحاس كان يرتطن لكنه أجنبية وكان يقول : "سعرت" بدلا من "شعرت"(3). وفي الأغاني أنه روي عنه قوله : "أهسنت" بدلا من "أحسنت"(4)
وقال ابن قتيبة في الشعر والشعراء(5) ، وابن جني في "سر الصناعة " كما أفدت مما في خزانة الأدب(6) : إنه كان يقول: أحسنك بدلا من أحسنت . والكاف ضمير للمفرد المتكلم في الحبشية .
أقول : قد يحمل هذا الاختلاف فيما
روي في جملة هذه المصادر إلى بعض النقص في الاستقراء والبحث .
ولعلنا ندرك ما عرض لعربية أهل البصرة من فساد إذا وقفنا على تأثير الفارسية وظهورها في أسماء البلدان والمواضع والأنهار ،(1) ومجيئها مختومة بالألف والنون للنسب كما في مهلبان وأميتنان وعبادان وغيرها .(2)
على أن هذا لم يمنع أن يكون أولئك الداخلون أصحاب فصاحة ، والجاحظ يشير مثلا إلى موسى الأسراري وبصفة فيقول : إنه كان من أعاجيب الدنيا ، وكانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية ، وكان يجلس في مجلسه المشهور به ، فيجلس العرب عن يمينه ، والفرس عن يساره ، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية ، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يُدري بأي لسان هو أبين .(3)
ولم تسلم عربية أهل الكوفة مما عرض لها من ضيم ، فقد عرفت هذه المدنية أفواجا
من غير العرب اتخذوها موطنا لهم بعد عصر الفتوحات الأولى . إنهم بقية الجيش الفارسي بقيادة رستم في حرب القادسية.(103/7)
لقد أشار الجاحظ إلى هذه العربية الجديدة إلى جملة ألفاظ فارسية استعملها الكوفيون وشاعت بينهم. فقد قال : يقولون : خيار بدلا من قثاء ، وباذروج بلا من الحوك (وهي البقلة الحمقاء أو الرجلة)…(4)
لقد عرفت عربية المصريين هذا الدخيل الفارسي وعم في سائر ما حواليهما من الحواضر والمواضع فإذا عرفنا أن العرب الأوائل قد عرفوا الدخيل أدركنا أن الفرزدق الشاعر قد الشطرنج لعبة فاستعمل "البيدق" في إحدى نقائضه لجرير فقال :
ونحن إذا عدت تميم قديمها
... مكان النواصي من وجوه السوابق
منعتك ميراث الملوك وتاجهم
... وأنت لدرعي بيذق في البياذق(5)
وقوله هذا يشير إلى اتقانه هذه اللعبة التي من رسومها تقدّم البيذق إلى الرقعة
الأخيرة فيتحول إلى وزير . أن هذا "البيذق" لم تسلم منه لغة جرير التي ورد فيها بمعنى ما هو ساقط مرذول فقال:
سبعون والوصفاء مهر بناتنا
... إذ مهرجِعْثَنَ مثل حُرّ البيذق(1)
إنه أشار إلى أن مهرجعثن أخت الفرزدق هو "مهر المثل" وليس مَهْرًا يشار إليه في عقد النكاح .
ولم تنج عربية بلاد الشام من الدخيل الرومي ولا عربية مصر مما هو قبطي .
وقد كان التجاوز على المشهور السائد من العربية يعرض لأهل العلم فقد عاب الجاحظ قراءة الحسن " وما تنزلت به الشياطين " وعدَّها خطأً .
ثم انصرف اللغويون إلى الإشارة إلى أي تجاوز على العربية كما ورد هذا في "درة الغواص " للحريري . غير أن آخرين من أهل العربية قد اختلفوا فذهبوا إلى أن الحريري قد ضيق الأمر وحجَّر واسعًا ووجدوا أن كيْدًا من تخطئته غير صحيح. ومن هؤلاء ابن الخشاب .
ثم مضى أهل اللغة في تصحيحاتهم حتى جاء المعاصرون فأكثروا في هذا ، وكان منهم من تصدّى لتصحيحات أصحابه فأشار إلى ما زعموه خطأ وهو صحيح. وكان هذا المصحح هو مصطفى جواد الذي رد أقوال أسعد خليل داغر وأقوال الكرملي في كتابه "المباحث اللغوية في العراق".(103/8)
ثم كان لمصطفى جواد جهد كبير آخر في التصحيح لما يعرض لأقوال المعربين في الصحف وغيرها . وقد جمعها في كتاب له في جزأين وسمه بـ "قل ولا تقل" .
لقد وقف المعنيون باللغة وقفة خاصة من أقوال مصطفى جواد ، وكأنه جنح على رأيهم إلى المبالغة في التخطئة فكان آخر من رد عليه الأستاذ صبحي البصام في كتاب له وسمه "الاستدراك على كتاب قل ولا تقل ".
أقول : وإذا الأستاذ مصطفى جواد ، وهو من هو في سعة ماله من أخبار بحفظها ويستظهر بها قد عرض له شيء ذهب فيه إلى الصواب مشيرًا إلى وجه الخطأ في استعمال المعربين ، قد عرض له شيء من التجاوز ، فكيف نقول في الآخرين الذين مضوا عيالا عليه وعلى من سبقه إلى أيام الحريري ومن تقدمه ؟
هذا هو الأستاذ البصام يعرض لتصحيحات أستاذه مصطفى جواد ويبين أن ليس فيها مما ظن خطأ . إن هذا يعني إن أصحاب التصحيح قد تعجلوا المسيرة وفاتهم على سعة معارف بعضهم كمصطفى جواد الذي ينفرد من بين هذه الطائفة ، ومع هذا فقد عرض له ما يعرض للمتعجلين ، فكيف بنا مع الذين يقمشون فيسطون على ما كتبه غيرهم .
اقول : ولم يدرك أهل التصحيح أن الدلالة في الكلمة قد تتغير فيبدأ فيها بالعدول عن أصلها فيكون هذا المعدول استعمالا جديدا لشيوعه . ولا أراني أحمله على الغلط لورود الكثير في لغة الصفوة وليس في لغة العامة .
ولنضرب مثلا على هذا بالفعل " استُهْتر" الذي كان يدل على الولوع بالشيء ، وهذا الولوع قد ذهب به شيئا فشيئا إلى ما هو غير مقبول . لقد قالوا مثلا : هو
مُسْتَهتَر بالشراب أي مولع به لا يبالي ما قيل فيه . وفي حديث ابن عمر : "اللهم إني أعوذ بك أن أكون من المستَهتَرين " لقد قيل في تأويله : إنه كثير الأباطيل .
وجاء في " شرح نهج البلاغة " في صفة الملائكة " ولا يرجع بهم الاستهتار بلزوم طاعته " (1) .
وجاء في شعر ابن الدمينة :
أحب هبوط الواديين وإنني
... لمُستَهْتَّر بالواديين غريبُ (2)(103/9)
غير أننا نجد هذه الكلمة قد جُنح بها الأضداد ولا يمكن حملها على ألفاظ الأضداد لأن ما عُدَّ من الأضداد قد قُيد بهذا في كتب الأضداد ، وهو قديم في العربية . إننا نجد فيما يرويه ابن تغري بردي في حوادث سنة 642هـ قوله: وفيها قتل القاضي الرفيع عبد العزيز بن عبد الواحد … قال أبو المظفر في "تاريخه" [أقول : هو مرآة الزمان] : قيل إنه فاسد العقيدة دهريا مستهترا بأمور الشريعة يخرج سكران …"(3)
قال مصطفى جواد : فإن كان هذا كلام أبي المظفر يوسف بن قزاغلي المعروف بسبط ابن الجوزي المتوفى سنة 654هـ فهو غلط محض منذ أواسط القرن السابع الهجري (1)
أقول : وليس لنا أن نعزو هذا إلى الغلط لأننا نجده فاشيًا في نعت الرجال لدى أهل العلم من الخاصة وليس في لغة عوام الناس.
لقد ذكر مصطفى جواد ما ورد في معنى "الاستهتار " الذي جدَّ في العربية منذ قرون ومنها: "جاء في أخبار شهاب الدين يحيى السهروردي الفيلسوف قتيل حلب: كان الشيخ فخر الدين المارديني يقول: ما أذكى هذا الشاب وأفصحه ، لم أجد أحدًا مثله في زماني ، إلا أني أخشى عليه لكثرة تهوره واستهتاره وقلة تحفظه"(2)
وجاء أيضًا :
وقال كمال الدين محمد بن طلحة الوزير
المتولى سنة 652هـ في الحسبة والواجب على المحتسب ؛ "فإن رأى أو علم إنسانًا يعتمد في حقوق الله … أو يتجاهر بمنع الزكاة الواجبة عليه استهتارًا … إلى غير
ذلك مما يطرق إلى الدين حللا …"(3)
وجاء في سيرة السلطان خليل بن قلاوون المماليكي سلطان مصر والشام أن الأمير بيدرًا الواثب على السلطنة شرع يعدّد ذنوب السلطان خليل وإهماله أمور المسلمين واستهتاره بالأمراء"(4)
وجاء في أخبار أبي اسحاق إبراهيم بن هلال الصابي ، قال حفيده هلال بن المحسن ابن الصابي : وعاد أبو اسحاق إلى خدمة عز الدولة بختيار بن معز الدولة ، وكتب عنه في أيام المباينة وبين عضد الدولة الكتب التي تضمنت الوقيعة والاستهتار عليه"(5)(103/10)
وهذا يشير إلى أن "الاستهتار" قد انحرفت دلالته في أواسط القرن الخامس وفيه توفى
هلال بن المحسن ابن الصابي (1)
أقول : وقد جاء كثير من أبناء عصرنا هذا ممن ليسوا من أهل العلم فراحوا ينقلون ما عده الأوائل غلطا دون أن يعرفوا الاستدراكات الكثيرة فتجدد القول
بالغلط وحدث معه غلط هؤلاء الذين تصدوا لهذه الصنعة وهم ليسوا من أهلها.
وهكذا يظهر شيء من "السرقات العلمية".
إبراهيم السامرائي
عضو المجمع من العراق(103/11)
المحرم 1421هـ / مايو 2000م
" القسم الأول " العدد
السابع والثمانون(104/1)
في ظلال المجد
للأستاذ حسن عبد الله القرشي
وَثبة الفِكرِ لَدى العام الجديد
... تتلقانا بعيد بعد عيد
تتلقانا رؤى علوية
... ليس يثني ومضها أعتى السدود
تتلقانا وفي مجمعنا
... عرس الأعراس في اليوم السعيد
مجمع تهدى النجلات له
... من كرام مثل العزة رصيد
عاش للأجيال مجلو السنا
... فجنوا من حقله حب الحصيد
كم توافى رهطه كي يهبوا
... فأرزا لحكمة أثمار خلود
يتبارون على ساحته
... بجليل فاره المعنى فريد
همهم والمجد يعلي شأنهم
... وهواهم ، وهو مقياس السعود
أن يروا مجمعهم فوق الذرى
... علما يعلو على كل صعيد
فهو أحرى بجهود فذة
... تتحرى للجنى أزهى الورود
* ... * ... *
مرحبا يا صانعا أمجادها
... لفة القرآن في خير مديد
والذي شيد في أرباضنا
... فمما تبقى إلى يوم الخلود
وجلا الضاد عروسا حلوة
... تطبي جلوتها عذب النشيد
يزهو التاريخ في أفيائها
... وترى الآداب أفوان عقود
والسنا ينبع من واحاتها
... وينادي صيبا هل من زيد ؟
* ... * ... *
يا بني يعرب والخطب دنا
... وصقور البقي تزهو بالحشود
كلهم قد شط في إجرامه
... يضمر الغدر بعزم من حديد
فلنقم وحدة شعب صامد
... تتحدى كل جبار عنيد
* ... * ... *
راية العرب شرائع مدة
... خالق الأكوان ذو البطش الشديد
هي لن تخشى انحسارًا أبدًا
... منذ (بدر) وهي زلزال رعود
عقدت للنصر دومًا موثقًا
... واحتوى الموثق إقرار العهود
إن يكن جار زمان بحصى
... فغدًا يحفل بالدر النضيد
والدنى كر ، وفر ولقده
... يتدانى النصر من حبل الوريد
لم يطل يأسي ولا دام أسى
... صنعة الأبطال تحطيم القيود
والعدى مهما تمادوا بالأفرى
... فسيلقون بأعماق اللحود
وديار العرب مهما اغتربت
... فقصاراها إلى عود حميد
قدم الطاغي ستلقى قطعها
... ليس هذا زمن الباغي المريد
لوحوا بالسلم فاهزت له
... أنفس خالته يدنو للمريد
فبدا أكذوبة ممقوته
... بسوى حرب حياة ووجود
يسترد الحر فيها أرضه
... فإذا بالخصم كالكلب الطريد(105/1)
بعد ما عاش كوحش طاشر
... عن نيوب هي كالسم المبيد
ويخال (القدس) ملكًا خالصًا خالصًا
... يحتويه دون حق وشهود
قد رضعنا الخلف مرًا علقمًا
... كشراب ، سائغ الطعم برود
وتعادينا عداء أحمقا
... ليس يهوداه لنا غير اليهود
وهو لولا الخلف فينا والذي
... نشر الأفلاك في الأفق البعيد
كانت الدنيا لنا مزرعة
... وبنو صهيون أشباه العبيد
سألوني إننا في رقبة
... ما الذي أبدعت من حالي النشيد
جاءك الغيث لم تمطر لنا
... ما يلذ الصبت ذا القلب العميد
قلت إن الشعر في مشغلة
... عن رحيق الحب في زاهي الوجود
فأسألوني عن دم في وطني
... أيجف الدم عن صدر الشهيد
ودعوا الشعر حزينًا إنني
... لا أجيب اليوم عن (بيت القصيد)
غير أني في غد قد أشتري
... لي شبابة إرنان بعيد
حامل الراية أطلق للذرى
... راية للنبشمين الأسور
واراني الأقدام عن آبائهم
... من رعوة ثم عن خير جدود
راية الأعلام أحرى بالعلا
... في يدي قرم وفي كف عضيد
(خالد ) واحدها يوم الوغى
... والفتى (المقداد ) ذو الرأي السديد
والآتي كم قد سخت أرواحهم
... في سبيل الله تهفو للمزيد
أين منا المثل العليا التي
... عاش فيها المجد نبراس الجنود ؟
لم تكن تخشى حماماً أو ردى
... كم لدى الجنة من روح شهيد
وحمانا ذمة في دمنا
... ليس بحمية سوى عالي الجهود
شعلة المجد سرت من روحنا
... ليس يجيا الضوء من غير وقود
حسن عبد الله القرشي
عضو المجمع المراسل
من السعودية(105/2)
الأستاذ الدكتور شوقي ضيف ، رئيس مجمع اللغة ورئيس اتحاد المجامع العربية:
الأعضاء الموقرون ، من المصريين والعرب والمستعربين .
الضيوف الكرام :
السيدات والسادة :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في هذا المكان المهيب ، الذي يحرس العربية ، ويصون الفصحى ، لا يملك الإنسان إلا أن يشعر بالكثير من المهابة والإجلال ، ويُحسّ بالكثير من الفخر والاعتزاز ، وخاصة عندما يتحدث إلى أعلام الفكر ، وفقهاء اللغة ، وأساطين البيان .. أولئك العلماء الكبار ، الذين يجاهدون بكل ما في طاقتهم ، من أجل ازدهار اللغة العربية ، التي كرّمها الله تعالى بنزول القرآن الكريم ، وحمْل السنة النبوية الشريفة ، وأصبحت مستودعًا أمينًا للتراث العربي والإسلامي في مختلف
مجالاته: الأدبية ، والفكرية ، والعلمية . أجل ، في هذا المكان المهيب ، مجمع الخالدين ، يجري البحث العلمي بكل دأَبٍ وإخلاص ، وبكل صدق وتجّرد ، في سبيل تحقيق الأهداف الكبرى التي حدّدها المجمع لنفسه منذ إنشائه ، والتي تتمثل في الحرص على سلامة اللغة وتيسيرها ، ثم تنميتها وتزويدها بما تحتاجه من الألفاظ والمصطلحات ، وأخيرًا النهوض بالمعجم العربي وجعْله ملائمًا لفن المعجمات الحديث.
وهنا ينبغي أن نذكر بالتقدير والعرفان أولئك الرواد العظام، الذين كان لهم دور هام في إنشاء مجمعكم الموقر. ويأتي في مقدمتهم الإمام محمد عبده ، الذي لاحظ أننا بحاجة إلى مجمع شبيه بالأكاديمية الفرنسية ، يُعنى بتاريخ اللغة ، ويزودها بالمصطلحات العلمية والحضارية الجديدة ، ويضع فيها معجمات لغوية
حديثة . ثم جاء من بعده ، أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد ، الذي يعتبر الأب الحقيقي لهذا المجمع ، فلم يكتفِ بالدعوة إلى إنشائه ، وإنما أنشأ بالفعل ما يُسمّى بمجمع دار الكتب سنة 1916م ، وكانت محاولة فردية قامت على الجهود الذاتية ، أعقبها تدخل الدولة رسميًا بإنشاء هذا المجمع الجليل سنة 1932م.(106/1)
وهنا ملاحظتان بالتأمل . الأولى أن قيام مجمع اللغة العربية إنما جاء في البداية نتيجة جهود أهلية ، تمامًا كما حدث بالنسبة إلى إنشاء أول جامعة حديثة في مصر ، ثم ما لبثت الدولة أن تبنّته ودعمت أركانه ، حتى أصبح بحق مؤسسة علمية رفيعة المستوى ، وحقق من النتائج أكثر مما كان متوقعًا ( كمَثَل حبّةِ أنبتتْ سبعَ سنابل ، في كل سنبلةٍ مائةُ حبَّة ، واللهُ يُضاعف لمَنْ يشاء ) . والملاحظة الثانية ، أن هذا المجمع الخالد قد أقام بنيانه ، منذ البداية ، على نظرة عالمية ، صدر فيها عن تقدير كامل للعلم في حد ذاته ، بصرف النظر عن جنسيات أصحابه ومعتقداتهم . فقد ضم – إلى جانب أعضائه المصريين – إخوةً من العلماء العرب والمستعربين ، وظل محافظًا على هذا التقليد الرائع بعد أن توسع فيه - حتى اليوم .
السيدات والسادة :
إن مجمع اللغة العربية بالقاهرة قد أصبح له تاريخه الحافل بجلائل الأعمال . وهو يُعدّ بكل المقاييس إحدى مفاخرنا الوطنية والقومية ، ليس فقط بسبب ما يضمه من صفوة العلماء والباحثين ، وإنما أيضًا بما حققه من إنجازات .. فهو يتابع بكل حرص ما يُهدّد لغتنا القومية ، ويقوم على الفور بمناهضته ، ويرصد بكل وعي تطور اللغة ، باعتبارها كائنًا اجتماعيًا ، ويرشد مسيرتها ، حتى تظل محافظة على أصالتها من ناحية ، غير منغلقة في وجه المستحدثات الحضارية من ناحية أخرى . وإلى جانب هذا وذاك ، فإنه يعمل بكل جد واجتهاد لتمهيد السبيل أمام متعلمي العربية ، ويبذل أقصى جهده لاختيار أدق الألفاظ ، وتحديد أنسب الأساليب ، لكي تعبر عن الفكر تعبيرًا دقيقًا وواضحًا .(106/2)
وإن نظرة إلى مجموعة القرارات العلمية ، التي أصدرها المجمع من خلال مؤتمراته السابقة ، تؤكد ، بكل وضوح ، مدى الثراء الذي أصبحت تتميز به اللغة العربية المعاصرة ، في مصطلحات الطب والصيدلة، والرياضيات والهندسة ، والزراعة وعلم الأحياء ، والنفط والجيولوجيا ، والحاسب الآلي – إلى جانب مصطلحات الأدب والشريعة والفلسفة ، والحضارة .
ومما لاشك فيه أن وراء كل مصطلح أقره مجمعكم الموقر يقف جهد كبير ، وبحث دائب ، وتقدير وقياس واجتهاد ، صدرتْ من علماء ومتخصصين ، لاهم لهم إلا النهوض بلغتنا العربية ، ولا يشغلهم سوى الحفاظ على مكانتها متقدمة بين سائر لغات العالم .
السادة الأعلام :
رئيس وأعضاء المجمع الموقر :
إن اللغة وسيلة التفاهم الأولى ، كما أنها حاملة الفكر ومرآته . وإذا كنتم تعكفون على درس اللغة والبحث في أعماقها ، فإنكم تمهدون – في نفس الوقت – طرق الاتصال بين الأفراد والمجتمعات ، وتدعمون أواصر التقارب بين الأمم والشعوب ، كما أنكم تساعدون الفكر العربي لكي ينهض من جديد ، مشاركًا بفعالية أكثر في الحضارة الإنسانية المعاصرة، ومسهما فيها بإبداعاته التي أضاءت أمام الإنسانية طريق التقدم والنهضة .
من هنا ، فإننا ننظر إلى عملكم بكل التقدير والامتنان ، ونتوقع للغة العربية على أيديكم ، وبفضل جهودكم ، المزيد من الرفعة والازدهار .
وإذا سمحتم لي بكلمة شخصية في هذا المقام ، فإنني أود أن أصارحكم بأنني نشأت في أسرة تقدر اللغة العربية وتحترمها، وتحرص في نفس الوقت على أن تزود أبناءها باللغات الأجنبية ، لذلك فقد كبر معي إحساسي الشديد باللغة ، وتقديري العميق للكلمة الصائبة ، والأسلوب الدقيق الذي يعد انعكاسًا للفكر المنهجي الصحيح .(106/3)
وما أحوجنا اليوم أن نرّبي أبناءنا على هذا النحو ، وأن نغرس فيهم حب العربية، وصحة التعبير بها عما يريدون ، من غير أن يقف التمسك باللغة القومية حائلا دون التزود باللغات الأجنبية التي يتواصلون بها مع ثقافات العالم المتنوعة .
ولابد أن نعترف أننا في مواجهة مهمة صعبة ، تقع علينا فيها مسئولية كبيرة . فنحن مطالبون بتسهيل مناهج تعليم اللغة العربية ، لأبنائها من ناحية ، ولغير الناطقين بها من ناحية أخرى . ونحن مطالبون بأن نجعل العربية لغة طيعة، تستجيب بسرعة لمتطلبات التطور المتلاحق ، والتقنيات المستحدثة . ونحن مطالبون بالاستمرار في وضع المعاجم العربية الحديثة لكل المستويات ، سواء كانت عامة أو متخصصة ، أحادية اللغة أو ثنائية ، حتى تكون مراجع معتمدة ، توحد للجميع طرق استخدام اللفظ المناسب في مكانه المناسب ، وأخيرًا فإننا مازلنا في انتظار كتاب قواعد اللغة العربية ، السهل البسيط المباشر ، الذي يأخذ بيد متعلم اللغة ومحبيها على السواء إلى الاستخدام اللغوي الصحيح ، من أقصر الطرق ، وفي أسرع وقت ممكن .
السادة الأعلام :
رئيس وأعضاء مجمع الخالدين:(106/4)
إننا نعيش اليوم عصر الاتصالات بكل أبعاده ، التي جعلت من العالم الكبير قرية صغيرة ، يجري فيها تبادل المعلومات بسرعة فائقة ، وتتواصل فيها المجتمعات والثقافات بدون الحواجز التقليدية القديمة، لذلك فإننا مطالبون بمواجهة تحديات هذا العصر ، المتسارع الخطى ، المتعدد المجالات، ومن الواضح أن أمامنا فرصة كبيرة لجعل اللغة العربية إحدى أهم وسائل الاتصال بين كتلة هائلة من السكان ، في منطقة من أكثر مناطق العالم حركة وحيوية . وقد أثبتت اللغة العربية قدرتها الفائقة على تأكيد ذاتها بين لغات العالم المعاصر ، منذ أن أصبحت لغة معترفًا بها في المحافل الدولية ، والمؤتمرات العالمية . ولم تقصر أبدًا عن التعبير بدقة وكفاءة عن كل ما يراد منها ، سواء في المجالات الأدبية والفكرية والعلمية ، أو في المجالات السياسية ، والدبلوماسية ، والاستراتيجية .
السادة الأعلام :
رئيس وأعضاء مجمع الخالدين :
يأتي مؤتمركم السنوي ، للدورة الرابعة والستين ، في وقت أصبح مجتمعنا كله مؤمنا بتطوير التعليم والبحث العلمي ، كمدخل أساسي لاقتحام قرن ميلادي جديد ، لا مكان فيه للخاملين أو الكسالى، وإنما البقاء والغلبة للمنافسين وذوي القدرة والكفاءة . ومنذ وقت مبكر، أدركت قيادتنا السياسية هذه الحقيقة ، فأعلن السيد الرئيس محمد حسني مبارك العقد الأخير من القرن العشرين عقد التعليم ، وقفزت ميزانيته من ملايين الجنيهات إلى المليارات . كما يشهد البحث العلمي لدينا طفرة نوعية ، سوف تكون لها نتائجها الملموسة في المستقبل القريب . وفي ظل هذه النهضة ،
وذلك التوجه ، فإنني أدعو كل السادة المجمعيين إلى المساهمة الفعالة بفكرهم ، وعلمهم ، وخبرتهم الطويلة في تلك المسيرة التي تشهدها مصرنا الغالية .(106/5)
ويطيب لي في هذا المقام ، أن أتوجه بخالص الشكر والتقدير للقائمين على تنظيم هذا المؤتمر السنوي ، الحافل ، كما أرحب أشد الترحيب بكل العلماء الأفاضل، الذين يشرفون هذا المؤتمر بحضورهم ومشاركتهم ، من مختلف الأقطار الشقيقة والصديقة ، راجيا لهم طيب الإقامة في بلدهم الثاني مصر ، التي كانت ومازالت ركيزة للعروبة ، ومنارة عالية للحضارة الإنسانية .
وفقكم الله ، وسدد على طريق الحق والخير والعلم خطاكم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مفيد شهاب
وزير التعليم العالي
والدولة للبحث العلمي(106/6)
السيد الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع والمؤتمر :
السادة الأخوة الزملاء والضيوف الكرام:
أحييكم تحية عاطرة وأتشرف بأن أعرض عليكم في هذا المؤتمر الحافل لمحات عابرة عما يربط بين مجمع اللغة العربية بالقاهرة وعصر الحاسبات فيما لدى من دقائق فأقول :
من التوافقات الناجحة ما يقوم بين ندين متزامنين ومترافقين يحملان رسالة متكاملة وينشدان هدفًا واحدًا . وربما كان خير مثل على هذا التوافق الناجح هو القائم الآن بين مجمع اللغة العربية بالقاهرة وعصر الحاسبات ، فكلاهما ولد في مستهل القرن العشرين فهما متزامنان ، وكلاهما نهل من معين الفتوة والنضوج الذي تميز بهما القرن العشرين وأهله لتحديث الحياة الحضارية والعلمية في مصر والوطن العربي الكبير فكلاهما مترافقان ،
وكل منهما دعم الآخر في مسيرته فهما متكاملان .
أنشئ مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1934 ليحمل أسمى رسالة في الوجود وهي الحفاظ على سلامة لغة القرآن الكريم أولا ثم جعلها وافية بمطالب العلوم والفنون بنص صريح جاء في صدر قانون إنشائه .
وولد عصر الحاسبات في مستهل القرن نفسه ليسهم في حمل رسالة تحديث وتطوير الحياة في شتى أرجاء المعمورة ، فكان من الطبيعي لهذين الندين أن يتوافقا، وأن يدعم كل منهما الآخر ليسير العالم العربي إلى انطلاقة قوية يعبر بها إلى القرن الواحد والعشرين .
ولنبدأ قصة هذا الدعم من أساسها فنقول:
لقد تتابعت وتلاحقت عصور التقدم الحضاري على مر الزمن ، فانتقلت من عصر البخار إلى عصر الكهرباء
فالإلكترونيات فالطاقة النووية حتى وصل بها المطاف إلى عصر الميكروإلكترونيات أو الإلكترونيات الدقيقة والتي تفجرت منها علوم الحاسبات والاتصالات والمعالجة الإلكترونية للمعلومات وعلوم الفضاء والذكاء الاصطناعي إلى آخر هذه الحلقة التي لا يعلم مداها إلا الله .(107/1)
وفي أوائل هذا القرن كانت بوادر هذا التيار العاتي قد وصلت إلى الوطن العربي فأيقظته من غفوة طال مداها ، فصحا على الفور ليأخذ مكانه الواجب باستيعاب العلوم الحديثة ومواكبة تيارها ، فأنشأ المعاهد والجامعات ومراكز البحوث والهيئات اللغوية والثقافية وأمدها بكافة المقومات لتأدية وظائفها على خير وجه .
وفي خضم هذه الصحوة المباركة استشعر مجمع اللغة واجبه للوفاء بمتطلبات العلوم بخلق لغة علمية عربية سليمة خالية من الألفاظ الأعجمية التي لا يستسيغها اللسان العربي ، وكان أشدها خطرًا ما جاءت به علوم الحاسبات لشدة غرابتها وبعدها عن المألوف ، فقام المجمع على الفور بتشكيل لجنة متخصصة عام 1973 لمواجهة هذا الخطر من أساتذة علميين ولغويين وخبراء لإبدال هذه الألفاظ بألفاظ عربية الأصل أو معربة تعريبًا علميًا سليمًا يقبله اللسان العربي .(107/2)
وكانت المهمة أمام اللجنة شاقة وعنيفة فالكم ضخم والطريق وعر وطويل، بما حدا باللجنة لاتخاذ حل عاجل ومؤقت لعلاجها ، وهو أن تبدأ أولا بإخراج معجم مبسط وجيز يشمل الألفاظ الأكثر شيوعًا واستخدامًا وأشد خطرًا على اللغة . وأخرج المجمع هذا المعجم الوجيز عام 1980 وبه نحو 500 مصطلح فقط ، فتقبلته الهيئات العلمية والتعليمية والصناعية بقبول حسن كان له أكبر الأثر في حفز اللجنة لمواصلة السير في طريقها بجهد أسرع وكفاءة أعلا . ثم أخرج المجمع فعلا عام 1995م ما سبق أن وعد به وهو الطبعة الثانية الموسعة للحاسبات وبها 5000 مصطلح وتشمل كل ما يتطلبه الدارس والباحث والتطبيقي من مصطلحات إما أن تكون عربية الأصل أو معربة وفقًا لتوصيات التعريب التي كان المجمع قد أصدرها . كما أصبح هذا المعجم المُوَسَّع حلقة عربية للتفاهم والتواصل بين العاملين في مجال الحاسبات بمصر والوطن العربي . كما ساعد أيضًا على دفع عملية تعريب العلوم وأنشطة الترجمة والتأليف . ومن مميزات هذا المعجم أنه مفهرس بالأبجديتين العربية والإنجليزية ليتسنى استخدامه في كلا الاتجاهين على حد سواء .
سيداتي وسادتي :
تلك كانت لمحة عاجلة لما أسهم به مجمع اللغة العربية بالقاهرة وقدمه إلى عصر الحاسبات كدعم لغوي يتيح له الدخول إلى دنيا اللغة العربية وفي الوطن العربي الواسع الممتد ليتعامل معها بكفاءة أكبر .
ولنعد بعد ذلك إلى الوجه المقابل لما قدمه عصر الحاسبات من دعم قيم لنشاط المجمع وتحديث وتطوير أعماله فنقول :
إن الحاسب الآلي إن هو إلا آلة لها كل خصائص الآلات الأوتوماتية التي عليها أن تنجز ما يُطلب منها وفقًا لبرامج موضوعة ومحددة له . ويتميز الحاسب الآلي الحديث بما له من كفاءة عالية جدًا لأداء ما يُطلب منه وقدرة خارقة مع استيعاب كم هائل من البيانات والمعلومات والتعامل معها بصورة فورية سريعة .(107/3)
ومن الجدير بالذكر أن هذه الآلة العملاقة التي تطورت من آلات بدائية وميكانيكية وكهربائية لم يكن عملها مقتصرًا على العمليات الحسابية التي أخذت اسمها عنها،وهو الحاسب ، وظلت محتفظة به في جميع مراحل تطورها دون حاجة لتغييره أو تعديله.كما يحاول البعض، حتى وصل إلى مرحلة معالجة البيانات ودراسة المعلومات بل واتخاذ القرارات بما توافر فيه من ذكاء اصطناعي يمكِّنه من حل أعتى المشاكل في أقصر وقت.
ولن أحاول في هذه العجالة الخوض في تكنولوجيا الحاسبات وكيفية وصولها إلى هذه الكفاءة الطاغية ، ولكني أقول إنه كان من الطبيعي أن تغزو هذه الآلة الهيئات العلمية والصناعية وتمكِّنها من تطوير أعمالها وتحديثها .
ومن الواضح أن كان مجمع اللغة العربية بالقاهرة في مقدمة هذه الهيئات فدعت هذا الضيف الكريم إلى رحابها وعهدت إليه بالإسهام في دفع أنشطها وخاصة في مجال إخراج المعاجم ، واستجاب خبراء المجمع وقاموا بإنشاء شبكة حاسبة متوسطة القدرة عام 1990 كانت أول تجربة لها هو إخراج معجم الحاسبات المُوَسَّع عام 1995م وبه 5000 مصطلح معرفًا تعريفًا معجميًا بما يتيح للقارئ التعرف على دلالته العملية .
وحفز هذا النجاح على تحديث وتكبير الشبكة وإمدادها بعدد وافر من الحاسبات الحديثة وملحقاتها من طابعات وناسخات وماسحات حتى أصبحت مؤهلة تمامًا لإخراج بقية المعاجم بدءا بالمعجم الكبير الذي طال انتظاره أعوامًا طويلة. وبالإضافة إلى أعمال المعاجم فإن هذا المركز الجديد قد أصبح مؤهلا لإخراج جميع أعمال اللجان والمجالس والندوات والمؤتمرات والمطبوعات اللغوية والثقافية منذ أن ولد المجمع أي منذ 65 عامًا حتى اليوم.وتسجيلها جميعًا على أقراص ممغنطة.(107/4)
وبالإضافة إلى كل هذه الأعمال امتدت شبكة الحاسب الجديدة إلى جميع إدارات المجمع ومقار لجانه وإداراته المالية والحسابات والمخازن وشؤون العاملين والمكتبة وأمدتها جميعًا بحاسبات صغيرة تعمل كنهايات طرفية للمركز الرئيسي وتتيح للعاملين فيها الاتصال بالحاسب الرئيسي والتعامل معه دون الانتقال إليه .
سيداتي وسادتي :
تلك كانت لمحة عابرة أخرى لما قدمه عصر الحاسبات إلى مجمع اللغة لدعم أنشطته وأعماله .
بقيت لي كلمة واجبة الأداء . وهي إسداء التقدير والعرفان إلى كل من أسهم في هذه الإنجازات .
وأبدأ بالأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع على رعايته للمركز والحاسب الجديد والاهتمام به . والأستاذ إبراهيم الترزي الأمين العام الذي أمد المشروع بكل مقومات التنفيذ والنجاح . وأذكر بكل تقدير جهود الأستاذ الدكتور محمد هيثم الخياط على ما قدمته هيئة الصحة العالمية برئاسته من عون أدبي وعلمي ، وأقدم خالص الشكر والامتنان إلى أساتذة الحاسبات الجامعيين الخبراء بالمجمع ، وهم الأستاذ الدكتور سمير شاهين والأستاذ الدكتور إيهاب طلخان والأستاذ الدكتور أحمد بهنساوي . ثم شكرًا خاصًا وخالصًا إلى الأساتذة الإداريين بدءا من الأستاذ عبد الوهاب عوض الله فالأستاذة أوديت إلياس والأستاذة فوزية فهيم والأستاذ أحمد حامد والأستاذ جمال مراد الذين قاموا
بعبء التنفيذ .
وفي ختام حديثي يشرفني أن أدعوكم سيداتي وسادتي إلى التفضل بزيارة مقر الحاسب الجديد كما يسعدني أن أتلقى ملاحظاتكم وتوجيهاتكم .
وفقنا الله إلى كل ما فيه الخير لمصرنا العزيزة ووطننا العربي الغالي .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمود مختار
عضو المجمع(107/5)
جاءَ بنعيٍ ثم عزَّاني
نيران حُزنٍ شبها نعْيُهُ
مازلت مُذْ مات أخي دمعتي
أبكي لأحبابي وأبكي قرا
أبكي بأشعاري وشجوي كما
ولُذتُ بالصبر ، وذو الصبر قد
يأتيك بالأخبار من لم تزوِّ
وقد نعى المذياعُ شيخًا ولا
نعى أبا فِهْرٍ وزُلْفَى وقد
يزورُه الطلابُ في منزلٍ
مأوى أولي الألباب في داره الـ
وأمُّ فهرٍ كمْ أعانت على الـ
أذكر لما جئتُه زائرًا
كان كتابٌ منه قد جاءني
ووجهُهُ أشرقَ في منزل
سجيَّةٌ من حَسَبٍ لم يشُبْـ
قلتُ لِناعيه ألا قد نعى
لم يتحَلْحَلْ حينما حُلْحِل الـ ... لم يدرِكَمْ أشعلَ نيراني
يا صاحِ ما أعظم أحزاني
تُسعِدني أبكي لإخواني
باتي وأخداني وأقراني
أبكي بدمعٍ لي هتَّان
يُشفى بتفويضٍ وإذعانِ
دْه محبٌّ لك أو شاني
شِبْهَ له مِن انْسٍ أو جانِ(1)
نعلمه منْ خيرِ إنسانِ
رحْبٍ بنورِ العلم مُزدانِ
جوُد وفيها زادُ أذهانِ
بِرِّ هُما في البِرِّ صنوانِ
صاحِبَ درديري وحيَّاني(2)
يمدحُ سِفرًا لي فأرضَاني
بالبشر فيه قد تلقَّاني
هَا برياء أو بإدهانِ
طَوْدًا ركينًا مثل ثهلانِ
كَونُ ولم يخضَعْ لطُغيانِ
عزيزُ نَفْسٍ ذو حِفاظٍ وذو
أبوه قد كان امرأً عالمًا
أَسَّس فينا معهدًا خيرَ تأْ
أقام في الخُرطومِ كليةً
بحجر الرمل بَنوْها والاَ
في بلدٍ لم يَبْنِ في أرضه
سِوَى الطرابيل التي قرب شنـ
ومَرْخِ وادٍ ثَم آثار صهـ
قيل لنا شيَّدهَا معشرٌ
وغيرَ قُبَّاتٍ بناها لأشـ
قد أعتق الإسلام أعناقَنَا
وجاءنا صوفية مكَّنوا الـ
وقد بنى شيخُ بني شاكرٍ
أَعَدَّ للقاضي فيقضي بها
و العلمُ في آلِ بني شاكرٍ
هم شُرَفاءُ وحُسَينيَّة
مُحدِّثُون بأسانيدِهم
وقد تلا هارون قُرَّاعةٌ
ثم المراغِيُّ ومَنْ بَعدَهُ
والشيخُ مُحيي الدين مُذْ جاءَنا
سَمِىُّ جار الله من بعدِهم ... صَدْرٍ لكنز العلمِ خَزَّانِ
بمصرَ معروفًا وسودانِ
سيسٍ على مذهبِ نُعمانِ
كأنَّها صَرْحُ سُلَيْمانِ
جُرِّ وبالجصِّ وصَوَّانِ
مِن قبلُ غير الطينِ من باني(108/1)
دى في تلالٍ بينَ كُثبانِ
ـر لحديدٍ عند حِزَّان ِ(1)
كانوا هنا غابرَ أزمانِ
ياخ ٍ لهم أصنافُ حِيرَانِ
من أَسْرِأوثان ورهبانِ
دين بإيمانٍ وإحسانِ
محمَّدٌ أمتَنَ بُنيانِ (*)
لائِحةً أعْدَلَ ميزانِ
قام على أثْبتِ أركانِ
مِثلهُمُ لَمْ تَرَ عَينانِ
وراسخو تأويلٍ قُرآنِ
شَيخانِ في الظلمة نجمانِ
قضاةُ شَرْعٍ أَهْل عِرْفَانِ
ما فَضْلَهُ دَهري أنْساني
عالِمُ وادي النيلِ ذو الشانِ
بقيةٌ من سَلَفٍ صالحٍ
أنفاس جار الله في كتبِهِ
مُذاكشرُ حَبْرٌ أخو خِبرةٍ
أتْبعَ تفسيرَ أبي جعفرٍ
لو أَنَّهُ أكملَه لاكْتفى
يَنْمِي الأحاديثَ إلى أصلِهَا
يرجع بالشعر إلى مَنْ روا
وكان بحَّاثًا بعيد المدى
مُشتمِل النَّفسِ على قُوّةٍ
ذو أسهُمٍ مثل أخي الخضير
وشُهُب يقذِفُها عن سما
فنسألُ الله له منزل الر
يُجزَى جزاءَ الضِّعْفِ عن حُسْـ
وبركاتٍ في ذويه مع الأجـ
والحمدُ لله عَلَى ما حبا
ثُمَّ صلاةٌ لنبي الهدى المخْـ
تُتْلَى بتسليمٍ على آَلِهِ ... لم يكُ في الدينِ بوَهْنَانِ
بالنَّفَسِ السَّاخِنِ تَغْشَانِي
فردًا بها ليس له ثاني
تعليقَ تحقيقٍ وإتقانِ
بهِ إِذَنْ عن غيرِه الغاني
عند مدينيٍّ وشَيباني(5)
ه بين قيسىٍّ وقَحْطَاني
صاحبَ تنظيرٍ وبُرهانِ
كأنها ثورةُ بُركانِ
يرميهنَّ عن كبداءَ مِرنانِ(6)
ءِ الحقِّ تُردِي كلَّ شيْطَانِ
روضات في جناتِ رضوانِ
نِ ما أسدى بعفوٍ وبغفرانِ
ـر الذي من غيرِ نُقْصانِ
نَا نِعَمًا كَيلاً بِرُجْحَانِ
تَارِ من صفوةِ عدنانِ
والصَّحْب ِ مَاكرَّ الجديدانِ
عبد الله الطيب
عضو المجمع من السودان(108/2)
الفهرس
الموضوع ... الصفحة ... الموضوع ... الصفحة
( كلمة افتتاح المؤتمر .
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع.
( كلمة في افتتاح المؤتمر .
للأستاذ الدكتور مفيد شهاب.
وزير التعليم العالي والدولة للبحث العلمي
( بين مؤتمرين .
للأستاذ إبراهيم الترزي الأمين العام للمجمع.
( في ظلال المجد .
قصيدة للأستاذ حسن عبد الله القرشي.
( ازدهار الفصحى في القرن العشرين .
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف
( المعجم العربي الموحد لألفاظ الحياة العامة في العصر الحديث .
للأستاذ الدكتور عبد الكريم خليفة . ... 1
4
9
20
23
37 ... ( القاموس المغربي في رحلة ابن بطوطة
للأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي.
( مجمع اللغة العربية وعصر الحاسبات.
للأستاذ الدكتور محمود مختار .
( حوسبة المصطلحات العلمية والفنية التي أقرها المجمع في ثلاثة وستين عامًا. 1934-1997
للأستاذ الدكتور محمد هيثم الخياط.
( اللغة العربية ووسائل النهوض بها في مصر .
للأستاذ الدكتور محمود حافظ.
( بين الفصيحة والدارجة .
للأستاذ الدكتور عبد الله الطيب . ... 73
95
101
113
127
(أ)
الفهرس
الموضوع ... الصفحة ... الموضوع ... الصفحة
( تصحيح " التصحيح " .
للأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي .
( العربية لسان الله تعالى نزل بها آدم عليه السلام ثم تراوحت بين التفرد والتشتيت والكيد لها .
للأستاذ الدكتور على رجب .
( اللغة العربية في عصر تقنيات المعلومات.
للأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي.
( اللغة العربية وتنازع الاختصاص بين أهل العلم والتعليم والإعلام .
للأستاذ الدكتور كمال دسوقي ... 133
145
157
163 ... ( قصيدة في رثاء الفقيد العلامة الأستاذ محمود محمد شاكر .
للأستاذ الدكتور عبد الله الطيب .
( من قضايا اللغة العربية
" العربية ومشاكلها في مجال المصطلحات العلمية ومناقشة حال هذه المصطلحات بين التعريب والوضع "
للأستاذ الدكتور أحمد شفيق الخطيب .(109/1)
( أدلة جديدة على الأصول العربية لبنية التوشيح والزجل الدورية .
للأستاذ الدكتور فيدريكو كورينتي ... 199
203
227
(ب)(109/2)
إن أصل كلمة "هرم " و(جمعها:أهرام) هي المماثل لكلمة " Pyramid" ، وعلى ما يبدو فإنها لم تحتل مكانا خاصا في الأبحاث العلمية. وطبقا للطبعة القديمة لدائرة المعارف الإسلامية فقد ورد عن كلمة "هرم" : "كلمة قبطية مشكوك في مصدرها(1)" ، بيْد أن الطبعة الجديدة كانت أكثر حذرًا ، فكل ما جاء عنها هو: "كلمة ذات أصل مشكوك فيه"(2). ومن مظاهر عدم التحيز لأصل كلمة"هرم" وفيما يتعلق بمشتقاتها ، فإن كلتا الطبعتين لدائرة المعارف الإسلامية قد استشهدت فقط بدراسة كتبها " دي ساسي " في سنوات ماضية.(3) وبالرغم من أسفنا فإن تلك الدراسة لم نتمكن من التوصل إليها ، لكنني حصلت على دراسة كتبها " هاجر" "Hager" نقل خلالها إلينا أراء "دي ساسي" حولها.(4)
وفي استعراض تاريخي ، فإن المضمون المختصر لدراسة كل من "دي ساسي" و"هاجر" سيكون له قيمة واضحة. وسوف نرى أنهما لم يحاولا ببساطة اقتفاء أصل كلمة "هرم" بل تتبعا الأصل العام المزعوم لكلمتي "هرم" و" Pyramid".
وقد عدّد "دي ساسي" في مبدأ الأمر الاشتقاقات المتنوعة لكلمة " Pyramid" التي اقترحها آخرون، وتبعا لذلك فإنها ترجع إلى كلمات يونانية: نار وبر (حنطة) كلمة " Pyr" و " Pyros"، وإلى كلمة فرعونية تعني رجلاً "Piromi" ومحاولة ربطها بمعنى كلمة قبطية للدلالة عن ملك ومولد، "puro" و "misi" أو ربطها بكلمة قبطية تعني شمسًا، أي " Pire" أو "Pira" أو بالأداة المصرية (القبطية) "pi"وربطها بكلمة سامية تعني الارتفاع ، أي " rama " وللتوصل إلى عرض آرائه
الخاصة فإن "دي ساسي" ذكر بأنه تتبع لبعض آراء المستشرقين فوجد أن كلمة هرم تعني"pyramid"وهي ترجع إلى جذر عربي ثلاثي وهو "هرم" بمعنى "هرم" بكسر الهاء وفتح الراء وذلك للدلالة عن مبنى "الهرم" القديم والعتيق .(110/1)
وتبع ذلك بعرض رأيه الخاص بأن كلمة " pyramis" اليونانية ذات الأصل العربي " حَرَم " وتعنى " المقدس" وبمعنى آخر فإنها تعني بالأصل المبنى المقدس جانب استحالة ذلك تاريخيًّا فإن فرضية "دي ساسي" تقودنا إلى افتراضات غير مقبولة بالأساس وهي:
إن هرم العربية وتعني pyramid يجب أن تنطق بحرف الحاء الحلقي.
ورغم ذلك فإن المصريين القدماء لم يكن لديهم بد من استخدامها.
إن أداة التعريف " Pi" كان ولابد أن تسبقها .
ولنطقها فإن حرف الحاء كان ولابد أن يختفي ، تاركا النطق التالي : " Piram" لكل من "piharam" و " pihram" .
وأخيرًا فإن حرف الابسلون اليوناني "Y" في كلمة "pyramis" اليونانية كان ولابد أن يكون سابقة من الإغريق أنفسهم .
وبالنسبة "لهاجر" فإنه كان من المهم لديه أن يقيم الدليل قبل كل شيء بأن المصريين قد استخدموا في الواقع هذا المصطلح . ولم يجد "هاجر" في ترجيحه للتفسيرات المشتقة للكلمة قبولاً لديه ولاسيما أنه أراد أن يرجح استخدام كلمة "هرم" وتخريجها من العصور القديمة الأثرية ومن الكلمة "Hermes"و "Hermonthis"أو"Cheremon" والتي اعتبرها اشتقاقا مباشرا لكلمة "هرم". وأشار "هاجر" مدللا بأن المسألة إذا كانت كذلك فإنه ليس من الضروري أن اسم Pyramid يشتق من "الهرم"ذات الأصل العربي .(110/2)
في الوقت الذي أسقط "هاجر" فرضية "دي ساسي" ، فإنه قدّم رأيه الخاص في الاشتقاق . وطبقا لذلك، فإن نماذج الأهرامات المصرية، توجد في الأضرحة الضخمة لملوك بابليون "mausilems" وهو المصطلح الذي قد يكون نابعا من كلمة سامية ( العبرانية الكلدانية ) أي كلمة عمود النار " ur-camud". وإن المصريين قد يكونوا تبنوا صيغة " ur-amud" مذيلين بها أداة تعريفهم " pi" ، وهكذا تشكلت كلمة " piramis" . وكشرح بديل ، فإنه يذكر أيضًا احتمالية استخدام كلمة النار "pyr" اليونانية بدلا من المقطع الجزئي للكلمة أي " ur" والتي تعني النار كذلك في الكلدانية العبرانية .
وفي التحقيق في أصل كلمة "هرم" يجب التأكيد على خلاف ما قاله "دي ساسي" في أن كلمة"هرم" تعني pyramid ظهرت في وقت متأخر وطبقا لما نعرفه ، فإنها أول ما ظهرت للمرة الأولى كانت في أعمال كل من ابن خرداشبة ( المتوفى في 848م) (5) وابن عبد الحكم (المتوفى في 871م)(6) ثم لدى ابن معشر البلخي (المتوفى في 885م) (7): والأمر الأكثر تشوقًا ، أن التقاليد العربية اعتبرت كلمة "هرم" كلمة قديمة تنتسب إلى اصطلاح منسوب إلى جالينوس، وتبعا لهذا فإن كلمة هرم (بفتح الهاء وكسر الراء) تعني "عتيق أو قديم" وإنها قد استخرجت من كلمة أهرام التي تعني "Pyramids" (8) ومن البديهي أن جالينوس في القرن الثاني الميلادي لم يكن قد ذكر شيئًا مماثلا لهذا ، ولكن من الأكيد فإن كلمة هرم (بكسر الراء) أي "عتيق" يمكن تتبعها بشكل منطقي من التصور" عاديات" الأكثر قربا من ألـ" pyramids" عن انتحال أن ألـ pyramid أخذت اسمها من كلمة هرم ( بكسر الراء ) كما ذكر دي ساسي.(110/3)
في حين أن د. هـ. موللر تناول بشكل أكثر اقترابا أصل كلمة هرم وذلك في أحد تذييلات مقالاته حول نقوش العربية الجنوبية المنشورة في عام 1876م.(9) فقد ذكر بأن " هرم " (من الثلاثي ر.و.م) يمكن أن تدل على بناء طويل في كل من الحميرية والعربية. وأضاف قائلا بأن هناك مدينة في العربية الجنوبية تسمى (هرم) (10) . حيث قام ج. هالفي بجمع العديد من النقوش التي كانت ذات شهرة بسبب العمارة التي أقامها الملوك الحميريون. واقتبس مولر ملحوظة لنشوان الحميري ، وهو من أشهر المؤلفين الذين وصفوا العربية الجنوبية القديمة بقوله: "هرم اسم مكان في " الجوف" باليمن حيث وجدت صروح شيدها ملوك حمير. والهرمان في مصر توجد فيهما على نفس النمط صروح مثيرة للعجب. وهي كما قيل كانت مقابر لاثنين من ملوك مصر الأوائل ". وقد ظن المؤلف العربي بأنه قد كشف عن علاقة وثيقة بين اسمين يتشابهان في النطق. وفي النهاية فإن مولر دعم رأيه مستخلصا أن العرب أشاروا إلى النقوش الهيروغليفية كخط المسند (11) ذات الأصل العربي الجنوبي وأنهم على نفس المنوال قد استخدموا كلمة هرم للدلالة على الأهرامات المصرية ذات الحجم الكبير.
ولم يلتقِ تصور مولر مع أي استجابة في الأدبيات التي يمكن أن تكون قد تجاهلتها بالتمام. ومنذ بضع سنوات مضت فإن w.vycichi قد مزج الكلمة السامية "rym" وتعني : متراس أو لحد مع الجذر " rwm" التي تعني الارتفاع والعلو التي ذكرها مولر مرتبطة بالهرم"pyramis" وليس من خلال هرم العربية، ولكن من خلال الكلمة المصرية القديمة "mr" وتعني الهرم. وقد أراد إثبات أنها تتناسق في مساواتها مع المصطلح السامي (كنتيجة لقلب موضع حرفي "م"و"ر" والخلل في كتابة عين الفعل "y"أو "w" ) (12)(110/4)
إن تلك الفرضيات لا تتلاءم ولا تفي بالغرض الأساسي لأنها قد تناولت بشكل مباشر وعلى سبيل الحصر القضية اللغوية كجانب من مشتقات "هرم" ولم تحاول أبدًا تحقيقها تاريخيا . وفي التحليل الأخير فإن افتراضية مولر أيضًا قد بقيت فقط مجرد فرض .
إن أصل العربية الجنوبية للكلمة العربية "هرم" تتناسب بالكامل مع الصورة التي رسمها "VADET" في إحدى دراساته (13) للعلاقات الوثيقة بين مصر في العهد الإسلامي وبين العربية الجنوبية . وكما برهن فإن القبائل اليمنية كانوا جنود الفتح الإسلامي لمصر وأنهم قد لعبوا دورا واضحا ونجحوا في ربط مصر ربطا جيدا مع العالم الإسلامي . فتنافس القبائل اليمنية مع القبائل العربية الشمالية القوية من الناحية العسكرية ولم يكن أمامهم إلا تأكيد ماضيهم المجيد، وإظهار تفوقهم الحضاري. وقد حاولوا دائما الربط بين أسلافهم الذين اختفوا من صفحات التاريخ وبين واقعهم الجديد .
وقد استقرت القبائل اليمنية المشاركة في الفتح العربي لمصر في الحواضر والعواصم. وخلال القرون الأولى قد سادوا بشكل ظاهر على القضاء والضرائب والحياة الفكرية في البلاد . وقد نجحوا في إقامة علاقات طيبة مع المسلمين الجدد المحليين الذين وجدوا فيهم خير نصير لهم في تنافسهم مع أقرانهم الشماليين
فقد كانوا يرتبطون برباط عام معهم إذ إنهما كانا يعتبران أنفسهما ممن ورثوا حضارة قديمة. وإلى جانب وجهة النظر الثقافية فإن سياسة الانصهار والاندماج العربي كانت تهدف إلى تجريد المصريين إلى حد ما من الميراث المصري. ولم يذكر "vadet" المرتبات اللغوية لهذه المحاولة ولكنها بدون شك تبدو أنها قد تبنت ونشرت كلمات عربية جنوبية مثل "هرم" و"مسند" .
إسكندر فودور
عضو المجمع المراسل
من المجر
الحاشية
دائرة المعارف الإسلامية ( ليدن – ليبزج ) ، 1927 ، جزء 2 ص 278 انظر كلمة هرم .
دائرة المعارف الإسلامية ( ليدن – لندن ) ، 1971 ، جزء 3 ص. 173 انظر كلمة هرم .(110/5)
S.de Sacy : Observations sur l'origine du nom donné par les Arabes aux Pyramides d'Aegypte, " Magasin Encyclupédiqe, 1801, VI, 456-503 وهذه المعطيات في دائرة خاطئة للأسف، وحول المادة المنشورة ( انظر حاشية رقم 4) ويمكن وجودها في 1801 جزء 05والرقم الصحيح للمجلد هو 4/6 .
HAGER: Observations sur le nom et sur l'origine de pyramides d'Aegypte , Magasin Encyclopédique, 1801, V, 334-347.
Graefe: خطط المقريزي مادة الأهرام ( ليبزج 1911)ص 37 .
نفس المصدر،صفحات73– 74.
ابن أبي أصيبع : كتاب عيون الأنباء ، القاهرة، 1882 ص16.
جرايف:نفس المصدر ، ص 12 .
D.H. MULLER: Himjarische Studien, ZDMG , XXX/1876,704,n
انظر مدينة هرم في J.Hamordtmann: Miszellen zur himjarische Altertumskunde. ZDMG/XXXI/ 1877, 83; A. Fakhry: An Archeological Journey to Yemen, I, Cairo, 1952,145.
بالنسبة لاستخدام خط المسند لدى المؤلفين العرب انظر، G.WIET: L'Egypte de Murtadi fils du Ghaphiphe, Paris, =953, المقدمة ص 85 . وطبقا للروايات العربية فإن المسند أطلق عليها هذا الاسم الذي أسند بواسطة هود بن جبريل ( وهب بن منبه : كتاب التيجان، حيدر آباد ص54) وحول الأرضية الجنوبية للكلمة انظر : E. OSIANDER: Zur himjarischen Alterthumskunde ZDMG/XIX/1865,165,n l;J.HALEVy: Etudes vrbéenes JA, VII/I 1873, 441; MULLER: Himjrische Inschrioten ZDMG, 29,1875,594; MORDTMANN: PP. 73 انظر رايكمانز فيما يخص مصطلح النقوش RYCKMANS: Inscriptions historiques sabéens Muson, 66 / 1953/285f, 304,306,308 .
W, Vycichl: Aegyptische MR " Pyramige" und seine arabische Etymologie h Le Museon, 71/1958/149-152
J.C.VADET: L'Acculturation des Sud-Arabiques de Fustat au lendemain de la conquéte arabe. Bulletin d'Etudes Orientales,22/1969,/,7-14.(110/6)
معروف أن الاشتقاق عن طريق التصريف الداخلي( internal inflexion) يمثل الطريقة الرئيسية لظهور المفردات الجديدة في اللغة العربية . وفي حقيقة الأمر يكمن معجم اللغة العربية بل معجم اللغات السامية عامة في منظومتين كبيرتين متقاطعتين: منظومة الجذور ومنظومة الأوزان أو الصيغ .(1) لكن ذلك لا يعني أن اللغات السامية – ومن بينها اللغة العربية– لم تستخدم اللواصق ( affixes) إطلاقا إلا أن عددها كان محدودًا جدًا ولم تخلق اللغة العربية لواصق أخرى إلى جانب اللواصق القديمة (2) المتمثلة في عدة سوابق ( prefixes) (الهمزة والتاء والميم والياء ) وعدة لواحق ( suffixes) (النون والتاء المربوطة وياء النسبة المشددة وتاء المصدر الصناعي ) . وبفضل نظامها الصرفي ونظامها الصوتي وكون الجذور
الثلاثية الأحرف غالبة على نظام جذورها،لم تتأثر اللغة العربية كثيرًا بلغات أخرى لا في مجال الأصوات ولا في مجال الصرف إلا بشكل استثنائي طيلة عصور تطورها، بل لم تقترض ولم تستعر اللغة العربية للأسباب نفسها إلا عددًا قليلاً من الألفاظ الأجنبية بالقياس إلى معجمها الضخم . أما اللواصق فلم تدخل اللغة العربية مع هذه الألفاظ إلا بوجه طارئ وبطريق الصدفة .
لكن في العصر الحديث احتكت اللغة العربية باللغات الأوربية الواسعة الانتشار مثل الفرنسية والإيطالية والإنجليزية، التي تلعب اللواصق دورًا مهمًّا في تطوير معجمها . وفي عملية تكوين المصطلحات اللازمة لمختلف ميادين العلوم والفنون والحضارة الحديثة أصبح من الضروري أن تعبر العربية عن معاني ودلالات اللواصق
الموجودة في هذه اللغات أو تقلدها . ويمكننا القول إنها تمتلك في الوقت الحاضر منظومات اللواصق في هذه اللغات وتعبر عن معانيها ودلالاتها. لكن في نفس الوقت تحتفظ هذه الأدوات – إذا أمكن تسميتها هكذا – بمعانيها الأصلية وتدخل في تراكيب وتعابير عادية بمعانيها الأساسية .(111/1)
وباستثناء أداة النفي " لا " تسبق عادة اسمًا مرفوعًا أو نسبة مرفوعة وأصبحت بذلك سابقة حقيقية بحيث تلتصق باللفظ الذي تسبقه ، نجد أن سائر الكلمات والأدوات المستخدمة لأداء دور السوابق والتعبير عن دلالاتها لم تكتسب ملامح السوابق الحقيقية على ما عيَّنها وعرَّفها الباحثون (3) . إلا أن جميع هذه الألفاظ – من حروف وأسماء وأفعال على مختلف أنواعها– تعبر عن معاني ودلالات السوابق بفضل المقابلة بل المضادة في أحيان كثيرة بين هذه التركيبات وبين الألفاظ الأساسية.
وفي صدر العصر الحديث اتصل العرب بالأوربيين في مختلف ميادين الحياة المادية والحضارية. وفي مطلع القرن التاسع عشر بدأ محمد علي يشجع العلاقات الثقافية مع فرنسا (4) ومنذ ذلك الحين أثَّرت اللغة الفرنسية تأثيرًا مستمرًا في تحديث اللغة العربية وبالأخص المعجم العربي بحيث أصبح يتجاوب ويتماشى مع متطلبات العصر الحديث ، إما عن طريق استعارة الألفاظ أو عن طريق استعارة معاني الألفاظ أو عن طريق إيجاد طرق للتعبير عن معاني ودلالات السوابق واللواحق القائمة في هذه اللغة . ويبدو أن تأثير اللغة الإنجليزية بدأ لاحقًا وكان أكثر محدودية . ونظرًا لأن السوابق التي سنتعرض لها في هذا البحث أخذت نفس الصيغة أو صيغة مماثلة في الإنجليزية والفرنسية – رغم كون أصل معظمها في اللغتين الإغريقية واللاتينية القديمتين – سنعتمد في حديثنا وفي ذكر الأمثلة وترجمتها على اللغة الإنجليزية ولن نستعين باللغة الفرنسية إلا عندما لا نجد الألفاظ المقابلة في الإنجليزية أو عندما يبدو لنا أن الصيغة الإنجليزية غير كافية لتفسير التركيب العربي. وقد مارست اللغتان المذكورتان تأثيرهما على العربية ولا تزالان تؤثران عليها بواسطة وسائل الإعلام وبخاصة الصحافة ، لكن دور الإذاعة والتليفزيون ازداد بوجه ملحوظ في الفترة الأخيرة (5).(111/2)
إن هذا البحث لن يدعى أن يكون شاملاً وافيًا، إنما هو محاولة لتناول قضية تناولها بوجه أو آخر باحثون آخرون من قبل وربما تناولها المجمع في دوراته السابقة لكننا نأمل في أن نأتي بإسهام ولو متواضع في تسليط الضوء على هذه القضية وتوضيحها واستخلاص بعض الاستنتاجات على أساس دراسة تزامنية انطلاقًا من أمثلة مختارة من اللغة المعاصرة من الصحف بصورة خاصة، ومن النصوص الأدبية في أحيان أخرى، واعتمادًا على القواميس الثنائية اللغة أيضًا.
وقد انطلقنا من تصنيف للسوابق في اللغتين الفرنسية والإنجليزية أعددناه على أساس دلالاتها (6) ثم بحثنا في طرق التعبير عنها في اللغة العربية، على ما يأتي :
سوابق النفي والحرمان المقسمة إلى ثلاث مجموعات فرعية :
أ_ a-,an-,un-,in-,non-,de-,des
ب- anti- ,contra
جـ - mal- ,mis
سوابق التشديد بدرجتين :
الدرجة العليا:ultra-,extra-
,hyper-,super-,sur
الدرجة السفلى : hypo-,infra-
,sous-,sub-
السوابق التي تعبر عن معاني النصف والتقريب : quasi-
,pen-hemi-,demi-,semi-
السوابق التي تعبر عن الموقع المكاني والزماني :
avant- ,anté- , pré
post-
السوابق التي تعبر عن الموقع:
داخل شيء : intra
خارج شيء : extra
جـ - بين شيئين : inter
السوابق التي تعبر عن العدد:
أ- الإفراد : mono- , uni-
ب- الجمع: multi-, poli-
جـ - الأعداد من اثنين إلى عشرة: bi-
,di-, tri-.
quadri-(quadru-,quadr-),pent(a)-,hex(a)-,sept-,oct(a)-,nona-,deca-
سوابق الاقتراب والحب لأشخاص أو لأشياء معينة:
.pro-,phylo
سابقة الإعادة : re-
أشباه السوابق : auto-,aero-
,neo-etc.
مجموعة سوابق النفي والحرمان(111/3)
يلاحظ من ذكر السوابق التي تشتمل عليها هذه المجموعة أنها الأكثر عددًا في اللغتين الفرنسية والإنجليزية وغيرهما من اللغات الأوربية وأنها تغطي سلما واسعا من الدلالات الفرعية التي تتراوح بين النفي والحرمان والمضادة والإساءة . ومن هنا يمكن تقسيمها إلى ثلاث فئات :
النفي والحرمان : non-,a-,an-,un-,de-,des-,dis-, i-
,in-
المضادة : anti-, contra-
الإساءة : mis-, mal-
1- وجد الناطقون بالضاد طرقا وأدوات مختلفة للتعبير عن معاني ودلالات هذه السوابق وبخاصة السابقة " a-" الإغريقية الأصل والتي عبروا عنها منذ العصور القديمة،وبالتحديد في عصر ترجمة المؤلفات الفلسفية اليونانية إلى العربية . وفي تناول هذه القضية سننطلق من الأساليب والطرق والأدوات العربية المقابلة لدلالات هذه السوابق .(111/4)
1-1 – لاشك أن أداة النفي " لا " تستخدم في اللغة العربية الحديثة للتعبير عن دلالات متباينة لسوابق النفي والحرمان. وقد أصبحت " لا " السابقة الحقيقية الوحيدة في اللغة العربية – إلى جانب السوابق العربية القديمة التي ذكرناها في أول البحث، طبعًا – وذلك أنها التصقت عادة باللفظ الذي تسبقه عن طريق النحت . وقد ترجم القدماء المصطلح الفلسفي الإغريقي " agnostic" بـ " لا أدري " والاسم المقابل له أي "agnosticism" بـ " لا أدرية " . ومما يلفت النظر في هذه الصيغة أن الاسم المذكور هو صيغة المضارعة للمتكلم من الفعل " درى – يدرى " ونعتقد أن اشتقاق نسبة ومصدر صناعي من فعل مضارع – وربما هذا المثل من الأمثلة القليلة من هذا النوع – ليدلل فيما يدلل على جرأة المترجمين وقدرتهم على التصرف في اللغة . وفي النصوص الفلسفية والعلمية العربية المنقولة من لغات أخرى إلى اللغة العربية في عصر ازدهار الحضارة العربية في ظل خلافة المأمون، وبعده يمكن اكتشاف العديد من الألفاظ التي دخلت عليها أداة النفي "لا" للتعبير عن دلالة السابقة الإغريقية "لا"(7) إلا أن استخدام هذه الأداة بصفة سابقة في العصر الحديث اتسع وتنوع كثيرا ولا ريب أن انتشار استخدامها بهذه الوظيفة يعود – على الأقل جزئيًّا – إلى تأثير صيغ مماثلة من اللغتين الفرنسية والإنجليزية .
ومعروف أن المعنى الأصلي والعام للصيغة التي دخل فيها الحرف " لا " كان ولا يزال ضدًّا بالقياس إلى اللفظ الأساسي، كما هي الحال في ألفاظ مثل:
قانوني :" legal " – لا قانوني "illegal"
إنسان "human" –لا إنساني"inhuman"
محدود"limited"–لا محدود"unlimited"
ديني "religious"-لا ديني"irreligious"
لكن أداة النفي " لا " أصبحت تعبر عن دلالات أخرى مثل :
أ- النفي المطلق (non-) المقرون أحيانا
بالتعبير عن الصفة المضادة :
لا شيئية : nonexistence"
لانهائي : " infinite "
لا معقول " unreasonable "(111/5)
ب- الحرمان :
لا دينية " atheism "
جـ - عكس دلالة اللفظ الأساسي:
لا مركزية " decentralization "
د- المضادة النشطة أو المضادة عن طريق التتالي :
لا قومي " antinational "
لا ديمقراطي " antidemocratic "
لا سامي "antisemite "
والحقيقة أن الألفاظ المسبوقة بالسابقة "لا" باتت تعامل مثل أي ألفاظ عربية أخرى وبخاصة الأسماء منها، حيث يمكن تعريفها بـ " أل التعريف" أو بالمضاف إليه، مثل:
انفجر مكنون اللاوعي كالبركان (8) "unconscious"
لا منطقية الزمان " illogic "
لا منطق العالم الجديد " illogic "
وقد اندمجت الألفاظ المنحوتة بأداة النفي " لا " في النظم الصرفي والنحوي والمعجمي للغة العربية وأصبحت تشكل منظومة من الأضداد التي يمكنها أن تحل محل الألفاظ الأساسية في أي سياق .
ووجدنا أن " لا " النفي تسبق اسما أو مصدرا أو مصدرا صناعيا مرفوعا
اللامبالاة"the indifference, the unconcern "
اللاوعي " the unconscious "
اللاتسامح " the intolerance "
اللانهائية " the infinity "
وخلال السبعينيات تداولت الصحف العربية جميعا عبارة " اللاسلم واللاحرب" non-peace and non-war" . وتدلل هذه العبارة وغيرها من التراكيب المماثلة فيما تدلل على قابلية سابقة " لا " للاتصال بأي اسم من الأسماء ودون تأثير أجنبي بل دون مقابل أجنبي في أحيان كثيرة.
كما تسبق هذه السابقة نسبة أو اسم فاعل أو اسم مفعول وكلها مرفوعة أيضًا:
لا قانوني " illegal "
لا إنساني " inhuman "
لا أخلاقي " amoral "
لا إرادي " involuntary "
لا واعٍ " inconscious "
لا متناهٍ " unlimited "
لا محدود " unlimited "
لا مقبول " unreasonable "(111/6)
وفي العصر الحديث شهد التركيب الذي تسبق فيه " لا " اسمًا أو مصدرًا منصوبا غير معرف والمعروفة بـ "لا النافية للجنس " انتشارًا متزايدًا . صحيح أن هذا التركيب عربي أصيل إلا أنه انتشر كثيرًا في العصر الحديث ويقابل عددًا كبيرًا من الألفاظ الإنجليزية والفرنسية التي تظهر فيها سوابق النفي والحرمان . وجدير بالذكر أن الحرف " لا " لا يتصل في مثل هذه التراكيب العربية الأصيلة بالاسم المسبوق . وبعد الاسم المنفي يمكن أن يأتي أحيانًا حرف جر ( في أكثر الأحيان " لام الجر" ) تسبق ضميرًا متصلاً ويعتبر هذا التركيب بمحل نعت بالنسبة للاسم الذي يسبقه:
لا أثر له :"ineffective, ineffectual "
لا وجود له : nonexistent "
لا نهاية له " infinite "
لا حد له " unlimited "
لا مرد له " irresistible "
لا حصر له"immeasurable, innumerable"
1-2- الاسم " غير " أصبح كذلك قابلا للتعبير عن دلالات سوابق النفي والحرمان عندما يضاف إلى اسم مفعول أو اسم فاعل أو نسبة في التركيب العربي الأصيل القديم المعروف بـ " الإضافة " (9) . لكن هذا الاسم الذي يحتل مكانة متميزة بين الأسماء العربية في نحو هذه اللغة كان يستخدم حتى في العصور القديمة بالقيمة ذاتها وفي مثل هذا التركيب بالذات للتعبير عن الأضداد، وكان يضاف إليه إما اسم الفاعل أو صفة (10). إلا أن بعض المستشرقين يرون أن أسلوب التعبير عن الأضداد بمساعدة الاسم " غير " يعود كذلك إلى عصر الترجمة من اللغة الإغريقية(11) . ومهما كان الأمر نجد أن عدد التراكيب التي دخل فيها الاسم "غير" ازداد في العصر الحديث ونميل إلى الاعتقاد بأن عددا لا بأس به منها نشأ نتيجة لتأثير الألفاظ الفرنسية والإنجليزية
التي اشتقت بالسوابق .(111/7)
إن عدد التراكيب التي أضيف فيها الاسم " غير " إلى صفة ليس بكبير، ونذكر منها على سبيل المثال " غير قليل " –"non-little" و"غير صحيح" "non correct " و "غير شريف " – "not-honest" إلخ ، إلا أن هذا الاسم أصبح يضاف في العصر الحديث في تراكيب لا تحصى إلى أنواع أخرى من الأسماء التي تكتسب بذلك قيمة الأضداد، وهو يضاف إلى :
أ- اسم الفاعل :
غير فاعل " uneffective"
غير ممكن "impossible "
غير كاف "insufficient "
غير صالح لـ " unfit for "
غير مناسب " inadequate "
ونذكر هنا وجود العديد من التراكيب التي يضاف فيها اسم الفاعل "قابل لـ " المنفي بـ "غير" للتعبير عن دلالات سوابق النفي والحرمان ودلالات اللواحق able,-ible – في آن واحد،مثل:
غير قابل للتطبيق " inapplicable "
غير قابل للتجزئة " indivisible "
ب- اسم المفعول :
غير مشروع " illegal "
غير مسؤول "irresponsible "
غير مقبول " innacceptable "
غير مصدق " incredible "
ج – لكن عدد التراكيب التي يضاف فيها الاسم " غير " إلى نسبة تنتهي باللاحقة "– ىّ " أكبر بكثير :
غير علمي " unscientific "
غير طبيعي "abnormal"
غير عادي" unusual"
غير رسمي " unofficial"
غير إنساني "inhuman ".
وتمثل هذه التراكيب أحيانا مرادفات للتراكيب التي تدخل فيها أداة النفي "لا " بوصفها سابقة :
غير مباشر = لا مباشر "indirect"
غير إنساني = لا إنساني " inhuman"
ومما استرعى انتباهنا أن الاسم "غير" يعبر في عدد محدود من الحالات عن دلالة السابقة " extra- " من الألفاظ الفرنسية والإنجليزية :
اجتماع غير عادي extraordinary " meeting"
أهمية غير عادية"Extraordinary importance "(111/8)
ووجدنا أثناء عملية الاستقصاء عن أمثلة لإعداد هذا البحث أن الاسم "غير " يعرّف أحيانا بأداة التعريف – مثله في ذلك مثل الحرف "لا" – مما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن المتحدثين بالعربية بدؤوا يشعرون بأنه يؤدي وظيفة سابقة وبالتالي يعاملونه على هذا الأساس. إن مثل هذه التراكيب ليست صحيحة من الناحية النحوية لكنها تدلل فيما تدلل على تطور جديد في هذا الاتجاه ونرى من واجبنا أن نلفت انتباه المجمع الموقر أيضًا إلى هذا الأسلوب واتخاذ موقف إزاء هذا الأسلوب ، إما قبولا له أو رفضًا له. (12) ونذكر على سبيل المثال عدة تراكيب من هذا النوع مستخرجة من الصحف المصرية :
الطائرات الغير مسلحة
الضباط الغير صالحين
التوزيع الغير عادل
لكن التراكيب التي تأتي فيها جميع الأسماء الثلاثة معرفة بـ "أل التعريف " تبدو أكثر غرابة ويصعب تفسيرها ، مثل:
الأمل الغير المحدود .
1-3- تقابل تراكيب اسمية من نوع الإضافة يدخل فيها المصدر "عدم" بصفة مضاف ومصدر فعل آخر أو مصدر صناعي بصفة مضاف إليه بانتظام تقريبا التراكيب ذات القيمة النعتية التي يدخل فيها "لا" و"غير" . ومن ناحية أخرى تقابلها ألفاظ فرنسية وإنجليزية مشتقة بسوابق مثل :" ... non-,un-,in-,des- " مما يبرهن على أن الاسم "عدم" يعبّر هو الآخر في مثل هذه التراكيب عن دلالات سوابق النفي والحرمان .
ونذكر على سبيل المثال :
عدم القبول " nonacceptance".
عدم الاستقرار " instability ".
عدم الوجود " nonexistence ".
عدم الإمكانية " impossibility ".
عدم المساواة " unequality ".
عدم القابلية لـ " incapacity off"
عدم التدخل " nonintervention"
وفي عدد محدود من الحالات تمثل التراكيب الاسمية التي يدخل فيها الاسم "عدم" مرادفات لتراكيب اسمية أخرى تدخل فيها أداة النفي " لا " ، مثل :
عدم القبول=اللاقبول"nonacceptance"
عدم المركزية=اللامركزية"decentralizatio"(111/9)
وربما عن طريق الجاذبية أصبح النعت "عديم" يضاف أيضًا إلى اسم للتعبير عن قيمة نعتية . وتقابل هذه التراكيب تراكيب ذات قيمة اسمية يدخل فيها الاسم "عدم" . ويمكن تفسير العدد المحدود من هذه التراكيب بالمنافسة القائمة بينها وبين التراكيب التي يدخل فيها الاسم "غير" والذي أصبحت مكانته في اللغة أكثر متانة بفضل سهولة إنشاء تراكيب بمعان مماثلة بمساعدته. ونذكر على سبيل المثال:
عديم الحياة"inanimate".
عديم الخطر"non-dangerous".
عديم النظير "unequalled" .
عديم الفائدة "unprofitable" .
عديم الإحساس "insensitive" .
عديم الأهلية"incapable".
1-4- بالإضافة إلى طرق وأساليب التعبير عن دلالات سوابق النفي والحرمان المذكورة أعلاه وجدنا كذلك سلسلة من الطرق التي يمكن اعتبارها عرضية طارئة والتي تنتج عنها معان ودلالات شبيهة بمعاني الألفاظ المشتقة بمثل هذه السوابق في اللغات الأوربية . ونذكر من بين هذه الطرق وأدواتها :
أ- الظرف " دون " :
دون انقطاع " uninterrupted"
دون كلل وملل " untired"
دون قيد وشرط " unconditional"
ب- المصدر "قلة"والصفة المقابلة له"قليل":
قلة الحياء "impudence,impertinence قليل الحياء impudent, impetinent".
قلة الأدب "impoliteness" .
قليل الأدب " impolite, uncivil".
جـ - المصدر "قصور" والصفة المقابلة له "قصير":
قصور الباع" inability, incapability"
قصير الباع" unable,incapable" .
د- المصدر "نزع" واسم المفعول المقابل له "منزوع":
نزع السلاح " disarming" – منزوع السلاح disarmed, demilitarized"
هـ - المصدر " تجريد من " واسم المفعول المقابل له "مجرد من " :
تجريد من السلاح "disarmament" مجرد من السلاح demilitarized,disarmed"
و – المصدر "فروغ" واسم الفاعل المقابل له "فارغ" :
فارغ الصبر " impatience" .
بفارغ الصبر " impatiently" .
ز – اسم الفاعل "خال من " :
خال من السكان(111/10)
"unoccupied ""uninhabited"
خال من الضرر " inoffensive"
ح – المصدر "انعدام " :
انعدام الوزن " imponderability"
طـ - اسم الفاعل " فائق " :
فائق الحد " unlimited "
فائق الوصف " indescribable"
ي – اسم المفعول "مقطوع" واسم الفاعل "منقطِع":
مقطوع النظير " incomparable"
منقطع النظير/القرين"unmatched" "unrivaled" " incomparable"
"unequaled"
ك – اسم الفاعل " نافد " :
نافد الصبر " impatient "
ل – الظرف " فوق " :
فوق العادة " unusual "
فوق الحد " infinite,unlimited"
2- أما السابقتان "anti-"و" counter-" فقد لاحظنا أن اللغة العربية استخدمت أسماء الفاعل والمصادر المشتقة من عدة أفعال على وزن "فاعل" تعبر عن دلالات المعارضة والمقاومة والعداء . وحسب مدى استخدامها. وهذه الأفعال هي: "عادَى " و"ضادّ" و"ناهض" و"ناوأ" و"نافَى" و"عاكس" .
أ- لاشك أن اسم الفاعل الأكثر استعمالا للتعبير عن هذا المعنى هو "مُعادٍ" :
معادٍ للشعب " antipopular"
معادٍ للاستعمار " anticolonialist"
ب- ويستخدم اسم الفاعل "مضاد " على الأخص مع أسماء الآلات الحربية :
مدفع مضاد للدبابات " antitank gun"
مدفع مضاد للطائرات"antiaircraft gun"
لكنه يستخدم مع أسماء أخرى كذلك:
مواد مضادة للحيويات "antibiotics"
ج – أما أسماء الفاعلين " مناهض " و"مناوئ" و "منافٍ" فإن استخدامها للتعبير عن معنى السابقة " anti-" محدود وينحصر في نفس الحالات، ويبدو أنه حديث العهد حيث لا نجدها مذكورة بهذا المعنى في القواميس الصادرة قبل منتصف هذا القرن مثل قاموس " هانس فير" العربي –الألماني أو قاموس "برانوف" العربي – الروسي وهما من أشهر القواميس الصادرة في منتصف هذا القرن.
ونذكر من التراكيب التي وجدناها في الصحف خلال العقود الأخيرة :
مناهض للاستعمار والرجعية "antiimperialistic and antireactionary"
مناوئ للاستعمار " antiimperialistic"
مناوئ للفاشية "antifascist"(111/11)
مناف للشيوعية " anticommunist"
مناف للديمقراطية " antidemocratic"
ويستخدم في الوقت الأخير اسم الفاعل "مضاد" واسم الفاعل "معاكس" أكثر فأكثر – لكن في تركيب نعتي أي بصفة نعت – للتعبير عن المعارضة على شكل رد فعل أو الرد أو التكرار ، أي بمعنى السابقة " counter-"
هجوم مضاد " counterattak"
هجوم معاكس " counteroffensive"
خطة مضادة " counterproject"
إجراء مضاد "countermeasure"
اقتراح مضاد/معاكس"counterproposal"
أما مصادر الأفعال المذكورة فإنها مقابل سابقة "anti-"
من التراكيب الاسمية :
معاداة السامية "antisemitism"
معاداة الديمقراطية "antidemocratism"
مناهضة الاستعمار "antiimperialism"
وبالإضافة إليها نجد المصادر "مكافحة" و"محاربة" و "معاكسة" بالمعنى نفسه :
مكافحة الاستعمار "anticolonialism"
مكافحة البيروقراطية"antibureaucracy"
مكافحة الفاشية "antifascism"
مكافحة /معاكسة الجاسوسية "counterespionage"
ويلاحظ أن هذه الأفعال كلها على وزن "فاعَلَ " . ويعبر هذا الوزن عن دلالتين متعارضتين : فمن ناحية يعبر عن المساعدة والمعاونة والمشاركة والمشاورة ومن ناحية أخرى يعبر عن دلالات المنافسة والمعارضة والمقاومة والمجابهة . وتطورت من الدلالة الثانية الدلالات الخاصة التي تقابل السابقتين " anti-" و "counter"
3- أما السابقتان "mal-" و "mis-" فيقابلهما في اللغة العربية الاسم "سوء" والصفة "سيء " والفعل "أساء" .
ونذكر من التراكيب الاسمية:
سوء البخت/الحظ "misfortune"
سوء الإدارة "mismanagement, maladministration"
سوء السلوك "misbehavior, misconduct"
سوء المعاملة "mistreatement"
سوء التغذية "malnutrition"
ونذكر من التراكيب النعتية :
سيّئ الحظ "Engl. "unfortunate"; Fr. "malheureux"
سيئ السمعة "Engl. "disreputable"; Fr."malfamé"
سيئ المقاصد "Engl. "malevolent, malicious"
سيئ التغذية " Engl. "malnourished"(111/12)
وبدأ يستعمل الفعل " أساء " أيضًا للتعبير عن دلالة السابقتين المذكورتين في التراكيب الفعلية :
أساء التصرف "misbehave"
أساء الاستعمال " misuse"
أساء المعاملة "mistreat"
أساء الفهم "misunderstand"
ونلاحظ من الأمثلة المذكورة أن الاسم"سوء"والصفة"سيئ" يقابلان سوابق أخرى من مجموعة سوابق النفي والحرمان.
4- يدلل فيما يدلل العدد الكبير من الأساليب والطرق التي تستخدمها اللغة العربية للتعبير عن معاني السوابق ودلالاتها القائمة في اللغات الأوربية على تطور إمكانيات اللغة العربية لتحديث معجمها بحيث يتجاوب ويتماشى مع متطلبات ومقتضيات الحضارة المعاصرة .
وقد سبق أن أشرنا في معرض الحديث عن الألفاظ المستعملة للتعبير عن دلالات مختلف سوابق النفي والحرمان إلى أن أداة النفي "لا " أصبحت السابقة الحقيقية الوحيدة من بين الأدوات المذكورة في هذا البحث، حيث تلتصق باللفظ الذي يسبقه عن طريق النحت وذلك منذ العصور القديمة. أما سائر الأدوات المستخدمة للتعبير عن معاني سوابق النفي والحرمان ودلالاتها فتستعمل في أنواع مختلفة من التراكيب لكن سبقها دائما – ما عدا التراكيب العرضية والتراكيب التي يظهر فيها اسم الفاعل "مضاد"واسم الفاعل" معاكس " – يجعلها تشبه السوابق القائمة في اللغات الأوربية.
ويعتبر استخدام الاسم"غير" معرفا بـ "أل التعريف " أمرا عرضيا طارئا ويبرهن ذلك على اتجاه جديد ويعتبر نتيجة للتأثر بالسوابق وبخاصة من جراء اختصار الأدوات المستعملة للتعبير عنها. إلا أننا وجدنا كذلك مثالاً آخر على هذا الاتجاه حتى داخل المجموعة موضع البحث. ويجري الحديث عن عبارة " الضد نسّافة" بمعنى" contre-torpileur" (باللغة الفرنسية ) والتي تعتبر في رأي الباحث الذي ذكرها نوعا من النحت.(13)(111/13)
ومما تجدر الإشارة إليه أيضا أن عدد التراكيب الفعلية التي تقابل أفعالاً ذات سوابق في اللغات الأوربية محدود جدا بالقياس إلى التراكيب الاسمية والنعتية، على ما تبين من عرضنا هذا . ولعل ذلك يعود إلى وجود منظومة فعلية محكمة عريقة ذات ملامح واضحة،ويتعذر إدخال التغييرات عليها. ومن جهة أخرى تعتبر الأوزان الفعلية قادرة على التعبير عن دلالات متنوعة دقيقة مما جعل ممكنا التخلي عن استعمال أدوات أو طرق مختلفة للتعبير عن معاني بعض السوابق الفعلية القائمة في اللغات الأوربية أو معانيها .
ويبدو أن استخدام الطرق المذكورة للتعبير عن دلالات سوابق النفي والحرمان – ما عدا استخدام "لا" عن طريق النحت وتراكيب عرضية أخرى– يعود إلى مطلع العصر الحديث وامتد إلى أيامنا هذه.(14)
ويمكن التقدير أن جميع التراكيب التي
تشتمل على ألفاظ تقابل سوابق النفي والحرمان تتميز بقيمة معجمية واضحة حيث إنها تعتبر أضدادا للألفاظ الأساسية المقابلة لها .
لاشك أن منظومة سوابق النفي والحرمان من اللغات الأوربية وبخاصة الفرنسية والإنجليزية أثرت على ظهور الطرق المذكورة للتعبير عنها في اللغة العربية إلا أن هذه الطرق أصبحت تنفصل عن التأثير المذكور. وفي الوقت الحاضر تدخل في تراكيب جديدة لا تنطلق بالضرورة من نماذج أوربية . وأفضل دليل على ذلك وجود العديد من مثل هذه التراكيب في اللغة العربية دون مقابل لها في اللغات الأوربية . ويمكن الحديث عن نقل نظام التعبير عن دلالات مثل هذه التراكيب أو تعريبه مما يسمح بنشوء تراكيب جديدة على هذا المنوال في اللغة العربية من غير أن يكون من الضروري وجود ألفاظ فيها سوابق تقابلها في اللغات الأوربية .
نيقولا دوبريشان
عضو المجمع المراسل
من رومانيا
المراجع
Jean Cantineau, Racines et schemes, Semitica, 3,1950, P.73.(111/14)
Henri Fleisch, Traitè de philologie arabe, I,Beyrouth, 1961,P.408; D.Cohen, Remarques sur la dérivation nominale par affixes dans quolques langues sémitiques, Semitica, 14,1964,P.76.
Jean Dubois, Etude sur la dérivation suffixale en francais moderne et contemporain, Paris, 1962, P.1.
Johe Haywood, Modern Arabic Literature, London, 1971, P.31.
V.Monteil, L’Arabe
moderne, Paris, 1960.P172.
نيقولا دوبريشان،اللغة العربية خارج حدودها، في مجموعة"اللغة العربية وتحديات القرن الحادي والعشرين،المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس،1996،126.
Jozef Bielawski, Deux périodes dans la formation de la terminologie scientifique arabe, Rocznik Orientalistyczny,20, 1956,p.283.
نجيب محفوظ ، السمان والخريف ، دار مصر للطباعة ، ص 7 .
V.Monteil, op.cit., p.140.
بعض الاستخدامات القديمة لاسم " غير " ، راجع التفاصيل في عبد الرحمن التاج، القول في "غير" وحكم إضافتها إلى المعرفة ودخول "أل" عليها، مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة ، 25، 1969، ص 20 وما يليها .
Jozef Bielawski,op.cit.
,p.284.
وقد وجدنا تطورا مماثلا بالنسبة للاسم "شبه" والاسم "نصف" اللذين يعبران " إلخ ... راجع في هذا الصدد : semi-,hemi- " عن معاني سوابق مثل
Nicolae Dobrisan, Curs de lexicologie araba, Bucuresti, 1984,P.194.
Léon Bercher, Lexique arabe – francais avec un index francais – arabe correspondent, 1935, apud V.Monteil, op.cit,P142.
Jozef Bielawski, op.cit., p. 284.(111/15)
لقد كان محظورًا علينا أن نتصل بالمشرق إلا عبر القنوات التي تسمح السلطات الاستعمارية بالمرور منها ، وكذا فإن النشرات الواردة علينا من المشرق كانت تخضع بدورها لرقابةٍ محكمة، وحتى صُوَر قادة المشرق وزعمائه كانت تتعرض للمصادرة بل وللعقاب الصارم على امتلاكها وترويجها !
وقد وجدت نفسى ذات يوم بالسجن عام 1937م لأن الشرطة عثرت في بيتنا على رسوم لسعد زغلول وفريد وجدى وقاسم أمين ! لقد سألونى عن علاقتى بهؤلاء فقالوا: هل هم أخوالك أو أعمامك ؟ والحقيقة أننا كنا نتبادل سراً بعض الكتب التي تتسرب إلينا من المشرق من أمثال "حاضر العالم الإسلامى" الذى ترجمه الأستاذ عجاج نويهض وكتاب " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم" للأمير شكيب أرسلان ، وياويلَ من ضبطت
عنده ورقة من مثل هذه " المخدرات " ! وقد ازداد الحصار إحكاما عندما احتدت المعركة بين الوطنيين والاستعمار ، أواسط الأربعينيات، عندما طالب المغاربة باسترجاع استقلالهم ، واشتدت المواجهة أوائل الخمسينيات عندما توالت كتابات المصريين عما يجرى بالمغرب من تجاوزاتٍ خطيرة بلغت حد تهديد العاهل المغربى الملك محمد الخامس بخلعه عن العرش إن هو تمادى في مناصرة الحركة الوطنية التي تطالب بالاستقلال.
وفي أعقاب أزمة 25 فبراير 1951م توهم الاستعمار أنه سيجد في صحافة مصر ما ينفس عنه .فاستقدم الدكتور محمود عزمى عن جريدة ( الأهرام ) ليقف بنفسه على زيف " ادعاءات " الوطنيين وأن البلاد تعانى من الظلم والحيف، ولكن الدكتور عزمى عاد من المغرب يحمل معه أجوبة مكتوبة من لدن
العاهل المغربى ، الأجوبة كانت تُدين المحاولات الرخيصة للتفرقة بين الملك والشعب حيث نشر الاستجواب صورةً وحرفًا في جريدة الأهرام بتاريخ 27/3/1951.(112/1)
وما زلت أذكر أن في صدر الحملات العنيفة التي كان الوطنيون المغاربة يوجهونها ضد الحماية أنها كانت تحرم على المغاربة فتح المدارس لنشر التعليم مع أن طه حسين وزير المعارف وقتها كان ينشئ العديد من المدارس ويقرر مجانية التعليم الثانوى ويعلن أن التعليم ضرورى للناس ضرورة الماء والهواء .
لقد كانت مصر لنا بمثابة القبس الذى يهدينا إلى الطريق ونحن نقاوم الاستعمار.
وقد ركب الاستعمار رأسه فأقدم على نفي الملك محمد الخامس،يوم 20 غشت 1953 والذي كان يصادف عيد الأضحى عند المسلمين . وهنا لم يكن من الغريب أن يسمع الناس بالمغرب أن الدكتور طه حسين يُرجع الوسام الفرنسى ( لا ليجيون دونور ) من رتبة فارس كبير احتجاجًا على ما يجرى في الجناح الآخر من العالم العربى!
ولقد كتب الدكتور طه حسين - بعد نفي الملك محمد الخامس وولي عهده وسائر أسرته إلى كورسيكا ثم إلى مدغشقر - مقالا بجريدة الجمهورية عدد 29/12/1953م يحمل عنوان ( حول هوشى منه ومحمد الخامس ) .
وأردفه بمقال آخر في الجمهورية يوم 6/1/1954م حول ( محمد بن عرفة) الصنيعة التي نصبها الاستعمار عوض الملك محمد الخامس !
ثم كتب بعد أن ظهرت بوادر النصر في أعقاب الكفاح المرير الذى خاضه الشعب المغربى من أجل إرجاع مليكه ، كتب يقول : " فرض الشعب المراكشى إرادته على فرنسا فاضطرها اضطرارًا إلى أن تعترف باستقلاله وسيادته، وأكرهها إكراها على أن تفاوض السلطان الذى أنزلته عن عرشه منذ عامين ونفته إلى جزيرة نائية في أقصى المحيط ، وقدرت أنها ستجعله نكالا للثائرين بها والمتمردين عليها فلم يُغنِ عنها مكانُها الرفيع وصيتها البعيد وبأسها الشديد وسلطانها الواسع شيئا ، وإنما مضى الشعب المراكشى في ثورته وأضاف عنفًا إلى عنف " .(112/2)
كانت أمثال هذه المواقف بمثابة البلسم الذى يضمد جراح المناضلين والمبعدين الذين استمروا في كفاحهم إلى أن عاد محمد الخامس من منفاه يحمل معه استرجاع المغرب لحريته واستقلاله على ما أكده الدكتور .
وينبغى أن نتصور مدى ابتهاج المغاربة وقد أصبح في مستطاعهم أن يستقبلوا ضيفًا كبيرًا كان هو الدكتور طه حسين!
لقد غمرتنى فرحة زائدة وأنا أجد نفسى بطنجة يوم الثلاثاء 24يونيه 1958م أستقبل فيها الزائر الكريم نيابة عن وزارة التربية الوطنية وضمن الوفد المغربى الذى صحبه في خطواته .
أذكر جيدًا اجتماعنا ببيت السيد الدكتور عبد اللطيف بن جلون عامل طنجة الذى خصص استقبالاً حميمًا لعميد الأدب العربى الذى وصل ، عبر جبل طارق ، بصحبة زوجته السيدة سوزان إلى جانب كاتبه الخاص السيد فريد شحاتة .
وفي هذا الاجتماع ببيت هذا السيد العامل ، عندما كان الدكتور في جلسته الهادئة يستمتع بنسيم البحر تسلل كلبٌ ضخم الجثة من نوع ( بيرجى ) كانت تمتلكه السيدة زوجة العامل ، ومضى الكلب نحو الدكتور طه حسين ، وبدون سابق هَرِيرٍ أخذ يحتك بركبتى الدكتور !
شعرت بالضيف يفاجأ بصنيع هذا الطارئ ولكن الدكتور بما عهد من ظرف ولطف حوَّل المفاجأة إلى تعبير أدبى رفيع، وتمثل بقول حسان بن ثابت في أولاد جفنة:
يُغشون حتى ما تهر كلابهم ...
لا يسألون عن السواد المقبل !
قالها بصوته الجهورى المعروف وأسلم الحاضرين إلى مجلس أنسٍ جميل .(112/3)
بهذا ابتدأت بالمغرب أيام طه حسين التي كانت أيام أعراس أدبية علمية رددت صداها سائر أجهزة الإعلام المكتوبة والمسموعة ، وهكذا فبعد أن قام الدكتور يوم الأربعاء 25 يونيه بزيارة للسيد الحاج أحمد بلافريج رئيس الحكومة ووزير الشؤون الخارجية ثم بزيارة وزير التربية الوطنية الحاج عمر بن عبد الجليل ، وبعد أن حضر مأدبة العشاء التي أقيمت على شرفه في بيت السيد الحاج أحمد بنانى مدير التشريفات الملكية ، والتي تميزت بحضور صاحب السمو الملكى ولى العهد آنذاك الأمير مولاى الحسن…بعد ذلك قام الدكتور طه حسين صباح اليوم الموالى الخميس 26 يونيه بمقابلة صاحب الجلالة الملك محمد الخامس حيث قرأنا في الصحيفة الرسمية"العهد الجديد"البلاغ التالى:
" حظي الدكتور طه حسين إثر وصوله إلى الرباط بمقابلة صاحب الجلالة الملك المعظم وكان الدكتور مصحوبًا بمعالى رئيس الحكومة السيد أحمد بلافريج وسفير الجمهورية العربية المتحدة السيد أسعد محاسن ، وقد حضر المقابلة السيد أحمد بنانى مدير التشريفات والسيد عبد الكريم غلاب رئيس قسم إفريقيا وأسيا بوزارة الخارجية والسيد بومهدى رئيس القسم الثقافي بنفس الوزارة والسيد عبد الهادى التازى عن وزارة التربية الوطنية" .
ويمضى البلاغ قائلاً : "وكانت المقابلة على جانب عظيم من الحفاوة والود فقد خاطب صاحب الجلالة الزائر الكريم قائلاً:إننا نرحب في شخصكم بعالم من أعلام الفكر العربى في العصر الحاضر، والمغرب متشرف بزيارتكم التي كان يتمناها منذ أمد طويل ، لمشاهدة ما يبذله من جهود في سبل البناء والانبعاث".(112/4)
وأجاب الدكتور طه حسين : " إنى متأثر جدًا ، يا صاحب الجلالة ، بهذه المقابلة التي أنعمتم على بها ، ولى الشرف العظيم بالمثول بين يدى جلالتكم أنتم الذين قدتم معركة التحرير في المغرب وعانيتم كثيرًا من التضحيات والمشاق في سبل إسعاد الشعب المغربى ، والكل يعترف بالفضل العظيم الذى طوقتم به جيد العروبة بكفاحكم واستبسالكم إلى جانب الشعب المغربى الأبى " .
فعقب جلالة الملك على كلمة الدكتور قائلا : نعتبر أن كل شخص مهما كانت مرتبته ينبغي له أن يؤدى واجبه في هذا المضمار ! وإن الشعب المغربى يذكر كذلك ما قمتم به أيضا من أعمالٍ أثناء المحنة السياسية التي اجتازها المغرب ولا تزال عالقة بأذهاننا مواقفكم ومقالاتكم في الدفاع عن القضية المغربية مما كان له أكبر الوقع والتشجيع للأمة المغربية في جهادها . وزيارتكم هذه ستكون لها أكبر الفائدة بالنسبة للمثقفين المغاربة الذين يتعطشون لمناهل العلم في البلاد العربية .
وبعد ذلك دار الحديث بين جلالة الملك المعظم والدكتور طه حسين عن ظروف السفر ، وعن البرنامج الذى وُضع لزائر المغرب الكريم . ولما لاحظ جلالته أن البرنامج ربما كان مرهقًا بالنسبة للدكتور طلب جلالته من رئيس الحكومة السيد أحمد بلافريج ألا يكون في البرنامج إجهاد وتعب على الدكتور.
وإضافةً إلى ذلك الخبر الذى عممته أجهزة الإعلام صدر بلاغ من التشريفات الملكية يقول : يعلن مدير التشريفات والأوسمة أن صاحب الجلالة الملك المعظم حفظه الله تفضل بالإنعام على معالى الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب بالقاهرة بمناسبة زيارته أعلى درجة من وسام الكفاءة الفكرية الذى خصصه صاحب الجلالة بين الأوسمة الجديدة لذوى الكفاءة من العلماء والأدباء والأطباء والفنانين ورجال الفكر ، وإن الدكتور طه حسين أول من قلد هذا الوسام العلمى السامى .(112/5)
وفي الساعة السادسة من مساء نفس اليوم أقامت وزارة الشؤون الخارجية حفل شاى كبير تكريمًا لعميد الأدب العربى بحدائق الوزارة لم يحرم الدبلوماسيين من الاستمرار فيها إلا إشفاق السيدة زوجة الدكتور على زوجها من ألا يأخذ وقته لإلقاء محاضراته حيث استمعتُ إليه يهمس في أذن بعض المشرفين على الحفل معتذرًا ومداعبًا: اعذرونى فإن من الحب ما قتل !
فعلاً كان جمهور المثقفين على موعد مع المحاضرة الأولى للزائر الكريم التي ألقاها في نفس اليوم 26 يونيه بكلية العلوم التابعة لجامعة محمد الخامس بحضور سمو ولى عهد المملكة الأمير مولاى الحسن ، وكانت بعنوان : " الأدب العربى ومكانته بين الآداب العالمية " .
لقد غصت القاعة على سعتها بالذين كانوا في شوق بالغ إلى السيد العميد، ومازلت أذكر جيدًا أن هذا الجمهور، على سعته وتعدد اتجاهاته ، ظل كأن على رأسه الطير كما يقولون ، الكل رجالاً ونساء يصيخ بسمعه إلى ما يقول الدكتور الذى قدمه إلى هذا الجمهور الأستاذ عبد الكريم غلاب .(112/6)
لقد ابتدأ الدكتور طه حسين حديثه وأنت تشعر بأن الرجل يأخذك بأسلوبه الساحر شيئًا فشيئا ليلحق بك برفق إلى الموضوع الذى تناوله من غير أن تشعر بتعبٍ في تتبع فقرات حديثه ولا بصعوبةٍ في فهم لغته . وينساق بك إلى أن يصل إلى قمة النتيجة التي يتوخاها من عرضه ، فإذا أحس أنك وصلت معه إلى ما يريد أخذ بك في العودة بتؤدة ولطف وهو يزودك في هذه الأثناء بما يدعم أطروحته غير متكلف ولا متصنع ولا مغرب فيما يأتى به من ألفاظ سلسة مغرية ، وهكذا تشعر بأنه ماض في اتجاه الانصراف حتى يصل إلى الدقيقة الأخيرة المحددة للكلام فيودعك وأنت تشعر بأنك عشت لحظاتٍ من الزمان في غاية المتعة ، وكأنَّ الساعةَ ثانيةٌ ، فإذا أضفت إلى كل هذه المنهجية الأخاذة ما حباه الله به من صوتٍ موسيقى رخيم ، ومن احترام فائق لقواعد اللغة العربية،واختيار جيد للمفردات الدالة التي يستعملها ، آمنت بأنك أمام معلمة جديرة بأن تكون القدوة للذين يُنشئون ويتحدثون، وبأنك أمام رائدٍ خبير بمعارج الطرق منها الأقرب إلى الوصول ، وقد كان يذكرنى في دعاء كان يتردد على لسان أحد مشايخنا أثناء الدرس:"اللهم ارزقنا العلم،وارزقنا القدرة على تبليغه" .
قال الدكتور على الخصوص في محاضراته:
" … لقد مرت على أدبنا العربى أطوار نستطيع فيها بحق أن نقرر أن هذا الأدب كان هو الأدب العالمى الممتاز في عصر من عصوره ، ذلك أن هذا الأدب لم يكد يخرج من جزيرة العرب حتى انتشر انتشارًا رائعًا . ولست أعرف في اللغات القديمة لغة بلغت ما بلغته اللغة العربية من القوة ومن السعة والانتشار ومن القدرة على السيطرة على العالم القديم في أكثر أجزائه .(112/7)
نعم كانت قبل اللغة العربية لغات قديمة أخرى انتشرت في الشرق وسيطرت على سياسته وإدارته وثقافته ،ولكنها لم تبلغ في أى وقت من الأوقات أعماق الشعوب الشرقية ولم تستطع أن تغير من نفوس الشرقيين ولا أن تغير من لغاتهم شيئًا وإنما فرضت نفسها سياسيًا فكانت لغة الحكام وكانت لغة الإدارة وكانت لغة الثقافة الرسمية ،وظلت الشعوب تتكلم لغاتها الخاصة. فالأمة اليونانية فرضت سيطرتها على الشرق عشرة قرون. لكن الشعوب ظلت محتفظةً بلغاتها الخاصة فكان المصريون محتفظين بالقبطية وكان السوريون وأهل الجزيرة والعراق محتفظين بالآرامية …
وجاء الرومان بعد اليونان فلم تستطع لغتهم اللاتينية أن تنتشر في الشرق بحال من الأحوال وإنما كان الحكام من الرومانيين … وظلت الشعوب مع ذلك محافظة على لغاتها الموروثة … إلى أن جاءت اللغة العربية بعد الفتح الإسلامى فانتشرت ودون أن يتخذ السلطان العربى أية قوة لفرضها … نظرنا فإذا هذه اللغة تنتشر شيئا فشيئًا … ولا تلبث أن تصبح هى اللغة العامة لكل البلاد التي فتحها المسلمون في الشرق والغرب . انتشرت بقوة القرآن ، وبهذه القوة وحدها استطاعت أن تكون لغة عالمية لأول مرة وبأوسع معانى هذه الكلمة ، لكن الأدب الجدير بهذه المرتبة هو الذى يستطيع أن يأخذ وأن يعطى ولا يكون منعزلاً عاكفا على نفسه . يأخذ من الآداب المختلفة ما يلائم طبيعته ، فلا يعيش منعزلا وإنما يعيش متصلا بحياة الأمم البعيدة منها ويعطيها في نفس الوقت ما يستطيع . إن كل أدب جدير بهذا الاسم يجب أن يأخذ ويعطى وأن يتأثر وأن يؤثر … "
إلى آخر هذه الأفكار التي رأينا أن من الواجب أن نخصص لها ملحقا خاصا بعد أن سجلناها من الشريط المحفوظ بالإذاعة الوطنية التي نغتنم هذه الفرصة لنشكرها على مساعدتها .(112/8)
لقد سمعنا صاحب السمو الملكى ولى العهد يقول:إنه يعتز بأنه أمسى من تلامذة الدكتور طه حسين،وقد أبى إلا أن يقيم حفل استقبال أكاديمى على شرف الأستاذ الكبير في قصره الخاص بحى السويس مساء الأحد29من يونيه/11من ذى الحجة، وقد كان سموه في استقبال ضيفه ، وصحِبَه إلى المائدة التي جلس حولها رئيس الحكومة ووزير الخارجية وعدد كبير من علية الشخصيات الحكومية والدبلوماسية والأدبية بمن فيهم الأستاذ شارل أندرى جوليان عميد كلية الآداب وعدد من أعضاء ( جمعية العلماء بالمغرب ) الذين وصلوا إلى الرباط بمناسبة تقديم التهانى بعيد الأضحى لعام 1377 .
وقد كان الدكتور قبل هذا ضيفًا على السيد رئيس الحكومة في مأدبة غداء هذا اليوم أقامها على شرفه في بيته وحضرها عدد من الشخصيات السياسية والوطنية كان من بينهم الأستاذ علال الفاسى …
وقبل أن يغادر طه حسين الرباط حضر حفل استقبال كبير أقامه على شرفه في فندق حسان الأستاذ أسعد محاسن سفير الجمهورية العربية المتحدة . كما نظم الدكتور عبد العزيز الأهوانى المستشار الثقافي بالسفارة ومدير المركز الثقافي المصرى في التاسعة والنصف من نفس اليوم الأحد 29 ندوة كبرى استجابة لطلب الأدباء الذى أبدوا رغبتهم في الاتصال المباشر بالدكتور من الطلبة النابهين حيث وجهت للأستاذ عدة أسئلة حول التعريب وتيسير النحو ، وكان الدكتور يجيب عنها بصراحة أثارت إعجاب الحاضرين . الأمر الذى يعبر عنه ما تركه - رحمه الله - من آثار جد هامة حول المواضيع التي تطرق إليها والتي أصبحت محل اهتمام من المشرفين على الشؤون الثقافية ببلادنا .
وقد عالج حديث الدكتور طه حسين يوم الاثنين 30 يونيه = 12من ذى الحجة في العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء بقاعة المسرح البلدى موضوع تطور الأدب العربى في مصر قديمًا وحديثًا حيث قدمه إلى الجمهور الأستاذ محمد الفاسى الذى نعت الدكتور " بشيخ الجماعة " .(112/9)
وهكذا وبعد أن أكد أن فترة الحكم العثمانى كادت أن تأتى على معالم الأدب العربى في مصر بحكم أنهم أى العثمانيين قطعوا كل صلة بينها وبين العالم الخارجى شرقا وغربا ، أشاد بما قامت به دولة المماليك من خلال الاتفاقيات التي أبرمتها، والآثار التي تركتها بعد أن كان التتر أتوا على كل معالم الحضارة العربية في العراق،وهنا ذكر ما خلفه النويرى والعمرى والقلقشندى وابن منظور وابن حجر والسيوطى .
ويعتبر الدكتور طه حسين أنَّ طرق الفرنسيين أبواب مصر أيقظ المصريين وخاصة عندما ظهرت المطبعة وانتشرت بعض التجارب العلمية . وأخذ المصريون يرسلون أبناءهم إلى الخارج وأخذ الأجانب يترددون على مصر ، وبرز على الساحة تياران:التيار القديم والتيار الجديد.
وهنا طمحت النفوس إلى الاستقلال، وسمعنا عن البارودى وحافظ وشوقى وظهر النثر إلى جانب الشعر ، وشاهدنا أسبوعية " مصباح الشرق " وسمعنا بالمنفلوطى وآثاره .
ويبدو أن طه حسين وجد في الفرق بين سلوك القصر الملكى في مصر وسلوكه في المغرب،مما يتصل بالتواطؤ مع الاستعمار، وجد في ذلك ما يبرر لمزه للنظام الملكى في مصر . ومن هنا انتقل إلى دور الكتاب في العمل على التخلص من الاستعمار .
وفي هذا الصدد عرض لظهور حركة التمثيل بمصر .وهنا قدم توفيق الحكيم للمغاربة كما قدم إليهم عددا من الكتاب من أمثال نجيب محفوظ …
وكان المهم في هذا الحديث أنه يدعو المغاربة إلى المشاركة في ذلك الجهد من أجل إظهار الكنوز العربية . ومن المهم أن نقف مرة أخرى على التأكيد على ضرورة عدم الاكتفاء بذكر القدماء . إننا نريد -يقول طه حسين-أن نعرف ما عند الغرب أيضا ونجمع ما نعرفه عن قدمائنا وأن نكون لأنفسنا شخصيتنا الجديدة الحرة المستقلة. فلا ينبغي أن نورث أبناءنا ما ورثناه فحسب وإنما ينبغي أن نورث أبناءنا ما ورثناه وما أنتجناه نحن … " على ما سنقرأ تفاصيله من الملاحق .(112/10)
وإثر هذه المحاضرة أقيم حفل حاشد على شرف الدكتور طه حسين في بيت الأستاذ الحلو وقد غص المنزل بالحاضرين ، وغابت عنه زوجته على ما نقرؤه في مذكراتها …
وكان من طرائف ما جرى في فاس يوم الأربعاء الثانى من يوليه 1958 م أن الدكتور عزم على زيارة جامعة القرويين التي تقع في قلب المدينة القديمة والتي نعلم عن صلتها بالأزهر في ذاكرة طه حسين ، وقد طلب إلىَّ أن أختار أقرب طريق إلى الجامع واستكتمنى رغبته حتى لا تمنعه صاحبتُه من النزول بحجة الإشفاق عليه لكن الخبر وصلها فطلبت إلىَّ أن أرافقها لتأخذ فكرة عن المسافة. الأمر الذى جعلها ترفض أن يقوم بمثل هذه المغامرة !
وعبثًا حاولنا إقناع السيدة بسهولة الطريق بل وباعتمادنا على السيارة الخاصة التي جعلها الملك تحت تصرفه ، فقد أصرت على رأيها ، وهكذا تحولت الزيارة إلى أحد فروع جامعة القرويين الذى كان يحمل اسم ( معهد الزربطانة ) حيث أقيم في حدائقه الواسعة حفل استقبال كبير حضره جميع علماء جامعة القرويين … واستجابة لرغبة الدكتور شارك في الاستقبال جوق الآلة الأندلسية التي كان الأستاذ يطرب لسماع إيقاع إحدى نوباتها : ( بطايحى رصْد الذيل ).
وقد تقدم بهذه المناسبة عدد من الخطباء الذين رحبوا بالزائر الكريم وكان منهم الشاعر الكبير الأستاذ محمد الحلوي الذى تقدم بقصيدة رائعة في نحو أربعين بيتا ، طرب لها الدكتور طه حسين ورجعت به إلى عهود الشعر الزاهرة على حد تعبيره ، جاء في أولها على ما سنرى في الملاحق :
حَقٌّ على الشِّعْرِ أَنْ يُهْدِي عَرائِسَهُ ... تَحيَّةً لِعَميدِ الشِّعْرِ وَالأَدَبِ
هَفَا إِلى حِضْنِكَ الدَّافي لِتُنْعِشَهُ ... مِثْلَ اليتيمِ الَّذِى يَهْفُو لِحضْنِ أَبِ!(112/11)
وقد كان من حسن حظى ونحن بمدينة فاس ، وبالذات في فندق زالاغ ، أن ألازم الدكتور طه حسين أكثر مما لازمته في الرباط أو الدار البيضاء ، لقد كنت على صلة ولمدة تزيد على عشر سنوات بزميل لى في الدراسة كان كفيفًا: العربى الرهونى ، فكنت أعيش مع نفس الحركات والمدركات .سألنى -وكان يعرف أننى خريج جامعة القرويين - عن نصيبي من اللغة الفرنسية؟وهل سافرت خارج المغرب ؟ وقال لى مرة ألا تفكر في الالتحاق بالجامعة العصرية ؟ وقد استغربت من سؤاله هذا أول الأمر، لاسيما وقد كان يعلم أنني أب لخمسة أطفال وأنني أعمل رئيسًا للقسم الثقافي بوزارة التربية الوطنية !! وبين الفينة والأخرى ، كأنه كان ينسى ليرجع ويتحدث عن الجامعة العصرية على ما سنرى .
ولقد كان مما أثار انتباه الدكتور طه حسين - ونحن نتتبع تساؤلاته - أنه أحيانًا يدخل في حوار مع بعض الذين يسلمون عليه ، وقد كان يستغرب من أن معظمهم كان بالسجن أيام الاستعمار . وسنرى أن الدكتور يكتب : إن الذى يزور المغرب الأقصى بعد استقلاله إنما يزور وطنًا من أوطان البطولة حقًا، فمن أعسر الأشياء وأشقها أن تتحدث إلى رجلٍ من رجال الحكم أو من رجال الثقافة أو من عامة الناس إلا عرفت أن له بالسجن عهدًا . !
ولقد كان موعد الجمهور مع المحاضرة الثالثة في اليوم الموالى ، وقد اختيرت لها أكبر قاعة في المدينة الجديدة : ( سينما لامبير ) حيث قدمه الأستاذ محمد الفاسي ، وقد كان موضوعها يتناول مشاكل الأدب العربى بعد الإسلام .(112/12)
لقد خصص الحصة الأولى من محاضرته بفاس لتحية أهل فاس والإشادة بأمجاد القرويين ودورها في الحفاظ على التراث الإسلامى والهوية العربية لبلاد المغرب . " إن لمدينة فاس في قلوبنا مكانة أي مكانة فهي موئل الحضارة وموئل العلم ، وهى قلعة الإسلام الحصينة ، من أجل ذلك لا نذكرها إلا اشتقنا لزيارتها ولا نذكرها إلا ذكرنا جامعة القرويين وما يتصل بها … ونحن نقدر في أعماق نفوسنا أن جامعة القرويين هي أقدم الجامعات الإسلامية وعسى أن تكون أقدم جامعات الأرض كلها .
وقبل هذه الكلمات التي كانت بمثابة الوسام الذي حلى به صدر العاصمة العلمية للمغرب ، تفضل فشكر الاستقبال الحميم الذي خصصه علماء فاس لشخصه. " وإنني على ما سمعت من نثر رائع وشعر بارع بالأمس أذكر ما قيل قديما : " إن أعذب الشعر أكذبه " وإني لأعتذر لشاعرنا العظيم من ذكر هذه الجملة القديمة .
وبعد هذا تصدى الدكتور للموضوع الذي قدمه لرجال الفكر بالعاصمة العلمية والذي كان فعلا مثيرا وممتعا وأصيلا في الوقت ذاته :
هناك نظرية تقول : إن ظهور الإسلام أسكت الشعراء حينا من الدهر لأن القرآن بهر الناس ببلاغته وبيانه الرائع، وكان ابن خلدون أول من قررها في مقدمته وتبعه الذين أرَّخوا الآداب العربية. وعن مصداقية هذه المقولة تحدث الدكتور بصراحته المعهودة مقترحا على العلماء استعمال أفكارهم حول هذه النظرية وأمثالها.هذه المشكلة -يقول طه حسين - أحب أن أثيرها أمامكم . وإنى أرجو أن تتفكروا فيها وما أشك فيما بينى وبين نفسى في أن هذه النظرية ليست نظرية صحيحة بحال من الأحوال .(112/13)
وهناك مشكلة أخرى تحتاج إلى كثير من التفكير - نلاحظ أن الحجاز - وهو موطن الوحى أصبح في عصر بنى أمية موطن الغزل والغناء والموسيقا فماذا كان وراء هذا ؟ وهنا أيضا نصح الدكتور يفتح عيون الحاضرين على أفكار في منتهى الروعة والجرأة طالبا من الأدباء أن يستعملوا أفكارهم في الوصول إلى الحقيقة … فليس يكفي- يقول الدكتور - أن نقرأ ما يكتب في الكتب ونقرره ونعيده على طلبتنا كما قرأناه ونصبح كأننا الأداة التي تحكى ما يسجل لها . وإنما وهبنا الله عقولا لنفكر بها ، ووهبنا أذواقا لنقيس بها الجيد والردىء . وسترون عندما تعيدون النظر في تاريخ الأدب العربى القديم في القرنين الأول والثانى بنوع خاص ، سترون أنكم أمام حقائق كثيرة إنَّ ما نعرفه عن تاريخنا الأدبى قليل جدا بالمقارنة مع ما نجهله .
أنا أحب - يختم الدكتور - أن أثير المشكلات وأن أثير القلق من حولى . إنى لأرجو ألا تقرؤوا كتاب الأغانى إلا لتقرؤوا ليس غير ، ولا تتخذوه وحده مصدرا للتاريخ الأدبى .
لقد كان طه حسين يقصد إلى إعطاء مثل هذه المحاضرة في مدينة تحتضن جامعة القرويين شقيقة الأزهر ، جامعة تعيش على النصوص ، وبالنصوص ، وفي أحضان النصوص ، يقصد إلى أن يحرر الناس من أن يصبحوا عبيدا للنص بدون أن يستعملوا فكرهم جيدا في فهم النص وفي البحث عما قد يوجد من مصادر ومراجع تكشف عن مصادر النص وهدفه ، إن كل الناس مخاطبون باستعمال عقولهم واستخدام مواهبهم دون تقليد ولا متابعة عمياء .وسنرى في الملاحق تفصيلا عن موضوع المحاضرة .
وقد أبى محبوه بفاس إلا أن يأخذوه إلى مصطاف إيموزار الذي لا يبعد عن المدينة إلا قليلا حيث استمتع هناك بقعدات ندية حيث كانت أيدى الترحاب والتكريم تتهاداه من زاوية إلى أخرى …
وكانت زيارته لمدينة فاس مناسبة للإعلان عن قبول الدكتور للعرض الذى التمسته منه الجامعة المغربية : أن يلقى عدة محاضرات في السنة الأكاديمية المقبلة.(112/14)
وفي طريقه إلى تطوان يوم السبت 5 يوليه مر على مدينة القصر الكبير وهنا شعر بغياب أحد الرفاق في الرحلة وهو الزميل الراحل الدكتور عبد العزيز الأهوانى ، وسرعان ما حضر الدكتور الأهوانى فأنشده طه حسين هذا البيت الذى ارتجله:
اِسْأَلْ عَنِ القَصْرِ الكبِيرِ وَسِرِّهِ ... ... تَجِدِ الجوَابَ لَدَى الفَتَى الأَهْوَانِى!
وفي تطوان مساء الأحد 6 يوليه الموافق 18 من ذى الحجة بقاعة إسبانيول ألقى آخر محاضرة له ، وقد قدمه الأستاذ محمد بن تاوت التطوانى رحمه الله .
لقد أثار الدكتور طه حسين هذه المرة المشاكل التي تتصل بالأدب العربى عمومًا كأزمة القراء التي عزاها إلى تعلق الناس بأمور الحياة . مركزًا على السينما ودورها في جلب الناس إليها على نحو المقهى التي تحشر الناس إليها . وقد تخلص الأستاذ العميد إلى تصنيف الأدب إلى درجتين اثنتين فإما أن يكتب للكثرة وإما أن يكتب للقلة .
وقد وقف الدكتور مقارنًا بين الأدب القديم مبديًا ما كان يتمتع به الأدباء القدامى من تشجيع وعطف وتقدير .(112/15)
وينتقل الدكتور طه حسين إلى الموضوع الذى ما انفك يثيره مع الشباب قائلا : إن الشباب العربى الذى أخذ يكتسب عقلية القرن العشرين يجد الصعوبة الكبيرة في مسايرة الطريقة المتبعة في تعليم اللغة العربية وآدابها ، فإذا لم تصلح هذه اللغة وييسر هذا النحو فإننا نجد أنفسنا مسؤولين عن إعراض الشباب عن الأدب العربى بل ونعتبر محرضين لهم على ذلك ! وتأتى بعد هذا مشكلة الكتابة العربية التي تجعل الفهم قبل القراءة بدلا من أن تسبق القراءة الفهم نظرًا لعوامل الشكل والإعراب، وقد أشار في خطابه إلى القاضى المغربى ابن مَضاء الذى دعا إلى إصلاح النحو ... والذي كان أستاذنا شوقى ضيف خصص له بحثًا هامًا منذ عام 1997 .. إلى آخر الأفكار الجريئة التي أدلى بها والتي تركت لها أثرًا كبيرا في الطبقة الواعية التي كانت تصغىِ باهتمام إلى الأستاذ الجليل على ما نذكره في الملاحق .
وقد كان من المفروض أن يتجه الدكتور طه حسين إلى مدينة مراكش التي كان جمهورها ينتظره بفارغ الصبر إلا أن ارتفاع درجة الحرارة بعاصمة الجنوب ، وطول المسافة التي كانت تفصل بين الرباط ومراكش ، وعدم اشتمال السيارات آنذاك على المكيف جعلت أعضاء الهيئة المنظمة يذكرون وصية جلالة الملك محمد الخامس أن يشفقوا على الزائر الكريم حتى لا يرهقوه ولا يتعبوه ، الأمر الذى أذعن إليه أدباء مدينة مراكش على مضض .. وإلى الآن يذكرون المناسبة ويرددن قول الشاعر :
كَمَا أَبْرَقَتْ قَوْمًا عِطَاشًا غَمَامَةٌ ... ... فَلَمَّا رَأَوْهَا أَقْشَعَتْ وَتَجلَّتِ !
لقد ظهرت عبقرية الرجل أولا في توزيع المواضيع على العواصم المغربية المذكورة فخاطب كل عاصمة بما كان ينبغي أن تخاطب به ، فهو في الرباط غيره في فاس، وهو في البيضاء غيره في تطوان .(112/16)
أريد أن أخلص إلى القول : إن زيارة الدكتور طه حسين لم تكن زيارة سياحة أو راحة ولكنها كانت زيارة عمل وحركة متوالية، فمن محاضرة إلى مناظرة إلى استجواب، وقد كان الدكتور خلال كل ذلك مثل الرجل الذى لا يتعب ولا يمل ، كان يشعر بأنه يؤدى رسالة مقدسة لقوم ينتظرون منه هذه الرسالة ، قمة وقاعدة ، شبابًا وشيوخًا، ذكورًا وإناثًا ، فلم يكن هناك حديث إلا عنه وعن فكره النير وقلبه المبصر وحسه المرهف .
كنا نحس أنه يعطى كل ما عنده وبكل إخلاص ، وكنا ندرك أن الناس كانوا يتلقون أطاريحه على أنها أطاريح سليمة مسلمة ، ولذلك كانوا يتوقون إلى زيارة لاحقة استجابة لرغبة مريديه .
وإذا جاز لى أن أتحدث عن أثر هذه الزيارة التاريخية في نفسى فإننى أذكر بحق أنها كانت بالنسبة إلى منعطفا هاما في حياتى ، فقد أقنعنا الرجل بأن القاعدة العلمية التي اعتمدنا عليها في جامعة القرويين،بالرغم من أنها القاعدة الأساس ، لكنها بحاجة إلى تأثيث ، ولابد من الانفتاح على الجامعة العصرية التي تكون بمثابة النافذة المشرعة على العالم الآخر .
وأعترف أنني من هنا أخذت أتوق إلى الالتحاق بجامعة محمد الخامس رغم اعتراض بعض زملائي بجامعة القرويين الذين كانوا يرون في ذلك ، تنقيصًا من قدر القرويين !! وقد شجعني وجود ثلة من الأساتذة المصريين الأجلاء بالرباط من أمثال الأستاذ الدكتور جمال الدين الشيال الذى وجد في مساهمتى بالمؤتمر الثالث للآثار العربية المنعقد بفاس في نوفمبر 1959م:حول ( الحروف المنقوشة بجامع القرويين ) ، وجد فيها ما يبرر ذلك وأمثال الأستاذ الدكتور أحمد مختار العبادى الذى فتح لى قلبه .(112/17)
وإن نسيت فلا أنسى استقبال الدكتور طه حسين لنا في يناير 1961م بمكتبته الحافلة المرتبة في بيته ( رامتان ) ، عندما كنت بصحبة الأستاذ محمد الفاسى بمناسبة اجتماع اللجنة الثقافية للجامعة العربية في دورتها الرابعة عشرة التي أذكر أن في صدر الذين حضروها الدكتور أحمد زكى والدكتور أحمد حسن الزيات . كان الدكتور طه حسين وقتها نائبا لرئيس المجمع أحمد لطفي السيد .
لم أنس ارتياح الدكتور من سماع الأستاذ الفاسي رحمه الله يخبره بالتحاقي بجامعة محمد الخامس وتشجيعي على رسالتي لنيل دبلوم الدراسات العليا التي كانت مفتاحي للالتحاق بجامعة الإسكندرية التي كان لها
تاريخ بارز معروف مع الدكتور طه حسين.
ذكرت كل هذا الحديث اعترافا بالجميل الذى أسدته لبلادنا زيارة الدكتور طه حسين التي، كما قلت منذ البداية ، لم تكن زيارة نزهة بقدر ما كانت رحلة علمية، دامت أسبوعين وعملت على صحوة الطبقة المثقفة وتوعيتها بماضيها وتنبيهها إلى ضرورة الأخذ بمعالم الطريق الذى يضمن لها الحفاظ على ذلك الماضي حتى تواكب الركب العالمي .
لقد مرت أربعون سنة كاملة على سماعي محاضرات الدكتور طه حسين
وما تزال إلى الآن ترن في أذني بوقع جرسها وقوة دلالتها وأناقة كلماتها . لقد أخذتني إليه أخذا لم أستطع أن أحمى نفسي من التمثل بها والاسترشاد بأسلوبها…
وإني لأغتنم هذه الفرصة لتقديم التوصية بتعميم المحاضرات المسجلة بصوته على المؤسسات الجامعية باعتبار تلك المحاضرات تراثا مسموعًا يعلِّم الناس كيف بمخارج الحروف ينطقون ، ولأفكارهم يرتبون ولألفاظهم ينمقون، ولمستمعيهم يحمِضون(9) ويطرفون، وبانصرافهم يشعرون ويودعون !
د. عبد الهادي التازي
عضو المجمع من المغرب
الملاحق
الملحق الأول : محاضرة الرباط الخميس 8 من ذي الحجة 1377هـ الموافق 26 من يونيه 1958م .
الملحق الثانى : محاضرة الدار البيضاء الاثنين 12 من ذي الحجة الموافق 30 يونيه 1958م .(112/18)
الملحق الثالث : محاضرة فاس الخميس 15 من ذي الحجة 1377هـ الموافق 3 يوليه 1958م .
الملحق الرابع : محاضرة تطوان الأحد 18 من ذي الحجة 1377هـ الموافق 6 يوليه 1958م .
الملحق الخامس : قصيدة الشاعر الحلوي بفاس يوم 14 من ذي الحجة 1377هـ الموافق 2 يوليه 1958م .
الملحق السادس:استجوابه مع مجلة الإذاعة الوطنية العدد الأول يوليه 1958م.
الملحق السابع:مقال للدكتور نشرته جريدة الجمهورية في عددها ليوم29/7/1958م.
الملحق الثامن : مذكرات بقلم السيدة حرمه عن زيارته للمغرب .
الملحق التاسع : معرض لبعض اللقطات والقصاصات .
تنبيه :
لم تفتني استشارة ما كتب بالمشرق ، وبخاصة مجلة الهلال ، العدد الخاص بالدكتور فبراير 1966م - 1385هـ ، ومجلة ( الحديث ) عدد يوليه 1958م، وكذلك كتاب حول طه حسين تأليف الدكتور حمدي السكوت والدكتور مارسدن جونز ، طبعة دار الكتاب المصري اللبناني 1402هـ - 1982م ، وأخيرًا المحاضرة التي ألقاها الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية مساء يوم الاثنين 15 من ذي القعدة 1417هـ الموافق 14 من مارس 1997م تحت عنوان ( طه حسين المجمعي) بقاعة الاجتماعات الكبرى بدار المجمع بالزمالك …(112/19)
لا يزال موضوع الحوار بين تيارات الثقافة العربية المعاصرة مطروحًا بقوة على صعيد حياتنا الثقافية بعد مضي أكثر من قرن على بروزه. وتبدو اليوم أمامنا أخطار التقصير في الوفاء بمتطلباته، متجلية بصورة حادة لم يسبق لها مثيل، في أزمات تفجرت في بعض أنحاء وطننا العربي الكبير فعل انعدام الحوار بين التيارات الثقافية فعله في تكوينها وتأجيجها وهناك مجال لعمل صالح لمعالجة هذه الأزمات ولقيام أمتنا بإسهام حضاري في عالمنا من خلال العناية بهذا الحوار وتكثيفه، والوصول إلى جوامع أفكار وأفكار جامعة يلتقي عليها العاملون، وينطلقون منها إلى الإصلاح.
يتداعى إلى خاطري وأنا أتأمل في هذا الموضوع الحيوي شريط سينمائي شاهدته قبل أربعة عقود من السنين مأخوذ عن مسرحية ظهرت آنذاك في
بريطانيا اسمها "موائد منفصلة" ، تدور أحداثها في نُزل بمنتجع حل فيه نزلاء ، كانت تجمعهم قاعة الطعام، فيجلسون إلى موائد منفصلة، كل مجموعة منهم أو فرد يعيش عالمه الخاص، لا يتواصل مع الآخرين. ثم تطرأ أحداث وتطورات تلزمهم بالتواصل وتحثهم عليه، فإذا بالموائد في قاعة الطعام تصبح متصلة.
تشبيه لحال التيارات الثقافية في وطننا فيما يخص علاقتها بعضها ببعض، أنها تسكن جزرًا في يم ، لا جسور بينها . وقد طرحه قبل حوالي عقدين من السنين المفكر العربي زكي نجيب محمود . ودعا إليه في مقاله يومذاك – الذي بقي راسخًا في ذاكرتي- إلى أن نقيم جسورًا بين تلك الجزر. وحين تداعى إلى خاطري هذا التشبيه رجعت إلى بعض كتب زكي نجيب محمود ، ومنها كتاباه " هموم
المثقفين" و" هذا العصر وثقافته" ، فوجدته قد عاود معالجة حال هذه التيارات والدعوة إلى الحوار بينها مرات.(113/1)
لقد عني الفكر العربي بهذا الموضوع الحيوي، فتناوله بالنظر عدد من مفكرينا. وأذكر أني عرضت لبعض ما طرحوه من أفكار بشأنه ولما وصلت إليه في بعض كتبي، وبخاصة "فكر وفعل" و"حوار ومطارحات" و"وحدة التنوع" و"عمران لا طغيان" و"تجديد الفكر" ، وأخيرًا "تفاعلات حضارية وأفكار للنهوض" . وأود في هذا الحديث أن أتناوله بالوقوف أمام واقع حال هذا الحوار، والأخطار الناجمة عن ضعفه، وما ينبغي عمله لمتابعته وتوجيهه إلى المسار الصحيح الموصل .
نظرة طائر على واقعنا الثقافي العربي :
حين نلقي نظرة طائر على واقعنا الثقافي العربي، نلاحظ حركة نشطة إلى حد لا بأس به، تجري عبر مختلف وسائل الاتصال الثقافي الحديثة من صحافة وإذاعة مسموعة ومرئية (تلفزة) ومسرح وسينما وأشرطة مسموعة ومرئية ، وعبر وسائل الاتصال القديمة الشفهيَّة في التجمعات والمقروءة في الكتب.
نركز النظر على المشاركين في هذه الحركة، فنجد جلهم من المتلقين يستقبلون ثقافة تقدم لهم. وفيهم من يبحث عما يشده ويستهويه من الثقافة المتداولة. ونميز من بينهم قلة مبدعة أعطت الثقافة حقها ونذرت نفسها لها وسعت إلى الابتكار. ونرى حول هؤلاء المبدعين ناشرين للثقافة مثقفين وغير مثقفين يعمدون إلى نشر الأعمال الإبداعية؛ وبعض هؤلاء من التجار الذين أدركوا ما يمكن أن تدره بعض أنواع الثقافة " الخفيفة" من أرباح؛ وفيهم حامل رسالة ثقافية .
يلفتنا أن هؤلاء جميعا يتوزعون مجموعات، كل منها يمثل في حركته تيارًا يموج بمن فيه. ونلاحظ أن تيارين منها متباعدان، وأن في أحدهما فريقين يحتدم بينهما جدل، ويتبادلان معًا نظرات شزر ملؤها الشك والاستنكار. وهناك تيار ثالث يتواصل مع التيارين. ونرى باستمرار أفرادًا من هذين التيارين ينتقلون إلى هذا التيار الثالث ، وأحيانًا بين بعضها.(113/2)
يتداعى إلى خاطرنا ونحن نستحضر تاريخنا الثقافي الحديث أن ما نراه اليوم رأيناه، مع أجيال سبقتنا على مدى ما يقارب قرنين من السنين. فالتيارات الثلاثة هي هي منذ برزت في القرن الثالث عشر الهجري الموافق القرن التاسع عشر الميلادي، مع اختلاف محدود في عدد كل منها بين فترة وأخرى .
جديد ظاهر نراه اليوم هو انشغال التيارات الثلاثة بكيفية التعامل مع ثقافة مصنوعة وافدة تضغط عليها جميعا يجري فرضها عبر وسائل الاتصال بإعلام ترويجي، من سماتها إعلاء قيمة الاستهلاك والعناية بزخرف يخطف الأبصار، وهدفها صياغة إنسان مستهلك يتمشى مع متطلبات "العولمة". وحين نمعن النظر في هذه الثقافة الوافدة نلاحظ أن جذورها تعود إلى ما يقارب القرنين من السنين في حلقات متصلة في سلسلة . كما نلاحظ أن لكل من التيارات الثلاثة موقفه من الحضارة التي أوجدت هذه السلسلة حين
احتكت بحضارتنا.
في واقعنا الثقافي المعاصر إذًا ثلاثة تيارات ثقافية نجمت عن احتكاك حضارة الغرب بحضارتنا العربية الإسلامية. فأما الأول فقد اتخذ موقف" انكماش" من الحضارة الغربية التي حاولت أن تفرض نفسها علينا بقوة السلاح والتسلط بغزو استعمارى. وأما الثاني فقد اتخذ موقف"انغماس" بتلك الحضارة بعد أن سلم لها بالغلبة ، ظنًّا من السائرين فيه أنهم بتقليدها يحاذون أبناءها . وأما الثالث فقد اتخذ موقف"الاستجابة الفاعلة" لتحديات تلك الحضارة ونصب عينه توفير شروط النهوض والوفاء بها وتحقيق انبعاث حضاري لحضارته العربية الإسلامية.(113/3)
لقد أوضحت في كتاباتي التي تناولت هذا الواقع الثقافي أن موقفي الانكماش والانغماس ينتميان إلى رد الفعل، في حين أن موقف الاستجابة الفاعلة ينتمي إلى الفعل الذي يدخل فيه عنصر الفكر وتحكمه الإرادة . كما أوضحت أن رحلة الإنسان الفكرية تشهد انتقاله بين الموقفين الأول والثاني ثم إلى الموقف الثالث حين ينضج . ويستوقفني وأنا أراجع ما كتبه زكي نجيب محمود عن " أزمة المثقف العربي" في كتابه " هموم المثقفين" أنه بعد أن أوضح أن التيار الأول " يجعل ثقافتنا الموروثة هي معيار الصواب والخطأ" ، وأن التيار الثاني" يجعل الثقافة الغربية العصرية هي معيار الصواب والخطأ" ؛ قرر أن المجموعة الأولى تلوذ من حاضر الدنيا بركن من أركان التاريخ انقضت عهوده، وأن المجموعة الثانية تفر من الحاضر العربي إلى حيل من حيال أوربا أو أمريكا لتعتصم به. وقد فات المجموعتين لب المشكلة. وحديثه هذا يذكرنا بحديث أرنولد ترينبي عن المتعبين " الزيلوتيين" والمقلدين "الهيرودين".(113/4)
نزداد فهمًا لهذه التيارات الثقافية الثلاثة حين نستحضر نشأتها مع بداية الغزو الاستعماري الغربي لدائرتنا الحضارية ووطننا العربي، وما طرأ عليها من أحداث على مدى قرنين. فالسياسة الاستعمارية عمدت إلى التركيز على حقل التربية والتعليم وأسست مدارس التبشير وعلمت طلاب هذه المدارس اللغات الأوربية وما اصطلحت على تسميته بحضارة الدولة الغربية المعنية، فرنسية كانت أو ألمانية أو إيطالية أو بريطانية . وهكذا خرجت طلابا مهيئين بحكم ما تعلموه لأن يكونوا انغماسيين. وقوى هذا الاتجاه نظام البعثات إلى بلاد الغرب. وناصبت السياسة الاستعمارية حين احتلت البلاد وتسلطت معاهد العلم القائمة العداء، فتهيأ طلابها بحكم وطأة هذا التسلط لأن يقع بعضهم في أسر الانكماش. واتسعت الهوة بين التيارين مع ممارسات المستعمر الهادفة لذلك. وحدث في الربع الثاني من القرن العشرين أن شهد تيار الانغماس بروز مدرستين فيه بفعل الخلاف الذي احتدم في الغرب بين "الليبرالية الرأسمالية" و"الاشتراكية الماركسية" . وكان " تيار الاستجابة الفاعلة" الثالث يشق طريقه أثناء ذلك، ويجذب إليه أفرادًا متميزين من التيارين، من بينهم مبعوثون عبروا مرحلتي "العكوف" التي تجاوزوا أثناءها مجتمعهم إلى مرحلة "العودة" إلى مجتمعهم والتلاحم معه.
حين نستحضر تاريخ أمتنا في القرنين الأخيرين ، نرى بوضوح الأثر الكبير للواقع الثقافي العربي بتياراته الثلاثة على مختلف جوانب الحياة في وطننا العربي. وقد بان هذا الأثر على حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية والعقيدية؛ وذلك بفعل ما للثقافة من فعل. وهكذا رأينا كلا من هذه الجوانب موزعًا بين توجهات انكماشية وأخرى انغماسية وثالثة مستجيبة فاعلة .(113/5)
لقد استشعرت الأمة، منذ أن برزت فيها هذه التيارات الثلاثة الثقافية بين أبنائها ، الحاجة إلى حوار يجري بينهم يستهدف تجاوز سلبيات الاختلاف وتوظيف إيجابياته للنهوض بحياتنا. وقد قوي هذا الاستشعار للحاجة إلى هذا الحوار في فترات تضخمت فيها السلبيات بسبب ضعفه وانعكست على مختلف مجالات حياتنا، تخبطًا في السياسات الاقتصادية، وإخلالا في السلام الاجتماعي والعلاقة بين شرائح المجتمع، وتفردًا سياسيًا يرفض التعددية والمشاركة ويقع في هاوية التسلط، وسطحية فكرية تعتمد الحكم المطلق على الأفكار وتقطع الطريق أمام تلاقحها، وتطرفًا عقيديا لا يعرف السماحة وينزع إلى الإكراه. وتستوقفنا فترات أخرى شهدت مباشرة هذا الحوار وقطفت الأمة خلالها ثمراته الطيبة، وحدة وطنية على صعيد كل قطر ، ونهوضًا في مختلف مجالات الحياة، وقدرة على مواجهة المستعمر المعتدي، وتقدمًا في طريق تحقيق مشروع الأمة الحضاري بأهدافه الستة تحريرًا ، وتوحيدًا للجهود، وشورى ديمقراطية، وعدلا ، وتنمية ، وتجددًا حضاريا. ولكن ما كان أقصر تلك الفترات . وتلفتنا في الواقع الثقافي القائم جهود مباركة مكثفة على الصعيد الأهلي تعنى بتقدم هذا الحوار. ومع ذلك فإن الانطباع العام الذي تخرج به نظرة الطائر على الواقع الثقافي العربي المعاصر هو أن الحوار بين التيارات الثقافية العربية المعاصرة دون المستوى المطلوب بكثير . وقد نجم عن قصوره في ربع القرن الأخير تفاقم أزمات سياسية في عدة أقطار عربية تفجر بعضها عنفًا، وطرح بقوة قضية الهوية .
أخطار قصور الحوار :(113/6)
تعد الأخطار الناجمة عن قصور الحوار بين التيارات الثقافية في المجتمعات أخطارًا شديدة . وفي مقدمة هذه الأخطار غلو في الرأي والموقف ، يتزايد ويتصاعد مع استمرار القصور في الحوار، يتجلى في التطرف والبعد عن الوسطية، ويولد ردود أفعال . ويؤدي هذا الغلو إلى اهتزاز الهوية في المجتمع، ومن ثم إلى المساس بوحدة المجتمع الوطنية ، ويحول بذلك دون الوصول إلى المشروع الوطني الذي يلتقي عليه الجميع.
الأمثلة على الأزمات السياسية التي تنشأ عن تفاعل الأخطار، نراها في أماكن مختلفة من عالمنا، في إقليم الباسك وإسبانيا في شبه جزيرة أيبريا، وفي أيرلندة الشمالية وبريطانيا، وفي الفلبين وفي البلقان. ونذرها تتتالى في الأمريكتين . كما نراها في دائرتنا الحضارية الإسلامية ، في تركيا وفي أفغانستان وفي كشمير. ونراها في قلب هذه الدائرة في وطننا العربي في الجزائر بعد أن اكتوينا بنارها في لبنان ، ونرى نذرًا لها في أكثر من قطر عربي .
الغلو في الرأي والموقف ، الناجم عن قصور الحوار بين التيارات الثقافية ، تجلى في كتابات أهل قلم من التيارين الانغماسي والانكماشي تناولت قراءة تاريخنا والحديث عن واقعنا واقتراح ما يكون عليه مستقبلنا . وما أسخن المعارك التي نشبت بسبب هذه الكتابات . ويتداعى إلى الخاطر مثلا عليها، اعتبار البعض غزو بونابرت لمصر وحملته العسكرية عليها وعلى فلسطين بداية النهضة في مصر. وقد بلغ الأمر بواحد من المغالين أن نسب إلى هذه الغزوة بناء "مؤسسة الديوان" الذي كان قائمًا عبر تاريخ طويل، فضلا عن أمور أخرى لاسند تاريخي لها، ساكتًا في الوقت نفسه عن جرائمها الفظيعة وكونها عدوانًا صارخًا . وها نحن لا نزال نرى اليوم بقايا هذا الغلو بمناسبة مضي قرنين على ذلك العدوان الصارخ ، متمثلا في قضية الاحتفال بذكراه .(113/7)
هذا الغلو الناجم عن قصور الحوار يصيب برشاشه أكثر ما يصيب لسان الأمة، فيمس أحد أركان الهوية الثلاثة ، ومن ثم ركن عقيدة الأمة وركن تراثها. وإذا كان حافظ إبراهيم قد تحدث بلسان لغتنا العربية وهي تنعى حظها بين أهلها عام 1903م فقال:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي
وناديت قومي فاحتسبت حياتي رموني بعقم في الشباب وليتني
عقمت فلم أجزع لقول عداتي وسعت كتاب الله لفظًا وغاية
وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيق أسماءٍ لمخترعات
فإن غلو دعاة الفرنكفونية اليوم مسَّ حرمات اللسان العربي، الأمر الذي دعا صالح الخرفي إلى القول مستحضرا دور رابطة العلماء ، والشيخ بشير الإبراهيمي في الحفاظ على العربية :
رسل ( الضاد) هل دروا أن حرفًا
زف بالروح ، أصبح اليوم رهنًا
يا أبا (الضاد) ، يا بشير الأماني
حسرة (الضاد) في رحيلك عنا
تشتكي (الضاد) غربة في حماها
كنت منها تزلزل الدار ، ركنا
فرحة (الضاد) في الدساتير سادت
غربة الضاد واقعًا جر حزنا غالها الأبعدون بالأمس ، لكن
غيلة اليوم أقربون وأدنى يا دعاة التفرنس اليوم ، مهلا
خفتم العهد في الغد المتمنى(113/8)
ما أخطر هذا الغلو حين يحكم سياسات تتبناها حكومات في تعالمها مع التيارات الثقافية المختلفة في المجتمع ، فتعمد إلى حرمان واحد منها من التعبير عن نفسه، وترفض الحوار معه فارضة عليه عزلة وحصارًا، ومقاومة حوار التيارات الأخرى معه، ومحاولة استمالتها في إحكام العزلة والحصار عليه. الأمر الذي يؤدي إلى لجوئه للنزول تحت السطح والوقوع في أسر رد فعل مغالٍ. وفي ظل هذا الوضع يتعرض المجتمع بسبب التضييق على حرية التعبير المسؤولة إلى " نقص مناعة"، يؤدي إلى بروز عنف في العلاقة التي تحكم السلطة والناس. ويؤثر هذا العنف على مختلف جوانب الحياة في المجتمع، وعلى جيل الشباب بخاصة. ذلك أن بعض هؤلاء الشباب ينساقون إلى دورة العنف هذه بحكم نزوع جيلهم إلى المغالاة ، كما يفر بعضهم منها بعيدًا عن المشاركة في الحياة العامة، وأحيانًا من الحياة نفسها بالعيش في عالم وهمي تصنعه كيماويات "تسطل".
في ظل نقص الحوار بين تيارات الثقافة، وغلبة الغلو والمغالاة والمغالين على النطق بلسان كل منها والتعبير عنها، تعاني مناهج التربية والتعليم من عجز عن إقامة جسور الحوار في المجتمع وتمثل ثقافاته وحضارته، الأمر الذي يؤدي إلى اهتزاز الهوية، ويفعل الإعلام المعبر عن عزلة كل تيار فعله في هذا الاهتزاز واصلا به إلى مداه، وفاتحا الباب أمام صراع ثقافي لا يلبث أن يتفجر حربًا أهلية، تفسح المجال لتدخل عامل خارجي يستغلها لإضعاف الأمة والتسلط عليها واستنزافها اقتصاديًا بتسويق أسلحته لها، وتمزيقها نفسيًّا بفعل العداء المستشري بين الأخوة .(113/9)
لقد وصل الأمر في ظل هذا الصراع الثقافي في بعض الأقطار إلى أن يبرز التساؤل بين بعض أبنائه " أهو عربي الهوية؛ أم نصف عربي؛ أم غير عربي؛ في حمى الاقتتال؟" وحدث في الاقتتال الذي نشب في أكثر من قطر المساس بحرمات كثيرة واقتراف جرائم بشعة .وكم احتاج إيقاف الحرب المتفجرة التي نشبت من جهود. وكانت مباشرة الحوار هي السبيل إلى الاتفاق . ويتداعى إلى الخاطر هنا ما كتبه كريم بقردوني في كتابه" لعنة وطن من حرب لبنان إلى حرب الخليج" ، كمثل من بين أمثلة كثيرة، في فصل "هوية وطن" عن "مسألة علاقة لبنان بمحيطه العربي" التي ثارت في أوساط تيار ثقافي بعينه فبدت أمامه " علامة استفهام محورية ومعضلة مطروحة قبل الاستقلال اللبناني وبعده، وقبل الحرب اللبنانية وبعدها" وهو يقرر أن السنين الخمسين المنصرمة علمتنا أن الاتفاق بين اللبنانيين حول حد أدنى من الجواب كان حافزًا رئيسيًا من حوافز الاستقلال عام 1943، كما أن الاختلاف حول هذا الحد الأدنى كان دافعًا أساسيًا من دوافع الحرب عام 1975". ونحمد الله أن الحوار بين أهلنا في لبنان أوصل إلى إنهاء تلك الأزمة بتأكيد هويته وبالاتفاق على دوره وخصوصيته في إطار الكل . ولكن محنة قطر آخر عربي لا تزال على أشدها تنتظر الحوار الشامل الذي يؤكد الهوية ويوصل إلى الاتفاق على "جامع مشترك" للدور والخصوصية . كما أن نذر محن أخرى تمثل أحيانًا هنا وهناك، مهددة بالتفكيك والتفتيت ، ومذكرة بصراعات نشبت في دائرتنا الحضارية حين توقف الحوار بين أبناء الحضارة الواحدة واصطنع التناقص بين أركان الهوية الثلاثة .
جهود للتقدم بالحوار :
حق لنا وقد وقفنا أمام أخطار قصور الحوار بين تيارات الثقافة العربية المعاصرة وتوقفه، أن نقف أمام تلك الجهود المباركة المكثفة التي عنيت بتقدم هذا الحوار في وطننا العربي، ولفتتنا إليها .(113/10)
كثير من هذه الجهود قامت بها طلائع عربية على المستوى الأهلي ، استشعرت أهمية الحوار وخطورة توقفه، واستلهمت تراثا حضاريًا موحيا تألق إبان ازدهار حضارتنا العربية الإسلامية من خلال الحوار وتلاحق الأفكار وتوليدها ونذكر من بين أمثلة عدة مجلة " الرسالة " وصاحبها وكتابها . ونحن نرى اليوم متابعة لهذه الجهود تظهر في تجليات عدة ، منها "جوائز " خصصت للإبداع العربي في الأدب وفي العلوم ، و" محافل " لتحقيق التعارف والتفاعل بين المثقفين العرب، و"مجلات " و"صحف" تعنى بهذا الهدف من بين أهداف عدة .
تتجلى هذه الجهود على الصعيد الرسمي العربي في " مجامع" قطرية تضم بين أعضائها عربًا من أقطار الوطن الكبير، وفي "أسابيع ثقافة " و"مهرجانات" و"ندوات"و"مؤتمرات" يلتقي فيها مثقفون عرب من مختلف التيارات. وهذا المهرجان مثل. ومعارض الكتب ومنها معرض القاهرة الدولى مثل آخر .
تتداعى إلى الخاطر هنا جهود أخرى عنيت بالحوار على صعيد الفكر السياسي بعامة وفي مجالات محددة منه أحيانًا . ولافت أن صيغة المؤتمر القومي العربي التي برزت منذ مطلع التسعينيات الميلادية، جمعت في إطارها مختلف تيارات الفكر العربي ملتقية على العمل لتحقيق المشروع الحضاري العربي. ولافت أيضًا أن صيغة المؤتمر القومي الإسلامي التي برزت عام 1994م ميلادي بعد خمس سنوات من حدوث ندوة الحوار القومي الديني، ضمت في إطارها إخوة مسلمين ونصارى من التيار الديني وأخوة عربًا مسلمين ومسيحيين من التيار القومي بكل مدارسه.(113/11)
إن مؤرخ الأفكار متشوف المستقبل يعنى بتتبع هذه الجهود . وهو يقف أمام ما تثمره من صنع مناخ صحي وأجواء صافية في الوطن الكبير وفي سمائه وأمام ما تعد به من خير مستقبلا . وهو يرى من واقع اعتباره ازدهار الحوار علامة من علامات الانبعاث الحضاري ومعيارًا له، إن هذه التجليات دليل على هذا الانبعاث وعلى صحوة نعيشها اليوم ، يهيب بنا أن نتابع الجهد ليبلغ الانبعاث غايته تألقًا حضاريًا وعمرانا .
أمر آخر يلفت نظر مؤرخ الأفكار متشوف المستقبل هو أن مباشرة الحوار بين تيارات ثقافتنا العربية المعاصرة أهلنا لمباشرة حوار حضاري على الصعيد العالمي. وقد أثمرت جهودنا المبذولة فيه معرفة أدق لعالمنا المعاصر، وتفاعلا حضاريًا صحيا أساسه الندية مكن من الإفادة مما لدى الآخر من إيجابيات حقيقية، بعيدًا عن الانبهار والتوهم. كما مكن من الإسهام الحضاري في شؤون عالمنا . وأمثلة على هذه الجهود نراها في الحوار الإسلامي المسيحي والحوار العربي الأوربي وحوارات أخرى متنوعة دولية . وخليق بنا أن نعنى بكتابة تاريخ هذه الحوارات، ليتابع النهوض بمسؤوليتها جيل جديد.
إن ما نخلص به من هذه الوقفة أمام أخطار قصور الحوار وأمام ثمار الجهود المباركة لمتابعته والتقدم به ، هو اقتناع بمتابعة هذه الجهود بقوة للوصول بالحوار إلى المستوى المطلوب ، والإفادة من الدروس المستخلصة في الحالين في ترشيد مساره .
تقوية جسور الحوار :
الحاجة ماسة اليوم لتقوية الجسور التي قامت بين جزر تيارات ثقافتنا العربية المعاصرة في بحر وطننا العربي الكبير في دائرة حضارتنا العربية الإسلامية الواسعة ، ولتوسيع هذه الجسور وإقامة جسور أخرى، كي تتقارب الموائد المتباعدة المنفصلة وتتصل . فما السبيل لمتابعة الجهود الرامية إلى الوصول بالحوار القائم بين هذه التيارات إلى المستوى المطلوب ؟(113/12)
منطلق هذا السبيل ومبدؤه هو التسليم بأن الحوار فرض لازم وجَّه الله الخالق سبحانه بني آدم إليه ليتعارفوا على البر والتقوى . وهو تعالى يسمع هذا التحاور، ويدعو مباشريه إلى أن يكون بالقول المناسب وبالتالي من الأحسن أن تحكمه الحكمة والاقتناع بأن الاختلاف القائم بين المتحاورين من سنن الاجتماع الإنساني، وأن ما يعبر عنه من تنوع يغني الحياة، وأن جميع أفراد الأمة في سفينة واحدة؛ وأن الحوار الرشيد له آدابه، ومنها صيانة حرية التعبير عن الرأي واحترام الرأي الآخر واستهداف الحقيقة ، وأن هذا الحوار يثمر أطيب الثمار. وهذا ما يصدقه تاريخ ازدهار العمران والحضارات ، ومنها حضارتنا العربية الإسلامية التي شهدت مجالس من أمثلتها ما حفظه لنا أبو حيان التوحيدي في "الإمتاع والمؤانسة" وفي "مقابساته" وما حدثنا عنه أحمد أمين في فجر الإسلام وضحاه وظهره ويومه، وغيره من مؤرخي الأفكار ، وما شهده تاريخنا الحديث .
سياج هذا السبيل التي تصونه وتحميه، وتحول دون الخروج عنه واتباع سبل تفرق بنا إلى سبل أخرى يضعف فيه الحوار ويقف،هو التزام "السلطان" بحرية التعبير المسؤولة، والحرية قرينة المسؤولية. واعتراف "السلطان" قبل ذلك بكل حقائق التنوع في المجتمع .
التقدم في هذا السبيل يقتضي استحضار المثقفين والسلطان على السواء لأطلس المجتمع بكل خرائطه أقوامًا ومللا وأنماط حياة بدوًا وريفًا وحضرًا . وشرائح اجتماعية ، واستذكار حكمة تباين الأجيال وخصائص كل منها وروعة تواصلها .(113/13)
تتسابق إلى الذهن الأمثلة المشرقة الإيجابية على السير في هذا السبيل . والمجال لا يتسع إلا إلى إشارات لبعض منها. فمتحف النوبة الذي تم افتتاحه في أسوان أواخر العام الميلادي 1997 الموافق رجب 1418، قدم للثقافة العربية المعاصرة عطاءً سخيًّا ، وعبر عن موقف صحيح من الثقافات الفرعية في إطار الثقافة الواحدة. ومعجم اللسان الأمازيغي الذي أصدرته بالأحرف العربية أكاديمية المملكة المغربية من تأليف العضو محمد شفيق، عطاء سخي آخر عبر عن هذا الموقف الصحيح. ولا أزال أذكر سعادتي بقراءة ترجمة من الكردية إلى العربية لقصة " مم دزين" في دمشق في الخمسينيات ، وأحاديثي مع أخوة أكراد منتمين للثقافة العربية عنها. وقد حرصت في كتاب حديث لي هو "تفاعلات حضارية وأفكار للنهوض " على أن أعرض لثلاثة أعلام رحلوا أعطوا الحوار بين تيارات الثقافة العربية المعاصرة حقه هم: محمد أنيس ، وإسحق موسى الحسيني،وإبراهيم مدكور. كما أفردت فصلا لجهد العالم يوسف القرضاوي في حوار العروبة والإسلام .
يعترض التقدم في السبيل الموصل لازدهار الحوار بين تيارات ثقافتنا العربية ضغط قوى طغيان خارجية علينا لفرض حوار مع عدد يحتل الأرض ويمارس العنصرية ويجاهر بالعدوان ، باسم حوار السلام وبزعم بلوغ هدف ترسيخ ثقافة سلام. وما ذاك بحوار ، وإنما هو " إملاء". وما ذاك " السلام" إلا استسلام وثقافته "رضوخ" . وتعمد قوى الطغيان هذه إلى استمالة نفر من المثقفين للانخراط في هذه "التمثيلية " مستخدمة أساليب ترغيب ثم ترهيب، وقصدها أن تغطي بها عدوان المعتدي الصهيوني اليومي ، وتمكنه من المضي فيه ، وأن تعكر صفاء مناخ الحوار الحق في أوساطنا وتلبد سماءه بالغيوم.(113/14)
إن التقدم بالحوار يقتضي استحضار الثوابت التي يكون منها الانطلاق والبدء، ونصب عينيها تعزيز الهوية وتحقيق المشروع الوطني. وهذا يتطلب أن يأخذ الحوار مكانه اللائق به في مناهج تربية الأجيال وتعليمها احتراما وممارسة عملية، في البيت والمدرسة والمجتمع . وقد أولى الفكر التربوي العربي هذه المناهج عنايته. ويبقى أن يبذل جهد لتعميمها نظريًّا وتقديم الأمثلة العملية لها. ولابد هنا من التأكيد على أن هذه التربية تبدأ منذ مرحلة الطفولة الأولى ، وإن من بين حقوق الطفل علينا أن يحاورنا ونحاوره ونجيبه عن أسئلته المتتالية التي من خلالها يصل إلى المعرفة.
هذا التقدم يتطلب أيضًا أن يخدم الإعلام الحوار ، ويساند عملية التربية والتعليم . وأثر الإعلام اليوم قوي في ظل ثورة الاتصال ، وللتلفزة والسينما والحاسب جاذبيتهم . وهناك مجال واسع رحب لتقديم صورة صحيحة من خلالهم للحوار المثمر . وهذا يتطلب الحذر من الوقوع في أسر حوار الصم وما بدأ يشيع من " مصارعات حوارية" تحت اسم الرأي والرأي الآخر .
التقدم بهذا الحوار يتطلب فيما يتطلب أن يلتزم " السلطان " بالحوار ، يحترمه ويوليه عناية ويمارسه ويحرص على مستلزماته، ويتجمل بالصبر . ومستلزماته كما سبق أن أوضحنا حرية تعبير مسؤولة واعتراف بحقائق التنوع وحق الاختلاف وصولا إلى واجب الالتزام الفردي . وهذا الالتزام السلطاني الرسمي هو السبيل إلى ممارسة الشورى والديمقراطية وقطف ثمارهما الطيبة ، أصوب الآراء والتلاقي على تحقيق المشروع الوطني ومشروع الأمة الحضاري وبلوغ الأمن الاجتماعي .(113/15)
لن نمل نحن أهل الفكر من الحديث عن قصور الحوار على هذا الصعيد، ومن التنبيه على مخاطر هذا القصور . وسنظل ندعو إلى أن تكون " السياسة الأمنية " الرسمية في إطار السياسة العامة جزءا منها وليس حاكما عليها مهيمنا . وهذا يتحقق حين تغتني هذه السياسة الأمنية الرسمية بالفكر وآراء المفكرين. ولافت أن المؤسسات المعنية لا تزال في غالبيتها مغفلة تلبية حاجتها هذه .
إن من أهم جوانب الحوار الرسمي هو ذاك الذي يتصل بجيل الشباب في المجتمع . وعلى صعيده يجب أن يتجلى التجمل بالصبر في أروع صوره. ذلك لأن لجيل الشباب خصائصه التي من بينها نزوع إلى الغلو والتطرف. وهذا النزوع لا يتعامل معه بالقمع الذي يورث العنف. وإنما بتوظيفه لصالح المجتمع من خلال الحوار . ولن يفتأ الشيخ المفكر يذكر بحق جيل الشباب على جيله وجيل بلوغ الأشد وهو يتابع بأسى ما ينساق إليه "السلطان" أحيانا من " عنف " في التعامل مع بعض أبنائنا من الشباب . ويسلم الشيخ المفكر بأن الغلو في مجموعه ليس حسنًا ولكن السماح به من خلال حرية الفكر يمكن أن يخفف منه ويأتي به إلى الوسطية والاعتدال هذا فضلا عن أن في الشباب " حدسًا" أشار إليه ابن الخطاب كما ذكر الماوردي في "أدب الدنيا والدين"، تشتد حاجة صاحب القرار للاغتناء به حين يبلور قراره. وقد أوضح جمال إلينا في حديثه عن الإسلام والحرية أنه إذا كان الغلو في مجموعه سيئ ، فإن حرية التعبير عنه تفسح المجال لاستكشاف ما لا يستكشفه النقاش المألوف، واستشهد بما قاله شوقي في رثاء أمين الرافعي :
قيل غال في الرأي قلت هبوه
قد يكون الغلو رأيا أصيلا
وكم استنهض الشيوخ وأذكى
في الشباب الطماح والتأميلا .
وبعد(113/16)
فإن هذا الحديث عن الحوار بين تيارات الثقافة العربية المعاصرة يدعو إلى الخاطر ما جاء به الهدي الإلهي من تعليم الله الخالق مخلوقه الإنسان البيان، وإخباره نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم " والله يسمع تحاوركما " حين جادلته الصحابية رضي الله عنها في زوجها واشتكت إلى الله، وأن الكثير من آيات الكتاب المبين جاءت في صورة حوار شمل نماذج شتى ، فنحمد الله سبحانه ونصلي على رسله وخاتمهم محمد بن عبد الله ، ونستلهم من ذلك عزيمة للمضي في سبيل الحوار الموصل إلى تحقيق مشروع أمتنا الحضاري الذي يلتقي عليه أبناء الأمة من مختلف تيارات ثقافية ، ليسهموا في عمران عالمنا.
أحمد صدقي الدجاني
عضو المجمع المراسل
من فلسطين(113/17)
قال علي بن عيسى الرماني(1) في شرحه لكتاب سيبويه، "لا يتكلم بحرف واحد حتى يوصل بغيره فالوصل هو الأصل في الكلام"(5/ الورقة 23 ب)(2).
فهذا القول وهو قول جميع اللغويين العرب الأولين يخالف تماما النظرة اليونانية التي بنى عليها تقسيمهم لأصوات اللغة إلى مصوتات وصوامت . فقد لاحظ الفلاسفة اليونانيون ثم نحاتهم أن بعض الأصوات لا يمكن أن ينطق بها في الكلام العادي دون أن يرافقها صوت من جنس آخر فسموه aphona (غير مصوت ) أو symphona(مرافق لغيره). وأما هذا الذي يكون دائما معه في الكلام فيقدر الناطق أن ينطق به منفردًا وسموه phoneenta . ومن ثم نشأ – في الوقت نفسه– مفهوم المقطع(Syllabe) وتوارث الغربيون هذا التقسيم - وهي نظرة (على
الأصح لليونانيين القدماء)- إلى الدينامية اللفظية ( أو حراكية التلفظ ) ولم تغيرها الصوتيات الغربية في جوهرها إلى يومنا هذا وحافظت على التقسيم نفسه فقط كما سنراه .
وللنحاة واللغويين العرب نظرة أخرى(3) قد تلتقى بهذا التصور فيما لا مناص من قبوله لأنه راجع إلى الحس أي المعرفة المبنية على المشاهدة والتجربة وتفارقها من عدة جوانب من حيث تصور آخر أي نظرة من زوايا أخرى غير الزوايا التي اعتمد عليها قدماء اليونانيين .
ولهذا يجب على الباحث فيما أعتقد، أن يتأمل جيدا هذا الذي يسميه العرب الحركة والسكون والحرف المتحرك أو الساكن ولابد من الالتفات في ذلك إلى ما توصل إليه البحث لا في الصوتيات الحديثة فقط بل وكذلك في ميدان التكنولوجيا اللغوية.
النظرية اللفظية الحراكية العربية وما قاله العلماء العرب(114/1)
إن العلماء العرب اطلعوا على هذه المفاهيم الصوتية اليونانية بعد أن ترجمت إلى العربية كتبهم لا قبل ذلك . واستساغها الفلاسفة العرب وعلماء الموسيقا فوضحوها وعلقوا عليها وأضافوا إليها أشياء جديدة نتيجة لاجتهادهم العلمي ، وتجدر الإشارة إلى أنهم كثيرا ما يرجعون إلى النظرة العربية فيحاولون أن يترجموا تصور هؤلاء بألفاظ أولئك والعكس. فهذا الفارابي يقول بعد أن تعرض للتقسيم إلى مصوت وغير مصوت :" كل حرف غير مصوت اتبع بمصوت قصير قرن به فإنه يسمى المقطع القصير والعرب يسمونه الحرف المتحرك من قبل،إنهم يسمون المصوتات حركات . وكل حرف لم يتبع بمصوت أصلا وهو يمكن أن يقرن به فإنهم يسمونه الحرف الساكن . وكل حرف غير مصوت قرن بمصوت طويل نسميه المقطع الطويل" (كتاب الموسيقا الكبير ص1075)
وقال ابن سينا :"والحرف الصامت إذا صار بحيث يمكن أن ينطق به على الاتصال الطبيعي سمي مقطعا وهو الحرف الصامت الذي شحن الزمان الذي بينه وبين صامت آخر يليه بنغمة مسموعة " (الشفاء ،جوامع علم الموسيقا ص 123). فإن كان الزمان قصيرا سمي مقطعا مقصورا وهو حرف صامت وحرف مصوت مقصور وإن كان طويلا سمي مقطعا ممدودا وهو حرف صامت وحرف مصوت ممدود أو ما في زمان دوران أقصر زمان وهو صامت ومصوت وصامت. والمقطع الممدود يسميه العروضيون : السبب والمقصور إذا اقترن به الممدود سموه: الوتد (نفس المرجع، ص(126).(114/2)
العجيب في قول ابن سينا هذا هو أنه يعتمد على مفهوم الحرف وهو مفهوم عربي ليحدد مفهوم المقطع اليوناني . وكل من الفارابي وابن سينا يحاول أن يأتي بالمقابل العربي: الحركة بمعنى المصوت القصير والسبب بمعنى المقطع الممدود. وأعجب من هذا هو أنهما لا يتساءلان ههنا عن عدم وجود ما يسمونه بالمقطع القصير في العروض العربية. وما يزعمه الفارابي بأنه هو الحرف المتحرك غير دقيق لأن الحرف المتحرك لا يمكن في النظرة العربية أن يوقف عليه مع بقاء الحركة كما هي بخلاف المقطع القصير فإنه يمكن في النظرة اليونانية أن ينفصل . فههنا يكمن الفارق الأساسي الذي تفترق فيه النظرتان(4 )
1- الحرف كأصغر عنصر من عناصر الكلام
قبل أن نتطرق إلى هذا الفارق المهم وتمهيدًا لتوضيحه الكامل فإننا سنحاول أن نكشف عما يقصده العلماء العرب من لفظة "حرف" وخاصة بالنسبة إلى الكلام والكلمة ثم إلى الصوت والمخرج. وما هي أصنافه عندهم وصفاته المميزة له عن الحركة وغيرها .
يقول الرماني : "أقل ما يمكن أن ينطق به من الحروف الحرف الواحد (شرح الكتاب 141/5) . ويقول سيبويه: " أقل ما تكون عليه الكلمة حرف واحد" (304/2) ويقول ابن جني: "يجوز أن تكون سميت حروفا لأنها جهات للكلم ونواح كحروف الشيء وجهاته المحدقة به" (سر الصناعة 16/1).
فمن هذا يتبين أن الحرف هو أصغر مكون للكلام(5) وأن الكلمة التي هي مكون آخر للكلام يمكن أن تتكون من حرف واحد (على الأقل مثل المد في "خرجا") وأن ابن جني كان ينظر إلى أن هذا المكون الأصغر للفظ على أنه جهة وناحية للكلمة ولا يقول أن الحرف جزء أو قطعة منها(6) واستدل على ذلك بالمعنى الجامع الذي تدل عليه مادة (ح ر ف).(114/3)
أما تحديد الحرف من حيث هو صوت فاتفق الجميع على أنه ناتج عن تقطيع الصوت الحنجري (أو النفس) في جهات معينة من الجهاز الصوتي أي باعتراض عضو على هذا الصوت جزئيا أو كليا في زمان وجيز فيكون له بذلك جرس خاص. يقول ابن جني: "تبتدئ الصوت من أقصى حلقك ثم تبلغ به أي المقاطع ( = المخارج) شئت فتجد له جرسا ..." (ص6) أما الحكماء فإن لابن سينا تحديدًا فنولوجيًا محضا سبق به أهل الفنولوجية بقرون . يقول: "الحرف هيئة للصوت عارضة يتميزها عن صوت آخر في الحدة والثقل تميزا في المسموع(7) " (أسباب حدوث الحروف، 60).
2- التقسيم إلى حروف صحاح وحروف اللين (معنى حرف المد)
وأما أصناف الحروف ففي تقسيم العرب لها يلتقي النحو العربي بما قاله اليونانيون في تقسيمهم لأصوات اللغة إلى صوامت ومصوتات مع الكثير من الفوارق كما سنراه. وما كان يمكن لعباقرة مثل الخليل وأمثاله أن يغفلوا عن هذه الظاهرة العامة الوجود الناتجة عن كيفية تقطيع الصوت الطبيعي في المخارج.
فقد قسم العرب الأصوات اللغوية إلى حروف صحاح وحروف لين. ثم قسموا هذه الأخيرة إلى حروف توامّ وهي حروف المد وحروف ناقصة وهي الحركات . وبهذا التقسيم الأخير يفارقون التحليل اليوناني . يقول سيبويه عند تحديده لحروف اللين: "هذه الحروف غير مهموسات وهي حروف مد ولين ومخارجها متسعة لهواء الصوت وليس شيء من الحروف أوسع مخارج منها ولا أمد للصوت.." (285/2) ويقول ابن جني: "فإنك إن أشبعتها (الفتحة ) حدثت بعدها ألف ... فلولا أن الحركات أبعاض لهذه الحروف وأوائل لها لما تنشأت عنها " (نفس المرجع ، 20). ويقول ابن يعيش : "ومنها الحروف اللينة.. وقيل لها ذلك لاتساع مخرجها والمقطع إذا اتسع انتشر الصوت ولان وإذا ضاق انضغط فيه الصوت وصلب" (شرح المفصل، 130/10)(8) وقال أيضًا : "لأن الحروف (المدية) أصوات وإنما رأى النحويون صوتا أعظم من صوت فسموا العظيم حرفا والضعيف حركة" (64/9).(114/4)
ويمكن أن نلخص هذا في الجدول التالي :
عند اليونان :
صوامت / مصوتات (قصيرة – طويلة)
عند العرب :
حروف صحاح (أو جوامد) / حروف لين(9)(حروف ناقصة: أصوات الحركات، حروف توام : مدات لأصوات الحركات)
فلماذا فرق العرب بين الحركة وهي صوت عندهم ومدتها فاعتبروا هذه المدة حرفا قائما بذاته بل وحرفا تاما دون الحركة التي هي ابتداؤها؟ ولماذا لم يجعلوهما حرفا واحدا وهو المصوت الطويل عند اليونان (والصوتيين الغربيين)؟ إن هذه الأسئلة ترتبط الإجابة عنها ، فيما أعتقد ، بمفهومي الحركة وحرف المد وهو شيء لم يستطع المستشرقون ومن تبعهم فهمه إلى يومنا هذا(10) يقول الرماني : "حروف المد واللين قد تباعدت بالخاصية(11) عن الحروف الصحاح تباعدا شديدا .. إذ هي من جنس الحركات التي يضطر إلى زيادتها لإمكان النطق بها وليس ذلك للحروف الصحاح فلما تباعدت بالخاصية من جميع الحروف الصحاح صارت بمنزلة ما تباعد بالمخرج (23/65/5 ب ) ويقول في مكان آخر : "الحروف تتقوم بالحركة على ما يمكن النطق به ولا تتقوم بالحرف من الياء ونحوها ويتوصل بالحركة إلى النطق بالحرف ولا يتوصل بالحرف إلى النطق بالحرف (14/56/1) . ويقابل حينئذ الحركة بالسكون فيقول : "لأن الحركة تمكن من إخراج الحرف(12) والسكون لا يمكن من ذلك " (15/5) . ويقول أيضًا: "إذا تحرك الحرف اقتضى الخروج منه إلى حرف آخر " (21/5ب).
3- الحركة هي في الحقيقة الحركة العضوية الهوائية التي تمكن من إخراج الحرف والانتقال منه إلى حرف آخر(114/5)
من هذا الكلام نفهم أن للحركة دورين مهمين جدا تنفرد بهما هي وحدها دون الحروف التوام (الجامدة منها واللينة) وهو تمكين الناطق من إحداث الحرف أولاً وتمكينه ثانيا من الانتقال من مخرج حرف إلى مخرج حرف آخر .وهذا الذي قاله الروماني مهم جدا لأن النظرية الصوتية العربية بنيت كلها على هذه الرؤية الحركية. وبذلك نستطيع أن نفهم لماذا سميت الحركة حركة ونفهم أيضًا الكثير من الظواهر الصوتية . ولا ننسى أن هذين القولين المهمين جدا هما تفسير لكلام سيبويه والخليل . فقد قال سيبويه : "هن (أي الحركات ) يلحقن ليوصل إلى التكلم به " (315/2) .
ويقول الخليل : "الحروف 28 لكل حرف منها صرف وجرس وأما الجرس فهو فهم الصوت في سكون الحرف وأما الصرف فهو حركة الحرف (تهذيب اللغة للأزهري 46/1). ويقول أيضًا " أما الألف اللينة فلا صرف لها إنما هي جرس مَدة بعد فتحة فإذا وقعت صروف الحركات ضعفت عن احتمالها واستنابت على الهمزة أو الياء أو الواو كقولك: "عصابة وعصائب وكاهل وكواهل وسعلاة وسعليات ... فالهمزة التي في العصائب هي الألف التي في العصابة والواو في الكواهل ... جاءت خلفا منها "(48-47).
وعلى هذا ينبغي أن نميز ، كما يفهم من هذا الكلام. بين جرس الحرف وهو ما يدرك منه بالسمع وهذا يخص الصوت في حد ذاته وهو هوية الحرف الصوتية السمعية وبين صرف الحرف وقد فسره بالحركة وهو يخص إحداث الحرف والخروج منه إلى حرف آخر . ويقول عن الألف إنها لا صرف لها إنما هي ، مثل الواو والياء المديتين ، امتداد لصوت الحركة(13) لا للحركة كحركة غير الحركة التي تمكن من إحداث الحرف ووصله بحرف آخر .(114/6)
أما الحركة كصوت أي كمصوت قصير فهو المفهوم السائد عند المتأخرين وأكثر المحدثين ولا يعرفون غيره(14) وقد أكد كذلك على الجانب الصوتي كل العلماء القدامى فقولهم : "إن الحركة حرف صغير : ألف أو واو أو ياء صغيرة، فهو تأكيد لذلك. يقول صاحب الدر النثير : "الفتحة مبدأ الألف ومبدأ الشيء جزء من الشيء" (163) 9 ويقول ابن يعيش: "فالروم أوكد من الإشمام لأن فيه شيئا من جوهر الحركة وهو الصوت " (70/9) . وللحركات ، لهذا السبب مخارج مثل الحروف التوام . يقول السيرافي في شرح الكتاب : " مخرجها (الفتحة) من مخرج الألف وكذلك الكسرة من مخرج الياء والضمة من مخرج الواو وقال بعضهم الفتحة جزء من الألف " (شرح الكتاب 315/2).
الحركة ومفهوم الإدراج
كما هو معروف يوصف الحرف بأنه متحرك أو ساكن فالذين تأثروا بالفلسفة اليونانية يكتفون في تحديدهم لهما بقول مثل هذا : "الحرف لابد وأن يكون إما ساكنا أو متحركا ولا نريد به حلول الحركة والسكون فيه لأنهما من صفات الأجسام بل المراد أنه يوجد عقيب الصامت صوت مخصوص " (الرازي ، التفسير 38/1)(15) وليس الأمر بهذه البساطة. قال سيبويه: "إذا أردت إجراء الحرف ترفع صوتك إن شئت بحروف اللين والمد أو بما فيها منها (أي الحركات) وإن شئت أخفيت " (405/2) ويفسر هذا هارون بن موسى أحد شراح الكتاب هكذا : "فإذا أردت تحريكها بإحدى الحركات الثلاث ... رفعت صوتك بحروف المد واللين فقلت : فا، وفو، وفي فلابد من حروف اللين لأن الحرف المتحرك لا ينفرد كما لا ينفرد الساكن " (الورقة 176) . ويقول ابن جني : .."لا يجري الصوت في الساكن فإذا حرك انبعث الصوت في الحركة ثم انتهى إلى الحرف " (الخصائص، 130/3 ). ويقول الرماني: "يقتضي الوصل التحرك لتمكين الحرف الذي بعده متحركا كان أو ساكنا"(115/5) .(114/7)
فهذا التسلسل المتداخل للحروف الذي تحدثه الحركة هو الذي يسمونه الإدراج . يقول ابن جني : " أصل الإدراج للمتحرك إذ كانت الحركة سببًا له وعونا عليه " (الخصائص 58/1) . ويعني اللغويون العرب بذلك أن الكلام الطبيعي متصل بعضه ببعض ولا انقطاع فيه ولا مقاطع(16) تحصل فيه (إذا كانت تأدية الحروف عادية ) كما يتصوره اليونانيون ومن تبعهم ، وعناصره مدرجة فيه بحيث تصير مثل سيلان المواقع(17) . والدليل على ذلك هو أن "الحرف الساكن ، كما يقول ابن جني، ليست حاله إذا أدرجته إلى ما بعده كحاله لو وقفت عليه(18)... " وسبب ذلك عندي أنك إذا وقفت ولم تتطاول إلى النطق بحرف آخر من بعده تلبثت له ولم تسرع الانتقال ... فأما إذا تأهبت للنطق بما بعده وتهيأت له وتنشمت فيه فقد حال ذلك بينك وبين الوقفة " (نفس المرجع)(19)
ثم إن للحركة التي بها يتم الإدراج تأثيرا كبيرا على الحرف الذي تحدثه لأنه "يتقوم بها " وبما أن لها مخرجا كمصوت (أو نَفَس) فتجذب الحرف إلى مخرجها . يقول ابن جني : "لأنها تقلق الحرف الذي تقترن به وتجذبه نحو الحروف التي هي أبعاضها (سر الصناعة ، 30,1) ويقول الرضي : "لأن الحركة لشدة لزومها للحرف وإن كانت متعقبة لها [الياء] تفت في عضدها وتشربها شيئا من جوهر نفسها وتميلها إلى مخرجها شيئا " (شرح الشافية 10,3) .
هذا هو التصور العربي للدينامية اللفظية الطبيعية : فاتصال الحروف يقتضي التهيؤ للنطق بالحرف التالي في الوقت الذي ينطق بما قبله وهذا يحدث في أثناء النطق بالحركة أي في بداية الخروج من مخرج الحرف والانتقال إلى مخرج آخر فالحركة ههنا هي مثل حركة الصور في الأفلام السينمائية فلا انقطاع فيها بين صورة وأخرى إطلاقا . فهذا هو الإدراج وما أبعد هذه الرؤية من التصور اليوناني الذي يجعل من الكلام مجرد تعاقب للعناصر الصوتية تقترن بعضها ببعض دون أن يكون هناك إدراج للحركات المحدثة لها .(114/8)
هذا وقد استشكل العلماء الذين تأثروا بأقوال المتكلمين والفلاسفة أن يوصف الحرف بالحركة والسكون . وممن حاول رفع هذا الإشكال الزجاجي(20) ثم السهيلي. قال هذا الأخير : "قولهم حرف متحرك .. تساهل منهم .. فمحال أن تقوم الحركة بالحرف لأنه عرض والحركة لا تقوم بالعرض . وإنما المتحرك في الحقيقة هو العضو من الشفتين أو اللسان أو الحنك الذي يخرج منه الحرف .. والسكون عبارة عن خلو العضو من الحركات عند النطق بالحرف(ذكر في الأشباه للسيوطي 191/1) ويقول ابن القيم : "وعندي أن هذا ليس استدراكا على النحاة؛ فإن الحرف وإن كان عرضا فقد يوصف بالحركة تبعا لحركة محله .. " (الأشباه،192/1 ).
قبل ذلك بزمن طويل نسب العلماء التحرك إلى الأعضاء الناطقة . قال الخليل: "تتكلف في إخراج الضمة إلى تحريك الشفتين مع إخراج الصوت وفي الفتحة إلى تحريك وسط الفم مع إخراج الصوت" (نفس المرجع 177) . وكذلك يقول سيبويه : "فأنت تقدر أن تضع لسانك في أي موضع من الحروف شئت ثم تضم شفتيك لأن ضمك شفتيك كتحريك بعض جسدك " (283/2).(114/9)
والذي يلفت النظر في كلام الخليل هو إردافه لحركة العضو بحركة أخرى وهي حركة إخراج الصوت وهذه الأخيرة هي في الحقيقة حركة الهواء الصائت(21) أو غير الصائت (النفس ) المندفع من الصدر والمتكيّف في التجاويف العليا . وقد سبق أن ذكرنا بهذا الصدد " كلاما لابن جني (في ص7) : "لا يجري الصوت في الساكن فإذا حرك انبعث الصوت في الحركة ثم انتهى إلى الحرف " (الخصائص، 130/3). ومن ذلك أيضًا ما يذكره الذين اطلعوا على أقوال المتكلمين وعلى أعمال علماء الموسيقا وفيزياء الصوت من العرب . يقول ابن حزم : "التسمية هي تحريكنا لعضل الصدر واللسان عند نطقنا بهذه الحروف وهي غير الحروف لأن الحروف هي الهواء المندفع بالتحريك فهو المحرك (الفصل ، 33/5) . وقال صاحب كتاب المحاذي(22) ... "ما هي عند الحكماء وهو انتقال الجرم من حيز إلى آخر وإن كان بالنظر إلى الهواء فهي ما هو عند الحكماء" (الورقة 57) . وقال في مكان آخر من الكتاب ( وهو أدق ما وصلنا في هذا الموضوع ) : "إن ذلك الحرف الذي يسمى حركة به انتقل الهواء وانقطع عن قراره .. وتمكن النطق بما بعده .. [أما] وجوب سكون الحرف الموقوف عليه فلأنه لم يرد نقل الهواء عنه إلى حيز آخر " (الورقة 29 ب) . وقال أيضًا : "فإن انتهى [الصوت] إلى حيز وقرع مخرجا من مخارج الحلق أو الفم أو الشفتين تموج لذلك القرع فتكيف بكيفية هي الحرف .. فإن قر الهواء قرارًا تامًا ولم يضطرب فالحرف ساكن وإن لم يتم قراره واضطرب عند الاعتماد كان الحرف متحركا لانفصاله عن الحيز بحركة .. وتلك الحركة التي ينفصل بها الهواء عن مقطع خاص متنقلا إلى غيره " (المحاذي 55) .
هذا وقد وضح صاحب كتاب البديع(23) وكذلك السخاوي هذه التحليلات باستعمال مصطلح الإطلاق للدلالة على نبوة الهواء والعضو الناطق وزاد السخاوي مصطلح الحبس للعملية المضادة ولاشك أنه استعار ذلك من استعمال ابن سينا لهما(24)(114/10)
قال السخاوي في شرح الشاطبية : "الهمزة [الساكنة] أثقل لأنها لا تخرج إلا مع حبس النفس لعدم حركة تعينها على الخروج وهي محبوسة والمتحركة لا يحبس معها النفس وهي مطلقة لوجود ما يعينها على الخروج " (الورقة 70) . ويقول أيضًا صاحب كتاب البديع(24) : "إنما لقبت الحركة بهذا اللقب لأنها تطلق الحرف بعد سكونها . فكل حركة تطلق الحرف نحو أصلها من حروف اللين فأشبهت بذلك المتحرك بعد سكون " (الأشباه 175/1). (25)
فهذا الذي يسميه السخاوي والغزالي إطلاقا يسميه سيبويه : رفعًا أو نبوًا قال: " ثقل عليهم أن يرفعوا ألسنتهم من موضع واحد ثم يعودوا إلى ذلك الموضع للحرف الآخر فلما ثقل عليهم ذلك أرادوا أن يرفعوا ألسنتهم رفعة واحدة " (158/2).
وقال أيضًا : "فلما لم يصلوا إلى أن يرفعوا ألسنتهم رفعة واحدة لم يقلبوا " (272)(26)
نستخلص مما سبق أن " الخروج من حرف إلى حرف آخر"كما يقول الرماني أو "الانفصال من حيز إلى آخر " كما يقول من جاء بعده هي الميزة الحقيقية التي تميز الحرف المتحرك من الساكن فإن الحركة في الأول ليست أي حركة عضوية وهوائية بل تلك التي يرتفع بها العضو وينتقل بها الهواء من موضع إلى موضع آخر. وهذا خلاف الحرف الساكن الذي يمتنع فيه العضو والهواء معه من الانتقال من الموضع . وعلى هذا فالحركة في الحرف المتحرك أخص من الحركة العضوية الهوائية لأنها حركة إطلاق لا حركة حبس للعضو والهواء . فالرفع للعضو والتزجية للصوت لا يكونان إلا مع هذه الحركة التي تمكن من الخروج إلى حرف آخر . فتحريك العضو والهواء هو أعم من تحريك الحرف لأن تحريك الشفتين في الواو الجامدة (القابلة للتحريك) مثلا قد يحدث في هذا الحرف سواء كان متحركا أو ساكنا . أما إذا كان متحركا فبإطلاق الشفتين أي رفعهما عن الحالة التي كانتا عليها قبل ذلك وهو الانضمام وأما في التسكين فالوصول إلى هذه الحالة وهو انضمام الشفتين جزئيا.
قواعد التلفظ :(114/11)
فبهذا نستطيع أن نفسر قواعد التلفظ في العربية والكثير من اللغات . وها هي ذي (وهي مشهورة ):
1- لا يمكن أن ينطق بحرف متحرك وحده ( وهذا يقتضي امتناع الوقف على المتحرك ) ولابد أن يكون متلوا بحرف متحرك أو ساكن لأنه كما قال الرماني: "صار بمنزلة من يطلب المتحرك في مكانه من غير أن يخرج عنه إلى مكان آخر وذلك ممتنع " (23/5ب) . ولأن الأعضاء الناطقة تتهيأ في أثناء الحركة للنطق بحرف آخر (وهذا عين الإدراج) .(27) فإذا أريد النطق به في خارج سياق من الكلام يزاد عليه حينئذ حرف ساكن يمكن الوقوف عليه وهو دائما في العربية هاء أو حرف مد (بَهْ أو با مثلا).
2- كما لا يمكن أن ينطق ساكن وحده وبالتالي لا يمكن الابتداء بساكن فلابد أن يكون الساكن مسبوقا بحرف متحرك وذلك لأن الحرف الساكن يحصل بحبس الهواء والعضو جزئيا أو كليا كما رأينا، وهذا يقتضي أن تكون قبله حركة لحرف سابق مكنت من الوصول إلى هذا الساكن وتهيأ العضو فيها للنطق بهذا الساكن(28).
3- لا يلتقي ساكنان : هذا يقتضيه أيضًا ما قلناه من أن الساكن يحدث هو بحصول حبس فإذا حصل هذا في الحرف السابق امتنع الخروج منه إلى الحرف الساكن الموالى . وهناك حالات كما هو معروف تتغير فيها حالة الساكن الأول فإذا كان حرف مد فبإشباع مده يصير كأنه متحرك . قال ابن جني : "وقولهم شابَّة ودابَّة : صار فضل الاعتماد بالمد في الألف كأنه تحريك للحرف الأول المدغم حتى كأنه لذلك لم يجمع بين ساكنين " (الخصائص ، 220,3). فأما التقاء الساكنين في آخر الكلمة بحدوث الوقف مثل : بكْرْ وزيْدْ فيحصل ههنا صويت أو نفخ بسبب الوقف يقوم مقام الحركة .
4- الحركة كحرف أي كمصوت لا استقلال لها فهي أيضا مثل الحروف الأخرى، فلا يمكن أن ينطق بها في الابتداء ولا يوقف عليها؛ خلافا لما يعتبر جوهر النظرية اليونانية . وسنرى فيما يلى أي النظريتين هي أقرب إلى الحقيقة .(114/12)
هذا يخص الحركة والسكون. أما ما يسمونه بحرف المد، فقد سبق أن تساءلنا لماذا يعده العلماء القدامى حرفا قائما بذاته مع عدم وجود ابتداء له إذ هو جزء من مصوت طويل؟ . فالإجابة عن ذلك تنبني على شيئين :
الأول - يستخلص مما سبق ذكره من التمييز بين الحركة المطلقة للهواء والعضو التي يمكن بها الانتقال إلى مخرج آخر من جهة وبين الصوت الذي يوافقها من جهة أخرى وهو صوت حنجري أو نَفَس يحدث معها، وهو ذلك الهواء المطلق الصائت أو غير الصائت(29) فامتداد هذا الصوت أكثر مما يلزمه هذا الانتقال يصيره حرفا على حدة غير الحركة التي نشأ عن امتداد صوتها لأنها هي التي أطلقت الهواء الصائت فجرى واتصل في حرف المد بعد عملية الإطلاق ويعتبر حرفًا ساكنًا لأن الحركة انتهت إليه، كما انتهت التزجية والإطلاقة الأولى إليه . فإذا كان في الدرج وجاء بعد حرف متحرك انقطع الصوت دفعة وإذا انتهى به الكلام ووقف عليه فيقول سيبويه عنه : "فإذا وقفت عندها (حروف المد ) لم تضمها بشفة ولا لسان ولا حلق كضم غيرها فيهوي الصوت إذا وجد متسعًا حتى ينقطع آخره في موضع الهمزة " ( 285/2)(30) إذ يبدأ صوتها من مخرج الهمزة .
الثاني- هو أن لهذا الامتداد طولاً وبعدًا فهو بذلك يحتل مكانًا محترمًا في درج الكلام وهذا الذي يصيره حرفا مثل الحروف الأخرى إذ يمكن أن يبدل من هذه الحروف وإليها بشرط واحد فقط وهو أن تكون من مخرج اللين من الحروف أي الواو والياء غير المديتين أو من مخرج ينشأ فيه الصوت الحنجري وهو أقصى الحلق ( وهي تسمية تغطى حيز الأوتار الصوتية عند القدامى(31) وهي الهمزة .(114/13)
وقد سبق أن ذكرنا كلام الخليل بهذا الشأن : "فالهمزة التي في العصائب هي الألف في العصابة والواو في الكواهل هي الألف في الكاهل"(تهذيب اللغة 48-47). فملاحظتهم هذه في تصريف الكلم من صيغة إلى أخرى هي التي أدتهم إلى اعتبار المدات حروفا توام مثل الحروف غير اللينة لأن كل ما يقوم مقام شيء ويؤدي ما يؤديه فهو بمنزلته(32) واستقصى الخليل ذلك في الميدان الصوتي فتوصل إلى هذه المفاهيم الدقيقة التي لا تزال يدهشنا عمقها وقربها مما تثبته العلوم الصوتية الحديثة في أحدث صورها كما سنراه .
فأما ما جرى من الجدل في زمان ابن جني وقبله بقليل وبعده في هل الحركة بعد الحرف أو معه أو قبله . فحصل ذلك من سوء فهم بعض المتكلمين للنظرية الحركية العربية : فالحركة كصوت فقط لا يمكن أن تحدث إلا بعد الحرف وهذا الحرف لا يكون إلا جامدا أو شبيها به مثل الواو والياء غير المديتين . وأما التحريك كعملية إطلاق الهواء والعضو فيحصل مع حدوث الحرف وبعده لأنه دفع وتزجية للصوت والعضو ويحدث الحرف المتحرك بنبوة العضو أي ارتفاعه عن موضعه . إلا أن هذا يقتضي حادثًا مهمًا لا يدركه السمع وهو : وضع العضو في موضع الحرف والتهيؤ له . وهو يقع قبل الحرف المتحرك.
أما الحرف الساكن فتحدث بالضرورة حركة قبله وبحبس هذه الحركة جزئيا أو كليا يحدث هذا الحرف . فليس له نبوة (إلا مع حرف آخر يدغم فيه فكأنهما حرف واحد ) والحركة هي حركة الحرف السابق .
وقد بنى الخليل ما استنبطه من أوزان العروض كله على مفهومي الحركة والسكون(33) وعلى كيفية إدراج الحروف المتحركة والساكنة في سياقات خاصة يحدث منها الإيقاع، واتضح له أن أقل ما يمكن أن ينطق به من الوحدات الخاصة بوزن الشعر هو الحرف المتحرك المتلو بحرف ساكن وسماه سببا . ولم يجعله الحرف المتحرك وحده لأنه يستحيل الوقوف عليه.(34 )(114/14)
كما تبنى أيضًا ذلك علماء الموسيقا العرب وأضافوه إلى ما نقل إليهم من كتب اليونان وغيرهم . ويبدو أنهم اطلعوا على ما كتبه الخليل في الإيقاع والنغم(35 ) فقد وصفوا النقرة الموسيقية بالحركة والسكون. قال الفارابي : "والنقرة التي تعقبها وقفة تسميها العرب النقرة الساكنة، والتي لا تعقبها وقفة ولكن تعقبها حركة إلى نغمة أخرى يسمونها النقرة المتحركة ( كتاب الموسيقا،998). وأطال الكلام في ذلك ابن سينا في كتاب " جوامع علم الموسيقا" وقابل فيه بين الحركات المحدثة للنغم والتي تحدث الحروف ( ص 81 وما بعدها ).
النظرية الحراكية العربية والنظرية اليونانية في محك الاختبار الآلي :
لقد تبنى الصوتيون المحدثون التقسيم اليوناني للأصوات اللغوية إلى صوامت ومصوتات وما كان في وسعهم أن ينكروا هذا التقسيم في ذاته لأنه حقيقة يستدل عليها بالاختبار العلمي ، إلا أن الكثير منهم انتقدوا التصور اليوناني القديم لهذا التقسيم(36 ).
نقد التصور اليوناني :(114/15)
إن اليونانيين ، كما رأينا ، استخرجوا تقسيمهم مما لاحظوه في لغتهم دون اللغات الأخرى ولاحظوا أيضًا أن الـ syllabe (المقطع) (أصغر قطعة يمكن أن تنفصل ) له ترتيبات خاصة(37 ) وأنه لا يوجد أبدا مقطع بدون مصوت . أما الصوتيون المحدثون فقد انتقدوا(38 ) هذا التحليل واستبعدوا التصور المتعلق بكيفية توالي هذين العنصرين في النطق وماذا يجوز من ذلك في داخل المقطع. واحتجوا على قصور هذا التصور بوجود مقاطع في لغات كثيرة لا مصوت فيها بل صوامت فقط وذلك مثل : smrt و trn التشيكية و ( imparat ) m-Pa-rat و il vad )) 1-vadفي الرومانية و ts-haq (تستحق) في عامية المغرب. فلاحظوا أنه يوجد بين الحرف الصامت الذي يكون مقطعا وبين الصامت الموالي حركة تقوم مقام المصوت ينتقل بها العضو والهواء بالضرورة إلى المخرج التالي(39 ) بدون مصوت والواقع أن هذا هو عين المفهوم العربي للحركة. أما الصوامت التي يبدو أنها تقوم مقام المصوت(40 ) في (table) tei-bl و (mutton) mu-tu في الإنكليزيةوhan-dl(handel) و ha-tn و fa-tr (vater) في الألمانية فحكموا على ذلك بنفس الحكم .إلا في الحرف الأغن الذي في tn وغيره فإنهم يصرحون بعدم وجود مصوت إطلاقا فيه،ويحكمون إذن على الصامت بأنه قادر أن يكون مثل المصوت ويقول Straka أن هذا يفسر بالانتقال العادي بين مخرج وآخر (نفس المرجع ، 24). فها نحن قد رجعنا إلى المفهوم العربي مرة أخرى . وإذا لجأنا إلى النظرية العربية اتضح ذلك اتضاحا تاما. فالذي حصل في tn هو الخروج من التاء إلى مخرج الغنة بانفتاح اللهاة وإطلاق الهواء في داخل الخياشيم فاكتسابه بذلك لجرس الغنة . فقد قامت الغنة المجردة حقيقة مقام الصوت ولكن ليست هي ، كجرس ، سبب الخروج – أي كمصوت كذلك – من مخرج الحرف السابق إلى ما يليه في الدرج بل الحركة المطلقة للهواء وللعضو أيًّا كان هذا العضو(41) . فكأن ذلك مصوت بدون صوت حنجري وهذا ينطبق أيضًا على كل(114/16)
المقاطع التي لا تحتوي على مصوت صريح (الحروف البينية : ر،م،ن، والرخوة هي أكثر الحروف وقوعا في موضع المصوت؛ لأن الهواء يطلق فيها بسهولة، وذلك لتشبهها بالمصوت، إذ يمكن مد الصوت بها. وهذا الشبه قد أكد على وجوده النحاة العرب ووضحوه )(الرماني، 5/120/و 121 والخصائص 363/1 والدر النثير 10و 11 ب وغير ذلك).
2) إدراج الحركات العضوية :
هذا من جهة وقد انتبه العلماء الغربيون إلى نقائص التراث اليوناني المتعلق بأصوات اللغة يوم اطلعوا على التراث الهندي في هذا الميدان ( وكذلك التراث العربي إلى حد ما) في القرن التاسع عشر وكذلك يوم بدؤوا يختبرون هذه الأقوال في مخابر الصوتيات(42) . فتبين لهم بهذه التجارب أن التموجات الكلامية متصلة بعضها ببعض في تعاقبها بدون أي انقطاع ولا يتمثل هذا التعاقب على شكل اقتران أجزاء بأخرى بل على شكل سريان اهتزازي مستمر . وتعمق من جاء بعد روسلو ولاسيما بعد أن اخترع الراسم الإلكتروني للاهتزاز (المهزاز = oscillograph ) فتمكنوا من المزاوجة بين هذين الجهازين ، بعد ذلك، وبين ما يسمى بالراديولوجية السينمائية(43) فعند ذلك تبين لهم أكثر من أي وقت مضى أن الحركات العضوية المحدثة للكلام مدرجة في التلفظ بحيث لا يوجد انقطاع بينها من جهة وتحدث بعضها، من جهة أخرى، منسقة مع بعضها الآخر في وقت واحد أي بتأهب العضو للنطق بحرف في الوقت الذي ينطق عضو آخر بحرف آخر(44) ويلاحظ ذلك في سلسلة الذبذبات التي يرسمها الجهازان المذكوران فتبين أن الكلام هو سريان هوائي صوتي لا انقطاع فيه بل هو عبارة عن تغير متصل للعناصر الفيزيائية للصوت كشدة الصوت (intensity) وطبقته(أو درجته = pitch) في الذبذبية ( = رسم لمنحنى الاهتزاز) وبواني المصوتات أو المحتوى الصوتي أو النفسي للحركات (formants) في الطيف ( spectrogram). وسنرى أن كيفية تطور هذه البواني ( وهي المكونات الفيزيائية لمحتوى الحركة ) هي التعامل الأساسي في(114/17)
إدراك الأذن لهوية الحرف (وبالتالي في الكشف عنه بالآلات الإلكترونية).
المتحرك والساكن حقيقتهما فيزيولوجيًّا وفيزيائيًّا
وأهم من هذا بالنسبة لفهمنا لمفهومي الحركة والسكون هو المقابلة بين ما يسميه العرب بالحرف المتحرك والحرف الساكن وما تكتشفه هذه الأجهزة من الظواهر الفيزيولوجية والفيزيائية التي يحدثها النطق بهذين الحرفين .
قال فردينان دي سوسورفي "دروسه" عندما ننطق بمجموعة مثل APPA ندرك فرقا بين الـ P الأول والثاني : فالأول هو عبارة عن انغلاق والثاني عن انفتاح ... وقد أطلق على الإغلاق لفظة implosion وعلى الانفتاح لفظة explosion فالـPيسمى implosif (P) أو explosif (P) (80-79) ويقول أيضًا: "ويمكن لأي فونيم أن يتصف إما بهذه الصفة أم بتلك"(81).
ويخالف سوسور بهذا التصريح أغلب الصوتيين إذ يطلقون غالبا هاتين الصفتين على الحروف الشديدة ( stops) وبعضهم على الجامدة كلها لا على المصوتات . وهو محق في تعميمه لأنه يريد أن يبين أن الحرف – أيًّا كان – يحدث إما بحبس الهواء فقط مثل ال P الأول وإما بإطلاق فقط مثل الP الثاني . وحذر حينئذٍ من التباس يقع فيه بعضهم . فإن للحرف ثلاثة أطوار في حدوثه : وضع العضو في موضعه ثم ملازمته له ثم رفعه عنه(45) وهذه ألفاظ سيبويه ( ما عدا الملازمة أما اللزوم فشيء آخر عنده ) إلا أنهم يسمون الطور الأول implosion فيقع التباس بين الحبس الناتج عن وضع العضو ( ويحصل هذا الوضع ضرورة في كل حرف في جميع أحواله ) وبين الحبس الذي لا يتلوه رفع العضو. وهكذا توصل سوسور باجتهاده الخاص إلى تحديد مفهوم الحرف الذي يحصل بإطلاق فقط مثل الـ P في apa (46) والـ P الثاني في appa وهو الحرف المتحرك عند العرب،والحرف الذي لا يحصل إلا بحبس ولا إطلاق فيه (اللهم إلا في الوقف وقد فسر ذلك علماؤنا ) كما في ap أو الـP الأول من appa(47) وهو الحرف الساكن عند العرب .(114/18)
وعلى هذا التمييز الرائع(48) (وهو صادر من رجع عبقري ) سار كل الصوتيين الذين يمارسون التحليل بالراديولوجية السينمائية .
هذا وقد اختبرت المغفور لها Marguerite Durand هذه الحروف التي قال عنها دي سوسور أنها تحدث في الكلام بانغلاق وهي عنده: implosives و explosives في هاتين العبارتين الفرنسيتين ces traces و cette race والحروف التي فيهما واحدة فلابد أن تتميز العبارتان بشيء آخر. فلاحظت في الذبذبية الكيموغرافية أن مجموعة tr في العبارة الأولى يقوي فيها ضغط الهواء بالتدريج ويضعف هذا الضغط في t وحدها في العبارة الثانية ويقوي في r وحدها(49) ويؤيد ذلك النظرة العربية فإن tr (50) ههنا هي متحركة و t في الثانية هي ساكنة .
كما يبين أيضًا ستراكا أن بداية النسق cvc هو موقع قوي . أما نهايته فهو ضعيف وهذان الموقعان يعادلان تماما موقع المتحرك والساكن(51) .
ويؤكد على هذه الحقيقة أكثر الباحثين من المختصين بالصوتيات التجريبية بالنسبة إلى أكثر اللغات ، وقد يظن الظان أن ضغط الهواء وارتفاعه هو السبب الوحيد لقوة المتحرك، وليس الأمر كذلك، فقد بين الكثير من الباحثين أن هناك تناسبا تاما بين ثلاثة عوامل فيزيولوجية: ارتفاع كمية الجهد العضلي في مستوى الصدر وما فوقه وهو يسبب ارتفاع ضغط الهواء، وارتفاع النغمة الأساسية ( Fondamental Tone) في الحروف المهجورة(52) وقد لا يكون لبعض هؤلاء الباحثين تصور واضح لمفهوم الـ explosive (والمقصود هنا غير الحرف الشديد بل الحرف المتحرك فقط ) إلا أنه يمكن أن نستنتج من ترتيبهم للحروف في اللفظ cv ( صامت + مصوت ) أو cvc أن الذي قصدوه بالاختبار هو ما يعادل المتحرك والساكن فبينوا أن cv ترتفع فيها هذه العوامل الثلاثة، وبذلك يتضح أن قوة التلفظ وضعفه مرتبطان أشد الارتباط بتحرك الحرف وتسكينه كما تصوره العرب.
ماهية حرف المد ومعنى سكونه(114/19)
أما عن السؤال المهم الذي طرحناه في أول هذا البحث وهو لماذا جعل العرب المصوت الطويل الذي هو تصور يوناني قديم يتكون بالضرورة من عنصرين : الحركة وامتداد صوتها؟ فقد عالجت موضوع المصوت القصير والمصوت الطويل الباحثة المتميزة M.Durand باللجوء إلى الاختبار أيضًا . وقد سبقها إلى ذلك أحد مؤسسي الفنولوجية وهوN. Trubetskoy إذ صرح بأن المصوت القصير ذو قسم واحد ( monoparti) والمصوت الطويل هو ذو قسمين (bidarti) لأن التلفظ بالمصوت الطويل يختلف في بدايته عن نهايته كمًّا وكيفًا. فبعد أن ذكرت الباحثة Durand هذا الكلام بينت باللجوء إلى الاختبار الآلي أن المصوت الطويل يتصف قسمه الأخير (وهو الأطول) بتناقص لقوة اللفظdecroissance)) وأما المصوت القصير فلا يكون إلا بتزايد هذه القوة . ونستنتج من ذلك أن بداية المصوت الطويل هو دائما متزايد القوة، وهذا يتفق مع ما قاله العلماء العرب . وخاصة حكمهم على حرف المد بأنه ساكن إلا أن السكون هنا غير السكون في الحروف الجوامد لأنه يحصل بالتدريج(53) ومع ذلك فهذا المتناقص القوة هو أقوى من المتزايد لطوله (وذلك في اللغات التي يلعب المد فيها دورا في التمييز )(54).
قواعد التلفظ والاختبار الآلي
هذا وقد أجمع الباحثون أن الابتداء بالـ implosive ( أي الساكن ) متعذر أما التقاء حرفين بهذه الصفة فقد امتاز العرب بتفسيره وتطرقنا إلى ذلك في عمل سابق (55) .وفيما يخص تعذر الابتداء لحركة فلأن المصوت يحدث باهتزاز الأوتار الصوتية وهذا يقتضي أن يبدأ بإغلاقها ويتبع ذلك الاهتزاز في الفرنسية. أما إذا كان الإغلاق متبوعا بانفتاح دفعة كما في العربية والألمانية والدانمركية فهو الهمزة محققة مثل :Assez ?و It's an ? order .(114/20)
ثم إن الدليل على أن الحركة غير المصوت الذي يرافقها هو اختلاس صوتها في " يعلمهم" فينطق بهذا هكذا / : "يعلّـ /مهم" ( أما بالإسكان فيتلفظ به هكذا " يعلّمـ /هم" . ومهما كان فقد سبق أن لاحظنا أن الاختلاس يستلزم مصوتا أي حرفا متحركا بعد الحركة المختلسة ضرورة. والفصل بين الحركة والمصوت مفيد لأن حركة الإطلاق غير الصوت الحنجري، وليس هذا الأخير بالمسؤول عن الانتقال إلى مخرج حرف آخر وإن كان مهمًا جدًا لأن تحليل هذا الصوت يبين للباحث كيف يحصل هذا الانتقال فالمصوت هو كالمرآة لما تقوم به الحركة.
أما لماذا يمتنع الوقف على الحركة فهذا تبينه الذبذبيات إذ يصير المصوت المرافق للحركة مصوتا طويلا فيزول
بالتدريج أو تنشأ همزة بعده.
الإدراج والأفلام الراديولوجية
تظهر هذه الأفلام بوضوح لا مزيد عليه. كيف يتم إدراج الحروف في اللفظ؟ وتطرق إلى ذلك الكثير من الباحثين . نذكر منهم الباحث الكندي C.Rochette فها هي ذي بعض الأمثلة من تحليلاته للصور وما قرن بها من الذبذبيات.
-/ bm/ ( في gobe-mouches): يحصل النطق بهما بضم الشفتين مرة واحدة ويدوم هذا الضم أكثر من الضم لحرف واحد. ويمكن أن يتميز الأول عن الثاني بما يحصل من الغنة بانفتاح اللهاة في الوقت الذي لا تزال الشفتان منضمتين وحصل في نفس الوقت تهيئة النطق بمصوت" وذلك بذهاب مؤخر اللسان نحو مؤخر الحنك (ص53).
/kt/( في : (empaq(ue) tez
في الوقت الذي تحصل نبوة الكاف يتصل طرف اللسان بالنطع للنطق بالتاء وفي أثناء ملازمته لهذا الموضع يبدأ ظهر اللسان في الانخفاض تأهبًا للنطق بمصوت
/e/ ( 67). / vn/ ( في (dev(e) nir.
لا ينتهي جريان الصوت في v إلا بعد وضع اللسان على النطع وهذا التسريب لحرف v يترك المجال للسان ليتهيأ للنطق بالـ n وأثناء ذلك تنفتح اللهاة من أجل الغنة ( 218).
التركيب الصناعي للكلام واستكشافه الآلي:(114/21)
من أقدم من حقق التركيب الصناعي للكلام بالآلة ( speech synthesis) هما F.cooper و P. Delattre والفريق الذي كان معهما في مختبرات Haskins ثم واصل ذلك Delattre في مختبره في Santa Bar bara بكاليفورنيا ( وكان لي الشرف أن زرتها في 1966) . وكثرت البحوث في هذا الميدان حتى بلغت المئات من الأعمال القيمة وكان قد سبق أن اكتشف الباحثون بأعمالهم على المطياف أن أهم شيء في عملية إحداث الكلام وإدراكه ليست هي الحروف (الفونيمات) في ذاتها ولا صفاتها المميزة لها (يبالغ أهل الفنولوجية في إعطاء الأهمية للفونيم في ذاته ) بل ما يحصل بين مخرج الحرف ومخرج حرف آخر أي في أثناء حصول حركة تمكن من إخراج الحرف والانتقال منه إلى حرف آخر كما قال علماؤنا . ففي داخل الحركة تقوم الأعضاء بأعمال تهيئة النطق بالحرف الآخر وفي نفس الوقت القيام بإخراج المصوت الذي يرافق الحركة وما يقتضي ذلك من اشتراك عضوين أو ثلاثة . وهذه العمليات العضوية المتداخلة يظهر أثرها في تحول بواني المصوت ( في التحليل الطيفي ) أثناء حدوث الحركة بحيث يمكن أن يقرأ الطيف. وسموا الانتقال الذي تتحول فيه البواني Transition وبنى على ذلك Delattre وأصحابه مناهج تركيب الكلام الصناعي فاستخرجوا من آلاف الأطياف كيفية تحول هذه البواني، واستنبطوا ما سموه بالـ Locus وهي النقطة التي تنحو نحوها البواني الأساسية للمصوت الذي يأتي بعد الصامت أو المصوت السابق(56)(114/22)
وأشرفت مع بعض الزملاء على عدة رسائل ماجستير في هذا الميدان وفي الاستكشاف الآلي للكلام Automatic Speech Recognition (57) . أذكر منها ما قامت به المهندسة مهنية قرتي في 1984 في رسالة عنوانها : "مساهمة في تركيب الكلام العربي الصناعي بالديفون". والمقصود من الديفون هو هذا النسق: صامت + مصوت + صامت (=متحرك وساكن)واستخراج النقلات (transitions) من التحليل الطيفي للمصوت في هذا الموقع ثم تركيبها بجهاز مهيأ لذلك مع الحصول على كلام سليم يفهم بسهولة ، يبين أن أصل الأصول في إحداث الكلام وإدراكه يكمن في كيفية إدراج الحروف لا في صفاتها المميزة .
إحداث الحرف مقيد بما يحدث بعده وقبله من الحركة والتحليل الطيفي لصوتها هو أوضح دليل على ذلك.
نستخلص مما سبق أن مفهومي الحرف المتحرك والحرف الساكن هما أدق وأوعب من الناحية العلمية من المفاهيم اليونانية إذ مجالهما التفسيري واسع جدا؛ فقد رأينا أن الساكن في كل اللغات لا يبتدأ به، ولابد من حرف متحرك يأتي قبله، كما رأينا أن الوقف لا يقع إلا عليه؛ لأن الوقف انقطاع الكلام. ويمكن أن تدرس جميع الظواهر الصوتية باللجوء إليهما.كما يستخلص أيضًا أن الحركة بما أنها حركة عضوية هوائية ؛ فإنها تقتضي أن يكون هناك قوة دافعة ( Impulsive Force) تحدثها بل وأن تكون هي نفسها ذات قوة حركية (Cinetic Force) فيجب أن تكون متصاعدة القوة لأنها في الحقيقة اندفاع ( Impulsion) وبذلك تتمكن من الاستمرار والانتهاء إلى المخرج الموالي وهذه القوة الحركية هي التي يسميها الخليل الصرف . ولهذا ليس لحروف المد صرف لأنها مدات تحصل
بدفع الحركة، وتكون قوتها الحركية متناقصة، وهذا تبينه بوضوح الاختبارات الآلية .(114/23)
ثم إن الحركة كمفهوم دينامي لا يوجد مثله في أي نظرية إلا في نظرية الـ Transitions وهو مفيد جدا لأن إطلاق الهواء الصائت للانتقال من مخرج إلى آخر هو أفيد كمفهوم من التصور اليوناني غير الحراكي إذ الذي كان يهم الفلاسفة منهم هو الأشياء في حد ذاتها لا الحركة المحدثة لها ولا إدراجها الطبيعي في الكلام .
والله ولي التوفيق .
عبد الرحمن الحاج صالح
عضو المجمع المراسل
من الجزائر
الهوامش
(1) تلميذ ابن السراج والزجاج ، وفي شرحه هذا تحليلات عميقة دقيقة جدا . لم يدرك معناها الكثير من المتأخرين ولذلك اتهم بأنه أول من مزج النحو بالمنطق، وليس الأمر كذلك. فإن أول من فعل ذلك هو السراج وابن كيسان وغيرهما في نهاية القرن الثالث الهجري .
(2) وكذلك قال المبرد :" لا يجوز لحرف أن ينفصل بنفسه لأنه مستحيل "(المقتضب، 36/I).
(3) المفاهيم الأساسية لهذه النظرة هي للغويين وحدهم وقد أضاف إليها الفلاسفة والأطباء وعلماء الموسيقا العرب وكذلك القراء وعلماء التجويد أشياء كثيرة مفيدة.
(4) وهذا لا يعني أن الفارابي وابن سينا لم يدركا حقيقة هذا الفارق؛ إذ نراهما في مقابلتهما للوحدات النغمية والوحدات اللفظية قد تفطنا – مع كل العلماء الذين تطرقوا إلى ذلك – إلى ما تمتاز به النظرة العربية .
(5) فهذا هو سر استعمال لفظة حرف للدلالة على الكلمة؛ لأنها مكون للكلام أي عنصر من عناصره. وأما إطلاقها على الأداة (حرف المعنى) فهو باعتبار هذه الأداة كلمة أي مكون مثل الاسم والفعل للكلام . وعلى هذا ينبغي أن يحمل تحديد سيبويه: "الكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل" هكذا: وعنصر آخر يأتي للدلالة على معنى (من معاني النحو كالتوكيد والاستفهام وغيرهما ) وقد استعملت كلمة حرف لترجمة الاسطقس وهو العنصر في اليونانية .(114/24)
(6) (وجاء عند الحكماء والمتأخرين من النحاة وأهل الأداء أنه قطعة من الكلمة (مثلا : النشر لابن الجزري ، 23/1) وشرح الأدوار حيث سمي الحروف "الأجزاء الأولية " ( 38ب).
(7) هذا التحديد يؤكد أن وظيفة الحروف في الخطاب هو التمييز بين المعاني بتمايزها بعضها عن بعض، انظر بحثنا الذي عرضناه في مؤتمر
مجمع القاهرة في 1997 .
(8) بعض المحدثين يقيمون مقابلة لابين الحرف الجامد وحرف اللين بل بين الحرف والحركة؛ فيتوهمون أن الحرف هو عند العرب الحرف الصامت فقط وهذا فاحش. قال أحدهم وهو الأب فلايش : "مفهوم الحركة هو أبعد مفهوم إلى تصورنا الحديث" مجلة ZDMG ، 1958 ص 104 .
(9) هذا هو التقسيم الثنائي الذي يوجد في أكثر اللغات وليس بالضرورة التقسيم اليوناني لأنهم أضافوا إليه، كما قلنا ، جواز النطق بمصوت منفردا والوقف على المقطع القصير .
(10) بعض المحدثين يقيمون مقابلة لا بين الحرف الجامد وحرف اللين بل بين الحرف والحركة؛فيتوهمون أن الحرف هو عند العرب الحرف الصامت فقط وهذا غلط فاحش قال أحدهم وهو الأب فلايش : "مفهوم الحركة هو أبعد مفهوم إلى تصورنا الحديث" مجلة ZDMG، 1958 ص 104 .
(11) هي الصفة المقابلة للمخرج .
(12) الجامد وحرف المد. يسمى بعض أهل الأداء بعد القرن الرابع حروف المد بالذوائب في مقابل الجوامد . ومن أقدمهم صاحب كتاب "إعراب القرآن" المنسوب إلى الزجاج .
(13) يقول صاحب الدر النثير : "حروف المد في أنفسهن مدات تابعات للحركات المجانسة لهن " ( 33ب).
(14) التجاهل للجانب غير الصوتي هو سبب لسوء فهم لما قاله العلماء القدامى .
(15) وقد رأينا الفارابي في أول بحثنا يجعل المتحرك الحرف الذي أتبع بمصوت (مراعاة للجانب الصوتي وحده ).(114/25)
(16) يسمى العرب الـ syllabe مقطعا لأنه أقرب لفظ عربي إلى معنى المصطلح اليوناني؛ إذ هو الموضع من الكلام الذي يمكن أن يوقف عليه ( وبهذا المعنى يستعمله أهل الأداء ). أما المقطع syllabe فلا يوجد إلا بين وقفتين كما بيَّن ذلك الصوتي الفرنسي روسلو، وعلى أثره أنكر الكثير من الغربيين أن تكون في الكلام العادي مقاطع إلا بالقوة وهي أصغر المجموعات من العناصر الصوتية التي يمكن أن تنفصل في النطق عما قبلها وما بعدها (انظر مقالتنا la notion de syllabe حيث تناولنا هذا الموضوع بالتفصيل .
(17) قارن هذا بقول العرب : درج السيل .
(18) قال ذلك ليبين أن الساكن الموقوف عليه ينبو عنه صويت بسبب الوقف نفسه .
(19) وهذا يظهر بوضوح في هذا الذي قاله سيبويه : "فأنت تقدر أن تضع لسانك موضع الحرف قبل تزجية الصوت " (283/2). وقول ابن جني هو توضيح لقول سيبويه : "لا تنتظر أن ينبو لسانك ولا يفتر الصوت حتى تبتدئ صوتًا، وكذلك المهموس؛ لأنه لا تدع صوت الفم(النفس)حتى تبتدئ صوتًا"( 285/2). وبهذا نستطيع أن نفهم لماذا نفر العلماء من تحديد الحرف المدرج بالقطعة من الكلمة . فالمقطع عند سيبويه مثلا هو فقط حروف المعجم المنطوق بها منفردة (34/2).
(20) الإيضاح ، وكذلك ابن جني في سر الصناعة ص 37-36/1).
(21) ويسميه سيبويه " هواء الصوت " (285/2) . وقد مر ذكر هذه العبارة ص 4).
(22) هو محمد بن عبد السلام الفاسي ( 1214-1130هـ) انظر ترجمته في الأعلام للزركلي، وسلوة الأنفاس للكتاني. وقد جمع هذا المؤلف معلومات كثيرة أخذها من كتب لم تصل إلينا في غالبها .
(23) اسمه محمد بن مسعود الغزني المتوفى سنة 421 نقل عنه أبو حيان كثيرا (كشف الظنون 236/1) .(114/26)
(24) غير أن ابن سينا لا يريد من الإطلاق إلا تجافي العضو أو ارتفاعه عن موضعه (حسب تعبير النحاة العرب). ويريد من الحبس لزوم العضو موضعه سواء كان متحركا أو ساكنا وبهما يصف الفرق القائم بين ما يسميه الحروف المفردة أو الحبسية والحروف المركبة أو التسريبية ( الشديدة والرخوة ) كما فعله سيبويه لكن بألفاظ أخرى (انظر كتابه :
أسباب حدوث الحروف،ص60 – 61 ).
(25) شاعت كلمة " حبس " عند علماء التجويد بعد ذلك .
(26) المراد باللسان هنا هو العضو عموما لأن الإدغام (أو القلب ) غير مختص بحروف اللسان . ويكثر سيبويه من استعمال هذه العبارة عند كلامه عن الإدغام والقلب . ويستعمل أيضًا كلمة "نبوء " (الكتاب 284/2) . قارن أيضًا بقول ابن جني : "وذلك أن الإدغام أنبى اللسان نبوة واحدة " (الخصائص ، 396/11) . ثم إن سيبويه يستعمل من جهة أخرى كلمة " تزجية " ويخصصها للصوت ويقصد بذلك دفعة الهواء الصامت (قد سبق أن ذكرنا كلامه الذي توجد فيه هذه اللفظة ص 9).
(27) لابد من التمييز هنا بين عملية الوقف وعملية التسكين،فكل موقوف عليه ساكن وليس كل ساكن موقوفا عليه. هذا لأن الوقف يتم بزوال التوتر العضلى وانقطاع العمل التلفظي . أما الحرف الساكن في الدرج فعلى خلاف ذلك ( انظر ابن جني، الخصائص،56,1)
(28) فإذا كانت الكلمة مبدوءة بساكن زيد عليه همزة متحركة تسقط في الدرج كما هو معروف . يقول ابن جني : "ألف الوصل تلحق في أول الكلمة توصلا إلى النطق بالساكن وهربًا من الابتداء به إذ كان ذلك غير ممكن في الطاقة فضلا عن القياس (المنصف 53,2). ويقول ابن يعيش : "لأنه ليس من لغتهم الابتداء بالساكن " ربما فهم منه أن ذلك مختص بلغة العرب ويجوز الابتداء بالساكن في غير لغة العرب وليس الأمر كذلك بل إنما كان لتعذر النطق بالساكن وليس ذلك مختصا بلغة دون لغة " (شرح المفصل، 136/9).
(29) أي يكون حنجريا أو مجرد نفس .(114/27)
(30) سكون حروف المد على هذا ليس مثل سكون الحروف الجوامد؛ لأنه يحصل بالتدريج وقد يمكن إشباعه فيكون بمنزلة تحريك مستأنف كما هو الحال في التقاء حرف المد بحرف ساكن في شابَّة ودابَّة .
(31) عرف القدامى جيدا دور الحنجرة في إحداث الصوت خلافا لما يظنه الكثيرون .
(32) وقد يحذف حرف المد وتبقى الحركة قبله . وهذا أثبتته المقابلة بين الشيء ونظيره في الوزن مثل الفتحة في جيم خرجا والفتحة في خرج . وحرف المد هنا حرف معنى وحرف المعنى لا يكون إلا حرفا تاما ( إذا كان حرفا واحدا ).
(33) هذا أيضًا لم يستطع المستشرقون أن يفهموه إطلاقا (انظر ما كتبه صاحب مقالة عروض " في دائرة المعارف الإسلامية).
(34) بل وبنيت النظرية اللغوية العربية كلها على ذلك؛ لأنه هو منطق تحليل الكلام إلى وحدات . انظر كتابنا : علم اللسان العربي وعلم اللسان العام .
(35) ويشير إلى ذلك الجاحظ خاصة .
(36) وأما اللغويون الذين ليسوا من أهل الاختصاص في الميدان الصوتي فلا يزال أكثرهم يبنون النظريات على أساس التصور اليوناني بدون أي تحفظ وتبعهم في ذلك أكثر الباحثين العرب .
(37) صامت + مصوت والعكس وصامت+ مصوت + صامت وغير ذلك. هذا الترتيب هو الذي يسميه المحدثون بالبنية المقطعية . وقد تفطن اليونانيون إلى أن الحروف التي يسمونها بالمائعة ( hugra = liquidae) وهي اللام والراء والميم والنون قد تقوم مقام المصوتات إذا تلت صامتا فتكون معه مقطعا . وجعل أيضًا النحاة العرب هذه الحروف صنفا على حدة غير الشديد والرخو (مع حروف أخرى لوجود منفذ للهواء من غير مخرجها أو لكيفية حدوثها الخاصة (الراء والعين . الكتاب، 401/2).(114/28)
(38) بل ونفى بعضهم أن يكون هذا التقسيم موضوعيا فقد قال W.Belardi : "أن ذلك تراث ثقافي توارثه الغربيون " (انظر مسرد المراجع ) وقال أيضًا " ولا يسع للعلم أن يتقبل من ذلك إلا الثنائية وحدها لا ما كان يتضمن رسمها من عناصر في القديم " (ص 164). انظر مسرد المراجع. وأيضًا : Is the vowel consonant Dichotomy universal? ( Word 18.1.2) J.H.Greenbeg ).
(39) هذا بخلاف العلماء العرب فإنهم قد اهتموا كثيرا بما يحصل في اللغات الأخرى ( ففي مجال توالي الحروف وحده: يراجع الخصائص 92-91/1 والرضى ، شرح الشافية ، 253/3 وابن يعيش، شرح المفصل ، 136/9 وغير ذلك كثير ).
(40) وقد يظهر في هذه الحركة مصوت في أثناء تطور اللغة، وربما استقر وصار عنصرا ثابتا . انظر ما كتبه G.Straka في ذلك في دراسته القيمة " La division des sons du langage" ص 23.
(41) يقول Straka إنما هو مجرد "مرور عادي بين المخارج" “passage normal entre articulations ولا يحدد بأي شيء يحصل هذا المرور. والسبب عندنا في ذلك هو عدم وجود نظرية حراكية متماسكة عند الصوتيين الغربيين الذين ينتمون إلى جيل straka ( وهو لتلاميذ روسلو ).
(42) ومن أقدم من قام بذلك هو روسلو الذي سبق ذكره . هذا والصوتيات التجريبية وإن كانت تعالج أصواتا خاصة باللغة الإنسانية إلا أنها علم تجريبي محض لأن موضوعها هو كيفية حدوث الكلام في الجهاز الصوتي مع التحليل الفيزيائي للأصوات اللغوية وإدراكها بالسمع، ولا يجوز للباحث أن يدلي بأحكام على ظاهرة لغوية صوتية إلا بالاعتماد على المشاهدة والاختبار العلمي لا بمجرد التأمل للآراء والأقوال النظرية .
(43) التصوير البطيء لحركات الأعضاء بالأشعة .
(44) وكثيرًا ما يحصل نقص في التنسيق وهذا يسبب تأثير الحرف القوي على الضعيف فيحدث عندئذ تقريب هذا من ذاك أو امتثاله ( في التشاكل والتباعد والتجانس وغير ذلك ).
(45) = Tenue -Tension – Détente .(114/29)
(46) وفيه ضرورة مرحلة وضع العضو في الموضع إلا أنه لا يعتبر حبسا محضا (أي سكونا ) لأنه متلو على الفور بإطلاق .
(47) الفرق بينهما هو أن الإدغام قد جعل الحرف الأول ينطق بإطلاق الثاني والحرف الثاني ينحبس بوضع العضو للموضع في الإدغام أطول زمنا .
(48) وحاول سوسور أيضًا أن يفسر بذلك تعاقب الحروف في مدرج الكلام ومن أين يمكن أن يحصل الحد بين مقطع وآخر. فلاحظ أن هذا الحد لا يقع إلا بين حرف implosif وبين حرف explosif أي بعد الساكن ( ولهذا ترجم العرب هذا المفهوم اليوناني لأنه الموضع الذي يجوز فيه الوقف ).
(49) انظر : la syllabe, ses difinitions في مجلة : Orbis، 1954، ص 532.
(50) أما كون tr متحركة وهما حرفان فهو بمنزلة اختلاس الحركة بين t و r ولابد عندئذ من حركة بعدهما غير مختلسة وتبين الذبذبيات أن الضغط يستمر حتى يصل المصوت الذي في tra ولولاه لما أمكن الاختلاس . ثم إن اختلاس الحركة في العربية لا يحصل إلا في وسط أو آخر الكلمة أو بين كلمتين (حسب تصفحنا لكتب العلماء القدماء ) أما في عامياتها الحديثة فهو شيء مطرد في المغرب العربي وكثير في جهات من المشرق. والحرف في أول الكلمة المتلو بحركة مختلسة قد يعتقد الكثير أنه ساكن ( في كتاب = kta:b ) وتبين الذبذبيات أن المجموعة kt هنا أقوى كثيرًا من الباء الساكنة الأخيرة وأنه إذا تأنى النطق ولم يسرع ظهر مصوت وجيز بين الكاف والتاء .
(51) انظر بحثه:la divisionص23-22.
(52) أهم ما نشر في ذلك هو أعمال Arkbauer (1964)و 1969 Subtelny) و Warren ( 1976)وغيرهم .
(53) انظر كتابها الرائع :Voyelles brèves et voy.longues ص 37.
(54) هذا قد برهنا عليه منذ زمان فيما يخص العربية: انظر مقالتنا La notion de syllabe وما ألحقنا بهذا البحث من ذبذبيات وأطياف . ولقد سبق أن ذكرنا سبب اعتبارهم حرف المد حرفا تاما ( وهو قيامه مقام الجوامد الواو والياء والهمزة والعكس).(114/30)
(55) انظر بحثنا السابق الذكر .
(56) كثرت وتعددت الآن طرائق التركيب الصناعي للكلام. أما التركيب المبني على تحليل البواني ورسم تحولاتها فهو أقدمها.
(57) من الجانب اللغوي الصوتي .
المراجع العربية
الإيضاح للزجاجي ، تحقيق مازن المبارك ، القاهرة 1978 .
أسباب حدوث الحروف، تحقيق الدكتور يحي مير علم ومحمد الطيان ، دمشق 1983
الأشباه والنظائر ، للسيوطي ، ط. حيدر باد ، 1359.
التفسير الكبير، لأبي بكر الرازي ، القاهرة بدون تاريخ .
تهذيب اللغة للأزهري ، القاهرة 1967-1964.
الخصائص لابن جني ، تحقيق محمد على النجار ، القاهرة ، 1956-1952.
الدر النثير ، لابن أبي السداد ، معهد المخطوطات العربية 30 قراءات .
سر صناعة الإعراب لابن جني، القاهرة ، 1954 .
شرح الأدوار لمولانا مبارك شاه ، مخطوطة المتحف البريطاني .
شرح الشاطبية للسخاوي ، المكتبة الوطنية بباريس رقم 611 .
شرح الشافية للرضي ، القاهرة ، 1939 .
شرح كتاب سيبويه للرماني ، معهد المخطوطات رقم 88 .
شرح الكتاب للسيرافي ، معهد المخطوطات رقم 85.
شرح المفضل لابن يعيش ، القاهرة بدون تاريخ .
الشفاء ، جوامع علم الموسيقا لابن سينا ، القاهرة ، 1956 .
كتاب سيبويه ، ط . بولاق 1317-1316 .
كتاب الفصل لابن حزم،القاهرة ، 1321-1317.
المقتضب للمبرد ، تحقيق محمد عضيمة، القاهرة، 1388-1385 .
كتاب المحاذى لابن عبد السلام الفاسي ، خزانة الكتب بالرباط رقم 312 .
المصنف لابن جني ، القاهرة ، 1960-1954 .
المراجع الأجنبية
Arkbacor H.J.A. Study of intracral Air Pressure associated with production of selected Consonants. Ph.D. State Un. Of Iowa. 1964.
W.Belardi. Sur l’aspect subjectif de la distinction entre voyelle et consonne (Annali dell-Istituo Univ. Napoli. 1964 pp .149-165).(114/31)
P.Delatte. Comparing the phonetics features of English. German. Spanish and French. Heideberg. 1965.
M.Durand. Voyelles brèves et voyelles longues. Paris. 1946.
M. Durand. La syllabe. Ses définitions. Sa nature. ORBIS. 1954,pp.527-533.
A. Hadj – Salah. La notion de syllabe et la théorie cinético-impulsionnelle des phonéticiens arabes. AL-Lisaniyyat,1971, pp. 63-83.
A. Hadj Linguistique arabe et linguisti ... que générale, Paris – Sorbonne, 1979.
C. Rochette, Les groupes de consonnes en francais, Québec, 1973.
P. Rousselot. Pincipes de phonétique expérimentale, Paris, 1924.
F. Saussure. Cours de linguistique générale. ed. Critique T. De Mauro, Paris, 1973.
G. Straka. La division des sons du langage en consonnes et voyelles est-elle justifiée?
Travaux de linguistique et de littérature. Strasbourg (TLL) II, 1(1963).pp.17-96.
G. Strake. Evolution du latin au francais. TLL. II.1. 1964,pp. 17-98.
Subtelny and Al. Multidimensiona Analysis of bilabial stop and nasal Consonants. Cineradiographic and pressure flow analysis. The Cleft Palate Journal . 6. PP. 263-289.
Warren.D.W.Aerodynamics in Speech Production. Contemporary. issues in Experimental phonetics. LASS, éd Academic Press, 1976.pp. 105-177.
ZDMG= Zeichrift der Deutschen Morgenlandischen Gesellschaft.(114/32)
سيداتي ، سادتي !
أرجو قبل كل شىء أن تتفضلوا فتقبلوا تحية العروبة الشرقية ترسلها إلى العروبة المغربية صادرة عن أعماق القلب وعن دخائل الضمائر ، وأرجو أن تتقبلوها على ألا تستقر فى أسماعكم ، كما قلت فى الرباط وإنما تمر فى أسماعكم لتستقر فى أعماق قلوبكم كما صدرت من أعماق قلوب إخوانكم فى الجمهورية العربية المتحدة .
وإني لحريص على أن أشكر أجمل الشكر وأصدقه للسيد الوزير ومدير الجامعة الآن ، أشكر له أجمل الشكر وأصدقه هذه التحية الكريمة التى تفضل بها، وأعترف وأشهد أنى منذ وصلت إلى بلاد المغرب لم أجد فيها إلا أحسن لقاء وأحسن ترحيب ، لقاء الإخوان للأخ وترحيب الإخوان بالأخ الصديق . ومع ذلك فلست أوافق الأستاذ الوزير على ما قال من أن المغرب تلمذ لمصر ، فالذي
أعرفه أن علومكم وصلت إلينا وأن علماءكم وصلوا إلى بلادنا، منهم من استقر فى الإسكندرية وأقرأ تلاميذ من المصريين والشرقيين ، ومنهم من استقر فى القاهرة وأقرأ التلاميذ فى الأزهر الشريف، فإذا كان هناك أساتذة وتلامذة فأنتم الأساتذة ونحن التلاميذ .
وأنا أحب أن تعرفوا شيئا عن إخوانكم فى الجمهورية العربية المتحدة وعن حياة الأدب فيها أثناء هذا العصر الحديث لا لأني أريد أن أحدثكم عن نهضة الأدب هناك ، ولكن لأني أريد أن تعرفوا إخوانكم وأتمنى إن شاء الله أن يزورنا الأستاذ الوزير وغيره من قادة الفكر فى هذه البلاد ليتحدثوا إلى المصريين والسوريين عن إخوانهم من أهل المغرب فإن الزيارة لابد من أن ترد وأنا أزوركم الآن وأنتظر أن يرد قادة الفكر هذه الزيارة ، والذين سينعمون برد هذه الزيارة لن أكون أنا وحدي فى استقبالهم لكن سيكون جميع المصريين والسوريين إن شاء الله .(115/1)
عندما وصل الفرنسيون إلى مصر فى أواخر القرن الثامن عشر كان الأدب العربى فى مصر قد أدركه ضعف شديد وكان قد بلغ من الضعف أن أصبح لا يكاد يصور شيئًا وأصبح ألفاظا يضم بعضها إلى بعض ويعبث بها الكتاب والشعراء يتخذون هذه الألفاظ تعِلَّة لهم تغنيهم عن المعاني التي ينبغي للأدب أن يؤديها ذلك لأن القريحة العربية فى تلك الأيام كانت قد نضبت وأدركها خمود شديد جدا ، ومصدر ذلك أن حياة الأدب رهينة بأن تتصل البلاد بعضها ببعض. وقد أقبل الترك العثمانيون على مصر فى القرن السادس عشر فقطعوا كل صلة بينها وبين العالم الخارجي ، قطعوا الصلة بينها وبين العالم العربى شرقا وغربا، وقطعوا الصلة بينها وبين العالم الغربي الأوروبي وكانت قبل الغزو العثماني متصلة بالعالم العربى فى الشرق وفى الغرب ومتصلة بالعالم الأوروبي المسيحي بواسطة التجارة وبواسطة المعاهدات السياسية ، وما إلى ذلك ، فكان الأدب فى تلك الأيام ، قبل الغزو العثماني، له حظ من حياة مهما تكن فقد كانت قوية خصبة منتجة ، وما أكثر ما يقال عن عصر المماليك فى مصر وسورية ، فكثير من الذين يؤرخون الأدب يقولون : إن هذا العصر قد كان عصر ضعف وخمود لجَذْوة الأدب العربى ، ولكننا عندما نحقق النظر فى شؤون الأدب فى سورية وفى مصر أيام المماليك نرى أن الشعر إن كان أمره قد ضعف فقد كانت هناك نهضة أدبية خطيرة هي التي حفظت على الشرق تراث الإسلام بعد أن تعرض للخطر العظيم الذى أثاره التتار عندما غزوا العراق وعندما أضاعوا ما أضاعوا من الكتب ، وأهدروا وهدموا ما هدموا من الحضارة الإسلامية فى العراق . كانت سورية وكانت مصر هما الملجأ الذى لجأ إليه التراث الإسلامى ، ونهض السوريون والمصريون يقرؤون ما لجأ إلى سورية ومصر من هذا التراث ويجمعونه ويدونونه فى كتب ضخمة تذكرنا بدوائر المعارف أو "الأنسكلوبيديات " فى هذه الأيام ، فنرى " النُّوَيْرى " يؤلف "نهاية الأرب " فى نحو ثلاثين مجلدا(115/2)
ونرى " العمرى " يؤلف " مسالك الأمصار " ، ونرى القَلْقَشَنْدى " يؤلف " صبح الأعشى ، ونرى " ابن منظور " يؤلف " لسان العرب " ونرى غير هؤلاء ، نرى ابن حجر فى الفقه والحديث وتلاميذ ابن حجر ، ونرى آخر الأمر "السيوطي " وما أكثر ما جمع السيوطي من الكتب القديمة فى كتبه التى ألفها وملأ بها البلاد الشرقية. في أثناء هذه النهضة التى إن لم تكن أدبية خالصة فقد كانت نهضة علمية ، وإلى جانبها كانت نهضة فنية يراها كل من زار القاهرة وكل من زار دمشق ورأى ما فى المدينتين من الآثار الإسلامية ومن المساجد.
فى أثناء هذا أقبل الترك العثمانيون على مصر فهدموا الحضارة الإسلامية فى الشرق العربى كما هدموا الحضارة البيزنطية فى قسطنطينية ، وجرى هذا كله فى أقل من قرن واحد ، هدموا هاتين الحضارتين ولم يؤتوا العالم حضارة تقوم مقام إحداهما.
وضعف أمر الأدب العربى فى مصر وفى سورية ولولا بقية من الدراسات فى الأزهر وفى بعض المدارس لنسى الأدب العربى نسيانًا تامًا .
أثناء هذه القرون الثلاثة ، من القرن السادس عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر ، ظل الأدب العربى أشبه شىء بالجذوة التى تكاثر عليها الرماد فهى محتفظة بقوتها ومحتفظة بما فيها من القدرة على الانتشار والإضاءة ولكن الرماد عليها قد تكاثر وتكاثر حتى أصبحت خامدةً أو كالخامدة لا ينطبق لهبها ولا يُشرق نورها ، وأصبح كتابنا فى تلك الأيام يبدئون ويعيدون فى ألفاظ مزوقة منمقة لا تؤدى شيئا ، ولكنها تخدع أصحابها الذين يكتبونها، وتخدع الذين يقرؤونها ، وتخيل إلى أولئك أنهم يكتبون شيئا وإلى هؤلاء أنهم يقرؤون شيئا ! والحقيقة أن أولئك وهؤلاء لم يكونوا يكتبون ولم يكونوا يقرؤون . وإنما كانوا غارقين فى شىء يشبه هذيان المحموم ، كذلك كانت حياة الأدب ، أيها السادة، في ذلك العصر التركي العثماني .(115/3)
فعندما أقبل الفرنسيون إلى مصر ، يخيل إلىَّ أنهم طرقوا باب العروبة المصرية طرقًا عنيفا ، أيقظ النيام ، فهم قد أقبلوا بأشياء لم يكن المصريون يقدرون أنها موجودة . وهم قد عرضوا على المصريين ألوانًا من العلم وألوانًا من النشاط لم يكن المصريون يعرفون أنها يمكن أن توجد فى بلد من البلاد ، عرضوا عليهم - أول ما عرضوا - المطبعة . وكان المصريون لا يعرفون إلا أن الكتب تكتب بالأيدي وتستنسخ وتذاع على هذا النحو البسيط الضئيل . فلما رأوا عمل المطبعة ونشر الآثار والمكتوبات دهشوا لهذا أشد الدهشة ، ثم عرضوا عليهم بعض التجارب العلمية: تجارب الكيمياء والطبيعة فخيل إلى الذين رأوا هذه التجارب أن هؤلاء الفرنسيين كانوا أصحاب سحر لا أصحاب علم ،وكذلك استيقظ المصريون، استيقظوا وقاوموا الفرنسيين أشد المقاومة حتى أدرك الفرنسيون أن لا مقام لهم بأرض مصر فزالوا عنها ولم يقيموا فيها إلى ما يقرب من ثلاثة أعوام. زالوا عنها ولكنهم كانوا قد أيقظوها وقد نبَّهوها إلى أنها كانت بمعزل من حياة قوية نشيطة ، توجد فى بعض البلاد . ومنذ أوائل القرن الماضي بدأ المصريون يرسلون أبناءهم إلى الخارج يرسلونهم إلى إيطاليا وإلى فرنسا وإلى بريطانيا العظمى، ليعلموا علم هذه البلاد وليتعلموا في مدارسها وجامعاتها وليعودوا بما تعلموا لينشروه فى بلادهم ، وكثرت هذه البعثات التى كانت تسافر إلى هذه البلاد، وإلى فرنسا خاصة وفى الوقت نفسه انهزمت جيوش نابليون فى أوائل القرن ، وضاق كثير من الفرنسيين ببلادهم هذه المنهزمة ، التى احتلها العدو، فجعلوا يخرجون من بلادهم ويهاجرون إلى بلاد مختلفة . وجاء فريق منهم إلى مصر فاستغلت مصر مقدم هؤلاء ، استغلت بعضهم فى تنظيم جيشها ، واستغلت بعضهم فى تنظيم مدارسها، ومنذ ذلك الوقت ، بفضل إرسال البعثات المصرية إلى ما وراء البحر وبفضل استقبال الأوروبيين الذين كانوا يعبرون البحر إليها، منذ ذلك الوقت جعلت مصر تبتدئ(115/4)
نوعا جديدا من الحياة ، هي هذه الحياة الحديثة التى نحياها الآن ، جعلت مصر تنظم اتصالها بالغرب الأوروبي ، ترسل أبناءها وتستقبل الغربيين وتنتفع بإرسال أبنائها وباستقبال الغربيين ، وتنشئ المدارس على نحو ما كانت المدارس منشأة فى بلاد الغرب الأوروبي ، فأنشأت مدرسة الطب ، وأنشأت مدرسة الحقوق ، وأنشأت بعد تلك المدارس مدرسة الهندسة ، وجعلت تنشئ المدارس الابتدائية ، ثم المدارس الثانوية ووجد فى مصر، أثناء هذا العصر فى النصف الأول من القرن الماضي ، نوعان من التعليم أحدهما تعليم حديث يذهب المذهب الأوروبي والآخر تعليم قديم موروث من الأزهر الشريف يذهب مذهب التعليم التقليدي الذي كان معروفا أثناء القرون الوسطى ، ومن ذلك الوقت نشأ فى مصر تياران أحدهما يأتي من أعماق التاريخ الإسلامى والآخر يأتي مما وراء البحر ، فأما التيار الأول الذى كان يأتي من أعماق التاريخ الإسلامى ، فكانت تصوره هذه الكتب العربية القديمة التى كانت نائمة فى المساجد ، فى مكتبات المساجد ، لا يكاد أحد يقرؤها ولا يكاد أحد ينظر فيها . جعلت هذه الكتب تأخذ طريقها إلى المطبعة قليلا قليلا ، وجعل الناس يشترونها ويقرؤونها وينظرون فيها شيئا فشيئا ، وجعل هذا التيار يقوى ثم يقوى حتى استأثر بعقول فريق من المصريين واستأثر بأذواقهم ثم استأثر بألسنتهم وأقلامهم آخر الأمر . وفى أثناء ذلك كان التيار الآخر يأتي من وراء البحر ويقوى كذلك شيئا فشيئا. جعل المصريون يتعلمون اللغة الفرنسية ثم جعلوا يتعلمون غيرها من اللغات الأوروبية ، وبخاصة اللغة الإنجليزية، وجعلوا يترجمون بعض الكتب التى كانت تأتيهم من فرنسا ومن بلاد الإنجليز ، وجعلت العقول والقلوب والأذواق المصرية تتأثر بهذين التيارين : بالتيار الذى يأتي من أعماق التاريخ العربى الإسلامى، والتيار الذى يأتي من وراء البحر ، وجعلت قلوب المصريين وعقولهم وأذواقهم تلائم بين التيارين وتنشئ منهما شخصية جديدة(115/5)
للأدب الذى كان ينشأ فى مصر ، بعد أن مضى النصف الأول للقرن التاسع عشر ، وظهر بعض الشعراء : لا ينظمون ذلك الشعر الذى كان ينظم أيام الترك العثمانيين والذي لا يدل على شىء والذي كان قوامه الجناس وألوان البديع على اختلافها ، وإنما ينظمون شعرًا لم يكن المصريون يعرفونه، أو كانوا عرفوه فى عصور مضت ونسى ، ينظمون شعرًا على نحو الشعر العربى القديم الذى كان ينظم فى البصرة وفى الكوفة وفى بغداد ، كانوا يقلدون الشعراء العباسيين، وبعضهم كان يتعمق فيقلد الشعراء الإسلاميين أيام بنى أمية، وربما اجتهدوا فى تقليد الشعراء الجاهليين أيضا، وكذلك ننظر فى شاعر مصري " كمحمود سامي البارودي " الذي ظهر في النصف الثاني من القرن الماضي ، فنراه يتخذ الشعراء القدماء نموذجًا له ، ويتخذ شعرهم مثالا يحتذيه ، فهو يقرأ القصيدة للشاعر القديم فيحاول أن يعارضها بقصيدة مثلها ، على وزنها وعلى قافيتها حتى إذا أتقن هذا النوع من المعارضة واستحكم فنه وملك ناصية الشعر ، أخذ ينظم شعرًا يعرب فيه عن ذات نفسه أولا ويعرب فيه عن ذات النفس المصرية الوطنية ، فيصف طموح مصر إلى الاستقلال ويصف طموح مصر إلى الحرية ويصف الحرب وقد خاض غمارها فى غير موطن، ويصف الطبيعة ويحرض على الثورة ، ويشارك فى الثورة العرابية التى كانت سبب النكبة، نكبة مصر بالاحتلال البريطاني ، ونجده ينفى إلى جزيرة " سيلان " فيظل فيها بضعة عشر عامًا ، وفى منفاه ينظم شعرًا رقيقا يصور الحنين إلى الوطن ويصور الشوق إلى الأهل والإخوان ويصور الحرمان من طيبات الحياة التى كان يألفها فى مصر. ونجد هذا الشاعر:"محمود سامي البارودي" لا يكتفي بتقليد القدماء ولكنه يختار من شعر القدماء مجموعة ضخمة تنشر بعد وفاته فى أربعة مجلدات .(115/6)
وعلى نحو السيرة التى سارها البارودي في أدبه وفى شعره خاصةً ، ينهض أو يظهر شعراء آخرون يذهبون نفس المذهب : يقرؤون الأدب العربى القديم الجاهلي والإسلامي الأموي والعباسي ويحاولون أن يقلدوا هؤلاء الشعراء القدماء ونرى حافظا ثم شوقي وغير حافظ وشوقي من شعرائنا فى آخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن ، حتى أتيح لمصر فى هذا العصر الحديث ما لم يتح لها أثناء العصر الإسلامى كله، فمصر لم يتح لها الامتياز فى الشعر فى عصورها الإسلامية المختلفة ، كان الشعر عراقيا أول الأمر ، وكان نجديا وحجازيا ثم صار الشعر سوريا أيام بنى العباس فى القرن الثالث وما بعده أيام أبى تمام والبحتري ثم المتنبي وأبى العلاء المعرى ، وصار الشعر أندلسيا ومغربيا وظلت مصر قليلة الحظ من الشعر ، يفد عليها الشعراء من البلاد العربية المختلفة ويظهر فيها شعراء لا يبلغون الطبقة الثانية ، وعسى ألا يبلغوا الطبقة الثالثة أيضا من الشعر .كان حظ مصر فى الشعر ضئيلاً منذ الفتح العربى إلى العصر التركي العثماني إلى أواسط القرن التاسع عشر . وبفضل هذه النهضة الحديثة ، وبفضل التقائها بين التيارين : التيار القديم الإسلامى والتيار الحديث الغربي ظهرت ف مصر نهضة شعرية وأتيحت لمصر مدرسة جديدة فى الشعر ، ولكنه شعر تقليدي على نحو الشعر الذى كان يقال فى بغداد وفى البصرة وفى الكوفة كما قلت آنفا، وأتيح لمصر أن تمتاز فى الشعر وأن يتجاوز صوت شعرائها حدودها إلى الشرق وإلى المغرب العربى ، وعُرِف حافظ إبراهيم وعُرِف شوقي وعُرِف خليل مطران فى البلاد العربية كلها وأصبحت مصر ولها مدرسة شعرية للمرة الأولى فى تاريخها الأدبي العربي ، وبهذه المدرسة التى نسميها بالمدرسة المصرية التقليدية فى الشعر ، بهذه المدرسة الشعرية ختم الشعر العربى فى مصر ، فلم يكد هؤلاء الشعراء يتركون هذه الحياة الدنيا إلى العالم الآخر حتى عادت مصر إلى ما كانت عليه قبل وجود هذه المدرسة ،(115/7)
قليلة الحظ من الشعر . يوجد فيها الذين يقولون القصائد وينشئون القصص التمثيلية على نحو ما كان يصنع شوقي ، ولكن كل هؤلاء الشعراء لا يبلغون مبلغ الشعراء التقليديين الذين ذكرتهم آنفا: البارودي وحافظ وشوقي وإسماعيل صبري وخليل مطران وسائر شعراء هذه الطبقة.
إنما الفن الأدبي الذي امتازت فيه مصر امتيازا ظاهرًا حقًا هو فن النثر ، ففي أواسط القرن تأثر المصريون كما قلت لكم بهذين التيارين لا فى الشعر وحده ولكن فى التفكير كله ، بل فى التفكير وفى الشعور،جعلوا يترجمون بعض الكتب الفرنسية والإنجليزية وجعلوا يرون كيف كان الفرنسيون والإنجليز يكتبون ، وجعلوا يعرفون كيف كان ابن المقفع وكيف كان الجاحظ وكيف كان الكتاب القدماء يكتبون أيضا، جعلوا يقرؤون للكتاب القدماء ويقرؤون للكتاب الأوروبيين ويحاولون أن ينشئوا لأنفسهم نثرًا يتبع مذهب القدماء فى اللفظ وفى الأسلوب ولكنهم يؤدون بهذا اللفظ وبهذا الأسلوب معاني لم تخطر للقدماء لأنها معانٍ جديدة جاء بعضها من الغرب الأوروبيّ وابتكر بعضها فى مصر ، ولم يكد القرن الماضي ينقضي ويبتدئ هذا القرن حتى نرى مظهرًا طريفًا من مظاهر هذه الحياة الجديدة للنثر الأدبي في مصر .(115/8)
في أوائل هذا القرن يظهر كِتاب صغير ، جعل ينشر فى صحيفة أسبوعية : كان اسمها " مصباح الشرق " وهذا الكتاب كان ينشر أحاديث ، وكان يسمى حديث عيسى بن هشام ، وكلكم يذكر أن عيسى بن هشام هذا هو صاحب الهمذاني الذي كان يتحدث عنه فى مقاماته ، فكان الهمذاني في مقاماته يقول : حدثنا عيسى بن هشام ثم يأتي بقصته في المقامات ، فصاحب هذه الأحاديث فى تلك الصحيفة وهو "محمد المويلحي " كان يكتب حديث عيسى بن هشام ، لا على أنها مقامات كمقامات الهمذاني ولكن على أنها قصة طويلة ، يكتبها بنفس الأسلوب الذى كان يكتب به الهمذاني مقاماته ولكنه يخالف الهمذاني لأنه لا يكتب مقامات قصارًا ولكنه يكتب قصة طويلة تصور الحياة الاجتماعية فى مصر فى أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الذى نحن فيه : يزعم أنه ذهب مرةً إلى المقابر فإذا بقبر يفتح ويخرج منه رجل يجر كفنه وهذا الرجل هو أحد الباشاوات القدماء الذين عاشوا فى أول القرن الماضي : " أحمد باشا المنيكلى " ، وهذا الرجل يتعرف بالمتحدث الذى يتحدث إلينا ، ويتخذه دليلا ، يزور معه مدينة القاهرة ويبحث معه عن أشياء كانت له وهكذا ، وبهذه الطريقة يصف لنا مدينة القاهرة فى حياتها، وحياتها الاجتماعية فى أواخر القرن الماضي وفى أوائل هذا القرن ويصفها وصف الناقد للحياة الاجتماعية ، الساخر من الذين يحافظون على القديم ، والمعجب بالذين يطمحون إلى تغيير الحياة القديمة ويذهبون مذهبًا حديثًا فى الحياة . وكان هذا هو أول مظهر لتأثر النثر العربى بالتيارين القديم والحديث ، فكما قلت لكم صاحب حديث عيسى بن هشام يكتب على أسلوب الهمذاني وعلى طريقته ولكنه يصف الحياة الاجتماعية ويعرض عليها قصة طويلة على طريقة الأوروبيين فيلتقي هذان التياران التيار الأوروبي والتيار العربي القديم في هذا الكتاب التقاء حسنًا ، ولكننا نحس فيه قوة التيار العربى. فالكاتب يذهب مذهب الهمذاني في وضوح صارخ ، وهو فى الوقت نفسه(115/9)
ربما التزم السجع أحيانًا عندما يريد أن يتأنق فى الوصف .
وتمضى أعوام وإذا كاتب آخر يظهر وهو مصطفى لطفي المنفلوطي ، وإن لم يكن مصطفى لطفي المنفلوطي يعرف لغة الأوروبيين فإنه كان يعيش بين الذين يعرفون لغة الأوروبيين ، وكان يقرأ الكتب التي كانت تترجم من اللغات الأوروبية إلى اللغة العربية فحرص هو أيضا على أن يكتب بالأسلوب العربي القديم على أن يؤدى معاني عربية حديثة ، وكتب مقالات أيضا كانت تنشر في الصحف ، كان عنوانها "النظرات" ثم جعل تُترجم له كتب فرنسية ترجمة عادية ويؤديها هو بلغته العربية الرائقة الجميلة على الأسلوب العربي القديم ، وكذلك ترجمت له بعض الكتب التي كتبت في فرنسا مثلا: ترجمت له " سِيرَاندودِبِيرْجِيرَاك " ( Cyrando de ber Gerac) مثلاً وأداها بلغة عربية قديمة راقية ، وترجمت له بعض القصص كقصة تحت ظلال الزيزفون " Al'ombre des tillules " وعلى هذا النحو .
وفى أثناء هذا كله كان هناك جيل جديد ينشأ فى المدارس الحديثة ، ويتعمق دراسة اللغات الأجنبية أو بعبارة أدق دراسة اللغتين الأجنبيتين : الإنجليزية والفرنسية ويتعمق دراسة الأدب الإنجليزي والأدب الفرنسي . وإلى جانب هذا كان هذا الجيل يدرس الأدب العربى أيضا ويدرس الأدب العربى التقليدي القديم : يحفظ الشعر ويحفظ مقطوعات من النثر ويحاول أن يؤدى المعاني بمقدار ما يستطيع . بعض الشبان يحاول تقليد الجاحظ فى الإطناب وبعضهم يحاول تقليد ابن المقفع فى الإيجاز وعلى هذا النحو.(115/10)
ولكن الحرب العالمية الأولى تفجع مصر بنوع خاص ، ولا تكاد تنقضي حتى يثور المصريون مطالبين بالاستقلال وتكون ثورتهم عنيفة حقًا ، ولم تخل من سفك دماء بين المصريين والإنجليز المحتلين، وهذه الثورة التى كانت فى أول أمرها سياسية لم تلبث أن تصبح ثورة سياسية وفكرية بالمعنى الواسع الدقيق ، وإذا المصريون الذين ثاروا بالإنجليز وأرادوا تغيير النظم السياسية: نظم الاحتلال البريطاني ، يريدون أن يغيروا نظم الحكم الداخلي ويثورون بالسياسة الملكية التى كانت مسيطرة فى مصر ويريدون أن يحكموا حكمًا حرًا وأن يكون لهم دستور وأن يكون لهم نظام برلماني على نحو ما هو مألوف فى البلاد الغربية الأوروبية ، ثم لا يكتفون بالثورة على النظم الداخلية وعلى نظام الاحتلال ولكنهم يثورون على النظم الفكرية القديمة أيضا .(115/11)
ويثورون على الأساليب القديمة فى الشعر وفى النثر ، فتنشأ طائفة تعبث بشوقي وحافظ وبالمدرسة الشعرية التقليدية وتريد أن تنشئ شعرًا جديدًا تذهب فيه مذهب الشعراء الأوروبيين : الشعر عربي اللفظ ، واضح الأسلوب ناصع الديباجة ، ولكن المعاني التي تؤدى بهذا الشعر ليست هي نفس المعاني التي كان يؤديها الشعراء المقلدون: شوقي وحافظ وخليل مطران ومن إليهم من هؤلاء الشعراء الذين كانوا لا ينظمون قصيدة إلا نظروا إلى قصيدة للمتنبي أو لأبى تمام أو للبحتري أو لكذا أو لكذا. يأبون إلا أن ينشئوا شعرًا جديدًا ويأبى الكتاب إلا أن ينشئوا أيضا نثرًا جديدًا . وتنشأ فى مصر ثورة عنيفة بين القدماء والمحدثين، فهناك أصحاب المذهب القديم الذين يحافظون على الكتابة العربية كما ورثت عن الجاحظ وابن المقفع وعن الهمذاني وعن الحريري ومن إليهما. وآخرون يريدون أن يطلقوا أنفسهم على سجيتها وأن يؤدوا المعاني كما يجدونها فى نفوسهم ، لا يتكلفون ولا يتعلمون ولا يلتزمون شيئا ، إلا أن يكونوا معربين حين يكتبون ، واضحين للذين يقرؤونهم أو يسمعونهم ، ثم لا يريدون أكثر من هذا . وتقوى هذه الثورة شيئا فشيئًا حتى تسيطر على الحياة الفكرية المصرية أثناء العصر الأول للثورة المصرية من انتهاء الحرب العالمية إلى نحو ثلاثين وتسع مائة وألف ، وبعد ذلك تفرض على مصر ألوان من الاستبداد الداخلي والخارجي أيضا : تعاون بين القصر الملكي وبين الإنجليز .(115/12)
وتفرض أحكام عرفية تحجر على الأفكار وتمنع الناس من أن يعربوا على ذات نفوسهم كما يحبون ، ونجتهد نحن الكتابَ والشعراء فى تلك الأيام فى أن نخادع السلطان وفى أن نعبث بالأحكام العرفية وفى أن نؤدي ما نريد على رغم القوانين المفروضة وعلى رغم الأحكام العنيفة التى كانت تفرض علينا ، ونصل إلى التغلب على الحكام أيضا : منا من يهجو القصر ، ومنا من يهجو الإنجليز ، ومنا من يهجو الوزراء، وما إلى ذلك من كل هذه الحريات التى أخذناها غلابا . ولا نحفل بأحكامهم العرفية ولا نحفل بالمحاكم ولا بالسجون ولا بشيء من هذا، وإنما نؤدي ما نريد أن نؤديه مرة بالصراحة ومرة بالألغاز، ولا أنسى كتابًا كتبته أنا فى ظل أقوى ما يمكن أن يكون من قسوة الأحكام العرفية ولكنه كان كتابًا لم أصارح فيه أحدًا بشيء، وقلت فيه مع ذلك كل ما أريد أن أقول ، وسميته " جنة الشوك " لأن هذا الكتاب كان يتألف من مقطوعات قصار ليس فيها مقطوعة إلا وفيها غمزة لحاكم أو لملك أو لوزير .
وفى أثناء هذا ، أيها السادة ، نشأ فى مصر فى الأدب العربى فنَّان جديدان لم يألفهما الأدب العربى من قبل ، أما أحدهما ففن القصص الطويل والقصير ، هذا الفن بدأ فى أول القرن كما قلت لكم فى حديث عيسى بن هشام ، ولكن القصاص تحرروا من السجع ومن تقليد الكتاب القدماء وأنشؤوا لأنفسهم لغتهم الخاصة العربية ومذهبهم الخاص فى الكتابة وجعلوا يقلدون فى أول أمرهم القصص الأوروبي الذي كانوا يقرؤونه باللغات الأوروبية أو مترجما إلى اللغة العربية ثم لم يلبثوا أن وجدوا أنفسهم وحققوا شخصيتهم وأنشؤوا قصصًا مصريًا جديدًا لا يقلدون فيه كاتبًا أوروبيا، إنجليزيا أو فرنسيا .(115/13)
وإذا أتيح لكم أن تقرؤوا ما ينشر فى مصر من القصص الآن فإني أحب أن تقرؤوا ما يكتبه كاتب مصري من الكتاب الشبان الذين تخرجوا فى جامعة القاهرة وهو نجيب محفوظ ، كتب طائفة من القصص أعتبرها أنا أروع ما أنتج فى الأدب المصري الحديث : كتب قصصًا وهو يتحرى حين يكتب أن يختار شارعًا من شوارع القاهرة أو حيًا من أحيائها ويختار فى هذا الحي أسرة من الأسر ويكتب تاريخ الأسرة وبكتابة تاريخ الأسرة يصور تاريخ الحي ويصور تاريخ القاهرة ويصور تاريخ الأحداث السياسية التى كانت تحدث فى القاهرة ، وإذا أتيح لكم أن تقرؤوا هذه السلسلة التى كتبها باسم " قصر الشوق " وباسم "بين القصرين " و" السكرية " فسترون قصصًا عربية أصيلة بأدق معاني الكلمة.(115/14)
أما الفن الآخر فهو فن التمثيل : الأدب التمثيلي ، وأنتم تعرفون أن الأدب العربى لم يعرف التمثيل اليوناني ولم ينشئ أدبًا تمثيليًا وهو لم يعرف الآن التمثيل اليوناني لأن المسيحية كانت قد حظرت فن القصص التمثيلي ، فالمسلمون عندما أخذوا يترجمون الآثار اليونانية ترجموا الفلسفة والعلم ، وهكذا ، ولكن الآداب لم تترجم لأن المسيحية كانت قد حظرتها لأنها كانت تعتبرها أدبًا وثنيًا، مهما يكن من شئ فقد جعل بعض كتابنا ينشئون قصصًا تمثيليا ، ونشأ عندنا كاتب - كلكم سمع اسمه فيما أظن - هو "توفيق الحكيم " هو الذى وظف التمثيل فى اللغة العربية وجعله مصريًا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة: أنشأ طائفة من القصص التمثيلية، أكثرها يقرأ ولا يكاد يمل ، وهو قد أنشأ طائفة من القصص كلها جيد وكلها رائع، وكذلك استطعنا أن نحيي شيئًا من تراثنا القديم بمقدار، لا أقول إننا قد بلغنا من ذلك الذى نريد ، بل لا أقول إننا بلغنا من ذلك بعض ما نريد. فنحن فى أول الطريق ولكننا مع ذلك قد أحيينا طائفة غير قليلة من الكتب العربية القديمة، وقد نظمنا لإحياء التراث الآن ، وضعنا له نظامًا جديدًا ، ونحن الآن أمام حكومة جديدة فى مصر : حكومة الثورة ، وقد التزمت إحياء التراث العربى ووضعت نظامًا خاصًا لنشر هذا التراث ، وإلى جانب ما تفعله الحكومة ، الجامعة العربية أيضا تُحيي طائفة من التراث القديم وتنشر طائفة من الكتب القديمة ، كتبا قيمة . والتزمت الحكومة كما تلتزم الجامعة العربية إلى جانب إحياء التراث القديم ، التزمت الحكومة والتزمت الجامعة ترجمة الآداب الأوروبية العليا : فالجامعة العربية ترجمت فى هذه السنين الأخيرة"شكسبير": كل قصص شكسبير ، وسينشر المجلد الأول من هذه القصص فى هذا العام إن شاء الله ، والحكومة تترجم روائع الأدب الأوروبي وبينكم هنا أستاذ من أساتذتنا المصريين أخذ فى ترجمة "سيرفانطيس " إلى اللغة العربية وهو الأستاذ الأهواني .(115/15)
فإلى جانب ما نبذل من جَهدٍ متواضع في إحياء التراث العربي وفى العِلم بما عند الأوروبيين على اختلاف أجناسهم ولغاتهم ، قد أتيح لنا بفضل هذا الجَهْد المتواضع أن نضيف إلى الفنون التي ورثناها عن العرب الأولين هذين الفنين الجديدين : فن القصص الطويل على النحو الأوروبي وفن التمثيل أيضا ، إلى فنون أخرى في النثر ، هذا الفن الذي ذكرته " جنة الشوك " مثلا : هذا النوع الذي أسميته " الإبيكراما " (Epigrama) والذي هو عبارة عن المقطوعات القصار التي تغمز ، والتي يؤدى بها الكاتب ما يريد دون أن يصرح بشيء ، ولا ينشر منها مقطوعة إلا عُرف مَن المراد .
وقد ذكرت فى الحديث الذى ألقيته منذ أيام فى الرباط أنى ألجأ إلى المغرب وإلى سائر البلاد العربية فى المشاركة فى هذا الجهد لإحياء التراث العربى ، هذا الجهد الذى يبذل فى مصر ويبذل فى سورية ويبذل فى العراق الآن على مقادير تختلف قوة وضعفًا. أرجو أن تشارك فيه بلادكم أيضا . فقد سبقتم إلى كثير من الفضل فى إحياء التراث العربى القديم ، وفى حفظه ، وعندكم منه كنوز لا يُقدر قدرها ولابد من أن تظهر هذه الكنوز ، ولابد من أن ترى النور ولابد من أن تنشر ، تنشر فى المغرب وتنشر فى المشرق أيضا ، ولابد من التعاون على إحياء هذا التراث .
وسألني سائل في جريدة (العَلَم )،هل سنظل نذكر القدماء ونذكر أبا تمام وأمثاله؟ أو هل يجب أن نعيد النظر فى مقاييسنا وفى أحكامنا وفى تفكيرنا ؟(115/16)
وأجيب على هذا السؤال بأننا سنظل نذكر قدماءنا، نظل نذكرهم وسنظل نحفظهم وندرسهم ،وهم قد عاشوا إلى الآن وما نريد أن نحتمل الإثم فنقضي عليهم بالموت ، ولو حاولنا ذلك لما بلغنا منه شيئًا ، لأنهم كانوا أقوى من الزمن ، وأقوى من الدول ، وأقوى من الخطوب: عاشوا وسيعيشون، ولكنى لا أريد أن نقتصر ولا أن نكتفي بذكر القدماء وحفظهم ودرسهم ، وإنما أريد أن نعرف كل ما عند الغرب ، نعرفه معرفة المتقصى المتعمق ، وأن نجمع ما نعرفه مما عند الغرب إلى ما نعرفه من أمر قدمائنا ، وأن نكون لأنفسنا شخصيتنا الجديدة الحرة القوية المستقلة ، وأن نضيف إلى ما تركه العرب لنا تراثًا جديدًا ، فلا ينبغي أن نورث أبناءنا ما ورثناه فحسب وإنما ينبغي أن نورث أبناءنا ما ورثناه وما أنتجناه نحن، ويمضى الأمر على هذا الحال وترقى الحياة العقلية والأدبية العربية بمقدار ما ترقى الحياة العلمية كلها وبمقدار ما ترقى الحياة السياسية .
وإني لسعيد أيها السادة بأن ألقيت إليكم بهذه الأحاديث التى تضطرب دائمًا فى أعماق نفسي والتي لا أزور بلدًا عربيًا إلا تحدثت إليه فيها ، وطلبت إليه المشاركة فى إحياء التراث العربى أولاً ، وفى تعريب الحضارة الأوروبية ثانيًا ، وفى إنشاء الشخصية العربية الجديدة آخر الأمر. وإني لسعيد بأن أتحدث إليكم فى هذه الأشياء وأنا أسعد أيضًا عندما آَكِل وأعتمد على الدولة المغربية ، وعلى هذه الدولة القوية الفتية فى أن تظل جديرةً بنفسها ، حفيظةً على مكانتها وهى البلد العربى الذى لم يذق مرارة الاستعمار إلا أقل زمن ممكن ، هذا البلد الذى حفظ استقلاله من الأحداث والخطوب ، ولم يخضع للاستعمار إلا وقتًا قصيرًا جدًا ثم لم تلبث غمرته أن انجلت ، والحمد لله . فهذا البلد هو أجدر البلاد العربية بأن يكون فى مقدمة الحماة للتراث العربي . وفى مقدمة البلاد التى تحيي العقلية العربية
الجديدة وتشارك في إنشاء الشخصية العربية الجديدة .(115/17)
ويكفى أن أقول هذا وأن أعتمد فيه على جلالة الملك المعظم وعلى سمو ولى العهد وعلى الأستاذ السيد محمد الفاسي وأمثاله من أعلامكم ويكفى أن أنشد فى هذا المقام :
إِذَا أَيْقَظَتْكَ خُطُوبُ الزَّمَانِ
فَنَبِّهْ لَها عُمَرًا ثُمَّ نَمْ!(10)
وقد نبهت عُمَر ولكنى أعدكم أنني إن شاء الله لن أنام .(115/18)
استهل عميد الأدب العربى محاضرته بتقديم تحايا وعبارات الأخوة من الجمهورية العربية المتحدة حكومة وشعبًا إلى الشعب المغربي عامة ، " وقد رد الحاضرون على تلك التحية بتصفيقات حادة استمرت طويلا " ثم بدأ الدكتور حديثه عن المشاكل التى تتصل بالأدب عمومًا كأزمة قلة القراء نظرًا لتعلق الناس فى هذا العصر واهتمامهم المفرط بأمور الحياة ومشاكلها وانشغالهم بها وانغماسهم فيها ، دون أن يسمحوا لأنفسهم بالقراءة أو لغيرهم بأن ينصحهم بها ، خاصة إزاء الاختراعات التى غزت المجتمعات البشرية والتي تجمع بين التعليم والتسلية بما فى ذلك السينما التى تجذب الناس إليها ، وتقدم لهم فى يسر يسير ما يحبون أن يعرفوا من تاريخ الناس وأحداثهم وأحاديثهم ، ثم النادى أو القهوة التى(116/1)
تحشر الناس إليها وتغريهم بما تقدم لهم من شراب مستساغ ، وما يقدمه البعض منهم للبعض الآخر من أحاديث سهلة ممتعة حول الناس والسياسة والمجتمع … ثم المذياع الذي ينطلق تارة في يسر وأخرى في عنف يصب في رأس المستمع من الموسيقا والغناء والأحاديث ما يشاء بمجرد ما يضغط على هذا الزر. ويطالع الناس في الصحف في الصبح والمساء فتشغلهم بقراءة أنبائها وتعليقاتها عن أن يجدوا وقتًا ينصرفون فيه إلى القراءة الجدّية والمجدية ، ثم إن التعليم الإجباري الذي فرضته ديمقراطية العصر خلق كثرة من القراء من مختلفي الثقافات لا تستطيع الكثرة منهم أن تفرغ لقراءة الأدب الرفيع وإعمال الفكر فيه والأديب في ذلك بين اثنين - يقول الدكتور العميد - إما أن يكتب للكثرة وإما أن يكتب للقلة فإن كتب للأولى نزل بأدبه حيث لا ينبغي ، وبذلك لن يرضى نفسه وأدبه وضميره ، وإما أن يكتب للقلة ويفرغ لأدبه وهو إن فعل ذلك أوشك أن يقتل نفسه جوعًا ؛ لأنه غير واجد من يستطيع أن يعتمد عليهم، وهنا يجد نفسه مضطرًا لمزاولة عمل حر أو وظيفة حكومية فليحمل بذلك نفسه الوقوع في صحراء قاحلة حيث يصرف عن القراءة الرفيعة المتواصلة،ويحال بينه وبين الإشباع الثقافي فيصاب ما يكتبه بالفراغ والضحالة. وهنا وقف الدكتور طه حسين مقارنًا بين الأديب المعاصر والقديم مبديًا ما كان يتمتع به الأدباء القدامى من تشجيع وعطف وتقدير ، والوقت الذي كان يهيأ لهم ليفرغوا لأدبهم وليضاعفوا من إنتاجهم، مكتفين بقصائد ومدائح يقدمونها في بعض المناسبات لحماة أدبهم من الخلفاء والأمراء والوزراء كضريبة أو إتاوة بسيطة للمحافظة على تلك الذخائر الأدبية والعلمية التي تحفل بها المكاتب العربية في مختلف الأقطار . ومبالغة في الحفاظ على تلك الذخائر كانت تكتب باسم هذا الخليفة أو ذاك ، أو بطلب منه، أو إهداء له ، أو لأحد وزرائه . ويزيد الدكتور: ومهما بلغت سخريتنا، نحن المعاصرين ، بأولئك الأدباء أو(116/2)
الشعراء عندما يمدحون من يحبون فلن تبلغ سخريتهم بهم أي بمن يمدحونهم حينما يتخذونهم حماةً لهم ولأدبهم ودورًا للنشر لإنتاجهم في طول البلاد وعرضها .
كانت آثار وكتب الجاحظ وكان أدب المتنبي وشعره " الذي لم يخلص في مدحه إلا لسيف الدولة نظرًا لمواقفه المشرفة" ، وما كانت آثار هذين وغيرهما لتصل إلينا بهذه الروعة والفائدة لولا الحماية التي كانا يتمتعان بها ! إلا أن أدباء العصر أصبحوا يربؤون بأنفسهم وبأدبهم من أن يكون تزلفًا وإن كان هذا التزلف تطوَّر أيضا ليصبح توظفا ! ثم الطباعة ودور النشر التي حملت عنهم بعض العبء وقانون حرية الفكر والنشر الذي حمل عنهم البقية الأخرى على أن التوظف الذي يضطر إليه الأديب قد يدفعه إلى قبر مواهبه والقضاء على نزوعه العلمي والتوجيهي … هذه بعض المشاكل التي عالجها الدكتور العميد في القسم الأول من محاضرته والتي تتصل بمشاكل الأدب عمومًا ، ثم ذكر بعض ما تقوم به الجمعيات والمنظمات في العصر الحاضر لمحاولة معالجة هذه المشاكل خاصة في أوروبا مثل نادى القلم، ومنظمة اليونسكو ، واللجنة الثقافية للجامعة العربية . ومن هنا تطرق للحديث عن مشاكل تعليم الأدب العربي وهى أدق وأخطر - كما قال سيادته - وهو حريص أشد الحرص على معالجة هذه المشاكل الخطيرة.(116/3)
وتعليم الأدب العربى إحدى مشاكله الكبرى ما دام مرتكزا على اللغة العربية وغير متيسر إلا بها ، والشباب العربى الذى أخذ يكتسب عقلية القرن العشرين يجد من الصعوبة بمكان مسايرة الطريقة المتبعة فى تعليم اللغة العربية وآدابها ، فإذا لم تصلح هذه اللغة، وييسر هذا النحو - يقول الدكتور العميد - فإننا نجد أنفسنا مسؤولين عن إعراض الشبان عن الأدب العربى ، بل ونعتبر محرضين لهم على ذلك ما دمنا نقف هذا الموقف السلبي . وتأتى بعد هذه المشكلة مشكلة الكتابة العربية التى تجعل الفهم قبل القراءة بدلا من أن تسبق القراءة الفهم نظرًا لعوامل الشكل والإعراب. وهنا أتى الدكتور بأمثلة عديدة مبينا الصعوبة الشاقة التى يجدها المتعلم المبتدئ مما يبغض إليه اللغة والبلاغة وأستاذ العربية وآدابها، والنتائج البسيطة السطحية التى يحصل عليها الطالب بعد تخرجه النهائي وعدم تمكنه من لغته قراءة وكتابة صحيحة فضلا عن أن يتكلم بها . هذا مع ما يجده فى اللغات الأوروبية من سهولة تغريه بأن يتزيد منها كلما تقدم فيها قراءة وكتابة وحديثًا .
ولم يفت عميد الأدب فى آخر الأمر تحذيرنا من مدرسة اللغة العامية أو لغة الشارع كما يسميها الدكتور التى نشأت فى بعض البلاد العربية وأخذت تجد لها أنصارًا كثيرين وفى مصر خاصة والتي تدعو إلى اتخاذ اللغة العامية لغة الكتابة والأدب مبينا الأخطار التى تكمن وراء هذه المدرسة فيما إذا قدر لها الانتشار والانتصار فيكون بذلك القضاء على العربية كلغة تجمعنا تاريخًا ودينًا وقومية، ويكون مصيرها مصير اللاتينية لا يرجع إليها إلا لدراسة أصل اللهجات العامية كما يرجع إلى اللاتينية لدراسة أصول اللغات الأوروبية ، هذا مع ما فى ذلك من قطع الصلة بين البلاد العربية وانكماش كل واحدة منها مع لهجتها الخاصة بها والتي لا يستطاع فرضها أو التفاهم بها مع غيرها مطلقًا !(116/4)
ويقول عميد الأدب : وهذا خطر - يمحق وجودنا كأمة ذات تاريخ وأدب ولغة مشتركة . وما علينا إلا أن نختار بين ذلك وبين طرق تدريس الأدب وتيسير
الكتابة والنحو ، أما مصر فقد اختارت أو هي في طريق الاختيار عندما قرر مجمع اللغة العربية بالقاهرة تيسير النحو وإعادة النظر في الطرق المتبعة في تدريس اللغة والأدب . ثم ناشد ، في الختام ، الأديب الكبير أدباء المغرب وعلماءه ومفكريه بأن يساهموا بدورهم في تحرير الأدب العربي والكتابة العربية من تلك القيود الثقيلة مذكرًا إياهم بأن أول من ركن إلى ما في النحو العربي من سحر وطلاسم غير مفهومة ودعا إلى إصلاحه القاضي المغربي ابن مضاء في نهاية القرن الثاني عشر* "
حَقٌّ عَلَى الشِّعْرِ أَنْ يُهْدِى عَرَائِسَهُ
تَحيَّةً لِعَمِيدِ الشِّعْرِ وَالأَدَبِ حَقٌّ عَلَى الشِّعْرِ أَنْ يُهْدِى قَلاَئِدَهُ
لِصَانِع الدُّرِّ وَالإِبْدَاعِ وَالْعَجَبِ فَبَيْنَ وَافِدِنَا وَالشِّعْرِ مِنْ زَمَنٍ
وَشَائجٌ جَمَّةٌ مَوْصُولَةُ النَّسَبِ هَفَا إِلَيْكَ كَمَا يَهْفُو الْفَرَاشُ إِلَى
خَمِيلَةِ الزَّهْرِ يَرْوِى الشَّوْقَ عَنْ كَثَبِ هَفَا إِلَى حِضْنِكَ الدَّافِى لِيُنْعِشَهُ
مِثْلَ الْيَتِيمِ الَّذِى يَهْفُو لِحضْنِ أَبِ وَمَا لِغَيْرِكَ يَهْفُو بَعْدَمَا رَفَعَتْ
لَهُ يَدَاكَ مَقَامًا فِى ذُرَى الشُّهُبِ يَشْدُو بِآيَاتِكَ الْكُبْرى الَّتِى فَخَرَتْ
بِهَا النَّوَادِى وَأَغْلَتْ ثَرْوَةَ الْعَرَبِ مَرْحَى بِأَكْرَمِ ضَيْفٍ زَارَ إخْوَتَهُ
فَوَثَّقَ الرَّحِمَ الْقُدْسِيَّةَ السَّبَبِ هَبَطْتَ بِالْيُمْنِ أَرْضًا طَالَما نَزَعَتْ
إِلَيْكَ وَاسْتَأْنَسَتْ فِى الْوَصْلِ بِالْكُتُبِ سَعَى إِلَيْكَ بَنُوهَا فى مَوَاكِبِهِمْ
يُكَرِّمُونَ أَدِيبَ الشَّرْقِ بِالأَدَبِ
خَفُّوا إِلَى الْعِلْمِ يَطْوِى الْبَحْرَ مُتَّجِهًا(116/5)
إِلَى بَنِيهِ بِهَذَا المغْرِبِ الْعَرَبِى يَسَْتْرِوحُونَ بِلُقْيَا طَالَ مَوْعِدُهَا
وَيَسْمَعُونَ عِيَانًا صَوْتَكَ الذَّهَبِى لَمْ يَنْسَ أَبْنَاءُ هَذَا الشَّعْبِ صَرْخَتَكُمْ
يَوْمَ الجِلاَدِ وَهُمْ فِى زَحْمَةِ الكُرَب ! أَرْسَلْتَهَا مِنْ ضِفَافِ النِّيلِ عَالِيَةً
دَوَّى صَدَاهَا عَلَى الآَكَامِ والهِضَبِ وَخُضْتَها بِسِلاَحِ الْفِكْرِ فَانْتَفَضَتْ
ضَمَائرٌ رَزَحَتْ فِى ظُلْمَةِ الْحُجُبِ كَانَتْ عَلَى الْفِكْرِ أَنْكَى مِنْ مَدَافِعِهِمْ
وَقْعًا وَأَفْتَكَ فِى الْهيْجَا مِنَ الْقُضُبِ إِنَّا - بَنِى الْعُرْبِ - فِى الآلام يَجْمَعُنَا
مَاضٍ مَجيدٌ وَقُرْآنٌ وَدِينُ نَبِى مَا فِى بَنِى الشَّرْقِ شَعْبٌ لَمْ تَنَلْهُ يَدٌ
سَفَّاكَةٌ مِنْ غُزَاةِ الْغَرْبِ فِى الحِقَبِ أَبْنَاءُ رَابِطَةٍ لاَ شَىءَ يَفْصِلُنَا
فَمَنْ بِفَاسٍ كَمَنْ فِى مِصْرَ أَوْ حَلَبِ نَوَائِبٌ جَعَلَتْ أَهْدَافَنَا هَدَفًا
وَعَلَّمَتْنَا انْتِزَاعَ النَّصْرِ بِالْغَلَبِ
لَمْ نَنْسَ نَخْوَةَ مِصْرٍ يَوْمَ بَيَّتَها
أَعْدَاؤُهَا فَانْثَنَوْا بِالْعَارِ وَالْهَرَبِ أَرْضُ الْعُروبَةِ كَانَتْ كُلُّهَا هَدَفًا
لِلْمُعْتَدِى وَقَنَاةِ الْموْتِ وَالَّلهَبِ بِرَغْمِ مَا بَيَّتُوا لِلشَّرْقِ مِنْ فِتَنٍ
وَمَا أَذَاقُوا بَنِيهِ الصِّيدَ مِنْ لَغَبِ ثُرْنَا -كَمَا يَعْهَدُونَ الْعُرْبَ - أُسْدَ شَرَى
تَنْقَضُّ بِالْموْتِ فِى بَأْسٍ وَفِى غَضَبِ حَتىَّ هَوَتْ دَوْلَةُ الطُّغْيَانِ وَانْهَزَمَتْ
فُلُولُها وَأُسُودُ اللهِ فِى الطَّلَبِ يَا رَائِدَ الأدَبِ الْغَالِى وَبَاعِثَهُ
وَقَائِدَ الْجِيلِ لِلْعَالِى مِنَ الرُّتَبِ وَالْعَبْقَرِىّ الَّذِى يَجْلُو رَوَائِعَهُ
فَيَسْبَحُ الْفِكْرُ فِى تَيَّارِهَا الَّلجَبِ أَسْدَيْتَ لِلْضَّادِ مَا حَلَّى مَفَارِقَهَا(116/6)
وَزَانَ مَبْسِمَهَا بِالدُّرِّ وَالشَّنَبِ(1) أَدْنَيْتَ مِنْهَا قُطُوفًا طَالمَا قَصُرَتْ
عَنْهَا الأَيَادِى وَلَوْلاَ أَنْتَ لَمْ تَطِبِ وَجُلْتَ فِى رَحَبَاتِ العِلْمِ مُنْطَلِقًا
بِالعَقْلِ لاَ تَشْتَكِى فِيهَا مِنَ اللَّغَبِ بِهِمَّةٍ غَارَ مِنْهَا الشِّيْبُ وانْقَطَعَتْ
لَها عَزَائِمُ مِنْ يَصْبُو وَلَمْ يَشِبِ
وَفَيْتَ للضَّادِ يَا أَوْفَى البَنِينَ لَهَا
وَطِبْتَ نَفْسًا بِمَا أَسْدَيْتَ مِنْ قُرَبِ بَعَثْتَ فِيهَا كَعِيسَى عِنْدَ رَقْدَتِها
بِمُبْدَعَاتِ الحِجَى وَالمَنْطِقِ الذَّرِبِ فَأَيْنَعَتْ وَزَكَتْ جَنَّاتُهَا وَبَدَتْ
حَسْنَاءَ تَرْفُلُ فِى أَثْوَابِهَا القُشُبِ وَشَعَّ فِكْرُكَ فِى الآفَاقِ يَغْمُرُهَا
نُورًا وَيَنْسَابُ مِثْلَ الجَدْوَلِ السَّرِبِ لَوْ قِيلَ لِلْعِلْمِ مَنْ يَغْشَى مَجَاهِلَهُ
وَلِلْمَحَافِلِ مِنْ صَنَّاجَةُ العَرَبِ ؟ لَقِيلَ طَهَ أَبُوهَا وَابْنُ بَجْدَتِهَا
وَفَارِسُ الأَدَبِ النَّزَّاعُ لِلْقَصَبِ أَثْنَتْ عَلَيْكَ الْقَوَافِى وَهْىَ صَادِقَةٌ
وَالشِّعْرُ فِيكَ يُجَافِى وَصْمَةَ الكَذِبِ يَا طَالِعَ السَّعْدِ فِى عِيدِ الفِدَاءِ لَقَدْ
نَزَلْتَ أَهْلاً وَسَهْلاً مَمْرَعَ الجَنَبِ وَزُرْتَ شَعْبًا عَرِيقًا فِى حَضَارَتِهِ
يزهو – كمصر – بما قد شاد من قبب وَمَا ابْتَنَى مِنْ مَبَانِى العِلْمِ شَامِخَةً
وَمَا أَقَامَ لِنُورِ الفِكْرِ مِنْ نُصُبِ يَزْهُو بِأَمْجَادِهِ الْكُبْرَى الَّتِى شَرُفَتْ
بِهَا البُطُولَةُ مِنْ أَبْنَائِهِ النُّجُبِ
فَقُلْ لِمِصْرَ وَقُلْ لِلْعُرْبِ إِنَّ لَهُمْ
في المغرب الحر مجدا ناطح السحب وَاحْمِلْ تَحِيَّتَنَا يَا خَيْرَ مَنْ بُعِثَتْ
بِه التَّحَايَا وَأَوْفَى مُكْرَمٍ وَأَبِ إِلَى العُرُوبَةِ مِنْ شَعْبٍ وَمِنْ مَلِكٍ
وَاسْلَمْ لَنَا وَلِخَيْرِ الضَّادِ وَالأَدَبِ
__________
(1) الشَّنَب : جمال الثغر ، وجمال الأسنان(116/7)
عن ديوان الشاعر الحلوى بخطه
وقد نشرتها مجلة دعوة الحق فى عددها الأول من السنة الثانية ربيع الأول 1378 = شتنبر 1958
ألقى مندوب الإذاعة الوطنية الأسئلة الآتية على الدكتور طه حسين فتفضل معاليه بالإجابة عنها :
سؤال ... : أثرتم فى محاضرتكم الأولى مكانة الأدب العربى بين الآداب العالمية . فهل لكم أن تحددوا وضع أدبنا بين هذه الآداب فى العصر الحديث وهو فى وسعه اليوم أن يسهم بنصيبه فى نماء التراث العالمي ؟
الجواب ... : أما فى العصر الحديث فقد أشرت فى آخر المحاضرة إلى أن من الواجب علينا أن نمكن أدبنا من أن يكون قادرًا على أن يسهم فى ترقية الحضارة كما تسهم الآداب الكبرى فى ترقيها.
... أما فى العصر القديم فقد قلت غير مرة فى محاضراتي وكتبي إن أدبنا العربى القديم يحتل منزلة
ممتازة،فهناك أدبان قديمان بقيا على وجه الدهر،أحدهما الأدب اليونانى والآخر الأدب اللاتينى .
... وقد قلت إن أدبنا العربى يأتى بعد الأدب اليونانى مباشرة ، لأنه أدب أصيل من جهة ولأنه كان أدب أمةٍ تحتل العالم القديم كله أو أكثره على أقل تقدير . وأنه قد أتيح له من البقاء مثلما أتيح للآداب القديمة الأخرى ، وأنه بعد هذا كله أو قبل هذا كله ، إن شئتم ، قد استطاع بلغته وبخصائصه أن يقهر آدابًا محلية كثيرة فى الشرق والغرب أيضا . فهو فى الغرب قد قهر الآداب اللاتينية فى إسبانيا وهو فى الشرق قد قهر آدابا ولغات مختلفة .(116/8)
... فأدبنا العربى كما قلت فى غير كتاب وفى غير محاضرة يأتى بعد الأدب اليوناني القديم ولا تستطيع الإنسانية أن تستغنى عنه ولأجل أن أبين لكم بأن الإنسانية لا تستطيع أن تستغنى عنه ألفت نظركم إلى أن هذا الأدب العربى القديم وما نشأ عنه من أدب عربي حديث ، إنما هو أدب أمة عربية مهما تختلف أوطانها ومهما تختلف مذاهبها فى السياسة، فهى أمة توحدها لغتها وتوحدها خصائصها المختلفة ، وهى لا تقل عن ما يقرب من مائة مليون من الناس، وإذا كانت الإنسانية تستطيع أن تستغني عن هذه الملايين التى تقرب من المائة فهي لا تستطيع أن تستغني عن أدب هذه الملايين .
... إنما أدبنا الحديث يحتاج إلى جهد عنيف هو الذى دعوتكم وما زلت أدعو الأمة العربية كلها إلى بذله ليكون قادرًا على أن يقف موقفًا يشبه الأدب القديم ويمكن أن يوازن بالآداب الكبرى فى هذا العصر الحديث.
سؤال ... : نلاحظ تقهقرًا فى الشعر العربى بالنسبة لما كان عليه منذ عشرين سنة . فما رأيكم ؟ وما هي الأسباب ؟
الجواب ... : أظن أن أسباب تقهقر الشعر العربى ترجع إلى أشياء مختلفة ، بعضها عامة ، فالشعر يتقهقر فى كثير جدًا من الأمم ، لا فى الأمة العربية وحدها ، وذلك أن هذا العصر الذى نعيش فيه ليس عصر شعر ، وإنما هو عصر العلم وعصر العقل وكما تعرف ، العقل ينتج نثرًا ولا ينتج شعرًا !
... فكما أن الشعر فى البلاد الغربية قد ضعف أمره ، فهو عندنا قد ضعف أمره،وهناك سبب آخر، وهو أن قوة الشعر التى أتيحت لنا فى العصر الحديث إنما كانت قوة الشعر التقليدي ، الشعر الذى كان يقال على مذهب الشعراء القدماء وقد عَرفَتْ مصر بنوع خاص شعراء امتازوا وبعد صيتهم وعرفوا خارج حدود مصر ، عرفت مصر حافظا وعرفت شوقي وعرفت البارودي ، ولكن هؤلاء جميعًا كانوا مقلدين ، كانوا ينظرون دائمًا إلى الشعراء القدماء .(116/9)
... من أراد منهم أن يكون مجددًا نظر إلى شعراء العباسيين ، ومن أراد منهم أن يكون محافظًا نظر إلى الشعراء الإسلاميين والجاهليين ، ولم يكن لهؤلاء الشعراء حظ ممتاز من الثقافة الحديثة ، لم يقرؤوا شعراء الغرب وقد قرؤوا من الآداب الغربية أطرافا تطول أحيانا وتقصر غالبًا ولكنهم لم يتأثروا بالثقافات الغربية تأثرًا كافيًا . فكان شعرهم تقليديًا، وقل مثل هذا فى الشعر الذى كان يقال فى العراق ويقال فى سورية.كل هذا الشعر كان شعرًا يقلد به القدماء ، وقد انتهت مدرسة القدماء وبقيت طائفة من الشعراء مازالت تقول هذا الشعر التقليدي ولكن الأمة العربية محتاجة إلى أن يجدد الشعر ، ولأجل أن يجدد الشعر يجب أن تجدد الثقافة ولأجل أن تجدد الثقافة يجب أن يشيع العلم باللغات والآداب الأجنبية ، ويجب أن يكون بيننا من يتعمقون هذه اللغات وهذه الآداب الأجنبية .
... وكل هذا لم يتح لشبابنا إلى الآن ، وعليكم أنتم ، معشر الشباب، أن تتقنوا اللغات الأجنبية دون أن ينسيكم هذا لغتكم العربية ، عليكم أن تتقنوا لغتكم أولا وتراثكم أيضا، ثم عليكم بعد ذلك أن تضيفوا إلى ما ورثتم عن آبائكم علمًا جديدًا باللغات الأجنبية والآداب الأجنبية وأن تتعمقوا هذه اللغات والآداب تعمقًا يتيح لكم أن - لا أقول تقلدوها - تأتوا بخير مما فيها إن استطعتم . فهذا هو الذى ينقصكم ليكون عندكم نثر ممتاز وشعر ممتاز أيضا . فلا تسألونى أنا عن هذا واسألوا أنفسكم : أقادرون أنتم على أن تتقنوا لغتكم وآدابكم ، ثم على أن تتقنوا بعد ذلك لغات وآدابًا أجنبية ، فإذا كان الجواب نعم فثقوا أنكم ستنتجون شعرًا ونثرًا جديدين ممتازين ، وإن كان الجواب لا فستظلون مقلدين كما كان الذين سبقوكم منذ عشرين أو ثلاثين عامًا !
سؤال ... : لم يضف إلى لائحة أعلام الآداب فى الشرق العربى اسم جديد منذ جيل تقريبًا . فهل يمكن أن نطمئن إلى من يخلف هذه الطبقة ؟(116/10)
الجواب ... : تستطيع إن شاء الله أن تطمئن بالشرط الذى قلته آنفًا ، هو أن نحرص على أن نتقن تراثنا العربى ، ونضيف إلى إتقانه العلم والأدب والحديث واللغات الحديثة.
... أما من غير ذلك فلا تنتظر خيرًا!
سؤال ... :ما رأيكم في الأدب الملتزم ؟ ألا ترون في الالتزام تقييدًا لحرية الأديب؟وهل يجب أن يكون الأديب العربي ملتزمًا في العصر الحاضر؟
الجواب ... : كل أديب ملتزم ، ومسألة الالتزام هذه مسألة من جهة فى غاية اليسر ومن جهة فى غاية التعقيد ، هي يسيرة كل اليسر إذا أخذناها أخذا طبيعيًا .
... فكل أديب يلتزم حياة البيئة التى يعيش فيها ، وهو لا يستطيع أن يخرج من بيئته، وأذكر - إن شئت - قول أبى العلاء :
... وَهَلْ يَأْبَقُ الإِنْسَانُ مِنْ مُلْكِ رَبِّهِ فيخرج من أرض له وسماء؟!
... فأنت عربي لا تستطيع أن تخرج من عروبتك مهما تفعل، وأنت مغربي لا تستطيع أن تخرج من مغربيتك مهما تفعل.وأنت تعيش في هذه البيئة ولا تستطيع أن تخرج منها مهما تفعل ، فإذا أنتجت شعرًا أو نثرًا فسيكون عربيًا وسيكون مغربيًا وسيتأثر ببيئتك وبتراثك القديم وبالعصر الذى أنت فيه .
... وأنت من هذه الناحية ملتزم ، وكل أديب بهذا المعنى فهو ملتزم أيضا، إنما إذا نظرت إلى الالتزام على أنه التزام سياسي ، فهذه هي الطامة الكبرى ! ذلك أن الالتزام السياسي معناه قتل حرية الفن ! والفن يجب أن يكون حرًا ، وأنا خاصة لا أتصور الفن إلا حرًا ولا أحب أن تصدر إلى أوامر السياسة بأن أقول فى هذا الموضوع وألا أقول فى ذاك!!
... وفى العالم الآن هذان المذهبان : مذهب الالتزام اليسير الطبيعي الذي لم يبرأ منه أديب ولا كاتب ولا شاعر ، ومذهب هذا الالتزام السياسي الذي جاءنا من الغرب الأوروبي ثم وصلت أطراف منه إلى البلاد العربية ، هذا الالتزام السياسي إنما جاء من البلاد الشيوعية .(116/11)
... فالبلاد الشيوعية هي التي تسيطر على العقل ولا تريد أن يكتب الكتاب ولا أن ينشئ الشعراء شعرهم ولا أن يصور المصورون ولا أن ينحت المثالون إلا فى نطاق الحدود التى يرسمها الحزب الشيوعي والمذهب ، فهذا الالتزام بهذا المعنى شىء ممقوت بالطبع وهو يعادى حرية الفن ويقتل الفن ولا ينتج إلا كلامًا رسميًا ترضى عنه الدولة !
... وإذن فهناك هذان النوعان من الالتزام ، التزام طبيعي لا يبرأ منه كاتب ولا شاعر ، والتزام تفرضه السياسة يجب أن يبرأ منه كل صاحب فن حر !
لم تكد السفينة تبلغ مرساها فى جبل طارق حتى رأينا أنفسنا محاطين بجماعة كريمة من المغربيين والمصريين قد تفضلوا فأقبلوا للقائنا وأبى عليهم كرمهم أن ينتظرونا فى المغرب فعبروا المضيق أو الزقاق كما كان القدماء يقولون للقائنا فى الأرض الإسبانية التى يحتلها الإنجليز .
وكنا قد قضينا فى تلك السفينة ثلاثة أيام كاملة لا نسمع العربية إلا من أنفسنا حين يتحدث بعضنا إلى بعض وإذا نحن الآن لا نسمع إلا العربية التى أخذتنا من جميع أقطارنا، فريق يتحدثها فى أناةٍ وهدوء وهم المصريون وآخرون يتحدثونها فى لهجة سريعة قوية كأن ألفاظها تنحدر وتصطك فى تحدرها من القمة إلى السهل وهم المغربيون(*) .
ونحن بين أولئك وهؤلاء حائرون لا ندرى كيف نجيب ولا على من نجيب ثم
يتقدم مستشارنا الثقافي فيعرفنا إلى المستقبلين ويعرفهم إلينا ، منهم من يمثل وزارة الخارجية المغربية ، ومنهم من يمثل وزارة التربية والتعليم المغربية أيضًا ومنهم من يمثل حاكم طنجة. ومنهم من أقبل ليحيى عهدًا بأستاذه القديم الذى عرفه فى جامعة القاهرة حين كان يختلف إلى دروسه فى كلية الآداب، وآخرون أرسلتهم سفارتنا للقائنا قبل أن نبلغ المغرب .(116/12)
ولست أدرى كيف اختطفنا هؤلاء السادة واختطفوا معنا أمتعتنا ونقلونا من سفينتنا تلك الضخمة الفخمة إلى سفينة صغيرة عبرت بنا المضيق إلى العدوة المغربية ، بل لست أدرى كيف عبرنا هذا المضيق ، فقد رأيتني غارقًا في الحديث مع هؤلاء السادة كأني لم ألقهم منذ وقت قصير، وما هى إلا أن نبلغ العدوة المغربية فنخطف من سفينتنا الصغيرة إلى السيارات التى تمضى بنا مسرعة لا تلوى على شىء حتى تبلغ بنا بيت الحاكم ، وهناك أعلم أننا ضيف على الحاكم سنقضي عنده ما بقى من النهار وسنقضي عنده الليل أيضًا وسنغدو مع الطير لنبلغ الرباط قبل الظهر فى الغد ، لأن جلالة الملك قد تفضل فقرر أن يستقبلنا ظهر اليوم الذى نبلغ فيه الرباط كأنه يلقانا فى عاصمة ملكه تكريمًا لبلادنا ولنا . وقد جرت الأمور حسب البرنامج الموضوع ، وشرفنا بلقاء الملك وسمعنا من جلالته خير ما يحب المصري أن يسمع عن وطنه وعن حكومته . وخير ما يحب كاتبٌ متواضع مثلى أن يسمع من تحية وثناء يصدران من رجلٍ عظيم بأدق معاني هذه الكلمة وأوسعها .
لم يكتسب عظمته من الملك وإنما اكتسب عظمته من نفسه ، من إبائه للضيم وصبره على المكروه واستبساله فى مقاومة العدو واحتماله إذايته لا لشيء إلا أن يكون ملكًا كريمًا لوطن كريم ، بذل هذا الجهد كله واحتمل هذا المكروه كله وهو مؤمن بأنه لم يصنع شيئًا ذا خطر وإنما أدى أيسر ما يجب على المواطن المخلص للوطن الحبيب ، ولا أكاد أذكر لجلالته بعض ذلك حتى يُحوّل الحديث فى يسر وسماح كأنه لا يحب أن يثنى عليه أحد لأنه أدى إلى وطنه بعض ما يجب عليه !!(116/13)
ونخرج من حضرة الملك مكرمين شاكرين فلا نكاد نبلغ الفندق ونقضي فيه ساعات قليلة حتى نغرق فى حفاوة المغرب بنا وإكرام المغرب لنا ، ونظل غرقى فى هذا الكرم وتلك الحفاوة أسبوعين كاملين ولا نعود إلى أنفسنا أو لا تعود أنفسنا إلينا إلا بعد أن يردنا الذين أخذونا من سفينتنا إلى هذه السفينة نفسها بعد أن بلغت تلك الأرض الإسبانية التى يحتلها الإنجليز وهى جبل طارق.
الحديث عن المغرب الأقصى شاق عسير لأنه متشعب لا يدرى الكاتب من أين يبدؤه ولا إلى أين ينتهي به . ففنونه كثيرة وألوانه مختلفة لأن المغرب الأقصى نفسه على وحدته وائتلافه وانسجامه واتساق أموره كلها ، مختلف أشد الاختلاف. إن أردت أن تتحدث عن طبيعته وجدت فيه البحر والمحيط والسهل والجبل والغابات والبحيرات وما إلى ذلك من هذه الطبيعة الواحدة المتعددة وإن أردت أن تتحدث عن حضارته وجدت فيه ألوانا مختلفة من الحضارة : لونًا مغربيًا خاصًا توارثه أهل المغرب منذ كانوا قبل أن يصل الرومان إلى بلادهم فضلا عن العرب وقبل أن تكثر الصلات بينهم وبين الأمم المختلفة، ولونًا عربيًا خالصًا صفوًا فما أعرف بلدًا حافظ على التراث العربى رغم ما اختلف عليه من الأحداث وما تتابع عليه من الخطوب كالمغرب الأقصى، ولونًا أوروبيًا بعضه يصور الحضارة الفرنسية كما هي الآن وبعضه يصور الحضارة الإسبانية كما هي الآن أيضا ، وبعضه يصور ما تنتجه الحضارة الأمريكية المعاصرة .(116/14)
وإن أردت أن تتحدث عن أهله وجدتهم ، على اتحادهم وائتلافهم متميزى الاختلاف : منهم المحافظ الممعن فى المحافظة ، ومنهم المجدد المغالى فى التجديد ، ومنهم الذين يلائمون أروع ملاءمة بين الجديد والقديم، وينشئون بهذه الملائمة فى أنفسهم وفى بيئتهم نوعًا من الموسيقا المستعذبة فى النفوس المحببة إلى القلوب، وإذا أردت أن تتحدث عن السياسة وجدت المشكلات المعقدة أشد التعقيد التى يتصل بعضها بسياسة المغرب مع فرنسا . ويتصل بعضها بسياسة المغرب مع إسبانيا ، ويتصل بعضها بسياسة المغرب مع أمريكا ، ويتصل بعضها بسياسة المغرب مع سائر البلاد العربية الأخرى .
فالمغرب الأقصى عربي على رغم الاستعمار الفرنسي وعلى رغم المحاولات الفرنسية العتيقة لصرفه عن العروبة وتزهيده فيها ، والتقصير به عنها ، هو عربي بأقوى ما تدل عليه هذه الكلمة ، حريص أشد الحرص على التراث العربى المشرقي والمغربي والأندلسي ، دارس لهذا كله مؤمن بهذا كله أشد الإيمان وأقواه . هو بعد ذلك مؤمن بحاضر العروبة ومستقبلها ، عالم بكل ما يحدث فى الوطن العربى من ألوان التطور السياسي والاجتماعي والثقافي وهو من البلاد العربية التى تقرأ كتب المصريين أكثر مما يقرؤها المصريون أنفسهم (1) .(116/15)
ليس من اليسير إذن أن يتحدث كاتبٌ عن المغرب الأقصى بعد أن يقضى فيه أسبوعين لا أكثر لكثرة فنون الحديث عنه ولحاجة الكاتب أن يتنقل فيه فيكثر التنقل ويتحدث فيه إلى الناس على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم فيكثر التحدث، ومع أن شيئا من ذلك قد أتيح لي فإنه لا يبلغ أن يعطيني من العلم بشؤون المغرب ما يسمح لي بالتحدث عن هاته الشؤون فى ثقة وأمنٍ من الخطأ والزلل ، على أن هناك شيئًا يستطيع الكاتب أن يقوله وهو مطمئن إلى أنه لم يخطئ ولم يزِلّ ، ذلك أن الذى يزور المغرب الأقصى بعد استقلاله إنما يزور وطنًا من أوطان البطولة حقًا ، فمن أعسر الأشياء وأشقها أن نتحدث إلى رجل من رجال الحكم ، أو من رجال الثقافة
الحديثة أو من المحافظين على الثقافة القديمة أو من عامة الناس إلا عرفت أن له بالسجن عهدا ! وأنه قد ذاق من الفرنسيين ألوان المحن وفنون العذاب ، وهم يتحدثون إليك بذلك بَاسِمين مطمئنين إلى أنهم لا يحدثونك بشيء غريب ، وإنما يتحدثون بشيء ملائم أشد الملاءمة لطبيعة الأشياء. فهم كانوا طلاب استقلال ، وكانوا يعلمون حق العلم أن من طلب الاستقلال وجب عليه أن يؤدى ثمنه غاليًا ، قد يكون السجن الطويل وقد يكون العذاب ، وقد يكون النفي وقد يكون الموت أحيانًا ، كانوا يعلمون هذا كله ويطلبون الاستقلال مع ذلك ويؤدون ثمنه مهما يكن مُبهِضا ثقيلا.
وقد ظفروا باستقلالهم فلم يدركهم(2) ولم يغرهم عن أنفسهم ولم يظنوا أنهم قد أتوا بالمعجزات وإنما هم متواضعون يتحدثون إليك فى يسر بأن الاستقلال(116/16)
ليس إلا الخطوة الأولى وبأن بعد هذه الخطوة خطوات كبيرة أخرى ليست سهلة ولا ميسرة وإنما هي محتاجة إلى الجهد أشد الجهد وإلى الجهاد أشد الجهاد. فهم قد استقلوا ولكن الجيوش الأجنبية لم تجل عن بلادهم بعدُ جلاء تامًا. وهم قد استقلوا ولكنهم وجدوا أمامهم شعبًا أميًا لم يعلمه المستعمرون ، وليس له بد من أن يتعلم ، ومن أن يتعلم فى أسرع وقت ممكن ، وعلى أحسن وجه ممكن . وهم قد استقلوا ولكنهم وجدوا أن الفرنسيين قد آثروا أنفسهم بالخير كله، وليس من بد أن يرد إلى هذا الشعب المستقل حقه الكامل فى ثمرات أرضه على اختلافها وليس هذا بالشيء اليسير الذى يجب أن يطلب لينال وإنما هو محتاج إلى الجهد المتصل والوقت الطويل والمال الكثير، وهم مع ذلك يستقبلون حياتهم باسمين لها ويستقبلون مشكلاتهم مصممين على حلها . يأخذون أمرهم بالعزم والحزم والرفق فهم يؤمنون بأن الجهود يجب أن تبذل، ويؤمنون مع ذلك بأن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى. فهم يحققون آمالهم فى أناة ويسمون إلى الرقى فى رفق . ويعلمون أن لكل شىء إبانة ويبلغون مع ذلك من الإصلاح شيئًا كثيرًا ، وحسبك أن تعلم أنهم حين استقلوا لم يجدوا فى المدارس إلا مائتى ألف من التلاميذ فلم يمض عامان على الاستقلال حتى بلغ عدد التلاميذ الذين يتعلمون فى المدارس سبعمائة ألف ! ومعنى ذلك أنهم هيؤوا كل شىء فى أقل من عامين لتعليم نصف مليون من أبناء الشعب .
ومثل آخر لابد من أن أذكره وهو أن أهل المغرب الأقصى سبقونا كما سبقنا التونسيون إلى إصلاح التعليم الديني فنفذوا تلك الخطة التى دعوت إليها فى مصر منذ حين فاتهمت بالكفر والإلحاد والخيانة والمروق ، وهى أن يتعلم التلاميذ تعليمهم الابتدائي والثانوي في المدارس الثانوية ثم يذهب منهم من شاء إلى جامعة القرويين أو غيرها من معاهد التعليم الديني والتخصص في علوم الدين وفى علوم اللغة العربية أيضا .(116/17)
فعل ذلك التونسيون كما قلت ذلك فى الجمهورية بعد زيارتي لتونس في العام الماضي ، وفعله أهل المغرب الأقصى . وتحدث إلى به الزعيم علال الفاسي في يسر وسماح وشيء من الرضا والاعتزاز أيضًا (*).
هذه لمحات خاطفة أسجلها الآن في هذا الحديث القصير بعد أن عدت من رحلتي السريعة للمغرب الأقصى ولكن هناك أشياء أخرى تحتاج إلى أن أتحدث عنها في أناة وهدوء ، ولابد من أن أفرغ لها ومن أن أتحدث عنها ليعتبر بها المعتبرون
وليفكر فيها الذين يعنون بحفظ التراث العربي وإحيائه والذين يعنون بأن يتحقق للعالم العربي ما ينبغي له من الاستقلال والرقى وما ينبغي له مع ذلك من اجتماع الكلمة واتحاد الآراء وائتلاف الأهواء . وليس لي بد من أن أهدى أجمل الشكر وأصدقه إلى حكومة المغرب التي دعتني إلى زيارته وإلى وزير التربية والتعليم في الجمهورية العربية المتحدة الذي يسر لي هذه الزيارة ودفعني إليها دفعًا وأتاح لي أن أقضي أسبوعين في أرض البطولة ووطن الأبطال .
… أما في المغرب ، فكان هو المرحلة الأخيرة من الطريق الذي كان يحمل طه على امتداده غالبًا تحية مصر وكلمتها ، وأتطلع برضا إلى صورة يبدو فيها الملك محمد الخامس وهو يعانقه . كان الوجهان معا جميلين .
لقد أبحرنا إلى طنجة ، واصطحبونا إلى مقر حاكمها بأقصى سرعة محفوفين بجنود على درجاتهم البخارية التى لا تكف بفرقعتها العالية وبصفارات حادة تثقب الأسماع ، إنه أمر معتاد بالنسبة لكبار هذا العالم - ولم نكن منهم - ولهذا سررنا عندما تخلصنا من هذا الضجيج الكثير .
كانت دار الحاكم دارًا ساحرة ، وكانت أعلى من المدينة ، وكنا نلمح عبر أشجار أوكاليبتوس والصنوبر على شرفاتها البحر ومضيق جبل طارق . كان مضيفونا تجسيدًا للطف . أما فى الرباط ، فقد سمحت لنفسي- لأن طه لم يكن حرًا
كما هو واضح - بالقيام بنزهة شاعرية ومتوحدة ، أمام المحيط الذى لم أره منذ سنوات عديدة .(116/18)
وفى الدار البيضاء ، بعد أن ألقى حديثه ، احتفظوا به وقتا طويلا بحيث إنني وقد رأيته تأخر عن العودة بت هلعة من القلق …
وقد كان مفعمًا فرحًا إذ وجد نفسه فى فاس ، كان السيد علال الفاسى معنا. وتدبرنا أمرنا للحصول على السيارة الصغيرة التى كانت فى خدمة الملك قبل فترة من ذلك الوقت ، فسيارة عادية لا تستطيع السير فى هذه المدينة ، كما أنه لم يكن من الممكن أن يخاطر طه بالسير وقتًا طويلا فى طرقات ضيقة تفصل بينها سلالم غير منتظمة ، فى جو حار جدًا ، فيتعب ويرهق. إذ إننا كنا فى شهر يونيه.
وعصر ذات يوم ، صعدنا إلى مدينة صغيرة تقوم على الطريق إلى الأطلس، لم يكن لدينا وقت كاف ، للأسف ، للمضى صعدًا فى هذه الجبال . كان الجو جميلا ونديًا ، وكان المنظر يختلف تمامًا عن منظر مدينة فاس الذى يتسم بالخشونة العارية ! وكان هناك رجل لطيف ، أعتذر عن عدم تذكري اسمه ، يملك دارة استقبلنا فيها بأروع ما فى العالم من طرق فى الاستقبال ، وكنت سعيدة لتنزهي في إحدى هذه الحدائق ذات المسطحات المتدرجة التى أحبها كثيرا والتي كانت مزروعة بأشجار الصنوبر والسرو . كان ظل الأوراق الضعيف على مياه المسبح الزرقاء يرسم
صورًا غير مستقرة فى حين كانت تطفو بعض الأغصان الصغيرة .
ودُعى طه للحضور إلى تطوان ، فوجب الذهاب إليها . واجتزنا خلال وقت طويل- على الأقل بدا لي طويلا - مساحات واسعة قاحلة . كان الطلاب مرحين ودودين ، ولن أنسى أنني تلقيت منهم عند وفاة طه رسالة مؤثرة جدًا .
لم أتمكن من شراء شيء مهم من المغرب ، لكنى حملت معي على كل حال دثارًا صغيرا جميلا أبيض اللون مطرز الحواف باللون الأزرق ، خاصا بطفل رضيع هو طفله مؤنس (*).
عبد الهادي التازي
عضو المجمع من المغرب(116/19)
اللغة:أي لغة هي لسان كل الشعب المعبر عن أفكاره وآرائه ومشاعره وأحاسيسه وآماله وآلامه وتطلعه وطموحه .
كما أن اللغة وما دُوِّن من آثارها من شعر ونثر وفكر وأدب هي تاريخ الأمة وتراثها الذي تعتز به وتباهي .
ولذلك فكل أمة تفخر بلغتها ، وتعتز بها ، وتحرص على انتشارها ومنع اختلاطها بغيرها من اللغات لتظل نقية صافية .
وأمة العرب تتميز عن جميع الأمم بأن لغتها ليست لغة شعب أو وطن أو إقليم . وإنما هي لغة أمة عظيمة العدد . متعددة الأوطان ، منتشرة على مساحة كبيرة من رقعة العالم . فهي لغة الإسلام : الدين الحنيف الذي يدين به مئات الملايين من البشر في مختلف بقاع المعمورة وبه تقام شعائر الإسلام في كل بلد ، فالأذان يرتفع خمس مرات من المآذن في كل
مدينة أو قرية في كل وطن به عدد من المسلمين . والقرآن الكريم يرتل كل يوم بأفواه المقرئين وتنقله الإذاعة المرئية والمسموعة إلى المسلمين في كل بلد .
والقرآن الكريم يتلى أيضًا في كل بيت فيه مسلم . ومن لا يجيد قراءة القرآن الكريم باللغة العربية فهو يحفظ على الأقل سورة الفاتحة أم الكتاب وسورًا أخرى من قصار السور في القرآن الكريم يقيم بها صلاته ويؤدي بها ما فرض عليه من مشاعر ومناسك .
ولذلك فإن تعلمها وإجادة النطق بها وإحسان ترتيل القرآن بها أمر يحتمه الدين قبل أن يكون واجبًا وطنيًّا أو قوميًّا .
ونحن نرى الأمم من حولنا تعمل الكثير من أجل نشر ثقافتها عن طريق الإذاعات أو الأشرطة المسجلة . أو إنشاء المعاهد في الدول التي لا تتكلم لغاتها إضافة إلى إنشاء المعاهد العالية والكليات
المتخصصة لتعليم اللغة، وآدابها ، وتاريخها، ونحوها ، وصرفها ، وما تحويه من معان ومن أوجه الإبداع فيها .
والدول العربية تبذل في هذا الاتجاه جهودًا مشكورة فأنشأت المدرس والمعاهد التي تنشر اللغة العربية وتعلمها لغير الناطقين بها وتجعل الناطقين بها أكثر إجادة لقواعدها وتطبيقاتها .(117/1)
ومدارس تحفيظ القرآن الكريم منتشرة في المساجد والزوايا والأحياء ، والمسابقات تنظم للتشجيع على حفظ القرآن الكريم ، والجوائز المغرية تقدم للناجحين في ذلك على مستوى كل بلد عربي ، وعلى المستوى الدولي الإسلامي، ولا يغيب عنا مسابقات حفظ القرآن الكريم وتجويده التي تقام في ماليزيا وإندونيسيا وغيرها من الدول الإسلامية وترصد لها الجوائز المالية للفائزين . ويقوم على التحكيم فيها قراء من مختلف الدول العربية وبخاصة من الأزهر الشريف الذي يُعد حصنًا للغة العربية ، ومعقلا من معاقلها الحصينة التي لها فضل الكفاح والدفاع عن اللغة العربية في مواجهة الدعوات الاستعمارية التي كانت تحاول طمس اللغة العربية وكتابتها بالحروف اللاتينية وتشجيع الكتابة باللغات العامية لتبديد شمل الأمة العربية وتشتيت لغاتها وإضاعة تراثها العريق المجيد.
ولكن الله الذي وعد بحفظ القرآن الكريم حمى اللغة العربية وسيظل يحميها من كيد الكائدين وعنت المستعمرين الطاغين .
ولكن المشكلة الكبرى التي تواجه اللغة العربية هي عقوق أبنائها وسعيهم في سبيل حصارها وتحطيمها بالقول والفعل . ومن أفاعيلهم إهمال اللغة الفصيحة واستبدال لهجات محلية بها لا يقتصر استعمالها على الحديث الشفهي وإنما أدخلوها إلى الصحف والمجلات . وأقاموا المهرجانات الدولية للأزجال العامية . ورصد بعض الأثرياء العوام جوائز مالية ضخمة فتسابق الناس إلى ارتضاخ العامية والخوض في مستنقعاتها لم تمنعهم غيرة على عروبتهم ولا حمية لدينهم .(117/2)
ففي بلد عربي كريم تصدر الصحف اليومية وفيها صفحات تبلغ نصف عدد صفحات الجريدة كلها وهي كلها باللغة العامية من الأزجال التي أطلقوا عليها اسما جذابًا وقالوا بأنها شعر شعبي فخلعوا عليها لقب الشعر وهي تخلو من أهم صفة من صفات الشعر وهي سلامة اللغة ونسبوها إلى الشعب العربي كله والشعب ليس كله من العوام بل إن منه العلماء والأدباء والكتاب والصحفيين والطلاب والموظفين والقضاة والمحامين ورجال الأعمال وكلهم متعلمون يجيدون القراءة والكتابة باللغة العربية الفصيحة ولا تخفى عليهم معانيها .
وزعموا أن اللغة العامية أقرب إلى أفهام الناس، ونحن نرى الناس كلهم يذهبون إلى صلاة الجمعة كل أسبوع ويستمعون إلى خطبة الجمعة ولم يقل أحد منهم، إنه لم يفهم الخطبة، ونراهم يقرؤون القرآن الكريم ولم يقل أحد إنه عسير الفهم وإذا أشكل عليه فهم شيء منه أسرع إلى من يعرف القرآن واللغة فاستوضح منه .
ولم يَدْعُ أحدٌ أبدًا إلى الخطبة بالعامية لكي يفهم الناس الموعظة .
ولم يَدْعُ أحد إلى قراءة القرآن وطبعه باللغة العامية ليكون سهلاً على الجهلاء.
وزعموا أن اللغة العامية أقرب إلى الوجدان في الغناء وهم يستمعون إلى أغاني أم كلثوم باللغة العربية مثل : ولد الهدى ، ونهج البردة وقصة الأمس وذكريات ، وحديث الروح ، وإلى عرفات الله ، وإلى أغاني محمد عبد الوهاب مثل الكرنك ، والجندول ، وكليوباترا ، والنهر الخالد ، وفلسطين وغيرها فيطربون لها أيما طرب ويستمتعون بألحانها ويتذوقون كلماتها ومعانيها .
وهذه الأغاني هي التي سوف تخلد فن أم كلثوم وعبد الوهاب وليس الطقاطيق الأمية التي انتشرت ثم اندثرت ولما يمض عليها ربع قرن من الزمان .(117/3)
وزعموا أن اللغة العامية هي التي يتحدث بها الناس وأن علينا أن ننزل إلى مستوى العوام. وأنا أقول لهم : إن من العار أن يتحدث مثقف باللغة العامية في منزله أو في السوق وتتضح شناعته إذا كان المتحدث مدرسًا في فصل أو خطيبًا في محفل أو متحدثًا في مجلس رفيع يتناول موضوعات الساعة من سياسة واقتصاد ومشكلات دينية أو دنيوية .
ونحن نقول : إن من واجبنا أن نرفع الناس إلى مستوى اللغة العربية الفصحى لا أن ننزل إلى مستواهم وكذلك عندما نرى المتحذلقين يخاطبون أتباعهم من الخدم والسائقين الذين استقدمناهم من دول لا يتكلم أهلها العربية . فإننا بدلا من أن نحملهم على فهم لغتنا والحديث بها نلوي ألسنتنا فنذكر المؤنث ، ونؤنث المذكر ، ونخاطب الفرد والجمع بضمير الغائب الفرد ونظن أننا بذلك نيسر اللغة ونحن نعقدها ونجعلها صعبة عسيرة على السامع .
والأدهى أن ينشأ أطفالنا فيألفون لغة الأتباع وينشأ جيل جديد ضيع اللغة العربية ولم يتقن لغة أجنبية فكان
كالغراب الذي خطر له أن يقلد خطو الحمام فأصيب بالعرج وسمي أبا مرقال .
وبعد أيها الأخوة الكرام فأنتم تعلمون عندما نكون في المغرب العربي إذا تحدث أحدهم مع الآخر بلغته العامية لا تفقه من حديثه شيئًا أما إذا تكلم اللغة الفصحى فإننا نفهمها جميعًا .
ولذلك فاللغة العربية تربط الشعوب العربية وتوحد لغتها وتربط قلوب أفرادها بعضهم إلى بعض وقد لقيت من الدفاع عن اللغة العربية ومهاجمة العامية عنتًا ولكني أقول :
أحمي حمى الفصحى وأفخر أنها
... لغتي بها جاء الكتاب المُنْزل وبها أحاديث النبي المصطفى
... وبغيرها القرآن ليس يرتل وسلمت اللغة العربية ورفع الله شأنها
يحيى بن عبد الله المعلمي
عضو المجمع المراسل
من المملكة العربية السعودية(117/4)
تقديم :
يرجع تاريخ هذا العمل إلى عام (1990) حين كان موضوعا للبحث المقترح في المؤتمر الذي يعقد في كل عام مرة .
وفي ذلك العام وما بعده قدمت للمؤتمر ما يأتي :
في عام (1990م) قدمت: باب الهمزة وباب الباء وباب التاء وباب الثاء.
وفي عام (1991م) قدمت : باب الجيم وباب الحاء .
وفي عام (1992م)قدمت:باب الخاء وباب الدال وباب الذال وباب الراء.
وفي عام (1993م) قدمت: باب الزاي وباب السين وباب الشين وباب الصاد وباب الضاد .
وكان هذا خاتمة الجزء الأول من المعجم الوسيط .
ثم انشغلت ببحث عن تقارض الصيغ بين مضعف الثلاثي ومضعف الرباعي. وفي مؤتمر العام الماضي ( 1997م) قدمت باب الطاء وباب الظاء وباب العين .
وفي هذا العام ( 1998م) أتقدم بباب الغين وباب الفاء .
وقد عقدت العزم على المتابعة ، راجيا العون من الله العلي القدير ، حتى يتم هذا العمل ، ليكون أساسا لمعجم (العامي الفصيح من المعجم الوسيط) .
والله من وراء القصد .
باب الغين
? الغاز : حالة من حالات المادة الثلاث. وقد أصبحت كلمة الغاز عند العوام كثيرة الاستعمال ؛ لاستخدامه في المواقد والإضاءة والتدفئة وغيرها . ويعرفون غاز الخردل السام المستخدم في الحروب .
? الغازوزة : شراب حلو له ألوان مختلفة ، لكل لون طعم خاص به ، والكلمة مجمعية والجاري على ألسنة العوام (كازوزة) ولعل المجمع يقرها .
? الغب : في الزيارة : زار في الحين بعد الحين، ومن محفوظاتهم زر غبا تزدد حبا. ومن استعماله لهذا المعنى قولهم فلان لا يقنع ولكنه يغب – بضم الغين .
? الغبار : من معجمهم ، ويستعملون كثيرا من مشتقاته مثل اغبر الشيء إذا علاه الغبار، وغبر بمعنى أثار الغبار، وتغبر: تلطخ بالغبار .
?الغبش : ظلمة آخر الليل . وغبش اللون كدرته ، ويستعملونه مجازا فيقولون : فلان أغبش الحظ . ووجه فلان في هذا الأمر كان أغبش .
? الغبط : من كلامهم : فلان مغبوط أي(118/1)
حسن الحال.واغتبط فلان : فرح بالنعمة. والغبيط:ما يوضع على ظهر البعير ليركب، ووعاء ذو عدلين كالخرج يوضع فيه التراب أو السماد تحمله الدواب للفلاح.
? الغبن: في البيع والشراء وسائر المعاملات معروف عندهم ، ومن كلامهم فلان مغبون في البيع أو غيره وتغابن القوم: غبن بعضهم بعضا .
? غبي: الغبي عندهم من لا يفهم ولا يدرك الأشياء والغباوة : عدم الإدراك كالغباء.
? غت : غت فلانا في الماء : غمسه فيه. وغت الدابة بالسوط : ضربها به ومن كلامهم : فلان غت فلانا بالسكين إذا طعنه.
? الغجر : قوم جفاة منتشرون في جميع القارات ، يتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم ، ويعتمدون في معاشهم على التجارة ، والواحد منهم غجري ، والعوام يقولون : فلان غجري إذا ساءت أخلاقه .
? الغدر : غدر فلانا : نقض عهده ، وترك الوفاء به ، فهو غادر ، وغدار ، وغدور وهي غادرة وغدارة.وغادر المكان مغادرة: تركه ، ومنه رسم المغادرة . والغدارة : آلة لإطلاق القذائف بين المسدس والبندقية . والغدفة : شبه القناع تلبسه نساء الأعراب، والعامة يقولون غطفة . وغداه : أطعمه الغداء . والغد: اليوم الذي بعد يومك ، واليوم المترقب وإن كان بعيدا ، ومن محفوظ بعضهم إن غدا لناظره قريب .
? غربت : الشمس غروبا : اختفت في مغربها. وغرب فلان غربة : بعُد عن وطنه،وكذلك: تغرب. واستغرب الشيء: عده غريبا . ويقولون حبلك على غاربك – يريدون اذهب حيث شئت. والغراب معروف ، ومن معجمهم غراب البين ، ومنه إذا شاب الغراب . والغرب : جهة غروب الشمس . والغريب : غير المعروف أو المألوف ، والرجل ليس من القوم ولا من البلد . والمغرب مكان غروب الشمس، وزمان غروبها وبلاد المغرب معروفة ، وكذلك صلاة المغرب .
? غربل: غربل الحب ونحوه : نقاه بالغربال من الشوائب ، وفي المثل : "اللي يغربل الناس ينخلوه". والغربال معروف عندهم ويجمعونه على غرابيل .(118/2)
? غرد: غرد الطائر والإنسان تغريدا : رفع صوته بالغناء ليطرب به ، وقد سموا بناتهم بتغريد .
? غر : رجل غر أي جاهل بالأمور . يقال غره الشيطان ونحوه ، وغرته الدنيا ، ومن كلامهم : دنيا غرور ، وهو مغرور، ورجل أغر أي سيد شريف كريم الفعال ، وهي غراء . واغتر فلانا : طلب غفلته . والغرارة : وعاء من الخيش ونحوه ، يوضع فيه القمح ونحوه . والغر : من ينخدع إذا خدع . وبيع الغرر معروف عندهم ، وهو بيع ما يجهله المتبايعان كبيع السمك في الماء. والغرة من كل شيء أوله ، وغرة الشهر ليلة استهلال القمر .
? غرز : غرز الشيء في الشيء : أثبته
فيه. يقال : غرز الإبرة في الثوب ، وغرز العود ونحوه في الأرض . والغريزة: الطبيعة والقريحة والسجية .
? غرس: غرس الشجر ونحوه غرسا: أثبته في الأرض فهو مغروس وغريس وغرس .
? غرض : الغرض معروف عندهم بمعنى الهدف الذي يرمي إليه ، وبمعنى الحاجة والقصد، ومن كلامهم عرفت غرض فلان أي قصده ، وفلان مغرض أي صاحب غرض في شأن ما .
? غرغر: الغرغرة : ترديد الماء أو الدواء في الحلق دون بلعه. وغرغرت الروح: ترددت في الحلق عند الموت والاحتضار. ومن كلامهم : تغرغر فلان بالدواء للغرغرة ، ومنه تغرغرت عيناه إذا تردد فيها الدمع .
? غرف : غرف الطعام : أخذه بيده أو بالمغرفة ، واغترف الماء بيده ، وانغرف الطعام . والغرفة ما غرف من الماء وغيره باليد ، والغرفة : الحجرة (مولد) وهي من معجم العوام ومنه : غرفة فلان ورقم الغرفة ، وغرفة العمليات أو غرفة العناية المركزة بالمستشفيات والغرفة التجارية والغرفة الزراعية أو الصناعية من المتداول بينهم (محدثة) والمغرفة: ما يغرف به الطعام وغيره ويجمعونها على : مغارف ، والفصيح بكسر الميم .
? غرق : يقولون : فلان غرق – بكسر فاء الكلمة إتباعا لكسر عينها ، ومن كلامهم: فلان غرق في الدَّين أو البلوى ، وغرقت السفينة إذا رسبت في الماء ، واستغرق فلان في الضحك إذا بالغ فيه .(118/3)
? غرم: يقولون : فلان غرم غرامة كبيرة – بكسر فاء الكلمة إتباعا لكسر عينها . والغرام التعلق بالشيء تعلقا لا يستطاع التخلص منه.والغرامة: الخسارة ، وما يلزم أداؤه تأديبا أو تعويضا . ويقولون : حكم القاضي على فلان بالغرامة . والغريم الدائن.والمغرم المولع بالشيء لا يصبر على مفارقته. ويعرفون الغرام بمعنى الحب، ومن الأغاني الشائعة عندهم يا دنيا يا غرامي .
? الغراء : ما يلصق به الورق والجلد والخشب . والعوام ينطقونها غره – يقصرون الممدود ويلحقون به هاء بدلا من المد . والإغراء معروف عندهم ، ومن كلامهم : فلان يغريني بكذا لأفعل كذا. ويكسرون حرف المضارعة أو يلحقون بأول الفعل باء فيقولون : بيغريني . ومنه فتيات الإغراء .
? غزر : من كلامهم : فلان يعطي بغزارة أي بكثرة .
? غز:غز الثوب أو الجسم بالإبرة ونحوها: وخزه وخزا خفيفا (محدثة).
? غزل:غزل الصوف والقطن ونحوهما: فتله خيوطا بالمغزل – وهم يفتحون ميم المغزل،والغزل:الشغف بمحادثة النساء والتودد إليهن.وغازل فلان فلانة:تودد إليها وحادثها، وتغزل فلان بفلانة. والغزال والغزالة من معجمهم. والغزل: المغزول. والمغزل ما يغزل به الصوف ونحوه – بفتح الميم كما سبق ، والفصيح كسرها .
? غزا : يعرفون الغزوة بمعنى الحرب والقتال. ويعرفون غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم .
? غسل : غسل الشيء غسلا : أزال عنه الوسخ ونظفه بالماء ، واغتسل بالماء : غسل بدنه به.والغسالة:ما يخرج من الشيء بالغسل. والغسالة: امرأة حرفتها غسل الثياب ، وآلة تغسل الثياب أو الأواني ، وتدار بالكهرباء (مجمعية) والغسول ما يغسل به كالصابون ونحوه. والغسيل ما يغسل من الثياب . والمغسل موضع الغسل. والمغسلة المكان العام لغسل الملابس ، وخشبة يغسل عليها الميت (محدثتان ).(118/4)
? غش : غش صدره : انطوى على الحقد والضغينة،وغش صاحبه غشا:أظهر له غير ما يضمر. وغش الطالب في الامتحان فهو غاش (مولد) وغششه : أمكنه من الغش (محدثة)والغشاش والمغشوش من معجمهم.
? غشم : يعرفون من هذه المادة كلمة
"غشيم" بمعنى الجاهل بالأمور وهي محدثة.
? غشى : ومن هذه المادة يعرفون : الغشاء والغشاوة والغشية غشية الموت وما ينوب الإنسان حينئذ من غيبوبة .
? غصب : غصب الشيء غصبا أخذه قهرا وظلما . وجرائم الاغتصاب مما شاع في بعض المجتمعات .
? غص : الغصة : ما اعترض في الحلق من طعام أو شراب .
? غصن : غصن الغصن غصنا : قطعه . والغصن ما تشعب من ساق الشجرة والغصون والأغصان من معجمهم .
? غضب: غضب عليه غضبا : سخط عليه وأراد الانتقام منه. فهو غضبان وهي غضبانة. وأغضبه حمله على الغضب. والغضب انفعال يؤدي إلى الاعتداء. والمغضوب عليهم يكررونها في قراءة الفاتحة.
? الغضروف : كل عظم لين رخص في أي موضع كان . وهو معروف عندهم وجمعه غضاريف . ويقولون عند فلان انزلاق غضروفي .
? غض:غض البصر وغض الصوت : كفه وخفضه . وغض فلان حقه : نقصه إياه. والغضاضة : الذلة والمنقصة ، والغضاضة العيب .
? الغضنفر : من معجم العوام ، ويعرفون أنه الأسد .
? غضن : من كلامهم : قال فلان في غضون حديثه كذا وكذا ، أي في أثنائه . ومنه وجه فلان تغضن ، وفي وجهه غضون كثيرة أي نتن وتكسر .
? غضا : يعرفون من هذه المادة : فلان يتغاضى عن عيوب فلان ، أي يتغافل عنها ولا يظهرها .
? غطرس : يقولون فلان يتغطرس على غيره، أي يتكبر ويتطاول ، وفلان فيه شيء من الغطرسة ، وبعضهم يعرف الغطريس بضبطه الفصيح .(118/5)
? غطس في الماء غطسا : انغمس فيه ، وغطس الشيء في الماء : غمسه فيه ، وغطس فلان فلانا . والغاطس من السفينة أسفلها الذي يغيب في الماء (محدثة) والغطاس عيد من أعياد النصارى، يسمونه عيد الغطاس،يحتفلون فيه بذكرى تعميد المسيح . والغطاس : من حرفته الغطس،والغطيس الأسود.والمغطس –بفتح
الطاء عندهم – موضع الغطس في الحمام .
? غط : غط في نومه : سمع له صوت ، وغط النائم، وغط المذبوح وغط المخنوق، ومن كلامهم فلان يغط في نومه – بضم الغين – ومنه غط الشيء في الماء غطا أي غطسه وغمسه فيه . وفلان انغط في الماء أي انغمس وغاص فيه . ومنه غطغط عليه النوم إذا غلبه .
? غطا : يعرفون من هذه المادة : الغطاء – مع تغيير – وغطاه وتغطى ، وغطاء المائدة، وغطاء الفراش .
? غفر : غفر الله ذنبه : ستره وعفا عنه ، والله غافر وغفور وغفار . واستغفر الله من ذنبه : طلب منه أن يغفره .
? غفل : غفل عن الشيء غفلة : سها من قلة التحفظ والتيقظ . وأغفل الشيء : غفل عنه ، وغفله وأغفله وتغافل أي أظهر أنه غافل وليس به غفلة . واستغل فلانا إذا ترقب غفلته . والمغفل من لا فطنة له .
? غفا : غفا غفوة إذا نام قليلا .
? غلب:غلب فلان فلانا : قهره فهو غالب وغلاب . وتغلب على بلد كذا : استولى عليه قهرا . والأغلبية الكثرة . والأغلبية المطلقة ، والأغلبية النسبية (محدثتان ).
? غلت : غلت الشيء بالشيء : خلطه به. يقال غلت الحنطة بالشعير ، ويسمون الخليط : غليثة ، ولكنهم يقلبون الثاء تاء. والغليث : الخبز من شعير وحنطة ، مع قلبهم الثاء تاء أيضا .
? غلط : ينطقونها بكسر أولها تبعا لكسر ثانيها ومعناها : أخطأ وجه الصواب ويقولون : غلط في الأمر ، أو في الحساب فهو غلطان . وغالطه ، وغلطه إذا نسبه للغلط والغلطة : المرة من الغلط . والغلاط: الكثير الغلط . والمغلطاني : الذي يغالط الناس في حسابهم .(118/6)
? غلظ : من هذه المادة يعرفون الغلظة ، والغليظة بمعنى العنف والشدة ، ويعرفون أغلظ الأيمان ، ويعرفون : رجل فيه غلظة أي فظاظة وقسوة .
? غلغل:غلغل الشيء في الشيء:أدخل فيه.
? غلف : لم يستعملوا الفعل الثلاثي ، وإنما استعملوا مضعف العين فقالوا : غلف الشيء ، إذا جعلوا له غلافا ، وتغلف : إذا صار له غلاف . والغلاف معروف عندهم.
? غلق: غلق الباب غلقا : أوصده . وأغلق الباب أوثقه . وغلق الأبواب ، ويحفظون من سورة يوسف قوله تعالى:"وغلقت الأبواب " وانغلق الباب خلاف انفتح .
? غلّ : انغل في الشيء واغتل فيه : دخل. واستغل المزرعة : أخذ غلتها . واستغل فلانا : انتفع منه بغير حق ، ومن كلامهم: فلان رجل استغلالي . والغل : العداوة والحقد الكامن ، ومن كلامهم : فلان يمتلئ قلبه بالغل . ومنه : شفى فلان غليله أي غيظه .
? غلم : العوام لا يعرفون الغلمة ، ولكن يعرفون الغلام والغلمان .
? غلا: غلا السعر : زاد وارتفع ، والسعر الغالي أي المرتفع . واستغلى الشيء : وجده غاليا . والغالي خلاف الرخيص . والغلا ارتفاع السعر . وغلا الماء ونحوه . والغلاية إناء يغلي فيه السائل (مجمعية).
? غمد : يعرفون منها : تغمّد الله فلانا برحمته أي غمره بها .
? غمر : غمر الماء : كثر حتى ستر مقره. وانغمر في الماء انغمس . ومن معجمهم : فلان رجل مغمور أي غير مشهور .
? غمز : غمزت الدابّة أي مالت برجلها في المشي إذا عرجت . وغمز فلان فلانا بالعين أو الحاجب إذا أشار بهما.وغمز زرّ الجرس أي ضغط عليه بإصبعه (محدثة) الغمز : العيب ، والمغموز : المتهم بعيب.
? غمس : غمس الشيء بالماء : غمره به.
والغموس : ما يؤتدم به (محدثة) وتغامس القوم : غمس بعضهم بعضا في الماء.(118/7)
? غمض : غمض المكان والشيء : خفي، وغمضت الدار : بعدت عن الشارع . وغمضت عينه : نام . وغمض عنه في البيع والشراء:تساهل. وغمض عن الشيء:تجاوز.وغمض عينيه:أغمضهما . وغمض في البيع : تساهل . والشيء الغامض: الخفي وهو خلاف الواضح .
? غمط : غمط الحق : أنكره وهو يعلمه. ومن كلامهم : فلان حقه مغموط .
غمغم : الغمغمة : الكلام الذي لا يبين . ? غمغم الأبطال صوتوا عند القتال،وفلان يغمغم أي لا يسمع له صوت ولا يفهم
منه كلام .
? غمق : يعرفون الغامق من الألوان ، وهو المائل إلى السواد (مجمعية).
? غم : غم فلان فلانا : حزنه . وغم الثور ونحوه وضع الغمامة على عينيه وهو يدور في الساقية أو الطاحون ، والغمامة في نطقهم : (الغمى) بضم الغين وفتح الميم وألف مقصورة (غمى) واوية يائية . وغم عليها الهلال:لم يروه لغيم أو ضباب،وأكثر عوام المسلمين يحفظون الحديث الشريف: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما " . ويعرفون الغم بمعنى الحزن ومن كلامهم : انغم فلان أي حزن ، فهو مغموم، والغم : الكرب والحزن . والغمة من معجمهم ، ومن محفوظهم في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم :"نصح الأمة وكشف الغمة ".
? غمى : غمى عليه : عرض له ما أفقده الحس والحركة فهو مغمى عليه ، وأغمى على فلان ، والغماء يوضع على وجه الدابة وهي تدور في الطاحون (محدثة) وينطقونها الغمى كما تقدم .
? غنجت : غنجت المرأة : تدللت على زوجها ، والفصيح كسر النون ، ولكنهم يفتحونها، ويعرفون الغنج والغناج بمعنى الدلال .
? غنم : يعرفون غنيمة الحرب والظفر بمال العدو . والغنم : الفوز بالشيء من غير مشقة . ومن عباراتهم :"الغنم بالغرم" والغنم : القطيع من الماعز والضأن . والغنام: صاحب الغنم والقائم عليها ، والمغنم من معجمهم .
? غنّ : الغنة : صوت يخرج من الخيشوم، وكثير من العوام يعرفون حروف الغنّة عندما يتلون القرآن الكريم ، أو يتعلمون تلاوته .(118/8)
? غنى : الغنى والفقر معروفان عندهم ويستعملون كلمتي الغنى والفقير كثيرا . ومن عباراتهم : الغنى غنى النفس . وأغنى الله فلانا أي جعله غنيا . وتدعو الأم لولدها قائلة : ربنا يغنيك عن خلقه يا ولدي . وغنّى : ترنم بالكلام موزونا أو غير موزون . واستغنى : اغتنى . والأغنية: ما يترنم به من الكلام الموزون وغيره ويجمعونها على الأغاني.والغناء ضد الفقر. والغناء التطريب . والغني : من أسماء الله الحسنى ، ومن أسمائهم عبد الغني، وكذلك المغني والمغنّي : محترف الغناء .
? غاث : غاثه الله وأغاثه : أعانه ونصره. وأغاثهم الله برحمته : كشف شدتهم . والاستغاثة : طلب الغوث .
? غار:غار الماء: ذهب في الأرض . وأغار الجيش على الأعداء.والغار : كل منخفض من الأرض ، والبيت المنقور في الجبل . والغارة : الهجوم على العدو . والمغار والمغارة : الغار في الجبل . وفلان مغوار أي مقاتل كثير الغارات على أعدائه.
? غاص : غاص في الماء غوصا : نزل تحته. وغاص في البحر على اللؤلؤ : نزل تحت الماء ليستخرجه . وفلان يغوص على حقائق العلم ، وما أحسن غوصه عليها !. والغواص : الشديد الغوص ، ومن يحترف الغوص ، والمجتهد في تدبير معاشه . والغواصة : سفينة حربية مهيأة للغوص في الماء والمكث فيه لصيد سفن العد و(محدثة) والمغاص : موضع الغوص ومنه مغاص اللؤلؤ للمكان الذي يستخرج منه .
? غاط:غوط البئر إذا حفرها وأبعد قعرها. وتغوط : تبرز . والغوطة : مجتمع النبات والماء ومنه غوطة دمشق ، وهي أحد منازه الدنيا السبعة لكثرة ما فيها من الرياض والفاكهة والرياحين . والغيط من الأشياء البعيد القعر ومنه بئر غويطة . والغيط عند أهل مصر : الحقل .
? الغاغة : يستعملون هذه الكلمة بمعنى الغوغاء ، وهي الصياح والجلبة ، والسفلة من الناس لكثرة لغطهم وصياحهم .(118/9)
? غاله : لا يقولون : غاله بمعنى أهلكه ، وإنما يقولون : اغتاله ، والاغتيال : الأخذ على غفلة ، والاغتيالات السياسية من معجمهم، والغول : كل ما أخذ الإنسان من حيث لا يدري فأهلكه ويعدونه أحد المستحيلات الثلاثة ، وهي (الغول والعنقاء والخل الوفي ).
? غوى : غوى فلان إذا أمعن في الضلال، وأغوى فلان فلانا : أضله ، وكذلك استغواه .
? غاب : غاب يغيب – بكسر حرف المضارعة وغياب وغيب وغيبة وغيبوبة ، وتغيب واغتاب وجل ما أخذ من هذه
المادة من معجم العوام .
? غاث : غاث الله البلاد : أنزل بها المطر، الذي يسقي الزرع ويدر الضرع .
? الغادة من الفتيات : الناعمة اللينة
ويسمون بها بناتهم .
? غار: غار الرجل على المرأة وغارت المرأة على الرجل فالرجل غيران والمرأة غيرى ، وفلان غيار ، وهي غيارة – إذا انصرف أحدهما عن الآخر . وغير الإنسان ثيابه أو دابته أو داره أو نحو ذلك. وغير الشيء : بدل به غيره ، ويقولون : غيرت داري إذا بناها بناء غير الذي كان .
كما يقولون : غيرت مسكني إذا انتقل إلى مسكن آخر . والغيار بمعنى البدال ، وهو البدل من كل شيء ، ومنه الغيار على الجرح . و"غير" من الكلمات الكثيرة الدوران على ألسنة العوام ، لكنهم يكسرون أوله. ولا ضير على الفصحى إذا ضمت (غير) بكسر أولها إلى معجمعها .
? الغيط : يطلقه أهل مصر على الحقل ، كما تقدم .
? غاظه : أغضبه أشد الغضب ، وغايظه وغيظه وهو مغتاظ وعوام مصر يحدثون به قلبا مكانيا ، فيقولون : فلان اتغاظ من فلان وهو متغاظ ويكسرون الميم في الكلمة الأخيرة . وكلمة الغيظ تجري على ألسنتهم كثيرا ولكنهم يكسرون أولها .
? غامت السماء : غطاها الغيم : وغيمت السماء،وتغيمت،والغيم:السحاب، والغيمة: القطعة من السحاب ، ويستعملون الغيم والغيمة بكثرة ولكنهم يكسرون الغين .(118/10)
? الغاية : من معجمهم ، وكثيرا ما يقرنونها بكلمة النهاية ، فيقولون : … بلغ الغاية والنهاية في الجودة ، وبلغ فلان غايته، وغاية الأمر : كذا وكذا . والغايات من معجمهم ، ويحرفون كلمة غاية في نحو قولهم : فلان غيته كذا ، يعنون رغبته وهدفه . أما قول العرب : هو ولد غية بمعنى ولد زنية " نقيض " هو ولد " رشدة " فلا يعرفونه .
باب الفاء
? فأد : الفؤاد بمعنى القلب ، ومن أسمائهم: فؤاد ، ومنهم من يحفظ هذه العبارة القرآنية :" إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا " ويجمعون الفؤاد على الأفئدة ، ومنهم من يحفظ قوله تعالى : " نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة " ويذكرونها إذا أصابهم وجع شديد .
? الفأر : حيوان معروف ، وتسهل الهمزة عند العامة والخاصة ، ويجمع على فيران ، وفأرة النجار التي يقشر بها الخشب معروفة عندهم ، ( محدثة )، ويكنون بقلة الفيران عند الفقر .
? الفأس : آلة ذات يد ملساء من الخشب وسن عريض من الحديد ، يستخدمها الفلاح كثيرًا في حقله ، يحفر بها ويعزق الأرض ، ويسهلون همزتها ، ويقولون في
جمعها : فوس ، بإسقاط الهمزة.
? فأفأ : من كلامهم : فلان يفأفئ في كلامه، ويسكنون حرف المضارعة عند الوصل،ويكسرونه إذا جاء في أول الكلام.
? الفأل:قول أو فعل يستبشر به ، وتسهل
الهمزة.ومما يجري على ألسنتهم:فلان دائما متفائل، ولكنهم يكسرون الميم ويسكنون التاء . ومن كلامهم : خذوا فألكم من صغاركم ، مع إبدال الذال دالا.
?الفئة:الفئات أكثر شيوعًا على ألسنتهم من الفئة، وبخاصة عند الترشيح لمجلس الشعب أو مجلس الشورى. ومنهم من ينطق الجمع بكسر الفاء وتشديد الياء المفتوحة .
? فته: دقه وكسره . ومن عباراتهم : أحب الرقاق المفتوت باللبن . والفت : كسر الخبز والمشربة بماء اللحم (مولد) . ولا يعرفون الثريد .(118/11)
? فتح : فتح الله عليه : هيأ له سبل الخير. وفتح الباب المغلق . وفتح الكتاب . وفتح المسلمون مصر . وفتح القاضي الجلسة . وفتح قلبه لفلان . وافتتح الكلام باسم الله. وانفتح الباب . وتفتح اللوز عن القطن . والفاتحة من الكتاب الكريم : سورة الحمد. والفتاح اسم من أسماء الله الحسنى . والفتاحة (مجمعية) والمفتاح : آلة الفتح، والمفاتيح جمعه .
? فتر: فتر الماء الساخن . وفتر العامل عن العمل.وفتر البرد. وفتر السحاب. والفاتر: ما بين الحار والبارد.والفتر : ما بين طرف الإبهام وطرف السبابة إذا فتحتهما .
? فتش : فتش الشيء ، وفتش عن الشيء، والفتاش : الذي يكثر التفتيش ويتتبع أمور الناس ، والمفتش : موظف يقوم بتفتيش أعمال حكومية أو غيرها (محدثة ) والعوام يقولون : فتش فلان سر فلان أي أذاعه ولم يحفظه .
? فتق:الفتق بمعنى الشق . والمفتقة : أخلاط من عقاقير وأفاوية تعقد بالزيت والعسل وتؤكل للتسمين ( محدثة ) والفتق: بروز جزء من الأمعاء من فتحة في جدار البطن.
? فتك : فتك به : غدر به واغتاله ، أو قتله مجاهرة . وفتك القطن : نفشه . والفتاك : الشديد الفتك .
? فتل: فتل الحبل ونحوه: لواه وبرمه، فهو مفتول،وفتل الشيء فتله. والفتلة : القطعة من خيط القطن والحرير ونحوهما (محدثة) والفتيلة : ذبالة السراج معروفة عندهم .
? فتن : فلان فتنه المال ، أو فتنته الدنيا ، أو فتنته المرأة بمعنى شغلته وصرفته عما يجب عليه أن يؤديه . وهو مفتون بكذا . والفتان: الشيطان .
? فتاه: فتاه فتوا – غلبه في الفتوة ، والذكر فتى والأنثى فتاة ، واستفتاه في أمر أو مسألة أو شأن : سأله رأيه . والمفتي : من يتصدى بين الناس وهو فقيه تعينه الدولة ليجيب عما يشكل من المسائل الشرعية . ومنهم من يحرف كلمة الفتوة وينطق بها الفتونة، ولكن أكثرهم يقولون: الفتوة.(118/12)
? فجأ : فجأة الأمر ، وفجأه ، فجأة ومفاجأة ، والفجأة : ما فاجأ الإنسان ، وموت الفجأة ما يأخذ الإنسان بغتة ، وهو موت السكتة .
? الفج : الطريق الواسع البعيد معروف من قوله تعالى: " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ".
? فجر : يعرفون الفجور بمعنى الانبعاث في المعاصي بغير اكتراث . وفجر الرجل القذيفة : أشعلها لتنفجر (محدثة ) . وانفجر اللغم . وانفجر فلان باكيا . والفجر : الصبح . والفاجر : الفاسق غير المكترث . وفلان من الفجار أو من الفجرة. والفجرة : انكشاف ظلمة الليل عن نور الصبح ، ويفرقون بين الفجر الصادق والفجر الكاذب . والمتفجرات : مواد كيماوية ناسفة تصنع منها القذائف
والألغام (مجمعية).
? فجل : لا يعرفون من هذه المادة إلا الفجل وواحدته فجلة ، ويكسرون الفاء وهي في اللغة الفصحى بالضم .
? فحش:الفاحشة بمعنى القبيح من قول أو فعل.وجمعها الفواحش.والفحشاء،ينطقونها بحذف المد والهمزة من آخرها ، ويضعون مكانهما تاء التأنيث، فيقولون مثلا : فلان يمارس الفحشة ، وربما أرادوا بها الزنا .
? فحص : فحص الطبيب المريض : جسه ليعرف ما به من علة . وفحص عن الأمر: استقصى في البحث عنه . وفحص الكتاب ونحوه: دقق النظر فيه ليعلم كنهه. وفحص الإنتاج العلمي لفلان تمهيدًا لتعيينه أو لترقيته .
? فحفح:يقولون من هذه المادة : فحفحت رائحة الطعام ، إذا انتشرت في أنحاء البيت، وهذا المعنى ليس في القاموس المحيط ولا في لسان العرب .
? فحل : يعرفون الفحل بأنه الذكر القوي من كل حيوان ، والفحل الفحيل: الكريم المنجب . واستفحل الأمر إذا تجاوز الحد . ومن عباراتهم : فلان مستفحل علينا، ولكنهم يكسرون الميم التي في أوله.(118/13)
? الفحم : الفحم معروف عندهم وهو مادة سوداء ذات مسام تتخلف من إحراق الخشب ونحوه إحراقا جزئيا ، ويفرقون بين الفحم النباتي والفحم الحجري ، ويقولون لبائع الفحم : فحام ، كما يقولون للصبي إذا اشتد بكاؤه : الولد انفحم من شدة البكاء .
? فخت : لا يعرفون من هذه المادة إلا قولهم: فلان فخت عين فلان بمعنى فقأها، ولا يوجد هذا المعنى في القاموس المحيط ولا في لسان العرب ، والذي فيهما : فخت رأسه بالسيف : قطعه ، وفخت الإناء كشفه ..
? فخذ : يعرفون الفخذ ، لكنهم يسكنون الخاء ويقلبون الذال دالا، وتسكين الخاء فصيح ، أما قلب الذال دالا فقد شاع عند العوام .
? فخر : الفخر معروف عندهم ، وكذلك : افتخر فلان بكذا ، وتفاخر بمعنى تعاظم وتكبر ، وتفاخر القوم : فخر بعضهم على بعض . والفخار : أوان تصنع من الطين وتحرق.والفاخورة: مصنع الفخار (محدثة).
? فخفخ : الفخفخة تجري على ألسنتهم وهي الفخر بغير حق .
? فخم : الفخامة : عظم القدر ، وفخمه عظم قدره ورفعه ، والشيء الفخم من معجمهم .
? فدغ : فدغ الشيء فدغا : كسره . وانفدغ الشيء : لان عن يبس .
? فدم : رجل فدم : ثقيل الفهم غبي .
? فدن : الفدان في مصر : مقدار من الأرض الزراعية مساحته 3/3331 قصبة، أو 4200 متر مربع ، وجمعه : فدادين .
? فدى : فداه فداء : استنقذه بمال أو غيره فخلصه مما كان فيه . وفاداه مفاداة وفداء: دفع فديته ، أو قبل فديته وفداه بنفسه : فداه وقال له جعلت فداك . وتفادى الأمر تحاماه . والفداء ما يقدم من مال ونحوه ، وهو في بعض العبادات . والفدائي : المجاهد في سبيل الله أو الوطن، مضحيا بنفسه، والجمع : فدائيون (محدثة)
والفدية من معجمهم بنطقها الفصيح .
? فرتك : فرتك الشيء : قطعه مثل الذر، وفرتك النسيج ونحوه : نقضه وأفسده .(118/14)
? فرج : فرج الله الكرب أو الغم : كشفه . وأفرج عن الحبيس أطلقه . وأفرج عن المال: أعطاه لصاحبه أو طالبه. وانفرج الهم : انكشف . وتفرج الرجل على كذا: تسلى بمشاهدته . وتفرج على السلعة: عاينها عند الشراء (محدثة) ، والفرج بفتح الفاء والراء من معجمهم ، ومن عباراتهم: فرج الله قريب . والفرجة: مشاهدة ما يسر (محدثة) ، والفرجية : ثوب واسع الأكمام يتزيا به علماء الدين (محدثة) ، والفروج : فرخ الدجاجة والجمع : فراريج. ومن محفوظاتهم : "اشتدى أزمة تنفرجي ".
? فرح : الفرح بمعنى السرور والرضا الابتهاج . والفرح بمعنى بطر النعمة . والفرح : حفلة العرس على المجاز (محدثة) والفرحة : السرور والبشرى . وفرح فلان
فلانا : سره بأمر من الأمور .
? أفرخ: من معجمهم: فرخت البيضة إذا انفلقت عن الفرخ . وفرخ الزرع إذا نبتت أغصانه . والفرخ : كل صغير من الحيوان والنبات والشجر وغيرها ، ومن الزرع : ما انفلق عنه الحب . ومن الورق: صحيفة تختلف مقاييسها حسب حاجة الاستخدام للكتابة والطباعة (محدثة) وجمعه : فروخ . والمفرخة : موضع الاستفراخ وجمعها على مفارخ .
? فرد : فرد الشيء : إذا جعله أفرادا ، وفرد الأشياء : إذا باعد بين بعضها وبعض (محدثتان ) . وانفرد بالأمر : استبد ولم يشرك معه أحدا . واستفرد بالأمر أو الرأي:انفرد.واستفرد فلانا: خلا به.والإفراد يعرفه الحجاج وهو عدم الجمع بين الحج والعمرة في الإحرام . والفرد : وعاء من الخوص توضع فيه الحبوب كالقمح والأرز ونحوهما (محدثة) والفرد: الواحد، والأنثى : فردة والفردية: نزوع الفرد إلى التحرير من سلطان الجماعة (محدثة ) ومن أسماء بناتهم "فريدة" وبحذف التاء يسمى الذكر "فريد".
? فردوس : يعرفون الفردوس اسما من أسماء الجنة ويدعون قائلين اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى ، ويطلقون اسم " فردوس" على بناتهم .(118/15)
? فر : الفرار بمعنى الهروب . ومن فكاهات العوام ما ينسبونه إلى شيخ الخفراء من قوله لمأمور المركز بلاغا عن حادث ضرب : "قبضنا على المضروب والضارب فر هاربًا يا فندم " . ويقول رئيس الجماعة في الجيش عمن غاب بدون إذن : "فلان بلغ فرار يا فندم :.
? فرز : فرز الشيء بمعنى ميزه ونحاه . وفرز القطن ونحوه : فصل رديئه عن جيده . وتحديد موعد الفرز للمجندين لأخذ اللائق منهم بالخدمة . والإفراز معروف كإفراز العرق من مسام الجسد . والفراز : من يقوم بفرز الأشياء ليميز الطيب من الرديء ومن كلامهم هذا شيء مفروز أو هو على الفرازة .
? فرس : افترس الفريسة : صادها وقتلها. والفارس : الماهر في ركوب الخيل . وسلاح الفرسان معروف في الجيش ، والفرسان هم الذين يحاربون على ظهور الخيل . والفراسة : العلم ببواطن الأمور ، ولكنهم يفتحون الفاء في أولها ، والفصيح كسرها ، ومن كلامهم : فراسة فلان لا تخيب والفرس واحد الخيل للذكر والأنثى. وفرس البحر: جنس من الأسماك، وفرس النهر : حيوان ثديي معروف . والفريسة : ما يفترس السبع من الحيوان .
? فرش : فرش النبات يفرش – بكسر حرف المضارعة : انبسط على وجه الأرض . وفرش الشيء فرشا : بسطه . وفرش لفلان بساطا أو نحوه : بسطه له في ضيافته. وفرش الدار ونحوها بالحجارة: بسطها فيها . وانفرش الشيء : انبسط . والفراش معروف عندهم . والفراش : ما يفرش من متاع البيت . والفراشة : واحدة الفراش . والفراشة حرفة الفراش (مجمعية) والفراش : من يتولى أمر الفراش وخدمته في المنازل ونحوها (مجمعية) ومن يؤجر الفرش للناس في الأعراس والمآتم ونحوها من سرادقات وبسط وكراسي (مج) والمفرش : غطاء يبسط فوق المائدة ونحوها (محدثة) ومن المعروف عندهم الشقة المفروشة .
?فرشح : بمعنى باعد ما بين رجليه . ومن كلامهم : فلان قاعد مفرشح – محرفة -. وفرشحت الدابة وسعت ما بين رجليها للحلب .(118/16)
? فرص : يعرفون من هذه المادة "الفرصة" وهي الشيء المرغوب فيه يسنح ويتسابق إليه الناس ، ويقال : انتهز فلان الفرصة إذا اغتنمها وفاز بها (وهذا التعريف من المعجم الوجيز) والفرصة بالصاد وبالسين، وهكذا ينطقها العوام . ويقول بعضهم لبعض: هذه فرصتك فاغتنمها ، وهذه فرصتك الأخيرة . والفرصة : النوبة تكون بين القوم يتناوبونها علىالماء . ويقولون لصاحب النوبة جاءت فرصتك من السقى.
? فرض : الفرض معناه عندهم ما أوجب الله على عباده ، وما يفرضه الإنسان على نفسه . والفريضة : ما أوجبه الله على عباده من حدوده التي بينها بما أمر به ونهى عنه ، والحصة المفروضة بقدر معلوم في الزكاة أو في الميراث ونحوهما . وكثيرا ما يقولون : نفرض أن كذا حدث فماذا نفعل؟ ويكسرون حرف المضارعة . ومن عباراتهم : نفترض حصول كذا بكسر حرف المضارعة أيضا ، ويستعملون من هذا الفعل الماضي والأمر . ويفرقون بين السنة والفرض في العبادات .
? فرط : في معجمهم : انفرط العقد ، إذا تفرقت حباته وهي محدثة ، وفرط في الأمر إذا قصر فيه . والفراطه آلة يفرط بها حب الذرة (محدثة) ويسمونها (مكنة تفريط) وفرط حمل الجمل ، ويفرطه ، وأفرطه بمعنى إنزاله عنه وفك الحبال التي يربط بها المحمول.
? فرطح: فرطح الشيء : بسطه ووسعه . ومنه رغيف مفرطح ، بكسر الميم عندهم.
? فرطس : يعرفون فرطوسة الخنزير ، ويفتحون الفاء ، والفصيح ضمها .
? فرع:في معجمهم من هذه المادة الفرع، والفروع ، وتفرع ولكنهم يسكنون التاء في أوائل هذا الفعل ويجتلبون همزة وصل في أوله ليمكن النطق به،ومتفرع من كذا، مع كسر الميم وإسكان التاء . وهو فارع الطول . وفلان فارعة . وفروع الشجر أغصانها . وفروع الرجل أولاده . وفروع الموضوع ما نشأ عنه .
? فرعن:تفرعن فلان إذا تجبر وطغى وتخلق بأخلاق الفراعنة (مولد) وفرعون : ملك مصر في التاريخ القديم ، وقصته معروفة عند العوام . وهم فراعنة أي طغاة ظلمة.(118/17)
? فرغ : فرغ الإناء مما كان فيه أي خلا، وهم يضمون الفاء والراء . والإناء فارغ أي خال مما كان فيه . واستفرغ فلان إذا قاء واستفرغ مجهوده في كذا : بذله كله فيه واستقصاه. وتفرغ من العمل : تخلى عنه. وتفرغ للعمل: تخلَّى له . والفراغ والمفرغ. ومن الشائع بينهم : كلام فارغ، وفلان مخه فارغ ، وبيته فارغ . وبين بيتنا وبيتكم فراغ أي مكان خال . وفرغ الشيء : أخلاه .
? فرفر : فرفر القطن إذا نفشه ونقضه . والفرفور : الغلام الشاب بفتح الفاء .
? فرق : بين الشيئين فرقا : فصل وميز أحدهما عن الآخر.وفرق بين المتخاصمين: حكم وفصل . وفرق الشيء : قسمه . وفارقه : باعده . وفرق القاضي بين الزوجين : حكم بالفرقة بينهما . وفرق الشيء : جعله أجزاء ووزعه . وتفرق الرجلان : ذهب كل منهما في طريق . والفاروق اسم كثير من الرجال ، ولقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، واسم ملك مصر قبل الثورة . والفراق والفرقة والفرقان والفرق والفريق والفارق والفرقة ومنه : فريق الألعاب ، وفرقة المطافئ والفرقة المدرسية (محدثة)
? الفرقد : نجم قريب من القطب الشمالي ثابت الموقع تقريبًا ، يهتدى به وهو المسمى بالنجم القطبي ، ولكن العوام في مصر يسمونه : "وتد النجم" .
? فرقع: الشيء إذا فجره وسُمِع له صوت، وفرقعة الأصابع معروفة ، والمفرقعات : المتفجرات ، وهي مواد قوية الانفجار تستعمل في الحرب والهدم وبعض الصناعات (محدثة).
? فرك : فرك الشيء إذا حكه ليزيل ما عليه من القشر. والفريك معروف عندهم وهو أول ما ينضج من الذرة أو البُر ، والبر يشوى أول نضجه ثم ييبس ويجش ويطبخ (محدثة) والمفروكة : طعام لأهل مصر،يتخذ من فطير الذرة ، يفرك ويغطى
باللبن والزبد (مولد).
? فرم : فرم اللحم فرما : فراه (محدثة) والفرامة: آلة الفرم (مجمعية) والمفرمة هي الفرامة ، ويستعملونها بفتح الميم ، والفصيح كسره لأنها اسم آلة .(118/18)
? الفران : الخباز . والفرن : موقد للخبز وغيره . والأفران معروفة عندهم .
? فرهد: فرهدت نفس الغلام إذا ضاقت.
والفرهود والفرهد من الغلمان : الحسن الممتلئ . وفرهد الغلام امتلأ وحسن . والعوام يستعملون الفعل من هذه المادة متعديا فيقولون : هذا الشيء فرهدني بمعنى أتعبني وأجهدني . ومن أسمائهم فرهود، ولكنهم يفتحون الفاء ، والفصيح ضمها قياسًا على : فعلول .
? الفرو : جلد بعض الحيوان ، والفروة : الجلدة ذات الشعر ، ويعرفون فروة الرأس، وفروة الدب ، وفروة الأرنب ، وفروة الثعلب ، ويميزون بينها ، ويستخدمونها . وأبو فروة معروف عند المصريين،يشوي وينزع قشره ثم يؤكل.
? فرى : فرى الشيء : فتته . ويقولون : فلان افترى بمعنى تجبر وظلم غيره ، ويقولون : هو يفتري على الله الكذب .
? فزر : فزر الثوب ونحوه إذا شقّه . وفزّر الثوب . وانفزر الثوب وتفزر . ومن معجمهم العامي الذي لم أجد له أصلا في القاموس المحيط، ولا في لسان العرب قولهم: فزّورة وجمعها على فوازير ، ولهذا اللفظ عندهم شيوع كبير .
? فزّ : بمعنى فزع ، وبمعنى نشط وتوقد ، واستفز فلان فلانا بمعنى أثاره وأزعجه ، والفزة الوثبة بالانزعاج .
? فزع : من معجمهم الفزع بمعنى الخوف والذعر .
? الفستان : ثوب مختلف الأشكال والألوان، من ملابس النساء (ج) فساتين (مع).
? الفستق : معروف عندهم ، ولكنهم يبدلون السين زايا ، والتاء دالا ، فيقولون: فزدق . ويقولون : لون فزدقي، أي ذو خضرة تشبه لون الفستق .
? فسح : فسح له في المجلس : وسع له ليجلس . وانفسح المكان اتسع . وانفسح صدره:انشرح.وتفسح: طلب الفسحة من عمل ليستريح . والفسحة الراحة في أثناء العمل، أو الراحة بين عملين (محدثة).(118/19)
? فسد : فسد اللحم أو اللبن ونحوهما فسادًا إذا أنتن أو تلف . وفسد العقد ونحوه إذا بطل . وفسد الرجل إذا جاوز الصواب والحكمة . وفسدت الأمور إذا اضطربت وأدركها الخلل . وأفسد فلان بيني وبين فلان . وأفسد الرجل القوم إذا أساء إليهم ففسدوا . والفساد معروف عندهم وكذلك المفسدة والمفاسد .
? فسر : فسّر، ويفسر بكسر حرف المضارعة ، والتفسير والاستفسار عن كذا من معجمهم.
? الفسطاط: لا يعرفون البيت الذي يتخذ من الشعر بهذا الاسم ، وإنما يطلقون عليه اسم الخيمة ، ولكنهم يعرفون جامع عمرو بن العاص بالفسطاط بمصر القديمة.
? فسفس : من التداول بين الصغار في مصر قولهم : فلان فسفس اللعبة إذا أفسدها أو عطلها . ولا يعرفون فسفس فلان بمعنى : اشتد حمقه ، ولا الفسفاس ، ولا الفسفس، ولا الفسيفساء .
? فسق : فسق فلان إذا عصى وخرج عن حدود الشرع ، فهو فاسق ، وجمعه فساق وفاسقون،وهي فاسقة . وفسق فلان فلانا عده فاسقا، والفسق والفسوق: العصيان. والفسقية:حوض من الرخام ونحوه مستدير غالب ، توضع فيه نافورة ، تكون في القصور والحدائق والميادين (دخيل).
? فسل: الفسيلة : النخلة الصغيرة ، تقطع من الأم ، أو تقلع من الأرض لتغرس في مكان آخر . والرجل الفسل الذي لا مروءة له .
? فسا : يشددون السين في استعمالها فيقولون : فسّى إذا أخرج ريحًا من مفساه بلا صوت يسمع . والمفسى : مخرج الريح من الحيوان . ويحرّفون الفساء فينطقونها بكسر الفاء والسين وبعدهما هاء .
? فشج : يقولون فشج بتشديد الشين إذا فرج بين ساقية لبول أو غيره . ومنهم من ينطقها مخففة ، ومن عباراتهم : فلان فشج على فلان وبرك فوقه .
? فشخ : فلان فشخ إذا استرخى وارتخت مفاصله ، وخارت قواه .(118/20)
? فش: فش الورم إذا خف وهبط . وفش غليله إذا نفس عن نفسه وخف غضبه . وفش القفل إذا فتحه من غير مفتاح . وانفش الجرح إذا هبط ورمه ، ومن كلامهم : انفشت علة فلان إذا زال . والفشة معروفة عندهم ، وهي تفش ما فيها من الهواء (محدثة) والفشوش من الأشياء: ما لا فائدة فيه ومن عباراتهم
المتداولة : النتيجة فشوش .
? فشفش : فشفش الشيء : أتلفه وأفسده ، هذا استعمالهم لهذه الكلمة ، أما المعنى المدون في المعجم الوسيط فهو : فشفش : ضعف رأيه ، وفي قوله : أفرط في الكذب.
? فشل : فشل في عمله إذا أخفق فيه فهو فشل، والعامة تقول : فاشل وهذا المعنى مجمعي ، وهو كثير الاستعمال عندهم . وفشل فشلا : تراخى وجبن . وفشل عن الأمر : هم به ثم عجز عنه ونكل .وقد ألحقت العامية بهذه المادة كلمات (فشول وفشولة ومفشولة ) والخباز يقول: العجينة مفشولة إذا كانت غير متماسكة .
? فشا : أفشى فلان سر فلان إذا أذاعه
ونشره. وتفشى الخبر : انتشر . وتفشى المرض في القوم : انتشر فيهم وعمهم .
? فصح : الفصاحة انطلاق اللسان بكلام صحيح واضح ، والوصف منها الفصيح . وعيد الفصح معروف عند النصارى . وفلان يتفاصح – بكسر حرف المضارعة وإسكان التاء ، وربما جعلوا قبل الهاء باء.
? فصد : الفصد : إخراج مقدار من دم الوريد بقصد العلاج . وأبو فصادة طير من الفصيلة الفتاحية ، يتغذى بالحشرات _ معروف .
? فص: فصص الشيء: فصله وانتزعه من غيره . والفص : ما يركب في الخاتم من الحجارة الكريمة وغيرها ، ومن الليمون ونحوه ، أو الثوم ونحوه : الفلقة من فلقة . وفص العين : حدقتها . وفص الشيء جوهره . والجمع فصوص . والفصاص: صانع الفصوص للخواتم . وفصص الموضوع: وضحه وبينه.
? فصفص : فلان إذا أتى بالخبر اليقين ، وبين الحقيقة . وفصفص عندهم بمعنى فصص ، يقولون : فصفص البرتقالة للصغير أي : جعلها فصوصا ليسهل عليه أكلها .(118/21)
? فصل : فصل بين الشيئين فصلا ، إذا فرق بينهما. وفصل الحاكم بين الخصمين: قضى وفصل الشيء عن غيره : أبعده . فصل الشيء : قطعه . وفاصل شريكه : فض ما بينهما من شركة . وفصل الخياط الثوب: قطعه على قد صاحبه . وانفصل الشيء : انقطع . والفاصل بين الشيئين معروف وكذا الفاصولية. والفصل: أحد فصول السنة الأربعة . والفصل أحد أقسام المدرسة ، ويسمى الصف ( محدثة ) والفصلة النخل المنقولة من موضعها . والفصيلة : فرقة من الجيش . والمفصلة أداة من حديد ونحوه ذات جزأين يثبت الأول في مصراع الباب والثاني في عضادته (محدثة) وجمعها مفصلات .
? فضح: فضحه كشف معايبه،فهو فاضح وهي فاضحه . والعوام يلحقون نون الوقاية باسم الفاعل فيقولون : فلان فاضحنى ، وفلانة فاضحاني ، ولهذا صلة بما وصفه النحاة بالشذوذ . ويقولون افتضح الرجل بمعنى انكشف معايبه ، لكنهم يقدمون التاء على الفاء في أكثر استعمالاتهم فيقولون : اتفضح . والفعل الفاضح ما يخدش الحياء ، والفضيحة بمعنى العيب جمعها عندهم فضايح بالياء على الأصل دون قلبها همزة .
? فضّ : فضّ الجمع إذا فرقه ، وفضّ المال على الفقراء إذا وزعه عليهم، وفضّ الأمر إذا قطعه ، وفضّ الله فاه ، دعاء عليه، ولا فض فوك ، دعاء له . فضّض الشيء إذا طلاه بالفضة أو حلاه بها . وانفضّ الجمع إذا تفرق ، وانفض الشيء إذا تكسر . والفضة معروفة ، ويتختمون بها ويصنعون منها بعض الحلي ، وتستخدم في سك النقود.
? فضفض : فضفض الثوب إذا وسعه . وثوب فضفاض أي : واسع . ومن كلامهم فلان فضفض عن نفسه إذا أزال همه وحزنه بالكلام أو البكاء ، ولم يرد هذا المعنى في المعجم الوسيط ، ولعله مجاز من قولهم : عيش فضفاض .(118/22)
? فضل : فضل الشيء إذا زاد على الحاجة . وهذا رجل فاضل . والفضيلة صفة من الصفات الحسنة . وفلان أفضل من فلان . وهو يفضّل شيئا على شيء . والناس يتفاضلون. إذا تنافسوا في الفضل. تفضّل فلان على فلان بكذا ، إذا أعطاه عطاء كثيرًا . والفاضل : الباقي الزائد على الحاجة. والفضالة : البقية من الشيء – ويكسرون الفاء والفصيح ضمها . والفضل الإحسان . والفضلة : ما بقي من الشيء، وللفضلات مواسم للبيع والشراء. والفضول : الذي لا فائدة فيه ، والفضولي من الرجال: المشتغل بالفضول. والفضائل غير الرذائل ، وهم ينطقون الهمزة ياء .
? فضا : المكان فضاء : خلا . والفضاء : ما اتسع من الأرض أو الخالي منها .
? فِطحْل : الفطحل : الغزير العلم . وقول المولدين لكبار العلماء : فطاحل ، على التشبيه (مولد) ينطقون هذا الجمع نطقًا سليما . أما المفرد فينطقونه بقولهم : فلان فطحول.
? فطر : فطر الله العالم : أوجده . وأفطر
الصائم : قطع صيامه بتناول المفطر . وأفطر فلان : تناول طعام الصباح . وأفطر على كذا ، إذا جعله فطوره . وعمل يفطر الصائم أي يفسد صومه . وفطر الصائم إذا قدم له ما يفطر به . وانفطر الشيء إذا انشق ، ومن كلامهم : بكى الصغير حتى انفطر ، على المجاز . وعيد الفطر،وزكاة الفطر، وصدقة الفطر. والفطرة : الطبيعة السليمة التي لم تشب بعيب. والفطور: تناول الصائم طعامه بعد غروب الشمس.وتناول الطعام الأول في الصباح (مجمعية) والفطير: كل ما أعجل به قبل نضجه ، والرأي الفطير : الفاسد . والفطيرة خبزة تؤدم بزيت ونحوه ، ولها أنواع (مولدة) وتجمع على فطاير بالياء والفصيح بالهمزة.
? فطس : مات من غير علة ظاهرة . وفطس إذا انخفضت قصبة أنفه ، فصار : أفطس ، والأنثى فطساء ، ولكن العوام يقولون : فطسة بتاء التأنيث .(118/23)
? فطم : فطمت المرضع الرضيع : قطعت عنه الرضاعة ، فهي فاطم وفاطمة . وانفطم الرضيع إذا انقطع عن الرضاع . وانفطم عن الشيء : انصرف . والفطام : انقطاع الولد عن الرضاع . والفطيم : المفطوم ذكرًا كان أو أنثى . ويعرفون السيدة فاطمة الزهراء ، ويسمون بناتهم باسمها ، كما يعرفون الدولة الفاطمية التي أسسها المعز لدين الله الفاطمي (سنة 359هـ - 567هـ ) .
? فطن : الفطانة والفطنة وفطين وفطن وفطّنه بالأمر أي جعله يفطن له .
? فظّ : يعرفون الفظاظة بمعنى القسوة والإساءة ، ويقولون : عند فلان فظاظة ويصفونه بقولهم : هو فظّ . ومنهم من يحفظ خطاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله:" ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ".
? فظع : هذه المادة مستعملة عندهم ومن
ألفاظها : الفظاعة والفظيع وفظع الأمر واستفظع الأمر إذا رآه فظيعًا .
? فعفع : في أمره إذا أسرع . والفعفاع : الجبان – لا يعرفون هذين المعنيين ، ولكنهم يستعملون هذا الفعل في معنى إقلاق النائم ، فيقولون : فلان فعفع فلانا إذا أقلق نومه .
? فعل: فعل الشيء إذا عمله ، وافتعله إذا اختلقه وزوره ، وانفعل بكذا إذا تأثر به انبساطًا وانقباضا.وتفاعلا : أثر كل منهما بالآخر . والفاعل العامل الذي يشتغل في أعمال شاقة كالبناء وغيره،ومن كلامهم: فلان يشتغل في الفاعل . ومنه: فلان له فاعلية في هذا الأمر ، أي له تأثير في إنجازه (مجمعية) والمفاعل الذري (مجمعية).
? أفعى : الأفعى حية من شرار الحيات قاتلة، وجمعها الأفاعي .
? فقد : الشيء فقدًا وفقدانًا : ضاع منه. يقال فقد الكتاب، وفقد المال، خسره وعدمه. وفقد الصديق ، وفقدت المرأة زوجها ، وفقد الرجل زوجه ، فهو فاقد، والمفعول مفقود وفقيد . وافتقد فلانا: سأل عنه عند غيابه . وتفقد أحوال القوم: دقق النظر فيها ليعرفها حق المعرفة. والفاقد من النساء التي مات زوجها أو ولدها أو حميمها . والفقيد : المفقود .(118/24)
? فقر : الفقر والفقير ، والفقيرة ، والفقراء ، وأفقر الله فلانا : جعله فقيرًا ، وفلان افتقر : صار فقيرًا ، وفقر الدم (مولد) والفقير إلى الله – كل هذا معروف عندهم .
? فقس : فقس الطائر بيضته : كسرها ليخرج الفرخ.والفقوس : نوع من القثاء.
? فقش : فقش البيضة ونحوها : كسرها بيده ليخرج ما فيها .
? فقط : الحساب : ختمه بكلمة (فقط) حتى لا يزاد عليه (مولد) .
? فقع : فقع : تشدق وجاء بكلام لا معنى له. ومن عباراتهم : فلان كلامه مفقع . وفلان فقع فلان كفا – أي ضربه بكفه. وفقع الشيء المنفوخ : ضربه بكفه فانشق وصوت . وانفقعت الكرة : انشقت . وفقاقيع الجمع معروف ، ولا يعرفون المفرد.
? فقفق : فلان فقفقت يده من كثرة العمل بالفأس ونحوها ، ويده مفقفقة .
? فقم : تفاقم الأمر : استفحل شره ، ولكنهم يسكنون التاء ، ويأتون قبلها بهمزة وصل.
? فقه : الفقيه : العالم الفطن، والعالم بأصول الشريعة وأحكامها ، ومن يقرأ القرآن ويعلمه . ويحذفون الهاء من آخر الكلمة ويقولون : فقي ، ومنهم من يكسر الفاء ويقول : فقي . والجمع عندهم : فقهه . بحذف المد والهمز ، وإلحاق الهاء في آخر الكلمة .
? فكر : فكر في الأمر بالتضعيف أشيع في الاستعمال من المخفف . والتفكير والفكر والفكرة والمفكر ، والمفكرة : دفتر صغير يدون فيه ما يراد تذكره (محدثة).
? فك : فك الشيء : فصل أجزاءه ،
ويقال: فك الآلة ونحوها. وفك النقود: قدم وحدة كبيرة من العملة وحصل على ما يقابل قيمتها من العملات الصغيرة (مولد) وانفك الشيء : انفصل . انفكت العقدة ونحوها : انحلت . وتفكك الشيء انفك . والفك : اللحى ومغرس الأسنان, ولكل حيوان فكان : أعلى وأسفل . والمفك : أداة تدار بها المسامير اللولبية لكي تثبت أو تفك ، والجمع مفكات (محدثة).(118/25)
? فكه : الفكاهة تعني المزاح وما يستمتع به من طرف الكلام . والفكه الذي يكثر من الدعابة . وتفكه بالشيء : تمتع وتلذذ به . والفاكهة : الثمار اللذيذة والحلواء (ج) فواكه والفاكهاني : بائع الفاكهة ، وينطقونها : فكهاني .
? فلت : الولد الذي غلط فلت من العقاب ، أو أفلت منه . وانفلت : تخلص ونجا بسرعة، والفلتة : الأمر يحدث من غير روية وإحكام، والهفوة غير المقصودة. وبعضهم يقول: هذا من فلتات اللسان .
? فلج : يعرفون من هذه المادة : رجل مفلج الثنايا ، أي منفرجها . وفلجت المرأة أسنانها ، إذا فرّقت بينها للزينة .
? فلح : فلح الأرض للزراعة إذا أعدها بالحرث وما يتبعه من أعمال . والفلاح : محترف الفلاحة . وأفلح فلان : ظفر بما يريد . و " قد أفلح المؤمنون " أي فازوا بنعيم الآخرة . وحي على الفلاح من محفوظاتهم .
? تفلحس : من معجمهم ، لكنهم يعنون بها من يتحدث بالهراء وسخف القول مما لا يدري عواقبه ، وكأنه متطفل . أما الإلحاح في السؤال فلا يعرفونه . والفلحاس من الرجال : القبيح السمج . وإذا قالوا فلان فلحاس كان شتما .
? فلذ : الفولاذ معروف وهو نوع من الصلب متين جدًا ، ويصنع بخلط الصلب بعناصر أخرى (مجمعية).
? فلس : من هذه المادة يعرفون : أفلس فلان، إذا فقد ماله ، ويقولون عنه : فلان مفلس أو مفلس– بتشديد اللام مكسورة. وفلس القاضي فلانا : حكم بإفلاسه . والإفلاس : حالة تترتب على توقف التاجر عن الوفاء بديونه (مجمعية) والفلس والفلوس : عملة متداولة في بعض البلاد العربية، والفلوس في مصر ترادف النقود بالغة ما بلغت .
? فلسف : كلمة الفلسفة يعرفها كثير من العوام، ويعرفون بعض مشتقاتها كالأفعال وبعض الأسماء . ومن قبل كانوا يحدثون فيها قلبا مكانيا ، فيقولون "فلفسة" وفلان قاعد يتفلفس ، وهذا تطور ملموس في العامية .
? فلطح : فلطح الشيء : بسطه ووسعه ، ومنه رغيف مفلطح (وانظر فرطح).(118/26)
? فلفل : فلفل الطعام : جعل فيه الفلفل . وفلفل الأرز : أنضجه دون أن يتعجن (محدثة) والفلفل معروف عندهم . والمفلفل : ما يتبل بالفلفل . والفليفلة – بوزن المصغر معروفة عندهم أيضًا ، لكنهم يحذفون لام التعريف وينطقونها (افليفلة)ويفرقون بين الحريف منها وغيره.
? فلق : فلق الشيء:إذا شقه . فلق الشيء مبالغة . تفلق الشيء : تشقق . والفلق: الشق ، وجذع النخلة يشق اثنين. والفلق مفرق الشعر في الرأس . والفلق : الصبح ينشق من ظلمة الليل . والفلقة : القطعة ويفتحون الفاء منها . والفلقة – بثلاث فتحات: خشبة وعود يتصل به حبلان تمسك بهما القدمان للجلد (مولد).
? فلك : الفلك السفينة (للمذكر والمؤنث والواحد والجمع ) وعلم الفلك معروف ، وأول الشهر فلكيًا أي بحساب علم الفلك، والمشتغل بهذا فلكي . والفليكة السفينة الصغيرة ، والعوام يقولون فلوكة (للمركب الصغير أو القارب ) .
? فل : الفلة سدادة القارورة من الفلين (محدثة) والفل اسم يطلق على الياسمين.
? الفلم : شريط تسجيلي أو تصويري ، وجمعه أفلام (مجمعية) وكلمة فلم كثيرة الدوران على الألسنة .
? الفلين : مادة معروفة عند العوام ، وتصنع منها سدادات القوارير (دخيلة).
? فلان : كناية معروفة عن العلم المذكر العاقل ، مؤنثه فلانة . ومن استعمالهم لها قولهم : اجتمعنا وحضر فلان وفلان ، دون ذكر الأسماء ، وقولهم : الشيء الفلاني أو السكن أو الأمر أو العمل – لا يصلح لك ولا يليق بك .
? فلى : لم يستعملوا المخفف منها ، وإنما استعملوا المضعف فقالوا : فلى الشعر أوالثوب أو نحوهما ، إذا بحث عما قد يكون فيه من قمل ونحوه . والأم تفلي رأس أولادها . والفلاية مشط تضيق فرج أسنانه يفلى به الشعر (مولد).
? الفلية : نبات بري معروف عند المصريين ذو رائحة عطرية ، يتداوى بالزيت المستخرج منه ولهم أغنية تقول:
"بياع الفليه يا غالي عليه ".(118/27)
? الفم : من الإنسان معروف ، وبداخله جهاز النطق وجهاز المضغ . والعوام يضمون الفاء ، ومن دعائهم لمن يحسن القول : يسلم فمك ، بكسر حرف المضارعة،وضم الفاء وتشديد الميم . وهذا
كله عامي فصيح .
? الفنجان : هو الفنجال المعروف والجمع فناجيل أو فناجين .
? فنخ : فنخ العقد والعزم إذا لم يمضه ، وفنّخ بالتضعيف مبالغة فيه . ومن كلام العوام : خطبة فلان لفلانة فنخت – بالتخفيف–أو فنخت بالتضعيف–ومعناه: فسخت الخطبة.وربما قالوا:فنيخت بإبدال النون الثانية ياء ، هربا من التضعيف، وهذه الصيغة الأخيرة ليست في لسان العرب ولا في القاموس المحيط،ولها وجه .
? فنّد : فنّد رأي فلان : أضعفه وأبطله .
? الفندق : من الكلمات المستعملة كثيرًا الفندق والفنادق ، ( معربة ).
? الفنار : مصباح قوي الضوء ينصب على سارية عالية ، أو شبه برج مرتفع لإرشاد السفن في البحار والمحيطات إلى طرق السير وتجنب مواطن الخطر (محدثة) ( وهو المنار محرفًا ) .
? الفانوس : معروف عندهم ويجمع على فوانيس (معرب).
? فنّش:فنّش في الأمر:استرخى فيه، وفنّش عنه : نكص ورجع عنه . وهم يقولون: فلان نجح وفلان فنش بمعنى رسب.
? الفنطاس : حوض لادخار الماء العذب ، ويستعمل للتموين في السفينة . ووعاء كبير أسطواني لحفظ السوائل (محدثة) والجمع فناطيس .
? الفنيك : محلول سام مطهر ( دخيل ) ويستعملونه في تطهير دورات المياه ونحوها.
? الفن : يعرفون الفن بمعنى المهارة التي يدركها الذوق ، وجمعه : فنون . والفنان صاحب الموهبة.
? فنى : فنى الشيء إذا انتهى وجوده ، ويحفظون قوله تعالى : "كل من عليها فان"، ومن كلامهم : فلان مبذر لو عنده مال قارون يفنيه – بكسر حرف المضارعة. ومنه أيضًا:فلان يتفانى في عمله إذا أجهد نفسه فيه حتى كاد يفنى(محدثة).
? الفهد : سبع بين الكلب والنمر ، وهو معروف عندهم .(118/28)
? الفهرس : يعرفه من يعرف القراءة من العوام ، وينظر في فهرس المصحف الشريف ليستبين رقم الصفحة التي توجد بها السورة التي يريد قراءتها .
? فهم :يعرفون من هذه المادة الأفعال الثلاثة: الماضي والمضارع والأمر : فهم يفهم افهم، ويعرفون اسم الفاعل الفاهم ، واسم المفعول المفهوم،كما يعرفون المصدر الفهم.ويعرفون المزيد منها ومشتقاته أيضًا كالتفاهم والتفهيم والتفهم والاستفهام.
? فات : فات الأمر فواتا : مضى وقته. وفات فلان : مر ومضى . وفات الأمر فلانا: لم يدركه . فوت فلان الأمر : جعله يفوته . وتفاوت الشيئان : اختلفا في التقدير. ومن العبارات المعروفة : (فوت علينا بكرة) برد الفعل إلى أصله وعدم حذف عين الأجوف مع سكون لامه . ولام حرف الجر مكسورة . وهذا شائع في العامية نحو قولهم : قوم بدل قم . ونام بدل نم ..
? الفوج : الفوج الجماعة من الناس . والحجاج يسافرون أفواجًا فوجا بعد فوج، وهم ينطقونها بضم الفاء والفصيح فتح الفاء . لكن العامية تضم ما قبل الواو في كل ما شابه هذه الكلمات مثل العوم والنوم واللوم ، بضم ما قبل الواو .
? فاح : فاح الشيء إذا انتشرت رائحته طيبة أو غير طيبة . وفاحت رائحة الأمر إذا انتشرت له سمعة سيئة .
? فاد : استفاد المال وغيره : حصله . والفائدة لفظة مستعملة عندهم ، لكنهم يجعلون الهمزة ياء ويحذفون ألف المد ، فيقولون (فيدة) والفائدة : المال الثابت وما يستفاد من علم أو عمل أو مال أو غيره ، وربح المال في زمن محدد بسعر محدد (مجمعي) ويجمعون الفائدة على : فوايد – بالياء في موضع الهمزة .(118/29)
? فار : فار الماء فورانا إذا خرج من الأرض وجرى متدفقًا فهو فوّار . وفارت القدر إذا اشتد غليانها وارتفع ما فيها . وفارت النار إذا اشتد اشتعالها . وفوّر القدر إذا جعلها تفور . والفور أو الوقت، وهم يقولون : احضر فورًا – بفتح الفاء، ولكنهم يضمونها عندما يقولون الدفع فوري أي في الحال . ويعرفون الفوّار من الدواء ونحوه .
? فاز: فاز فلان بالخير يفوز ، إذا ظفر به، والفوز عندهم بضم الفاء . والفائز والفائزة – بالياء بدلا من الهمزة ، ومن كلامهم : الجائزة للفائز ، لكنهم يضعون الياء بدلا من الهمزة ، ويحذفون ألف المد من الجائزة ويشددون الجيم بعد همزة الوصل ويسقطون اللام ، فتصبح عبارتهم (إجّيزة للفايز).
? فاوض : فلان فاوض فلانا في الأمر إذا بادله الرأي فيه بغية الوصول إلى تسوية واتفاق . وفوّض الأمر إليه : جعل له التصرف فيه . ومن محفوظهم قول الله : "وأفوض أمري إلى الله " ، ويدعو المظلوم على الظالم فيقول فوّضت أمري إلى الله في فلان . والفوضى من الناس من ليس لهم رئيس . والمفاوضة تبادل الرأي في شأن طلبا للوصول إلى تسوية واتفاق . والوزير المفوّض، يمثل دولته في بلد أجنبي، ورتبته دون السفير وفوق القائم بالأعمال،ومقر عمله يطلق عليه:المفوضية.
? الفوطة :نسيجة من القطن ونحوه يجفف به الوجه واليدان . أو توضع فوق الركبتين عند الأكل وقاية للثوب من الطعام . وجمعها فوط (مولدة) والفواط : من ينسج الفوط أو يبيعها .
? فاق : فاق أصحابه : فضلهم وصار خيرًا منهم . وأفاق فلان من غشيته ، وأفاق من سكره ، أو من جنونه ، أو من نومه. وأفاق النعاس عن فلان . وتفوق فلان على أقرانه : فاقهم وترفع عليهم . والفائق : الجيد من كل شيء ، والممتاز على غيره من الناس . وفوق : ظرف مقابل لتحت . ومن كلامهم : رأي فلان فوق رأي فلان أي أفضل منه . وفلان أعلاهم فوقا أي حظًّا ونصيبًا .(118/30)
? الفول : معروف ، ويستعمل غذاء للإنسان والحيوان ، والفوال : بائع الفول. ومن كلامهم : الفول فطور الأمير وغذاء الفقير وعشاء الحمير . والفوالة : قدر تخصص لإنضاج الفول فيها ، وتوضع غالبا على سخان كهربي حتى ينضج الفول. والمعجم الوسيط لم يضف "الفوالة" إلى متن اللغة العربية ، وينبغي أن تضاف لأنها جارية على القياس .
? الفيتامين : من الكلمات المحفوظة عند العوام بأنواعها المختلفة .
? فاح : فاح المسك إذا انتشرت رائحته ، ويقال فاحت رائحة المسك . وفاح الحر : اشتد وهاج . وفاحت القدر : غلت (واوية يائية).
? فاد : أفاد فلان علما ومالا : اكتسبه (واوية يائية).
? الفيروز : حجر كريم غير شفاف معروف بلونه الأزرق ، يتحلى به (معربة) واللون الفيروزي هو اللون الأزرق المائل إلى الخضرة قليلا .
? فاض : فاض الماء يفيض فيضانا : كثر حتى سال . ومنه فاض النهر ، وفاض السيل . والماء فائض – وينطقونها بالياء بدل الهمزة. وفاض الإناء : امتلأ حتى طفح . وفاض الخير: كثر . وفاض الخبر ذاع وانتشر . وأفاض الحجاج من عرفات إلى منى : انصرفوا إليها بعد انقضاء الموقف . واستفاض الخبر : انتشر .
الإفاضة : انصراف الحجاج من عرفة .
وطواف الإفاضة : طواف يوم النحر والعودة إلى منى.والفائض:فائدة تعود على المرابي من رأس المال (محدثة) وتنطق بالياء والظاء . والفيض : الكثير الغزير .
ومن كلامهم: فيض الله كثير. والفيضان: طغيان النهر واندفاعه ، وينطقون الفيضان فصيحة ، ويكسرون فاء فيضة .
? الفيل : حيوان ضخم الجسم ذو خرطوم طويل يتناول به الأشياء، وله نابان بارزان كبيران يتخذ منهما العاج ، وهو معروف عندهم ، ويجمعونه على أفيال ولكنهم يحذفون الهمزة ويسكنون الفاء ويأتون قبلها بهمزة وصل مكسورة . ويعرفون داء الفيل، كما يعرفون أصحاب الفيل .
والحمد لله رب العالمين
أمين على السيد
عضو المجمع(118/31)
مقدمة :
مما لا شك فيه أن تحقيق كتاب المقتضب لأول مرة عمل علمي عظيم ، سد فراغًا في تاريخ علم النحو وتطوره ، وأصبح مرجعًا يعتمد عليه في كثير من البحوث ، وقد اقترن اسمه باسم محققه . وهو الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة الأستاذ بجامعة الأزهر . وقد قام بطبعه ونشره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية . وظهر الجزء الأول منه في سنة(1385هـ-1966م). وظهر الجزء الثاني والجزء الثالث في سنة (1386هـ-1967م) ، ثم ظهر الجزء الرابع في سنة (1388هـ-1969م).
وقد كانت لي صلة وثيقة بكتاب المقتضب للمبرد ، يعزى الفضل فيها للأستاذ الدكتور عبد الرحمن السيد عضو المجمع الموقر، فقد كتب عنه يقول: كتاب
المقتضب للمبرد ، الذي يعتبر أكبر كتاب ألف في النحو حتى عصره بعد كتاب سيبويه ، والذي جمع مسائل النحو وفروعها، الذي يعد .. مرجعًا من مراجع النحاة(1) .
بدأت هذه الصلة في سنة (1372هـ - 1953م ) حين اتجهت إلى الدراسات العليا فكان موضوع رسالتي للحصول على الماجستير : "الكتاب المقتضب للمبرد : دراسة وتحليل ونقد " بإشراف العالم المحقق الأستاذ عبد السلام هارون عضو المجمع السابق . وقد أنجزت هذا البحث في سنة (1379هـ - 1960م) وحملت نفسي وحملت كل من يتصدون لقراءة المقتضب أو الاطلاع عليه أو الانتفاع به – المسؤولية أمام التاريخ وأمام الأمانة العلمية عما هو عليه من
خطأ في الترتيب .. والنسخة وحيدة وصلت إلى دار الكتب المصرية في صورة سلبية رديئة ووضعت تحت رقم(1525 – نحو ) وأصلها محفوظ بمكتبة كوبريللي زاده بالآستانة بتركيا .(119/1)
وقد قام المحقق بمحاولة لإعادة الترتيب للكتاب المقتضب ، على أساس استقامة العبارة ومناسبة ما ينقل لما ينقل إليه ، فقد نقل عددا من الصفحات من وضعها في المصورة إلى وضع آخر ، كما أعاد بعض الأجزاء المتفرقة إلى أصلها ، وربط بين أجزاء بعض الموضوعات وبعضها الآخر. ولكنه لم يتتبع الإحالات ولم يستجب لها ، بل نظر إليها نظرة جعلته يقول(1) :" لقد خبرت المبرد في كثير من وعوده في الكامل وفي المقتضب فتبين لي أنه مسرف في هذه الوعود" . ثم بذل جهدًا كبيرًا حين وضع قدرا كبيرا من كتاب سيبويه في حواشي المقتضب ، فقد نقل عنه (1550) نص، كما وضع قدرا كبيرا من كتاب تفسير المسائل المشكلة في أول المقتضب للمبرد، تأليف
سعيد بن سعيد الفارقي، وكذلك فعل في كتاب الانتصار لابن ولاد، وكتاب مسائل الغلط في كتاب سيبويه للمبرد. وقد درست هذه الكتب دراسة علمية جادة في رسالتي سالفة الذكر. وقد أثنى على عمل الشيخ الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم في تقديمه المقتضب فقال :"وقد اقتضى عمله في المقتضب إحياء ثلاثة كتب قديمة لا تتجاوز القرن الرابع: نقد المبرد لسيبويه ورد ابن ولاد عليه في كتاب الانتصار ، وتفسير المسائل المشكلة في أول المقتضب لسعيد بن سيعد الفارقي. لخص هذه الكتب جميعها ووشى بها حواشي الكتاب"(2).
وهنا أسوق نصا للأستاذ عبد السلام هارون ، يبين رأيه في التعليق. قال بعد أن بين استحسان التعليقات الضرورية(3): "ولكن بعض المحققين يسرفون في هذه التعليقات بما يخرج عن هذا الغرض العلمي، إلى حشد المعارف القريبة والبعيدة من موضوع الكتاب. وهذا الأمر إن أعجب بعض العلماء فإنه حري ألا يعجب جمهرتهم، لذلك لم يكن بد من الاقتصاد في التعليق ".
التحقيق والتجربة :(119/2)
أطلق الشيخ على عمله في المقتضب اسم (تجربة) وقد صدق في هذا تحقيقا لقول العرب: جربت الشيء تجربة إذا اختبرته مرة بعد أخرى، وفي هذا الإطلاق مطابقة العمل للواقع ، لأن التجارب إنما تجري للتوصل إلى الحقائق، ولأن فيها ما يحتمل الصواب والخطأ ، ولأن إصلاح الخطأ أمر لا مفر منه. وقد جمعني العمل مع المحقق في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وكتب كل منا مقالا في العدد الحادي عشر من مجلة هذه الكلية سنة (1401هـ - 1981م) وكان عنوان مقاله : "تجربتي مع تحقيق التراث" من (157-177) وقد تحدث فيه عن المقتضب وعن احتمال النقص في أصله المحقق، وعن الاضطراب في النسخة ، وعن نقد المبرد لسيبويه ، وعن الانتصار لابن ولاد وعن تفسير المسائل المشكلة في أول المقتضب لسيعد بن سعيد الفارقي، وعن ربطه المقتضب بكتاب سيبويه، وعن فهرسته للمقتضب ، وعن الإقبال عليه ونفاد طبعته الأولى . وكان مقالي بعنوان " من كتب التراث : الكتاب المقتضب للمبرد" من (241-250) وقد أثنيت فيه على عمل المحقق، ووجهت النظر إلى وجوب إعادة ترتيب المقتضب عند إعادة طبعه، وبينت وضع المقتضب كما أراده صاحبه، وذكرت أمثلة مما تجب تلبيته من الإحالات التي في المقتضب ولخصت في ختام المقال الأدلة التي تثبت أن الترتيب الحالي للمتقضب المحقق غير صحيح، وهذه الأدلة هي :
1- كتاب الفارقي المشار إليه من قبل.
2- الإحالات التي تعين على تصحيح الترتيب.
3- الأرقام التي على عدد كبير من الصفحات غير صحيحة لعدم ارتباط بعضها ببعض .(119/3)
4- علم المبرد بكتاب سيبويه يجعلنا نقول: إنه عندما ألف المقتضب جعل النحو في جانب والصرف في جانب ثم ختمه بالإدغام ومخارج الحروف كما فعل سيبويه من قبل(1) ولا شك في أن الشيخ قد قرأ هذا المقال وأعاد قراءته ، وعرضه على ما بين يديه من الكتاب المحقق. وقد التقينا بعد ذلك أكثر من مرة ، ولكنه التزم الصمت، ثم انتقل إلى رحمة الله ولعل في هذا شيئًا من الرضا عن إعادة النظر في ترتيب الكتاب المقتضب .
ومما جاء في مقالي :" ومحقق الكتاب المقتضب قد بذل فيه الجهد ما يستأهل من أجله الشكر والثناء من كل مطلع على هذا العمل العلمي الكبير .. هذه كلها تجعلنا نطالب ملحين بإعادة النظر في ترتيب المقتضب عند إعادة طبعه ، حتى يوضع الأمر في نصابه، وتبرأ ذمة المبرد من تهمة يرتفع عنها قدره ، وتجل عنها مكانته".
وما دام الشيخ قد أطلق على عمله هذا اسم تجربة فإني أستعين في التعليق على هذه التسمية بقول الأستاذ عبد السلام هارون:" إن الخطأ في معالجة النصوص أمر مشترك بين العلماء جميعا ، لا إثم فيه ولا حوب ولكن كتمان الخطأ
فيه الإثم والتقصير في أداء الأمانة . ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل"(2). وقد كان من واجب المحقق أن يهدر الأرقام التي وجدها على صفحات المصورة، وأن يرجع إلى تاريخ النسخ ليتبين العلاقة بين رسم هذه الأرقام ، ورسمها ذاتها في تاريخ النسخ في القرن الرابع الهجري .
فالأرقام المدونة على صفحات المصورة ليست من عمل الناسخ يقينا . وهذه الأرقام في رسمها لا تتناسب مع التاريخ الذي نسخ فيه الكتاب. وقد وضعت هذه الأرقام بعد اختلال الترتيب واختلاط الأوراق . إنها الأرقام التي نستخدمها اليوم فهي أرقام حديثة وهي ( 1-2-3-4-5-6-7-8-9-10)، أما الأرقام التي تعزى إلى القرن الرابع الهجري فإنها تختلف عن هذه كما تجيء بين القوسين (1-2-3-ع-B-6-7-8-9-15) .
الأرقام والتحقيق :
لقد لفت نظري رسم الأرقام التي(119/4)
دونت على صفحات المصورة المودعة بدار الكتاب المصرية للمقتضب ، وحين تأملتها وجدتها أرقامنا التي نستخدمها الآن، وكان سبب تأملي فيها تفكيري في إظهارها ، كي اطمئن على التسلسل العددي فيها، ولكي أتحسس العلاقة بين هذه الأرقام وبين ترتيب الأوراق ، ثم تأملت بعض الصفحات التي اختل ترتيبها فوجدتها في تسلسلها العددي الصحيح، وأخذت من هذه دليلا على أن خلط الأوراق واختلال الترتيب قد وقع قبل الترقيم ، إذ إن أوراق المخطوطة كانت مفككة فتعرضت للخلط واختلال الترتيب ، ثم كان ترقيم الصفحات بعد هذا ، وكانت الأرقام التي وضعت على الصفحات هي أرقامنا التي نستعملها كما قلت من قبل .
ثم تذكرت عبارة للأستاذ عبد السلام هارون يقول فيها : (1)" وكذلك الأرقام تحتاج إلى خبرة خاصة ، وهذه صورة الأرقام التي ترد في بعض المخطوطات القديمة (321 ع كا 6) وهي(1، 2، 3،
4 ، 5 ،6).
فالنقطة قديمة عند العرب ، وكانت ترسم مجوفة هكذا (5) وكان يضعها الناسخ قديما لتفصل بين الأحاديث النبوية ، وكان قارئ النسخة على الشيخ أو معارضها على النسخ يضع نقطة أخرى مصمتة داخل هذه الدائرة (5) ليدل بذلك على أنه انتهى في مراجعته إلى هذا الموضع. ومن هنا ترسم العشرة بالألف هكذا (15) أما السبعة والثمانية والتسعة فقد جاءت كما نرسمها الآن هكذا (7-8-9) ثم رجعت لنفسي ففكرت في تاريخ النسخ لهذه المخطوطة المحفوظة بمكتبة كوبريللي زاده، فإذا هو القرن الرابع الهجري، وفي عام 347 منه، وأعدت النظر في الأرقام المدونة على صفحات هذه المخطوطة، فوجدتها هي هي أرقامنا التي نستعملها الآن، ووجدت المرقم قد جعل الكتاب قسمين: القسم الأول ويشتمل على الجزء الأول والجزء الثاني في تسلسل عددي بلغ (623) لوحة . والقسم الثاني يشتمل على الجزء(119/5)
الثالث والرابع في تسلسل عددي آخر بلغ (679) لوحة . وقد بلغ عدد اللوحات أكثر من ألف وثلاثمائة لوحة في الأجزاء الأربعة،وعند الطبع جعل المحقق لكل جزء ترقيما خاصا به: وقد انتهى الجزء الأول بالصفحة رقم (278) . وانتهى الجزء الثاني بالصفحة رقم (371). وانتهى الجزء الثالث بالصفحة رقم (392). وانتهى الجزء الرابع بالصفحة رقم(434). وقد اعتمد المحقق على ترقيم المصورة رقم (1525- نحو ) المأخوذة عن المخطوطة بمكتبة كوبريللي زاده رقم (1507، 1508 – نحو ) وأثبت المحقق الترقيم المذكور على هامش التحقيق بخطئه وصوابه ، والتزم هذا الوضع حتى حين نقل بعض الصفحات من جزء إلى آخر، نقلها بأرقامها . وقد نقلت المصورة (1525-نحو) على (ميكروفيلم) وأودعت في خزائن محكمة للحفاظ عليها وصونها من التقلبات الجوية التي يمكن أن تتعرض لها وأصبح الطريق إليها ثلاثة أرقام بدلا من الرقم الواحد، وقد جعل لكل
جزء منها رقم ما عدا الجزء الرابع: رقم الجزء الأول : 16317، ورقم الجزء الثاني: 16316 ، ورقم الجزء الثالث : 16753، ورقم الجزء الرابع : لم يختص الجزء الرابع برقم، ويظهر أنه تابع لرقم الجزء الثالث. وأول ما نبه إليه المحقق عن النقص في النسخة جاء في قوله: "في المجموع الأول لا نجد الصفحة التي تحمل رقم (404) . لغة الترقيم تنبئ بنقص هذه الصفحة . ولو احتكمنا إلى ارتباط الكلام واتصال الحديث لا نرى أثرًا لهذا النقص . المبرد مثل للمصدر الميمي واسمى الزمان والمكان بسبع آيات من القرآن الكريم ، وبيتين من الشعر ، وهذا القدر يكفي في التمثيل والاستشهاد ، وأعتقد أن المقام لا يحتمل أكثر من هذا القدر ، حتى نحكم بأن هناك صفحة ناقصة في أثناء هذا الاستشهاد ، وقد سبق أن عرض المبرد لهذا الموضع في ص : 61 واستشهد بآيتين وبيتين، كما عرض له في الكامل ومثل بآيتين وبيتين(1).
ويغني عن هذا التعليق جملة واحدة(119/6)
يقال فيها: "سقط هذا الرقم سهوًا" ولغة الترقيم التي ذكرها الشيخ لا تنبئ بنقص صفحة ، وإنما تنبئ بنقص رقم فقط، مادام الكلام متسقا . وعند حديث المحقق عن الاضطراب في النسخة(1) ذكر عدة أمور منها:
*ص (137) من المجموع الأول كررت ، وأخذت رقم (277)، ولم يتصل بها ما قبلها ، كما لم يناسبها ما بعدها، فهي حشو في وضعها الثاني. وليس لهذا ظل من الحقيقة، فقد جاءت. ص: (137) من المجموع الأول مفردة غير مكررة ، ووضعت في سياق الكلام ، وهي واقعة في ص: (143) في الجزء الأول من المطبوع. فآخر الصورة رقم : (136) قوله: (فإن احتاج إلى ) . وأول الصورة رقم (137) قوله: (صرف ما لا ينصرف صرفه) والربط بين آخر الصورة السابقة وأول الصورة اللاحقة لا يحتاج إلى بيان لأن حرف الجر (إلى) جاء في آخر ص: 136، والمجرور بعده جاء في أول ص: 137 .
أما الصورة رقم(277) التي قال المحقق عنها: إنها أخذت هذا الرقم من الرقم المكرر للصورة رقم (137) ولم يتصل بها ما قبلها ، كما لم يناسبها ما بعدها، فهي حشو في وضعها الثاني . وقد كتب عنها المحقق في الهامش رقم (1) في الجزء الأول من المطبوع ص (263: هي ص: (137) كررت هنا، وأخذت رقم ( 277) . وقد أسقط المحقق هذه الصورة ، ولم يضعها في موضعها ، علما بأنها مرتبطة بما قبلها وبما بعدها تمام الارتباط ، وفيما يلي بيان من واقع المصورة : آخر ص (276) من المصورة قوله: (وإن ثنى ألحق الألف). وأول ص: (277) قوله:(على ما وصفت لك ، فقال الهندان قامتا، فالتاء علامة التأنيث والألف للتثنية).وآخر ص:(277) قوله:(وذلك قولك:رأيتك ومررت) وأول ص: (278)قوله:(بك للمخاطب) فالجار والمجرور (بك) متعلق بمررت. وقد ترك المحقق سطرا خاليا من الكتابة ، مليئا بالنقط المتجاورة كأنها علامة حذف للوحة رقم (277) . والصور المرفقة مصداق ذلك( 136، 137، 276، 277، 278).(119/7)
* ص : (550-590) من المجموع الأول وضعت كل واحدة منهما مكان الأخرى. ويستقيم الكلام بوضع كل منهما في موضعها. وقد كتب المحقق عن ذلك في هامش الصفحة رقم (282) من الجزء الثاني المطبوع يقول: وضعت في النسخة ص: (590) مكان ص: (550) كل منهما مكان الأخر خطأ ، فجاء الاضطراب في الموضعين . وبنقل ص: (590) إلى هنا يستقيم الكلام ، كذلك بوضع (550) هناك استقام الكلام. وكتب في هامش ص: (322) من نفس الجزء المذكور آنفا : نقلنا ص: (550) مكان ص: (590) كما فعلنا العكس واستقام الكلام في الموضعين. وهاتان الصورتان قد جاءت كل منهما في موضعها، فالرقم الذي قبل رقم:(550) هو رقم (549) وكلتا الصفحتين في لوحة واحدة ، وكذلك الرقم الذي قبل رقم : (590) هو رقم : (589) وكلتاهما في لوحة واحدة. ولكن المحقق أصر على أن يثبت الخط في الهامش ، فوضع (590) في التسلسل بعد (549) ووضع (550) بعد (589) والرقم الصحيح هو الذي تنطق به الصورة في الموضعين . وكان الأحرى وضع كل منهما مكان الأخرى. ولا نستطيع تعليل هذا ، إلا بأن يكون الخلط واختلال الترتيب قد وقع بعد التصوير، وهذا ما لا يستطيع أحد أن يقول به. وقد سبقت الشيخ إلى إصلاح هذا الخطأ في رسالتي ص: (126،125) "وقلت : وهاتان الصورتان في (1525-نحو) هما رقم (590) ورقم (550) وضعت كل منهما مكان الأخرى خطأ وذلك في القسم الثالث من الجزء الثاني" والمتفق عليه أن تصحيح الخطأ واجب .
* نقل الشيخ صفحتين من الجزء الأول إلى الجزء الثالث، وكتب في هامش ص: (260) من الجزء الأول المطبوع رقم(3): صفحتا: 274،273 وضعتا هنا خطأ ، ومكانهما بعد ص: (15) من الجزء الثالث، وبنقلهما إلى هناك التحم الكلام. وهذا النقل من تصحيح الخطأ أيضًا .(119/8)
وقد أنكرت الوضع الذي عليه المقتضب من قبل أن يحقق، كما أنكرت هذا الوضع الذي آل إليه بعد التحقيق، لأن عمل المحقق لم يشف الغليل، ولم يفصح عما يحويه هذا السفر القيم، ولقد شبهته بعقد ثمين انفرطت حباته، فضاعت بهجته ونقصت قيمته، وأصبح في حاجة إلى عليم خبير يعيد له هذه البهجة، ويضيف إليها تلك القيمة. لقد درست هذا الكتاب بعد التحقيق دراسة جادة، وعادت صلتي به أقوى مما كانت عليه قبل التحقيق.
وقد فات المحقق أن يحصل على صورة أخرى من الأصل المودع بتركيا، قد تفيده في عمله، فاستدركت هذا الأمر وحصلت على أصل هذه الصورة (ميكروفيلم) وقمت فور ذلك بمراجعته على الأصل المحفوظ بدار الكتاب، فوجدته طبق الأصل منه قبل أي تغيير في الصواب وفي الخطأ فانصرفت عن التفكير في تكبيره. ثم نظرت في الأرقام التي وضعت على صور الصفحات فإذا هي
أرقامنا التي نستخدمها الآن، وليس بينها وبين الخط المكتوب في القرن الرابع الهجري صلة، لأن الأرقام الحديثة قد طرأ عليها بعض التغيير فالواحد والثلاثة والسبعة والثمانية والتسعة لم تتغير، أما الاثنان والأربعة والخمسة والستة والعشرة فإن رسمها في القرن الرابع الهجري هكذا (2-ع-كا-6-15)(*)
ولو تنبه المحقق إلى أن هذه الأرقام المدونة على صفحات المصورة ليست بخط الناسخ، ومدادها ليس بالمداد الذي كتبت به النسخة، وليس بين هذه الأرقام وخط الكتاب صلة، وقد وضعت بعد خلط الأوراق واختلال الترتيب، وإحلال بعض الأوراق محل بعضها الآخر – لو تنبه إلى ذلك لكان حريا به أن يعدل عنها ويصلح ما وقع فيها من أخطاء . هذا وقد تعامل المحقق مع الأرقام في عدة مناسبات من مقدمة المقتضب ولكنه مر عليها دون أن ينتبه إلى كيفية كتابتها، ولم يخطر بباله تاريخ نسخ المقتضب وكيفية رسم الأرقام في هذا التاريخ شأنه شأن الكثيرين .
القول الفصل في ترتيب الكتاب المقتضب(119/9)
بعد أن يسر الله لي الحصول على (ميكروفيلم) للكتاب المقتضب من مكتبة (كوبريللي زاده) قمت بمقابلته بالمصورة المودعة بدار الكتب المصرية تحت رقم (1525-نحو) بمعاونة الأستاذ فؤاد سيد رئيس قسم المخطوطات حينذاك فوجدته مطابقا لها في الصواب والخطأ، فأمسكت عن تكبير (الميكروفيلم) وتراخيت سنين عددا. ثم أصبحت الصورة المكبرة للمقتضب تحت يدي، وقد جاءت على خلاف الصورة المكبرة بدار الكتب، وضوحا ونقاء وصفاء .
لقد قرأت المقتضب في المصورة رقم (1525- نحو) أكثر من مرة، وقرأه كثيرون من قبلي ومن بعدي، ولكن أحدا لم يلحظ الأرقام المدونة أمام كل موضوع من موضوعات الكتاب المقتضب، وقد كتبت بخط الناسخ، وبالمداد الذي كتب به النص، وبالطريقة التي كانت ترسم بها الأرقام في تاريخ النسخ سنة 347هـ، على ما أشرت من قبل.
لقد أسرعت بالمرور على كل الأجزاء، ثم أعدت النظر في رءوس الموضوعات فوجدت قرين كل باب رقما عدديا مكتوبا بخط الناسخ، وبالمداد الذي كتب به النص، وبالطريقة التي كانت ترسم بها الأرقام في تاريخ النسخ، وقد جاء ترقيم أبواب الكتاب كلها في تسلسل عددي واحد من أوله إلى آخره.
" إن كل من يتصدى لقراءة المقتضب أو الاطلاع عليه، أو الانتفاع به مسؤول أمام التاريخ وأمام الأمانة العلمية عما فيه من أخطاء في الترتيب"(*) وعليهم أن يشغلوا أنفسهم بالتفكير والتدبر والدعوة إلى تصحيح الوضع في هذا السفر.
وما من شك في أن من بعث الكتاب من مرقده، وأتاح للباحثين فرصة الانتفاع به لن يحرم أجر المجتهد، وسيظل عمله أثرا طيبا مشكورا، مهما تكن الأخطاء التي لم يطرق سبيل تصحيحها. إن مراعاة أرقام الموضوعات التي يسر الله لي الطريق إلى الكشف عنها أمر يجب أن نحتكم إليه في
ترتيب الكتاب ترتيبا يطابق أرقام الموضوعات. ومهما يكن في الكتاب المطبوع من أخطاء في الترتيب فإن المحقق مقبول العذر لعدم اكتشاف هذه الأرقام المقارنة لكل موضوع فيه.(119/10)
لقد نفدت الطبعة الأولى للكتاب، والحاجة ملحة لإعادة طبعه، لكن بعد أن نقوم بترتيبه ترتيبًا يطابق ترقيم الأبواب الذي يسر الله الطريق إلى الكشف عنه.
ومما يثير العجب قول المحقق في المقدمة : "فقد صحبت المقتضب منذ ربع قرن من الزمان . استنسخته لمكتبتي، وقربته من نفسي، وبقيت حفيا به، مراعيا له، مقبلا عليه"(*) . ومع هذا كله لا ينتبه لأرقام الموضوعات .
إن تجربة الشيخ في تحقيق المقتضب فيها صواب كثير، ولكنها لم تخل من هنوات تجب ملاحظتها عند إعادة الطبع، وأرجو ألا يقتصر الأمر على ذلك وأن تراجع هذه التجربة مراجعة دقيقة لكي يبرأ الكتاب من كل عيب، وتقترب التجربة من الكمال، فلا نبقى على خطأ
مهما كان يسيرا.
إن هذه المصورة التي اعتمد عليها الشيخ صورة سالبة، تعرض الدارس للوقوع في كثير من الأخطاء، ولعلها من أسباب انصراف الباحثين عن هذا الكتاب، فضلا عما فيه من أخطاء الترتيب واختلال الأوراق واختلاط بعضها ببعض.
وليس من الخطأ بأرقام الموضوعات التي اكتشفت أخيرًا، لأن تصويره الأول مما يساعد على خفاء هذه الأرقام. وقد اشترك في هذا كل من اطلع على هذا الكتاب قبل التحقيق وبعده، ومن هؤلاء:
* قسم المخطوطات بدار الكتب، وتقصيره في عدم عرض هذه الهدية على لجنة التراث التي تضم عددا من المختصين.
* أهل العلم الذين أتيحت لهم فرصة الاطلاع عليه.
* الطلاب وأصحاب الرسائل الجامعية الذي رجعوا إلى المقتضب واستعانوا به مرجعا أساسيا في رسائلهم .
* أصحاب الكتب الذين رجعوا إليه ،
ونقلوا عنه.
* الناسخون الذين قدموا لدار الكتب المخطوطة رقم (1909- نحو) والآخرون الذين قدموا لجامعة القاهرة المخطوطة رقم (26061- نحو) والمشرفون على النسخ هم المسؤولون.(119/11)
وإذا كان التصوير رديئًا فلابد أن تكون الأخطاء كثيرة، وعندما تسلمت الصورة المكبرة عن الميكروفيلم وجدت الأرقام بخط غير خط الكتاب ووجدت أن بعضها قد محيت أجزاء منه، فقمت بتوضيحها على صور المقتضب، ووجدتها كاملة في تسلسلها، ولم يسقط منها إلا رقم (404) من الجزء الثاني، وقد علق المحقق على هذا في الهامش رقم (6) من الصفحة رقم (120) في خمسة عشر سطرًا، لكي يجيب على السؤال: (هل نقص الكتاب صفحة؟) وقد وضع علامة الحذف في ثلاثة أسطر في نفس الصفحة. وليس لهذا الأمر داع. وقد صورت النسخة ثانية لتبقى الصورة الأولى على ما هي عليه، كي تكون مرجعا معتمدا للتحقيق الأول لهذا الكتاب، وبيانا صادقا لما صنعه المحقق من تغييرات ، وتقديرا لما بذل من جهد .
أما الصورة الثانية فسأبقى فيها على نص الكتاب، وأصرف النظر عن أرقام الصفحات التي كتبت بعد خلط الأوراق فيها، وخالفت نظام الكتابة الموافق لتاريخ النسخ، وليس هذا إهدارا لهذه الأرقام، إنما هو تصحيح لخطأ لا يجوز السكوت عليه.
ولابد بعد هذا من ترقيم الصفحات بعد الترتيب الموافق لأرقام الموضوعات، ثم يكون لنا الخيار في التحقيق بين الأمور الآتية:
* أن نبقى على تحقيق الشيخ مع إصلاح كل ما يخالف ترتيب الموضوعات والإحالات التي تصدق في جملتها بعد الترتيب.
* أن يختصر تحقيق الشيخ، ويستبعد منه كل ما ليس له صلة بالنص المدون في الكتاب المقتضب كالحشو والتكرار والاستطراد وغيرها مما هو بعيد عن النص.
* أن يعاد تحقيق الكتاب ويكتفى بتوضيح الغامض وشرح ما يحتاج إلى شرح على شرط أن تكون تعليقات الشيخ وحواشيه هي المرجع الأول .
وفيما يلي بيان موجز للموضوعات العشرين الأولى من الجزء الأول المرتب، اكتفيت فيه بذكر رقم الباب وعنوانه ورقم اللوحة من الجزء المصور ورقم الصفحة من الجزء المطبوع. ثم يلي ذلك عرض موجز لترتيب الأبواب في بقية الكتاب.
الجزء الأول(119/12)
بدأ بالبسملة، وجاء بعدها: "هذا تفسير وجود العربية وإعراب الأسماء والأفعال" وليس أمام هذا العنوان رقم. وهو في اللوحة رقم (4) من المصور. وفي الصفحة رقم (3) من المطبوع. وجاء بعده الباب الثاني . وعنوانه: "هذا باب الفاعل" وأمامه رقم (2) وهو في اللوحة رقم (8) من المصور. وفي الصفحة رقم (8) من المطبوع. وجاء بعده الباب الثالث. وعنوانه: "هذا باب حروف العطف" وأمامه رقم (3) وهو في اللوحة رقم(11) من المصور . وفي الصفحة (10) من المطبوع. وجاء بعده الباب الرابع. وعنوانه: "هذا باب من مسائل الفاعل والمفعول به" وأمامه رقم (4) بخط الناسخ، وبنظام الكتابة الموافق لتاريخ النسخ. وهو في اللوحة رقم (14) من الجزء الأول المصور. وفي اللوحة رقم (382) من الجزء الرابع المصور. وفي الصفحة رقم (13) من الجزء الأول المطبوع.
عمل المحقق :
وقد نقل المحقق عشر لوحات من الجزء الرابع المصور إلى الجزء الأول المطبوع، تبدأ من (382) وتنتهي برقم (391) وقد احتفظ بأرقامها ودونها على هامش الصفحات المطبوعة من الجزء الأول . وقد وافقت أرقام الصور المنقولة من الجزء الرابع أرقام الصفحات المطبوعة من الجزء الأول (من 13-25) على النحو الآتي:
382=13 ، 383=14 ، 384=15 ، 385=16 ، 386=18 ، 387=19 ، 388=20 ، 389=21 ، 390=24 ، 391=25 .
وهذه اللوحات العشر أول ما يتعين نقله من الجزء الرابع إلى الجزء الأول .
ثم جاء الباب الخامس .
وعنوانه : "باب . وتقول في مسائل طوال يمتحن بها المتعلمون " وأمامه رقم (5) الذي رسم بخط الناسخ الموافق تاريخ الأرقام. وهو في اللوحة رقم ( 389) من الجزء الرابع المصور .
وفي الصفحة رقم (22) من الجزء الأول المطبوع .
ثم يجيء الباب السادس .
وعنوانه : "هذا باب المفعول الذي لا يذكر فاعله" وأمامه رقم (6). وهو في اللوحة رقم (391) من الجزء الرابع المصور. وفي الصفحة رقم (50) من الجزء الرابع المطبوع .(119/13)
ثم يجيء الباب السابع. وعنوانه: "هذا باب من إعمال الأول والثاني ، وهما الفعلان اللذان يعطف أحدهما على الآخر". وأمامه رقم(7) . وهو في اللوحة رقم (401) من الجزء الرابع المصور. وفي الصفحة رقم(72)من الجزء الرابع المطبوع.
ثم يجيء الباب الثامن . وعنوانه " هذا باب إعراب ما يعرب من الأفعال وذكر عواملها والإخبار عما بنى منها ". وأمامه رقم (8). وهو في اللوحة رقم (407) من الجزء الرابع المصور . وفي الصفحة رقم (80) من الجزء الرابع المطبوع .
ثم يجيء الباب التاسع .
وقد جار الزمان على رقمه فمحاه . وعنوانه: "هذا باب الفعل المتعدي إلى مفعول، واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد". وهو في اللوحة رقم (404) من الجزء الرابع المصور. وفي الصفحة رقم (86) من الجزء الرابع المطبوع .
ثم يجيء الباب العاشر. وعنوانه: "هذا باب من مسائل كان وأخواتها" . وأمامه رقم (10).
وقد رسمت العشر بنقطة مجوفة هكذا(15) وهو في اللوحة رقم (422) من الجزء الرابع المصور. وفي الصفحة رقم (98) من الجزء الرابع المطبوع.
ثم يجيء الباب الحادي عشر . وعنوانه: "هذا باب الأحرف الخمسة المشبه بالأفعال " وأمامه رقم (11) . وهو في اللوحة رقم (427) من الجزء المصور. وفي الصفحة رقم (107) من الجزء الرابع المطبوع .
ثم يجيء الباب الثاني عشر . وعنوانه: "هذا باب من مسائل باب كان وباب إن في الجمع والتفرقة. وأمامه رقم (12) . وهو في اللوحة رقم ( 433) من الجزء الرابع المصور. وفي الصفحة رقم (115) من الجزء الرابع المطبوع.
ثم يجيء الباب الثالث عشر. وعنوانه: "هذا باب المسند والمسند إليه ، وهما ما لا يستغني كل واحد عن صاحبه " وأمامه رقم (13).وهو في اللوحة رقم(442 ،443) من الجزء الرابع المصور. وفي الصفحة رقم(126)من الجزء الرابع المطبوع.(119/14)
ثم يجيء الموضوع الرابع عشر. وعنوانه : "هذا باب الإضافة " . وأمامه رقم (14). وهو في اللوحة رقم (451) من الجزء الرابع المصور. وفي الصفحة رقم(136) من الجزء الرابع المطبوع .
ثم يجيء الباب الخامس عشر. وعنوانه: "هذا باب اسم الفاعل الذي مع الفعل المضارع" وأمامه رقم (15). وهو في اللوحة رقم (461) من الجزء الرابع المصور. وفي الصفحة رقم (148) من الجزء الرابع المطبوع.
ويجيء الباب السابع عشر بعد. وعنوانه: "هذا باب الصفة المشبهة بالفاعل فيما يعمل فيه، وإنما تعمل فيما كان من سببها، وذلك كقولك: هذا حسن الوجه وكثير المال" . وأمامه رقم (17). وهو في اللوحة رقم (471) من الجزء الرابع المصور . وفي الصفحة رقم (158) من الجزء من الجزء الرابع المطبوع.
ويجيء الباب الثامن عشر بعد ذلك . وعنوانه: "هذا باب من المفعول، ولكنا عزلناه مما قبله لأنه مفعول فيه وهو الذي يسميه النحويون الحال".وأمامه رقم(18).
وهو في اللوحة رقم (477) من الجزء الرابع المصور. وفي الصفحة رقم (166) من الجزء الرابع المطبوع .
ويجيء الباب التاسع عشر بعد . وعنوانه: "هذا باب الفعل الذي يتعدى إلى مفعول، وفاعله مبهم، ولا يتصرف تصرف غيره من الأفعال، ويلزم طريقة واحدة لأن المعنى لزمه على ذلك، وهو باب التعجب". وأمامه رقم (19) وهو في اللوحة رقم (484) من الجزء الرابع المصور. وفي الصفحة رقم (173) من الجزء الرابع المطبوع.
ويجيء بعد ذلك الباب العشرون وعنوانه: "هذا باب ما جرى في بعض اللغات مجرى الفعل لوقوعه في معناه وهو حرف جاء لمعنى ، ويجري في غير تلك اللغة مجرى الحروف غير العوامل ، وذلك الحرف(ما) النافية" وأمامه رقم (20). وهو في اللوحة رقم (499) من الجزء الرابع المصور. وفي الصفحة رقم (188) من الجزء الرابع المطبوع.
وبقية أبواب الجزء تكاد تطرد في تسلسلها العددي. والذي يهم القارئ أن توصف حالة الأرقام من حيث الوضوح والخفاء والنقص والتكرار .(119/15)
ثم جاء الباب رقم(21) والباب رقم(22) والباب(23)وأرقامها ظاهرة أمام العناوين.
وبعدها باب بلا رقم ، وضعت له رقم (23مكرر) لضرورة التسلسل فيما بعده.
وجاء الباب رقم (24) ورقمه واضح. وجاء بعده باب محى رقمه ، وهو الباب رقم (25).
وجاء بعده الباب السادس والعشرون، وقد ظهر رقمه. ثم جاء باب لم يظهر رقمه، وقد أضفت إليه رقم (26مكرر).
وقد ظهرت أرقام الأبواب متتابعة من رقم (27إلى رقم 33) . ثم جاء باب بدون رقم، وقد وضعت أمامه رقم (34).
وكذلك جاء بعده باب بلا رقم ، وقد وضعت أمامه رقم (35) وهنا سبعة أرقام لسبعة أبواب نقصت من الكتاب من (36- 42)وبعدها جاء الباب رقم (43) وقد ظهر رقمه.
ثم جاء بعده باب بلا رقم ، فوضعت أمامه رقم (34مكرر).
ثم تظهر أرقام الأبواب ابتداء من رقم (44) إلى رقم (72).
وقد أظهرت رقم (73) لأن بقاياه تدل عليه. والأبواب رقم : (76،75،74) أرقامها كلها ظاهرة. وهذه هي آخر الجزء الرابع المحقق، وقد نقل إلى الجزء الأول.
وبيانات هذه الأبواب فيما يأتي :
الباب الرابع والسبعون.وأمامه رقم (74). وعنوانه: "هذا باب الجمع بين إلا وغير، والحمل على المعنى إن شئت ".
وهو في اللوحة رقم (677) من الجزء الرابع المصور. وفي الصفحة رقم (426) من الجزء الرابع المطبوع. وبعده الباب الخامس والسبعون. وأمامه رقم (75) . وعنوانه " هذا باب الاستثناء بليس ولا يكون" وهو في اللوحة رقم (679) من الجزء الرابع المصور. وفي الصفحة رقم (428) من الجزء الرابع المطبوع .
وبعده الباب السادس والسبعون. وأمامه رقم (76) . وعنوانه: "هذا باب ما حذف من المستثنى تخفيفا واجتزئ بعلم المخاطب" وهو في اللوحة رقم (679) من الجزء الرابع المصور . وفي الصفحة رقم (429) من الجزء الرابع المطبوع .
وبهذه الموضوعات الثلاثة ينتهي النقل من الجزء الرابع ، وهي آخر الجزء الرابع المحقق.(119/16)
ثم نعود إلى الجزء الأول فنجد أرقام الأبواب التي وضعت فيه بعد الباب الرابع تبدأ من رقم (274) وعنوان هذا الباب: "هذا باب ما كان لفظه مقلوبا فحق ذلك أن يكون لفظه جاريا على ما قلب إليه ".
وقد وضع هذا الباب اجتهادا في الجزء الأول المحقق في الصفحة رقم (29) . وموضع هذا الباب في الجزء الرابع الذي بدأ بالباب المنبه عليه في آخر الجزء الثالث يقول المؤلف: تم الجزء الثالث والحمد لله رب العالمين ، ويتلوه في الجزء الرابع من كتاب المقتضب:
" هذا باب إيضاح الملحقة وتبيين الفصل بينها وبين غيرها ".
وقد ظهر الرقم الخاص بهذا الباب أمام العنوان وهو رقم (263) تاليا آخر رقم في الجزء الثالث وهو رقم (262) ثم تسلسلت الأرقام بعد دون نقص إلى رقم (274) الذي ذكر عنوانه وبيانه من قبل، وهذه الأبواب كلها تأتي في الجزء الرابع المرتب.
وقد سجل المحقق في الهامش رقم (2) من صفحة (29) قوله:
نقلنا بقية ص (381) من الأصل والصفحات(382، 383، 384، 385، 386، 387، 388، 389، 390) وشيء من ص (391) إلى الجزء الأول المطبوع ص 13- 29.
وللشيخ في هذا النقل أجر من اجتهد فأخطأ .
وفي الهامش رقم (3) من صفحة (260) من الجزء الأول المطبوع قال المحقق:
صفحتا (274،273) وضعتا هنا خطأ، ومكانهما بعد صفحة (15) من الجزء الثالث. وبنقلهما إلى هناك التحم الكلام أهـ. وأصبح لدينا دليل على النقص ، لأن آخر لوحة (272) عبارة (نقول) وجملتها لم تتم . وفي صدر اللوحة رقم (275) هذه العبارة :
" إلا نوعا واحدا ، لا يكون اثنان أكثر من اثنين عددا ، كما يقع جمع أكثر من جمع". ولم يعلق المحقق على هذه العبارة وكان الواجب يقتضي أن يثبتها في نص الكتاب للأسباب الآتية :
* لأنها جزء من النص، والتحقيق أداء النص كاملا .(119/17)
* ولأنها أتت ختاما لباب من أبوابه، بدليل إردافها بباب ظهر رقمه واضحا جليا، وهو رقم (78) وعنوانه: "هذا باب المضمر المتصل. ورقم اللوحة التي جاء فيها هو رقم (275) من الجزء الأول المصور، وهو الصفحة رقم (261) من الجزء الأول المطبوع .
* ولأنها في صدر صفحة وفي أول سطر منها،وهذا علامة على سقوط شيء قبلها.
* وقد بدئت بحرف الاستثناء ( إلا) وهو من الحروف التي لا يبتدأ بها فهي تكملة لباب سقط من أوله قدر غير معلوم.
* وفيها دلالة على موضوع هذا الباب، ولعله عن إعراب جمع المذكر والملحق به إعراب الواحد بخلاف المثنى. وقد ورد هذا في الجزء الثالث والرابع . والباب الذي أتمته هذه العبارة يمكن أن يكون رقمه (77). ثم يأتي بعده الباب رقم(78) كما ذكر. ويظهر من بعده رقم الباب (79) وعنوانه: "هذا باب الإضمار الذي يلحق الواحد الغائب وتفسير أصله. وأين يجوز أن يبدل من الواو التي تلحقها الياء والعلة في ذلك".
كذلك يظهر رقم الباب (80) وعنوانه: "هذا باب ما يختار فيه حذف الواو والياء من هذه الهاءات" وهو في اللوحة رقم (281) من الجزء الأول المصور، وفي الصفحة رقم (266) من الجزء الأول المطبوع. والباب الذي بعده عنوانه: "هذا باب إضمار جمع المذكر" ولم يظهر له رقم، ولكن هذه الأبواب الأربعة الأخيرة في موضوع واحد، وتسلسل الترقيم يقتضي أن نضع رقم (81) للباب الذي لم يظهر له رقم، ويؤيد هذا ظهور الرقم (82) في مستهل الجزء الثاني ، وبهذا تتم أبواب الجزء الأول بعد الترتيب واحدا وثمانين بابا على وجه التقريب .
الجزء الثاني(119/18)
يبدأ الجزء الثاني من الكتاب المقتضب بالباب الثاني والثمانين، وقد ظهر الرقم واضحا أمام الباب المعين لبدء هذا الجزء، كما في العبارة الآتية: تم الجزء الأول يتلوه في الجزء الثاني باب عنوانه: "هذا باب إعراب الأفعال المضارعة، وكيف صار الإعراب فيها دون سائر الأفعال . وأمامه رقم: (82) وهو في اللوحة رقم (292) من الجزء الثاني المصور. وفي الصفحة رقم (1) من الجزء الثاني المطبوع. وبعد هذا الباب تتابع أرقام الأبواب ( 86،85،84،83) ظاهرة.
ثم يعدو الزمن على رقم الباب (87) فيمحوه، ولا تظهر منه إلا آثار لا ترشد إليه، لكنه مرتبط بما قبله وبما بعده تمام الارتباط من حيث المحتوى ، فأظهر الرقم.
وبعده باب عنوانه: "هذا باب الواو" وأمامه رقم (88) وهو في اللوحة رقم (312) من الجزء الثاني المصور . وفي الصفحة رقم(25)من الجزء الثاني المطبوع.
ولا تظهر أرقام الأبواب (89، 90، 91، 92) وهي:
(89) هذا باب (أو) . (90) هذا باب (أن). (91) هذا باب (الفعل بعد أن) . (92) هذا باب (حتى) . وهذه الأبواب في اللوحات (315- 328) من الجزء الثاني المصور.
وفي الصفحات (28- 41) من الجزء الثاني المطبوع.
ثم يتتابع ظهور أرقام الأبواب من ( 93- 102) .
ثم يتكرر هذا الرقم (102) بعد باب لم يظهر رقمه ، ولكنه مرتبط بالباب المرقم قبله تمام الارتباط. والباب المرقم قبله عنوانه: "هذا باب الأفعال التي تدخلها ألف الوصل والأفعال الممتنعة من ذلك".
والباب غير المرقم عنوانه: "هذا باب دخول ألف الوصل في الأسماء غير المصادر".
ثم يجيء باب عنوانه: "هذا باب أفعال المطاوعة" يحمل رقم ( 103) وتظهر الأرقام واضحة إلى رقم (103) وتظهر الأرقام واضحة إلى رقم (110).
فإذا وصلنا إلى الباب الذي يتلوه وجدنا الباقي منه رقم (1) وبجواره جزء صغير من الرقم الذي يليه، وقد بدأ كالنقطة المسمطة، وانمحت آثار الواحد الثالث الذي يكمل الرقم (111) بينته على الصورة الثانية .(119/19)
ثم يتتابع ظهور أرقام الأبواب من رقم (112) إلى رقم (120).
فإذا دققنا النظر في رقم الباب (121) وجدنا الباقي منه ثلاثة أجزاء رسمها هكذا (1-1) وهو مرتبط بما قبله وبما بعده. ونقص ببعده رقم (122) ولا نستطيع الجزم بنقص باب هنا أو نقص الرقم وحده.
وفي وضوح تام تجيء أرقام الأبواب من (123) إلى (136).
ونفاجأ بعد ذلك بتكرار الأرقام(133، 134، 135، 136) مع أبواب جديدة في نفس الباب غير ما تقدم.
ثم يظهر رقم ( 137) ورقم (138) ولا يظهر رقم (139) قرين الباب الذي بعدهما وعنوانه: "هذا باب تحقير الظروف من الأزمنة" وهو في اللوحة رقم (542) المصورة من الجزء الثاني ، وفي الصفحة رقم (275) من الجزء الثاني المطبوع.
وابتداء من رقم ( 140) إلى آخر هذا الجزء الذي انتهى بالموضوع رقم (167) لم يستعص على القراءة إلا رقم (143) ولكن ارتباط الموضوع بما قبله ناب عن الظهور ، فوضعنا هذا الرقم في تسلسله.
فإذا أضيفت الأرقام الأربعة المكررة إلى عدد أبواب هذا الجزء بلغ (89) بابا ، وجاء بعد ذلك قوله: تم الجزء الثاني والحمد لله رب العالمين يتلوه في الجزء الثالث : " هذا باب أن المفتوحة وتصرفها".
الجزء الثالث
بدأ هذا الجزء بالباب الذي عين آخر الجزء الثاني ، وهو : "هذا باب أن المفتوحة وتصرفها" وقد ظهر رقم الباب بجوار عنوانه يتلو رقم الموضوع الأخير في الجزء الثاني .
وبدأ الجزء الثالث بالباب رقم (168) وتتابعت أرقام الأبواب في تسلسلها ظاهرة واضحة إلى آخر هذا الجزء ، وقد انتهى بالباب رقم (262) أمام عنوانه وهو: "هذا باب الأمثلة التي يمثل بها أوزان الأسماء والأفعال ".(119/20)
ومن حسنات المحقق – رحمه الله – أنه نقل لوحتين من الجزء الأول هما رقم (274،273) من النسخة المصورة، نقلهما إلى موضعهما في الجزء الثالث، وقد دون في هامش الجزء الأول من النسخة المطبوعة ص (260) هذه العبارة أمام الهامش رقم (3): صفحتا ( 274،273) وضعنا هنا خطًّا ، ومكانهما بعد ص (15) من الجزء الثالث وبنقلهما إلى هناك التحم الكلام . وفي صدر ص (275) من الجزء الأول المصور هذه العبارة: (إلا نوعا واحدا، لا يكون اثنان أكثر من اثنين عددا كما يقع جمع أكثر من جمع ).
ولم يعلق المحقق عليها مع دلالتها على نقص قبلها، كما وضحت ذلك فيما سبق.
تم إعادة تدوين هذه الملاحظة في الجزء الثالث ص (23) من النسخة المطبوعة، في الهامش رقم (2) وذلك عند بدء الصفحة رقم (273) من الجزء الأول المصور – قال في هذا الهامش:
وضعت الصفحتان خطأ في الجزء الأول فنقلناهما إلى وضعهما هنا، وانظر كيف استقام الكلام، وارتفع الاضطراب ، واطرد الحديث، حتى الجملة الواحدة استكملت متعلقاتها بوضع هاتين الصفحتين، والاتصال كان مع ما قبلهما ومع ما بعدهما أتم اتصال .
وقد سلم الجزء الثالث بتسلسل أرقام الأبواب، وجاءت في آخره هذه العبارة ، تم الجزء الثالث والحمد لله رب العالمين. يتلوه في الجزء الرابع من كتاب المقتضب: "هذا باب إيضاح الملحقة وتبيين الفصل بينها وبين غيرها".
الجزء الرابع
بدأ هذا الجزء بالموضوع الذي نبه عليه في آخر الجزء الثالث بقوله: تم الجزء الثالث والحمد لله رب العالمين.يتلوه في الجزء الرابع من كتاب المقتضب: " هذا باب إيضاح الملحقة وتبيين الفصل بينها وبين غيرها".
وقد ظهر بجوار هذا العنوان رقم الباب واضحا، وهو رقم ( 263) وجاءت بعده أرقام الأبواب واضحة حتى وصل إلى رقم 274) في اللوحة رقم (381 ) من المصورة في الجزء الرابع قبل الترتيب.(119/21)
وعنوان هذا الباب رقم (274) : "هذا باب ما كان لفظه مقلوبا، فحق ذلك أن يكون لفظه جاريا على ما قلب إليه".
فمن ذلك قسي ، وإنما وزنها فعول، وكان ينبغي أن يكون/ وبعد هذه العبارة في اللوحة رقم (382) جاء قوله: "بدلا منه" ولا ارتباط بين هاتين العبارتين، كما ترى.
وقد قام المحقق بنقل تتمة العبارة الأولى من الجزء الأول لوحة رقم (17) وهي قوله: قووس لأن الواحد قوس ..
وقد علق على ذلك في الهامش رقم (1) من الصفحة رقم (29) من الجزء الأول المطبوع فقال : نقلنا هذا من الجزء الرابع، لأن هنا مكانه ، وانظر: كيف استقام الكلام، فجزءا الجملة الواحدة كانا مفرقين في الجزء الرابع والأول .
وكذلك وضع المحقق اللوحة رقم (382) من الجزء الرابع المصور بعد اللوحة رقم (16) من الجزء الأول المصور، وعلق على ذلك في الهامش رقم (1) من الصفحة رقم (28) من الجزء الأول المطبوع فقال: نقلنا من الجزء الرابع ما كان حقه أن يكون هنا، وانظر : كيف التحم الكلام ورفع الاضطراب واكتملت الجملة الواحدة، فقد كان المفعول الثاني لجعل في الجزء الرابع .
ثم قام بنقل عشرين لوحة من رقم (542) إلى رقم (561) من الجزء الرابع المصور ووضعها بين اللوحتين رقم (521) ورقم (522) من الجزء نفسه .
وهذا النقل تصحيح لخطأ وقع في داخل الجزء الرابع المطبوع، وتأكيد لوضع الأرقام على الصور بعد اختلاط الأوراق.
ودليل هذا أنه لم يخل بنظام ترقيم الأبواب، ففي أثناء هذا العدد من اللوحات جاءت الأبواب متتابعة في موضوع واحد هو النداء.(119/22)
ونقل إلى الجزء الأول من الجزء الرابع اللوحات المصورة من رقم (382) إلى رقم ( 391) وهي عشر لوحات وضعها بعد خمسة أسطر من اللوحة رقم ( 14)، وبعد هذا التغيير أتى بباب من الجزء الرابع في اللوحة رقم ( 382) عنوانه: "هذا باب من مسائل الفاعل والمفعول به" وعلق على هذا في هامش بلا رقم بقوله: "العنوان لمسائل الفاعل والمفعول به، ولكن الحديث عن البدل وأقسامه.
وبعد أن ذكر ثلاثة أقسام من البدل انتقل فجأة إلى القلب المكاني في قسي، ونجد في ص (381) من المجموع الثاني عنوانا للقلب المكاني، وفي بدء حديثه عن قسي ينتقل إلى بدل الغلط في ص (382) ثم إلى مسائل من الفاعل والمفعول.
ومما لا شك فيه أن مسائل الفاعل والمفعول مكانها هنا،ويؤكد ذلك تأليف سعيد الفارقي فقد سمى كتابه: ( تفسير المسائل المشكلة في أول المقتضب ).
وبدأ بالمسائل الأولى ، وهي المذكورة في عجز ص (382) من المجموع الثاني بالجزء الرابع.
وقد رأيت أن أكتفي بنقل مسائل الفاعل والمفعول . أما نائب الفاعل ومسائله والمسائل الأخرى فأبقيتها في الجزء الرابع، لأن هدفنا أن يستقيم الكلام، ويرتفع الاضطراب، وإن كنت أعتقد أن نائب الفاعل ومسائله وما بعدها – مما كان في صدور الكتاب، كما يشهد بذلك صنيع الفارقي في كتابه .
هذا التعليق وضعه المحقق في ص (13) من الجزء الأول المطبوع. وفيه يقرر اعتقاده بأن موضع المسائل المشكلة هو صدر الكتاب، ولكن هدفه استقامة الكلام.
وأضيف إلى هذا فقرة من مقاله المنشور في مجلة كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بعنوان: "تجربتي في تحقيق التراث" يقول في هذه الفقرة: "هذه المسائل مكانها في صدر المقتضب ، وقد جاء عنوان مسائل الفاعل والمفعول به" في الصفحة الرابعة عشرة، وعنوان كتاب الفارقي في (تفسير المسائل المشكلة في أول المقتضب) ولكننا نجد هذه المسائل في الجزء الرابع.(119/23)
وتفسيري لهذا أن بعض من تملكوا النسخة بعد السيرافي – ضاق ذرعا بوضع هذه المسائل في أول المقتضب، فنزعها من مكان ورمى بها في الجزء الرابع.
هذا تفسير المحقق . ولا يستطيع أحد من المشتغلين بالتحقيق أن يجد مسوغا لهذا التفسير للأسباب الآتية :
لأن الخلط في الأوراق والخلل في ترتيبها لم يقتصر على هذه المسائل.
ولأن ترقيم اللوحات لا يقف بجانب هذا التفسير البعيد عن الواقع .ولأن هذا الترقيم إنما وضع لإحصاء عدد الصفحات المصورة قبل تصويرها .ولأنه ليس بين رسم هذه الأرقام ورسم الأرقام المستعملة في تاريخ النسخ صلة.
ولأن قوله: ( فنزعها من مكانها ورمى بها في الجزء الرابع ) قول غير مقبول لأنه
محض خيال .
وصفحة عنوان الجزء الرابع رقم ( 344) وقد سقطت ثلاثة أرقام قبلها هي( 341، 343،342) وابتداء الجزء الرابع في اللوحة رقم (345) وفي أولها : "بسم الله الرحمن الرحيم" هذا باب إيضاح الملحقة وتبين الفصل بينها وبين غيرها ( 22) ورقم هذا الباب ( 263) وقد ظهر أرقام الأبواب من رقم (263) إلى رقم (274) وعنوان الباب رقم (274) هو "هذا باب ما كان لفظه مقلوبا فحق ذلك أن يكون لفظه جاريا على ما قلب إليه" وقد سبق أن بينا ما نقل من الجزء الرابع إلى الجزء الأول طبقا لترقيم الأبواب وهو قدر كبير يشكل أرقام الأبواب من (5 – 76) وهو في المصورة من رقم (389- 679) وفي المطبوع من رقم (59 – 429) وبعد الباب رقم (274) تتتابع أرقام الأبواب ظاهرة إلا الباب رقم (284) فإنه لم يظهر من ترقيمه إلا الأربعة وما قبله وما بعده رقم كل منهما ظاهر وهو مرتبط بهما تمام الارتباط .(119/24)
وذلك أن الباب رقم (283 ) عنوانه: باب معرفة بنات الخمسة بغير زيادة وهو في اللوحة رقم (54) من الجزء الأول المصور وفي الصفحة رقم (68) من الجزء الأول المطبوع. والباب رقم (284) عنوانه: باب معرفة الأبنية وتقطيعها بالأفاعيل وهو في اللوحة رقم (57) من مصورة الجزء الأول وفي الصفحة رقم (71) من الجزء الأول المطبوع والباب رقم (285) عنوانه هذا باب معرفة الأفعال أصولا وزوائدها وهذه كلها مسائل صرفية يرتبط بعضها ببعض .
ويطرد ظهور الأرقام بعد ذلك إلى الباب رقم (294) وهو آخر رقم ظاهر وعنوان هذا الباب: هذا باب ما كان على ثلاثة أحرف مما عينه ياء أو واو وهو في اللوحة رقم (102) من الجزء الأول المصور وفي الصفحة رقم (111) من الجزء الأول المطبوع.
ثم يأتي بعد ذلك اثنان وثلاثون بابا لم تظهر أرقامها ولكنها جميعا من مباحث علم التصريف ولا يوجد ما يستند إليه
ترك هذه الأبواب في الجزء الأول لأن الجزء الأول قد اكتملت أبوابه بما جاء منه في أوله وفي آخره وبما نقل إليه من الجزء الرابع.
وكذلك الجزء الثاني تم بأبوابه المتسلسلة الأرقام، والجزء الثالث لم تنقصه إلا الصفحتان اللتان نقلتا إليه من الجزء الأول كما مر. أما الجزء الرابع فما تزال أبوابه مفتوحة .
وخط هذه المجموعة من الأبواب هو خط الكتاب من أوله والكاتب هو مهلهل بن أحمد كما هو مدون في صفحة العنوان.
وليس في الأجزاء الثلاثة الأولى المرتبة فراغ رقمي يمكن أن يتسع لهذا العدد من الأبواب.
وهذه الأبواب كلها من مباحث علم التصريف الذي يجيء بعد علم النحو وفيها باب الإدغام الذي ختم به سيبويه أبواب الكتاب والذي قال عنه أبو حيان : الإدغام هو آخر ما يتكلم فيه من علم التصريف"(*) وقد اشتركت هذه الأبواب مع بقية الكتاب في اطراد الخط وعدد
السطور في الصفحات وعدد الكلمات في السطر الواحد ونظام النقط والضبط وغيرها .
خاتمة المقتضب(119/25)
قال المحقق في الصفحة السادسة والسبعين من مقدمة المقتضب: " بقى شيء آخر قد يشعر بنقص في النسخة وذلك أن المبرد لم يذكر في ختامها ما يدل على أنه أنهى القول وختم كتابه وقد أنهى الكامل بما يشعر بالختام " وقد رجعت إلى آخر كتاب الكامل فوجدت فيه قوله 2: 297 – ط صبح 1347هـ) " وهذا باب قد تقدم ذكرنا إياه ووعدنا استقصاءه" وقوله في الصفحة التالية (2: 298) وقد كنا أرجأنا أشياء ذكرنا أنا سنذكرها في آخر الكتاب " ثم جاء قوله في ( 2: 306) " هذا الكتاب قد وفيناه جميع حقوقه ووفينا بجميع شروطه " فإذا كان الأسلوب هو الشخص كما يقولون فإن المبرد قد ختم كتابه المقتضب من قبل كما ختم كتابه الكامل فقد جاء في آخر المقتضب بعد الترتيب ( والآن في ص: 255،254 من الجزء الأول المطبوع )
* قال أبو العباس : كنا قدمنا في أول كتابنا وبعد ذلك أشياء جرى ذكرها لما يشاكلها في مواضعها ولم يكن موضع تفسيرها فوعدنا أن نفسرها إذا قضينا القول فيما قصدنا عند ذكرها فمن ذلك لام الخفض .
* وقال ( ص257،256،255 من الجزء الأول المطبوع) وكنا ذكرنا في صدر هذا الكتاب أمر الأفعال والأسماء ووعدنا أن نخبر : لما كانت الأسماء على ثلاثة أنحاء وكانت الأفعال على ضربين .؟ فهذا وقت تفسيره وموضعه .
* وجاء بعد ذلك باب عنوانه: "هذا باب مصطفين" (وهذا الباب في ص 260،259،258 من الجزء الأول المطبوع) ثم جاء بعد العنوان قوله: قال أبو العباس وهذا أيضًا مما لم يفسر .
إذا كان الاسم مقصورا فإنما تأويل قصره أن يكون آخره ألفا هذه عباراته في آخر الكتاب وفي كل عبارة من هذه العبارات المذكورة ما يلفت النظر. ففي العبارة الأولى قوله: "قال أبو العباس" ولم يسبق لهذه العبارة نظير من أول الكتاب إلى هنا وكأنه يؤكد نسبة الكتاب إلى نفسه قرب نهايته وفيها قوله: "في أول كتابنا " وهذا يعني أنه الآن في آخر كتابه.(119/26)
وفيها قوله : " فوعدنا أن نفسرها إذا قضينا القول فيما قصدنا له عند ذكرها" وقضاء القول فيما قصد له المؤلف يعني انتهاءه والاشتغال بما فاته من مسائل .
وفي العبارة الثانية قوله: "وكنا ذكرنا في صدر هذا الكتاب " وهذه العبارة تعني أنه الآن في آخره. والعبارة الثالثة في أول "باب مصطفين" وكأنه يستدرك ما فاته فيقول: "وهذا أيضًا مما لم يفسر " وقبل هذه الاستدراكات جاء باب الإدغام في آخر المقتضب ممهورا بقول المؤلف: "تم الإدغام" وقد جاءت هذه العبارة مستقلة في وسط السطر. وكأن المبرد يقول: تم الإدغام وبتمامه تم هذا الكتاب لأن الإدغام آخر ما يتكلم فيه من علم التصريف ولم يبق إلا الاستدراكات التي سبق ذكرها، وسبق التعليق عليها، وقد جاء بها وفاء بالوعد قبل أن يضع القلم .
وبإعادة النظر فيما تقدم نرى أن المبرد قد ختم الكتاب المقتضب من قبل أن يؤلف الكامل، ولكن الخاتمة لم تصل إلينا، لتعرض الأوراق الأخيرة في المخطوطات لكثير من أسباب البلى . مع العلم بأن هذه المخطوطة قد مر عليها أكثر من ألف وسبعين عاما .
وقد أصبحت الصفحة رقم(260) من الجزء الأول المطبوع هي الصفحة الأخيرة في الجزء الرابع المرتب وهي تقابل اللوحة رقم (272) من مصورة الجزء الأول قبل الترتيب .
وآخر كلمة في هذه اللوحة هي كلمة (تقول) وليس بعدها شيء يمكن أن يكون مقولا للقول وما جاء بعدها في اللوحة رقم (273) قد نقل إلى الجزء الثالث في موضعه ، وهذا دليل نقص سكت عنه المحقق بل إنه حذف كلمة (تقول) وملأ السطر الأخير بالنقط التي يعدها العلماء علامة للحذف وكذلك العبارة التي جاءت في صدر اللوحة رقم (275) دليل آخر على النقص الواقع قبلها وقد سكت المحقق عن التنبيه عليه وقد سبق الحديث عنها وقد وجدت عبارة بمعناها في الجزء الرابع المطبوع ص (370) وهي في
اللوحة رقم 371) وهي قوله:(119/27)
* "ولم يجز أن يكون إعراب المثنى كإعراب الواحد، لأن التثنية لا تأتي مختلفة وقد دللنا على هذا في أول الكتاب " ويمكن الربط بين العبارتين هكذا:
لأن التثنية لا تأتي مختلفة ( ولا تأتي ) إلا نوعا واحدا (لأنه) لا يكون اثنان أكثر من اثنين عددا كما يقع جمع أكثر من جمع.
لكني أفضل ما قدمت من أن هذه العبارة بقية من الباب رقم (77) بالجزء الأول المرتب وقد ظهر بعدها رقم (78)وعنوان بابه ( هذا باب المضمر المتصل، ثم ظهر رقم (79) وعنوان بابه " هذا باب الإضمار الذي يلحق الواحد الغائب وتفسير أصله، وأين يجوز أن يبدل من الواو التي يلحقها الياء والعلة في ذلك " وكذلك ظهر بعده رقم (85) وقد رسم الصفر مجوفا كالخمسة وعنوان بابه (هذا باب ما يختار فيه حذف الواو والياء من هذه الهاءات) ثم جاء بعد ذلك باب عنوانه (هذا باب إضمار جمع المذكر) ولم يظهر قرين العنوان رقم ، ولكن ارتباط هذا الباب بما قبله يحتم أن يكون رقمه (81) وهذا الرقم خاتم الجزء الأول وقد وضعته بين قوسين، وهو في اللوحة رقم (283) في النصف الأسفل منها، وقد استوعب اللوحات رقم ( 284، 285، 286، 287، 288) وبعد هذا جاء قوله: تم الجزء الأول يتلوه في الجزء الثاني ( هذا باب إعراب الأفعال المضارعة ، وكيف صار الإعراب فيها دون سائر الأفعال ؟ ) وقد ظهر رقم الموضوع الأول من الجزء الثاني وهو (82) .
وقد نقل من الجزء الرابع المطبوع إلى الجزء الأول المرتب قدر كبير يبدأ من ص (59) وينتهي من ص (429) ويضاف إلى هذا (29) صفحة من بداية الجزء الأول المطبوع كما يضاف إليه من آخر الجزء المذكور ما يحتمل نقصه قبل صفحة (261) وما بعد ذلك إلى ص (272) وهو آخر الجزء الأول المطبوع .(119/28)
فليس بين دفتي الجزء الأول المطبوع منه إلا جزء في أوله وجزء في آخره فالجزء الذي في أوله من ص (3) إلى ص (29) والجزء الذي في آخره من ص (261) إلى ص (272) وعدد صفحات الجزء الذي في أوله(27)صفحة وعدد صفحات الجزء الذي في آخره اثنتا عشرة صفحة، وما بينهما منقول إليه من الجزء الرابع.
وكذلك الجزء الرابع ليس فيما بين دفتيه إلا قدر قليل منه يبدأ من أوله وينتهي في ص (58) وكل ما جاء بعد ذلك منقول إليه من الجزء الأول وتسلسل الموضوعات في الأجزاء الأربعة بعد الترتيب كما يأتي.
الجزء الأول من رقم (1) إلى رقم (81)
الجزء الثاني من رقم (82) إلى رقم(167)
الجزء الثالث من رقم(168)إلى رقم(262)
الجزء الرابع من رقم(263)إلى رقم(325)
وقد ظهرت الأرقام في الأجزاء الثلاثة الأولى بعد الترتيب في جملتها أما الجزء
الرابع فقد ظهرت أرقام الأبواب ابتداء من الباب رقم(263) وانتهاء برقم(293) ثم جاء بعد ذلك اثنان وثلاثون بابا لم تظهر أرقامها ، وقد دونت لها أرقاما ووضعت كلا منها بين قوسين فأصبح الجزء الرابع مكونا مما يأتي .
1- من صفحة العنوان ورقمها (344) إلى صفحة (381) من أصل الجزء الرابع المطبوع .
2- من صفحة (17) من أصل الجزء الأول المطبوع إلى صفحة (272) .
أمين علي السيد
عضو المجمع(119/29)
الفهرس
الموضوع ... ص ... الموضوع ... ص
(( بحوث ألقيت في المؤتمر
( من ألفاظ الحضارة في الأندلس والمغرب كلمة (ظهير) مثالاً .
للأستاذ الدكتور محمد بن شريفة.
( " كان بعض هذا في حديث طائف" .
قصيدة
للأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي.
( الحركة والسكون عند الصوتيين العرب وتكنولوجيا اللغة الحديثة .
للأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح.
( طه حسين في المغرب دوره في صحوة الفكر من خلال محاضراته وندواته.
للأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي. ... 1
17
21
53 ... ( القول الفصل في ترتيب الكتاب المقتضب للمبرد . تحقيق الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة.
للأستاذ الدكتور أمين علي السيد.
( التعبير عن معاني ودلالات السوابق (Prefixes) في اللغة العربية.
للأستاذ الدكتور نيقولا دوبريشان.
( دواعي التطور اللغوي في قضايا اللغة العربية .
للأستاذ الدكتور عباس محمد الصوري.
( العامي الفصيح من المعجم الوسيط (باب الغين وباب الفاء).
للأستاذ الدكتور أمين علي السيد. ... 131
161
177
191
(أ)
الفهرس
الموضوع ... ص ... الموضوع ... ص
( الحوار بين تيارات الثقافة العربية المعاصرة .
للأستاذ الدكتور أحمد صدقي الدجاني.
( اللغة العربية لغة الإسلام .
للفريق يحيى بن عبد الله المعلمي .
( أصل الكلمة العربية "هرم" والتي تعني " Pyramid " .
للأستاذ الدكتور اسكندر فودور .
(( أبحاث لم تلق في المؤتمر
( مقدمة لدراسة الحداثة الشعرية العربية.
للأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد.
( النص المعجمي في المعجم الوسيط. حرف الباء عينة(1).
للأستاذ الدكتور محمد رشاد الحمزاوي. ... 223
237
241
249
251
263 ... (( شخصيات مجمعية :
أولاً - استقبال تسعة من الأعضاء الجدد وهم :
1- الأستاذ الدكتور أحمد عبد المقصود هيكل .
( كلمة الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع في استقبال الأستاذ الدكتور أحمد هيكل عضو المجمع الجديد .(120/1)
( كلمة الأستاذ الدكتور أحمد هيكل في حفل استقباله عضوًا جديدًا بالمجمع.
2- الأستاذ الدكتور عبد القادر حسن القط . ... 275
277
281
286
(ب)
الفهرس
الموضوع ... ص ... الموضوع ... ص
( كلمة الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع في استقبال الأستاذ الدكتور عبد القادر حسن القط عضو المجمع الجديد.
( كلمة الأستاذ الدكتور عبد القادر حسن القط في حفل استقباله عضوًا جديدًا بالمجمع.
3- الأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي .
( كلمة الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع في استقبال الأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي عضو المجمع الجديد .
( كلمة الأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي في حفل استقباله عضوًا جديدًا بالمجمع . ... 295
300
303
308 ... 4- الأستاذ الدكتور شفيق إبراهيم بلبع .
( كلمة الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع في استقبال الأستاذ الدكتور شفيق بلبع .
( كلمة الأستاذ الدكتور شفيق إبراهيم بلبع في حفل استقباله عضوًا عاملاً بالمجمع .
5- الأستاذ الدكتور محمد عماد فضلي .
( كلمة الأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم في استقبال الأستاذ الدكتور محمد عماد فضلي عضوًا عاملاً بالمجمع . ... 316
322
330
(ج)
الفهرس
الموضوع ... ص ... الموضوع ... ص
( كلمة الدكتور محمد عماد فضلي في حفل استقباله عضوًا عاملاً بالمجمع .
6- الدكتور أحمد مختار عمر .
7- الدكتور أحمد علم الدين الجندي.
8- الأستاذ فاروق شوشة .
( كلمة الأستاذ إبراهيم الترزي الأمين العام للمجمع في استقبال الأعضاء الثلاثة الجدد :
- الدكتور أحمد مختار عمر.
- الدكتور أحمد علم الدين الجندي.
- الأستاذ فاروق شوشة .
(كلمة الدكتور أحمد مختار عمر في حفل استقباله عضوًا عاملاً بالمجمع. ... 333
341
359 ... ( كلمة الدكتور أحمد علم الدين الجندي في حفل استقباله عضوًا عاملاً بالمجمع .
( كلمة الأستاذ فاروق شوشة في حفل استقباله عضوًا عاملاً بالمجمع.(120/2)
9- الدكتور الطاهر أحمد مكي .
( كلمة الدكتور محمود علي مكي في حفل استقبال الدكتور الطاهر أحمد مكي عضوًا عاملاً بالمجمع .
( كلمة الدكتور الطاهر أحمد مكي في حفل استقباله عضوًا عاملاً بالمجمع . ... 364
376
386
399
(د)(120/3)
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا اليوم يوم العيد الرابع من أعياد مجمع اللغة العربية، في استقبال الأعضاء العاملين الجدد، واليوم نستقبل علامة كبيرًا هو الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي، أستاذ الأدب الأندلسي في كلية دار العلوم، وأستاذ الأدب العربي كله في جميع العصور، لأنه كتب عن امرئ القيس، أول شاعر عربي مهم في العصر الجاهلي، وكتب عن الشعر العربي المعاصر، وكتب عن القصة المعاصرة، أما تخصصه في الأندلس فقد كتب فيه كتابات كثيرة تأليفًا وترجمة ،
وليس هناك كتاب فريد بديع في الأدب الأندلسي كنا نتمنى ترجمته إلا ترجمه هو، فحقيقة عمله واسع في الأدب الأندلسي ، والأدب العربي قديمًا وحديثًا .
والمجمع يهنأ بدخوله فيه هو والثمانية من زملائه الذين شرف بهم المجمع في هذه الدورة الجديدة ولا شك أن المجمع سيبدأ بهم عهدًا جديدًا. ويتفضل الآن الأستاذ الدكتور محمود علي مكي عضو المجمع بإلقاء كلمته في استقبال العضو الجديد الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي .
بسم الله الرحمن الرحيم: أستاذي رئيس مجمع اللغة العربية ، الأستاذ الدكتور شوقي ضيف:
الإخوان والزملاء:
السيدات والسادة:
استميحكم أولاً عذرًا لأنني قادم من فراش مرضي والتهاب شديد أخذ أكثر من نصف صوتي، وأرجو أن يعينني الله على أن أكمل هذا اليوم في استقبال أخي وزميلي الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي، وأرجو ألا تذهب بقية صوتي في هذا المجال الذي كنت أود أن أكون في حال أحسن مما أنا عليه الآن .
لست أكتمكم سعادتي بأن وَكَّل إليَّ مجلس المجمع الموقر وأستاذي رئيسه الأستاذ الدكتور شوقي ضيف، شرف استقبال عضونا الجديد الذي نحتفل بانضمامه إلى مجلس المجمع، وهو بغير شك كسب كبير لهذه الهيئة التي تضم سدنة(121/1)
اللغة العربية والقائمة على رعايتها والحفاظ على تراثها ، وذلك أن الطاهر أحمد مكي تربطني به أكثر من وشيجة لعل أولها،مما يلفت النظر هو الاشتراك في لقب العائلة حتى إن كثيرين كانوا يخلطون بيننا فيحسبوننا شخصًا واحدًا أو يرون بيننا لحمة نسب،وهو أمر كان يسعدني لو أنه كان حقيقة، وما أكثر ما كانت الرسائل الموجهة إلى كل منا تختلف فيما بيننا فتصل إليَّ رسائله، وتصل إليه رسائلي، أو يخلط بين اسمينا من يكاتبني أو يكاتبه، فيحتاج الأمر إلى فك اشتباك . وثانية هذه الوشائج: أن كلينا ينتمي إلى نفس المحافظة من محافظة أقصى الصعيد وهي قنا ، فأنا من هذه المدينة، وهو من أعمال مدينة إسنا، وقد جمع بين المدينتين أحد أعلام العربية في مطلع هذا القرن هو الأستاذ حفني ناصف الذي نقل إلى قنا مغضوبًا عليه، فقد كانت محافظتنا المسكينة منفى للمغضوب عليهم، لا الضالين من موظفي الحكومة ، غير أن الرجل بإبائه وكبريائه خاطب الشامتين فيه من أجل ذلك بقوله :
قالوا نقلت إلى قنا
... يا مرحبًا بقنا وإسنا
قالوا قِنَا حر فقلت(م)
... وهل يرد الحُرَ قِنَّا(121/2)
ولعلكم ترون ما في هذا البيت الثاني من فكاهات ودعابات، كان حفني ناصف رحمه الله معروفًا بها، وترتب عليه على ذلك أن نشأتنا الأولى كانت متقاربة في تلك البيئة البعيدة عن مركز الثقافة والنشاط الأدبي، ومع ذلك فقد كان أهل هذه البيئة من أكثر الناس طموحًا ورغبة في العلم وأخذًا بمبدأ التثاقف الذاتي ، وإذا كان طريقانا في تحصيل العلم مختلفين ؛ إذ كان توجهه إلى التعليم الأزهري الذي أوصله إلى دار العلوم، وكان تعلمي في المدارس المدنية التي انتهت بي إلى كلية الآداب - جامعة القاهرة؛ فسرعان ما التقينا بعد ذلك حينما جمع بيننا التخصص في الدراسات العليا على أرض الأندلس ، فحصل كلانا على إجازة الدكتوراه من جامعة مدريد في ميدان الدراسات الأندلسية، ومن هنا أتت هذه الرابطة العلمية الأخرى التي وحدت بين طريقينا منذ ذلك التاريخ حتى اليوم. على أنني لم آت للتحدث عن نفسي وإنما عن ذلك الزميل الجديد الذي سوف نشرف برفقته. لقد أورد الطاهر مكي في مقال له بمجلة الهلال ذكرياته عن نشأته الأولى، وهو مقال كنت أود أن أنقل بعضه لما فيه من حرارة وصدق وحنين إلى تلك الأيام من المقاسات والكفاح ، لولا أن الوقت المتاح لا يسمح بذلك ، وأذكر أنه تخرج في دار العلوم بجامعة القاهرة بمرتبة الشرف في سنة 1952م وبعد تجارب مرت له بالتدريس في مصر أوفد في بعثة إلى إسبانيا حيث أنجز رسالة في الدكتوراه بدرجة ممتاز في جامعة مدريد سنة 1961م، وعاد إلى مصر فعمل في كلية دار العلوم مدرسًا فأستاذًا مساعدًا فأستاذًا ، ثم رئيسًا لقسم الدراسات الأدبية ووكيلاً للكلية للدراسات العليا والبحوث ، وقضى الطاهر مكي سنوات أستاذًا زائرًا في جامعة بوجوتا عاصمة كولومبيا ومكنته هذه الإقامة والاتصال المباشر بشعب من شعوب أمريكا اللاتينية إلى جانب اهتمامه بآداب تلك البلاد، من التعرف الوثيق من الأدب المكتوب بالإسبانية في هذه القارة، حتى أصبح واحدًا من تخصصاته(121/3)
الأدبية الكثيرة، وكان في هذه الجامعة الأمريكية اللاتينية يحاضرهم في الثقافة العربية والإسلامية، فكان نعم السفير لثقافتنا في ذلك العالم الجديد. كما أنه دعى أستاذًا زائرًا في جامعات كثيرة في العالم العربي أذكر منها: تونس والمغرب والجزائر والإمارات العربية المتحدة، إلى جانب الدعوات التي توجه إليه من جامعات إسبانيا ومؤسساتها العلمية ، فإذا نظرنا إلى الإنتاج العلمي للطاهر مكي فإنه يروعنا بغزارته وخصوبته دون أن ينال ذلك من جودته الفائقة وتنوعه الكبير، ولقد أصابتني الحيرة حينما استعرضت كتبه ودراساته وحاولت أن أقوم لها بتصنيف ييسر عليَّ أمر عرضها والحديث عنها، فلم أدر هل أقوم بهذا التصنيف على أساس الأنواع الأدبية البحثية أو على ألوان التأليف ، وآثرت في النهاية أن يكون التصنيف على هذا الأساس الأخير، وأعني بذلك الألوان المختلفة التي توزِّع إنتاج عضونا الجديد على ثلاثة مجالات:
منها ما هو تأليف، ومنها تحقيق لنصوص تراثية مشفوعة بدراسات ، ومنها ترجمات عن لغات أجنبية.(121/4)
أما الكتب المؤلفة ، فمن أولها كتابه عن امرئ القيس – حياته وشعره ، الذي صدرت طبعته الأولى في سنة 1968م، وعلى كثرة ما كتب عن امرئ القيس فإن لهذا الكتاب مذاقًا خاصًا جمع فيه صاحبه بين حساسية الفنان وحسن تذوقه ، ودقة العالم وصداقة منهجه ، وفيه يبدأ بعرض الحياة بلاد العرب الجنوبية وتاريخها اعتمادًا على النقوش التي عثر عليها في بلاد اليمن، يلي ذلك بحث للغة العربية في جنوب الجزيرة وشمالها وكيف أدت الهجرات المستمرة من قبائل الجنوب إلى الشمال، وتعرض بلاد اليمن إلى غزوات أجنبية من حبشية وفارسية، إلى سيادة لهجات الشمال ، وهكذا اتخذ أهل الجنوب لغة أهل الشمال الأدبية الراقية،ثم عرض لنا تاريخ قبيلة كندة التي بدأ نزوحها من الجنوب إلى قلب الجزيرة في نجد من النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي ، فأنشؤوا مملكة على الأراضي النجدية، وتتبع بعد ذلك تاريخ ملوك كندة حتى حُوجر بن الحارث والد امرئ القيس الذي كان حاكمًا على أسد وغطفان، وثورة قبائل أسد عليه ومقتله ومن هنا يتبع سيرة ابنه الشاعر امرئ القيس الذي قدر عليه أن يقضي حياته بعد ذلك في محاولة الثأر لأبيه ومحاولة استرداد ملك أجداده؛ حتى أدى به الأمر إلى الرحلة إلى قيصر بيزنطة، وكان فيها ختام حياته قرب أنقرة في نحو سنة 665م وهو في كل ذلك يناقش الروايات المتضاربة ، ويعتمد على نصوص ديوان امرئ القيس التي ارتضى صحتها رافضًا ما أحاط بحياة الشاعر من تفاصيل تصطدم بمنطق التاريخ.(121/5)
والباحث يبحث بعد ذلك روايات ديوان امرئ القيس في مخطوطاته الأصلية وفي طبعاته المختلفة ثم يفرد دراسات لقضايا ذات أهمية بالغة منها: أولية الشعر الجاهلي، وتطوره من الناحية العروضية، وبيئات الشعر القديم، وتنقله بين القبائل، والشعراء السابقون على امرئ القيس والمعاصرون له ، وأبرزهم زهير بن جنابل الكلبي، وعمرو بن قميئة رفيق امرئ القيس في رحلته، وهذه كلها قضايا اختلف حولها الدارسون ومازالت محل مثار وبحث، وبقية فصول الكتاب دراسة تحليلية لموضوعات شعر امرئ القيس في مقدماته الطللية وغزلياته ولوحاته الوصفية للطبيعة المتحركة والصامتة، وهنا تتجلى حساسية الفنان في تحليل تلك الصور البصرية وفي مناقشته لأبي بكر الباقلاني الذي أسرف في نقده لمعلقة امرئ القيس على نفسه وعلى الذوق الأدبي حين جعل من الجدل والمنطق عماده في الفهم والتفسير، وهما في نظر الباحث آخر ما ينبغي أن يستخدم في تذوق الشعر.(121/6)
الكتاب الثاني الذي يستوقف النظر هو (دراسة في مصادر الأدب) وهو يتوزع على خمسة عشر مبحثًا، الخمسة الأولى تتناول موضوعات مختلفة متصلة بتاريخ التراث العربي وقضاياه، وهي حول رحلة الشعر العربي من الشفاهية إلى التدوين ، وجهود رواة البصرة والكوفة، ثم الخط العربي وتطوره، وما سماه عصر المخطوطات، وفيه يتحدث عن مرحلة جديدة للتدوين، مرتبطة بالتوسع في صناعة الورق، والمبحث الرابع حول طرق التدوين، وشرائط النسخ وما ينبغي أن يتسلح به محقق النص المخطوط أو دارسه، والخامس عن مصادر الشعر الأول، ابتداءً من دواوين القبائل، والشعراء، وكتب المختارات، حتى كتب شروح الشواهد النحوية. وأما المباحث العشرة التالية فقد أفردها لعدد من أهم كتب التراث التي لا غنى لدارس الأدب عنها: طبقات فحول الشعراء لابن سلام ، والبيان والتبيين للجاحظ ، والحيوان للجاحظ ، وهنا يفرد الفصل لترجمة بحث المستشرق الإسباني بلاسيوث عن الكتاب ومعه كشف تحليلي لمادته. وتلي ذلك دراسات لكتاب الكامل للمبرد، والشعر والشعراء لابن قتيبة ، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه والفهرست لابن النديم، والذخيرة لابن
بسام، ونفح الطيب للمقرى .
وهو في هذه الدراسات العشر يقدم تحليلا دقيقًا لمادة كل كتاب ويختم ذلك بصفحات مختارة منه.(121/7)
ونأتي بعد ذلك إلى كتابين يدخلان في مجال الدراسات الأندلسية: أولهما (دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة)، وهو دراسة مفصلة لكتاب الطوق، مع ما أحاط بتأليفه من ظروف اجتماعية وسياسية ومحاولة لتفسير هذا الاتجاه غير المنتظر من ذلك الفقيه الذي كان يعد من المتشددين في مذهبه المقاومين للتيار الفقهي السائد في عصره حتى إن لسانه كان يقرن بسيف الحجاج ابن يوسف الثقفي ، ثم إذا به يؤلف كتابًا في الحب، نلمس فيه مدى رقة عواطفه، وعمق إنسانيته ، ثم نجد في الدراسة تحليلا لمادة الكتاب وتأثيره فيما ألف في هذا الموضوع بعده، ومناقشة لآراء المستشرقين حول طبيعة ابن حزم، وما زعمه البعض من أنه يمثل حساسية أعجمية في الإسبانية.
والكتاب الآخر هو (دراسات أندلسية في الأدب والفلسفة والتاريخ) وهو مجموعة من الدراسات يبلغ عددها أربع عشرة أكثرها مؤلف ، وأربع منها ترجمة عن الإسبانية، وتبدأ هذه الأبحاث بدراسة لغوية تاريخية حول اسم الأندلس، وفيه يتتبع المؤلف بداية استخدام المسلمين لهذا اللفظ، ويبين أن أصله wandalos الجرماني الذي كان يدل على مجموعة من قبائل القوط هم الذين عرفوا بالوندال وانتقلوا بعد غزوهم لشبه الجزيرة إلى شمال إفريقية، وهناك اصطدم بهم العرب الفاتحون القادمون من مصر. وهو يفسر تحول الواو في ولندلس إلى همزة لأن اللفظ انتقل عن اللغة البربرية ؛ لأن انقلاب الواو همزة لا تعرفه اللغة العربية أبدًا. وقد علق العلامة محمود شاكر رحمه الله على هذا التفسير، فأورد شواهد على تحول الواو إلى همزة في العربية؛ مما يدل على أن لفظ الأندلس انتقل عن العربية مباشرة دون حاجة إلى تلك الواسطة البربرية، وعقب الطاهر مكي على رأي محمود شاكر تعقيبًا فيه كثير من التوقير والتأدب في الحوار؛ وإن لم يبد اقتناعًا كاملا لرأي الشيخ الجليل .(121/8)
تلى ذلك أبحاث أخرى أفرد من بينها مقاله المترجم عن المستشرق خوليان ريبيرا وهو في المقارنة بين كتابين لمؤرخين أندلسيين أحدهما ابن القوطية وهو (تاريخ افتتاح الأندلس) والآخر مجهول المؤلف وهو (أخبار مجموعة)، والمقال تحليل للكتابين ومحاولة لحل مشكلة حقيقة تأليفيهما وزمن هذا التأليف، وبعد ذلك دراسة قصيدة لأبي إسحق الإلبيري هذه القصيدة التي فجرت ثورة آل غرناطة على اليهود، وفيها حرض هذا الشاعر الزاهد جماهير المسلمين على يوسف بن النغرلة وزير الأمير باديس بن حبوس بعد أن كان أمعن في الإساءة إلى المسلمين والاستخفاف بالإسلام.
وتتوالى الدراسات بعد ذلك، إحداها عن الشاعرة العاشقة حفصة بنت الحاج الركونية، التي انعقدت صلة حب بينها وبين أبي جفر بن سعيد؛ مما أدى إلى إيقاع منافسة والي غرناطة أبي سعيد بن عبد المؤمن به ، ومع هذه الدراسة ما جمعه الباحث من شعر حفصة الركونية .(121/9)
وتلى ذلك ثلاث دراسات مترجمة . الأولى لمستشرقة في جامعة مدريد عن شاعر المرينية أبي جعفر خاتمة، وكانت قد حققت ديوانه، ودرست شعره وأسلوبه، وتأثيره المحتمل في الشعراء الإسبان، وكذلك لموشحاته وهي من أمتع الدراسات حول هذا الشاعر الأندلسي الذي يمثل مع صاحبه ابن الخطيب آخر ومضة من ذهاب الشعر في غرناطة الإسلامية، والثانية عن الأصول العربية في فلسفة ريمون دولوليو هو بحث لخوليان ريبيرا حول هذا المتصوف المسيحي المتأثر بابن عربي، والذي كان يكن حبًّا للمسلمين وإعجابًا بحياتهم الروحية، والثالثة عن الشعر الأندلسي وتأثيره في الشعر الأوربي، وهي في الأصل محاضرة للأستاذ بالينثيا ألقاها في المعهد الإسباني في نيويورك سنة 1935م، وفيها فهم جديد متفتح للوجود الإسلامي في إسبانيا، وإشادة بالحضارة الإسلامية والشعر الأندلسي وبيان لتأثيره في الشعر الأوربي انطلاقًا من الشعر الإيطالي والبرتغالي وشعر التروبادور، وهناك في هذا الكتاب دراسات أخرى لا تقل عن تلك قيمة وأهمية؛ غير أن الوقت لا يسمح بعرض كل الدراسات التي تبلغ في مجموعها أربع عشرة.(121/10)
يلي ذلك كتابان يربط بينهما اتجاه جامع وميدان واحد وهما في الأدب العربي الحديث، وكلاهما مدخل يعين الدارس على الولوج إليهما. الأول عن (الشعر العربي المعاصر روائعه ومدخل لقراءته)،وفيه يؤرخ للشعر العربي الحديث من خلال نصوصه المختلفة التي تتوزع على كافة الاتجاهات والمدارس والأغراض على امتداد الوطن العربي، مع مقدمة موجزة أدارها حول أربعة محاور رئيسية هي: طبيعة الإبداع ، والمذاهب الأدبية المختلفة، والشعر والشاعر والقارئ، ثم نظرة إجمالية على واقع الشعر العربي الحديث، منذ البارودي حتى آخر درجات الحداثة، وأما الكتاب الثاني فيماثل سابقه في اتجاهه وفي الهدف من كتابته ، فهو عن (القصة القصيرة دراسة ومختارات)، والهدف من الكتاب هو أن يضع بين يدي القارئ تصورًا عامًّا موجزًا للقصة عبر التاريخ في الشرق والغرب وخطوطًا عريضة لتقنية القصة الحديثة، واتجاهاتها في الأدب العربي وألوانًا مختارة منها، لا تقف عند بلد عربي بعينه، وهو يبدأ بعرض تاريخي لنشأة القصة وأصولها البعيدة منذ وجدت أيام المصريين القدماء، وقد وصلتنا منها المجموعة التي عثر عليها ماسبيرو ونشرها في أواخر القرن الماضي، وانتقالها إلى اليونان ممثلة في إيسفت، وعالج المؤلف بعد ذلك أساطير عرب الجاهلية، والقصص القرآني، والقصة في مصر الوسيطة، حيث تمت الصياغة الأخيرة لمجموعة ألف ليلة وليلة.(121/11)
ومن القصص العربي المقامات التي بدت لونًا من ألوان القصة القصيرة على يدي بديع الزمان والحريري، وتناول الحديث بعد ذلك هجرة القصة إلى أوربا من خلال الأندلس، ونهضة هذا الفن في إيطاليا خلال القرن الرابع عشر، وانتقالها إلى فرنسا وإسبانيا ، وبعد فترة من الركود خلال القرن الثامن عشر، عادت القصة في ثوب جديد خلال القرن التاسع عشر بفضل الصحافة، ووقف عند أربعة من رواد القصة القصيرة اثنان دفعا بها إلى الوجود هما الأمريكي بلوتو، والروسي نيقولاي جوى، واثنان أعطياها شكلها الفني المكتمل هما باسان الفرنسي ، وأنطون شيخوف الروسي ، وكان هذان هما أكثر الكتاب الأوربيين تأثيرًا في مولد القصة العربية الحديثة وتطورها.
بعد ذلك يتناول الكاتب تحديد خصائص القصة القصيرة، ويهتم بقضية لغة الحوار في القصة، وقد كان موقف الطاهر مكي في هذه القضية مؤيدًا لموقف محمود تيمور الذي بدأ بكتاب الحوار بالعامية، ثم عدل عن ذلك إلى العربية الفصيحة؛ لما رأى أن اختلاف مستويات اللغة بين القصة والحوار يخل بوحدة النص الأدبي واتساقه، ويفقده قيمته الجمالية، ويلي ذلك عرض لتاريخ القصة القصيرة في عالمنا منذ بدايتها على أيدي الأخوين محمد ومحمود تيمور.
ويأتي بعد ذلك قسم المختارات، وفيه قصص لواحد وعشرين كاتبًا عربيًّا معظمهم من المصريين وبينهم أربعة من البلاد العربية، ومن القصص العالمية وقع اختياره على ثمانية كُتاب كتبوا بالروسية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والإسبانية.(121/12)
ومن آخر مؤلفات الطاهر مكي وأكثرها قيمة كتابه عن (الأدب المقارن: أصوله وتطوره ومناهجه)، وهو يعد أوفى ما كتب في هذا المجال، وفيه يتناول تاريخ هذا العلم منذ نشأته ثم استقلاله، ومناهجه المختلفة، ولاسيما في مدرستيه الكبريين الفرنسية والأمريكية، ووجوه الاختلاف بينهما، ثم بيان الفرق بين الأدب المقارن والأدب العام، وما بين هذين والأدب العالمي، ويلحق بهذا الكتاب كتابه الآخر الذي يشترك معه في المجال نفسه في الأدب المقارن، (دراسات نظرية وتطبيقية)، وفيه يتناول مباحث متنوعة منها:الجاحظ وماله من آراء تدخل في هذا الميدان قبل أن يولد هذا العلم بقرون كثيرة، وموضوع الصالونات الأدبية، ومصادر مي زيادة الأجنبية، والأندلس في الأدب الأمريكي، وتأثر شعراء التروبادور بالشعر الأندلسي، ثم العالم العربي في القرن الماضي كما رآه أحد الرحالة الإسبان، الذي يسمى في العالم العربي بعلي بك العباسي، ومن مؤلفات الطاهر مكي التي كانت ثمرة لصلته بأمريكا اللاتينية كتابه (Pablo Niruda الشيلي)الذي نال جائزة نوبل لعام 1971 وفيه يتناول بالدرس سيرة حياة هذا الشاعر المناضل، ويتحدث عن فنه وخصائصه، ومدى التزامه سياسيًّا واجتماعيًّا وفنيًّا .(121/13)
ونأتي إلى الميدان الثاني الذي وسعه نشاط الطاهر مكي واهتمامه، وهو تحقيق التراث، وأذكر من نماذجه عملين، كلاهما لشخصية العالم الأندلسي الفذ الذي كان دائمًا مسار إعجاب الطاهر مكي ابن حزم الظاهري، الأول كتابه (الأخلاق والسير)، وهو كتاب على صغره يعد من أجمل ما خطه قلم المفكر القرطبي الكبير، ففيه يقدم خلاصة تجاربه في الحياة، وفيه صفحات يكشف فيها عن مشاعره الحميمة، فجاءت أشبه شيء بالاعترافات، وتصويرًا دقيقًا صادقًا لنفسيته، ونفسيات نماذج بشرية التقى بهم وعرفهم عن كثب وكشف عن دخائلهم بثاقب بصره، وقدم للكتاب بمدخل وافٍ عن حياة هذا الإمام العظيم، وروافد ثقافته العلمية ومؤلفاته، ويعد تحقيقه لهذا الكتاب مع كثرة مؤلفاته أصح وأوثق رواياته. والكتاب الثاني هو رائعته وأجمل كتاباته الإبداعية، (طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاف) ، وهو بدوره كتاب نشر نشرات عديدة من قبل عن النسخة الوحيدة المخطوطة المحفوظة في خِزانة هولندا، والكتاب يقدم لنا أيضًا صفحات عن حياة مؤلفة وسجلاً للحياة العاطفية في أندلس القرن الرابع الهجري، والنصف الأول من القرن الخامس، ولهذا لم يكن من العجيب أن يظفر بترجمات أكثر من ثلاث عشرة لغة.
ونأتي إلى الميدان الثالث الذي شق فيه قلم الطاهر مكي معالم مضيئة في لون من الكتابة، لا يثبت فيه إلا قلم الراسخ في العلم، وهو الترجمة، والترجمة فن لا يقل الإبداع فيه عن الأعمال المؤلفة، وكثيرًا ما يغري من ليس مؤهلاً له فيكون نكبة على صاحبه، وعلى من قام بالترجمة عنه، إذ هو أشبه ما يكون بالشعر:
الشعر صعب وطويل سُلمه
... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
هوت به إلى الحضيض قدمه
... يريد أن يعربه فيعجمه(121/14)
وترجمات الطاهر مكي نموذج للإتقان والجمال الفني، نرى فيه التوازن الذي لابد أن يتوافر بين معرفة النص المترجم عنه وفهم مقاصده، وبين تمكنه من اللغة التي يترجم إليها، وأول ما أشير إليه من ترجماته نقله لملحمة السِّيد، وهي أول شعر إسباني يصل إلينا بكل ما تحمله إلينا من خشونة وبداوة في لغة بينة الصعوبة، ومع ذلك فقد قدَّم إلينا الطاهر مكي هذا النص العسير في لغة جزلة قويمة، استطاعت أن تحمل إلينا قيمه الجمالية وقد قدم للنص المترجم بدراسة وافية في حياة هذا المغامر القشتالي الذي عاش فيه بيئة عربية، وتأثر بحياة المسلمين الذين عايشهم، وكانوا يؤلفون شطرًا كبيرًا من جنوده، ثم استقر في نهاية حياته في بلنسية، وكأنه أحد ملوك الطوائف المسلمين، وقد نختلف مع الطاهر مكي في بعض تأويلاته مثل رده اللقب الذي عرف به هذا المغامر وهو (السِّيد) إلى معنى (الذئب) مخالفًا بذلك ما اتفق عليه أكثر الباحثين من أنه الصيغة الدارجة للقب السَّيد العربي، ولكن فيما عدا ذلك ترى في ترجمته مغامرة كبيرة تكللت بالنجاح والتوفيق .
وتلى ذلك ترجمات لعديد من دراسات المستشرقين الفرنسيين والإسبان حول مختلف الموضوعات الأندلسية، كان من بينها، كتابه عن (شعراء الأندلس والمتنبي) وهو ترجمة لكتاب المستشرق الإسباني الكبير إميلو غرسيه غومث (خمسة شعراء مسلمين)، والكتاب يضم دراسات عن المتنبي ومعه عدة شعراء من الأندلس هم: الشريف المروني، وأبو إسحاق الإلبيري، وابن الزقاق، وابن خفاجة، وابن قزمان الزجال الذي اتخذ المؤلف لدراسته عنوان (صوت في الطريق)، وهو يشير في ذلك إلى الطابع الشعبي في أزجاله، وأخيرًا ابن زمرة آخر كبار الشعراء الأندلسيين.(121/15)
وعن الفرنسية ترجم الطاهر مكي كتابًا لبروفنسال (الحضارة العربية في إسبانيا) ، وهو مجموعة محاضرات تتناول بعض جوانب الحضارة الأندلسية. وعن الفرنسية أيضًا ترجم كتاب (الشعر الأندلسي في عصر الطوائف) ، ويعد أوفى دراسة ظهرت حتى الآن لفترة من أزهر فترات الشعر الأندلسي وهي عصر الطوائف الذي كان عصر تدهور سياسي واجتماعي؛ ولكنه كان على الرغم من ذلك، عصر نهضة كبيرة في سائر ألوان الثقافة، وفي الشعر بخاصة. وعن الألمانية كانت ترجمته لجزأين لمؤلف كبير للمستشرق فون شاك بعنوان (شعر العرب وفنهم في إسبانيا وصقلية) وهو كتاب يرجع تأليفه إلى سنة 1865م، وكانت طبعته الثانية سنة 1977م من القرن الماضي، وكان يعد عند ظهوره وحتى سنوات قليلة بعد ذلك أحسن ما كُتب عن الشعر الأندلسي ، ولهذا فقد سارع بترجمته إلى الإسبانية أديب لم يكن مستشرقًا إلا أنه كان شاعرًا وكاتبًا ذواقًا للأدب الجيد هو خوان باليلا، وكان إلى جانب ذلك أندلسيًّا من مدينة قبرة مهد أول مبتكر للموشحات الأندلسية، مقدم ابن معافى أو محمد بن محمود القبري، فاستطاع أن يقدم ترجمة رائعة للنص الألماني ، أعانه على ذلك أيضًا إعجابه وتقديره لحضارة المسلمين في الأندلس ، وعلى الرغم من قدم هذا الكتاب الذي كان اعتماده في المقام الأول على كتابات المستشرق الهولندي دوزي ، وأن ما نشر حتى أيامه من النصوص الأندلسية كان قليلا فإنه استطاع أن يحسن استخدام ما توافر له من مادة شعرية على نحو جدير بكل تقدير ، ولهذا فإن الطاهر مكي لم ير بأسًا في الإقدام على ترجمة الكتاب لا عن أصله الألماني ، وإنما عن ترجمته الإسبانية ، ونحن نعلم ما يكتنف مثل هذه الترجمات عن لغة الوسيط من مخاطر ، ومع ذلك فقد جاءت ترجمته لهذين القسمين من كتاب دوزي على ما عهدنا من سلامة وجمال أداء ، وكان الجزآن اللذان نشرهما من هذا الكتاب هما القسم الأول من المجلد الخاص بالشعر ، والمجلد الأخير الخاص بالفن،(121/16)
أما الجزء الخاص بالشعر فإنه عرض عام للشعر الأندلسي مع مختارات أحسن انتقاءها ، وملاحظات لا تخلو من القيمة، وأما الجزء الخاص بفن العمارة ففيه ملاحظات لم تفقد جدتها حول الإسلام وموقفه من التصوير ، وربما كان أهم ما في هذا الجزء ملاحظاته حول الفن الإسلامي في صقلية، ثم المعمار العربي الإسلامي في جزيرة ( مالطة).
أطلنا الرحلة مع هذا الإنتاج الغزير الخصيب للطاهر مكي ولولا أن الوقت ضيق فإني كنت أسترسل في عرض بعض الكتب الأخرى له، الذي عودنا قلمه على أنه كان ثريًا دائمًا ، لا يكاد ينضب.
أود أن أشير في النهاية إلى جانب من الجوانب الإنسانية من شخصية الطاهر مكي، وهو حنوه على تلاميذه، ورعايته لهم حنوًّا أبويًّا صادقًا عرفه له تلاميذه ومحبوه ومريدوه فأصبحوا متعلقين به تعليقًا كبيرًا، وهذا الوفاء الذي نراه في كثير من تلاميذه هو الشيء الذي نفتقده أحيانًا ، في من يحيط بنا من تلاميذنا، وقد أكرمه الله بهذه الميزة التي نرجو أن يديمها عليه، وكما يقول الشاعر الأندلسي ابن عبد ربه:
وإذا أحب الله يومًا عبده
... ألقى عليه محبة الناس
وأخيرًا أعود إلى ما كنت بدأت به الحديث وهو تلك الوشائج التي تربطني بالطاهر مكي ولا أملك إزاءها إلا أن أردد مع أبي تمام قوله:
إن يُكْدِ مُطَّرَفُ الإخاء فإننا
... نغدو ونسري في إخاء تالدِ
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا
... عذب تحدر من غمامٍ واحدِ
أو يفترق نسبٌ يؤلف بيننا
... أدب أقمناه مُقام الوالدِ
وشكرًا لحسن استماعكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمود علي مكي
عضو المجمع(121/17)
1- الظاهرة :
هناك ظاهرة مفارقة ، يجابهها عادة المربون في تعليم اللغات الحية وإن كان بروز هذه الظاهرة يحصل بنسب متفاوتة بحسب نوعية اللغة ومكانتها ووظيفتها في المجتمع،لكنها في حالة اللغة العربية لأبنائها تشكل حالة خاصة، ونعني بها ظاهرة وجود مستويين لغويين يتفاوتان بحسب خصوصية كل لغة على حدة. فقد تضيق المسافة بين هذين المستويين إلى حد لا يحصل من تفاوتهما قضية بيداغوجية تحتاج إلى البحث وإعادة النظر، وقد تتسع المسافة إلى حد التباين أو القطيعة ، وبناء على ذلك يمكن تصنيف علماء اللغة في موقفهم من اللغة العربية إلى فريقين ، فريق يقول بالتباعد إلى حد القطيعة، وفريق ينظر إلى الظاهرة من زاوية التقارب الذي يمكن أن يصل إلى حد التكامل .
أما اللغويون القدماء فقد كان لمنهجهم في الجمع والتصنيف أثر في موقفهم من الظاهرة بحيث إنهم " أسقطوا من حسبانهم الظواهر التاريخية" "د.مصطفى التوني / التغير اللغوي" ومن ثم كان مفهومهم للغة مفهوما سكونيا في عملية التدوين عندما اقتصروا على عصر واحد حددوا فيه مجال الأخذ عن العرب بشكل فصل فيه صاحب المزهر هكذا. "والذين عنهم نقلت اللغة العربية ، وبهم أقتدي ، وعندهم أخذ اللسان العربي من بين القبائل هم قيس وتميم وأسد . ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم"(ج1. ص211).
لقد حدد السيوطي القبائل التي أخذ عنها اللسان العربي باعتبارها نموذجا تكتمل داخله جميع السمات المطلوبة في النموذج ، ومنها صفاء المتن، والبداوة،(122/1)
يقول "لم يؤخذ عن حضري قط" لأن مخالطة الحضر لغيرهم من الأمم أدى إلى فساد لسانهم ، أما أهل البداوة ممن عاش بعيدا عن أطراف الجزيرة العربية، فقد بقيت لغتهم سليمة صافية يبلور سلامتها وصفاءها خاصية الإعراب ، الإعراب في معنى مقابل للحن ، يقول الزبيدي صاحب (طبقات النحويين ) (طباع أهل البدو الإعراب ، وطباع أهل الحضر اللحن) ويعتبر النحاة الإعراب فرعا ، به تتم سلامة اللسان لأصل يفسر علل هذه السلامة وهو النحو .
فالعربية المستعملة بعد عصر التدوين في الحواضر خاصة يعوزها سلامة المتن، ويشوبها اللحن . يلاحظ ابن خلدون في مقدمته ، أن لغة العربي في زمانه "مغايرة للغة مضر وحمير" ، فهل معنى ذلك أن عربيتهم لم تعد عربية وأن المغايرة قد أدت إلى القطيعة ؟ يرى ابن خلدون أن الأمر بخلاف ذلك ، فهو يوضح أن التغير الذي أصاب لغة المشافهة في زمانه أصابها في دلالة الحركات أي الإعراب الذي استعاض عنه الناس بالرتبة أي التقديم والتأخير ، أما بنية اللغة فما زالت سليمة تؤدي مقاصدها، والدراسات اللغوية الحديثة تأخذ بعين الاعتبار مبدأ التغير اللغوي وتعتبره من أعقد المشكلات اللسانية ، وهم ينظرون إليه من عدة مستويات :
التغير الصوتي : وهو مألوف في سائر اللغات ، خصوصا عندما يتعلق الأمر بانتشارها زمانيا ومكانيا ولدى الأفراد.
التغير المعجمي : وهو مجال انتقال المفردات في الاستعمال فتتغير دلالاتها وقد يتبع التغير المعجمي التغير الصوتي وما يحدث فيه من إسقاط وحذف وتسكين أو إدغام أو إبدال أو دمج... إلخ.
التغير التركيبي :وهو الذي أشار إليه ابن خلدون ، ولعله أخطر أنواع التغيرات ، الذي إذا تجاوز حدا معينا تحدث القطيعة ، أما التغيرات على مستوى الأصوات أو المعجم فهي من الأمور الاعتيادية التي تحدث في سائر اللغات حتى بين أفراد نفس المجموعة اللغوية الواحدة ، وتعمل فيه أحيانا دوافع نفسية أو سيكولوجية إلخ .(122/2)
وكان العرب يعتبرون التغير في أي شكل من أشكاله يخرج اللفظ من مستوى الفصاحة ويجعله مولدا ، والمولد في نظرهم محدث وهو إما مقبول أو مرفوض ، يرى مثلا الناقد حازم القرطاجني " أن اللفظ عندما يستعمله العرب كثيرا فهو حسن وفصيح ، وقد تستعمله العرب وخاصة المحدثين بكثرة دون عامتهم فيكون مقبولا، أما إذا كثر استعماله على ألسنة العامة واستغنت عنه العرب بتغيير اللفظ فهو مرفوض"( المزهر ج 1 ، ص190)، لماذا؟ لأن التغير في نظرهم يؤدي إلى الابتذال ، وهذا مصطلح كان يروج كثيرا عند البلاغيين أمثال حازم القرطاجني فاللفظ يصبح مبتذلا ، إذا كثر استعماله، خصوصا إذا كان الاستعمال في اتجاه عمودي إلى عصر الاستشهاد فإنه يؤدي إلى العكس من ذلك إلى الفصاحة لا إلى الابتذال المرفوض .
2 – مفهوم التطور اللغوي :(122/3)
من المفاهيم اللسانية التي استعارها علماء اللغة من الدراسات اللغوية الغربية مفهوم (التطور اللغوي) بمقتضى تمييزهم حسب ثنائية التحقيب والتزامن تبين المنظور التاريخي للغة والمنظور الواقعي الذي آلت إليه اللغة . والمنهج الوصفي الذي ساد مع التيار البنيوي ، إنما ركز في دراساته على اللغة في وضعها التزامني، وهذا شيء ينسجم مع الواقع اللغوي الغربي فلم يعد أحد يتكلم اللغة اللاتينية أو الإغريقية التي انبثقت عنها كثير من اللغات الأوربية الحالية . لقد انقطعت الصلة مثلا بين اللغة الفرنسية الحالية واللاتينية القديمة وهي اللغة الأم لها بحكم قوانين التطور اللغوي التي تصيب اللغة في كيانها الصوتي أو الصرفي أو النحوي أو الدلالي .. وعمر اللغات الحديثة الفرعية لا يقدر بقرون كثيرة مثلما هو الحال في اللغة العربية التي انتشرت في البلاد الإسلامية منذ 15 قرنا ، وبقيت نشيطة مستعملة في المجال الثقافي والإداري والأدبي مثلما يلاحظ كثير من الباحثين الذي يتحدثون عن حيوية اللغة العربية وقابليتها للإيفاء بحاجيات العصر . لكن المسألة لا يمكن الحسم فيها بهذه البساطة. فالتغير الذي يتحدث عنه اللغويون والذي يحصل في لغة ما خلال مسارها التاريخي له أبعاد متعددة ، فهناك التغير الذي يحدث في اللغة بفعل الانتشار في الزمان والمكان ، وهناك التغير الذي يحدثه الأفراد المتكلمون حسب أحوالهم النفسية والثقافية والاجتماعية ...إلخ .(122/4)
فالتداخل بين هذه العوامل يجعل عملية الحسم ليست يسيرة ، وقد حاول علماء اللغة أن يوجدوا قاعدة لضبط تيار عوامل التغير الجارفة ، يمكن تسميتها بقاعدة التغير اللغوي ، ولاحظوا أن لكل لغة معدل تغير يكاد يكون ثابتا ، ولكنه بطيء جدا، كما أنه ليس واحدا بالنسبة لجميع اللغات . وهذا ما يفسر بقاء الاتصال بين الأجيال المتعاقبة مستمرا بشكل من الأشكال رغم ما يصيب اللغة من تحولات بفعل الزمن واختلاف أوضاع الاستعمال. واللغة العربية لا يمكن أن تشكل شذوذا عن هذه القاعدة، لكننا لا يمكن أن نسقط على مسارها مسار غيرها من اللغات الغربية التي أضحت أمهاتها ضمن اللغات الميتة ، وقد لاحظ مثلا فيرجسون عالم اللغة الاجتماعي في دائرة المعارف البريطانية أن اللغة العربية تتغير ببطء "فدرجة الاختلاف مثلا بين عربية القرن 18 وعربية القرن 20 أقل قلة واضحة منها بين إنجليزيتي هذين القرنين " (اللسان 83/20). وعلى هذا الأساس يرى كثير من علمائنا أن العربية لم يطرأ عليها تغير شديد. والسبب في ذلك كما يجمع على ذلك جل الباحثين يعود إلى أنها لغة القرآن الشيء الذي حال بينها وبين طفرات التغير، وحد من تأثير اختلاف البيئات والتباين الحاصل بين مستويات الاستعمال في اللغة العربية ، لكن معيار الفصاحة الذي تبناه علماء اللغة قديما وقف سدا في وجه نشاطها وحركيتها كما سنرى .
3 – مسالك التطور في الفصحى :
تقتضي دينامية التطور حصول تحولات في البنية اللغوية على جميع المستويات ، ومعنى ذلك أن اللغة العربية ليست بدعا، فالتغير الذي يصيب الفصحى قد يكون ظاهرا أو خفيا رغم أي مجهود يسعى إلى تهميشه ، لذا يعترض الشيخ أمين الخولي على الفهم القاصر لمدلول " التطور اللغوي"،الحاصل في اللغة العربية فيقول " يقرر الإخصائيون … أن التطور يتم مع الاحتفاظ بأصول اللغة وقواعدها ، وبالفصيح من مفرداتها وشواردها ، ولا ندري أي تطور هذا الذي يكون بلا تغير".(122/5)
لكن علماء اللغة خلال فترة التدوين كان لهم موقف سلبي من فكرة التغير ، لعدة أسباب ، يأتي على رأسها معيار الفصاحة الذي شكل مرجعية حاسمة في اختيار لغات القبائل التي قد تستجيب للمقاييس التي حددوها وإقصاء ما عداها، ومن هذه الأسباب أيضا المنهج الذي وظفوه في عملية الانتقاء والتصفية، كان يتنافى مع التصور التاريخي للتطور اللغوي في شبه جزيرة العرب ، بحيث إنهم كانوا يسعون إلى " تقعيد اللغة تقعيدا تزامنيا ، أي أنهم يريدون أن ينهجوا النهج الوصفي للغة . فأسقطوا من حسبانهم الظواهر التاريخية ، ومنها بطبيعة الحال التنوعات اللغوية الموجودة في أطراف الجزيرة العربية، بل وأن ينعتوها بالفساد اللغوي"، فالمنهج الوصفي إذن كان عامل انتقاء زمانيا ومكانيا أدى عمليا إلى تهميش لغات كثيرة بسبب ما لاحظه علماء اللغة من ظواهر لا تنسجم مع معيار الفصاحة ، هكذا ذهبت لغات كانت تتم بلكنات معينة لم تدرج إلا على نطاق ضيق في الأقيسة الشاذة التي تذخر بها كتب النحو التي تعوزها وسائل التدليل في العلل والتأويل ، فتعقدت المادة النحوية قديما إلى حد الألغاز .
وهذه اللغات ، وإن كانت مهمشة على مستوى التدوين ووظفت بعضها لغايات جدلية بين مدرستي الكوفة والبصرة، فإنها لم تمت على ألسنة المستعملين من أصحابها ، وسنجدها فيما بعد تشكل رافدا مهما مما سيسمى باللهجات…
وهكذا سارت اللغة العربية بعد عملية التصفية والانتقاء في مسلكين : المسلك الفصيح الذي انبنى على الأسس التي وصفها النحاة واللغويون والبلاغيون والذي سار على نهجه كبار الشعراء وكتاب الدواوين ، وأصحاب العلوم المختلفة ، والمسلك اللهجي الذي يعد امتدادا للغات العربية القديمة يضاف إليها ما استجد من مولد ودخيل ومعرب ...إلخ .(122/6)
يرى كثير من الباحثين أن مفهوم "اللهجة " قديما أو حديثا يمكن تفسيره بمعنى التطور اللغوي أو التنوع داخل نفس اللغة التي انبثقت عنها اللهجة . يقول د. حسني محمود: "إن ما نتعارف على تسميته (لهجة)، كان العرب قديما يطلقون عليه (لغة) أو كلمة (لحن) .. أما اللغة عندهم فكان يشار إليها بلفظ (لسان) ثم يضيف " وما كان يسمى في كتب اللغة والنحو (لغة) من الاستعمالات غير المألوفة أو قل غير صحيحة ، تلك الاستعمالات التي نسبت إلى هذيل أو عقيل أو أسد أو طيء أو غير هؤلاء ، لم يكن إلا من قبيل هذا التطور في اللغة" (اللسان 83/20) .
ويدرج العلاقة بين الفصحى ولهجاتها ضمن ما يسمى بالتنوع اللغوي ( La diglossie ) الذي يراه طبيعيا وغير مقصور على اللغة العربية وحدها ، وإنما هي سمات تتسم بها سائر اللغات الحية الكبرى .
ولقد أثار استعمال مصطلح " التنوع اللغوي diglossie " في وصف العلاقة بين اللغة الفصحى ولهجاتها ردودا متباينة عندما أطلقه عالم اللسانيات الاجتماعية (فيرجسون C.A. Furguson ) لوصف حالة اللغات العربية في مقال له نشره بالانسيكلوبيدية الإنجليزية، خصوصا من قبل اللسانيين العرب الذين تناولوه بالنقد. أما "فيرجسون " فهو بعد زيارة لبعض الدول العربية (خصوصا مصر والسودان ) ، يرى أن مصطلح " diglossie " أنسب من غيره للتمثيل على وضع اللغة العربية في العالم العربي . فماذا يقصد بهذا المصطلح ؟(122/7)
يرى فيرجسون أن ( La Diglossie ) التنوع اللغوي ، وضعية لسانية تعكس تنوعين ( Variétés ) أو أكثر لنفس اللغة الواحدة ، تستعمل من قبل المتكلمين في ظروف مختلفة بحيث يؤدي كل تنوع دورا محدودا . يقع اكتساب التنوع الأول في ظروف طبيعية وهو ما يطلق عليه اسم "لغة الأم" ، ويستعمل في محيط الأسرة والأصدقاء .. أما التنوع الثاني فهو يكتسب عن طريق نظام التعليم ويستعمل غالبا في مستوى الكتابة أو في المواقف الخطابية الرسمية ويكون موازيا للأول . لكنه مختلف عنه ، بحيث يكون أكثر تعقيدا على المستوى النحوي ويكون حاملا لأدب واسع رفيع مكتوب .. ويقترح فيرجسون ، للتمييز بينهما تسمية التنوع الأول : ( Variété ) الذي اكتسب للاستعمال المحلي باسم " النوع الأدنى "، والنوع الموازي الذي اكتسب عن طريق المدرسة " بالنوع الأعلى " . وهذا الموقف يتناسب مع مفهوم التعقيد النسقي للغة في العصر الحديث . لم يعد أحد يقول بنقاء اللغة وصفاء معجمها وخلوها من التأثير والتأثر خارجيا باللغات المجاورة، أو داخليا بفعل استعمال أصناف متباينة من الطبقات الاجتماعية والثقافية للغة ، مما يؤدي داخل اللغة الواحدة إلى ظهور مستويات أو تنوعات (Variétés) سواء على المستوى الصوتي أو الصرفي أو التركيبي ، تشكل بدورها أنساقا فرعية داخل النسق الأم. وهذا ما يطلق عليه بعض الباحثين اسم " اختلاط السنن MC" ويقصد به وجود تنوع ( Variété ) أو عدة تنوعات لغوية مختلفة في خطاب المتكلمين، ويعزى ذلك لعدة أسباب . من بينها استعراض المستوى الثقافي للمتكلم ، وأحيانا يكون السبب راجعا إلى الميل إلى عدم بذل الجهد في البحث عن اللفظ المناسب، فيستعير المتكلم أي لفظ عنَّ له بالصدفة،وقد يكون من مصدر مخالف للسنن الذي يتحدث به . وأكثر ما تكون الاستعارة بين سنن وآخر على مستوى المعجم وهذا ما جعل "الدراسات تنصب على ظاهرة اختلاط السنن " (حولييت سائب 90) .(122/8)
وإذا كان بعض الباحثين قد أبدى تحفظا تجاه مفهوم ( La diglossie ) وما يترتب عنها من القول بالتغير اللغوي داخل النسق اللساني الواحد ، فإن آخرين قد تبنوه جملة وتفصيلا وحاولوا أن يفسروا العلاقة بين الفصحى والعامية على ضوئه . ومن هؤلاء د. مصطفى زكي التوني في كتابه ( علل التغيير اللغوي ) فهو يعقد فصلا كاملا في كتابه لتحليل ماهية : "التنوع في إطار اللغة الواحدة (التوني 93) ، وبعد أن يشرح معنى "التنوع" في اللغات الإنجليزية والإسبانية وغيرهما والعوامل الفاعلة في ظل ذلك ، ينتقل إلى وضعية اللغة العربية ولهجاتها واستعمال المتكلم العربي لمختلف التنوعات اللغوية داخلها ويلاحظ أننا : "أينما سرنا في البلدان العربية نجد اللغة العربية جنبا إلى جنب مع اللهجة الدارجة، وتعد اللغة العربية الفصحى المستوى الرفيع (H) ، وتعد اللهجة العربية الدارجة المستوى الأدنى (L) ويستخدم المستوى الأول في التعليم والطباعة والمواقف الرسمية في حين أن المستوى الثاني يستخدم في المواقف التي هي دون المواقف السابقة في المعاملات الأسرية والبيع والشراء وبين الأصدقاء " (نفسه) فهو يستعمل نفس مصطلحات "فيرجسون" دون الإشارة إليه طبعا ، ويرى أن ظاهرة التنوع في مستوى اللغة العربية كانت دائما بارزة حتى في أعصر الاحتجاج ، وهو يشير هنا إلى لغة المولدين التي كانت هي اللغة العامية إذ ذاك ، وقد كانت لغة خالية من الإعراب ولذلك اعتبرها اللغويون – كما أشرنا – لغة فاسدة، فقد روي عن حماد الراوية وهو مشهور بغزارة حفظه وروايته للغة والشعر، أنه " كان يكذب ويلحن ويكسر، فأجاب حماد : يا أخي إني رجل أكلم العامة فأتكلم بكلامها " ، ويروي عن الجاحظ قوله: "إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام وملحة من ملح الحشوة والطعام ، فإياك أن تستعمل فيها الإعراب، أو تتخير لها لفظا حسنا … فإن ذلك يفسد الإمتاع بها ويخرجها من صورتها " (د.عبد العزيز مطر 67).(122/9)
ومعنى ذلك : أن المؤلف يرى أن هذه التنوعات بين اللهجات من جهة وبينها وبين الفصحى من جهة أخرى طبيعية ويمكن للباحث أن يبرزها من الناحية اللغوية، حسب قوانين المماثلة والقلب المكاني والقياس والصياغة الصرفية والتركيبية المعروفة عند اللغويين.
فبالنسبة لقانون المماثلة في إحداث التنوع اللغوي ، يقال إن بني تميم كانت "تقلب السين ضادا مع بعض الأصوات المفخمة كأصوات الإطباق وكذلك مع القاف .. " مثل " السقر والصقر " . وأن قريشا تقول كشطت ويقول غيرهم "قشطت" بإبدال الكاف قافا ، وبعضهم يبدل السين زايا في "غرس وغرز" ...إلخ. وقد لاحظ نفس الظاهرة أبو بكر الزبيدي صاحب كتاب " لحن العامة " لدى الأندلسيين ، فهم ينطقون " خمن " بإبدال النون ميما مثلما يحدث في اللهجة المغربية، فيقولون ، " خمم "، وينطقون "حق" بإبدال القاف كافا، "حك" إلخ … ويدخل هذا باب المماثلة .
وبالنسبة لقانون القلب المكاني أورد المؤلف عدة أمثلة ، منها : جذب وجبذ وربض ورضب وصاعقة وصاقعة وصور ممارسته في العاميات متعددة مثل (لعن ونعل) و (معه وعمه ) إلخ …
ومن الظواهر الأخرى للتنوع اللغوي أورد المؤلف التنوعات التي تتم بسقوط نهاية الكلمات فكلمة "طس" أتت من "طست" ، واستعمال "اللي" وهو اختصار يحذف النهاية للذي والتي ، وهي عملية منتشرة في سائر اللهجات العربية تعود في نظر المؤلف إلى قبيلة ربيعة التي كانت تسقط "نون اللذين واللتين " ، وهكذا .. ولكن العلاقة بين الفصحى وعامياتها تتضح أكثر على مستوى المعجم، وقد أنجزت عدة دراسات حديثة لبيان الرصيد المشترك بين الفصحى واللهجات العامية من جهة كما أن هناك أبحاثا أخرى للكشف عن الرصيد المشترك بين العاميات نفسها من جهة أخرى .(122/10)
يبدو أن المعجم الفصيح كانت له مكانة خاصة ودور حاسم في تحديد المستوى اللغوي لأي لهجة عربية … فكلما ارتفع مستوى الحديث قليلا أو كثيرا عن معالجة الأمور العادية في الحياة اليومية وجدنا المتكلمين يرتفعون بمعجمهم إلى المستوى الفصيح ، نلمس ذلك في الملتقيات الثقافية وفي الأحاديث الجادة التي تتطلب نوعا من الدقة في استعمال المفردات. لذلك يرى بعض الباحثين أن الفصحى بقيت بالنسبة للهجات العربية هي النموذج الذي تسعى اللهجات إلى التطور نحوه على مر العصور. بل يمكن اعتبارها تشكل "المعيار اللغوي " لهذه اللهجات . وسنجد هذا واضحا في كتب القراءة التي تؤلف للتلاميذ في المرحلة الابتدائية. يعرض د. فتحي يونس دراسة لمحمد قدري لطفي تشير إلى: " أن حوالي 73% من الكلمات ذات التكرار العالي في كتب القراءة .. في المرحلة الابتدائية موجود في اللغة العامية"، كما أنه نقل عن محمد محمود رضوان في دراسة حول " تعليم القراءة للمبتدئين " أن "حوالي 80% من كلمات الأطفال المصريين الذين لم يدخلوا المدرسة بعد توجد في اللغة الفصحى " ، والمؤلف نفسه أجرى دراسة ميدانية انكشف له من خلالها " أن الكلمات التي تمت بصلة إلى الفصحى والموجودة في لغة الأطفال المصريين الشفهية قد بلغت 3.5% في السنة الأولى الابتدائية و 2.5 % في السنة الثانية و 2% في السنة الثالثة ) . وهذه النتائج التي توصل إليها الباحثون نستخلص منها ملاحظتين : الأولى كما يلاحظ د. يونس نفسه تتعلق بمكانة الرصيد المعجمي الفصيح في لغة الأطفال التي تؤكد أن الفرق بينه وبين العامية يكاد يكون غير ذي أهمية مما يوحي بالمبالغة في تقديره . والملاحظة الثانية تؤكد ما قدمناه سابقا من أنه كلما ارتقى مستوى المتكلم من الناحية التعليمية اقتربت لغته من النموذج الفصيح .(122/11)
وقد أجريت دراسات على مستوى النطق بهذه المفردات المشتركة بين الفصحى والعامية ، وقد قلنا إن التغيير الذي يحصل في الفصحى كثيرا ما يرتبط بنطق المفردات فينتج عن تنوعات تحدث بفعل القلب المكاني أو الحذف أو الإبدال إلخ … لا يكفي أن تكون المفردات مشتركة ، يجب أن يكون هناك تطابق على مستوى التلفظ حتى لا يحصل خلل في الفهم ، وهذا ما حاول أن يرصده بعض الباحثين في لغة الأطفال ، فعمد إلى جمع عينة تتكون من المفردات الأكثر شيوعا في أحاديثهم ليرى مدى اتفاقها من حيث التلفظ مع الفصحى، كانت العينة تتألف من 372 مفردة شائعة فوجد " أن 79 كلمة من بين ال 372 لا تختلف عن الفصحى في النطق إلا بتغيير واحد في أحد أصوات الكلمة بنسبة 21% وإن من بينها 28 كلمة تفترق عن نظرائها في الفصحى في تغيرين اثنين بنسبة 8% تقريبا .. ويتضح من خلال هذه الأرقام أن نسبة الالتقاء تصل إلى 81% " (محمود السيد 85).(122/12)
إن هذه الدراسات وأمثالها تحاول أن تبين لنا أن العاميات ، عكس ما يقال عنها، لم تنفصل عن الإطار الفصيح، فهي في ديناميتها لا تنزع إلى الانفصال عنه بل تجعل منه معيارا ونموذجا للتطور والترقي داخله . لكننا – كما نلاحظ – نتحدث عن عاميات وليس عن عامية واحدة، تنتشر في ربوع العالم العربي شرقا وغربا ، فالمسار اللغوي لكل عامية يختلف عن الأخرى بحكم التاريخ والظروف الإقليمية التي تأثرت بها . وقد لاحظ ذلك ابن هشام اللخمي (ت 577هـ) عندما ألف كتابه " المدخل إلى تقويم اللسان وتعليم البيان" (عبد العزيز مطر 67) ليوضح من خلاله أن لحن عامة الأندلس يختلف عن لحن عامة المشرق . وللرد على كتابي " لحن العامة " لأبي بكر الزبيدي و " تثقيف اللسان وتلقيح الجنان " لأبي حفص بن مكي الصقلي اللذين سارا تقريبا على النهج المشرقي في معالجة اللهجات العامية ينطلق ابن هشام من فكرة "توسيع دائرة الصواب " ليشمل اللغات العامية إذا ما دل على كلامها وجه يجعلها ضمن دائرة الصواب، ولهذا حاول أن يدافع عن عامية الأندلسيين ملتمسا لما يقولونه عذرا معقولا أو وجها من الصواب ، فقد رد على الزبيدي تصويبه " غلقت الباب " بدون تشديد الشائعة في لهجة الأندلس ، ولم يعتبرها لحنا ، وروى أن اللغوي ابن دريد ( حكي فيه : غلقت ( بالتخفيف ) وهي لغة ضعيفة ، والأفصح في ذلك : غلقت ثم أغلقت ، وهي وإن كانت لغة ضعيفة فلا يجب أن تلحن بها العامة ، لأنها من كلام العرب ، وإن قلت وضعفت) ، ويرد عليه في تخطئته قولهم "نبلة " لواحدة النبل " إن ابن جني حكى أن واحد النبل نبلة ، فلا معنى لإنكاره على العامة على قلته " ويرد كذلك على تخطئة الأندلسيين في قولهم " أجاص" للكمثرى ، ويستشهد بأبي حنيفة الذي يقول " الإجاص عند أهل الشام الكمثرى ، ويسمون الإجاص (المشمش)، وإذا كانت هذه لغة شامية ومنهم بنو أمية الذين حكموا الأندلس ونشروا بها لغتهم ، فكيف تلحن بها العامة.(122/13)
ومن هذا المنطلق أيضا تناول الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله الباحث المغربي مسألة حيوية اللغة العربية كما تتجلى من خلال العاميات العربية المختلفة ، وحاول أن يقيم الدليل على وجود أكثر من رباط بين العاميات العربية مستندا في ذلك على نموذج العلاقة بين اللهجة المغربية واللهجة المصرية في القاهرة . ويبدو لي أن الباحث المغربي عمد إلى المقارنة بلهجة القاهرة بعد أن تأسس في مجمع اللغة العربية لجنة للهجات التي تكفلت باستقراء الألفاظ والتراكيب الجارية على ألسنة أهل الأقطار العربية من الناحية الصوتية ومن ناحية المعنى وتدوين هذا في معاجم وأطالس لغوية ، وقد اتخذت اللجنة لهجة القاهرة مقياسا …) (اللسان 84/22) ، وبعد تحليل مصادر اللهجتين المصرية والمغربية غير الفصحى كاللغة الفارسية والتركية .
فاللهجتان تلتقيان في عدة مفردات ، وللدلالة على ذلك أشار إلى دراسة أجريت على 59 كلمة من صميم لهجة القاهرة اتضح من خلالها أن 35 كلمة فيها مشتركة مع اللهجة المغربية ، وهذا ما شجع الأستاذ ابن عبد الله لإعداد نموذج لقاموس للعامية المغربية والمصرية نشره بمجلة اللسان العربي الذي يشرف على إصدارها مكتب تنسيق التعريب بالرباط ( العدد 1984/22) .
وهذا التقاطع بين اللهجات العربية لا يهم فقط ما أشار إليه الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله بصدد تأليفه لقاموس اللهجة المصرية المغربية ، فقد قام د.إبراهيم السامرائي بمحاولة لجرد الألفاظ الفصيحة في اللغة العراقية الدارجة في كتابه : (تنمية اللغة العربية في العصر الحديث) ، ونحن عندما نتأمل عينة من هذه المفردات سنجد كثيرا منها رائجا عندنا في المغرب بنفس المعنى والاستعمال، وهذه أمثلة :(122/14)
بزل (شق) – تختخ العجين (إذا خمر) – الجزة (صوف الشاة) –جمز (قفز/عدا) – حجل (رفع رجلا وقفز على الأخرى) – شبح (مده ليجلده) – شكوة اللبن (وعاؤها) – الشياط (الاحتراق) – النحط (شبه الزفير) – الهرس (الدق) – خنزر (نظر بمؤخرة عينه )-دحس(أدخل الشيء بالقوة) – تربع (جلس جامعا قدميه ) إلخ.
ويفسر د. السامرائي وجود مثل هذه المفردات في اللسان العراقي اللهجي بكونها فصيحة في بداية أمرها ، فيحدث للواحدة منها أن " تبتعد عن اللغة
الفصيحة فيعزف عنها أهل الاستعمال وتستقر في اللغات الدارجة حتى ليخيل لكثيرين أن الكلمة عامية ولا صلة لها بالفصيحة " . وقد أشار إلى أن أحد أعضاء مجمع اللغة العربية في دمشق (وهو الأستاذ شفيق جبري ) كان يسمى مثل هذه الألفاظ بـ "بقايا الفصاح" والواقع أن كثيرا من هذه البقايا الفصيحة منثورة في كل اللهجات العربية وهي التي تشكل الرصيد المشترك بين المناطق العربية التي يساعد على حسن التواصل بين سكانها ، ويمثل في نفس الوقت الأساس اللغوي الذي يربط بين المتعلمين وتراثهم العربي والإسلامي ، ومن هنا دعت الحاجة إلى مزيد من البحث لتحديد ما يوحد بين اللهجات فيما بينها من جهة ، وما يوحدها مع الفصحى في مستواها العالي من جهة أخرى .
عباس محمد الصوري
مدير مكتب تنسيق التعريب بالرباط
مراجع البحث
1- أمين الخولي : مشكلات حياتنا اللغوية ، دار المعرفة القاهرة 1956 .
2- حسن ظاظا : كلام العرب ، دار النهضة العربية ، بيروت 1976 .
3- مصطفى زكي التوني : علل التغيير اللغوي ، حوليات كلية الآداب / جامعة الكويت 1973 .
4- ابن خلدون : المقدمة ، دار القلم ، بيروت ط. السادسة 1986 .
5- منذر عياشي : قضايا لسانية وحضارية ، طلاس ، دمشق 1991 .
6- د. فتحي يونس تصميم منهج لتعليم اللغة العربية للأجانب، دار الثقافة
بالقاهرة 1978.(122/15)
7- يوهان فك : العربية دراسات في اللغة واللهجات والأساليب ، ترجمة د. عبد الحليم النجار ، مطبعة الكتاب العربي ، القاهرة 1951 .
8- د. محمود السيد : في قضايا اللغة التربوية ، وكالة المطبوعات ، الكويت .
9- د. عبد العزيز مطر : لحن العامة ، درا الكتاب العربي ، القاهرة 1967 .
10- د. إبراهيم السامرائي : تنمية اللغة العربية في العصر الحديث ، مطبعة الجبلاوي ، القاهرة 1973 .
- أعداد من مجلة اللسان العربي / مكتب تنسيق التعريب بالرباط .(122/16)
كلمة الافتتاح
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
يحتفل المجمع اليوم بتكريم ذكرى عضو المجمع الأستاذ الكبير مصطفى أمين الذى جعل من عموده اليومى (فكرة) صوتًا قويًّا حارَّا للدفاع عن الفقراء والبؤساء والمظلومين والمحرومين، وأمتعنا بأفكاره التى جعلها تُعنى بالحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، فمصر لن تنسى مصطفى أمين بدعواته الكبيرة مثل دعوته للتبرع لليلة القدر، وستظل هذه الدعوة تهدى الخير للآلاف تلو الآلاف، وأيضًا دعوته إلى عيد الحب،
وسيظل الصحفى الكبير مصطفى أمين بأفكاره ومقالاته نبراسًا هاديًا مُضيئا ومدرسة كبرى لجميع الصحفيين فى أخبار اليوم والأخبار، وأيضًا لتلاميذه الكثيرين فى الصحافة المصرية والعربية، رحمه الله وجزاه عن أمته وصحافتها بخير ما يجزى به عبادَه العاملين المخلصين .
وسيلقى كلمة المجمع فى تكريم ذكراه الأستاذ الكبير عضو المجمع الدكتور سليمان حزين، فليتفضل مشكورًا .
* * *(123/1)
كلمة الافتتاح
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
إنه ليعز على نفسى كثيرًا ويحزنها أن نجتمع اليوم لنودع زميلاً عزيزًا علينا جميعًا هو الدكتور العلامة سيد رمضان هدارة عضو المجمع الراحل الذى طالما قدم للمجمع أعمالا علمية. منذ أن اختير خبيرًا بلجنتى الفيزيقا والرياضيات،وبعد ذلك لكفاءته العلمية اختير عضوا عاملا مدة طويلة، ونحن جميعا نؤمن أنه لا مفر من الموت وأن كل نفس لا بد أن تذوقه ولا نملك سوى الاستسلام لقضاء الله العلى العظيم الذى لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، ولا نملك إلاّ أن ندعو الله أن يرحمه وأن يسكنه جنته ، وأن يلهم آله الصبر والسلوان. وقد حرص الزميل الكبير الأستاذ الدكتور محمود مختار عضو المجمع وأستاذ الراحل الكريم وزميله أن ينوب عن المجمع فى إلقاء كلمة التأبين . وكان من واجبى ومن حق الفقيد العزيز على المجمع وعلى الوسط العلمى كله أن أجلو سيرتَه العلمية الحافلة منذ نشأته حتى لقاء ربه بتفصيل كبير يليق بمكانته العلمية الكبيرة ولكن هذا المقامَ المحدود لا يسمح إلا بأن أوجز ذلك ما أمكن، وأن أجمع أطرافَه فى أضيق ما يكون معتذرًا مسبَّقًا عن عدم إيفائه حقه من التكريم .(124/1)
فقيدنا العزيز ولد فى عام 1921م. وتلقى تعليمَه الابتدائي والثانوى حتى حصل على شهادة الدراسة الثانوية عام 1938م فأنس فى نفسه الرغبة لدراسة العلوم الأساسية وبخاصة الفيزيقا والكيمياء والرياضيات فالتحق بكلية العلوم، وكانت هى الكلية الجامعية الأولى فى العالم العربى. وتخرج منها بدرجة البكالوريوس الخاصة فى الفيزيقا مع مرتبة الشرف الأولى عام 1942م وعين معيدًا بقسم الفيزيقا حيث أتيحت له الفرصةُ لمواصلة الدراسة والبحث وحصل على درجة الماجستير عام 1946م . فأوفدته الجامعة إلى إنجلترا حيث التحق بجامعة مانشستر وتخصص فى قياسات الأشعة الكونية، وهى الأشعة التى تغمر الأرض قادمة من أغوار الكون السحيقة حاملة معها العديد من أسراره وخباياه التى تنم عن الإعجاز المتناهى فى الخلق والإبداع، وكانت هذه الدراسة فى أول عهدها بالعالم كله. وعاد لمصر متوجًا بدرجة الدكتوراه حيث عين مدرسًا بقسم الفيزيقا. وفيه عُهد إليه ببناء أول مطياف لقياس الأشعة الكونية فى مصر وما تحويه من ميزونات مشحونة وغير مشحونة، وهى جسيمات ذات كتل متوسطة بين الإلكترون والبروتون واجتذبت مدرسته عددًا من طلاب الدراسات العليا للتخصص فى القياسات الإشعاعية عامة والكونية خاصة. وسرعان ما انتشروا فى مراكز البحث والجامعات. وكان من أبرز هذه المراكز كليةُ العلوم بجامعة الإسكندرية والمعهدُ القومى للقياس والمعايرة، الذى أسهم الدكتور هدّارة نفسه فى تأسيسه وبنائه حتى جعل منه مرجعًا دوليًّا للقياسات الإشعاعية عامة المنبعثة من المواد المشعة النووية وتفاعلاتها مع المادة الحية وغير الحية وحصل فيها عدد كبير من الطلبة على درجتى الماجستير والدكتوراه.(124/2)
التعبير عن معانى بوادئ الدرجة العليا والدرجة الدنيا
فى اللغة العربية *
للأستاذ الدكتور نيقولا دوبريشان
هناك عدد من البوادئ التى تعبر عن التدرج فى مختلف اللغات الأوربية، وهى تدخل فى مجموعتين من الأضداد :
1-تتضمن المجموعة الأولى بوادئ الدرجة العليا وأهمها sur -, ultra - , extra - ,hyper - , super-,supra-
2- تتضمن المجموعة الثانية بوادئ الدرجة الدنيا وأهمها :-
sub- , hypo- , infra- , sous- .
1- بوادىء الدرجة العليا :
1-1-البادئة – ultra انتقلت من المعجم السياسى إلى اللغة العامة وإلى مختلف ميادين المصطلحات العلمية .
1-1-وقد تم التعبير عن دلالات هذه البادئة من الصفات على النحو التالى: أ-بمساعدة الظرف" فوق" الذى يسبق نسبة أو لفظا مشتقا آخر يستخدم
كصفة، مثل : الأشعة فوق البنفسجية engl.ultraviolet radiation
فوق العصرى : engl.ultramodern
وسجلت المعاجم صيغا اختصرت فيها كلمة "فوق" فأصبحت " فو" واتصلت عن طريق النحت بالصفة المسبوقة ، مثل: فوبنفسجى(**)engl. ultraviolet وقد أصبح بذلك بادئة حقيقة حرف صغير لكن عدد هذه الصيغ محدود جدًّا، وهى لم تنتقل إلى اللغة العامة .
ب- بمساعدة الفاعل "مغرق فى" الذى يسبق اسما . ونجد مثل هذه الصيغ على الأخص فى لغة الصحف.
مغرق فى الرجعية
engl. ultrareactionary
جـ ـ بمساعدة الفاعل " مسرف فى":
مسرف فىالعصرية
engl. ultramodern
مسرف فى المحافظة
engl. ultraconservative
د- بمساعدة الفاعل " مغال فى " :
مغال فى العصرية
engl. ultramodern
مغال فى المحافظة
engl. ultraconservative
هـ-بمساعدة الفاعل "مفرط فى " :
المفرط فى الديمقراطية
engl. ultrademocrastic.
و – عن طريق صيغ الإضافة التى جاءت فيها صفة مضافة :
شديد القصر engl. ultrashort
شديد الصغر
ultramicroscopic engl.
1-1-2- أما البادئة " ultra" من الصيغ الاسمية فقد تم التعبير عنها بالطرق التالية :(125/1)
المصدر " مغالاة فى " :
المغالاة فى القومية
ultranationalism .engl
ب – بمساعدة النسبة " فوقى " .
صوت فوقى fr . ultrason
فيروس فوقى engl. ultravirus
ج-بمساعدة الفاعل " متطرف " :
ملكى متطرف
engl .ultramonarshist
د-بمساعدة التركيب الذى يستخدم فيها الاسم " غاية " :
سرى للغاية fr.ultrasecret
1-1-3 أما المعنى المكانى للبادئة "ultra " فقد تم التعبير عنه بمساعدة الظرف "وراء":
وراء الجبال engl. ultramontane
وراء البحر . ultramarine engl
1-1-4 ويدلل استخدام أكثر من طريقة واحدة للتعبير عن معنى البادئة " ultra-" فيما يدلل على الإمكانيات المتوافرة للغة العربية للتعبير عن معانيها من جهة، وعلى عدم تفضيل أسلوب معين على سائر الأساليب من جهة أخرى . لكن يبدو أن استخدام الظرف " فوق " للتعبير عن معانى بوادئ أخرى من هذه المجموعة أصبح أسلوبا منتشرا عاديا معترفا به.
1-2-1 البادئة “ extra " تعبير عن
معانى التفوق والاستبعاد وتنافى عادة بوادئ أخرى للدرجة العليا فى بعض استخداماتها.
وتظهر هذه البادئة فى صيغ النعت فقط، وتم التعبير عن معانيها فى اللغة العربية بالأساليب التالية :
أ-الظرف "فوق" الذى يسبق اسم "عادة"، مثل :
فوق العادة engl. extraordinary
ب – الاسم " غير " المضاف إلى نسبة أو اسم فاعل :
غير عادى engl. extraordinary
غير مألوف fr . extraordinaire
ج – اسم الفاعل " مخالف لـ " الذى يسبق اسما :
مخالف للصواب fr. extravagant
د- النسبة " استثنائى" واسم الفاعل "طارئ" .
دورة استثنائية / طارئة
fr.session extraordinaire
1-2-1 كما تعبر هذه البادئة عن معنى الوقوع خارج شىء آخر :
خارج الأرض engl. extraterrestrial
خارج الرحم engl . extrauterine
1-3 البادئة “ hyper –“ بمعنى "فوق" أو "بإفراط" تظهر بالأخص فى المصطلحات الخاصة بميادين الطب والبيولوجيا والكيمياء وعلم النفس .(125/2)
1-3-1 وقد تم التعبير عن معانى هذه البادئة من الصيغ الاسمية بالطرق التالية :
أ – الاسم " فرط " مضاف إلى اسم آخر :
فرط الحساسية
engl. hypersensitity
فرط ضغط الدم engl.hypertension
فرط الحموضة engl. hyperacidity
ب- المصدر "طول " والمصدر "ارتفاع " المضافان إلى اسم آخر :
طول البصر engl. hypermetropia
ارتفاع الضغط fr.hypertension
1-3-2- وتم التعبير عن معانى هذه البادئة من الصيغ النعتية بالطرق التالية :
أ-اسم الفاعل "مفرط"مضاف إلى اسم:
مفرط الحساسية.
engl . hypersensitive
مفرط الحموضة engl. hyperacid
ب-الظرف " فوق" مختصرًا أحيانا فى"فو" ومتصلا بالنعت المسبوق "فوهندسى" (1)
engl. hypergeometric
ج- النعت" طويل " المضاف إلى اسم:
طويل البصر engl. hyperopic
د-الاسم " فرط" مختصرًا أحيانًا فى "فر " ومتصلا بالنعت :
فرصوتى(2) engl . hypersonic
1-4 البادئة“super-“ و “sur “ (اللغة الفرنسية ) بمعنى "فوق " تعبر كذلك
عن الدرجة العليا ( وضدها " sub " )
1-4-1-وقد تم التعبير عن معانى هذه البادئة من الصيغ الاسمية عن طريق المصدر "فرط" والمصدر "إفراط " ( فى ) :
فرط الاحترار engl . superheat
فرط الإنتاج fr. Superproduction
فرط التشبيع engl . supersaturation
إفراط التقدير fr. Surestimation
كما تم التعبير عن معنى هذه البادئة بمساعدة الظرف"فوق" المختصر أحيانا فى "فو" :
فوواقعية fr. Surréalism
فوتوتر fr . surtension
1-4-2 أما التعبير عن معانى هذه البادئة من الصيغ النعتية فقد تم بالطرق التالية :
أ- اسم الفاعل "مفرط"المضاف إلى اسم آخر :
مفرط الحساسية
engl.supersensitive
أو فى تركيب نعتى :
وفرة مفرطة engl.superabundance
ب-الظرف "فوق " المختصر أحيانًا فى "فو" والمتصل بالنسبة المسبوقة "فوطبيعى(3) engl .supernatural
فوبشرى (1) engl. superhuman
فوصوتى، فوسمعى(2)
engl. supersonic(125/3)
ج ـ النسبة "فوقى" (فوقانى) فى تركيب نعتى :
بناء فوقى engl. superstructure
بنية فوقية fr. superstructure
4-وقد تمت كذلك محاولات للتعبير عن معانى البادئة“super” من الأفعال.
ومن أجل ذلك تم اللجوء إلى عدة أفعال بمعنى "التشديد" أو " التجاوز " قبل المصدر ، ومثال ذلك :
الفعل " أفرط فى " :
أفرط فى الإنتاج engl. superproduce
أفرط فى التبريد engl. supercool
الفعل " جاوز " .
جاوز التقدير fr. surestimer
ج-الفعل " شدّد " :
شدد الأكسدة fr. suroxider
د-كما تم التعبير عن معنى هذه البادئة
بمساعدة المصدر " إفراط " ، كما في :
غذّى بإفراط fr. surnourrir
1-5 كما تعبر البادئة “ super” عن معنى الدرجة العليا وبوصفها دليلا على التشديد يبدو أن هذه البادئة تركت المعنى المكانى للبادئة"“supra لكنهما تولدان أحيانا صيغا مترادفة :
1-5-1-تم التعبيرعن معانى البادئة supra " "من الصيغ النعتية بالطرق التالية :
أ- الظرف "فوق" الذى يسبق ويجر نسبة أو نعتا أو اسم مفعول :
فوق الجزيئى .
engl . supramolecular
ويمكن اختصار " فوق " فى " فو " واتصاله بالنعت المسبوق :
فوجزيئى engl. supramolecular
فوقومى engl. supranational
فوكلي engl. suprarenal
2-بوادئ الدرجة الدنيا :
2-أما بادئة الدرجة الدنيا الأكثر
استعمالا فهى “ sub” (sous- باللغة
الفرنسية ) وهى ضد “ supra "
2-1-1- وتم التعبير عن معانى البادئة “ sub " بطرق مختلفة :
أ- تم التعبير عن معناها فى أكثر الأحايين بمساعدة الظرف " تحت " المختصر أحيانًا فى " تح " والمتصل بالنعت المسبوق أو شبيهه. وقد تم بهذا الأسلوب ترجمة العديد من الصيغ من مختلف ميادين العلوم:
تحت المماس engl. Subtangent
تحت الحاد engl. Subacute
تحلسانى(1) engl . sublingual
تحجدلى(2) engl . subcutaneous
تحبحرى(3) engl . submarine
تحشعورى(4) engl. Subconscious(125/4)
ب-ما تم التعبير عن معناها بمساعدة الظرف "دون" المختصر أحيانا فى "دو" والذى يسبق نسبة أو اسم فاعل
أو اسم مفعول.
دون الوعى engl . subconscious
دون الذرى / دو ذرى (5)
engl. subatomic
دون المعتدل/دو معتدل
engl.subtemperate
دون المتوسط subavreage engl.
دو بشرى . Subhuman engl
ج- أو بمساعدة الاسم " شبه " المضاف إلى نسبة أو اسم فاعل أو اسم مفعول أو المختصر فى " شب " والمتصل : شبه مشبع.
engl. subsaturated
شبه البالغ engl.subadult شبه مائى/ شبمائى(6)
engl.subaquatic
شبه مدارى
fr. Sous-tropical
د-أو بمساعدة الاسم " نصف " المضاف إلى اسم فاعل :
نصف ناضج engl. subdone
هـ- بمساعدة الاسم " غير " :
غير ناضج engl. subdone
و- بمساعدة اسم الفاعل " مجاور لـ"
الذى يسبق اسما :
مجاور للهامش engl . submarginal
ز-بمساعدة النعت"قليل" المضاف إلى اسم:
قليل السكان fr. sous–populé
ح_ بمساعدة الاسم" جزء " المختصر أحيانا فى " جز " :
جزأ ساسى(1) engl subessential
ط- بمساعدة اسم الفاعل "ناقص" المضاف إلى اسم :
ناقص النمو fr. sous–développé
شبه حاد engl. subacute
ى- بمساعدة الحرف " لا " :
لا شعورى engl. subconscious
2-1-2-أما معنى البادئة "sub- " من الصيغ الاسمية ، فقد تم التعبير عنه
بالطرق التالية :
أ -الظرف" تحت " المختصر أحيانا فى " تح " والمتصل بالاسم المسبوق .
تحت الأكسيد engl . suboxide
تحت الشعور fr. subconscience
تحتربة (2) engl. subsoil
ب-الاسم"شبه"المضاف إلى اسم آخر:
شبه القارة engl . subcontinent
ج- المصدر " قلة "أو المصدر" نقص "أو الاسم"سوء"المضاف إلى اسم آخر:
قلة الإنتاج fr. sous–production
نقص الإنتاج fr. sous–production
د- بعض النسب وأسماء الفاعل والعدد الترتيبى"ثان"فى تراكيب نعتية :
لجنة فرعية engl . subcommittee
عنوان فرعى engl . subtitl
قطاع فرعى engl. subsector
وحدة فرعية engl. subunity(125/5)
وكيل ثان engl. subagent
ثانوى:إنتاج ثانوى
fr. sous-production
مادة ثانوية fr. sous – produit
مساعد – سكرتير مساعد
fr. sous-secrétaire
رئيس مساعد engl. subhead
ثان – سكرتير ثان
fr. sous-secrétaire
ملازم ثان engl. sublieutenant
-وكيل ووكالة فى تراكيب الإضافة :
وكيل الوالى fr. Sous-préfet
وكالة الوزارة fr.sous-secrétariat
نائب : نائب المدير
fr. sous-directeur
-من الباطن : مقاولة من الباطن
enlg. subcontractor
2-1-3 كما تمت محاولات للتعبير عن معنى هذه البادئة من الأفعال بالطرق التالية :
أ- بمساعدة العدد الترتيبى المؤنث المنصوب " ثانية " :
قَسَّمَ ثانية engl. subdivide
ب- بمساعدة العبارة " من الباطن " :
أَجَّرَ من الباطن engl. subcontract
2-2- البادئة " hypo- " :
2-2-1- تم التعبير عن معنى هذه
البادئة من النعوت بمساعدة الظرف "تحت " الذى يضاف إلى اسم آخر:
تحت البشرة engl. hypo-dermal
تحت الأرض fr.hypogé
كما طرح اختصار هذا الحرف فى "تحت " واتصاله بنسبة وبخاصة للتعبير عن مصطلحات من ميادين علم التشريح والطب :
تحجلدى engl. hypodermic
تحلسانى engl. hypoglosal
2-2-2 أما معنى هذه البادئة من
الأسماء وبخاصة في ميدان الطب فقد تم التعبير عنه بالمصدر " نقص " .
نقص النمو engl. hypoplasia
نقص السكر engl. hupoglycemia
نقص التوتر engl. hypotension
كما تم التعبير عن معنى البادئة"hypo" من الأسماء عن طريق النسبة "تحتانى" :
مركز تحتانى engl. hypocenter
جلد تحتانى engl. Hypodermic
2-2-3-تمت محاولة التعبير عن
البادئة "hypo " من الأفعال بمساعدة الفعل" أضعف " كما في : أضْعَف الحساسية engl-hyposesnitize
2-3 كما نذكر من بوادئ الدرجة الدنيا "infra " بمعنى " تحت " أو "وراء ".
2-3-1 وقد استخدمت هذه البادئة فى اللغات الأوربية على الأخص فى
الصيغ النعتية وتم التعبير عن معناها(125/6)
فى اللغة العربية بالظرف (تحت) الذى يضاف إلى نعت، كما في :
تحت الأحمر engl. infrared
كما تم التعبير عن معناها بمساعدة الظرف"دون" الذى يضاف إلى نعت :
دون الأحمر engl . infrared
ويمكن اختصار الظرف " دون " في "دو" واتصاله بنعت أو بنسبة كما فى:
دو أحمر(1) engl. infrared
دو سمعى(2) engl. Infrasonic
دونوعى(3) engl. infraspecific
2-3-2- كما يجوز للظرف "تحت " أن يسبق اسما ويعبر فى هذه الحالة
عن معنى البادئة“infra” من الأسماء:
تحت السمع fr. Infrason
2-3-3- أما التعبير عن معنى البادئة “infra” من التراكيب النعتية فيتم بمساعدة النسبة "تحت" :
بناء تحتى engl. infrastructure
2-4- يمكننا أن نستخلص مما سبق أن الظرف " فوق" يعتبر الطريقة الرئيسية للتعبير عن معانى بوادئ الدرجة العليا وأن الظرف "تحت"والظرف" دون" يعتبران الوسيلتين الأساسيتين للتعبير عن معانى بوادئ الدرجة الدنيا .
وقد لاحظنا أن أصحاب المعاجم استخدموا هذه الظروف الثلاثة مختصرة كذلك مما يدل على محاولة تحويلها إلى بودائ حقيقية حيث إنها تتصل فى هذه الحالة بالمفردات المسبوقة .
وبالإضافة إلى هذه الحروف ذكرنا العديد من الطرق الأخرى المستخدمة للتعبير عن معانى هذه البوادئ إما فى تراكيب نعتية أو فى تراكيب الإضافة ويدلل تعدد هذه الطرق فيما يدلل على الفوضى القائمة فى محاولات التعبير عن معانى هذه البوادئ. وفى اعتقادي أن الكلمات المذكورة ستصبح الوسيلة الأساسية المستخدمة للتعبير عن معانى هذه البوادئ فى المستقبل.
وليس مستبعدا أن يتسع استخدامها بالصيغ المختصرة مما سيفرض استخدامها كبوادئ حقيقية .
وقد أصبحت البوادئ التى استعرضناها فى هذا البحث ذات
استخدام دولى ، والدليل على ذلك(125/7)
استخدامها فى العديد من اللغات الأوربية . ولكننا وجدنا أن اللغة العربية نفسها استعارت بعض المفردات الأجنبية دون ترجمة هذه البوادئ ، ونذكر منها على سبيل المثال : سوبرمان ، وسوبر ماركت وسوبرفوسفات ، وسريالية ، واكسترا وبرلمانى … إلخ
وانتقل كثير من هذه البوادئ من معاجم المصطلحات إلى اللغة العادية وكلها تعبر أو على الأقل عبرت أصلا عن معنى المبالغة إما باتجاه الدرجة العليا أو باتجاه الدرجة الدنيا.
نيقولا دوبريشان
عضو المجمع المراسل
من رومانيا(125/8)
كلمة الافتتاح
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم ،
أيها السادة :
نجتمع اليوم لوداع أستاذ جليل كان من الرعيل الأول لخبراء المجمع وأعضائه ، وله فى المجمع جهود مشكورة قدمها ، خاصة إلى لجنتي الأحياء والعلوم الزراعية ، والكيمياء والصيدلة ، وكما تعلمون أنه كان من أوائل المصريين الذين أخذوا درجات علمية فى الكيمياء والصيدلة ، وشرفنا فى المجمع مبكرًا منذ سنة 1948، جهودًا علمية قيمة ، لا تزال واضحة فى المجمع ، وتلك هى الدنيا، كل حي إلى فناء ، وكل إنسان لابد أن يذوق الموت، فقال تعالى : « فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » . وسيظل المجمع يذكر جهوده وأعماله التي قدمها إليه . والكلمة الآن للأستاذ الكبير محمود حافظ نائب رئيس المجمع ، حيث يقوم بواجب المجمع نحو تأبين الفقيد رحمه الله .(126/1)
العامية الليبية
من فصحى تدرَّجت إلى دارجة تفصَّحت *
للأستاذ الدكتور علي فهمي خشيم
يروي العبدري (1) في (رحلته) عند مروره بالإقليم الشرقي من ليبيا :
( وعرب برقة اليوم من أفصح عرب رأيناهم، وعرب الحجاز أيضًا فصحاء، ولكن عرب برقة لم يكثر ورود الناس عليهم فلم يختلط كلامهم بغيره، وهم الآن على عربيتهم، لم يفسد من كلامهم إلا القليل، ولا يخلون من الإعراب إلا ما لا قدر له بالإضافة إلى مايعربون ) .
ويذكر ما حدث له :
( سألت بدويًّا لقيته يسقي إبله بالحصوى(2)عن ماء يقال له أبو شمال هل نمر عليه –وذكرته بالواو في موضع الخفض على عادة أهل الغرب (المغرب) فقال لي: نعم .. تطؤون أبا شمال. وأثبت النون في الفعل ونصب المفعول، وليس في الغرب "المغرب" عربي "أعرابي" ولا حضري يفعل ذلك).
ويضيف :
"مررنا بأطفال منهم يلعبون فقال لنا واحد منهم: ياحجّاج ! معكم شيء تبيعونه؟ وأثبت النون وسكّن الهاء للوقف"..
وأيضًا :
( ورأيت أعرابيًّا منهم قد ألحت عليه امرأة تسأله من طعام معه، فقال لها : والله ما تذوقينه ! فأتى بضمير المخاطبة على وجهه، وأثبت النون وسكّن الهاء )..هذا عن الإعراب عند الأعراب في برقة. أما عن الألفاظ فيحكي العبدري:
( سمعت شخصًا ينشد في الركب مكتري رحالة (راحلة ؟): من يكري زاملة؟ فسمعه بدوي فقال له : أعندك الزاملة ؟ فقال :نعم . قال : فلا تقل؛ من يكري . وقل ؛ من يستكري ) .
ويقول :
( وأما نادر ألفاظ اللغة وماجرت عادة أهل الغرب بتفسيره فهم حتى الآن يتحاورون به على سجيتهم . فمن ذلك(127/1)
أن شخصًا منهم وقف عليَّ بموضع نزولي من محل الركب، وكانت الترعة منه بعيدة، فقال لي: يا سيدي! تدعني أظهر؟ يعني: أخرج. وسألت شخصًا منهم عن الطريق فقال لي:إذا ظهرتم من الغابة فخذوا صوب كذا –يعني : إذا خرجتم منها(1) … وسمعت صبيًّا منهم ينادي في الركب: ياحجاج! من يشتري الصفيف؟ فلم يفهم منه أكثر الناس، فقلت له: اللحم معك ؟ فقال: نعم. وأبرز لحم ظبي مقدد(2) …
وسألت شخصًا عن ماء؛ هل هو معين؟ فقال لي: هو غدق(3) هذا اللفظ فسره أبو
عبيد في (غريبه)…وسمعت آخر، وقد ازدحم الناس في مضيق، وهو يقول : تنحوا عن الدرب)…
ويختم بتعليقه :
( وما يتكلمون به من الغريب أكثر من أن يحصى ) ..
كانت هذه الملاحظات التي أبداها العبدري أواخر القرن السابع الهجري. غير أن بدو برقة اليوم، مثلهم مثل سائر البدو في ليبيا، لم يعودوا يعربون ولا يثبتون نون المخاطب الجمع أو المؤنث في الأفعال (1). وما نظن أحدًا منهم يعرف الصفيف أو الغدق أو المعين، وإن كانت (ظهر) بمعنى (خرج ) و( صوب ) بمعنى (جهة ، ناحية) لا تزالان مستعملتين.(2)
ولا ريب في أن(فصاحة) أعراب برقة يومذاك قياسًا بـ(عامية) المغرب راجعة، كما لاحظ الرحالة ذاته ، إلى أنه ( لم يكثر ورود الناس عليهم ، فلم يختلط كلامهم بغيره)، فقد كانوا يحيون في عزلة شبه كاملة تكتنفهم الصحراء من
شرق وغرب وجنوب والبحر من شمال. وهكذا ظلوا (على عربيتهم، لم يفسد من كلامهم إلا القليل، ولايخلون من الإعراب إلا ما لاقدر له بالإضافة إلى مايعربون ).(127/2)
هذا الواقع من فصاحة البدو الأميين بسبب العزلة تقابله عامية الحضر حتى عند المتعلمين منهم، بل عند خاصة المتعلمين ، في المدن التي تعرضت لاختلاط أهلها بالأجانب بسبب الغزو والاحتلال أو عن طريق المعاملات التجارية ، وإذا لم يكن بين أيدينا مصادر تتحدث في هذا المجال في العصر الذي كتب فيه العبدري للمقارنة، فإن لنا مثلاً في (يوميات) حسن الفقيه حسن(*) الذي كان يسجل (يومياته)مدة أربعين عامًا في عهد حاكم طرابلس يوسف باشا القرمانلي منذ نحو مئتى عام، ويعتبر من خلصاء الحاكم وصفوة المتعلمين يومذاك. فقد كانت لغته خليطًا من الدارجة الممعنة في عاميتها، وكثير جدًا من الألفاظ الأعجمية، كلها أو جلها، في حاجة إلى شرح للقارئ اليوم، بل للقارئ الليبي وإن كان طرابلسيًّا
قحّا، إذ يستعصى عليه فهم الكثير من الألفاظ والجمل إلا ببيان دلالتها في ذلك الزمان (1) .
من المؤكد أن جملة أسباب أدت إلى انحدار الدارجة الليبية إلى العامية وكثرة الدخيل فيها، من بينها توالى غزو البلاد من قبل القوى الأجنبية واحتلالها مرات كثيرة وتنوع هذا الاحتلال مما ترك الأثر الكبير في تنوع الدخيل، ثم فقر البلاد الذى ساعد على رسوخه القتال الضاري بين أهلها والغازين أو فيما بينهم أنفسهم مما أدى إلى إهمال مصادر الحياة المستقرة من زراعة وصناعة، وكانت النتيجة إهمال التعليم وانتشار الأمية والجهل حتى أصبح القارئون قلة يعدون على أصابع اليد في البلدة الواحدة أحيانًا. ويقدم لنا الرحالة المغاربة بالذات الذين كانوا يسجلون ملاحظاتهم في رحلاتهم صورًا قاتمة عن مدى التخلف الذي مرت به البلاد على مدى قرون من الزمان، وعن المستوى العلمي والثقافي، وتبعًا لذلك المستوى اللغوي(2). ويذكر العياشي(3) أنه زار زاوية الشيخ أحمد زروق(4) في بلدة مصراته (وصلينا الجمعة بالمسجد الجامع وهو الذي كان الشيخ يصلي فيه،(127/3)
وخطب إمام المسجد من ورقة، وليته أحسن القراءة منها، فإنه كان يتوقف حتى في آيات من القرآن العظيم، وأسفت لذلك المكان مع شرفه بجوار الشيخ وكونه واسطة البلد كيف يسند الأمر فيه إلى غير أهله ويوضع في غير محله، ولله الأمر من قبل ومن بعد). وإذا كان هذا الخطيب لا يحسن القراءة حتى في آيات القرآن العظيم فكيف الحال عند عامة الناس ؟
لقد كانت الأمية ضاربة أطنابها بشكل مفجع، وطبيعي أن تنحدر الدارجة تبعًا لذلك. وحتى عهد قريب كانت الأمية سمة المجتمع الليبي ، ويذكر الكاتب أنه لم يكن في ليبيا كلها يوم أعلن استقلالها سنة 1951م سوى عدد أصابع اليد الواحدة من خريجي الجامعات (من مصر وإيطاليا) ولم تكن ثمة مدرسة ثانوية سوى واحدة في طرابلس، ولا مدرسة ابتدائية في منطقة مصراته ( يقدر اليوم عدد سكانها بحوالي نصف مليون نسمة) إلا واحدة. والكاتب نفسه كان في الدفعة الأولى التي حصلت على الشهادة الإعدادية، ثم الثانوية العامة، اللتين أنشئتا أول مرة في جيله (*).
هذا كله أدى إلى (تدرُّج) العامية الليبية، أي أن تصبح دارجة ففسدت الألسنة حيث تكثر فيها الألفاظ الأجنبية بشكل ملحوظ وتحرف الألفاظ العربية الفصيحة حتى لاتبين نطقًا ودلالة، مما جعل هذه اللهجة تبدو غير مفهومة كأنها) (رطانة).
... في الصفحات التالية بعض أمثلة من الدخيل الذى صار جزءًا لاتستبين عجمته في هذه اللهجة ولايدري أغلب أهلها أنه دخيل، بحيث صار يجري على الألسنة مألوفًا ولايفكر الناس في تعريبه إلا إذا حسبوه من العاميّ الدارج وأرادوا الحديث بالفصحى. أما الدخيل الواضح فأمر آخر صار أهل ليبيا يتجنبونه ويبحثون عن لفظ عربي يستبدلونه به، وهو مايخص شأن التعريب العام.
الدخيل :
تحوي الدارجة الليبية نوعين من الدخيل:قديم وحديث.وبعض هذا الدخيل صار من صلب اللهجة، ولا يفطن إليه إلا بالتمعن الطويل ، وهذا هو الذى يعنينا هنا، وبعضه يسهل التعرف عليه بيسر لوضوح عجمته(*)(127/4)
الدخيل القديم :
من الدخيل القديم ما يرجع إلى عهود اليونان والرومان، وبعضه جاء من لهجات عروبية غير العربية العدنانية. من أمثلة ذلك :
من اليونانية:
(جادور )-(حصان ، فرس). يونانيته gaidour (os ) بمعنى(حمار) .
(كوتي)-(صندوق)(1)يونانيتهKivoto (s).
(قلعاوي) –(البطيخ الأصفر، يدعى في بعض البلدان العربية : شمام ) (2) هو في اليونانية: Kolokufi
( قنط)-(ربط بقوة) في اليونانية Konido (ربط، حاك، شبك) قارن الإنجليزية Knot .
من اللاتينية :
( بيثر) (الياء ممالة، وتنطق الثاء تاء مثناة في بعض المناطق. ضرب معين من التين )،هو من اللاتينيةbifer (الذي يطرح ثمره مرتين في السنة، كما هو المعروف عن هذا النوع من التين حرفيًّا: يجلب، يحضر، يحمل، مرتين ).
(إيقس)(القاف معقودة. تقال للحصان كي يقف، وفي البربرية: حصان) .
في اللاتينية equs (حصان).
(ارميكي )(الياء ممالة =يتكلم بلغة غير مفهومة) في اللاتينيةAramicu(s)= آرامي، لاتفهم لغته .
(سنَّاري) ( في بعض النطق: اسْفِنّاري، سفراني )-(نبات الجزر) في اللاتينية syna-ro (s) .
من الدخيل العبري :
(خنّاب )-(لص(1) ،سارق.والمصدر: خنبة، والفعل: يخنب) (2) في العبرية: "خنب". (مزّال)(حظ، سعد. يقال: طاح مزّاله، أي : كان سيء الحظ) في العبرية: مزّال(3) = حظ .
(بنيم)-(حجارة،أحجار.والمفرد: بنيمة)
في العبرية : بنيم (4) (صيغة الجمع )= أحجار.
من الدخيل البربري:
كثير جدًا من المفردات في الدارجة الليبية جاءها من البربرية، مثال ذلك:
(بازين )-(أكلة تشبه العصيدة، قبيبة من العجين المطبوخ حولها المرق).
( تفونة ) – ( سمينة، في البربرية) (تافوناست) =( بقرة )على التشبيه .
(ساقم )-( مغرفة للطبيخ ) .
(سبسي)–( لفافة تبغ،دخينة،"سيجارة").
( سورية ) – ( قميص ).
( فكرونة ) – ( سلحفاة ) .
( ترفاس ) – ( كمأ ) .
من الدخيل السرياني :(127/5)
نلاحظ تأثير السريانية في التعريف (اللواحق بصفة خاصة)أكثر منه في المفردات.
في الدارجة الليبية تزاد الواو والنون للتصغير، فيقال :" صغيرون"(صغير)، "كليبون"(كليب–تصغير المصغر)، عفريتون (عفريت ) وحتى كبيِّرون (تصغير "كبير") ظرفونة(وعاء صغير من سعف النخل، ظرف مؤنث "ظرفون").
وتحفون(من "تحف" ،بمعنى" تحفة"، طرفة )،زعبون ( مبدلة الجيم زايًا من "جعبون"مقلوب"عجبون"–من العجب)(1)
وتزاد السين في آخر بعض الكلمات من مثل :
(كرموس)-(كرم،وتعني شجرة التين)(2)
(فرطاس )- (أقرع ) (3)
(قطّوس)(*) (قط ، هرة، تطلق على المذكر والمؤنث وتؤنث أحيانًا : قطوسة،والجمع: قطاطيس وقطاطس).
ملاحظة :
من الغريب أن يلاحظ المرء أن عددًا كبيرًا من ألفاظ مايدعى (اللغة السرية )أو ( اللغة الخفية) أعني لغة التعبير عن الأعضاء التناسلية والعورة، يرجع إلى لغات مندثرة كالأكادية والسومرية، وهى ظلت ألفاظاً مطمورة متداولة متوارثة، جيلاً بعد جيل، ولعل عدم تقييدها هو الذي حافظ على وجودها بدلاً من أن تتعرض للاندثار، وهذه ، في حد ذاتها، مسألة في حاجة إلى درس وبحث، إذ ما الذي جاء بهذه المفردات الخاصة جدًّا من أقصى المشرق إلى أرض المغرب لتظل بقية من تلك اللغات المنقرضة مستعملة حتى اليوم؟
كما توجد مفردات عروبية قديمة، من مثل:(زقطي) – (حاذق، ذكي )، وهي في الأكادية (زقاتو) وكلمة (تُكاميَّة) (عقدة " الجرد " اللباس الوطني الليبي، على الكتف اليسرى ).
في الكنعانية ( ث ك م )-كتف.
الدخيل الحديث :(127/6)
جاء في أغلبه جراء الغزو والاحتلال اللذين تعرضت لهما ليبيا من القوى الاستعمارية المختلفة، فقد احتلت البلاد من قبل الأتراك العثمانيين مرتين لمدة طويلة، كذلك احتل الأسبان طرابلس نحو عشرين عامًا، ثم فرسان القديس يوحنا، واستعمرها الإيطاليون من أوائل القرن العشرين حتى أواسطه، واحتل الفرنسيون جنوبها بعد الحرب العالمية الثانية، أما البريطانيون فكانوا في إقليمها الشرقي، كما كانوا يشاركون الأمريكان احتلال إقليمها الغربى .
هذه أمثلة مما دخل اللهجة الليبية الدارجة وصار جزءًا منها :
الدخيل التركي :
نلاحظه في مجالين أساسيين: الطعام والمطبخ وأدواتهما، ثم الثياب وما يتصل بهما، مع بعض المفردات القليلة في ما يتعلق بأثاث المنزل(1)
في الطعام والمطبخ :
كيما، ضولمة، براك، بوريك، طباهج، كفتة ( كلها أسماء أصناف من الطعام).طاجين، طاوة، بكرج، سزوة، كاشيك، كوريك، كوهان، فنجال (أدوات مطبخ).
في الثياب: ترليك (حذاء نسائي)، تستمال (عصابة رأس )،كردان (حلية من الذهب)، شخشير (جورب-فارسية)، كندرة (حذاء رجالي)، كادار (حذاء عسكري)كلباك (غطاء للرأس).
مفردات أخرى في الحياة العامة:
شيشمة(حنفية، صنبور)، كشلة (معسكر، قلعة)،مندار(فراش للجلوس. في الدارجة المصرية : شلتة) ، شيشة (قنينة)، شيش (زجاج )،رقيلة (نارجيلة) بظله (نتن ، سافل) .
من الدخيل الإسباني :
الغريب أن تأثير الإسبانية يكاد أن يقتصر على تسميات أوراق اللعب (تدعى في الدارجة الليبية: كارطة، والفعل: يكرِّط=يلعب الورق )من مثل:
رَيْ ( الملك/في الدارجة المصرية: الشايب) Re .
كاوان(الولد) في الإسبانيةcabalero (فارس)(2) .
موجيرة( البنت) في الإسبانيةmujera .
والأعداد :
لاص (الأول، واحد) .
دوس (اثنان) .
تريس (ممالة. ثلاثة ).
وهكذا :كواترو، شِنْكوِي، شيش(ممالة) لكن السبعة تظل (سبعة). ثم الألوان ديناري، اصباطة، بصطون، كُبّي. وأسماء الألعاب: روندا، بازقة، اشُكبَّه..إلخ .(127/7)
ونظرًا لقرب الإسبانية والإيطالية فإن بعض المفردات هنا مشتركة بين اللغتين اللاتينيتى الأصل .
من الدخيل الفرنسي:
رغم أن الفرنسيين لم يحتلوا سوى الإقليم الجنوبي من ليبيا (فزان) ولفترة قصيرة نسبيًّا(1945-1956)وظلوا معسكرين في عاصمته(سبها)فإن عددًا من الألفاظ الفرنسية دخل اللهجة الليبية ربما عن طريق اختلاط الليبيين والتونسيين. من ذلك :
زوفري (سوقي) (1)
إمريقَل (الياء ممالة والقاف معقودة) "مستريح. هانيء. دون مشاكل"(2) Reglaire
يقاجي (القاف معقودة. "يراهن" /يخاطر) gager .
يدّمدر (ينام) dormir (وفي الإيطالية dormire ).
كرفي (سخرة) corvee .
نلاحظ هنا أيضًا أن هذه المفردات موجودة في الإيطالية، لقربها من الفرنسية .
من الدخيل الإنجليزي :
عرفت الإنجليزية بعد الحرب العالمية الثانية بانتهاء الاحتلال الإيطالي وبداية
تعليم تلك اللغة في المدارس. ومنذ ذلك الحين دخلت مفردات إنجليزية في صلب اللهجة الليبية وصارت تتداول على ألسنة العامة، منها على سبيل المثال:
كنصل (قاطع، امتنع عن الحديث أو اللقاء مع غيره ) .
وتفعّل : يكنصل. في الإنجليزية CANCEL .
المنقيط( بقاف معقودة. بمعنى: البوابة الرئيسية) من الإنجليزية MAIN GATE ( بوابة قاعدة جوية على مشارف طرابلس الشرقية ) .
يبلف( يكذب، يبالغ في ما يروي). الإنجليزية pluff .
ورشة (محل العمل الصناعي أو الصيانة ) WORKSHOP .
كلفتي ( لص ) KLEPHTY .
الدخيل الإيطالي :
بدأ الاحتلال الإيطالي في ليبيا سنة 1911 وانتهى سنة 1943م ورغم أن سيطرة الاستعمار الإيطالي لم تكتمل،(127/8)
بسبب المقاومة العنيفة المستمرة التي جابه بها الليبيون الغزو الاستعماري، إلا في سنة 1931م بإعدام شيخ الشهداء عمر المختار ، فإن تأثير اللغة الإيطالية في اللهجة الليبية كان شديدًا لعاملين : أولهما- أن الإيطاليين فرضوا استعمال لغتهم بالقوة في جميع مناحي الحياة إبان حكمهم ومنعوا التعليم بالعربية إلا في "الكتاتيب" الأهلية التي كان عملها يقتصر على تحفيظ القرآن الكريم . وثانيهما - أن جالية إيطالية كبيرة ظلت في البلاد تسيطر على جوانب كبيرة من الحياة العامة في التجارة والصناعة والمصارف والمستشفيات حتى سنة 1970م يوم طردوا جماعيًّا بفعل قيام الثورة، وقد كان من النادر جدًّا – في جيل الكاتب – من لايمكنه التفاهم، ولو بأقل مستوى، بالإيطالية، وبذا دخلت مفردات إيطالية كثيرة اللهجة الليبية وصارت جزءًا منها تستعمل دون الانتباه إلى أصلها حتى اليوم -
رغم مرور ثلاثة عقود من التعريب المتواصل، مع ملاحظة أن عددًا هائلاً من المفردات الإيطالية بطل استعماله بفضل التعريب ولكن عددًا آخر ظل مستعملاً مفعلاً ومصرفا..دون حرج . من ذلك مثلاً:
يفلتش ( يستعمل إحدى إشارتي الدوران الجانبيتين في السيارة ).
يدّرس ( يوقف السيارة في مكان ما، الدارجة المصرية" يركن " ) .
( يسمن الخروف ونحوه ).
يمشكي( يخلط أوراق اللعب، وتستعمل مجازًا كذلك ) .
يكورب ( ينعطف في الطريق وتستعمل مجازًا ) .
يزبندي ( ينحرف عن الطريق ).
يبردي ( لهواء إطار السيارة. الدارجة المصرية " ينفس " ) .
يتعفلق ( يغضب كدرًا. الدارجة المصرية: يتحمق، يتحمئ ) .
زقرلُّو ( صرصار ).
ازنيلّو ( شاب رخو )
قاقابوندو ( أفّاق ).
طاولة ( منضدة ).
ستوفَّأ ( موقد ).
بريزه ( قابس النور الكهربائي في الجدار. الدارجة المصرية " كوبس ").
سبينه ( " وصلة" النور القابسة )
آنتينَّا(هوائي البث الإذاعي واللاسلكي).
بومبا ( مضخة ).
الدارجة تتفصح :(127/9)
يبدو للدارس أن ثمة تطورًا مذهلاً في الدارجة الليبية خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة من هذا القرن الذي شارف على نهايته، في اتجاهين؛ التخلص من الدخيل واستعمال الفصيح بدلاً من الحوشي أو الغريب. وكان هذا بفضل جملة عوامل منها:
1-انتشار التعليم بالعربية بدءًا من سنة 1943 ( انتهاء السيطرة الاستعمارية الإيطالية) .
2-اختلاط عرب ليبيا بإخوتهم العرب الآخرين، وبخاصة عرب مصر، عن طريق سفرهم إلى مصر (وكانوا محرومين منه أيام الاحتلال) ومجىء أعداد وافرة من المدرسين المصريين للتعليم في المدارس الليبية، إلى جانب ورود الصحف والمجلات وسماعهم الإذاعات، ورؤيتهم أشرطة الخيالة (السينما) التي كانت تستعمل اللهجة المصرية بمفردات عربية الأصل فوجد فيها الليبيون عِوضًا عن الإيطالية.
3-كراهية الليبيين للاستعمار الإيطالي الذي فرض عليهم لغة غير لغتهم ونكل بهم وقتل نصفهم وشرد ربع سكان البلاد فصاروا لاجئين في الأقطار المجاورة .
4-وهذا هو العامل الأهم : قيام الثورة 1969م المؤمنة قيادتها إيمانًا مطلقًا بضرورة سيادة العربية على المستويين العام والخاص .
التعريب العام :(127/10)
بدأت عملية التعريب العام منذ الشهر الأول لقيام الثورة الليبية. ففي جريدة (الثورة) بدأت تظهر على الصفحة الأولى منها تعليمات محددة بأنه يمنع استعمال المفردات الأجنبية في الأوراق الرسمية منعًا باتًّا وأن من يخالف ذلك سيتعرض للعقاب. كما صدر الأمر الفوري بمحو أية كتابة على اللافتات والإعلانات بغير العربية، واستبدال التسميات العربية بالتسميات الأجنبية للمحلات والمتاجر والمقاهي والصيدليات وما إليها بسبيل. وفي الصفحة الأولى من جريدة ( الثورة) التي صدرت بُعيْد تفجر ثورة الفاتح كانت تنشر جداول بـ"قل"و"لاتقل" : قل ( مصرف) ولاتقل ( بنك) . قل (هاتف) ولاتقل (تليفون). قل (بريد) ولاتقل ( بوسطة).قل ( رصيف) ولاتقل(مرشبيدي). قل (مطلبة) ولا تقل (فاتورة). قل (خيالة ) ولاتقل(سينما) قل (دراجة ) ولا تقل (بشكليط ) قل (صيدلية) ولاتقل (فرماشيا) . قل (مستشفى )ولاتقل (سبيتار).قل (قلم) ولاتقل (بينا) .. إلخ وكان عدد قليل من الليبيين يعرفون صاحب هذه "التعريبات " .
وقد استمر تيار التعريب سنوات طويلة حتى بات الأمر مألوفًا فى يومنا هذا فلا تجد في طول البلاد وعرضها مظهرًا واحدًا من مظاهر اللغات الأجنبية على الإطلاق، وبلغ أمر التعريب العام مداه بإبطال استعمال أي حرف أعجمي في الأوراق الرسمية حتى تلك الموجهة إلى السفارات والشركات الأجنبية ذات الصلة بليبيا، وكذلك في جوازات السفر الليبية التي كانت مكتوبة بالعربية فقط، وطلب من أي أجنبي يبغي دخول البلاد أن يكون جواز سفره مكتوبًا بالعربية إلى جانب لغة بلاده، ثم سهل الأمر بقبول ملصق بالجواز رسمي يحمل" ترجمة" عربية لما يحويه من معلومات وبيانات.(127/11)
هذه السياسة الحازمة يسندها قرار ثوري حاسم أثمرت بصورة تبعث على الإعجاب؛ فقد صار من المخجل أن ينطق الليبي اليوم لفظًا أجنبيًّا يدري أنه أجنبي، سوى ما تسرب إلى اللهجة وصار جزءًا منها دون أن يفطن إلى مصدره. فلا أحد يقول (تليفزيون) مثلاً إلا ويشعر بالحرج لأنه نسي أن يقول(الإذاعة المرئية) أو (المرئية)، أو يقول (ميكروفون ) بدلاً من (ناقل الصوت) أو (مكبر الصوت) حسب الحال . بل إن التعريب بلغ الفلاحين الذين يقولون الآن (مضخة) الماء بعد أن كانوا يقولون (بومبا). وتسمع بائع الفاكهة يسمي نوعًا من البرتقال (الحسناء) بعد أن كان يدعوها (بيلادونا) وهي الإيطالية bella donna ( حرفيًّا : السيدة الجميلة = الحسناء) ولم يعد تلميذ واحد يستعمل (متيتا) أو (قوما)بل(ممحاة ) أو باللهجة (محاية)، أو (بادجيلا) فيقول (صحيفة.) وبعد أن كان يسمى المدرس (مايسترو) صار يدعوه (الأستاذ) . وفي المستشفى ( الممرضة ) وليست (السوريلا)و(الإبرة) وليس (الشرنقة) و(الشاش) وليس ( الفاشا)،و( المرهم) وليس (البوماطا) . وليس من أحد اليوم يقول (اتريك) وإنما (الكهرباء) ولا تسمع (سيقاريا) أو ( لفندريا) أو (كافتريا) ونحوها، وإنما هي ( محل نجارة)و( مغسلة) و(مقهى) .. وهلم جرا .. وإن ظلت بعض المفردات مستعملة مثل ( لامبا ) التي لم تجر
(مصباح) بدلاً منها على الألسنة .(127/12)
الملاحظة الغريبة فعلاً تتضح في مجالين: المجال الرياضي، حيث يبدو التعريب العام شاملاً، فقد انتفت تمامًا تسميات، فى لعبة كرة القدم مثلاً، كانت بالإيطالية ثم بالإنجليزية لتتعرب تعربًا كاملاً، كذلك الأمر فى تسميات الألعاب الأخرى. ولعل السبب يعود إلى أن هذه التسميات والمصطلحات الرياضية منتشرة على صفحات الصحف وفي الإذاعات، فكانت هذه الوسائل الإعلامية أداة لنشر تعريبها بشكل واف بين الشباب. أما المجال الثاني فهو ما يتعلق بالسيارات وتسميات أجهزتها المختلفة حيث أخفق التعريب هنا إخفاقًا تامًّا، رغم أن كتيبات التعليمات الخاصة بالسيارات المختلفة، وهي مستوردة كلها، مكتوبة بالعربية بقرار، ولعل السبب هنا راجع إلى ضيق نطاق استعمال هذه المصطلحات والتسميات في محلات صيانة السيارات. لكن كيف نفسر أن المفردات الأجنبية (إيطالية في الغالب) لاتزال على الألسنة؟ فلا أحد – إلا النادر – يقول (العادم) بل(مرميتا)، ولا( الكابح) بل ( فرينو) ولا (مبدال ) بل ( مارشا ) ولا ( مقود)بل (دومان)لا ( إشارة جانبية) بل(فليتشا)، ولا( إشارة توقف) بل (صطوب) ولا (كابح يدوي) بل (فرينو مانو ) ولا (تأخر) بل (مارشا انديترو،كسكسة في اللهجة المصرية). صحيح أن الليبيين يسمون المصابيح (فنارات) ويقولون (مساحات) مثلاً لماسحات الماء عن زجاج السيارة الأمامي، لكن مفردات أجزائها الداخلية من مثل (بونتيني)و(رادياتوري) و(كاربوراتوري)و ( بومبا) وغيرها هي المستعملة وإن كانوا استعملوا "الشمعة"تسمية لشعلة الاحتراق ويجمعونها على (شماعي) بدلاً من شموع أو شمعات.
ولايمكن تفسير هذه الظاهرة إلا بكون الإيطاليين – قبل طردهم سنة 1970م – كانوا هم أصحاب محلات صيانة السيارات وإصلاحها قبل أن يحل الليبيون محلهم، فظل ما يتعلق بها إيطاليًّا قحًّا، أو محرفًا، ربما لضيق نطاق استعمال مصطلحاته فنيًّا وعدم تناول وسائل الإعلام المؤثرة في الناس لها على وجه العموم.(127/13)
إذا كان التعريب قد جرى بهذه القوة والسرعة لما هو معروفة عجمته فإن الرغبة الشديدة في تفصيح اللهجة عند الليبيين أدت إلى إحلال مفردات يرون أنها الأفصح بدلاً من مفردات أخرى كانت دارجة ترجع أصلاً إلى لغات أوربية أو التركية أو إلى اللهجة البربرية أو هي عربية قديمة أهملت لحسبانها غير فصيحة . وهذا تطور
ملاحظ محمود نتيجته اقتراب الدارجة الليبية من أخواتها – في المشرق خاصة – وقلة" الغريب" على الأسماع فيها. في الجدول التالي بعض الأمثلة:
المفردة المهملة ... البديل الغالب اليوم
حُكة(عربية قديمة : حُقّ ) ... علبة
فوشيكة( تركية: فشك ) ... رصاصة
غدرية( من "غدر" العربية ) ... مسدس
متريوز( إيطالية ) ... رشاش
كشلة ( تركية : قشلاق ) ... ثكنة
بالاص ( إيطالية : بالاسو ) ... عمارة
شياتة ( تركية ) ... فرشاة(تنطق:فرشة)
صباط ( إسبانية ) ... حذاء
دلمنت ( تحريف: ديناميت) ... لغم
ترمفي( اسم علامة تجارية) ... دراجة نارية
المفردة المهملة ... البديل الغالب اليوم
كامبو (إيطالية) ... معسكر/مخيم
أسانسير(فرنسية) ... مصعد
حسّان(عربية من "حسن") ... حلاق
زنفليقة(تركية) ... جماعة/مجموعة
يملعق(من" لعق" = لحس) ... يليِّس (شامية)
بطمة ( إنجليزية bottom ) ... زر
كباسة ( مدفن الفضلات ) ... محل القمامة
نوالة ( بربرية: تانوالت) ... مطبخ
مفرطة (بربرية: تافراطت) ... مكنسة
أروال(بربرية: أروال) ... مخزن
مغازة(فرنسية) ... متجر
كريولة/براندة (تركية/إيطالية) ... سرير
شاطار(تركية) ... مشجب
المفردة المهملة ... البديل الغالب اليوم
قجر(إسبانية) ... درج
زينقو (إيطالية) ... صفيح
قداحة(عربية) ... ولاّعة
صابون امَّسَّك (مُمَسَّك) ... صابون وجه
كازوزة ... مشروب
يسَّحِّم(يستحم) في البحر مثلاً ... يسبح / يعوم
يطوِّق(يختال) / طوّاق ... يغتر/مغرور
الفقي ( الفقيه) ... الشيخ/الإمام
قصّ(عملية جراحية) ... عملية(127/14)
طبّاخ(المقصود محل الطعام) ... مطعم
بطناجي
(بطنجي) ... أكول
مرايات (للنظر) ... نظارات
شباّحة ( مرآة) ... مراية
سترة / بسطران ... كبّوط /بالطو
سدرية (صدرية) ... فرملة
المفردة المهملة ... البديل الغالب اليوم
يطوّر/ يحسّن (شعر الرأس ) ... يحلق
خفية( شرطة سرية) ... أمن سري
يسبِّس ... يدخِّن
السلطان ... العريس
عساس ... حارس
شيشيد ( تركية ) ... مخبز
حمالة ( عربية ) ... شاحنة
كرهبة ( كهرباء ) ... سيارة
بابور ( الأصل = بخار) سفينة ... باخرة
جردينا ( إيطالية ) ... حديقة
يازيلو ( إيطالية ) ... روضة ( أطفال )
برقز ( إيطالية ) ... تقاعد
رومي (عربية نسبة إلى روما ) ... أوربي
صاقاط (عربية من "سقط" ) ... معوق/معاق
سبسي ( بربرية ) ... سيقاره
روشن ( تركية/ فارسية ) ... نافذة / شباك
بُرّط ( بورت ) ... ميناء
ملاحظة لافتة للنظر:
كثير من المفردات الدارجة، دون اعتبار لأصلها، بطل استعمالها لسبب بسيط هو أن مسمياتها لم تعد مستعملة في الحياة اليومية في ليبيا لتطور الحياة، عامها وخاصها، والجيل الجديد لم يعد يعرفها لأنه لم يعد يسمعها أصلاً، وكثيرًا مايتعمد الكاتب ذكر مفردات كان يستعملها جيله أمام أبنائه (أكبرهم جاوز الثلاثين من عمره) وأمام شبان من الجنسين، بعضهم حضري وبعضهم ريفي، فكانوا يندهشون لسماعها ويسألون عن معناها وقد لايفهمون المعنى لأنهم لايعرفون المسمى. من ذلك مثلاً :
وريتة (حبل قديم متآكل يوقد طرفه فيظل مشتعلاً مدة طويلة لتقبس منه النار).الآن يستعمل الثقاب(يسمى في ليبيا:الوقيد) وصار يدعى، الكبريت - بتأثير اللهجة المصرية أو الولاعة (القداحة) بدلاً من الوريتة ( عربيتها: الأريثة التي تؤرث النار ).
السقّاطة:( رتاج خشبي للباب من أعلاه، يقفل به من الداخل) حلت محله الأقفال الحديثة المتطورة.(127/15)
عين الزرزور: (شباك كان على الشرفات به ثقوب يرى من بداخل الشرفة غيره ولا يُرى) لم يعد مستعملاً بسبب تحرر المرأة من قيود البيت/السجن وخروجها إلى العمل والشارع . وفي ميدان الزراعة خاصة أهملت مفردات كثيرة لبطلان استعمال مسمياتها من مثل :
كجرّ ( حيث تجرُّ الدابة الحبل من البئر وإليها ).
دلو(مايُدلى في البئر لاستخراج الماء).
كُرِّيَّه (بكرة الحبل الكبيرة ).
ستوكة (بكرة الحبل الصغيرة).
ميدة(جابية صغيرة تستقبل الماء من الدلو ).
جناح السانية (أحد جدارين مدرجين يبنيان على جانبي البئر تثبت فيهما خشبة في وسطها البكرة).
ساروت (مجرى الماء من "الجابية"
إلى المزروعات).
ورغم أن أغلب هذه المفردات عربي الأصل فقد انقرض، أو كاد، لتغير وسائل الزراعة والري. وهذا مجرد مثال ينطبق على مجالات أخرى من الحياة في ليبيا التي تطورت بصورة واضحة، وتبدلت لغتها اليومية بحكم هذا التطور اجتماعيًّا واقتصاديًّا .
مما يمكن الحديث عنه لتفسير تفصح الدارجة الليبية أمر قد يبدو بعيدًا عن أذهان غير العرب الليبيين، وهو تجربة ناجحة جدًّا في هذا المجال؛ فقد دأبت الإذاعات المسموعة والمرئية على نقل جلسات (المؤتمرات الشعبية) التي تكوِّن أساس نظام الحكم في ليبيا وكذلك جلسات ( مؤتمر الشعب العام )نقلاً مباشرًا في مختلف المناطق. وقد تستمر هذه الجلسات، المذاعة " على الهواء" أسابيع عديدة، وكان المتحدثون، باختلاف مستوياتهم من التعليم والثقافة ومن الجنسين، يعلمون أن كلامهم يسمع مباشرة و"يقيم" من قبل الآخرين، من حيث المضمون واللغة على حد سواء .(127/16)
ومن هنا كان حرص المتحدث على استعمال الفصحى بقدر ما أمكنه، يدفعه إلى هذا إحساسه بضرورة أن يكون حديثه"أفصح" ما أمكن، إلى جانب التيار العام الذي يستهجن استعمال الدخيل أو الدارج مما يمثل ضغطًا اجتماعيًّا قويًّا، والسياسة الرسميه التي "تمنع" استعمال الدخيل منعاً باتًّا في الإدارات العامة وتعاقب مستعمله، وتسعى إلى وضع البديل العربي مكانه.
هذه السياسة الإذاعية– إن جاز التعبير–استمرت منذ نحو ربع قرن من الزمان.وعن سبيلها يلاحظ تطور كبير في الدارجة الليبية نحو الفصحى على ألسنة عامة الناس. كما يلاحظ كذلك أن المتحدثين في الندوات الإذاعية يحرصون على الكلام الفصيح..وإن لم يعربوا أو خانهم التوفيق في الإعراب والنطق الصحيح، بل إن" المتدخلين" في بعض البرامج المباشرة عن طريق الهاتف، وقد لا يكونون على درجة عالية من التعليم، يحاولون دائمًا التعبير بالفصحى.
والحقيقة أن عرب ليبيا يتأذون كثيرًا من سماع بعض نشرات الأخبار في إذاعات عربية أخرى تذاع بالدارجة المحلية، كما يجرحهم حرص إذاعات معينة على تقديم برامجها بها. وهم يزادون غيظًا من سماع" المناقشات" العلمية والثقافية والسياسية تجرى بدارجة قطر من الأقطار، ويرون أن ثمة "سياسة" وراء هذا الأمر تنحو نحو تغليب هذه اللهجة أو تلك مما يدخل في باب (صراع اللهجات) وهو أمر بالغ الخطر لعل الأنظار تلتفت إليه ولعله يناقش باستفاضة وجدية في المؤتمرات والندوات (*) .(127/17)
هناك ظاهرة أخرى في مجال تفصح الدارجة الليبية جديرة بالنظر والاهتمام، بل المتابعة واستخلاص النتائج، أعني لغة الأطفال خصوصًا. فالملاحظ أن هذه اللغة أميل إلى الفصحى. وأدرك شخصيًّا أن لغة أولادي تختلف كثيرًا عن لغتي يوم كنت في سنهم وهي أفصح من لغة الكبار بصورة ملحوظة، وإذا كان للتعليم أثره الذي لاينكر فإن السنوات العشر وبخاصة الأخيرة منها كانت ذات أثر أعمق وأوسع جاء من طريق عجيب، أعني مسلسلات مايدعى في ليبيا "الرسوم المتحركة" (في أقطار أخرى: أفلام الكرتون – وهما كلمتان أعجميتان ).
هذه الرسوم المتحركة تنطق شخصياتها المحبوبة جدًّا بالعربية الفصيحة في حوارها كما أن التعليق المصاحب لها فصيح كذلك. وقد كان لهذا الاتجاه المبارك تأثيره المحمود في تعويد الأطفال المتابعين لهذه الرسوم بشغف زائد النطق بالفصحى ترديدًا لما يسمعون. وكثيرًا جدًّا ما أسمع الأطفال يتحاورون – وهم يلعبون- بلغة هذه الشخصيات يقلدونها تقليدًا محكمًا جميلاً. لذا فإن ترجمة بعض قنوات التلفزة العربية حوار هذه الرسوم إلى لهجة دارجة في قطر من الأقطار تدعو للأسف وتجب محاربتها والوقوف في وجهها، ذلك لأنها تغلب لهجة ذاك القطر، أو تحاول أن تفعل، من جهة ، وهي الخاسرة لأن هذه اللهجة قد تكون غير مفهومة في قطر آخر وقد تؤدي إلى تشبث أقطار أخرى بلهجاتها من جهة أخرى، إلى جانب كونها دعوة إلى " تلهيج" اللغة المشتركة مما يؤدي إلى أذى كبير يبعد الفصحى ويغلب اللهجات. والجميع يدركون خطر هذا الاتجاه كما يدركون الأثر الكبير الذي تتركه هذه الرسوم المتحركة في لغة الأطفال.
ليس هذا فحسب، بل إن ثمة ظاهرة أخرى محمودة كذلك يثنى على أصحابها الثناء كله وهى تقديم ما يعرف بـ" المسلسلات المكسيكية" بالعربية الفصحى، بصرف النظر عن محتواها ومضمونها .
فهى لاريب أدت إلى تغليب الفصحى على الدارجة وكان لها أثر واضح. فهل يمكن أن ننتبه إلى هذا الأمر ؟(127/18)
هل يمكن أن نسمع ونرى المسلسلات الإذاعية العربية تقدم لنا بلغتنا المشتركة بدلاً من هذه اللهجات المحلية التي يمعن البعض في اختيار أكثر الألفاظ والتعابير غرابةً عند غير أهلها فلا تكاد تفهم؟ ألا ينبغي العمل، وبقوة، في سبيل (توحيد اللهجات) وتقريبها بعضها من بعض باستعمال (اللغة المشتركة ) ميسَّرة بقدر الإمكان إن كنا عاجزين عن (توحيد الأمة) سياسيًّا واقتصاديًّا على الأقل ؟
هذه مهمة العلماء وقضية المؤمنين، وهي أمانة عظيمة لايحملها إلا من أخلص لأمته وصدق في خدمتها حتى تتبوأ مكانتها اللائقة بها تحت الشمس وبين أمم الأرض .
على فهمى خشيم
عضو المجمع المراسل
من ليبيا(127/19)
العربية فى السودان *
للأستاذ الدكتور عبد الله الطيب
هذا عنوان كتاب قيم ألفه أحد السابقين إلى ربط السودان بهذا المجمع الكريم. بل قل أحد اثنين هما فاتحة من كرم بعضوية هذا المجمع من أبناء السودان. وذانك الشيخ العلامة الفقيه محمد نور الحسن وكيل الجامع الأزهر سابقا والشيخ العلامة عبد الله عبد الرحمن الضرير أستاذ العربية بكلية غوردون سابقا، وقد تشرفت بزمالته حينًا قصيرا من الدهر ولكن عرفته قبل ذلك ومن بعد، رحمهما الله رحمة واسعة. وأحسن المرحوم الوزير يحيى الفضلي رحمه الله إذ أعاد طبع العربية في السودان. وأحسن جماعة من أقارب المرحوم الشيخ محمد نور الحسن إذ أعادوا طبع تفسير "سورة النجم" ومؤلفات أخرى .
هذا وما أريد فى هذه الكلمة أن أتحدث عن هذين العالمين الجليلين ولا عن كتابيهما . ولكنى أردت أنه لا يدخلني تجاوز عن بعض الحديث عنهما في طائلة عتاب جرير حيث قال:
تمرون الديار ولم تعوجوا
كلامكمو علىّ إذن حرام
الذى أريد أن أتناوله هنا هو إثارة موضوع دخول العربية في بلاد السودان متى دخلت ؟ وكيف دخلت؟ وقد قرأت بعض ما كتب حول هذا المجال لا فيه نفسه– من بعض علمائنا ومؤرخينا في السودان، مثل: الأستاذ محمد عبد الرحيم صاحب نفثات اليراع، وأستاذنا الجليل مكى شبيكة، وتلميذه النابه الأستاذ يوسف فضل، والشيخ الدكتور الريح العايد الروس
وما كتبه فضلاء العلماء المصريين ومنهم من ألمَّ بالسودان أو عمل فيه، على رأس هؤلاء الدكتور محمد عوض محمد، ثم الدكتور محمد عبد العزيز أمين عبد المجيد، والدكتور عبد المجيد عابدين رحمهم الله جميعًا.(128/1)
وقد كتب عن العربية واللغة في السودان غير هؤلاء على رأسهم الأستاذ نعيم شقير صاحب تأريخ السودان، والأستاذ عبد الحليم اليازجي صاحب الحركة الأدبية في السودان، والسير هرولد ماكما يكل صاحب القبائل العربية فى السودان والأستاذ هايلسون صاحب اللغة العربية في السودان بالإنجليزية، والدكتور عون الشريف صاحب موسوعة القبائل السودانية واللغة الدارجة في السودان- هؤلاء من تحضرني أسماؤهم وغيرهم كثير ممن عسى أن أكون قرأت لهم ثم ندت عنهم الذاكرة ومن غيرهم، ومن الجيل الذى تلا زماننا عدد كبير.
وقد وجدت فى الروض الأنف الذى هو شرح لسيرة ابن هشام وهو معروف متداول، أنه زعم أن العربية كانت معروفة في بلاد الحبشة قبل الإسلام. وقصة سيف بن ذى يزن تدل على شىء من ذلك. كذلك خبر قراءة سيدنا جعفر لسورة مريم عند النجاشى من غير تراجمة يُفْهِمُون معناها وفي الحديث أن التراجمة مما يكونون حضورا عند ملوك الأعاجم كخبر أبي سفيان مع هرقل ملك الروم الذى فى البخارى .(128/2)
وفى كتاب للأستاذ يوسف فضل بعنوان تأريخ السودان وأفريقيا فى الجزء الثاني منه : " إن العربية قد وصلت إلى بلدنا السودان قبل الإسلام وأن العرب أنفسهم قد كان منهم بالسودان عدد قبل الإسلام. غير أن العدد الأكبر قدم من طريق مصر بسبب المعادن من ذهب وزمرّد، ثم فى زمان المماليك قد وقع ضغط وظلم على عرب صعيد مصر فرحلوا إلى السودان" . وقد عجبت من ذهاب الأستاذ بروفسور يوسف فضل هذا المذهب في أمر المماليك مع سماعي من المرحوم الدكتور حسن فتحي رحمه الله في بعض أحاديثه أيام عيد القاهرة الألفي سنة 1969م حديث ثناء طيب على عصر المماليك. وقد سمعت من بعد ومن قبل غيره يذهبون هذا المذهب. وأنا خاصة لا أنسى في نفسي للمماليك أنهم أصحاب موقعة عين جالوت سنة 658هـ وأنهم كانوا حماة الأزهر، وأن بردة المديح وهمزيته وما تلا ذلك من تخميس وتسبيع وتتسيع لهاتين الدرّتين فى مدح نبينا المحبوب صلى الله عليه وسلم قد كان أكثره في زمانهم فرحمهم الله وعفا عنهم أن يك بعض ما زعمه البروفسور يوسف فضل صحيحًا .(128/3)
على أن البروفسور يوسف فضل بتفصيله وبحثه الدقيق يذكر أن عربا كثيرين استوطنوا بلاد المريس من أرض النوبة واستعجموا لما كثرت مصاهرتهم لهم . وشرح البروفسور يوسف فضل اسم المريس بأنه هو الذى أطلقه العرب على إقليم النوبة بين أسوان إلى دنقلة أو دونها شيئا، ولم يشرح ما أسماه المريس أهو من المرس أى الحبل إذ كان البحارة يضطرون إلى جر المراكب بالحبال في هذا الإقليم، أم هو من المريسة؟ وهى شراب ضعيف الإسكار يصنع من الذرة ويُمْرَس بالأيدى مثل أن يجعل في آنية الشراب، وكلمة سيرقوسا التى تطلق على الجعّة في أرض إسبانيا لعلها خلط من كلمتى "شربات" وينحى بالألف نحو الواو مثل الموصوف في النحو بأنه ألف التضخيم في لسان أهل الحجاز ومريسة – من مرست شيئا في الماء إذا وضعته فيه لينقع. عندى أن اشتقاقه من حبل جرّ المراكب أقوى وأشبه، لأنهم كانوا يجرون المراكب في زمن التحاريق في أرض الجنادل- والمرس بالتحريك الحبل وهى في عاميتنا فصيحة. وأهل النوبة ذوو تجربة قديمة في الملاحة والعمل البحرى. وفي كتاب تأريخ العفر أى الدناكل للدكتور هاشم الشاميّ (أصله من الشام ولكنه أثيوبي معاصر) أن أول أساطيل البحار صنعها المصريون وكان أولها إبحارا على عهد سحر رع في حوالى سنة 2300 ق.م، وكان بحارته نوبيين من جزيرة الفيلة بأسوان، وهم الذين دلوه على معرفتهم البحر وأغْروه أن يمكنهم من أسطول يسيرون به إلى أرض بنط .(128/4)
والحديث عن أرض بنط هذه وأصلها قد يطول ولعلّ مزيجا من العاملين باللسانيات والآثار والحفريات والتأريخ أن يكونوا أدرى من كاتب هذه الأسطر بالنظر فى أمرها . وإنما أكتفي فى هذا المجال المختصر الحدس أن أشير إلى جواز وجود صلة بينها وبين فنج وكفنجة اسم قبيلتين بالسودان الشمالي وكنج كوش الذى يقال إنه سبق سيدنا إبراهيم الخليل إلى معرفة التوحيد ويدعى الفرس أنه سبق زرادشت وكان فيهم وزعم الأزرقى أن الفرس كانوا يحجون إلى البيت الحرام قبل الإسلام بزمان يضعف دعواهم سبق كنج كوشهم لإبراهيم الخليل وكلمة زنج ليست ببعيدة الجرس من كلمة ماقزوا التى تطلق على المجوس فى بلاد هوسا وزعم أحد فضلاء الباحثين عندنا بالسودان أن كلمة فونج ليست بعيدة من كلمة فينيقيا وهذا باب واسع .
وفي كتاب تأريخ أفريقية والسودان الذى أشرت إليه آنفا أن بعض العرب سكنوا بلاد المريس وصاهروا فيها واستعجموا. وفي كتاب سبائك الذهب فى أنساب العرب أن قبيلة يقال لها الحدربة ( أحسبها من الحضارمة) سكنوا مع البجاة واستعجموا .(128/5)
وقد يرى بعض الباحثين أن بلاد البجاة وبلاد النوبة غربلت العرب إلى داخل السودان بدليل الذى شهده ابن بطوطة في القرن الرابع عشر الميلادي من وجود بعض الكواهلة مع إبلهم أو ماشيتهم بمراعي سواكن وقد صار الكواهلة من بعد إلى أرض كردفان والنيل الأبيض. وقد قدم الرشايدة في القرن التاسع عشر الميلادى من المشرق من طريق البحر الأحمر فأقاموا بشرق السودان ثم تسربوا إلى داخليته وهم يتكلمون عربية مشرقية اللهجة كأنها من شرقي نجد أو العراق. مع هذا عندى أن تمكن العربية من وسط السودان دون أطرافه مع عجمة هذه الأطراف وتمكن العجمة منها حتى لقد تؤثر على الوافدين العرب حين يؤثرون الإقامة فيها، كأنه منبئ أنه ينبغي أن يكون للعربية أصل قديم أصيل في الوسط. ويقوى هذا الحدث أن العربية التي في وسط السودان، على وجود تشابه مابينها وبين عربية الحجاز والأردن وصعيد مصر وبعض اليمن الشمالي، مختلفة في جوهرها، كثيرة المادة، لاتزال تحتفظ بصيغة المبني للمجهول ونون النسوة وضروب من التكسير والمصادر مثل فِعّال وتِفعَّال،الأول : نحو كِضّاب بإمالة الألف وقلب الذال ضادا كما يحدث كثيرا في لهجة السودان وهى كِذّاب التى في سورة "عم" وتِفِرق بكسر التاء وكسر الراء المشدّدة صيغة من التفراق التي نسبها المعرّى إلى تأبط شرًّا في طيف ابنة الحر، إذ كنا نواصلها ثَمَّ .
واتباع نون النسوة الفعل الماضي بدون تسكين آخره ذكره سيبويه فى إلحاقها بنحو ردّ في قولهم ردّن – وهو مطرد عام عن كل فعل ماض عندنا نقول ردَّنْ وقالَنْ .
ومن صيغ المبنى للمجهول فِعِل كقِتِل وضِرِب، وأما الموسوعة اللغوية فواسعة وفيها الاستعمال النادر.(128/6)
وذكر غير واحد من مؤرخى اليونان أن العرب كانوا بشرق النيل من عند مصر إلى أرض علوة وذلك شرقى الخرطوم.من هؤلاء استرابو، وذكر هيرودوتس مشاركتهم لدارا الأول في حرب ماراثون ، والراجح أن غرب النيل كان يحكمه النوبة أو الكوشيون الذين يقال لهم العنج عندنا بالسودان ويسميهم التأريخ بمروى القديمة. وقد خبرني المرحوم الدكتور أمير مصطفى عالم الآثار المصرى أن عنج معناها حاكم. وهل عنخ تحريف عنج؟ وهل فنج بعيد من ذلك أو قريب ؟ الله أعلم .
والغالب على الظن أن العرب استوطنوا أرض شرق النيل بدليل وجود آبار بها غاية فى العمق – ففى ناحية شرق شندى في منطقة المصورات بئر نحو ستين باعا منحوتة من رأسها إلى مكان الماء فى الحجر وهى وحدها موضع الماء ذى المدد وكل ماحولها حتى ما احتفره الإنجليز وركبوا عليه الطلمبات لايستمر سحب الماء منه طويلا. وفى ناحية الثميد بالبطانة إلى جهة الشرق نحو نهر أتبرا بئر مبدؤها نحو من ثلاثين باعًا، ثم الحفر اتجاهًا أفقيًّا نحو باعين أو ثلاثة، ثم ينحدر عموديًّا حتى يصل الماء بعد نحو سبعين أو ثمانين باعًا – أكثر من مئة متر. هذا الحفر للآبار عربيّ النسخ. وما يزال الأعراب أهل البادية إلى يومنا هذا هم أعرف الناس بحفرها وهم القنّاؤون مثل هدهد سيدنا سليمان عليه السلام .(128/7)
وسمعت من أهل الأخبار الموثوق بهم عندنا أن إحدى القبائل طغت على قبيلة أخرى بأرض البطانة وكادت تستأصلها. وكان لهذه القبيلة المغلوبة علم عند كبيرها فخبر زعيم القبيلة الغالبة بأمر مرض يعروه كان يكتمه يقال إنه كان نوعا من الصرع الموسمي. وأعلمه أنه يقدر على مداواته كما قد قدر على حدسه من غير أن يخبره به أحد. ولما داواه، وكان اشترط عليه إذا داواه أن يكافئه بما يطلبه منه، سأله أن يسمح له أن يحتفر بئرا حيث يقف به حماره. فاحتفر بئرا وجاءت شراذم من بقايا قبيلته فالتفوا حولها، وجاءت القبيلة الغالبة تبغى منعهم فشكاهم إلى رئيسهم، فقال لهم رئيسهم: إنى أذنت له أن يحتفر بئرا حتى في يافوخ رؤوسكم، قالوا وجعل الشيخ البصير اللبيب بين حين وآخر على بعد زمن بين كل حينين يحتفر بئرا حيث يقف به حماره ، ياله من حمار فطين، وما مر جيل حتى كاثرت القبيلة التي كادت تستأصل حتى صارت هى أكثر القبائل عدًّا ومددا بأرض البطانة .
هذا ويقال إن سبب غلبة العرب على الوسط آخر الأمر نشأت من
المصاهرة. وعرف من كانوا هم أهل الدولة بغرب النيل من جعل وراثة السلطة والملك لأولاد البنات. خلافا للعرب الذين كانوا عند كثير منهم الأخذ بقول القائل :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا
بنوهن أبناء الرجال الأباعد
ولله الحمد أولاً وأخيرًا .
وله العلم كله وهو القائل في كتابه العزيز: " وفوق كل ذى علم عليم ".
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .
عبد الله الطيب
عضو المجمع من السودان(128/8)
ألَنَا فصحى وعامية ؟
للأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائى
والجواب عن هذا أننا لا نملك الفصحى في ممارستنا اللغوية؛ لأن هذه ملك أصحاب اللسن، وهؤلاء قليلون، ولكننا قد نملك الفصيحة ، ولا يمكن أن نبعد إرادة التفضيل عن الفصحى .
ثم أقول : ومصطلح العامية قاصر وذلك لأننا نواجه في أي بلد قدرًا كبيرًا من العاميات في الألسن الدارجة. وقد يكون لنا أن نرى في بلد ما جماعة لا تستطيع أن تفهم ما يقال في مكان ما من البلد نفسه .
وعلى هذا فإني أذهب إلى قسم ثالث يكون قسيمًا لما نحن فيه، وهو العربية المعاصرة التي ندرج بها في وسائل الإعلام عامة. وليس لنا أن نقول الآن: إنها لغة جرائد كما كنا نقول في مطلع هذا القرن ، وذلك لأن هذه
العربية المعاصرة التي انفردت بدلالاتها الخاصة وابتعدت في أبنيتها عن المتعارف المتعالم في فصيح العربية، وربما تنكرت للمشهور من نحو العربية وصرفها، أقول : إن هذه العربية المعاصرة أصبحت لغة سائرة قد تجد شيئًا منها في خطبة الجمعة .
وإلى أصحابي الكرام في مجمع اللغة العربية أبسط ما وقفت عليه من هذه العربية في صحف المغرب، وليست هذه بدعًا بين الصحف في عالمنا العربي، ذلك أنك تجدها في صحف كل بلد، فهل لنا أن ننبز هذه العربية ؟.
كنا نذهب فيما خرج عن بناء الكلمة وتجاوز حد المألوف من تركيب الجمل إلى القول بالخطأ، وقد كثرت
هذه الأقوال التي قصد أصحابها إلى التصحيح ، ولعلهم تجاوزوا حد الصواب، لقد خيل لهؤلاء أن الكثير من وجوه القول فى عصرنا داخل في حيّز الخطأ ، ولو أنهم استوفوا شيئًا من الاستقراء في كتبنا ومصادرنا لعدلوا عن هذا .
ثم إنه جدَّ في عصرنا كثير من الكلم الجديد، ومثله في المجازات الجديدة، وقد اضطر القائلون لهذا بسبب أنهم ملزمون به مضطرّون إلى الأخذ به لأنهم ينقلونه مما يكتب في اللغات الأعجمية.(129/1)
لقد بدأ هذا الجديد يشيع في الصحف والمجلات، ثم تجاوز ذلك إلى الكتب العلمية، ولا سيما في الاختصاصات الاجتماعية ، ثم تجاوز ذلك اللغة الأدبية الحديثة .وأنت لا تفي حاجة إن اقتصرت على جعل هذا الجديد الوافد في حيّز الخطأ . ذلك لأنه عامّ شائع . وقد وجد سبيله إلى مواطن ما كان لها أن تشقى به، فقد تسمع بعض خطباء
المساجد يديرون في خطبهم شيئًا من هذا الجديد الوافد .
لقد كان لي أن سمعت من هذا قول بعض هؤلاء في موعظة دينية قوله : " كان ذلك الأمر الرقم الفريد في المعادلة الصعبة" . وقول آخر :" إن القواسم المشتركة بين الآراء في الأمر هي كذا وكذا … " .
أقول : ليس لي أن أبعد هذه الصيغ من هذه اللغة الجديدة : فشيوعها ودورانها في مختلف السياقات والظروف يعطيانها القوة .
ومن هنا ليس لي إلاّ أن أثبت مادة الجديد التي باتت كثيرة، وتكثر كل يوم.
إن البلدان العربية القريبة من البلدان الغربية بصلاتها قد عرف أهلها هذا الجديد فصار عربية إقليمية. وهذه تجد سبيلها إلى بلدان أخرى .
وسآتي على شيء من عربية أهل الشمال الإفريقي التي عرفها غيرهم من عرب المشرق.وأبدأ بما كان
لي، وهو قليل من كثير ، في القطر المغربي .
لقد قرأت في صحف هذا البلد عربية خاصة، وخصوصيتها تتأتى من تأثرها الواضح بما هو أعجمي فرنسي، ثم إنها ضعيفة من حيث إن المحرر للصحف لا يعرف العربية معرفة كافية .
وسأعرض هاتين المسألتين في هذا الموجز فأقول :
مما قرأت في الصحف التي حفلت بكلم غريب، لعله من فرنسية أسئ أخذها فأعطيت دلالة خاصة، قول "المحرر ":
"عودة إلى موضوع "ماذا بعد إحصاء إسكان الكريانات " !!
لا ندري ما " الكريانات" هذه ؟ أهي من الفرنسية Carrière أم شيء آخر؟
ولإيضاح الكلمة أسوق شيئًا في الصحيفة نفسها .
"فإن الترجيحات والتكهنات والآراء(129/2)
المسبقة تبقى هي السائدة. وأهم ما يستأثر باهتمام سكان كرياني الحائط وسوق السلام هو كيفية مواجهتهم لنفقات بناء مساكنهم الخشبية بعد ترحيلهم " .
أقول : يبدو أن " الكريان "هو مجموعة مساكن يقيمها أصحابها من الخشب، وكأنها مؤقتة خاصة بأصحاب الأعمال الصغيرة كالباعة أو غيرهم .
وأنت القارئ غير المغربي لا تعرف فحوى الخبر لجهلك لمعنى"الكريانات".
أما الآراء "المسبّقة" فأنت تجدها في لغة الصحافة العربية في كل مكان ، ذلك أن الوصف " مسبَّق ومسبّقة" بناء جديد . فلا نعرف في العربيّة صيغة المضاعف في "سبق" .
ومن هذه المواد الأعجمية ما قرأته: "فوجئ سكان حي السواني في الأيام الأخيرة بارتفاع مهول في "فاتورات استهلاك الماء" . أقول : "الفاتورات" جمع فاتورة .كلمة أخذت من اللغة الإيطالية وتفيد:"الأوراق" التي تخصّ أثمان المواد المشتراة، وما يدعى ورقة استحصال أثمان ما ينفق من الماء والكهرباء في البيوت والمحلات العامة الأخرى، والأوراق التي يثبت فيها مبلغ الضرائب المستحقة على الباعة وأصحاب المصالح ونحو هذا .
أقول : وكان فينا غنى عن استعمال هذه "الفاتورات" وفي العربية ما يستطيع ذوو الحاجات أن يأخذوه ويستعملوه بديلا عن هذه الكلمة الأعجمية .
قد يقال: إن "الفاتورات" أو "الفواتير" قد يصادفها القارئ في غير الصحف المغربية وهذا لا يكون سببًا في إشاعة استعمالها .
ومن هذه المواد الأعجمية ما قرأته في إحدى هذه الصحف :
"إقامة "البراريك " في الحدائق يشوّه هذه الحدائق " .
أقول : إن " البراريك " من غير شك كلمة مجموعة لمفرد أجنبي فرنسيّ لا أتبيّنه. وليس هذا شيئًا لابد منه لاستعارته في هذه اللغة الصحفية.
ومن هذه المواد ما قرأت وهو "كروتا كارت " ..
أقول : ولابد أن يكون هذا يعني ضربًا من "بطاقة" تُبرز لغرض من الأغراض .(129/3)
ومن هذا ما كان لي أن قرأته وهو: "وأراض وفلل للبيع" . وكأن كلمة "فلل" مما عرَّب المغاربة وكذلك المصريون ، وهي جمع " فِلاّ " villa وتعني الدار المحاطة بحديقة صغيرة.
ومن هذا استعمال "التلفزة" في ديار المغرب عامّة . ويراد بها "التلفزيون " ولا أدري كيف وصلوا إلى هذا ؟ إن صيغة " التلفزة " شبيهة بالمصدر . وقد تؤدي المعنى المصدريّ وهو البث بهذا الجهاز ؟ أو نقل الخبر أو الصورة عن طريق هذا " الجهاز " .
ومن هذا استعمالهم "ورشة "بمعنى "مشغل " أي مكان عمل أو إصلاح أجهزة أو " صنع بعض الحاجات المنزلية" أو غيرها. والكلمة إيطالية ويجمعونها على" أوراش " وقد قرأت: " ورشة لتعليم اللغة العربية" وكأن هذه الورشة معهد صغير يشتمل على "مختبر لغوي " بأجهزته السمعية البصرية ونحو هذا .
أقول وأتلو قوله تعالى : " كَبُرَتْ كلمةً تخرج من أفواههم إنْ يقولون إلا كَذِبا " .
ومن هذا استعمال أسماء الشهور الأعجمية التي عالجوها بشيء من التغريب ليجعلوها مغربية أو جزائرية أو تونسية نحو :
"يوليوز " وهو الشهر السابع ، وهو في "تموز " من أسماء الشهور الشرقية التي استعملها العرب مستعارة من مواد بابلية أو غيرها .
و" غشت " وهو الشهر الثامن، وهو " آب " من أسماء الشهور الشرقية.
و" شقنبر " وهو الشهر التاسع، وهو " أيلول ".
و" دجنبر "وهو الشهر الثاني عشر ، وهو " كانون الأول " .
ومثل هذا نجده فى الأشهر الأخرى الباقية.
ومن التأثر بالفرنسية نجد اسم
المرض المعروف بـ " نقص المناعة " وهو " الإيدز" في الصحافة الغربية الإنجليزية والأمريكية ، وقد شاع هذا في أكثر لغات العالم هو " السيدا " في الصحف الفرنسية . وهذا إعراب فرنسي. والكلمة في صورتيها آتية من جمع الأحرف الأولى للكلمات المؤلفة لهذا المصطلح العلمي الذي ترجمناه بـ " نقص المناعة " غير أن ترتيب هذه الكلمات في الإنجليزية على عكس الأمر في الفرنسية ، فكان " الإيدز" وكان " السيدا ".(129/4)
ومثل هذا كثير بين الفرنسية والإنجليزية ومنه حزب "الناتو" لدى الأمريكيين والإنجليز وهو الإوتان لدى الفرنسيين .
هذا مجمل ما وقفت عليه في صحف قرأتها خلال إقامة قصيرة في مدينة الدار البيضاء .
ثم أتحول إلى شيء آخر يتصف بالخطأ وفساد التركيب واستعمال كلمات لا تفي بالغرض .
وقرأت من هذا قول أحدهم :
" جرت مبارة " وهو يريد " مباراة ". قد تقول : وكيف حدث هذا الغلط ، والجواب أن القائل حسب " مباراة " جمعًا كسائر الجموع بالألف والتاء مثل زهرات وفاطمات وغيرهما . ولم ينظر إلى التاء المعقودة، ولما كان له هذا التصور أخذ منه فقال: "مبارة "!!.
وقرأت :
" ويتقدمّ فلان بأحرّ التشكّرات للذين واسوه .. "
أقول : و" التشكرات " جمع "تشكّر " وهو مصدر للفعل " تشكَّر" ولكنه غير معروف استعماله في العربية .
إن الأبنية في العربية مرهونة بالسماع. فلم يسمع في " شكر " المزيد على " تفعل " وقد يكون لي أن أقول : هذا من ألفاظ العربية التي استعارها غير العرب فوصلوا إلى هذا البناء الذي لم يعرف ولم يستعمل.
ثم إن جمع المصدر سماعي. وهذا السماع يكون حين يتحوّل المصدر إلى اسم، ومن هذه : النزاعات والخصومات والفتوحات والنزالات وغيرها . قال تعالى :
" فيهنّ خيرات حسان " .
وقرأت أيضًا :
" وحدث في الإبّان كذا وكذا ".
أقول " الإبّان " بتشديد الباء بمعنى الحين أو الوقت .
غير أن هذا الظرف لم يسمع معرَّفا في استعمال المعربين . يقال مثلاً : حدث ذلك إبان قدوم السيد الرئيس .
أقول : وتعريف " إبّان " ليس من الخطأ. ولكنه استعمال مغربي أو إفريقي خاص .
وقرأت أيضا :
" توقيف الأشغال بالسدود " .
أقول : المصدر " توقيف " ليس من(129/5)
الخطأ ولكن الذي جرى به الاستعمال هو " إيقاف " وبناء " أفعل " أكثر ورودًا في العربية من المضاعف المزيد وهو " وقف " واستقراء لغة التنزيل العزيز يثبت هذا الذي ذهبت إليه . ثم إن التوقيف دلالة غير "الإيقاف " . ولكن هذا الفعل المزيد بالتضعيف ومصدره قد كثر في العربية المعاصرة فالتصليح أكثر استعمالا من " الإصلاح"، وربما اختص ما ورد على " أفعل" بدلالة خاصة غير دلالة ما ورد على "فعَّلَ".
فالإكرام غير التكريم . والإثبات غير التثبيت .
وقد يكون من هذه اللغة الصحفية ما ابتعد عن الدلالة الصحيحة. ومن ذلك قولهم :
"تم قفل الوكالة البريدية " .
أقول : و"القُفل " لا يعني الإقفال أي الإغلاق " يقال : قفَلَ راجعًا قفلا وقفولا ، ومن هذا لفظ " القافلة " للجماعة الراجعين ليس غير .
ومن هذه الاستعمالات التي جنحوا بها عن الصواب ما قرأته :
"نجد البلدان السبعة يحتلّون المراكز السبعة في العالم " .
وكان الصواب أن يقال : البلدان السبعة تحتل المراكز السبعة .
وليس لي أن أتأوّل فأقول : أرادوا أهل البلدان السبعة ؛ لأن هذا القصد إلى تحرّي الصواب ليس مما ذهبوا إليه . وأين هذا من قوله تعالى: "واسأل القرية التي كنا فيها "؟ والمراد أهل القرية . وهذا التأويل في عبارة الصحيفة غير وارد لأن العاملين في الصحف أهل عامية دارجة يرون أن استعمال "الحاجيّات" كلام فصيح . وكأن "الحاجات " من الخطأ .
أقول : وكثير من هذا الذي يثبت في هذه الصحف المغربية قد أبى إلاّ أن يكون أعجميًّا . وإلا كيف لك أن تسيغ قولهم :
" إن " الدار البيضاء " أحسن المدن "الثالث " عالمية " ؟!
بخ بخ لك أيها النحرير المحرر الذي أبيت إلا أن تسير في ركب الأعجميين حذو الفعل بالفعل ، ومن الذهاب خلف الأعجميين الانجراف في عامية دارجة كقولهم :
" تقرير بنك المغرب ها هو ..(129/6)
وتقرير حقوق الإنسان " فين هو "!! ومن هذه العامية جهلهم بمعرفة ثوابت العربية كالجمع والتثنية . ومن ذلك يُرجى من " الزُّبناء الكرام أن ..
أقول "إن "الزبناء" ليسوا كرامًا ولا "الزبائن" في ديار المشرق وكيف يكون "زبون " في هذا الجمع ؟
إن بناء "فعول " من الصفات بجمع "فُعُل " نحو صبور وصُبُر ، وإذا جاء منه اسمًا فقد يُحمل عليه، والسماع فيه هو الجاري .
ثم إن" زبون "مما ورد العربية من السريانية في عصرنا ولم يعرف المعربون في فصيح العربية "الزبون" بهذا المعنى ، بل عرف صفة للحرب فقالوا : حَرب زبون . أي تزبن المشاركين فيها أي تطعنهم .
وكان يقال للمتردد على مصدر ما يتزوّد منه حاجته ومتاعه : "حريف " وجمعه حُرفاء . ومن العجيب أن التونسيين من البلاد المغربية يستعملون هذه الكلمة في عصرنا هذا، وهو من الغريب النادر.
ومن التأثر بالعامية الدارجة عدم معرفة أصحاب هذه اللغة الصحفية بالمثنى وتوابعه فأنت تقرأ :
" زمان كان فريد الأطرش وأمّ كلثوم.. يغنّون " !! .
ومن هذه العامية التي وجدت السبيل إلى لغة هذه الصحف ما قرأت:
"مطلوب مدرسة "خصوصي" ! أقول : كأن " خصوصي"
مما يستوي فيه المذكر والمؤنث !!
ومثل هذا :" مطلوب سائق عمومى" أى للحافلات العامة، ولو كان السائق امرأة لقالوا كذلك .
وتقرأ من هذه الصيغ الغربية التي لا تحتملها العربية كلمة" الخوصصة " في سياق تفهم فيه : نقل الملكية مما بأيدى " القطاع العام " إلى " القطاع الخاص ".
وقد أفلح التونسيون حين استعملوا من هذا "التونسة " فقالوا : تونسة التعليم أي جعله تونسيًّا .
ومن هذه الغرائب العامية توليد الكلم الذي لم يسمع في العربية، ومنه:
" تَسويء الصائفة" : أي جعل الصيف سيّئًا والمصدر للفعل "سوَّأ " الفعل الذي لانعرفه في العربية .
ثم إن "الصائفة " لا تعني "الصيف " وقديما استعملت " الصائفة" للغزاة أو الفاتحين في " الصيف " .(129/7)
ومن هذا الجديد الذي لا يُهتدى فيه إلى وجه في العربية قولهم :
" مُسلسل " الفضائح يطال حكومة الرئيس " فلان " .
وقولهم " يطال " أي يتوجّه بالاتهام إلى " الرئيس فلان " .
أقول : ومثل هذا قولهم :
وهذه التهمة " طالت " الرئيس فلان .
ولا نعرف في هذا الفعل هذه الدلالة الجديدة إلا في صحف عصرنا.
ومن هذا توليد دلالة خاصة لكلم عاميّ جديد . ومنه :
"حَراجات للأثاث المستعمل " .
و" حَراج " يعني ما يشبه " السوق" يباع فيه الأثاث المستعمل وغيره بطريقة "المزاد العلني " فينادى على الشيء الذي يراد بيعه فينبرى الواقفون بالزيادة على السعر إلى أن يستقر على قدر معين فيكون الشيء لمن أظهر هذا السعر الجديد .
أقول : وليس في " حراج " شيء يومئ إلى هذه الدلالة .
وأنت تقرأ من هذه العامية ما لا تستطيع أن تسيغه وتفهمه، ومنه :
" العالم بأسره الذي يسمع التشكيل الإسرائيلي بسلامة نبّات الفلسطينيين وبصدق "تكويعهم " الذي عطّل الذرائع وغيّر المواقف … "
وليس لك أن تفهم ما المراد بـ "التكويع " ؟!
ومن هذا أنك تقرأ مثلاً :
أما الرئيس فلان فقد أغناه الاحتفال في دياره عن كل سجال وجَدَل حادّ.." أقول: كأن كلمة " سجال " أريد بها "الجدال " أو " النزاع " .
وهذا مما لا نعرفه في العربية ، وليس لنا من حيلة إلى قبوله . والذي جاء بهذه الدلالة الغريبة قول الأقدمين: " الحرب " إلا أنها لا تعني الحرب ولا تعني الخصومة أو الجدال، هي جمع "سَجْل " بمعنى "دلو " .
فيكون من هذا " الحرب سجال " أي أن الحرب تكون طورًا للطرف الأول المشارك فيها وطورًا آخر للطرف الثاني .
والعبارة قائمة على التشبيه بالاستسقاء من البئر . والسجل مرة للمستقي الواقف على اليمين ، وأخرى للمستقي الثاني الواقف على الشمال .
فأين نحن من هذا ؟!
ومن هذا الغريب الجديد استعمال الجمع الذي لم يشتهر استعماله ومنه :
" المؤسسة العامة " للأبناك " !!
و" الأبناك "جمع " بنك " .(129/8)
أقول : والجمع صحيح ، وهو نظير " نهر وأنهار " إلاّ أن هذا الجمع لم يعرفه المعربون فقد ذهبوا إلى" بُنوك" واشتهرت هذه الصيغة في كثير من البلدان العربية .
ومن هذا أيضًا قولهم في مراكز البريد:
وإرسال الرزمات .
أقول : و"الرزمات " جمع " رزمة " وهو جمع مؤنث صحيح، ولكن مشاع في الرزمة أن تجمع على " رِزَم" ثم إن الجمع بالألف والتاء ينصرف في الغالب إلى معنى القلة : فأنت تفهم من " السنوات " القلة أي دون العشرة بخلاف " السنين " التي تدل على العدد الكثير ، ومثله " سنبلات " و"سنابل " .
و" الرِّزَم " في مراكز البريد عدد
كبير فلا يحسن استعمال " الرزمات" ومن هذا ما قرأته فى مراكز البريد في "الدار البيضاء " :
" شعبة البعائث المسجلة ".
و" البعائث " جمع "بعيثة " . وهو شيء خاص وجدته في المغرب . وهو صحيح، لكن قد نجد نظيره "شعبة الرسائل المسجلة" و"المرسلات المسجلة". وهذا أكثر من "البعائث " .
ومنه قولهم :" إدارة "مفاحم " المغرب".
أقول : كأن "المفاحم " جمع مفحمة" أو"مفحم"وهي مراكز استخراج الفحم .
وهذا جيّد. ولكنه خاص بهذه الديار.
ونقرأ من هذه الغرائب ذات الخصوصية المغربية :
"بعَثَ من أزيَد من 46 طالبًا وأستاذاً درسوا بالمدارس العليا للأساتذة رسالة يلتمسون فيها إثارة مشكل وضعيتهم الإدارية والمالية ".
أقول: جاء في الجملة " استعمال " أزيد،ولا أقول إنها خطأ، ولكني أقول: إن كلمة " أكثر " هنا تفي بالحاجة وفاءً لا يؤدى بالكلمة "أزيد".
ثم إن المشكل " يقابل " المشكلة " لدى المشارقة .
قد تقول : لِمَ ذهب المغاربة إلى "المشكل" وهو كلمة مذكرة؟ والجواب أن هذه تقابل " problème" الفرنسية وهي مذكر . ولما كان أهل الشمال الإفريقي ينظرون إلى الكلم في الفرنسية، فلا بد أن يصيروا إلى هذا.
وليس " المشكل " في العبارة المغربية الحديثة مأخوذًا من استعمال الأقدمين نحو: " تأويل مشكل القرآن "
و " مشكل الحديث " ونحو هذا .(129/9)
ومن هذا قولهم :
" وعدم القدرة على التعبير يظهر في الاستجوابات الإذاعية والتلفزية خاصة، وإن كان الصحفيون يرمّمون تصريحات مستجوبيهم على أعمدة الجرائد والمجلات ".
أقول :وقولهم :" التلفزية " منسوب إلى " التلفزة " ، وهي " التلفاز " أو "جهاز التلفزيون "في استعمال أهل المغرب، وهو استعمال خاص أو قل: "تعريب خاص" والذي أراه أن "التلفزة" تصلح للمصدر أي ما يُبَث بهذا "الجهاز " .
ومن هذا استعمالهم :" الإشهار " بمعنى الإعلان : أو " الإعلام " ، وكأنه من " poblicite " فيقولون مثلاً : " تنحية اللوحات الإشهارية " ويقال : بصورة " "إشهارية " . وليس في هذا القول بالخطأ . ولكنه عربية خاصة ومن هذه الخصوصيات الصحفية في المغرب قولهم :
" إقلاع نصف عدد المدخنين في أمريكا".
أقول : كأن المحذوف من العبارة معروف وهو : " عن التدخين " .
ومن هذا أيضًا قولهم :
" إن المرشحين للوظيف الحكومية قدَّموا استدعاءات ".
أقول" الوظيف " في استعمال المغاربة اسم جمع واحده "وظيفة " مثل كلمة " فسيل " وواحدها " فسيلة". وهذا هو الاستعمال الشائع الفاشي في البلدان المغربية ، ولا يعرفه أهل المشرق ، ثم إن "الاستدعاءات " جمع استدعاء " بمعنى " تقديم طلبات".
وكأني أرى أن هذا بقية من العربية التى عرفها الأتراك العثمانيون واستعملها العرب منهم ، وقد كانت معروفة لدى عرب المشرق . وهو مما أخذوه من اللغة الرسمية أيام الحكم العثماني .
ومن هذه الخصوصيات المغربية استعمال بعض المصادر التي لم تعرف في العربية على نحو كثير ، ومن ذلك قولهم:
" أشغال ترصيف " بمعنى "أشغال تتصل برصف الطرق وإقامة الأرصفة فيها" .
ومثله قولهم : " إعطاء العمّال منحة السفر وتمتيعهم بالعطلة السنوية " .
أقول :إن " التمتيع " مصدر الفعل "متَّع " وهو صحيح . ولكنه لم يسمع.
وتقرأ من هذا الذي لم يشتهر سماعه:
"حكومة شامير معرّضة للانفراط ".
ويراد بـ" الانفراط " " السقوط " .(129/10)
ومثله قولهم : الدخول ممنوع "المنخرطين ".
ويراد بـ " المنخرطين" "المسجلون " المشتركون في "ندوة أو نادٍ " مثلا .
ومن هذه الخصوصيات قولهم : "تدشين معهد التكوين ".
أقول : و " التكوين " هنا يشير إلى الكلمة الفرنسية Formation ويعني تخريج الطلاب المزودين بمعرفة خاصية فنية أو حرفية في مركز ما أو معهد من المعاهد . ثم أن "تدشين " عامية واستعملها المشارقة ، وأصلها
كلمة سريانية دخيلة .
ومثل هذا قولهم:" مديرية تكوين "الأطر". أقول :ويراد بـ "الأُطُر"، جمع " إطار " و " تكوين الأطر": مثلا " توفير المختصين من عمّال أو فنيين"، وقد يكونون أطباء ومهندسين وبيطريين ونحو ذلك. وقد تكلمنا على "تكوين "، وأما الأطر : فجمع إطار ، وقد يجمع جمعًا مؤنثًا على "إطارات" وهذه جيء بها لتقابل الكلمة الفرنسية "cadres " وحقيقته في الفرنسية لإطار الصورة أو اللوحة أو الجدول أو نحو ذلك غير أن الفرنسيين صرفوه مجازًا إلى ما أشرنا إليه، فجاء العرب وصرفوا " الإطار " إلى نحو ما فعل الفرنسيون.
ومن الخصوصيات المغربية استعمالهم " قارّ " و" قارّة " لكل ما هو " دائم " فيقولون مثلاً :" من أجل إحداث مخازن قارّة للحبوب ".
" والتعليم القارّ والضرائب القارّة، وغير ذلك " :
ومن هذه الخصوصيات قولهم :
" إدانة المتّهم بالسجن عشر سنوات نافذة".
ويراد بـ " نافذة " أن المتهم
يقضيها في السجن : أي أنها غير موقوفة .
ومن هذا الذي ينظرون فيه لما يقال في الفرنسية قولهم :
" نُزعت الأراضي من مالكيها لاستغلالها من طرف مصالح المياه".
أقول : وقولهم:" من طرف " ينظر فيها إلى العبارة الفرنسية"de la part" والفصيح المليح أن يقال:" من لدن "، وقد يقال :" من قِبَل ".(129/11)
ويقال " : " توصّلنا برسالة من سكان القرية يثيرون فيها أنهم مُنعوا من زيارة مسجد المجاهدين :" أقول : وقولهم :" توصّلنا " بمعنى " تسلمنا وكأن هذا يومئ إلى الفرنسية communiquer وFaire coommuniquer "
ويقال : " أعلن المكتب السياسي لحزب العمل الإسرائيلي تأييده لفرط عقد حكومة الوحدة الوطنية؛ لقد قرر المكتب السياسي بغالبية ساحقة 40 صوتًا مقابل صوتين وامتناع ستة عن التصويت ".
أقول : واستعمال " الفرط " بمعنى "الإسقاط" أو" السقوط " قد سبق الكلام عليه، ثم إن" الغالبية الساحقة "هي ما يقال la majorité écrasanteوالعبارة كلها مما استعير من الأسلوب الفرنسي.
ومن هذه المواد الخاصة استعمال "كراء " بمعنى "استئجار " فيقال لدى المغاربة :" كراء السيارات "بمعنى "استئجار السيارات" .
ويقولون : " الأسعار الكرائية للمساكن".
أقول : وفي فصيح العربية : اكترى الدار أي استأجرها ، واستكراها .
وأكرى الدارَ أي أجّرها . وهو مُكارٍ، والفعل "كارى " .وأما "الكراء" بكسر الكاف، فهو الأجر يعطى لصاحب الشيء المكتري .
وهذه المادة قد هجرت في الفصيحة المعاصرة ، وتحوّلت في بعض بلدان المشرق إلى عامية دارجة . وتقرأ في صحف المغرب : "ارفعوا يد الإهمال عن قرية … "
وهذا مجاز لا يعسر فهمه ومعرفة "يد الإهمال " .
وقد تجد الكلمة الفصيحة التي بقيت في لغة خاصة الخاصة مستعملة في العربية المغربية وهذا شيء ذو قيمة تاريخية ومن هذا قولهم:
" وقد كاد الظنين ينفلت من يد العدالة".
إن الظنين " هو المتهم ، وهذا نادر فى كثير من بلاد العرب ومما قرأت فى هذه العربية قولهم :
" قضية الهوية والوقت الحرّ لازالت تشكو في المغرب من قلّة الاهتمام". إن الإخبار بقول المحرر: "لا زالت" جاء عن شيئين هما "قضية الهوية "و" الوقت الحرّ " فيكف يكون هذا ؟(129/12)
ثم إن الفعل " لا زالت " غير سديد هنا .. والصحيح الفصيح "ما زالا " لأن " لا زال بسبق "زال "بـ لا " يفيد الدعاء ، قال ذو الرمة :
" ولا زال مُنهلا بجرعائِكَ القطر "
إن هذه العربية الصحفية في المغرب وغير المغرب ، وكذلك في المشرق تشكو الضعف ، ذلك أن المحرر يتساهل في المادة اللغوية فيقول مثلاً :
" الحساب بين الصح والخطأ ".
وهو يحسب أن " الصحّ " صفة كالصحيح ، وهو يقول :" المئساة "الأمنية " .
ويتصور أن رسم الهمزة على هذا النحو صحيح وهو يريد " المأساة " .
وأنت في المغرب تقرأ كلمة "البوابة" مكتوبة على لوح في " الفندق " الذي تسكنه ، ولو كنت من أهل المشرق ولا تعرف شيئًا من الفرنسية لاستغلق عليك الأمر ولم تفهم المراد بـ "البوابة" ولكنك تعرف "البوابة" حين تهتدي إلى أنها تقابل " Conciergerie " وهذه تعني احتراف حرفة " البوّاب " الذي يكون في الطابق السفلي للمنزل
أو "العمارة" أو نحو ذلك .
إن الوصول إلى " البوابة "جميل. ذلك أن الذي وصل إليها مدرك أنها مصدر للحرَف والصناعات كالنجارة والحدادة وغيرهما .
وقديمًا كان " البواب" من يلزم باب الكبير أميرًا أو خليفة أو غيرهما .
وتجد شيئًا يثير فيك التساؤل في أول الشارع أو الطريق ، وهو لوح يشير - إلى اسم الشارع، وهذا ما رأيته مكتوبًا وهو:
محجّ مولاي عبد الله .
خاتمة :
هذا ما كان لي أن أقف عليه في
إقامة قصيرة في"الدار البيضاء" حاضرة المغرب، وأنا أجيل نظري في صحف المدن .
إبراهيم السامرائي
عضو المجمع من العراق(129/13)
العربية الفصحى بين لهجاتها وعامياتها المختلفة *
للأستاذ الدكتور عبد الكريم خليفة
أيها العلماء الأجلاء :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
وبعد،
فقد تلقيت ، في بداية الشهر المنصرم شباط (فبراير) ، دعة كريمة من الرئيس الجليل الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع، للمشاركة في مؤتمر مجمعنا القاهري، الذي نعتزُّ بالانتساب إليه. وأحمل في نفسي عظيم الاحترام والتقدير لرئيسه العلامة، الذي أغنى الخزانة العربية بمصنفاته المشهورة، فى خدمة العربية وتراثها الأدبي والعربي . وقد أعلمني أن الموضوع الرئيسي لمؤتمر هذا العام هو: (الفصحى والعامية) وحددت الدعوة إعداد بحث في هذا الموضوع المقترح ـ يتناول العامية في بلدكم وعلاقتها بالفصحى من حيث التأثير
والتأثر .
وقد توقفت مليًّا عند هذا الموضوع المقترح في محوره العام " الفصحى والعامية"، ووجدت أن النهج العلمي، يقتضي أن تحدد المفاهيم التي يدور حولها البحث والحوار فإنَّ عدم وضوح المفاهيم، يؤدي إلى الفرقة والاختلاف … ونحن عندما نتحدث عن"الفصحى" إنما نتحدث عن العربية، لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ، اللغة الجامعة لتراث أمتنا العربية على امتدادها الجغرافي من أقصى المغرب العربي إلى أقصى مشرقه، وفي عمقها التاريخي عبر القرون ، منذ العصر الجاهلى ونزول القرآن الكريم وحيًا على قلب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، بلسان عربي مبين، حتى وقتنا الحاضر …
بل وحتى تزول الأرض ومن عليها. فقد حفظ القرآن الكريم اللغة العربية ، وجعلها لغة خالدة بخلود النص القرآني؛ فالعربية الفصحى، ثابتة من حيث نحوها وصرفها ، ومن حيث قواعد نظمها ومن حيث قواعد لفظها، وهى لغة نامية ومتطورة من حيث ألفاظها ودلالاتها، وأساليبها … ومصطلحاتها… لاستيعاب كل ما هو جديد ….(130/1)
أما اللهجات ، فهي ألوان من النطق ، في مختلف الأقطار العربية ، بين مدنها وقبائلها وتذهب جذورها بعيدة في أعماق التاريخ . وهي لاتتعدى في معظمها ، اللهجات العربية القديمة التي توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد ، في إطار العربية الفصحى وفى ما كان يسمى"لغة و"لغيّة"… وإن اختلاف هذه اللهجات لا يتناقض مطلقًا مع وحدة اللغة وسلامتها وفصاحتها… فالإمالة مثلاً، ونطق الكاف قافًا أو همزة… إلخ ،
ولفظ الجيم جيمًا جامدة، أو معطشة، أو شامية … كل هذا ومثله يضفي على لغة التخاطب ، أي اللغة المحكية، رونقًا محببًا للنفس ، ولا يتناقض مع وحدة اللغة التي تتجسد في هذه العربية السليمة أو الفصحى ، في الكتابة والخطابة والحوار والمناظرة والمسرحيات والروايات والأحاديث في وسائل الاتصالات السمعية والمرئية …ولا أعتقد أن هناك عاقلاً يقول بأن الوحدة اللغوية تقضي بفرض لهجة معينة على جميع الأقطار، وإزالة اللهجات الأخرى .
أما العامية ، أيها العلماء الأجلاء، فقد انحرفت عن العربية الفصحى، واتخذت طوابع الأقطار المختلفة ، ويبتعد مسارها عن ثوابت الفصحى كلما غاصت الأمة العربية في الجهل والتخلف … فنشأت لغات عامية في جميع الأقطار العربية ، وأصبح لكل منطقة أو مدينة عاميتها… ومن الواجب أن نفرق عندما نتحدث عن
العامية ، بين المفردات والألفاظ التي يعبر بها عامة الناس عما يستخدمونه من أدوات حياتهم اليومية وآلاتها ومستلزماتها، مهما كانت أصولها، وبين العامية في تراكيبها بنحوها وصرفها ومفاهيمها الجلفة وفكرها الضيق ، وتعابيرها البدائية.
وإن إنشاء المجامع اللغوية العربية، قد جاء منذ بداية القرن العشرين ، للمحافظة على سلامة اللغة العربية، وليس لنا لغة عربية سوى اللغة الفصحى لغة العروبة والإسلام ، بثوابتها الأصيلة ، في قواعد نظمها ولفظها .(130/2)
وربما كان من المفيد فى هذه الكلمة أن نستعرض قضية الحرص على سلامة اللغة التي رعتها المجامع اللغوية العربية ، ونصت عليها جميع قوانينها .
فقد أصدر رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق منشورًا في شهر أيلول
( سبتمبر ) سنة 1919م باللغتين العربية والفرنسية ، وأرسله للمجلات والمجامع في الشرق والغرب… وقد حدَّد أغراض المجمع . وكان الغرض الأول :
1-النظر في اللغة العربية وأوضاعها العصرية ونشر آدابها وإحياء مخطوطاتها وتعريب ما ينفعها من كتب العلوم والصناعات والفنون عن اللغات الأوربية ، وتأليف ما تحتاج إليه من الكتب المختلفة المواضيع على نمط جديد(*) .
وقد تبنى المجمع العلمي العربي، منذ إنشائه نشر اللغة الفصحى، كتابة وإنشاءً ونطقًا ومحاورةً .
وفي عام 1928م، وعلى الرغم من الاحتلال الأجنبي، صدر القرار رقم 135 بتاريخ 8أيار، وقد جاء في المادة الأولى: "المجمع العلمي العربي جمعية علماء غايتها ومهمتها حفظ اللغة العربية وترقيتها …".
وفي المرسوم التشريعي رقم (90)، الصادر في دمشق بتاريخ 21شعبان سنة 1366هـ و30 حزيران سنة 1947م، نصت المادة الثانية عن "غاية المجمع العلمي العربي" … على الوجه الآتي : "-ب: البحث في علوم اللغة العربية، والحرص على سلامتها وجعلها تتسع للعلوم والفنون والمخترعات الحديثة " .
وجاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الذي أنشئ سنة 1932م، وفي جميع التعديلات التي حدثت ، ليؤكد الأهداف الأساسية التي أنشئ من أجلها هذا المجمع ، مثال ذلك،ما نصت عليه المادة الثانية من قرار رئيس الجمهورية العربية المتحدة رقم (1144) سنة 1960م، تحت عنوان: أغراض المجمع ووسائله :
أولاً - الأغراض :
أ-المحافظة على سلامة اللغة العربية والحرص على وفائها بمطالب العلوم والفنون فى تقدمها
وملاءمتها لحاجات الحياة في العصر الحديث .
ب-توحيد المصطلحات في اللغة العربية.
وعندما تحدث هذا القرار عن الوسائل ذكر ما نصه :(130/3)
- الدراسة العلمية للهجات العربية الحديثة في الأقطار المختلفة ، وللكلمات والأعلام العربية في اللغات الأجنبية ، وذلك لخدمة الفصحى والبحث العلمي .
وإنه لمن الواضح أن هناك فرقًا بعيدًا بين مفهوم اللهجات العربية الحديثة وبين مفهوم العاميات في الأقطار العربية في العصر الحديث .
وجاء - في قانون رقم 14 سنة 1982م، الذي صدر برئاسة الجمهورية في 13 جمادى الأولى سنة 1402هـ (9 مارس سنة 1982م) في المادة (2) - ما نصه :
مادة (2) –أغراض المجمع هي :
أ -المحافظة على سلامة اللغة
العربية، وجعلها وافية بمطالب العلوم والآداب والفنون، وملائمةً لحاجات الحياة المتطورة.
-د-دراسة اللهجات العربية قديمها وحديثها دراسة علمية لخدمة الفصحى والبحث العلمي.
ز- توصية الجهات المختصة باتخاذ ما يكفل الانتفاع بما ينتهي إليه المجمع لخدمة سلامة اللغة، وتيسير تعميمها وانتشارها وتوحيد ما فيها من مصطلحات . وكان الحفاظ على سلامة اللغة العربية، ومازال، محور قوانين المجامع اللغوية العربية. ففي قانون المجمع العلمي العراقي رقم (64) سنة 1977م، جاءت المواد الأولى على الوجه التالي :
المادة الأولى – تلتزم الوزارات وما يتبعها من الدوائر الرسمية وشبه الرسمية والمؤسسات والمصالح والشركات العامة وكذلك الجمعيات والنقابات والمنظمات الشعبية بالمحافظة على سلامة اللغة العربية، واعتمادها في وثائقها ومعاملاتها؛ وذلك بجعل اللغة العربية وافية بأغراضها القومية والحضارية .
المادة الثانية - على المؤسسات التعليمية في مراحل الدراسة كافة اعتماد اللغة العربية لغة للتعليم ، وعليها أن تحرص على سلامتها، لفظًا وكتابة ، وتنشئة الطلاب على حسن التعبير والتفكير بها ، وإدراك مزاياها والاعتزاز بها .
وجاءت المادة الثالثة - لتؤكد الاتجاه نفسه. وهى تنصُّ صراحة على عدم جواز استعمال العامية .(130/4)
ومما يستحق الوقوف عنده ما جاء من الأسباب الموجبة لوضع هذا القانون . وهذا نصُّه :
"ولما كانت غلبة العامية على العربية الفصيحة أثرًا من آثار التخلف والجهل، وسمة من سمات الأمية، وعاملاً من عوامل الفرقة والتجزئة ، ومعوقًا من معوقات انتشار التعليم، ويقظة الوعي القومي والجهود المنظمة
نحو ثقافة الجماهير… (*) ".
وحذا مجمع اللغة العربية الأردني حذو المجامع الشقيقة منذ تأسيسه سنة 1976م، فقد جاءت المادة(4) من قانون مجمع اللغة العربية الأردني على النحو الآتي :
يعمل المجمع على تحقيق الأهداف
التالية :
أ-الحفاظ على سلامة اللغة العربية وجعلها تواكب متطلبات الآداب والعلوم والفنون الحديثة.
ب-توحيد مصطلحات العلوم والآداب والفنون، ووضع المعاجم والمشاركة في ذلك بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم والمؤسسات العلمية والثقافية داخل المملكة وخارجها .
جـ-إحياء التراث العربي والإسلامي في اللغة والعلوم والآداب والفنون .
ونحن نرى في هذه الكلمة العجلى، كيف أن جميع المجامع اللغوية العربية تجمع على المحافظة على
سلامة اللغة العربية … وعندما نتحدث عن سلامة اللغة العربية ، لا نتحدث عن تيار المجابهة بين العامية، بل العاميات أمام اللغة العربية الفصحى. وإنه لما يثير في نفوسنا الحزن والأسى، أن نجد تشجيع العاميات يستشري في جميع الأقطار العربية ، لاسيما في معظم برامج التلفاز والإذاعة المسموعة، من خلال التمثيليات والمسلسلات والروايات والأحاديث، وإن الدَّارس للسياسات غير المعلنة، في دعم العاميات والنَّيل من اللغة الفصحى في الأقطار العربية يهوله الأمر، ويرى، دون أن نظلم أحدًا، أنها سياسات تصب في اتجاه الفرقة والتمزق ، بل وباتجاه التأخر والتبعية الأجنبية. وقد بلغ الحدُّ إلى إصدار المجلات والنشرات باللغة العامية في بعض الأقطار العربية .
وإنني في هذه الكلمة ، لا أقصد(130/5)
الحظر على دراسة أي موضوع من الموضوعات اللغوية أو غيرها ، فالدراسات العلمية يرحب بها في كل مجال ، وحرية الفكر والرأي ركيزة تقدم الأمم ونهضتها …ولكني أردت أن أبين وجوب تحديد مفاهيم قضايا تمس أمتنا العربية في هويتها وفي جوهر وجودها. فمن الواجب أن نفرق في أحاديثنا بين اللغة الفصحى والفصيحة أو السليمة، وبين اللهجات ، والعاميات … وأن نفرق بين اللغة المكتوبة، واللغة المحكية أو لغة التخاطب … فاللغة المحكية لا تعني بالضرورة اللغة العامية… وهي تختلف عن اللغة المكتوبة في جميع اللغات ولا أستثني لغة من اللغات …
وخلاصة القول ، فالعاميات العربية أثر من آثار التخلف والجهل ، وسمة من سمات الأمية وعامل من عوامل الفرقة والتجزئة، ومعوق من معوقات انتشار التعليم ويقظة الوعي
الوطني والقومي. وأن هذه العاميات تحمل فكرًا محدودًا ومفاهيم جلفة ، لا يتذوقها إلا
جماعة محدودة من الناس. ولا أعدو الصواب إذا قلت : إن السبيل الوحيد لمعالجة هذه القضية اللغوية الخطيرة ، يتمثل بانتشار التعليم الذي يقوم على سياسة لغوية سليمة ، تجعل من معلّم كل مادة ، معلم لغة، يقدمها سليمة لطلابه، بأسلوب يحبِّب لغتهم إليهم ويثير في نفوسهم الحب والاعتزاز بهذه اللغة الخالدة . وأن يشمل التعليم جميع شرائح المجتمع في كل قطر عربي… وأن تكون العربية الفصيحة لغة جميع مؤسسات الدولة ولغة المؤسسات التجارية والصناعية وجميع مرافق الحياة .
والسلام عليكم ورحمة الله
عبد الكريم خليفة
عضو المجمع من الأردن(130/6)
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -(131/1)
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -(131/2)
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -(131/3)
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -(131/4)
ــــــــــــ مجلة مجمع اللغة العربية
( تصدر مرتين في السنة )
العدد الحادي والتسعون
صفر 1422هـ مايو 2001م
المشرف العام :
الأستاذ الدكتور شوقي ضيف
رئيس التحرير:
الأستاذ الدكتور كمال بشر
أمين التحرير:
الأستاذة سميرة صادق شعلان
... ... ... مساعدا أمين التحرير:
الأستاذ جمال عبد الحي
الأستاذ خالد محمد مصطفى
( ( ( ( ( ( ( ( ( ((
( (
( (
( (
( (
( (
( (
( ( ( ( ( ( ( ( ( (((132/1)
بين الفصحى والعامية*
محاضرة ...
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف
بسم الله الرحمن الرحيم
الزملاء المجمعيون:
سيداتي – سادتي:
الفصحى لهجة قريش في الجاهلية، ومن الصعب تحديد الزمن الذي اتخذت فيه شكلها النهائي الكامل من الإعراب والتصريف والاشتقاق . ومن المؤكد أنها لم تصل إلى صورتها النهائية في العصر الجاهلي الذي يمتد نحو قرن ونصف قبل الإسلام إلا بعد مراحل زمنية طويلة من النمو والتطور 0 وكان يعاصرها لهجات عربية جاهلية كثيرة في شمالى الجزيرة العربية وجنوبيها وفي نجد والحجاز غربا وحتى عمان والخليج العربي والفرات شرقا – وكان سكان كل هذه المناطق يتكلمون لهجات
مختلفة، وشعروا في عمق بأن الدول الكبرى المحيطة بهم في الجاهلية تحاول فرض سيادتها على أجزاء كبيرة من ديارهم، ففي الجنوب الغربي فرض الأحباش سيادتهم على اليمن ، وفرض الروم سيادتهم على القبائل في الشمال الغربي ، بينما فرض الفرس سيادتهم على الحيرة والقبائل في الشرق .
وكان لمكة مكانة كبرى في نفوس عرب الجاهلية بسبب أنها كانت حارسة الكعبة بيت أصنامهم وعبادتهم الوثنية،وبسبب اقتصادي:إذ كانت قوافلها التجارية تجوب أنحاء الجزيرة العربية جنوبًا إلى اليمن وشمالاً إلى الشام وشرقًا إلى العراق والخليج العربي.وبسبب سياسي:أنها لم(133/1)
تدن بالولاء والسيادة لدولة أجنبية . وكان العرب يجتمعون إليها في أعيادها الوثنية وفي أسواقها ، واشتهرت سوق عكاظ باجتماع خطباء العرب وشعرائهم فيها. ومن أجل ذلك كله تجمعت قلوب القبائل في الجزيرة العربية حولها واتخذوها رمز استقلالهم عن الدول الكبرى من حولهم ، وشعروا لها بولاء كبير جعلهم يتخذون لهجتها لغة أدبية لهم ، يخطب بها خطباؤهم في المواسم الكبرى ، وينظم بها شعراؤهم في الجاهلية أشعارهم . وما هذه اللهجة القرشية التي سادت بين الشعراء والخطباء العرب في الجاهلية إلا ما سمى بعدُ باسم الفصحى ، وبها نزل القرآن الكريم . على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخذ حِفْظُه كما أخذت تلاوته على ألسنة المسلمين يُعمِّمان لغته الفصحى في جميع أقطار الأرض شرقا حتى أسوار الهند والصين، وغربا حتى إسبانيا والمحيط الأطلنطي . وقبل الفتوح الإسلامية كانت بيزنطة تسيطر على الشام ومصر وتونس، وظلت لغتها اليونانية لغة للحكام وإدارة تلك البلاد وثقافتها الرسمية ولم تتغلغل إلى قلوب سكان هذه الأنحاء، فظل سكانها يتكلمون لغاتهم الخاصة على نحو ما كانت مصر تتكلم القبطية0 وحكمت روما الشمال الأفريقي وظلت لغتها اللاتينية لغة للحكام وإدارة البلاد وثقافتها الرسمية ولم تتغلغل إلى قلوب سكانها، وظلوا يتكلمون لغتهم البربرية الخاصة. أما الفرس فقد بارحت الفارسية ألسنة أهلها وحلت محلها الفصحى في جميع ديارها، على نحو ما حدث في ديار الشام ومصر والشمال الإفريقي جميعه، فقد أصبحت شعوب كل تلك البلاد من الهند والصين إلى المحيط الأطلنطي شعوبًا عربية تنطق بالفصحى ، وتعبر بها عن ذات نفوسها ووجد أناتها أدباً وذات عقولها علومًا وفلسفة، فضلاً عن اعتناق الكثرة من السكان لدين الإسلام وتعاليمه الروحية . وانضم
إلى تلك الشعوب الإفريقية والآسيوية شطر من إسبانيا في الجنوب الغربي لأوربا، وهو المعروف باسم الأندلس0(133/2)
وكل ذلك حدث لانتشار الفصحى في الألسنة بين سكان تلك البلدان جميعا دون أن تفرضها الدولة العربية أو الحاكم العربي على أي بلد حكمه . وهو نفسه ما حدث لانتشار الإسلام في كل تلك الأنحاء إذ انتشر سريعا فيها دون أي محاولة من الدولة أو من حاكم لفرضه على السكان، إذ كان المسلمون وحكامهم يتمسكون بحرية العقيدة الدينية عملا بقوله تعالى: ( لا إكراه في الدين) فلم يُجْبَرْ وثنى على الدخول في الإسلام فضلا عن شخص من أهل الكتاب، إذ كانوا يدخلون فيه طواعية لحسن تعاليمه ، كما دخلوا في الفصحى لروعتها البيانية التي شغفوا بها، ويصور شغف الإيرانيين وسكان كل البلاد العربية التي هجرت لغاتها واتخذت الفصحى لسانا لها قول البيرونى معبرا عن مدى شغفه بها : لأن أهْجَى بالعربية خير لي وأمْتَعُ من أن أُمدح بالفارسية .
ولم يسبق فى التاريخ الإنساني للغة قديمة كبرى أن اتخذتها مجموعة شعوب كبيرة في قارات آسيا وإفريقيا وأوربا لغة لها : تنطق بها وتعبر عن ذات نفوسها وقلوبها وعقولها كما حدث للفصحى في ديارها وبولاياتها التي استوطنتها ، وهى – بذلك – أصبحت لغة عالمية ذات قوة عظيمة قهرت بها كل ما لقيته من اللغات . ومنذ القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي تتمثل الفصحى كل ما كان لدى الهنود والفرس واليونان من ثقافة ويصبح لها في القرن الثاني الهجري عالم عالمي في الكيمياء هو جابر بن حيان ، ويصبح لها في النصف الأول من القرن الثالث الهجري عالم عالمي في الرياضيات هو الخوارزمي مبتكر علم الجبر، وكان يعاصره الكندي الفيلسوف الذي ابتكر هو وخلفاؤه من فلاسفة العرب الفلسفة الإسلامية التي يمزجون فيها بين أفكار فلاسفة اليونان وروحانية الإسلام مزجًا بديعًا0 وينهض الطب عند محمد ابن زكريا الرازى بكشف الفروق بين مرض الجدري والحصبة ووضع الأسس للطب النفسي 0(133/3)
وتظل الفصحى قائدة وحاملة للعلوم والفلسفة وحدها من القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي إلى القرن الثامن الهجري / الخامس عشر الميلادي ، وهو ما جعل أوربا حين أرادت أن تنهض علميًّا تبث في أبنائها حماسة قوية لتعلم الفصحى لغة الحضارة والعلم، وتعلموها، ومضوا ينقلون ما تحمل من كنوز العلم والمعرفة والحضارة إلى اللغة اللاتينية لغة العلم في ديارهم حينئذ ، وقعدوا من علمائها في قرطبة ومدن الأندلس وصقلية مقعد التلاميذ من أساتذتهم العظام، حتى في علم اللاهوت وكان لكتابات فيلسوف قرطبة ابن رشد فيه أثر عميق في قيام حركة التحرير والإصلاح الديني في النهضة الأوربية0
ويقول المستشرق الإيطالي ألدومييلى : " تُرْجمت كل كتب علماء العرب الكبار إلى اللاتينية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر للميلاد"0 وقد استوعبها الأوربيون وتمثلوها وأسسوا عليها نهضتهم العلمية الحديثة0 وشاهد واضح يقوم في عصرنا على تمثل أوربا للعلوم العربية هو الأرقام الحسابية العربية التي اقترضتها أوربا من البلدان المغربية وتداولها سكان البلاد الأوربية ولا يزالون يتداولونها إلى اليوم في البنوك وغير البنوك 0 ومعنى ذلك كله أن الفصحى أثرت بعلومها وحضارتها تأثيرا عميقا في العالم المسيحي بأوربا ، كما أثرت في العالم الإسلامي شرقًا وغربًا0(133/4)
وأخذت تعايش الفصحى في جميع الأقطار العربية عامياتٌ كان السبب في تكونها فقدانها للإعراب الذي تتميز به الفصحى، إذ كان سكان الأقطار العربية وراء الجزيرة العربية لا يعرفونه في لغاتهم القديمة، وأيضا فإن كل قطر احتفظ ببعض ألفاظ كانت تدور في لسانه بلغته القديمة ، كما احتفظ ببعض نغمات في النطق ، وهى تختلف من قطر إلى قطر0 وبمرور الزمن أخذت العاميات العربية تتكون على ألسنة السكان في جميع البلدان التي فتحها العرب من إيران شرقا إلى المحيط الأطلنطي 0 وكانت تَرْمُقُ شعر الفصحى بإعجاب، وتتمنى لو استطاعت محاكاته0 وبمرور القرون استطاعت أن تنتج لها شعرا عاميا يُسمَّى الأزجال ، واشتهر في نظمه ابن قزمان الأندلسي ، وحاكته فيه الأقطار العربية جميعا 0 وبمرور القرون أيضا أخذت العامية تسهم في كتب النوادر ، وهى أقاصيص قصيرة تروِّح عن النفس بالسخرية من قاض مشوَّش الفكر يخطئ في أحكامه،أو حاكم ظالم يجور في أحكامه جورًا شديدا0 ومن أطرف ما ساهمت فيه العامية من تلك الكتب كتاب الفاشوش في حكم قراقوش التركي أحد قواد صلاح الدين الأيوبي، وكان أنابه عنه فترة بمصر وفوَّض أمورها في الحكم إليه لغيبته عنها في حروبه بالشام ضد الصليبيين، وهو الذي بنى السور الذي كان محيطا بالقاهرة، كما بنى القلعة التي لا تزال قائمة إلى اليوم0 ويبدو أنه قسا قسوة شديدة في تسخير المصريين في بنائهما، فانتقم منه أحد كتاب الدواوين المصرية المسمَّى ابن مماتي فألف كتابًا عاميًّا وضع عليه فيه طائفة من النوادر في أحكامه مصورًا فيها ما ادَّعاه عليه من غفلته وحُمْقه ، وهو مطبوع ومنشور 0
و نلتقي في مطلع عصر المماليك بمصر بكاتب مبدع من كتاب العامية هو ابن دانيال ، وكان شاعرًا، وكان كحالا، ولا ندرى هل كان طبيب عيون أو كان تاجر كحل يبيعه فقط، وسأله سائل عن حرفته التي يكتسب منها معاشه ، وأغلب الظن أنه كان طبيب عيون، فقال :
ما حالُ مَنْ درهمُ إنفاقهِ(133/5)
يأخذه من أعين الناس
والتورية في الشطر الثاني واضحة ، وهى صيغة تدور على ألسنة العامة بمصر إذ يقولون عن الشخص الذي يأخذ حقه من شخص آخر إنه أخذه من عينه أي رغم أنفه ، وهو لا يريد ذلك إنما يريد الإشارة إلى صنعته 0 وقد ألف بالعامية ثلاث مسرحيات نثرية شعرية كانت تمثل في عهد الظاهر بيبرس (658 – 676 هـ ) على مسرح خيال الظل ، وهو مسرح دمى متحركة متحاورة ، واسم أولاها " طيف الخيال " واسم الثانية عجيب وغريب ، وهى تصور سوقا مصرية ومن فيها من أخلاط الشعوب وقد جمدت ألسنتهم عند لهجات شعوبهم الوطنية بكلام يثير الضحك في النظارة0 واسم التمثيلية الثالثة " متيم" وهى تعرض طائفة من حِيَل العُشَّاق في صور مضحكة .
والتمثيليات الثلاث عند ابن دانيال مؤلفة بنثر عامى مسجوع محاكاة للنثر في رسائل الفصحى الديوانية منذ عصر ابن العميد، إذ أخذ يعمُّ فيه السجع، وعمَّ في العصر الأيوبى عند العماد الأصبهانى في كتاباته التاريخية كما في كتابه" الفيح القسّى في الفتح القدسى" الذى يصف فيه انتصار صلاح الدين على حملة الصليب وأخذ بيت المقدس من أيديهم بعد تمزيقهم تمزيقًا شديدًا0 وحقَّق ابن دانيال للعامية محاكاتها في تمثيلياته لأدب الفصحى الذى شاع فيه السجع شيوعًا كبيرًا 0(133/6)
ونقف قليلا عند تمثيلية ابن دانيال المسماة "طيف الخيال" وهى تدور حول مشكلة الخاطبة في العصور السابقة وما كان ينشأ عن وصفها للعروسين من أغلاط في تبين حقائقهما، إذ تُقَدِّم العريس على أنه من أمراء الموصل ومعه كاتبه وحاسبه المزيفان، وحقيقته أنه أحدب فقير لا يملك شَرْوَى نقير، وتقدم العروس على أنها فتاة جميلة، وحقيقتها أنها عجوز قبيحة، ويُزَفَّان، وتكشف عن وجهها في الزفاف، ويصيبه الذهول، وينادى على الخاطبة وتأتيه، ويشكو منها، كما يشكو شكوى مرة من زوجته التى يُزَفُّ إليها0 والتمثيلية مليئة بالمواقف المتناقضة المضحكة ، مع تصويرها لجوانب من الحياة المصرية الاجتماعية والسياسية في عهد الظاهر بيبرس0(133/7)
وتأخذ مصر في تأليف سير شعبية للبطولة العربية بلغتها العامية تحميسا للشعب المصرى في حروبه البطولية ضد الصليبين والمغول أو التتار ، وربما كان أول هذه السير البطولية سيرة عنترة بطل قبيلة عبس في الجاهلية ، ويقال إن أول كتابتها كان في عهد الخليفة الفاطمى العزيز (365 – 386هـ ) كما يقال إن ريبة حدثت في قصره ، وشاع الحديث عنها بين أهل القاهرة ، فأراد أن يصرفهم بسيرة تشغلهم عن الكلام فيها، فكلف بذلك أديبًا يسمى يوسف ابن إسماعيل فألف سيرة عنترة وشغل بها سكان القاهرة0 وهذا الخبر– إن صح – إنما يشير إلى أول ما كان من وضع هذه السيرة، إذ أخذت الأجيال تزيد فيها حتى القرن السادس الهجرى وحروب الصليبيين وحتى بلغت اثنين وثلاثين جزءًا، وهى منشورة في أربعة مجلدات ، وألفت تأليفا قصصيًّا جذابًا بحيث يقتطع الكلام في كل جزء عند حادث مهم ، ويشغف القارئ والسامع بمعرفة الجزء الذى يليه 0 وساحات بطولات عنترة لا تقف عند العصر الجاهلى بل تمتد في الزمان حتى نهاية القرن الخامس الهجرى، كما تمتد في المكان ، فتشمل الحبشة والسودان وإيران والشام وشمال إفريقيا ومصر وجنوب أوربا : وهى ملحمة بديعة مثَّل فيها عنترة البطولة العربية على مر التاريخ حتى نهاية القرن الخامس الهجرى ومثل معها فضائلها التى أعجب بها الصليبيون ونقلوها إلى ديارهم ، وهى مكتظة بأحلام وأساطير وخوارق كثيرة 0(133/8)
ومن سير البطولة التى ألِّفت بمصر في العصور الماضية والتى لا يزال يشغف بها المصريون وخاصة قُراهم سيرة الهلالية ، وكانت قبائل قيسية متعددة من نجد منها بنو هلال وبنو زغبة نزلت بصحراء مصر الشرقية ، وحدث أن خرج على الخليفة الفاطمى المستنصر (427- 486هـ) المعز بن باديس الصنهاجى حاكم تونس والقيروان سنة 443 للهجرة،وغضب لذلك غضبًا شديدًا فأشار عليه وزيره اليازورى أن يسلط على المعز القبائل القيسية النازلة بالصحراء الشرقية ، فاتصل بهم وحبَّب إليهم الهجرة إلى البلاد المغربية ، ووعدهم أن تكون ديار طرابلس وتونس وكل ما تحت يد المعز إقطاعًا لهم وبالمثل كل ما يستولون عليه من البلاد المغربية، ولبَّته جموعهم، وأخذت تنازل حكام تلك البلاد ومَن معهم من الجنود0 واستولوا على برقة فى سنة 443 للهجرة واستولى بنو زغبة على طرابلس ، واتجه بنو هلال مع بطلهم أبى زيد إلى تونس ، وناصرتهم بنو زغبة وبطلها دياب بن غانم ، ونازلهم المعز بن باديس وهزموه ، فترك لهم تونس والقيروان ، واكتفى بالمهدية ، وتحولت إمارة تونس إلى إقطاعات صغيرة يحكمها عرب من بنى هلال وغيرهم ، وبالمثل توزعوا الجزائر وجعل القصاص الذين وضعوها أبا زيد الهلالى ودياب بن غانم بطلين عربيين وجعلوا خصمهما فى قبيلة زناتة المغربية الزناتىخليفة 0 وهذه الهجرة العربية الكبيرة إلى البلاد المغربية إن كانت ملأتها حروبا فإنها أتمت تعريبها بحيث أصبحت أمة أو أمما عربية كبيرة0وكانت السيرة-إلى عهد قريب – ينشدها شعراء على الربابة فى مقاهى المدن وفى أعراس القرى المصرية0 وتبدو الوقائع فى هذه السيرة وأسماء أبطالها كأنها أضغاث أحلام لبعد القاص المصرى عن ساحات أحداثها 0(133/9)
ومن سير البطولة سيرة السلطان المملوكى الظاهر بيبرس هازم التتار فى موقعة عين جالوت ومتعقبهم حتى شمال العراق0وأيامه تُعَدّ أزهى أيام مصر زمن المماليك فكان طبيعيا أن توضع لبطولاته قصة تصورها0 ولغتها عامية مثل الهلالية، والنثر يغلب فيها بينما يغلب الشعر فى الهلالية ، وتَمُدَّ السيرة ساحات بطولاته إلى أوربا ، وتعرض أعماله وإخضاعه فى سوريا الفدائيين الحشاشين المعروفين بكثرة اغتيالاتهم منذ زعيمهم الحسن الصياح0 ومن أبطال السيرة معروف زوج مريم الزنارية وإبراهيم الحورانى وتصف رحلته إلى روما0 ويبدو أن السيرة لم تكتب فى زمن قريب من زمن الظاهر، لأن الأحداث التاريخية فيها وأسماء الأبطال يشوبها غير قليل من الخيال ، وتكثر فيها الأعمال الخارقة0
وحرى بى أن أذكر أن كتاب ألف ليلة وليلة صاغته مصر بلغتها العامية وانتشر منذ القرن الثامن الهجرى / الرابع عشر الميلادى فى العالمين العربى والغربى ، ووضع فيه القصاص المصريون أقاصيص كثيرة بعاميتهم مثل أقصوصة علاء الدين ، والمصباح العجيب، وحكاية الصعيدى وزوجته الإفرنجية، ودليلة المحتالة، وعلى الزيبق، وزينب النصابة، ومعروف الإسكافى 0
وإنما ذكرت كل هذه الأعمال لأدل على ضخامة تراث الأدب العامى فى العصور الوسطى ، وكل سير البطولة لم تدرس ، ووراء ما ذكرت منها سير مثلها لم تدرس مثل سيرة سيف بن ذى يزن التى تصور الصراع بين العرب والحبش فى أواخر العصر الجاهلى0 وعلى رفوف دار الكتب المصرية مالا يكاد يحصى من قصص عامية شعبية كتبت فى العصور الوسطى ، وهى فى حاجة إلى أن تحقق وتنشر 0(133/10)
وأخذ الأدب فى الفصحى يتطور فى القرن التاسع عشر من لغة رفاعة الطهطاوى التى تعتمد على السجع ومحسنات البديع إلى لغة متحررة منهما تعتمد على التعبير المرسل الحر الطليق0 ولا نتقدم بعد منتصف القرن الماضى طويلا حتى تتكاثر عندنا الصحف ، وحتى تنشأ معها لغة ثالثة وسطى بين الفصحى والعامية ، لغة فصيحة مبسطة ، لا تنزل إلى مستوى الابتذال العامى ، ولا تعلو على العامة بحيث يفهمونها دون أى عُسْرٍ أو مشقة ، لغة بسيطة سهلة يخاطبون بها طبقات الأمة ، ولا تميز بين طبقة وطبقة ، بل ربما كان اهتمامها بالطبقات الدنيا يزيد على اهتمامها بالطبقات العليا فى الشعب ، إذ تريد أن تنتشر بين جماهيره0 وقد هجرت موضوعات أدبنا القديمة من تهنئة وتعزية إلى غير ذلك، فإنها لا تكتب للأفراد، وإنما تكتب للأمة، وتعرض ما يهمها من شؤونها السياسية، وتنادى بالإصلاح فى الأداة الحكومية، وتتناول كل ما تريد الأمة من موضوعات سياسية ودينية واجتماعية0 وبينما الأدب فى الفصحى بالقرن الماضى يتطور فى موضوعاته وفى لغته عن طريق الصحافة إذا بجماعة من الإنجليز والمستشرقين في أواخر القرن الماضى تثور على الفصحى ثورة عنيفة منادية فى محاضرات وكتابات بأن واجب المصريين أن يتحرروا ويتخلصوا فى أدبهم من الفصحى ويتمسكوا فيه باللغة العامية0 وكانت هذه أول خصومة عنيفة تحدث فى مصر بين الفصحى والعامية0(133/11)
وشعر الشعب المصرى وأدباؤه بما فى هذه الدعوة من خطر يريده الإنجليز ، حتى تنْسى الأمة المصرية ماضيها العربى والإسلامى، وحتى تنسى عروبتها المقدسة وارتباطها بالفصحى لغة القرآن الكريم والحديث الشريف، وحتى تنسى صلاتها بشعوب الأمة العربية، وحتى تنسى هويتها وشخصيتها العربية الإسلامية والتاريخية 0 ولهذه الأسباب مجتمعة أخفقت في أواخر القرن الماضى وأوائل القرن الحاضر هذه الدعوة المغرضة ، ولم يهتم بها أى اهتمام أصحاب الأدب العامى عندنا ، ومضوا ينشطون في نظم الأزجال ونشر الصحف الفكاهية، ثم فيما بعد في تأليف القصص العامى0
ومضى أدبنا المصرى في الفصحى يتطور في القرن العشرين تطورًا خصبًا، محاولا أن يستوعب ثلاثة فنون كانت شائعة في الأدب الغربى، وهى المقالة والقصة الطويلة والمسرحية – والمقالة فن نثرى صحفى قلما يتجاوز نهرًا أو نهرين في الصحيفة ، وقد أنشأتها عند الغربيين – كما أنشأتها عندنا – ضرورات الحياة الصحفية، وما يريد الصحفيون أن يتحدثوا فيه إلى جماهير الأمة من شؤون المجتمع والسياسة0 وينبغ في هذا الفن بالربع الأول من القرن الحاضر غير كاتب ويتقدم كتابها مصطفى لطفى المنفلوطى الذى اشتهر بمقالاته الاجتماعية وما بثَّ فيها من معانى الرحمة والفضيلة والعطف على البؤساء0 وتنشط المقالة السياسية عند مصطفى كامل وما يريد للأمة المصرية من انتزاع حقوقها المسلوبة من أيدى الإنجليز الغاصبين0 وتزدهر المقالة السياسية بعد نشوء الأحزاب في العقد الثالث من القرن0 وتصطفى الأحزاب لصحفها اليومية كُتَّابا ممتازين ، وتلحق بصحفها مجلات أدبية أسبوعية، وتتألق أسماء أربعة من الكتاب هم محمد حسين هيكل ، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، وإبراهيم عبد القادر المازنى، ويكتبون مقالات طريفة عن الآداب الغربية في المجلات الأسبوعية والشهرية وتظل للأربعة زعامة نهضتنا الأدبية، حتى قيام ثورتنا الحاضرة0(133/12)
ولا يزال أدباؤنا الصحفيون والناشئون يردِّدون أسماءهم وأعمالهم الأدبية – مع التجلَّة – إلى اليوم0
وفي أدب الفصحى الماضى قصص كثير عن أيام العرب وحروبهم ، وعن الأنبياء ومن أرسلوا إليهم ، وعن الحب والمحبين0 ودخل الفصحى في العصر العباسى لونان من القصص، وهما القصص عن الحيوان والطير كما في كتاب كليلة ودمنة، والقصص عن الإنسان كما في كتاب ألف ليلة وليلة، غير أن كل ذلك يختلف عن القصة الغربية الطويلة المعروفة عند الغربيين بشخوصها وتقاليدها الأدبية 0 وحاول الأدباء المصريون في القرن الماضى ترجمة بعض فرائدها وآثروا تمصيرها حتى تقترب من ذوق القراء ، وظل هذا التمصير حتى زمن المنفلوطى وشارك فيه كما نعرف عن القصتين : ماجدولين والفضيلة 0 وأخذ شباب المصريين – من حينئذ – يعنى بتأليف القصة الطويلة على النمط الأوربى، على نحو ما ألف محمد حسين هيكل قصته الطويلة: زينب0
ويتعدد بعد الحرب الأولى في القرن من يكتبون القصة الطويلة على النمط الأوربى وفي مقدمتهم إبراهيم عبد القادر المازنى وعباس محمود العقاد وطه حسين0 ويُعْنَى المازنى بالجانب النفسى في شخصيات قصصه، مع تحليل واسع لما يضطربون فيه من مشاعر وأحاسيس0 وللعقاد قصة طويلة سماها " سارة" وهو فيها يعنى بالتحليل النفسى مثل المازنى ويضيف إليه تحليلاً عقليًّا واسعًا0 أما طه حسين فقصصه اجتماعية ويعنى في أكثرها بتصوير الحياة في المجتمع المصرى0 وانضمَّ إلى هذه الكوكبة محمود تيمور، وكان يكتب قصصا بالعامية، فرأى أن يعيد كتابتها بالفصحى، وفي ذلك دليل ساطع على أن الفصحى ظل لها التفوق والسيطرة على الحياة الأدبية المصرية حتى القرن العشرين، وكان يعنى في قصصه الاجتماعي بتصوير عيوب المجتمع المصرى0(133/13)
ونمضى في النصف الثانى من القرن مع ثورتنا المصرية، وينضم إلى هذه الكوكبة المبدعة يحيى حقى بقصصه الفصيح الرائع ويتكاثر مَنْ يكتبون القصة الطويلة بالعامية لأنها أكثر طواعية لهم0 ومن حين إلى حين يندد بالفصحى بعض من لا يحبونها ويقولون : دعونا نتخذ العامية لغة لأدبنا ، وكأنهم لا يعرفون شيئا عن تاريخ الفصحى المجيد وكيف أنها ظلت لغة عالمية منتشرة قرونًا طويلة من أواسط آسيا إلى المحيط الأطلنطى وكيف أنها انتصرت بقرآنها وبيانه الرائع على كل ما صادفها من لغات، فقد ظفرت بالفارسية في عقر دارها وبالسريانية واليونانية واللاتينية والديموتيقية والبربرية والرومانثية الإسبانية ، وأكبت عليها شعوب قارات ثلاث تتعلمها وأضاءت لأوربا مسالكها إلى حضارتها الحديثة، وأنها لا تزال في هذا العصر تضم الفم إلى الفم في الديار العربية والروح إلى الروح والفكر إلى الفكر جاعلة من عرب مصر والعرب في كل مكان أمة واحدة مترابطة ، لا تنفصم عروة الترابط بينها وبين شعب من شعوبها أبدا0 وإذا كانت القصة الطويلة حظيت في النصف الأول من القرن الحاضر بخمسة من كتاب مصر الكبار هم : المازنى والعقاد ومحمد حسين هيكل وطه حسين ومحمود تيمور، فإنها حظيت في النصف الثانى من القرن بيحيى حقى وبكاتب مصرى كبير هو نجيب محفوظ الذى خطا بالقصة الطويلة خطوات كبرى جعلتها تضارع مثيلتها الأوربية، ولا أبالغ إذا قلت إنه كتب بالفصحى أروع قصص طويلة نشرت بمصر في القرن العشرين ، وإنَّ ظفرَ الفصحى عنده بجائزة نوبل كان حريًّا أن يلفت دعاة العامية إلى خطئهم في تقدير بيانها وقيمها الجمالية الخالدة0(133/14)
ومنذ أنشأ الخديوى إسماعيل في القرن الماضى دار الأوبرا أخذت مصر تعرف فكرة المسرح والمسارح، وخاصة أن يعقوب صنوع أنشأ في القاهرة مسرحًا كانت تمثل عليه بالعامية مسرحيات فرنسية مترجمة ممصرة0 وأقبلت على مصر فرق تمثيلية سورية ولبنانية كانت تمثل في الإسكندرية والقاهرة مسرحيات فرنسية أيضا باللغة العامية مترجمة وممصرة، وتكونت في التمثيل مع هذه الفرق فرق مصرية، وكوَّن بعض الهواة المصريين في العقد الثانى من القرن الحاضر جمعية لتأليف الروايات المسرحية، واشتهر من بين أعضائها إبراهيم رمزى وفرح أنطون بما ألَّفا من مسرحيات فصيحة، وينشط في العقد الثالث من القرن التمثيل الهزلى والغنائى0وفي أوائل الثلاثينيات من القرن في العقد الثالث ينشطُ التمثيل الهزلى والغنائى0 وفي أوائل الثلاثينيات من القرن الحاضر ينهض التأليف المسرحي فى الشعر عند شوقي بمسرحياته السبع المشهورة ، وكانت العامية تطغى على المسرح المصرى، فمُثِّلت عليه مسرحيات شوقي الشعرية الفصيحة ولقيت نجاحًا منقطع النظير ، وتبعه عزيز أباظة بمسرحياته الشعرية المكتوبة بالفصحى، وبذلك توطَّد المسرح الشعرى الفصيح، وإن كان لم يخلفهما فى النصف الثانى من القرن شاعر فصيح من نفس الطراز0(133/15)
وفى الثلاثينيات من القرن أيضا أهدت الفصحى إلى مصر كاتبًا مسرحيًّا مبدعًا، هو توفيق الحكيم الذى تعرَّ ف فى فرنسا – بدقة – على أصول التمثيل وتقاليده عند الإغريق والفرنسيين0 وفجأ المصريين بمسرحيته" أهل الكهف " وهم سبعة ماتوا فى كهف وظلوا فيه نحو ثلاثمئة سنة ، وبعثوا ، وجعل لهم الحكيم مغامرات بناها على صراع عنيف بين الإنسان والزمان 0 ولم يلبث أن تلاها بمسرحيته " شهرزاد " ومثَّل فى بطلها " شهريار " الصراع بين الإنسان والمكان . وتتوالى مسرحياته مستمدة من الأساطير الإغريقية تارة ، ومصورة مشاكلنا الاجتماعية والسياسية تارة ثانية ، وله في مسرحياته فلسفة يستمدها من الشرق وروحه وسيطرة القضاء والقوى الغيبية 0 وبمسرحياته وفلسفته فيها أوجد لمصر مسرحًا مصريًّا متميزًّا بالقياس إلى المسارح الغربية القديمة والحديثة 0وبذلك وظَّف توفيق الحكيم فن التمثيل فى الفصحى وجعله فنًّا مصريًّا كما وظَّف نجيب محفوظ فيها فن القصة الطويلة وجعله فنًّا مصريًّا0(133/16)
ولابد أن نعرف أن الفصحى لغة أدبنا الرفيع على مر العصور،وأن العامية بأزجالها وقصصها إنما هى فى جمهور ألفاظها فصحى محرفة0 والعامية– لذلك– فى حاجة إلى أن تعنى المجامع اللغوية فى البلاد العربية بدراسة ما داخل ألفاظها من تحريفات وردها إلى أصولها الفصيحة على نحو ما يصنع المجمع اللغوي القاهري 0 وبذلك تقترب العامية من الفصحى تدريجا فى جميع ديارنا العربية0 وكلنا نعرف أن الفصحى لغة العلم الذى تتعلمه الناشئة والشباب فى المدارس فى الكليات الجامعية ، ولغة كل ما نقلناه عن الغرب من الآداب والفكر والعلوم الإنسانية والعلوم العلمية الخالصة والقانون والفلسفة، ولغة الصحف التى تقرؤها الملايين منا يوميًّا، وللفصحى عباقرة من الأدباء والعلماء على مر تاريخها الطويل يفوقون العدَّ والحصر، ولها شعراء وكتَّاب مصريون عظام فى القرن العشرين أتاحوا لمصر الزعامة الأدبية بين الشعوب العربية.والفصحى لغة القرآن الكريم الخالدة بخلوده،وهى اللغة القومية التى تربط بين مصر والبلاد العربية بحيث يمكن أن يحدث تكتل عربى سياسي أمام تكتلات الأمم الأوربية السياسية .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شوقي ضيف
رئيس المجمع(133/17)
كلمة المجمع فى تأبين الفقيد الراحل
للأستاذ الدكتور سليمان حزين
بسم الله الرحمن الرحيم
أخى مصطفى أمين اعتدت دائمًا أن أحد ثك بضمير المخاطب الحاضر فأنت حاضر معنا دائمًا، وأنا اقتبست هذا الأسلوب منك ومن بعض أفكارك، وكم كنت أحب أن أقف لأؤبنك واقفًا كما ينبغى أن يكون إكراما لذكراك لولا أن حالتى الصحية اليومَ قد لا تسمح بهذا ، فأنا أستأذنك فى أن أحدثك جالسًا لعلِّى أكون بهذا الجلوس أقرب إليك وأنا فى حالة مطمئنة ساكنة .(134/1)
أخى مصطفى لقد كنت فى حياتك شخصًا ممتازًا تفوق كل الأشخاص، وأنت اليومَ بذكراك شخصٌ ممتازٌ عن غيرك أيضًا، أنت وأخوك على أمين رحمه الله كنتما دائمًا ممتازين فى كل شىء، ولعلك تذكر أننا حينما أردنا أن نرشحك لتكون عضوًا فى هذا المجمع أبيت، وقلت: إن هذا المكان الرفيع أولى به صحفى آخر، ولكننا ضغطنا عليك كثيرًا حتى اضطررت اضطرارًا إلى أن تقبل هذا الترشيح، وتم تعيينك وسعدنا بهذا التعيين مع أننا كنا نعرف أن وقتك ومشاغلك وارتباطاتِك الكثيرة قد لا تسمح لك بأن تكون مشاركتك فى هذا المجمع فاعلة، واكتفينا بأن تكون مشاركتك رمزية، ونحن – مع ذلك – رأينا فى هذه المشاركة الرمزية قيمة كبرى، ولعلك تذكر بصفة خاصة أننا حينما اخترناك إنما اخترناك لأنك تفردت بصفة أساسية فى الصحافة المصرية، فقد جعلت هذه الصحافة شعبية؛ صحافة للشعب، وليست بالضرورة لحكام الشعب، وإن كان الحكام فى مصر هم من أبناء الشعب منذ أن قامت ثورة سنة 1952م، فقد كنت دائمًا قريبًا من الروح الشعبية، وكنت تحب أن ترعى – كما ذكر زميلك وأخوك رئيس المجمع منذ قليل- صفة الخير فى المصريين، فهذه الصفة هى الصفة الأساسية فى مصر، والصفة التى تليها ويتمتع بها المصريون هى أننا – نحن المصريين– شعب موحد لا نعرف العنصرية أبدًا، وأنت كنت بعيدًا كل البعد عن فكرة العنصرية، ولعلك تذكر أيضًا أننى كنت أناقشك كثيرًا فى هذه الصفة التى تفردت بها مصر بين بلاد العالم كله، فالمعروف أن بلاد العالم غير مصر تجاوزت فكرة العصبية لمصر والعصبية لطبيعة المصريين والعصبية لسماحة المصريين إلى شىء من التعصب، وأنت كنت تكره التعصب ، وثمة فرق كبير بين العصبية والتعصب، فالعصبية صفة حميدة يعتز بها كل مواطن إنسان، أما التعصب فإنه يكاد يعود بالإنسانية إلى مرحلة الحيوانية فى حياة الناس، فهو أقرب إلى أن يكون لمصلحة شخصية فيها كثير من الأنانية؛ فالمتعصِّب إنما يتعصب فى حقيقة الأمر لذاته(134/2)
ولمصلحته الشخصية، وأما أنت فلم تكن تعرف شيئًا عن المصلحة الشخصية ولا الفردية، فأنت وأخوك على أمين –رحمكما الله – كنتما من هذه الناحية طرازًا خاصًّا من المصريين، وطرازًا خاصًّا من الصحفيين إلى درجة أنكما كنتما مدرسة خاصة تفردت بها مصر فى عالم الصحافة، فالصحافة نشأت فى مصر قبل وجود كما على يد إخواننا العرب من غير المصريين، وخاصة أولئك الذين أسسوا جرائد أخرى غير الأهرام، فكلها لم تكن قومية بالمعنى الكامل، ولكنها كانت على أية حال حزبية والحزبية فى مصر خارجة عن نطاق الوطنية والقومية، مع تقديرنا الكامل للحزبية واختلاف الرأى، ومع أن هذه الحزبية هى التى تبرز الشخصية وتفسح المجال أمامها لتصبح متفردة إلا أننا نعرف وأنت يا أخى مصطفى كنت تعرف أن الحزبية تنأى بمصر عن طبيعتها الأساسية التى اتسمت بها مصر وتفردت بها عن سائر بلاد العالم، تلك الطبيعة التى جعلتها أول بلد فى العالم يعرف الوحدة الكاملة؛ فالحضارة الواحدة لم تقم إلا فى مصر منذ يومها الأول، فلم تكن تفرق بين صعيدى وفيومى، ولا بين دلتاوى وبحرى، وهذه الصفة لم يتمتع بها إلا المصريون، فإن ثمة بلادًا أخرى عرفت الحضارة أيضًا مُنذ تاريخها القديم؛ فالعراق – مثلاً – عرفت الحضارة – كما عرفتها مصر – فى عصر ما قبل التاريخ، ولكنَّ العراق كانت دائمًا بلد الشقاق، وحضاراتها كانت حضاراتٍ على شكل جُزُر مستقلةٍ ومختلفة، فحضارة (سومر) على شاطئ الخليج، وحضارة (أكَّاد) إلى الشمال قليلاً من شاطئ الخليج، وحضارة (بابل ) وهى جزيرة منعزلة – قامت فى وسط العراق، ثم حضارة (آشور) فى منطقةٍ فى الشمال الشرقيّ من العراق، وهذه الحضارات لم تكن متعاصرة، وإنما كانت فى عصور متتابعة ولم تكن موحدة، ولكنها كانت قائمة على أساس الشقاق، ولا أريد أن أقول كلمة أخرى؛ لأننى لا أريد أن أسىء إلى العراق، أما أهل مصر فكانوا دائمًا أهل وحدة، وأنت يا أخى مصطفى ويا أخى على كنتما من أهل(134/3)
الوحدة، وكنتما بهذه الصفة أقربَ إلى روح مصر وإلى المصرية، ولعل هذا هو السبب فى أن كثيرًا من أعضاء هذا المجمع أصروا إصرارًا على أن يجبروك إجبارًا على أن تقبل عضوية هذا المجمع، ويوم قبولك إياها كان من أسعد أيام كثيرٍ من رجال المجمع، فنحن جميعًا نذكرك فى هذا اليوم، ونذكر لك هذه الصفات الفريدة التى ردَّتنا إلى روح مصر وربطتنا بالشعب المصرى والتى تمثلت فى صحيفة الأخبار، تلك الصحيفة التى درجت فيها على السعى إلى الخير دائمًا، فاحتوت أفكار الخير التى تمدها بها، فليلة القدر – كما ذكر الدكتور شوقى ضيف رئيس المجمع فى كلمة الافتتاح – لم تخطر على فكر صحفيين آخرين غيرك، فلم تخطر – مثلاً – على فكر صحيفة كبرى هى صحيفة الأهرام التى نشأت نشأة أقرب إلى أن تنتسب إلى لبنان منها إلى أن تنتسب إلى مصر وشعبها؛ فلقد اخترت يا أخى هذه الصفات التى أبرزت مصريتك إلى أبعد الحدود، وأبْرَزَتْ تمسُّكَكَ بالوحدة الوطنية والقومية إلى أبعد الحدود، لقد كنت حقًّا بصفاتك الفريدة علمًا من أعلام مصر الوطنية الموحدة التى لا تفرق بين المسلم وغيره، حتى اليهود عاشوا على أرض مصر، ولكن اليهودية بالذات كانت نشاذًا فى مصر، وكانت ضد روح مصر والمصريين؛ ولذا لم تكن مصر القديمة على وفاق مع روح اليهودية، ولا يزال المصريون يعادونها إلى الآن؛ لأن اليهودية لم تكن متجهة إلى الوحدة كما اتجه المصريون، فقد كانت فى اتجاه آخر غير اتجاه روح مصر، واتجهت أخيرًا - للأسف الشديد – إلى روح الشر والعدوان فى الشرق الأوسط، وأنت لم تكن لهذا أبدًا ، لأنك كنت دائمًا للخير، كنت دائمًا للوحدة، كنت دائمًا للوطنية الشاملة وكنت مثالاً لسماحة مصر التى احتضنت المسيحية وعاملتها معاملة خاصة غير معاملتها لليهودية، فإن مريم العذراء جاءت بالمسيح عليه السلام طفلاً إلى مصر؛ لأن مصر كانت ترعى الطفولة بكل حنان، وكانت تعرف كلَّ ما تدعو إليه المسيحية من سماحة، فأخذت(134/4)
المسيحية فى مصر الصفات المصرية فامتاز المسيحيون فى مصر على كل مسيحىّ العالم، فكانت المسيحية المصرية مصريةً أكثر منها مسيحية، لأن مصر فرضت صفاتها فرضًا على المسيحية .
وبعد المسيحية انتشر الإسلام فى مصر، ثم أنشئ الأزهر أولاً على أيدى الفاطميين، ولكنّ روح مصر فرضت على الأزهر فرضًا أن يكون معهدًا للعلم ومركزًا للفكر الإسلامي الموحد لكل المذاهب؛ ومن ثمَّ نجد أن مصرَ أضفت على الأزهر صفاتها المصرية التى ميزته عن كل المعاهد الأخرى،فهناك معاهدُ إسلاميةٌ أخرى فى غير مصر، ولكنها نشأت أساسًا لخدمة تيارها الفكري ومذهبها الديني كما حدث فى إيرانَ وغيرها، أما الأزهر فقد غلبت عليه الصفة المصرية، وأنت يا أخى مصطفى كنت تمثل هذه الصفة فى الصحافة، فقد كنت تمثل الصفة التى تدعو إلى الوحدة والمحبة والإخاء والترابط، وشاء الله تعالى أن يربطك بأخيك وأقرب الناس فى هذه الصفة وفى هذا المبدأ الصحفى، وشاء الله لك أيضًا أن تسير – بعد فقدك أخاك – على هذا المبدأ الصحفى المصرى الخالص القائم على الوحدة والخير والمودة والقائم على كثير من الصفات التى تميز الإنسانية بمعناها العام، والتى امتازت بها مصر على مرِّ العصور، لقد كنت – بحق – إنسانًا مصريًّا مميزًا، وقد انطوى انضمامك إلى هذا المجمع العتيد على شعورك الخاص بما فيه من سمات، فكنت تعلم أن هذا المجمع يمتاز بأنه لم يحاول أن يضفى على نفسه صفة المصرية الضيقة، وإنما تجاوزها إلى صفة العروبة الشاملة؛ فهو مجمع اللغة العربية، واللغة العربية تمتد لتشمل العروبة كلها وتشمل الإنسانية بمعناها العام، فالمبدأ الذى جعلك تقبل ترشيحك فى هذا المجمع كان مَبْدَأً مصريًّا أصيلاً؛ ولذا كنت إضافة حقيقية للمجمع الذى يمثل العطاء بلا حدود، ومع أن ظروفك الخاصة لم تسمح لك بأن تشارك فى مجلس المجمع مشاركة منتظمة، فإن القَدْرَ الذى شاركت به كان قَدْرًا ممتازًا؛ وفقد كنت للجميع وبالجميع ومن(134/5)
أجل الجميع؛ ولذا فإننا نذكرك اليوم ونذكر فيك هذا الخير العظيم، آثرت أن تكون فى رحاب الله سبحانه وتعالى فقد سبقتنا إليه، وكم كنا نأمل أن تطول إقامتك معنا وأن تكون واحدًا منا مُدَّة طويلة ممثلاً لمبدأ خاص فى حياة هذا المجمع هو مبدأ العروبة ومبدأ الإنسانية بمعناها العام، فهذا المجمع مصرى أصيل ، ومصر كانت دائمًا أكبر كثيرًا من حجمها، فهى ليست فى حجمها الجغرافى المحدود ( وادى النيل الأزرق ) ولا فى معناها التاريخى المحدود فى العصر الحاضر، إنما هى تمتد إلى الماضى وتمتد إلى المستقبل، هذه هى الصفة الكبرى التى نعيش فى هذا المجمع من أجلها، نحن لا نعيش فى عصر واحد، ولا نعيش من أجل عصر واحد ولا من أجل رقعة ضيقة هى مصر، وإنما نعيش فى رحاب
العالم كله، وفى رحاب الإنسانية، وفى
رحاب العروبة التى هى أوسع من رحاب مصر بمعناها الضيق .
إننا نذكرك اليوم ونسأل الله لك الرحمة، ونسأله تعالى أن يجعلنا أهلاً لأن نسير على الدرب الذى سرتَ أنتَ عليه مدة قصيرة، ولكنها فى غاية الأهمية بالنسبة لحياة مصر المعاصرة، وبالنسبة لحياة هذا المجمع، ألا طيَّب الله ثراك ورعاك فى مثواك وقربك إلى جواره، وحفظ أفكارك لمصر القديمة ولمصر المعاصرة ولمصر المستقبلة إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سليمان حزين
عضو المجمع(134/6)
كلمة المجمع فى تأبين الفقيد الراحل
للأستاذ الدكتور سليمان حزين
بسم الله الرحمن الرحيم
أخى مصطفى أمين اعتدت دائمًا أن أحد ثك بضمير المخاطب الحاضر فأنت حاضر معنا دائمًا، وأنا اقتبست هذا الأسلوب منك ومن بعض أفكارك، وكم كنت أحب أن أقف لأؤبنك واقفًا كما ينبغى أن يكون إكراما لذكراك لولا أن حالتى الصحية اليومَ قد لا تسمح بهذا ، فأنا أستأذنك فى أن أحدثك جالسًا لعلِّى أكون بهذا الجلوس أقرب إليك وأنا فى حالة مطمئنة ساكنة .(135/1)
أخى مصطفى لقد كنت فى حياتك شخصًا ممتازًا تفوق كل الأشخاص، وأنت اليومَ بذكراك شخصٌ ممتازٌ عن غيرك أيضًا، أنت وأخوك على أمين رحمه الله كنتما دائمًا ممتازين فى كل شىء، ولعلك تذكر أننا حينما أردنا أن نرشحك لتكون عضوًا فى هذا المجمع أبيت، وقلت: إن هذا المكان الرفيع أولى به صحفى آخر، ولكننا ضغطنا عليك كثيرًا حتى اضطررت اضطرارًا إلى أن تقبل هذا الترشيح، وتم تعيينك وسعدنا بهذا التعيين مع أننا كنا نعرف أن وقتك ومشاغلك وارتباطاتِك الكثيرة قد لا تسمح لك بأن تكون مشاركتك فى هذا المجمع فاعلة، واكتفينا بأن تكون مشاركتك رمزية، ونحن – مع ذلك – رأينا فى هذه المشاركة الرمزية قيمة كبرى، ولعلك تذكر بصفة خاصة أننا حينما اخترناك إنما اخترناك لأنك تفردت بصفة أساسية فى الصحافة المصرية، فقد جعلت هذه الصحافة شعبية؛ صحافة للشعب، وليست بالضرورة لحكام الشعب، وإن كان الحكام فى مصر هم من أبناء الشعب منذ أن قامت ثورة سنة 1952م، فقد كنت دائمًا قريبًا من الروح الشعبية، وكنت تحب أن ترعى – كما ذكر زميلك وأخوك رئيس المجمع منذ قليل- صفة الخير فى المصريين، فهذه الصفة هى الصفة الأساسية فى مصر، والصفة التى تليها ويتمتع بها المصريون هى أننا – نحن المصريين– شعب موحد لا نعرف العنصرية أبدًا، وأنت كنت بعيدًا كل البعد عن فكرة العنصرية، ولعلك تذكر أيضًا أننى كنت أناقشك كثيرًا فى هذه الصفة التى تفردت بها مصر بين بلاد العالم كله، فالمعروف أن بلاد العالم غير مصر تجاوزت فكرة العصبية لمصر والعصبية لطبيعة المصريين والعصبية لسماحة المصريين إلى شىء من التعصب، وأنت كنت تكره التعصب ، وثمة فرق كبير بين العصبية والتعصب، فالعصبية صفة حميدة يعتز بها كل مواطن إنسان، أما التعصب فإنه يكاد يعود بالإنسانية إلى مرحلة الحيوانية فى حياة الناس، فهو أقرب إلى أن يكون لمصلحة شخصية فيها كثير من الأنانية؛ فالمتعصِّب إنما يتعصب فى حقيقة الأمر لذاته(135/2)
ولمصلحته الشخصية، وأما أنت فلم تكن تعرف شيئًا عن المصلحة الشخصية ولا الفردية، فأنت وأخوك على أمين –رحمكما الله – كنتما من هذه الناحية طرازًا خاصًّا من المصريين، وطرازًا خاصًّا من الصحفيين إلى درجة أنكما كنتما مدرسة خاصة تفردت بها مصر فى عالم الصحافة، فالصحافة نشأت فى مصر قبل وجود كما على يد إخواننا العرب من غير المصريين، وخاصة أولئك الذين أسسوا جرائد أخرى غير الأهرام، فكلها لم تكن قومية بالمعنى الكامل، ولكنها كانت على أية حال حزبية والحزبية فى مصر خارجة عن نطاق الوطنية والقومية، مع تقديرنا الكامل للحزبية واختلاف الرأى، ومع أن هذه الحزبية هى التى تبرز الشخصية وتفسح المجال أمامها لتصبح متفردة إلا أننا نعرف وأنت يا أخى مصطفى كنت تعرف أن الحزبية تنأى بمصر عن طبيعتها الأساسية التى اتسمت بها مصر وتفردت بها عن سائر بلاد العالم، تلك الطبيعة التى جعلتها أول بلد فى العالم يعرف الوحدة الكاملة؛ فالحضارة الواحدة لم تقم إلا فى مصر منذ يومها الأول، فلم تكن تفرق بين صعيدى وفيومى، ولا بين دلتاوى وبحرى، وهذه الصفة لم يتمتع بها إلا المصريون، فإن ثمة بلادًا أخرى عرفت الحضارة أيضًا مُنذ تاريخها القديم؛ فالعراق – مثلاً – عرفت الحضارة – كما عرفتها مصر – فى عصر ما قبل التاريخ، ولكنَّ العراق كانت دائمًا بلد الشقاق، وحضاراتها كانت حضاراتٍ على شكل جُزُر مستقلةٍ ومختلفة، فحضارة (سومر) على شاطئ الخليج، وحضارة (أكَّاد) إلى الشمال قليلاً من شاطئ الخليج، وحضارة (بابل ) وهى جزيرة منعزلة – قامت فى وسط العراق، ثم حضارة (آشور) فى منطقةٍ فى الشمال الشرقيّ من العراق، وهذه الحضارات لم تكن متعاصرة، وإنما كانت فى عصور متتابعة ولم تكن موحدة، ولكنها كانت قائمة على أساس الشقاق، ولا أريد أن أقول كلمة أخرى؛ لأننى لا أريد أن أسىء إلى العراق، أما أهل مصر فكانوا دائمًا أهل وحدة، وأنت يا أخى مصطفى ويا أخى على كنتما من أهل(135/3)
الوحدة، وكنتما بهذه الصفة أقربَ إلى روح مصر وإلى المصرية، ولعل هذا هو السبب فى أن كثيرًا من أعضاء هذا المجمع أصروا إصرارًا على أن يجبروك إجبارًا على أن تقبل عضوية هذا المجمع، ويوم قبولك إياها كان من أسعد أيام كثيرٍ من رجال المجمع، فنحن جميعًا نذكرك فى هذا اليوم، ونذكر لك هذه الصفات الفريدة التى ردَّتنا إلى روح مصر وربطتنا بالشعب المصرى والتى تمثلت فى صحيفة الأخبار، تلك الصحيفة التى درجت فيها على السعى إلى الخير دائمًا، فاحتوت أفكار الخير التى تمدها بها، فليلة القدر – كما ذكر الدكتور شوقى ضيف رئيس المجمع فى كلمة الافتتاح – لم تخطر على فكر صحفيين آخرين غيرك، فلم تخطر – مثلاً – على فكر صحيفة كبرى هى صحيفة الأهرام التى نشأت نشأة أقرب إلى أن تنتسب إلى لبنان منها إلى أن تنتسب إلى مصر وشعبها؛ فلقد اخترت يا أخى هذه الصفات التى أبرزت مصريتك إلى أبعد الحدود، وأبْرَزَتْ تمسُّكَكَ بالوحدة الوطنية والقومية إلى أبعد الحدود، لقد كنت حقًّا بصفاتك الفريدة علمًا من أعلام مصر الوطنية الموحدة التى لا تفرق بين المسلم وغيره، حتى اليهود عاشوا على أرض مصر، ولكن اليهودية بالذات كانت نشاذًا فى مصر، وكانت ضد روح مصر والمصريين؛ ولذا لم تكن مصر القديمة على وفاق مع روح اليهودية، ولا يزال المصريون يعادونها إلى الآن؛ لأن اليهودية لم تكن متجهة إلى الوحدة كما اتجه المصريون، فقد كانت فى اتجاه آخر غير اتجاه روح مصر، واتجهت أخيرًا - للأسف الشديد – إلى روح الشر والعدوان فى الشرق الأوسط، وأنت لم تكن لهذا أبدًا ، لأنك كنت دائمًا للخير، كنت دائمًا للوحدة، كنت دائمًا للوطنية الشاملة وكنت مثالاً لسماحة مصر التى احتضنت المسيحية وعاملتها معاملة خاصة غير معاملتها لليهودية، فإن مريم العذراء جاءت بالمسيح عليه السلام طفلاً إلى مصر؛ لأن مصر كانت ترعى الطفولة بكل حنان، وكانت تعرف كلَّ ما تدعو إليه المسيحية من سماحة، فأخذت(135/4)
المسيحية فى مصر الصفات المصرية فامتاز المسيحيون فى مصر على كل مسيحىّ العالم، فكانت المسيحية المصرية مصريةً أكثر منها مسيحية، لأن مصر فرضت صفاتها فرضًا على المسيحية .
وبعد المسيحية انتشر الإسلام فى مصر، ثم أنشئ الأزهر أولاً على أيدى الفاطميين، ولكنّ روح مصر فرضت على الأزهر فرضًا أن يكون معهدًا للعلم ومركزًا للفكر الإسلامي الموحد لكل المذاهب؛ ومن ثمَّ نجد أن مصرَ أضفت على الأزهر صفاتها المصرية التى ميزته عن كل المعاهد الأخرى،فهناك معاهدُ إسلاميةٌ أخرى فى غير مصر، ولكنها نشأت أساسًا لخدمة تيارها الفكري ومذهبها الديني كما حدث فى إيرانَ وغيرها، أما الأزهر فقد غلبت عليه الصفة المصرية، وأنت يا أخى مصطفى كنت تمثل هذه الصفة فى الصحافة، فقد كنت تمثل الصفة التى تدعو إلى الوحدة والمحبة والإخاء والترابط، وشاء الله تعالى أن يربطك بأخيك وأقرب الناس فى هذه الصفة وفى هذا المبدأ الصحفى، وشاء الله لك أيضًا أن تسير – بعد فقدك أخاك – على هذا المبدأ الصحفى المصرى الخالص القائم على الوحدة والخير والمودة والقائم على كثير من الصفات التى تميز الإنسانية بمعناها العام، والتى امتازت بها مصر على مرِّ العصور، لقد كنت – بحق – إنسانًا مصريًّا مميزًا، وقد انطوى انضمامك إلى هذا المجمع العتيد على شعورك الخاص بما فيه من سمات، فكنت تعلم أن هذا المجمع يمتاز بأنه لم يحاول أن يضفى على نفسه صفة المصرية الضيقة، وإنما تجاوزها إلى صفة العروبة الشاملة؛ فهو مجمع اللغة العربية، واللغة العربية تمتد لتشمل العروبة كلها وتشمل الإنسانية بمعناها العام، فالمبدأ الذى جعلك تقبل ترشيحك فى هذا المجمع كان مَبْدَأً مصريًّا أصيلاً؛ ولذا كنت إضافة حقيقية للمجمع الذى يمثل العطاء بلا حدود، ومع أن ظروفك الخاصة لم تسمح لك بأن تشارك فى مجلس المجمع مشاركة منتظمة، فإن القَدْرَ الذى شاركت به كان قَدْرًا ممتازًا؛ وفقد كنت للجميع وبالجميع ومن(135/5)
أجل الجميع؛ ولذا فإننا نذكرك اليوم ونذكر فيك هذا الخير العظيم، آثرت أن تكون فى رحاب الله سبحانه وتعالى فقد سبقتنا إليه، وكم كنا نأمل أن تطول إقامتك معنا وأن تكون واحدًا منا مُدَّة طويلة ممثلاً لمبدأ خاص فى حياة هذا المجمع هو مبدأ العروبة ومبدأ الإنسانية بمعناها العام، فهذا المجمع مصرى أصيل ، ومصر كانت دائمًا أكبر كثيرًا من حجمها، فهى ليست فى حجمها الجغرافى المحدود ( وادى النيل الأزرق ) ولا فى معناها التاريخى المحدود فى العصر الحاضر، إنما هى تمتد إلى الماضى وتمتد إلى المستقبل، هذه هى الصفة الكبرى التى نعيش فى هذا المجمع من أجلها، نحن لا نعيش فى عصر واحد، ولا نعيش من أجل عصر واحد ولا من أجل رقعة ضيقة هى مصر، وإنما نعيش فى رحاب
العالم كله، وفى رحاب الإنسانية، وفى
رحاب العروبة التى هى أوسع من رحاب مصر بمعناها الضيق .
إننا نذكرك اليوم ونسأل الله لك الرحمة، ونسأله تعالى أن يجعلنا أهلاً لأن نسير على الدرب الذى سرتَ أنتَ عليه مدة قصيرة، ولكنها فى غاية الأهمية بالنسبة لحياة مصر المعاصرة، وبالنسبة لحياة هذا المجمع، ألا طيَّب الله ثراك ورعاك فى مثواك وقربك إلى جواره، وحفظ أفكارك لمصر القديمة ولمصر المعاصرة ولمصر المستقبلة إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سليمان حزين
عضو المجمع(135/6)
حَوْلَ رَدِّ العَامِّيِّ إلى الأصْل*
للأستاذ الدكتور محمد هيثم الخياط
كان في مقدِّمة مَنَاسِكِ جنيف ، التي أنسُكُ إليها، في العَقْدَيْن الماضيين، أن أزور الدكتور زكي علي، وهو كما وصفه – بحق–الأستاذ عجاج نويهض ، في رسالةٍ عندي بخطّه: "خيرةُ المؤمنين ، وصفوة المجاهدين المهاجرين". فقد كان– رحمه الله وأحسن إليه– على ثغر من ثغور الإسلام في جنيف التي مكث فيها خمسةً وستين عامًا ، منافحًا بلسانه وقلمه ، إلى أن اختاره الله إلى جواره في الشهر الماضي ، وكان قد وَفَدَ إليها تلبيةً لدعوة من الأمير شكيب أرسلان رحمه الله سنة أربع وثلاثين ، ثم توثَّقت بينهما صلات المودّة الخالصة ، والجهاد المشترك لخير الإسلام والعرب في مشارق الأرض ومغاربها، وهو أمرٌ كان معروفًا فمن عرفهما حقَّ المعرفة،كالأستاذ
نويهض الذي يخاطب الدكتور زكي على في الرسالة التي أسلفتُ ذكرها بقوله : " وإني أعلم جيدًا ما بينكم وبين الأمير شكيب رحمه الله من رفقة وصحبة، وأخوَّة ومودّة، وشركة مباركة في هذه القافلة ، فقد كان -جزاه الله خيرًا – يذكركم الذكر الجميل في كتبه ورسائله ومقالاته، وهو يَعدُّكم من عُدَّته، وأنتم ممّن كان بهم يعتضد وإليهم يستند " .
وفي زيارة إليه قبل خمس عشرة سنة، ذَكَرلي أن عقيلة الأمير شكيب أهدت إليه بعد وفاة الأمير ، خمس كراريس بخطّه، عنوانُها " القول الفصل في ردِّ العامّي إلى الأصل " .
وقد تكرّم الدكتور زكي فأهدانيها ، وتمنَّى عليَّ أن أنشرها معلِّقًا عليها بما تدعو إليه الحاجة .
وقد وجدت أن هذه المجموعة تنقصها
الكرَّاسة الأولى، والتي يُفْتَرَضُ أن يكون المؤلف قد أعرب فيها عن مقصده، وفصَّل القول في مذهبه، في مقدِّمةٍ لا يمكن أن يقوم فيها أحد .
ومن أجل ذلك أرجأتُ نشر هذا الكتاب، ريثما أعثر على الكرَّاسة الأولى، وكتبت إلى كلِّ من توسَّمتُ فيه معرفة ذلك ، دون طائل .(136/1)
ثم رجوتُ الأخ الدكتور وليد عمار، وهو صديق مشترك لي وللأستاذ وليد جنبلاط، حفيد الأمير شكيب ، أن يسأله عنها فتكرم وأرسل إليَّ بكتاب منشور ، عنوانه كعنوان الكراريس، ولكن مقدّمة محققهِ الأستاذ محمد خليل الباشا، تحمل على بعض الشك فيه : فهي تتحدث عن دفتر كبير بخط الأمير شكيب، وتذكر أن " في هذا الدفتر مئة وسبعًا وتسعين صفحة غير مرقَّمة ، فُقِدت الصفحة الأولى منه، التي تحمل اسم الكتاب ومؤلِّفَه وموضوعَه ، لكن هذا سهل تداركه . فالخطُّ يدلُّ على صاحبه،والبحث يدل
على موضوعه، أما الاسم فنجده عند من ذكروا أسماء مؤلفات الأمير غير المطبوعة ، وبينها كتاب " القول الفصل في ردّ العامّي إلى الأصل" وسمّاه غيرهم " إصلاح العامّية " ولا ريب في أن هذا هو المقصود ، فاخترنا أن نتَّخذ له التسمية الأولى ".
وقد قدّم المحقِّق للكتاب بمقدِّمة نافعة ، وجعل الكتاب في ثلاثة أقسام: أولُها ـ " ردّ العاميّ إلى الأصل " وثانيها ـ " شذرات لغوية " وثالثها" ـ من كلام البُلَغاء " ونشر صورًا زنكوغرافية لبعض الصفحات يتبيَّن منها أن القسم الأول يؤلف الجزء الأخير من الدفتر، ويتقدّمه القسمان الآخران. وهذا القسم الذي يهمّنا، فيه كثيرٌ من الفِقرات والعبارات المشتركة مع الكراريس التي بين يديّ، ولكن كثيرًا منها يوجد في أحدهما فحسب، من أجل ذلك أميلُ إلى أنَّ الكتاب المنشور، إن لم يكن ما أطلق عليه بعضهم " إصلاح العاميّة " فإنه جزء
آخر من " القول الفصل" كُتِبَ في حِقبة أخرى غير تلك التي كُتَبت فيها الكراريس التي بين يديّ .
* ... * ... *(136/2)
والحديث عن العاميّة والفُصحى حديثٌ قديم، نشأ مع الكتب الأولى التي ألّفها عددٌ من العلماء الغُيَّر على لغة التنزيل العزيز، مِمَّن أفزعهم أن يتطرَّق إليها اللحن ، وهو كما يقول أحمد بن فارس : " إمالة الكلام عن جهته الصحيحة في العربية " وهو في رأيه "مُحْدَثٌ، لم يكن في العرب العاربة الذين تكلموا بطباعهم السليمة " أما أبو الطيب اللُّغوي ، فذكر أن " اللحن ظَهَرَ في كلام الموالي والمتعرّبين من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد رُوي أن رجلاً لَحَنَ بحضرته، فقال: أرشدوا أخاكم ".
ثم تَوَاصَلَ التأليف في لحن العوامّ على اختلاف الأزمنة والأمكنة، مما لا مجال للحديث عنه في هذه العُجالة ،
اللهم إلا أن نذكر أن المجمعي الجليل المرحوم الأستاذ عيسى إسكندر المعلوف ، نَشَرَ في مجلة هذا المجمع الموقر،قبل لواذ ستين عامًا ، جريدةً مطوّلة بأسماء هذه المؤلفات في القديم والحديث، يمكن الرجوع إليها لمن شاء التوسُّع في هذا الموضوع .
وإنَّك لَوَاجِدٌ في ما يصحِّح هؤلاء وأولئك مما يعتبرونه من أغلاط العامّة والخاصّة ، تباينًا كبيرًا يختلف باختلاف المستوى الصوابي الذي يتَّخذونه ويلتزمون به ، أي المعيار اللغوي الذي يرضى عن الصواب ويرفض الخطأ في الاستعمال . بل إنك لتجد بعضهم يَرُدُّ على بعضٍ في تصويب بعضِ ما خطَّأه أو تَخْطئَةِ بعض ما صوَّبه ، فابن هشام اللَّخمي مثلاً في كتابه : " المدخل إلى تقويم اللسان وتعليم البيان " ، يَرُدَّ على تخطئة أبي بكرٍ الزُّبَيْدي في" لحن العامة" قول العامّة " سكرانة " ، فيقول(136/3)
له : " فإذا قالها قوم من بني أسد فكيف تلحن بها العامة ، وإن كانت لغة ضعيفة ، وهم قد نطقوها كما نطقت بعض قبائل العرب؟ " وابن السِّيد البَطَليْوسى في "الاقتضاب" يَرُدُّ ما ذكره ابن قتيبة في " أدب الكاتب " أنَّ قول الناس : " فلانٌ يتصدّق أي يسأل..غَلَط، فيقول: "وقد حكى أبو زيد الأنصاري ، وذكر قاسم بن أصبغ عنه أنه يُقال : تصدَّق إذا سأل ، وحكى نحوَ ذلك أبو الفتح ابنُ جني، وابنُ الأنباري ، وصاحبُ كتاب العَيْن".
فمقياس الصواب عند المتشدِّدين المعسِّرين هو الأفصح ، وما عداه لحن.وهو عند المتساهلين الميسِّرين: كلُّ ما تكلمت به العرب، وما قيس على كلام العرب فهو صواب. ويلخّص هذا الموقف الأخير قول ابن هشام اللَّخمي في " المدخل" : " روى الفرّاء أن الكسائي قال : على ما سمعت من كلام العرب ليس أحد يلحن إلا القليل.وقال الأخفش عبد الحميد بن عبد المجيد: أنحى الناس مَنْ لم يلحِّن أحدًا؛ وقال الخليل:" لغة العرب أكثر من أن يلحن متكلم"، ومثلُ ذلك قولُ ابن جني في " الخصائص":"فالناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غيرُ مخطئ ، وإن كان غيرُ ما جاء به خيرًا منه". وقول ابن السِّيد في " الاقتضاب" : "وقد أنكر الأصمعي أشياء كثيرة كلُّها صحيح ، فلا وجه لإدخالها في لحن العامّة من أجل إنكار الأصمعي لها " .
* ... ... * ... ... *(136/4)
وبعد ، فأنت مستطيعٌ أن تَسْلُك الذين كتبواُ في لحن العامة وتقويم اللسان وإصلاح الفاسد في القديم والحديث، في إحدى فئتَيْن اثنتَينْ : فئةٌ تُقَرِّع الذين ينحدرون عن مستواها الصوابي تقريعًا ، وتخاطب الذين هم مخطئون في نظرها بلهجة كلُّها تَعَالٍ وأفعالُ أمرٍ وزَجْر : قُلْ ولا تَقُلْ ! فتُشْعِر المخاطَبين من العامة بالخزي والتقصير، وتكاد تقضي على كل أمل لهم في أن يُحسنوا التحدُّث باللسان الفصيح يومًا ما وفئةٌ تخاطب العامة بالتي هي أحسن، وتتَخيرُ من كلامهم ما يَمُتُّ إلى الفصاح بسبب فتسلِّط الضوء عليه وتلفت النظر إليه ، وتقول لهم، بلسان الحال إن عامّيتكم وليدةُ الفصحى بدليل هذه الكلمة التي تنطقونها كذا وأصلها كذا وهو قريب: فتبعث في نفوسهم الأمل بأنهم من اللغة الفصيحة قاب قوسين أو أدنى، وترغِّبهم في اقتحام العقبة ترغيبًا . وشتَّان ما بين الفئتين.
والمؤسف أن جُلَّ من كتبوا في الماضي والحاضر ينتمون إلى فئة الذين ينهون عن المنكر بغير المعروف ، حتى يكاد ينطبق عليهم قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - :"إن منكم منفرين"؛ وأن قُلَّهم يندرجون في فئة الذين يلتزمون الهدي النبوي الكريم:" يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفّروا " . ومن هؤلاء أستطيع أن أعدّ محمد بن أبي السرور الصدّيقي من أهل القرن الحادي عشر للهجرة في كتابه: "القول المقتضب فى ما وافق لغة أهل مصر من لغة العرب" وابن الحمَّالى فى كتابه : "بحر العوام في ما أصاب فيه العوامّ "؛ وفي عصرنا هذا " بقايا الفصاح " وهي سلسلة مقالات كان يفتتح بها الأستاذ شفيق جبري رحمه الله أعداد مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق ، وكتاب : رد العامّى إلى الفصيح " للشيخ أحمد رضا العاملىّ، وكتابنا هذا: " القول الفصل في ردَّ العامي إلى الأصل " ، وأختم بمختارات منه .
* * *(136/5)
ويقولون للجواد الذى يسبق غيره في السباق إنه " فضح الخيل " أي بذَّها في العَدْو وكشف عيبها ، وهو استعمال صحيح فصيح .
ويقولون "بَطَحَه" بمعنى صَرعَه أو ألقاه على وجهه، وهو فصيح صحيح ومستعمل في أكثر البلاد العربية .
ويقولون عندنا " تَحَلْحَلَ " بمعنى انصرف وذهب ، وهو صحيح فصيح؛ ففي اللغة: " حلحلَ القوم أزالهم عن موضعهم " ، وتحلحل هو مطاوع حلحل ويقال في اللغة : " فلانٌ ما يتحلحل من مكانه" وقالت ليلى الأخيلية:
مقيمٌ طوال الدهر لن يتحلحلا .
ويقولون عندنا " قح" بمعنى سَعَل ، والذين يبدلون القاف همزة يقولون"أح"
وقد جاء في اللغة "أح" بمعنى سَعَل أو بمعنى تنحنح ؛ راجع لسان العرب وغيره .
إذًا تكون "أح" هي الصحيحة . ويقول الشيخ محمد علي الدسوقي المصري صاحب "تهذيب الألفاظ العامية" : إن أهل الدقهلية بمصر يقولون "أح" بمعنى سَعَل ولكن أكثر سكان القطر المصري يقولونها بالكاف أي "كح"؛ قال : ولم أره في كتب اللغة بهذا المعنى. قلت: قوله هذا صحيح ، والأظهر أن أصل اللفظة بالهمزة أي "أحّ" فجعلها العامة بالقاف وقالوا "قحّ" لأنه كما يوجد من العامة من يقلب القاف همزة ، يوجد منهم من يقلب الهمزة قافًا أحيانًا. ثم بعد أن صارت "قح" تلفَّظ بها البدو بالقاف المعقودة وهي بين القاف والكاف، ثم صارت هذه بالتدريج كافًا فقالوا "كَحّ" وهي كذلك في مصر والمغرب وأكثر البلاد.
ويقولون في لبنان " استاهل الشىء" أي كان له أهلاً ، ويسهلون همزة استأهل، وهذا يقولونه في كل الشام ومصر والمغرب وأظنه مستعملاً في جميع البلدان العربية وهو فصيح .
عن الأزهري : سمعت أعرابيًّا فصيحا من بني أسد يقول لرجل شكر عنده يدًا أَوْلاها : تستاهل يا أبا حازم ما أوليت وأنشد حمّاد عن أبيه :
جفانا أبو صالح بعدما
أقام زمانا لنا واصلا
فلما ترأَّس في نفسه
وليس لذلك مستاهلا
وأنكر آخرون هذا الاستعمال …(136/6)
ويقولون في لبنان :"أفّ" وهو اسمُ فعل بمعنى أتضجّر، وهو مستعمل في مصر والشام والمغرب وجميع البلاد العربية ، وهو من أفصح الفصيح ؛ قال الله في كتابه العزيز (ولا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما ) .
ويستعملون في لبنان "الحركشة" بمعنى التحريك والتأريث ، وأصلها بالثاء لا بالشين كما تقولها العامّة . والحركثة في اللغة الزعزعة. نعم !قد أهمل هذه اللفظة الجوهرى ولم ترد في لسان العرب، لكن ذكرها الصاغاني ونقلها صاحب تاج العروس.
ويقولون عندنا لحوض الماء الذي يُحفر في الأرض :"بِرْكَة "بكسر أولها ويجمعونها على " برَك " وهذا فصيح صحيح وارد في كتب اللغة.قال الأزهري : ورأيت العرب يسمّون الصهاريج التي سُوِّيَتْ بالآجر وصُرِّجتْ بالنورة في طريق مكة ومناهلها بركًا واحدتها بركة ورُبَّ بركةٍ تكون ألف ذراع أو أقل أو أكثر، وفي بلادنا أيضًا يقولون بركة للصهريج ويقولون للصهريج بركة. وقد يقولون بركة للبحيرة مثل قولهم بركة الحولة وبركة الهيجاني . وفي مصر يقولونها حتى للبحيرة الملحة كما ذكر الدسوقي صاحب" تهذيب الألفاظ العامية ". وأظن هذه اللفظة ، أي البركة ، مستعملة في جميع البلدان العربية ومثلها الصهريج ، إلا أنهم في طرابلس الغرب حرّفوا الصهريج إلى الشهريز . والبركة هي من الألفاظ العربية التي دخلت في اللغة الإسبانيولية وهي كثيرة جدًّا ولما كنت في الأندلس صادفت في قرمونة من نواحي إشبيلية امرأة تغسل ثيابًا في مستنقع صغير من الماء فقلت لها: الجُبّ ؟ قالت no ( أي لا ) ثم قالت : البركة ، أي إن هذا لا يقال له الجب بل البركة .
ويقولون " المَطَرة " بالتحريك للقربة أو لوعاء من جلد يحفظ به الماء، وهو فصيح مسموع عن العرب.
وكنت في سفر وكانت معنا رفقة عراقيون، فقال أحدهم لنشرب من هذه الثَّميلة يريد ماء باقيًا من المطر في مطمئن من الأرض، وهذا فصيح، فالثَّميلة بفتح أولها على وزن حَليلة هي البقية من الماء.(136/7)
وتقول العامّة عندنا "طريق نافذ " و"طريق سالك" وهو من الفصيح كما جاء في مخصص ابن سيده .
وفي حوان يقولون للأجانب "أجناب" وهو صحيح .
وتقول العامة في لبنان للماء"مُوَيّ" وأحيانًا "مُوَيّه" وصواب الأول "مُوَيْه" بالهاء ، وهو تصغير " ماء " فأصل الماء"مَوَه" بفتحتين، قلبت الواو ألفا لتحركها بعد الفتحة، ثم أبدلت الهاء همزة ، فلهذا لما جاؤوا إلى التصيغر قالوا"مُوَيْه" بضم ففتح فسكون. وقد
ورد عن العرب "الماه" بمعنى الماء،
وورد أيضًا " الماءة " بمعنى الماء وأصلها "الماهة" وتصغيرها " المويهة" وقال سيبويه في " مُوَيْه " إنهم ردّوا إليه الهاء كما ردّوها حين قالوا في الجمع مياه وأمواه ، " فأنت ترى أن عاميتنا لا تخطئ في هذه اللفظة إلا أنه يجب تحقيق الهاء فيها حتى تتم صحتها فيقال مُوَيّة ومُوَيْهَة .
* * *
وبعد فهذه بضعة أمثله تمثّل لهذا الكتاب النفيس ويكفيك من القلادة ما أحاط بالعُنُق.
* * *
محمد هيثم الخياط
عضو المجمع المراسل
من سورية(136/8)
عميد الاستشراق التشيكي إيفان هربك
وعطاؤه للمكتبة الإسلامية والعربية والأفريقية *
محاضرة
للأستاذ الدكتور عبد الهادى التازى
على نحو ما تحدثنا من هذا المنبر عن المستشرق البريطاني هاميلتون كيب، ثم عن المستشرق الفرنسي جاك بيرك، نرى من باب الاعتراف بالجميل أن نقوم اليوم بتحية البروفيسور إيفان هربك بمناسبة مرور ست سنوات على رحيله .
وقد كان في صدر ما دفع بنا للحديث عن هذا العلامة الكبير أنه ظلّ خاملَ الذكر بالرغم من عطاءاته الغزيرة للمكتبة الإسلامية والعربية والإفريقية .
وإذا ما حاولنا أن نعرف الأسباب بل السبب الرئيسي لذلك الخمول فإننا سنجده يتمثل في قضية اللغة الوطنية التي كان يكتب بها معظم بحوثه ودراساته …
وكم من علماء أعلام غُمرت أسماؤهم وطويت أخبارهم؛ لأن آثارهم لم تترجم إلى اللغات الأوربية السائدة التي تتعامل بها المجموعة الدولية،وهذه حقيقة يجب أن يعرفها علماؤنا في هذا المجمع الموقر إذا كانوا يريدون لعلمهم أن يروج ! وإني لأغتنم هذه الفرصة هنا لأقترح على رئاسة المجمع وعلى أعضاء المجمع أن ينشئوا ضمن جهاز المجمع هيئةً للترجمة تعنى بإبلاغ العالم الآخر ما يقوم به المجمع من جهد في شتى الميادين والحقول حتى نعرف بأنفسنا وخاصة ونحن نعيش اليوم عصر الإنترنت الذي يفتح المجال للتعريف بما تقوم به المؤسسات الأكاديمية إنْ في الغرب أو الشرق …
*ألقيت هذه المحاضرة فى الجلسة الخامسة من مؤتمر الدورة الخامسة والستين يوم الأربعاء 22من ذى القعدة سنة 1419هـ الموافق 10 من مارس ( آذار) سنة 1999م.
هذا الرجل الكبير هربك إنما كتب له الذكر بسبب ما يترجم له من بحوثٍ عن اللغة التشيكية إلى اللغات الحية : الإنجليزية والفرنسية والألمانية… إلخ، ولولا ذلك لاقتصرت فائدته على مجتمعه فقط…(137/1)
وهكذا فمن خلال ما كان يظهر للرجل من بحوثٍ مترجمة في المجلات والدوريات، فى مختلف الحقول، وعلى شتى الصُّعُد والمستويات عرفنا من هو إذن إيفان هربك.
ويلاحظ أن بعض إنتاجه نظرًا لأهمية فائدته وعظيم نفعه كان ينشر في عددٍ من المجلات في مختلف الجهات .
وقد استطاع الرجل بكفاءته العلمية وعزيمته التي لا تلين،أن يفرض اسمه على المهتمين بالدراسات وكذا بالقضايا العربية والقارة الإفريقية بالرغم من المصاعب التي كان يتعرض لها أحيانًا: مصاعب من كل نوع ومن كل حجم وربما كان فيها ما تحدث به بعض المستشرقين في أوروبا الشرقية عندما حضر أحد المؤتمرات عندنا في مدينة تطوان قبل سنوات خلت .
لقد سمعت سيدةً مستشرقة تنحى باللائمة على أحد المتدخلين المغاربة ضد الاستشراق، سمعتها تقول له : أنت لا تتصور مدى المتاعب التي نتعرض لها في بلادنا ومن بعض مواطنينا الذين يتهموننا بأننا تركنا لغتنا الأصلية لنتعب أنفسنا بالبحث عن حضارات أخرى… ثم إننا عندما نقدم إنتاجنا أمامكم تحاولون تحريفه على غير ما تقتضيه الأمانة العلمية .
وكانت السيدة بذلك تشير إلى ما يمكن أن نسميه "اضطهادًا" من بعض الفئات ضد الذين يولون عنايتهم بالثقافة العربية وما يتصل بها …
ومع كل ذلك فقد ظهرت في أوربا الشرقية وجوه لامعة أغنت المكتبةَ العربية منذ التاريخ القديم، وهكذا سجلنا طائفة من مجالس الحوار بين المسيحيين والمسلمين ؛ الأمر الذي تبعته ترجمة بعض الآيات من القرآن الكريم مما جعل التشيكيين يعرفون عن الإسلام ما لا يعرفه آخرون .(137/2)
وقد وصلت أصداء العالم العربى والإسلامي إلى شرق أوربا ووقفنا نحن في إفريقيا على أصداء عن بلادنا في تلك الجهات مما كان يظهر بأقلامٍ تشيكية محايدة إن لم تكن متسمة بالتعاطف مع قضايانا الأساسية. ومن الملاحظ أن المدرسة التشيكية الاستشراقية تأثرت على العموم بالمدرسة الألمانية في موضوعيتها وإيجابيتها ونزاهتها، وبذلك فإنها أي المدرسة التشيكية لم تخضع لعاملٍ استعماري أو ديني أو سياسي على نحو ما لاحظناه على بعض الاتجاهات في الاستشراق داخل بعض دول أوربا الغربية…
لقد أهملنا الاستشراق في أوربا الشرقية واتجهنا بكليتنا إلى ما يُصدر لنا في الجهات الأخرى ممن تتكلم باللغات السائرة مهملين إنتاج زملائنا في جهاتٍ أخرى تتكلم التشيكية أو السويدية أو البرتغالية !
وأريد التأكيد هنا على أن من اشتهر أو من عرفت أعماله من المستشرقين فى هذه الفضاءات التي لا تتكلم الفرنسية أو الإنجليزية، إنما عرفوا عبر ما سجل من أعمالهم بلغات أوربا المتداولة، ونستثني من هذه القاعدة بعض ما كتب باللغة الروسية اعتبارًا لأسباب لا تخفى على أحد، في صدرها المركز الدولي الذي كان للمعسكر السوفيتي بالأمس، والمطامح الإيديولوجية التي كانت تخامر القادة السياسيين آنذاك .
أريد القول : إن علينا أن نلتفت إلى زملائنا في شرق أوربا ليس فقط لأنهم قاموا بتقديم الفكر العربي إلى تلك الجهة فكانوا خير رسول لنا للتعريف بثقافتنا وحضارتنا، ولكن أيضًا، وهذا مهم، لأنهم كانوا يتسمون بالإيجابية والموضوعية في معظم ما قدموه وما أنتجوه …
وهذا ما حفزني منذ أعوام إلى الاهتمام بهذا الجانب وخاصةً بعد أن تعرفت عن كثب، على أعمال زميلنا الراحل إيفان هربك .(137/3)
لقد كان الرجل في صدر المنصفين الذين عالجوا قضايا العروبة والإسلام، وفي صدر الذين كتبوا عن تاريخ إفريقيا بروحٍ من الرغبة في تنوير الطريق، وقد أمكنني التعرف عليه من خلال منظمة اليونسكو عندما كانت هذه المنظمة منكبة على إنجاز موسوعتها الكبرى حول تاريخ أفريقيا. تلك الموسوعة التي ما كان لها أن ترى النور لولا المدير العام لليونسكو آنذاك زميلنا العزيز السيد أحمد مختار مبو .. هناك تعرفتُ على إيفان هربك الذي كان يسعى لاستيعاب جميع ما كتب عن بلاد السودان باللغة العربية، وبإيعازه هو عقدت ندوة دولية في مبنى وزارة الخارجية المغربية. ثم عقدت ندوة لاحقة بمبنى جامعة محمد
الخامس(*).
الرجل من مواليد مدينة براغ عام 1923م، وقد عمل بعد إنهاء دراسته أستاذًا بمعهد الدراسات الشرقية وهنا ارتبط هربك بعالم الإسلام؛ حيث لازم دراسة تاريخ المسلمين شرقًا وغربًا، وتعرف على حضارتهم ، وظل على صلةٍ بما يتصل بالأدب العربي.
ومن خلال ما ألفه هربك من كُتُب وما حبره من مقالات نشعر بأن للرجل علينا حق إحياء ذكراه والاحتفاء به والاهتمام بآثاره، وحتى أكون منصفًا للرجل، قدر المستطاع، أريد أن أذكر هنا بعض تآليفه التي خدم بها، وعلى مدى نصف قرن كامل، خدم الموضوعات الإسلامية والقضايا العربية والأفريقية التي كان يتعامل معها بكل صدقٍ، ضاربا عرض الحائط بكل ما نشره بعض زملائه مما لم يكن يراه أو يؤمن به، ونظرًا
(*) د. التازي ، الوثائق الدبلوماسية للمغرب كمصدر لتاريخ أفريقيا ، مجلة البحث العلمي 37،1987 –جورنال ماروك سوار 2 أبريل 1987.
للحجم الكبير الذي لهذه التآليف فإني سأقتصر على ذكر بعضها مما له صلة بالموضوع الذي يهمنا …(137/4)
لقد كان في صدر ما ظهر له عام 1949م حديث عن الحالة بمصر بعد وفاة النقراشي، وحديث عن ( الإسلام كما هو )، واستمر منذ ذلك التاريخ على صلةٍ بقرائه فكتب عام 1950م عن مكتبة الإسكندرية، وعن الإسلام في الهند ، وعن الحياة الخاصة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعن هذه التآليف بالذات نذكر أنه هو البحث الذي تقدم به هربك لنيل درجة الدكتوراه، وكان فاتحة أعماله الواسعة…
وعقَّب سنة 1951م على حديث كتبه كراتشكوفسكى عن فاسكو دي كاما! وقد تناول سنة 1956م حديثا قيما ( عن الصقالبة في خدمة الفاطميين ) قبل أن يعلق على رحلة أبي حامد الغرناطي كمصدرٍ جديد لشرق ووسط أوربا .
وقد جرؤ على الكتابة عام 1954م حول الفرق الإسلامية بما صاحبها من حركات ، وأسلمه هذا البحث إلى كتابة (أطلس عن التاريخ الإسلامي)، وقد شهدت له سنة 1955م نشاطًا ملحوظًا حيث قرأنا له تعاليق مفيدة على كراتشكوفسكي حول كتابه عن المخطوطات العربية، وعلَّق على المستشرق كولد زيهير في كتابته عن دراسته للتقاليد الإسلامية، كما علق على المستشرق الإيطالي كابرييلي في حديثه عن العالم الإسلامي …
وكما أشرنا في البداية فإن الرجل كان حريصًا على أن يعرف مواطنيه بهذا العالم الشرقي الذي يزخر بشتى العطاءات، ولذا نجد له عددًا كبيرًا من المقالات مما كتب بلغته الوطنية التشيكية التي لم يكن مترددًا في استعمالها مع مواطنيه حرصًا على تعميم الفائدة وتطلعًا لما قد يظهر من ردود فعل قد يستفيد منها لبحوثه! وقد ظهر له عام 1957م بحث عن الطبيب الأندلسي والفيلسوف المغربي المعروف أبي بكر ابن طفيل …(137/5)
ولم يقتصر إنتاج هربك على ما يكتبه هو، ولكنه تجاوز ذلك إلى الترجمة، أي أنه يترجم ما كتب بالعربية إلى لغته الوطنية، وفي هذا الإطار نجد له عام 1958م ترجمته لرواية عبد الرحمن الشرقاوي : " بلاد مصر " كما نجد له ترجمة لرواية الأديب غسان كنفاني : (رجال تحت الشمس) ما خدم بترجمته القضية الكبرى للعرب: قضية فلسطين ..ولم يفته أن يكتب عام 1959م عن مهدي السودان، ويكتب في السنة التى بعدها عن المذاهب الإسلامية ، ويعلق على ترجمة روزنطال لمقدمة ابن خلدون.
وقد اهتم عام 1961م بالرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة الذي زار القارات الثلاث: أفريقيا وآسيا وأوربا، ونستطيع القول هنا بدون تحفظ: إن ما كتبه الرجل عن ابن بطوطة كان هو المرجع العلمي لكل الذين اهتموا بكرونولوجية الرحالة المذكور، فقد تفرغ هربك تفرغًا أحسبه تفرغا، لعدة سنوات، من أجل أن يتتبع تواريخ ابن بطوطة ويقارن بينها وبين واقع المناخ وواقع ما قد يروى في جهاتٍ أخرى ، وبهذا كان هربك معتمد هاميلتون كيب وفانسان مونطى الذى قدم لابن بطوطة، ومعتمدًا لاصطيفان ييرازيموس، وأخيرًا معتمد الموسوعة البريطانية، وهكذا فإن ما قدمه هربك لرحلة ابن بطوطة من أياد بيضاء سيظل مذكورًا في سجل التاريخ . وبالنسبة لي أيضًا أعترف بأنه كان سَنَدى الأول، وقد قمت مرارًا بعمليات اختبار لما كان يفترضه من وجود ابن بطوطة فى بلدة كذا وليس فى بلدة كذا، فى فصل الصيف وليس في فصل الشتاء فكنت أبهر بقدرة الرجل وبصبره على ضبط المواقع والمواقيت.(137/6)
وهذا المحقق الكبير هو الذي وصل في نهاية المطاف إلى الإشادة بمصداقية الرحالة المغربي، وبالرغم مما يوجد في " كرونولوجية " الرحلة من بعض التجاوزات مما سببه أحيانا نسيان ابن بطوطة أو تساهل الكاتب ابن جزي، أقول بالرغم من ذلك يشيد هربك بذاكرة ابن بطوطة التي استطاعت أن تختزن معلوماتٍ في منتهى الأهمية لفترة نحو ثلاثين سنة!! ولم يكن غريبا علينا، والحالة هذه، أن تظهر له بحوث في هذه السنة ذاتها عن إمبراطورية مالي فى العصر الوسيط… بل وعن أفريقيا ودولها وقادتها عبر التاريخ اعتمادًا على معلومات ابن بطوطة …
وفي عامي 1962و1963 ظهرت له بحوث عن(الصقالبة البلقان والعرب) مما كانت له فائدة جليلة للذين يهتمون بتاريخ العلاقات بين الشرق والغرب مما كنا مضطرين اليوم لمراجعته، والعالمُ يعاني من مآسي البوسنة والهرسك…
وقد استمر هربك في خطته أعوام 1964و1965و1966و1967و1968 و1969و1970، واستمر يكتب عن الإسلام وعن العرب وعن أفريقيا ولم ينس إطلاقًا هذا المثلث أو الثلاثي الذي ظل يعايشه ويغذيه وينميه بمختلف العناوين ومختلف الموضوعات ، وقد كان في أبرز ما أثار الانتباه من تأليفه مما استفاد منه مواطنوه أنه ترجم القرآن على طريقة ترتيبه حسب النزول ، فهو بالرغم من أن علماءنا من أمثال ابن رشد لا يوافقون على كتابة المصاحف على الطريقة التي تخالف المصحف الأول لكنه اجتهد في أن "يقرب" مواطنيه من المعرفة فرتب لهم الآيات حسب تاريخ ومكان النزول منبهًا على هذا في المقدمة ومن غير أن يدعي أنه يقوم بعملية تصليح !!(137/7)
وعلاوة على ما كتبه فى أعوام 1971و1972و1973و1974 من جديد عن القرآن الكريم وعن محمد والجنس ، قام بالكتابة حول موضوع ( الروس ببغداد في القرن التاسع الميلادي ) مستخرجًا ذلك من كتاب المسالك والممالك لابن خردَاذُبه وقد كتب حول المشروع الدولي لكتابة التاريخ العام لأفريقيا الذي أشرنا إليه والذي أعتقد أنه أي هربك كان وراء تحريكه في منظمة اليونسكو إلى جانب زميلٍ لنا قديم من مجمعنا الموقر هو محمد الفاسي رحمه الله .
وقد كتب عامي 1975و1976م عن مجموعة من أقطاب الفكر الإسلامي من أمثال أبي الفداء وابن حزم والخوارز مي والمقريزي والمسعودي والقزويني …إلخ
كما كتب في التاريخ ذاته عن الطرق التاريخية وأثرها على الصراع الشرقي الصهيوني … وعن خلْفية تصريح بلفور …وعن المشكل الفلسطيني من خلال الوثائق …
وقد قرأنا له عامي1977و1978، بعد بحث له عن " النبي والإنسان " تأليفًا عن (مصر والنوبة وشرق الصحراء ) ، والتاريخ الأفريقي كحقلٍ للصراع الإيديولوجي .
وقد تميزت سنة 1979م بظهور
كتاب عن الرحالة والبحارة والمكتشفين، كان من أمتع ما يقرؤه الإنسان . ثم قرأنا له قضية اندماج إفريقيا فيما قبل الاستعمار وبعده ، ولم يفته وهو يعالج هذه القضايا أن يهتم بالموافقات بين اليومية القمرية واليومية الشمسية حتى يساعد القراء العرب والمسيحيين على تقريب بعضهم لبعض …
وقد شهدت له سنتا 1980و1981 ظهور تأليفه عن الإسلام والقومية العربية في بلاد آسيا وأفريقيا، وعن المصادر المكتوبة لتاريخ أفريقيا والأسس التقنية لبناء السفن نظرًا لما يربطه أيضًا بثقافة البحر ..
وقد ظل كما أشرنا عمدةً وسندًا للموسوعة البريطانية في كتابة عدد من المواد عن جمهورية مصر العربية وعن لبنان والمغرب … وطائفة من المواقع الجغرافية في أفريقيا.
لقد أمسى هربك بالفعل مرجعًا مهمًّا لسائر الذين يكتبون عن تاريخ أفريقيا، ومن هنا كان المصدر المهم(137/8)
لمنظمة اليونسكو فى الحديث عن القارة السوداء …
ولم تمر سنوات 1982و1983 و1984 دون أن تظهر له فيها عدة بحوث حول المغاربة وأوربا، وحول المشكلة الفلسطينية، وحول الوحدة المغاربية والصحراء ، وفي كل مرة يفاجئ المهتمين بقضايانا من خلال بحث أو تأليف على نحو ما قرأنا عامي1985و1986م في كتابه عن مفهوم الإسلام في التاريخ …وحول حضارات بعض الشعوب التي لم تكن نسمع عنها . وسنةً بعد سنةٍ نلاحظ أن أبحاثه لم تعد تقتصر على لغة واحدة كما أشرنا ولكنها تتجاوزها إلى الترجمة لعدة لغات ، الأمر الذي يؤكد أن المستهلكين لإنتاج هربك لم يعودوا منحصرين في فضاء معين ولكنهم يكثرون ويكثرون في كل مكان .. لاحظنا هذه الظاهرة في سنوات 1986و1987و1988و1989و1990م عندما كان يعالج قضية صراع القوميات، داخل الإمبراطورية النمساوية، من أجل المساواة الثقافية والاجتماعية، وعندما تناول العلاقات الداخلية بين الدين والسياسة في الإسلام .
وقد ظهر جهده بارزًا ومتميزًا في المجلدات الثرية للتاريخ العام لأفريقيا الذي رددنا ذكره مرارًا، فقد ظهر في هذا التأليف الزادُ المعرفي لهذا الرجل الذي وهب حياته للبحث العلمي وبخاصة في الحقول الثلاثة التي كان العالم يتطلع إلى معرفة المزيد من المعلومات عنها ..
ويكفي أن يرجع المرء إلى تلك الموسوعة الأفريقية التي صدرت بسائر اللغات ليعرف عن حضور الرجل ودوره في ملء الفراغ الذي كان يشعر به كل الذين يحاولون الاقتراب من تاريخ أفريقيا…
ولقد وجدت متعة كبرى وأنا أقرأ آخر بحث له ظهر مطبوعًا في مجلة المعهد الشرقي للدراسات العلمية التشيكية عن ابن بطوطة فى جُزر مالديف، لقد تجلى في هذا البحث عملاقًا في قراءة ما بين سطور رحلة ابن بطوطة وهو أي ابن بطوطة يمارس مهمة قاضي القضاة في عاصمة مالديف …(137/9)
لقد علَّق إيفان هربك في البحث الذي صدر له باللغة الإنجليزية والذي كان يحتوي علىمعلومات جد أصيلة وطريقة شعرنا من خلالها برده الاعتبار للأفارقة عندما زعم بعض رجال الاستشراق بأن الرحالة الذي كان سببا في إسلام أهل مالديف هو آسيوي وليس أفريقيًّا (*) … لقد أثبت أن أبا البركات البربري هو الذي كان وراء إسلام الجزر المالديفية …
لكن الجميل في هذا التعليق العلمي المركز أن إيفان هربك استشعر من خلال تحركات الرحالة المغربى أنه أي الرحالة ربما كان له طموح سياسي في الجزر المالديفية التي بلغ فيها قمة مجده وتألقه، وأنه
كان على وشك أن يمسي ملكًا للجزر نظرًا للمكانة السامية التي بلغها وللثروة الواسعة التي أصبح يتوفر عليها فى تلك الجزر .
وقد كان مما خاطب به ابن بطوطة الذي كان هربك يحبه ويعتكف على قراءة رحلته ويعيدها تكرارًا ، كان مما خاطبه به أنه هنأه بحرارة على أن طموحه السياسي لم يتحقق ، مؤكدًا لابن بطوطة أنه ينبغي له أن يحمد الله ويشكره على أنه بقي بعيدًا عن السياسة وإلا لكان ذكره ذهب مع الذاهبين ، وأمسى على نحو ما صار إليه السياسيون والحكام من نسيانهم وإهمالهم بعد دورهم العابر والمؤقت !
لقد قال هربك لابن بطوطة : إنك بتأليفك لهذه الرحلة أصبحت في عداد الخالدين الذين يتردد اسمهم بكل لسان ولدى كل إنسان في مختلف جهات الدنيا لأنك تركت أثرا عظيمًا لاتبليه الأيام ولا يستطيع كل واحد أن يخلف مثله . أما لو أصبحت من رجال
(*)EX PEDE PONTIS, PRAGUE 1972.
المنصب فإنك ستروح مع ذلك المنصب!
وبعد فكم كان بودي أن أسترسل في الحديث عن هذا المستشرق المحايد النزيه الذي لم تفارق البسمة فمه سواء مع أصدقائه أو مُنافسيه والذي ظل ينشد الحقيقة إلى آخر لحظة من حياته، وظل مخلصًا لمبادئه وفيا لمعارفه إلى آخر رمق…(137/10)
وإن ما يقوم به مجمع اللغة العربية من إحياء لذكره اليوم ممَّا يعبر عن سعة أفق المجمع ونظره البعيد إلى الأهداف التي يرمي إليها، وإني لأسمح لنفسي بأن أقترح على مجمع اللغة العربية أن يقوم بترجمة بعض أثار هذا الرجل إلى اللغة العربية وخاصة منها البحوث التي تمت إلى اللغة العربية وآدابها وما أكثرها وأغناها عنده ، وفي صدرها ما قام به الرجل في سبيل الدفاع عن الحقيقة التاريخية طوال مختلف العصور والأزمان .
وإن العنصر الأخير الذي بقي علىَّ
أن لا أنساه عند الحديث عن حياة هذا الرجل الكبير ، هو العنصر الذي يتمثل في العدد الكبير من الطلبة والطوالب الذين درسوا عليه أو استمدوا من علمه الغزير، فقد كان يؤثرهم بإخلاصه المعهود وتفانيه في حب العلم ، كانوا من التشيك، وكان بعضهم من أفريقيا، وبعضهم من المغرب، وآخرون من الديار الشرقية.
وقد كان يعتبر طلبته ضمن أبنائه فهو يكاتبهم ويقدرهم ويشعرهم بأنه هو في حاجة إلى تعليقاتهم واستدراكاتهم، لا يبخل عليهم بالذكر عندما تقتضي الحاجة ذلك، وهو إلى كل هذا رجل أسرة بكل معنى الكلمة، فهو إلى جانب أنه منقطع للدارسة والبحث عارف بقيمة وقته وبطريقة استغلاله … إلى جانب ذلك كان زوجًا مثاليًّا وكان أبًا مثاليًّا، شاعرًا بأنه يعيش في عالم متنوع الثقافات ولذلك فإنه دائما في خدمة سائر
الثقافات التي يكمل بعضها البعض الآخر … .
لقد كان على أهبة الاستعداد لحضور حفل تكريم كبير يقيمه أصدقاؤه بمناسبة مرور سبعين عامًا على ميلاده، بعد أن تجمعت المادة لإهدائه حصيلةً علمية بهذه المناسبة،
لكن القدر كان يريد أن تصدر تلك الحصيلة بمناسبة وفاته ! وكانت السلوى أن الرجل أدى واجبه نحو ما كان يريد وأرضى المجتمع الذي كان يعيش فيه على نحو ما كان يريد.
عبد الهادي التازي
عضو المجمع من المغرب(137/11)
كلمة المجمع فى تأبين الفقيد الراحل
للأستاذ الدكتور محمود مختار
السيد الأستاذ الدكتور شوقى ضيف رئيسُ المجمع :
سادتى الزملاء الكرام أعضاء المجمع
السيدات والسادة من أسرة الفقيد الكريم :
سيداتى وسادتى :
كم هو أليم على نفسى ، أنا الذى سبق لى أن وقفت فى هذا المحراب منذ زمن قريب، أنوب عن المجمع فى استقبال ابن عزيز وأستاذ كبير هو الدكتور سيد رمضان هدارة، وأرحب
به عضواً عاملاً فى مجمع الخالدين، أقول: كم هو أليم على نفسى أن أقف اليوم فى المحراب نفسه لتوديعه وتأبينه. ما كنت أتصور أننى سوف أقف منه هذا الموقف بل كنت أتوقع العكس، كنت أتوقع أنه هو الذى سوف يقف هذا الموقف منى.
سادتى :
أجد نفسى عاجزا عن أن أجد عبارة أستهل بها هذا الحديثَ الحزين فأعود بذاكرتى لأكررَ ما سبق أن قاله فيه شيخ العلميين ورائدُهم فى مصر المرحوم الأستاذ مصطفى نظيف عندما رشحه خبيرًا علميًّا بالمجمع حيث قال : " أقدم للمجمع عالِمًا من علماء الفيزيقا الحديثة له منزلة مرموقة فى الدراسة والبحث العلمى واللغوى تبشر بمستقبل وضاء فى خدمة رسالة المجمع وأهدافه ". هذه الشهادة وهذا الوسام قد حققته الأيام والسنون بل زادته قوةً على قوة وتأكيدًا على تأكيد.
وحصل الدكتور سيد رمضان هدارة على أوسمة تقدير علمية، منها وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى تقديرًا لمكانته العلمية الممتازة. وبإنشاء أكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا ووزارة البحث العلمى عين الدكتور هدارة أول أمين عام لها
بدرجة وكيل وزارة البحث العلمى. وفى هذا المنصب العلمى الإدارى الكبير أثبت الدكتور هدارة كفاءة ممتازة بوضع أسس التعاون والتآلف بين الجامعات ومراكز البحث العلمى. ومن ثم عُهد إليه بإنشاء أولِ معهد قومى يُعنى بجميع أنواع القياسات والمعايير. وكان يسمى عندئذ المعهد القومى الفيزيقى على غرار أمثاله فى البلاد المتقدمة.(138/1)
ولم يقتصر النشاط العلمى لفقيدنا الكريم على التعليم والبحث العلمى فحسب بل امتد إلى المجالات العلمية والثقافية الرفيعة فقد كان عضوًا بارزًا فى الجمعية المصرية للعلوم الرياضية والطبيعية التى أنشأها الدكتور على مصطفى مشرفة، وعضوًا مؤسِّسا للجمعية الفيزيقية المصرية، وعضوًا بالمجمع العلمى المصرى والجمعية العامة للثقافة العلمية. وكان عطاؤه وافرًا ومتميزًا فى اللجنة القومية للفيزيقا البحتة والتطبيقية التى تمثل مصر فى الاتحاد الدولى للفيزيقا حتى أصبح نائبًا لرئيسها لسنوات طويلة .
سادتى :
هذا عرض عابر للنشاط العلمى للفقيد، أما الدكتور سيد رمضان هدارة المجمعى فهو أكثر بريقًا وبهاءً. فقد أعطى اللغة العربية الكثير والكثير حتى قبل أن يحظى بدخوله خبيرًا. كان هذا المثل الرائع للعالم المتفتح هو الطريق الذى قاده إلى المجمع فدخله بقدم راسخة وقلب واعٍ. وبعد أن أصبح خبيرًا علميًّا لبضع سنوات انتخب بجدارة عضوًا عاملاً ليصبح دعامة قوية فى لجانه العلمية الفيزيقية والرياضية والحاسبات .
وبتعيينه عضوًا عاملاً بالمجمع شُغل بقضية القضايا فى الوطن العربى وهى قضية اللغة العلمية(138/2)
العربية وتعريب العلوم فى الكليات العلمية التطبيقية الجامعية، حتى أصبح من أكبر دعاتها، إيمانًا منه بأن اللغة العربية هى واجهةُ الأمةِ العربية. وأن العلم ليس دخيلاً عليها بل إنه عنصر أصيل فيها. وقد عبر عن ذلك فى أحاديث كثيرة أذكر منها على سبيل المثال قوله : " إن اللغة التى ظلت على مدى العصور البعيدة لغة الدين والأدب والإنسانية صالحة صلاح الإسلام نفسه فى جميع أنشطة البشر لا يمكن أن تعجز أو تتخلف عن ارتياد آفاق العلم التطبيقى الحديث بنفس القدرة والكفاءة. وهى وإن كانت تأخرت بعض الوقت عن هذا الركب الحضارى تحت ضغط الهجمات الاستعمارية الشرسة إلا أنها ما زالت تحتفظ بعنصر الأصالة الكامن فيها. أما المزاعم التى يرددها دعاة الهزيمة بقصورها عن مجاراة العلوم الحديثة فتلك هى السياسة الاستعمارية التى ينتهجها المستعمر ليشدد من قبضته على البلاد النامية سياسيًّا واقتصاديًّا ".
ومن مأثور كلماته عن تعريب التعليم فى الكليات العملية يقول الدكتور هدارة" إن تلقى العلم بلسان أجنبى كارثةٌ بعيدةُ الأثر لإعاقة التقدم الحضارى ودعوةٌ مرذولة لسياسة التبعية والانتماء الفكرى وجريمة فى حق اللغة العربية". وللدكتور هدارة آثار بناءة فى كيفية اختيار ووضع المصطلح العلمى العربى يقول فى أحدها" إن السلوك اللغوي للفظ قد يكون مطاطا فى بعض التعبيرات فى الشعر وفى الفن لإضفاء ما يتطلبه التعبير من تجاوز عن دلالته اللفظية المباشرة إلى دلالات مجازية أو إيحائية أو فنية، أما اللغة العلمية فأسلوبها وحيد الدلالة لا يقبل الإيحاء أو الغموض أو اللعب بالألفاظ تحت أى مسمى ".(138/3)
بهذه الآراء السديدة والتوجيهات الحميدة شارك الدكتور هدارة فى وضع أسس اختيار المصطلح العلمى العربى، كان أولها الأخذ بترجمة المصطلح الأجنبى إلى العربية ترجمة دقيقة، ولا يُلجأ إلى تعريبه إلا عند استعصاء الترجمة وعلى أن يخضع اللفظ المعرب لقواعد وأصول مقننة أقرها مجلس المجمع لتضمن سلامة البنية الأساسية اللغوية، كما يلزم العنايةُ بإلحاق المصطلح العربى بتعريف واضح لمدلوله العلمى .
واهتم الدكتور هدارة بموضوع الرموز والدلالات العلمية وكتابة المعادلات الفيزيقية والرياضية والكيميائية بأسلوب يتمشى مع طبيعتها واستخداماتها التطبيقية. وقد دعاه مجمع اللغة الأردُنى للمشاركة فى مؤتمر خاص لدراسة هذا الموضوع وإخراج كتاب عن هذه الرموز وكتابتها، وقد أسهم الدكتور هدارة إسهامًا كبيرًا فى أعمال المؤتمر ثم فى إخراج الكتاب المطلوب الذى تولى المجمع الأردُنى نشره فى الأوساط العلمية العربية . بهذه الروح الوثابة والآراء الناضجة أسهم الدكتور هدارة فى إخراج أول معجم للفيزيقا النووية والإلكترونيات منذ أكثر من ربع قرن. ثم أسهم فى إخراج أول معجم شامل لألفاظ الفيزيقا الحديثة يحوى أكثر من 5000 مصطلح حديث معرَّف تعريفًا معجميًّا مقننًا. وأخيرًا كان له الإسهام الأول فى إخراج معجم لألفاظ الحاسبات الآلية والمعالجة الإلكترونية للمعلومات والاتصالات .
وأيد الدكتور هدارة كلَّ هذه الآراء والإنجازات تأييدًا عمليًّا وذلك بتأليف عدد كبير من الكتب والمراجع العلمية الدراسية والثقافية أذكر منها :
خواص المادة والصوت .
الكهرباء والمغنطيسية .
الضوء والألوان .
ومن الكتب الثقافية العلمية رفيعة المستوى :
قصة الطيران . - الطاقة الذرية .
باقة من الأضواء .
كما ترجم عددًا كبيرًا من المراجع والكتب العالمية العلمية أذكر منها :
علم الطبيعة لـ " هيزنبرج ".
علم الطبيعة لـ" هارفى هوايت ".
تجارب فى الذريات لـ "برانلى ".(138/4)
مقدمة فى الفيزيقا النووية والذرية والجسيمات .
المبادئ الأساسية فى الفيزيقا النووية لـ " برنجر".
تطور النظرية الذرية.
آفاق العلم لـ " بارل ".
المعرفة والتساؤل لـ " فايسكوف".
رحلة إلى الفضاء لـ " دوبرى ".
كوكبٌ اسمُه الأرض لـ"جاموف".
حملة المشاعل التكنولوجية .
الحياة والطاقة لـ " ريموف ".
هذا الهواء وهذا الماء لـ "بوتاربرت".
الذرات والطبيعة والإنسان .
استكشاف الفضاء .
عصر الفضاء .
وظل عطاء الدكتور هدارة وافرًا متواصلاً فى لجان المجمع ومجلسه ومؤتمراته وفى معظم الهيئات العلمية والتعليمية والبحثية حتى قعد به المرض عن حضور اللجان والمجالس ولكنه ظل ماثلاً وحاضرًا فيها بشخصيته الوضاءة وآرائه وأعماله المجمعية الخالدة .
سادتى : لقد كانت خسارة مصر وخسارة المجمع فيه فادحة بعد أن ترك فراغًا ليس من السهل أن يشغلَه سواه وأننا إذ نبكى الدكتور هدارة اليوم عضوًا مجمعيًّا خالدًا نبكيه أيضًا علَمًا من أعلام الفيزيقا فى مصر ورائدًا من رواد العلوم الحديثة .
هذا أيها السادة عرض عابر وسريع للسيرة العلمية لفقيدنا الكبير الذى نجتمع اليوم لتوديعه وتكريمه وتأبينه .
سيدى الرئيس ، سيداتى وسادتى :
أستأذنكم فى أن أختتم هذا الرثاء الحزين بالآية الكريمة التى نادى بها رب العرش العظيم عباده المخلصين الأبرار بقوله:«يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى» .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
محمود مختار
عضو المجمع(138/5)
كلمة كلية الصيدلة
فى تأبين الفقيد
للأستاذ الدكتور جمال الدين مهران
الأستاذ الجليل رئيس مجمع اللغة العربية :
السادة الأفاضل أعضاء المجمع :
السادة الحضور الكرام :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد ،،
فإنه يعز على أن أقف هذا الموقف مؤبنا أستاذى الفاضل العلامة الأستاذ الدكتور عبد العظيم حفنى صابر الذي دعاه المولى القدير عز وجل إلى جواره الكريم ، ولأقول كلمةً أودعُ فيها الإنسان، العالمَ الثقَة ، الرفيع النفس النقىَّ الطوية الحميدَ الخصال، العفَّ اللسان . إن الوفاء لأستاذى الفاضل يدفعنى أن ألقى كلمة كلية الصيدلة، الكلية التى تخرج فيها عام 1929م وكان ترتيبه الأول ثم عمل بها معيدًا فمدرسًا فأستاذًا مساعدًا فأستاذًا ورئيسًا لقسم العقاقير ثم عميدًا للكلية عام 1956 م مع احتفاظه برئاسة القسم إلى أن أحيل للتقاعد عام 1966 م. ولم تشغله العمادة عن عمله أستاذا ومعلمًا ينهل الطلاب من علمه الغزير ويعبُّون من ثقافته الوفيرة والعطاء بدأب ونشاط عجيب.
ولقد كان من حظى أن أصحبه أكثر من نصف قرن من الزمان منذ أن التحقت بكلية الصيدلة وتلقيت على يديه مادة العقاقير فى السنة الأولى، ثم كان لي بعد ذلك حظ تدريس هذه المادة معه والقيام بالعديد من الأبحاث عن النباتات الطبية المصرية وتشرفت بمشاركته فى اللجنة الدائمة لدستور الأدوية المصرى التى أنشأها وكان يرأسها وشاركته فى إعداد كتاب الغذاء والدواء فى القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية .
أما صلة الفقيد رحمة الله عليه بالمجمع فتعود إلى عام1948م حين
اختير خبيرًا للجنة علوم الأحياء والزراعة ثم توثقت هذه الصلة باختياره خبيرًا للجنة الكيمياء والصيدلة بعد ذلك بتسعة عشر عامًا ثم توجت بانتخابه عضوًا بمجمع اللغة العربية عام 1985م .(139/1)
وقد أحب رحمه الله المجمع حبًّا جمًّا وكان يزهو لصحبة علمائه الأماثل الأماجد ويحدثنا كثيرًا عن علمهم الوفير ويقص علينا مواقف طيبة لهم وأخص بالذكر منهم العلامة الأستاذ الدكتور أحمد زكى الكيميائي الأديب صاحب كتاب " سلطة علمية" الذي ، قدم فيه العلم بلغة سليمة مبسطة، ثم دعته حكومة الكويت عام 1958م لينشىء مجلة العربى ويرأس تحريرها فأضاء بعلمه وفكره البلدان العربية من مشرقها إلى مغربها .
كذلك المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الحليم منتصر العالم النباتي الأديب الذي أسهم في علم النبات ترجمة وتأليفا وتحقيقا وامتاز بأسلوبه الراقى
الجميل .
وأيضًا المرحوم الأستاذ الدكتور محمد شرف صاحب المُعجم الطبى الشهير كما أذكر المرحوم الأستاذ الدكتور حامد عبد الفتاح جوهر رائد النشاط العلمي فى مجالات علوم البحار الذي زكاه لعضوية المجمع واستقبله نيابة عن المجمع بأنه العلامة الغزير في علمه وتخصصاته، البليغ فى لغته ، الواسع أفقه ومداركه العلمية واللغوية .
وكان رحمه الله يشيد كثيرًا بعملاق القرن العشرين الأستاذ العقاد منبهرًا بثقافته العالية المتعددة الجوانب التى كانت حاضرة فى كل حين والذي كانت له صولات وجولات عند عرض مصطلحات لجنة علوم الأحياء والزراعة فكان يناقش المصطلحات مناقشة المتخصص ويستعين بأحدث المراجع مما يزكى موقفه ورأيه .
ولقد سعدت كثيرًا برؤية المرحوم الأستاذ عبد الفتاح الصعيدى فى كلية الصيدلة مع المرحوم الأستاذ الدكتور عبد العظيم يشاركه فى مراجعة "دستور الأدوية المصرى " من الوجهة اللغوية وكان يصفه بأنه لغوى من الطراز الرفيع وكأنه من رواة العربية الأولين .
هذا هو العالم الثقة الذي أخلص للعلم وتفانى فى خدمته وعشق العربية
وأحبها وحرص على أن يغذيها
بالمصطلحات فى علوم الأحياء والزراعة والكيمياء والصيدلة .(139/2)
وإن العين على فراقك لتدمع والنفس لتجزع وإنا عليك لمحزونون، نضر الله وجهك وطيب ثراك وتغمدك برحمته وعوض عن فقدك خير العوض .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
جمال الدين حسين مهران(139/3)
كلمة الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
في افتتاح مؤتمر الدورة الخامسة والستين
السيد الأستاذ الدكتور مفيد شهاب :
وزير التعليم العالي والدولة للبحث العلمي :
الزملاء المجمعيون الأجلاء :
السيدات والسادة :
نحتفل اليوم بافتتاح مؤتمر مجمعنا السنوي فى دورته الخامسة والستين، وأشكر باسم المجمع السيد الأستاذ الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم العالي والدولة للبحث العلمي لمشاركته المجمع فى هذا الاحتفال، وأرحب معه بالزملاء المجمعيين الوافدين من الأقطار العربية والإسلامية والغربية، وأحييهم تحية تقدير لتجشمهم مشقة السفر إلي المؤتمر كي يسهموا فيه ببحوثهم العلمية القيمة ويتدارسوا – مع زملائهم المصريين – ما أنجزته لجان المجمع طوال الدورة الماضية من مصطلحات لغوية وعلمية في مختلف العلوم وما اتخذته من قرارات . وموضوع المؤتمر هذا العام : "الفصحى والعامية " والفصحى لغة القرآن الكريم الخالدة بخلوده، وهى أقدم اللغات الحية المعاصرة زمنًا وأطولها عمرًا ، خرجت مع الفتوح الإسلامية التي امتدت من الهند والصين إلى المحيط الأطلنطي والجنوب الغربى من أوربا، وظفرت بلغات كل هذه الديار : ظفرت بالفارسية في إيران ، وبالآرامية والنبطية في العراق، وبالسريانية واليونانية فى الشام، وبالديموتيقية واليونانية في مصر، وباليونانية واللاتينية والبربرية في شمال إفريقيا، وبالرومانثية الإسبانية في الأندلس، واستعلت بذلك علي جميع اللغات القديمة في ثلاث قارات : آسيا وأفريقيا وأوربا، واتخذها سكان الديار السابقة لسانا لهم يعبرون بها أدبيًّا عن وجداناتهم ومشاعرهم، وعلميًّا عن ألبابهم وعقولهم، واستوعبت كل ما عرفته الأمم القديمة من علوم، وأضافت إليها إضافات باهرة، وأصبحت الفصحى بذلك لغة عالمية حضارية، وظلت تقود العالم علميًّا وأدبيًّا طوال ستة قرون حتى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي. وعرفت أوربا كنوزها العلمية والفلسفية ، فأكبَّت(140/1)
عليها تتمثلها، وأضاءت لها مسالكها فى العصور الوسطى إلى نهضتها العلمية والفلسفية الحديثة. وأصاب الفصحى ركود فى العصر العثمانى، وعادت إلي الازدهار في القرن التاسع عشر، واستحدثت لغة علمية لمصر والعرب ظلت من الثلاثينيات في القرن الماضى إلى نهايته إذ وقف الإنجليز تعليم العلوم بالعربية فى المدارس العليا بمصر وجعلوه بالإنجليزية . وتزدهر الفصحى ازدهارًا عظيمًا بمصر فى القرن العشرين، ويصبح لها أدباء كبار فى مقالات الصحافة، وفي فنون الأقصوصة والقصة الطويلة والمسرحية بنوعيها الشعرى والنثرى.
ومع مرور الزمن أخذت تتولَّد من الفصحى، في جميع البلاد العربية، عاميات تتميز بفقدانها إعراب أواخر الكلم، فأواخرها تنطق ساكنة دائما. وتنشط العامية بمصر مع القرن السادس الهجرى / الثانى عشر الميلادى. وتؤلف كتب نوادر وقصص وبعض مسرحيات، وبعض سير بطولات شعبية. كل ذلك يؤلف بالعامية، وتنظم معها أزجال كثيرة، ولا تعارض أى تعارض بين العامية والفصحى في الحقب الماضية. وتنشط العامية في العصر الحديث، وخاصة في مجال الأزجال، وتضم إليها في القرن العشرين قصصًا عامية كثيرة، وتكثر مجلاتها الهزلية.
وبيننا من يظنون أن العامية لغة تقابل الفصحى، ولا يعرفون أنها لهجة مولدة من الفصحى وأن العلاقة بينهما حميمة. إذ أكثر ألفاظ العامية فصيحة الأصل، دخلها شىء من التحريف. لذلك ألف مجمعنا من قديم لجنة للألفاظ والأساليب مهمتها تفصيح الألفاظ العامية وتسويغها عربيًّا ، وقد نشر المجمع مجلدين من هذه الألفاظ، وهو يعد الآن مجلدًا ثالثا لنشره، وفي ذلك تقريب واضح بين الفصحى والعامية، والمجمع جاد فيه حتى ترفع الحواجز بينهما نهائيا. وأعلن أن المجمع يرحب بالاتفاق مع صحيفة مصرية تتعهد بنشر الألفاظ العامية التى صحَّحها وسوَّغها يوميًّا أو أسبوعيًّا وهو واجب قومى .(140/2)
والفصحى لغة العرب الأدبية الرفيعة فى جميع بلدانهم، وهى لغة الثقافة والعلم والتعليم فى المدارس والجامعات، ولغة الفلسفة والطب والقانون والعلوم الإنسانية وغير الإنسانية، ولغة كل ما نملك من فكر ودين وحياة روحية، وحين تدارست أوربا علومها قفزت من عصورها الوسطى المظلمة إلى عصرها الحديث، وهي لغة الشعوب العربية القومية التى تضم منهم الفم إلى الفم، والفكر إلى الفكر، والروح إلى الروح، وبها تستطيع هذه الشعوب أن يكون لها تكتل سياسي بإزاء تكتلات الغرب السياسية فى العصر، مع أنه لا توجد بين أمة أوربية وأمة لغةٌ مشتركة تجمع بينهما فى وحدة لسانية.
والبلاد العربية جميعا تعمل جاهدة على إتقان أبنائها للفصحى، غير أننا نقصِّر فى ذلك أحيانًا كما يحدث فى بعض المدارس الأجنبية ومدارس اللغات إذ لابد أن يكون إشرافنا عليها كاملاً، وخاصة فى تدريس التاريخ والفصحى، وما يعطى للناشئة فيهما من كتب ومقررات.
ولم أتحدث حتى الآن عن الإعلام وعدوله عن الفصحى إلى العامية في الإذاعة والتليفزيون، ومعروف أن الناشئة والشباب جميعا يتعلقون بما يسمعون في الإذاعة وما يسمعون ويبصرون في التليفزيون . وأحسب أننا لو كنا عنينا بالفصحى فيهما جميعًا منذ إنشائهما لكسبنا مكاسب طائلة من انتشار الفصحى لا على ألسنة الناشئة والشباب فقط بل أيضا على ألسنة العامة. وينبغى أن يكون الإعلام في بلادنا العربية بالفصحى وحدها، وبذلك نكون حقا أمة عربية واحدة .
وبُحَّ صوت المجمع في مؤتمراته منذ أربعة عشر عاما مناديا الحكومات العربية أن تتخذ موقفا حاسما – حفاظا على هويتنا وقوميتنا – ممن يصرُّون على تسمية المحلاَّت والشركات والفنادق بأسماء أجنبية .
وواجب أن تصدر الحكومات العربية تشريعات تحرم ذلك تحريمًا(140/3)
باتًّا، وتجرِّم من يصرّ على استخدامه بعقوبة رادعة، وواجب أن تكف الشخصيات الرسمية في البلاد العربية جميعًا عن مخاطبة الجماهير بالعامية وأن يخاطبوهم بالفصحى لما في ذلك من تأثير مهم في شغف الجماهير ببيان الفصحى الرائع .
ويسعدنى – في ختام كلمتى – أن أشكر حضراتكم لتفضلكم بتلبية دعوتنا للمشاركة في هذا الحفل ، كما أشكر ضيوفنا من الزملاء المجمعيين الوافدين الكرام راجيا أن يَقْضُوا بيننا أيامًا طيبة في بلدهم الثانى مصر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شوقى ضيف
رئيس المجمع(140/4)
كلمة الأسرة
للأستاذ الدكتور عقيل عبد العظيم حفنى صابر
السيد الأستاذ الدكتور شوقى ضيف رئيس مجمع اللغة العربية :
السيد الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس مجمع اللغة العربية :
السادة الأساتذة الأجلاء أعضاء مجمع اللغة العربية ورجاله الأفاضل:
السادة زملاء وأحباء والدى المرحوم الأستاذ الدكتور عبد العظيم حفنى صابر :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد ،،
يشرفنى أن ألقى كلمة الأسرة فى حفل تأبين المرحوم الأستاذ الدكتور عبد العظيم حفنى صابر عضو المجمع– والتى أستهلها بالشكر العميق للحفل الكريم والحقيقة أن الكلمات لتعجز عن التعبير عنه ولو تسمحون لى أن أستعرض فى نبذة مختصرة تاريخ حياة والدى المرحوم الأستاذ الدكتور عبد العظيم حفنى صابر فحياته مليئة بالإنجازات العظيمة فى جميع المجالات .
فقد ولد والدى فى 17 يناير سنة 1908 بقرية المرساة – مركز دكرنس محافظة الدقهلية – وتخرج فى مدرسة الصيدلة جامعة القاهرة في سنة 1929م بحصوله على درجة بكالوريوس الصيدلة، والكيمياء الصيدلية وكان ترتيبه الأول وحصل على جائزة مظلوم بك لتفوقه فى البكالوريوس، وجائزة بحرى بك لتفوقه فى علم العقاقير؛ولذا عين معيدًا بقسم العقاقير فى نوفمبر سنة 1929 ثم أرسل فى بعثة سنه 1930م إلى إنجلترا حيث حصل ثانية على بكالوريوس فى الصيدلة سنه 1932م من جامعة لندن ثم دكتوراه الفلسفة فى علم العقاقير عام 1934 – وعاد إلى القاهرة حيث عين مدرسًا فى قسم العقاقير .
ثم عين أستاذًا مساعدًا عام 1945م فأستاذًا مساعدًا ( أ ) سنة 1949م ثم أستاذًا (ب/ب) سنة 1951م ثم أستاذًا (ب/أ ) ثم أستاذًا ( أ ) سنة 1953 ثم أستاذ علم العقاقير ورئيس قسم العقاقير سنة 1956م .(141/1)
ولما استقلت كلية الصيدلة عن كلية الطب- جامعة القاهرة وأصبحت كلية من كليات الجامعة سنة 1955م عين عميدًا لها فى سنة 1956م وظلت تتجدد العمادة له كل سنتين حتى سنة 1966م– ولم تكن الكلية فى أول عهده مستكملة المقومات بل ينقصها كثير من الإمكانات – فبذل المزيد من الجهد وكرس وقته لها حتى أتم المقومات والإمكانات والأجهزة الفنية والإدارية مما جعلها فى مكانة مرموقة فى الداخل والخارج.
وقد تم تعينية أستاذًا متفرغًا بعد بلوغه سن المعاش حتى وفاته فى 11 فبراير سنة 1999م .
وللمرحوم الكثير والكثير من النشاطات الجامعية والإنشائية والعلمية والبحثية وسأحاول أن أتذكر بعضًا من هذه النشاطات. فبالنسبة للنشاط الجامعى ساهم بقسط وفير فى جميع الأنشطة الجامعية وكانت له مكانة بارزة فيها جميعا ، أعرضها على النحو التالى:
1) فقد كان رئيسًا لاتحاد جامعة القاهرة سنة1949م ثم انتخب رئيسًا للاتحاد العام لطلاب جامعة القاهرة عام 49/50 ثم وكيلاً له من 56-1962 – ثم استمر نشاطه فى الاتحاد كرئيس للجنة الاجتماعية متميزًا بالمشروعات التى أقامها مثل مشروع "اخدم قريتك"ومشروع إسكان الطالبات وغيره كثير.
2) وقد انتخب رئيسًا لنادى هيئة التدريس- جامعة القاهرة سنة 1959م وكان لجهوده وخدماته الناجحة أن أعيد انتخابه سنويا حتى سنة1966 وقد نفذ مشروعات كثيرة لصالح الأعضاء .
3) وأنشأ اتحادًا خاصًّا لطلبة الصيدلة سنة 1934م وانتخب رئيسًا له ووصل به وأنشطته إلى مصاف الاتحادات الأخرى مما أدى إلى الاعتراف به سنة 1949م اتحادًا ضمن اتحادات كليات الجامعة مع أن الصيدلة لم تكن حتى هذا التاريخ كلية بعد .
أما من ناحية نشاطاته فى المجالات الإنشائية فيحضرني أنه قام : -(141/2)
1) بإنشاء محطة تجارب للنباتات الطبية ووفرلها المبانى اللازمة لتتضمَّن معملا للتحاليل الأولية وصوبة لزراعة النباتات تحت العوامل المختلفة وزاد مساحتها تدريجيًّا من 2.5 فدان إلى 12.5 فدان وقد نجح فى استزراع حوالى 300 نوع من النباتات المصرية البرية والنباتات الطبية الأجنبية فيها .
2) وأنشأ مكتبة بالكلية زودها بالكتب والمراجع والدوريات بما زاد على سبعة آلاف مجلد .
3) وأنشأ قسمًا جديدًا للأقربازين بمعامله وأجهزته المستحدثة.
4) وأنشأ معملاً مركزيًّا موحدًا لأحدث الأجهزة العلمية المتقدمة فكان أول مركز من نوعه فى الجامعات فى ذلك الحين .
5)وساهم فى إنشاء الجمعية التعاونية لتوريد وإنتاج الأدوية عام 1943م وانتخب سكرتيرًا لها وكانت مهمتها كسر احتكار تجارة الدواء، وكانت أغلبها فى يد غير المصريين، ونجحت فى ذلك .
أما عن نشاطه العلمي فهو لم يكن يدخر جهدًا فى سبيل النهوض بالعلم. وقد كانت لمدرسته العلمية التى أولاها العناية الكاملة مكانتها العلمية المرموقة داخليًّا وخارجيًّا كما كان لها ثقلها المتميز فى جميع المجالات الدولية وأرسى لها أهدافها وقد خلف وراءه فى هذه المدرسة أعلاًما بارزين فى عالم الصيدلة .
وله ما يزيد على 120 بحثًا منشورًا فى المجلات العلمية فى الداخل والخارج وذلك فى مختلف الدراسات والمجالات الخاصة بالعقاقير والنباتات الطبية .
وقد أشرف على 23 رسالة ماجستير ودكتوراه. و ابتكر طريقة لتقدير كميات مساحيق العقاقير باستعمال الميكروسكوب، ولدقتها وسهولة إجرائها أدخلت فى دساتير الأدوية ومازالت متبعة فى أحدث الدساتير الإنجليزية والأوربية والمصرية .
وقد ألف كتابًا فى العقاقير أعاد طبعه وتنقيحه أربع مرات وهو مازال المرجع الأساسي لهذا الفرع .
وشارك فى تأليف كتاب تاريخ الصيدلة عند العرب والدليل القومى للأدوية بمصر .(141/3)
وقام بوضع قاموس عربى/إنجليزي– وإنجليزى/ عربى للمصطلحات والألفاظ الفنية الواردة فى دستور الأدوية المصرى .
وأسهم وأشرف على تحضير الإصدار الأول لدستور الأدوية المصرى سنة 1963م ثم الإصدار الثانى سنة 1972م وكذلك الإصدار الثالث سنة 1984م – وهو أول دستور أدوية صدر باللغة العربية .
وقد كان رئيسًا للجنة الدائمة لدستور الأدوية المصرى منذ عام 1978م .
وكان عضوًا فى اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة المساعدين بالجامعات المصرية .
و كذلك كان عضوًا بجميع اللجان الخاصة بالأدوية .
وكان خبيرًا بمجمع اللغة العربية فى لجنة الأحياء والزراعة سنة 1948م وكذلك لجنة الكيمياء والصيدلة بالمجمع سنة 1967م وكان أحد أعضاء اللجنة الثلاثية المكلفة من قبل مجمع اللغة العربية لإصدار القاموس البيولوجي وقاموس الكيمياء والصيدلة صدر من كل منهما الجزء الأول والثاني.
وقد انتخب عضوًا بمجمع اللغة العربية فى فبراير سنة 1985 م .
واختير عضوًا بلجنة جوائز الدولة التقديرية سنة 1981م وكذلك لجنة الجوائز التشجيعية .
كما عين عضوًا فى مجلس الثروة النباتية بأكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا 1975-1979 م.
وكذلك مجلس البحوث الطبية 1978-1979م كما عيِّن مقررا للجنة الإشراف على المشروع القومي للنهوض بالنباتات الطبية وزراعتها فى مصر .
وقد شارك وساهم فى جميع المؤتمرات الصيدلية المصرية والعربية والدولية ونال الميدالية الذهبية لأحسن بحث ألقى فى مؤتمر اتحاد الصيادلة العرب سنة 1970م وهو عضو بارز فى العديد من الجمعيات والهيئات : -
1) فقد انتخب عضوًا فى الأكاديمية المصرية للعلوم سنة 1960 م .
2) انتخب عضوًا عاملاً فى المجمع العلمى المصرى .
3) انتخب عضوًا فى مجلس العلوم الأساسية فى أكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا وعضوًا بلجنة النباتات الطبية بالأكاديمية سنة 1974م ثم رئيسًا لها سنة 1979م .(141/4)
4) وبصفته رائد بحوث النباتات الطبية فى مصر فقد اختارته الجمعية العربية لأبحاث النباتات الطبية رئيسًا فخريا لها مدى الحياة .
5) وهو عضو شرف فى الجمعية الصيدلية العربية مدى الحياة .
6) وعضو فى اللجنة القومية لتاريخ وفلسفة العلوم المصرية .
وقد قامت الدولة بتكريمه وتقديره
بمنحه :
1) جائزة الدولة التقديرية للعلوم الطبية فى سنة 1985م .
2) الميدالية الذهبية ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولى سنة 1989م لنيله جائزة الدولة التقديرية .
3) وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى سنة 1973م تقديرًا لجهده الممتاز فى تحضير وإصدار دستور الأدوية المصرى سنة 1972م .
4) وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى سنة 1980 م تقديرًا لحميد صفاته وجليل خدماته للدولة .
5) الميدالية الذهبية التقديرية لجمعية الصيدلة المصرية سنة1971م لمكانته العلمية وتقديرا لجهده فى خدمة الصيدلة وتنمية العلوم الصيدلية– وهو أول من حصل عليها .
6) درع هيئة الأدوية سنة 1986م.
7) ودرع جمعية الصيدلة المصرية سنة 1989م.
ورغم هذا التاريخ العلمى والعملى الحافل، وهذا الجهد المضنى فى خدمة علوم الصيدلة التى جعلت منه رائدًا للصيدلة فى عالمنا العربى الحديث إلا أن كل هذا لم يشعرنى يومًا أنه كان يسعى لجاه أو سلطان فضرب بذلك مثلا للعالم الصادق .
وكذلك لم يكن كل هذا الجهد على حساب بيته أو أسرته فكان يرحمه الله نعم الأب الحنون الذى يسهر على راحة أبنائه … ونعم القدوة ..فقد كانت حياته اليومية بين أسرته مثلاً أخلاقيا يحتذى فقد كان التزامه التزامًا
لاتهاون فيه حتى أن متتبع حياته
اليومية كان لا يستطيع أن يأخذ عليه أى هنة يمكن أن تلتصق بصفاته. على أن أبرز ما كان فيه ذلك التوازن فى علاقاته جميعها، مع خالقه سبحانه وتعالى، ومع أسرته الصغيرة – ومع أسرته الكبيرة ومع جيرانه فلم تختل علاقاته يومًا ولم يجنح فى اتجاه على حساب اتجاه آخر.(141/5)
كان يرحمه الله يتصف بالخلق الكريم وبالهدوء والتواضع والصبر ، حتى فى أيامه الأخيرة، ورغم مرضه وتقدمه فى العمر فهو لم يتخل يوما عن هذه الصفات حتى آخر لحظاته.
رحم الله فقيد الصيدلة العظيم… وفقيد مصر البار وفقيدنا الحنون – وأنزله منازل الأبرار .
وإنا لله وإنا إليه راجعون
عقيل عبد العظيم
نجل الفقيد(141/6)
حول معاجم اللغة العامية المغربية*
عرض تاريخي
للأستاذ الدكتور محمد بن شريفة
مما يلفت النظر ويدعو إلى الانتباه إقبال الباحثين الأجانب على دراسة العاميات العربية واهتمامهم بتدوين ألفاظها ونصوصها، وليس ذلك الإقبال وهذا الاهتمام مما ظهر في العصر الحديث ، فقد وجد منذ عهد بعيد، ولا شك أن لهذه الظاهرة بواعث وأسبابًا وأغراضًا وأهدافًا، ومن أبرزها ما يتصل بالتبشير ويقترن بالاستعمار وتوجد أمثلة عديدة في هذين الموضوعين أذكر منها فيما يتعلق بعامية الغرب الإسلامي مثال الراهب القطلاني ريموند مرتين الذي ألف في منتصف القرن السابع الهجري معجما عربيًّا لاتينيًّا وآخر لاتينيًّا عربيًّا حسب العامية الأندلسية. وكان هذا الراهب قد بلغ في اللغة العربية فصيحها وعاميها مبلغًا كبيرًا ، وبلغ به الغرور
أنه ادعى القدرة على معارضة القرآن الكريم، ويوجد في أول المعجم المذكور(1) نموذج يدل على سفاهة رأيه وتفاهة عقله، فهذا الراهب قد تعلم العربية ليحاول بها تنصير المسلمين في الأندلس والمغرب وليحاجج علماءهم ويجادلهم .
وفي كتاب المعيار(2) نص كامل لمناظرة جرت في مدينة مرسية بين الراهب وبين العالم الأديب المرسي أبي الحسين على ابن رشيق(3)، ويفهم منها أن الراهب المذكور كان عارفا بمقامات الحريري(4) وله تآليف في المجادلة بين الأديان ظهر فيها اطلاعه على كتب الغزالي وغيره(5).
ويعد هذا الراهب مع الراهب رامن لل من المؤسسين للاستشراق الأوربي . (6)(142/1)
وأضيف إلى هذا المثال الراهب بدرو دي الكالا (7) الذي ألف في نهاية القرن التاسع الهجري(الخامس عشر الميلادي) معجمًا في العامية الأندلسية أيضا وهو يمثل لهجة أهل غرناطة وما يتصل بها. أما معجم ريموند مرتين فإنه يمثل لهجة أهل شرق الأندلس. وقد جاء بعد هذين الراهبين رهبان آخرون دونوا ألفاظ العامية المغربية كما سمعوها في زمنهم ، وكان آخرهم الراهب الإسباني J.LERCHUNDI الذي أكمل في مدينة طنجة معجمه الإسباني العربي عام 1892م (8) وقد مر أزيد من قرن على ما فيه من كلمات واستعمالات كانت شائعة في شمال المغرب.
وأما اهتمام الأجانب بدراسة العاميات العربية لأغراض استعمارية فقد نشأ عندما فكر الأوروبيون في غزو البلاد العربية واستعمارها فأسسوا لذلك مدارس منها في فرنسا على سبيل المثال -مدرسة اللغات الشرقية الحية: Ecole des Langues Orientales Vivantes وتوسعوا في هذا الشأن بعد تسلطهم على البلدان العربية وتحكمهم فيها فأحدثوا معاهد عليا لدراسة اللهجات العربية العامية واللهجات الأمازيغية لتعليم أطرهم المختلفة، وألفت كتب في قواعد هذه اللهجات ووضعت معاجم في مفرداتها، وكانت تمنح فيها شهادات مختلفة، ومن هذه المعاهد على سبيل المثال أيضا المعهد الذي أسس بالرباط في عهد الحماية الفرنسية وسمي"معهد الأبحاث العليا المغربية " Institut des Hautes Etudes Marocaines ، وقد نشر هذا المعهد من بدايته سنة 1915م إلى نهايته سنة 1959 عددا كبيرًا جدَّا من النصوص في اللهجات العامية العربية واللهجات الأمازيغية على اختلافها .
وقد عني أحد الدارسين في المغرب(9) بوضع فهرس تحليلي باللغة الفرنسية لهذه المنشورات ، وهو من المطبوعات الأخيرة لكلية الآداب في الرباط (10) ، ونشرت هذه الكلية أيضا كتابا باللغة الفرنسية اشتمل على عناوين الأبحاث والدراسات التي أنجزت في موضوع اللغات واللهجات في المغرب خلال ثلاثين سنة وهذا عنوانه(11) :(142/2)
Langue et Société au Maghreb, Bilan et Perspectives
ومن الواضح أن هذا الاهتمام الكبير باللهجات المغربية في عهد الحماية لم يكن بريئًا ولا خالصًا لوجه العلم، وإنما كان نتيجة تخطيط استعماري بعيد المرامي، وهذا ما كشف عنه المستعرب الفرنسي الشهير جورج كولان الذي كانت سلطات الحماية الفرنسية ترجع إليه وتستشيره في المسألة اللغوية بالمغرب، فقد كتب هذا المستعرب في الأربعينيات بحثًا عالج فيه مشكلة اللغة في المغرب واستبعد ما كان يطالب به الشباب المغربي المثقف من نشر الفصحى واعتبر إحلال الفصحى محل الدارجة أمرًا عسيرًا واقترح – فيما اقترح – حلَّين : أحدهما " تعميم الدارجة التي يفهمها الجميع واتخاذها كلغة للثقافة"والآخر هو "تعميم اللغة الفرنسية في المغرب وجعلها وسيلة للثقافة وحدها".(142/3)
وقد أثار هذا البحث ردودًا في الصحافة المغربية والمصرية، ورد عليه الأستاذ المرحوم عبد الله كنون ردًا جميلاً دافع فيه عن الفصحى وانتقد ما ذهب إليه كولان من أن عامية المغرب هي أبعد عن الفصحى من عامية مصر والشام والعراق وقرر أنها من أقرب اللهجات إلى الفصحى لكثرة ما تشتمل عليه من التراكيب الصحيحة والكلمات الفصيحة، وساق طائفة من هذه الكلمات. وختم رده بأن بحث كولان المذكور أملته عليه السياسة وأنه كشف فيه عن نوايا الاستعمار الذي كان يعمل جاهدا على إضعاف اللغة العربية وإهمالها (12). ومن المعروف أن الاستعمار الفرنسي فرض اللغة الفرنسية وجعل منها لغة رسمية للتعليم والإدارة ، ولم يعد للغة العربية وجود إلا في القضاء الشرعي والتعليم الديني، ثم إنه قرر اللهجة العربية العامية واللهجات الأمازيغية في الإذاعة والمعاهد ذات الأغراض الاستعمارية ، ولكن الحركة الوطنية قاومت هذه السياسة وأنشأت مدارس حرة كانت لغة التعليم فيها هى العربية الفصحى. وقد كان لهذه المدارس وللمعاهد الدينية كجامعة القرويين وغيرها أثر عظيم في الحفاظ على الهوية الوطنية واللغة العربية خلال عهد الحامية الفرنسية.(142/4)
ولما انتهى هذا العهد وقع تغيير الكثير من مظاهره وآثاره، ومنها على سبيل المثال معهد الأبحاث العليا الذي سبقت الإشارة إليه فقد أنشئت فيه كلية الآداب بالرباط وحلت محله، ووقع إلغاء تعليم اللهجات العربية المغربية الأمازيغية ولكن الفرنسيين وغيرهم تبنوها في معاهدهم ببلدانهم قاصدين بذلك إثارة النعرة وإيقاظ الفتنة . وأذكر بعد هذا أن الباعث على الاعتراض الذي كان لدى الوطنيين المغاربة على تعليم اللهجات ودراستها هو الخوف على اللغة العربية الفصحى مما يضارها وينافسها فإذا انتفى هذا السبب فلا بأس من الالتفات إلى اللهجات والاعتناء بتراثها؛ لأن في هذا إغناء للفصحى وثراء للهوية. ومن هنا وجدنا الأستاذ المرحوم محمد الفاسي العضو الراحل عن هذا المجمع يخرج بعد الاستقلال أعمالا متعددة في الأدبيات العامية واللهجات العربية والأمازيغية كالأمثال العامية والحكايات الشعبية والأزجال المغربية التي تعرف بالملحون ، وقد توج هذه الأعمال بإخراج معلمة الملحون التي نشرتها أكاديمية المملكة المغربية في عدة أجزاء .
كما أن الأستاذ المرحوم عبد الله كنون العضو الراحل عن هذا المجمع قدم في بعض مؤتمرات هذا المجمع بحثًا عنوانه: عاميتنا والمعجمية، سرد فيه طائفة من ألفاظ العامية المغربية التي توجد – كما ينطقها المغاربة – في المعاجم العربية القديمة
وقد رتبها على حروف الهجاء (13).(142/5)
وأذكر هنا أني لما التحقت بجامعة القاهرة لتحضير الدكتوراه قصدت المرحوم عبد العزيز الأهواني الذي عرفته في المغرب إذ كان أول مستشار ثقافي لمصر في المغرب ورغبت إليه أن أحضر بإشرافه موضوعًا في الأدب العربي على عهد الموحدين وجرى خلال المحادثة ذكر أمثال عوام الأندلس التي نشرها في الكتاب التذكاري المهدى إلى عميد الأدب العربي،فقلت له: إن لدي مخطوطًا يشتمل على مجموعة أقدم وأعظم من التي نشرها، فأشار عليَّ بتسجيلها موضوعًا للدكتوراه وكانت إشارته حكما،وطاعته غنما؛إذ حصلت بفضله وفضل أستاذنا الدكتور شوقي ضيف وأستاذنا المرحوم عبد الحميد يونس على هذه الدرجة العلمية بمرتبة الشرف الأولى مع التوصية بطبع الأطروحة، وقد طبعت بمطبعة محمد الخامس الجامعية في جزأين ، وغدت من المصادر الأساسية لدراسة العامية الأندلسية التاريخية والمجتمع الأندلسي القديم، ولما قدم الأخ الزميل الدكتور عباس الجراري بعد زمن يسير من وصولي إلى القاهرة سجل بإشراف أستاذنا الأهواني أيضا موضوع القصيدة في الشعر الملحون المغربي، وقد حصل بها على الدرجة العلمية نفسها وطبعت في المغرب كذلك وأصبحت مرجعًا في بابها .
لقد كان لأستاذنا المرحوم الأهواني ولزميله أستاذنا المرحوم عبد الحميد يونس اعتناء معروف بالآداب الشعبية ودفاع عنها، يقول الأهواني رحمه الله في كتابه: الزجل في الأندلس :"لقد كان ابن خلدون جريئًا وكان سابقًا لأبناء عصره حين أعلن أن الشعر ليس مقصورًا على العرب وأن البلاغة ليست وقفًا على اللغة المعربة وكان واسع الأفق حين ضمن مقدمته نماذج من الشعر الملحون ودافع عنه، وأحسب أننا في العصر الحاضر لم نعد في حاجة إلى الدفاع عن هذه الفنون التي اتخذت العامية أداة التعبير فيها، ولم نعد في حاجة إلى القول بضرورة معرفتها وإلى تبرير دراستها" (14) .(142/6)
أنتقل بعد هذا المدخل إلى الحديث عن معاجم العامية المغربية فأبدأ بالإشارة إلى أن أقدمها يرقى إلى القرن الرابع وأعني به كتاب " لحن العامة " الذي ألفه اللغوي الأندلسي الكبير أبو بكر الزبيدي المتوفى سنة 379 هـ ، وهو مطبوع (15)، وقد جمع فيه الكلمات التي أفسدتها العامة في الأندلس إما بإحالة لفظها أو بوضعها في غير موضعها، ولكن الزبيدي اقتصر على لحن الخواص، ولم يجتلب ما أفسده الدهماء، ومع ذلك فإنه يعتبر أول من رصد مظاهر التغيير التي حدثت في اللغة العربية بالأندلس ، وقد جاء بعد الزبيدي لغوي مغربي هو أبو عبد الله بن هشام السبتي المتوفى سنة 577 هجرية فتوسع في عرض مظاهر اللحن الطارئة على اللغة العربية في المغرب والأندلس وأسمى كتابه المدخل إلى تقويم اللسان، وكان أستاذنا المرحوم عبد العزيز الأهواني أول من درس هذا الكتاب ونشر ما ورد فيه من ألفاظ مغربية وأمثال عامية (16) ثم نشر بعد ذلك مرتين(17). وما يزال عدد كبير من الألفاظ والأمثال العامية التي دونها ابن هشام السبتي في القرن معروفا ومستعملا في العامية المغربية إلى اليوم .(142/7)
وفي القرن الثامن الهجري عني ثلاثة من أعلام الأندلس والمغرب بموضوع لحن العامة وهم أبو عبد الله محمد بن هانئ السبتي المتوفى سنة 733 وأبو عبد الله ابن جزي المتوفى سنة 741 هجرية وأبو جعفر أحمد بن خاتمة المتوفى سنة 770 هجرية ولكن هؤلاء الأعلام لم يضيفوا شيئًا ذا بال وكان جل اهتمامهم منصرفًا إلى ترتيب الألفاظ التى جمعها ابن هشام السبتي مع تهذيبها وتقريبها، وذلك حسبما يظهر من كتاب ابن خاتمة الذي أسماه: "إنشاد الضوال وإرشاد السوال" (18) ثم جاء مؤلف من أهل القرن التاسع الهجري – فيما يبدو – فاختصر كتاب ابن خاتمة الذي كان هو أيضًا اختصارا لكتاب ابن هانئ السبتي،وقد نشر المستعرب كولان هذا الاختصار الأخير الذى لا يعرف مؤلفه في مجلة هسبيرس(19)، وفي أواخر القرن التاسع أو أوائل القرن العاشر للهجرة ألَّف مجهول كتابًا سماه: الجمانة في إزالة الرطانة، وقد نشره الأستاذ المرحوم حسن حسني عبد الوهاب العضو الراحل عن هذا المجمع (20) ويتعلق معظم ما في هذا الكتاب بتحول الصيغ، وهو في جملته إضافة جيدة في الموضوع ، ويقدم صورة واضحة لما كانت عليه اللهجة الحضرية التونسية في زمن المؤلف. إن اعتبار هذه الكتب من قبيل المعاجم لا يخلو من التجوز، وهي في جملتها تنتمي إلى طائفة من كتب التصويب اللغوي التي ظهرت في مشرق العالم العربي ومغربه (21)، ولعل الرسالة المنسوبة إلى الكسائي في لحن العوام هي أول ما ألف في هذا الباب (22).(142/8)
وثمة معاجم أخرى في عامية الغرب الإسلامي هي التي يصدق عليها اسم المعاجم حقيقة وقد ألفها أجانب مستعربون في عصور مختلفة وهي ثنائية اللغة، وأولها معجم لاتيني عربي عنوانه :- Glossarium Lation Arabicum ومؤلفه مجهول من أهل القرن العاشر الميلادي ( الرابع الهجري ) ولم أتمكن من الوصول إليه الآن كي أصفه، ويوجد وصف وتحليل لمحتواه العام في مقدمة تكملة المعاجم العربية لدوزي الذي استعمله وقال: إن الحصيلة التي استخرجها منه أقل غنى من سواه (23) .
ويأتي بعد هذا حسب الترتيب التاريخي المعجم الذي ذكرناه فيما سبق ، وهو المعجم الذي ينسب إلى الراهب القطلاني ريموند مرتين من أهل القرن الثالث عشر الميلادي ( القرن السابع الهجري ) ، ويتألف هذا المعجم من قسمين كبيرين: القسم الأول عربي – لاتيني، يبدأ بالكلمة العربية ثم المقابل اللاتيني، والقسم الثاني لاتيني – عربي، وفي هذا القسم لا يكتفى بمقابل عربي وإنما يؤتى بمرادفات واشتقاقات وتصاريف وتراكيب في كل مادة، ومن هذا تظهر القيمة الكبيرة لهذا المعجم ، ومما يتميز به الشكل التام الذي يعرف به كيفية النطق في كل كلمة .
وليس من غرضي الآن تقديم خلاصة ما عن طبيعة العامية كما تبدو في هذا المعجم، ولكني أشير إلى أن عددًا من مظاهرها يلتقي مع ما في كتب لحن العامة التي سبق ذكرها، كما أن عددا كبيرا من ألفاظ هذا المعجم ما تزال موجودة في العامية المغربية إلى اليوم، وسأقتطف مادة واحدة من القسم الثاني من هذا المعجم تدل على طريقته ،جاء في شرح كلمة FLALA ما يلي :" لمة لمات – زجاجة زجاجات – دبلة دبل - قطيع قطعان – علالة علالات – سعدية سعديات – طاهرية طاهريات وطواهر – فياشة فياشات – مرشة… مرشات – قارورة قوارير – إبريق أباريق"(24).(142/9)
فهذه كلها أسماء أواني متقاربة ومنها ما هو فصيح كإبريق وأباريق وقارورة وقوارير وزجاجة وزجاجات، ومنها ما هو من قبيل الألفاظ الأندلسية المغربية، مثل كلمة القطيع وقد شرحها ابن سعيد في المغرب بأنها قنينة طويلة العنق، ومثلها العلالة التي فسرها ابن هشام اللخمي بأنها نوع من الزجاج طويل العنق والكلمتان واردتان في الأشعار والأزجال الأندلسية والمغربية ولكن العلالة ترد عند ابن قزمان بلفظ العلال وما تزال مسموعة هكذا، وكلمة مرشة تطلق على قارورة تملأ بماء الزهر يرش به الضيوف ولا يخلو منها أى بيت مغربي، وكلمات لمة ودبلة وفياشة كلها أسماء أوان من الزجاج ولكنها لم تعد مسموعة في الدارجة المغربية اليوم، وأما طاهرية وطاهريات وسعدية وسعديات فإنها حسب اجتهادنا أسماء أنواع من الأواني الزجاجية استعملت بمدينة مرسية في عهد بني طاهر وبني سعد ابن مردنيش (25) .
إن هذا المعجم يشتمل على ثروة هائلة من الألفاظ الأندلسية والمغربية التي كانت مستعملة في العصر الوسيط بالغرب الإسلامي، وما يزال كثير منها مسموعًا في بلدان المغرب الكبير، ومنها –على سبيل المثال- الكلمات التالية :(142/10)
البراح ( أي المنادي ) ص 532. الرقاص ( من يمشي بالبريد ) ص 328 . السباط ( النعل ) ص 385. الزفاط (الكذاب ) ص 253 البسالة (الفضول ) ص 328. الدبيلة( الهم ) ص 245 . الحواس ( السارق وقاطع الطريق ) ص 532. السماط (الزقاق) ص276. الزرع( القمح ) ص 271. الخدية (المخدة) ص263. الخوخة (باب صغير) ص 525. القندورة (الدراعة ) ص 277. القرينة (الكابوس) ص272. الطروس (الكلب) ص 279 الخطارة ( نوع من السواقي) ص291. الفحص (البيداء) ص277. أم الحسن (العندليب) ص522 . الطيفور ( نوع من الصحون) ص474.المرجع (مسلحة في الحقل ) ص235.البندير (الدف) ص610.المخفية (نوع من الصحون).الحضار (الكتاب) ص272. القنوط (القصبة والكلخة) ص254. شرايي (صيدلاني) ص247. الشرجب ( النافذة ) ص150. القبلة (الجنوب). الجوف (الشمال) ص200 . الطياب (الصحو) 577 .
وقد قدر الله أن تذهب العين ويبقى الأثر فقد فجع شرق الأندلس بذهاب العربية وأهلها من هذه الجهة الواسعة وبقي الكلام الذي كانوا يتخاطبون به مجموعًا في هذا المعجم الذي عني بنشره المستعرب الإيطالي سكيا باريللي SCHIA PARELLI وطبع في روما عام 1871م .(142/11)
وثمة معجم ثالث يأتي بعد المعجم المذكور من حيث الترتيب التاريخي ولا يقل عنه قيمة وأهمية وهو معجم الراهب الإسباني بدرو دي ألكالا الذي نشر في غرناطة عام 1505م وهو كسابقه أُلّف بقصد الاستعانة به على تنصير المسلمين الذين بقوا تحت الذمة، وقد قام العضو الزميل فيديريكو كوريينتى بإعادة ترتيب هذا المعجم على أساس جذور الكلمات مع تعليقات وتدقيقات المتخصص المتمكن (26)، ومن أبرز المظاهر اللغوية فى هذا المعجم الذي كتبت فيه الكلمات العربية بحروف لاتينية مظهر الإمالة التي عرفت بها اللهجة الغرناطية، كما ذكر ذلك ابن الخطيب (27) وغيره، فهم يقولون : بيب وميل ونيس في باب ومال وناس، وقد سخر الشاعر المغربي عبد العزيز الملزوزي لما زار الجزيرة الخضراء مع السلطان المريني وسمع إمامًا فيها يصلي بالناس ، وهو يقرأ سورة قل أعوذ برب الناس بإمالة أهل البلد الشديدة
فقال من شعر له :
قد بدل الوسواس بالوسويس
وكذلك الخناس بالخنيس (28)
وأشير بعد هذا إلى عمل يتصل بمعجم ألكالا قام به راهب طليطلي اسمه :
PATRICIO DE LATORE .
فقد قام هذا الراهب – الذي عاش في المغرب وسكن طنجة – بإعادة النظر في معجم ألكالا فقد كتب ألفاظه بالحروف اللاتينية وأضاف كلمات ومعاني جديدة ووضع له العنوان العربي التالي :
سراج في اللغة العجمية، المنقولة من اللغة الإسبانيولية إلى العربية . وتحت هذا ما يلي :
VOCABULISTA CASTELLANO ARABICO
وقد طبع هذا المعجم في المطبعة الملكية بمدريد سنه 1805م (29). إن هذا الراهب الطليطلي يعتبر استمرارًا للمذكورين قبله في الحرص على تعلم اللغة العربية عامة، واللغة العامية المغربية خاصة لغرض التبشير كما قلنا سابقًا ويمتاز عمل هذا الراهب بأنه يفيد في تصور التطور الذي وقع في العامية في وقته كما أنه سجل عددا من الأمثال المسموعة يومئذ كقولهم:
" ما هو العيب على من حرث في السطح العيب على من خمس عليه ".(142/12)
ومما يلحق بهذه المعاجم المعجم الذي ألفه المستعرب الإسباني وعنوانه :
D. Francisco Javier Simonet Glosario de Voces Ibericas y Latinas Usadas Entre los Moz Arabes
وقد جمع فيه الألفاظ التي كان يستعملها المستعربون وهم النصارى الذين عاشوا في ظل دولة الإسلام في الأندلس وكانوا يتكلمون ويتعاملون بلغة عربية فيها آثار رومانثية، وقد طبع هذا المعجم الذي يقع في جزأين بمدريد سنة 1888م. وكان هو والمعاجم التي ذكرتها قبله من مصادر المستعرب الهولندي دوزي في معجمه المفيد الذي أسماه " تكملة المعاجم العربية " وشهرته تغنينا عن الحديث عنه . وسنختم هذه السلسلة من معاجم اللهجات المغربية بمعجم يمثل اللهجة الدارجة بمدينة طنجة وشمال المغرب في سنة 1892م . ونعني به معجم الراهب J.LERCHONDI وعنوانه :(142/13)
Vocabulario Espanol Arabico ، وقد طبع هذا القاموس عدة مرات وكان مرجعًا للإسبان العاملين في مصالح الحماية الإسبانية بشمال المغرب وكذلك لدى أعضاء البعثة الكاثوليكية الإسبانية التي كان مقرها في مدينة طنجة، ويبدو أن إقامة سفراء الدول الأجنبية وقناصلها في هذه المدينة كان مما دعا إلى تدوين اللهجة العامية فيها من أجل التفاهم بها مع الأهالي وقد ذكر وليام مرسيه W.MARCAIS في مقدمة كتابه Textes Arabes de Tanger أن نصوصا من لهجة طنجة جمعها عدد من مستعربين أجانب، وقد اشتمل كتابه المذكور على نصوص متنوعة من هذه اللهجة شفعها بمعجم شرح فيه الألفاظ الواردة فيها ورتبها على الحروف الهجائية وهي على درجة عالية من المعرفة اللغوية والتوثيق الواسع والإحالات الغنية، ولا عجب في هذا فقد كان الرجل من شيوخ الاستعراب في فرنسا وقد تتلمذ على يديه عدد من المستعريين الفرنسيين في مدرسة اللغات الشرقية الحية، ومن أبرزهم كولان الذي حقق ونشر نصوصًا عربية وعامية مختلفة وكتب أبحاثًا متنوعة في اللهجات وترك معجمًا شاملا في العامية ظهر بعد وفاته في طبعتين : إحداهما بإشراف السيد زكية العراقي من معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط والأخرى قام بها ألفريد دوبريمار
الأستاذ بجامعة ايكس .
وبعدُ، فهذا عرض عام لمعاجم العامية المغربية التي وضعت قديمًا وحديثًا، وقد سردتها سردًا تاريخيًّا مكتفيًا بما له قيمة لغوية وعلمية واضحة، وكنت أنوي أن أشفع هذا المسرد المعجمي بمسرد آخر لنصوص العامية المغربية المنشورة من أزجال وأمثال وحكايات وما ألِّف من قواعد وضوابط في مختلف اللهجات المغربية، ولكن وحدة الموضوع جعلتني أكتفي بما ذكرت، وقد سبق لي أن أنجزت بعض الدراسات في أمثال العامية المغربية وأزجالها (30) .(142/14)
وأود أن أشير إلى قيمة هذه النصوص وتلك المعاجم في دراسة مظاهر التطور اللغوي في البلاد العربية عبر العصور وهو التطور الذي تحدث عنه ابن خلدون في المقدمة (31) وقام باحثون غربيون وعرب بدراسته وكان منهم الألماني يوهان فك الذي قدم عملاً جيدًا في هذا الباب وقد أعجبتني العبارات التي ختم بها كتابه وهي قوله :
"إن العربية الفصحى لتدين حتى يومنا هذا بمركزها العالمي أساسيًّا لهذه الحقيقة الثابتة وهي أنها قد قامت في جميع البلدان العربية وما عداها من الأقاليم الداخلة في المحيط الإسلامي رمزًا لوحدة عالم الإسلام فى الثقافة والمدنية .
ولقد برهن جبروت التراث العربي التالد الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها إلى زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر.
وإذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدلائل فستحتفظ بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية ما بقيت هناك مدنية
إسلامية " (32) .
إيضاح
مرفق بهذا البحث تتمّة له تقع فى ثلاثة أجزاء :
(أ) أمثال العوام في الأندلس لأبي يحي الزجالي (ق7) وفوائدها اللغوية ص151.
(ب) ملعبة الكفيف الزرهوني (ق8) وقيمتها اللغوية ص187.
(جـ) العامية الأندلسية والمغربية فى أمثال الزجالى وملعبة الكفيف الزرهونى ص194.
الحواشي
1-انظر النموذج المذكور في مقدمة الجزء الأول ص XVI وص XVII .
2-المعيار 11: 155 – 158 نشر وزارة الأوقاف المغربية .
3-ترجمته فى الإحاطة .
4-انظر كلام الراهب المذكور عن المقامات واستشهاده ببيتي الحريري "اللذين أسكتا كل نافث، وأمنا أن يعززا بثالث" في المعيار 11 : 157.
5-تاريخ الفكر الأندلسي تأليف بالنثيا وترجمة حسين مؤنس 540- 542.
6-انظر دراستنا حول الجذور التاريخية للاستعراب الإسباني في كتاب المغرب في الدراسات الاستشراقية . مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية 1993 م .
7-انظر فيه مقدمة الجزء الأول من
تكملة المعاجم العربية لدوزي:ص X.(142/15)
8- XV: Vocabulario Espanol Arabico
9-هو السيد جادة القيم على مكتبة كلية الآداب بالرباط .
10- Bibliographie Analytique des
Publications de l’lnstitut des Hautes Etudes Marocaines 1915 - 1959
11-هو من مطبوعات كلية الآداب بالرباط سنة 1989م .
12-انظر بحث الأستاذ عبد الله كنون في كتابه التعاشيب من ص 119 إلى ص 135.
13-نشر هذا البحث في كتاب خل وبقل من ص59 إلى ص 87 .
14-الزجل في الأندلس، مطبوعات معهد الدراسات العربية العالية :
هـ، 9 .
15-طبع بمصر في سنة 1964م بتحقيق الدكتور رمضان عبد التواب ثم طبع بالكويت سنة 1968م بتحقيق الدكتور عبد العزيز مطر .
16-نشرت الألفاظ المغربية فى مجلة معهد المخطوطات العربية في الجزأين الأول والثاني من المجلد الثالث سنة 1957 م .
17-نشر أول مرة مجزءًا بتحقيق الدكتور حاتم صالح الضامن، ثم نشر مرة ثانية كاملاً بتحقيق المستعرب الإسباني خوسيه بيرس لاثرو.
18-يوجد هذا التأليف مخطوطًا ضمن مجموع في الخزانة الحسنية بالرباط تحت رقم 12315 .
19-انظر المجلد 13 سنة 1931م وأعاد الأستاذ إبراهيم السامرائي نشره فى كتابه نصوص ودراسات عربية وإفريقية ووهم في نسبته إلى ابن خاتمة .
20-طبع كتاب الجمانة فى مطبعة المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة سنة 1953 م .
21-انظر إحصاء لها في معجم المعاجم لأحمد الشرقاوي إقبال من ص66 إلى ص 89 .
22-طبعت هذه الرسالة بعناية عبد العزيز الميمني .
23-تكملة المعاجم ج1 صvlll وصix .
24-انظر ص 388 من القسم الثاني
من المعجم المذكور .
25-لعل دوزى وهم حين قرأ كلمتي طاهرية وطاهريات بالظاء المشالة ونسبها إلى السلطان الظاهر بيبرس كما نسب السعديات إلى من اسمه الشيخ سعد الدين راجع مادة طاهرية في معجم دوزي .
26-عنوانه :Elléxico Arabe Andalusi
. Segun P. de Alcala Madrid 1988 .
27-انظر الإحاطة لابن الخطيب ج1 ص134 .(142/16)
28-من مقامة نشرناها في العدد الأول من مجلة كلية الآداب بالرباط سنة 1977م .
29-انظر كتاب Braulio Justel Calabozo حول هذا الراهب الطليطلي، وهو من مطبوعات دير الأسكوريال سنة 1991 م .
30-أمثال العوام في الأندلس – القسم الأول من ص 273 إلى ص 300 مطبعة جامعة محمد الخامس 1975 وملعبة الكفيف الزرهوني من ص 41
إلى ص 50 والعامية الأندلسية المغربية بين أمثال الزجالي وملعبة الكفيف الزرهوني .فصلة من أعمال الملتقى الدولي حول التداخل اللغوي بين اللغة العربية واللغات الرومانثية في شبه الجزيرة الإيبيرية سرقسطة سنة 1994م .
31-المقدمة ( فصل في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها
مخالفة للغة مضر ) .
32-العربية – دراسات في اللغة واللهجات والأساليب :234 .
محمد محمد بن شريفة
عضو المجمع المراسل من المغرب(142/17)
كلمة الأستاذ إبراهيم الترزى
الأمين العام للمجمع
الأستاذ الجليل الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم والدولة للبحث العلمى : الأستاذ الجليل الدكتور شوقى ضيف رئيس المجمع :
الأساتذة الزملاء الأجلاء :
أيها السادة :
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وبعد
فها هو ذا مجمعنا يبلغُ دورته الخامسة والستين فى فلكه المجمعىّ وهو – بحمد الله – أوْفَرُ نشاطا، وأكثر عطاء ، وأقدرُ على أداء رسالته التى حَمَلَ أمانتها ؛ لرفعة لغتنا الشريفة الخالدة.
ويُعَدُّ مؤتمرنا السنوىّ مهرجانًا لغويًّا مجمعيًّا، يلتقى فيه أعضاء المجمع: عاملين ومراسلين، عربًا ومستعربين؛ لينظروا فيما أنجزه مجمعُهم من أعمال تتمثَّل فى مصطلحاته العلمية، والأدبية ، والفلسفية، وقراراته اللغوية، وموادِّه
المعجمية .
وإليكم بيان الإنجازات المجمعية ما بين : مؤتمرنا السابق، ومؤتمرنا هذا اللاحق .
المؤتمر السابق :
عقد المؤتمرُ ستَّ عشرة جلسة، منها ستٌّ علنية : أولاها - جلسةُ الافتتاح والخمس الباقياتُ خُصِّصَتْ لمحاضرات عامة :
الأولى عنوانها: " ازدهار الفصحى فى القرن العشرين " للأستاذ الدكتور شوقى ضيف رئيس المجمع .
والثانية عنوانها: " اللغة العربية ووسائل النهوض بها فى مصر"للأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع .
والثالثة عنوانها: " من قضايا اللغة العربية : "العربيةُ ومشاكلها فى مجال المصطلحات العلمية ، ومناقشةُ حال هذه المصطلحات بين الوضع والتعريب " للأستاذ أحمد شفيق الخطيب عضو المجمع
المراسل من فِلسْطين .
والرابعة عنوانها: " نظام الكتابة العربية" للأستاذ الدكتور كمال بشر عضو المجمع .
وخامس هذه المحاضرات عنوانُها: "مُقام الدكتور طه حسين بالمغرب فى صيف عام ثمانية وخمسين وتسْعمئةٍ وألف للأستاذ الدكتور عبد الهادى التازى عضو المجمع من المغرب .(143/1)
أما الجلسات العَشَر الباقياتُ فكانت مغلقة، نظر فيها المؤتمر أعمالَ اللجان العلمية؛ وهى مصطلحات فى الفيزيقا، والنِّفْطِ ، والرياضيات؛ والهندسة ، وعلوم الأحياء، والكيمياء، والتربية وعلم النفس، والجغرافيا، والتاريخ، والشريعة، والفلسفة الإسلامية، والتربية الرياضية، كما نظر المؤتمر مصطلحات لجنة الأدب، وأعمالَ اللجان اللغوية : لجنة الألفاظ والأساليب ، ولجنة الأصول ، ولجنة اللهجات والبحوث اللغوية، كما نظر المؤتمر طائفةً جديدة من موادِّ المعجم الكبير، من"خَرْبَد" إلى "خَضَرَ " .
وألقيتْ فى هذه الجلسات المغلقة تسعة عَشَرَ بحثًّا، فى موضوعات لغوية، وفى علم الصوتيات ، وفى الحاسبات واللغة العربية، وفى ألفاظ الحضارة ، وفى الثقافة العربية المعاصرة .
وأصدر المؤتمر فى جلسته الختامية توصيات ، منها ما يلى :
*يوصي المؤتمرُ الحكومات العربية اتخاذ الوسائلِ اللازمة لتعريب التعليم الجامعى والعالى فى الوطن العربىّ .
*يُوصي المؤتمرُ بالعناية الكاملة بتعليم اللغة العربية، فى جميع مراحل التعليم، مع تيسير القواعد للناشئة، والاستعانةِ فى ذلك بما أقرَّه المجمع من تيسير لتلك القواعد. مع حفظ قدرٍ كافٍ من القرآن الكريم، يُعدُّهم لتمثُّل اللغةِ العربية، ونْطْق ألفاظها نُطقًا صحيحًا، على أن يلتزم المعلمون بدءًا من الحضارة، وانتهاءً بالجامعة ، باستخدام اللغة العربية السليمة فى الدروس والمحاضرات .
*يُوصى المؤتمر بأن تعمل الحكومات العربيةُ على التزام اللغة العربية الفصحى فى جميع وسائل الإعلام المقروءة، وفى الإذاعتيَن: المسموعة والمرئيَّة،وفى مسارح الدولة،وأن يعمل الإعلامُ على حماية العربية السليمة: لغة الدين والفكر والثقافة والأدب، والعلم، من كلِّ ما يَعُوقُ أو يُفْسدُ تَعَلُّمَها، ونَشْرَها فى الأمة، مع العناية بإعداد دورات تدريبية للعاملين، فى الإذاعتيْن: المسموعة والمرئية،لتدريبهم على تَجَنُّب اللَّحْن.(143/2)
*يوصى المؤتمر بالعمل على توحيد المصطلحات العلمية فى جميع البلدان العربية حتى تَزُولَ البلبلةُ فيها؛ بسبب ما تصنعُه بعضُ الهيئات، وبعضُ الأفراد، من وضع معاجمَ اصطلاحيةٍ لا تخضعُ المصطلحات فيها لمناهجَ علميِةٍ دقيقة، وينبغى أن يُعْهَدَ بهذا التوحيد إلى هيئةٍ ، أو مركز، يُشْرِفُ عليه اتحادُ المجامعِ اللغوية العلمية العربية .
*يُوصِى المؤتمرُ وزاراتِ التربية والتعليم فى الوطن العربىِّ بألاّ َتَقلَّ ساعاتُ تدريس اللغة العربية فى التعليم العامِّ عن ستِّ ساعاتٍ فى الأسبوع ، وألا تقِلَّ النهايةُ العظمى للنجاح فيها عن ستين درجة .
* يَدْعُو المؤتمرُ الحكومات العربية إلى إصدار تشريع يَحْظرُ كتابة اللافتات على المحالِّ التجارية، والفنادق، والشركات، بلغاتٍ أجنبيةٍ، مع حظر كتابة الأسماء والكلمات الأجنبية بحروف عربية .
المجلس واللجان:
عقد مجلس المجمع إحدى وثلاثين جلسة، منها أربعٌ علنيةٌ لتأبين أربعة من أعضائه : الأولى- لتأبين المرحوم الأستاذ الدكتور محمد السيد غلاب ، وألْقى كلمة المجمع فى تأبينه الأستاذ الدكتور كمال دسوقى عضو المجمع ، والثانيةُ -لتأبين المرحوم الأستاذ عبد الكريم العِزْباوىّ، وألقى كلمة المجمع فى تأبينه إبراهيم الترزى ، والثالثة- لتأبين المرحوم الأستاذ الشيخ محمد متولى الشعراوى ، وألقى كلمة المجمع فى تأبينه الأستاذ الدكتور الشيخ محمد نايل، وكانت الجلسة العلنيةُ الرابعة- لتأبين المرحوم الأستاذ الدكتور عبد السميع محمد أحمد،وألقى كلمة المجمع فى تأبينه الأستاذ الدكتور عبد الرحمن السيد وقد رُزئ المجمع بفقد اثنين من أعضائه ، هما : المرحوم الأستاذ الدكتور عبد العظيم حفنى صابر، عميدُ الصيدليين العرب ، والمرحوم الأستاذ الدكتور الشيخ محمد رفيدة عضو المجمع المراسل من ليبيا.(143/3)
أمّا جلسات المجلس المغلقة فقد نظر فيها أعمال لجان المجمع ، وهى: مصطلحاتٌ فى الفيزيقا، والرياضيات، والهندسة، والجيولوجيا والنفط، وعلوم الأحياء، والطبِّ، والكيمياء، والفلسفة، والرياضة البدنية، والأدب، وعلم النفس والتربية، كما نظر المجلسُ قرارات لجنة الألفاظ والأساليب
ولجنة الأصول .
-صلاتُ المجمع العلمية :
عقد اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية – عقب المؤتمر- نَدْوتَه الخامسة عشرة فى رحاب مجمعنا على امتداد ثلاثة أيام متوالية ، ناقش فيها بعض المقترحات والقضايا اللغوية وأصدر الاتحاُد بشأنها قرارات، منها ما يلى :
*الموافقة على مشروع المعجم الموحدِ لألفاظ الحضارة ، واعتماد البحث المقدم من الأستاذ الدكتور عبد الكريم خليفة، رئيس المجمع الأردنى، وعضو مجمعنا، أساسًا لهذا المشروع.
*الموافقة على مشروع الذخيرة العربية، الذى عرضه الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح عضو المجمع المراسل من الجزائر، على أن تقوم بدراسته المجامع والهيئات العلمية؛ للاتفاق على خُطَّة عمل لتنفيذه .
*الموافقة على عقد ندوةٍ لتوحيد منهجية وضع المصطلح العلمىّ ، وقد
دُعِىَ الأستاذ الدكتور عبدُ الحافظ حلمى عضوُ المجمع إلى الجلسة التى نظرت فى هذا الموضوع للإسهام فى مناقشته .
*الموافقة على أن تقوم أكاديميةُ المملكة المغربية بوضع المقابل الفرنسىّ لمعجم الفيزيقا الذى أصدره مجمعنا ، وأن يقوم المجمعُ التُّونسِىُّ للعلوم والآداب والفنون ( بيتُ الحكمة) بوضع المقابل الفرنسىِّ لمعجم الكيمياء والصيدلة الذى أصدره مجمعنا .
*الموافقة على دعوة رئيس مكتب تنسيق التعريب بالرباط الأستاذ الدكتور عباس الصُّورىِّ، بوصفه مراقبا .
وقد ضيَّفَ مجمعنا ندوةً لمكتب تنسيق التعريب عقدت فى المدة من 3 إلى 6 من نوفمبر عام ثمانية وتسعين – لمناقشة مشروعات المعجمات التالية :
*معجم مصطلحات الصيدلة.
*معجم مصطلحات تقنيات الأغذية.(143/4)
*معجم مصطلحات المُوَرِّثات .
*معجم مصطلحات الحرب
الإلكترونية.
*معجم مصطلحات الطِّبِّ البيطرىّ .
وقد كانت الندوة بإشراف الأستاذ الدكتور شوقى ضيف رئيس مجمعنا، ورئيس اتحاد المجامع، وشارك فى مناقشة هذه المشروعات المعجمية أعضاءٌ من مجمعنا، ومن المجامع ، والجامعات العربية .
مطبوعات المجمع :
صَدَر عن المجمع المطبوعات التالية :
*محاضراتٌ مجمعية للأستاذ الدكتور شوقى ضيف رئيس المجمع .
*معجمُ الهندسة الميكانيكية .
*الجزء الثالثُ من معجم المصطلحات الطبية .
*الجزء الثمانون من مجلة المجمع .
*الجزء السابع والثلاثون من مجموعة المصطلحات العلمية والفنية .
وفى الطريق إلى الصدور :
*معجم فهارس غريب الحديث.
*معجم المصطلحات القانونية .
*الجزءُ الحادى والثمانون من مجلة المجمع .
أيها السادة :
يحرص مجمعنا فى كل مؤتمر على أن يختار موضوعًا رئيسًا لبحوث أعضائه ، يَتَصدَّى لقضية يتعاظم أثَرُها، أو يُعالج مشكلة يتفاقَمُ خَطَرُها، فى شأن من شؤون لغتنا العربية .
وما أكثر الشؤون والشجونَ التى عانَتْ منها لغتُنا طَوالَ هذا القرن ، الذى يُعَدُّ مؤتمرنا هذا آخرَ مؤتمر يُعقد فيه :
ففى غمرة هذه الشؤون والشجون اللغوية- منذ أكثر من مئة عام – وَمَضَتْ فكرة إنشاء مجمع لغوىّ، حين اقتحمتْ حِمَى العربية لغةٌ عامية، تؤازِرُها أوشابٌ من كلمات أجنبية دخيلة ، أخذتْ تُزاحِمُ الفصحى فى كل موضع، وموقع، حتى كادتْ تطاردُها، وتحتلُّ مكانها، ومكانتها، لدى الناس! بل إن بعض الكُتّاب أطلق صيحاتٍ تدعو إلى أن يتخذَ كلُّ قُطْرٍ عربىٍّ عاميتَه لغة له، زاعمين أن العامية لغةُ الحياة،والمجتمع، مُتَأسِّين فى ذلك بما حدث للغة اللاتينية واللهجات الدارجة فى البلدان الأوربية، التى شَقَّتْ عصا الطاعةِ على اللاتينية – لغتها الأُمّ- واستقلَّتْ عنها؛ فكانت اللغة الإيطالية، واللغة الفرنسية، واللغة الإسبانيةُ، وغيرها .(143/5)
وكانت أصابعُ المستعمرين تُحَرِّكُ الكثيرين من دُعاة العامية؛ بدعوى أن الفصحى لا تَصْلُحُ لغة علم وحضارة، من هؤلاء " وليم ويلْكُوكْس " الذى قال: " إن العامل الأكبر فى فَقْدِ قوةِ الاختراعِ لدى المصريين هو استخدامُهم اللغة العربية الفصحى فى القراءة والكتابة " !
ومضى هذا الاستعمارىُّ يُرَوِّجُ لدعوته الزائفة الباطلة،باتخاذ العامية لغة رسمية،وحشر ونادَى،فتجمَّع حوله كتّابٌ من أذناب الاستعمار،وآزرَتْه صُحُفٌ مأجورة،ولكن الغُيرَ من كتاب مصرَ.وشعرائها،وعلمائها هَبُّوا فى وجه هذه الدعوة النَّكْراء،من هؤلاء شاعرُ النيل حافظ إبراهيم الذى كتب قصيدةً على لسان لغتنا بعنوان:"اللغة العربية تنعى حظَّها بين أهلها"،جاء فيها:
وسِعْتُ كتاب الله لفظًا وغايةً
وما ضِقْتُ عن آي به وعظاتِ
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتَنْسيق أسماءٍ لمخترعاتِ
أنا البحرُ فى أحشائه الدُّر كامِنٌ
فهل سألوا الغَوّاصَ عن صدفاتى ؟
أيُطْربُكم من جانب الغرب ناعبٌ
يُنادِى بوأْدِى فى ربيع حياتى؟
أرَى كلَّ يوم فى الجرائد مَزْلَقًا
من القبر يدْنِينى بغيرأ ناة !
وأسْمَع للكُتاب فى مصر ضَجَّةً
فأعْلَمُ أنَّ الصّائحين نُعاتى !
أيَهْجُرُنى قومى – عفا الله عنهمُ –
إلى لغة لم تَتَّصِلْ برُواة ؟!
سَرَتْ ... لُوثةُ الإفْرنْج فيها كما سرى
لُعابُ الأفاعى فى مسيل فُراتِ!
فجاءتْ كثوبٍ ضَمَّ سبعين رُقْعَةً
مشَكَّلَةَ الألوان مختلفاتِ!
إلى مَعْشَرِ الكُتّابِ والجمعُ حافلٌ
بَسَطْتُ رجائى بعدبَسْطِ شكاتى(143/6)
وتنادَى علماءُ العربية وأدباؤها فى مصر، واستنفر بعضهم بعضًا، لإخماد هذه الفتنة فى مهدها، والنهوض بحركة تحرير، وتطهير، لفصحى من رِبْقَة العامية، ومايَشُوبُها من أجنبيِّ دخيل، مبادرين إلى إحياء تراثنا اللغوىِّ والأدبىِّ، والعلمىّ، وإلى استنهاضِ طاقات لغتنا العربية ، وتجديدها، وتطويرها ، لتُلَبِّىَ حاجاتِ العصر، وتُعَبِّرَ عن مستحدثاته، فتستردَّ لغتُنا عافيتها، وقدرتها على العطاء، والازدهار .
ولذلك كلِّه صارت الدعوة إلى إنشاء مجمع لغوىٍّ فى طليعة ما نادى به هؤلاء العلماء والأدباء .
وكان قد أنشئ بالقاهرة أول مجمع لغوىٍّ أهلىّ ؛ وهو"مجمع البكرى"، عامَ اثنين وتسعين وثمانمئة وألف، غير أنه تَوقَّفَ بعد سنوات، فبادَرَ نادى دار العلوم فى العام الثامن من هذا القرن إلى عَقْد ندوةٍ تجدِّد الدعوةَ إلى إنشاء المجمع اللغوىِّ المنشود ، ثم أنشئ "مجمع دار الكتب المصرية " عامَ ستة عشر ، ولكنه ما كاد يَيْفَعُ ويَشِبُّ عن الطَّوْق حتى جَرَفَه تيارُ الثورةِ المصرية عام تسعة عشر ، فتَلَقَّفَتْ" دمشق" الرايةَ المجمعية من شقيقتها القاهرة، وأنشأتْ مجمعها فى العام نفسه؛ ليُبادِرَ إلى إنقاذ العربية الفصحى، فقد كانت عامية الشام تَزْخَرُ بكلمات تركية، وأجنبية، وكان "التَّتْريكُ اللغوىُّ" قد غزا الدواوين ، والمدارس، وفى ذلك يقول الأمير مصطفى الشهابىّ، عضوُ مجمعنا، ورئيس مجمع دمشق:
" أذكر أننى درست سنةً واحدةً فى مدرسة تجهيز الحكومة العثمانية بدمشق ،فكانت جميعُ الدروس تُلْقى بالتركية، وكان اللسانُ العربىُّ يُدَرَّسُ أيضًا باللسان التركى، وكان معَلِّمُ العربية رجلاً تركيًّا، يتكلم لغة الضاد بلهجةٍ تركية، ولا يُفرِّقُ بين المذكر والمؤنث، ولا يَفْقَهُ شيئًا من أدوات اللغة، إلا مبادئ من الصرف والنحو، مطبوعةً فى كتاب تركىّ "(143/7)
ويقول الأستاذ محمد كرد علىّ، أول رئيس لمجمع دمشق،فى شأن المدارس غير العربية التى انتشرت فى الشام:
"كم رأينا رجالاً ونساءً درسوا فى تلك
المدارس فصاروا لاهم عربٌ ولا إفرنج، يتكلمون فى بيوتهم بغير لغتهم… إن المدارس غير العربية فى الشام أشْبَهُ بالسارق الذى يسرقُ الأعْلاقَ ونفائس المتاع، أستغفرُ الله ، بل إنَّ مَنْ يسرقُ فَلَذاتِ الأكباد؛ لِيُخْرِجَها على ما أراد، أشَقُّ على النفس وَطْأَةً، وأعْظَمُ فى المَغَبَّة أَثَرا" !
ولهذا خاطب الشاعرُ السورىُّ سليمانُ الفاروقىُّ السلطان العثمانىَّ " محمد رشاد " بقوله .
العُرْبُ –لاشَقِيَتْ فى عهدك العُرْبُ–
سيوفُ مُليْكِكَ والأقلامُ والكُتُبُ
لسانُهم أخْلَقَ الإهمالُ جِدَّتَه
فباتَ يَنْعَى على الكُتّاب ماكَتَبُوا
تَمَشَّتِ اللهجةُ العَجْماءُ فيه إلى
أنْ أنكرتْه بَنُوه الخُلَّصُ النُّجُبُ
وهكذا كانت المهامُّ التى حَملَها مجمعُ دمشق جسامًا؛ فقد كان عليه أن ينهض بتعريب الدواوين، والتعليم، ويتصدَّى لطوفانِ العامية، التى عَمَّ بلاؤها وطَمّ، حتى طالَ التعليمَ العالِىَ بدمشقَ وغيرِها من بلاد الشام؛فكانت العامية لغة التدريس فى بعض مدارسه، ومنها مدرستا الطِّبِّ والحقوق ، وفى ذلك يقول الأستاذ محمد كرد على :
"ومازالت اللغة العامية شائعةً فى مدرستى الطب والحقوق ، ولا شأن للفصحى فيها إلا قليلاً، ؛ لأن معظم المُدرسين من الطبقة التى تخرَّجتْ فى مدارس التُّرك، وهذه الطبقة لا تُقيم للعربية وزنًا، ولا تكتبُ جملةً مسبوكة، ولا تكاد تلفظ كلمة صحيحة.."!وقد انبرى أعضاء المجمع الدمشقى لمواجهة هذا البلاء ، وفى طليعتهم الشيخ عبد القادر المغربىّ ، عضوُ مجمعنا، ومجمع دمشق، الذى أخذ يُلْقِى محاضراتٍ عامةً عنوانها "عثرات الأقلام " ومحاضرات أخرى عنوانها" عثراتُ الأفْمام " ، عالَجَ فيها ما شاع من أخطاء الكتابة والنطق !(143/8)
وفى مصر .. ظلت الدعوة إلى إنشاء المجمع اللغوىِّ قائمة على قدمٍ وساق، مُتَّخذةً خيرَ مساق، فى زحام الأحداث السياسية الجسام، التى شغلتْ مصرَ سنواتٍ عقبَ ثورتها عامَ تسعة عَشَرَ، حتى صدر مرسوم ملكىٌّ بإنشاء المجمع اللغوى عام اثنين وثلاثين. وقد وُلد هذا المجمع عالمىَّ الوجهِ، عربىَّ اللسان؛ فكان أعضاؤه العاملون المُؤَسِّسُون من مصر ، وسورية، والعراق، ولبنان، وتُونسَ، ومن بريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وهولندا، وكان بين هؤلاء الأعضاء العاملين المُؤسِّسين : شيخُ الأزهر إبراهيم حمروش، والأب أنستاس الكَرْمَلِىّ، والحاخامُ حايم ناخُوم !
ثم أنشئ بعد مجمعنا مجمعُ العراق، ثم مجمعُ الأردنّ، ثم تتابعثْ مجامعُ : السودان، وتُونُس ، وليبيا ، وفِلَسْطين.
وقد أخذ مجمعنا – منذ بدأ نشاطه عامَ أربعة وثلاثين – يعملُ بكل طاقاته، وإمكاناته، لتحقيق ما ورد فى صَدْر قانونه، من المحافظة على سلامة اللغة العربية، وجَعْلها وافيةً بمطالب العلوم، والآداب، والفنون، وملائمةً لحاجات الحياة المتطورة .
وكان على المجمع – للوفاء بأمانة
رسالته المجمعية – أن يُبادر إلى قضايا لغوية عديدة، بالبحث والدراسة؛ لينتهى من ذلك إلى قول فَصل فى هذه القضايا يحدِّدُ وسائلَ علاجها، والنهوض بها إلى الغايات المنشودةِ للغتنا الشريفة الخالدة.(143/9)
وكان فى طليعة هذه القضايا التى تَصَدَّى لها مجمعنا منذ دوراته الأولى– قضايا : وضعِ المصطلح العلمىّ ، والأدبىّ، والفنىّ، ولغة العلم، وتيسير تعلم العربية للناشئة، والتأليف المُعجمىِّ قديمًا وحديثًا، واللغة العربية المعاصرة ، ولغة الإعلام بعامة، ولغة الصحافة بخاصة، واللهجات العربية، قديمها وحديثها، والتعريب، والأعلام الجغرافية، والفصحى والعامية، التى نعاود بحثها فى هذا المؤتمر؛ لمعاودةِ العامية اقتحام حِمَى الفصحى، ومُزاحَمتها، بل العدوانَ عليها، وبخاصةٍ فى أجهزة الثقافة والإعلام، وعلى ألسنة كثيرٍ من الخطباء، وأقلام
بعض الكتاب !
ومنذ اثْنَىْ عَشَرَ عامًا عَقَدَ المجمع الأردنىُّ الشقيق ندوةً عالجتْ هذا الموضوع ، كان عنوانها : ازدواجية اللغة " قُدِّمتْ فيها بحوثٌ أخذتْ موضوع الفصحى والعامية بالدراسة النظرية والميدانية ، فى كل مجالاته ومستوياته .
وقضية الفصحى والعامية من القضايا التى يُستأنَفُ عَرْضُها، وبَحْثها، بين الحين والحين، مادامت الازدواجيةُ اللغويةُ قائمة،وهى باقيةٌ ما بقيتْ للعلم والأدب لغتهما الفصحى، وللبيت، والشارع ، والسُّوق، ونحوها، لغةٌ شِفاهيةٌ عامية، ولكنَّ مجالَ القول فى هذه القضية يَتَّسِعُ ما اتَّسَعَت الفجوة بين الفصحى والعامية ، حيث تصولُ فيها الأقلامُ وتجول !(143/10)
فالعامية فى كل بلدٍ عربىٍّ – على الرغم من خروجها من رَحم الفُصْحَى – ينفلتُ عِقالُها، فتُصبح بالغة الخَطَر والأثر ؛ لخفَّة حركتها، وسُهُولتها، ومُرَونَتِها، وتَغَلْغُلها فى حياة الناس، وتَقَلُّبها فى الأسواق ، والمنتديات ، وانتشارها الأفُقِىِّ لدى طوائف المجتمع، والرَّأسىِّ لدى طبقاته ومستوياته. والعاميات بطَبْعِهن جريئات، سافراتٌ، حاسرات، ولا يَحتَشِمْنَ من غريب ، أو أجنبىٍّ دخيل، وقد يَعْتَرِى بعضَ العاميات جُنُوحٌ وجُمُوح، فإذا هُنَّ مارقاتٌ، آبِقاتٌ ، من أمِّهنَّ الفصحى، فلايُدْ رِكُهُنَّ، ويُمْسِكُ بتلابيبهنَّ، إلاّ أولو العزمِ والحزمِ من علماء اللغةِ والاجتماع.
وما هذه الشكوى التى تتردَّدُ فى أيامنا على ألسنة الغُير من المثقفين، وعلى أقلام الكُتّابِ ورجالِ الصحافة ، ناعيةً على مسارحنا هذه المسرحيات العامية البذيئة، التى تسىء أبلغَ إساءةٍ إلى الفنّ المسرحىّ، وإلى مجتمعنا العربىّ، وإلى قيمنا النبيلة الأصيلة!
كما تَتَردَّدُ الشكوى ممّا أخذَ ينتشرُ بين شبابنا من كلماتٍ هى مَسْخٌ شائن؛ فلا هى عربيةٌ ولا أجنبية ، ولا شرقيةٌ ولا غربية !
وتتعاظم الشكوى من مثقفين ما زالتْ تكمن فى أعماقهم مايُسمى "عقدةَ الخواجة "التى ظَنَنّاها حلَّتْ ، وتَحررَ منها مجتمعنا، بعد تَحَررنا من الاستعمار، فإذا بها مازالتْ تُعلن عن
نفسها – فى غير حياء – بهذه الكلماتِ الأجنبية – التى تتخَّللُ أحاديث هؤلاء ، حيث يلُوكُونها فى أشداقهم ، متباهين بالانتماء إلى ثقافة أجنبيةٍ مزعومة، ظانِّينَ ظَنَّ السَّوْءِ أنهم يَسْتَعْلُون بها على الناس !(143/11)
هذه بعضُ العِلَلِ والأدْواءِ التى أصابتْ لغة الخطاب الشفاهِىّ ، أو العامية، دَفَعَتْ مجمعنا إلى معاودة البحث فى قضية الفصحى والعامية، فى مصر ، وفى غيرها من البلدان العربية ، حيث تتَضافر بحوثنا ، وبحوث زملائنا العرب الأشقّاء؛ لتَفْحَصَ هذه العِلَل والأدْواء، وتَطبَّ لعلاجها.. فالطِّبُّ اللغوىُّ لا ينهضُ به إلاّ كلُّ نطاسىٍّ من علماء اللغة ، وفى طليعتهم أعضاءُ مجامع الخالدين .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
إبراهيم الترزى
الأمين العام للمجمع(143/12)
كلمة الأسرة
للسيدة قرينة الفقيد الراحل
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الأستاذ الدكتور رئيس المجمع:
السادة الأعضاء السيدات والسادة :
أشكركم شكرا جزيلا على هذه الجلسة الكريمة لتأبين زميلكم الدكتور سيد رمضان هدارة فقد عرفتموه أستاذًا أحب جامعته وطلابه، وعرفتموه عالمًا شغوفًا بعلمه غيورًا، وعرفناه نحن رب أسرة، زوجًا وأباً وأخًا معطاء حنونًا متفائلاً دوما، لا يعرف إلا الصدق والوضوح فلا أذكر أنه قال يومًا كلمةً لها أكثرُ من معنى،ولم يكن ليبخل أبدًا على أحد بأى عون مهما كانت طبيعة هذا العون فقد كانت سعادته هى إسعاد الآخرين وتيسير سبل حياتهم إن استطاع - مؤثرا الجميع على نفسه - لا يطلب لها شيئا أبدًا. وحينما ابتلى بمحنة المرض قابلها مؤمنًا صبورًا مملوءًا بأمل كبير أدهش أطباءه وزائريه ـ وظلت سماحتُه على حالها لم ينل منها المرض شيئا إلى أن ثقلت عليه وطأتُه وعجز عن المقاومة – حينئذ أدركته رحمةُ ربه فشفاه من آلامه المريرة بانتقاله إلى رحاب رحمته الواسعة الكريمة، ولكن الدكتور سيد رمضان لم يمت . إنه يعيش فى قلوبنا وعقولنا ووجداننا كله، بل هو ما يزال يعطى، يعطى من خلال كل سطر ألفه، وكل كلمة ترجمها. يعطى العلم لطالبيه ويجيب على أسئلة السائلين ، ويعطينا نحن الأمَل الدائم فى رحمة المغفور الكريم رحمه الله رحمة واسعة وجعل مقامه نعيم جناته وألهمنا الصبر على فراقه .
أيها السادة :
أكرر الشكر لكم جميعا على هذه اللفتة الكريمة وأدعو الله أن يمتعكم جميعا بالصحة والعافية ، ويكرمكم فى حياتكم المديدة بإذن الله ، إنه هو السميع المجيب .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(144/1)
كلمة الأعضاء العرب
للأستاذ الدكتور عبد الله الطيب
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي رئيس المجمع ورئيس اتحاد المجامع :
سادتي الحاضرين الكرام من الزملاء والعلماء وفضلاء أهل الأدب والثقافة:
السلام عليكم .
وأعتذر إليكم إذ لم أعد كلمة لهذا المقام الذى هو لى شرف خصني به سيدي الرئيس أطال الله بقاءه وأغدق عليه آلاءه.
أعتذر إليكم رجاء أن تتجاوزوا عن زلَلٍ أزله، والله أسأل التوفيق والسداد.
وإني لن آلو أحمد لمصر هذا المجمع الشريف – الذي فيه إحياء لعلوم العربية وآدابها، وخدمة كريمة لتراثها ، وفيه من كرم الضيافة وحسن الترحيب وجمال السخاء . ثم هو بعد ذلك يتيح من فرص اللقاء ما هو في ذاته كسب عظيم أن يكون موسمًا تتطلع إليه القلوب والعقول،ويتيح من تجديد المعرفة والود ما يتيح .
سادتي – إن العربية لغة ذات أصل أصيل وهى لسان شعب جد نبيل، أذكر أنى قرأت في كتاب للدكتور أندريه ميكل يؤرخ فيه لحضارة الإسلام، أن العرب كان منهم التسامح في معاملة من فتحوا بلادهم لأنهم كانوا قليلا. وعندي أن هذا باطل. ذلك بأن الإنجليز مثلاً كانوا قليلاً ولكنهم حين انتصروا على الهنود كانوا كثيرى العدد – لم تمنعهم قلتهم أن يطغوا عليهم . ومن قديم العصور كان الغالب يطغى على المغلوب ويقهره بغض النظر عن كثرة عدد المغلوبين إن كان عددهم كثيرا. وقد غلب الروم القدماء فقال قائلهم :
"ويلٌ للمغلوب "(145/1)
ولم يكن العرب حين فتحوا الفتوح قومًا متأخرين تغلبوا على آخرين أعلى منهم حضارة وثقافة .بل نحن إن تأملنا تبين لنا أنهم كانوا أرقى فكرا وأعلى أدبا من سائر الأمم فى زمانهم. ولقد انهار أدب الأمم القديمة من يونان ورومان قبل القرن السادس الميلادي . ولعل آخر مفكريهم وأدبائهم كان يوبثيوس الذى قتل سنة 520م وذلك الزمان الذي كان فيه بدء الشعر الجاهلي وكان من بعدُ امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى وشعرهم كان أسمى آداب العالم في زمان لا يساميه أدب الأمم الأخرى ولا يبلغ غايات رفعته.
ولما فتح العرب الفتوح عُرِفوا بصفتين في غاية الأهمية أولاهما التسامح وقد كان منشؤها لا من قلتهم ولكن من أنهم كانوا على مستوى فكرى رفيع أعانه إرث مجيد من المروءة والشهامة وعرف الشمائل الخلقية الرفيعة وأتم رفعته الإسلام آخر رسالات السماء بعث بها خاتم المرسلين عليه الصلاة والسلام .
ومع التسامح كانوا أهل جد – وبجدهم فطنوا إلى ما سبقتهم الأمم القديمة به من شتى المعارف والعلوم – وكان الجمود والخمول العقلي قد ران على كثير منها. فشمروا هم عن ساعد الجد فترجموا علوم الأمم . بدؤوا ذلك منذ أيام الرسول عليه الصلاة والسلام إذ كانت مبادئ الترجمة بأمره صلى الله عليه وسلم ثم سار على ذلك النهج سراة المسلمين وسادتهم من بعد.
ومع الترجمة اهتموا بالتعليم. تعلموا كتاب الله وعلموه . وعلموا الحديث والفقه والأدب. ونظروا في أمر لغتهم فاستنبطوا نحوها وقد قرأت في كتاب الحيوان للجاحظ – أن الخليل بن أحمد وصف تنظيره بأنه صالح لجميع اللغات وإنما هي نظرة في أمر اللغة كلها كأنها لسان واحد يسيطر عليه قانون واحد. ولا يخفى أن اللسانيات الحديثة تنحو هذا المنحى .(145/2)
ومن المؤسف حقا أن بالعرب الآن تحرشًا محيطًا بهم – والتضييق الذي وقع على العراق وغيرها من بلاد العرب هو من باب هذا التحرش. وهذا موضوع لا أريد أن أخوض فيه الآن، لأنه ليس في هذا الوقت المخصص لافتتاح مؤتمر المجمع متسع للحديث فى هذا الباب الكبير من أبواب السياسة .ولا يخفى أن الذى يقال من حديث حقوق الإنسان وما إلى ذلك إنما هو كذب معتدين ممارين نسأل الله أن يرد كيدهم فى نحورهم .
هذا وألتفت إلى موضوع هذا المؤتمر وهو الفصحى والعامية. فأقول إنى لا أرى أن بين الفصحى والعامية عداوة. بل هما متممتان كل منهما للأخرى . وما زالت العامية منذ الزمان القديم شقيقة للفصيحة مسايرة لها معايشة لها. وقد روينا مقال الجنود المقاتلين لعبد الله بن الزبير حيث ارتجزوا:
يا بن الزبير طالما عصينكا
وطالما عنيتنا إليكا
لنضربَنْ بسيفنا قفيكا
والحق أن العامية قديمة . وقد تحتوى العامية على عنصر من أصالة البداوة الأولى ، يحفظ على اللغة جزالتها ومتانتها وجذور كينونتها ، وأحسب أنى ذكرت فى بعض ما كتبت أو تحدثت به كلمة للسباعى بيومى رحمه الله ذكر فيها أنه قد يقع من بعض المتكلمين فى بعض أحياء القاهرة من عامة الناس ضروب من البلاغة الرقيقة– من أجل ذلك أرى ألا يتنكر أحد للعامية بل علينا أن نتعهدها بنوع من العناية والتقدير، وقد يحيط بها الآن خطر من ضروب وسائل الإعلام الحديث ، فتخلص إليها هجنات تخالط طبيعة الأصالة التى فيها فتفسدها .
هذا وما أرى أن أنبه عليه فى هذا المجال بلا إطالة أمر التعليم. فالغالب على أساليب تعليمنا أن الرسمى منه يبدأ فى سن السابعة وهذا بالنسبة لتعليم اللغة عمر متأخر. الواجب علينا أن نبدأ بتعليم اللغة فى الرابعة أو دون ذلك لأن أذهان الصغار مهيأة لتعليم اللغة فى تلك الحداثة. وخير ما يفتتح به تعليم اللغة القرآن . وعند غير المسلمين كتب مقدسة بالعربية الفصيحة إن بدؤوا بها كان فى ذلك لهم فائدة كبيرة.(145/3)
ولا أريد بعد أن أطيل على الحاضرين. مرة أخرى أنتهز هذه الفرصة وأسأل الله أن يطيل بقاء رئيس المجمع ورئيس اتحاد المجامع الدكتور شوقى ضيف وأن يغدق على هذا المجمع نعمه وآلاءه. ونشكر لمصر وهى قلب وادى النيل وقلب
العرب ما تغمرنا به من كرم وترحيب ودأب فى خدمة العربية ورفعة شأنها ونحمد الله حمدًا كثيرًا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
عبد الله الطيب
عضو المجمع من السودان ...(145/4)
كلمة الختام
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف
رئيس المجمع
أيها السادة : أقدم لحضراتكم الشكر لاشتراككم معنا فى تكريم الراحل يوم وداعه ، وأقدم الشكر أيضًا للأساتذة : الدكتور محمود حافظ، والدكتور جمال مهران ، والدكتور عقيل حفنى صابر ، للكلمات الطيبة التى نثروها أمامنا فى هذا اليوم.
كم نحن محزونون لفراقنا له، ولكن هذه هى الحياة ليس للموت موعد محدد ، وكل إنسان لابد يومًا أن يصل إلى هذه النهاية المحزنة، وأكرر الشكر لحضراتكم جميعًا ، وأقدم العزاء الخالص لأسرة الفقيد باسمى وباسم أعضاء المجمع.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(146/1)
كلمة الأسرة
للأستاذ محمد عبد القدوس
لى الشرف أن أكون بينكم اليومَ فى قلعة اللغة العربية، وفى البداية أنقل إليكم اعتذار السيدة الجليلة حرم كاتبنا الكبير الراحل مصطفى أمين؛ فهى لم تتمكن من الحضور، وقد حضرت نيابةً عنها، وليس بغريب أن ألقى كلمة الأسرة، فأنا أعتبر نفسى تلميذًا مخلصًا فى مدرسة مصطفى أمين ، وقد تعلَّمت على يديه الكثير، ومنه عرفت أهمية الدفاع عن الحريات السياسية والوقوف إلى جانب كل مظلوم ومساعدة الفقراء .(147/1)
والحديث يطول عن مواهب كاتبنا الكبير فقد كان صحافيًا من الطِّراز الأول؛ حيث كان يَعرِفُ كيف يُرَوِّج لجريدته، وهو صاحب مدرسة الخير الصحفى، وفى الوقت نفسه كان كاتبًا سياسيًّا من أرفع طراز، فقد شغلته قضية الحريات العامة وكثيرًا ما تصدى للظلم والظالمين ؛ بعد خروجه من السجن سنة 1974م ، فلقد كان فارسًا فى كتاباته فهو أحسن من كتب دفاعًا عن الحريات فى مصر بأسلوب رشيق جذَّاب، كما كان فارسًا فى أخلاقه ، فهو يهاجم الخَصم فى قوته ولا يطعنه بعد سقوطه، فقد كان عنيفًا فى نقده ، ولكنه لا يتطاول ولا يجرح ولا يطعن فى الأعراض ، رحم الله مصطفى أمين الصحفى الماهر، والناقد القاهر، والقائد الذى لا تخدعه المظاهر، رحم الله مصطفى أمين صاحب المواقف الاجتماعية النبيلة ؛ فإن مصر لا يمكن أن تنسى الدور الاجتماعي العظيم الذى قام به كاتبنا الكبير عندما فكَّر هو وتوأمه الراحل على أمين فى يوم تجتمع فيه الأسرة وتلتف فيه الأبناء حول أمهاتهم تعبيرًا عن الحب واعترافًا بالجميل، فُولِدَتْ فكرة عيد الأم ، رحم الله التوأمين صاحبى هذه الفكرة ، حقًّا لا يمكن أن تنسى مصر هذا الرجل الإنسان الذى عاش حياته مهتمًّا بمعاناة الآخرين محاولاً أن يضىء ظلمات الحائرين وأن يعيد الأمل لليائسين، وأن يرفع الظلم عن المظلومين؛ ومن ذلك كله لن تنسى مصر هذا الرجل الذى أحبَّه المصريون وشاركهم فى حبِّه العربُ والعجم، فقد كان محبوبًا من الجميع؛ ولذا كانت ثقة الناس فيه عجيبة، تأتيه الملايين من الدولارات والجنيهات من كل مكانٍ من داخل مصر وخارجها؛ للإنفاق على مشروعات الخير المتعددة التى أقامها لمساعدة المحتاجين، ومسح دموع اليتامى والأرامل والمساكين؛ فدوره الذى قام به فى هذا المجال عجزت أجهزة الدولة ذاتها عن القيام به. كان مصطفى أمين – بحق – أمة وحده؛ ولذا كان الجميع ينظر إليه نظرة إكبار وإجلال، ومن ثمَّ كانت فكرة اختيار كاتبنا الكبير مصطفى(147/2)
أمين ليكون عضوًا بالمجمع اللغوى، وذلك فى السنوات الأخيرة من حياته ليزدادَ مجدًا إلى مجده، فهذا شرف عظيم لنقابة الصحفيين وأهل القلم جميعهم؛ ولا غرابة فى اختياره عضوًا فى هذا المجمع الموقر، فلقد كان أسلوبه فى الكتابة سهلاً ميسرًا، فاللغة العربية نملكها ولا تَملِكُنا فهى تتميز بسلاسة فى الأسلوب وسهولة فى اللفظ، وقدرة بل وإعجاز فى التعبير، ولا عجب فهى لغة القرآن الكريم، وهى جديرة بأن تكون اللغة الأولى فى جميع المقررات الدراسية، وأن تتبوَّأ مكانتها؛ فهى لغة عالمية شرَّفها الله تعالى بأن جعلها لغة القرآن الكريم، وقد أخبرنى كاتبنا الكبير الراحل مصطفى أمين بأن قراءة القرآن الكريم تساعد الكاتب على أن تكون اللغة العربية طيَّعة بين يديه، وبهذه اللغة خاض الكاتب الراحل كل معاركه وأبدع وأمتع، وكان فى الاستفتاءات هو الكاتب المفضل لدى الشباب خاصة .
وقبل أن أختم كلمتى اسمحوا لى أن أذكر لحضراتكم شيئًا أثار عجبى فى مصطفى أمين؛ فهو أحسن من يكتب فى الإيمان بالله تعالى، وكنت أتعجب عند ما كان يقول : إننى كنت أرى الله فى السجن؟ فأسأله كيف كنت ترى الله تعالى فى السجن؟ فكان يقول: لست إلا امرأ ضعيفًا، ومن ضعفى أستمد القوة من الله تعالى، لذلك كان دائمًا يكتب: إذا كنت فى أزمة أو ظلام انتظر الفرج من الله تعالى، فكنت أراه معينًا لى فى تلك الأوقات العصيبة، رحم الله مصطفى أمين، فقد كان يرى أشراف الناس من عامة الشعب وليس من عِلْية القوم مع أنه خالط جميع السياسيين والقادة والزعماء الذين عاصروه، ومازلت أذكر مقولته لى : إننى رأيت فى قاع المجتمع خيرًا
كبيرًا لم أره فى قمته .(147/3)
وفى الختام أنقل لكم تحيات نقابة الصحفيين التى أتشرف بأن أكون وكيلها، وكذلك أنقل لحضراتكم تقدير أهل القلم، ولى الشرف أن أكون واحدًا منهم، وأشكركم على جهادِكم فى الحفاظ على لغتنا الجميلة، وتطويعها للوفاء باحتياجات أجيالنا فى العصر الحديث ، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام والتحية والتقدير .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
* * *
محمد عبد القدوس
وكيل نقابة الصحفيين(147/4)
كلمة الختام
للأستاذ الدكتور شوقى ضيف رئيس المجمع
أيها السيدات والسادة :
نشكر حضراتكم لتشريفكم المجمع ، ومشاركتكم لنا فى تأبين الراحل الكريم، وأشكر الزميل العزيز الدكتور محمود مختار لقيامه بتأبين تلميذه وزميله الدكتور سيد رمضان هدارة تأبينا جامعا لسيرته العلمية ولجهوده التى طالما غذى بها الجهات العلمية المختلفة التى عرفته عالمًا فذًّا ، كما غذى بها مجمعنا، بالإضافة
إلى خلقه الكريم الذى تجلى فى كلمة السيدة الجليلة حرمه، ونحن نشكرها ونقدم عزاء المجمع لها ولكم.
وتغمد الله الراحل الكريم برحمته، وجزاه على ما قدمه لأمته من أعمال علمية جليلة خير الجزاء إن شاء الله . وهو خسارة كبيرة للوطن بعامة وللعلميين بخاصة .
وأكرر الشكر لحضراتكم جميعا .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(148/1)
كلمة الختام
للأستاذ الدكتور شوقى ضيف رئيس المجمع
يشكر المجمع حضراتكم لمشاركتكم لنا فى تكريم ذكرى الأستاذ مصطفى أمين طيَّب الله ثراه وجعل الجنة مثواه. فالمجمع يقدِّم العزاء الخالص لأسرته ولآلهِ وذويه وتلاميذه فى مصر وفى البلاد العربية .(149/1)
كلمة المجمع فى تأبين الفقيد
للأستاذ الدكتور محمود حافظ
نائب رئيس المجمع
العالم الجليل الأستاذ الدكتور شوقى ضيف رئيس المجمع :
العلماء الأجلاء أعضاء المجمع :
سيداتى وسادتى :
درج المجمع منذ سنين على سنن حميد بتكريم ذكرى أعضائه الذين مضوا إلى رحاب الخالدين ونشر صفحاتٍ ناصعةٍ وضّاءةٍ من أعمالهم المجيدة وإنجازاتهم الرائدة لنرى فيها المثل الرفيع فى العطاء والعمل المثمر البناء.
ونحن اليوم أمام ذكرى عالم من علماء المجمع الأعلام ودعته مصر منذ أيام ذلكم هو المغفُور له الأستاذ الدكتور عبد العظيم حفنى صابر رائُد العلوم الصيدلية فى مصر والعالمِ العربى – مضى إلى الرفيق الأعلى بعد أن أبلى فى حياته الدنيا أحسن البلاء وأدى لوطنه وللعلم والمجمع والجامعة أجلَّ الأعمال والمنجزات على مدى نيف وستين عاما بذل خلالها الكثَير من عصارةِ فكره وعلمِه ليثرى معارفنا عن علوم الصيدلة وعن النباتات الطبية والعقاقير وأخذ بيد الطلائع من شباب علمائنا لتنشئة أجيال منهم تفخر بهم مصرُ اليوم وتزهو – وحين يؤرخ لعلوم الصيدلية فى مصر فسيكون الدكتور حفنى صابر من معالمها البارزة ورموزها الشاخصة – ولاشك أنه كان بين معاصريه من علماء الصيدلة أرسخَهم قدما وأعمقهم أثرا وأعلاهم منزلة وقدراً.
سادتى العلماء :
عرفت الفقيدَ العزيز منذ حوالى خمسين عاما حين كان رئيسا للاتحاد العام لطلاب جامعة فؤاد الأول وكنتُ رئيساً للجنة العلاقات الخارجية بالاتحاد ورئيسا لاتحاد كلية العلوم بالجامعة – وقد أدت طبيعة العمل المشترك بالجامعة إلى توثيق آصرة المودة بيننا وازداد رباطنا فى رحاب الجمعيات والمؤتمرات العلمية وفى هذا المحراب على مدى سنوات عديدة كان خلالها مثلا يحتذى فى العطاء والخلق الرفيع والقدوة الصالحة.(150/1)
ولد الفقيدُ فى إحدى قرى مركز دكرنس بمحافظة الدقهلية فى السابع عشر من يناير عام 1908 ، وفى كتّاب القرية تعلم القراءة والكتابة وحفظ جزءين من القرآن الكريم ثم تابع دراستَه الابتدائيةَ بمدرسة محمد على بالقاهرة وبعد أن أنهى هذه المرحلةَ التحق بالمدرسة الخديوية وحصل على شهادة إتمام الدراسة الثانوية عام 1925 وكانت جامعة فؤاد الأول قد فتحت أبوابها فى ذلك العام لاستقبال الطلاب بعد تطويرها فبادر الفقيد بالالتحاق بكلية العلوم بالدراسة الإعدادية لكلية الطب لمدة عام ينتقل بعدها إلى كلية الطب لدراسة علوم الصيدلة ولم تكن لعلوم الصيدلة كلية مستقلة كما هو الحال الآن وقد تابع دراسته بشغف كبير يعكس رغبته المبكرة فى دراسة هذا العلم وحصل على درجة البكالوريوس فى الصيدلة والكيمياء الصيدلية عام 1929 أوفد بعدها فى بعثة علمية إلى جامعة لندن ليتابع دراسته العالية ويحصل على درجة دكتوراه الفلسفة فى العقاقير ليعود بعد ذلك مدرسا بقسم العقاقير بكلية الصيدلة بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا عام 1934) وكان قبل إيفاده فى البعثة معيدا بهذا القسم.
- بحوثه العلمية :
وما أن انتظم فى سلك أعضاء هيئة التدريس بالكلية حتى بدأ نشاطاً ملحوظاً فى البحوث العلمية فى علم العقاقير والنباتات الطبية حتى غدا فى نهاية المطاف أكبرَ حجةٍ علمية فى هذا المجال فى مصر والوطن العربى وبلغ عددُ هذه البحوث أكثر من مئة وعشرين بحثا وقد تناولت هذه البحوث دراسات هادفةً كميةً وتحليلية لبعض العقاقير والنباتات الطبية فى مصر شملت تركيبها الكيميائية وتأثيرها الطبى والفارماكولوجى بالإضافة إلى دراسة الألكاليدات فى بعض هذه النباتات كالداتورا وغيرِها ومنها بحوث لها قيمتها العلمية والتطبيقية العالية.
- ومن مؤلفاته الأخرى:
1- كتاب بالإنجليزية عن دراسة العقاقير – يعد مرجعًا علميا هاما فى هذا المجال.(150/2)
2- كتاب باللغة العربية عن الغذاء والدواء فى القرآن الكريم بالاشتراك مع زميل ، وأصدره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
3- كتاب بالعربية عن تاريخ الصيدلة بالاشتراك مع زميلين ، وأصدرته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
4- قاموس عربى إنجليزى وإنجليزى عربى للمصطلحات والألفاظ التى درست فى دستور الأدوية المصرى.
5- دراسة عن النباتات الطبية العربية وما يجب نحوها عام (1970).
6- العقاقير عند العرب (1976).
7- النباتات الطبية والعوامل المؤثرة فى إنتاج العقاقير ( 1969).
8- تاريخ الصيدلة فى مصر بالإنجليزية (1972).
9- تعليم العلوم الصيدلية فى مصر ولمحة تاريخية عنه( 1972).
- مدرسته العلمية وأعماله الإنشائية:
أنشأ الفقيد مدرسةً علميةً متميزة أشرف فيها على 23 رسالة لدرجتى الماجستير والدكتوراه فى علم العقاقير والنباتات الطبية وتخرج على يديه المئات من المشتغلين بعلوم الصيدلة والعقاقير منهم اليوم أساتذة وعلماء كبار بالجامعات ومراكز البحوث منهم الأستاذ الدكتور جمال مهران الخبير بلجنة الكيمياء والصيدلة بالمجمع والذى سيلقى اليوم كلمة فى رثاء أستاذه وكان من طلبة الفقيد أيضًا المغفورُ له الأستاذ الدكتور سعد الدين كراوية الخبير بالمجمع فى اللجنة نفسها.
وقد عنى الفقيد بقسم العقاقير - الذى كان يرأسه - عناية بالغة واهتم بتطويره ونموه حتى غدا أهم الأقسام فى هذا الفرع بالجامعات المصرية من حيث برامج الدراسة فيه ومكانتُه العالمية وعلماؤه الأعلام ومن بين إنجازاته إنشاء حديقة للنباتات الطبية بكلية الصيدلة شملت 300 نوع منها مصنفةً ومعرفةً .(150/3)
- وجدير بالذكر أن الفقيدَ الكريمَ قضى فى رحاب الجامعة أكثر من(60) ستين عاما شغل خلالها مناصب مختلفةً فى السُلّم الوظيفى لهيئة التدريس بالجامعة تدرج فيها حتى عين أستاذاً لعلم العقاقير بكلية الصيدلة - جامعة القاهرة (فؤاد الأول سابقا) عام 1949 ثم عميدا للكلية نفسها عام 1956 واستمر يشغل العمادةَ عشرَ سنوات متتالية ثم أستاذاً متفرغاً حتى قبيل وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.
- نشاطه فى أكاديمية البحث العلمى والتكنولوچيا :
كان للفقيد نشاطٌ مرموقٌ بأكاديمية البحث العلمى حيث عمل مشرفا على تنفيذ البرنامج القومى للنباتات الطبية فى الخطة الخمسية الأولى والخطة الخمسية الثانية (1982-1992) – مع زميله العالم الكبير الأستاذ الدكتور شفيق بلبع ، كما كان عضوا بالمجلس القومى لبحوث العلوم الأساسية بالأكاديمية وكذلك عضوا باللجنة القومية لتاريخ وفلسفة العلوم ومقررا للجنة لبضع سنوات بالأكاديمية.
- نشاطه بالجمعيات العلمية وباتحاد الطلاب :
كان الفقيدُ منذ حياتِه المبكرة تواقا للعمل العام فبعد تخرجه بشهور كان أحدَ الأعضاء المؤسسين للجمعية الصيدلية المصرية عام 1930م التى كان من أهدافها العملُ على النهوض بالعلوم والبحوث الصيدلية ونشر الثقافة العلمية فى هذا المجال وتشجيع العمل على إقامة الصناعات الصيدلية والدوائية – كما كان من أهدافها الارتفاعُ بمهنة الصيدلة وقصَر الاشتغال بها على المؤهلين جامعيا كما اشترك فى تأسيس الجمعية التعاونية لإنتاج وتوريد الأدوية والتى كان الهدفُ من تأسيسها هو كسر الاحتكار الأجنبى وقد شغل الفقيد منصبَ أولِ أمينٍ عامٍ لهذه الجمعية .
وكان أيضا عضوا فى الجمعية النباتية المصرية وجمعية العقاقير الأمريكية وفى الجمعية العربية لأبحاث النباتات الطبية وفى المجمع العلمى المصرى وفى الأكاديمية المصرية للعلوم.(150/4)
وامتد نشاطُ الفقيد إلى مجالات جامعية أخرى فقد اشترك فى تأسيس اتحاد طلاب الصيدلة وقد انضم هذا الاتحادُ إلى الاتحاد العام لطلاب الجامعة وقد انتخب الدكتور حفنى صابر رئيساً للاتحاد العام لطلاب جامعة فؤاد الأول وكان للاتحاد نشاطٌ ثقافى ورياضى واجتماعى كبير فى الداخل والخارج - كما انتخب رئيسًا لنادى أعضاء هيئة التدريس بالجامعة وقد قام بخِدْمات وأعمالٍ جليلةٍ للاتحاد والأعضاء على مدى سنوات عديدة .
- المؤتمرات الصيدلية المحلية والدولية :
شارك الفقيد فى جميع المؤتمرات الصيدلية التى عقدت فى مصر ، كما شارك فى
المؤتمرات الدولية والعربية الآتية :
1 -مؤتمرات اتحاد الصيادلة العرب، 1970و72و74و1976... إلخ.
2- المؤتمر الدولى للصيدلة المنعقد فى فيينا عام 1981.
3- المؤتمر الدولى السادس عشر للاتحاد الدولى لتاريخ وفلسفة العلوم – بخارست –بولندا 1981 .
4- المؤتمرات الصيدلية السنوية فى بريطانيا 1932 – 1934 .
- نشاطه وأعماله بمجمع اللغة العربية :
وفى هذا المحراب فى مجمع اللغة العربية كان للفقيد نشاطٌ علمى ولغوى مرموق استمر أكثر من خمسة وأربعين (45) عاما فقد اختير خبيرا للجنة الأحياء والزراعة عام 1948 واختير خبيرا للجنة الكيمياء والصيدلة عام 1967 ثم عين عضوا بمجمع الخالدين عام 1985 وكان خلال هذه السنوات مثلا يحتذى فى العطاء والفكر المستنير والخبرة الواسعة ، وقد أنجز مع زملائه آلاف المصطلحات العلمية فى اللجنتين – كما اشترك فى الإشراف على إصدار معجم مصطلحات علوم الأحياء والزراعة ومعجم الكيمياء والصيدلة.
وقام بتمثيل المجمع فى ندوة تعريب مصطلحات علم الكيمياء التى أقامتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم فى عمان بالأردن عام 1982م .(150/5)
وفى يوم استقباله عضوا جديدا بالمجمع قال عنه المغفور له الأستاذ الدكتور حامد جوهر: " إنه ليسعد كثيرا بانضمام أعضاء جدد إلى المجمع يحملون معنا الأمانة ويحملون الشعلة ويشتركون معنا فى خدمة لغة القرآن الكريم ، ولكن سعادتى اليوم مضاعفة إذ أقدم لكم أخا عزيزا وصديقا قديما هو الأستاذ الدكتور عبد العظيم حفنى صابر أول عضو يمثل العلوم الصيدلية فى المجمع ، والدكتور صابر ليس غريبا على المجمع فهو أقدم الخبراء بالمجمع منذ عام 1941م ."
- مظاهر التقدير العلمى للفقيد فى الداخل والخارج :
1- نال الميدالية الذهبية لأحسن البحوث التى ألقيت فى مؤتمر اتحاد الصيادلة العرب . بدمشق عام 1970م .
2- نال الميدالية الذهبية من جمعية الصيدلة المصرية عام 1971م .
3- منح وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى عام 1973م تقديرا لجهوده الممتازة فى إصدار دستور الأدوية المصرية .
4- منح وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1980م .
5- اختير مرتين رئيسا للجنة الدائمة لدستور الأدوية المصرى .
6- اختير مشرفا على المشروع القومى للنهوض بالنباتات الطبية وزراعتها فى مصر .
7- اختير رئيسا فخريا مدى الحياة للجمعية العربية لبحوث النباتات الطبية.
8- انتخب عضوا بمجمع اللغة العربية مجمع الخالدين عام 1985م.
9- نال جائزة الدولة التقديرية فى العلوم لعام 1985م .
- سادتى العلماء الأجلاء :
إذا كانت حياةُ الفقيد حافلةً هكذا
بالخصوبة والعطاء و بالمنجزات
العلمية البارزة حتى غدا رائد العلوم الصيدلية فى مصر والعالم العربى وشيخَ علمائها فإنه كذلك كان على خلق عظيم . كان هادئَ الطبع رقيقَ الحاشية جمَّ التواضع عفَّ اللسان - طيب الخلق وحلوَ الشمائل والسجايا وكان صالحاً وتقيا - تغمدك الله أيها الراحلُ الكريم بواسع رحمته وأنزلك منازل الأطهار والأبرار - فقد كنت فى الحياة نورا يهدى الناس سواء السبيل وستظل فى الممات ذكرى تنفع المؤمنين .(150/6)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمود حافظ
نائب رئيس المجمع(150/7)
مخطوطة في الطب النبوي بمكناس
لابن صاحب الصلاة*
للأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي
تناهت إلي أخبار لائحة المخطوطات التي كان أمين خزانة الجامع الكبير بمدينة مكناس قام بإعدادها سنة 1972، وقد كانت اللائحة تحتوي فيما تحتوي عليه، على عنوان ( شرح الأحكام ) لابن صاحب الصلاة : الجزء التاسع والعاشر بدون أية معلومة زائدة (1).
وبالنظر لما يربطني من صلةٍ سابقةٍ بأحد أعلام الغرب الإسلامي ممن كانوا يحملون اسم ابن صاحب الصلاة ، هو عبد المالك بن محمد بن
أحمد بن محمد بن إبراهيم الباجي، المكنى أبا مروان وأبا محمد وأبا عبد الله ، والشهير بابن صاحب الصلاة مؤلف تاريخ الموحدين المعروف تحت عنوان ( المن بالإمامة على المستضعفين .. ) (2) بالنظر لذلك فقد شغلت بأمر هذا المخطوط أو بالأحْرى أمر مؤلفه ابن صاحب الصلاة. فمن يكون هذا الرجل؟ أهو المؤرخ الذي أعرف أم هو شخص ثان ؟
وقد قمت بادئ ذي بدء بالاطلاع على ( شرح الأحكام ) الذي زودني
بصورته مشكورًا القيم على الخزانة المذكورة ، وسرعان ما اتضح لي أنني أمام مؤلف ينتمي هو الآخر للعهد الموحدي لكنه ليس مؤرخا وإنما هو محدث من مستوى رفيع، وبالنظر لكون اللائحة المشار إليها لم تقدم أية معلومة عن المؤلف ولا عن التأليف، فقد حاولت أن أتعرف على ابن صاحب الصلاة هذا ، وتجمعت لدى طائفة من الأسماء وخاصة منها الأسماء التي كانت لها صلة بالحديث.
المراجع التسعة لابن صاحب الصلاة:
إن الشخصية التي كنت أنشد
الوصول إلى ترجمتها لم تكن عادية ويكفي أن أشير منذ البداية إلى أن الرجل في تأليفه اعتمد على تسعة مصادر كلها تعتبر من عيون المراجع في الحديث والفقه معًا أذكرها حسب الترتيب التاريخي …(151/1)
هناك الخطابي ( ت 388) (1) الذي يعتبر أول شارح لصحيح الإمام البخاري على الإطلاق وكان ابن صاحب الصلاة يعتمد عليه، والهروي ( ت 401) (2) الذي يعتمد عليه في كتاب الغريبين، وعبد الوهاب ( ت421) (3) الذي يعتمد عليه في
شرحه للرسالة،وابن بطال(ت449)(1)، الذي يعتمد عليه في شرح صحيح الإمام البخاري ،غالبه في فقه الإمام مالك وابن عبد البر (ت463)(2)الذي يعتمد عليه في كتابه الاستذكار بمذهب
علماء الأمصار، والباجي (ت474) (3) في كتابه المنتقى، وابن رشد ( ت 520 )(4) الذي يعتمد عليه في تأليفه البيان والتحصيل،والمازري(ت538)(5) في كتابه إكمال المعلم بفوائد مسلم ،
وعياض ( ت 544 )(1) .
وقد كان ابن صاحب الصلاة يشير إلى الأعلام التسعة بحروف ترمز إلى المؤلف أو إلى التأليف(2) ..
لقد تجلَّى واضحًا من خلال مصادر ابن صاحب الصلاة أن الرجل ينتمي إلى المذهب المالكي بل وأنه مغرق في نصرة المذهب ، كما تجلي واضحًا من خلال تواريخ مراجعه أنه عاش في فترة معروفة الزمن فهو مثلاً يرجع إلى ابن رشد الجد وليس إلى ابن رشد الحفيد ..
وكل هذا حملني على البحث عن الذين يحملون اسم ابن صاحب الصلاة ضمن إطار " المالكية " وفي أثناء
القرن السادس بالذات، وهنا وجدنا أنفسنا أمام عدد ممن يحملون اسم ابن صاحب الصلاة، فمن هو هذا الذي ألف كتاب شرح الأحكام ؟
وقد حاولنا أن نجد من خلال أسماء التآليف التي تحمل عنوان الأحكام في هذه المرحلة وأن نجد من خلال التاريخ ما قد يدلنا على الطريق(3). كما حاولنا أيضا أن نجد من خلال تراجم " أبناء " صاحب الصلاة تآليفَ لبعضهم حول هذا الموضوع ، فهناك ابن صاحب الصلاة الأديب اللغوي (ت 550) (4)، وهناك ثان ( ت 578)(5) ، وهناك صاحبنا مؤلف تاريخ الموحدين سالف(151/2)
الذكر (1)، وهناك رابع كثيرا ما استوقفني: هو محمد بن أحمد بن الحسن الذي حدث عنه أبو القاسم سليمان ابن الطيلسان والمتوفى سنة 607 وهو من أهل قرطبة(2)، وهناك خامس توفي سنة 607 له ترجمة حافلة(3).. وسادس شاطبي توفي سنة 625 (4) وهناك عمر أبو جعفر ابن صاحب الصلاة البجانسي (5)، وهناك ابن صاحب الصلاة المكنى أبا بكر(6)، وهناك عمر أبو جعفر ابن صاحب الصلاة (7)، وهناك ابن صاحب الصلاة الوليني الذي وصف جامع قرطبة (8) على أن هناك جماعة منهم
لم يعرف تاريخ وفاتهم من أمثال سعيد الكناني (9). وقد فاوضت بعض الزملاء الأعزاء ممن كنت أعرف عن صلتهم بالموضوع .
وملت في نهاية المطاف إلى الرأي الذي كان يرى أن القصد إلى ابن صاحب الصلاة المالقي المستشهد في وقعة العِقاب يوم الاثنين14 صفر 609 وكان ذلك اعتمادا على إشارة وردت عند بعضهم في ترجمة هذا الشهيد تقول إنه صنف في الحديث(10)…
وقد رجعت إلى المراجع الأندلسية وبخاصة إلى التكملة لابن
الأبار والذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي وما تفرع عن هذين المصدرين ابتداءً من "الديباج" لابن عرضون ، لأعرف المزيد عن ابن صاحب الصلاة مؤلف "شرح الأحكام" قبل أن آخذ في دراسة محتوى المخطوط أو بالحري بعض أبوابه التي كانت تهمني ، وهكذا وجدنا أن ابن الأبار يترجمه على أنه محمد بن حسن بن محمد بن خلف الأنصاري
وأنه من أهل مالقة ويعرف تحت اسمين اثنين : ابن صاحب الصلاة ، وابن الحاج ويكنى أبا عبد الله .
عن الذين سمع عنهم بالأندلس :
وبعد هذا نذكر لائحة لبعض السادة الذين – سمع منهم– بالأندلس وهو خمسة:
أبو عبد الله بن الفخار (1)
... أبو محمد عبد الحق بن بونه(2)
... أبو خلد بن رفاعة (3)
... أبو محمد بن عبيد الله (1)
... أبو جعفر بن حكم(2)
ويضيف ابن عبد الملك المراكشي في كتابه الذيل والتكملة إلى هذا أن بعض رجال الأندلس أجازوا ابن صاحب
الصلاة ومن أولئك الرجال :
أبو بكر ابن الجد (3)(151/3)
أبو بكر ابن أبي زمنين (4)
أبو عبد الله ابن زرقون (5)
أبو القاسم الشراط (6)
أبو محمد بن جمهور(1)
وإذا ما رجعنا إلى الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي فإننا سنكتشف معلومات إضافية عن مترجمنا ابن صاحب الصلاة، وهكذا استفدنا أن هناك ذكرا لثمانية أسماء أخرى لشيوخ ابن صاحب الصلاة
بالأندلس علاوة على الخمسة المذكورين من لدن ابن الأبار وهم :
أبو الحجاج بن الشيخ (2)
أبو الحسن بن كوثر (3)
أبو عبد الله بن عروس (4)
أبو محمد عبد الله بن حوط الله (5)
عبد الصمد بن يعيش (6)
عبد المنعم بن الفرس (1)
أبو عبد الله الاستجي(2)
أبو جعفر الحصار (3) ...
عن اللذين سمع منهما في بجاية:
ويؤخذ من ابن الأبار وابن عبد الملك أن ابن صاحب الصلاة هذا ابتدأ رحلة
للمشرق عام 580 بقصد أداء فريضة الحج… حيث لقي في طريقه بالمغرب الأوسط، في بجاية أبا محمد عبد الحق ابن عبد الرحمن الإشبيلي الذي كان نزيل المدينة(4) فسمع منه على نحو ما سمع هناك من أبي عبد الله بن الحرار(5)
عن الذين سمع منهم في الإسكندرية:
وقد سمع بالإسكندرية أربعة أعلام هم:
أبو عبد الله بن الحضرمي (1)
أبو الفضل بن دليل الكندي (2)
أبو عبد الله الكركنتي (3)
أبو الثناء الحراني (4)
... ويضيف ابن عبد الملك المراكشي اسم نزيل الإسكندرية أبي إسحاق بن عبد الله البلنسي والذي لم
نجد له ذكرا في أعلام الإسكندرية ولا في رجال بلنسية !
عن الذين لقيهم بمكة :
وقد لقي ابن صاحب الصلاة بمكة عام 583عددًا من العلماء الذين كانوا يجاورون هناك أمثال :
أبي إبراهيم الخجندي (5)
أبي عبد الله بن أبي الصيف اليمني (6)
أبي إبراهيم التونسي (7)
أبي حفص الميانشي (1)
ونحن بالمشرق مع ابن صاحب الصلاة، نضيف معلومة قدمها إلينا ابن عبد الملك في الذيل والتكملة ، ويتعلق الأمر بالإجازات التي نالها ابن صاحب الصلاة من بعض أعيان
علماء المشرق نذكر منهم :
الحسن بن هبة الله بن محفوظ الربعي(2)(151/4)
أبا الحرم مكي (3)
أبا الظاهر بن عوف (4)
أبا الطاهر الخُشوعي (5)
أبا القاسم بن عساكر (6)
إلى جانب آخرين مذكورين في رسم أبي الطاهر أحمد بن علي السبتي(1) باستدعاء أبي عبد الله بن إبراهيم بن حريرة (2) .
وإذ عرفنا عمن لقيهم ابن صاحب الصلاة بمكة فإنه من المفيد أن نذكر أن ابن عبد الملك المراكشي أضاف اسم أبي إبراهيم التونسي واسم أبي إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الغساني اللذين لم نعرف عنهما ما نقول إضافة إلى هذا نذكر أن ابن صاحب الصلاة لقي بمكة أبا عبد الله محمد ابن مفلح
الذي أجازه لفظا وخطا والذي لم أقف له على ترجمة كذلك .
ابن صاحب الصلاة بفاس:
لكن الذي انفرد بذكره ابن عبد الملك في الذيل والتكملة هو أن يفيدنا أن ابن صاحب الصلاة موضوع الحديث قضي ردحًا من الزمان في العدوة المغربية وبالذات في مدينة فاس حيث أخذ عن عالمين كبيرين أجازا له وهما:
أبو الحسن بن فرحون (3)
وأبو عبد الله بن عبد الكريم (4)
وهذه معلومة تستحق الوقوف عندها لكي نعرف عن المركز العلمي الذي كان للمدينة حتى على عهد الموحدين الذين حوَّلوا عاصمتهم السياسية إلى مدينة مراكش .
وفي سبتة التقى مرة أخرى بأبي محمد ابن عبيد الله سالف الذكر الذي أجازه .
عن بعض الذين رووا عنه:
وقد أخذ عنه عدد كبير من
الجلة ذكر بعضهم ابن الأبار وأتى ابن عبد الملك ببعضٍ آخر منهم ، ونسوقهم هنا مترجمين واحدًا واحدًا لنعرف قيمة الرصيد العلمي الذي خلفه هذا الرجل العظيم ، ونُنبِّه منذ البداية إلى أن أكثر الذين أخذوا عنه كانوا نظراء له ، وكان منهم أيضًا من هم أكبر منه سنا ! ففيهم:
أبو القاسم الملاحي (1)
أبو سليمان بن حوط الله (2)
أبو إسحاق القصير المالقي (1)
أبو بكر بن عبد النور (2)
أبو جعفر ابن عثمان الورّاد (3)
أبو الحسن بن عبد الله الهواري (4)
أبو الحسن محمد بن أبي زكرياء بن
مجاهد (5)
أبو الطاهر أحمد بن علي بن عبد الله الهواري (6)(151/5)
أبو عبد الله بن أبي جعفر بن الجيار(7)
أبو عبد الله بن محمد بن سعيد الطراز(1)
أبو عمرو بن سالم (2)
أبو القاسم عبد الرحمن بن سالم (3)
أبو القاسم محمد بن الزيتوني (4)
إلى آخرين أشرنا إليهم أثناء ترجمتنا لبعضهم …
* ... * ... *
... تلك حصيلة لحياة ابن صاحب الصلاة الذي عرف أيضا تحت اسم
ابن الحاج كما حمل ألقابا ونعوتًا تعبر عن مكانته العلمية الكبرى التي تجلت – في صدر ما تجلت فيه – في هذه الموسوعة التراثية الكبرى : شرح الأحكام ، ونحن على يقين من أنه لو لم يتعرض لما تعرض له في الوقعة المشؤومة لكان ترك لنا تراثًا أغنى وأوفر من حيث تأليفه، ومن حيث طلبته الذين أصبحوا منارة العدوتين: الأندلس والمغرب .
والواقع أن معركة العِقاب لم تكن شؤمًا فقط على الحضور الإسلامي بالجزيرة ولكنها كانت شؤمًا على الفكر والعلم والمعرفة في كل جهات العالم الإسلامي .
فلقد حصدت عددًا من الرجال الذين كانوا معالم تهتدى بهم الساحة الأندلسية، عرفنا منهم إلى جانب ابن صاحب الصلاة أسماء أخرى أمثال ابن عاث الشاطبي الذي افتقد في ساحة المعركة! وأمثال أبي الصبر أيوب السبتي وغير هؤلاء .
وقد عكست الوقعة بظلها الكئيب على إنتاجات أولئك الشهداء فأهمل بعضها وضاع البعض الآخر ، ولا أدل على هذا من أن يختفي كتاب ( شرح الأحكام ) من سائر المراجع التي تحدثت وباختصار شديد عن علامتنا المحدث ابن صاحب الصلاة.. ! ومن حسن الحظ أن "يفلت" بعض ذلك الكتاب حتى نجد نصوصًا منقولةً عن علماء جلة ضاعت منها تلك النصوص أو بعضها أو حرقت لكنها بقيت في شرح ابن صاحب الصلاة ناطقةً بما قاله أولئك العلماء الأعلام !(151/6)
وبعد أن تعرفنا على هذه المعلمة الكبرى سواء من خلال شيوخه وتلامذته، سواء في الأندلس أو عندما تجشم مصاعب الرحلات التي قادته – بعد التنقلات بين القواعد الأندلسية – إلى المغرب الكبير حيث زار مدينة بجاية التي كانت قاعدة من القواعد العلمية ليصل إلى الإسكندرية … ومنها إلى الأماكن المقدسة فيجتمع بطائفة أخرى من العلماء في مكة .. قبل أن يعود إلى وطنه فيقصد العاصمة العلمية فاس التي كانت تزخر بالرجال الذين أخذوا بأطراف العلم فيجتمع فيها بمن عرفنا عنهم ويعود إلى الأندلس بحصيلة معرفية زاخرة، أمسى ابن صاحب الصلاة بعدها كعبة للقصاد الذين تهافتوا عليه بعد أن سمعوا بعودته ..
ومن خلال رصيد حياة هذا الرجل الجليل القدر على جوانب أخرى من واقع العالم الإسلامي على العموم ومن الواقع الذي كان يعيشه الغرب الإسلامي في قمة عهد الدولة الموحدية في القرن السادس الهجري..
وهكذا فعلى الصعيد الدولي وقفنا على محطات جد مهمة في تاريخ العلاقات بين المملكة المغربية والأندلس ، وعلى محطات مهمة في تاريخ العلاقات بين المملكة المغربية وبين النورمانديين في صقلية الذين كانوا يحاولون الاستيلاء على سواحل المغرب الأدنى حيث شاهدنا حضور المغرب في الواجهتين معا!!
وإلى جانب هذا شاهدنا موقف المغرب الكبير في واجهة ثالثةٍ في المشرق: العلاقات بين قادته وبين قادة المشرق حيث قرأنا عن حضور المغرب إلى جانب السلطان صلاح الدين الأيوبي في مقاومته لاجتياح الفرنج لبعض المواقع في الجناح الشرقي للإسلام عندما شاهدنا أن المجاهدين المغاربة يقصدون إلى تلك الواجهة من غير أن تمنعهم مقاومتهم لمحاولة
هيمنة الفرنج في الغرب الإسلامي !!(151/7)
وقد قرأنا عن أبي الحسن علي المالقي الذي قصد بلاد الشام للجهاد والذي عندما فتح السلطان صلاح الدين بيت المقدس أصبح هو المرشح المؤهل للإمامة بالمسلمين في بيت المقدس، ثالث الحرمين وأولي القبلتين، ومن الطريف أن نسمع أن هذا الرجل لما توفي سار النصارى في جنازته ونشروا ثيابهم على نعشه للتبرك به !!
ومن خلال تراجم بعض الذين كانت لهم صلة بابن صاحب الصلاة سواء في المغرب أو المشرق عرفنا عن التجاوب الذي كان بين الأوساط العلمية سواء أكانت مقيمة في المدن الأندلسية الكبرى، أم القواعد المغربية أم في بلاد الإسكندرية أم في المدن الحجازية أم الجزيرة الفراتية ، حيث قرأنا عن الأواصر المتينة التي كانت تجمع بين المشايخ هنا وزملائهم هناك،حيث قرأنا عن اللوائح الطويلة العريضة لطائفة من الأساتذة بالمشرق الذين كانوا يراسلون زملاءهم في المغرب ولا يتأخرون عن الإغداق عليهم أي على المغاربة بإجازاتهم التي تعترف لهم بطول الباع في ميادين تخصصاتهم، ومن هنا لم يكن غريبا علينا أن نجد أن الجسور التي كانت تربط بين جناحي العالم الإسلامي كانت من المتانة والقوة بحيث إنها أسهمت وبصفةٍ قوية في ازدهار الحركة الفكرية بالعالم الإسلامي ومن غير فرق بين الذين ينتسبون إلي هذا المذهب أو ذاك ، أو الذين يتبعون لهذا الحاكم أو ذاك ، الأمر الذي يعطينا صورةً متكاملة وصادقةً – من خلال كل ذلك الرصيد – عن عالم إسلامي يشعر شعورًا واحدًا ويتطلع إلى هدف واحد هو أداء الرسالة التي تلقاها المسلمون من سلفهم والتي يبذلون جهدهم لتلقينها للجيل الصاعد الذي يحمل الرسالة للذين يأتون من بعده .(151/8)
كثيرة هي الجوانب التي تشدنا إلى الاهتمام بابن صاحب الصلاة: هذا النموذج الذي كم له من نظيرٍ في مغرب الأمس، نموذج العالم المتمكن الواسع الاطلاع الذي لم يمنعه علمه الغزير أن يتتلمذ على نظرائه وأقرانه ولم تمنعه مصاعب الرحلة ولا تجشم الأسفار من أن يبحث عمن يزيد في علمه ويقوي من سنده، وهكذا أصبحت ترجمة الرجل أيضًا مرجعًا لمن يريد أن يؤرخ للحياة العلمية بالديار المشرقية أثناء القرن السادس الهجري..
ومن هنا يصح القول إن الاهتمام بشرح كتاب الأحكام لابن صاحب الصلاة المحدث، هو في واقع الأمر اهتمام بالحديث وبالفقه ، وباللغة العربية التي – كما نعلم- تظل الطريق الوحيد لمن يريد أن يعرف عن كتاب الله وسنة رسول الله.
وإذا ثنَّى الله ليَ الوساد فسأعمل على نشر بعض الفصول منه لكن ما لا يدرك كله لا يترك جُلّه كما تقول الحكمة العربية ، ولهذا فإني سأبدأ اليوم بتقديم الباب المتعلق بالطب كما عرفه سلفنا الصالح ، وبخاصة في العهد النبوي على ما دونه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما ومن أتي بعدهما من عيون رجال الحديث والأثر …
فماذا عن المخطوطة موضوع الحديث؟
يتناول السفر العاشر من شرح الأحكام اثني عشر بابا على هذا الترتيب :
1- باب الحد في الخمر.
2- باب في الأطعمة .
3- باب في الأشربة .
4- باب في اللباس والزينة .
5- باب في الأسماء والكنى .
6- باب في السلام والاستئذان.
7- باب في العطاس والتثاؤب.
8- باب في الأمراض وما يصيب المسلم.
9- باب في الطب.
10- باب في قتل الحيات والوزغ.
11- باب في السعادة والشقاوة والمقادير.
12- باب في الرؤيا .
وقد حصل بتر في أواخر باب الطب الذي وقع اختياري عليه كنموذج أقدمه للمهتمين بعمل ابن صاحب الصلاة المحدث ، وبالخصوص للمهتمين بالطب النبوي، وكنت أتمنى أن يكون هذا الباب كاملاً حتى يكون موضوعي مستوفيًا للغرض لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله كما يقولون .(151/9)
وأحب أن أثير الانتباه منذ البداية، إلى أن اهتمام ابن صاحب الصلاة بموضوع الحديث يندرج حسب اعتقادي ، في دعوة الدولة الموحدية بالمغرب إلى توجيه الرأي العام إلى العناية بكتب الأصول وليس إلى كتب الفروع المتشعبة التي أحرقت على ما هو معلوم، ذلك هو المبدأ الذي رأينا أن الحكم يقوم عليه ، وحسبنا هنا أن نرجع إلى ما رواه المراكشي في كتابه المعجب عن أمر الخليفة المنصور الموحدي أبي يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، أمره بالاقتصار على الأصول والابتعاد عن كتب الفروع ، أي الاقتصار على الصحيحين : البخاري ومسلم، والموطأ والترمذي وسنن أبي داود وسنن النسائي وسنن البزار ومسند ابن أبي شيبة وسنن الدارقطني وسنن البيهقي..
كان قصد المنصور- كما يقول المراكشي– حمل الناس على الظاهر، وكان هذا قصد والده يوسف وجده عبد المؤمن ولكنهما لم يظهراه وأظهره هو..
ويشهد لهذا عند المراكشي ما أخبره به غير واحد ممن لقي الحافظ أبا بكر ابن الجد أنه أي أبا بكر ابن الجد أخبرهم قال:
لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب أول دخلة دخلتها عليه، وجدت بين يديه كتاب ابن يونس ، فقال لي : يا أبا بكر ، انظر في هذه الآراء المتشعبة التي أحدثت في دين الله !! أرأيت يا أبا بكر المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أقوال أو أكثر من هذا، فأي هذه الأقوال هو الحق ؟!
وأيها يجب أن يأخذ به المقلد ؟! فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك، فقال لي، وقطع كلامي: " يا أبا بكر،ليس إلا هذا وأشار إلى المصحف أو هذا ، وأشار إلى سنن أبي داود وكان عن يمينه أو السيف !(151/10)
فظهر في أيام يعقوب ما أخفي في أيام أبيه وجده ، ونال عنده طلبة العلم أي علم الحديث ما لم ينالوا في أيام أبيه وجده وانتهى أمره معهم إلى أن قال يوما بحضرة كافة الموحدين يسمعهم ، وقد بلغه حسدهم للطلبة على موضعهم منه وتقريبه إياهم وخلوته بهم دونهم: يا معشر الموحدين أنتم قبائل، فمن نابه أمر فزع إلى قبيلته وهؤلاء يعني الطلبة ، لا قبيل لهم إلا أنا ، فمهما نابهم أمر فأنا ملجؤهم وإلى فزعهم وإليّ ينسبون"
فعظم منذ ذلك اليوم أمرهم وبالغ الموحدون في برهم وإكرامهم (1) ...
أعتقد أن ابن صاحب الصلاة
صاحبنا المحدث، كان ممن شملهم المنصور بحمايته وعنايته ورعايته وهو يؤلف كتابه العظيم هذا : شرح الأحكام ، معتمدًا فيه فقط على ما قال الله ورسول الله، بعيدًا عن مدونة سحنون وكتاب ابن يونس ونوادر ابن أبي زيد ومختصره وتهذيب البرادعي وواضحة ابن خبيب وما شابه هذه التآليف أو نحوها مما تعرضت منه الأحمال إلى ألسنة اللهب في العاصمة العلمية : فاس على ما يحكيه شاهد عيان !
فالتأليف الذي بين أيدينا تأليف ينبغي أن يقرأ على هذا الأساس، فما هو الجديد في أسلوبه؟
الكتاب أولاً يعتمد على صحيح الإمام مسلم في منطلقه ونحن نعلم أن المغاربة يقدمون مسلمًا على البخاري في الأصحية حسبما تدل عليه أكثر من إشارة سواء فيما حمله تأليف الإمام المازري المعنون بالمعلم بفوائد
مسلم أو تأليف القاضي عياض : إكمال المُعلم بفوائد مسلم ، أو الإمام القرطبي : المفهم في شرح مسلم (1)
وقد كاد تأليف ابن صاحب الصلاة يحمل اسمًا على نحو المعلم أو المكمل، فهو على كل حال كتاب في خدمة الصحيحين وخاصة صحيح الإمام مسلم…
وبالتتبع وجدناه ، حسبما توفرنا عليه من المخطوط ، يعلق على نحو أربعة وعشرين حديثًا صحيحا معتمدا في تعاليقه على معظم المصادر التسعة التي أشرنا إليها في بداية الحديث .
الحديث الأول :(151/11)
حديث النبي صلى الله عليه وسلم:" لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء يبرأ بإذن الله ".
لقد نقل ابن صاحب الصلاة هنا عن القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم (2) ما يتصل بضبط كلمة الداء والدواء من الوجهة اللغوية ثم ينقل
عن الإمام المازري في كتابه المعلم بفوائد مسلم ما يشهد لصحة هذا الحديث الشريف فإن الأطباء يقولون : إن المرض يعني خروج الجسم عن المجرى الطبيعي ، والمداواة تعني رد الجسم إلى ذلك المجرى، وهنا نستدل بقول ( أبو قراط ) الذي يرى أن الأشياء تداوى بأضدادها إلى آخر النص الكامل الذي نورده على حدة .
الحديث الثاني :
حديث أسماء أنها كانت تؤتَي بالمرأة الموعوكة ( بالحمى ) فتدعو بالماء فتصبه في جيبها وتقول : إن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أبردوها بالماء وقال: إنها من فيح جهنم ..
وشرحًا لهذا الحديث يستمد ابن صاحب الصلاة من القاضي عياض في تأليفه سالف الذكر الذي ينقل عن
الموطأ عبارة ( بينها ) أي بين الموعوكة وبين جيبها ، قال عيسى ابن دينار تصبه بين طوقها وجسدها إلى آخر النقل(1).
وبعد شرح عياض يأتي ابن صاحب الصلاة بشرح الباجي في المنتقى نقلاً عن ابن دينار كانت أسماء تأخذ الماء وتصبه فيما بين طوقها وجسدها (2) ..إلخ.
ويعود ابن صاحب الصلاة للنقل عن المازري في المُعلم(3) .. وكان الجديد في هذا النقل أن ابن صاحب الصلاة يتعمد مناقشة بعض الأطباء الذين لا يرون من وجهة نظرهم استعمال المحموم للاغتسال بالماء البارد باعتباره يؤدي للخطر والهلاك .. وهنا يضيف ابن صاحب الصلاة رأيه فيما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وفيما أضافه بعضهم مما لم يكن
من قول الرسول عليه السلام ويبين رأي الأطباء حول الموضوع ردًّا على الملاحدة !(151/12)
ويتخلص ابن صاحب الصلاة تزكية رأيه اعتمادًا على ما ورد عند ابن عبد البر في الاستذكار، يتخلص إلى نقل عن ابن بطال حول شرح حديث أسماء المتعلق بإبراد الحمى بصب الماء على جسد المحمومين وأنه يختلف حسب ظروف المصابين(1) .. وكل هذه النقول كان الهدف منها شرح الحديث الشريف ورفع اللبس الذي قد يشوش على القصد.
الحديث الثالث :
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه فقال رسول الله عليه وسلم : اسقه عسلاً فسقاه ثم جاءه فقال : إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا ، وقال له
بعد الرابعة : صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلا فسقاه فبرئ .
هنا عند هذا الحديث يبتدئ ابن صاحب الصلاة بنص ابن بطلان الذي يستنبط من الحديث أن تأثير الدواء قد يتأخر ، إلى آخر النص الذي سنأتي عليه في نهاية البحث(2).
ثم ينقل عن عياض نصه حول أن القصد إلى أنه شفاء بعض الناس دون بعض ، وتخلص إلى نقلٍ آخر عن ابن بطال يشير إلى هذا المعنى وهو أنه أي الشفاء يكون على حسب ما تقتضيه حالة المريض بمعنى أن الحديث ليس على إطلاقه ، وقد جاء في القرآن نفسه ما لفظه العموم والمراد به الخصوص ..
ويختم الكلام عن حديث العسل بما أورده الإمام المازري في المعلم حول الحقيقة في أمر تناول العسل ودفع
الإشكال الذي يورده بعض الأطباء حول هذه الوصفة مما سنورده في النص، ويظهر الإمام المازري هنا طبيبًا في الوقت نفسه الذي يدافع فيه عن مصداقية قول الرسول صلى الله عليه وسلم (1)…
الحديث الرابع :(151/13)
( إن في الحبة السوداء شفاءً من كل داء) ويبتدئ في شرح هذا الحديث الذي أورده الإمام مسلم كذلك بنقل نص الإمام عياض في المعلم وهو يفسر أولاً أن القصد بالحبة السوداء هو الشونيز الذي ينطق به المغاربة شانوز بفتح الشين .. وربما كان هو ما يسمى في بعض بلاد المشرق بالبطم أو الضرو وبعد تحقيق في اللفظ ينقله عن المازري يعود لعياض الذي اهتم برأي الأطباء حول الحبة السوداء مقارنة مع ما ورد في الحديث الشريف معتمدًا في ذلك على
معلومات للطبيب اليوناني المعروف
جالينوس، وهي جميعها تؤكد فعالية تناول الحبة السوداء للرجال والنساء على السواء …
الحديث الخامس :
( التلبينة مجمة لفؤاد المريض) والتلبينة نوع من الحساء، وكلمة مجمة تعني تزيل انقباضه، وهنا ينقل عن القاضي عياض وعن الإمام المازري الذي يتحدث أيضا عن أثر السفرجل في التسلية عن القلب كذلك …
الحديث السادس :
عن سعد بن أبي وقاص : مرضت مرضًا أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي فقال: إنك رجل مفؤود (فأت الحارث بن كَلدة أخا ثقيف فإنه يتطبب،فليأخذ سبع مرات من عجوة المدينة فليُجاهن .. )
وحول الحديث ينقل عن الخطابي
في كتابه غريب الحديث (1) حول معنى المفؤود وأنه على نحو المرؤوس المصاب في رأسه والمبطون والمصدور.. ثم ينقل عن ابن بطال حول وضع اليد على المريض تأنيسًا له وملاطفة ، ويعود للنقل عن الخطابي الذي شرح بقية الحديث المروي عن سعد : فليجاهن …
الحديث السابع :
... حديث عائشة : لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فأشار ألا تلدوني، فقلنا كراهية المريض للدواء، فلما أفاق قال: لا يبقى أحد منكم إلا لد غير العباس فإنه لم يشهدكم !
... وعن شرح هذا الحديث ينقل ابن صاحب الصلاة عن القاضي(151/14)
عياض حول كلمة اللدود: التي تعني ما يُصبُّ في أحد جانبي فم المريض ، كما ينقل عنه أيضا أن سيدنا عمر بن الخطاب أخذ بهذا الحديث : ( لا يبقى أحد منكم إلا لد)، أخذ به في قتل من تمالأ على قتل الغلام بصنعاء (2) .
... وحول الاقتصاص ممن قاموا بلد رسول الله على كره منه نقل عن ابن بطال الذي يذكر أنه أشار في آخر كتاب الديات إلى هذا المعنى أي إذا أصاب قوم من رجل هل يقتص منهم جميعهم ؟
الحديث الثامن :
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم قيس دخلت بابن لي على رسول الله عليه وسلم وقد أعلقت عليه من العُذرة ( أي رفعت لهاته بأصبعي
لعذرةٍ أي لوجع حلق أصابه ) .
هنا نجد ابن صاحب الصلاة ينقل عن المازري الخلاف في معنى الإعلاق كما ينقل عن عياض حول معنى الإعلاق والعذرة ، وينقل عن الخطابي وعن ابن بطال وقد نهى رسول الله عن الطريقة التي سلكتها أم قيس لعلاج ابنها من العذرة.
الحديث التاسع :
قوله صلى الله عليه وسلم : " عليكن بهذا العود الهندي ( القسط ) فإن فيه سبعةَ أشفية منها ذات الجنب ومنها العذرة .
وهنا نقل عن عياض الرد على من أنكر التشفي بالقسط، واستدل بما قاله ديسقوريدوس وجالينوس وابن سينا وهم- أهل دراية بصناعة الطب.
الحديث العاشر :
قوله صلى الله عليه وسلم للذي سأل عن الخمر وقال : إنما أصنعها
للدواء فقال إنه ليس دواءً ولكنه داء …
وهنا ينقل عن أحد تآليف الخطابي الرأي حول الخلاف في التداوي بالخمور(1) ...
الحديث الحادي عشر :
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث ، ويبين أن الدواء الخبيث يأتي خبثه من وجهين : أحدهما خبث النجاسة … ثانيهما من الطعم والمذاق .
الحديث الثاني عشر :
قوله صلى الله عليه وسلم الكَمَأَة وماؤها شفاء للعين (2)…
الحديث الرابع عشر :
إن خير ما تداويتم به الحجامة والسعوط واللدود والمشِي(3) ، وهذا على الطرة يسار الصفحة 163.
الحديث الخامس عشر:(151/15)
... عن جابر بن عبد الله قال : رُمىَ أُبَى يوم الأحزاب على أكحله فكواه رسول
الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث أيضًا على الطرة يسار الورقة 163.
الحديث السادس عشر :
الشفاء في ثلاث : في شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بالنار وما أحب أن أكتوي .
وحول حديث الحجامة ينقل عن عياض كما ينقل عن الاستذكار لابن عبد البر الذي يحيل على ما في التمهيد من آثار كثيرة في فضل الحجامة والتداوي بها وإباحة التداوي بكل ما يُرجى نفعه مما يؤلم وما لا يؤلم . كما نقل عن ابن بطال (1) قال الطبري:وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحتجم على رأسه وبين كتفيه حيث يقوم بالجمع بين الأحاديث النبوية حول الموضوع.
وحول كرهه هو للاكتواء مع تشريعه لأمته ، يسوق ابن بطال نظائر مثل عدم تناوله لبعض أنواع الطعام لكونه يعافها .
ويخلص ابن صاحب الصلاة بعد هذا إلى موضوع جد مهم هو الرد على بعض غلاة الصوفية الذين لا يقولون بتشريع العلاج معتقدين أن كل شيء بقضاء وقدر .. وهكذا نجد أن المؤلف يبحث عن كل الدلائل الشرعية التي تسنن استعمال الدواء للأمراض الطارئة، وأن الله الذي أنزل الداء أنزل الدواء، وهو مثل الأمر بالدعاء لنا في الأمور، والأمر بالتوقي من المعاطب مع أن الأجل لا يزاد فيه ولا ينقص، ثم ينقل عن ابن رشد في البيان والتحصيل حول التداوي بالحجامة وقطع العروق (2) مؤكدًا أنه لا يوجد تناقض أبدًا بين العلاج وبين التوكل كما ينقل عن الخطابي ، ومن جهة أخرى فإن ابن صاحب الصلاة يزيف رأي بعض الملاحدة الذين يحاولون التشكيك فيما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم حول بعض النوازل الصحية مؤكدًا أنه قل ما يوجد في علم(151/16)
الافتقار إلى التفصيل مثل ما يوجد في صناعة الطب حتى إن المصاب بمرض قد يكون هذا الدواء نافعًا له في هذه الساعة ثم يعود داء في الساعة التي تليها لعارض يتجدد ، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمن والعادة والغذاء على ما يذكره القاضي عياض رحمه الله .
الحديث السابع عشر :
كنا نرقى في الجاهلية فقلنا يا رسول الله : كيف ترى ذلك ؟ فقال : اعرضوا عليَّ رقاكم ،لا بأس بالرقَى ما لم يكن فيها شرك .
وهنا يأتي بنص للباجي في المنتقى(1) ويؤكد أنه لا خلاف في جواز الرقى بأسماء الله تعالي وبكتابه.
ثم ينقل عن المازري ما يعزز الرأي باتخاذ الرقى ما لم تؤد إلى محظور..وهل هي معدودة من السحر
أو من الرقية ؟ وختم هذا النقل بما ورد عن " النشرة " وقد حكى البخاري عن سعيد بن المسيب أنه قيل له عن رجل أخذ عن امرأته. أيحل عليه أن ينشر؟ قال : لا بأس به إنما يريد الإصلاح .
الحديث الثامن عشر :
حول الذي رقى الملدوغ بفاتحة كتاب الله فأعطى قطعًا من الغنم : فقال رسول الله : ما أراك أنها ( أي الفاتحة ) رقية، خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم !..
شرحًا لهذا الحديث يأتي ابن صاحب لصلاة بنص القاضي عياض وبنص ابن بطال (2) ويعود لعياض ليذكر أن موضع الرقية من أم القرآن هو قوله تعالي :" وإياك نستعين " ، يضيف عن ابن بطال الرقية بالمعوذات (3) ويختم هذا بما رواه مالك في الموطأ أن أبا بكر الصديق
دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها فقال أبو بكر ارقها بكتاب الله يعني التوراة لأن ذلك كلام الله الذي به الشفاء معلقًا عليه بما ورد عند الباجي، ثم ابن عبد البر عن القصد من النفث أو الثقل أو النفخ الذي يقوم به الراقي على ما سنورده في النص ....
الحديث التاسع عشر:(151/17)
قوله صلى الله عليه وسلم : " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا لا حساب عليهم وهم الذين لا يسترقون ولا يكترون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون "، فقال عكاشة : أنا منهم يا رسول الله ؟ فقال : نعم ، فقال آخر وقال : وأنا منهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم: سبقك بها عكاشة !
هنا ينقل ابن صاحب الصلاة عن ابن بطال الذي قام بشرح الحديث نقلا عن الطبري (1) … وقد تخلص بعد هذا لموضوع التوكل وهل أنه يغني عن الأخذ بالطريق الطبيعي
للعلاج والحصول على الغذاء ..وهنا يؤكد ابن صاحب الصلاة أن من السنة أن يسعى الإنسان إلى ما لابد منه من مطعم ومشرب وملبس لقوله تعالى: "وما جعلناهم جسدًا لا يأكلون الطعام"!(2) .
... لقد عالج ابن صاحب الصلاة هذا الموضوع بما يستحقه من واقعية وموضوعية حتى لا يقع المؤمن في أخطاء قد تؤدي به إلى الخطر ، وبماذا نفسر إذن نصح النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أتى ببعير وسأل : أعقله وأتوكل أم أطلقه وأتوكل ؟ فقال : اعقله وتوكل !!
الحديث العشرون :
حديث عائشة : كان رسول صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن …
اهتم ابن صاحب الصلاة بهذا الحديث الذي روته السيدة عائشة ، والذي ظل مشغلة للناس ، ويتعلق بقضية من أهم قضايا الإسلام ، وهي
هل أن النبي سحر ؟ اهتم بها كثيرًا وظهر ذلك فيما أتى به من نقول ونصوص … وأنا أذكر جيدا أن هذه القضية كانت مجال صراع كبير في الأربعينيات بين الشيخ محمد بن العربي العلوي والشيخ المدني ابن الحسني بمجلس السلطان محمد بن يوسف في أحد شهور رمضان .. فلقد كان الأول ممن زيف أمر السحر بينما كان رأي الثاني أن السحر أمر موجود وواقع ، وقد استمرت أصداء ذلك الصراع طويلا بيننا نحن الطلبة حيث تسربت إلينا تفاصيل المجلس السطاني الذي انتهى إلى تغلب الرأي القائل بأحقية السحر …(151/18)
وهنا نرى من خلال النصوص التي أوردها ابن صاحب الصلاة أن هذه المسألة لم تكن من السهولة بمكان وأنها استمرت محل نزاع بين العلماء، وهنا سنقف على رأي المازري ورأي عياض الذي أطنب في الموضوع وكذا ابن بطال الذي نجد له هنا في مخطوطة مكناس ما لم نجده في مخطوطة المدينة التي بتر فيها القسم الخاص بالسحر وكأنها لا ترضى على القول بسحر النبي لما يحدثه ذلك من اضطراب كبير في الآراء بين الناس…!
وقد تخلص بعد هذا التدخل الطويل إلى الحديث عن النشرة التي سبق وأن قلنا إنها نوع من رقية يفك بها السحر ، والانفصال على أنها جائزة لتخليص الناس من شرور السحر ، وقد ورد في قول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم : هلا تنشرت ؟ ويذكرون من ذلك أن يأخذ المرء سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ويخلطه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والمعوذات ثم يحتسي منه ثلاث حسوات ويغتسل به فإنه يذب عنه كل ما به …
الحديث الواحد والعشرون :
قوله صلى الله عليه وسلم : العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين وإذا استغسلتم فاغتسلوا ".
وعن هذا الحديث أيضاً يستدل بما رواه عن المازري الذي يذكر أن الجمهور من علماء المسلمين أخذوا بظاهره بالرغم من إنكاره من لدن طوائف من المبتدعة، وقد نقل ابن صاحب الصلاة أن بعض الطبائعيين المثبتين للعين أن العائن تنبعث من عينيه قوة سمية تتصل بالمعيون إلى آخر الحديث الطويل الذي استدل فيه أيضًا بنصوص القاضي عياض والباجي والمازري الذي بيَّن كيفية الوضوء بالنسبة للعائن، وقد عاد إلى عياض الذي تمم الكلام على ما يتعلق بغسل العائن على نحو ما قالته البقية من الفقهاء والمحدثين أمثال ابن رشد والباجي وابن عبد البر وابن بطال .
وتنتهي النصوص الواردة إلى ضرورة اجتناب العائن والحرز منه بل وأمر الإمام له بالتزام بيته لأنه أصبح في حكم المجذومة التي منعها عمر بن الخطاب من الطواف !!
الحديث الثاني والعشرون :(151/19)
رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل فقال : ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة !
والحديث كما نرى يتعلق أيضا بالإصابة بالعين، وهنا نجد ابن صاحب الصلاة يستعين على إظهار الأحكام بما ورد عن الرواة وعن البادي، وأن النبي دعا عامر ابن ربيعة وتغيظ عليه قائلا : علام يقتل الرجل أخاه؟ ألا بركت ؟ أي ألا قلت: تبارك الله … إلى آخر النصوص .
الحديث الثالث والعشرون :
لا يورد ممرض على مصح : والقصد إلى أن الممرض أي صاحب الماشية المريضة لا ينبغي له أن يختلط مع صاحب الماشية الصحيحة فيؤذيه …
وهذا موضوع آخر يتعلق بالعدوى حيث نجد نقولاتٍ جد مهمة عن الباجي(1) الذي يطرح موضوع : هل أن الحديث منسوخ بالحديث
الآخر: لا عدوى .. وماذا يعني قوله صلى الله عليه وسلم : فرَّ من المجذوم فرارك من الأسد " .
ويأتي ابن صاحب الصلاة بعد هذا بما أورده المازري حول الموضوع محاولاً الجمع بين مدلول الحديث الذي يفرض حظر اتصال المرضى بالأصحاء والحديث الذي يقول : لا عدوى .
ويختتم ما يوجد من مخطوطة بمكناس بالنقل عن ابن بطال : وزعم بعض أهل البدع ، ويقصد به إلى الجاحظ عن النظام حسبما يوجد في مخطوطة ابن بطال بالمدينة المنورة ،
أقول زعم ذلك البعض أن قوله عليه السلام لا عدوى يعارض قوله " لا يورد ممرض على مصح"كما يعارض
" فر من المجذوم فرارك من الأسد" … وقوله لا عدوى إعلام منه لأمته أنه لا تأثير لذلك حقيقة ، وقوله لا يورد ممرض على مصح نهى فيه للمريض أن لا يورد ماشيته المرضى على ماشية أخيه الصحاح لئلا يتوهم المصح أن مرض ماشيته الصحيحة إنما حدث من أجل ورود المرضى عليها فيكون ذلك داخلاً في وهمه (1) .
عبد الهادي التازي
عضو المجمع من المغرب(151/20)
مَعاجِمنا العِلْميَّة *
للأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد
... نحن جميعًا ننادى من فوق هذا المنبر ، ومن فوق كلِّ منبر متاحٍ لنا في بلد عربيّ ، بتعريب لغة العلم . ولا أقول تعريبَ العلم ، كما يجرى على ألسنة بعضنا أحيانا ، فتعريب العلم قضيةٌ أكبر حجما وأوسع مدًى ، ولكن تعريب لغة العلم خُطوة أساسية نحو بلوغها . بل إننا في الجمعية المصرية لتعريب العلوم، مثلاً ، نكاد نقصر دعوتنا في الوقت الحاضر على تعريب التعليم العالي ، لأنه هو الذي يمكِّن من تعريب التعليم كلِّه ، وتعريبِ لغة الأعمال ، وتعريب الثقافة العلمية ، وتأصيلِ الروح العلمية وتقدير دور العلم في الحضارة المعاصرة بين أبناء أمتنا والتوحيدِ بين أهل الثقافتيْن منهم، كما يقال . ( عبد الحافظ حلمي محمد ، 1994) .
... وتؤدى المعاجم العلمية دورًا
أساسيا في تعريب لغة العلم ، ومن ثمَّ ينصرف قسط كبير من جهودنا في مجمعنا بالقاهرة في وضع المعاجم العلمية في شتَّى التخصصات . وتشمل دائرة اهتمامنا العلومَ بإطلاق، فهي تضم ـ إلى جانب معاجم العلوم الطبيعية والرياضية ـ معاجمَ العلومِ الشرعية والفلسفية والإنسانية، فلا يخرج من دائرتها سوى معاجم اللغة الأصيلة بأحجامها ومستوياتها وأهدافها المختلفة . والمعاجم العلمية لها مطالبها وخصائصها التي تنفرد بها دون معاجم اللغة. ونحن ننهمك في عملنا وننغمس فيه ، فلا تكاد تُتاح لنا فرصةُ التقاط الأنفاس وتَدَبُّرِ ما نصنع. ولكنْ فضلا على النقاش الموضوعيّ حول مدلولات مصطلحات المعاجم نفسها ، يثور بين الحين والحين جدل، ويدور حوار، حول مسائلَ مَنهجيةٍ
وأمورٍ مُعجمية ومبادئَ عامة،لا يسمح المجال في المعتاد باتخاذ أحكام قاطعة فيها .(152/1)
... وهكذا ظهرت الحاجة إلى أن يكون لنا وقفةٌ لدراسة هذه الأمور . وبحكم " مشاغباتي " المتكررة ، بدا أنه ينبغي علىَّ أن أصدع بالأمر ، وأن أحمل هذه الأمانة ، فكنت ظلومًا لنفسي ، ولكنني أرجو ألا أكون جهولا أيضا ، بل جاهلا فحسب . فأنا لست من أهل علم المعجميات ، وإنْ كنت مدمنًا الاطلاع على المعاجم ـ أحيانا حتى بغير قصد ـ وممارسًا للاجتهاد في صناعة المعاجم ، والموسوعات أيضا ، وفيها من المعجمات مشابه . فقلت أعمل بقول أجدادنا: سلْ مجرِّبًا ولا تسألْ طبيبا . ورأيت أن نستأنس فيما نعرض بآراء هذه الصفوة من العلماء في مؤتمرنا السنويّ . وهكذا تورَّطت ؛ ولكنْ تفلَّت الوقت منى، فإذا بالمؤتمر ـ الذي أعلم ميقاته منذ عام مضى ـ يفاجئني، ولم أتمكن من إعداد ما قصدت إليه كما أهوى وكما يليق بمقامكم . فقنعت بأن أقدم بعض ما يدور بخاطري ، ليكون " ورقةَ عمل " ـ كما يقولون ، تحرك السكون، وتقدح الأفكار، ولعل في هذا بعضَ ما نرجوه. وليس في موضوعنا خروج على مِنهاج مؤتمرنا، فهو يتناول الفصيحَ الذي نتوخاه في معاجمنا العلمية ، ويتجنب العامية .(152/2)
... والأعمال العلمية تتحدد بالغايات التي تهدف إليها . فمجمعنا يبتغي من إعداد معاجمه العلمية توفيرَ مصادرَ معتمدةٍ تهيئ لمن يراجع أيًّا منها ـ فيما أرى : أولا : مقابلاً عربيا صحيحا للمصطلح العلمي الذي يعرض له فيما يقرأ أو يكتب ، وثانيا: تحديدًا دقيقًا ووافيا لمعنى هذا المصطلح ، وثالثاً : رفيقا مساعدًا له في دراسته ، وذلك بفضل نظام محكم من الإحالات في المعجم الذي يرجع إليه . ولو كان الهدفُ الأول وحده ـ وهو توفير المقابلات العربية للمصطلحات ـ هو غايتَنا ، لكفي إعدادُ مساردَ بالمصطلحات الأجنبية ومقابلاتها العربية ـ مع وجود معجم أجنبي متخصص جيد بين يدَيْ الدارس . ولكن هدفنا الثاني ـ وهو إعداد التعريفات الدقيقة للمصطلحات ، يبتغي إغناءه عن ذلك المعجم الأجنبي، الذي قد لا يكون مستطيعًا الحصول عليه أو قراءته بفهم كامل. ثم إن للتعريفات فائدةً أخرى ، وهى تحديدُ المدلولِ المراد للمصطلح ، لأنه قد تكون له دلالات مختلفة ـ حتى في العلم الواحد . وأما عن الهدف الثالث، الذي لا يتأتَّى إلا بإحكام الإحالات ، فأرجو أن أتكلم عنه بشيء من التفصيل فيما بعد . وثمة هدفٌ رابع من إعداد معاجمنا المجمعية المعتمدة ، وهو أنها خطوة مهمة في سبيل شيوع المصطلحات العربية وتوحيدها في أرجاء الوطن العربي ، وإنْ كان هذا موضوعا آخر ، قد يكون قائما بذاته .(152/3)
... فإذا تساءلنا لمن نُعِدّ معاجمنا ؟ قلت : إننا نعدها للأستاذ والطالب ، والقارئ المتخصص وغير المتخصص، والمؤلف والمترجم . وعلى هذا فليس الصواب أن نتخلَّى عن صحة تعريفاتنا ودقتها بدعوى أنها يجب أن تكون مناسبةً لتلاميذ المدارس . نعم ، ينبغي أن تكون ميسَّرة غيرَ مستغلقةٍ على الأفهام، ولكن في حدود . أما ما يناسب التلاميذ فهو من اختصاص التربويين ومؤلفي الكتب المدرسية . وقد يدعو الأمر إلى إعداد قواميس خاصةٍ مناسبة لأعمارهم ومراحلهم الدراسية، وتجمع بين أكثر من علم واحد . وينبغي أن أنبِّه وأن أنتبه، قبل أنْ أستطرد إلى جوانبَ أخرى من الموضوع ، إلى أننا الآن بصدد المعاجم لا المصطلحات ، فموضوع صوغ المصطلحات قضية، أو قضايا، قائمة بذاتها تكلمنا فيها كثيرا ، ويبدو أننا سوف نتكلم عنها طويلا !
... والتعريفات تنال جُلَّ عنايتنا وتستنفد معظم أوقاتنا ، وهى التي تتطلَّب أن يقوم بإعداد المعجم العلمي أساتذة لهم دراية واسعة بتخصُّصاتهم. بيد أنَّ للتعريفات تكاليفَ ، أهمها أنها تزيد من حجم المعجم كثيرًا. وهذا قد يدعونا إلى محاولة تحديد ذلك الحجم ؛ مثلا : بالتزامنا بمعجم أجنبي معين . ولكن معجمنا العلمي ليس ترجمة عربية لأي معجم أجنبي واحد بعينه، ولا ينبغي له أن يكون . بل إنه يجب أن يكون قائما على محاولة الشمول ، والتنسيق ، وحسن الانتقاء من مصادر متعددة، من المعاجم والكتب وغيرها من المراجع المعتمدة ؛ ولذلك قلنا إنه يجب أن يعدَّه الأساتذة الخبراء . ولكن لا بأس من اختيار معجم متخصص حديث ذي سمعة عالمية رفيعة ، كي يكون هيكلا أساسيا ، يُزاد عليه ، ويحذف منه، بل تصوَّبُ مادته ـ كما يحدث في كثير من الأحيان .(152/4)
... وهذا يؤدى بنا إلى تساؤل آخر: ما هو الحدُّ المناسب في تعريف المصطلح؟ إننا نرى أحيانا تفاوتا في معاجمنا بين الإيجاز الشديد ، الذي يكاد يخلو من الدلالة ، أو الإطنابِ الذي يثير ـ على الدوام ـ اعتراض مجلسنا الموقر . ولكننا نهتدى بالخبرة إلى ما يُعدُّ تعريفا للمصطلح مفيدًا ووافيا . وسأضرب مثالا ، مما تشرفنا بعرضه عليكم هذا الصباح :
درجة الكلوريَّة
chlorinity
قياس المحتوى الكلورى لماء البحر مقدرا بالوزن [1] . وتعرَّف بأنها كمية الكلور ، مقدرة بالجرامات، في كيلو جرام واحد من ماء البحر [2]. والدرجة الكلورية ودرجة الملوحة مقياسان للملحيَّة saltiness لماء البحر. ويمكن أن يعبر عن العَلاقَة بينهما رياضيا بأن درجة الملوحة تساوى 1.80655 من الدرجة الكلورية [3].
... ويمكننا أن نتوقف عند نهاية المستوى الأول ، أو نهاية المستوى الثاني ؛ ولكن يبدو جليا ـ للمختص ـ أن الفائدة لا تتم إلا بذكر المستوى الثالث أيضا. ( والمستويات الثلاثة تدل عليها الأرقام المحصورة بين الأقواس ، وقد أدخلتها هنا، وليست في التعريف الأصليّ ).
... ومن الأمور التي نحرص عليها في صوغ تعريفات مصطلحاتنا تحقيقُ أسماءِ العلماء الذين يرد ذكرهم في المصطلح ، وجنسياتِهم ، وتاريخ حياتهم أو تاريخ وفاتهم ، أو تاريخ عملهم العلمي الذي يشار إليه . أما أسماء الأعلام والأعيان الطبيعية، كأسماء النباتات والحيوانات ومجموعاتها التصنيفية فتكتب بصيغها العلمية الرسمية ، فضلا على أسمائها التي تشتهر بها في لغة أجنبية دارجة وفي اللغة العربية ، على ما في هذا من صعوبات بالغة تواجهنا في بعض الأحيان ( عبد الحافظ حلمي محمد ، 1995) . ومثل هذا يقال عن أسماء المعادن والصخور والعصور الجيولوجية، ونحوها . وكذلك تحرص التعريفات على ذكر الصيغ الكيميائية للمواد، والثوابت والمعامِلات الفيزيقية والرياضية، وما إلى ذلك من الأمور العلمية الفنية الدقيقة .(152/5)
... والخوف من تضخم المعجم قد يدفعنا إلى علاج الموقف بحذف مداخلَ كاملة من المعجم الذي يُنظر في إعداده . وهذا ما اضطُرَّت لجنة مصطلحات الكيمياء والصيدلة، مثلا ، إلى فعله. فقد حذفت اللجنة، فيما أعلم، كثيرًا من أسماء المواد الكيميائية والصيدلانية على أنها ليست مصطلحات ، بمعنى الكلمة ، ولا يتغير مبناها من لغة إلى أخرى . وهذا أسلوب له محاذيره ، إذا تذكرنا الأهداف الثلاثة ، أو الأربعةَ ، التي قلنا إننا نبتغيها من إعداد معاجمنا ، فمنها التزويدُ بالمادة العلمية ، التي تغنى القارئَ عن اللجوء إلى معجم أجنبي . كذلك هناك أسماء شائعة لموادَّ لابد من تفسيرها ، مثل :Paris green, common salt ,Epsom salts ونحوها . وثمة اعتراض آخر يوجه إلى بعض المصطلحات على أنها كلمات لغوية عادية . ولكن هذه الكلمات العادية ترد في المعجم العلمي لأنها تكون قد اكتسبت دلالة اصطلاحية معينة. ويشيع في المصطلحات المستحدثة، وبخاصة بين العلماء الأمريكيين ، استعمالُ ألفاظ الحياة اليومية العادية، والعزوفُ عن المصطلحات التقليدية أو اللاتينية أو الإغريقية الأصل ، كما في gene library , luxury genes , housekeeping genes أو gene bank !(152/6)
... وعندما تتجمع النذر بتضخم معجم علميٍّ ما عن الحدود المقبولة عمليا ، قد يعالج الموقف بأسلوب آخر : وهو توليد معاجم فرعية ، في فروع مستقلة من العلم الذي يتناوله . فمثلا، معجم علوم الأحياء والزراعة ، يتحمل في الواقع أعباء جملة من العلوم في وقت واحد . والجمع بين هذه العلوم بين دَفَّتَىْ معجم واحد أمر مفيد ولا شك ، ليس من الناحية العملية وحدها ، وإنما من نواحٍ فنية أيضا : فبعض المصطلحات أقرب لأن يكون عاما مشتركا بين علوم الأحياء جميعا . ثم إن مرتاد المعجم قد يتعذر عليه أن يحدس في أي فرع من علوم الحياة والأحياء يقع المصطلح الذي يريده ، وهو جاهل أصلا بمعناه، في غالب الأمر .ولكن قد يكون الحل هو: الحفاظَ على معجم عام في علوم الحياة يستبعد التفاصيل الدقيقة في الفروع ، ثم إعداد معاجمَ مستقلة في علوم : الحيوان ، والحشرات ، والنبات والأحياء الدقيقة ، والوراثة والبيولوجيا الجزيئية ، والإكولوجيا وعلوم البيئة ، وغيرها. والتخطيط لعمل هذه المعاجم مسألة دقيقة للغاية ، لوجود التداخل الكبير بينها ، ولضرورة التعرض للتفاصيل الدقيقة في هذه الفروع المستقلة . وعلى هذا المنوال أيضا ، تنشأ مشكلة العلوم البَيْنيَّة ، التي قد يتطلب بعضها ، حين يكتمل كيانه ، معاجم مستقلة .(152/7)
... وثمة مشكلة أخرى تجابه معاجمنا العلمية ، وهى الاجتهاد في حلِّ المعادلة الصعبة بين بطء عملية الإعداد ، وضرورة مواكبة الحداثة . وهذا موقف فيه كثير من التحدّى ؛ فمنهاجنا الرصين القويم منهاج طويل، يتضمن الالتزام بمرور المصطلحات العلمية من اللجنة المختصة ، ثم إلى مجلس المجمع ، ثم إلى المؤتمر السنوىّ ( وفي هذه المراحل الثلاث مداولات لا تكاد تنتهي،كما تعلمون)، ثم إلى مجموعة المصطلحات السنوية، ثم إلى المعجم المعدِّ للطباعة ، ثم صدورِ المعجم . ومن ناحية أخرى ، أمامنا ذلك السيل من المصطلحات الجديدة التي تتدفق علينا كل يوم . وإعداد طبعة جديدة من معجمٍ ما، لا يتأتَّى إلا بعد مراجعة الطبعة السابقة مراجعةً شاملة،مع إضافة المستحدثات إليها ، حين تُستوفى في حروف الهجاء جميعا ـ لا قبل ذلك ـ ، وبعد مرورها في سباق الموانع الذي ذكرت. وعند إصدار الطبعات الجديدة المراجَعَة، قد يُنظر في استبعاد المصطلحات التي أصبحت بائدة أو قليلة الاستعمال، ولو أن بيننا من يرى فائدةً في الإبقاء عليها، لأنها لن تمحى آليًّا من الأعمال العلمية القديمة المنشورة التي يراجعها الباحثون .(152/8)
... ومن الحلول التي يلجئنا إليها أسلوبنا المتأنِّى في إعداد المعجمات العلمية إصدارُ المعجم الواحد في أجزاء ، يفصل بين صدور الجزء الواحد منها وما يليه مدة قد تطول سنوات . ولكن هذا الأسلوب فيه عيبٌ واضح ، إذ إن المعجم ـ بداهة ـ لا تتم فائدته إلاَّ حين تكتمل أجزاؤه . ثم إن صدور أجزاءِ المعجم متفرقة لا يكفل لها عنصرَ التعاصر والتجانس، من حيث حداثةُ المادة العلمية وأسلوبُ المعالجة ، ولا عنصرُ التماسك الذي يتوفر بالإحالات المحكمة. ويقلِّل من أهمية هذه المآخذ أن اللجان تنظر إلى المعجم في هيئته الكاملة ، حتى وهى تدرس جزئياته . ولكن لعل العلاج الأوفى هو الإسراعُ بإعداد طبعة كاملة من المعجم ، بعد صدور آخر أجزائه، ومراجعة الأجزاء كلها مراجعة شاملة.وهى كلها حلول باهظة الجهد والتكاليف ، والله المستعان .(152/9)
... ثم نأتي الآن إلى طائفة من الإجراءات أو التقنيات المعجمية . أولها: كيف نرتب المداخل في معاجمنا العلمية. الجواب ، على البداهة، هو الالتزام بترتيب المداخل الأجنبية بهجائها ، وفقا للأساليب المتبعة ، لأن المُراجع يدخل إلى المجهول من باب المعلوم عنده ، أو ـ بلغة أخرى ـ يدخل إلى الأجوبة من باب الأسئلة . فإضافةً إلى مدلول المصطلح يبتغى المراجع معرفة مقابله العربي ، الذي لا يعرفه تأكيدا . ولا عبرة هنا بالقول بأن الأَوْلوية ينبغي أن تكون للغة العربية .. فالذخيرة عربية، والمفتاح أجنبي . ولكنْ، على افتراض أن المصطلح الذي يعترض القارئ عربي ، ويريد أن يعرف مدلوله ومقابله الأجنبي ، يمكنه أن يجد ضالته عن طريق مسرد عربي/ إنجليزي ( على افتراض أن الأصل إنجليزي ) يأتي في نهاية المعجم ، وحبَّذا إِتْباعُ هذا المسردِ بآخرَ فرنسي/ إنجليزي ، حتى يتكاملَ المعجم وتعمَّ فائدته في المشرق والمغرب العربي العربيين . ولكن عندما شرع أساتذة الفلسفة في مجمعنا ، مثلا ، في عمل معجم لمصطلحات الفلسفة الإسلامية ، والتزموا بهذه القاعدة، كنتُ أوَّلَ من نادى بأن يكون المدخلُ في هذا المعجم – وأمثاله – عربيا، كما يقضى المنطق السليم ، لأن معظم المداخل أصلها عربي ، وتجتهد اللجنة في تفسيرها وإيجاد مقابلات أجنبية لها. وارتاحت اللجنة إلى هذا الاقتراح وأخذت به .(152/10)
... ومن الأمور التي تعترض عملنا أحيانا ، أن يكون للمصطلح الواحد أكثرُ من معنًى واحد . وقد تكون هذه المعاني في علوم مختلفة ، وعندئذ ترد في معاجم تلك العلوم المختلفة ، دون إشكال . ولكن معاجم بعضِ العلوم الأخرى قد يضم المصطلح نفسه،وعندئذ ينبغي أن يستعير هذا المعجمُ مقابله العربي وتعريفه من معجمه الأصلي ؛ وهذه قاعدة متبعة عندنا في معظم الأحيان ، إلا إذا رُئى أن يُعرَّف المصطلح تعريفا أكثر مناسبة للمعجم المستعير . وعند تعدد المدلولات ، يجوز لمعجمٍ أن يقتصر على المعنى الذي يناسبه من معاني المصطلح، إذا لم يكن ثمة داعٍ إلى الإشارة إلى المعاني الأخرى. وبعض الصفات ، أو الأسماء ، قد يتغير معناها من مجال إلى مجال ، وعندئذ يكون الحلُّ هو عدم إيرادها مجردة، بل متصلة بموصوفاتها، كما في قولنا : molar teeth، و molar
solutions ، مثلا .
... وعندما يكون للمصطلح الأجنبي أكثرُ من معنًى واحد، يمكننا أن نضع له مقابلاتٍ عربيةً بعدد تلك المعاني أو بعضها ، إذا كان ذلك مناسبا ، لفضِّ الاشتباك بينها ، كما يقولون ؛ ولكن هذه قضية مصطلحية، قبل أن تكون مشكلة معجمية . وعند تعدد المعاني ، يحسن أن يأخذ كلُّ معنىً رَقْما فرعيا ( وربما مقابلا عربيا مستقلاًّ أيضا، كما قدَّمنا ) . ولا بأس من أن يُشار إلى فرع العلم الذي يقع فيه ذلك المعنى ، إذا كان ذلك واردًا. وإذا لم يكن لكلٍّ من هذه المعاني مقابلٌ عربي مختلف ، تُرتب ترتيبا تنازليا وفقا لأهميتها .(152/11)
... وعلى الرغم من الدقة التي يتوخاها العلماء في وضع مصطلحات علومهم ، قد يحدث ترادف بين بعضها وبعض ، لأسباب كثيرة ، منها ما هو تاريخي ، ومنها ما هو موضوعي يختلف باختلاف الزوايا التي يُنظر منها إلى المصطلح الواحد. ففي معجم الرياضيات ، مثلا ، نجد : Abelian group ، و commutative group اللذين ترجمهما المعجم إلى : زمرة آبلية ( نسبة إلى عالم الرياضياتAbel ) ، وزمرة إبدالية (نسبة إلى خاصة الإبدال المميزة لها). والحل الذي اتخذه معجم الرياضيات ، مُحِقًّا ، هو وضع مقابلين عربيين ، ووضع علاقة التساوي بين المصطلحين الأجنبيين، وكذلك بين المصطلحين العربيين.( وسوف نعود إلى هذا عند التكلم عن نظام الإحالات، بعد قليل ) .(152/12)
... والخلاف بين اللغتين العربية والإنجليزية في علاقة الصفة بالموصوف ، والمضاف والمضاف إليه ، يفرض نفسه في ترتيب المداخل في المعجمات العلمية. فالوصف "primary " ، مثلا ، يأتي قبل موصوفه في نحو ثلاثين مصطلحا في أحد المعاجم البيولوجية . وتأتى هذه المصطلحات متلاحقة وفق الترتيب الهجائي لموصوفاتها ، أما مقابلاتُها العربية فَتُوَزِّعها على عدد كبير من حروف الهجاء ، وقد يكون هذا هو الأقربَ إلى المنطق السليم(لأن الهدف الحقيقي هو الموضوعات ) . والعجيب أن ذلك المعجم الإنجليزي لا يلجأ ـ في هذه الحالة ـ إلى توزيع هذه الموصوفات في مواضعها الهجائية ، متبوعة باللفظ primary ، وبينهما فاصلة ، كما يتبع في أحوال مماثلة . ولكن معجم المجمع في الكيمياء والصيدلة، مثلا ، أورد نحو 250 حَمضًا تحت لفظ acid ، متبوعًا كلَّ مرة بفاصلة ثم باسم حمض معين بذاته . بيد أنه لجأ إلى علاج الوضع ، من ناحية أخرى ، بإيراد هذه الحموض ، أو معظِمها ، بصياغتها الإنجليزية الطبيعية التي تقدم الموصوف ، فوزعها على عدد كبير من حروف الهجاء ، مثل acetic acid في حرفA ، وglutamic acid في حرف G ، و sulfuric acid في حرف S ، وهكذا ، ذاكرًا في كلِّ مرة : "( انظر:حمض acid) " . وهذا الوضع يحاول معالجة الموقف من طرفيه ، وأن يجمع بين الحسنيَيْن ، ولكنه أدخل في المعجم مداخل بضِعْفِ عدد الحموض المعنية ( نصفها مداخل تدرج ، ويحالُ منها إلى : acid ، ولكنها تشغل حيزا على كلِّ حال ) . وقد يكون المنطق أن تورد الحموض بأسمائها دون قلب ، لأن هذا هو الذي يتجه إليه مُراجع المعجم عادة . وقد يرى مؤلفو المعجم أن يحيلوا قارئهم كلَّ مرة إلى مصطلح " acid" ( للإلمام بتعريف الحمض بصفة عامة ـ إذا كانت هناك ضرورة لذلك ، وهو أمر مستبعد ). وهذا الإجراء لا يضاعف عدد المداخل في المعجم .أما جمع الحموض المنصوص عليها في المعجم كلِّها في مكان واحد فلا يبدو أنه يحقق(152/13)
هدفا معجميا ، إنما هو أقرب إلى أسلوب فهارس الكتب الكاشفة .
... وهذا الذي قدمته ليس قاعدة صمَّاء، ففي بعض الأحيان يكون من المفيد لمراجع أن يحدد عددًا من المصطلحات يجمع معاً أوصاف موصوف واحد . وذلك من قبيل ما رأيناه في مجموعة مصطلحات الرياضيات بالأمس القريب ، عندما جُمع من أوصاف وخصائص الخط (line) في حيز واحد:broken line,، وline, directed ،وideal line, … إلخ ( ولو أنني أعتقد أنه ليس هناك وجه لضم line,half معها ، لأنه مدخل مستقل بمعنى " نصف خط " وليس " خطا نصفيا "، فلا يأتي إلا فيhalf – line .كذلك جُمع بين– line, و– lines, في مصفوفة واحدة ؛ وهذه مسألة فيها نظر ) .
... وما قدَّمناه عن مصطلح "acid"، يصدق على كثير من المصطلحات التشريحية ، التي يُجمع عدد كبير منها تحت : artery و vein و nerve وmuscle ونحوها . أما في مصطلح “bone” ( عظم ) ، فقد لا يلتصق اللفظ بأسماء كثير من العظام ، التي تعرف بأسمائها مجردة ، مثل clavicle ( الترقوة ) . واتِّباع الأسلوب اللاّتينيّ في تسمية الأجزاء التشريحية يجعل ترتيبها متَّسقًا مع ترتيب مقابلاتها العربية ( تحت مصطلح واحد ، هو الموصوف ) ، أما عند اتباع الأسلوب الإنجليزي ، فيختلف الترتيبان ، مثلا : المصطلحات sinus caroticus وs.cavernosus ، وs.venosus تأتى كلُّها وأضرابها تحت " sinus " ، وفي العربية تحت "جيب " : الجيب السُّبَاتى، والجيب الكهفي ، والجيب الوريدى ، على الترتيب . أما اتِّباعُ الأسلوب الإنجليزي فيفرقها إلى blood sinuses، و cerebral sinuses، وcervical sinuses وهكذا. وأما مقابلاتها العربية فتأتى تحت " جيوب " ( جيوب دموية ، وجيوب مخية ، وجيوب عنقية ، على الترتيب ) .(152/14)
... وهذه كلها ، وأمثالها ، مسائل فنية لا يستعصى حلُّها على دقة تحليل المواقف وحسنِ التصرّف فيها ، ولكن القاعدة الذهبية هنا ، وفي كثير من الأمور المعجمية الأخرى، هي : الالتزام والاطِّراد ، أي اتباع قاعدة واحدة في المعجم الواحد ، دون استثناء ـ إلاّ ما يقع في حدود الخطأ البشرى الذي يبتغى الكمال ولا يبلغه ، أو لأسباب منطقية ملجئة للمخالفة .
... ثم نأتي في الختام إلى قضية لعلها أهم القضايا المعجمية جميعا ، وهى أسلوب الإحالات . وأعتقد أن أسلوب الإحالات المحكم هو أكبر خدمة علمية معجمية يقدمها صانعو المعجم إلى مراجعيه ، وهى التي ترفع قيمة المعجم درجات، إن حَسُن أداؤها. ونظام الإحالات ، بطبيعته ، نظام معقد متشابك ، ولكننا لاحظنا ، في أثناء مراجعاتنا لمصطلحات معاجمنا في مجلس مجمعنا ، أن لجاننا تذهب أحيانا طرائقَ قِدَدًا ، ومن ثم كانت الدعوة إلى تبادل الرأي والخبرة ، ابتغاء توحيد الأسلوب . وسأحاول أن أوجز في ختام حديثي ما أرى أنه أهمُّ قواعد الإحالات في المعاجم العلمية :
1-في حالة الترادف الكامل :
أ - يُذكر المترادفان الأجنبيان وبينهما علامة تساوٍ ، ويدرجان وفق هجاء المرادف الأول منهما، ويذكر أمامهما المقابلان العربيان بالترتيب نفسه .
ب- يُكتب التعريف كاملا عند ذكر أهم المصطلحين وأكثرهما استعمالا وشيوعا . ( ولا يحال منه إلى المرادِف الآخر ) .
جـ –يُدرج المرادف الثاني ، الأقلُّ أهمية ، في موضعه الهجائي مع مرادفه الثاني وبينهما علامة تساوٍ ( على عكس الوضع في" ب " ). ويكتب أمامهما المقابلان العربيان بالترتيب الوارد هنا . ولا يكتب أي تعريف ، إنما يكتب أول السطر ، ودون قوسين :
انظر : …………
وتكون الإحالة المنطقية إلى المصطلح الإنجليزي الأشيع، لأن مفتاح المعجم إنجليزي ، ولا ضرورة لذكر المقابل العربي في عبارة الإحالة.( وعكس هذا إذا كان مفتاح المعجم عربيا،كما تقدم).(152/15)
د- التعريف يكتب مع المصطلح الأهم والأشيع كما تقدم ، وليس أمام أول المترادفيْن ورودا في المعجم ( لأن المعجم ليس كتابا يقرأ بترتيب صفحاته ) .
هـ –بعض المجتهدين ينادى بأن يكون للمترادفين الأجنبيين مقابل عربي واحد . ولكنْ هذه مسألةٌ " مصطلحية لا " معجمية "، ولعلَّ الأفضل ذكر مقابلات عربية بعدد المترادفات الأجنبية. مثال ( مما عرضناه عليكم اليوم ) :
chromosome deficiency = chromosome deletion
قصور كروموسومىّ = حذف كروموسومىّ .
انظر :chromosome deletion . ...
وفي موضع آخر :
chromosome deletion = chromosome deficiency
حذف كروموسومىّ = قصور كروموسومىّ
( التعريف …………)
( وقد يكتفى هنا بذكر المرادف الأهم وحده ، فتقول :
حذف كروموسومى
chromosome deletion
( التعريف …………)
د-واضح أنه لا يتكرر التعريف الواحد مرتين في المعجم إطلاقا . ( يحدث أحيانا أن يُذكر التعريف بصيغتين مختلفتين أمام كل من المترادفين، وهذا خطأ منطقي بيِّن ) .
2-إذا ورد في التعريف مصطلح أو عبارة يُخشى ألا يعرفها القارئ ، يحال بعدها مباشرة في المتن بين قوسين إلى مصطلح يفسرها … ( انظر : … ) …
3- إذا قدَّر المؤلف أن التعريف بعامة
لا يُفهم، أو لا يتم فهمه، إلا بالرجوع إلى مصطلح أو مصطلحات أخرى ، يحيل القارئَ في أول السطر بعد نهاية التعريف ، إلى ذلك المصطلح أو تلك المصطلحات ، ويكون ذلك بين قوسين.
( انظر : ……… ، و ………… ) .
4-إذا رأى المؤلف أنه من المفيد أن يحيل القارئ إلى مصطلح معاكس أو مقابل ، يذكر في أول السطر :
( انظر : ………) .
أو : ( قارن :………) .
5-إذا رأي المؤلف أن يفيد القارئ بإحالته إلى مصطلح آخر ، أو عدد من المصطلحات الأخرى ، يستكمل بها إحاطته بالموضوع المعنىِّ، ذكر في أول السطر بعد التعريف :
( انظر أيضا:…… ، و ……، و…).
6-قد يُجمع بين المطلبين في " 4 " و " 5 " على النحو التالى :
( انظر : ………؛ وانظر أيضا : ……) .(152/16)
7- قد يلجأ واضعو المعجم إلى
اختصار عبارات الإحالة على الوجه التالي :
أ= انظر .
أأ = انظر أيضا .
ق = قارن .
8-عند الإحالة إلى مصطلح آخر، لا يقال: ( انظر…… في هذا المعجم )، لأن هذا من نافلة – أو سَقَط ـ القول. ولا يحال قارئ المعجم إلى معجم آخر – حتى إن كان من أعمال المجمع ، ويترك هذا لاجتهاده ، أو التوجيهات من قبل واضعي المعجم في مقدمته .
9-قد لجأ بعض المعاجم إلى كتابة المصطلح الذي يراد الإحالة إليه، إذا ورد في متن التعريف ، بفنط أسود ( ثقيل ) . ويحسن في هذه الحالة أن هذا " الفنط" لا يستعمل إلا في ألفاظ المصطلحات وحدها . ( وهذا قيد محدِّد ) .
10-بدلا مما سبق في "9" يميَّز لفظ المصطلح بوضع علامة نجمية صغيرة تعلو بدايته لا نهايته ( في اللغتين العربية والإنجليزية،وغيرهما)، لأن البداية هي التي تقود إلى المدخل الصحيح في المعجم . وينطبق هذا حتى على الكلمات المركبة ، مثلا : وهكذا *atoms ، *atomic weight ، *analytical chemistry. ( وقد رأينا محاولةً من هذا القبيل في مصطلحات الأدب ، التي عرضت علينا ) .
11-القاعدة الذهبية في نظام الإحالات، وغيرها من الإجراءات المعجمية ، هي الالتزام والاطِّراد، كما تقدم.(152/17)
وثمة بضع ملاحظات ختامية أخرى. منها ضرورة ضبط المصطلحات بالشكل وبخاصة حينما يُخشى اللبس . وكذلك في صياغة متن التعريف ، تضبط الكلمات التي يُخشى من نطقها أو فهمها خطأً ضبطًا لغويا، بل تضبط أحيانا ضبطا إعرابيا ، وبخاصة عندما تطول الجمل ، وتتباعد المعطوفات،أو يقدم المفعولُ، ونحو ذلك. وينبغي استعمال علامات الترقيم ، بدقة ولكن بغير تقتير ، لأنها أدوات مهمة للفهم الصحيح . ويجوز كتابة المقابلات الأجنبية لبعض الألفاظ الواردة في التعريف ، بغير إسراف، بقصد تحديد المقصود ، أو التعريف بالمصطلح الأجنبي ، لإمكان الكشف عنه إذا دعت الضرورة . وكذلك ينبغي العناية بجودة الطباعة، وجودة ورق المعجم ، ومتانة تجليده (وحبذا جماله أيضا !) ، لأنه كتاب معدٌّ للرجوع الكثير المتكرر، لا للقراءة مرة واحدةً أو بضع مرات قلائل . وينبغي أن يقدم للمعجم بتمهيد فيه إرشاد للقارئ إلى طريقة ترتيبه ، ونظام الإحالات فيه، وأفضل الوسائل لحسن الإفادة منه .
ومن مشاكل معاجمنا العلمية ، قلة حيلتنا في نشرها وتوزيعها ، على الرغم من أن المجمع لا يردُّ طالبا
يستهديها ، وإنما يجب أن تتاح للبيع أيضا بأسعار رمزية ، لأن البيع من منافذَ متعددةٍ يمكِّن أي قاصد من أن يحصل على ما يريده منها بيسر . وقد سمعت من الزميل الفاضل الأستاذ الدكتور أحمد سالم الصباغ ، منذ أيام، أنه يرجو أن نتمكَّن من تيسير نشر معاجمنا ومصطلحاتنا وأعمالنا المجمعية الأخرى عبر شبكة المعلومات الدولية (الإنترنتْ ).
وأخيرا أعتذر عن أنني أطلت وقَصَّرت: أطلت الكلام ، وقصَّرت في الوفاء بما تصدّيت له. ولكنني أتأسَّى بقول سيدنا شعيب ، عليه السلام :
{ … إنْ أريدُ إلا الإصلاحَ ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب } ( هود : 88)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
عبد الحافظ حلمي محمد
عضو المجمع
المراجع(152/18)
عبد الحافظ حلمي محمد، 1996م. " تعريب التعليم الجامعي: ضرورات ملزمة ، ومنافع مؤكدة ، واعتراضات مفنَّدة " .
بحث ألقي في مؤتمر مجمع اللغة العربية، بالقاهرة ، في دورته الستين– أبريل ، 1994.
مجلة مجمع اللغة العربية، 79 : 25 – 35 .
عبد الحافظ حلمي محمد، 1997م . " الأسماء العربية لأجناس الحيوان وأنواعه ". بحث ألقي في مؤتمر مجمع اللغة العربية، بالقاهرة ، في دورته الحادية والستين – أبريل ، 1995م. مجلة مجمع اللغة العربية ، 81 : 62– 74 .
Lawrence, D.( ed. ) 1990. Henderson’s Dictionary of Biological Terms (10 th ed. )
Longman Scientific and Technical , Essex.
...
...
...(152/19)
من ملحمة الرحيل …*
قصيدة للأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي
ألي في هوًى أرجوهُ نفحةُ واصلِ
وهل أبتغي في الخَطْب نفحةَ نائلِ
معاذَ الهوى لم أبغه غير حاجةٍ
ظللتُ أرجِّيها جوابًا لسائل
أفي رَحِمٍ جذّاء بتّ مرزَّءاً
وقد بُتَّ عن عِرقٍ مدى العمر واصل
مضَى الشمل واعتاصت بهم سُبُل النوى
وأوحش في أهلٍ ضياع المجاهل
إلى أين ، للدار التي حيزَ خيرها
إلى الوارش الموبوء في ذلّ باطل ؟
ومن أين، من أخرى تقبَّض ظِلّها؟
فليس به شِبْرٌ يُعافُ لواغل
أرى صحبيَ الأدْنَيْن شالت نَعامةٌ
بهم فاستبيحوا للدواهي الغوائل
أعِنّي على طلٍّ تعذّر أمره
فكيف أُرجّي بعده صَوْبَ وابل ؟
وهَبْني أخا خطبٍ بفطنة حابلٍ
ولم يكُ من حَبْلى شجون حبائل
ولسْتُ بمجدودٍ تصدَّى لأمره
ببعض مُعينٍ أبَلَج الوجه نابل
ومن أين لي مالا أُطيق امتلاكه
ملاذاً بَيمٍّ لستُ فيه بساحل ؟
* ... * ... *
أخا العصر،هل لي أن أرى في سماحة
وصالَ مُحِبٍّ حافظِ الودِّ حاملِ ؟
لقد حيلَ ما بيني وبين صناعتي
وهل لي أن أجتازَ بعضَ الحوائلِ ؟
وقلتَ : أما تُدلي بدلوك قاصدًا
لجائزةٍ حيزت لبعض الأجادلِ ؟
فقلتُ : أفِقْ عن غيِّ ساهٍ مُضَيَّعٍ
وخذْ حَذَراً مما أرُيدَ لخاملِ
فتلك التي يسعى لها كلُّ سابحٍ
لسلعة ما يحظى بها كلُّ جاهلِ
جوائز قد حيكت ، وقد طار طائر
إلى حيث يُلفَى في حِبالة خاتل
أضاليلُ لا ندري مجال سباقها
وكم يُطَّبَى للسبقِ غيرُ المناضلِ
حداثةُ عصرٍ لسْتَ تعلمُ كُنْههَا
ترامَى إليها كلُّ أخرقَ ناصلِ
هل الفنُّ إلاّ لعبةٌ لا يُرَى لها
سوى كلِّ منبوزٍ بإعياء باقلِ
وأين البليغ السمح في كلماته
بما كان فيها بعضُ سَحْبانَ وائلِ ؟
على عصرِنا فليَبْكِهِ كلُّ ثاكلٍ
ويرثي الذي نشقى به كلُّ فاضل
أخي لسْتَ تدري من حديثيَ جُلَّه
وما أنا عن شيءٍ به خيرُ ناقلِ
خلوتُ لنفسي أستعيد شُجُونَها
ولم أستفدْ ممّا خلوتُ بطائلِ
ولي في ابتعادي عن "غثاء" المنازل(153/1)
تجاربُ ممّا نلتُه في المحافلِ
فما أنا من أمري بذروة منصِبٍ
وغاربه الأدنى إليه، بفاتل
أجِمتُ التي قد لاكَها كلُّ ماضِغٍ
وكم عِفتُ ما قد كان لُهْنَة آكلِ
تَناءَيتُ عن طَرْقٍ تغيَّر رَنْقُه
إلى غيرِ هذا من كريمِ المناهلِ
* ... * ... *
أخا العصر ، إنّ العصر في ظُلُماتِهِ
فكيف أرى في عاجلٍ نورَ آجلِ ؟
وكيف أرى في آخرِ الليل قادمًا
ليبدأ " قرنًا ثالثًا " بالرذائل ؟
أيُزرَع فينا غامرٌ بانَ خُبثهُ
ليحصد منّا عامرًا في سنابل ؟
ويُسأَلُ أهلونا ، وأين لقاؤهم :
متى سَيُنيُر الليلَّ ضوءُ المشاعِلِ ؟
وقالوا لنا في الأمر " عَوْلَمُ " أُمّةٍ
... إلى أُمَمٍ بتَّتْ حبال القبائلِ
أقِلْنيَ عذرًا إنْ جهلتُ جديَدنا
" بَعْولَمةٍ " حيزَتْ لشتّى المقاتل
أليسَ بحقٍّ إنْ تشاءمَ ذو حجًى
وأين أنا من حكمة المتفائلِ ؟
أَنِلْني بيانًا إنْ تداعَتْ خواطري
... يكونُ جوابًا عن شُجُونِ مسائلي
لقد طرقَتْنا الحادثاتُ فلاَحَ في
دُجَى الليلِ لمحٌ من وجود دلائلِ
أفَدتُكَ أنِّي لستُ أدرِكُ " عَوْلمًا "
و" عَوْلَمةً " يقسو بها قولُ قائلِ
وقد كان لي من ذاك في بعض "نَوفَل"
كثير النَّثا سَمْح الجدا والنوافل
وقد أتلَقَّى في مسيريَ "كوثرًا "
... يهمُّ إليه كلُّ صدَيان ناهلِ
وقد كان لي في " حَومَلِ " وهو مشعر
"بسقط اللوى" بين الدَّخول لداخل
مَناسكُ لم أبرح أُصاب بسحرها
فلا أنتَ تدري بعدها سحرَ بابلِ
إذا كان لي هذا فكِيف أُديره
" لعَوْلَمةٍ " راحت بدَأبيَ شاغلي
وكيف أراني عند "خَصْخَصةٍ " شدا
بها كلُّ مفتون "بغربٍ " مطاولِ
وأخرى عرفتُ الضيمَ فيها وإنّها
" تخاصية " يسطو بها غير فاعلِ
ولستُ أراني عند " خوصصةٍ " مشى
بها ذو هوًى في "مغربٍ" غير حافل
أخي بعضَ عذرٍ إن تجاوزتُ مجلسي
ورُحتُ إلى جدٍّ من الخطب نازل
عرفتُ به أن المصيبة محنةٌ
وأنّا امتُحِنّا في شرور النوازل
* ... * ... *
" تقول التي من بيتها خفَّ محملي " :(153/2)
إلى أين تسعى في حديث الأوائل؟
إلى أين تسعى في ديار تضاءلت؟
وقد صيحَ في ربعٍ بها متضائل
إلى أين ؟ لا تلك الديار سخيّة
وهُنّ ، وقد ألْوَيْنَ ، غير أواهل
إلى أين تسعَى لستَ في ميعة الضحى
وما أنت في ضافٍ من العمر رافلِ؟
أللدارس الماضي القديم بخيره
ولم يَخْلُ من شرٍّ بغيض الطوائل
تَحمَّلَه أسلافُنا بَرويّةٍ
وفاتوا ولم نلقَ المصير بطائل
كأني بك المفتون في غير معشرٍ
عدَلتَ بهم عن حاضر غير آمل
وما أنت فيهم لو سمعت ضجيجهم
وجَعْجعةً لا طِحْن فيها لباذل
" فدَع عنك نَهْباً صِيح في حجَراته
ولكنْ حديثًا ما حديث الدواحل "
كأنّك تستهدي القرون برحلةٍ
... وحُمِّلتَ ما حُمِّلْتَ زادًا لراحل
طويتَ بها طيّ السِجلِّ أشابةً
... من الكُتُب اللائي تُرِكنَ لعامل
حَمَلتَ بما تسعَى ركازاً تجمَّعَت
به صفوة يغنَى بها كل عاقل
وقلتَ ، وأنتَ البَرُّ نحو أرومة:
متى نتأسَّى بالعظام البواسل؟
متى نتأسَّى " بابن إدريس " قائلاً :
لنا لغة للعارفين الفطاحلِ؟
لكلِّ عظيمٍ بل نبيٍّ بعلمِهِ
... وخذ أنتَ ما يسعى له كلُّ كاملِ
* ... * ... *
لكَ الله من عصر تَسلَّح أهلُهُ
بكل خبيثٍ للمكارم قاتل
فلم تبقَ فينا مُنّةٌ نحتمي بها
لنرأب مما أحدثوا بالمعاول
فكيف أجيء اليوم أسمع لاغطًا
وماذا بشيء فاقد اللون حائل
وهل لك في لحنٍ تعثَّر سيرُه
وصار إلى نَخْبٍ عن الحقّ مائلِ
وماذا ، وأنت المبتغي من وسيلةٍ
أطيح بها فاستُبعِدَت في الوسائل
ولسْتَ بهذا تنتهي لمحجّةٍ
نأت بسخيفٍ من مُحالٍ وزائل
* ... * ... *
أقول : وقد تابعتُ قول حليلتي
وقد كان لي منه جهاد الحلائل
تحدّت معي كلّ الصعاب حفيّةً
بما عرفت بين النساء الأصائل
وكانت مُعيني وقتَ ضعفي وعُدَّتي
متى عرضت لي واقشَعَرَّتْ مراحلي
وقلتُ لها : إني بما كان من جوًى
لما أنا من أُمّ اللغات الفواضل
وما رحتُ في دأبي وجِدِّيَ قاصدًا
ومُستقريًا آثار تلك المنازلِ
لَيَعطِفُني للدارِ أهل ومَرحب(153/3)
فقدتُ بهم ما كان من زَيْن نائلي
ويَحزُنني إخوانُ صِدقٍ تركتُهُمْ
فلم يُغنني شيئًا بريدُ رسائلي
وأذكر أنّي قد تَلَفَّتُ مُرسلاً
إلى الدار عيني والحِمَى والخمائل
أبثُّكِ أنّي قد تبدَّلتُ غربة
حُمِلتُ عليها لسْتُ عنها بنا كل
أُدَمْتُ مطال الخطب والخطب غصّةٌ
وقد زادني منها غيابُ المماثل
وقد نال مني أنني ذو حماسةٍ
بمعتَركٍ ألقَى نزاع المشاكل
فقدتُ سلاحي هِمَّةً أحتمي بها
وكيف بواهٍ متعَب القلب فاشلِ؟
وإنّي إلى أخرى لياليَّ راحلٌ
وأحسب أن قد لاحَ صِدقُ المخايلِ
* ... * ... *
أذمُّ النوى ، ويحَ النوى ، قُتِلَ النوى
سعَى فيه ذو خَطبٍ بزُغْب الحواصلِ
وضيمَ به ذو عَوْلةٍ أيُّ عائل
وكم غيل ذو بأسٍ بنُهزةِ غائلِ
فطوبَى لمدفوعين في التيه هالهم
من القَدَر الساعي أيُّ هائلِ
وطوبَى لمنزوعين عن أمّةٍ مشت
إلى أُختِها لم تستفد من حمائلِ
نسينا الذي قد كان من حُرُماتنا
وكُنّ مصونات الحمى والدخائلِ
* ... * ... *
ظَلَمتُ القوافي سُمتُها غيرَ ذي هوًى
ولا أنا منها في حماسة باسلِ
تطلَّبتُها نجوَى فواتَتْ بحافلِ
ولم أرَ فيها ذاتَ طوقٍ لزاجلِ
فدَعْ عنك نقدًا صيغ في نَزَواته
ولم أكُ عّما قد ظُلمتُ بغافلِ
أُخِذنا بعصرٍ ضَامَ في شَطَحاته
جموعًا ترامَت من عليٍّ وسافلِ
وهل يستوي ذو مَسْكةٍ ونقيضه؟
وكم كان من هذا لِحافٍ وناعل
وكم أَتوقَّى سوء قولٍ لقائل
وما كان من هَمْزٍ ولمْزٍ لعاذل
إبراهيم السامرائي
عضو المجمع من العراق
...(153/4)
مرثيات في وداع الفقيد الراحل
للأستاذ الدكتور محمد حامد الحضيري
بسم الله الرحمن الرحيم
مساهمة في تأبين فضيلة الإمام الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي يقيمه " المجمع اللغوي" ظهر الأربعاء 8 من ذي القعدة 1419هـ الموافق 24 من
فبراير 1999م بمقره الكائن بالزمالك يسعدني أن تلبى رغبتي بإلقاء هذه القصائد في تخليد وتمجيد الإمام الراحل فقيد الأمة الشيخ الإمام محمد متولي الشعراوي ، رحمه الله .
قدوة شعبنا
يا مُلْهمًا شِدْتَ العلومَ بناءَ
... دينًا لِتُعْلي الشِّرعَة الغرَّاءَ داويتَ من عذبِ الكلامِ جِراحَنا
... فسَّرته نورًا أشعَّ ضياءَ أثرى الديارَ وعم أرجاءَ الدنَى
... ومحَا سخامًا عمَّنا أو جاءَ سيظل ما قدَّمتَ يثْري أمةً
رَفعتْ إليكَ الرايةَ البيضاءَ
* ... * ... *
أنت الذي عبَّدتَ نهجَ حياتِها
... وصقلتها تبني الغدَ الوضَّاءَ ودعوتَ للتجديدِ في ثوبِ الهُدى
... كي تصلحَ المِعوجَّ والأخطاءَ قاومتَ كل تطرفٍ وجهالةٍ
... غرستْ وباءً شجَّع الجهلاءَ حذَّرت من عصبيةٍ حمقاءَ
من أجل أن تُعلي الإخاء لواءَ
* ... * ... *
وأحبَّك الجمهورُ يا علمًا سمَا
أعددتَه أن يقتدي العظماءَ
مَن خلَّدوا ذكرًا ومجدًا للورى
مازال يدفع للهدى الشرفاءَ
* ... * ... *
مازِلْتَ شعراويُّ قدوةَ شعبِنا
... يقفو خطاك محبة ووفاء أنت الذي علمته آيى الهدى
... ليكون شعبًا راقيًا مِعطاءَ ربيته يُعلِي تراثَ أماجدٍ
نشروا الكتابَ وخرَّجوا النجباءَ وغرستَ فيه عقيدةً ومبادئًا
... تُثري النفوسَ عزيمةً ومضاءَ نهجًا رسمتَ سبيلَه كمنارةٍ
... تهدي الدعاة ليُنشئُوا الأبناءَ أنت الذي مازلت تحفزُهم لكي
... يستلهموا أعمالك البلجاءَ
لتقام كبرانا العظيمة وحدة
... تعلي البنود عليَّةً شمَّاءَ ويُطهِّرَ القدسَ الشريف جهادُنا
ويعيد للوطنِ الكبيرِ بناءَ
* ... * ... *
في جنة الفردوس صفو أئمة
سبقوا ولاقوا ربهم أمناء
أسفارُ تَبْقى خالداتٍ للبحو(154/1)
... ث وأنت تبقى القمَّةَ العلياءَ رَمْزًا لِمَنْ رامَ الحياةَ مجاهدًا
يَبنِي العقولَ ويلْهم الأكفاءَ
صوت الحق
أَصوتَ الحقِّ ما طأطأتَ هامَا
... وما جاملتَ أصنامًا لئامَا وفي صوتٍ يجلجل قُلتَ عُودوا
... إلى شرعٍ يكون لكم نِظامَا كتابُ الله يكفيكم إذا ما
... تمسَّكتم به شُمًّا كِرامَا يُطبَّقْ كيْ يزيلَ غدًا عتامًا
... أحاقَ بكم وأدجاكم ظَلامَا ولكنْ ما سمعتمْ صوتَ حقٍّ
... يُناديكمْ وما زلتم نيامَا
* ... * ... *
متى يا مَنْ رَدَمْتُمْ شرعَ ربِّي
... وهدّمتمْ مناهجَه انتقامَا ؟ متى سنعيدُ مجدًا من تراثٍ
... لأمجادٍ لنا صانوا الذِّمَاما ؟ لِنَلْحَقَ من سمَوْا بالعلم فينا
ولم يَحنُوا لهمْ رأسًا وَهَامَا
* ... * ... *
أداعيةً أشمًّا عبقريًّا
... ملأتَ السِّوحَ يا عَلمًا إمامَا بأسفارٍ تُغَطِّي دارَ عُرْبي
... وإسلامي وعالَمَنا تمامَا عظيمًا عِشتَ رمزًا في بلادي
... وربَّيْتَ الفَطَاحِلةَ العِظامَا سَموْتَ بقوةِ الإيمانِ تتلو
... كتابَ اللهِ تفسيرًا تسامى وكنتَ الصَّحوةَ الكُبْرى فعمَّتْ
... عوالمنَا وأيقظْتَ النياما فلم ترضخ لمالٍ أو لجاهٍ
... لمن ملؤوا بطونَهمو حَرامَا بإيمان قويٍّ في ثباتٍ
... على نهجِ الهدَى تَدعُو السَّلامَا وما خلَّدتَ من علمٍ سيبقى
... سراجًا نيِّرًا يهدي الأنامَا وفي رحب القداسة في جنانٍ
تُلاقي الله والصَّحبَ الكِرامَا
إمام الأمة
قطبٌ جليلٌ عالمٌ
... رمزُ الأئمة الشَّهيرْ
تفسيرُه وحي السَّمَا
... ءِ ، شقَّ دربًا للمسيْر
للدارسين الباحثيـ
... ن شَعَّ كالبدرِ المنيرْ
دعا لأسِّ شرْعَةٍ
... للوطنِ الغالي الكبيرْ
يَستلهمُ الآيِ عما
... دًا للبناء والمصيرْ
دافعَ عن دينِ الهُدَى
... مِن وافدِ الغربِ الخطيرْ
خلَّدَ للناسِ مبا
... دي باقياتٍ في الصدورْ
ومنهجًا لِيُقْتَدَى
فيه ثمينٌ وأثيرْ
ضمَّنهُ مَعارفًا
تهزُّ أعماقَ الشُّعورْ
وفيه شحذٌ للعقو(154/2)
لِ ، فيه تنويرٌ ونورْ
* ... * ... *
مُصابُنَا فيك كبيرْ
يا صاحِبَ الكنزِ الوفيرْ
أسفارُ في أسمى العلو
مِ ، كالمصابيح تنيرْ
دروبَ كلِّ قاصدٍ
... للعلمِ في كلِّ العصورْ
وَمَنْ عَنَوْا أن يَقْرَؤو
... ك في السماءِ والبُكُورْ
تَبْكِيكَ شيخَنا الدُّمو
... عُ والقوافِي والبحورْ
وإنَّ ما خلَّدتَه
... يَبْقَى كَسَلسالٍ نَميرْ
يَشْفِي غليلَ كلِّ با
... حثٍ على الدِّينِ غَيورْ
نَمْ في ديارِ الخلدِ في الـ
جنَّاتِ مع صحبٍ وحورْ
محمد حامد الحضيري
مواطن عربي من
الجماهيرية العربية الليبية(154/3)
كلمة الأسرة
للأستاذ سامي عبد الكريم العزباوي
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: { فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } صدق الله العظيم
الأستاذ الكبير شوقي ضيف رئيس المجمع:
الأساتذة أعضاء المجمع، سيداتي وسادتي:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
أشهد أني لم أشعر في حياتي بموقف العجز عن القول مثلما أشعر به الآن وأنا أتحدث إلى عمالقة اللغة والأدب والعلم أعضاء المجمع الخالدين، فاغفروا لي تقصيري في الوفاء بحقكم من الشكر الجزيل العميق باسمي واسم الأسرة على إقامتكم هذا الحفل الكريم لزميلكم والدنا عبد الكريم الذي كان عظيم الحب والتقدير لكم ، وعظيم الفخر بزمالتكم والعمل معكم في خدمة اللغة العربية الخالدة التي أمضى حياته كلها في خدمتها وبخاصة في المعجم
الكبير الذي كان يعتز كل الاعتزاز به وبأعضاء لجنته وخبرائها ومحرري هذا المعجم الكبير.
شكرًا خالصا لأستاذ الأجيال الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع على كلمته التي كرم بها والدي رحمه الله، وشكرًا خاصًّا لوالدنا الحبيب الأستاذ إبراهيم الترزي الأمين العام للمجمع الذي كان بحق أعز صديق لوالدنا الحبيب رحمه الله ، والذي بلغ من حب والدي له واعتزازه به أنه كان يخصه دائما بالدعاء له معنا عقب صلاته، وأنه لجدير بكل الحب والإعزاز والإجلال ، فقد كان نعم الصديق المخلص الوفي لوالدنا رحمه الله، وسوف يظل نعم الوالد والأخ الأكبر لنا مدى الحياة . أسأل الله تعالى أن يحفظكم ويرعاكم حماة للغة القرآن الكريم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
كلمة الختام
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع(155/1)
أشكر الأستاذ سامي عبد الكريم العزباوي على هذا الوفاء الكبير الجميل للوالد وأرجو له وللأسرة الكريمة أن يتقبلوا عزاء المجمع، فهذه هي الدنيا نكون ثم نولد ونعيش بها مدة قصيرة ثم الوداع، وأسأل الله للأسرة أن يهبها الصبر ويلهمها العزاء وأسأل نفس السؤال وأدعو نفس الدعاء لحضراتكم. فالأستاذ
عبد الكريم العزباوي سيظل بيننا بأبحاثه وكتبه وهي موجودة بالمكتبة لمن يريد الاطلاع عليها .
ونسأل الله أن يتغمده برحمته، وأن يفسح له في جنته جزاء أوفى لما قدم للمجمع ولأمته العربية من أعمال عربية جليلة وأشكر حضراتكم على الحضور للمشاركة في هذا الحفل .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(155/2)
دمعة وفاء
في ذكرى إمام الدعاة وشيخ الهداة
الشيخ محمد متولي الشعراوي
للأستاذ الدكتور محمد نايل أحمد
هل فارقنا حقا زميل العمر ورفيق الدرب؟! إني لا أكاد أصدق .. إني لأراه الآن على كرسيه، يحدث ويفسر ويوجه ، وأرى جماهير الشعب في حلقات ، تلتف حول الكرسي تسمع وتصغي في وقار وصمت، تتزود ما يلهمه الله من فيوض ربانية وإلهامات نورانية ، ولمحات إيمانية ..
هل يموت من ملأ الدنيا بأحاديثه وتوجيهاته على مدى سبعين عاما أو يزيد؟
إن العلماء العاملين المخلصين لا يموتون، إن أعمالهم وجهادهم عمر أبدي يصل أعمارهم البشرية، فتظل أشخاصهم ماثلة في أعين الناس لا تفارق ولا تختفي .
هل فارقنا العز بن عبد السلام عالم عصره؟ وهل غادرنا مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول جنود الحرية ودعاة الاستقلال؟
إن العلماء والزعماء والقادة لا يموتون كما يموت سواد الناس ، إنما تبقى أشخاصهم وجهادهم وتراثهم وخطبهم وأقوالهم ، تدوي في أسماع الناس وسمع الزمان.. وهذا هو الخلود الحق .
لقد عرفت الشيخ الشعراوي طالبا فمدرسا فداعية، يدوي صوته في الآفاق ويطوف عطاؤه في العالمين ، الإسلامي والعربي يقبل إليهم ويفدون إليه في دورات متوالية لا تنقطع.
وحين تقدم به السن اتخذ من الهضبة العالية، المشرفة على حرم السيدة نفيسة رضي الله عنها مقرا ومقاما ، يتوافد إليها الناس ليجد طالب العلم طلبته، وطالب الحاجة حاجته .
لقد كان الشعراوي رحمه الله من أعيان العلماء ، بسط الله له في الرزق كما بسط له في العلم، يعطي من هذا وهذا، عطاء من لا يخشى الفقر " ورزق ربك خير وأبقى ".
توفر الشيخ العالم على كتاب الله، يدرسه للناس ويفسره ويوضح مراميه وإشارته.(156/1)
لقد ظل العلماء يفسرون قصة بني إسرائيل وإفسادهم في الأرض على أنها تاريخ مضى، ولكن الشعراوي بحسه اللغوي وذوقه الواعي فهم من التعبير" بإذا " أنها لم تنته بعد، وأن لها بقية ستأتي " فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ( فاتحين لا زائرين ) وليتبروا ما علوا تتبيرا " وهذا وعد من الله ووعد الله لا يتخلف.
ولئن كانت إسرائيل تستعلي اليوم بالأمريكان ، فسيزول الأمريكان كما زالت إمبراطوريات زالت، بعد أن عظم سلطانها في الأرض طويلا.. وإن الأحداث لواعدة وإن البشائر لآتية إن شاء الله.
إن من يتابع تفسير الشعراوي سيجد فيه من الرموز والإشارات ما يكاد يبلغ درجة التصريح بأن الغد للإسلام ولأمة الإسلام، وأن الدائرة ستكون على أعداء الله وأعداء الدين، حتى ينطق الحجر، وينادي المسلم أن يأخذ لنفسه ولدينه ما وعده الله به ، ولن يخلف الله وعدا وعد به رسوله وأمته .
وكأني بالشعراوي يترقب هذا اليوم وهو في قبره بسعادة تنسيه ما لقي في دنياه من هموم ومتاعب .
رحم الله الشعراوي وأسكنه فسيح جناته وسره بنصر أمته وسيادة دينه في الأرض بقدر ما أدى لدينه وأمته ووطنه من جهد وجهاد ، وعطاء غامر، سيبقى على الأيام ، ذكرى عطرة تبهج أرواح المسلمين، وتملأ صدورهم بالأمل المشرق بعودة أمجادهم وسيادة دينهم وأمتهم (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) وبظهور دينهم على الأديان كلها، كما قال تعالى:( هو الذي أرسل رسوله بالهدى
ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد نايل أحمد
عضو المجمع
...
...(156/2)
كلمة المجمع في تأبين الفقيد
للأستاذ الدكتور أحمد علم الدين الجندي
بسم الله الرحمن الرحيم
الأستاذ الجليل الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع :
الأساتذة الزملاء الأجلاء :
أيها السادة :
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد :
- فقد استُقْبل المرحومُ الأستاذ الدكتور عبد الرحمن السيد في مجمعكم الموقر في شهر رمضان المعظم وشاء الله ولا رادّ لقضائه أن يقام له حفل تأبين في رمضان أيضًا، وشهر رمضان هو شهر الجمالِ والكمال والجلال، والانتصار في بدر، وفتح مكة، والقادسية، وعينِ جالوت، وعبورِ القنال في سيناء، وفيه ليلةُ القدر التي هي خير من ألف شهر، وفيه القرآن العظيم نزل، هدى للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان. فجعل استقبال الفقيد وتوديعه في مجمعكم الرزين الوقور
في شهر رمضان شرفًا زمانا ومكانا.
واسمحوا لي أن أرتل من كلام ربنا عزّ وجل، آيات كريمات أفتتح بها هذا الموقف الخاشع : بسم الله الرحمن الرحيم : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفى الآخرة، ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، نزلاً من غفور رحيم، ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحا،وقال إنني من المسلمين، ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم، وما يلقّاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } صدق الله العظيم . ( فصلت الآيات من 28 إلى35 )
سيادة الرئيس. السادة الأعضاء :(157/1)
نلتقي اليوم لنقضي لحظات مع ذكرى عزيزة علينا، وذلك حين رأينا النجم الثاقب كيف يهوى من عليائه، فينطفئ ضياؤُه، وتخْمدُ جذوتُه، وفى كل لحظة يا ربّ قافلة تسير من الوجود إلى العدم، ففي الخريف تذهب الأغصانُ والأوراق منهزمة إلى بحار الموت، والطائر يرتدى السواد حزينا نائحا على الخضرة والأعشاب التي كانت بين يديه، فيتمحى الكون وتذوب الذوات، سبحانك أنت، فلا أشباه تماثلك ، ولا أمثال تشاكلك ،ثم يجىء الأمر من صاحب الأمر، فيتغير العالم كلُّه في لحظة واحدة، يتغير ازدهارُ الربيع إلى جفاف الخريف . وينادى لمن الملك اليوم؟ فيجيب صاحب الأمر : لله الواحد القهار. ويصور القرآن العظيم هذا المشهد في قوله { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شىء مقتدرا } وشيئان يَخْرجان عن إرادة الإنسان:الرزق والموت. { وما تدرى نفسٌ ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت } صدق الله العظيم.
والآن : أصير إلى حياة الفقيد – أحسن الله إليه- أتحدث عنها من مستهلها، وأمضِى معه فيها إلى أن لقي ربه في جنات النعيم .
-ولد الفقيد في الحادي عشر من أكتوبر سنة ثماني عشرة وتسعمائة وألف، ثم حفظ القرآن الكريم، والتحق بالأزهر الشريف، وحصل على الشهادة الثانوية منه،وكان ترتيبه الثاني،ثم حصل على الليسانس من دار العلوم سنة ست وأربعين وتسعمئة وألف، وكان يتردد بين دفعته فيها بين الأول والثاني، ثم على الدكتوراه سنة اثنتين وستين، وعينّ مدرسا بمدرسة الألسن العليا، ثم مدرسا بدار العلوم سنة ثلاث وستين، ثم أستاذًا بها .(157/2)
-وقد أُعير - رحمه الله -إلى جامعات الأردن والبصرة ، والملك عبد العزيز بجدة وظل بها إلى سنة سبع وسبعين، ثم عين وكيلا لدار العلوم سنة سبع وسبعين، ثم رئيسا لقسم النحو والصرف والعروض فيها، ثم أستاذا متفرغا سنة أربع وثمانين، وعضوًا باللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة إلى سنة تسع وثمانين.
-كما اختير عضوًا باللجنة العلمية بقسم اللغويات بجامعة الأزهر الشريف، وعضوًا بالمجلس القومي للتعليم، وقد مُنح وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى سنة تسعين. وفى سنة تسع وثمانين اختير عضوًا بمجمعكم الموقر.
- ومن قبل ذلك بكثير قضى من حياته المباركة أعواما يعلّم في مدارس الدولة ويشارك في مناقشة الرسائل الجامعية، فتخرج عليه أفواج إثر أفواج، ثم انبث هؤلاء وأولئك في العالم العربي فكانوا حملة أمانة ومناهل عرفان .
-وفى جميع مراحل حياته كان الفقيدُ فتى جادًّا طلوبا ، وكهلا متمرسا دؤوبًا وشيخا صادق التجربة، واسعَ المعرفة، دانت له مصاعبُ العربية، وأفضتْ بأسرارها إليه فكان - رحمه الله - قيمة وقمة.
مؤلفاته:
1-« مدرسة البصرة النحوية» ، وقد زكّى هذا الكتابَ عالمان جليلان من أعضاء المجمع أوّلهما : المرحومُ الأستاذ على النجدي ناصف، وثانيهما: المرحوم الأستاذ عباس حسن .
2-« نحو ابن مالك بين البصرة والكوفة» .
3-« الكفايةُ في النحو» ويقع في ثلاثة أجزاء.
4-«العروض والقافية» .
5-« شرح التسهيل لابن مالك» في أربعة أجزاء، وقد شاركه في بعض أجزائه الدكتور محمد بدوي المختون، عليه رحمة الله .
6-مقالاتٌ وبحوثٌ منشورة في المجلات المتخصصة، وتشتمل على طائفة قيمة من البحوث والدراسات، وهى جميعا تعدّ سَواءً في شرفِ المنزلة ، واستقامة المنهج، والفكر
المستنير، والعمق والأصالة .
أما أعماله في المجمع :(157/3)
فقد اشترك في لجنة الأصول، ولجنة الألفاظ والأساليب، كما أسهم في أعمال لجنة المعجم الكبير – التي تعمل على إخراج معجم كبير وافٍ يحفظ للغة حياتها، ونماءها والأممُ ما عاشت لهم لغتهم عاشوا على موصولة، تردّهم إلى غابر، وتجمعهم على حاضر، وتربطهم بمستقبل .
وكان - رحمه الله - في جميع أعماله في المجمع ينشط للحوار والنقد والتمحيص، فإن كان العمل صالحا مدحه وزكّاه، وإن بدا له فيه مأخذ أمسك به، وجهر برأيه فيه، فإما موافقة عليه، وإما حوارٌ ومحاجةٌ تطول حتى ينجلى الرأى ، وكثيرًا ما كان يُسمع صوتُه صائحا يحتج أو يعترض أو يعقب، وهو في جميع هذا ينزع إلى التحدى والمساجلة حتى تصطرع البيانات وفاقا وخلافا ، قوةً وانفعالا.
ومع كلّ هذا كان مخلصا لعمله أشدَّ الإخلاص، وأشهدُ ما رأيته غاب أو تأخر عن عمله في دار العلوم أو في المجمع إلا لعذر قاهر، ولا أنسى يوما كان فيه رئيس الامتحان العام بدار العلوم في السبعينيات، وكانت بعضُ الفرق تؤدِّى امتحانها في دار العلوم القديمة بحىّ المنيرة، وبعضُها الآخرُ بالجيزة، وقد طلبني لأشاركه العمل. فوافقت، إلا أنني لم أستطع أن أسير معه إلى النهاية للعمل الشاق في مكانين مختلفين بعيدين عن بعضهما، وقلت له : لن أستطيع معك صبرًا .
على أن الفقيد - رحمه الله -كان يأخذ نفسه بالشدة في أكثر مواقفه ، ولم يكن يجنح إلى الرخَصِ في أداء واجبه، فقد شاهدته هذا العام قبل مرضه الأخير، يدخل القاعة التي نلتقي فيها للعمل - محمولا على سواعد الموظفين الذين تلقفوه على باب المجمع ، وأصرّ أن يذهب
للجنة متحاملا على نفسه ، ولكننا رفضنا هذا الإصرار منه بشدة، وذهبنا به إلى منزله سريعا لخطورة حالته.
وبعد ،
فإن الحديث عن المرحوم الدكتور عبد الرحمن متشعب ومستفيض، وهيهات أن يتسع له مثلُ هذا المقام "وحسبي في ختام كلمتي أن أردّد قول أحد العارفين " عندما تتجلّى الهيبةُ يكون السُّكوت،وعندما تحتد البصيرةُ(157/4)
يكون الكشف والصمت ، وكلما
اتسعت الرؤية ضاقت العبارة !!!
سلام على الناسك النحوي، وربيب سيبويه والكسائى.
فنم في جوار ربّك قرير العين، أحسنَ الله جزاءك ، وأنزلك منازل الأبرار .
وإني لأرجو الله حتى كأنني
أرى بجميل الظن – ما الله صانع
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أحمد علم الدين الجندي
عضو المجمع
...
...
...
...(157/5)
كلمة كلية دار العلوم فى تأبين الفقيد
للأستاذ الدكتور علي أبي المكارم عميد الكلية
الأستاذ الجليل الدكتور رئيس المجمع :
الأساتذة الأجلاء أعضاء المجمع :
أيها السادة :
أرجو أن تأذنوا لي أن أتقدم إليكم جميعا بالتحية الخالصة مشفوعة بالاعتزاز البالغ، لتفضلكم بإتاحة هذه الفرصة لي للحديث في هذه المناسبة الجليلة، التي تغمرني فيها مشاعر يختلط فيها الأسى العميق بالاستسلام ، والألم الممضّ بالصبر، والحزن ينبض في حنايا القلب بالرضا .
وإنه لعزيز علىّ أن أتحدث في ذكرى الأستاذ الدكتور عبد الرحمن السيد - رحمه الله وغفر لنا وله - فلقد كان بالنسبة لي أخا أكبر- بكل ما تعنيه هذه الأخوة من مودة صافية، وتوجيه مخلص، وإيثار كريم، كما كان- طيب الله ثراه - صديقا حقيقيا برغم قدر من اختلاف في المشارب، وتنوع في الاتجاهات، وتعدد في المواقف والآراء والاهتمامات، ولكنه الاختلاف الذي يجمع ولا يفرّق، والتنوّع الذي يقوّى ولا يضعف، والتعدد الذي يسلم إلى التكامل، فالصلة مع هذا كله، وبفضله، تزداد نموًّا واتساعًا وثراء، وتتأكد عمقا ورسوخا وصلابة .(158/1)
ولست في حاجة – أيها السادة – إلى أن أتحدث بالتفصيل عن طفولة عبد الرحمن السيد ونشأته وشبابه الباكر، فلقد سبق أن وقفتم على ذلك في كلمة الأستاذ الدكتور أمين السيد في حفل الاستقبال الذي أقيم له حين انضم إلى أسرة مجمعكم الموقّر،وهو لا يكاد يختلف في هذه المرحلة عن ملايين الأطفال المصريين الذين يولدون في القرى الثاوية في أعماق الريف، إذ يلتحق بالكُتاب ليتعلم القراءة والكتابة، ثم يندلف إلى المدرسة الأولية في القرية لينتقل منها إلى المدرسة الابتدائية في ( دكرنس ) عاصمة المركز، ولكنه ما يكاد يصل إلى الفرقة الثالثة فيها حتى يقرر أبوه بتأثير عمه الأزهري أن يحوله إلى الأزهر، فيحفظه القرآن، ليلحقه بعد ذلك بالمعهد الديني ليمضى فيه سنوات تسعا، ينتقل بعدها إلى دار العلوم ليحصل منها على شهادته العالية سنة 1946م، وعمره حينئذٍ نحو 28عاما.
وإذا كان لا يختلف عن كثيرين غيره في مرحلة الطفولة والشباب، فإنه لا يختلف كثيرا في مطلع حياته العملية بعد التخرج عن كثيرين ممن التحقوا بدار العلوم، إذ يعين مدرسا في المرحلة الابتدائية، فالثانوية، ثم مدرسا في مدرسة الألسن العليا بعد أن يحصل على درجة الماجستير من دار العلوم، وينتهي به المطاف مدرسا في دار العلوم بعد أن يحصل منها على درجة الدكتوراه سنة 62/1963م.
ولكن عبد الرحمن السيد – غفر الله لنا وله – برغم عناصر التشابه والتماثل بينه وبين كثيرين من جيله لا يتطابق معهم، بل يظل نموذجا متميزا جديرا بالتأمل، ومرد هذا التميز في تقديري إلى مقوماته الأخلاقية التي تركت تأثيرها في اتجاهاته السلوكية، وصاغت ملامحه النفسية، وحددت آفاق رؤيته العقلية، وتلتقي هذه المقومات في مجموعة من الصفات تضافرت وتكاملت، بحيث كانت تمثل في مجموعها إطارا كليا طبع هذه الشخصية بطابعه فى كل مجالات عملها ومراحل حياتها .(158/2)
وفى طليعة هذه الصفات ما كان يتسم به – رحمه الله – من جدّ وإخلاص، وشجاعة في الحق وأناة وتدبّر، واعتزار بالنفس ملؤه التواضع الذي لا تكلف فيه، والإنصاف الذي لا تزيد معه، ولقد يكون وجود صفة واحدة من هذه الصفات أمرا يدعو إلى الإعجاب، ولكن أي صفة منها وحدها- وإن أعجبنا بها – دليل نقص وعلامة قصور ، فالجد في العمل حين يخلو من الإخلاص يحيل هذا العمل إلى أداء شكلي لا روح فيه، وربما يصبح لا جدوى منه، والشجاعة دون أناة وتدبر تتحول إلى اندفاع وتهور، والتواضع المتكلف إشارة ظاهرة إلى استعلاء خفي ممقوت، فاجتماع هذه الصفات معا دلالة اكتمال يحسب لصاحبه لا محالة .
وكما برزت هذه الصفات واضحة في علاقاته العملية فإنها تجلت في جهوده العلمية،بحيث يمكن القول بأن هذه الجهود – في مجموعها – تجسد هذه الصفات وتعبر عنها، واسمحوا لي- أيها السادة الأجلاء - أن أعرض لهذه الجهود بالإشارة العجلى إليها من خلال أطر ثلاثة :
الأول - مؤلفاته العلمية .
والثاني– الرسائل والمناقشات في حياته الجامعية .
... والثالث – بحوثه المجمعية .
ومؤلفاته العلمية نحو ثمانية، وأهمها في تقديري ثلاثة: مدرسة البصرة النحوية ، ونحو ابن مالك بين البصرة والكوفة، والكفاية في النحو، يضاف إليها رابع هو تحقيقه لكتاب شرح التسهيل لابن مالك، بالاشتراك مع الأستاذ الدكتور محمد بدوي المختون - رحمه الله - وخامس هو : المنهج الميسّر للنحو العربي، الذي وضعه بتكليف من المجلس القومي للتعليم بالمجالس القومية المتخصصة، بالاشتراك مع الأستاذ الدكتور أمين السيد عضو المجمع، وعلى أبى المكارم.(158/3)
وتلتقي هذه الكتب في سمات مشتركة، فهي تدور حول أهم القضايا والمشكلات النحوية، وفى طليعتها المسائل الخلافية ، والأصول النحوية، والمصطلحات، والأحكام والتوجيهات، والعلل والتعليلات، وتشترك في تقديم صورة لعالم مجتهد يخلص لعلمه ويعكف عليه ويواجه المشكلات العلمية ويحسن التأتي لحل هذه المشكلات، إذ يجمع مادتها من مصادرها الأصلية بصبر وأناة، ويتفهم الآراء الواردة فيها على وجهها دون تزيد أو افتعال ، ويناقشها بمنطق العلم الذي لا تسرع فيه، ويوازن بينها بإنصاف لا تحيز معه، ويصل من خلال ذلك كله إلى بعض الآراء الخاصة التي يقدمها بأسلوب يجمع بين اعتزاز المجتهدين وتواضع العلماء العارفين .
ولقد يكون وضع الرسائل التي أشرف عليها : عبد الرحمن السيد ضمن جهوده العلمية أمرا يثير التساؤل، خصوصا بعد أن وجدنا من المشرفين من لا يشرفون، فلا هم يقرؤون، ولا يتابعون، ولا يوجهون، وحين ينتهي بهم الأمر إلى جلسة المناقشة العلنية لا يعرفون ما يقوله المناقشون، وإذا اضطرتهم الملحوظات إلى التعليق فبالكلمات الفضفاضة الهلامية ينطقون. ولكن من يعرف عبد الرحمن السيد ويقف عن قرب على أسلوبه في الإشراف العلمي لا يتردد في أن يضع أعمال تلاميذه الذين أشرف عليهم في إطار جهوده التي لا ينبغي إغفالها، إذ كان يختار لتلاميذه موضوعات رسائلهم، ويخطط لهم ومعهم، ويهديهم إلى ما يراه من مصادر تعينهم، ويتابع عملهم ويقومهم أسلوبا وتفكيرا واستنتاجا، ومن هنا لا نرى حرجا في أن نجعل هذه الأعمال نابعة من الرؤية الكلية لعبد الرحمن السيد، بقدر ما تصوّر في الوقت نفسه الجهود العملية التطبيقية لتلاميذه .(158/4)
وهذه الأعمال بدورها تجمع بين التحقيق ودراسة الظواهر والمقولات والمشكلات، وتشمل في التحقيق عددا من النصوص الأساسية في النحو العربي، منها: كتاب شرح أبيات سيبويه، والمفصل لعفيف الدين الكوفي، وشرح ديوان الأريب للسامولى، وشرح كافية ابن الحاجب لعيسى الصفوى، وشرح شواهد الإيضاح لأبى على الفارسي، وشرح الجمل لابن العريف .
وتقصد الدراسات التي وجه إليها إلى تناول الظواهر والمقولات المشكلة والمسائل الملحة، وفى طليعتها: مقولة النيابة في النحو العربي، وظاهرة المطابقة، ومقولة التعليق، والتأويل، والتعيين، والخلاف بين علماء البصرة، ومشكلة المعنى بين النحو والبلاغة.
وتؤكد هذه الأعمال بدورها اتساقها مع الخط الفكري الذي حكم مؤلفات عبد الرحمن السيد، من حرص على خدمة التراث النحوي، وتجلية غامضه، وتوضيح خافيه، والكشف عن عناصر الثبات والتغير فيه، لتكون خدمة هذا التراث النحوي بكل جوانبه نقطة الانطلاق نحو استخدامه في تطويره لمواءمة المستجدات في الحياة اللغوية، ومحاولة احتواء هذه المستجدات في إطار الثوابت الأصولية.(158/5)
وهكذا حين انتخب عبد الرحمن السيد عضوا في مجمعكم الموقر كانت كل الظروف مهيأة له للانتقال من مرحلة خدمة التراث النحوي إلى مرحلة استخدام هذا الثراث ، ومن هنا مضت بحوثه في لجنة الأصول تتعرض للمشكلات النحوية ذات الطابع التطبيقي، والمشكلات اللغوية التي تحتاج إلى توجيه نحوى، فتدور هذه البحوث حول مسائل العوامل والأساليب والتراكيب والأحكام ، وهى مسائل – بطبيعتها –تختلف فيها وجهات النظر ، وتتعدد إليها زوايا الرؤية، ولكنه استطاع بمقدرته المتميزة في استيعاب الآراء وموازنة الأدلة أن يصل إلى اجتهادات تحسب له، وأن يثبت بها مقدرة النحوي المتمكن على توظيف الأصول النحوية توظيفا صحيحا، يسهم في خدمة النشاط اللغوي ويوجهه. فلا يظل هذا النشاط تحت سيطرة التطور العشوائى، بل يخضع لضوابط التطوير والتوجيه العلمي الإداري، وبهذا تنمو اللغة لمواكبة المستجدات والمتغيرات في جميع المجالات، كما يرجو لها المخلصون من أبنائها .
لقد كانت مرحلة المجمع – على قصرها في حياة عبد الرحمن السيد – مرحلة شديدة الخصوبة بمقياس الكم وبمقياس الكيف معا، فقد أثمرت أكثر من عشرين بحثا، تناولت قرابة أربعين مسألة ، في كثير منها اجتهادات خاصة ، ولكنها بفضل ما
اتسمت به من دقة وتحرير وضبط وتأصيل أصبحت جزءا من تراث المجمع وإضافاته، وبهذه المرحلة اكتملت الرحلة في حياة عبد الرحمن السيد وعلاقته بالتراث ، فكما أخذ منه أعطاه، وكما امتاح منه منحه ، وبقدر
ما أفاد منه أفاده .
رحم الله عبد الرحمن السيد رحمة واسعة، وأفسح له في جنته، وعوض العلم فيه خيرا .
والسلام عليكم ورحمة الله
على أبو المكارم
عميد كلية دار العلوم
...
...
...
...(158/6)
مرثيات في وداع الفقيد الراحل
للأستاذ الدكتور محمد حامد الحضيري
بسم الله الرحمن الرحيم
مساهمة في تأبين فضيلة الإمام الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي يقيمه " المجمع اللغوي" ظهر الأربعاء 8 من ذي القعدة 1419هـ الموافق 24 من
فبراير 1999م بمقره الكائن بالزمالك يسعدني أن تلبى رغبتي بإلقاء هذه القصائد في تخليد وتمجيد الإمام الراحل فقيد الأمة الشيخ الإمام محمد متولي الشعراوي ، رحمه الله .
قدوة شعبنا
يا مُلْهمًا شِدْتَ العلومَ بناءَ
... دينًا لِتُعْلي الشِّرعَة الغرَّاءَ داويتَ من عذبِ الكلامِ جِراحَنا
... فسَّرته نورًا أشعَّ ضياءَ أثرى الديارَ وعم أرجاءَ الدنَى
... ومحَا سخامًا عمَّنا أو جاءَ سيظل ما قدَّمتَ يثْري أمةً
رَفعتْ إليكَ الرايةَ البيضاءَ
* ... * ... *
أنت الذي عبَّدتَ نهجَ حياتِها
... وصقلتها تبني الغدَ الوضَّاءَ ودعوتَ للتجديدِ في ثوبِ الهُدى
... كي تصلحَ المِعوجَّ والأخطاءَ قاومتَ كل تطرفٍ وجهالةٍ
... غرستْ وباءً شجَّع الجهلاءَ حذَّرت من عصبيةٍ حمقاءَ
من أجل أن تُعلي الإخاء لواءَ
* ... * ... *
وأحبَّك الجمهورُ يا علمًا سمَا
أعددتَه أن يقتدي العظماءَ
مَن خلَّدوا ذكرًا ومجدًا للورى
مازال يدفع للهدى الشرفاءَ
* ... * ... *
مازِلْتَ شعراويُّ قدوةَ شعبِنا
... يقفو خطاك محبة ووفاء أنت الذي علمته آيى الهدى
... ليكون شعبًا راقيًا مِعطاءَ ربيته يُعلِي تراثَ أماجدٍ
نشروا الكتابَ وخرَّجوا النجباءَ وغرستَ فيه عقيدةً ومبادئًا
... تُثري النفوسَ عزيمةً ومضاءَ نهجًا رسمتَ سبيلَه كمنارةٍ
... تهدي الدعاة ليُنشئُوا الأبناءَ أنت الذي مازلت تحفزُهم لكي
... يستلهموا أعمالك البلجاءَ
لتقام كبرانا العظيمة وحدة
... تعلي البنود عليَّةً شمَّاءَ ويُطهِّرَ القدسَ الشريف جهادُنا
ويعيد للوطنِ الكبيرِ بناءَ
* ... * ... *
في جنة الفردوس صفو أئمة
سبقوا ولاقوا ربهم أمناء
أسفارُ تَبْقى خالداتٍ للبحو(159/1)
... ث وأنت تبقى القمَّةَ العلياءَ رَمْزًا لِمَنْ رامَ الحياةَ مجاهدًا
يَبنِي العقولَ ويلْهم الأكفاءَ
صوت الحق
أَصوتَ الحقِّ ما طأطأتَ هامَا
... وما جاملتَ أصنامًا لئامَا وفي صوتٍ يجلجل قُلتَ عُودوا
... إلى شرعٍ يكون لكم نِظامَا كتابُ الله يكفيكم إذا ما
... تمسَّكتم به شُمًّا كِرامَا يُطبَّقْ كيْ يزيلَ غدًا عتامًا
... أحاقَ بكم وأدجاكم ظَلامَا ولكنْ ما سمعتمْ صوتَ حقٍّ
... يُناديكمْ وما زلتم نيامَا
* ... * ... *
متى يا مَنْ رَدَمْتُمْ شرعَ ربِّي
... وهدّمتمْ مناهجَه انتقامَا ؟ متى سنعيدُ مجدًا من تراثٍ
... لأمجادٍ لنا صانوا الذِّمَاما ؟ لِنَلْحَقَ من سمَوْا بالعلم فينا
ولم يَحنُوا لهمْ رأسًا وَهَامَا
* ... * ... *
أداعيةً أشمًّا عبقريًّا
... ملأتَ السِّوحَ يا عَلمًا إمامَا بأسفارٍ تُغَطِّي دارَ عُرْبي
... وإسلامي وعالَمَنا تمامَا عظيمًا عِشتَ رمزًا في بلادي
... وربَّيْتَ الفَطَاحِلةَ العِظامَا سَموْتَ بقوةِ الإيمانِ تتلو
... كتابَ اللهِ تفسيرًا تسامى وكنتَ الصَّحوةَ الكُبْرى فعمَّتْ
... عوالمنَا وأيقظْتَ النياما فلم ترضخ لمالٍ أو لجاهٍ
... لمن ملؤوا بطونَهمو حَرامَا بإيمان قويٍّ في ثباتٍ
... على نهجِ الهدَى تَدعُو السَّلامَا وما خلَّدتَ من علمٍ سيبقى
... سراجًا نيِّرًا يهدي الأنامَا وفي رحب القداسة في جنانٍ
تُلاقي الله والصَّحبَ الكِرامَا
إمام الأمة
قطبٌ جليلٌ عالمٌ
... رمزُ الأئمة الشَّهيرْ
تفسيرُه وحي السَّمَا
... ءِ ، شقَّ دربًا للمسيْر
للدارسين الباحثيـ
... ن شَعَّ كالبدرِ المنيرْ
دعا لأسِّ شرْعَةٍ
... للوطنِ الغالي الكبيرْ
يَستلهمُ الآيِ عما
... دًا للبناء والمصيرْ
دافعَ عن دينِ الهُدَى
... مِن وافدِ الغربِ الخطيرْ
خلَّدَ للناسِ مبا
... دي باقياتٍ في الصدورْ
ومنهجًا لِيُقْتَدَى
فيه ثمينٌ وأثيرْ
ضمَّنهُ مَعارفًا
تهزُّ أعماقَ الشُّعورْ
وفيه شحذٌ للعقو(159/2)
لِ ، فيه تنويرٌ ونورْ
* ... * ... *
مُصابُنَا فيك كبيرْ
يا صاحِبَ الكنزِ الوفيرْ
أسفارُ في أسمى العلو
مِ ، كالمصابيح تنيرْ
دروبَ كلِّ قاصدٍ
... للعلمِ في كلِّ العصورْ
وَمَنْ عَنَوْا أن يَقْرَؤو
... ك في السماءِ والبُكُورْ
تَبْكِيكَ شيخَنا الدُّمو
... عُ والقوافِي والبحورْ
وإنَّ ما خلَّدتَه
... يَبْقَى كَسَلسالٍ نَميرْ
يَشْفِي غليلَ كلِّ با
... حثٍ على الدِّينِ غَيورْ
نَمْ في ديارِ الخلدِ في الـ
جنَّاتِ مع صحبٍ وحورْ
محمد حامد الحضيري
مواطن عربي من
الجماهيرية العربية الليبية(159/3)
كلمة المجمع في تأبين الفقيد الراحل
للأستاذ إبراهيم الترزي الأمين العام للمجمع
الأستاذ الجليل الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع :
الأساتذة الزملاء الأجلاء :
أيها السادة :
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وبعد
فإن قدر الإنسان منوط بعمله؛ فبالأعمال يتفاضل الناس . ولا ريب في أن الاشتغال بالعلم أرقى الأعمال.
وقد كرم الله تعالى الإنسان بأن خصه بشرف العلم ؛ منذ خلق آدم عليه الصلاة والسلام ، بل إنه – جلت حكمته - رفع قدر آدم حين علمه علما عجزت عنه الملائكة .. ثم زاد قدره تشريفًا حين أمرهم بالسجود له !
وهكذا بدأ الله تعالى خلق الإنسان بشرف العلم ، كما ختم رسالاته بشرف العلم، فاستهل وحيه إلى خاتم أنبيائه ورسله بقوله: " اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ،
علم الإنسان ما لم يعلم".
وليس قبل هذا وبعده تأكيد لشرف العلم ، وتنويه بعلو قدره، وعظم أثره في الحياة !
وليس قبل هذا وبعده تكريم للإنسان؛ بمنحه وحده شرف العلم ! ولسان العلم واللغة:
فهي المعبرة عنه؛ نطقا ، وكتابة .
وهي الحافظة له .. ذخرًا يبقى على امتداد الزمان .
وهي الناقلة له .. نورًا تسعى به من مكان إلى مكان .
والعلم بأي لغة شرف .
ولكن العلم بلغة اختارها الله على سائر اللغات لسانًا لذكره الحكيم شرف لا يعلوه شرف، بل لا يطوله شرف !
وقد حباكم الله – أيها المجمعيون – بهذا الشرف الأسمى؛ لأنكم القوامون على هذه اللغة ؛ حتى تستعيد مكانتها العلمية العالمية!
وليس ذلك ببعيد على لغة حملت وحدها أمانة العلم ، وأدت رسالته باقتدار فذ، طوال قرون سادت فيها كل اللغات، وانعقد لها لواء العلم والحضارة !
ولكن جعل العلم بالعربية شاملاً كل فروعه : النظرية والتطبيقية يقتضي أن يسبقه علم بالعربية ، في أصولها ، واشتقاقاتها ، وضوابطها اللفظية والأسلوبية، ومعجماتها العامة، والخاصة .(160/1)
وأنتم – أيها المجمعيون – سدنة هذه اللغة ؛ بما تُعِدُّون من مصطلحات في العلوم، والآداب ، والفنون ، وبما تيسرون على القارئين والكاتبين من أمور تتصل باللغة ، وبما تعكفون على إحيائه من نفائس تراثنا العربي، وبما تنهضون به من رعاية وحماية للفصحى من كل عامي أو دخيل ، وبما تضعون من معجمات لغوية وعلمية .. فصرتم بذلك سدنة العربية الشريفة الخالدة .
وهذا سادن مجمعي عريق، أشرف اليوم بتأبينه ؛ هو المرحوم الأستاذ الجليل ، والصديق الحميم : عبد الكريم العزباوي!
وقف حياته على العلم المعجمي اللغوي، ويعد من الرعيل المجمعي الأول، الذي عمل في جهاز التحرير ؛ فقد التحق بالمجمع عام سبعة وثلاثين محررا بالمعجم الوسيط ؛ باكورة المعجمات اللغوية المجمعية . وقد كان المعجم الوسيط حينذاك ما يزال جنينًا يتخلق في رحم لجنته !
كان المجمع في سنواته الباكرة حين التحق به عبد الكريم ، عقب تخرجه في دار العلوم، وكان العمل المعجمي اللغوي يسير على أقوم نهج علمي ؛ فقد كان محررو المعجم الوسيط يعدون مواده اللغوية تحت الإشراف المباشر لأعضاء لجنته وخبرائها؛ فيقوم كل محرر بإعداد المادة اللغوية بتوجيه، ومتابعة ، ومراجعة، من العضو أو الخبير الذي يشرف عليه .
فعضو اللجنة أو خبيرها يضع للمحرر قائمة بمصادر مادته المعجمية، كما يضع في يده مفاتيح الدخول إلى هذه المصادر، والتعامل معها، موضحًا ما اتخذته شرعة ومنهاجا في عرض موادها اللغوية، أو الاصطلاحية، أو الموسوعية ، فلم يكن للمعجمات التراثية نهج واحد متبع، ولم يكن لها – كذلك – نَسَق واحد في عرض المادة كمًّا وكيفًا .
ثم يتابع المشرف عمل المحرر في إعداد المادة المعجمية حتى تستوي قائمة على أصولها اللغوية المنهجية .
هكذا كان العمل المعجمي في لجنة المعجم الوسيط، ثم في لجنة المعجم الكبير، وقريبٌ من ذلك في اللجان العلمية .(160/2)
وقد تولدت عن هذه الصلة العلمية الحميمة بين المشرف والمحرر صلة أخرى سداها ولحمتها أبوة وبنوة!
وقد حدثني الأستاذ عبد الكريم عن تلك الصلة المثلى التي كانت بينه وبين المشرف عليه في إعداد المعجم الوسيط؛ وهو الأستاذ العلامة إبراهيم مصطفى، عضو المجمع ، وصاحب الكتاب المشهور"إحياء النحو".
فلم يكن عملهما معًا مقصورًا على المجمع ، محصورًا في أوقات العمل الرسمية، بل تجاوز ذلك إلى خارج المجمع، في أوقات أخرى من نهار أو ليل؛ فقد كان المحرر الشاب عبد الكريم يختلف إلى دار أستاذه المشرف إبراهيم مصطفى ، حيث كانا يعملان معًا فيما عهد إليهما من مواد المعجم الوسيط، وقد يمتد العمل بهما إلى وقت متأخر من الليل !
ومن طريف ما حكاه لي أنه كان ذات ليلة في دار الأستاذ إبراهيم مصطفى، لمراجعة مادة أعدها للمعجم الوسيط، وكان ذلك في أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد أخذ الألمان يشنون غاراتهم الجوية على مصر،بين حين وآخر، وفي هذه الليلة أطلقت صفارات الإنذار، فأطفئت الأنوار، وأسرع الناس باللجوء إلى المخابئ فزعين!
ولكن الأستاذ إبراهيم مصطفى جاء بمصباح غازي – بعد أن أطفأ الأنوار الكهربية في بيته ، وأغلق نوافذه ، وقال:
- سنظل هنا – يا عبد الكريم – نواصل عملنا في ضوء هذا المصباح!
وواصلا عكوفهما على العمل حتى أطلقت صفارات الأمان، وكانت الساعة قد اقتربت من منتصف الليل، فنهض المحرر الشاب عبد الكريم ليمضي إلى بيته، ولكن أستاذه الشيخ استوقفه قائلا:
- انتظر يا عبد الكريم حتى أوصلك بسيارتي إلى دارك .
فقال له :
- الغارة انتهت – يا أستاذي – والترام يعمل حتى الواحدة بعد منتصف الليل.(160/3)
ولم تجد محاولات عبد الكريم في إقناع أستاذه الطاعن في السن بالعدول عن توصيله ، في هذا الوقت الذي كان يبلغ منتصف الليل، والظلام ما يزال مطبقا على القاهرة ، ونزل الأستاذ الشيخ إلى حيث أخرج سيارته من مكمنها بأسفل داره ، وأخذ يشق بها ظلمات الشوارع ، حتى أوصل المحرر الشاب إلى داره !
هكذا كانت الصلة وثيقة وحميمة بين أعضاء المجمع ومحرريه، صلة مثلى خلقًا وعلمًا؛ يتاح في كنفها لهؤلاء المحررين أن يقبسوا أخلاق العلماء من هؤلاء الأعضاء، العمالقة الأفذاذ ، كما يتاح لهم أن يفيدوا من علمهم الجليل ، وخبرتهم الثرية العريقة؛ فيجمعون بين المدارسة النظرية ، والممارسة الميدانية ، في العمل المعجمي .
وبذلك كان المجمع أشبه بجامعة لعلم المعجمات، وعمل المعجمات!
أيها السادة :
مضت الأعوام بعبد الكريم، وهو يرقى في درجات التحرير ؛ فرقي من المحرر، إلى المحرر الأول.. ثم إلى رئيس التحرير، حيث تأهل – بما اكتسبه من علم ، ودربة ، وخبرة – لأن يتبوأ مركز الأستاذ الذي يشرف على المحررين ، ويراجع ما أعدوه من المواد المعجمية، وكان يشاركه في ذلك زميلان جليلان، هما : الأستاذان: عبد العليم الطحاوي ، وعلي هلالي، وقد أدركنا – أخي مصطفى حجازي وأنا – ذلك العهد ، وأشرفنا على ما يعده بعض محرري المعجم الكبير .
وقد ظل الأستاذ عبد الكريم يرقى الدرجات الوظيفية المجمعية حتى حاز منصب المراقب العام للمعجمات وإحياء التراث ؛ فكان يشرف على المعجمات اللغوية الثلاثة : معجم ألفاظ القرآن الكريم، والمعجم الوسيط، والمعجم الكبير ، كما كان يشرف على إحياء التراث اللغوي، فأصدر المجمع
العديد من نفائسه.(160/4)
ثم بلغ الأستاذ عبد الكريم أعلى الدرجات الوظيفية بتقلده منصب المدير العام للمجمع ، عام سبعة وستين، وظل يشغل هذا المنصب إلى عام اثنين وسبعين، حين بلغ سن التقاعد الوظيفي ، فاختير – فور بلوغه هذه السن – خبيرًا بلجنة المعجم الكبير ، ثم انتخب عضوًا عاملا بالمجمع عام تسعة وثمانين . وخلال ذلك – في أواخر السبعينيات – شارك في تأسيس مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، حيث قام بتحقيق بعض المخطوطات ، ومراجعة بعض آخر ، وإعداد بحوث لغوية لنشرها في مطبوعات هذا المركز.
وإذا أردنا أن نستجلي ما أنجزه من أعمال علمية فسيطالعنا الكثير من تحقيقاته اللغوية، والأدبية ، والعلمية .
فهو قد حقق للمجمع الجزء الثالث من كتاب الجيم لأبي عمرو الشيباني. وحقق للهيئة المصرية العامة للكتاب الجزء الرابع من تهذيب اللغة للأزهري، وخمسة أجزاء من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ، هي الأجزاء الثامن عشر، والتاسع عشر، والحادي والعشرون ، والثاني والعشرون ، والرابع والعشرون.
وحقق لإدارة إحياء التراث العربي بدولة الكويت سبعة أجزاء من معجم "تاج العروس" للزبيدي ، هي الأجزاء: الثالث، والحادي عشر ، والثامن عشر، والعشرون، والسادس والعشرون، والثاني والثلاثون، والسادس والثلاثون .
وحقق لمركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى كتابي: "غريب الحديث" للإمام أبي سليمان الخطابي، و"المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث" للإمام أبي موسى الأصفهاني، و"الناسخ والمنسوخ" لابن الجوزي، و"فَعَل وأَفْعَل" للأصمعي .
وقد كان لي شرف مشاركته في تحقيق الجزء الرابع من كتاب"سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد" للإمام الصالحي.
أما التحقيق العلمي فقد حقق منه كتاب "الموجز في الطب" لابن النفيس، وراجعه العلامة المجمعي الدكتور أحمد عمار النائب السابق لرئيس المجمع .
أيها السادة :(160/5)
ذلكم هو الأستاذ الجليل عبد الكريم العزباوي ، الذي يعد أطول الأعضاء عمرًا بالمجمع ؛ فقد أمضى به إحدى وستين سنة، من عام سبعة وثلاثين إلى عام ثمانية وتسعين، تخللتها أعوام قليلة أمضاها بجامعة أم القرى، ولكن عمله فيها كان امتدادًا لعمله المعجمي المجمعي، وبذلك ظل نشاطه العلمي – طوال حياته – قائمًا على شريعة المعجمات اللغوية .
والمعجمات بعامة – اللغوية ، والأدبية، والعلمية ، والفنية ، والحضارية- تكاد تستأثر بأعمال المجامع ، ولعل ما يفصح عن الرابطة الحميمة – في لغتنا- بين"المجمع" و"المعجم" هذا الاتفاق التام بين أحرف الكلمتين : ( مجمع ، ومعجم ) ؛ فهما تتكونان من ميمين، وجيم وعين، وتلك صلة قربى بين الكلمتين!
أيها السادة :
كان المجمع البيت الثاني لعبد الكريم، طوال أعوام جاوزت نصف قرن، حيث كانت الأسرة المجمعية تأتلف على إخاء ومودة،وتجتمع على ورد مورود من العلم اللغوي المجمعي، وكم كانت هذه الأسرة المجمعية تتابع العمل إلى ردح من الليل، ثم تفترق على تحية المساء، لتلتقي – بعد ساعات – على تحية الصباح !
كان العمل المجمعي لا يستأثر بعقل عبد الكريم فحسب، فقد كان يستأثر أيضًا بقلبه ، وذات نفسه ، وبآماله ومطامحه .
وسأدع لعبد الكريم موقعي من القول هنا، لأسوق إليكم كلمات قالها في حفل استقباله ، حيث يقول :
" .. وقد أتاح لي المجمع أن أشتغل باللغة العربية طوال هذه السنين ، وبخاصة في تأليف المعاجم، حيث بدأت العمل في "المعجم الوسيط" حتى فرغنا منه – بحمد الله – ثم أخذنا في تأليف " المعجم الكبير"، وواصلت العمل فيه منذ بدايته إلى الآن، حتى جرى حبه في دمي، وصار من أغلى أمنياتي أن أفرغ له جهدي ما بقي لي من العمر "!
هذه أقباس من حياته العلمية المجمعية، التي وهبها زهرة شبابه، ورحيق كهولته، وصبابة شيخوخته! جزاه الله عما قدم للغة وللمجمع خير الجزاء .(160/6)
ولقد جمل هذه الحياة العلمية خلقه الجميل الجليل، الذي طالما تفيأنا ظلاله،وتنفسنا عطره،واستشرفنا نوره، وآوينا إلى بره ، ومروءته ، ومودته!
ولكم أشفق على نفسي من الحديث عن عبد الكريم الصديق، الذي كان نبعًا ثرًّا يفيض بالحب ، والوفاء ، والعطاء !
وأقول هنا : حسبي !
فإني أخشى أن يغص بياني، بما يجيش به جناني، من عبرات حب
ملتاع ، وشجن موار بالذكريات الغاليات!
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
إبراهيم الترزي
الأمين العام للمجمع
...
...
...
...(160/7)
من ملحمة الرحيل …*
قصيدة للأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي
ألي في هوًى أرجوهُ نفحةُ واصلِ
وهل أبتغي في الخَطْب نفحةَ نائلِ
معاذَ الهوى لم أبغه غير حاجةٍ
ظللتُ أرجِّيها جوابًا لسائل
أفي رَحِمٍ جذّاء بتّ مرزَّءاً
وقد بُتَّ عن عِرقٍ مدى العمر واصل
مضَى الشمل واعتاصت بهم سُبُل النوى
وأوحش في أهلٍ ضياع المجاهل
إلى أين ، للدار التي حيزَ خيرها
إلى الوارش الموبوء في ذلّ باطل ؟
ومن أين، من أخرى تقبَّض ظِلّها؟
فليس به شِبْرٌ يُعافُ لواغل
أرى صحبيَ الأدْنَيْن شالت نَعامةٌ
بهم فاستبيحوا للدواهي الغوائل
أعِنّي على طلٍّ تعذّر أمره
فكيف أُرجّي بعده صَوْبَ وابل ؟
وهَبْني أخا خطبٍ بفطنة حابلٍ
ولم يكُ من حَبْلى شجون حبائل
ولسْتُ بمجدودٍ تصدَّى لأمره
ببعض مُعينٍ أبَلَج الوجه نابل
ومن أين لي مالا أُطيق امتلاكه
ملاذاً بَيمٍّ لستُ فيه بساحل ؟
* ... * ... *
أخا العصر،هل لي أن أرى في سماحة
وصالَ مُحِبٍّ حافظِ الودِّ حاملِ ؟
لقد حيلَ ما بيني وبين صناعتي
وهل لي أن أجتازَ بعضَ الحوائلِ ؟
وقلتَ : أما تُدلي بدلوك قاصدًا
لجائزةٍ حيزت لبعض الأجادلِ ؟
فقلتُ : أفِقْ عن غيِّ ساهٍ مُضَيَّعٍ
وخذْ حَذَراً مما أرُيدَ لخاملِ
فتلك التي يسعى لها كلُّ سابحٍ
لسلعة ما يحظى بها كلُّ جاهلِ
جوائز قد حيكت ، وقد طار طائر
إلى حيث يُلفَى في حِبالة خاتل
أضاليلُ لا ندري مجال سباقها
وكم يُطَّبَى للسبقِ غيرُ المناضلِ
حداثةُ عصرٍ لسْتَ تعلمُ كُنْههَا
ترامَى إليها كلُّ أخرقَ ناصلِ
هل الفنُّ إلاّ لعبةٌ لا يُرَى لها
سوى كلِّ منبوزٍ بإعياء باقلِ
وأين البليغ السمح في كلماته
بما كان فيها بعضُ سَحْبانَ وائلِ ؟
على عصرِنا فليَبْكِهِ كلُّ ثاكلٍ
ويرثي الذي نشقى به كلُّ فاضل
أخي لسْتَ تدري من حديثيَ جُلَّه
وما أنا عن شيءٍ به خيرُ ناقلِ
خلوتُ لنفسي أستعيد شُجُونَها
ولم أستفدْ ممّا خلوتُ بطائلِ
ولي في ابتعادي عن "غثاء" المنازل(161/1)
تجاربُ ممّا نلتُه في المحافلِ
فما أنا من أمري بذروة منصِبٍ
وغاربه الأدنى إليه، بفاتل
أجِمتُ التي قد لاكَها كلُّ ماضِغٍ
وكم عِفتُ ما قد كان لُهْنَة آكلِ
تَناءَيتُ عن طَرْقٍ تغيَّر رَنْقُه
إلى غيرِ هذا من كريمِ المناهلِ
* ... * ... *
أخا العصر ، إنّ العصر في ظُلُماتِهِ
فكيف أرى في عاجلٍ نورَ آجلِ ؟
وكيف أرى في آخرِ الليل قادمًا
ليبدأ " قرنًا ثالثًا " بالرذائل ؟
أيُزرَع فينا غامرٌ بانَ خُبثهُ
ليحصد منّا عامرًا في سنابل ؟
ويُسأَلُ أهلونا ، وأين لقاؤهم :
متى سَيُنيُر الليلَّ ضوءُ المشاعِلِ ؟
وقالوا لنا في الأمر " عَوْلَمُ " أُمّةٍ
... إلى أُمَمٍ بتَّتْ حبال القبائلِ
أقِلْنيَ عذرًا إنْ جهلتُ جديَدنا
" بَعْولَمةٍ " حيزَتْ لشتّى المقاتل
أليسَ بحقٍّ إنْ تشاءمَ ذو حجًى
وأين أنا من حكمة المتفائلِ ؟
أَنِلْني بيانًا إنْ تداعَتْ خواطري
... يكونُ جوابًا عن شُجُونِ مسائلي
لقد طرقَتْنا الحادثاتُ فلاَحَ في
دُجَى الليلِ لمحٌ من وجود دلائلِ
أفَدتُكَ أنِّي لستُ أدرِكُ " عَوْلمًا "
و" عَوْلَمةً " يقسو بها قولُ قائلِ
وقد كان لي من ذاك في بعض "نَوفَل"
كثير النَّثا سَمْح الجدا والنوافل
وقد أتلَقَّى في مسيريَ "كوثرًا "
... يهمُّ إليه كلُّ صدَيان ناهلِ
وقد كان لي في " حَومَلِ " وهو مشعر
"بسقط اللوى" بين الدَّخول لداخل
مَناسكُ لم أبرح أُصاب بسحرها
فلا أنتَ تدري بعدها سحرَ بابلِ
إذا كان لي هذا فكِيف أُديره
" لعَوْلَمةٍ " راحت بدَأبيَ شاغلي
وكيف أراني عند "خَصْخَصةٍ " شدا
بها كلُّ مفتون "بغربٍ " مطاولِ
وأخرى عرفتُ الضيمَ فيها وإنّها
" تخاصية " يسطو بها غير فاعلِ
ولستُ أراني عند " خوصصةٍ " مشى
بها ذو هوًى في "مغربٍ" غير حافل
أخي بعضَ عذرٍ إن تجاوزتُ مجلسي
ورُحتُ إلى جدٍّ من الخطب نازل
عرفتُ به أن المصيبة محنةٌ
وأنّا امتُحِنّا في شرور النوازل
* ... * ... *
" تقول التي من بيتها خفَّ محملي " :(161/2)
إلى أين تسعى في حديث الأوائل؟
إلى أين تسعى في ديار تضاءلت؟
وقد صيحَ في ربعٍ بها متضائل
إلى أين ؟ لا تلك الديار سخيّة
وهُنّ ، وقد ألْوَيْنَ ، غير أواهل
إلى أين تسعَى لستَ في ميعة الضحى
وما أنت في ضافٍ من العمر رافلِ؟
أللدارس الماضي القديم بخيره
ولم يَخْلُ من شرٍّ بغيض الطوائل
تَحمَّلَه أسلافُنا بَرويّةٍ
وفاتوا ولم نلقَ المصير بطائل
كأني بك المفتون في غير معشرٍ
عدَلتَ بهم عن حاضر غير آمل
وما أنت فيهم لو سمعت ضجيجهم
وجَعْجعةً لا طِحْن فيها لباذل
" فدَع عنك نَهْباً صِيح في حجَراته
ولكنْ حديثًا ما حديث الدواحل "
كأنّك تستهدي القرون برحلةٍ
... وحُمِّلتَ ما حُمِّلْتَ زادًا لراحل
طويتَ بها طيّ السِجلِّ أشابةً
... من الكُتُب اللائي تُرِكنَ لعامل
حَمَلتَ بما تسعَى ركازاً تجمَّعَت
به صفوة يغنَى بها كل عاقل
وقلتَ ، وأنتَ البَرُّ نحو أرومة:
متى نتأسَّى بالعظام البواسل؟
متى نتأسَّى " بابن إدريس " قائلاً :
لنا لغة للعارفين الفطاحلِ؟
لكلِّ عظيمٍ بل نبيٍّ بعلمِهِ
... وخذ أنتَ ما يسعى له كلُّ كاملِ
* ... * ... *
لكَ الله من عصر تَسلَّح أهلُهُ
بكل خبيثٍ للمكارم قاتل
فلم تبقَ فينا مُنّةٌ نحتمي بها
لنرأب مما أحدثوا بالمعاول
فكيف أجيء اليوم أسمع لاغطًا
وماذا بشيء فاقد اللون حائل
وهل لك في لحنٍ تعثَّر سيرُه
وصار إلى نَخْبٍ عن الحقّ مائلِ
وماذا ، وأنت المبتغي من وسيلةٍ
أطيح بها فاستُبعِدَت في الوسائل
ولسْتَ بهذا تنتهي لمحجّةٍ
نأت بسخيفٍ من مُحالٍ وزائل
* ... * ... *
أقول : وقد تابعتُ قول حليلتي
وقد كان لي منه جهاد الحلائل
تحدّت معي كلّ الصعاب حفيّةً
بما عرفت بين النساء الأصائل
وكانت مُعيني وقتَ ضعفي وعُدَّتي
متى عرضت لي واقشَعَرَّتْ مراحلي
وقلتُ لها : إني بما كان من جوًى
لما أنا من أُمّ اللغات الفواضل
وما رحتُ في دأبي وجِدِّيَ قاصدًا
ومُستقريًا آثار تلك المنازلِ
لَيَعطِفُني للدارِ أهل ومَرحب(161/3)
فقدتُ بهم ما كان من زَيْن نائلي
ويَحزُنني إخوانُ صِدقٍ تركتُهُمْ
فلم يُغنني شيئًا بريدُ رسائلي
وأذكر أنّي قد تَلَفَّتُ مُرسلاً
إلى الدار عيني والحِمَى والخمائل
أبثُّكِ أنّي قد تبدَّلتُ غربة
حُمِلتُ عليها لسْتُ عنها بنا كل
أُدَمْتُ مطال الخطب والخطب غصّةٌ
وقد زادني منها غيابُ المماثل
وقد نال مني أنني ذو حماسةٍ
بمعتَركٍ ألقَى نزاع المشاكل
فقدتُ سلاحي هِمَّةً أحتمي بها
وكيف بواهٍ متعَب القلب فاشلِ؟
وإنّي إلى أخرى لياليَّ راحلٌ
وأحسب أن قد لاحَ صِدقُ المخايلِ
* ... * ... *
أذمُّ النوى ، ويحَ النوى ، قُتِلَ النوى
سعَى فيه ذو خَطبٍ بزُغْب الحواصلِ
وضيمَ به ذو عَوْلةٍ أيُّ عائل
وكم غيل ذو بأسٍ بنُهزةِ غائلِ
فطوبَى لمدفوعين في التيه هالهم
من القَدَر الساعي أيُّ هائلِ
وطوبَى لمنزوعين عن أمّةٍ مشت
إلى أُختِها لم تستفد من حمائلِ
نسينا الذي قد كان من حُرُماتنا
وكُنّ مصونات الحمى والدخائلِ
* ... * ... *
ظَلَمتُ القوافي سُمتُها غيرَ ذي هوًى
ولا أنا منها في حماسة باسلِ
تطلَّبتُها نجوَى فواتَتْ بحافلِ
ولم أرَ فيها ذاتَ طوقٍ لزاجلِ
فدَعْ عنك نقدًا صيغ في نَزَواته
ولم أكُ عّما قد ظُلمتُ بغافلِ
أُخِذنا بعصرٍ ضَامَ في شَطَحاته
جموعًا ترامَت من عليٍّ وسافلِ
وهل يستوي ذو مَسْكةٍ ونقيضه؟
وكم كان من هذا لِحافٍ وناعل
وكم أَتوقَّى سوء قولٍ لقائل
وما كان من هَمْزٍ ولمْزٍ لعاذل
إبراهيم السامرائي
عضو المجمع من العراق
...(161/4)
رفاعة رافع الطهطاوى والتعريب *
للأستاذ الدكتور يوسف عز الدين
السيد رفاعة رافع الطهطاوى جبل من الثقافة والمعرفة لم يتكرر في عصر النهضة الحديثة، إنه فرد أصلح أمة ونبه أجيالاً وأحدث تبدلاً واسعًا في الساحة الأدبية والفكرية والعلمية ذهب إداريًّا وأصبح طالب علم نهم الفكر متوقد الهمة وفي فرنسا وجد كثرة في العلوم والفنون والآداب التي لم يدرسها في الأزهر الشريف ، وكان يظن أنه درس علوم عصره كلها فأحس بحاجته إلى هذه المعارف الجديدة ، وضرورة نقلها إلى أمته ترجمة وتعريبًا، إنه وجد اتساعًا كبيرًا في المعارف التي قدمت الغرب وطورت حياته فعرب ما رآه جديرًا بتقدم وطنه، واحتك بالعلماء وساجلهم ليسبر غور الحضارة ويتعرف على جذور الفكر الغربي وأسباب تطوره الحضاري وازدهاره، لأن في نقل
علوم الغرب خير وسيلة لرفع المستوى العلمي والفكري لبلاده ليفتح الأذهان وينمي المدارك بنشر علوم الغرب بين أبناء وطنه .
واستمر مواصلاً التعريب مع طلابه عندما أسس مدرسة الألسن واختار لها خمسين من الطلاب الذين يحسنون العربية واللغة الأجنبية ووضع في منهجها دراسة التركية والفارسية إضافة إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، ورأى فيها نبعًا ثرًّا، ومركزًا مهمًّا للتعريب وفضلها على إرسال البعوث إلى الغرب، وأضاف علومًا تساعد الطالب على اتساع فكره، واطلاعه على العلوم المفيدة كالتاريخ والجغرافية والحساب وعندما يجد الطلاب صعوبة في الجمل أو وضع مصطلح كان يسعفهم بالنصح وإذا ما انتهى المعرب من
مادة كانت تعرض على مراجع ليطلع على دقة التعريب وأصالة اللغة العربية، إنه إنسان صابر سبع عشرة سنة دون كلل أو ملل في هذه المهمة ولم يتوقف حتى عندما نفاه عباس إلى السودان فترجم التليماك لفانلون برغم مصاعب الإقامة والبعد عن الأهل والشعور بالإحباط من هذا النفي فقال:
على عدد التواتر معرباتي
تفي بفنون سلم أو جهاد
وملطبرون يشهد وهو عدل(162/1)
ومنتسكو يقر بلا تمادي
وقد فارقت أطفالاً ضعافًا
بطهطا دون عودي واعتيادي
ولما توفي عباس وجاء سعيد عاد إلى مصر وعاد إلى مكانته الأولى وزادت مساحة نفوذه وزاد نشاطه فقد أوكلت إليه أعمال إدارية متعددة ومن أعماله المهمة ترجمة القانون الفرنسي الأساسي ( كود نابليون ) ووضع المصطلحات القانونية معتمدًا على الشريعة الإسلامية وأحكامها .
تعليم البنات :
في الوقت الذي يصدر أحد العلماء في قطر عربي فتوى (الإصابة في منع النساء من الكتابة ) نرى الطهطاوي يبذل جهودا كبيرة يدعو فيها إلى تعليم المرأة لإيمانه بحقها في المساواة مع الرجل فقد قال في (المرشد الأمين للبنات والبنين ) بضرورة تعليم البنات لأن التعليم ( يزيدهن أدبا وعقلا ويجعلهن للمعارف أهلا ويصلح به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي فيعظمهن في قلوبهم ويعظم مقامهن ) .
ويبدو أن زوجة إسماعيل تأثرت به فأسست أول مدرسة للبنات سنة1873م فأثمرت البذرة التي بذرها رفاعة في مصر ومن ثم في الشرق العربي، وبالرغم من اهتمام محمد على باشا بالعلوم التي تخدم الجيش فقد عرب الطهطاوي بعض الكتب الأدبية وترجم قصيدة لفولتير في رثاء لويس الرابع عشر ويبدو لي أن التليماك كان لها أهمية كبيرة في هذه المرحلة فقد نقلت إلى التركية التي قالت عنها جريدة الزوراء (1) في بغداد إنه ( تأليف لطيف مجموع من حكايات ظريفة وضعها لأجل تعليم الصبيان وتفهيم الفنون وترجمة أجمل وألطف حكاياتها).وسميت (حصة دون قصة)، وطبعت في مطبعة الولاية، في حين أن الطهطاوي سماها ( مواقع الأفلاك في وقائع تليماك ) ورآها تنشر الأخلاق والفضائل والسجايا العالية .
الأمور الغربية في فرنسا :(162/2)
وقد استرعى انتباه السيد رفاعة أسلوب تناول الطعام فقال في تلخيص الإبريز(2) (ولم نشعر في أول يوم إلا وقد حصل لنا أمور غريبة في غالبها وذلك أنهم أحضروا لنا عدة خدم فرنساوية لا نعرف لغاتهم ونحو مئة كرسي للجلوس عليها لأن هذه البلاد يستغربون جلوس الإنسان على نحو
سجادة مفروشة على الأرض فضلاً عن الجلوس بالأرض ثم مدوا السفرة للفطور ثم جاؤوا بطبليات عالية ثم رصوا من الصحون البيضاء الشبيهة بالعجمية وجعلوا قدام كل صحن قدحًا من القزاز وسكينًا وشوكة وملعقة في كل طبلية قزازتين من الماء وإناء فيه ملح وآخر فلفل ثم رصوا حول الطبلية صحنًا كبيرًا أو صحنين ليغرف أحد أهل الطبلية ويقسم على الجميع فيعطي لكل إنسان في صحنه شيئًا يقطعه بالسكين التي قدامه ثم يوصله إلى فمه بالشوكة لابيده فلا يأكل كل إنسان بيده أصلاً ولا بشوكة غيره أو سكينة أو يشرب من قدحه أبدًا ويزعمون أن هذا أنظف وأسلم عاقبة ومما يشاهد عند الإفرنج أنهم لا يأكلون أبدًا في صحون نحاس ولا في أوانيه أبدًا فهي للطبخ فقط بل دائمًا يستعملون الصحون المطلية وللطعام عندهم عدة من المراتب معروفة وربما كثرت
وتعددت كل مرتبة منها، فأول افتتاحهم الطعام يكون بالشوربة ثم بعد باللحوم ثم بكل أنواع الأطعمة كالخضروات والفطورات ثم بالسلطة مثلاً خضر منقوشة بلون السلطة ثم يختمون أكلهم بأكل الفواكة ثم بالشراب المخدر إلا أنهم يتعاطون منه القليل ثم بالشاي أو القهوة . وهذا الأمر مطرد للغني والفقير كل حسب حاله ثم إن الإنسان كلما أكل طعامًا في صحن غيره أخذ صحنًا غير مستعمل ليأكل فيه طعامًا آخر ثم (إنهم أحضروا لنا آلات الفراش ) والعادة أنه لابد أن ينام الإنسان علي شيء مرتفع نحو سرير) (1)(162/3)
واهتم السيد رفاعة بتعريب القضايا التي تتحدث عن الحرية وأكد واهتم على المساواة التامة بين أبناء الشعب وبأن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف وعليه العمل بالدستور وليس هناك فرق بينه وبين أبناء الشعب
لأنهم متساوون الرفيع والوضيع ويقدر ابن الشعب إقامة الدعوى على الملك نفسه ( مناهج الألباب ) واهتم بتعريب ما تنشره الصحافة التي سماها الجورنالات والجازيتات ، واهتم بالحرية الفردية للإنسان وحرية الانتقال والعمل؛ لهذا قدر الزعيم الفرنسي لا فاييت لأنه ضد الظلم والاستبداد وأكد أن الشعب الفرنسي لا يخاف من السلطة لأنها لا تنفي ولا تحبس ولا تصادر الأموال وهو آمن لأن القوانين تضمن له كل هذا وتصونه من عبث السلطة .
إنها إشارات واضحة ضد الوضع العام في الشرق وعالمه المقيد فهل يمكن الآن أن يؤلف كاتب في هذا العصر ما ألفه رفاعة ؟ وما مصير هذا الكاتب إذا عارض السلطة ؟ لا أدري هل كان محمد علي باشا واسع الصدر فقبل هذه الآراء أم أنه لم يطلع على كتب الطهطاوي في الحرية
الفردية ومقاضاة الحاكم المستبد أمام القضاء ، ولا شك في أن آراءه عن الظلم والاستبداد والحرية والحكم الفردي أثرت في المفكرين فقد ألف الكواكبي كتابيه أم القرى وطبائع الاستبداد متأثرًا بدعوة الطهطاوي فقال في أحد كتبه (الاستبداد يسلب الراحة الفكرية فيفني الأجساد فوق ضناها بالشقاء فتمرض ).
وبعد ذلك بتقدم الأيام بدأت الجرائد تناقش هذه القضايا ونشأت فكرة المحافظة والتطور فتنبه الشرق وأصبحت مصر مثلاً يحتذى في القضايا الفكرية والأدبية ولا شك أن تعريب الطهطاوي كان المنبع الذي ارتوى منه الفكر الحديث .
حركة التعريب والطهطاوي
كانت رغبة مثقفي مصر شديدة للتعرف على علوم الغرب عندما احتكت بهم الحملة الفرنسية، فقد شاهد علماؤها التجارب التي يقوم بها علماء المجمع العلمي ومنهم الشيخ حسن العطار وكان واسع الأفق ذكيًا فبهرته تجارب الغرب .(162/4)
لذلك أوصى تلميذه رفاعة الطهطاوي بأن يسجل مشاهداته في فرنسا فكتب (تلخيص الإبريز ) سجل فيه بدقة كل ما رآه وسمعه عن الحياة في فرنسا ولم يغفل شيئًا مهمًّا حتى إننا وجدناه يذكر المجامع التي في باريس وعلماءها وأبرز ما أثر فيه الحرية الفردية وحرية الانتقال وعدم خوف الشعب من الدولة .
ولا أريد في هذه العجالة ذكر كل جهوده في التعريب والترجمة والتأليف فقد استوفت الكتب التي كتبت عنه ما أريد ولكن لابد من ذكر أثر هذا الرائد في النهضة الفكرية والأدبية والعلمية في مصر والشرق فقد كان طوال حياته يعتمد اعتمادًا كبيرًا على التعريب والترجمة وركز جهوده عليها سواء كانت في مدرسة الألسن أو في قلم الترجمة .
إن إعجابي بصبر هذا الرائد الكبير الذي أحدث حركة كبيرة في مصر أدت إلى نهضتها بالعلوم والآداب والتعليم والصحافة جعلتني أسهم في مؤتمر أقامته جامعة المنيا.
وجدت رفاعة شديد العناية بتقصي المعاني الدقيقة وغلبت عليه هذه الدقة في أسلوبه وبخاصة الكتب العلمية وما كان قادرا على الخروج على السجع الذي كان سمة الحياة الأدبية وكان سهل العبارة واضح الأسلوب دقيقًا في وضع المصطلحات العلمية وضبط أسماء الأعلام الأدباء الذين أخذ عنهم، وقد وجدت شرحًا لطريقة الضبط في كتاب (التشريح العام)(1)يقول فيه:( فيه كثير من الأسماء الأعجمية سواء كانت فرنساوية أو يونانية كأسماء مهرة المشرحين ، وبعض حيوانات قد ذكرت للتبيين ، وأسماء بعض أمراض ومفاصل ، ولعجمتها كان التحريف حال التلفظ بها حاصل ، ولا يمكن النطق بها على حقيقتها إلا بالضبط
التام، الذي يستقيم به الكلام، ولا سبيل إلى ذلك إلا بضبطها بالعبارة ، لأن الضبط بالشكل غير مأمون الخسارة، أمرني حضرة ناظر مدرسة الطب الإنساني العام بايرون، أن أضبطها بالعبارة ليسهل التلفظ بها ويهون، وأن أرتبها حسب حروف المعجم لتكون مراجعتها أسهل وأقوم وأحكم ).(162/5)
إن اعتماد رفاعة على التعريب في نقل علوم الغرب وأفكاره وآدابه كان السبب المباشر في نشر الوعي واليقظة الفكرية وبقي طوال حياته مهتمًّا به سواء في الكتب المعربة أو في مقالاته في روضة المدارس أو عندما أشرف على الوقائع المصرية وإدارته قلم الترجمة أو مدرسة الألسن ولم تشغله الأعمال الإدارية الكثيرة التي عهدت إليه عن التعريب .
ومن آثار التعريب في الصحافة أن مهد لصدور الجرائد والمجلات فيما بعد، كان رفاعة رائدًا في وضع
المصطلحات العلمية والتعريب من الفرنسية فقد انفرد في وضع المصطلحات فلم نجد فوضى في وضعها إلا عندما كثر المعربون في الأقطار العربية وتنوعت المؤسسات والمجامع وانفرد بعض المعربين بوضع مصطلحات حسب أهوائهم فكثر عددها في مادة واحدة أو مخترع جديد وتناقضت المصطلحات وهذا ما يعانيه مجمع اللغة العربية اليوم في محاولاته الجادة في توحيد المصطلحات العلمية .
لابد من تكريم هذا الرائد في العودة إلى ما ترجم وعرب من الكتب وإبراز المصطلحات التي وضعها وإعادة طبع ( قاموس القواميس ) وإضافة المصطلحات الحديثة عليه للمقارنة الموضوعية وفي دار الكتب ترقد هذه الكتب على الرفوف فهي كثيرة ومنها:
1-أحسن الأغراض في تشخيص ومعالجة الأمراض تأليف محمد التونسي .
2-الأزهار البديعة في علم الطبيعة تأليف مسيو بايرون معلم الكيمياء في مدرسة الطب .
وأتمنى جمع مجلة يعسوب الطب الناقصة ودراسة مصطلحاتها التي عربها المختصون بعلوم الطب والتي كان يشرف عليها محمد علي البقلي وإبراهيم الدسوقي .
وأخيرًا نحن في عصر كثرت فيه المخترعات فأرى ضرورة اتساع رقعة التعريب والمساهمة الكبيرة في وضع المصطلحات وتوحيدها فقد عرب رفاعة وجماعته ما يقارب 2000 من الكتب، فكيف نقابل الحركة العلمية الواسعة التي جاءتنا بالحاسوب والصواريخ والإنترنت؟. أمنية أرجو أن تتحقق لتطوير الأمة واللغة ، ولكن من أين لنا المال والرجال والهمة والصبر ؟
يوسف عز الدين(162/6)
عضو المجمع المراسل من العراق
من مصادر البحث :
1-في الأدب العربي الحديث ، عمر الدسوقي .
2-تراثنا والمعاصرة، يوسف عز الدين.
3-الاشتراكية والقومية ، يوسف عز الدين .
4-أصول الفكر العربي الحديث عند الطهطاوي ، د. محمود فهمي حجازي.
5-مناهج الألباب ، الطهطاوي .
6-طبائع الاستبداد ، الكواكبي .
7-أم القرى ، الكواكبي .
8-تلخيص الإبريز ، الطهطاوي .
9-روضة المدارس .
10-يعسوب الطب .
11-شعراء الوطنية،عبد الرحمن الرافعي.
12-تاريخ الأدب الحديث ، عبد الصبور السيد الغندور.(162/7)
المناظرة عبر النصوص
أو
المناظرة غير المباشرة في التفاسير القديمة للقرآن الكريم *
للأستاذ الدكتور فريد ليمهاوس
في الآية الكريمة 119 من سورة "النساء" أُخْبِرْنا عن قول الشيطان المريد في مصير الذين شاقّوا الرسول { - صلى الله عليه وسلم - لأضلنهم ولأمنيهم ولآمرنهم فليبتكن ءاذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } .
ومن ظاهر الآية يبدو المعنى العام لعبارة { فليغيرن خلق الله } واضحًا ولكن منذ الفترة المبكرة من تفسير القرآن الكريم نلتقي بمناقشات حادّة أو مناظرات حامية في المعنى الدقيق الصحيح . روى لنا مثلا السمرقندى في تفسيره الذي كتبه بعد تلك الفترة المبكرة بقرنين ونصف تقريبا. وقال :
قال عكرمة:هو الخصاء، وهكذا روى عن ابن عباس،وأنس بن مالك. وروى عن سعيد بن جبير قال: هو دين الله، وهكذا قال الضحاك ومجاهد ، وقيل لمجاهد إن عكرمة يقول: هو الخصاء، فقال ماله، لعنه الله، وهو يعلم أنه غير الخصاء ، فبلغ ذلك عكرمة فقال ؛ هو فطرة الله . (1)
وفي رواية في تفسير الطبري المجمَّع قبل تفسير السمرقندي بنحو نصف قرن نجد مجاهدا يتكلم بصراحة زيادةً على ذلك :
عن القاسم بن أبي بزة قال لي مجاهد سل عنها عكرمة " ولآمرنهم فليغيرن
خلق الله "، فسألته فقال:الإخصاء . قال مجاهد : ماله ، لعنه الله !فوالله لقد
علم أنه غير الإخصاء ؛ ثم قال : سله فسألته فقال عكرمة : ألم تسمع إلى قول الله تبارك وتعالى : { فطرة الله الّتى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } [ الروم : 30 ] ؟ قال: لدين الله، فحدَّثت به مجاهدًا فقال:ماله أخزاه الله!(163/1)
تدور نقطة الخلاف في هذه المناقشة حول الحجة نفسها فقد اتّفقت كلتا وجهتي النظر في أن دليل صحة التفسير موجود في سورة الروم (الآية 30 ) بأن معنى "خلق الله" مترادف لفطرة الله . وواضح كل الوضوح أن ثمة اختلافًا بين الجانبين؛ هل يكون المعنى في هذه الآية حرفيًّا أو مجازيًّا؟ كان عكرمة يعبّر عن رأيه أنه حرفي وأن المراد " الطبيعة " أو" النظام الطبيعي" أو" الطبيعة كما خلقها الله ".واعتقد مجاهد أن المعنى المجازي هو الصحيح وأن المراد:
" صبغة الله التي خلق عليها الناس " كما كان عبَّره أبو عبيدة في كتابه " مجاز القرآن " مثلا (*).
يتكرّر هذا النوع من الخلافات في الرأي بين مفسري القرن الأول الهجري كثيرا في تفسير الطبري وفي تفسير السمرقندي كما في غيرهما من التفاسير.وهذا شيء معروف. وكلمات العنف والشدة المروية عن تلميذي ابن عباس المشهورين أقل وهذا معروف طبعا، ولكن المثل المذكور ليس باستثنائي . في المناظرات المنقولة من أهل السلف في تفسير السمرقندى وتفسير الطبري نلاقيهم بكلامهم بلا لفٍّ ولا دَوَران كما في المثل التالي:
وهو الاختلاف حول مسألة مَن المقصود بالضبط بالرجال في آية (46) من سورة الأعراف { وعلى الأعراف رجال } وحيث اختلف أهل التفسير من السلف في صفة الرجال المخبر
عنهم أنهم على الأعراف . قال بعضهم: هم قوم من بني آدم ، استوت حسناتهم وسيئاتهم. وقال آخرون كانوا قتلوا في سبيل الله عصاة لآبائهم في الدنيا.وقال آخرون : بل هم قوم صالحون فقهاء علماء. وقال آخرون : بل هم ملائكة ، وليسوا ببني آدم (1) . وكذلك نجد في تفسير السمرقندي :
وروى عن أبي مجاز أنه قال هم الملائكة : فبلغ ذلك مجاهدًا فقال كذب أبو مجاز .
يقول الله تعالى: { وعلى الأعراف رجال } . فقال أبو مجاز: لأن الملائكة ليسوا بإِناث ، ولكنهم عباد الرحمن . قال الله: { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إِناثا… } الآية (19) من سورة الزخرف .(163/2)
والأمر الغنىّ عن البيان هو أنّ المفسرين المتأخرين مثل الطبري
والسمرقندى كانوا يستعملون رواية تلك المناقشات والمناظرات كوسيلة إِيضاحية وتعليمية في بيان الصواب عندهم . والظاهر أيضًا أنهم موقنون بأن روايات تلك المناقشات والمناظرات صادقة وأنها حدثت فعلاً. والعجيب أن هذا النوع من المناقشة والمناظرة غائب في نصوص التفاسير المبكرة الموجودة حاليا . وأيضًا أنّ بعض المفسرين مثل النحاس الذي عاش في الجيل الذي بعد الطبري قد تهربوا من فكرة النزاع بين أسلافهم الثقات في علم التفسير . وكذلك نجد النحاس في كتابه " معاني القرآن الكريم" (3) يخبر في إِطار تفسير سورة النساء: الآية (119) بكلا الخلافين المذكورين أعلاه وقال بعد ذلك : " إن هذه الأقوال ليست بمتناقضة، لأنها ترجعُ إِلى الأفعال ".
ويبدو أن هذا الميل إلى الملاءمة بين تفسيرات السلف المتناقضة كان يتزايد مع مرور الزمن.وربما على الصواب، وربما كان بعضهم يهتمون بأقوال السلف المتناقضة المروية في المراجع المتأخرة اهتمامًا أكثر من الضروري سواء أكان صوابًا أم خطأً وكنا - منذ عهد قريب - لا نستطيع المراجعة لأن المراجع المبكرة نفسها لم نتوصّل إِليها توصّلا مستقلا.ولكن في أيامنا هذه نجد لأول مرة بين أيدينا طبعات محقَّقة لبعض التفاسير القديمة ومن أهمها تفسير مجاهد (1) وتفسير سفيان الثوري (2) وتفسير عبد الرزاق الصنعاني (3) وتفسير مقاتل
بن سليمان (4) .
وفي هذه المراجع الأصلية المتاحة الآن والتي ترجع في صيغها المدوَّنة إِلى النصف الثاني للقرن الثاني الهجري لا نجد هذا النوع من المناظرة المباشرة كما نجدها عند الطبري أو السمرقندى في شكل قصة حادثٍ قد حدث .(163/3)
وبطبيعة الحال لا نجدها لأن من مميزات هذه التفاسير القديمة المنشورة حتى الآن أنها لم تفسّر إلا عددا قليلا من كلمات القرآن الكريم أو عباراته . هذه الكتب من المرحلة الأولى للتفاسير المدوَّنة وهي في أغلبية الأحوال تسجل المواد المروية عن
التابعين أو الصحابة . ولا يزيد محتواها عن مترادفات بعض الكلمات الغامضة وشروح قصيرة لبعض العبارات العَويصة وأحيانا بعض القصص التوضيحية .
وإِذا كانت التفاسير القديمة من طبيعتها لم تسجِّل المناقشة أو المناظرة فهل يمكننا أن نكشف فيها آثار تلك المناظرات المروية عند الطبري والسمرقندى وغيرهما من المراجع المؤلفة بعدها بقرن ونصف على الأقل؟
إِنّى مقتنع بأننا نجد الرد الإِيجابي على هذا السؤال في ظاهرة من الظواهر التي نلتقي بها في التفاسير . وهي ظاهرة غير مجهولة ؛ هي معروفة وربما غير مفهومة تماما .
نجد المفتاح في تفسير عبد الرزاق الصنعاني ( المتوفى سنة 210هـ ) . وعلى غير المألوف في هذا النوع من التفاسير نجد المناظرة المذكورة
أعلاه بين مجاهد وعكرمة في رواية عن القاسم بن أبي بزّة : قال أمرني مجاهد أن أسأل عكرمة في قوله تعالى { فليغيرن خلق الله } قال: هو الخصاء ، فأخبرت مجاهدا ، فقال أخطأ ، { فليغيرن خلق الله } قال : دين الله (*) .
وقعت هذه الرواية عن القاسم بن أبي بزة في سياق سلسلة ست روايات تحتوي تفسيرًا لهذه العبارة القرآنية . وعلى الشكل المعتاد في التفسير القديم لا نجد إِلا مترادفات في أربع منها وأما التفسيران الباقيان فهما أوسع قليلا، وكلاهما في شكل قصة قصيرة جدا .
وإِذا أمعنّا الفكر في طريقة تقديم هذه التفسيرات الستة التي استعملها عبد الرزاق هنا لا حظنا أمرين غريبين، أولهما: هو عدد التفسيرات ورواياتها؛ فعبد الرزاق عمومًا لا يقدّم إِلا تفسيرًا واحدًا لكلمة أو عبارة غامضة وعادةً
ما تكون روايته عن شيخه معمر بن راشد فقط .(163/4)
آخرهما هو ترتيب هذه التفسيرات الذي لا يبدو أن يكون جزافيا . وأسرد هذه التفسيرات الستة على النحو التالي:
التفسير الأول : عن معمر عن قتادة يساوى خلق الله بدين الله .
التفسير الثاني: في رواية عن الربيع ابن أنس يذكر أن الخصاء من تغيير خلق الله .
وكذلك التفسير الثالث: في رواية شهر ابن حوشب ولكن بإضافة قول الحسن إِن خصاء الغنم لا بأس به.
التفسير الرابع: هو المذكور عن القاسم ابن أبي بزة والذي يذكر الاختلاف بين عكرمة ومجاهد والذي يدل ضمنًا على صواب مجاهد .
التفسير الخامس: في رواية أخرى عن القاسم يذكر مثله .
والتفسير السادس: عن سفيان الثوري عن قيس بن مسلم عن إبراهيم بن جرير البجلى يساوي خلق الله بدين الله مرة أخرى .
والواضح كل الوضوح أن هذا الترتيب منظم تنظيما ذكيًّا . وهذا هو الذي يهمنا في بحثنا هذا ؛ لا تهمنا هنا الخلافات في الرأي نفسها، ولكن تهمنا آليات تقديم الخلافات . وهذه الآليات هي التي لا تُظهر لنا علامات المناقشة أو المناظرة ولكنها تُظهر لنا العلامات المميزة للتدريب على المناظرة :
أولا : تقديم تفسير معمر شيخ عبد الرزاق ( الرواية الأولى ) .
ثانيا: تقديم الرأي المعارض ( الرواية الثانية ) .
ثالثا : إِعادة تقديم الرأي المعارض مع تضعيفه قليلاً ( الرواية الثالثة ) .
رابعا:إِبطال الرأي المعارض بالاستناد إِلى روايتين جديرتين بالاعتماد والقبول (الروايتان الرابعة والخامسة).
وخامسًا : إِعادة تقديم التفسير الأول حرفيا عن حُجة أخرى ( الرواية السادسة ) .
وليست هذه الآليات أو آليات مشابهة استثنائيةً في التفسير القديم . في رواية آدم بن أبي إِياس عن ورقاء بن عمر عن عبد الله بن أبي نجيح عن تفسير مجاهد مثلا نجد في الموضع نفسه أربعة تفسيرات مرتبة بترتيب متشابه.(163/5)
وكذلك نجد أمثالاً كثيرة تقدّم قضية تفسيرية معينة بطريقة متشابهة وبترتيب متشابه ، ونجد هذه الأمثال في تفسير سفيان الثوري وتفسير مجاهد وتفسير عبد الرزاق فيما يأتي : "سورة البقرة" 197 ، 237، 282، "سورة النساء" 6، 43 ، 119، "سورة الأعراف"40، 46، "سورة التوبة" 3 ، "سورة هود" 5، "سورة يوسف" 110، "سورة إبراهيم" 25 ، 28 ، "سورة الإِسراء" 16 ، "سورة الحج" 28 ، "سورة النور" 3، "سورة السجدة" 21، "سورة الذاريات" 17،"سورة النجم"11.
وعلى ما يبدو كان معنى هذه الآيات أو مضمونها قابلا للمناقشة في منتصف القرن الثاني الهجري وهو تاريخ تدوين التفاسير القديمة المذكورة ونستطيع أن نستنتج منها أن مدوّنى التفسير في تلك الفترة ما قاموا بتسجيل التفسير الذي يذكر الآراء المعارضة أو المنحرفة عن آراء مذاهبهم . وأعتقد أنهم عملوا ذلك لتقوية تلاميذهم ولإِعدادهم للمناقشة والمناظرة .
هذا ، ولا نعرف إذا كان هذا النوع من المناقشة أو المناظرة قد حدث فعلا في فترة سابقة لهذه الفترة أو لا ، مثلا بين تلاميذ ابن عباس، كما كان يروى الطبري والسمرقندي . لا نستطيع أن نُثْبِت ذلك . على كل حال إِنى أعتقد أنهم ، إذا كانوا يتناقشون ، ما كانوا يتناقشون بطريقة مباشرة ، وجهًا لوجه . الظاهر أنّ المناقشة كانت غير مباشرة عبر الوسطاء كما يروى الطبري والسمرقندي، أو عبر النصوص كما توهِمنا التفاسير القديمة المنشورة حتى الآن .
فريد ليمهاوس
عضو المجمع المراسل من هولندا(163/6)
النسق الفصيح والنسق العامي
في المنهج التعليمي للغة العربية *
للأستاذ الدكتور عباس الصوري
... يدخل هذا الموضوع ضمن مسار الأبحاث التي تحاول رصد موقع اللغة العربية داخل الثقافة المعاصرة في مظاهرها المختلفة. ويبدو هذا جليا في نقاط التقاطع والحوار بين الثقافة العربية في شموليتها وبقية الثقافات المعاصرة .
... الإجابة عن ذلك تقتضي منا تحليل عدة أوضاع توجد فيها لغة العروبة على محك العصر . وسنكتفي في هذا العرض بالحديث عن مدى استعداد لغتنا العربية لتؤدى مهمتها مثل سائر اللغات الحية ، خصوصا وأن الإقبال عليها في تصاعد مستمر لأسباب كثيرة .
... فالعالم العربي يوجد حاليا في عمق الاهتمامات الدولية لما له من
موقع وما يزخر به من ثروات ، اشتد الصراع حولها في العقود الأخيرة ، وهذا كاف لجعل لغة العرب وثقافتهم هدفا لمزيد من الاختراق . هذا فضلا عن أن اللغة العربية بحكم أهمية تراثها المتنوع وفعل حجم متكلميها الهائل ، كل ذلك أهلها لتكون ضمن اللغات الأولى في حظيرة الأمم المتحدة لغة الترجمة ، ولغاية التعارف وتبادل الصلات بين الشعوب الشقيقة والصديقة على السواء.
... ثم إن العربية فوق هذا وذاك لغة الثقافة والدين لكثير من الشعوب التي تدين بالإسلام ولكنها لا تتكلم العربية مثلما هو الحال في آسيا وأفريقيا وغيرهما من المناطق ، وللمسلمين هناك اهتمام بالغ بتعلم لغة
القرآن الذي به يتعبدون .
... لهذه الأسباب وأخرى اجتماعية واقتصادية وسياحية أيضا ، كانت العناية باللغة العربية شديدة ، مما جعل المشتغلين بشؤون البيداغوجية يركزون البحث عن أنسب السبل لتيسير مهمة التدريس وإعداد البرامج اللائقة والطرائق الميسرة والوسائل الفعالة لتبسيط عملية تعلم اللغة العربية. فماذا تحقق من ذلك ؟ (164/1)
إن العناية بالشيء لا تعد شرطًا في تحصيله بالضرورة، فكثرة الاهتمام، قد تفتح المجال لابتداع المناهج وابتكار الأساليب ، قد تساعد في توسيع هذا المجال ليشمل سائر العراقيل التي تعوق اللغة العربية في أداء مهمتها كلغة المسلمين ممن يتكلمها ، وممن لا يتكلمها ، ولكن ذلك ليس شرطا في النجاح .
... فإذا أخذنا على سبيل المثال لا الحصر ، الأبحاث التي أجريت من قبل الباحثين في معهد الخرطوم الذي يهتم بنشر اللغة العربية خارج نطاق العالم العربي وحاولنا الإلمام بعينة منها ظهرت خلال الثمانينيات لوجدنا الأعداد التالية :
-70 بحثا أنجز في موضوع الظواهر النحوية والصرفية والصوتية .
-80 بحثا في المشاكل التربوية وقضايا التدريس .
-20 بحثا في تعليم المهارات اللغوية .
-30 في بناء المناهج وتخطيطها وتصميمها.
-40 في تأليف النصوص التعليمية .
-50 دراسة في السياسة اللغوية .
-20 بحثا في الوسائل التعليمية .
-70 في ميدان التقويم .
-30 في طرائق إعداد المعلمين
-350 في دراسة الوضعيات اللغوية في البلاد الإسلامية … إلخ .
... فإن أضفنا إلى الرُّكام الذي يتزايد كل سنة ما هو موجود في السوق مما ألف في البلاد العربية أو خارجها من كتب التعليم ومعاجم وأشرطة سمعية وبصرية سنجد حقيقة حصيلة هائلة من الأبحاث في الطرق والمناهج والأساليب المتنوعة في أهدافها وفي محتوياتها وفي منظورها ولكنها جميعا تعد أداة لتقريب العربية لمن يود تعلم المستوى الفصيح منها ، فماذا نستفيد من كل هذه الجهود ؟ سنرى ذلك على المستويات التالية :
-1 على مستوى الأهداف .
-2 على مستوى المنهاج .
-3 الطريقة المتبعة .
-4 المحتوى .
-1 على مستوى الأهداف :(164/2)
... يمكن أن ننظر إلى تعلم اللغة العربية لغايات لغوية محضة كما يمكن أن ندرسها لغاية ثقافية . ومن الصعوبة الفصل بينهما ، ويبدو أن هذا التقسيم متأت من إقبال الدارسين من غير العرب على معرفة اللغة والذين أعدّت لهم برامج دون الاهتمام بالجانب الثقافي الذي يوقع في الإحراج بالنسبة لهؤلاء عندما يتعلق الأمر بدراسة نصوص القرآن والحديث والسنة والفكر الإسلامي لأنها تعد من مكونات الثقافة الإسلامية.
... إن الرهان على الدرس اللغوي المحض محفوف بكثير من المزالق ، وعلى رأسها كون اللغة ليست مجرد متن جامد وإنما هي عالم حي يحكي تجربة قوم بثوا فيها خلاصة عواطفهم وسجلوا فيها مختلف رؤاهم الفكرية في الكون وفي الناس وفي الحياة .
-2 على مستوى المنهاج :
هناك المنهاج الخاص بتعليم العربية لأهلها ، وهو يروج عادة في الدول العربية. وهناك المنهاج الموجه للطلاب المسلمين من غير العرب مثل المناهج الرائجة في السعودية ومصر ( بالأزهر )، وبعض البلاد المشرقية الأخرى، ولها طابع ديني . وهناك المناهج الموجهة لغير المسلمين ، ويحاول أصحابها أن ينسجوا على منوال الكتب السياحية التي تبيع اللغة مثل أي إنتاج سياحي آخر ، فهي تسعى لتبسيط الدروس إلى حد تصبح معها مجرد جمل وتعابير جاهزة قصد تبادل الحديث في شؤون الحياة العادية…
-3على مستوى الطريقة :
هناك الطرق التقليدية التي تجعل من درس العربية أداة للثقافة الإسلامية ، فهي تعتمد على القراءة والنحو للمرور سريعا إلى متون الفقه والشريعة والأدب.
... وهناك المناهج الموجهة لغير المسلمين، وهي تنبني أساسا على ما يسمى بالطرق الحديثة وهي تهدف إلى تركيز على لغة الحديث ، لذلك استعملت الآلات السمعية والبصرية التي تساعد على تحقيق ذلك ، وإلى هذا النوع نشير- في حديثنا ـ لأهميته وسرعة انتشاره .
-4 على مستوى المحتوى :(164/3)
أي مستوى المحتوى اللغوي الذي نهدف إلى تبليغه : وهنا نصل إلى عمق المشكل ، فاللغة أساسا ليست مجرد قواعد تحفظ ومبادئ تعرف بواسطتها القوانين التي تتحكم في الصرف والنحو والبلاغة ، اللغة ـ كما يقول ابن جني ـ أصوات … أي ألفاظ وعبارات منطوقة ومسموعة، وسواء أكانت العربية تدرس للمسلمين من غير العرب أم لغيرهم من الشعوب الأخرى ، فالأصوات في اللغة العربية تطرح مشاكل تتصل بالاستماع أولاً ثم التلفظ ثانيا ، وهندسة الأصوات مثل هندسة الكتابة. فكما أن الدارسين تبقى في نفوسهم أشياء من إرغامهم على الكتابة من اليمين بدلا من اليسار الذي ألفوه ، فكذلك يجدون غرابة لا تنتهي تجاه نظام الأصوات العربية .
... فهناك إذن مشكل النطق لأن الطرق الحديثة كلها أجمعت على إعطاء لغة الحديث الأهمية الكبرى وبها تكون البداية في المستويات الأولى ، ومنها التي تسعى إلى جعل لغة الكتابة بعد تعلم المشافهة مثلما يحصل في تعلم اللغات الغريبة وهذا ما يجعل تعلم العربية يقع في دائرة مغلقة ، الخروج منها يتم عبر منعطفين : إما تعليم المشافهة الفصيحة أو تعليم المشافهة غير الفصيحة .
... - بالنسبة للاتجاه الفصيح: يجد تبرير موقفه في أن المشافهة بغير الفصحى تتم ليس بعامية واحدة وإنما بعاميات مختلفة ، معظمها يتميز بعدم الانقياد في قواعده، وطريقة كتابته ، وضبط نظامه الصوتي والصرفي. فما هي اللغة العربية العامية أو العاميات التي يجب تدريسها للطلاب الأجانب ؟ إن كان الجواب هينا في الاختيار فهو ليس ممكنا على مستوى الإنجاز والتحقيق … ولا مجال للخوض في اللغة العامية الأقرب إلى الفصحى أو السقوط في فخ التفاضل… لهذا اختار هذا الاتجاه ( الفصحى ) لأنها لغة العرب جميعا ، وبها يمكن التفاهم في جميع الدول العربية .
-الاتجاه الثاني : يرى أن الفصحى(164/4)
تصلح للدراسة الأكاديمية ولمعرفة الدين والأدب والثقافة ، أما من يرد أن يحتك بالعرب في حياتهم اليومية ويعرف كيف يخاطبهم ، فالفصحى وحدها غير كافية ، بل يمكن أن تكون عامل إحباط في التعامل مع العرب بسبب صعوبة مخارج الحروف وكثرة الاشتقاقات، وأنواع الأفعال والجموع إلخ …
... والواقع أن هذه الثنائية: ثنائية اللغة والكلام ، الفصحى والعامية ، الفكر والممارسة ... هو مشكل تعليم جميع اللغات ، لكن بنسب متفاوته طبعًا ، وهو يجد له حلا في الثقافات التي لا يوجد فيها تباعد كبير بين اللغة العالمة (لغة الثقافة ) والفكر، واللغة العامية؛ لغة السوق والتواصل البسيط. لكن في العربية الأمر يختلف، فقد يصل التباعد إلى حد الاختلاف ، وللمهتمين بالموضوع مواقف مختلفة :
-الموقف التقليدي من العامية :
التجاهل ، وهي عند أصحابه تشكل
خطرًا على الفصحى، لذلك وجب تنقية الدرس الموجه للعرب ولغير العرب من جميع الشوائب العامية ، ويكون المعيار عندهم هو المتون الأدبية الكلاسيكية ، وهي الجديرة بالدرس ، وهي أساس الوحدة بين العرب وما سواها يعد خرقا يجب محاربته … وتقوم البيداغوجية عند هؤلاء على مفهوم الخطأ انطلاقا من المعيار .
- الموقف البيداغوجي :
المشكل يكمن أساسا في كيفية تأسيس الدرس اللغوي بالعامية إن كان لوجود هذا الدرس ضرورة. وكيف يمكن التحكم في الخلافات بين العاميات ؟ وما هو النموذج المطلوب في النطق والنبر والتنغيم ؟ وما الموقف من التداخل بين العامية والفصحى ؟ ولحد الساعة ، لا توجد تجارب لنقل العاميات عن طريق المشافهة إلى الدرس الكتابي المبنى على ضوابط متفق عليها ، فالمستشرقون اهتموا بالعاميات كثيرًا ووضعوا لها قواميس لترجمتها وحاول بعضهم رسم الخرائط اللغوية مثلما فعل " ولقنسن " في محاولته وضع جغرافية لهجية للعالم العربي أو كما فعل " كانتينو " الفرنسي في دراسته للهجة حوران وتدمر إلخ …(164/5)
... ولمحمد جواد النوري أطروحة حول " لهجة نابلس " الفلسطينية 1973 ، ويرى إبراهيم أنيس في كتابه " في اللهجات العربية " . " أن مثل هذه الدراسات من شأنها أن تخدم اللغة الفصحى " ، وهو في الغالب يقصد اللهجات العربية القديمة . إن هذه الدراسات لا تخدم اللغة الفصحى ـ كما يرى أنيس ـ بصفة مباشرة ، وإنما تكون جهود أصحابها أساسا لإقامة الدرس اللغوي اللهجي ، أما معظم هذه الدراسات فيقوم على أساس البحث التاريخي لمعرفة ماضي اللغة وتراثها أو يكون الهدف لغويا لإثبات العلاقة مثلا بين الفصحى والعامية ، فماذا عن هذا الموقف الأخير ؟
-الموقف اللغوي :
مشكلة هذه الدراسات أنها تغفل أولاً التفاعل الاجتماعي اللغوي ، فهناك نوع من هذه الدراسات في بعده عن التفاعل المذكور يتخذ سبلاً سهلة لضبط عنصر التجانس بين الفصحى والعامية، وهكذا تخلط هذه الدراسات بين عدة مفاهيم مثل مفهوم " الاندراجية " الذي تذكره تصريحا ولكنها تقيم مفاهيمها عليه ضمنيا . فهذا المفهوم عند اللسانيين يحيل على معني " التغير " ومعنى التغير يوضحونه بدرجة من درجات التطور، والتطور يقام على أساس مبدأ "الأصل ـ الفرع "،وإذا فهمنا العلاقة بين الفصحى والعامية على هذا الأساس أي على أساس التغير اللغوي، سنجد بعض اللغويين يرون أن العلاقة بين الأصل والفرع لا تشكل قطيعة . يقول د. منذر عياشي في كتابه " قضايا لسانية وحضارية" " إن الفارق بين الفصحى والدارجة فارق في الأداء لا يمس السطح "،أما القطيعة " فهي مسافة لسانية تفصل بين لغة وأصلها التاريخي المنسلخة عنه … تشكل انفجارا يصيب اللغة الأم ويحيلها إلى لغات متباعدة " ، وليس بهذا المعنى تعيش الفصحى تطورها ، فالتطور بالنسبة إليها استمرار للماضي في الحاضر… وهذا التطور الخاص للغة العربية يعكسه حضور التراث في كل مناطق المتن المعجمي للغة العامية ؛ لكن المسألة ليست من البساطة للحسم فيها بهذه الطريقة .(164/6)
... فالتغير الذي يحصل في لغة ما خلال مسارها التاريخي له أبعاد متعددة : هناك الزماني والمكاني والتغير الفردي للمتكلمين : يكون نفسيا وفسيولوجيا .
... يقول ابن خلدون في المقدمة : " لغة العرب العهد مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير ، وذلك أنا نجدها في بيان المقاصد والوفاء بالدلالة على سنن اللسان المصري ، ولم يُفقد منها إلا دلالة الحركات على تعيين الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير " .
... حسب هذا النص ، فالتغير الذي أصاب لغة المشافهة في زمن ابن خلدون أصابها في دلالة الحركات ( أي الإعراب ) أما بنية الكلام فقد بقيت على ( سُنن اللسان المصري ) كما يقول ، واستعاض الناس إذ ذاك بالتقديم والتأخير ( أي التركيز على الرتبة ) بدل حركات الإعراب .
... التغيير إذن يكون على عدة مستويات :
-المستوى الصوتي: وهو رائج حتى في الفصحى ذاتها ( وهو من أكثر المشكلات صعوبة في البحث اللساني كما يرى " دوسوسير " وغيره .
-المستوى المعجمي : وهو مجال انتقال المفردات وتغيرات دلالاتها ، وتغيير بنيتها الصوتية وما يحدث فيها من إسقاط وحذف أو تسكين أو إدغام وإبدال ودمج .
-المستوى النحوي والصرفي : وهو الذي أشار إليه ابن خلدون ، ولعله أخطر أنواع التغيير الذي إذا تجاوز حدا معينا يحدث القطيعة ، أما التغيرات على مستوى الأصوات والمفردات فهو شيء طبيعي .(164/7)
... ويبدو لي أن بعض الدارسين قلبوا النظرية بقولهم بعد تغيير الدلالة ومحاولة البرهنة على ثباتها دون تغيير في العامية . مما جعل في المغرب عندنا ، بعض علمائنا يعملون على إصدار بعض الجداول الأخرى للاستدلال بها على أن العامية لا تشكل مظهرا من مظاهر التطور ، وإنما هي في حد ذاتها أصل وغيرها تفرع عنها. ويبدو لي أن هؤلاء ـ وعلى رأسهم الأستاذ الشاعر محمد الحلوى ـ لاحظوا شبه قطيعة مع الفصحى في الحياة الاجتماعية ، وأن انتشار التعليم وارتفاع المستوى الثقافي بين المتعلمين أذكى في نفوس اللغويين البحث عن العودة إلى ماضي الثقافة العربية النير ، فأرادوا أن ينبهوهم إلى ما تتوفر عليه العامية من رصيد أثيل يجب الإلمام به قبل البحث عن التجديد، لاحظ مثلا الأستاذ الحلوى أن مفردات مثل الأفعال: كرس ، كردس، كشط ، والأسماء مثل : الكيدر ، الغطار ، الغراف إلخ … هي ألفاظ فصيحة ولكنها ضائعة ، ودراسة هذا الرصيد اللهجي المهجور ، يطرح عدة مشاكل رغم الإغراء الذي يجعل المرء يعتقد أنه من اليسر سد الثغرة بين الفصحى والعامية .(164/8)
... والواقع أن مثل هذه الأبحاث لها أهمية كبيرة في معارفنا على مستويات أخرى ، فنحن إذا عدنا إلى هذه الرسو بات الفصيحة في القاموس العامي لنبحث متى حصل تقاطعها ؟ وأين ؟ وحينئذ نبحث في " كيف " ؟ وقد حاول باحثون في المغرب (وفي المشرق أيضا ) الإجابة عن " كيف " هاته ، لكن المفروض أن يكون ذلك وفق منهج واضح وقواعد لغوية محكمة يمكن بواسطتها تحديد ما يحدث بين لغتين من اقتراض أو استعارة أو تضمين بفعل ـ صلة القرابة والجوار ووحدة الأرومة أو بفعل الهيمنة والإقصاء . فلفظة " خايب " التي يعزيها الأستاذ الحلوى مثلا ـ في أحد جداوله – إلى مادة " خاب " ( من قولنا خاب سعيه ) ، لا ندري هل هي فعلا، عندما دخلت في القاموس العامي ؟ هل وردت من هذه المادة المذكورة أو أنها مشتقة من مادة أخرى أقرب إلى المعنى العامي؟ وهو معنى الدمامة والقبح ( معناها في العامية ) ، وقد وجدت هذا اللفظ صدفة في رسالة الغفران هكذا " خيعاب ".كما أورد أبو العلاء في هذه الرسالة ألفاظا أخرى من صميم عاميتنا مثل: البرمة، والطارِمة، والرتاج … إلخ .
فالباحث عندما عالج في العامية مثلا هذه الأفعال مشتتة في جداوله :
كربع ـ كرفس ـ كردس ـ كردع
... وهى رباعية ، لم ينبهنا إلى الأصل الثلاثي الفصيح: ربع، رفس ، هرس ، ردع …
... وأن الكاف الزائدة في شكليها ( ك / كَ ) ما هي إلا زيادة لمعنى ، حصلت خارج قاعدة " سألتمونيها " المعروفة ، وقد نبه على ذلك قديما فقهاء اللغة بصدد تحليل أصولية الفعل الرباعي المجرد …
... والذي نريد أن نلفت الانتباه إليه هو أن القاموس العامي ، مثلما لاحظ ذلك الأستاذ إبراهيم السامرائي ، منبها إلى ما في دراسة هذا القاموس من فائدة للفصحى ودعامة لها ،(164/9)
فالعامية طوعت كثيرًا من الصيغ وهي أبطأ من حيث التطور من غيرها، ولنأخذ على ذلك فقط مثال: «اسم الآلة» كيف تطور في الفصحى ولكن العامية جاءت لتحسم بتوسيع مجال صيغ اسم الآلة ليشمل حاجيات العصر من مستجدات نحتاج إليها في المعمل وفي البيت وفي الحياة العامة وذلك بإضافة صيغ أخرى إلى الصيغ الثلاث المعروفة ومن هذه الصيغ المستحدثة صيغة " فعّالة" مثل ثلاجة وغسالة وكسَّارة … إلخ .
... ... عباس الصوري
عضو المجمع المراسل
من المغرب
...
...(164/10)
رؤية عربية لتوحيد المصطلح العلمي وتقييسه*
للأستاذ الدكتور محمد رشاد الحمزاوي
1- مدخل:
إن حديثي إليكم سيدور حول البحث عن منهج يساعدنا على الفوز بمصطلحات عربية موحدة مشتركة في رؤية علمية وثقافية وحضارية منشودة، يبدو أنها صعبة المنال، إن أخذنا بعين الاعتبار البلبلة التي تستبد بمصطلحاتنا ومفاهيمها. وهي تتمثل أساسا في ترادف يذهب الشِّرَّة وفي مشترك لفظي يكاد يكون عنوانا عن اشتراك فكري وعقلي، وفي معربات ودخيلات قد اشتد الخلاف في نقلها نقلا صوتيا علميا إلى العربية بين مُتَفَرنسين ومُتأَمْركين ومُتَرَوِّسين ومتألمِنين من بني جلدتنا، فضلا عن المتعاطفين مع حضارات اليابان والصين والطليان … إلخ
ويشهد على ذلك في مستوى الكيف كلمة " تليفون " التي اقترح لها
هاتف ، ومِسَرَّة ومِقوَل، وإرزيز … إلخ. أما كلمة "كمبيوتر" فهي الرّتابة، والنظامة، والحاسوب ، والحسوب بالمغرب العربي،والكمبيوتر والحاسب الآلي، والعقل الإلكتروني ، والمحسب الكهربائي في المشرق العربي.أما فيما يتعلق بهاردوير، فلقد قيل فيها: أجهزة تحضير وتحليل البيانات _ وأجزاء جهاز الكمبيوتر، والأجزاء الصلبة لنظام الكمبيوتر. وفي هذا الإطار ترجم مصطلح General linguistics بخمسة وعشرين مصطلحا. وفي الزيادة خير ونعمة!!
وفي مستوى نقل أصوات المعربات والدخيلات اشتد الخلاف بين من يفضل اعتماد النطق الأنكلوسكسوفي عند نقلها إلى العربية ومن يفضل النطق الفرنسي اللاتيني .
ولقد أقر مجمعنا قرارين متضادين : أحدهما – عام،اقترحه الأمير مصطفى الشهابي، ويتمثل في اختيار النطق الفرنسي.والآخر - يتعلق بنقل الشهور لاسيما الغربية منها حسب النطق الإنجليزي . والأمثلة على تلك البلبلة الصوتية كثيرة. فهل نقول تيُولِيب أو تُوليب ( tulipe ) تعبيرًا عن الزهرة الهولندية الجميلة؟ وهل تنقل Hydrogenation بـ هدرجة أو درجتة ؟(165/1)
ولقد بذلت المجامع ولاسيما مجمعنا الموقر، جهودًا كبيرة للفوز بنظام صوتي علمي على غرار نظام كوبنهاجن الدولي الصوتي ، يؤمِّن للعربية دقة علميّة عند نقل المصطلحات وأسماء الأماكن والأعلام حسب نطقها عند أهلها.
أما من حيث الكم، فإننا نلاحظ أن كل جهودنا التوحيدية المختلفة لم توفر لنا سوى عشرات الآلاف المعدودات من المصطلحات التي ندعوها بالموحدة. فلو اكتفينا بما وفره مكتب تنسيق التعريب في مؤتمراته المختلفة لوجدنا أنها لا تزيد في أحسن الحالات عن 100.000 مصطلح موحد بطرق فيها نظر، حسبما تفيدنا بذلك نشرته الداخلية لاسيما نشرته المقدمة لمؤتمر التعريب بالسودان. فأين نحن من الملايين المملينة من المصطلحات الموحدة الفرنسية والإنجليزية والروسية. واليابانية … إلخ؟ . أما مصطلحات مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فإنها لم تُحْصَ إلى يومنا هذا إحصاء دقيقا فضلا عن أنها ليست ملزمة للجميع. ويدل على ذلك الاختلاف في شأنها مع مجامع دمشق وبغداد، والأردن، وبيت الحكمة في تونس، والأكاديمية الملكية بالمغرب. ويكفيني تدليلا على هذا الشأن ما أشار إليه مصطفى الشهابي في كتابه " المصطلحات العلمية والفنية في اللغة العربية في القديم والحديث " إن هذه المعطيات تدعوني إلى أن أبدي بعض الملاحظات المهمة أمنا للبس وتوضيحا للمواقف من قضايا مبدئية ومنهجية أساسية منها على وجه الخصوص:
أ ) أن الترادف ، والمشترك اللفظي؛ والأخذ والعطاء تمثل مظاهر لغوية ليست مقصورة على العربية بل تلحق كل اللغات لكن مع الفارق الذي يتمثل في تصوراتنا اللغوية المتعلقة بالتوحيد ومستلزماته العلمية البحتة.
ب) أن تلك التصورات تتمثل في أربع إشكاليات تستحق أن نعنى بها قبل أن ندعو إلى التوحيد توحيدًا علميا له أبعاد تربوية وثقافية وحضارية.(165/2)
ج) أن المنهج التوحيدي الذي ندعو إليه ، يفترض في مستوى المؤسسات اللغوية والمتخصصين، والمجتهدين ومنهم الصحافيون، في نطاق اللغة العربية الفصيحة المعاصرة، ألا نفاضل مسبقا بين مصدر وآخر أو بين وسيلة من وسائل الموضع ( مجاز، اشتقاق ، تعريب، نحت ، ارتجال ) ، لاسيما إذا أردنا أن نصف الساحة اللغوية بدون إقصاء أو أحكام مسبقة لصالح هذا على ذلك، من شأنها ألا تساعدنا على تشخيص الداء وتصور الدواء. ولعل أحسن طريقة لمعالجتها أن نعرضها كلها على الإشكاليات الأربعة المذكورة نفسها سابقا قبل اقتراح توحيدها توحيدًا علميا. فما هي الإشكاليات المعنية؟ وما هي المبادئ التي اعتمد عليها مشروعنا في التوحيد والتقييس؟
1-2 إشكاليات المصطلح
... لقد أفاد بها علم المصطلح الحديث في المستوى النظري ومصطلحاتنا العربية المعاصرة التي وضعتها المجامع والمؤسسات والمتخصصون في مختلف العلوم. فلا يمكن أن نتطرق إلى موضوع توحيد مصطلحاتنا وتقييسها دون إشكاليات أربعة لابد من العناية بها ، وهي تتمثل فيما يلي:
... أ ) افتقاد مدونة مصطلحية عربية تحتوى على كل الرصيد العلمي والمصطلحي العربي المعاصر كَمًّا وكَيْفًا في مختلف العلوم سواء بالوضع أو الترجمة أو التعريب ، ومفادها أن نوفر للمصطلحى المُوَحِّد وثيقة كاملة شاملة مصطلحية مصدراً تعبر عن آراء ومناهج وترجمات كل المعنيين بعلم من العلوم لأجل مقارنتها وموازنتها حسب مقاييس لغوية وزمانية ومكانية، وحتى اجتماعية وثقافيّة تساعدنا على استخلاص مختلفها ومشتركها طمعًا في توحيدها الاعتماد على قوانين عامة وقواعد ترتكز على الغالب والمطرد خلافًا للمبادرات التوحيدية الرائجة التي كثيرًا ما اعتمدت على عينات جزئية محدودة كَمًّا وكَيْفًا وزمانا ومكانا .
... ويبدو لنا أن بناء هذا الرصيد ممكن اليوم لما وفرته لنا المجامع والمؤسسات العربية المتخصصة
ـ وهى كثيرة ـ من المصطلحات العربية المخزنة والمبرمجة .(165/3)
... ب) غنائية الخطاب العلمي والحضاري العربي الحديث الذي يتخبط في تيه بين التراثيات والحدثيات دون أن يخرج منها بوسيلة ناجعة ومقنعة . فهو يدعو إلى تعويض الحديث بالرصيد العلمي العربي القديم دون أن يدلل على ذلك، ودون أن يعنى بذلك القديم عناية علمية عميقة؛ لأن عنايته به لا تتجاوز مجرد التغنى به لأسباب تستحق الدرس والتحليل . فلقد لاحظنا مثلا أن كثيرًا من المتخصصين العلميين يدعون إلى اعتماد مُخَصَّصِ ابن سيده للاستفادة من مصطلحاته في ميادين الحيوان أو الزراعة أو النّبات … إلخ دون أن يطبقوا لذلك تطبيقا مبررًا . فلقَد دعا أمين المعلوف في مقدمة " معجم الحيوان " وأحمد عيسى في " معجم النبات" ومصطفى الشهابي في " معجم الألفاظ الزراعية " إلى ضرورة الاستفادة من ذلك الرصيد دون أن يبرهنوا على ذلك؛ إذ لم يأخذ أحد منهم ـ كما بيّنت دراستنا في هذا الشَأن ـ أكثر من ثمانية مصطلحات من المُخَصَّص . فما هي أسباب ذلك ؟ أهو قصور القديم عن أداء الحديث أم غبن المحدثين لرصيد القديم مع التغنى به للتبرؤ من تهمة التفريط فيه لا سيما وأن رصيده لم يستقرأ استقراء عميقا وجديا في مدونات جامعة شاملة استعيض عنها بغنائيات لا تسمن ولا تغنى من جوع ، في ما نحن فيه من حاجة إلى توظيف في ذلك الرصيد التراثي توظيفًا منهجيا كميا وكيفيا يستعان به في معركة التوحيد والتقييس .
... جـ) الخلط بين اللفظ أو الكلمة العادية (word) والمصطلح (term) العلمي أو الفني أو التكنولوجي . فالأول ينتسب إلى اللغة العامة والثاني إلى علم المصطلح؛ مما يترتب عنه أن الأول يدخل في إطار العلامة اللسانية العامة والثاني يندرج في نطاق العلامة المصْطَلحية . ومن ذلك أن اللغة أو الكلمة علامة لسانية مركزة على دال ومدلول ( مبنى ومعنى ) لا صلة بينهما، وينشأ منهما المفهُوم . ويعبر عن ذلك بما يلي :
العلامة اللسانية العامة :
الدال (1) اللفظ (1) لف (1)(165/4)
المدلول(2) المفهوم(2) مف (2)
... وكثيرا ما تكون الصلة بين الدال والمدلول اعتباطية فليس بالضرورة أن يكون كل صالحٍ صالحًا. فلو كان الاسم تعبيرًا عن المسمى لكان لنا اسم واحد للفرس أو الفيل … إلخ في كل اللغات .
... أما المصطلح فهو خلاف ذلك لا سيما في معادلته التي هي كما يلي:
العلامة اللسانية المصطلحية = ...
المدلول(1) المفهوم(1) مف (1)
الدال(2) اللفظ (2) لف (2)
فالمفهوم سابق للفظ المسمى به لأن المصطلح صلح وتصالح بين متخصصين . فالصلة بينهما مقصودة معيارية مختارة، وينشأ مفهومها من طبيعة الشيء ووظيفته مما يترتب عنه أن يكون لكل مفهوم مصطلح واحد لا تشويش فيه إلا بمقدار ضئيل . فالترادف يكون مستحيلا إذا كان المفهوم المصطلحي مأخوذًا مثلا من اسم مخترعه مثل كلمه كيلومرتز وخوارزمية …وعلى هذا الأساس لابد أن يتفرد بوضع المصطلح العلمي أهل الذكربه والمتخصصون لا الأدباء والمعجميون ومن لف لفهم .
د) وحدة المصطلح مطلوبة لكن ليس في كل الحالات . فوحدة المصطلح لا تعني بالضرورة وحدانيته لأنه يوجد من العلوم مالا يقتصر على مصطلح مفرد . وذلك شأن المصطلحات الكيميائية أو التكنولوجية التي كثيرا ما تتكون من عنصرين فأكثر إلى حد عشرة عناصر، إذا أسقط واحد منها استحال معناها . ومثال ذلك : ثنائي الأكسيد يكون مصطلحا واحدًا لو أسقط أحدهما لانتفى معنى هذا الجسم الكيميائي وذلك شأن : integrated orthographic
( وهو : المدقق الإملائي المندمج ) corrector وعلى هذا الأساس لا يمكن التقيد بصفة مطلقة بما تدعو إليه المجامع العربية من وضع مصطلح واحد لمفهوم واحد حتى تتحقق وحدة المصطلح العربي . ولذلك يكون المصطلح مفردة في علوم معينة كما يمكن أن يكون قالبا أو نسقا متكونًا من عناصر متعددة في التكنولوجيا على وجه الخصوص وفروعها .(165/5)
نستخلص من كل ما ذكرنا من الإشكالات الرئيسية الأربعة السابقة أن توحيد المصطلح يستلزم طرح تصورات ومناهج تؤسس لمبادئ وحدته؛ لأنها تكون شرط لزوم يمهد لتوحيده وتقييسه اللذين يعتبران شرط كفايته .فكيف يكون التوحيد؟ .
مبادئ التوحيد : التقييس
نبْدأ هذا المبدأ بثلاث ملاحظات مهمة:
أولها: أن التوحيد المنشود يتطلب مدونة شاملة كاملة تحتوى على كل مصطلحات علم من العلوم بمفرداتها العربية أو الدخيلة المعاصرة دون إقصاء أو حكم مسبق .
ثانيها :اعتماد هذا المشروع في التوحيد المطبق على المصطلحات المفردة لأنها الغالبة؛ ولأن ما يطبق عليها صالح لأن يطبق على غيرها من المصطلحات الثنائية أو المتعددة العناصر .
ثالثها: لا يدخل في مقاربتنا هذه أمثلة مطبقة لتوحيد نظام صوتي لنقل المعربات والدخيلات التي يمكن أن نطبق عليها المبادئ نفسها الآتي ذكرها.فما هي مبادئ التوحيد المنشودة (*) ؟ إنها أربعة: لغوية وصرفية ونحوية ورياضية توليدية تتمثل فيما يلي :
المقاييس الكمية للتقييس .
أ-الاطراد أو الشيوع : يقاس المصطلح المقترح باعتبار المصادر والمراجع التي تؤيد المصطلح الواحد وتحتج له. ولقد حصرناها في خمسة مصادر على أقل تقدير . فيختار اللفظ الأغلب ورودًا فيها . كما تدل على ذلك اللوحة التالية حيث يسند له درجة تنازلية بحسب تنازل المصادر المؤيدة له :
عدد المصادر والمراجع المثبتة للمصطلح ... الدرجة المسندة
5 م . م . ... 10
4 م . م . ... 8
3 م . م . ... 6
2 م . م . ... 4
1 م . م . ... 2
ب ـ يسر التداول : يقاس على أساس الحروف الأصول في العربية التي تتركب منها المصطلحات . فيختار المصطلح الأقل حروفًا أصلية
كما تشهد بذلك اللوحة التالية وذلك حسب درجة تنازلية كذلك :
عدد الحروف الأصول للمصطلح ... الدرجة المسندة
الثنائي الحروف ... 10
الثلاثي الحروف ... 8
الرباعي الحروف ... 6
الخماسي الحروف ... 4
السداسي الحروف ... 2(165/6)
... وذلك لأسباب صرفية ورياضية.والكلمات الغالبة في العربية لا ثنائية ولا رباعية ولا خماسية بل ثلاثية؛ لأن الثلاثي متمكن في العربية، كما قال سيبويه في " الكتاب " ولأن قانون زيف(loi de zipf) يفيد بأن شيوع اللفظ على عكس طوله . ولقد أثبتنا كل الحروف الأصول للمصطلح الواحد، على قلة ورود بعضها ( 15 كلمة ثنائية في القرآن ) حتى يبرر دور الكلمات الثلاثية التي تحتل مكانة تكاد تكون مثلى حسبما يشهد بذلك الدرجة المخصصة لها في اللوحة
السابقة .
جـ) الملاءمة: تضبط بحسب الميادين التي يستعمل فيها المصطلح كما تشهد بذلك اللوحة التالية :
عدد الميادين المستعمل فيها المصطلح ... الدرجة المسندة
ميدان واحد ... 10
ميدانان ... 8
ثلاثة ميادين ... 6
أربعة ميادين ... 4
ستة ميادين ... 2
أكثر من ستة ميادين ... 1
فهي تخضع لمبدأ رياضي مفاده أن قوة ملاءمة المصطلح على عكس توسعه إلى ميادين عديدة. فتسند أعلى درجة للمصطلح الذي يقتصر استعماله على ميدان واحد .
د) التوليد اللغوي : تضبط بحسب المشتقات التي تتولد من المصطلح الواحد . فيختار المصطلح الذي تشتق منه صيغ أكثر من غيره كما تشهد بذلك اللوحة التالية :
والملاحظ أن اختيار المصطلح يكون حسب درجة تصاعدية متصلة بعدد المشتقات التي يمكن توليدها منه.
فالخلاصة من هذه المبادئ الكمية للتقييس والمبررة لسانيًّا ورياضيا هو أنها تضبط لأول مرة ضبطا مرقما الفصاحة في مستوى المفردات والمصطلحات فضلاً عن أنها تضبط مقاييسها الكمية التي يمكن
الاحتجاج لها لغويًّا ولسانيًّا.
1–4 التقييس المطبق :
... يجد القارئ في اللوحة التالية مثالاً مطبقًا من التقييس مأخوذًا من العربية . فلقد قسنا لترجمات كلمة telephone من الفرنسية والإنجليزية إلى العربية وهي ترجمات واردة في المصادر والمراجع العربية الموثقة على جذاذة المصطلح.
المعنى:(165/7)
إن المصطلح الفصيح الفائز في العربية هو " هاتف " يليه " تليفون " باعتبار مجموع الدرجات المتقاربة المسندة لهما. وبالتالي يمكن في بعض الحالات اعتماد لفظ ثان مرادف إذا كانت درجته عالية ويترك للاستعمال الاختيار النهائي بينهما . فهل يمكن لنا أن نوفق إلى جزء من المقترحات الواردة في المحاور الثلاثة السابقة؟
وهل يكتب لنا يومًا أن نتفق ونطبق هذه المنهجية العربية التقييسية المقترحة أو غيرها إن كانت أحسن منها؟ . إن الأمر مربوط بعزيمتنا على اختيار الأصلح وإنجازه حسب مخطط معقول، نرجو أن يكون له صدى في توصياتنا وقراراتنا .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد رشاد الحمزاوي
عضو المجمع المراسل من تونس(165/8)
كل قراءة من حيث موافقتها للمصحف والعربية . وهكذا كان يفعل المتقدمون فإنهم يجيزون دائما القراءة ولو قرأ بها إمام واحد إذا جاءت على لغة من لغات العرب الفصيحة (1) ( وسنرى أن هذا سيختلف فيه المتأخرون عن المتقدمين اختلافا جوهريا) أما الطبري فقد رفض الكثير من القراءات لقلة القراء بها فقط أو ما يبدو له أنه كذلك وقد يغلط في ذلك ويبالغ في رفضه للقراءة (2) هذا وقد يجيز القراءتين المستفيضتين على حد تعبيره وليس ذلك عنده بمطرد .
هذا يخص مبالغات وتسعف بعض النحاة أما القول الشائع في زماننا هذا (3) بأنهم أرادوا أن يخضعوا القراءات ( والاستعمال اللغوي عامة ) للقياس أو لما قعدوه من القواعد فهو مجازفة خطيرة أما القياس فجمهور النحاة يقدمون الاستعمال عليه ما لم تكن لغة غريبة ولم يروها إلا واحد أو لغة شاذة قليلة جدا في الاستعمال ( لأكثر العرب). فالخروج عن القياس لا يطعن فيه النحوي إلا إذا كان قليلا جدا في الاستعمال أو روى برواية ضعيفة فالاستعمال هو الأصل وهو
الأول ينطلقون منه وينتهون إليه . ومع ذلك فقد جمعوا اللغات الغريبة والقليلة لتعرف. وقد شذ المبرد شذوذا كبيرا عن ذلك في ردّه المتعسف لبعض اللغات الفصيحة بدعوى أنها لم يثبت سماعها . فهو لا يمثل أبدا الجماعة من النحاة المتقدمين . وقد ردّ عليه كل من جاء بعده من البصريين وخاصة أبا على الفارسي وابن ولاد وابن جني .
أما فيما يخص القواعد التي استنبطوها فأكثرها تقدم المسموع على القياس إذا خالفه وكان هو الشائع في الاستعمال . وأما نقصان استقرائهم لكلام العرب فكيف يمكن أن يستدل على ذلك بما حكاه واحد من العلماء من لغات غريبة وسكت عنه العشرات من العلماء الآخرين وكيف نرتاح لهذا القول ولم يقم أحد في زماننا بمسح كامل لما وصل إلينا من النصوص
التي نقلت (*)عن فصحاء العرب بل وكيف نستدل على ذلك وقد أغلق باب السماع منذ نهاية القرن الرابع بذهاب الناطقين السلقيين ؟(166/1)
الخلاصة :
يمكن أن نستخلص من كل ما سبق ما يلي في نظرة مؤلفي كتب القراءات أو علوم القرآن قبل القرن الرابع :
1) القراءة هي نقل محض فلا يقرأ بشيء إلا إذا قرأ به إمام من أئمة الأمصار ولا يصح عن أمام واحد إلا بشروط سنراها فيما يلي .
2) هذا النقل حصل بطريقين : طريق الرواية المحضة مثل الأحاديث وطريق السماع والعرض.
أما الأول - فيحتاج إلى سند صحيح ولا يحتج به إلا إذا قرأ به إمام معروف أو أئمة وقد يحتج به في أحوال معينة في الاختيار
أما إذا خالف المصحف أو العربية فلا يصح .
وأما الثاني - فهو إما مجتمع عليه أو مختلف فيه. ويأتي تفصيل ذلك بعد هذا .
3) القراءة المجتمع عليها ( أكثر القراء المعروفين من أئمة الأمصار والصحابة والتابعين ) هي أصل يرجع إليه؛ أي حجة في ذاتها فلا تحتاج إلى أي وسيلة عقلية أو نقلية لتصحيحها؛ وذلك بحكم اجتماع من تقوم بهم الحجة على القراءة بها . فلا تحتاج إلى موافقة المصحف إذ يستحيل اجتماع القراء على ذلك ولا إلى "فشو لغة " إذ قد تكون على لغة كثيرة ولكنها دون الأكثر في كلام
العرب ( السارق والسارقة بالرفع مثلا) . ولا دخل للقياس (1) فيها وفي غيرها؛ لأن السماع أولى وقد يبطل القياس .فهي إذن أصل يحتج به ولا يحتج له .
4)المختلف فيه إما أن يكون الاختلاف فيه بين جماعتين ( أو ثلاث نادرا) فالقراءتان المختلفتان تعدان غالبا مستفيضتين فتعد كل واحدة منهما قريبة من القراءات المجتمع عليها.وقد تختار بين هاتين القراءتين التي توافق الأفصح من كلام العرب(2) وعند الكثير التي توافق رويت- بدون إقراء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الكثير من الصحابة.
5) المختلف فيه محك صحته هو موافقة المصحف والعربية ليس إلا
وخاصة القراءة التي ينفرد بها قارئ واحد . ولا يراعي المتقدمون في ذلك الإمام في حد ذاته أبدا ولذلك رفضت قراءات من السبعة ومن غيرهم .(166/2)
6) يتشدد المتقدمون في نقد قراءة المنفرد بها إذا ابتعدت عن العربية ويسمونها كما رأينا بالشاذة ( وكذلك المخالفة للمصحف فهي شاذة أيضا لخروجها عن الإجماع ) مع محاولة أكثرهم لإيجاد وجه لها ولا يلجؤون غالبا إلى الوجه البعيد . ولا تصح بالروايات الكثيرة من غير طريق الإقراء (من أئمة الأمصار )
7) وقد يبالغ بعضهم في هذا التشدد إلى حد التعسف وخاصة المازني والمبرد وفي بعض الأحيان أبو عبيد وأبو حاتم .
بدأ العلماء في نهاية القرن الثالث يتحرجون من هذا التشدد وخاصة إذا كان فيه ظلم للقارئ أو غلط فادح بعدم التحقيق . ويظهر هذا التحرج بوضوح عند الزجاج وتلميذه النحاس . وهذه النظرة وهذا السلوك سيخالفهما بعض الرائدين للنظرة المقابلة لها التي ظهرت في بداية القرن السادس .
ب) تحول نظرة المتقدمين مع المقارنة بين المتقدمين والمتأخرين :
إن هذه النظرة وهذا السلوك قد تغيرا دفعة واحدة بعد اختيار ابن مجاهد لسبعة قراء والفصل بينهم وبين غيرهم ( بتأليفه لكتاب السبعة والكتاب الذي اعتمد عليه ابن جني فيما يعدّه من الشواذ ) .
ويجب أن نلاحظ أن هذا التحول لم يمس النظرة كلها بل أصاب فقط عند ابن مجاهد كيفية التناول للقراءات ولأصحابها إذ بقيت المواقف القديمة على ما كانت عليه وذلك مثل تضعيف القراءات المخالفة للعربية وغير ذلك ( ثم إن الكتب التي ظهرت في القرن الرابع مازالت كما قلنا تستعمل المصطلحات التي شاعت عند المتقدمين ) .
1-لماذا اكتفى ابن مجاهد بسبعة قراء ؟ ورد الفعل لبعض العلماء على ذلك :
حاول ابن مجاهد هو نفسه أن يجيب عن ذلك . قال في كتاب «السبعة» :« القراءة التي عليها الناس بالمدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام هي القراءة التي تلقوها عن أوليهم تلقيا. وقام بها في كل مصر من الأمصار رجل ممن أخذ عن التابعين أجمعت الخاصة والعامة على قراءته وسلكوا فيها طريقه وتمسكوا بمذهبه»(166/3)
فهذا هو السبب الرئيسي في اعتقادنا. فالنظرة تغيرت لأن ابن مجاهد جعل المرجع في القراءات ما كان عليه الناس في كل مصر بدليل قوله :" أجمعت الخاصة والعامة على قراءته " لا ما كانت عليه مجموعة القراء من أئمة الأمصار في زمانهم فقط فيهتم بهؤلاء بقدر ما لاحظه - وما استوحاه من كتاب أبي عبيد– في زمانه من اتساع قراءات بعض الأئمة . ولا شك أنه أقبل
على ما لاحظه أبو عبيد : " وإليه [ نافع ] صارت قراءة أهل المدينة "… وإليه [ ابن كثير ] صارت قراءة أهل مكة… ثم تلاهم [ يحيى بن وثاب وعاصم والأعمش ] حمزة..والذي صار معظم أهل الكوفة إلى قراءته فأما الكسائي فإنه كان يتخير القراءات… " (جمال القراء، 430-429).
فمئة سنة تقريبا بعد ذلك كان نفس الأئمة تتقاسم قراءاتهم الأمصار حسبما لاحظه ابن مجاهد في زمانه (باستثناء الكسائي إلى حد ما ). وهذا الذي جعل الهذلي يزعم أن مسبع السبعة إنما هو أبو عبيد وهذا لا يخص ، في الحقيقة، إلا هذه الملاحظة التي لاحظها أبو عبيد(* )بالنسبة إلى زمانه أما الاكتفاء في النظر في القراءات بسبعة أئمة فهو لابن مجاهد وحده إذ يحتوى كتاب أبي عبيد على جميع ما قرأ به القراء مما بلغه هو وروى له أو قرأ
به. وهذا النهج هو الذي سار عليه كل المؤلفين قبل بداية القرن الرابع .
وقد ردّ على اكتفاء ابن مجاهد بالسبعة بعض من جاء بعده ولاسيما في القرن الخامس ومنهم القراب الهروي (1).قال :" التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر سنة وإنما هو من جمع بعض المتأخرين فانتشر وأوهم أنه لا تجوز الزيادة على ذلك وذلك لم يقل به أحد"(نقله في الإتقان ، (81.(166/4)
وقال أحد معاصري مكي بن أبي طالب وهو المهدوي:" أما اقتصار أهل الأمصار على نافع [ وغيره من السبعة ] فذهب إليه بعض المتأخرين اختصارًا فجعله عامة الناس كالفرض المحتوم حتى إذا سمع ما يخالفها خطّأ أو كفّر ورّبما كانت أظهر وأشهر … القراءة المستعملة التي لا يجوز ردّها ما اجتمع فيها الشروط الثلاثة … سواء أكانت من الأئمة
السبعة .. أو غيرهم ( نقله في النشر 37-36/1 ) (2) .
والجدير بالملاحظة أن هذا المهدوي نفسه ألف كتابا في قراءات السبعة (الهداية) وله كتاب آخر في تعليلها (الموضح)فلم يخرج من الخطة التي رسمها ابن مجاهد (3).
هذا وقد أظهر بعض العلماء في القرن السابع – وهم قليلون جدا – شيئا من التحفظ بالنسبة إلى إطلاقهم اسم الشاذّ على غير السبعة (والعشرة). منهم ابن الجزري نفسه فقد قال :" … الأئمة أجمعوا على قراءات السبعة ونحن نقول بذلك ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون ماعدا السبعة ليس بصحيح .. ولا يلزم أيضا أن يكون ما وراء العشرة غير صحيح " ( منجد المقرئين ، 52 ) وعزا ابن الجزري إلى ابن تيمية هذا القول:
«من ثبتت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة أو قراءة يعقوب ونحوهما كما ثبتت عنده قراءة حمزة والكسائي فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين » ( نفس المرجع 47 ).
2-الفوارق الأساسية بين المتقدمين والمتأخرين من مؤلفي كتب القراءات:
1) مميزات عمل ابن مجاهد :
يفسر هذا التناقض - في اعتقادنا-تأثر هؤلاء القراء من القرن الرابع وما بعده ببيئتهم ولاسيما مع إقبال الناس الكبير على كتاب ابن مجاهد؛ إذ وجدوا فيه ضالتهم فلأول مرة قدمت لهم في حجم صغير كل القراءات الفاشية في الأمصار . وأؤكد على أهمية عبارة "خاصتهم وعامتهم " التي استعملها ابن مجاهد نفسه . فهذا(166/5)
مكي بن أبي طالب قد صرح بأن الناس أرادوا " في العصر الرابع أن يقتصروا من القراءات التي توافق المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به .. " (الإبانة، 47 ) فهذه كانت أمنية المتعلم وأما المتخصص العالم فكان يود أن يرضي كمعلم من يأخذ عنه وكعالم بحاثة أن لا يرتبط بالسبعة حتما .
هذا وأضاف بعضهم إليها قراءة إمامين أو ثلاثة بل أكثر من ذلك كما فعل الخزاعي في "المنتهي"(1) وأبو معشر الطبري في " سوق العروس "والهذلي في" الكامل " ( من الكتب التي وصلت إلينا ) . ولاشك أن خروج ابن شنبوذ عن الجماعة كان سببه الأول إقبال الناس على ما قام به ابن مجاهد (2) وتضييقه عليه مجال
القراءات فتجاوز رد الفعل المعقول إلى فعل غير لائق بمقامه .
فحتى هؤلاء الذين أضافوا أبا جعفر ويعقوب وخلفًا وغيرهم إلى السبعة لم يغيروا نظرتهم إلى القراءات بإضافاتهم هذه ومازالت هي نظرة ابن مجاهد؛ لأنهم أضافوا هؤلاء الأئمة على السبعة وهم مهتمون بمجموعة قراءات أبي جعفر أو يعقوب وغيرهما. كما أن الذي كان يهم ابن مجاهد هو المجموعة الكاملة من قراءات كل واحد من السبعة .
إن النظرة القديمة إلى القراءات يعتمد فيها أصحابها على النظر في كل ما قرئ به أو روي من حروف القرآن حرفا حرفا بحسب ترتيب الآيات والسور فيحصر كل ذلك وتقوّم صحة القراءة بمراعاة الأصول التي مر ذكرها فتصحح بعض القراءات وتستنكر بعضها الآخر، كل ذلك مع بيان الأسباب؛ ولهذا كانت الكتب التي
تطرقت إلى القراءات كبيرة الحجم جدا؛ لأنها كانت مسحا حقيقيا لكل ما روى وقرئ أيا كان القارئ .(166/6)
أما مع ابن مجاهد وابتداء مما عمله فالنظرة الجديدة تعتمد على النظر في مجموعات كاملة ومعدودة من القراءات تنسب إلى أئمة معينين هم السبعة لا المسح الكامل لجميع ما روى وقرئ . واعتمد ابن مجاهد في اختيار هذه المجموعات على ما كان فاشيا في زمانه (وزمان أبي عبيد ) كما قلنا « وجاء تقسيمه مطابقا لتقسيم أبي عبيد على الرغم من مرور قرن على ذلك» (*) واختيار ما كان رائجا في الأمصار أدّى إلى الاهتمام بالأئمة الذين أقبل الناس على قراءاتهم واعتبار هذه القراءات بأكملها مرجعا دون غيرها .
... وقد برر أحد علماء القرن السابع وهو أبو شامة اختيار ابن مجاهد بمبرر قوى . قال في كتاب
" المرشد الوجيز " : " فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ عن السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ غير أن هؤلاء لشهرتهم وكثرة الصحيح المجتمع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم " ( ص 174)
2) مفهوم المجتمع عليه والشاذ عند المتقدمين والمتأخرين :
إن القول بوجود مجتمع عليه وشاذ في جميع القراءات المقروءة والمروية (المنسوبة إلى السبعة وغيرهم) هو قول ذهب إليه كل العلماء منذ أبي عبيد إلى بداية القرن الرابع . أما بعد ذلك فعلى الرغم من تقسيم ابن مجاهد القراءات إلى مجموعات كاملة منسوبة إلى السبعة وتسمية الناس بعده لغير السبعة بالشاذ فإن جميع العلماء كانوا يقولون بوجود الضعيف في جميع القراءات، باستثناء(166/7)
ابن خالويه فيما يخص السبعة فقط (*) ومن تبعه من تلاميذه – كابن غلبون وابنه - وبعض تلاميذهما ( كابن مطرّف والداني من المغاربة) فالشاذ في القرن الرابع والقرن الخامس هو إذًا ما خالف المصحف أو ما خرج عن السبعة ( ثم العشرة ). ولهذا صار لفظ المجتمع عليه والشاذ بعيدين من حيث الدلالة عما كانا عليه في زمان أبي عبيد إلى نهاية القرن الثالث . أما في القرن السادس فالتجأ بعض المختصين في الأصول والتفسير لأول مرة ثم القراء بعدهم إلى مقياس آخر هو تواتر القراءة وسنتكلم عنه في ملحق خاص.
... ونستطيع أن نقول إن المجتمع عليه قبل ابن مجاهد هو ما اجتمع على القراءة به أكثر القراء أئمة الأمصار وهم معدودون (حوالي 22) مع ما يؤيد ذلك مما روى عن
الصحابة والتابعين.
أما عند ابن مجاهد فمما قاله في مقدمة كتابه –وقد سبق أن ذكرناه –(*) نشعر أنه ربط استفاضة القراءة بإقبال جميع القراء عليها في زمانه في حين كان القدامى يحصرون المجتمع عليه في زمان القراء الذي يمتد من الصحابة القراء والتابعين القراء إلى أئمة الأمصار فقط وهم الذين أحصاهم أبو عبيد ومن بعده قبل القرن الرابع ليس إلا . وكانت حجة المتقدمين تجرد هؤلاء الأئمة للقراءة – كما قال أبو عبيد – (كلهم لا السبعة فقط ) مع قرب عهدهم بالوحي ( فأبو جعفر أقرأ الناس في المدينة أربعين سنة تقريبا بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فباجتماعهم كانت تقوم الحجة عندهم لا بالسبعة فقط ولا بالروايات الصادرة من غير إقراء .
الخاتمة :
إن فشو اللغة وقياس العربية لا(166/8)
تثبت بهما القراءة كما قال أبو عمرو الداني. إلا أن هذا لا يخص، عند المتقدمين ، إلا القراءة المجتمع عليها بمعناها القديم ( قبل ابن مجاهد ) أي قراءة أكثر القراء أئمة الأمصار أو جماعة كبيرة منهم وبما يؤيد ذلك مما روى عن الصحابة والتابعين. فأما فشو اللغة أي استعمال العرب الأكثر– والفصيح يكفي عند الأقدمين – فتثبت به القراءة التي قرأ بها واحد من هؤلاء الأئمة أو قلة منهم – لا ما نقل عنه نقل الحديث بل ما نقله أصحابه عنه بالإقراء . ولا دخل للقياس في ذلك إطلاقا : إنما تذكر الموافقة لقياس العربية أحيانا بعد أن تثبت هذه القراءة الخارجة عن المجتمع عليه بموافقتها للاستعمال الفصيح استئناسا فقط وإلا فالاستعمال الكثير الفصيح يبطل كل قياس مخالف له ( انظر فيما يلي الجدول الذي لخصنا فيه كل ما سبق )(166/9)
مَعاجِمنا العِلْميَّة *
للأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد
... نحن جميعًا ننادى من فوق هذا المنبر ، ومن فوق كلِّ منبر متاحٍ لنا في بلد عربيّ ، بتعريب لغة العلم . ولا أقول تعريبَ العلم ، كما يجرى على ألسنة بعضنا أحيانا ، فتعريب العلم قضيةٌ أكبر حجما وأوسع مدًى ، ولكن تعريب لغة العلم خُطوة أساسية نحو بلوغها . بل إننا في الجمعية المصرية لتعريب العلوم، مثلاً ، نكاد نقصر دعوتنا في الوقت الحاضر على تعريب التعليم العالي ، لأنه هو الذي يمكِّن من تعريب التعليم كلِّه ، وتعريبِ لغة الأعمال ، وتعريب الثقافة العلمية ، وتأصيلِ الروح العلمية وتقدير دور العلم في الحضارة المعاصرة بين أبناء أمتنا والتوحيدِ بين أهل الثقافتيْن منهم، كما يقال . ( عبد الحافظ حلمي محمد ، 1994) .
... وتؤدى المعاجم العلمية دورًا
أساسيا في تعريب لغة العلم ، ومن ثمَّ ينصرف قسط كبير من جهودنا في مجمعنا بالقاهرة في وضع المعاجم العلمية في شتَّى التخصصات . وتشمل دائرة اهتمامنا العلومَ بإطلاق، فهي تضم ـ إلى جانب معاجم العلوم الطبيعية والرياضية ـ معاجمَ العلومِ الشرعية والفلسفية والإنسانية، فلا يخرج من دائرتها سوى معاجم اللغة الأصيلة بأحجامها ومستوياتها وأهدافها المختلفة . والمعاجم العلمية لها مطالبها وخصائصها التي تنفرد بها دون معاجم اللغة. ونحن ننهمك في عملنا وننغمس فيه ، فلا تكاد تُتاح لنا فرصةُ التقاط الأنفاس وتَدَبُّرِ ما نصنع. ولكنْ فضلا على النقاش الموضوعيّ حول مدلولات مصطلحات المعاجم نفسها ، يثور بين الحين والحين جدل، ويدور حوار، حول مسائلَ مَنهجيةٍ
وأمورٍ مُعجمية ومبادئَ عامة،لا يسمح المجال في المعتاد باتخاذ أحكام قاطعة فيها .(167/1)
... وهكذا ظهرت الحاجة إلى أن يكون لنا وقفةٌ لدراسة هذه الأمور . وبحكم " مشاغباتي " المتكررة ، بدا أنه ينبغي علىَّ أن أصدع بالأمر ، وأن أحمل هذه الأمانة ، فكنت ظلومًا لنفسي ، ولكنني أرجو ألا أكون جهولا أيضا ، بل جاهلا فحسب . فأنا لست من أهل علم المعجميات ، وإنْ كنت مدمنًا الاطلاع على المعاجم ـ أحيانا حتى بغير قصد ـ وممارسًا للاجتهاد في صناعة المعاجم ، والموسوعات أيضا ، وفيها من المعجمات مشابه . فقلت أعمل بقول أجدادنا: سلْ مجرِّبًا ولا تسألْ طبيبا . ورأيت أن نستأنس فيما نعرض بآراء هذه الصفوة من العلماء في مؤتمرنا السنويّ . وهكذا تورَّطت ؛ ولكنْ تفلَّت الوقت منى، فإذا بالمؤتمر ـ الذي أعلم ميقاته منذ عام مضى ـ يفاجئني، ولم أتمكن من إعداد ما قصدت إليه كما أهوى وكما يليق بمقامكم . فقنعت بأن أقدم بعض ما يدور بخاطري ، ليكون " ورقةَ عمل " ـ كما يقولون ، تحرك السكون، وتقدح الأفكار، ولعل في هذا بعضَ ما نرجوه. وليس في موضوعنا خروج على مِنهاج مؤتمرنا، فهو يتناول الفصيحَ الذي نتوخاه في معاجمنا العلمية ، ويتجنب العامية .(167/2)
... والأعمال العلمية تتحدد بالغايات التي تهدف إليها . فمجمعنا يبتغي من إعداد معاجمه العلمية توفيرَ مصادرَ معتمدةٍ تهيئ لمن يراجع أيًّا منها ـ فيما أرى : أولا : مقابلاً عربيا صحيحا للمصطلح العلمي الذي يعرض له فيما يقرأ أو يكتب ، وثانيا: تحديدًا دقيقًا ووافيا لمعنى هذا المصطلح ، وثالثاً : رفيقا مساعدًا له في دراسته ، وذلك بفضل نظام محكم من الإحالات في المعجم الذي يرجع إليه . ولو كان الهدفُ الأول وحده ـ وهو توفير المقابلات العربية للمصطلحات ـ هو غايتَنا ، لكفي إعدادُ مساردَ بالمصطلحات الأجنبية ومقابلاتها العربية ـ مع وجود معجم أجنبي متخصص جيد بين يدَيْ الدارس . ولكن هدفنا الثاني ـ وهو إعداد التعريفات الدقيقة للمصطلحات ، يبتغي إغناءه عن ذلك المعجم الأجنبي، الذي قد لا يكون مستطيعًا الحصول عليه أو قراءته بفهم كامل. ثم إن للتعريفات فائدةً أخرى ، وهى تحديدُ المدلولِ المراد للمصطلح ، لأنه قد تكون له دلالات مختلفة ـ حتى في العلم الواحد . وأما عن الهدف الثالث، الذي لا يتأتَّى إلا بإحكام الإحالات ، فأرجو أن أتكلم عنه بشيء من التفصيل فيما بعد . وثمة هدفٌ رابع من إعداد معاجمنا المجمعية المعتمدة ، وهو أنها خطوة مهمة في سبيل شيوع المصطلحات العربية وتوحيدها في أرجاء الوطن العربي ، وإنْ كان هذا موضوعا آخر ، قد يكون قائما بذاته .(167/3)
... فإذا تساءلنا لمن نُعِدّ معاجمنا ؟ قلت : إننا نعدها للأستاذ والطالب ، والقارئ المتخصص وغير المتخصص، والمؤلف والمترجم . وعلى هذا فليس الصواب أن نتخلَّى عن صحة تعريفاتنا ودقتها بدعوى أنها يجب أن تكون مناسبةً لتلاميذ المدارس . نعم ، ينبغي أن تكون ميسَّرة غيرَ مستغلقةٍ على الأفهام، ولكن في حدود . أما ما يناسب التلاميذ فهو من اختصاص التربويين ومؤلفي الكتب المدرسية . وقد يدعو الأمر إلى إعداد قواميس خاصةٍ مناسبة لأعمارهم ومراحلهم الدراسية، وتجمع بين أكثر من علم واحد . وينبغي أن أنبِّه وأن أنتبه، قبل أنْ أستطرد إلى جوانبَ أخرى من الموضوع ، إلى أننا الآن بصدد المعاجم لا المصطلحات ، فموضوع صوغ المصطلحات قضية، أو قضايا، قائمة بذاتها تكلمنا فيها كثيرا ، ويبدو أننا سوف نتكلم عنها طويلا !
... والتعريفات تنال جُلَّ عنايتنا وتستنفد معظم أوقاتنا ، وهى التي تتطلَّب أن يقوم بإعداد المعجم العلمي أساتذة لهم دراية واسعة بتخصُّصاتهم. بيد أنَّ للتعريفات تكاليفَ ، أهمها أنها تزيد من حجم المعجم كثيرًا. وهذا قد يدعونا إلى محاولة تحديد ذلك الحجم ؛ مثلا : بالتزامنا بمعجم أجنبي معين . ولكن معجمنا العلمي ليس ترجمة عربية لأي معجم أجنبي واحد بعينه، ولا ينبغي له أن يكون . بل إنه يجب أن يكون قائما على محاولة الشمول ، والتنسيق ، وحسن الانتقاء من مصادر متعددة، من المعاجم والكتب وغيرها من المراجع المعتمدة ؛ ولذلك قلنا إنه يجب أن يعدَّه الأساتذة الخبراء . ولكن لا بأس من اختيار معجم متخصص حديث ذي سمعة عالمية رفيعة ، كي يكون هيكلا أساسيا ، يُزاد عليه ، ويحذف منه، بل تصوَّبُ مادته ـ كما يحدث في كثير من الأحيان .(167/4)
... وهذا يؤدى بنا إلى تساؤل آخر: ما هو الحدُّ المناسب في تعريف المصطلح؟ إننا نرى أحيانا تفاوتا في معاجمنا بين الإيجاز الشديد ، الذي يكاد يخلو من الدلالة ، أو الإطنابِ الذي يثير ـ على الدوام ـ اعتراض مجلسنا الموقر . ولكننا نهتدى بالخبرة إلى ما يُعدُّ تعريفا للمصطلح مفيدًا ووافيا . وسأضرب مثالا ، مما تشرفنا بعرضه عليكم هذا الصباح :
درجة الكلوريَّة
chlorinity
قياس المحتوى الكلورى لماء البحر مقدرا بالوزن [1] . وتعرَّف بأنها كمية الكلور ، مقدرة بالجرامات، في كيلو جرام واحد من ماء البحر [2]. والدرجة الكلورية ودرجة الملوحة مقياسان للملحيَّة saltiness لماء البحر. ويمكن أن يعبر عن العَلاقَة بينهما رياضيا بأن درجة الملوحة تساوى 1.80655 من الدرجة الكلورية [3].
... ويمكننا أن نتوقف عند نهاية المستوى الأول ، أو نهاية المستوى الثاني ؛ ولكن يبدو جليا ـ للمختص ـ أن الفائدة لا تتم إلا بذكر المستوى الثالث أيضا. ( والمستويات الثلاثة تدل عليها الأرقام المحصورة بين الأقواس ، وقد أدخلتها هنا، وليست في التعريف الأصليّ ).
... ومن الأمور التي نحرص عليها في صوغ تعريفات مصطلحاتنا تحقيقُ أسماءِ العلماء الذين يرد ذكرهم في المصطلح ، وجنسياتِهم ، وتاريخ حياتهم أو تاريخ وفاتهم ، أو تاريخ عملهم العلمي الذي يشار إليه . أما أسماء الأعلام والأعيان الطبيعية، كأسماء النباتات والحيوانات ومجموعاتها التصنيفية فتكتب بصيغها العلمية الرسمية ، فضلا على أسمائها التي تشتهر بها في لغة أجنبية دارجة وفي اللغة العربية ، على ما في هذا من صعوبات بالغة تواجهنا في بعض الأحيان ( عبد الحافظ حلمي محمد ، 1995) . ومثل هذا يقال عن أسماء المعادن والصخور والعصور الجيولوجية، ونحوها . وكذلك تحرص التعريفات على ذكر الصيغ الكيميائية للمواد، والثوابت والمعامِلات الفيزيقية والرياضية، وما إلى ذلك من الأمور العلمية الفنية الدقيقة .(167/5)
... والخوف من تضخم المعجم قد يدفعنا إلى علاج الموقف بحذف مداخلَ كاملة من المعجم الذي يُنظر في إعداده . وهذا ما اضطُرَّت لجنة مصطلحات الكيمياء والصيدلة، مثلا ، إلى فعله. فقد حذفت اللجنة، فيما أعلم، كثيرًا من أسماء المواد الكيميائية والصيدلانية على أنها ليست مصطلحات ، بمعنى الكلمة ، ولا يتغير مبناها من لغة إلى أخرى . وهذا أسلوب له محاذيره ، إذا تذكرنا الأهداف الثلاثة ، أو الأربعةَ ، التي قلنا إننا نبتغيها من إعداد معاجمنا ، فمنها التزويدُ بالمادة العلمية ، التي تغنى القارئَ عن اللجوء إلى معجم أجنبي . كذلك هناك أسماء شائعة لموادَّ لابد من تفسيرها ، مثل :Paris green, common salt ,Epsom salts ونحوها . وثمة اعتراض آخر يوجه إلى بعض المصطلحات على أنها كلمات لغوية عادية . ولكن هذه الكلمات العادية ترد في المعجم العلمي لأنها تكون قد اكتسبت دلالة اصطلاحية معينة. ويشيع في المصطلحات المستحدثة، وبخاصة بين العلماء الأمريكيين ، استعمالُ ألفاظ الحياة اليومية العادية، والعزوفُ عن المصطلحات التقليدية أو اللاتينية أو الإغريقية الأصل ، كما في gene library , luxury genes , housekeeping genes أو gene bank !(167/6)
... وعندما تتجمع النذر بتضخم معجم علميٍّ ما عن الحدود المقبولة عمليا ، قد يعالج الموقف بأسلوب آخر : وهو توليد معاجم فرعية ، في فروع مستقلة من العلم الذي يتناوله . فمثلا، معجم علوم الأحياء والزراعة ، يتحمل في الواقع أعباء جملة من العلوم في وقت واحد . والجمع بين هذه العلوم بين دَفَّتَىْ معجم واحد أمر مفيد ولا شك ، ليس من الناحية العملية وحدها ، وإنما من نواحٍ فنية أيضا : فبعض المصطلحات أقرب لأن يكون عاما مشتركا بين علوم الأحياء جميعا . ثم إن مرتاد المعجم قد يتعذر عليه أن يحدس في أي فرع من علوم الحياة والأحياء يقع المصطلح الذي يريده ، وهو جاهل أصلا بمعناه، في غالب الأمر .ولكن قد يكون الحل هو: الحفاظَ على معجم عام في علوم الحياة يستبعد التفاصيل الدقيقة في الفروع ، ثم إعداد معاجمَ مستقلة في علوم : الحيوان ، والحشرات ، والنبات والأحياء الدقيقة ، والوراثة والبيولوجيا الجزيئية ، والإكولوجيا وعلوم البيئة ، وغيرها. والتخطيط لعمل هذه المعاجم مسألة دقيقة للغاية ، لوجود التداخل الكبير بينها ، ولضرورة التعرض للتفاصيل الدقيقة في هذه الفروع المستقلة . وعلى هذا المنوال أيضا ، تنشأ مشكلة العلوم البَيْنيَّة ، التي قد يتطلب بعضها ، حين يكتمل كيانه ، معاجم مستقلة .(167/7)
... وثمة مشكلة أخرى تجابه معاجمنا العلمية ، وهى الاجتهاد في حلِّ المعادلة الصعبة بين بطء عملية الإعداد ، وضرورة مواكبة الحداثة . وهذا موقف فيه كثير من التحدّى ؛ فمنهاجنا الرصين القويم منهاج طويل، يتضمن الالتزام بمرور المصطلحات العلمية من اللجنة المختصة ، ثم إلى مجلس المجمع ، ثم إلى المؤتمر السنوىّ ( وفي هذه المراحل الثلاث مداولات لا تكاد تنتهي،كما تعلمون)، ثم إلى مجموعة المصطلحات السنوية، ثم إلى المعجم المعدِّ للطباعة ، ثم صدورِ المعجم . ومن ناحية أخرى ، أمامنا ذلك السيل من المصطلحات الجديدة التي تتدفق علينا كل يوم . وإعداد طبعة جديدة من معجمٍ ما، لا يتأتَّى إلا بعد مراجعة الطبعة السابقة مراجعةً شاملة،مع إضافة المستحدثات إليها ، حين تُستوفى في حروف الهجاء جميعا ـ لا قبل ذلك ـ ، وبعد مرورها في سباق الموانع الذي ذكرت. وعند إصدار الطبعات الجديدة المراجَعَة، قد يُنظر في استبعاد المصطلحات التي أصبحت بائدة أو قليلة الاستعمال، ولو أن بيننا من يرى فائدةً في الإبقاء عليها، لأنها لن تمحى آليًّا من الأعمال العلمية القديمة المنشورة التي يراجعها الباحثون .(167/8)
... ومن الحلول التي يلجئنا إليها أسلوبنا المتأنِّى في إعداد المعجمات العلمية إصدارُ المعجم الواحد في أجزاء ، يفصل بين صدور الجزء الواحد منها وما يليه مدة قد تطول سنوات . ولكن هذا الأسلوب فيه عيبٌ واضح ، إذ إن المعجم ـ بداهة ـ لا تتم فائدته إلاَّ حين تكتمل أجزاؤه . ثم إن صدور أجزاءِ المعجم متفرقة لا يكفل لها عنصرَ التعاصر والتجانس، من حيث حداثةُ المادة العلمية وأسلوبُ المعالجة ، ولا عنصرُ التماسك الذي يتوفر بالإحالات المحكمة. ويقلِّل من أهمية هذه المآخذ أن اللجان تنظر إلى المعجم في هيئته الكاملة ، حتى وهى تدرس جزئياته . ولكن لعل العلاج الأوفى هو الإسراعُ بإعداد طبعة كاملة من المعجم ، بعد صدور آخر أجزائه، ومراجعة الأجزاء كلها مراجعة شاملة.وهى كلها حلول باهظة الجهد والتكاليف ، والله المستعان .(167/9)
... ثم نأتي الآن إلى طائفة من الإجراءات أو التقنيات المعجمية . أولها: كيف نرتب المداخل في معاجمنا العلمية. الجواب ، على البداهة، هو الالتزام بترتيب المداخل الأجنبية بهجائها ، وفقا للأساليب المتبعة ، لأن المُراجع يدخل إلى المجهول من باب المعلوم عنده ، أو ـ بلغة أخرى ـ يدخل إلى الأجوبة من باب الأسئلة . فإضافةً إلى مدلول المصطلح يبتغى المراجع معرفة مقابله العربي ، الذي لا يعرفه تأكيدا . ولا عبرة هنا بالقول بأن الأَوْلوية ينبغي أن تكون للغة العربية .. فالذخيرة عربية، والمفتاح أجنبي . ولكنْ، على افتراض أن المصطلح الذي يعترض القارئ عربي ، ويريد أن يعرف مدلوله ومقابله الأجنبي ، يمكنه أن يجد ضالته عن طريق مسرد عربي/ إنجليزي ( على افتراض أن الأصل إنجليزي ) يأتي في نهاية المعجم ، وحبَّذا إِتْباعُ هذا المسردِ بآخرَ فرنسي/ إنجليزي ، حتى يتكاملَ المعجم وتعمَّ فائدته في المشرق والمغرب العربي العربيين . ولكن عندما شرع أساتذة الفلسفة في مجمعنا ، مثلا ، في عمل معجم لمصطلحات الفلسفة الإسلامية ، والتزموا بهذه القاعدة، كنتُ أوَّلَ من نادى بأن يكون المدخلُ في هذا المعجم – وأمثاله – عربيا، كما يقضى المنطق السليم ، لأن معظم المداخل أصلها عربي ، وتجتهد اللجنة في تفسيرها وإيجاد مقابلات أجنبية لها. وارتاحت اللجنة إلى هذا الاقتراح وأخذت به .(167/10)
... ومن الأمور التي تعترض عملنا أحيانا ، أن يكون للمصطلح الواحد أكثرُ من معنًى واحد . وقد تكون هذه المعاني في علوم مختلفة ، وعندئذ ترد في معاجم تلك العلوم المختلفة ، دون إشكال . ولكن معاجم بعضِ العلوم الأخرى قد يضم المصطلح نفسه،وعندئذ ينبغي أن يستعير هذا المعجمُ مقابله العربي وتعريفه من معجمه الأصلي ؛ وهذه قاعدة متبعة عندنا في معظم الأحيان ، إلا إذا رُئى أن يُعرَّف المصطلح تعريفا أكثر مناسبة للمعجم المستعير . وعند تعدد المدلولات ، يجوز لمعجمٍ أن يقتصر على المعنى الذي يناسبه من معاني المصطلح، إذا لم يكن ثمة داعٍ إلى الإشارة إلى المعاني الأخرى. وبعض الصفات ، أو الأسماء ، قد يتغير معناها من مجال إلى مجال ، وعندئذ يكون الحلُّ هو عدم إيرادها مجردة، بل متصلة بموصوفاتها، كما في قولنا : molar teeth، و molar
solutions ، مثلا .
... وعندما يكون للمصطلح الأجنبي أكثرُ من معنًى واحد، يمكننا أن نضع له مقابلاتٍ عربيةً بعدد تلك المعاني أو بعضها ، إذا كان ذلك مناسبا ، لفضِّ الاشتباك بينها ، كما يقولون ؛ ولكن هذه قضية مصطلحية، قبل أن تكون مشكلة معجمية . وعند تعدد المعاني ، يحسن أن يأخذ كلُّ معنىً رَقْما فرعيا ( وربما مقابلا عربيا مستقلاًّ أيضا، كما قدَّمنا ) . ولا بأس من أن يُشار إلى فرع العلم الذي يقع فيه ذلك المعنى ، إذا كان ذلك واردًا. وإذا لم يكن لكلٍّ من هذه المعاني مقابلٌ عربي مختلف ، تُرتب ترتيبا تنازليا وفقا لأهميتها .(167/11)
... وعلى الرغم من الدقة التي يتوخاها العلماء في وضع مصطلحات علومهم ، قد يحدث ترادف بين بعضها وبعض ، لأسباب كثيرة ، منها ما هو تاريخي ، ومنها ما هو موضوعي يختلف باختلاف الزوايا التي يُنظر منها إلى المصطلح الواحد. ففي معجم الرياضيات ، مثلا ، نجد : Abelian group ، و commutative group اللذين ترجمهما المعجم إلى : زمرة آبلية ( نسبة إلى عالم الرياضياتAbel ) ، وزمرة إبدالية (نسبة إلى خاصة الإبدال المميزة لها). والحل الذي اتخذه معجم الرياضيات ، مُحِقًّا ، هو وضع مقابلين عربيين ، ووضع علاقة التساوي بين المصطلحين الأجنبيين، وكذلك بين المصطلحين العربيين.( وسوف نعود إلى هذا عند التكلم عن نظام الإحالات، بعد قليل ) .(167/12)
... والخلاف بين اللغتين العربية والإنجليزية في علاقة الصفة بالموصوف ، والمضاف والمضاف إليه ، يفرض نفسه في ترتيب المداخل في المعجمات العلمية. فالوصف "primary " ، مثلا ، يأتي قبل موصوفه في نحو ثلاثين مصطلحا في أحد المعاجم البيولوجية . وتأتى هذه المصطلحات متلاحقة وفق الترتيب الهجائي لموصوفاتها ، أما مقابلاتُها العربية فَتُوَزِّعها على عدد كبير من حروف الهجاء ، وقد يكون هذا هو الأقربَ إلى المنطق السليم(لأن الهدف الحقيقي هو الموضوعات ) . والعجيب أن ذلك المعجم الإنجليزي لا يلجأ ـ في هذه الحالة ـ إلى توزيع هذه الموصوفات في مواضعها الهجائية ، متبوعة باللفظ primary ، وبينهما فاصلة ، كما يتبع في أحوال مماثلة . ولكن معجم المجمع في الكيمياء والصيدلة، مثلا ، أورد نحو 250 حَمضًا تحت لفظ acid ، متبوعًا كلَّ مرة بفاصلة ثم باسم حمض معين بذاته . بيد أنه لجأ إلى علاج الوضع ، من ناحية أخرى ، بإيراد هذه الحموض ، أو معظِمها ، بصياغتها الإنجليزية الطبيعية التي تقدم الموصوف ، فوزعها على عدد كبير من حروف الهجاء ، مثل acetic acid في حرفA ، وglutamic acid في حرف G ، و sulfuric acid في حرف S ، وهكذا ، ذاكرًا في كلِّ مرة : "( انظر:حمض acid) " . وهذا الوضع يحاول معالجة الموقف من طرفيه ، وأن يجمع بين الحسنيَيْن ، ولكنه أدخل في المعجم مداخل بضِعْفِ عدد الحموض المعنية ( نصفها مداخل تدرج ، ويحالُ منها إلى : acid ، ولكنها تشغل حيزا على كلِّ حال ) . وقد يكون المنطق أن تورد الحموض بأسمائها دون قلب ، لأن هذا هو الذي يتجه إليه مُراجع المعجم عادة . وقد يرى مؤلفو المعجم أن يحيلوا قارئهم كلَّ مرة إلى مصطلح " acid" ( للإلمام بتعريف الحمض بصفة عامة ـ إذا كانت هناك ضرورة لذلك ، وهو أمر مستبعد ). وهذا الإجراء لا يضاعف عدد المداخل في المعجم .أما جمع الحموض المنصوص عليها في المعجم كلِّها في مكان واحد فلا يبدو أنه يحقق(167/13)
هدفا معجميا ، إنما هو أقرب إلى أسلوب فهارس الكتب الكاشفة .
... وهذا الذي قدمته ليس قاعدة صمَّاء، ففي بعض الأحيان يكون من المفيد لمراجع أن يحدد عددًا من المصطلحات يجمع معاً أوصاف موصوف واحد . وذلك من قبيل ما رأيناه في مجموعة مصطلحات الرياضيات بالأمس القريب ، عندما جُمع من أوصاف وخصائص الخط (line) في حيز واحد:broken line,، وline, directed ،وideal line, … إلخ ( ولو أنني أعتقد أنه ليس هناك وجه لضم line,half معها ، لأنه مدخل مستقل بمعنى " نصف خط " وليس " خطا نصفيا "، فلا يأتي إلا فيhalf – line .كذلك جُمع بين– line, و– lines, في مصفوفة واحدة ؛ وهذه مسألة فيها نظر ) .
... وما قدَّمناه عن مصطلح "acid"، يصدق على كثير من المصطلحات التشريحية ، التي يُجمع عدد كبير منها تحت : artery و vein و nerve وmuscle ونحوها . أما في مصطلح “bone” ( عظم ) ، فقد لا يلتصق اللفظ بأسماء كثير من العظام ، التي تعرف بأسمائها مجردة ، مثل clavicle ( الترقوة ) . واتِّباع الأسلوب اللاّتينيّ في تسمية الأجزاء التشريحية يجعل ترتيبها متَّسقًا مع ترتيب مقابلاتها العربية ( تحت مصطلح واحد ، هو الموصوف ) ، أما عند اتباع الأسلوب الإنجليزي ، فيختلف الترتيبان ، مثلا : المصطلحات sinus caroticus وs.cavernosus ، وs.venosus تأتى كلُّها وأضرابها تحت " sinus " ، وفي العربية تحت "جيب " : الجيب السُّبَاتى، والجيب الكهفي ، والجيب الوريدى ، على الترتيب . أما اتِّباعُ الأسلوب الإنجليزي فيفرقها إلى blood sinuses، و cerebral sinuses، وcervical sinuses وهكذا. وأما مقابلاتها العربية فتأتى تحت " جيوب " ( جيوب دموية ، وجيوب مخية ، وجيوب عنقية ، على الترتيب ) .(167/14)
... وهذه كلها ، وأمثالها ، مسائل فنية لا يستعصى حلُّها على دقة تحليل المواقف وحسنِ التصرّف فيها ، ولكن القاعدة الذهبية هنا ، وفي كثير من الأمور المعجمية الأخرى، هي : الالتزام والاطِّراد ، أي اتباع قاعدة واحدة في المعجم الواحد ، دون استثناء ـ إلاّ ما يقع في حدود الخطأ البشرى الذي يبتغى الكمال ولا يبلغه ، أو لأسباب منطقية ملجئة للمخالفة .
... ثم نأتي في الختام إلى قضية لعلها أهم القضايا المعجمية جميعا ، وهى أسلوب الإحالات . وأعتقد أن أسلوب الإحالات المحكم هو أكبر خدمة علمية معجمية يقدمها صانعو المعجم إلى مراجعيه ، وهى التي ترفع قيمة المعجم درجات، إن حَسُن أداؤها. ونظام الإحالات ، بطبيعته ، نظام معقد متشابك ، ولكننا لاحظنا ، في أثناء مراجعاتنا لمصطلحات معاجمنا في مجلس مجمعنا ، أن لجاننا تذهب أحيانا طرائقَ قِدَدًا ، ومن ثم كانت الدعوة إلى تبادل الرأي والخبرة ، ابتغاء توحيد الأسلوب . وسأحاول أن أوجز في ختام حديثي ما أرى أنه أهمُّ قواعد الإحالات في المعاجم العلمية :
1-في حالة الترادف الكامل :
أ - يُذكر المترادفان الأجنبيان وبينهما علامة تساوٍ ، ويدرجان وفق هجاء المرادف الأول منهما، ويذكر أمامهما المقابلان العربيان بالترتيب نفسه .
ب- يُكتب التعريف كاملا عند ذكر أهم المصطلحين وأكثرهما استعمالا وشيوعا . ( ولا يحال منه إلى المرادِف الآخر ) .
جـ –يُدرج المرادف الثاني ، الأقلُّ أهمية ، في موضعه الهجائي مع مرادفه الثاني وبينهما علامة تساوٍ ( على عكس الوضع في" ب " ). ويكتب أمامهما المقابلان العربيان بالترتيب الوارد هنا . ولا يكتب أي تعريف ، إنما يكتب أول السطر ، ودون قوسين :
انظر : …………
وتكون الإحالة المنطقية إلى المصطلح الإنجليزي الأشيع، لأن مفتاح المعجم إنجليزي ، ولا ضرورة لذكر المقابل العربي في عبارة الإحالة.( وعكس هذا إذا كان مفتاح المعجم عربيا،كما تقدم).(167/15)
د- التعريف يكتب مع المصطلح الأهم والأشيع كما تقدم ، وليس أمام أول المترادفيْن ورودا في المعجم ( لأن المعجم ليس كتابا يقرأ بترتيب صفحاته ) .
هـ –بعض المجتهدين ينادى بأن يكون للمترادفين الأجنبيين مقابل عربي واحد . ولكنْ هذه مسألةٌ " مصطلحية لا " معجمية "، ولعلَّ الأفضل ذكر مقابلات عربية بعدد المترادفات الأجنبية. مثال ( مما عرضناه عليكم اليوم ) :
chromosome deficiency = chromosome deletion
قصور كروموسومىّ = حذف كروموسومىّ .
انظر :chromosome deletion . ...
وفي موضع آخر :
chromosome deletion = chromosome deficiency
حذف كروموسومىّ = قصور كروموسومىّ
( التعريف …………)
( وقد يكتفى هنا بذكر المرادف الأهم وحده ، فتقول :
حذف كروموسومى
chromosome deletion
( التعريف …………)
د-واضح أنه لا يتكرر التعريف الواحد مرتين في المعجم إطلاقا . ( يحدث أحيانا أن يُذكر التعريف بصيغتين مختلفتين أمام كل من المترادفين، وهذا خطأ منطقي بيِّن ) .
2-إذا ورد في التعريف مصطلح أو عبارة يُخشى ألا يعرفها القارئ ، يحال بعدها مباشرة في المتن بين قوسين إلى مصطلح يفسرها … ( انظر : … ) …
3- إذا قدَّر المؤلف أن التعريف بعامة
لا يُفهم، أو لا يتم فهمه، إلا بالرجوع إلى مصطلح أو مصطلحات أخرى ، يحيل القارئَ في أول السطر بعد نهاية التعريف ، إلى ذلك المصطلح أو تلك المصطلحات ، ويكون ذلك بين قوسين.
( انظر : ……… ، و ………… ) .
4-إذا رأى المؤلف أنه من المفيد أن يحيل القارئ إلى مصطلح معاكس أو مقابل ، يذكر في أول السطر :
( انظر : ………) .
أو : ( قارن :………) .
5-إذا رأي المؤلف أن يفيد القارئ بإحالته إلى مصطلح آخر ، أو عدد من المصطلحات الأخرى ، يستكمل بها إحاطته بالموضوع المعنىِّ، ذكر في أول السطر بعد التعريف :
( انظر أيضا:…… ، و ……، و…).
6-قد يُجمع بين المطلبين في " 4 " و " 5 " على النحو التالى :
( انظر : ………؛ وانظر أيضا : ……) .(167/16)
7- قد يلجأ واضعو المعجم إلى
اختصار عبارات الإحالة على الوجه التالي :
أ= انظر .
أأ = انظر أيضا .
ق = قارن .
8-عند الإحالة إلى مصطلح آخر، لا يقال: ( انظر…… في هذا المعجم )، لأن هذا من نافلة – أو سَقَط ـ القول. ولا يحال قارئ المعجم إلى معجم آخر – حتى إن كان من أعمال المجمع ، ويترك هذا لاجتهاده ، أو التوجيهات من قبل واضعي المعجم في مقدمته .
9-قد لجأ بعض المعاجم إلى كتابة المصطلح الذي يراد الإحالة إليه، إذا ورد في متن التعريف ، بفنط أسود ( ثقيل ) . ويحسن في هذه الحالة أن هذا " الفنط" لا يستعمل إلا في ألفاظ المصطلحات وحدها . ( وهذا قيد محدِّد ) .
10-بدلا مما سبق في "9" يميَّز لفظ المصطلح بوضع علامة نجمية صغيرة تعلو بدايته لا نهايته ( في اللغتين العربية والإنجليزية،وغيرهما)، لأن البداية هي التي تقود إلى المدخل الصحيح في المعجم . وينطبق هذا حتى على الكلمات المركبة ، مثلا : وهكذا *atoms ، *atomic weight ، *analytical chemistry. ( وقد رأينا محاولةً من هذا القبيل في مصطلحات الأدب ، التي عرضت علينا ) .
11-القاعدة الذهبية في نظام الإحالات، وغيرها من الإجراءات المعجمية ، هي الالتزام والاطِّراد، كما تقدم.(167/17)
وثمة بضع ملاحظات ختامية أخرى. منها ضرورة ضبط المصطلحات بالشكل وبخاصة حينما يُخشى اللبس . وكذلك في صياغة متن التعريف ، تضبط الكلمات التي يُخشى من نطقها أو فهمها خطأً ضبطًا لغويا، بل تضبط أحيانا ضبطا إعرابيا ، وبخاصة عندما تطول الجمل ، وتتباعد المعطوفات،أو يقدم المفعولُ، ونحو ذلك. وينبغي استعمال علامات الترقيم ، بدقة ولكن بغير تقتير ، لأنها أدوات مهمة للفهم الصحيح . ويجوز كتابة المقابلات الأجنبية لبعض الألفاظ الواردة في التعريف ، بغير إسراف، بقصد تحديد المقصود ، أو التعريف بالمصطلح الأجنبي ، لإمكان الكشف عنه إذا دعت الضرورة . وكذلك ينبغي العناية بجودة الطباعة، وجودة ورق المعجم ، ومتانة تجليده (وحبذا جماله أيضا !) ، لأنه كتاب معدٌّ للرجوع الكثير المتكرر، لا للقراءة مرة واحدةً أو بضع مرات قلائل . وينبغي أن يقدم للمعجم بتمهيد فيه إرشاد للقارئ إلى طريقة ترتيبه ، ونظام الإحالات فيه، وأفضل الوسائل لحسن الإفادة منه .
ومن مشاكل معاجمنا العلمية ، قلة حيلتنا في نشرها وتوزيعها ، على الرغم من أن المجمع لا يردُّ طالبا
يستهديها ، وإنما يجب أن تتاح للبيع أيضا بأسعار رمزية ، لأن البيع من منافذَ متعددةٍ يمكِّن أي قاصد من أن يحصل على ما يريده منها بيسر . وقد سمعت من الزميل الفاضل الأستاذ الدكتور أحمد سالم الصباغ ، منذ أيام، أنه يرجو أن نتمكَّن من تيسير نشر معاجمنا ومصطلحاتنا وأعمالنا المجمعية الأخرى عبر شبكة المعلومات الدولية (الإنترنتْ ).
وأخيرا أعتذر عن أنني أطلت وقَصَّرت: أطلت الكلام ، وقصَّرت في الوفاء بما تصدّيت له. ولكنني أتأسَّى بقول سيدنا شعيب ، عليه السلام :
{ … إنْ أريدُ إلا الإصلاحَ ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب } ( هود : 88)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
عبد الحافظ حلمي محمد
عضو المجمع
المراجع(167/18)
عبد الحافظ حلمي محمد، 1996م. " تعريب التعليم الجامعي: ضرورات ملزمة ، ومنافع مؤكدة ، واعتراضات مفنَّدة " .
بحث ألقي في مؤتمر مجمع اللغة العربية، بالقاهرة ، في دورته الستين– أبريل ، 1994.
مجلة مجمع اللغة العربية، 79 : 25 – 35 .
عبد الحافظ حلمي محمد، 1997م . " الأسماء العربية لأجناس الحيوان وأنواعه ". بحث ألقي في مؤتمر مجمع اللغة العربية، بالقاهرة ، في دورته الحادية والستين – أبريل ، 1995م. مجلة مجمع اللغة العربية ، 81 : 62– 74 .
Lawrence, D.( ed. ) 1990. Henderson’s Dictionary of Biological Terms (10 th ed. )
Longman Scientific and Technical , Essex.
...
...
...(167/19)
ملحق
في تاريخ مصطلح التواتر
يكثر المتأخرون في القرن السابع من استعمال عبارة " هذه قراءة متواترة" وكذلك المحدثون، والغريب أن هذه العبارة لا نجد لها أي أثر فيما تركه مؤلفو كتب القراءات (وما يقاربها ) من المتقدمين ( وقد تأتي عندهم قليلا كلمة "تواتر " أو مشتقاتها فيما يخص الحديث والأخبار عامة ) . وكذلك هو الأمر عند النحاة المتقدمين. وهذا ينطبق أيضا على ما وصل إلينا من كتب القراءات أو كتب النحو التي جاء فيها ذكر القراءات من القرن الرابع (*) .
استعمل مفهوم التواتر أول ما استعمل عند المتكلمين في وقت مبكر جدا: وهو القرن الثاني. فقد ذكر الخياط عن هشام بن الحكم (المتوفي في 176 ) أنه يزعم " أن مجيء التواتر يوجد العلم وأن أهل العلم مختلفون في الأخبار وهل التواتر صحيح أم غيره؟ فهو كلام يدور بين المعتزلة.." (الانتصار، 114-113) .
ثم أخذ هذا المفهوم الأصوليون وأولهم هو الإمام الشافعي وكان قد رد، كما هو معروف ، على من أنكر حجية الأخبار عن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - كليا أو غير المتواتر منها. وميز الشافعي في العلم بين ما نقلته "عامة عن عامة " وبين ما هو:"علم الخاصة". وقال:" ولا تقوم الحجة بعلم الخاصة حتى يكون نقله من الوجه الذي يؤمن فيه الغلط " (جماع العلم،38-37).ثم ميز"خبر العامة عن العامة " عن" تواتر الأخبار".(168/1)
وانفراد الشافعي (1) بإعطاء التواتر معنى لا نجده عند الأصوليين من القرن الثالث والرابع وهو أن تتّفق روايات نفر من الرواة مع تباين بلدانهم واختلاف طرق أخذهم وإن قل عددهم (نفس المصدر،55 ) وأما عند عيسي بن أبان (فقيه أصولي توفي في 221) – وعليه اعتمد أبو بكر الجصاص (المتوفى في 370) في كتابه «في أصول الفقه» – فالتواتر عنده يحصل "بامتناع جواز التواطؤ والاتفاق على مخبره كعلمنا بأن في الدنيا مكة والمدينة وخراسان وهو يوجب العلم" (2)(الجصاص، اللوحة 162-161) فبذلك يصبح "علم العامة" و" الخبر المتواتر " شيئا واحدا . ويقابله "خبر الخاصة" الذي يكثر الشافعي من استعماله أو " خبر الآحاد" أو " خبر واحد" عند المتكلمين. يقول الباقلاني:"غير أن الفقهاء والمتكلمين قد تواضعوا على تسمية كل خبر قصر عن إيجاب العلم خبرًا واحدًا وسواء عندهم رواه الواحد أو الجماعة التي تزيد على الواحد" (التمهيد، 386) وأحسن حد للتواتر هو الذي نجده في أصول السرخسي (المتوفى في 490) (ص282/1) :" وحد ذلك أن ينقله قوم لا يتوهم اجتماعهم وتواطؤهم على الكذب لكثرة عددهم وتباين أمكنتهم عن قوم مثلهم هكذا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون أوله كآخره وأوسطه كطرفيه ".
هذا ينطبق عندهم على أخبار رسول الله - صلى الله عليه سلم -وكذلك على نص القرآن الكريم فالعلم به هو "علم عامة " ليس إلا. قال
(1) هذا بالنسبة إلى المتقدمين وهذا لا يمنع أن يكون سبقه بعض المتكلمين إلى ذلك. أما استعماله للفظة التواتر فقليل بالنسبة للمصطلحات الأخرى ولم ترد إلا مرة واحدة في الرسالة :" لأن الأخبار كلما تواترت وتظاهرت "، (433 وكذلك هو الأمر بالنسبة لأبي عبيد فقد استعمل مرة واحدة هذا المصطلح في "الفضائل " قد تواترت هذه الأحاديث"،344/4).
(2) وأما خبر الواحد فيوجب العمل في الفقه لكن بشروط كما هو معروف .(168/2)
الشافعي : " العلم من وجوه منه إحاطة في الظاهر والباطن … فالإحاطة منه ما كان نص حكم الله أو سنة لرسول الله نقلها العامة عن العامة" (الرسالة ، (478 .
وقال أيضا :" أما ما كان نص كتاب بيّن أو سنة مجتمع عليها فالعذر فيه مقطوع" 359-357 ) ومن ثم صرّح كل الأصوليين الذين تلوا بأن ما ينقل آحادا فليس بقرآن ". لأن القرآن مما تتوافر الدواعي على نقله .. والعادة تقضى بالتواتر في تفاصيل ما هو كذلك". ( كشف الأسرار للبزدوى المتوفى في 229/1,482) وقال قبل ذلك الباقلاني (المتوفى في 403 ) بعد ذكره لقراءات مخالفة للمصحف :" ونحن لا نجيز أن يقرأ من طريق آحاد ولا تقرأ إلا بما تواتر نقله "( نكت الانتصار ، 102) وقال القاضي عبد الجبار من المعتزلة وهو معاصر له: " قد بينا أن بالنقل المتواتر يعرف القرآن"( المعنى إعجاز القرآن، 150).
وأقدم من تأثر بما قاله الشافعي ممن ألف في القراءات هما الطبري
والنحاس. ونشعر بذلك بما يجىء فيما كتباه، من مصطلحات الأصوليين في ذلك الزمان : نقل الجماعة عن الجماعة –الأمة -[ قراءة] أهل الإسلام – مقطوع العذر وغير ذلك (انظر تفسيره 78/1 و 392-391) .
وأول قارئ، في علمنا ، صرّح بذلك هو مكي بن أبي طالب فقد عاصر هؤلاء المتكلمين وكان هو نفسه أصوليا. وقال: "إنما يثبت القرآن بالإجماع والأخبار المتواترة المقطوع على غيبها "(الكشف ، 23/1) واستعمل لفظة التواتر قبل ذلك في"التبصرة"(*) ( ص 63 ) وأيضا في الإبانة ( ص 25 ) والجدير بالملاحظة هو عدم لجوء مكي إلى مفهوم التواتر في الكشف (وهو كبير الحجم ) في غير هذا المكان وكلما استعمل كلمة التواتر فإنه يردفها بكلمة إجماع فيبدو أنهما متلازمتان عنده.
مع أن الأول يختص عند المتقدمين بجماعة معينة والثاني يخص عند الأصوليين نقل الخبر. ونذكر أيضا معاصرًا له وهو صاحب " كتاب المباني" (ألف في 425) . قال : " نقلوا(168/3)
[ القرآن ].. نقلا مستفيضا منتشرا متواترا " (جفري ، 39) . غير أن كل هذا يخص نص القرآن المتواتر . أما القراءات فمن أقدم من استعمل لفظة التواتر فيها من المتكلمين هو الباقلاني نفسه . قال في "نكت الانتصار": "ويدل على أنه [عثمان] لم يكن يمنع أحدا أن يقرأ بغير ما في مصحفه إذا كان متواترا" (141) . وكذلك عبد الجبار :" على أن القراءات المختلفة معلومة عندنا باضطرار لذلك نستجهل من يرويها من جهة الآحاد " ( نفس المصدر ،162) .
وأما العلماء الذين كان لهم سهم في التفسير فمن أقدم من وصف
القراءة بالتواتر نذكر أبا نصر القشيري(1) .قال : " لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم - تواترا يعرفه أهل الصنعة " ( ذكره في إبراز المعاني ، 412 ).
أما القراء أنفسهم فمن أقدم من صارت صفة التواتر تطلق باطراد
عنده على السبعة فهو علم الدين السخاوي (المتوفى في 642) (2) وروى عنه القسطلاني أنه قال : " فقراءة السبع كلها متواترة" وقبل ذلك :" ولا يقدح في تواتر القراءات السبع إذا أسندت بطريق الآحاد " ( لطائف الإثارات 78/1) وهذا يناقض ما قاله نصًّا في " جمال القراء" (242-241) وكان لا يرى مثل من جاء بعده أن الثلاثة الذين أضافهم ابن مهران وغيره تستحق قراءاتهم في جملتها هذه الصفة (3) والفتوى التي أفتاها(168/4)
معاصره – من غير القراء – وهو ابن الصلاح تدل على أن في هذا العصر تبلورت نهائيا فكرة اعتبار السبعة كلها متواترة . ورد على ذلك تلميذ السخاوي وهو أبو شامة (المتوفى في 665) صاحب " إبراز المعاني " في كتابه " المرشد " (وقد سبق أن ذكرنا شيئا من كلامه ) وقال أيضا :" وقد شاع على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم من المقلدين أن القراءات السبع كلها متواترة أي كل فرد مما روى هؤلاء الأئمة السبعة .. ونحن بهذا نقول لكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق.. مع أنه شاع واشتهر واستفاض فلا أقل من اشتراط ذلك إذا لم يتفق التواتر في بعضها " (177) . وقال أيضا :" الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف [ الثلاثة ] لا فيمن تنسب إليه" ((174 .وقال :" فإن اختلت هذه الأركان الثلاثة أطلق على تلك القراءة أنها شاذة وضعيفة . أشار إلى ذلك كلام الأئمة المتقدمين ".
ورد على كلام أبي شامة بعنف ابن الجزرى في شبابه ( " في منجد المقرئين" 64-63)ثم ترك مفهوم التواتر في كتاب النشر (ص 49) حيث ذكر كلام أبي شامة ولم يرد عليه ( ص13) كما فعل في "منجد المقرئين" بل استشهد بكلامه وهذا لم يخرجه من عامة القراء في عصره (وبعده) في دفاعهم المشروع عن السبعة . واعتمد في ذلك على ما قاله علماء الحديث في تشبيههم المتواتر الذي لم يحصل فيه التواتر إلا ابتداء من أئمة الأمصار ( ومن زمن الصحابة ) بالمشهور من الأحاديث وهو الذي " تلقته الأمة بالقبول " حسب تعبير المحدثين والأصوليين ( ومن أقدمهم أبو إسحاق الشيرازي المتوفى في 476).وصرح بذلك أيضا الزمخشرى ( المتوفى في 528) في الكشاف ((224/1 ومهد لذلك الطبري وغيره بالنسبة للقراءة بتوسيعه لصفة الاستفاضة للأمة كلها وأهل الإسلام . يقول: "ما جاءت به الأمة نقلا مستفيضا" (78/1 و391.932 وغيرها ) فالمستفيض هنا يخص النقل لا استفاضة القراءة ضمن جماعة .(168/5)
أما الفوارق الأساسية التي يفترق بها المتقدمون من مؤلفي كتب القراءات وما يقاربها بالنسبة إلى مفهومي المتواتر والمجمع عليه فتنحصر ، في نظرنا ، فما يلي :
1-المجتمع عليه عند أبي عبيد وغيره من المتقدمين هو :
-ما أجمع عليه أفراد جماعة معينة محصورة العدد في زمان معين : وهي أكثرية أئمة الأمصار وهم حوالي 22 إماما وأكثرية الصحابة والتابعين الذين روى عنهم نفس ما قرأ به هؤلاء الأئمة(1) وقد تكون جماعة كبيرة منهم ، كما سبق أن قلناه قرأت بشيء وخالفتها جماعة أخرى فكلاهما يسمونه مستفيضا وهو صحيح خصوصا إذا اجتمع فيها أئمة مشهورون .
- وأما الشاذ عند المتقدمين فهو كل ما خرج عن هذا المجتمع عليه أو المستفيض مع مخالفته للعربية أو لمجرد مخالفته للمصحف والموافق له مما قرأ به واحد ولم يخالف العربية ليس بشاذ عند أكثرهم.
2-والمتواتر عند أكثر المتأخرين هو:
- ما رواه جماعة عن جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب من البداية إلى المنتهى من غير تعيين عدد(2).
وكانت هذه الجماعات عند المتكلمين والأصوليين القدامى هي "جماعات المسلمين "(3) (العامة عن العامة عند الشافعي).وتواتر الخبر بها كان يخص عندهم " نص الكتاب" و"السنة المجتمع عليه "كما رأينا. أما بعد القرن السادس فتواتر الخبر صار ينطبق أيضا على مجموعات القراءات المنسوبة إلى الأئمة كالسبعة أولاً ثم العشرة . وقد
يوصف هذا المتواتر بالمجمع عليه (1) وبذلك يصبح عندهم ما قرأ به الواحد متواترًا بالنسبة إلى كل المسلمين(2) قال عبد الوهاب بن السبكي في فتوى أفتاها: " كل حرف انفرد به واحد متواتر … ليس التواتر في شيء منها مقصورا على من قرأ بالروايات بل هي متواترة عند كل مسلم.. ولو كان عاميا جلفا لا يحفظ من القراءة التي لا يعرفها إلا أهلها ! ثم ماذا عساهم أن يعرفوا من القرآن إلا القراءة التي يصلون بها ».(168/6)
-وأما الشاذ عند أكثر المتأخرين فهو: كل المجموعات من القراءات (وما تفرق منها ) المنسوبة إلى غير السبعة
عند الأكثر ( فتوى ابن الصلاح وغيره) .
هذا وقد أشرنا إلى أن القراء ومؤلفي القراءات (وكل من تطرق إليها من النحاة واللغويين )منذ بداية القرن الرابع إلى القرن السادس وإن كانوا قد اتبعوا كلهم ابن مجاهد في اعتبار القراءات كمجموعات حروف منسوبة إلى السبعة (ثم العشرة) فإن أكثرهم باقون على ما اصطلح عليه المتقدمون. فلا يزال أكثرهم يستعملون ألفاظهم : المجمع عليه وقراءة العامة أو الجماعة وأئمة الأمصار والعوام والخروج من كلام العرب وغير ذلك.
فقد كان أبو بكر بن الأنبارى (1) وابن خالويه وأبو علي الفارسي وابن جني وابن مهران والأزهري وأبو زرعة وابن الباذش ومكي في كتابه"الكشف" (لا في الإبانة) وغيرهم يقصدون من هذه الألفاظ ما قصده المتقدمون في الغالب . إلا أنهم قصر أكثرهم معني العامة على السبعة عند تعرضهم لكل قراءة وذلك ابتداء من ابن مجاهد، وقد بينا فيما سبق النهج الجديد الذي سار عليه صاحب السبعة : فالعامة عنده هي في الغالب أكثرية السبعة (112-111) أو عامة أصحاب الواحد منهم 149 )(2) وما عدا السبعة فهو شاذ، كما رأينا. فهذا أيضا موقف طارئ. أما ابن جني فقد قال في " المحتسب" … أتى ذلك ضربين: ضربا اجتمع عليه أكثر قراء الأمصار وهو ما أودعه أبو بكر بن مجاهد -رحمه الله - في كتابه … وضربا تعدى ذلك " فسماه أهل زماننا شاذا أي خارجا عن قراءة
القراء السبعة"(32/2) وابن جني في كتابه هذا يريد أن يبين أن هذا الذي يسمى شاذا في زمانه فالكثير منه هو " آخذ من سمت العربية مهلة مبدؤه لئلا يُرَى مُرًى أن العدول عنه إنما هو غض منه " (ص 33 ).(168/7)
وفي هذا التقسيم لأهل زمانه شيء من الإبهام والتحكم، لأنه يوهم ، كما قلنا، أن جميع القراءات التي قرأ بها غير السبعة (ثم العشرة فيما بعد) شاذة . ولا نعتقد أنهم أرادوا، في القرن الرابع ، أنها غير صحيحة بل ربما قصدوا أنها غير مقطوع بصحتها وهو رأي السخاوي ( في القرن السابع). وترتب على استبدالهم مقياس إجماع أئمة الأمصار والصحابة والتابعين بمقياس ما قرأ به السبعة فقط أن صار كل ما في السبعة هو وحده المقطوع به ولو قرأ به واحد منهم . ومقياس ما قرأ به السبعة فقط أن صار كل ما في السبعة هو وحده
المقطوع به ولو قرأ به واحد منهم . ومقياس ابن مجاهد هو إجماع الناس ( في كل بلد في زمانه ) على قراءة واحد من الأئمة كما رأينا . ( ثم صار هذا الإجماع الخاص ابتداء من القرن السادس هو " تواتر القراءة " أي تواتر النقل ). أما الإبهام فاجتماع أكثر القراء في قول ابن جني قد يحتمل أن يكون بالنسبة إلى كل بلد على حدة وهو ما قصده ابن مجاهد لا اجتماع أكثرهم مجموعين . فلو ذهب هذا المذهب الأخير لكان أقرب إلى مقياس "قراءة العامة" (عامة الأئمة في زمانهم) الذي عمل به المتقدمون لأنه من المرجح أن يحصل اجتماع أكثر الأئمة – السبعة وغيرهم –باجتماع هؤلاء السبعة لكثرة ما جاء عنهم من المجتمع عليه وما يقاربه .
وأكبر شبهة تترتب على إقصاء غير السبعة أو غير العشرة هي في تشذيذ الكثير من القراءات التي لم يقرأ
بها واحد منهم وقرأ بها غيرهم من باقي الأئمة كابن محيصن وحميد بن قيس وغيرهما مع إثبات العلماء أنها موافقة للعربية زيادة على موافقتها المصحف . وقد يقرأ جمع غفير من الأئمة من غير العشرة إلا حمزة مثلاً فتصير بحمزة وحده غير شاذة ! .
فمن ذلك قوله تعالى «فأصبح هَشِيمًا تَذْرُوه الرِياحُ» . (الكهف ، 45) قرأ السبعة (تَذْرُوهُ الرّياحُ ) .(168/8)
وقرأ الحسن والأعمش وطلحة بن معرف وابن محيص ( الريحُ ) وروى هكذا أيضا عن إبراهيم النخعي وزيد ابن على وابن أبي ليلي(*). هؤلاء أربعة أئمة مع ما يؤيد ذلك من الروايات . وهي غير خارجة عن كلام العرب إلا أنها خارجة عن السبعة والثلاثة.
وكذلك قرأ (جنات عدن. مريم 61 ) بالرفع الحسن وعيسى بن عمر والأعمش (مختصر ابن خالويه ،85) وغيرهم بالنصب. كلاهما صحيح في
العربية .
ومن ذلك أيضا قوله تعالى :
« فأجْمِعوا أمْرَكم وشركاء كم». ( يونس،71 ) قال ابن جني في "المحتسب" : ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحمن والحسن وابن أبى إسحاق وعيسى الثقفي وسلام ويعقوب ورويت عن أبي عمرو… مكسورة الميم ورفع (شركاؤكم) وقرأ (فاجْمَعوا أمرَكم)غير مهموزة والميم مفتوحة و( شركاءكم ) نصبا الأعرج وأبو رجاء وعاصم الجحدري والزهرى ورويت عن الأعمش (261/1) فأما القراءة الأولى فهي صحيحة لوجود أحد العشرة فيمن قرأ بها ولولا ذلك لكانت شاذة .
فكل هذا يزيدنا يقينا أن المتأخرين من أجل بعدهم عن منابع القراءة في الزمن كانوا لا يرتاحون إلا للقراءة التي كثرت الطرق فيها إلى الأئمة وهذا معنى التواتر عندهم إلا أن ثقتهم بهذا النوع من القراءة اتسعت
فشملت كل ما احتوت عليه المجموعات من القراءات التي اعتبروها متواترة . فيكفي عندهم أن يكون قرأ بها أحد السبعة أو العشرة. لذلك تصير قراءة معيّنة للحسن أو الأعمش أو أي إمام من غير العشرة صحيحة إذا تواترت عن يعقوب(*)مثلا وهو جدّ متأخر عنهما أو خلف وهو معاصر لأبي عبيد ! ولا يبالون بموافقتهما للعربية لأنها أصبحت مثل: المجمع عليه عند أئمة الأمصار " مع الفرق الكبير الذي يوجد بين المفهومين .(168/9)
أما تضعيف القراءات من السبعة وغيرهم فكل هؤلاء بل أئمة الأمصار أنفسهم صدر منهم ذلك وكذلك ابن مجاهد. وأوّل من امتنع من ذلك هو ، كما قلنا ، ابن خالويه ثم أصحابه ( كعبد المنعم بن غلبون وابنه وتلميذ هذا الأخير أبو عمرو الداني ) ونستثني من أصحاب ابن غلبون مكي ابن أبي طالب .
وابتداء من القرن السابع بعد صدور الفتاوى من ابن الصلاح وغيره أجمع العلماء على الامتناع المطلق من تضعيف قراءة من قراءات السبعة واستنكار ما صدر من ذلك من المتقدمين و غيرهم. ومن النحاة فابن مالك هو أول نحوي جعل الاستشهاد بما ينفرد بقراءته أحد السبعة والقياس عليه أمرا مطردا ولو أجمع النحاة من أقدم العصور إلى زمانه على مخالفته للعربيّة واتّبعه في بعض ما ذهب إليه أبو حيّان الأندلسي بل ورد بشدة على كل ما هو تضعيف لقراءة أيا كانت إلا القليل منها وحجته أن العلماء الثقات قد رووها (1) .
أما ما انتهى إليه ابن الجزري في كتابه " النشر " ( لا في كتابه
"المنجد") فهو ناتج في الوقت نفسه ، من موقفه القديم وهو القول بعدم وجود ما يبعد عن العربية في السبعة أو أقل القليل وموقفه الجديد وهو جنوحه الطارئ، إلى ترك التواتر كمقياس لصحة القراءة ، (2) ورجوعه بالتالي إلى الأصول الثلاثة إلا أنه استبدل مقياس المتقدمين وهو "قراءة الجماعة" ( أو "عامة أئمة الأمصار" الذين ذكرهم المتقدمون ) بمجرد صحة السند وفارق بترك التواتر أغلبية معاصريه ومن جاء بعده . وقد "تعقبه،كما يقول القسطلاني (اللطائف 70-69/1) الشيخ أبو القاسم النويري . فقال :"عدم اشتراط التواتر قول حادث، مخالف لإجماع الفقهاء والمحدثين وغيرهم لأن القرآن عند
جمهور أئمة المذاهب الأربعة … هو ما نقل بين دفتي المصحف نقلا متواترا… ولا يخالف من المتأخرين إلا مكي وتبعه بعض المتأخرين".(168/10)
أما ما ادعاه من حدوث هذا القول فغير مطابق للواقع فليس مكي أول من تكلم عن المقاييس الثلاثة ولم يستبدل التواتر بها؛لأنه لم يستعمل هذا المقياس في القراءات أحد من علماء القراءات قبله كما رأينا. وإن صح أنّ مكيا نفسه قد صرح بأنه لا يثبت قرآنًا إلا بالنقل المتواتر (الإبانة ص 24 وسبق أن ذكرنا ذلك ) فإنه لا يستدل بتواتر القرآن على تواتر القراءات السبع وغيرها فَرْدًا لأن تواتر القرآن تكفيه قراءة واحدة . ومعنى ذلك أن القرآن لا يلزم من تواتره تواتر جميع القراءات السبع ضرورة وفَرْدًا فَرْدًا إذ تواتر قراءة في آية وقراءة في آية أخرى دون أن تجتمع القراءات السبعة كلها كافٍ لتواتر القرآن بأجمعه ( مع
تواتر النص المتمثل في مصحف عثمان ثم نزول القرآن على سبعة أحرف لم يفض إلى تواتر كل هذه الأحرف ). والحادث في الأمر هو، في الحقيقة ، اشتراط التواتر بالذات لا عدم اشتراطه وقبل ذلك الوصف للقراءات نفسها بالتواتر : لا الوصف وحده بل مع الترك النهائي لمقياس السلف وهو" قراءة العامة "(عامة أئمة الأمصار ) وحدث ذلك أول ما حدث في النصف الأخير من القرن الرابع عند المتكلمين والأصوليين خاصة حيث عمموا التواتر للقراءات أما التعميم الذي سموه" قراءة متواترة" إلى السبعة ثم الثلاثة وقصره عليها فانتشر وعمّ في نهاية القرن السادس والنصف الأول من القرن السابع بما صدر من الفتاوى وغير ذلك .
وبهذا ندرك موقف ابن الجزري فهو جد معقول وهو أقرب المتأخرين مع أبي شامة إلى العلماء
المتقدمين . ودفاعه عن العشرة أيضا له ما يبرره فما من قراءة من السبعة أو العشرة إلا ولها وجه إلا القليل كما
أثبت ذلك علماؤنا في أقدم الأزمنة.
والله ولي التوفيق
عبد الرحمن الحاج صالح
عضو المجمع المراسل
من الجزائر
المراجع
-إبراز المعاني من حرز الأماني لأبي شامة، تحقيق عطوة عوض. القاهرة 1402 هـ.
-الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ، جزآن ، القاهرة 1951م.(168/11)
-إتحاف فضلاء البشر للدمياطي ، القاهرة.
-الإبانة عن معاني القراءات لمكي بن أبي طالب . تحقيق د.عبد الفتاح شلبي. القاهرة بدون تاريخ .
-أصول السرخسي ( أبو بكر بن أحمد)، القاهرة ، جزآن ، 1372هـ.
-أصول الجصاص (أحمد بن علي ) مخطوط دار الكتب المصرية رقم 229 أصول .
-أصول البزدوي ( علي بن محمد ) . الأستانة ، 1307هـ.
- البرهان في علوم القرآن للزركشي. تحقيق أبي الفضل إبراهيم . القاهرة 1957م.
-البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي . القاهرة، 1328هـ.
-التبصرة في القراءات السبع لمكي ابن أبي طالب ، تحقيق محيي الدين رمضان . الكويت ، 1405هـ .
-جامع البيان ( تفسير الطبري) تحقيق محمود محمد شاكر . القاهرة16 جزءاً 1374هـ.
-جامع البيان في القراءات السبع لأبي عمرو الداني مخطوطة دار الكتب المصرية رقم 3 م.
-الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي . القاهرة، 1955م .
-جمال القراء لعلم الدين السخاوي . تحقيق د.علي حسين البواب جزآن . مكة المكرمة ، 1408هـ.
-جماع العلم للإمام محمد بن إدريس الشافعي . تحقيق محمد أحمد عبد العزيز. بيروت الطبعة الأولى.
-المرشد الوجيز لأبي شامة تحقيق طيار التي قولاج، بيروت ، 1395هـ.
-الرسالة للإمام الشافعي . تحقيق محمد شاكر ، القاهرة 1940 .
-السبعة في القراءات لابن مجاهد . تحقيق د. شوقي ضيف.القاهرة،1972م.
-إعراب القراءات السبع وعللها لابن خالويه . تحقيق د.عبد الرحمن بن سليمان العثيمين . القاهرة جزآن 1413هـ .
-إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس. تحقيق د.زهير غازي زاهد . بغداد.15 جزءاً 1405هـ.
-فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام تحقيق أحمد الخياطي . رسالة ماجستير . دار الحديث الحسنية، الرباط، 1407-1406 هـ.
-الكامل لابن جبارة الهذلي . مخطوطة الأزهر .
-الكشاف للزمخشري.القاهرة. 4أجزاء 1954م.
- الكشف عن وجوه القراءات لمكي ابن أبي طالب تحقيق محيي الدين رمضان، دمشق، جزآن، 1974م.(168/12)
-كتاب الانتصار للخياط ، تحقيق نادر بيروت ، 1957م.
-كتاب سيبويه، بولاق 1316هـ.
-كتاب التمهيد لأبي بكر الباقلاني . تحقيق الأب يوسف مكارثي . بيروت،1957 م.
-لطائف الإشارات لفنون القراءات للقسطلاني . تحقيق عامر عثمان ود . عبد الصبور شاهين، القاهرة . الجزء الأول، 1972م.
-المبسوط في القراءات العشر لأبي بكر بن مهران ، تحقيق سبيع حكمى ، دمشق، 1407هـ.
-مختصر في شواذ القرآن لابن خالويه،نشر برجستراسر ، القاهرة، 1934م.
-المحتسب في شواذ القراءات لابن جني تحقيق علي النجدى وزميليه . جزآن . القاهرة .
-مجاز القرآن لأبي عبيدة . تحقيق فؤاد سزكين ، القاهرة، جزآن، 1959م.
-المغني في إعجاز القرآن للقاضي عبد الجبار، تحقيق أ.الخلوي، القاهرة.1960 .
-معاني القرآن وإعرابه للزجاج . تحقيق عبد الجليل عبده شبلي .
-معاني القرآن لسعيد بن مسعدة الأخفش . تحقيق د. فايز فارس . الكويت ، جزآن، 1970م.
-معاني القرآن للفراء تحقيق محمد على النجار وغيره. القاهرة . 3 أجزاء 1972-1955م.
-نكت الانتصار لأبي بكر الباقلاني .
تحقيق د. محمد زغلول سلام .
الإسكندرية .1971م.
-النشر في القراءات العشر لابن الجزري. تصحيح محمد علي الصباغ. القاهرة . بدون تاريخ .(168/13)
حول مشروع معجم ألفاظ الحياة الاجتماعية*
للأستاذ الدكتور كمال محمد دسوقي
1-ألفاظ الحياة الاجتماعية العامة والخاصة :
في أول تعقيب للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع على بحث الأستاذ الدكتور عبد الكريم خليفة بعنوان " المعجم العربي الموحِّد لألفاظ الحضارة في العصر الحديث " الذي كان أول بحث يلقى في مؤتمر المجمع بدورته الرابعة والستين 97/1998 ـ بالثناء على هذا البحث الرائع ، والشكر لمُقدمهِ صاحب المبادرة بالمشروع ، الذي عرضه على اتحاد المجامع في العام الماضي فوافق عليه وبعث الرئيس برسائل متعددة إلى المجامع العربية للأخذ به استعدادًا للعودة إلى دراسته هذا العام واتخاذ الخطوات اللازمة لتنفيذه في مجامع الدول العربية المختلفة وجامعاتها ـ
راجيا السادة الزملاء أن يتقدم كل من له رأى منهم باقتراحه مكتوبا لتنظيم القيام بهذا العمل الذي تنتظره الأمة العربية ، ويستأنف به مجمع اللغة القاهري تفكيره منذ القدم وإصداره بالفعل معجم ألفاظ الحضارة الذي نفدت طبعته ( 1980 ) …
أُعطِيت إشارةُ البدء لكل المهتمين بالموضوع من أعضاء المجامع العربية للكتابة في كيفية اتخاذ خطوات تنفيذ هذا المشروع على النحو الذي تبناه وشرع بالفعل في إجرائه بالأردن ـ بارك الله فيه ـ أستاذنا الدكتور خليفة ـ مبينا في خاتمة ورقته العلمية الرائعة القرارات التي اتخذها مَجمعُه الجليل ، بشأن أهداف المشروع ، والمدة التي يحتاج إليها إنجازه، ومراحل هذا الإنجاز ، ونموذج بطاقة
الباحثين الموزعين على مختلف مراكز جمع البيانات عن كل مصطلح: الموقع،البيئة،المهنة،المجال،الموضوع.(169/1)
وقد استمعنا بإعجاب واستيعاب لما دار بعد ذلك من تعقيبات ـ على الترتيب – للأستاذ على رجب المدني بضرورة التفرقة في مشروع هذا المعجم بين تسميتَي التوليد والتحديث ، ونسبتَي الهوِية والهِيية بدل الهُويّة ( التي رآها الدكتور السامرائي أصح)، وتأكيد الأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي على هدفي المشروع : الجمع والحصر ، ثم التوحيد ( ولو بمجرد جمع الألفاظ المترادفة من البلاد العربية في حيز واحد ) ، وإشارة الأستاذ الدكتور محمود على مكي إلى سابقة جهود الأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي في توجيه طلابه بآداب القاهرة لإعداد معاجم ألفاظ الحياة العامة مادة لرسائلهم الجامعية واشتراكه هو معهم في دراسات معاجم كتب أبى حيان التوحيدي، ومجموعات رسائل كتاب الدولة الفاطمية،ومناقشة رسائل كتب رحلات ابن بطوطة وأبى حامد الغرناطى وابن حبير البلنسى .. يلي ذلك ما تفضل به الدكتور عبد الهادي التازي من اقتراح ربط ألفاظ الحضارة بصعيدها الميداني:الحرفي، البحري، الوظيفي، الدبلوماسي ( الذي وجد هو فيه بحكم توليه العديد من المناصب الدبلوماسية مئات الكلمات التي استعملها العرب فيما يتصل بالعلاقات الدبلوماسية بين العرب وغيرهم).. وأخيرًا تعقيب الدكتور محمد إحسان النص بإيثار تعبير ألفاظ " الحياة العامة " على تعبير " ألفاظ الحضارة" لكون الحضارة خلاف البداوة، ولَفتِهِ النظر إلى مصادر أخرى لهذه الألفاظ في معاجم المعاني التي منها: اللغة للثعالبي، التلخيص في أسماء الأشياء للعسكري، وصبح الأعشى للقلقشندي، والمخصص لابن سيده.(169/2)
ولقد كان من يمن الطالع في ذات الجلسة المباركة التي عُرض فيها ونوقش مشروع المعجم المقدم من المجمع الأردني، التثنية بالبحث القيم عن " رحلة ابن بطوطة " الذي ألقاه العلامة التازي – مما عقبتُ عليه ( أول المعقبين ) بالإشادة بما أفاء علينا من وضع هذا الرحالة العظيم لقاموس ألفاظ مختلف البيئات الإقليمية والجِهَوية التي زارها، فردها إلى أصولها بما يعطي صورة للحياة الفكرية المُعبّر عنها بتلك اللغات في القرن الثامن الهجري، وإنه من بين ستمئة كلمة حواها قاموس ابن بطوطة في نحو اثنتي عشرة مادة لغوية أجنبية ضمت إلى الكلمات المغربية المئة والخمس والثلاثين، نجد كلمات فارسية وتركية أو مَغولية، من بلاد الهند والسند، لغتي مالي والصومال، ماليزيا وبورما، الصين ومصر، الرومية واليونانية .. إلى غير ذلك من المفردات التي استطاعت العربية أن تقتحم بها قواميس الأمم الأخرى لتفرض نفسها عليها وتكون إلى جانبها. ثم إن هذا البحث الجليل أثار بعد ذلك من التعقيبات ( في حدود ما سمح به الوقت وقد قاربت الجلسة على الانتهاء) ما يليق بتقدير الزملاء لأهمية البحث وبراعة الباحث، وأول هذه التعقيبات ملاحظة الدكتور الضبيب أن الكثير من الكلمات التي أوردها العلامة التازي وأعطاها الجنسية المغربية هي من التراث العربي المشترك ، وردت عند الجاحظ وتشيع في البلاد العربية، وثاني التعقيبات حديث شيخنا السامرائي عن اهتمامه منذ أكثر من أربعين سنة برحلة ابن بطوطة ووقوفه فيها على الدخيل والفني القديم والعراقي الذي ما زال بعضه جاريا في العراقية الدارجة. فمع الإشارة إلى كون عربية ابن بطوطة في القرن الثامن الهجري ليست عربية سليمة الأداء نحوا وصرفا، وفيها ما يقف عليه القارئ في " ألف ليلة وليلة " يشير الأستاذ الدكتور السامرائي لسبعة عشر لفظًا مما أثبته الأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي في المعجم المغربي برده إلى أصوله في لغات المشرق والمغرب التي(169/3)
زارها ابن بطوطة والتي لم يزرها في القديم والحديث – مما أكد عليه الأستاذ الدكتور محمود علي مكي، وهو يتفق مع الدكتور الضبيب في كون الكثير من الألفاظ الواردة ألفاظًا مشتركة بين المغرب وبعض البلاد العربية ( وإن اختلف معه في بعض الألفاظ من حيث اشتقاقها ودلالتها ؛ ومما علق عليه الأستاذ الدكتور خليفة بأنه إثراء للبحث الذي قدمه الأستاذ الدكتور التازي – لكونه بحثا في الصميم وفي الجوهر.
... وعلى ضوء من هذه الاستنارة الفكرية حول مشروع معجم ألفاظ الحضارة أو الحياة العامة أو الاجتماعية، وفي حموة هذا العصف الذهني الذي شملنا جميعا – حيث كنت آخر المعقبين على البحث الأول، ألهج بالحمد والثناء على فكرة المشروع والمبادرة بوضعه موضع التنفيذ على يد صاحبه الألمعي الملهم – الذي شكرت له تفضيله عبارة " الحياة العامة " أو " الحياة الاجتماعية " على لفظ " الحضارة " في تسمية المعجم – لكونها ( كما جاء في تعقيب الأستاذ الدكتور إحسان النص أيضا ) خلاف البداوة ، ففي العلوم الاجتماعية مقابلة البادية بالحاضرة، والتبدي بالتحضر، والريفي أو البدوي بالحضري؛ وفي قول الشاعر القديم استنكار حضارة أهل المدن ( بفتح الحاء وكسرها وضمها ) مقابل بداوة الرعاة الرحل بخشونتهم ورجولتهم:
فمن تكن الحضارة أعجبته
... ... فأي رجال بادية ترانا!(169/4)
ومع أن الحضارة لا تقتصر فقط على التحضر في أساليب المعيشة والاستقرار والترف والنعيم المادية، بل إن لها أيضا جوانبها المعنوية الروحية الأدبية والدينية الأخلاقية – التي تفرق أكثر من الماديات بين البدوي أو الريفي والحضري ، ومع تأكيد علماء الاجتماع على أن أية جماعة من الناس منذ خلق الله الأرض ومن عليها لهم حضارتهم التي تتمثل في نظام عبادة وطقوس أو شعائر دينية ، نظام أسرة وزواج وتربية أبناء، نظام اقتصاد وأسباب معيشة ، نظام اتباع قائد يسوس الجماعة ويدفع عنها اعتداء الغير من خارجها .. مع كل هذا يظل الجانب المادي في كلمة الحضارة هو ما يرد إلى الذهن كتَمدُّن ـ أي سكنى المدن ـ وتقدم من الحضارة إلى المَدنيَّة ـ مما يطغى على الفروق الهائلة فيما بين البدو والحضر من قيم وتقاليد وأعراف ـ مهما نلاحظ من ضيق البون بينهما حديثا وقد تحولت القرى إلى مدن صغرى وآلت ضواحي وحواشي المدن الكبرى والعواصم الضخمة إلى منتجعات ريفية هادئة يسكنها أكثر المتمدينين رفاهة وترفا وتحضرا ـ لشيوع أدوات المعيشة الآلية الكهربائية والإلكترونية التي يحاكى الريفيون المدنيين في التنعم بها ، والتماس المتحضرين الراحة والسكينة في القرى السياحية والجبلية الخلوية .(169/5)
... كذلك فإنني رجوت في تعقيبي تجنب استعمال كلمة " ثقافة " ـ اللفظ الذي شاع استخدامه أخيرا مرادفا لكلمة حضارة ـ ربما لإبراز الجوانب الروحية المعنوية والأدبية للمدنيات الصناعية التكنولوجية الحديثة التي تطغى فيها الماديات على المعنويات فتتراجع القيم والأخلاقيات ـ مهما ينسحب استعمال لفظ ثقافة في الدراسات العلمية أيضا على أقدم المجتمعات الذي لا يخلو من حضارة أو ثقافة ـ مادية ومعنوية معا ـ مع ترجيح المادي أو المعنوي بنسبة تأثر وتأثير أحدهما في الآخر . ومع أن لفظي حضارة وثقافة في العربية يقابلهما في اللغات الأجنبية كلمة واحدة هي كلتشر في الإنجليزية ، وكيلتير في الفرنسية وكولتور في الألمانية ، وكولتورا في الإيطالية والإسبانية ، لم يزل لفظ الثقافة يثير في الذهن النواحي الأدبية واللغوية التي تكتسب بالتعلم والتثقف ـ بقدر ما أن لفظ المثقف ـ في مقابلته بالحضري المتمدن ـ وقد لا يكون حاصلا على أدنى شهادة دراسية أو منشغلا بالقضايا الفكرية لكن انهماكه في دنيا المال والأعمال هو الذي جلب له المركز الاقتصادي الاجتماعي ـ لا يطلق إلا على المتعلم المطلع ( بل المشارك ) في قضايا مُجتَمعِه ومشاكله وهمومه وكلنا على علم بما يجرى في ساحات العمل الثقافي من مساجلات ومتابعات في الأدب والفن ، الشعر العمودي والقصيدة النثرية ، التراثية المحافظة أم التجديد والتحديث، الحداثة وما بعد الحداثة ، العولمة والكونية والكوكبية ، الغزو الثقافي والخصوصية القومية داخل العالمية الإنسانية .. مما عرضتُ في بحث العام الماضي للمؤتمر حديثي عنه كصراع بين العلم والتعليم والإعلام حول قضايا اللغة ـ حيث المجلس الأعلى للثقافة وأجهزة الإعلام والصحافة مسرح جدل وحوار على كافة الأصعدة وفي كل المجالات ـ يغرى بالشوفينية والانتصار لبلد المثقف العربي وهويته الذاتية حتى على ثقافات وهُوِّيَّات أشقائه في نفس اللغة وآدابها وفنونها ـ مما تفاقم(169/6)
أخيرا في معرض القاهرة الدولي للكتاب ـ حيث المأمول من التقاء المثقفين العرب على صعيد واحد تلاقى الأفكار وتلاقُح الثقافات وتوحيد الذاتي والمحلى والإقليمي منها في ثقافة متكاملة يدخل بها العرب الألفية الثالثة كأمة واحدة في إطار تكتلات الأمم والشعوب الأخرى المندمجة في نطاق العالمية والإنسانية جمعاء .
... وكما رجوت اطِّراحَ كلمتي الحضارة والثقافة على النحو الذي آمل أن أكون قد أوضحته ، رجوت أيضا استبدال عبارة " الحياة الاجتماعية " بعبارة " الحياة العامة " في تسمية هذا المعجم ـ بما تنطوي عليه من علاقات شخصية وثيقة وإنسانية حميمة تتمثل في خصوصيات الزواج والعشرة وتربية الأبناء وكفالة أبوة وبنوة ونسب قرابة ومصاهرة ووراثة ووصية وهبة .. أعمّ كثيرًا وأوسع من الحياة العامة التي هي علاقات اتصال وتعامل مع جماهير الناس ومنظمات الحياة الاقتصادية والسياسية ومؤسسات العمل الرسمية والأهلية والتطوعية الخيرية التي هدف العمل فيها الصالح العام وتحقيق الرخاء الاجتماعي والتقدم والارتقاء ـ بما تحمله صفة "العام " في مقابل " الخاص ". وقد أوضح أستاذنا عبد الكريم ذلك بحاسته الملهمة ـ في قوله: إننا عندما نتحدث عن ألفاظ الحضارة في مشروعنا المعجمي في الوقت الحاضر، فإنما نعنى جميع الألفاظ التي يستعملها الإنسان العربي في حياته العامة من مأكل ومشرب وملبوسات وما يتعلق بها ، من منزل وأدوات منزلية وما يتعلق بشؤون البيت ، وكذلك أسماء الأماكن العامة والخاصة وما يتعلق بها ، والمكاتب وأدواتها وأجهزتها ، والمركبات وما يتعلق بها ، والحرف وأنواع المهن والصناعات وأدواتها والمواد المستعملة فيها ، وكذلك ما يتعلق بالتربية الرياضية وأنشطتها ، جوانب الحياة الفنية ، ومجالات الترويح والزينة … ويتعدى هذا المدلول التعبير عن الأدوات والأشياء المادية إلى التعبير عن الحياة الثقافية العامة التي تنم عن الحس الحضاري والاجتماعي والذوق(169/7)
الجمالي في التعامل بين الأفراد والجماعات في الحياة اليومية ، وفي لغة مختلف وسائل الاتصالات الجماهيرية . لذا فهو يفضل في تسمية معجمه الموحِّد لألفاظ الحضارة في العصر الحديث الأخذ بعبارة " ألفاظ الحياة العامة " بوصف أن هذا التعبير أكثر دقة ووضوحا ، وأبعد عن اللبس الذي تثيره عبارة " ألفاظ الحضارة في العصر الحديث "فهو ـ حفظه الله ـ يعتمد عبارة " الحياة العامة " بديلا للحضارة في العصر الحديث ، وكثيرًا ما يرادفها في سياق حديثه بعبارة " الحياة الاجتماعية " التي يرى من غير شك أنها أعم وأشمل لما في حياة الناس اليومية من خصوصيات علاقات إنسانية قرابية حميمة .
2-دواعي مسيس الحاجة لهذا المعجم :(169/8)
وإذ يبين الباحث أن ألفاظ الحياة الاجتماعية اليومية ـ التي تضرب بجذورها بعيدًا في حياة أمتنا العربية بمختلف أقاليمها ـ إنما تنشأ وتنمو وتتطور عبر القرون عن الحاجة إلى التعبير عن شؤون هذه الحياة وكل طارئ جديد عليها ، بعفوية وإشاعة استعمال ، فهو يؤصل لهذا التفقه في اللغة بالإشارة لقضية اللبس الذي حدث في فهم العلاقة بين لغة الحياة اليومية وألفاظها الدالة على مختلف شؤون الحياة المعيشية وبين العامية ، حيث ـ بينما رسّخت الفتوحات الإسلامية أصالة تعريب الشعوب المختلفة التي اعتنقت الإسلام بحيث ظل النص القرآني هو النص الذي نشأت حوله جميع الدراسات اللغوية والأدبية الأخرى ، والعربية هي لغة التفسير والحديث والفقه ولغة الشعر والنثر والعلم ـ كان إلى جانب لغة المعاجم الفصحى هذه ( بثوابتها نحوا وصرفا وتجويد ألفاظ وأساليب ) لغة محلية للحياة الاجتماعية تضع التنوع المحلى داخل التوحد القومي بالفصحى للباحثين والدارسين والمؤلفين في العلم، لغة ـ ليست بالضرورة العامية الدارجة المحلية ، أو الجهوية الشعبية الشائعة، لكنها التي تعبر عن حاجات الإنسان في حياته اليومية المعاشية من مطعومات وملبوسات ومشمومات وأثاث وبيوت ومساجد وأدوات وحرف وصناعات وتجارات … قد استوعبته العربية من قبيل " أدب الحواس " مما لم يكن معروفا في بيئاتها الأصلية ، فأخذته من حضارات الأمم الأخرى على سبيل التعريب ، وأدخلته لغتها وأجرت عليه قوانين العربية ، بل أضفت عليه في كثير من الأحيان رونق العربية . لقد جعل هذا الرافد الأصيل ـ إلى جانب الاشتقاق والمجاز والنقل والنحت والوضع … من العربية لغة واحدة نامية عبر مسيرتها التاريخية ، قادرة على التعبير عن حاجات الإنسان العربي وعن كل جديد عليه ـ سواء أكان
أعجمي المنبت أم عربي المنشأ .(169/9)
... فإن تكن المعاجم التراثية العربية قد نأت بنفسها عن تسجيل ألفاظ الحياة اليومية وتعابيرها لأنها تراها خارجة عن مناهجها ولا تقع في مجال اهتمامها ـ لا لاتهام بعجمتها أو غمز لفصاحتها ، وإذا كان ابن منظور لم يتعرض في مُعجَمهِ "لسان العرب " ـ كمرجع لغوى أساسي للباحثين والدارسين ومراكز البحوث ـ لمؤلفات المؤرخين والجغرافيين والأطباء والنباتيين والفلكيين والقصاصين ومصطلحاتهم ومفردات لغاتهم ومستويات أساليبهم التي تقترب من اللغة المحكية، ولم يتردد الجاحظ في الاجتهاد اللغوي بعيدا عن المعجم الذي تعارف عليه اللغويون في ذات العصر، وكان ابن المقفع منذ بداية العصر العباسي قد نحا باللغة المكتوبة منحى لا يبعد كثيرا عن اللغة المحكية من حيث الألفاظ والتعابير والنظم والأصفهاني في مصنفه " الأغاني " يصور من جوانب الحياة الاجتماعية والفنية في العصر العباسي هذا ما جعله مصدرا للتطور اللغوي تصل نسخته الأولى من بغداد إلى قرطبة ـ دليلا على أن الألفاظ الحضارية والاجتماعية الشائعة في المجتمع البغدادي لم تكن غريبة على الذوق الجمالي في المجتمع القرطبي في أزهى عصوره ـ ومثل هذا قصص التنوخى وحكاياته ، و " البخلاء " للجاحظ وسائر مؤلفاته ـ كمظهر لمدى اختلاط عاصمة خلافة الدولة الإسلامية بالأمم الأخرى والطابع الخاص للحضارة الفارسية في الحياة الاجتماعية.. فالقطيعة التي تمت بين اللغة المَحِكيَّة ولغة الكتابة العلمية والأدبية هي التي زادت الفصحى عزلة والعامية انتشارا واستشراء فصار المستعربون يفكرون في وضع معاجم للعاميات الفارسية والتركية في أوربا منذ القرن السابع عشر الميلادي، وكان ذلك داعيا للمفكر العربي أحمد تيمور أول العشرينيات من القرن العشرين لاتخاذ زمام المبادرة بمقالاته في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق والمجاهرة بالدعوة إلى تفصيح أدوات الحضارة أو تحضير أدوات الفصحى للتغلب على فتنة ( لعن الله من يوقظها)(169/10)
بين تيارى التعبير بالألفاظ الدارجة على الأفواه في ميدان الحياة العامة الحضاري ( مما معناه طغيان العامي والدخيل ) ، والإفصاح في التعبير بالتنقيب في مكانز اللغة عن العربي الصميم .
... وفي مجمع اللغة العربية بالقاهرة، مع تمسك الأستاذ محمود تيمور ـ الذي استقبله المجمع لعضويته عام 1950 ـ بمبدأ تفصيح ألفاظ الحضارة أو تحضير كلمات الفصحى، بعد إمساك لعقدين من الزمان اتقاء لما يُتندر به على المجمع من زعم تعريبه الساندويتش بشاطر ومشطور وبينهما كامخ ، ومجاهرته بهذا المبدأ إيمانا بقول أمين المجمع حينئذ ( 1945 ـ 1946 ) إبراهيم مدكور: إن ألفاظ الحضارة ضرب آخر من المصطلحات اللغوية ، قد تكون معالجته أعسر من معالجة المصطلح العلمي ، فالإجماع عليها ليس بالأمر الهين ، ولا بد أن نستعين عليها بشتى الوسائل ، وإزاء مالا يزال بالمجمع من سجال بين الأعضاء حول الوسائل التي يمكن التذرع بها لتزويد اللغة العربية بالجديد من المصطلحات في مختلف ميادين الحضارة الحديثة : ما بين محبذ للأخذ من ألفاظ السوق ما يتفق وقياس العربية واستبعاد ما يخالفها ، ومناقش لفكرة أخذ الأسماء التي يطلقها الصناع وأصحاب الحرف على آلاتهم وأدواتهم كما هي دون مناقشة ثم تلمس وجه الصواب فيها ، وملاحظ لكون الكثير من ألفاظ السوق يستخدم في مصر وغير مصر من البلاد العربية ـ ويعنى هذا أنه قديم وصحيح وإن كانت المعاجم لم ترصده، وإجازة تعريب المسميات الأجنبية وترجيح هذا التعريب على قبول كلمات عربية محرفة ، وتعقب استخدام الجمهور كلمات عربية بحتة بالسليقة .. خلص تيمور إلى اتباع لطفي السيد منشئ لجنة ألفاظ الحضارة الحديثة ونادى بأن يكون هناك معجمان أحدهما معجم اللغة لإثبات ما استقر من الكلم –فذاك هو ديوان العربية وسجل ألفاظها ، والآخر معجم الحضارة لعرض ما نجم وما ينجم من جديد الألفاظ والتعبيرات ، أو للتعويض عن ألفاظ أجنبية طارئة ـ فلا ينتقل من ألفاظ(169/11)
هذا المعجم الحضاري إلى المعجم اللغوي إلا ما تأصل التعبير عن معناه بين كثرة الناطقين بالعربية بحيث يصبح جديرا بالتسجيل والإثبات إذ السعي إلى وضع مقابل صحيح لألفاظ الحضارة أو الحياة العامة ليس مقصودًا به فرض ذلك على أفواه العامة في البيوت والأسواق ، لكن المقصود إسعاف الأقلام الكاتبة بما يسد حاجة التعبير من ألفاظ فصاح لمسميات حضارة شاملة ، وإشاعتها في الصحف السيارة والكتب المتداولة، وإذاعتها في مجالات الإذاعة الفصيحة على اختلاف منابرها ومنصاتها في حياتنا العلمية والاجتماعية على أوسع نطاق .(169/12)
ولاعتقاد تيمور- في خضم هذا الجدل ومهما يجاهر بدعوته انتصارًا للفصحى ـ أن القضية الشائكة أمام معجم ألفاظ الحضارة أن هذه الألفاظ وإن تكن كلمات الحياة العامة التي تستعمل في البيوت والشوارع وعند أصحاب المهن وفي المدارس والمكاتب ودور الفن واللهو… فهي خلايا حية في بنية اللغة العربية ، تهبها جديدا من النمو والثراء والشمول، ولحساسيته لإنكار الناس على المجمع أن يراقب أفواههم فيما يتناقلونه من كلمات البيوت والشوارع والأسواق وكأنه يتدخل فيما لا يعنيه ، فقد آثر أن يصرف جهده إلى ميادين خاصة هي مصطلحات العلوم والفنون التي تدرس في معاهد التربية والتعليم، ورأى منهجا مُتكاملاً أن يشارك جمهور الناس وعامة الكتاب والعلماء إلى جانب المؤسسات اللغوية ويظل هو يترصد لكل جديد من الكلم ويلاحق ما يستجد من ألفاظ في الحياة العامة فيُحلَّه محل النظر والتمحيص . وهكذا سار المجمع في إقراره ألفاظ الحضارة على غرار منهجه في وضع المصطلحات العلمية والفنون وإقرارها بدءا بالمصطلح الأجنبي إنجليزيا أو فرنسيا ووضع ما يقابله باللغة العربية مع شرح واضح ودقيق بالعربية وبعد إقرارها من المجلس تعرض على المؤتمر لتنشر في مجموعات مصطلحات المجمع ، من ذلك مصطلحات ألفاظ الحضارة في صنعة الكهرباء ، وحرفة تشكيل الحديد بالتسخين والطرق ، والسباكة ، والرقص .. ومنها أيضا ما أقره مؤتمر المجمع بالاشتراك مع المجمع العلمي العراقي لمئة وأربعة مصطلحات مقترحة شائعة كالثلاجة والفريزر وتكييف الهواء… ومئة وأربعة مصطلحات في علم المصريات كألفاظ حضارة قديمة … وما صدر أخيرا باسم معجم ألفاظ الحضارة مقسما إلى قسمين : في الأول : الثياب وما يتعلق بها ، المأكولات والمنزل والأدوات المنزلية ، فالأماكن وما يتعلق بها ، والمكتب وأدواته ، والمركبات وما يتعلق بها ، والحرف والصناعات والمواد المستخدمة فيها ، ثم التربية الرياضية وألفاظ أخرى متنوعة ، أما القسم(169/13)
الثاني فيشتمل على ألفاظ الفنون التشكيلية ومصطلحاتها ، وعلى مصطلحات الرقص والموسيقا ومصطلحات السينما ـ مما كان جديرا بأن تُشكل له فيما بعد بالمجمع لجنة خاصة بمصطلحات الفنون .
3- تفصيح العامي أهم روافد معجمنا العربي :
على أن كل ما سبق ذكره من محاولات ( تحضير ) كلمات الفصحى لم يكن ليغنى على صعيد مواز عن انطلاق محاولات ( تفصيح ) ألفاظ الحضارة التي تجرى بالسليقة على ألسنة الجمهور وأصحاب الحرف والصناعات في البيوت والأسواق وهي عربية أصيلة وإن حسبوها غير ذلك . فالجُهود الفردية التي سبقت الإشارة إليها للباحثين والدارسين والمؤلفين في العلوم والفنون وهم يتصيَّدون الألفاظ الفصاح في دواوين الشعراء وأَدَب مشاهير الكتاب في القديم والحديث ـ كسلسلة معاجم العلامة عبد العزيز بن عبد الله بالرباط في المهن والحرف المختلفة، ومعجم أدوات الجراحة للعالم الطبيب التونسي أحمد دياب– وغيرهما ممن انتهجوا منهج "معجم ألفاظ الحضارة" القاهري .. إنما هي تعريب لألفاظ الحضارة الغربية لاَ يَفِى بأصالة ألفاظ حضارتنا العربية في حياتنا اليومية ، ترتيبُ ألفبائية معاجمها فرنسي أو إنجليزي يوضع أمامه ترجمةُ اللفظ بالعربية وتحته تعريفه الدال عليه ، ومع أسباب الحياة الاجتماعية وأساليب المعيشة وطرز الأدوات والوسائل المستخدمة تنهمر كل يوم تعابير ومصطلحات العلم والتكنولوجيا الدالة على سيادة لغة الإرسال والاستقبال العامية المقروءة والمسموعة عبر قنوات الاتصال الفضائية التي يلهث المجمعيون في إيجاد ترجمات وتعريفات لألفاظها ليحُدّوا طغيان الأجنبي والدخيل على اللسان العربي الأصيل في لغة الحياة اليومية في كافة المجالات ، وليواجهوا اللهاث الذي أصاب الناس وهم يهرعون إلى تعليم النشء لغة العصر الرمزية المشفرة على شبكات الاتصال العالمية ـ التي سوف تفقدهم الهوية الذاتية والقومية الثقافية ـ مهما تذرعوا بضرورة إعداد الأجيال للعيش في عالم(169/14)
جديد ، ومهما يُجأر بالشكوى وبتعالى الصراخ في المناداة بحماية اللغة القومية من الإهمال ( والإذلال) واللغاتُ الأجنبية تزحف عليها في المدارس والأماكن العامة لتتراجع هي في أحاديث الناس اليومية عن أسماء المآكل والمشارب والمأوى والملبس بالإعلانات ولافتات المحال ـ إلى حد المطالبة بإصدار قوانين حماية اللغة القومية ومنع الناس من التشدق بالألفاظ الأجنبية ـ وبالتالي التفرنج بما يترتب على ما تلوكه الألسنة من تظاهرات ادعاء الحياة العصرية كأن ليس لكل جديد أو مستحدث من أشياء الحضارة الحديثة ومسمياتها لفظ في لغتنا يجرى بالسليقة على ألسنتنا- لو أردنا وحرصنا -لا يلزم إلا أن يكشف عنه المجمعيون ليعطوا الناس (إجازة) استعماله دون تحرج أو استحياء.(169/15)
... ولم يكن هذا الاتجاه إلى ( تفصيح العامية ) غائبا طوال الوقت عن الساحة ، بل ظل مساوقاً لاتجاه (تحضير الفصحى) على يد المجمعيين الغيورين على اللغة وسلامتها في الحياة العامة ـ كما في لغة العلم والآداب والتأليف والكتابة ـ تطمينًا للناس على صحة ما يسمعون ويقرؤون ويتحدثون عنه في البيت والشارع والسوق، وتثبيتا للصحفيين والإذاعيين والإخباريين الذين يخاطبون الجماهير في ارتجال وعلى عجل بالأجنبي المعرب ، في خشية ووجل من أن يُتهموا بالعامية والركاكة فيما هو فصيح أصلا ومقبول علما وعملا . فمنذ عام 1990م، وكان العلامة اللغوي العريق أمين على السيد عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة قد عكف على إثبات " العامي الفصيح من المعجم الوسيط " يقدم لمؤتمر المجمع السنوي عدة أبواب:من الهمزة حتى الثاء (1990م)، الجيم والحاء (1991م )، الخاء حتى الراء ( 1992م ) ، الزاى حتى الضاد (1993م ) . ومن الجزء الثاني من الوسيط ـ وكان قد انشغل لبضع سنوات ببحوث لغوية أهمته ـ عرض في مؤتمر1997م أبواب الطاء والظاء والعين ، وفي عام 1998م قدم بابي الغين والفاء ، وهو مستمر في مهمته أعانه الله وأثابه ومد في عمره ، بقدر ما ييسر للغة الحياة اليومية من تثبيت جرَيانِها بأصالة وفصاحة على ألسنة العامة فلا يكون هناك حرج في التخاطب بها وإساغتها ، كذلك فإن لجنة الألفاظ والأساليب بالمجمع تتابع نشاطها في عرض قراراتها سنويا على المؤتمر في شأن الاستعمالات العصرية لما يستجد من ألفاظ الحضارة التي لم تتعرض لها المعجمات القديمة ـ سواء في اللفظ أو المعنى ـ وإن كانت لتزداد شيوعا وجريانا على الألسنة والأقلام ، فتجيز استعمال اللفظ اسما ( وما يشتق منه ) في المعنى الحديث ، ومن باب التوسع في الدلالة ، وهنا أيضا تأصيل وتفصيح لما يشيع استعماله في بلاد عربية أو في الزمن الحديث والمعاصر كالبرمجة والنمذجة وتعويم النقد وتصفية الحسابات .. في أعمال اللجنة(169/16)
التي ستُعرض على مؤتمرنا هذا العام لإقرارها ـ بما يجيز للغة الحياة اليومية استعمالها دون حرج أو تردد ، وكذلك قبولها وإساغتها لدى المُتَلَقِّى ، كما يُطمئن الصحفي والإذاعي والمدرس والمربى والمؤلف والمثقف عموما على سلامة استخدامه للغة المحكية دون اتهام بالجهل أو التفرنج ، وتحُد من طغيان لغات الفرنجة الوافدة مع مسميات حضارتها الغازية لبلادنا على أصالة ألفاظ حضارتنا المتجددة المتطورة المستجيبة لتَسارُع مستحدثات العصر ومخترعاته واكتشافاته .(169/17)
... وكان يكفي تكامل اتجاهَي تفصيح العامي من ألفاظ الحياة الاجتماعية هكذا مع تعريب ألفاظ الحضارة الغربية الحديثة على النحو الذي يتمسك به المجمعيون والأكاديميون من البُحَّاث والمعجميين بالتنقيب في بطون المصادر التراثية والمحدثة الوفيرة ـ التي أشار العلامة عبد الكريم في خاتمة مقاله إلى خمسين منها ـ لو لم يكن لا يزال يُحزنه عدمُ وجود مصادر يمكن أن يعود إليها الكاتب العربي أو متعلم العربية من غير الناطقين بها .. في تكامل تيارَى التفصيح والتعريب هذين ولو في معجمين مستقلين بما يُرضى المحافظين من سدَنة اللغة وحُمَاتها والراغبين في عموم الاستفادة بتطورها وصلاحيتها لكل زمان ؛ فالأستاذ الكبير عبد الكريم خليفة يتطلع إلى مشروع لغوى قومى شامل يضع له خطة عمل محددة ليصدُر عن اتحاد المجامع هذا المعجم الموَّحد لألفاظ حضارة أمتنا العربية في عصرنا الحديث لا يتعدى المدلولُ الواحد فيه اللفظةَ أو اللفظتين ، بهدف رعاية وحدة الأمة العربية وتوطيد دعائم وحدتها الثقافية ، يؤمِن القائمون عليه بأهميته كما يشعرون بالحاجة إليه ، فهو يبادر باتخاذ قرار مجمعه الأردني الجليل بمناقشة هذه الخطة ووسائل تنفيذها، ويؤلف برئاسته لجنة خاصة بها وعضوية ستة من أعضائه الأمجاد، ليخلُص الجميع إلى أفكار عملية في وضع المشروع موضع التنفيذ ، أولها أن وضع المعجم العربي الموحِّد لألفاظ الحضارة في العصر الحديث عمل لغوى قومي جليل تبناه مجلس اتحاد المجامع اللغوية والعلمية العربية ويتعين وضعُ خطة عمل موحدة يصدرها الاتحاد لتلتزم بها المجامع والمؤسسات المشاركة في إنجاز هذا المعجم وهي تعمل على تحقيق أهدافه في المدة التي
يحتاج إليها هذا الإنجاز .(169/18)
وثانيها : أن يقوم كل مجمع عربي بحصر أقصى ما يستطيع حصرَه من ألفاظ الحضارة والحياة الاجتماعية في قطره وتخزينها في حاسوبه وفق منهجية واضحة على مستوى الوطن العربي ـ تلك المنهجية التي تقتضي : ثالثا إذا أردنا الشمول في موضوعات الحياة بالنظر إلى حجم العمل ومجالاته التقسيمَ إلى مداخل قطاعية لمسميات الأشياء الدالة على الحياة بمختلف محاورها . وفي الحاسوب المتوافر بكل مجمع ما يُسهِّل ـ رابعا ـ عملياتِ التخزين والاسترجاع والفرز … في ثلاث مراحل تنفيذ هذا المشروع :
1-القيام برصد جميع ألفاظ الحضارة المستعملة في كل قطر عربي وتخزينها.
2- قيام لجنة من الخبراء بفرز ودراسة الألفاظ المختزنة وفق منهجية معينة على مستوى القطر بحيث لا يتجاوز المدلول الواحد لفظتين .
3-تكليف اتحاد المجامع خبراء مختلف الأقطار العربية بغربلة هذه المشاريع للوصول إلى المعجم الموحِّد الذي لا يتجاوز المدلول الواحد فيه اللفظتين ـ باتباع قواعد الشيوع والفصاحة والسهولة وما هو موجود في التراث … إلخ .(169/19)
... وفي انطلاق لجنة مشروع المعجم العربي الموحد لألفاظ الحضارة نحو تحديد معالم تنظيم هذه العملية ـ باعتبارها لجنة توجيهية لإنجاز هذا المشروع في الأردن ـ تم تقسيم العمل إلى أربعة مراكز تنتظم جغرافيًّا وديموغرافيًّا كل مناطق الأردن وكافة شرائحه الاجتماعية هي مراكز الجامعات الأربع : الأردنية ، اليرموك ، آل البيت ، مؤتة ـ حيث تألف كلُّ مركز من رئيس واثنين من أعضاء هيئة التدريس والمتخصصين، مهمتها اختيار الباحثين وتحديد عددهم،ورسم خطة العمل والإشراف على التنفيذ وتمحيص المعطيات وتقديم ذلك كله للهيئة العامة التي هي مكونة من أعضاء لجنة مشروع ألفاظ الحضارة ورؤساء مراكز البحث الأربعة المجتمعين بشكل دوري للمتابعة ـ في حرص على كامل تمتع الباحثين ورؤساء المراكز بروح عمل الفريق وحسن التفاهم وصدق الإيمان بأهمية المشروع والرغبة الأكيدة في إنجازه وفق النموذج الموزع على الباحثين ـ المرفق ـ الذي يرصد فيه كل باحث باسمه وتوقيعه بيانات اسم المصطلح ( مضبوطا بالشكل ) وأصله وتعريفه وتوضيحه بالرسم عند الضرورة في حدود الموقع والبيئة والمهنة والمجال ( بيت،مدرسة،مسجد، شارع، مزرعة، مصنع ، مستشفى، معمل أو مختبر … فندق أو مقهي،مؤسسة،مكتب،مسرح)، وأخيراً الموضوع الذي يشتمل عليه المجال ( البيت : أنواعه وأجزاؤه ومحتوياته : أطعمة ، مشروبات ، ملبوسات،أثاث،أدوات وأجهزة.. ).(169/20)
... أصبح لزامًا إذن على كل مجمع لغوي في اتحاد المجامع العربية يمثل الوطن العربي الكبير في شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام والرافدين وليبيا والسودان والمغرب العربي في الشمال الأفريقي ـ أن يتبنى خطة العمل هذه التي بدأها المجمع الأردني، بذات توجهات تنفيذ ذلك المشروع القومي الجليل ، لكي يشرع كل مجمع على الفور بحصر أقصى ما يستطيع حصره من مصطلحات وتخزينها في حاسوبه ـ مقسمة إلى المداخل القطاعية الموحدة لمسميات أشياء الحياة الاجتماعية المعاصرة .. على مراحل التنفيذ ثلاث المذكورة : الحصر والتخزين، الفحص والدراسة ، الغربلة والتوحيد ، وأن يشكل لذلك اللجنةَ التوجيهية، ويوزع العمل على مراكز بحث تمثل جغرافية وديموغرافية مختلف البيئات،ويؤلف كل مركز من رئيس ومختصين من جامعة الإقليم ليختاروا عدد الباحثين المحليين اللازم لجمع البيانات ويتولوا رسم خطة العمل والإشراف على التنفيذ،وتكوين الهيئة العامة المشكلة من أعضاء لجنة المشروع ورؤساء مراكز البحوث المكلفة بالمتابعة والتمحيص وتلقى البحوث وموافاة اتحاد المجامع بها للتوحيد والتنسيق . وعلى مجمع اللغة القاهري إذًا أن يحشد خبراء وأعضاء لجان ألفاظ الحضارة ، والتاريخ والآثار ، والجغرافيا والأنثروبولوجيا ( علوم اجتماعية ) ، واللغة والأدب ( ألفاظ وأساليب ، لهجات ، إحياء تراث…) ـ على النحو الذي حشد به كل الطاقات من داخل المجمع وخارجه لتسريع إنجاز ( المعجم الكبير) ـ مع اعتماد الميزانية الكافية لمكافآت الخبراء والباحثين… ومطبوعات استمارات وجداول تفريغ بيانات ـ لينطلقوا راضين إلى ميادين العمل في صعيد مصر وجنوب الوادي وسيناء والساحل الشمالي ووسط الدلتا وشرقها والعاصمة القديمة .
4-كيف نجعله موحِّدًا لتنوعات لهجات أقطارنا :(169/21)
... في تعقيبي على بحث الأستاذ الدكتور عبد الكريم خليفة بجلسة مؤتمر المجمع 97ـ1998 عن مشروع معجم ألفاظ الحياة الاجتماعية الذي هو مدار حديثي في هذا المقال ، أخذني الحماس والانبهار إلى حيث الإشادة بالإعجاب والتقدير للاستفادة بأطروحة دكتوراه الأستاذة ندى عبد الرحمن يوسف الشايع بقسم اللغة العربية بالجامعة المستنصرية التي عنوانها "معجم ألفاظ الحياة الاجتماعية في دواوين شعراء المعلقات العشر " الذي نشرته مكتبة لبنان / بيروت 1991م ، فقد كان هذا البحث العلمي الرائد في موضوعه ومنهجه موفقا غاية التوفيق فيما نحن بصدده الآن من كافة الوجوه ـ إذ يُعنون للدراسة أولاً بعبارة " ألفاظ الحياة الاجتماعية " وقد رأينا استحسان الباحث والمعقبين على البحث لهذه التسمية للمعجم وتفضيلها على كلمتي" الحضارة الحديثة " " والحياة العامة " وثانيًا : هو يرصد ألفاظ الحياة الاجتماعية في دواوين شعراء المعلقات العرب: امرئ القيس ، زهير بن أبى سلمى ، طرفة بن العبد ، لبيد بن ربيعة ، عنترة العبسي ، الحارث بن حلزة، عمرو بن كلثوم ، الأعشى ، النابغة الذيبانى، عبيد بن الأبرص ـ إضافة إلى ما سبق لها من إعداد معجم مماثل لديوان عمرو بن قميئة ، واضعة بذلك اللبنة الأولى من المعجم التاريخي للغة العربية الذي نهفو إليه ، ثالثا : هو يحصى الألفاظ الدالة على الحياة الاجتماعية من ثنَايا تلك الدواوين فيحصرها في أحد عشر محورا دلاليا رئيسيا تتفرع عنها محاور أخرى دلالية صغرى على النحو التالي :
1- ما دل على القرابة.
2- ما دل على العلاقات الاجتماعية :
أ- روابط اجتماعية.
ب- أسماء جماعات الناس.
ج- البعد والفراق والهجر والوصال.
د- العهد والخلف والكفالة.
3- ما دل على الأخلاق والصفات .
4- ما دل على الحالة الاجتماعية.
ويشمل :
أ-الطبقات الاجتماعية.
ب - الحرف والمهن.
ج- الحالة الاجتماعية.
5- ما دل على المسكن والإقامة والارتحال، ويشمل :(169/22)
أ- ما دل على البيوت وما فيها وما حولها .
ب- ما دل على الحلول والارتحال .
6- ما دل على الطعام والشراب وأدواتهما، ويشمل:
أ- ما دل على الطعام .
ب- ما دل على الشراب .
ج- ما دل على أدوات الطعام .
د- ما دل على أدوات الشراب .
و- ما دل على الآبار والأحواض .
7- ما دل على اللباس وأدوات الزينة والعطور والفرش ـ ويشمل :
أ- ما دل على لباس الرأس .
ب- ما دل على الكسوة
ج- ما دل على لباس القدم .
د- ما دل على الحلى ومواد التجميل .
هـ-ما دل على العطور والرياحيين .
وـ ما دل على الفُرش .
8-ما دل على وسائل النقل ومعداتها
ـ ويشمل :
أ- ما دل على الإبل .
ب –ما دل على الجياد .
ج- ما دل على المراكب .
د- ما دل على السفن .
9- ما دل على الحرب وعدتها ويشمل:
أ- ما دل على الحرب والطعان والقتال.
ب- ما دل على الجند والسلاح .
ج- ما دل على الغنائم .
10- ما دل على الدين والعبادة .
11- ما دل على الطرب وأدواته .
... إن هذا التقسيم لمحاور دلالية رئيسية وفروع صغرى لكل منها رمزه الرقمي والأبجدي على الترتيب لهو المنهج العلمي الأمثل في تحليل جداول تفريغ معطيات البحث الموزع على الباحثين الميدانيين بطاقاتُها أو استماراتُها – وهو وإن كان لا يعطى إلا الصورة الأولية للحضارة العربية الجاهلية كما وردت في دواوين شعراء المعلقات ، فمن الممكن الاهتداء بها في تقسيمات محاور العربية الحديثة إلى محاور وفروع إضافية ، في وسائل النقل مثلا : السيارات والدراجات البخارية والطائرات … وفي الطرب وأدواته : الغناء والموسيقا والأوبرا والمسرح والسينما والتلفاز ، وسوف تساعد الحاسبات في سرعة ودقة تفريغ البيانات وتحليلها وإعطاء تكرار شيوع اللفظ في كل بيئة ومجال .(169/23)
ويبقى بعد ذلك التساؤل عن كيفية استطاعة معجم موحِّد لألفاظ الحياة الاجتماعية في ما لن يَقلَّ عن سبعة مراكز بحوث تنشئها المجامع العلمية لعشرين بلدا عربيا – مهما نُشدد التوصية على منهجية عدم تجاوز المدلول الواحد لفظتين في كل قطر– ثم بعد ذلك نفس الشيء بالنسبة للمشروع ككل بالهيئة العامة في اتحاد المجامع، والاختيار بمعيار الشيوع والفصاحة والسهولة والتراثية.. لقد استبقنا الإجابة على هذا التساؤل أيضا في معرض تعليقنا على البحث الرئيسي للمشروع في نفس الجلسة بأنه لا ضير على المجمع القُطري أن يلتزم بعدم تجاوز اللفظين لكل مدلول، أما في غربلة الألفاظ بحاسوب اتحاد المجامع فلا غنى عن أن يتحقق التوحيد في المصطلح العربي من خلال تنوعات الألفاظ التي حصرتها مراكز البحوث القطرية - وذلك بإيراد ما سجلته الخصوصية المحلية لكل قطر، مشفوعا برمز يشير للإقليم أو الجهة التي رصده فيها مركز البحث – على نحو ما انتهجه المكتب الدائم لتنسيق التعريب في الوطن العربي التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم فيما كان يصدره من معاجم علمية منذ أول السبعينيات،من الإشارة للمجمع أو المؤتمر أو الوزارة أو المكتب الذي قام بالتعريب … برمز يدل عليه: مثل مج ق = مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، و م = وزارة التربية والتعليم في مصر ، و ك = وزارة التعليم بالكويت ، مج ع = المجمع العلمي العراقي ، و سو = وزارة التربية والتعليم في سورية ، لأنه لا سبيل إلى استعمال رمز ا ج = إجماع المصادر كلها على قبول اللفظ المحلى – حتى في المصطلحات العلمية التي أصدرها المكتب ـ فمن باب أولى ـ تكون الإشارة لهذه التنوعات التي لا حصر لها بمختلف البلدان العربية اعترافا بعدم توحيدها لفرض الموحَّد منها باتحاد المجامع على أَلسِنة الذين لن يتقبلوها وإشعارا بثراء لهجات الأمة العربية التي(169/24)
أفصحوا بها على السليقة وبالفطرة السليمة عن حاجات حياتهم اليومية ، لكونها حية ومتطورة - وأولا وأخيرا وضع خريطة معجم جغرافي للهجات شعوب الأمة العربية في المكان يكمل ويفيد المعجم التاريخي في الزمان للعربية ـ لغة القرآن الكريم ، مصداقا لقوله تعالى "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " .
... ... كمال محمد دسوقى
... ... عضو المجمع(169/25)
أصول تصحيح القراءة عند مؤلفي كتب القراءات
وعلوم القرآن قبل القرن الرابع *
للأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح
إن النحو العربي نشأ - كما هو معروف - في الوقت الذي شرع فيه أبو الأسود الدؤلي أو أصحابه في استقراء النص القرآني ثم بعد ذلك بقليل في التتبع المنتظم للقراءات . ولذلك فكل من اشتغل بالنحو في الصدر الأول كان من القراء وذلك ابتداء من أبي الأسود وتلاميذه إلى غاية أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر الثقفي والخليل بن أحمد .فالعلاقة بين النحو وعلم القراءات قديمة جدا؛ إذ القراءات الصحيحة هي من المصادر التي كان يعتمد عليها النحوي مثل ما كان يدونه من كلام العرب(**) .
وليس من الغريب أن
يكون مؤلفو كتب القراءات في أقدم العصور كلهم من النحويين واللغويين وأن يكون من سموا "بأئمة الأمصار" من القراء هم أيضا أئمة في اللغة أو ممن كان عارفا بلغة العرب كأبي عمرو بن العلاء والكسائي وقبلهما ابن هرمز الأعرج وعاصم بن أبي النجود وابن كثير وابن أبي إسحاق وغيرهم . وليس من الغريب أيضا أن يكون هؤلاء هم الذين وضعوا الأصول التي اعتمد عليها العلماء لتصحيح القراءات.
... فغرضنا من هذا البحث هو النظر في هذا الذي وضعوه من المقاييس من حيث قيمته العلمية ونجاعته في التمييز بين الصحيح
وغيره من القراءات والنظر بالتالي في أهم المفاهيم التي بنيت عليها هذه الأصول وذلك مثل مفهوم "قراءة العامة " عند هؤلاء العلماء من القرن الثاني والثالث .(170/1)
أما النظر في المفاهيم فقد حاولنا، منذ زمان طويل، أن نتتبع الألفاظ الدالة عليها في جميع الكتب التي وصلت إلينا من تلك التي ذكرت بكثرة فيها(*) بل وفي جميع سياقات هذه الألفاظ التي وردت فيها . ولا يكفي – في نظرنا – أن يعتمد في ذلك على التحديدات وحدها . وذلك لأن المصطلح قد يكون غائبا في زمان معين في جميع المؤلفات التي يتعلق موضوعها به ولهذا دلالة وقد يستعمل في زمان آخر بمعني غير الذي تعورف عليه في زماننا هذا أو زمان آخر .
أما اختيارنا لهذه الفترة بالذات فلأن كل من جاء بعد ابن مجاهد من المؤلفين للكتب التي تطرقت إلى القراءات قد اتبعوا النهج الذي سار عليه ، جزئيا أو كليا . وهذا ترتب عليه تحول عميق للنهج القديم وطرأ تأويل جديد لأصول التصحيح . فأردنا أن نعرف بالضبط ما الذي امتاز به المتقدمون في فهمهم لهذه الأصول وكيف تم استعمالهم لها .
أ) الأصول الثلاثة:
يردد المتأخرون من علماء القراءات قول أبي عمرو الداني: "وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل . والرواية إذا ثبتت عندهم لم يردّها قياس عربية ولا فشو لغة لأن القراءة سنة متبعة
يلزم قبولها والمصير إليها"( من كتاب جامع البيان ، اللوحة190 وفي النشر، 10/1 ) .
هذا كلام سليم ومع ذلك ينقصه شيء مهم جدا وهو الإجابة عن هذا السؤال الذي يثيره هذا النص في النفوس وهو:إذا كانت القراءة لا تثبت بفشو لغة ولا قياس عربية ـ وهذا مسلم به ـ فلِمَ لمْ تخبرنا في كلامك هذا بالذات بماذا تثبت ؟ وما هي الأصول التي أجمع العلماء من السلف على العمل بها في ذلك؟ ثم إذا كانت القراءة سنة متَّبعة ـ وهذا لا يشك فيه أحد(*) ـ فهل تثبت مثلما تثبت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم؟(170/2)
إن الروايات والطرق إلى القرّاء السبعة التي جمعها الداني في هذا الكتاب ( أكثر من 500 ) وكل من سار على هذا النهج في كتب القراءات
تدل على أن أهم وسيلة لإثبات القراءة هو الإسناد الصحيح ومع هذا فإن الداني نفسه يقول في هذا الكتاب بالذات إن القراءة لا تنقل نقل الأحاديث ( اللوحة 9) . إذن فما هي معايير القراءة الصحيحة ؟
... وضع العلماء بالفعل أصولاً لمعرفة الصحيح الثابت من القراءات وقد اشتهر عن الإمام مكي بن أبي طالب أنه أول من جمع هذه الأصول وهي ثلاثة . ويذكر الكثير من المؤلفين المحدثين ( وبعض القدامى مثل أبي شامة) ، الإمام مكي بن أبي طالب كأقدم من ذكر بالنص الصريح الأصول الثلاثة . قال مكي في كتاب الإبانة: "وقسم يقرأ به اليوم وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال وهي : أن ينقل عن الثقات إلى النبي – صلى الله عليه وسلم-ويكون وجهه في العربية التي
نزل بها القرآن شائعا ويكون موافقا لخط المصحف"(ص 18 ).
... والحق أن هذه الأصول الثلاثة قد أشار إليها هكذا مجتمعة وبالنص الصريح أقدم العلماء فمنهم الفراء في كتاب " معاني القرآن " وهو معاصر لبعض قراء الأمصار . قال :" اتباع المصحف إذا وجدت له وجها من كلام العرب وقراءة القراء أحب إلي من خلافه " (293/2) . وفي زمانه أيضا أو بعده بقليل يصرح أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب القراءات " : " الاختيار عندي في هذا الباب كله الوقوف عليها بالهاء بالتعمد لأنها إن أدمجت في القراءة مع إثبات الهاء كان خروجا من كلام العرب وإن حذفت في الوصل كان خلاف الكتاب . فإذا صار قارئها إلى السكت عندها على ثبوت الهاءات اجتمعت له المعاني الثلاثة من أن يكون مصيبا في العربية وموافقا للخط وغير خارج من قراءة القراء "(170/3)
( ذكره ابن الأنباري في "الإيضاح" ، ص 311 ) . ونجد هذه المعاني الثلاثة مذكورة بعبارات مختلفة في أقدم ما وصل إلينا في علوم العربية وهو كتاب سيبويه، وسيبويه عاش في زمان الخليل، وعيسى بن عمر، والكسائي وقبل يعقوب وخلف . جاء في الكتاب:" إلا أن القراءة لا تخالف لأن القراءة سنة " (*) (74/1) . وكذلك («ما هذا بشراً» في لغة أهل الحجاز وبنو تميم يرفعونها إلا من درى كيف هي في المصحف »)(28/1) . أما موافقة القراءة لكلام العرب فسيبويه يذكر الكثير من التوجيهات التي وجه بها القراء النحويون وغيرهم لبعض القراءات من تلك التي جاءت على لغة من لغات العرب .
-1الأصل الأول:
قراءة القراء وأهميته القصوى ( مع الأصل الثاني : الموافقة للمصحف )
1) مصادر القراءة عند أبي عبيد القاسم بن سلام:
ليس من أثر يؤثر ، أيًّا كان محتواه ، إلا وله مصدر يجب التأكد من صحته علميا؛ وذلك بإسناده في أول الأمر إلى من رواه . وهذا ينطبق على الحديث النبوي وعلى القراءات على السواء . ولذلك يخضع العمل العلمي في تصحيح السند للأصول والمنهجية العلمية العظيمة التي وضعها علماء الحديث في أقدم العصور وعمل بها بعد تحسينها علماء القرن الثالث . وعلى الرغم من ذلك فإن للقراءة ، كما هو معروف ، خصوصية لا يوجد مثلها في الحديث. فإن الأثر في القراءة يراعى فيه الجانب اللفظي ويجب أن ينقل بهذا اللفظ أي كما سمع وإلا فليست قراءة بخلاف الحديث . ولذلك تشدّد العلماء في أقدم العصور في رواية القراءة فلم يكتفوا بالرواية البحتة بل التزموا
التلاوة والمشافهة سواء أكانت بالعرض أم بالسماع للفظ الذي ينطق به القارئ فقط أم مع العرض عليه .
... قال أبو عبيد القاسم بن سلام في «كتاب القراءات» في فصل سماه « هذه تسمية أهل القرآن من السلف على منازلهم» (*)(170/4)
" فمما نبدأ بذكره في كتابنا هذا سيد المرسلين وإمام المتقين محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أنزل عليه القرآن، ثم المهاجرون، والأنصار وغيرهم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حُفظ عنه منهم في القراءة شيء وإن كان ذلك حرفا واحدا فما فوقه " .
... ثم يذكر أبو عبيد أسماء المهاجرين والأنصار الذين حفظ عنهم في القراءة ولو حرفًا واحدًا . وهنا يجدر بنا أن نميز بين الصحابة الذين أثر عنهم الحرف أو الحرفان أو أكثر وبين الذين قرؤوا على النبي
- صلى الله عليه وسلم - القرآن كله - على حد تعبيرهم ـ أو جزءاً منه أو عرض عليهم بعض الصحابة والتابعين أيضاً القرآن كله . فكانوا بذلك المصدر الأساسي للقراءات التي اشتهرت فيما بعد؛ لأن هذه القراءات هي التي تناقلها العلماء .
... وذكر أبو عبيد أسماء أولئك الصحابة وهم من المهاجرين : " أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان،وعلي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة بن اليمان، وعبد الله ابن عباس،وعبد الله بن عمر،وعبد الله ابن عمرو، وعمرو بن العاص، وأبو هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن السائب، قارئ مكة " . ومن الأنصار رضي الله عنهم : أُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل،وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو مجمع بن جارية ، وأنس بن مالك. ثم ذكر أزواج النبي - صلى الله وعليه وسلم - اللاتي رويت عنهن حروف من القرآن : عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وأضاف الهذلي، أم حبيبة ( الكامل ، الورقة 139 ) .(170/5)
... ويذكر أبو عبيد بعد ذلك ، طبقة التابعين الذين رووا عن هؤلاء الصحابة، وههنا أيضا لا يكتفي بذكر المقرئين منهم بل جمع بين المقرئين وغيرهم معتدًّا فقط بما ينسب إليهم من حروف القرآن أيًّا كانت الطريقة التي تلقوا بها هذه الحروف، وكيفية نقلها إلى غيرهم. وهذا الجمع وإن كان له مبرر قوى، وهو أن تحقق المحافظة على كل ماروى حتى يمكن التصحيح والاختيار ، فإنه ربما أدى الكثير من المتأخرين والمحدثين إلى التسوية في الاستدلال أو الاحتجاج في شتى العلوم بين جميع ما يروى من القراءات .
... ويمكن أن نستخلص من القائمة التي ذكرها أبو عبيد ـ ومن الكتب التي ظهرت بعده ـ أسماء التابعين
الذين قرأ عليهم وهم الذين سموا بأئمة الأمصار . وهم من المدينة : سعيد بن المسيبب، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعطاء بن يسار، وزيد بن أسلم ، ومسلم بن جندب ، وزيد بن رومان، وصالح بن الخوات . ومن مكة: عبيد الله بن عمير، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس، وعكرمة مولي ابن عباس، ومجاهد بن جبر، ودرباس وغيرهم.ومن الكوفة: أصحاب عبد الله ابن مسعود،وأبو عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، والشعبي، والربيع ابن خثيم وغيرهم.ومن البصرة : أبو العالية الرياحي،وأبو رجاء العطاردي، ونصر بن عاصم، ويحي بن يعمر، والحسن البصري، وقتادة بن دعامة وغيرهم . ومن الشام : المغيرة بن أبى شهاب صاحب عثمان بن عفان .
والجدير بالذكر أن هذه القائمة لا تحتوى على كل التابعين الذين روى عنهم حرف من القرآن أو أكثر إلا أن أبا عبيد قد ذكر عددا من هؤلاء التابعين في كتابه بعد مقدمته عند تتبعه للحروف التي قرئت أو رويت من أول القرآن إلى آخره . وهكذا فعل أبو حاتم السجستاني في كتابه «الكبير في القراءات» إلا أنه ذكر عددا كبيرا من التابعين المعروفين وغيرهم ممن لا يعرف (1) .
(2 مقياس " من تقوم بهم الحجة" (2)(170/6)
قال أبو عبيد بعد ذلك : " ثم قام من بعدهم بالقرآن قوم ليست لهم أسنان من ذكرنا ولا قدمتهم غير أنهم تجردوا للقراءة واشتدت بها عنايتهم ولها طلبهم حتى صاروا بذلك أئمة يأخذها الناس عنهم … وهم خمسة عشر رجلاً من هذه الأمصار المسماة
في كل مصر منهم ثلاثة رجال " (1).
... يذكر أبو عبيد بعد ذلك أسماء هؤلاء الأئمة : من المدينة : أبو جعفر وشيبة، ونافع .ومن مكة: عبد الله بن كثير، وحميد بن قيس، ومحمد بن محيصن . ومن الكوفة : يحيى بن وثاب، وعاصم بن أبي النجود، والأعمش، وطلحة بن مصرف، وحمزة، وذكر أيضا الكسائي. ومن البصرة : عبد الله بن أبي إسحاق، وأبو عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، وعاصم الجحدري.ومن الشام: عبد الله بن أبي عامر، ويحيى بن الحارث الذمارى وثالث ذكر أنه نسى اسمه ( جمال القراء ، 431-429 ).
... فأكثر هؤلاء هم قراء : قراء من الصحابة، وقراء من التابعين(2) وقراء الأمصار الذين صاروا أئمة في هذا الشأن . فعبارة العلماء القدامى : " قراءة القراء " هي قراءة هؤلاء الذين ذكرهم مؤلفو كتب القراءات في نهاية القرن الثاني ومن أوائلهم أبو عبيد القاسم بن سلام (3) .
... هذا وأجمع العلماء منذ القرن الثاني على أن القراءة إذا لم يقرأ بها إمام من أئمة الأمصار فلا تصح كقراءة . أي العالم المتخصص في القراءات الخبير بها بحكم تلقيه إياها مشافهة من الصحابة أو التابعين القراء. ولهذا فكل قراءة لم ترو عن(170/7)
إمام (1) فلا أساس لها من الصحة كقراءة لأنه حتى ولو كانت صحيحة فليس ذلك مقطوعا به. وإلى ذلك يشير الزجاج في كتابه "معاني القرآن": " ولا تقرأن بها أن تثبت رواية صحيحة عن إمام في القراءة وقد روى أن إنسانا قرأ بها من المتقدمين ولكنه ليس ممن أخذت منه القراءة ولا له حرف يقرأ به " (97/5 ) . ويقول أيضا: " وكل ما جاز في العربية ولم يقرأ به قارئ فلا تقرأن به" (288/3 ). وقال أيضا: "وذكر أبو عبيد أنها تجوز في العربية " ( المعاني245/1 ). وعلى هذا فكل ما سمع من فصحاء العرب في ذلك الزمان ولم يقرأ به فيمكن أن يكون جائزا في العربية لكنه غير جائز في القراءة.وأكثر الفراء من ذكر القراءات التي تجوز في العربية ولم يقرأ بها
أحد. من ذلك قوله : " وقال لي هذا الشيخ : لو حفظت الأثر فيه لقرأت به" ( معاني القرآن 33/3 ( .
... وهذا شبيه بما يروى عن أبي عمرو بن العلاء بهذا الصدد : لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قد قرئ لقرأت حرف كذا كذا وحرف كذا كذا " ( كتاب السبعة ، 38 ). ويقول الأخفش نصبت العدّة على" فَلْيَصُمْ عِدة ( البقرة، 184) إلا أنه لم يقرأ " ( 158/1) .
( 3 مميزات أيمة الأمصار : أهمها أن نقلهم هو نقل بطريق العرض والسماع
... هذا ويمكن أن نتساءل عن أبي عبيد هل ذكر في مقدمة كتابه كل الأئمة (2) المعتمدين؟ فالإجابة عن ذلك تنحصر في قائمة الذين ذكرهم مؤلفو الكتب التي عنيت بالقراءات قبل القرن(170/8)
الرابع (1) ممن كان ينتمي إلى القراء الذين " بهم تقوم الحجة " على حد تعبيرهم . فقد ذكر أبو عبيد في كتابه عددا كبيرا جدا من الروايات بإسنادها مرفوعة إلى الصحابة والتابعين وإلى أولئك الأئمة الذين ذكرهم في مقدمته أنفسهم (2) . فهذه روايات رويت مثل الحديث ويجب أن لا نخلط بين ما روى بهذه الطرق مثل الحديث وبين ما وصل إلى الناس بطريق الإقراء كما سنراه قريبا . والتمييز بين هذه الطرق يسير بالنسبة إلى كتب القراءات التي ألفت قبل القرن الرابع . فكثيرا ما يشير مؤلفو هذه الكتب إلى القراءات المنقولة بطريق السماع والعرض باستعمالهم لمصطلح : «أهل مكة» أو «أهل المدينة» أو «البصرة» أو «الكوفة» أو «الشام» ويذكرون على الفور من خالف قراءة غيره من نفس البلد أو بلد آخر . فهؤلاء الذين تأتي أسماؤهم في هذا السياق هم عندهم أئمة الأمصار وما روى عنهم أكثر أصحابهم تم بطريق الإقراء . وهذا لا يمنع من أن تذكر أسماء التابعين والصحابة الذين رويت قراءتهم مع قراءات الأئمة ( وقد تروى روايات بهذه الطريق عن الأئمة أنفسهم كما قلنا ) .
... وبذلك أيضا نعرف أن الحسن البصري معدود في " أئمة الأمصار " ـ أئمة البصرة خاصة وإن لم يذكره أبو عبيد في قائمة مقدمته . قال النحاس في " إعراب القرآن " : هذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة إلا الحسن فإنه قرأ هو والكوفيون : ( " نَزَّلَ بِهِ الرُوحَ الأَمِينَ " الشعراء 193 ) (191/3 ) . وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى عبد الرحمن بن هرمز الأعرج. قال النحاس: " قرأ أبو عمرو وعبد الله بن أبي إسحاق وعبد الرحمن
الأعرج وهو أحد أستاذي نافع:( " يَوْمُ
لا تملك ". الانفطار 19 ) بالرفع " ( 170/5) . إلا أن الأعرج هذا لم يذكره أبو عبيد في قائمة الأئمة بل ذكره ضمن التابعين القراء من المدينة.(170/9)
... وأصح قول في صفة الإمامة هو ما أشار إليه أبو عبيد ومن جاء بعده ( إلى غاية الطبري ) من أنهم: "صاروا بذلك (أي بالعمل العلمي الذي قاموا به) يأخذها الناس عنهم ويقتدون بهم فيها " جمال القراء ، 428). أي يأخذ هذا الكثير من العلماء عنهم جيلا بعد جيل . فكثرة من أخذ عنهم سماعا وتلاوة من العلماء المعروفين لا الرواة المجهولين هي في الحقيقة الميزة الأساسية للإمامة في القراءة . فهذا هو الذي يسميه الطبري " بنقل وراثة " (1) وأخذ منه ابن خالويه هذه العبارة العميقة الدلالة فقد قال في كتاب القراءات : " ففي ذلك ما ورد علينا من القراءة على لفظتين فصاعدا غير مخالف للمصحف والإعراب وتوارثته الأئمة غير متضاد في المعني "(25/1) .
... وهذا يذكرنا بما يقول الأندرابي صاحب " الإيضاح في القراءات العشرة " : " ومنهم ( أصحاب ابن كثير ) من قرأ عليه ومنهم من سأله عن الحروف ومنهم من سمعه يقرأ بالناس في رمضان" ( " قراءات القراء المعروفين"،71 ) . فالنقل بالطريقة الأولى حجة (مع شروط أخرى) . وقد رويت المئات من القراءات بالطرق الأخرى عن الصحابة والتابعين والأئمة أنفسهم بل وعن النبي - صلى الله عليه وسلم –(2) والكتب التي عنيت بالقراءات قبل القرن الرابع(170/10)
مفعمة بهذه الروايات زيادة على قراءات الأئمة وقد تروى القراءة التي قرأها أكثر من إمام بطريق غير طريق الإقراء مع وجودها فيما نقله العلماء بالإقراء . وقد يذكر العلماء الظرف الذي قرئت فيه القراءة وذلك مثل ما حكى الفراء عن أبي إسحاق ( السبيعي ) أنه قال:"كنت أصلي خلف أصحاب على وأصحاب عبد الله فأسمعهم يقرؤون… "(119/3) . وعن أبي قتادة عن أبيه قال:" سمعت الحسن ابن علي بن أبي طالب على المنبر يقول : " ذق أنك " ( الدخان ،49 ) بفتح الألف"( 43/3 ) . وكما حكى ابن أبي داود في كتاب المصاحف: " … عن الأسود وعلقمة أنهما صليا خلف عمر فقرأ بهذا " (وغير الضالين) " (51) . وكثيرا ما تذكر هذه الروايات
إذا خالفت القراءة المنقولة بالإقراء ولا سيما إذا اجتمع عليها الأئمة وذلك ليبينوا شذوذها ويحاولون دائما أن يبينوا مع ذلك ضعف الرواية بتضعيف الإسناد (1) . وقد يلجؤون إلى هذه الروايات إذا صح سندها لاختيار قراءة فتكون حينئذٍ عندهم حجة(2) .
وعلى هذا فإن الذي نقل من القراءات إنما نقل بقناتين اثنتين :
(1) قناة النقل بالعرض والسماع بالاعتماد على من قام بذلك من الأئمة(3) .
(2) قناة النقل بالرواية المحضة وهو ما يسميه الداني"بالقراءات المنقولة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقل الأحاديث التي لا يجوز إثبات قرآن بها")"جامع البيان، اللوحة9 ")(4).(170/11)
وعلى هذا الأساس فلا يمكن عند أولئك العلماء الاعتداد بالعدد الكبير من الروايات لنفس القراءة إذا كانت رواية محضة فقط أي إذا لم يقرأ بها الأئمة ولم تنقل بالإقراء . وهذا بقطع النظر عن الضعف الذي يمكن أن يتصف به سندها(1) . فقد يذكر العلماء للقراءة أكثر من12 رجلا كمصدر لها ( وقد يكون منهم من الصحابة والتابعين وحتى الأئمة(2) ) وهي غير مقبولة عندهم لأنها لم تنقل بالإقراء . ويدخل في هذا الجنس جميع ما روى مما يخالف المصحف إذ لم يقرأ به أحد من أئمة الأمصار ( وما نقل عنهم من ذلك فبالرواية فقط لا بالإقراء ). أما ما خالف العربية فهو جنس آخر غير هذا وسنتناوله فيما بعد .
... والخلاصة يمكن أن نقول بأن كل ما روى عن الصحابة وغيرهم
برواية مجردة كمثل ما سمع من الصحابي وهو يصلى أو يخطب فلن يصير ذلك عند العلماء المتقدمين مصدرا للقراءة الصحيحة إلا إذا وافقت إحدى القراءات الواردة بطريق الإقراء أي بالسماع والعرض وتكون عندئذ تأكيداً لتلك القراءة وحجة لاختيارها من بين القراءات الصحيحة الأخرى الواردة هي أيضا بالطريقة نفسها (3) .
(4 المقياس الأخطر في إطار قراءة القراء : وهو مقياس قراءة العامة أو قراءة الجماعة أو الناس
إن مقياس قراءة العامة أو القراءة المجتمع عليها هو أهم مقياس لجأ إليه العلماء المتقدمون لتصحيح القراءة بعد المقياس السابق الذي هو نسبة القراءة إلى أئمة الأمصار ( المقرئين ).(170/12)
ويمكن أن نقول على الأرجح أنهما في نفس المستوى من الخطورة عند القدامى؛ لأن القراءة إذا نقلت عن إمام واحد أو أكثر من واحد ولم تكن معروفة ولم تشتهر ( نقلها رجل واحد من أصحاب الإمام مثلا ) فإن العلماء المتقدمين لا يرتاحون لها ويختارون حينئذ قراءة أكثر القراء وما يسمونه بقراءة العامة أو قراءة الناس أو الجماعة (*) أو ما انعقد عليها إجماع القراء.وهى بالضرورة القراءة الفاشية. ففشوّ القراءة بهذا المعنى ( أي بالنسبة إلى مجموع القراء المعروفين وهم أئمة الأمصار فقط المتجاوزين عدد السبعة فلا تخص مصرا واحدا ) هو أصل الأصول في هذا الميدان قبل القرن الرابع . وهاهي ذي بعض ما جاء في كتبهم بهذا الصدد:قال الأخفش (سعيد بن مسعدة) في "معاني القرآن":
" وهي قراءة العامة وبها نقرأ لأن الكتاب عليها " (71) .
"والرفع قراءة العامة وبه نقرأ "(183) .
" وإنّما نقرأ " لا يُطْعَمُ " لاجتماع الناس عليها (270 ) ( الناس هم العامة أي كل الذين ذكرهم أبو عبيد أو أكثرهم ) ونقرؤها " طائف " لأن عامة القراء عليها" (316 ).
" وهذا أجود في العربية وأكثر في القراءة وبه نقرأ" (346 ).
" فهو يجوز فيه الرفع وهي اللغة الكثيرة غير أن الجماعة اجتمعوا على النصب وربما اجتمعوا على الشيء كذلك مما يجوز والأصل غيره" (79).
... وأخذ الأخفش هذه الملاحظة الأخيرة – وهي خطيرة جدا – من كلام شيخه سيبويه:" فأما قوله عز وجل" : " إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بقَدَر " ( القمر،49 ) … هو عربي كثير. وقد قرأ بعضهم :" وأَمَّا ثَمُودَ فهدَيْناهُم" ( فصلت،17 ) إلا أن القراءة لا تخالف لأن القراءة سنة" ( 74/1 ). وأخذ خاصة من هذا الكلام الآخر:" وقد قرأ
ناس (1) : والسارقَ والسارقةَ ( المائدة 38 )… وهو في العربية على ما ذكرت من القوة . ولكن أبت العامة (2) إلا القراءة بالرفع" (72/1 ).(170/13)
... ففي أقدم الأزمنة، كما رأيناه، أي في زمان أئمة الأمصار أنفسهم، يعتبر أولئك الأئمة والعلماء أن القراءة التي لا تخالف هي قراءة أكثر القراء فقراءة عيسى بن عمر منفردة بهذا الاعتبار وإن كانت العربية تجيز ما قرأ به وهو أفشى لغات العرب(3) إلا أن الواجب هو اتباع القراءة الفاشية عند الأئمة لا التي توافق أفشى اللغات ( هذا عند سيبويه ومن تبعه ).
... أما الفراء فلا تخلو صفحة من كتابه في " معاني القرآن "، أو يكاد،
من عبارة"العامة" وما يرادفها: فإنه وإن كان يصوّب الكثير مما قرأ به قارئ واحد أو اثنان ما دامت العربية تجيز ذلك إلا أنه يختار دائما ما اجتمع عليه القراء:
-"وقراءة العامة بالياء وقد قرأ الحسن فيما ذكر لي … " (36/2 ).
-"عامة القراء مجمعون على أن قطران حرف واحد" (79/2 ).
-"أكثر القراء على كسر الشين" وقد قرأ بعضهم" (97 ).
-"وأكثر القراء على ( يدافع ) وبه أقرأ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي … وكل صواب" (227 ).
-"أكثر القراء على نص الهدى والرحمة على القطع" (326 ).
- "اجتمع القراء على تخفيف النون من ( ذانك ) … " (307 ).
- "الحيّ القيوم " قراءة العامة " وقرأها عمر بن الخطاب وابن مسعود " القيام" (190/1 ).
-"والاجتماع من قراءة القراء أحب إليّ (143/3 ).
... ويكثر الفراء أيضا من استعمال عبارة " العوام " بمعنى جماعات القراء : " قراءة العوام : أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة .."(288/3) ( انظر أيضا 107/2 و 207/2 و 410 - 294 - 254 و 25/3 - 87 - 36 - 26 و 288– 227– 225وغير ذلك). كما يستعمل أيضا عبارة:" قرأها الناس"وهو يريد أكثر القراء ( وغير ذلك ). (105-71/3,339/1).
... ويجب أن ننتبه إلى شيء مهم: لا يريد الفراء وجميع مؤلفي كتب القراءات المتقدمين من عبارات:العامة والناس والجماعة إلا ما يعنون من عبارة أكثر القراء(170/14)
( من الأئمة فقط ) لا كل القراء ( إلا قليلا ) وحتى عند قوله: " اجتمع القراء " لأنه يذكر غالبا في هذا السياق القراءة المخالفة لها وينسبها إلى شخص واحد أو اثنين(1) ولا يهتم أن يكون أحد السبعة ( إذ كتاب الفراء ظهر إلى الوجود في نهاية القرن الثاني أي قبل كتاب القراءات لأبي عبيد ) . قال الفراء : " قرأها يحيي بن وثاب بالياء وقرأها الناس بعدُ بالتاء (لا تخفى) وكل صواب" (181/3) . و" قرأ العوام " أثارة " ( الأحقاف 4, وقرأها بعضهم ـ قرأ أبو عبد الرحمن السلمي فيما أعلم ـ " أثرة " (50/3) و"… عن يحيي .. أنه قرأ " سُلُفا " ( الزخرف ،56 )… والعوام بعد يقرؤون " سَلَفًا " (2) . ولا يريد الفراء في كل هذه الأمثلة تضعيف القراءة التي تخالف العوام بل قد يصوبها إذا كانت لغة معروفة . أما
في غير هذه الحالة وخاصة إذا لم يجد لها وجهًا في العربية فإنه لا يجد أي حرج في تضعيفها مثل كل العلماء المتقدمين سواء أكانوا من النحاة أم من الفقهاء أم المفسرين أم غيرهم .
... ويستعمل قطرب في كتابه " معاني القرآن" هذه العبارات أيضا : " قراءة الناس " كلهم " جُدَد " وقراءة الزهري : جُدَد ( نقله ابن جني في " المحتسب " ، 200/2 ) ).
... ويأتي بعدهم أبو عبيد ، وأبو حاتم، ومحمد بن سعدان، والقاضي إسماعيل، وأبو جعفر الطبري، والزجاج والنحاس، فيجمع كل هؤلاء على أنَّ ما عليه أكثر القراء ( من الأمصار المعروفين ) هو أصح ما قرئ به وأفضل .
... أما أبو عبيد وأبو حاتم فما نقل عنهما ( وهو كثير جدا ) فإنه يدل على أنهما حذيا حذو من سبقهما في الاعتماد على مقياس اجتماع القراء
وتضعيف ما خالف قراءتهم إذا خالف العربية وقد بالغا أحيانا في رد بعض القراءات كما سنراه .
... أما الزجاج وتلميذه أبو جعفر النحاس فقد حررا فيما كتباه عن القراءات الأصول التي اعتمد عليها المتقدمون كما فهموها لا كما فهمها المتأخرون وذلك بكيفية حاسمة .(170/15)
... يقول الزجاج : " لأن القراءة سنة فالأولى الاتباع وأولى الاتباع الأكثر " ( معاني القرآن ، (321/2. "والأجود اتباع القراء ولزوم الرواية فإن القراءة سنة وكلما كثرت الرواية في الحرف وكثرت به القراءة فهو المتبع …وكل ما قلت فيه الرواية وضعف عند أهل العربية فهو داخل في الشذوذ ولا ينبغي أن يقرأ به " (288/3) . فهذا هو معنى الشاذ عند جميع العلماء المتقدمين .
... " ولا يقرأ القرآن إلا كما قرأت القراء المجمع عليهم في الأخذ عنهم "
(151/1) . " والذي ينبغي أن يقرأ ما عليه المصحف وهو" القيوم " بالواو .. لأن المصحف مجمع عليه ولا يعارض الاجتماع برواية لا يعلم كيف صحتها" (*) (374/5) .
... "وبعد فالذين قرؤوا بالرفع هم قراء الأمصار وهم الأكثر والحسن قد قرأ … " (68-67/3) . " وهذه القراءة ليست بشيء لأنها خلاف ما عليه أهل الأمصار من أهل القراءات" (165/3) .
... "وليس يعارض الإجماع وما أتى كتاب الله - تعالى - ووجد في جميع ديوان العرب بقول قائل " أنشدني بعضهم " (394/1) .
... "ولا ينبغي أن يقرأ بما يجوز إلا أن تثبت به قراءة صحيحة ويقرأ به كثير من القراء " (51/1) .
ويقول النحاس في " إعراب القرآن " : "فقراءة الجماعة الذين بهم تقوم الحجة حتى مطلَع " ( القدر،5 ) (270/5) .
... " وهي القراءة التي قامت الحجة بها من جهة الإجماع"(244/5) .
... " هذه القراءة التي عليها جماعة الحجة وما يروى من غيرها يقع فيه الاضطراب وكذا أكثر القراءات الخارجة وإن وقعت في الأسانيد الصحاح " … (14/5) .
... " وهذا أيضا يُكره أن تعارض به قراءة الجماعة بما لم يقرأ به وبحديث إن صح لم تكن فيه حجة " (63/5) . " لأن كتاب الله لا يحمل على المقاييس وإنما يحمل على ما تؤدّيه الجماعة " (365/4) .
"هذه القراءة شاذة والعامة على خلافها وقل ما يخرج شيء عن قراءة العامة إلا كان فيه مطعن " (348/2) .(170/16)
" والديانة تحظر الطعن على القراءة التي قرأ بها الجماعة " (231/5) .
... أما أبو جعفر الطبرى صاحب التفسير فهو أشد العلماء تمسكا بقراءة
العامة إلا أنه تجاوز هذا الأصل حيث رفض ، كما سنراه ، قراءة الواحد ، أو أكثر، الموافقة للعربية والمصحف.
... يقول الطبرى :
" لإجماع الحجة من القراء على قراءة ذلك كذلك … وما انفرد به من كان جائزا عليه السهو والخطأ "(129/2) .
"والصواب…ما عليه قراء الأمصار… لإجماع الحجة من القراء على صحة ذلك وما اجتمعت عليه حجة وما انفرد به المنفرد عنها فرأي ولا يعترض بالرأي على الحجة " (283/3).
... " إنما هو خبر رواه حجاج عن هارون لا يجوز أن [ يكون ] ذلك في قراءة عبد الله كذلك … لا يجوز تركه لتأويل قراءة أضيفت إلى بعض الصحابة بنقل من يجوز في نقله الخطأ والسهو " (329/3) .
... أما من حيث ما يوجبه العلم والبحث العلمي فمقياس الأكثرية في إطار معين هو أوفق مقياس وأنسبه
بالموضوعية . وهذا قد كان يشعر بأهميته علماء المسلمين أكثر من غيرهم في أي حضارة كانت قديما وحديثا . قال القرطبي : " وقد زعم من طعن على القرآن فقال: " أخالف المصحف كما خالف أبو بكر الصديق فقرأ : " وجاء سكرة الحق بالموت " " وجاءت سكرة الموت بالحق . ق ، 19 ". فاحتج عليه بأنَّ أبا بكر رويت عنه روايتان : إحداهما موافقة للمصحف فعليها العمل والأخرى مرفوضة تجرى مجرى النسيان منه إن كان قالها أو الغلط من بعض من نقل الحديث "(12/17) .
... فأما ما اختلف فيه القراء وكثر من قرأ بقراءة على مثل من قرأ بقراءة أخرى فقد اعتبره أكثر المتقدمين أنه صحيح خصوصا إذا كانتا لغتين معروفتين. قال أبو جعفر الطبري: "واختلف القراء في قراءة الحج فقرأ ذلك جماعة من قراء أهل(170/17)
المدينة والعراق بالكسر { ولله على الناس حِج البيت } وقرأ جماعة أخرى منهم [بالفتح] … وهما لغتان معروفتان للعرب … " (18/4). ويصفهما بأنهما: "مستفيضتان " في قراءة أهل الإسلام … وقد جاءتا مجيء الحجة"(19/4).(1) فهذا " المستفيض " أي الفاشي هو مثل المجمع عليه في الصحة.ولا سيما إذا اجتمع أهل بلدين أو أكثر أو قراء مشهورون . وسنرى فيما يلي ما قاله النحاس عن القراءة التي يجتمع عليها أهل الحرمين ومعهم عاصم (384/2)(2). وقال في مكان آخر : "فالقراءتان صحيحتان قد رواهما الجماعة (163/5) وقال : " فالقراءتان جميعا نقلهما الجماعة عن الجماعة " (239/5) . فالعبرة عند النحاس هي
بكثرة من قرأها من كبار القراء مع كثرة من نقلها عنهم (3) . وللطبري نفس التصور إذ قد يصف بالاستفاضة أيضا النقل للقراءة ( تفسيره ، (478,78/1 (4)
ولابد أيضا من الإشارة هنا إلى أصل هام لجأ إليه أيضا أكثر المتقدمين ولا سيما الطبري والنحاس وإن لم يخص لفظ القراءة وهو : ألا تناقض القراءة المعنى الذي تقتضيه قراءة العامة وإجماع المفسرين .
-5الرد على من تجاوز الأصول ولا سيما مقياس قراءة العامة وأساء تطبيقه
... إن أول من رد على تجاوز الحد في تطبيقه لمقياس قراءة العامة وغيره من الأصول التابعة له هو الزجاج ثم تلميذه النحاس كما أشرنا
إلى ذلك . يقول الزجاج :
" رأيت مذهب المازنى وغيره رد هذه القراءة ( أتحاجونا.البقرة، (139 وكذلك ردوا ( فبم تبشرون. الحجر، (54. قال أبو إسحاق": والإقدام على رد هذه القراءة غلط لأن نافعا -رحمه الله - قرأ بها وأخبر إسماعيل بن إسحاق القاضي أن نافعا - رحمه الله -لم يقرأ بحرف إلا وأقل ما قرأ به اثنان من قراء المدينة وله وجه في العربية فلا ينبغي أن يرد (4746/5) (*)
... وقال النحاس بدوره :
"وفي هذا طعن على جماعة من القراء تقوم بقراءتهم الحجة: منهم الحسن وشريح، وأبو جعفر، والأعرج، وشيبة ونافع ، وأبو عمرو ، وابن كثير(170/18)
والعاصمان. والقول في هذا أنهما قراءتان مستفيضتان قد قرأ بهما الجماعة" (296/4) .
... " وردّ [ أبو عبيد ] قراءة أهل الحرمين وعاصم وحمزة لأنهما على فَعَل / يَفْعَل وكذا أنكر قَنَط / يقْنِط ولو كان الأمر كما قال لكانت القراءتان لحنا وهذا شيء لا يعلم أنه يوجد أن يجتمع أهل الحرمين على شيء ثم يكون لحنًا ولاسيما ومعهم عاصم مع جلالته ومحله وعلمه وموضعه من اللغة …." (384/2).
ونضيف إلى ذلك بعض ما تجاوز فيه الطبري لما رسمه المتقدمون من أنه إذا اختلف القراء (المعروفون المشهورون) اختلافا واسعا فينظر في(170/19)
تحقيق التراث اللغوي ونشره
في المملكة العربية السعودية
( مرحلة الريادة ) *
للأستاذ الدكتور أحمد بن محمد الضبيب
لا يفوت الدارس لحركة التأليف في الجزيرة العربية قبل قيام المملكة العربية السعودية أن يلحظ أن حقل النحو على الخصوص كان من الحقول الحية في حلقات العلماء ، وذلك لإدراكهم أهمية علم العربية بوصفه الأداة التي لا غنى عنها لفهم العلوم ، أو التعبير عنها . ولقد انصرفت الجهود في سبيل ذلك إلى العناية بتأليف المتون الصغيرة ، وشرح المتون المعروفة "كالآجرُّومية"، و"الألفية" ، ووضع الحواشي على هذه المتون وعلى شروحها ، والعناية بالتقريرات على تلك الحواشي .
... ولعل من أبرز المؤلفين في هذا المجال أحمد زيني دحلان الذي نجد له
شرحًا على ألفية ابن مالك بعنوان : "الأزهار الزينية في شرح متن الألفية" طبعه في بولاق سنة 1294هـ ، ثم في مكة المكرمة سنة 1305 هـ ، وله شرح على " الآجرومية" طبع أول مرة في المطبعة الشرقية بالقاهرة سنة 1297 هـ وبهامشه متن الآجرومية ، كما أن له رسالة في " المبنيات " ورسالة متعلقة بمسألة " جاء زيد " طبعتا كلتاهما بالمطبعة الشرقية في القاهرة سنة 1298 هـ ، ونجدهما أيضًا ضمن المطبوعات التي ضمتها قائمة المطبعة الماجدية في مكة.
... وتعد " الآجرُّومية " أهم متن حظي بعناية علماء تلك الفترة ، فقد(171/1)
تناولوه بالشرح والتحشية، والتقرير، والنظم، والإعراب . فإلى جانب شرح أحمد زيني دحلان الذي ألّفه سنة 1291هـ وطبع بالمطبعة الشرقية في القاهرة سنة 1297 هـ ، والحاشية التي وضعها عليه محمد معصوم بن سالم السماراني السفاطوني وأنهى تأليفها بعد العشاء " لتسع بقين من شهر جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثمئة بعد الألف " ، نجد كتابين لمحمد بن عمر النووي الجاوي البنتني ( ت1316 هـ) أحدهما بعنوان: "فتح غافر الخطية على الكواكب من نظم الآجرُّومية"، وقد صدر في بولاق سنة 1298هـ وهو حاشية على "الكواكب الجلية" لعبد السلام النبراوي، وقد طبع المتن على هامش هذه الحاشية ، والآخر كتاب بعنوان:"كشف المروطية عن ستور الآجرومية"،طبع في القاهرة بالمطبعة الشرقية سنة 1298 هـ .
وقد تصدى الشيخ عبد الله بن عثمان العجمي ـ أحد كبار علماء مكة – لإعراب ألفاظ الآجرُّومية في رسالة سماها: " الخريدة البهية في إعراب ألفاظ الآجرُّومية " طبعت في المطبعة الأميرية بمكة سنة 1313 هـ .
... غير أن العناية بالآجرومية تعدَّت ما ألفه علماء ذلك العصر إلى بعض ما ألفه السلف حول هذا المتن النحوي ، ومن ذلك الكتاب الذي نشره الشيخ عبد الله الباز –أحد تجار الكتب في مكة – وطبع بمطبعة بولاق في مصر سنة 1285 هـ باسم : "شرح الفواكه الجنية على متممة الآجرُّومية للشيخ أحمد الفاكهي ( ت 972هـ ) " وبهامشه متن ذلك الشرح وهو"متممة الآجرومية في علم العربية" للعلامة شمس الدين محمد بن الشيخ محمد الرعيني المشهور بالحطّاب المكي ( ت 954هـ ) ، وكذلك " شرح الآجرومية " لعبد الملك ملا عصام الأسفراييني ( ت 1037 هـ ) الذي صدر في مكة سنة 1329 هـ .(171/2)
... وإذا تركنا الآجرومية والأعمال التي تناولتها لانعدم مؤلفات أخرى تعلقت بشرح متون أخرى ، أو أُلِّفَتْ في مسائل النحو بعامة ، أو اقتصرت على مسائل بعينها . وقد مر بنا أن لأحمد زيني دحلان شرحًا لألفية ابن مالك طبع في بولاق ومكة ، كما نجد تقريرات لمحمد حسين المالكي (ت1368هـ) على "حاشية الخضري على ابن عقيل"( 1)، وتقريرات له على " همع الهوامع " ( 2) ، ويذكر له كتاب بعنوان: " فرائد النحو الوسيمة شرح الدرة اليتيمة " طبع في القاهرة سنة 1346هـ( 3)، ومنها كتاب أحمد بن محمد الفطاني بعنوان:" تسهيل الأماني في شرح عوامل الجرجاني"، وقد طبع في القاهرة بمطبعة محمد أفندي مصطفى سنة 1301 هـ وأعيد طبعه في القاهرة بالمطبعة الميمنية سنة 1319 هـ، وقد ذكره بيان الماجدية .
ومن كتب الشروح أيضا كتاب سليمان ابن أحمد الفقيه بعنوان :" المنحة الوهبية على الرسالة الشبراوية " ، شرح به منظومة عبد الله الشبراوي وطبع في مكة بالمطبعة الأميرية سنة 1304 هـ .
... ومن المؤلفات العامة في النحو كتاب محمد أسعد بن جنيد الجاوي بعنوان: " النبذة السنية في القواعد النحوية " ، وقد طبع في مكة بالمطبعة الأميرية سنة 1313 هـ .
... ونشر لأحد علماء مكة المكرمة ( لم يذكر اسمه ) كتاب بعنوان : "نزهة الطلاب في الكشف عن قواعد الإعراب " ، وذلك في القاهرة بالمطبعة الحسينية سنة 1332 هـ .
... أما المسائل المفردة في النحو فقد مر بنا رسالتا أحمد زيني دحلان التي تناولت إحداهما موضوع المبنيات
والأخرى مسألة جاء زيد ، ونضيف إلى ذلك رسالة أحمد بن إسماعيل اليرزنجي المدني ( ت 1337هـ) بعنوان " إصابة الدواهي في إعراب إلاَّ هي " ( 1) .(171/3)
... غير أن أهم كتاب تراثي نحوي صدر في مكة المكرمة قبل العهد السعودي وطبع بالمطبعة الأميرية هو كتاب"تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد" لجمال الدين ابن مالك ( ت 673هـ ) الذي طبع أول مرة في مكة سنة 1319هـ ، وعلى هامشه فوائد منتخبة من شرحه لابن مالك وللدماميني ( 2) .
... واستمرت العناية بالمتون بعد توحيد الجزيرة على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ، فالآجرومية تطبع في مصر في
المطبعة السلفية ضمن مجموع على نفقة عبد الرحمن بن سعد بن سعيد الذي وصف في صفحة العنوان بأنه " نائب جلالة الملك ابن السعود في ينبع الحجاز " وذلك سنة 1345 هـ ، كما نجدها تطبع مع حاشية عليها علقها عبد الرحمن محمد بن قاسم وذلك في المطبعة العربية بمكة المكرمة سنة 1358هـ .
... أما أول عمل لغوي تراثي كبير يصدر بعد قيام المملكة العربية السعودية فهو بلا شك كتاب " تهذيب الصحاح " للزنجاني الذي حققه أحمد عبد الغفور عطار ( ت 1411 هـ / 1991م ) بالاشتراك مع عبد السلام محمد هارون ونُشر سنة 1372هـ / 1952م ، وبذلك يكون العطار أول من دخل غمار التحقيق اللغوي
الحديث من أبناء هذه البلاد .
... أخرج العطار وزميله عبد السلام محمد هارون نسخة جيدة مضبوطة من " تهذيب الصحاح " للزنجاني عن نسخة خطية فريدة تحتفظ بها مكتبة محمد سرور الصبان كتبت بخط يشبه خط القرن التاسع الهجري، وضم الكتاب ثلاث مقدمات:أولها – للناشر محمد سرور الصبان الذي يُعد أحد طلائع الأدباء والمفكرين في المملكة، تحدث فيها حديثًا يبين اهتمامات جيله باللغة العربية ، ومحاولة إصلاحها، وتسهيل قواعدها ، وقد تجلى ذلك في طلبه من زملائه المثقفين في الحجاز أن يُدلي كل منهم برأيه مكتوبًا حول هذا الموضوع ، ثم جمع إجابات هؤلاء المثقفين في كتاب سماه " المعرض " وصدر مطبوعاً قبل 28 عامًا من صدور كتاب " تهذيب الصحاح " للزنجاني .(171/4)
... وطالب بإنشاء مجامع لغوية في كل قطر عربي تكون مهمتها" تسهيل قواعد اللغة العربية وحذف الفضول من كتب النحو والصرف، مما يعقد على الطالب وغير الطالب ـ من غير الراسخين في العربية – لغته التي يعبر بها عن تجاربه الشعورية، وخواطره وأحلامه ، وأن تؤلَّف كتب في النحو للطلبة، ومرجع كبير للعلماء يتفق عليه من قبل المجامع اللغوية والعلمية ، ويتقيدون بما يؤلَّف في هذا الباب ، ولا يخرجون عنه ، ويعملون على نشره في كل بلد عربي" (1) .
... إن نظرة محمد سرور الصبان في هذه المقدمة هي النظرة العروبية الشاملة التي تتطلع إلى تحقيق الوحدة العربية ، وقد رأى أن يسبق ذلك كله توحيد طرق تعليم اللغة والحفاظ عليها أولاً في أقطار الأمة العربية ، ويتبعها بعد ذلك توحيد برامج التعليم الأخرى ( 2) .
... ثم دعا بعد ذلك إلى نشر كتب التراث ، وبعث المخطوطات النادرة التي تزدحم بها المكتبات بعثًا علميًا صحيحًا ( 3)، وأشار إلى أنه كان ينوي إعداد هذا المخطوط للنشر لولا ما شغله من أعمال ، فوكل أمر تحقيقه ونشره إلى الأستاذ المحقق أحمد بن عبد الغفور عطار " الذي رأى أن هذا العمل لا يبلغ كماله المنشود إلا إذا ظفر بعناية العلامة الجليل الأستاذ المحقق عبد السلام هارون" ( 4).
... وتبعت مقدمة الصبان مقدمة مختصرة لعبد السلام هارون تحدث فيها عن معرفته القريبة بالعطار ، وأنها لم تتعدّ السنتين ، وأنه قبل التعاون معه في إخراج الكتاب وفاءً بحق الصداقة والتعاون الثقافي، مع المشاركة في نشر العلم ( 5) ، إلى(171/5)
جانب ما رآه من أن منهج الكتاب يؤرِّخ لبعض الألفاظ اللغوية المعاصرة في الحجاز وردها إلى أصولها العربية وتبيين منزلتها في الفصحى من حيث الصحة أو الخطأ ، وأن ذلك أمر لا يستطيعه أحد المحققين وحده ( 6) ، وذكر أن الزمن المقدر لإخراج هذا الكتاب كان ثلاث سنوات ، ولكن بفضل الله ثم بفضل التعاون الصادق والنية الخالصة … لم يستغرق من الزمن أكثر من نصف السنة " ( 7) .
وتلت ذلك مقدمة أحمد عبد الغفور عطار، وهي مقدمة طويلة استغرقت 45 صفحة ، تحدث فيها عن اللغة العربية وسعتها، وعدم استغراق الأدباء المثقفين لمعجمها، ودعا فيها إلى فتح أبواب الاشتقاق والتعريب .
كما تحدث عن جمع اللغة واحتفاء اللغويين بالإعراب ، وتحدث عن تنقية اللغة وإنكار العلماء استعمالات صحيحة في شواهد مثل " شتان " وكلمة " استأهل " . وتطرق إلى ذكر العلماء الذين اعتنوا باللغة وجمعوا موادها كالخليل بن أحمد وابن دريد ، ثم عرج على الجوهري الذي يعده أول من وجه تأليف المعجم العربي هذه الوجهة( 1) ، فترجم له وذكر أين ألف كتابه ، كما ذكر الاختلاف في ضبط اسم معجمه، والمعاجم المعاصرة له ، وما لقي هذا الكتاب من تهذيب واختصار ونقد ودفاع، وآراء العلماء فيه ، وأثر "الصحاح" في التأليف اللغوي، ثم سرد الشروح والتعليقات والمختصرات والترجمات إلى اللغات الإسلامية التي حظي بها معجم "الصحاح" .
وبعد ذلك أفرد ترجمة للزنجاني(171/6)
( ص 56 ) كما تحدث عن نسخة " تهذيب الصحاح"ووصفها بأنها" نسخة فريدة في مكتبات العالم جميعًا كتبت بخط يشبه خط القرن التاسع الهجري وقعت إلى الأديب ... محمد سرور الصبان،وليس على النسخة اسم الكتاب ولا اسم مؤلفه "، مما حمل المحقق على البحث والتنقيب عن اسم الكتاب والمؤلف، ولم يهتد إلى اسم الكتاب الأصلي ، أما اسم المؤلف فقد اهتدى إليه بمقارنة ما ورد في مقدمة الكتاب بما نقله السيد محمد صديق حسن خان في مؤلفة "البلغة في أصول اللغة " في الفصل الذي عقده عن صحاح الجوهري ، وذكر أنه مقدمة محمود ابن أحمد الزنجاني للكتاب الذي اختصر في كتابه الأخير " ترويح الأرواح في تهذيب الصحاح" (2)، علاوة على أن النص الذي أورده صاحب "البلغة" قد أورده أيضًا مؤلف
" كشف الظنون " ، وبذلك قطع المحقق بأن هذا الكتاب هو نفسه كتاب الزنجاني .
أما منهج التحقيق فقد أفرد له أربع صفحات تحدث فيها العطار عن الجهد الذي بذله وزميله في إخراج هذا الكتاب إلى الناس قائلاً : " إننا بذلنا النكيثة ( أقصى الجهد ) في سبيل إخراج الكتاب إخراجًا علمياً ، واتبعنا في سبيل ذلك أكثر من ثلاثين منهجًا " (*).
والناظر في الخطة التي وضعها المحققان لإخراج الكتاب لا يملك إلا أن يقرر أن المحققين قد بذلا جهدًا محمودًا في سبيل ضبط النص ، ومعارضته بنسخة " الصحاح " المطبوعة، علاوة على نسختين مخطوطتين إحداهما مخطوطة مكتبة عارف حكمت في المدينة، المكتوبة سنة 681هـ ورقمها 79 لغة . والأخرى مخطوطة دار الكتب
المصرية المقروءة على العكبري ورقمها 5079هـ.ولم يكتف المحققان بضبط الألفاظ وإنما أوردا اللغات التي وردت في الضبط مع التنظير لذلك ، وشملت المعالجات اللغوية للمحققين أوجها عدة منها :
1- النص على جموع بعض المفردات ومصادر الأفعال التي أهملها المؤلف .
2- عقد المقابلات والتنظيرات في المعاني والألفاظ التي وردت في المعجم .(171/7)
3- عقد المقابلات والتنظيرات لما ورد في العامية الحجازية والنجدية والمصرية مطابقًا لما ورد في الفصيح.
4- بيان أصل الألفاظ العربية والدخيلة التي وُجدت في اللغة العربية.
5- الإشارة إلى الكلمات التي ذكرت في غير أبوابها من قبل الجوهري وتبعه الزنجاني مثل " حانوت " التي
ذكرها الزنجاني في مادة ( ح ي ن ) وحقها أن تُذكر في ( ح ن ت) .
6- بيان أوهام الجوهري مما كتبه الصغاني وابن بري وغيرهما .
7- بيان أوهام غير الجوهري من اللغويين .
8- تصويب ما ظنه بعض أئمة اللغة لحنا وليس بلحن .
9- بيان بعض المصطلحات العلمية والأدبية القديمة والمعاصرة ، وذلك بالرجوع إلى المصادر القديمة والحديثة ، والاتصال بالأعلام في هذه العلوم والفنون .
10- الإشارة إلى التصحيف والتحريف لدى بعض مؤلفي المعاجم مما لم يُشر إليه الزنجاني .
11- إثبات بعض النوادر والغرائب اللغوية مما يُعد إضافة إلى المعجم ، مع إيراد أمثلة لذلك .
وفي مجال تفسير الغامض وشرح المستغلق نجد المحققين يهتمان بتوضيح ما في عبارة الكتاب من غموض لغوي مما شرحه العطار بقوله :" وبذلك تغلبنا أيضًا على التفسير الدائري الذي يُعد من عيوب معاجمنا " ، وضرب لذلك مثلاً "بالُقلاّم" بالتشديد الذي يفسر " بالقاقُلّي" الذي يفسر " بالقلاّم " إلى جانب تفسير ما ذكر الزنجاني بأنه معروف ، ولكنه يحتاج إلى حد لغوي أو علمي أو أدبي أو تاريخي .
... وأشار منهج المحققين إلى العناية بأسماء الأعلام التي وردت في الموارد اللغوية، وترجمتها ، مع بيان مصادر الترجمة، وكذلك بيان أسماء القبائل والفرق والطوائف الدينية والأجناس البشرية ، وتحقيق مواضع البلدان وتعيينها استعانة بالمراجع القديمة والحديثة ، والكلام على أيام العرب التي ورد لها ذكر في المعجم ، وبيان المراجع التي تكفّلت بذلك .(171/8)
... وفي مجال العناية بالشواهد في الكتاب نجد إشارة إلى تحقيق القراءات القرآنية والشواهد الشعرية ، ونسبة ما لم يُنسَب منها إلى قائله ورَدّ ما نُسب إلى غير صاحبه خطأ ، وإيراد أصح الروايات لهذه الشواهد .
... وقد أُلحق بالكتاب تسعة فهارس أحدها فهرس لغوي مرتب على ترتيب أوائل المواد على غرار " أساس البلاغة " للزمخشري، وهو أضخم هذه الفهارس إذ شمل جميع مواد الكتاب ( ص1114- 1318 )، وتبعه فهرس لمسائل العربية في صفحة واحدة ، ثم فهرس القبائل والطوائف ونحوها ، وفهرس البلدان والمواضع ونحوها ، وفهرس المراجع . ويلاحظ أن فهرس المراجع يضم ما ذكر من مراجع في هوامش صفحات الكتاب مدلولاً عليها بأرقام الصفحات التي ورد فيها كل مرجع . أمّا المعلومات الببليوجرافية فقد جُعلت في أسفل صفحات هذا الفهرس وهي مختصرة.
وقد بلغت المراجع 192 مرجعًا، منها مخطوطات مثل " تهذيب اللغة " للأزهري، و" التكملة للصغاني " ، و"الأزمنة" لقطرب ، و"ما اختلف لفظه واتفق معناه" لأبي العميثل ونحوها .
... والواقع أن الناظر في صلب التحقيق يلاحظ أن ذكر المراجع يأتي في كثير من الأحيان دون ذكر الصفحات أو الورقات أو المادة ، فمثلاً في ص 6:" التكملة للصغاني " و " العباب للصغاني " ونحو ذلك .
... شهدت السبعينيات الهجرية ( الخمسينيات الميلادية ) نشاطًا في التحقيق ملحوظًا لأحمد عبد الغفور عطار، فقد أصدر مع زميله عبد السلام هارون " تهذيب الصحاح " سنة 1372هـ / 1952م ، وبعده بأربع سنوات أصدر منفردًا تحقيقه المعروف لمعجم "الصحاح " بعنوان : "الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية"، ثم في السنة نفسها صدر له تحقيق كتاب " ليس في كلام العرب " للحسين بن أحمد بن خالويه .(171/9)
... وتدل مقدمة "الصحاح" على أنه فكر في نشر كتاب "التكملة " للصغاني وطبع بضع كراسات منه ، ثم وجد أن وقته لا يتسع لهذا العمل الضخم فأرجأ نشره ، ولكنه أعد العدة لذلك ، إلى جانب نشر "تهذيب اللغة" للأزهري بعد أن ينتهي من طبع "الصحاح "(1) .
... صدَّر العطار تحقيقه للصحاح بمقدمة طويلة تُعد كتابًا قائمًا برأسه ، وقد نُشرت هذه المقدمة أول أمرها منفصلة ، ثم أضيفت إلى " الصحاح " عندما طُبع كاملا( 2 ).
تناولت مقدمة العطار الحديث عن حياة اللغة العربية في مجتمعها
الأول معتمدًا في معظم أقواله على عباس محمود العقاد في كتابه " أبو الأنبياء" ، كما تناول حديثه جهود العلماء في جمع اللغة وتنقيتها وعنايتهم بحفظها وتيسيرها،ثم أفرد الكلام عن المعاجم ، تسميتها ومتى ظهر التأليف فيها عند العرب، وبحث في أي الأمم سبقت في تأليف المعجم، فتحدث عن إسهام الآشوريين والصينيين الذين ذكر لهم معجمين طبع أحدهما سنة 530 (كذا) بعد الميلاد ، وطبع الآخر (كذا) سنة 150
قبل الميلاد ، وكذلك إسهام اليونانيين القدماء . وكل ذلك مستقى من ترجمات أعدت له لبعض المواد المتعلقة بالمعاجم في دوائر المعارف المختلفة، ثم أفرد الحديث لطليعة المعجم العربي وذكر أن العرب سبقوا إلى وضع المعجمات الكاملة ، وتحدث بعد ذلك عن الخليل وكتابه "العين" وإنه فيه مبتكر لا مقلد، ونسبة كتاب "العين" له. وانطلق من ذلك إلى الحديث عن رواد المعجمات العربية والمؤلفين، وإلى ذكر المدارس المعجمية الأربع وهي: مدرسة الخليل، ومدرسة أبي عبيد ، ومدرسة الجوهري ، ومدرسة البرمكي ، ثم أفرد الحديث عن الصحاح ومؤلفه ، وآراء العلماء في الكتاب ، ومنهجه ومزاياه والهنات التي لوحظت فيه، وأثره في التأليف بعده ، والمؤلفات التي دارت حوله تعليقًا وتحشية ونقداً ودفاعًا واختصاراً وترجمات ونحوها.(171/10)
... قرظ عباس محمود العقاد مقدمة العطار في كلمة قدم بها "الصحاح" ( ص 1-8 ) فوصفها بأنها أول مقدمة من نوعها في تاريخ المعجمات العربية ، وأن قيمتها تكمن في الآراء التي اشتملت عليها ، وضرب أمثلة على آراء العطار التي رآها صائبة .
لقد كان عمل المحقق في الصحاح عملاً رائدًا في التحقيق العلمي العربي للمعاجم ،فلسنا نعرف قبله معجمًا محققًا علميًا ( إذا استثنينا "تهذيب الصحاح" )، وقد اعتمد العطار في نشرته هذه على ثلاث نسخ :
1-نسخة خزانة محمد خليل عناني من أهل مكة ، وهي بخط محمد بن عبد الله بن الحسن بن أبي البقاء البصري، قاضي البصرة المتوفى سنة 499هـ ، وقد نُسخت سنة 450هـ وعليها حواش وتعليقات للقاضي البصري .
2-نسخة في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة رقمها بالمكتبة 79 وقد كتبت سنة 686هـ(*) ووصفها العطار بأنها نسخة يوثق بها.
3-نسخة دار الكتب المصرية ( لم يذكر رقمها ولا معلومات عنها ، ومن المرجح أن تكون ذات الرقم 5079 ) وهي نسخة مقروءة على العكبري وقد استعان بها وزميله عند تحقيق" تهذيب الصحاح " للزنجاني.
... وأشار إلى نسخ أخرى لكنه لم يذكر عنها شيئًا ( ص 153 ) ، غير أن الناظر في "الصحاح" لا يلبث أن يكشف أن منهج المحقق في معارضة النسخ الخطية لا يخلو من بعض الاضطراب . وأول ذلك الاضطراب يبدو في اعتماد المحقق على النسخة المطبوعة في بولاق اعتمادًا كليًا ، مع معارضتها ببعض النسخ ، ويتوقع الناظر في الكتاب أن يشير المحقق إلى النسخة المطبوعة على أنها إحدى النسخ التي يصدر عنها في تحقيق الصحاح ، ولكنه لم يفعل ذلك وكانت
النتيجة أن اختلطت في نشرته الإشارات إلى النسخ الخطية التي ذكرها في مقدمته معتمدًا إياها في التحقيق بتلك الإشارات التي ذكرها مصحح المطبوعة الأولى .(171/11)
... لقد نشر "الصحاح" أول مرة في بولاق وصدر الجزء الأول منه سنة 1282هـ بتصحيح الشيخ نصر الهوريني، وصدر الثاني سنة 1302هـ بمراجعة الشيخ محمد الصباغ ، وقد حفلت هوامش النسخة الأولى بكثير من التعليقات للمصححين السابقين وخاصة الشيخ نصر الهوريني ، فأدخل العطار معظم الهوامش في هوامش نسخته الجديدة دون أن يُشير إلى أنها هوامش المطبوعة السابقة ، ولعله اكتفى في كثير منها بإشارة المصحح السابق إلى نفسه في نهاية كل تعليق بقوله : " قاله نصر " أو ما أشبه ذلك . وكان المصحح السابق للمطبوعة البولاقية
يُشير إلى مصادره فأثبت العطار بعضها وحذف بعضها الآخر ، وبذلك اختلط الأمر على القارئ بين ما راجعه المحقق وبين ما راجعه مَن سبقه من المصححين ، ففي الصفحة رقم 40 من الجزء الأول (ع2 هـ3) جاء في الهامش :" … وقع في بعض النسخ تكرارٌ للفظتين …إلخ " ، وهي ملحوظة منقولة بحذافيرها من المطبوعة السابقة ( 1/6 ) دون الإشارة إليها، وتوحي للقارئ العادي بأن لدى المحقق نسخًا أُخرى راجعها، مع أن الحديث للمصحح السابق نصر الهوريني .
... وفي الصفحة رقم 72 من الجزء الأول ( ع 2 هـ1 ) نجد هذه الملحوظة: "في بعض النسخ زيادة…"، وهي برمتها منقولة من المطبوعة السابقة ( 1/23 ) سوى أن الناشر السابق قد نكر كلمة"نسخ" والعطار عرفها "بأل" ، وكذلك ص 29 ( ع2 ) الخاص بصدر بيت للفرزدق هو :
" ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا "
فقد جاء فيه"صدره كما في بعض النسخ"،وهي ملاحظة منقولة برمتها من البولاقية (1/27) .
... ومثل هذه الإشارات كثيرة في هوامش النسخة ، وهي إشارات لا تدل على نسخ بعينها ، كما لا تدل على أن العطار قد رجع إلى هذه النسخ ما دام ينقل نقلاً مباشراً من هوامش المطبوعة السابقة. ولو أشار المحقق إلى استيعابه لهوامش المطبوعة السابقة لأعفى نفسه من مغبة الوقوع في الخطأ ، ولكان جهده أقرب إلى المعهود في أمثاله من الدقة والأمانة العلمية.(171/12)
وكثيراً ما نجد الإشارة إلى مخطوطة مجهولة في ثنايا هوامش الكتاب، ففي صفحة 291 (ع2 هـ3) نجد قوله في "المخطوطة:"من أن أقول لعا " ولا ندري على أي مخطوطة تدل هذه الإشارة ، أهي مخطوطة عناني أم مخطوطة عارف حكمت أم مخطوطة دار الكتب أم غير ذلك .
وكذلك في هـ1 من ع1 ص 292 إذ يقول:" في المخطوطة " من آل عبد منات " ، ولا ندري أي مخطوطة يعني .
والأمر نفسه يحدث في ص 293 ( ع1 هـ2 ) إذ نجد هذه الإشارة :" في المخطوطة : وذابة " .
... والغريب أنه ينقل أحيانًا زيادات هذه المخطوطة في الهامش بدلاً من أن يضعها في صلب الكتاب ما دام قد اعتمدها أصلاً ، مثل قوله في 5/1864- 1865 تعليقًا على شطر الأعشى :
" وأصاب غزوك أمة فأزالها "
فقد جاء في الهامش2من ع3 :"صدره: ولقد جررت لك الغني ذا فاقة "، وبعده في المخطوطة زيادة: الأمة: المُلك ، والأمة : أتباع الأنبياء، والأمة : الرجل الصالح .. إلخ " .
وقد بلغت هذه الزيادة ستة أسطر في الهامش ، وهذا يدل على أن المحقق قد اقتصر على المطبوعة وجعلها أصلاً يُراجعه على المخطوطات ، مع أن المتوقع أن تكون المطبوعة نسخة أخرى تُراجَع عليها المخطوطة المعتمدة للنشر كما هو الحال لدى المحققين .
ويتبادر إلى الذهن أننا هنا بإزاء مخطوطة واحدة يرجع إليها المحقق عند التصحيح والمقابلة ، وقد يظن القارئ أن هذه هي طريقته في الإشارة إلى المخطوطة المعتمدة لديه وهي مخطوطة القاضي البصري التي أسماها المحقق "مخطوطة عناني"، ولكننا ما نلبث أن نجد في هوامش الصحاح إشارات إلى هذه المخطوطة بعينها وإلى مخطوطة دار الكتب أو مخطوطة المدينة، ففي 1/39 ع2 هـ3 نجد الإشارات الآتية :" ليست في المطبوعة ولكنها في مخطوطة المدينة ".
وفي 1/45 ذكر الجوهري بيتًا نسبه إلى الطرماح ووضعه المحقق بين معقوفين وقال في الهامش رقم 4 من ع2 : " هذه الزيادة في نسخة المدينة ، ونسخة العناني ".(171/13)
وفي ص 35 (ع2 هـ2): "ولا " بآدية ، كما في مخطوطة دار الكتب ".
وفي ص 48 (ع1 هـ1):" في مخطوطة دار الكتب المقروءة على العكبري: تخاطأت … " ، وفي ص 52 ( ع1 هـ1 ) :" في مخطوطة الدار " : " يقال الرثيئة " ، وفي ص 53 ( ع2 هـ2 ) : " في مخطوطة الدار بضم الراء " ، وفي الهامش الذي بعده " في نسخة الدار:فيه" ، مثل هذه الإشارات إلى فروق النسخ كثيرة وخاصة ما يتعلق بنسخة مخطوطة دار الكتب المصرية.
... على أن من الإنصاف أن نذكر أن العطار في تحقيقه للصحاح قد صوَّب كثيرًا من أخطاء المطبوعة السابقة ، وخاصة ما يتعلق منها بالتصحيف أو التطبيع اعتمادًا على المخطوطات التي رجع إليها أو كُتب اللغة الأخرى .
... وملاحظات المحقق على المطبوعة السابقة ليست قليلة وإنما تنتشر على صفحات نسخته ، ولسنا نستقصي الأمثلة هنا وإنما نكتفي بالإشارات القلية ففي 1/48 (ع2 هـ4 ) علق العطار على بيت زهير :
بآرزة القفارة لم تخنها
قطاف في الركاب ولا خلاء
فقال في ( هـ 4 ع1 ) :" في بعض النسخ " بآزرة ، " وكذلك في المطبوعة ،والصواب "بآرزة" بتقديم الراء على الزاي المعجمة ".
... وفي 1/126 (هـ1 ع1) يعلق المحقق على بيت لبيد :
فكلفتها همي فآبت رذية
طليحا كألواح الغبيط المذأب
يقول المحقق (ع1 هـ1 ) :"في المطبوعة الأولى:"فآبت رزية" محرفة، وفي 1/157 (ع1) يرد بيت جرير :
أعبدًا حل في شُعَبَى غريبًا
... ألؤمًا لا أبا لك واغترابًا
... يعلق المحقق على ذلك في (هـ3) على كلمة " ألؤمًا " بقوله : " في المطبوعة الأولى : ألوحًا " تحريف " ، ويعلق على كلمة "الصقعب"( 1/163 ع2 هـ2) بقوله: " وردت المادة في الطبعة الأولى : "صعقب"و" الصقعب"كلاهما محرف ".
... وإذا تركنا ملاحظات المحقق على التصحيف والتحريف وهي كثيرة، فإننا لا نعدم ملاحظات أخرى هي من صميم التحقيق والمراجعة .
... ففي1/354 (ع2 هـ1) يعلق المحقق على بيت لأبي دؤاد بقوله : " في المطبوعة الأولى :(171/14)
" من شعثاء عمدًا وبالحبل "
ولا يستقيم به الوزن وتصحيحه من اللسان"، وفي1/380 (ع1 هـ1) يعلق المحقق على بيت أنس بن نهيك:
عزمت على إقامة ذي صباح
... لأمر ما يسوّد من يسود
بقوله: "ورد البيت في المطبوعة الأولى مقدم العجز على الصدر " .
غير أن من الغريب أن المحقق في بعض الأحيان يترك التصحيف كما هو في النسخة ويشير إلى تصحيحه في الهامش كما في 1/188، فقد جاء في أصل الكتاب:" وأما قول المتنخل اليشكري : …" فعلق المحقق ( ع1 هـ1 ) " وكذا في اللسان ، واسم اليشكري المنخَّل وأما المتنخِّل فهو المتنخِّل الهذلي "، ويشبه ذلك ما جاء في 1/335 ، فقد ورد في صلب الكتاب أن " الأفلج " من الرجال هو " البعيد ما بين الثديين " فعلق المحقق (ع2 هـ2 ) بقوله: " ما بين الثديين تصحيف، والصحيح ما بين اليدين تثنية يد " ، وكان الواجب أن يصحح التصحيف في الأصل لأن من المستبعد أن لا يعرف الجوهري الفرق بين الاثنين .
... وإذا نظرنا في هوامش المحقق الأخرى سواء ما كان منها تصويبًا ، أم تكملة ، أم نسبة شاهد شعري ، أم تصحيح اسم شاعر ، فإننا نجد المحقق يشير إلى ذلك باختصار شديد ، ونادراً ما يشير إلى مصادره في ذلك ، وإذا أشار فإنه يغفل الإشارة إلى مواضع التعليق من صفحات تلك المصادر .(171/15)
مثال ذلك ما جاء في 1/112 في مادة "حشب" قال الجوهري : "الحوشب : المنتفخ الجبين . قال الشاعر :…"، فعلق المحقق في الهامش على كلمة " الشاعر " بقوله : " الأعلم الهذلي " ، ولم يورد مصدره في النسبة . وفي 1/113 قال الجوهري : " قال الراجز …" ، فقال المحقق في الهامش :" هو الشمّاخ " ، وفي الصفحة نفسها ( ع2 ) مادة "حظب" قال الجوهري "قال الطماحي"، فعلق المحقق في الهامش بقوله : " هو زياد " . وأحيانًا يستوعب هامش المطبوعة السابقة دون الإشارة إليه بل دون الإشارة إلى مصدره . وفي 1/113مادة "حظرب" قال الجوهري : قال الشاعر: فعلق المحقق في (هـ2) قائلاً: " هو طرفة "، وهو في مطبوعة بولاق هكذا ( هو طرفة مرتضى ) ، وهكذا تأتي الإشارات إلى الشعراء دون توثيق أشعارهم بالرجوع إلى مصادرهم ، وإن كان المرجح أن معظم اعتماد المحقق على اللسان . وكذلك الأمر عندما يكمل المحقق بعض الأبيات الشعرية بإيراد الصدر أو العجز أو الشطر من الرجز، أو يضيف إليها أبياتًا قبلها أو بعدها ، فإنه قليلا ما يُورد مصدر التكملة ، ومثال ذلك في 1/112 ما أورده المؤلف من شطر بيت رؤبة:
" وقد تطويت انطواء الحضب " ، فقد علق المحقق عليه بقوله:"وبعده: بين قتاد ردهة وشقب" ولم يورد مصدره .
... والأمر نفسه يُلاحَظ عند التصويب أو التوجيه، فإنه قلما يذكر مصدره ، ومثال ذلك ما جاء في الأصل (1/111): " قال نهيك الفزاري " ، فعلق عليه المحقق بقوله : " صوابه نهيكة الفزاري " ، وذكر البيت الذي قبله ومناسبته لكنه لم يذكر مصدره في ذلك.
... وأحيانًا يذكر المصدر ولكنه لا يذكر الموضع منه، ومثال ذلك قول الجوهري (1/128) :" الذنابي شبه المخاط يقع من أنوف الإبل " ، فقد علق عليه المحقق بقوله :" الصواب "الذناني" بنونين كما في المزهر"، ولم يذكر الموضع منه . ومن ذلك قول بشر بن أبي خازم الذي أورده الجوهري ( 1/129 ) :
فكانوا كذات القدر لم تدر إذ غلت(171/16)
... أتتركها مذمومة أم تذيبها
فقد علق المحقق على كلمة "أتتركها" بقوله:"في المفضليات : أتنزلها "، ولم يشر إلى الموضع ، ومن ذلك ما قد يرد في المخطوطة من زيادات لا يدخلها في أصل الكتاب: ففي مادة " لعج " (ج1 ص 338 ع2 ) ورد في صلب الكتاب " قال الهذلي " :
ضربًا أليمًا ببِت يلعَجُ الجلدا
فأشار المحقق في الهامش رقم 3 بقوله :" في المخطوطة : إذا تأوب نوح قامتا معه " ، أي أن صدر البيت قد ورد في " المخطوطة " ، فإن كانت هذه " المخطوطة " معتمدة لديه فقد كان من الواجب إدخال الصدر في صلب الكتاب مع الإشارة إلى ذلك في الهامش ، وهو المتبع عند المحققين .
... ومثله ما ورد في 1/327 إذ أورد شطراً من رجز وقال في الهامش:"بعده:والبكرات اللقح الفوائجا" كما في المخطوطة .
... على أننا لا نعدم الاعتماد على المخطوطة وتقديم نصِّها في صلب الكتاب ، ومن ذلك ما ورد في 1/57 إذ جاء في الأصل:" قال أبو عبيدة " ، فعلق المحقق بقوله :" في المطبوعة أبو عبيد وما هنا موافق لما في نسختي المدينة ودار الكتب وفي التاج"، وكذلك تعليق المحقق على لفظة "الرازح" (1/365 في ع1 هـ4)، وقال المحقق :" كذا في المخطوطة، وفي المطبوعة الرزاح ".
... وأحيانًا يكون تصحيح المطبوعة الأولى اعتمادًا على مصادر أخرى كاللسان أو التاج أو غيرهما ، ومثال ذلك ما جاء في 1/121:" قال الزفيان : " فعلق المحقق بقوله :" في المطبوعة الأولى " الرقيات " وفي حواشيها لعله عبيد الله بن قيس الرقيات ، وهو تحريف صوابه من اللسان ، والزفيان راجز مشهور" .
... وفي 1/148 قال الجوهري : " السَّقْب : الطويل من كل شيء مع ترارة "، علق عليه المحقق بقوله : " الترارة:امتلاء الجسم وفي المطبوعة الأولى:" نزارة " تحريف صوابه من اللسان،ولم يذكر الموضع من الكتاب .(171/17)
... وفي تعليق على تعبير لامرأة من العرب (1/365) قالت فيه : " أرسحتنا نار الزحفتين " علق المحقق بقوله : انظر الجزء الرابع من كتاب الحيوان للجاحظ " دون أن يذكر موضع الإشارة من ذلك الجزء .
... وعلى الرغم من أن المحقق لم يلحق الكتاب بمسرد يضم المصادر والمراجع ، إلا أننا نجد في ثنايا هوامشه إشارات إلى مصادر كثيرة ، ولعل أكثرها دورانا " لسان العرب " وهو أكثر ما اتكأ عليه المحقق في المراجعة ، كما أننا نجد إشارات إلى "المقاييس" ، و"التاج" ، و"القاموس" ، و"مختار الصحاح" ، و"التكملة" للصغاني، و"حواشي ابن بري"، و"محشى القاموس"، و"الاقتضاب" ، و"نوادر أبي زيد"، و"أساس البلاغة"، و"كتاب سيبويه" .
... ومن كتب الشعر"المفضليات" ، و"جمهرة أشعار العرب" ، وإشارات عديدة إلى دواوين الشعراء .
... وفى سنة 1399هـ (1979م) صدرت الطبعة الثانية من الصحاح بتحقيق أحمد عبد الغفور عطار ، وهذه الطبعة لم تزد على سابقتها بشيء إذ إنها مأخوذة عنها بالتصوير سوى احتوائها على مقدمة لهذه الطبعة ( ص : ز ـ ط ) ندد فيها المحقق بمعجم صدر سنة 1975م بعنوان : "الصحاح في اللغة والعلوم" إعداد نديم مرعشلي وأسامة مرعشلي وتصنيفهما، وتقديم الشيخ عبد الله العلايلي ، ذكر فيها أنهما تَضَيَّفَا ما كتبه في مقدمة "الصحاح" الأولى وبخاصة ما سبق به غيره من آراء ، كما لم يشيرا إلى تحقيق الصحاح ولا إلى المقدمة قائلاً : " ولو ذكرا جهدنا العلمي لكانا أمينين وممن يضطلعون بالأمانة العلمية ، ولما نقص من قدرهما بل لزاد، أما إغفال الذكر فخيانة تدين المتصفين بالسطو على جهود الآخرين وادعائهما إياها ، ولا يسعهما الادعاء بعدم الاطلاع على جهودنا ، ولو ادعيا ذلك لكانا من المفترين ، ولأضافا إلى إثم السطو إثم المكابرة والافتراء ، لأن ما ادعياه في " المقدمة " المنسوبة إليهما لم يجئ قط عن أحد غيرنا " ( ص : ح ) .(171/18)
... وكتب العطار في هذه الطبعة مقالة بعنوان : " الجوهري مبتكر منهج الصحاح ( ص1- 15 ) رد فيها القول بأن البندنيجي في كتاب " التقفية " هو المبتكر لمنهج الجوهري، وأنكر أن يكون البندنيجي قد ابتكر منهجًا معجميًا، كذلك الذي نجده في الصحاح.
... وقد كان مقال العطار تعليقاً على ما جاء في مقال لبكري الشيخ أمين، ذكر فيه رأياً للأستاذ حمد الجاسر فحواه أن البندنيجي المتوفى قبل الجوهري بما يقارب مئة عام قد ألَّف كتاباً سبق به الجوهري في ترتيب المعجم على النظام الوارد في الصحاح الذي يُعزى ابتكاره إلى الجوهري . وقد نشر العطار مقال بكري الشيخ أمين في هذه الطبعة ( ص 16-29 ) بعنوان : " الأثر الخالد … معجم الصحاح تهذيبه ومقدمته " بعد أن حذف منه فقرات لم ير لها أهمية ، وهو مقال استعرض فيه الكاتب مقدمة الصحاح وأثنى فيه بإفراط على جهود المحقق في " التهذيب " وفي تحقيق " الصحاح " ، مما أدى إلى المبالغة والوقوع في أخطاء واضحة منها قوله: " إن محقق الصحاح قد وثق الأحاديث النبوية ، وبين أماكن ورودها في كتب الحديث، ومثلها فعل في الآيات القرآنية الكريمة والأمثال العربية والأسماء والأعلام والمواطن والقبائل واللغات المختلفة" ، فالناظر في "الصحاح" لا يكاد يجد شيئاً من ذلك، فالآيات القرآنية لم تُخَرَّج ، والأحاديث لم تُوَثَّق على كتب الحديث، ومئات الأعلام والقبائل والمواطن تمر دون الإشارة إليها .
ويبدو أن كاتب المقال كان يكتب تحت إيحاء عمل المحقق في كتاب "تهذيب الصحاح" للزنجاني،وهو كتاب بذل فيه المحقق جهداً أكبر من تحقيق الصحاح من حيث التحقيق والتوثيق .
... وفيما عدا هاتين المقدمتين اللتين أُضيفتا إلى الكتاب في هذه
الطبعة لا نكاد نجد اختلافاً بينها وبين الطبعة الأولى إذ أنها مصورة عنها .(171/19)
... ونشر جواد محمد الدخيِّل سنة 1405 هـ / 1985م نقداً لطبعة العطار للصحاح بعنوان " ملاحظات على صحاح الجوهري" (*) ، وقد بلغت ملحوظاته 296 ملحوظة نبه فيها على نقل المحقق لحواشى النسخة القديمة دون الإشارة إليها ، وما يسببه ذلك من إبهام حول معرفة النسخ الخطية التي رجع إليها . وصوب بعض ما طرأ على ألفاظ هذه الطبعة من تصحيف أو تحريف ، وتتبع المحقق في بعض مقولاته عن اللسان التي كانت خاطئة بسبب ما اعترى نسخة اللسان المطبوعة من خلل ، وذكر مآخذه المنهجية على نشرة العطار في الحلقة الثانية المنشورة في مجلة "العرب".ويمكن تلخيص هذه
المآخذ بالأتي(*) :
1-أن العطار لم يكن تحت تصرفه جميع مخطوطات الكتاب ، إذ لم يكن لديه إلا مخطوطة واحدة ، ومع هذا فلم يكن يعتمد عليها؛ وإنما اعتمد على المطبوعة المصرية القديمة ، وكان عليه أن يتجاوز هذه المطبوعة خاصة بعد توافر الكتب المطبوعة المزودة بالفهارس الحديثة ، وبعد التقدم الفكري بالنسبة إلى نشر تلك المطبوعة . ومع ذلك ففي مطبوعة العطار أخطاء جاءت صواباً في المطبوعة القديمة.
2-أن الجوهرى اعتمد على كتب معينة بقي معظمها ولم يرجع إليها المحقق .
3- عدم استساغة إيراد المحقق ما قبل الشاهد الشعري وما بعده ، إلا إذا غلط المؤلف في القافية فلا بأس عندئذٍ من إيراد بيت آخر من القصيدة كي يتأكد القارئ من خطأ المؤلف .
4-اعتمد العطار على "اللسان" في قراءة نص "الصحاح"،ولم ينتبه إلى ما في نسخة اللسان القديمة من الأخطاء.(171/20)
... لقد لخص الناقد ملحوظاته المنهجية في الحلقة الثانية المنشورة في مجلة "العرب" حتى لا يكررها فيما بعد أو يقف عندها ، واعداً أنه سيقتصر بعد ذلك على الأخطاء العلمية . ولقد كانت ملحوظاته دقيقة ومفيدة في معظمها ، وكان من المنتظر أن يكمل رحلته مع صفحات الكتاب فَيُنَقِّب وَيُصَوِّب وَيُضيف ، لكنه توقف بعد نشر الحلقة الخامسة من هذا النقد بعد أن شملت وقفاته مع الكتاب الجزء الأول وشيئاً من الجزء الثاني منه .
... غير أن من الحق أن نقول إن بعض ما أشار إليه الناقد يدخل ضمن إطار الأخطاء المطبعية التى قلما يخلو منها كتاب ، ولا يُعد العطار بدعاً في هذا بين المحققين.
... أما القول بأن العطار قد اعتمد على مخطوطة واحدة فهو قول تعوزه الدقة ، وقد مر بنا أنه قد رجع إلى ثلاث مخطوطات اثنتان منهما من المدينة ومكة والثالثة من دار الكتب المصرية . ولعل من العسير أن يجمع محقق جميع مخطوطات كتاب كبير كالصحاح وينظر فيها جميعاً ، وليس ذلك مطلوباً منه ، بل المتوقع أن يختار من المخطوطات أوثقها وأكثرها قربًا من المؤلف أو عصره وأصحها من حيث النسخ والمقابلة ، وغير ذلك من شروط لا نظن أنها كانت تغيب عن ذهن الأستاذ العطار ، ولكن الرغبة في إخراج الكتاب بسرعة كانت ـ في الغالب ـ وراء اكتفائه بالنسخ الثلاث مع قلة اعتماده عليها في التحقيق.
... والخلاصة أن كتاب "الصحاح"، وإن بدا فيه بعض الاضطراب في المراجعة على النسخ وبعض المآخذ المنهجية الأخرى التي نختلف مع المحقق حيالها، إلا أن ذلك لا يغض من جهد العطار في تجلية الكتاب للقارئ وتيسيره له، إذ تميزت نسخة العطار بكونها نسخة مضبوطة بالشكل لما يشكل ، مصححة على عدة مخطوطات ، مراجعة على بعض كتب اللغة الأخرى، وهذا كله يضعنا بإزاء نسخة هي أفضل كثيرًا من النسخة البولاقية السابقة .(171/21)
... ولعل ما أشرنا إليه من عدم استيفاء بعض المعلومات ، أو عدم الدقة في مراجعة المخطوطات مرجعه إلى السرعة التي فرضها المحقق على نفسه لإنجاز الكتاب ـ مع ضخامته ـ في وقت قصير، إلى جانب اشتغاله في أعمال لغوية أخرى في الوقت نفسه .
* ... * ... *
... ونشر العطار سنة 1376هـ / 1957م تحقيقه لكتاب "ليس في كلام العرب" لابن خالويه في القاهرة على نفقة حسن شربتلي ، وقد اعتمد فيه على أربع نسخ :
الأولى: النسخة المطبوعة التي سبقت طبعته وهي طبعة أحمد بن الأمين الشنقيطي التي صدرت في القاهرة بتاريخ 1327هـ، ولم يكتب العطار أي تفصيلات عنها وعن محققها ، أو تاريخ صدورها، وإنما اكتفى بقوله : " النسخة المطبوعة المعروفة " .
والثانية : نسخة مكتبة محمد سرور الصبان ، وقد كتبت في مكة سنة 480هـ بخط خلف بن رزيق القرطبى ، وقد وصف العطار خطها بأنه " ردىء " وفيها سقط .
والثالثة : نسخة المتحف البريطاني ( لم يذكر رقمها ) ، وقد ذكر أن الإدارة الثقافية بالجامعة العربية قد قامت بتصويرها ، وهي مكتوبة بخط مأمون بن محمد العجمي سنة 704هـ ، وقد اعتمد على هذه المصورة ووصفها بأنها " نسخة موثوق بها " .
والرابعة : نسخة كتبها الشيخ أحمد بن حسن ستى مصححة على نسخته التي وقع تاريخها في 10جمادى الآخرة سنة 1339هـ والتي قوبلت على نسخة مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت ، وذكر العطار أنه حصل على نسخة الشيخ " ستى " بالشراء من زوجته المصرية ، كما أنه راجع مكتبة عارف حكمت ولم يجد النسخة التي أشار إليها الشيخ " ستى " .(171/22)
... اتبع العطار في تحقيق هذا الكتاب المنهج الذي اتبعه في الصحاح، فلم يتخذ أيًّا من النسخ الخطية أصلاً ، وإن كنا نلاحظ أنه يشير كثيراً إلى نسخته الخطية وبين ما فيها من اختلاف أو خطأ ، وهي ـ على الأرجح ـ نسخة الشيخ "سِتِّى " المتأخرة تاريخياً . كما نجد إشارة وحيدة إلى نسخة الصبان (ص 193)، ويبدو أن هذه النسخة أيضاً لم تنجُ من التحريف . وقد أشار العطار أيضاً إلى أخطاء مطبوعة الشنقيطي ، لكنه استوعب كثيرًا من هوامشها مما يدل على أنه اتخذها أصلاً راجعه على النسخ الأخرى .
... وبالجملة فقد اعتنى بضبط الكتاب ، وتحقيق نسبة بعض الشواهد إلى أصحابها ، مع الإخراج الذي يفضل كثيراً المطبوعة السابقة .
... غير أن عمل العطار لم ينجُ من الملاحظة ، إذ نشر مازن المبارك نقداً لهذه الطبعة في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق بعنوان : " ليس في كلام العرب لابن خالويه ، موازنة بين طبعتين" (1)، يقصد طبعة العطار والطبعة المصرية بتحقيق أحمد بن الأمين الشنقيطي . وكان معظم النقد الذي أورده المبارك منصباً على استيعاب العطار لهوامش الشنقيطي دون الإشارة إليه (2). كما أشار إلى أن هذه النشرة ناقصة إذ أن في معهد المخطوطات العربية جزءاً من كتاب "ليس في كلام العرب" لابن خالويه ، صوره المعهد عن نسخة مخطوطة في(171/23)
استانبول ( شهيد علي 1243) راجعها ثم قال : " وجدت أسلوب ابن خالويه فى ترتيبه لأبواب كتابه وعرضه لموضوعاته ، وحسب القارئ أن يعلم أن هذا الجزء الخامس وحده قوامه 171 ورقة (3) ، وإن صح هذا فإنه يدل على نقص كبير في النسخة المحققة ، ذلك أن أوراق كل واحدة من المخطوطات الأربعة التي اعتمد عليها المحقق لا تزيد على50 ورقة، كما أن المطبوعة القديمة صفحاتها ( 76 صفحة) . وذكر المبارك أن العطار قد أشار في أحد هوامشه ( ص91هـ3 ) إلى أنه" سقط من هنا أربعة أبواب ذكرت في النسخ الأخرى" ، ومعنى ذلك أن هذه النسخة المحققة هي أنقص النسخ جميعاً ، كما لاحظ الناقد أن المحقق قد قفز بابًا من أبواب الكتاب في نسخة الشنقيطي(4) .
... وانتقد المبارك أن يضع المحقق بعض الحواشي في المتن كما حدث في ص 116 و 170 (1) .
ولعل أهم المآخذ على هذه النشرة ما يأتي :
1- أن المحقق لم يلتزم نسخة صحيحة موثوقة يعتمد عليها في إخراج أصل الكتاب ، فحدث ذلك الاضطراب في الرجوع إلى النسخ التي وجدناها في تحقيقه للصحاح .
2-أن المحقق لم يشر إلى جهود سابقه أحمد بن الأمين الشنقيطي ، بل استوعب أكثر ما جاء في طبعته دون الإشارة إليه ، وأحياناً بتلخيص أو تصرف .
3-أن المحقق أقحم في النص ما ليس منه كأسماء الشعراء مثلاً ، فإذا قال ابن خالويه مثلاً :"وينشد " أضاف المحقق بين قوسين صغيرين " لحميد الأرقط" (2)، وإذا أورد ابن خالويه
شعراً وكانت له رواية أخرى أورد المحقق الرواية الأخرى بين قوسين مثل:" ما جاء في ص 92"، وأنشد :
يقول أهل السوق لما جينا
... ... هذا ورب البيت إسرائينا
" ويروى الشطر الأول :
قالت وكنت رجلاً فطيناً " (3)
... وقوله : " ويروى الشطر الأول …. إلخ " ، وهو ليس من كلام ابن خالويه وإنما من كلام المحقق ، وقد أدرجه في صلب النص بعد وضعه بين قوسين .(171/24)
... وبعد أكثر من عشرين سنة (1399هـ/ 1979م ) أصدر العطار الطبعة الثانية من كتاب " ليس في كلام العرب" في مجلد بلغت صفحاته 599 صفحة طبع في بيروت، وفي هذه الطبعة استدرك كثيراً مما فاته في الطبعة السابقة ، فقد أضاف الأبواب الأربعة السابقة التي
ذكرت في النسخ الأخرى عدا مطبوعته ،وأعاد الباب الذي قفزه في طبعة الشنقيطي، ووضع في الهوامش ما كان موضوعاً من التعليقات في صلب الكتاب، ويبدو واضحاً أن تلك التعليقات التي انتقد المبارك ورودها في الطبعة الأولى في صلب الكتاب قد دخلت فيه بفعل اضطراب طباعي ، يدل على ذلك أن العطار عندما وضع تصويباً في الطبعة الأولى استغرق سبع صفحات ، أشار إلى أن موضع بعض هذه الإشارات في الهامش ، وفاته بعضها في التصحيح ، ولم يفطن إلى ذلك المبارك عندما كتب نقده .
... كما أن المحقق زاد في التعليقات واستدرك كثيرًا مما فاته في الطبعة الأولى ، ولعل أهم ما أضافه إلى هذه الطبعة تلك الفهارس المتعددة التي شملت الآيات والأحاديث والأقوال والأمثال ، وفهرس الشعر والبلدان والأمكنة والمياه ، وفهرس الأعلام والكتب واللغة ، إلى جانب فهرس أبواب الكتاب .
... تمثل أعمال أحمد عبد الغفور عطار في التحقيق اللغوي المحاولات الأولى في المملكة العربية السعودية لإخراج كتب التراث اللغوي إخراجاً علمياً ، ويمتاز العطار اللغوي بصنع المقدمات الضافية التي تفي بالدقائق وتحيط بالمادة من جميع أقطارها ، كما نجد في مقدمته لـ " تهذيب الصحاح " ، ثم مقدمته لـ "الصحاح " التي أفردها في كتاب مستقل ، ومقدمته لـ "تهذيب اللغة" ، ومقدمته لتحقيق "شرح مقصورة ابن دريد" .(171/25)
... وهو في بحثه اللغوي ليس مقلداً أو تابعًا وإنما هو مفكر جرىء إذا لم يرقه الرأي القديم طرحه وبحث عن بديل له ، فهو مثلاً يورد ذلك الرأي الذي ذكره بعض العلماء من أن سبب اختيار الجوهري ترتيب معجمه على أواخر الكلمات التيسير على الشعراء والكتاب في حالتي النظم والنثر ، فالكتاب يلتزمون السجع والشعراء القوافي ، ولذلك هم في حاجة إلى معرفة الكلمات باعتبار أواخرها(1). ثم يرده ويرفضه قائلاً : " ونحن لا نقبل هذا الرأي ونراه غير علمي ، وإذا صح هذا السبب فما أهون شأن المعجمات وما أضأل القصد" (2).ومن الآراء التي يتبعها أن الخطأ قد يحدث من العرب الذين يحتج بلغتهم ، وقد عقد لذلك فصلاً طويلاً في مقدمة الصحاح ، كما نجد أنه استدرك على ابن خالويه في كتابه "ليس من كلام العرب" أشياء كثيرة في كثير من أبوابه ، وأورد أمثلة منها في مقدمته لتحقيق هذا الكتاب (3) .
... وإلى جانب التحقيق اللغوي نشير إلى أن للعطار مشاركات لغوية شتى تتجلى في مقالاته الكثيرة في الصحف التي جمع معظمها في كتب
مفردة ، مثل كتابيه "آراء في اللغة" و"الزحف على لغة القرآن" .
... وعلى الرغم من أن بعض علماء المملكة قد شارك في البحث اللغوي على أعمدة الصحف والمجلات، كعبد القدوس الأنصاري مثلاً ، إلا أن العطار كان ـ بلا شك ـ رجل الساحة اللغوية في البلاد لأكثر من أربعين عاماً . والحق أن العطار لو انصرف إلى هذا المجال لأنتج فيه إنتاجاً مثمراً غزيراً، ولكن الصحافة أخذت الكثير من جهده إلى جانب اهتماماته الأخرى في التأليف ومحاولاته الأدبية والتاريخية ، تلك التي حدت من استمراره في هذا الحقل.
* ... * ... *
... يمكن أن تُعد المرحلة الأولى التي زاول فيها العطار التحقيق اللغوي
المرحلة الأولى من مراحل حركة نشر التراث اللغوي في المملكة، وهي تمثل مرحلة الريادة في نشر هذا التراث .(171/26)
... أما المرحلة الثانية في تاريخ هذه الحركة فهي ـ بلا شك ـ مرحلة الجهود التي قام بها أساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا في هذا
المجال ، وهذه المرحلة لم تؤت أُكلها إلا في عهد متأخر يبدأ مع نهاية العقد التاسع من القرن الرابع عشر الهجري.
... ... أحمد بن محمد الضبيب
... ... عضو المجمع المراسل
... ... من السعودية
... ... ...(171/27)
مخطوطة في الطب النبوي بمكناس
لابن صاحب الصلاة*
للأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي
تناهت إلي أخبار لائحة المخطوطات التي كان أمين خزانة الجامع الكبير بمدينة مكناس قام بإعدادها سنة 1972، وقد كانت اللائحة تحتوي فيما تحتوي عليه، على عنوان ( شرح الأحكام ) لابن صاحب الصلاة : الجزء التاسع والعاشر بدون أية معلومة زائدة (1).
وبالنظر لما يربطني من صلةٍ سابقةٍ بأحد أعلام الغرب الإسلامي ممن كانوا يحملون اسم ابن صاحب الصلاة ، هو عبد المالك بن محمد بن
أحمد بن محمد بن إبراهيم الباجي، المكنى أبا مروان وأبا محمد وأبا عبد الله ، والشهير بابن صاحب الصلاة مؤلف تاريخ الموحدين المعروف تحت عنوان ( المن بالإمامة على المستضعفين .. ) (2) بالنظر لذلك فقد شغلت بأمر هذا المخطوط أو بالأحْرى أمر مؤلفه ابن صاحب الصلاة. فمن يكون هذا الرجل؟ أهو المؤرخ الذي أعرف أم هو شخص ثان ؟
وقد قمت بادئ ذي بدء بالاطلاع على ( شرح الأحكام ) الذي زودني
بصورته مشكورًا القيم على الخزانة المذكورة ، وسرعان ما اتضح لي أنني أمام مؤلف ينتمي هو الآخر للعهد الموحدي لكنه ليس مؤرخا وإنما هو محدث من مستوى رفيع، وبالنظر لكون اللائحة المشار إليها لم تقدم أية معلومة عن المؤلف ولا عن التأليف، فقد حاولت أن أتعرف على ابن صاحب الصلاة هذا ، وتجمعت لدى طائفة من الأسماء وخاصة منها الأسماء التي كانت لها صلة بالحديث.
المراجع التسعة لابن صاحب الصلاة:
إن الشخصية التي كنت أنشد
الوصول إلى ترجمتها لم تكن عادية ويكفي أن أشير منذ البداية إلى أن الرجل في تأليفه اعتمد على تسعة مصادر كلها تعتبر من عيون المراجع في الحديث والفقه معًا أذكرها حسب الترتيب التاريخي …(172/1)
هناك الخطابي ( ت 388) (1) الذي يعتبر أول شارح لصحيح الإمام البخاري على الإطلاق وكان ابن صاحب الصلاة يعتمد عليه، والهروي ( ت 401) (2) الذي يعتمد عليه في كتاب الغريبين، وعبد الوهاب ( ت421) (3) الذي يعتمد عليه في
شرحه للرسالة،وابن بطال(ت449)(1)، الذي يعتمد عليه في شرح صحيح الإمام البخاري ،غالبه في فقه الإمام مالك وابن عبد البر (ت463)(2)الذي يعتمد عليه في كتابه الاستذكار بمذهب
علماء الأمصار، والباجي (ت474) (3) في كتابه المنتقى، وابن رشد ( ت 520 )(4) الذي يعتمد عليه في تأليفه البيان والتحصيل،والمازري(ت538)(5) في كتابه إكمال المعلم بفوائد مسلم ،
وعياض ( ت 544 )(1) .
وقد كان ابن صاحب الصلاة يشير إلى الأعلام التسعة بحروف ترمز إلى المؤلف أو إلى التأليف(2) ..
لقد تجلَّى واضحًا من خلال مصادر ابن صاحب الصلاة أن الرجل ينتمي إلى المذهب المالكي بل وأنه مغرق في نصرة المذهب ، كما تجلي واضحًا من خلال تواريخ مراجعه أنه عاش في فترة معروفة الزمن فهو مثلاً يرجع إلى ابن رشد الجد وليس إلى ابن رشد الحفيد ..
وكل هذا حملني على البحث عن الذين يحملون اسم ابن صاحب الصلاة ضمن إطار " المالكية " وفي أثناء
القرن السادس بالذات، وهنا وجدنا أنفسنا أمام عدد ممن يحملون اسم ابن صاحب الصلاة، فمن هو هذا الذي ألف كتاب شرح الأحكام ؟
وقد حاولنا أن نجد من خلال أسماء التآليف التي تحمل عنوان الأحكام في هذه المرحلة وأن نجد من خلال التاريخ ما قد يدلنا على الطريق(3). كما حاولنا أيضا أن نجد من خلال تراجم " أبناء " صاحب الصلاة تآليفَ لبعضهم حول هذا الموضوع ، فهناك ابن صاحب الصلاة الأديب اللغوي (ت 550) (4)، وهناك ثان ( ت 578)(5) ، وهناك صاحبنا مؤلف تاريخ الموحدين سالف(172/2)
الذكر (1)، وهناك رابع كثيرا ما استوقفني: هو محمد بن أحمد بن الحسن الذي حدث عنه أبو القاسم سليمان ابن الطيلسان والمتوفى سنة 607 وهو من أهل قرطبة(2)، وهناك خامس توفي سنة 607 له ترجمة حافلة(3).. وسادس شاطبي توفي سنة 625 (4) وهناك عمر أبو جعفر ابن صاحب الصلاة البجانسي (5)، وهناك ابن صاحب الصلاة المكنى أبا بكر(6)، وهناك عمر أبو جعفر ابن صاحب الصلاة (7)، وهناك ابن صاحب الصلاة الوليني الذي وصف جامع قرطبة (8) على أن هناك جماعة منهم
لم يعرف تاريخ وفاتهم من أمثال سعيد الكناني (9). وقد فاوضت بعض الزملاء الأعزاء ممن كنت أعرف عن صلتهم بالموضوع .
وملت في نهاية المطاف إلى الرأي الذي كان يرى أن القصد إلى ابن صاحب الصلاة المالقي المستشهد في وقعة العِقاب يوم الاثنين14 صفر 609 وكان ذلك اعتمادا على إشارة وردت عند بعضهم في ترجمة هذا الشهيد تقول إنه صنف في الحديث(10)…
وقد رجعت إلى المراجع الأندلسية وبخاصة إلى التكملة لابن
الأبار والذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي وما تفرع عن هذين المصدرين ابتداءً من "الديباج" لابن عرضون ، لأعرف المزيد عن ابن صاحب الصلاة مؤلف "شرح الأحكام" قبل أن آخذ في دراسة محتوى المخطوط أو بالحري بعض أبوابه التي كانت تهمني ، وهكذا وجدنا أن ابن الأبار يترجمه على أنه محمد بن حسن بن محمد بن خلف الأنصاري
وأنه من أهل مالقة ويعرف تحت اسمين اثنين : ابن صاحب الصلاة ، وابن الحاج ويكنى أبا عبد الله .
عن الذين سمع عنهم بالأندلس :
وبعد هذا نذكر لائحة لبعض السادة الذين – سمع منهم– بالأندلس وهو خمسة:
أبو عبد الله بن الفخار (1)
... أبو محمد عبد الحق بن بونه(2)
... أبو خلد بن رفاعة (3)
... أبو محمد بن عبيد الله (1)
... أبو جعفر بن حكم(2)
ويضيف ابن عبد الملك المراكشي في كتابه الذيل والتكملة إلى هذا أن بعض رجال الأندلس أجازوا ابن صاحب
الصلاة ومن أولئك الرجال :
أبو بكر ابن الجد (3)(172/3)
أبو بكر ابن أبي زمنين (4)
أبو عبد الله ابن زرقون (5)
أبو القاسم الشراط (6)
أبو محمد بن جمهور(1)
وإذا ما رجعنا إلى الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي فإننا سنكتشف معلومات إضافية عن مترجمنا ابن صاحب الصلاة، وهكذا استفدنا أن هناك ذكرا لثمانية أسماء أخرى لشيوخ ابن صاحب الصلاة
بالأندلس علاوة على الخمسة المذكورين من لدن ابن الأبار وهم :
أبو الحجاج بن الشيخ (2)
أبو الحسن بن كوثر (3)
أبو عبد الله بن عروس (4)
أبو محمد عبد الله بن حوط الله (5)
عبد الصمد بن يعيش (6)
عبد المنعم بن الفرس (1)
أبو عبد الله الاستجي(2)
أبو جعفر الحصار (3) ...
عن اللذين سمع منهما في بجاية:
ويؤخذ من ابن الأبار وابن عبد الملك أن ابن صاحب الصلاة هذا ابتدأ رحلة
للمشرق عام 580 بقصد أداء فريضة الحج… حيث لقي في طريقه بالمغرب الأوسط، في بجاية أبا محمد عبد الحق ابن عبد الرحمن الإشبيلي الذي كان نزيل المدينة(4) فسمع منه على نحو ما سمع هناك من أبي عبد الله بن الحرار(5)
عن الذين سمع منهم في الإسكندرية:
وقد سمع بالإسكندرية أربعة أعلام هم:
أبو عبد الله بن الحضرمي (1)
أبو الفضل بن دليل الكندي (2)
أبو عبد الله الكركنتي (3)
أبو الثناء الحراني (4)
... ويضيف ابن عبد الملك المراكشي اسم نزيل الإسكندرية أبي إسحاق بن عبد الله البلنسي والذي لم
نجد له ذكرا في أعلام الإسكندرية ولا في رجال بلنسية !
عن الذين لقيهم بمكة :
وقد لقي ابن صاحب الصلاة بمكة عام 583عددًا من العلماء الذين كانوا يجاورون هناك أمثال :
أبي إبراهيم الخجندي (5)
أبي عبد الله بن أبي الصيف اليمني (6)
أبي إبراهيم التونسي (7)
أبي حفص الميانشي (1)
ونحن بالمشرق مع ابن صاحب الصلاة، نضيف معلومة قدمها إلينا ابن عبد الملك في الذيل والتكملة ، ويتعلق الأمر بالإجازات التي نالها ابن صاحب الصلاة من بعض أعيان
علماء المشرق نذكر منهم :
الحسن بن هبة الله بن محفوظ الربعي(2)(172/4)
أبا الحرم مكي (3)
أبا الظاهر بن عوف (4)
أبا الطاهر الخُشوعي (5)
أبا القاسم بن عساكر (6)
إلى جانب آخرين مذكورين في رسم أبي الطاهر أحمد بن علي السبتي(1) باستدعاء أبي عبد الله بن إبراهيم بن حريرة (2) .
وإذ عرفنا عمن لقيهم ابن صاحب الصلاة بمكة فإنه من المفيد أن نذكر أن ابن عبد الملك المراكشي أضاف اسم أبي إبراهيم التونسي واسم أبي إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الغساني اللذين لم نعرف عنهما ما نقول إضافة إلى هذا نذكر أن ابن صاحب الصلاة لقي بمكة أبا عبد الله محمد ابن مفلح
الذي أجازه لفظا وخطا والذي لم أقف له على ترجمة كذلك .
ابن صاحب الصلاة بفاس:
لكن الذي انفرد بذكره ابن عبد الملك في الذيل والتكملة هو أن يفيدنا أن ابن صاحب الصلاة موضوع الحديث قضي ردحًا من الزمان في العدوة المغربية وبالذات في مدينة فاس حيث أخذ عن عالمين كبيرين أجازا له وهما:
أبو الحسن بن فرحون (3)
وأبو عبد الله بن عبد الكريم (4)
وهذه معلومة تستحق الوقوف عندها لكي نعرف عن المركز العلمي الذي كان للمدينة حتى على عهد الموحدين الذين حوَّلوا عاصمتهم السياسية إلى مدينة مراكش .
وفي سبتة التقى مرة أخرى بأبي محمد ابن عبيد الله سالف الذكر الذي أجازه .
عن بعض الذين رووا عنه:
وقد أخذ عنه عدد كبير من
الجلة ذكر بعضهم ابن الأبار وأتى ابن عبد الملك ببعضٍ آخر منهم ، ونسوقهم هنا مترجمين واحدًا واحدًا لنعرف قيمة الرصيد العلمي الذي خلفه هذا الرجل العظيم ، ونُنبِّه منذ البداية إلى أن أكثر الذين أخذوا عنه كانوا نظراء له ، وكان منهم أيضًا من هم أكبر منه سنا ! ففيهم:
أبو القاسم الملاحي (1)
أبو سليمان بن حوط الله (2)
أبو إسحاق القصير المالقي (1)
أبو بكر بن عبد النور (2)
أبو جعفر ابن عثمان الورّاد (3)
أبو الحسن بن عبد الله الهواري (4)
أبو الحسن محمد بن أبي زكرياء بن
مجاهد (5)
أبو الطاهر أحمد بن علي بن عبد الله الهواري (6)(172/5)
أبو عبد الله بن أبي جعفر بن الجيار(7)
أبو عبد الله بن محمد بن سعيد الطراز(1)
أبو عمرو بن سالم (2)
أبو القاسم عبد الرحمن بن سالم (3)
أبو القاسم محمد بن الزيتوني (4)
إلى آخرين أشرنا إليهم أثناء ترجمتنا لبعضهم …
* ... * ... *
... تلك حصيلة لحياة ابن صاحب الصلاة الذي عرف أيضا تحت اسم
ابن الحاج كما حمل ألقابا ونعوتًا تعبر عن مكانته العلمية الكبرى التي تجلت – في صدر ما تجلت فيه – في هذه الموسوعة التراثية الكبرى : شرح الأحكام ، ونحن على يقين من أنه لو لم يتعرض لما تعرض له في الوقعة المشؤومة لكان ترك لنا تراثًا أغنى وأوفر من حيث تأليفه، ومن حيث طلبته الذين أصبحوا منارة العدوتين: الأندلس والمغرب .
والواقع أن معركة العِقاب لم تكن شؤمًا فقط على الحضور الإسلامي بالجزيرة ولكنها كانت شؤمًا على الفكر والعلم والمعرفة في كل جهات العالم الإسلامي .
فلقد حصدت عددًا من الرجال الذين كانوا معالم تهتدى بهم الساحة الأندلسية، عرفنا منهم إلى جانب ابن صاحب الصلاة أسماء أخرى أمثال ابن عاث الشاطبي الذي افتقد في ساحة المعركة! وأمثال أبي الصبر أيوب السبتي وغير هؤلاء .
وقد عكست الوقعة بظلها الكئيب على إنتاجات أولئك الشهداء فأهمل بعضها وضاع البعض الآخر ، ولا أدل على هذا من أن يختفي كتاب ( شرح الأحكام ) من سائر المراجع التي تحدثت وباختصار شديد عن علامتنا المحدث ابن صاحب الصلاة.. ! ومن حسن الحظ أن "يفلت" بعض ذلك الكتاب حتى نجد نصوصًا منقولةً عن علماء جلة ضاعت منها تلك النصوص أو بعضها أو حرقت لكنها بقيت في شرح ابن صاحب الصلاة ناطقةً بما قاله أولئك العلماء الأعلام !(172/6)
وبعد أن تعرفنا على هذه المعلمة الكبرى سواء من خلال شيوخه وتلامذته، سواء في الأندلس أو عندما تجشم مصاعب الرحلات التي قادته – بعد التنقلات بين القواعد الأندلسية – إلى المغرب الكبير حيث زار مدينة بجاية التي كانت قاعدة من القواعد العلمية ليصل إلى الإسكندرية … ومنها إلى الأماكن المقدسة فيجتمع بطائفة أخرى من العلماء في مكة .. قبل أن يعود إلى وطنه فيقصد العاصمة العلمية فاس التي كانت تزخر بالرجال الذين أخذوا بأطراف العلم فيجتمع فيها بمن عرفنا عنهم ويعود إلى الأندلس بحصيلة معرفية زاخرة، أمسى ابن صاحب الصلاة بعدها كعبة للقصاد الذين تهافتوا عليه بعد أن سمعوا بعودته ..
ومن خلال رصيد حياة هذا الرجل الجليل القدر على جوانب أخرى من واقع العالم الإسلامي على العموم ومن الواقع الذي كان يعيشه الغرب الإسلامي في قمة عهد الدولة الموحدية في القرن السادس الهجري..
وهكذا فعلى الصعيد الدولي وقفنا على محطات جد مهمة في تاريخ العلاقات بين المملكة المغربية والأندلس ، وعلى محطات مهمة في تاريخ العلاقات بين المملكة المغربية وبين النورمانديين في صقلية الذين كانوا يحاولون الاستيلاء على سواحل المغرب الأدنى حيث شاهدنا حضور المغرب في الواجهتين معا!!
وإلى جانب هذا شاهدنا موقف المغرب الكبير في واجهة ثالثةٍ في المشرق: العلاقات بين قادته وبين قادة المشرق حيث قرأنا عن حضور المغرب إلى جانب السلطان صلاح الدين الأيوبي في مقاومته لاجتياح الفرنج لبعض المواقع في الجناح الشرقي للإسلام عندما شاهدنا أن المجاهدين المغاربة يقصدون إلى تلك الواجهة من غير أن تمنعهم مقاومتهم لمحاولة
هيمنة الفرنج في الغرب الإسلامي !!(172/7)
وقد قرأنا عن أبي الحسن علي المالقي الذي قصد بلاد الشام للجهاد والذي عندما فتح السلطان صلاح الدين بيت المقدس أصبح هو المرشح المؤهل للإمامة بالمسلمين في بيت المقدس، ثالث الحرمين وأولي القبلتين، ومن الطريف أن نسمع أن هذا الرجل لما توفي سار النصارى في جنازته ونشروا ثيابهم على نعشه للتبرك به !!
ومن خلال تراجم بعض الذين كانت لهم صلة بابن صاحب الصلاة سواء في المغرب أو المشرق عرفنا عن التجاوب الذي كان بين الأوساط العلمية سواء أكانت مقيمة في المدن الأندلسية الكبرى، أم القواعد المغربية أم في بلاد الإسكندرية أم في المدن الحجازية أم الجزيرة الفراتية ، حيث قرأنا عن الأواصر المتينة التي كانت تجمع بين المشايخ هنا وزملائهم هناك،حيث قرأنا عن اللوائح الطويلة العريضة لطائفة من الأساتذة بالمشرق الذين كانوا يراسلون زملاءهم في المغرب ولا يتأخرون عن الإغداق عليهم أي على المغاربة بإجازاتهم التي تعترف لهم بطول الباع في ميادين تخصصاتهم، ومن هنا لم يكن غريبا علينا أن نجد أن الجسور التي كانت تربط بين جناحي العالم الإسلامي كانت من المتانة والقوة بحيث إنها أسهمت وبصفةٍ قوية في ازدهار الحركة الفكرية بالعالم الإسلامي ومن غير فرق بين الذين ينتسبون إلي هذا المذهب أو ذاك ، أو الذين يتبعون لهذا الحاكم أو ذاك ، الأمر الذي يعطينا صورةً متكاملة وصادقةً – من خلال كل ذلك الرصيد – عن عالم إسلامي يشعر شعورًا واحدًا ويتطلع إلى هدف واحد هو أداء الرسالة التي تلقاها المسلمون من سلفهم والتي يبذلون جهدهم لتلقينها للجيل الصاعد الذي يحمل الرسالة للذين يأتون من بعده .(172/8)
كثيرة هي الجوانب التي تشدنا إلى الاهتمام بابن صاحب الصلاة: هذا النموذج الذي كم له من نظيرٍ في مغرب الأمس، نموذج العالم المتمكن الواسع الاطلاع الذي لم يمنعه علمه الغزير أن يتتلمذ على نظرائه وأقرانه ولم تمنعه مصاعب الرحلة ولا تجشم الأسفار من أن يبحث عمن يزيد في علمه ويقوي من سنده، وهكذا أصبحت ترجمة الرجل أيضًا مرجعًا لمن يريد أن يؤرخ للحياة العلمية بالديار المشرقية أثناء القرن السادس الهجري..
ومن هنا يصح القول إن الاهتمام بشرح كتاب الأحكام لابن صاحب الصلاة المحدث، هو في واقع الأمر اهتمام بالحديث وبالفقه ، وباللغة العربية التي – كما نعلم- تظل الطريق الوحيد لمن يريد أن يعرف عن كتاب الله وسنة رسول الله.
وإذا ثنَّى الله ليَ الوساد فسأعمل على نشر بعض الفصول منه لكن ما لا يدرك كله لا يترك جُلّه كما تقول الحكمة العربية ، ولهذا فإني سأبدأ اليوم بتقديم الباب المتعلق بالطب كما عرفه سلفنا الصالح ، وبخاصة في العهد النبوي على ما دونه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما ومن أتي بعدهما من عيون رجال الحديث والأثر …
فماذا عن المخطوطة موضوع الحديث؟
يتناول السفر العاشر من شرح الأحكام اثني عشر بابا على هذا الترتيب :
1- باب الحد في الخمر.
2- باب في الأطعمة .
3- باب في الأشربة .
4- باب في اللباس والزينة .
5- باب في الأسماء والكنى .
6- باب في السلام والاستئذان.
7- باب في العطاس والتثاؤب.
8- باب في الأمراض وما يصيب المسلم.
9- باب في الطب.
10- باب في قتل الحيات والوزغ.
11- باب في السعادة والشقاوة والمقادير.
12- باب في الرؤيا .
وقد حصل بتر في أواخر باب الطب الذي وقع اختياري عليه كنموذج أقدمه للمهتمين بعمل ابن صاحب الصلاة المحدث ، وبالخصوص للمهتمين بالطب النبوي، وكنت أتمنى أن يكون هذا الباب كاملاً حتى يكون موضوعي مستوفيًا للغرض لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله كما يقولون .(172/9)
وأحب أن أثير الانتباه منذ البداية، إلى أن اهتمام ابن صاحب الصلاة بموضوع الحديث يندرج حسب اعتقادي ، في دعوة الدولة الموحدية بالمغرب إلى توجيه الرأي العام إلى العناية بكتب الأصول وليس إلى كتب الفروع المتشعبة التي أحرقت على ما هو معلوم، ذلك هو المبدأ الذي رأينا أن الحكم يقوم عليه ، وحسبنا هنا أن نرجع إلى ما رواه المراكشي في كتابه المعجب عن أمر الخليفة المنصور الموحدي أبي يوسف يعقوب بن أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، أمره بالاقتصار على الأصول والابتعاد عن كتب الفروع ، أي الاقتصار على الصحيحين : البخاري ومسلم، والموطأ والترمذي وسنن أبي داود وسنن النسائي وسنن البزار ومسند ابن أبي شيبة وسنن الدارقطني وسنن البيهقي..
كان قصد المنصور- كما يقول المراكشي– حمل الناس على الظاهر، وكان هذا قصد والده يوسف وجده عبد المؤمن ولكنهما لم يظهراه وأظهره هو..
ويشهد لهذا عند المراكشي ما أخبره به غير واحد ممن لقي الحافظ أبا بكر ابن الجد أنه أي أبا بكر ابن الجد أخبرهم قال:
لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب أول دخلة دخلتها عليه، وجدت بين يديه كتاب ابن يونس ، فقال لي : يا أبا بكر ، انظر في هذه الآراء المتشعبة التي أحدثت في دين الله !! أرأيت يا أبا بكر المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أقوال أو أكثر من هذا، فأي هذه الأقوال هو الحق ؟!
وأيها يجب أن يأخذ به المقلد ؟! فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك، فقال لي، وقطع كلامي: " يا أبا بكر،ليس إلا هذا وأشار إلى المصحف أو هذا ، وأشار إلى سنن أبي داود وكان عن يمينه أو السيف !(172/10)
فظهر في أيام يعقوب ما أخفي في أيام أبيه وجده ، ونال عنده طلبة العلم أي علم الحديث ما لم ينالوا في أيام أبيه وجده وانتهى أمره معهم إلى أن قال يوما بحضرة كافة الموحدين يسمعهم ، وقد بلغه حسدهم للطلبة على موضعهم منه وتقريبه إياهم وخلوته بهم دونهم: يا معشر الموحدين أنتم قبائل، فمن نابه أمر فزع إلى قبيلته وهؤلاء يعني الطلبة ، لا قبيل لهم إلا أنا ، فمهما نابهم أمر فأنا ملجؤهم وإلى فزعهم وإليّ ينسبون"
فعظم منذ ذلك اليوم أمرهم وبالغ الموحدون في برهم وإكرامهم (1) ...
أعتقد أن ابن صاحب الصلاة
صاحبنا المحدث، كان ممن شملهم المنصور بحمايته وعنايته ورعايته وهو يؤلف كتابه العظيم هذا : شرح الأحكام ، معتمدًا فيه فقط على ما قال الله ورسول الله، بعيدًا عن مدونة سحنون وكتاب ابن يونس ونوادر ابن أبي زيد ومختصره وتهذيب البرادعي وواضحة ابن خبيب وما شابه هذه التآليف أو نحوها مما تعرضت منه الأحمال إلى ألسنة اللهب في العاصمة العلمية : فاس على ما يحكيه شاهد عيان !
فالتأليف الذي بين أيدينا تأليف ينبغي أن يقرأ على هذا الأساس، فما هو الجديد في أسلوبه؟
الكتاب أولاً يعتمد على صحيح الإمام مسلم في منطلقه ونحن نعلم أن المغاربة يقدمون مسلمًا على البخاري في الأصحية حسبما تدل عليه أكثر من إشارة سواء فيما حمله تأليف الإمام المازري المعنون بالمعلم بفوائد
مسلم أو تأليف القاضي عياض : إكمال المُعلم بفوائد مسلم ، أو الإمام القرطبي : المفهم في شرح مسلم (1)
وقد كاد تأليف ابن صاحب الصلاة يحمل اسمًا على نحو المعلم أو المكمل، فهو على كل حال كتاب في خدمة الصحيحين وخاصة صحيح الإمام مسلم…
وبالتتبع وجدناه ، حسبما توفرنا عليه من المخطوط ، يعلق على نحو أربعة وعشرين حديثًا صحيحا معتمدا في تعاليقه على معظم المصادر التسعة التي أشرنا إليها في بداية الحديث .
الحديث الأول :(172/11)
حديث النبي صلى الله عليه وسلم:" لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء يبرأ بإذن الله ".
لقد نقل ابن صاحب الصلاة هنا عن القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم (2) ما يتصل بضبط كلمة الداء والدواء من الوجهة اللغوية ثم ينقل
عن الإمام المازري في كتابه المعلم بفوائد مسلم ما يشهد لصحة هذا الحديث الشريف فإن الأطباء يقولون : إن المرض يعني خروج الجسم عن المجرى الطبيعي ، والمداواة تعني رد الجسم إلى ذلك المجرى، وهنا نستدل بقول ( أبو قراط ) الذي يرى أن الأشياء تداوى بأضدادها إلى آخر النص الكامل الذي نورده على حدة .
الحديث الثاني :
حديث أسماء أنها كانت تؤتَي بالمرأة الموعوكة ( بالحمى ) فتدعو بالماء فتصبه في جيبها وتقول : إن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أبردوها بالماء وقال: إنها من فيح جهنم ..
وشرحًا لهذا الحديث يستمد ابن صاحب الصلاة من القاضي عياض في تأليفه سالف الذكر الذي ينقل عن
الموطأ عبارة ( بينها ) أي بين الموعوكة وبين جيبها ، قال عيسى ابن دينار تصبه بين طوقها وجسدها إلى آخر النقل(1).
وبعد شرح عياض يأتي ابن صاحب الصلاة بشرح الباجي في المنتقى نقلاً عن ابن دينار كانت أسماء تأخذ الماء وتصبه فيما بين طوقها وجسدها (2) ..إلخ.
ويعود ابن صاحب الصلاة للنقل عن المازري في المُعلم(3) .. وكان الجديد في هذا النقل أن ابن صاحب الصلاة يتعمد مناقشة بعض الأطباء الذين لا يرون من وجهة نظرهم استعمال المحموم للاغتسال بالماء البارد باعتباره يؤدي للخطر والهلاك .. وهنا يضيف ابن صاحب الصلاة رأيه فيما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وفيما أضافه بعضهم مما لم يكن
من قول الرسول عليه السلام ويبين رأي الأطباء حول الموضوع ردًّا على الملاحدة !(172/12)
ويتخلص ابن صاحب الصلاة تزكية رأيه اعتمادًا على ما ورد عند ابن عبد البر في الاستذكار، يتخلص إلى نقل عن ابن بطال حول شرح حديث أسماء المتعلق بإبراد الحمى بصب الماء على جسد المحمومين وأنه يختلف حسب ظروف المصابين(1) .. وكل هذه النقول كان الهدف منها شرح الحديث الشريف ورفع اللبس الذي قد يشوش على القصد.
الحديث الثالث :
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه فقال رسول الله عليه وسلم : اسقه عسلاً فسقاه ثم جاءه فقال : إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا ، وقال له
بعد الرابعة : صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلا فسقاه فبرئ .
هنا عند هذا الحديث يبتدئ ابن صاحب الصلاة بنص ابن بطلان الذي يستنبط من الحديث أن تأثير الدواء قد يتأخر ، إلى آخر النص الذي سنأتي عليه في نهاية البحث(2).
ثم ينقل عن عياض نصه حول أن القصد إلى أنه شفاء بعض الناس دون بعض ، وتخلص إلى نقلٍ آخر عن ابن بطال يشير إلى هذا المعنى وهو أنه أي الشفاء يكون على حسب ما تقتضيه حالة المريض بمعنى أن الحديث ليس على إطلاقه ، وقد جاء في القرآن نفسه ما لفظه العموم والمراد به الخصوص ..
ويختم الكلام عن حديث العسل بما أورده الإمام المازري في المعلم حول الحقيقة في أمر تناول العسل ودفع
الإشكال الذي يورده بعض الأطباء حول هذه الوصفة مما سنورده في النص، ويظهر الإمام المازري هنا طبيبًا في الوقت نفسه الذي يدافع فيه عن مصداقية قول الرسول صلى الله عليه وسلم (1)…
الحديث الرابع :(172/13)
( إن في الحبة السوداء شفاءً من كل داء) ويبتدئ في شرح هذا الحديث الذي أورده الإمام مسلم كذلك بنقل نص الإمام عياض في المعلم وهو يفسر أولاً أن القصد بالحبة السوداء هو الشونيز الذي ينطق به المغاربة شانوز بفتح الشين .. وربما كان هو ما يسمى في بعض بلاد المشرق بالبطم أو الضرو وبعد تحقيق في اللفظ ينقله عن المازري يعود لعياض الذي اهتم برأي الأطباء حول الحبة السوداء مقارنة مع ما ورد في الحديث الشريف معتمدًا في ذلك على
معلومات للطبيب اليوناني المعروف
جالينوس، وهي جميعها تؤكد فعالية تناول الحبة السوداء للرجال والنساء على السواء …
الحديث الخامس :
( التلبينة مجمة لفؤاد المريض) والتلبينة نوع من الحساء، وكلمة مجمة تعني تزيل انقباضه، وهنا ينقل عن القاضي عياض وعن الإمام المازري الذي يتحدث أيضا عن أثر السفرجل في التسلية عن القلب كذلك …
الحديث السادس :
عن سعد بن أبي وقاص : مرضت مرضًا أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي فقال: إنك رجل مفؤود (فأت الحارث بن كَلدة أخا ثقيف فإنه يتطبب،فليأخذ سبع مرات من عجوة المدينة فليُجاهن .. )
وحول الحديث ينقل عن الخطابي
في كتابه غريب الحديث (1) حول معنى المفؤود وأنه على نحو المرؤوس المصاب في رأسه والمبطون والمصدور.. ثم ينقل عن ابن بطال حول وضع اليد على المريض تأنيسًا له وملاطفة ، ويعود للنقل عن الخطابي الذي شرح بقية الحديث المروي عن سعد : فليجاهن …
الحديث السابع :
... حديث عائشة : لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فأشار ألا تلدوني، فقلنا كراهية المريض للدواء، فلما أفاق قال: لا يبقى أحد منكم إلا لد غير العباس فإنه لم يشهدكم !
... وعن شرح هذا الحديث ينقل ابن صاحب الصلاة عن القاضي(172/14)
عياض حول كلمة اللدود: التي تعني ما يُصبُّ في أحد جانبي فم المريض ، كما ينقل عنه أيضا أن سيدنا عمر بن الخطاب أخذ بهذا الحديث : ( لا يبقى أحد منكم إلا لد)، أخذ به في قتل من تمالأ على قتل الغلام بصنعاء (2) .
... وحول الاقتصاص ممن قاموا بلد رسول الله على كره منه نقل عن ابن بطال الذي يذكر أنه أشار في آخر كتاب الديات إلى هذا المعنى أي إذا أصاب قوم من رجل هل يقتص منهم جميعهم ؟
الحديث الثامن :
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم قيس دخلت بابن لي على رسول الله عليه وسلم وقد أعلقت عليه من العُذرة ( أي رفعت لهاته بأصبعي
لعذرةٍ أي لوجع حلق أصابه ) .
هنا نجد ابن صاحب الصلاة ينقل عن المازري الخلاف في معنى الإعلاق كما ينقل عن عياض حول معنى الإعلاق والعذرة ، وينقل عن الخطابي وعن ابن بطال وقد نهى رسول الله عن الطريقة التي سلكتها أم قيس لعلاج ابنها من العذرة.
الحديث التاسع :
قوله صلى الله عليه وسلم : " عليكن بهذا العود الهندي ( القسط ) فإن فيه سبعةَ أشفية منها ذات الجنب ومنها العذرة .
وهنا نقل عن عياض الرد على من أنكر التشفي بالقسط، واستدل بما قاله ديسقوريدوس وجالينوس وابن سينا وهم- أهل دراية بصناعة الطب.
الحديث العاشر :
قوله صلى الله عليه وسلم للذي سأل عن الخمر وقال : إنما أصنعها
للدواء فقال إنه ليس دواءً ولكنه داء …
وهنا ينقل عن أحد تآليف الخطابي الرأي حول الخلاف في التداوي بالخمور(1) ...
الحديث الحادي عشر :
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث ، ويبين أن الدواء الخبيث يأتي خبثه من وجهين : أحدهما خبث النجاسة … ثانيهما من الطعم والمذاق .
الحديث الثاني عشر :
قوله صلى الله عليه وسلم الكَمَأَة وماؤها شفاء للعين (2)…
الحديث الرابع عشر :
إن خير ما تداويتم به الحجامة والسعوط واللدود والمشِي(3) ، وهذا على الطرة يسار الصفحة 163.
الحديث الخامس عشر:(172/15)
... عن جابر بن عبد الله قال : رُمىَ أُبَى يوم الأحزاب على أكحله فكواه رسول
الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث أيضًا على الطرة يسار الورقة 163.
الحديث السادس عشر :
الشفاء في ثلاث : في شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بالنار وما أحب أن أكتوي .
وحول حديث الحجامة ينقل عن عياض كما ينقل عن الاستذكار لابن عبد البر الذي يحيل على ما في التمهيد من آثار كثيرة في فضل الحجامة والتداوي بها وإباحة التداوي بكل ما يُرجى نفعه مما يؤلم وما لا يؤلم . كما نقل عن ابن بطال (1) قال الطبري:وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحتجم على رأسه وبين كتفيه حيث يقوم بالجمع بين الأحاديث النبوية حول الموضوع.
وحول كرهه هو للاكتواء مع تشريعه لأمته ، يسوق ابن بطال نظائر مثل عدم تناوله لبعض أنواع الطعام لكونه يعافها .
ويخلص ابن صاحب الصلاة بعد هذا إلى موضوع جد مهم هو الرد على بعض غلاة الصوفية الذين لا يقولون بتشريع العلاج معتقدين أن كل شيء بقضاء وقدر .. وهكذا نجد أن المؤلف يبحث عن كل الدلائل الشرعية التي تسنن استعمال الدواء للأمراض الطارئة، وأن الله الذي أنزل الداء أنزل الدواء، وهو مثل الأمر بالدعاء لنا في الأمور، والأمر بالتوقي من المعاطب مع أن الأجل لا يزاد فيه ولا ينقص، ثم ينقل عن ابن رشد في البيان والتحصيل حول التداوي بالحجامة وقطع العروق (2) مؤكدًا أنه لا يوجد تناقض أبدًا بين العلاج وبين التوكل كما ينقل عن الخطابي ، ومن جهة أخرى فإن ابن صاحب الصلاة يزيف رأي بعض الملاحدة الذين يحاولون التشكيك فيما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم حول بعض النوازل الصحية مؤكدًا أنه قل ما يوجد في علم(172/16)
الافتقار إلى التفصيل مثل ما يوجد في صناعة الطب حتى إن المصاب بمرض قد يكون هذا الدواء نافعًا له في هذه الساعة ثم يعود داء في الساعة التي تليها لعارض يتجدد ، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمن والعادة والغذاء على ما يذكره القاضي عياض رحمه الله .
الحديث السابع عشر :
كنا نرقى في الجاهلية فقلنا يا رسول الله : كيف ترى ذلك ؟ فقال : اعرضوا عليَّ رقاكم ،لا بأس بالرقَى ما لم يكن فيها شرك .
وهنا يأتي بنص للباجي في المنتقى(1) ويؤكد أنه لا خلاف في جواز الرقى بأسماء الله تعالي وبكتابه.
ثم ينقل عن المازري ما يعزز الرأي باتخاذ الرقى ما لم تؤد إلى محظور..وهل هي معدودة من السحر
أو من الرقية ؟ وختم هذا النقل بما ورد عن " النشرة " وقد حكى البخاري عن سعيد بن المسيب أنه قيل له عن رجل أخذ عن امرأته. أيحل عليه أن ينشر؟ قال : لا بأس به إنما يريد الإصلاح .
الحديث الثامن عشر :
حول الذي رقى الملدوغ بفاتحة كتاب الله فأعطى قطعًا من الغنم : فقال رسول الله : ما أراك أنها ( أي الفاتحة ) رقية، خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم !..
شرحًا لهذا الحديث يأتي ابن صاحب لصلاة بنص القاضي عياض وبنص ابن بطال (2) ويعود لعياض ليذكر أن موضع الرقية من أم القرآن هو قوله تعالي :" وإياك نستعين " ، يضيف عن ابن بطال الرقية بالمعوذات (3) ويختم هذا بما رواه مالك في الموطأ أن أبا بكر الصديق
دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها فقال أبو بكر ارقها بكتاب الله يعني التوراة لأن ذلك كلام الله الذي به الشفاء معلقًا عليه بما ورد عند الباجي، ثم ابن عبد البر عن القصد من النفث أو الثقل أو النفخ الذي يقوم به الراقي على ما سنورده في النص ....
الحديث التاسع عشر:(172/17)
قوله صلى الله عليه وسلم : " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا لا حساب عليهم وهم الذين لا يسترقون ولا يكترون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون "، فقال عكاشة : أنا منهم يا رسول الله ؟ فقال : نعم ، فقال آخر وقال : وأنا منهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم: سبقك بها عكاشة !
هنا ينقل ابن صاحب الصلاة عن ابن بطال الذي قام بشرح الحديث نقلا عن الطبري (1) … وقد تخلص بعد هذا لموضوع التوكل وهل أنه يغني عن الأخذ بالطريق الطبيعي
للعلاج والحصول على الغذاء ..وهنا يؤكد ابن صاحب الصلاة أن من السنة أن يسعى الإنسان إلى ما لابد منه من مطعم ومشرب وملبس لقوله تعالى: "وما جعلناهم جسدًا لا يأكلون الطعام"!(2) .
... لقد عالج ابن صاحب الصلاة هذا الموضوع بما يستحقه من واقعية وموضوعية حتى لا يقع المؤمن في أخطاء قد تؤدي به إلى الخطر ، وبماذا نفسر إذن نصح النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أتى ببعير وسأل : أعقله وأتوكل أم أطلقه وأتوكل ؟ فقال : اعقله وتوكل !!
الحديث العشرون :
حديث عائشة : كان رسول صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن …
اهتم ابن صاحب الصلاة بهذا الحديث الذي روته السيدة عائشة ، والذي ظل مشغلة للناس ، ويتعلق بقضية من أهم قضايا الإسلام ، وهي
هل أن النبي سحر ؟ اهتم بها كثيرًا وظهر ذلك فيما أتى به من نقول ونصوص … وأنا أذكر جيدا أن هذه القضية كانت مجال صراع كبير في الأربعينيات بين الشيخ محمد بن العربي العلوي والشيخ المدني ابن الحسني بمجلس السلطان محمد بن يوسف في أحد شهور رمضان .. فلقد كان الأول ممن زيف أمر السحر بينما كان رأي الثاني أن السحر أمر موجود وواقع ، وقد استمرت أصداء ذلك الصراع طويلا بيننا نحن الطلبة حيث تسربت إلينا تفاصيل المجلس السطاني الذي انتهى إلى تغلب الرأي القائل بأحقية السحر …(172/18)
وهنا نرى من خلال النصوص التي أوردها ابن صاحب الصلاة أن هذه المسألة لم تكن من السهولة بمكان وأنها استمرت محل نزاع بين العلماء، وهنا سنقف على رأي المازري ورأي عياض الذي أطنب في الموضوع وكذا ابن بطال الذي نجد له هنا في مخطوطة مكناس ما لم نجده في مخطوطة المدينة التي بتر فيها القسم الخاص بالسحر وكأنها لا ترضى على القول بسحر النبي لما يحدثه ذلك من اضطراب كبير في الآراء بين الناس…!
وقد تخلص بعد هذا التدخل الطويل إلى الحديث عن النشرة التي سبق وأن قلنا إنها نوع من رقية يفك بها السحر ، والانفصال على أنها جائزة لتخليص الناس من شرور السحر ، وقد ورد في قول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم : هلا تنشرت ؟ ويذكرون من ذلك أن يأخذ المرء سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ويخلطه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والمعوذات ثم يحتسي منه ثلاث حسوات ويغتسل به فإنه يذب عنه كل ما به …
الحديث الواحد والعشرون :
قوله صلى الله عليه وسلم : العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين وإذا استغسلتم فاغتسلوا ".
وعن هذا الحديث أيضاً يستدل بما رواه عن المازري الذي يذكر أن الجمهور من علماء المسلمين أخذوا بظاهره بالرغم من إنكاره من لدن طوائف من المبتدعة، وقد نقل ابن صاحب الصلاة أن بعض الطبائعيين المثبتين للعين أن العائن تنبعث من عينيه قوة سمية تتصل بالمعيون إلى آخر الحديث الطويل الذي استدل فيه أيضًا بنصوص القاضي عياض والباجي والمازري الذي بيَّن كيفية الوضوء بالنسبة للعائن، وقد عاد إلى عياض الذي تمم الكلام على ما يتعلق بغسل العائن على نحو ما قالته البقية من الفقهاء والمحدثين أمثال ابن رشد والباجي وابن عبد البر وابن بطال .
وتنتهي النصوص الواردة إلى ضرورة اجتناب العائن والحرز منه بل وأمر الإمام له بالتزام بيته لأنه أصبح في حكم المجذومة التي منعها عمر بن الخطاب من الطواف !!
الحديث الثاني والعشرون :(172/19)
رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل فقال : ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة !
والحديث كما نرى يتعلق أيضا بالإصابة بالعين، وهنا نجد ابن صاحب الصلاة يستعين على إظهار الأحكام بما ورد عن الرواة وعن البادي، وأن النبي دعا عامر ابن ربيعة وتغيظ عليه قائلا : علام يقتل الرجل أخاه؟ ألا بركت ؟ أي ألا قلت: تبارك الله … إلى آخر النصوص .
الحديث الثالث والعشرون :
لا يورد ممرض على مصح : والقصد إلى أن الممرض أي صاحب الماشية المريضة لا ينبغي له أن يختلط مع صاحب الماشية الصحيحة فيؤذيه …
وهذا موضوع آخر يتعلق بالعدوى حيث نجد نقولاتٍ جد مهمة عن الباجي(1) الذي يطرح موضوع : هل أن الحديث منسوخ بالحديث
الآخر: لا عدوى .. وماذا يعني قوله صلى الله عليه وسلم : فرَّ من المجذوم فرارك من الأسد " .
ويأتي ابن صاحب الصلاة بعد هذا بما أورده المازري حول الموضوع محاولاً الجمع بين مدلول الحديث الذي يفرض حظر اتصال المرضى بالأصحاء والحديث الذي يقول : لا عدوى .
ويختتم ما يوجد من مخطوطة بمكناس بالنقل عن ابن بطال : وزعم بعض أهل البدع ، ويقصد به إلى الجاحظ عن النظام حسبما يوجد في مخطوطة ابن بطال بالمدينة المنورة ،
أقول زعم ذلك البعض أن قوله عليه السلام لا عدوى يعارض قوله " لا يورد ممرض على مصح"كما يعارض
" فر من المجذوم فرارك من الأسد" … وقوله لا عدوى إعلام منه لأمته أنه لا تأثير لذلك حقيقة ، وقوله لا يورد ممرض على مصح نهى فيه للمريض أن لا يورد ماشيته المرضى على ماشية أخيه الصحاح لئلا يتوهم المصح أن مرض ماشيته الصحيحة إنما حدث من أجل ورود المرضى عليها فيكون ذلك داخلاً في وهمه (1) .
عبد الهادي التازي
عضو المجمع من المغرب(172/20)
كلمة الأسرة
للأستاذ الدكتور جلال أحمد صالح
نجل شقيق الفقيد الراحل
سعادة الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع:
سعادة الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع:
السادة الأعضاء الأجلاء – السيدات والسادة:
... أنني لا أجد ما أقوله عن حياة عمي العزيز أكثر مما قاله الأستاذ الدكتور رئيس المجمع والأستاذ الدكتور نائب رئيس المجمع فقد تحدثا عنه حديثًا أحاط بجميع جوانب حياته العلمية والاجتماعية حتى لم يتركا
فيه زيادة لمستزيد، ولا أملك سوى أن أقدم لهما باسم الأسرة الشكر العميق.
... مرة أخرى أكرر شكري باسمي واسم السيدة الفاضلة عصمت حسين عيسى أرملة المرحوم التي وقفت بجانبه في أشد لحظات مرضه وقفة جليلة ونبيلة، وأحييها في هذا المقام تحية جليلة، وأشكركم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
جلال أحمد صالح
نجل شقيق الفقيد(173/1)
كلمة الأعضاء العرب
للأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد
صاحب المعالي الأستاذ الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم العالي والدولة للبحث العلمي،
سيدي وأستاذي الجليل الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع،
الزميل الأستاذ إبراهيم الترزي الأمين العام للمجمع.
الزميل الأستاذ الشاعر حسن عبد الله القرشي، شاعر المجمع، والشاعر العربي المشهور،
الحمد لله الذي جمعنا مرة أخرى على أرض الكنانة في رحاب مجمع اللغة العربية الذي جعل من مؤتمره السنوي موسمًا للفكر، ومنتدى للغة والأدب، ومهرجانًا ثقافيًّا مرموقًا، وأتاح للأعضاء من مختلف أقطار الوطن العربي والمستعربين أن يلتقوا بعلماء مصر ومفكريها وأدبائها وشعرائها وإعلاميِّيها، فنجد مودات سابقة ونستحدث مودات لاحقة نعتز بقديمها التالد ونفخر بحديثها الطريف، ونعود إلى بلادنا في مشارق هذا الوطن العربي ومغاربه وقلوبنا وعقولنا تهفو إلى مصرنا العربية ومن فيها من أهلنا الذين رفلنا في بحبوحة أنسهم وجرفنا من فيض علمهم، وكل منا معترف بفضلها وفضلهم. وقد استأذنت في تلخيص هذه الكلمة تعويضًا عما فاتني خلال السنوات السابقة التي اعتذرت فيها من عدم الحضور وعما سبقني من حديث، ومع ما حققته بعض البلاد العربية الأخرى وقد حققت الكثير، فإن مصر لا تزال هي مهوى الأفئدة، ومطمح الأنظار، وهذا المؤتمر السنوي للمجمع هو أكبر دليل على ذلك حين يجمعنا في أحضان مصر. فمع تعدد مجامع اللغة العربية في بلادنا وعلى جليل قدرها وقدر أعضائها، فإننا لا نعرف غيره يصنع صنيعه، ويجمع أعضاءه من العرب المصريين وغير المصريين ومن المستشرقين مع تباعد الأقطار، ويكون له أثره في تكوين الفكر ونشر المعرفة وبحث القضايا المعاصرة على أسس صحيحة من
المنهج والأصالة. والسلام على مصر وعلى مجمعنا وعليكم أجمعين ورحمة الله وبركاته.
ناصر الدين الأسد
عضو المجمع من الأردن(174/1)
كلمة الافتتاح
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
سيداتي سادتي
... نجتمع اليوم لتأبين المؤرخ الكبير وعالم الآثار القدير الدكتور عبد العزيز صالح الذي سعدنا بزمالته عضوًا في هذا المجمع فترة من الزمن، والراحل الكريم هو أحد أعلام التاريخ والآثار في مصر، وقد تخرج الراحل الكريم في كلية الآداب قسم الآثار ونظرًا لنبوغه اختاره أساتذته معيدًا بها حتى صار أستاذًا بها، ومضى يحاضر ويبحث ويؤلف في حضارة مصر القديمة وحضارة الشرق القديمة التي كان شغوفًا بها. وقد حصل على شهادة الدكتوراه سنة 1956م واختاره القسم لينهض مع أساتذته بدراسة الحضارة المصرية القديمة والتاريخ الفرعوني القديم وكان موضوع رسالته في الدكتوراه (التربية والتعليم في مصر القديمة) فكان موضوعًا جديدًا لم يسبقه إليه أحد، أوضح فيه كيف كانت التربية في مصر القديمة وأيضًا كيف كان التعليم.
ثم حين اختير مدرسًا في كلية الآداب تدرج في وظائفها حتى صار عميدًا لكلية الآثار. وهو من مؤرخي التاريخ الفرعوني، وتاريخ الشرق فله فيهما كتب كثيرة وأيضًا كتب عن تاريخ العراق القديم، ولبعض مدن جزيرة العرب في الجنوب والشمال في مدائن صالح، وآثاره العلمية كثيرة فقد ترك أكثر من خمسين كتابًا وبحثا علميًّا رائعًا. واشترك في الكثير من الهيئات العلمية في مصر وفي بلاد أجنبية مختلفة مثل: إنجلترا، وفرنسا، وألمانيا، وغيرها. واشترك في كشوف أثرية كثيرة في هضبة الجيزة والمنيا، وفي مدينة أونة في عين شمس.
... وتكريمًا له اختصته هيئة الآثار بحولياتها سنة 1986م، ونال جوائز كثيرة منها جائزة الدولة التقديرية سنة 1986م، وهو موضع دراسة في كليته، فقد كان ـ رحمه الله ـ محبوبًا من زملائه وتلاميذه، ولا نملك إلا أن ندعو الله أن يرحمه
وأن يسكنه جنته، وأن يلهم آله الصبر والسلوان.
شوقي ضيف
رئيس المجمع(175/1)
كلمة المجمع في تأبين الفقيد
للأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع
العالم الجليل الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
العلماء الأجلاء سيداتي وسادتي:
... درج مجمع اللغة العربية منذ سنوات – وفاءً منه لأعضائه الذين مضوا إلى رحاب الخالدين – أن يؤبنهم وينشر صفحاتٍ ناصعةً وضاءة من أعمالهم ومنجزاتهم اللغوية والأدبية والعلمية، وما بذلوا من عصارة فكرهم وقرائحهم لتنشئة أجيال من شباب العلماء يترسمون خطاهم ويواصلون رسالتهم الخالدة.
... ونحن اليوم أمام عالم جليل من علمائنا الأعلام، ومن جيل الصفوة والرواد، برز في علوم الآثار والتاريخ القديم، وكان له فيها القدحُ المعلَّى والمكانةُ العلميةُ البارزة.
... ذلكم هو المغفورُ له الأستاذُ الدكتور عبد العزيز صالح – طيب الله ثراه – عضوُ المجمع والعميدُ الأسبقُ لكلية الآثار بجامعة القاهرة .
... ولد الفقيد العزيز في الثالث عشر من مايو عام 1921 – وقد نشأ بحي الخليفة بالقاهرة – ذلك الحي الشعبي القديم الحافِل بالآثار الإسلامية وعبق التاريخ .
... وبعد أن حفظ ما تيسر من سور القرآن الكريم في كُتَّابِ الحي ومدرستِه الأولية بدأ تلميذُنا دراسته النظامية في مدرسة بنبا قادن الابتدائية ثم في بنبا قادن الثانوية – ونظرًا لتفوِقِه الأدبي واللغوي فقد كوفئ تلميذُنا حينذاك بعدة مؤلفاتٍ وجوائز.(176/1)
... وفي دراستِه الجامعية تخرجَ في قسمِ التاريخ بكليةِ الآداب بجامعةِ فؤاد الأول ثم أكمل دراستَه في علم المصريات القديمة في المعهد العالي للآثار بالجامعة نفسها – وتزامنت بعضُ دراساتِه لعلم المصريات القديمة مع دراسةٍ أخرى لدبلوم التربية والعمل لبضعِ سنوات مدرسًا في التعليم العام، ونشرَ أولى مقالاته في عام 1950 بعنوان " آثارُ شارع المعز لدين الله " .. حيث شبه هذا الشارعَ بسجل مفتوحٍ سُطّرت على صفحاتِه عن يمينٍ وعن شِمال معالمُ مجدٍ قديمٍ جمع بين مطالبِ الدنيا ومطالبِ الدين وشهدَ بروعِة الفن الإنشائي والزخرفِي المصري في عصورِه الإسلامية المتعاقبة – وتوالت بعد ذلك بحوثُه ومقالاتُه منذ تعيينه مدرسًا مساعدًا بكليةِ الآداب بجامعةِ القاهرة في عام 1953 ثم أتم رسالتَه للدكتوراه عن " التربية والتعليم في مصر القديمة " وأجيزت بتفوق في يونيه عام 1956 وقد نشرها باسمه المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآدابِ والعلومِ الاجتماعية في عام 1966 وكانت هي الرسالة الأولى الموسعة في ميدانها العلمي بمصر والخارج بعد أن كان أغلبُ ما يُستشهد به في تاريخ التربية والتعليم في العالم القديم يُستقى عادةً من تراثِ الإغريقِ والرومانِ والصينِ دون مصر وحضارتها التليدة إلا في مقالاتٍ قصيرةٍ متفرقة.(176/2)
أصدر الأستاذُ الدكتور عبد العزيز صالح 46 كتابا وبحثًا علميًّا منشورًا في مصر والخارج باللغتين العربيةِ والإنجليزية في مجالات التاريخِ والتربيةِ والتعليمِ واللغات والآداب والعقائِد والفنونِ في الحضارةِ المصرية والحضاراتِ الشرقيةِ القديمة – وقد اتسمت هذه الدراساتُ بأمانةِ الأداء والصدقِ العلمي وعمقِ التحليل واتساع الأفق، كما عبرت عن مدرسةٍ فكريةٍ مصريةٍ متميزة تنفذُ إلى روحِ الحضارة المصريةِ القديمة وتكشف عن حقيقةِ جوهرِها فيما تبحث فيه من تاريخِها وخصائص عقائِدها ولغِتها وآدابِها وفنوِنها، مع عقد المقارنات الموضوعيةِ بينهما وبين واقعِ الحياةِ الفعلية في البيئاتِ والمجتمعاتِ المصرية والشرقية؛ استهدافا لما يربِط بين حاضرِها وماضيها.
وقد صَوَّبت هذه الدراساتُ ذاتُ المنهج العلمي الواضحِ المتكاملِ عديدًا من المفاهيم الأجنبية عن الحضارةِ المصرية القديمة وخرجت بنظرياتٍ وآراء جديدةٍ موثقةٍ عُدِّلت بها بعضُ المسلماتِ التقليديِة في ميدانِها كما قدمت بعض الحلول للمشكلات التاريخية المتعلقة بها.
والكشوفُ الأثريةُ العلميةُ التي أجراها الأستاذُ الدكتور عبد العزيز صالح ذاتُ أهميةٍ بالغة، فقد كان له دورهُ في الكشف عام 1955 عن بَردياتٍ مصريةٍ بمنطقةِ تونة الجبل في المنيا تضمنت نصوصًا ديموطيقية تضيف الجديد من نظم المعاملات في القانونِ المصري القديم كما كشفَ في هضبة الجيزة منذ عام 1970 عن آثارِ حيٍّ سكنيٍّ صناعيٍّ لقطاع من الطبقةِ العاملةِ المتصلةِ بمعبد شعائرِ الهرمِ الثالث وقد تضمن هذا الكشفُ مصنعًا للبردي يُعتبر فريدًا في نوعِه كما عبَّرت بقايا مساكنِ هذا الحي عن المستوى الاقتصاديّ والحِرْفيّ لأصحابها خلالَ القرن 23 قبل الميلاد.(176/3)
... ومنذ عام 1976 توالت بحوثُه ودراساتُه العلمية للكشفِ عن المعالمِ الحضاريةِ الرئيسيةِ لمدينة أونو القديمة ( أي هليوبوليس وعين شمس) أولى المراكز الكبرى للفكرِ والثقافةِ الجامعةِ في العالم القديم. وكُشف منها حتى الآن عن بقايا 140 من الوحدات السكنية والإدارية والصناعية لقطاع من الطبقة الوسطى الدينية والمدنية خلال القرنين 12 – 11 قبل الميلاد، كما كُشف عن بقايا ثلاثةِ معابد وحصنٍ ملكي من عصر الرعامسة وكان لذلك كٌلّه صدى كبيرٌ في الأوساط الأثريةِ العالميةِ.
... وتجاوز العطاءُ العلميُّ للدكتور صالح نطاقَ الحضارةِ المصريةِ القديمةِ فأصدر دراساتٍ موسعةً عن تاريخِ وحضارةِ العراق وعن الحضاراتِ العربيةِ القديمة في شبهِ الجزيرة العربية بشمالِها وجنوِبها، وبخاصةٍ فيما يتعلق بحياتِها الاجتماعية والصلاتِ اللغويةِ والثقافيةِ بين مصرِ القديمة وبينها – كما ألقى الضوءَ عن وجود تأثيراتٍ معماريةٍ وفنيةٍ مصرية قديمةٍ واضحةٍ في بعض المنشآت المعمارية بشمالِ الحجاز منذ القرنِ الخامسِ قبل الميلاد وحتى القرنِ الأول الميلادي، وذلك ما أرجع العلاقاتِ الحضاريةَ بين مصر وبينها إلى ما قبل بدايةِ العصور الإسلامية بنحو ألف ومائتي عام وهو أمرٌ له أهميتُه البالغة.(176/4)
... وكان للأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح نشاطٌ كبيرٌ في المجمع إذ كان مقررًا للجنة التاريخ، وأسهم في إنجاز العديد من المصطلحات بعلمه وخبرته الواسعة، كما كان له نشاط مرموق في الكثير من الهيئات الأدبية والفكرية والثقافية على الصعيدين القوميِّ والعربي. وعلى الساحةِ الدوليةِ فقد كان عضوًا بالمجلس القومي للثقافةِ، وعضوًا في شُعَبِ التعليم الجامعيِ والثقافةِ والعلومِ الإنسانية والتراثِ الحضاريِ والأثريِ بالمجالسِ القوميةِ المتخصصة، وعضوًا بالمجمعِ العلميِ المصري، وكان نائبًا لرئيسِ الجمعية المصريةِ للدراساتِ التاريخية، ورئيسًا لشعبة البرديات المصريةِ القديمةِ في مركز الدراساتِ البَرْدية بجامعةِ عين شمس، وعضوًا للجنة الموسوعةِ الأفريقيةِ للأعلام باليونسكو، وعضوًا للجنةِ التأسيسيةِ للمؤتمراتِ الدوليةِ لعلمِ المصريات، كما كان عضوًا في جمعياتٍ بريطانيةٍ وكنديةٍ وألمانيةٍ عالميةٍ متخصصةٍ في الآثارِ وتاريخِ الحضارة. وقد حاضَر وشارَك في عدة ندواتٍ ومؤتمراتٍ عُقدت في كمبردج ببريطانيا وجزينويل بفرنسا وبرلين وتوبنجن ومونستر وميونيخ بألمانيا ومكسيكوسيتي بالمكسيك وتورنتو بكندا بالإضافة إلى بلادٍ عربيةٍ عديدةٍ وبخاصةٍ المملكةِ العربيةِ السعودية التي رأس فيها أيضا قسمَ التاريخِ بجامعتي الملكِ عبد العزيز والملكِ سعود.
... وقد عمل الأستاذُ الدكتور صالح مقررًا للجنة مشروع مُعجم مصطلحات الآثارِ في التعليم العالي بمكتب تنسيق التعريب بالرباط عام 1986، كما كتبَ مجموعةً من البحوث المتخصصةٍ في قاموسِ القرآنِ الكريم الذي تُنجزه حاليا مؤسسةُ التقدم العلمي بالكويت.
... وتكريمًا له وتقديرًا لمكانته العلمية فقد خصصت هيئةُ الآثار المصرية العددَ الخاصَ بعام 1986 في مجلةِ حولياتِها الأثرية ليَصدرَ باسمه.(176/5)
... وقد نال جائزةَ الدولة التشجيعية لعام 1962 ثم كرمته الدولة أيضا بنيل جائزةِ الدولةِ التقديرية لعام 1986.
سيدي الرئيس سادتي الزملاء:
... هذه لمحةٌ عن حياة هذا العالم الموسوعي الذي نؤبنه اليوم في هذا المحرابِ وهي – كما ترون – حياةٌ
زاخرةٌ بالعطاء والعملِ المثمرِ البناء. تغمد الله الفقيد العزيز بواسع رحمته وأنزله منازل الأطهار والأبرار؛ فقد كان في الحياة نورًا يهدي الناس سواء السبيل وسيظل في الممات ذكرى تنفع المؤمنين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
محمود حافظ
نائب رئيس المجمع(176/6)
عَلَمُ الفُصْحَى
للأستاذ حسن عبد الله القرشي
ساطعٌ ضَوْؤكَ يا فَجْرَ الْعطاءْ
مُنذُ أَشْرقْتَ مَنَارًا لْلعَلاءْ
عَلَمُ الفُصْحَى الَّذِي لا يَنْطوِي
مَجْمَعُ الْعِلْمِ وَمأْوى الْعلَماءْ
مَانِحُ الفكْرِ انطلاقًا باذِخًا
بجِهِادٍ يَجْتَبيهِ الشُرَفَاءْ
لُغةُ القرآنِ، ما أعظَمَهَا
كَمْ بِها قدْ بارَكَ اللهُ اللّواءْ
بِرِجَالٍ قد سَمَوْا فَوْقَ الذُّرى
الذُّؤَاباتُ شُمُوخًا وإِباءْ
حَفَزَتْهم لُغَةٌ باهِرَةٌ
كَيْ يعيدُوا عَهْدَ أمْجادٍ وِضَاءْ
سَابَقُوا الأجْدادَ في نَيْلِ العُلاَ
دُونَ أن يَعْدُوهُموا نُبْل الْحيَاءْ
وَمَضْوا مِثْلَ سِهَام صُرَّدٍ
في المضَاميرِ سَوَاءً بِسَواءْ
مُثُلٌ علْيا تَسامَي مَجْدُهُمْ
مُسْتَمَدُّ النبَّع مِن (غَارِ حِراءْ)
عَنَتِ الدُّنيا لما قَدْ أَبدَعوا
قِمَمٌ تأْبَى انزِواءً وانْحناءْ
الْقَناديلُ صَفَاءً وَسَنًا
لَيْسَ في جُعبتِهمْ مَعْنَى الرِّياءْ
زُمَرٌ أثْرَى بهَا العقْلُ وَمَا
كَثَراءِ الْعَقْلِ يستَحْيى الرَّجاءْ
* * *
يا مَعينَ الأدَبِ الْخالِدِ كَمْ
أَزْهَرَتْ فيكَ لُحُون الشُّعَراءْ
وَزَهَا النَّثْر رَصينًا ناضِرًا
مِنْ يَراعَاتِ كِرام الْبلَغَاءْ
حَمَلوُا خَيْر ثَقافَاتِ الدُّنَى
فَجنَيْنَا مِنْ ثَمارٍ مَا نَشَاءْ
إيهِ مَا أَحْلَى الِّلقاءات الَّتي
تَجْمعُ الأَفذاذَ تُدْنِي الأُدَباءْ!
* * *
سَألُونِي أَتُراهَا ( يَعْرُبٌ )
نَسِيَتْ تَاريخَها الْفَذَّ الْبَهاءْ؟
نَسِيَتْ أبطالَ ( بَدْرٍ ) حِينَما
نَصَرُوا خَيْرَ الْوَرَى دُونَ جَزَاءْ؟
لَمْ تَعُدْ تَعبَأُ بالبأْسِ الَّذي
حَلَّ بالأَوْطَانِ كالدَّاءِ الْعَياءْ
هُو ذَا ( مَقْدِسُها ) في أَسْرِهِ
يتحَدَّاهُ لِئامُ الدُّخَلاَءْ
لاَ ( الرَّشيدُ ) الْفَذُّ يأسُو جُرْحهُ
أوْ (صَلاحُ الْدِّينِ) رَمْزُ الأَقْوياءْ
أَيْنَ مِنَّا ( خَالدٌ ) رَبُّ الْوغى
والْفَتَى (مُعَتصِمٌ) حَامِي النِّسَاءْ؟(177/1)
أَصْبَحَتْ فُرسَانُهاَ رَاجِلَةً
رَهْنَ إِذلالٍ ، ويَأْسٍ ، وانكفَاءْ
تَتَوارَى عن ذُرَى الحقّ وكَم
يَتَوارَى عن رُؤَى الحقّ الخُواءْ
رَضِيَتْ بالسَّلْم مَخْذولاً وَمَا
هوَ سَلْمٌ بَلْ هَوَانُ الضُّعفَاءْ
أَيُّ سَلْمٍ والأَمَانِي بدَدٌ
والأَشِقَّاءُ خِصَامٌ وعِدَاءْ؟
وَيَدُ ( التَّطْبيعِ ) سَوْطٌ مُلْهِبٌ
يَتَحدَّانَا صَبَاحًا ومَسَاءْ
أَيْنَ ولَّت وَحْدةٌ مَرْمُوقةٌ
تَرَفُضُ الْعَارَ إبَاءً ومَضَاءْ
فِيمَ كانَتْ حَربُنا يا سَادَةً
ألْبَسُوا الباطِلَ أَثْوابَ الصَّفَاءْ؟
أَقْدَمُوا، ثُمَّ هَوَوْا فَاسْتَدْبَروا
رُغْمَ ماضِيهِم سَبيلَ النُّصَراءْ
سَوْفَ يأْتِي جِيلُ ثأْرٍ بَعَدهُمْ
يَرْفَعُ الرَّاياتِ في أعلى الْجِوَاءْ
أُمَّةُ الْعُرْبِ وَلُودٌ أَبَدًا
وَسَنَا الإسْلام يَنْفِي الأَدْعِياءْ
إنْ نَصَرْنا الله في حَقّ لَنا
سَوْفَ نَحظَى بانتصار الأكْفِياءْ
سَوف يَرْضَى الله عن وثبتنا
وَسَنَجْني مَا جَنَاهُ الأَنْبِياءْ
والْجِهَادُ الْحَقُّ فَرْضٌ لازِمٌ
يَصْطَفِيهِ النَّابهُونَ الْخُلصَاءْ
نَشَدوا الْجَنَّةَ بالْجُهدِ الذي
يَستَحقُّ الْفَوْزَ في دارِ الْبَقَاءْ!
هَاهُموا (الشيشَانُ) في مَلْحَمةٍ
صَبَغَتْهم بِنَجِيعِ الشُّهَداءْ
قَد أَبَادَ الكُفْرُ أَبطالاً سَمَوْا
فقَضَوا مِن بَعْدِ بَذْلٍ وَفِدَاءْ
ذَكرونا بالبُطُولات الْعُلاَ
ونَسينَاهُمْ لِغَدْرٍ وَبَلاءْ
لَمْ يَرَوا مِنَّا لِدِينٍ نُصْرةً
فَمَضَوْا نَهْبًا لِظُلْمٍ واعتدَاءْ
نَحْنُ سَاهَمْنَا بِمَا أَوْدَى بِهمْ
إذْ تَركْناهُمْ أُسارَى في الْعَراءْ
نَحْنُ مَسؤولُون عَنْ نكْبَتِهمْ
لَمْ نكُنْ في صَفِّهِم بالأَوْفياء
لَمْ نُؤِّد واجِبًا يَفرِضُهُ
شَرفُ القُربَى وإيثارُ الإخَاءْ
كَيْفَ نَلْقَى اللهَ طُرًّا فِي غَدٍ
لَيْسَ فيه نَاصِرٌ أو شُفَعَاءْ؟
لاَ يُنَجى منْه إلاّ المتَّقِي
صَوْلةَ الْحَقِ طريقَ الأتقياءْ(177/2)
بَاذلُ الرُّوح فِدَاءً لِلْحِمَى
سَالكٌ أَسْمَى سَبيلِ النُّبلاء!
* * *
يا (عُكَاظًا) لأْلأَتْ أَنْوارُه
وَغَدا كالشَّمْسِ في صَحْوِ السَّمَاءْ
مَلأَ الآفَاقَ فَضْلاً أَبلَجًا
فَهْوَ نبراسُ عَطَاءٍ، ونَماءْ
كَربيعٍ أَيْنَعَتْ أَثْمارُهُ
وَكَبُستَانٍ زَهَا ظِلاًّ، ومَاءْ
كُلُّ أعضائِكَ فَذٌّ خَالِدٌ
صَادِقُ الْهمَّةِ مَوفُورُ الذَّكَاءْ
صَيْرَفيُّ الفِكْر مِصْباحُ هُدًى
وكَريمٌ غَبَطَتْه الكُرَمَاءْ
جَنَّدوا لِلْعِلْم جُهْدًا خَارِقًا
وَسَيَلْقَوْنَ مِنَ اللهِ الْجَزَاءْ
* * *
يَا ( عُكَاظًا ) لاَ يُبارَى مَجْدُهُ
أَو يُجَارَى، في جَلاَلٍ ورُوَاءْ
والَّذِي يَجْمَعُ في سَاَحته
كُلَّ نَجْدٍ فَاقَ خَيرَ النُّظرَاءْ
الذؤاباتُ مصابيحُ الرّجاء
من غدوا للعلم ذخرًا وَوعاء
مَأرِزًا للفضل والفكْرِ حِمَى الـ
ـعَبقْريينَ ، مرادَ الحُكَماءْ
عِشْتَ للفُصْحَى مَنَارًا زَاهِرًا
تَرتَوي مِنه أَفَاويقَ الضياءْ!
حسن عبد الله القرشي
عضو المجمع المراسل
من السعودية(177/3)
بين الفصحى والعامية في وسائل الإعلام (*)
للأستاذ الدكتور عبد الله الطيب
في كتاب سيبويه " أيُّ مَن إِن يأتِه مَنْ إن يأتِنا نُعْطِه يُعْطِهِ تَأْتِ يُكْرِمْك" أ.هـ وفي موضع آخر" وسألت الخليل عن قولهم أيّتهُن فلانة وأَيُّهن فلانة " فقال: إِذا قُلْتَ أيّ فهو بمنزلة كل، لأَنَّ كُلاًّ مذكر يقع للمذكر والمؤنث وهو أيضًا بمنزلة بعض، فإذا قلت أيّتُهن فإنك أردت أن تؤنث الاسم، كما أن بعض العرب فيما زعم الخليل يقول كلتهن منطلقة .
... وفي الباب الذي يلي هذا باب أي إذا كنت مستفهمًا بها عن نكرة " وإذا قال رأيت امرأة " قلت أَيَّةً يا فتى فإن قال رأيت امرأتين قلت أيَّتَيْنِ يا فتى فإن قال رأيت نسوة قلت أَيَّاتٍ يا فتى. ومضى سيبويه يحكي راويًا وذا رأْيي قال: " فإن تكلم بجميع ما ذكرنا مجرورًا جررت أيا وإن تكلم به مرفوعا رفعت أيا لأنك إنما تستفهم
على ما وضع المتكلم عليه كلامه " ثم قال " قلت فإذا قال رأيت عبد الله ومررت بعبد الله قال فإن الكلام: ألا تقول أيًّا ولكن تقول من عَبْدُ الله وأيٌّ عَبْدُ الله لا يكون إذا جئت بأيٍّ إِلا الرفع" أ. هـ
... وهنا نتساءل فلم قال من قبل " فإن قلت رأيت نسوةً قُلت أيّاتٍ يا فتى؟ هل قوله يا فتى وَحْدَها يريد به الوصل فذلك جعل الاستفهام يُجْرَى على النصب أو هل ثمَّ وجهٌ آخر؟
وقال سيبويه في باب آخر " أعلم أنك تثني أيا وذلك قولك رأيت رجلين فتقول مَنَيْن كما تقول أيّينِ وأتاني رجلان تقول مَنَان وأتاني رجالٌ تقول مَنُونَ وإن قال رأيت رجالاً قلت منين كما تقول أيين وإن قال رأيت امرأة قلت مَنَه كما تقول أيَّةً فإن وصل قال من يا فتى للواحد والاثنين والجمع.(178/1)
... وبَعْدُ .. فجميع هذا الذي تقدم لا يستعمل في اللغة الإعلامية المعاصرة ولم يستعمل في الذي بلغنا من إعلاميات وإعلاميين في عصور العربية الزاهية زمان المحدثين، هذا نقوله على تقدير أن أصحاب الرسائل والكتاب والشعراء كانوا بمنزلة ما نسميه الآن إعلاميين وإعلاميات.
... هذا الذي جاء به سيبويه عن رأي أو رواية مأخوذة عن الفصحاء أو مقيس على ما أُخِذَ منهم. وهؤلاء الفصحاء من العرب كانوا سادة أو مؤدبين. واللغة العالية أبدًا لغة العلية من الناس ومن يخدمهم أو يحاكيهم، هذا عند العرب وعند غيرهم. وفي تذكرة الحفاظ للذهبي في ترجمة زِرّ بن حبيش:"كان زِرٌّ من أعرب الناس. كان ابن مسعود يسأله عن العربية" وابن مسعود صحابي جليل أقدم عهًدا ومولدًا وأجل قدرا من زر بن حبيش ومن كثير من خيار العرب، وكان رضي الله عنه من هذيل وهي من أفصح قبائل العرب معروفة بذلك ووثيقة صلة الرحم والدار بقريش وقد يذكر أن أبا الأسود الدؤلي كان ذا علم بالعربية، وخبره مع أمير المؤمنين ومع زياد معروف.
وهلْ أيَّاتٍ " التي ذكرها سيبويه كلمة واحدة منصوبة أو كلمتان " أياتْ " مجزومة وقفًا ثم هِنْ دالةً على الإناث مختزلة ومُغَيَّرة من هن كما في عاميتنا الآن – نقول " هِنْ للنسوة و " هُنْ " للرجال وهي في الفصيحة كذلك عند الجر كقوله تعالى { يُدنين عليهنَّ من جلابيبهن } . والنون والميم متقاربتان وبعض اللغات أخوات العربية تجمع بالياء والميم مكان الياء والنون.
وفي كتاب سيبويه " وإن قلت رأيت امرأتين قلت مَنَتَيْن كما قلت أيَّتيْن إلاّ أن النون مجزومة" فلزم سيبويه في التأنيث الوقف خلافًا لما فعل في التذكير.
فعلى هذا ما زعمنا في " أيَّاتٍ " أنها من أياتْ مجزومة بعدها هنْ ثم أسقطت الهاء وضمَت إلى ما قبلها فنشأت من ذلك أيَّاتٍ. ونحن في عاميتنا نقول إن قال رأيت نسوة:إِياتٍ وإن قال رأيت رجالا إِيّاتٌ – أي إِياتْ هُنْ أي هم .(178/2)
... وقال سيبويه في موضع آخر: " فإن قال رأيت نساءً قلت مناتْ كما قلت أيَّات إلا أن الواحد يخالف أيا في موضع الجر والرفع وذلك قولك أتاني رجل فتقول مَنُو وتقول مررت برجل فتقول مَنِى.
... في عاميتنا في السودان إن قال أتاني رجل تقول مِنُو وكَأنَّ أصل هذه ( مَنْ هُو ) ثم كأن المتكلم حاول البدء بالسكون وتخلص من صعوبته بالكسر فقال مِنُو. ولعل مثل هذا التصرف هو أصل مِيْن المصرية. ومِنُو في لهجتنا كأنها من ( مين هُو ) وإذا قال رأيت امرأة قلنا مِنِي أي ( مين هي ) بتقصير الإشباع وجعله كسرة بدل الياء.
... الذي أهم بقوله هو أن اللغة الفصحى العالية التي لا نجدها إلا في كتب النحو وكتاب سيبويه وما أشبهه لعلها كانت متداولة فقط في المحادثات إذ لا شاهد عليها في القرآن والمأثور من الخطب والحديث والأشعار. هل كانت هذه الأشياء التي رواها سيبويه عن الخليل ويونس وأشياخه كأنها عامية فصحاء البدو والرؤساء رويت وقيس عليها؟
عندي أن لهجتنا العامية في السودان قد احتفظت بكثير من الكلام الفصيح الأصل. وأحسب أن مثل الذي فيها أو قريبًا منه يوجد في أكثر عاميات العرب مع ما عراها من لحن وتغيير. والتغيير من سنن الكون. ولن تجد لسنة الله تحويلا.
... قد بين الإعلام الحديث بما لديه من مناهج بارعة ووسائل حديثة على نشر بعض مظاهر الكلام المُعْرَب أو المقارب له على نطاق أوسع. ولكنه مع ذلك سيدخل في أسلوب التفاهم أصنافًا من اللين واللكنة الأعجمية المباعدة لنا بطابعها ذي الوحدة القومية عن طابع أصالتنا النابع من لغة القرآن والأسلوب
الذي هو لغة الضاد الفصيحة.(178/3)
... عسى أن يكون من الحكمة ألا ننجرف في محاربة العامية. ولكن نسلك مسلكًا معتدلاً كأسلافنا، ندرس اللغة الفصيحة لنفهم القرآن والحديث والفقه وأدب العرب ونعبر ببيان ينظر إلى أجود ما صيغ بعد ذلك من نماذج ولن تقصر الأصالة المكتنة في العامية أن تغذونا بما ينبعث في بياننا من حين إلى حين من بلاغة وفصاحة
وتجويد وتجديد.
ولن يخلو عصر من العصور التي نستقبل إن شاء الله من بارودي يجدد أو شوقي يحدث.
عبد الله الطيب
عضو المجمع من السودان
...(178/4)
خطر الدخيل على الفصحى والعامية معا (*)
للأستاذ الدكتور أبي القاسم سعد الله
حضرات الزملاء الأفاضل
... حين قرأت العنوان المختار لهذه الندوة وهو ( الفصيح والعامية في وسائل الإعلام ) تساءلت: هل الموضوع جديد؟ لقد بدا لي بسرعة أنه موضوع تناوله المجمعيون وغيرهم في عدة مناسبات، وأن الصحف والكتب قد عالجته، منذ الخمسينيات، وربما قبل ذلك، ثم بدا لي أن موضوعًا كهذا جديد ولو كان قديمًا؛ لأنه متجدد تجدد اللغة نفسها، وتجدد الإعلام والمجتمع بكامله. وربما نستطيع القول إن كل عقد من الزمان له وسائل إعلامه وعاميته، وكلاهما يؤثر في الفصحى إيجابًا وسلبًا.
... إن ما نشهده اليوم، ونحن في مرحلة أصبح الإعلام يسميها، مرحلة العولمة، هو الهجمة التي تقودها شبكة المعلومات على مواقع اللغة العربية ،
سواء كانت الفصحى أو العامية، وهي هجمة لا تخص اللغة العربية بالمناسبة، وإنما هي موجهة بصفة عامة إلى إضعاف اللغات القومية في العالم، حتى المتقدمة منها، فالفرنسية والإيطالية واليابانية وغيرها تعاني من لغة المعلوماتية وهجمة العولمة كما تعاني اللغة العربية ومثيلاتها، وهي تحاول أن تتخذ لنفسها وسائل للحماية الذاتية ما أمكنها، فتجند إعلامها المحلي ومجامعها وعلماءها وسياسييها ليقفوا ضد هذه الموجة العاتية، موجة لغة المعلوماتية، بما فيها من رموز ومصطلحات ومغريات كالسرعة والفاعلية والتجدد.
... وأول ضحايا هذه العولمة اللغوية هم الشباب، ابتداء من سن المراهقة. فمن جهة الفاعل هناك خريطة جديدة للتعامل مع الآخر،(179/1)
فالعالم كله، بما فيه ومن فيه، أصبح ممثلا على شاشة صغيرة، يكفي تحريك ( فارة ) لاكتشاف خباياه وألوانه من الرغبات الجنسية إلى الآفاق العلمية، إلى الرياضة والمسليات، وغير ذلك مما يشد العين والقلب والفكر لتلك الشاشة الصغيرة. أما من جهة المفعول به فهناك لغة لتلقي المعلومات غير اللغة التي اعتاد الشاب سماع موسيقاها أو ألف رؤية حروفها، وهي في العادة لغة إنجليزية مقتضبة أو مختصرة في مصطلحات ورموز سرعان ما يتعرف عليها المتلقي، حسب تعليمات يتقنها بالممارسة والمرور بتجربة الصواب والخطأ أو من الأصدقاء، وحتى بالتعلم العادي في دورات لا تدوم في العادة أكثر من نصف شهر. وأمام انبهار المتلقي، وهو هنا الشاب المراهق ذو الاستعداد الفطري للاكتشاف والمغامرة وحب الجديد، تتغلب لغة المعلوماتية الجديدة الحية والعملية على اللغة الوطنية، ولو كانت لغة الأم والقلب والتراث، لأنها أصبحت فاقدة للجدة والتطور، بل رازحة في أثقال التخلف وعدم الاستجابة لمطلب السرعة والتلقائية ومسايرة روح العصر.(179/2)
... ذلك هو أحد أنواع الإعلام الذي يهدد الفصحى والعامية معًا. ومن الخطأ أن ندعي أن هجمة العولمة اللغوية تضر بالفصحى فقط. ذلك أن العامية، إذا صينت من الدخيل غير الخاضع لقولبتها وصياغاتها، هي إثراء للفصحى لأنها في الأساس منها، ولذلك نرى ضرورة حماية العامية أيضًا من الدخيل المتغلب لأنها هي باب الإساءة إلى الفصحى إذا ما ظل مفتوحًا على مصراعيه، وهي الباب الرئيسي للاستلاب اللغوي، الذي وقعت فيه بعض الشعوب. ولا عجب أن يدعي دعاة القضاء على الفصحى من المستشرقين فصل هذه عن عامياتها، بل تشجيع العامية في البلد الواحد لتصبح " عاميات " تمهيدًا لإحلال اللغة الدخيلة مكانها حيث تصبح هي ( أي اللغة الدخيلة ) أداة للتواصل بدلها. لذلك فالدعوة لحماية الفصحى يجب أن تشمل أيضًا حماية العامية، لأن العامية هي الخط المتقدم للدفاع عن الفصحى، فإذا سقطت في وجه العولمة اللغوية فإن الدفاع عن الفصحى سيضعف كثيرًا، إذا لم يسقط أيضًا.(179/3)
... وهناك أنواع أخرى من الإعلام تواجهه الفصحى والعامية معًا أيضًا. ونعني به الإشهار أو الإعلانات التجارية، فقد أصبحت شاشة التليفزيون والسينما تعج بالصور المغرية والملونة والمتحركة في أشكال مختلفة لتروّج لأنواع العطور والمأكولات والملابس وأدوات التجميل والمخترعات والألعاب والطرائف، ونحوها. وكلها تؤدّى بأصوات وحركات رجالية ونسائية ذات دلالات خاصة، تخطف البصر وتحرك القلب وتلفت الانتباه وتخلب السمع، ولا سيما عند فئة الشباب والنساء – لأنها في معظمها موجهة لهاتين الفئتين من المجتمع – وكلها تستعمل في أغلب الأحيان العامية المختلطة بأسماء العلامات التجارية والعناوين والأسماء الأجنبية المنطوقة بأصوات عربية، فيكون ذلك ترويجًا لا للبضاعة فقط ولكن لألفاظ ومعاني اللغة الأجنبية، إضافة إلى ما يحدثه ذلك من أثر سلبي على اللغة الوطنية باعتبارها تظهر غير قادرة على توصيل نفس الألفاظ والمعاني إلى المنتمين إليها.(179/4)
... وإلى جانب ذلك تردّد الإذاعات وتنشر الصحف وتعرض شركات الإشهار ألوانًا أخرى من التأثير اللغوي، كل في مجاله. ففي هذه الإذاعات تذاع الإعلانات عن البضائع ونحوها بأصوات مغناة فيها تطريب وموسيقا بلغتها الأصلية الأجنبية، وقد تضاف إليها أمثال وحكم، وأسجاع ومقاطع صوتية مؤثرة، وأثناء ذلك تمرر الألفاظ والتعابير الدخيلة الحاملة لأسماء الشركات وعناوين المستحضرات وهلم جرًّا. أما الصحف وشركات الإشهار فتبرز إعلاناتها التجارية بطريقة الإغراء والتلاعب بالألوان والأضواء، وهي تعتمد على الصورة الخاطفة للبصر في أحجام مختلفة. ومن خلالها يعرف القارئ، شاء أو لم يشأ، نوع المعروض أمامه، وقد أصبحت بعض الصحف تكتفي بنشر صور الفنانين والفنانات في أحجام وأشكال وألوان ملفتة للنظر، لا لشيء سوى ملء حيز من الصحيفة والكتابة أحيانًا تحت الصورة أو فوقها بأن صاحبها أو صاحبتها تفعل كذا في مكان كذا بألفاظ وتعابير دخيلة على العربية.(179/5)
... وهناك آفة أخرى تظهر في وسائل الإعلام في بعض البلدان العربية، ونعني بها استعمال المختصرات باللغة الأجنبية للدلالة على اسم شركة أو حزب أو جمعية.فالعربية قد تختصر العنوان الطويل، مثلاً، في كلمة، ولكنها لا تستعمل المختصر في شكل حروف منفصلة أو مجموعة، فلا نقول عن جامعة الدول العربية (ج . د . ع) ثم ننطقها (جدع) لتصبح علمًا على جامعة الدول العربية أثناء النطق أو الكتابة. ولكن بعض الصحف في الجزائر على الخصوص، تقول عن جبهة التحرير الوطني ( ف. ل. ن. ) وهو اختصار الاسم بالفرنسية( FLN ) ، ثم تعرّفها وتجملها وتقول ( الأفلان ). وهكذا تفعل مع مختلف أسماء الأحزاب السياسية والشركات الوطنية والجمعيات المدنية، حيث يكون الأصل المختصر المعبر عن ( Abreviation ) من الفرنسية، ثم تعرّب ذلك المختصر وتدخل عليه أداة التعريف، فتقول في التجمع الوطني الديمقراطي ( الرند من الفرنسية RND ) وفي الشركة الوطنية للكهرباء والغاز السونالغاز SONALGAZ . وقد راجت هذه الاستعمالات حتى أصبح المواطنون بجميع طبقاتهم يعرفونها بنطقها الأجنبي، ولو كانت مكتوبة بحروف عربية، ولو نطقت لهم بالعربية ربما لا يعرفونها، وكل ذلك من باب الترويج للدخيل على الفصحى والعامية معًا، سواء أراد ذلك أصحاب الإعلام أو لم يقصدوا إليه.(179/6)
... ويتصل بهذا ما شاع في الجزائر من استعمال للألفاظ الأجنبية للدلالة على التجارة أو البطالة ونحو ذلك، حتى أصبح من الصعب محوه من أذهان الناس، خذ مثلاً كلمة (طرابندو). فقد استعملت في الصحف العربية والفرنسية، وفي وسائل الإعلام الأخرى، للدلالة على تجارة الشنطة، واشتقت منها كلمة ( طرابنديست ) أي تاجر الشنطة، وهي عملية كان يقوم بها في العادة شباب لجلب بضائع معينة من الخارج، وكانوا في الواقع وسطاء بين تجار محليين أو موردين وتجار أجانب أو مصدرين، ويتصل بذلك أيضًا استعمال تعبير خاص بالبطال أي الذي لا عمل له والذي يقضي وقته واقفًا عند حائط، علامة على الركود الاقتصادي، وضياع الشباب، ومن ثمة أطلقت وسائل الإعلام على الشاب البطال "حيطست" ( من كلمة حيط / حائط ) وأصبح الناس يرددون عبارات ( الحيطستز ) أو البطالين. وأمثال هذه التعابير والألفاظ كثيرة، في وسائل الإعلام الجزائرية، مما يدل على حدة الصراع اللغوي بين الدخيل (الفرنسي) والفصيح / العامي.
... وإليك الآن أمثلة مما تنقله وسائل الإعلام بأصوات جذابة مطربة في أغلب الأحيان، أو تكتبه الصحف وتكرره الألسنة حتى استفاض بين الخاص والعام:
(1) كلمات من ( الإنترنيت ):
كوبي = نسخ / Copy
بيست = لصق / Paste
سيف = حفظ / Save
أوبن = فتح / Open
ساين آوت=إغلاق/خروج/ Sign – out
(2) كلمات متصلة بالحياة اليومية
نيدو = نوع من الحليب / Nido
لوريال = مختبر لأدوات التجميل وغيرها / L’Oreal
تايم آوت = نوع من الحلوى ( شوكولاتة ) / Time – Out
رنقو = بطاطا مقلية / مجففة / Ringo
ميت لاند = لحم مصبّر Meat Land
(3) بعض المختصرات الشائعة
الأليسكو = ( المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة ) / Alesco
الأفالان = جبهة التحرير الوطني/FLN
الرند = التجمع الوطني الديمقراطي / RND
سونالغاز = الشركة الوطنية الجزائرية للكهرباء والغاز/ Sonalgaz
حضرات الزملاء الكرام:(179/7)
... في ضوء ما قدمته وما ستقدمون من وجهات نظر مفيدة حول موضوع هذه الدورة، اسمحوا لي أن
أقترح عليكم جعل عنوان الدورة المقبلة هو ( وضع اللغة العربية في مواجهة العولمة اللغوية ).
وفقنا الله لخدمة لغتنا القومية، رمز وحدتنا ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً.
أبو القاسم سعد الله
عضو المجمع المراسل من الجزائر(179/8)
الفُصحى والعامية في وسائل الإعلام (*)
للأستاذ حسن عبد الله القرشي
نظرة موجزة
... كانت اللغاتُ موضعَ معاناة منذ أن أوجدَها الله على سطْح الأرض ومُنذ أن أنطقَها الإنسان، ومنذ أن أنزلت بها الكتب السماوية.
... وإذا كانت لا تكادُ تخلُو لغةُ أمّةٍ من فُصْحَى وعامية فإن المسؤولية في العناية باللغة العربيةِ يجب أن تكونَ أكبرَ وأضخم فهي التي نزل بها القرآن العظيم كتابُ الإسلام الذي هو خاتمةُ الأديان، وهي التي كان على أبنائها – ولم يزل – أن يعلّموها سائرَ الأمم فهم دعاةُ نَشرِ هذا الدِّين الحنيف في أصقاع المعمورة.
... وقد أتقنَ أناسٌ العربية إلى حدِّ الإعجاز، كما أخل بها آخرُون إلى حدِّ الانحدار...
... أَجَل لقد شرَّف الله العربية أَعظم تشريف وأرقَاه حين أنزل بها كتابه
الجليل مما أوجبَ عناية الإنسان بها فهي سبيلُه إلى قراءةِ كتَابِه العزيز أرقى ما تكون القراءة.
... كما كانت هي الأساس في وصولِ الكتَّاب البلغاء إلى كَراسِي الحُكم، والقيادة، والرئاسة، والوزارة.
... والشعرُ كان رأسَ وسائل الإعلام في عصور ازدهاره جاهليةً وإسلاميةً ولذلك أصبح الشاعر لسانَ الأمة العتيدِ. والمثالُ شعراء المعلقات وأضرابهم، وشعراء العصر الأموي، والمتنبي الذي له ذكرٌ مشهور في مجموع العصور.
... وقد حفَلت كتبُ التراث العليا كالأغاني للأصبهاني، والبيان والتبيين للجاحظ، والعقد الفريد لابن عبد ربه بمئاتِ القصائد الفصيحة التي كانت أغنياتٍ مدَى قرونٍ عديدة وأجيالٍ متعاقبة.
... وفي عصورنا المتأخرة أبتُليتِ الفُصحى بلغة العوام المسمّاة ( العامية )، وزادَها بلاء وابتلاء تعدُّدُ وسائلِ الإعلام الحديثة من صحافة، وإذاعة، وسينما وتلفزة وكلها تُؤثرُها وتروِّجُ لها وتزيدُ من ترسِيخها في الأذهَان.(180/1)
... فتكافلت كلُّها على حَربهَا حتى ضعُفَ شأْن الفُصَحى، وأصبحَ المُصِرُّون على التحَدث بها موضع فكاهة وسخرية، وأصبحت سلاسلُ الأخطاء الواردة على ألسنة رجالِ وسَيداتِ الإعلام موضِع تَسامح وإغضِاء وترفُق. وأصبحتِ العامية اللُّغة السلسة والسَّهلة على أقلاَم كتَّاب القَصص أستثنى من هؤلاء الكَاتبَ والأديبَ العَلَم ( نجيب محفوظ ).
... بل إن الهبوط استولى على أقلام الكثيرين من الشُعراء فإذا بهم يؤثرونَ بساطةَ اللغة على التعمُّق فيها تماثلهم في ذلك وسائلُ الإعلام على تعدُّدهَا.
... وأضحى شاعرُ العامية معدودًا في الصَّفِّ الأولِ من الشعراء تُحَجز له أرقَى المجالسِ والأماكن ليُفيض على الناس فيها من أمسياتِه التي تمتلئ بالمصفِّقين والمطيبين وربما المنافقين.
... وتدهورُ الفُصحى أدَّى إلى تدهورِ الشعرِ فصار أكثرُ شعرِ الأغاني عاميًّا صرِفًا..
... ثم أُصبنا بالآفةِ الكبرى وهي ما يُسمَّى ( بالشعر المنثور ) أو قصيدةِ النثر ممّا أخلَّ بموازين الشعرِ الفصيح وأصبحَ لهؤلاء مكَانةٌ مرموقة وهم يجهلون كلَّ من ينتقد اتجاهاتهم والصحف التي يسيطرونَ عليها ترفُضُ النشر لِمن يتعرضُ لانتقادهم. مما يوجِب على الغُير على الفُصْحَى أن يصلِحوا – ما أمكنَ هذا الخلل الذي يكاد أن يهدِّدَ مستقبلَ الفُصحَى وما هو ببالغٍ ذلك إن شاء الله.
... وفي كلّ الأحوال فالمسألةُ ليست مناظرةً بينَ الفُصحى والعامية فالفُصحى هي الراجحة وميزانها هو الرابح.
... وموضوعُ الفصحى والعاميةِ موضوعٌ خِصْبٌ وقد كتبَ فيه أعلامٌ كبار من سائِر بلاد العروبة مشرقيون ومغربيُّون، كما أوردوا العديد من الأمثلة التي تماثلتْ فيها الألفاظ والكلمات الفصيحة مع العامية.
... وقد تَعرض لهذا الموضوع أعلام قدماءٌ مشهورون من أعلام العربية كصاحب اللسانِ، وكالطبري في تفسيره، وكالزَّبيدي الأشبيلي، وكالحريري، وغيرهم كثيرون.(180/2)
... وكثيرٌ من الكتاب لا يفرّقون بين أيّ وبين أيةٍ في الخطاب وهناك من يستعير ويستعملُ لفظةً في غيْر موضعها فقد شاع على الألسنة وبعض الأقلام مثلاً قولهم هذا كلام شيِّق، وهذا حديث شيق، مع أن كلمة شيق معناها مشتاق والأصح أن يقالَ هذا حديث شائق وهذا كتاب شائق أي تَشوقُ قراءتهُ، وهناك من يخلطون بين كلمة الأَعلام والإعلام، فيقولون هذا مدير الأعلام وهذا وزير الأعلام إلى غير ذلك.
... وفي منطقةٍ كمنطقة الخليجِ العربي تكادُ تسيطرُ العامِّية سيطرةَ تامَّة حيث لا تخلُو جريدةٌ أو مجلّة من غلَبةِ ما ينشرُ بالعاميةِ ويؤْثَرُ بالمكان الأفضل والأبرز.
... ومن الآفات التساهلُ في انتقاء رجالِ الإعلام ونسائه من الذين لا تخلو ألسنتهم من اللَّحن ولا كتاباتهم من العِوَج.
... وفي فترة كنتُ منتسِبًا إلى الإذاعة المصرّية وتَقدَّم للإذاعة مئتَا شابّ من خرِّيجي الآداب فلم ينجح منهم كبيرُ المذِيعين بالإذاعة غيرَ ثلاثة نفرٍ ليس غير .. وكبيرُ المذيعين هذا كانَ المثقف الجهير الدكتور ( علي الراعي ) يرحمه الله.
... ويكفِي في تدقيق الدُّكتور ( الراعي ) نفسِه أنه وهو في منصبه المذكور (كبير المذيعين). كان قد أسقَط المذيعَ المعروف فيما بعد الأستاذ (جلال معوض) ذاكرًا أنه لا يخلو من مَضْغٍ للكلام ولم يدخل الأستاذ (جلال) قسمَ المذيعين إلاّ بعد أن سافر الدكتور ( الراعي ) إلى بريطانيا لدراسة الأدب المسرحي وحَصل منها على الدكتوراه.
... لقد كانَ ذلك في عهد مضى، أما الآن فقد كثر الهابون والدابون في سائر الدوائر الإعلامية في شَتّى الأقطارِ العربية وتكادُ تنعدم مَيْزَة الفَرْزِ والتدقيق.
... وعَلى أيةِ حال فإنه لا تُنكَر فائدةُ العامية في مهمَّة التوصيلِ والإبلاغِ على ألا تُعطَى كل هذه الغلبة المطلقة مما يُسىءإلى الفُصحى أبلغَ إساءة.(180/3)
... كما لا يُنكر فضلُ وسائلِ الإعلام الحديثة على أن تُوجَّه لسبيلِ الخير المحض وعلى أن تكونَ معوانًا لدعْم الفُصحى الدعمَ الكافي الذي يعيدُ لها شبابَها ورونقَها وما تستحقُّه وتستأهِلُه من مكانةٍ سامية.
ومختصر الرجاء في القول:
أولاً: أنه ينبغي أن تعطى الفُصحىَ الأهميةَ الأولى والقُصوى في التداولِ وأن يُعطى لشعرِ الفُصحى مكانةٌ عالية في التنغُّم وِالغنَاء.
ثانيًا: أن يُحصَر تَداولُ العامية في الأغاني الشعبية وما ماثلها ويَختصر ذلك كثيرًا من المستَويات السائدةِ اليوم.
ثالثًا: أن تُركَّز المسؤوليةُ في مسؤولِي الإعلام والوسائل التي يواجهون بها الشّعوب، وأن ينتقى هؤلاء من أشخاصٍ ذوي فَنٍّ ومِراسٍ، وعلم، وخبرة، وثقافة، وبُعدٍ عن مجاملة رجالِ السلطة في محاولاتهم التدخل في مجالاتِ الإعلام، ومؤازرةِ من يهتمون بهم من العناصرِ والشخصيات والمنتفعين من وراء نفوذهم.
رابعًا: الحرص على تزويد كليّاتِ الإعلام في الجامعاتِ التي بها هذا النوع من الكلِّيات بأساتذةٍ عالميِّين يستطعيونَ إفادة طلابها وطالباتِها فوائدَ حديثة، ويرفعون من مستوياتهم.
خامسًا: ضرورة مراقبة مسؤولي الإعلام لعدم الإفراط في تشجيعِ العامّية.
... ولقد أبدعَ شاعر الفُصحَى ( حافظ إبراهيم ) في تحيَّتهِ لها بقصيدته العصماء التي أصبَحتْ على لسانِ الجَميع، والتي يقول فيها:
رَجعْتُ لنفِسي فاتَّهمتُ حَصَاتي
ونَاديتُ قومي فاحتَسبتُ حَياتي
رَمَوْني بِعُقُمٍ في الشَّبابِ ولَيتني
عقمتُ فلم أَجْزَعْ لقولِ عُداتي
وسِعتُ كتابَ اللهِ لَفظًا وغايةً
وما ضِقتُ عن آيٍ به وعظاتِ
فكيفَ أضيقُ اليومَ عن وصفِ آلةٍ
وتنسيقِ أَسْماءٍ لمخترعَاتِ؟
أنا البحرُ في أحشائِهِ الدُّرُّ كامنٌ
فهلْ سألوا الغواصَ عَن صَدَفاتي؟
أَيهجُرنيِ قومي – عَفا اللهُ عنهُمو
إلى لغةٍ لم تَتَصلْ بروَاةِ؟
وفي تحيةِ الفُصحى قلتُ كثيرًا ومما قلت:
هَفَا النَّجمُ يعنُو لأعتابِها(180/4)
وَغَنَّى الزَّمانُ على بَابِها
ودَانَ لها المجدُ وهْو العَصي
وأرْخَى العنَانَ لخطَّابها
تَرقرقَ منها الضِّياءُ البَهيجُ
وشَعَشَع في أفْقِ أصحابِها
وتَوَّجَها الله يا لَلْجلالِ
بِوحْي تجلَّى بِمحرابِها
غَمَائِمها ثَرةٌ بالْحياة
ووشْيُ الرَّبيع بأهدَابها
هي (الضَّاد) ما ظَفِرت أُمة
بمِثلِ جَنَاهَا وأَطْيابِها
تَعهَّدَها ربُّها بالبقاءِ
فَهل مُجدِبٌ فَيضُ إخصابها؟
تألَّق في صَفَحاتِ الخلودِ
فتَنْجابُ ثورةُ حُجَّابِها
وما شَفَّ عن شُرُفاتِ الوجودِ
كِمثل سَنًا شعَّ من غَابِها
وكَم يَحْفِر الصَخْرَ صبٌّ بها
لِيحظَى بترشَافِ أكوابِها
فما عِشْقُها غيرُ مَوْتٍ بها
غرامًا لِتَهنا بتَرحَابِها
لينقادَ منها النَّفُورُ الشَّموسُ
ويُستَعَذبَ المرُّ من صَابِها
ويَنْهمِرَ الدُّرُّ من بَحْرها
ويَحلُو الرَّحيق لشُرَّابِها
أَنُوفٌ هِيَ (الضّادُ) أن تُجْتَنَى
لغَيرِ صَبُورٍ لأتْعابِها
لِغيرِ مُلِحٍّ شديدِ المِرَاسِ
عَميقِ المُعاناةِ ، وَهَّابِها
يَجُوبُ الدُّروبَ احتفاءً بها
ليُسلَكَ في سِمْطِ أقطابِها!
* * *
وَأَعْرضَ عنها قَصيرُو الأَدَاةِ
وَما مِنهمُو مَنْ تَغَنَّى بِها
فَما عَبَأَتْ بالأُلَى أعْرَضوا
وَمَا وصلتهم بأَسبَابِها!
... وأخيرًا فهذه نظرةٌ وجيزة في موضوع الفُصحَى والعامِّية في وسائل الإعلام ورُغمَ أن مَجالَ القول ذُو سعة آثرت الاختصار خشية الإملال، مع
إتاحة الفرصة للأفذاذ الكرام من أعلام الزملاء الفضلاء لإشباعِ الموضوع بذخائر أفكارهم، وثمار أقلامهم، والله من وراء القصد.
حسن عبد الله القرشي
عضو المجمع المراسل
من السعودية
...
...(180/5)
الفصحى والعامية في وسائل الإعلام (*)
انطباعات واقتراحات
للأستاذ الدكتور أحمد صدقي الدجاني
... دورة أخرى يخصصها مجمع اللغة العربية في جمهورية مصر العربية، من دورات مؤتمره السنوي لقضية الفصحى والعامية، مركزًا هذه المرة على وسائل الإعلام، ومتابعًا دوره المتميز في الحفاظ على اللسان العربي الفصيح، وفي تنمية لغتنا العربية والارتقاء بها. وينطلق المجمع في أداء دوره من إدراك عميق بمكان اللسان في هوية القوم وكونه أحد أركان هذه الهوية التي بالحفاظ عليها والتمسّك بها يتحقق نهوض الأمة وازدهارها الحضاري.
... والحق أن جهود هذا المجمع والمجامع العربية الأخرى على هذا الصعيد تثمر وعيًا متزايدًا في أوساط الأمة بأهمية العناية بلسانها. وقد بدأ ما زرعته هذه الجهود يخرج شطأه
ويستوي على سوقه ويثمر ثمارًا طيبة من خلال عمل طويل المدى. ومَثَلٌ على ذلك توقفتُ أمامه مؤخرًا حين شاركت في أعمال مؤتمر عربي قومي أهلي مشغول بتحقيق المشروع الحضاري العربي يناقش مختلف قضايا الأمة، فإذا بأوراق المؤتمر ومناقشاته تعتبر قضية الحفاظ على سلامة اللغة هي إحدى هذه القضايا بالغة الأهمية. وقد أشارت المناقشات إلى ما تتعرض له لغتنا من هجوم تشارك فيه قوى هيمنة دولية تضع نصْب أعينها التسلط على وطننا واستلاب هويتنا بهدف فرض تبعية لها علينا والحيلولة دون ازدهار إبداع الإنسان العربي. ذلك " لأن الإبداع لا يكون إلا بتوطين العلم، وتوطينه لا يكون إلا باللغة القومية " كما جاء في هذه المناقشات(181/1)
عند بحث العلاقة بين " العلم والثقافة واللغة ". وجرى التأكيد على العناية بالمصطلح، والاهتمام بسلامة اللغة في وسائل الإعلام. وكان لافتًا أن يوصي الأعضاء بأن يتضمن تقرير المؤتمر السنوي عن "حال الأمة" بابًا عن وضع اللغة العربية في سائر أرجاء الوطن العربي وأن يجعل المؤتمر قضية اللغة العربية محورًا رئيسيًّا في أعماله، وأن يعمل أعضاؤه من أجل إيجاد وعي لغوي بين الجماهير العربية، مؤيدين ما طرحه الدكتور أنطون زحلان والدكتور عثمان السعدي.
... إن تركيز النظر على قضية الفصحى والعامية في وسائل الإعلام يأخذ في الاعتبار ما للإعلام اليوم من سطوة ونفوذ في عصر ثورة الاتصال، ومن تأثير على الإنسان في عصرنا. والحق أن مكانة الإعلام هذه تحمل في طياتها فرصًا لأن يكون التأثير إيجابيًّا لصالح الإنسان ورقيّه وفصاحة لسانه إذا أَحسنا توظيف الوسائل الإعلامية في تقديم ما هو مفيد. كما تحمل في طياتها مخاطر أن يكون التأثير سلبيًّا إذا وظَّفت قوى الهيمنة الإعلام لاستلاب الهوية ونشر رطانة اللسان وتعميم قيم هابطة. وإسهامنا في هذا النظر هو في طرح انطباعات تكونت من خلال متابعة فردية وحوارات حول الموضوع، وفي بلورة اقتراحات.(181/2)
... نستذكر بين يدي طرح هذه الانطباعات ما خرجنا به من نظرنا المجمعي في الفصحى والعامية في دورتنا السابقة، ومن تأملاتنا، بشأن دلالة كل من هذين المصطلحين، " وحقيقة أن أهم الفوارق بينهما هي ما يحدث في العامية من تحريف النطق ببعض حروف اللغة وتغييره كليًّا في بعض الأحيان وإهمال تحريك أواخر الكلمات وإعرابها وتغيير حركات حروف الكلمة. وتؤدي هذه الفوارق إلى تعدد العاميات العربية بتعدد أنحاء الوطن العربي الكبير واختلاف لهجاته، في وقت يحافظ " الفصيح " على وحدانيته، فيبقى نموذج اللسان الراقي الحريص على النطق الصحيح للحروف وعلى الإعراب وعلى سلامة الكلمة ". وقد أوصلتنا تأملاتنا أيضًا إلى أن ظاهرة وجود الفصحى والعامية جنبًا إلى جنب ظاهرة قديمة مستمرة تتضمن تعايشهما في تفاهم أساسه التسليم بمكانة الفصحى العالية ومرتبتها الرفيعة، وفي تكامل يتجلى في أداء كل منهما دوره في ضوء حقيقة أن الاجتماع الإنساني منذ كان فيه عامة وخاصة ويشهد نزوع أفراده للارتقاء باللسان. كما كان من بين ما وصلنا إليه أن للكلام الفصيح درجاته وأفصحه هو الفصحى، وأن للعامية درجاتها تبعًا لقربها أو بعدها عن الفصحى، وأن قوى النهوض في الأمة دائبة على التمسك بهويتها تذود عن اللسان العربي وقد دخلت معركتها للحفاظ على سلامة مرحلة جديدة اليوم في ظل هجمة قوى الهيمنة الدولية " بالعولمة " وتوظيفها في التحكم في الإعلام والتدخل في المناهج التربوية لفرض مخططاتها التي منها تعميم عامية هابطة والقضاء على الفصحى.(181/3)
... نستذكر أيضًا أن وسائل الاتصال الجديدة في عالمنا من صحافة وإذاعة مسموعة وأخرى مرئية اكتسبت شعبية متزايدة في النصف الثاني من القرن العشرين، فاستحقت أن توصف بأنها " جماهيرية " وإذا كانت الصحافة المعتمدة على الكلمة المكتوبة قد جذبت إليها قطاعًا واسعًا ممن يحسنون القراءة من أبناء الأمة، فإن الإذاعة بنوعيها جذبت إليها فضلاً عنهم قطاعًا أوسعَ من العامة مستمعين بعد انتشار المذياع ( الراديو ) الصغير، ومشاهدين بعد انتشار الرائي ( التلفاز ) وصُحونه التي تستقبل العديد من قنوات البث الفضائية. وجاءت وسائل الاتصال الجديدة هذه لتتابع بكفاءة أعظم ما كانت تقوم به وسائل الاتصال القديمة من خطبة ونداء وانضم إليها فن السينما وتطوير المسرح استمرارًا للمسرح القديم والرواية المغناة للسير على الربابة وخيال الظل. وكانت الفصحى معتمدة في تلك الوسائل الإعلامية منذ القدم مع مزجها بالعامية أحيانًا.
... ونستذكر أن الصلة بين حال التربية والتعليم في المجتمع وحال الإعلام فيه وثيقة. فالتربية والتعليم يهيئان الذي يقوم بالإعلام والذي يتلقاه، فهما فاعلان مؤثران في الإعلام. والإعلام هنا تابع لهما. ولكنه بدوره يصبح مؤثرًا عليهما لقوة تأثيره على المتلقي. وهذا يعني تبادل التأثير بين التعليم والإعلام.(181/4)
... إن الصلة الوثيقة بين التعليم والإعلام تدعونا حين ننظر في " الفصحى والعامية في وسائل الإعلام" إلى النظر في حال الفصحى والعامية في التعليم. وهناك انطباع بأن المدرسة في غالب الأقطار العربية لا تولي العناية الكافية لفصاحة اللسان، وأن مناهج التعليم لم توفق في تعليم اللغة العربية السليمة، وأن موجة تعليم لغات أجنبية اقترنت بإهمال تعليم اللغة الأم. والأسباب وراء هذا الحال كثيرة تتعلق بقيادات التعليم وواقع المدرس داخليًّا وبمؤثرات خارجية. ولذا فإننا نشهد عند كثيرين من الطلاب "تلوثًا لغويًّا" على حد وصف الأستاذ الدكتور كمال بشر للرطانة الشائعة بينهم.(181/5)
... والحق أن المؤثرات الخارجية لتغليب العامية على الفصحى وجدت مع قيام قوى الهيمنة في الغرب بالتمهيد لغزوهم الاستعماري للوطن العربي ودائرته الحضارية الإسلامية، وقويت هذه المؤثرات حين تمكن المستعمر الغربي من التحكم في وضع مناهج التعليم. وقد كتب كثير عن هذا الموضوع، تجلى من خلاله ما قصدته قوى الهيمنة من هجومها على اللسان العربي الفصيح من هزّ الهوية، كي تتمكن من نشر لغاتها وفرض التبعية لها على من اهتزت هويتهم تحقيقًا لتسلطها عليهم ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا. وآخر ما سمعناه عن استهداف الفصحى ما طرحه الدكتور عثمان السعدي في المؤتمر القومي الغربي العاشر في مطلع أبريل نيسان 2000 حول ما جرى مؤخرًا في "فرنسا" التي كانت تدرس العربية منذ قرون بالحروف العربية وتعاملها في المدارس الثانوية في مستوى واحد مع الإنجليزية والإسبانية " ففي يوم 7/1/2000 أصدرت وزارة التربية الفرنسية قرارًا يطبق في امتحانات البكالوريا في حزيران – يونيو المقبل، يقضى بأن تمتحن العربية بالحروف الفرنسية التي تستخدم في ورقة الامتحانات وفي الأجوبة على الأسئلة. ويشمل هذا القرار الغريب على حد وصف عثمان السعدي: " التوقف عن تدريس العربية الفصحى التي يعتبرها الداعون للقرار لغة تعاهدية غير حية، واستبدال اللهجات العربية بها، مع اعتماد اللهجة المغاربية واللهجة الشامية واللهجة البربرية القبايلية " وقد صدرت ردود فعل على هذا القرار في أوساط فرنسية اعتبرته انحرافًا بالثقافة العربية. ومن الذين احتجوا على هذا القرار رئيس الجمعية الفرنسية لأساتذة اللغة العربية الذي اعتبره " موقفًا أيديولوجيًا ينطلق من الاستعمار الجديد الذي يفرنس حتى العربية، وذلك بكتابتها بالفرنسية وحذرت الجمعية الفرنسية لأساتذة اللغات الحية " بأنه بدون تكوين الشاب بالعربية الفصحى فإن الذين يتخرجون سيكونون أميين لا يستطيعون قراءة أبسط جريدة ".(181/6)
... يذكرني هذا التحذير بما قلناه لطلاب عرب يحاولون تعلم لسانهم العربي لأنهم حرموا من تعلمه صغارًا، فيقصدون معاهد أجنبية في بعض عواصمنا العربية تنظم دورات لتعلم العربية للأجانب، وتخصص جزءًا كبيرًا من المنهج لتعليم العامية، " إن تعلّم الفصحى هو السبيل لتعلم العربية، وهو أيضًا السبيل لفهم كل اللهجات العربية. والعكس غير صحيح، أي أن تعلم لهجة عربية محلية لا يوصل إلى تعلم الفصحى العربية".
... تجدر الإشارة هنا إلى أن الدول التي تنتمي إليها هذه المعاهد الأجنبية، حريصة على تعليم شعوبها لغاتها الفصيحة دون اللهجات المحلية أو لغات أقوام فيها. وهذا ما تعمد إليه في جهودها لنشر لغاتها وثقافاتها في العالم. فبريطانيا مثلاً تعلم اللغة الإنجليزية في الحالين، وليس اللغة الويلشية أو اللغة الاسكتلندية. وهذا شأن فرنسا وبقية دول أوربا. ومعلوم أن لكل من الدول الكبرى في عالمنا سياسة معتمدة في نشر لغتها يجري تنفيذها من خلال مجالس مختصة لها مكاتب وفروع في أقطار كثيرة وتخصص لها ميزانيات كبيرة. ومعلوم أيضًا أن مردود هذه السياسة كبير جدًّا على الصعيد المعنوي وعلى الصعيد المادي أيضًا.
... لقد حرصت هذه الدول في عصر ثورة الاتصال على توظيف مختلف وسائل الإعلام لنشر لغاتها. وهكذا أصبحنا نرى اليوم في الإذاعة المرئية بخاصة قنوات فضائية تذيع كل منها بلغة الدولة التي تمتلكها. كما نرى انتشارًا واسعًا للصحافة الناطقة بلغات الدول الكبرى تعود بمردود كبير معنوي ومادي.
ماذا عن الفصحى والعامية في وسائل إعلامنا العربي؟
... نبدأ بالصحافة، ونستحضر تاريخها في القرنين الأخيرين منذ ظهورها مرورًا بتطورها وصولاً إلى واقعها القائم، حيث أصبحت تحتل مركزًا مرموقًا في إعلامنا بصحفها اليومية ومجلاتها الأسبوعية ودورياتها الشهرية والفصلية. ويمكننا أن نخرج من هذا الاستحضار بمجموعة انطباعات.(181/7)
... الانطباع الأول هو أن الصحافة العربية اليوم تعتمد في التعبير لغة عربية فصيحة في كثير من أبوابها. وتتميز هذه اللغة بالسهولة والبساطة والنمو. وقد تطورت مع تطور الصحافة وغدت سائدة في تحرير الخبر وفي إجراء التحقيق الصحفي وفي كتابة التحليل والتعليق في الأعمدة وفي بريد القراء. واشتهرت هذه اللغة باسم لغة الصحافة الذي بات يشير إلى ما تتميز به.
... الانطباع الثاني هو أن الصحف اليومية الكبيرة ومثلها المجلات تولي عناية متزايدة بالفصحى الأدبية وبالنقد الأدبي الذي تزدهر به اللغة وترتقي، وذلك من خلال نشرها مقالات للأدباء والكتاب المرموقين. ونحن نرى اليوم تنافسًا بين هذه الصحف والمجلات على دعوة الأقلام المعروفة للكتابة فيها. كما نرى ارتباط دائرة من القراء بمتابعة مقالات هؤلاء، وهي دائرة تتسع باستمرار، الأمر الذي جعل كبار الأدباء والكتاب حريصين على النشر في الصحف.
... الانطباع الثالث هو أن هناك مكانًا في أكثر هذه الصحف والمجلات لعامية راقية، وبخاصة في التعبير الشعري. فهي تنشر أزجالاً وشعرًا نبطيًّا مزدهرًا في جزيرتنا العربية وشعر الملحون المعروف بالمغرب. وقد تنشر قصصًا وروايات تتضمن حوارات بالعامية في حدود ما أقره النقد الأدبي. والغالب على العامية المنشورة أنها عامية راقية حافلة بالصور الجميلة قريبة من الفصحى.
... النتيجة التي نصل إليها من خلال هذه الانطباعات أن الغلبة في الصحافة هي للفصحى، وأن مستقبل الفصحى في الصحافة زاهر إذا أولى النقد الأدبي عناية لما ينشر في الصحافة، وتابعت مجامع اللغة اهتمامها بالنظر في لغة الصحافة والتفاعل معها. ويحمد لمجمع اللغة العربية بمصر. هذه المتابعة وحرصه على تخصيص لجنة للنظر في الألفاظ والأساليب ومناقشة ما تتوصل إليه في مؤتمره السنوي.(181/8)
... نأتي إلى الإذاعة بنوعيها المسموعة والمرئية. ونستحضر تاريخ الأولى الذي يعود للربع الثاني من القرن العشرين، وتاريخ الثانية الذي يعود للنصف الثاني منه. ونستذكر كيف أصبحت الإذاعة المسموعة " جماهيرية " واسعة الانتشار بعد اختراع المذياع الصغير "الترانستور"، وكذلك كيف دخلت الإذاعة المرئية مرحلة جديدة باستخدام " الصحن الهوائي " الذي يستقبل " الفضائيات " من القنوات المتصلة بالأقمار الصناعية. ونلاحظ أمورًا تشترك فيها نوعا الإذاعة وأمورًا تخص كلاًّ منهما. والأمور المشتركة التي تخرج من انطباعاتنا هي:
1- أن الفصحى هي المعتمدة في الإذاعتين المسموعة والمرئية في قراءة نشرات الأخبار وفي إعداد الأحاديث العلمية والأدبية والفكرية في غالب الأحيان.
2- أن هناك توزعًا في الحوارات المذاعة بين الفصحى والعامية. وتختلف نسبة الأولى إلى الثانية بحسب نوعية الحوار ومستوى فصاحة كل من المذيع ومحاوره. وتعاني بعض هذه الحوارات من تلوث لغوي، وبخاصة في نطق بعض الحروف، مثل: الثاء التي تنطق سينًا والذال التي تنطق زايًا، والظاء التي تنطق زايًا مفخمة أو ضادًا، والضاد التي تنطق دالاً، والطاء التي تنطق تاءً.
3- أن التمثيليات المسلسلات تعتمد الفصحى غالبًا إذا كانت تعالج موضوعات تاريخية، وأنها تعتمد العامية غالبًا إذا كانت تعالج موضوعات معاصرة. وتتعدد العاميات فيها بحسب المكان، في قطر واحد أو في عدة أقطار. كما تتراوح هذه العاميات بين عامية راقية وأخرى هابطة.(181/9)
4- أن الأغاني المذاعة في المذياع والتلفاز ( الرائي ) تغلب العامية عليها، مع وجود للقصيدة المغناة يزيد أو ينقص حسب المناخ الثقافي المحيط الذي يتفاعل فيه المؤلف والملحن والمغني والقيادة الإعلامية والنقد. ويمكن تمييز عامية راقية في بعض الأغاني تكفل للأغنية إذا حسن تلحين كلماتها الانتشار والبقاء، كما يمكن تمييز الكلام العامي الهابط في أغانٍ كثيرة قد تنتشر مؤقتًا إذا حسن تلحين كلماتها ولكنها لا تبقى.
يطيب لنا هنا أن نستذكر أمثلة على انتشار القصيدة الفصيحة المغناة وبقائها حية عقودًا من السنين. فهذه الموشحات باقية. وقد بقيت القصائد التي ترنم بها مغنون كبار بعد أن عهدوا بتلحينها إلى كبار الملحنين. وهذا شأن ما لحنَه وغناه محمد عبد الوهاب من شعر أحمد شوقي وغيره من الشعراء المحدثين، مثل: بشارة الخوري، وعزيز أباظة، وكامل الشناوي، ونزار قباني ومحمود حسن إسماعيل. وهذا شأن ما لحنَهُ رياض السنباطي من شعر أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وعزيز أباظة، ونزار قباني، وجورج جرداق، وأحمد آدم وغنته أم كلثوم. وقد بقيت قصيدتا " رسالة من تحت الماء " و " قارئة الفنجان " اللتان ألفهما نزار قباني ولحنهما محمد الموجي وغناهما عبد الحليم حافظ على الألسنة عقودًا ثلاثة وغدتا من الأعمال الفنية العظيمة. وهكذا.(181/10)
كما يطيب أن نستذكر أيضًا الأغاني التي تنتسب كلماتها إلى العامية الراقية وحظيت بملحنين مرموقين وبمغنين كبار. ولا يتسع المجال هنا لإثبات ما يدعوه الخاطر منها. ولذا يكفي أن نشير إلى ما ألفه بيرم التونسي وصلاح جاهين وأمثالهما، وإلى أغنية " الليلة الكبيرة " التي لحنها سيد مكاوي من كلمات صلاح جاهين. ولافت هنا أن الأغاني التي اشتهرت في العقدين الأخيرين وبقيت، كانت كلماتها تتميز بأنها عامية راقية تنتمي إلى عدة أقطار عربية. ومن أمثلتها " بعاد كنتم ولاَّ قريبين " التي غناها محمد عبده، و"ليلة لو باقي عمري ليلة" التي غناها عبد الرب إدريس، و " أنا مار مريت جنب أبواب البيت " التي غناها عاصي حلاني، و " برد ورعد " التي غناها وائل كفوري، و " قالوا لي " التونسية، وقبل ذلك أغنيات وديع الصافي.
النتيجة التي نصل إليها من خلال هذه الانطباعات عن الفصحى والعامية في الإذاعتين المسموعة والمرئية هي أن للفصحى مكانتها في التعبير عما هو جادٌ ومفيد، وأن للعامية مكانًا في برامج الترويح، وأن هناك عامية راقية يتجاوب المستمع والمشاهد معها. ويسجل للفضائيات في الإذاعة المرئية بخاصة أنها أتاحت للمشاهد التعرف على مختلف اللهجات العامية العربية بصورة لم تحدث من قبل من خلال التمثيليات والأغاني. ولافت ما يقترن بهذا التعرف من انسجام في أغلب الأحيان، ومن سعادة بهذا التنوع. وقد اكتسبت بعض التمثيليات التي كانت متقنة فنيًّا في موضوعها وتمثيلها وإخراجها شعبية واسعة، وكان للحوار بالعامية الراقية رونقه فيها. ومثل عليها نذكره هو مسلسل " أيام شامية " السوري " ليالي الحلمية " المصري.(181/11)
لما كانت الإذاعتان المسموعة والمرئية تقومان بإذاعة " الأفلام السينمائية "، فإن من المناسب التعرف على حال الفصحى والعامية في هذه الأفلام التي تجذب إليها مستمعين كثيرين من جيل الحداثة بخاصة ومشاهدين أكثر من متابعي "التلفاز". والانطباع عما تعرضه الشاشة الصغيرة هو أن العامية هي المسيطرة في الأفلام العربية. وهي عامية تتفاوت من فيلم لآخر في درجة رقيها أو هبوطها. ونلاحظ أن نسبة الهبوط زادت مع زعم " الواقعية "، بينما كانت العامية الراقية هي الغالبة في أعمال الفنانين الكبار وفي مقدمتهم يوسف وهبة. وما يصدق على السينما يصدق على المسرحيات التي تعرضها الشاشة الصغيرة.
يبقى أن نشير إلى أن بعض ما تعرضه الشاشة الصغيرة من المسلسلات الأجنبية ومن أفلام الرسوم المتحركة تقوم بعض المحطات بجعل النطق فيه بالعربية الفصيحة في عملية ما يعرف " بالدبلجة " وهي كلمة معربة. كما تقوم بترجمة الكلام في بعض المسلسلات الأجنبية والأفلام بلغة عربية فصيحة تطبع في أسفل الصورة. وهكذا نجد الفصحى هي الغالبة على هذا الصعيد. وغير خافٍ أن اعتمادها في هذه الأحوال يعود إلى أنها المفهومة في كل الأقطار.
إذا كان لنا في ختام هذا الحديث عن الفصحى والعامية في وسائل الإعلام أن نبلور اقتراحات للارتقاء باللغة في ضوء ما أوردناه من انطباعات، فإن اقتراحنا الأول هو أن(181/12)
يكون من مواصفات من يتولون القيادة في وسائل الإعلام إدراكهم لمكان اللغة في الحفاظ على الهوية واحترامهم للفصحى وتطلعهم للارتقاء باللسان وتجاوبهم مع العامية الراقية ونفورهم من العامية الهابطة. واقتراحنا الثاني هو العناية بتدريب الصحفيين والمذيعين الجدد، على النطق السليم والكتابة العربية الصحيحة. واقتراحنا الثالث هو العناية بالنقد الأدبي لما ينشر ويذاع، سواء بالعامية الراقية أو الفصحى، ومتابعة رصد الأخطاء وتصحيحها بهَدف الارتقاء باللغة. واقتراحنا الرابع هو تعزيز العلاقة القائمة بين مجامع اللغة العربية ووسائل الإعلام، بحيث تسارع المجامع إلى تزويد وسائل الإعلام بما تعتمد من مصطلحات، وما تقوم به من ترجمة أو تعريب، وتقوم وسائل الإعلام باستخدامها وتعميمها.
وبعد..
فإن للفصحى مكانًا في وسائل الإعلام لا تستطيع العامية أن تحتله. ويمكننا حين نستحضر ما كانت عليه لغتنا العربية في واقع الحياة اليومية قبل ثورة الاتصال وبعدها، أن نقرر أن حال الفصحى هو اليوم أفضل، وأن الآفاق أمامها أرحب. وقد حدث ذلك
على الرغم من كل مخططات قوى الهيمنة التي استهدفتها بالعداء وسعت إلى أن تحل محلها عاميات عربية. ولا شك في أن ما قامت به المجامع من جهود للحفاظ على اللسان العربي والارتقاء باستخدامه كان له فضل خاص في احترام الفصحى والالتزام بها في التعبير في الموضوعات الحيوية في وسائل الإعلام. وها نحن نرى ما زرعته هذه الجهود يخرج شطأه ويستوي على سوقه. ويبقى أن تنجح هذه الجهود في تطوير مناهج التربية والتعليم وأساليب تعلم اللسان الفصيح لتجاوز ما يعانيه الطلاب من تلوث لغوي. وكذلك في تعريب العلوم. وتحية طيبة مباركة عطرة لمجمع اللغة العربية بجمهورية مصر العربية بمناسبة انعقاد مؤتمره السادس والستين.
أحمد صدقي الدجاني
عضو المجمع المراسل
من فلسطين(181/13)
" بين مؤتمرين "
للأستاذ إبراهيم الترزي
الأمين العام للمجمع
الأستاذ الجليل الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم والدولة للبحث العلميّ:
الأستاذ الجليل الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع:
الأساتذة الزملاء الأَجلاّء:
أيها السادة:
سلامُ الله عليكم ورحمتُه وبركاتُه، وبعد
... فها نحن نلتقي في أول مؤتمرٍ مجمعيٍّ يُعقد في أول عامٍ من القرن الحادي والعشرين، بعد أن أَكملَ مجمعُنا خمسًا وستين دورةً في فلكه المجمعيّ، بلغ عَطاؤها أكثَر من ستين ومئةِ ألفِ مصطلحٍ علميٍّ، ولغويٍّ، وأدبيٍّ، وفلسفيٍّ، وفَنِّيّ، إلى آلافٍ عديدةٍ من موادِّه المعجميّة اللغوية، وقراراتِه في مختلف شؤون لغتنا العربية، من تيسيرٍ لقواعدها، وتصويبٍ لألفاظها وأساليبها، وتحليلٍ وتفسيرٍ لظواهر لهجاتها القديمة والحديثة.
... وستَعْرِضُ لجانُنا المجمعيةُ على هذا المؤتمر ما أنجزتْه منذ مؤتمرنا السابق، إلى مؤتمرنا هذا.
... وإليكم البيانَ المعهودَ في مُستهلِّ كلِّ مؤتمر:
المؤتمر السابق:
... عقد المؤتمر خمس عشرة جلسة، منها خمسٌ علنية:
أولاها: جلسة افتتاح المؤتمر.
والأربع الباقية خصِّصَتْ لمحاضراتٍ عامة، هي:
* "بين الفصحى والعامية"، للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع.
* "المستشرقُ التِّشِيكيُّ " إيوان هِرْبِك " وعطاؤه للدراسات العربية " للأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي عضو المجمع من المغرب.
* "اللغةُ بين الطَّبْع والصُّنْع"، للأستاذ الدكتور كمال بشر عضو المجمع.
* "رؤيةٌ عربيةٌ لتوحيد المصطلح العلميِّ، وتَقْييسه"، للأستاذ الدكتور محمد رشاد الحمزاويّ عضو المجمع المراسل من تُونس.(182/1)
وكانت الجلساتُ العشرُ الباقيةُ مُغلقةً، نَظَرَ المؤتمر فيها مصطلحاتٍ في الفيزيقا، والنِّفْط، والكيمياءِ، والطبِّ، والرياضيات، والهندسةِ، والجيولوجيا، وعلوم الأحياء، والأَنْثُرُوبُولُوجيا، وعلم النفس، والأدبِ، وقراراتٍ للجنةِ الألفاظِ والأساليب، وبُحُوثًا للجنةِ الأصول، وموادَّ جديدةً من المعجم الكبير.
... وأُلقيت في هذه الجلسات المُغْلَقَةِ بحوثٌ عالجَ أكثرُها موضوعَ الفصحى والعامية، في عديد من بلادنا العربية، وهو الموضوعُ المقترحُ لبحوث المؤتمر، وعالج بعضُها الآخرُ موضوعاتٍ شَتَّى في تحقيق التراث، والمعاجم العلمية العربية، ومصطلحاتِ الحياةِ الاجتماعية، والقراءاتِ، وبعض المخطوطات العلمية.
... وأَصدر المؤتمر في جلسته الختامية توصياتٍ، منها ما يلي:
يُوصِي المؤتمر:
* بأن يعمل وزراءُ الإعلامِ في مصر والبلادِ العربيةِ على أن يكونَ الإعلامُ جميعُه باللغة العربية السهلةِ الفصيحة، لا بالعامية، وبخاصة في الإذاعتيْن: المسموعة والمرئيَّة، وفيما يُذاعُ فيهما من تمثيليات، فالعربيةُ الفصيحةُ لغةُ القرآنِ الكريم، وقِوامُ وحدتنا الوطنية، وهي لغةُ العلم، والتعليم، والثقافة.
* أن تعمل مجامعُ اللغة العربية على توحيد المصطلحاتِ في كل علمٍ وفنّ.
* أن تُصْدِرَ مجامعُ اللغة العربية معجماتٍ متوسطةً، تُتَداوَلُ في جميع البلاد العربية، وبخاصةٍ في جامعاتها، ومؤسَّساتِها العلمية والفنية.
* أن يعملَ وزراءُ التعليم في مصر والبلاد العربية على تعريب التعليم الجامعيّ، والعالي.
* أن تُصْدِرَ الحكوماتُ العربيةُ تشريعاتٍ حاسمةً تَحْظُرُ كتابة اللافتاتِ على المحالّ التجارية، والشركات، والفنادق، بلغاتٍ أجنبية.
* ويُؤَكِّد المؤتمر توصيته السابقة بأن يحرصَ رجالُ الدولةِ، وجميعُ المسؤولين في البلاد العربية، على استخدام اللغة العربية الفصيحة، في خطبهم، وبياناتهم.
المجلس واللجان:(182/2)
... عقد مجلس المجمع تسعًا وثلاثين جلسة، منها ثمانٍ علنية، أربعٌ منها لتأبين أربعة من زملائنا الراحلين:
الأولى لتأبين المرحوم الأستاذ الدكتور عبد العظيم حفني صابر، وألقى كلمة المجمع في تأبينه الأستاذ الدكتور محمود حافظ، نائب رئيس المجمع.
والثانية لتأبين المرحوم الأستاذ الدكتور سيد رمضان هدارة، وألقى كلمة المجمع في تأبينه الأستاذ الدكتور محمود مختار عضو المجمع.
والثالثة لتأبين المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الرحمن السيد، وألقى كلمة المجمع في تأبينه الأستاذ الدكتور أحمد علم الدين الجندي عضو المجمع، وشاركتْ كلية دار العلوم في تأبينه بكلمة من الأستاذ الدكتور علي أبو المكارم عميد الكلية.
والرابعة لتأبين المرحوم الأستاذ الدكتور سليمان حزين، وألقى كلمة المجمع في تأبينه الأستاذ الدكتور محمود حافظ، نائب رئيس المجمع.
وخُصِّصَتْ جلساتٌ أربع علنية لاستقبال تسعةِ أعضاءٍ جُدُد:
اسْتَقْبل في الأولى الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع ثلاثة أعضاء:
الأستاذ الدكتور أحمد هيكل، والأستاذ الدكتور عبد القادر القط، والأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي.
واستقبل في الثانية الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع الأستاذ الدكتور شفيق بلبع، والأستاذ الدكتور محمد عماد الدين فضلي.
واستقبل في الثالثة إبراهيم الترزي الأمينُ العامُّ للمجمع الأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر، والأستاذ الدكتور أحمد علم الدين الجندي، والأستاذ فاروق شوشة.
واستقبل الدكتور محمود علي مكيّ في الجلسة العلنية الرابعة الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكيّ.(182/3)
أما الجلسات الباقية فكانت مُغلقة أُجْرِيَ في إحداها انتخابُ الزملاءِ الجُدُد، وأُجْرِىَ في أخرى تجديدُ انتخاب الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع لأربع سنواتٍ قادمة، ونظر المجلسُ في الجلسات المغلقة الباقية أعمال لجانِ المجمع، وهي مصطلحات في الطبِّ، والفيزيقا، وعلوم الأحياء، والرياضيات، والهندسةِ، والجيولوجيا، والنفط، والمعالجةِ الإلكترونية، والأدبِ، والتربية الرياضية، وستُعرض كلُّها على المؤتمر، مع أعمال لجنةِ الأصول، ولجنةِ الألفاظ والأساليب، ولجنةِ اللهجاتِ والبحوثِ اللغوية، مع موادَّ جديدة من المعجم الكبير.
ندوة اللجنة الثقافية:
... أقامت اللجنةُ الثقافية ندوةً بعنوان: " الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس والدرسُ اللغويُّ الحديث"، قَدَّمها الأستاذ الدكتور كمال بشر مقررُ اللجنة وعضو المجمع، وأدارها الأستاذ الدكتور محمود علي مكي عضو المجمع، وشارك فيها الأستاذُ الدكتور محمود فهمي حجازي عضوُ المجمع، والأستاذ الدكتور محمد حماسة الأستاذ بكلية دار العلوم، والخبيرُ بلجنتي المعجم الكبير، والأصول، والأستاذ الدكتور إبراهيم الدسوقي الأستاذُ المساعدُ بكلية دار العلوم.
مطبوعات المجمع:
صَدَرَ عن المجمع المطبوعات التالية:
معجم المصطلحات القانونية.
معجم الهندسة الميكانيكية.
الجزء السادس من كتاب غريب الحديث لأبي عبد القاسم بن سلام، ويتضمن فهارس الكتاب .
الجزء الرابع من المعجم الكبير.
الجزء الثالث من كتاب الألفاظ والأساليب.
الدكتور طه حسين في المغرب للأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي عضو المجمع من المغرب.
وفي الطريق إلى الصدور:
الجزء الثاني من معجم الرياضيات.
معجم الموسيقا.
الجزءُ الثامن والثلاثون من مجموعة المصطلحاتِ العلمية والفنيَّة.
الجزآن:الحادي والثمانون، والثاني والثمانون من مجلة المجمع.
فقيدا المجمع:
... رُزئ المجمعُ بفقد شيخيْن جليليْن من أعضائه، هما:(182/4)
الأستاذ الدكتور بدوي طبانة شيخُ البلاغةِ العربية، وسُيقام حفلُ تأبينه عقب هذا المؤتمر.
الأستاذ منير البعلبكي عضوُ المجمع من لبنان، وصاحب " المورد " وسيُقام حفل تأبينه خلال هذا المؤتمر، ويُلقي كلمة المجمع في تأبينه الزميلُ الأستاذ أحمد شفيق الخطيب، عضوُ المجمع المراسلُ من فلسطين.
أيها السادة:
... من القضايا التي تتصدَّى لها مؤتمراتنا المجمعية ما يحتاج إلى مُعاوَدَة، مؤتمرًا بعد مؤتمر .. ومن أهمِّ هذه القضايا قضيةُ "الفصحى والعامية" .. تَصَدَّى المجمعُ لعلاجها في دورته الأولى عامَ أربعةٍ وثلاثين من القرن السابق، ثم عاوَدَ علاجها مراتٍ في مجالات متعددة، خلال بعض مؤتمراته، حتى اختتم بها بحوث آخِرِ مؤتمرٍ عَقَده في آخِر عام من القرن العشرين .. وهاهو ذا يُعاوِدُ بحثها في أول مؤتمرٍ يعقده في العام الأول من القرن الحادي والعشرين.
... فقضية الفصحى والعامية من أخطر قضايانا اللغوية، وأَشَدِّها إلحاحًا، بل استفزازًا لهِمَمِ الدارسين، وأكثرِها مُساجلَةً ومُصاوَلَةً، وأعلاها قَعْقَعةً، في ميدان البحث اللغويّ.
... وهذه القضية – على الرغم من أنها مُوغلةٌ في القِدَم – نراها تَتَجدَّد حينًا بعد حين، دُون أن يُدركها وَهَنُ الشيخوخة، بعد أن طَعَنَتْ في السِّنِّ قُروُنًا عديدة، تكادُ تُناهزُ أربعة عَشَرَ قرنا! .
... فقد دارتْ رَحى هذه القضية منذ القرن الأول للهجرة النبوية الشريفة، وتَوالَى طحْنُها بحوثًا لغوية، تبلغُ عِدَّتُها مئاتٍ، ومئات!
... فبعد عَقْدَيْن من القرن الأول الهجريِّ أخذت اللغةُ العربية تلتقي بلغاتٍ أخرى، مع انتشار الإسلام في العراق، وفارس، والشام، ومصر، وبلاد المغرب، وغيرها من البلاد التي دخل أهلُها في الإسلام أفواجا، واتخذوا العربية لسانًا لهم، مُستبدلين بلغاتهم لغة قرآنِهم، وحَمَلَةِ دينهم إليهم.(182/5)
... ولكنَّ عربية هؤلاء – الذين اعتنقوا الإسلام – لم تكن بالطبع خالصةً ممّا عَلِق بها من لغاتهم القومية، كما أن ألسنتهم لم يستقم أمرُها وهي تنطقُ الكلماتِ العربية.
... وإذا كان ذلك قد اعْتَرى عربيَّتهم الفصحى التي تحكمها ضوابطُ مُتَّبَعة، فهو أَبْلَغُ أثرًا في لغة تَخاطُبِهم، التي تَتَردَّدُ على ألسنتهم، طليقةً من كل ضابط، في البيت، والطريق، والسُّوق، وغير ذلك ممّا يَجْمَعُ الناس في شؤون حياتهم، في حِلِّهم، وسَفَرِهم!
... وقد استنهض هذا وذاك عزائم العلماء القَوَّامين على العربية، فأخذوا يُعالجونه، ويَطُبُّون له، وبخاصة بعد أن انتقلتْ عَدْوَى اللحنِ من غير العرب إلى العرب أنفِسهم، الذين عايشوهم، وربَطَهم بهم نَسَبٌ وصِهْر!
... والعربيُّ الأصيلُ بطبعه يَنْفِرُ من اللحن، ويستهجنُه في لغة تَخاطُبِه، ويَعدُّه عارًا على صاحبه .. وقد عَدَّه رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – ضلالاً، فقال حين لَحَنَ رجلٌ في حضرته:
" أَرْشِدُوا أخاكم ، فقد ضَلّ " !
... وأَخطأ كاتبُ أبي موسى الأشعريّ – رضي الله عنه – في رسالة بعث بها إلى الخليفة عمرَ بنِ الخطاب – رضي الله عنه – فاستنكر عمرُ ذلك الخطأَ من كاتب أبي موسى، وبعث بكتاب إلى أبي موسى جاء فيه: " سلامٌ عليك، أَمّا بعد، فاضربْ كاتبَك سَوْطًا، وأَخِّرْ عطاءه سنة "!
... وقد استحثَّ عليُّ بن أبي طالب – كَرَّم الله وجهه – أبا الأسود الدُّؤَلِيَّ على وَضْع اللَّبِناتِ الأُولى لعلم النحو، حين رأى اللحن قد أخذ يَفْشُو على ألسنة الناس، حتى تَسلَّلَ إلى تلاوة القرآن الكريم!
... فقد زاد من حماسة أبي الأسود لوضعِ علمِ النحوِ ما سمعه من رجل تَلاَ قوله تعالى : " إنَّ الله بَريءٌ من المشركين ورسولِه " ( بكسر اللام لا بِضَمِّها )!
فهالَ ذلك أبا الأسود وقال :
" لا يَسَعُنِي إلاّ أَنْ أَضَعَ شيئًا أصْلِحُ به نَحْوَ هذا " !(182/6)
وأخذ علماء اللغة يُمْسِكُون بأَعِنَّتِها، حتى لا يَنْفَلِتَ زمامُها مع اللحن، والعُجْمة!
ولقد كان مِن أَثَر ذلك أَنَّ رجلاً أخطأَ في حديثه بحضرة بعض العلماء، فاستنكروا ذلك منه، فَدَفَعَه خَطَؤُه إلى أن يُقبل على تعلُّم العربية، حتى صار من أئمة علمائها النّابهين، ذلكم الرجلُ هو العلاّمةُ الكِسائي " !
فقد كان الكسائيّ قبل اشتغاله بالنحو واللغة يُجالس بعضَ العالمين بهما، فجاءهم ذات يوم وهو يلهث تعبًا من طُول مَشْيه، وقال لهم:
لقد مَشَيْتُ حتى عَيَّيْتُ !
فانتهروا الكسائيَّ غاضبين، وقالوا له :
أَتُجالسنا وأنت تَلْحَن؟!
فسألهم الكسائي:
وكيف لحنتُ؟
فقالوا له:
- إن كنت تُريد أنك مَشَيْت حتى تعبتَ، فقل: " مَشَيْتُ حتى أَعْيَيْتُ " .
... وإن كنت تُريد أنك مَشَيْتَ في قضاء أمرٍ حتى انقطعتْ حيلتُك فيه، فقل : " مَشَيْتُ حتى عَيِيتُ " !
... فنهض الكسائيُ من فوره عن مجلسهم، واتَّجه إلى حلقات الدرس التي يعقدها كبارُ علماءِ اللغةِ والنحو، ومنهم الخليلُ بنُ أحمد، ثم مضى إلى بوادِي الحجاز، ونجدٍ، وتِهامةَ، يكتب عن عربها الأَقْحاح، حتى أَفْضَى خمسَ عشرة قِنِّينةَ حِبْرٍ في تدوين ما سَجَّلَه عنهم .. وظلَّ يشتغل باللغة والنحو حتى صار إمام الكوفة فيها، وواحدًا من أصحاب القراءات السبع للقرآن الكريم!(182/7)
... وأقبل الكسائيُّ على تأليف كتابه: " ما تَلْحَنُ فيه العامَّة " ، فكان فاتحة الكتب التي عُرفت بالتَّصَدِّي لعلاج ظاهرة اللحن، حيث تتابعت المؤلفاتُ في لحن العامة، للفَرّاء، والأصمعيّ، وأبي عُبَيْدة، وأبي عُبَيْد، والمازنيِّ، وثعلب، وابن السِّكيت، وغيرهم من أعلام العلماء في الشرق والغرب .. وتَجاوَزَ تأليفُهم في لحن العامَّة إلى لحن الخاصَّة، فوَضَعَ أبو أحمد العسكريُّ كتابه" ما لحَنَ فيه الخَواصُّ من العلماء "، ووَضَعَ أبو هلالٍ العسكريُّ كتابَه " ما تَلْحَنُ فيه الخاصة " ، ثم تلاهما الحريريُّ ( صاحبُ المقاماتِ ) بكتابه المشهور " دُرَّةُ الغَوّاصّ في أوهام الخَوَاصّ " .. بل نزل إلى ساحة التأليف في اللحن الشاعرُ صَفيُّ الدِّين الحِلِّيُّ، فوضَعَ مُعْجمًا في الأغلاط اللغوية سمّاه " الأَغلاطي " !
... وأخذت بعضُ هذه الدراسات تأخذ طابَعَ الإقليمية، فعكف أبو بكر الزُّبيديُّ الأندلسيُّ على دراسة ظاهرة اللحن في الأندلس، وألَّف كتابه " لحن العامة "، كما عكف ابنُ مَكِّيٍّ الصِّقِليُّ على مثل ذلك في صِقليَّة، وأَلَّفَ كتابَه " تثقيفُ اللسان، وتلقيحُ الجَنان"، كما أَلَّف محمدُ بنُ أبي السُّرور الصِّدِّيقيُّ في مصر كتابه " القولُ المُقْتَضَبُ فيما وافَقَ لغة أهل مصر من لغة العرب"، وأَلَّفَ يوسفُ المغربيُّ كتابًا في عامية أهل مصر عنوانُه " رَفْعُ الإصْرِ عن لغات أهلِ مصر ".
... وهكذا نشط التأليف في ذلك، وتَوالَى على امتداد البلدان شرقًا وغربًا، وعلى امتداد الزمان عصرًا بعد عصر، حتى عصرِنا الحديث، وبخاصة بعد أن أخذت العاميةُ العربيةُ تُبْتَلَى بالرَّطانة، مع اجتياح الاستعمارِ بلادَنا العربية، وغَزْوِه لغةَ التَّخاطب بأوشابٍ من لغاته الدخيلة، وإن كانت قد عجزتْ – بحمد الله – عن اقتحام حِمَى العربية الفصحى، التي حَماها اللَّهُ – تعالى – بذكرِه الحكيم!(182/8)
... وبذلك الغَزْو اللغويِّ الأجنبيِّ لعاميّاتنا العربية زادت الفَجْوَةُ اتِّساعًا وعُمْقًا بين الفصحى والعامية .. فنهض كثير من الباحثين اللغويِّين، مُشَمِّرين عن سواعد بُحُوثِهم، لمعالجة ذلك الوباءِ اللغويِّ الذي عَمَّ، وطَمَّ، ولانتشالِ الكلماتِ العربية التي خرجتْ من رَحِم الفصحى، والقيام بِرَصْدِها وردِّها إلى أصولها اللغويةِ الفصيحة، محاولين بذلك التقريب بين العامية والفصحى في كل قطرٍ عربيّ، ثم التقريب بين عاميّاتِ الأقطار العربية، التي خرجت كلُّها من هذه الرَّحِمِ الواحدة: رَحِمِ لغةِ القرآن الكريم!
... وقد أخذتْ بعضُ البلادِ الأوربية تُنْشِئ مراكز لدراسة العاميات العربية، تحقيقًا للاتِّصال المباشر بشعوبها .. ففي عام سبعةٍ وعشرين وسَبْعمئةٍ وألف أُنشئتْ في إيطاليا " مدرسةُ نابولي للدروس الشرقية" وتَلَتْها في النمسا "مدرسةُ القَناصِل" بفيينا، ثم أُنشئتْ في فرنسا" مدرسةُ باريسَ للغات الشرقية "، وتتابعت هذه المدارس في ألمانيا، وبريطانيا، وروسيا، والمجر، وغيرها من البلاد الأوربية.
... وأقبل كثيرٌ من المستعربين الأوربيِّين على دراسة العامياتِ العربيةِ، بدوافعَ استعماريةٍ خَفيَّة، وإنْ تَنَزَّه بعضُهم عن ذلك، وقليلٌ ما هم، حيث أقبلوا على البحث اللغويِّ المجرَّد لدراسة اللهجات العربية، وظواهرها الصوتية، وارتباطِها بالبيئة والمجتمع، فأَفَدْنا منهم الكثير، وبخاصة في مجال المنهج العلميِّ في الدراسات اللغوية الحديثة.
أيها السادة:(182/9)
... لقد عَرَضَ مجمعُنا في مؤتمره السابق لموضوع الفصحى والعامية بعامَّة، وهاهو ذا يتناولُه في هذا المؤتمر في إطار خاصٍّ وهو إطار وسائل الإعلام: من صحافة، وإذاعة: مسموعةٍ، ومرئيَّة، وهي وسائل إعلاميةٍ مستحدثة، وإن كانت الصحافة أسبق من الإذاعة في الظهور بأمدٍ بعيد، فقد ظهرت في القرن السادس عشر الميلاديّ، ولكن ظهورها تأخَّر في بلادنا العربية إلى العام الأخير من القرن الثامن عشر، مع الحملة الفرنسية على مصر، حيث صَدَرت جريدةُ "الحوادث اليومية " بأمرٍ من نابليون، وكان يصدرها المستعربُ الفرنسيُّ "مارسال " ويُعاونه في تحريرها الشاعرُ المصريُّ " إسماعيل الخشاب "، ثم توقَّف صدور هذه الصحيفة بجلاء الحملة الفرنسية عن مصر في العام الأول من القرن التاسع عشر.
... ثم أمر محمد علي بإصدار صحيفة " الوقائع المصرية " في العام الثامن والعشرين من القرن التاسع عشر، وكانت تُحرَّرُ بالتركية، ثم بالعربية والتركية، وكان يرأس تحريرها " رفاعة الطهطاوي "، ثم "محمد عبده " الذي أَضْفَى عليها صبغةً عربية أصيلة .
... ثم تتابع ظهورُ الصحف في بلادنا العربية، حتى شَبَّ الفَنُّ الصحفيُّ عن الطَّوْق، وبَلَغَ أَشُدَّه، وصار له رجالُه وأعلامه من الكُتّاب الصحفيين!
... والطَّريفُ أن كلمة " صَحَفِيٍّ " كانت قبل ذلك من الكلمات المُسْتَهْجَنة المَرذولة، التي يتَبَّرأُ منها الأدباء والعلماء، وكانوا لا يَحْذَرُون الأَخْذ عن " الصحفيِّ " حتى شاع قولُهم : " لا تأخذوا العِلْمَ عن صَحَفِيّ " !
... فقد كان مدلولُ " الصَّحفِيِّ " : مَنْ يُخْطئُ في كتابة الصحيفة، أو قراءتها، ولذلك كانوا يُفَضِّلُون أَخْذَ العلم عن أستاذ لا عن صحيفة ، وكانوا يتفاخَرُون بتَنَزُّههم عن أخذ العلم من الصحف، ولذلك قال الشاعرُ أبو نواس في رثاء أستاذ خَلَف الأحمر:
لا يَهِمُ الحاءَ في القراءة بالخا
ءِ ، ولا لامها مع الأَلِفِ(182/10)
ولا يُعَمِّي معنى الكلام، ولا
يكونُ إسنادُه من الصُّحُفِ
... وكانت ظاهرةُ التصحيف موضع دراسةٍ لكثير من علماء اللغة، وظهرتْ فيها مؤلفاتٌ حَفِلتْ بطرائفَ عديدة، منها ما وَقَعَ ، أو أَوْقَع، في خطأ علميٍّ، أو لغويّ، ومنها ما جَلَبَ شرًّا قد يكون فادحًا على مَن ابْتُلىَ به، وهي في كل ذلك تُثِيرُ العجبَ، أو الغيظَ، وقد تُطلق ضحكاتٍ تَقْطُرُ بالعَبَرات!
... ومن صحيفات الصُّحَفِيِّين، أو المُصَحِّفين، من رُواة الحديث، ما رَواه بعضُهم من أن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلم – كان يحبُّ العَسَلَ يوم الجمعة! .. وحقيقتُه أنه كان يُحبُّ الغْسْلَ يوم الجمعة لا العَسَل .. ورَوَى بعضُ هؤلاء أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: " تَخَتَّموُا بالعَقِيق " .. وحقيقة قوله " تَخَيَّمُوا بالعتيق"، أي انْصِبُوا خيامًا بالعتيق، وهو وادٍ من أطيب الأودية، قريب من المدينة.
... ومن التَّصحيفات المشهورة التي ابْتُلي بها بعضُ الناسِ أنَّ محمدَ بن عبد الله بن طاهر نائبَ بغداد في عهد الخليفة العباسيِّ المتوكّل تَلَقَّى كتابًا من صاحب بريد أصبهان يشكو إليه قائدًا من الموالي اعتاد أن يجلسَ للنساء في الطُّرُقات، وقد لَبس خَزَلَّجِيَّةً يتباهَى بها أمامهنّ " والخَزَلَّجيةُ : كِساءٌ من الخَزِّ مثل المِعْطَف ) . فكتب ابنُ طاهر إلى والي أصبهانَ كتابًا يأمره فيه بأَنْ يبعث إليه ذلك القائدَ وخَزَلَّجيَّته ، فصحف الكاتبُ، وخَزَ لَّجيَّتَه " فصارت " وجُزَّ لِحْيَتَه " !.. فجزَّ والي أصبهان لحية ذلك القائد، وبَعَثَ به إلى ابن طاهر في بغداد في صورة مُنكرة!(182/11)
... والحق أن ظاهرة التصحيف ما زالت تُبْتَلَى بها صُحُفُنا، على الرغم من تَقَدُّم فنِّ الطباعة .. من ذلك أن أحد الزُّعماء قال في خطبة له :" واصْغُوا أيها السادةُ إلى صوت الضَّمير … "، فَتَصَحَّفَتْ في إحدى الصحف التي نشَرتْها إلى " واصْغُوا أيها السادةُ إلى صوت الحَمِير " .، وأَثْنَتْ إحدى الصحفِ على همَّة أحد مشايخ الأزهر في الإصلاح الدِّينيّ، فجاء ثناءُ الصحيفة هكذا: " ونحن نُثْنِي على عِمَّة فضيلته " .. وهي تَعْني هِمَّته .. ومن أطرف ما ورد في ذلك أن داود بركات رئيس تحرير الأهرام كتب يستحثُّ الحكومة على إنصاف رجال القضاء، والإسراع بترقيتهم، فكتب يقول: " يجبُ ترقيةُ القُضاة "، فإذا هي تُنْشَرُ مُصَحَّفةً في جريدته إلى: "يجبُ تَعْرِيةُ القُضاة "!
أيها السادة:
... إن المجمع لا يقف من العامية موقف العَداء ، فهي اللغة التي يُتَخَاطب بها في مختلف شؤون حياتنا .. ولجنةُ الألفاظ والأساليب في مجمعنا تُعْنَى بإجازة ما له وجه" من الصحة اللغوية من ألفاظها، وأساليبها، وهي في كثير منها عربيةٌ أَصيلة، اعْتَرتْها عواملُ " التَّعْرية اللغوية "، حيث أخذت الأَلْسنُ تلُوكُها، وتَعْمِد إلى تسهيلها، في بيئاتنا العربية، وعلى امتداد العصور.
... وما أحوجَنا اليومَ إلى "جيولوجيا لغوية " تَعكفُ على عامياتنا العربية، فاحصةً أُصُولَ كلماتها، دارسةً ما
دَرَسَ منها، مُتخذةً من علم الصوتيّات اللغوية وسائل للتحليل، والتعليل، والتفسير في هذا البحث اللغوي المنشود، وبذلك تقتربُ العامياتُ العربيةُ بعضُها من بعض، كما تقتربُ من لغتها الأُمّ: لغة ذكر الله الحكيم.
شَكر اللهُ لكم كريم سعيكم إلى مجمعنا، وحفظكم ورعاكم، وَلقّاكُم نَضْرَةً وسُرُورًا.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
إبراهيم الترزي
الأمين العام للمجمع(182/12)
العامية فصحى محرفة (*)
محاضرة
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
الزملاء المجمعيون من المصريين والعرب والمستعربين
السيدات والسادة:
... للعامية أنصار كثيرون وخاصة في مصر، يقولون: دعونا نتخذ العامية لغة لأدبنا لأنها لغة بسيطة تمتلئ بها الأفواه في حياتنا اليومية بينما الفصحى لغة نزيلة في ديارنا، وقواعدها معقدة وتحتاج منا جهدًا في تعلمها. ومن يقولون هذا القول عن الفصحى لا يعرفون تاريخها، ولا أنها حين خرجت من الجزيرة العربية مع الفتوح الإسلامية قهرت بعذوبة لسانها وبيانها جميع اللغات التي التقت بها من أواسط آسيا إلى المحيط الأطلنطي: قهرت الفارسية في إيران، والآرامية والنبطية في العراق، والسريانية واليونانية في
الشام، والقبطية واليونانية في مصر، واليونانية واللاتينية والبربرية في المغرب، واللاتينية والرومانثية في الأندلس بإسبانيا. استعلت على كل هذه اللغات ونحَّتْها عن ألسنة الشعوب في كل هذه الديار وحلت محلها في الألسنة.
... ولقد نزلت اليونانية الشام ومصر منذ عهد الإسكندر وظلت لغة حكامهما ولغة الإدارة فيهما قرونًا، وبالمثل نزلت اللاتينية واليونانية البلاد المغربية ولم تستطع إحدى اللغتين أن تنقل إحدى البلدان التي سيطرت عليها إلى لسانها إذ بقيت لغة للحاكم وحاشيته، وظلت الشعوب في الشام
ومصر والمغرب تتحدث بلغتها المحلية أما الفصحى فبمجرد أن نزلت فيها
أخذتْ لغاتُ كل هذه البلدان تُزَايلها وتحل محلها تدريجيا، حتى قضت عليها نهائيا واستحالت بلدانا عربية دون تدخل حاكم عربي وإدارته الحاكمة في أي بلد بقوة الفصحى الذاتية وقوة القرآن الكريم. وأعدها ذلك لأن تصبح لغة عالمية، مما لم يتح لأية لغة قديمة سواها.(183/1)
... ولم تصبح الفصحى عالمية لغويا فحسب، بل أصبحت أيضا عالمية ثقافيا فقد استوعبت الثقافات التي سبقتها جميعا: استوعبت الثقافة الهندية وما كان بها من فلك ورياضة، واستوعبت الفارسية وما كان بها من نُظم في السياسة والإدارة والحكم، واستوعبت اليونانية وما كان بها من علوم وفلسفة وطب وغير طب، واستوعبت كل ما كان لدى الأمم القديمة من فكر وعلوم بفضل اشتقاقاتها الكثيرة وقدراتها على تمثل الأفكار والمعارف، وقد مضت تضيف إليها إضافات كبيرة، وظلت تقود العالم علميا طوال ستة قرون متعاقبة، وقامت أوربا منها – منذ القرن الحادي عشر الميلادي إلى القرن السادس عشر – مقام التلامذة من أساتذتهم، إذ ترجموا إلى لغاتهم كل مالها من علم وفكر وفلسفة متخذين منها منارات تهديهم إلى مسالكهم في حضارتهم الحديثة.(183/2)
... ويردِّدُ أنصار العامية أن الفصحى لغة تراثية لا تلائم العصر، وفاتتهم معرفة أن الفصحى الآن إنما هي لغة عصرية حديثة أخذت في الظهور منذ أواسط القرن الماضي ببواعث مختلفة، منها رؤية الأدباء – وخاصة المترجمين – أساليب النثر الأدبي والعلمي الغربية وأنها تخلو من قيود السجع والبديع، وكانت قد طُبعت حينئذ كتب ابن المقفع والجاحظ، فعمدوا إلى استخدام لغة تعتمد على الأسلوب المرسل الخالي من كل قيد، ولم تلبث الصحف أن ظهرت واتجهت إلى الجمهور، فكان طبيعيا أن تتخذ هذا الأسلوب المرسل الجديد حتى يفهم الشعب ما تريد أن تخاطبه به من أمور السياسة والاجتماع والاقتصاد، وأخذ الصحفيون يحاولون تبسيط لغتهم حتى تفهم ما يقولونه طبقات الشعب المختلفة، وأعد ذلك لفصحى عصرية حديثة مبسطة غاية التبسيط، وأخذت الأجيال التالية من الصحفيين والأدباء تبسطها صورا مختلفة من التبسيط. ونلتقي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بأول جيل صحفي مهم عمل على إشاعة هذه الفصحى الحديثة: جيل الشيخ محمد عبده، وأحمد لطفي السيد، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وكانوا يكتبون مقالاتهم الصحفية بلغة مبسطة سهلة تمتع القارئ، وخلفهم منذ العشرينيات في هذا القرن جيل من أدباء الفصحى الحديثة البارعين من أمثال عباس العقاد، وإبراهيم المازني، وطه حسين ومحمد حسين هيكل، وبلغوا بهذه الفصحى الحديثة الغاية في جمال الصياغة وروعة الأسلوب، وعاونهم في الأداء بها للفنون المستحدثة من القصص والمسرحيات غيرُ أديب من الشباب الجامعي وغيرهم مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ. وصِيغ بهذه الفصحى الحديثة في القرن العشرين كل ما ترجمه الأدباء المصريون الأفذاذ وكل ما كتبه علماء مصر من اقتصاد وعلم اجتماع أو علم نفس أو تربية أو علوم طبيعةٍ وغير طبيعة أو فلسفة. وكل ذلك كتبه أدباؤنا وعلماؤنا بالفصحى الحديثة، ووضعوا له معاجمه التي تضعها مجامع اللغة العربية وعلماء الأمة الأعلام.(183/3)
وليس لنا كتاب في علم أو فكر أو قانون أو سياسة أو تاريخ قديم أو حديث أو في أي فن من الفنون إلا كتب بهذه الفصحى الحديثة، وكُتِبَ بها أدبنا بقصصه وأقاصيصه ومسرحياته البارعة، أما المقالات فتنشر يوميًّا في الصحف التي تحملها الملايين من الشعب صباح مساء.
... والفصحى الحديثة لم تؤدِّ لنا في القرن العشرين فقط كل معارفنا وثقافتنا وعلومنا وآدابنا وفكرنا فقد أدت لنا أيضًا الآداب الغربية كاملة وما خلَّفه شعراء الغرب المبدعون وكتَّابه وفلاسفته. ومر بنا زمن كنا نأخذ عن الغرب أعماله الأدبية ولا نعطيه شيئًا. وخَلَفَتْ هذه المرحلة في القرن العشرين مرحلة جديدة نقلت إلى الغرب فيها مسرحيات لتوفيق الحكيم وغيره، ومثلت على مسارحهم، كما نقلت إليهم قصص بديعة لنجيب محفوظ وغيره وأعجبوا بها. وبذلك أصبحت الفصحى الحديثة تتبادل مع اللغات الأوربية أعمالها الأدبية. أصبح أدبنا عالميًّا كما أصبحت الفصحى لغة عالمية في الأمم المتحدة.
... ومع ما للفصحى الحديثة من هذا الكيان الأدبي والعلمي والفكري والاقتصادي والاجتماعي والسياسي والقانوني يقول أنصار العامية: إنها لغة تراثية وهي لغتنا العصرية، ولغة قوميتنا وعروبتنا الخالدة، ولغة كياننا ووجودنا على صفحات التاريخ. بينما العامية التي ينتصرون لها ليست لغة، وهي لا تحمل شيئًا مما ذكرت ولا تتمثله، إنها لهجة يومية مؤقتة، ولا تحمل لنا دينًا ولا علمًا ولا فكرًا ولا ثقافة ولا تاريخًا، مثلها في ذلك مثل اللهجات اليومية المتولدة من اللغات الحية الكبرى مثل الإنجليزية، لهجات لأداء الحاجات اليومية في الشارع والسوق والمصنع ولا تحمل أدب الأمة وفكرها ولم يقل أحد هناك: دعونا نتخذ لهجة السوق أو الشارع لغة أَدبنا، ولم يقل أحد عندهم: دعونا نتخذها للتعبير عن أدبنا الرفيع وفكرنا العميق.(183/4)
... ومع أن الكثرة الغالبة من ألفاظ العامية ذات أصل فصيح نراها تهمل إعراب الألفاظ، وهو تغيير حركاتها في أواخر الأفعال والأسماء المعربة، وهو من أهم خصائص الفصحى، ويقف المتحدثون بالعامية على أواخر الكلمات بالسكون، ولم يذكر عن قبيلة عربية قديمة أنها أهملت إعراب الكلمات، وكل ما ذكر عن الشعراء القدماء أنهم قد يسكنون كلمة معربة في بيت من أبياتهم لضرورة الوزن في الشعر كقول امرئ القيس:
فاليومَ أشربْ غير مُسْتَحْقبٍ
إثما من الله ولا واغل
مستحقب: مكتسب. وسكَّن امرؤ القيس الفعل: "أشربْ" وحقه الرفع لضرورة الشعر، وهو بيت وحيد في شعره. وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: إن قبيلة تميم تجيز حذف الحركة الإعرابية أحيانا، ونظن أنها كانت تجيز ذلك إذا توالت الحركات في مثل قوله تعالى في سورة البقرة: (ويعلِّمُهم الكتاب) بتسكين الميم وبذلك كان يقرأ أبو عمرو بن العلاء وهو تميمي، ويعلق ابن مجاهد في كتابه: القرَّاء السبعة على قراءته بقوله: " إن أبا عمرو كان يسكن لام الفعل في مثل ذلك للتخفيف في النطق أي لا لطرح الإعراب. وقُرئت آية سورة (المنافقون): (فأصَّدَّقَ وأكَونَ من الصالحين) بتسكين النون في (وأكون) لتصبح ( فأَصَّدَّقَ وأكنْ من الصالحين ) دون جازم، وبذلك قرأ ستة من القراء السبعة المشهورين هم: نافع وابن كثير وعاصم وحمزة وابن عامر والكسائي، وهو مثال وحيد في قراءات القرآن الكريم، وكأنما أريد بالتسكين وجوب الصلاح على المتكلم. وقرأ أبو عمرو ابن العلاء لفظ: ( وأكن ) بالتسكين ( وأكون ) بفتح النون عطفا على ( فأصدق ) السابقة لها .(183/5)
... وإعراب الكلام في الفصحى وتغير الحركات في آخر الكلمات حسب مواقعها من الإعراب جزء لا يتجزأ من النطق بالعربية، سواء في القرآن الكريم أو في الحديث النبوي الشريف أو في الشعر أو في الخطابة أو في الكتابة. ورُويَ أن قبائل ربيعة كانت تقف بالسكون على آخر المفعول به، واستشهدوا لها بقول أحد شعرائها:
أَلا حبذا غُنْمٌ وحسنُ حديثها
لقد تركتْ قلبي بها هائمًا دَنِفْ
ودنف: سقيم، وسكن الشاعر لفظ " دنف " وحقه النصب مثل " هائمًا " قبله. وربما سكنه الشاعر لضرورة القافية في القصيدة. على أن البيت لا يصلح شاهدًا على تسكين ربيعة للمفعول به، لأن " دنف " فيه تقع موقع الحال لا موقع المفعول به.
... والعامية المصرية لا تختص وحدها بإهمال الإعراب في الكلام بل تشترك معها في هذه الظاهرة جميع العاميات العربية من الخليج العربي إلى المحيط الأطلنطي، إذ كانت لغاتها المحلية تسكن أواخر الكلم، فلما تعربت أخذت تحاول إهمال الإعراب بصور مختلفة حتى تم لها ذلك بعد قرون تتفاوت بتفاوت الشعوب.
بدء شيوع العامية في مصر
... لا يعرف بالضبط بدء التاريخ الذي ظهرت فيه العامية بمصر. والمظنون أنها أخذت في التكون بالقرون الأولى من فتح العرب لمصر، إذ أخذت في التعرب بعامل دخول كثرة من أهلها في الإسلام، حتى ليبلغوا في عهد معاوية نحو نصف سكانها الأصليين من القبط، إذ اعتنقوا الإسلام، وأخذوا يتعلمون لغته الفصحى. وعامل ثانٍ كان أثره في تعرب مصر أكبر، وهو نزول كثرة من القبائل العربية مصر وخاصة من القبائل القيسية حين سمعت بخيراتها وطيباتها من الرزق، وظلت هذه القبائل العربية تنزل بمصر حتى عصر الدولة الفاطمية وهجرة القبائل الهلالية إلى مصر، ثم إلى تونس والبلاد المغربية.(183/6)
... والعامية المصرية إنما تمت بالتقاء العربية الفصحى فيها باللغة القبطية وما حدث من امتزاج بين العرب والمصريين في المسكن والمعيشة والمصاهرة وأخذت تسود عامية كانت الغلبة في أفعالها وأسمائها وضمائرها للفصحى وهي لذلك عامية عربية، وكان أول ما حرَّفته من عروبتها التزامها بإهمال الإعراب في أواخر كلامها منذ العصر الفاطمي إذ نجد أكبر علماء مصر اللغويين في القرن السادس الهجري: ابن بري المتوفى سنة 582 للهجرة يهمل الإعراب في كلامه، يقول ابن خلكان إنه كان لا يتقيد في حديثه بالإعراب ويسترسل في كلامه كيفما اتفق، وقال يوما لأحد تلامذته ممن يشتغل عليه بالنحو: اشتر لي هندبا بعُروقو، فقال له التلميذ مصححا عبارته: بعروقه، فعزَّ عليه تصحيح التلميذ للفظه، فقال له: لا تأخذه إلا بعروقو، وإن لم يكن بعروقو فلا تأخذه، يقول ابن خلكان: وكانت له كلمات من هذا الجنس، لا يكترث بما يقوله، ولا يتوقف على إعرابها، فإذا قلنا إن العامية المصرية أخذت تشيع في أحاديث المصريين منذ القرن السادس الهجري حتى في ألسنة أعلام الفصحى من أمثال ابن بري لم نكن مغالين ولا مبالغين.(183/7)
... ولابن سناء الملك المصري شاعر صلاح الدين المعاصر له إذ توفي سنة 608 للهجرة كتاب في موشحات الأندلسيين وموشحاته سمَّاه: " دار الطراز " ونجده يهمل الإعراب في موشحاته مرارًا في بعض عباراته، ونذكر من ذلك بعض الشواهد. ففي الموشح السادس: " فرجعت خايب .. حين فر هارب " ويقول في الموشح الثامن عشر : " غزالا فاتر الأجفان فاتن". وفي الموشح الحادي والعشرين: " قولا صحيح ". وفي الموشح الثالث والعشرين " طرفا فاتر .. سيفًا باتر " وفي الموشح الرابع والعشرين: " ما أراني راضي". وفي الموشح الخامس والثلاثين: " لم أكن ذاهل .. لم أكن غافل " وجميع الكلمات الساكنة في هذه الموشحات وهي على الترتيب:" خايب. هارب. فاتن. صحيح. فاتر. باتر. راضي. ذاهل غافل. " ساكنة، وحقها النصب. وفي ذلك ما يدل على أن إهمال الإعراب في العامية أخذ يدخل في الموشحات الفصيحة: عدوى جاءتها من شيوعه في العامية المصرية.
تحريفات كثيرة في العامية
... الكثرة الغالبة في ألفاظ العامية المصرية ألفاظ فصيحة أو ذات أصل فصيح، إذ أغلب ما فيها من أفعال أو أسماء أو حروف أو حركات أصله فصيح وعمت فيه تحريفات سجلها العالم الجليل المرحوم أحمد تيمور في معجمه الكبير وسجلها مؤلفو كتب الألفاظ العامية في مؤلفاتهم، والتحريفات كثيرة. بحيث يمكن أن يقال إن العامية فصحى محرفة ونضرب لذلك بعض الأمثلة:
أ- كسر أحرف المضارعة(183/8)
شاع كسر أحرف المضارعة في العاميات العربية وتجاريها العامية المصرية فيما عدا همزة المتكلم، وكأنها استثقلت كسرها لخروجها من الحلق – واشتهرت قبيلة بهراء القضاعية التي كانت تنزل شمالي ينبع في الحجاز وتمتد عشائرها إلى خليج العقبة بأنها كانت تكسر أحرف المضارعة، ويسمى اللغويون هذه الظاهرة باسم تَلْتَله – بهراء – ويبدو أن أكثر القبائل العربية في نجد وغيرها كانت تشرك قبيلة بهراء في هذه الظاهرة، إذ يقول أبو حيان في تفسيره " البحر المحيط " تعليقًا على قراءة ( نعبد – نستعين ) في سورة الفاتحة بكسر النون: إن كسر أحرف المضارعة لغة قيس وتميم وأسد وربيعة، وكأن قبائل كثيرة كانت تكسر أحرف المضارعة مع بهراء. ويقول سيبويه في الجزء الثاني من كتابه: "إن جميع العرب كانت تكسرها إلا قريشًا وأهل الحجاز". ويعني ذلك أن الفصحى لغة قريش لم تكن تعرفها، وينبغي أن تبرأ منها العامية المصرية وتتمسك – مثل الفصحى – بفتح أحرف المضارعة فيما عدا المضارع الرباعي فإنه يضم في مثل يُكرم – يُنْعم.
ب – زيادة الباء قبل أحرف المضارعة
... تدخل العامية حرف الباء قبل أحرف المضارعة لتأكيد حدوث الفعل في زمن التكلم، وتظل مكسورة في جميع صور المضارع إلا مع همزة المتكلم، فإنها تفتح وتسهَّل همزة المضارع بعدها دائما، فيقال مثلا: " باكتب " للمتكلم بفتح الباء وتسهيل الهمزة، وتقول العامة: "بِنكتب" بكسر الباء، وبالمثل " بتكتب – بيكتب – بتِكتبوا بحذف النون كما سيأتي ومثلها بيكتبوا مع حذف النون. فالباء فيها جميعا دائما مكسورة.
... وليست هذه الباء التي تزيدها العامة في أول المضارع هي الباء الجارة، لأن حروف الجر لا تدخل على الأفعال ، ولم يسمع عن أي قبيلة عربية إدخال أي حرف من حروف الجر على الفعل المضارع. وذكر الدكتور أحمد عيسى في كتابه:(183/9)
( المحكم في أصول الكلمات العامية ) أن الباء تزاد في أول الأسماء باللغتين السريانية والعبرية مختزلة من كلمة بيت فيقال مثلا بزمار أي بيت زمار. وذكر أيضا أن الفرس يزيدون باء في أول الكلمة للدلالة على معنى "ذو" العربية فيقولون" با اسب أي ذو فرس.
... وإذا سلمنا بأن الباء الداخلة على الفعل المضارع في العامية زائدة، وهي لابد زائدة فلا داعي لأن نذهب بعيدا في تعليلها، لأنها تزاد في العربية مع الصيغ لتأكيد الكلام، تزاد مع المبتدأ في مثل: " بحسبك ما قلت " ومع الخبر في مثل: "ما زيد بفاهم" مع الفاعل في مثل: " كفى بعلي شاهدًا " ومع المفعول به في مثل: " صبَّ بماء " ومع النفس في مثل جاء زيد بنفسه، ومع العين في مثل: " حضر زيد بعينه" وكأن العامية زادت الباء مع المضارع شعورًا منها بأنها تزاد في الصيغ للتأكيد، فزادتها مع المضارع لتأكيد وقوعه في الحال. وهي لحن شديد، وينبغي أن تتخلص منه العامية.
جـ – إدخال الحاء على المضارع للدلالة على الاستقبال
... تزيد العربية في أول المضارع حرفي السين وسوف في مثل: " سأكتب – سوف أكتب " . ولا تستعمل العامية أحد الحرفين للدلالة على وقوع المضارع في المستقبل، بل تستعمل مكانهما حرف الحاء، فيقال: حاكتب مع تسهيل همزة المتكلم كما يقال: "حنكتب – حتكتب – حيكتب" وليست هذه الحاء مبدلة من السين للبعد بين مخرجيهما، ولم يرد هذا الإبدال عن أي قبيلة عربية، وهو خاص بالعامية مثل الباء السالفة. وأكبر الظن أن العامية اختزلت الحاء من كلمة "رايح" إذ يقال فيها: " راح اكتب" بتسهيل همزة "أكتب" واختزلت العامية كلمة: " راح اكتب " فقالت " ح اكتب " وأصبحت: " حاكتب – حيكتب " وهلم جرا.
... وشاع ذلك بين عامة مصر في كل مكان، يقولون: "حنمشي – حنكتب – حنسافر" إلى غير ذلك. وهو لحن أو تحريف شديد، وينبغي أن تبرأ العامية من دخول الحاء على المضارع وتستخدم معه السين للدلالة على وقوعه في المستقبل.(183/10)
د– دخول "ما" على المضارع حثًّا عليه
... تدخل العامية " ما " على المضارع للحث عليه، فيقال: " ما تجلس – ما تسمع، ما تنصت " إلى غير ذلك من استعمالات للحرف " ما " مع المضارع. و "ما" هذه تحريف لـ "أَمَا" التي تدل على الحث على أداء الفعل والحض عليه وقد حَذَفت منها العامية الهمزة تسهيلا، وحذفها في العامية كثير. وينبغي أن ترد " ما " هذه إلى أصلها: " أما " حتى تصبح تعبيراتها عربية فصيحة، فيقال: " أما تجلس – أما تسمع – أما تنصت – إلى غير ذلك مما تحرفه.
هـ – حذف نون الرفع في المضارع المقترن بواو الجماعة وياء المخاطبة
... حين يقترن الفعل المضارع بواو الجماعة في العربية – مثل تجلسون وبياء المخاطبة في مثل تجلسين تظل معه النون، لأنها علامة رفعه إلا إذا دخل عليه جازم أو ناصب فإنها تحذف معهما، فيقال مثلا: " لم – لن تجلسوا، وبالمثل لم – لن تجلسي " هذه هي قاعدة الفصحى، وقال ابن مالك في كتابه التسهيل: " نَدَرَ حذفها مفردة في الرفع نظما ونثرا" والندرة في رأيي تعني الشذوذ، ويؤكد ذلك أنه لم يعرف لقبيلة عربية حذف هذه النون، ويستشهد النحاة له بقول شاعر:
كلٌّ له نيَّةٌ في بغض صاحبه
بنعمة الله نَقْليكم وتقلونا
وأصل " تقلونا " تقلوننا فحذف الشاعر نون الرفع دون ناصب أو جازم، وقد يكون حذفها لضرورة الوزن في البيت، وبذلك لا يكون شاهدًا للنحاة على حذف نون الرفع مع المضارع المقترن بواو الجماعة. واستشهد النحاة لحذف نون الرفع مع المضارع المقترن بياء المخاطبة بقول أحد الشعراء لزوجته:
أبيت أسْرى وتبيتي تدلكي
وجهك بالعنبر والمسك الذكي
فقد حذف الشاعر النون مع ياء المخاطبة في الفعلين " تبيتي – تدلكي ". ويمكن أن يقال إنه صنع ذلك لضرورة الشعر. وبيت واحد شاذ لا ينقض قاعدة، ولا يلغيها.(183/11)
... وروى النحاة حديثًا نبويًّا جاء فيه حذف نون الرفع من المضارع المقترن بواو الجماعة، إذ جاء فيه: " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا " وقد حَذف في الحديث مع الفعلين " تدخلوا– تؤمنوا " نونُ الرفع دون وجود ناصب أو جازم يقتضي هذا الحذف. والنحاة المتقدمون لا يستشهدون بالحديث في قواعد النحاة، خشية أن يكون دخله تحريف على ألسنة الرواة ، وكثير منهم كانوا من الأعاجم الذين لا تؤخذ عنهم اللغة. ولا ريب في أن حذف نون الرفع مع المضارع المقترن بواو الجماعة وياء المخاطبة دون موجب له من ناصب أو جازم يعد لحنا وتحريفا شديدا وينبغي أن تتخلص منه العامية.
و– لا تلحق العامية بالمضارع ألف التثنية ونون النسوة
... العامية لا تلحق ألف التثنية بالمضارع وتستخدم مكانها واو جماعة الذكور وتعممها مع جماعة الإناث، فتقول عن : " تلميذين وتلميذتين وتلميذات " يجلسوا دون أي تمييز بين الذكور والإناث في حالتي التثنية وجمع الإناث.(183/12)
... وكأن العامية لا تعترف بحالة التثنية، وخاصة في عود الضمير عليهما ذكورا وإناثا، وقد ألغيت التثنية نهائيا في الأفعال جميعا، وقد يقال إن العرب تعامل الاثنين أحيانا معاملة الجمع، كما في قوله تعالى : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) وقوله جل شأنه: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)، وأجيب عن ذلك بأن الواحد في الخصمين والواحدة في الطائفتين يتكونان من أفراد، أي أن اللفظين مثنيان في الظاهر، وهما جمعان في الواقع، ولا يقال زيد وعمرو جاءوني، بل يقال جاءاني لوجوب المطابقة بين الضمير وما يعود عليه مفردا ومثنى ومجموعا. والعامية بذلك تضع فاصلا شديدا بينها وبين الفصحى في استخدامها واو الجماعة في التثنية وبالمثل وضعُها في الإناث مكان نون النسوة الملحقة بالمضارع، وينبغي أن ترفع هذا الفاصل نهائيا، فلا تقول في جماعة الإناث "يسمعوا" بل تقول "يسمعن" ولا تقول في تلميذين إنهما " يقرءوا " بل تقول "يقرآن" وبالمثل الفتاتان "تقرآن"، وبذلك يسقط هذا الفاصل أو الحاجز بين العامية وبين الفصحى.
ز- إلحاق علامة الجمع بالمضارع مع ذكر الفاعل المجموع
... اشتهرت قبيلتا طيِّئ وأزد شنوءة بأنهما تلحقان علامتي التثنية والجمع بالفعل مع ذكر الفاعل، فيقولان: " يجلسان زيد وعمر – تحضران هند وزينب – يقومون الرجال – يحضرن الفتيات ". والفصحى تمنع ذلك منعا باتا فلا تلحق علامة التثنية بالفعل مع ذكر الفاعل، وضمير التثنية لا يوجد في العامية، وأيضا لا تلحق الفصحى علامة الجمع بالفعل مع ذكر الفاعل المجموع – بينما تصنع العامية ذلك أسوة بقبيلتي طيئ وأزد شنوءة، ومما جاء منه قول أُحَيْحة بن الجلاح:
يلومونني في اشتراء النخيـ
لِ أهلي فكلهمُ ألوم(183/13)
فقد ألحق أحيحة بالفعل: "يلوم" واو الجماعة، مع ذكر الفاعل المجموع وهو: "أهلي" . وشاعت هذه الصيغة في العامية المصرية لنزول كثير من الطائيين فيها. وينبغي أن تتخلص منها العامية في مصر لمخالفتها الشديدة للفصحى.
ح – قلب واو الفعل المضارع الناقص ياء
... تقلب العامية واو الفعل المضارع الناقص ياء باطراد، آخذة في ذلك بلهجة طيئ، فتقول في أدعوه الفصيحة أدعيه، وفي أشكوه: أشكيه، وفي أكسوه: أكسيه، وفي أمحوه: أمحيه، وفي أجلوه: أجليه. وينبغي أن تعود العامية بكل هذه الأفعال إلى نطقها الفصيح بالواو في الأفعال السالفة وما يماثلها. وبذلك تلغى الصورة اليائية في هذه الأفعال وأمثالها وتصبح أفعالا مضارعة واوية.
ط – إلحاق الشين بالمضارع المنفي
... تلحق العامية المصرية بالمضارع المنفي الشين تأكيدا للنفي، فتقول في الأفعال التالية– ما يحضر – ما يغيب – ما يذاكر – ما ينتبه هكذا: ما بيحضرش– ما بيغيبش – ما بيذاكرش – ما ينتبهش. بزيادة الباء في أول المضارع لتأكيد حدوث الفعل كما مر بنا. والمظنون أن العامية المصرية اختزلت الشين الملحقة بالأفعال السالفة من كلمة شيء، وكأن أصل " ما بيحضرش " مثلا: ما يحضر شىء. ومع الزمن أصبحت الشين في هذه الأفعال وما يماثلها لا تدل على كلمة شيء وإنما تدل على تأكيد النفي، ومما يدل على ذلك أننا نرى العامية تلحقها بما النافية لتأكيد النفي فيها مع كسر ميمها، فتقول مثلا: " مش كاتب " بحذف ألف " ما " وكسر ميمها، وقد تأتي مع الظرف، فيقال مثلا: " ما عنديش وقت " ومع الجار والمجرور في مثل: " ما ليش حاجة "
... وإنما عرضت هذه التحريفات الكثيرة في المضارع للعامية، لأصور مدى ما تلحق به أو تدخل عليه من مغايرات لأصله في الفصحى. ولن أستطيع في وقت هذه المحاضرة المحدود أن أعرض بالتفصيل تحريفاتها في الصيغ الأخرى.(183/14)
... والأسماء المشتقة دَخَلَ صيغها كثير من التحريف، ونكتفي بإيجاز ما حدث لاسم المفعول، من ذلك اشتقاقه من الفعل الثلاثي الأجوف اليائي، إذ نقول:معيوب، مديون.وهما في الفصيح: معيب – مدين، ولا يشفع لهذا اللحن كون قبيلة تميم كانت تنطق به – ومن ذلك أن العامية تكسر ميم اسم المفعول المشتق من غير الفعل الثلاثي فتقول: محمد – مكهرب. وتقول العامية هذا الثوب مباع والصواب مبيع، وهذا العقد مَلْغِي والصواب مُلْغَى. والمال مودوع والصواب مودع وفرس ملجَّم والصواب مُلْجم، ومنظر مهول والصواب هائل.
... وتحرف العامية كثيرا من صيغ الأسماء المفردة فصيغة فُعالة بضم الفاء تكسرها مثل: قُمامة – نُفاية. وتضم الفاء من صيغة فَعول مثل: البخور– النشوق – الفطور. وتفتح العامية فاء صيغة فُعْلول مثل: جمهور– دستور – صندوق – عصفور – عنقود. وبالمثل في صيغة فِعْليل مثل: خنزير – عفريت – قنديل.
... وتلغى الألف والنون في المثنى رفعا وتُبْقِى الياء والنون وتسكنها وتكسر ما قبلهما فتقول: رَجُلينْ – ولأنها لا تعرف الإعراب تلغى حالة الرفع في جمع المذكر السالم بالواو والنون، وتسكن النون فتقول المسافرين جاءوا. ومما تلحن فيه العامية جمع كُفْء على أَكِفَّاء بتشديد الفاء والصحيح أكْفَاء، أما أكِفَّاء فجمع كفيف، وتلحن في جمع كراع على كوارع والصحيح أكارع.
... وحرفت العامية كثيرا في أسماء الإشارة لأنها ألغت الذال من نطقها، وتقلبها دالا في المفرد فتقول: دا، وفي المفردة فتقول: دي. وقد تلحق بهما كافا وهاء، فتقول: دوكه اليوم والليلة ديكهيه. وحذفت العامية اسم الإشارة المثنى والمجموع وأبدلتهما بكلمة دول تقول: الرجلين والرجال " دول ".(183/15)
... ومما تحذف العامية منه الألف صيغ فاعل وفاعلة مفردتين ومجموعتين إذا سُكِّن ما بعدهما مثل فاطمة – كاتْبو – كاتْبين، وبالمثل في صيغتي مفاعل ومتفاعل مثل : مشارْكين – متباعْدين. فيقال في كل ذلك فَطْمَة : كتبو – كتبين – مشرْكين – متبعدين بحذف الألف فيها جميعا. ومما تحذف منه الألف في الأسماء: العقبة في العاقبة – الوَسْطة في الواسطة – ريحة في رائحة. وتحذف العامية المد كثيرا، وتقول يوم الأربع في يوم الأربعاء، ويوم التلات في يوم الثلاثاء بقلب الثاء تاء. وتضيف المدَّ في كم الاستفهامية فتجعلها كام.
... والتحريف في الضمائر كثير، من ذلك أن العامية تقول في قاما – قامتا يقومان – يقومون تقُمن يَقُمن في كل ذلك تقول قاموا: يقوموا بدون تفرقة بين الذكور والإناث والمثنى والجمع، وتقلب الهاء واوا مع الأفعال في مثل: يكتبوا بدلا من يكاتبه وفي الأسماء مثل: كَتْبو في كاتبه، ومكتوبو في مكتوبه، ومع إن وأخواتها في مثل إنو صادق وتنطق العامية: نحن هكذا إحنا، وتكسر همزة " إنت " وتشديد ( هوَّ – هيّ ) وهي لغة همدان ساكنة الجيزة، وتسهل همزة إياك، فيقال أنا ويَّاكِ. ومما تصنعه بحروف المعاني حذف اللام والألف من " على " الجارة، ويقال إنها لهجة لإحدى القبائل، وتشديد النون في " عن " مع المخاطب مثل عنَّك، وتشدد ياء المتكلم مع اللام الجارة، فيقال " لىَّ " ومعنى إي في الجواب نعم، وحرفتها العامية إلى : " إيْوَه – أيْوه ".
... وتجعل العامية حرف النداء "ياء" تارة للتخيير فتقول في مثل " ذاكر إما التاريخ وإما الأدب " ذاكر يا التاريخ يا الأدب. كما تستخدمها للتعجب ملحقة بها هاء السكت قائلة: " ياه " حين تُعْجَب بشيء إعجابا شديدا. ومن التحريف الواضح قول العامة: " يا بوي – يا خوي " أي يا أبي ويا أخي.(183/16)
... وقد أبدلت العامية أربعة أحرف من حروف الفصحى، وهي الثاء والذال والظاء والقاف أما الثاء فتجعلها تاء في ثلاثة وثمانية وما تفرع عنهما في العشرات والمئات وفي عثمان تجعله عِتْمان وفي تثاءب تجعله مع تحريفات أخرى إتَّاوب وفي ثَخين بفتح الثاء تجعله تخين بكسر التاء. وتجعل الثاء دالا في ألدغ، وسينا في ثُمَّ العاطفة وسَرِىّ في ثَرِى، وشينا في شِلَّة بكسر الشين بدلا من ثَلة.
... وتجعل الذال دالا غالبا في مثل دهب في ذهب – دبحه في ذبحه – دراع في ذراع – ديب في ذئب مع تسهيل الهمزة – ديل بكسر الدال في ذَيل بفتحها – كداب في كذاب. وتجعلها زايا في مثل : زرِّيَّة في ذرية – الزكاء في الذكاء – الزَّم في الذم، إزاعة في إذاعة.
... والظاء تجعلها العامية دالا في مثل مندرة في منظرة، وهي غرفة في الدور الأول من البيت. وتجعلها ضادا في مثل الحِفْض في الحفظ – الضِّفر بكسر الضاد في الظفر بضمها – الضَّهر في الظَّهر – صلاة الضُّهر في صلاة الظَّهر – واضب على الدراسة في واظب – النضافة في النَّظافة.
... وأبدلت العامة في عصر المماليك القاف في الفصحى همزة، ومن أمثلة ذلك: آل في قال – أرَا الكتاب في قرأ – أعد في قعد – ألب في قلب – إرد في قرد – أرَّروه في قرروه – الأفش في القفش – ومن ذلك: لأمة في لقمة – النؤطة في نقطة العروس – النُّؤْل في نُقْل العيد – الألأ في القلق – البرء في البرق – البطاءة
في البطاقة.
... وجميع حروف الفصحى الباقية يدخلها في العامية الإبدال قليلا أو كثيرا. وإذا تركنا الحروف إلى الحركات وجدنا التبديل فيها أكثر وأوسع، فما أوله فتحة قد يكسر وقد يضم وما ضم أوله قد يفتح وقد يكسر وما كسر أوله قد يفتح.
... ولعله قد اتضح الآن وضوحا لا ريب فيه أن العامية المصرية أدخلت على الفصحى في ألفاظها تحريفات كثيرة كثرة مفرطة، بحيث نستطيع أن نقول قولا صادقا إلى أبعد حد: إن العامية فصحى محرفة.(183/17)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
شوقي ضيف
رئيس المجمع(183/18)
أعمال المستشرق الفرنسي جورج سِيَرافان كولان" (*)
( 1893 – 1977 )
للأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي
عرفتُ البروفيسور جورج سِيرافان كولان GEORGES SERAPHIN COLIN (**) عندما كان أستاذًا بمعهد الدروس العليا بالرباط أثناء الخمسينيات، وجدت نفسي أمامه كممتحِن لي في اختبار شفوي لنيل بروفي المعهد المذكور، وكانت المادة هي الحج. كنت وقتها أستاذًا بجامعة القَرويين في الوقت الذي كنت أتابع فيه دراسة الترجمة، حضرتُ الامتحان وكلي ثقة بأن أجوبتي على أسئلة الأستاذ حول الحج ستخولني نقطًا متميزة وكان الأستاذ يعرف عن انتسابي للقَرويين ...
رحّب بي وشجعني في عباراتٍ قصيرة على حرصي على متابعة
دراستي للفرنسية... وانتقل على التّوِّ بإلقاء السؤال الأول ...
... أريد أن تتحدث لي عن الميزاب في الكعبة، مَن أنشأه؟ وفي أي تاريخ؟ وما قُطْره؟ ومن أي معْدنٍ يتكون؟!
... وقد حاولت أن أسترجع ذاكرتي حول ما إذا كان مثلُ هذه الموضوعات قد مر بي وأنا أستظهر مشاعر الحج! ورجوته سؤالاً آخر، فكان السؤالَ التالي : ماذا عن مساحة المسجد الحرام بالأمتار؟ تعلم أننا سمعنا خبرًا هذا العام يتحدث عن سبعمائة ألف حاج ونريد أن نعرف هل هذه المساحة تستوعب مثل هذا العدد؟
... ولما لم أكن على استعدادٍ لإعطاء جوابٍ صادقٍ حول الموضوع
… فقد رجوته مرة أخرى أن يغير السؤال وكنت أتوقع أنه سيعود بي إلى فرائض الحج كما اعتدنا أن ندرسها!… ولكنه عاد ليلقي سؤالاً ثالثًا على هذا النحو:
... هل يمكن أن تخط لي "سكيتش" للأماكن التي على الحاج أن يسلكها ابتداء من دخوله للمجسد الحرام وطوافه وسعيه ثم انتقاله إلى منى وجبل عرفات واتجاهه نحو المزدلفة ليقوم برمي الجمرات؟
... ولما شعر بأنني تضايقت من مثل هذه الأسئلة التي لم نتعود طرحها في معاهد كالقَرويين عاد ليسأل: تحدث لي إذن عن الحج كيف كان يجرى قبل ظهور الإسلام وماذا عن التغييرات والتعديلات التي طرأت؟(184/1)
... لا أتحدث عن ماذا جرى بعد هذه " المناوشة " التي لم أكن أنتظرها وأعودُ إلى القول: بأن البروفيسور كولان هكذا " ينبش " في قضايا وموضوعات قد نعتقدها نحن جانبية أو غير مفيدة، ينبشها ليجعل منها موضوعاتٍ صالحةً للكتابة عنها والبحث حولها معتمدًا على ما قيل عنها فعلاً في مظانّ أخرى غير التي بين أيدينا! وهو في كل ذلك يريد أن يُشرك صاحبه فيما يعالجه، وهو يريد أن يقول للفقيه إنه ليس في غنًى عن التاريخ والجغرافيا والأنثربولوجيا مثلاً … لقد كان شموليًّا في زاده المعرفي، وعلى هذا النحو يريد أن يكون الآخرون …
... على امتداد نحوٍ من خمسين سنة ظل الأستاذ كولان يكتب حول العديد من الموضوعات: كلّ شيء كان يستوقفه ويتأقلم معه ... سواء عندما كان مقيمًا بالقاهرة عاملاً بالمعهد الفرنسي الشرقي الأركيولوجي حيث سجلنا له حضورًا بمجلة المعهد منذ عام 1920، وسواءً عندما أصبح يعمل في المغرب بمعهد الدروس العليا حيث وجدتْ فيه مجلة ( هسبيرس HESPERIS ) زبونها الذي كان يغذيها بصفةٍ منتظمة بشتى المقالات والأبحاث والتقارير، وسواء عندما كان ينتقل إلى باريس حيث وجدت له حضورًا متميزًا في المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحية التي كان أحد خريجيها وله كرسي فيها.
... ومع هذه المرجعيات الثلاث وجدنا جهاتٍ أخرى تستكتبه نظرًا لما عرفته عن الأستاذ من طول نفس وصدقٍ في النقل وأمانةٍ علمية في التبليغ .(184/2)
نشرتْ له مجلةُ الجمعية اللغوية بباريس، ونشرةُ التعليم العمومي بالرباط، عددًا من المقالات أثناء العشرينيات والثلاثينيات ... كما نشرت له مجلة ( تْرِيَبولي ) الإيطالية بروما، ومجلة الأندلس الإسبانية، وبُورْتيكاليا بلشبونة، ومجلة رومانيا، و( إينيساسْيون )، ومعهد الدراسات الإسلامية، والمجلة الجغرافية المغربية، والمجلة الاقتصادية والاجتماعية بالرباط، وسلسلة الأرشيفات المغربية أثناء العشرينيات كذلك. ووجدت فيه ( الموسوعة الإسلامية ) مرجعًا لها فاستكتبته حول عددٍ من موادها وخاصة ما يتعلق بالمغرب: شفشاون، الشاوية سجلماسة، سبارتيل بطنجة أو إشبرتال كما يسميه البكري، لمطة، لمتونة، لواتة، تادلة، المغرب، تيط، تطاوين، ماسة، مطماطة، مازكان أو مدينة الجديدة ...
ولا أغفل هنا الإشارة إلى ما نشره مستقلا على حدة بواسطة معهد الدروس العليا بالرباط الذي كان من أبرز أساتذته في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات، كما لا أغفل ما نشره بالتعاون مع زملاء له آخرين من أمثال ليفي بروفنصال وبلاشير، ولاوست، ولُومْوان، ورُونو، وبْرينو، وطيراس، وريكار ...
وبحكم أن جورج كولان أصبح على صلةٍ متينة بعدد من العلماء الآخرين الذين كانوا في حجمه فقد حرص على أن يسهم في تكريم بعض الرجالات، ليس ذلك ليكيل المدح لهم وهم يستمعون! ولكنه يشارك بموضوعاتٍ أصيلةٍ، وصعبة التناول كذلك، وهكذا شارك في متنوعات ( Mélanges ) ، كود فْرُوي دِيمُومْبين Gaudefroy Demombynes ، وفي تكريم ماسبيرو Maspero ، ودافيد لوبيز David Lopes وبيير دوسينيفال P. De Cénival وأندري باصي André Bassé وليفي بروفينصال Lévi provencal، ومن هنا شاهدنا كولان حاضرًا في عدد من المؤتمرات التي كان المستشرقون ينظمونها من حينٍ لآخر لمعالجة قضايا الاستشراق.(184/3)
كان الأستاذ مهتمًّا وهو بالقاهرة بالمصطلحات اللغوية البحرية التي يستعملها البحارة بوادي النيل على نحو ما اهتم بالمتحف الوطني، كما اهتم وهو في المغرب باللغة المستعملة في مختلف الجهات بالمغرب معرفًا بأسماء الحرف والمهن، وبالمخترعات الميكانيكية مستعرضًا أسماء أدواتها وأجزائها باللغة العربية ... ولم يفتْه أن يهتم ببعض الفروق بين اللغة الكلاسيكية وبين اللغة المستعملة اليوم عند الصحفيين. واشتغل، وهذا مهم بمخطوطة " إيراد اللئال من إنشاد الضوال " لابن خاتمة الأنصاري، هذا علاوة على اهتمامه بتحقيق بعض المصادر المتعلقة بالمصطلحات الطبية، أو بتاريخ المغرب والأندلس: ( البيان المعرب ) لابن عذاري الذي كان يعتمد على تاريخ ابن صاحب الصلاة الباجي، كل هذا مع التزام الرجل بعدم التطاول على مَن سبقوه في البحث ... أقول هذا أمام زملائي لأقارن بين هذا الصنيع وبين صنيع قومٍ آخرين يقومون بتحقيق نفس التآليف متجاهلين أسماء سابقيهم ممن كانوا مرجعًا أساسيًّا لهم في عملهم!! إن العمالقة لا يخشون ذكر من سبقوهم، ولكن الأقزام هم الذين يتهيبون ذكر من درجوا وتلك كارثة من كوارث أمانة البحث العلمي الذي كان يدين به كولان!(184/4)
وقد اهتم ببعض المنقوشات العربية التي تحملها بعض واجهات المنابر التاريخية المثبتَة هنا وهناك: ترجمها إلى اللغة الفرنسية على نحو ما فعل عندما قام بترجمة بعض التآليف التاريخية والتراثية. وقد سألته مداعبًا ذات يوم عندما زارني في المعهد الجامعي للبحث العلمي، عما كان يعترضه من " مشاكل " وهو يقوم بترجمة بعض النصوص القديمةِ ذاتِ الأسلوب الذي قد يستعصي، فقال: إنها كثيرة وإنها تبعث على الضحك أحيانا ، كان يدونها ليحكيها لتلامذته تنبيهًا لهم واستنهاضًا لهممهم ... كان من جملة ما وقع له: أنه استشكل نصًّا عربيًّا يستعمل كلمة " المُد " كمعيار بالنسبة للحوم، مع أن المعروف أن اللحم يعبر عن معياره بالوزن لا بالمد، فيقال رطل لحم وليس مدَّ لحم واستشكل في نفس النص استعمال " المُد " بالنسبة للسوائل مع أن المعروف أن السوائل يعبر فيها بالقُلة ... وطال سؤاله عن الموضوع فطلب منه أحد الفقهاء الذين تردد عليهم بالسؤال أن يطلعه على النص بكامله وإذا نص يحتوي على ما يلي: مُدْ مِن اللحم كمُدْ مِن الخمر!! فقرأها كولان: مدٌّ من اللحم كمدٍّ من الخمر! مع أن قصد القائل ، ولعله عمر ابن الخطاب، إلى أن الذين يُدمنون اللحوم معرضون للأمراض على نحو الذين يدمنون الخمور!!
ولقد اهتم الأستاذ كولان بالتعريف بأسماء بعض المواقع الجغرافية: معانيها، أصولها وليس الأسماء الجغرافية فقط ولكن الأسماء الشخصية ( L’Onomastique ) ، ونحن نعلم أن كلاًّ من الأعلام الجغرافية والأعلام الشخصية حظيت بالأمس عند مؤلفينا بالتآليف المطولة والمختصرة، وهي اليوم محل اهتمام بالأمم المتحدة التي خصصت لها هيئات ومؤتمرات تعنى بها في انتظام محكم وبشتى اللغات ...(184/5)
وقد اهتم بالمخاطبات الرمزية، أو " التعمية "، في المراسلات كما سماها القلقشندي، وهكذا علق على " الشفرة " التي استعملها بعض الملوك المغاربة عند تعاملهم مع الأمراء والسفراء ... واهتم الرجل بتاريخ العلاقات السياسية بين المغرب وإسبانيا مثلاً، وبين الغرب الإسلامي والقاهرة ... من غير أن يهمل البحث أيضًا حول العلاقات المصرية مع اليمن ... وقد اهتم مبكرًا بالتعليق على ممارسة العرب للحساب معرفًا بالأرقام التي تحمل اسم الأرقام العربية في كل المصادر الأوربية، والتي تُعرف أيضا تحت اسم الأرقام الغُبارية أو الغمارية، وقد خصص بحثًا هامًّا لهذه الأرقام وللرقم الذي ينعت بالرومي أو الفاسي.
وقد اهتم بالعُملات المستعملة لدى بعض الدول الإسلامية باعتبارها عنصرًا هامًّا لكتابة تاريخ تلك الدول ورمزًا لسيادة الأمة، ومن هنا نراه يهتم بشأن المعادن التي تحتضنها بواطن الأرضين لاعتماد الدول عليها في اقتصادها ...
ومن المهم أن أشير مرةً أخرى لجانب التواضع والمصداقية في حياة كولان، فقد كتب عن معدنٍ جنوب المغرب في موقع يحمل اسم "زكندْر"، وعاد ليصحح معلوماته حول الموضوع بعد أن ظهر مصدر من المصادر المعاصرة للعهد الموحدي وأعني به " تاريخ المن بالإمامة " لابن صاحب الصلاة ...
لقد تنوعتْ اهتماماتُ وهواياتُ وانشغالاتُ كولان حتى لأصبح علينا إذا ما طرح موضوع ما من الموضوعات، أن نتساءل فيما بيننا: هل كتب عنه كولان؟ وقد عربت طائفة من بحوثه واعتمد اجتهاده في بعض القضايا الأندلسية …(184/6)
وكلنا يعرف عن تجذر هواية القَنْص بالصقر في الديار المغربية، عرفها المغاربة قبل الفتح الإسلامي عندما كانت تنقش تلك الصقور على وجه عُملة يوبا الثاني، وقد تحدث الموحدون عن هذه الهواية في كتبهم، وظهرت في الرسائل الدبلوماسية المتبادلة بين المغرب ومصر وأهدى العاهل المغربي السلطان أبو الحسن إلى العاهل المصري السلطان محمد بن قلاوون أربعة وثلاثين صقرا، بمستلزماتها: من براقعَ مختلفةِ الأشكال وقفازاتٍ، ومجاثم، ومن بيازين يسهرون على راحة الصقور..!
نحن نعلم أن رئيس الدولة عندما يتهادى الصَّقْر مع رئيس دولة أخرى فإن ذلك يعني أن العلاقات بين الدولتين بلغتْ قمتها ووصلت أوجهها ومن
هنا نعت الصقر في " الأنسكلوبيديات " العالمية بالطائر الدبلوماسي !!
هذا الموضوع موضوع البَيْزرة أخذ أيضًا باهتمام جورج كولان الذي نراه يخصص له بحثًا أصيلاً فريدًا يتعلق بالمصطلحات المستعملة في هذه الهِواية وبالتقنيات والآليات التي تتطلبه، وبالجهات المغربية التي ما تزال إلى الآن تتوارث هواية القَنْص بالصقر. كل هذه الموضوعات وأمثالها كانت تستهوي كولان فيجلس إلى جانب الناس يستمد منهم دقيق المعلومات.(184/7)
لقد كان من الصعب أن أستعرض في وقتٍ محددٍ أعمال كولان، فإنه بالرغم مما يبذله محبُّوه من جهدٍ لاستيعاب إنتاجاته المتناثرةِ عبر مكتبات العالم، فإننا ما نزال نكتشف أعمالاً له مما لم تنشر بعد. وحتى أتمكن من وضعكم في الصورة الكاملة حول إنتاج كولان أذكر أنني لاحقتُ مقالاتهِ وتأليفاتِه سواء منها ما كتبه وحده – وهو الغالب الأكثر – أو ما كتبه بالتعاون مع الآخرين، لاحقتُ ذلك ابتداء من المعهد الذي درس فيه بباريس: المدرسة الوطنية للغات الشرقية. وفي القاهرة في المعهد الفرنسي الشرقي الأركيولوجي. وفي الرباط بمعهد الدروس العليا. وأخيرًا في معهد الدراسات والأبحاث للتعريب. وكانت نتيجة تلك الملاحقات أن عدد الإنتاج بلغ زهاء مئة عنوان بما فيها البحوث والمقالات والتآليف، تضاف إلى هذا العدد، التقارير التي كان يقدمها أمام مجلس المعهد حول الإصدارات الجديدة ...
لكن التأليف الذي توج به أعمالَه الجليلة هو معجمه الكبير الذي قضى فيه عمره، هذا الكتاب الذي لا يقتصر فقط على العامية المغربية كما يفهم من العنوان، ولكنه كتاب لغير المغاربة أيضًا كتاب تاريخ، كتاب جغرافية، كتاب اجتماع، كتاب سياسة، كتاب تراث، كتاب حضارة ... وبالتالي كتاب لغة بكل ما تحمله كلمة اللغة من معنى. وإن أسلوب تحريره وصدق مرجعيته والإمعان في تدقيق عباراته هو وحده يعطي الدليل – إن كنا في حاجةٍ بعد هذا إلى دليل – على عمق الرجل وعلى بعده العلمي، فهو يقدم لنا منجمًا ثريًّا من المناجم البعيدة الغور المتعددة المناحي.
لقد هيأ جميع الجزازت قبل أن ترغمه الظروف السياسية على الالتحاق بباريس ... وكاد الأمل في العودة أن ينقطع لولا جهد أستاذنا(184/8)
الراحل محمد الفاسي ومساعدة زميلنا الأستاذ أحمد الأخضر اللذيْن حققا فرحة اجتماع كولان بأوراقه، لكن متاعب الثمانين حالت دون رؤية معجمه كاملاً ... وقد قيض الله لتحقيق أمنية الفقيد زميلتنا الأستاذة النابهة الدكتورة زكية العراقي الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات للتعريب ...
هذه السيدة الفاضلة هي التي تَم تحت عنايتها وإشرافها إنجاز المجلدات الثمانية، التي تحمل اسم (معجم كولان). وإن مجرد تصفح هذه المجلداتِ الموجودةِ اليوم في خزانة ( مجمع اللغة العربية ) ليعطينا فكرةً عن الجهد المبذول في سبيل إخراج هذا العمل إلى حيز الوجود، هذا العمل الذي سيخدم لا محالة الموضوعَ الذي هو الآن محل اهتمام مجمعنا الموقر، ولقد كنت أتمنى حضور الأستاذة زكية لتقدم بنفسها هذا العمل الكبير ...
نحن إذن مع " كتاب العُمر " لهذا العالم الجليل مع معجمٍ يعد أكبر معجم أصيل في العصر الحديث، لأنه يضع خريطةً جغرافيةً لغويةً ترتكز على السماع والمشاهدة، لقد كان يستدل بوحدة اللغة على وحدة الشعوب، ويستدل بها على الواقع السياسي والاجتماعي للأمةِ، أيةِ أمة.
كنا نشعر بالمتعة ونحن نجد من خلال إفاداته الحديثَ عن ثقافة السَّفَر
ثقافة الزواج، ثقافة الأعياد والمواسم، ثقافة التعامل مع الناس ...
كنت أتمنى لو أن كلَّ دولة عربية رُزقت رجلاً مثل جورج كولان وفي إرادة كولان وفي حماس كولان وصبر كولان ليقوم بجرد عامّيتها ليرجعها إلى أصلها وليقوم - على ضوء ذلك - برصد تراث للأمة العربية، ومكانة الحس اللغوي فيها بما يُعبر عنه من فروقٍ دقيقة ...
لقد خدم البحث العلمي في مجال تخصصه العربي من غير أن يسىء إلى العرب أو يُحرف أو يشاغب ومن ثم فإنه كان يستحق هذا التكريم في مجمعنا الموقر، لقد كان يعتز أيما اعتزاز بأن الله ألهمه إلى تعلم اللغةِ العربيةِ التي كان يجد فيها راحته ويشعر معها بمتعةٍ لم يجد مثلها في اللغات الأخرى ...
عبد الهادي التازي(184/9)
عضو المجمع من المغرب
المصادر
CANAMOS Christine:
Bibliographie, Hesp. Tamuda vol. XVll fasc unique 1976-77
Caubet, Dominique et ZAKIA, IRAQUI ARABE: MAROCAIN, ( Inédits de Georges Si Colin., l’institut National des Langues et Civilisations Orientales 1999.
Colin, G.S : Le Dictionnaire Colin d’Arabe dialectal MAROCAIN. Sous La Direction de ZAKIA IRAQUI, institut d’Etudes et de Recherches pour l’Arabisation-RABAT en collaboration avec le C.N.R.S PARIS, 8 volumes Editions AL MANAHIL Ministre des Affaires culturelles – MAROC.
FAURE ADOLPHE
Hommage à Georges S. Colin Hesp. Tamuda Vol. XVII 1976-77
IRAQUI ZAKIA: Le Retour Hesp – Tamuda 1976-77 ( B.P 6641 MAARIF – Rabat ).
LAKHDAR – GAZAL, Ahmed : La carriére officielle de Georges Colin, Hesp. Tamuda 1976-77.
Rodriguez, Nathalie, Letter du 28/06/1999 avec les fichiers – Colin.
د. عبد الهادي التازي: التاريخ الدبلوماسي للمغرب ج 2 ص 56 – 57 رقم الإيداع القانوني 25/1986 ، مطالع فضالة المحمدية بالمغرب.
د. التازي: مساهمة في دراسة الوثائق الدولية لليمن. مجلة الإكليل صنعاء، السنة 13 – 1413 – 1992.
د. التازي: ميناء فاس في المصادر المغربية والأجنبية، بحث قدم للندوة الدولية حول
الجهاد البحري في التاريخ الإسلامي 30 – 31 مايو 2 يونية 1997، جمعية أبي رقراق سلا.
د. التازي: اهتمام المغاربة بالتأليف حول العامي والفصيح، بحث قدم لمجمع اللغة العربية بالقاهرة في مارس 1990 .
د. التازي: بين الفصحى والعامية بالمغرب، بحث قدم لمجمع اللغة العربية بالقاهرة في دور مارس 1999 .(184/10)
دور وسائل الإعلام في التنمية اللغوية (*)
للأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي
... هناك مصطلحات أساسية في التعبير عن وسائل الاتصال والإعلام؛ أهمها: الوسائل الجماهيرية، وسائل الاتصال، وسائل الإعلام. وهي مصطلحات جديدة نسبيًّا، وترجع إلى القرن العشرين، وتشترك هذه المصطلحات في الدلالة على الإذاعة المسموعة والتليفزيون والصحف ذات الانتشار الواسع. والمصطلح هكذا بصيغة الجمعmedia ، أما المفرد Medium فيدل في هذا السياق على الوسيلة أو القناة أو الوعاء الذي تقدم المعلومات من خلاله إلى الجمهور.
... وهناك كتاب يقصرون هذا المفهوم على ما تقدمه هذه الوسائل من تقاريرَ أو تعليقاتٍ أو أخبار، ويستبعدون القدرَ الكبير من برامج التسلية والترفيه . ولكن دراسات أخرى تناولت أثر التليفزيون على الأطفال، واهتمت بطبيعة الحال بجوانبَ متعددةٍ
أخرى ليس منها التقاريرُ أو التعليقاتُ أو الأخبارُ. وهذه الجوانب المتعددة لها – أيضًا – سِماتها اللغوية المختلفة، ولها قضاياها المعاصرة في الأداء اللغوي بالعربية.
... إن أهمية وسائلِ الإعلام ترجع في المقام الأول إلى مخاطبة الجماهير، ولها من هذا الجانب دورها الحاسم في الاستخدام اللغوي. وهو دور قامت به على مدى القرون – وتقوم حاليا به – مؤسسات مجتمعية متعددة، منها المؤسسات الدينية والمؤسسات التعليمية والإدارة الحكومية . يثبت تاريخُ اللغات الكبرى أثرَ هذه المؤسسات في تشكيل الحياة اللغوية. تعرفُ في الإطار الإسلامي أثرَ القرآن الكريم في الاستخدام اللغوي، من حيثُ استمرارُ المفرداتِ واستخدامُ التراكيب ؛ مخطوطاتُ المصحف الشريف كانت كثيرة في وقت كانت فيه المخطوطاتُ(185/1)
من أي كتاب آخر معدودة، والقراءة لا تؤخذُ وجادةً بل تُتلقى مشافهة، ومن هنا كان تأثيرُ القرآنِ من خلال النص المقروء أو المرتل، وكذلك من خلال النص المسموع في أداء الشعائر أو في الاستماع العام كبيرًا وواضحًا، ويرجع هذا إلى البعد الاجتماعي لهذا الأداء اللغوي. وفي عصر الطباعة ظل الكتاب المقدس في أوربا يحتل القمة في عدد النسخ المطبوعة، أي من حيث عدد النسخ. ولاحظ مؤرخو اللغات الأوربية أثره في مفردات وأساليب تلك اللغات، وخصوصًا منذ وجود ترجمات حديثة معتمدة إلى لغات أوربية. وإلى جانب هذا التأثير كان لانتشار الكتاب المطبوع بصفة عامة في إطار اتساع قاعدة التعليم أثرٌ بعيدٌ في الحياة اللغوية. وزاد انتشار التعليم في القرن التاسع عشر وجعلته بعضُ الدولِ إجباريًّا، ولم يعد أمرًا يقتصر على الخاصة. لقد زادت العناية باللغة المكتوبة، وأصبحت هناك امتحانات تحريرية، وزادت حركة تأليف كتب مدرسية متدرجة، واستمر هذا النمطُ في القرن العشرين. ولا يمكن تصوُّر هذا كُلِّه إلا من خلال اللغة وتنمية مهاراتها المختلفة. وإلى جانب هذا وذلك يجب الإشارة إلى دور أجهزة الدولة ونظمها، ذلك أن التأثير اللغوي نجده في القوانين ومصطلحاتها واللوائح والنظم ولوحات الإشارات واللافتات التجارية، ثم في الاستخدام اللغوي في المجالس النيابية. وهكذا يثبت تاريخ اللغات الكبرى وواقع التنمية اللغوية واتجاهاتها في عدد من دول العالم المعاصر مدى تأثير المؤسسات الدينية والتعليمية والإدارية في اللغة، ويرجع هذا التأثير إلى البعد الاجتماعي لفاعليتها وأنها تُوَجَّهُ إلى فئات اجتماعية عريضة.(185/2)
... التنمية اللغوية مصطلح جديد نسبيًّا، ويُقصد به إحداث تغيرٍ لغوي نحو هدف منشود. وهو مصطلح يختلف عن التغير اللغوي في الظروف العادية دون تخطيط لإحداث التغير. وهناك عدة دول حققت نجاحًا كبيرًا في التنمية اللغوية في داخل حدودها، كما تكونت خبراتٌ كثيرة أيضًا لتنمية المعرفة باللغات في خارج حدود لها. أهم المؤسسات التنفيذية لها تتمثل هنا في التعليم والإعلام والإدارة. ومن هنا الصلة الوثيقة بين وسائل الإعلام والتنمية اللغوية. وفي هذه المحاضرة محاولة لبيان جوانبَ من دور الصحافة في تكوين المصطلحات وألفاظ الحضارة والتراكيب في العربية في بداية النهضة، ولإيضاح الدور الذي يمكن أن تنهض به الإذاعات المسموعة والمرئية من أجل العربية.
أولاً: الصحافة والعربية الفصحى الحديثة:
... كان للصحافة في بداية النهضة العربية الحديثة أثرٌ بَعِيد في وضع المصطلحات وألفاظ الحضارة الحديثة ، وتعددت بطبيعة الحال الوسائلُ اللغوية بين تغير دلالي واشتقاق وتركيب واقتراض معجمي. وتاريخ كُلِّ كلمة من الكلمات وكُلّ تركيب من التراكيب يمثل جانبًا من تاريخ تكوّن المصطلحات وألفاظ الحضارة في العربية في العصر الحديث. كان لدوريات رسميةٍ مثلِ الوقائع الرسمية في مصر ( من 1828 ) ولدوريات حكومية لها أهداف تعليمية مثل روضة المدارس ولدوريات غير حكومية منها صحيفة الأهرام ومجلة الهلال دور كبير في تكوين المصطلحات وألفاظ الحضارة ونشرها، وجعل قدر كبير منها رصيدًا جديدًا للعربية الفصحى في العصر الحديث.(185/3)
... في تلك السنوات المهمة من تاريخنا اللغوي والثقافي عادت إلى الحياة كلمات عربية أصيلة لتحمل دلالات جديدة. بدأت كلمةُ " صحيفة " وكلمة " جريدة " تأخذان مكانَ الكلمة المعرّبة جرنال التي دخلت قبل ذلك بنحو نصف قرن في كتابات عصر محمد علي باشا. وبدأت كلمةُ " علم " تعود إلى مجدها القديم لتستوعبَ كُل أنواع المعرفة الدقيقة، ولم تعد مقصورة على علوم الدين كما كان استخدامها المحلي عدة قرون. كتب رفاعة الطهطاوي في تقديمه "لروضة المدارس" مستخدمًا كلمة " صَحِيفة "، وذاكرًا " الفوائد العلمية " و " تدوين العلوم "، بل نلاحظ عنده كلمات جديدة أصبحت من رصيد الفصحى المعاصرة مثل كلمة " تَحْرِير " في سياق العمل الصحفي، وتراكيبَ اصطلاحية مثل " دار الكتب " بوصفها من أهم مؤسسات الدولة الحديثة. المصدر الصناعي بدأ يأخذ مكانه على نحو متزايد، نجد عند الطهطاوي في "روضة المدارس" كلمات مثل الأَسْبَقِيّة والحرية والمعْلُومِيَّة والحيْثِيَّة والجمعية، وفي "روضة المدارس" كلمات دخيلة استقرت في لغة الصحافة وأصبحت من الرصيد الحديث للعربية، منها كلمة إمبراطور وتليسكوب وميكروسكوب أي النظارة المُعَظِّمَة، كان "لروضة المدارس" دورٌ ثقافي يكمل دورَ التعليم في المدارس.(185/4)
... كانت روضة المدارس ذات توزيع محدود، ولكن الصحافَة غيرَ الحكومية عرفت قاعدة أوسع وأعدادًا متزايدة من القرّاء، وبالتالي كان لها أثرٌ أكبرُ في استقرار مصطلحات علمية وألفاظ حضارية، وبعضها استمرار لما في روضة المدارس، مثل كلمة جَرِيدة، وفيها نجد أيضًا كلمة مَجَلَّة وكلمة صحيفة وكلمة امبراطور. لقد استقرت في كتابات مجلة الهلال منذ عامها الأول مصطلحات سياسية كثيرة بمعناها الجديد، من ذلك كلمة دَوْلة وكلمة سفير وكلمة المحافظين في وصف أحد الأحزاب البريطانية، وتكونت أيضًا تراكيبُ مثل الشرق الأقصى، والمؤتمرِ الدولي، والسكة الحديدية. وفي مجلة الهلال نجد ذكر الولايات المتحدة الأمريكية بدلاً من الاستخدام القديم في بدايات النهضة ايتازونيا. ونجد عنده أيضًا مصطلح رئيس الجمهورية، جمعية أدبية، مجلة علمية، رواية تاريخية. وكان لمجلة الهلال دورٌ في نشر مقابلات عربية لكلمات دخيلة مثل الكَورنْتينَات جعل في مقابلها الحجُور الصحية، كما كان لمجلة الهلال دورها – أيضًا – في استخدام كلمات دخيلة مستقرة في الاستخدام الشعبي والاستخدام الرسمي آنذاك مثل كلمة " بوسطة ". ومع هذا كله فقد كانت ثمة مصطلحات وألفاظ حضارية قصيرة العمر، استخدمتها مجلة الهلال ولم يكتب لها الاستقرار، منها ذلك الخبر عن ذلك المجمع اللغوي الذي دعا إليه السيد توفيق البكري، وكان المقال عنه بعنوان: المجتمع اللغوي العربي. وهنا نجد مناقشة مجلة الهلال لكلمات اقترحها ذلك المجمع اللغوي منها مِدْره بدلاً من الأفاكاتو، كان رأي كاتب المقال في الهلال بصحة كلمة محامٍ وأن منها كلمات عربية موثقة منها المُحَامَاة، وأنه على افتراض صحة اللفظين فقد فضل الهلالُ " استعمال مُحَامٍ لأنها شائعة مفهومة وهذا أول ما يجب أن نتوخاه في انتقاد الألفاظ". ومن المهم هنا أن نتابع اقتراحات الهلال التي استقرت في الاستخدام العربي، منها كلمة رَقَم بدلاً من نمرة ونمرو،(185/5)
وشُرْفة بدلاً من بالكون.
... وفوق هذا كله فقد كان الوعي في مجلة الهلال في عامها الأول بقضية المصطلحات وألفاظ الحضارة واضحًا، تضمنت واجبات المجمع اللغوي المقترح لبحث الاصطلاحاتِ الصناعية والعلمية والإدارية والسياسية وألفاظِ الحضارة المادية وغيرها. لقد كانت مجلة الهلال من الدوريات التي دعت إلى إنشاء الجامعة، كانت التسمية أول الأمر طويلةً وغَيْرَ محددة: " مدرسة كلية علمية "، أو "مدرسة كلية مصرية". وكتبت دوريات أخرى في تلك السنوات عن أهمية إنشاء " مدرسة جامعة "، واختُصِر هذا التركيب إلى كلمة واحدة هي كلمة " جامعة "، واستقرت هذه الكلمة في الدوريات قبل قيام الجامعة المصرية في عهدها غير الحكومي.
... وفي تلك السنوات كانت مجلة الأستاذ لعبد الله النديم تناقش قضية اللغة العربية في ضوء جهود ذلك المجمع، وهنا نجد اتفاق الأستاذ والهلال في رفض كلمتي نمرو ونمرة، ولكن مجلة الأستاذ اقترحت لذلك كلمة عَدَد، " وقد سبقت الجرائد باستعمال عَدَد بدل نمرو على جرائدها". وفي الوقت نفسه ناقشت مجلة الأستاذ مفهوم الوطنية أو الجامعة الوطنية وقضية اللغة العربية في الدولة العثمانية والنهضة الحديثة وما ارتبط بها من كلمات دخيلة، وطالب الأستاذ القائمين بأمر الأمم الشرقية أن يحُولوا بين اللغة وموتِها بإحداث جمعية هدفُها " وضع الاصطلاحات الطبية والكيماوية والهندسية ".
... وفي تلك السنوات نجد القضية اللغوية تطرح في الدوريات العربية في مصر من جوانب شتى، نجد دعوة مهندس الري ويلكوكس إلى العامية في مجلة الأزهر، ونجد دفاعا عن العربية وأن " إضاعة اللغة تسليم للذات " بقلم عبد الله النديم في الأستاذ، إلى جانب مقالات أخرى لكتاب كثيرين.(185/6)
... كان دور المجلات الثقافية في تنمية اللغة العربية واعيًا وهادفًا. اهتمت مجلة الزهور لأنطون الجميل منذ سنة 1910 بقضية ألفاظ الحضارة. ونشرت اقتراحات حقق بعضها قبولاً وانتشارًا، من ذلك سيّارة بدلا من أتومبيل وكلمة طُوَار بدلا من ترتوار وكلمة مُمَرِّض بدلا من تمرجي. وهذه الكلمات أصبحت من الرصيد الجديد للعربية الفصحى في العصر الحديث، وإن استمر استخدام الكلمات الدخيلة في بعض العاميات.
... إنّ دور مجلاتِ الثقافة العلمية، وفي مقدمتها مجلة المقتطف ( من سنة 1896 ) كان واضحًا في نشر المصطلحات العلمية الأساسية في مجالات الفيزياء والكيمياء والعلوم البيولوجية والطب والهندسة، إلى جانب المصطلحات الأساسية للتعبير العلمي، في مجلة المقتطف نجد تحديدًا لدلالات كلمات أساسية، مثل: عِلْم، بَحْث، مبحث، مجمع، تطعيم، ارتقاء. وكان للمقتطف دور كبير في استقرار مصطلحات علمية كثيرة، منها: علم الأمراض ( الباثولوجيا )، التصوير الشمسي، مركبات كيماوية، أشعة رنتجن، علم الحياة ( البيولوجيا )، العصور الجيولوجية، وسائط طبيعية، أمراض معدية، أسلوب علمي، فروض علمية، تغييرات كيماوية، انفعالات نفسية، من ذلك أيضًا أسماء الآلات: ميكروسكوب، تلغراف لاسلكي.
... وهناك كلمات دخيلة استخدمها كتاب المقتطف واستقرت في أكثر الأقطار العربية، من ذلك كلمة ميكروبات، أكسجين، بكتريا، نترات الصودا، راديوم. وهذه الكلمات استقرت في الاستخدام العربي في القرن العشرين، وكانت الدورياتُ العلميةُ إلى جانب الكتبِ المدرسيةِ أوعيةَ تقديمها إلى قاعدةٍ عريضة من أبناء العربية.(185/7)
... قدّمت الصحافة العربية ملامح في بنية الكلمات أصبحت طابعًا مميزًا للفصحى المعاصرة. وأكثر هذه الملامح لها أصولٌ قديمة محدودة، ولكن الصحافة وسَّعت ذلك وزادت من تطبيقاته. إن كلمات معاصرة مثل دَبْلَجَة ونَمْذَجَة وبَرْمَجَة وأَقْلَمة مشتقةٌ من كلمات معربة ودخيلة، وكان للصحافة دورٌ في نشرها واستقرارها. وهي بوزن فَعْلَلة الذي أقره مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وعلى نحو كلمة دَرْهَم في التراث العربي.
... تعد الصحافة العربية من أهم عناصر استقرار الأنماط الصرفية في العربية المعاصرة، من ذلك جمع المصدر بوصفه نوعًا من الأسماء، من ذلك بوزن انفعال ( انقسام / انقسامات، انشقاق / انشقاقات ) وبوزن تفعُّل ( تجمُّع / تجمُّعات، تخصُّص / تخصُّصات، توقُّع/ توقُّعات ) وبوزن تفاعُل ( تجاوُز / تجاوُزات، تنازُل / تنازُلات، تناقُض / تناقُضات ) وبوزن استفعال ( استعلام / استعلامات، استفزاز / استفزازت ). ويدخل في الأنماط الصرفية ذات الوظائف النحوية الجديدة استخدامُ صيغةِ النسب وصفًا للمصدر المحذوف المنصوب لتؤدي معنى Adverb في اللغات الأوربية، وذلك مثل: عسكريًّا، اقتصادًًّا، سياسيًّا، كيميائيًّا، معدنيًّا، زراعيًّا، تلقائيًّا، عفويًّا تربويًّا، لغويًّا.
... وثمة خصائصُ تركيبية أصبحت لها أهميتها من خلال استخدامها الصحفي في الفصحى المعاصرة، منها ابتداع أدوات شرط جديدة، تحوّلت إلى تلك الوظيفة واستقرت في لغة الصحافة العربية المعاصرة، منها: طالما، حينما، وعندما. ويدخل في هذا أيضًا تكرار استخدام كُلما للدلالة على اقتران أمرين، وذلك في النمط الآتي: ( كلما + ماض ... كلما + ماض )، وهو تكرار لا يراه أكثر اللغويين مبررًا.(185/8)
... لقد استقرت في لغة الأخبار أنماط تركيبية منطوقة منها تتابع أسماء الأعلام في اسم الشخص الواحد بدون نهاية إعرابية، ومنها ثباتُ صيغة واحدة لاسم العلم دون تصرّف إعرابي، ومنها قراءة الأعداد بصيغة ثابتة تقترب في أغلب الحالات من العامية المحلية.
... وكان للغة الصحافة دور في استخدام تراكيب ثابتة بالواو، منها: بل و، لا شك وأن، لابد وأن، وحتى. وبعض هذه التراكيب له تبرير دلالي، غير أن قدرًا كبيرًا منها يمثل تزيدًا لغويًّا لا يقبله أكثر المدققين، وكذلك استخدام الكاف التمثيلية بمعنى as, als, comme دون إرادة التشبيه. وهذا الاستخدام موضع نقد بعض المدققين على الرغم من إجازته.
... وفوق هذا كله فإن ثمة أنماطًا في بناء الجملة كان للصحافة دور في استقرارها، من ذلك تصدر المفعول لأجله في الجملة إذا كان بكلمات مثل: تلبية، ردّا، نتيجة، طبقًا، انطلاقًا ... إلخ. ومن ذلك استخدام كلمة نفس مضافة إلى ما يراد تأكيده.
... هناك ظواهر نحوية كثيرة في لغة الصحافة العربية المعاصرة لها أصولها القديمة المحدودة، ولكنها أصبحت نمطًا شائعًا في العصر الحديث، من ذلك الفصل بين الفعل والفاعل، والفصل بين المبتدأ وخبره إلخ، والفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمعطوف.
... وفي هذا كله فإن العمل الصحفي ليس مستقلاًّ من الناحية اللغوية عن عمل وكالات الأنباء التي يقوم العاملون فيها بدورٍ كبير في الترجمة والصياغة،وعليهم في حالات كثيرة أن يصنعوا كلمات أو تراكيب جديدة. ومن هنا أهمية الثقافة اللغوية الحديثة للعاملين في المجالات الإعلامية المتعددة والمتكاملة وأهميةُ التخطيط لمنظومة متكاملة تربط وسائل الإعلام ووكالات الأنباء ببنك للمصطلحات. وأكثر الأخطاء اللغوية في الأداء الإعلامي لا يكفي في معالجتها طريقة قل ولا تقل، تنمية المهارات اللغوية عمل متكامل يتطلب تدريبًا واهتمامًا ومتابعة.(185/9)
ثانيًا: الإذاعة المسموعة والمرئية والقضايا اللغوية:
... تشكل الإذاعة والتليفزيون واقعًا جديدًا في الحياة، إن لهما تأثيرًا واسعًا بفضل ثلاثةِ عواملَ تتابع ظهورها وانتشارها في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي أولاً ثورة الترانستور اعتبارًا من 1960 على نحو جعل جهاز الراديو رخيصًا ودقيقًا في الالتقاط وخفيفًا وواسع الانتشار عند الأفراد في كل أنحاء العالم وفي مواقع نائية في القرى والجبال والجزر الصغيرة. العامل الثاني كان انتشار التليفزيون في أكثر دول العالم، وبذلك حدث ما لم يكن متخيلاً من قبل، والعامل الثالث هو النقل عن طريق الأقمار الصناعية، وبذلك تم تجاوز الحدود المكانية، وأصبحت المتطلبات اللغوية غير محلية.(185/10)
... إن وسائل الإعلام والتقنيات الجديدة كلها تمثل في الحياة اللغوية المعاصرة العامل الجديد الذي أضيف إلى المؤثرات المعروفة في التاريخ. إن أهمية وسائل الإعلام متزايدة وأخذت بعض الدراسات الميدانية تقارن – مثلا – ساعات وجود التلميذ في المدرسة على مدى عام كامل بساعات تعرضه للمؤثرات الإعلامية، ولاحظت أنها في بعض الدول تصل إلى ضعف ساعات التعليم النظامي. وفوق هذا فإن أسرة الوسائلMedia Family تضم التصوير ( اعتبارًا من سنة 1826 )، ثم السينما الصامتة ( اعتبارًا من سنة 1896 ) ثم الناطقة ( اعتبارًا من سنة 1928 )، والتسجيلات الصوتية ( اعتبارًا من سنة 1877 )، ثم الحاسبات. لقد زادت أهمية السينما في الاستخدام اللغوي من خلال الحوار في أفلام الحركة ومن خلال صياغة المعلومات في الأفلام الوثائقية. وكانت جريدة مصر الناطقة مثالاً حيًّا لاستخدام العربية الإذاعية الراقية مع الصور الحية في تقديم أهم أحداث الأسبوع. أما التقدم في الحاسبات وظهور أنماط جديدة من الوسائل، مثل: الصحيفة الإلكترونية والخدمات المختلفة من خلال شبكات المعلومات، ودخول تعليم الحاسب الآلي في مناهج التعليم. فقد وصلت إلى درجة عالية من التكامل في شكل ما يعرف بالتقنيات المتعددة Multi media، وتتضمن في الوقت نفسه الصور والرسوم واللغة المكتوبة واللغة المنطوقة والموسيقا.
... اتضح من تاريخ وسائل الإعلام أن لها تأثيرًا لغويًّا متزايدًا يرتبط بزيادة عدد المتلقين. لقد زاد انتشار أجهزة الراديو في كل دول العالم. كانت هذه الأجهزة مقصورة في الربع الأول من القرن العشرين على بعض الأفراد في الدول المتقدمة ولأغراض تتصل بالدولة، فأصبحت متاحة لآلاف الملايين في كل القارات، وبذلك أصبحت الإذاعة تمثل واقعًا لغويًّا جديدًا.(185/11)
... إن الإضافة المهمة التي قدّمتها الإذاعة تتصل بالأداء اللغوي المنطوق. لقد أفادت الخبرات الأوربية من تقاليد المسرح الراقي في العناية بالنطق ومن التوجه المجتمعي عند المثقفين على وجه الخصوص إلى أن يكون النطق الإذاعي ممثلاً للنطق الصحيح وأن تكون اللغة منتقاة وراقية. وهكذا أصبح الأداء اللغوي للإنجليزية في الإذاعة البريطانية مثالاً للدقة في الأداء، وظلت العناية بالأداء اللغوي المنطوق للألمانيّة سمة مشتركة في كل الإذاعات الألمانية. ولكن تنوع المواد المقدّمة بين أخبار وأحاديث وتعليقات من جانب ومسلسلات وحوار من جانب آخر جعل قدرًا من التنوع مسموحًا به. وأخذت أكثر الإذاعات العربية بهذا التوجه، وبدأت في إعداد لغوي للمذيعين ومقدمي البرامج تتزايد أهميته بمضي الوقت، ولكنه يقتصر عليهم، ولم يصل بعدُ إلى موقف عام يتمثل في سياسة لغوية معلنة.
... لقد بدأ عهد التليفزيون في العالم العربي منذ نحو أربعين عامًا. وأخذ من الإذاعة تقاليدها اللغوية السليمة في الأخبار والتعليقات وما يتصل بهما. ولكن اعتماد التليفزيون على الأفلام وعلى الإعلانات وعلى المسلسلات، واهتمامه بالإبهار البصري جعل القضية اللغوية تتعقد، وأتاح تكوّن تصوراتٍ تكاد تقصر دور التليفزيون على المهام السياسية والترفيهية، وتجعل للثقافة دورًا تابعًا، ولا تضع في الاعتبار أن دور التليفزيون في تشكيل الواقع اللغوي يعد حاسمًا بالنسبة للمستقبل. ومن هنا ضرورة إيجاد سياسة لغوية للإذاعة والتليفزيون، والتخطيط للتنفيذ بالوسائل المناسبة، ومنها الإعداد اللغوي والاهتمام بالتنشئة اللغوية.(185/12)
... التخطيط اللغوي ضروري على المستوى العربي من أجل وصول الرسالة الإعلامية بدقة عبر الحدود. ومن هنا أهمية الوعي بدور التليفزيون المتزايد في التنمية اللغوية. لا يقتصر الأمر على التليفزيونات الحكومية، فالواقع يشهد دخول مؤسسات خاصة في مجال التليفزيون تتجاوز حدود الدولة الواحدة، ومن هنا فإن تكوين اتجاه عام يتمثل في سياسة لغوية واضحة الملامح يشارك في تنفيذها كل القنوات يعد من أهم ما يمكن أن يقوم به التليفزيون للتنمية اللغوية في داخل الدول العربية.
... لقد كانت بدايات التليفزيون في عصر ازدهار الإذاعة والأفلام السينمائية ولكن التطورات وتقدم تقنيات الرادار ثم إدخال التليفزيون الملوّن، ثم انتشار التليفزيون في أكثر دول العالم في إطار الاستقلال الوطني، ثم النقل عن طريق الأقمار الصناعية تعد مراحل مهمة متسارعة جعلت للتليفزيون أثرًا لغويًّا يتجاوز الإذاعة المسموعة. ومن هنا أهمية طرح قضايا الاستخدام اللغوي في التليفزيون ومستويات اللغة في برامجه المختلفة، ومدى الصلة بين مستويات اللغة في الإذاعة المسموعة وفي الإذاعة المرئية. وفي المنطقة العربية كان الاعتماد كثيرًا على أفلام الحركة، سواء أكانت من الإنتاج السينمائي القديم أم من الإنتاج البرامجي التليفزيوني الجديد مؤثرًا في جعل التليفزيون يقترب بشكل كبير من العامية. ولما كانت بدايات السينما بالعامية المصرية القاهرية فقد استقر هذا المستوى اللغوي في مسلسلات التليفزيون وأصبح نمطًا مألوفًا.(185/13)
... هناك قضايا لغوية متعددة طرحت في إطار وسائل الإعلام: منها مدى ارتباط المستوى اللغوي لكل برنامج بنوعية المتلقين في إطار " الذاتية الاجتماعية Social Identity " لهم، وكيفية تحقيق التوازن مع متطلبات اللغة المشتركة. ومنها – أيضًا – مدى التنوع اللغوي في البرامج المختلفة: البرامج الدينية، الأخبار والتعليقات، المسلسلات، المقابلات والمناقشات، برامج الترفيه، برامج الأطفال، البرامج التعليمية، الإعلانات. ومنها العلاقة بين لغة الحوار في الرواية ولغة الحوار في المسلسلات الإذاعية والتليفزيونية. ومدى اعتماد وسائل الإعلام المنطوقة والمسموعة على مادة مطبوعة. وأهمية الخبرة المكتسبة في دور الصحف في عمليات التحرير اللغوي من حيث طول الجملة ونظام الفقرات والجمل المعترضة.
... أثبت الاستخدام اللغوي في وسائل الإعلام أهمية دورها في تنمية المهارات اللغوية على نحو غير مسبوق. كان التركيز – من قبلُ في تعليم اللغات – على النصوص القديمة وتحليلها وفهمها، كان ذلك في الإطار الأوربي من خلال تعليم اليونانية القديمة واللاتينية. لقد حدث تحوّل نحو الاهتمام باللغات الحديثة مع التركيز على المهارات اللغوية المختلفة، ودعّم الإعلام الوعي الجديد بأهمية اللغة المنطوقة، ويطالب المثقفون الإعلاميين بلغة منطوقة سليمة،كما ينشدون ذلك – أيضًا – في البرامج التعليمية. وفوق هذا كله فقد أثبتت خبرات الأربعين عامًا الماضية أهمية دور الإذاعة في تعليم العربية لغير الناطقين بها في القارة الأفريقية على وجه الخصوص. ودلت التجارب الأجنبية على الدور المتزايد للإفادة من التليفزيون لتنفيذ برامج جادة لتعليم اللغة لغير الناطقين بها. ومن هنا الدور الكبير لوسائل الإعلام المسموعة والمرئية في تنمية المعرفة باللغة في الخارج.
ثالثًا: اللغة في وسائل الإعلام عبر الحدود:(185/14)
... تطورت برامج الإذاعة والتليفزيون تطورًا بعيد المدى في الأهداف، واتضحت لها بمضي الوقت مهام لغوية جادة في أداء اللغة المنطوقة. كانت بداية البرامج الموجهة إلى الخارج في بعض الدول الأوربية سنة 1915، كان الإرسال بنظام مورس واقتصر على الأخبار وكانت تلتقطها الصحف في المقام الأول، ثم دخلت الكلمة المنطوقة بعد ذلك (1922)، وقيل آنذاك إن الإذاعة " صحف بلا ورق ". وكانت موجات الراديو ذات الترددات العالية نصرًا كبيرًا. ولم يكن امتلاك أجهزة الراديو أمرًا شائعًا، ولكن التقدم والشوق إلى معرفة العالم كانا وراء منافسة كبيرة بين الدول والقوى العالمية.
... طُرحت القضية اللغوية في تلك السنوات المبكرة، ونظرًا لتعدد اللغات وتنوع المستويات فقد طرحت في أوربا (1926) فكرة استخدام لغة عالمية مصنوعة وهي الاسبرانتو Esperanto، وبدأت بالفعل خمس وعشرون محطة إذاعة في القارة الأوربية تبث دروسًا في لغة الاسبرانتو ضمن برامجها المحلية.
... ولم يكن ثمة وضوح في مسألة اللغة المنشودة للإذاعات الموجهة إلى الخارج، إلى أن فرضت ظروف الإفادة من الإذاعة في تقوية الصلة مع المستعمرات ومع المواطنين الأوربيين المقيمين فيها ومع القوات العسكرية بها والدعاية السياسية لنظمها ومواقفها قيامَ عدد من الدول بإرسال مُوَجَّه. وفي تتابع زمني سريع (1929– 1939م) كانت هناك محطات هولندية وروسية وبريطانية وفرنسية موجهة إلى الخارج. وكان الإرسال باللغات الرسمية لهذه الدول، وإلى جانبها بدأت تسمع لغات أخرى، منها اللغة العربية.(185/15)
... إن مكانة اللغة العربية كانت واضحة في هذه المنافسة، منذ 1931 كان هناك بث من فرنسا بست لغات منها العربية، ومن خلال التجربة الألمانية تأكدت أهمية الإذاعة في العمل السياسي فأقامت إيطاليا سنة 1933 محطة في روما، وتطورت على مدى السنوات وأصبح لها توجه سياسي واضح، وكانت تقدِّم الأخبار بعدة لغات منها العربية وبطريقة مناهضة للسياسة البريطانية. وكان هذا الموقف حافزًا لهيئة الإذاعة البريطانية إلى أن تقرر سنة 1938 إدخال خدمة باللغات الأجنبية، بدأت باللغة العربية، ثم كانت الإسبانية والبرتغالية بعد ذلك. وتتابعت اللغات، ولكن اللغة العربية ظلت في المكان الثاني بعد اللغة الإنجليزية – من حيث عدد ساعات الإرسال الإذاعي. وفي أثناء الحرب العالمية الثانية ظهرت إذاعات موجهة كثيرة منها صوت أمريكا ( 22 لغة ) وإذاعة اليابان ( 24 لغة )، وزادت عدد اللغات في الإذاعات الموجودة، واحتفظت العربية بمكانتها. وفي هذا السياق وقبل الحرب العالمية الثانية نشأت الإذاعة المصرية، وكان فيها البرنامج العام بالعربية إلى جانب البرنامج الأوربي.
... تكونت على مدى أكثر من نصف قرن خبرات متعددة في اختيار اللغات والمستويات اللغوية، إن برامج الدول الكبرى، وهي: الولايات المتحدة وروسيا والصين والمملكة المتحدة تقوم بتغطية كبيرة باللغة العربية، ومن أجل الوصول إلى كل المستمعين نجد المستوى المنشود هو مستوى الفصحى المعاصرة، ولا يجوز أن نطمئن كل الاطمئنان إلى استمرار هذا الموقف، إلا إذا كانت لدينا خطة مماثلة على مستوى الإعلام العربي للتنمية اللغوية. وقد لوحظ في السنوات الماضية أن بعض الصعوبات المالية تؤدي إلى تحديد عدد لغات البث، وذلك كما حدث 1991 عندما خفض راديو كندا الدولي عدد هذه اللغات في البرامج الموجهة من أربع عشرة لغة إلى سبع لغات فقط.(185/16)
... لقد تكونت عدةُ أهداف لغوية وثقافية يمكن أن تقوم بها الإذاعاتُ الموجهة، منها ربط المواطنين المقيمين في الخارج بالوطن من خلال متابعة ما يجرى فيه بلغته. كان الهدف الأول للإذاعة البريطانية أنها أداة صلة وتنسيق مع المغتربين البريطانيين والممتلكات الناطقة بالإنجليزية. ومن هنا أهمية هذا الدور إلى اليوم بالنسبة للعرب المقيمين في أوربا وأمريكا واستراليا وعددهم لا يقل حاليا عن خمسة وعشرين مليونًا، أكثرهم حصل على جنسيات دول المهجر، ولهذا لا يظهر عددهم واضحًا في إحصائيات الأجانب، ويشار إليهم في المطبوعات الفرنسية – مثلاً – باعتبارهم فرنسيين من أصول عربية. ونظرًا لأن جيل الهجرة إلى أوربا قد أصبح من ملامح التاريخ الاجتماعي لتلك الدول، فإن الانتباه إلى الجيل وتنمية معرفتهم بالعربية بالشكل المناسب يعد مطلبًا مهمًّا بالإفادة من وسائل الإعلام.(185/17)
... تهدف الإذاعات الكبرى إلى تقديم صورة ثقافية واقتصادية وسياسية وباللغة المناسبة على النحو الذي يخدم المصالح العليا، ولهذا نجد في أوربا أنه يتم تمويل هذه المحطات – على الرغم من كون بعضها غير حكومي – من موارد حكومية. هيئة الإذاعة البريطانية – على سبيل المثال – تحصل من الحكومة البريطانية على منحة لا ترد، تناقش كل ثلاث سنوات بين ممثلي وزارة الخارجية وإدارة هيئة الإذاعة البريطانية. الجانب اللغوي هناك أهميته إلى جانب الثقافة والاقتصاد والسياسة. إن وزارة الخارجية تحدد اللغات المستخدمة والساعات المخصصة لكل لغة. وقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين عدة تحولات لغوية، دخلت لغات وحذفت لغات وتغيرت الساعات المخصصة لها. اللغة العربية لها في هيئة الإذاعة البريطانية المكان الثاني من حيث ساعات الإرسال الأسبوعي ( في سنة 1991 كان لها 73.5 ساعة من 808 ساعة ). وللعربية المكان الثاني أيضًا في الإذاعة الألمانية الموجهة ( اللغة الألمانية 168 ساعة واللغة العربية 40.75 ساعة ).(185/18)
... أصبح من الضروري الاهتمام بتحديد اللغات وبالمستوى اللغوي للبرامج المذاعة، ويتطلب تعرف ذلك عمل دراسات الاستماع لمعرفة مدى تقبل المستمعين والمشاهدين للأداء اللغوي المستخدم. وقد قامت الإذاعة البريطانية – على سبيل المثال – بدراسة عن مستوى الأداء في القسم العربي فيها، نفذت الدراسة على عينة من المستمعين في بعض الدول العربية. في هيئة الإذاعة البريطانية يكون الاهتمام الأول فيها باللغة الإنجليزية الموجهة إلى الخارج فلها 286.5 ساعة موزعة بين الإنجليزية العالمية 214.5 ساعة والإنجليزية بالراديو 72 ساعة. ويلاحظ أن المناطق اللغوية التي شهدت انتشارًا واسعًا للغة الإنجليزية في غرب أفريقيا وشرقها قد خصصت لها ساعات إرسال محدودة، لغة الهوسا ( 8.75 ساعات أسبوعيًّا ) اللغة السواحلية (7.75 ساعات أسبوعيًّا أيضًا). أما في إذاعة صوت أمريكا فتأتي اللغة العربية في المكان الرابع: الإنجليزية ( 412 ساعة أسبوعيًّا )، الإسبانية ( 208 ساعة )، الروسية (98 ساعة)، العربية ( 91 ساعة ). ومن الدراسات المهمة التي موّلتها الإذاعة الألمانية لتحديد لغات التعامل في القارة الأفريقية بحث
Bernd Heine, Die Verkehrsspachen
Afrikas . وهذه الدراسة حدّدت أمام متخذ القرار مدى أهمية كل لغة من هذه اللغات في منطقة استخدامها في القارة الأفريقية، وموقعها في النسق اللغوي الاجتماعي. والقيام بدراسات ميدانية عن الواقع اللغوي للمستمعين وعن الأداء اللغوي في برامج الإذاعة والتليفزيون يعد من أهم مكونات الإفادة منهما من أجل التنمية اللغوية المنشودة.(185/19)
... زادت أهمية الأداء اللغوي السليم والمناسب في البرامج الإذاعية، وتعد الخبرة الأوربية في هذا الصدد ذات أهمية كبرى، وحدث تغير في الأداء اللغوي من أسلوب العرض التقليدي الرسمي إلى أسلوب أكثر سلاسة، ولكنه ظل في إطار اللغة السليمة المقبولة. ويعد الأداء اللغوي السليم نطقًا وصرفًا ونحوًا في إطار ثقافي راقٍ من المواصفات الأساسية للعمل الإذاعي سواء في الاختيار المبدئي أم في التدريب.
... لم يكن من المتصور قبل 1943 أن يكون للإذاعة دورٌ كبير في تعليم اللغة، فقد كانت مهمتها السياسية واضحة وللأخبار مكان الصدارة وكانت مهمتها الترفيهية متمثلة في المقام الأول في الموسيقا والغناء وبعض البرامج الخفيفة. أما تعليمُ اللغات فكان يظن أنه عمل تختص به المدرسة وحدها، ولا شأن للإذاعة في الداخل أو في الخارج بمادة دراسية. كانت البداية متواضعة وحذرة، وفي هيئة الإذاعة البريطانية بدأت دروس الإنجليزية بالراديو للمستمعين الأوربيين لمدة خمس دقائق في كل حلقة، وكانت كل حلقة تبث مرتين يوميًّا، وكان نجاح هذه الدروس دافعًا إلى المزيد من العمل الإذاعي لتعليم الإنجليزية. البرامج الأولى كانت عن اللغة وعن الجديد في الحياة ، قام الأول على حوار عن كلمات وتعبيرات إنجليزية بطريقة تجعل استخدامها الصحيح واضحًا. أما الأخبار الجديدة فكانت تقدّم وتشرح ويعلق عليها على نحو يقربها ويوضح لغتها. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية زادت وقت تعليم الإنجليزية بالراديو إلى أكثر من ساعتين يوميًّا، واتخذت البرامج شكلاً حواريًّا أيضًا، كانت بين فتاة وجدها، وتناولت – أيضًا – إجابات أستاذ على أسئلة المستمعين. وحدث تجديد آخر من خلال ملخص للأخبار يقدم مرتين يوميًّا يُقرأ بالسرعة الإملائية، يكون تدريبًا على الاستماع والكتابة المملاة، ويدرّب على فهم نشرات الأخبار بالإنجليزية المعتادة. واستمرت الإذاعة البريطانية في تطوير برامجها في تعليم اللغة(185/20)
الإنجليزية.
... لقد تكونت خبرات مختلفة في الإفادة من الإذاعة والتليفزيون في تعليم اللغة، كان للإذاعة البريطانية دور الريادة، ثم نجد جهودًا متميزة لصوت أمريكا (1959) في الإنجليزية، ثم الإذاعة الألمانية الموجهة Deutsche Welle (من1953) في الألمانية.وتعددت في بعض البرامج الجهات المتعاونة في البحث والتخطيط والتنفيذ والمتابعة.
... إن أهم الخبرات المكتسبة من خلال هذه البرامج يمكن تلخيصها والإفادة منها من أجل استخدام رشيد للإذاعة والتليفزيون في النهوض بمستوى العربية من خلال برامج تعليمية جيدة الإعداد: بعض هذه البرامج هادف إلى تقديم المعلومات عن اللغة، مثل تناول موضوعات مثل: اللهجات، والنبر، والأخطاء اللغوية وهذا التوجه مفيد لبعض الدارسين، ولكنه ليس تعليمًا متكاملاً للغة. تقديم البرامج ذات الأهداف اللغوية من خلال الإذاعة من المناسب أن تدعمه مطبوعات، تضم نصوص أكثر الدروس مع الشروح السهلة. إن تعليم اللغة لأبناء اللغات الأخرى عن طريق الإذاعة يجوز فيه عمل كتب، تتضمن – أيضًا – شرحًا موجزًا باللغة الأم للدارسين. ويعني هذا تعدد هذه الكتب طبقًا للغة الشرح، وقد صدرت على سبيل المثال سلسلة كتب في خمس وثلاثين طبعة تنوعت بتنوع لغات الشرح. وأبسط مستويات هذه المطبوعات يتضمن قائمة المفردات. أما التسجيلات الصوتية المصاحبة فينبغي أن تكون متاحة للدارسين في بلادهم بسعر مناسب، وكذلك أشرطة الفيديو التي تقدم هذه البرامج بالصوت والصورة. وفي هذا الصدد اتضحت أهمية تدرّج المستويات بشكل يجعل تحديد الطالب لموقعه واضحًا. وكان برنامج تعليم بعض اللغات الأوربية مقسمًا – على سبيل المثال – إلى ثلاثة مستويات: المستوى الأساسي، المستوى المتوسط، المستوى المتقدم. واتضح أيضًا إمكان تدريب معلمي اللغة من خلال الإذاعة والتليفزيون، إنّ أكثر معلمي اللغات مؤهلون للقراءة والفهم، وبعضهم لم يسمع اللغة السليمة في الموضوعات التي(185/21)
يدرسها. وقد ترسخت لديه لغة بَيْنِيّة في التدريس، ومن هنا أهمية الاستماع إلى اللغة السليمة، قبل أن نطالب المدرسين بالأداء السليم.
... لا يقتصر تعليم اللغة على مستوياتها العامة، فهناك أهمية متزايدة لتعلم اللغة في مجالات التخصص والمهن المختلفة. وقد صممت برامج لغوية متخصصة في مجالات: الطيران، الأدب، التجارة، الملاحة البحرية، العلوم إلخ. وكانت تتضمن دورات تدريبية وتقوية للبرامج المذاعة، يشترك فيها الطلاب المتقدمون الأجانب والمدرسون الأجانب الذين يقيمون في العاصمة، لتحليل الدروس معهم وتعرّف رأيهم تفصيلاً.
... اتضحت ضرورة تأكيد وحدة اللغة ومواجهة الانقسام، وكان المنطق الجديد في دعم دور الإذاعة البريطانية في مجال تعليم اللغة الإنجليزية بسبب الخوف من انقسامها إلى لغات متعددة في أقاليم العالم التي تستخدمها. وكان التعاون بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية في بعض البرامج هادفًا إلى إثبات أن لهما لغة واحدة ذات تنوعات محدودة. وهناك تعاون قوي بين الدول الناطقة بالألمانية من أجل استمرار الوحدة اللغوية في الإعلام، وكذلك بين الدول الناطقة بالفرنسية.(185/22)
... دلت التجارب على أهمية دخول التليفزيون مجال إنتاج برامج تعليم اللغة، وهنا تتكامل الجهود النابعة من علم اللغة والتخصصات التربوية مع إمكانات الإنتاج الإعلامي. ومن أهم برامج تعليم اللغة الإنجليزية في القارة الأوربية برنامج Follow me في ستين حلقة، تعاون في إنتاجها التليفزيون الأوربي وتليفزيون ألمانيا الغربية وهيئة الجامعة الشعبية لتعليم الكبار في ألمانيا وهيئة الإذاعة البريطانية. وقد قدر عدد المشاهدين في ألمانيا وحدها بنحو مليونين. وكان نجاح البرنامج دافعًا إلى استخدامه في اثنتي عشرة دولة، منها الصين. وهنا ضرورة ربط تعليم اللغة بالثقافة باعتبار اللغة مدخلاً مهمًّا لفهم البلاد أهلها وثقافتها، ومن هناك كان لبرنامج تعليم اللغة دور كبير في نقل الدارسين من خلال برنامج سياحي لغوي إلى معالم الحضارة.(185/23)
... إنّ البحوث اللغوية أساس مهم لهذا العمل الذي لا يجوز أن يكون طبقًا للخبرة والانطباع والرأي الفردي ونوعية ثقافة العاملين فيه فقط. وهذه البحوث تتطلب وقتًا من العمل الجاد. وعلى سبيل المثال انتهى مشروع بحثي عن اللغة الإنجليزية استغرق تنفيذه أربع سنوات كاملة في إطار التعاون بين الإذاعة ودار نشر وإحدى الجامعات. وكان العمل متضمنًا إنشاء قاعدة بيانات أو بنك بيانات databank، يضم الكلمات الواردة في مدونة مقدارها سبعون مليون كلمة من الخدمة العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية وعشرة ملايين كلمة من الإذاعة العامة الوطنية لأمريكا. وأثمر هذا العمل العلمي عدة نتائج، منها اختيار الكلمات وسياقات استخدامها وتعريفها طبقًا لذلك. وأعد قاموس جديد للغة الإنجليزية طبقًا لذلك. وهذا المشروع البحثي مستمر من أجل تحديث هذا القاموس. ومن البحوث الميدانية المهمة دراسات المتلقين Audience Reseach، تتم الدراسة الميدانية لتعرف آراء المستمعين والمشاهدين في البرامج. لا تقتصر أهميتها على تحديد حجم المتلقين، بل تدرس – أيضًا – دوافعهم وسلوكهم والصورة التي تكونت لديهم، وتتعرف من خلالهم اتجاهات التطوير وتحدد ملامح المستقبل.
... لقد أصبح من الممكن – من الناحية التقنية – إتاحة هذه البرامج على مستوى العالم، وذلك من خلال تبادل البرامج بين المحطات الوطنية، وكذلك من خلال محطات إعادة البث عن طريق الأقمار الصناعية. وهناك مجال كبير للإفادة من الإذاعة والتليفزيون في مجال تعليم العربية لأبناء اللغات الأخرى في أكثر أقاليم العالم، ويمكن عن طريق الإذاعة الوصول إلى ملايين المستمعين في ظروف حياتهم المتواضعة في أفريقيا وآسيا.(185/24)
... فإن دور وسائل الإعلام في التنمية اللغوية قد اتضح في الواقع المعاصر في ضوء الخبرة العالمية. وهناك مشكلات جديدة في الاستخدام اللغوي في الإعلانات وفي بعض المسلسلات، وهي مشكلات جديرة بالبحث اللغوي والاجتماعي ووضع الحلول المناسبة لها. هذه القنوات تمثل واقعًا جديدًا، وتعد أدوات مهمة عند حسن الإفادة منها – لترسيخ النمط المنشود للعربية الفصحى المعاصرة المعبرة بدقة عن حضارة العصر ومشكلاته، والمتجاوزة حدود الفئات والاستخدام المحدود إلى استيعاب كل المنطقة العربية، وإلى خدمة ملايين العرب المقيمين في خارجها، وإلى إدماج المناطق ذات الأوضاع اللغوية الخاصة في نسق اللغة والثقافة العربية، وإلى النهوض بتعليم العربية لأبناء اللغات الأخرى، وكلها مهام لغوية لوسائل الإعلام العربية. وكل هذه القضايا تتطلب رؤية واضحة لدور وسائل الإعلام في المجال اللغوي ودراسات متكاملة وتخطيطًا هادفًا وتنفيذًا جادًّا. وهذا جانب مهم على المستوى العربي من التنمية اللغوية.
محمود فهمي حجازي
عضو المجمع
...
...
...(185/25)
جهود بعض المُحْدَثين في
العاميّ الفصيح(*)
للأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد
... لا يدخل في نطاق هذا العنوان تلك الكلمات الفصيحة السليمة التي يستعملها العامة في لهجتهم الدارجة، مثل ألفاظ: البحر، والنهر، والأرض، والشمس، والكرسي، والباب، والرغيف، وسواها من الكلمات التي يلفظها العامة على الصورة التي يكتبها بها الخاصة. فهي أوضح من أن يُدار عليها بحث.
... ولكن الذي يندرج في ثنايا هذا العنوان نوعان من الألفاظ:
... الأول: ما اعتراه في نطق العامّة شيء من التحريف والتغيير أخرجه عن الصورة الفصيحة، فابتعد قليلاً أو كثيرًا عن أصله الفصيح أو عن " اللغة العالية " ، وإن كانت بعض
كتب اللغة قد احتفظت بصيغته التي تجري على ألسنة العوام وأشارت إلى أنها لغة، وربما ذكرت اسم القبيلة التي كانت تلك الكلمة من لغتها.
... ويكون هذا التحريف أو التغيير في الأصوات وحركات الحروف، كقولهم: عَنْدَك، بفتح العين. فقد جرت الخاصّة على كسرها، وظنّوا أن فتحها من خطأ العامة. على حين قال الجوهري : فيها ثلاث لغات: فتح العين وضمّها وكسرها. وإن كان ابن هشام قد قال : وكَسْرُ فائها أكثر من ضمّها وفتحها. وهذا يعني أنَّ كلاًّ من الضمّ والفتح كثير أيضًا(1). كما يكون هذا التحريف أو التغيير بوضع حرف مكان حرف كقولهم (2) : شكَيْتُ وحَشْيتُ بدل(186/1)
شكوت وحشوت. أو باستعمال الثلاثي مكان الرباعي كقولهم(1) : نَصَتَ بدل أنْصَتَ، وعَتَقَه في موضع أعتَقَهُ(2)، وصابه(3) السهم بدل أصابه. أو باستعمال بعض الصيغ الصرفية التي تخالف القياس، كقولهم(4): فلان أشَرُّ من فلان، بدلاً من شرٌّ منه، وهذا أبيض(5) من ذاك، بدل أنصع بياضًا منه. أو بحذف بعض الحروف للتخفيف، كقولهم(6): وَنا، في مكان وأنا، ومَرَة في مكان امرأة(7). إلى غير ذلك من صور التحريف والتغيير التي يصعب تصنيفها . وأكثرها مما له وجه من الصحّة أو نسبة إلى لغة لإحدى القبائل، ولكنَّ الخاصة يتجنّبون استعماله ويؤثرون عليه الفصيح العالي الذي جرى عليه الاستعمال واستقرّ. ...
ومن التحريف والتغيير ما يكون
على مراحل، فتبتعد اللفظة عن أصلها، ولا يكاد يُستبان وجه الشبه بينهما، فمن ذلك ما نقله ابن منظور عن التهذيب(8) قال: " وأما القَرْطَبانُ الذي تقوله العامة للذي لا غيرة له فهو مُغَيَّر عن وجهه، قال الأصمعي: الكَلْتَبانُ مأخوذ من الكَلَب، وهو: القيادة، والتاء والنون زائدتان. قال: وهذه اللفظة هي القديمة عن العرب، وغيَّرتها العامة الأولى فقالت: القَلْطبانُ، قال: وجاءت عامّةٌ سُفْلَى فغيّرت على الأولى فقالت: القَرْطَبانُ". ولا تعنينا هذه الكلمة لذاتها، فنحن لا نعرف مدى انتشارها في العامية، ولكن الذي يعنينا ما ورد في النص من وجود مرحلتين من مراحل التحريف مرّت بهما الكلمة، ومن وجود طبقتين للعامة تعملان على التغيير والتحريف حتى تبتعد الكلمة عن أصلها الفصيح.(186/2)
... ومن ذ ... لك أيضًا قولهم: أُمّال. ذكر ابن منظور في اللسان أنّ(1): " في حديث بيع الثَّمَر: إما لا فلا تَبَايَعوا حتى يبدو صلاح الثمر. قال ابن الأثير: هذه كلمة ترد في المحاورات كثيرًا... وأصلها: إنْ وما ولا ... قال الجوهري: قولهم إما لا فافعل كذا، بالإمالة ... قال: ومعناه إلا يكن ذلك الأمر فافعل كذا. قال: وقد أمالت العرب "لا" إمالة خفيفة، والعوام يشبعون إمالتها فتصير ألفها ياءً، وهو خطأ، ومعناها إن لم تفعل هذا فليكن هذا ... وروى أبو الزبير عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جملاً نادًّا فقال: لمن هذا الجمل؟ فإذا فتية من الأنصار قالوا: استقينا عليه عشرين سنة وبه سَخِيمة فأردنا أن ننحره فانفلت منّا، فقال: أتبيعونه؟ قالوا: لا بل هو لك. فقال: إما لا فأحسنوا إليه حتى يأتي أجَلُه. قال أبو منصور: أراد إلا تبيعوه فأحسِنوا إليه
… قال أبو حاتم: … والعامة تقول أيضًا: أُمّا لي، فيضمّون الهمزة، وهو خطأ أيضًا، قال: والصواب إما لا، غير مُمال لأن الأدوات لا تمال … " وقال عزّ الدين التنوخي(2): "ولا يزال ضمّ الهمزة من ( إمّا ) مع إمالة ألف ( لا ) لغة العامة في مصر إذ تقول ( أُمّالي ) " .
... ولست أدري أهذه هي لفظة " أُمَّال " التي لا تزال جارية على ألسنة العامة في مصر، أم أنها لفظة أخرى؟ فإن كانت هي إياها فقد تغيّر نطقها، وأصبحت الآن تلفظ بحذف الألف الأخيرة، وبسكون اللام، مثلما تغيّر معناها، فأصبحت تدلّ على عدد من المعاني المتقاربة تختلف عمّا ذكره ابن منظور التنوخيّ.
... والنوع الثاني: ما يجري على ألسنة العامة ولا تجري به ألسنة الخاصة ولا أقلامهم مع أنه من الفصيح الذي انقطع استعماله عند الخاصة في(186/3)
الكتابة وبقي دارجًا على ألسنة العامة حتى نُسيت نسبته إلى الفصيح وظُنّ أنه من العامي الذي يربأ الخاصة عن استعماله في شعرهم ونثرهم. وربما كان من أمثلة هذا النوع الثاني لفظة " قُرنة " المستعملة في بلاد الشام وبعض بلاد مصر بمعنى: الزاوية، أو الركن، أو ملتقى جدارَيْن في الحجرة، أو ملتقى شارعين. وهي كلمة فصيحة ذكرتها المعاجم، وليست أجنبية معرّبة كما يظنّ من ذهب هذا المذهب (1). " فالقُرْنة بالضمّ: الطَّرَف الشاخص من كل شيء … وقُرْنة السيف والسنان: حَدُّهما، وقُرْنة النصل: طرفه، وقيل: قُرْنتاه ناحيتاه من عن يمينه وشماله … والقُرْنتان : رأس الرحم ، وقيل: زاويتاه " (2).
... ومثل ثانٍ: لفظة " زنَأ " و" زنَّأ عليه " وهما لفظتان فصيحتان في البناء والاستعمال، فقد ورد في المعاجم: "زنَّأ
عليه: إذا ضيَّق عليه، مثقّلة مهموزة .. وفي الحديث: أنه كان لا يحبّ من الدنيا إلا أزنأها، أي أضيقَها. وفي حديث سعد بن ضَمُرَة: فزنَّأوا عليه بالحجارة، أي ضيَّقوا ".
... ومما وقعت عليه مصادفة من الفصيح الذي يجري على ألسنة العامة ويتجنّبه الخاصة في كتاباتهم – غير: القرنة وزنأ – ألفاظ منها:
- قَمَص، وهي في عامية أهلنا في مصر بالهمزة: أمَصَ، وتطلق على الدابّة حين تنفر أو تتراجع، وكذلك تطلق على الإنسان إذا أسرع به الغضب وأعرض. وهي لفظة مُعْجمية فصيحة (3).
- نقز، مثل "قَمَص" معنًى ووزنًا(4) ، وهي مما يستعمله العامة من أهلنا في الأردن. ويقلب أهل المدن القاف همزةً، أما في البادية فيلفظونها كما تُلْفَظ الجيم المصرية.
- ملزَّز، ومُلزَّز الخَلْق: مُجْتمِعُه، منضم بعضه إلى بعض (1) وهو مما يستعمله العامة في مصر، يطلقونه على الشخص المكتنز اللحم، الممتلئ. ولكنهم يلفظونه: مُلَزلز، بتكرار اللام، ويفخّمون الزايين.(186/4)
- طِعْمة، وقد رأيت في تفسير الطبري(2) : " وكانت امرأته راعيل امرأة حسناء ناعمة طاعمة، في مُلْكٍ ودُنيا ". والعامة غالبًا يختصرون اللفظ فيحذفون الألف، فيقولون: طَعْمة بدلاً من طاعمة كما يقولون: " فَطْمة " بدلاً من فاطمة. وفي عامية أهل مصر " طِعْمة " بكسر الطاء في وصف الفتاة للدلالة على رقّتها وعذوبتها. وقد سمَّى العرب: طِعْمَة (3).
- ليس له طَعْم، وهو مما يكثر في استعمال العامّة ويتجنّبه الخاصة في كتاباتهم، على حين أنه فصيح. " قال أبو بكر : قولهم ليس لما يفعل فلان
طَعْم، معناه ليس له لذَّة ولا منزلة من القلب ... وأنشد:
ألا ما لنفسٍ لا تموت فينقضي
شَقَاها، ولا تحيا حياةً لهم طَعْمُ
معناه: لها حلاوة ومنزلة من القلب ... يقال: ليس له طَعْم ... إذا كان غَثًّا. وفي حديث بدر: ما قتلنا أحدًا به طَعْم، ما قتلنا إلا عجائز صُلْعًا. هذه استعارة، أي قتلنا من لا اعتداد به ولا معرفة له ولا قَدْر ... " (4).
* ... * ... *
... وقد أكثر القدماء والمُحْدَثون من الكتابة في موضوع هذا العنوان، فأشار إليه بعضهم إشارات عابرة في ثنايا مؤلّفاتهم، أو ذكروه في فصول فرعية في كتبهم، وأفرده بعضهم بتآليف مستقلة.
... وربما كان أقدمَ من نعرف ممن أفرد له كتابًا جعل عنوانه خاصًّا به، ودالاًّ عليه، هو ابن الحنبلي الحلبي(5)(186/5)
في كتابه " بحر العوَّام فيما أصاب فيه العوام". وأما الذين أشاروا إليه إشارات عابرة أو عقدوا له فصولاً فرعية في ثنايا مؤلفاتهم فهم الذين ألفوا كتبًا في " لحن العامة " (1) و" تثقيف اللسان " (2) و "تقويمه" (3) و " إصلاح المنطق " (4) و " أوهام الخواص "(5)، وما يشبهها. وهي كتب وُضِعَت في أصلها لنقيض ما وضع له الكتاب الأول، فقد حرصت هذه الكتب على تخطئة ما نطقت به العامة، وبيان بُعْدِه عن الفصيح، وذكر الصحيح فيه. على حين نحا ابن الحنبلي نحوًا مغايرًا إذ ألَّف كتابه في تلمّس وجه الصواب في لغة العوام وقُرْبِها من اللغة الفصيحة.
... ومع ذلك فإن كتاب ابن الحنبلي والكتب الأخرى تتفق وتتداخل في مواضع متعددة. ومن أمثلة ذلك أن صاحب كتاب " تثقيف اللسان وتلقيح الجَنان " عقد في كتابه ثلاثة فصول هي أدخل في كتاب " بحر العوَّام "، وعناوينها: " باب ما تنكره الخاصة على العامة وليس بمنكر " (6) ، و " باب ما جاء فيه لغتان استعمل العامة أفصحهما " (7) و " باب ما العامة فيه على الصواب والخاصة على الخطأ" (8). فكتاب ابن الحنبلي شبيه بهذه الفصول التي تصوّب بعض ما يقوله العامة وتنسبه إلى الفصيح، وإن تفاوتت درجاته في " الفصاحة ".(186/6)
وقد انقسم المُحْدَثون كذلك فريقين: ألّف الفريق الأول، وأصحابه هم الأكثر، في بيان الخطأ فيما جرت به أقلام الكتّاب وألسنة الناس. وألّف آخرون، وهم القلّة، في بيان وجوه القربى وصلاتها بين لغة العامة واللغة الفصيحة. والفريق الثاني هو الذي يعنينا في موضوعنا عن " العامي الفصيح ". وسنقتصر على ذكر أربعة من رجاله، لتقدمهم في هذا الباب، وتتبعهم لمفرداته، وتوالي جهودهم فيه. وأوّل هؤلاء الأربعة: أحمد رضا العاملي(1) الذي بدأ بسلسلة مقالات عنوانها "الغريب الفصيح في العامي" نشرها في مجلة "المجمع العلمي العربي"، جاءت ثلاث منها بالعنوان السابق(2)، ثم غيّر العنوان إلى "العامي والفصيح"، ونشر فيه عشر مقالات (3). وقد بدأ نشر هذه السلسلة سنة 1926م وختمها سنة 1948م. ثم جمع ما نشره
في كتاب جعل عنوانه " ردّ العاميّ إلى الفصيح "، فيه ألف وأربعمئة وستون كلمة عامية. وربما كان من المفيد أن نورد بعض عباراته لنستدلّ بها على هدفه وأسلوبه، قال في مقدمة المقالات الثلاث الأولى التي جعل عنوانها " الغريب الفصيح في العامي ": " … لم تخرج العامية، مع تحريفها وعدم ضبط قواعدها عن كونها لغة عربية. والتحريف كان معروفًا باختلاف لغات العرب". ثم قال إن العامية على ضروب، ذكر منها عددًا لا يعنينا منه في هذا المجال إلا اثنان، هما: الضرب الثالث " ألفاظ استعملها العرب وعرفتها العامة وقلّ استعمال الخاصة لها فلم تَشعْ بينها، وهو ما نُعنَى بالبحث فيه الآن". والضرب الرابع: " ألفاظ للعرب فيها لغتان أو أكثر أخذت العامة ببعضها والخاصة ببعض آخر". ثم قال: " وقد رأيت في مراجعاتي كلمات
في اللغة من الضربين الثالث والرابع قلّ استعمال الخاصة لها حتى كادت تُعدّ غريبة عندهم ولكنها كثيرة الورود في كلام العامة فعُنيت بذكرها وشرحها تذكرة للباحثين وبُلْغةً للمتأدبين " (1).(186/7)
... وقال في مقدّمة مقالاته السبع التي جعل عنوانها "العامي الفصيح" (2): "كنت وأنا أعمل في تأليف كتابي متن اللغة، واسمه يدلّ عليه، يعرض لذهني كلمات عامية لها معنى الفصيح الذي أدوّنه، فأعلّق الكلمة العامية على هامش الصفحة. وربما كان اللفظ العامي هو لفظ الفصيح، ولكن الفصيح غريب والعامي مشهور، فأَعُدُّه من الغريب الفصيح في العامي، أو يكون في العامي تحريف قليل أو كثير من قلب أو إبدال فأدلّ عليه، ولم أُعْنَ بالتحريف في الحركات لأنها فيما أرى أكثر من أن تحصى بين العامي والفصيح، وربما كانت العامية دخيلة أو مولّدة لم يعرفها
الأولون بل عرفت في عصر العباسيين ومَنْ بعدهم، فأذكر ما وصل إليه بحثي فيها القاصر(3) على الكتب العربية التي بيدي . وربما تراءى لي في بعض ما نسبه الباحثون في الألفاظ المعربة إلى غير العربية وعدّه دخيلاً فيها، أنه عربي أو يمكن تخريجه على أنه عربي، فأذكر ما تراءى لي فيه، لأنني رأيت أن بعضهم أسرف في إلحاق كثير من الكلمات العربية بالسريانية أو غيرها من اللغات، مع أن إرجاعها إلى أصل عربي واضح أو ممكن على الأقل، فلا ينبغي والحال هذه جعله دخيلاً ما دام لعروبته وجه ... وإنه لغني عن البيان أن أكثر ما ذكرته من العامي إنما هو من اللهجة التي أسمعها كل يوم بل كل ساعة وهي لهجة جبل عاملة وساحل دمشق وما يليه من سفوح لبنان". وختم كتابه بقوله(4): "هذا آخر ما أردنا بحثه من الكلمات العامية
وتخريجها على الفصيح وهو باب من البحث لم أعهد أحدًا عاناه قبلي على هذه الطريقة وفيه من المشقة والعناء ما لا يخفى على الناظر المتأمل، ولذلك أعتذر للقراء الكرام عما يمكن أن يكون في البحث من السقطات أو التعليل الذي لا يروق لهم أو لبعضهم".
* ... * ... *(186/8)
... وأما ثاني الأربعة الذين ألّفوا في العامي الفصيح، فهو الدكتور أحمد عيسى (1)، الذي تداخل عمله في الزمن وعمَلَ الأستاذ أحمد رضا العاملي. ذلك أن الدكتور أحمد عيسى أصدر كتابًا عنوانه" المحكم في أصول الكلمات العامية" سنة 1939م بعد نشر المقالات الثلاث الأولى للأستاذ أحمد رضا بثلاث عشرة سنة، وقبل صدور كتابه "ردّ العامي إلى الفصيح" بثلاث عشرة سنة أيضًا. وربما تبادلا الاستفادة والتأثر: فمن المستبعد ألا يكون الدكتور
أحمد عيسى قد اطّلع على المقالات الثلاث الأولى التي نشرها الأستاذ أحمد رضا في مجلة "المجمع العلمي العربي" بدمشق وكلاهما عضو فيه . وكذلك من المستبعد ألا يكون الأستاذ أحمد رضا قد اطّلع على كتاب الدكتور أحمد عيسى قبل استمراره في نشر مقالاته السبع الأخرى في مجلة المجمع سنة 1944م وصدور كتابه سنة 1952م. وربما كان مما يرجّح ذلك أن الأستاذ شفيق جبري نشر في مجلة المجمع (2) مقالة عرَّف فيها بكتاب " المحكم في أصول الكلمات العامية". ومن هنا ذهبنا إلى تداخل العملين في الزمن وتبادلهما الاستفادة.
... ومما يزيد أمر كتاب " المحكم في أصول الكلمات العامية" وضوحًا أن نذكر عبارات من مقدّمته تكشف عن هدفه وأسلوبه، قال (3): " اللغة العربية العامية التي نتكلمها الآن في مصر(186/9)
ليست بعيدة كل البعد عن العربية الفصحى، وهي تبتعد عن الفصحى في شيئين: الإعراب وتركيب الحروف ... على أن أكثر الكلمات العامية التي ينفر منها الآن الذوق ويستنكرها الحس إنما كانت من أفصح الألفاظ العربية وأدقها تعبيرًا عما في النفس [ و] مطابقة لمقتضى الحال، وأنّ كثيرًا منها قد استعملت فيه المجازات اللطيفة والاستعارات المستملحة التي تعدّ من أرقى أساليب الفصاحة في الكلام والكتابة، ولقد تكفي نظرة فيما جمعناه وشرحناه للتحقق مما ذكرت. وقد يستغرب المتأمل في بعض الكلمات العامية بُعْدَها هذا البعد عن أصلها الفصيح ويستبعد أن تكون بين الكلمتين صلة قرابة سابقة، وإن هذا الاستغراب ليزول، وهذا الاستبعاد لينمحي متى علم أن التغيير في الكلمات الفصيحة لم يحدث مرة واحدة، بل إن هذه الألفاظ
قد تعاورتها أدوار من التغيير تناوبتها مرة بعد أخرى، وأنه كان هناك عامّةٌ عليا وعامة سفلى أتت بعد الأولى وزادت عليها في تغيير ألفاظ اللغة. قال ابن منظور (المتوفى سنة 711هـ) في مادة قرطب، وأما " القَرْطَبان " الذي تقوله [ العامّة ] (1) للذي لا غيرة له فهو مُغَيّرٌ عن وجهه. قال الأصمعي: " الكَلْتَبانُ " مأخوذٌ من الكَلَب وهو (2) القيادة والتاء والنون زائدتان. قال : وهذه اللفظة هي القديمة عن العرب وغيَّرتها العامّةُ الأولى فقالت: " القَلْطَبان " (3) قال : وجاءت عامةٌ سُفْلَى فغيرت على الأولى فقالت: "القَرْطَبان". فيرى من ذلك أن اللفظ العامي قد تغير مرتين في دورين غير متباعدين كثيرًا من أدوار حياة اللغة. ولقد تيسّر لي جمع الكثير من مفردات العامة وعملت على تحقيق أصولها وردّها إليها، ورتبتها في هذا السِّفْر
بحسب حروف الهجاء، فذكرت اللفظ العامي أولاً وبجانبه تفسيره عند العوام، ثم أتيت بالأصل الفصيح، وذكرت تفسيره في معجمات اللغة كاللسان والتاج وبينت الحقيقة فيها والمجاز.(186/10)
... ولكن المؤلّف لم يقتصر في عمله على الألفاظ العامية التي لها أصول فصيحة، بل جمع كثيرًا من الألفاظ الدخيلة المعرَّبة وردَّها إلى أصولها اليونانية أو الإيطالية أو الفرنسية أو التركية أو الفارسية أو السريانية، وكل ذلك لا صلة له بموضوعنا عن "العامي الفصيح" ولا بما ذكره في مقدمته مما اقتبسناه قبل قليل، وإن كان لا يتناقض مع عنوان الكتاب الذي جاء عامًّا في " أصول الكلمات العامية " دون تقييدها بالأصول الفصيحة.
... والكتابان – على غزير نفعهما، وكثرة ما بُذل فيهما من جهد، وطول ما استغرقاه من وقت – لا يخلوان من السهو في إرجاع بعض الألفاظ إلى
غير أصولها، وفي التكلف الواضح في محاولة ردّ بعض الكلمات إلى أصول لا صلة لها بها. فمن ذلك ما انتقده الأستاذ شفيق جبري في عرضه لكتاب " المحكم في أصول الكلمات العامية " قال (*): " في بعض هذه الكلمات اجتهد الدكتور في ردّها إلى أصولها اجتهادًا لم يظهر عليه أثر الكلفة، وفي بعضها كان اجتهاده عرضة لكثير من الكلفة. ومن قوله مثلاً في مادة: بَظرَمَت ، تقول العامة في مصر: بظرمت المسألة أي فشلت، فقد ردّ الدكتور هذه المادة إلى: ( برم ) الفصيحة فقال: برم بالأمر سئمه، فأقحمت العامة فيها الظاء فصارت، بظرم: فهذا اجتهاد على ما أعتقد لا يخلو من شيء من التعسف. ومن هذا الشكل قوله في مادة: فَزَّ، العامة تقول للرجل الذي تريد طرده: فِزْ من هنا، فالدكتور ردَّ هذه اللفظة إلى مادة: فاز يفوز فوزًا، وقال: كأنك تقول للرجل: فُزْ، أي انْجُ بنفسك. على أنه لو رجع في القاموس المحيط إلى(186/11)
المادة التي جاءت قبل الفوز بثلاث لفظات لوجد: (فزَّ) بعينها، فمن معانيها: فزَّ فلانًا عن موضعه فزًّا أزعجه، فالمعنى العامي مطابق للمعنى الفصيح لا تباعد بينهما، إلا أن العامة استعملت: فزّ لازمة ، وجاءت في اللغة في هذا المقام متعدية، فلم يبق وجه بعد هذا التوضيح لردّ هذه اللفظة العامية إلى: فاز يفوز فوزًا ... ومن هذه الاجتهادات ردُّه مادة: بعزأ فلوسه إلى: بعثق أي خرج الماء من غائل حوض أو جابية، وقد ردها أيضًا إلى مادة أخرى وهي: تزعبق الشيء من يدي، أي تبرّز وتفرّق. والدكتور في غنى عن هذا كله، ففي اللغة يقال: بعزق الشيء، فرّقه وبدّده، مثل: زعبقة، فقول العامة: بعزأ فلوسه أصله: بعزق، أبدلوا القاف همزةً لا غير! ".
* ... * ... *
... وثالث هؤلاء الأربعة المتقدِّمين في هذا الموضوع، المتتبعين لفرائده،
المنقبين عن غرائبه، هو الأستاذ شفيق جبري (*). وحقّه التقديم وأن يكون أولهم لشدة تحرّيه وتمحيصه، ولعمق استنباطه وجودة ربطه العامي بأصله، وكثرة غوصه على أمهات كتب التراث واستخراج النصوص منها مستشهدًا بها على صحّة تعبيرات العامة، غير مقتصر في ذلك على المعاجم وما فيها من دلالات لغوية. وإنما أخرْناه وجعلناه ثالثًا لأنه بدأ مقالاته في سنة 1942م، بعد المقالات الثلاث الأولى للأستاذ أحمد رضا العاملي بستّ عشرة سنة، وبعد صدور الطبعة الأولى من كتاب " المحكم في أصول الكلمات العامية" للدكتور أحمد عيسى بثلاث سنوات.
... وقد نشر تسع عشرة مقالة على امتداد سبع وثلاثين سنة كان آخرها في سنة 1979م. بدأ مقالته الأولى سنة 1942م بمقدّمة يوضّح فيها مقصده ويصف طبيعة عنوانه الذي اختاره(186/12)
لمقالاته وهو " بقايا الفصاح ". قال (1): "أعني ببقايا الفصاح طائفةً من الألفاظ التي استفاضت في العامة وأصلها فصيح، إلا أنها – مع تعاقب السنين عليها – تباعَدَ عنها فريق من الكتَّاب فذهب وهْمُنا إلى أنها عامية. ولهذه الألفاظ على ما أعتقد قوة غريبة في حياتها، فقد خلَّفها الماضي وتداولتها العامة، فلم تفقد شيئًا من حياتها، على الرغم من اختلاطها بألفاظ أعجمية انحدرت إليها من الأمم التي انبسط سلطانها على هذه البلاد أو على بلاد العرب عامة، ففي كل بلد من بلاد العرب طوائف من هذه الألفاظ، ولكل طائفة منها حياة قوية. ولقد عُنيت بها من سنين فاجتمع لي مقدار منها أرجع إليه من حين إلى آخر فتنطوي لي أحقاب بعيدة، فأرى في تضاعيف هذه الألفاظ حياة بلد بأجمعه، إذ إنها تفصح لي عن ناحية من نواحي الاجتماع أو الاقتصاد أو عن معنى من المعاني
النفسية أو المادية أو غير هذا كله… وقد حافظ قسم من هذه الألفاظ على معناه الأول، فلم ينشأ تفاوت في المعنيين: اللغوي والعامي، وقسم منها عدّل بعض التعديل ولكن النسبة بين المعنيين مستحكمة على الرغم من هذا التعديل ".
... ومن أطرف تحقيقات الأستاذ شفيق جبري وأدقّها وأدلّها على سعة اطلاعه: تتبعه لبعض التعبيرات التي تجري على ألسنة العامة وإرجاعها إلى الفصيح المدوّن في كتب تراثنا، وعدم اقتصاره على الألفاظ والكلمات المفردة. ومن أمثلة ذلك ما ذكره من أن العامة في دمشق تقول (2) : " ما شبعت منه، أي من النظر إليه، إمّا لفرط جماله أو لطفه، وإمّا لحسن هيأته أو غير ذلك، وقد جاء في ذيل الأمالي ما يلي: قال الحجاج لثابت بن قيس الأنصاري: ارث ابني أبَان، فقال له: إني لا أجِد به ما كنت أجِده بحسن
(ابن ثابت) قال: وما كنتَ تجد به، قال: ما رأيته قط فشبعت من رؤيته ...".(186/13)
... وكذلك ما ذكره (1) " من قول العامة في دمشق: ركَّبوها عليه، وهم يريدون بذلك أنهم نسبوا إليه كلمة أو مسألة إما من باب الافتراء وإما من باب الظرف، فإذا قالوا: ركَّبوا عليه كذا أو كذا ... أرادوا مرة الافتراء المطوي على شيء من الأذى ومرةً السخرية المطوية على شيء من الظرف، جاء في "الإمامة والسياسة" لابن قتيبة في كلامٍ على خروج عليّ من المدينة أن أخاه عَقِيلاً كتب إليه كتابًا جاء فيه: وإني خرجت معتمرًا فلقيت عائشة، معها طلحة والزبير وذووهما وهم متوجهون إلى البصرة، قد أظهروا الخلاف ونكثوا البيعة وركّبوا عليك قتل عثمان ...".
... وكذلك ما ذكره(2) من أنّ " من تراكيب العامة في دمشق: لا تدخل
بيني وبينه، وهو مفهوم. وقد جاء هذا التركيب في الأغاني في أخبار إسحق ابن إبراهيم. فقد نقل عون بن محمد حديثًا عن إسحق، قال إسحق: لاعبت الفضل بن الربيع بالنَّرْد، فوقع بيننا خلاف، فحلف وحلفت، فغضب عليَّ وهجرني، فكتبت إليه أبياتًا وعرضت الأبيات عليه فلما قرأها ضحك وقال: أشدُّ من ذنبك أنك لا ترى لنفسك بذلك الفعل ذنبًا، والله لولا أنني أدَّبتك أدَبَ الرجل ولدّه وأنَّ حَسَنَك وقبيحك مضافان إليّ لأنكرتني، فأصلح الآن قلب عَوْنِ، وكان يَحْجُبه فخاطبتُه في ذلك، فكلمني بما كرهت، فقلت: أتدخل بيني وبين الأمير، أعزه الله ... ".
... ومن ذلك ما ذكره من أن (3) " من التراكيب الفصيحة التي تستعملها العامة قولهم: عليه موعد. وقد جاء في الأغاني في أخبار ابن مِسْجَح ونسبِه، في خلال قصة طريفة تتعلق بقبض
عامل الحجاز، لمال ابن مِسْجَح ونفيه، ما يلي: ثم قال: يا فتيان! هل فيكم من يضيف رجلاً غريبًا من أهل الحجاز، فنظر بعضهم إلى بعض، وكان عليهم موعد أن يذهبوا إلى قينة يقال لها برق الأفق!".(186/14)
... وكذلك ما ذكره(*) من تعبير: " كبسوا بيته...وهو مفهوم، تريد العامة بذلك أنهم دخلوا بيته وفتشوه وقد جاء في الأغاني في أخبار إبراهيم الموصلي حديث لحمَّاد بن إسحق عن جدّه إبراهيم قال: فلما ولي موسى الهادي الخلافة استتر جدي منه ولم يظهر له، بسبب الأيْمان التي حلّفه بها المهدي، فكانت منازلنا تُكْبَس في كل وقت ...".
... والأمثلة التي جمعها الأستاذ شفيق جبري من تعبيرات العامة واستخرجها من كتب التراث، فأثبت بذلك فصاحتها، أمثلة كثيرة، حسبنا منها ما قدّمنا. وجميع مراجعاته وتحقيقاته، في التعبيرات وفي الألفاظ معًا، بعيدة عن التكلّف، والتزيد في التأويل، بريئة من افتعال صلات غير قائمة بين اللفظ العامي والأصل
الفصيح. ويحسّ كل من يقرؤها بصحة مأتاها، وسهولة مداخلها، ودقة تخريجاتها. وهي بذلك تختلف عن بعض ما ورد في الكتابين السابقين، على ما فيهما من جهد دؤوب ومن إصابة في أكثر التعليلات والتخريجات.
* ... * ... *
... وآخر مَنْ نذكرهم في هذه المقالة الدكتور عبد الملك مرتاض الذي ألّف كتابًا عن " العامية الجزائرية وصلتها بالفصحى " ذهب فيه إلى: " أن البحث في لهجة من اللهجات العامية لا يُعَدّ بالضرورة دعوة إليها، ولا إغراء بإحياء ما اندثر منها، ولا دفعًا إلى استعمالها في الكتابة – وإن كنا نؤثر أن لا يربأ الكتّاب عن استخدام الألفاظ الفصيحة المستعملة في العامية للتقريب بينها وبين الفصحى، فإن معظم الألفاظ العامية الجزائرية فصيحة، وإنما أفسدتها العامة بألسنتها، فأخذت تبتعد عن الفصحى من وجهة أو من أخرى – وإنما يعَدّ بحثًا علميًّا قائمًا على التطلع(186/15)
إلى المعرفة المجردة إن شئت، وإلى المعرفة الهادفة إن شئت ذلك أيضًا"(1). وهو يرى "وجوب أن يقوم المثقفون بحملة تفصيحية، ولا أقول تعريبية، لأن عامة الجزائريين متعربون من حيث لهجتهم كما سنرى من خلال الأمثلة التي نسوقها، ونشرح أصولها، ونؤول مدلولاتها" (2) . وبعد أن يقطع شوطًا في دراسته يقول (3): " ومن الأمثلة والشواهد التي جئنا بها، يمكن لنا أن نستخلص نتيجة هامة تتمثل في كون عاميتنا راقية جدًا، بحيث يستطيع الباحث المحايد النزيه أن يضعها في صدر العاميات العربية الراقية. فعلى الرغم من الغزوات المتتالية، والاحتلالات المتعاقبة لأرضنا، فإن اللغة العامية الجزائرية ظلت أقرب ما تكون إلى العربية الأصيلة، وأبعد ما تكون عن لغات المحتلين القدامى
كالرومان والوندال، والمحدثين كالفرنسيين والإسبان". ويؤكد هذا المعنى أيضًا قوله (4): " والذي يتأمل هذه الأشعار يجدها ذات أصول فصيحة، وهي لا تغترف من اللغات الأجنبية قطعًا، بل تستعمل لغة عامية عربية أقرب ما تكون إلى الفصحى. وهي ظاهرة لغوية رائعة، تدل على أصالة عروبة هذا الشعب، وعلى قوة شخصيته، وعلى متانة كيانه الحضاري". ويعود إلى تأكيد مذهبه في انتماء عامية الجزائر إلى الفصيحة بقوله(5): " ولعل في هذا القدر من هذه الطائفة من الأمثال، ما يدل على أن الأمثال الشعبية الجزائرية تستعمل العربية السليمة في كثير من تراكيبها، وتستمد من أصولها الصحيحة. وكل ذلك يزيدنا اقتناعًا بنقاوة عاميتنا، واقترابها اقترابًا شديدًا من الفصحى".(186/16)
... ونختم عرضنا لهذا الكتاب بالتوقف عند كلمة فيه استنكرها المؤلّف واستقبحها، وهي كلمة " بِزَّاف " فقد كتبها على هذه الصورة، وقال(1) إن معناها: " كثير " وقال: " وهي لهجة أهل الغرب الجزائري، وهي قبيحة. وأفضل منها لهجة المصريين، لأنهم يقولون: كِتير، بالتاء لا بالثاء، و: بِزّاف، لهجة أهل المغرب الأقصى أيضًا". ثم قال(2): "... اللهجات الجزائرية نفسها تختلف من إقليم إلى إقليم، فنجد فيها ما هو عالٍ فصيح أو قريب من الفصيح، وفيها ما هو ركيك ضعيف أو منبوذ سخيف. أرأيت أن: ياسر، المستعملة في الشرق الجزائري، وفي تونس، بمعنى: كثير، أفضل بالضرورة من لفظ: بزّاف، المستعمل في الغرب الجزائري". فهو لا يتردد في وصف هذه الكلمة بأنها " قبيحة" وفي إدخالها فيما هو " ركيك ضعيف،
أو منبوذ سخيف" من الكلمات، كما أنه لا يتردد في كتابتها، في كل مرّة تتكرر فيها، على الصورة التي نقلناها عنه. ولو أنه كتبها " بالزَّاف "، بالألف واللام، إذ إن اللام لا تلفظ لأن الزاي حرف شمسي، لربما ربطها حينئذ بكلمة " بالجُزاف " المعجمية، التي قال الفيروزابادي (3) إنها مثلثة الجيم مثلها مثل: الجُزافة. وفي اللسان: " والجَزْف: الأخذ بالكثرة، وجزف له بالكيل: أكثر. والجُزاف والجِزاف والجُزافة والجِزافة: بيعك الشيء واشتراؤكه بلا وزن ولا كيل ... وهو دخيل، تقول: بعته بالجُزاف والجُزافة ... وقول صخر الغَيّ (4):
فأَقْبَلَ منه طِوال الذُّري
كأنَّ عليهنَّ بيعًا جَزيفا
أراد طعامًا بِيعَ جُزافًا بغير كيل، يصف سحابًا. أبو عمرو: اجْتَزَفْتُ الشيءَ اجْتِزَافًا إذا شَرَبَته جِزَافًا ... " (5) ، ولا
أدري – بعد كل هذا – كيف يصفها بأنها من الدخيل !!(186/17)
... ونطق الجيم والزاي صعب على العامة، فأسقطوا الجيم، وهكذا بقيت صيغة " بالزَّاف " التي كتبها المؤلف "بِزَّاف" فانْبَهم أصلها. وإذا كانت الكلمة في المعاجم " بالجزاف " مثلثة الجيم، وإذا كان من صيغها " بالجزافة " و " بالجزيف " فهل يجوز أن نذهب إلى أن استعمال العامة في مصر لكلمة " بالزّوفة " – وهي بالمعنى نفسه – هو مثل استعمال المغرب الأقصى والغرب الجزائري لكلمة " بالزاف " وهما ينتسبان إلى كلمة " بالجزاف " ؟
* ... * ... *
... وبعد،
... فقد شارك كثيرون آخرون من المُحْدَثين – غير هؤلاء الأربعة – في دراسة هذا الموضوع، والكتابة عنه، وتتبّع كلماته، وبذلوا الجهد في تلمّس نسبتها إلى أصولها الفصيحة، فيما نشروا من كتب أو مقالات، ولا يزالون
يكتبون. وإنما اخترنا هؤلاء الأربعة، واقتصرنا عليهم، لأنهم من بلاد عربية مختلفة، هي: لبنان، ومصر، وسورية، والجزائر، ولم نختر من القطر الواحد سوى عالم واحد، ثم لأنَّ أوّلهم كان أقدم من بدأ الكتابة في هذا الموضوع من المُحْدَثين، وتسلسل بعده الثلاثة الآخرون، ولكنّ اثنين منهم تداخلا مع الأول في مرحلة من مراحل كتاباتهم، فهما بهذا يندرجان معه في السَّبْق والقُدْمة، أما الرابع فقد تأخّر عنهم حقًّا ولكن كتابه له قيمة خاصة لأنه يمثل الجناح الغربي للوطن العربي ويعرض عامية أهله. ولم نقصد إلى الاستيفاء والاستقصاء، وإنما قصدنا إلى التمثيل والاستشهاد، وقد يقوم القليل أحيانًا مقام الكثير، وقد يغني ضرب المثَل عن التفصيل، وعسى أن يكون فيما قدّمت مَقْنع، والحمد لله ربّ العالمين.
ناصر الدين الأسد
عضو المجمع
من الأردن
المصادر والمراجع
1- أحمد رضا العاملي
ردّ العامّي إلى الفصيح، دار العرفان: صيدا – لبنان 1952م.
2- أحمد عيسى
المحكم في أصول الكلمات العامية، ط. الأولى، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر 1358هـ = 1939م.
3- ابن الجوزي(186/18)
تقويم اللسان، تحقيق عبد العزيز مطر، دار المعرفة: القاهرة 1966م.
4- الحريري
درّة الغوّاص في أوهام الخواص، مطبعة الجوائب:قسطنطينية 1299هـ.
5- ابن الحنبلي الحلبي
بحر العوَّام فيما أصاب فيه العوام، تحقيق عزّ الدين التنوخي، المجمع العلمي العربي: دمشق 1356هـ = 1937م.
6- الزبيدي، أبو بكر
لحن العوام، تحقيق رمضان عبد التواب، دار العروبة : القاهرة
1964م.
7- ابن السكيت
إصلاح المنطق، ط. الأولى ، دار المعارف بمصر 1956م.
8- الطبري
التفسير، جامع البيان، تحقيق محمود محمد شاكر، دار المعارف بمصر 1969م.
9- عبد الملك مرتاض
العامية الجزائرية وصلتها بالفصحى، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع: الجزائر 1981م.
10- الكسائي
ما تلحن فيه العامة، تحقيق رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي: القاهرة ودار الرفاعي الرياض 1982م.
11- ابن مكّي الصقلّي
تثقيف اللسان وتلقيح الجنان، تحقيق عبد العزيز مطر، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية: القاهرة 1386هـ = 1966م.(186/19)
العربية الفصحى والعامية
في الإذاعة والتلفاز(*)
للأستاذ الدكتور عبد الكريم خليفة
أولى مجمعنا العتيد في القاهرة موضوع العربية الفصحى والعامية، اهتمامًا كبيرًا، فجعله محور مؤتمره السنوي في عدة دورات. وهو يبغي من ذلك كله محاصرة العامية والارتفاع بها إلى الفصحى، وبالتالي القضاء عليها في مختلف مستوياتها وفي جميع أقاليمها وبيئاتها في الوطن العربي. وهذا عمل جليل يضاف إلى أعماله الرائدة في خدمة الفصحى لغة الأمة الجامعة ولغة تراثها ولغة عقيدتها .
إن اللغة العربية لغة كتابة وخطاب في العصر الحاضر، ويصدق عليها ما يصدق على جميع اللغات الحيَّة في العالم. وإن خصوصيتها تنبع من كون الفصحى لغة القرآن الكريم
والحديث النبوي الشريف. فهي اللغة الموحِّدة منذ أصبحت لغة الوحي، وهي لغة الإبداع في مختلف نواحي المعرفة الإنسانية، في الآداب والعلوم والفكر والفنون، في حضارة عربية إسلامية أصيلة، ولعدة قرون. وهذه الفصحى تعني في جميع الأحوال لغة الكتابة، سواءٌ أكان ذلك في مجال التأليف أم التعليم أم في مجال المراسلات السياسية والإدارية وفي مختلف جوانب الحياة الثقافية والفكرية والدينية.
وإلى جانب العربية المكتوبة، نرى العربية المحكية أو لغة التخاطب . وإن لغة التخاطب ، لا تعني بالضرورة اللغة العامية. فلغة التخاطب تختلف عن اللغة المكتوبة في جميع اللغات .
فالإشارة ونغمة الصوت والانفعالات الجسمية والعاطفية ومختلف الأوضاع النفسية والبيئية، تشكل عوامل مهمة في اللغة المحكية، لغة التخاطب. ويأتي موقعها بين اللغة الفصحى، اللغة المكتوبة واللغة العامية. ففي عهد الازدهار الحضاري وانتشار التعليم واختفاء الأمية عند بعض الشعوب، نجد اللغة المحكية تقترب كثيرًا في مفرداتها وتعابيرها من اللغة المكتوبة، ولكنها لا يمكن أن تكون هي نفسها في نظمها وأساليبها وبلاغتها.(187/1)
وفي زمن التخلف الحضاري والتردي الثقافي والانهيار القومي تتردى اللغة القومية وكذلك اللغة المحكية حتى تصبح الأخيرة هي ذاتها اللغة العامية مع اختلاف في المستويات بين الشرائح الاجتماعية.
واللغة العامية، لا تعني بالضرورة اللغة الشعبية أو ما يسمونه في الوقت الحاضر لغة التراث الشعبي. وربما كان أقرب إلى الصواب، إذا قلنا: إنها تستوحي معناها من لفظة " عامي " بمعناها الاصطلاحي، صفةً للإنسان الجاهل. فالإنسان العامي، هو الإنسان الذي لا يقرأ ولا يكتب. وإن العاميَّة هي لغة هذه الشريحة أو الشرائح من المجتمع. وتختلف مستوياتها اللغوية في الخطاب، باختلاف النسيج الاجتماعي للأفراد والجماعات من حيث المكانة الاجتماعية ومن حيث الغنى أو الفقر ومن حيث الذكاء والقدرة على الإبداع.
ويقودنا البحث العلمي المتأني لتاريخ الفصحى، منذ أن أصبحت لغة الوحي الإلهي، وعبر عصور الحضارة العربية الإسلامية، حتى يومنا هذا، إلى أنها قد اكتسبت جميع مقومات اللغات الحيَّة. فاستطاعت أن تعبر عن دقائق الفكر الإنساني، واستوعبت حصيلة ما وصل إليه الفكر الإنساني في جميع ميادين المعرفة، وفي مختلف الحضارات وخاصة ميادين الإبداع في الآداب والعلوم والفنون .
وخلاصة القول، فإن هذه الفصحى كانت ملازمة لوحدة الأمة وتقدمها العلمي وازدهارها الحضاري.(187/2)
ولا يمكن أن يدور في الخيال، أن اللغة المحكية قد توقفت، حتى في أوج القوة السياسية وازدهار الحضارة العربية الإسلامية أو أن العامية، في أكثر أوضاعها خشونة وجلافة وفي أبعد مستوياتها عن استيعاب دقائق الفكر، وتجسيد القيم السامية، قد اختفت أو زالت. وإن الذي لا شك فيه هو أن جميع هذه المستويات اللغوية كانت موجودة. وأن التمايز بينها قوةً وانتشارًا كان يخضع لعوامل التقدم وعوامل الانحطاط، لعوامل الازدهار العلمي والحضاري ولعوامل التخلف والهزائم. فلم يكن الصراع في جميع هذه الحقب، بين العربية الفصحى والعاميات العربية، وإنما كان الصراع بين القوة والضعف، بين الوحدة والتشتت، بين العلم والجهل، بين عوامل الازدهار الحضاري وأسباب التخلف ... وكانت العربية الفصحى في جميع الأحوال، بل وفي أشدها ترديًا، الهدف الأسمى الذي يسعى إليه الناس في مجال الكتابة والخطابة، تعلمًا وإتقانًا. وكانت المستويات اللغوية تتفاوت من حيث القيم والمفاهيم حسب بعدها أو قربها من اللغة الفصحى. وقد يشوب اللحن اللغة الفصحى أو يخالطها إلى حد كبير، ولكن لم يكن ذلك يعني شرعية الكتابة بالعامية. فاللحن في اللغة الفصحى شيء والعامية شيء آخر... استطاعت العربية الفصحى بما أحاطها الناس، العامَّة منهم والخاصة، من حبٍّ وتقدير واحترام، أن تخرج سليمة من محنة تأخر الأمة العربية وغوصها في ظلمات الجهل والتخلف ... ولم تشكل العاميات في بيئاتها وأقطارها المختلفة خطرًا كبيرًا ينال من اللغة الفصحى. وكلما عظمت الأخطار كانت تتراجع الفصحى إلى قلاعها الحصينة في حلقات المساجد والكتاتيب، حول القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ... وإلى المؤسسات العلمية التي حافظت على كيانها عبر العصور، في جامع القرويين بفاس، وفي جامع الأزهر بالقاهرة وفي جامعة الزيتونة بتونس، وغيرها من المراكز الثقافية والتراثية مثل النجف وبغداد ودمشق والقدس ...(187/3)
وأن الذي لا شك فيه أيضًا، أن أصحاب الكفاءات الأدبية والتقنية من عامة الناس، كانوا يعبرون عن أحاسيسهم، ويصورون وقائع حياتهم، ويصفون نزاعاتهم وغزواتهم بالشعر العامي، الذي كان يطلق عليه بصورة وأخرى " الزجل " ويسمونه الآن الشعر العامي، وفي بعض الأقطار العربية يسمونه " النبطي " .. وما كان يدور في خلد أحد أن هذا اللون من الأدب يزاحم العربية الفصحى أو يشكل خطرًا عليها، وإنما كان يمثل واقعًا اجتماعيًّا أصابه الجهل والتخلف. فقد صوَّر المبدعون من شعراء البادية ومن شعراء العامية جوانب حياتهم المختلفة وصوروا أحاسيسهم ومشاعرهم أصدق تصوير. ولكن التواصل بهذا الأدب وتذوقه والانفعال به، لا يتجاوز دائرة العامية لتلك القبيلة أو المناطق التي تنطق بها. وهي على كل حال عامية منطوقة غير مكتوبة. وما كان لهذه العامية أو الشعر العامي أن يكتب، لأن الكتابة تفسد عليه سحره وتأثيره في جمهور السامعين.(187/4)
وبقي هذا الحال حتى القرن التاسع عشر، عندما بدأت الجيوش الاستعمارية تغزو مختلف الأقطار العربية في الجزائر وتونس ومصر والمغرب وبلاد الشام وأرض الرافدين. وبدأت تتسلل بأقنعة مختلفة إلى الجزيرة العربية. وكان إقصاء العربية الفصحى عن مجالاتها الحيوية في مختلف مناحي الحياة العلمية والإدارية ومحاصرتها من أهم أهداف المخططات الاستعمارية. فبدأ الاهتمام المنظم باللغات العامية المعاصرة. وبدأت الدراسات الموجهة لوضع قواعدها في النحو والصرف والنُّطق، والانتقال بها من لغةٍ منطوقةٍ محكية إلى لغة مكتوبة، ومن لغةٍ خشنةٍ، جلفة، تحمل القيم الإقليمية والقبلية ومفاهيم الغزو والتخلف إلى لغةٍ وطنيةٍ، على حدِّ تعبير أنصار العامية ومحبيها، تحل محل العربية الفصحى. وأحدثت فيما بعد وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، ثورة لغوية ومعرفية في القرن العشرين، فكان للصحف الريادة التاريخية في الوطن العربي. ونحن إذا استثنينا عددًا قليلاً منها خضع لتوجهات وظروف معينة، نرى أن الصحافة بصورة عامة، كان لها دور إيجابي في دعم العربية الفصحى وتطوير أساليبها، ورفدها بأساليب ومصطلحات تيسر استعمالها في مختلف مجالات الحياة ...(187/5)
وقد تسارعت التطورات في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وكان للحرب العالمية الثانية دور أساسي في تطور وسائل الإعلام المسموعة ( الإذاعة ) وكذلك في وسائل الإعلام المرئية ( التلفاز ). فوجهت البرامج الإذاعية إلى عامة الجماهير العربية في مختلف أقطارها، من أجل تعبئة المشاعر وتوجيه الرأي العام، وذلك من خلال تضييق شقة الاختلاف بين الفصحى والعاميات المحلية. فساهمت الإذاعة منذ البداية في إحداث تطورات جديدة في لغة المجتمع إلى جانب المؤسسات الإعلامية والتعليمية الأخرى. فكان على وسائل الإعلام في استعمالها اللغوي، أن تميز بين ثوابت اللغة العربية الفصحى المتمثلة بنحوها وصرفها ونظمها وبين ما هو عارض ومتبدل في مفرداتها ودلالات معانيها وأساليب تعبيرها .. فكانت لغة الإعلام الإذاعي الموجهة إلى جماهير الأمة، من متعلمين وأميين، تمثل مستوى من مستويات اللغة الفصحى للتعبير عن معاني الحياة الجديدة في تحولها إلى متطلبات الحياة العصرية.(187/6)
وإنه لمن بدهيات الأمور، وما عليه التطور اللغوي في مساره الطبيعي، أن توجه أجهزة الاتصالات الجماهيرية المسموعة والمرئية، لنشر اللغة العربية الفصحى وتعميم خصائصها الأصيلة وصفاتها الذاتية. فالإذاعة والتلفاز تشغلان مكانة متميزة للارتفاع بالعاميات إلى مستوى العربية الفصحى، والنهوض بها والسمو بأساليبها وتعدد فنون القول فيها، من حيث كونها لغة الأمة الجامعة والموحدة. وتسهم هاتان المؤسستان، من خلال اللغة الفصحى في رقي تفكير الأمة بما تحمله من قيم وعقيدة وموروث حضاري، وبما تدخله وما تشيعه من مفردات ومصطلحات علمية وحضارية جديدة، ومن المفروض أن يتم ذلك كله وفق خطة لغوية، تلتزم بها أجهزة الاتصال الجماهيرية بصورة عامة، والإرسال الإذاعي والتلفازي بصورة خاصة. ومحور هذه الخطة الحرص على القواعد الأساسية في النحو والصرف والبلاغة، وتوجيه العناية إلى ما تختص به أساليب العربية الفصحى من بساطة وإيجاز ودقة ووضوح. ومن المفروض أن تتضافر الجهود لوضع المصطلحات الجديدة وتوحيدها في الوطن العربي كي تحتفظ العربية الفصحى بدوام وحدتها، لغةً للحياة والفكر والعلم والعقيدة.
ومنذ حوالي النصف الثاني من القرن العشرين، شاع الإرسال الإذاعي في مختلف الأقطار العربية وترتب عليه مسؤولية عظمى نحو جماهير المستمعين في توعيتها وتثقيفها وتعبئة الرأي العام وتوجيهه. فأصبحت الإذاعة قوة حيوية فاعلة في النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والدينية والثقافية.(187/7)
وجاء الإرسال التلفازي وأصبح له جماهير واسعة من المستمعين والمشاهدين؛ فأجهزة التلفاز تعتمد على ما يسمى بالشاشة الصغيرة. وهي تجمع المسموع إلى المنظور، وتستغل الصورة والصوت، والإرسال التلفازي يفضل الإرسال الإذاعي من هذه الناحية. وقد شاعت الشاشة الصغيرة في النصف الثاني من القرن العشرين ، وعمَّت مختلف الأوساط. وتطورت هذه الأجهزة تطورًا تقنيًّا هائِلاً، ودخلت عصر الفضائيات فأصبحت شاشة التلفاز لعرض أحداث العالم وشتَّى مظاهر الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلى جانب التعرف على طبائع الأمم والشعوب وأساليب عيشها وعاداتها وعلى بيئاتها الجغرافية في الجو والبر والبحر. ومع أن التلفاز يفضل الإذاعة في بعض الجوانب، ومع مزاحمته لها، فإنه لم يكن بديلاً عنها. فطبيعة أجهزة التلفاز تهيئ له الفرص لمخاطبة شتى فئات الناس على اختلاف طبائعهم واتجاهاتهم، كما هو شأن الإرسال الإذاعي. وهذا يفرض على أجهزة الاتصال الجماهيرية من إذاعة وتلفاز، أن تتبنى لغة مشتركة، تستفيد من الصوت والصورة والحركة في الاتصال اللغوي والإعلامي. وإن نواميس الحياة الاجتماعية والتاريخية لأمتنا العربية والإسلامية، لتفرض أن تكون هذه اللغة المشتركة ، هي العربية الفصحى، الثابتة في نحوها وصرفها، والمتطورة بأساليبها ومفرداتها وَضْعًا ودلالة. وإن العربية الفصحى هي اللغة الوحيدة التي تستطيع الخروج من الحدود السياسية للدول العربية إلى مخاطبة الجماهير العربية في مختلف أقاليمها .. فهي لغة الاتصال بالجماهير التي تخاطب المتعلم والأمي معًا، وتُعْنى بما تقتضيه الحياة المعاصرة من تطور. فالعربية الفصحى هي التي تجسد نسيج الثقافة العربية، وتخرج بها من الإقليمية المحلية الضيقة إلى وحدتها العربية وإلى آفاقها الإسلامية وبالتالي إلى مجالها الإنساني.(187/8)
إن هذا التيار في مسيرة العربية الفصحى هو التيار الغالب، لأنه يمثل طبيعة الحياة النامية والمتطورة. إنه يمثل القوانين العلمية لِتَطوُّر المجتمعات العربية وذلك بمعزلٍ عن إرادة ورغبات من يكيد للعربية الفصحى أو يدعم العاميات العربية عن جهل أو سوء نية أو الاثنين معًا.
كان التردي الذي أصاب العربية الفصحى في الأقطار العربية، وشيوع العاميات، نتيجة الجهل والتخلف. واستطاعت العربية الفصحى أن تجتاز قرون المحنة، بمالها من حبٍّ واحترامٍ وتقدير في نفوس عامة الناس على مختلف فئاتهم الاجتماعية . فاختفت عن المسرح الدعوات إلى إحياء العاميات وتقعيدها نحوًا وصرفًا وكتابة، واختفت أيضًا الدعوات إلى استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية وهجر كل ما هو تراثي، وفصل حاضر الأمة عن ماضيها.
وما إن انتهت الحرب العالمية الثانية، وقامت الشعوب العربية في جميع أقطارها بثورات دامية في سبيل حريتها واستقلالها حتى بدأت العربية الفصحى تستعيد سيادتها في أوطانها. ولكن بدأت سياسات لغوية مريبة، تنتقص من العربية الفصحى، واستطاعت هذه السياسات في معظم الأقطار العربية إقصاءها عن مجالاتها الحيوية في الجامعات والمؤسسات العلمية والتقنية والإدارية. ومع أن العربية الفصحى تقابل الجهل والتخلف، كما كان شأنها في الماضي، فإن تأسيس الجامعات في الوطن العربي، وازدياد أعدادها منذ منتصف القرن العشرين، حتى بلغت الآن حوالي مئة وسبعين جامعة تنضوي تحت لافتة اتحاد الجامعات العربية، وأصبح المتخرجون فيها بالآلاف، لم يؤدِّ إلى سيادة العربية الفصحى. وتغيرت طبيعة الصراع والمواجهة، إلى صراع ومواجهة سياسية. فالفصحى هي اللغة الوحيدة التي تعطي لأمتنا العربية هويتها. وهي الآن تواجه أخطارًا من نوع جديد، وأهمها:(187/9)
أولاً: إقصاء اللغة العربية الفصحى عن سيادتها في أوطانها وعن مجالاتها الحيوية وإحلال اللغات الأجنبية محلها لاسيما في التعليم العالي والجامعي والمؤسسات العلمية والفنية.
ثانيًا: التوجه نحو العاميات الإقليمية وممارستها على الصعيدين الرسمي والاجتماعي والاهتمام العملي بها من خلال البرامج الإذاعية والتلفازية، بل ودور النشر.
لن أتوقف في هذه الكلمة الموجزة عند خطر مزاحمة اللغات الأجنبية للعربية الفصحى والسياسات الرسمية والعملية التي جعلت من الإنجليزية والفرنسية لغة للتدريس العالي والجامعي والبحث العلمي في جميع الأقطار العربية، إذا استثنينا سورية منذ سنة 1919م والسودان بأخرة وبعض الكليات الجامعية في عددٍ محدد من الأقطار العربية. فهذا موضوع يستحق أن تفرد له دراسة مستفيضة.
أما الخطر الذي يهمنا في هذا الحديث، فإنه يتمثل بالتوجه نحو العاميات الإقليمية في جميع الدول العربية، وتشجيعها في برامج الإذاعة والتلفاز بل وفي بعض دور النشر. فإذا كانت الصحافة قد بدأت نسبيًّا في وقت مبكر في الوطن العربي، في مصر، وبعد ذلك في الأقطار العربية الأخرى، فإن الإرسال الإذاعي قد جاء متأخرًا.(187/10)
وكانت بداياته الأولى في الإذاعة المصرية بالقاهرة . واتخذت الإذاعة في مصر سياسة لغوية من حيث الواقع العملي في معظم برامجها إذا استثنينا القرآن الكريم والأحاديث الدينية والتمثيليات التاريخية، تقوم على المزج بين العامية والفصحى، وعلى تسكين أواخر الكلم. واختارت اللهجة القاهرية بين اللهجات المتعددة التي يتحدث بها عامة الناس في مختلف مناطق القطر المصري. وقد سبق أن مارست مؤسسات إعلامية أخرى ثقافية وفنية، مثل هذه السياسة اللغوية. فكان المسرح المصري والسينما المصرية والأغاني المصرية، تتجه هذا الاتجاه. ومع أنها اختارت اللهجة القاهرية من حيث المبدأ، أساسًا للنطق، فقد أدركت أن الاتكاء على العربية الفصحى في سياق العامية، عامل جوهري، في برامجها وأنشطتها الثقافية والفنية الموجهة إلى مختلف شرائح الشعب المصري من مثقفين وأميين. وما لبثت وسائل الإعلام هذه المكتوبة والمسموعة والمرئية، أن وجدت أن الاتكاء على العربية الفصحى في هذا المزيج اللغوي هو الوسيلة الوحيدة التي تمكنها من الخروج من الإقليمية الضيقة المحدودة إلى مجال الأمة العربية في وطنها الرحب من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، وفي هذا التوجه الرحب تستطيع تحقيق أهداف ثقافية واقتصادية وقومية.
وتوالى تأسيس المحطات الإذاعية في بقية الأقطار العربية وحذت في سياستها اللغوية حذو الإذاعة المصرية من حيث المبدأ. وتلا ذلك إنشاء محطات التلفاز. وانتشرت وسائل الاتصالات هذه المسموعة والمرئية وشاعت، ولكنها بقيت في الوطن العربي أجهزة رسمية، تخضع للسياسة الحكومية في كل دولة من هذه الدول. فالتوجه الرسمي هو الذي يرسم لهذه الأجهزة اتجاهاتها السياسية والثقافية. فأصبحنا نرى كيف أن الأحداث الكبرى من سياسية واجتماعية، تجد صداها، سلبًا أو إيجابًا في نوعية البرامج في الإذاعة وفي التلفاز، وفي لغة الإعلام والاتصال بجماهير الأمة.(187/11)
فقد كان إنشاء الدولة الصهيونية في فلسطين، في قلب الوطن العربي، هزة عنيفة للأمة العربية، أعقبتها ثورات للتحرر والاستقلال في مختلف الأقطار. وتعالى المدُّ القومي العربي فتراجعت العاميات في برامج وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، لتحل محلها العربية الفصحى المشتركة، بأساليبها السهلة وخصائصها الذاتية في قدرتها على التعبير عن دقائق الفكر، بوضوح وسلاسة وإيجاز.
وفي كل مرة تتعرض الأمة العربية إلى محنٍ سياسية وعسكرية، تنطلق الأقلام الموتورة للنيل من اللغة الفصحى. فنراهم يختلقون الحجج ويلوون الحقائق، ويحمِّلون العربية الفصحى مسؤولية هزائمهم. ويجد ذ ... لك صدى مريحا في الأوساط الرسمية المؤثرة، لأنها وجدت مِشْجبًا تعلق عليه نتائج سياساتها وتقصيرها. وبدأت العامية تجد طريقها إلى المحافل الرسمية، وإلى خطب الرؤساء والوزراء والمسؤولين الرسميين. وكان ذلك حتى أوائل الخمسينيات من القرن العشرين عملاً مستهجنًا.
وتوالت الأحداث والفتن والحروب الداخلية، تجتاح الأمة العربية في العديد من أقطارها وبدأ التَّقَوْقع الإقليمي والمحلي والطائفي يجد طريقه إلى السياسات الرسمية في معظم الدول العربية، لاسيما الغنية منها والمؤثرة. ومن الطبيعي أن ينعكس هذا كله في أجهزة وسائل الإعلام. وكانت الإذاعة والتلفاز أهم هذه الأدوات باعتبارهما جزءًا لا ينفصل عن السياسة الإعلامية في كل قطر عربي . وإن التحول إلى الإقليمية الضيقة، والتكتلات الأجنبية والشعوبية المعادية لوحدة الأمة العربية والفكر العربي والثقافة العربية، يجعل اللغات العامية ودعمها ومحاولات تقعيدها وتقنينها، أهم وسيلة إعلامية لتحقيق الإقليمية والابتعاد عن قومية الثقافة العربية ووحدة الأمة.
وفي هذه الظروف الراهنة التي هانت بها الأمة العربية على أعدائها، وعلى نفسها وهو أشد أنواع الهوان ، تنطلق من أروقة بعض الدول العربية(187/12)
المهمة، لاسيما ما كان منها مهد العربية الفصحى، في الجزيرة العربية، حركات منظمة جعلت اهتمامها الفِعْلي بالعامية المعاصرة، أدبًا وفكرًا وتراثًا. وتجد هذه الاتجاهات الدعم من أقوى عناصر المجتمع تأثيرًا فأنشئت بعض المؤسسات التي تهتم بنشر العامية، وبتسخير المال لتشجيعها والحث على البحث والنشر والتأليف بها. واستجابت لهؤلاء وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة، وشرعت تُسوِّد بالعامية صفحات الصحف اليومية والأسبوعية (1) .
ومن هذه المؤسسات التي تعنى بنشر العامية المركز الإقليمي لدول الخليج الذي أسس في قطر سنة 1984م تحت اسم " مركز التراث الشعبي " (2).
ويعقب الدكتور صنيتان على هذا الوضع في الجزيرة العربية، قائلاً: " وحركة العامية فكرًا وثقافة وأدبًا في الجزيرة والخليج في هذا الوقت، وتحت
الظروف الراهنة التي تمرُّ بها الأمة العربية من محيطها إلى خليجها، أمر يزيد الخوف ويبعث هاجس الريبة في نيات الذين يسعون لنشرها بهذه القوة "(*) .
وكان هذا الوقت، الذي أشار إليه الدكتور صنيتان، قبل عام1986م، تاريخ نشر كتابه، ومنذ ذلك الوقت، على ما أعلم، ازداد الاهتمام بالعامية والتأليف بها.
ونحن نرى بالمشاهدة الهجمات الحاقدة على اللغة العربية الفصحى. ومن بين أجهزة الاتصال الإعلامي وأقواها تأثيرًا أجهزة الإذاعة والتلفاز. فإذا استعرضنا برامج دور الإذاعة المنتشرة في الوطن العربي، نجد اللغة العامية أو المحكية الدارجة تحتل المكانة الأولى، وتستأثر بأطول الأوقات ...
وإذا أخذنا، على سبيل المثال، المخطط البرامجي للإذاعة الأردنية، الذي بدأ في 1/7/1999م وانتهى في 30/9/1999م وكانت مدة الإرسال الإذاعي تبدأ في الساعة 4.45 صباحًا وتنتهي في الساعة 4.45 من صباح اليوم التالي، نلاحظ ما يأتي.(187/13)
أولاً: بثت دار الإذاعة الأردنية في عمان برامج باللغة العربية الفصيحة من حيث المبدأ، مدة (770) دقيقة، من أصل (24) ساعة أي (1440) دقيقة وهذا يعني نسبة 54% تقريبًا من مدة الإرسال. وقد وزعت الموضوعات على النحو التالي محسوبة بالدقائق.
وإن قولنا: " من حيث المبدأ في تعيين المدة الزمنية يعني وجود موضوعات باللغة المحكية في إطار المدة الزمنية المحددة للبرامج باللغة الفصحى مثل برنامج: " نافذة الصباح " الذي يقدم باللغة العامية الدارجة بعد نشرة الأخبار الصباحية ...
ثانيًا: بثت دار الإذاعة الأردنية في عمان برامج باللغة المحكية العامية الدارجة مدتها (670) دقيقة من أصل ( 1440 ) دقيقة، مدة الإرسال الإذاعي في اليوم، وهذا يعني 46% تقريبًا من مدة الإرسال. وقد اشتملت على موضوعات متنوعة أهمها:
1- مع المزارع والمجلة الزراعية.
2- الأسرة. 3- البث المباشر.
4- اللقاء المفتوح. 5- شعر شعبي .
6- أجيال صاعدة. 7- المسلسل اليومي. 8- من البادية.
9- شعر شعبي. 10- كل يوم حكاية.
11- سيرة البناء. 12- نادي المستمعين. 13- مساء الخير. 14- مبروك. 15- أغانٍ.
إن نظرة شاملة على هذه البرامج تقودنا إلى ملاحظة السياسة الإعلامية التي تقف خلف هذا التخطيط، سواء أكان ذلك من حيث اللغة أم من حيث الموضوعات.
فتلاوة القرآن الكريم والموضوعات الدينية، تفرض اللغة الفصحى لغة الأداء الإذاعي لا محالة، وقد خصص لها ما نسبته 13.5% تقريبًا من البرنامج اليومي.
ومن الملاحظ أيضًا أن نشرات الأخبار شغلت ما نسبته 24% تقريبًا من البرنامج اليومي و45% تقريبًا من المدة الزمنية التي خصصت للبث باللغة العربية الفصيحة.(187/14)
وربما كان من المفيد أن نتوقف عند هذه الملاحظة. فالكلمة المذاعة تخاطب المتعلم والأميّ معًا. ومن المفيد أن نكوِّن فكرة عن اختيارات المستمعين لمختلف البرامج. ولم أستطع مع الأسف أن أقف على دراسة وافية لهذا الموضوع المهم ، إلا ما وجدته من نتائج الدراسة التي أشار إليها الدكتور عبد العزيز شرف في بحثه القيم الذي نشره في مجلة اللسان العربي، بالرباط، المجلد الثالث عشر ص188– 229. والإحصائيات التي اعتمدها نشرت في أمريكا سنة 1954 تحت عنوان " أنواع البرامج الإذاعية التي يفضلها
وتشير بعض الدراسات الأخرى التي لم أستطع الاتصال بأصولها، أنه ثبت بالإحصاء أن الجمهور يحصل على 60% من الأخبار عن طريق الإذاعة المسموعة.
ومن الواضح أن هذا الرقم يترجم إلى حدٍّ بعيدٍ النتائج السالفة الذكر.
الأميون والمتعلمون تعليمًا ابتدائيًّا والمتعلمون تعليمًا ثانويًّا، والمتعلمون تعليمًا عاليًا، في استبيان أجري على المستمعين في مصر وسورية والأردن ولبنان باعتبارها ممثلة للوطن العربي". فكانت النتائج هي:
وإذا أخذنا في حسابنا أن الأخبار تذاع عادة باللغة العربية الفصيحة، وأن الفصحى هي لغة القرآن الكريم، فإن دعوى مروجي العامية والملتزمين ببرامجها في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، لا تقوم على أساسٍ منطقي ولا تستند إلى واقع لغوي وعقائدي.
فالعربية الفصحى هي لغة الإسلام وهي اللغة المشتركة لجماهير الأمة في أقطارها وكياناتها السياسية المختلفة. وإن الأمية وهي ظاهرة تخلف، لا تقف حائلاً بين الأميين وبين فهم النشرات الإخبارية التي تلقى بالعربية الفصحى وكذلك الأحاديث بل وما تنشره الصحف السيارة...واللغة السائدة في كل ذلك هي العربية الفصحى.
وفي مجال التلفاز اخترنا في هذا البحث المخطط البرامجي للتلفزيون الأردني للقناة الأولى في الدورة البرامجية الحالية، التي بدأت في 1/3/2000 وتنتهي في 30/6/2000.
وتتأثر برامج التلفاز بالعطلة(187/15)
الأسبوعية، وقد أصبحت تشمل هذا العام يومي الجمعة والسبت. ومن الملاحظ أن البثَّ التلفازي يبدأ في أيام العمل العادية، الساعة السادسة والنصف (30 :6) صباحًا، وفي يومي
العطلة الرسمية، الجمعة والسبت الساعة الثامنة (8) صباحًا. ونظرًا للوضع الخاص ليومي العطلة، فسنعتمد في دراستنا هذه يوم الخميس أحد أيام العمل في الأسبوع لكي يكون نموذجًا معبرًا في هذه الدراسة. يبدأ البث التلفازي، يوم الخميس كما هو الشأن في الأيام العادية الساعة السادسة والنصف ( 30: 6) صباحًا، ويتوقف البث الساعة الواحدة من صباح اليوم التالي ويبلغ زمن البث ( 1098 ) دقيقة، وفي عرضنا للغة التي تقدم بها هذه البرامج نسجل الملاحظات الآتية.
يبث التلفاز الأردني من حيث المبدأ برامج باللغة العربية الفصحى مدتها (223) دقيقة، وهذا يعني نسبة 20% تقريبًا من مدة الإرسال. وقد وزعت الموضوعات على النحو الآتي، محسوبة بالدقائق.
رابعًا: يبث التليفزيون الأردني بعمان في دورته الحالية البرامجية التي بدأت في 1/3/2000م وتنتهي في 30/6/2000، باللغة العامية الدارجة مدة (890) دقيقة من أصل (30 : 18) ساعة أي ( 1098 ) دقيقة وهي مدة الإرسال التلفازي يوم الخميس، وهذا يعني نسبة 8،81% تقريبًا من مدة الإرسال في اليوم، وقد وزعت الموضوعات على النحو التالي، محسوبة بالدقائق:
وإن نظرة شاملة على هذه الموضوعات التي تبث باللغة العامية الدارجة وقد بلغت نسبتها 81.8% تقريبًا من مدة الإرسال التلفزيوني، تقودنا إلى القول بأن هذا الوضع اللغوي المتردي في وسائل الإعلام، لاسيما المرئية منها لا يستجيب إلى واقع جمهور الشعب الأردني، ولا إلى أمانيه القومية وتطلعاته إلى التقدم والرقي والإبداع.(187/16)
فالأردن بلد عربي أصيل، لم يعرف سوى العربية، بين سكانه وقبائله، منذ العصر الجاهلي حتى الآن . وكان طيلة هذه الحقب جزءًا من بلاد الشام حتى نهاية الحرب العالمية الأولى في القرن العشرين. وشأنه فيما يخص العاميات المختلفة واللهجات المتعددة، شأن الدول العربية الأخرى على اختلاف في المستويات، بعدًا أو قربًا من العربية الفصحى، لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وهي اللغة الجامعة الموحدة التي تعطي للأمة العربية هويتها.
ونحن عندما نتحدث عن اللغة العامية التي يبث بها عدد من موضوعات البرامج الإذاعية والتلفاز، إنما نتحدث عن عامية مصنوعة، تقحم على هذه البرامج الإعلامية المسموعة والمرئية. فالعاميات في بلد صغير المساحة مثل الأردن، متعددة بتعدد المناطق الجغرافية والشرائح الاجتماعية ... في البادية والريف والمدن، وتختلط العاميات في مستوياتها المختلفة باللهجات إذ نجد اختلاف اللهجات في أحياء المدينة الواحدة.
وفي هذه الظروف القاسية، التي تمر بها الأمة العربية، نجد مع الأسف، أن ممارسة العاميات وتشجيعها ودعمها في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، تشكل عنصرًا أساسيًّا في السياسات الإعلامية واللغوية في جميع أقطار الوطن العربي، على اختلافٍ في المستويات.(187/17)
فإذا كانت وسائل الإعلام الرسمية، أي التي تسيطر عليها الحكومات، تجد نفسها مضطرة في برامج القرآن الكريم والموضوعات الإسلامية خاصة، أن تستعمل اللغة العربية الفصحى، فإننا نرى بالمشاهدة والسماع ، كثيرًا من الفضائيات العربية ومحطات الإذاعة المحلية، تتبنى العاميات، عن سابق قصد وإصرار في سياسة مدروسة غير معلنة في كثير من الحالات. فإن المشاهد والمستمع للفضائيات العربية يلمس مدى استشراء العاميات واللهجات العامية على برامجها. وإن المتتبع لهذه البرامج يستطيع أن يدرك بسهولة، أن السياسات الإعلامية في الوطن العربي، تعمل على الانعزالية، وتوطيد دعائم الإقليمية المحلية، والنأي بنفسها عن الثقافة العربية الجامعة. وفي الوقت نفسه تمارس سياسة واقعية في الانفتاح على الثقافات الأوربية والأمريكية، وعلى لغاتها، بل وعلى أزيائها وأساليب الحياة فيها.
فهذه السياسات الإعلامية من حيث الممارسة تنطلق من واقع لغوي وتراثي وتاريخي وإسلامي موحد، ممثل بالعربية الفصحى إلى السير باتجاه التشرذم، والتفتت والتجزئة الإقليمية والمحلية ممثلٍ بالعاميات وما تحمله من قيمٍ أخلاقية واجتماعية متخلفة. ويتم هذا كله في الوقت الذي نرى فيه الدول الأوربية مثلاً، تنطلق من تعدد اللغات المختلفة والثقافات المتباينة، والتاريخ الحافل بالصراعات العرقية والمذهبية والأطماع الاستعمارية إلى إقامة وحدة اقتصادية وسياسية، والسير على طريق الوحدة الثقافية.
وخلاصة القول، فإن مسيرة بعض وسائل الإعلام العربية المقروءة والمسموعة والمرئية باتجاه الانعزال المحلي، واستعمال العاميات، لغةً محكية ومكتوبة، إنما هو تعبير عن حالة مرضية طارئة، قد تطول مدتها أو تقصر، ولكنها لا محالة زائلة بزوال أسبابها ... فهذا هو ما تمليه حقائق الأشياء. وما تقضي به نواميس تطور الأمم وتقدمها.(187/18)
فمن حيث الواقع العملي، فإن وسائل الإعلام الحديثة المقروءة والمسموعة والمرئية، الموجهة إلى جماهير الأمة العربية وشعوبها، في أقاليمها وكياناتها السياسية المتعددة، تجد لزامًا عليها أن تخاطب الأفراد والجماعات بلغة مشتركة وليس أمامها، بالتالي سوى العربية الفصحى لغة مشتركة، يفهمها العامي والمتعلم على مختلف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية، وإن حبَّها واحترامها وتقديرها، ليتغلغل في اللاوعي في نفس العربي الذي يعتز بعروبته وإسلامه.
فللعربية خصائص ذاتية، تجعلها قادرة على التعبير عن دقائق الأفكار، واستيعاب كل جديد في الفكر الإنساني والحضارة الإنسانية. فالاشتقاق والإبدال والقلب والمجاز والنقل والوضع والتعريب – بمعناه اللغوي – قنوات ذاتية تمدها بأسباب الحياة والنماء.
وللعربية الفصحى منذ أصبحت لغة الوحي الإلهي، لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، خصوصية، لا تشاركها فيها أية لغة أخرى. فقد أصبحت لغة ثابتة من حيث نحوها وصرفها ونطقها، ومتطورة ونامية من حيث مفرداتها ودلالاتها وأساليبها.
إنها لغة باقية على وجه الأرض ما بقي الإسلام والمسلمون. وهي لغة خالدة بخلود القرآن الكريم.يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: " إنَّا أَنْزَلناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا"(1)، وفي آية أخرى:" وَهَذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبينٌ "(2)، ويتعهد سبحانه وتعالى بحفظه وبقائه، إذ يقول، عز وجل، " إِنّا نَحْنُ نَزَّلنَا الذِّكْرَ وإنِّا لهُ لَحَافِظُونَ" (3) . صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عبد الكريم خليفة
عضو المجمع من الأردن(187/19)
من " العربية المعاصرة" (*)
للأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي
قول: هي عربيةٌ جديدةٌ نقرؤُها في الصُّحُف والمجلات، ونسمعُها في أحاديثِ المعربين في وسائل الإعلام. وهي تكادُ تكونُ واحدةً إذا كانت لغةً صحفيةً أو كانت لغةً أدبيةً أو علميةً إلا ما يفرقُ فيها من خُصوصيَّاتٍ أو اصطلاحاتٍ نجعلُها من هذي ليس من الأخرى.
لست هنا أذكرُها لأنسبَها إلى الخطأ وإنَّ الصحيح فيها أن يقال: كذا وكذا، فقد قيل في هذا الكثير، فقد ثبتت هذه القوالبُ اللَّفظيةُ ودَرَج عليها المعربون حتى كادت أنْ تكون عربية سائدة يقولُها الصَّحَفِيُّ والاقتصادي والاجتماعي، والأديبُ الناقدُ والشاعرُ, وقد تَلْقى شيئًا منها في خطبةِ الجمعة. فكيف نقولُ فيها، كما كنا نقولُ: إنها " لغة جرائد " ؟
لقد ذهب هذا كُلُّه، وفَرض علينا واقعُ الأمر أنْ نُسجِّلَها على أنها مرحلةٌ تاريخيةٌ آلت إليها لغتُنا، من حقنا أن ندعوَها " عربيةً معاصرةً ".
قد تقول! وهل خلت هذه " العربيةُ" من التجاوز أو الخطأ ؟
والجواب عن هذا لابدَّ أن يكونَ خاضعًا للسيرورة الواسعة فتقول: هو أسلوبٌ حديثٌ على تنكُّر العربية لكثير من عناصره.
إن هذه " العربية المعاصرة " محكومةٌ بشيء وصل إليها من لغة أعجمية هي إنجليزية في الأغلب الأعمِّ، وفرنسية في بعض من بلدان العرب كما في بلدان الشمال الأفريقيِّ. ويكون لك أن تلمَح في هذه العربيَّة " الجديدة " المصادر الصناعية التي آلت إلى ضرب من مصطلح جديد. وربما ولَّد
المعربون من أهل الصُّحُف هذا الجديد وسعوا إلى ذلك دون أن يجدوا نظيرَه في الإنجليزية أو الفرنسية. وربما كان هذا دَأْبَهُمْ في أنهم تصرَّفوا فيما يمكن أن يكونَ في العربيَّة مما يُقابلُ به نظائرَه في هاتين اللغتين.
... وهاأنذا أثبتُ هذا الجديد الذي فَشَا استعمالُه في الحِقْبَة التي نحياها التي لا تتجاوزُ كثيرًا النصف الثاني في هذا القرن.(188/1)
1- قال أحدُهم في صحيفة من صحفنا، وقد يقول ذلك غيره:
" ... علينا إجراء مراجعة عميقة و " مسؤولة " " للخلفية " التي حدَّدت مسارَنا ... " .
أقول: لنا أن نقفَ على الوصف "مسؤولة" فنجد أنها ابتعدتْ عن اسم المفعول وذلك أن " المسؤول " هو الذي يُسألُ، و " المراجعة " في هذه العبارة ليست مما يُسأل، بل يرادُ فيها أن تكونَ
مما يصحبُها سؤال نتقدّم به إلى أنفسِنا(*). وهذا من غير شكٍّ من الجديد الذي تلقَّاه في الصُّحُف الأجنبية.
... وأما " الخلفية " فمصدرٌ صناعيٌّ يومئُ إلى ما هو أساسٌ أو قاعدةٌ قام عليها سلوكٌ خاصٌّ، وعملٌ ذو خصوصية. وهذه ربما كانت في Back Ground أو نظير هذا في الفرنسية .
2- وأجد " أرضية الواقع " وهي نظيرُ: " على الساحة " في قولهم مثلاً: " الأفكارُ المطروحةُ على السَّاحة ".
وأنت تجدُ " أرضية الواقع "، ولا يذهبُ ذهنكُ إلى " الأرض " بل ينصرفُ إلى " حيّز الواقع". ثم إن " الواقع " بعيدٌ عما في شأنه أن يقعَ، بل إنه الذي تراه بعينيك ماثلاً أو تدركهُ بعقلك يكادُ يكونُ ماثلاً أيضًا.
و" الأرضية " من هذا الجديد الذي أقيم على طريقة المصدر الصِّناعي .
أقول: إن المصدرَ الصِّناعيَّ ليس جديدًا
في العربية، بل إننا نجدُ منه في فصيح العربية الجاهلية والأَلِيَّة والحُرِّيَّة وغيرها. ثم احتيجَ إلى هذا في المصطلح فكان منه " الكميَّة ". التي ولِّدت من " كم " الاستفهامية و " الإِنيَّة " وقد ولِّدت من " إنّ ".
ومثل هذا في البشرية والإنسانية والنوعيَّة. ثم وُلِّدت " الهُوِيَّة " والنوعيَّة والشخصيَّة والغيريَّة والقَبْليَّة والبعديَّة وغير هذا كثير.
ثم اضطررنا إلى أن نتوسع في هذا المصدر فكان منه المِثاليَّة والمادِّيَّة والواقعيَّة والوجوديَّة وغيرها.
ثم كان من ذلك المعرَّب في الأصل كالديمقراطية والأرستقراطية والإمبريالية.
وكان منه أيضًا: الرأسمالية والدكتاتورية والفاشيّة والنازية وغير هذا كثير.(188/2)
وقد يجدُّ من هذا ما تدفعُ إليه الحاجةُ " كالأصوليَّة " ويُرادُ فيها اتباع الأصول الإسلامية والتشدُّد بالتزامها. وينعت بها الأصوليون في أيامنا، وهذا المصطلحُ في المصدر والنعتُ يُشار بهما إلى نبز من يوصفُ به من الناس من لدن أصحاب الصحف ومعهم الحاكمون وأولو الأمر في بلادنا العربية والإسلامية. وكأَن القائل بـ " الأصولية " قد نظر إلى ما هو: Fundamantalism أقول: وهذا نظير مصطلح "الخوارج" في التاريخ الإسلامي الذي روَّجه أولو الأمر في حين أنكره من قيل فيهم " الخوارج ".
قال عيسى بن فاتك الخطيّ أحد بني تيم الله بن ثعلبة في كلمة له :
فلما أصبحوا صَلُّوا وصاموا
إلى الجُرْدِ العِتاق مُسَوَّمينا
فلما استجمعوا حَمَلوا عليهم
فظلَّ ذوو الجَعَائلِ يُقتَلونا
بقيَّة يومهم حتى أتاهم
سوادُ اللَّيل فيه يُراوغونا
يقولُ بصيرُهم لمَّا أتاهم
بأن القومَ وَلَّوْا هاربينا
أأَلْفا مؤمنٍ فيما زعمتم
ويقتلهم بِآسِكَ أربعونا
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم
ولكن " الخوارج " مؤمنونا
هم الفئةُ القليلة غيرَ شكٍّ
على الفئةِ الكثيرةِ يُنصَرونا(1)
وممّا يندرج في هذا "النصوصيَّة " Textuality . وقد وُلِّدْ من كلمة Text أي " نص ". وقد ذهب أهلُ عصرنا إلى أن النصَّ مادَّةٌ أو مسألةٌ يكتبونها، وهم من أجل ذلك جمعوه على "نصوص"، فقالوا: النصوصُ الأدبيةُ والنصوصُ التاريخية.
... إن حقيقة " النص " هي مصدرُ الفعل " نَصَّ "، ونصَّ الشيء أي رَفَعه. ونَصَّ الحديث " نَصًّا. رَفَعَه. وقال عمرو بن دينار : ما رأيت رجلاً أنصَّ للحديثِ من الزَّهريِّ أي: أرفعَ له وأسنَدَ.
والمِنَصَّة: ما تظهَرُ عليه العروسُ لتُرى. وفي المَثَل: وُضِعَ على المِنَصَّة، أي : على غايَة الفضيحة.
قلتُ: لقد جهل المعاصرون دلالةَ النَّصِّ(188/3)
فذهبوا به إلى الخبر أو القطعة الأدبية أو التاريخية وقد ابتدعوا " النصوصية " مصطلحًا يشيرُ إلى الاقتصار على النَّصِّ في الدرس، وعلى هذا لم يكن من حق الدَّارس أن يعرض لشيءٍ آخر، كالبنية وسيرة صاحب " النصِّ " ونحو ذلك .
وقد ابتدع النُّقَّادُ في عصرنا " التناص" لما يكونُ من تشابهٍ بين نصَّين من غير سَرِقَةٍ أو نحو ذلك. وهم في هذا التَّوليد قد ابتدعوا الفعلَ " ناصَّ " على فاعَلَ، وليس في فصيح العربية هذا الفعل الرباعي.
و"النصوصيَّةٌ" تصرفُنا إلى "البنيوية"(2) التي تعني درسَ البِنَى " وحدها بعيدًا عن صاحب النصِّ كما يستبعدُ فيها النظرُ في البيئة التي تصاحبُ النَّصَّ.
ولنا أن نضيف " الفاعليةَ " التي يرادُ فيها قوةَ الفعل والأثر فيقالُ مثلاً: إن فاعلية هذا العمل تَتَّضِحُ في النتائج.
ولنا أن نضيفَ إلى هذا أيضًا:
" الألمعيَّة والأريحية والأسبقية والرجعية، وهذا كثير. وقد يكونُ المصدرُ الصناعيُّ مادةً مفيدةً لتوفيرِ المصطلح الجديد نحو:
النظرية والفرضية والنسبية.
وقد يغيبُ هذا المصدر الصناعي عن القائلين، ومن هذا مثلاً " الحيوية " التي أغفل المعاصرون حقيقَتَها وذلك حين عادوا إلى النسب إلى " الحياة " فقالوا " الحياتي " ولم يفطنوا إلى أن " الحيويَّة "، وهي المصدرُ الصناعيُّ، كانت في الأصل النسبةَ إلى " الحياة ".
وعلى هذا كانوا على غير دراية واضحة من " الحيوية " وممَّ وُلِّدت .
ومن هذه "الشرعية" التي ترد في قولهم: " الشرعية الدولية ". و " الشرعية " تعني الحقَّ الشرعيَّ. وأما "الدَّولية" فهي النسب إلى "دولة"، وكان حقها أن تكون " الدُّوَلية " بالنسب إلى " دُوَل " جمع " دَوْلة "، لأن " الشرعية " الحق الشرعي للدولة بين الدُّولَ ".(188/4)
إن النسب إلى الجمع هو المرادُ المطلوبُ، وقد درج على هذا المعربون في العصور المتأخرة فنسبوا إلى الجمع في الدلالة على الحِرَف فكان من ذلك : الجُلودي، والخُيوطي، والمساميري، والطَّوابيقي، والقراطيسي، والإِبَري، والزَّنانيري وغير ذلك. ولكن المعربين في عصرنا أخذوا بقاعدة صرفية نبّههم إليها أهلُ العربية تقضي بوجوب النسب إلى المفرد فذهبوا على هذا فكان من ذلك: القانون الدَّولي والملعب الدوليّ وغير ذلك.
وأعود إلى " الشرعية " التي وجدناها "الاشتراعية" في أدب صحيفة الحياة فقد ورد "السلطة الاشتراعية" و" الانتخابات الاشتراعية". وقد ظننتُ أوَّلَ الأمر أنها من خطأ المطبعة، ثم رأيتُ ثانيةً أن " الاشتراعية " وصفًا للانتخابات، قد وردت بعد قولِ محرِّر الخبر: " السلطة التنفيذية "، فعلمتُ أن " الاشتراعية " قد قُصِدَ بها "الشرعية".
إن " الشرعية " نظيرُ ما قدَّمنا من هذه المصادر الصناعية قائمة على كلماتٍ عربيةٍ الأصولِ وعلى أخرى معرَّبةٍ نحو: الكولونيالية والفدرالية والكلاسيكية والرومانسية وغيرها.
ومن هذه المصادر الصناعية التي قامت على أسماءِ تفضيلٍ كالأولوية والأهمية والأسبقية.
ونبقى مع المصدر فنجدُ المعاصرة بمعناها وظلالها الاصطلاحية، وهي من غير شكٍّ تومئ إلى ما هو Modernisme .
وأعود إلى المصدر الصناعي فأجدُ أهلَ العلم أصحابَ جرأةٍ يجترئون بها على العربية ونظامها فقالوا:
" الأتاريخية اللاعلمية " وأرادوا: ما يفتقرُ إلى العلم التّاريخي.
أقول : وليس في أذهانِهم أن الهمزة
الأولى في" الأتاريخية تفيدُ السَّلب، ما أَبْعَدَهُمْ عن هذه الدقائق اللغوية.
وقالوا: "القبتاريخية" أي ما قبل التاريخ.
إن هذا النحت مما اجترؤوا فيه فأثبتوا ما أرادوا.
وكأنّ " التاريخية " قد بعدتْ عنهم فقالوا: " تاريخانية ".(188/5)
وقد توهَّموا ما ليس مصدرًا مصدرًا، ومن هذا " السجال " في الأدب الصَّحفي؛ فقد قرأتُ في جريدة " الشرق الأوسط " قبل سنوات:
" ويحتدم السِّجال ويحتدُّ حول ردود الفعل الفلسطينية ... ".
أقول: و" السجال " جمع " سَجْل " أي الدَّلو في فصيح العربية "، هي بعيدةٌ عن هذا في قول المحرر، وكأنها الخصومة والجَدَل.
لقد استوحى المحررُ هذا الفهم "للسجال" من القول المشهور: " الحربُ سجالٌ" ولم يفطن إلى أن " السجال " في هذا القول يعني أن الحربَ تارةً تكونُ لطرف من المتحاربين وأخرى للطرف
الآخر، فهما يتبادلان الفوزَ بنتيجتها كما يتبادلُ المستقيان على البئر الدَّلْوَ التي يستقونَ بها، فأين صاحبُنا المحررُ من هذا الأدب القديم؟
ومن المصادر ما هو جديدٌ صنع على طريقة المصدر الصناعي والأصلُ فيه مصادر عربية فصيحة، فِلمَ هذا التوليدُ الجديدُ؟
ومن هذه " الظلاميَّة " و " الضبابية " ومعناهما غيرُ خافٍ، وهذه وغيرُها مما هو مقروءٌ في الصُّحُف استوحاه المحررونَ بعد تأثُّرِهم بما هو واقع في صحافة الغرب.
ثم إنك تجدُ في هذا الجديد الصَّحفي ما يبتعدُ عن فصيح العربية نحوًا وصَرْفًا وأبنيةً ومن ذلك قولهم:
" الدَّوْلتان الأعظم "
كان هذا حين كان العالَمُ بين فَلَكَي أمريكا والاتحاد السوفيتي دائرًا ممتحنًا. والتجاوز في العبارة كائنٌ في وجوب مطابقة اسم التفضيل المُحَلّي بالألف واللام للموصوف، فكان ينبغي أن يقال: " الدولتان العُظْمَيَان ".
ومن التجاوز استعمالُهم أفعالاً لا نجدُ لها وجهًا في العربية، ومن هذا الفعل " تُطال " كقولهم:
"محاكمات عناصر " النهضة " " تُطال، دور الصحافة ".
والمرادُ بـ " تطال " أي : تتهِمُ، وكأن الفعلَ أُخِذَ من " طائلة " وهو مولَّدٌ صحفيٌّ لا نعرفُهُ في العربية ولا نجدُ له وجهًا، وكنتُ قد أشرت إلى هذا في مكان آخر. ومن هذا الجديد قولهم: " تسليك الأفكار الجديدة "(188/6)
والمرادُ بـ " تسليك " جعلُ الشيء ينسلك" أي: ينتظمُ في خَطٍّ مُعَيَّنٍ من " السلوك ".
أقول: لا نعرفُ الفعل " سلَّك " المضاعف، ولا الفعل الآخر " ينسلك" وأنت تجدُ ما هو شائعٌ في الصُّحف الغربية من نحو " غَداء عَمَل " أو " عشاء عَمَل " والمرادُ بهما ما يكونُ من عملٍ يجري فيه نقاشٌ أثناءَ الغَداء أو العَشاء، وقد ذكرت هذا في "الأفعال" التي عرضتُ لها في القسم الأول من درسي هذا.
وكثير من الكَلِمِ الأعجمي الذي تأباهُ العربيَّة في لغة صحفنا العربية كقولهم: " وُرَش عَمَل "، و " الوُرَش " جمع " ورشة "، وهي كلمة إيطالية تعني مصنعًا صغيرًا قد يقومُ على أمرِه صانعٌ أو بضعةُ صنَّاعٍ.
كلمة أخيرة:
هذه وقفات قصيرةٌ قد يطولُ خطبُها لو أني قصدتُ إلى شيء من الاستيفاء أوعيتُها هذا الموجزَ تذكرةً للدَّارسين في العلم التاريخي الُّلغوي وقد أشرتُ إلى " معجمي " الذي صنعتُه لهذه " العربية المعاصرة ".
أخطأٌ أم عربية معاصرة ؟
... ذهب المعنيون بالعربية منذ أن عرف الدرس اللغوي إلى ضبط الفصيح الصحيح وإلى ما هو بعيد عن هذا مما وُسم بالخطأ، وصنفوا في هذا تصانيف كثيرة. وأنت لا تعدم هذا أن تجده في الكتب الأولى من العربية، تجد كثيرًا من هذا العلم الذي دُعي بـ "التصحيح" في كتاب العين للخليل ابن أحمد، وفي " الكتاب " لسيبويه. وقد تجد شذرات من "التصحيح" في "الكامل" للمبرد، و " الأصول لابن السراج ".
على أن جماعة أخرى ممن عاصر المبرد وابن السراج أو خلفهم انصرفوا لهذا الأمر، فأنت تجد كتاب " الفصيح" لثعلب، و" إصلاح المنطق " لابن السكيت، و " أدب الكاتب " لابن قتيبة. ثم اتسع هذا العلم فكان منه " تصحيح الفصيح " لابن درستويه، وغير هذا مما وصل إلينا وأشارت إليه كتب الرجال، وأصحاب المطولات الكبيرة وآخرها " كشف الظنون " لحاجي خليفة.(188/7)
... ثم جاء عصرنا فنهض غير واحد من علماء القرن الماضي ورجال هذا القرن فصنَّفوا في هذه المسائل كتبًا يعرفها أهل هذه العناية. وما زال نفر منا في أيامنا يتلقف ما صنعه فلان وفلان وراح يقمش " معجمًا " له في هذه المسألة.
أقول: ما زالت الإشارة واردة في الخطأ والتنبيه عليه، وكأن آخرين ومنهم نفر من أعضاء المجامع قد ذهبوا إلى النظر فيما قيل: إنه خطأ أو تجاوز، وراح يتشبث إلى أن يجد في تراث العربية ما يؤيد هذا الذي قيل: إنه خطأ، فأنت تجد لجنة الأصول في مجمع اللغة العربية في القاهرة دأبت في هذا السبيل، فكان مما وصلت إليه مادة كثيرة في رد فصاحة الكلم والأساليب التي قيل: إنها خطأ.
... وإني لأجد الكثير مما هو خطأ لا يشك فيه أي عارف بالعربية، كما استبعده من الصحة هذا النفر الذي سعى إلى السعة ووجد سبيلاً إلى إدخال ما عُدَّ خطأً في حيز الفصيح. غير أن هذا الخطأ قد درج عليه المعربون، ولم يأخذوا بأقوال الداعين إلى تصحيحه، وصار الصحيح مجهولاً لا يعرفه إلا خاصَّة الخاصة.
... إن هذا الخطأ صار من ملاك هذه العربية المعاصرة، وهذا قد أدَّى بنا أو يوشك أن يؤدِّي إلى أن عصرًا جد في تاريخ العربية.
... وهاأنذا أعرض لطائفة من هذه المواد التي درج عليها المعربون، وهي
خطأ إذا ما نظر إليها على وفق ما
تقتضيه العربية.
... إن هذا الخطأ يشتمل على ما هو خاص بالدلالة التي ذهب فيها المعربون إلى شيء آخر يبتعد عن الأصل، كما يشتمل على توليد شيء ليس له موضع في المعجم القديم. على أن الكثير يتصل بخطأ الأبنية.
... ولا أدرج فيما شغلت به الألفاظ التي وُلِّدت لمعانٍ اقتضاها العصر، كما لا أدخل الجديد الذي نقلناه من اللغات الأعجمية، وهو كثير حفلت به لغة الصحف ووسائل الإعلام الأخرى.
... وقد يتساءل المرء: لِمَ استشرى هذا الخطأ حتى صار لغة؟ (*)
... والجواب عن هذا أن الجهل بالعربية يرجع إلى أننا نتعلَّمها تعلُّمًا(188/8)
ولكننا لا نأخذها في المعلم المالك لأدواته. إنه يجهل الكثير من مواد هذه اللغة التي كان ينبغي له أن يعرفها.
... ومن هنا شاع الخطأ، وعم المعدول عن أصله من هذه اللغة حتى غدا الفصيح البعيد عن هذا الذي يدرج به المعربون غريبًا وصاحبه من أهل التفاصح، وكأنه يعيش في غير دنيا الناس.
... ولابد لي من أن أشير إلى أن العربية المعاصرة قد جاء فيها العامي الدارج فشاع استعماله، على أنها في الوقت نفسه قد استبعد فيها الكثير من الفصيح الذي تحوَّل في عصرنا إلى الألسن الدارجة. (*)
... وهاأنذا أبسط في هذا الموجز طائفة من الكلم مما كان لي فيها شيء من نظر، فأبدأ بالأفعال والمصادر ثم الأسماء منسوق كله على حروف المعجم.
1- ابتزاز:
... لابد أن أعرض للمصدر الثلاثي وهو " بَزَّ "، والفعل: بَزَّ يبُزُّ، يقال: بَزَّه ثيابه، أي سلبه إياها. ومثل هذا " ابتَزَّ " الفعل المزيد، يقال: ابتَزَّ الرجل الجارية، أي سَلَبها ثيابَها وجَرَّدها.
أقول: والأصل في الفعل الثلاثي ومصدره هو الاسم، وهو " البَزُّ " بمعنى الثياب، فكأن المصدر " البَزّ " قد وُلِّد من الاسم. وكأن " البِزَّاز " في أصل دلالته هو بائع الثياب، ثم اتُّسِع فيه فدلَّ على بائع النسيج من صوف وقطن وكتان وغيرها.
غير أن " الابتزاز " في العربية المعاصرة شيء آخر بعيد عن الثياب، وسلب الثياب، وليس فيه ما يوحي إلى هذا البعيد. يقال: إن منع الفلسطينيين من دخول ما يسمَّى " إسرائيل " للعمل في المصانع، ضرب من " الابتزاز"، يريدون أن اليهود اتخذوا هذا المنع
وسيلة في مصلحتهم لضرب انتفاضة الشبان والنيل منها.
ويكثر استعمال " الابتزاز " فيما هو قريب من هذا، فهل حوفظ على دلالة هذا المصدر كما هي في أصول العربية؟
إن مثل هذا المولَّد الجديد الذي حفلت به " العربية المعاصرة " هو شيء كثير جعل من هذه العربية لغة جديدة أخرى.
2- اجتَرَح:(188/9)
... الفعل " جَرَح " في بعض دلالاته يعني " الكَسْب "، وجَرَح الشيءَ و" اجتَرَحَه ": كسَبَه. وفي التنزيل: " وهو الذي يتوفَّاكم بالليل ويعلم ما جرحتُم بالنهار ".
وفلان يجرَح لعياله ويجترح، أي يكسب ومثله " يقرِش ويقترش "، وفي التنزيل: " أم حسب الذين اجترحوا السيئات"، أي اكتسبوها.
أقول: وقد يرد الفعل " اجتَرَح" بمعنى سبَّب شكًّا أو ظنًّا في " العربية
المعاصرة "، وهو بعيد عمَّا لنا في عربيتنا التي وردت في لغة التنزيل وغيرها.
إن هذا قد يتأتَّى من تصوُّر خاطئ للدلالة الصحيحة، وأن المُعرب سواء أكان متعلمًا أم غير متعلم لا يجد بل قل لم يشعر بضرورة الرجوع إلى كتب اللغة والمعجمات، ولم يُشعره معلِّمه بهذه الضرورة. إنه يتلقَّى الكلمة مما يسمعه ويقرؤه فينشأ لديه توهُّم خاطئ ويشيع هذا الخطأ حتى يكون من ملاك هذه العربية المعاصرة.
أقول: هذا التوهم الخاطئ هو في اللغة الإنجليزية " verbalism " ، وليس لنا أن نجد لها مقابلاً في العربية فندعوها " ظاهرة اللفظية " (*) .
وقد يكون قريبًا من هذا أن يذهب المعربون في كلمة إلى خصوصية فيها وإبعادها عن العموم. ومن هذا قولهم: هذا الشيء ممتاز، أي جيد.
... إن الذي أكسب " الممتاز " صفة
الجودة هو المُعرب الذي اكتفى من " الممتاز " أي الذي فيه امتياز وميزة، بالجانب الحَسَن، في حين أن "الممتاز" قد يكون ممتازًا بماله في صفة سلبية، وهي غير الحسن والجودة.
3- حَرَّش وتَحَرَّش
... قلت: إن " العربية المعاصرة " قد جاء فيها شيء من الألسن الدارجة حتى خُيِّل لكثير من المعربين أنه من فصيح العربية. ومن هذا قولهم: إن فلانًا يتحرَّش بصاحبه، أي أنه يعمل شيئًا من شأنه أن يلحق الضرر بصاحبه.
أقول: إن استعمال الفعل " يتحرَّش " على هذا النحو من العامية الدارجة، والفصيح من هذا شيء آخر لا يعرفه الكثير من المعاصرين.(188/10)
إن "التحريش" يعني إغراءك الإنسان والأسد ليقع بقِرْنه. و " حرَّشَ " بينهم: أفسد وأغرى بعضهم ببعض.
جاء في " صحاح " الجوهري: التحرش بمعنى الإغراء بين القوم وكذلك بين الكلاب، وكذلك "المحارشة". ومثل " المحارشة " المهارشة " بالهاء، وهي بين الكلاب ونحوها. و" الهراش والاهتراش ": تقاتل الكلاب.
أقول: ويعرض " البدل " بين الحاء والهاء، وذلك لقرب الصوتين الحلقيَّين بعضهما من بعض.
4- تربُّص:
... " التربُّص " مصدر الفعل "تَرَبَّص". وهذا المصدر يرد في عربية الشمال الإفريقي بمعنى أن يتابع الطالب أو الدارس دروسًا نظرية أو تطبيقية خلال مدَّة معيَّنة يجتاز بعدها الامتحان فيحصل على شهادة قد تكون ما يسمَّى بـ " دبلوم ".
إن هذا من غير شك قد أريد به أن يكون المصدر العربي " تربُّص " مقابلاً لما هو “ stage “ في الفرنسية.
أقول: إن هذا مولَّد جديد في هذه العربية الإقليمية، ذلك أن " التربُّص " في فصيح العربية شيء آخر، فالتربُّص هو الانتظار. جاء في كتاب العين: "إن التربُّص بالشيء أن تنتظر به يومًا ما".
... وجاء في لغة التنزيل : " هل تَرَبَّصون بنا إلاََّ إحدى الحُسنَيَين ".
وفي الحديث: " إنما يريد أن يتربَّص بكم الدوائر ". ففي التربُّص مُكث وانتظار.
أقول: كأن إخواننا المغاربة أفادوا هذا المعنى فخصُّوه بالدارس في أَجَلٍ معين يتربَّص الفوز بين جماعة يتسابقون في هذا المضمار.
5- مشاحَّة:
... أقول: هي " مفاعَلة " مصدر الفعل "شاحَّ" بتشديد الحاء وهو " فاعَلَ " والمصدر كذلك بتشديد الحاء. وأصله من المضاعف الثلاثي " شَحَّ ".
... لقد ورد هذا المصدر في العربية المعاصرة " فقيل مثلاً: لا مشاحة في هذا الأمر، ويراد به، لا جدل ولا خلاف فيه .
أقول: وقريب من هذا في فصيح العربية، قولهم: هما يتشاحَّان على، إذا تنازعاه، لا يريد كل واحد منهما أن يفوته.
و" تشاحَّ " الخصمان في الجدل.(188/11)
... غير أن المعاصرين جعلوا هذا المصدر بتخفيف الحاء بعيدًا عن أصله المضاعف الذي جهلوه وفاتهم، فتحوَّل هذا المصدر إلى بناء " مفَعلَة "، وكأنَّ الأصل " شاحَ يشيح "، وهو في الحقيقة بعيد عن هذا. هذه هي العربية المعاصرة التي جهل فيها المعربون أصول الكلم.
6- مُشادَّة:
... أقول: وهذا مصدر آخر نظير "المُشاحَّة" التي مرَّت وبناؤها "المفاعَلة" و " المشادَّة " في فصيح العربية هي " المغالبة "، والفعل " شادَّ " على " فاعَلَ ".
جاء في الحديث: " من يُشادَّ هذا الدِّين يغلِبْه "، أي مَن يقاومه ويكلِّف من العبادة فوق طاقته.
أقول: غير أن " المشادة " خُصَّت بالخُصومة إما في الرأي وإما في العراك الجسدي، يقال: حَدَثت مشادَّة بين الرجلين أو بين الأولاد.
... ثم إن المعاصرين ذهبوا في " المشادة " إلى تخفيف الدال فكأنهم حوَّلوها إلى " مفعَلة "، وعلى هذا صارت كأنها مأخوذة من " شادَ يشيد "، وهذا بعيد عن الصواب (*)
7- تشطيب:
... أقول: ظهر " التشطيب " في استعمال إخواننا المصريين فقالوا: تشطيب الدار أو " الشَّقَّة " بمعنى أن تصل الدار إلى مرحلة الانتهاء من عمارتها إذ يقوم العمَّال فيها على وضع النقاط الكهربائية، وإنجاز الطلاء وضبط مفاتيح الأبواب ونحو هذا.
... إن هذا كله من المولَّد الجديد الذي جئ به من العامية المصرية في لغة أهل العمارة والبناء وضمَّ إلى العربية المعاصرة في مصر وفي غيرها أحيانًا.
... إن الأصل في هذا في فصيح العربية قولهم: شَطَبَ الأديمَ والسنام يشطبهما شطبًا بمعنى قطعهما ...
8- تضامُن:
... أقول: هذا مصدر جديد عُرف في العربية المعاصرة بمعنى " الاتحاد "
فكأنه " الانضمام "، وهذا يعني أن الأصل هو المضاعف " ضمَّ "، فكيف جاء " التضامُن "؟
... إن ظاهرة " التضامن " من الفعل "ضَمِنَ". غير أن الفعل "ضمِن" معناه " كَفَل "، و "الضمين" هو الكفيل . وعلى هذا يكون " التضامن " بمعنى " التكافل ".(188/12)
فكيف تحوَّل إلى معنى " الاتحاد ".؟
أقول: هو " التضامُّ " بتشديد الميم بناء " تفاعُل " مصدر " تَفَاعَلَ "، أي أن الواحد ينضمّ إلى الآخر. وكأنَّ المعربين ثقل عليهم التشديد في الميم فخفَّفوها كما في فعلوا " في " مشاحَّة " و " مشادَّة " فظهرت النون بعد التخفيف ورسمت نونًا " تضامُن " بعد أن كانت نون تنوين لا تكتب بل تلُفظ في " تضامٌّ ".
9- طَرَح:
... أقول: الأصل في هذا الفعل أن يقال: طرح الشيء بمعنى رَمَى به وألقاه.
والطَّرْح: الشيء المطروح لا حاجة لأحد فيه.
وجاء: طَرَح عليه مسألة، أي ألقاها، وهو مثل ما تقدَّم، قال ابن سيده: وأراه مولَّدًا.
وأعود إلى هذا فأجد المعاصرين يقولون: " السؤال يطرح نفسه".
أقول: إنه جديد وصل إليه المعاصرون حين نقلوا الفعل من الفرنسية وهو فيها: “ la question se pose “ ، أي " أن السؤال طَرَح نفسه ".
قد يسأل الدارس: من أين جاءت "نفسه" مع هذا الفعل؟
والجواب أن الحرفين “ se “ قبل الفعل يحوِّلان الفعل من كونه واقعًا متعدِّيًا إلى لازم قاصر مكتفٍ بنفسه، وكأن “ se “ هذه مثل النون في " انكَسَر " التي جلبت معنى " المطاوعة ".
وقد اجتهد الدكتور مصطفى جواد في "المباحث اللغوية في العراق، فعدَّ النون في المطاوع يشير إلى النفس أي أن الشيء ينكسر من نفسه لا أثر في ذلك إلى مَن يفعل الكَسْر. وقد شاع قول المعاصرين هذا دون أن يكون له ما يؤيِّده.
10- يطال:
... قال المعاصرون في صحفهم: " إن الجريمة تُطال الجماعة الفلانية "، أي أن الجماعة الفلانية هي التي ارتكبت الجريمة، وكذلك قولهم: إن التهمة تطال فلانًا، وما يقرب من هذا.
أقول: لم نَرَ شيئًا من هذا في فصيح العربية ولا ما يومئ إليه. إن دلالة الفعل " طال " لا تعني غير ما هو متصل بالطول نقيض القصر، وهو في الناس أو الزمن أو غير هذا وذاك.
ثم إن الفعل هذا في استعمال المعاصرين جاء على بناء المجهول، وليس هو فيما يقولون بالمجهول.(188/13)
... ولا أدري كيف صير إلى هذا الجديد المولَّد؟
11- فَشِلَ:
... أقول: إن " الفشل " في العربية المعاصرة نقيض النجاح، وقد انتهى هذا الفعل إلى هذه الدلالة، فذهب ما كان من معناه في فصيح العربية.
والفعل " فَشِلَ " ومصدره " الفَشَل" معناه كَسِلَ وضعف وتراخى وجَبُن، والوصف " فَشِل ". وفي هذه الدلالة جاء قوله تعالى : " إذ هَمَّت طائفتان منكم أن تفشلا ".
وقوله تعالى: " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكُم". قال الزجاج: أي تجبنوا.
ومثل هذا قول أمير المؤمنين للمؤمنين في إحدى خطبه حين بلغه أن خيلاً لمعاوية وردت الأنبار فقتلوا عاملاً له: يا عجبًا كلَّ العجب عجبًا يميتُ القلبَ ويَشغَل الفهم ويكثر الأحزان من تضافر هؤلاء على باطلهم، وفشلكم عن حقَِّكم ... ".
12- تقنية:
... أقول: و" التقنية " مصدر مولَّد جديد في العربية المعاصرة، وليس للمعاصرين في استعمالهم فعل هذا المصدر، ذلك أن الفعل في " تجربة "
و" تَقدمة " و" تزكية " هو " جَرَّبَ " و" قدَّمَ " و" زكَّى ". وعلى هذا كان ينبغي أن يكون لهم " قنَّى "، ولكنهم تركوه وجهلوه. إنهم أرادوا بـ "التقنية" المصطلح المعروف “ technologia “ . وذهب بعضهم إلى التعريب فقال: " التكنولوجيا " بالألف واللام، وفي الوصف قالوا: الابتكار التكنولوجي.
13- إملاء:
... " الإملاء " مصدر الفعل " أَملَى يُملي " يقال: أملَى المعلِّم على طلاَّبه مادة الدرس، بمعنى : تلا مادة الدرس عليهم ليدوِّنوها في دفاترهم.
أقول: ومن هنا خُصَّ هذا المصدر بدرس خاص في المدارس الابتدائية يعلِّم فيه المعلم تلامذته الكتابة الصحيحة، وفيها رسم الهمزة ومواضعها، ومعرفة ما يكتب بالضاد وما يكتب بالظاء، ومعرفة ما يرسم ألفًا قائمة وما يرسم ألفًا بصورة الياء في المقصور ونحو هذا من خصائص تتصل بحسن الخط.(188/14)
أقول: إن قصر " الإملاء " على هذه الخصوصية أذهب عنه ما كان له في فصيح العربية، وهو ما أشرنا إليه. ومن ذ ... لك كتب " الأمالي " التي أملاها الأوائل على طلابهم نحو "أمالي" أبي علي، و"أمالي" الزجاجي، و"أمالي" الشريف المرتضى وغيرها.
... وقد جعل المتقدمون " الأمالي " جمعًا لـ " إملاء " على التوهّم: ذلك أن المفرد في كثير من الجموع على "أفاعل" هو " فُعْلية " مثل أُمنية وجمعها أمانٍ، وأغنية وجمعها أغانٍ، بالتخفيف والتشديد.
14- مواصفات:
... أقول: هو جمع " مُواصفة "وهذا المفرد في العربية المعاصرة مولَّد جديد احتيج إليه ليقابلوا به المصطلح الأعجمي في مسألة ما سموه " ضبط الجودة " في الموادِّ المصنوعة و" المصنَّعة ". وللمواصفات مؤسسات إقليمية ودولية تنشر ما تتوصل
إليه في ضبطها، ولهم في هذا معجمات كبيرة نجد فيها الخصائص مما يتبعون فيه " التقييس ". (*)
وأتحوَّل بعد هذا إلى أبنية أخرى هي نعوت وصفات وجموع وغيرها أدرجها على حروف المعجم أكمل بها هذا الموجز ودونكها:
1- مُباع:
... أقول: " المباع " قد يغلب " المبيع " في لغة المعربين فيما يقولون ويكتبون، فأنت تجده في " الإعلانات " كما تجده فيما تنشره الصحف.
... إنه خطأ لغوي سببه جهل المعربين بمسائل الصرف، فكأن المعرب يشعر أن " المباع " هو اسم المفعول، وهو لا يشعر حقيقة هذه
الصيغة في " المبيع " (1) .
... إن " المبيع " مثل " المدين " بناء بعيد عن تصوُّر كثير من المعربين لحقيقته. ومن هنا ذهبوا إلى ما هو " مفعول " فقالوا: " مُباع " كما قالوا: " مديون ".
لم يفطن المعرب البعيد عن الوعي اللغوي أن " المباع " فعله " أباع "، و" أباعَ " غير " باعَ " لأنه يريد "البيع"، ولم يُرد " أباعَ " التي تعني " عرض الشيء للبيع ".
وهذا الفعل المزيد، وهو " أباعَ " لا نعرفه في العربية المعاصرة .
2- ثقاة:(188/15)
... أقول: رسمت تاء الكلمة تاء معقودة لأشير إلى الخطأ في فهم المعرب لهذا الجمع. لقد عدَّ المعربون، وهم كثيرون، " الثقاة " مثل " الدُّعاة "
و " القُضاة " وكأن " الثقاة " جمع تكسير، وهم لا يفكرون في مفرد هذا الجمع. ولكننا نأتي إلى هذا التوهم الخاطئ فنقول: إذا كان " الدعاة " و " القضاة " جمعي " داعٍ " و" قاضٍ "، يكون " الثقاة " جمع " ثاقٍ "، وهذا المفرد لا نعرفه في العربية.
وعلى هذا فالمعربون مخطئون في هذا الجمع لأن الصواب " ثقات " بالتاء الطويلة، وهو جمع بالألف والتاء مثل " فئة " وجمعها "فئات"، وواحده " ثقة ".
وأهل الصرف يضمون الدال والقاف في " دُعاة " و " قُضاة " لأنه بناء تكسير وهو " فُعَلة " (2).
3- مجرِّب:
... أقول: شاع " المجرِّب " بزنة اسم الفاعل في العربية المعاصرة، ويريدون به صاحب التجربة أي كأنه
موطن ثقة .
4- حداثوي:
... أقول: استعمل النسب على هذا النحو لدى المعاصرين المعنيِّين بـ " الحداثة " فقالوا مثلا: " الرؤية الحداثوية ". إن ذهابهم إلى هذا والإتيان بالواو التي لا وجوب لها في هذه الكلمة الصحيحة في الأصل، وهي " الحداثة " ليشير إلى أنهم يسعون إلى مخالفة المتَّفق عليه مما جرت به العربية، وليقولوا: هذا شيء من ملاك " الحداثة " التي هي، كما قال رجالها من الغربيين، انقطاع معرفي. إن هذا " الانقطاع " يفهم منه كما أرادوا انقطاع عن الموروث.
وأضيف هنا مثل هذا: "بنيوي" (1) و "لسانوي" و "علموي" و "نهضوي ". وهذا كله مخالف للمشهور المعروف
في النسب إلى " لسان " و" علم " و" نهضة ".
5- حياتي وحياتية:(188/16)
أقول: وهذا شيء آخر في النسب على الخطأ، فالأصل هو " حياة " وقد جرى المعربون في هذا العصر والعصور التي سلفت على ما جرت به العربية. إن الكلمة ذات ألف تليها علامة التأنيث، وهي ثلاثية، والألف، وهي ثالثة، تُرَدُّ إلى أصلها وهو الواو عند النسب، ثم تأتي ياء النسبة المشدَّدة فيقال: حَيَويّ وحَيَويَّة.
غير أن المعاصرين يجهلون هذا، وكثير منهم يذهب إلى هذا الخطأ، وإن نُبِّه عليه فيقول: الضرورات الحياتية، وكنا نقول حتى زمان قريب: الضرورات الحيوية .(2)
6- مُدان:
... أقول: يقول كثيرون " المُدان " ويريدون " المَدين " مثل المبيع، وهم لا يعلمون أن " المُدان " من الفعل " أدان " وليس من الثلاثي " دانَ " الذي يفيد " الدَّيْن ".
والفعل "أدانَ" في استعمال المعاصرين غير الذي هو في فصيح العربية، يقول المعاصرون: أدان القانون جميع الذين خرجوا عليه، بمعنى أخذهم ونَسب إليهم الخروج عليه.
والذي في فصيح العربية هو قولهم : أدان الرجلُ، إذا صار له دَيْن على الناس. وقال ابن سيده: أدان فلان الناس، بمعنى أعطاهم الدين وأقرضهم.
وقد يقولون: مُدين، بضم الميم ويريدون به من تحمَّل الدين، وهو " المدين". إنهم يرتكبون الخطأ، ولا يستعملون الصحيح الذي يبعدهم عنه، وهو " مديون " زنة مفعول، ويظنُّون أن " المديون " عاميّ دارج مع أنه لغة تميمية .
غير أنهم ولَّدوا المصدر الصناعي من " مديون " فقالوا مثلا : " المديونية " للحكومة الروسية تُقدَّر بعدة مليارات من الدولارات .
7- رؤوم :
... أقول: لابد أن نعرف أن " الرَّأْم" هو الولد، هو البَوُّ(*) . ورئمت الناقة ولدها ترأَمه رَأْمًا ورَأمانًا، أي عطفت عليه ولزمته، والناقة رؤوم ورائمة.
أقول: وذهب هذا كله وبقيت " الرَّؤوم " في ترسُّل المتأدِّبين من المعاصرين نعتًا للأمّ الحنون، وليس للناقة.(188/17)
ولما كانت " الرؤوم " خاصة بالناقة كانت كسائر النعوت الخاصة بالمؤنث من الإنسان والحيوان عارية من علامة التأنيث.
ومن هنا نجد: الحامل والطالق والعانس، والثيِّب والعوان بغير هاء للتأنيث، وكذلك الصاهل والسابق نعتًا للمذكر والمؤنث في الخيل، والشاحج نعت للبغل، والعامل لكل دابة تعمل في الأرض.
8- مُسْبَق، مُسَبَّق:
... قلت غير مرَّة أن المعاصرين يتصدون للكتابة والكلام ببضاعة مزجاة
من الفهم اللغوي، إنهم يقولون مثلاً: استعدَّ الرجل مُسْبَقًا أو مسبَّقًا بالنصب على الظرفية.
ولا يهمهم ألا يوجد في فصيح العربية الفعل " أسبَقَ " أو " سبَّق ".
9- مُشاد:
... لعل المتفاصحين يقولون مثلاً: هيكل البناء المُشاد، وهم في هذا التفاصح قد تجاوزوا الصواب، ذلك أن الفعل " أشاد " الذي كان منه اسم المفعول " المشاد " لا يعني البناء أو إقامة البناء، لأن الثلاثي " شاد " هو الصحيح. وكأنهم ظنوا أن " المشيَّد " غير فصيح.
10- مَشين:
... أقول: و " المَشين " هو اسم المفعول للفعل "شانَ يشين" مثل "مَبيع". وقد قلت: إن الكثير من المعربين قد فقدوا الكثير من العربية فذهبوا إلى الخطأ. ومن أجل ذلك نراهم يقولون: " مُشين " بضم الميم، فجعلوا اسم المفعول، وهو الصواب، اسم فاعل.
11- المُصان:
... وقولهم مثلاً " الدرُّ المصان " وقول أحدهم في كتابٍ له " الكنز المصان"، من الكلم المعدول عن جهته، لأن "المصان" اسم مفعول فعله "أصانَ " وليس في العربية هذا الفعل.
والصواب : "المصون" وهو اسم مفعول فعله "صانَ" الثلاثي مثل "مَقول".
وهذا مثل " المُشاد " الذي تقدَّم الكلام عليه.
وعجيب أن يبلغ التوهُّم الخاطئ بالمعربين في استعمال " المصون " إذ يقولون: " السيدة المصون "، وكأنهم جعلوا " المصون " من النعوت على وزن " فَعول " كالرؤوم والبتول وغيرهما.
12- العجوز:(188/18)
... قالوا في فصيح العربية: العَجوز والعُجوزة من النساء: الشيخة الهِرَمة، والأخيرة أي العجوزة قليلة، والجمع : عُجُز وعُجْز وعجائز.
أقول: وقد جعل المعاصرون "العجوز" صفة للرجل المسنِّ العاجز أيضًا، وقد صرفوا " العجوزة " للشيخة الهرمة، وهذا مولَّد جديد لا نعرفه في فصيح العربية.
ثم إن المعاصرين يجهلون أن جموع " العجوز " التي ذكرناها هي أبنية لما هو مؤنث، فكيف نقول للشيوخ " عجائز" ؟(1)
13- العروس:
... أقول: و " العروس " في فصيح العربية نعت يستوي فيه الرجل والمرأة. وفي " صحاح" الجوهري: إن العروس المرأة والرجل ماداما في إعراسهما.
ويقال: رجل عروس ورجال أعراس وعُرُس، وامرأة عروس في نسوة عرائس.
وفي المثل: كاد العروس يكون أميرًا.
أقول: وقد خصَّ المعاصرون "العروس"
بالمرأة، وربما قالوا: " العروسة " للإشعار بالتأنيث. ومن أجل هذا قالوا للرجل المعرس: عَريس(2). وهذا كله مولَّد جديد عُرف في العربية المعاصرة.
14- عشوائي:
... يقال: ترتيب عشوائي، وخطة عشوائية، وربما جعلوا " العشوائية " مصدرًا صناعيًّا نحو المحسوبية والنسبية وغيرهما.
أقول: درج المعاصرون على استعمال العشوائي والعشوائية يريدون بهما وصفًا لعمل يكون أو يُنجَز كيفما اتُّفق له على غير نظام، ولم يسبقه نظر وإعداد.
وهذا الوصف من أصل " العشواء " وهي صفة للناقة التي لا تبصر بوضوح خلال الليل والنهار. وليست العشواء خاصة بالناقة، ولكن المعاصرين قد أتتهم من بيت زهير في مطوَّلته إذ قال:
رأيتُ المنايا خَبْطَ عشواء من تُصِبْ
تُمِتْه ومن تُخطئْ يُعَمَّر فيَهرَم
إن "العَشْواء" مؤنث الأعشى. والمصدر هو " العَشَا " والفعل عَشَا يعشو، وعَشِيَ يعشى. وهذا يكون في الناس والدواب والإبل والطير.
لقد خفي كل هذا عن المعاصرين وولَّدوا هذه الدلالة من " العشواء " وهي صفة الناقة التي أشير إليها في قول الشاعر زهير بن أبي سلمى.(188/19)
وقد توسع المعاصرون بهذا التوليد فكان لهم " الغوغائية " مأخوذة من " الغَوغاء ". والأصل في "الغوغاء" الجراد حين يخف للطيران، ثم استعير للسِّفلة من الناس، والمتسرعين إلى الشر.
وقالوا: ويجوز أن يكون من "الغوغاء" وهي الصوت والجلبة .
أقول: والذهاب إلى دلالة الصوت والجلبة من النظر الصائب، ألا ترى أن " الوغى " بمعنى الحرب كان حكاية
للأصوات التي تكون في الحرب، وهي قعقعة السلاح ونحوها .
15- مَعيب:
... أقول: " المَعيب " مثل المَبيع والمَشيد والمَشين، اسم مفعول من "عابَ" . غير أن قلة بضاعة المعربين اللغوية وفطنتهم إلى الأبنية أدَّت إلى أن يصبح اسم المفعول هذا اسمَ فاعل، بضمّ الميم، " مُعيب ". ومن أجل ذلك يرد في كلام المعاصرين : " الصفات المُعيبة " وهي " المَعيبة ".
16- المُعاش:
... نسمع من يقول: "الواقع المُعاش" وفي ظنه أن " المعاش " اسم مفعول لأنه لا يعرف الصيغة الصائبة وهي " المَعيش " بفتح الميم.
... ثم إن هذا المتكلم أو الكاتب لا يعرف أن " المُعاش " فعله " أعاش " وهو يريد العيش، وليس في العربية هذا الفعل المزيد، وأن الفعل " عاش " لازم لا يأتي منه اسم المفعول. (*)
والسبب في هذا التجاوز أن المعربين أحيانًا ينظرون إلى ما يقرؤونه في اللغات الغربية فوجدوا شيئا من هذا في الفرنسية في الفعل“ vivre “ الذي يتعدَّى في هذه اللغة.
17- فَخور:
... أقول: هو " فَعول " من الفخر، ومعناه معروف، ويجمع على " فُخُر " ذلك أن ما ورد على هذا الوزن لا يجمع بالواو والنون. غير أن هذا مما جهله المعاصرون، فهم يقولون مثلاً: " نحن فخورون بما حقَّقنا ".
وأنت تجد هذا في لغة التنزيل، وشاهدنا " الرُّسُل " التي مرت في آيات كثيرة، ولم يرد جمع للرسول بالواو والنون والياء والنون.
ومثل هذا " الزُّبُر " جمع زبَور، قال تعالى: " وكل شيء فعلوه بالزُّبُر ".
وجمع " فَعيل " كذلك " فُعُل "، قال تعالى: " كذَّبت ثَمودُ بالنَّذُر ".(188/20)
وقد يأتي ما كان على فعيل مجموعًا على غير هذا الوزن نحو : كريم كُرَماء وكرام .
وقال تعالى :" رّبنا إنّا أطعنا سادتنا وكُبَراءنا فأضلُّونا السبيلا " فلم يأت جمع "كريم" و " كبير " بالواو والنون.
أقول: هذه دقائق جهلها المعربون في العربية المعاصرة.
18- الفارط:
... هذا وصف نجده في عربية أهل إفريقية، فأنت تجد في الصحيفة التونسية أو المغربية قول صاحب الصحيفة: كان الأمر ميسورًا في الشهر الفارط أو العام الفارط، يراد بذلك الشهر المنصرم أو العام المنصرم.
أقول: ليس في هذا تجاوز، وهو صحيح إلا أنه غريب في عربية كثر فيها التجاوز والخطأ، ولا سيما في بلدان إفريقية الشمالية.
أقول أيضًا: ومثل هذا قول المعربين في كثير من البلاد: " على الرُّغم من المخاوف استطعنا إنجاز العمل ". بضمِّ الراء من " رُغم ". لقد جدَّ هذا منذ سنوات، والذي اندفع إلى هذا ربَّما وجده في نصٍّ مكتوب، ولكنه لم يتعود الرجوع إلى المعجم القديم، وليس للمتعلمين من العرب هذه العادة لأنهم عرفوا لغتهم في كتبهم وصحفهم فكان من ذلك ما كان.
لو أن هذا المعرب رجع إلى المعجم لوجد أن " الرغم " من المثلَّث في العربية فهو بفتح الراء وكسرها وضمِّها، وكلها جيد (*).
19- مهيب:
... أقول ورد هذا الوصف في لغة المعاصرين في قولهم مثلاً: " حدث هذا في احتفالٍ مُهيب " بضمِّ الميم من " مهيب "، وهو " مَهيب " بفتح الميم لأنه بمعنى " مهيُوب " من " الهيبة ".
والمعربون لا يعرفون " المهيب " بضم الميم فعله " أهاب "، وهذا الفعل لا يتصل بالهيبة في المعنى.
يقال: أهاب الرجل بأصحابه أي دعاهم إلى أمر يحز بهم.
... وقد تسمع من يقول: أن الرجل مُهاب، وهو يريد الهيبة، وفي هذا
هو الجهل الذي بسطنا حقيقة الأمر فيه.
20- مهين:
... يقول المعاصرون: هذا الشيء مُهين، ولا يريدون أن في الأمر إهانة، بل إنهم يرمون إلى الهوان والمهانة، وشتَّان ما بينهما.(188/21)
وعلى هذا فالصواب هو " مَهين " بفتح الميم، وفي الحديث: ليس بالجافي ولا المَهين.
وقال تعالى: " ولا تُطع كلَّ حلاَّفٍ مَهين ".
21- المواطن:
أقول: "المواطن" من المولَّد الجديد، والذي أشار إليه أولو العلم أن الأب أنستاس ماري الكرملي هو الذي كان ممتَحنًا بأن يكون في العربية من الكلم المفيد الذي يقابل نظيره في لغات الغرب. لقد وقف الكرملي على ما في الفرنسية من "patriote"و compatriote، فرأى أن الضرورة تقتضي أن يكون
لنا مقابل للكلمة الثانية فاجتهد في العربية، وهو ينظر إلى الأصل الفرنسي patrie وتعني " وَطَن " فذهب به اجتهاده إلى " المواطن"، ومن ثم شاع وتهيَّأت له سيرورة واسعة.
إضافة أخيرة:
وقد أختم هذا الموجز ببعض ألفاظ ذهب فيها المعربون إلى غير ما هو لها من دلالة ومعنى، وخصُّوها بخصوصية أصبحت شائعة، وبهذا نسي ما كان لها، ومن هذه: البسيط: وأصله المبسوط، أي ما بُسط. والبسيطة: الأرض العريضة الواسعة. ولكن المعارضين ذهبوا بهذا الوصف إلى ما هو أمر هيِّن غير معقَّد ولا صعب. وهم في هذا جروا على استعارة " السهل "، وأصله للأرض، لما هو غير صعب.
ومن هذا " الرهيب"، وهو في إعراب المعاصرين " المخيف " الذي يخشى للرعب الذي فيه.
أقول: إنه مما ولَّده المعاصرون على " فعيل " وكتبت له السيرورة فشاع وصار من العامي الدارج.
ومن هذا " الرائع " الذي يروعك أي يفزعك من الرَّوع، وفي هذا سعة من الدلالة، ومن هذا فَرَس رائع وامرأة رائعة، والوصف متصل بعتق الفرس، وجمال المرأة.
وفي هذا الأصل معان أخرى غير ما أثبتناه مما يتصل بالفزع والحسن.
غير أن المعاصرين قد خصُّوا "الرائع" بالحسن والجمال.
ومن هذا وصفهم الشيء بـ " فظيع " أي أنه لا يطاق كالبرد والحر، وقد يقال: هو فظيع في سلوكه كنجله وحرصه ولؤمه وغير هذا. والرجل فظيع إذا كان قاسيًا ظالمًا .(188/22)
أقول: قد نجد لهذا مسوغًا ذلك أن " الفظيع " هو الذي يفظُع أي يشتد ويشنُع ويتجاوز المقدار.
ومن هذا وصفهم الشيء بـ " هائل " بعيدًا عن " الهَوْل " الذي هو الرُّعب والفَزَع والاضطراب فقد تسمع من يقول: الأسعار هائلة، يريد بها أنها عالية، وقد يعكسون الأمر فيريدون أنها انخفضت كثيرًا.
وقد يقال للشيء يتجاوز المقدار في صفته وجودته ورداءته: إنه هائل.
أقول: هذا وغيره يشير إلى أننا لم نُعنَ بالمسألة اللغوية فنتعلَّمها ونحسن التعلم فيكون لنا منها زاد مفيد.
إنك لتجد المعربين أحيانًا يستعيرون اللفظ الدارج ويحسبونه فصيحًا، فأنت تجد في مجلات مصر مثلاً من يقول: كان الأولاد " شِلةً " بالشين، وأصلها بالثاء " ثُلَّة ".
وقد يحسبون المصايد والمصاير والكِفاية ( أي القدرة ) خطأً فيقولون: المصائد والمصائر والكفاءة، ولم يدركوا الصحيح وما قيل في هذه الياء التي أبدلوا بها همزة، وهذه الكلمات
بالياء لا الهمزة.
ولم يفيدوا من قراءتهم من قوله تعالى: " ولقد مكنَّاكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش ".
وأنت تجد أنهم يجمعون الكلمة كما يبدو لهم من غير اكتراث بما هو مسموع في العربية، فأهل الاقتصاد يقولون "الأكلاف" جمعًا لما هو " كُلفة أو تكلفة ".
أقول: لم أرد وأنا أكتب هذا الموجز، أن استوفي ما يكون من هذا مما يتصل بالتجاوز الذي عرض للعربية المعاصرة، وقد يكون في هذا الذي بسطته تنبيه وفائدة.
إبراهيم السامرائي
عضو المجمع من العراق(188/23)
الثقافة الدينية في الأندلس
في عصر عبد الرحمن الناصر(*)
( 300 – 350/ 912 – 961 )
للأستاذ الدكتور محمود علي مكي
... بعد النهضة الحضارية والثقافية التي بلغتها الأندلس خلال حكم الأميرين عبد الرحمن بن الحكم الأوسط وابنه الأمير محمد (206 –237) إذا بالبلاد تتعرض لانتكاسة شديدة تفاقمت في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري على عهد الأمير عبد الله بن محمد ( 275–300/ 888-912)، إذ انتشرت الاضطرابات والثورات، وضعفت السلطة المركزية واجتاحت البلاد فتن كثيرة أدت إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية بشكل هدد الإمارة الأموية كلها بالانهيار .
على أن ولاية عبد الرحمن بن محمد حفيد الأمير عبد الله في مستهل القرن الرابع كانت مؤذنة بعهد جديد. فقد استطاع هذا الأمير الشاب أن يقضي
على الثورات والفتن، ويعيد للدولة هيبتها، وينشر جوًّا من السلام والأمن، فعادت الرعية إلى مباشرة أنشطتها المعتادة، وانتظمت حياتها الاقتصادية، وكان لذلك أثره في الحياة الثقافية والفكرية. ولم تمض على ولاية عبد الرحمن الإمارة ست عشرة سنة حتى رأى نفسه جديرًا بأن يطالب بإمرة المؤمنين، أي بأن يصبح الزعيم الروحي والسياسي لعالم الإسلام كله، وذلك في مواجهة الخلافة العباسية في بغداد، وكانت قد تدهورت ولم يعد للخليفة من السلطة إلا ظاهرها الشكلي، وفي مواجهة الخلافة الشيعية في الشمال الأفريقي، وكانت قد أعلنت في القيروان في سنة 296/909، وهي خلافة كان أهل السنة من المسلمين
يعدونها بدعة ضالة خارجة على الإسلام الصحيح.(189/1)
... كان إعلان عبد الرحمن بن محمد نفسه خليفة وأميرًا للمؤمنين متخذًا لقب " الناصر لدين الله" في سنة 316/929 تحولاً خطيرًا في حياة الأندلس الإسلامية، وقد ألقى ذلك على كاهل الدولة ورعاياها تبعة ثقيلة، إذ كان على الأندلس أن تثبت في ميدان التنافس مع بلاد المشرق والشمال الأفريقي لا في الميدان السياسي والعسكري فحسب، بل كذلك في ميدان الثقافة بألوانها المختلفة، وفي الفكر الديني بصفة خاصة، ومن هذا المنطلق أخذت الدولة - في سياسة تتسم بالذكاء والتفتح - بتشجيع كل ألوان الثقافة ورعايتها، وإطلاق مزيد من الحرية للمثقفين، وكان الخليفة نفسه عبد الرحمن الناصر لدين الله ـ على اشتغاله بتصريف أمور الدولة وتهممه بمصالح رعيته ـ على درجة رفيعة من الثقافة أهلته لها نشأته وتربيته، وأعانه على ذلك ابنه وولي عهده الحكم (الذي خلفه بلقب المستنصر بالله)، إذ كان بمثابة وزير للثقافة في ظله، راعيًا للمؤلفين ومستجلبًا للعلماء في كل فروع المعرفة، وقد اشتهر ذكر خزانته الحافلة التي كانت تضم مئات الآلاف من الكتب.
... وسوف نعرض في الصفحات التالية على حد الاختصار ألوان الثقافة الدينية، ورصد منجزاتها في مختلف الميادين خلال حكم عبد الرحمن الناصر الذي امتد على طول النصف الأول من القرن الرابع الهجري:
1-الدراسات القرآنية: ...(189/2)
... كان التثبت من تلاوة نص القرآن الكريم من أول ما اهتم به مسلمو الأندلس، ونحن نعرف أنه قد وجدت منذ البداية قراءات متعددة للنص القرآني لا تؤثر على جوهره، وإنما تتعلق بضبط بعض الألفاظ والأداء الصوتي لها، وأهم هذه القراءات سبع متفق على تواترها. وكما اتجه الأندلسيون منذ البداية إلى مذهب مالك إمام المدينة لكي يستمدوا منه ثقافتهم الفقهية فإنهم فعلوا مثل ذلك فيما يتصل بالقراءات القرآنية، إذ اختاروا قراءة نافع بن أبي نعيم (ت 169/785)، وهو قارئ أهل المدينة(1). وكان الغازي بن قيس القرطبي (ت 199/815) هو أول من أدخل قراءته إلى الأندلس(2) . وتأصلت هذه القراءة في البلاد منذ ذلك الوقت، وساهم في نشرها ابن الغازي بن قيس هو عبد الله ( ت230/ 845)(3). على أن القراءة التي ذاعت في الأندلس بعد ذلك كانت تلك التي قرأها واحد من أشهر تلاميذ نافع وهو عثمان بن سعيد المصري القبطي المعروف بورش(4) (ت197/813 )، وكان محمد بن عبد الله الأندلسي قد رحل إلى مصر ، فأخذ عن ورش قراءته، وحينما عاد إلى
بلاده جعله الأمير الحكم بن هشام مؤدبًا
لبعض أبنائه ، وكانت وفاة محمد هذا في سنة 230/845 (5). وقد ظلت قراءة ورش عن نافع هي السائدة في الأندلس حتى نهاية الإسلام في هذه البلاد . بل إن الأندلسيين هم الذين نشروها في إفريقية : يذكر ابن الفرضي والمقري في ترجمة محمد بن محمد بن خيرون (ت306/919) أنه رحل إلى مصر، فأخذ بها قراءة ورش عن نافع ثم استقر في القيروان، فنشر بها هذه القراءة، وكان الغالب على أهلها من قبل بحرف حمزة بن حبيب الزيات (80 ـ 156/699 ـ 773) أحد أئمة أهل الكوفة، ولم يكن يقرأ بحرف نافع إلا الخواص، فانتقل القيروانيون بفضله إلى قراءة نافع(6). ومن الأندلسيين من أوصلوا قراءة(189/3)
ورش إلى أقصى بلاد المشرق، ونعنى به أبا عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الأعلى القرطبي، وهو مقرئ كان يعرف بالورشي نسبة إلى قراءة ورش لاشتهاره بها،ويذكر عنه أنه رحل إلى المشرق، فدخل خراسان، وتوفي بسجستان سنة 393/1003(1). وفى أواخر أيام عبد الرحمن الناصر عرفت بعض الكتب المشرقية في القراءات، إذ دخل الأندلس في سنة 341/952 أبو بكر أحمد بن الفضل الدينوري الذي كان تلميذًا لأبي بكر ابن مجاهد صاحب كتاب " السبعة في القراءات ". وقد ظل هذا العالم المشرقي يدرس في قرطبة حتى وفاته سنة 349/960(2). ويواصل الحكم المستنصر الذي خلف أباه على حكم الأندلس ( بين سنتي 350 و366/961 - 976 ) الاهتمام
باستدعاء العلماء المشارقة المتخصصين في هذا الفرع من العلوم القرآنية، ففي سنة 352/963 يدخل الأندلس أبو الحسن على بن محمد بن إسماعيل الأنطاكى، فيكرم الخليفة نزله، وكان رأسًا في علم القراءات لا يتقدمه أحد في معرفتها في وقته . وإلى أبي الحسن الأنطاكي يرجع الفضل في توجيه الأندلسيين إلى العناية بالقراءات(3). وكانت له مدرسة يدرب فيها شباب الطلاب على تجويد القراءات، وكان الحكم المستنصر يتفقد هذه المدرسة بنفسه، ومن بين تلاميذه في هذه المدرسة كان خلف بن حسين الذي أصبح كاتب المنصور بن أبي عامر ووزيره، وهو والد مؤرخ الأندلس الكبير أبي مروان ابن حيان(4). وقد كانت وفاة الأنطاكي في
سنة 377/987. ودخل بعده إلى الأندلس علي بن شيبان الدقاق البغدادي في نحو سنة 375/985 ، وهو أيضًا من تلاميذ أبي بكر بن مجاهد (1) .(189/4)
... والذي نلاحظه هو أننا لا نجد للأندلسيين خلال النصف الأول من القرن الرابع نشاطًا كبيرًا في ميدان التأليف الأصيل في القراءات، غير أن ما دخل إلى الأندلس من كتب القراءات المشرقية وما بذله العلماء الوافدون من جهود لم يلبث أن آتى أكله خلال النصف الثاني من هذا القرن وأوائل القرن الخامس، ويمثل هذا النضج المقرئ الكبير أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني (370 -444/981 -1053) صاحب كتابي " التيسير" و"المقنع"(2)، وهو الذي يذكر عنه ابن خلدون أنه بلغ الغاية في معرفة
القراءات، وتعددت تآليفه فيها، وأصبحت كتبه عماد الدارسين لا فى الأندلس والمغرب فقط، بل كذلك فى بلاد المشرق (3) .
التفسير والدراسات القرآنية:
... اهتم الأندلسيون منذ فترة مبكرة بتفسير القرآن الكريم، حتى إننا نجد مؤلفًا أصيلاً في هذا الميدان في أيام عبد الرحمن الداخل، ولما يمض على فتح الأندلس إلا ما يزيد قليلاً على نصف قرن. ونعني بهذا المُؤَلَّف التفسير الذي وضعه أبو موسى عبد الرحمن بن موسى الهواري الإستجى(4) في منتصف القرن الثاني الهجري، وهو تفسير ظل يتدارس حتى أواخر القرن الرابع، فقد رواه عن مؤلفه في بلده مسيب بن سليمان، وعنه ميكايل بن هارون الإستجى(5). وأهم
من هذه الرواية تلك التى حملها الفقيه العتبي(ت255/868) وعنه محمد بن عمر بن لبابة (ت314/925)(1) . وقد نص ابن الفرضي على أنه رأى بعض هذا التفسير.
... وخلال القرن الثالث الهجري يؤلف بقيُّ بن مخلد القرطبي (ت276/887) تفسيره الكبير الذي فضله ابن حزم على كل ما أُلِّف من تفاسير في الشرق والغرب، بما في ذلك تفسير الطبري(2) ويظهر أن إعجاب الأجيال التالية بتفسير بَقيٍّ جعل الأندلسيين يحجمون خلال النصف الأول من القرن الرابع عن التأليف في التفسير، فنحن نلاحظ أن جهود الأندلسيين في علوم القرآن قد اقتصرت(189/5)
على رواية ما كان معروفًا لديهم من كتب التفسير سواء منها المشرقية أو الأندلسية، ومن تلك التفاسير المشرقية:
- التفسير المنسوب للصحابي ابن عباس: رواه بالمشرق أبو زيد عبد الرحمن ابن سعيد الجزيرى ( ت 265 / 878 )، ورواه عنه الفقيه يحيى بن زكريا بن مطر القرطبي ( ت 315/926) واستمرت روايته طوال القرن الرابع، إذ كان يحدث به محمد بن سعدون الباجي (ت 392/1002) (3)
- تفسير عبد الله بن نافع المدني(4)
- تفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم(5)
- تفسير يحيى بن سلام القيرواني(6)
وكان يقوم برواية هذه التفاسير الثلاثة أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن يحيى الليثي أخو محمد قاضي الجماعة بقرطبة، ويشير ابن الفرضي إلى حفول مجلسه بقرطبة ويقول إن الخليفة هشامًا المؤيد ابن الحكم المستنصر كان يحضر مجلسه ويسمع منه. وتوفي أبو عيسى في 367/977 (1) .
ـ تفسير المحدث عبد الرزاق ابن همام الصنعاني(2)، وكان قد رواه في المشرق محمد بن عبد السلام الخشني (ت286/899)، وعنه رواه أحمد بن خالد ابن الحبَّاب (ت 322/934). وروايته لهذا التفسير هي التي ظلت منتشرة في الأندلس حتى القرن السادس بشهادة ابن خير الإشبيلي (3).
ـ تفسير الحسن البصري، ومن المعروف أن الحسن كان شيخًا لواصل ابن عطاء الذي يعد مؤسس المذهب الاعتزالي بمنهجه العقلي الصارم، وهذا هو ما جعل حاملي روايته هم الذين مالوا إلى هذا المذهب (4)، وأولهم خليل ابن عبد الملك المعروف بخليل الغفلة الذي كان لا يتستر بمذهبه، ولهذا أخرجت كتبه بعد وفاته وأحرقت بالنار. وكانت روايته لتفسير الحسن البصري عن طريق عمرو بن فائد(5). وعن خليل روى هذا التفسير مفكر معتزلي آخر هو يحيى بن يحيى القرطبي المعروف بابن السمينة (ت315/927) (6)
* ... * ... *
ويلحق بالتفسير ألوان من
الموضوعات المتصلة بالقرآن الكريم نذكر منها ثلاثة:(189/6)
أولها موضوع:" فضائل القرآن" وكان من أول من كتبوا فيه في المشرق اللغوي المعروف أبو عبيد القاسم بن سلاَّم (ت224) الذي ألف كتابًا بهذا العنوان كان للأندلسيين عناية كبيرة به، فكان من أول من أدخله إلى الأندلس أحمد بن خالد بن يزيد المعروف بابن الحبَّاب (ت322/934)(1)، وكان قد رحل إلى المشرق فسمع هذا الكتاب على عليّ بن عبد العزيز كاتب أبي عبيد ورواه عنه عن مؤلفه. وعن ابن الحباب أخذه سعيد بن أحمد بن عبد ربه، وهو ابن أخي أحمد ابن عبد ربه صاحب كتاب العقد الفريد (ت 356/966)(2) ولابن سلام أيضًا كتاب " شواهد القرآن" رواه
محمد بن عيسى بن رفاعة الخولاني الرَّيِّي (ت337/949) عن علي بن عبد العزيز عن مؤلفه(3).وقد اتخذ بعض الأندلسيين من كتب أبي عبيد نموذجًا يحتذى، إذ ألف يحيى بن إبراهيم ابن مزين (ت259/873) كتابًا بعنوان " فضائل القرآن" كان من رواته بن فطيس الغافقي الإلبيري ( ت319/931)(4) .
والموضوع الثاني هو الذي يتناول "أحكام القرآن"، أي ما يستنبط من الأحكام الفقهية من كتاب الله، وكان النموذج المحتذى في هذا الموضوع هو كتاب القاضي إسماعيل بن إسحاق الذي يحمل العنوان المذكور، وهو كتاب يصفه ابن فرحون بأنه " لم يسبق إلى مثله "(5). وكان أول من أدخله الأندلس الفقيه المحدث أحمد بن دحيم بن خليل
قاضى طليطلة (ت 338/950) الذي رواه عن إبراهيم بن حماد وهو ابن أخي القاضي إسماعيل مؤلفه(1). وعن أحمد بن دحيم أخذ هذا الكتاب علمان من أعلام الثقافة الأندلسية: قاضي الجماعة محمد بن إسحاق بن السليم (ت 367/977)، والفقيه عبيد الله بن الوليد المُعَيْطي (ت378/988) أحد كبار الفقهاء المشاورين (2).وذكر ابن الفرضي وابن خير الإشبيلي روايات أخرى لهذا الكتاب مشرقية وأندلسية كانت منتشرة فى الأندلس فى أيامهما(3).(189/7)
وقد قام الفقيه المصري بكر بن العلاء القشيري ( ت344/955 ) باختصار لكتاب "أحكام القرآن" للقاضي إسماعيل(4). وقُدِّر لهذا المختصر أيضًا
قبول كبير بين الأندلسيين، فقد رواه بمصر عن مؤلفه أبو جعفر أحمد بن عوض الله القرطبي (ت 378/988)(5) كما رواه محمد بن إبراهيم الخشني الطليطلي (ت 400/1010) وأقرأه ببلده(6). وذكر ابن خير له روايات أخرى متأخرة.
وسارع الأندلسيون بتأليف كتب تحمل عنوان " أحكام القرآن " على نهج كتاب القاضي إسماعيل. ونعرف من هذه الكتب فى عصر عبد الرحمن الناصر ثلاثة ظلت تتدارس في العصور التالية، وكانت من بين ما افتخر به ابن حزم الظاهري وهى :
ـ كتاب ابن آمنة ( أو أمية ) الحجاري، وهو كتاب لم تفدنا المصادر الأندلسية بشيء عن مؤلفه(7).
ـ كتاب لمنذر بن سعيد البلوطي (ت 355/965) قاضى الجماعة بقرطبة، وكان ظاهري المذهب وإن كان ملتزمًا في قضائه بالمذهب المالكي السائد في الأندلس(1).
ـ كتاب للفقيه المحدث المشهور قاسم بن أصبغ البياني (ت340/ 951) (2). وكان موسوعي الثقافة، رحل إلى المشرق فجاب مراكزه العلمية وأخذ عن كبار علمائها، وعاد بعلم كثير في سائر المعارف الدينية واللغوية والأدبية، وأعانه طول عمره على نشر ما حصله من علوم، إذ توفي عن عمر يقارب المئة. وكان من بين من أخذوا عنه خليفتا الأندلس عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر.
... ... وربما كان من أسباب تنويه ابن
حزم بكتب أحكام القرآن المذكورة وافتخاره بها أنها كانت تعضد مذهبه الظاهري الذي كان ينادي بالاقتصار في استنباط الأحكام على القرآن والسنة ورفض القياس الذي أخذت به المذاهب الفقهية الأخرى باعتباره من الأصول المعتمدة.(189/8)
... ... ومن العلوم المتصلة بالقرآن الكريم الدراسات اللغوية الخاصة بغريبه ومشكله، فمن ذلك مؤلفات أبي عبيدة معمر بن المثنى وابن قتيبة. وكان قاسم بن أصبغ البياني أيضًا هو صاحب الفضل في إدخال هذه الكتب إلى الأندلس. فقد روى كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة عن أبي سعيد السكري عن أبي حاتم السجستاني عن مؤلفه(3) وعن قاسم أخذه ابن الإفليلي (ت441/1050)(4) وأما كتب ابن قتيبة ومنها مشكل القرآن وغريب القرآن فقد
رواها قاسم بن أصبغ مباشرة عن مؤلفها، وقد أخذ عنه الكتابين المذكورين الفقيه الراوية عبد الله بن محمد بن شريعة اللخمي الباجي (ت378/988)(1) وعن ابن شريعة وأفراد أسرته الذين توارثوا رواية هذين الكتابين تلقاهما جمهور الدارسين الأندلسيين: ثم أضيفت إليها روايات أخرى خلال القرن الخامس الهجري(2).
... ... 2- الفقه:
المذهب المالكي:
من المعروف أن دخول المذهب المالكي الأندلسي كان في حياة الإمام مالك نفسه، وذلك بفضل من درسوا عليه من تلاميذه الأندلسيين ونقلوا كتابه " الموطأ"، وهم على التوالي الغازي بن قيس(ت 199/815) وزياد بن عبد الرحمن اللخمي الملقب بشبطون (ت204/819) ويحيى بن يحيى الليثي (ت234/848). وكانت مصر قد(189/9)
انتقلت إليها رياسة المالكية بعد وفاة إمام المذهب في سنة 179(795)، فأصبح المرجع فيه إلى ثلاثة من الفقهاء المصريين هم عبد الرحمن بن القاسم العُتَقِيّ (ت191)، يليه عبد الله ابن وهب (ت197)، وأشهب بن عبد العزيز(ت204)، وكان ابن القاسم هو أقوم هؤلاء على المذهب، فعليه تلمذ يحيى بن يحيى الليثي القرطبي وعبد السلام بن سعيد المعروف بسحنون قاضي القيروان ( ت240/ 854) وإليهما يرجع الفضل في ترسيخ المذهب المالكي في الأندلس وإفريقية . فالأول كان صاحب الفضل الأكبر في نشر موطأ مالك وإليه كان المرجع في اختيار القضاة، والثاني هو جامع "المدونة الكبرى" من سماع ابن القاسم، وكان لهذا الكتاب مكانة كبرى لدى متفقهة المغرب والأندلس.
... وقد قيل في تعليل غلبة مذهب الإمام مالك على أهل الأندلس إن الدولة هي التي فرضته فرضًا عليهم (1) . ولكن الذي تبين لنا هو أن هذا الحكم مبالغ فيه بدرجة كبيرة، وإنما كان قبول المذهب المالكي استجابة تلقائية من الشعب الأندلسي(2). وعلى كل حال فإننا نرى كيف استطاع الأندلسيون تمثل هذا المذهب بسرعة فائقة. فلم يكتفوا بتدارس "الموطأ" واتخاذه أساسًا لحياتهم التشريعية واتباع قضاتهم لأحكامه في أقضيتهم ، بل سرعان ما أصبح هذا الكتاب مُفَجِّرًا لحركة نشيطة من التأليف الأصيل في فروع المذهب. فمنذ أوائل القرن الثالث الهجري يتوالى ظهور كتب يؤلفها أندلسيون في تفصيل ما أجمله "الموطأ" ويستهل هذه الحركة عيسى بن دينار الطليطلي (ت212/ 827) بكتابه"الهداية" ثم يليه عبد الملك ابن حبيب الإلبيري ( ت238/852 )(189/10)
بكتابه " الواضحة " والعتبي بكتابه "المستخرجة" (ت255/869) ويحيى ابن إبراهيم بن مُزَين (ت259/873) الذي ألف عدةَ كتب منها تفسيره للموطأ المسمَّى" المستقصية"، ومالك بن على القَطَنِيّ (ت268/881) بكتابه "المختصر" في الفقه. وهكذا نرى الأندلسيين يساهمون في الفقه المالكي خلال ما يقرب من نصف قرن بنحو سبعة كتب أو ثمانية من التأليف الأصيل .
... ومع النهضة الشاملة التي وافقت حكم عبد الرحمن الناصر في النصف الأول من القرن الرابع، ولا سيما بعد إعلان الخلافة كان من الطبيعي أن يتزايد النشاط الفقهي ويتمثل ذلك في مظهرين:
الأول - الاهتمام برواية كتب الفقه المالكي سواء منه ما أُلِّف في المشرق أو في شمال أفريقيا أو
المؤلفات الأندلسية نفسها، وكثرة الرواة لهذه الكتب والتلاميذ المقبلين على دراستها في مختلف مدن الأندلس ونواحيها، وأهم هذه الكتب التي كانت تروى على نطاق واسع:
1- الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي، وكان أهم رواته في النصف الثاني من القرن الثالث ابنه عبيد الله بن يحيى (ت298/910) ومحمد بن وضاح (ت287/900). وعن هذين أخذه رواة كثيرون خلال القرن الرابع كانوا من تلاميذ هذين الشيخين أهمهم قاسم بن أصبغ البياني (340/957)، ويحيى بن عبد الله بن أبي عيسى ( 367/977) ووهب بن مَسَرَّة الحجاري (346/957) وبفضلهم استمر تدارس الكتاب حتى القرن السادس بشهادة ابن خير(1)(189/11)
ومما يدل على اتساع أفق الثقافة الفقهية الأندلسية في هذه الفترة أن الأندلسيين لم يكتفوا برواية يحيى بن يحيى للموطأ، بل أضافوا إليها روايتين أُخريين: الأولى رواية المصري يحيى ابن عبد الله بكير المخزومي (ت231/845)(2) أخذها عنه القرطبي إبراهيم بن محمد بن باز والأندلسي القيرواني يحيى بن عمر، وعنهما أحمد ابن خالد القرطبي (ت322/934)، وعن إبراهيم بن باز أيضًا أخذ محمد ابن عبد الملك بن أيمن زميل قاسم بن أصبغ وقرينه (ت330/942) . والرواية الأخرى هي المنسوبة لعبد الله ابن مَسْلمة القَعْنَبِيّ وهو مدني سكن البصرة، وكان مذيعا روايته للموطأ اثنين من كبار علماء قرطبة في عصر عبد الرحمن الناصر أولهما: قاسم بن
أصبغ عن المحدث المشهور محمد بن إسماعيل الترمذي أحد مصنفي السنن عن القعنبي. والثاني هو أحمد بن خالد عن على بن عبد العزيز ( كاتب أبي عبيد ابن سلام ) عن القعنبي(1) .
وعني الأندلسيون برواية كتب تدور حول الموطأ بعضها لمشارقة، مثل كتاب " تفسير غريب الموطأ" وهو لأحمد بن عمران بن سلامة الألهاني الأخفش، وكان راويته هو يحيى بن عمر الأندلسي نزيل إفريقية(2)، وبعضها الآخر لأندلسيين، مثل " تفسير الموطأ" ليحيى بن إبراهيم بن مزين، وكان من رواته محمد بن فطيس(3)، و"مسند حديث الموطأ" لأحمد بن خالد(4) .
2- "الواضحة" لعبد الملك بن حبيب الإلبيري ( ت238/852 )، وهو أبرز الكتب الأندلسية في الفقه المالكي في القرن الثالث. وقد قام بإذاعته على نطاق واسع سعيد بن فحلون الإلبيري (ت346/947)(5) وكان الناس يرحلون إليه في إلبيرة ليأخذوا عنه "الواضحة" .
3-"المستخرجة" أو "العتبية" لمحمد بن أحمد العتبي (ت255/869) وكان من أشهر رواتها في القرن الرابع محمد بن عمر بن لبابة(314/926) الذي قام بالتدريس على مدى ستين سنة، وعنه يحيى بن عبد الله بن أبي عيسى أخو قاضي الجماعة لعبد الرحمن الناصر. كذلك كان من رواة هذا الكتاب محمد بن فطيس(189/12)
الإلبيري(1) وإلى هذين التلميذين من تلاميذ العتبي ترجع روايات الكتاب الخمس التي ينص عليها ابن خير(2). وعلى الرغم من النقد العنيف الذي وُجِّه للمستخرجة لما فيها من خطأ كثير كما يقول ابن وضاح فقد كان " لها عند أهل إفريقية القدر العالي والطيران الحثيث"(3). وقد حملت قيمة هذا الكتاب قاضي الجماعة بقرطبة أبا الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد (ت 520/ 1126) على تأليف كتابه " البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل"(4) .
4- كتب الفقيه الطليطلي يحيى ابن إبراهيم بن مزين، وأهمها ثلاثة: "المستقصية" و"رجال الموطأ" و" تفسير الموطأ " وهي كتب أثنى عليها ابن حزم ثناءً مستفيضًا(5). وكان ممن نشروا هذه الكتب محمد بن فطيس الإلبيري في عدد آخر من تلاميذ ابن مزين نص ابن خير على رواياتهم(6) .
5- "مختصر" مالك بن علي القطني، وهو كتاب أثنى عليه ابن حزم أيضًا، وكان من رواته ابن لبابة ومحمد ابن عبد الملك بن أيمن(7) . ...
أما الكتب المشرقية والمغربية التي كان لها ذيوع في عصر عبد الرحمن الناصر فلا شك في أن مقدمتها "المدونة الكبرى" لقاضى القيروان عبد السلام بن سعيد المعروف بسحنون (ت 240/854)، وهي سماعه من الفقيه المصري عبد الرحمن بن القاسم العُتَقي، وتعد أكثر الكتب المالكية انتشارًا في الأندلس بعد "الموطأ" وكان ابن وضاح القرطبي أبرز من ساهموا في نشره، وعنه أخذه عدد كبير من تلاميذه الذين عاشوا فى النصف الأول من القرن الرابع ، وعلى رأسهم محمد ابن عمر بن لبابة وأحمد بن خالد بن الحبَّاب ووهب بن مسرة الحجاري ، ثم الجيل التالي لهؤلاء(1). ومن أشهرهم عبد الله بن محمد بن شريعة المعروف بابن الباجي (المتوفى سنة 378/988) عما يقرب من مئة عام (2). ويكفينا في
بيان مدى عناية الأندلسيين بهذا الكتاب
ما يذكره ابن الفرضي من أنه قد اجتمع في مدينة إلبيرة وحدها سبعة من رواته في وقت واحد(3).(189/13)
على أن الأندلسيين لم يكتفوا برواية كتب المذهب ونشرها خلال عصر عبد الرحمن الناصر، بل واصلوا أيضًا حركة التأليف الأصيل. وقد تنوعت تواليفهم بين شروح أو مختصرات للموطأ وللكتب السابقة فى المذهب، وكتب في الدفاع عن مالك والرد على مخالفيه، وكتب في القضاء وفي الوثائق، وأخيرًا في تتبع رجال المالكية وطبقاتهم، وهي كتب أكثر اتصالاً بتاريخ المذهب منها بالمادة الفقهية في حد ذاتها.
ومن أول هذه الكتب " المنتخبة" لمحمد بن يحيى بن عمر بن لبابة المعروف بالبرجون الذي وصفه ابن حزم بأنه "أنبل كتاب في جمع روايات المذهب وتأليفها وشرح مستغلقها
وتفريع وجوهها "(1) ...
وتلي هذا الكتاب في الأهمية مجموعة من الكتب ألفها فضل بن سلمة (ت 319/931) الذي وصفه ابن حزم بأنه " كان من أعرف الناس باختلاف أصحاب مالك " ويبدو أنه كان مشغوفًا باختصار الكتب السابقة. وفيما يلي بيان بمؤلفاته: مختصر المدونة، مختصر الواضحة، مختصر كتاب الفقيه المصري ابن المواز، كتاب جمع فيه مسائل المدونة والمستخرجة، جزء في الوثائق(2).
ومن هذه الكتب المختصر الفقهي الذي ألفه علي بن عيسى بن عبيد الطليطلي ( ت نحو سنة 338/941) وهو كتاب يقول عنه ابن الفخار: إنه هو وشرح ابن مزين للموطأ
هما الكتابان اللذان جاوزا قنطرة طليطلة، والمقصود بذلك أن مكانتهما تجاوزت الحدود المحلية. وعلى الرغم من النقد الذي وُجِّه لهذا الكتاب فقد كان له بالفعل انتشار عظيم في الأندلس، بدليل ما يصوره ابن خير من امتداد رواياته الكثيرة حتى القرن السادس (3). وفى الوقت نفسه يؤلف محمد بن عبد الله بن عيشون الطليطلي ( ت341/952) أيضًا مختصرًا آخر في الفقه، كما يضع كتابًا في توجيه أحاديث الموطأ (4). ويصنف محمد وعبد الله (ت326/938) ابنا أبان بن عيسى ـ وهما من ذرية الفقيه الطليطلي عبد الرحمن ابن دينار ـ كتاباً اختصرا فيه ما يدعوه القاضي عياض " الكتب المبسوطة " من تأليف(189/14)
يحيى بن إسحاق بن يحيى (ت303/915)(1) ولابد أن كتابهما كان على درجة عالية من القيمة، بدليل ما لقيه من اهتمام الفقيه الكبير وقاضي الجماعة بقرطبة أبي الوليد ابن رشد، إذ قام باختصاره(2).
وقد اهتم الحكم ولي عهد عبد الرحمن الناصر والخليفة بعده بتشجيع التأليف في جمع آراء الإمام مالك الفقهية يشهد بذلك تكليفه أحد شباب الفقهاء ـ وهو محمد بن عبيد الله المُعَيْطيّ ـ بوضع كتاب يضم ما نسبه لمالك تلاميذه من مختلف الأمصار من المكيين والمدنيين والعراقيين والمصريين والقيروانيين والأندلسيين فاشترط الفقيه أن يبيحه خزانة كتبه، وشرع المعيطيُّ في هذا العمل ، إلا أنه توفي قبل إتمامه ( في سنة 367/977) فعهد الحكم بإكماله
إلى فقيه آخر هو أبو عمر المكوي، وسمي الكتاب " الاستيعاب الكبير " الذي أصبح من أكبر الكتب الجامعة لآراء الاتجاهات المختلفة فى إطار المذهب المالكي(3).
وكان من شباب الفقهاء على عهد عبد الرحمن الناصر مؤلف لا يقل طموحًا عن المتقدم ذكرهما، هو عبد الملك بن العاص السعدي الذي قام برحلة طويلة إلى المشرق استغرقت بضعة عشر عامًا وجمع علمًا كثيرًا. وحينما عاد قام بجهد خصب في التأليف، وبصفة خاصة في الدفاع عن المذهب المالكي إزاء المذاهب الأخرى، وهما "الدلائل والبراهين على مذهب المدنيين " و" الرد على من أنكر على مالك العمل بما رواه"، بالإضافة إلى كتابين في أصول الفقه هما "الإبانة عن أصول الديانة " و" الذريعة إلى علم
الشريعة" . وقد توفي هذا الفقيه في سنة 330/942 عن أربع وأربعين سنة (1).(189/15)
ونحن نرى في هذا الإنتاج الفقهي اتجاهين جديدين في التأليف هما ثمرة لاتساع ثقافة الفقهاء المالكية ولزيادة معارفهم بالمذاهب المخالفة : الاتجاه الأول هو الاهتمام بالخلافيات ابتداءً من اختلاف المالكية أنفسهم بين بعضهم والبعض، ثم اختلافهم مع المذاهب الفقهية الأخرى، أي ما يمكن تسميته بالفقه المقارن، وما اقتضاه ذلك من الدفاع عن المذهب المالكي في مواجهة مخالفيه. والاتجاه الثاني هو الاهتمام لا بالفروع الفقهية فحسب، بل كذلك بأصول التفكير الفقهي ومناهجه. وقد زاد هذان الاتجاهان وضوحًا في مؤلفات تالية، أهمها ما قام به في أواخر عصر عبد الرحمن الناصر فقيهان تولى كلاهما قضاء الجماعة بقرطبة، أولهما محمد بن إسحاق بن
السليم (ت367/977) وكان خلفًا في هذا المنصب للقاضي منذر بن سعيد، إذ ألف كتاب " التوصل لما ليس في الموطأ" كما اختصر كتاباً لمؤلف شرقي هو المروزي في الاختلاف.(2) والثاني هو محمد بن يبقى بن زرب (ت381/991) الذي خلف ابن السليم على قضاء الجماعة، وهو صاحب كتاب " الخصال " الذي عارض به كتابًا للفقيه الحنفي ابن كاوس بالعنوان نفسه(3).
ويلحق بهذا النتاج الفقهي نوعان من التأليف: الأول في القضاء والوثائق. فمن أمثلة المؤلفات فى هذا الميدان الكتاب الذي وضعه قاضى الجماعة بقرطبة الحبيب أحمد بن محمد ابن زياد اللخمي ثاني قضاة عبد الرحمن الناصر (ت 312/924)، وهو بعنوان " الأقضية " في عشرة أجزاء جمع فيه الأحكام التى أصدرها القضاة
قبله(1). وفيما يتعلق بالوثائق ننوه بمؤلفه فرج بن سلمة البلوي (ت345/956) الذي ولي القضاء والصلاة بوادي الحجارة ثم ريُّه، وكان مشاورًا في قرطبة، وهذا الميدان من الميادين التي اتسع فيها التأليف في النصف الثاني من القرن الرابع (2).(189/16)
والنوع الثاني من التأليف هو المتصل بتاريخ الفقه وتراجم الفقهاء، وهو نوع مادته أقرب إلى علم التاريخ. ومن أول الكتب المؤلفة في هذا المجال كتاب أحمد بن محمد بن عبد البر الذي ألف في تراجم الفقهاء بقرطبة، وعلى كتابه اعتمد ابن الفرضي اعتمادًا كبيرًا في تاريخ علماء الأندلس. وقد توفى هذا الفقيه في السجن سنة 338 (950) متهمًا في قضية ثورة عبد الله بن عبد الرحمن الناصر على أبيه(3). وينبغي أن ننبه إلى ضرورة التفرقة
بين هذا الفقيه وفقيه آخر هو محمد بن عبد الله بن عبد البر الكشكينانى الذي وضع أيضًا تاريخًا للفقهاء والقضاة بقرطبة والأندلس، وتوفي في أثناء عودته من رحلة للمشرق في طرابلس (الغرب) سنة341(953)(4). ويلي هذا كتاب آخر للفقيه عبد الله بن محمد بن أبي دليم الذي ولي القضاء على بجانة وإلبيرة، كما ولي الشرطة ، وكانت له من الحكم ولي عهد أبيه مكانة خاصة. وقد وضع كتاباً في " الطبقات فيمن روى عن مالك وأتباعهم من أهل الأمصار "، وهو الكتاب الذي اعتمد عليه القاضي عياض في كتابه " ترتيب المدارك). وكانت وفاة ابن أبي دليم بقصر الزهراء سنة 351(962)(5).
ومن أشهر من ألف في هذا الميدان مما وصل إلينا محمد بن حارث الخشني (ت361/971)، وأصله من
القيروان، وقدم إلى الأندلس وهو في الثانية عشرة من عمره، فاتصل بالحكم (المستنصر) ولى عهد أبيه، فألف له على ما يذكر نحو مائة كتاب، من بينها " الاتفاق والاختلاف في مذهب مالك"، و" أخبار القضاة بقرطبة" و" تاريخ الإفريقيين فقهاء المالكية " و" أخبار الفقهاء والمحدثين في الأندلس "، وهى كتب افتخر بها ابن حزم في رسالته(1). وقد وصلت إلينا الكتب الثلاثة الأخيرة(2).(189/17)
كذلك برز الاتجاه المحلي في التأليف، ونعني به اهتمام علماء كل منطقة من مناطق الأندلس بالتأريخ لفقهائها. ففي أيام الناصر جمع مطرف ابن عيسى الإلبيري (ت356/966) وكان قاضيًا لإلبيرة ديوانًا في فقهاء بلده(3) كما ألف ابن سعدان (ت347/
957) كتاباً مماثلاً في فقهاء منطقة ريُّه
(مالقة)، وقد نقل عنه ابن الفرضي في أكثر من موضع (4).
ب ـ الفقه: المذاهب الأخرى:
الذي يلفت النظر في دراسة الحركة الفقهية في أيام عبد الرحمن الناصر أن عصر هذا الخليفة يتميز بحرية فكرية واسعة سمحت لبعض المذاهب الفقهية المخالفة لمذهب مالك بقدر من الازدهار، وإن ظلت الغلبة لمذهب مالك الذي اعتنقته عامة الشعب الأندلسي، بل وشعوب الشمال الإفريقي كله. والواقع أن مبادئ المذاهب الفقهية المنافسة للمذهب المالكي قد تسربت من قبل خلال القرن الثالث، غير أنها قوبلت بمعارضة شديدة لا من قبل الفقهاء المالكية فحسب، بل من قبل الشعب نفسه الذي تعبر عنه كتب التراث الأندلسي بالعامة. يكفي أن تشير إلى مالقيه بقي بن مخلد من
معارضة شديدة كادت تؤدي إلى فتك العامة به بسبب إدخاله ما سمى بكتب الاختلاف، وكان ذلك يتمثل في إدخال كتاب "الأم" للشافعي وفي مهاجمة التقليد الذي أصبح سمة من سمات المالكية الأندلسية.
ويتسم مذهب الشافعي الذي قضى السنوات الأخيرة من حياته فى مصر (وكانت وفاته سنة 204/820) بأنه كان أكثر اعتمادًا من مالك على الأحاديث النبوية، كما كان أوسع أفقًا ومرونة، وأكثر خبرة بالاستدلال الفقهي وإعمالاً للرأي من مذهب مالك الذي تحولت ممارسته على أيدي الفقهاء إلى ضرب من التقليد الجامد. والشافعي هو أول من وضع مبادئ علم الأصول، أي القواعد النظرية التي ينبني عليها الفكر الفقهي، وذلك بكتابه " الرسالة " أما عن
موقف الدولة من هذا المذهب عند إدخاله إلى الأندلس فإننا نود هنا أن نصحح خطأً وقع فيه الكثيرون ممن(189/18)
كتبوا قديمًا وحديثًا عن غلبة المذهب المالكي على أهل الأندلس إذ من الشائع ترديد المقولة التي تزعم أن هذا المذهب فُرِض بالقوة وأن أمراء الأندلس هم الذين ألزموا شعبهم به. والواقع مخالف لذلك تمامًا، فقد كان الأمير محمد هو الذي حمى بقي بن مخلد ، وسمح له بنشر ما أتى به من كتب، وتابع الأميران المنذر وعبد الله هذه السياسة المتسامحة مع بقي وتلاميذه وأصحابه ممن عارضوا المذهب المالكي (1).
... ... وقد تجلَّت هذه السياسة على نحو أكثر صراحة ووضوحًا في أيام عبد الرحمن الناصر. ويكفي للتدليل على ذلك أن ابنًا للخليفة نفسه هو عبد الله كان من بين من اتبعوا مذهب الشافعي وممن شاركوا بالتأليف في الدفاع عنه بكتاب من ستة أجزاء سماه " المسكتة في فضائل بقي بن مخلد" (2)، وأن قضاء الجماعة بقرطبة أسند لأول
مرة لفقيه شافعي من تلاميذ بقي هو أسلم بن عبد العزيز (ت317/929) الذي ولي القضاء مرتين ( بين 300 و 309، ثم بين 312 و314) (1) . وقد كان أسلم ممن نشروا في الأندلس " رسالة " الشافعي، وكان قد أخذها في مصر عن الربيع بن سليمان تلميذ الإمام. وعن أسلم رواها محمد بن يحيى بن عبد العزيز الخرَّاز (ت369/979) الذي ولي الصلاة وأحكام الشرطة بقرطبة(2). وروى أسلم أيضًا كتاب " مختلف الحديث" للشافعي بنفس السند السابق عن الربيع بن سليمان، وهو كتاب ظل يتدارس في الأندلس حتى القرن السادس على الأقل بشهادة ابن خير الإشبيلى(3).
... ... وقد أعان هذا الجو المتسامح على تكاثر الشافعية في الأندلس،(189/19)
ولاسيما من تلاميذ بقي بن مخلد، وكان من أولهم هارون بن نصر القرطبي الذي لزم بقيًّا على مدى أربع عشرة سنة وأكثر الرواية عنه، وكان يحفظ كتب الشافعي ويناظر فيها، وكان محمد ابن عمر بن لبابة يثني عليه على الرغم من اختلافه معه في الرأي (4) وكذلك عثمان بن وكيل المُدَوَّرِىّ الذي توفي أول أيام الناصر(5)، وعثمان بن سعيد الجيَّاني المعروف بحرقوص (6)، وخلف بن عبد الله بن مخارق الجزيري الذي كان مفتيًا في بلده وصاحب الصلاة بها، وكان مِمَّن رحل إلى مصر وأخذ عن ابنة الشافعي بها (7)، وأحمد ابن بشر بن الأغبس (ت327/939) وكان من أهل الشورى بقرطبة(8)، وعبد السلام بن السمح الموروري الذي أنزله الناصر في مدينة الزهراء، وطال
عمره حتى توفى سنة 387/997 عن عمر جاوز الثمانين(1)، ويوسف بن محمد الشذوني الذي رحل إلى مصر وكتب فيها بخطه كتاب الشافعي الكبير (الأمّ) في مائة وعشرين جزءًا وصارت نسخته هذه إلى خزانة الحكم المستنصر الذي قربه وقدمه للصلاة بقلسانة، وتوفي سنة 383/993 عن نحو ثمانين عامًا(2). وحسن بن سعد الكتامي الذي كان من أكثر أصحاب بقي بن مخلد ملازمة له ، ثم رحل، فسمع بمصر من كبار فقهائها الشافعية ومن ثقات المحدثين بها، كما سمع باليمن. وكان يحمل على "تقليد" المالكية ويميل إلى النظر، وكان من الفقهاء والمشاورين، ولكنه ترك هذا المنصب بمحض إرادته حينما رأى الفتيا تدور على مذهب مالك، وتوفي سنة 334 (946) عن سن عالية(3).
... ... كذلك من الظواهر الجديرة بالتسجيل في النهضة الثقافية الشاملة(189/20)
التي كان يرعاها الحكم أنه على الرغم من تمسكه بمذهب الإمام مالك كان كثيرًا ما يشجع استقدام بعض الفقهاء المخالفين لهذا المذهب من المشرق ومن الشمال الإفريقي، ومنهم عبيد الله ابن عمر القيسي البغدادي الذي قدم إلى الأندلس سنة 347 (958)، وكان قد تَفَقَّه ببغداد على كبار شافعيتها فأنزله الحكم وتوسع له فى الجراية، وشجعه على التأليف حتى وفاته بقرطبة سنة 360 (971)(4) .
... ... ولم ينعكس هذا الجو من التسامح على الكثرة النسبية للفقهاء الشافعية فحسب، بل بدا ذلك أيضًا في ظهور عدد من معتنقي المذهب الظاهري. ويعد هذا المذهب أكثر تطرفًا من الشافعية ضد المالكية. فقد كان مؤسسه داود بن علي الإصبهاني (ت 270/883) يدين بإنكار القياس الذي أخذت بحجيته كل المذاهب
الأخرى، ويدعو إلى الاقتصار فى استخلاص الأحكام على القرآن والسنة، وهذا يعنى توسعًا في التأويل من هذين المصدرين الأساسيين واعتمادًا أكبر على الحديث النبوي . وفي جو التسامح السائد منذ أيام الأمير محمد أقبل بعض الأندلسيين على الأخذ بالمذهب الجديد. وأولهم عبد الله بن محمد بن قاسم بن هلال (ت272/885) الذي تلمذ في العراق على داود بن علي فكتب عنه كتبه كلها وأدخلها الأندلس، ولكن رد فعل المالكية ضده كان عنيفًا وإن لم يصل الأمر إلى اضطهاده، إذ يذكر ابن الفرضي في ترجمته أن أخذه بالمذهب الظاهري " أخلَّ به عند أهل وقته" (1) . ومع ذلك فقد أخذ عنه عدد من الذين أصبحوا أئمة أهل الحديث في الأندلس مثل قاسم بن أصبغ ومحمد بن أيمن .(189/21)
... ... ثم لقي هذا المذهب دفعة قوية جديدة حينما اعتنقه منذر بن سعيد البلوطي آخر قضاة عبد الرحمن الناصر والقاضي ابنه الحكم المستنصر فيما بين سنتي 339و355 (950 -– 966) (2). وقد شارك منذر بن سعيد بالتأليف في الدفاع عن مذهبه ومهاجمة "التقليد" الشائع بين المالكية ، إذ وضع كتاب " الإنباه على استنباط الأحكام من كتاب الله " و" الإبانة عن حقائق أصول الديانة " و" أحكام القرآن"، وهي كتب افتخر بها ابن حزم في رسالته(3). وكان منذر بن سعيد جريئًا في التعبير الحر عن آرائه، إذ ينقل عن ابن عبد البر أبياتًا ساخرة بالغة العنف في مهاجمة مالكية عصره واتهامهم بالوقوف عند أقوال مالك وأصحابه من
أمثال سحنون الإفريقي وأشهب ابن عبد العزيز المصري حتى وإن
تعارضت مع ما يستنبط من آيات القرآن أو أحاديث الرسول(1).على أن الذي يلفت النظر هو ما يسجله النباهي في ترجمته من أن هذا القاضي ـ مع عقيدته الثابتة في مذهبه الظاهري ـ كان " إذا جلس مجلس الحكومة قضى بمذهب مالك الذي عليه العمل ببلده"(2).
... ... وكما شجع الحكم المستنصر بعض الشافعية على القدوم إلى الأندلس والتأليف في مذهبهم فكذلك فعل مع عدد من فقهاء الظاهرية، ومنهم علي ابن بندار البرمكي البغدادي الذي دخل الأندلس في سنة 337(948)، وكان قد درس على تلاميذ محمد بن داود الإصبهاني وأدخل كتبهم إلى مهجره الجديد(3).
... ... وخلال النصف الثاني من القرن الرابع يفد على الأندلس- بتشجيع من الحكم المستنصر عدد كبير من فقهاء الظاهرية من المشرق. ويتكاثر عدد الآخذين بهذا المذهب من الأندلسيين(4). ولا تلبث ثمرة هذا الازدهار أن تبدو في الجيل التالي متمثلة في علم الظاهرية الأكبر الذي أجرى دماءً جديدة في ذلك المذهب الذي لم يقدر له انتشار كبير حتى في موطنه من بلاد المشرق، ونعني به الإمام أبا محمد بن حزم القرطبي (ت456/1064) .
ج ـ الحديث:(189/22)
... ... على أن رد الفعل الأكبر ضد تسلط المذهب المالكي على غالبية الشعب الأندلسي لم يأت من قبل
المذاهب الفقهية المخالفة، وإنما أتى من مدرسة الحديث التي كان بقي بن مخلد (ت276/889) أيضًا حامل رايتها منذ إدخاله مسند أبي بكر بن أبي شيبة (ت 235/849)(1)، ثم تأليفه لكتابه الذي كان مسندًا ومصنفًا في الوقت نفسه، وهو الكتاب الذي افتخر به ابن حزم في رسالته(2).
... ... وربما بدا من الغريب أن تثور ثائرة فقهاء المالكية من أجل كتاب هو مجموعة من الأحاديث النبوية، فالموطأ نفسه إنما يستند في أحكامه إلى عدد من الأحاديث ، ولم يخطر ببال أحد من مؤسسي المذاهب الفقهية إنكار حجية الحديث النبوي، غير أنهم على تفاوت في هذا الأمر، فمالك لم يعتمد إلا على قدر محدود من الأحاديث يوردها لا لقيمتها في ذاتها، وإنما تأييدًا لآرائه
الفقهية، وكان اعتماده الأكبر على "عمل أهل المدينة" ووقف فقهاء الأندلس عند هذا الحد، على حين كان الحديث وجمعه ونقد رواياته وتمييز صحيحه من زائفه علمًا يتطور وينمو نموًّا كبيرًا في المشرق، ولا سيما في العراق حتى أصبح علمًا مستقلا من أَجَلِّ علوم الإسلام. أما في الأندلس فكان دخول بقي بن مخلد بمجموعة كبيرة من الأحاديث تضمنها كتاب ابن أبي شيبة - ولم يقصد بها خدمة الفقه على نحو مباشر ـ شيئًا جديدًا لم يألفوه فعدُّوه بدعة يجب عليهم محاربتها. وبلغ الأمر بأحد شيوخ المالكية ـ وهو أصبغ بن خليل(ت273 /886) الذي دارت عليه الفتيا على مدى خمسين سنة ـ أن يعلن القول بأنه يفضل أن يوضع في تابوته رأس خنزير على أن(189/23)
يوضع فيه كتاب ابن أبي شيبة(1). ولهذا لم يكن من الغريب أن نجد في كثير من تراجم الفقهاء من هذا الجيل بل ومن الأجيال التالية عبارة " وكان منحرفًا عن الحديث معاديًا لأهله " (2). وعلى الجانب الآخر نجد بعض من وضعوا كل همهم في دراسة الحديث معرضين عن الفقه، كما يتبين مثلاً من ترجمة سعيد بن عثمان الأعناقي (ت305/917) الذي رحل إلى مصر فأخذ مسند أسد بن موسى(3). وكان عالمًا بالحديث عارفًا بعلله ، ولكنه كان " لا علم له بالفقه" على حد قول ابن الفرضي(4). كذلك اتجه بعض تلاميذ بقي بن مخلد من المهتمين بالحديث بفضل قراءتهم عليه إلى مذاهب فقهية
أخرى أكثر اعتمادًا على الحديث من المذهب المالكي، كما رأينا في اعتناق عدد منهم المذهب الشافعي أو الظاهري.
... ... وقد شارك بقي بن مخلد في الدور الذي اضطلع به في إدخال علم الحديث عالم آخر معاصر له هو محمد ابن وضاح (ت287/900)(5) وكان مشاركًا لبقي في كثير من شيوخه. ويقول ابن حيان في ذلك(6):
... ... " وانتشر الحديث به [ أي ببقي بن مخلد ] من يومئذٍ بالأندلس، ورسا أصله، ثم تلاه ابن وضاح في نشر الحديث وسعة الرواية وأثالة الرياسة، فاستوسع أهل الأندلس من يومئذٍ، وصارت دار حديث ومعدن سند، وإنما
كان الغالب على أهلها قبل ذلك رأي مالك وأصحابه، والتفقه في المسائل المدوَّنيَّة(1)، فكانوا ينصبون لأهل الحديث ولا يرضونهم".
غير أن محمد بن وضاح لم يثر عليه عداوة الفقهاء، إذ كان ملتزمًا بمذهب مالك منتصرًا له، ولم يحاول أن يدخل عليه شيئا من المذاهب الأخرى التي عدها المالكية بدعًا لم يألفوها.
... ... وعلى كل حال فإن دخول علم الحديث لم يضعف من قوة المذهب المالكي الذي رسخ في الأندلس بصورة أصبحت معها كل محاولة للاستبدال به أمرًا مصيره إلى الفشل. ولهذا فقد شرع الجيل التالي في العمل على إيجاد صيغة للتوفيق بين الفقه والحديث محاولين أن يجروا دماءً جديدة فى عروق المذهب المالكي.(189/24)
... ... ومن رجال الجيل الأول الذي تلمذ على بقي بن مخلد أو ابن وضاح أو كليهما معًا محمد بن إبراهيم بن حيُّون الحجاري (ت305/917) الذي تردد بالمشرق نحو خمس عشرة سنة، فسمع الحديث بمكة وصنعاء وبغداد ومصر، وعاد حافظًا للحديث عالمًا بالعلل، وينص من ترجموا له على أنه " لم يذهب مذهب مالك"(2). ومنهم قاسم ابن ثابت السرقسطي (ت302/914) الذي رحل مع أبيه، فاشتغلا بجمع الحديث في مكة ومصر حيث تلمذا على النسائي أحد جامعي السنن(3). ومحمد بن فطيس الإلبيري (المتوفى سنة 319/931)(4) .
... ... ويأتي بعد هؤلاء الجيل الذي جمع بين الفقه والحديث، وعلى رأسه أحمد بن خالد بن الحبَّاب (ت322/ 934) وكان إمامًا في العلمين، ويدل
على ذلك مؤلف له بعنوان " مسند حديث الموطأ" وفيه تخريج للأحاديث الواردة في كتاب الإمام مالك، وكان له انتشار واسع حتى القرن السادس(1) ويشاركه في هذا الاتجاه التوفيقي محمد ابن قاسم بن سيار (ت327/939) وكان أحد الفقهاء المشاورين من أول أيام عبد الرحمن الناصر، ويقول عنه أحد تلاميذه إنه لم يدرك من شيوخ قرطبة أكثر حديثًا منه، وكان بالإضافة لذلك متقدمًا في علم الوثائق(2). وكذلك أحمد بن دحيم بن خليل (ت 338/ 940) الذي أدخل بعد رحلة له إلى بغداد كتب القاضي إسماعيل بن حماد ، وكان يمثل الاتجاه العراقي في المذهب المالكي، وهو اتجاه متحرر قائم على استخدام واسع للحجاج العقلي، كذلك سمع من كبار محدثي المشرق، وولي بعد عودته قضاء طُليطلة وإلبيرة وبَجَّانة(3).(189/25)
... ... ويتلقى علم الحديث دفعة كبيرة خلال النصف الأول من القرن الرابع، وهي تتمثل في شخصيتين لا يقل تأثيرهما في الحياة الدينية الأندلسية عن تأثير بقي بن مخلد ومحمد بن وضاح في نصف القرن الماضي، وهما محمد بن عبد الملك بن أيمن (ت330/942)(4)، وقاسم بن أصبغ البياني (ت340/951)(5). وقد ترافق الرجلان بعد تلقيهما العلم على يدي بقي بن مخلد ومحمد بن وضاح في الرحلة إلى الشرق سنة 274(887) فتلمذا في بغداد على أعلام المحدثين مثل عبد الله ابن أحمد بن حنبل والترمذي وابن قتيبة، وانتقلا إلى مكة ليلتقيا بالمحدث ابن الجارود صاحب كتاب " المنتقى"، وهو مصنف في الحديث على أبواب الفقه، ولكن ابن الجارود كان قد توفي فاتفقا على أن يؤلف كل منهما مصنفًا على أبواب هذا الكتاب نفسها.
واشتهر مصنف قاسم بن أصبغ الذي عرف " بالمجتبى" بصفة خاصة حتى إن ابن حزم عده أفضل من كتاب المحدث المشرقي. ثم قام قاسم بتلخيص مصنفه في كتاب سماه " المجتنى" في سبعة أجزاء، مهديًا إياه إلى ولى العهد الحكم بن الناصر، وكان هذا الكتاب يحتوي على 2490 حديثًا. وطال عمر قاسم بن أصبغ، فتلقى العلم على يديه أجيال متوالية من التلاميذ، وكان من بين من قرأ عليه الخليفة نفسه وابنه الحكم(1).
... ... ومن معاصري هذين العلمين الكبيرين من أعلام الحديث وهب بن مسرة الحجاري (ت346/957) وأبو عيسى يحيى بن عبد الله ( وكانت وفاته في السنة نفسها ) وهو أخ لقاضي الجماعة ابن أبي عيسى، وكان مع تبحره في الحديث من رواة الموطأ ويذكر أنه سمعه منه أكثر من خمسمئة من طلاب العلم(2). وأحمد بن سعيد بن
حزم الصدفي (ت350/961) الذي ألف في طبقات المحدثين كتابًا كبيرًا
في خمسة وثمانين جزءاً جمع فيه الأقوال في التعديل والتجريح، ولعله أول كتاب يفرد لهذا الموضوع في الأندلس(3). وقد وصف ابن حزم هذا الكتاب بأنه أكمل ما ألف في موضوعه في الشرق والغرب على السواء.(189/26)
... ... ومن أبرز من اشتهروا في علوم الحديث في أواخر أيام عبد الرحمن الناصر خالد بن سعد القرطبي (ت352/963)(4)، وكان مثل أحمد بن سعيد الصدفي من أعلام الجرح والتعديل، ولعله أول مؤلف في هذا العلم لم يرحل إلى المشرق وإنما اقتصر على شيوخه الأندلسيين، وفي هذا دليل على نضج الثقافة الأندلسية في هذا العلم، وقد ألف في محدثي الأندلس كتابًا أشار عليه به ولي العهد الحكم الذي كان شديد الإعجاب به حتى إنه كان يقول:" إذا فاخرنا أهل المشرق
بيحيى بن معين فاخرناهم بخالد بن سعد "(1).
... ... كذلك كان من بين هؤلاء أمير من الأسرة المالكة هو محمد بن معاوية المعروف بابن الأحمر (ت358)(2)، وكان قد رحل إلى المشرق في سنة 295 (907) وجال في أقطاره على مدى ثلاثين سنة حتى وصل إلى الهند، وجمع في رحلته عددًا هائلاً من الأحاديث، وعند عودته إلى بلاده في سنة 325(936) بدأ في التدريس، وألف مسندًا اشتمل على 4033 حديثًا أسندها إلى 356 صحابيًّا، وهو كتاب أثنى عليه ابن حزم ثناءً عظيمًا وأورد ابن خير رواياته حتى عصره(3).
* * *
... ... قدمنا فيما سبق نبذة سريعة عن نهضة العلوم الدينية في ظل خلافة عبد الرحمن الناصر، وهي ليست إلا جانبًا من الازدهار الهائل الذي قدر للثقافة الإسلامية في الأندلس بفضل رعاية
هذا العاهل العظيم الذي يُعدُّ خير من حكم هذه البلاد على طول تاريخها، ثم بفضل ابنه وولي عهده الحكم الذي كان نموذجًا للحاكم المستنير الذي كانت رعايته للثقافة وتشجيع العلماء شغله الشاغل.
... ... بقي أن نختم هذا الحديث بملاحظتين :(189/27)
... ... الأولى - أن ثمرات هذا الجهد الكبير لم تظهر كلها في عهد عبد الرحمن الناصر و أيام ابنه الحكم، وإنما ستؤتى منجزاتها في العصر التالي وهو المعروف بعصر ملوك الطوائف وما تلاه من دول، حتى بعد أن ضعفت الأندلس سياسيًّا وعسكريًّا، فقد ظلت شعلة الثقافة فيها متوقدة حتى نهاية الإسلام في شبه الجزيرة، واستطاعت أن ترد دين المشرق عليها فقدمت إلى عالم الإسلام كله منجزاتها الفكرية التي ما زلنا حتى اليوم نعتز بها كل الاعتزاز .
... ... والملاحظة الثانية أن هذا التراث الأندلسي قد فقد معظمه، ولم يبق منه في أيدينا إلا فتات ضئيل، وهو مع ذلك على أعلى درجة من القيمة والنفاسة،
ويستحق أن تتضافر الجهود في استنقاذه وإحيائه.
محمود علي مكي
عضو المجمع(189/28)
كلمة الختام
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
أشكر الأستاذ الدكتور محمود حافظ على كلمته التي ألقاها في تأبين الراحل الكريم الدكتور سليمان حزين، الذي سنظل نذكره، ونذكر أعماله العظيمة في المجمع وبخاصة في
أعمال لجنة الجغرافيا، وأشكر نجله الأستاذ الدكتور أحمد سليمان حزين على إلقائه كلمة الأسرة، وهذه هي الدنيا وداع ورحيل مستمر. شكر الله لكم سعيكم، وإنا لله وإنا إليه راجعون .(190/1)
كلمة الأسرة
للأستاذ أحمد شفيق الخطيب
نيابة عن الدكتور رمزي بعلبكي نجل الفقيد
سيادة رئيس مجمع اللغة العربية المُوَقَّر الدكتور شوقي ضيف
أيُّها الزملاء الأكارم
إنّى مُكلَّف من الدكتور رمزي بعلبكي أستاذ العربية في الجامعة الأمريكية في بيروت وأحد نجلي الفقيد بالتقدُّم إليكم جميعًا بوافر الشكر والتقدير على هذا التذكار الوفائي،
نيابةً عن آل الفقيد وأستشعِرُ أن روح الأستاذ منير بعلبكي ترفرف في أجواء هذه القاعة بالغة الرضى شاكرةً عِرفانكم، مَشكورَ سعيكم .
والله يحفظكم، شكرًا تكرارًا
أحمد شفيق الخطيب
عضو المجمع
من فلسطين(191/1)
كلمة الافتتاح
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
... نجتمع اليوم لتأبين المرحوم الأستاذ الكبير سليمان حزين، وهو علم في مقدمة أعلام كلية الآداب بجامعة القاهرة، في القرن العشرين، وقد تخرج فيها، وكان متفوقًا بين الناجحين فأرسلته كلية الآداب إلى إنجلترا ليحصل على درجة الدكتوراه وحصل عليها في سنة 1935م، وأوفدته جامعة مانشستر إلى اليمن بتكليف منها، ثم رجع إلى كلية الآداب فعين بها مدرسًا، ثم أستاذًا مساعدًا، ثم اختير لإنشاء قسم الجغرافيا في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، ثم عين مديرًا للثقافة بوزارة المعارف، ورقي إلى درجة وكيل الوزارة، وأخذ نجمه يتألق منذ ذلك الحين ، واختارته الدولة للقيام بإنشاء جامعة أسيوط، فقام بهذا العمل على خير وجه ممكن، حتى أصبحت من الجامعات الكبرى بفضل عنايته بها. ثم أصبح رئيسًا للمجمع العلمي الفرنسي منذ سنة 1967م، ثم أصبح وزيرًا للثقافة في مصر فنهض بها، ثم كُلف برئاسة المجمع العلمي المصري فجعله سوقًا لمحاضرات علمية سنوية ينهض بها علماء مصر الأجلاء، وله أعمال كثيرة منها: أنه كُلف من قبل الأمم المتحدة بإدارة المركز الديموجرافي الخاص بشمال أفريقيا، واختير في أول تشكيل للمجلس الأعلى لرعاية العلوم والفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ثم عندما تحول إلى المجلس الأعلى للثقافة اختير عضوًا فيه أيضًا، فدائمًا نحن معه في أعماله العظيمة.
... ثم عمل في إنشاء جامعة الكويت وجامعة الرياض وجامعة بنغازي .
... ثم اختير عضوًا في هذا المجمع منذ سنة 1978، ثم اشترك اشتراكًا فعليًّا في مجلسه ومؤتمراته وكان مقررًا للجنة الجغرافيا فيه، وله علمه الواضح في مصطلحات هذه اللجنة.
... ولا شك أن المجمع خسر فيه خسارة كبرى بل مصر جميعها والأمة العربية، جزاه الله عن جهوده
الكثيرة الجزاء الأوفى وأنزله منازل العلماء الأبرار العاملين المخلصين.(192/1)
... ويتفضل بإلقاء كلمة المجمع في تأبينه الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع.(192/2)
كلمة الافتتاح
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
... أيها السادة الكرام؛ نجتمع اليوم لتأبين الأستاذ الكبير العلامة منير البعلبكي عضو المجمع من لبنان، وقد كان رحمه الله علمًا من أعلام الأمة العربية في القرن العشرين، وقد انتفع بعلمه الكثير من علماء الأمة العربية والإسلامية، ولا يغيب عن حضراتكم فضل هذا الرجل فأنتم تعرفونه من خلال أعماله الكثيرة، وأيضًا من خلال جلسات مؤتمرات المجمع التي شارك فيها مع حضراتكم. ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أذكر أنه كان لي شرف ترشيح الأستاذ البعلبكي عضوًا عاملاً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة نظرًا للمكانة العلمية الكبيرة التي يتمتع بها سيادته، كما كان لي شرف استقباله عضوًا عاملاً بالمجمع بعد صدور قرار اعتماد انتخابه. والأستاذ الكبير منير البعلبكي له مكانة علمية رفيعة، فبعد أن تلقى تعليمه الثانوي انتظم في الجامعة الأمريكية في قسمي الأدب العربي والتاريخ، وتخرج فيها سنة 1938، وبعد تخرجه عمل مدرسًا في كليات بغداد ودمشق، ثم ترك التدريس واتجه إلى الترجمة، وإلى وضع المعاجم العلمية التي تضم المصطلحات والمعارف العلمية الأجنبية مع تعريبها ونقلها إلى اللغة العربية. لقد أدى الأستاذ الراحل للمجمع خدمات جليلة، ليس فقط بوجوده عضوًا عاملاً بالمجمع وبمشاركته الفعالة والمثمرة في مؤتمراته السنوية التي حضرها الراحل الكريم، ولكن أيضًا بقدرته الفائقة على توحيد المصطلح العلمي العربي، وهذا شيء مهم بل مهم جدًّا وهو ما نرجوه ونتمناه ونطمح إليه.(193/1)
... فقد ذكر الأستاذ البعلبكي في معجمه الكبير الذي أسماه " المورد " أنه كان يستعين بالمصطلحات العلمية والفنية التي أخرجها المجمع، وقد قدم هذه المصطلحات بشكل دقيق ومنظم بحيث نلتقي به دائمًا في كل صفحة، وهذا عمل كبير يشهد له بالتفوق على جميع معاصريه، فقد بسط المصطلحات التي وضعها المجمع عاملاً على أن تكون هناك لغة علمية مشتركة بين البلاد العربية، فهذا فضل كبير يذكر له بالتقدير والعرفان.
ومنذ خمسين عامًا اشترك الأستاذ منير البعلبكي مع الأستاذ بهيج عثمان في إقامة دار نشر كبيرة ببيروت وأسمياها " دار العلم للملايين " وازدهرت هذه الدار ازدهارًا عظيمًا بما قدمته وتقدمه للعرب من عيون الأدب والفكر والثقافة التي صدرت في بلاد أخرى غير العربية.
... وقد وهب نفسه لترجمة الكثير من الأعمال الغربية ولاسيما في مجال القصص، حتى بلغ ما ترجمه نحو ثمانين كتابًا وكان هدفه من ذلك نشر
الثقافة والفكر بين أبناء العروبة وأن يكون القارئ العربي على صلة مستمرة بما تخرجه دور الطباعة في البلاد الأخرى. وما تزال دار العلم للملايين قائمة ومزدهرة تؤدي دورها في حركة التنوير كما كانت دائمًا، وله كتاب ترجمه عن مولانا محمد علي الهندي عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حياته ورسالته.
... كذلك ألحق بمعجمه "المورد" موسوعة ثقافية ضافية اهتم فيها بالموضوعات والشخصيات الإسلامية. وكم كنت أتمنى أن يقضي حياته كلها معنا في هذا المجمع ليفيد منه علماء الأمة! ومع ذلك فإنه سيبقى علمًا دائمًا من أعلامه تغمد الله الراحل الكريم برحمته وأسكنه جنته.
... والكلمة الآن للأستاذ أحمد شفيق الخطيب عضو المجمع المراسل من فلسطين ورفيقه في الموطن الذي يقوم بواجب المجمع نحو تأبينه.(193/2)
كلمة الأسرة
للأستاذ الدكتور أحمد سليمان حزين
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على خاتم النبيين ورسل الله أجمعين
السيد الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية الموقر.
السيد الأستاذ الدكتور محمود حافظ إبراهيم نائب رئيس مجمع اللغة العربية الموقر.
السادة الأساتذة والعلماء الأجلاء أعضاء المجمع الموقرين .
السادة الحضور
... أود أن أعبر لكم بالأصالة عن نفسي وعن أسرة الراحل العزيز عن موفور الشكر وعظيم التقدير. فكثيرًا ما حدثني عن شرف انتمائه لهذا المكان العريق ولعلماء مصر الأجلاء الذين أعطوا ومازالوا يعطون بسخاء على امتداد مسيرة حياتهم الحافلة عطاءً يمثل جزءًا غاليًا من كيانهم وإبداعهم اللغوي والعلمي والفكري والثقافي..
... أسال الله أن يمد في أعماركم ليكون إسهامكم هذا فيضًا لا ينقطع.
سادتي الكرام ... أساطين اللغة الأجلاء
... طالما أكد لنا الراحل الجليل أن الاعتزاز بلغة القرآن الكريم هو احترام للنفس.. وإثبات للذات .. وامتداد للأصل العربي العريق .. وأن إجادة اللغات الأجنبية لا ينبغي ولا يصح بل لا يمكن أن تكون بديلاً حتى لمجرد التفكير في عدم إتقان لغتنا الأصلية.. ومن هذا الإيمان كان - رحمه الله - عاشقًا للغته العربية ومداومًا على إثبات ذلك العشق يومًا بعد يوم طوال حياته المديدة حتى على مستوى الحديث الأسري اليومي مع الأبناء، وعلى الرغم من سيطرته التامة على لغات أجنبية متعددة..
... سادتي.. لقد ظل أبي وأستاذي ومعلمي وقدوتي المرحوم الأستاذ الدكتور سليمان حزين طوال عمره المديد مثلاً فريدًا لأسرته وأهله وذويه ووطنه المصري والعربي إلى آخر لحظة في حياته .. لقد علمني وعلم الأسرة الكثير.
... تعلمنا منه أن العطاء أفضل من الأخذ .. فنحن أمة مصرية عربية وإسلامية أشعت علمها وثقافتها وحضارتها لمن حولها .. ولم تبخل على أحد .. وكان عطاؤها دائمًا مستمدًا من عقيدتها السمحة..(194/1)
... تعلمنا منه أن أداء الواجب يأتي قبل المطالبة بالحق وعلى الرغم من أن الحق والواجب وجهان لعمله واحدة .. إلا أنه كان يوصي ببذل أقصى الجهد في العمل وأداء الواجب نحو الوطن والأسرة على أكمل وجه .. وأعتقد أننا في هذا العصر أحوج ما نكون إلى أداء الواجب قبل المطالبة بالحق.
... تعلمنا منه الاعتزاز بالكرامة دون مبالغة والتواضع دون مذلة .. حتى يكون الإنسان مقبولاً عند الله وعند الناس..
... تعلمنا على يديه الجدية في العمل والإخلاص فيه والتفاني في طلب العلم والتركيز على تسخيره لخدمة الإنسان و البشرية..
... تعلمنا أن حل المشكلات يأتي بالتعاطف والحب والتفاهم والموعظة الحسنة .. وليس بالغلظة والاحتداد اهتداءً بتعاليم القرآن الكريم والسنة المشرفة.
أساتذتي الأجلاء
... لن يمهلني الوقت أن أسترسل في ذكر العديد من مواقف فقيدنا العزيز المتعددة والتي تعلمنا منها في الأسرة العديد من دروس الحياة وأسس المبادئ الإسلامية القويمة فهي كثيرة تستعصي على الحصر .. فلتسمحوا لي أن أذكر بعض هذه الأمثلة:
... لقد أعطاني رحمه الله مثلاً عظيمًا في كيفية الاعتماد على النفس واحترام تكافؤ الفرص حيث تحضرني في هذه اللحظة أنني حين كنت طالبًا في الثانوية العامة وكان والدي رئيسًا لجامعة أسيوط، وعندما كان هناك استثناء لأبناء أعضاء هيئة التدريس من شرط الحصول على المجموع المؤهل لدخول كليةٍ بعينها بأن شدّد عليَّ منذ بداية العام الدراسي بأنه لن يقبل أن أستمتع بهذا الاستثناء .. وأنني إذا أردت دخول الكلية التي أريدها فعليّ أن أحصل على هذا المجموع بجهدي وتكرر ذلك مع أخي الأصغر في فترة لاحقة، ووفقنا الله في الالتحاق بما نريد من كليات، وافتخرنا دائمًا بأننا اعتمدنا على جهدنا الشخصي.. ولم نحرم زملاء آخرين من الفرصة ...... وكان درسًا لا ينسى.(194/2)
... مثالاً آخر في أصول الحفاظ على المال العام حيث كان كعادته وهو رئيس لجامعة أسيوط وقبل عودته للمنزل في ساعة متأخرة من الليل أن يمر على مباني ومعامل ومرافق الجامعة وكنت صبيًّا صغيرًا أصحبه أحيانًا في هذه الجولة حيث وجد أحد المعيدين بمعمل الكيمياء ( وهو من كبار الأساتذة الآن ) يجري تجارب لرسالة الماجستير ويضيء المعمل وجميع مصابيح الممرات المؤدية إليه فما كان منه إلا أن قام بتشجيعه بكل ما تحمله الأستاذية من معانٍ على العمل ليلاً، ثم طلب منه في حنوِّ الأب وحزم القائد أن يطفئ المصابيح البعيدة عن المعمل حفاظًا على المال العام، وكان ذلك الفعل يتكرر باستمرار دون ملل أو كلل مع المصابيح المضاءة دون مستنير والصنابير المفتوحة دون شارب.
... وذكرني ابن عمي الأستاذ الدكتور محمد حزين وهو جالس معنا في هذه القاعة أنه قد كلفه منذ سنوات طويلة مضت وكان آنذاك يقترب من السبعين عامًا بالمرور عليه قبل سفره إلى القرية لأمرٍ هامٍ، وحضر إليه متأخرًا نصف ساعة عن الموعد الذي حدده له .. ولقد تذرع بحجة أنه لم يذق طعمًا للنوم إلا في وقت متأخر. فسأله رحمة الله عليه إلى متى؟. فقال إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل .. فأرسل يستدعي مدير مكتبه رحمه الله .. وسأله .. متى غادرنا المكان البارحة؟ فقال الساعة الرابعة صباحًا.. وكان درسًا عظيمًا في حب العمل واحترام المواعيد.(194/3)
أساتذتي الموقرين .. أجد لزامًا علىَّ ألا يفوتني في هذه المناسبة أن أذكر الآن أحد مآثر الراحل الكريم حيث إنه كما يظهر في إصداراته ومؤلفاته الكثيرة كان لا يقدم إهداء لشخص بعينه .. حيث كان يقدمه في صدر مؤلفاته " إلى أرض مصر الطيبة " و " إلى رسل الثقافة المجهولين من تجار الشرق وملاحيه القدماء " إلا أنه في الوقت نفسه كان يرد الفضل لأصحابه من أساتذته وزملائه وطلابه وعلى مستوى الأسرة، فكان رحمه الله يقول دائمًا عن المرحومة قرينته السيدة عزيزة محمد الشعراني حفيدة الإمام عبد الوهاب الشعراني: إنها وقفت إلى جانبه طوال رحلة الحياة بالتضحية والإيثار والعون والمساندة والرأي السديد والإخلاص بلا حدود، فقد آثرت ترك المجال العلمي بعد حصولها على الماجستير لتتفرغ لتربية أبنائها وصحبته بلا تردد لإنشاء المركز الثقافي المصري بلندن أثناء الحرب العالمية الثانية ولم تتوانَ في مرافقته إلى أسيوط في منتصف الخمسينيات لإنشاء الجامعة، فكانت بذلك مثالاً للزوجة الصالحة والأم العظيمة والصديقة الناصحة الأمينة، التي تتمتع بقدر هائل من الذكاء ورجاحة العقل والثقافة والعلم والفكر الناضج والإيمان القوي.
... لقد كان دائمًا لا يريد أن تغادر روحها الجسد قبل روحه .. وهي سكن روحه الطاهرة .. حتى لا يعيش ذلك اليوم ولكن الله سبحانه وتعالى أكرمها بأن تقبل هو العزاء فيها. رحمهما الله رحمةً واسعةً وأدخلهما فسيح جناته.
... لقد عاش المرحوم القرن العشرين .. بكل قيمه وموازينه .. يحمل قلبًا حانيًا مؤمنًا .. وعقلاً واعيًا فذًّا.. وجسدًا غاية في النشاط والعطاء .. وإرادةً واعيةً .. وإيمانًا عميقًا بالله . كان يردد دائمًا أنه وبالقياس إلى من هم في عمره ولم ينالوا حظًّا من التعليم في قريته كانت فرصته التي حصل عليها تعادل 1500 فرصة مقارنة بزملاء له لم ينالوا حظًّا من التعليم .(194/4)
... ولهذا كان شلالاً دافقًا بالعطاء لهذا الوطن ولهذه الأرض الطيبة الحبيبة، وكان يشعر دائمًا بأن عليه أن يعطي ألفًا وخمسمئةِ مرة قدر ما يعطيه الشخص العادي ليرد بذلك الدين للوطن وللقرناء الذين لم يسعفهم الحظ بنفس قدر الفرص التي حصل عليها، وليقدم شكره لله عز وجل على هذه النعم التي حباه بها. كانت هذه فلسفة حياته ونبع عطائه الفياض.
العلماء الكرام ...
... لعلنا نتذكر مقولته العبقرية الفذة والتي كان يشرحها في محاضرة كاملة موثقة بالأدلة المستخرجة من القرآن والسنة:
تهذيب الغريزة يخرج الحيوان من الحيوان.
وتربية الضمير تخرج الإنسان من البشر.
وتدريب العقل يخرج البشر من الحيوان.
وتأديب النفس يخرج الإنسان من الإنسان.
أشعر الآن علماء مصر الأفاضل وأعلامها الشوامخ أنني استنفدت وقتي أمامكم ولا يسعني إلا أن أتقدم إليكم نيابة عن النفس والأسرة.. شاكرًا ومعترفًا بالفضل .
وفي الختام، أسأل الحق سبحانه وتعالى أن يسكنه فسيح جناته وأن يلهمنا جميعًا الصبر على فقد الراحل الكريم وإنّا لله وإنّا إليه راجعون وأسألكم الدعاء له وقراءة الفاتحة على روحه الطاهرة .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحمد سليمان حزين
نجل الفقيد(194/5)
كلمة المجمع في تأبين الراحل الكريم
الأستاذ منير البعلبكي في ذمة الله
للأستاذ أحمد شفيق الخطيب
في التاسعَ عشَر من حزيران ( يونيو ) 1999م انتقل إلى رحمته تعالى المغفور له الزميل منير بعلبكي الذي عرفناه مِلءَ السّمع والبصر في المجمع، كما في سائر أنحاء الوطن العربي.
... وُلدَ الأستاذ منير عام 1918 من أُسرةٍ بيروتية مرموقة ـ رأسُها جَدٌّ ارتحل من مدينة بعلبك منذ أجيالٍ إلى بيروت فاشتُهر بالبعلبكي.
... تلَقَّى فقيدُنا علومَه الأولى في مدارس جمعية المقاصد، ثُمَّ انتقل في سِنِّ التاسعة إلى المدرسة الثانوية العامة (الإنترناشونال كوليج) ومنها التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت، وتخرَّج عام 1938م بشهادة بكالوريوس في الأدب العربي والتاريخ. ونظرًا لِتفَوُّقه أُوكلَ إليه تدريسُ الصفِّ الذي أنهاهُ، في العام التالي.
... بعد سَنتين وتَلبيةً لدعوة قومية من مدير المعارف في العراق الأستاذ ساطع الحُصري، طالبًا مُدرِّسين لدار المعلمين في كلية الملك فيصل في بغداد، كان الأستاذ منير بعلبكي ضِمن مُلَبِّي النِّداء. ثم مع بوادر الحرب العالمية الثانية انتقل إلى الكلية العلمية في دمشق أستاذًا لمادتي الأدب العربي والتاريخ. وفي أواخر الحرب عاد إلى بيروت أستاذًا في كلية البنات الأهلية وكلية المقاصد الإسلامية.
... في العام 1945م تركَ الأستاذ منير مِهنة التدريس على النطاق الضِّيق في غرفةِ الصف، إلى مهنة التثقيف على النِّطاق الفسيح؛ فأسَّسَ مع زميله بهيج عُثمان دارَ العلم للملايين التي غَدت من أهمِّ دور النشر في العالم العربي.(195/1)
... وبحُكم خِبراته وواسِع ثقافته وتَمكُّنه الرصين من العربية والإنجليزية بدأت ترجماتُ الأستاذ منير تستقطب القُراءَ، شيبًا وشُبّانا بمُستوًى عزّ نظيرُه. وأذكُر أنّا في مجتمعاتنا الشبابيّة في الجامعة كُنّا نتبارى في من قرأ كتبًا أكثر من ترجمات الأستاذ بعلبكي المتوالية في شتّى الموضوعات الاجتماعية والنفسية والروائع الأدبية العالمية.
... الأستاذ بعلبكي، تُرجمانًا، أدخَل الترجمة إلى عصر جديد يَحتفِظُ فيه العملُ القَصَصي أو الرِّوائيُّ أو الاجتماعُّي برُوحه الأصليَّة، فتشعُر أنّك تقرأ، في لُغةِ أصلٍ لا في لُغةِ تَرجمة!
... العالمُ العربي عرفَ منير بعلبكي، أوّلَ ما عرفَه، كأحد المترجمين العَرب الكبار ـ بل أحدُ ثلاثَتهم، كما وصفه عميدُ الأدب العربي طه حسين، من خِلال الروائع التي انتقاها للترجمة من عيون الأدب وقمم الفِكر العالمي. أذكر من هذه الروائع القصيصة:
البؤساء لفكتور هوجو
قِصة مدينتين لتشارلز ديكنز
كوخ العم توم لهرييت ستاو
الشيخ والبَحر لإرنست همنجوي
ومن روائعه في المجالات الفكرية والاجتماعية:
تجاربي مع الحقيقة لمهاتما غاندي دفاع
عن الإسلام لِلورا فاغلييري
تاريخ الشعوب الإسلامية لكارل بروكلمان
الإسلام والعرب لِروم لاندو
رُوّاد الفكر الاشتراكي للبروفسور ج. هـ . كول
عِشرون عامًا في الترجمة المُتَميِّزة لم تكسِب الأستاذ مُنير لَقب شيخ المترجمين العرب فقط ، بل أوحت إليه وأتاحت له أن يُصدِرَ تُحفَته المُعجميَّة "المورد " الذي تعرِفون عام 1967!(195/2)
في مقدِّمة مورده يقول الأستاذ بعلبكي: كان من دأبي منذ أوّلِ عَهدي بالترجمة أن أُدوِّن على هوامش معاجمي الإنجليزية ـ العربية مُختلفَ المعاني والتعابير الاصطلاحية التي أقعُ عليها في الأمَّهات الإنجليزية. وهكذا اجتمعَت لديَّ ذخيرةٌ ثرَّة مُلحقةٌ بِكُلِّ معجم من مَعاجمي، يَسّرتْ لي عملي في حَقل الترجمة. وبحَفز الأصدقاء وتشجيعهم، بَل وإلحاحهم، غدَت حصيلةُ تلك الذخيرة نواةً لمعجم مَورد.
المعجميُّون عندنا، قَبْل مُنير البعلبكي كانوا في غالبيَّتِهم مُفرداتيين lexicologists . وبَمورد البعلبكي تَعرَّفنا الصناعة المعجميَّة وفنَّ التأليف المعجمي الأجنبي العربي. لقد كان، طيَّبَ اللهُ ثَراه ، رائدًا في مِضمار الصِّناعة المعُجمية ـ مُعجميًّا lexicographer من الطِّراز الأوّل.
وما أن أَنهى البعلبكي معجمَ المورد عام 1967 حتى باشَر مشروعَه الضخم موسوعةَ المورد ـ رُبما شعورًا منه بأن المكتبةَ العربيةَ ما عادت مُستوفاةً مَوسوعيًّا بدائرة معارف القَرن العشرين التي أصدرها العلامةُ محمد فريد وجدي عام 1938، ولا بدائرة معارف البُستانيَّين التي بدأَ العملَ فيها المُعلِّم بطرس البستاني أواخر القرن التاسعَ عشر، ثم حاول الدكتور فؤاد افرام البستاني إعادة النظر فيها واستِكمالَها، أواسطَ القَرن العشرين، لكن المحاولَة توقفتْ ولمّا تتجاوزْ حرفَ الألِف.
أخرجَ الأستاذ مُنير مٌوسوعة المورد في عَشرةِ مُجلَّداتٍ ضخمةٍ بعدَ ثلاثَ عشْرَة سنَةً من الجُهد والبَحث والتدقيق. وفيها تتجلّى منهجيَّة البعلبكي وسَعةُ ثقافتِه وعلْمِه ورَصانته ودقّتُه.
وكانت للأستاذ منير نشاطات في شتّى المجالات التثقيفيَّة . فقد أسهَم في إصدار مَجلَّتين ـ " مجلةِ العلوم" التي رأس تحريرَها بين 1956، 1972 ولاقتْ نجاحًا كبيرًا، ومَجلة الآداب التي تركَ أمرها لاحِقًا للدكتور سهيل إدريس.(195/3)
وكمؤرِّخٍ مُنصِف ألَّفَ الأستاذ بعلبكي مع زميليه شفيق جحا، وبهيج عثمان سلسلة "المُصوّر في التاريخ " للمرحلتين الإعدادية والثانوية ـ قِيل فيها إنها الأقربُ إلى ما يُمكن أن يكون كتابَ التاريخ المُوَحَّد لِدراسة التاريخ اللبناني الذي أوصى اتفاقُ الطائف بإقراره.
لقد نالَ الأستاذ منير بعلبكي جوائزَ عدةً من جمعية أصدقاء الكتاب، على ترجمته لروّاد الفكر الاشتراكي، وجائزة سعيد عقل على المورد، كأفضل كتاب ظهر في لبنان لمؤلف لبناني في ذلك العام، وجائزة مؤسَّسَة الكويت للتقدم العلمي على موسوعة المورد.
لكن جائزةَ "أبو رُوحي" الكُبرى كانَت وتظَلُّ مَحبَّةَّ الجميع له بلا تَحفُّظ لأنه أحبَّ الجميعَ بِلا تحفُّظ ؛
لَعَمْرُكَ ما مالُ الفَتَى بذَخيرةٍ
ولكنَّ إخوانَ الصفاءِ الذّخائرُ
وفي مجمع اللغة العربية، كان الأستاذ بعلبكي من جُنود العربيَّة الأشاوِس مُشاركةً وحُضورًا وتألُّقًا ـ كما عَهد تُموه. فرُغمَ المرَض الذي بدأ يأخذُ من جِسمهِ مأخذَه، منذ مَطلع التسعينيات، ظلَّ مُثابرًا على حُضور الجلساتِ والإسهامِ في المُناقشاتِ بخاصةٍ ما كان يتعَلَّقُ منها بالمجَالات المُصطلحية.
قِلَّة فقط يَعرفون أنه في أواخر أيامه قَبْلَ الغَيبوبة ـ حتى في الأشهر التي اضطَرَّه فيها المرضُ وحُبْسَةُ النُّطق إلى التخلُّف عن حُضور جَلسات المجَمع ـ أنَّه كانَ مُنكبًّا على عَملٍ ضخمٍ هو " المورد الكبير " كتَتويج لحياته العملية.
آخرُ عَهدي بالأستاذ مُنير زيارةٌ عابرةٌ له في مستشفى الجامعة الأمريكية أثناءَ غيبوبته السُّباتية الطويلة. قالتْ لنا المُمرِّضة: الزياراتُ مَمنوعة، فقلت لها: ليستْ ممنوعةً على الرِّفاق. أنا وزوجتي نُريد فقط إلقاءَ نظرةِ ذِكرى على " أبو روحي".
دخَلْنا الغُرفةَ فبَرمَتْ عينا الزميل في غيبوبته، وهمسَتْ زوجتي: انظرُ، لقد عَرفَنا!(195/4)
حتى في غيبوبته ظلَّ منير البعلبكي حاضرَ الذِّهن حادَّ البَصيرة ـ كما عهدناه دومًا في بيروت، وكما عهدتموه في رِحاب مجمع اللغة العربيَّة.
المؤسَّسات التي شادَها أبو روحي، و المَراجع التي صَنَّفَها، والروائع التي تَرْجَمها، والخلف الطيب، وذكراهُ في قلوب عارفيه وحضراتكم في مُقدِّمَتِهم ، تُبقي منير البعلبكي حيًّا في قُلوبنا وقلوبِ الأجيالِ القادمة.
نتقدم إلى حَرَمه الفاضلة السيدة رُوحية حقان بعلبكىِ وكريمته المَصون
سَحر بعلبكيِ أبو ظهر، ونَجْلَيه الألْمَعيْن الدكتور روحي والدكتور رمزي وآلِ بَعلبكيِ الأكارم، بأحرِّ التعازي.
رحمَ اللهُ الزميلَ العلامة منير بعلبكي وأسكَنه فسيحَ جناته جزاءً وفاقًا عن أعمالِه الجليلة في خِدمة العربية وأُمَّةِ العرب، وإنا لِلَّه وإنا إليه راجعون! شكرًا لكم
أحمد شفيق الخطيب
عضو المجمع
من فلسطين(195/5)
الإعلام العربي وما يضيفه للعربية
من توليد للمفردات وأساليب التعبير(*)
للأستاذ علي رجب المدني
... إن دوائر الإعلام المنطلقة من الفصحى أسلوبًا لخطابها من حقها ( بما أوتيته من كفاءة وأكفاء ) أن تمضي رافعة الرأس في السير على سنة ( التوليد في العربية ) تلك السنة التي أعتقد أنها سنة حسنة، لمستنيها أجرها وأجر من عمل بها ما التزمت السبيل السوي فيما تولده من مفردات وأساليب نطق عربي سليم غير مشوب بتعجيم ولا ابتذال. ذلك التوليد الذي نشأ منذ أن غزت العجمى العربية الأولى ( عربية قريش ) التي هي ثاني التهذيبات من مراحل التهذيب الثلاث التي مرت بالعربية والتي سماها المرحوم محمد فريد وجدي في دائرة معارف القرن العشرين باللغة الخالصة التي قيل إنها أوحي بها إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
... وكان ذلك الغزو من أعدائها وأعداء الكتاب الذي نزل بها .
فقد انطلقت ضمائر ومدارك الأسلاف من علماء هذه الأمة على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم تذود عن حياض عربية القرآن وتدفع عنها غزوات العجمى وترسي قواعد الاجتهاد والابتكار السليم الواعي. مما حقق للعربية إضافات مكنتها من أن تستوعب حضارات الآخرين وتتأهب لمواجهة عصور العلم على نحو مكنها من أن تحتل مركزها المتقدم برصيد من المفردات والمصطلحات أهلها لذلك المركز.
... لكن مذهب ( التوليد) الذي استكمل مقوماته في عصر ازدهار الدولة الإسلامية في بغداد، لم يقم على عشوائية التبني للمفردات وأساليب
النطق وإنما انتهج منهجًا يرتكز على توخي الحيطة كل الحيطة والحذر أشد الحذر من أن ينصرف التوليد إلى الإخلال بما استقر عليه القرآن ولغة قريش من مضامين وأسس لا تقبل ما قد يسببه الجموح في التوليد من مساس بهما أو تأثير عليهما أو على شيء من قواعد الإعراب والصرف أو قواعد البلاغة التي استقر الأخذ بها .(196/1)
... وما قامت المجامع اللغوية في عالمنا العربي ( وفي طليعتها مجمعا القاهرة ودمشق ثم ما توالى منها ) إلا بحافز من الحرص على تلك الخطوط الحمراء التي لا يجوز تخطيها على نحو قد يضر بكيان اللغة واحترامها واستقلالها في مسيرة التوليد التي استأنفتها هذه المجامع المجيدة على نحو أضافت به للعربية رصيدًا جيدًا من المفردات التي تتطلبها طبيعة العصر، لذلك فإن التوسع في الاستفادة من مذهب التوليد خصوصًا على أيدي الصفوة من الإعلاميين العرب إنما تعني مضيًّا في تشييد الصرح الذي بدأ تشييده أولئك الأسلاف الأماجد في عصر أمتنا الذهبي، غير أن التسليم للسادة الإعلاميين بحق التوليد في اللغة ينبغي أن يقترن بالتزام متبادل بينهم وبين مجامع اللغة العربية في الوطن العربي الكبير بأن تكون تلك المجامع مرجعًا لهم للتأكد من سلامة ما يولدون ويضيفون إلى العربية إضافة سليمة من كل ما من شأنه أن يشكل تعارضًا أو تجافيًا مع قواعد اللغة أو أساليب النطق البلاغية المعهودة .
وما من مظهر لذلك الالتزام المتبادل المرجو أفضل من أن يقوم ميثاق شرف بين ولاة الأمور من الجانبين يضمن العمل بمقتضى بنوده على نحو لا يحتمل الإخلال أو التغاضي .
... ولا يخفى ما في تحقيق كل ذلك من إضافة منتجة ومثرية للغة الضاد سواء كان ذلك بالنسبة للمجامع أو للكتاب الإعلاميين الذين يتصاعد دورهم من إعلاميين فحسب إلى رواد للأجيال المتجددة في تلقينها ما عز على الأجيال السالفة أن تتلقنه وتتعلمه من مصطلحات نطق ومفردات مستحدثة يكون الفضل في استحداثها لأولئك الإعلاميين العباقرة الذين اجتمعت لهم مواهب الذوق الأدبي والفني على نحو غير مسبوق أهلهم للنهوض بدور تثقيفي وحضاري عظيم الأثر لم يتح لأسلافهم أن يدركوه أو أن ينهضوا بمثله .(196/2)
... أما المجامع فإن بمقدورها أن تستفيد من ميثاق الشرف هذا موردًا فياضًا بالجديد من أساليب التعبير ومفردات اللغة، وهذا من شأنه أن يضاعف رصيدها مما تغذي به قواميسها ويفتح من خلالها الآفاق للهيئات العلمية والتعليمية كي تنهل المزيد مما تقدمه لها تلك القواميس وأبحاث اللجان المختلفة بتلك المجامع كل عام.
... ولا أراني مبالغًا عندما أقترح أن يتحول ميثاق الشرف المرجو إلى تشريع يلتزم به الجانبان ويبرز قدسية الأهداف المتوخاة من ورائه.
... بقي أن نناقش أساليب التنسيق بين المجامع والإعلاميين بغية انتقاء أفضلها كقنوات اتصال بين الجانبين إمدادا واستمدادًا، وأرى أن هذا يتطلب تكوين لجنة عليا على مستوى مجامع الوطن العربي ومراكز الإعلاميين على ساحة هذا الوطن ، يكون مقرها القاهرة ويخول لها أن تندب لجانًا متفرعة عنها للتغلغل في دوائر الإعلام العربي المختلفة وتجميع ما يجد لديها من مفردات وأساليب ثم تعميمه على المجامع لاعتماد ما ترى اعتماده واستبعاد ما ترى استبعاده، على أن تلتزم دوائر الإعلام تلك بما يستقر عليه الرأي من خلال اتحاد المجامع العربية اعتمادًا واستبعادًا .
... وبذلك يتحقق التنسيق المطلوب وتوالى رسالة التوليد دورها البناء في كيان لغتنا المجيدة وبعثنا الحضاري في مختلف الميادين العلمية والفنية والاجتماعية والثقافية بوجه عام .(196/3)
... وجدير بنا أن نعمل لإيجاد قنوات اتصال وتواصل بين مختلف النوادي الفكرية من خلال نشرات دورية تتولى اللجنة العليا، بواسطة ما يتفرع عنها من لجان، إعدادها وإمداد تلك المنتديات بها متضمنة ما يستجد من مفردات وأساليب نطق معتمدة، ولا بأس أن تقوم اللجنة العليا المذكورة بإصدار مجلة فصلية تتضمن جميع تلك المفردات والأساليب وجهات استحداثها حتى يتكامل التواصل بين جهات الإعلام والجماهير العربية على نحو يحقق مزيدًا من التلاحم والثقة والتمازج الفكري بالقدر الذي يوسع من قاعدة الكتاب والمحررين ويخفف من عبء وسائل الإعلام في تجميع ما تحتاجه من مواد لإمداد مؤسساتها الإعلامية من مسموعة ومقروءة ومرئية .
... ولا يخفى ما في التمكين من الوصول إلى هذه المرحلة المتقدمة من منافع تعود على المجتمع العربي بوجه عام بقدر من التواصل والإيجابية والحماس الحافز مما يضمن قيام المجتمع العربي المتجانس المرجو قيامه خلال هذا القرن إن شاء الله تعالى .
... ولن ينكر متبصر بعيد النظر ما لغياب عناصر التواصل هذه من أثر سلبي على فرص الدمج بين أجزاء الوطن العربي التي تعاني من عزلة بعضها عن بعض فكريًّصعوبات في تفاهمها وتعاونها على نحو يقرب من وحدتها ودمج كياناتها المبعثرة في كيان عربي واحد قوي يتوقف عليه كل أمل في تحررها وتقدمها .(196/4)
... ولعل من أهم ما ينبغي أن تلتزم به وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها وأساليبها التركيز على رصد ما يجد لديها من مفردات وأساليب نطق مبتكرة أو مستمدة من لهجة التخاطب السائدة بين الناس، وتقديمها أولاً بأول إلى اتحاد المجامع أو المجمع الذي تقع في دائرة وجوده وتنتظر ما يصدر عنه من دراسة وقرار بشأن كل من تلك المفردات والأساليب على نحو يحقق التوافق بين وجهة نظر المجمع في إجازتها واتجاه الجهة الإعلامية لاستخدامها. وهذا من شأنه أن يضمن سلامة الإضافة إلى العربية بالقدر الذي يحمي كيانها ويحول دون مزاحمة العامية للفصحى وإخلالها بما استقر عليه النطق العربي السليم من مراعاة لحرمة التراث العربي وعدم المساس بأي ركن من أركانه أو إخلال بسلامة مضامينه، ولا يخفى ما في اندساس العامية في الفصحى دون رقابة من خطورة التشويه لأساليب التعلق العربي الموروثة بما قد يندس من تعابير وأساليب نطق تغيب المعنى المقصود وتحدث بلبلة تخل بالأغراض المستهدفة من التعبير .
... ومن شأن توحيد الجهد والعناية بين كل من وسائل الإعلام ومجامع اللغة تقوية اللُّحمة بينهما بالقدر الذي يتطلبه استمرار تعاونهما التعاون المنشود دون تراجع أو ملل من أحدهما.
... ولعل مما يرجع الفضل في توليده للإعلام المقروء والمسموع من مفردات احتلت موقعها البارز في النطق العربي فصيحه وعاميه كلمة {هُوِيَّة} التي شاع التعبير بها فيما نقرأ وما نسمع، وأنها لخير مثال على ما يحققه التوليد للعربية من إضافة مبنية على رقة الذوق وأناقة العبارة ويسرها وخفتها .(196/5)
... وإني وإن كنت لا أرى المضي في عرض النماذج المماثلة لهذه المفردة غير أني أرى أن أضيف إليها ما يكمل عائلتها التي لا غنى عن تكاملها ليستقيم استعمال الكلمة المذكورة التي لا تعني إلا المفرد المذكر، الأمر الذي يثير التساؤل عن سبب التوقف عن استحداث ما يعني المفرد المؤنث. وجمع المذكر، وجمع المؤنث ، والمثنى المذكر، والمثني المؤنث، وذلك بقولنا: {هِيَيَّة} و{هُمَيَّه} و{هُنَّيَّة} و{هُمَايَة} لكل من المثنى المذكر والمؤنث فنقول: هُيَيَّتها وهُميَّتُهم وهُنَّيَّتُهُنَّ وهُمَايتُهُمَا (للمثنى المذكر والمؤنث) وبذلك نحقق للتعبير العربي الحديث تكامله الذي يؤكد قوة وجدارة رحم العربية بالتميز والسبق إلى التطور ومسايرة حضارة الإنسان وحسه الجمالي الذي يجد به إلى الإيجاز وخفة التعبير وأناقته.
... ويمكن أن يقاس على هذا الكثير مما استحدث وما قد يستحدث من مفردات وأساليب نطق تتمتع بكل هذه المزايا، الأمر الذي يجعل من اشتداد اللُّحمة بين المجامع العربية ودوائر الإعلام المختلفة إضافة مثرية وخطوة حضارية متقدمة من شأنها أن تنهض بثقافتنا العربية وتنطلق بها إلى مركز الصدارة الذي هي أهل له .
... ولست أرى أي نشوز في التعبير عندما أقول: عرفت هِييَّة المرأة التي وجهت إليَّ تساؤلها وسألت عن هُمَيَّة الرجال الذين وفدوا إلينا وعن هُنّيّة النسوة اللاتي كُنَّ معهم. وصافحت الرجلين بعد أن عرفت همايتهما وهماية المرأتين اللَّتين كانتا معهما .
... هذا مجرد مثال أعرضه آمل أن يستقبل بأقل قدر من الدهشة والاستغراب وأن يولي المزيد من الحلم وسعة الصدر اللذين يمكنان من التركيز على الهدف السوي الذي يهدف إليه.
سادتي الزملاء:(196/6)
... لعل من أهم الخطأ وأجداها في مسعى التواصل بين مجامعنا العربية والرأي العام العربي الذي يمثل غاية وجودها وهدف رسالتها، أن يبذل مسعى مكثف من أجل تخصيص أركان ثابتة ودائمة لهذه المجامع في كل وسيلة من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية تتولى تموينها تباعًا بما يجد من أعمالها ومنجزاتها على نحو مبسط يستهدف التغلغل إلى جميع المدارك والمستويات، ويستقطب اهتمامها الذي يتعين إيقاظه من خلال التعريف بما ينطوي عليه تجاهل الفصحى من مساس بكبريائنا الحضاري بل وكياننا الإنساني من أساسه.
... ولا يفوتني أن أعود إلى ما سبق أن قلته في بحثي { تعميم الفصحى بتفصيح العامية} الذي شرفت بإلقائه في مثل هذه المناسبة في أوائل العقد الأخير من القرن المنصرم من أن نسبة كبرى من مفردات العامية في مختلف أجزاء الوطن العربي هي ذات أصل عربي فصيح، ولا يتطلب تفصيحها أكثر من مجرد رصدها وحصرها والاستعانة بخبراء المجمع على تفصيحها وتعميمها من خلال الأركان المقترحة أعلاه في وسائل الإعلام التي سيتقبلها ولاة أمورها من كتاب ومحررين ببالغ الاهتمام والترحيب. الأمر الذي يكفل إحياءها ووضعها موضع الاستعمال والتداول بين أساليب
النطق العربي الفصيح الذي ستثريه .
... وختامًا لا يسعني إلا أن أكبح اندفاعي للمزيد من القول حفاظًا على وقتكم وتمكينًا لما قد يكون أجدى وأجدر بالاهتمام.
أشكركم والسلام عليكم ،،،
علي رجب المدني
عضو المجمع
من الجماهيرية العربية الليبية
...(196/7)
كلمة المجمع في تأبين الفقيد
للأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع
العالم الجليل الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية
العلماء الأجلاء - سيداتي وسادتي
كم يشق علىّ أن أقف اليوم لأؤبن فقيدنا العظيم المغفور له الأستاذ الدكتور سليمان حزين عضو المجمع وكان بالأمس القريب بيننا ملءَ السمع والبصر؛ ولكن هذه سنةُ الحياة ما نحن إلا ودائع في هذه الدنيا تُسترد في ميقات يوم معلوم وتمضى إلى بارئها لتحيا حياة أخرى هي خير وأبقى.
وكل حي إلى فناء ولكل إنسان أجلٌ محتوم وقدرٌ مقدور { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون } صدق الله العظيم .
سادتي العلماء الأجلاء:(197/1)
يعلم الله كم أشفقت على نفسي عندما رُئي أن ألقىَ كلمة المجمع في تأبين الراحل الكريم لأني استشعرت العجز عن الحديث عنه كما ينبغي أن يكونَ الحديثُ عن عالم عظيم فلست ممن يملكون ناصيةَ اللغة والبيان لأعبَر أصدق تعبير عما يعتلج في الصدور من مشاعر الحزن والأسى على فراق هذا الفقيد العظيم أو أصورَ لكم قدرَه الحق كقمة من قممنا العلمية الشامخة ورائدٍ من رواد ذلك الجيل الأشم - جيلِ العمالقة الذي أسهم في بناء النهضة العلمية والثقافية في مصر ودفع حركتَها خطواتٍ فسيحةً إلى الأمام على مدى خمسة وستين عامًا من حياته العلمية التي زخرت بأروعِ الإنجازات وأجلِّ الأعمال، أداها بهمة منقطعة النظير حتى آخر يوم في حياته- بذل الكثيرَ من عصارة فكره وعلمه لتنشئة جيل بل أجيال من شباب العلماء تزهو بهم مصر اليوم وتعلو، وقد مضى ينشر نورَ العلمِ ويعلي منارَه، ويعمل على تحقيق هذا الهدف وما كان ليميل عنه إصبعًا إلا ليميل إليه ميلا، وستظل بحوثُه ودراساتُه ومقالاتُه التي ربت على الخمسمئة في مجالات العلم والثقافة شاهدًا على عمق فكره وسعة أفقه ورجاحة عقله كتبها بلغة عربيةٍ وأجنبيةٍ يملك ناصيتَها دبجها بيراعه في مُكنة واقتدار- كان في ذلك كله نسيجَ وحدة بين العلماء ورواد الثقافة المعاصرين لا في مصر وحدها بل في الوطن العربي كله.
ذلكم هو العالم الموسوعي المغفوُر له بإذن الله الأستاذ الدكتور سليمان حزين عميدُ الثقافة العربية وإمامُ الجغرافيين في مصر وشيخُهم المعلى في الوطن العربي .
سادتي العلماء(197/2)
عرفت الفقيدَ العظيمَ منذ ثلاثة وستين عامًا سنة ست وثلاثين وتسعمئة وألف (1936) - كان قد عاد منذ قليل من بعثتِه بإنجلترا بعد حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة مانشستر عام ألف وتسعمئة وخمسة وثلاثين (1935) - كان شابًا في السابعة والعشرين من عمره متوقد الذكاء يتدفق نشاطًا وحيوية حضر إلينا في كلية العلوم لنشارك معًا في رحلة إلى اليمن كنا نعد العدةَ لها - وكان رحمه الله قد حصل على منحةٍ من جامعة القاهرة للسفر إلى اليمن لدراسة تضاريسها وصخورِها ولإثبات نظريةٍ كان قد توصل إليها إبان دراسته لدرجة الدكتوراه - وكان هدفُنا نحن من هذه الرحلة التي استمرت سبعةَ أشهر هو دراسةَ الفونة الحشريةِ باليمن واستجلاءَ نظريةٍ عن هجرة الجراد الصحراوي الذي يغير على مصر والأقطار العربية من هذه المناطق النائية .
تعددت اللقاءات مع الفقيد قبيلَ الرحلة وبعدها وكنا متقاربين في السن فازدادت آصرة المودة بيننا عندما عملنا معًا في هذا المجمع العريق نسوس أمورَه معًا قرابةَ أربعين عامًا حتى قبيل رحيلِه وانتقالِه إلى جوار ربه مع الصديقين والشهداء. وقد عرفت خلال هذه السنوات جوانبَ من شخصيتِه الفذةِ والخيرة وعلى فكرِه الثاقب وبصيرتِه النافذة وما حباه الله من نفحة من علمه وقبسٍ من نوره رفعاه إلى مصاف الرواد والمفكرين العظام وعلماء مصر الأعلام .
مولده ونشأته:(197/3)
ولد رحمه الله في الرابع والعشرين من شهر مايو عام ألف وتسعمئة وتسعة على ضفاف النيل في مدينة وادي حلفا حيث كان والدهُ يعمل في حقل التعليم ولم يلبث الأبُ أن عاد إلى قريتهِ (الوفائية) مسقطِ رأسه في محافَظة البحيرة ومعه الصبيُّ سليمان لينشأ في ريف مصر يتفيأ ظلالَه ويعيش بين مروجه الخضراء ويتنفس عطرَه وأريجَه – ثم يلتحقُ بكُتاب القرية ويحفظُ على يد الشيخ عبد الله شيحه ما تيسر من القرآن الكريم ويتعلمُ مبادئ علم الحساب وقواعدَ اللغة العربية وكان اتجاهُ الأسرة وقد لمستْ في ابنها النجابةَ وبدت عليه مخايلُ الذكاء أن يسلك طريقَ الأزهر ليكون بين علمائه في قابل الأيام – ولكن الفتى آثر التعليمَ العام، فيلتحقُ بالمدرسة الابتدائية وتتفتحُ ملكاتُه ويحصلُ على الشهادة الابتدائية بتفوق ثم يمضي إلى مدرسة طنطا الثانوية ليلتقيَ بأساتذةٍ في اللغة علماء بينهم الشيخُ محمد هاشم عطية والشيخُ أحمد خاطر فيزدادُ شغفًا بلغة القرآن ويُقبلُ على آدابها شعرًا ونثرًا ليحفظَ منه الكثيرَ ويحاولُ في هذه السن الباكرة أن يكون شاعرًا – ولكنه انصرف إلى دراسته وحصل على شهادة البكالوريا عام خمسة وعشرين وتسعمئة وألف (1925) وكانت الجامعةُ المصريةُ في صورتها الجديدة (الحكومية) قد أنشئت، وفتحت كليةُ الآداب بها بابَ القبول لأول دفعة من الطلاب فيعزفون عنها فمستقبلُ خريجيها مجهول، ولكن سليمان يكون ثانيَ اثنين يغامران بالالتحاق بها فقد تحركت فيه روحُ الشاعر القديم التي تتطلع دائمًا إلى ما وراء الأفق وتبعه بعد ذلك فئةٌ أخرى من الطلاب.
حياته العلمية بالجامعة وريادته للثقافة العربية(197/4)
يتابع الفقيدُ حياتَه العلمية بكلية الآداب بجامعة القاهرة في قسمين من أقسامها هما قسم الجغرافيا ( والعلوم السياسية ) وقسم الاجتماع (والدراسة الفلسفية ) وأتم دراستَه بالقسمين في آن واحد وحصل على ليسانس الآداب في الجغرافيا في يوليه 1929 وليسانس الآداب في الاجتماع في سبتمبر من العام نفسه وكلاهما بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى وفي أثناء دراستِه كان كثير التردد على قسم اللغة العربية - اللغةِ التي يعشقها - وتنشأ بينه وبين عميدِ الأدب العربي مودةٌ ويصبح من مريديه والمقربين إليه وبعد تخرجه توفده جامعة القاهرة في بعثةٍ علميةٍ إلى إنجلترا في يوليه 1930 حيث حصل على درجة الماجستير من جامعة ليفربول عام 1933 وعلى درجة الدكتوراه من جامعة مانشستر عام 1935 ومن هذه الجامعة حصل على جائزة ومنحة لانجتون لدراسات ما بعد الدكتوراه. وكان المصريَّ الوحيدَ الذي يحصل على هذه الجائزةِ والمنحة المتميزةِ وقدرُها ألفُ (1000) جنيهٍ استرليني سنويًّا لمدة ثلاث سنوات .
واستمرت دراستُه في البعثة العلمية خمسةَ أعوام ونصف العام في جامعات إنجلترا وفرنسا وألمانيا والنمسا وتوطدت صلاتُه العلميةُ مع عدد من العلماء في هذه الجامعات .
وما أن عاد رحمه الله إلى أرض الوطن حتى عين مدرسًا بكلية الآداب جامعة القاهرة وكان كالعهد به طلقَ اللسان والبيان وطرازًا فريدًا في الدرس والتدريس - وحين أنشئت جامعةُ الإسكندرية وقع عليه الاختيارُ لإنشاء قسم الجغرافيا بها وكان أولَ رئيسٍ له وبعد ثلاث سنوات في عام 1950يعين مديرًا عامًّا ثم وكيلَ وزارة للثقافة بوزارة المعارف فينهضُ بإدارتها نهضةً شاملة ويوطد علاقات مصر الثقافية بالبلاد العربية والعالم الخارجي بفضل ما عُرف عنه من سعةِ الأفق وعمقٍ في الفكر وسدادٍ في الرأي.(197/5)
ويكونُ من حظ التعليم الجامعي أن يعود الدكتور حزين إلى ميدانه مرةً أخرى حين يُعهد إليه بإنشاء جامعة أسيوط ويعينُ مديرًا لها عام 1955 وظل بها عشر سنوات متصلةٍ ينميها ويطورُها بعد أن بدأت الدراسةُ بها عام 1956 حتى استقرت وتبوأت مكانتَها بين زميلتيها بالقاهرة والإسكندرية حاملةً مشعلَ العلم والثقافة في صعيد مصر .
سادتي العلماء
حين يؤرخُ للتعليم الجامعي وللثقافة العربية فسيكون الدكتورُ حزين من قممها الشامخة ومعالمها البارزة فقد تعددت أعمالُه الإنشائيةُ العلميةُ والثقافيةُ الرائدة على الصعيدين القومي والدولي فقد أنشأ المركزَ الثقافيَّ المصري في بريطانيا وكان أولَ مديرٍ له عام 1943 بلندن، كما شارك في الدراسات الخاصة بإنشاء هيئة اليونسكو والتي عقدت في لندن، وباريس عام 1944، ثم إنشاءِ المركز المصري للثقافة العربية والإسلامية بمدريد عام 1950، وفي عام 1947 كان مؤسسًا مشاركًا لكل من متحفِ الحضارةِ المصري بالقاهرة ومعهدِ الدراسات السودانية (حاليا معهد الدراسات الأفريقية ) بجامعة القاهرة .
كما قام الدكتور حزين على شؤون التعاونِ الثقافي بين مصر والدول العربية وفي مقدمتها المملكةُ العربيةُ السعودية والكويتُ وله دورٌ تاريخي في بناء الثقافةِ العربيةِ، وفي عام 1965 يختارُ وزيرًا للثقافة فيسوس أمورَها في مكنة واقتدار ويضفي عليها الكثير من خبرته الواسعة .
ولا يكاد الدكتور حزين يتركُ الوزارة حتى تسعى إليه هيئةُ الأمم عرفانًا بفضله وغزير علمه فتسند إليه إدارة المركز الديموجرافي بالقاهرة (1968 - 1980 ) وهو المركزُ المتخصصُ في بحوث ودراسات السكان في دول أفريقيا والشرق الأوسط، فنهض بالأمانة على خير وجه وأبلى فيه أحسن البلاء على مدى سنين عددًا .
نشاطه في الجمعيات والهيئات العلمية(197/6)
وقد امتد نشاط الدكتور حزين إلى العديد من الهيئات والجمعيات العلمية التي سعدت برئاسته مثل المجلس الأعلى للآداب والفنون والعلوم الاجتماعية (1954) والاتحاد الأفروأسيوى للجغرافيين (1956) والاتحاد الجغرافي العربي (1962) واللجنة الدائمة للشؤون الاجتماعية بجامعة الدول العربية لمدة (20) عشرين عامًا متصلة (1956-1976) أو سعدت بعضويته مثل مجمع البحوث الإسلامية مند إنشائه (1961) والمجلس الأعلى للثقافة .
وجدير بالذكر أن الدكتور حزين تبرع بمكتبته للجمعية الجغرافية أقدم الجمعيات العلمية في مصر (1875) بعد المجمع العلمي المصري ورأسها سنوات طويلةً ونهض برسالتها العلمية والثقافية. حتى غدت صرحا شامخًا للدراسات والبحوث الجغرافية.
كما رأس المجمع العلمي المصري أقدم المجامع العلمية في الشرق الأوسط والمنطقة العربية (1798) وامتدت رئاستُه لهذا الصرح العلمي العريق خمسةً وثلاثين (35) عامًا حتى يوم رحيله وقد عمل رحمه الله على رفعته وتطويره وتحسين مبناه وتجديد مرافقه وتوثيق مكتبته الضخمة بالحاسب الآلي، وأضفى عليه من شخصيتهِ الفذةِ المعطاءة وعلمِه الغزير وثقافتِه الواسعة ما جعله اليومَ درةً لامعة بين المجامع والجمعيات العلمية والثقافية في مصر ينشر نورَ العلم ويعلى منارَه منذ نشأته حتى اليوم؛ وذلك بفضل جهوده وجهود أعضائه من علماء مصر الأعلام .
وهناك هيئتان كبيرتان كان فيهما رحمه الله قطبًا وفارسَ ميدان هما مجمعُ اللغة العربية والمجالسُ القومية المتخصصة - ففي مجمع الخالدين كان مقررًا للجنة مصطلحات الجغرافيا ومقررًا للجنة التربية وعلم النفس، وقد أشرف فيهما على دراسةِ الآلاف من المصطلحات ووضعِ المقابلات العربيةِ لها وشروحِها - وتجلت قدرتُه في هذا المجال في صوغِ المصطلح العلمي صوغًا دقيقًا ساعده في ذلك حصيلتُه الفائقة من اللغات العربية والإنجليزيةِ والفرنسية.(197/7)
وفي المجالس القومية كان مقررَ المجلس القومي للتعليم والبحث العلمي منذ نشأته عام 1974 ورئيسًا لشعبة الثقافة بالمجلس القومي للثقافة وقد أدى فيهما أجلَّ الخِدمات بعلمه وريادته وقد ترك بصماتٍ واضحةً ومؤثرةً في تأصيلِ وتطويرِ التوجيه العلمي الإستراتيجي في مصر وكان يقودُ كافَة أعمالِ تلك النخبةِ المتميزةِ من علماء مصر وأساتذتها أعضاء المجلس وشُعبِه المختلفة.
بحوثه ومؤلفاته ومدرسته العلمية
وقد أثرى الدكتور حزين المكتبةَ العلمية بالعديد من المؤلفات التي زادت على مئة مؤلفٍ علمي باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية منشورةً في العديد من المجلات والدوريات والمؤتمرات العلمية الدولية في مصر والخارج والتي بلغت نحو مئة مؤتمر - ودلت هذه البحوث والمؤلفات على المدى الذي ذهب إليه رحمه الله في خدمة العلم وطلابه وقدم من خلالها ربطًا فريدًا بين الدراسات الجغرافية الطبيعية والدراساتِ الجغرافية البشرية وحقق بأسلوبه هذا تكاملا علميًّا وبروزًا حضاريًّا وخدماتٍ مثلى للدارسين - وهو صاحبُ مدرسةٍ في البحوث والدراسات الجغرافية بدأ نشرها منذ عام 1936 وعلى مدى ستين عامًا. هذا عدا المئات من الأحاديث والمقالات والمحاضرات التي نشرها أو ألقاها وأثرى بها حياتَنا الفكرية وعالج فيها الكثيَر من مشكلاتنا القومية وقضايانا العلمية والاجتماعية والثقافية. عالجها بحكمته البالغة وفكره المستنير.
ومن أبرز مؤلفاته:
(1) نشأةُ الحضارة في مصر (1939).
(2) مكانة مصر في حضارات عصر ما قبل التاريخ (1941) وهو مؤلف ضخم يقع في 500 صفحة ويعد من كتب العيون بالنسبة للباحثين والدارسين، وكان لهذا الكتاب أثرهُ الواضحُ في أن يحتل صاحبُه مكانتَه البارزةَ بين علماء ما قبل التاريخ وكان الفقيد قد ضمّن هذا المؤلفَ ما توصل إليه من نتائج عندما قام بحفائرِ للكشف عن آثار ما قبل التاريخ في الفيوم (1937 : 1939).(197/8)
(3) بحثٌ عن تطورات المناخ في شبه جزيرة سيناء.
(4) بحثٌ عن نهر النيل وتطوره الفيزيوغرافي - ذلك النهر الخالد الذي عشقه وكتب عنه الكثير وعن أثرِه في الحضارة المصرية -.
(5) مؤلفٌ عن حضارة مصر - أرض الكنانة ويقع في 327 صفحة (1991).
(6) مؤلف عن أرض العروبة : رؤيةٌ تاريخيةٌ في الزمان والمكان ويقع في402 صفحة (1993)، ومؤلفٌ آخر ضخم عن مستقبل الثقافةِ في مصر العربية ويقع في 532 صفحة (1994) - هذا عدا العديد من مؤلفات وبحوث أخرى جغرافيةٍ وتاريخيةٍ لها قيمتُها العلميةُ البالغة أورد منها سبعة وعشرين مؤلفًا في سيرتِه الذاتية العطرة .
ولبحوثه وإنجازاته الرائدة ولمكانته العلمية البارزة نال العديدَ من الجوائز أبرزُها جائزةُ الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 1971وعلى أوسمةٍ من مصر والأردن وسوريا والعراق وفرنسا إذ تجاوز في آثاره ونظرياته الجديدة نطاقَ وطنهِ فنال تقديرَ الهيئات العلمية العالمية وارتفع بعلمه إلى مصاف العلماء الأفذاذ.
سادتي العلماء الإجلاء
إذا كانت حياةُ الراحل الكريم المغفورِ له الأستاذِ الدكتور سليمان حزين عميدِ الجغرافيين والثقافة العربية حافلةً هكذا بصفحاتٍ ناصعةٍ وضّاءةٍ تعكس أعمالَه ومنجزاتِه العلميةَ الباهرة فإنه أيضًا كان على خلق عظيم .
كان طيبَ القلب دمثَ الطبع رفيعَ النفس رقيقَ الحاشية سمحًا في قوله وعمله سمحًا في لقائه وحديثِه، كان خيّرًا وصالحًا وكريمًا يتمسك بأهداب الدين وذا ثقافةٍ إسلامية واسعة.
أيها الراحل الكريم
لقد مضيت هادئًا إلى الرفيق الأعلى ولا أحسبك إلا راضيًا بعد أن قدمت لوطنك أجلَّ الأعمال ونشّأت أجيالاً من أبنائِك وحوارييك سوف يترسمون خطاك ويسيرون على نهجك ويواصلون رسالتك الخالدة .
ولن ننسى أنك كنت لنا في هذا المحراب إشعاعًا وإشراقًا نتحلق حولك ونختلف إلى مجلسك نستمتع بطلاوة حديثِك وعمقِ فكرِك وأصالة علمك ورجاحة عقلك .
أيها الراحل العظيم(197/9)
أَرَحَلْتَ حقًّا عن مجالس علمنا ...
كلا لذلك لن أقول وداعَا
كيف الوَدَاعُ وأنت باقِ بيننا
... عِلمًا أصيلا بنيتَ منه قلاعَا
كنت الحديثَ العذبَ في أعماقنا ...
نهفو إليهِ نُمتِعُ الأسماعَا
قد مجَّدُوا فيكَ الأصالةَ والنُّهَى
... وخلائقًا علويَّةً وطِباعَا
وعزيمةً جَبَّارةً وَزَكَانَةً
... لمَّاحَةً وتوقُّدًا لمَّاعَا
رحمك الله أيها العالمُ الأجل رحمةً واسعة وأنزلك منازلَ الأطهار والأبرار والصديقين والشهداء فقد كنت في الحياة نورًا يهدى الناسَ سواءَ السبيل وستظلُ في الممات ذكرى تنفعُ المؤمنين .
والسلام عليكم ورحمة الله
محمود حافظ
نائب رئيس المجمع(197/10)
الفصحى والعامية في وسائل الإعلام
للأستاذ الدكتور يوسف عز الدين
مما لا جدال فيه وجود صراع واضح الأثر بين العامية والفصحى في مختلف مضامير الحياة اليومية. ونجد ذلك في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام، وهي ساحات لحماية الفصحى والذود عنها؛ لأن العامية داء استشرى بين العرب .
بدأت الظاهرة منذ بداية عصر النهضة وأحس بها الغيارى ودافعوا عن الفصحى مثل الرافعي، وحافظ إبراهيم وغيرهما وقد عرف من دعاتها وليم سبيتا الذي أراد إثبات رأيه فوضع كتابه ( قواعد اللغة العامية في مصر ) وطالب بأن تكون العامية لغة الآداب والعلوم والفنون، ورأى الفصحى محدودة في المفردات وظن أن هناك اختلافًا كبيرًا بينها وبين العامية وقال بأن الفصحى تؤخر الحضارة، وفاته أنها اللغة التي دامت طول القرون الطويلة
واستوعبت ثقافات الأمم وحضارات العالم وازدهرت بها وما نزال نفهم الكثير من الأدب الجاهلي والإسلامي والأموي بيسر وسهولة ، وأن الإنجليز اليوم لا يفهمون لغة جوسر CHAUCER ولا لغة شكسبير وسائر كتابهم إلاّ بوساطة المعاجم على الرغم من قصر عمر الإنجليزية واللغات الأخرى واضطرت الشعوب الغربية إلى التخلص من اللاتينية واستعمال اللغة الشعبية للبعد الكبير بينها وبين الإيطالية والفرنسية والإسبانية .
دعاة العامية :
وجاء ولككس WILCOKS الذي كان في دعوته يهاجم الفصحى ويسخف اللغة العربية ويزعم أنها عاجزة عن مسايرة ركب الحياة الحديثة وادعى أن الشعب المصري تأخر لأنه لم يستعمل العامية وعاقته الفصحى عن
الابتكار والاختراع، ونشر إعلانًا في ( مجلة الأزهر ) يغري فيه باتخاذ العامية لغة للكتابة والأدب، قال فيه: ( من قدم لنا هذه الخطبة باللغة الدارجة المصرية و كانت موافقة جدًّا يكافأ بإعطائه أربعة جنيهات ( إفرنكية ) وإن كثر المتقدمون فيعطى هذا المبلغ لمن يجوز الأولية ) (1).(198/1)
والدعوة إلى العامية انتشرت في كتابة الغربيين والعرب . ومن الغربيين كارل فولرس الألماني FULLERS ت 1909م الذي هاجم الفصحى لأنها جامدة فلم تساعد المصريين على النهضة الفكرية والتقدم الحضاري وحسبها كاللاتينية التي ماتت فألف كتاب ( اللهجة العامية في مصر ) 1890م كما ألف سلدن ولمور الإنجليزي كتابًا سماه (العربية المحلية في مصر) وحسب أن اللغة الأجنبية ستسيطر على مصر واتفق هؤلاء على ضرورة جعل العامية لغة العلوم
والآداب والفنون، ولعلي أستغرب من الأستاذ أحمد لطفي السيد تساهله في قبول المسميات الأجنبية ورأيه بأن العربية فقيرة وأن لغة الجمهور ستخرج الفصحى من جمودها، وأن يكون الصلح بين العامية والفصحى وعندما تستعمل مفردات العامية، وإن وضع شرط عدم الابتذال ولكنه يعود فيقول أن نتذرع إلى إحياء العربية باستعمال العامية، ومتى استعملناها في الكتابة اضطررنا إلى تخليصها من الضعف وجعلنا العامة يتابعون الكتاب في كتاباتهم والخطباء في خطاباتهم والممثلين في رواياتهم (2).
و أعمال المجمع دليل على أن الفصحى قادرة على استيعاب الجديد عندما وضع عددًا كبيرًا من معجمات متعددة في كل العلوم الحديثة وما زال يوالي عمله ومعه مجامع اللغة العربية في دمشق والأردن وبغداد والمغرب .
الدعاة في الوطن العربي:(198/2)
أما دعاة العامية من أبناء العرب فمنهم الأموات والأحياء فكان منهم سلامة موسى (ت 1908م) ومارون غصن (ت 1940م) وسعيد عقل وكان قبلهم يعقوب سنوا الذي سمى نفسه يعقوب صنوع ت 1912م والخطر الكبير من الذين عاشوا في البلاد العربية. وكانوا من أبنائها وكان هؤلاء أشد ضراوةً عليها من الأجانب وآزرتهم وسائل الإعلام التي تدخل في كل مكان من المسلسلات والروايات والندوات والمحاضرات التي تذاع في هذه الوسائل، ومن الطريف أن جاءني دعاة العامية لتسجيل حوار معي وعلى الرغم من البراهين التي سقتها على أن كاتب العربية أكثر شهرةً في العالم العربي وأكثر فائدة مالية بانتشار آرائه فلم يقنعوا فاضطررت أن أضعهم أمام الواقع، قلت لهم: سوف أتفق معكم إذا فهمتم عبارةً واحدة بالعامية في العراق. فنظروا إلى وكأنهم انتصروا علىّ قلت
سآتيكم بقرينة. دخل جائع إلى المطعم في بغداد فقال للنادل الذي تسمونه (جرسون) بالفرنسية، ونسميه في العراق (بوي) بالإنجليزية: أريد نص ماعون باجلا ونص ماعون تمن ونص صمونة فنظروا إليّ بدهشة وقال أحدهم أعد الجملة وبالطبع لم يفهموا. فما كانوا فاعلين لو قلت لهم الطوز فوق الجرباية.
الإعلام اليوم :
وهذه المشكلة أخذت حيزًا من الكتاب في الصحافة اليوم فقد كتب فهمي هويدي(*) مقالاً بعنوان ( دعوة إلى تعريب لسان العرب) يذكر ما حاق باللغة العربية من إهمال وعبث وسماه كارثة في العالم العربي؛ لأنه رأى طلاب الأزهر في المرحلة الابتدائية ملزمين بتعلم الفرنسية مع أن فرنسا تحرم تعليم أية لغة أجنبية في تلك المرحلة المبكرة، ولما رأى تفاقم الحال قال بصراحة: ( آن الأوان لرفع الصوت عالياً بالدعوة إلى تعريب لسان(198/3)
العرب ) وقال: إنه كان يلح طول سنوات على الدفاع عن لغة القرآن في الدول الإسلامية في آسيا وأفريقيا حيث يطلق على الحرف العربي اسم الحرف الشريف، ولكن لم تبق غير دول محدودة تستعمله، مثل: إيران وباكستان وأفغانستان، وقال: إن حجم الكارثة جعل صوتي أكثر اختناقًا بعد أن حلت الكارثة باللغة العربية وأشاد بقرار تونس بجعل عام 2000م عام اللغة العربية، وتألم للتراجع المستمر عن العربية التي تمثل شخصية الأمة القومية وألا يكون تعلم لغات أجنبية على حساب اللغة العربية، وقال بمرارة: ( لنعترف بأن اللغة العربية هزمت في بلادها وأنها تتلقى كل ضربة موجعة ومهينة وأشار إلى أن موريتانيا تخلت عن العربية في مدارسها وكانت إحدى قلاع العربية ومناراتها التي وصلت إشعاعاتها إلى أرجاء غرب أفريقيا، وقال: إن أحد الرؤساء العرب يدير المؤتمرات باللغة الفرنسية وأنه كان يجيب عن أسئلة الصحافة العربية باللغة الفرنسية، وفي بعض دول الخليج أصبحت الأردية اللغة الثانية بعد العربية وأشار إلى انتشار خطر قائم في الخليج من كثرة المدارس التي تدرس باللغة الإنجليزية وغدت العربية لغةً هامشية، أما الأردن فقال: إن الإنجليزية أصبحت من لغات الخطاب وكادت أن تتحول إلى لغة رسمية. وعن مصر قال: شيء محزن حقًّا أن يصل تراجع العربية في أكبر دولة عربية حيث أصبح تعلم الأجنبية هدفًا قوميًّا، وأصبح الدخول إلى المدارس الأجنبية هدفًا، وأن الرطانة هي المعتمدة في أواسط كثيرة وقال: نشرت بعض الصحف أن إجادة اللغة الأجنبية كانت إحدى شروط الدخول في الوزارة في مصر. ومن الطريف أنى قابلت رئيس وزراء الصين شون لاي وكان يتحدث معي باللغة الصينية فقلت يا سيادة الرئيس أنت تعرف الفرنسية والإنجليزية فلماذا لا تتحدث معي بالإنجليزية؟ فكان رده عليَّ باللغة الصينية وتجاهل قولي.(198/4)
وكتبت الكاتبة زينب حفني مقالاً(*) ( حتى لا توأد لغتنا على يد أبنائها وعزت انتشار العامية إلى الإعلام وتساءلت عن الكيفية التي من الممكن اتباعها لخلق توازن بين الفصحى والعامية حتى نحافظ على لغتنا من الاندثار ) وقد رأت عدة عوامل هدمت اللغة العربية أهمها: ( مجال الفن المتمثل في السينما والمسرح الزاخر بالإسفاف والإعلام بجميع وسائله والفضائيات العربية التي تتسابق في إذاعة الغث من المضامين ودور الأسرة ومناهج التعليم، كما صرف الإنترنت والكمبيوتر الشباب عن لغتهم وألقت اللوم على النوادي والجمعيات الأدبية التي لا تتحمل مسؤولياتها، وإلى كتاب يستعملون العامية واللغات الأجنبية وودت أن تسعى المجامع اللغوية في رفع مستوى العربية وأشارت إلى توصيات الدورة
الخامسة والستين وهاجمت المحلات والشركات والفنادق التي لها أسماء أجنبية ورأت وجوب منع هذا الأمر بتاتًا إلاّ أن هذا لم يطبق حتى الآن واصبح نسيًا منسيًّا ) وفات الكاتبة الفاضلة أن المجمع ليس سلطة تنفيذية وأن قراراته طالما حفظت في أدراج الوزارات المسؤولة .
من الهند:
ومن الغيارى على اللغة العربية كاتب من الهند فقد قرأت مقالة بتوقيع ( أبو أسامة ) بعنوان (اللغة العربية تتطلب اليوم اهتمامًا أكبر من العرب) لأن لسان العربية ليس للعرب والمسلمين كعامة اللغات، وإنما هي جزء من حقيقة الإسلام فقد كانت لغة الوحي ومعجزة الرسول صلى الله عليه وسلم ولسان دعوته وخلدها القرآن الكريم بخلوده وأكرم بها المسلمين أن ينطقوا باللغة التي نطق بها الرسول
وأن يخطبوا ويكتبوا باللغة التي اختارها رب العالمين (1).
وسائل الإعلام:(198/5)
إن وسائل الإعلام بصورة عامة تخرب اللغة العربية وقد رأينا بعض هذه الوسائل وهي الصحافة نموذجًا للشعور المؤلم عند الكتاب. فالأغاني بلهجات متعددة والمسرحيات والمسلسلات والقصص، فقد نشرت جريدة الأهرام في الملحق قصة باللغة العامية (2) . إن التناحر السياسي وحب الذات والإقليمية والبلدانية فرضت على الإعلام لتكون هناك لغات متعددة ولهجات متباينة وأخذ بعض الكتاب العرب ينخرون في جسمها فكثرت الأشعار النبطية في الجرائد وأخذ بعض المسؤولين وقادة السياسة ينظمون باللغة النبطية أو العامية التي سميت الشعبية وكثرت دقات الطبول والزلفى لها، فهل يحس هؤلاء بمقدار الضرر الذي يعود على أمتهم المسلمة إذا
ابتعدوا عن الفصحى، بعد أن بدأت وحدة الفكر والعقيدة تتآكل وغرست العادات الفردية بيننا وخلقت دولاً ومناطق لها حدودها السياسية حتى لا تستفيد الأمة من خبرات شعوبها؟ فقد خطط لهذا الأمر تخطيطاً واضحًا فلو قرأنا مذكرات كسنجر مرةً أخرى لوجدناه يطالب العرب أصحاب المليارات التي كانت في مصارف أمريكا بصرفها، وبالفعل صرفت وأصبح أصحابها فقراء لا يقدرون على دفع رواتب الموظفين، وفي العراق يموت الأطفال والشعب جوعًا ومرضًا وما كان يعرف يومًا من الأيام الجوع والمرض، وظهرت الحدود والوقوف عليها وسمات الدخول وبرزت على الأكتاف النجوم والتيجان على أكتاف أبناء بلد لا تتجاوز مساحتها الكف .
هل انهزمت الفصحى ؟
إن الواجب القومي والوطني أن تقوم حملة كبيرة للتوعية بضرورة(198/6)
العودة إلى الفصحى، بعد أن انتشرت العامية هذا الانتشار السريع وبخاصة في البيت والمدرسة والجامعة، وتخطط لوقف هذه المؤامرة وبدراسة عميقة للطرق التي توصل إلى حب اللغة العربية لأبنائها؛ لأن لها قدرة قوية على الوقوف ضد هذه التيارات ولا لوم علينا فالغرب شديد المحافظة على لغته والتخلص من اللغات الأخرى؛ ففي ولاية تكساس قرية صغيرة عدد سكانها 7800 اختارت الإسبانية لغة لها فثارت طبول طواحين الإعلام على مدينة (السنزو) الأمريكية ورأوا الخطر المحدق في أمريكا وعلى اللغة الأمريكية من هذه الظاهرة وهي قرية صغيرة في ولاية تكساس، وبدأ العلماء والباحثون يدرسون خطر اللغة الإسبانية التي اتخذتها قرية السنزو على أمريكا، وعدت القرية خطرًا على لغة أمريكا القومية وقورنت بما صنعت كيوبك في كندا التي تستعمل الفرنسية بالرغم من اتساع اللغة الإنجليزية
وسيطرتها العالمية(*)، وفي فرنسا صدرت مذكرة حول تعليم العامية للعرب وكتابة العربية بالحروف اللاتينية (الشرق الأوسط27/2/2000م وحجتهم أن العرب الذين في فرنسا يتكلمون العامية ولا يعرفون الكتابة والنص المكتوب باللاتينية يسهل عليهم الفهم ويساعدهم على النجاح في تعليمهم الجامعي، والواقع أن البعد السياسي والتعصب الديني ضد العربية من أهم دواعي هذه الحملة، إن وسائل الإعلام العربية المرئية والمسموعة أخذت تمعن في استعمال العامية والعامية المحلية فهناك في لبنان مثل هذه الوسيلة واضحة وإذا أرسل قارئ رسالة بالفصحى تقرأ باللهجة اللبنانية العامة إنها خطة مدروسة لتحدى الفصحى. أقول بصراحة إن دعاة العامية أو النبطية أو الشعبية يدارون ضعفهم في ركوب موجة العامية مدعين أنها أقرب إلى فهم العامة وأتساءل: لماذا يهبطون إلى العامية ولا(198/7)
يرتفعون إلى الفصحى وهذه المسلسلات التراثية يقبل عليها الناس بلهفة ويفهمون أحداثها فهمًا واضحًا، ومما نشر في الصحافة رأي لـ (عائدة أبو فرح) تقول لتليفزيون (M TV) ترد على دعاة العامية في لبنان وتقول بأن الفصحى توحد اللهجات في لبنان لوجود اللهجات التي يتحدث بها أهل بيروت غير التي يتحدث بها أهل الشمال إذ إن بعض سكان الشمال مثلاً لا يفهمون اللهجة التي يتحدث فيها أهل بيروت لذلك فالفصحى تكون حلاً وحيداً لإيصال الخبر الصحيح بالشكل الصحيح.
وقد نشرت إحدى الجرائد(*) تحت هذا العنوان (انكفاء الفصحى في البرامج الإذاعية والتليفزيونية في لبنان) وقالت (المذيعون يجنحون إلى العامية بامتياز المرئي والمسموع، وتحدثت عن
انقسام أبناء لبنان عن انتشار العامية في معظم وسائل الإعلام وابتعاد عدد كبير منهم عن الفصحى ومن حسن الحظ هناك من يقاوم هذا التحدي، فقال بعضهم إن تراجع العربية الفصحى عن مجالات المشافهة يؤدي إلى عواقب وخيمة ورد آخرون بأن العامية هي أقرب إلى أذن المواطن والأبسط للاستيعاب بعد أن تخلى المنتجون عن مسلسلات الفصحى، ولا أدري هل هناك عامية لبنانية سليمة وهي مشحونة بالإنجليزية والفرنسية وتدخل الآن السرلنكية كما قالت لليان حداد في مقالها، وجدت اختلافاً بين المذيعات في لبنان وكان مع الفصحى عدد من المذيعات ونسي هؤلاء أن الفصحى تجمع العرب والعامية تفرقهم.
يوسف عز الدين
عضو المجمع من العراق(198/8)
أضواء على اجتهادات جماعة ( إخوان الصفا )
في مجالات علم الجيولوجيا(*)
للأستاذ الدكتور محمد يوسف حسن
( إخوان الصفا وخلان الوفا ) جماعة أكاديمية تنويرية ظهرت إبان القرن الرابع الهجري = العاشر الميلادي. تأسست الجماعة في مدينة البصرة نحو عام 330هـ(**) وكان لها فرع في بغداد، وتبادل أعضاؤها الرسائل العلمية والفلسفية، وعقدوا الاجتماعات لإلقاء البحوث ومناقشتها والعمل على نشرها. وتعد جماعة إخوان الصفا بحقٍّ أقدم جمعية علمية فلسفية في التاريخ بمعنى يقارب المعنى الحديث للجمعيات العلمية .
... وقد بلغت رسائل إخوان الصفا اثنتين وخمسين رسالة، ومنها جمعوا دائرة معارف كبرى وصل عدد صفحاتها إلى الألفين؛ وتعدُّ أقدم دائرة معارف في العالم، ولو أنها لا تتَّبع نظام التصنيف الأبجدي. وقد قال
المستعرب المشهور "دي بور" عن الجماعة " إن الحكمة اليونانية قد أفلحت في أن تستوطن الشرق عن طريق جماعة إخوان الصفا " .
وبالرغم من الطبيعة السرِّية التي أحاطت بها الجماعة نفسَها وأسماءَ أعضائها، وأماكن وأوقات اجتماعاتها لأسباب طال الجدل حولها ، فإنها كانت غاية في الحرص على إذاعة رسائلها بين الناس وبخاصة بين المثقفين منهم، حتى إنها دخلت الأندلس في زمانهم، وقد أدخلها إلى هناك الطبيب أبو الحكم الكرماني القرطبي بعد رحلته إلى المشرق للتبحر في العلم .
وبعيدًا عن الدخول في تيه الأبحاث المعنية بأصل الجماعة وتاريخها، وطبيعة نشاطها، فإن ما يهمنا هنا أن بعض أعضائها كتبوا في
العلوم الجيولوجية رسالتين من الرسائل الاثنتين والخمسين. فالرسالة الثامنة عشرة كانت عن " الآثار العلوية " أو ما يسمى الآن " علم المتيورولوجيا " Meteorology) )، والرسالة التاسعة عشرة كانت عن " بيان تكوين المعادن".(199/1)
وكان أول من نبَّه إلى أهمية الكتابات الجيولوجية لإخوان الصفا رشدي سعيد(1) في سنة 1950، فاقتبس منها جزءًا من صدر الفصل الثالث من الرسالة التاسعة عشرة في " بيان تكوين المعادن" (2)، وترجمه إلى اللغة الإنجليزية، وعلَّق عليه من الناحية العلمية. وقد وجد الدكتور سعيد ـ وهو من كبار أساتذة الجيولوجيا المصريين المعاصرين ـ أن الجزء موضوع البحث " يضم أفكارًا جيولوجية حديثة بشكل ملحوظ تشرح دورةً تحولية ممتازة ومقبولة تمامًا من وجهة النظر
العصرية " كما يقرر أن رسائل إخوان الصفا تحتوي على أقدم ذكر للظواهر والعمليات الجيولوجية الآتية: التَّسهُّب (peneplanation) ـ تطور المستنقعات (pond evolution) البحار الفوققارية ( epicontinental seas) ـ التجوية (weathering) ـ التحات والنقل (erosion and transport) بواسطة الأنهار والرياح. ويقرر الدكتور سعيد كذلك أن عملية التسهُّب الأرضي قد عرضها مؤلف الرسالة عرضًا جميلاً يعتقد أنه أول سجل للموضوع في تاريخ الجيولوجيا لم يتلُهُ في بابه شيء قبل نشر كتاب " نظرية الأرض " لجيمس هاتون في القرن الثامن عشر.
وتقع الرسالتان اللتان نحن بصددهما في سبعين صفحة، ونحب أن نوجه النظر فيما يلي إلى جوانب جيولوجية أخرى في الرسالتين غير ما تناوله الدكتور سعيد في بحثه المشار
إليه، وهى جوانب هامة وجديرة بالتسجيل والتعليق العلمي عليها. وفي رأيي أن الرسالتين تحتاجان إلى نشرهما من جديد، مع تحقيق وافٍ، وتحليل علمي مفصل في كتاب مستقل.
وفيما يلي إلمامة أولية بالموضوعات الجيولوجية التي عالجها الإخوان في الرسالتين بحسب ترتيب ورودها في المتن :
ـ ص 65 ـ 67: وصف للتركيب النطاقي للكرة الأرضية، وعلى الأخص التركيب النطاقي للغلاف الجوي الذي كان يسميه الإخوان "كُرة الهواء" وقسَّموها ثلاثة نطاقات متتالية من الأرض إلى الخارج وهي:(199/2)
ـ كرة النسيم " وهى محيطة بالقشرة الأرضية، وتكافئ ما يسمى الآن: (The Troposphere)
ـ ثم " كرة الزمهرير "وتكافئ ما يسمى الآن(The stratosphere )
ـ ثم " كرة الأثير " وتكافئ ما يسمى الآن(The Ionosphere)
ويصاحب هذا التقسيم وصف مستفيض دقيق لهذه النُّطق الثلاثة من حيث طبائعها وديناميكياتها وعلاقاتها بعضها ببعض وبالأرض، وتقدير سمكِ كل منها. وفي هذا الجزء أيضًا تكلم صاحب الرسالة عن التسخين غير المتكافئ للأرض والغلاف المائي والغلاف الهوائي في نطاق التروبوسفير " كرة النسيم " وما يسببه هذا التسخين غير المتكافئ من إحداث للظواهر الطبيعية الديناميكية والكهربائية في الماء والهواء كالرياح، والتيارات، والأمواج، والأمطار، والصواعق، والمد والجزر وغير ذلك .
ص 72: تأثير الجبال العالية في توزيع الرياح والأمطار، والتأثير في المناخ عمومًا، وذلك بكونها حوائل فعَّالة تغير من مسالكها ويشتمل هذا الجزء أيضًا على وصف لما تحتويه الجبال من كهوف ومغارات وأهوية (Voids).
كذلك أورد الكاتب وصفًا لتسرب مياه الأمطار إلى هذه المعالم، وخزنها فيها، وكيفيات خروجها منها على هيئات مختلفة، وبأسباب مشروحة شرحًا مفصلاً. كما تحتوى هذه الصفحة على شرح لنظام الدورة الطبيعية للماء؛ من تبخُّر مياه المحيط إلى تصاعد البخار مع التيارات، إلى التكثُّف والسقوط على الأرض، والجريان على ظهرها، والتسرُّب إلى جوفها في مسالك طويلة للعودة إلى المحيط ، وهَلُمَّ جرا .
ص 90: بها لمحة عن تصنيف المعادن والجواهر على حسب الخصائص الفيزيقية، وبيئة التكوُّن مع شرح لهيئات وجودها في التربة، وفي العروق، والكهوف، والمغارات … إلخ.(199/3)
ص 92: حديث عن تغير مواقع البر والبحر على طول الزمان، يحسن اقتباس ما جاء بشأنه للأهمية القصوى للعبارات الواردة فيه، وقد ميزناها بوضع خطوط تحتها، يقول كاتب الرسالة: " واعلم يا أخي أن هذه المواضع تتغير وتتبدل على طول الدهور والأزمان، وتصير مواضع الجبال براري وفلوات، وتصير مواضع البراري بحارًا وغدرانًا وأنهارًا ، وتصير مواضع البحار جبالاً وتلالاً وسباخًا وآجامًا ورمالاً، وتصير مواضع العُمران خرابًا، ومواضع الخراب عمرانًا، فوجب أن نذكر طَرَفًا من هذه الأوصاف؛ إذ كان هذا الفن من العلوم الغريبة البعيدة عن أفكار كثير من أهل العلم المرتاضين، فضلاً عن غيرهم … ويعرِف ما قلنا الناظرون في علم المجسطي، وعلوم الطبيعيات، فتصير بهذه العلل والأسباب مواضع العمران خرابًا، ومواضع البراري بحارًا، ومواضع البحار براري وجبالاً … لكن نريد أن نصف طرفًا من كيفية تكون الجبال في البحار، وكيف يصير الطين اللين أحجارًا؟ وكيف تنكسر الأحجار فتصير حصى ورملاً؟ وكيف تحملها سيول الأمطار إلى البحار في جريان الأودية والأنهار؟ وكيف ينعقد من ذلك الطين والرمال في قعور البحار حجارة وجبالاً "؟ .(199/4)
ص 93ـ94: هذا هو الجزء الذي تناوله الدكتور رشدي سعيد في بحثه المشار إليه سابقًا، وهو وصف متكامل للدورة الجيوموفولوجية، من تفتُّت الصخور بالتجوية سواء باختلاف الحرارة، أو بالصواعق، أو غيرها من عوامل التجوية الطبيعية، إلى نقل المواد الفتاتية بالمياه الجارية، مع وصف لجيومورفولجية الأودية والأنهار، إلى شرح لترسُّب الفتات طبقاتٍ بعضها فوق بعض في قعور البحار حتى تمتلئ هذه بها " فتنبت فيها الجبال ". ونحب أن نورد هنا نصَّ ما جاء بالرسالة في هذه الفقرة لإلقاء مزيد من الضوء على أقدم وأول بادرة في تفسير نشأة الجبال على أساس نظرية تكوُّن الحنائر الجيولوجية أو الجيوسنكلينات (Geosynclines)، وهذا لم يتعرض له التعليق العلمي في بحث الدكتور سعيد، وهذا هو النص: " …وإن البحار، لشدة
أمواجها، وشدة اضطرابها، وفورانها، تبسط تلك الرمال والحصى في قعورها سافًا (1) على سافٍ بطول الزمان والدهر، ويتلبَّد بعضها فوق البعض، وينعقد، وينبت في قعور البحور جبالاً وتلالاً. كما تتلبد من هبوب الرياح أدعاص (2) الرمال في البراري والقفار. واعلم يا أخي أنه كلما انطمَّت(3) قعور البحار من هذه الجبال والتلال التي ذكرنا أنها تنبت، فإن الماء يرتفع ويطلب الاتساع، وينبسط على سواحلها نحو البراري والقفار...
وفي صفحة 94 حديث عن استمرار التجوية والنقل الذي يؤدي إلى تسهُّب المرتفعات (peneplanation) والاقتراب من نهاية الدورة الجيومورفولوجية التي تعيد الكرَّة من جديد.
ـ ص 96 : بها شرح لعلاقة المد والجزر بمنازل القمر، وتأثير المد(199/5)
على الشواطئ ومصبات الأنهار. ويلاحظ أن مؤلف الرسالة سجَّل تكافؤًا بين حركات القمر وحركات المد والجزر، لكنه عزاها خطأً إلى تسخين القمر لقاع البحر فيكون تمدد الماء وحدوث المد والعكس بالعكس، دون أن يفطن إلى جاذبية القمر للغلاف المائي للأرض. ويبدو أن هذه النظرية الخطأ أقدم من زمن أصحاب الرسائل، وقد تكلم عنها الكندي في رسالته عن المد والجزر أيضًا.
وفي الصفحة نفسها إشارة إلى أن الجبال العالية لها جذور راسخة في الأرض؛ وقد جاء في ذلك تفصيل أكثر في رسالة الجغرافيا، وتنطوي هذه الإشارات على مولد التفكير في نظرية توازن القشرة الأرضية (Isostasy).
ص 96ـ97: في هاتين الصفحتين محاولة بارعة لتصنيف الصخور تقارب التصنيف العصري لها، ولم يسبق أصحاب الرسائل إليها أحد. فقد أدرك مؤلف الرسالة التي نحن بصددها أن هناك طائفتين متباينتين من الصخور: إحداهما تضم الصخور "الصلدة" التي تنشأ عنها بالتجوية الكتل الجبلية الملساء، ولا شك أن المؤلف قصد بذلك ما نسميه الآن الصخور النارية (Igneous rocks). وصاحب الرسالة يمثل لصخور هذه الفئة بجبال تِهامة بشبة الجزيرة العربية ( ومن المعروف الآن أن جبال تِهامة صخورها في معظمها نارية. والطائفة الأخرى تضم صخورًا " رخوة من طين لين وتراب ورمل "، طبقات بعضها فوق بعض. وهذه هي بالطبع ما يعرف الآن بالصخور الرسوبية أو الطباقية (Sedimentary or Stratified Rocks). وقد مثَّل المؤلف لهذه الطائفة بجبال فلسطين ولكَّام، وهي بالفعل صخور رسوبية في معظمها. وإن هذه الفقرة لتستحق اقتباسها بنصها الأصلي، وهو كالآتي :-
" واعلم أن الجبال التي ذكرناها، منها ما هو صخور صلدة، وحجارة صلبة، وصفوان أملس، فلا ينبت عليه النبات إلا شيء يسير، مثل جبال تهامة.(199/6)
ومنها ما هو صخور رخوة، وطين ليِّن، وتراب ورمل، وحصاة مختلفة، متلبِّدة سافًا فوق ساف، متماسكة الأجزاء، وهي مع ذلك كثيرة الكهوف والمغارات والأودية والأهوية والعيون والجداول، والأنهار؛ كثيرة النباتات والحشائش والأشجار، مثل جبال فلسطين، وجبال لكَّام وطبرستان وغيرها ".
ص 97 ـ 98: عَود إلى المياه الجوفية مع شرح لطبائعها المعدنية واختلافها بحسب ما تتعرض له من "عوارض" فتتوقف معدنيتها على طبيعتها؛ وشرح للبارد منها والحار، وما يترسَّب أو "ينعقد" منها من رواسب إذا كانت حامية بخاصةٍ. وحَوت الصفحتان كذلك استعراضًا لمعادن كثيرة قد تنشأ وتتكون من المياه الجوفية الحارة، وكأن هذا كان إيذانًا ببدء التفكير في رواسب الخامات من المحاليل الحارة (Hydrothermal mineralization) .
ولنتأمّل في هذا النص الهام من رسالة " بيان تكوُّن المعادن " : … " فتسخُن تلك المياه بمرورها هناك وجوازها عليها(*)، ثم تخرج وتجري على وجه الأرض وهي حارة حامية، فإذا أصابها نسيم الهواء وبرد الجو بردت، وربما جمدت إذا كانت غليظة، وانعقدت وصارت زئبقًا أو رصاصًا، أو قيرًا ونفطًا، أو ملحًا، أو كبريتًا، أو بورقًا، أو شبًّا، أو ما شابه ذلك… " .
ص 99: بهذه الصفحة وصف مقتضب لبعض البراكين في قمم الجبال ولما يخرج منها .
ص 100ـ101: عَود إلى وصف منابع الأنهار وجيومرفولوجيتها، وبعض معالمها، مثل المنعطفات النهرية (River Meanders).
ص 101 ـ 102: عَود بمزيد من التفصيل إلى وصف منابع الأنهار وذوبان الثلوج على قمم الجبال، وتسرُّب المياه الجارية إلى باطن الأرض، وخزنها، وخروجها على هيئة
عيون وينابيع .(199/7)
ص 102 ـ 103: وصف للبيئات الجيولوجية لتكوُّن المعادن وإظهار علاقة المعدن بالبيئة الصخرية التي يوجد فيها، وبحث كونها دلالة على وجوده؛ وتشبيه ذلك بعلاقة أصناف النبات والحيوان بالبيئة التي توجد فيها. والرأي عندنا أن هذه أول محاولة من نوعها في تاريخ العلم فيما نسميه الآن علم التنقيب المعدني (Mineral Prospection) .
ص 104: عَود بمزيد من التفاصيل إلى تصنيف المعادن على حسب الشكل، واللون، والطعم، والرائحة، والثقل والخفة ( ما يسمي الآن الثقل النوعي )، والكسر ( ما يسمى الآن درجة الصلادة )، وقوة التماسك، ومقاومة الصَّهر… إلخ .
ص 106ـ126: سرد وتعريف بالمعادن المعروفة وقتذاك، وهي نَيِّف وثلاثون. وفيها بعض التكرار. وبهذا الجزء من الرسالتين استطراد
وتطويل في أصل المعادن وأنها كلها نشأت من الكبريت والزئبق. وكذلك استطراد غير علمي عن فوائدها وآثارها الطبية؛ ولو أنه يحتوي بين حين وآخر على وصف اختبارات مميِّزة، ونتائج معالجات كيميائية تعد محاولات بدائية غير مسبوقة فيما يسمى الآن " علم تجهيز الخامات " (Ore Dressing) .
وبعد، فها قد أخرج الغواص دُرَّة جديدة من بحر التراث تضاف إلى عقد التراث العربي العلمي المحقَّق حتى اليوم، وهو قليل. وفي رأي الغواص أن البحر مازال زاخرًا وواعدًا، فيا ليت بعض شباب العلميين يتحمسون لإحياء تراثنا العربي العلمي. ويا ليت مؤسساتنا الأكاديمية المعنية تولي الموضوع عناية أكثر، ورعاية أكرم.
محمد يوسف حسن
عضو المجمع(199/8)
استنجاد الأمم المتحدة بالمجامع اللغوية (*)
للأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي
... كل الذين يهمهم أن يعرفوا عن أجهزة منظمة الأمم المتحدة يسمعون بمجلسٍ فيها لا يقل أهميةً عن أهمية مجلس الأمن، ذلك هو المجلس الاقتصادي والاجتماعي (ECOSOC) الذي تُوكل إليه القضايا الكبرى ذاتُ الصلة بالتنمية الاقتصادية والشؤون الاجتماعية في العالَم.
... هذا المجلس رأى أنه من أجل التخطيط لأيّ تقدم اقتصادي أو اجتماعي لابد من وجود خريطةٍ للجهات التي تتطلب ذلك التخطيط، وبما أن الخريطة تعتمد أولاً وبالذات على الاسم الجغرافي، فقد تقرر عقد مؤتمر دولي جغرافي في جنيف عام 1967 لمدارسة الموضوع.
... ومن حسن الحظ أن هذا المؤتمر لم يكن بدون غدٍ كما كان يظن، ولكنه أصبح مؤتمرًا له كيان، ينعقد بصفةٍ
منتظمةٍ على رأس كل خمس سنواتٍ يتخللها اجتماع للخبراء في الأسماء الجغرافية من كل بقاع الدنيا.
... وهكذا استمرت أعمال المؤتمرات إلى يومنا هذا في لندن، وأثينا، ومونتريال، ونيويورك.
... ومن المهم أن نعرف أنه نظرًا لكفاحنا – نحن المجموعةَ العربية في المؤتمر – استطعنا منذ عام 1982 أن نجعل اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية للمؤتمر، وهو الكسب الذي برهن للخبراء الأجانب على أن اللغة العربية قادرة على خوض سائر حقول المعرفة بما فيها ما يتصل بالخريطة والعَلَم الجغرافي.
... وقد أصبح لنا الحق في أن نفرض على الآخرين كتابةَ وتهجي الأسماء الجغرافية العربية كما هي في حقيقة الأمر بمعنى أن مكةَ مثلا تنطق
وتكتب مكة MAKKAH وليس La Mecque ، والقاهرة تنطق وتكتب هكذا AL QAHIRAH القاهرة، وليس Le Caire ، وهكذا دواليك ...
... وقد أصبح على المنتظم الدولي أن يعتمد على الدول المعنية نفسِها في كل ما يرجع للخرائط والأسماء الجغرافية التي تتوزع في سائر أطراف العالم.(200/1)
... هذا المكسب يُمكّن العرب منذ اليوم من أن يُحترم النطقُ بمواقعهم الجغرافية التي وجدت مع وجود آبائهم إن لم تكن سبقت أولئك الآباء!!
... ومن المعلوم أن المؤتمر يحتوي على أربعة عشر فريقًا، فهناك فريق أمريكا الشمالية، وفريق أمريكا اللاتينية، وفريق البلدان المتكلمة باللغة الألمانية ، وفريق أوربا الشرقية، وفريق روسيا، وفريق آسيا الشرقية، والفريق الهندي، وقسم أفريقيا، وفريق المجموعة العربية بطبيعة الحال ...
... ويطلب من كلّ فريق أن يقدم الاسم الجغرافي في جهته مزودًا بطريقة أدائه بالحرف اللاتيني مضبوطَ النطق باللغات الحية الأخرى ... وهكذا تقدم روسيا أو اليونان أو الصين الأسماء الجغرافية عندها مصحوبةً بطريقة أدائها باللغات الرسمية في الأمم المتحدة.
... ومن هنا فإنه من المطلوب منا، نحن المجموعةَ العربية، أن نقدم أعلامنا الجغرافية على خرائطنا مؤداةً بحروف لاتينية لا تُخِل بنطقها العربي قَيْدَ أُنمله. وهذا بيت القصيد في عرضي اليوم أمام الزملاء الأعزاء...
... إن مجموعتنا العربية في المؤتمر العالمي للأسماء الجغرافية لم تتمكن، طوال رُبع قرن حضرتُه معها، من الاتفاق على طريقةٍ واحدةٍ لأداء الحرف العربي كما يجب الأداء، فهناك عدة آراء ... أبرزها ما يعتمد عليه رجال الاستشراق في " الأنسيكلوبيديا الإسلامية " إلى الآن، بعضنا يرى أن اختيار الموسوعة الإسلامية في بعض الحروف أصبح متجاوزًا وأنه ينبغي تعديله بما قرره مؤتمر بيروت. وبعضنا يرى أن نظام بيروت يحتاج نفسه إلى إعادة نظر!
... سأضرب لكم مثلاً بسيطًا وواضحًا:
... 1- حرف الجيم تؤديه "الموسوعة الإسلامية " بحرفين: DJ . ومعنى هذا أن جبل طارق أو جعفر ينبغي أن نبحث عنه في حرف الدال وليس في حرف الجيم!!
... 2- حرف الظاء المشالة تُؤديه(200/2)
الموسوعة الإسلامية بحرف الزاي Z تعترضه شرطة، فعلينا أن نطلب كلمة ظفار في حرف الزاي، وعلينا بالتالي أن ننطقها بالزاي، على نحو ما ينطق إخواننا في المشرق باسم حافظ فيحولونه إلى حافز بالزاي!
... 3- حرف القاف الذي تؤديه الموسوعة الإسلامية بحرفK تحته نقطة بينما آخرون يرسمون القافQ ، وعلى ما نرى في هذا الجدول صحبته:
ومن جهةٍ أخرى فإنه عندما نريد أن نؤدي حرف الكاف المعقودة التي تحملها بعض الكلمات القادمة علينا من
الجهات الأخرى نجد أن إخواننا في مصر يحولونها بكل بساطة إلى جيم فينطقون بيكوفيتش: بيجوفيتش في حين أن إخواننا في سوريا يحولونها إلى غين، فينطقون الكلمة بيغوفيش، وبين هؤلاء وأولئك قوم قبلوا النطق بهذا الكاف على ما هو!!
... أريد القول إننا نحن المجموعةَ العربية مطالبون أمام هذه المؤتمرات العالمية بتوحيد موقفنا من مثل هذه القضايا التي تعرض في كل دورة ولا نملك أمام الحاضرين إلا التذرع بالأمل فيما تسفر عنه لقاءاتنا الإقليمية تحت مظلةٍ أو أخرى!!
... ولأول مرة أسمع في هذا المؤتمر الذي انعقد في نيويورك بداية هذا العام، أقول لأول مرةٍ أسمع أن المجامع العربية تعتبر بمثابة الشرطة اللغوية التي عليها أن تنسق وتنظم وتوحد نظام السير وهذا ما أوحي إليَّ بهذا العرض فليس هناك خداع عناوين!!
... وقد سمعتُ أيضًا من الأعضاء الآخرين أن قول الأكاديميات عندهم هو القول ...
... القضية الأخرى مما تستنجد بنا فيها الهيئة الأممية ممثلةً في شخص المؤتمر العالمي للأسماء الجغرافية، قضية الأرقام المنعوتة في سائر القواميس والمعاجم بالعربية ... هل إنه لم يحن الوقت بعد لاختيارها مصطلحًا وحيدًا في سائر أطراف العالم العربي للتَّعبير عن الرقم؟(200/3)
... إن الأرقام الهندية التي دأبت بعض الدول العربية على استعمالها. لا تجد لها مكانًا في القارة الهندية نفسها، إن تلك الأرقام لا تجد لها ممرًّا أبدًا في وسائل الاتصال الحديثة ولا في الإنترنيت. الأمر الذي يتأخر معه التفاهم، وبالتالي يَحِرم العالم العربي من أن يواكب المسيرة الكونية.
... إن هذه الأرقام المنعوتة دوليًّا بالعربية هي الأرقام الوحيدة المفروضة من قِبَل السلطات العالمية بما فيها جميع الحكومات العربية المشرفة على وسائل النقل البري والبحري والجوي ربابين الطائرات وربابين السفن وربابين المركبات البرية، سواء كانوا عربًا أو عجمًا عليهم أن يتفاهموا بهذه الأرقام وحدها وليس غيرَها..!
... وأرجو أن أصارحكم هنا بما وصلتْ إليه الدراسات الجارية حول هذا الموضوع الذي نثيره اليوم!
... كل التقارير تثبت أن التمسك بالأرقام الهندية لا يرجع أبدًا إلى المحافظة على ما يسمى بالتراث ... ولكنه يرجع بالدرجة الأولى إلى إصرار أصحاب المطابع على تجنب تغيير يكلفهم مبالغ مالية يصرفونها من أجل ذلك التغيير: تغيير أرقامٍ إقليميةٍ بأرقام عالمية تنتسب إلينا.
... هذه هي القضية الثانية التي أستسمحكم في إثارتها فإن مما يبعث على التساؤل أن نرسم رقمين اثنين على أبواب بيوتنا، وعلى سياراتنا بل وعلى بطائق الزيارة عندنا بدعوى أن أحدهما يعبر عن تراثنا وأن الثاني وارد علينا! مع أن الأرقام المنعوتة بالعربية وقفنا عليها منذ القرن السادس الهجري عند ابن الياسمين مثلاً في تأليفه ( تلقيح الأفكار في العمل برسوم الغبار ).(200/4)
... أذكر في الختام أن المجموعة العربية في ذلك المؤتمر العالمي قررت أن تعقد لها اجتماعًا في دولة الإمارات العربية المتحدة في بحر سنة 2001م لمدارسة القضيتين، في جملة ما تدرسه، ونحن نعتمد على مجامعنا في أن تتحمل مسؤوليتها في سبيل إيجاد صيغةٍ تتوحد عليها كلمة العرب في المؤتمر الدولي العام الثامن الذي ستحتضنه ألمانيا في برلين صيف سنة 2002م.
... أريد أن أتوجه بالدعوة إلى مجمعنا الموقر وإلى اتحاد المجامع للمشاركة في هذا اللقاء الإقليمي لكي نقف عن كثب على مدى العبء الذي يشعر بثقله إخوانكم الخبراء في الأسماء الجغرافية، الذين يجدون أنفسهم أمام موقفٍ واحدٍ متحدٍ من الفريق اليوناني أو الروسي أو الصيني …
صحيح أن غنى اللغة العربية وثراءها ربما من شأنه أن يكون عاملاً على اختلاف الرأي حول طريقة أداء الحرف العربي، ولكن عندما يتعلق الأمر فقط بالعقبات المادية أو الاقتصادية البحتة. فإن القضية - في نظرنا - تقتضي منَّا باعتبارنا مجعيين أو رجال شرطة لغوية كما نُعتنا بذلك، أن نقوم بدورنا في احترام علامات
المرور وبالتالي أن نخفف عن مواطنينا العبء وهم يعيشون صباح مساء مع معايير كونية لا يمكن تجاهل فائدتها…
عبد الهادي التازي
عضو المجمع من المغرب(200/5)
حول كتاب "الضروري في النحو" لابن رشد الفيلسوف(*)
للأستاذ الدكتور محمد بنشريفة
... ترك ابن رشد الفيلسوف تآليف كثيرة كثيرة قدّر بعضهم أوراقها فبلغت نحوًا من عشرة آلاف ورقة (1)، وعدها آخرون واحدًا واحدًا فسردوا منها ما ينيف على مئة عنوان (2)، وحكى ابن عربي الذي كان في مدينة مراكش حين توفي بها ابن رشد وشاهد نقل رفاته منها إلى قرطبة أنه لما جعل التابوت الذي فيه جسده على الدابّة في جانب جعلت تآليفه في الجانب الآخر فكانت تعادله(3) .
... والذي يستقري أسماء تآليف ابن رشد يجد أنه وَسمَ أربعة منها بعنوان خاص هو الضروري في كذا، وهذه التآليف هي :
1-الضروري في أصول الفقه. وقد ذكر في ديباجته أنه ألّفه لنفسه على جهة التذكرة، واختصر فيه كتاب المستصفى لأبي حامد الغزالي "وهو- كما يقول -
يشبه المختصر من جهة حذف التطويل، والمخترع من جهة التتميم والتكميل " وفي خاتمة هذا الكتاب أن ابن رشد انتهى من تأليفه " في العشر الوسط من ذي الحجّة من سنة اثنتين وخمسين وخمسمئة " والمعروف من هذا الكتاب ـ حسب علمنا ـ نسخة وحيدة محفوظة بدير الاسكوريال (4)، ولكنها غير منسوبة، وقد كان أحد طلبتنا وهو جمال الدين العلوي عني بانتساخها وإعدادها للنشر ولكنه توقف في القطع بنسبة هذا الاختصار إلى ابن رشد؛ لأن الذين اختصروا المستصفى من الأندلسيين والمغاربة متعددون (5)، وقد عرض علي الأمر فوجدت بعد البحث نقولاً منه في روضة الإعلام لابن الأزرق، ثم وجدت نقولاً أخرى من الكتاب أيضًا في البحر المحيط للزركشي (6)، وكلها منسوبة لابن
رشد، فلم يبق أي سبب لتوقف في نسبته إلى أبي الوليد، وقد طبع الكتاب ولكن بعد وفاة محققه، وقبل أن يعرف ما توصلنا إليه في نسبته (7).(201/1)
2-الضروري في المنطق. وهو شبه اختصار لكتاب المدخل لفورفوريوس، وأصله المكتوب بالحرف العربي مفقود ولكن توجد منه مخطوطتان مكتوبتان بالحرف العبري (8) وقد طبع بعناية المستعرب الأمريكي تشارلس بترويوت.
3-الضروري في السياسة. وأصله العربي مفقود والموجود منه ترجمته عبرية نشرها مع ترجمة إنجليزية روزنتال، وظهر بعدها ترجمة أخرى إلى الإنجليزية أعدّهاlerner وقد نقل الكتاب من العبرية إلى العربية أحد طلبتنا، وهو الدكتور أحمد شحلان المتخصص في العبرية، وظهرت طبعته في سنة 1998 .
4-الضروري في النحو. وهو موضوع هذه الكلمة. لقد ورد اسم هذا الكتاب هكذا عند ابن عبد الملك المراكشي في الذيل والتكملة (10)، وكذلك في برنامج أبي العباس يحيى حفيد ابن رشد الذي قيد فيه عناوين كتب جده (11)، وذكر ابن الأبار الكتاب فقال: " وكتابه في العربية الذي وسمه بالضروري " (12) .
... إن الدارسين يصنفون تآليف ابن رشد في أصناف وهي المختصرات والجوامع والتلخصيات والشروح .
... وهذه التآليف الأربعة من كتب ابن رشد هي من صنف المختصرات ويزاد عليها تأليف مختصر المجسطي، وقد ورد في بعض هذه المختصرات أن ابن رشد فرغ من تأليفها في سنة 552هـ أي عندما كان في الثانية والثلاثين ، وهو يذكر في بعضها أنه ألفها تذكرة لنفسه، وكلمة الضروري التي تبدأ بها معناها القدر الذي لابدّ منه وتشتد حاجة المتعلم إليه، ويفهم من تاريخ هذه التآليف وشكوى ابن رشد فيها من سوء الأحوال أنه ألفها في الفترة التي كانت فيها قرطبة تتعرض لهجمات ابن مردنيش(13) وذلك قبل أن يقضي عليه الموحدون، ومن مميزات هذه التآليف أنها تمثل المرحلة الأولى من تفكير ابن رشد وهي مرحلة مؤسسة لما تلاها من مراحل .(201/2)
... وربّما يستغرب البعض قيام فيلسوف بتأليف كتاب في النحو قياسًا على حال أهل الفلسفة والعلوم في زمننا هذا، ومن هنا تشكك بعض هؤلاء في أمر الكتاب، وقال: " نخشى أن يكون هناك خلط بينه وبين الضروري في المنطق " (14) .
... ومن المعروف لدى الدارسين أن أهل العلم في عهود الازدهار الإسلامي كانوا معروفين بمشاركتهم الواسعة في مختلف العلوم، وكان يصدق في عدد منهم قول الشاعر في أحدهم:
وكان من العلوم بحيث يقضى
له في كل فنِّ بالجميع (15)
ومن هؤلاء ابن رشد الفيلسوف موضوع حديثنا فقد كان إمامًا في العلوم الأصيلة والدخيلة، وحسبنا أن نشير إلى مساهمته الكبيرة في الأدب والبلاغة والنقد، وهي مساهمة واضحة في كتابيه: تلخيص كتاب الخطابة وتلخيص كتاب الشعر، وفي استظهاره لديواني أبي تمام والمتنبي وأشعار المتقدمين والمحدثين (16) .
... وأما مساهمته في النحو فقد ضمنها كتابه الذي سماه الضروري في النحو ، ومما يدلّ على قيمة هذا الكتاب رجوع أبي حيان الغرناطي إليه ، ونقله عنه في بعض كتبه، وناهيكم بأبي حيان، وسأتحدث عن هذا فيما يأتي .(201/3)
... وأذكر قبل ذلك أن المصادر نصت على أن ابن رشد درس علم النحو على أستاذ هذا العلم بقرطبة في وقته، وهو أبو بكر بن سليمان بن سمحون الأنصاري القرطبي(17)، وقد كان في وقته مرجعًا في العربية والآداب، وهو الذي خلف شيخه النحوي الكبير ابن الطراوة، وكان يعرف بتلميذ ابن الطراوة، وقد كان التلميذ يغلو في الثناء على أستاذه، ويقول " ما يجوز على الصراط أعلم بالنحو منه(18) " ومن المعروف أن هذا النحوي المالقي له آراء جريئة في النحو (19)، ولعل تلميذه ابن سمحون تأثر بها وبثها في تلاميذه، ومنهم ابن رشد وابن مضاء بلدي ابن رشد وزميله في الدراسة ومثيله في الانخراط المبكر في خدمة الموحدين (20)، وقد ألف كل منهما تأليفًا متميزًا في النحو، وإذا كان تأليف ابن مضاء قد نشر منذ زمن بعناية أستاذنا الدكتور شوقي ضيف ثم أعيد نشره (12)، فإن أحدًا لم يلتفت إلى البحث عن تأليف ابن رشد مع أنه كان متداولاً في عصره وبعد عصره، فقد تحدث عنه ابن الأبار وغيره، وقد وجدنا نقولاً منه في كتاب التذييل والتكميل، في شرح كتاب التسهيل لأثير الدين أبي حيان الغرناطي(22)وفي كتاب روضة الأعلام ، بمنزلة العربية من علوم الإسلام لابن الأزرق الغرناطي(23)، وقد أطنب هذا في الكلام على ضرورة الاحتياج إلى النحو في ملة الإسلام ثم ختم كلامه بقوله: " ما تقدم من شهادة معظم أهل العلوم الإسلامية باحتياجهم إلى العربية مثله موجود ولابدّ منه لأهل العلوم على الإطلاق إذا تعلقت بهذا اللسان العربي، وهذا ابن رشد الحكيم قال عند الكلام على منفعة هذه الصناعة: "وأما منفعتها فبينة بنفسها ، وهي فهم كتاب الله تعالى وفهم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفهم جميع العلوم التي تتعلم بقولٍ: العلمية منها والعملية (24) " وآخر هذا الكلام على وجازته يقرر أن أهل العلوم والصنائع لا يستغنون عن معرفة النحو والصرف، وقد أخذ ابن خاتمة عبارة ابن رشد فصاغها على النحو التالي:"علم(201/4)
العربية (يعني النحو) مفتاح فهم كل علم نظري أو عملي مما يعبر عنه بلسان عربي " (25) ولا ريب في أن معرفة الأطباء والمهندسين والرياضيين والفلكيين وغيرهم بقواعد اللغة العربية ودقائقها كانت كبيرة في العهود الإسلامية الزاهرة، وكان ذلك من أسرار قدرتهم الفائقة على الإبداع في العلوم والتأليف فيها بلغة عربية صافية لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا؛ وقد استشهد ابن الأزرق أيضًا بكلام آخر لابن رشد، وذلك في الباب الرابع من كتابه المذكور قال في أول كلامه على نسبة العربية من سائر العلوم: " قال ابن رشد الحكيم في الضروري من هذه الصناعة له: هي من جنس العلوم التي تراد لغيرها لا لنفسها ، وذلك أن العلوم صنفان: علوم مقصودة لنفسها، وعلوم مسددة للإنسان في تعلم العلوم المقصودة لنفسها. وهذه إما أن تسدد منه الألفاظ التي ينطق بها وإما أن تسدّد منه المعاني التي ينظر فيها حتى لا يعرض له في الجنس غلط ".
... قال: هذه الصناعة (يعنى النحو) هي مسدّدة للذّهن في الألفاظ أولاً وفي المعاني ثانيًا، وهاهنا صناعة أخرى مسدّده للذهن في المعاني أولاً وفي الألفاظ ثانيًا، فالنحو إذًا نحوان: نحو الألفاظ، ونحو المعاني، قال: ونحو الألفاظ قبل نحو المعاني (26) "
... وقد شرح ابن الأزرق الفقرة الأخيرة وهي في رأينا واضحة، قال: " قلت " الصناعة التي هي مسدّدة للذهن في المعاني أولاً وفي الألفاظ ثانيًا هي صناعة المنطق؛ لأنها لا نظر لها بالذات إلاّ في المعاني، وهي المعلومات التصويرية والتصديقية التي هي موضوعها، وأما نظرها في الألفاظ فبالعرض (27) " .(201/5)
... ويبدو أن كلام ابن رشد مبني على كلام أبي نصر الفارابي وهو يقول في إحصاء العلوم: " وهذه الصناعة ـ صناعة المنطق تناسب صناعة النحو، وذلك أن نسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات كنسبة صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ، فكل ما يعطينا علم النحو من القوانين فإن علم المنطق يعطينا نظائرها في المعقولات (28) ".
... وهذه المناسبة التي ذكرها الفارابي وابن رشد واردة عند من جاء بعدهما في القرون المتأخرة ومنهم - على سبيل المثال - الأخضري الذي يقول في رجزه المسمّى بالسلّم:
وبعد فالمنطق للجنان/ نسبته كالنحو للّسان .
... وأما أبو حيان الغرناطي فقد نقل من كتاب الضروري في النحو لابن رشد ثلاث مرات، وذلك كما ذكرنا في كتابه التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل: فالمرة الأولى في باب شرح الكلمة والكلام وما يتعلق به.
قال:" وفي كتاب الضروري: الأقاويل المركّبة من المفردات: تامّ كافٍ بنفسه، وهو المسمّى كلامًا؛ وغير تام هو بمنزلة الاسم المفرد نحو غلام زيد، وزيد العاقل وهو إنما يقع جزءًا من قول تام أو من تمام قول تام، ويسمّى عند قوم تركيب تقييد .(201/6)
... والتام جملة خبرية، وهو ما يمكن فيه الصدق والكذب وجملة لا يمكن ذلك فيها، وهو النداء وطلب الفعل وطلب الترك، فإن كان من رئيس إلى مرؤوس قيل دعاء، وإن كان من مساوٍ إلى مساوٍ خص باسم الطلب، والعرض والتمني والترجي والتحضيض داخلة في هذا النوع لأنها طلب، والاستفهام بوجه ما أدخل أيضًا في الطلب إلا أنه طلب قول لا فعل، وقد جعله قوم على حدته جنسًا داخلاً تحت القول التام الذي لا يصدّق ولا يكذب، وكذلك التعجب جعله قوم أيضًا جنسًا على حدته داخلاً تحت القول الذي لا يصدق ولا يكذب، وجعله قوم داخلاً تحت الخبر؛ لأنه متعجب منه، انتهى وفيه بعض تلخيص(29) " ومعنى هذا أن أبا حيان لم ينقل كلام ابن رشد بلفظه وإنما تصرّف في بعضه ومن الواضح أن هذا الكلام المفصّل بما اشتمل عليه من تقسيمات يدل على تمكن من المادة وتوسع في عرضها وتميّز في صياغتها، وهذا هو أسلوب ابن رشد الذي نجده في كتابه الضروري في الأصول وفي كتابه المعروف في الفقه وهو بداية المجتهد .(201/7)
... والمرّة الثانية التي استشهد فيها أبو حيان بكلام ابن رشد وردت في بحث فعل الأمر وزمنه، قال: " وقال قاضي الجماعة أبو الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن أبي الوليد بن رشد: " وأما الأمر والنهي فالنحويون يقولون فيه إنه فعل مستقبل نحو: اضرب، اذهب ولا تضربْ ولا تذهب، ويقولون إنه مبني على السكون، وليس هو في الحقيقة فعلاً، لأن الأمر إنما هو استدعاء فعل، والنفي استدعاء ترك فعل واستدعاء الفعل ليس فعلاً إلاّ مجازًا كما أن استدعاء الخبر ـ وهو الاستفهام - ليس خبرًا ولكن لما اشتقوا لفظه من لفظ الفعل سموه فعلا، ويظهر لك هذا ظهورًا بينا في أن النفي استدعاء ترك، وترك الفعل ليس بفعل(30) " ولعل هذا النص يدلّ على أن ابن رشد لم يقتصر في كتابه على عرض قواعد النحو وآراء أصحابه وإنما كان يدلي برأيه في هذا الموضوع ـ موضوع الأمر والنهي ـ الذي نجده في كتب النحو وأصول الفقه وأصول الكلام .
أما المرة الثالثة فقد جاءت بعد هذه بقليل، قال:
... " وقال أبو الوليد ابن رشد: فعل المستقبل والحاضر واحد في لسان العرب، فإذا أرادوا تخليصه للاستقبال أدخلوا عليه السين أو سوف، وإذا أرادوا الحاضر قالوا: يفعل الآن، وهو اسم مبني على الفتح أعني الآن، وهو فصل بين الماضي والمستقبل، وليس هناك حاضر إلا بالوضع؛ لأن كل زمان منقسم، والآن ليس بزمان لأنه غير منقسم لكن الحاضر عند الجمهور هو زمان يحيط به زمان مستقبل وماضٍ قريبان من الحاضر، فسمي ذلك الزمان باسمه لتنزُّلِهِ في الحسّ منزلة الآن في العقل(31) .
... وأسلوب ابن رشد في هذا النص لا يختلف عن أسلوبه الذي نجده في تآليفه الفلسفية .
... ولعل من لمسات ابن رشد في هذا المبحث اعتراضه على تسمية الفعل الثالث بفعل الأمر لأنه في رأيه ليس فعلاً وإنما هو استدعاء فعل أو ترك كما يقول .(201/8)
... وبعد، فقد كان هذا هو كل ما وقفت عليه من خبر الضروري في النحو لابن رشد، وكنت أظن مثل غيري أنه فقد وقلت هذا في كتابي عن ابن رشد، وبينما أنا أنتهي من السطور أعلاه إذا بباحث مغربي يُهاتِفُني ليخبرني بالعثور على الكتاب في مكتبة خاصة توجد في موريتانيا وأنه صُوّر في المدة الأخيرة لمعهد المخطوطات في القاهرة ومركز جمعة الماجد في دبي .
... ولم يكن الباحث المغربي يعرف أني أعدّ كلمة عن الكتاب فعددت ذلك من قبيل التيسير الذي تمّ لي بحمد الله. لما وصلت إلى القاهرة ووقفت على صورة المخطوطة التي تعتبر فريدة(32)، وسأحاول تقديم نظرة عامة عنها فيما يلي :(201/9)
... توجد المخطوطة ضمن مجموع يشتمل على: بغية المرتبط، وغنية الملتقط وألفية ابن معطي، وهي في ملك بعض الخواص في موريتانيا، ويبدو من خطها المغربي أن أصلها من المغرب، وعدد أوراقها خمس وسبعون ورقة وفي كل وجه سبعة عشر سطرًا وحالتها جيدة ولا يوجد فيها اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، وفي الوجه الأول منها اسم الكتاب واسم المؤلف هكذا: " الضروري في صناعة النحو للقاضى أبي الوليد بن رشد رحمه الله "وقد افتتح ابن رشد كتابه هذا بمدخل مفصَّل مهّد لَه بما يلي: " الغرض في هذا القول أن نذكر من علم النحو ما هو كالضروري لمن أراد أن يتكلم على عادة العرب في كلامهم، ونتحرّى في ذلك ما هو أقرب إلى الأمر الصناعي وأسهل تعليمًا وأشد تحصيلاً للمعاني؛ وينبغي أن نستفتح القول في ذلك بالأشياء التي جرت العادة أن نستفتح بها كل صناعة يرام تعلّمها على المَجْرى الصّناعي، فإن الاستفتاح بها نافع في التعلم وهو أن نختبر أولاً ما غرض هذه الصناعة. وثانيًا ما منفعتها. وثالثًا ما أقسامها. ورابعا النحو المستعمل في تحصيلها والطرق المسلوكة في إثبات ما وضع منها، أعني أنحاء الدلائل المستعملة فيها، فإن لكل صناعة تدريبًا يخصها في تعلّمها وأنحاء من الدلائل خاصة بتلك الصناعة. وخامسًا مرتبتها من العلوم في التعليم. وسادسًا نسبتها من سائر العلوم أعني أي جنسٍ من أجناسه تعدّ، وسابعًا ما يدل عليه اسمها. وثامنًا معرفة من وضعها " (33) .(201/10)
... وقد شرح ابن رشد هذه النقط واحدة واحدة ومنها التي سبق إيرادها نقلا عن ابن الأزرق، ومما جاء في شرحه الغرض من صناعة النحو قوله: " فإن الصناعة هي التي تحيط بأمور كلية يصل بها الإنسان إلى الغرض المطلوب بتلك الصناعة، ومعرفة تلك الكليات تكون أتمّ إذا عرفت بأسبابها، ولما كان هذا مطلوبًا بالطبع من أمر الصناعات أعني تعريف الكليات التي هي أجزاؤها بأسبابها صار النّحاة يتكلّفون من إعطاء أسباب الكليات التي يضعونها في هذه الصناعة فوق ما تحتمله الصناعة. وإذا تقرر هذا فظاهر هذه الصناعة أن تعطي الكليات والقوانين بأسبابها التي يقدر بها الإنسان أن ينطق بأشكال الألفاظ التي جرت عادة أهل ذلك اللسان أن ينطقوا بها إما لسان العرب وإما غيره من الألسنة، وأعني بالكليات والقوانين أقاويل عامة تعرف بها جزئيات كثيرة (34) " .(201/11)
... في هذا النص كما رأينا انتقاد للنحاة يذكرنا بانتقاد ابن مضاء لهم في كتاب المشرق، وفي النص كذلك إشارة إلى لسان العرب والألسنة الأخرى، وورد مثل هذا فيما بقي من شرح هذه النقطة قال: " في كل لسان وعند كل أمة " وقال: " ولذلك كانت مشتركة لجميع الألسنة " فهل تدل هذه الإشارات على معرفةٍ ما بقواعد لغات أخرى؟ وقد شرح ابن رشد في هذا المدخل أيضا الترتيب الذي سلكه في كتابه فقد بدأ بما سمّاه الألفاظ المفردة، وخصص لهذا الجزء الأول من الكتاب، أما الجزء الثاني فجعله للنظر في الإعراب والمعربات، وذكر فيه أشكال المركبات، وقد قسم الجزء الأول إلى أبواب: الباب الأول في تعريف الألفاظ المفردة بحدودها وخواصها، والباب الثاني في معرفة أنواعها الضرورية في هذه الصناعة، وفي هذا الباب فصول في أقسام الأسماء وأنواعها وأقسام الأفعال، والباب الثالث في الضمائر، والباب الرابع في أسماء الإشارة، والباب الخامس في الأسماء الموصولة، أما الجزء الثاني فقد خصص للقول في الإعراب، وفي هذا الجزء اجتهادات متعددة لابن رشد فمنها رأيه في الإعراب الذي يشرحه فيما يلي: " والمعربات ليس هي الألفاظ المفردة كما يظنّ ذلك من كلام النحاة لأن الإعراب يدلّ على حالة من أحوال الكلام المفيد والألفاظ المفردة ليست تفيد شيئًا حتى يأتلف منها كلام. والقصد في هذا الكتاب إنما هو إحصاء أنواع الإعراب وجهة وقوعه من هذه الجمل وإعطاء الأسباب الفاعلة في الإعراب في جملة جملة، وهو شيء لم تصنعه النحاة ولا حصرته الإعراب من جهة الجمل المختصة بأصنافه وأسبابه الخاصة جملة جملة، وهي التي قلنا إنها تعرف بالعوامل … فإن الجمل هي التي تتنَزّل من أنواع الإعراب منزلة المواد، والإعراب بمنزلة الصورة، والعوامل بمنزلة الأسباب المقتضية لوجود تلك الصور في المواد لأنها تفهم المعنى الواقع في الجملة " (35) .(201/12)
... وقد عاد إلى الكلام على هذا الموضوع في مكان آخر فأفاض فيه. قال: "وذلك أن الإعراب إنما وجد في الاسم المفرد لا من جهة ما هو مفرد لأنه ليس بمفيد كلامًا، وإنما وجد له من جهة ما هو جزء من كلام، فنحن نروم في هذه الصناعة أن نحصى أصناف إعراب الأسماء المعربة والأفعال من هذه الجهة ليتحصل لنا من ذلك أنواع الإعراب تحصيلاً صناعيًّا فإن حصر الأنواع من قبل أسبابها وموادها أو ما يجري مجرى الأسباب هو الحصر الصناعي وذلك أن لكل صنف من الأقاويل صنفًا أو أصنافًا مخصوصة من الإعراب وفي كل صنف منها معنى أو لفظ يقتضي ذلك النوع من الإعراب (36) " .(201/13)
... وقد انتقد ابن رشد بعد هذا الناظرين في هذه الصناعة أي النحاة لأنهم لم يلخّصوا أصناف الإعراب بحسب أصناف الكلام المركب ولا دلّوا على المعنى المقتضي الإعراب في صنفٍ صنْفٍ من أصناف الإعراب وقال إنه دخل عليهم تقصير من جهة أنهم لم يستعملوا في إحصاء أنواع الإعراب القسمة الصحيحة التي لا يعرض فيها تداخل، وكل صناعة لم تستعمل فيها بعد القسمة الحاصرة غير المتداخلة فهي صناعة ناقصة ثم قال: " وهذا هو السبب الذي دعانا إلى وضع شيء في هذه الصناعة مع توجّه الأمر إلينا به وإلا فما كنا نضعه لأن الصناعة الموجودة عند نحويي العرب في زماننا هذا قد استوفت جميع أجزاء هذه الصناعة لكن على المجرى غير الصناعي، ونحن نريد أن يكون إحصاؤنا لذلك أولاً بأقاويل كلية أعني في غاية ما يمكننا من العلوم لكي يمكن لمن أراد أن يصير بعد ذلك إلى تفصيل كل كلي من تلك الكليات إلى أنواعها الأخيرة وخواصها اللازمة " (37) ويرى ابن رشد أنه ينبغي أن يبدأ أولا بتعلُّم الكليات " لأن ترتيب التعلم يقتضي أن نصير من الأعرف إلى الأخفى، والكليات أعرف عندنا وأسهل من الجزئيات ولذلك إذا وجدنا في أمرنا قولاً كليًا حاضرًا فرحنا به ولم نعرج على الجزئيات وأيضًا فإن الكليات نافعة للمتذكر ونافعة للمبتدئ بالنظر في الصناعة، لأنه يسهل بذلك عليه علمها وإن اقتصر عليها كفته، ولذلك كان الأفضل في تعليم الولدان أن يلقي إليهم أولاً الأقاويل الكلية ويؤخذوا بحفظها، فإذا شدوا وأرادوا الكمال في الصناعة أخذوا بتفاصيلها وليس يصلح هذا بالولدان في تعلم الصناعات فقط بل وفي كل ما يرام أن ينشؤوا عليه من الفضائل الجملية (38) " وقد كرر ابن رشد هذا الرأي التربوي "البيداجوجي" في فقرة أخرى يقول فيها: " فهذه القوانين هي بالجملة حاصرة لجميع الألفاظ المعربة، والوقوف عليها أولاً من أنفع الأشياء لمن أراد أن يستوفي أجزاء هذه الصناعة أو المستعمل منها في الأكثر وخاصة الولدان(201/14)
فإنهم يؤخذون بحفظ هذه القوانين أولاً، ثم إذا صاروا إلى الفهم أخذوا بفهم أسباب هذه القوانين ووجهة انقسام الكلام إليها وانحصاره فيها، ثم بتفصيل ما في كل قانونٍ منها حتى يستوفوا معرفة جميع الجزئيات المنحصرة في هذه القوانين فتتم الصناعة بسهولة وتحصيل تام في زمان يسير، وإن اقتصر عليها ذو فهم وارتياض في ميزها في كلام كفى كثيرًا من تشعب وتفنّن القوانين التي رام النحاة أن يحصروا من قبلنا هذا الجزء من هذه الصناعة (39) " وقد طبق ابن رشد رأيه وقام بحصر المسائل النحوية في قوانين كلية ثم افتخر بما صنعه في ضبط كليات الإعراب وامتدح عمله وانتقد طريقة النحاة، قال: "ومن وقف على ما كتبناه في ذلك وكان من أهل الإنصاف ظهر له أن المسلك الذي سلكناه في تفهيم هذا الجزء وحصر معانيه هو أدخل في الأمر الصناعي وأضبط في باب المعاني ممّا جرت به عادة النحاة في ذلك على ما شرطناه في أول هذا الكتاب، لكن ربما عابه قوم لمفارقة المعتاد، وأنكروه لما في طبيعة الأقاويل المشهورة من الاستبعاد، وربما قالوا: خلط صناعة المنطق بصناعة النحو، وهذا كله جهل بالطريق الصناعي (40) "ويبدو أنّ بعض معاصري ابن رشد لم يعجبه صنيعه في تأليفه فردّ عليه ردًّا أشدّ لهجةً مما تقدّم قال: " ولعلّ جاهلاً في غاية الجهل يقول: إنك خرجت في هذا الكتاب عن طريق النحاة، وخلطت هذا العلم بعلم ليس منه، فإن القائل لهذا القول إما أن يكون حمله الجهل وإفراط الحسد على أن لم يفهم أنّ كلّ صناعة توجب أن نعرف الأشياء التي فيها بأتمّ ما يمكن أن نعرفها، أو لم يقع له التصديق بما قلناه من أنهُ إنّما يعرف الإعراب من عرف أصناف الكلام المعرب أعني المفيد وغير المفيد، أو يكون ممن لا يقدر أن ينتقل عمّا نشأ عليه من التقليد، وكان المشهور عنده مغلّبا على المعقول، وهذه هي رتبة العوام، فلْيَلْحقْ هذا العامي بجنسه ولا يتعرض لإدخال نفسه في الخواص فإن عزله منهم واجب وإلحاقه(201/15)
بصنفه هو القول فيه " (41) . وقد ذكرنا في كتابنا عن ابن رشد أنّه انتقد كثيرًا بعض الفقهاء والمتكلمين والأطبّاء من أهل عصره، وهاهو هنا ينتقد بعض نحاة وقته، ولا شك في أن هؤلاء كانوا من الشامتين
عند محنته والمتسببين فيها (42) .
... ويفهم من الكلام السالف ومن غيره مما ورد في أثناء الكتاب أن ابن رشد قصد بتأليف كتابه إلى إعادة تقعيد النحو أو إلى ما يعرف في وقتنا بتيسير النحو، وذلك بجمع كلياته وقوانينه مع التدريج في تلقينها للمتعلمين ولا سيما صغارهم، ومحاولة ابن رشد هذه هي ثاني محاولة وقعت في عهد الموحّدين، أما المحاولة الأولى فهي التي قام بها ابن مضاء القرطبي، وهو بلدي ابن رشد وزميله في الدراسة ثم في القضاء، ومن الجدير بالملاحظة أنهما ألفا كتابيهما برسم أولي الأمر من الموحدين فإن ابن مضاء قدم كتابه المشرق في الرد على النحاة إلى الخليفة الناصر الموحدي وابن رشد ألف كتابه بإشارة من بعض السادة الموحدين، وفي هذا يقول في خاتمة تأليفه: " فإن وافق الغرض فهو ولابد مرسوم باسمه، وكلمة مشتقة من علمه، وإن سقط هذا الغرض دون ما أشار إليه وأرشد نحوه فالعذر واضح، والسبب في ذلك لائح وهو تقصير القرائح عن بلوغ أغراضهم، وعجز الأذهان عن استيفاء مقاصدهم، والله تعالى يرشد العبيد لما فيه رضاهم، ويعينهم على ما فيه طاعتهم، ويبلغهم غاية الأمل في الدنيا والآخرة إنه منعم كريم (43) " .
وإذا كان ابن رشد لم يفصح عن اسم هذا السيد الذي ألف الكتاب برسمه فإننا نعرف أنه ألف شرح أرجوزة ابن سينا في الطب للسيد أبي الربيع سليمان بن عبد الله بن عبد المؤمن ولخص تآليف أرسطو للخليفة يوسف بن عبد المؤمن وألف كتاب الضروري في السياسة برسم أحد السادة الموحدين ولكنه ـ كما فعل هنا ـ لم يسمّه، ويمكن أن يكون أبا الربيع المذكور أو أبا يحيى والي قرطبة الذي كان ابن رشد صديقًا له ومقربًا منه .
أختم هذا البحث المتواضع بالخلاصة التالية :(201/16)
1-لا شك في أن الضروري في النحو لابن رشد ذو قيمة كبيرة سواء من حيث طريقته ومنهجه أو من حيث كونه حلقة ـ كانت مفقودة ـ من أعمال ابن رشد التي تمثل مشروعًا معرفيًّا متكاملا .
2-إن عمل ابن رشد في هذا الكتاب ـ هو كأعماله الأخرى في العلوم الأصيلة ـ يجمع بين الاختصار والاختراع وإحكام التلخيص وإتقان التقسيم، من مثل الذي نجده في كتابيه: الضروري في الأصول وبداية المجتهد على سبيل المثال .
3-إن هذه التجربة في تلخيص العلوم الأصيلة وصوغها صياغة جديدة هي
التي ساعدته على تلخيص تآليف أرسطو عندما كلفه بذلك الخليفة الموحدي يوسف بن عبد المؤمن .
4-أرى أن محاولة ابن رشد في النحو كانت أهم من محاولة ابن مضاء التي كانت جزئية ومحدودة وسلبية أيضًا أما محاولة ابن رشد فقد قدّمت بناء جديدًا متكاملاً وتقعيدًا مبتكرًا شاملاً. ولكنه لم يؤخذ به مع الأسف ولم يعمل به، لأنه يخالف ما اعتاد عليه الناس؛ وصعب على الإنسان ما لم يعود، ولعل كتاب الضروري في النحو إذا نشر تكون فيه فائدة للغتنا الخالدة علاوة على فائدته في إغناء المكتبة الرشدية .
محمد بنشريفة
عضو المجمع من المغرب
الهوامش
1- التكملة لابن الأبار: 554 نشر العطار 1956.
2- الذيل والتكملة 6: 23 ـ 24 والمتن الرشدي: 14 ـ 45 .
3- الفتوحات المكية 2: 372 ـ373.
4- مخطوط الاسكوريال رقم 887 .
5- سردناهم في كتابنا عن أبي المطرف من ص 76 إلى ص 78 .
6- الضروري في أصول الفقه: 21 طـ . بيروت 1994 .
7- توفي جمال الدين العلوي سنة 1992 .
8- انظر المتن الرشدي: 14 ـ 15 .
9- من مطبوعات مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت 1998 .
10- الذيل والتكملة 6 : 23 .
11- مخطوط الاسكوريال رقم 884 .
12- التكملة: 554 .
13- انظر كتابنا عن ابن رشد: 62 .
14- المتن الرشدي: 25 .
15- وفيات الأعيان 5: 312 تحقيق د. إحسان عباس .(201/17)
16- تحدثنا عن المظاهر الأدبية في أعمال ابن رشد بتفصيل في كتابنا عن ابن رشد من ص 883 إلى ص 293.
17- ترجمته في التكملة: 220 .
18- نفسه .
19- انظر ارتشاف الضرب والتذييل والتكملة لأبي حيان .
20- الذيل والتكملة 1: 218ـ 219.
21- توجد نقول من رد ابن خروف على ابن مضاء في كتاب روضة الإعلام لابن الأزرق: 130 ، 142 ، 147 : 148 .
22- التذييل والتكميل 1 : 33 ، 81 ، 85 طـ ، دار القلم ـ دمشق 1998 .
23 -روضة الأعلام : 456 ، 495 منشورات كلية الدعوة طرابلس 1999.
24- نفسه : 456 .
25- نفسه : 456 .
26- نفسه : 495 .
27- نفسه : 495 .
28- إحصاء العلوم : 54 .
29- التذييل والتكميل 1: 33.
30- نفسه 1: 81 وقد نقل الدلائي في شرحه على التسهيل هذا النص وذلك في الجزء الأول ص 224 .
31 – نفسه 1 : 85 وقد نقل المرابط الدلائي أيضًا هذا النص في الجزء الأول ص227 .
32 -أطلعني عليها الدكتور فيصل الحفيان بمعهد المخطوطات، وأنا أشكره شكرًا جزيلاً .
33- الضروري في النحو : 916 .
نفسه : 16 طـ .
35- نفسه : 927 .
36- نفسه: 40 ط.
37- نفسه: 41 و41 ط.
38- نفسه : 41 طـ .
39- نفسه : 75 و .
40- نفسه : 75 و 75 طـ .
41- نفسه : 75 طـ .
42- ابن رشد الحفيد : 71 ـ 72 .
43- الضروري في النحو : 75 ظ.(201/18)
الاستدلال بالقراءات القرآنية
على صحة العديد من الاستخدامات اللغوية الشائعة
في عربية المعاصرين
للأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر
القراءات القرآنية هي الوجوه المختلفة التي سمح النبي صلى الله عليه وسلم بقراءة النص القرآني بها قصدًا للتيسير، والتي جاءت وفقًا للهجة من اللهجات العربية القديمة. وقد تكفل الزركشي (البرهان 1/318) بالتفرقة بين القرآن والقراءات بقوله: القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان. فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتابة الحروف، أو كيفيتها؛ من تخفيف وتثقيل وغيرهما.. كما تكفل ابن الجزري ببيان الحكمة في تعدد القراءات في النص المصحفي ( النشر1/22) فقال:
" فأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة وإرادة اليسر بها والتهوين عليها… وتوسعة ورحمة وخصوصية لفضلها، وإجابة لقصد نبيِّها… حيث أتاه جبريل فقال له: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال صلى الله عليه وسلم: أسأل الله معافاته ومعونته. إن أمتي لا تطيق ذلك، ولم يزل يردد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف " وبعد أن استشهد ابن الجزري ببعض الأحاديث الصحيحة استمر في بيان الحكمة قائلا:" إن الأنبياء عليهم السلام كانوا يبعثون إلى قومهم الخاصين بهم، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى جميع الخلق: أحمرها وأسودها، عربيها وعجميها. وكانت العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لغاتهم مختلفة، وألسنتهم شتى، ويعسر على أحدهم الانتقال من لغته إلى غيرها، أو من حرف إلى آخر. بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولا بالتعليم والعلاج، لا سيما الشيخ والمرأة ومن لم يقرأ كتابًا… فلو كُلِّفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم لكان من التكليف بما لا يستطاع"(202/1)
وقد وضع اللغويون شرطًا واحدًا لصحة الاستشهاد بالقراءة، وهو صحة نقلها عن القارئ الثقة حتى لو كان فردًا، سواء رويت القراءة بطريق التواتر أو الآحاد، وسواء كانت سبعية أو عشرية أو شاذة. بل إن ابن جني في كتابه المحتسب (1/32) كان حريصًا على وضع القراءة الشاذة على قدم المساواة مع القراءة السبعية، وذلك بقوله إنه " نازع بالثقة إلى قرائه، محفوف بالرواية من أمامه وورائه. ولعله أو كثيرًا منه مساو في الفصاحة للمجتمع عليه ". والقراءة ـ مهما كان الأمر في تفسيرها ـ نص عربي رواه أو قرأ به من يوثق في عربيته، على فرض التشكك في صحة نسبته إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم. وبهذا أدخلوا في باب الاحتجاج اللغوي كثيرًا مما عده القراء من باب التفسير، أو الشرح اللغوي.
وإذا كان بعض العلماء يحظر التعبد أو الصلاة بغير المتواتر لأنه ليس بقرآن، فهناك من العلماء من سمح بروايته، والاستشهاد به لأسباب أخرى. يقول القسطلانى في لطائف الإشارات : " إن من قرأ بالشواذ غير معتقد أنها قرآن، ولا يوهم أحدًا بذلك بل لما فيها من الأحكام الشرعية. أو الأحكام الأدبية فلا كلام في جواز قراءتها "
وبهذا تدخل القراءات القرآنية بجميع درجاتها ومستوياتها في الدرس الأدبي واللغوي، وتقف على قدم المساواة مع القرآن الكريم، والحديث الشريف، والشعر الجاهلي والإسلامي، ومأثور النثر من حكم وأمثال وخطب... في صحة الاستشهاد بها، والاستناد إليها في إثبات سلامة التعبير، وفي إمكانية اتخاذها مرتكزًا لتحقيق التيسير، ودليلاً لتصحيح كثير من العبارات والاستعمالات الشائعة الآن، والتي يتحرج المتشددون عن استعمالها. وأضرب على ذلك الأمثلة الآتية:
1- التقدير بمعنى التعظيم والاحترام:(202/2)
يشيع في الاستعمال الحديث استخدام كلمة " التقدير" بمعنى التعظيم والاحترام ولكن الوارد في المعاجم: " والقَدْر: التعظيم، وبه فسر قوله تعالى: ( وما قدروا الله حق قدره )، أي ما عظموا الله حق تعظيمه " ( تاج العروس: قدر). وفي اللسان: " والتقدير على وجوه من المعاني ، أحدها التروية والتفكير في تسوية أمر أو تهيئته، والثاني تقديره بعلامات يقطعه عليها، والثالث أن تنوي أمرًا بعقدك، تقول: قدّرت أمر كذا وكذا أي نويته وعقدت عليه " ولم يذكر معنى التعظيم والاحترام.
وقد جاءت القراءة القرآنية لتستدرك على معاجمنا. وتصحح الاستخدام المعاصر، يقول الزمخشري في قوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره } : " وقرئ بالتشديد على معنى وما عظموه كنه تعظيمه ( 3/408)، ويقول أبو حيان: وقرأ الحسن وعيسى وأبو نوفل و أبو حيوة: وما قدّروا بتشديد الدال… أي ما عظموه حقيقة تعظيمه " (7/439)
2- فتح همز إنّ بعد القول:
تذكر كتب النحو أن من مواضع وجوب الكسر لهمزة " إنّ" وقوعها مفعولاً للقول، ولكن كثيرًا من المتحدثين يفتحونها الآن. وقد كنت حينًا من الدهر أفكر في وسيلة لتصحيح ذلك حتى انتهيت إلى تخريجه على تقدير حرف الجر الباء، وحذف حرف الجر قياسي مع "أن" كقوله تعالى: { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات } (البقرة 25) . ويتضح هذا أكثر في قوله تعالى: { وشهدوا أن الرسول حق } (آل عمران 86) مع قوله تعالى في آية أخرى: { اشهدوا بأنا مسلمون } ( آل عمران 64).(202/3)
وظللت مترددًا في إعلان هذا الرأي حتى وقعت على عدد من القراءات القرآنية التي فتحت همزة إن بعد القول، كقراءة " قال لهم هارون. أنما فتنتم به .. وأن ربكم " ( طه 90). قال أبو حيان: وتخريج هذه القراءة على لغة سليم حيث يفتحون إن بعد القول مطلقًا" (البحر 6/272) وقراءة { ولئن قلت أنكم مبعوثون من بعد الموت } . (هود 7)، قال الآلوسى: " وقرأ الأعمش: أنكم بفتح الهمزة على تضمين ( قلت ) معنى ( ذكرت ) .. واستظهر بعضهم كون القول بمعنى الذكر مجازًا، وتُعقب بأن الذكر والقول مترادفان فلا معنى للتجوز حينئذ " (روح المعاني 6/214)
3- المؤنث المجازي:
تفتح القراءات القرآنية بابًا للنفاذ منه إلى مشكلة " المؤنث المجازي " في اللغة العربية، وهي مشكلة لم تحلها كثرة ما كتب عنها، وألف فيها ( يكفي أن أذكر أن محمد بن القاسم الأنباري ألف كتابًا عن المذكر والمؤنث يقع في أكثر من ستمئة وخمسين صفحة )(*) . ويترتب على الحكم على اللفظ بأنه مؤنث حقيقي، أو مؤنث مجازي، أو
مذكر أحكام كثيرة، مثل: تذكير الفعل وتأنيثه، استخدام اسم الإشارة المناسب، استخدام الاسم الموصول المناسب. أحكام في باب العدد، أحكام في أبواب الخبر والحال والنعت، أحكام في بعض مسائل التصغير، أحكام في الصرف ومنعه… إلخ .
وإذا كان الاستعمال القرآني لم يلتزم بتأنيث ما هو مؤنث مجازي، ولذا صرف كلمة " سبأ " { وجئتك من سبأ بنبأ يقين } مع أنها اسم لقبيلة (النمل 22)، وذكّر كلمة "سماء" مع أنها مؤنث مجازي في قوله تعالى: { السماء منفطر به } (المزمل 18) – فقد جاءت بعض القراءات القرآنية متبعة نفس الطريق، مثل قراءة ابن محيصن { إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } ( الأنفال 7)، قال في البحر (4/464): على التذكير إذ تأنيث الطائفة مجاز. ومثل قراءة ابن مسعود(202/4)
{ كلا الجنتين آتت أكلها } ( الكهف 33)، قال الآلوسى:" وفي مصحف عبد الله { بن مسعود}: كلا الجنتين آتى بصيغة التذكير لأن تأنيث الجنتين مجازي(8/260) أما على قراءة ابن مسعود الأولى بتأنيث "آتت" فلأن الفاعل ضمير يعود على مؤنث " ولا فرق بين حقيقيه ومجازيّة، فالتركيب نظير قولك: طلع الشمس وأشرقت " (روح المعاني للآلوسى 8/261)
وليست قراءة ابن مسعود بدْعًا في اللغة، فقد ذكر أبو جعفر النحاس في " إعراب القرآن" أن المبرد كان يقول " ما لم يكن فيه علامة التأنيث وكان غير حقيقي التأنيث فلك تذكيره نحو "هذا نار" وذكر الفيومي في خاتمة معجمه "المصباح المنير" ما نصه: " والعرب تجترئ على تذكير المؤنث إذا لم يكن فيه علامة تأنيث " وقام مقامه لفظ مذكر حكاه ابن السكيت، وابن الأنباري، وحكى الأزهري قريبًا من ذلك ". وبهذا نقبل تذكير كلمات مثل إصبع، وسنّ، وكف، وعين، ويمين، وبئر … وغيرها مما شاع تذكيره في لغة العصر الحديث، ( مع ملاحظة أن القراءتين ذكرتا المؤنث المجازي مع وجود التاء فيه) .
4- ضم ما قبل واو الجماعة وياء المخاطبة مطلقًا:
قلَّ من المتحدثين من يلاحظ فتح ما قبل واو الجماعة، وياء المخاطبة إذا كان الفعل منتهيًا بألف مثل:" أنتم تَسعَوْن إلى ما فيه مصلحة عامة " أنتِ تسعَيْن إلى ما فيه خير الوطن ". بل أدت هذه القاعدة إلى أن يُخْطِئَ أحد كبار الشيوخ في حديثه الصباحي الديني فيفتح ما قبل واو الجماعة فيما لا يجوز فيه الفتح، وذلك حين نطق الحديث النبوي: "استوصوا بالنساء خيرًا " نطقه بفتح ما قبل الواو ، مع أن ما قبل الواو ياء لا ألف.(202/5)
ألا نستأنس بما ورد في بعض القراءات القرآنية من ضم ما قبل واو الجماعة حتى إذا كان المقدر ألفًا فنطرد الباب على وتيرة واحدة؟ لقد قرأ الحسن وغيره: { فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } ( آل عمران 61 )،: { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله } (النساء 61) قرأهما بضم اللام ، كما ورد في البحر المحيط (2/479) أما قراءة: { لا تسمعوا لهذا القرآن والغُوا فيه } (فصلت 26) بالضم، فيجوز أن
تكون من هذا الباب، ويجوز أن تكون ناتجة عن تعدد أبواب الفعل الثلاثي، فتكون " الغَوْا " من لغا يلغَى، و"الغُوا" من لغا يلغو. ( انظر البحر المحيط 7/494 )، ( يقتَصر الاقتراح على الأفعال المنتهية بألف دون الأسماء).
سبق في الدورتين السابعة والأربعين، والثامنة والأربعين (80-1982) أن تقدمت لجنة الأصول بدراسة للقضية(*) اقتصرت فيها على النقل عن أئمة العربية في العصور الماضية ، وانتهت إلى جواز الانتقال من فتح العين في الماضي إلى الضم أو الكسر في المضارع، واشترطت ألا يستخدم الترخيص إلا حين لا يكون هناك نص صريح على باب الفعل، وألا يستخدم في تحرير المعاجم.
وشعَّبت المذكرات المتعلقة بالموضوع جوانب القضية، لأنها أدخلت في الدراسة السالم والمضعف والمثال والأجوف والناقص، كما أنها اتخذت التعدي واللزوم أساسًا للإلزام بالاتجاه نحو الكسر أو الضم، ولم
تتخذه أساسًا للترجيح فقط.
أما الدراسة المقدمة الآن فقد اقتصرت على الصحيح فقط من الأفعال لأن كلاًّ من الأجوف والناقص قد حمى نفسه بوجود الياء أو الواو فيه، كما اتخذت التعدي واللزوم أساسًا للترجيح وليس للإلزام. وأهم من هذا وذاك أنها اعتمدت على الاستعمال الواقعي سواء بوروده في النص القرآني أو في القراءات التي قرئ بها. كما أنها استمدت أمثلتها من لغة المتحدثين بالفصحى في العصر الحديث.
وأبدأ بتقديم الأمثلة مما التقطته من لغة المذيعين والمتحدثين بالفصحى:(202/6)
1- حَفَر يحفُر، والصواب من باب ضرب.
2- حفَل يحفُل، والصواب من باب ضرب.
3- حلَم يحلَم، والصواب من باب نصر.
4- رجَف يرجِف، والصواب من باب نصر.
5- رسم يرسِم، والصواب من باب نصر.
6- سفك يسفُك، والصواب من باب ضرب .
7- قطف يقطُف، والصواب من باب ضرب.
8- كتم يكِتم، والصواب من باب نصر.
9- دعم يدعُم، والصواب من باب فتح.
10- رهَن يرهِن، والصواب من باب فتح.
11- سنَح يسنُح، والصواب من باب فتح.
12- لحِنَ يلحِن، والصواب من باب فتح.
13- هرب يهرَب، والصواب من باب نصر.
14- نبذ ينبُذ، والصواب من باب ضرب.
15- نبَض ينبُض، والصواب من باب ضرب.
(انظر: ديوان الأدب للفارابي، والقاموس المحيط للفيروزابادي)
والملاحظ أن معظم هذه الأخطاء جاء نتيجة الخلط بين بابي ضرب ونصر، وبعضها جاء نتيجة الخطأ في باب فَعَل يفعَل.
ويلفت نظر الدارس للقراءات القرآنية شيوع التبادل فيها بين بابي ضرب ونصر، ويشمل ذلك العديد من القراءات السبعية والعشرية والشاذة، فمما جاء من القراءات السبع:
1- بطش:قرأ نافع: يبطشون ـ بالضم ـ بدلاً من الكسر (الأعراف 195)
2- طمث: قرأ الكسائى: لم يطمثهن ـ بالضم - بدلاً من الكسر (الرحمن 56)
3- عتل: قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو: فاعتلوه ـ بالضم ـ بدلاً من الكسر ( الدخان 47 )
4- عرش: قرأ عاصم وابن عامر: يعرشون ـ بالكسر ـ بدلاً من الضم ( الأعراف 137 )
5- عزب: قرأ الكسائي: وما يعزب ـ بالكسر ـ بدلاً من الضم ( يونس 61 )
6- عكف: قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو: يعكفون ـ بالكسر ـ بدلاً من الضم. ( الأعراف 138)
7- قتر: قرأ ابن كثير وأبو عمرو: ولم يقتروا ـ بالكسر ـ بدلاً من الضم. ( الفرقان 67)
8- لمز: قرأ ابن كثير وأبو عمرو: يلمزك ـ بالضم ـ بدلاً من الكسر. (التوبة 58)
9- نشز: قرأ ابن كثير وأبو عمر وعاصم وحمزة والكسائي: انشزوا ـ بالكسر - بدلاً من الضم. (المجادلة11)
ومما قرئ بالوجهين كذلك في غير السبعة:(202/7)
1- تأسِرون (الأحزاب 26)، التي قرئت بالضم كذلك .
2- يحسُدُون (النساء 54)، التي قرئت بالكسر كذلك .
3- يحشُرهم (الفرقان17)، التي قرئت بالكسر كذلك.
4- تخرِق (الإسراء 37)، التي قرئت بالضم كذلك .
5- تدرُسُون (آل عمران 79)، التي قرئت بالكسر كذلك.
6- يرشُدُون ( البقرة 186)، التي قرئت بالكسر كذلك.
7- يسبِتون (الأعراف 163)، التي قرئت بالضم كذلك.
8- يسبقِونه ( الأنبياء 27)، التي قرئت بالضم كذلك.
9- يسفِك (البقرة 30)، التي قرئت بالضم كذلك.
10- يصدِفون (الأنعام 157 )، التي قرئت بالضم كذلك.
11- لأُصَلّبنَّكم (الأعراف 124)، التي قرئت: لأَصْلبنكم، بالكسر والضم.
12- نطمِس (النساء 47)، التي قرئت بالضم كذلك .
13- يطهُرُون ( البقرة222)، التي قرئت بالكسر كذلك.
14- يعرُجون (الحجر 24)، التي قرئت بالكسر كذلك .
15- تُعزِّروه (الفتح 9 )، التي قرئت: تَعْزروه، بالكسر والضم.
16- تعضُلوهن (البقرة 232)، التي قرئت بالكسر كذلك.
17- سنفرُغ (الرحمن 31)، التي قرئت بالكسر كذلك .
18- فافرُق (المائدة 25)، التي قرئت بالكسر كذلك.
19- يفسُقون (العنكبوت 34)، التي قرئت بالكسر كذلك.
20- تكنِزون (التوبة 35)، التي قرئت بالضم كذلك .
21- يُنْزَفون (الصافات 47)، التي قرئت يَنْزفون بالكسر والضم.
22- لننسِفنه (طه 97)، التي قرئت بالضم كذلك.
23- ينسِلون (الأنبياء 96) ، التي قرئت بالضم كذلك.
24- ينعِق (البقرة 171)، التي قرئت بالضم كذلك.
25- ينكُثُون (الزخرف 50)، التي قرئت بالكسر كذلك.
26- تنكِصون (المؤمنون 66)، التي
قرئت بالضم كذلك.
27- اهبِطوا (البقرة 36)، التي قرئت بالضم كذلك.
وإلى جانب شيوع هذا التبادل في الأفعال السالمة نجده كذلك، ولكن بصورة أقل في الأفعال المضاعفة، مثل:
1- حَسّ: قوله تعالى: { هل تحُسّ منهم من أحد } (مريم 98)، قرئت: تخسّ بضم الحاء وكسرها .(202/8)
2- حَلّ: قوله تعالى: { ويحل عليه عذاب مقيم } (هود39) قرئت كذلك بالضم.
3- صَدّ: قوله تعالى: { ويحل عليه عذاب مقيم } ( هود 39 )، قرأها معظم السبعة بالضم.
4- ضَرّ: قوله تعالى: { فلن يضر الله شيئًا } (آل عمران 144)، قرأها المطوعي بالكسر، كما ورد في الإتحاف.
5- هَشّ: قوله تعالى: { وأهُش بها على غنمي } (طه 18)، قرئت كذلك بالكسر.
وليس التبادل بين الكسر والضم مقصورًا على الأفعال، بل انعكس كذلك في أسماء الزمان والمكان التي وقع التبادل فيها في القرآن بين صيغتي مَفْعَل ومَفْعِل(*) مما يمكن تفسيره على أنه من باب التبادل بين الكسر والضم في المضارع.
ومن أمثلة هذا التبادل في القراءات السبعية:
1- لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان (سبأ 15 )، فقد قرأها الكسائي بكسر الكاف، وحمزة بفتحها .
2- سلام هي حتى مطلع الفجر (القدر 5)، فقد قرأها الكسائي بكسر اللام، والباقون بفتحها.
3- ولكل أمة جعلنا منسكًا (الحج 34)، فقد قرأها حمزة والكسائي بكسر السين،
والباقون بفتحها.
ومن أمثلته في القراءات الشاذة:
1- حتى أبلغ مجمع البحرين ( الكهف 60 )، فقد قرأها الضحاك وعبد الله بن
مسلم بكسر الميم الثانية ( لاحظ أنه من
التبادل بين بابي فعَل يفعَل ويفعِل ).
2- ولم يجدوا عنها مصرفًا ( الكهف 53)، فقد قرأها زيد بن علي بفتح الراء.
3- حتى إذا بلغ مطلع الشمس ( الكهف 90 )، فقد قرأها ابن كثير ـ في رواية ـ وابن محيصن، والحسن، وغيرهم بفتح اللام.
4- يقول الإنسان يومئذ أين المفر (القيامة 10)، فقد قرأها الحسن وابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم بكسر الفاء.
بل أكثر من هذا جاء النص القرآني في عدد من الآيات على خلاف القاعدة، مما يعني وجود تبادل بين البابين، كقوله تعالى: { فولّ وجهك شطر المسجِد الحرام } (البقرة 144) ،(202/9)
ولم ينقل عن أحد من القراء فتحها طبقا للقاعدة. وكقوله تعالى: { ولله المشرق والمغرب } (البقرة 115) ولم ينقل الفتح عن أحد من القراء.
وإذا كان مجموع ما ورد من البابين مما قرئ به قد بلغ ثمانية وأربعين فعلاً فهناك قائمة طويلة من الأفعال ذكرها ابن دريد في الجمهرة (3/1274) منها: يحشد، وينفر، ويشتم، ويخلق، ويقدر، ويعرض، ويقنط .. وقد نقلها جميعها عن أبى عبيدة .
وسواء صحَّ ما يقوله الدكتور إبراهيم أنيس من أن الضم لغة بدوية، والكسر لغة حضرية ( في اللهجات العربية ص 91)، أو ما تذكره المراجع من أن الكسر لغة أسد، والضم لغة بقية العرب ( الإتحاف ص 289) أو أن الكسر لغة الحجاز والضم لغة تميم (منهج أبي عمرو بن العلاء ص61 ويؤيد هذا ميل الحجازيين إلى الكسر في كلمات أخرى مثل أسوة التي كانوا ينطقونها بالكسر، وعليها القراءة المعروفة) . فإننا نقترح – من باب التيسير – تعميم الكسر والضم في كل فعل صحيح جاء ماضيه مفتوح العين
(باستثناء ما كان حلقي العين أو اللام). ويؤيد هذا الاتجاه ما ذكره القدماء من أن ضم عين الفعل وكسرها في المضارع – إذا كان الماضي مفتوح العين – لغتان فاشيتان مشهورتان (منهج أبي عمرو بن العلاء ص48)، وما نص عليه ابن خالويه من أن " كل فعل انفتحت عين ماضيه جاز كسرها وضمها في المضارع قياسًا إلا أن يمنع السماع من ذلك " (الحجة ص 162)، وإن كان قوله: " إلا أن يمنع السماع من ذلك " يبطل كونه قياسًا. وأدق من عبارة ابن خالويه ما نص عليه الرضي في شرحه على الشافية من أن " قياس مضارع فَعَل المفتوحِ عينُه إما الضم أو الكسر. وتعدى بعض النحاة، وهو أبو زيد (*)، هذا، وقال: كلاهما قياس، وليس أحدهما أولى به من الآخر، إلا أنه ربما يكثر أحدهما في عادة ألفاظ الناس حتى يطرح الآخر. فإن عرف الاستعمال فذاك، وإلا استعملا معًا،(202/10)
وليس على المستعمل شيء (1/117، 118). ويضاف إلى هذا ما قاله الفيروزابادي في مقدمة معجمه " القاموس المحيط " تعقيبًا على حديثه عن بابي نصر وضرب: " على أني أذهب إلى ما قاله أبو زيد : إذا جاوزت المشاهير من الأفعال التي يأتي ماضيها على فَعَل فأنت في المستقبل بالخيار: إن شئت قلت: يفعُل بضم العين، وإن شئت قلت يفعِل بكسرها".
ويمكننا ـ في الوقت نفسه ـ أن نتخذ التعدي واللزوم معيارًا للترجيح ، فنتجه في السالم إلى ضم عين المضارع إذا كان الفعل لازمًا، وإلى كسرها إذا كان متعديًا. يقول ابن جني في الخصائص: "ضرب يضرب أقيس من قتل يقتل… ويفعُل فيما ماضيه فَعَل في غير المتعدي أقيس من يفعِل … وذلك أن يفعُل إنما هي في الأصل لما لا يتعدى، نحو كرم يكرم … فإذا كان كذلك كان أن يكون في غير المتعدي فيما ماضيه فَعَل أولى وأقيس. (1/379).
ويقول أبو جعفر النحاس معلقًا على القراءتين في " يعزب" " لو جاز أن يقع اختيار في هذا المكان لكان الضم أولى لأنه فعل لا يتعدى مثل قعد يقعد؛ لأن الأكثر في كلام العرب فيما لا يتعدى أن يأتي مضمومًا، وفيما يتعدى أن يأتي مكسورًا مثل ضرب يضرب . ( إعراب القرآن 4/379 ).(202/11)
ولكن جاء الاختيار على خلاف ذلك في المضاعف، فجاء الضم في المتعدي، والكسر في اللازم: يقول ابن الحاجب في الشافية: " ولزموا الضم في المضاعف المتعدي … وما كان لازمًا فإنه يأتي على يفعِل .. إلا ما شذ (1/134). ويتناول ابن جني القضية بصورة أكثر تفصيلاً فيقول: " فإن قيل: فكيف ذلك ونحن نعلم أن يفعُل في المضاعف المتعدي أكثر من يفعِل نحو شدّه يشُدّه، ومدّه يمُدّه، وقَدّه يقُدُّه، وجزّه يجُزُّه، وعزَّه يعُزُّه، وأزّه يؤُزُّه، وعمّه يعُمُّه، وأمّه يؤُمُّه… ويفعِل في المضاعف قليل محفوظ نحو هدّه يهِدُّه وعلّه يعِلُّه، وأحرف قليلة ـ قيل: إنما جاز هذا في المضاعف لاعتلاله، والمعتلّ كثيرًا ما يأتي مخالفًا للصحيح" (1/379،380) ويقول الفارابي مذيلاً باب فَعل يفعِل في المضاعف: " وهذا الباب لا يجيء متعديًا إلى مفعول إلا في أحرف متعددة، وهي بته يبِته ويبُته، وعلّه في الشراب يعِلّه ويعُلّه، ونمّ الحديث ينِمّه وينُمُّه، وشدّه يشِدّه ويشُدّه، وحبه يَحِبّه … وهذه وحدها بلغة واحدة، وهي شاذة. وإنما سهل تعدي هذه الأحرف إلى مفعول اشتراك الضم والكسر فيهن" (ديوان الأدب 3/145).
ويُستثنى من قاعدة المخالفة إلى الضم أو الكسر ما كان حلقي العين أو اللام من الأفعال فهذا يحتفظ بفتح العين في المضارع كما في الماضي – ما عدا أفعالاً قليلة جاءت على أصلها مثل رجع يرجِع، وصلَح يصلُح، يقول
الفارابي: " فأما المفتوح العين في الماضي والمستقبل فهو لا يقوم إلا أن
يكون فيه أحد حروف الحلق في موضع العين أو اللام. ( ديوان الأدب 2/138 ).
والخلاصة أننا نقترح صياغة قاعدة على النحو التالي:
1- ما كان مفتوح العين في الماضي جاز في مضارعه الضم والكسر، مع ترجيح الكسر في السالم المتعدي، والمضاعف اللازم، وترجيح الضم في السالم اللازم، والمضاعف المتعدى .
2- تفتح عين الفعل في كل من الماضي والمضارع إذا وجد في موضع العين أو اللام أحد حروف الحلق.(202/12)
مع النصح دائمًا بالتزام ما نقل عن العرب في الأفعال التي لا يختلف المثقفون في نطقها .
أحمد مختار عمر
عضو المجمع
1- إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر للدمياطي.
2- إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس.
3- الجاسوس على القاموس لأحمد فارس الشدياق.
4- الجمهرة لابن دريد.
5- الحجة في القراءات السبع لابن خالوية.
6- الخصائص لابن جني.
7- ديوان الأدب للفارابي .
8- شرح شافية ابن الحاجب للرضى.
9- العربية الصحيحة لأحمد مختار عمر.
10- في اللهجات العربية لإبراهيم أنيس.
11- القاموس المحيط للفيروزابادي.
12- معجم القراءات القرآنية لأحمد مختار عمر وعبد العال سالم .
13- منهج أبي عمرو بن العلاء لمحمود عثمان أبو سمرة .(202/13)
الاختصارات الحديثة في وسائل الإعلام
بين الترجمة العربية والاقتراض المعجمي(*)
للأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي
أولاً: الاختصارات: طبيعتها وبداياتها:(**)
... هناك عدة مصطلحات متداولة في الدراسات الغربية في علم المصطلح، تتناول نوعًا من المصطلحات يتكون على سبيل الاختصار وتكوين كلمة جديدة اعتمادًا على كلمات متعددة. وأهم هذه المصطلحات في الإنجليزية Abreviation, acronym، وفي الفرنسية
L’Abreviation, La Siglaison, L’acronyme ، وفي الألمانية Abkürzungen Akronyme . وهذه الاختصارات تُصنف إلى عدة أنماط طبقًا لعملية تكوينها وطريقة نطقها.
... الاختصارات من وسائل تكوين المصطلحات، إلى جانب التغير الدلالي والاشتقاق والنحت والتركيب. ولكن الفرق الأساسي بين الاختصارات من
جانب والوسائل الأخرى من جانب آخر يكمن في عدم خضوع الاختصارات لقواعد لغوية صارمة تحدد بنيتها. ولهذا يوصف تكوين الاختصار على أنه ابتكار كلمة أو إحداث كلمة Word Creation أكثر من كونه قاعدة هادفة إلى تكوين كلمة Word Formation . يعد بعض اللغويين هذه الاختصارات أمرًا هامشيًّا يجوز الاستغناء عنه، والواقع أن هذه الاختصارات أصبحت مكونًا أساسيًّا في اللغات العالمية المعاصرة على مستوى العلم والتقنيات والحياة العامة، وكذلك في مستوى الإعلام.
... إن الاختصارات لها في العربية تاريخ واضح الملامح في إطار الحركة العلمية، نعرف اختصارات كثيرة تتناول الكتب والصياغة العلمية لها .(203/1)
وبطبيعة الحال تقوم هذه الاختصارات على أخذ الحرف الأول أو عدة حروف من الكلمات العربية الكاملة. وقد اهتم بعض المؤلفين في التراث العربي وبعض المحققين ببيان هذه الاختصارات، وقام أعلام ممن كتبوا في قواعد تحقيق التراث بجمع هذه الاختصارات من المخطوطات وبيان معناها للمحقق الناشئ والقارئ الحديث. ومن هذه الاختصارات ما يدل على الإسناد ( ثنا = حدّثنا )، وعلى أعلام المؤلفين ( س = سيبويه )، وبعض علامات تقسيم النص ( أ هـ = انتهى، ت = زيادات، ش = شرح )(1) .
... أما اللغة العبرية فيرجع أقدم الاختصارات فيها إلى تسمية كتاب العهد القديم المكون من التوراة
والأنبياء والكتب، فاختصر اسم هذا الكتاب كله إلى: ( ت ن خ ). وتكونت بمضي الوقت منظومة من الاختصارات في العصور الوسطى، فكان موسى بن ميمون – مثلاً – يشار إليه ( رمبم )؛ أما العصر الحديث فقد زادت وأعدت لها معاجم خاصة (2).
... وتطلب التعبير الحديث عن المفاهيم العلمية والمنتجات الصناعية عدة وسائل للتعبير عنها، منها الاختصارات، ومنها الكلمات القصار، ومنها الرسوم، ومنها الرموز. واستخدام هذه الوسائل له أهميته في الموسيقا وعلم الفلك، وهو مقنن أيضًا للدلالة على علامات الطائرات ولوحات السيارات، إلى جانب أهميته في لغة العلم ولغة الإعلام. ولهذا كله أعدت للاختصارات وما يماثلها معجمات
كاملة في عدد من اللغات (*).
يهدف استخدام هذه الاختصارات إلى ما يأتي:
1- توفير الوقت لأن الاختصار يغني عن تتابع كلمات كثيرة.
2- توفير الحيز الطباعي لأن الاختصار يأخذ حيزًا محدودًا في الطباعة.
3- وضوح الدلالة المتخصصة والبعد عن الصياغة الغامضة.
4- تيسير التعامل الدولي عبر اللغات.
... ومع هذا فقد لوحظ في معجمات المختصرات المؤلفة لجمهور المثقفين أنها تتضمن أيضًا الرموز التي تتطلبها الطباعة الحديثة. وينبغي وجودها – أيضًا في التقنيات المتقدمة، ومنها – مثلاً – علامات الأرقام والرموز(203/2)
المستخدمة في الرياضيات وفي المنطق الرياضي، وفي الكهرباء والأجهزة الكهربائية وأجهزة القياس الكهربائي، وفي المعادلات الكيميائية والفيزيائية، والرموز المستخدمة في علم النبات وعلم الفلك، ومنها كذلك علامات الترقيم، وألفبائية مورس للبرقيات، والرموز المستخدمة في علم اللغة الحديث. وكلها أدوات مهمة للتعامل العلمي الدقيق.
... وهناك فرق بين الاختصارات والرموز من حيث العلاقة بالمكون اللغوي من جانب أو العلاقة الرمزية مع المعنى من جانب آخر. الاختصارات تعتمد على العناصر اللغوية التي تختار من تتابع الكلمات وتكوّن منها اختصارًا، ولكن الرموز
الحسابية على سبيل المثال تمثل المفهوم الحسابي بشكل مباشر دون ربط بالمكون اللغوي، ومن ثم تختلف قراءتها صوتيًّا باختلاف اللغات، ويظل المفهوم الحسابي الذي تدل عليه واحدًا.
... كان مجمع اللغة العربي قد وافق على عدد محدود من الاختصارات، من ذلك في مجالات المصطلحات التجارية.
فُوب
FOB (Free on Board)
ويعني قيمة السلعة مع تسليمها فوق السفينة.
سِيف
CIF (Cost, Insurance, Freight )
ويعني قيمة السلعة مع التأمين وتكاليف الشحن.
وتضمن معجم القانون عددًا محدودًا من الاختصارات، منها (ص 546).
ياتا
IATA ( International Air Traffic Association )
اتحاد النقل الجوي الدولي.
ثانيًا: الاقتراض المعجمي لاختصارات دولية:
... هناك كلمات تكونت في اللغة الإنجليزية على سبيل الاختصار، ودخلت هذه الكلمات الاستخدام الإعلامي في العربية على سبيل الاقتراض المعجمي:(203/3)
كوميسا: تصدرت كلمة كوميسا وسائل الإعلام في مصر، عندما عُقِد في الأسبوع الأخير من فبراير 2000م بمدينة القاهرة المؤتمر الدولي لهذا التجمع الاقتصادي الأفريقي. وكتبت صحيفة الأهرام ( 18/2/2000) : " اسم كوميسا هو اختصار الحروف الأولى للاسم الإنجليزي للسوق المشتركة لدول شرق وجنوب أفريقيا ". وكانت اللافتة الرسمية للمؤتمر تحمل اسم: كوميسا COMESA السوق المشتركة للشرق والجنوب الأفريقي.
Common Market for Easterm and Southern AFRica.
... وهذا الاسم الكامل بالإنجليزية والعربية لم يكن يستخدم إلا على سبيل الشرح، واستقر الاسم المختصر كوميسا في تراكيب متعددة: تجمُّع كوميسا، ومؤتمر كوميسا، دول كوميسا. واستخدام هذا الاختصار بصيغته هذه في اللغة الفرنسية أيضًا، أي أنه احتفظ بصيغته موحدة في الإنجليزية والفرنسية، ودخل العربية.
جات GATT
يستخدم الكتاب العرب المعاصرون كلمة الجات أو اتفاقية الجات تعريبًا لمصطلح GATT . وتكوّن هذا المصطلح في الإنجليزية، ولكنه تجاوزها إلى اللغات الأخرى دون تعديل. كلمة GATT في الإنجليزية اختصار لاسم اتفاقية :
General Agreement on Tariffs and
Trade ( الاتفاقية العامة عن التعريفات الجمركية والتجارة). وهذه الاتفاقية وقعت عليها دول كثيرة، بدأت بشكل متواضع سنة 1948، وأصبحت اتجاهًا عالميًّا منذ 1995. ويكتب عنها باسمها المختصر في الإنجليزية GATT ، ويُستخدم هذا الاسم المختصر أيضا في الفرنسية وفي الألمانية، ونجد في الصحافة العربية: الجات، أو اتفاقية الجات. هذا المصطلح المختصر مقبول في لغة الصحافة العربية المعاصرة، وهو في تدوينه بالحروف اللاتينية لا يقتصر على لغة أوربية واحدة، وهو مستخدم في كل الأقطار العربية مع تدوين الكلمة بالحروف العربية.
رادار Radar(203/4)
... يستخدم الكتاب المعاصرون كلمة رادار، وهذا المصطلح المختصر رادار Radar ، أصله في الإنجليزية Radio detection and ranging . وهو نظام يمكن من تحديد وجود الأشياء عن بعد مع تعرف وضعها وحركتها وذلك من خلال أشعة قصيرة وقياس كيفية انعكاسها، وتستخدم لذلك أجهزة متقدمة. وهذه الكلمة Radar اختصار عن تتابع كلمات إنجليزية، ولكن استخدامها أصبح عالميًّا، ويستخدمها العرب المعاصرون في اللغة الإعلامية وغيرها.
ليزر Laser
... يستخدم الكتاب المعاصرون كلمة ليزر مفردة، كما يستخدمونها في مصطلحات مركبة مثل طابعة ليزر Laser printer وجراحة الليزر Laser surgery. وأصل مصطلح ليزر في الإنجليزيةLaser ، وهو اختصار Light amplification by stimulated emission of radiation . وقد استقر هذا المصطلح المختصر في لغات كثيرة، في الفرنسية le laser ، وفي الألمانية Der Laser ، وفي الكتابات العربية المعاصرة ليزر.
كوبول COBOL
عن الحروف الأولى من تتابع الكلمات:
Common Business Oriented Language.
باسك BASIC
عن الحروف الأولى من تتابع الكلمات:
Beginner’s All purpose Symbolic Instruction Code.
* ... * ... *
... هناك كلمات مختزلة تكونت في اللغة الإنجليزية من جزأين أو أكثر. كل جزء مأخوذ من كلمة مستقلة، وتكونت من الجزأين أو من الأجواء كلمة واحدة. أصبحت وحدة معجمية جديدة في الإنجليزية، ودخلت منها إلى لغات أوربية أخرى ثم إلى العربية على سبيل الاقتراض. وذلك مثل كلمة فورتران. هي مقترضة من كلمة FORTRAN . والكلمة الأوربية مأخوذة على سبيل الاختصار عن جزأين من الكلمتين FORmula TRANslator ، ودخلت العربية بوصفها كلمة واحدة مقترضة.
... هناك عدد كبير من المنظمات الدولية اتخذت أسماءها العربية اعتمادًا على اقتراض كلمة تكونت على سبيل الاختصار. من ذلك – مثلاً – :
UNESCO = United Nations Educational Scientific Cultural Organisation.(203/5)
... هذا الاختصار قام على أساس اللغة الإنجليزية، ودخل الاختصار كاملاً إلى الفرنسية، وإلى العربية. ولم يقم الاختصار على الاسم الكامل لهذه المنظمة بالعربية، بل تم اقتراض الكلمة المختصرة كاملة. وهذا النوع من الاختصارات مستخدم في وسائل الإعلام العربية على سبيل الاقتراض.
ثالثًا: الاختصارات المختلفة باختلاف اللغات الأوربية:
... هناك اختصارات تقوم على لغة محددة وظلت مرتبطة بها، ويُقابلها في لغات أوربية أخر اختصارات أخرى. وبذلك يتكون للمفهوم نفسه اختصار إنجليزي واختصار فرنسي. مثال ذلك منظمة الوحدة الأفريقية، ولاسمها اختصار يقوم على أساس الإنجليزية:
OAU = Organisation of African Unity
واختصار آخر يقوم على أساس الفرنسية:
OUA = Organisation de l’Unité Africaine
... وفي هذه الحالة لا نجد في وسائل الإعلام العربية اختصارًا متداولاً مقترضًا يدل على هذه المنظمة. وفي الصحف العربية نجد ذكر هذه المنظمة باسمها الكامل: منظمة الوحدة الأفريقية.
... وفي هذا الصدد يلاحظ أن اختلاف الاختصار الإنجليزي عن الاختصار الفرنسي، واقتراض الأول في دول المشرق العربية واقتراض الثاني في دول المغرب قد أدى إلى ثنائية في التعبير عن المفهوم الواحد في الصحافة العربية.
وهكذا لقد أدى نقل بعض الاختصارات الإنجليزية إلى العربية ثم نقل بعض الاختصارات الفرنسية إلى وجود اختصارين في العربية، يدلان على المفهوم نفسه:
إيدز ( عن الإنجليزية ) AIDS =
سيدا ( عن الفرنسية) SIDA =
ناتو = ( عن الإنجليزية )
NATO = North Atlantic Treaty Organisation
أوتان = ( عن الفرنسية ) OTAN =(203/6)
... وهذا الاختصار يعامل في الإنجليزية والألمانية بوصفه اسمًا ويكتبNato . أما في الفرنسية فثمة اختصار آخر OTAN يقوم على تتابع الكلمات الفرنسية المكونة لاسم الحلف باللغة الفرنسية. ولو حدث اعتماد متزايد على نقل الاختصارين الإنجليزي والفرنسي إلى العربية لحدث ازدواج في العربية.
رابعًا: الاختصارات المتداولة عن المؤسسات الإعلامية:
... هناك استخدام محدود للاختصارات في العالم العربي، من ذلك الاختصارات الدالة على وكالات الأنباء الأجنبية.
ر = رويتر Reuter
أب إ= Associated Press International
... وثمة وكالات لها اختصارات متداولة على المستوى الأوربي، ولكنها تعرف في أكثر الحالات بترجمة اسمها الكامل إلى العربية، مثل:
وكالة الأنباء الألمانية
Dpa = Deutsche Presseagentur
... أما على المستوى العربي فأكثر وكالات الأنباء العربية لها أسماؤها العربية وأسماؤها الأجنبية واختصاراتها:
أ ش أ = أنباء الشرق الأوسط، لكن
المقابل الرسمي بالحرف اللاتيني هو اختصار لاسمها بالإنجليزية:
MENA = Middle East News Agency
سونا = وكالة الأنباء السوادنية
SUNA = SUdan News Agency
سانا = الوكالة العربية السورية للأنباء
SANA = Syrian Arab News Agency
كونا = وكالة الأنباء الكويتية
KUNA = Kwait News Agency
... أما أشهر استثناء في هذا السياق فيعود بالاختصار إلى عروبته، هو:
وفا = وكالة الأنباء الفلسطينية = وكالة فلسطين للأنباء.
خامسًا: ترجمة المكونات بدلاً من الاختصارات:(203/7)
... الاختصارات المرتبطة بلغة أوربية محددة يتجنب الإعلام العربي – بقدر الإمكان – التعامل معها بطريقة الاقتراض المعجمي، وغالبًا ما يترجم المصطلح كاملاً إلى اللغة العربية. إن اختصارات كثيرة لا يتجاوز استخدامها لغة أوربية واحدة، وعندما يترجم المصطلح الكامل إلى لغة أوربية أخرى يتكون اختصار جديد من كلمات اللغة المترجم إليها. وهذه الاختصارات لا تعرّب، بل تترجم بمعناها إلى اللغة العربية:
EMS = EWS
EMS = European Montary System; Europ?isches W?hrungssystem.
ويترجم هذا الاختصار إلى العربية، نظام النقد الأوربي:
CET = MEZ
Central European Time =
Mitteleuruap?ische Zeit
ويترجم هذا الاختصار إلى العربية، توقيت وسط أوربا:
IMF =IWF
International Monetory funi) = internationaler wahrungsfonds
ويترجم هذا الاختصار إلى العربية، صندوق النقد الدولي:
IOC = IOK
International Olympic Committee = Internationales Olympisches Kommitee
ويترجم هذا الاختصار إلى العربية، اللجنة الأولمبية الدولية:
VAT = MWS
Mehrwertsteuer ( في ألمانيا ) Vatue Added Tax = ( في بريطانيا ) ويترجم هذا الاختصار إلى العربية، ضريبة القيمة المضافة:
... هناك اختصارات متداولة في داخل المنطقة اللغوية، وتدل على مؤسسات وطنية محددة، وتتداول هذه الاختصارات في اللغات الأوربية بشكل موحد مع تقديم الشرح المناسب:
CND = Compain for Nuclear Disarmament = Bewegung für atomare Abrüstung.
ويترجم هذا الاختصار إلى العربية، حملة نزع السلاح النووي:
COD = Cash On Delivery = Per Nachnahme
ويترجم هذا الاختصار إلى العربية: الدفع عند الاستلام:
FBI = Federal Bureau of Investigation = Amerikanische Bundeskriminalpolizei
ويترجم هذا الاختصار الخاص بالولايات المتحدة الأمريكية إلى العربية: المكتب الفيدرالي للتحقيقات، أو مكتب المباحث الاتحادي.(203/8)
CIA = Central Intelligence Agency = amerikanischer Geheimdienst.
ويترجم هذا الاختصار الخاص بالولايات المتحدة الأمريكية إلى العربية وكالة المخابرات المركزية.
NASA = National Aeronautics and Space administration =
Amerikanische Raumfahrtbeh?rde
ويترجم هذا الاختصار الخاص بالولايات المتحدة الأمريكية إلى العربية الوكالة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء.
... وهناك اختصارات أصبح لها في اللغة الواحدة أكثر من معنى، ويقتصر استخدامها على دلالتها في لغتها، ويحدد السياق المعنى المقصود.
MP = (GB) Member of Parliament
MP = Military Police = milit?rpolizei
... وهذان اختصاران ينقلان إلى العربية عن طريق ترجمة المعنى، الاختصار الأول يعني: عضو البرلمان = نائب في البرلمان، والثاني: يعني الشرطة العسكرية.
... وشبيه بهذا أمر بعض المنظمات المتكاملة في أقطار أوربية وغير أوربية، وقد نجد – مثلاً – في الاسم الرسمي اختصارين اثنين يرجع كل منهما إلى لغة أوربية محددة:
YMCA = Young Men Christian Association
CVJM = Christlicher Verein Junger M?nner
... هناك اختصارات تكوّن لها المقابل العربي على سبيل ترجمة المكونات بكلمات عربية تؤدي المعنى، ثم تم عمل اختصار عربي منها:
ISBN = International Standard Bibliographic Number
ترقيم دولي موحد للكتب، واختصرت إلى: تدمك.
... أسماء الأحزاب السياسية تعد مثالاً لتعدد الوسائل اللغوية المختصرة. يكثر في الإطار الأوربي التعبير عنها بالاختصارات المطبوعة والمنطوقة، ولا يستخدم الاسم الكامل – في ألمانيا على سبيل المثال – إلا في مناسبات رسمية محدودة مثال ذلك أسماء الأحزاب:
SPD = Sozialdemokratische Partei Deutschland
FDP = freie Demokratische Partei(203/9)
... في حين أن أسماء الأحزاب في مصر يعبر عنها بكلمات كاملة تختصر إلى كلمة واحدة مختارة من اسم الحزب، مثلاً: الوطني = الحزب الوطني الديمقراطي؛ الوفد = حزب الوفد الجديد؛ التجمع = حزب التجمع الوحدوي التقدمي. وعند الكتابة عن هذه الأحزاب باللغة الإنجليزية لا تستخدم عادة اختصارات، بل يستخدم الاسم مختصرًا في كلمة واحدة.
... هناك اختصارات أوربية وكثر تداولها بشكل مطرد، ويندر أن تستخدم بصيغتها الكاملة، وقليل منها عرف في العربية اختصارًا.
Dr. rer.agr = doctor rerum agrarium
ويترجم إلى العربية: دكتور في العلوم الزراعية.
Dr. med. = doctor medicinae
ويترجم إلى العربية: دكتور في الطب.
Dr. h. c. = doctor honoris causa
وفي العربية ترجم هذا الاختصار طبقًا للمعنى: دكتوراه فخرية. وقد استقر في العربية على كل حال اختصار كلمة دكتور باستخدام حرف الدال وبعدها نقطة ( د. )، وذلك دون تحديد تخصص الدكتوراه.
أما الشهادات الأخرى التي لها في اللغات الأوربية اختصارات، مثل: M.A.M.sc. فلم يستقر لها مقابل عربي على سبيل الاختصار، ويترجم اسم الشهادة بكلمات كاملة، فيقال: ماجستير في الآداب، أو ماجستير في العلوم.
على الرغم من وجود الاختصارات بكثرة في اللغتين الألمانية والإنجليزية فهناك فروق في التوزيع، يتضح هذا الفرق على سبيل المثال في وسائل الإعلام. نجد الاسم الكامل في الإنجليزية يتداول بشكل أكثر منه في الألمانية، أما الاختصار فهو متداول في لغة الإعلام بشكل أكبر في الألمانية، ومن ذلك – مثلاً – أسماء الأحزاب السياسية الحزب المحافظ في بريطانيا يعبر عنه:
The Conservative Party / The Consevatives / The Tories
أما في ألمانيا فالحزب المماثل له يعبر عنه غالبًا من خلال اختصار: CDU – CSU .
وبالمثل نجد الحزب المقابل:
The Labour Party / Labour = SPD(203/10)
... ومثل هذا واضح في المقارنة بين أسماء الأحزاب في ألمانيا (من خلال الاختصار ) وفي الولايات المتحدة ( باختيار كلمة دالة ):
The Democratic Party / The Democrats = SPD
The republican Party/ thr Republicans = CDU / CSU
... هناك اختصارات ترجع إلى كلمات لاتينية، وتستخدم هذه الاختصارات في اللغات الأوربية، ومن شأن هذه المصطلحات أن تترجم بمعناها إلى اللغة العربية، ولا تؤخذ على سبيل الاقتراض المعجمي.
a. m ante meridiem
... وتترجم حرفيًّا: قبل الظهر، والواقع أن المقصود اثنتا عشرة ساعة، تبدأ من منتصف الليل تمامًا وتنتهي وقت الظهيرة، أي من 00.01 حتى 11.59 قبل الظهر، ولهذا يكون ترجمة هذا الاختصار: صباحًا.
p. m post meridiem
... وتترجم حرفيًّا: بعد الظهر، وتمتد هذه المدة اثنتي عشرة ساعة من اليوم، بدايتها بعد الظهر مباشرة وتمتد حتى منتصف الليل، أي من 00.01 حتى 11.59 قبل منتصف الليل، ويترجم هذا الاختصار: مساء.
... بعض هذه الاختصارات يقل استخدامه في بعض اللغات الأوربية، وأصبح له بديل فيها:
e. g. = exempli gratia
والمقابل الإنجليزي for example ، والمقابل الألماني z. B. = zum Beispiel
ويترجم هذا الاختصار: مثلاً:
p. a. = per annum
... المقابل الإنجليزي له per year ، والمقابل الألمانيJ?hrlich أو pro jahr، ويترجم هذا الاختصار: سنويًا.
... هناك مفاهيم تكونت لها اختصارات في لغة أوربية، ثم دخل الاختصار إلى لغات أوربية أخرى وكأنه كلمة عادية مقترضة، ولكنها تترجم إلى العربية بكلمات عربية دون اللجوء إلى اقتراض الاختصار.
PC = personal Computer = Persmalcomputor
... ويترجم هذا الاختصار إلى العربية: حاسب شخصي = حاسوب شخصي.
WC = Water Closet
ويقابل هذا الاختصار بالعربية: دورة المياه.
VIP = Very Important Person
ويترجم هذا الاختصار بالعربية: شخصية مهمة جدًّا.
RSVP = Répondez S’il Vous Plâit(203/11)
... وهذا الاختصار يستخدم هكذا في أكثر اللغات الأوربية ، ويترجم هذا
الاختصار إلى العربية: رجاء الردّ.
... بعض المنتجات الحديثة لها أسماء مختصرة ومتداولة في اللغات الأوربية، تتفق في الكتابة بالحروف وتختلف قراءتها باختلاف اللغات
CD = Compact Disc
... ولكن المتخصصين في المعلومات اقترحوا لها عدة مقابلات عربية، أشهرها حاليا: قرص مُدْمَج.
... هناك اختصار أوربي يقابله في تراثنا اختصار عربي:
etc. et Cetera
... المقابل الإنجليزي and so on ، والمقابل الألماني usw. = und so weiter، ويترجم هذا الاختصار ... إلخ.
يتضح من العرض السابق ما يأتي:
1- هناك استخدام لبعض الاختصارات في وسائل الإعلام العربية المعاصرة، وأكثر ما يوجد حاليا يمكن حمله على الاقتراض المعجمي.
2- الاختصارات الدولية التي تجاوزت حدود لغة أوربية واحدة وأصبحت عالمية تُقترض بصيغتها العالمية، ويصبح كل اختصار منها بمنزلة كلمة مقترضة.
3- الاختصارات التي ترتبط بلغة أوربية واحدة وتختلف صيغتها في اللغات الأوربية الأخرى، إذا حدث فيها اقتراض من مصدرين إلى العربية فإن هذا يؤدي إلى وجود اختصارين مقترضين لمفهوم واحد.
4- هناك اختصارات وُضعت في الدول العربية على نسق اختصارات أوربية، وأصبحت مستخدمة في بعض المجالات الإعلامية، ومنها الاختصارات الدالة على وكالات الأنباء.
5- أكثر الاختصارات المتعددة بتعدد اللغات الأوربية للمفهوم الواحد تترجم إلى العربية بكلمات عربية دون اللجوء إلى الاختصار .
6- يميل الاستخدام في وسائل الإعلام العربية في أكثر الحالات – أي في غير تلك الحالات المحدودة المذكورة –
إلى ترجمة المكونات بكلمات عربية دالة.
محمود فهمي حجازي
عضو المجمع
ملحق رقم 1: أهم الاختصارات المتداولة في مجال التراث العربي
1- اختصارات دالة على طرق تَحَمُّل العلم:
ثنى = حدثني
نا = حدثنا أو أخبرنا
أنا = أنبأنا، أخبرنا
أرنا = (اخبرنا عند بعض المغاربة )(203/12)
أخ نا = (أخبرنا – عند بعض المغاربة)
قثنا = قال حدثنا
2- اختصارات دالة على حدود النصوص ومكوناتها والرأي فيها ومصادرها:
ح = تحويل ( السند في الحديث ).
م = معتمد، معروف.
المص = المصنِّف.
إلخ = إلى آخره.
ص = المُصَنَّف.
أ هـ = انتهى
ش = الشرح
ع = موضع = اسم موضع ( اختصار مستخدم في القاموس المحيط )
الشـ = الشارح.
ج = جمع ( في القاموس المحيط ).
أيض = أيضًا
ج ج = جمع الجمع ( في القاموس المحيط )
لا يخـ = لا يخفى
ت = زيادات
ج ج ج = جمع جمع الجمع ( في القاموس المحيط )
تت = زيادات الزيادات
د + بلد ( في القاموس المحيط )
ة = قرية
3- اختصارات دالة على أعلام المؤلفين:
خ = البخاري ح ل = الحلبي
م = مسلم ع ن = العناني
ت = الترمذي ح ف = الحفني
ن = النسائي ط = الأطفيحي
ح = أبو حنيفة م د = المدابغي
م = مالك سم = ابن أم قاسم
س = سيبويه ص = الأصمعي
جه = ابن ماجه س = السكري
حج = ابن حجر الهيشمي
ع = السمعاني
مر = محمد الرملي ح = الحموي
ع ش = علي الشبراملسي
ج = الجرجاني
زي = الزيادي
شو = الشوبري
ق ل = القليوبي
س ل = سلطان المزاحى
4- اختصارات دالة على عبارات الدعاء:
رحه = رحمه الله
صلعم = صلى الله عليه وسلم
( الاختصار هنا مكروه )
رضه = رضي الله عنه
تع = تعالى
5- اختصارات دالة على الكتب:
ط = الموطأ
بس = المبسوط
ع ب = العباب
ملحق رقم 2: المصطلحات الأوربية الدالة على الاختصارات
هذا المصطلح محدد بشكل دقيق ومتفق عليه إلى حد بعيد، ويدل على الصيغة المختصرة المكتوبة:
Mr = Mister
Ca = Calcium
CF = Confer = Compare
وثمة استخدام خاص في بعض الكتابات الفرنسية لمصطلح: Abréviation للدلالة على اختصار الكلمة المركبة بحذف جزء كامل منها:
métropolitain metro
وقد دخلت الكلمة المختصرة الأولى في مستوى اللغة الإعلامية: مترو.
Cinématographe cinéma ciné(203/13)
وقد دخلت هذه الكلمة المختصرة في مستوى اللغة الإعلامية والإدارية في مصر: سينما.
... وقد عَبّرت الوثيقة ISO / 1087 الصادرة سنة 1969 عن هذا النوع من
الاختصارات بمصطلح ( المصطلح رقم 45 ).
La Siglaison
... يستخدم هذا المصطلح في بعض الكتابات الفرنسية لتكوين اختصار بأخذ الحروف الأولى من كلمات متتابعة، الحرف الأول من كل كلمة منها:
ONU = Organisation des Nations Unie
Acronyme, Acronyme, Akronym
... يدل هذا المصطلح في الإنجليزية والفرنسية والألمانية على تكوين كلمة بأخذ المقطع الأول من كلمة وكلمة أخرى، لتكوين كلمة جديدة:
Formula tranlation = Fortran
غير أن الوثيقة السابقة جعلت Acronym صيغة مختصرة تتكون من الأحرف الأولى من كلمات متتابعة ( انظر المصطلح رقم 4 )
Radar ( = Radio detection and ranging )(203/14)
الانحراف اللغوي في الإعلام المصري المسموع
مظاهره، وسبل تقويمه
محاضرة
للأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر
الراصد للغة الإعلام المصري المسموع يلاحظ جملة أمور سلبية، منها:
1- طغيان المادة التي تقدم بالعامية على تلك التي تقدم بالفصحى.
2- وجود انحرافات لغوية محدودة ولكنها ملحوظة فيما يقدم من مادة فصيحة تتمثل في نشرات الأخبار والتعليق عليها، ومواجز الأنباء، وأقوال الصحف، وأحاديث السهرة ، والأحاديث الدينية ذات المواعيد الثابتة في كلتا الإذاعتين المسموعة والمرئية.
3- غلبة الانحرافات اللغوية على العديد من البرامج والنشرات الخاصة التي كان يمكن أن تقدم باللغة الفصحى، مثل: النشرة الجوية، والاقتصادية، والرياضية، وحوارات الضيوف مع مقدِّمي الكثير من البرامج، وتقارير
المندوبين والمراسلين الإذاعيين.
4- تفاوت مستوى المتحدثين الخارجيين، وتدني لغة بعضهم إلى الحد الذي يستفز المشاعر، ويستثير الغضب والدهشة في آن واحد. ويشمل ذلك خطب الكثير من كبار المسؤولين في الدولة، وأحاديثهم وتعليقاتهم، وخطب بعض رجال الدين في الجمعة أو العيدين أو الاحتفالات الدينية المختلفة.
وإذا كان النوع الأخير يخرج عن سيطرة الإذاعة، ولا تتحمل - من أجلك ذلك - مسؤوليته، فهي مسؤولة مسؤولية تامة عن الأنواع الثلاثة الأولى، وهي مطالبة من واقع هذه المسؤولية بتتبع هذه الانحرافات، والسعي الجاد للتخلص منها والقضاء عليها.
وحتى لا يكون كلامي مرسلاً أو ملقى على عواهنه أضرب الأمثلة السريعة لما لاحظته من أنواع الانحرافات في المادة المقدمة باللغة الفصحى.
وأبدأ بالمذيعين المحترفين في الإذاعتين المسموعة والمرئية ، الذين كان يجب على الإذاعة أن تصنعهم على أعينها، وأن تحسن اختيارهم، وتتوخى الدقة في انتقائهم وتتعهدهم بعد ذلك بالعناية والرعاية والتوجيه حتى يستقيم لسانهم وتجود لغتهم قبل أن تدفع بهم إلى مواجهة الجماهير، ومخاطبة أسماعهم.(204/1)
وأضرب أولاً بعض الأمثلة من المآخذ الصوتية والنطقية، ثم أثنِّى ببعض الانحرافات اللغوية الأخرى .
أولاً: المآخذ الصوتية والنطقية:
تدخل تحت هذه المآخذ أنواع مختلفة ، منها :
1- الاستخدام المعيب للوسائل الصوتية غير اللفظية(1):
يفتقر كثير من المتحدثين في الإذاعتين المسموعة والمرئية إلى ثقافة صوتية، ويفتقدون التدريب الكافي على استخدام الإمكانيات الصوتية المتنوعة التي تدخل تحت ما يسمى بالوسائل الصوتية غير اللفظية، أو الملامح النطقية غير التركيبية المصاحبة للعملية الكلامية، والمشاركة لها في أداء الرسالة اللغوية، والمستخدمة لتنويع نماذج الأصوات، مثل: النبر(2)، والتنغيم(3)، ودرجة الصوت (4)، ومعدل سرعته(5)، ونوعيته، ومدى ارتفاعه(6)،
والوقفة أو السكتة(1).
وتأتى أهمية هذه الوسائل الصوتية من أنها تنتج نحوًا من35% من الرسالة اللغوية، كما أنها قد تكون ذات تأثير سلبي حين يساء استخدامها . وربما كان من أكثر السلبيات لفتًا للنظر في هذا المقام ما يأتي:
1- كثرة السكتات والوقفات الخاطئة من المذيع، كما حدث حين قرأ أحدهم الجملة الآتية: " أن أسلوب الشتائم الذي يتبعه العراق # (2) دائمًا أسلوب المفسدين "، وكان حقه أن يقرأها هكذا:
" أن أسلوب الشتائم الذي يتبعه العراق دائمًا # أسلوب المفسدين"
وكذلك الجملة الآتية التي قرأها المذيع هكذا:
" حيا وزير خارجية البوسنة # مستقبليه، وأثنى على صمود بلاده"، وكان حقه أن يقرأها هكذا:
" حيا وزير خارجية البوسنة مستقبليه # وأثنى على صمود بلاده" .
2- الخطأ في تنغيم الجملة أثناء قراءتها. فالجملة أثناء الاستمرار في نطقها لها تنغيم معين، وعند انتهائها يصبح لها تنغيم آخر. والجملة التقريرية لها تنغيم، والاستفهامية تنغيم ثان، والاحتمالية تنغيم ثالث، والتوكيدية تنغيم رابع وهكذا (3).(204/2)
... وكثيرًا ما يعطيك المذيع – عن طريق تنغيمه للجملة – انطباعًا باستمرار الجملة، ثم تفاجأ بانتهائها، والانتقال إلى جملة جديدة، وقد يحدث العكس، أي أن يعطيك المذيع عن طريق تنغميه إحساسًا بانتهاء الجملة، ثم تفاجأ بعدم انتهائها، كما فعل مذيع إحدى النشرات حين نطق الجملة: " بعد ثلاثة أشهر من الإصرار " فقد قرأها: بعد ثلاثة أشهر (بتنغيم الوقوف)، ثم فوجئ السامع بأن الجملة لم تنته، وأن بقيتها: " من الإصرار". وكما فعل مذيع آخر حين نطق الجملة" لا فرق بين حل عربي أو إسلامي، مهما كان الحل
فالمطلوب حل المشكلة" حيث أعطى تنغيم الوقوف عند " مهما كان الحل " مع أن الجملة ممتدة.
2-نطق الأصوات نطقًا معيبًا:
يشمل ذلك نماذج كثيرة، أهمها:
أ ـ الخلط بين الصوتين المجهور والمهموس في النطق تحت تأثير عامل المماثلة الصوتية، وهو ما قد يؤدى ـ في بعض الأحيان ـ إلى تغيير المعنى أو تشويهه، ومن أمثلة ذلك: "يخفر أخطاءه" بدلا من "يغفر"، "تحتقدُ أنّ " بدلاً من "تعتقد أنَّ"، " نشرة الأغبار "، بدلا من " الأخبار" " ضخط مرتفع "، بدلاً من " ضغط ".
ب ـ الخلط بين الصوتين المرقق والمفخم، وبخاصة صوتا الراء واللام اللذان يختصان بأحكام معينة حسب نوع الحركة المصاحبة لهما، أو نوع الصوت المجاور، ومن أمثلة ذلك ترقيق الراء في لفظ " رامية من ذلك " و " السنوات الأخيرة "، وتفخيم لفظ الجلالة في مثل " سائلاً الله " مع نطق المذيع "سائلاً" موصولة بلفظ الجلالة، وتحريك تنوينها بالكسرة للتخلص من التقاء الساكنين. وآخر ما سمعته من هذا القبيل نطق المذيعة صباح يوم الاثنين 21/2 " نجاح الطيار الإصلاحي "، وهي تقصد ـ بدلالة السياق ـ التيار الإصلاحي .(204/3)
جـ – التأثر بالنطق العامي في نطق الأصوات التي يختلف نطقها الفصيح عن نطقها العامي كنطق " الغردقة ": " الغردأة "، ونطق " ذلك: " زالك "، ثقافة: " سقافة ". وقد يوقع هذا التأثر في لبس دلالي كما سمعت أحدهم يقرأ: " لا تتعدى الشقة حجرتين بأساس متواضع " بدلا من " أثاث " .
د ـ الخلط بين " أل " الشمسية و" أل " القمرية، والأولى تتحول إلى صوت مماثل لما بعدها ويدغم الصوتان، أما الثانية فتحتفظ بنطقها ولا تتحول إلى صوت آخر. وقد سمعت أحد المذيعين يقول: " هنا اقّاهرة "، وثانيًا يقول: لدى الْشعب العربي ككل، وثالثاً يقول: على أساس من الوفاء والْتقدير .
هـ – الخلط بين همزتي الوصل والقطع، بنطق الأولى في وسط الكلام همزة قطع كما في الأمثلة الآتية: " بهذا الإسم "، " وأصيب إثنان منهم "، "قضايا الأمة العربية"، "يتكلم إعتياديًّا. ويتصل بهمزة الوصل كذلك الخطأ في ضبطها حين يبدأ بها ، كما في عبارة إِستُخدم استخدامًا خاطئًا "، " إِختُتمت المباحثات أمس في باكستان "، فقد نطقها المذيع بكسر الهمزة والصواب ضمها لبناء الفعل للمجهول، ووجود ضمة قريبة من الهمزة .
و ـ التخلص بالسكون من حركة الإعراب، وهذا شائع في نطق المذيعين بصورة لافتة للنظر، وقد يبالغ المذيع في ذلك فيبدو و كأنه ينطق كلمات مفردة لا جملة متصلة كما قرأ أحدهم : مع خبراءْ من وزارةْ البترولْ والثروةْ المعدنيةْ"، وقرأ آخر: " تكوينْ مجموعةْ دولْ مستعدةْ للموافقةْ على القرار " .
وحين يواجه المذيع المسكّن للآخر بسكون الحرف التالي فإنه يلجأ إلى حركة التخلص من التقاء الساكنين، وليس الحركة الإعرابية الملائمة مثل " أكد الرئيسِ الأمريكي "، " وقد تم اختيارِ السيد أمين بسيوني " …
ثانيًا: الانحرافات اللغوية الأخرى:
وتغطي هذه الانحرافات ما يأتي:
1- الانحرافات الصرفية:(204/4)
ربما كان أكثر ما يقع فيه المذيع من انحرافات صرفية يتمثل في الخطأ في ضبط عين الفعل الثلاثي المجرد في كل من الماضي والمضارع. والأمثلة كثيرة بالعشرات، ولكنني سأكتفي بضرب الأمثلة القليلة الآتية:
أ ـ لقد ثبُت بُعْد نظره ، والصواب من باب نَصَرَ. أما ثبت ـ بالضم ـ فقد جاء من الشجاعة وثبات العقل فيقال: ثبت الرجل إذا كان شجاعًا متماسكًا.
ب ـ حَفَظ للبلد كرامته، والصواب من باب فَرِحَ، ودليل ذلك أن المضارع بالفتح، ولم يرد فعل من باب فتح إلا إذا كان حلقي العين أو اللام .
ج ـ الخلط بين بابي ضَرَبَ ونَصَرَ، وهو كثير شائع، ولنا رأي فيه سنذكره فيما بعد .
د ـ الخطأ في ضبط عين الماضي المضعف من باب فرح حين فك إدغامه لإسناد الفعل إلى ضمائر الرفع المتحركة مثل: مللت صحبته، وظللت أناقشه، التي يجب أن تنطق بكسر العين لا بفتحها .
هـ ـ ويلي هذا الخطأ في الشيوع والكثرة الخطأ في ضبط حرف المضارعة نتيجة الخلط بين الفعل الثلاثي المجرد، والثلاثي المزيد بالهمزة، مثل: كانت تَأْوي جماعَةً من المنشقين، والصواب: تُؤْوي، تُحد من قيمتها، والصواب: تَحُدّ، تَحكم قبضتها، والصواب: تُحكم، حرب تُشنها إسرائيل، والصواب: تَشُنّها .
و ـ ومن أمثلة الانحرافات الصرفية كذلك الخطأ في التعامل مع المؤنث المجازي عن طريق تذكيره، وعود الضمير عليه مذكرًا، في كلمات مثل: سِنّ، وفخذ، وأذن، وكتف، ويمين، وبئر. وقد تولَّد عن هذا الخطأ خطأ آخر تمثل في تأنيث عدد من الكلمات المذكرة مثل بلد، ورأس، ومستشفى .
وتحت يدنا أمثلة أخرى كثيرة تتعلق بقواعد التثنية، وجمع المؤنث السالم، وباب النسب، والخلط بين اسمي الفاعل والمفعول مما زاد على ثلاثة، والخطأ في إسناد الأفعال إلى الضمائر، وبخاصة الأفعال المقصورة عند إسنادها إلى واو الجماعة أو ياء المخاطبة .
2-الانحرافات النحوية:(204/5)
تظهر هذه الانحرافات في أبواب معينة يكثر الخطأ فيها حتى من المتخصصين، ومن ذلك أبواب العدد، ومنع الصرف، وبعض مسائل الاستثناء والإتباع، وخلط أجزاء الجملة نتيجة طولها، وكثير غير ذلك، ولا يتسع المقام لضرب الأمثلة لكل نوع.
وربما كان من أهم الانحرافات النحوية ما يسببه طول الجملة، وفصل المتعلقات عما تتعلق به، مما يوقع في لبس، مثل: جامعة القاهرة تبحث استعدادات العام الدراسي بعد غد، والمراد: جامعة القاهرة تبحث بعد غد استعدادات العام الدراسي؛ لأن الظرف " بعد غد " متعلق بالفعل " تبحث "، وليس ببدء العام الدراسي.
3-الانحرافات المعجمية:
يضم هذا النوع من الانحرافات صورًا كثيرة ربما كان أشهرها الخطأ في ضبط بنية الكلمة. وقد شاع أثناء تولي عمر عبد الآخِر منصب المحافظ أن نطق اسمه: عبد الآخَر، والآخَر ليس من أسماء الله الحسنى، وإنما هو الآخِر. ويشيع كذلك التعبير " الخيار العسكري " وينطق بفتح الخاء، وصحة نطقه بكسرها، صَمّام الأمن، والصواب: صِمام ، الحكومة والمعارضة في قارَب واحد ، والصواب قارِب. وقد سمعت أحد المذيعين ينطق اسم مجمعنا: المُجَمَّع اللغوي، وثانيًا ينطقه المَجمْع اللَّغَوي. وكلمات أخرى كثيرة مثل الجُرْم السماوي، فصل جنوب السودان عن شِماله، عِقْد التسعينيات، مدرسون أكِفّاء..
فإذا انتقلنا إلى مقدمي البرامج والنشرات الخاصة، والمندوبين والمراسلين الإذاعيين والمترجمين الفوريين نجد الخطب أفدح، والبلوى أعم. ولا يكاد يسلم أحد من الذين استمعت إليهم من الخطأ وإن تفاوتوا في ذلك تفاوتًا كبيرًا، فمنهم المتمرس الذي يملك زمام اللغة وهم قلة قليلة مثل عبد الوهاب محمود مراسل الإذاعة في ألمانيا، وعبد الحميد زقزوق مراسلها في الكويت، ومنهم من لا يكاد يقيم لسانه. وأضرب أمثلة سريعة لأخطاء هؤلاء المراسلين وزلاتهم:
* شعُر الإسرائيليون بذلك ( عباس متولي / وشنطن ) 21/1/2000 .(204/6)
* وأن لدى المقاومة قلاعٌ حصينة (عبد الملك خليل/موسكو)21/1/2000
( تقلص خلالِها الدور الأمريكي - الإستفراد بالمفاوض الفلسطيني– "نطقها بتسكين أواخر الكلمات" ) (مجدي يوسف/ بروكسل) 19/1/2000
( الحملة التي يُشنها الحزب - عَمَل من خلال الأمريكيين - وُفْق الترتيبات الأمنية ) ( سيد علي / بيروت ) 24/1/2000
( قطع همزة الوصل: للإلتزام الإتفاقيات - إستنفاد الجهد، الإقتصادية) ( مجدي يوسف/ بروكسل ) 24/1/2000
( أكدت المصادرَ المطلعة في المجلس - ترقيق الراء في: رامية من ذلك - على طاولة المفاوضات الأخيرة ) ( مجدي يوسف/ بروكسل ) 24/1/2000
(الوَحْدات والقوات - لا تعلن فيه سوى عن مقتل ثلاثة - أن إدراجِها رسميًّا) ( سامي عمارة/ موسكو )24/1/2000
* يرى أن تشكيل الحزب الجديد دليلاً على انشقاق المعارضة ( مراسلنا في لندن ) 3/2/2000
ومن الأمثلة المتناثرة التي جمعتها مؤخرًا:
خبراء اللَّغويات ( كما نطقها عباس متولي مراسل الإذاعة في واشنطن ).
ومن يخطُوَ في اتجاهها خطوة واحدة ( كما قرأها عبد الوهاب منتصر مراسل الإذاعة في أبو ظبي )
تُدْمغ جيش إسرائيل .
يجب على مجلس الأمن عدمَ القبول بأقل من…
آخر ما يمكن للنظام العراقي قبولَه.
قطعوا شِفَّتها .(204/7)
كما يدخل في هذا الفريق المعلقون الإذاعيون على الهواء، والمعلقون على الأخبار إذا كانوا هم كاتبي التعليق، كقول أحدهم: كان من قُبيل تحصيل الحاصل، وقول آخر: بين الرئيسان مبارك وحافظ الأسد. وقد سبق أن نبه المرحوم أحمد بهاء الدين في إحدى يومياته على ذلك قائلا: " ومنذ أيام رأيت تعليقًا على الأنباء وسط أحد البرامج الإخبارية بصوت كاتب التعليق. ولم أسمع من قبل هذه الكمية من الأخطاء اللغوية في هذا العدد من الدقائق (يوميات1/4/89) وقد كان سمير التوني رئيس شبكة الأخبار المركزية السابق في الإذاعة من أسوأ النماذج لهذا النوع من المعلقين الإذاعيين مع أنه كان ينبغي ـ بحكم منصبه ـ أن يكون قدوة لغيره، والحمد لله أن إحالته إلى المعاش قد خلصتنا من أخطائه الصارخة. وقد قام أثناء عمله بوصف مراسم استقبال الرئيس حسني مبارك في دمشق وتكلم نحو دقيقتين وقع فيهما فيما لا يقل عن ستة أخطاء لغوية .
ومنذ أيام قلائل كنت أستمع إلى تسجيل لحفل الجامعة الأمريكية الذي تسلمت فيه السيدة سوزان مبارك درجة الدكتوراه الفخرية. وجاء تعليق السيدة سوزان حسن مليئًا بالأخطاء الصارخة ـ مع أنها مذيعة سابقة قديمة ـ كقولها: حصُلت على درجة الماجستير ـ أن حضورِها جعل هذا الاحتفال احتفالاً خاصًّا ـ لتقدم نموذجْ رائعْ ـ بدأت رحلةْ عملَها التطوعي… إلخ .
وأما المتحدثون الخارجيون فحدِّث عنهم ولا حرج، وبخاصة إذا كانوا من رجال السياسة أو أقطاب الحكم . ولم يسلم من المآخذ كبار المثقفين ورجال الدين الذين يتوقع منهم أن يكونوا في مرتبة أعلى في صحة التعبير من المذيعين. وأكتفي ببعض
الأمثلة الصارخة لذلك.
1-في كلمة قصيرة لنقيب الصحفيين السابق مكرم محمد أحمد ألقاها بين يدي الرئيس حسني مبارك في عيد الإعلاميين ـ وهي مناسبة كان ينبغي أن يحتشد لها ـ لم يقم لسانه في جملة واحدة ، وأخطأ في الفاعل والمفعول والمجرور .(204/8)
2- في إحدى جلسات افتتاح مجلس الشعب ألقى الدكتور أحمد فتحي سرور كلمة قصيرة أخطأ فيها بضعة أخطاء لغوية منها عطف منصوب على مرفوع، ونصب الفاعل، وضم راء "تجربة" ، وقطع همزة الوصل، مع أن الصحف المصرية كانت حريصة على أن تبرز ضمن مواهب الدكتور سرور أنه متحدث من الطراز الأول، وأنه يجيد فن الحوار. وفي كلمة أخرى ألقاها تحية للرئيس حسني مبارك أمام مجلسي الشعب والشورى وقع في بضعة عشر خطأ تتعلق بالعطف، والنداء، والمضاف إليه، وهمزة الوصل، وضبط عين الثلاثي. وفي تعليق على مناقشات قانون الأحوال الشخصية وقع في عشرات الأخطاء التي منها: "مناقشات استمرت ستةُ أيام".
3- في كلمة للوزير الفنان فاروق حسني وزير الثقافة أذيعت في وسائل الإعلام المسموعة وردت الأخطاء الآتية:
اسمحوا لي أن أَلقي كلمة
( وصحتها بضم الهمزة)
تَشْرِف بكم ( وصحتها بضم الراء)
كان أحدُ صورهذا الوعي ( وصحتها كانت إحدى صور هذا الوعي)
إلى دائرةَ النور ( وصحتها إلى دائرةِ)
أن تضاءُ المناطق (وصحتها: بالنصب)
حتى يمكن إدراكَ عمقها
( وصحتها بالرفع لأنها فاعل)
عِقْد لحماية الطفل المصري
( وصحتها عَقد بفتح العين )
4- ولم يسلم كبار الشيوخ ورجال الدين في الدولة من الوقوع في الأخطاء المستفزة، مما يجعلني أتشكك كثيرًا في جدوى الدعوة إلى العودة إلى الكتاتيب، وتحفيظ القرآن مع أنني كنت من المؤيدين للفكرة، ومن الأمثلة على ذلك:
أ ـ في أول ظهور علني لفضيلة الشيخ نصر فريد واصل مفتي الجمهورية ، وفي حديثه في حفل استطلاع هلال شهر رمضان 19/1/1997 ) نجده يخطئ في آيتين قرآنيتين ويقع في ثلاثة أخطاء لغوية هي:
* أحد هذه العبادات هو الصيام، وصحتها: إحدى .. هي.
* وأنا الذي أُجزي به، وصحتها:أَجزي.
* لأن كلٌّ منهما لا يغني عن الآخر، وصحتها: كُلاًّ.(204/9)
ب ـ في خطبة الجمعة التي أذيعت يوم الجمعة 4/2/2000 من البرنامج العام، ومن مسجد السيدة خديجة بنت خويلد لم ينطق خطيب الجمعة جملة واحدة صحيحة. ولا أدري كيف تسكت وزارة الأوقاف على هذا المستوى المتدني للخطباء، وكيف يذيع البرنامج العام خطبة لا يعرف صاحبها أوليات القواعد النحوية، ومن ذلك:
* لأن موسم الحج موسمًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا كذلك.
* وجعلها أشهرٌ معلومة .
* له حواسٌ يتحسس بها الأشياء.
* وأن ينتهي عما نهى الله عنه .
* يوم خلق السموات والأرضِ منها أربعة حرم ( ولاحظ أن هذه آية قرآنية ).
*خلق الأيام فاصطفى منها يومُ الجمعة، والليالي فاصطفى منها ليلةُ القدر.
* النهي عما انتُهينا عنه ( يقصد: الانتهاء عما نهينا عنه ) .
* لماذا نهوَى بعقولنا، ونسقط بتفكيرنا؟
* الإسلام ثوب أبيضٌ شفاف ، فعلينا الاستماعَ إلى النصيحة.
* أرح نفسك يا عبدُ الله.
ج ـ في حديث الصباح الديني لفضيلة الشيخ منصور الرفاعي (26/3/1999) وقع لحن فاحش إذ كرر نطق الحديث الشريف: استوصوا بالنساء خيرًا ـ نطقه: استوصَوْا بفتح الصاد وسكون الواو، مع أنها فعل أمر لا ماض .
د ـ ورغم إعجابي بفصاحة فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ سيد محمد طنطاوي فإنني لاحظت أنه كثيرًا ما تبدر منه بعض الهفوات اللغوية، كقوله في حديث الروح (مساء 1/2/2000): هذا ما سنتكلم عنه في الحلْقات القادمة.
هـ ـ وقد كنت آمل الخير في المسلسلات التي تقدم بالفصحى، وأتوقع أن تؤدي دورها في الارتقاء بمستوى الأداء اللغوي، ولكن خيبت معظم هذه المسلسلات ظني هي الأخرى .
وأكتفي بضرب الأمثلة من مسلسل أبى حنيفة الذي قدمه تليفزيون القاهرة خلال شهر رمضان 1417هـ، فقد كثرت فيه التجاوزات اللغوية إلى الدرجة التي جعلت أحد كتاب الأعمدة اليومية الصحفية يسميها " كوارث لغوية "، ومنها:(204/10)
أ- في يوم 23/1/97 قال أبو حنيفة (محمود ياسين) لابنه: قاطعت حلْقات العلم في المسجد، وصحتها: حَلَقات. وفي اليوم نفسه يقول أبو حنيفة
(محمود ياسين) أن به تبيانُ كل شيء.
ب - وقد سببت كلمة "دعاة" المضافة إلى الضمير مشكلة للممثلين ـ وربما للمراجع اللغوي للمسلسل أيضًا ـ لأنها نطقت عدة مرات مع نصبها بالكسرة توهما أنها من جمع المؤنث السالم، ومن ذلك ما جاء في حلقة 21/1 على لسان شيخ العباسيين: أبلغوا دعاتِنا بالتخفي والسكون. وتكرر في حلقة 23/1: إن دعاتِهم ينشطون اليوم بعد قتل زيد.
وقد استفز هذا التدهور الشديد للغة الإعلام المسموع كثيرًا من المثقفين الغيورين الذين نبهوا إلى كثرة هذه الأخطاء وفداحتها. ومن هؤلاء الأستاذ نجيب محفوظ الذي كتب في " وجهة نظر " بالأهرام ما نصه: " من حين لآخر تثار مشكلة اللغة العربية في التليفزيون كيف تلقى على الناس متعثرة بأخطاء النحو والنطق، وكيف تعمل على نشر الخطأ على أوسع نطاق بقوة التليفزيون وهيمنته على الحواس والأذواق"
وكتب المرحوم " أحمد بهاء الدين " منذ أكثر من عشر سنوات في عموده اليومي "يوميات " قائلاً: خلال رحلة الرئيس مبارك الماضية إلى أوربا أغرقنا المذيعون والمذيعات في التليفزيون بالنطق الخاطئ لأسماء أشهر الأماكن و العواصم والأشياء .. وبعض المسؤولين في التليفزيون يعتبرون مأساة اللغة العربية في التليفزيون غير هامة. كلا يا سادة. فالذين وظيفتهم الكلام باللغة العربية يجب أن يتلقوا الدروس، أو تكتب لهم المادة مع التشكيل الدقيق.
وكان أقسى نقد وجه للغة الإعلام المسموع ما كتبه الأستاذ الدكتور كمال بشر في صحيفة الأخبار منذ بعض الوقت مطالبًا بالتصريح برفع دعوى قضائية تستند إلى الدستور ضد الإذاعة والتليفزيون ؛ لأن الدستور ينص على أن اللغة الرسمية في مصر هي اللغة العربية في حين أن الإذاعة لا تلتزم بذلك .
* ... * ... *(204/11)
فما السبيل إلى إنقاذ الأمة العربية من هذه الكارثة القومية المدمرة؟ لن أعقّد الأمور كثيرًا، فأطلب المستحيل، أو أنشد الحل خلال سنوات قليلة، وإنما سأركز على النقاط الرئيسية التي قد يحتاج إنجاز بعضها إلى سنوات بعد التخطيط الدقيق لها، ومتابعة تنفيذها.
أول ما أدعو إليه وأنادي به ضرورة إذكاء الشعور الوطني والديني لدى أبناء الأمة العربية وبث روح الغيرة على اللغة العربية في نفوسهم والتعامل معها لا على أنها مجرد وسيلة للتفاهم، وإنما باعتبارها أولاً عنوان هويتنا، ووعاء ثقافتنا، وغايتنا في ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. ولن أذهب بعيدًا بضرب الأمثلة من اللغة الفرنسية التي وضع لها البرلمان الفرنسي مؤخرًا قائمة سوداء من الكلمات التي يحظر استخدامها في الإعلانات والمدارس والحكومة والمؤسسات، وإنما سأضرب المثل باللغة العبرية الحديثة التي لم تحقق ما حققته من مكانة لتصبح اللغة الوطنية لدولة إسرائيل إلا نتيجة لتنامي الشعور الوطني، والإرادة الجماعية لليهود. ومما يلفت النظر في التجربة اليهودية السرعة المذهلة في تنفيذها وفاعليتها، وشمولها كل مناحي الحياة داخل الدولة الحديثة، سواء كانت اجتماعية أو تقنية أو تعليمية.
وثاني ما أدعو إليه اتخاذ الوسائل لإعداد مدرسي اللغة العربية إعدادًا جيدًا بعد اختيارهم من حملة الثانوية العامة على أساس قدراتهم وإمكاناتهم اللغوية والتربوية، مع توجيه أفضلهم إلى مرحلتي التعليم في الروضة والتعليم الابتدائى اللتين تمثلان أخطر سن وأهمها في تعلّم اللغة واكتسابها. ويقتضي هذا إعطاء مدرس اللغة القومية عددًا من المميزات الأدبية والمادية لجذب أفضل العناصر إليها.(204/12)
أما ثالث ما أدعو إليه فهو تحسين صورة أستاذ اللغة العربية في وسائل الإعلام وبخاصة في مسرحياتنا ومسلسلاتنا وأفلامنا، وعدم اتخاذه مادة للتندر والسخرية، وهي صورة فريدة بالنسبة لمدرسي اللغات في مصر، وبالنسبة لمدرس اللغات الوطنية في كل بلاد العالم.
ويأتي بعد ذلك الحديث عن مسئوليات الأجهزة الإعلامية التي يمكن أن ألخصها فيما يأتي:
أولاً: النزول بنسبة البرامج التي تقدم بالعامية حتى تقرب من الصفر، والصعود بنسبة البرامج التي تقدم بالفصحى، مع تشجيع المتحدثين بالعامية في معظم البرامج الإذاعية على التحدث بلغة سليمة بسيطة، وإزالة الرهبة من نفوسهم، مع بث الشعور لديهم بأن الحديث باللغة الفصحى مع نسبة خطأ معقولة أفضل من الحديث بالعامية.
ثانيًا: بالنسبة للمذيعين وقارئي النشرات الإخبارية أو التعليقات السياسية ومواجز الأخبار، وأقوال الصحف وغيرها من المادة المكتوبة، ينبغي مراعاة ما يأتي:
1- انتقاء أفضل العناصر من بين
المتقدمين للعمل في الإذاعة، مع قصر التعيين في وظائف المذيعين على عاشقي اللغة العربية من خريجي أقسام اللغة العربية. وتدريب هؤلاء إذاعيًّا على الإلقاء والقراءة أمام الميكروفون أسهل بكثير ، وأفضل نتائج من تدريب غيرهم الذين فاتتهم سن الاكتساب اللغوي الصحيح، ولم تعد تجدي معهم الدورات اللغوية التدريبية نظرًا لترسخ العادات النطقية الخاطئة في نفوسهم.
2- تسليم المادة المكتوبة للمذيع قبل قراءتها بوقت كاف يسمح له بضبط ما يلبس، واستشارة قسم التحرير، وبعض المعاجم إذا احتاج الأمر. وكثير من مشكلات النطق لدى المذيع تنشأ من عدم فهمه للجملة، وتعرفه على وظيفة كل كلمة فيها.
3- كتابة الأعداد الواردة في المادة المكتوبة بالحروف لا بالأرقام حتى يتجنب المذيع أخطاء العدد وهي كثيرة لا تحصى، وحتى يبتعد عن أي انحراف ناحية نطق الأعداد باللهجة العامية، وهو انحراف لا يكاد يسلم منه مذيع.(204/13)
وما أظن أن الأخطاء الآتية كان يمكن أن تقع من المذيع لو أن الأعداد كتبت له بالحروف:
أ- التي بلغت مئتين وأربعة راكب. وواضح أن العدد قد كتب له 204 راكب، فبدلاً من أن يقول: التي بلغت أربعة ومئتي راكب، وقع في هذا الخطأ البين.
ب - تبلغ إحدى .. أحد عشر عامًا. فواضح أن العدد قد كتب له 11عامًا، فبدأ به مؤنثًا على اعتبار أن التمييز هو كلمة سنة ثم اكتشف أنه كلمة عام فعاد وصحح نطقه، ولو كنت مكانه لتداركت الخطأ باستبدال كلمة سنة بكلمة عام.
ج ـ منذ عام ألف وتسع مئة واثنان وثلاثين .. فقد ارتبك المذيع حين وجد أمامه رقما كبيرًا كهذا 1932 فصعب عليه المواءمة بين أحكام العدد من حيث التذكير والتأنيث والإفراد والجمع، وأحكام إعراب المثنى بين الرفع والنصب والجر فرفع لفظ اثنين ولم ينتبه إلى موقعه الإعرابي وهو الجر.
4- أخذ التدريبات اللغوية التي تقدم في دورات المذيعين المختلفة مأخذ الجد والخروج بها عن الطابع الشكلي الذي يساوي بين من يحضر أو يغيب، ومن ينجح أو يرسب، ولا يجرى امتحانات جادة تميز بين من استفاد ومن لم يستفد، ويضغط على الأساتذة لتمرير الجميع ولو بطرق ملتوية .
5- عدم الاقتصار على المذيعين من داخل الإذاعة في كل الدورات التدريبية المقدمة وإشراك المراسلين والمندوبين الإذاعيين معهم في هذه الدورات. وإذا لم يتيسر ذلك فينبغي اتخاذ معايير صارمة عند اختيار هؤلاء المراسلين والمندوبين، ومتابعتهم دوريًّا مع استبعاد العناصر غير الصالحة، أو ضعيفة الأداء اللغوي.
6- السماح للمذيع بتصحيح ما يرد في النشرة من أخطاء تعود إلى كاتب النشرة، وبذلك يمكن تدارك الخطأ قبل وصوله إلى السامع. ومن ذلك:
* لا يجب أن يكافأ المعتدي على عدوانه.
* لا أحدًا يدعو إلى حل عسكري.
* مصر متمسكة بالحل السلمي لتجنُّب المنطقة ويلات الحرب ( وكان الواجب أن يقرأها: إما: لتُجنِّب - على أنها فعل -، أو لتجنيب - على أنها مصدر)(204/14)
* كتبت صحيفة الأخبار في أحد موضوعاتها تقول .
* مع بعثتي صندوق النقد والبنك الدولي التي وصلت إلى مصر.
* يضم واحدًا وأربعين دولة.
* قاصرة على السكان اليهود .
* كان مقررًا له العشرين من هذا الشهر ( والعدد مرفوع سواء اعتبرناه اسمًا لكان مؤخرًا، أو نائب فاعل لاسم المفعول ).
* شركاء النمسا الأربعة عشرة.
* يرى أن تشكيل الحزب الجديد دليلاً على انشقاق المعارضة في الجنوب.
7- توجيه النظر في الدورات التدريبية اللغوية إلى مواطن الزلل الشائعة مثل:
* الأخطاء النحوية والصرفية الملبسة.
* طريقة الأداء والنطق بما يشمل معدل السرعة، وقواعد النبر والتنغيم.
* نطق الأعلام العربية والأجنبية.
* كيفية تصحيح السهو وزلات اللسان وانحرافات النظر، بدلاً من ترك الأمر للمذيع ليتصرف كما يحلو له . فمنهم من يتجاهلها ويمر عليها مرور الكرام، ومعظمهم يعيد الكلمة مصححة دون تنبيه، أو يستخدم لفظ " أو " وقليل منهم من يعتذر ثم يعيد الكلمة مصححة.
8- تعيين عدد من المراجعين اللغويين في كل قسم من أقسام الإعداد للمادة المقروءة، وبخاصة المترجمة من لغات أجنبية. والعناية بقسم تحرير الأخبار ليتقاسم مع مذيع النشرة مسؤولية الاتصال الجيد بالجمهور .
9- الإكثار من الأعمال الدرامية المقدمة باللغة الفصحى، وبخاصة ما يقدم منها في برامج الصغار، والتعاون مع الإذاعات الأخرى التي لها نشاط ملحوظ في مثل هذا النوع من الأعمال الدرامية. ولعل النظر يتجه كذلك إلى تقديم الأعمال المدبلجة التي عادة ما تقدم بلغة عربية فصيحة.
10- عدم اعتماد الإذاعة أي متحدث بها من خارج المذيعين إلا إذا كان يجيد الحديث باللغة الفصحى. واختيار المساجد التي تذاع منها خطب الجمعة والعيدين تجنبًا لأمثال خطيب الجمعة الذي سبق أن أشرت إليه.(204/15)
11- عدم اللجوء إلى الترجمة الفورية المباشرة إلى اللغة العربية إلا في أضيق الحدود، وعلى أيدي المترجمين المتميزين. وفيما عدا ذلك تعرض المادة المترجمة على المتخصصين اللغويين لإقرارها قبل السماح بإذاعتها.
12- عدم ترك الحبل على الغارب للهواة الإذاعيين الذين يتناولون قضايا اللغة العربية في سطحية ظاهرة، ويفتون في قضايا الصواب والخطأ دون علم كصاحب برنامج " قل ولا تقل " وبرنامج "أسبوعيات" الذي شكل جماعة باسم " حماة العربية " دون أن يملك مؤهلات الحماية: وقد تصادف أن سمعت برنامجه "أسبوعيات " وصدمت لكثرة أخطائه اللغوية من مثل قوله : حتى ننعُم بلقائكم، وقراءته كلمة النَّهي على أنها النُّهى، والسياق يحتم غير ذلك، وخطئه في فاعل الفعل في قوله: لا يمكننا قبولَها، بدلاً من "قبولُها" .
ويأتي أخيرًا، أو أولاً، دور مجمع اللغة العربية الذي يكاد يختفي في الساحة الإعلامية والذي كان يستطيع أن يقدم الكثير المفيد لأجهزة الإعلام المسموعة والمقروءة، من خلال ما يأتي:
1- تبني المجمع سياسة جديدة في التعامل مع مشكلات اللغة شعارها "اللغة للجميع" يوجه إليها معظم جهده. والأمر يقتضي استحداث لجان جديدة مثل: " لجنة اللغة والإعلام " و" لجنة تيسير النحو " و" لجنة المعجم العربي الحديث "، إلى جانب لجانه الحيوية الأخرى الموجودة. على أن تتولى لجنة " اللغة والإعلام" متابعة ما يرد في الأجهزة المسموعة والمقروءة والمرئية من انحرافات، أو استخدامات جديدة، يشترك في رصدها الخبراء والمحررون. ولا تقف اللجنة عند ذلك بل تتعداه إلى تنسيق الجهود مع أجهزة الإعلام المختلفة، وأقسام التحرير والمراجعة، ومعاهد التدريب الإذاعي والصحفي، مع فتح خط ساخن بين اللجنة ومسؤول الإعلام بصورة تشجع على تبادل الرأي، وقيام اتصال مباشر يسمح بالرد على استفسارات الإعلاميين، والإجابة عن أسئلتهم.(204/16)
وتتولى " لجنة تيسير النحو " مهمة وضع بناء متكامل لأساسيات النحو العربي، مع حذف التفصيلات والتشعيبات التي لا تفيد نطقًا، ولا تقيم لسانًا. على أن يتم ذلك بالتنسيق مع وزارة التربية، ومراكز البحث العلمي المعنية، وعلى أن يصحب ذلك تصور هيكلي لموضوعات النحو العربي بحيث تتدرج مع النمو اللغوي للمتعلم وتشكل في النهاية بناء كليًّا متناسقًا يضم إلى جانب مادته التمرينات والتدريبات النموذجية، والاختبارات اللازمة، مع التركيز على مواطن اللبس واستخدام طريقة التحليل التقابلي.
ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يجب ـ إلى جانب التركيز على الجانب الوظيفي للقواعد ـ اختيار الأمثلة والنماذج من اللغة الحية المعاصرة، ومن النصوص التي لا تنفصل عن لغة الحياة ، والتي يمكن أن تزود الطالب ـ في الوقت نفسه ـ بمفردات وتراكيب يحتاجها في حياته للتعبير عن ذات نفسه.
أما " لجنة المعجم العربي الحديث " فتحتاج لكي تؤتى أكلها إلى تنسيق مع المجامع اللغوية الأخرى. كما تحتاج إلى تعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، والمنظمات الوطنية المتفرعة عنها لاستكمال مشروع الرصيد اللغوي الوظيفي الذي توقف وغلفه النسيان، وما تم إنجازه منه قليل جدًّا من كثير جدًّا، وقد صار ما صدر منه متخلفًا عن ركب الحياة بعد طول الزمن عليه ( لم أطلع إلا على كتاب الرصيد اللغوي الوظيفي، الصادر في تونس عام 1976 )(204/17)
2-أن يتجه المجمع في لجانه اللغوية إلى التعامل مع القضايا اللغوية المتشابكة والأبواب النحوية المعقدة أو التي تتسم بالشذوذ وعدم الاطراد لمحاولة عرضها بصورة جديدة تجعل التمكن منها، والسيطرة عليها أمرًا ممكنا، وذلك مثل ضبط عين المضارع من الفعل الثلاثي المجرد، وتمييز المؤنث المجازى من المذكر، وطرد قواعد التكسير ومصادر الثلاثي وغيرها. وينبغي في مثل هذه الحالات تبني أسهل الآراء وإن لم يكن أشهرها، والأخذ برأي الأقلية إذا كان يفضل رأي الأكثرية في التيسير على أبناء اللغة .
وفي هذا المقام ينبغي أن نعلن للكافة سلامة الانتقال بين بابي نَصَرَ وضرب، دون غضاضة أخذًا برأي القلة من القدماء وعلى رأسهم أبو زيد الذين اعتبروا هذا قياسًا مطردًا. فلا نقف لنتساءل عن مضارع الأفعال كتم، وكفل، وهدف، ورسم، ونبذ، وهتف، وقطف، وسجن، وقبض، وحسد، ودرس، وطمس، وهبط، .. أهو بالضم أم بالكسر .
كما ينبغي أن نتخلص مما يسمى بالمؤنث المجازى إذا كان خاليًا من علامة التأنيث، ونعامله معاملة المذكر، أخذًا برأي المبرد الذي كان يقول: ما لم يكن فيه علامة التأنيث، وكان غير حقيقي التأنيث فلك تذكيره ، نحو: هذا نار. وبهذا نرفع الحرج عن نفوس من يذكر كلمات مثل إصبع، وسن، وكف، وعين، ويمين، وبئر، وأذن، وكتف، وغيرها .(204/18)
3- سعي المجمع الحثيث إلى نشر جهوده و أنشطته السنوية على الكافة، وبخاصة ما يتعلق منها بالتصويب اللغوي، وإدخال ألفاظ جديدة في اللغة، وتيسير القواعد، وأن تتخذ إدارة المجمع السبل لتوثيق صلتها بأجهزة الإعلام المختلفة لنشر قراراته وتعريف جمهور المثقفين بها بدلاً من تركها حبيسة الأدراج، وعدم متابعة نشرها. فمن المؤسف أن يكون آخر ما صدر للمجمع من مجموعته " الألفاظ والأساليب " قد صدر عام 1985، ومن مجموعته " في أصول اللغة العربية " قد صدر عام 1983. ومن المؤسف ألا يملك المجمع لنفسه سجلاً وافيًا مفهرسًا لكافة أنشطته وقراراته منذ نشأته حتى الآن، يسهل الرجوع إليه عند الحاجة.
وعلى الرغم من أن المجمع لا يملك سلطة الإلزام، فهو على الأقل يملك قدرة التوجيه، وما أظن أن أحدًا سيخرج عما سيقرره المجمع إذا كان ما يقرره سائغًا. وأشهد أن أجهزة الإعلام سريعة الاستجابة ـ حتى للملاحظات التي يصدرها الأفراد، كما
أشهد أن صحيفة الأهرام دأبت لبعض الوقت على تسمية النشرة المنفصلة الملونة التي توزع مع الصحيفة اسم "إنسرت" وكانت تصف ورق النشر بأنه "ورق كوشيه " وحين اعترضت في رسالة إلى بريد القراء على اللفظين استبعدت الصحيفة اللفظ الأول مكتفية بقولها " داخل العدد " أما كلمة " كوشيه " فقد غيرتها إلى "ورق فاخر" كما اقترحت عليها .
وهناك ـ إلى جانب هذا ـ مجموعة من الاقتراحات التي لا يتسع المجال لذكرها ولعلي أجد فرصة أخرى للحديث عنها .
أحمد مختار عمر
عضو المجمع(204/19)
التعبير عن دلالات بوادئ التقريب والتشابه
ومعاني بوادئ الكمية والعدد ودلالات
بوادئ الوقوع الزماني والمكاني في اللغة العربية (*)
للأستاذ الدكتور نيقولا دوبريشان
1- مجموعة بوادئ التقريب والتشابه:
تستخدم اللغات الأوربية جملة من البوادئ التي تعبر عن معاني النصف والتقريب والتشابه وهي لاتينية الأصل ( Pen-, quasi-, semi- ) وإغريقية الأصل ( para- , hémi- ) وفرنسية الأصل ( demi- ) . وفي العصر الحديث استخدمت اللغة العربية مفردين أساسيين للتعبير عن معاني هذه البوادئ، ألا وهما " شبه ج أشباه " و " نصف ج أنصاف " سواء في التراكيب النعتية أو التراكيب الاسمية.
1-1- ومن أجل التعبير عن معاني هذه البوادئ من الصيغ النعتية تستخدم الطرق التالية:
1-1-1- الاسم "شبه" المضاف إلى نسبة أو صفة أو اسم مشتق من فعل، على ما يلي:
(أ) في أكثر الأحيان يضاف الاسم "شبه" إلى نسبة:
شبه رسمي fr.semi-officiel, engl.semioficial .
شبه حربي/ عسكري
fr.paramilitaire
شبه أمي engl. Semiliterate .
شبه كروي engl. semiglobular, fr.hémisphérique .
(ب) وفي أحيان كثيرة يضاف الاسم "شبه" إلى اسم فاعل ذي استخدام نعتي:
شبه محترف engl. Semiprofessional .
شبه متمدن engl. Semicivilized .
شبه تام/ كامل fr.quasitotal.
شبه دائم engl. Semipermanent .
(ج) في أحيان نادرة يضاف الاسم "شبه" إلى اسم مفعول ذي استخدام نعتي:
شبه مصنَّع engl. Semifinished.
شبه مستعمَر engl. Semicolonial .
(د) يضاف الاسم "شبه" نادرا إلى صفة على وزن "فعيل" أو على وزن "فعّال" :
شبه كريم engl. Semiprecious
شبه شفّاف engl. Semitransparent .
ويلاحظ في بعض السياقات أن هذه التراكيب تمثل أضدادًا للصيغ الأساسية:
ظروف استوائية وشبه استوائية(1) cf. engl. Semitropical.
سلع مصنَّعة وشبه مصنَّعة (2) cf. engl. Semifinished .
أعمال عسكرية وشبه عسكرية(3) cf. fr.paramilitaire .(205/1)
1-1-2- نجد الاسم "شبه" في بعض الأحيان مضافًا إلى صيغة جمع نعت أو إلى اسم مشتق ذي استخدام نعتي:
شبه أميين(4) cf. engl. semiliterate .
شبه معارضين(5) cf. fr. Semiopposant .
لكن في العادة تستخدم صيغة الجمع "أشباه" مضافة إلى جمع نعت: أشباه الإقطاعيين (6) .
الأطفال الحفاة وأشباه العرايا (1)
1-1-3- كما تستخدم الصفة "شبيه ب" للتعبير عن معاني بعض البوادئ من المجموعة موضع البحث وبالتحديد في التراكيب النعتية:
المؤسسات الرسمية والشبيهة بالرسمية (2) cf. fr. Semi-officiel .
شبيه بحمى التيفوئيد engl. paratyphoid .
1-1-4- واستخدمت بشكل استثنائي صيغة "أشبه ب" للتعبير عن معنى بادئة " – quasi ":
هو أشبه بالمجمون fr. quasi fou .
1-1-5- وقد وجدنا عددًا من التراكيب الحديثة التي تم فيها التعبير عن معنى البادئة “ semi-“ من الصيغ النعتية بمساعدة الاسم " نصف " . ويبدو أن عدد هذه التراكيب في ازدياد وأنها تولد بدائل متوازية للتراكيب
التي يستخدم فيها الاسم " شبه " مضافًا إلى نعت أو إلى اسم مشتق من فعل:
(أ) نسبة:
نصف رسمي engl. semiformal, semiofficial .
نصف دائري engl. semicircular .
نصف أمي engl. semiliterate.
نصف سنوي engl. semiyearly, semiannual .
(ب) أو اسم مفعول:
نصف مشغول / مصنَّع engl. semifinished .
نصف مثقَّف(3) cf. fr. semi-cultivé .
(ج) أو اسم فاعل:
الأيدي العاملة غير الماهرة ونصف الماهرة (4) cf. Fr. semi- qualifié .
(د) صفة على وزن "فعَّال ":
نصف شفَّاف engl. semitransparent .
مادة نصف شفَّافة(1) .
إلا أننا نرى من الضروري أن نفرق بين معنى الاسم "شبه" ومعنى الاسم "نصف" حيث يعبر الأول عن معنى التقريب والتشابه فيما يعبر الثاني عن معنى النصف مما يتناسب حقًّا مع معاني بوادئ مثل demi-, hemi-, semi- وبخاصة في حالة الحقائق المادية.(205/2)
1-1-6- وفي أحيان نادرة نجد الجمع "أنصاف" مضافًا إلى نسبة أو إلى نعت فعلي:
أنصاف المثقفين(2) cf. fr.semi-cultivé .
أنصاف الرعاة (3) cf. fr. semi-nomade .
أنصاف المتعلمين(4) cf. fr. semi- instruit .
أنصاف الأميين(5) cf. engl. semiliterate .
1-1-7- أما في المصطلحات الرياضية فقد تم التعبير عن معنى البادئة semi- “ بمساعدة الظرف "قبل" الذي يجر المضاف إلى نسبة:
قبل النهائي engl. semifinal .
لكن معجم المورد يسجل كذلك تركيب "شبه نهائي" بمعنى (6) engl. semifinal .
1-2- وللتعبير عن معاني “ pen- , seemi- من التراكيب الاسمية تستخدم الطرق التالية:
1-2-1- الاسم " شبه " المضاف إلى اسم آخر:
شبه جزيرة engl. peninsula .
شبه الظل engl. penumbra .
شبه ترحل fr. Seminomadisme .
1-2-2- الاسم " نصف " المضاف إلى اسم آخر:
نصف دائرة engl. semicircle.
نصف إله engl. demigod .
نصف قطر engl. semidiameter .
نصف نغمة engl. semiton .
نصف دائرة engl. hemisphere
1-2-3- تعبر النسبة "نصفي" كذلك عن معنى بوادئ من المجموعة موضع البحث:
شلل نصفي engl. hemiplegia.
عمود نصفي fr.semi-colonne.
1-3- تسجل بعض المعاجم الثنائية اللغة عددًا من التراكيب التي تستخدم فيها أحيانًا الاسم "شبه" مختصرا في "شب" ومتصلاً بالاسم أو النعت
المسبوق عن طريق النحت وفي هذه الحالة يصبح وكأنه بادئة حقيقية:
شبصلب(1) engl. semisolid .
شبطفيليّ(2) engl. semiparasitic .
1-4- يستخدم الاسم " شبه " والاسم " نصف " اللذان يعبران عن معاني بادئة “ semi – “ أو بادئة “ hemi- “ وغيرهما أحيانًا معرفين بأل التعريف مما يبرهن على أنهما أصبحا وكأنهما بادئتان حقيقيتان:
النصف هدرات(3) engl. semihydrate .
النصف سيلولوز(4) engl. hemicellulose .
المباريات النصف النهائية (5) cf. Semifinal .
المواد المصنَّعة ونصف المصنَّعة(6) cf. engl. semifinished .(205/3)
الخدمة ( التليفونية ) نصف الآلية(*) cf. fr. Semi-automatique .
1-5- هذا ويمكننا القول إن الاسم " شبه " والاسم " نصف " – إضافة إلى عدد من الأسماء المشتقة من المادتين اللتين ينتميان إليهما – يعبران عن معاني بوادئ مثل “ para-, pen-, quasi-, hémi-, demi-, semi-“ لكن في الوقت نفسه نعتقد أن الاسم " نصف " يعبر عن معنى أكثر دقة من الاسم " شبه " حيث يعبر عن معنى " الشق "، على ما سبق وذكرنا أعلاه. وبفضل الدلالات التي تعبر عنها والتراكيب العادية التي تستخدم فيها والتي تحترم قواعد اللغة العربية تدلل الألفاظ المستخدمة للتعبير عن معاني البوادئ الأوربية المذكورة على قابلية متميزة لتوليد تراكيب تعبر عن معاني الصيغ الاسمية والنعتية بالبوادئ المذكورة بل تعبر عن دلالات مثل هذه البوادئ دون الانطلاق إلزاميًّا من نماذج أو تراكيب وصيغ مماثلة قائمة في اللغات الأوربية.
2- مجموعة بوادئ الكمية والعدد:
تستخدم اللغات الأوربية عددًا من البوادئ للتعبير عن الكمية، أي الكثرة أو الوحدة، أو عن عدد معين بين 1 – 10، ويمكن تصنيفها في طائفتين:
2-1- تتضمن الطائفة الأولى بوادئ “poly-“ اليونانية الأصل و“multi-“ اللاتينية الأصل للتعبير عن معنى الكثرة أو التعدد، و“mono-“ اليونانية الأصل و“uni-“ اللاتينية الأصل للتعبير عن معنى القلة أو الوحدة.
2-1-1- وتستخدم اللغة العربية الحديثة من أجل التعبير عن معاني البادئتين “poly-“ و”multi-“ بالأساس مشتقات من الفعل " تعدّد ".
2-1-1-1- ويتم التعبير عن معاني هاتين البادئتين من التراكيب النعتية بمساعدة اسم الفاعل " متعدد " المضاف إلى اسم جمع معرف بأل التعريف:
متعدد الخلايا engl. multicellular .
متعدد الألوان engl. multicolored.
متعدد الزوجات engl. polygamous .
متعدد الأزواج engl. polyandrous .
قوات متعددة الجنسيات (1) cf. fr.multinational .(205/4)
الأزمة المتعددة الأبعاد (2) cf. engl. multidimensional .
النظام الدولي المتعدد الأقطاب(3)cf. fr.multipolaire .
وقد تم التعبير عن عديد من التراكيب النعتية في الميادين السياسية
الاجتماعية ومعاجم المصطلحات بهذه الطريقة. أما صيغة “ multilateral” فقد تم التعبير عنها بمساعدة اسم الفاعل " متعدد " المضاف إلى أحد جموع الأسماء التالية " طرف " أو " جانب " أو " وجه " أو " شكل " أو " ناحية ":
التعاون المتعدد الأطراف(4) cf.fr.multilatéral .
العمل المتعدد الجوانب(5) id .
العلاقات المتعددة الأشكال(6)id .
العلاقات المتعددة النواحي(7)id.
كما وجدنا تعابير أخرى من هذا النوع شاعت في وسائل الإعلام، مثل:
متعدد الجنسيات(8) cf. fr.multinational .
متعدد القوميات(9) id .
مجتمع متعدد الأعراق(1) cf. engl. multiracial .
كما سجلت المعاجم الثنائية اللغة تعابير مثل:
متعدد المقاطع(2) engl. polysyllabic .
متعدد الأبعاد(3) fr. multidimensionnel .
متعدد الأعراق(4) engl. multiracial .
وأحيانًا يضاف اسم الفاعل " متعدد " إلى مصدر، مثل:
متعدد التكافؤ(5) fr. polyvalent.
وفي حالات معدودة تم استخدام اسم الفاعل " متشعّب " للتعبير عن معاني البادئتين “ poly-“ و “ multi-:
متشعّب الجنبات(6) engl. multilateral .
أو الصفة " كثير " المضافة إلى اسم :
كثير الأحماض fr. polyacide .
كثير الكحول fr. polyalcool .
وسجل المورد عددًا من التراكيب التي يمكن استخدام الصفة " كثير " أو اسم الفاعل " متعدد " فيها على حد سواء:
متعدد/ كثير الخلايا(7) engl. multicellular .
متعدد/ كثير الألوان(8) engl. multicolored .
متعدد/ كثير السطوح(9) engl. polyedral .
2-1-1-2- وتقابل تراكيب اسمية يستخدم فيها المصدر " تعدد " المضاف إلى اسم جمع التراكيب النعتية التي يستخدم فيها اسم الفاعل " متعدّد ":
تعدد الزوجات engl. polygamy .(205/5)
تعدد الأزواج engl. polyandry.
كما تعبر عن المعاني نفسها التراكيب النعتية التي يستخدم فيها المصدر الصناعي " تعددية ":
التعددية الحزبية (1) cf. fr.multipartisme.
التعددية الثقافية(2) cf. fr. multiculturalisme .
2-1-2- أما البادئتان الضدتان “mono-“ و“uni“ فيتم التعبير عنهما في التراكيب النعتية بالطرق التالية:
( أ ) النسبة " أُحَادِيّ " المشتقة من اسم العدد الكلاسيكي " أُحَادَ أُحَادَ "
على وزن " فُعَالَ فُعَالَ " المضافة إلى اسم مفرد:
أحادي الجانب(3) engl. unilateral .
أحادي المقطع (4) fr. monosyllabique .
أو المضافة إلى مصدر:
أحادي التكافؤ fr. monovalent, engl. univalent .
أحادي الزواج engl. monogamous .
(ب) الصفة " وحيد " المضافة إلى اسم :
وحيد الجانب (5) cf. engl. unilateral .
وحيد الخلية fr. unicellulaire .
وحيد اللون fr. unicolore .
(ج) تم التعبير عن دلالات البادئتين المذكورتين في التراكيب
النعتية إما بالصفة " وحيد " أو باسم العدد " واحد " أو بالنسبة " أحادي "، على ما يلي :
... ... حكومة الحزب الواحد (1) cf. fr. monopartid .
بلاد المحصول الواحد cf. fr.monoculture .
(د) وفي تراكيب نعتية أخرى تم التعبير عن البادئتين موضع الحديث بمساعدة اسم العدد " واحد " في مختلف أنواع التراكيب، مثل:
الانسحاب من جانب واحد(2) cf. fr. unilatéral .
كلمة ذات مقطع واحد(3) cf. fr. monosyllabique .
مفتاح ذو وجه واحد(4) cf. fr. monophasé .
إلغاء المعاهدة من طرف واحد(5) cf. fr.unilatéral .
2-1-3- وتقابل تراكيب اسمية التراكيب النعتية التي يستخدم فيها اسم العدد "واحد" أو النسبة " أحادي " ويتم التعبير عن معاني البوادئ فيها بطرق مختلفة:
( أ ) اسم المرة " وحدة " المضاف إلى اسم مفرد أو إلى مصدر:
وحدة الزواج (6) engl. monogamy .
وحدة الأصل engl. monogenesis .(205/6)
(ب) وتسجل المعاجم الثنائية اللغة عددًا من التراكيب التي يستخدم فيها المصدر الصناعي " أحاديّة " المضاف إلى اسم مفرد أو مصدر بمعنى البادئة “ mono- “ :
أحادية الأصل engl. monogenesis .
أحادية السطح fr. monoplan .
أحادية التكافؤ engl. monovalency .
(ج) تم التعبير عن معنى البادئة “ mono-“ في عدد من التراكيب الاسمية بمساعدة تراكيب نعتية تستخدم فيها النسبة "أحادي" أو الصفة "وحيد" :
زراعة أحادية fr.monoculture
زواج أحادي fr.monogamie .
دراسة أحادية fr.monographie
2-2- وتقع بين الوحدة المعبر عنها بالبادئتين “ mono- “ و “ uni-“ من جهة وبين الكثرة المعبر عنها بالبادئتين “ poly- “ و “ multi “ من جهة أخرى، طائفة من البوادئ المشتقة من أسماء الأعداد من " اثنين " إلى "عشرة" على ما يأتي: - octo-, septé, hexa-, penta-, quadri-, tri-, bi-, deca- , nona- . وقد عبرت اللغة العربية عن معاني هذه البوادئ الإغريقية واللاتينية بمساعدة نسبة على
وزن " فُعَالِيّ " مشتقة من الأعداد القديمة: ثُنَاءَ ثُنَاءَ، ثُلاَثَ ثُلاَثَ، رُبَاعَ رُبَاعَ، خُمَاسَ خُمَاسَ، سُدَاسَ سُدَاسَ، سُبَاعَ سُبَاعَ، ثُمَانَ ثُمَانَ، تُسَاعَ تُسَاعَ، عُشَارَ عُشَارَ.
2-2-1- وتستخدم البادئة “ bi-“ في صيغ نعتية وفي عدد قليل من الصيغ الاسمية .
2-2-1-1- وفي أغلب الأحيان تم التعبير عن معنى البادئة “ bi-“ من الصيغ النعتية بالنسبة " ثنائي " مثل:
علاقات ثنائية(1) cf. fr. bilatéral .
اجتماع ثنائي(2) cf. fr. bilatéral
وبعد النسبة " ثنائي " تستخدم أحيانا ألفاظ أخرى من أجل تحديد فكرة مشاركة فريقين أو طرفين، مثل:
محادثات ثنائية بين الطرفين cf. fr. bilatéral .
اجتماع ثنائي بين الرئيسين id .
لكن النسبة "ثنائي" تضاف في أكثر الأحيان إلى اسم مفرد للتعبير عن معنى البادئة “ bi- “ ، مثل :
ثنائي اللون fr. bicolore .
ثنائي القطب fr. bipolaire .(205/7)
ثنائي التكافؤ fr. Bivalent .
ثنائي الجنسية/ القومية (1) cf. fr. binational .
لكن المعاجم سجلت والعرف فرض عددًا من التراكيب التي تضاف فيها النسبة " ثنائي " إلى اسم جمع :
ثنائي الحروف fr. bilitére .
ثنائي الأوجه(2) cf. fr. biphasé
ومن ناحية أخرى تم التعبير عن معنى البادئة “ bi- “ بطرق أخرى نذكر منها:
( أ ) اسم الفاعل " مزدوج " المضاف إلى اسم مفرد:
مزدوج اللغة fr. bilingue .
(ب) الاسم "نصف" المضاف إلى نسبة مشتقة من أحد الأسماء المتعلقة
بالزمن للإشارة إلى أن العمل المعرّف يجرى مرتين في الفترة المعنية:
نصف شهري fr. bimensuel .
نصف سنوي engl. biannual .
(ج) الاسم " ذو والمؤنث. ذات " المضاف إلى اسم معنى:
ذو مجلسين engl. bicameral .
ذو محركين fr. bimoteur .
ذو جانبين fr. bilatéral .
وتشكل بعض الصيغ من هذا النوع بدائل للصيغ التي تستخدم فيها النسبة " ثنائي ":
ذو زاويتين/ ثنائي الزاوية engl. biangular .
ذو خليتين/ ثنائي الخلية engl. bicellular .
ذو وجهين/ ثنائي الوجه fr. biphasé .
2-2-1-2- أما الصيغ الاسمية التي تظهر فيها البادئة “ bi- “ فإنها أقل عددًا من الصيغ النعتية في
جميع اللغات الأوربية. وقد تم التعبير عن معنى البادئة “ bi- “ في هذه الحالة بالطرق التالية:
... ... (أ) المصدر الصناعي "ثنائية" المضاف إلى اسم أو المنعوت:
... ... ثنائية التكافؤ engl. bivalence .
... ... ثنائية لغوية fr. bilinguisme .
... (ب) المصدر الصناعي "ازدواجية" المضاف إلى اسم مفرد:
... ازدواجية اللغة fr. bilinguisme
... (ج) تم التعبير عن معنى البادئة “ bi- “ في عدد من المصطلحات الكيماوية بالعدد الترتيبي " ثانٍ " المضاف إلى اسم معرَّب عادة:
... ثاني كبريت fr. bisulfate .
... ثاني أكسيد fr. bioxyde .
... ثاني كربونات fr. bicarbonate.
... ثاني كلوريد engl. bichloride .(205/8)
... 2-2-2- ونظرًا أن البوادئ المقابلة لأسماء العدد من 3 إلى 10 بمعنى مؤلف من " ثلاثة أجزاء " أو " أربعة أجزاء " إلخ ... حتى " عشرة أجزاء " تتصف بسمات متشابهة نشير إليها مرة واحدة. إن العنصر الأساسي في مثل هذه الصيغ هو نسبة مشتقة من اسم عدد على وزن " فُعَالَ فُعَالَ " شأنه في ذلك شأن البادئة “ mono- “ أو البادئة “ bi- “ ، على ما يأتي:
... “ tri-“ = ثلاثي
... “ quadri-“ = رباعي
... “ penta- “ = خماسي
... “ hexa- “ = سداسي
... “ septé- “ = سباعي
... “ octo- “ = ثماني
... “ nona- “ = تساعي
... “ déca- “ = عشاري
... 2-2-2-1- ومن أجل التعبير عن معاني البوادئ المقابلة لأسماء العدد من 1 إلى 10 في الصيغ النعتية يتم اللجوء إلى الطرق التالية:
... ( أ ) نسبة على وزن " فُعَالي ":
... ثلاثي الرؤوس fr. tricéphale .
... ثلاثي الألوان fr. tricolore .
... ثلاثي المحاور engl. triaxial .
... مؤتمر ثلاثي(1) cf. fr.tripartite
... فعل ثلاثي(2) cf. fr.trilitére .
... خطة ثلاثية(3) cf. fr.triennal .
... مؤتمر رباعي(4) cf. fr. quadripartite .
... أفعال رباعية cf.fr.quadrilitére
... خماسي الزوايا engl. pentagonal .
... خماسي الأصابع fr. pentadactyle .
... سداسي السطوح fr. hexaédrique .
... عشاري المقاطع fr. décasyllabique .
... (ب) وتستخدم النسبة على الوزن " فعالي " مضافة إلى اسم جمع للتعبير عن المصطلحات في مختلف الميادين العلمية:
... ثلاثي الزوايا engl. tricorn .
... ثلاثي السطوح engl. trihedral
... ثلاثي المقاطع engl. trisyllabic
... ثلاثي الألوان engl. trichromatic .
... ثلاثي الأبعاد engl. tridimensional .
... رباعي الأضلاع fr. quadrilatéral .
... رباعي اللغات engl. quadrilingual .
... رباعي المحركات fr. quadrimoteur .
... رباعي الأرجل/ الأقدام fr. quadrupéde .(205/9)
... خماسي الزوايا engl. pentagonal .
... ثماني الزوايا fr. octogonal
... ثماني الأرجل(5) fr. octopode
... تساعي الأضلاع engl.nonagon
... عشاري الأرجل engl. decapod .
... كما تستخدم النسبة " فُعَالي " مضافة إلى المصدر " تكافؤ " للتعبير عن عدد من المصطلحات الكيماوية:
... ثلاثي التكافؤ fr. trivalent .
... خماسي التكافؤ ... إلخ engl. pentavalent .
... وفي بعض الأحوال تستخدم النسبة " ثلاثي " مضافة إلى اسم مفرد:
... ثلاثي القاعدة engl. Tribasic .
... ثلاثي اللغة إلخ...fr. trilingue .
... ونعتبر أن التراكيب التي يستخدم فيها الجمع هي التراكيب الصحيحة وربما هذا ما يفسر وجود تراكيب متزاوية، مثل:
... ثلاثي المحور/ المحاور engl. triaxial .
... (ج) كما تم التعبير عن هذه البادئة في عدد من الصيغ النعتية باسم المفعول على وزن " مفعَّل " المضاف إلى اسم جمع مما يخلق أحيانًا صيغًا متزاوية للصيغ الاسمية أو النعتية التي
تستخدم فيها النسبة " فُعَالي "، مثل:
... مثلَّث الألوان engl. trichromatic .
... مخمَّس الزوايا engl. pentagonal .
مسدَّس الزوايا engl. hexagonal .
مثمَّن الأسطح engl. octaedral.
معشَّر الزوايا engl. decagon .
لكن في حالات استثنائية يستخدم اسم المفعول " مفعَّل " مضافًا إلى اسم مفرد، مثل:
مثلَّث الشكل fr. triangulaire .
مسدَّس الشكل engl. hexagonal
(د) وتم التعبير عن البوادئ موضع الحديث كذلك عن طريق ترجمة تفسيرية يستخدم فيها الاسم "ذو" المضاف إلى اسم جمع معرف عدديًّا وتقابل عادة تراكيب تستخدم فيها النسبة "فُعَالي" أو اسم المفعول " مفعَّل " التراكيب التي يستخدم فيها الاسم " ذو":
ذو السطوح الستة engl. hexahedron .
ذو عشر زوايا fr. décagonal .
ذو عشرة سطوح engl. decahedron .
2-2-4-2- أما البوادئ التي تعبر عن العدد في الصيغ الاسمية فقد تم التعبير عنها بالطرق التالية:(205/10)
( أ ) المصدر الصناعي على وزن " فُعَالِيَّة " تقابل عددًا من الصيغ الاسمية وبخاصة تلك التي تظهر فيها البادئة “ tri- “ :
ثلاثية fr. Trilogie .
إضافة إلى استخدامه مضافا إلى اسم مفرد:
ثلاثية التكافؤ engl. trivalency.
ثلاثية الحكم fr. tripartisme .
(ب) أما في المصطلحات الكيماوية فقد تم التعبير عن البادئة التي تعبر عن العدد بمساعدة العدد الترتيبي المضاف إلى اسم مادة، مثل:
ثالث نترات التلوين fr. trinitrotoluéne .
خامس الأكسيد engl. pentoxide .
(ج) ومن أجل التعبير عن بعض الصيغ الاسمية يستخدم فيها النسبة على وزن " فُعَالي " أو اسم المفعول على وزن " مفعَّل " في تراكيب نعتية:
شوكة/ مدراة ثلاثية fr. trident
أكسيد خماسي engl. pentoxide
مجسّم سداسي engl. hexahedron .
مباراة خماسية fr. pentathlon .
مباراة عشارية fr. décathlon .(205/11)
2-2-3- يمكن القول في ختام الحديث عن هذه المجموعة من البوادئ إن النسبة على وزن " فُعَالي " والمصدر الصناعي على وزن " فعالية " يعتبران عاملين أساسيين للتعبير عن معاني البوادئ التي تشير إلى العدد فيما تعتبر الطرق الأخرى ثانوية وتمثل بدائل عن الصيغ الأساسية. ويلاحظ أن عدد الصيغ النعتية أكبر بكثير من عدد الصيغ الاسمية. ويتناقص عدد هذه الصيغ بقدر التقدم من 3 إلى 10 وفي الاتجاه نفسه نلاحظ ازدياد الصيغ التي يستخدم فيها اسم المفعول على وزن " مفعَّل " على حساب الصيغ التي تستخدم فيها النسبة على وزن " فُعَالي ". كما نلاحظ وجود أنظمة من التراكيب التي يغيّر فيها مجرد العنصر الذي يشير إلى العدد وبخاصة في حالة التراكيب التي تسمى أشكالاً أو مجسمات هندسية تستخدم فيها مفردات مثل "زاوية" و"سطح" و "وجه" و "ضلع". وتستخدم التراكيب التي تشير إلى العدد بالأخص في المصطلحات الخاصة بميادين الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم النبات وعلم الحيوان وعلم اللغة إلخ. وذلك سواء في اللغات الأوربية أو اللغة العربية.
3- التعبير عن معاني البوادئ التي تعبر عن الموقع المكاني والزماني
نجد في عدد من اللغات الأوربية مثل الفرنسية والإنجليزية والرومانية وغيرها بوادئ تعبر عن الموقع المكاني أو الزماني. وقد وجدت اللغة العربية إمكانيات مختلفة للتعبير
عن مثل هذه البوادئ.
3-1- تعبر عدة بوادئ من هذه المجموعة عن الوقوع قبل لحظة معينة أو أمام مكان معين أو بعد لحظة معينة أو بعد مكان معين.
3-1-1- ومن أجل التعبير عن معاني البادئة “ avant-“ الفرنسية تم اللجوء إلى طريقتين:
( أ ) الظرف " قبل " الذي يسبق اسمًا أو صفة، مثل:
قبل الظهر fr. avant-midi .
قبل الأخير fr. avant-dernier .
(ب) كما تستخدم النسبة "أمامي" واسم الفاعل " متقدم " في تراكيب نعتية للتعبير عن هذه البادئة، مثل:
مخفر أمامي fr. avant-poste .(205/12)
مركز أمامي/ متقدم fr. avant- poste .
قاعدة أمامية(*) cf. fr.avant-poste .
3-1-2- أما البادئة “ ante- “ التي تعبر عن الوقوع قبل لحظة معينة فقد تم التعبير عنها بطريقتين:
( أ ) بالظرف " قبل " المسبوق أحيانًا بـ " ما " والذي يسبق اسمًا:
قبل الظهر engl. ante meridiem .
قبل الحرب engl. antebellum.
قبل الولادة engl. Antenatal .
قبل العصر الكمبري engl. precambrian .
وتسجل المعاجم صيغًا يتصل فيها الظرف " قبل " عن طريق النحت بنعت
قبلطوفاني(1) fr. antédiluvien .
(ب) باسم الفاعل " سابق ل " الذي يسبق اسمًا :
سابق للموت engl. lat.ante-mortem .
سابق لعهد الطوفان engl. antediluvian .
3-1-3- تم التعبير عن البادئة “ proto- “ بالظرف " قبل " المسبوق بـ " ما ":
ما قبل التاريخ fr. protohistorique .
3-1-4- أما البادئة “ pre- “ التي تظهر في عدد أكبر من التراكيب فقد تم التعبير عنها بالطرق التالية:
( أ ) الظرف " قبل " المسبوق عادة بـ " ما ":
ما قبل التاريخ engl. prehistory, fr.prehistoire .
العصر ما قبل الكمبري engl. precambrian .
وقد سجلت المعاجم صيغًا اختصر فيها الظرف "قبل" في " قب " واتصل عن طريق النحت بنسبة وكأنه بادئة حقيقية، مثل:
قبتاريخي(2) engl. prehistoric .
قبولادي(3) engl. prenatal .
قبسريري(4) engl. preclinical.
قبمدراسي(5) engl. preschool .
(ب) باسم الفاعل " سابق ل " الذي يسبق اسمًا للتعبير عن صيغة
نعتية، مثل:
سابق للزواج fr. prénutial .
سابق للوجود fr. préexistant .
(ج) بالمصدر " سَبْق " المضاف للتعبير عن صيغ اسمية:
سَبْق الوجود fr. préexistence .
سَبْق التكون fr. préformation .
(د) بالفعل " سَبَقَ " للتعبير عن الصيغ الفعلية:
سَبَقَ في الوجود fr. préexister.
(هـ) كما تم اللجوء إلى عدد من أسماء المفعولات أو الأسماء المنصوبة ذات قيمة الظرف التي تلي الأفعال:(205/13)
عيَّن مسبقًاfr. prédéterminer .
عيَّن/ حدّد سلفًاfr. préétablir .
3-1-5- من أجل التعبير عن بادئة “ pen- “ وبادئة “ antepen “ تم اللجوء إلى الظرف " قبل " أيضًا:
قبل الأخير fr. pénultiéme .
سابق ما قبل الأخير fr. antépénultiéme .
3-1-6- أما البادئة “ post- “ فقد تم التعبير عنها بمساعدة ظرفين هما:
( أ ) الظرف " بعد ":
بعد الظهر engl. post meridiem .
بعد الوفاة engl. postmortem .
بعد الحرب engl. postbellum .
ما بعد الحداثة cf. fr. postmodernisme .
وسجلت المعاجم الثنائية اللغة صيغًا اتصل فيها الحرف " بعد " عن طريق النحت وكأنه بادئة حقيقية:
بعد يطوفاني engl. postdiluvian .
بعد يجليدي engl. postglacial .
بعد يولادي engl. Postnatal .
(ب) الظرف " خلف " المتصل أحيانًا بنسبة حسب ما سجلت المعاجم الثنائية اللغة.
خلفيقلبي(1) engl. postcardinal.
خلفيمحوري(2) engl. postaxial.
3-1-7- تشير البادئة “trans-“ عن معنيين مختلفين تم التعبير عنهما بطرق مختلفة:
3-1-7-1- الظرف " وراء " للتعبير عن الموقع وراء منطقة معينة من الصيغ النعتية والاسمية:
وراء المحيط engl. transatlantic .
وراء جبال الألب engl. transalpin .
ما وراء الأردن(3) engl. transjordan .
ما وراء الغابات(4) transilvania .
3-1-7-2- ومن أجل التعبير عن معنى العبور أو المرور تم اللجوء إلى عدة طرق:
( أ ) اسم الفاعل " عابر " الذي يسبق اسمًا :
عابر القارة fr. transcontinental .
صواريخ عابرة القارات id .
عابر الأطلسي engl. transatlantic .
عابر الصحراء fr. transsaharien .
(ب) الظرف " عبر ":
عبر الصحراء fr. transsaharien .
عبر المحيط fr. transoceanique .
(ج) اسم الفاعل " مُتَعَدٍّ " أو " متخطٍّ ":
مُتَعَدٍّ/ متخطٍّ الحدود القومية engl. transnational .
3-2- هناك عدد من البوادئ التي تعبر عن الوقوع داخل أو خارج شيء أو بين شيئين.(205/14)
3-2-1- وقد تم التعبير عن البادئة “intra“ بمعنى "داخلَ" بكلمة " ضمن " المختصر في "ضم" والمتصل بنسبة للتعبير عن الصيغ النعتية:
ضمجزيئي engl. intramolecular .
ضمعضلي engl. intramuscular .
ضمرحمي engl. intrauterine .
كما تم التعبير عن البادئة “ intra-“ بالظرف " بين " المختصر أحيانًا في " بي " والمتصل بنسبة عن طريق النحت:
بَيْشَرِي engl. intradermal .
أما ضد “ intra-“ فهو البادئة “ extra- “ أي الواقع خارج شيء، وقد تم التعبير عنها بالطرق التالية:
( أ ) باللفظ " خارج " الذي يسبق اسمًا ويقابل صيغًا نعتية:
خارج الرحم engl. extrauterine .
خارج الأوعية الدموية engl. extravascular .
خارج الأرض engl. extraterrestrial .
(ب) اسم الفاعل " خارجٌ عن " في تراجم تفسيرية مثل :
خارجٌ عن نطاق التشريع الوطني engl. Extraterito-rial .
خارجٌ عن نطاق الإدراك الحسي engl. extrasenso-fial .
(ج) بالاسم " غير " الذي يعبر عادة عن معاني بوادئ النفي والحرمان مثل:
غير شرعي fr. extra-legal .
3-2-3- تم التعبير عن دلالة البادئة “ inter- “ بمعنى الوقوع بين شيئين أو في الوسط بالظرف " بين ":
( أ ) نادرًا ما يسبق الظرف " بين " اسمًا مثنى أو جمعًا، مثل:
الفترة ما بين الحربين fr. interbelique .
واقع بين الخلايا engl. intercellular .
(ب) لكن المعاجم سجلت عددًّا من الصيغ التي اختصر فيها الظرف " بين " في " بي " واتصل بنسبة:
بيضلعي engl. intercostal .
بيسني engl. Interdental .
بيقبلي engl. intertrital .
بيمدرسي engl. interscholastic
(ج) وقد استخدمت مؤخرًا تراكيب، تم التعبير عن البادئة “inter-“ فيها باسم الفاعل " عابر " المضاف إلى اسم جمع:
صاروخ عابر القارات(*) cf. fr. intercontinental .
(د) ومن جهة أخرى ينبغي التأكيد على أن الفعل على وزن " تفاعَل " يعبر أحيانًا عن معاني البادئة “ inter- “ ، مثل:(205/15)
تداخَل engl. to interfere / interlock .
تفاعَل engl. interaction .
تقاطَع... إلخ engl. intersection .
3-3- يمكن الاستخلاص أخيرًا أن العناصر الأساسية المستخدمة للتعبير عن معاني البوادئ التي تعبر عن الموقع المكاني والزماني هي ظروف يمكن اختصارها وإلصاقها عن طريق النحت مما يجعلها وكأنها بوادئ حقيقية. أما سائر الطرق المستخدمة للتعبير عن هذه البوادئ الواردة في هذه المجموعة فإنها ثانوية أو طارئة.
أ.د. نيقولا دوبريشان
عضو المجمع المراسل
من رومانيا
ذكرنا في حواشي صفحات البحث البلد العربي الذي استخدمت في الصحف الصادرة فيه العبارة المعنية وسنة استخدامها لكن ذلك لا يعني أن هذه العبارة استخدمت لأول مرة في السنة المشار إليها. وقد جاءت في صفحات البحث الاختصارات التالية:
- المورد= منير بعلبكي، المورد ( قاموس إنجليزي – عربي )،
دار العلم للملايين، بيروت 1981، الطبعة الخامسة عشرة.
- المفصّل = معجم عبد النور المفصل، دار العلم للملايين، بيروت 1995 .
- فيهر = Hans Wehr,
ADictionary of modern
written Arabic. Librairie du Liban, 1974. Third edition.(205/16)
العامي الفصيح من المعجم الوسيط
باب القاف وباب الكاف (*)
للأستاذ الدكتور أمين علي السيد
تقديم:
يرجع تاريخ هذا العمل إلى عام (1990م) حين كان موضوعًا للبحث المقترح في المؤتمر الذي يعقد في كل عام مرة .
وفي هذا العام وما بعده قدمت للمؤتمر ما يأتي:
في عام (1990م) قدمت: باب الهمزة وباب الباء وباب التاء وباب الثاء .
وفي عام (1991م) قدمت: باب الجيم وباب الحاء .
وفي عام (1992م) قدمت باب الخاء وباب الدال وباب الذال وباب الراء .
وفي عام (1993م) قدمت باب الزاي وباب السين وباب الشين وباب الصاد
وباب الضاد. وكان هذا خاتمة الجزء الأول من المعجم الوسيط .
ثم انشغلت ببحث عن تقارض الصيغ بين مضعف الثلاثي ومضعف
الرباعي.
وفي مؤتمر عام (1997م) قدمت باب الطاء وباب الظاء وباب العين .
وفي مؤتمر عام (1998م) قدمت باب الغين وباب الفاء .
وفي هذا العام (2000م) أتقدم بباب القاف وباب الكاف في الدورة (66)
وقد عقدت العزم على المتابعة مستمدًّا العون من الله العلي القدير، حتى يتم هذا العمل ليكون أساسًا لمعجم "العامي الفصيح" من المعجم الوسيط .
والله من وراء القصد .
باب القاف
قَبَّ: يعرف العوام هذه المادة بمعان لم يضفها المعجم الوسيط فهم يقولون: قَبّ النبات بمعنى ظهر. ويقولون: قبّ الغريق بمعنى طفا. ومن أقوالهم للمتهم بجريمة من الجرائم قِبّ باعترافك .
ومن معجمهم: قَبَّ القبة إذا بناها. وقَبَّبَ البيت، إذا أقام فوقه قبة. وقبّب الشيء، إذا جعله على هيئة القبة.
والقبَّةُ: طوق الثوب الذي يحيط بالعنق (محدثة) .
والقبة: بناء مستدير مقوس مجوف، يُعْقَدُ بالآجرِّ ونحوه .
ومن كلامهم: " فلان يعمل من الحبة قبة " .
والمقبب: ما كان كالقبة.(206/1)
قَبَح: قبّح الله فلانًا إذا أبعده عن الخير. وقبَّح الشيء ضد: حَسَّنَ. وقبح وجهه - قال: إنه قبيح: واستقبحه: عَدّه قبيحًا. والقبح ضد الحُسْن. والقبيح ضد الحَسَن. والقبيح: ما كره الشرع اقترافه، وما أباه العرف العام. والقبيحة: ذات القبْح. والقَبَاحة من معجمهم. وتنطق القاف همزة أو
كالجيم القاهرية .
قَبَرَ: الميت: دفنه. والقبر: المكان الذي يُدفن فيه الميت، والجمع قبور. والمقبرة: مجموعة من القبور، وجمعها مقابر، وهي ( محدثة ) .
قَبَصَ: من كلام العوام: " كل قبصة تحتاج إلى رَفْصَة "والقَبْصة من الطعام والحب: ما حملت كفُّاك. ومنه كلمة قَبُوص، وهو عندهم ما يشكّل من العجين على أشكال مختلفة ثم ينضح في التنور، وبعد النضج قد يقدم طعامًا وقد يغمر في اللبن قبل تقديمه.ويسمى هذا عندهم بالكرديش، وليس في القاموس المحيط ولا لسان العرب ولعله معرّب أو دخيل من التركية أو غيرها.
قَبَض: قبض الشيءَ وعليه، إذا أخذه بقبضة يده، وقبض الدار أو الأرض إذا حازها، ويقال: قبض على اللص، وقَبضَ المالَ إذا أخذه. وقبض العامل أجرته. وقبض الله فلانًا، وقبض روحه إذا أماته. وقبض يده عن المعروف وعن النفقة، إذا امتنع. وقبَّض فلانًا المالَ: أعطاه إياه في يده وأسلمه إليه .
وانقبض المال: صار مقبوضًا. وتقابض المتبايعان: قبض البائع الثمن، والمشتري السلعة. والقابض: اسم من أسماء الله الحسنى .
القبضة من الشيء: ما قبضت عليه من ملء كفك. يقال: أعطاه قبضة من ثمر أو غيره. والقبضة من السيف مقبضه. يقال: صار الشيء قبضته، وفي قبضته: ملكه. والمنقبض: الضيق الصدر، لا يميل إلى المنبسط، وذو الشخصية المنقبضة الذي يميل إلى الانزواء (محدثة) .
قبط: القِبْط يقصد بهم اليوم المسيحيون من المصريين، والعوام ينطقونها بفتح القاف والباء، وينطقون الجمع فصيحًا فيقولون: أقباط.(206/2)
قبقب: يعرفون من هذه المادة القُبقاب - بضم القاف الأولى، وهو نعل من خشب وشراكها من جلد أو نحوه، والجمع قباقيب .
قبل: قَبِل الشيء إذا أخذه عن طيب خاطر. ومن كلامهم: النَّبي قِبِل الهَديّة - بكسر القاف والباء. ومنه أيضًا: قبل الله دعاء فلان أي استجابه. وقابل فلان فلانا: لقيه بوجهه. وقَبَّله: لَثِمَهُ. وتقبل الشيء: رضيه عن طيب خاطر، وتقبل الله الأعمال: رضيها وأثاب عليها ، وتقبّل الله الدعاء: استجابه، وتقبل الله فلانًا: رضي عنه. واستقبل الضيف، وحجرة الاستقبال، ويوم الاستقبال، وحفلة الاستقبال، وجهاز الاستقبال (كل هذا محدث) والقابلية بمعنى الاستعداد للقبول. والقبال من كل شيء: أوّله وما استقبلك منه. ويقولون: فلان يجلس قبال فلان أي تجاهه ويستعملون (قَبْل) ظرفًا للزمان أو المكان ويحفظون العبارة القرآنية الكريمة (لله الأمر من قبل ومن بعد) والقبلة هي الكعبة المشرفة؛ لأن المسلمين يستقبلونها في صلاتهم. والقبول: الرضا بالشيء وميل النفس إليه. والقبيلة: الجماعة من الناس تنتسب إلى أب واحد أو جد واحد، ويجمعونها على قبائل، ومن معجمهم كلمة المقابلة، يقولون: عندي مقابلة مع السيد فلان، أو مع الطبيب، أو عند طلوع الشمس يوم كذا .
قَبَن: قَبَّن الشيء - وزنه بالقبان (محدثة) والقبانة حرفة القباني، والقبان: ميزان ذو ذراع طويلة معروف عندهم. والقباني: الوزان بالقبان، وجمعه: قبانيّة .
القَبْو: بناء معقود بعضه إلى بعض في شكل قوس، والقبوة قبو صغير مستطيل كقبوة التنُّور .
القتب: رجل مُقَتّب الكاهل: منحنيه. ومن كلامهم: فلان له قتب إذا انحنى ظهره .
قتر: قَتَرَ فلان: ضيَّق على عياله في النفقة. وقَتَّر على عياله: بخل وضيق
عليهم في النفقة .(206/3)
قتل: قتله يقتله: أماته. وقتل فلانًا: أذله. وقتل الشيء علمًا: تعمق في بحثه فعلمه علمًا تامًا. وقاتله قتالاً ومقاتلة: حاربه. تقاتل القوم: اقتتلوا. وقتّل بعضهم بعضًا. والقاتل والمقتول والقتيل والمقاتل والقتال معروفة عندهم.
القثاء: قريب من الخيار إلا أنه أطول، والعوام يقولون ( قَثَّة ) بوضع التاء في آخره بدلاً من الهمزة والمدة .
القحبة: البغيّ التي كانت تؤذن طلابها بقحابها أي بسعالها .
القحط: القحط: احتباس المطر، وقلة الخير، وقحط الزرع: عطش .
القحف: القحوف: المغارف. والواحد قحف. ويطلقون القحف على الأصل العريض من جريدة النخل، ويدق لاستعماله مكنسة، ويشبهون به الشخص الجافي الفظ فيقولون: فلان قحف .
قَدَحَ: قدح الزند: ضربه بحجره ليخرج النار منه. وقدح في عرض أخيه: عابه.
والقدح: إناء يشرب به الماء أو غيره. وهو ثمن الكيلة من الحبوب ( مولد ) وجمعه أقداح. والقدْح: الذم والعيب. والقدَّاحة معروفة ( وهي مجمعية ) .
قَدَّ: قد الثوب: شقّه طولاً، ويعرفون من سورة يوسف قول الله تعالى: (وقَدَّت قميصه من دبر) والقدّ: المقدار ويقولون: " دا على قد دا ". أي: هذا على قد هذا. ولكنهم يحذفون حرف التنبيه، ويجعلون الذال في اسم الإشارة دالاً. والقِدّة من جلد أو خشب ونحوهما، والقِدّ: الشيء المقدود. والسير يخصف به النعل. والمسطرة الكبيرة يسوى بها البناء أو الجصّ .
قَدَرَ: قدر عليه: تمكّن منه وغلبه. والقادر:اسم أو صفة لله تعالى. والقَدْر: المقدار. وسورة القدر. وليلة القدر. والقِدر بكسر القاف: ما يطبخ فيه.(206/4)
والقدر الكاتمة (مجمعية) ولا يعرفها العوام بهذا الاسم، ويطلقون عليها اسم ( الحلة البخارية ) وهذه تسمية مقبولة. والقَدَرُ معروف عند العامة مقرونًا بالقضاء فيصفون بعض الأحداث بأنها قضاء وقدر. والقدرة: الطاقة والقوة على الشيء والتمكن منه. والقدير ذو القدرة العظيمة، واسم من أسماء الله الحسنى، وكذلك المقتدر. والمقدار: مقدار الشيء مثله في العدد أو الكيل أو المساحة والجمع: مقادير. والمقدرة: القدرة .
المقدس: القُدس: الطهر. وقَدَّس فلان إذا زار بيت المقدس. وقدس اللهَ: عظّمه وكبّره وأطاعه. وقدس اللهُ فلانًا: طهره وبارك عليه. تقدَّس: تطهر. والقادوس: وعاء خزفيٌّ كالجرة يغرف الماء من البئر إلى المزرعة بالناعورة، ووعاء قمعيّ الشكل يلقى فيه الحب، وينزل منه حبات إلى الطاحون ( مجمعية ) والقداس: الشرف العظيم. والقداسة : الطهر والبركة (محدثة) والقداس ـ عند النصارى ـ صلاة على الخبز والخمر بصيغة معينة. والقدوس: المنزه عن النقائص. وهو من صفات الله تعالى. والقديس ( عند النصارى ) المؤمن الذي يتوفى طاهرًا ( مولد ) والقدس: البركة. وروح القدس: جبريل. والمقدِّس من زار القدس. والبيت المقدَّس: بيت المقدِس. والكتاب المقدس ( عند اليهود) العهد القديم.وعند النصارى: مجموع العهدين: القديم والجديد. والأرض المقدسة: أرض فلسطين. والمقدس: بيت المقدس وحرم القدس.(206/5)
قدم: قَدُم الشيء قَدَامة: مضى على وجوده زمن طويل، والعوام يضمون القاف والدال، فيقولون: هذا الثوب قُدُم. وشيء قديم، وأشياء قديمة. وتقدم فلان على العمل: أسرع في إنجازه بدون توقف. وقَدَّمه: جعله قُدَّاما. وتقادم الشيء: قدم وطال عليه الأمد. واستقدم الأمير فلانًا: طلب قدومه. والتقادُم ( في القانون ): مدة محدودة يسقط بانقضائها حق من الحقوق أو المطالبة بتنفيذ حكم من الأحكام.وقدام بمعنى أمام. والقَدَم من الرِّجْل. والقَدُومُ: آلة للنجر والنحت معروفة عندهم. والمقدِّم من أسمائه تعالى . والمقدّم من كل شيء أوله، ورتبة من رتب الجيش والشرطة فوق الرائد ودون العقيد (مولد) والمقدمة من كل شيء أوله، كمقدمة الكتاب .
القدوة: اقتدى فلان بفلان: فعل مثل فعله تشبهًا به. ولنا في الصالحين قدوة حسنة. يقال: فلان قدوة إذا كان يقتدى به. كما يقال: لي بك قدوة .
قذر: القاذورة: الوسخ، والفعل القبيح، واللفظ السيّئ. ومن الرجال: السيّئ الخلق لا يخالط ولا يعاشر، والذي لا يبالي ما صنع وما قال.
والقذارة: الوسخ … والوصف قَذِر، ولكنهم يكسرون القاف والذال، ولا يخرجون اللسان في نطق الذال .
قذف: قَذَفَ بالحجر وبالشيء قذفًا: رمى به. وقذف فلانًا في البحر: دفعه. وقذف المحصنة بالزنا: رماها به. وتقاذفوا بالحجارة: قذف بعضهم بعضًا بها. وقاذفة القنابل: طائرة معدة لذلك (محدثة) والقذيفة: ما يرمى به العدو والسب القبيح وجمعها قذائف .
قرأ: يعرف العوام كل المشتقات المأخوذة من مادة القراءة، لكنهم يبدلون القاف همزة، ويبدلون الهمزة ياء، فيقولون: نتعلم الإراية وقد تأتى القاف كالجيم القاهرية كقولهم: علمونا الجراية والكتابة. وكثير منهم ينطقون القاف فصيحة في بعض الصيغ مثل: قارئ ومقرئ وقراءة ومقرأة، والقرآن كلام الله المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، المكتوب في المصاحف .(206/6)
أما القُرْء بمعنى الحيض والطهر منه فلا علم لهم به ، والبعض يحفظ قول الله تعالى: ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) ويعرف أن عدة المطلقة ثلاث حيضات .
قَرُبَ: القرب: الدنوّ. والفعل بعد قلب القاف همزة أو جيمًا قاهرية تضم تبعًا للراء. وقرَّب الشيء: قدَّمه. وتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة: أداها ابتغاء مرضاة الله. والقارب: الزورق. والقارب: صحفة على هيئة القارِب يؤكل فيها (محدثة) ج قوارب.
والقِراب : غمد السيف. والقُربى والقَرابة والقُربان والقُربة والقِربة والقريب والقريبة والمتقارب والمقارب والمقرَّب والمقرَّبة.
قَرَحَ: اقترح الأمر إذا ابتدعه ولم يأخذه من غيره. وتقرح الجسد: عَلَتْه القروح. والاقتراح: الفكرة تهيأ وتطرح للبحث والحكم (محدثة) والقرح: الجرح. والقُرحة معروفة وبخاصة قرحة المعدة. وكذلك القريحة وهي ملكة يستطاع بها ابتداع الكلام وإبداء الرأي (مولد) ومن شتائمهم قولهم: فلان ليس عنده قريحة، بمعنى أنه لا يحسن وزن الأمور ولا حسن النظر فيها .
قرد: القُراد معروف عند العوام، وكذلك القِرْدُ، والقرَّاد: سائس القرود، والعوام يطلقون عليه اسم القرداتي ولهذه التسمية وجه.
قرَّ: قَرَّ اليومُ إذا برد. وقرتْ عينه إذا سُرَّ ورضى، فهو قرير العين. وقُرة العين: ما يسُرّ ويفرح من الأمور. وأقرَّ بالحق: اعترف به وأثبته، وأقر على نفسه بالذنب. وأقر الرأي إذا رضيه وأمضاه. وأقر الله عين فلان: أعطاه وأرضاه. وقَرَّرَ فلانًا بالذنب إذا حمله على الاعتراف به. وقرَّرَ المسألة إذا وضحها وحققها، وقرر الأمر إذا اعتمده (مولد) وتقرر الأمر إذا استقر وثبت. والقارورة، والقوارير، ويحفظون الخبرَ: ( رفقًا بالقوارير ) ويعرفون مقر العمل ومقررات المدارس، ومقرِّر اللجنة ومقرها (محدثة) والمقرور: من أصابه البرد .(206/7)
قَرَشَ: من هذه المادة يعرفون سمك القرش الذي يحذرون شره ويعرفون القرش الذي يتداولونه في معاملات البيع والشراء وغيرهما وهو في مصر جزء من مئة من الجنيه . ويعرفون قبيلة قريش التي سكنت مكة وقامت على الحج، ومنها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقَرِيشُ عندهم نوع من الجبن يابس قليل الدسم، يفضله كثير من الناس .
قرص: القَرْص معروف عندهم، وقد يكون مؤلمًا، وقد يكون مزاحًا، ومنه: قرصه البرغوث، وقرصته الحية، وقرصه البرد. وقرص العجين: قطعه ليبسطه، تمهيدًا لوضعه في التنَّور لينضج. والقراصْيا: نوع من الثمار، يستعمل في إعداد الخشاف مع الزبيب والتين ونحوهما.
والقرص: قطعة مبسوطة مستديرة من الخبز أو الحلوى. وقرص الحديد كالترس ، يتبارى في قذفها
الفتيان (مولد) والقرصة من الخبز.
القرصان: لص البحر (معرب) والجمع قراصنة. والقَرْصنة السطو على سفن البحار (معرب) .
قرض: قرض الشيء: قطعه. أقرضه: أعطاه قرضًا، ومثلها: قارضه. والقراض والمقارضة أن يدفع مالاً لشخص يتجر فيه، ويكون الربح بينهما. واقترض من فلان: أخذ منه القرض . وانقرض الشيء: انقطع. واستقرض منه: طلب منه القرض. والقرض ما تعطيه غيرك من مال على أن يرده إليك. والقرض الحسن قرض بدون فائدة أو ربح تجاري (مولد) .
قرط: لا يعرف العوام القرط الذي يلبس في أذن النساء. ولكنهم يستعملون من هذه المادة: قرّط فلان على فلان إذا شدد عليه في الطلب، بتضعيف الراء. وقرّط عليه، إذا أعطاه قليلاً قليلاً. والقيراط في الوزن وفي المساحة معروف. وقد اختلفت مقاديره باختلاف الأزمنة .
قرطس: القرطاس: ورقة تلفّ على هيئة قمع، يوضع فيها الحبّ ونحوه (محدثة) والجمع قراطيس .
قرطم: قرطم الشيء إذا قطعه .
قرظ: قرَّظ فلانًا إذا مدحه وأثنى عليه، وقرظ الكتاب إذا ذكر محاسنه. والقرظ: شجر يؤخذ منه صمغ مشهور والواحدة منه قرظة، وهي ثمرة كثمرة السنط .(206/8)
قَرَعَ: قرع الشيء إذا ضربه بالعصا ونحوها. وقرع الباب إذا طرقه للاستئذان. وقرع راحلته بالسوط . ومن محفوظاتهم:
العبد يقرع بالعصا
والحر تكفيه المقالة
وقرع فلان: أصابه القرع، فهو أقرع، وهي قرعاء، ولكنهم ينطقون وصف المؤنث بحذف الهمزة والمدة التي قبلها، ووضع التاء في آخره، فيقولون: هي قرعة. وأقرع بين القوم: ضرب القرعة بينهم ، وتجرى القرعة بين المواطنين في كثير من الأمور، كاختيار الحجاج ، وتوزيع المساكن، وغير ذلك. وقرَّع فلانًا: أوجعه باللوم والعتاب . والقارعة: القيامة. وقارعة الطريق: وسطه. والقراع: مرض يسقط شعر الرأس (مجمعية) والقرع معروف عندهم، وهو مما يطبخ ويؤكل. والقُرَعة: موضع القَرَعِ من الرأس، ومن كلامهم: ضربه على قرعة رأسه. والمِقْرعة: خشبة يضرب بها، وأكثر ما يكون في كتاب الصغار (مو) .
قَرَفَ: قَرَفَ فلانا بكذا: نسبه إليه وعابه به. واقترف: اكتسب. والقرافة : المقبرة. ولا يعرفون أنها اسم قبيلة يمنية جاورت المقابر بمصر فغلب اسمها على كل مقبرة. والقَرَفُ: ما يُسْتَكْرَه. والقِرْفة: قشر شجر يستعمل شرابًا لعطرية فيه. والمقْرِف من الوجوه: غير الحسن، والنذل الخسيس .
قَرْفص: شدَّ يديه تحت رجليه. وقد استعملوا اسم الفاعل منه فقالوا : فلان مقرفص، لكنهم يكسرون الميم في أوله، أو يسكنونها ويجتلبون لها همزة وصل لتصير: !مقرفص . وينطقون القرفصاء ـ قرفصة، فيحذفون المدة والهمزة، ويأتون بالتاء في آخر الكلمة. وهي فصيحة وقد وردت في القاموس المحيط. وفعللة مصدر قياسي للرباعي المجرد كدحرج دحرجة .
قَرَّقَ: سخر وصخب في حديثه وضحكه (محدثة) .
قَرَمَ: قرم الصغير: أكل أكلاً ضعيفًا، وذلك عند الفطام.وقرم الطعام: أكله. وقرَّمه: علمه الأكل .
قرمط: القرموط: سمك نهري أسمر الجلد مُحْمَرُّ اللحم (مولد). والفصيح بضم القاف وهم يفتحونها، ولا مانع من إضافتها مفتوحة القاف إلى المعجم الوسيط .(206/9)
قَرَنَ: قرن بين الحج والعمرة، وأقرن إذا جمع بينهما. وكل من حج يعرف الفرق بين القران والتمتع والإفراد . وعقد القران يجمع بين الزوجين (مولد) والقرين والقرينة من معجمهم.
القرنفل: معروف عندهم، وينطقونها بسكون القاف واجتلاب همزة وصل في أولها لإمكان النطق بالساكن، وإذا أبدلوا القاف همزة ضموها، وقالوا: (أُرُنْفِل) بإتباع الراء للهمزة في الضم وسكون النون وكسر الفاء.
قَرَهْ جوز: وهو الأرجوز المعروف ، وهو دُمًى صغيرة من الورق المقوَّى أو الخشب الرقيق ، يحركها إنسان مختفٍ ، وينطق بما تقول ، فترى كأنها تتحرك وتتكلم (مج)
القَرْو: خشب له ألياف قصيرة مزركشة متين جدًّا ، يشيع استعماله في صنع الأثاث (مجمعية) وأكثرهم يقلبون القاف همزة . والقروي: المنسوب إلى القرية على غير قياس. والقرية معروفة وهي مجتمع سكاني، تقع على المدن وغيرها. ويعرفون قرية النمل. ومنهم من يعرف أن القريتين المذكورتين في القرآن الكريم هما
مكة والطائف .
قزح: ارتفع. ويقال: قزحت الأسعار إذا ارتفعت. ومنهم من يعرف قوس قزح. والقزحية في العين معروفة عندهم.
قَزَّ: تقّزَّزَ: تباعد عن المعاصي والمعايب. وتقزَّز من الشيء : عافه وأباه.
والقازوزة: قدح كالقارورة الصغيرة، وشراب مرطب.
والقز: الحرير، ودودة القز معروفة ويربونها ويأخذون منها الحرير .
والقزّاز: ناسِجُ القز وبائعه. والقوازيز: القوارير.
قزع: يصفون القصير من الناس بأنه قُزْعة. القزع: قطع السحاب المتفرقة في السماء، وقطع الشعر المتفرقة في الرأس .
قزم: الأقزام: سلالة بشرية قصار القامة. ورجل قزم: قصير دنيء .
والقزم: اللئيم .
القِزَان: قدر كبيرة من النحاس. وهو المِرجل (تركية)
القَسَّ: والقسيس من رؤساء النصارى في الدين. والجمع: قُسُسٌ وقساوسة.
قسط: قَسَّطَ الشيء جعله أجزاء ، وقسّط الدَّين: جعله أجزاء معلومة تؤدى في أوقات معينة ، والمعاملات بالتقسيط كثيرة بين الناس.(206/10)
والقسط : الحصة والنصيب، ومن كلامهم : أخذ فلان القسط الأول أو الثاني، أو أخذ آخر قسط. والقُسط بضم القاف: بخور يجاء به من الهند .
والمُقْسِط: من أسماء الله الحسنى . والقسطاس: أضبط الموازين، ويحفظون قول الله: ( وزنوا بالقسطاس العظيم ).
القسطرة: أنبوبة من المطاط تدخل في مجرى البول لتُفرِّع المثانة (معرب)
قَسَمَ: قسم الشيء: جزّأه، أو جعله نصفين،
وقسمه بين القوم: أعطى كلاَّ منهم نصيبه. وأقسم: حلف. وقاسم فلان فلانًا: أخذ كل منهما قسمه. وقاسم فلانًا: حلف له.
قسّم الشيء : جزَّأه. وقسّم القوم: فرقهم. وقسم الثوبَ: فصله تفصيلاً يبرز مقاسمه. والعامة تقول: كسَّم .
ولا مانع من استعمال (كسّم) بإبدال القاف كافًا. انقسم الشيء: تجزأ . تقاسم القوم: تحالفوا. تقاسموا الشيء إذا فرقوه. وتقسّم القوم: تفرقوا . والقِسْم والقسمة والقسيم.
والقسيمة : وثيقة لها في التعامل أكثر من نسخة ( محدثة ) ومنها وثيقة السفر ووثيقة الزواج ووثيقة البيع والشراء وغيرها .
قَسَا: قسا قلبه: اشتد وصلب فذهبت منه الرحمة واللين والخشوع. والرجل قاسي ( بإثبات الياء في آخر المنقوص، وهو فصيح ) وهو يقاسي الأمر الشديد، وهو أقسى من الصخر. والقسوة معروفة .
القِشدة: الزبدة الرَّقيقة.
قشر: قشر الشيء إذا نزع قشره، وقشَّر الشيء مثله. انقشر الشيء: زال قشره، ومثله تقشَّر. والقشر من كل شيء غلافه. وقشر البياض: نوع من السمك النيلي، وهو من أجود اللحوم الطرية. والمِقْشَرة: آلة يقشر بها القشر عن الثمرة ونحوها (محدثة) .
قَشَّ: قشّ الإنسان: جمع من هنا وهاهنا، ولف ما يقدر عليه مما على الخوان واستوعبه، وأكل ما يلقي الناس. وقشَّ الشيء: جمعه.
وقش المكان: أزال ما عليه من القش والتراب. والقشاش: من يلتقط الشيء الحقير من الطعام فيأكله . والقش: ما يكنس من المنازل أو غيرها. والقشة: واحدة القش . والمقشّة: المكنسة .(206/11)
قشط: قشط الشيء عن الشيء: كشفه ونزع قشره. وقشط فلانًا بالعصا إذا ضربه بها. وقشطه: سلبه. وتقشطت السماء وانقشطت إذا صارت صحوًا بلا غيم. والقشاط حجر النَّرْد أسود أو أبيض (محدثة).
والمقشط: آلة القشط، والعامة يفتحون الميم التي في أولها، وهذا شأنهم في اسم الآلة فيقولون : مَبرد ومَكْنسة وقد يضمونها مثل : منشار ومفتاح .
قشع: انقشع الظلام عن الصبح . وانقشع الهم عن القلب. وانقشع السحاب عن الجو. وانقشع البلاء عن البلاد ، إذا انكشف وزال .
اقشعرّ: اقشعر جلدُه: أخذته رعدة . وتقشعر الرجُل: اقشعرَّ جلده .
والقُشَعْريرة: الرعدة .
قشف: القشف: وسخ وخشونة تصيب الجلد في الشتاء غالبًا،
وتقشف فلان: ترك الترفُّه والتنعُّم. وقشَّف الله عيش فلان: ضيقه. ومن كلام العوام: فلان مقشّف، كناية عن الفقر .
قشْقَشَ: من كلامهم: فلان يقشْقِش من هنا ومن هناك، أي يبحث عن الرزق في كل مكان، والقشقشة من معجمهم، ولم يرد هذا المعنى في المعجم الوسيط .
قَصَبَ: قصب الشيء إذا قطعه، والجزار قَصَّاب، وقَصَّب الثوب إذا حلاه بالقصب. والقصب: كل نبات كانت ساقُةُ : أنابيب وكعوبًا، ومنه قصب السكر. والقصب: شرائط مذهبة تحلى بها الثياب ونحوها . والقصبة: كل أنبوبة في ساق الشجرة.
والقصبة: مقياس تمسح به الأرض في مصر، طوله ثلاثة أمتار وخمسة وخمسون من المئة من المتر. القصابة: أداة تجرها الدواب أو قوة آلية، وتستعمل لقطع الأرض وتسويتها (مولد) والعوام يقولون : قصابيّة ـ بياء مشددة بين الباء وتاء التأنيث.
قَصَدَ: قصد الشيء: توجه إليه عامدًا. واقتصد في النفقة: توسط فلم يُفْرِط ولم يُفَرِّط. ويحفظون الحكمة القائلة: الاقتصاد نصف المعيشة. وفلان على قصد السبيل أي مستقيم راشد . وقصد وجه الله إذا أخلص وطلب ثواب الله. والقصيدة من الشعر. والقصد والمقصد .
القصدير: معروف عندهم وتطلى به آنية النحاس والحديد لحفظها .(206/12)
قَصَرَ: قصر الطعام إذا نقص عما يكفي. وقصر الشيء إذا أخذ من طوله فجعله أقل طولا. وقصر الصلاة: صلى الرباعية اثنتين، حسب ترخيص الشرع. وقصر الشَّعر إذا قص منه شيئًا. قصَّر الشيء: جعله قصيرًا. واقتصر على الشيء: اكتفي به. واستقصره: عدَّه قصيرًا، أو مقصَّرا. والقاصر من الورثة: من لم يبلغ سِنَّ الرشد . والقُصَّر جمع القاصر. والقاصرة: الفتاة لم تبلغ سن الرشد. والمقصورة من الدار لا يدخلها غير صاحبها . والقصر معروف. وكذلك التقصير . والمقصور بيوت فخمة واسعة . والقصورة من النساء: المنعمة في بيت لا تتركه لتعمل، ومن الدار: حجرة خاصة مفصولة عن الحجر المجاورة فوق الطبقة الأرضية (مجمعية).
قَصَّ: قص الخياط القماش ليجعله لباسًا. والقِصة من الكلام: ما يتسلى بقراءته. والقَصَصُ: الخبر المقصوص. والقُصَّة: شعر مقدم الرأس. والمِقَصُّ معروف. والمقصوصة: مغرفة مسطحة مثقبة ينشل بها اللحم من القدر (مجمعية).
قَصَعَ: قَصَعَ القملة ونحوها: قتلها بظفره. والقصْع: الدلك بالظفر ، وضم الشيء إلى الشيء. والقصعة : وعاء يؤكل فيه ويثرد ، وكان يتخذ من الخشب غالبًا . وتطلق القصعة الآن على وعاء من الحديد مُعَدٍّ لنقل بعض مواد البناء أو التجصيص ، وينبغى أن يضاف هذا المعنى إلى المعجم الوسيط .
قَصَفَ: قصف الرعدُ: اشتد صوته . وقصفت الريح هبت شديدة، تكسر الأشجار ونحوها. وقصف العود : كسره. وانقصف الشيء: انكسر وبان. والقصف. اللهو واللعب والافتنان في الطعام والشراب .
قصقص: قصقص الشيء: قصَّه أو كسره. والقصاقيص كلمة مستعملة بمعنى الملابس أو الثياب أو قطع القماش التي تبقى عند الخياط بعد خياطة اللباس، وينبغي أن تضاف هذه الكلمة إلى المعجم الوسيط .(206/13)
قَصَلَ: قصل الشيء: قطعه، وقصل الحنطة ونحوها: داسها، ليفصل الحب عن التبن ونحوه. وانقصل : انقطع. والقُصالة: ما عزل من البر بعد تنقيته، وكذلك المقصْلة.والمقصل من السيوف: المقاطع، ومن الألسنة: الحديدُ الذَّرِب . والمِقصلة: اسم آلة حادة كانوا يقطعون بها رقاب المحكوم عليهم بالقتل، وقد حَلَّت المشنقة محلها الآن .
قَصَمَ: يعرفون القشة التي قصمت ظهر البعير. ومن معجمهم: قَصَم الله عمر الظالم، وقصم الله ظهر الظالم، وكذلك القاصمة للمصيبة الشديدة .
قصا: المسجد الأقصى في معجمهم. وتقصَّى الأمر، إذا بلغ أقصاه في البحث عنه، وتقصَّى المسألة إذا بلغ الغاية فيها. ومثلها: استقصى الأمر. والقصواء مؤنث الأقصى من الإبل والشاء .
قَضَبَ: قضب الشيءَ إذا قطعه . وقَضَّب الشجرة إذا قطع الزوائد من أغصانها، ومن هذه المادة يعرفون : القضيب الذي تسير عليه القُطُر (محدثة) والاقتضاب في الحديث وغيره، والقُضَابة : ما قُضِب من الشجر وغيره، وقُضّابة علم على قرية بالقرب من مدينة طنطا.
قَضَّ: معاني هذه المادة كثيرة، ولكن الشائع على ألسنتهم الانقضاض وما تصرف منه ومن ذلك: انقض الغراب على فريسته، ومنه انقض الجدار، وانقض الخيل على الأعداء وانقض المدعوون على الوليمة .
قَضْقَضَ: قضقضت العظامُ: سُمِع لها صوتٌ عند كسرها. قضقض الشيء: كسره ودقّه. والأسد يقضقض فريسته .
قَضَمَ: قضم الشيء إذا كسره بأطراف أسنانه .(206/14)
قَضَى: أكثرهم يحفظ من القرآن الكريم قول الله تعالى: ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا ) ويكررونها عند نصح الأبناء ببر الآباء والأمهات . ويقولون: قضى بين الخصمين، وقضى عليه بالضربة القاضية ، وقضى له بالحق وقضى الصلاة: إذا أداها. وقضى حاجته إذا نالها. وقضى أجله، وقضى نحبه إذا مات. وضربه فقضى عليه: قتله. وقاضاه وتقاضاه واقتضى واستقضى. والقاضي ورجال القضاء. ووقع هذا قضاء وقدرًا، أي لا ينسب إلى فاعل . والقَضَى (مقصورًا ) الحكم، والقضية معروفة وجمعها القضايا .
قَطَبَ: ينطقونها بتضعيف العين ويقولون: فلان قطَّب بين عينيه إذا غضب، كما يقولون: قطَّب ما بين عينيه. وقطَّب وجهه . ويعرفون القطب الشمالي والنجم القطبي، ولكنهم يسمونه وتد النجم، وله عندهم فوائد كثيرة فيعرفون به الجهات ويهتدون به في الظلمات لأن له مكانًا ثابتًا. والقطب من القوم سيدهم، وفلان قطب بني فلان، والأقطاب عندهم تكاد ترادف الأولياء الصالحين، ولكل زمان أقطاب يصلحون ما أفسد الدهر، وهذا المعنى ليس في المعجم الوسيط، وينبغي إضافته .
قَطَرَ: قطر الماءُ والدمعُ وغيرهما، إذا سالت قطرة قطرة. وقطر الصمغ من الشجر: خرج. وقطر الإبل إذا قرب بعضها من بعض في سياق واحد . وقطر الدواء في العين أو الأنف أو غيرهما. والتقطير: تنقية الماء مما يعلق به من مواد ضارة. والقاطرة : عربة تتحرك مقطورًا بها عربات السكة الحديدية. والقطار من الإبل : عدد منها بعضه خلف بعض. والقُطْر: المطر. والقُطْر: الناحية تتميز باسم خاص كالقطر المصري. والقطرة: سائل يقطر في العين للعلاج أو الغسل (محدثة) والقطارة: أداة يقطر بها الدواء وغيره نقطة نقطة (محدثة). والمقطورة : عربة تجرها قاطرة (محدثة) .
قَطْرَنَ: قطرن البعيرَ: طلاه بالقطران . وهو مُقَطْرنٌ. والقطران: سائل أسود يطلى به الخشب لحمايته من السوس، والحديد لحمايته من الصدأ (محدثة)(206/15)
قَطَّ : يستعملون هذه الكلمة في قولهم: قَطَّ القلم، وقط الشعر، وانقط الشيءُ: انقطع، والقط: الحيوان الأليف المعروف، والأنثى قطة .
قطع: قطع الشيء: فصل بعضه عن بعض. وقطع النخل: جناها. وقطع الصديق هجره وتركه. وقطع الرحم: لم يصلها. وقطع الصلاة : أبطلها. وقطع لسانه: أسكته. وقطع الطريق : أخافه. وقطعت يَدُه: بانت. وانقطع ماء البئر: ذهب. وقاطع فلان فلانًا : هجره. وقاطع القوم: امتنع عن التعاون معهم وحرم الاتصال بهم اقتصاديًّا واجتماعيًّا (محدثة) وانقطع النهر: جف. والإقطاع: نظام معروف، والإقطاعيّ: الذي يملك الأرض على نظام الإقطاع. وقاطع الطريق: لص يأخذ المال بالإكراه. والقطاع: الجزء المقتطع من أي شيء، كالقطاع الصناعي والقطاع الزراعي (مولد) والقِطعة: الحصة من الشيء . والقَطوع: الفاصل يحجز مكانًا عن مكان (مولد) والقطيع: الطائفة من الغنم والنَّعم وغيرها، وتجمع على قُطعان. والقطيعة: الهجران والخصام والصدّ، والجزء من الأرض يملكه الحاكم لمن يشاء منحة، وجمعها القطائع. والقواطع من الأسنان معروفة .
قطف: قطف الثمر: جناه. وحان وقت القطاف. والقطائف معروفة، ويكثر صنعها في شهر رمضان (مولد) والقطيعة: كساء له أهداب، ودثار أو فراش (محدثة) والمقطف: وعاء صغير مجدول من خوص النخل ونحوه كان يقطف فيه الثمر، وهو الآن وعاء للتراب أو السماد أو الحب أو غيرها من حاجات الصناع والزراع (مجمعية) وجمعه: مقاطف.
قطم: قطمه: عضه، وقطعه. والمقطَّم : جبل شرقي القاهرة .
قطن: القطن معروف، والقطان من يبيعه أو يشتريه. والقُطنية: ضرب من الثياب يصنع من القطن مخلوطًا بالحرير. والقيطان خيوط من الحرير أو غيره تحلَّى به الثياب (دخيل) واليقطين: الفرع .
قعب: قعّب كلامه: تكلم بأقصى حلقه وفتح فاه. والقَعَب: قدح ضخم غليظ، والعوام يضمون القاف والفصيح فتحها .(206/16)
قعد: جلس من قيام. وقعد عن الأمر: تأخر عنه أو تركه. وقَعَّده عن كذا : حبسه عنه. وتقاعد عن الأمر: لم يهتم به. وتقاعد الموظف عن العمل: أحيل إلى المعاش (محدثة) وقاعده إذا جالسه وقعد معه. والقاعد عن الأمر الذي لا يهتم به. وأساس البناء يسمى قاعدة. والحكم الذي تدخل تحته جزئيات كثيرة .
كقول النحويين: الفاعل مرفوع . والقعدة وذو القعدة من معجمهم. وكذلك القعود والقعيد والمقاعد والمِقعد والمُقعد والمقعدة .
قَعَرَ: القعْر: منتهى عمق الشيء الأجوف. وإذا لازم أحد بيته قالوا عنه: جلس في قعر بيته. تقعَّر في كلامه: تعمق. وقصعة قَعِرة: فيها ما يغطي قعرها. والمقعار: الذي يخرج الكلام من أسفل حلقه .
قَعَسَ: تقاعس عن الشيء: تأخر. ويعرفون من قصة فرعون عبارة: قعي ولا تقاعسي.
قَعْقَعَ: قعقع السلاح : سُمِعَ له صوت. وتَقَعْقَعَ الشيء : تحرك واضطرب .
قفز: من معجمهم: قفز والقفز والقُفَّاز والقفيز .
قَفَشَ: قفش الشيء: أخذه. وقفش فلانًا بالعصا: ضربه. وقفش الشرطي اللص إذا قبض عليه. والقفشة: التنبيه على خطأ .
قفص: القفص: محبس للطيور يكون أعوادًا متشابكة من الجريد ونحوه وجمعه أقفاص. والقفاص: صانعها.
قفط: القفطان: ثوب فضفاض سابغ مشقوق المقدم، ويضم طرفيه حزام ويتخذ من الحرير أو القطن، ويلبس فوقه جلباب أو جبّة (معرب)
قفع: قَفَّع البرد أصابعه:أيبسها وقبَّضها. وتقفع فلان: تقبض من البرد أو المرض أو الهرم .
قَفّ: القفاف: صانع القُفف. والقفة: المقطف الكبير تعبأ فيه الحبوب كالقمح والأرز والشعير وغيرها .
قَفْقَفَ: اصطلت أسنانه واضطرب من البرد وغيره .
قفل: أقفل الباب: أغلقه، وأكثرهم يستعمل الفعل ثلاثيًّا مجردًا من الزيادة والقافلة: الرفقة في السفر. والقفال من يصنع الأقفال أو يبيعها . والقفل معروف، ومن كلام العوام قولهم : فلان قفل يريدون أنه منعزل غير مخالط للمجتمع الذي يعيش فيه. وهذا ليس في المعجم الوسيط .(206/17)
قفا: القفا: مؤخر العنق. وتقفاه: تتبعه. وتقفى فلانًا: اختاره وصاحبه .
قَلَبَ: قلب الشيء: جعل أعلاه أسفله. وانقلب: رجع وانصرف تقلب في الأمور: تصرَّف فيها كيف شاء . والانقلاب: تحول الشيء عن وجهه، وتغيير مفاجئ في نظام الحكم، يقوم به في العادة بعض رجال الجيش (مجمعية). والقالب: ما تفرغ فيه المعادن وغيرها ليكون مثالاً لما يصاغ. والقلب معروف، وقد يعبر عنه بالعقل. وكلام مقلوب: مصروف عن وجهه .
قَلّد: قلده القلادة: جعلها في عنقه. وقلد فلانًا الأمر: فوضه إليه. وقلد فلانًا: تبعه فيما يقول أو يفعل من غير حجة. ومن كلامهم: التقليد الأعمى يضر. وقلد القرد الإنسان: حاكاه . وتقلد القلادة: لبسها. والتقاليد : العادات المتوارثة (مجمعية) والقلادة ما يجعل في العنق من حلي وأوسمة (محدثة)
القِلِّيط: القَلِيطَة: انتفاخ في الخصية (مولد)
قلاووظ: مسمار قلاووظ (دخيل) واشتق منه: قَلْوَظَ .
قَلَعَ: قلعه: انتزعه من مكانه. وقلع الأشقياء زرع فلان : أتلفوه .
والقلع: سراع السفينة. والقلعة: الحِصن الممتنع في الجبل .
والمقلاع: ما يرمى به الحجر . والجمع: مقاليع .
قلف: القلفة الجلدة التي تغطى رَأْس ذكر الصبي، ويقطعها الخاتن .
القلق: حالة تتميز بالخوف مما قد يحدث (مجمعية) .
القلقاس: معروف ويؤكل مطبوخًا .
قلقل: قلقل الشيء: حركه. وتقلقل: تحرك. والقلقلة في علم التجويد يعرفها قراء القرآن الكريم، وهم كثيرون بفضل الله .
قَلَّ: قل الشيءُ: ندر ونقص . وقلل له العطاء: جعله قليلاً .
واستقل فلان بأموره:انفرد بتدبيرها. واستقلت الدولة، إذا استكملت سيادتها وانفردت بتصريف شؤونها الداخلية والخارجية ولا تخضع لغيرها (محدثة) واستقل الشيء : عدَّه قليلاً. والأقلية خلاف الأكثرية . والقُلَّة: إناء من الفخار للشرب . والقليل ضد الكثير .
ومن عباراتهم: فلان قليل الخير، لا يكاد يفعله .(206/18)
قلم: قلم الشجر: قطع منه شيئًا. وقلم القلم: براه. وقلم الظفر ونحوه: قصّ ما طال منه. الإقليم: منطقة من مناطق الأرض، تتحد فيها الأحوال المناخية والنظم الاجتماعية. والقلم ما يكتب به. وجفَّ القلم: قُضِي الأمر وأبرم. والقلم قسم من أقسام الديوان، كقلم الكتاب وقلم المحضرين. وقلم الحبر: قلم مداده مخزون فيه، لا يسيل على سِنّهِ إلا وقت الكتابة .
وقلم الرصاص معروف. والمِقْلمة : وعاء الأقلام (مولَّد) .
قلى: قلى الطعام أنضجه على المقلاة . وقلى فلانًا: أبغضه وهجره . ويحفظون قول الله تعالى: " ما ودعك ربك وما قلى ". والقلاَّء: مَنْ صناعته القلي، وينطقونها بحذف المدة والهمزة واجتلاب هاء في آخره. والمُقلىَ: مكان قلي الحمص والفول ونحوهما (محدثة).
القمح: القمح معروف عندهم.والقمحيّ: ما كان لونه كلون القمح (محدثة)
والقماح: بائع القمح .
القمر: معروف عندهم. وأقمر الهلال أي صار قمرًا. وتقامروا: لعبوا القمار. والقمر الصناعيّ يستخدم في مختلف الاتصالات .
وقمر الدين: حلوى تتخذ من المشمش المجفف يجعل على شكل الرقاق (مجمعية). والقمران: الشمس والقمر، والشهور القمرية، والسنة القمرية، وهي الهجرية، أولها المحرم، وآخرها ذو الحجة . والقُمْريّ: نوع من الحمام حسن الصوت .
قمش: تَقَمَّش: لبس فاخر الثياب (مولد) والقماش: كل ما نسج من الحرير والقطن ونحوهما (مولد) والقَمَّاش : بائع القماش .
قَمَصَ: قمصت الدابة: نفرت وضربت برجليها، وعَدَتْ في مرح ونشاط . وقَمَّصَ فلانًا: ألبسه القميص. وتقمص القميصَ: لبسه. وتقمص شخصية غيره: قلده وحاكاه (مولد) والقمّص ـ في المسيحية ـ القس . والقميص معروف، وهو لباس رقيق يرتدى تحت السترة غالبا (محدثة) .
قمط: قمط الثوبَ: ضيق وسطه أو أسفله حتى يلتصق بالجسم (مولدة) والقامطة: أداة ربط الأجزاء بعضها ببعض مؤقتًا ليجف الغراء (مجمعية). والقماط : الحبل ونحوه يقمط به. والقمَّاط: صانع القمط .(206/19)
قَمْطَرَ: قمطر الشيءَ: اجتمع، وقمطر الشيءَ: جمعه. والقِمَطْرُ: ما تصان فيه الكتب .
قمع: القمع معروف عندهم ويغيرون ضبطه، وهو إناء مخروطيُّ الشكل، يوضع في فم الوعاء ثم يصب فيه السائل. والمقمعة: خشبة أو حديدة يضرب بها الفيل ليذل وينقاد ، ومنهم من يحفظ قول الله تعالى : (ولهم مقاطع من حديد) .
القمقم: إناء صغير من نحاس أو غيره، يسخَّن فيه الماء. وعاء خرافي كان محبسًا للمردة من الشياطين فيما زعموا .
قمل: القملة: حشرة متطفلة تصيب الإنسان وتمتص دمه، وهي أنواع ، وهم يعرفونها، ويحاولون القضاء عليها بالمبيدات الحشرية. ومن كناياتهم عن الفقر والإفلاس قولهم : فلان مقمل. وفلان لا يملك إلا قمله.
قَمَّ: قم البيت : كنسه. والقمامة: الكناسة تجمع من الطرق ومن البيوت ونحوها.والِقَّمة من كل شيء: أعلاه. والقامة : البدن .
قمن: والقمينة:الموضع الذي يرص فيه اللبِنُ ويحرق ليصير آجُرًّا (مولد) .
القنبلة: جسم معدني أجوف، يحشى بالمواد المتفجرة، ويقذف به العدو باليد أو المدفع (مجمعية).
قنت: القنوت: الدعاء. والقنوت: الطاعة والخضوع لله والدعاء، ودعاء القنوت أحد الأدعية المأثورة ، والعوام يحفظونه، ويتجهون به إلى الله .
القنديل: مصباح كالكوكب يضاء بالزيت (معرب).
قنص: قنص الصيد: صاده، وكذلك: اقتنص. والقناص معروف عندهم .
القنصل: نائب عن دولة في دولة أخرى، يرعى حقوقها، والقنصلية مقر إقامته .
القنطار: معيار مختلف المقدار عند الناس، ومقداره معروف في البيع والشراء والقنطرة جسر منقوش يبنى فوق النهر للعبور عليه .
قنع: من كلام العوام: " القناعة كنز لا يفنى" وقنع: رضي بما أعطي فهو قانع .
والقناع: ما تغطي به المرأة وجهها ورأسها .
القِنُّ: العبد الذي كان أبوه مملوكًا لمواليه. والقِنِّينةُ معروفة. والقانون : مقياس كل شيء، وهو أمر كلي ينطبق على جميع جزئياته. وآلة من آلات الطرب والموسيقا .(206/20)
قنى: قنى الغنم ونحوها : اتخذها لنفسه لا للتجارة. وقنَّى القناة: احتفرها . والقناة مجرى للماء ضيق أو واسع. وَقِنْوُ النخلة: العذق بما فيه من الرطب.
قهر: قهره: غلبه. وفعله قهرًا، أي من غير رضًا، والقاهرة: عاصمة مصر، بناها المعز لدين الله. والقهَّار: اسم من أسماء الله الحسنى. والقهرمان: أمين الملك ووكيله الخاص بتدبير أمره. والقهرمانة : مدبِّرة البيت (معرب) ومنهم من يحفظ العبارة المأثورة ( المرأة ريحانة وليست بقهرمانة ) .
قهقر: رجع إلى خلف. وتقهقر: تراجع مهزومًا. ويمشي القهقرى، إذا رجع على عقبيه .
قهقه: ضحك بصوت عالٍ .
أقهى: أقهى فلان: دام على شرب القهوة. والمقهى: مكان عام تقدَّم فيه القهوة. ونحوها من الأشربة (مجمعية).
القوبة: داء في الجسد ينقشر منه الجلد وينجرد منه الشعر .
قات: القوت: ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام. والمقيت من أسماء الله الحسنى.
قادُحه: كابره وشادَّه في القول (عامية) وهي أقرب لمعنى: كاوحه ( انظر : كاوح )
قاد: قاد الدابة قيادة، وقاد الجيش، وانقاد للأمر: خضع ورضي .
والقائد من يقود الجيش. ومن يقود فرقة موسيقية أو نحوها (محدثة) . والقواد: الساعي بين الرجل والمرأة للفجور (مولد)
قار: قَوَّر الشيء: جعل في وسطه خرقًا مستديرًا . والمقورة: أداة لتقوير الباذنجان ونحوه (مولد) .
قاس: قاس الشيء على غيره: قدره على مثاله. والقوس معروف. ومنه قوس النصر، ويزين بالمصابيح والأعلام، احتفالاً بالمناسبات القومية، وترحيبًا بكبار الزوار، وتكتب عليه عبارات الترحيب (محدثة). والقوّاس والقيَّاس : صانع القوس وحاملها .
القوطة: القفة الكبيرة. والقوطة: الطماطم ( دخيل )
القاع: أرض مستوية مطمئنة عما يحيط بها، تنصبُّ إليها مياه الأمطار فتمسكها ثم تنبت العشب. والقعر (مجمعية). والقاعة: ساحة الدار ، والمكان الفسيح يسع جمعًا كبيرًا ، كقاعة المحاضرات ونحوها (مولد)(206/21)
قاقت: الدجاجة صوتت، والعوام يقلبون القاف كافًا ويقولون: كاكت. ويعرفون: أم قويق.
قال: قال: تكلم . وقال له: خاطبه. وقال عنه: أخبر (مولد) وقَوَّله: نسب إليه قولاً لم يقله . ويعرفون: القيل والقال والمقالة والقوْل والمقاول والمقاولة، ويعرفون : القولون (دخيل)
قام: القيام معروف وكذلك القائم، وأقام، وإقامة الصلاة، وقاومه في المصارعة وغيرها، وقَوَّم المعوج، وقوم الشيء: قدّر ثمنه، واستقام ، والقَوَام: العدل، والقِوام: عماد الشيء ونظامه، وما يقيم الإنسان من القوت.
وقوم الرجل: أقاربه. والعيد القومي (محدثة) والقومية العربية (محدثة) ويحفظون قول الله : ( الرجال قوامون على النساء ) ويوم القيامة . والقيمة والقيُّوم من أسماء الله الحسنى. والقَيِّم من يتولى أمر المحجور عليه. وكتاب قيم ذو قيمة (مجمعية) المقام: موضع القدمين.
القاوون: نبات ثمرته صفراء حلوة طيبة الرائحة، ويطلق على الشمام والبطيخ الأصفر في الشام .
قَوِيَ: يعرفون: القوة والقويّ والأقوى، ومن دعائهم: قَوَّاك الله على فعل الخير .
والتقاوي: بذور القطن والقمح والفول وغيرها مما يبذر في الأرض للزراعة (مجمعية) والقوات المسلحة، وقوات الأمن .
قاء: قاء ما أكل: ألقاه. وتقيّأ. وهم يقولون: فلان رجَّع، أو: تقايأ .
قاح: قاح الجرح: صار فيه قيح، وكذلك : قَيَّحَ .
قيَّده: جعل في رجله القيد. وقيد العلم بالكتاب: أثبته وضبطه. وقيد الخط : نقطه وشكله. وقيد الشيء في دفتر أو ورقة: سجله. والقيد: حبل ونحوه يجعل في رجل الدابة. ومن محفوظات بعضهم :
العلم صيد والكتابة قيد
قيِّد صيودك بالحبال الواثقة
القار: الزفت. يقيرون به السفن . والقيار: صاحب القار يُشترى منه .
قاس: قاس الشيء: قدره. وقاس الطبيب الشَّجَّة: قدر غورها. وانقاس الشيء .(206/22)
والقياس أصل من أصول العلم: في المنطق والفقه والنحو وغيرها . والقَيَّاسُ من عملُه قياس الأرض وغيرها . والمقياس : المقدار وأداة القياس وآلته.
قايض: قايض فلان فلانًا مقايضة : بادلة سلعة بسلعة. وقيَّض الله له كذا: قدَّره له وهيأه. وانقاض الجدار: انهدم أو تصدع .
قاظ: قاظ يومنا: اشتد حره. القيظ : صميم الصيف .
قال: قال يقيل: نام وسط النهار. وأقال البيع: فسخه. وأقال الله عثرته:صفح
عنه وتجاوز. وأقال فلانًا من عمله : أعفاه منه ونحاه عنه. وتقيَّل: نام في وقت القائلة. والقائلة: الظهيرة .
استقال: طلب أن يقال. واستقاله البيعَ : طلب منه أن يفسخه.
قَيَّمَ: قيم الشيء: بين قيمته وقدرها (مجمعية).
قَيَّن: قينت المرأة: زيَّنَتها. وقينت الماشطة العروس: زينتها. والقين: الحدَّاد. والقينة: الأمة صانعة أو غير صانعة، وغلب على المغنية..
باب الكاف
الكاكاو: يعرفه العوام. ويشربون مسحوق بذوره، ويصنعون منه بعض أنواع الحلوى .
كئب: يعرفون الكآبة والاكتئاب، والوصف منها كئيب ومكتئب، والاكتئاب: نفير النفس وانكسارها من شدة الهمّ والحزن.
الكأس: معروفة عندهم، وتمنح الكأس جوائز للتفوق الرياضي وغيره من الأنشطة.
كَبّ: كبّه على وجهه: قلبه وألقاه. وانكبَّ على الشيء: أقبل عليه ولزمه، وتكبب الرمل، وتكبب فلان: تلفف في ثوبه. والكباب: اللحم المقطع يشوى على الجمر. والكبة والكبّة والكُبيبة وهي لحم يدق ويضاف إليه جريش الأرز أو القمح ويطهى (مولد).
الكبد: عضو معروف في الجانب الأيمن من البطن، تحت الحجاب الحاجز، له وظائف عدة ، أهمها إفراز الصفراء .
كَبِرَ: كثير منهم يحفظ قول الله تعالى : (وأصابه الكِبَرُ) وكبَّر الشيء: جعله كبير ورآه كبيرًا. وكبَّر فلان تكبيرًا: قال: الله أكبر؛ تعظيمًا لله. واستكبر، وتكبر، ويقولون: الكبرياء والعظمة لله. والكبير من أسماء الله تعالى ، وهو العظيم ذو الكبرياء. والكبيرة :(206/23)
الإثم الكبير المنْهي عنه شرعًا . والمتكبر من أسماء الله تعالى. وهو العظيم ذو الكبرياء، أو المتعالي عن صفات الخلق .
كَبْرَتَ: كبرت الشيء: عالجه بالكبريت. وهو معروف شديد الاشتعال (مجمعية).
كَبَسَ: كبس البئر ونحوها: ردمها بالتراب. وكَبَسَ الشيء: ضغطه (مولد). وكبس على فلان أو دار فلان: هجم عليه. وكبس رأسه في ثوبه: أخفاه وأدخله فيه. وكبّس عليهم : اقتحم . وكبَّس الجسد : لَيَّنَه بالأيدي (مولد) تكبّس الرجل:أدخل رأسه في جيب قميصه. والكابوس معروف، وقيل : ليس بعربي .
والكبَّاس: آلة يكبس بها الصوف والقطن والورق ونحوها. وأداة تدفع غاز البترول في موقده بوساطة ضغط الهواء ( محدثتان). والكُبْس : سلك معدني قابل للانصهار، يكون على مجرى تيار كهربي، يذوب إذا زاد التيار (مولد) والسنة الكبيسة معروفة عندهم بصلاحيتها للقسمة على الأربعة دون باق (مولد) والمكبِّس: من يليّن الأجسام دلكًا بيديه (مولد) والعوام يسمونه بالمكبسِّاتي .
الكبسولة: في القذيفة بوساطتها يبدأ التفجير. والكبسولة في الدواء: ظرف صغير يحفظ الدواء بداخله (مجمعية).
كَبَشَ: كبش الشيءَ: تناوله بجمع يده . وكبَّش الفلاح الزرع: وضع له السماد في أصوله كبشة كبشة (مولد) والكبْش: فحل الضأن. والكبشة: ما يغرف به الطعام من القدر (مجمعية).
كبكب: كبكب الشيء. قلب بعضه على بعض . وكبكب المواشي : جمعها. وتكبكب الناس : تجمعوا . والكبكبة عندهم طرح السائل شيئًا فشيئًا . وهذا المعنى ليس في المعجم الوسيط، وينبغي إضافته.
كبل: كبّل الأسير: قيده. والكبْل: القيد من أي شيء كان، وحبل معدني تحيط به مادة عازلة لها غلاف واق (مجمعية). ومجموعة من الأسلاك معزول بعضها عن بعض، موضوعة في غلاف واق، ويستعمل هذا وما قبله في توصيل التيار الكهربي (مجمعية).
كبن: الكبينة: حجرة في السفينة، ينام فيها المسافر، أو على شاطئ البحر، يخلع فيها المستحمّ ثيابه أو يلبسها ( دخيل )(206/24)
كَبَا: الكبوة: السقوط للوجه، والعوام يحفظون المثل القائل: …ولكل جواد كبوة.
كَتَبَ: يعرفون من هذه المادة: كتب والكِتاب والكتابة والكاتب والكُتَّاب. وكتب الكتاب بمعنى: عقد النكاح (مولد). وكتب الله الشيء: فرضه، ويحفظون قول الله تعالى: ( كتب عليكم الصيام ) والكتيبة من الجيش. والمكتب: موضع الكتابة، وقطعة من الأثاث يُجْلَسُ إليها للكتابة. والمكان يُعَدّ لمزاولة عمل معين، كمكتب المحامي والمهندس ونحوهما. والمكتبة: مكان بيع الكتب ومكان جمعها وحفظها. والمكتوبة : الصلوات الخمس في اليوم والليلة .
كَتَّ: كَتَّ الرجلُ: مشى رويدًا، أو قارب الخطو في سرعة، ويقصد بهذا التعبير الهرب أو الانسحاب من عمل من الأعمال .
كتع: الأكتع عندهم العاجز عن العمل، ومن عباراتهم: فلان أكتع .
كَتف: كَتَفَ الرجلُ: مشى يحرك كتفيه. وكاتفه في الأمر: ساعده وعاضده .
وكَتَّف الرجلَ: شد يديه من خلفه بالكِتَاف (مجمعية). وتكاتف القوم: تساعدوا وتعاضدوا. وتكتَّف: ضم يديه إلى صدره. والكِتَاف: ما شد به من حبل ونحوه. والكتف معروفة عندهم وينطقونها الكِتْفَ، وهو فصيح. والكتف في البناء (مولد)
كَتْكَتَ: الكتكوت: فرخ الدجاج لكثرة صياحه في سرعة (مولد).
كتل: تكتَّل الناس: صاروا كتلة: أي جماعة متفقة على رأى واحد (مجمعية) وتكتلوا ضد فلان، أي عارضوه وخالفوه، ولم يستجيبوا لرأيه، والكتلة: القطعة المجتمعة من الشيء.
كَتَلُوج: الكتلوج: فهرس بأسماء مفردات بعض الأنواع كالكتب والنبات، وقد تكون صور هذه الأشياء مدونة فيه، ومن المتداول كتلوج النجار الذي يصنع الأثاث، وكتلوج الحداد الذي يصنع الأبواب والنوافذ.
كَتَمَ: كتم الشيء كتمانًا: ستره وأخفاه . وفلان كاتم السر، وفلان لا يكتم السر. كتَّم الشيء: بالغ في كتمانه. وكاتم السر: الأمين على عمل، وهو المعروف بالسكرتير (محدثة)(206/25)
كَتن: الكَتَّان: نبات يزيد ارتفاعه على نصف متر، ويعرفون بذر الكتان، ويعتصرون منها الزيت الحار، ويتخذ من أليافه النسيج المعروف .
كثر: الشيء كثرة. وتكثّر الشيء: جعله كثيرًا واستكثر الشيء: عدّه كثيرًا، والأكثر والأكثرية والكثير نقيض القليل، وكثيرًا ما زرتك وأنت لا تزورني. ويحفظون قول الله تعالى: ( إنا أعطيناك الكوثر ) والعوام يقلبون الثاء تاء فيما عدا القرآن الكريم، فقد يجعلونها سينًا.
كَحَّ: كح فلان: سعل ( محرفة عن أَحَّ ) والقُح: الخالص من كل شيء . والكحح: العجائز الهرمات. والكحة: السعال (محدثة) والكحكح: العجوز الهرمة .
كَحَلَ: كحل العين: جعل فيها الكحل . وعينه مكحولة. وكحّل العين: كَحَلها. والكحل: كل ما وضع في العين يستشفى به مما ليس بسائل . والكحليُّ من الألوان: الأزرق الضارب إلى السواد (مولدة) والكحلي: من يصنع الكحل . والمكحلة :الوعاء الذي فيه الكحل.
كخّ: (كخ كخ) زجر للصبي عن تناول شيء لا يراد أن يتناوله .
كَدَحَ: كدح في العمل: سعى وجدَّ فيه . والكدح للعيال: الكسب لهم بمشقة.
كَدّ: كد في العمل: اشتد فيه.وكد شعره: مشطه. وكد رأسه وجلده بالأظفار: حكه بإلحاح. والمكدود: المغلوب .
كَدَُر: كدر الماء. والماء الكدر غير الصافي. والكُدْرة: لون ينحو نحو السواد .
كدس: كدس الحصيد والتمر والدراهم : جعلها كدسًا بعضها فوق بعض . تكدست الخيل: ازدحمت في السير وركب بعضها بعضًا. والكدس : المجتمع من كل شيء نحو الحب المحصود وغيره.
كَدَش: كدش لعياله: كسب. وكدش الشيء: قطعه بأسنانه. وكدش فلانًا خدشه.
كدم: كَدَمَ فلانًا إذا أحدث فيه أثرًا بِعَضٍّ ونحوه. والكدْم. أثر العضّ، وتَجمُّع دمويّ تحت الجلد من إصابة (مجمعية).
كدى الرجلُ: بخل أو قلَّل عطاءه . والكُدية عند العوام: الجماعة من الناس يتجمعون في الأفراح أو الزار. ولم يرد هذا المعنى في المعجم الوسيط وينبغي أن يضاف.(206/26)
كَذَبَ:الكذب خلاف الصدق.كَذَب: أخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه.
وكذبة أبريل: أكذوبة يتعابث بها الناس في أول هذا الشهر من كل سنة (محدثة) والكذاب: كثير الكذب. والكذوب: الكذاب. ومنهم من يحفظ المثل القائل: إن كنت كذوبًا فكن ذكورًا. وهم يستعملون المشتقات المأخوذة من هذه المادة وبعضهم ينطق الذال المعجمة دالاً مهملة ، وبعضهم يجعل الذال زايًا، فلا يخرج لسانه في النطق بها .
كذا: في كلامهم نجد عبارة: وهو كذلك، وهي تعنى الموافقة على ما يطلب من المتحدث. وفيه أيضًا عبارة: فلان أعطى كذا، وفلان أخذ
كذا، وفلان لا يفعل كذا.
كذلك: هذا التعبير من معجمهم، وله استعمالات، ولكنهم لا ينطقون الذال نطقًا صحيحًا، فلا يخرجون لسانهم في نطقها .
كرب: الكرب الحزن والغم يأخذ بالنفس. والكُرْبة في قولهم : الغربة كُرْبة.
الكرباج: السوط ( دخيلة )
كَرْبَسَ: كربس فلان فلانًا : أوقعه في شدة، أو غلبه وصرعه، أو خدعه في بيع أو شراء أو نحوهما، ولعل هذا مأخوذ من قولهم: تكربس من ظهر فرسه، إذا سقط منه. وهذا ليس في المعجم الوسيط، ويحسن أن يضاف، لأن له أصلاً في الفصيح.
كَرْبَلَ: الكربلة في المعجم معناها الخلط، أو المشي في الطين، أو الخوض في الماء، وهي في العامي معناها الأخذ في سرعة وعجلة، دون إعطاء الفرصة للتروِّى في الأمر. وكربلة الشيء: إنجازه دون دقة وإتقان، وهذا المعنى لم يشر إليه في المعجم الوسيط، وينبغي أن يضاف إليه، لأن اللفظ عربي فصيح والمعنى هو الذي تغير وتطور.
كَرَثَ: الكارثة والكوارث ، واكترث له: حزن عليه. والكارثة: النازلة العظيمة والشدة. والكُرَّاث معروف بنوعيه: الكراث المصري، والكراث الشامي وهو أبو شوشة .
كرد: الكُرْد: شعب في آسيا الوسطى، بلاده موزعة بين تركيا والعراق وإيران .
كردس: في مصر قرية تسمى كرْدَاسة.
الكردان: القلادة، وقد كان من أهم الحليّ الذهبية إلى وقت قريب، وهو (دخيل) .(206/27)
كَرَّ: كَرَّرَ الزيارة: أعادها. وكذلك : كرر الرحلة وكرر الكتابة وكرر القراءة. والكُرّ: خيط من الصوف ونحوه يلف بعضه على بعض، ويصنع منه غطاء الرأس وغيره من الملابس.
كَرَسَ: كَرَّسَ الشيء: ضم بعضه إلى بعض، وكرس البناء: أسَّسه. والكراسة: جزء من كتاب . وبعض الكراسات يضم عشر ورقات، والكتاب يضم عدة كراريس. وقد تكون الكراسة مجموعة من الورق تعد للكتابة فيها. والكرسيّ معروف (مولد) وأستاذ كرسي: مركز علمي في الجامعة يشغله أستاذ(محدثة).
كرسع: الكُرسوع: طرف الزند الذي يلي الخنصر، وهو الناتئ عند الرسغ.
الكُرسف: القطن، ولا يعرفها عوام مصر .
كرش: الكِرْش لكل مُجْتَرٍّ: بمنزلة المعدة للإنسان. الكُرَيْشة: نسيج من القطن ونحوه متقبض كالكرش (مولد) يستخدم حلية لملابس النساء: على طرف الكم وطوق الجلباب أو القميص، وعلى ذيل الثياب .
كَرَعَ: ما يعرفه العوام من هذه المادة، ويشيع على ألسنتهم كلمة: كوارع.
وقد سبقت عند كلمة مسمط بلفظ أكارع الفصحى، ولو أجاز المجمع كلمة (كوارع) وأضافها منسوبة إليه لصح المتداول، ولم يؤخذ عليه أي مأخذ لأن مفرد كوارع كارعة وقد وردت في الفصيح، ودونت في المعجم الوسيط اسمًا للنخلة التي لم يفارق أصلها الماء، فهي كارعة ، وجمعها كوارع. ويستعمل العوام الفعل تكرَّع بمعنى تجشَّأ.
الكَرَفْس: معروف عندهم.
كَرَّكَ: الكرَّاكة: آلة تطهر بها القنوات والأنهار مما ترسَّب فيها من رمل أو غيره.
والكُرَيْك: أداة للحفر ونقل التراب (معربة) وآلة حديدية ترفع بها عجلة السيارة. (محدثة)
الكركديه: معروف.
كَرْكَرَ: ضحك ضحكًا شبه القهقهة . وكركرت النارجيلة ( الشيشة ) اضطرب الماء فيها، فكان له صوت يشبه الكركرة. وكركر الشيءَ أعاده مرة بعد أخرى وجمعه. والكركرة: صوت يردده الإنسان في جوفه، والضحك الشديد.
الكُرْكُم: معروف. والمكَرْكَمُ: المصبوغ بالكركم.
كارم: فلان فلانًا: غلبه في الكرم.(206/28)
كرم: فلان: أعطى بسهولة وجاد، فهو كريم، وهم كِرَام وكرماء، ولكنهم لا يمدون كرماء، وإنما يحذفون المدة والهمزة، ويجعلون الهاء في الآخر ويقولون: هم كرمه. والكرم ضد اللؤم. والإكرامية: العطية.والكرامة: العزة وعلو القدر. والكرامة: شيء خارق للعادة يظهره الله على أيدي أوليائه (مولد). والكريم من صفات الله سبحانه وتعالى .
وكريمة الرجل: ابنته. والمكرَّم: الرجل الكريم.ومكة المكرمة: القبلة.
الكُرُنْب: معروف.
كَرِه: الشيء خلاف: أحبَّه، والكرهُ والكراهة والكراهية وأكرهه على الأمر: قهره عليه. وكرَّه إليه الأمرَ: صيَّره كريهًا إليه، واستكره الشيء : كرهه، والكريهة : الشدة في الحرب وغيرها.والمكارِهُ: ما يكرهه الإنسان ويشق عليه، وبعضهم يحفظ الحديث الشريف: (الوضوء على المكاره).
الكرة: معروفة، ومنها: كرة اليد، وكرة القدم، وكرة السلّة. واكترى الدار: استأجرها. والكِراء: أجر الدار. ومنه الكرة الأرضية. والكرة التي يلعب بها: أداة مستديرة من الجلد ونحوه .
الكروان: طائر له صوت حسن ، ويضرب المثل بحسن صوته . والكرويا: معروفة .
الكزبرة: معروفة.
كَزّ: رجل كز اليدين: بخيل .
كسب: كسب لأهله: طلب الرزق والمعيشة لهم. وهو كسّاب وكاسب والكَسب: ما اكتسب. والكُسْب: ثقل بذور القطن والكتان والسمسم بعد عصرها (مولد) والمكسب: ما يكسب وجمعه مكاسب .
الكستبان: معروف.
كَسَحَ: كَسَحَ البيت: كنسه. وكسح فلان من مالي ما شاء إذا أخذ. والكُساح : داء للإبل تعرُج به، ومرض يصيب العظام في الأطفال (مجمعية)
كَسَدَ: كسد الشيء إذا لم يَرُجْ لقلة الرغبة فيه. وكسدت السوق . وكسدت السلعة. والكساد والكُسود والكاسد من معجمهم.(206/29)
كَسَرَ: كسر الشيءَ: هشمه وفرّق بين أجزائه. والشيء مكسور، وكِسير . وكسر الحرف:ألحقه الكسرة (مولد). انكسر العسكر : انهزموا . وانكسر الحرّ: خفَّتْ شدته. والكسارة: ما تكسر من الشيء. والكسر في الحساب معروف مثل نصف وربع، والكسَّارة: أداة يكسر بها الجوز ونحوه (مجمعية).والمكسّرات: الجوَز واللوز والبندق ونحوها (محدثة)
كَسَعَ: كسع فلانًا : طرده.
كسفت: الشمس إذا احتجبت وذهب ضوؤها. وكشف الوجه إذا اصفرّ وتغيَّر. والكسوف للشمس، والخسوف للقمر. وكسف فلان فلانًا: رده ولم يجب طلبه. وأَكْسَفَ القمرُ الشمسَ: حجب نورها. ويستعمل الكسوف عندهم بمعنى الخجل والحياء وعدم الرضا .
وكسف بالُه: ساءت حاله. وكسف
أَملُه: خاب ولم يتحقق .
الكُسْكُسِىُّ: طعام يتخذ من طحين البُرِّ المفروك، وينضج على البخار (مولد) .
كَسِل: الكسل معروف. وهم يستعملون الفعل بتضعيف العين، وهو فصيح ومن معجمهم: فلان كسلان، وفلانة كسلانة، تكاسل: تعمد الكسل، اسْتكْسل: تراخى عن إنجاز عمل ما. المَكْسَلَة: ما يؤدي إلى الكسل .
كسا: كسا فلانًا ثوبًا: ألبسه إياه، أو أعطاه إياه. والكساء: اللباس . والكسوة معروفة .
كَشَحَ: كشَح القوم: طردهم . وانكشحوا عن الشيء: ذهبوا عنه وتفرقوا .
كَشَرَ: يستعملون هذا الفعل مضعف العين. كشر عن أسنانه: كشف عنها عند الغضب. وكشر فلان عند لقائي: عبس وغضب. وكشر العدو عن أنيابه: هدد وأوعد. هذه المعاني ينبغي أن تضاف إلى المعجم الوسيط لأن ما فيه ليس من العامي الفصيح.
الكُشَريّ:طعام يصنع من الأرز والعدس مقشورًا أو غير مقشور (محدثة)
كَشَّ: كش الثوب بعد الغسْل: قصر ونقص قليلاً في قياسه. وكش فلان من كذا: هابه وانقبض منه . والكشكشة والكشاكيش مما يصطنعه الخياط في بعض ملابس السيدات حلية لها، وقد أغفل المعجم الوسيط هذا المعنى .(206/30)
كَشَطَ: كشط الجلد عن الذبيحة. وكشط السرج عن الفرس. وكشط فلان أسرار فلان، إذا كشف هذه الأشياء. وكشط الحرف: محاه وأزاله .
كشف: كشف الشيء: رفع عنه ما يغطيه . وكشف الأمر: أظهره . وكشف الحقيقة : بيَّنها. وكشف عليه الطبيب: فحصه وعرف مرضه (مولد) وكشف الله غمّه وهمّه: أزال عنه ذلك ( دعاء له ) واكتشف الأمر: كشف عنه بشيء من الجهد والمشقة (محدثة).
وانكشف السر: ظهر وعرف . والكشف أو الكشافة: نظام رياضي يراد به تكوين الشخصية يقوم على الرحلات والاعتماد على النفس والحياة في المعسكرات (محدثة).
الِكَشْك: طعام يصنع من الدقيق واللبن ويجفف حتى يطبخ متى احتيج إليه (فارسيّ معرب)
والكُشْك: كوخ يحمي الحارس من
المطر، وقد يستخدم لبيع بعض الأشياء .
كظم: كظم غيظه: أمسك على ما في نفسه منه صافحًا أو مغيظًا. والكاظم: الممسك على ما في نفسه عند الغضب، ومنهم من يحفظ قول الله تعالى: ( والكاظمين الغيظ ). واستعملوا الكاظم علمًا على بعض الأشخاص .
كعب: التكعيبة: عرش العنب (محدثة) . والكعب: مفصل من العظام، وفي كل قدم كعبان . والكعبة المشرفة : البيت الحرام بمكة .
الكعك: خبز يعمل من الدقيق والسكر والسمن ويسوى مستديرًا ( فارسي معرب) .
كفأ: كفأ الإناء: قلبه. وكافأه على الشيء: جازاه. والكفء والكفاءة من معجمهم .
كَفَتَ: انكفت القوم إلى منازلهم: انقلبوا. والكُفتة: طعام معروف يصنع من لحم يقطع ويدق ويضاف إليه التوابل والبصل ، ويعمل على هيئة أصابع أو أقراص، ويشوى أو يقلى . (مجمعية) .
كفح: كافح القوم أعداءهم. وكافح الأطباء الأمراض. وكافحت الدولة البطالة. وكافح أموره: باشرها بنفسه. تكافح المحاربون: تقاتلوا . وتكافح الكباش: تناطحوا. وتكافحت الأمواج : تلاطمت .(206/31)
كفر: كفر الرجل: لم يؤمن. وكفر بالله. وكفر بنعمة الله . وكفر الزَّارعُ البذرَ بالتراب: غطَّاه . وكفَّر عن يمينه: أدى الكفارة. والكافر: من لا يؤمن بالله. والكافور شجر معروف . والكَفْر: القربة الصغيرة .
والكُفر: الجحود والقسوة والغلظة والعنف والظلم. وكَفَّر غيره: نسبه إلى الكفر. وجماعات تكفير المجتمع معروفة، وهي جماعات مضللة .
كفَّ: عن الأمر: انصرف عنه وتركه . وكف بصرُه: ذهب. وهو كفيف وجمعه أكِفَّاء .
وكَفَّف الثوب: خاطه الخياطة الثانية، وزينه بالحرير وغيره من الخيوط. وتكفَّف السائل: ألح في السؤال . والكافة: الجماعة وينطقونها قائلين :
كَفتْهُمْ .
والكفاف من الرزق: ما كان مقدار الحاجة. والكفُّ: معروف. وكُِفّة الميزان بكسر الكاف وضمها، ولكن العوام يفتحون الكاف، ميلاً إلى أخف الحركات الفتحة .
كَفْكَف دمعه: مسحه مرة بعد مرة كبجف. وكفكف فلانًا عن الشيء : صرفه .
كَفَلَ: كفل فلان فلانًا: ضمنه. وكفل الدَّيْن: تعهد بأدائه. وكفل الصغير: ربَّاه وأنفق عليه. وتكفَّل بالشيء : ألزم نفسه بأدائه. والكَفَل: عَجُز الإنسان والحيوان. ومما سها عنه المعجم الوسيط كلمة (الكفالة) وهي مبلغ من المال يقدره ولي الأمر مقابل الإفراج عن المتهم في ارتكاب جريمة من الجرائم، وهذه الكلمة يعرفها كل من ذهب إلى دور القضاء .
كَفَن: كفّنَ الميت: ألبسه الكفن. والعوام ينطقونها بتشديد العين. والكفن: ثياب يلف فيها الميت .
كفاه الشيءُ: استغنى به، فهذا الشيء يكفيني. وكفاك الله شر الشيطان: دعاء له .
وكفى الله فلانًا فلانًا – أو – كفاه شر فلان: حفظه من كيده. واكتفى بالشيء: رضي. ويعرفون الكفاية والاكتفاء، ويقولون: فلان استكفى بما عنده وحمد الله .
كوكب: سموا بهذه الكلمة بناتهم، ويعرفون الكوكب يُضيء في السماء ليلاً.(206/32)
كلب: الكلب معروف، ودَاءُ الكَلَب كذلك، ويقولون: عضه الكَلْب الكلِب. وتكالب الناس على الشيء: تواثبوا . والكلاب سلالات كثيرة ، وتربَّى للحراسة أو للصيد. والكلبتان من أدوات الحداد وأداة تخلع بها الأسنان والكُلاَّب: المهماز .
والمَكْلَبة:الأرض التي كثرت كلابها.
كَلْثم: يعرفون من هذا الأصل: ابن كلثوم. ويسمون البنات: أم كلثوم .
كَلَحَ: كلح فلان: عبس وزاد عبوسه . وكلَّحَ وجهه في وجه غيره. كلَّح: عَبَّس وجهه.
الكالسيوم: معروف عند كثير .
كَلَفَ: كلف الماشية: علفها (محدثة) وكلَّفه أمرًا: أوجبه عليه. وكلَّف على اسمه أرضًا سجلها (محدثة). وكلَّفه بالأمر: وكله إليه (محدثة). والتكلُّف والتكليف والتكلفة ألفاظ تضاف إلى العامي الفصيح. والكَلَف: نَمَشُ يعلو الوجه كالسمسم. والكلفة: ما ينفق على الشيء لإعداده (محدثة) و – أنواع من النسيج تضاف إلى الثوب حلية وزينة (محدثة) والكلاَّف: من يقوم بعلف الماشية وتربيتها (محدثة) والمتكلف: من يظهر نفسه على غير حقيقتها .
كلَّ: كل فلان: تعب. وكل عن الأمر : ثقل عليه فلم يتابعه. والإكليل معروف والكلالة أن يموت المرء وليس له والد أو ولد يرثه، بل يرثه ذوو قرابته .
كلُّ: كلمة تفيد الاستغراق لما تضاف
إليه. الكليل: الضعيف .
كلم: كالمه، كلّمه، تكالم المتخاصمان ، تكلم، والكلام، والكلمة، والكليم، وهذا لقب موسى لأن الله كلمه . والكليم – بكسر الكاف ـ معروف (مولد)
كَلاَّ: يستعملونها في الجواب بالنفي .
كم: من الكلمات التي يستعملها العوام ، لكنهم يمدون الكاف المفتوحة فيقولون: كَامْ ثمن هذا؟ بكام تشترى هذا ؟……… كام وكام ….؟
الكمبيالة: معروفة وهي من الدخيل .
الكمثرى: معروفة .
الكامَخُ: لا يعرفونه، ويسمونه المخلَّلات المشهية.(206/33)
كَمَدَ: كمد لونه ـ تغير وذهب صفاؤه فهو كامد، هذا ما في المعجم الوسيط، أما العوام فإنهم يعبرون بهذه العبارة فلان كامد ـ عن الحزن والغم والكرب الذي نزل به . ثم جاء فيه: كمد الرجل: كتم حزنه ، أو حزن حزنًا شديدًا فهو كامد . والكِمَادُ والكِمَادَةُ: خرقة تسخن وتوضع على الورم والعوام يسمون هذه الخرقة كَمَّادة ـ بتشديد الميم .
كمش: الكمَّاشة آلة تنزع بها المسامير ونحوها ( مولد ) والانكماش : نقص المتداول من النقود الورقية. وما جاء في المعجم الوسيط غير ما يتحدث به العوام، فهم يقولون: انكمش فلان في بيته بمعنى: لزمه. وفلان كمش فلانًا بمعنى: استولى على أمواله وأملاكه بالخديعة أو بالقوة أو بالغش.
كَمَلَ: كمل الشيء: تمت أجزاؤه أو صفاته. وكمل الشهر: تم دوره فهو كامل. وأكمل الشيء: أتمّه. وكَمَّلَ الشيءَ أكمله. واكتمل الشيءُ: كمَّل . تكامل .. وتكمل .. واستكمل .. والتكملة: ما يتم به الشيء، والكامل من الرجال:الجامع لمكارم الأخلاق. كل هذا من معجمهم، ما عدا التكملة فإنهم يزيدون فيها ياء بعد الميم المكسورة فيقولون: تكميلة، وكأنهم أخذوا: التكميل ـ مصدر كمّل القياسي، وزادوا عليه التاء لتدل على الوحدة بعد الاستغناء عن الياء.
وفي لسان العرب: " ويقال: كملت له عدد حقه، ووفاءَ حقه تكميلاً وتكملة" .
كَمَّمَ: كمم فم الحيوان: سده بالكمامة . والكمامة: ما يسد به فم البعير لئلا يَعَضَّ أو يأكل. والكُمُّ: مدخل اليد ومخرجها من الثياب. والكَمّ: مقدار الشيء (مولد). والكمية: الكَمّ (مولد).
كَمَنَ: كمن في المكان: اختفي. والكمون: معروف. والكمين: القوم يكمنون حيلة وخدعة. والكمين يُعِدُّه رجال الشرطة لضبط اللصوص والمجرمين .
والمكمن: الموضع الذي يكمن فيه. وينبغي إضافة ما فات المعجم الوسيط .
الكمنجة والكمان من آلات الطرب (معرب كمانجه الفارسية ).
الكنبة: أريكة منجدة وثيرة تتسع لأكثر من جالس (معرّبة )(206/34)
الكنتين: محل يباع فيه الشراب أو الطعام لفئة معينة، كما في المدارس والمعسكرات . (دخيل ) .
كَنَدَ: كند النعمة: كفرها وجحدها، ويحفظون قول الله تعالى : ( إن الإنسان لربه لكنود ) .
الكناريُّ: طائر حسن الصوت .
كَنَزَ: كنز المال: دفنه تحت الأرض، وجمعه وادخره. والكنز: المال المدفون .
كنس: كنس المكان: كسح القمامة عنه. والكُناسة والكَنَّاس والكنيسة معروفة.
والمكنسة : آلة الكنس .
الأكتع: مقطوع اليدين. ويقولون لمن لا يتقن العمل: فلان أكتع، وفلانة كتعة ـ يحذفون من آخرها الهمزة والمدة
ويؤنثونها بالتاء .
كنف: كَنَفَ الكنيف:عمله. وكنف الدار: اتخذ لها كنيفًا (والكنيف المرحاض) ومن الدعاء قولهم: نحن في كَنَفِ الله، وكنفُ الله: رحمته وستره وحفظه. وكَنَفُ الرجل: جانبه . والكُنافة: حلوى تتخذ من عجين القمح، وهي معروفة، وأكثر ما تؤكل في شهر رمضان (مولد). والكنفاني: صانعها وبائعها (مولد).
الكُنْكَان: لعبة من ألعاب الورق (دخيلة).
كَنَّ: كن الشيء: ستره. كنّت المرأة : سترت وجهها حياء من الناس .
استكنَّ الشيء: استتر.والكانون: الموقد.والكانون: الجاسوس. وكانون الأول (ديسمبر) والكِنّ: كل ما يرد الحر والبرد من الأبنية ونحوها. والمكنون:المستور البعيد عن الأعين.
الكنة: الكنه: إدراك الحقيقة، وجوهر الشيء ومن كلامهم: هذا لا كنه له .
الكناية: من معجمهم، وكذلك ما يشتق منها وما يزاد فيه بعض حروف الزوائد .
كهرب: كهرب مسقط الماء. وكهرب الأسلاك. وكهرب المصنع. وكهرب الخط الحديدي (والفعل بمعانيه محدث) والكهرباء معروفة وهي الكهربا بدون الهمزة. والكهربائي: المتخصص في علم الكهرباء والتيار الكهربائي والمصباح الكهربائي والكهربة. والإصابة بالصعقة الكهربية .
كهف: الكهف: بيت منفور في الجبل كالغار،إلا أنه واسع.والكهف:الملجأ.
كهْ كَهْ: حكاية صوت الضحك. كهكه : ردد صوته. والكهكهة: القهقهة .
الكهل:من جاوز الثلاثين إلى الخمسين.(206/35)
كَهَنَ له: أخبره بالغيب. تَكَهَّنَ للأمر: حَدَس وخَمَّنَ. والكاهن: من كان يسمى المنجّم والطبيب. وعندهم أن الكاهن الذي يزين الأمور على غير حقيقتها .
الكوخ: معروف .
الكوز: معروف .
الكاس: الكأس .
الكوسة: نوع من القرع .
الكُوفيّة: معروفة ( وهي مولدة ).
كَوَّمَ: كوم الشيء: جمعه. والكَوْم: كل ما جمع. والكُومة والكَوْمة كذلك .
كان: من الأفعال التي يكثر استعمالها . وكذلك: تكون. وكون. واستكان والكوُن. والمكان والمكانة.والكائن..
كواه: أحرق جلده بحديدة محماة . وكوى الثوب. والمكواة عندهم (مكوة). والكوَّاء:من يكوي الملابس.
الكَيْد: إرادة مضرة الغير خفية . والكيَّاد: الكثير الكيد (مجمعية ).
الكيروسين: سائل قابل للاشتعال ، يستعمل وقودًا (مجمعية)
كَيَّفَ: التكييف والمكيِّف والكيفية من معجم العوام، والمكيف (مولدة)
كال: الكيل والكيلة والكيالة والمكيال والكيَّال والكيلو والكيلومتر والكيلو جرام ..
كيهك: الشهر الرابع من الشهور القبطية، والعوام يقولون كياك .
أمين علي السيد
عضو المجمع(206/36)
2- كلمة الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
في حفل استقبال
الأستاذ الدكتور يوسف عز الدين
... والآن موعدنا مع خامس الأعلام الذين أستقبلهم باسم مجمع اللغة العربية القاهري وهو الدكتور يوسف عز الدين خريج كلية الآداب بجامعة الإسكندرية سنة 1950 ونال منها درجة الماجستير سنة 1953 والتحق بجامعة لندن، ونال منها درجة الدكتوراه سنة 1957 . وعاد إلى وطنه في بغداد ، وتعددت وظائفه وأعماله الرسمية فيه وفي الجامعات العربية . فعمل في جامعة بغداد ، حتى أصبح وكيلاً لكلية الآداب وأستاذًا للآداب في قسم الدراسات العليا وعينه المجمع العلمي العراقي عضوًا فيه، وظل أمينًا له فترة. وكان مديرًا عامًّا للصحافة والإرشاد مما جعل له نشاطًا صحفيًّا بكتابة مقالات متنوعة في مجلات وصحف بغداد والعالم العربي، وله مساهمات في إذاعات بغداد والقاهرة وتونس . وألقى ـ لعدة سنوات ـ محاضرات بمعهد الدراسات العليا بجامعة الملك سعود. وأسهم ببحوثه في مؤتمرات متعددة من أهمها مؤتمر المستشرقين في الهند سنة 1964 ومؤتمرات أدباء آسيا وأفريقيا في موسكو وطشقند والصين في سنوات1966 و1970 ومؤتمر مستشرقي إيطاليا.
وله مؤلفات متعددة: منها:
1- الشعر العراقي في القرن التاسع عشر - طبع وزارة التربية ببغداد سنة 1958م، وطبع بدار المعارف في القاهرة سنة 1977م .
2- الشعر العراقي الحديث والتيارات السياسية والاجتماعية - طبع وزارة التربية ببغداد سنة 1960 - وطبع بالقاهرة سنة 1977.
3- في الأدب العربي الحديث : بحوث ومقالات نقدية - طبعته جامعة بغداد سنة 1967، والهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1973.(207/1)
- كلمة الختام للأستاذ الدكتور
شوقي ضيف رئيس المجمع
أشكر السادة الأفاضل الذين قاموا بواجبهم وواجب المجمع نحو تكريم الراحل الكريم الأستاذ إبراهيم الترزى، فودعوه أروع وداع، وذكرونا بمحاسنه التي – على كثرتها- لا تُنسى وأكرر
الشكر لجميع حضراتكم ولأسرة الفقيد العزيز، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شوقي ضيف
رئيس المجمع(208/1)
* كلمة في افتتاح المؤتمر
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف
رئيس المجمع
معالى الأستاذ الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم العالى والدولة للبحث العلمي:
الزملاء المجمعيون:
السيدات والسادة:
نحتفل اليوم بافتتاح مؤتمر مجمع اللغة العربية السنوي للنهوض باللغة العربية لغة القرآن الكريم الخالدة بخلوده. وأقدم – باسم المجمع- أسمى آيات الشكر لمعالي الأستاذ الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم العالي والدولة للبحث العلمي لمشاركته المجمع في هذا المؤتمر والتنويه بأعماله اللغوية والعلمية والترحيب بأعضائه الوافدين من البلدان العربية والإسلامية والأجنبية. وأحييهم باسم المجمع تحية مقرونة بعواطف الحفاوة بهم عاملين ومراسلين، وبينهم ستة من الأعضاء العاملين الجدد، وعشرة من الأعضاء المراسلين الجدد، سيثرون المجمع ببحوثهم وأفكارهم. وأشكر لجميع الزملاء المجمعيين تلبيتهم الكريمة لدعوة المؤتمر للمشاركة في بحوثه وقراراته. وعقب المؤتمر مباشرة ستنعقد ندوة لاتحاد مجامع اللغة العربية في الوطن العربي. وإني لأتمنى لجميع الزملاء الوافدين إلى المؤتمر طيب الإقامة بيننا في بلدهم الثاني مصر .(209/1)
وموضوع مؤتمر المجمع في هذه الدورة هو (اللغة العربية في وسائل الإعلام) وتعرفون حضراتكم أن اللغة العربية لغة الشعوب العربية القومية المشتركة في هوية واحدة تجمعها من الخليج إلى المحيط في أمة واحدة ذات تاريخ واحد وحضارة واحدة وتراث فكري وروحي واحد. وواجب كل شعب من شعوبها أن يحميها من كل ما يمسها أو يهوِّن منها كما يحمي الأرض والعِرض. ولا يشك أحد أن الأمة العربية تعيش الآن في زمن الإعلام ووسائله التي تعددت ولم يكن عند شعوبها قبل الثلاثينيات من القرن العشرين الماضي وسيلة للاتصال بالرأي العام سوى الصحافة، وقد نهضت منذ أواسط القرن التاسع عشر بدور مجيد في تثقيف أفراد الأمة وفي مقاومة الاستعمار، فظلت تقاومه مقاومة عنيفة بعد الثلاثينيات من القرن الماضي حتى رحل – إلى غير مآب – عن جميع الديار العربية. واستطاعت الصحافة أن تخاطب الشعوب العربية جميعًا إلى اليوم بأساليب عربية مبسطة أروع تبسيط حتى تفهم الأمة – على اختلاف طبقاتها - ما تقرأ دون أي عسر أو صعوبة .(209/2)
... حتى إذا كنا في الثلاثينيات من القرن الماضي أخذت وسيلة إعلامية جديدة تشارك الصحافة في الإعلام، وهى وسيلة الإذاعة المسموعة، وكانت تذيع في أوائل ظهورها بالعربية الفصيحة ، وتسللت إليها العامية على استحياء ثم زاحمتها ، وتدريجًا تمت لها الغلبة في بعض البرامج فيما عدا الأخبار اليومية. ومن عجب أن نجد الأقسام العربية الفصيحة دون أي لحن أو خطأ على نحو ما نسمع في إذاعة لندن، في حين أن الإذاعات في العواصم العربية- وطن الإعلام العربي- تُشْرك العامية مع الفصحى في بثِّها غير آبهة بأن الفصحى لغة شعوب الأمة جميعًا والعامية لجهة يومية لشعب واحد؛ فهي لهجة محلية لا يفهمها سوى أفراد شعبها، ولو تمادت الإذاعات العربية في البث بالعاميات لانفكت الصلات التي تربط بين شعوب الأمة، وانعزل كل شعب عربي وعاش وحده، في حين أن شعوب الغرب في أوربا المتعددة اللغات تجمع شملها في تكتلات اقتصادية وسياسية واحدة مثل السوق الأوربية بل إن أوربا لتتكتل مع أمريكا في حلف الأطلنطي.
... ونمضي إلى النصف الثاني من القرن العشرين ، فتنشأ في ديار الأمة العربية وسيلة ثالثة للإعلام، وهي وسيلة التليفزيون وهو أكثر جذبًا لمختلفي الأعمار من الأطفال والشباب إلى الكبار لمشاهده الخلابة وبرامجه الجذابة ، وقد اتسع فيه استخدام العامية في البث بأوسع من استخدامها في الإذاعة .
... ونشأت في هذه الأيام ، وانتشرت في البلدان العربية ، وسيلة رابعة للإعلام هي القنوات الفضائية وزحفت إليها العامية ، وهو زحف شديد الخطر على الفصحى لأنها أوسع انتشارًا من وسائل الإذاعات السابقة إذ تصل إلى كل شعوب العالم وكل مكان فيه.
أيها السادة:(209/3)
... إن وسائل الإعلام التي تحدثت عنها تسيطر عليها جميعًا وزارات الإعلام في جميع شعوب الأمة، وهي المسؤولة عما تريده الأمة من تعميم البث فيها بالفصحى. وينبغي لذلك أن تعقد وزارات الإعلام مؤتمرات لوضع خطط لذلك مدروسة، وأرى من الآن أن يُلحَق بكل وسيلة من وسائل الإعلام
مكتب من ذوي الخبرة اللغوية الدقيقة تكون مهمتهم:
أولاً: إقامة دورات تدريبية للعاملين في وسائل الإعلام تكسبهم المهارة في النطق والأداء .
ثانيًا: متابعة كل ما يلقى في وسائل الإعلام وعرض ما فيه من الأخطاء على العاملين في كل وسيلة حتى يجتنبوه .
ثالثًا: أن يكون أولئك الخبراء مرجعًا ثابتًا للعاملين في كل وسيلة من وسائل الإعلام يرجعون إليهم في صحة الكلم وتصحيح الأداء والصياغة .
... ويسعدني في ختام كلمتي أن أشكر حضراتكم جميعا لتفضلكم بتلبية دعوة المجمع للمشاركة في افتتاح مؤتمره السنوي .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته …
شوقي ضيف
رئيس المجمع(209/4)
- افتتاح الجلسة
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف
رئيس المجمع
علل
بسم الله الرحمن الرحيم، نجتمع اليوم لتأبين الراحل العزيز الغالي الأستاذ إبراهيم الترزي الأمين العام للمجمع، اختطفه الموت منا سريعًا، وشيعناه حقيقة ونحن محزونون لوفاته المبكرة، وقد كفله منذ صباه جدٌّ أزهري له مكتبة زاخرة بكتب كثيرة، وكان يستعين بحفيده في القراءة، فاستطاع عن طريقه أن يقرأ كتبًا دينية وأدبية كبيرة، وبهذا الزاد وحفظ القرآن الكريم، دخل كلية دار العلوم، وأخذ ينهل من علمائها بمحاضراتهم ومؤلفاتهم العظيمة ما أتاح له أن يتخرج في سنة 1950م في دار العلوم حاصلاً على درجة الليسانس الممتازة، وكان جديرًا بها بين أترابه، وكانت دار العلوم قد تعودت في أول كل عام هجري أن تقيم احتفالاً بمناسبة السنة الجديدة، وكان إبراهيم الترزي يلقي في هذا الاحتفال قصيدة نبوية تلقى استحسان الحضور. ثم التحق بمعهد التربية العالي ونال منه درجة التربية في العالم التالي، ثم آثر أن يشتغل في مدرسة إنجليزية بمصر الجديدة، ولم يلبث في سنة 1957، أن أخذ يكتب صورًا أدبية، ومقالات تتناول بعض المفكرين والشخصيات الأدبية والعلمية العربية في المجلات، وله في الإذاعة حلقات كثيرة تحدث فيها عن شخصيات مهمة عربية مثل: ابن خلدون، وابن تيمية، وعمر المختار، وصلاح الدين الأيوبي، ثم رأى أن يترك العمل في هذه المدرسة ويلتحق بمجمع اللغة العربية، واستطاع في المجمع حقيقة أن يبرز بين زملائه منذ أن عين محررًا حتى أن وصل إلى رئيس تحرير، ثم رأى المجمع أن يختاره عضوًا لما له من منزلة أدبية ولغوية رفيعة، وأخذ يمد المعاجم بدراسات وأفكار كثيرة له، وقد أخرج جزأين من المعجم الكبير الذي كان مقررًا له وأعد جزأين آخرين للطبع.(210/1)
... كما كان له أعمال علمية عديدة، فقد اشترك في تحقيق بعض أجزاء من معجم تاج العروس كما كان له بحوث قيمة، ومن أهمها البحوث التي كان يلقيها عن نشاط المجمع في المؤتمر السنوي له، وعن نشاطه خلال الدورات المجمعية لمجلس المجمع، كما قدَّم كتابًا نفيسًا سماه"التراث المجمعي"
وكل ذلك يجعل وفاته خسارة كبرى لنا في المجمع، كما فقدته الدراسات اللغوية والأدبية.
... ومما حققه أيضًا: الجزء الرابع من السيرة النبوية للصالحي، ونحن نذكره الآن محزونين لفقده ولكن هذه إرادة الله، ولا راد لإرادته، ونسأل الله لأهله وذويه وأصدقائه الصبر والسلوان فتلك حقيقة الحياة الدنيا، وندعو الله أن يسكنه في جنة الفردوس.(210/2)
سادسًا- كلمة الأسرة
للمهندس نبيل محمد عبد الغني حسن نجل الفقيد
... أتقدم بوافر الشكر وجزيل الامتنان للسيد الأستاذ الدكتور رئيس المجمع ، والأستاذ عبد السلام محمد هارون الذي نفذت كلماته إلى القلوب، وكذلك أدين بالشكر الجزيل للأساتذة الدكتور إبراهيم أدهم الدمرداش، والأستاذ حسن عبد الله القرشي والأستاذ علي هاشم رشيد الذين تفضلوا وعبروا عما يكنونه لوالدي رحمه الله ـ من حب وود وأخوة صادقة. وإن هذا الشعر الرصين الذي ألقوه في رثاء الفقيد سيظل صداه يرن فى مسامعي بما ينطوي عليه من كريم المشاعر، وصدق الأحاسيس التى كانت تربط
بينهم وبين والدي العزيز. كذلك أشكر جميع الذين تفضلوا بالحضور والمشاركة في هذا الحفل، احتفاء بذكرى رائد من رواد الفكر والأدب، رجل نحن أحوج ما نكون إلى علمه، وأدبه، وخلقه.
السيد الأستاذ رئيس المجمع
السادة أعضاء المجمع
أكرر شكري لكم جميعا على عظم تكريمكم للفقيد العزيز.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته….
نبيل محمد عبد الغني
نجل الفقيد(211/1)
- كلمة الأستاذ الدكتور شوقى ضيف
رئيس المجمع
فى حفل استقبال
ثلاثة أعضاء عاملين جدد من العرب
يحتفل المجمع اليوم باستقبال ثلاثة أعضاء عاملين جدد من الزملاء العرب ، وهم الأستاذ أحمد شفيق الخطيب من فلسطين، والدكتور محمد إحسان صالح النص من سورية، والدكتور محمد يوسف نجم من لبنان .
وهو تقليد حميد لمجمع اللغة العربية القاهرى تمسَّك به المجمع منذ إنشائه أن يكون بين أعضائه ممثلون للأقطار العربية يعملون مع زملائهم المصريين
على النهوض بالعربية بحيث يُهَيَّأ لها تعريب العلوم الغربية ، ووضع مصطلحاتها على أسس علمية دقيقة حتى يُكفل للأمة العربية تعريب العلوم الغربية فى جامعاتها ومدارسها العالية المختلفة . واليوم يشرفنى أن أستقبل للمجمع ثلاثة من أعضائه العرب الجدد، وأن أتحدث عنهم إلى حضراتكم حسب ترتيب الحروف الهجائية.(212/1)
1- كلمة الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
في حفل استقبال
الأستاذ أحمد شفيق الخطيب
أول هؤلاء الأعلام هجائيًّا الأستاذ أحمد شفيق الخطيب ، ولد في قرية القُبَيْبة بقضاء الرملة جنوبي يافا بفلسطين سنة 1926 .
ولما أتم تعلمه الابتدائي والإعدادي وبعض الثانوي في فلسطين بمدارس الحكومة الفلسطينية (حكومة الانتداب البريطاني) انتقل إلى بيروت واستكمل فيها تعلمه الثانوي، والتحق بالجامعة الأمريكية في العام الدراسي 1944/45 واضطر إلى الانقطاع عنها بعد نكبة فلسطين سنة 1948م.
وبدأ حياته العلمية مدرسًا للعلوم في كلية المقاصد الإسلامية ، ومنها انتقل إلى الكلية اللبنانية في سوق الغرب ، وأمضى بها أربع عشرة سنة مدرسًا لعلوم الفيزياء والكيمياء والأحياء والأخلاقيات، وكان في أثناء ذلك يتابع دروس الجامعة، ونال شهادة البكالوريوس سنة 1956م والماجستير
في الآداب سنة 1958م.
وفى عام 1964م بدأ العمل في قسم المعاجم الجديد بمكتبة لبنان، وتكاثرت أعماله العلمية فيه بين مؤلفات خاصة له ومشتركة وترجمات خاصة، وأذكر له فى نشاطه المعجمى:
1 – معجم المصطلحات العلمية والفنية والهندسية ( إنجليزي / عربي ) .
2 – معجم مصطلحات البترول والصناعة النفطية .
3 – الوسيط في مصطلحات العلوم (إنجليزى / إنجليزي عربي) (بالمشاركة) .
4 – القاموس الوسيط المصور (إنجليزى / إنجليزي عربي) (بالمشاركة) .
5 – المفيد . قاموس إنجليزي عربي (بالمشاركة ) .
6 – أعد اثني عشر معجمًا ( إنجليزي/
إنجليزي عربي) مصورة ومشروحة في علوم الفيزياء، والكيمياء، والأحياء والنبات، والحيوان، والجغرافيا، والفلك (الفضائيات)،والرياضيات، والحاسوب، والجيولوجيا والتغذية، والعلوم العامة، بالتعاون مع مؤلفين من مؤسستي لونجمان وباليري في لندن .
7 – وحول معجم الشهابي في مصطلحات العلوم الزراعية (فرنسي/ عربي) إلى قاموس (إنجليزي / عربي) من إصدار جامعة متشيجان في الولايات المتحدة .(213/1)
وترجم إلى العربية أعمالاً متعددة، منها :
1 – اليونسكو في تعليم العلوم سنة 1968 ، 1977 .
2 – التربية العلمية والتكنولوجية في التنمية الوطنية بتكليف من مركز اليونسكو في باريس والمركز الإقليمي للتربية فى الدول العربية 1988 .
3 – مصطلحات الطاقة: معجم عربي/
إنجليزي / فرنسي بتكليف من الأوبك 1988 .
4 – معجم الطاقة بتكليف من الأوبك سنة 1992 .
5 – مسيرة الإنجازات الحضارية في المملكة العربية السعودية 1990. وشارك في مؤتمرات مجمع اللغة العربية بالقاهرة من عام 1989 إلى اليوم، وألقى بها بحوثًا علمية قيمة .
وأسهم ببحوث ومقالات كثيرة في ندوات منذ سنة 1981 إلى 1997 في الرباط، وتونس، وعمان، وطرابلس لبنان، وفي مؤتمر التعريب الثامن والتاسع بمراكش، والعاشر بالقاهرة، وفي منهجية وضع المصطلحات العلمية بدمشق .
وأعمال الأستاذ أحمد شفيق الخطيب أشبه بموسوعية علمية كبيرة، وهي جديرة بكل تقدير، وأرحِّب به ويرحب المجمع بانضمامه إلى أعضائه زميلاً عاملاً مستحقًّا للتكريم والتقدير .(213/2)
- كلمة الأستاذ الدكتور شوقى ضيف
رئيس المجمع
فى حفل استقبال
عضوين عاملين جديدين من العرب
اليوم موعدنا مع استقبال علمين جديدين من الإخوة العرب لينضما إلى زملائهم الثلاثة الذين استقبلهم المجمع منذ خمسة أيام ليصبح عدد الأعضاء العرب الذين انضموا – في هذه الدورة- إلى الصرح خمسة أعضاء.
أما العضوان الجديدان فهما: الأستاذ الدكتور محمد محمد بنشريفة، والأستاذ الدكتور يوسف عز الدين أحمد.
والآن أبدأ في إلقاء كلمة في حفل استقبالهما:(214/1)
- كلمة الأستاذ الدكتور يوسف عز الدين
نيابة عنه وعن زميله المنتخب
بسم الله الرحمن الرحيم
بيني وبين الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع صلة قديمة جدًّا منذ تخرجي في كلية الآداب جامعة الإسكندرية، وسجلت معه الدكتوراه، فهو أستاذنا حقيقة ، ثم أُتيح لي أن أسافر إلى أوربا وأكملت دراستي هناك، فله فضل كبير مطوق في عنقي. وقد تفضل أستاذنا الدكتور شوقي ضيف بكتابة مقدمة عن كتابٍ كُتب
عني منذ سنتين، وهو لا يدخر جهدًا في مساعدتي في كل أمور الحياة.
ومن حسن الطالع أن أقامت السفارة المصرية حفلاً لتكريمي ، وهذا تكريم آخر لي اليوم بين زملائي المجمعيين أعتز به كل الاعتزاز، وأشكر جميع حضراتكم على ما أوليتموني به من ثقة أسأل الله تعالى أن أكون جديرًا بها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(215/1)
3- كلمة الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
في حفل استقبال
الأستاذ الدكتور محمد يوسف نجم
والعلم الثالث الذي أستقبله اليوم باسم المجمع هو الدكتور محمد يوسف نجم المولود فى المجدل بعسقلان سنة 1925م، وقد نشأ في بيروت بلبنان، وتعلم في مدارسها. ولما حصل على الشهادة الثانوية التحق بالجامعة الأمريكية فيها، وانتظم بين طلاب قسم اللغة العربية بها، ونال منها البكالوريوس في الآداب سنة 1946م، وبعد سنتين نال منها ماجستير آداب سنة 1948م، ورأى أن يكمل دراسته الأدبية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، ونال منها فى سنة 1951م درجة ماجستير في الآداب. واختار المسرحية في الأدب العربي الحديث موضوعًا للحصول على درجة الدكتوراه بإشرافي، ومضى يدرسها دراسة علمية تاريخية خصبة حتى ظفر بدرجة الدكتوراه سنة 1954م. وعاد إلى الجامعة الأمريكية وانتظم فيها مدرسًا لآداب اللغة العربية . وكان قد تركها سنة 1948م لالتحاقه بآداب جامعة القاهرة ، وعاد إليها بعد حصوله على درجة الدكتوراه سنة 1954م. إلى اليوم، ورقي فيها إلى درجة الأستاذية.. وأحيل إلى المعاش سنة 1998م فعينته الجامعة الأمريكية أستاذ شرف للأدب العربي بالجامعة إلى اليوم. وهو غزير التأليف في المسرح والقصص العربيين، والنقد الأدبي ومناهجه بالإضافة إلى ترجماته في النقد ومدارسه ومناهجه، وفي الحضارة الإسلامية، وتحقيقاته لأعمال ونصوص مسرحية، وإشرافه على طبع مجلات أدبية كثيرة.
من مؤلفاته في المسرح والقصص العربيين:
1– المسرحية في الأدب العربي الحديث (الجزء الأول طبعات متعددة).
2 – المسرحية فى الأدب العربي الحديث (الجزء الثاني) .
3 – المسرح الغنائي في مصر (طبع بيروت).
4 – القصة في الأدب العربى الحديث (1870-1915) - طبع القاهرة سنة (1950- 1952) .
5 – فن القصة - طبع بيروت 1955.
وله في الشعر العربى الحديث :(216/1)
1 – الشعر العربي في المهجر (بالاشتراك مع الدكتور إحسان عباس) وله كتب متفرقة في الأدب والنقد، منها:
1 – المقالة - طبع بيروت .
2 – نظرية النقد والفنون والمذاهب الأدبية .
وله كتب مترجمة في الأدب والنقد:
1 – مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق لدافيد ديتشيس .
2 – النقد الأدبي ومدارسه الحديثة لسبتانلي هايمن (بالاشتراك مع د. إحسان عباس) .
3 – دراسات في الحضارة الإسلامية
لهاملتون ( بالاشتراك مع د. إحسان عباس ومحمود زايد ) .
وله نصوص مسرحية محققة:
1 – مسرحيات مارون نقاش - طبع بيروت 1961م .
2 – مسرحيات أحمد أبي خليل القباني- طبع بيروت 1962م.
3 – مسرحيات يعقوب صنوع- طبع بيروت 1963م.
4 – مسرحيات محمد عثمان جلال- طبع بيروت 1964م.
5 – مسرحيات سليم النقاش- طبع بيروت 1964م.
6 – مسرحيات نجيب حداد- طبع بيروت 1966م.
7 – مسرحيات الشيخ إبرهيم الأحدب- طبع بيروت 1985م.
وجعله اهتمامه بتاريخ المسرح والقصص العربي يهتم بالمجلات الثقافية التي صدرت بمصر فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فأعاد طبعها، ونذكر منها :
مجلة البيان لإبراهيم اليازجى وبشارة زلزل ، ومجلة الضياء لليازجى وصحيفة "أبو نظارة" (يعقوب صنوع) في عشرة مجلدات ، ومجلة الجامعة لفرح أنطون في سبعة مجلدات. وأضاف إليها مجلة أبوللو في ستة مجلدات، ومجلة الرسالة في أربعين مجلدًا .
وللدكتور محمد يوسف نجم مسح ثقافي مطبوع لكل من قطر والبحرين والكويت، وطبيعي أن ينال الدكتور محمد يوسف نجم لنشاطه الأدبي والثقافي جوائز من جامعة الدول العربية في سنتي 1955م – 1957م
وجائزة مؤسسة التقدم العلمي بالكويت وجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي سنة 1992م .(216/2)
وهو عضو اللجنة الدائمة للمسرح العربي بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وعضو المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بعمان، وعضو المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، وعضو مجمع اللغة العربية بدمشق، وعضو مجلس الأمناء وأمين السر لمؤسسة التعاون. وأنا باسم المجمع وأعضائه أرحب به زميلاً عاملاً مستحقًّا للتكريم والتقدير .(216/3)
- مرثية أخرى في تأبين الفقيد
للأستاذ مصطفى حجازي
عضو المجمع
السيد الرئيس- السادة الأعضاء الأجلاء: أيها الحفل الكريم..
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. وبعد: فحينما علمت بوفاة الصديق العزيز المرحوم إبراهيم الترزي ولم أكن أعلم بمرضه الذي لم يمهله، صدمتني المفاجأة، فأذهلتني، حتى صرت- وأنا أشارك في تشييع جنازتهِ أسير في ذهول، وأكاد لا أصدق ما أراه بعيني واقعًا حزينًا، وعدت بعد تشييعه إلى مثواه الأخير كئيبًا كاسف البال.
وفى مساء ذلك اليوم الحزين حاولت أن أبكى:
لعل انحدار الدمع يعقب راحة ... ... من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل
كما يقول ذو الرمة، فلم أستطع البكاء، فقد جمد الدمع في عيني، فتمنيت أن أقول شيئا في رثائه يخفف عن النفس الحزينة لوعتها، أو يفرج عن القلب كربته، فإذا بي- وأنا بين الذهول والوعي- يبدهني هذا المطلع:
نعاه لك الناعي فما أنت قائلُ ... ... ومن ذا يجيدُ القولَ والعقلُ ذاهلُ
أخي، وصديقي فَرَّقَ الموتُ بيننا ...
وما لامرئٍ مما قضى الله حائلُ..
وحاولت أن أسترسل فاستعصى علَّىّ القول مرارًا، فعرفت أنني قد أصفيت- أو أكديت- كما يقول الشعراء، وكأنما شِحنة حزني قد أفرغت دفقة شعورى كلَّها في هذين البيتين.
وحين حدّد المجلس الموقر جلسة التأبين، عاودتني الرغبة في أن أقول شيئًا لا أعدُّه قصيدة أو رثاء، وإنما هي دمعة على صديق.
قَدَر الموت رائحٌ أو غادِي ...
... دائبًا دائمًا ليومِ التنادِ ...
أَيُّها الخالدونَ! لا خُلْدَ إلا
... ... لإلهِ الوجودِ ربِّ العبادِ
خَلَقَ الموتَ والحياةَ جميعًا ...
... وابتلانا بفُرقةِ الأندادِ
قالَها الشاعرُ المَعَرِّي فصارتْ ... ... ... من تُراثِ الآباءِ والأجدادِ
"خُلقَ الناسُ للبقاءِ فضَلَّتْ ...
أمةٌ يَحْسَبُونَهُم للنَّفادِ
إنَّما يُنْقَلُونَ مِنْ دارِ أَعْـ ... ... ... مالٍ إلى دارِ شِقْوةٍ أو رشادِ(217/1)
واللبَّيبُ اللَّبيبُ من ليس يَغتـ ... ... رُّ بكون مصيرُه للفسادِ"
يا "أَبا أَشْرَفَ" الكريَمَ سلامًا ... ... كنتَ نِعْمَ الصديقُ صافِى الودادِ
قد صَحِبناكَ أَرْبعينَ رَبيعًا ... ... وَبَلوناكَ في السِّنينِ الشَدادِ
فَحَمِدْناكَ عالِمًا وأَدِيبًا ... ... وأَمِينًا على عَرِينِ الضادِ
عِشْتَ فينا تفيضُ بِشْرًا وحُبًّا ... ... ساعيًا للرِّضا وحسنِ السَّدادِ
وحَفِيظًا على العُهودِ صَدُوقًا ...
ما عَرَفناكَ حاقِدًا أو مُعادِ
طِبْتَ نَفْسًا، وطاب ذِكْرُك فينا ... ... عاطِرًا باقيًا مَدَى الآبادِ
أيُّها الراحلُ العزيزُ وَداعًا ... ... وسَقَى قبرَكَ العهادُ الغَوادي
وسلامٌ عليك حَيًّا ومَيْتًا ... ... ... وعَلَى العهدِ نلتقي في المَعادِ(217/2)
* كلمة في افتتاح المؤتمر
للأستاذ الدكتور مفيد شهاب
وزير التعليم العالي والدولة للبحث العلمي
الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية ورئيس اتحاد المجامع العربية :
الأعضاء الموقرون، من المصريين والعرب والمستعربين:
الضيوف الكرام:
السيدات والسادة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
... يسعدنى غاية السعادة أن أكون بينكم اليوم ، في حفل افتتاح المؤتمر السابع والستين لمجمع اللغة العربية، والذي يشعل في كل عام شمعة تضيء جوانب الحياة العلمية والثقافية، وتلتقي فيه صَفْوَةٌ مختارة من أبرز علماء اللغة العربية في مصر، والأقطار العربية، ومن دارسي وعشاق لغة الضاد في سائر بلاد العالم .. لقاء العلماء الذي تزدهر فيه المودة والحب ، وتبرز فيه المشورة والرأي ، وتعرض فيه ثمار العقول ، ونتائج الأفكار .
... إن مجمعكم الموقر كان ولا يزال هو درع العربية الصامد ، وقلعتها الحصينة ، ومنارتها العالية . وهو ينهض بمسؤوليته الكبرى في الدفاع عن اللغة العربية ، لغة القرآن الكريم ، والسنة النبوية المطهرة ، ولغة التراث العربي والإسلامي ، ولغة ما يزيد على مئتي مليون عربي يعيشون بين الخليج والمحيط ، متطلعين للنهضة، مصممين على التقدم ، عاقدين العزم على أن يثبتوا مكانتهم من جديد في عالم اليوم .
السادة الأعلام:
رئيس وأعضاء المجمع الموقر:
... لاشك أن اللغة العربية الفصحى تعاني من بعض المشكلات في الوقت الحاضر، وهي مشكلات ترجع إلى عوامل سابقة ، وعوامل حديثة ، لكنها في كل الأحوال مشكلات قابلة للحل ، بفضل ما يلقى عليها من أضواء مجمعكم الموقر ، النابعة من بحوثكم القيمة، ومناقشاتكم الثرية ، وقراراتكم وتوصياتكم الحكيمة .(218/1)
... وعلينا دائمًا أن نكون من المتفائلين بمستقبل اللغة العربية، بناء على مقارنتها بحالها في القرن التاسع عشر وما قبله ، حيث كانت قد وصلت إلى أدنى مستوياتها في الأساليب والمصطلحات ، وخلت أو كادت من الإبداع في التوليد والاشتقاق ، وثقلت بالأصباغ البلاغية التى ظن أصحابها أنهم بها قد يعيدون إليها الشباب ، ولكنها منذ مطلع القرن العشرين، والبداية الحقيقية لنهضة الشعوب العربية ، والانتشار الواسع للتعليم العام والجامعي، وشيوع وسائل الإعلام وفي مقدمتها الصحافة استطاعت اللغة العربية أن تخرج من حالة المرض والضعف إلى حالة الصحة والعافية، وأن يتم بفضلها التواصل بين أرجاء الوطن العربى ، بل تجاوزت ذلك إلى الجامعات ومراكز البحوث في جميع الدول المتقدمة ، وأصبحت إحدى اللغات المعترف بها أي المترجم منها وإليها في هيئة الأمم المتحدة وجميع المنظمات المنبثقة عنها .
... ومن الجدير بالاعتبار ، أن القرن العشرين الميلادي ، قد شهد نبوغ عدد من كتاب اللغة العربية فى سائر المجالات العلمية والأدبية ، كان لهم أثرهم البالغ في تطوير اللغة العربية ، كما أصبح لهم قراء ومعجبون في سائر البلدان العربية ، من أمثال الزيات ، والرافعي، وشوقي، وحافظ ، والعقاد ، وطه حسين ، وأحمد أمين ، وزكي نجيب محمود. وتلك مجرد نماذج فقط من مصر وحدها ، فما بالنا بأمثالهم من كبار الكتاب في السعودية والخليج، والشام، والعراق ، والسودان ، ودول الشمال الأفريقي ؟
... أما عن العوامل الحديثة ، التي تقف وراء مشكلات اللغة العربية ، فيرجع أهمها إلى مزاحمة بعض اللغات الأجنبية من ناحية ، وتغلب اللهجة العامية على الفصحى من ناحية أخرى.(218/2)
وإذا كانت اللغات الأجنبية تعد ضرورة للإنسان العربي في العصر الحاضر، فلابد أن يتقن قبلها لغته العربية إتقانا كاملاً. وأما بالنسبة للهجة العامية فسوف تظل كما كانت دائمًا لغة الحديث والمشافهة ، لغة الحياة اليومية الجارية، وتظل للفصحى مجالاتها العلمية والأدبية ، ومستوياتها الفكرية والثقافية .
السادة الأعلام:
رئيس وأعضاء مجمع اللغة العربية:
... لعلنا نذكر جميعًا القصيدة الحزينة التي نعى بها الشاعر الكبير حافظ إبراهيم اللغة العربية ، بل لقد جعلها هي التي تكتب شهادة وفاتها بنفسها - كان ذلك فى النصف الأول من القرن العشرين ، لكننا الآن ، وبعد أكثر من خمسين سنة نشهد عودة الحياة والحركة في اللغة العربية ، ونجد أنها مازالت قادرة على الصمود والمناولة ، بل إنها مؤهلة للتقدم والسبق . فقد نشر أهلها عددًا كبيرًا من روائع التراث العربي والإسلامي، وترجم أبناؤها العديد من المؤلفات الأجنبية ، وقد عادت فأصبحت هي اللغة الرسمية في جميع البلاد العربية ، ولغة التعليم الأولى فى المدارس والجامعات . وإذا كان الغيورون منا يشكون من ضعفها على ألسنة النشء ، فلذلك أسباب أصبحت واضحة للجميع ، وعلينا أن نتكاتف معًا لكي نقضي على هذه الأسباب، حتى نتيح لتلك اللغة الرائعة أن تجري على الأقلام والألسنة ، في سهولة ويسر ، مبتعدين بها عن الرطانة الأجنبية، والابتذال العامي …
... وإذا كان لنا أن نعترف بالحقيقة، فلا بد من القول بأن تعلم اللغة يأتي من المحاكاة أكثر مما يأتي من معرفة القواعد ، وأن إجادة اللغة ترجع إلى التعامل المستمر مع النماذج الجيدة المكتوبة بها . لذلك فإننا مطالبون بأن نأخذ بأيدي أبنائنا إلى النماذج ، أو أن نقدمها إليهم سهلة ، بسيطة ، دون غموض أو تعقيد.(218/3)
... وسوف يظل صحيحًا القول بأن اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة، وأن العلاقة بينهما علاقة عضوية : يرتفعان معًا، ويهبط أحدهما حين يهبط الآخر ، لذلك فإن كلاًّ من الازدهار الفكري ، والتقدم العلمي ، سوف يدفع اللغة إلى مزيد من الارتقاء والرفعة.
... ودعونى أصارحكم القول، بأنني أشعر بالسعادة البالغة ، حين أجد أبناء الجيل الجديد يقبلون على الأخذ بالتقنيات العلمية الحديثة ، فيستخدمون الحاسب الآلي ، ويتعاملون بمهارة فائقة مع شبكة الإنترنت ، فمن المؤكد أن هذا التوجه العلمي سوف ينعكس على فكرهم ، وبالتالى سيكون له مردوده الإيجابي على استخدامهم للغة، بحيث تكون أكثر دقة ووضوحًا ، وأفصح تعبيرًا وبيانًا .
... لقد تزايد في الفترة الحالية اهتمام المجتمع باللغة العربية ، وأصبح يطالبنا بالمزيد من العناية بها ، وتسهيل مناهج تعليمها ، والكشف عن عوامل إتقانها، وهنا تقع على مجمعكم الموقر مسؤولية مضاعفة ، فمن ناحية أنتم الذين تبحثون وتتعمقون في جذور اللغة، وتطوراتها ، ووضع المصطلحات المناسبة للمعاني الجديدة فيها ، وتصنيف المعاجم اللغوية التي تسعف أبناءها والناطقين بها ، ومن ناحية أخرى ، أنتم الذين تتحملون دراسة تبسيط اللغة للجيل الجديد ، وتقديمها في أبهى صورة ، وأكثرها جاذبية وتشويقًا .. وهكذا فإن المجتمع يضع بين أيديكم، مسؤولية النهوض باللغة العربية . ولا شك أنكم جديرون بتحملها ، وأداء ما يجب، وما يمكن، وتقديم الأهم على المهم .. ولتكونوا على ثقة من أن مجمعكم الموقر يحظى من الدولة والمجتمع بكل التقدير والإعزاز ، ويعترف له الجميع بالامتنان والعرفان .. فأنتم العاملون في صمت ، المخلصون في تجرد ، الواهبون خبراتهم وتجاربهم لخدمة اللغة ، وتحقيق الازدهار لها . ومن المؤكد أنه كما قال الشاعر العربي القديم :
" لا يذهب العرف بين الله والناس "
السادة الأعلام،
رئيس وأعضاء المجمع اللغوي،(218/4)
... لقد أحسنتم صنعًا عندما اخترتم لمؤتمركم الحالي وهو السابع والستون فى عمر المجمع المبارك ، موضوعًا عصريًّا يتمثل في بحث أوضاع اللغة العربية في وسائل الإعلام . وهو موضوع جدير بكل الاهتمام ، لأن الإعلام في العصر الحالي قد أصبح له دوره المؤثر والفعال في حياة المجتمعات، ولم تعد تقف في وجهه عقبة، أو تمنعه حدود، بل إنه أصبح يجوب الأرض، ويعبر السماوات المفتوحة، ناقلاً الأحداث إلى كل مكان، وفي أي موقع . ومن هنا استحق العصر الذي نعيش فيه أن يسمى عصر الإعلام . لذلك فإن بحث إمكانيات اللغة العربية فيه لا يعتبر بحثًا في التمكين لها على المستوى المحلي فحسب، وإنما على المستوى العالمي كذلك .
... وإنني على ثقة من أنكم سوف تخرجون من هذا الموضوع الحيوي في مؤتمركم الحالي، وكما تعودنا منكم في مؤتمراتكم السابقة، بأطيب النتائج .
... تحية خاصة لرئيس المجمع ولأعضائه الموقرين ، وشكرًا لجميع القائمين على إعداد هذا المؤتمر ، وكل التقدير لما بذلوه من جهد في التحضير له وإعداده، وأصدق الترحيب بالعلماء الذين وفدوا من الأقطار العربية الشقيقة والبلاد الصديقة إلى القاهرة، التي تتشرف بحضورهم، وتعتز بمشاركاتهم.
وفقكم الله وسدد على طريق الحق والخير والعلم خطاكم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مفيد شهاب
وزير التعليم العالي
والدولة للبحث العلمي(218/5)
– كلمة الأسرة
للأستاذ أمين إبراهيم الترزي
نجل الفقيد
السادة الحضور الكرام: أبدأ بالشكر لكل من عمل على هذا الجمع في تلك المناسبة التي يعز عليّ وصفها، وأخص بالشكر السيد الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع، والأستاذ فاروق شوشة، والدكتور محمد يوسف حسن، والأستاذ مصطفى حجازى.
عندما علمت بأمر هذه الكلمة التي ألقيها الآن عن والدي الراحل إبراهيم الترزي أُسقط في يدي. فكيف لي أن أكتب وسط هذه الكوكبة العظيمة من علماء اللغة والكتابة والخطابة.
فأنَّى لي أن أطاول هذه الهامات العالية. ولكن ما أن شرعت في الكتابة حتى اطمأننت قليلاً.. وذلك أن الكتابة عن إبراهيم الترزي أضافت لي قدرًا أكبر من قدري الحقيقي..
كأنما ارتقيت فوق ظهرها وحملتني روحه الطاهرة فإذا بقامتى المتواضعة ترتفع رغمًا عني وليس بفضل منى. أما عن والدي إبراهيم الترزي فتتسابق عند القلم صفاته وشمائله وما أكثرها! كل صفة تريد أن أبدأ بها.
فإن تحدثت عن إبراهيم الترزي الأب فلن أوفَّية حقه.. ذلك الأب الذي ضحى بالكثير من العروض التي لا تقاوم للعمل في الخارج وقد نحا بها جانبًا من أجل البقاء بجوار والدته وزوجه وأولاده.. قد لا يعلم الكثير أن بعض هذه العروض كانت خيالية لا يرفضها الإنسان العادي.. ومن قال إن إبراهيم الترزي كان رجلاً عاديا.. كنت أراقبه منذ صغري عند تعامله مع الآخرين، وكيف كان مستوعبًا لكل الأنماط البشرية كُل حَسْبَ قدراته الفكرية هاشًّا باشًّا للجميع تجلس إليه ويتحدث إليك فيستولي على عقلك وقلبك ولا أقول يتسلل حبه إليك ولكن يتدفق ويستقر في وجدانك.. كنت أرى في عيون جلاسه ومتحدثيه إعجابًا بقوة بيانه وحلو حديثه.. يجعلك تشعر كأنك الأقرب إلى قلبه دون غيرك حتى إن الكثير من الناس كان يردد لى عبارة: أنت لا تعرف العلاقة الخاصة التي تربطني بوالدِك.(219/1)
وهذا يقودنا إلى صفة أخرى راقبتها فيه منذ وعى عقلي وإدراكي وهي حكمته وسعة أفقه التي عرفت عنه منذ صغري.. فكم من طالب مشورة أو نصح هرول إليه مسرعًا عند كل طارئ حتى وإن كان أكبر من والدي عمرًا.
كانت والدتنا تعد لنا الطعام والشراب.. أما هو فكان طعامه لنا القدوة الحسنة في كل مناحي الحياة.. تعلمنا منه الكثير وأكلنا وشربنا على مائدته يومًا بعد يوم.
كانت حياته نفسُها غيرَ عادية.. يتخذ من غرفة نومه مكتبًا ومعتكفًا ومكمن إلهام لا يقرأ ولا يكتب إلا في غرفة نومه.. فتتوالد الأفكار على فراش العبقرية.. بينما الوالدة الكريمة تسهر على راحته وتلبي احتياجاته صغيرها قبل كبيرها في أريحية وسعادة.
كان برغم قوته وصلابته فى الحق رقيق القلب لم أعهد منه ظلمًا ولا أذى لأحد، حتى أنه إذا مرض أحد أحبائه أو أصفيائه لا يقوى على زيارته أو رؤيته وهو يتألم.. وإذا باغتت عينيه صورة دامية أشاح بوجهه بعيدًا وقد غشيت وجهه ملامح التأثر والانزعاج.
وعن ريفيته الأصلية فحدث ولا حرج ما زالت حتى وفاته تجري في عروقه الدماء العامرية نسبة إلى قرية بنى عامر مسقط رأسه. استمد منها الأصالة والعراقة والتواضع وتوقير الكبير مهما قل قدره حريصًا على تعاليم دينه وتحكيم شريعته مهما كانت العواقب لا يخاف في الله لومه لائم.
ولكن أبرز صفاته كانت كرمه الزائد فهي الصبغة التي اصطبغت بها حياته كلها فسخاؤه لم يكن فقط سخاء اليد ولكن كان سخيًّا فى علمه سخيًّا في أخلاقه ومعاملته الحسنة للناس سخيًّا فى فكره وثقافته سخيًّا في اهتمامه بعمله حتى أنه كان سخيًّا في وسامته واهتمامه بأناقته يرتدي هذا ويخلع ذاك ولكن يظل ثوبه المفضل الذي لا يخلعه أبدًا هو الكرم. كرم يرويه ويحكيه ويشهد عليه كل ركن من أركان منزله العامر دائمًا بالزوار من قريب أو صديق.. لقد عم كرمه وجوده الأرجاء حتى صار إبراهيم الترزي بكرمه هذا(219/2)
من الحاتميِّ محسودًا. كالنسمة الخفيفة عاش وكالنسمة الخفيفة رحل في هدوء.
قبل وفاته بأيام قليلة سأله سائل: كل
الناس ترى جانبي الخير والشر في
البشر وأنت لماذا لا ترى إلا جانب الخير في الناس فقط؟ فأجاب قائلاً بالحرف الواحد: لا، بل إني أقتحم جانب الخير في الناس.. رحمه الله أبًا ومعلمًا وقدوة، وكما قيل: ترك لنا نحن أسرته ميراثًا أغلى من كنوز الأرض.. ميراث العلم والشرف والسيرة العطرة.
وختامًا أشكر لكم جميعًا هذا المشهد العظيم وجزاكم الله كل خير وعوضنا وإياكم عنه كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أمين إبراهيم الترزي
نجل الفقيد(219/3)
2- كلمة الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
في حفل استقبال
الأستاذ الدكتور محمد إحسان صالح النص
ثاني الأعلام الذين أستقبلهم باسم المجمع الدكتور محمد إحسان صالح النص، ولد بدمشق سنة 1919م، وتعلم في مدارسها حتى نال الشهادة الثانوية سنة 1940م، وفي أثناء دراسته الثانوية كان ينشر مقالات في المجلات الطلابية، ونشرت له المجلات الأدبية الكبرى حينئذ بعض مقالاته الأدبية مبشرةً له بمستقبل واعد. وأرسلته حكومة سورية في بعثة إلى قسم اللغة العربية بآداب جامعة القاهرة، ولفت أساتذته فيه بذكائه وقدرته وجده في الدراسة ونال منه الليسانس بدرجة ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى. وعاد إلى دمشق فعين بالتعليم الثانوي، وظل به عشر سنوات إلى أن أوفد في بعثة إلى قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة سنة 1956م ونال منه في سنة 1959م درجة الماجستير بتقدير ممتاز ثم درجة الدكتوراه سنة 1962م بتقدير ممتاز، وكنت المشرف عليه في الرسالتين. ورجع إلى دمشق فعين ناظرًا لإحدى المدارس الثانوية ، وسرعان ما نقل مدرسًا بقسم اللغة العربية ، وبعد بضع سنوات أعير إلى جامعة الجزائر وظل بها ست سنوات يفيد فوائد كبيرة في تعريب التعليم بها، وكتب حينئذ طائفة من المقالات في المجلات الجزائرية .
وعاد إلى قسمه بجامعة دمشق سنة 1971م، وبعد سنتين رقي فيه إلى درجة الأستاذية، وأخذ ينكب على التأليف، وعيِّن عميدًا للكلية سنة 1978م، ولم يلبث أن أعير إلى جامعة الكويت سنة 1979م وظل بها عشر سنوات،وانتخب وهو فيها عضوًا عاملاً بمجمع اللغة العربية بدمشق، واستقبل فيه بعد عودته من الكويت سنة 1989م، وفي سنة 1993م انتخبه زملاؤه من أعضاء المجمع نائبًا لرئيسه إلى اليوم. وفي العام التالي اختاره مجمعكم عضوًا مراسلاً فيه،حتى إذا كان العام الماضي اختاره عضوًا عاملاً.
أهم مؤلفاته :
1 – الخطابة في العصر الأموي، وهي رسالة الماجستير طبعت مرتين في دار المعارف بالقاهرة .(220/1)
2 – العصبية القبلية وأثرها في الشعر الأموي، وهي رسالة الدكتوراه نشرتها دار اليقظة بدمشق، ثم أعادت نشرها دار الفكر .
3– حسان بن ثابت : حياته وتحليل شعره .
نشرته دار الفكر بدمشق مرارًا .
4 – زهير بن أبي سلمى: حياته ودراسة شعره.
نشرته دار الفكر بدمشق وأعيد طبعه مرتين .
5– الشعر السياسي في العصر الأموي طبعته دار الفكر لطلاب قسم اللغة العربية .
6 – الشعر الغزلي في العصر الأموي مثل سابقه طبعته دار الفكر للطلاب
بجامعة دمشق .
7 – اختيارات من كتاب الأغاني في ستة أجزاء .
نشرتْها فى بيروت مؤسسةُ الرسالة ، وطبعت مرارًا .
8 – قبيلة إياد : من العصر الجاهلي إلى نهاية العصر الأموي.
دراسة مفصلة تناولت الجوانب الجغرافية والتاريخية والأدبية لقبيلة إياد نشرت في حوليات كلية الآداب بجامعة الكويت .
المقالات والبحوث :
وهى أكثر من أن تُعَدّ وتحصى، ومن أهمها :
1– الوتر الحزين فى شعر نازك الملائكة .
نشر في الكتاب التذكاري الذي أصدرته جامعة الكويت عن نازك بمناسبة اعتزالها العمل في الجامعة سنة 1985م .
2– نموذج في تحقيق المرويات: تحية للأستاذ محمود شاكر في كتابه التذكاري.
3 – سلسلة من البحوث تناولت كتب الأنساب العربية . نشرت في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق في أحد عشر عددًا منذ سنة 1989م .
وواضح أن الدكتور محمد إحسان صالح النص يبذل جهودًا خصبة في دراسة النثر العربي
وخطبائه ودراسة الشعر وشعرائه الجاهليين، وبالمثل في الشعر الأموي واتجاهاته السياسية والغزلية، وأنا باسم مجمع اللغة العربية في القاهرة أرحب به زميلاً عاملاً غزير العلم بالأدب العربي ولغته ونصوصه مستحقًّا للتكريم والتقدير.(220/2)
- كلمة الأستاذ أحمد شفيق الخطيب
نيابة عن الأعضاء الجدد المحتفى بهم
بسم الله العليم الخبير
السيد الموقر أستاذُنا وشيخُنا
( يجوز أستاذَنا وشيخَنا )
الضمُّ والفتح جائزان ، وهذا
من سحِر اللغة العربية وجمالها
أُستاذَنا وشيخنا الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع،
سادتي الأجِلاء أعضاء المجمع،
أيُّها السيِّداتُ والسادة :
أظُنُّ أَنِّى لو سَبَرتُ أفكارَ ونَفْسِيّاتِ الزمُّلاءِ الذين يُستَقْبلون اليوم كأعضاءٍ جُدُدٍ بالمجمع، والذين يُشَرِّفُنى أن أتكلَّمَ بلِسانهم لقُلتُ :
شُكْرًا من صميم القَلْب لكُم يا أهلَ المَجمع، على الثقة الغالية التي تمنحوننا إيّاها، والتقديرِ المحمودِ الذي تُسبِغُونَه علَينا وأنتُمْ تُكَرِّسوننا بِراحةِ سيفِكم الأشرف أعضاءً عاملين، فُرسانًا، بَل خَدَمًا مُجَنَّدين، فى رِحابِ هذا المجمع الرائِد فى سبُل رفعِ شأنِ اللغة العربية.
سُئلتُ مِرارًا من قِبَلِ الذين يَعرفون
عَلاقتي بمجمع اللغة العربية (في القاهرة):
لماذا يُكتَبُ إلى جانب بعض الأسماء فُلان – عضو المجمع أو ، مع شىءٍ من التطويل، فلان – عضو مجمع اللغة العربية.
ولا يُقال فلان – عضو مجمع اللغة العربية المصري أو القاهري؟.
قياسًا على فلان – عضو مجمع اللغة العربية الفلسطيني.
أو - فلان عضو مجمع اللغة العربية الأردني.
أو - فلان عضو مجمع اللغة العربية السوداني ... إلخ .
وكنت حين يَسمْحُ لي الوقت، وأتأكَّدُ من جدِّيةِ السائل أُجيب :
تذكُرون أن كليةَ الطب في "أبو زعبل" أواسط القرن التاسع عشر كانت تُدَرِّسُ الطِّب وسائر العلوم الأُخرى كالفيزياء والكيمياء والأحياء باللغةِ العربية، وفى رِحابها نشأ أعظمُ أساتذة هذه العلوم ونقَلتِها، وفي مُختبراتها نجحَ الطبيبُ الألماني تُيودور بلْهارتس وتلاميذُه في اكِتشاف جُرثومة البلهارسيا .(221/1)
ورافق ذلك قيام عُصبةٍ من أهل العلم والأدب والغيورين على العربية ومُستقبلها بتأسيس نادي دار العلوم – الذي كان مُقدِّمةً لإنشاء مجمع اللغة العربية في القاهرة .
في بيان رئيس النادي، يقول الرئيس محمد حفني ناصف: إنّ غَرضَ النادي هو التوسُّعُ فى أقيسَةِ اللغة العربية والعملُ على نَقل العلوم والفنُون الغربية إليها – مع المحافظة على سلامة اللغة العربية ، والبحث فيها عن أسماءٍ للمُسَمَّيات الحديثة - ترجمةً أو مَجازًا أو تضمينًا أو تركيبًا مَزجيًّا، أو عند الاقتضاء، استعارة اللفظ الأجنبي وصقله ووضعه على مناهج العربية واستخدامه في الفُصحى – بعد أن يَعتمدَه المجمعُ اللغوي الذي سَيؤلَّفُ لهذا الغرض .
وطالَ المَخاضُ سَبْعةَ عُقودٍ على ذلك التأليف ، لأن الهدفَ كان أكبرَ من إمكاناتِ النوادي .
لقَد أُريد بالمجمع مُنذ نَشأته، عام 1934م، أن يكون عالميًّا- فبدأ بعِشرين عُضوًا – عشرة من المِصريين وخمسة من الدُّول العربيَّة – التي ما حَلُم أحدٌ حِينئذٍ أنّها ستُصبحُ اثنَتَين وعشرين - وخمسة من المسُتَشْرقين في الجامعات الأوربية. وكانوا، عشرينيتُهم ، من الأعلام، في اللغة والعلم والفكر .
وعلى مَرِّ السِّنين تنافى المجمَعُ عَدديًّا ، أعضاءً عاملينَ ومُراسِلينَ لكنَّ أهدافَه لم تتغَيَّرْ ، وسِياستَه نحو اللغةِ لم تتغَيَّر ، والمواصَفاتُ المُفترض توافرها في رجالاتِه لم تتغيَّرْ .
واستعراضُ أسماءِ هؤلاء الأعضاءِ على مَدى العُقود السَّبعةِ السالِفةِ أَبْلَغُ شاهدٍ على ذلك !
والأعضاءُ الخمسة الذين يُشَرِّفني
أن أتكلَّم بلسانِهم هم عيِّنة أكاديميَّة طيِّبة من أصحاب هذه المواصفات قضى كل منهم ردحًا طويلاً من عمره في خدمة العربيَّة داخلَ المجمع أو خارجَه أو داخِلَ المَجمع وخارجَه .(221/2)
ولا نَنْسى أن من مظاهر العالمية في المجمع (مجمع اللغة العربيَّة) أنه يَضُم نُخَبةً (أو بعض النُخبة) من جميع مَجامع اللغة العربية .
لذا استحق التسمية "المطلقة بلا وصف ولا إضافة"، فيقال:
المَجمع، ويُقال في تعريف العضو "عُضو المجمع" .
أيها السيدات والسادة :
إن ما حَقَّقه المجمع خلال سَبعة العُقود هذه قد لا يكون كلَّ الغاية المنشودة، ولكنَّه لا يُمكِنُ أن يُوصَفَ بأقَلَّ من أنَّه مَفْخَرة !
لقد كان هذا المَجمع لنا- ، قُدامَى وجُدُدًا- كما للآلاف من العُلماءِ والمُتعَلِّمين والمرُبِّين والمُثقفين والمُترجمين، مَدرسةً ومرجعًا، أفدنا وأفادوا فيهما من آلاف المصطلحات في شتّى المجالات العلمية والحضارية – كما أفدنا من عشَرات القَرارات الميُسِّرةِ فى نَحو اللغة وقَواعدها – ممّا عمَّق ثِقَتَنا وإيمانَنا بمِسُتَقْبل العربيةِ لُغةً للعلم وللبَحْث العِلمي وللإبداع العلمي.
لُغةً نُواكِبُ لها – بَلْ تواكِبُ بنا – مَسيرةَ الركبِ الحضارىِّ المتُسارِع لحاقًا ومُجاراةً ومشاركة .
السَّادةُ الأكارم:
الهيئة الناخبة في المجمع: الشّرفُ الذي تُسبِغونَه علينا، نُتَرجمُه نحن الأعضاءَ العاملين مسؤولية وتَبعاتٍ ورسالةً .
نأمُل أنّا رُغمَ ما يُثْقِل كَواهِلَنا، كما هو طبعًا يُثقِلُ كواهلَكم ، من هُموم أهلِنا في الوطنِ السَّليب وأُمَّتِنا في الوطن العربي الكبير، نأمُل أنا رُغم ذلك نستطيعُ إنجازَ ما يُرضي تَوْقَنا لِخدمة هذه اللغة التي رضِعنا مَحبَّتَها صغارًا وشُغِفْنا بعشقِها كبارًا.
إليكُم هذه السُّباعيةَ التى تعود بي إلى مَرحلة الدراسةِ الثانوية أيامَ كان أستاذنا الأزهريُّ يفرضُ علينا من حينٍ لآخر مَواضِعَ الإنشاء شعرًا والتي آمل أنِّي لا أزعج بها الزملاء من الشعراء.
هذه السباعية أقولها ختامًا باعتبارها تعبيرًا عن مشاعر كل زميل من الأعضاء الجدد :
أقول :
حُماةَ الضادِ أُزجيكُم تَحِيَّةْ(221/3)
شَغافُ القَلبِ تَنْسجُها بَهيَّة
شَرُفتُ مُراسِلاً من قَبْلِ عَقدٍ
وأشرُفُ عامِلاً بُخطًى رويَّة
قبَسْتُ مَعارفى شَبًّا وكَهلاً
عَنِ الأمجادِ في مِصرَ الأبيَّة
حُماةَ الضادِ أعجزتُم لسانى
فعَلِّى بالقَريضِ أرى تَقِيَّة
فمُعتَقلُ اللِّسانِ هَياب أَمرٍ
تَحُلُّ عِقالَه ، بقُوًى خَفِيَّة
رَحابَةُ صَدرِكم ، وكريمُ قَولٍ
ولُقياكُم وبَسْماتٌ رضِيّة
سألتُ اللهَ يحفَظُكم ويُبْقي
حِياضَ الضادِ بالفُصحى عَليّة
شُكرًا لكم
أحمد شفيق الخطيب
عضو المجمع من فلسطين(221/4)
صراع اللُّغات في وسائل الإعلام *
للأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي
لم يكن يدور بخَلَدي طَوال العقود الماضية على إنشاء هذه المؤسسة الخالدة ، أن تأتي أيام يُخَصِّص فيها المجمع موضوعه بالكامل للغة العربية في وسائل الإعلام…
لماذا ؟ لأن اللغة العربية في وسائل إعلامنا كانت تتمتع وحدها بالظهور سمعيًّا وبصريًّا وكتابيًّا، ولم تكن تخشى أيَّ منافس لها على الساحة… فقد ازدحمت الأصول وتكاثرت اللغات التي تطلب بحق وجودها بحجةٍ أو بأخرى ، ومن هنا أمسى المسؤولون عن اللغة العربية في مختلف المجامع يرفعون عَقيرتهم بالشكوى من المزاحمات التي تعتبر أحيانا من قبيل المضايقات !.
وقد زاد في همنا - نحن المجمعيين- أن هذه الأصوات التي
أخذت في الارتفاع لم تكن صادرةً عن لغاتٍ نعتبرها أجنبية بالمعنى الحضاري أي إنها فرنسية أو إسبانية أو إنجليزية أو ألمانية، ولكنها أصوات نابعة من نفس الأوطان التي نسكنها، وتتمثل في اللغات المحلية التي نعيشها من أمازيغية بمختلف لهجاتها وكردية أُوردية… إلى آخر اللغات التي يتعامل بها المسلمون في الشرق والغرب .
ويبدو لي أننا نبالغ كثيرًا في اتهام وسائل الإعلام بالتقصير إزاء اللغة العربية ، ونبالغ كثيرًا في التخوف الذي أخذ يخالجنا إزاء ظهور اللغة العربية …
وسأتحدث هنا من منطلق باحثٍ محايدٍ يتتبع أحيانًا أجهزة الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية طوال عقود طويلة خلت منذ ظهر الراديو في بيتنا وأعقبه التليفزيون المحلّي إلى
أن تبعه التليفزيون العالمي …
... أستطيع القول، دون أن أخشى معقّبًا : إن اللغة العربية بخير ! نعم بخير وألف خير، لأنها غزت البادية والجبلَ والصحراء … ولأن المشرفين عليها ممن يمتلكون زمام اللغة العربية عملوا دائمًا على تطوير معارفهم وتحْسين أدائهم … وأرجو أن نقومَ بمقارنةٍ نزيهة بين الأمس واليوم لنقتنع بأن زادنا في اللغة العربية زاد ينمو بمرور الأيام …(222/1)
... نعم … وبالرغم مما نحس به أحيانًا من أن لغةً أو لهجة تطفو على الصعيد، فإننا في آخر المطاف نجد أنه لا يوجد أي أثر سلبيّ على اللغة العربية في ظهور لغةٍ أو لهجةٍ ما؛ لأن اللغة العربية أخذت مكانها سلفًا، وهي في موقعٍ جَيّدٍ، لا تخشى معه أية حضارة .
... وأستطيع القول أيضًا ، وأنا أشير إلى المقارنات والمفارقات بين الأمس واليوم ، إنني أستطيع أن أؤكد أن الأطر العاملة في وسائل الإعلام تواكب بدقةٍ ما يجري من تطور في اللغات الأخرى ، وتقوم في نفس الوقت بتطعيم وتلقيح اللغة العربية أحيانًا دون استشارة المجامع، تطعيمًا وتلقيحًا بما يجعلها لغةً قائمة على قدميها دائمًا وآخذة في طريقها إلى جانب اللغات التي نعتقد أنها تزاحمها أو تقاومها …
وأعتقد أن هناك - ربما - عقدةً تُهيمن على تفكيرنا في بعض الأحيان هي أننا نخشى وجود غيرنا معنا ! ما نزال نرفض التعامل مع هذا الغير .. ! إن اللغات الأخرى فرنسية ، إنجليزية، إسبانية ظهرتْ ، وبحكم العولمة الزاحفةِ الراكضةِ ما تزال تظهر يومًا عن يوم ، ولا مناص لنا من التعامل بها والتعايش معها في الوقت نفسه الذي نعمل على الاستفادة من هذا التعامل والتعايش لإسماع نبْرة الحرف العربي لنفس المنابر التي تظهر فيها اللغات الأخر، بمعنى أننا في الوقت الذي نقبل فيه وجود الغير، علينا نحن كذلك أن نعمل بكلِّ وسائلنا على حمل الغير على أن يقبلنا ويفهمنا .
لقد ولَّى وقت إغلاق الآذان والعيون عما يظهر… إذنْ لا بد أن نعرف أن وجود لغاتٍ أخرى على الساحة أمرٌ طبيعي ومن شأنه ، في نظري ، أن يساعد على إغناء لغتنا واكتشاف المزيد من أسرارها ومباهجها ومفاتنها …
هناك حكمة للكاتب الألماني المعروف كوت Goethe تقول: "مَن لا يعرف من اللغات إلا لغتَه فذاك يَجهل حتى لغته " .(222/2)
لذلك أرجو التأكيد على قبول الغير كما أرجو في الوقت ذاته ألا يفسر هذا القبول على أنه تسليم في تراثنا - أبدًا - بل على العكس من ذلك، إنه - كما أسلفت - إغناءٌ للغتنا وعامل من عوامل صمودها ومسايرتها للركب العلمي .
ومن هنا أعود للقول مرة أخرى بأن اللغة العربية في وسائل الإعلام بخير … وإِن تحريفَ لفظٍ من مذيع أو مذيعة ، وإن خرق قاعدة نحوية أو صرفية من صحفي أو صحفية لا يزعجني كثيرًا وأنا أسمع وأرى وأقرأ لهؤلاء في مجالاتٍ أخرى ما يثلج الصدر دفاعًا عن اللغة العربية وغيرةً على وجودها وحضورها …
لقد كان بعض شيوخنا بالأمس القريب ممن درسنا عليهم- رحمهم الله- كانوا لا يحسنون تحرير خطاب أو كتابة رسالة وكانوا يرتكبون من اللَّحن في الكلام ما كانوا يعيبونه هم على الآخرين ، وسمعناهم يقولون وهم يلحنون من قرائهم : " النَّحو صنعتُنا واللحنُ عادتنا ! "
لكل هذا أرجو أن يُسْمَح لي في هذا الإعراب عن وجهة نظري فيما يتصل بالموقف إزاء هذا الموضوع …
وهناك عنصر من العناصر التي طالما راجَعَنا فيه المشرفون على التحرير في وسائل الإعلام ، هذا العنصر هو قضيةُ المصطلح … فالناس في حيرةٍ من أمرهم، هل يعتمدون المصطلح المستعمل في مصر أو في سوريا أو في العراق أو في بلاد المغرب … ؟ ! .
وهنا تنتصب علامة استفهام كبرى أمامنا تتعلق بقضية المرْجِعية ، لمن سيكون مرجع وسائل الإعلام في الأخذ بهذا المصطلح أو ذلك ، وعندما نحاول أن نجيب عن هذا السؤال نصل مباشرةً إلى أصحاب القرار السياسي ، وهل في استطاعَةِ أصحاب القرار أن يتوحَّدوا وأن يساعدوا المجامع على أن تُصبح ذات سلطة حول استعمال هذا المصطلح أو ذلك ؟ !
إن الأكاديميات في أوربا مثلاً لها الحق في أن تفرض مصطلحًا ما من المصطلحات ، وعلى جهاز الدولة أن يقتصر على استعمال ما قررته الأكاديمية في مختلف الجهات .(222/3)
لأجل هذا ، ونحن نتحدث عن اللّغة العربية في وسائل الإعلام، علينا أن نقوم نحن بالانفتاح على تلك الوسائل حتى تؤدي رسالتها ، وبالسرعة المطلوبة ، علينا أَن نقدم لها الفتوى في الوقت المناسب، علينا أن نشعرها بأن هناك مرجعيةً موحدةً في هذا الأمر ولا نتركها تتخبط بين اختيارات القواميس الرائجة .
ومن هنا سأخلص إلى ملتمسٍ طالما رددناه وأمَّلنا تحقيقه من المشرفين المسؤولين على أمر اللغة من رؤساءِ المجامع والأكاديميات، وهو تكوين هيئة عليا للتَّرجمة العربية تعتمد على رجالٍ أكفاءٍ في تقريب ما يجدّ من مفرداتٍ حضاريةٍ إلى اللغة العربية، وجعلها في متناول الراغبين، على صعيدٍ واسعٍ لا يُحرَم منها أحد ، ومن هنا سألتفت قليلاً إلى دور القواميس: دور وجودها في كلّ مكتب وكلّ زاوية إذا كنا نرغب في حماية اللغة العربية والحفاظ على نَفَسها المتحدد، القواميس الحية التي تساير العالَم كتفًا لكتِف، وتكون ذات قابليةٍ للتعْبير والتحديث والتحيين - عندما تقتضي الحاجةُ ذلك… لا أدري كيف نقبل أن نسمع بوجود لجنةٍ دائمةٍ للقاموس تجتمع في أوربا على طول شهور السنة لتخرج في نهاية العام قواميس جديدةً تستوعب ما جد من مفرداتٍ وتعابير ومصطلحات، لا أدري ونحن نسمع بذلك ، ماذا يمكن أن نقول لعلمائِنا ومجامعِنا ونحن نتحدث عن دور اللغة العربية في وسائل الإعلام … ؟
إن قراء اللغة العربية يتزايدون يومًا عن يوم في كل جهات الدنيا حسب استطلاعات الرأي، وإن موضوعات التناول باللغة العربية تعددت بل وازدهرت وأخذت تواكب المسيرات لحسن الحظ. بالرغم، مما نراه من ظهور لغاتٍ أخرى ولهجاتٍ أخرى، إن كل ذلك الصراع الذي نشاهده عبْر الشاشة وعبر الإذاعة وعبر الجريدة كذلك كان ينتهي ذلك الصراع في نظري إلى حقيقةٍ واحدةٍ، وهي أن اللغة العربية كانت لتبقى، ولن(222/4)
تستطيع حضارة من الحضارات أن تُبعدها عن الساحة ما دمنا نعمل نحن على تطويرها وازدهارها وحسن استعمالها. وما دمنا جادّين في ملاحقة الجديد من القول لإغنائها بذلك الجديد، وكلّنا يعرف أنها أي اللغة العربية قادرة على استيعاب كل المميزات وكل الخصوصيات وقادرة كذلك على أن تسهم هي بدورها في مساعدة اللغات الحضارية الأخرى ... الأمر يتطلب فقط أن نقوم بالخطوات الأولى وأن نؤمن بأنَّ وجود غيْرنا معنا لا يمكن أن ينال من عزيمتنا وتصميمنا ...
عبد الهادي التازي
عضو المجمع من المغرب(222/5)
الشيخ حمد الجاسر
العملاق الذي رحل
للأستاذ الشاعر حسن عبد الله القرشي
علل
استأثرت رحمة الله ـ الذي لا رادَّ لقضائه ولا عاصم من بلائه ـ بشخصية نابهة قل أن يجود الزمان بمثيلها حيث رحل عن دنيانا الصديق الصدوق العلامة الجليل والبحاثة اللغوي القدير ، الأستاذ الكبير ، والرائد النحرير، علامةُ الجزيرة ـ الشيخ حمد ابن محمد الجاسر ـ الذي كان عالمًا فذًّا، وأديبًا معلمًا، ومؤرخًا نادر المثال، وموسوعة فكر وخلق وعلم ودينٍ، والذي كان لوذعيًّا لا يشق له غبار، في شتى فنون وألوان المعرفة، وأغزرها وأعمقها، منكبًّا طيلة حياته على البحث، والتأليف، والتحقيق، والنشر،وكان فى حداثته مارس كتابة الشعر، ثم انصرف عنه.
... لقد كان الشيخ حمد بحرًا لجيًّا يذكرنا بأفذاذ العربية الأوائل، وفطاحلها فى غابر أمجادها، وسالف عصورها، منطبقًا عليه قول الشاعر:
هو البحرُ منْ أيِّ النواحي أتيتَه
فلجَّتُه المعروفُ والجودُ ساحلُهْ
وقول الآخر:
فما كان سعدٌ هلكُهُ هلك واحدٍ
ولكنَّهُ بُنْيانُ قَوْمٍ تَصَدَّعا
وكأنما قصد الشيخ من قال:
إنَّما يُبكَى شُعاعُ نابغٍ
كلَّمَا مرَّ به الدَّهْرُ أضاءْ
مَلأَ الأسْماعَ والأفواهَ في
ضجَّة المَحْيَا وفى صمت الفَناء
غَرس الناسُ قديمًا وبنَوا
لم يدُم غرسٌ ولم يَخْلُدْ بناءْ
غير غَرْسٍ عبقرىٍّ يانعٍ
فيه للآكِلِ أسرارُ الشفاءْ
والفجيعة في الشيخ لدى أحبائه ومريديه يمثلها هذان البيتان:
ولما دعوتُ الصبرَ بعدكَ والأسى
أجاب الأسى طوعًا ولم يُجِبِ الصَّبْرُ
فَإنْ يَنْقَطِعْ مِنْكَ الرَّجَاءُ فِإنَّهُ
سَيَبْقَى عَلَيْكَ الحُزْنُ ما بَقِيَ الدَّهْرُ(223/1)
... ومنذ أن لحق الشيخ بالرفيق الأعلى والكتابة عنه لا تكاد تنتهي من سائر الصحف والمجلات ممن يعرفه شخصيًّا وممن لا يعرفه ، ولكنه يعرف أياديه البيض على دولة العلم والتاريخ، وعلى الاشتغال بتحقيق العديد من المؤلفات الثمينة، والمخطوطات العريقة، فلقد كان لنبأ وفاته وقع الصاعقة على نفوس آله وأحبائه.
ويوم وفاته كانت لي عنه إحدى رباعياتي التي أنشرها في جريدة "المدينة"، وهي:
فى ذمة الله
الشيخ العبقري حمد الجاسر
مَضَى طَاهِرَ الأَرْدَانِ عِلْمًا، وَرِفْعَةً
وقد عَاشَ صُبحًا يُسْتَضَاءُ بِفَجْرِهِ
مضى(حَمَدٌ) مَنْ (يَحْمَدُ) الكلُّ نبلَهُ
وَمَنْ فَاقَ أَفْذَاذَ الرِّجَالِ بِفِكْرِهِ
عَلَيكَ سَلاَمُ اللهِ يا باذخَ الذُّرَى
وَمَنْ ظَلَّ دَوْمًا لا يدلُّ بِفَخْرِهِ
سَتَبْقَى سَجَاياهُ خلودًا مُعَطَّرًا
فَمِثْلُ نَدَاهُ يُستطابُ لِذِكْرِهِ
وقد ترجم الشيخ لنفسه ترجمة موجزة أوردها الدكتور عبد الوهاب عزام في الكلمة التي استقبله بها عضوًا في المجمع، حيث قال الشيخ حمد:
"عشت أول حياتي عليلاً فلم أحسن المشي إلا في السنة الرابعة من عمري"، ويقول أيضًا: "أخبرتني أختي ـ أمتعها الله بالصحة والعافية ـ بأنه حُفِر لي أربعة قبور، أي أن اليأس من حياتي اعترى أهلي أربع مرات بحيث كانوا يحفرون القبر لي ولكن يدفن فيه غيري"
... وقرأت القرآن في الحادية عشرة من عمري، وحفظته على معلِّم من أهل بَلْدة "أشيقر" إذ من عادة أهل قريتي "البرود" إحضار معلم لتعليم أبنائهم بجعل.(223/2)
... وسافرت مع والدي ـ وكان فلاحًا يشتغل بالزراعة- وكنا نملك مزرعة تسمى" شرقة " بجوار بلدة "البرود" سافرت معه إلى الرياض لطلب العلم في عام 1342هـ، فقرأت بعض المتون التي اعتاد طلاب العلم المبتدئون البداءة بها في الطلب. وقرأت الآجرومية على الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.كما قرأت بعض كتب التوحيد على الشيخ سعد بن حمد ابن عتيق أحد علماء الرياض المعروفين. وعدت إلى بلدتي في عام 1342هـ حينما بلغني خبر وفاة والدي وبقيت فيها أتولى تعليم أبنائها القرآن.
... وفي سنة 1348هـ حججت وبقيت في مكة، ودخلت المعهد السعودي، وأكملت الدراسة في قسم منه يسمى (قسم التخصص الديني) في سنة 1353هـ.
... وفي سنة 1353هـ عينت مدرسًا فمديرًا لمدرسة (ينبع) إلى عام 1356هـ .
... وفي سنة 1356هـ عينت قاضيًا لظبا ونواحيها وبقيت أكثر من عام، ثم تركت القضاء.
... ثم عدت إلى المعارف في سنة 1358هـ حيث عينت معاونًا لمعتمد المعارف في جدة.
... وفي سنة 1359هـ (1940م) جئت مصر لطلب العلم فانتسبت إلى كلية "الآداب" ولكنني لم أكمل دراستي فيها، ثم عدت إلى مكة حيث اشتغلت في وظائف التعليم وتحضير البعثات، وفى الإحصاء.
... وفي سنة 1363هـ عُينت رئيسًا لمراقبة التعليم في الظهران وبقيت إلى عام 1368هـ .
... وفي عام 1368هـ عينت معتمَدًا للمعارف في نجد (أي مديرًا للتعليم) حتى آخر سنة 1370هـ.
حيث عهد إلي تنظيم المعهد الديني الذي وكل أمر إنشائه إلى سماحة المفتى الأكبر، وبقيت معاونًا لمدير المعهد ثم مديرًا لكليتي اللغة العربية والعلوم الشرعية اللتين أنشئتا تابعتين له حتى أول عام 1375هـ.
وقمت بإصدار أول صحيفة في نجد وهي" اليمامة" سنة 1373هـ التي صدرت مجلة، واستمرت سنتين ثم صدرت جريدة في عام 1376هـ، ولا تزال مستمرة حتى الآن"
... كما سعيت لإنشاء أول دار للطباعة في الرياض.
وللشيخ ترجمة أخرى ضافية نشرها فصولاً متتابعة في مجلة المنهل السعودية.(223/3)
... وقد انتخب الشيخ حمد عضوًا بمجمع اللغة العربية سنة 1958م في المكان الذي خلا بوفاة المرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف واستقبل في مستهل عام 1959
(5/1/1959م).
وقال عنه الدكتور عبد الوهاب عزام، وهو يستقبله عضوًا بالمجمع.
"الأستاذ المحتفل به عالم ثَبَتٌ خبير بمواضع الجزيرة العربية ومعالمها، وسيجد الأدباء والمؤرخون والجغرافيون غناء وفائدة حين ينشر كتبه".
ولقد أفاد الأستاذ الجاسر المجمع كثيرًا بتحقيقه للعديد من أماكن الجزيرة العربية . وقد كانت لجنة المعجم الكبير على صلة دائمة به، تستشيره في تحديد أماكن الجزيرة العربية فيوافيها بفيض علمه وأدبه.
نشاطه المجمعى:
... وقد شارك الأستاذ حمد الجاسر في جميع أعمال المؤتمرات المجمعية وكان المجمع يُعوِّل عليه تعويلاً كبيرًا في تحقيق أسماء البلدان والأماكن بالجزيرة العربية ، وبالأنساب، حيث تفوق درايته بها دراية أي عالم آخر في عصرنا الحاضر.
... وقد اختير الشيخ حمد عضوًا بمجمع اللغة العربية بدمشق، ومجمع اللغة العربية بعمان.
منزلته العلمية ومنهجه :
... يتبوأ الشيخ حمد أعلى مكانة بين الباحثين من علماء الجزيرة العربية، فقد أخذ نفسه ـ منذ شبابه ـ بالبحث الدؤوب في كل ما يتصل بالجزيرة، وبخاصة تاريخها الجغرافي، حيث استقصى دراسة معالمها الجغرافية، قديمًا وحديثًا، على امتدادها الشاسع، وبيئاتها المترامية وما تتسم به من سهول، وهضاب، وخصب، وجدب، ومن عَمَرها من قبائل، وما شاع فيها من زرع، وضرع، عامدًا في كل ذلك إلى ربط الحاضر بالماضي.
... وقد التزم بمنهج في البحث والدراسة يقوم على الاستقصاء، وعدم الاكتفاء بالمعرفة النظرية، حيث ينهض بالرحلة إلى كلّ موضع يتحدث عنه، فاحصًا منقبًا، ويشفع ذلك برواية ما ورد فيه من شعر، أو قول مأثور، وما جرى فيه من أحداث، ومن انتسب إليه من علماء وأدباء.
آثاره:(223/4)
... كانت البداية مجلة اليمامة التي تولدت منها جريدة اليمامة، ثم كانت مجلته التاريخية الجليلة (العرب) التي صدرت عام 1386هـ (1966م)، التي نرجو أن تواصل مسيرتها بجهود إخوانه وتلامذته إن شاء الله.
ومن مؤلفاته وتحقيقاته:
1- أبو علي الهجري وأبحاثه في
تحديد المواضع.
2- الإمام أبو إسحق الحربي وكتابه في (المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة)
3- (بلاد العرب) للحسن بن عبد الله الأصفهانى في تحقيق مشترك .
4- (بلاد ينبع) لمحات تاريخية وجغرافية .
5- تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد ووفيات بعض الأعيان (تحقيق).
6- (تحديد موقع عكاظ).
7- رحلات في بلادنا.
8- (في سراة غامد وزهران)
9- (في شمال غرب الجزيرة)
10- (ملخص القول السديد في أخبار إمارة آل رشيد) تأليف سليمان بن صالح الدخيل (تحقيق).
11- ( مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ).
12- (المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية).
13- (المغانم المطابة في معالم طابة) لمجد الدين أبي الطاهر محمد بن يعقوب الفيروز ابادى صاحب القاموس(تحقيق).
14- المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة.
15- (نبذة تاريخية عن نجد) أملاها الأمير ضاري بن فهيد الرشيد (تحقيق).
وكان للشيخ حمد ضَحْوية أسبوعية يحضرها جمع من أحبائه ومريديه، حيث ينهلون من علمه وفضله وفكره.
جوائزه:
... قد حصل الشيخ حمد على عديد من الجوائز الثقافية، ومن أهمها جائزة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، كما كرمته مؤسسة التراث(الجنادرية) كأول مكرميها. 1419هـ. وقد سميت باسمه شوارع عديدة فى بلدان المملكة ، تخليدًا لذكراه.(223/5)
... أما أجمل وأخلد ما سُمِّى باسمه، ووُسِم برسمه، وكُرِّم به، فهو " مؤسسة حمد الجاسر الخيرية ومركز الثقافة" والتي تبناها ورعاها صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، ونهض بها مجموعةٌ من أفاضل أبناء المملكة برئاسة الدكتور إبراهيم محمد العواجي، ومستشار اللجنة الأستاذ عبد الله العلي النعيم، والأستاذ حمد عبد الله القاضي الأمين العام للمشروع، والأستاذ فهد الدوسري المقرر، وتكونت اللجنة التأسيسة لمؤسسة الشيخ حمد من هؤلاء الشيوخ الأجلاء، ومن السادة الأساتذة:
الدكتور أحمد الضبيب، سعد البواردي، الدكتور عائض الردادي، الدكتور عبد العزيز المانع، الدكتور عبد الله نافع، عمران العمران، محمد الخضير، معن ابن حمد الجاسر، عبد الرحمن السدحان، سعد الراشد، محمد رضا نصر الله، الدكتور منصور الحازمي، حسين العذل، سليمان الحريش، عبد العزيز العذل، الدكتور عبد الله العثيمين، الدكتور عبد الواحد الحميد، الدكتور فهد السمّاري، الدكتور مرزوق ابن تنباك، الدكتور يحيى بن حمود جنيد.
... كما حصل الشيخ حمد على درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة الملك سعود، ونال جائزة الكويت للتقدم العلمي، ووسام الملك عبد العزيز.
وقد ترددت أصداء مراثيه فى أرجاء عالمنا العربي، أذكر منها مرثية الشاعر أحمد صالح الصالح التي يقول فيها:
سهرتَ على التاريخ أرضًا وأمةً
تمحِّصُ أخبارًا ورأيكَ ثاقبُ
وفي كل شبرٍ في الجزيرةِ تلتقي
بكَ الذكرياتُ البيضُ تُهدَى النجائبُ
أبا هذه الآثارِ أنت حبيبُها
نَداماك أسفارٌ، وراوٍ، وكاتبُ!
وأختتم كلمتي هذه بالأبيات التالية التي تنطبق على فقيدنا الشيخ الجليل:
لَكَ مِنَّا تَجِلَّةٌ يا هُمَامُ
وَعَلَى عَهْدِكَ النضير سَلامُ
فَوفَاةُ الكِبارِ تَنْتَقِصُ الكَوْ
نَ وَيشْجي بها الكِرامَ الكِرامُ
هكذا مصرعُ العظيم أليمٌ
... يستثير الجَوَى فتُحنَى الهامُ
عَلَمُ الفِكْرِ لا يُعَوَّضُ دَهْرًا(223/6)
هُوَ مَنْ قَدْ شَدَا بِهِ الأَعلامُ
كَيْفَ وَهْوَ البشيرُ في غَسَقِ الخَطْ
بِ وَمَنْ للجِرَاحِ مِنْهُ التِئامُ
يَعْجَزُ الغيرُ أنْ يَطُولَ مَرَاقِيهِ
وَتَعْيَا فِي سَاحهِ الأفْهَامُ
فعزاءً مدَى العُرُوبةِ طُرًّا
وَدُعَاءً ما هَلَّ ثَمَّ غَمامُ
يا أليفَ الكتابِ لا كانَ يومٌ
غَالَنَا فِي رحيلك الإِظلامُ
عشْ عَلِىَّ المقامِ في كَنَفِ اللهِ (م)
فآثارُكَ الحِسَانُ وِسَامُ
سَوفَ تحظَى بالخُلْدِ ما شَاءَ رَبِّى
في جوارِ الإله يَشْفى السقامُ
... وأخيراً فإنا نحمد الله العلي الباقي الذي لا يحمد على مكروه سواه وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وسلام عليكم ورحمته وبركاته.
حسن بن عبد الله القرشي
عضو المجمع المراسل من السعودية(223/7)
" بين مؤتمرين "
للأستاذ إبراهيم الترزي
الأمين العام للمجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
الأستاذ الجليل الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم العالي والدولة للبحث العلميّ:
الأستاذ الجليل الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع:
الأساتذة الزملاء الأَجلاء:
أيها السادة:
سلامُ الله عليكم ورحمتُه وبركاتُه، وبعد
فها هو ذا لقاؤنا يتجدَّدُ ، مؤتمرًا بعد مؤتمر ، ليتجدَّد الحديثُ عن مؤتمرٍ سابق ، وآخَرَ لاحِق، وعمّا أَعَدَّتْه لجان المجمع، ونَظَرَه مجلسُه، بين هذيْن المؤتمريْن، ليكونَ بين أيدي أعضاء المجمع: المصريين وغير المصريين، من العرب والمستعربين .
... وإنِّي لأشْرُفُ بأن أُزْجِيَ إليكم هذا البيان المجمعيَّ المعتادَ ، في مستهلِّ كل مؤتمر .
المؤتمر السابق:
عقد المؤتمرُ ثمانيَ عشرةَ جلسة، منها تسعٌ علنية: أُولاها جلسةٌ افتتاحِ المؤتمر، وثانيتُها جلسة تأبين عضو المجمع الراحل المرحوم الأستاذ منير البعلبكي، عضو المجمع من لبنان، وأَلْقَى كلمة المجمع في تأبينه الأستاذ أحمد شفيق الخطيب عضو المجمع من فِلَسطين . والجلسات العلنية الأخرى خُصِّصَتْ لمحاضرات عامة، هي :
* العاميةُ فصحى مُحَرَّفة للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع .
* أعمالُ المستشرق الفرنسيِّ جورج كُولان ، للأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي عضو المجمع من المغرب .
* دور وسائل الإعلام في التنمية اللغوية ، للأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي عضو المجمع .
* الأرقام العربية المشرقية: أَصالتُها، وكفاءتُها، للأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي عضو المجمع، ورئيس الجمعية المصرية لتعريب العلوم، والأستاذ الدكتور محمد الحملاوي ، الأستاذ بكلية الهندسة بجامعة الأزهر ، والأمين العام للجمعية .
* الانحرافُ اللغويُّ في الإعلام المصريّ المسموع، للأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر عضو المجمع .(224/1)
* الجوانبُ العلمية المعاصرةُ في تراث الخليل وسيبويه، للأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح ، عضوِ المجمع المراسلِ من الجزائر .
* موقعُ العربية من العقيد ة ، ومدى المسؤولية عن تعميمها ، للأستاذ علي رجب عضوِ المجمع من الجماهيرية الليبية .
... أما الجلسات الأخرى من جلسات المؤتمر فكانت مغلقة، نظر المؤتمر فيها مصطلحاتٍ في الفيزيقا، والنفط، وعلومِ الأحياء، والطب، والحاسبات، والجيولوجيا، والهندسة، والرياضيات، وأصول الفقه، والأدب، والرياضة البدنية. كما نظر المؤتمر أعمال اللجان اللغوية، وهي لجان: الألفاظِ والأساليب، والأصولِ، واللهجات والبحوثِ اللغوية، والمعجم الكبير .
... وألقيتْ في هذه الجلسات المغلقة بحوثٌ عالج أكثرُها قضية الفصحى والعامية، وهي القضية المقترحة لبحوث المؤتمر .
... وأصدر المؤتمر في جلسته الختامية توصيات ، منها التوصياتُ التالية :
* أن يعملَ وزراءُ الإعلام في مصر والبلاد العربية على أن تكون الفصحى لغة جميع وسائل الإعلام، وبخاصة في الإذاعتين: المسموعةِ والمرئية، ومسارحِ الدولة .
* وأن يعمل وزراءُ التعليم في مصر والبلاد العربية على تعريب التعليم الجامعيِّ والعالي، حتى يتخلَّص شبابُ الأمة العربية من التبعية العلمية للغرب، كما تخلصت الأمة العربية من التبعية السياسية له .
* وأن تُضْبَطَ كُتُبُ التعليم جميعًا بالشكل الدقيق ، حتى تَرْسَخَ الفصحى ونُطْقُها السليمُ في نفوس الطلاب رسوخًا قويًّا سديدًا .
* وأن تعملَ مجامعُ اللغة العربية، والهيئاتُ العلمية، على وضع معجمات في العلوم المستحدثة، كعلوم التكنولوجيا، والحاسبات، وعلوم البيئة، والهندسة الوراثية .
... * وأن تُعَمَّمَ المنهجيةُ التي أَقرَّها اتحادُ المجامع اللغوية العلمية العربية في صَوْغ المصطلحات العلمية باللغة العربية.
المجلس واللجان :(224/2)
... عقد مجلسُ المجمع ثلاثين جلسة، منها جلسةٌ علنية لتأبين المرحوم الأستاذ الدكتور بدوي طبانة عضو المجمع، وألقى كلمة المجمع في تأبينه الأستاذ الدكتور علي الحديدي عضو المجمع، وكانت الجلسات الأخرى مغلقة، أُجْرِيَ فيها تجديدُ انتخابِ الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع لأربع سنوات قادمة ، وتجديدُ انتخاب إبراهيم الترزي الأمين العام للمجمع، لأربع سنواتٍ قادمة، كما أُجري انتخاب الأستاذ أحمد شفيق الخطيب عضوًا بالمجمع من فِلَسطين ، والأستاذ الدكتور محمد يوسف نَجْم عضوًا بالمجمع من لبنان، وسيستقبلهما الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع، مع الأعضاءِ العربِ الجُدُدِ الذين انُتخبوا في الدورة السابقة، وذلك في الجلسة العلنية الثانية التي يعقِدُها المؤتمر في الساعة الخامسة من مساء هذا اليوم .
كما اختار مجلسُ المجمع عشرة أعضاءٍ مُراسلين ، هم السادة :
1- الأستاذ الدكتور أسامُو أَكيدا
( من اليابان )
2- الأستاذ الدكتور خورشيد الحسن رَضْوَى ( من باكستان )
3- الأستاذ الدكتور رئيفُ جورج خوري ( من ألمانيا )
4- الأستاذ الدكتور شمس الدين خان ابن ضيا ( من أُوزْبكستان )
5- الأستاذ الدكتور عباس الصُّوري
( من المغرب )
6- الأستاذ الدكتور عبد الجبار تْشووِي لِيه ( من الصين )
7- الأستاذ الدكتور عبد العزيز تُركي
( من قطر )
8- الأستاذ الدكتور عبدُ العزيز بنُ عثمان التِّوِيجرى
( من المملكة العربية السُّعودية )
9-الأستاذ الدكتور عبدُ الله دِئيسون
( من السِّنغال )
10- الأستاذ الدكتور ميخائيل كارتر
( من الولايات المتحدة الأمريكية )
ونظر المجلس في جلساته المغلقة مصطلحات في الكيمياء والصيدلة، والطب، والفيزيقا، والجيولوجيا، والنفط، والهندسة، والرياضيات، وعلومِ الأحياء،والجغرافيا، والفلسفة الإسلامية، والرياضة البدنية ، كما نظر المجلس أعمال لجنة اللهجات والبحوث اللغوية، ولجنة الأصول .
فقيدا المجمع:(224/3)
رزئ المجمع بفقد عضوين من أعضائه العرب ، أولهما : علاَّمةُ الجزيرة العربية الأستاذ حمد الجاسر، عضوُ المجمع من المملكة العربية السعودية ، وثانيهما : الأستاذ يحيي المُعلّمى عضو المجمع المراسلُ من المملكة العربية السعودية .
ندوة اللجنة الثقافية :
أقامت اللجنة الثقافية ندوةً بعنوان "الدكتور شوقي ضيف على الإنترنت" قَدَّمها الأستاذ الدكتور كمال بشر مقررُ اللجنة وعضوُ المجمع، وشارك فيها الأستاذ الدكتور علي الحديدي عضو المجمع، والأستاذ الدكتور سعد الهجرسي أستاذُ علمِ المكتبات بكلية الآداب بجامعة القاهرة، والأستاذ سمير غريب رئيس مجلس إدارة دار الكتب، والأستاذ سمير الألفي رئيس المكتبة المركزية بجامعة القاهرة. وقد أصدر المجمع كتابًا يتضمن ما قيل في هذه الندوة. وكان المجلس الأعلى للثقافة قد شرع في إقامة ندوات لتكريم الرُّوادِ الأحياء في الدراسات الأدبية ، استهلَّها بندوة أقامها للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع ، ثم أقام ندوة أخرى للأستاذ الدكتور عبد القادر القط عضو المجمع وتزداد المجرة المجمعية تألقًا بتكريم شيوخه، فقد منح الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع، "دِرْعَ فارس الذهبيّ" من الثقافة الجماهيرية بوزارة الثقافة، كما فاز الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع بجائزة مبارك في العلوم، وهي أرفع جائزة علمية تمنحها الدولة لكبار علمائها، كما انتخب الأستاذ الدكتور محمود حافظ رئيسًا للمجمع العلميّ المصري، خلفًا للمرحوم الأستاذ الدكتور سليمان حزين عضو المجمع الراحل .
مطبوعات المجمع :
يُواصل مركزُ الحاسب الآلي بالمجمع نشاطه في كتابة مطبوعات المجمع، وقد صدرت عنه المطبوعات التالية:
* الدكتور شوقي ضيف علي الإنترنت
* معجم الموسيقا.
* الجزء الثاني من معجم الرياضيات.
* الجزء الخامس من المعجم الكبير.
* الجزآن: الثامن والثلاثون، والتاسعُ والثلاثون من مجموعة المصطلحات العلمية والفنية .(224/4)
* أجزاءُ مجلة المجمع : من الحادي والثمانين إلى الرابع والثمانين .
مسابقة المجمع الأدبية:
فاز بجائزة مسابقة المجمع الأدبية السيدان: محمد الفنجري، والسيد أحمد المخزنجي، وكان موضوعها: "الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس: حياتُه، وأعماله".
أيها السادة:
... يَعْمِدُ المجمعُ في المؤتمر إلى بحث موضوع " اللغة العربية في وسائل الإعلام " .. لأنه موضوعٌ عظيمُ الخطر، عميقُ الأثر، حيث يتصل اتصالاً وثيقًا، ومباشرًا، بالحياة اليومية للناس. وصلة لغتنا العربية بالإعلام قديمةٌ قديمة ، تضرب بجذورها إلى أقدم العصور، شأنُها في ذلك شأنُ جميع اللغات .. فلكلِّ لغة – منذ نشأتها – مجالٌ إعلاميٌّ تُؤَدِّي دورَها فيه ، لدى مختلف الطوائف والطبقات ، وفي مختلف شؤونهم الاجتماعية والاقتصادية ، والسياسية ، وغير ذلك من شؤون حياتهم العامة ، والخاصة .
... ولغتنا العربية كانت تُؤَدِّي دورَها الإعلاميّ، منذ العصر الجاهليّ، باقتدار فذ نشيط ، على لسان رُواة الأخبار والأشعار ، في حِلِّهم، وتَرْحالهم ، وفي منتديات القبائل ، وفي أسواقِها ، وبخاصة " سوق عكاظ " التي تُعَدُّ كُبْرَى هذه الأسواق .
... فقد حَرَصَ العربُ على أن يُقيموُا لهم أسواقًا متتابعة ، على امتداد سَنَتِهِمِ القَمريَّة ، وعلى امتداد جزيرتهم العربية .. فكانت لهم أسواقٌ في "حَجْر اليمامة"، و"هَجَرَ" و"صُحَارَ"، و"عَدَنَ"، و"صنعاءَ"، ثم "عكاظَ"، و"مَجَنَّةَ"، و"ذي المجاز" .
... وفي غير ذلك من أنحاء الجزيرة ، حيث تُتاحُ الفرصةُ الإعلاميةُ للغتنا العربية ، فتُذِيعُ - في هذه الأسواق - على ألسْنة الرُّواة أَنباءَ ماجَرَى، ويَجْرِي ، من أحداث .(224/5)
... ولكنَّ " سوق عكاظَ " ذهبتْ بشُهرة كلِّ هذه الأسواق، لأنها أَحْفَلُها جَمْعًا، وأَعلاها شأنًا، وأبعدُها أثرًا .. فهى تُعْقَدُ في موضع قريب من مكة، وفي موعد قريب من موسم الحج، حيث يتجمَّع الحَجِيجُ في هذه السوق الكبرى ، التي تُتِيحُ للغتنا فرصةً كبرى ، لأداءِ دَوْرِها الإعلامىِّ على مَلأٍ من الجموع الحاشدةِ الوافدة من كل فجٍّ عميق في شتَّى أنحاء الجزيرة، فَيَنْشَطُ الرُّواةُ والشعراءُ في إذاعة أنباء القبائل العربية، التي تحرصُ على أن تعِقد - في سوق عكاظ - مجالسَ مُصالحةٍ تَضَعُ فيها أَوْزار حُرُوبِها، ومجالسَ مُحالفةٍ تُعْقَدُ عهودُها بين بعضِ القبائل، ونحوِ ذلك من عهود إجارةٍ للجماعات والأفراد .
... وتحرص القبائلُ العربيةُ أَشَدَّ الحرص على إذاعة ذلك كلِّه في جزيرتهم ، حتى يَعْلَمَه جميعُ مَنْ تلْزَمُهم تَبِعَتُه من أبناء هذه القبائل ، ويَعْلَمَه أبناءُ القبائل الأخرى ، لمِرُاعاتِه، والحِفاظِ عليه .
... كما تحرص القبائلُ كذلك على إذاعة أسماءِ الخارجين عليها، مِن صعاليكها، وفتّاكها، في سوق عكاظ، فَتُعلنُ خَلْعَها لهم ، وتَبَرُّؤَها منهم ، ليَعْلَمَ ذلك سائرُ القبائل !
... وقد كان العرب يُؤْثِرُون الشعر على غيره من فنون القول ؛ لأنه خيرُ ما يُعَبِّرُ عن مشاعرهم ، وخواطرهم ، ولأنه أحفظُ لمآثرِهم ، وأخبارهم ، ولهذا قيل: "الشعرُ ديوانُ العرب " .. وهو بإيقاعِه يُتيح سهولة حفظه، فيَذيِعُ على الألسنة، وتتناقَلُه الرُّكبانُ من مكان إلى مكان ، ويَبْقَى ذِكْرُه مُتَداولاً من زمان إلى زمان ! ولهذا كلّه كان الشعرُ الوسيلة الإعلامية ، أو اللسانَ الإعلامىَّ المُفَضَّلَ لدى العرب .
... وقد ارتبط الإعلامُ الشِّعْرىُّ بَحدَثٍ جليل، شَهِدَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام ، وأشادَ به بعد الإسلام ! .(224/6)
... فقد جاء إلى مكة - مُعتمرًا - رجلٌ يمنىٌّ من قبيلة" "زُبَيْد"، باع سلعةً إلى أحد سادة قريش، وهو "العاصُ بنُ وائل " فماطَلَ الزُّبيدىَّ في ثمن سلعته ، وحَبَسَه بذلك عن العودة إلى بلده ، فلم يجد وسيلةً لإعلام قريش بما ابْتُلِيَ به سوى اعتلاء جبل " أبى قُبَيْس" المُطِلِّ على مكة، حيث أخذ يصيح بشعرٍ استهلَّه بهذيِنِ البيتينِ:
يا آلَ فِهْرٍ لمظلومٍ ، بضاعتُه
ببطنِ مكةَ، نائي الدارِ والنَّفَرِ
ومُحْرِمٍ أَشْعَثٍ لم يَقْضِ عُمْرَتَهُ
يا للرجال .. وبين الحِجْر والحَجَرِ
فاستنهض هذا الشعر أهلَ مكة ، وبخاصة سادتُها ، حيث نهض الزُّبَيْرُ ابن عبد المطلب داعيًا إلى نجدة الزُّبيدىِّ، وإلى عَقْدِ حِلْفٍ لنُصرةِ كلِّ مظلوم ، مُنشدًا أبياتًا منها قوله :
حلفتُ لنَعْقِدَنْ حِلْفًا عليهم
وإن كُنًّا جميعًا أهلَ دارِ
نُسَمِّيه " الفُضُولَ " إذا عقَدْنا
يعزُّ به الغريبُ لَدَى الجِوارِ
فاجتمع سادةُ قريش في دار عبد الله بن جُدْعان ، حيث عقدوا " حِلْفَ الفُضُول " وتَعاهدوا على أن يكونوا يدًا واحدة على كل ظالم، حتى يَرُدَّ إلى المظلوم حَقَّه، وقد حضر هذا الحلفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو في نحو العشرين من عمره، بل إن الشعر تَجاوزَ الإعلام إلى الإعلان، حين قدمَ إلى المدينة المنورة من العراق تاجرُ ثياب ، باع كلَّ ما لديه منها سوى الخُمُرِ السُّود ؛ فلم تشتر امرأةٌ أيَّ خمارٍ أسودَ منه .. ولجأ التاجرُ العراقيُّ إلى الشاعر" مسكينٍ الدَّارميّ، الذي تَنَسَّك ولزم المسجد النبويّ، وشكا إليه كَسادَ خُمُره السُّود ، فأثارت شكواه شَفَقَةَ الشاعر الدّارِميّ ، وتَمَثَّلَتْ في شعر يعين التاجر على بيع ما لديه منها، فقال هذه الأبيات :
قُلْ للمليحةِ فى الخمار الأسودِ :
... ماذا فعلتِ بزاهدٍ مُتَعبِّد ؟!
قد كان شَجَّر للصلاة ثيابه
... حتى خَطَرْتِ له بباب المسجدِ
رُدِّى عليه صلاتَه ، وصياته(224/7)
... لا تَقْتُلِيه بحقِّ دِينِ محمدِ
وذاع هذا الشعرُ الإعلانيُّ في المدينة، وغَنّاه بعضُ المغَنِّين ، فَتَسابقت النساءُ إلى التاجر العراقيّ ، حتى أَتَيْنَ على كل ما لديه من خُمُرٍ سُود ، بل أَخَذْنَ يَطْلُبنَ المزيد !
... وقد ظلَّ الشعرُ يُؤَدِّى دوره الإعلاميَّ على مدى العصور ، حيث لم تكن طِباعة ، ولا إذاعة مسموعةٌ ومرئيَّة .
... وإذا كانت صُحُفنا اليومَ تَشُنُّ حملاتٍ على ما يستشري في مجتمعنا من فساد وانحراف ؛ وبخاصة في أجهزة الحكم ، حيث تُبْتَلَى ببعض العاملين المُرتشين ، أو الذين يحتالون على القوانين ، كما تَشُنُّ صُحُفُنا حَمَلاتٍ عاتيةً على مَنْ يُحْرِزُون ثراء فاحشًا بوسائلَ غير مشروعة – فإن أحدَ أَئمةِ الصوفية المشهورين ، وهو "الإمامُ البوصيريّ"، صاحبُ المقام المعروف بالإسكندرية ، وصاحبُ قصيدتَيِ : البُرْدةِ والهَمْزِيَّة ، قد شَنَّ هو الآخَرُ حَمَلاتٍ عاتَيةً على ما استشرى في عصره من فساد شبيهٍ بما تُحاربُه صُحُفُنا المعاصرة .. فقد كان "البُوصيريُّ" - قبل تَصَوُّفه - يعملُ في دواوين الحكومة ، ورأى ما ابْتُلِيَتْ به من عاملين مُنحرفين ، فشَنَّ عليهم حملته بشعر بدأه بمخاطبة الوزير المسؤول .. حيث يقول :
نَقَدْتُ طوائفَ المُسْتَخْدَمينا
... فلم أَر َفيهمُ رجلاً أمينا
فقد عاشَرْتُهم، ولبثتُ فيهم
مع التَّجريب مِن عُمْرِي سنينا
أمولاىَ الوزير غَفَلْتَ عمّا
... يَتِمُّ من اللِّئام الكاتِبينا
فأقلامُ الجماعةِ جائلاتٌ
كأسيافٍ بأيدي لاعِبيِنا
ولولا ذاكَ ما لَبِسوا حريرًا
... ولا شَرِبُوا خُمُورَ الأَنْدَرِينا
وقد طَلُعَتْ لبعضهمُ ذُقُونٌ
... ولكنْ ، بعدما نَتَفُوا ذُقُونا
وما أَخْشَى على أموال مصرٍ
... سِوى مِن مَعْشَرٍ يَتَأَوَّلونا(224/8)
وكما تُنَدِّدُ صُحُفُنا اليومَ بالغلاْء الفاحش، الذي يَفْتِكُ بأرزاق الناس ، وبخاصة أصحابُ الدُّخولِ الصغيرة - أخذ " البوصِيريُّ " أيضًا يُنَدِّدُ مثل صُحُفِنا بما يُعانيه الشعبُ من ذلك الغلاء، وكأنه يصفُ حالَنا اليوم !
وذلك في قصيدة جَعَلَ فَيها نفَسه وأُسرته مثالاً للأُسَرِ الفقيرةِ المَطْحُونة ، فأخذ يُخاطبُ - أيضًا - الوزيرَ المسؤول .. ويقول :
يا أَيُّها المَوْلَى الوزيرُ الذى
أَيَّامُه طائعةٌ أَمْرَهْ
إليكَ نشكُو حالَنا ، إنَّنا
... حَاشاكَ ، مِن قَومٍ أُولِي عُسْرَةْ
صَامُوا مَعَ النَّاسِ ، ولكنهم
... كَانُوا لِمَنْ أَبْصَرَهُمْ عِبْرَةْ
لهُمْ مِنَ الخُبَيِّزِ مَسْلُوقَةْ
... في كل يومٍ تُشْبِهُ النَّشْرَةْ
وأَقْبَلَ العِيدُ وما عِنْدَهُمْ
... قَمْحٌ ، ولا أُرْزٌ ، ولا فُطْرَةْ
فارْحَمْهُمُ إنْ أَبْصَرُوا كعكةً
... في كَفِّ طِفلٍ ، أو رَأْوْا تَمْرَةْ
كَمْ قائلٍ : " يا أبَتَا " ، منهمُ
... قَطَعْتَ عنّا الخيرَ في كَرَّةْ
ما صِرْتَ تأتينا بِفَلْسٍ ، ولا
... بِدِرْهَمٍ وَرِقٍ ، ولا نُقْرةْ
وأنتَ فى خدمةِ قومٍ .. فهل
... تَخْدُمُهُمْ - يا أَبَتِي - سُخْرَةْ ؟!
وقد ظَلَّ هذا الشعرُ الإعلاميُّ الساخرُ ينهضُ بما تنهض به صُحُفُنا اليوم، حتى بعد ظهور الطباعة، وصُدُور الصحف في عصرنا الحديث، وذلك على ألسنة بعض أدبائنا المحدثين، مثل: عبد الله نديم، وحسين شفيق المصري، وبَيْرم التونسىِّ في شعره الفصيح .
...
وسوف يظلُّ الإعلامُ الشعريُّ، أو الشعرُ الإعلامىُّ مُزْدَهِرًا مُنتصرًا، في ساحة إعلامنا العربىّ ! .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
... ... إبراهيم الترزي
الأمين العام للمجمع(224/9)
- كلمة المجمع في تأبين الفقيد الراحل
للأستاذ فاروق شوشة عضو المجمع
سلام على إبراهيم
أيها الحفل الكريم: في الكلام عن فقيدنا الكبير إبراهيم الترزي كلام عن النفس، وحديث عن المشترك بيننا وهو كثير. كيف أُجرّده من ذاتي، لأعرضه وكأنه منفصل عني، وهو الذي صحبتهُ العمر الجميل من عُمرينا، صبًا ويفاعة وشبابًا وكهولة، منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى الرحيل. صارت الصحبة الطويلة امتزاجًا وتداخلاً، واتكاءً إلى جدار راسخ لم نكن نظن أنْ سيجىء يوم يريد فيه أن ينقض. لكنه الموت وحده، يملك أن يترصدنا من داخلنا وأن يستلنا من أنفسنا. فإذا هول المفاجأة موت أكبر من الموت. ووقع البغتة أشد إيلامًا من المنية وأقسى ترويعًا للعقل والوجدان.
هأنذا أطل في داخلي. أحاول أن أستحضر صورة إبراهيم وأستعيدها كما عرفته أول مرة. كنت أخطو خطواتي الأولى في كلية دار العلوم بينما يتهيأ هو للتخرج .. يجمع بيننا الشعر والمشاركة في ملتقيات الكلية الشعرية والأدبية. وما كان أكثرها وأغناها وأحفلها بتجليات الإبداع الشعري من شعراء الكلية ومن شعراء مصر الكبار من كل لون وجنس. المدارس والاتجاهات والتيارات كلها، تتلاقى وتتفاعل في محبة ومؤازرة، لايشوبها ما يشوب الواقع الأدبي اليوم من صراعات وأحقاد وضغائن وثارات. كان جوهر الشعر الحقيقي وكيمياؤه الحقيقية الوحيدة التي نلتقي من حولها. وكل منا يصغي- وهو يتعلم- إلى غيره. وإبراهيم بيننا وجدان زكي مرهف ومتابعة يقظة وصورة للإنسان الشاعر كما ينبغي أن يكون. يملؤها جميعًا زهو بدار العلوم، ورسوخ قدمها في عالم الإبداع، وامتلاء سمائها بالشموس والأقمار.
كان إبراهيم القادم من قريته بني عامر في محافظة الشرقية هو الفتى، إشراق وجه وبهاء طلعة ونضارة محيَّا. يتقدمه جبين أشم يطامن من كبريائه تواضع جم. كأن هو الفتى الذي عناه طرفة بقوله:
إذا القوم قالوا من فتى؟ خلتُ أنني
... عنيتُ فلم أكسل ولم أتبلدِ(225/1)
كان مختلفًا مظهرًا ومخبرًا. مخايل النعمة عليه بادية، حياؤه وعفة لسانه وفيض مودته صفات تتقدمه وتدل عليه. وكان قد سبقنا –نحن رفاقه- جميعًا إلى المجد أو ماكنا نسميه بالمجد في ذلك الحين. فاسمه يتردد في الإذاعة ليل نهار مقترنا بعشرات البرامج الغنائية والدرامية التي كتبها وارتبطت بنخبة من أعلام المخرجين والملحنين والمطربين: سيد بدير ومحمود السباع وحافظ عبد الوهاب. محمود الشريف وعبد الحليم نويرة وعزت الجاهلي وأحمد صدقي. سيد إسماعيل وفتحية أحمد وعائشة حسن وكارم محمود وعبد الغني السيد ومحمود قنديل وأحلام. كان اسمه يسبقه. نجمه الصاعد يدل عليه. وموهبته الشعرية الباكرة التي كانت قد أفصحت عن نفسها وهو طالب ما يزال في معهد الزقازيق الديني فلفتت إليه الأنظار والأسماع، وجعلت مشايخه وأساتذته يخصونه بالرعاية والعناية.
هو ذا ابن السادسة عشرة يشارك في احتفال معهده بمطلع العام الهجري لسنة ألف وتسعمائه وثلاث وأربعين، في ظل ويلات الحرب العالمية الثانية وجوها القاتم الذي يذكرنا بما نحن فيه الآن. يقول إبراهيم مُخاطبًا العام الجديد:
أأتيتَ بالبشرى هُدى وسلامًا
... أم جئت تنشر بيننا الآلاما
ياعام خبرنا فقد ضل الورى
... والأفق مصبوغ دمًا وضراما
آفاقك اكتحلت بلون همومنا
... لما ادلهمت وحشة وظلاما
والكون، كل الكون، بات مضيعًا
... ذاق الخراب فنكس الأعلاما
لا القلب يدركه الأمان، فيغتدي
... طيرًا يردد في الحمى الأنغاما
كلا، ولا النفس الحبيسة ترتوي
... لما أرادت أن تَبُلَّ أُواما
حربان: حرب في البلاد، وصنوها
... في النفس تُشعل فتكةً وضراما
ما عاد يُعرف للحقيقة أبلج
... عم البلاء فعطل الأفهاما(225/2)
... في دار العلوم، وفي عشرينيات العمر، يتاح لهذه الموهبة الشعرية مزيد من النضج والاكتمال والتألق. يتنفس شعر إبراهيم عبير ثقافته العربية والإسلامية. وتعانق لغته -الجزلة الرهيفة في آن – أقباس الإبداع الشعري في شتى عصوره عند أبرز أعلامه. ويفصح الشاعر فيه عن جوهره وحقيقته واتساع مداه. مازلت أحتفظ بين أوراق ذلك العهد بأبيات من قصيدة إبراهيم التي شارك بها في مهرجان الكلية الكبير لعام أربعة وخمسين. بل لعلي مازلت أتذكر المشهد كله: كان صوته عميقًا جياشًا متدفقًا، وإنشاده حزينًا نافذًا يلامس القلوب، وكلماته حارة تتوهج بالصدق والمعاناة وهو يقول:
السنونَ التى قطعنا عجِافُ
وخطى الناس رعشة وارت جافُ
وأنا حائر أقلب طرْفي
في فضاء قُطّانه الأطياف
إن قلبي لكم مراد فسيح
... ومكان يؤمه الألاف
اقصدوه، ففيه ظل ومأوى
... ولمن حار فيكم إيلافُ
ما الذي سدد القذيفة في القلب
... فصرنا من الحياة نخاف
نرِد المشرعَ الرويَّ لنروَي
... فتصد النفوس وهي تعاف
فكأن الوجود عيش ذميم
... وكأن الحياة كأس زُعافُ
طويت صفحة وجاء زمان
... تعبت من جنونه الأوصافُ
لست فيكم بناصح أو نذير
... أنا ياقوم عابر طوافُ
لن يغيب إبراهيم عن سماء كليته ومهرجاناتها الشعرية بعد تخرجه(225/3)
عام أربعة وخمسين. ستظل صلته بها وبنا حميمة وقوية وهو طالب بمعهد التربية العالي للمعلمين بجامعة عين شمس، ثم وهو مدرس للغة العربية بالمدرسة الإنجليزية في مصر الجديدة. ويتقدم – وهو الحاصل على الليسانس الممتازة مع مرتبة الشرف- للسنة التمهيدية للماجستير وبعدها يسجل موضوعه تحقيقًا لحلمه الأكاديمي. ويشجعه صديقه الكاتب عبد الفتاح الجمل- المشرف على الصفحات الأدبية في جريدة المساء- يشجعه على الكتابة فيها. وسُرعان ما يسطع نجم إبراهيم في مجال الصحافة الأدبية كاتبًا وناقدًا ومحققًا ومتابعًا في عشرات المقالات التي كانت تشغل صفحة بكاملها. لو عني إبراهيم بجمعها بعد نشرها لكان بين أيدينا الآن عدد وفير من الكتب يضاف إلى إنجازه الغنائي والدرامي – المسموع والمرئي- الذي سيستمر خلال ستينيات القرن الماضي وسبعينياته للعديد من الأعمال الباقية: في مقدمتها مسلسلات الخليل بن أحمد، الإمام الغزالي، الإمام البخاري، الأئمة الأربعة، الجاحظ أديب العربية، الكواكبي أبو الضغفاء، أبو خليل القباني رائد المسرح العربي، قراقوش المظلوم، مجالس هارون الرشيد، ابن تيمية، الجزار الشاعر، سهرة رمضانية في العصر المملوكى وظرفاء من مصر. كان التحدي الذي يواجهه كيف يطوّع اللغة العربية لتكون لغة حوار في كل هذه الأعمال الدرامية؟ كيف يُنطق الجزَّار الشاعر ولداته من الشخصيات الشعبية بلغة عربية سليمة، لا تفسد الدراما، بل تكون إضافة وإثراء للإبداع التمثيلي المؤلف بالفصحى. ولم يقنع إبراهيم بغير النجاح الجماهيري الواسع الذي جاء بمثابة قياس لرأي الناس وشهادة للعربية عندما يتمرس بها كاتب صناع.(225/4)
كان الفتى يحتشد بكل ما يمتلكه من إمكانيات فنية وثقافية وأدبية ولغوية لدور في الحياة كبير. بينما كانت الأقدار تضمر له تغييرًا حادًّا في المسار. فإذا به بين يوم وليلة من عام ألف وتسعمائه وواحد وستين يترك عمله في التدريس – في مدرسة أجنبية راقية – ومجده الصحفي والإذاعي الباهر، ليلتحق بمجمع اللغة العربية، محررًا بالمعجم الكبير. المعجم الكبير الذي سُيقدرُ لإبراهيم في مقبل الأيام أن يكون مقرر لجنته بعد أن أسند إليه الراحل الكبير الدكتور إبراهيم بيومي مدكور عبء اللجنة عندما أصبح رئيسًا للمجمع، ورأى في إبراهيم خير خلف. المعجم الكبير! لكأننا نحتفل الآن بانقضاء أربعين عامًا متصلة قضاها إبراهيم بين مواده وأوراقه وتجاربه وتحقيقاته اللغوية وشواهده بدأت منذ اليوم الأول لالتحاقه بالمجمع حتى يومه الأخير، يوم رحيله عنه وعنا.
لقد وجد الفتى في مجمع الخالدين حُلمه وضالته المنشودة، وجد العامري القادم من بني عامر ليلاه ومعشوقته التي لن يشرك في محبتها ولن يتخلى عنها حتى الرمق الأخير. من أجل هذه المعشوقة يودّع إبراهيم حلمه الأكاديمي، فلا ماجستير ولا دكتوراه. ويودع عالم الكتابة الغنائية وهو الذي كان من فرسانها المعدودين. وكلما راودته الكتابة للإذاعة أو شاغلته الكتابة للتليفزيون أسفر وجهُ معشوقته المجمعية، تصرفُه عن غَواية كان استمرار إبداعه فيها كفيلاً بوضعه في الصف الأول من المبدعين والمؤسسين. ثم هو يقاوم إغراء العمل بعيدًا عن المجمع، كما فعل غيره ممن اقتطعوا بعضًا من أعمارهم في الخليج وفي غير الخليج. يحترقون ليضيئوا، ويعانون في الغربة ويقاسون ليبنوا ويشيدوا بلادًا ومجتمعات. لكن عشقه المجمعي عصمه وأقعده وأبقاه، منتصرًا على الغواية والإغراء.(225/5)
لا أظنني سأنسى ما عشت وقفة إبراهيم إلى جواري شادًّا من أزري ومشيرًا علىّ، حين بدأت في تقديم برنامج لغتنا الجميلة في مستهل شهر سبتمبر من عام سبعة وستين. كان الوَجلُ يملؤني. التفكير في شكل البرنامج وصورته لمّا يصل بي بعد إلى الهدف المنشود. وسرعان ما جعل إبراهيم من نفسه – وقد استشعر بحسه اللغوي القوي وإيمانه بالعربية أهمية الرسالة التي يتصدى لها البرنامج – جعل من نفسه مستشارًا للبرنامج- وفتح لي من خزائن مكتبته الخاصة، ومكتبة المجمع، ماهيأ لي العديد من المصادر والروافد. وراح يدلني على اللفتات والمُلح والتصويبات التي ينبغي أن أتوقف عندها، مركزًا على منجزات المجمع وقراراته العلمية. فكان برنامج لغتنا الجميلة أول برنامج يذيع على الناس كل ما يتصل بالمجمع من التيسيرات والاجتهادات اللغوية وألفاظ الحضارة ومصطلحات العلوم والألفاظ والأساليب. وبعد أربعة وثلاثين عامًا من عمر البرنامج، ألتفت الآن إلى الوراء وأقول: لقد كان إبراهيم في طليعة من أسسوا للبرنامج، واحتضنوه، وضمنوا له بداية صحيحة، في سنواته الأولى.
ولن أنسى أيضًا ما كان يفيض به إبراهيم علىّ- وأنا المسؤل الإذاعي في مواقع مختلفة- من عشرات الأفكار لعشرات البرامج الجديدة، نتلقفها منه مع مطالع كل دورة إذاعية وكل خريطة رمضانية. مخزونه من الأفكار لا ينضب، ومعينه دائم التجدد والتدفق، وحدبه على أصدقائه ورفاقه- وهم الذين يجايلونه في العمر- يجعله دومًا في موضع الأب حياطة ورعاية. كان حب الخير وحب الناس يجرى في دمه، فكيف يخونه دمه، كما قال العقاد؟.(225/6)
ولا أظنني عرفت أحدًا، ولا أنني سأعرف في مقبل الأيام أحدًا – سيطرت عليه الفكرة المجمعية وتملكت عليه نفسه وحركته، يومه وليله، دقائق عمره وثوانيه كإبراهيم. المجمع قدس أقداسه. وهواء المجمع أنفاسه التي بها يعيش. وصحبة المجمع هي كل ثروته من الدنيا. كان أشد ما يعذبه في سنواته الأخيرة – وقد أًصبح عضوًا في المجمع عام تسعة وثمانين، ثم أمينًا عامًّا للمجمع عام ثلاثة وتسعين – أنه قد أدرك العهد الذي كانت فيه أروقة المجمع وقاعاته تزدان بالأعلام من أصحاب القامات والهامات العلية: طه حسين، والعقاد وتيمور، وعزيز أباظة، وأحمد زكي، وأمين الخولي، ومهدي علام، ومحمد كامل حسين، والباقوري، والزيات، وأحمد بدوي، وتوفيق دياب، ومصطفى نظيف، ومحمود شاكر، وإبراهيم مدكور، وغيرهم ممن كان يفاخر باقترابه منهم ثم بصحبته لكثير منهم، باعتبارهم آباءه وأساتذته مُردّدًا قول الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
... إذا جمعتنا يا جرير المجامع
... الطريف أن قائل هذا البيت لم يدر بخلده الاستعمال العصري لكلمة المجامع "جمع مجمع" وإن كان المعجم الكبير في حرف الميم لم يعترف بهذا البيت ضمن شواهده على مجمع ومجامع!
كان إبراهيم يأسى- كلما تلفت حوله- فلم يجد أحدًا من هؤلاء الأساتذة والآباء.
... هذه الفكرة المجمعية وهذا الهيام بكل ما هو مجمعي، يتجلى في ثنايا كلمته التي ألقاها في يوم استقباله عضوًا بالمجمع وهو يتحدث عن فهمه لرسالة المجمع ورؤيته للعمل المجمعي، ويقول في لغة جميلة رصينة:
"ليست عضوية المجمع جاهًا علميًّا وأديبًّا تطمح إليه الصفوة من العلماء والأدباء، وإن فاقت هذه العضوية- كل جاه علمي وأدبي".
... وليست عضوية المجمع مكانة رفيعة، تهوي إليها أفئدة أعلام الفكر في مصر وغير مصر، من عرب ومستعربين. وإن طاولت هذه العضوية في سُموها كلَّ مكانة لهؤلاء الأعلام في الشرق والغرب.(225/7)
... ليست عضوية المجمع هذا كلَّه فحسب، فهي تبعة ثقيلة جليلة، ينوء بها العلماء أولو القوة وهي عمل دءوب متواصل لا يعتريه كلال ولا ملال وهي هجرة من شواغل الحياة إلى محراب العربية، ولكنها هجرة لا تعزل بل تتصل. ولا تغترب بل تقترب. ولا تنغلق بل تنطلق.
... وعضوية المجمع بعد هذا كله، بل قبل هذا كله، رسالة من أجل لغة يكفيها شرفًا أن الله اصطفاها لتكون لغة كتابه الكريم. وليس بعد هذا تشريف لهذه اللغة ولمن يؤدون رسالتها من الخالدين".
... كان إبراهيم ثاني ثلاثة أتيح لهم بعد الانتهاء من العمل الإداري بالمجمع شرف عضوية المجمع. كان أولهم العالم الجليل الأستاذ شوقي أمين الذي سبق بالرحيل. أما الثالث فهو العالم المحقق الأستاذ مصطفى حجازي بارك الله في عمره وعطائه. وكان وراء ترشيحهم للعضوية وفوزهم بها علم واسع وثقافة لغوية عالية ووعي برسالة المجمع ودوره في خدمة اللغة. وعن هذه الخبرة المجمعية الطويلة التي سبقت عضويته بالمجمع على مدار ثلاثين عامًا، يقول إبراهيم في كلمته في يوم استقباله:
"أحمد الله تعالى. فقد جعلني على شريعة من أمر العمل بالمجمع، سنوات طال مداها حتى شارفت الثلاثين. ومازلت بحمد الله على جادة الشريعة المجمعية أسوس جهازها العلمي والإداري ما وسعني جهدي كي يعمل بكل طاقته في لجان المجمع ومجلسه ومؤتمره، حيث تدور كلها في فلك العربية، مصطلحات لكل ما يجد من علوم عصرنا وفنونه، وقراراتٍ في شؤون لغتنا تيسيرًا وتصويبًا، وموادّ مُعجمية لا تغادر صغيرةً ولا كبيرة من قديم ولا جديد إلا أحصتها. ثم تقدم للناس معجمات دانيةً قطوفُها لكل مستوى ثقافي، مختلفةً صنوفُها في كل مجال علمي وفني".
وأشهد، وتشهدون، لقد قام إبراهيم برسالته المجمعية خير قيام. عضوًا وأمينًا عامًّا ومقررًا للجنة المعجم الكبير، مهندسًا لمؤتمراته، وجامعًا للتراث المجمعي في مؤلفه الضخم:(225/8)
"التراث المجمعي في خمسين عامًا". مشاركًا في إعداد مجموعة القرارات المجمعية العلمية ومجموعة قرارات الألفاظ والأساليب ورئيسًا لتحرير مجلة المجمع.
... ولم يفته- بالرغم من كل هذه الشواغل- أن يحقق الجزأين العاشر، والثاني والثلاثين من معجم تاج العروس، والجزء الرابع من سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد. وأن يشارك بجهد موفور في استقبال أعضاء المجمع كوكبة بعد كوكبة. ولقد كنت آخر من استقبلهم إبراهيم، ومعي الزميلان الكريمان الدكتور أحمد علم الدين الجندي والدكتور أحمد مختار عمر، ولم يدر بخلدي- لحظة واحدة- أني بعد استقباله بعامين وبضعة أشهر، سأجلس في مكانه مؤبنًا له باسم بالمجمع، وهو الذي أضفى علينا- في يوم الاستقبال- من ذوب قلبه ومحبته وعلمه الكثير. وغمرنا بحفاوته التي كانت دومًا سمتًا من سمات شهامته ونبله ومروءته. هنا في المجمع، وهناك في جلسات بيته العامر، التي كثيرًا ما جمعتنا – نحن أصدقاءه ورفاقه في الدرس والحياة – بأعيان المجمع من العلماء، وضيوف المجمع من علماء العربية القادمين من شتى بقاع الوطن العربي. ويسفر إبراهيم عن وجهه الشرقاوي الأصيل حين يمتد سماطه الحافل ليصبح ندوة ثقافية وأدبية ولغوية. أذكر هذا لأحيّى إنسانة عظيمة نادرة هي السيدة الفاضلة رفيقة حياته، التي آزرتْه نعم المؤازرة وهيأت له من الحياة الهادئة والتفرغ الكامل ما صان وقته وجهده للبحث والكتابة والتحقيق والمراجعة. كما أحيي أبناءً بررة حرصوا على أن يكون لأبيهم ما يريده من هدوء البال وصفاء العيش والوقت الخالص للبحث والتأمل .(225/9)
هأنذا أتلفت حولي فلا أجد إبراهيم بيننا، كما كان دائمًا. كل ما أستطيعه أن أجرده من ذاتي وأتكلم عنه كأنه منفصل عني، مفتقدًا فيه الصديق الصدوق والإنسان الجميل والفنان المبدع والعالم الجاد والباحث الدءوب والمجمعي الحقيقي. لقد رحل إبراهيم كما يرحل النسيم، مُخلفًا عطره الفواح وسيرته الذكية، تاركًا أثره في قلوب أصدقائه وأحبائه وزملائه المجمعيين، وفي قلوب أسرة العاملين بالمجمع، الذين استظلوا بزمالته وأخوته وأبوته على امتداد أربعين عامًا من الزمان، فلم يجدوا فيه دومًا إلا القيادة الحانية والحزم الشفيق والأنس الأنيس، والمشاركة في السراء والضراء. حتى لكأنه المعنى بهذه الأبيات البديعة لأبي تمام:
هُذِّب في جنسِهِ، ونالَ المدى
... بنفسِهِ، فَهْوَ وحْدَه جِنْسُ
ضُمِّخ من لونه، فجاء كأنْ
قدْ كَسَفَتْ في أديمه الشمسُ
يشتاقُه مِنْ كما لهِ غدُه
... ويُكثر الوجْدَ نحوه الأمس
أيامُنا في ظلاله أبدًا
فصلُ ربيعٍ ودهرُنا عُرس
لا كأناسٍ قد أصبحوا صدأ الـ
عيش كأنَّ الدنيا بِهمْ حَبس
القربُ منهمْ بُعدٌ من الروح والـ
وحشة مِنْ مِثْلِهم هي الأنسُ
فاروق شوشة
عضو المجمع
...(225/10)
التصويب اللغوي في وسائل الإعلام العربي
بين المشرق والمغرب *
للأستاذ الدكتور محمد بنشريفة
... من المعروف أن حركة التصويب بدأت حين ظهر الخطأ أول مرة في أواخر القرن الأول للهجرة، بعد الفتوح الإسلامية واختلاط العرب بغيرهم من الشعوب التي دخلت في الإسلام وتكلمت بلغة القرآن، فظهر الخطأ وسمع اللحن وكان هذا دافعًا إلى حماية العربية وسببًا لنشوء ما سمّي بمبدأ تنقية اللغة(1)، وظهور نوع من المؤلفات في لحن العامة بدأها علي بن حمزة الكسائي، ونحا نحوه آخرون من مختلف العصور في المشرق والمغرب. وقد عدّ بعض الباحثين أزيد من خمسين كتابًا من تراث لحن العامة (2). ولهذا التراث فائدة كبيرة في دراسة التطور اللغوي ومعرفة مظاهره في مختلف الأعصار والأمصار العربية (3)، وينبغي أن أشير إلى أن
المقصود بالعامة في الكتب المذكورة هم من يمكن تسميتهم بعامة الخاصة أو من يدعون اليوم أنصاف المثقَّفين، وهذا المعنى هو الذي يوضحه أبو بكر الزبيدي بقوله:
" فألفيت جملاً … ممّا أفسدته العامة عندنا، فأحالوا لفظه أو وضعوه في غير موضعه، وتابعهم على ذلك الكثرة من الخاصة، حتى ضمَّنته الشعراء أشعارهم واستعمله جلة الكتاب وعلية الخدمة في رسائلهم" (4).
وذكر بعد هذا أنه لم يجتلب "ما أفسده دهماؤهم وسقّاطهم مما عسى أن لا يعزب عمّن تمسّك بطرف من الفهم"(5)، ومما يدل على هذا أيضًا عناوين بعض الكتب التي ألفت في اللحن، مثل:"درة الغواص في أوهام العوام والخواص" للحريري، و"التنبيه
على غلط الجاهل والنبيه" لابن كمال باشا.
ونشير أيضًا إلى أن هذا الذي سمّاه الأقدمون لحنًا يعتبره اللغويون المحدثون تطوّرًا لغويًّا نشأ من طبيعة اللغة باعتبارها كائنًا حيًّا يخضع لما يخضع له الكائن الحي من نشأة ونموّ وقوّة وضعف .
وقد ظهرت أبحاث بهذا المعنى أنجزها عرب ومستعربون (6).(226/1)
ولما صدرت الجرائد في العصر الحديث– وهي أول وسائل الإعلام ظهورًا- عاد المؤلفون إلى الحديث عن التصويب اللغوي والتأليف فيه، ولعلّ أول هؤلاء المؤلفين المحدثين هو الشيخ إبراهيم اليازجي صاحب كتاب "لغة الجرائد " (7).
وقام فيه "بتصحيح ما تداولته الأقلام من الأوهام"، وقد وجد أن بعض الأوهام التي وقع فيها أصحاب هذه الأقلام وقعت قبلهم لقوم من أكابر الكتاب، ومن أمثلة ذلك قولهم: لا يخفاك أن الأمر كذا، فقد جاء في "نفح الطيب" للمقري: "ولا يخفاك حسن هذه العبارة"(8)، والصواب: ولا يخفى عليك.
وقد كان اليازجي أول من أشار إلى تأثير اللهجة العامية والترجمة الحرفية عن اللغات الأجنبية في العربية الحديثة، وهو التأثير الذي طما بحره بعد ذلك .
ومن الغريب أن الأخطاء اللغوية التي ذكرها اليازجي ومن جاء بعده ما يزال بعض الكتاب يرتكبونها إلى الآن، وقد تحدث مؤلف كتاب "أخطاؤنا في الصحف والدواوين" عن هذا الحال، فقال: "وعندي أن إصلاح كلام هذه الفئة لا يكون بالتنبيه على عثراتها والإشارة إلى ما ينبغي إطراحه من مصطلحاتها ومواضعاتها، فهذا أمر يطول حديثه ولا يقنع، ولو ألّف فيه معجم كاللسان، ولا سبيل لمعالجة الداء إلاّ بتعهّد أسبابه الأولى وتدبّر علله الأصلية، فكتابنا من لغتهم على ما رأيت من البعد والغربة، ومن الاعتزال والوحشة، فلا مندوحة إذًا عن اقترابهم منها بالتلطُّف لها، والتوفر على دراستها" (9).
لقد قيل هذا الكلام في الأربعينيات من القرن الماضي وهي سنوات كان فيها بعض من يكتبون في الصحف بمصر والشام والعراق من أئمَّة البيان، فأين نحن الآن، من ذلك الزمان .(226/2)
لكن الإنصاف يوجب ألا نبخس الصحافة حقَّها. ويفرض أن نعترف بفضلها، ونشيد بدورها في إحياء اللغة الفصحى، وإشاعتها بين الناس، وإسهامها في جعل كثير من المفاهيم والمصطلحات متداولة ومستعملة عندهم، وكذلك الإذاعة التي كان لظهورها في البلاد العربية أثر عظيم فيما ذكرنا لعله فاق أثر الصحافة، وأستشهد هنا على سبيل المثال بكلمة للشيخ محمد الفاضل بن عاشور وهي قوله :
" لما شاعت أحاديث المذياع في أوساط الأمّيين كثرت ورود الألفاظ والتراكيب الفصحى على أسماعهم فألفوها، وبذلك بدأت المفردات العامية تتناقص، والمفردات الفصحى تكثر، وصيغ النطق تعتدل، حتى تطوّرت اللهجة العامية تطوُّرًا عظيمًا، وذلك من أمتن دعائم الوحدة العربية الكاملة"(10).
إن التصويب اللغوي في وسائل الإعلام الذي اهتم به عدد من المؤلِّفين طَوَال القرن الماضي نشأ عنه رأيان :
أحدهما يدعو إلى حماية اللغة وصيانتها وتنقيتها وصفائها، وينتقد أي محاولة للخروج عن سننها المقرَّرة، ولا يسكت عن أي تهاون في الأخذ بها، ومعظم المجمعيين والجامعيين من أصحاب هذا الرأي، وسأختار مثالاً له من محاضرة للجامعي المجمعي سعيد الأفغاني تحدث فيها عن لغة الخبر الإعلامي في الوكالة العربية السورية للأنباء ، ومما جاء فيها :
" وصرنا نلمس في غير ما قطر عربي ضعف بعض المذيعين في ثقافتهم عامّة وفي لغتهم العربية خاصة، فصارت بعض الأحيان أداة هدامة تهدم كلّ ما تعب في بنائه مدرّسو اللغة. وطَفِقت الدول تنفق على الإذاعات عشرات الملايين لهدم ما أنفقت في بنائه مئات الملايين، وينبغي مكافحة هذا الوباء في الصّحافة والإذاعة وسائر أجهزة الإعلام " (11).
ومن جملة ما دعا إلى تصويبه قولهم: القانون الدُّوَلي بضم الدال وفتح الواو، والصواب الدَّوْلي بفتح الدال وسكون الواو (12).(226/3)
أما الرأي الثاني فيدعو أصحابه إلى تبسيط اللغة وتقريبها من أكبر عدد من القراء والمستمعين، وهم يقولون: إن الفضل فيما وصلت إليه العربية الحديثة يرجع إلى الصحافة ، وجل أصحاب هذا الرأي من الصِّحافيين، ومنهم أديب مروة الذي يقول: " إن الأسلوب السهل المشرق الذي وصلنا إليه اليوم في الكتابة بلغتنا العربية لا يعود الفضل فيه إلى معلِّمي اللغة في المدارس والكليات، ولا يعود الفضل فيه إلى الكتاب والأدباء القدامى، بل الفضل الأول في هذا الأسلوب يعود إلى صحافة اليوم" (13) .
ويرى عبد اللطيف حمزة أن "المعين الأول الذي يستقي منه المعجم اللغوي للصحافة في كل أمة من الأمم هو الشعب"(14). وقد ذهب إلى أن لغة الصحافة إنما هي عامية معربة، أو مفصَّحة. وقال :
"والعجب كل العجب أن نرى بعض المجدِّدين في الأدب يطالبون ملحِّين بين الحين والحين باصطناع اللهجة العامية في الكتابة تيسيرًا على القراء وإشراكًا لأكبر عدد منهم في التعليم والثقافة. وما درى هؤلاء المجدِّدون، وهم يتعبون أنفسهم في هذا السبيل، أن الصحافة الشعبية تقوم لهم بهذا العمل الجليل، وتتقدم كل يوم خطوة جديدة نحو هذه الغاية، ولكن من غير أن تثير عليها ضجَّة من جانب المحافظين المتزمتين الذين يحمون اللغة الفصيحة من أن يتسرب إليها بعض الألفاظ والجمل التي ليست منها في الحقيقة" .
ويبدو أن هذا الرأي الذي يدعو إلى استعمال لغة خفيفة من وسائل الإعلام هو الرأي الغالب الآن ، ويسمي بعضهم هذه اللغة الفصحى المعاصرة.(226/4)
أنتقل بعد هذه اللمحة السريعة عن حركة التصويب اللغوي في وسائل الإعلام بالمشرق إلى الحديث عن التصويب اللغوي في المغرب، وهو قليل بالقياس إلى ما رأيناه لدى المشارقة، وسبب ذلك أن الصحف لم تظهر في المغرب إلاّ في عهد متأخر، وكانت جريدة " السعادة" التي صدرت في طنجة سنة 1904 ثم نقلت إلى الرباط حيث ظلّت تصدر إلى سنة 1956 هي أطول الجرائد عمرًا في عهد الحماية الفرنسية، وقد أشرف على تحريرها في العقود الأولى بعض اللبنانيين والجزائريين الذين استقدمتهم الإدارة الفرنسية (15)، وكان كتابها ومراسلوها من بعض المغاربة الذين درسوا العلوم الدينية والأدبية(16)، ولهذا كانوا يحافظون على جودة الأسلوب ونصاعته، ويمكن تشبيه هذه الجريدة من حيث الهدف والأسلوب بجريدة " المقطَّم والمؤيد" في مصر :
وفي العَقد الثالث وما بعده من القرن الماضي ظهرت صحف أنشأتها الحركة الوطنية في شمالي المغرب وجنوبيِّه، وأشهرها جريدة "العلم" التي ما تزال تصدر إلى الآن، ولم يكن في هذه الصحف الوطنية ولا في تلك الصحف الرسمية صحافيون محترفون كما كان الأمر في المشرق، وإنما كان معظمهم ممن درس في المعاهد الأصلية، ومنهم من درس في المدارس التي أنشأتها إدارة الحماية الفرنسية(17) وكانوا في الجملة يتابعون ما يصل إلى المغرب من الجرائد والمجلاّت المصرية وغيرها، فيتأثرون بأساليبها.(226/5)
ولما كان استقلال المغرب حَدَثَ تطور كبير في التعليم ووسائل الإعلام من حيث الكم، ولكن كان لذلك تأثير على الكيف، وأسهم فيه انتشار اللغة الفرنسية في عهد الاستقلال انتشارًا لم يعرفه المغرب في عهد الحماية فأصبحت الثنائية اللغوية في المغرب أمرًا واقعًا طوال النصف الأخير من القرن المنصرم وما تزال، وفي هذه الحقبة ظهر الضعف اللغوي في وسائل الإعلام، وظهرت بعض الكتابات في التصويب اللغوي، ولعل أشهرها ما كتبه الدكتور تقي الدين الهلالي، فقد نشر سلسلة مقالات في مجلة "دعوة الحق" التي تصدرها وزارة الأوقاف بالمغرب وسمّاها "تقويم اللسانين". قال:
" المراد باللسانين : اللسان والقلم، فإن العرب تقول : القلم أحد اللسانين، والمقصود هنا إصلاح الأخطاء التي تفاقم أمرها في هذا الزمان حتى أصبحت مألوفة عند أكثر الخاصة بَلْهَ العامة، فشوهت وجه اللسان العربي المبين، ورنّقت صفو زُلالِه المَعين" (19) وقد بدا لهذا العالم المغربي الذي طوّف كثيرًا ومارس العمل في الإذاعة والصحافة وزاول التأليف والترجمة أن يحذو حذو إبراهيم اليازجي وأسعد داغر، ويكتب في موضوع التصويب، "أداء الواجب للغة الضاد، وصونًا لجمالها من الفساد " .
وقد نبّه تقي الدين الهلالي في هذه المقالات على أشياء لم يذكرها غيره ممن كتب في الموضوع، ولكنه كان يطيل حبل الكلام، ويخرج إلى الاستطراد، ويحتد في الرد؛ ولهذا لا يقبل بعض القراء على ما يكتبه (20).
وممن لهم إسهام في التصويب اللغوي بالمغرب، عبد الله كنون، ومحمد الفاسي، ومحمد بن تاويت، ومحمد الحلوى، وأحمد الأخضر، وغيرهم (21).(226/6)
ولما تأسست أكاديمية المملكة المغربية في سنة 1980 كان السّهر على سلامة اللغة العربية وحسن استعمالها من الأهداف المنصوص عليها في قانونها التأسيسي (22)، وتحاول لجنة اللغة العربية في الأكاديمية العمل على تحقيق هذا الهدف بالتعاون مع المشرفين على وسائل الإعلام والتعليم والترجمة، وقد قامت بجهود في جميع هذه المجالات، فرصدت الاستعمال اللغوي في الإذاعة والتلفزة والصِّحافة، وحصَرت مجموعة من الأخطاء، وقامت بتصويبها في قوائم وجّهتها إلى وسائل الإعلام المذكورة (23).
وقدمت مقترحات إلى المسؤولين عن الإعلام كان منها :
1- تقوية دروس اللغة العربية في المعهد العالي للصحافة .
2- العناية بتدريب الطلاّب في هذا المعهد على حسن الإلقاء والتلاوة.
3- حسن اختيار العاملين في أجهزة الإعلام، وإسناد العمل لمن هو أهل له.
4- تعيين مراجعين لغويين في الإذاعة، والتلفزة، والصحف.
5- تنظيم دورات تدريبية منتظمة للمحرِّرين، والمذيعين، ومقدِّمي البرامج في الإذاعة، والتلفزة.
6- إحداث جوائز تشجيعية تمنحها وزارة الإعلام للمتفوِّقين في العمل الإذاعي والتلفزي المتميّزين بحسن استعمال اللغة العربية تحريرًا وإلقاء.
ولتيسير الأداء اللغوي السليم أشارت لجنة اللغة العربية على المسؤولين عن وسائل الإعلام بتوفير بعض الوسائل التكميلية، ومنها :
1- شكل الكلام المكتوب والمرقوم وضبطه بإشراف مراجعين لغويِّين .
2- توفير معاجم المصطلحات الإعلامية الميسَّرة ومعاجم الألفاظ الشائعة في ميادين العلم والثقافة والحضارة.
3- توفير "معجم جغرافي" يضبط أسماء الأماكن والبلدان(24).(226/7)
وقد تعزّز عمل لجنة اللغة العربية في الأكاديمية بتنظيم ندوة حول "قضايا استعمال اللغة العربية في المغرب"، شارك فيها أكاديميون ومجمعيون وجامعيون من المغرب وبعض الأقطار العربية، وتناولت أبحاث المشاركين في الندوة قضايا المعجم العربي، والرصيد اللغوي، والتعريب، والترجمة، والمصطلح، والازدواجية اللغوية، ومناهج تعليم اللغة العربية، وأثر لغة الصحافة ووسائل الإعلام في تطوير اللغة العربية وتنميتها، وقد نشرت الأكاديمية هذه الأبحاث ضمن سلسلة الندوات من مطبوعات الأكاديمية (25).
وكان للجنة اللغة العربية اهتمام كبير كذلك بدراسة موضوع الترجمة، إذ من أهداف الأكاديمية أيضًا السهر على إتقان الترجمة من اللغة العربية وإليها، وقد صدرت عنها مقترحات وتوصيات في هذا الموضوع، منها التأكيد على توافر الشروط الضرورية فيمن يقوم بالترجمة كإتقان اللغتين المترجم منها والمترجم إليها، والتخصص في المادة التي هي موضوع الترجمة، وتوافر أدوات العمل الضرورية كالمعاجم المتخصِّصة ومضابط المجامع اللغوية، وقد وجهت تنبيهات إلى المعنيين بأمر الترجمة حول ما شاع من فساد في ترجمة عدد من مفاهيم الحضارة، والثقافة، والتِّقانة، والأعلام الجغرافية، وغيرها. ودعت إلى توحيد الضوابط الخاصة بكتابة الأعلام الأجنبية بالحروف العربية، وتقدمت بمشروع لإنشاء معهد عالٍ لضبط المصطلحات والترجمة، ونظمت ندوة للترجمة العلْمية، شارك فيها باحثون من المغرب والمشرق، وقد نشرت أعمال هذه الندوة كذلك ضمن سلسلة الندوات التي تصدر عن الأكاديمية(26).
ومن المواضيع التي دُرست في لجنة اللغة العربية أيضًا موضوع "الحرف العربي والتكنولوجيا" وقد عُقدت له ندوة ساهم فيها خبراء في تكنولوجيا المعلوميات، وكانت الغاية المنشودة منها هي البحث عن أحسن وجه لتعامل الحرف العربي مع هذه التكنولوجيا المتطوَّرة (27).(226/8)
وقد كان للّجنة أيضًا رأي في إصلاح التعليم، وتحسين برامج اللغة العربية، ومراجعة بعض المعاجم التي عرضت عليها .
ونحن نتعاون كذلك مع اتحاد المجامع العربية في مختلف الأعمال التي يدعو إليها .
إن هذه الجهود التي عرضتُ عناوينها باقتضاب شديد هي دون مطامحنا المنشودة؛ لأن اللجنة كانت تعتمد على جهود أعضائها، وعددهم محدود ، وهي تفكر الآن في الأخذ بنظام الخبراء واختيارهم من بين الأساتذة الجامعيين للاستعانة بهم في إنجاز برامجها .
وأريد أن أنوِّه بجهود تقوم بها بعض المؤسسات عندنا في خدمة اللغة العربية ومنها مكتب تنسيق التعريب الذي يواصل عمله الجليل من خلال المعاجم ومجلة "اللسان العربي" .
ومنها معهد الدراسات والأبحاث للتعريب الذي ينظِّم ندوات، ويدعو إلى محاضرات، ويصدر بانتظام مجلة أبحاث لسانية، وقد نشر في السنوات الأخيرة معاجم في المعلوميات والتعمير والنباتيات .
وللجامعات المغربية وبعض الجمعيات وبعض الأفراد جهود مشكورة في خدمة اللسان العربي.
بيْد أن اللغة العربية التي هي اللغة الرسمية بنص الدستور ما تزال مضارَّة باللغة الفرنسية في مجالات متعدِّدة، وهي إلى الآن ليست اللغة المستعملة في دوائر المال والاقتصاد، كما أن الثنائية اللغوية في التعليم والصِّحافة والإذاعة والتلفزة ما تزال سارية، ولعل أبلغ ما يدل على هذا الوضع هو العنوان التالي:
" ما مستقبل جريدة تصدر بالعربية في المغرب؟ "
وهو عنوان مقالة كتبها الصحفي والوزير السابق في الإعلام محمد العربي المساري، وقد بدأها بقوله :
" يطرح هذا السؤال للاعتبارات التالية وهي :
أن الثنائية اللغوية في المغرب مستقرة وهي في تفاعل مستمر.
وأن هناك عوامل تؤثر بشكل خاص على أداء الصحيفة الصادرة بالعربية في المغرب.(226/9)
وأن الارتباط باتفاق شراكة مع الاتحاد الأوربي في أفق 2010 سيجعل للصحيفة الصادرة بلغة أوربية مكانة متزايدة الأهمية في المناخ الاقتصادي والسياسي في مغرب الغد"، ومما جاء في هذه المقالة "أن هناك تفوقًا ملموسًا للفرنسية يتجلى في أشياء متعددة من فاتورة المعاملات التجارية إلى الورقة الإدارية البسيطة فضلاً عن أن التقارير والمذكرات التي تتحرك من دواليب الإدارة كلها محرَّرة بالفرنسية، وقد زادت هذه الظاهرة غلوًّا واستفحالاً في السنين الأخيرة واستقر طبع التداول بالفرنسية في الاجتماعات والندوات كمسألة بديهية لا تثير سؤالاً" (28).
وأشار إلى هذا الوضع الغريب أيضًا جامعي لغوي هو الدكتور عبد القادر الفاسي الذي يقول : " إننا – بالرغم من كون اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة للبلاد نشهد تحولاً في غير صالح العربية أحد تمظهراته تزايد مستمر في تحرير النصوص والمراسلات الرسمية أكثر فأكثر بالفرنسية، ونجد إلى جانب هذا صيغًا معربة لهذه النصوص، لكنها مكتوبة غالبًا بلغة غير مفهومة، فأين يكمن الخلل وكيف يمكن تجاوز هذا الوضع؟".
وقد قرأت أعمال الندوتين اللتين نظمهما معهد الدراسات والأبحاث للتعريب في موضوعي "عربية الصِّحافة"، و"العربية في الاقتصاد والإدارة"، وشارك فيهما جامعيون وصحفيون وإداريون، فوجدت في أبحاثهم غيرة صادقة على اللغة العربية ودعوة مؤكدة إلى تعميمها في الإدارة وتوظيفها في ميادين المال والاقتصاد، مع الانفتاح على تجارب الدول العربية في هذه الميادين .(226/10)
ولعل مما يدعو إلى التفاؤل بمستقبل اللغة العربية عندنا أن مزدوجي اللغة عندما يحاولون التحدث بالعربية، في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، يجتهدون في أن يكون كلامهم بلغة معربة ميسَّرة، وليس بالعامية الدارجة وسبب هذا – فيما أرى – أن عاميتنا المغربية ليست متطورة كبعض العاميات المشرقية والمتداولة التي نجدها اليوم تزاحم الفصحى وتنتشر عبر القنوات المختلفة في المسلسلات وغيرها.
ومن هنا نقول: إن العامية الدارجة المغربية لا تنافس الفصحى وإنما اللغة الأجنبية هي التي تضارُّها وتضرُّ بها، ولما كانت اللغة أو اللغات الأجنبية مما لا بد منه للانفتاح على
المعارف والعلوم العصرية، فإنه ينبغي أن يُراعى في توظيفها أن تكون في خدمة اللغة العربية .
محمد بنشريفة
عضو المجمع من المغرب
المراجع
1- العربية : 100-110 يوهان فك.
2- لحن العامة والتطور اللغوي: 97-100، تأليف الدكتور رمضان عبد التواب.
3- العربية : 100-110 .
4- لحن العوام للزبيدي ، تحقيق الدكتور. رمضان عبد التواب.
5- نفسه .
6- منها كتاب "التطور اللغوي التاريخي" للدكتور إبراهيم السامرائي وكتاب "لحن العامة والتطور اللغوي" للدكتور رمضان عبد التواب، وكتاب "العربي" ليوهان فك وغيرها.
7- نشرها في مجلة الضياء وجمعها مصطفى توفيق المؤيدي وطبعها في القاهرة.
8- نفح الطيب .
9- نقلاً عن كتاب لحن العامة والتطور اللغوي: 350 .
10- ورد في ندوة الإذاعة الصوتية حاضرها ومستقبلها، تونس 1982.
11- لغة الخبر الإعلامي في الوكالة العربية السورية، دورة الخبر في الإعلام، دمشق 1983، ص 131 .
12- نفسه: 149، ويقول مصطفى جواد: إن النسبة إلى الجمع واجبة إذا أريدت الدلالة على الاشتراك، وذكر أن العرب قالت: رجل شعوبي ، أصولي ، إخباري. انظر "قل ولا تقل" ، بغداد 1970.
13- الصحافة العربية – نشأتها وتطوُّرها – بيروت 1961 .
14- المدخل في التحرير الصِّحفي، 287، دار الفكر العربي 1968 .(226/11)
15- كان منهم وديع كرم ويوسف كرم.
16- كان منهم محمد بوجندار وأحمد بوستة.
17- كان منهم محمد المهدي الحجوي.
18- يبلغ عددها 15 مقالة بدأت في العدد 3 من السنة 10 وانتهت في السنة 13.
19- مجلة "دعوة الحق" ، ع . 3 س 10، ص 26.
20- كتب في الرد على مقال لبعضهم 16 حلقة في " دعوة الحق" .
21- نُشرت جل تصويباتهم في جريدة "العلم" .
22- جاء في هذا القانون ما يلي: "السهر- بتعاون مع الهيئات المختصة في الميدان المقصود – على حسن استعمال اللغة العربية بالمغرب وعلى إتقان الترجمة من اللغة العربية وإليها وإبداء الآراء السديدة في هذا الموضوع"، أكاديمية المملكة المغربية، ص 6.
23- توجد نماذج منها في " قضايا استعمال اللغة العربية في المغرب" : 43-44 . وفي " الحرف العربي والتكنولوجيا " : 46-47 .
24- تراجع في كتاب:" قضايا استعمال اللغة العربية في المغرب"، 28-29 .
25- " قضايا استعمال اللغة العربية"، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية ، الرباط 1994 .
26-"الترجمة العلْمية"، مطبوعات المملكة المغربية، الرباط 1997.
27-"الحرف العربي والتكنولوجيا"، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، الرباط 1989.
28- نشرت هذه المقالة في الدورية المغربية لبحوث الاتصال، ع 9، 1998 من ص33 إلى ص43 .(226/12)
كتاب
"لغة الجرائد"
للشيخ إبراهيم اليازجي *
1847-1906م
للأستاذ الدكتور محمد إحسان النص
المؤلف
الشيخ إبراهيم بن ناصيف بن عبد الله اليازجي ، من جلَّة العلماء الذين ظهروا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر للميلاد ، وهو ينتمي إلى أسرة مسيحية من أصل حمصي، وقد هاجر أحد أجداد المؤلف إلى بيروت واستقر فيها مع أسرته، وفيها ولد الشيخ إبراهيم سنة سبع وأربعين وثماني مئة وألف . وقد عُرفت أسرته بأمرين : أولهما ميلها إلى دراسة اللغة العربية وعلومها وآدابها ، وثانيهما الموهبة الشعرية التي تجلت في أكثر أبنائها . وقد نبغ منها علماء بالعربية صنفوا كتبًا كثيرة في علوم اللغة والنحو والصرف ، ونبغ فيها شعراء
مجيدون جمعت أشعارهم في دواوين .
وأشهر رجال هذه الأسرة أبو المؤلف وهو الشيخ ناصيف بن عبد الله اليازجي ، ولد بقرية كفر شيما بلبنان ، ونشأ ببيروت ، وقد عرف بإجادة الكتابة ، ولذلك اتخذه الأمير بشير الشهابي كاتبًا له ، واستمر يعمل لديه طوال اثني عشر عامًا ، انصرف بعدها إلى التدريس في مدارس بيروت وإلى تأليف الكتب . ومن مؤلفاته كتاب "مجمع البحرين" وهو يضم مقامات سار فيها على نهج الهمذاني والحريري، ومنها كتاب " فصل الخطاب " في النحو ، و " عقد الجمان في علم البيان " و " الجوهر الفرد " في علم الصرف ، و " العرف الطيب في
شرح ديوان أبي الطّيب"، وله أرجوزة في النحو سماها "جوف الفَرا" شرحها في كتاب سمّاه: "نار القِرى في شرح جوف الفَرا". وله في مجال الشعر دواوين ثلاثة هي:"النبذة الأولى" و"نَفحة الريحانة" و"ثالث القمرين". توفي الشيخ ناصيف في بيروت عام واحد وسبعين وثماني مئة وألف (1871م).
... وقد أنجب الشيخ ناصيف أبناء وابنة درسوا على والدهم، وألفوا في مباحث اللغة العربية، ونظموا الشعر، من هؤلاء الشيخ حبيب بن ناصيف ، والشيخ خليل ، له روايات وديوان شعر، ووردة ، كانت تنظم الشعر كأخواتها وأبيها.(227/1)
... وأبرز أبناء الشيخ ناصيف هو الشيخ إبراهيم، مؤلف كتاب " لغة الجرائد " الذي نتحدث عنه . ولد ببيروت ، وبها نشأ ، وقد تجلت مواهبه منذ حداثة سنه ، أخذ علوم العربية عن أبيه فأحكمها ، وتعلّق بآداب اللغة العربية فأكب على مطالعة كتبها ، وحفظ القرآن منذ صباه ، وقرأ الفقه الحنفي على الشيخ محيي الدين اليافي. وربما يتساءل بعض القوم لِمَ يقدُم مسيحيّ على حفظ القرآن ودراسة الفقه الإسلامي؟
والجواب عن ذلك أن من يعشق اللغة العربية ويود التعمق في دراستها لا مناص له من حفظ القرآن الكريم لتفصح لغته وتستقيم عبارته ، ولهذا رأينا نفرًا من المعنيين باللغة العربية من غير المسلمين يقبلون على حفظ القرآن . أما دراسة الفقه الحنفي فهي من قبيل تنمية الثقافة العربية والوقوف على تراث المسلمين للإفادة منه في البحوث والمؤلفات .
... كان زاد الشيخ إبراهيم من شتى فنون الثقافة غنيًّا خصبًا، فإلى جانب تعمقه في اللغة العربية أتقن اللغات الفرنسية والإنجليزية، وأخذ بطرف من اللغة الألمانية، وأجاد إلى ذلك اللغتين العبرية والسريانية ، وأتاح له إتقان العبرية وضع كتاب في نحوها . وفضلاً عن إجادته هذه اللغات درس علم الفَلَك والفلسفة الطبيعية دراسة متعمقة، وفوق هذا وذلك عرف اليازجي بِحسن الخط، وكان من كبار الخطاطين في زمنه، وبرع في التصوير براعة فائقة، وتعلم من أخيه صناعة النقش والحفر، وهذا ما مكّنه من سكّ حروف للطباعة العربية أخذتها عنه المطابع العربية وشاع استعمالها، بعد أن كانت الحروف المستعملة في الطباعة حروف المغرب والآستانة . ومن هذا يتبين لنا أن إبراهيم اليازجي كانت له مواهب متعددة وثقافة واسعة متنوعة، وكان عبقريًّا فَذًّا بين أقرانه في عصره .(227/2)
... وبسبب إتقانه اللغات الأجنبية إلى جانب إجادته اللغة العربية عهد إليه الرهبان الجزويت في لبنان تعريب الأسفار المقدسة ، فاشتغل فيها تسع سنوات، وصحح لهم كتبًا أخرى ، ومنها معجم " الفرائد الدرية "، وهو معجم عربي فرنسي .
... ومنذ عهد مبكر اجتذبته مهنة الصحافة ، فتولى عام اثنين وسبعين وثماني مئة وألف تحرير جريدة "النجاح " ، وفي عام ثمانية وسبعين وثماني مئة وألف (1872م) أنشأ الدكتور جورج بوست ، أستاذ الجراحة في الكلية الأمريكية ببيروت مجلة "الطبيب"، وهي أول مجلة عربية عنيت بالشؤون الطبية والصحيّة، ومنذ عام (1884م)، أربعة وثمانين وثماني مئة وألف تولى إدارتها والكتابة فيها الشيخ إبراهيم اليازجي ومعه الدكتور بشارة زلزل والدكتور خليل سعادة . واليازجي هو الذي أشار عليهم بإطلاق لفظ "مجلة " عليها، ومعناها الأصلي هو صحيفة فيها الحكمة . ومنذ ذلك الحين شاع استعمال لفظ المجلة على الدورية التي تصدر تباعًا في أوقات معينة في جميع الأقطار العربية . وقد تخلى الشيخ إبراهيم عن العمل في هذه المجلة بعد سنة ، ولكنه أثناء عمله فيها أوجد العشرات من المصطلحات والمعرّبات ، منها مثلاً كلمة " الطلاء" مقابل كلمة الورنيش و " الخرشوف " للأرضي شوكي ، واصطلاح "الراجبيات" على البكتريا، و " المقوى " على الكرتون ، وعشرات من المعرَّبات والمصطلحات .
... قام الشيخ إبراهيم برحلة إلى أوربا عاد بعدها ونزل بمصر سنة خمس وتسعين وثماني مئة وألف، فطاب له المقام فيها، فاستقر بها ، وانصرف إلى العمل في ميدان الصحافة الذي استهواه منذ حداثة سنه، فأنشأ جريدة أسماها "البيان"، ولكنها لم تستمر أكثر من سنة، ثم أنشأ سنة ثمان وتسعين وثماني مئة وألف جريدة أخرى سمّاها "الضياء" استمرت ثمانية أعوام وافاه الأجل بعدها سنة ست وتسعمائة وألف، ونقل رفاته بعد حين إلى بيروت حيث دفن في مقبرة الأسرة، وقد ظل الشيخ إبراهيم عزبًا طوال حياته .(227/3)
... إلى جانب عمله في الصحافة ألف اليازجي عددًا من الكتب، وشرح بعض ما ألفه أبوه . من ذلك أنه أتم عمل أبيه في شرح ديوان المتنبي فحققه وأضاف إليه حواشي كثيرة ، واختصر كتاب "الجمانة في شرح الخزانة" في علم الصرف، واختصر كذلك كتاب أبيه "نار القِرى في جوف الفَرا " – والفرا والفرأ حمار الوحش، ومن أمثال العرب: كلّ الصيد في جوف الفرا– وشرح مختصر كتاب أبيه: "مطالع السعد لمطالع الجوهر الفرد".
... أما مؤلفات الشيخ إبراهيم فمنها: كتاب " نجعة الرائد في المترادف والمتوارد"، وهو في ثلاثة أجزاء ، طبع منه الجزءان الأول والثاني قبل وفاته بسنتين، ووافاه الأجل فبقي الجزء الثالث مخطوطًا ، وعكف على تأليف معجم لغوي ضخم أسماه : "معجم الفرائد الحسان من قلائد اللسان"، وقد أنفق في تأليفه سنوات طوالاً ، وجمع فيه كل ما وجده في أمّهات اللغة ، ولكن الأجل عاجله فلم يطبعه . ونشر في المجلات بحوثًا كثيرة، منها: " النبر في اللفظ العربي"، و "حواشٍ على محيط البستاني " ، و " اللغة العامية واللغة الفصحى " ، وبحوث في "المجاز والتعريب" و " اللغة والعصر " . ومنها مقالات في لغة الجرائد نشرها تباعًا في مجلة " الضياء " التي أنشأها بمصر ، ثم جمعها في كتاب مفرد ووقف على طبعها سنة 1901م السيد مصطفى توفيق المؤدّي ، وهو الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه ، وفضلاً عن هذه المؤلفات، لليازجي ديوان شعر نشره ابن أخيه الشيخ حبيب بن الشيخ خليل اليازجي .
الكتاب(227/4)
... نشر الشيخ إبراهيم في مجلة "الضياء" مقالات تناول فيها لغة الجرائد وهي من أوسع وسائل الإعلام انتشارًا وبيّن ما يقع فيه الكاتبون فيها من أخطاء لغوية ونحوية ، ثم بدا له أن يجمع هذه المقالات في كتاب أصدره بعنوان " لغة الجرائد "، وقد قدم لكتابه بمقدمة ذكر فيها الداعي إلى كتابة هذه المقالات ، وهو انتشار الصحف وأثرها في لغة القُراء . وقد وجد في لغة الجرائد التي كانت منتشرة في زمنه أخطاء كثيرة لغوية ونحوية ، فأراد تصحيحها وبيان وجه الصواب فيها. قال في المقدمة : " لا نزال نرى في بعض جرائدنا ألفاظًا قد شذت عن منقول اللغة، فأنزلت في غير منازلها ، أو استعملت في غير معناها ، فجاءت بها العبارة مشوّهة، وذهبت بما فيها من الرونق وجودة السبك ، فضلاً عما يترتب على مثل ذلك من انتشار الوهم والخطأ ، ولا سيما إذا وقع في كلام من يوثق به ، فتتناوله الأقلام بغير بحث ولا نكير . ولا يخفى أن الغلط في اللغة أقبح من اللحن في الإعراب ، وأبعد من مظانّ التصحيح ، لرجوعها إلى النقل دون القياس ، فيكون الغلط فيها أسرع تفشيًا وأشد استدراجًا للسقوط في دركات الوهم . " ثم يقول : " ولَما كان الاستمرار على ذلك مّما يُخاف منه أن تفسد اللغة بأيدي أنصارها والموكول إليهم أمر إصلاحها، وهو الفساد الذي لا صلاح بعده ، رأينا أن نفرد لذلك هذا الفصل نذكر فيه أكثر تلك الألفاظ تداولاً ، وننبه على ما فيها ، مع بيان وجه صحتها من نصوص اللغة . "
... وبعد هذه المقدمة القصيرة شرع يذكر ما يقع في لغة الجرائد من أغلاط لغوية ونحوية ، وقد جاوز عدد الألفاظ والتراكيب والعبارات التي ذكرها الثلاثمئة .(227/5)
... وأنا أقتطف هنا بعضًا مما ذكره اليازجي وممّا نقع عليه اليوم في وسائل الإعلام . من ذلك قول بعض كتاب الجرائد : هذا الأمر قاصر على كذا، والصواب : مقصور عليه ، ففي معجم لسان العرب نجد : قصرت نفسي على الشيء إذا حبستها عليه ، وألزمتها إياه. ومن كلام العرب : ناقة مقصورة على العيال ، أي وقف عليهم يشربون لبنها. ومن ذلك قولهم : غصن يافع ، أي نضير ، وزهرة يانعة ، وروض يانع ، واليانع في اللغة هو الناضج ، فيقال: ثمر يانع وينيع . وهذا الخطأ وقع في كلام بعض القدماء ، ومنه قول أحد الشعراء في الرثاء :
يا من حواه اللحدُ غُصنًا يانعًا
فصفة اليانع ينبغي ألا تستعمل إلا بمعنى الناضج .
... ويقولون: أرفقته بكذا، وجاء فلان مرفوقًا بصديقه ، وأرسلت الكتاب برفق فلان ، وكل ذلك من الخطأ الشائع ، لأن فعل الرفقة لا يستعمل إلا في المفاعلة وما في معناها، فيقال : رافقته وترافقنا .
... ويقولون : اقتصد كذا من المال، بمعنى : وفّر . ومعنى اقتصد : اعتدل وتوسّط في الأمر ، وهو فعل لازم ، والصواب أن يقال : وفّر مبلغًا من المال.
... وأنا ألاحظ أن هذا اللفظ قد شاع اليوم بمعنى التوفير وجاءت منه لفظة الاقتصاد وعلم الاقتصاد ووزارة الاقتصاد .
... ويقولون: ذهب الرجلان سويّة ، أي معًا ، ومعنى السويّة السَّواء والتساوي، فيقال : قسموا المال بينهم بالسويّة ، أي بالعدل والسَّواء .
... ويقولون : احتار في الأمر ، من الحيرة ، ولم يسمع افتعل من هذا الفعل ، وإنما يقال : حار في أمره وتحيَّر .
... ويقولون: فوّضت فلانًا بالأمر ، أي رددته إليه ، والصواب : أن يقال فوضت الأمر إلى فلان . ولم يذكر اليازجي المثال القرآني وهو قوله تعالى في سورة غافر : وأفوض أمري إلى الله .(227/6)
... وكثير من الأفعال الثلاثية يستعملونها خطأ رباعية، نحو : أراع القوم وهو أمر مُريع، والصواب : راع فهو رائع ، وأرعبه الخطب فهو مرعب ، والصواب : رعبه فهو راعب، ويقولون : فلان مهاب والصواب : مَهيب .
ويقولون : هو يسعى لنوال بغيته ، والصواب : لنيل بغيته ، والنوال هو العطاء .
ويقولون : حرمه من العطاء ، وفعل حرم يتعدى إلى مفعولين ، والصواب أن يقال : حرمه العطاء .
ويقولون : لا يخفاك أن الأمر كذا ، وفعل يخفى يتعدى بحرف الجر (على)، فيقال : لا يخفى عليك. وعليه قوله تعالى في سورة آل عمران: "إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء" .
ويقولون : هذا أمر يأنفه الكريم، والصواب : يأنف منه . وهذا الأمر يمسّ بكرامتي ، والصواب يمسّ كرامتي .
ويقولون : انطلت عليه الحيلة، والصواب: جازت عليه الحيلة . (وقع شوقي في هذا الخطأ : وانطلى الجور عليه ) .
ومن الخطأ الشائع قولهم : أوشك على الموت، فهذا الفعل ينبغي أن يستعمل بعده الفعل مسبوقًا بأن فيقال: أوشك أن يموت وأوشك أن يفعل.
ويقولون : عدد القوم ينوف على كذا ، والصواب: يُنيف والفعل رباعي وهو أناف أي زاد. ويتصل بهذا قولهم: نيف وعشرون، والأفصح : عشرون ونيِّف .
ومما شاع في الاستعمال قولهم: بينهما شراكة في الأمر ، والصواب: شِركة .
وقولهم: أفرغ الإناء من الماء، والصواب: فرّغ وأخلى، أما أفرغ فمعناه : صَبّ. وقولهم: هو مدمن على الشراب، والفعل أدمن يتعدى بنفسه .
وقولهم : هو في طور النقاهة من المرض ، والنقاهة مصدر نَقِهَ الكلام ينقَه أي فهمه، والمصدر : النَّقَه والنُقُوه والنقاهة، أما مصدر نَقِه من المرض ونَقَه فهو: النَّقَه والنُّقُوه .
ويجمع بعضهم لفظ : غريب ، على أغراب ، والصحيح : غُرَباء .(227/7)
ومما شاع في كلامهم قولهم : عَوّدته على الأمر، وتعوّد عليه ، واعتاد عليه . وكل ذلك خطأ، والصواب حذف الجار؛ لأن الفعل متعدّ بنفسه فيقال : عودته الأمر ، وتعودَه واعتاده .
ومن الأخطاء الشائعة استعمال لفظ (المنتزه) والصواب : (المتنزه) .
واستعمال لفظ ( سميك) بمعنى صفيق غير صحيح؛ فالسمك والسماكة هما الارتفاع .
وكذلك استعمال عبارة: تعرّف على فلان ، خطأ صوابه تعرّف به .
ومن الأخطاء الشائعة على أقلام بعض الكُتّاب تأنيث ما ينبغي تذكيره مثل ألفاظ : الرأس ، والبطن ، والحَشا.
ويقولون : تناول طعام الغذاء والصواب : الغَداء .
وقد شاع على أقلام الكاتبين استعمال تعبير (على الرغم من) ، وهو تعبير مترجم عن اللغة الأجنبية ترجمة حرفية ، فيقولون مثلاً : أزوره على رغم هجره لي ، والصواب : على هجره لي أو مع هجره لي ، [ والرغم معناه التراب ، ويقول العرب : فعلته على رغم أنفه ، أي قسرًا ] .
ومن أخطاء التركيب الشائعة قولهم : لا يجب أن لا تفعل هذا الأمر [ لأن التركيب الأول يمنع وجوب الفعل ، ولكنه لا يمنع جوازه ] .
ومثل ذلك قولهم : قلت له بأنني مسافر، ولا ضرورة لدخول الباء على (إن) فالصواب أن يقال: قلت له إنني مسافر .
ويقولون : رأيته أكثر من مرة ، وجاء أكثر من واحد ، والأفصح أن يقال : رأيته غير مرة ، وجاءني غيرُ واحد .
ويقولون : أقسم بأن يفعل كذا – والباء تدخل على المقسم به فيجب أن يقال : أقسم بالله على أن يفعل كذا .
ومن الأخطاء الشائعة قولهم : هو كُفؤ لهذا الأمر أي أهل للقيام به ، وهو ذو كفاءة أي مقدرة ، والكفؤ في اللغة هو النظير ، ومنه قوله تعالى : ولم يكن له كفوًا أحد ، أي لا نظير له وجمعه أكفاء، وإنما يقال : هو كافٍ لهذا الأمر وكَفِيٌّ به أي ينهض به والمصدر: الكفاية ، وجمع كاف : كُفاة.(227/8)
ويستعمل بعضهم لفظ (آونة) على أنه مفرد ، والصواب أنه جمع (أوان). ومثلها كلمة (رفات) يظنون أنها تدل على الجمع وهي تدل على المفرد ومعناها: الحطام من كل شيء . ويجمعون كلمة (سائح) على (سُوّاح) وهو خطأ والصواب: سُيّاح .
ومن أخطائهم استعمالهم لفظ (الحماس) بدلاً من (الحماسة) ، ونفذ الطعام، والصواب : نَفِد [ أما نفذ فمعناها : اخترق ] .
ويقولون : طعام مفتخر، والصواب : طعام فاخر، وإنما الافتخار التمدُّح . ومن أغلاطهم في تأليف الجمل تكرار لفظ (كلّما) في الجملة ، فيقولن مثلاً : كلّما بحث في هذا الأمر كلّما وجد أمورًا جديدة ، والصواب حذف (كلما) الثانية . [ وأسوق هنا شاهدًا شعرًا مشهورًا هو :
أو كلّما وردت عُكاظَ قبيلة
... بعثوا إليَّ عريفَهم يتوسَّم ]
... ومن الأخطاء في استعمال المصادر والأسماء قولهم : حضرنا خطوبة فلان ، والصواب : خطبة ، وخصوبة الأرض، والصواب خصب الأرض.
... ويجمعون لفظ (وفاة) على (وفيّات) بالتشديد، والصواب بالتخفيف: وَفَيَات .
... ويقولون : أخذ الشيء بأكمله والفصيح أن يقال: أخذ الشيء بكماله. وفي تحديد الزمن يقولون : لبث بموضع كذا إلى غاية شهر كذا، يريدون إلى بدء شهر كذا، والغاية معناها الانتهاء لا البدء .
... وقولهم : اعتنق المذهب، مأخوذ عن اللغة الأجنبية، والفصيح أن يقال انتحل المذهب، أو انتسب إليه .
... ومن الأخطاء الشائعة قولهم : كلّفته بالأمر، والصواب: كلّفته الأمر. [ وأنا أضيف في تأييد ذلك قول الشاعر].
يكلفني عمي ثمانين ناقة .
... ومالي والرحمن غير ثمانِ
ومنه الآية الكريمة : "لا يُكلِّف اللهُ نفسًا إلا وُسعها". ( البقرة) .
... ويقولون : هذا الأمر يهمّ عمومَ السُكّان، والأصح : يهمّ السكان عامة .(227/9)
... ويفرق اليازجي بين لفظي (العام) و(السنة) في الاستعمال ، فليسا مترادفين، فالعام عنده من أحد فصول السنة إلى مثله من القابل، والسنة من يوم معلوم من العام إلى مثله من العام القابل ، فهي تبدأ من أي يوم اتفق والعام لا يكون إلا فصولاً كاملة، ونقل عن المصباح قول ابن الجواليقي : "ولا تفرِّق عوامّ الناس بين العام والسنة ، ويجعلونهما بمعنى، … والصواب : أن السنة من أي يوم عددته إلى مثله، والعام لا يكون إلا شتاء وصيفًا . وفي التهذيب : العام حول يأتي على شتوة وصيفة ، فالعام أخص من السنة .
... ومن استعمالات العامة قولهم : تعصَّب ضدّ فلان، وحميت فلانًا ضد فلان، وهو تعريب حرفي، والصواب : تعصّب على فلان، وحميته من غريمه.
... وثمة تركيب شائع في استعمال الكاتبين، وهو قولهم : ضربوا بعضهم وهو استعمال خاطئ، ومعناه أن جميع الناس ضربوا بعضًا منهم ، والصواب أن يقال : ضرب بعضهم بعضًا ، بتكرار لفظ ( البعض).
... ويقولون : استقلّ فلان سيارة، واستقلّ معناها حمل ، والصواب أن يقال : ركب فلان سيّارة أقلّته إلى مكان كذا .
... ومن الاستعمالات الشائعة قولهم: صدف أن حدث كذا، ورأيته صدفة، ومعنى صدف: أعرض، والصواب: صادف أن حدث كذا، ورأيته مصادفة .
... قولهم: استعرض الجيش صوابه: عرض الجيش .
... هذا بعض ما أورده الشيخ إبراهيم اليازجي في كتاب"لغة الجرائد".(227/10)
... وقد وقف الأستاذ سليم الجندي ، وهو من جلة علماء الشام، على كتاب "لغة الجرائد" فكتب مقالات في بيان الأخطاء التي وقع فيها الشيخ اليازجي، جعل عنوانها:"إصلاح الفاسد من لغة الجرائد"، ولما انبرى الأستاذ قسطاكي الحمصي للرد على الأستاذ الجندي انتصارًا لليازجي ، رد عليه الأستاذ الجندي وذكر أغلاط اليازجي في كتيب بعنوان: "إصلاح الفاسد من لغة الجرائد"، نشر في دمشق سنة خمس وثلاثين وتسعمئة وألف، وقال في مقدمته : كان بعض الأصدقاء أهدى إلي نسخة من كتاب "لغة الجرائد" للغوي المشهور الشيخ إبراهيم اليازجي، فرأيت فيه كلمات غير جارية على السنن الصحيح، وأخرى عدها من الغلط وهي من الفصيح ، فبينت ذلك في كلمة نشرت في العدد 22و23و24 من جريدة الفيحاء الغراء، وأيدت ما ذكرته بالنصوص والأدلة ثم يقول: ثم اطلعت في مجلة (مينرفا) على كلمات للخواجة قسطاكي أفندي الحمصي حاول فيها أن ينقض ما أبرمت ، ويقوض ما أحكمت، وأن يجعل نفسه في عداد العلماء، أو رئيسًا من الأدباء، ولكن قصر به عن ذلك علمه، وخانه فهمه … إلى آخر كلامه، فجعل الأستاذ الجندي كتابه بيانًا لأغلاط اليازجي ، وردًّا قاسيًا على الأستاذ قسطاكي الحمصي .
... وكان مما أخذه الأستاذ الجندي على اليازجي قوله في الصفحة الثانية : الأفعال الغير المتصرفة ، وإدخال (أل) على الغير غير جائز، والصواب أن يقول: الأفعال غير المتصرفة .
... واستعمل لفظ (مشاهير) جمعًا لمشهور، وهذا خطأ لأن مفعول لا يجمع جمع تكسير ، كما صرّح العالمان ابن الحاجب والصبّان، والصواب جمعه جمع مذكر سالم : مشهورون .
... وخطأ اليازجي من يستعمل اسم المفعول (ملام) وجعلها رباعية، وهي ثلاثية (من فعل لام يلوم فهو مَلوم)، فردّ الجندي أن الفعل (أَلام) وقع في كلام العرب ، [ وقد رجعت أنا إلى لسان العرب فوجدت ما يأتي: قال أبو عبيدة: لمت الرجل وألمته بمعنى واحد، قال معقل بن خويلد الهذلي :(227/11)
حَمِدت الله أن أمسى ربيعٌ
... بدار الهَون ملحيًّا مُلاما
... فالجندي على الحق في ما قاله ، ومع ذلك فالأفصح أن يقال لام فهو ملوم ، أما الفعل ألام فالفصيح فيه ألام الرجل ، أتى بما يلام عليه .
... وخطأ اليازجي استعمال الفعل : أرعبه، وفي المصباح : رعبت يتعدى بنفسه بالهمزة فيقال : رعبته وأرعبته .
... [ على أنني لما رجعت إلى لسان العرب وجدته يقول : رعبه يرعَبُه رُعبًا، فهو مرعوب ورعيب : أفزعه ، ولا تقل : أرعبه . ويبدو لي أن هذا هو الصواب ] .
... واليازجي قد خطأ من يستعمل جمع خَصم على أخصام ، لأن فَعل الصحيح العين يجمع على أفعال إلا ألفاظًا شذت ليس هذا منها ، وردّ الأستاذ الجندي على ذلك بما جاء في التاج، وهو قوله : ومما يستدرك عليه: الأخصام جمع خَصِم ككتِف وأكتاف، أو جمع خَصم كفرخ وأفراخ أو جمع : خصيم كشهيد وأشهاد .
... وذهب اليازجي إلى أن الكتاب يستعملون لفظ (هامّ) ثلاثيًّا لا يكادون يخرجون عنها في الاستعمال، والأفصح: مهمّ الرباعي، وعليه اقتصر في الصحاح والأساس. فردّ الأستاذ الجندي على هذا الرأي بما جاء في القاموس والتاج، وهو: همّه الأمر كأهمه، فقد جعلوا الثلاثي والرباعي متماثلين ولم يذكروا أن أحدهما أفصح من الآخر .
وقال اليازجي : ويقولون تعرّف
على فلان إذا أحدث به معرفة، وهو من التعبير العامي، ومن الغريب أن أصحاب اللغة لا يذكرون ما يعبر به عن هذا المعنى . فعلق الأستاذ الجندي على كلام اليازجي بقوله: وقد قال في التاج : واعترف إليّ : أخبرني باسمه وشأنه، كأنه أعلمه به، وتعرّفت ما عندك: تطلبت حتى عرفت. وقال أيضًا : ائته فاستعرف إليه حتى يعرفك، وفي اللسان: أتيت متنكرًا ثم استعرفت، أي عرّفته من أنا، وفي التاج أيضًا تعرّف إليه: جعله يعرفه ، واعترف له : وصف نفسه … وأظن أن في هذا ما يعبر به عن المعنى الذي قال إن أصحاب اللغة لا يذكرونه .(227/12)
... وردَّ الجندي على ما ذهب إليه اليازجي من أن لفظ (البطن) لا يكون إلا مذكَّرًا، فأورد ما جاء في التاج في مادة (بطن)، وهو: وحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة أن تأنيثه لغة .
... هذا بعض ما أورده الجندي في إصلاح ما وقع فيه اليازجي من أخطاء، وسائر كتابه جعله في الرد على الأستاذ قسطاكي الحمصي .
... وما قاله الجندي صحيح في الجملة، ولكن ما أخذه على اليازجي من هنات لا يقدح في عمل اليازجي، فقد أصلح الكثير من أخطاء الكتاب في الجرائد والصحف، وكان من أوائل من نهضوا بعبء إصلاح لغة الجرائد، وكانت عصرئذ أوسع وسائل الإعلام انتشارًا وأعظمها أثرًا في لغة الناس، فله عظيم الفضل في نهوضه بهذا الأمر، وأكثر ما ذكره ما زلنا نراه اليوم شائعًا فيما يكتب في الصحف والمجلات، وما يلقي من محاضرات، وما يذاع في المذياع والتلفاز وغيرهما من وسائل الإعلام .
محمد إحسان النص
عضو المجمع من سورية(227/13)
في وداع حمد الجاسر
للأستاذ للدكتور أحمد بن محمد الضبيب
السيد الأستاذ الدكتور شوقي ضيف
رئيس مجمع اللغة العربية الموقر
السيد الأستاذ الدكتور نائب رئيس المجمع
السادة الكرام أعضاء المجمع
السيدات والسادة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
جرت عادة هذا المجمع العريق على سنة حسنة هي أن يودع من اختارهم الله إلى جواره من أعضائه بالتكريم والثناء، وذكر المحامد والمآثر، ولعمري إنه لتقليد كريم، وموقف نبيل، يجسد الوفاء للعلم وذويه، والاعتراف لأهل الفضل بالفضل، تتلى فيه صفحات الخير لأفذاذ الرجال، وتذكر فيه إنجازات الصفوة من العلماء، الذين خدموا اللغة والفكر والتراث على امتداد الوطن العربي الكبير.
واليوم ونحن نقف وقفة إجلال وتقدير لعضو من أعضاء هذا المجمع العتيد، وعلم من أعلام الثقافة العربية المعاصرة، غادرنا إلى دار البقاء، وهو الشيخ حمد الجاسر، فإننا نقف والألم يعتصر القلوب، والحزن يملأ النفوس، إذ فقد العلماء يمثل نازلة تنزل بالأمة، أثرها عظيم ، ووقعها شديد، لكن قضاء الله واقع، وحكمته -سبحانه- نافذة، وما أحرانا أن نقبل بقضائه، وأن نخضع لحكمته وإرادته، وعزاؤنا في ذلك أمران:
الأول: أن الله سبحانه وتعالى قد خص الصابرين بالبشارة فقال: "وبشر الصابرين".
والثاني: أن الشيخ وإن غاب عنا بجسده فهو باق بيننا بأعماله وفكره، نستجلي ما ترك لنا من تراث، نتأمله حينًا ونحاوره ونضيف إليه حينا آخر، وبذلك يعيش الشيخ في أعمالنا كما عاش في وجداننا.(228/1)
إن الحديث عن علم كبير كالشيخ حمد حديث صعب سواء كان الحديث عنه بوصفه إنسانًا أو كان بوصفه عالمًا. فقد كان على الصعيد الإنساني يحمل قلبًا ينبض بالحب، وشخصية تتصف بالخلق الحسن، والتواضع الجم، والنزاهة في الرأي والبعد عن سفاسف الأمور. أما على صعيد الفكر فقد كان يملك صفاء ذهنيًّا واضحًا، وذاكرة حافظة متميزة، وعمقًا في النظرة، وسعة في المعرفة. كان التراث العربي عشقه الدائم، يسبر أغواره، ويستكنه أسراره، وينتقي درره، يصطفي منها ما ينفع الناس ويمكث في الأرض. وكانت الجزيرة العربية محط الاهتمام لديه، يمسح عن وجهها ما قد يكون لحقه من غبار الزمن، ويحاول أن يجلوها على حقيقتها كما أراد الله لها أن تكون طبيعة، وتاريخًا وبشرًا.
وهو إلى جانب ذلك رجل أوليات ومبادرات في وطنه ، فقد أدخل الطباعة إلى المنطقة الوسطى في المملكة، وأصدر أول صحيفة في تلك المنطقة، وكانت له أياد على التعليم والثقافة في تلك المنطقة أيام التأسيس الأولى لنهضة المملكة.(228/2)
ولد حمد الجاسر في منطقة من أخصب مناطق عالية نجد، حيث الوديان الكثيرة، والمياه الوفيرة، والروضات المعشبة، في بداية القرن العشرين الميلادي، ولعل ولادته كانت حول سنة 1908م ( 1328هـ ) في بلدة صغيرة تدعى (البرود) من إقليم السر، بين قوم يمتهن معظمهم الفلاحة، ويعدون أبناءهم لها إعدادًا جيدًا. ولكنَّ الطفل حمدًا لم يكن من أولئك الأطفال الأقوياء، القادرين على العمل في الحقول، فقد ولد ضعيفًا مصابًا بداء في البطن، وكان كثيرًا ما يشعر بالإرهاق فلا يستمر في العمل. ومن أجل ذلك قرر والده الاستغناء عنه.. ومادام لا يصلح للعمل الشاق فإن أصلح مكان له أن يلقى في الكتاب ليحفظ القرآن، ويثقف شيئًا من علوم الدين عله يعمل (مطوعًا) في المستقبل يسهم في شؤون القرية الدينية والتعليمية. وقد كان.. فقد تقدم الطفل تقدمًا ملحوظًا في دراسته، الأمر الذي جعل أباه يبعثه إلى القصيم، ثم إلى الرياض كي يستزيد من المعرفة، ويتاح له في الرياض أن يتتلمذ على كبار المشايخ فيها كالشيخ سعد بن عتيق، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وغيرهما، ثم يعود إلى بلدته مرة أخرى ليساعد جده إمام القرية فيقرأ عليه خطبة الجمعة كي يحفظها عن ظهر قلب قبل إلقائها، ويشارك في قراءة المواعظ بين الصلوات. وفي هذه الفترة يتعرف الطفل على بعض الكتب المخطوطة التي كان يملكها جده، بعد أن تعرف في الرياض على بعض مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ومن تلك الكتب التي تعرف عليها: "كتاب السيرة" لابن هشام، و"مختصر السيرة" للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتاب "التبصرة" بخط عبد الله بن عوشن الناسخ النجدي الذي أطلق عليه أهل شقراء اسم (المطيبعة) لجودة نسخه. وامتد النهم بالصبي حتى حفظ شيئًا من الشعر القديم كقصيدة مالك بن الريب في رثاء نفسه، وشيئًا من شعر الحريري، وبعض الأشعار الحكيمة والوعظية التي كان جده يترنم بها.(228/3)
وهكذا تبرز للفتى شخصية في هذا المجال كافية لأن يستقل بنفسه بعد وقت قصير، فيندب إلى هجرة من هجرات البادية التي أنشأها الملك عبد العزيز -رحمه الله- لتوطين البدو، وكانت الهجرة قريبة من قريته فعمل فيها إمامًا للصلوات، ويقص علينا في ذكرياته كيف أنه كان من فرط اجتهاده يطيل في الركوع والسجود، حتى أنه في إحدى المرات – وكانت في شهر رمضان – نام في السجدة الثانية في صلاة التراويح حتى أيقظه المؤذن فيما بعد كي يتناول طعام السحور. وكان ينتجع مع هؤلاء البدو مواطن الكلأ في الجزيرة، وقد أعطته هذه الفترة تنوعًا في التجربة الذاتية، من حيث تعرفه على النمط الرعوي في البلاد، وعلى مجتمع البدو فيه، الأمر الذي أغنى معرفته بالأرض من حيث أحوالها الطبيعية، وبالسكان من حيث الأنماط الاجتماعية التي كانت سائدة بينهم، مما يكون له أثر لا ينكر في مستقبل حياته.
وفي سنة 1348هـ (1928م) تبدأ مرحلة أخرى من مراحل حياته، ففي شهر ذي القعدة من ذلك العام يتهيأ الجاسر للحج، فينقد ( سلامة ) الجمال مبلغ (97) ريالاً ثمنًا للراحلة، ويهيئ ما يقدر عليه من المتاع ببقية ما لديه من نقود، ويفارق الإقامة في قريته فراقًا يمتد إلى آخر العمر. استغرقت الرحلة بين (البرود) وبين (أم القرى) سبعة عشر يومًا، وما أن يضع رحله في مكة المكرمة حتى يلتحق بالجندية لأيام قليلة، ثم يعلم بعزم الدولة على فتح معهد ديني هو المعهد العلمي السعودي، الذي أنشأه الملك عبد العزيز لتطوير التعليم، وتخريج متخصصين في القضاء الشرعي. فتهفو نفسه إلى الدراسة في هذا المعهد ويتخلص من أعباء الجندية ليخلص للعلم، فيلتحق بالمعهد ويتخرج منه بعد خمس سنوات.(228/4)
لقد كانت الفترة المكية المبكرة في حياة الشيخ ذات أثر فعال في تكوين شخصيته العلمية، وفي إمداده بكثير من المعارف وتوسيع دائرة ثقافته. فإلى جانب ما اكتسبه من دراسته النظامية، كانت مكة المكرمة بيئة علمية نشيطة، تعج بحلقات العلماء في المسجد الحرام، كما كانت على صلة دائمة بالمطبوعات العربية من كتب وصحف ومجلات، بعضها يصدر فيها، وبعضها يجلب إليها من أنحاء البلاد العربية والإسلامية.
بعد التخرج في المعهد عين الجاسر مدرسًا فمديرًا لمدرسة ينبع الابتدائية، لمدة ثلاث سنوات، ثم قاضيًا لبلدة ظبا سنة 1356هـ(1936م)، ولم يمكث في هذه الوظيفة طويلاً، فعاد إلى سلك التعليم معاونًا لمعتمد المعارف في مدينة جدة سنة 1358هـ (1938م)، وفي السنة التي تلتها سافر ضمن البعثة السعودية إلى القاهرة كي يلتحق بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، غير أن الأمور لم تسر على ما يرام بالنسبة لتلك البعثة إذ ما لبثت البعثة أن عادت إلى أرض الوطن بسبب الحرب العالمية الثانية. ويتقلب الجاسر بعد ذلك في وظائف تعليمية في مكة المكرمة وفي الخرج وفي الظهران حيث يعين رئيسًا لمراقبة التعليم إلى سنة 1368هـ (1948م) حين يعين معتمدًا للمعارف في نجد. وفي عام 1370هـ (1950م) يعمل معاونًا لمدير المعهد الديني، ثم مديرًا لكليتي الشريعة واللغة العربية حتى سنة 1375هـ (1955م). ويشتغل بعد ذلك في الصحافة فينشئ مطبعة هي الأولى في الرياض، ويصدر صحيفة هي الأولى في منطقة نجد وهي "اليمامة" مجلة أول الأمر (سنة 1373هـ/1953م) ثم جريدة فيما بعد.(228/5)
ولعل أبرز أعمال الشيخ في عقد الثمانينيات الهجرية تأسيسه جريدة "الرياض" سنة 1380هـ/1960م، وإنشاؤه دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، وإصداره مجلة "العرب"، وتعد هذه الحقبة، التي امتدت منذ ذلك الوقت حتى رحيله عن الحياة الدنيا في 16 من جمادى الثانية سنة 1421هـ (14/9/2000م)، حلقة واحدة متكاملة تفرغ فيها للبحث والتحقيق، وأغنى فيها المكتبة العربية بدراساته ومؤلفاته.
* * *
إن التراث الذي تركه حمد الجاسر من المؤلفات والبحوث، والإسهامات العلمية، والمبادرات الوطنية والعامة، يصعب الإحاطة به في دقائق محدودة، فقد بلغت أعماله المكتوبة أكثر من ألف عمل بين كتاب من عدة مجلدات، وبحث من عدة حلقات، ومقال من عدة صفحات، ومن الواضح أن أبرز ما اتجه إليه الجاسر في التأليف هو البحث الجغرافي في مواقع الجزيرة العربية، حتى أصبح حجة في هذا المجال. والواقع أن البيئة التي عاش فيها الجاسر في بدء حياته كانت تعين على أن يلتفت الباحثون السعوديون إلى هذا النوع من البحوث، فتوحيد البلاد، وتباشير الانتقال من بيئة تقليدية جامدة إلى بيئة حديثة تتلمس الجديد، قد رشحت كثيرًا من الموضوعات للظهور، ومن تلك الموضوعات الموضوع الجغرافي الذي أخذ يبرز في الصحافة السعودية في ذلك العصر، ويبدأ التأليف فيه على يد رشدي الصالح ملحس ومحمد بن بليهد وحمد الجاسر. والطريف أن الجاسر يُرجع أسباب اتجاهه نحو هذا الموضوع إلى حادثتين:
أولاهما: ما ذكره من موقف حدث له عندما كان يلقي درسًا في مدرسة ينبع الابتدائية سنة 1356هـ (1936م) فعندما كان يشرح – في درس المحفوظات – قصيدة أبي العلاء المعري التي مطلعها:
أَلاَ في سَبيلِ المجدِ ما أنا فَاعِلُ
عَفَافٌ وإِقدامٌ وَحَزْمٌ وَنَائِلُ
ومنها بيته:
يهم اللَّيالي بعض ما أنا مضمر
ويثقل رضوى بعض ما أنا حامل(228/6)
شرح للطلاب معنى كلمة رضوى قائلا: "رضوى جبل قريب من المدينة، سهل، ترقاه الإبل"، قال:"فما كان من الطلاب إلا أن قالوا بصوت واحد: لا يا أستاذ! ها هو رضوى أمامك – وكانت النافذة مفتوحة – وليس قريبًا من المدينة، ولا تستطيع الإبل أن ترقى أعلاه. قال: فسررت من هذا التصحيح، وشكرت الطلاب، وبينت لهم أن أكثر الذين يحددون المواضع في بلاد العرب كانوا يعتمدون على النقل، وما كانوا يكتبون عن مشاهدة، فجاءت كتاباتهم ناقصة خاطئة "
والحادثة الثانية: وقعت له في هذه البلدة أيضًا، فقد حدث أن تأخرت الرواتب في سنة من السنوات، فاضطر إلى أن يبيع بعض كتبه، وكان كتاب "معجم البلدان" لياقوت الحموي من الكتب المرغوبة وقد اشتراه بمبلغ (150) ريالاً،ولكنه عندما عرضه للبيع لم يدفع له الراغب في الشراء أكثر من (60) ريالاً، وتحت تأثير الحاجة وافق على البيع، على شرط أن يكون تسليمه للمشتري بعد شهر من تاريخ البيع، وفي ذلك الشهر قام بنقل ما يتعلق بتعريف أمكنة الجزيرة ومواضعها، وكان يمضي كل وقت فراغه في النقل خوفًا أن ينتهي الشهر قبل أن ينتهي ما يريد نقله، كما يقول. ويعلق على ذلك قائلاً: "لقد أصبح لدي بعد هذا العمل ميل قوي ورغبة شديدة في تعرف أماكن بلادنا، بل اتجهت اتجاهًا تامًّا إلى هذه الناحية فيما بعد، وأصبحت أجد في ذلك متعة أية متعة، وإذن فإنني قد تلقيت في هذه البلدة الطيبة درسًا نافعًا مفيدًا في توجيهي إلى هذه الوجهة. ومن يدري فقد تكون لي وجهة أخرى لو لم يجر لي ما جرى"(228/7)
كان حلم الجاسر، بعد حصيلة بحوثه المتعددة في تراث الجزيرة الجغرافي، أن يُؤَلَّفَ معجم جغرافي شامل لأسماء مواقع الجزيرة القديمة والحديثة، تُحَدَّد فيه أماكن المواقع على وجه الدقة، وتصحح الأسماء المحرفة منها في المعاجم القديمة والخرائط الحديثة، فدعا عام 1387هـ (1967م) إلى تأليف هذا المعجم وبدأ في كتابة بعض أجزائه، فكتب معجمًا مختصرًا في ثلاثة مجلدات، صدر سنة 1397هـ/1977م، ثم أصدر بعد ذلك معجمًا لشمالي المملكة في ثلاثة مجلدات، صدر سنة 1397هـ/ 1967م، ومعجمًا للمنطقة الشرقية في أربعة مجلدات وذلك سنة 1399هـ/ 1969م، فيكون مجموع ما كتبه الشيخ من أجزاء المعجم عشرة مجلدات.
وقد استجاب لدعوة الشيخ عدد من المؤلفين المتمكنين من موضوعات المعجم، فصدرت مؤلفات متعددة يعالج كل قسم منها أسماء المواضع في أنحاء مختلفة من البلاد. وبلغ مجموع ما يدور في فلك المعجم الجغرافي من كتب أربعة وثلاثين مجلدًا.
كانت كتب البلدان قبل الجاسر تحدد المسافات بين المواقع بالفراسخ والأميال، أو تحددها بمقدار السرى ليلاً، فيكون الموقع مثلاً على مسيرة ليلة من البصرة .. فجاء الجاسر ليستعمل التحديد بالأكيال، ويدخل الإحداثيات المعاصرة فيحدد الموقع طبقًا لدرجات خطوط الطول ودوائر العرض، وكانت كتب الأسلاف تصف المواقع دون رؤية أو تثبيت فجاء الجاسر ليصف المواقع على الطبيعة، ويحدد أماكنها على الخريطة، ويوضح ما كان منها دارسًا مهملاً،وما كان منها باقيًا على اسمه عامرًا، أو حدث فيه بعض التغيير مع مرور الزمن.
حاول الجاسر جمع كل ما يتعلق بجزيرة العرب في كتب التراث القديم، فالتفت إلى المخطوطات المتعلقة بذلك حتى لم يكد يفوته كتاب ضم معلومات عن ماضي الجزيرة العربية، فعرض لهذه الكتب ولخص معلومات بعضها، وحقق بعضها، ومما نشره نشرًا علميًّا من كتب الجغرافيا ما يأتي:(228/8)
كتاب بلاد العرب المنسوب للحسن ابن عبد الله المعروف بلغدة الأصبهاني (ت310هـ) وقد نسبه إلى لغدة بناء على أدلة بسطها في مقدمته، وبعض الباحثين يرى أن الكتاب للأصمعي.
كتاب الأماكن، أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة، للإمام محمد بن موسى الحازمي (ت سنة 584هـ) في مجلدين.
كتاب الأمكنة والمياه والجبال الواردة في الأشعار لنصر بن عبد الرحمن الإسكندري.
كتاب المغانم المطابة في معالم طابة، لمجد الدين الفيروزابادي، صاحب القاموس (ت 817هـ)، نشر منه قسم المواضع فقط.
ويلحق بكتب الجغرافيا ما نشره الشيخ من كتب المنازل وكتب طرق الحج، ومن أهمها كتاب "المناسك وأماكن طرق الحج"، الذي نسبه الشيخ أول الأمر إلى الإمام أبي إسحاق الحربي، اعتمادًا على نص مطول نقله البكري في كتابه "معجم ما استعجم" إلى الإمام الحربي وأدلة استنتاجية أخرى، ولم يطمئن بعض الباحثين إلى هذه النسبة، ورجح أحدهم، وهو الدكتور عبد الله الوهبي، أن يكون الكتاب من تأليف القاضي وكيع، وأن الكتاب ليس إلا كتاب "الطريق" المنسوب إليه. وقد حدا ذلك بالشيخ أن يغير موقفه من النسبة إلى الحربي، فنشر الكتاب في طبعة جديدة منسوبًا إلى الحربي أو إلى وكيع، والواقع أن علامات الاستفهام مازالت تحوم حول نسبة هذا الكتاب.(228/9)
ومن كتب المنازل وطرق الحج التي أولاها الشيخ عناية خاصة، كتاب "الدرر الفرائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة" للمؤلف المصري عبد القادر بن محمد الجزيري (من علماء القرن العاشر الهجري)، وهو كتاب سبق نشره بالقاهرة بجهود علماء سعوديين سنة 1384هـ (1964م) لكن هذه الطبعة من الكتاب لم تكن كاملة، كما لم تخضع لشروط التحقيق الحديث، ولم تراجع على عدد من النسخ، وخلت من الفهارس المفصلة؛ فأخرج الجاسر الكتاب في طبعة جديدة مراجعة على ثلاث نسخ خطية إلى جانب المطبوعة. وصدر الكتاب بترجمة للمؤلف تكاد تكون فريدة، عول فيها على ما كتبه المؤلف عن نفسه، إذ لم ترد له ترجمة إلا في مصدر واحد، هو "السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة" لمحمد بن حميد النجدي، الذي أسهم الجاسر في تصحيح بعض أوهامه.
والكتاب في نشرته الجديدة ذات المجلدات الثلاثة يشعرك لدى قراءته بمدى الجهد الذي بذله الشيخ في تحقيق مادته، وإخراجها إخراجًا حسنًا مفيدًا للباحثين. ويعد في نشرته هذه نموذجًا للمسلك الأمثل في الاشتغال بالكتب التراثية التي سبق لها أن نشرت من قبل محققين سابقين. فقد احتفظ الجاسر بالتعليقات التي سطرها المحققون الذين سبقوه مع ذكر أسمائهم عقب كل هامش. ووضع رمز (م) للتعليقات التي لم تنسب إلى أي أحد. وأنهى الكتاب بفهارس مفصلة، أردفها بمسرد لكلمات عامية وأعجمية تكرر ورودها في الكتاب مع شرح معانيها، وهو عمل يخدم الباحثين في مصادر الحقبة التاريخية التي ألف فيها الكتاب.
ومن كتب المنازل التي نشرها الجاسر:
- كتاب "البرق السامي في تعداد منازل
الحج الشامي" لمحمد بن طولون الصالحي.
كتاب "حسن القِرى في أودية أم القُرى" لجار الله محمد بن عمر بن فهد (954هـ)
"جزء فيه وصف مكة شرفها الله، ووصف المدينة الطيبة كرمها الله، ووصف بيت المقدس المبارك حوله" لمؤلف مجهول، يظن أن اسمه محمد بن أبي بكر التلمساني.(228/10)
ومما يتعلق بمواضع طرق الحج تلك الأراجيز والمنظومات الشعرية التي وضعها مؤلفوها في وصف هذه الطرق، وقد نشر الشيخ بعضها إما مفردًا كالأرجوزة التي عنوانها "دليل المجتاز بأرض الحجاز" لبدر الدين الحسن بن عمر الحلبي، أو ضمن بحث له مطول بعنوان "الشعر في وصف منازل الحج" نشره في مجلة "العرب".
واهتم الجاسر أيضًا في هذا الإطار بكتب الرحلات إلى البقاع المقدسة، التي قام بها علماء عرب ومسلمون، فنشر ملخصات لما يزيد على عشرين رحلة من هذا النوع ، كما اهتم برحلات أهل البلاد إلى خارج الجزيرة كرحلتي القطبي والخياري إلى الآستانة. ولم تكن رحلات الأجانب من الأوربيين والمستشرقين بعيدة عن متناول الشيخ، فقد كان ينظر فيما ترجم منها، ويناقش الآراء التي فيها، ويصحح كثيرًا من أوهام مؤلفيها ، مثل ألويس موزل، وعبد الله فيلبي، واللادي آن بلنت، وغيرهم.
وفي المجال التاريخي حقق الشيخ كتبًا عدة من أقدمها كتاب "البرق اليماني في الفتح العثماني " لقطب الدين النهروالي (ت990هـ)، ويعد القطبي أحد كبار علماء مكة ومؤرخيها في زمنه. والكتاب يتناول تاريخ اليمن في القرن العاشر الهجري. وقد وصفه الجاسر بأنه "أجل كتب القطبي وأشهرها وأكثرها انتشارًا" كما نشر كتابين في تاريخ نجد، واستخلص من كتاب ابن حميد المسمى "السحب الوابلة" تراجم العلماء النجديين ونشرها في "العرب".(228/11)
وألف الجاسر في تواريخ بعض مدن الجزيرة وقُراها في كتب مستقلة أو ضمن بحوث مطولة، فكتب كتبًا مستقلة عن (الرياض)، و(ينبع)، وقرية (البرود) مسقط رأسه، وكتب بحوثًا مطولة عن مدن وقرى أخرى في كتبه وبحوثه المتعددة، كما ألف في سير بعض شخصيات الجزيرة العربية المهمة التي لم تجد لها حظًّا عند الباحثين، فأزال الغبار عنها وجلا أعمالها وإسهاماتها، سواء كانت هذه الشخصيات سياسية، كالعلاء بن الحضرمي أول أمير للمنطقة الشرقية (البحرين) في العهد الإسلامي، وابن عربي موطد الحكم الأموي في اليمامة، وإسحاق بن حميضة والي اليمامة في العصر العباسي، أو كانت شخصيات علمية فكرية كأبي علي الهجري، صاحب كتاب "التعليقات والنوادر".
وأولى الجاسر اهتمامًا لمؤرخي الجزيرة العربية فكتب دراسات مطولة عن مؤرخي الطائف، ومؤرخي مدينة جدة، ومؤرخي نجد.
وفي مجال الأنساب شارك الجاسر بالتأليف في هذا الموضوع في كتب خاصة وبحوث مستقلة مطولة تتناول أنساب القبائل العربية في القديم والحديث.
أما في مجال الأدب القديم فقد أسهم الجاسر في جمع كثير من النصوص الشعرية لبعض شعراء الجزيرة القدماء وكون منها دواوين صغيرة، وكان في ذلك رائدًا على مستوى العالم العربي، ومن هؤلاء الشعراء عبد الله بن همام السلولي، والصمة القشيري، وجحدر العكلي، ويزيد بن الطثرية، والقحيف العقيلي، وغيرهم، وقد جمع معظم ذلك في كتابه "مع الشعراء".
والرحلة في حياة الشيخ حمد الجاسر ملمح آخر من ملامح حياته العلمية والشخصية، ويمكن تقسيم الرحلة عند الشيخ بحسب الغرض منها على ثلاثة أقسام:
- رحلة استكشافية، يقوم بها لزيارة بعض المدن أو الدول بحثًا عن المخطوطات العربية، وقد زار لهذا الغرض كثيرًا من دول العالم.
- رحلة علاجية وهي التي يقوم بها من أجل الاستشفاء أو طلب الراحة.
- رحلة علمية، وهي التي يقوم بها لزيارة مواقع في الجزيرة العربية بقصد الوقوف عليها والكتابة عنها.(228/12)
إن الفصل بين هذه الأنواع الثلاثة من الرحلات ليس جادًّا، فكثيرًا ما تتداخل الرحلة الاستكشافية مع الرحلة العلمية، بل كثيرًا ما تتحول الرحلة العلاجية إلى رحلة استكشافية أو علمية. إذ يتفرغ الشيخ فيها لدراسة بعض المخطوطات أو الكتابة عن بعض المؤلفات. وفي مرضه الأخير الذي توفي فيه كنا نعجب إذ نجد مقالاته في دراسة بعض المؤلفات والتعليقات عليها، والتي كان ينشرها في الصحف اليومية تترى، من غرفته التي كان يرقد فيها، في الوقت الذي كان الدخول فيه عليه ممنوعًا من قبل الطبيب. وقد حدثنا في بعض رحلاته عن نصح الطبيب له أن يترك القراءة رفقًا بنظره المتعب، فلم يمتثل لذلك النصح قائلاً: "لقد أحسست أول ليلة بتها في القاهرة بعيدًا عن مكتبتي بملل شديد، فأدركت أنني لا أستطيع الاستقرار والهدوء والاطمئنان ما لم يكن في يدي كتاب أطالعه… فكان أن استعرت في صباح اليوم الثاني من وصولي إلى القاهرة كتابًا مخطوطًا في تراجم علماء الحنابلة… شغلت نفسي بنسخ ما فيه من تراجم علماء نجد". وينصحه الطبيب سنة 1404هـ بألا يرهق ذهنه أو يتعمق في التفكير وفق خطة رسمها له، فيذهب إلى القاهرة، ولكنه لا يجد ما يشغل وقته به سوى الاطلاع على الجزء الثاني المحقق من كتاب "أخبار المدينة" لعمر بن شسبة البصري، وما يقابله من أصله المخطوط، فيكمل مطالعته مطالعة مقابلة في ستة أيام، وصفحاته تقارب أربعمئة صفحة يقابلها اثنتان وخمسون ورقة من المخطوط. لقد أمدته رحلاته الاستكشافية للبحث عن التراث بمعلومات وافرة عن كثير من مصادر التراث حتى أصبح حجة في معرفة ما تحتويه مكتبات العالم من كنوز. وقد عاد من هذه الرحلات بمصورات كثيرة بعضها حققه ونشره، وبعضها عرف به وبعضها أهداه للباحثين كي يتولوا نشره.(228/13)
أما رحلاته الجغرافية فقد قطع فيها آلافًا من الأميال، وجاب فيها أنحاء الجزيرة فوقف على المواضع والآثار، وحدد مواقعها تحديدًا دقيقًا،. وأصلح ما قد يكون أصابها من آفات التصحيف أو التحريف، وذكر ما لحقها بمرور الزمن من تغيير، ووصف المناطق التي زارها متحدثًا عن السكان وأنماط المعيشة، هذا إلى جانب ما حشده من معلومات تراثية حول تلك
المواقع في المصادر المختلفة، مع الإشارة إلى البحوث الحديثة وآراء الرحالة الغربيين.
أيها الحفل الكريم:
يطول الحديث عن حمد الجاسر لو حاولنا الاستقصاء، فقد كان عالمًا فذًّا، جوادًا بصحته ووقته وماله في سبيل العلم، بل كان أشبه ما يكون بالديمة الممطرة التي أظلتنا أكثر من ستين عامًا، تمدنا بالخير والعطاء ثم اختفت من سمائنا تاركة آثارها الطيبة، نتأملها ونفيد منها.
أسبغ الله عليه شآبيب الرحمة، وعوضنا عن فقده خيرًا.
أحمد بن محمد الضبيب
عضو المجمع المراسل
من السعودية(228/14)
العامية فُصْحى مُحرَّفة *
"عودٌ على بدء"
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف
الزملاء المجمعيون من المصريين والعرب والمستعربين
السيدات والسادة :
ذكرت في محاضرة المؤتمر السابق للمجمع أن العامية المصرية - مثل العاميات العربية المختلفة – أهملت الإعراب للأفعال والأسماء المعروف في الفصحى ، كما ذكرت طائفة من تحريفات العامية المصرية للفعل المضارع والأدوات الداخلة عليه والملحقة به، وصيغ اسم المفعول، وبعض صيغ الأسماء وأسماء الإشارة. ومما ذكرته إلغاء العامية الألف والنون في صيغة المثنى، والمد في صيغتي الثلاثاء، مع قلب الثاء تاء، والأربعاء، وألغت في مفرداتها أربعة أحرف هي: الثاء والذال والظاء والقاف.
واليوم أذكر طائفة أخرى من
تحريفات العامية لصيغ الفعل الماضي، والمشتقات، وبعض صيغ المثنى والجموع، وبعض الأسماء المبنية، والحروف، والمنادى، والتصغير والنسب.
( التحريف في الفعل الماضي الثلاثي )
معروف أن للفعل الماضي الثلاثي ثلاث صيغ ثابتة هي: فَعِل بفتح الفاء وكسر العين، وفَعَل بفتح الفاء والعين، وفَعُل بفتح الفاء وضم العين. والصيغة الأولى حرفت العامية جميع أفعالها إلى فِعِل بكسر الفاء والعين ، فتقول :
تِعِب في تَعِب – حِمِد في حَمِد– خِجِل في خَجِل – سِهِر في سَهِر – عِلِم في عَلِم – عِمِل في عَمِل – فِهِم في فَهِم- وِرِث في وَرِث0
والصيغة الثانية : فَعَل بفتح الفاء
والعين، وقد تُبقي العامية عليها دون تحريف في حركاتها مثل :
بَسَط – جَذَب – حَكَم – سَطَع - ضَرَب - عَطَف – غَرَسَ - فَخَر– لَمَس – مَزَج.
وتنقلها العامية أحيانًا إلى صيغة فِعِل بكسر الفاء والعين المحببة لديها مثل : حِسِب في حَسَب – خِمِد في خَمَد – رِجِع في رَجَع – سِكِت في سَكَت – صِبِر في صَبَر –عِرِض في عَرَض– عِرِف في عَرَف – كِتِب في كَتَب .(229/1)
والصيغة الثالثة فَعُل لا توجد في العامية المصرية بضبطها الصحيح، فهي إمّا تجعلها في صيغة فِعِل بكسر الفاء والعين، مثل بِردِ في بَرُد – بِطِل في بَطُل – بِعِد في بَعُد – حِلِم في حَلُم.
وإما في صيغة فُعُل بضم الفاء والعين، مثل :
حُمُض في حَمُض – حُرُم في حَرُم – سُهُل في سَهُل – طُهُر في طَهُر.
وقد تنطق العامة في هذه الصيغة بالنطقين المذكورين لها ، فتقول : رُخُص أو رِخِص في رَخُص – سُخُن أو سِخِن في سَخُن – صُعُب أو صِعِب في صَعُب. فالملاحظ أن هذه الصيغة العامية في صيغة فعل تنطقها تارة بصيغة فِعِل المحببة لها، وتارة تجانس بين فائها وعينها فتنطقها بصيغة فُعُل بضم الفاء والعين، كما في صيغة صَغُر فتقول فيها صُغُر أو صِغِر، حسب ذوق المتكلم .
وواضح أن أكثر صيغ الفعل الماضي الثلاثي شيوعًا في العامية صيغة فِعِل، وجعلتها مطردة في صيغة فَعِل الفصحى بفتح الفاء وكسر العين ، واستروحتها في طائفة من صيغ فَعَل بفتح الفاء والعين، وصيغة فَعُل بفتح الفاء وضم العين . وينبغي أن تتخلص العامية من كل صور صيغ الأفعال التي حرفتها وترد أفعالها إلى صياغتها الأصلية في الفصحى .
صيغة الماضي المعتل الآخر بالياء
هذا الفعل في مثل بَقِيَ – خَشِيَ – نَسِيَ تنطقه العامية أحد نطقين : نطقًا تقلب فيه الياء ألفًا والكسرة قبلها فتحة، فتقول في بَقِي بَقَا، وبالمثل في خَشِيَ: خشا، وفي نَسِي: نسا. وكانت قبيلة طيِّئ في شمال الجزيرة تحتم فيه هذا النطق، ودخل منها مصر كثيرون، مع فتحها وبعده، ويبدو أنهم هم الذين أشاعوه بمصر. وشاع معه نطق ثان رُدَّت فيه هذه الصيغة الماضوية إلى صيغة فِعِل الثلاثية الماضوية التي تستروحها مصر، كما أسلفنا ، فيقولون: بِقِي، خِشِي، نسي والنطقان في الفعل الناقص بالياء عاميان ، وينبغي أن تبرأ منهما العامية المصرية .
زيادة ياء في الماضي بعد تاء المخاطبة(229/2)
وذلك في مثل " قرأتِ وكتبتِ " تقول العامية : " قرأتيه وكتبتيه " إذ تمد كسرة تاء المخاطبة فتتولد منها ياء، ونجدها في كتاب المكافأة لابن الداية المصري على لسان تاجر يكافئ امرأة على جميل أسدته إليه. وينبغي أن تتخلص منها العامية المصرية وتكتفي بكسرة التاء مثل الفصحى .
إلحاق علامة الجمع بالماضي مع ذكر الفاعل المثنى والجمع للذكور والإناث
تقول العامية:حضروا الطالبان– حضروا الطالبتان– حضروا الطلاب – حضروا الطالبات .
والعامية في ذلك تلغي في الفعل الماضي ألف المثنى مع الذكور والإناث وتلغي نون النسوة وتضع مكانها واو الجماعة ، وينبغي أن تعود هذه الأفعال إلى الفصحى.
والعامية – بذلك لا تستخدم ألف التثنية في المثالين الأولين ولا نون النسوة في المثال الرابع إذ تعمم فيهما واو الجماعة للذكور ، ويجب حذفها منها جميعًا، وأيضًا في المثال الثالث حتى لا يكون للفعل فاعلان : ضمير واسم ظاهر.
تسهيل الهمزة وحذفها في الأفعال
تُكْثِر العامية من تسهيل الهمزة في الأفعال ، فتقول في أدَّاه : ودَّاه بقلب الهمزة واوًا . وتقول في قرأت وملأت : قريت ومليت بكسر الحرف الأول والثاني في الفعل وقلب الهمزة ياء . وتقول بالمثل :
في بدأت: بديت – وفي خبَّأته: خبِّيته بقلب الفتحة قبل الهمزة كسرة وقلب الهمزة ياء. وبالمثل في هدأته: هدِّيته، وفي هنَّأته: هنِّيته – وفي توضأت : توضِّيت، وكل هذه الأفعال ينبغي أن ترد هي وما يماثلها إلى أصلها المهموز الفصيح .
وتكثر العامية من حذف همزة صيغة أفعل الرباعية فتقول : تلفه في أتلفه – حبه في أحبه – سعفه في أسعفه – عطاه في أعطاه – فطر في أفطر– كرمه في أكرمه
وكل هذه تحريفات في العامية وينبغي ردها إلى أصلها المهموز الفصيح.(229/3)
وتحرف العامية حركة الحرف الأول في بعض صيغ الأسماء المفردة، من ذلك أن صيغة إفعيل مثل إبريق، تنطق في العامية بفتح الهمزة المكسورة في الفصحى، فتكون أبريق، وصيغة فِعِّيل مثل بِطِّيخ تنطق في العامية بفتح الباء المكسورة في الفصحى فتكون (بَطِّيخ).
وصيغة مِفعيل تنطقها بفتح الميم المكسورة في مِسْكين – قِنديل، فتكون (مَسكين – قَنديل).
التحريف في المشتقات
ذكرت في محاضرة المؤتمر الماضي التحريف في صيغة اسم المفعول وأذكر الآن التحريف في بقية المشتقات .
اسم الفاعل
أبدأ باسم الفاعل وتحريفاته، ومن أهمها:
كسر الميم المضمومة في أوله حين يشتق من غير الثلاثي مثل مِعلِّم – مِسامح–مِنتصر. ومن ذلك تسكين عين اسم الفاعل الثلاثي، في مثل: فَهمْين أى فاهمين: وكتبين أي كاتبين، وقَرْئين أي قارئين. ومن ذلك: مغنيَّة وفاكهة مستويَّة، وأفكار ملتويَّة بتشديد الياء فيها، والياء فيها جميعًا غير مشددة.
وأحيانًا يشتق اسم من الفعل الثلاثي في العامية، وهو يشتق من الفعل الرباعي، مثل:راسل الخطاب، والصواب مُرْسِل– ورجل ماسك أي بخيل، والصواب مُمْسِك – ورجل فاطر أي غير صائم، والصواب مُفْطِر- وياغائث المستغيثين، والصواب: يا مُغِيث. ويسمى مكان المصلين مُصَلِّيَّة، والصواب مُصَلَّى.
وقد يوضع اسم المفعول مكان اسم الفاعل، مثل: مذهول، والصواب ذاهل، وعمل مهول، والصواب هائل. وقد يوضع اسم الفاعل مكان اسم المفعول، مثل: مركب موسوق، والصواب موسَق – ورقة ملصوقة، والصواب مُلْصقة – ومال مودوع، والصواب مُودَع – فرس ملجوم، والصواب مُلْجم – ونار موقودة، والصواب مُوقَدة – ورأسه موجوع، والصواب مُوجَع .
تحريفات الصفة المشبهة، من ذلك:
1- كسر الحرف الأول في صيغتي فعيل، وفَعِل، فتقول: كِبير – شِريف– سِعيد.
كما تقول عِكِر- نِكِد – إِنِف(229/4)
2- في الألوان والعيوب : حين تدخل العامية على صيغة أفعل أداة التعريف تحذف همزتها وألف أداة التعريف وتفتح لامها، فتقول: لَبْيَض – لَحْمَر وينبغي أن تنطقها مثل العربية : الأبيض – الأحمر. وفي صيغة فَعْلاء المؤنثة: تحذف المد وتزيد هاء السكت فتقول في مثل : بيضاء – حمراء : بِيضة بكسر الباء – حَمرة، وينبغي رجوعها إلى الفصحى.
وتنطق العامية في نُفَساء للمرأة الوالدة نِفِسة أو نَفَسة، وينبغي ردها إلى الفصحى ، وتقول في كلمة الآخر: راخر بتسهيل الهمزة وقلب لام التعريف راء مع فتحها. وكل هذه التحريفات في الصفة المشبهة ينبغي أن تتخلص منها العامية.
تحريفات اسم الآلة
مما حرفته العامية في اسم الآلة فتح الميم في صيغة مِفْعل بكسر الميم مثل:
مَبْرد – مَدْفع – مَسْند – مَصْعد – مَضْرَب – مَفْرَش
وفتحت الميم في مِفْعَلة بكسر الميم، فقَالت:
مَبْخرة – مَدْخنة – مَرْوحة – مَشْنقة – مَصْيدة – مَطْحنة – مَفْرمة– مَطْرقة – مَقْرعة.
وضمت الميم في صيغة مِفعال فقَالت:
مُفْتاح – مُسمار – مُنْشار بدلاً من: مِفْتاح – مِسمار- مِنشار
ومما حرفته في هذه الصيغة كلمتا : مِصْفاة – مِقْلاة فنطقت بهما: مَصْفى – مَقْلَى وقد تقول مِقلايه بزيادة ياء وهاء السكت.
وحذفت العامية ألف مِفعال في الأمثلة التالية مع فتح الميم في المثالين الأخيرين : مِخلاة – مِسْحاة – مِطواة– مكواة .
فتقول: مِخْلة – مِسْحة – مَطْوة – مَكْوة
وكل هذه التحريفات في اسم الآلة ينبغي أن تصحح وتنطق بها العامية نطقًا سليمًا.
في المثنى والجمع
تحذف العامية علامة الرفع الألف والنون من المثنى، وتقول حوالِينا بكسر اللام خطأ، وهى مفتوحة: حوالَينا، وتقول عصاتين وهما عصوان رفعًا وعصوين نصبًا وجرًّا. ولا يقال اثنين مليون مثل العامية بل يقال مليونان، ولا يقال ثلاثة مليون إلى عشرة، إذ الصحيح ثلاثة ملايين، وهى عدوى من تعلم اللغات الأجنبية.(229/5)
وتحذف العامية علامة الرفع بالواو والنون من جمع المذكر السالم، وتسكن النون في حالتي النصب والجر. ولا تمنع من الصرف صيغة مفاعل التي فيها العين واللام من جنس واحد، كما في مثل مشاق جمع مشقة – ملاذ جمع ملذة – مهاب الريح جمع مهب – ومهام جمع مهمة. وأيضًا تنون خطأ صيغة فُعَلاء مثل:أدباء – علماء – فقهاء – زعماء– شرفاء – عظماء – كبراء – كرماء – شعراء .
تحريف أسماء الاستفهام :
(مَنْ): تقول العامية فيها: (مِينْ جاء؟)
أين : تحذف العامية منها الهمزة حين تصلها بواو أو فاء فتقول : وين – فين.
متى : تجعل العامية قبلها همزة استفهام وتسكن الميم وتحذف الألف الأخيرة فتقول : إمْتَ ؟
كيف : تنطقها العامية بكسر الكاف. كم: تزيد العامية فيها ألفًا، فتقول: كام الساعة ؟
وكل هذه التحريفات في العامية ينبغي تصحيحها.
تسهيل الهمزة وحذفها في الأسماء
تقلب العامية الهمزة الساكنة إلى جنس الحركة السابقة لها في الأسماء مثل :
بير في بئر- ديب في ذئب بقلب الذال دالاً – شوم في شؤم 0
وتسهِّل العامية همزة القطع مع كسرها في ضمير المخاطب : أنت وفروعه كما سيأتي، ومن تحريفاتها :
دَيْرة في دائرة – عَباية في عباءة – مِراته في امرأته – مِيَّه في مائة. وجميع الأرقام المئوية حرفتها العامية، فتقول : مِيتين في مائتين – تُلْتمية في ثلاثمائة بقلب الثاء تاء، وهكذا.
ومن التحريف في الأسماء : ودن في أذن – ودان في آذان – وقة في أقة.
وحذف الهمزة في الأسماء كثير، وهى تحذف في الأسماء الممدودة بعامة، فيقال: دوا في دواء – سما في سماء – صحرا في صحراء– كيميا في كيمياء.
وينبغي أن تعدل العامية عن حذف همزة المد. وبالمثل ينبغي أن ترد الكلمات التالية إلى أصلها المهموز في الفصحى، وهى:
فين: أصلها فَأَين. كسرت الفاء فيها وحذفت الهمزة.
مِنِين: أصلها مِنْ أَين. حذفت همزتها وكسرت النون قبلها.
ومما حذفت فيه الهمزة ياخي أصلها يا أخي.(229/6)
ياهل الخير : أصلها يا أهل الخير.
والهمزات المحذوفة في جميع الكلمات السابقة ينبغي أن تعود إليها حتى لا تشذ عن أصلها الفصيح.
القصر والمد
تحذف العامية الألف قصرًا في صيغ متعددة، هي صيغة فاعِل، وفاعِلة، حين يسكن الحرف التالي لها، مثل: كَتْبه (في كاتبه)، وفَطْمة (في فاطمة). وصيغةُ مُفَاعَل، مثل: مِرَجْعه (في مُراجَعَة) بحذف الألف وكسر الميم، ويقال مِراجْعينه (في مُراجعيه) بذكر نون الجمع مع الإضافة. وتحذف الألف من الخَصْرة (في الخاصرة) والعُقْبة (في العاقبة) مع ضم العين، والعِيلة (في العائلة) مع قلب الهمزة ياء وكسر العين، ويَسْمين (في ياسَمين). وتحذف الألف الأخيرة من (الموسى) فتقول (موس) وتجمعه على أمواس والصواب مواسٍ. وتحذف الألف الأولى والثانية من ناداه فتقول نَدَهُ .
وتمدُّ العامية الفتحة فتقول كام في كم الاستفهامية، كما أسلفنا – وتقول معاك في (معك). وتمد الضمة فتقول كورة في كرة. ويطرد ذلك في الوقوف بالأمر من الفعل الثلاثي الأجوف الواوي في مثل: توب –زوغ– عوم - قول – قوم – وخود (من خذ) مع قلب الذال دالاً، وكول (من كل)، والأجوف اليائي، في مثل: بيع – زيد – صيد – عِيش.
وينبغي أن تصلح العامية هذه التحريفات في الكلمات حتى تعود بها إلى الفصحى .
التحريف في الضمائر المتصلة
هاء الغيبة : تنقل العامية ضمتها إلى الحرف الذي قبلها وتحذفها وتسكن ما بعدها وتمد الضمة، فتتولد منها واو في الأفعال، مثل كَتْبُو ( في كاتبُهُ)، والأسماء، مثل: مكتوبو في (مكتوبُهُ)
وبالمثل إن وأخوتها، يقال فيها : إنُّو في (إنه) وكأنُّو (في كأنه) ولكنو (في لكنه).
وأيضًا مع كل مضاف إلى هذه الهاء مثل : علمو (في علمه) وكتابو في (كتابه) ومع ثلاثة من حروف الجر – هي اللام، في مثل لو (في له)، ومنُّو (في منْهُ)، وعنُّو (في عنهُ).(229/7)
ياء المتكلم: تَلْحق بالأفعال والأسماء والحروف، وتقول العامية: عصايتي (في عصاي)، فتضيفها إلى ياء المتكلم مرتين . وتشددها مع اللام فتقول ليَّ ( في لي ) لحنًا واضحًا .
الضمائر المنفصلة المرفوعة والمنصوبة
أنا : تحذف منها العامية الهمزة إذا سبقتها واو العطف أو حرف النداء يا، فتقول: ونا في (وأنا)، ويانا يانا (في يا أنا – يا أنا) .
نحن: تنطقها العامية إحنا بقلب النون الأولى همزة وفتح النون الثانية مع مدها.
أنت : تنطق العامية هذا الضمير وفروعه بكسر الهمزة.
هوَ- هيَ : تشدد العامية الواو والياء في هذين الضميرين، وكانت تشدده قديمًا قبيلة همدان النازلة بالجيزة في الفتوح الإسلامية . وعنها شاع في العامية المصرية .
هم : تشدد العامية الميم في هذا الضمير الساكن في الفصحى.
إياك : تحذف العامية همزة القطع في هذا الضمير المنفصل المنصوب وفروعه مع واو العطف في إياك وإياكم فتقول، في مثل رأيته وإياك: رأيته ويَّاك.
التحريف في الحروف الجارة
على : تحذف العامية منها اللام والألف إذا وليهما اسم معرف بالألف واللام، في مثل: سافر ع الطائرة – سبح ع الماء، وكانت تنطق بذلك قديمًا قبيلة بنى الحارث، وأشاعتها في مصر حين استوطنتها. وينبغي أن تردها العامية إلى نطقها الفصيح .
عَنْ: تشدد العامية نونها في استعمالين: إذا اتصل بها ضمير المفرد المخاطب في مثل : عَنْك تقول ( عنَّك ) أو اتصل بها ضمير المفرد الغائب في مثل عنه تقول عنُّو بتشديد النون وحذف الهاء مع نقل ضمتها إلى النون المشددة وزيادة واو. وحري أن تعدل العامية عن هذا النطق إلى نطق الفصحى فيهما .
اللام الجارة : تفتح هذه اللام في الفصحى مع جميع الضمائر ما عدا ضمير المتكلم، فإنها تكسر معه، مثل: هذا الكتاب لي .(229/8)
أما في العامية فإنها تضم مع ضمير المفرد الغائب وجماعة الذكور الغائبين فيقال أعطيت لو الكتاب (في أعطيت له الكتاب) بنقل حركة الهاء المضمومة إلى اللام مع حذفها ومد الضمة. ويقال (أعطيت لُهم الكتاب) بضم اللام أو حذفها.
وتكسر لام الجر مع بقية الضمائر في لنا – لك – لكم – لها. ويقول السيوطي في كتاب الهمع: إن عشائر قبيلة خزاعة كانت تكسر لام الجر مع المضمر، وكأنها هي التي أشاعتها بمصر، وحري أن يُرَد نطقها إلى الفصحى.
من : حين تذكر معها نون الوقاية تشددها العامية فتقول (منى) وهو تعبير صحيح لإدغام نون من في نون الوقاية، غير أن العامية المصرية تطرد ذلك مع ضمير المفرد المخاطب والمفردة المخاطبة والغائب المفرد فتقول : منَّك – منِّك – منُّه. وينبغي أن تعود فيها جميعًا إلى نطق الفصحى بسكون النون.
في حروف القسم والجواب
واو القسم : مفتوحة في الفصحى، والعامية تكسرها، مثل: وِالنبي – وِالمصحف – وِحياتك. ومثال واحد تفتحها فيه هو لفظ الله فتقول والله. وينبغي أن تلغى كسرها وتفتحها دائمًا مثل الفصحى .
إى : بكسر الهمزة فيها وياء ساكنة ، وهى حرف جواب مثل نعم تمامًا ويليها دائمًا قسم بالله، مثل : إي وربى وإي والله. ومجيء واو العطف بعدها جعلت العرب يقولون في الجواب بها "إيو" كما ذكر ذلك الزمخشري. ومن هذه اللهجة شاعت في عامية مصر كلمة " إيوه" بمعنى نعم مضيفة إليها هاء السكت للوقف ، وقد تفتح العامية الهمزة فتقول " أيوه " وتختصرها العامية فتقول : " أَ " بمعنى نعم بالمد أو بدونه . وواجب أن تصحح العامية الكلمة .(229/9)
لأ : يذكر لفظ لا في الجواب على المتكلم بالنفي ، فيقال لا ، غير أن العامية المصرية أضافت إليها همزة ساكنة ، فيقول المصريون في الجواب بالنفي " لأ " ويذكر عن قبيلة طيِّئ أنها كانت تقلب الألف الموقوف عليها همزة ، وكأن المصريين أخذوا عن عشائرها الوقف على " لا " بالهمزة ، وشاعت بينهم إلى اليوم. وينبغي أن تعدل العامية عن نطقها إلى نطق الفصحى.
تحريفات متنوعة
في النداء: تسكن العامية الحرف الأول في العَلم إذا كان ثانيه متحركًا، فتقول :
يامْحمد– يا حْسين – يا سْليمان.
وتحذف همزة القطع في ثلاثة أعلام هي :
أحمد – إبراهيم – إسماعيل
وتبدل باللام في نهاية العلم الأخير نونًا فتقول: إسماعين. وتبدل بألف الوصل همزة القطع في لفظ الجلالة للاستغاثة أو للتعظيم فتقول : يا ألله (وهذا صحيح).
يا أنا : تحذف العامية همزة القطع مع يا من الضمير " أنا – فيقال يانا يانا تحسرًا على ضياع شيء .
وينادى مثل " أبو حسن " بنفس لفظ "أبو" يا أبو حسن بنطق الواو مع أن هذا الموضع يستوجب نطقها بالألف لأنها مضافة .
وتقول العامية : يابوي – ياخوي تحريفًا بدلاً من يا أبي – يا أخي. وينبغي أن تعدل العامية عن كل هذه التحريفات في النداء فيما عدا لفظ:
يا ألله.
في التصغير
تُحرِّف العامية في صيغتين من صيغ التصغير، أولاهما صيغة فُعَيْل تجعلها فَعِيل في كثير من الأعلام، مثل: حَميد (في حُمَيد) سعيد (في سُعَيد). والثانية صيغة فُعَيْعِل تفتح حرفها قبل الآخر، فتقول صُغيَّر في صُغيِّر، وكُبيَّر في كُبيِّر.
في النسب
تخطئ العامية في كلمات كثيرة بالنسب، من ذلك كُتْبِيّ بسكون التاء : نسبة إلى الكتب، وصوابها كُتُبِيّ – حَلَواني، وصوابها حَلْوانيّ .
خُضَري : نسبة إلى ما يبيعه من الخَضْروات ، وصوابها خَضْراواتي بفتح الخاء .
فكهاني : نسبة إلى فاكهة، والصواب فاكِهانىّ بزيادة ألف مع كسر الكاف .
الكسر قبل هاء الوقف في مثل :(229/10)
حِدَّه – شِدّه – سكَّه – سِيرَه – سلامَه – رياسَه – هدايَه – كَلِمَه - فكرَه – نُكتَه ففي هذه الكلمات وأمثالها ينطق بعض العامة بكسر ما قبل الهاء.
وينبغى أن تعدل العامية عن كسر هذه الكلمات إلى فتحها قبل الوقف عليها.
تقاليب الحروف في الكلمة :
تاء افتعل
الفصحى تجعل التاء بعد فاء الفعل في صيغة افتعل، والعامية تقدم التاء على الفاء فتصبح اتفعل، في أفعال كثيرة مثل: اتبلّ في ابتَل– اتْرمى في ارتمى– اتْروى الزرع في ارتوى – اتْغنى في اغتنى – اتْغاظ في اغتاظ – اتْكسى في اكتسى – اتْلوى في التوى – اتْملى في امتلى .
وينبغي أن تعدل العامية عن هذا التحريف في صيغة افتعل .
تحريف في الكلمات التالية:
الباط : الإبط : جعلت العامية الهمزة بعد الباء وحولتها إلى ألف وصل.
جوز : زوج : نقلت آخر الكلمة إلى أولها وضمتها ، وصنعت ذلك في كل المادة فتقول الجواز في الزواج وجوزوه في زوجوه .
سقف: صفق: قلبت العامية الصاد سينًا، وقدمت القاف على الفاء .
فعص : في عفص البيضة بتقديم الفاء على العين .
ملص ودنه : في صلم أذنه قدمت العامية الميم إلى مكان الصاد ووضعت الصاد مكانها .
تصنت : تنصت أي تسمع قدمت العامية الصاد على النون .
وينبغي أن تعود العامية في كل التحريفات التي ذكرناها في هذه المحاضرة إلى النطق الفصيح الصحيح.
شوقي ضيف
رئيس المجمع(229/11)
اللغة العربية والإعلام : الواقع والمأمول *
للأستاذ الدكتور أحمد بن محمد الضُّبيب
إن موضوع اللغة العربية والإعلام موضوع مثير للشجون، متعدد الجوانب، وهو ذو محاور كثيرة تحتاج إلى ندوات ومؤتمرات عديدة، ولذلك فإن الحديث فيه كلما كان مركزًا على محور معين كان أجدى للاقتراب من جوهر المشكلات والوصول إلى حلول لها. وعندي أن الحديث في هذا الموضوع ينبغي ألا يكون أحادي الموقف، بمعنى أن يكون صادرًا من المتخصصين باللغة العربية أو المدافعين عنها والمتحمسين لها، وإنما يكون حوارًا مشتركًا بين هؤلاء من جهة والقائمين على الوسائل الإعلامية من جهة أخرى، وذلك حتى يصل الجميع إلى نتائج مقنعة، مبنية على استكشاف آفاق قضايا الموضع من جميع جوانبها .
... ولعلي أزعم ـ غير مبالغ ـ أن المشكلة الرئيسية، التي ينبغي الوصول إلى كلمة سواء فيها بين المفكرين المهتمين بقضايا اللغة العربية وبين القائمين على وسائل الإعلام في بلادنا العربية، هي مدى عمق الوعي بأهمية اللغة العربية الفصحى في حياتنا ومستقبلنا . هل نحن متفقون فعلاً على ضرورة سيادة اللغة الفصحى وإعطائها المكانة اللائقة بها بوصفها لغة الدين والتراث والحضارة؟ وبوصفها الرابط الوثيق بين أبناء هذه الأمة على اختلاف بلادهم ومذاهبهم؟ وبعبارة أخرى، هل نحن مستعدون للتنازل عن ميزة للأمة العربية، لم يعطها غيرها من الأمم، تتمثل هذا التواصل والاستمرار اللغوي بين أبنائها، منذ أقدم نص مكتوب وحتى أحدث ما أنتجه(230/1)
عصر الحاسوب والشبكة العالمية للمعلومات ؟ هل يعد هذا الثبات اللغوي الفريد بين لغات العالم، والذي يتأبى على قانون تطور جميع اللغات، ميزة أم نقيصة للعربية الفصحى؟ وهل التضحية بهذا كله لحساب اللهجات المحلية واللغات الأجنبية مكسب تناله الأمة العربية يسهم في تقوية الأواصر بينها ويوحد أبناءها أمام الأخطار والمصاعب، في زمن أصبح المتباعدون فيه لغة وتاريخًا وتراثًا يتجمعون ويحتشدون طلبًا للمصلحة ورغبة في الوصول إلى القوة؟ .(230/2)
... قد تبدو هذه أسئلة عبثية أو ساذجة في بعض أوجهها، لكن الإجابة على هذه الأسئلة، بصدق وتجرد، تؤدي بنا إلى القول بأن من العبث والسذاجة أن تدار وسائل إعلامنا بطرق أبعد ما تكون عن مصلحة الأمة، واستشراف مستقبلها بين الأمم . إنَّ من الواضح أن اللغة العربية الفصحى تخنق في معظم وسائل الإعلام المسموعة والمرئية بطريقة تشعر بأن بعض القائمين على هذه الأجهزة على عداوة راسخة مع العربية، إنهم لا يعطونها من الوقت إلا أقل القليل، ولا يمنحونها من البرامج إلا برامج معينة قد لا يكون الإقبال عليها كثيرًا، ولا يبرزونها للجمهور إلا بطريقة منفرة؛ فالبرامج التي تقدم فيها الفصحى سيئة الإخراج والتنفيذ، بعيدة عن هموم الناس ونبض حياتهم اليومية، تلقى فيها اللغة بتكلف ظاهر وتقعر ممجوج. والتمثيليات والمسلسلات العربية التي تعرض بالفصحى ـ ومعظمها تاريخي ـ تمثيليات هزيلة شكلاً ومضمونًا، والانطباع الذي يأخذه المشاهد أو المستمع عنها أنها عنوان للتخلف ، الذي لم يعد مناسبًا لهذا العصر، أما برامج الكثافة العددية من المستمعين والمشاهدين فهي برامج تسرح فيها العامية وتمرح، وتقدم فيها للجمهور على أنها لغة العصر، مع تطعيمها بالألفاظ الدخيلة والجمل المجتلبة من اللغات الأجنبية. ولا يتمثل الإقصاء بالنسبة للغة العربية في قلة البرامج الثقافية الراقية التي ترتفع بالمستوى الفكري والثقافي لدى المشاهدين، وإنما يتعدى ذلك إلى إقصاء العربية من البرامج الثقافية نفسها على قلتها، وذلك بلجوء المثقفين أنفسهم إلى العامية في الحديث والمداولة، ولا يُخفِي كثير من الإعلاميين وكتاب القصة في هذا العصر نفورهم من الفصحى، وانحيازهم إلى العامية بدعوى اقترابها من الجمهور وقدرتها على التعبير بسهولة عن مختلف مناحي الحياة، وتصويرها للواقع ، ولهذا فإن من المؤسف أن نجد من كبار الكتاب والروائيين والصحفيين والسياسيين من إذا تحدثوا في وسائل الإعلام(230/3)
امتطوا صهوة العامية، وعبروا بها دون خجل أو اعتذار، بل دون اعتبار لأذواق الجماهير التي يتحدثون إليها، وهي الآن لم تعد محصورة في بلد معين أو منطقة جغرافية محلية أو سياسية محددة. ولو كان المخاطبون من أبناء البيئات اللهجية التي يتحدثون بها لكان للأمر بعض الوجه، ولكن الواقع أنهم يخاطبون في هذا الزمن جمهورًا عريضًا عبر القنوات الفضائية، لا يمتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي وحسب، ولكنه ـ في عصر القنوات الفضائية وعالم الإنترنت ـ يتعدى ذلك إلى العالم كله، فيطرق بيئات عربية وأجنبية، إسلامية وغير إسلامية، لا تفهم هذه اللهجات المحلية، ولا تجد العامية عندها الحظوة والاحترام، فهي بيئات لا تعرف غير الفصحى لغة عربية، وكان الأجدى لأولئك المتحدثين أن يوسعوا من دائرة مستمعيهم، فتتعدى دائرة الإبلاغ مواطنيهم إلى جماهير أخرى غفيرة على امتداد العالم.(230/4)
... لهذا فإن الحديث في هذا العصر لا يجب أن يكون تكريرًا لما كان يقال سابقًا عن لغة الإعلام، من أنها لغة لا تتسق والقواعد اللغوية، فهي مشوبة بالأخطاء في النطق أو الصيغ أو الاستعمالات. فذلك أمر كان يقال عندما كانت اللغة عزيزة في نفوس أبنائها، يخجلون من الخطأ فيها، ويحرصون على تنقيتها عما عساه يشوبها من خلل أو نقص في ألسنة مستعمليها. أما في هذا العصر فقد اتسع الخرق على الراقع ، فأصبحت حياة الفصحى في حد ذاتها مهددة، والحديث عن جدوى بقائها من عدمه موضع نقاش وحوار، بل والعمل على إضعافها والقضاء عليها قد بدأ يمارس على نطاق واسع، لا من قِبَل أعدائها من الأجانب الذين كنا نعرف أهدافهم ونواياهم الظاهرة والمستترة، وإنما من قِبَل أبناء هذه اللغة أنفسهم، الذين عاشوا مرحلة من الفوضى اللغوية أدت في النهاية إلى غربة الفصحى بين أبنائها، وعدم حرصهم عليها لعدم إحساسهم بقيمتها، أو ضرورتها لحياتهم الآتية. إن البعد الاستراتيجي للغة لم يكن أبدًا ضمن اهتمامات السياسيين أو المخططين العرب، ذلك أن اللغة الفصحى مرتبطة بفكرة الوحدة العربية، التي كانت، ومازالت ، من الشعارات التي لم تتجسد على أرض الواقع، وكان الأولى أن تبدأ خطوات تلك الوحدة العربية الكبرى بالعمل على ترسيخ مبادئ الثقافة العربية الشاملة في قلوب الناس، وإحلالها مكانتها في الحياة، وفي مقدمتها تقوية اللغة المشتركة وفرض احترامها والعناية بها، ولقد كان المفكرون العرب إبان الاستعمار الغربي للبلاد العربية يظنون أن السبب في إضعاف اللغة العربية يكمن في تدخل الاستعمار، وفرض لغته الدخيلة، ومناصبة اللغة العربية العداء من منطلقات دينية وثقافية، ترمي إلى إضعاف الشخصية العربية وربطها بعجلة المستعمر، ولكن ما أن انقشع الاستعمار عن هذه البلاد حتى تبين أن العلة التي أصيب بها الوجود اللغوي العربي لم تكن بسبب من الاستعمار وحسب، وإنما كانت بأسباب كثيرة منها:(230/5)
تنكر بعض أصحاب القرار للعربية وفتنتهم الوافدة ، وغفلتهم عن أهمية الفصحى، أو إصابتهم بالعمى الحضاري الذي جعلهم لا يبصرون طريقهم بين الأمم.
والغريب أنّه حتى إبّان المدّ الوحدوي العربي لم تكن اللغة العربية جزءًا مهمًّا من المشروع الوحدوي على أرضية التطبيق، وإنما كانت شعارًا يتلفظ به دون رصيد حقيقي من الممارسة، كان التفكير منصبًّا على توحيد المؤسسات السياسية دون نظر إلى البنى الثقافية الأساسية التي لا بد من وجودها لأي عمل طموح، ولذلك فإنه ما أن انهار الطموح السياسي في الوحدة، حتى تمكنت التجزئة بأظهر صورها وأعنفها، ولم يبق من مكونات الوحدة ما يقف صامدًا أمام تحطيم الذات العربية ، فانفتحت الأبواب لتشويه الوجه الثقافي العربي بمختلف الأشكال، ولم يقتصر الأمر على محاربة الفصحى بتشجيع اللهجات العامية وإعطائها الصدارة في المجال الفكري والثقافي، والاعتراف بتراث العامية الفقير على أنه نِدٌّ وصِنوٌ للتراث العربي الأصيل، الذي يحمل تجارب الأمة منذ الجاهلية إلى الآن، وإنما تعدى ذلك إلى التشكيك في الثوابت، والبحث في الأعراق والأصول وإعادة كتابة التاريخ العربي بشكل مشوَّه بعيد عن الحقيقة، وإحياء الانتماءات العرقية والطائفية، فظهرت لغات مندثرة، ودفعت إلى الصدارة لهجات خاملة محلية، وأصبحت مهمة الباحث العلمي في تراث العربية أن يمعن فيه تجريحًا وهدمًا، لا أن يبني على الصالح منه ويهمل ماعداه، وارتُكِب ذلك كله باسم حرية الرأي والبحث العلمي، وهكذا، لم يمر زمن على العرب ضعفت فيه فكرة الوحدة، وتكرست فيه التجزئة، وساد فيه قِصَر النظر الاستراتيجي العربي كما هو هذا الزمن. وتأسيسًا على هذه الظروف نجد أن فكرة تعميم الفصحى إعلاميًّا في حد ذاتها أصبحت مرفوضة عمليًّا من قبل بعض القائمين على الإعلام في بلادنا العربية، بعد أن كانت مرفوضة في السابق من قبل بعض الباحثين نظريًّا.(230/6)
وقد جندت لحرب الفصحى فضائيات، وجهزت جيوش من الجهلة والحاقدين الذين وصلوا إلى درجة من التأثير في القرار حتى أقصوا الفصحى عن الصدارة في وسائل الإعلام، ولم يضيِّعوا الوقت في التنظير لقضيتهم، بل بادروا إلى خطوات عملية تجعل الأمر واقعًا، فحصروا اللغة المشتركة في ركن ضيق، وأخلوها من البريق، وشوَّهوا صورتها وصورة من يستعملها أو يعلِّمها أو يدافع عنها، ورفعوا بجانبها راية العامية، وأحاطوها بكل مظاهر الإبهار التي ترفع من شأنها في أذهان العامّة، وجعلوها متفوِّقة في كثير من المناسبات على الفصحى، بعد أن كانت في السابق لا تدانيها في المكانة عند العامة أنفسهم، دعك من الخاصة والمثقفين. فكرسوا بذلك الفرقة، وانتصروا للإقليمية الضيقة. واستخدموا في ذلك أسلحة لا تستند إلى الأخلاق، وإنما تعتمد على مخاطبة الغرائز والإثارة.
إن من المؤسف أن يدخل العرب عصر العولمة ذي الصراعات الحاسمة، والقوى المتكالبة عُزْلاً لا من الأسلحة المادية وحسب وإنما من الأسلحة المعنوية، وأهمها سلاح الثقافة الذي يستمد قوته وتأثيره من اللغة الفصحى الموحدة وهي خط الدفاع الأول عن الهوية .(230/7)
إن الوضع اللغوي المزري في وسائل الإعلام المختلفة هو نتيجة طبيعية للوضع اللغوي المتردي لدى العرب جميعًا، وهو وضع سبق أن تحدث عنه كثير من المفكرين والمختصين، فمنهم من وصفه بالاضطراب (د. كمال بشر، اللغة العربية بين الوهم وسوء الفهم، ص27) ومنهم من وصف العربية بأنها في هذا العصر "لغة مهلهلة متخلفة لا تكاد تُحَس بين أبنائها، برغم ما تملكه من إمكانات ضخمة ووسائل متنوعة وأسباب متعددة تضمن لها البقاء والاستمرار … لغة يلفظها أبناؤها في كل مجالات الحياة وينظرون إليها نظرة ازدراء وامتهان، ويتعالون عليها في كل مناسبة، وبدون مناسبة، لغة يتبرأ منها مثقفوها على كل المستويات وفي شتى التخصصات، لغة لا يخجل من الخطأ فيها أحد ولا يسعى لإتقانها إنسان ولا يعبأ أن يجيدها مثقف" (د.أحمد مختار عمر ، اللغة بين الموضوع والأداة، فصول ، مج 4، ع2، إبريل/ مايو/ يونيه 1984، ص142).
من الواضح أن انحسار تيار الفكرة الوحدوية عند العرب، والذي قوي بفعل هزائمهم المتلاحقة في العصر الحديث وفقدانهم التوازن الحقيقي، قد أضر بشكل فادح بفكرة السيادة اللغوية للفصحى على الساحة العربية، وقد عدَّ بعض المنظرين لحقبة التشرذم العربي أن " الرغبة في تعزيز الفصحى على حساب العاميات تملك طاقة رجعية وتمويهية، لكن الوجه الآخر للصورة أنها رغبة مستحيلة اليوم. فإلى الأمية يدل المسار الراهن إلى (كذا ولعلها على) أن العاميات هي التي تصعد على حساب الفصحى، لاسيما مع لجوء وسائل الإعلام السمعية والمرئية، المتزايد النفوذ، إلى استخدامها. فإذا اقتضت متطلبات التسويق اعتماد الفصحى في عدد من النشاطات الثقافية التي تُصدِّر إلى خارج البلد المنتج فالملاحظ أن هذه الفصحى البطيئة والخشبية تثقل على تطور النشاطات المذكورة، خصوصًا في مجالي المسرح والأغنية " ( حازم صاغية، وداع العروبة، لندن: دار الساقي 1999م، ص 66 ).(230/8)
لقد تكشفت الأحوال المعاصرة للبلاد العربية عن أوضاع تشبه إلى حد كبير أوضاع البلاد العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حين دخل الاستعمار إلى مشرق الوطن العربي، وفرض لغته وأغرى بها الجماهير، وجعل إجادتها شرطًا من شروط الحصول على لقمة العيش، فاضطرهم إلى تعلمها، وجعلها لغة الصفوة والحظوة، وأقصى العربية عن الإدارة والتعليم ومجالات حيوية كثيرة، وإذا أخذنا مصر مثالاً على ذلك- وإليها دائمًا تسدد السهام لكونها قلب العروبة- فإننا نجد الإنجليز يبدؤون بفرض التعليم باللغة الإنجليزية منذ المرحلة الابتدائية سنة 1889م ويستمر الأمر على هذه الشاكلة مدة تقارب العشرين عامًا، ولعل من الطريف والغريب في الوقت نفسه أن يطالب النواب المصريون في الجمعية التشريعية سنة 1907م بضرورة إعادة اللغة العربية إلى مكانها الطبيعي في المجتمع بتعليم الأبناء بها منذ نعومة أظافرهم فينبري سعد زغلول – وكان ناظرًا للمعارف – في ذلك الوقت لتسفيه هذه الفكرة قائلاً " وإذا فرضنا أنه يمكن أن نجعل التعليم من الآن باللغة العربية وشرعنا فيه فعلاً، فإننا نكون قد أسأنا إلى بلادنا وإلى أنفسنا إساءة كبرى، لأنه لا يمكن للذين يتعلمون على هذا النحو أن يتوظفوا في الجمارك والبوسطة، والمحاكم المختلطة والمصالح العديدة المختلفة التابعة للحكومة، والتي يقتضي نظامها وجود كثير من الموظفين العارفين إحدى اللغات الأجنبية حق المعرفة، ولا أن يستخدموا في بنك أو مصرف ، ولا أن يشتركوا في شركة من الشركات الأجنبية التي كثر الآن تأسيسها في بلادنا ، ولا أن يكونوا محامين أمام المحاكم المختلطة، ولا مترجمين، ولا غير ذلك من كل ما يحتاج إلى البراعة في لغة أجنبية، وهو كثير جدًّا في بلادنا" ( عمر الدسوقي، في الأدب الحديث، 2/46-47)، والدعوة إلى تعليم الأطفال اللغة الأجنبية منذ نعومة أظافرهم تتردد الآن بقوة في البلاد العربية، وقد غيرت بعض مناهج(230/9)
التعليم في بعض البلاد لتلائم هذه الرغبات، دون نظر إلى المحاذير الدينية والقومية والتربوية التي تراعيها معظم دول العالم المتقدمة، فيكون اللافت للنظر أن ما رفضه الوطنيون المصريون سنة 1907م يتهافت عليه التربويون العرب المعاصرون ويسوغونه بالدعوة نفسها المرفوضة، التي أبداها سعد زغلول في مفتتح هذا القرن. وبالمثل تعالت في مصر في تلك السنوات دعوات وجوب استعمال العامية لغة للثقافة والإعلام، سواء من خلال المسؤولين الإنجليز كويليام ويلكوكس وويلمور وغيرهم، أو من قبل من شايعهم من الكتاب المحليين كسلامة موسى الذي أعلن تأييده لويلكوكس، والسوري إسكندر المعلوف الذي أشاد بالاتجاه إلى الإنجليزية في التعليم، وحض المصريين على ترك الفصحى إلى العامية، على أن يكون البدء بتحول الإعلام المقروء– بصحفه ومجلاته – إلى العامية، والانطلاق من ذلك فيما بعد إلى التأليف بها واتخاذها وسيلة لتدوين العلوم والآداب (نفسه ص 42-43) وغني عن الذكر أن مصر– بما تمتلكه من خصائص أصيلة وميزات ثقافية وفكرية– استطاعت أن تقضي على تلك الدعوات، وأن تعتصم بعروبتها وإسلامها وثقافتها المتأصِّلة في نفوس أبنائها.(230/10)
لقد ذكرنا ذلك لنبين أن تلك الأجواء الاستعمارية القديمة تخيم الآن على البلاد العربية بدعوى العولمة والقرية الكونية الصغيرة، فأصبحت اللغة الأجنبية لدى بعض المنظرين للتعليم وللثقافة مطلبًا وطنيًّا يزاحم اللغة الوطنية، وأصبحت العامية وجهًا ثقافيًّا مقبولاً في أوساط الأدب، بل يكاد يكون النتاج العامي هو الوجه الأوضح من وجوه الأدب، فإذا ذكر الشعر، في بعض البلدان الخليجية مثلاً، انصرف المعنى لأول وهلة إلى الشعر العامي، وإذا ذكر مصطلح القصيدة العامية أصبح الشعر الفصيح محتاجًا، في كثير من الأحيان، إلى وصفه بالفصيح. وحتى أن وزير الثقافة والتعليم اللبناني أصدر في سبتمبر سنة1997م تعميمًا إلى الجامعات طالبًا تدريس الزجل لاعتباره ديوانًا لبنانيًّا كالشعر العربي (صاغية، ص 64) .(230/11)
وهكذا نجد أن تشجيع العامية وإحلالها محل الفصحى لم يعد موضوعًا للنقاش، كما كان في بداية القرن، بل هو موضوع في طريقة إلى الحسم لصالح العامية، وخاصة بعد أن تبنَّت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة من خلال القنوات الفضائية التطبيق الناجز لهذه التجربة، فقدمت بعض البرامج الثقافية بالعامية، وحولت أفلام الصور المتحركة (الكرتون) المعدة للأطفال إلى العامية، بل تعدى الأمر إلى قراءة بعض نشرات الأخبار بها أو تكليف المراسلين بعرض الأخبار باللغة العامية، وهي مناطق من العمل الإعلامي كانت حكرًا على الفصحى. وتبع ذلك التساهل الشديد في اختيار المذيعين والمذيعات فيما يخص اللغة، فالتكوين اللغوي الجيد لم يعد مطلبًا ضروريًّا للعمل في الإعلام. تقول المذيعة المغربية المتقاعدة لطيفة الفاسي واصفة حال المذيعات المعاصرات في التلفزة المغربية: "المذيعات يلقين نشرات الأخبار ملحَّنة، بمعنى أنها كثيرة الأخطاء ومغناة في نفس الوقت، فلا نطقهن سليم ولا أسلوبهن مقبول، ومن بينهن من لا تستطيع فتح فمها كما ينبغي، والحروف تبدل، فالظاء والضاد والدال والذال كلها تصبح دالاً، والموضوع ينطق "المودوع" وأعضاء الحكومة تنطق "أعداء الحكومة" والتاريخ ينطق "الطاريخ" وغيرها من الأخطاء الفاحشة التي نسمعها. فالقناة المغربية قدمت استقالة من اللغة العربية منذ مدة طويلة، وليس هناك مسؤولون يتحملون مسؤولية إنقاذ اللغة العربية التي تنتحر أمام أعينهم وهم صامتون، وأعتقد أنهم هم أيضًا لا يعرفون اللغة العربية ولا يحبونها، وإلا لما أصبحت مشوهة كما هي عليه الآن " (الشرق الأوسط ، ع13، 8051/12/2000م، ص 23).(230/12)
قد تكون الصورة قاتمة إذا افترضنا أن حالة الانتحار اللغوي التي تمر بها وسائل الإعلام العربية المرئية والمسموعة في هذا العصر سوف تفضي بنا إلى تمزق لغوي في المستقبل، يجعل من كل لهجة عربية لغة قائمة بذاتها تستغلق على غير المتحدثين بها ، مما يعني قيام أمم عربية، وهو ما يبشر به، أو يجزم به، بعض الباحثين. فعلى هذا الأساس قامت فكرة الدولة التي تنفذ الآن على أرض الواقع، باعتبار أن كل دولة من الدول العربية لها خصوصيتها التي تختلف بها عن الدولة الأخرى. وفي هذا المجال يكون التركيز منصبًّا على أوجه الاختلاف بين كل دولة عربية والدولة الأخرى، لا على أوجه التشابه والاتفاق. وفي هذا الوضع تصور كل دولة على أنها كيان قائم بذاته منذ أقدم العصور، وفي سبيل الوصول إلى ذلك يتم نبش الماضي والنظر في تواريخ الأقاليم، فيكون العراق أشوريًّا بابليًّا، ويكون لبنان فينيقيًّا، ومصر فرعونية، ونحو ذلك، ولا تبخل الحفريات الآثارية في كل بلد عن أن تزوده بالانتماء المناسب، ومفردات التاريخ المشترك تغدو مزقًا يفخر بها بعض الشعوب دون بعض، فحرب القادسية عراقية، وغزوة مؤتة أردنية، وفتح بيت المقدس فلسطيني، وصلاح الدين عراقي، وابن دريد عماني، والهمدانى يمني، وعمر المختار ليبي، وقس على ذلك ، وينظر في الاختلافات الشعبية السائدة فتكون دليلاً على التميز لهذه الدولة أو تلك لا دليلاً على التنوع في الحضارة العربية الإسلامية.
إن ما ذكرناه من واقع تمر به البلاد العربية من الناحية الثقافية وما يمكن أن تؤول إليه إذا ما استمرت على السير في هذا السبيل، يدعونا لأن نطرح الموضوع اللغوي من وجهة نظر تختلف عن وجهة النظر الوحدوية التي أصبح يضيق بها مدعو الواقعية، أولئك الذين يقفون بأفكارهم عند الواقع باعتباره غاية يوقف عندها .(230/13)
إن ما نطرحه الآن يتسق مع الواقع لكنه ليس الواقع العربي، وإنما الواقع الدولي الذي تعيشه البشرية في هذا العصر. والواقع المعاصر له معطيات كثيرة لا بد من التذكير ببعضها:
1-أن العرب جزء من هذا العالم الكبير وأنهم يقعون في الجزء الجنوبي منه، وأن جميع ما يهدد به هذا الجزء من أخطار العولمة والهيمنة الغربية والاستلاب الثقافي والتبعية السياسية والاقتصادية سيتعرضون له بالضرورة، وقد لا يستطيعون مجابهته متفرقين على شكل أمم مختلفة.
2- أن دول العالم بأجمعها تتجه إلى أنواع من التكتلات السياسية والاقتصادية والثقافية وأن بعض هذه التكتلات الثقافية (كالتكتل الفرانكفوني) لا تخفي أهدافها السياسية والاقتصادية.
3-أن ثورة المعلومات والاتصالات عن طريق الأقمار الاصطناعية والفضائيات والشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت) والتقدم الهائل في تقنية الحواسب الآلية والبرمجيات، قد قربت بين الشعوب المتباعدة وجعلت الضعيف منها تحت السيطرة المباشرة للقوي، وأن أخطار المجاعة المعلوماتية التي تهدد الدول النامية أو النائمة لا تقل فداحة وآلامًا عن أخطار المجاعة الغذائية.
وتأسيسًا على هذه الحقائق الواضحة لا بد للعرب من أن تبنى استراتيجيتهم القادمة على نوع من العقلانية الرامية إلى جلب المنفعة والمصلحة لشعوبهم، حتى وإن لم تتحقق الوحدة السياسية التي تتخلى فيها كل دولة عن نظامها السياسي القائم ،
والتي ينطق الواقع بعدم جدواها .(230/14)
إذا كان العرب يطمحون إلى اقتصاد متين وإلى سوق عربية مشتركة فلا بد لهم من استعمال لغة موحدة صحيحة منضبطة، وليس كاللغة الفصيحة لغة في هذا المجال. إن الانسجام اللغوي من أهم الوسائل للنجاح الاقتصادي، " فالإنتاج الصناعي يتطلب أساليب موحدة ومنظمة كما يحتاج إلى سكان متحركين ومتجانسين، وعلى درجة عالية من التعليم، وهذه المتطلبات تعني استعمال لغة واحدة موحدة، عن طريقها يمكن أن يتواصل جميع أعضاء المجتمع الذين يشاركون في العملية الاقتصادية " كما يشير إلى ذلك جلنر في كتابه "الأمم والوطنية" ( نقلاً عن فلوريا كولماس، اللغة والاقتصاد، ص 48) ويتحدث كولماس عن مؤشرات التعدد اللغوي، وارتباطها بمتوسط دخل الفرد أو نصيبه من الناتج القومي في بعض بلاد العالم، فيلاحظ تدني متوسط دخل الفرد في البلاد التي تتعدد فيها اللغات مقارنة بالبلاد التي يقل فيها هذا التعدد؛ ففي بريطانيا التي يبلغ سكانها 57 مليون نسمة بلغ متوسط دخل الفرد سنة 1988م ما يقارب 12810 دولارًا، بينما بلغ متوسط دخل الفرد في الفلبين ذات التسعة والخمسين مليونًا من السكان الذين يتكلمون 164 لغة ما يقارب 630 دولارًا. أما اليابان التي بلغ عدد سكانها سنة 1988م يقارب 122مليون نسمة، والتي يتحدث السكان فيها خمس لغات فقد بلغ متوسط نصيب الفرد فيها من الناتج الإجمالي 21020 دولارًا، بينما بلغ نصيب الفرد من الناتج الإجمالي القومي في إندونيسيا، البالغ عدد سكانها 174 مليون نسمة يتحدثون 659 لغة 440 دولارًا فقط، ويوجز المؤلف ما توصل إليه البحث العلمي في هذا المجال بعبارة جوناثان بول وهي أن "البلاد المجزأة لغويًّا بشكل كبير بلاد فقيرة دائمًا" (نفسه، ص 38)، ولهذا فإن التجانس اللغوي على مستوى الوطن الواحد له أثر كبير في إحراز التقدم ونجاح التنمية. ويعزى النجاح الذي حظيت به التجربة اليابانية إلى التجانس اللغوي في البلاد، وسيادة لغة موحدة تنتشر على نطاق الوطن .(230/15)
(نفسه، ص50)، ويعتقد بعض الباحثين: " أن التعدد اللغوي بين دول المجموعة الأوربية يعد عقبة أساسية تحول دون انصهارها في كيان موحد" (نبيل علي، العرب وعصر المعلومات، الكويت 1994م، ص 348)، وهكذا فإن العرب إذا كانوا يطمحون إلى تكتل اقتصادي كبير يواجهون به متغيرات المرحلة الحاضرة، فإن من أهم الأدوات التي يجدر بهم الحرص عليها تهيئة بيئة متجانسة لغويًّا، ولا شك أن الفصحى – لا اللهجات – هي المرشحة لبلوغ هذا الهدف. فهذه اللغة التي جعلها الله لغة لكتابه الكريم، ووعاء للتراث المشترك، جديرة بتحقيق كل متطلبات هذه المرحلة .(230/16)
أما في مجال المعلومات فإن المأزق الحضاري الحرج الذي تقع فيه الأمة العربية يفضي بنا – كما يرى الخبير العربي د . نبيل علي – إلى الفزع" فقد حلت بنا هذه الموجة العارمة ونحن في أقصى درجات التشتت والفرقة مهددين باضمحلال كياننا القومي تحت وقع ضغوط خارجية شديدة وقيود داخلية قاسية". وبعد أن يستعرض القيود الخارجية، وهي قيود سياسية واقتصادية وتكنولوجية وزمنية، ويحلل القيود الداخلية التي يرصد منها: المناخ السائد (الذي أدى إلى تقلص طاقة الفعل لدينا إلى شعارات)، ومقيدات العنصر البشري (وعلى رأسها نقص أصحاب الرؤية المستقبلية وخبراء تقنين تكنولوجيا المعلومات)، والمقيدات التنظيمية، ومقيدات عدم التجانس السياسي والاقتصادي والثقافي، يستطرد بذكر التحديات، ويجعل التحدي اللغوي أحد هذه التحديات التي تواجه العربي لدخول هذا العصر واقتحام عرين المعلوماتية الحصين (نبيل علي، العرب وعصر المعلومات، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1994م، ص ص 27-44) والكاتب لا يضع في ذهنه بالطبع إلا اللغة العربية الفصحى، وإلا كيف يدخل العرب هذا المجال بأشتات من اللغات؟. ومن البديهي القول إن أي دعوة لاستخدام العامية بوصفها وسيلة اتصال على المستوى القومي مهما أوتيت من بهرج إعلامي هو حكم على الأمة العربية جميعها بالتخلف، في مجال حيوي يجتاح العالم الآن، ويتسابق البشر للتعامل معه في أوساط من المنافسة محمومة وشرسة. وهكذا فإن الإفادة الحقيقة من تقنية الحواسب الآلية، وما ينتج عنها ويحيط بها من علوم لن يؤتي أكله إلا بتعريب هذه التقنية وتوطينها، كما تفعل كثير من دول العالم، ولن يكون هنالك نقلة نوعية للعلوم والتقنية عند العرب إلا بالتعامل مع عصر المعلوماتية من منظور عربي يستجيب لاحتياجات كل فرد من أفراد الأمة، ولا يكون ذلك إلا بلغة موحدة منضبطة، فاللغة "في مجتمع المعلومات لها موضع الصدارة، كيف لا واللغة أهم مقومات ذكاء الإنسان محور هذا(230/17)
المجتمع، ومصدر الذكاء الاصطناعي للكمبيوتر أداة هذا المجتمع"(نبيل علي، نفسه، ص 348)، كما أن اللغة تلعب دورًا خطيرًا في تثوير معمارية الكومبيوتر إلى درجة اعتبار كومبيوتر الجيل الخامس حاسبًا لغويًّا في المقام الأول" (نفسه، ص 349). في ظل هذه المعطيات نحن بحاجة إلى لغة واحدة موحدة، نجري عليها البحوث باهظة التكاليف، ونطوعها لهذه التقنية. وليس غير الفصحى المهيأة بثرائها العلمي والبحثي، وغناها المعجمي، لغة يمكن أن تحمل هذه المهمة، وبغير ذلك سوف نعيش على الفتات، كما عشنا في القرن الماضي، ولن يكتب لنا المشاركة في حقل المعلوماتية أو الانتفاع من ثمراته. ويكفي أن تعلم، على سبيل المثال، كم من الفوائد سوف يجنيها الإنسان العربي لو تطورت برامج الترجمة الآلية لنقل العلوم والمعارف من اللغات الأخرى إلى العربية، وهي البرامج التي بدأت في لغتنا وليدة متعثرة بسبب عدم وجود البحوث العلمية المكثفة، والأموال الضخمة التي
تسندها.
من أجل هذا – وإذا كنا نريد نهضة حقيقة نتجاوز بها عثرات الماضي – نقول: إن إعلامنا يجب أن يتحمل المسؤولية لإعداد العربي إعدادًا جيدًا للمستقبل.
على إعلامنا أن يعزز في النفوس مكانة اللغة الفصحى لكونها لغة المستقبل، وأن يشعر الإنسان العربي بأهمية الوعي بها واحترامها.(230/18)
على إعلامنا أن يفسح للفصحى مزيدًا من الوقت، وأن يقدمها في ثوب قشيب يغري المتلقين بها، ويشجعهم على متابعة برامجها. وليس صحيحًا أن اللغة الفصحى لغة خشبية تثقل على تطور الأنشطة الإعلامية كما وصفها بعض الكتاب (وقد مر بنا قوله)، وليس صحيحًا إن الناس لا يقبلون عليها أو يفهمون مفرداتها. فالقرآن الكريم تتلى آياته بين المسلمين آناء الليل وأطراف النهار ويتلذذ الناس بهذه الآيات الكريمة ويدركون معانيها. ويتحلق أطفالنا حول أشرطة الصور المتحركة المدبلجة بالفصحى السهلة ويستمتعون بها، ويفهمونها ويقومون بترديد عباراتها. ويواظب بعض الكبار على مشاهدة بعض المسلسلات الأجنبية والأفلام، وبعضها مدبلج أو مترجم إلى العربية الفصيحة ولا يجدون صعوبة في فهمها، ويستمع الجميع إلى خطب الجمعة ونشرات الأخبار بالفصحى ويتجاوبون معها. فأين هي الخشبية التي يزعمونها في هذه اللغة؟ . إن اللغة الفصيحة إذا وضعت في الإطار الجذاب المناسب لها فإنها تؤدي عملها بطريقة تتفوق بها على العامية المحلية المحدودة، إذ يكفي أنها تخاطب جمهورًا عريضًا على امتداد العالم، وهذا الأمر في حد ذاته مفيد للصناعة الإعلامية التي تستطيع عن هذا الطريق ترويج المنتجات الإعلامية في مساحات لا حدود لها من العالم، مما يزيد في ازدهار الإنتاج الإعلامي في جميع أنحاء البلاد العربية. ويؤمن مردودًا اقتصاديًّا لا يستهان به .(230/19)
وعلى الجهات الرسمية المختصة أن ترصد الأموال للترويج إعلاميًّا للغة الفصحى من خلال الدعاية لها والإعلان عنها، وانتهاز الفرص للتعريف بأهميتها. والترويج للغة القومية عن طريق الحملات الدعائية ليس أمرًا مستغربًا فقد قامت به دول قبلنا، من أجل إثارة الشعور القومي نحو الاعتزاز باللغة، وجعلها حاضرة في أذهان الناس. ومن أمثلة تلك الحملات الدعائية حملة وكالة اللغة الأيرلندية التي نفذت سنة 1978م تحت شعار "لغتنا – جزء من كياننا" وشملت الدعاية الصحافة والإذاعة والتلفزة ولوحات الإعلانات، وكلفت أموالاً ضخمة، وكذلك الحملة التي تقوم بها الحكومة الإندونيسية في شهر أكتوبر من كل عام بوصفه شهر اللغة القومية، والحملة الدعائية التي قامت بها حكومة سنغافورة للترويج للغة الماندرين وهي اللغة الصينية لبكين وغير ذلك (انظر في ذلك: كولماس/ مرجع سابق ، ص 144).
ولا تكتمل منظومة العناية بالفصحى وتثبيت وجودها في المجتمع دون إصدار التشريعات والأنظمة التي تحمي اللغة، وتصونها من العبث أو مزاحمة اللغات الأجنبية لها. وهو أسلوب متحضر تمارسه كثير من دول العالم المتقدم، وليس خافيًا ما تقوم به فرنسا في هذا الصدد بتطبيق قانون اللغة الفرنسية الصادر سنة 1975م، وتضع بموجبه الغرامات على المخالفات اللغوية. ومن المفارقات أن جميع دساتير البلدان العربية تنص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة لكنها لا تضع لهذه المادة من الأنظمة والعقوبات ما يكفل احترامها أو عدم مخالفتها. ولعل من المبهج أن نقرأ في وسائل الإعلام خبرًا يقول : إن إمارة رأس الخيمة قد قررت وضع غرامة على الإعلانات التي تتضمن أخطاء لغوية، فيكون لهذه الإمارة الصغيرة فضل التنبه إلى خطورة العبث باللغة، كما يحدث في كثير من أقطار العرب.
لقد أردنا من خلال هذه الورقة أن نبين أن مستقبلنا – سواء كان(230/20)
اقتصاديًّا أو علميًّا تقنيًّا – لن يكتب له الازدهار، كما تدل على ذلك جميع المؤشرات، إلا إذا شاعت بيننا لغة واحدة تنتظم المجالات المختلفة، وأن اللغة الفصحى، بما لها من إرث تاريخي وقبول يتعدى حدود الدول الصغيرة إلى المحيط العام لبلاد العروبة، هي المرشحة لهذه المهمة، وأن اللهجات العامية التي يدفع بها إلى الصدارة في وسائل الإعلام هذه الأيام ليست جديرة بالمهمة الكبرى. وصدق أبو الطيب حين قال:
"ومن قصد البحر استقل السواقيا" .
... أحمد بن محمد الضبيب
عضو المجمع المراسل
من السعودية(230/21)
أثر الفكر الإسلامي في تقدم العلوم الطبيعية والتقنية وتطورها *
للأستاذ الدكتور محمد يوسف حسن
... رفع الإسلام العلم والعلماء إلى أعلى مقامٍ من التبجيل والتكريم. وكانت المعجزة الكبرى للإسلام كتابًا، وهو القرآن الكريم، الذي جاء بجانب ما بيَّنه من تشريع وهداية زاخرًا بالإشارات العلمية التى تحدَّت الزمن، وفتَّحت أذهان المسلمين ، وشَدّت اهتمامَهم، وفجَّرت حماسهم لدراسة العلوم الطبيعية . وإن أول ما نزل من الوحي أن { ? - - رضي الله عنه - - ? - - - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - - - ? - - رضي الله عنهم - - ? فهرس - - عليه السلام - - - ? - { - - - - رضي الله عنه - - فهرس - - رضي الله عنهم - } ??? - رضي الله عنه - - فهرس - - رضي الله عنهم - } - صدق الله العظيم ? - - - تمهيد { - - ? صدق الله العظيم ? تم بحمد الله - - فهرس - - رضي الله عنه -? ??? ? - - رضي الله عنه - - ? - - - - رضي الله عنهم - - - - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? بسم الله الرحمن الرحيم - رضي الله عنه - - ? - - } - - ??? - ? - { - - - - بسم الله الرحمن الرحيم ? - - رضي الله عنه -? ? بسم الله الرحمن الرحيم فهرس - - { ? - - - ? - ??? - بسم الله الرحمن الرحيم ? - - رضي الله عنه -? - صدق الله العظيم ? - - - تمهيد { - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - - ? - - - ??- رضي الله عنه - - ??? } وما هذا إلا أمر بالقراءة (أي التعلُّم) (اقرأ1-5) ؛ وما هو إلا بشرى بأن الله يكشف لمن يَنشُدُ العلم من عباده كثيرًا من أسرار كونه، التي لم يكن يعلمها.
وليس هذا مَقامًا لحصر أو تأويل الآيات القرآنية التي تحضُّ على(231/1)
الاهتمام بالعلم الطبيعي، أو المتصلة بالإشارات العلمية والدعوة إلى التدبُّر فيما خلق الله، فهذا موضوع طويل بل عويص، وله مجاله الخاص لكننا نرى أن مثل هذه الآيات، وهي كثيرة جدًّا، جاء معظمها في صيغة الأمر أو النصِّ على تمجيد من يعمل بمضمون هذه الآيات وإحلالهِ أرفع الدرجات. وقد ترتب على هذا أن تحقيق ما جاء في هذه الآيات يعد واجبًا دينيًّا على المسلم لا يكتمل الإيمان بدونه، وأن المسلم الحق لا يجوز له أن يدَّخر وسعًا ولا جُهدًا في الدراسة العلمية لكل ما في السماوات والأرض؛ وعليه بالمثابرة وتحمل المعاناة في سبيل ذلك بالسير في مناكب الأرض والنظر والتدبر فيها، وبحسبي ذكرُ آيتين كريمتين تضمان هذا المعنى الكبير: { ? - ? - } - - صلى الله عليه وسلم -? - ?? الله أكبر - - - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - ?? ? - ?- عليه السلام - قرآن كريم ?- رضي الله عنهم - - - - - - - ??? - - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - } (يونس101)،
{ ? - ? - } - - صلى الله عليه وسلم -? - - ? - - ?? ??? - - } - - } - - صلى الله عليه وسلم -? - ?? الله أكبر - - - ? - رضي الله عنهم - - ? - - - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - ? - - رضي الله عنهم -?? - - - - } (العنكبوت20) .
... ولقد صار هذا الالتزام أسلوبًا للحياة الفكرية منذ صَدْرِ الإسلام، فصار التعلم والتعليم واجبًا دينيًّا بل فريضةً على المسلم . وكان ذلك يتم في أول الأمر في المساجد، وبيوت الخلفاء والأمراء، ومنازل العلماء .(231/2)
... وفي أول الأمر كانت حلَقات الدرس في المساجد تقتصر على الكتابةِ والقراءة، والدراسات اللغوية، والدينية، ثم تعدتها إلى سواها من أبواب المعارف، فدخلت عليها علوم المنطق، والحساب، ثم علوم الميقات، والطب. وزاد الإقبال على المناقشات والمناظرات في تلك الحلقات مما أحدث الضوضاء في المساجد وعُدَّ معوقًا لإقامة الفرائض وإحياء الشعائر، فحدا ذلك بالخلفاء إلى التفكير في فصل حلَقات الدراسة الدنيوية عن الدينية، ففكروا في إنشاء مدارسَ خاصَّةٍ بها وكان الوليد بن عبد الملك أول حاكم إسلامي يأمر بإنشاء المدارس المنظمة
الخاضعة لإشراف الدولة ورعايتها.
... كان انتشار المدارس هو بداية النهضة العلمية الإسلامية. وكان الوليد أيضًا أولَ حاكم في التاريخ ينشئ المستشفيات، كما أنشأ البيمارستانات لإيواء المعوقين وذوي الأمراض العقلية والعصبية، ورعايتهم. ويقول في ذلك أنتوني ناتنج في كتابه "العرب": " إن كثيرًا من المستشفيات التى نشأت بعد ذلك في أوربا كانت تقام على نسق مستشفيات الوليد" . وكان يُخصَّص لتلك المؤسسات الصحية أطباء حازوا اعترافَ الدولة بقدرتهم وبُعدهم عن أعمال الشعوذة .
... وكان هؤلاء الأطباء يقومون بتدريب تلاميذَ لهم على المهنة؛ وذلك أول صورة من نشوء مدارس الطب. ومما يذكر أن رعاية مهنة الطب بدأت منذ عهد عبد الملك بن مروان الذي كان يشجع على نموها، ويضمن عدم ممارستها إلا من قِبل من درس أصول الطب المنقولة عن الإغريق.(231/3)
... وكان عبد الملك أول خليفة يأمر بتعريب الإدارة في دواوين الدولة الإسلامية شرقًا وغربًا، فسادت العربية وأصبحت الرسمية للدولة بدلاً من البهلوية في الشرق واليونانية في الغرب، وأقبل الفلاسفة والعلماء الأجانب على تعلمها. وهكذا بات لزامًا على الأجانب من ممارسي الطب والعلوم المتصلة به من كيمياء وصيدلة وغيرها أن ينقلوا علوم شعوبهم إلى اللغة العربية. وهكذا بدأت الخطوة الأولى في حركة النقل والترجمة.
وكان يعاصر عبد الملك بن مروان أمير أموي محب للعلم والكتب هو خالد بن يزيد بن معاوية، وقد كرّس حياته للعلم والحكمة وتشجيع العلماء حتى إنه تنازل عن الخلافة التي بويع لها بعد وفاة أبيه كي يتفرغ للعلم . وكان خالد أول من أسس مكتبةً جامعة في الإسلام كانت النموذج الأول للمكتبات العامة الكبرى التي اشتهرت بها العصور الإسلامية الزاهرة. وكان خالد يجلب إلى مكتبته الكتب الأجنبية من الأقطار، ويبذل في سبيل ذلك الأموال الطائلة والجهد الكبير. وهو أيضًا رائد عصر الترجمة، وقد أمر بدعوة الفلاسفة والعلماء اليونان لينزلوا مصر محوطين بالرعاية والتكريم، وكما يقول ابن النديم في الفهرست: إن ذلك حبَّبهم في اللغة العربية وتفصَّحوا فيها، ونقلوا الكتب من اليونانية والقبطية إليها. وكان الأمير نفسه متفانيًا في طلب العلم فنبغ في الطب، والفلك، وعلى وجه الخصوص في الكيمياء التي يؤثَر أنه تعلمها على يد راهب يوناني اسمه ماريا نوس. وكان ماريا نوس وشخص آخر اسمه اصطفان الإسكندراني من رواد الترجمة في العصر الإسلامي الباكر .(231/4)
وقد بلغت هندسة البناء وما تتطلبه من علوم أخرى كالهندسة النظرية والحساب وغيره شأوًا كبيرًا في العصر الأموي . وكان من رجال هذه النهضة الخليفتان العظيمان عبد الملك وابنُه الوليد ؛ ويشهد بذلك الأثران العظيمان " قبة الصخرة" في بيت المقدس، و"المسجد الأموي" في دمشق، اللذان جُندت لإنشائهما كلُّ الخبرات والمهارات في الإمبراطورية الإسلامية في ذلك الوقت، فجاءا آية في فن المعمار، ومازال المسجد الأموي للآن يعدّ أعظم وأوسع وأجملَ مكان للعبادة في العالم.
ويذكر أن ابتداع المئذنة وانتشارَها الذي جعلها رمزًا للعالم الإسلامي يرجع إلى الوليد بن عبد الملك .(231/5)
وما أن هدأت الثورة العباسية واستقرت الخلافة للعباسيين حتى واصلوا ما بدأه الأمويون من نهضة علمية بلغت أوجها في عصر هارون الرشيد وابنه المأمون(193هـ/809م- 227هـ/842م). وكانت الدولة العربية في ذلك الوقت قد فاقت في الثروة والمدنية والرفاهية والتقدم العلمي والصناعي كلَّ حدود وصل إليها الرومان والفرس بمراحل كبيرة . ومن شواهد التقدم التكنولوجي في ذلك الوقت ما بلغته بعض الصناعات من دقة وشهرة، فقد بلغت صناعة الزجاج في سوريةَ شأوًا عظيمًا، وابتُدع فيها الزجاج الملون والمطليُّ بالميناء. وقد دخل ذلك الزجاج لأول مرة أوربا مع الصليبيين العائدين من الشرق. كذلك تطورت صناعة الورق في سمرقند فبلغت درجة رفيعة من الدقة والامتياز. وظلت سورية وسمرقند مركزي تصدير هاتين السلعتين إلى العالم منذ ذلك الوقت لسنين طويلةٍ . وفي صناعة التعدين والمناجم اشتهرت سورية والبحرين، وخراسان، ونيسابور، والسند، وأصفهان، وفَرغانَة من أرجاء الإمبراطورية الواسعة. فكانت سوريةُ مركزًا لمحاجر الرخام ومناجمِ الكِبريت، كما كانت أصفهان مركزًا لاستخراج خام الأنتيمون، وفرغانةُ مركزًا لمناجم الزئبق واستخراج رواسب القار. أما الذهب والفضة اللذان كانت ترفل زينتهما الإمبراطورية، وتُصنع منهما الصحاف والأواني والعملةُ، وترصَّع بهما السيوف وتُوشَّى الملابس، فكان مركزهما الأكبر في خراسان. وأما الأحجار الكريمة كالياقوت والفيروز واللازوردِ فكانت تستخرج من نيسابور ومن ورَاء نهر جيحون .(231/6)
وقد نشأت في الدولة العباسية نهضة تعليمية لم يَعرِفْ مثلَها التاريخُ من قبل، وقد بلغت أوجَها في عصر المأمون الذي أحدث ثورة في نظام التعليم العام، الذي أنشئت له المدارس الخاضعة لإشراف الدولة، والتي عُين لها المدرسون الذين تُجرى عليهم الرواتب المنتظمة. وقد ظلت هذه المدارس في تطور مستمر منذ تلك الدَّفعةِ حتى وصلت في عهد نظام الملك وزير السلاجقة في أواخر أيام الدولة العباسية إلى ما اشتهرت به من أبهى نظام وأحكمِه، وكانت تسمى آنذاك المدارس النظامية نسبةً إلى راعيها الوزير نظامِ الملك، وذلك يناظر ما نسميه في العصر الحاضر بالمدارس الأميرية أو الحكومية. وكان يُدرَّس في تلك المدارس إلى جانب العلوم الدينية علومُ المنطق، والحساب، والجغرافيا، وغيرُها. ولم يقتصر تطوير التعليم في الدولة العباسية على ذلك بل أنشئت أيضًا مؤسسات التعليم العالي كالمدرسة العليا للشريعة والقانون، ومدرسة العلوم الطبيعية والصناعات، وكانت هذه كاملةً بقاعاتها ومكتبتها ومعاملها، وأيضًا مقاصيرِ الأساتذة، وشيوخ الصناعات.
أما مدارس الطب فكانت ملحقةً بالمستشفيات حتى يمكن التطبيق العملي للنظريات الطبية والعلمية، التي يلقيها الأساتذة على الطلاب . وهذا النظام الذي ابتدعه المسلمون في التعليم الطبي مازال هو النظام المتَّبع في التعليم الطبي في العالم كلِّه حتى الآن. وكان بكل مستشفى تعليمي إيوانٌ لإلقاء المحاضرات يستمع الطلاب فيه إلى الدروس، ثم ينسابون بين المرضى ليشخِّصوا الأمراض ويعالجوها تحت إشراف أساتذتهم. وكانت الدولة تدعَم هذه المدارس العليا بالميزانيات السخية.(231/7)
وكانت ممارسة الطب والصيدلة مهنةً منظمةً تراقبها الدولة منذ صدر الإسلام، إذ بدأ ذلك في عصر عبد الملك بن مروان، ولكن الخليفة العباسي "المقتدر" ( 295هـ / 908م –320هـ/932م) يعد أول من وضع نظامًا محكمًا في العالم لتأهيل الأطباء والصيادلة والكيميائيين، فكانت تعقد لهم في عصره اختباراتٌ للترخيص بمزاولة المهنة حماية للجمهور من الأدعياء، وأول من قام رسميًّا بهذه الاختبارات "سنان بن ثابت"(ت331هـ /943م )، وكان يمنح من تثبُت صلاحيته من الأطباء إجازة في شكل شهادة مكتوبة تخوِّل له ممارسة المهنة، ويحدد له فيها ما يصلح أن يتصدى لعلاجه من الأمراض ( تشبه دبلوم التخصص في هذه الأيام). وقد بلغ مَن أجازهم ابن ثابت من الأطباء في بغَدادَ وحدَها نحو 800 طبيب. وسنان هذا هو مبتكر نظام البيمارستانات السيَّارة والزيارات الطبية (وهو ما يسمى الآن بالإسعاف). وفيه كان يوفَدُ الأطباءُ ومعهم الأغذية والأدوية على هيئة حملات لعيادة المرضى في السجون وأهالي النواحي النائية لنجدة الحالات الطارئة. ولم تُعرف في العالم دائرةٌ حكومية للصحة فيما قبل العصر العباسي، وكان يرأسها أمين خاص من شيوخ الأطباء يراقب ممارسة المهنة، ويختبر الأطباء والصيادلة، ويجيزهم، ويشرف على الخدمات الصحية كعيادة الأطباء للسجون ، وكالتفتيش على الحمامات العامة التي كانت العاصمة تعج بالآلاف منها .(231/8)
وقد بُني مستشفًى عام دراسي في عهد هارون الرشيد، وسرعان ما تلته مستشفيات مثيلة في خارج العاصمة ، وكان بكل مستشفى منها عيادةٌ خارجية ومكتبةٌ ووسائلُ وإمكانياتٌ دراسيَّة لطلاب الطب، حتى إنه يمكن وصفُ تلك المستشفيات بأنها تشبه المستشفيات الجامعية اليوم. وقد بلغت تلك المستشفيات أوجَ تطورها في عهد الخليفة المستنصرِ في نهاية العصر العباسي ، فكانت مدرسة المستنصرية أشبه بجامعة كبيرة بها بجانب المدارس العليا مستشفًى دراسيٌّ يعمل به أساتذة من الأطباء تُجرى عليهم الرواتب المنتظمة، وبه إيوان بقاعة المحاضرات، ومساكنُ للأساتذة والطلاب، كما في المدن الجامعية اليوم. وكان بالمدرسة الكبرى مرافقُ مختلفةٌ كقاعات الطعام والمطابخ والحمامات وما إليها .
وفي مجال العلوم البحتِ برع المسلمون وابتكروا في إبان العصر العباسي، واستمرت النهضة التي بدؤوها متواترةً طَوال أيام دولتهم برغم ما تخلَّلَها أحيانًا من فتراتِ الركود .
كما أن هذه النهضة أشعَّت أنوارَها حتى بعد العباسيين في مختلف الدول العربية الإسلامية اللاحقة في أفريقيا والأندلس. ومن هناك، ومن صقلية في أواخر العصور الوسطى، سطعت "شمس الله على الغرب" ، إذا استعرنا عنوان كتاب الدكتورة سِيجرِد هونكَه للتعبير عن انتقال الحضارة العلمية العربية إلى أوربا في أواخر القرون الوسطى ومطلعِ عصر النهضة الأوربية في أثناء القرن الخامس عشر الميلادي.(231/9)
ففي علم الحياة نشط علماء العصر العباسي في تشريح الحيوان والنبات وأجروا عليها التجارب ودونوا الملاحظات . ومن مشاهيرهم في هذا عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ/ 869م) ، والرئيسُ أبو علىّ الحسين ابن سينا ( 428هـ/1037م). وقد وصف الجاحظ في كتابه " الحيوان" الكثير من الحيوانات من وحش، وطير وأسماك، وزواحف، وحشرات، وثدييات، وغيرها، وكان الجانب التجريبي في كتابه بارزًا جدًّا، وذلك إلى جانب ملاحظاتٍ قيمة في فكرة التطور وأثرِ البيئة . أما كتاب الشفاء لابن سينا فهو موسوعة رائعة في علم التاريخ الطبيعي به جانب مخصص لوصف الأنواع المختلفة من الحيوانات البرية والبحرية، والطائرة، ومقارنة بِنياتها، وتشريح أعضائها مما يسمى الآن بعلم التشريح المقارن. وبرز عدد أكبر من العلماء في علم النبات وذلك لعلاقته الوثيقة بالصيدلة والعقاقير، ومن مشاهيرهم ابن سينا والدينوري (القرن الثالث الهجري). وقد أُثر أن من هؤلاء النباتيين من كان يصطحبُ معه في أبحاثه الحقلية الرسامين ومعهم الأصباغ إلى البيئات الطبيعية للنباتات يصورونها في أدوار حياتها المختلفة .(231/10)
وفي مجالات الرياضيات والفلك تمت إنجازات وابتكارات عظيمة ومن بينها علوم جديدة يرجع الفضل في ابتكارها وتطويرها للعرب كعلوم الجبر والهندسة التحليلية . ومن مشاهير أساطينهم في تلك العلوم محمد بن موسى الخوارزمي (ت232هـ/846م) الذي عاش في عصر المأمون، وهو أول من أورد الأرقام الهندية التي نستعملها في حسابَاتنا الآن ويستعملها الأوربيون مع بعض التحوير ويسمونها الأرقامَ العربية. ويرجع تطوير علم الحساب في القرون الوسطى إلى الخوارزمي ، وقد استقى من كتبه في علم الحساب علماءُ أوربا قرونًا طويلة، واشتقوا من اسمه مرادفات لاسم هذا العلم عندهم(الجورثمي=Algorithmi). والخوارزمي هو أبو عِلم الجبر إن لم يكن مكتشفَه، وقد عرَّفه بأنه من العلوم العددية، وهو صناعة يُستخرج بها العَددُ المجهول من قِبَلِ المعلوم المفروضِ، إذا كان بينهما نسبة تقتضي ذلك.
وهو الذي أسماه بهذا الاسم وعنه أخذ الأوربيون الكلمة نفسها فسمَّوه Algebra وكتاب " الجبر والمقابلة" للخوارزمي ظل المرجعَ الذي اعتَمدت عليه أوربا في تعليم هذا العلم حتى نهاية القرن السابع عشر الميلادي. والخوارزمي أول من اكتشف الكَمِّيات التخيُّلية، أي الحالة التي يستحيل فيها إيجادُ قيمةٍ حقيقية للمجهول ، وقد سماها المسائلَ المستحيلةَ؛ وبقي اسمها كذلك بين علماء الرياضيات حتى تصدى لحسابها "كاسبار" و "أرجان" في أواخر القرن الثامن عشر. وكان الخوارزمي من الرواد في علم الهندسة أيضًا؛ فكان يستخدم الجبر في حل بعض الأعمال الهندسية والعكس.(231/11)
لكنه يَرجع الفضل في الإضافات الهامة في علم الهندسة إلى الحسن بن الهيثم (ت 430هـ/ 1039م)، وأبي ريحان البيروني ( ت 442هـ / 1050م)، في أواسط أيام الدولة العباسية. وقد استخدم ابن الهيثم براعته في الهندسة بنوعيها المستويةِ والمجسمةِ في حل مشاكل أبحاثه في علم الضوء؛ مثل تعيين نقطة الانعكاس في المرايا الكروية والأسطوانية والمخروطية المحدبةِ منها والمقعرة. أما البيروني فله أعمال تعرف باسم "مسائل البيروني"، وله نظريات ودعاوَى هندسية "وطرق" مختلفة في البرهنة عليها تختلف عما ألَّفه اليونان، مثل استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني، واستخراج مساحةِ المثلث بدلالة أضلاعه .
أما علم حساب المثلثات وعلاقتُه بعلم الفلك فيعد علمًا عربيًّا إسلاميًّا بقدر ما يعد علمُ الهندسة علمًا إغريقيًّا. وكان العرب أولَ من استعمل الجيب بدلاً من وتر ضعفِ القوس؛ وأول من أدخل المماسَّ في النسب المثلثية، وأولَ من اكتشف قواعدَ عمل الجداول الرياضية. ومن أشهر رواد هذا العلم "أبو الوفاء البوزجاني" وهو الذي أدخل القاطع وقاطع التمام في حساب المثلثات، وهو الذي وضع الجداول الرياضية للمُماسِّ؛ وله جداول "رياضية" لحساب جيب الزاوية بطريقة مبتكرة، حتى إن جيب الزاوية 30 فيها كان صحيحًا لثمانية أرقام عَشرية.(231/12)
وحظي علم الميكانيكا بعناية كبيرة أيضًا، وكان يسمى "علمَ الحيل" وأشهرُ من عُنوا به موسى بن شاكر وبنوه (عصر المأمون)، وكانوا رياضايين وفلكيين بارعين . ولبني موسى بن شاكر (محمد وأحمد وحسن) كتاب في الحيل عرف باسم " حِيَل بني موسى"، وهو أول كتاب يعتد به في علم الميكانيكا، ويحتوي على مئة تركيب ميكانيكي مشروحة ومصورة، تناولوا فيه دراسة مركز الثقل وشرحوا الآلات وما فيها من حيل علمية. ولهم أيضًا كتاب في الآلات الحربية. وبنو موسى هم الذين ابتكروا الطريقة المتبعة حتى الآن في إنشاء الشكل الإهليليجي، وذلك بغرس دبوسين في نقطتين، وربط خيط من طرفيه طوله أكثر من ضعف البعد بين النقطتين ووضعِه حول الدبوسين، ثم إدخالِ قلمٍ، وإدارة القَلم على منتهى شد الخيط ، فمن ذلك يتكون الشكل الإهليليجي، وتكون النقطتان هما بؤرتي الإهليليج .
وقد طبق بنو موسى علمَهم بالرياضيات وحسابِ المثلثات والحيل على الفلك فابتكروا وأبدعوا . وقد كان لهم مرصد عظيم بنَوْه في قصرهم ببغداد . وقد كلفهم الخليفة المأمون بقياس محيط الأرض فقدروه بنحو 24000ميل، وهو لا يختلف عن التقدير الحالي بكثير. وقد أعدوا لهذا العمل العُدة الكاملة، واختاروا لقياساتهم مكانين منبسطين، أحدهما في صحراء سنجار، والآخر بالكوفة، فنصبوا فيهما الآلات وقاسوا الارتفاعات والميلَ والأفقَ، وأجروا حساباتِهم على علم أن كلَّ درجة من درجات الفلك يقابلها
66ميلاً على الأرض، وقارنوا بين الحسابات والنتائج في المنطقتين ووجدوا اتفاقَها. ويعد هذا القياس أولَ قياس حقيقي أُجريَ مباشرة ومرة واحدة بكل ما اقتضاه ذلك من مساحات شاسعة، ومدد طويلة، وعُدد متعددة، وصعوبات، ومشقة، واشتراك فريق متكامل من المسَّاحين والفلكيين والحسَّابين في العمل .(231/13)
وعلم الفلك من أكثر ما برع فيه المسلمون من علوم، وقد بنوا له المراصد منذ عصر الدولة الأموية. ومن أشهر الفلكيين الذين قاموا بالأرصاد العديدة وألَّفوا الأزياج ورسموا خرائط النجوم ثابت بن قرَّة، وحنين بن إسحاق، والكندي، والبتاتي، والبوزجاني، وبنو موسى، وابن الهيثم، وعبد الرحمن الصوفي وابن يونس وغيرُهم. ويستحق عبد الرحمن الصوفي( ت376هـ/ 986م) ذكرًا خاصًّا هنا، فقد قال فيه مؤرخو العلم من الغربيين: إنه " نقطَة تحول في تاريخ الفلك من عصر بطليموس إلى الصوفي؛ ونقطة التحول الثانية من عصر الصوفي إلى عصر كبلر (القرن السادس عشر ) والعصر الحديث.
ويقول جورج صارتون شيخ مؤرخي العلوم في العصر الحاضر: إن بحوث العرب في الفلك كانت مفيدةً جدًّا. إذ إنها مهَّدت الطريق للنهضة الفلكية الكبرى التي بزغ فجرها بكبلر وكوبرنيق. ومن الإنصاف أن ندفع هنا التهمة التي ألُصقت بالعرب عن اعتقادهم في التنجيم.
وقد كان في الحقيقة شائعًا في تلك العصور، ولكنه لا يقل شيوعًا في الوقت الحاضر، إلا أن شيوعه في كل الأزمنة يكون بين مُدَّعي العلم، وهم موجودون في كل زمان ومكان.(231/14)
أما علوم الكيمياء والفيزيقا فللعرب فيها ريادةٌ لا تبارى. وإن تاريخ العلم ليزدان بأسماء "جابر بن حيَّان" و"أبي بكرٍ الرازي، و "الحسن ابن الهيثم"، و"أبي ريحان البيروني" كبناةٍ لها. فجابر بن حيان الذي عاش في القرن الثاني الهجري هو نقطة تحول كبرى في تاريخ علم الكيمياء، فهو الذي خلَّصه من خرافات السِّيمياء القديمة، وبناه على أسس قوية من التجربة والحُكمِ المجرد والسرية السليمة، حتى إن هذا العلم كان يسمى في عهده باسم "صنعة جابر". وإذا كان قد سبق جابرًا في هذا العلم عرب أوائلُ كخالد بن يزيد بن معاوية، وجعفر الصادق (ت:94هـ/612م)، ويقال إن الأخير كان أستاذ جابر في هذا الفن؛ غير أن الكيمياء لم تكن علمًا بالمعنى المعروف قبل ابن حيان، وإنما كانت حرفةً وصناعةً تحتاج إلى المران والدراية فقط. فعلى يد جابر تطورت الكيمياء وصارت علمًا يبنى على التجارب، ودقة الملاحظة، والحساب، وصياغة القوانين، والنظريات. وعلى يده عُرفت عمليات كيميائية. ووُصفت بدقة وإتقان، مثل: عمليات التبخير، والتقطير، والترشيح، والتكليس، والإذابة، والتبلورِ، والتصعيد. كما حضَّر جابر موادَّ كيميائيةً كثيرةً وسجل خواصها مثل: نِترات الفضة وحَمض النتريك وكِبريتيد الزئبق. وقد فسر كثيرًا من التفاعلات الكيميائية بشرح لا يختلف كثيرًا عما تتطلبه النظرية الذرية القديمة لدالتون الذي عاش بعد زمن جابر بألف سنة. ومن تلك التفاعلات تفاعل نترات الفضة مع ملح الطعام، وتفاعل الزئبق مع الكِبريت.(231/15)
ومن بناة علم الكيمياء كذلك أبو بكر محمد بن زكريا الرازي (ت: 321هـ=924م) وأكبر شهرتِه في الطب غير أنه أدى أعظم الخدمات في تطوير علم الكيمياء نتيجة لاهتمامه بتطبيقها في العلاج. وهو أول من نبه إلى علم الكيمياء الحيوية "البيوكيمياء" لاعتقاده أن الشفاء يرجع إلى تفاعلات كيميائية تتم في داخل الجسم. وقد أدى اهتمامُه بهذا الموضوع إلى التبحر في علم الكيمياء، وله فيها كتاب قيّم عنوانه "سر الأسرار" وبه وصفٌ مبدع لطرق الاختبار الكيميائية، وكيف يُعِدُّ الكيميائي أدواتِه وموادَّه قبل أن يبدأ العمل، وبه كذلك وصفٌ دقيق لأكثر من عشرين أداة وجهاز معدني أو زجاجي مما يحتاجه الكيميائي.(231/16)
أما علم الفيزيقا فيزدان تاريخه باسمَي عَلَمَين من علماء المسلمين في الدولة العباسية هما: ابن الهيثم والبيروني اللذان يعترف بفضلهما في تقدم هذا العلم العلماء ومؤرخو العلوم في الغرب والشرق. ويرتبط علم الضوء باسم الحسن بن الهيثم (ت: 430هـ/1039م)، وعلم قياس الكثافة وتوازن السوائل باسم أبى ريحان البيروني (ت:442هـ/1050م). ويَعُدّ علماءُ العصر الحاضر إجادة الرياضيات أساسًا لابد منه لدراسة الفيزيقا، ومن المدهش أن هذين العالمين كانا على عُلوِّ كعبٍ في الرياضيات لا يقل عما كانا عليه في علم الفيزيقا. وأغلب الظن أن هذا لم يكن مجرّدَ مصادفةٍ عندهما، فابنُ الهيثم مثلاً حرص على استكمال إحاطته بكل ما يمت إلى تخصصه في الضوء من مجالات، حتى إنه قام بتشريح دقيق للعين، ورسمَ طبقاتِها ووضعَها. أما البيروني فقد اشتهر أساسًا في بحوث الميكانيكا، وتوازن السوائل وضغوطها (ما يسمى الآن (الأيدروستاتيكا)، وقياس الثقل النوعي الذي ابتكَر له جهازًا كان يسميه "الجهازَ المخروطي"، وهو أقدم جهاز لقياس الكثافة. وقد قام فيدمان في عام 1926 بمراجعة بيانات البيروني لقياس الوزن النوعي لنحو عشرين مادة، فوجد أن الفرق بينها وبين القياسات الحديثة لا يتجاوز أجزاءً قليلة من العشرة أو من المئة أحيانًا؛ وأن بعضها يطابق القياسات الحديثة مطابقه تامة. ومما يجب التنويه به عن البيروني أنه أول من نبه إلى البحث في سرعة الضوء، فقد كتب أن "سرعة النور أعظم بكثير من سرعة الأرض".
لم تقتصر النهضة العلمية على المشرق العربي فقط، ففي الأندلسي حيث ساد حكمُ الأمويين خَمسَمئة سنةٍ بعد سقوط دولتهم في المشرق، قامت هناك نهضة تعليمية وعلمية قوية أسفرت عن تقدم علمي وتكنولوجي كان يضارع ما أنجزته الدولة العباسية إن لم يكن قد بزَّه في مجالات كثيرة. وباعث هذه النهضة هو عبد الرحمن الناصر (حكم من 300هـ/912م-357هـ/986م).(231/17)
وكانت قرطبة حاضرةَ ملكه وزهرةَ الدنيا في ذلك الزمان، تزدان في مجال الهندسة الإنشائية بالقصور والمساجدِ والمدارس التي يفوق وصف المؤرخين لعظمتها وبهائها ما يتصوره الإنسان المعاصر عن ذلك الزمان. فكان في قرطبةَ وحدَها 700 مسجد بما فيها مسجد قرطبة الكبير الذي ابتُكر فيه نظامٌ للأعمدة لا يحجب نظر أي مصلٍّ فيه عن أن يرى الإمام على المنبر أدنى المحراب (وهو نظام في الأعمدة والمقاعد أخذت عنه الهندسة المعمارية بعد ذلك في الأبهاء الكبرى).
وكان في قرطبة كذلك 300 حمامٍ عام مزودةٍ بوسائل الراحة والشروط الصحية، وذلك في الوقت الذي كان الأوربيون يعدون الاستحمامَ عادةً غيرَ مستحبة.
وفي مجال الهندسة المدنية كان يشق العاصمة مئةُ ميلٍ من الطرق المعبدة المضاءة بالليل؛ وهذا - على حد قول أنتوني ناتنج في كتابه: "العرب" الصادر في عام 1964 – "تقدمٌ لم تحرزه لندنُ وباريسُ إلا بعد سبعةِ قرون" وكان بالمدينة سبعون مكتبةً عامةً وصل عدد الكتب فيها في زمن الحَكم بن عبد الرحمن الناصر 400.000 كتابٍ. ويقول رينارت دوزي: إنه "لم تكن هناك أميةٌ تقريبًا (بين سكان قرطبة الذي بَلغَ تعدادُهم 800.000نسمة) وكاد أن يكون كل واحد منهم يمكنه القراءة والكتابة". ويضيف إلى ذلك ناتنج أن "هذا في الوقت الذي كانت فيه القراءةُ والكتابة في أوربا المسيحية مقصورة على الكهنة وقلةٍ قليلة من المحترفين".
ومن دلائل ما بلغته إسبانيا العربية من حضارة مبنية على النهضة العلمية في عهد عبد الرحمن وابنهِ الحكم الرقيُّ الفائق في عدد من الصناعات اشتهرت فيها كصناعات النسيج، والجلود، والزجاج، والخزف، كما ارتقت صناعات تعدين الذهب، والفضة، والحديد، والزئبق.(231/18)
أما صناعة السفن فقد بلغت شأوًا عظيمًا، ومازال يدل على ذلك الأصلُ العربيُّ لبعض المصطلحات في مجال الملاحة الحديثة، مثل: كلمة أدميرال = (admiral) وأصلها "أمير البحر"، وكلمة ترسانة (arsinal) وهي متحولة عن كلمتي "دار الصناعة"، وكلمة (tariff) المتحورة عن كلمة "التعريفة".
ويدُل على تفوق عرب الأندلس في مجال علوم البحت كالكيمياء، والنبات، والحيوان، والعلوم التطبيقية كالطب والهندسة - أن جامعة قرطبة في عصر عبد الرحمن الناصر كانت تستقطب الطلاب من كل بلاد الأرض في ذلك الوقت لدراسة تلك العلوم أو العلوم النظرية الأخرى.
وقد كان حكام الممالك الأوربية في ذلك الوقت يرسلون إليها البعثاتِ، ويستقدمون منها الخبراء من المهندسين والأطباء وغيرهم.
وكان أبو القاسم الزهراوي (ت403هـ/ 1013م) ثالثَ أعظم الأطباء والجراحين في العصور الوسطى بعد الرازي وابن سينا، وقد اشتهر الزهراوي في الجراحة خاصة، وقام بعمليات استخراج الحَصى من المثانة بالشق والتفتيت، كذلك قام بعمليات صعبة في التوليد كاستخراج الجنين الميت مع المحافظة على حياة الأم. وكان الزهراوي الطبيب الخاص للحكم ابن عبد الرحمن. وعن طريقه هو وابن رشد (ت595هـ/1198م) الذي كان من حذاق الأطباء إلى جانب شهرته الأولى في الفلسفة، انتقلت مهنة الطب إلى أوربا. ويمكننا أن نحكم على مدى تقدمِ العلوم الطبية في الأندلس من قول أنتوني ناتنج في كتابه "العرب" ، قال: "إنه في الوقت الذي كانت فيه أوربا المسيحية حتى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي تعتقد أن الطاعون والأوبئة الأخرى قضاءٌ مجهول من الله، كان يصر أطباء الأندلس – كما جاء في كتب أحد أطباء غرناطة – أنه مرضٌ معدٍ، وأن ذلك قد ثبت لديه بالتجربة والاختبار، وشواهد الحواس، والتقارير الموثوق بها".(231/19)
ولم يقتصرْ تفوُّق الأندلسيين في العلوم التطبيقية على الطب والهندسة فقط، كما رأينا في المشرق، بل تعدوْها إلى فنونٍ أخرى كالزراعة التي طوروا فيها وسائل الرّي والتسميد. ومن أطرف ما لا تشيع معرفته أنهم كانوا روادًا في علوم التربة والمخصِّبات الزراعية، وحتى في أمراض النبات؛ وفي ذلك يقول ناتنج "إن أبحاثًا واسعة أجريت عن حياة النبات، وعن التربة والمخصبات، كما أن للعرب الإسبان يرجع الفضل في تطوير أبحاث أمراض النبات ووصف الأدوية لتلك الأمراض".
ولم يتخلف العلم الطبيعي والتطبيقي في أفريقيا العربية عن النهضة في المشرق والمغرب. فكان هناك حكام يرعَوْن نهضتَه من الأيوبيين والإخشيديين والمماليك والفاطميين والمرابطين والموحدين وغيرِهم. ومن أساطين العلماء المسلمين في هذه المنطقة نذكر بعض الأمثلة فمنهم:
- أبو الحسن علي بن يونس (ت399هـ/1009م)، عاش في القاهرة في زمن العزيز بالله الفاطمي. كان رياضيًّا وفلكيًّا، وبنى له الفاطميون مرصدًا بالقرب من حلوان، رصد فيه كسوف الشمس وخسوف القمر كلاًّ في وقته. وابن يونس هو المخترع الأصلي للبندول قبل فوكيه، وله كتاب في حساب المثلثات. وقد ابتكر قوانين ومعادلاتٍ يمكن بواسطتها تحويل عمليات الضرب إلى عمليات جمع لتسهيل حل المسائل الطويلة المعتمدة، وبذلك يعد ممن مهدوا لاكتشاف اللوغاريتمات.
- عبد اللطيف البغدادي (ت629هـ-1231م): رحالة وطبيب ونباتي عاش معظم عمره في مصر زمن صلاح الدين الأيوبي. كان يلقي درسه في الطب ظهر كل يوم بانتظام في الجامع الأزهر، وأجرى عليه صلاح الدين راتبًا منتظمًا. وألف أول موسوعة نباتية عن نباتات مصر.(231/20)
- أحمد بن يوسف التيفاشي (ت651هـ/1253م): ولد في تونس أيام دولة الموحدين، وعاش معظم عمره في مصر وتوفي فيها. وولي في مصر القضاء، وكان مُعدِّنا فذًّا، فولاه الملك الكامل رئاسة دائرة التعدين، وله كتاب حجة بمقاييس عصره في علم المعادن اسمه "أزهار الأفكار في جواهر الأحجار".
- أبو عبد الله زكريا القزويني (ت:672هـ/1273م): رحالة وجغرافي وعالم بالتاريخ الطبيعي، له كتاب جامع مشهور في التاريخ الطبيعي باسم "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" به فصل في الفلك، وفصل في الأرض: أصلِها وطبيعتها، وعن الفصول والرياح وما سماه كرة الهواء ويسمى الآن (atmosphere) وكرة الماء أو ما يسمى الآن (hydrosphere)، وفصل آخر عن اليابسة (eithosphere) طبيعتِها وما عليها من جماد ونبات وحيوان. وقد رتب كل هذا على حروف المعجم ووصفه تفصيلاً.
- علاء الدين أبو الحسن بن النفيس (ت686هـ/ 1288م): طبيب حاذق مدقق، عاش بمصر وكان رئيسًا لأطبائها، وعمل بمستشفى قلاوون بتفانٍ طَوال حياته، ووهب منزلَه ومكتبته للمستشفى بعد مماته. ويرجع إليه اكتشاف الدورة الدموية الصغرى التي ظل الناس يُرجعون اكتشافَها إلى وليم هارفي حتى عهد قريب، وذلك عندما اكتشف طبيب مصري معاصر هو الدكتور محيي الدين التطاوي في عام 1924 مخطوطةً نادرة لابن النفيس في مكتبة برلين، وظهر له من
تحقيقها اكتشافُ ابن النفيس للدورة الدموية الصغرى.
... وبعد، فلعل هذه العجالة أن تكون قد بيَّنتْ أثر العقيدة الإسلامية ومبادئها، والسلوك الحياتي الإسلامي في انطلاقةِ الفكر، في إعمال العقل والبحث بلا حدود في المجالات البحتة والتطبيقية في العلوم. أما كيف أثَّرت هذه النهضة العلمية الإسلامية العربية الكبرى في بعث عصر النهضة الأوربية وما أدى إلى الانطلاق الصاروخي الذي نشهده في العصر الحاضر للعلوم والتكنولوجيا فذلك حديث آخر قد تأتي مناسبته فيما بعد إن شاء الله تعالى، والله ولي التوفيق.(231/21)
... محمد يوسف حسن
عضو المجمع(231/22)
العِلْم والقِيَم .. في التُّراث واللُّغة *
للأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد
... يَعرض لنا، في أثناء عملنا في " اللجنة القومية للأخلاقيات الحيوية "، التي أشرف بعضويتها، مصطلحات من قبيل: القِيَم، والأخلاقيّات، والسلوك،والآداب، ومالفَّ لَفَّها. وهي مصطلحات تشيع أيضًا على ألسنة المثقفين وفي لغة وسائل الإعلام، وفي الدراسات المتخصصة، على سواء، وكثيرًا ما تكتسي بأثواب فضفاضة من الغموض، حتى إن أعضاء لجنة الأخلاقيات دَعَوني أن أحاول أو أرسم لكلٍّ منها حدودًا .
... فلما جُلت جولة لغوية، عربية وأجنبية، مستكشفًا دلالات هذه المفردات، اتضح لي أنها "متداخلة متخارجة" – إن صحَّ هذا التعبير- وأنها مثال بيِّن للتطور التاريخي لدلالات الألفاظ، وأن بعضها لم يكتسب دلالته
الاصطلاحية المتداولة الآن إلاّ منذ عهد غير بعيد. وقد رأيت أن أغتنم فرصة مؤتمرنا هذا السنويِّ، لأعرض لونًا من اجتهاد الهواة على مقاييس المتخصصين من علماء اللغة الأعلام، ابتغاء التقييم والتقويم .
... وقد أدركت منذ البداية أن هذه المصطلحات ترتكز على مفهوم "القيم" values ، فوجدت أنه من المناسب، بل لعله من الضروري، أن أتعمق أوّلاً تقصِّي العلاقة بين العلم والقيم، بوجه عام، ومن النواحي البيولوجية على نحوٍ خاصّ. وترجع جذور المسألة إلى أن العلم الغربي الحديث نشأ منذ بداية عصر النهضة متمرّدًا على الدين، واتخذ عمومًا موقفًا صَلِفًا متعاليًا مغرورًا متجرّدًا من أية قيم دينية أو أخلاقية أو إنسانية.
أو يكاد (عبد الحافظ حلمي محمد، 1980).(232/1)
... وكان لهذا أسبابه التاريخية والسياسية المعروفة. وكان العلماء يؤكدون أن العلم موضوعي، لا يُعنى إلا بالبحث عن "الحقيقة" . وهكذا مضى العلماء يمارسون نشاطهم، مرتادين ميادين جديدة، واحدًا بعد الآخر، غير عابئين بشيء . وفي أواخر العَقد السادس من القرن التاسع عشر تبلورت نظرية للتطور العضوي، سرعان ما أقحمت في مجالات علم الاجتماع والسياسة والاقتصاد. وحدث ما هو معروف من صدمةٍ للرأي العام المحافظ، وتصادمٍ بين معتنقي النظرية وكثير من علماء الدين ( عبد الحافظ حلمي محمد، 1995م ) .
... وفي النصف الأول من القرن العشرين، حدثت مآسي الحربين العالميتين الأولى والثانية، التي كانت من ثمار العلم المرَّة، فجعلت الناس يتساءلون عما إذا كان العلم يسهم حقًّا في سعادة البشر، أو إنه السبب في شقائهم، مُلقين اللوم على الحضارة الغربية في كل ما تعانيه البشرية في هذا الزمان .
ولكن برونوسكي (J. Bronowski) ينهض في كتابه عن العلم والقيم الإنسانية الذي نشره عام 1956، مدافعًا عن العلم قائلاً بأن العلم لا يلام على هذه الأفعال النكراء. ويقول كارل بوبر، أكبر فلاسفة العلم في هذا العصر، إن هذا ربما كان راجعًا إلى ما هو مستقر في نفوس الناس من بُغْضٍ لأيّ تدخل في مَسْرَى الطبيعة، مع توجُّس الشر من هذه المحاولات (O’Hear, 1989) .(232/2)
... وإلى نهاية عَقد الأربعينيات من القرن العشرين، كان الاعتقاد سائدًا بأنه ما دامت العلوم تهدف إلى التوصّل إلى آراء متفق عليها حول الوصف الموضوعي للعالم الطبيعي، فإنه لا شأن لها بالمسائل الذاتية المتعلقة بالأخلاقيات الشخصية. ولا شك أن هذا التوجُّه قد فرض قيودًا على مجالات العلم المطروقة، إلاّ أنه كان مغرًيا للعلماء؛ لأنه كان يحمي حريتهم من أي ضغوط أو تدخلات خارجية، كما أنه كان مغريًا لرجال الدين والأخلاق، لأنه يكسبهم، هم أيضًا، استقلالاً ذاتيا، ولأنه كان يرسم حدودًا فاصلة بين الدين والعلم. وبالطبع كانت هناك بعض الاستثناءات .
... ولكن يبدو أنه لا الفكر التطوريّ، ولا قنبلتا هيروشيما ونجازاكي، بلغ في تنبيه الناس إلى تدخل العلم في آفاقٍ من حياة الناس، كانوا يظنونها مصونة حصينة، ما بلغته آثار الثورة الوراثية genetic revolution ، وما تمخضت عنه من "هندسة وراثية " genetic engineering وهندسة التناسل أو التكاثر reproduction engineering . فهذه الثورة قد أدّت إلى ما يسمَّى أطفال الأنابيب، نتائجه مستقلة عن مشاعر الخوف والرجاء، أو الرهبة والرغبة، المتعلقة بتطبيقاتها" (O’Hear, 1989,P.225 ) .
... وفي أواخر عقد الثمانينيات من القرن العشرين، هبَّ نيكولاس ماكسويل، في كتابه المثير : " من المعرفة إلى الحكمة : ثورة في أهداف العلم وطرائفه "، محذِّرًا من مغبَّة الفصل بين العلم والقيم، وداعيًا إلى أنه ينبغي علينا، عندما نمارس بحوثنا العلمية، أن نحرص على أن يكون ذلك مُعينًا على تنمية "كلِّ ما هو ذو قيمة وجدير بالوجود في الكون"، وأن هيروشيما ونجازاكي كانتا نتيجةً لما درج عليه العلماء من الفصل بين المعرفة العلمية " المتحررة من القيم " (value – free ) ، وبين تطبيقاتها "المُثْقَلَة بالقيم" (value – laden).(232/3)
... وهو يدعو إلى أن الحكم على أهداف البحث العلمي ينبغي أن تكون جزءًا لا ينفصل عن النشاط البحثي نفسه، وأن العلماء ينبغي ألاَّ يُدَرَّبوا على أن ينظروا إلى نشاطهم العلمي منعزلاً عن آثاره الاجتماعية والأخلاقية البعيدة (Maxwell, 1988). ويشارك ماكسويل في هذا الرأي مفكرون كثيرون.
... ويقول توماسما وكوشنر ، في كتابهما الصادر من مطبعة جامعة كيمبردج عام 1996، إننا لا نستطيع لوم التقنيات العلمية والأشياء غير العاقلة وغير المكلَّفة، إنما ينبغي أن نلقي المسؤولية كلَّها على أنفسنا، وأن العلم وحده لا يستطيع أن يحدد الأهداف الصحيحة للحضارة البشرية. وهما يقتبسان قول برتراند رسِّل: "إذا أريد أن تكون الحضارة العلمية حضارة خير، فإنها ينبغي أن توجَّه إلى خير البشر (Thomasma & kushnur, 1996 P.369). وهما يقتبسان أيضًا رأيًا حاسمًا لجوزيف فلتشر يقول:" هناك اتجاه لاستغلال هذه الحقيقة في التدمير (المصدر السابق P.370). وجوزيف فلتشر هذا لاهوتي من رواد دَوْر الأخلاقيات في الممارسات البيولوجية ، نشر عام 1974م كتابه ذا العنوان المعبِّر : "أخلاقيات التنظيم الوراثي : نهاية لُعبة رولِتْ التناسل " .(232/4)
... بل إن العلم، من ناحية أخرى، يمكن أن يعين على اتخاذ القرار الأخلاقي المناسب . ويسوق جون هِدْلى بروك ، في كتابه الصادر من مطبعة جامعة كيمبردج عام 1991، بعنوان " العلم والدين ، مثالاً على هذا بأن زوجين كاثوليكيين ملتزمين سوف يرفضان إجهاض جنينهما، من حيث المبدأ، ولكنهما قد يعدلان عن رأيهما هذا عندما يؤكد لهما فحص السائل الرهلي (الأمنيوني) المحيط بالجنين ، أن ذلك واستعارة الأرحام أو استئجارها، وإلى بنوك النّطَف والبويضات والأجنة المجمَّدة، واحتمالات خلط الأنساب، ونقل الجينات بلا حدود، وابتكار صنوف جديدة من النبات والحيوان ، والمطالبة بتسجيل " براءات اختراع " للجينات ولكائنات لها خصائص لم يكن لها وجود متكامل في عالم الأحياء من قبل،
وإلى الكَلْوَنَة أو الاستنساخ وما يتفرع عنها، بلا حدود أيضًا، وإلى استخدام الأجنة البشرية الباكرة في البحث والتجريب، وما إلى ذلك. وواكب هذا أيضًا ثورةٌ فيما يمكن أن نسميه التِّقانة أو التكنولوجيا الطبية، ومنها زراعة الأنسجة والأعضاء، ونقلها من أجساد الأحياء والأموات .
... وهذه الأمور كلها لها أبعادها الأخلاقية الهائلة، ولا شك. ولعله من المناسب أن أروي لكم هذه الطرفة من كتاب جون هاريس ، أحد روّاد أخلاقيات البيولوجيا البارزين، في كتابه الذي صدر عام1998. فهو يقول: إن الناس كانوا يتندرون بأن الأمومة حقيقة، أما الأبوة فهي افتراض* ! بيد أن التقنيات البيولوجية قد حوَّلت الأمومة أيضًا إلى افتراض، فقد يكون للوليد أم جينية، وأم رَحِمية، وقد يضاف إليهما أمٌّ أو أمهات أخريات اجتماعيات: مرضعات وحاضنات ومربيات. وأصبحت الجدة مستطيعة أن تلد حفيدتها في خطوة مباشرة واحدة (Harris, 1998) .(232/5)
والرأي حول علاقة العلم بالقيم كان، وما يزال، موضع جدال، وأخذٍ وردّ. فيقول أوهير ، مثلاً ، في كتابه عن فلسفة العلم ، بأنه لا يمكننا القول بأن من طبيعة العلم الأصلية أن يدعو الإنسان إلى التدخل الطائش في الطبيعة وإفساد نظامها، دون تبصُّر الآثار المترتبة على هذا التدخل ، كما أنه لا العلمُ ولا العلماء هم الذين يوجِّهون جهود العالَم وثرواته إلى أن تُسَخَّر في سبيل الحرب والدمار والإيذاء (O’Hear, 1989) ، ويقول سير أندرو هكسلي Sir Andrew Huxley: " في نهاية الأمر تعتمد قيمة العلم اعتمادًا كاملاً على أنَّ الجنين مصاب فعلاً ، لا ظنًّا أو احتمالاً، بمتلازمة داوْن (المغولية). (Brooke, 1991). وأذكر مثالين آخرين: أولهما أن الدراسة المتأملة للأجنة البشرية في أيامها
الباكرة قد ساعدت على تحديد اليوم الرابع عشر، نهايةً للفترة المسموح فيها بإجراء البحوث والتجارب على الأجنة البشرية، وهو الرأى الذي تبنته بعض الدول في قوانينها. وثانيهما هو دور الدراسات التشريحية والفيزيولوجية المتقدمة في تحديد وقت نهاية حياة الفرد من بني الإنسان، وفي تعريف "الموت" .
... ويقول رِيس، الأستاذ بكيمبردج، إنه كلما أثير أمر من أمور مستحدثات الممارسات البيولوجية، هبَّ من يقول لك : "… ولكنَّ هذا أمر غير طبيعي!"، وهو يردُّ على هذا بأن الأمور الطبيعية ليست كلها طيبة [ في آثارها المباشرة، على الأقل ] ، كالزلازل والأعاصير وغيرهما من كوارث الطبيعة، وأمراض وبائية فتاكة، وما إلى ذلك ، كما أن كثيرًا من الأمور التي ألفناها في تربية هجائن النبات والحيوان وعلاج الأمراض والتحصين ضدها، أمور غير طبيعية، ولكنها لا تثير احتجاج أحد (reiss,1998).(232/6)
... كذلك قد يعترض البعض على كثير من مستحدثات الممارسات البيولوجية بأنها تدخُّل في إرادة الله . ولكنَّ ريس يرد عليهم قائلاً بأن إفادتنا من نعمة القدرة على الإبداع – التي وهبنا الله إياها- هي تقدير منا لهذه النعمة . وأنا لا أتصور أنه من المنطق السليم أن يدَّعى أحد من عباد الله أنه قادر على التدخل في إرادة الله – تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا . قد يكون العبد مقصِّرًا أو عاصيًا ، بل حتى كافرًا ، ولكنْ لن يكون في حوله أبدًا أن يتطاول إلى التدخل في إرادة ربِّ الأكوان والعباد وسائر المخلوقات، مطلق التصرّف فيها جميعًا، والذي لا يقع في ملكه إلاَّ ما يشاء .
... وهذه المصالحات بين العلم والقيم ، حقَّقها الغرب أخيرًا بعد صراع طويل بين العلماء ورجال الدين دام نحو خمسة قرون ، وكان له أسبابه السياسية ، كما قدمنا. ولكن العلم الإسلامي الذي تلقفته أوربا وأسست عليه حضارتها المعاصرة، كان علمًا عالميًّا موحَّدًا، وثيق الارتباط بمبادئ الدين والخلق القويم، لأن الإسلام دين الحياة في جميع جوانبها. وفي هذا يطول الكلام ، ولكنني أكتفي بالقول بأن الإسلام أقام العلم وثيق الوشائج بالمجتمع الإسلاميِّ وقيمه. فالعلم يُطلب ويُعطى في ضوء قيم رفيعة وضوابط رشيدة، ثم إنه يجب أن يكون موجهًا إلى الخير. فمن ذلك ما تعلمه المسلمون من نبيِّهِم، صلَّى الله عليه وسلم، من أن يستعيذوا بالله من علم لا ينفع . والمنفعة هنا كلمة شاملة لكل ما يحقق أسباب الخير الماديَّة والمعنوية للبشرية جمعاء، بل لبيئة الأرض التي استخلِف الإنسان لعمارتها ورعايتها، لا لتلويثها وتخريبها والإخلال بتوازنها (عبد الحافظ حلمي محمد 1997). والعلم يجب أن يُشاع ويُذاع لينفع جميع الناس؛ ومنه قوله ، صلى الله عليه وسلم: " من سُئِل عن علمٍ فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجامٍ من نار" .(232/7)
... ولذلك لم يكن غريبًا أن يتجه الغرب في هذا العصر إلى أصول الشريعة الإسلامية، لكي يتلمسوا فيها ما قد يعينهم على كبح جماح العلم وشططه، وحسن توجيهه لخير البشر. فكان من ذلك تنظيم لقاءين في أوائل الثمانينيات في ستوكهولم وغرناطة (وكان لى حظ المشاركة في أولهما الذي عقد في ستوكهولهم عام1981- انظر : عبد الحافظ حلمي محمد ، 1995ـ ب) . ويلخص جون هِدْلي بروك (Brooke, 1991,p.341) وجهة النظر الإسلامية ، كما يلى : إن التأكيد على وحدانية الله ، يتضمن أيضًا تأكيدًا على وَحْدة الطبيعة، والإنسانية جزء منها، ومن صميم نسيجها؛ وأيُّ أذى يصيبها سوف ينعكس على البشر. وعلى نقيض الفلسفة العَلْمانية الغربية، البشر مسؤولون أمام الله عن سوء استغلال الطبيعة، وأنهم سوف ينالون عقابهم على هذا في الحياة الدنيا وفي الآخرة . كذلك معاني غزو الطبيعة وسيادتها، التي كانت تستهدفها الجهود العلمية الغربية ، يجب أن يحل محلَّها مشاعر الخلافة والرعاية. أما السعي وراء المعرفة فينبغي أن يكون فيه معنى التأمل والعبادة، كما أنه ينبغي مقاومة صور العلوم والتكنولوجيا التي تعين على إهانة البشر وتركيز الثروة في أيدٍ قليلة، وينبغي التوجُّه إلى علمٍ للجماهير، تكون فيه الوسائل والغايات موضع تدقيق أخلاقي .
... ويعلِّق المؤلف (بروك) بأن البلاد الإسلامية تهمل هذه المبادئَ الرفيعة، وأن دول البترول الثرية قد استوردت التقانات الغربية دون أدنى مراعاةٍ للبيئة أو الأخلاق التقليدية. ويبدو أن صانعي القرار في تلك البلاد قد ابتعدوا عن جذورهم الدينية، كما فعل نظراؤهم في الغرب، وأن سرعة ترسيخ هذه التقانات الغربية في بلادهم لم تسمح بالتقييم الصحيح لمساوئها. ومن ثمَّ ينبغي القيام بهذا التقييم، وهنا يمكن للغرب أن يستفيد من الإسلام.(232/8)
والواقع أن فقهاء الشريعة الإسلامية، جزاهم الله خير الجزاء، قد تركوا لنا تراثا ثريًّا من المعايير والمبادئ العامة، التي يمكننا الاستهداءُ بها عند بحث كلِّ قضية . بل إنهم كانوا يفترضون أحيانًا قضايا خيالية ويجتهدون في تحليلها والحكم عليها. وأعتقد أن رجال العلوم وعلماء الدين عندنا أسعد حظًّا من نظرائهم في الغرب ، وعندهم هذه الأصول الشرعية الكلية الدقيقة، التي يمكن أن يتخذوها نبراسًا يعصمهم من الخطأ، إذا حالفهم الحظ في صواب تطبيقها. وذلك من قبيل ما نتعلمه من الفقهاء من أن الأصل في الأمور الإباحة ما لم يكن ثمة حكم شرعي قطعي الدلالة بغير ذلك. وهذه القاعدة وحدها تفتح لنا أبواب الإفادة الرشيدة المشروعة من كل جديد نافع للبشر، أفرادًا أو جماعات. وعندنا أيضًا قواعد المفاضلة بين المصالح والمفاسد، مثل ترجيح المصلحة العليا على المصلحة الدنيا، وأن درءَ المفاسد أولى من جلب المنافع، ومثل الرأي باختيار أخفِّ الضررين إذا كان لابدَّ من أحدهما، وأن الضرورات تبيح المحظورات، وأن الضرورة بقدرها، وما إلى ذلك (أحمد شرف الدين، 1981 ؛ عبد الحافظ حلمي محمد ، 1993).
* ... * ... *
... ولنعدْ الآن إلى المصطلحات المتداخلة المتخارجة التي أشرت إليها في صدر حديثي. وقد أدركت منذ البداية أن هذه الألفاظ اتخذت معانيها الاصطلاحية الشائعة الحديثة، في الغرب أولاً (وسوف أمحِّص هذا الانطباع بعد قليل)، فجلت جولة في معاجم اللغة الإنجليزية، ولكنني وجدت أنني لن أعثر على ضالتي إلاّ في معجم أكسفورد التاريخي، الذي يتعقب دلالات الكلمة في العصور المتوالية . ثم عزمت – في الوقت نفسه – على أن أقابل هذا بما هو موجود في معاجم اللغة العربية : التراثية والحديثة .(232/9)
... ولأبدأْ بلفظ science ، الذي كان معناه المعرفة بوجه عام، ثم تحوَّل إلى المهارة المكتسبة بالدراسة والتدريب. وفي عام 1660 كان يطلق على الحرفة أو المَنْصِب المحتاجين إلى تدريب خاص. ولكن المصطلح أخذ يقترب من دلالته الحديثة عام 1725، إذْ كان يشير إلى " فرع من الدراسة مختص إما بمجموعة متصلة من الحقائق التي يمكن إظهارها، وإما بحقائق مشاهدة تصنَّف بأسلوب منظم، ويمكن إخضاعها لقوانين عامة، ويتضمن طرائق موثوقًا بها تؤدي إلى اكتشاف حقائق جديدة في ميدانها. ثم تحدَّد لفظ sciences – بصيغة الجمع – بمدلوله المتداول الآن، الذي قد ينصرف إلى العلوم الطبيعية والفيزيائية، وقد يشير إلى العلوم التجريبية على وجه الخصوص. أما فلاسفة العلم المحدثون فيضعون تعاريف أخرى للعلم، واللاعلم، والعلم الزائف، وما إلى ذلك .
... أما كتب التراث العربي فكانت تعرِّف العلم بأنه إدراك الشيء بحقيقته، أو اليقينُ ، أو المعرفة، أو بأنه نور يقذفه الله في قلب من يحب. وضيَّق بعضهم هذا المعنى الواسع ليقصره – دون وجه حق – على علوم الدين، أو علم الحديث بالذات. ولكن ابن عبد البر – في القرن الخامس الهجري – كان يقول إن العلم هو كل ما أزال جهلاً وتيقَّنه الإنسان (عبد الحافظ حلمي محمد، 1982). والمعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، الذي ظهرت طبعته الأولى عام 1960، والثالثة المتداولة الآن عام 1985، يضيف إلى المعاني التراثية تعريفًا جديدًا، فيقول : " يُطلق العلم على مجموع مسائل وأصول كلية تجمعها جهة واحدة، كعلم الكلام، وعلم النحو، وعلم الأرض، وعلم الكونيات، وعلم الآثار… ثم يستطرد: ويُطلق العلم حديثًا على العلوم الطبيعية التي تحتاج إلى تجربة ومشاهدة واختبار، سواء أكانت أساسية أم تطبيقية .(232/10)
... أما لفظ value، فله معاني: القيمة، أو القَدْر، أو المقدار، أو الأهمية، ثم يأتي معناه الأخلاقي، وهو: الأمر الذي يستحق التقدير لذاته، والذي له قدر ذاتي . “ … That which is
worthy of esteem for its own sake; that which has intrinsic worth…”
وللَّفظ معانٍ أخرى فنية. ولكن المعجم، في ملحقه الذي وضع عام 1978، يُدْرج اللفظ بصيغة الجمع values (n.sing) معرِّفًا إياه بأنه: المبادئ التي يتخذها المرء معاييرَ له standards ، أو حكم المرء على ما هو قيِّم أو مهم في الحياة. ويستخدم القوم في الغرب هذا المصطلح كثيرًا، متوسعين في ذلك إلى مجالات قد تبدو بعيدة عن المعايير الأخلاقية، كاعتناق بعض النظريات العلمية. ولكنني لم أجد لفظ values في معجم أكسفورد للعهديْن القديم والحديث، باللغة الإنجليزية .(232/11)
... وفي الصحاح، واللسان، والقاموس، والمصباح: القيمة : الثمن الذي يُقاوم به المتاعُ، أي يقوم مقامه ؛ وجمعه : قِيَم؛ والأمر القيِّم : المستقيم ؛ والملَّة القيِّمة : المستقيمة ، كما في قوله تعالى: "وذلك دين القيِّمة" (البيِّنة:5). أما في قوله تعالى : " فيها كتب قيِّمة" (البيِّنَة :3) فتقول كتب التفسير : مكتوبات مستقيمة ناطقة بالحق. ولا يزيد الوسيط الحديث كثيرًا، فيقول : إن قيمة الشىء: قَدْرُه، وقيمة المتاع: ثمنه، ومن الإنسان: طوله.ومع ذلك يشيع على ألسنة المتحدثين بالعربية من المحدثين استعمال القيم بمعنى المبادئ، ونحن نسمعها من الفقهاء وأئمة المساجد، وفي كلِّ مقام. ولا شك أن القيم هي التي تحدِّد أحكام الناس على الأمور، وهي التي تقودهم وتملي عليهم تصرُّفاتهم. فمن ذلك ما سمعته مرَّةً من حوارٍ حول كيف تتعامل الأقوام المختلفة مع جثمان ميِّتهم، من مواراته التراب، أو دفنه في صندوق، أو حَرْقِهِ وذرِّ رماده، أو تركه لتأكله السباع والطير، وغير ذلك (وبالمناسبة هذه كلها ممارسات بيولوجية، فضلاً على جانبها العقائدي أو التقليدي). وقد أكد كل طرف من أطراف الحوار أن ما يفعله قومه هو القمة في تكريم الميت.
... ثم نأتي إلى ثالثة الأثافي، كما يقولون، وهي ethics ، بصيغة الجمع. ولها معانٍ متعدِّدة؛ ففي عام 1651 كانت تطلق على الأصول الأخلاقية لكاتبٍ ما أو لمدرسة من مدارس الفكر. وفي عام 1690 اتسعت لتشمل القانون المدنيَّ والسياسيَّ والدوليَّ . وفي عام 1789 كانت تشير إلى قواعد السلوك في قطاع معين من حياة الناس ، فكان هناك كلامٌ عامَ 1884 عن أخلاقيات الطب medical ethics . أما ملحق عام 1978 من قاموس أكسفورد التاريخي فيشير إلى التحدث عام 1835 عن دواء أو عَقَّار أخلاقي، ويُقصد به ما يُعلن عنه في المطبوعات الطبية، ويُصرف عادة بأمر الطبيب .(232/12)
... وفي الصحاح والقاموس واللسان والمصباح: الخُلُقُ : السَّجِيَّة والطَّبع والمروءة والدِّين (وهذا مختصر من موادَّ مطوَّلة). ولكن وسيط مجمع القاهرة يقدِّم تعريفًا هو في الواقع شرح لمعنى "السجيَّة" و "الطبع"، فيقول: الخُلُق : " حال للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال، من خير أو شر ، من غير حاجة إلى فكر ورويَّة " ؛ ويضيف معانيَ حديثة : علم الأخلاق : " علم موضوعه أحكام قيميَّة تتعلق بالأعمال التي توصف بالحُسن أو القبح، والأخلاقيِّ : هو ما يتفق وقواعدَ الأخلاق أو قواعدَ السلوك المقرَّرة في المجتمع، وعكسه لا أخلاقي. (ونلاحظ هنا أن الوسيط يستخدم لفظ " قيمية" التي لم ترد عنده في مادة قيمة، كما تقدم).
... ولكننا نلاحظ أولاً أن الخُلُق يحدَّد بوصفه بالحُسن أو القبح ، كما في قوله تعالى : " وإنك لعلى خُلُق عظيم" (القلم:4) ، وفي الحديث الشريف: "بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق" ، وقوله ، صلى الله عليه وسلم : " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خُلُقا، وخياركم خياركم لنسائهم" . ولكننا إذا لم نُتْبِع الخُلُق بوصف معين، فالغالب أن اللفظ ينصرف إلى الخُلُق المحمود لا المذموم، كقولنا: إن فلانًا على خُلُق. ونلاحظ ثانيًا أن الذي شاع هو استعمال اللفظ "أخلاقيّات" مقابل ethics الإنجليزية. ومما هو جدير بالذكر، في هذا الصدد، أن كثيرًا من المثقفين يخلطون بين لفظَيْ "أخلاق" و "خَلاق"، فهم يقولون مثلاً، إن فلانًا لا خلاقَ له، يقصدون: سيّئ الخلق. والواقع أن "خلاق" معناها: "الحظُّ والنصيب من الخير". ومنه قوله تعالى: "أولئك لا خلاقَ لهم في الآخرة ". (آل عمران:77) .(232/13)
... ولفظ الجمع " أخلاق" لا يرد في القرآن الكريم، ولا في تبويب كتب الحديث التي تتكلم عن "الأدب"، كما أن الإمام الغزالي يورد في "إحياء علوم الدين" أبوابًا عن " آداب الطعام" و"آداب الزواج"، … إلخ . وفي المصباح المنير: أَدَبْتُه وأدَّبته: علَّمته رياضة النفس ومحاسن الأخلاق؛ والأدب : كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، وجمعه : آداب. ويزيد الوسيط بعض المعاني الحديثة : الأدب: جملةُ ما ينبغي لذي الصناعة أو الفن أن يتمسَّك به، كأدب القاضي، وأدب الكاتب؛ والجميل من النظم والنثر ؛ وكلُّ ما أنتجه العقل الإنسانيُّ من ضروب الثقافة. ويرد أيضًا: آداب البحث والمناظرة، والآداب العامة. ويتفق مع بعض هذه المعاني ما نسميه الآن : آدابَ المهنة * .
... ولعل أنسب ما يقابل هذه المعاني بالإنجليزية لفظ "manners" . ويذكر قاموس أكسفورد التدرج التاريخي للكلمة منذ عام 1579، ولكن المعاني كلها تدور حول : عاداتِ شعب أو أسلوب حياته، وطريقة المرء في معاملة الناس ومخاطبتهم – ويتفق هذا مع اللفظ " conduct " - ، ثم العادات الحميدة والسلوك الحسن. وهذا يقودنا إلى اللفظ "moral "، وله عشرة معانٍ ، بعضها فروع. ومنها: عام 1500 ما يتعلق بالقدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، وعام 1960 وصف لما هو مؤسس على القانون الأخلاقي لا القانون الوضعيِّ، وعام 1699 : مَلكَة مستقرة في العقل البشرىّ تؤدّي به إلى التمييز بين الخطأ والصواب. ومن معاني اللفظ الأخرى: المغزى،(232/14)
والسلوك الأخلاقي، والتعاليم الأخلاقية، وعلم الأخلاق، والمعنويات ، والرُّوح المعنوية . ويتصل بهذا اللفظ كلمة أخرى هي "morality" ، ولها معانٍ كثيرة، فهي كانت تشير منذ عام 1449 إلى علم الأخلاق moral science أو إدراكه، ثم أصبحت تستخدم عام 1609 للدلالة على السلوك الأخلاقي، وبخاصة الجانب الأخلاقي لمسألةٍ ما. وأُطلقت صيغة الجمع "moralities" منذ 1605 على المبادئ والأسس الأخلاقية، وتُطلق أيضًا بمعنى "الأخلاقية" أي الانسجام مع المثل الأخلاقية العليا.
... ويتصل بالأخلاق عامةً لفظٌ آخر هو character، وله معانٍ لغوية حرفية، ومعان مهنية، في فن الطباعة وعلم تصنيف الأحياء ، مثلاً ، ولكنَّ له أيضًا معاني مجازيّة متصلة بما نحن بصدده، منها ، عام 1647 : البنية العقلية أو الخُلُقية، وعام 1735: الخُلُق
المتميز، وعام 1712: السمعة الطيبة. فهي إذن الخُلُق العام المتميِّز للشخص.
... ولا أريد أن أستطرد إلى أبعد من هذا ، ولكن مازال أمامنا لفظ لا يمكننا تجاهله، وهو : behaviour . ومن معاينة ما ظهر عام 1515، وهو أسلوب التصرُّف مع الآخرين، وله معان أخرى يقول قاموس أكسفورد التاريخي إنها مندثرة. والعجيب أن "السلوك" بمعناه المتداول بيننا في هذه الأيام، لا وجود له في معاجمنا التراثية. ولكن وسيط مجمع اللغة العربية يسجل معنييْن حديثين يثبت أنهما "مجمعيّان" ؛ أي من وضع المجمع نفسه ، وهما : سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، فيقال فلان حسن السلوك أو سيئ السلوك ؛ وفي علم النفس: الاستجابة الكلية التي يبديها كائن حيٌّ إزاء موقف يواجهه. وواضح أن السلوك ينصرف إلى تصرفات الشخص اليومية ، على اختلاف بواعثها .(232/15)
... ويتضح من هذه الجولة ، التي أرجو أنها لم تكن بالغة الطول باعثةً على الملل، أن هذه الألفاظ تدخل دلالات بعضها في بعض، كما تخرج دلالات بعضها من بعض – كما قدمت وأن بعضها لا مفرَّ من استخدامه في تفسير بعضها الآخر، بل إن بعضها قد يستخدم مرادفًا لبعضها الآخر. وقد اُستعين على جمعها في إطار واحد، بالمثال التالي:
... علم الطب الحديث، بفروعه المتعدِّدة، علم عالمي ، يتعلَّم أسسه الطبيب الناشئ ويدرَّب على مزاولته. ولكن هذا الطبيب ينشَّأ على آداب معينة، هي آداب المهنة والتزاماتها التي يؤدي قسمًا للوفاء بها. وهذا الطبيب يسلك في ممارساته الطبية مسلكًا عامًّا، فيه جانب شخصيٌّ يعتمد على تربيته، واقتدائه بأساتذته، وظروف حياته، وظروف عمله. وفي أثناء ذلك قد يقابل مواقف مُحيِّرة ، ولا تنبع حيرته إزاءها من النواحي العلمية الصِّرفة – كالتردُّد في التشخيص أو المفاضلة بين أسلوبين مختلفين في العلاج، ولكنها تنبع من اضطراره إلى اتخاذ قرار يختاره بين اتجاهيْن أو اتجاهات مختلفة، وذلك من قبيل: ماذا يمكن أن يصارح به مريضه أو يخفيه عنه؟ أو هل يجهض ذلك الجنين – لسبب ما – وهو مرتاح الضمير أم يمسك عن هذا؟ بل قد يبلغ من الحرج مبلغ: هل يوقف تلك الأجهزة التي تديم نبض المريض الفاني وتنفسَّه، أم يدعها تعمل؟ والطبيب متصرف في كلِّ هذا الذي ذكرناه، منطلقًا في ضوء خلفية من المبادئ الكبرى الأساسية العامة ، هي التي تطلق عليها "القيم"، ويأتي في مقدمتها دين الطبيب وعقيدته، وتقاليد
بني قومه وتراثهم . وفي هذه الحدود يمكننا الكلام على طب إسلامي، وطب غربي، وطب صيني، وهكذا. وهنا تختلط بعض الموروثات الفنية مع القيم الأخلاقية .
... ومعذرة إن كنت قد أطلت ، وشكرًا لحضراتكم كريم إنصاتكم، وجميل صبركم علىَّ .
... اللهم هيئ لنا من أمرنا رَشَدًا، وأنت –سبحانك - وليُّ التوفيق .
والسلام عليكم ورحمة الله ،
عبد الحافظ حلمي محمد(232/16)
عضو المجمع
المراجع
ــــــ
أحمد شرف الدين، 1981. الإجراءات الطبية وحكمتها وحكمها في ضوء قواعد الفقه الإسلامي . نشرة الطب الإسلامي، 1: 559-589. (الأبحاث وأعمال المؤتمر العالمي الأول عن الطب الإسلامي ، الكويت: يناير، 1981 ) .
عبد الحافظ حلمي محمد، 1980. الفجوة المتوهمة بين الدين والعلم. المؤتمر السنوي للمجمع المصري للثقافة العلمية، القاهرة. الكتاب السنوي للمجمع، 49 (1979):17-37.
ـ 1982. العلوم البيولوجية في خدمة فهم تفسير القرآن الكريم. عالم الفكر، 12 (4) : 64-152 .
ـ 1993 . تحسين النسل البشري بين الطموح والجموح . ندوة الانعكاسات الأخلاقية للأبحاث المتقدمة في علم الوراثة" ، الدوحة : 13-15 فبراير، 1993 : 143-162 .
ـ 1995-م. الاستقبال المبكر للداروينية في بعض البلاد الإسلامية. مصر والعالم العربي، 4: 169-192 .
ـ 1995-ب. الأساس الإسلامي للعلم العالمي : حضارة سداها الإسلام ولحمتها العلم . مجلة مجمع اللغة العربية، القاهرة ، 77: 44-67 .
ـ 1997. الإسلام واللغة العربية والعلم . المؤتمر السنوي لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، في دورته الثالثة والستين : 17-31 مارس ، 1997 (تحت الطبع).
ـ1998. ثورة العلوم البيولوجية وانعكاساتها الأخلاقية. الندوة المصرية عن أخلاقيات الممارسات البيولوجية : إسهامها في حماية حقوق الإنسان ودعمها للتنمية المتواصلة. القاهرة ، 27-30 سبتمبر، 1997 : 33-43 .
... معاجم لغوية عربية (ذكرت في المتن).
Brooke, J.H. 1991. “ Science and Religion : Some Historical Perspectives”- Cambridge University Press.
Harris, J. 1998. “ Clones, Genes, and Immortality: Ethics and the Genetic Revolution”. Oxford University Press.
Maxwell, N. 1988. “ From Knowledge to Wisdom : A Revolution in the Aims and Methods of Science “.
... Blackwell, New York.(232/17)
O’Hear, A. 1989. “ Introduction to the Philosophy of Science “. Clarendon Press, Oxford.
Oxford English Dictionary on Historical Principles. 1978. (Two Volumes). Clarendon Press, Oxford.
Oxford Dictionary of the Bible, 1996. Oxford Univ. Press.
Reiss, M.J. 1998. Building animals to order. Biologist, 45 (4) : 161-163 .
Thomasma, D. & Kushner, T. (eds.) 1996. “ Birth to Death : Science and Ethics”. Cambridge Univ. Press.
---------------------------(232/18)
قضايا العربية على مدارج القرن الحادي والعشرين *
للأستاذ الدكتور عبد الكريم خليفة
أيها العلماء الأفاضل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
... انتهى قرن وبدأنا خطواتنا على أعتاب قرن جديد، ولم يكن"القرن" سوى مصطلح من مصطلحات الإنسان بعد أن دخل في دور الحضارة والفكر والعمران، اتخذه معيارًا لاعتبار الزمان، في مرحلة رواية التاريخ وكتابته. ففي الأمس بذور الحاضر، ومن الحاضر يستشرف المستقبل. ونواميس الوجود التي أودعها الله سبحانه وتعالى هذا الكون تسيره في أدق حركاته وطاقاته. وخلق الإنسان وعلمه البيان، ليتفكر في أسرار هذا الكون ويكتشف من نواميسه ما تيسره له المشيئة الإلهية، فيعبِّر عن أحاسيسه وأفكاره باللغة التي ينطق بها. ولغات بني البشر على هذا الكوكب الأرضي
متعددة، بتعدد أجناسهم، وألوانهم، وبيئاتهم، وأماكن وجودهم. وتتفاوت القدرة على البيان بهذه اللغة أو بتلك، بتفاوت الأمم والشعوب والأفراد، وفق منازلها على مدارج التقدم الفكري والعلمي والحضاري. فاللغة مرتبطة ارتباطًا عضويًّا بفكر الإنسان، أسلوبًا ومنهاجًا وثقافة. وليست فقط أداة للتواصل أو وعاء لحفظ التراث الإنساني في مختلف مجالات المعرفة، يمكن أن يستبدل بها أداة أخرى أحدث منها أو وعاء أقدر منها اتساعًا وأكثر انتشارًا . فهذه نظرة خارجية إلى اللغة جامدة وعقيمة. فاللغة هي التي تعطي للإنسان تميُّزه وقدرته على التفكير والإبداع، وهي مرتبطة ارتباطًا جوهريًّا بهويته. فقدرة الإنسان على التعبير اللغوي بوضوح ودقة مرتبطة بوضوح الأفكار وصدق الأحاسيس(233/1)
في نفسه. وإذا استعرضنا تاريخ اللغات التي ازدهرت في حضارات مختلف الأمم، نجدها تساير الأدوار التاريخية للأمم الناطقة بها. وهذا يعني أنه لا وجود للغات عاجزة، من حيث نظمها وصرفها ونطقها، عن استيعاب حصيلة ما وصل إليه الإنسان في الآداب والفنون والعلوم. وإنما العجز يكمن في تفاوت قدرات تلك الشعوب والأمم، على استيعاب المعارف الإنسانية والمشاركة المبدعة في رفد هذا النهر العظيم المتمثل بالحضارة الإنسانية في كل مجالات الثقافة والعلوم والآداب والفنون . وإن قيمة الأمم والشعوب تتجلى بقيمة ذلك الرافد الذي تَمُدُّ به هذا النهر العظيم ، حيث منابعه الأولى شحيحة شح الإنسان البدائي وقدراته. وهي قديمة قدم الإنسان. ويتعاظم هذا النهر الكبير في مجراه، بتعاظم روافد الأمم ، وما تمده به من ألوان الإبداع الحضاري، بلغاتها المختلفة.فالحضارة ليست ملكًا لأمةٍ من الأمم ولا حكرًا على لغةٍ من اللغات، ولكنها حصيلة ما وصل إليه الإنسان في مختلف العلوم والفنون والآداب ..
... وفي هذه المسيرة التاريخية، ازدهرت لغات بازدهار الأمم الناطقة بها، واختفت لغات بانهيار تلك الأمم . فقد اختفت بعض اللغات من الوجود، واختفى بعضها من الاستعمال. وتشعب بعضها إلى لغات مختلفة بتمازجها بلغات شعوب أخرى ، انضوت تحت هيمنتها السياسية والثقافية، كما حدث مثلاً للغة اللاتينية. فقد انحلَّت اللاتينية إلى لغات مختلفة، مثل: الفرنسية، والإسبانية، والرومانية، والبرتغالية، والإيطالية الحديثة … وإن قانون التفكك والانحلال والاختفاء استعمالاً أو وجودًا، هو القانون الذي يسيطر على جميع لغات البشر . وكانت العربية في جذورها القديمة لغة من هذه اللغات التي يصدق عليها قانون التفكك والتشعب في مسيرتها، حتى نزول القرآن الكريم بلغة عربية مبينة .(233/2)
... ومنذ هذا الحدث الإلهي امتازت اللغة العربية عن غيرها من اللغات، وأصبحت لها خصوصية الثَّبات والخلود. فهي لغة الوحي الإلهي التي نزل بها القرآن الكريم على الرسول الأمين . وهي في الوقت ذاته لغة الحديث الشريف كما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا يقول إلا حقًّا. فالعربية خالدة بخلود القرآن الكريم، وستبقى ما بقي مسلم على هذا الكوكب الأرضي. وأصبحت لغة ثابتة من حيث أصولها ونظمها ونطقها، ومن حيث نحوها وصرفها. ولكنها لغة نامية ومتطورة من حيث ألفاظها ومدلولاتها وأساليبها. وإن هذه الخصوصية للغة العربية، التي لا تشاركها فيها أي لغةٍ أخرى، قد جعلت منها لغة العقيدة؛ وفي الوقت نفسه جعلت منها لغة الدولة الإسلامية في جميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والعلمية . فاتجهت اللهجات العربية المختلفة في الجزيرة العربية وما جاورها من القبائل العربية على أطراف الشام والعراق إلى التوحُّد في إطار اللغة العربية المضريَّة لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وأصبح القانون اللغوي الذي يحكم اللغة هو قانون التوحُّد.
... وجاءت الفتوحات الإسلامية تحمل راية القرآن هداية للبشرية جمعاء. وأصبحت العربية لغة الدولة الإسلامية التي امتدت من أواسط آسيا إلى تخوم بلاد الفرنج في أوربا، وانطوت تحت لوائها شعوب كثيرة مختلفة اللغات .(233/3)
... وقد واجهت العربية ، من حيث هي لغة، تحدِّيات ومشكلاتٍ منذ وقتٍ مبكر، في أول تماسٍّ لها مع الشعوب الأخرى. فلم تعد العربية وقفًا على العرب وعلى سليقتهم اللغوية . وبدأ اللحن يجد طريقه إلى مختلف فئات المجتمع . وأصبحت هذه الظاهرة تؤرق صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والقراء والفقهاء، والمسؤولين، لما لها من خطرٍ كبيرٍ على النَّصِّ القرآني . فأخذوا يفكرون في وقاية القرآن الكريم ، كتاب الله من أن يصيبه التحريف واللحن. فاخترعوا الشَّكْل والنقط. وتجمع الروايات على أن أبا الأسود الدُّؤلي قد وضع النحو، واختار كاتبًا يلاحظه بدقة. فإذا رأى الكاتب أبا الأسود قد فتح شفتيه على آخر حرف، نقط نقطة واحدة بالصبغ المختلف ، فوق الحرف، فيكون هذا هو الفتح، وإذا رأى أبا الأسود قد خفض شفتيه عند آخر حرف، نقط نقطة واحدة تحت الحرف بالصبغ المخالف، فيكون هذا هو الكسر. فإذا ضمَّ شفتيه وضع الكاتب النقطة بين يدي الحرف (أي أمامه) فيكون هذا هو الضم. فإن تَبِعَ الحرف الأخير غُنَّة ، نقط الكاتب نقطتين إحداهما فوق الأخرى، وهذا هو التنوين. فكان هذا أول إصلاح جرى في الكتابة العربية .
... أما الإصلاح الثاني فالمتداول أنه تمَّ في خلافة عبد الملك بن مروان، حين قام يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم، بوضع "الإعجام" بمعنى النقط عندما كثر التصحيف . ونقطت الحروف بمداد الكتابة نفسه .(233/4)
... ثم جاءت مرحلة ثالثة من مراحل ضبط الكتابة العربية، عندما وجدت الحاجة ماسة إلى المخالفة بين "الشكل" الذي وضعه أبو الأسود الدؤلي بمداد مخالف لمداد الكتابة، وبين الأعجام (النقط) الذي وضعه نصر ويحيى أفرادًا وأزواجًا. فانبرى الخليل ابن أحمد الفراهيدي في العصر العباسي الأول، نهاية القرن الثاني للهجرة، لهذه المهمة الدقيقة. فاستبدل بالنقط التي وضعها أبو الأسود، للدلالة على الحركات الإعرابية، جرات قلمٍ علوية وسُفْلية للدلالة على الفتح والكسر، ورأس واوٍ للدلالة على الضم. فإذا كان الحرف المحرَّك منونًا كررت العلامة. واصطلح على أن يكون السكون الخفيف (الذي لا إدغام فيه) رأس خاء بلا نقطة (حـ) أو دائرة (ه)، وأن يكون السكون الشديد (وهو السكون الذي يصاحبه الإدغام على هيئة رأس شين بغير نقط (سـ) واختار للهمزة رأس عين (ء) لقُرْب ما بين الهمزة والعين في المخرج ، ولألف الوصل رأس صاد (صـ)، وللمد الواجب ميمًا صغيرة مع جزء من الدال (~ ) . وهكذا وضع الخليل علاماتٍ ثمان : الفتحة والكسرة والضمة والسكون والشدَّة والمدَّة وعلامة الصلة والهمزة . وكان هذا الإصلاح الثالث والأخير الذي جرى على الكتابة العربية حتى يومنا هذا ، ونحن في الربع الأول من القرن الخامس عشر الهجري ، وعلى العتبة الأولى من القرن الحادي والعشرين الميلادي .
... كانت هذه الإصلاحات للكتابة العربية التي تمت بين النصف الثاني من القرن الأول الهجري وبين النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، استجابة إبداعية للتحديدات المصيرية التي واجهتها اللغة العربية، عندما اختارها الله سبحانه وتعالى، لغةً أوحى بها القرآن الكريم إلى سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه .(233/5)
وفي الوقت نفسه، عندما أصبحت العربية اللغة الرسمية للدولة الإسلامية، التي امتدت خلال قرنٍ من الزمن، من أواسط آسيا والهند إلى شبه الجزيرة الأيبرية (إسبانيا) وتخوم بلاد الفرنج على المحيط الأطلسي غربًا. وقد انطوت تحت ظلال هذه الدولة شعوب ولغات مختلفة . فكانت العربية لغة الحياة السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية ولغة العلوم في جميع مجالات المعرفة في الدين، والفلسفة، والفلك، والعلوم النظرية . فانطلقت العقول المبدعة لمواجهة هذه التحديات الكبيرة للغة العربية. فجمعت العربية من أفواه أهل الاحتجاج من القبائل العربية. ووضعت المعاجم بأصنافها المختلفة. وأقيمت الدراسات النحوية والصرفية واللغوية والأسلوبية والصوتية . وكان المحرك الأساسي لهذه الدراسات جميعها، حماية القرآن الكريم من التصحيف والتشويه والتحريف، وخدمة لتفسير معانيه .
... لا أريد في هذه الكلمة أن أدخل في مسارب الدراسات اللغوية التي اتجهت إلى ضبط اللغة العربية وتطوير أساليبها ومفرداتها ودلالات ألفاظها، وما وضع من كتب مهمة في تيسير تعليم العربية للناشئة العرب، وللأجيال من الشعوب الأخرى التي اعتنقت الإسلام. وأكتفي هنا بذكر بعض هذه الكتب ، ومنها : كتاب "الجمل في النحو" لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي (المتوفى سنة 340 هـ). وكتاب "الواضح" لأبي بكر الزُّبَيْدي الإشبيلي النحوي (المتوفى سنة 379هـ) ، وكتاب "اللُّمَع في العربية" لأبي الفتح عثمان بن جنِّي (المتوفى سنة 392هـ).(233/6)
... لقد أشرت في حديثي إلى قضيتين أساسيتين، هما: العربية لغة القرآن الكريم، والعربية لغة الدولة في جميع جوانب الحياة الفكرية والفنية والعلمية .. أما العربية لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، فهي خالدة وثابتة ، في نحوها وصرفها ولفظها وفي نظمها. فالقرآن الكريم هو الذي حفظ اللغة العربية وبالتالي حفظ وجود الأمة العربية . أما العربية لغة الدولة والسياسة ، فقد خضعت في انتشارها وانحسارها، في ازدهارها وفي تراجعها ، إلى أحوال الدولة الإسلامية، وما يصدق على العمران البشري من قوانين القوة والضعف والازدهار والانحطاط أو التخلف العلمي والحضاري . وفي كل مرة تجتاح هذه الأمة موجة الانحسار السياسي والفكري والاجتماعي ، نجد العربية تتخلى عن مواقعها في مجالاتها الحيوية، وتتراجع إلى حصونها التي لا تُقْهَر، في المساجد وفي حلقات الذكر وتعلم القرآن الكريم. والأمثلة على ذلك كثيرة نستقيها من أحداث التاريخ .
... ومما له مغزاه في هذه النظرة الشاملة، ونحن نشرف من مواقعنا الثقافية والفكرية على مدارج القرن الواحد والعشرين ، أن نتوقف عند قول صاحب معجم "لسان العرب" ، ابن منظور الأنصاري المصري (ولد في المحرَّم سنة 630هـ وتوفي في شعبان سنة711هـ)وقد عاصر نهاية الحروب الصليبية وبداية عاصفة غزو التتار (سقوط بغداد سنة 656هـ). يحدثنا ابن منظور عن قصده من جمع اللغة العربية في هذا السفر الجليل الذي سماه "لسان العرب"، فيقول: "فإنني لم أقصد سوى حفظ أصول هذه اللغة النبوية وضبط فضلها ، إذ عليها مدار أحكام الكتاب العزيز والسنة، ولأنَّ العالِمَ بغوامضها يعلم ما توافق فيه النِّيَّة اللسان، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يُعَدُّ لحنًا مردودًا ، وصار النطق بالعربية من المعايب معدودًا. وتنافس الناس في تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير(233/7)
اللغة العربية ، فجمعتُ هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يَفْخَرون…" (*) لم يزد ابن منظور على أن رسم لنا صورة حيَّة لِمَا أصاب العربية من هوانٍ ، بعد أن غرقت الأمة في ظلمات الجهل، والفرقة، والهزائم، وسيادة الشعوبية، واستيلاء الأعاجم على سدة الحكم، وتألقهم العسكري والسياسي، وما تبع ذلك من سيادة اللغة الأعجمية وإقْصاء العربية عن مجالاتها الحيوية في الإدارة والسياسة والحياة العامة. وأصبحت الشرائح الحاكمة وحواشيها تعدُّ "النطق بالعربية من المعايب.." … والناس من طبيعتهم سراع إلى الدنيا، يتسابقون إلى التقرب من حكامهم وساستهم . "فتنافسوا في تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير اللغة العربية .. "
... لقد قدَّم لنا ابن منظور صورة حية ودقيقة عن واقع العربية في
عصره، ولم يكن له فيها سوى صدق
النقل ودقة التعبير وفصاحة البيان. وتتوالى الهزائم العسكرية ، واجتياح التتار مشرق الدولة الإسلامية . وتشتد الحروب الصليبية في الأندلس في القرن الثامن الهجري، وفي القرن الذي يليه بعد أن طردت آخر فلوها من بلاد الشام ومصر، في نهاية القرن السابع الهجري واشتدت الفتن والصراعات الداخلية في مختلف الأقطار العربية ودار الإسلام. ونال العربية من السوء والضعف ما نالها، وما ينالها في كل مرة تتعرض الأمة للغزو الأجنبي ، والتفكك إلى دويلات طائفية أو إقليمية، ضعيفة ومتهافتة.
ويقدم لنا ابن خلدون (ت:808هـ) بعد ابن منظور بحوالي قرنٍ من الزمان، صورة أكثر تفصيلاً في "مقدمته" ، فإذا كان ابن منظور لغويًّا مشهورًا، نقل لنا الصورة اللغوية كما رآها وأدركها ، فإن ابن خلدون واضع
العمران البشري ، ومؤسس علم الاجتماع الحديث، يقدم لنا تحليلاً علميًّا لهذه الظاهرة اللغوية، فيقول :(233/8)
"اعلم أن لغات أهل الأمصار، إنما تكون بلسان الأمة أو الجيل الغالبين عليها أو المختطين لها. ولذلك كانت لغات الأمصار الإسلامية كلها بالمشرق والمغرب بهذا العهد عربية، وإن كان اللسان العربي المضري قد فسدت ملكته وتغيَّر إعرابه . والسبب في ذلك ما وقع للدولة الإسلامية من الغَلَبِ على الأمم . والدِّينُ والمِلَّة صورة للوجود وللمُلك، وكلها مواد له والصورة مقدمة على المادة" (*).
فمن الواضح أن ابن خلدون يفرق بين دور السيادة السياسية وآثارها اللغوية وبين سيادة الدين والملَّة، وإنْ كانا قد اجتمعا للدولة الإسلامية في صدر الإسلام، والعصر الأموي، وكذلك في العصر العباسي. فاعتبر الإدارة والسياسة والغَلَبة وما يتصل بها
من شؤون الحياة ، مواد للوجود والمُلْك، واعتبر الدين والملة صورة لهما . واعتبر التمازج الحادث عن قيام الدولة الإسلامية ، تمازج الصورة بالمادة. ويقدم ابن خلدون عامل الدين والملة على عامل الإدارة والسياسة والغَلَبة، مستندًا إلى ناموس الكون الذي يقدم الصورة على المادة في تشكيل الجوهر وإقامة كيانه.
وفي هذا التحليل العلمي اللغوي الاجتماعي ، يتوقف ابن خلدون عند الدين الإسلامي فيقول : " والدين إنما يستفاد من الشريعة وهي بلسان العرب، كما أن النبي – صلى الله عليه وسلم – عربي، فوجب هجر ما سوى اللسان العربي من الألسن في جميع ممالكها"(1). ويشير ابن خلدون، إشارة مقتضبة إلى دور الحكم والسياسة في المحافظة على سلامة العربية ، لغة
الدولة الإسلامية، وعلى صفائها، وذلك
بإيراده تعليمات الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إذ يقول : "واعْتَبِرْ ذلك في نهي عمر رضي الله عنه عن بطانة الأعاجم، وقال : إنها خِبٌّ أي مكر وخديعة." (2)(233/9)
ويواصل ابن خلدون تحليله، فيقول: "فلمَّا هَجَر الدينُ اللغات الأعجمية، وكان لسانُ القائمين بالدولة الإسلامية عربيًّا، هُجِرَت كلُّها في جميع ممالكها، لأن الناس تبع للسلطان وعلى دينه. فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب".(3)
وبعد أن يوضح ابن خلدون آثار التمازج بين الدين ولغة الدولة وما نتج عنه من سيادة العربية واستعمالها في مختلف شؤون الحياة ، يقول: "وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك، وصار اللسان العربي لسانهم ، حتى رسخ ذلك لغة،
في جميع أمصارهم ومدنهم، وصارت
الألسنة العجمية دخيلة فيها وغريبة". وبعد أن يتحدث ابن خلدون عن فساد اللسان العربي في بعض أحكامه وتغير أواخره، نتيجة مخالطة هذه الشعوب المختلفة،ونشوء ما سمي لسانًا حضريًّا في جميع أمصار الإسلام، منسوبة إلى أهل الحواضر والأمصار، يقول : "ولمَّا تملك العجم من الديلم والسلجوقية بعدهم بالمشرق، وزناته والبربر بالمغرب، وصار لهم الملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية ، فسد اللسان العربي لذلك، وكاد يذهب، لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسنة اللذين بهما حفظ الدين.
وسار ذلك مُرَجِّحًا لبقاء اللغة العربية المضرية من الشعر والكلام إلا قليلاً بالأمصار".
وينتقل ابن خلدون إلى الحديث عن العربية في العصر الذي عاش فيه،
فيقول: "فلمَّا ملك التتر والمغول بالمشرق، ولم يكونوا على دين(233/10)
الإسلام، ذهب ذلك المرجِّح، وفسدت اللغة العربية على الإطلاق، ولم يبق لها رسم في الممالك الإسلامية بالعراق وخراسان، وبلاد فارس، وأرض الهند والسند، وما وراء النهر، وبلاد الشمال، وبلاد الروم. وذهبت أساليب اللغة العربية من الشعر والكلام إلا قليلاً يقع تعليمه صناعيًّا بالقوانين المتدارسة من كلام العرب، وحفظ كلامهم لمن يسره الله تعالى لذلك. وربما بقيت اللغة العربية المضرية بمصر والشام والأندلس بالمغرب لبقاء الدين طلبًا لها، فانخفضت بعض الشيء. وأما في ممالك العراق وما وراءه، فلم يبق له أثر ولا عين حتى إن كتب العلوم صارت تكتب باللسان العجمي، "وكذا تدريسُه في المجالس". (*)
فالإسلام هو العامل المرجح لبقاء اللغة العربية المضرية، عندما يصل إلى سدة الحكم في الدولة الإسلامية الأعاجم المسلمون، الذين يجعلون من
لغاتهم، اللغة الرسمية في الحكم والإدارة والسياسة. فبقاء اللغة العربية في هذه الحال يعني أن تصبح العربية لغة الشريعة والفقه والتفسير والحديث، ولغة الصلاة وخطب المساجد، وأن تكون لغة الأعاجم المسلمين الذين استولوا على مقاليد الحكم، هي اللغة الرسمية للحكام ، في الإدارة والسياسة والتشريع والقضاء والتدريس والعلوم.
... وتوالت الأحداث الجسام على أمتنا، لتنال من هويتها العربية وذلك بالنيل من اللغة العربية، لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، اللغة الجامعة الموحِّدة لجميع هذه الشعوب التي اعتنقت الإسلام .(233/11)
... وفي نهاية القرن التاسع الهجري، سقطت غرناطة ( 897هـ/ 1492م)، آخر حصون الإسلام في الأندلس، وآخر معالم الحضارة العربية الإسلامية فيها. واستطاعت الكنيسة الكاثوليكية ومحاكم التفتيش المعروفة بدمويتها، أن تجتث جذور حضارة عربية إسلامية أصيلة، دامت أكثر من ثمانية قرون. ولم تتوقف أطماع الفرنج الصليبيين عند هذا الحد، بل راودتهم الأطماع إلى العدوة الأخرى في الشمال الإفريقي، بل واندفعت حملاتهم البحرية إلى الشرق . واستطاعت حملة بحرية، بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح، أن تنطلق لمهاجمة مقدسات الإسلام في مكة والمدينة. واستطاعت هذه الحملة البحرية أن تصل إلى عرض البحر الأحمر مقابل جدة، حيث تصدت لها حملة بحرية جهزها والي مصر خرجت لملاقاتهم. وفي سنة 922هـ سنة 1516م، استطاعت حملة بحرية أخرى من حملات الفرنج أن تنزل في مدينة بيروت. وفي هذه الأثناء كان العثمانيون الأتراك قد دخلوا بلاد الشام.واستطاع والي دمشق بقواته أن يخرج الفرنج من بيروت بعد أن بقوا فيها مدة ثلاثة أيام … وفي أثناء حكم العثمانيين الذي دام أربعة قرون، أصبحت اللغة التركية لغة الدولة الرسمية. وانحسرت العربية وأبعدت عن مجالاتها الحيوية في مؤسسات الدولة السياسية والعسكرية والعلمية والثقافية. ولكن الإسلام الذي اعتنقه العثمانيون الأتراك كان العامل المرجح في بقاء العربية طيلة هذه القرون . فهي لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ، وهي لغة الفقه والتفسير والعلوم الإسلامية من حيث المبدأ . ولم يتغير هذا التوازن بصورة عامة، إلا بمجيء الاتحاديين الطورانيين الأتراك، واستيلائهم على السلطة سنة 1908، إذ بدؤوا بفرض سياسة عنصرية من شأنها تتريك القوميات الأخرى ، حتى أن اللغة العربية أصبحت تدرس باللغة التركية … وعادت أطماع الفرنج وأحلامهم لاستعادة ما فقدوه في الحملات الصليبية … وتمثلت هذه الأطماع منذ وقت مبكر بحملة نابليون في نهاية القرن التاسع(233/12)
عشر على مصر وبلاد الشام، حيث هزمت جيوشه على أسوار عكا … وفي الثلث الأول من القرن التاسع عشر احتل الفرنسيون الجزائر، وامتد نفوذهم السياسي والعسكري ليشمل أيضًا تونس، ثم المغرب الأقصى، وتلاهم الإيطاليون في ليبيا وطرابلس الغرب .
... وكانت العربية في جميع هذه الحالات الهدف الرئيسي الذي حاول الاستعمار الحديث محاصرته والقضاء عليه. فقد فرض الاستعماريون لغاتهم، وسقط العامل المرجح الذي أشار إليه ابن خلدون المتعلق بالإسلام. ودخلت العربية في صراع حاد مع اللغات الأجنبية التي استطاعت أن تقصي العربية، لغة العروبة والإسلام عن مواقعها الحيوية، وأن تحل محلها في السيادة والسلطان . ومن ناحية أخرى دخلت العربية أيضًا في صراع مع العاميات التي كانت تشكل السلاح الآخر للقضاء على العربية الفصيحة. وفي أشد الأوقات عسرًا وفي أكثر المعارك ضراوة، كانت العربية تتراجع إلى حصونها التي لا تقهر ، في المساجد وحلقات القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ...(233/13)
... لم يكن من هدف هذه الكلمة أن أعرض تاريخًا لمسيرة العربية في أوطانها وفي ديار الإسلام، ولكن أردت أن أشير إلى عاملين أساسيين في مسيرة العربية منذ أصبحت لغة الوحي الإلهي، وهما : العامل السياسي وما تركه من آثار في ازدهار العربية أو تراجعها وانحسارها، والعامل الآخر عامل الخلود والبقاء للغة العربية من حيث كونها لغة القرآن الكريم. ونحن إذ نعرض لقضايا العربية التي تواجهها في هذا القرن الحادي والعشرين، إنما نستوحي مسيرتها التاريخية، ازدهارًا أو تراجعًا، وذلك من خلال ازدهار الأمة أو تراجعها، ومن خلال مقدرة الأمة العربية على المشاركة المبدعة بالحضارة الإنسانية الحديثة، أو استمرارها في التبعية الثقافية والفكرية والاقتصادية والسياسية. وإن نظرة شاملة على أوضاع العربية في الوقت الحاضر، ونحن في الخطوات الأولى على مدارج القرن الحادي والعشرين توضح لنا مدى الخطورة التي ربما تجرها التحولات العالمية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، على دور العربية في أوطانها في التعبير عن الفكر العلمي الحديث وعن التقنيات الحديثة، وعلى دورها في تحديد الهوية العربية ، وجوهر وجود أمتنا العربية وإرساء دعائم وحدتها .(233/14)
... ونحن إذا رجعنا، في نظرة شاملة، قليلاً إلى الوراء، نرى أن القرن التاسع عشر قد شهد بداية نهضة علمية وفكرية في مصر، كان لها آثارها المهمة في إحياء دور العربية لغة للعلم والفكر في جميع حقوله ومجالاته. وأصبحت التجربة المصرية تجربة دولية رائدة . فقد حضر وفد ياباني سنة 1834م إلى القاهرة لدراسة التجربة المصرية في جعل العربية لغة الطب والهندسة ومختلف العلوم والتقنيات، وذلك للإفادة منها في مشروعهم اللغوي، لجعل اليابانية لغة الحضارة والعلوم الحديثة. فكانت العلوم الطبية مثلاً تدرس باللغة العربية في قصر العيني بالقاهرة، حتى احتلال الجيوش البريطانية مصر سنة 1892، وما نشأ عنه من تحول التدريس من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية . ودخلت العربية بمصر في صراع مرير مع اللغة الأجنبية من ناحية ، ومن ناحية أخرى مع العامية التي كانت تجد الدعم والعون من سلطات الاحتلال الأجنبي...(233/15)
... واستمر هذا الصراع اللغوي بعد الحرب العالمية الأولى، بين مد وجزر. وقد تقاسم الاستعمار البريطاني والفرنسي مناطق النفوذ والاحتلال المباشر في العراق، وبلاد الشام، ومصر، والجزيرة العربية، إلى جانب ما كان عليه الأمر في ليبيا، وتونس، والجزائر والمغرب الأقصى. وقد حمل الاستعمار الحديث معه في هذا القرن مشروع الدولة الصهيونية يزرعها في فلسطين، في قلب الأمة العربية، لاستنزاف طاقاتها من جهة ومن أجل عزل مشرق الأمة العربية عن مغربها. واستمر صراع العربية مع اللغات الأجنبية التي تحاول إقصاء العربية عن سيادتها في أوطانها، وكذلك مع اللغات العامية التي تجد فيها الدوائر الاستعمارية وسيلة للتفتت والتشرذم وتعميق التجزئة والتأخر… واستمر هذا الصراع بين مدٍّ وجزر. وما إن انتهت الحرب العالمية الثانية، حتى بدأت الأمة العربية تتململ في جميع أقطارها للتحرر والاستقلال. وكان الإسلام، والعربية لغة القرآن، كما هو الشأن دائمًا، العامل الأساس في تعبئة قوى الأمة في أقطارها المختلفة للتحرر، والاستقلال، وإخراج العدو، وإجلائه عن أوطانها، واستعادة اللغة العربية سيادتها على أوطانها… ومنذ سنة 1948م جاء دور المشروع الصهيوني للقيام بدوره الذي أنشئ من أجله ، فغرقت الأمة العربية في حروب خارجية وصراعات داخلية… وتغير أدوار السادة في الوطن العربي، وأصبحت الهيمنة للولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الاستراتيجي للعدو الصهيوني. فاستطاعت هذه الدول الاستعمارية، بصورة وبأخرى، أن تغرق المنطقة في حروب داخلية وإقليمية. وكان آخرها في العقدين الأخيرين من القرن العشرين: الحرب العراقية الإيرانية، ثم تلاها مباشرة حرب الخليج التي استطاعت أن تمزق روابط الأمة، وتدفعها إلى التناحر والفرقة، وإلى استنزاف قواها البشرية والاقتصادية. وكان لهذا كله آثاره السلبية على اللغة العربية، التي تمثل جوهر وجود الأمة وتظل أقوى روابط وحدتها في العصر(233/16)
الحديث.
... وعلى الرغم مما يقال تفاؤلاً، عن اللغة العربية السليمة، ومدى انتشارها في الصحف والمجلات ودور الإذاعات المسموعة والمرئية، ودخولها المتواضع في عالم الحاسوب والمعلوماتية، فإن الدراسة العلمية الجادة لأحوال اللغة العربية في جميع أقطار الوطن العربي، تقودنا إلى استشراف الأخطار الكبيرة التي تحملها الصراعات السياسية والفكرية والثقافية والمعلوماتية، وما يسمى بالعولمة بمفاهيمها المختلفة، على وجود العربية لغة حية في جميع مناحي الحياة السياسية والثقافية والعلمية والعملية. فقد أقصيت اللغة العربية عن أن تكون لغة البحث العلمي والتدريس الجامعي في معظم الأقطار العربية. وبالمشاهدة والمعرفة الأكيدة، أصبحنا نرى في العقد الأخير من القرن العشرين، ردَّة لغوية محزنة في الأقطار العربية التي كانت تعمل منذ النصف الثاني من القرن العشرين على تعريب التعليم العالي والجامعي، فضلاً عن التعليم الأساسي والثانوي … وإذا بها تعود للتدريس باللغات الأجنبية في كثير من الأقسام الجامعية التي مضي على تدريسها باللغة العربية عدة عقود من القرن العشرين …(233/17)
... وتستشري هذه السياسة المعادية للغة العربية في معظم الأقطار العربية، وتلجأ كثير من المدارس الخاصة للتدريس باللغة الأجنبية، منذ الصفوف الابتدائية. ويفرض تدريس اللغة الأجنبية في كثير من وزارات التربية والتعليم في الوطن العربي منذ الصف الأول الابتدائي، ضاربًا عرض الحائط بتجارب الأمم الأخرى التي تحترم هويتها وتحترم لغاتها. وقد استطاعت هذه الأمم ، من خلال لغاتها القومية، أن تبدع وأن تصل إلى ذروة التقنيات الحديثة، كما هو الشأن عند الأمة اليابانية والصينية والكورية وغيرها من الأمم التي لا يتجاوز عدد الناطقين بلغاتها القومية بضعة ملايين. وقد تعدى الحال في بعض الجامعات والمؤسسات العلمية العربية الرسمية من جعل التدريس والتأليف والبحث العلمي باللغة الأجنبية، إلى جعل اللغة الأجنبية لغة المراسلات الداخلية في الجامعة ذاتها، بل ومع المؤسسات الأخرى في الأقطار العربية، حتى ولو كان موضوع المراسلة تسديد اشتراك في مجلة . وهذا يعني بطبيعة الحال، أن هذه المؤسسات الرسمية ، تترجم سياسة واتجاهًا معلنًا حيال العربية، حتى ولو كان ذلك في معظم الأحيان مخالفًا لدستور ذلك القطر الذي تنص بعض مواده أن " اللغة العربية هي اللغة الرسمية" وأن "الإسلام دين الدولة"…
... وإلى جانب هذه السياسات المعلنة أو غير المعلنة بصورة رسمية، لإقصاء العربية عن مجالاتها الحيوية لغة العلم والتدريس في جميع مراحله الأساسية والثانوية والجامعية وإحلال اللغة الأجنبية محلها، نشاهد طغيان العاميات في معظم البرامج الإذاعية والتلفازية. وجاءت كثير من الفضائيات في الأقطار العربية لتثبت لهجاتها المغرقة في العامية والعُجْمى وما تحمله من مفاهيم التأخر والجهل …(233/18)
... وتسللت هذه الظاهرة المرضية، أي سياسة تشجيع العاميات من الإعلام المسموع والمنطوق، إلى الإعلام المطبوع في الصحف والمجلات. فقد كان للصحافة منذ نشأتها دور مشرِّف في إحلال الفصحى المبسطة محل العامية السائدة . وتمّ لها محو الفرق بين الفصحى واللهجات العامية بالتدرج. ومنذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين، ولا سيما منذ حرب الخليج الثانية التي أصابت كيان الأمة العربية بزلزال شديد، بدأنا نرى مقالات تنشر في بعض الصحف وخاصة الخليجية منها باللغات العامية. وأصبحت لغة الإعلانات تنشر باللغات العامية أو اللغات الأجنبية، ومن النادر أن نجد إعلانًا ينشر بلغة عربية سليمة. وأصبح نشر دواوين الشعر بالعاميات، ولا سيما بما يسمى الشعر النبطي، شائعًا، يجد الدعم والتشجيع من بعض الأوساط الرسمية. ويتم ذلك كله، تعسفًا، تحت ما يسمى بالأدب الشعبي (الفولكلور).
... وقد تسللت العاميات إلى جميع المؤسسات والمجالس الخاصة والرسمية وذلك، إلى جانب التفاصح باللغة الأعجمية بين الفينة والأخرى. والشاهد على ذلك أن نستمع إلى مناقشات المجالس النيابية والاستشارية والوزارية … ويتعدى الأمر حتى إلى الأوساط التعليمية التي تنص القوانين على التدريس بالعربية. فالمعلم في غالب الأحيان يستعمل اللغة العامية. وقد يصل سوء الحال إلى أن يُعلم معلم العربية النحو والصرف بلغة عامية. ومثل ذلك يقال في لغة التدريس الجامعي. فهي خليط بين العامية والأجنبية، في معظم الأحوال.(233/19)
... إن هذه المعطيات جميعها، والعوامل التي أشرنا إليها، وهذه الصورة الشاملة لحال العربية في نهاية القرن العشرين، ونحن على العتبة الأولى من القرن الواحد والعشرين، لتوجب علينا أن نستنهض المجامع اللغوية العربية منفردة ومجتمعة وفي إطار اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، إلى القيام بدورها التاريخي، وذلك بوضع سياسة لغوية عربية، تواجه التحديات اللغوية التي يحملها القرن الجديد. ومن الواضح أن وضع هذه السياسة اللغوية، يوجب على مؤسساتنا المجمعية والجامعية القيام بدراسات علمية ولغوية للمشكلات الأساسية التي تواجه اللغة العربية .
... فقد واجهت العربية تحديات كبيرة في مسيرتها التاريخية، وكان أهم الإصلاحات التي أبدعها العقل العربي إدخال النقط والشكل على الحروف العربية، كما مرَّ بنا سابقًا، وكذلك جمع اللغة العربية من أفواه الفصحاء، ووضع المعاجم اللغوية ووضع المصنفات المهمة في مختلف جوانب اللغة العربية، بنحوها وصرفها ودقائق بيانها وأساليب نظمها وخصائص نطقها وتجويد نطقها، وغيرها من الدراسات التي وضعت من حيث الأساس خدمة للقرآن الكريم وحفظًا له من التشويه والتصحيف والتحريف. وكان لإصلاح الكتابة العربية الذي أشرنا إليه سابقًا معارضون ومؤيدون. فيحدثنا الصولي مثلاً، وهو من أوائل القرن الثالث الهجري، فيقول: كره الكتاب الشَّكْل والإعجام، إلا في المواضع المُلْتَبسة من كتب العظماء إلى مَنْ دونهم. فإذا كانت الكتب ممن دونهم إليهم تُرِك في المُلْبِس وغيره، إجلالاً لهم عن أن يتوهم عنهم الشك وسوء الفهم، وتنزيهًا لعلومهم وعلو معرفتهم عن تغيير الحروف. وقد(233/20)
رأى قوم أن تكون كتبهم إلى سلطانهم بأكبر الخطوط وأجلها، واختاروا الشكل والإعجام فيها. وحكوا عن بعض الخلفاء، أنه تأذى من إخلاء الكتب من ذلك في المؤتمرات وغيرها. وقال الذين اختاروا ذلك : لا نعرضهم للشكوك، ولا نكلفهم إعمال الفكر في المشكل، وأنه يجب أن نوضح لهم الشكوك ونضبط الحروف، بما يسبق معه المعاني إلى قلوبهم في أول وهلة.(*)
... ومما يلاحظ أن جميع الأمثلة الملبسة التي أوردها الصولي في الفصل الذي عنوانه: "ما قيل في النقط والشكل والخط الدقيق"، كانت حول التصحيف الذي تثيره قضية النقط.ومن الملاحظ أن نقط الحروف ما لبث أن تمثله الناس على مختلف درجاتهم، بيسر وسهولة . وسرعان ما التزم به عامة الكتاب وخاصتهم التزامًا تامًّا إلى جانب الالتزام به وبالشكل في كتابة
المصاحف وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي جميع الأحوال، فقد أصبح النقط جزءًا لا ينفصل عن الحرف.
... أما الشكل فقد بقي قضية تراوح مكانها بين من يؤيده ومن يعارضه "تنزيها لعلومهم وعلو معرفتهم " . وما
زالت قضية الشكل تراوح مكانها حتى الوقت الحاضر بين مؤيد ومعارض ومن يقف بين بين، وهؤلاء الأخيرون يرون الاقتصار على "شكل ما يلبس"… ومن الواضح أن الرأي الأخير يترك الاجتهاد للأفراد. والأفراد يختلفون في أذواقهم ودرجات معارفهم، فما يلبس عند شخص ما، قد لا يلبس عند آخرين، وبالتالي لا يمكن أن تُبْنَى على هذا الرأي قاعدة يقاس عليها.
... وعلى الرغم من أن قضية الشكل طرحت في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، منذ الأربعينيات من القرن العشرين، إلا أنها بقيت تراوح مكانها. ونحن نعتقد أن قضية الشكل قضية في غاية الأهمية. فإذا كان اعتبار النقط جزءًا متممًا للحرف العربي، وأنه أصبح من المسلمات منذ قرن ، فإننا نعتبر الشكل جزءًا لا يتجزأ عن وحدة الكلمة العربية صرفًا ونحوًا وسلامة نطق .
وهذه جميعها من ثوابت اللغة، وبدونها لا تكون لغة .(233/21)
... لم تعد اللغة العربية السليمة موجهة إلى طبقة معينة من أصحاب المعرفة اللغوية والمتفاصحين، إنما أصبحت موجهة إلى الجماهير العربية على أوسع نطاق .
ولا بد أن يكون التعليم الأساسي إجباريًّا لجميع المواطنين ولكل فرد، ذكرٍ أو أنثى في الوطن العربي. وفي هذا القرن، أصبح التعليم ضرورة لحياة الأفراد والشعوب والأمم كضرورة الماء والهواء. واللغة هي وسيلة الاتصال الجماهيري والثقافي والفكري، وهي الفكر ذاته ومن خلالها يتميز منهاج التفكير … وإن نظرة سريعة على ما ينشر في وطننا العربي الكبير، يتبين لنا أن معظم ما ينشر في الصحف والمجلات وفي مختلف الكتب والمصنفات، يكون خاليًا من الشكل. وهذا يعني أننا حتى الآن نكتب على طريقة الاختزال. وبعبارة أخرى أن ما يكتب لا يتعدى استعمال 50% خمسين بالمئة من الرموز الكتابية، إذ إن جميع رموز الشكل مغيَّبة.
... ونحن نتساءل كيف نكتفي بكتابة نصف الرموز الدالة على الكلمة الواحدة، ونزعم أن العربية صعبة التعليم والتعلم"؟. وكيف نزعم أننا نتوجه بوساطتها إلى جماهير الأمة في مختلف بيئاتها وأقطارها، من خلال الصحافة والإذاعة المسموعة والإذاعة المرئية والفضائيات، مع إبقائنا على حجج المتفاصحين وأهل العلم والمعرفة بالعربية، الذين يزهدون عن إثبات الشكل على الحروف؟…
... إننا نرى أنه بات من الواجب شكل جميع ما ينشر باللغة العربية شكلاً تامًّا، لا سيما أن التقنيات الحديثة وما أنتجته من أجهزة حاسوبية وإلكترونية وطابعات الليزر وغيرها، جعلت "الشكل" التام ميسورًا . فالشكل التام يساعد على اكتساب المهارات اللغوية وتعزيز السليقة اللغوية لدى المتعلمين والناطقين بالعربية وبذلك "لا نعرضهم (أي القراء) للشكوك، ولا نكلفهم إعمال الفكر في المشكل، وأنه يجب أن نوضح لهم الشكوك، ونضبط الحروف، بما يسبق معه المعاني إلى قلوبهم في أول وهلة" …(233/22)
... وإذا تركنا قضية الشكل جانبًا، نرى أن القضايا اللغوية لم تحظ في الوطن العربي بدراسات جادة تبنى على نتائجها وضع مناهج العربية وأساليب تعليمها وتأليف الكتب المدرسية. فقد أثبتت التجارب عند الأمم المتقدمة أن التقنيات الحديثة ذات أثر يعين في تيسير تعليم اللغات. ولكن مع الأسف لم تفد العربية من هذه التقنيات الإفادة المرجوة في تيسير تعلمها وتطوير أساليب تعليمها.
... وتدل الدراسات الحديثة المتوافرة بين أيدينا أن اللغات القومية في العالم، ومنها اللغة العربية ستتأثر بصورة واسعة وعميقة بالتغيرات الضخمة المتوقع حدوثها في القرن الواحد والعشرين، نتيجة لتعاظم موجة ما يسمى بالعولمة وثورة المعلومات والإنترنت، وسواها. وربما كان من أهم معالم هذه التغيرات "الترجمة الآلية". فقد أصبحت حقيقة واقعة في الوقت الحاضر. وقطعت شوطًا بعيدًا في اللغات الأجنبية، فالترجمة الآلية تعني إمكانية إدراج محتويات الكتب في أقراصٍ إلكترونية، والدخول على أي مرجع، وترجمة جزءٍ من صفحة أو عدة صفحات، وتحركها وانتقالها إلى جميع أنحاء العالم …
... والسؤال الكبير الذي لا بد أن نطرحه على أنفسنا هو : كيف يمكن أن نبقي على العربية لغة علم وعمل وتواصل … في خضم العولمة وشبكة المعلومات (الإنترنت) والترجمة الآلية وأجيال الحاسوب وغيرها من التقنيات الحديثة، ومما يتمخض عنه القرن الحادي والعشرون من ثورات علمية في مختلف مجالات المعرفة؟.(233/23)
... وعندما نتحدث عن التقنيات الحديثة والحواسيب والإنترنت (شبكة المعلومات) والترجمة الآلية، فإن طبيعة الأشياء ونواميس النشوء والارتقاء تقضي بأن نفيد من تجارب الأمم المتقدمة في بناء تقنيات خاصة لخدمة اللغة العربية ، وتطويع هذه الأجهزة الحديثة وتطويرها لخدمة العربية. فقد أنشئت هذه الأجهزة، من حيث الأساس في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لخدمة اللغة الإنجليزية، وفي فرنسا لخدمة الفرنسية، وفي ألمانيا لخدمة الألمانية، وهكذا . ومن الغريب المستهجن أن نسمع بعض الأصوات العاجزة والكسولة أو الجاهلة تنادي بتطويع العربية، وليِّ قواعدها وأساليب نطقها وكتابة حروفها، كي تستعمل في هذه الأجهزة الحديثة التي بنيت من حيث الأساس لخدمة لغات أخرى تختلف بخصائصها ونظمها وكتابة حروفها عن خصائص اللغة العربية ونظمها وكتابة حروفها .
... وأخيرًا إننا نرى أنه من دعائم النهضة العربية العلمية الأصيلة، ومن أولوياتها نقل العلم الحديث إلى اللغة العربية من خلال ترجمة مصادر العلوم، وما ينشر في أهم الدوريات العلمية المشهورة باللغات الأجنبية. وأن يتم ذلك من خلال منظمة علمية عربية للترجمة على مستوى الوطن العربي. فيكون عملها مستمرًّا وفعالاً وفق خطة علمية مدروسة . ولإرساء دعائم هذه النهضة وتأصيلها، لا بُدَّ من تحقيق التراث وحوسبته وجعله سائغًا وميسورًا بين أيدي الباحثين والدارسين.(233/24)
... إن معالم هذه النهضة العلمية العربية المبدعة التي نستشرفها على مدارج القرن الواحد والعشرين، لتقتضي أن تتصدى المجامع اللغوية العلمية العربية واتحاد مجامعها ومؤسسات البحث العلمي في الوطن العربي لإنجاز "المعجم التاريخي للغة العربية". إن إنجاز هذا المشروع اللغوي القومي يرتكز على حوسبة التراث من أقدم مصادره حتى الوقت الحاضر وهذا يعني تكافل الأمة العربية في جميع أقطارها لإنجاز "مشروع الذخيرة العربية" . وإلى جانب ذلك كله لابد من مواصلة إنجاز ما تبناه اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، بوضع "المعجم الموحد لألفاظ الحياة العامة في الوطن العربي" .
... وجملة القول : فإنني أتوجه إلى مجامعنا اللغوية العلمية العربية وإلى اتحاد مجامعنا في الوطن العربي، لوضع خطة علمية لدراسة هذه التحديات الصعبة التي تواجه اللغة العربية في القرن الواحد والعشرين. وأن تقوم هذه المؤسسات الجليلة بدورها التاريخي بوضع سياسة لغوية عربية، وخطة متكاملة مشتركة، للإبقاء على العربية لغة علم وعمل وتواصل.
... ومن أولويات هذه الخطة، أن نقدم اللغة العربية الفصيحة إلى الناشئة في الوطن العربي بأيسر مظاهرها وأجمل نصوصها. وأن نبني اختيار قواعد اللغة على دراسات علمية ولغوية وتربوية، بعيدة عن العلل الكلامية والمنطقية والاجتهاد الفردي. وأن يتم ذلك كله من خلال دراسات لغوية علمية ، واختيار أمثلة سهلة وجميلة، فصيحة التركيب والنظم، محببة لنفوس المعلم والمتعلم .(233/25)
... ولابد لهذه السياسة اللغوية العربية المشتركة، أن تهدف إلى المحافظة على كرامة اللغة العربية السليمة واحترامها والاعتزاز بها، باستعمالها في مختلف مجالات الحياة العلمية والعملية والثقافية. وكذلك تأصيل الشعور بمدى أهمية اللغة العربية في بناء المجتمع القطري والقومي العربي وإنماء الحس الوطني الحقيقي أيضًا. ولا بُدَّ أن تعمل الدولة في كل قطرٍ على إعداد المعلمين وأعضاء هيئة التدريس في الجامعات
إعدادًا لغويًّا. كما يجب أن تحرص الدولة على أن تصدر جميع المراسلات الرسمية بلغة عربية سليمة .
... وقد بات من الأهمية الواجبة أن تتصدى هذه السياسة اللغوية العربية المشتركة لظاهرة تحدي اللهجات العامية للغة العربية السليمة في الحياة العامة وفي الثقافة وفي مختلف وسائل الإعلام المسموعة منها والمرئية، وكذلك في الصحف المحلية والمؤسسات التعليمية، وذلك بأن تحل
اللغة العربية السليمة، اللغة المشتركة الموحِّدة، محل العاميات واللهجات المحلية رمز الفرقة والتمزق والتخلف.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
... عبد الكريم خليفة
عضو المجمع من الأردن(233/26)
رابعًا- كلمة الختام
للأستاذ الدكتور محمود حافظ
نائب رئيس المجمع
شكرًا للأستاذ الدكتور علي الحديدي على عرضه الشامل السديد لهذا العلم الذي ينهل منه الكثيرون من علماء اللغة والأدب في مختلف المجالات.
هذا يوم نتذكر فيه رجالاً، والرجال قليل، والصدق والوفاء شأن الفلاحين والأصلاء، شأن أبناء دار العلوم الكرام، لقد غرس وزملاؤه غرسًا أصاب أرضًا خصبة أحيانًا، وأرضًا قاحلة أحيانًا أخرى .
إن طبانة لا تكفيه الكلمة والكلمات، إنه مبدأ من المبادئ الأصلية الوفية الصادقة، أين لنا هذا ؟ كما قلت إنه من الرجال، والرجال قليل.
مبدأ وقيم عالية في أذهان الذين يعرفونها فيشكرونها.
رحم الله الفقيد رحمة واسعة ، وألهمنا فيه الصبر الجميل .
محمود حافظ
نائب رئيس المجمع(234/1)
أولاً- افتتاح الجلسة للأستاذ الدكتور
محمود حافظ نائب رئيس المجمع
سيداتي وسادتي:
أيها الحفل الكريم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نجتمع اليوم لتأبين زميل عزيز وراحل كريم أثرى المكتبة العربية بعديد من كتب البلاغة ولاسيما "معجم البلاغة العربية" الذي أفاد منه الكثيرون وهو بحق مرجع نفيس للبلاغة العربية، ذلك
الراحل هو الأستاذ الدكتور بدوي طبانة عضو المجمع. ولا نملك إلا أن نرضى بقضاء الله عز وجل حيث قال: "كل نفسٌ ذائقة الموت". وقال تعالى: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون". والكلمة الآن للأستاذ الدكتور علي الحديدي في تأبين الراحل الفقيد:(235/1)
خامسًا - كلمة الختام للدكتور رئيس المجمع
سيداتي، سادتي:
عوضنا الله خيرًا، وعوض الأسرة الكبيرة، أسرة المجمع، والأسرة الصغيرة، أسرة الفقيد الكريم، عوضهما
الله خيرًا في فقيدهما، وشكرًا لمن أسهم معنا في هذه الجلسة، وشكرًا لمن تفضلوا بالكلمات التي قالوها وفاء للراحل الكريم.(236/1)
سابعًا – ختام الجلسة
للأستاذ الدكتور إبراهيم مدكور رئيس المجمع
أيها السادة:
في ختام جلستنا هذه، الشكر كل الشكر إلى جميع السادة الذين تفضلوا بإلقاء كلماتهم في مآثر هذا الراحل العزيز، وإن كانت هذه الكلمات لا تجدي إلا أنها تخفف من إحساسنا بالحزن على فقد هذا العلم الرفيع الذي
لا يجود الزمان بمثله إلا قليلاً فجزاكم الله خيرًا على وفائكم، وجزاه خيرًا على عطائه، وألهمنا وألهم آله وأحبابه وزملاءه الصبر والسلوان، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا "إنا لله وإنا إليه راجعون" والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(237/1)
ثالثًا- كلمة الأسرة
لنجل الفقيد
بسم الله الرحمن الرحيم وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
" إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد"
سيدي الرئيس، الأساتذة الأفاضل علماؤنا الأجلاء، حماة لغة القرآن الكريم، علماء المشرق ومفكريه:
تحية طيبة مقرونة بالاحترام والإكبار، واعتراف بجهودكم القيمة في سبيل الحفاظ على لغتنا الجميلة، والإعلاء من شأنها بين لغات العالم أجمع، ألا وهى لغة القرآن الكريم .
{ إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون } صدق الله العظيم. عهد من المولى - سبحانه وتعالى- بالحفاظ على كتابه، وجهد دؤوب من حضراتكم لتحقيق ما يكفل لهذه اللغة من بقاء ومواكبة لتطور العلوم والآداب، وسائر المعارف الإنسانية، ذلك التطور الذي لا يتوقف ما دامت الحياة.
سنوات وسنوات، أتابع حماس الوالد -رحمه الله- وألحظ حبه وتفانيه، وجهوده الطيبة مع زملائه المجمعيين، للحفاظ على لغتنا، وتطوير بعض مفرداتها لتتواءم مع متطلبات الحياة والتطور العالمي .
كان يغدو إلى المجمع سعيدًا مشرقًا مستبشرًا، رغم ضعفه واعتلال صحته في الفترة الأخيرة … يعود حاملاً أوراقه، يسرع إلى غرفة مكتبه، ليكمل ويساهم بما يجود به الله عليه، لإعلاء شأن لغتنا، أمام الهجمات الشرسة التي تواجهها.
أيها الحفل الكريم:
كلمة الشكر لا تفي بما يختلج في صدري من مشاعر طيبة نحوكم جميعًا، وأحمد الله سبحانه أنَّ القافلة ماضية في طريقها، محققة لأمال أمتنا العربية، عاقدة العزم على العمل الجاد الدؤوب، لا يثنيها عن عزمها مغرض أو مأجور يحاول النيل من لغتنا، لغة القرآن الكريم.
بسم الله الرحمن الرحيم { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } صدق الله العظيم
{ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا
يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا } صدق الله العظيم
أشكر لحضراتكم كلماتكم الطيبة، وأحييكم على جهودكم الصائبة، آملاً لكم جميعًا موفور الصحة والتوفيق.(238/1)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نجل الفقيد(238/2)
أولاً - كلمة الأستاذ الدكتور إبراهيم مدكور رئيس المجمع
في افتتاح الجلسة
في عام 1978م وفي مؤتمر الدورة الخامسة والأربعين لمجمع اللغة العربية استقبلنا شيخًا من شيوخ العروبة وعلمًا من أعلام اللغة والأدب هو الأستاذ محمد عبد الغني حسن، استقبلناه وسعدنا به لأنا كنا حقيقة في حاجة ماسة إليه، ونأسف لأن الزمن تأخر بنا حتى انضم إلينا، استقبلناه وعولنا عليه التعويل كله، وكأنما أحس، وهو الذي جاء بعد فترة من الزمن، بأن عليه واجبًا أن يعوض لا الحاضر فقط، بل الماضي معه أيضًا وبدأ يعطي، وأعطى في سخاء كعادته في كل شيء، فاشترك في أكثر من لجنة من لجان المجمع، وغذاها باطراد بغذاء من نوع خاص، وواظب على جلسات المجلس والمؤتمر، وأمد مجلس المجمع بزاد وفير ومتصل.
أما جهوده في التحقيق، من التأليف، وفى المناقشة في القضايا اللغوية والأدبية المختلفة فمن حسن الحظ أن سجلات المجمع قيدتها جميعًا، وقد استمتعنا بقصيده ومقاله، بشعره ونثره، وعد بهذا بين الخالدين الذين حملوا راية الشعر منذ البداية من علي الجارم إلى عباس العقاد، ومن عباس العقاد إلى عزيز أباظة، ومن عزيز أباظة إلى محمد عبد الغني حسن. عاش معنا محمد عبد الغني حسن فكان مثالاً للصديق الوفي، للزميل الكريم، للأخ المتسامح ، وكنا نأمل أن نفيد من علمه وبحثه ، ولكن أبى القدر إلا أن ينتزعه منا انتزاعًا، وأن يحرمنا من عطائه وسخائه وها نحن أولاء اليوم، وفي الرابع من شهر مارس عام 1985م نلتقي لنؤبن محمد عبد الغني حسن وفي هذا التلاقي دلالة لا تغيب عنا جميعًا، ذلك لأن فقيدنا كان عربيًّا بقدر ما كان مصريًّا، وله قُراء وعشاق في العالم العربي بقدر ما له قراء وعشاق في موطنه المصري لقد عد بحق شاعر الأهرام، وقد جاوز هذه المرتبة وأصبح بين شعراء(239/1)
العروبة الأول. أعطانا وكنا نود أن يمتد عطاؤه، ولكن لا راد لقضاء الله. تغمده الله برحمته، وجزاه خير الجزاء عما قدم لأمته ولغته ووطنه.
والكلمة الآن لزميله ورفيقه الأستاذ عبد السلام هارون.(239/2)
أولاً - كلمة الأستاذ الدكتور إبراهيم مدكور رئيس المجمع
في افتتاح الجلسة
سيداتي .. سادتي:
لقد صاحبت الفقيد الكريم الدكتور أحمد عمار في هذه الدار إحدى وثلاثين سنة، دخلها عام 1951، وسبقته إليها بقليل، وأشهدكم على أني طوال هذه المدة لم أر أحمد عمار غاضبًا ولا ساخطًا. ولم أسمعه قط شاكيًا لا محتدًا، وكأنما كان الهدوء بعينه هادئ في فعله وقوله، هادئ في درسه وبحثه، هادئ فيما أسهم فيه من لجان المجمع هادئ فيما تولاه من إدارة شؤون المجمع، ومن تنظيم جلسات مجلسه. فكان ذلك الهدوء شارة أحمد عمار دائمًا.
وإن أنس فلن أنسى زيارته الباكرة صباح يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، فكان يسعدني بها، وكان يستهلها دائمًا ببسمته الحلوة، ويختمها فورًا بجملته التقليدية: "إنما جئت مسلمًا"، ولكم وددت أن لو طال مكثه، وامتدت زيارته ولكن لجنة الطب كانت تجتذبه وتدعوه إليها، وأبى القدر إلا أن يحرمني من هذه الزيارة المحببة.
أحب أحمد عمار اللغة العربية منذ صباه وتعشقها، وحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وتابع الدرس العربي، في المدرسة الابتدائية والثانوية، ولعله كان يود أن يتابعه في المعاهد العالية، ولكن أريد به أن يدرس الطب، غير أن الطب لم يبعد به، ولم يحرمه من شوقه القديم فجاء طبيبًا وأديبًا في آن واحد، فرض الشعر وجوَّد النثر وعني بجمع طائفة من الفرائد والطرائف يجمعها ويسجلها في مذكرات خاصة، وكان يحرص دائمًا على أن يحتفظ معه بقدر منها، يستشهد به عند الحاجة، ويسر بأن ينثر من هذه الفرائد ما يمكن أن ينثره على مستمعيه، ولكم أود أن تُجمع تلك الطرائف والفرائد كلها، وأن تُنشر إحياء لذكراه، وإفادة للدارسين والباحثين.(240/1)
وما إن انضم أحمد عمار إلى مجمع اللغة العربية حتى وجد فيه ضالته المنشودة، فأقبل عليه في شوق ورغبة، في حرص وعناية لم يتخلف فيما أعلم عن لجنة أو جلسة، وقد اشترك في كثير من اللجان العلمية والإدارية، واتخذ من لجنة الطب صومعته، التي تطيب نفسه إليها، ويحرص على أن يشترك فيها، واتخذ تقليدًا لا نظير له في لجاننا العلمية الأخرى، فكانت لجنة الطب تعقد جلستين كل أسبوع، وهذه اللجنة نفسها من أقدم لجان المجمع العلمية، وقد تكونت لديها ثروة كبيرة من لغة العلوم الطبية أسهم أحمد عمار فيها منذ عام 1951، وقد رغبنا منذ زمن في أن نخرج هذه الثروة إلى النور لا سيما والباحثون والدارسون يقبلون عليها ويأخذون منها، دون أن ينوهوا بجهود المجمع المجمعيين، اللهم إلا "حجى" في معجمه الطبي الذي أَخرجه منذ عدة سنين. أقول رغبنا في أن نبدأ في إخراج هذا المعجم، ويسعدني أن لجنة الطب بصدد إعداد الجزء الأول من هذا المعجم، وآمل أن يكون درة قيمة من الدرر التي تقدم للعيد الخمسيني لمجمع اللغة العربية على أني آمل أيضًا أن يكون هذا الجزء إهداء إلى روح أحمد عمار تغمده الله برجمته، وجزاه خير الجزاء عما قَدَّم للغته وأمته.
وزميلنا الدكتور محمد مهدي علام، وهو زميله في لجنة الطب منذ سنوات، برغم مرضه بعث اليوم بكلمة يعتذر فيها من عدم قدرته على الاشتراك في هذه الجلسة، وكلمة المجمع سيتولى زميل كريم هو الدكتور حسن إبراهيم تقديمها وعرضها على حضراتكم وهو صاحبها، وسيقول كلمة الشعر الأستاذ محمد عبد الغني حسن عضو المجمع.
وكلمة الأسرة سيتولاها أديب وشاعر أنابته الأسرة عنها وهو منها، وهو الأستاذ محمد التهامي.(240/2)
سادسًا- كلمة الأسرة
للمهندس نبيل محمد عبد الغني حسن نجل الفقيد
... أتقدم بوافر الشكر وجزيل الامتنان للسيد الأستاذ الدكتور رئيس المجمع ، والأستاذ عبد السلام محمد هارون الذي نفذت كلماته إلى القلوب، وكذلك أدين بالشكر الجزيل للأساتذة الدكتور إبراهيم أدهم الدمرداش، والأستاذ حسن عبد الله القرشي والأستاذ علي هاشم رشيد الذين تفضلوا وعبروا عما يكنونه لوالدي رحمه الله ـ من حب وود وأخوة صادقة. وإن هذا الشعر الرصين الذي ألقوه في رثاء الفقيد سيظل صداه يرن فى مسامعي بما ينطوي عليه من كريم المشاعر، وصدق الأحاسيس التى كانت تربط
بينهم وبين والدي العزيز. كذلك أشكر جميع الذين تفضلوا بالحضور والمشاركة في هذا الحفل، احتفاء بذكرى رائد من رواد الفكر والأدب، رجل نحن أحوج ما نكون إلى علمه، وأدبه، وخلقه.
السيد الأستاذ رئيس المجمع
السادة أعضاء المجمع
أكرر شكري لكم جميعا على عظم تكريمكم للفقيد العزيز.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته….
نبيل محمد عبد الغني
نجل الفقيد(241/1)
رابعًا - كلمة الأسرة
للأستاذ محمد التهامي
المستشار بالجامعة العربية
أيها السادة:
بكل ما تسع الكلمات من معنى نرفع نحن أسرة الراحل العزيز المرحوم الدكتور أحمد عمار أصدق الشكر وأعمقه، لمجمع اللغة الموقر، مجمع الخالدين، على هذا الحفل الجليل، الذي ينبض بصادق الوفاء، ويشع بالغ التقدير، ويفيض بطيب الذكر، ولا غروَ فإن الشيء من معدنه لا يستغرب.
والذي يضاعف عرفاننا أن الاجتماع هنا ليس كالاجتماعات، وإن الكلمة هنا فوق الكلمات، وإن للمجمع محرابًا له قداسته، وإن للمجمع مدارًا رفعته إليه أكف العلم الغزير وحملته فيه قوائم الفضل الكبير، وأضاءت به مواهب القادرين من رهبان العلم وعباد المعرفة، وهم يعكفون صادقين على تحري مناهج الصواب لتقويم الكلم العربي، وحسن صياغته، ضمانًا لفصاحة الأمة العربية، وحرصًا على نقاء ذكرها وصفاء وجدانها وسبيلاً لتأكيد ذاتها، ولمعان ثقافتها، وثبات خطواتها على سلم الحضارة.
رعى الله هذه الصفوة المختارة من الكبار، التي لا يحظى بالانتساب إليها، ولا يرقى إلى عالي مقامها إلا من أوتي الدرجة الرفيعة من العلم والفضل، والتي عاش ومات الدكتور عمار وهو يعتز بهذا الانتساب ويفرح به، وشاهدنا ما جاء على لسانه في الاحتفال بقبوله بينكم منذ أكثر من ثلاثين عامًا عندما قال لكم- وكان حينذاك أصغر الأعضاء سنًّا- أوليتموني شرف العمر، وآتيتموني أمنية الدهر، وطوقتم جيدي بمنة كانت غاية التمني، وحبوتموني مرجوًّا تناهى إليه الترجي، إذ بوأْتموني بينكم مبوأَ مجد، وأقعدتموني معكم مقعد خالد" .
أيها السادة:(242/1)
أما نحن أسرة الراحل العزيز –من قضى نحبه منا ومن ينتظر ومن لا يزال في حجب الغيب- فقد كان وسيظل في حياتنا عملاقًا كبيرًا… كان لنا أبًا بكل ما للأبوة من جوانب لا يدركها حصر .. حتى منذ فجر شبابه، كان مثار الاعتزاز والفخر كله… إذ كان منذ تخرج في كلية الطب في أواخر العشرينيات، أول الخريجين وأصغرهم سنًّا، ثم تدرج في نبوغه وعبقريته وعلمه وعمله ونجاحه حتى حظي بعضوية مجمع الخالدين لأكثر من ثلاثين عامًا خلت – كما قدمنا – قضاها متألقًا معكم سعيدًا بينكم.
وكان في مجال الأسرة راعيًا كريمًا، يعطِي بارتياح وكأنه يُعْطَى، ويقدم في رجاء وكأنه يطلب، ويلوم على الشكر ويعده إساءة، ويبذل على نهج لم يتعوده الناس، حتى ليذهل من لا يدرك أعماق منابع الخير التي أودعها الله فيه.
وكان لنا إمامًا، علمًا، وخلقًا، وسلوكًا، له الوجه المشرق الصبيح، والابتسامة الدائمة المحبوبة، والكلمة الطيبة المختارة، والتصرف الرفيع المحسوب، وفيه القدوة والمثل الأعلى في كل حركاته وسكناته، يتعلم منه الصغار والكبار على سواء.
وكان – رحمه الله - يحب العلم ويقدره قدره، ويسعد به ويفني فيه يتعلمه في دأب ويعلمه في تواضع، وكان يقيس حياته بالساعات الهنيئة التي يقضيها بين تلاميذه في مدرجات الدراسة. سألته يومًا وقد بهرني غزير علمه الذي تجاوز الطب إلى الأدب والشعر واللغة، لماذا لا تؤلف كتبًا تعيش بين الناس؟ فقال وقد أشرقت عيناه حتى أضاءت منها أعماق روحه، إني أعيش في تلاميذي، وحين ذلك أدركت بعض سر العظمة فيه، وأنا أحاول أن أسبر أعماق الإنسانية في إنسان يتسامى ويشع علمًا وعقلاً وروحًا، حتى يستحيل نورًا يسري إلى عيره من الناس، وتذكرت قول الشاعر الإنسان عروة بن الورد:
أقسم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد
على الفارق بينهما، الفارق بين العلم والمال، وبين الروح والمادة.
أيها السادة:(242/2)
باسم الأسرة أتقدم بأسمى آيات الشكر والتقدير والعرفان لكل عن شارك في هذا الحفل، للسيد الرئيس وللأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم
علي صدق وفائه وحسن بيانه، وللسيد الأستاذ الأديب المبدع والشاعر الكبير محمد عبد الغني حسن على رائعته الخالدة، وأخيرًا وليس بآخر أشكركم جميعًا على كرم مشاركتكم أطال الله أعماركم ونفع الناس بكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
... ... محمد التهامي
...(242/3)
اللغة العربية في الخطاب الرسمي *
للأستاذ الدكتور أبي القاسم سعد الله
... الخطاب الرسمي من أقوى المؤثرات في وسائل الإعلام الحديثة، وربما في كل العصور وفي جميع البلدان، فالمسؤول، مهما كانت صفته ورتبته يؤثر على سامعيه ومشاهديه، بنطقه وصوته وفصاحته إذا تفصح ولحنه إذا لحن. وما دام الموضوع الرئيسي لدورة المجمع هذا العام هو (اللغة العربية فى وسائل الإعلام) فقد رأيت أن أتناول جزئية من هذا العنوان الواسع ، وهى جزئية ربما لم يعالجها الكتاب عندما أشاروا إلى تأثيرات وسائل الإعلام ودورها في صفاء أو تشوه اللغة العربية.
... وأقول "ربما" لم يحدث ذلك؛ لأن الدراسات في مثل هذا المجال تنصب عادة على موضوعات الخطاب الرسمي وليس على لغته ، فإذا درس الكتاب علاقة اللغة بالإعلام فهم
يتفادون عادة الخطاب الرسمي ظنًّا منهم أن ذلك يقودهم إلى السياسة ، وهم لا يريدون أن يُؤَوَّل كلامهم أو يحمل على غير محمله ، وأنا بدوري لا أريد ذلك ولا أتمنى أن تكون كلمتي هذه عن ساس ويسوس، وإنما هي عن خط اللغة العربية في الخطاب الرسمي وعلاقة ذلك بالتنمية اللغوية والإسهام فى حماية اللغة العربية من اللحن والضعف والدخيل.
... إن بعض الرسميين قد رزقهم الله حظًّا وافرًا من التعلم والتثقف بلغتهم حتى استوعبوا قواعدها ومعانيها وعرفوا أسرار نطقها وأسرار تأثيرها فى المتلقي. وحين جاء دورهم لاستعمالها استعملوها على خير وجه ونجحوا فى تبليغ أفكارهم بها وتوصيل معانيهم إلى جمهورهم بعبارات سليمة ومؤثرة خالية من الشوائب ومن(243/1)
التعابير الغربية عن الأذن العربية ، وبذلك نجحوا في المجالين : مجال المحافظة على لغتهم والاعتزاز بها بالانتماء إليها ، ومجال تبليغ آرائهم وتوجيهاتهم بها إلى جمهورهم ، فيكون الاتصال بين الطرفين قد حصل على خير وجه ، مع الاحترام المتبادل وثقة كل منهما في الآخر. غير أن هناك رسميين آخرين لم تسعفهم الظروف بدراسة لغتهم إلا يسيرًا، أو أنهم درسوها على كبر فلم يتقنوها، أو أنهم لم يفطروا عليها أصلاً. ومع ذلك كان حظهم من المسؤولية كبيرًا، وبالتالي أصبح عليهم أن يخاطبوا الجمهور، وأن يتقدموا إليه ببرامجهم ومشاريعهم، وأن يهيبوا به عند الشدة، وأن يشرحوا له أوضاع البلاد بل وأوضاع العالم من حوله، فإذا هم عاجزون عن توصيل ذلك إليه بلغة عربية سليمة، فهم يخاطبون بلغة فيها لحن كبير وأخطاء لا يقع فيها حتى فتيان المدارس وبأسلوب لا يساعدهم على التأثير في المتلقي، مهما بذلوا من جهد ومهما أحاطوا أنفسهم بالوسائل الإعلامية وجندوها لكسب الهالة والتأثير، بل ربما أثاروا من حولهم التساؤل والهمس، وفي آخر المطاف فهم لا يؤثرون في السامعين أو المشاهدين، ولا يحققون أهدافهم من الخطاب، وبذلك تكون اللغة العربية بالنتيجة هي الخاسرة؛ لأنها لم تجد الاحترام الواجب والغيرة الصادقة من صاحب الخطاب الرسمي أمام هجمات اللغات الأخرى ووسائل ترويجها الحديثة.(243/2)
ويمكن أن نضيف هنا أن الخطاب الرسمي على مستويين : خطاب مكتوب، وخطاب شفوي أو مرتجل، والمعروف أن الخطاب المكتوب يعده كاتب أو أكثر ويجري تحريره ومراجعته وملاءمة وقفاته وإشاراته، وكُتَّاب الخطاب الرسمي يفترض فيهم في عصرنا على الأغلب المعرفة الموضوعية وليست المعرفة اللغوية، ومن ثَمَّ يحال الخطاب بعد كتابته إلى مصحح لغة عربية قبل إلقائه، وقد تقل أو تكثر السطور في صفحات الخطاب الرسمي حسب التوجيهات وقدرة صاحب الخطاب على معرفة الموضوع والسرعة في الإلقاء وإتقان القراءة ، وقد يكون الخطاب مشكولاً كليًّا أو جزئيًّا تبعًا لإتقان أو عدم إتقان صاحب الخطاب لقواعد اللغة العربية. ورغم ذلك فإن المتتبع لصاحب الخطاب الرسمي أثناء الإلقاء يلاحظ أنه قد لا يقرأ بدقة بل أنه قد يقفز سطرًا أو حتى صفحة دون أن يشعر بالخلل ، وقد ينطق الكلمات بطريقة لا يدل نطقه إياها على فهمه لمدلولها ، ويلاحظ المواطنون في بعض اللقاءات الهامة أن بعض أصحاب الخطاب الرسمي عاجزون عن توصيل ما يريدون أثناء قراءتهم لورقات غير مرتبة، وقد يكثر عنهم اللحن وتجاوز قواعد النحو والصرف والبيان إلى درجة ملفتة للنظر.
إن مثل هذا الخطاب لا يساعد مطلقًا على تنمية اللغة العربية بل أنه ربما أساء لها أمام وسائل الإعلام الأجنبية التي قد يوجد من بينها من يتقن العربية أكثر من صاحب الخطاب ويحذق قواعدها فيتنبه للأخطاء إذا حصلت، أما الجمهور العربي فقد يتأثر سلبًا بسماع مثل هذا الخطاب ، وقد يصاب بالإحباط والشك في قدرة لغته على التعبير ما دام صاحب الخطاب الرسمي نفسه لا يحسنها بالدرجة الكافية، ومن ثَمَّ لا يحترمها ولا يحميها، إضافة إلى أن مثل هذا الخطاب يعطي حجة قوية لمن يتهم اللغة العربية بالعجز أمام اللغات الأجنبية عن أداء دورها في العلوم والتكنولوجيا ما دام "حماتها" غير قادرين على إتقانها فيما دون العلوم والتكنولوجيا وهو الخطاب العادي.(243/3)
هذا عن الخطاب الرسمي الشفوي أو المرتجل فلا يحتاج إلى كل هذا الجهد في التحضير، فهو خطاب يلقى عادة بالعامية المحليةَ أو بمزيج منها ومن الفصحى ، ورغم أننا هنا نتحدث عن الفصحى فإن الخطاب الشفوي يهمنا من بعض الوجوه ، ذلك أنه ثبت أن صاحب الخطاب يتفوه بعبارات يدافع بها عن اللغة العربية باعتبارها اللغة الوطنية والرسمية والقومية ، بل أنه قد يصرح بكلام فيه اعتزاز بالحضارة العربية الإسلامية والانتماء القومي وما إلى ذلك ، في حين أنه هو يلقى خطابه بالعامية أو ما في مستواها ، وهذا قد لا يتفق مع القضايا التي يثيرها.
لكن بعض أصحاب الخطاب الرسمي يستغلون أحيانًا سلطتهم ويعلنون عن آراء تسيء إلى اللغة العربية وتعطي الحجة لأعدائها في داخل البلاد وخارجها ، مثلاً فقد سمعنا أن أحدهم أعلن لمواطنيه على الملأ وفي وسائل الإعلام أن من يرغب في التحدث بأية لغة فله ذلك ، وأنه لا يوجد في القرآن ما يمنع من الحديث بلغة أخرى غير العربية ، وغير ذلك من الأقوال التي لا تخدم قضية اللغة العربية على كل حال ، ولا شك أن هناك فرقًا بين استعمال اللغة العربية وحمايتها والاعتزاز بها وبين تعلم اللغات الأخرى واستعمالها عند الضرورة والاستفادة منها علميًّا واقتصاديًّا، ونحو ذلك. ومن جهة أخرى فإن تصريحات من النوع الذي أشرنا إليه تمس مشاعر وكرامة المواطنين الغيورين على تراثهم، وتفسح المجال أمام المتربصين بالعربية والطاعنين في كفاءتها وفي كل عناصر الهوية الوطنية والقومية والحضارية التي تعتبر اللغة وعاء لها وإحدى مقوماتها الأساسية.(243/4)
وبالإضافة إلى ذلك فإن الخطاب الرسمي لا يتورع أحيانًا من استعمال اللغة الأجنبية حتى في مخاطبته المواطنين عند استقبال وفود رسمية أجنبية أو في ندوة لها صبغة دولية، فقد رأينا في وسائل الإعلام "الوطنية" صاحب خطاب رسمي يلقي على مسامع الحاضرين وهو يقرأ من أوراق مكتوبة بلغة أجنبية أو يتكلم ارتجالاً بها بينما تظهر على الشاشة ترجمة كلامه بالعربية، وأحيانًا ترجمة لكلامه على الإطلاق، فهل صاحب هذا الخطاب يمثل حقًّا الرمز الذي تحتمي به اللغة العربية؟ وكيف يمكنه ذلك وهو نفسه لا يحترمها ؟ ولا نريد أن نخوض هنا في موضوع الشرعية والخروج عن الدستور الذي ينص عادة على أن اللغة العربية هي الرسمية والوطنية، وربما لا يعنينا كثيرًا إذا كان صاحب الخطاب الرسمي يتحدث بأية لغة يتقنها في اللقاءات الخاصة غير المنقولة عبر وسائل الإعلام إذا لم يجد في ذلك غضاضة وكانت ظروف الحديث نفسه تفرضه.
هذا في بلاد صاحب الخطاب الرسمي ، أما حين ينتقل إلى خارج بلاده ليحضر ندوات ومؤتمرات دولية فإن أجهزة الإعلام المتنوعة تنتقل معه لتنقل إلى المواطنين ما سيلقيه باسمهم ، فإذا هو مكتوب ومقروء أو مرتجل بلغة أجنبية ، وتضطر أجهزة الإعلام الوطنية إلى ترجمة ما يقوله ملخصًا وكاملاً . وقد تتحدث هذه الأجهزة على لسانه فتذكر أنه " قال كذا وكذا " .. ترى ماذا تكون ردود الفعل ؟ وإذا افترضنا أن الخطاب قد أدى دوره بالنسبة إلى جمهوره الأجنبي ( وقد يكون ذلك عن طريق الترجمة أيضًا) فإن جمهور صاحب الخطاب يبقى محرومًا من حقه في الاحترام والفهم بالإضافة إلى أنه قد يشعر بالإهانة في مشاعره وكرامته الوطنية.(243/5)
إن هذه الصورة عن اللغة العربية في الخطاب الرسمي ليست بالضرورة هي الصورة العامة والشاملة لا على المستوى الجغرافي العربي ولا على المستوى الاجتماعي و السياسي في البلد الواحد. فنحن نعلم أن في بعض البلدان العربية خطابًا رسميًّا يحترم اللغة العربية ويعتز بها ويتقنها ويحترم مشاعر المواطنين وهويتهم ويشعر معهم بأنهم جميعًا رغم بوادر العولمة المتوحشة يخوضون معركة الحضارة بسلاح لغتهم.
فحديثنا إذًا عن بعض الحالات الغريبة التي نرجو أن يصلح أصحابها من أنفسهم، وأن يقيموا وضعهم باعتبارهم قدوة، وأن يتقنوا لغتهم قبل مخاطبة الجمهور بالعامية الفجة أو بلغة أجنبية في غير ما ضرورة، أو التصريح بعبارات يفهم منها الإساءة إلى اللغة العربية وكرامة أهلها.ذلك أن المفترض في أصحاب الخطاب الرسمي أنهم حماة الديار والتراث والأوصياء على الأخلاق والقيم، وأيضًا هم القدوة الحسنة للشباب والموظفين ورجال الإعلام فيما يتعلق باللغة
العربية ، ولسنا في حاجة إلى اقتراح توصيات بهذا الشأن ، معاذ الله ! فأصحاب الخطاب الرسمي أعرف الناس بواجباتهم أو هكذا يجب أن يكونوا .
أبو القاسم سعد الله
عضو المجمع المراسل من الجزائر(243/6)
* أعضاء راحلون:
* فُجع المجمع في هذه الدورة بفقد عضوين من أعضائه العاملين، استأثرت بهما رحمة الله تعالى وهما:
-الدكتور بدوي طبانة:
وقد أقام المجمع حفلاً لتأبينه في الجلسة السادسة عشرة من جلسات مجلس المجمع يوم الاثنين 13من شوال سنة 1421هـ الموافق 8من يناير سنة 2001م، وألقى كلمة المجمع في هذا الحفل الدكتور علي الحديدي عضو المجمع.
-الأستاذ حمد الجاسر:
وقد أقام المجمع حفلاً لتأبينه في الجلسة الثالثة عشرة من جلسات مؤتمر هذا العام يوم الاثنين غرة المحرم سنة 1422هـ الموافق 26 من مارس (آذار) سنة 2001م، وألقى كلمة المجمع في هذا الحفل الأستاذ الشاعر حسن عبد الله القرشي عضو المجمع المراسل من السعودية، كما ألقى الدكتور أحمد الضبيب عضو المجمع المراسل من السعودية كلمة أخرى في تأبين الفقيد الراحل.
* كما فُجع المجمع أيضًا بفقد عضوين من أعضائه المراسلين هما: الفريق يحيى المعلمي عضو المجمع المراسل من السعودية، والدكتور أمجد الطرابلسي عضو المجمع المراسل من سورية.
* وفي هذه الدورة قدم الدكتور إحسان رشيد عباس عضو المجمع العامل من فلسطين استقالته من عضوية المجمع، وقد صدر القرار الوزاري رقم 2119 بتاريخ 5/11/2000م بقبول الاستقالة.
* ... * ... *
*أعضاء منتخبون:
- في جلسة مجلس المجمع المنعقدة بتاريخ 4/12/2000م تم انتخاب كل من: الأستاذ أحمد شفيق الخطيب عضوًا عاملاً بالمجمع من فلسطين، والدكتور محمد يوسف نجم عضوًا عاملاً بالمجمع من لبنان، وقد صدر القرار الوزاري رقم 2434 بتاريخ 24/12/2000م، باعتماد انتخابهما عضوين عاملين بالمجمع من غير المصريين.
* أعضاء مراسلون:
في جلسة مجلس المجمع المنعقدة بتاريخ 4/12/2000م، تم اختيار عشرة أعضاء مراسلين جدد بالمجمع من غير المصريين وقد صدر القرار الوزاري رقم 133 بتاريخ 24/1/2001م باعتمادهم أعضاء مراسلين بالمجمع وهم:
1-الأستاذ الدكتور أوسامو أكيدا
اليابان(244/1)
2-الأستاذ الدكتور خورشيد الحسن رضوى. ... ... ... باكستان
3-الأستاذ الدكتور رئيف جورج خوري. ... ... ... ألمانيا
4-الأستاذ الدكتور شمس الدين خان بن ضيا. ... ... ... أوزبكستان
5-الأستاذ الدكتور عباس الصوري
المغرب.
6-الأستاذ الدكتور عبد الجبار (تشووى ليه). ... ... ... ... الصين
7-الأستاذ الدكتور عبد العزيز تركي.
قطر
8-الأستاذ الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري.
المملكة العربية السعودية.
9-الأستاذ الدكتور عبد الله دئيسون
السنغال.
10-الأستاذ الدكتور ميخائيل كارتر
الولايات المتحدة الأمريكية.
* خبراء جدد بالمجمع:
اختير في هذه الدورة خبيران للإفادة من خبرتهما في لجان المجمع اللغوية والعلمية وهما:
-الدكتور حامد عبد السلام زهران خبيرًا بلجنة التربية وعلم النفس.
-الأستاذ عبد الصمد علي محروس خبيرًا بلجنة المعجم الكبير.
* ... * ... *
*جوائز الدولة:
- رشَّح المجمع الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع لجائزة مبارك في الآداب لعام 2001م.
- ورشّح الأستاذ الدكتور علي الحديدي عضو المجمع لجائزة الدولة التقديرية في الآداب لعام 2001م.
- كما رشّح الأستاذ الدكتور حسن محمود عبد اللطيف الشافعي لجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية لعام 2001م.
* ... * ... *
*مسابقات المجمع:
أولاً- المسابقة الأدبية للعام المجمعي (1999-2000م)
وكان موضوعها ( الأستاذ الدكتور
إبراهيم أنيس- أعماله وبحوثه اللغوية)، وفاز بها كل من:
الأستاذ محمد مزيون فنجرى.
الأستاذ السيد أحمد المخزنجي.
- أما المسابقة الأدبية للعام المجمعي (2001-2002) فموضوعها (القدس في الشعر العربي).
ثانيًا- مسابقة إحياء التراث:
قررت لجنة إحياء التراث حجب جائزة المجمع للعام (2000-2001م)، لأن العمل المقدم إليها سبق تحقيقه من قبل تحقيقًا علميًّا منهجيًّا.
* ... * ... *
* مطبوعات المجمع:
* صدر عن المجمع بعض المطبوعات خلال هذه الدورة وهي:(244/2)
1-كتاب طه حسين في المغرب.
2-المعجم الكبير الجزء الخامس (حرف الحاء).
3-كتاب الألفاظ والأساليب.
4-مجموعة المصطلحات العلمية والفنية الجزآن 38، 39.
5-كتاب شوقي ضيف على الإنترنت.
*الإعداد للطبع:
1-العمل على طبع كتاب "مايعول عليه للمحبي" تحقيق الأستاذ الدكتور محمد حسن عبد العزيز، ومراجعة الأستاذ الدكتور حسن محمود عبد اللطيف الشافعي.
2- الإعداد للجزء الثاني من كتاب "ما يعول عليه للمحبي" تحقيق الأستاذ الدكتور فتحي جمعة، ومراجعة الأستاذ الدكتور أمين علي السيد.
3-التعاقد على تحقيق شرح ديوان رؤبة بن العجاج مع الأستاذ الدكتور حسن محسن، الأستاذ بكلية البنات –جامعة عين شمس، ويقدم العمل محققًا للمجمع في نهاية يونيه 2002م تمهيدًا لمراجعته وتقديمه للطبع.
4- أعداد مجلة المجمع من العدد 81 إلى العدد 84.
5-مجموعة المصطلحات العلمية (الجزء الأربعون).
6-معجم الرياضيات (الجزء الثالث).
7- كتاب أصول اللغة (جزآن).
8-كتاب الألفاظ والأساليب (الجزء الأول) إعادة طبع.
* ... * ... *
-عقد اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية اجتماعه في مجمع القاهرة في المدة من الأول من أبريل إلى الثاني من أبريل سنة 2001م، وقرر ما يلي:
1-أن يظل قائمًا مشروع المعجم العربي الموحد لألفاظ الحياة العامة على مستوى الوطن العربي، وأن يعاد إرسال القرار إلى جميع المجامع والهيئات اللغوية المشتركة في الاتحاد.
2-أن يظل مشروع الذخيرة اللغوية الذي قدمه رئيس مجمع الجزائر الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح مقترحًا لاهتمام المجامع اللغوية، ويكتب لها بذلك.
3-الموافقة على اقتراح الأستاذ الدكتور محمد إحسان النص أن يعنى اتحاد المجامع بصنع معجم تاريخي للغة العربية ويكتب بذلك إلى المجامع والهيئات اللغوية المشتركة في الاتحاد.(244/3)
4-أن يعنى الأساتذة: الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد، والدكتور محمود فهمي حجازي، والدكتور محمد هيثم الخياط بتأليف كتابٍ مرشدٍ يوضح المنهجية العلمية لوضع المجامع المصطلحات العلمية المختلفة.
5- وافق أعضاء مجلس الاتحاد على عقد اجتماع سنوي للمجلس وبصفة
دورية في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر بالقاهرة ليكون بعيدًا عن مؤتمر مجمع القاهرة.(244/4)
رابعًا – مرثية أخرى في وداع الفقيد
للأستاذ حسن عبد الله القرشي
قف على الدرب زهوًا وابتساما ... إنه عرس شهيدٍ تَسَامَى
يحطم القيد إذا القيدُ عتي ... ويرد الموت مهزوما مُضاما
راهبٌ للفن علويُّ الرويِّ ... لم يكن يغفرُ للفنِّ زِماما
شاعرٌ للخلدِ قد سار إلى ... موكبِ الخلدِ مُحِبًّا مُسْتَهَاما
مِنْ حُدَاةِ الركبِ حادٍ غرد ... عانَقَتْهُ رَبَّةُ الشِّعْرِ فهاما
ملك قد عَبَرَ الأرض فلم يَلْـ ... ق بأرضٍ فيها لجناحيهِ مُرَامَا
وانطوى كيف انطوى عن عالمٍ ... لم يزلْ فيهِ صداهُ يَتَرَامَى
لم تزل أزهارُه تُهْدِى الشَّذَا ... لم تَزَلْ أضواؤه تجلو القتاما
وشجاه من مراراتِ الجَوَى ... ما يريب الحُرَّ فاستحلى الأواما
لم يعد في الكون ما يؤنسه ... بعد أن عاد يبابًا وحطاما
لم يعد بين الندامى شاربٌ ... نَشْوَةُ العُنْقُودِ ولَّتْ والندامى
ليس يحيا بين جُدْرانِ الأسى ... زارعُ الحلمِ ومصباحُ اليتامى
ياعريقَ الجُرْحُ كم صُغْتَ من الجُرْحِ ... للأمجادِ غارًا ووساما
بورك الجُرْحُ الذي حَمَلْتَهُ ... بين جنبيك عطاءً وضِرَامَا
بورِكَتْ آياتُكَ الكبرى التي ... كَمْ جَلَتْ ذِكْرًا وَكَمْ أورتْ حُطَامَا
يا صديقي والأمانِي جفوةٌ ... والسعيدُ الجد من عاف الزِّحاما
يهزم الآلامَ مهما عرضتْ ... من يراها فى الدنَا حَتْمًا لِزاما
قد تساوينا على هذا الثَّرى ... فى مدى القريةِ شيخا وغُلاَمَا
من يَعِشْ ألفًا وإن طالَ السّرى ... لعبة الموت كمن قد عاش عاما
غيرَ أنَّ الخلدَ للذكرِ وهل أم ... مثالُ طيب الذكرِ تستهوى العِظَامَا
* ... ... * ... ... *
يا فلسطينُ توارى عاشقٌ ... يُغنِّي لكِ وجدًا وهُيَامَا
جرحُكِ القُدْسِيَّ كم قبَّله با ... كيًا لم يخش فى الحب ملاما
فئة كان على الباغي يدا ... تصرعُ البغيَ وتجتاحُ الظلاما
واليراع الصُّلْبُ فى قبضتِهِ ... صارمًا كان وثأرًا وانتقاما(245/1)
كان فذًّا عربيًّا شامخًا ... ما حنى عن ذروة الأمجاد هاما
ياسماء الخطب راجٍ حوله ... زاهدًا والناس يغشون الحطاما
فاذكريه كم شهيدٍ فكره ... ينفضُ الرِّمْسَ ويستحِي العِظَاما
* ... ... * ... ... *
أيها الحب الذي عاش على شُرْ ... فة الشمس وبالأمجاد هاما
أيها الروحُ الذي كان سنا ... عبقريًّا وصفاءً وسلاما
واعتناقا للمروءات فمن فيـ ... ضه الدافق نستسقي الغماما
عِشْ بدارِ الحبِّ فالدارُ هُنَا ... لم تَعُدْ إلا جحيمًا وخِصَاما
واصْحَبِ الأملاكَ فالنَّاسُ كما ... أبْصَرَتْ عيناكَ ما زالوا سواما
لم يَعُدْ يسعدُ في دُنْيَاهُمو ... نَابغٌ فأقرأْ على الأرضِ السَّلاما
... حسن عبد الله القرشي
عضو المجمع المراسل
من السعودية(245/2)
خامسًا- "الأديب العالم الشاعر عبد الغني حسن"
مرثية
للأستاذ علي هاشم رشيد
كأسٌ على كلِّ الأنامِ تُدارُ ... ... ومواردٌ لم يأتِها إصدارُ
هل ظلَّ معنًى لم يُقَلْ لأقولَهُ ... أو لم يَزَلْ فى عَيْشِنَا أسرارُ؟
... مِنْ عهْدِ آدم والحياةُ قصيرةٌ ... أعوامُها مهما تَطُولُ قِصَارُ
إِنَّنَا على سَفَرٍ وإن حياتنا ... ظِلٌّ تفيَّأْنَا وعنْهُ نُثَارُ
وسعيدنا من كان زاد حياتِهِ ... تقوَى الإلهِ وإن حواهُ ستارُ
يخشى الإلهَ بسرِّهِ وبجهرِهِ ... والرأي منه لدى الظلوم نهار
هذا الذي "عبدَ الغنىِّ" وعيتَهُ ... وإذا طريقُكَ للخُلودِ بَدَارُ
فسعيت للأُخرى بدينٍ لَمّ ... ... وجفاكَ مِنْ دُنْيا الورى إبْهارُ
وقطفتَ من رَوْضِ العلومِ ثمارَهَا ... فَلأَنْتَ فِي شَطِّ العُلُومِ فَنَارُ
فإذا شَدَوْتَ فنفحةٌ عُلْويَّةٌ ... ... فيها معَ النشرِ العَطيرِ وقارُ
"عبدَ الغني" أهكذا غادرْتَنا ... قبلَ الوَداعِ ودمعُنا مِدْرَارُ؟
أَبخلتَ عنَّا بالوداعِ وأنت مَنْ ... صان الإخاءَ والوفاءُ شعَار؟ُ
فإذا تفطَّرتِ القلوبُ لفقْدِكُم ... أَتُرَى لَنَا فيما يَدُورُ خِيارُ؟
يا عالمًا يا باحثًا يا شاعرًا ... ... ماذا أُعَدِّدُ والخِصَالُ كِثار؟ُ
فإذا مضيتَ فإنَّ ما خَلّفتَهُ ... شَمْسٌ به دربُ العلوم تُنارُ
لغة الكتابِ خَريَدٌة علَّقْتَها ... وعشقتها ولها غَدَا التِّسيارُ
في مجمعٍ للخالدين جُهُودُكُم ... ... رَمُْز المجدِ وكُلُّهُ إصرارُ
عَمَلٌ بلا ضوضاءَ كانَ شِعَارُكُم ... في دِقَّةٍ منها العُقُول تَحَارُ
يا شاعِرَ الأهرامِ سِرْتَ كَسِيرَها ... صِدْقًا وقد صََدقَتْ بِهَا الأَخبارُ
بستانُ عِلْم أنتَ بين صَحَابةٍ ... الْعِلْمُ مِنْهُمْ رَوْضَةٌ وثِمَارُ
يا "مجمعًا" للخالدينَ حملتم ... خيرَ الوسائلِ أيُّها الأحبارُ
"لغةُ الكتاب" أمانةٌ من أجلِها ... شَرَفُ الجهادِ إذا أثُيرَ غُبارُ(246/1)
ذُودُوا عنِ الفُصْحَى بِعَزْمِ مُجَاهِدٍ ... فلأنتُمُ مِنْ أَجْلِهَا الثُّوَارُ
حتَّى يُقال عثار بعض إنما ... ... يُفضِي إلى الخطبِ الجسيم عثارُ
هلا سَمِعتُمْ في الأثيرِ مُذِيعَهُمْ ... يتلو كَمَنْ يَهْذِي وَفِيهِ خِمارُ
إذ يرفعُ المنصوبَ والمجرورَ في ... جهلٍ وإنَّ الجهل فيه دمارُ
ومُحَدِّثُ لُغَةِ العوامِ حديثه ... تحطيمه لغةَ الكتابِ جِهارُ
فى الجامعاتِ وفى النوادي لفظُهُم ... قد جانَبَ الفصحى فمنه تضارُ
ومِنَ المُقِرِّ أن يكونوا قُدوةً ... لو ساد بالحقِّ المبينِ قَرَارُ
أنتُمْ لها يا سادتي أنتُمْ لها ... ولِمِثْلِ هذا يُرْتَجَى الأخيارُ
"عبدُ الغني" قَضَى بِسَاحِ جِلادِها ... مِا ردَّهُ عَنْ خوضِها ثرثارُ
ويظلُّ في ما خطَّ في أسفارِهِ ... إنَّ الخُلودَ تضمُّهُ الأسفارُ
فلتقرؤوا أمَّ الكتابِ لروحِهِ ... ورعاهُ رَبٌّ راحِمٌ غَفَّارُ
... ... ... ... ... علي هاشم رشيد(246/2)
ثانيًا- كلمة المجمع في تأبين الراحل الكريم
للأستاذ الدكتور علي الحديدي عضو المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
" يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " صدق الله العظيم .
سيدي رئيسَ المجمع، الزملاءَ الكرام، الضيوفَ الأعزاء، لا أكتمكم أنه حين أُسند إليّ تأبين الزميل العزيز الذي فارقنا بالأمس القريب الأستاذ الدكتور بدوي طبانة، فَرِقت النفس وجزع الفؤاد، كيف لي بتأبين صديقٍ ما زال صوتُه يتردد في أذني، وكلماتُه ماثلةً في ذاكرتي، وذكراه حيةً في قلبي ؟
ولكن وفاء لذكرى صداقةِ سنين، وزمالةٍ في مجمعكم الموقر أربع سنوات في الأولى وستٍّ في الثانية، هذه الصداقة وتلك الزمالة جعلاني أقف بين أيديكم الآن أؤبن الصديق و الزميل الذي تَركنَا فجأة وذهب، وقد كنت لطول المعرفة وامتداد الألفة أتوهم أنه لن يحين قضاؤه عن قريب، فقد كان دائمًا يُقبل إلينا في جلسات مجلس المجمع، ولجنتي الأدب والمعجم الكبير، بطلعته الشامخة وخطواته الثابتة، وقامته السامقة التي وهنتها الأيام، ولم تَقُل منها سنواتٌ تربو على خمس وثمانين ولم يكن صحابه ومحبوه وعارفوه يدرون أن ملك الموت قريب منه ويوشك أن يختاره من بينها ليتحقق فيه قول الشاعر:
والموت نقَّادٌ على كَفّهِ
جواهرٌ يختار منها الجيادا
وحين جاء الأجل يَفْجؤنا النعيّ جميعا، وتذهب الظنون والأوهامُ هباءً ويمحوها الواقع، وإذا بصدى صوت آتٍ من بعيد شبيهٍ بصوت فقيدنا ينادى: يا ابن آدم يا من بقى له في دار الفناء فُضالة: أَلَمْ أروِ فيما رويتُه من قصائد الشعر وأبياته لجلسائي وسامعيّ:
كلُّ ابنِ أنثى وإن طالت سلامتُه
يوماً على آلة حدباء محمول!(247/1)
ويمر شريطُ ذكراه حيث ولد عام ألفٍ وتسعمئة وأربع وحفظ القرآن الكريم في قريته " سِرْسِنَا" بمدينة الشهداء في محافظة المنوفية، والتحق بتجهيزية دار العلوم ثم بمدرسة دار العلوم العليا ، وتخرج فيها عام ثمانيةٍ وثلاثين وتِسعِمئة وألف (1938)، وبعد سنوات من العمل في التدريس بمدارس وزارة المعارف اختير ضمن بعثة المعلمين المصريين إلى العراق تلك البعثات التي كانت توفدها وزارة المعارف المصرية في ذلك الزمان إلى البلاد الشقيقة لتجلو ظلام الجهل عنها وتصلَها بنور العلم وضياء المعرفة.
وفي بغداد وفي دار المعلمين العالية التي عُيِّن فيها أُسند إلى الشاب " بدوي طبانة " تدريسُ مادة البلاغة وكان منهجُ المادة يقضي بتدريس كتابِ " الطرازِ المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز " لمؤلِفّه يحَيى ابنِ حمزة العَلَوي أحدِ أئمةِ اليمن في القرن الثامن الهجري، وهناك بدأ اتصاله العلمي بعلم البلاغة.
ولأن الشاب الطموح " بدوي طبانة " وضع لنفسه نظامًا يسير عليه في مستقبل أيامه هو " التميز" في كل عمل يمارسه ـ أخذ نفسه باستيعاب مادة الطراز، والرجوع إلى المصادر والمراجع البلاغية ليكون متميزًا في قاعات الدرس، وفي حلْبات المناقَشات بين المتعلمين. وساعدته ذاكرتُه اللاقطة وقلبُه الحافظ لما يقرأ ويدرس من كتب البلاغة التراثية وشواهدها الشعرية والنثرية على مساعدته أن يبرز في هذه المناقشات وأن يتملك ناصية القول في قاعات الدرس وبدأت تنعقد صلةُ مودة وحب بينه وبين علوم البلاغة، كما بدأ يتكون اتجاهُه العلمي ليصنع منه باحثًا واعدًا.(247/2)
وبعد أن عاد من العراق قادته رغبته في الانتفاع بما قرأ ودرس وحفظ وأحبَّ في سنوات عمله التدريسي بالعراق، فالتحق بقسم الدراسات العليا بدار العلوم، وحصل على الماجستير ثم الدكتوراه في البلاغة والنقد الأدبي. ولفَت الباحثُ النابهُ الحافظُ لمئات القصائد الشعرية في كل العصور، والذي يستظهر ما حفظ ويباهي به في كل مناسبة علمية لفت انتباه الأساتذة الذين درسوا له في قسم الدراسات العليا بدار العلوم، والذين أشرفوا عليه وناقشوه في رسالتيه للماجستير والدكتوراه، فأشاروا عليه أن يتقدم للعمل بالتدريس في دار العلوم، وكانت ما تزال مدرسة عليا تعيش مرحلةً انتقالية لتصبح كلية جامعية يُطبَّقَ عليها قانون الجامعات وحظي الدكتور بدوي طبانة بالتعيين مدرسًا في دار العلوم .(247/3)
ولابد أن الدكتور بدوي قبل أن يتقدم إلى العمل بدار العلوم، كان يعلم تمامًا أن من ينتظم في سلك التدريس الجامعي عليه أن يترهب في محراب العلم ليرقى بعلمه وبحوثه إلى الدرجتين العلييين من مدرس، وهما الأستاذ المساعد والأستاذ. وفي محراب العلم، وفي بحثه في حقل البلاغة التراثية "التي كانت تقوم على أصولٍ وفروع وشروح متوارثة، تتداخل فيها كثير من العلوم، وتجتر أحكامًا وشواهد تراثية، غشاها الجمودُ والتكرارُ فصارت تعاني غربة علمية وأدبية، وفي هذا الحقل الذي تخصص فيه الدكتور بدوي وجعله همَّه الأكبر أخذ يبذل كل جهده في دراسته ومؤلفاته ويضم الدكتور بدوي جهوده ـ وإن كانت قليلة ـ في بدايتها إلى جهود من سبقه من العلماء الرواد ومنهم: أحمد الشايب، وأحمد ضيف، وأحمد حسن الزيات، وإبراهيم سلامة، وأمين الخولي. وكانوا يتطلعون إلى التماس منهج علمي حديث لبحوث البلاغة يخرج بها من دائرة الجمود والتكرار فأخذوا يطهرِّونها من الدخيل، ويؤهلونها للقدرة على التقنين والتقدم والتجديد ومواءمةِ الأساليب الجديدة التي جرت على أقلام أدبائنا الكاتبين الذين يعيشون في عصر غزته الحضارة الحديثة واتسعت آفاقُهم بالاطلاع على الآداب الغربية بأساليبها وفنونها فعمِلوا على مواكبتها وابتكروا أساليب جديدة في العلوم و الفنون .(247/4)
بلغ فقيدُنا العزيزُ قمةَ الدرجات العلمية أستاذًا للبلاغة و النقد الأدبيّ في كلية دار العلوم، ولم يكن الطريق إلى هذه الدرجة سهلاً ميسورًا فقد واجه منافسة شرسة مع أسطون من أساطين التخصص العلمي ذاع صيته في الأوساط النقدية وفي الأدب المقارن في مصر وخارج مصر، إذ تقدم هو الآخر إلى الدرجة نفسها وحتى لا يكون في نتاج الدكتور " بدوي " نقصُ أو عُوَّار حين يتقدم بنتاجه إلى اللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة كتبَ مؤلفات تسد كلَّ نقص وتذهب بكل عوَّار وفي مقدمة ما كتب: النقد الأدبي عند اليونان ودرس الدكتور بدوي مادة الكتاب دراسة متقنة وكان -رحمه الله- يستظهر ما كتبه فلاسفةُ اليونان في البلاغة والنقد فيما تُرجم منه إلى العربية. كما كتب مؤلفات منها: "التيارات المعاصرة في النقد" و"قضايا النقد الأدبي" و"دراسات نقدية" وكثيرًا ما كان يردد ما حفظ وما قرأ من أقوال النقاد القدامى والمحدثين من العرب والأوربيين مؤلَّفا أو مترجَمًا في مجالسه العلمية وفي ندوات البلاغة والنقد، هذا إلى جانب مؤلفاته الأدبية والبلاغية ومنها: البيانُ العَربي، وعلمُ البيَان، ودراساتٌ في النقد، الأدبي العربي، والسرقات الأدبية، ونظريةٌ في أصول الأدب والنقد وقدامة بن جعفر والنقدُ العربي، وأبو هلال العسكري ومقاييسُه البلاغية والنقدية، ومعلقات العرب، وفرسانُ الحلْبة في الشعر العراقي الحديث، ومعرفٌ الرُّصافي، وأدبُ المرأة العراقية، وطلائع النهضة في الشعر السعودي الحديث، ودراسات نقدية، ومن شعراء العصر، والصاحب ابن عباد، وشاعرية أحمد محرم، والمثلُ السائر في أدب الكاتب و الشاعر، والفلك الدائر على المثل السائر، ومقدمة في التصوف الإسلامي، إلى جانب عشرات من الكتب كانت تحت الطبع في مسوداتها لكن الأجل أعجله عن تقديمها للمطبعة فلم تر الوجود. وكم نرجو من أسرته الكريمة أن تُخرجها إلى النور، ليُفيد منها الباحثون. أو نقدم أصولها إلى(247/5)
المجمع ليرى فيها ما يراه.
وقد كان واسطةَ العِقْد فيما كتب الأستاذ الدكتور بدوي " معجمُ البلاغة العربية " وهو معجم أورد فيه كلَّ فنون البلاغة وأدواتها ومصطلحاتها، وقد استغرق من جهده وعمره خمسةً وعشرين عامًا فخرج عملاً فريدًا في بابه لم يُسبق إليه، وتشتد إليه حاجةُ الباحثين في علوم البلاغة الحديثة والتراثية، شيبًا وشبابًا.
وبين يدي الأستاذ الدكتور بدوي جلس مجلسَ التلمذة مئاتُ ومئات من المصريين والعرب، فأفاض عليهم من علمه، كما أفاضه من قبل ومن بعد على طلاب دار المعلمين العالية ببغداد، ثم طلاب جامعة بغداد، والجامعة الليبية بطرابلس، وجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، وشاء حظِّي أن التقي به في طرابلس بليبيا، حيث عملنا معًا في جامعتها أوائل السبعينيات وحظيتُ منه وزملائي المصريين الذين كانوا معنا في جامعة طرابلس بجلسات أدبية خاصة سعدنا فيها بسماع كثير من محفوظاته الشعرية والنثرية واستمتعنا بأحاديثه ونوادره وطُرَفه الأدبية وغير الأدبية.(247/6)
ثم عاد الدكتور بدوي إلى الوطن بعد أن أدى رسالته في الجامعات العربية وخطب ودَّ مجمع اللغة العربية حيث قُدمت مسوغات ترشيحه للعضوية وكانت كافية لانتخابه عضوًا فانتخبه عضوا عام 1992، وانضم إلى محراب المجمع وتبوأ مكانًا بين سدنته وشغل مكان سلفه الأستاذ عبد العزيز محمد ذلك العالمُ الكبير، والفقيهُ الخطير، فهو من جيل العمالقة في فقه القانون وقُطْبٌ من أقطاب القضاء في مصر وقدَّر الأستاذ الدكتور بدوي العضوُ الجديد في مجمع اللغة العربية ثقةَ زملائه فيه فقال يومَ حفلِ استقباله: " ما أعظم ما حبوتموني من ثقةٍ توجتم بها سعيي في خدمة العلم، وأَتَحْتُم لي بها هذا المقامَ المحمود بينكم لأكون حبة في هذا العقد الفريد من سدنة اللغة العربية، وهى ثقةٌ أعتز بها، وأعدّها أسمى من كل منصب، وأكبرَ من كل جائزة، وأرفع من كل وسام، لصدورها عن تلك النفوس الزكية، والقلوب الكبيرة والعقولِ الواعية التي أودعها الله كنوز الحكمة وقطوف المعرفة النافعة. واشترك الأستاذ الدكتور بدوي عضو المجمع في خمسٍ من لجانه: لجنةِ الأدب، ولجنة الرياضيات، ولجنة الفيزياء، ولجنةِ المعجمِ الكبير، ولجنةِ إحياء التراث، وكَمْ أفادت هذه اللجانُ من علمه ولغته وأدبه.
وفي العام الماضي كان كثيرًا ما يردد لجلسائه وصِحابه من الشعر الذي يحفظه أو ينشئه قولَه.
لي خمسُ وثمانون سَنةْ
فإذا حققتها كانت سِنَةْ
إن عُمرَ المرءِ ما قد سرّه
ليس عمرُ المرءِ مَرَّ الأزمنة
وقبل أن أنهي تأبيني لفقيدنا العزيز أذكر له وصية غالية أسداها إليَّ في ليبيا وقد جاء يزورني في منزلي هناك حيث قال: ضع نصب عينيك أننا لم نأت هنا، أو نغترب في أي بلد عربي، سعيًا وراء وجاهة اجتماعية، أو مركز أدبي، أو وظيفة رئاسية، بل جئنا لننفع إخواننا في البلاد الشقيقة بعلمنا، وننتفع منهم بانتعاش مادي .(247/7)
رحم الله الفقيد رحمة واسعة، وجعل جنة الخلد مثواه، جزاء ما قدم من علم انتشر في بلادنا العربية، ومن صحبة طيبة لزملائه ومحبيه، جعلت ذكراه حيَّةً في نفوسهم، دون أن تمحوَها الأيام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
علي الحديدي
عضو المجمع(247/8)
ثانيًا- كلمة الأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم
في تأبين المرحوم الأستاذ الدكتور أحمد عمار
قال أسلافنا في الدنيا:
ومن لم يعشق الدنيا قديمًا
ولكن لا سبيل إلى الوصال
وقالوا:
حكم المنية في البرية جار
... ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها خبرًا
حتى يرى خبرًا من الأخبار
طبعت على قدر وأنت تريدها
صفوًا من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها
متطلب في الماء جذوة نار
وقالوا :
بين عَيْنَي كلِّ حيٍّ
عَلَمُ الموتِ يلوح
كلنا في غفلةٍ والـ
موت يغدو ويروح
نُح على نفسك يامـ
سكينُ إن كنت تنوح
لتموتَنَّ وإنْ عَمَّـ
رْتَ ما عَمَّرَ نُوحُ
هكذا رأى أسلافنا الدنيا وقال فيها أسلافهم نفس الشيء قال الجميع آلافًا من الأبيات لا تخرج عن هذه المعاني. وها نحن أولاء الآن كيف نرى الدنيا؟ إِنها هي لم تتغير شيمتها الغدر وموطئها وعر هناؤها قصير وعذابها طويل وكلٌ يسير فيها إلى نهاية محتومة ألا وهي الموت.
يؤلمني اليوم أن أقف لتأبين صديق عزيز وزميل كريم هو المرحوم الأستاذ الدكتور أحمد عمار ولن أذهب في التأبين إلى الحد الذي وصل إليه شوقي فأقول :
قد كنتُ أوثرُ أن تقولَ رثائي
يا مُنْصِفَ الموتى مِنَ الأَحْيَاءِ
...(248/1)
ولكني أقول إني قد فجعت كما فجع مجمع اللغة والعربية والآلاف من طلبته ومرضاه ومن جاؤوا إلى الحياة بين يديه، وإني أبكيه كما تبكيه محافل اللغة والعلم وكما ترثيه مكارم الأخلاق. إن صلتي بالدكتور أحمد عمار قديمة ترجع إلى أيام أن كنت طالبًا بكلية الطب وكان الدكتور عمار كثير التردد على نادي الكلية فكنا نجلس لنتكلم في شتى الموضوعات، ولكن لم يتطرق حديثنا إلى الشعر والأدب حتى كان عام 1952، وكنا في حفل في منزل المرحوم الأستاذ الدكتور عبد الحي الشرقاوي وكنت أظن وقتها أني أعرف شيئًا عن الشعر واللغة، وبعد العشاء بدأت أقول قصيدة لمسلم بن الوليد وإذا بالدكتور عمار يشترك معي في الإلقاء، وإذا به يضيف أبياتًا لم أكن أعرفها، ثم أخذ يسألني عن معان خلفية في القصيدة فكنت أجيب على قدر معلوماتي وكان يصحح لي كثيرًا من أخطائي، وبدأت أقرأ قصيدة أخرى فكان منه ما كان في القصيدة الأولى وبقينا تلك الليلة نتطارح الشعر حتى الساعة الرابعة صباحًا وحتى تركنا أهل المنزل وناموا وانصرفت. وقد عرفت الدكتور عمار على حقيقته وأدركت أنه بحر في الشعر واللغة والأدب العربي وقد كثر لقاؤنا بعد ذلك وكان في كل مرة يعجزني بسؤاله لي عن غرائب الكلمات ومعانيها وكيف تصاغ الجمل على الوجه الصحيح .(248/2)
ومرت الأيام والسنون وفجأة على غير انتظار خاطب الدكتور عمار شقيقي الدكتور علي إبراهيم تليفونيًّا وقال له قل لحسن إننا رشحناه لعضوية مجمع اللغة العربية… لماذا لم يكلمني أنا؟لست أدري. فقلت لشقيقي فورًا كلمه وقل له إني لست عالم لغة ولا أصلح لهذه العضوية ولم أكن أعرف في ذلك الوقت ما الذي يدور في المجمع وكنت أظنه منصرفًا لعلوم اللغة من نحو وصرف والجري وراء الغريب من الألفاظ فخاطبه الدكتور علي فكان رده قل لحسن إنه لا يعرف شيئًا عن نفسه. ومرت أيام وإذا به يخاطبني أنا هذه المرة مهنئًا بانتخابي عضوًا بالمجمع وبعده بخمس دقائق كلمني الدكتور محمد أحمد سليمان مهنئًا وعرفت فيما بعد أن الاثنين زكياني لعضوية المجمع.
أما قصتي معه في المجمع فكانت هي التعاون الوثيق في إِيجاد اللفظ المسهل المؤدي للمعنى، واشتركنا في ترجمة وتعريب آلاف الألفاظ في لجنة المصطلحات الطبية. وأود أن أقول أن فكرتي عن المجمع تغيرت تمامًا بعد دخوله إذ رأيت المجمع يطوع اللغة للعلوم الحديثة في أسلوب سهل بعيد عن التعقيد، وأنه يسهم في ترجمة كافة العلوم إلى العربية.(248/3)
هذه كانت حياتي معه فكيف كانت حياة الدكتور عمار؟ ولد الدكتور أحمد عمار بقرية مناوهلة في محافظة المنوفية عام1903، ودخل كُتَّاب القرية صبيًّا يحفظ القرآن وجوده وهو في الثامنة من عمره، وكان لحفظه القرآن أثره الواضح في نطقه السليم وسليقته العربية الخالصة، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية بشبين الكوم عام1913، وفي العام نفسه كان الخديوي عباس يزور المدرسة فوقع الاختيار على التلميذ أحمد عمار ليلقي قصيدة الترحيب بالزائر الكبير، وكان ذلك لأنه كان مثلاً طيبًا لحسن الإلقاء وإجادة التعبير، وكان لهذه المناسبة أثر بعيد فيما كان من حب الدكتور عمار للغة العربية، ثم رأى أن المدرسة لم تكن تسعفه بما يريد فكان يعمد إلى لداته من الأزهريين من طلبة القرية ليشاركهم دراسة العلوم العربية، وكان من أثر المنافسة التي قامت بينه وبينهم أن حفظ الدكتور عمار ألفية ابن مالك والمعلقات وغيرها فكانت عدة له وزادًا باقيًا .
أحب الدكتور عمار الشعر وهو طالب بالمدرسة الثانوية وعالجه وبالرغم من اتجاهه الأدبي الواضح فقد قرر أهله أن يتجه اتجاهًا علميًّا ليخالف شقيقه المرحوم عبد الرحمن عمار الذي التحق بالقسم الأدبي،وقد التحق الدكتور عمار بكلية الطب وكان خارق الذكاء فكان أول فرقته على مدى دراسته، والأول بين الناجحين في بكالوريوس الطب، وقد نال ثماني جوائز لامتيازه أثناء الدراسة كما كان أصغر الخريجين سنًّا، وقد أرسل بعد تخرجه في بعثة إلى إنجلترا عام1927، وعاد وهو يحمل شهادة زمالة كلية الجراحين الملكية بإنجلترا عام1930، وأصبح أستاذًا للتوليد وأمراض النساء في عام 1947 بكلية طب عين شمس فعميدًا للكلية لثلاث فترات متوالية، وهو ما لم يتح لعميد في كليات الطب إلا للمرحوم الدكتور على إبراهيم، وكان أستاذًا ممتازًا ماهرًا في طبه إنسانًا مع مرضاه.(248/4)
وقد انتخب الدكتور عمار عضوًا بمجمع اللغة العربية عام 1951 فوكيلاً للمجمع عام 1976، وقد كرمته الدولة فنال وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى ووسام الاستحقاق من الدرجة الأولى كما نال جائزة الدولة التقديرية في العلوم عام 1981. هذا وقد اشترك في عدة لجان بالمجمع كما مثل المجمع في بعض المؤتمرات قال المرحوم الدكتور منصور فهمي في استقباله بالمجمع: "مما لا ريب فيه أن ميدان العلم المتصل بدقائق الحياة فيه من الغموض والخفاء ما فيه لاتصاله بأسرار الطبيعة وكوامن الروح التي ما تزال خلف الأستار، وأن الذين جمعوا بين التبحر في العلم والبصر باللغة لهم أقدر على تجلية تلك الغوامض والكوامين واستشفاف تلك الأسرار بما تذوقوا من جمال التعبير وما أوتوا من موهبة الإبانة والإفصاح، فالدكتور عمار بما درس من علوم الطب والحياة كأنما صنعته الأقدار هذا الصنع الحكيم وادخرته لهذا المجمع عونًا على تجلية المصطلحات الطبية والعلمية في معرض عربي يزيد اللغة ثروة ويكسب العلم لأهل العربية وضوحًا وحسن بيان" .(248/5)
كان الدكتور أحمد عمار كثير العطاء للخاص والعام فقد نشر عدة مقالات في جريدة الأهرام للأمهات تحت عنوان صحة الحامل في أسلوب سهل ممتنع، ثم هناك "طرائف الأدب" التي كان ينشرها في "مجلة المجمع" ولكن جهده في الترجمة يفوق كل جهود، فقد أثرى اللغة حقًّا فهناك "المقتطفات القصيرة" في الترجمة التي كان ينشرها من حين لحين كما اشترك مع اللواء الركن الدكتور محمود شيت خطاب عضو المجمع العلمي العراقي في ترجمة ثمانين ألف مصطلح في شتى العلوم والفنون إلى اللغة العربية، ثم هناك بحوثه التي كان ينشرها في مجلة مجمع اللغة العربية أقتطف منها جزءًا، يقول الدكتور عمار: "ولئن شئنا أن نشفق فلنشفق من الجمود والاندفاع على السواء، ونتوسط بينهما السداد ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. ومن قواعد صوغ المصطلحات العلمية عامة والطبية خاصة أن يحبس المصطلح على معنى بذاته منعًا من التباسه بأي معنى سواه؛ ولذا لجأت اللغات الأجنبية إلى اللغات القديمة كاليونانية واللاتينية، فاستمدت منها أكثر مصطلحات العلوم متوسلة إلى ذلك بأية مناسبة، وإن كانت واهية، من مناسبات المعنى المراد فالمرض الجلدي المعروف "بالأكزيما" مثلاً من علامات دور من أدواره ظهور حويصلات مليئة بما يشبه الماء على ظاهر الجلد فمن المشابهة بين هذه الحويصلات وما يظهر من فقاعات على سطح الماء عند غليانه استمدت لتسمية المرض "أكزيما" وهي كلمة لاتينية تفيد معنى الغليان وحبست على المرض، فأصبحت علمًا عليه لا ينصرف إلى شيء سواه، فإن قلنا الغليان فأي جلد ذلك الذي يغلي وإنما أوجب هذه هو أننا اتخذنا لفظًا شائعًا لمعنى علمي فلا نحن تركناه لمعناه الشائع، ولا نحن استطعنا أن نحبسه على المعنى العلمي المراد بعد أن انتزعناه من استعماله العام، فإذا لم نوفق لكلمة إكزيما عن طريق الاشتقاق، فلم لا نلبي من فورنا حاجة الاستعمال العاجلة باللجوء إلى التعريب؟ وليصقلها رجال اللغة بما يتفق مع الذوق(248/6)
العربي كأن يقولوا الأقزيم أو الأكزيم حسبما يرون، ولتكن مادة كزم بمعنى التفقيع. ولماذا لا نترخص في الاشتقاق من مادة فنقول كزيمة مثلاً لاسم المرض وتكزّم للفعل وتكزما للصفة وتكزيمًا للمصدر؟.
هكذا كان يفكر الدكتور أحمد عمار وقد قرأت كل ما كتب في مجلة المجمع وأفكاره كلها كانت تدور حول هذه النقطة "أيهما أحفظ لتراث اللغة؟ أن ندخل عليها لفظًا أعجميًّا مهما صقلناه بدا في لغتنا كالرقعة المختلفة عن نسيج الثوب أم، أن نرفع ثوبنا من نسيجه نفسه فتتفق رقعتنا مع الثوب"؟ .
وكان الدكتور عمار دائمًا مع تجنب الإغراب والابتذال، وتوخي وضوح الدلالة وتجنب إبهامها، وتوحيد المصطلحات المشتركة بين مختلف العلوم، والترخص في التحلل من القديم إذا لم تتوافر صلاحيته للاستعمال الحديث والتوسع إلى أقصى المدن في تطويع اللغة للاشتقاق وزيادة تطويع الاشتقاق لصوغ المصطلحات العلمية وقصر التعريب على مقتضيات الضرورة وتوخي الخفة لا الثقل فيه، وكان الفقيد يحمل المئات من الجذاذات بها نفائس كثيرة في العلوم والأدب، وكم أود لو حصل المجمع عليها ليثرى بها مكتبته.
كان الدكتور عمار معجمًا متحركًا للعربية، ولكنه كان شديد التواضع، عرف بالذكاء الخارق ودماثة الخلق فما أغضب إنسانًا من إنسان، وكان وفيًّا لأصدقائه خالص الوفاء، وقد قال الشاعر:
والموت نقاد على كفه
جواهر يختار منها الجيادا
وقد اختار الموت الجيد كعادته وهذه حكمة الله سبحانه وتعالى أسكنه الله فسيح جناته بما قدمت يداه.
من الناس من يمرون بالحياة مرًّا دون أن يتركوا أثرًا، وهناك من يتركون بصماتهم ثابتة بعد رحيلهم، ولقد ترك الدكتور عمار بصمات لا تنسى في هذا المجمع وغيره، وستظل ذكراه خالدة بيننا تمامًا، كما قال شوقي :
والناس صنفان موتى في حياتهم
وآخرون ببطن الأرض أحياء
تأبى المواهب فالأحياء بينهم
لا يستوون ولا الأموات أكفاء(248/7)
وبعد فإن كل ناع سينعى وكل مُؤبن سيؤبن، ليت شعري من سيقف
على هذا المنبر بعد وقت طال أو قصر ليؤبنني ؟
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حسن علي إبراهيم
عضو المجمع(248/8)
ثالثًا- "دمعة على الدكتور أحمد عمار"
قصيدة في رثاء الفقيد
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
إنَّ مَنْعَاكَ قَدّ بَرَى أَضْلاعي ... وَأَثَارَ الدَّفينَ مِنْ أَوجَاعِي
لَمْ أَكُنْ دَاريًا غَدَاةَ التقينا ... أنَّهُ ملتقًى لغيرِ اجتماعِ
كيف غادَرْتَنا بِغَيْرِ نذيرٍ؟ ... كَيْفَ فارَقْتنا بِدُونِ وِدَاعِ؟
صُحْبةٌ لم تَطُلْ وعهدٌ تولَّى ... مثل رجعِ الأصداءِ في الأسماعِ
أيها المرسِلُ الطرائفَ غرًّا ... في نُهَى حافِظٍ وإلقاءِ واعي
لم تَفُتْكَ الروائعُ الكُثْرُ مما ... قد حواه التُّرَاثُ مِنْ إِبدَاعِ
تُرسِلُ النكْتَةَ اللطيفةَ همسًا ... في حياءٍ يبدو وَبِغَيْرِ اصطناعِ
وتسوقُ النوادرَ الزهرَ سَيْلاً ... يتأتى في وفرةٍ واندفاعِ
وتُذيعُ الذي يُذاعُ من الشِّعْـ ... ـرِّ عفيفَ الجَنَى وغَيْرَ المُذَاعِ
وتردُّ الألفاظَ ردَّ عَلِيمٍ ... للقياسِيِّ تارةً والمساعي
وتكاد الأفعال تأتيك طوعًا ... بالثلاثيِّ أصلُهُ والرباعي
عجبًا لم يفتك حفظ السيوطي ... في الحواشي ولامتون "الشجاعي"
وقديمًا كان الأطباءُ فينا ... مَرْبعًا مُخْصِبًا ، كثير المراعي
(فابنُ سينا) لم يخصص بمجالٍ ... فلسفي، أو ينفردْ بِقِطَاع
لستُ أنساك آخذًا بيميني ... في حوارٍ، أو مُمْسكًا بذراعي
أنت تروي.. فلا أَمَلُّ استماعًا ... وكذا أنت لا تَمَلُّ استماعي
طُرْفَةٌ إِثْرَ طُرْفَةٍ … وَحَدِيثٌ ... بِحَدِيثٍ، وقطرةٌ مِنْ يراعِ
يا كبيرًا أبدى براءة طفلٍ ... منذ بادأتني بأحلى انطباعِ
مَا عَهِدْنَا عليكَ كِبْرًا ولكنْ ... قَدْ تدانيتَ عاليًا فى اتِّضَاعِ
هادئ الطبع في لسانٍ عفيفٍ ... لم يَمِل مرة إلى الإِقْذَاعِ
يَتَنزَّى الصِّراعُ فينا … وَلَكِنْ ... كنت عنَه بِمَعْزلٍ وامتناعِ
ويَشِبُّ الِّنزاعُ في الرأي لكن ... كنْتَ تنأى عن موجباتِ النِّزاعِ
مُؤثِرًا جَانِب السلامةِ بالنفسِ ... على الغَوْصِ في مجال الصِّراعِ(249/1)
وتجِيشُ الأطماعُ فينا ولكن ... كنت فوق الأهواءِ والأطماعِ
لم تجازِ المُسِىءَ كَيْلاً بِكَيْلٍ ... أو تُوَفِّ الجرىءَ صَاعًا بصاعِ
ثقة منك أننا نتسامى ... فوق عد التفريقِ والإيقاعِ
لو أضعنا حياءنا لأضَعْنا ... كلَّ ما في الوجودِ من إبداعِ
شَهِدَ اللهُ ما عَرَفتُك إلا ... منبعًا صافيًا سليم الدواعي
يَأْنَسُ الصَّحْبُ في ذُراك بِظِلٍّ ... ذي امتدادٍ وروضة لِيراع
خانني الظَّنُّ في المقاديرِ لَمَّا ... خِلْتُها صُحْبَةً لغيرِ انصداعِ
يا مُعِيدًا عهدَ الرواةِ إلينا ... في حديثٍ يَفيضُ بالإمتَاعِ
ساءنا الموتُ فيك حين فقدنا ... مُذْ فَقَدْنَاك رقَّةً في الطِّباعِ
نحنُ أهلُ الوفاءِ حينَ يُضِيعُ النا ... سُ ما للوفاءِ منْ أوضاعِ
لم تَزِدْنا علمًا غداَة تولَّيْـ ... تَ بأنَّا هُنَا بِدَارِ خِدَاعِ
لاولا الطِّبُّ قد وَقَاكَ مِنَ المو ... تِ ولا أثْمَرتْ لديهِ المساعِي
عشتُ سبعين مِنَ سنيَّ وخَمسًا ... لم أَفُزْ مِنْ مَأْرَبِي بكُراعِ
آَهِ مَاذا أفادني في حَيَاتي ... خَيْبَتي في الأُمُورِ أو إيضَاعِي
عَلَّمتْنِي تَجَارِبُ العُمِرأَني ... مِنْ زَمَاني فِي صَاحبٍ خَدَّاعِ
طَالَ عُتْبِي على الليالي، ولكن ... لم يُهِّيئَنَّ فَرْصَةً لسماعِي
كان صوتي – على جهارة صوتي ... مُوغِلاً مِنْ ضَيَاعةٍ في الضَّيَاعِ ..
يا وئيدَ الخُطى على غيرِ ضَعْفٍ ... آمِنًا شُرْبَهُ بغير ارتياعِ
كم تأنَّيْتَ في حياتِكَ والمو ... تُ حَثِيثٌ يَجِدُّ في الإسراعِ
مَا سئمت الحياةَ بعد الثمانيـ ... نَ على ما بِها مِنَ الإِيجَاعِ
وتَخَطَّيْتُها بوجهٍ مُضِىءٍ ... كَعَمُودِ الضُّحَى، وَقَلْبٍ شُجَاعِ
ليتَ مَنْ زَانَ باليقينِ محيَّا ... كَ حَبَاني منهُ بِبَعْضِ الشُّعَاعِ
آهِ من ذكرياتِ أمسِ وما في ... الأمسِ إلا مَرارةُ المُلْتاعِ
قَدْ مَنَحْنَاكَ حُبَّنَا باتفاقٍ ... ورضِينا هَوَاك بالإجماعِ(249/2)
وائتَمرنا كعهدنِا كُلَّ عَامٍ ... وانفضَضْنَا وقد نَعَاكَ النَّاعِي
والذي حَزَّ في النفوسِ جميعًا ... أننا لم نَقُمْ بحقِّ الوداعِ
فحزِنَّا عليك حُزْنَ ثَكُولٍ ... فَقَدَتْ رَكْنَ بيتِها المُتداعِي
آه لو أنني تَحَقَّقْتُ حَيْني ... حِينَما تُحطمُ الرِّياحُ شِرَاعِي
لتزودتُ مِنْ حَيَاتي بِزَادٍ ... ثُمَّ هَيَّأْتُ للرَّحِيلِ مَتَاعي
أيُّهَا الرَّاحِلُ العزِيزُ علينا ... إنَّ مَنْعاك فَوقَ طَوْقي وَبَاعِي
أَلْجَمَتْنِي فيك الفجيعةُ حتَّى ... لم أعد قادرًا على الإبداعِ
محمد عبد الغني حسن
عضو المجمع(249/3)
الدور اللغوي للمجمع في إيضاح ما اشتبه من القرآن
للأستاذ على رجب المدني
بسم الله الرحمن الرحيم
علل
لعل الأوان قد آن لأن يضطلع مجمعنا بمسؤوليته ودوره المجيد في تدارك ما بدأ يظهر من أخطاء وقعت فيها بعض التفاسير القرآنية قديمها وجديدها عندما تناولت بعض المشتبه من الآيات القرآنية، وخرجت مقاصدها تخريجًا واضح التجافي مع حقيقة ما ترمي إليه تلك الآيات من مقاصد.
ولقد بدأ ذلك واضحًا في العديد من السور والآيات التي توقفت عندها وحرصت على أن أرفع ما ارتأيت بشأنها إلى مجمعنا. اعتقادًا منى أن للتخريج اللغوي أثره البالغ في العدول عن تأويلها على النحو الذي أولها به المفسرون، لما يكمن وراء ذلك من قصور عن الإدراك لعمق الأغراض الموضوعية من جهة، ومن تخلٍّ عما تسمح به أساليب التعبير اللغوي من
استنباط لمضامين تتفق مع الحقائق التاريخية من جهة أخرى.
ولئن لم يكن من الميسور أن أعرض كل تلك المشتبهات في بحث واحد فلا أقل من أن أعرض أهمها على نحو متقطع في سلسلة من الأبحاث آمل أن أجمعها في كتاب فور الحصول على مباركة المجمع لهذا العمل.(250/1)
وأبدأ الآن من الآية الرابعة فما بعدها من سورة الإسراء انطلاقًا من قوله تعالى: { - - - - جل جلاله -? - - ? - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ? { ??? - - رضي الله عنه - - - - - ???- عليه السلام - - ? - ? { - ?? ? - ?- رضي الله عنه - - ? - ? - - - } تمت ? - ? - ??? - - - - ?? ??? - - } - - ???? - - { - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - صدق الله العظيم ? - ??- رضي الله عنه - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم ? - ?? - - - - ? تمهيد - - ??? - - - ? - - ? - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ? - ??- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ? - - - - - صلى الله عليه وسلم -? - - - - جل جلاله -? الله - رضي الله عنهم -?- رضي الله عنه - - ? المحتويات ? تمهيد ? - فهرس - - رضي الله عنه -? - - جل جلاله - - - - رضي الله عنه - تمهيد ?? - - - عليه السلام - - { - - ? - - - صلى الله عليه وسلم -? - - } ? - - رضي الله عنه - - - - - ? - - { } - قرآن كريم ? - - - رضي الله عنهم -? - ? - - ? فهرس - ? - - - - رضي الله عنه - - ?- صلى الله عليه وسلم - - - - - - - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - جل جلاله - - ??- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم قرآن كريم ???? } تم بحمد الله ??? - بسم الله الرحمن الرحيم ? بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنه - الله أكبر ? - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام - - ? المحتويات ? - - - فهرس - { - - تمهيد ? - - - ? المحتويات ? - ? - فهرس - - رضي الله عنه -? المحتويات ? - ?- رضي الله عنه - الله أكبر ? - - رضي الله عنهم - - ? تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - ?- عليه السلام - قرآن كريم ? تم بحمد الله - صلى الله عليه(250/2)
وسلم - - ? - - ??? - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ? - ? - - جل جلاله -? - - رضي الله عنهم -?- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - عليه السلام - - - - جل جلاله -? - - صلى الله عليه وسلم - - - ? - - ??- رضي الله عنه - الله أكبر ??? ? تمت ? {
? بسم الله الرحمن الرحيم ? - - جل جلاله - - - ? مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - - جل جلاله - - - ? مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - ? - ?? الله أكبر - } } ? تمت ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ? - ? - - رضي الله عنهم - - - صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم - - فهرس - - ? - - - - ? - - ? - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ? - ??- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - - رضي الله عنه - - ? - - - رضي الله عنهم - - - } - قرآن كريم ????? - - عليه السلام - - ? - ? المحتويات ? تمهيد - رضي الله عنهم - - قرآن كريم ? - ?- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ? - ? - ? - - عليه السلام - - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - ? - ? - - رضي الله عنهم - - ? - - - - - رضي الله عنهم - - - - ? فهرس قرآن كريم ? - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - } - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - - { - - رضي الله عنه - تم بحمد الله } - - صلى الله عليه وسلم -? - ? } - - رضي الله عنه - - ? - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله } - ? قرآن كريم فهرس - - رضي الله عنه -? - ? - - ? تمهيد ? - - - ??? - ? - } - رضي الله عنه -? ? - ? - - - - عليه السلام - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - - عليه السلام - - - قرآن كريم ? - - رضي الله(250/3)
عنه - - - ? تمت ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات - - - ?? - - رضي الله عنه - الله أكبر ? - ?? - - - عليه السلام - - ? - - رضي الله عنهم -?- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - { ?- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه -??? - ??? - - ? - ? - - ? - - ??- رضي الله عنهم - مقدمة ??? } صدق الله العظيم (الإسراء:4-8)
هذه الآيات تضمنت حصرًا لكبرى مفاسد بنى إسرائيل في إفسادتين: أولى و آخرة، أما الأولى فلا أرى موجبًا للخوض فيما قيل بشأنها من قبل المفسرين؛ لأنها لا تؤثر على المسار الذي نتوخاه في الحديث عن الإفسادة الثانية التي عبر الله عنها (بالآخرة) إشعارًا بأنها كبرى وآخر ما سيتاح لهم من قوة على ارتكابه من مفاسد ذات أثر بالغ العنف والطغيان والتتبير الشرس، فلو أخذنا بما ذهب إليه المفسرون قديمًا وحديثًا من تحليل لحقيقة هذه (الإفسادة الآخرة…!) لوجدنا أنفسنا فى حيرة من تعريف إفسادتهم المعاصرة التي فاقت كل ما سبقها عبر تاريخهم، والتي استمرت طوال القرن المنصرم ولا تزال في أشد عنفوانها حتى يومنا هذا بفلسطين.
وهى الإفسادة التي تجلى فيها بوضوح مقدار ما ساء وجوهنا معشر المسلمين منها بعدوانهم على المسجد الأقصى ومحاولة تخريبه وحرقه ومدى تتبيرهم علوًّا وبغيًا وعدوانهم على أهل فلسطين.(250/4)
وهنا ينبغى أن نلفت الانتباه إلى عبارات النص القرآني فيما استهل به الحديث عن الإفسادة الآخرة، فهي تبدأ بقول الله: { - - - ? - - ? - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ? - ??- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - - رضي الله عنه - - ? - - - رضي الله عنهم - - - } - قرآن كريم ????? - - عليه السلام - - ? - ? المحتويات ? تمهيد - رضي الله عنهم - - قرآن كريم ? - ?- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ? - ? - ? - - عليه السلام - - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - ? - ? - - رضي الله عنهم - - ? - - - - - رضي الله عنهم - - - - ? فهرس قرآن كريم ? - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - } - صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - - { - - رضي الله عنه - تم بحمد الله } - - صلى الله عليه وسلم -? - ? } - - رضي الله عنه - - ? - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله } - ? قرآن كريم فهرس - - رضي الله عنه -? - ? - - ? تمهيد ? - - - ??? - ? - } - رضي الله عنه -? ? - ? - - - - عليه السلام - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - - عليه السلام - - - قرآن كريم ? - - رضي الله عنه - - - } (الإسراء:7)
ويجدر القول إن تسلسل الخطاب لا يسمح بتصور أنه في هذا الشق الأخير موجه لليهود، ولكنه موجه إلينا نحن المسلمين (على سبيل الالتفات الذي درج عليه القرآن في العديد من الآيات).(250/5)
وهذا التخريج يكون أكثر استقامة ونأيًا بالقرآن عن أن يكون قد أغفل أسوأ وأبشع ما صدر عن بنى إسرائيل من ألوان العدوان والطغيان والقتل الذريع، ومعنى أن تقول الآية : { - - - ? - - ? - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ? - ??- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - - رضي الله عنه - - ? - - - رضي الله عنهم - - - } - قرآن كريم ????? - - عليه السلام - - ? - ? المحتويات ? تمهيد - رضي الله عنهم - - قرآن كريم ? - ?- صلى الله عليه وسلم - } -إلى آخر ما ورد فيها (الإسراء:7) أنها تفترض أن هذا السوء إنما هو صادر عنهم باعتبارهم موصومين بالإفسادة الأولى وواقع علينا كضحايا لعدوانهم، ويؤكد هذا التخريج توقف النص عند حد الحديث عن إفسادتهم تاركًا نوع الجزاء معلقًا بما التزم به لنا بقوله تعالى: { - ? - } - رضي الله عنه -? ? - ? - - - - عليه السلام - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - - عليه السلام - - - قرآن كريم ? - - رضي الله عنه - - - ? تمت ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات - - - ?? - - رضي الله عنه - الله أكبر ? - ?? - - عليه السلام - - ? - - رضي الله عنهم -?- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - { ?- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه -??? - ??? - - ? - ? - - ? - - ??- رضي الله عنهم - مقدمة ??? } (الإسراء:8) وفي هذه (العسى) التي تتضمن تعليق المشيئة فيما يأتي على ما سنستقبل به هذا العدوان من رجوع إلى الله وعدول عن مسلك العصيان الذي أهلنا لأن نتلقى هذا العقاب منه عن طريق هذا الظالم .. (والظالم كما يقال سيف من سيوف الله يجرده على من يرى عقابه).(250/6)
أما إن عدنا إلى ما أغضبه من سلوكنا فإنه يعود إلى المزيد من إذلالنا وتسليط أحقر قوى الشر والعدوان علينا { - - عليه السلام - - ? - - رضي الله عنهم -?- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - { ?- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه -??? - ??? - - ? - ? - - ? - - ??- رضي الله عنهم - مقدمة ??? }
(الإسراء :8)
هذه خلاصة ما ينبغي قوله في شأن هذه الآية التي درج المفسرون على تفسيرها ذلك التفسير الذي لا يسمح بقبوله اتجاه الآية ونسق الخطاب فيها ولا ما بدر من تفوق اليهود في عدوانهم هذا على المسجد الأقصى ومن يلوذون به على سائر ما سبق أن بدر منهم من عدوان منذ أقدم عصور التاريخ.(250/7)
ويجدر أن أسوق ولو مثالاً واحدًا مما درج عليه القرآن الكريم من استعمال الالتفات متمثلاً بقول الله تعالى في سورة يونس الآية22: { - عليه السلام - قرآن كريم ? - - ? - { - - - ? - ? - ? - ? } - - - ? - - ?? ? - - - رضي الله عنهم - - ? - - - ? - ? - - رضي الله عنه - - ? - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ? } - - رضي الله عنهم - مقدمة - - - ? { ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - - ? - - ?? ? - ? - ??? - - - - رضي الله عنه -???- رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ? - ? - - - - ? - ? - - { - رضي الله عنه - تمهيد ? - - - ? } - قرآن كريم ? مقدمة ? - - ?- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - { - ? - - { - ? الله - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ? - - ? - ? - ?? - - رضي الله عنه -? ? المحتويات ? - - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - ? قرآن كريم - رضي الله عنهم - - ? - - - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ?- صلى الله عليه وسلم - - ? - - تمت - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله } صدق الله العظيم.(250/8)
كما يجدر أن أشير إلى أن قوله تعالى: { - - - ? - - ? - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ? - ??- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - - رضي الله عنه - - ? - - - رضي الله عنهم - - - } - قرآن كريم ????? - - عليه السلام - - ? - ? المحتويات ? تمهيد - رضي الله عنهم - - قرآن كريم ? - ?- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ? - ? - ? - - عليه السلام - - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - ? - ? - - رضي الله عنهم - - ? - - - - - رضي الله عنهم - - - - ? فهرس قرآن كريم ? - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - أول مرة/ حتى آخر الآية } (الأسراء:7) إنما يجعل اليهود فى مركز المعتدي لا المعتدى عليه، إذ إن المسجد إنما هو بيت عبادة المسلمين، ولم يحدث أن أطلقت هذه التسمية على بيوت العبادة عند اليهود، لا من قبلهم ولا من قبل غيرهم بعد أن تخلوا عن دين إسرائيل عليه السلام وأنبيائهم الآخرين وهو الإسلام.
وقد تأكد هذا مما ورد بالقرآن الكريم في أكثر من آية فكيف يستقيم أن يقال إن الخطاب في الإفسادة الثانية عند قوله تعالى: { - - - ? - - ? - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ? - ??- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - - رضي الله عنه - - ? - - - رضي الله عنهم - - - } - قرآن كريم ????? - - عليه السلام - - ? - ? المحتويات ? تمهيد - رضي الله عنهم - - قرآن كريم ? - ?- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ? - ? - ? - - عليه السلام - - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - ? - ? - - رضي الله عنهم - - ? - - - } (الأسراء:7) (إلى آخر الآية) كان موجهًا إلى اليهود، وإنما يستقيم القول بأنه في هذا الشق موجه إلى أولياء المسجد وهم المسلمون كما سبق أن أوردنا (عربًا كانوا أو يهودًا).
الملحوظة الثانية:(250/9)
... تدور حول الآية الأولى وما يليها من سورة الإنسان التي بدأت بأداة الأستفهام (هل) { ? - - رضي الله عنهم - - - - - رضي الله عنه - - - صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنه -? ? صدق الله العظيم ? - - - تمهيد { - - ???? مقدمة - صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله ? - ? - } - - - - ? المحتويات - - صدق الله العظيم ? - - رضي الله عنه - - - - ?? - - { - ? - قرآن كريم ? - ? - } تم بحمد الله ??? } .
فالذي درج عليه السادة المفسرون أنها ليست هنا للاستفهام، وإنما هي للتحقيق بمعنى (قد)!؟..
... وهذا يعني التسليم بأنه قد أتي على الإنسان (معجزة الخلق الإلهي الكبرى … ) حين من الدهر لم يكن خلاله شيئًا مذكورًا .
... وهو تفسير لا يعدو أن يكون تحجمًا لعظمة المعجزة المتمثلة في خلقه وخلق الأب الأول من طين وخلق زوجه منه، كما يعد استعمالاً لمفردة لغوية في عكس ما درج استعمالها في الدلالة عليه، ومعلوم أن بين الاستفهام والتحقيق التباين المطلق.(250/10)
... وإذا رجعنا إلى ما قننته اللغة بشأن أداة الاستفهام فإننا سنجد أنها لا تستعمل في معرض الاستيضاح والاستعلام فقط، (وهو الفهم الذي دفع المفسرين إلى تلمس دلالة بديلة لها) وإنما تستعمل في معرض الاستنكار والتنديد والتوبيخ أيضًا وهو ما تعنيه في هذا المقام وما يؤكده مضمون الآية الثانية التي أوردت في إيجاز معجز كيفية خلق الإنسان والغاية من خلقه وهي ابتلاؤه { - ? الله أكبر ? { - - - جل جلاله -? { فهرس - - رضي الله عنهم - - - صدق الله العظيم ? - - - تمهيد { - - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله - { - ??? - الله أكبر - - - - رضي الله عنه -?? تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - ? مقدمة - ? - - رضي الله عنه - - ? تمهيد ? الله أكبر ? مقدمة ? - - جل جلاله -? - - رضي الله عنهم -?- رضي الله عنهم - - - ? - - ? - ? - - رضي الله عنهم - - - ? - - ??- رضي الله عنه - - ??? - ? الله أكبر ? { ? مقدمة ?- عليه السلام - - ? - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - - - - ? تمهيد - - - - - - } تم بحمد الله ? { - } - ? - - - { - } تم بحمد الله ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ? - قرآن كريم ?? - - ??? } .
(الإنسان:3،2)
... فكأن الله يندد بهذا الاستفهام التوبيخي بمن يعتقدون أن الإنسان قد أتى عليه حين من الدهر لم يكن فيه شيئًا مذكورًا، وكيف يستقيم القول بأنه لم يكن شيئًا مذكورًا مع ما يتجلى من عظمة خلقه ومن تسلسل الأحداث التي لازمت تحركاته منذ خلق الأب الأول وزوجه وما تلا ذلك مما تضمنته قصة خلقهما وإيوائهما الجنة ثم إخراجهما منها وهبوطهما الأرض وما تسارع من انتشار ذريتهما وما تلاحق من الرسالات لهما ولهذه الذرية، وما لحق الضالين منها من غارات العقاب الإلهي… .
... فهل يصح عقلاً وذوقًا أن يقال إن ذلك كله لم يكن شيئًا مذكورًا، وهذا هو الذي ذكرت في حقيقة مضمون (هل)التي قصد بها التوبيخ لا التحقيق..(250/11)
فكان الله يقول: إنه بعد خلق الإنسان على النحو المعجز الذي أوردته الآية الثانية وللغاية الجليلة التي خلق من أجلها وهي ابتلاؤه بعد تزويده بآلة السمع والبصر والقدرة على التمييز بين الخير والشر والحق والباطل وبعد إرشاده للسبيل الذي يهدي للشكر والسبيل الذي يهدي للكفر وترك الاختيار له في ظل مسؤولية التكليف وقدرة الانحياز إلى ما يهديه إليه عقله، أو السقوط في حمأة شهواته تهيئة لمرحلة الجزاء ثوابًا أو عقابًا .
بعد كل هذا الاهتمام من لدن الخالق بخلقه الإنسان على هذا النحو ولكل هذه الغايات (هل يحق لقائل أن يقول إنه أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا؟…) وكفى بهذا تنديدًا وتوبيخًا…
أيها السادة الزملاء :
... إنكم الأمناء المستخلفون على تراث هذه اللغة والمنوط بكم أمر رعايتها وتتبع ما قد يحدث من إساءة لاستعمال بعض مفرداتها أو تجاهل للمضامين التي يقتضي المقام الأخذ بها.
... وإن الرجاء كل الرجاء أن يتفضل مؤتمركم السابع والستون
بالمبادرة إلى استحداث لجنة دائمة تضم في عضويتها نخبة من علماء اللغة وتفسير القرآن تختص بتتبع هذه التجاوزات وتصحيحها على النحو الذي يحفظ على تعاليم القرآن قدسيتها وعلى العربية (لسان الله تعالى) كرامتها وكبرياءها.
... مع احتفاظي بالتقدم لهذه اللجنة المأمولة بما لدي من عديد الملاحظات المماثلة ومع رجائي أن يكون لي شرف عضويتها.
... ... علي رجب المدني
عضو المجمع(250/12)
أثر الإعلام الفلسطيني في التنمية اللغوية في فلسطين
للأستاذ الدكتور أحمد حسن حامد
مقدمة:
تقتضي العربية في فلسطين اهتمامًا خاصًّا، وذلك للظروف الصعبة التي يمر بها هذا القطر من أقطار العربية. وإذا كانت إسرائيل لا تألو جهدًا لسلب أرضه، وبناء المستوطنات على ترابه، فإن أكثر ما يخشى على العربية أن تداهمها لغة العدو وتقوى بحيث تزرع استيطانًا لغويًّا لا يقل خطره عن الاستبطان الأرضي .
ومن ثم كان لا بد من مراقبة واعية وحرص جاد لعملية الاحتكاك بين الشعبين العربي الفلسطيني والعبراني الإسرائيلي. وما يمكن أن ينتج عن هذا الاحتكاك من احتكاك لغوي صارخ قد يؤدي إلى طغيان العبرية، وطمس عربية السكان. وإذا كنا ندرك أن العبرية ليست لغة عالمية فإن إسرائيل تسعى ليل نهار إلى إحيائها، لتكون مستوطنة لغوية، ربما تعمل على التفاوض عليها كما تتفاوض الآن على الأرض والموقع، وعليه فإن المثفقين من أبناء هذا البلد يدركون أكثر من غيرهم ضرورة المحافظة على العربية، وتحصينها، ومحاصرة كل دخيل يمكن أن يتسرب إليها من ذلك الاحتكاك المشار إليه. وربما لا نخاف على مثقفينا أن يتعلموا العبرية كأي لغة أخرى أجنبية، ولكن الخوف يكمن في تسرب مصطلحات العبرية إلى الشارع الفلسطيني لتسمى بها الشوارع، والحوانيت، والأدوات المنزلية وغيرها، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال الهيمنة السياسية والثقافية والعلمية للطرف الآخر. وعلى الرغم من ذلك كله فإننا نستطيع القول: إن الشعب الفلسطيني بكل فئاته يدركون جيدًا خطر العبرية وسياستها الاستيطانية، ويسخرون إمكاناتهم العلمية لنصرة العربية، وحفظها من كل ما يلوث أصالتها ومناحي القول فيها.(251/1)
ومما يحمد لهذا الشعب أن يجد سلطته الوطنية تشجع عن دراية ووعي إنشاء دور تحفيظ القرآن الكريم بوصفه الكتاب الذي يحفظ العربية من كل سوء. ومن ثم نلاحظ زيادة كبيرة من هذه الدور بحيث لا نكاد نجد مسجدًا يخلو من دار لتحفيظ القرآن وترتيله وبخاصة للصغار لكي ينشؤوا نشأة عربية إسلامية أصيلة، فيتعرفون إلى لغتهم ويحفظون ألفاظها وأساليب استعمالها.
إن وعي الشعب الفلسطيني للغته بوصفها شخصيتَه، وإدراكه أنّ أيّ خدش يصيبها إنما هو خدش لهذه الشخصية - أقول: إنّ هذا الوعي لا يقل عن وعيه لعدوّه المتربص به الدوائر من أجل اقتلاعه من وطنه، وإذا كان هذا الشعب يتعرض كل يوم للقصف من أجل سلب أرضه وهويته، فإن تشبثه بهذه الأرض وبمقوِّماتها، وبعروبته ومقوّماتها تجعله أكثر إصرارًا على الحفاظ على لغته، وإذا استطاع العدو بفعل قوته العسكرية أن يسلب أرض هذا الشعب فما أظنه قادرًا على سلب لغته وهويته، فإذا ما تحوّلت في أي مخيّم من المخيمات الفلسطينية فإنّك ستجد كل بيت فيها يحتفظ بمفتاح بيته الأصلي في يافا أو حيفا، أو اللد، أو الرملة أو غيرها، ويحتفظ إلى جانب ذلك بلغته مؤذنًا بأن هويته العربية الفلسطينية باقية أبدية.
ولن تستقيم هذه الهوية إلا إذا استمررنا في الحفاظ عليها بوسائل إعلامية متميزة وفعالة، ومن ثم فإن الإعلام الفلسطيني وإن كان ينشغل بالحدث السياسي المتجدد بتجدد القصة الفلسطينية وتفاعله مع أحداثها، إلاّ أنه لم يغفل الجانب اللغوي وتنميته وتطويره، ولتوضيح هذا الدور نجزّئ الإعلام حسب دوره لما يلي:
أولاً: المجلة الفلسطينية:-(251/2)
... حفلت فلسطين منذ مطلع القرن الماضي إلى الآن بجملة من المجلات الثقافية والعلمية تراوحت فترات إصدارها ما بين سنة إلى عشر سنوات، ثم توقف بعضها لأسباب خارجةِ عن إرادتها، وكانت في كل فترة تواكب مسيرة القضية الفلسطينية بأبعادها السياسية والثقافية والاقتصادية وغيرها، وكان لها دور مباشر أو غير مباشر في تنمية اللغة العربية وتطويرها؛ لأنها كانت تصدر باللغة العربية ولا تسمح للغة العامية بالولوج إليها. وقد نشطت المجلة في فلسطين بصورة ملحوظة بعد عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين، ورأت أن عليها واجبًا لا بدَّ من أن تؤديه، وبخاصة بعد أن احتلت إسرائيل أراضي فلسطين جميعها، فكان لا بد أن تقوم بدور نضالي يحافظ على عروبة هذا البلد إلى جانب النضال السياسي، فانتفضت كما انتفض الشعب كلُّه من أجل الحصول على الاستقلال السياسي والثقافي وعودة الحقوق جميعها إلى أهلها. فسلكت فيما تنشر مسلكين:
... مسلكًا محكمًا بمعنى أنها لا تنشر أي بحث إلاّ إذا خضع لشروط التحكيم العلمية، إذ يعرض البحث المراد نشره على ثلاثة محكمين ولا ينشر البحث إلا إذا جاء تحكيمه إيجابيًّا. وأغلب هذه المجلات يصدر عن الجامعات المحلية.
... ومسلكًا غير محكَّم، غير أن ما ينشر فيها يعرض على هيئاتها التحريرية. وبحوث هذه المجلات ألصق بالجمهور وقضاياه من المجلات المتخصصة ذات المسلك الأول . ولكي تتضح الصورة نعرض لكل واحدة من مجلات المسلكين السابقين لنتبيّن دورها في تنمية اللغة العربية:
أ- مجلات المسلك الأول المحكَّم:
1- مجلة النجاح للأبحاث:(251/3)
صدر العدد الأول من هذه المجلة سنة ألف وتسعمائة وثلاث وثمانين، أي بعد نشأة الجامعة بست سنوات، وذلك بعد صراع عنيف مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وكان الدافع الأول لإصدار هذه المجلة: "تنشيط عملية التجديد العلمي لدى أساتذة الجامعة وطلابها، فنشر الإنتاج العلمي في هذه الديار المقدسة يلعب دورًا مهمًّا في تثفيف الكتاب وإغناء معلوماتهم، ويشكل سياجًا منيعًا للعربية لا يسمح بموجبه للغث أن يلوث عناصرها، كما أن نشر الإنتاج العلمي على صفحات هذه المجلة يسدّ فراغًا معيّنًا حتى في الأجواء الثقافية والفكرية عند القارئ الفلسطيني في هذه الديار. "وتنشر المجلة أبحاثنا باللغتين العربية والإنجليزية، ويبرر ذلك رئيس هيئة تحرير المجلة آنذاك بسببين: الأول- إفساح المجال أمام الراغبين في كتابة أبحاثهم باللغة الإنجليزية كالموضوعات العلمية الدقيقة التي ما تزال الإنجليزية تعد لغتها المتداولة الرئيسة. والثاني- ضرورة دخول المجلة إلى أكبر عدد ممكن من الفهارس العلمية الموجودة في الجامعات ومراكز البحث المهمة في العالم .
ثم تطورت المجلة بعد ذلك، وأولتها الجامعة اهتمامًا خاصًّا، فأصبحت تصدر مرتين في السنة. مرة للعلوم الإنسانية كالآداب والتربية والاقتصاد والعلوم السياسية. وأخرى للعلوم التطبيقية كالفيزياء والكيمياء والطب والصيدلة. ولا يخفى أن المجلة في نشرها للعلوم الإنسانية وبلغة عربية صحيحة تسهم بشكل مباشر في الحفاظ على لغة الوطن والأمة، إذ تؤدي في نهاية المطاف إلى تقوية اللسان العربي وتنميته وإن كان متخصصًا في فرع من فروعها. وعليه فإن إغناء اللغة بالمفردات والأساليب هنا يأتي خاصًّا وليس عامًّا، لأن موضوعات هذا المسلك متخصصة وقارئيها متخصصون، والفائدة العامة تكمن في القضاء على ما يطلق عليه أمية المتعلم.(251/4)
وتولي المجلة اللغة العربية وعلومها عناية خاصة فما من عدد إلاّ ويضم في ثناياه بحثًا أو أكثر من البحوث التي تعنى بالعربية نحوًا، أو صرفًا، أو بلاغة، أو أدبًا. كما أنها نشرت بحوثًا متميزة حول قضايا اللغة نحو قضية الخفة والثقل وأثرها في بناء النحو العربي. وقضية الأصل والفرع وأثرها في وضع القواعد اللغوية، علاوة على ما نشرت من بحوث في الشخصيات الأدبية والفكرية في فلسطين ممن كان لهم باع طويل في نهضة العربية وإغنائها بالألفاظ العربية الأصيلة .
2- مجلة جامعة بيت لحم :
... صدر العدد الأول من هذه المجلة سنة ألف وتسعمائة وإحدى وثمانين، وما تزال تصدر بصورة مستمرة، ولعل الهدف الرئيس من وراء إصدارها هو تنشيط الحركة الفكرية في فلسطين عن طريق نشر بحوث العلماء والمفكرين من أبناء هذا الوطن، مؤمنة بأنّ الأمة لا تحيا إلا بإحياء فكرها وتطويره والتشبّث به، وتبدو رسالة هذه المجلة جليّة في حَضِّ الجامعات الفلسطينية على دعم البحث وتشجيعه باللغة العربية؛ لأنها لغة الوطن القومية، فالنشر بها يعني إغناءها وتقويتها في ظلّ ما تعيش فيه من ظروف قاسية، وإن نظرة في البحوث التي نشرت على صفحات هذه المجلة كافية لتبيّن دورها المميز والفاعل في تنمية اللغة العربية وضوابط نقل الألفاظ الأجنبية إليها، والحياة الصحفية في فلسطين، والتطوير والثبات في أصوات العربية الفصيحة وغيرها من البحوث التي اضطلعت بها هذه المجلة.
3- مجلة الجامعة الإسلامية في غزة:
... صدر العدد الأول من هذه المجلة سنة ألف وتسعمائة وثلاث وتسعين، هدفها تشجيع البحث العلمي فقد جاء في مقدمة هذا العدد: "وإنما واجه الأساتذة العاملون صعابًا كثيرة لنشر أبحاثهم في المجلات العلمية والدوريات في الخارج لصعوبة الاتصال، أنشأت الجامعة دائرة البحث العلمي لتشجيع الأبحاث ونشرها في مجلة علمية محكمة. وقد توالت الأعداد(251/5)
سنة بعد أخرى، وتطوّرت المجلة لتحتضن البحوث العلمية في شتى مجالات الحياة، بلغة عربية سليمة مما جعلها تسهم، إلى جانب مجلات الجامعات الأخرى، في توعية المتعلمين وتواصلهم مع لغتهم الأصلية من أجل المحافظة عليها من أي تلوّث قد يلج إلى مفرداتها.
4- مجلة جامعة الأزهر في غزة :
... صدر العدد الأول من هذه المجلة سنة ألف وتسعمائة وسبع وتسعين. وتعنى بنشر البحوث والدراسات المحكّمة التي يعدها أعضاء الهيئة التدريسية في جامعة الأزهر والجامعات الفلسطينية والعربية في مجالات العلوم الإنسانية الدينية والأدبية، واللغوية، والتربوية، والقانونية، والاجتماعية، والاقتصادية، وغيرها؛ "بغية رفد الفكر الإنساني بالدراسات العلمية المبتكرة، وتشجيع حركة البحث العلمي المتميز فيه.
5-مجلة مجمع اللغة العربية الفلسطيني:(251/6)
صدر العدد الأول سنة ألف وتسعمائة وتسع وتسعين، متضمنًا بحوثًا في العربية وعلومها، وتعنى المجلة بالتراث اللغوي والنحوي، وبالنقوش الأثرية، والشخصيات المجمعية التي كان لها دور فاعل في إحياء العربية ونهضتها في هذا الوطن، وتمحورت أبحاث العدد الثاني من هذه المجلة حول فلسطين تاريخًا، وفكرًا، وثقافة. ونبهت المجلة على الأخطاء اللغوية التي تلحن بهاء ألسنة المتكلمين والكتاب، ولا تتوانى عن نشر قرارات اتحاد المجامع اللغوية حول ما يستجد في العربية من ألفاظ فصيحة ينبغي استخدامها لإغناء اللغة في شتى الميادين السياسية، والاجتماعية، والتعليمية، والاقتصادية، وغيرها وصلاً إلى هدف نبيل هو تنمية اللغة العربية في هذا البلد المرابط. صحيح إن المجلة ما تزال في بداية نشأتها غير أن غايتها نبيلة، وعملها شاق، والمجمع مصمم على تطويرها وتقدمها لتحفظ العربية أصالتها، ولتكون الحارس الأمين لها. ونشير هنا إلى أن السلطة الوطنية تولي المجمع ومجلته عناية خاصة إيمانًا منها بأن هوية اللغة لا تقل أهمية عن هوية الأرض والمنبت. والمساس بها مساس بشخصية الأمة والوطن.
ومهما يكن فإنّ المجلاّت السابق ذكرها تقوم بدورين هما:
1-تنشيط الفكر العربي لدى
المتخصصين في الجامعات الفلسطينية، فهي الملاذ الذي يستطيع عضو هيئة التدريس أن ينشر فيه فكر عقله ونتاجه، وبالتالي تتجدد الأفكار والمعلومات التي تؤول الفائدة منها إلى الطلبة، والكتّاب بصورة عامة.
2- حفظ العربية، وتنميتها وإغناؤها بالمفردات اللغوية الأصيلة القادرة على استيعاب المستجدات الحضارية في عالم سريع التقدم والتطوّر .
ب- مجلاَّت المسلك غير المحكم:(251/7)
يمكن للمطَّلع على هذه المجلات أن يقسمها قسمين: أحدهما- ما كان ذا طابع ثقافي أدبي. والثاني- ما كان ذا طابع ثقافي دينيّ. والقاسم المشترك بينهما أنهما يصدران باللغة العربية؛ ولذا ترجع الفائدة في نهاية المطاف إلى العربية، وعالمها اللغوي الواسع. ولعلّ من الفائدة هنا أن نذكر بعضًا من مجلات هذين الطابعين لإظهار دورها في تنمية العربية وتطورها. أمّا مجلات الطابع الثقافي الأدبي فهي:
1-مجلة الكاتب: وقد صدر منها أعداد كثيرة وتنوعت مقالاتها لتشمل السياسة، والأدب، والثقافة، والفنون، والقصة، والشعر. وغايتها تحفيز الفكر والكتابة عند الكتاب والمثقفين والشعراء بلغة عربية صحيحة.
2-مجلة الفجر الأدبي: وقد صدر منها أعداد كثيرة تزيد على الثلاثين ومن أهدافها:
* بناء حركة أدبية تقدمية .
* دعم الأدب الفلسطيني ليكون قادرًا على التواصل والتلاحم مع الحركة الأدبية العربية والعالمية.
* نشر الأدب المحلي في جميع أنحاء فلسطين.
وفي ضوء هذه الأهداف تنوعت مقالات أعدادها لتشمل الحديث عن اللغة والثقافة والقصة والرواية والشعر والمسرح، علاوة على بعض لقاءات الشخصيات الفلسطينية ذات الفكر المتميز والمؤثر في فلسطين .
3-مجلة رؤية:
هذه المجلة حديثة المولد، إذ صدر
العدد الأول منها في آب (أغسطس 2000م ) ويبدو أن هدفها تعميق الفكر وتنوعه في شتى المجالات، وبخاصة تلك التي تتعلق بالقضية الفلسطينية وما تواجهه من تحديات متعددة، وإذا كان حظّ الأدب فيها قليلاً فإن حظّ العربية يجيء من أن مقالاتها تكتب بلغة عربية صحيحة غنية بالمصطلحات العربية وفق تنوع موضوعات بحوثها، فلا نكاد نجد فيها مصطلحًا نابيًا خارجًا عن المألوف العربي الأصيل، ونأمل من هذه المجلة أن تولي العربية اهتمامًا أكبر، وأن تضع تطور العربية على قائمة برنامجها النشري في المستقبل.
4. مجلة الكلمة:(251/8)
... هذه المجلة كسابقتها حديثة المولد، وهدفها يتركز حول تفعيل الحياة الفكرية في فلسطين بصورة تعايش متطلبات العصر، وتنشر أبحاثًا متقدمة في النقد والأدب والفن والمسرح والشعر مما يعود بالفائدة الكبرى على العربية وعلومها، وتحرص على الوحدة الثقافية في فلسطين، جاء في العدد السادس منها ما نصّه: "ونحن- الكتاب الفلسطينيين على أرض الوطن- شهودُ عيان على معاناة الجماهير الفلسطينية جراء ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وعربدات المستوطنين المتواصلة على مدار الساعة كل يوم .
... وإذ يحدونا التوجّه لتنمية الثقافة الوطنية الفلسطينية فإن واقع التجربة الحيّة يؤكد أن هذه المهمة الجليلة تُنجز في مجتمع معافى ومتحرر من الهيمنة الأجنبية، ومن الضغوطات المباشرة وغير المباشرة. إننا على ثقة بأن أي موقف ثقافي يغفل معاناة الجماهير الفلسطينية إنما يجرد الثقافة من مضمونها الاجتماعي التاريخي ويشكل خذلانًا صارخًا للقضية الفلسطينية. فمن هذا النداء الذي هو لسان حال مجلة الكلمة نخلص إلى أمرين، أحدهما يشير إلى خلق جيل مثقف قادر على التفاعل مع القضية الفلسطينية، وثانيهما يجنح نحو فتح المجال أمام القلم الفلسطيني ليكتب دونما هيمنة من الآخرين. ولا نشك في أن هذين الأمرين يشكلان هدفًا نبيلاً يسعى إليه الشعب الفلسطيني بكل فئاته وطوائفه وصولاً إلى وحدة ثقافته الوطنية، ومن ثم تعنى لغته القومية بالتوسع والانتشار .
... وأما مجلات الطابع الثقافي الديني فأهمها:
1- مجلة المنبر:
... وهي مجلة ثقافية شاملة تصدرها وزارة الأوقاف الفلسطينية، وأغلب موضوعات هذه المجلة يتمحور حول قضايا إسلامية، وتهدف إلى توعية الشباب دينيًّا ومن الموضوعات التي تنشرها التبرج وأضراره، ومن هدي النبوة، وكفالة اليتيم، وفتاوى دينية .
2- مجلة هدي الإسلام:(251/9)
... صدر العدد الأول من هذه المجلة في أوائل الثمانينات، وهي شهرية علمية أدبية، لعبت دورًا مميزًا في تثقيف الناشئة من أبناء هذا القطر، وأغلب الموضوعات التي نشرتها تتسم بالثقافة العامة في المجالات الدينية والأدبية، علاوة على دعواتها المستمرة للحفاظ على اللغة العربية بوصفها لغة القرآن الكريم.
3- مجلة الإسراء :
وهي مجلة إسلامية شاملة تصدر عن دار الفتوى الإسلامية في بيت المقدس، وهي كذلك مجلة ثقافية دينية متنوعة الموضوعات، والقارئ لهذه المجلة يلاحظ أن الذين يكتبون فيها متعددو المواهب والثقافات، كما يلاحظ أنها تحرص على أصالة العربية وتحصينها.
ثانيًا- الصحافة:
... تُعد الصحافة من أكثر الوسائل الإعلامية اتصالاً بالجمهور، ولعلها أخطرُها تفاعلاً مع الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، ومن المفروض أن تكون الوسيلة الناجعة لمعالجة القضايا التي تهم العربية من أجل تنمية ألفاظها ومناحي القول فيها، ومن أهم الصحف الفلسطينية الفاعلة ثلاث:
الأولى - صحيفة القدس:(251/10)
... صدرت هذه الصحيفة سنة إحدى وخمسين وتسعمائة وألف، وهي من أكثر الصحف المحلية والعربية انتشارًا وأوسعها اهتمامًا بالعربية وسلامتها، في جو موبوء بلغات عدة ومحيط إسرائيلي محتلّ يعمل على إحباط كل ما هو عربي؛ ولذلك وضعت نصب أعينها العربية الفصحى ودعت إلى انتشارها على ألسنة القراء والكتاب، وبما أن الصحافة هي ملاذ كثير من الأخطاء اللغوية إلا أن صحيفة القدس تنبهت إلى هذه الحقيقة وعينت طواقم متخصصة تعمل ليل نهار على تنقية ما يرد إليها من مقالات اجتماعية وسياسية وأدبية وتمحيصها وتخليصها من المصطلحات الأجنبية، والأخطاء اللغوية، وتحقيقًا لهذه الفكرة سعت الصحيفة إلى خدمة العربية على مختلف الأصعدة "فبادرت إلى حضور الندوات حول تعليم اللغة العربية في الجامعات الفلسطينية، تلك الندوات التي شارك فيها كثير من أساتذة الجامعات، وقد أفردت صفحات منها لاطلاع المثقفين وغيرهم على كل ما يجري من نظريات ومناقشات وإبداعات واقتراحات" .
... وقد ساهمت في التقديم لكثير من الكتب والدواوين الشعرية فعرَفت بها وبأصحابها وخصصت صفحة كاملة للثقافة لتفتح ذلك الباب أمام الإبداعات الشعرية والمقالات الأدبية للكتاب بشتى ميولهم واتجاهاتهم، وهذا لا يعني أنها تنشر القول الركيك المبتذل بل تعرض تلك الإنتاجات على الطواقم العلمية واللغوية المتخصصة فتنشر ما تجيزه هذه الطواقم شريطة أن تكون مفيدة للعربية. وبذا فإني أقول : إن إسهام صحيفة القدس في خدمة اللغة العربية وقرائها يُعدّ ميزة خاصة تمتاز بها هذه الصحيفة الوطنية. كما خصصت الصحيفة كل يوم جمعة صفحة كاملة للثقافة الدينية لتحتضن المقالات الدينية وبأقلام كبار الكتاب في الوطن تُؤدَى بلغة عربية غنية بالألفاظ الأصيلة. وإذا كان للمعاصرة نصيب في صحيفة القدس إلا أنها لم تغفل عن الثوابت اللغوية الأصيلة في اللفظ والأسلوب .
2- صحيفة الأيام:
وتأتي في المرتبة الثانية بعد صحيفة(251/11)
القدس من حيث الانتشار على الرغم من أنها حديثة النشأة، إذ لا يتجاوز عمرها بضع سنوات، وقد أفادت من أختها القدس مِنهاجهًا، وتبويبها، وطريقتها في عرض الخبر والمقال والفكرة. وتصدر ثلاثاء كل أسبوع ملحقًا ثقافيًّا شاملاً لمقالات متخصصة في اللغة العربية وعلومها وشخصياتها
مما يعود في النهاية بالفائدة للعربية وطرائقها في القول .
3- صحيفة الحياة :
... تأسست هذه الصحيفة سنة ألف وتسعمائة وخمس وتسعين، وتصدر بصورة يومية، وهي وإن كانت تعنى أول ما تعنى بالحدث السياسي كشأن أي صحيفة أخرى إلا أنها لا تغفل عن نشر مقالات للكتاب والقراء في الثقافة والأدب وغيرها مما يغني العربية ويساعد على تنميتها وتطورها.
أحمد حسن حامد
رئيس مجمع فلسطين(251/12)
القدس الشريف مدينة
الله لا مدينة داود *
للأستاذ الدكتور يوسف عز الدين
... للقدس الشريف مكانة كبيرة لا تدانيها أية مكانة غير المدن المقدسة. إنها القلب الإسلامي والعربي منذ أن عرف العالم الدين الإسلامي، ولن يغير مكانتها في القلوب كرُّ الأيام وتقادم الأزمان والعصور، مهما حاولت الصهيونية بأساليبها الملتوية وطرقها المختلفة السيطرة عليها. فهي منذ ألف وخمسمائة سنة مكان أهلها وموطن سكانها العرب. ولما جاء عمر بن الخطاب كانت في حوزة الرومان، وأخذها منهم القادة العرب وعقد الخليفة عمر بن الخطاب مع مكانها المعاهدة المعروفة. ولم يكن فيها يهودي واحد، ولم تستطع الفتوحات المتوالية وغزوات الصليبيين أن تغير هويتها بالرغم من سيل الدماء التي سالت من
المسلمين على أرضها. وباءت محاولات الصليبيين للبقاء فيها بالخيبة برغم إنشاء دول لهم وحكومات مختلفة على أرضها إنها ستبقى جزءًا مقدسًا في الفكر الإسلامي والعقل المسيحي، ولن تستطيع الصهيونية تغيير طابعها المقدس عند المسلمين والنصارى .
القدس محط أفئدة العالمين الإسلامي والمسيحي، وإن استولى عليها الصهاينة اليوم بسبب تمزق الأمة وتفرق الحكومات العربية. بيد أن الأمة العربية تحس بمرارة وجود الغرباء في الأرض فكانت المظاهرات والقتال بالحجارة والانتحار في سبيلها، وإن المواجهات المستمرة دليل حبها. وإن مكانها عند المسلمين والعرب مازال في القلوب راسخًا ، فرخصت دماء
الشهداء على أرضها وواصل الغياري حملات الجهاد في سبيلها والتضحية من أجلها.(252/1)
تُردد الصهيونية أن القدس (مدينة داود) عليه السلام، مع أنهم يقولون إن الرب منعه من بنائها وأوكل البناء لولده سليمان (قال داود لسليمان: يا بُني في خاطري أن أبني بيتًا لاسم الرب إلهي، فكان إليَّ كلام الرب قائلاً: قد سفكت دمًا كثيرًا، وقمت بحروب كبيرة، فلن تبني لاسمي؛ لأنك سفكت دماء كثيرة على الأرض، وها هو ذا ابن يولد لك يكون رجل سلم أسلمه من جميع أعدائه الذين من حوله اسمه سليمان وسأعطي سلامًا وهدوءًا لبني إسرائيل وهو يبني لاسمي بيتًا) (أخبار الأيام الأول 22 ظاظا 39) وقد ثبت من الحفريات والوثائق التي وجدت في تل العمارنة أن القدس مدينة المسلمين والنصاري، وأن الادعاء أن الهيكل كان مكان قبة الصخرة والمسجد الأقصى لا يؤيده واقع التاريخ؛ لأن حكومة سليمان كانت في مكانٍ آخر. وما كان الهيكل في مكان كنيسة القيامة والمسجد الأقصى، وباءت كل محاولاتهم بالخيبة في إيجاد أثر يؤيد مزاعمهم في الحفريات المتوالية. وما ورد في التوراة والتلمود من أن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - كان ضيفًا على ملكها كاهن الله العلي، ففي التوراة سفر التكوين (14-18) خير دليل على أنها مدينة الله .
فقد كان ملكها من أهل فلسطين وهو الذي قدّم الطعام والشراب والنبيذ لإبراهيم، وكان ذلك حوالي (1900 سنة) قبل الميلاد، وقد بارك إبراهيم بقوله (مبارك إبرام من الله العلي مالك السماوات والأرض، فالقدس كانت مدينة مباركة من قبل أن يأتي إليها داود .
أسلوب الصهاينة:
... يحاول الصهاينة باعتمادهم على أمريكا وتكرار الادعاء بأن القدس ستكون عاصمتهم الأبدية أن يغسلوا الفكر في أمريكا وشعوب العالم بهذا الادعاء. كما حاولوا تخدير العالم العربي والإسلامي بادعائهم أنها مفتوحة لكل الأديان، وبذلك قسموا أنفسهم إلى قسمين: الأول يدعي أن القدس عاصمتهم، والقسم الثاني يقول إن القدس لكل الأديان.(252/2)
... ولا يتورع هؤلاء (الصهاينة) في قتل من يقف أمام أطماعهم؛ ففي التاريخ القديم قتلوا النبي يحيى، وفي العصر الحديث قتلوا اللورد موين والكونت برنادوت؛ لأنهم عارضوا أفكارهم ومطامعهم التي تنادي (إن نسيتك يا أورشليم فلتنسني يميني ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك. إن لم أرفع أورشليم على قمة ابتهاجي) (المزمور 137-5-6) ظاظا ص 9 .
قداسة أورشليم على مر العصور:
... ما كانت القدس يومًا عاصمة لدولة داود برغم ما تبذله إسرائيل من دعاية مستمرة وجهود مستميتة. ولا أظنهم سوف يسكتون عن هذا القصد، فقد استمر اليهود ألفين من السنين وهم يقولون: إن اللقاء في القدس، وها هم قد وصلوها. وقد وعد هرتزل بتكوين الدولة بعد خمسين سنة، وبالفعل تحقق له ما أراد. وقد غيروا خططهم بأن أخذوا يبنون المستوطنات ويأخذون الأرض والبيوت العربية شيئًا فشيئًا، فهم يزحفون بذكاء ويملكون الأرض بدهاء. وقد حصلوا على الكثير من المستعمرات بصبرهم الطويل. فالقليل المستمر سوف يوصلهم إلى الكثير الذي يرغبون فيه. وهو عمل خير من شن الحروب التي لا يعرفون نتائجها؛ فهم مازالوا يذكرون يوم 6 أكتوبر وتهدم سد بارليف وانهزام الجيش الذي كانوا يقولون: إنه الجيش الذي لا ينهزم.
أورشليم والتاريخ:(252/3)
... بقيت القدس ملكًا لأهلها اليبوسيين الكنعانيين قبل 2500 سنة قبل الميلاد، ولم يدخلها اليهود، فقد استقرّ فيها العموريون، وهم أقوام خرجوا من الجزيرة العربية، وكذلك استقرّ فيها الفنيقيون. وأكثر أهل فلسطين منهم، وهم الذين أنشؤوا أكثر المدن فيها وسُميت أرض كنعان . وتوالى على حكمها عدد من الحكومات كالبابليين والآشوريين والسلوقيين والرومان . وكان قد هاجر إليها من العراق النبي إبراهيم زمن الملك الفلسطيني ملكي صادق [ الطريق إلى القدس 12 - 20] . وكان موحدًا وقد دفن إبراهيم في فلسطين، وهو الذي رفع القواعد للبيت مع إسماعيل، "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" (البقرة 127) .(252/4)
... لقد بقيت فلسطين والقدس ملكًا لأهلها مدينة مباركة مقدسة لا ينازعهم فيها منازع، وقد سكنها النبي إبراهيم، فقد جاء في سفر التكوين "14-15" وملكي صادق ملك شاليم (أخرج خبزًا ونبيذًا، وكان كاهنًا لله العلي مالك السماوات والأرض) إنها مقدسة قبل النبي داود بل قبل النبي إبراهيم. وأكدت اللوحات التي وجدت في تل العمارنة في محافظة أسيوط أن وجودها قبل داود. وهذه اللوحات مكتوبة بلغة أهل العراق القديمة، وعليها شروح بلغة أهل فلسطين الكنعانية، وتعود إلى (1411-1377) قبل الميلاد، وكان اسمها (أورسالم) أي مدينة السلام، وكانت تابعة لحكم فراعنة مصر. أما اليهود فقد كانوا قبائل متنقلة بدوية مثل الغجر وجاء ذلك على لسان حاكم القدس الذي استنجد بفرعون مصر بقوله: إن الغجر (خبيرو) أو (عبيروا) يهاجمون أورسالم. وهذا الاسم جاء في النقوش التي قرأت في زمن سنحا ريب قبل القرن السابع قبل الميلاد. وسميت (أورسليمو) وباللغة المصرية القديمة (أورشاليم) والاسم الذي أطلقه عليها الرومان هو (سوليما). وورد اسمها في سفر يشوع وفي سفر صموئيل الثاني وفي سفر اشعيا باسم (أوريشل)، وبذلك فهي لم ترد في هذه النصوص باسم مدينة داود إنما مدينة الرب أو مدينة الله. وذلك برهان على أن المدينة كانت موجودة قبل العبرانيين، ولعل إشارة هيرودوت لها باسم (قديش) دليل على أنها ليست عبرانية. ولا بد أن اسم القدس جاء في هذه اللفظة .
... إنها مدينة السلام؛ سُميت باسم الإله (سلام) قبل أن يعرفها اليهود. وسلام اسم إله وثني كان عند أهل فلسطين وادعاء اليهود أن سام بن نوح سماها (شالم) ليس له سند تاريخي. ولم تذكر صفحات التاريخ هذا الاسم، ولم يرد في أي نص تاريخي موثق بأنها من تسمية سام بن نوح.(252/5)
... وكما ذكرنا أن سفر التكوين ذكر حلول النبي إبراهيم على ملكها اعتمادًا على ما جاء في اكتشافات تل العمارنة، وإنها كانت موجودة قبل داود وسليمان. وقد وقف أهلها اليبوسيون ضد محاولات يوشع بن نون خليفة موسى بقوة، ولم يقدر على إخضاعها، وإخراج أهلها منها (يوشع 15/63) ولكنهم دخلوها بعد ذلك إلاّ أنها بقيت تحت سيطرة أهلها (سفر القضاة 19) دون أن يناموا فيها .
... فقد جاء في سفر القضاء (19) في قصة رويت أن يهوديًّا أراد أن ينام في (يبوس) بعد أن مالت الشمس للمغيب (قال الغلام لسيده تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها. فقال له سيده: لا نميل إلى مدينة غريبة حيث لا أحد من بني إسرائيل هنا ) (ظاظا 16) . فكيف إنها مدينة يهودية؟ وهذا برهان ساطع بأنهم لم يسكنوها وأن أهل يبوس قوم غرباء ويخاف اليهود أن يبيتوا فيها، ولو كان فيها يهود لناموا فيها .
النبي داود:(252/6)
... وقد بقيت القدس بعيدة عن سيطرة النبي داود حتى السنة الثامنة من حكمه؛ لأن عشائره كانت بدوية تهيم في صحراء النقب في جنوب فلسطين، ولما انتقل إلى الشمال ذهب الإسرائيليون معه وفي هذه المرحلة توّج نبي بني إسرائيل (صموئيل) (شاؤول) أول ملك على كل اليهود .. وألحق (داود) ببلاط (شاؤول)، وكانت الحرب سجالاً بينه وبين أهل البلاد، ولم يقدر برغم محاولاته المتكررة على الانتصار بل مُني بهزائم متعددة وأدت به خيبته إلى الانتحار همًّا وكمدًا. فأخذ داود مكانه في الحكم، وهو من أسباط يهودا. فتسمى العبرانيون باليهود. أراد داود أن يسكن في مكان حصين ومتوسط، فوجد في يبوس غرضه؛ لأنها قريبة من مسكنه، ولأنها وعرة المسالك، فاستولى على جبل صهيون، واتخذه قاعدة لحكمه. فلا عجب أن ضخم الإسرائيليون هذا الحدث، وانتسب إليهم المتشددون، وخلقوا حوله الأساطير وجعلوه شعارًا لهم واسمًا لحركتهم السياسية والدينية. ثم بدأ داود يضايق أهل البلاد ليتركوا أرضهم، وبدأ يستولي شيئًا فشيئًا حتى لم تبق غير الهضبة لأهلها. وكان أهل فلسطين ميالين إلى المسالمة، وقد حصن ما استولى عليه في الأرض، وكان مكان القبة قبة الصخرة والمسجد الأقصى ملكًا لأهل يبوس وكان مكانًا للماشية، فاشترى المكان داود وما فيه من المواشي، ولهذا اختلق اليهود الأقاصيص والأساطير عن الصخرة حتى جاء في التلمود البابلي " أن الصخرة هي أصل خلق الأرض وأن صهيون هو سرة العلم وهو كامل الجمال والبهاء (يوما 54) وأن النبي يعقوب نام عليها، مع أن التاريخ يقول إنه نام في (بيت إبِل) قرب نابلس لزيارة قدسية الصخرة. ومن يقرأ التلمود يجد الفرق ففيه أنها ترتفع عن الأرض ثلاثة أصابع (يوما 15-45) والواقع أنها ترتفع بحوالي المتر عن الأرض، فإذًا هي ليست هذه الصخرة، ولا نعرف أية صخرة يريد اليهود، وقد شك الباحث الألماني شيك في الأمر، وقال: إن الصخرة الحالية ربما كانت ركيزة للقرابيين ولم تكن(252/7)
يومًا داخله ضمن قدس الأقداس (ظاظا 20)، فهي ليست الصخرة التي يدعي اليهود أنها حجر الأساس للهيكل، دون دليل علمي أو برهان تاريخي، وكيف تبقى صخرة واحدة في الهيكل وقد دمرت القدس عدة مرات من بختنصر وأنطيوخوس وتيتوس وأخيرًا دمرها الصليبيون تدميرًا كاملاً. وفي أساطير اليهود قولهم : إن الله جلّت قدرته بكى عندما هدم الهيكل حتى صغر حجمه من سبع سماوات إلى أربع سماوات وإن الزلازل والأعاصير هي من دموع الإله تسير نحو البحر ندمًا على خراب الهيكل (الطريق للقدس محمد محمد صالح ص 12).
مدينة الله :
... أراد سليمان أن يبني عاصمة له تضاهي العواصم المعاصرة، وبنى الهيكل الذي حوله اليهود إلى أسطورة في الفخامة والجمال والإبداع الفني، مع أن الكاتب الهيودي لويس براون قال في كتابه (حياة اليهود): إن سليمان بنى في أورشليم قصره، والذي ظهر في عيون اليهود السذج في رعيته أن المدينة فخمة، مع أنها لو قورنت بالقصور الهائلة في مصر أو بابل أو الهند لبدت ضئيلة الحجم (ص 25). أما المعبد فكان أقل أهمية من القصر، فهو مقصورة دينية في البلاط، قال عنه لويس براون: إن أصغر معبد في أمريكا الآن وكثيرًا من الكنائس أكبر منه، وحتى كنائس الريف فهي أكبر منه حجمًا (26).
تخريب أورشليم :(252/8)
... قلنا إن القدس دمرت وخربت في عدد من الغزوات كغزوات الجيش المصري (970 ق. م) والأودميين في الأردن بل من اليهود أنفسهم الذين كانوا في مملكة الشمال، فقد هاجم ملك إسرائيل ملك أورشليم ويهودا، وهدم أسوارها، وأخذ ما في الهيكل من الذهب والفضة والأواني، ونهب القصر وأخذ بعض الأسرى وعاد إلى السامرة (الملوك الثاني 14-16). وكانت أورشليم هدفًا للغزاة، ومما يذكره لنا التاريخ ما صنعه بختنصر عندما وجد العبرانيين سدًّا دون هدفه للوصل إلى مصر، فقد هاجم القدس واستولى عليها وأخذ عددًا كبيرًا منهم أسرى إلى بابل. وفي بابل كتبوا التوراة والتلمود، حسب هواهم مستفيدين من الأساطير البابلية، ولم يعودوا إلا بعد انتصار كورش فأنشؤوا دولة بحماية الفرس وأعادوا بناية الهيكل؛ ولهذا نراهم قد شاركوا في الاحتفال الذي أقامه محمد رضا شاه . احتل الإسكندر المقدوني فلسطين سنة 330ق.م فدخلت القدس تحت حكمه. ثم احتلها بطليموس سنة 310 ق . م واستمرت تحت حكم الرومان الذين كانوا لا يأمنون دسائس اليهود، فخرب تيتوس القدس سنة 70م، وأجلى اليهود عنها وهذا ما يعرف بالسبي الثاني، واستمر منع اليهود من دخول القدس حتى الفتح الإسلامي وسماح المسلمين لهم بدخولها.
تغيير اسم أورشليم :
... قام اليهود سنة 136م بثورة ضد الرومان فانتصر الرومان بقيادة ببيلوس هدريان، وهدم كل ما فيها وأقام مكان الهيكل معبدًا لجوبيتر كبير آلهة الرومان، وغير اسمها إلى (إيليا كابتوليتا)، ومنع اليهود من دخولها غير يوم واحد من السنة .
حائط المبكى:(252/9)
... يتركز ادعاء اليهود على أن حائط المبكى جزء من هيكل سليمان إلا أن علماء الآثار، وسطور التاريخ، ونوع الحجارة، وأسلوب البناء كلها تدل على خطأ هذا الادعاء وأن القدس التي سماها الرومان (إيليا كايتوليتا) ليست مدينة داود إنما هي مدينة الله؛ فقد قام الأثايون اليهود بعد حرب حزيران (يونيو) 1967 بالحفر والتنقيب، ولكنهم لم يجدوا الدليل على زعمهم؛ ولذلك سكتوا دون أن يعلنوا أنباء نتائج حفرهم وتنقيبهم، وإلا ملؤوا الدنيا بالضجيج لو وجدوا شيئًا .
... لما دخلها المسلمون في خلافة عمر بن الخطاب، وطلب النصارى منه منع اليهود من دخول القدس، ولكنه عدهم من أهل الكتاب؛ لهذا لم يسكن اليهود فيها حتى زمن عبد الملك بن مروان الذي بنى قبة الصخرة والمسجد الجامع سنة 688م، وجاء الصليبيون وأبادوا المسلمين واليهود حتى جاء صلاح الدين الأيوبي وعاملهم بالحسنى وسمح لهم بدخولها .
... وعني العثمانيون بالقدس عناية كبيرة وعينوا بعض أعيانها في دوائر الدولة العليا لمكانتها في قلوبهم. ولما جاءت جمعية الاتحاد والترقي إلى الحكم وعزلت السلطان عبد الحميد بدأت هجرة اليهود بمؤامرة من الماسونية واليهودية، وعُزِل لأنه رفض طلب هرتزل بإدخال اليهود إلى فلسطين وإعطائهم وطنًا قوميًّا، ونكاية فيه أرسلوا رسالة عزله مع وفد فيه اليهودي قره صو، وقد قال السفير البريطاني: إن جمعية الاتحاد والترقي تبدو في شكلها الداخلي تحالفًا يهوديًّا تركيًّا مزدوجًا، وإن اليهود يعملون على السيطرة الاقتصادية والصناعية على تركيا) ملف وثائق فلسطيني جـ1 14ص155 (عن محمد محسن صالح ص168). واستمر بعد ذلك دخول اليهود إلى فلسطين بعد عزل عبد الحميد وبداية حكم جمعية الاتحاد والترقي .
الخلاصة:
... هذا مرور سريع أو تذكير مركز عن فلسطين وعن القدس، وفيه دلالة واضحة بأن فلسطين منذ بدايتها(252/10)
ما كانت للعبرانيين وأن سكانها كانوا من الجزيرة العربية باختلاف أسماء القبائل والهجرات التاريخية، وبذلك يتضح أن ادعاء إسرائيل بها كله باطل في باطل، وليس لهم سند تاريخي أو برهان علمي أو نص آثاري يؤيدهم، بعد أن بذلوا كل ما عندهم من طاقة لإثبات ذلك، وكما أن علماء من اليهود أنفسهم لم يؤيدوا هذا الحق. أما القدس فلا يختلف وضعها عن فلسطين فهي على مر التاريخ :
1- لم تكن مدينة داود، فقد منع الرب، كما قالوا هم، أن يبني المدينة لكثرة ما سفك من الدماء، وكانت دائمًا ملك أهلها، وكانت مقدسة من أهلها، عندما كانوا يعبدون الوثن وسميت باسم الوثن سالم أو سلام، وقد خُرِّبت عدة مرات، وسُبي اليهود. وقد سكنها اليهود مدة قصيرة، وكانت مقدسة قبل الميلاد، وبعد الميلاد وظهرت عليها البركة عندما سكنها النبي إبراهيم عليه السلام لما استضافه ملكها (ملكي صادق) (*)(252/11)
وقدم له الخبز والطعام والنبيذ والبركة من العلي القدير. وما كان حكم داود وسليمان غير ثلاث وسبعين سنة، حكم داود منها 23سنة، وكانت مركزًا أو عاصمة لدولتهم، ولم تلبث هذه الدولة أن انقسمت إلى قسمين: كانت القدس في قسم، وكانت الدولة بعيدة عنها في القسم الثاني، ولم تزد فترة هذا الحكم، على ما ذكرنا، على ثلاث وسبعين سنة. ولما مات سليمان تقلصت سلطة القدس؛ لأن دولة الشمال لا تعترف بداود ولا سليمان ملكًا لا في الديانة ولا في الحكم. وفي أكثر السنين كانت سلطة اليهود رمزية، ولما فتحها المسلمون كانت خالية من اليهود، منذ أكثر من خمسة قرون، إذ حرّم الرومان عليهم دخولها وقد بقيت تحت إدارة المسلمين مفتوحة لعبادة جميع الأديان، وقد كانت قبل داود بألف وخمسمائة سنة قبل أن يدخلها اليهود مقدسة، وحتى داود كان يسميها مدينة الله، وذكرها التلمود باسم مدينة الله، ولكن اليهود يصرون ويلحون على اسمها الذي اخترعوه لكي يداعبوا عواطف اليهود البسطاء ويغسلوا عقول الشعب الأمريكي والشعوب الغربية بالتكرار في إعلامهم القوي المستمر.
الهيكل:
... إن المحاولات الأخيرة في الحفر والتنقيب تحت القبة والمسجد التي قام بها اليهود باءت بالخيبة، ومع ذلك فإنهم يصرون علي زعمهم بأن الهيكل كان موجودًا تحت قبة الصخرة والمسجد الأقصى، فأثاروا الأساطير وخلقوا للناس ما في خيالهم من صور، ولكن خبراء اليهود بالتاريخ والآثار ينكرون زعمهم. وقد ذكرنا أن الرب منع داود من بناء الهيكل وتركه لابنه سليمان (صموئيل الثاني 7) لأنه سيكون إنسانًا سالمًا عندما قال (سأعطي سلامًا وهدوءًا لبني إسرائيل في أيامه وهو الذي سيبني البيت) وقد أورد الزميل الدكتور حسن ظاظا (رحمه الله) أشياء كثيرة مفصلة في كتابه القدس ص 40-44).
القدس والهيكل :(252/12)
... إن جميع المحاولات التي قام بها اليهود بثبات لإثبات أن الهيكل في مكان المسجد الأقصى والقبة باءت بالخيبة، وقد ثبت عند علماء الآثار ذلك بصراحة ووضوح عند البحث في الفن اليهودي؛ فقد قال الآثاري الفرنسي في كتابه (تاريخ الفن اليهودي) إن الهيكل الذي بناه سليمان كان في داخل سور يحيط بكل جبل الهيكل، ودليله أن الهيكل الذي بناه اليهود كان في المكان نفسه، وبذلك تكون مساحة ما يحيط به السور نحو ثمانية أفدنة. وقاس الآثاري الفرنسي بنفسه المكان بين هيكل سليمان والحرم الشريف فوجد أن مساحة الحرم الشريف أكبر بكثير من ضعف مساحة هيكل سليمان داخل السور، وأن الحرم الشريف مستطيل واتجاهه من الغرب إلى الشرق (نحو الشمس) وبذلك فالادعاء لا يقوم على برهان بأن الحرم يقوم تمامًا على ما كان يسمى سابقًا هيكل سليمان، حتى ولو سلمنا بأن الهيكل كان في هذا الركن بالذات من الجبل (43). ويؤكد التاريخ أن الهيكل قد خربه ومحاه بختنصر في القرن السادس قبل الميلاد. كما أن الهيكل الذي بناه اليهود بعد عودتهم من السبي انتهى بالدمار التام على يد الروماني تيتوس، ويؤكد ذلك يوسفوس بقوله: "كان تيتوس كلما وجد الجنود قد فرغوا من قتل جميع الناس في المنطقة التي يسيطرون عليها أمرهم أن يخربوا أورشليم ومعبدها وأن يقلبوها ظهرًا على عقب" (حرب اليهود ح5 ف4 فقرة 3). وأهم من كل شيء أن صخرة المعراج النبوي تختلف عن الصخرة التي وصفت عندهم حجمًا وارتفاعًا، وباءت جميع محاولات اليهود بالفشل، فلم يستطيعوا رسم صورة ومخطط هندسي دقيق، ولم يفلح حتى المهندس اليهودي أينشتاين.
الكلمة الأخيرة:(252/13)
... أقول هذه الكلمة التي لا أريد أن أقولها ولكني أسجلها للتاريخ إن أخشى ما أخشاه هو أن تفرق العرب واختلاف المسلمين سوف يتيح لليهود الحصول على ما يريدون، وهم المعرفون بعنادهم ومواصلة العمل في سبيل أهدافهم، ونحن واقفون نتفرَّج، وتكثر بيننا الاختلافات التي تساعد اليهود على الحصول على أمانيهم .
وأخيرًا:
... إن القدس دمرت تدميرًا كاملاً مرات عديدة، وحكمها الرومان حكمًا جائرًا منذ السنة السادسة الميلادية، وفي عهد الرومان حدثت حادثة السيد المسيح عليه السلام بعد أن هاجمه اليهود وناصبوه العداء. ويذكر التاريخ أنه لما جاء عيد الفصح سنة 30م ذهب المسيح إلى أورشليم، وزار الهيكل، واستنكر وجود الصيارفة والباعة فيه، ولم يرضه أن يكون سوقًا للبيع والشراء، فقلب موائد الصيارفة وكراسي الباعة (باعة الحمام)، وقال لهم: "مكتوب أن بيتي بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص" (إنجيل متى 21 (12-13) فهو بيت الصلاة لا بيت داود، وذكر إنجيل لوقا إصرار اليهود على قتله برغم ممانعة الحاكم الروماني؛ لأنه لم يجد عليه جرمًا يستحق القتل (محسن محمد صالح 39-40) فثار اليهود وقالوا اصلبه وعلينا وعلى أولادنا دمه. ولما كان المسيح يهوديًّا وافق كارهًا على صلبه (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم).(252/14)
... الثابت أن سكان فلسطين جاء أكثرهم من جزيرة العرب، وأن العرب والمسلمين أولى بالقدس؛ لأنهم أقدم من اليهود وأكثر إقامة فيها من اليهود؛ ذلك لأن حكم بني إسرائيل كان قصيرًا بالنسبة لعمر وجود العرب والمسلمين فيها وبقي اليهود بعيدًا عنها أكثر من تسعة عشر قرنًا. وقد قال إيج جي ولز: (كانت حياة العبرانيين في فلسطين تشبه حياة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار إذ لم تستمر حكومتهم طويلاً؛ إنها حدث طارئ في تاريخ مصر وسوريا وآشور وفينقية، وهو تاريخ أعظم من تاريخهم (43 محمد محسن محمد صالح). وقال كوستاف لوبون: (وبقي بنو إسرائيل حتى في عهد ملوكهم بدوًا أفاقين مغيرين سفاكين مندفعين إلى الخصام الوحشي، ومزاجهم النفسي على الدوام قريبًا جدًّا في حال أشد الشعوب بدائية، وقال: إنهم كانوا سذجًا حفاة كالوحوش أو كالأطفال، ولا تجد شعبًا عطل من الذوق الفني كما عطل اليهود) 44، وقال: إن تاريخ اليهود من ضروب الحضارة صفر) .
الرأي الأخير:
... أقولها بصراحة: إن إسرائيل وأمريكا لن تعطيا العرب حقهم في الأماكن المقدسة ما دامت إسرائيل ترى أن دولتها تمتد من الفرات إلى النيل وأن القدس عاصمتها. وأن اختلاف العرب والمسلمين هو السبب القوي الذي يدفعهم إلى هذا القصد برغم الدماء التي سالت، وسوف تسيل، من
الشهداء، وبرغم اعتقادهم بأن إسرائيل لا بد أن تزول . إنهم يريدون إطالة عمر دولتهم وساعدهم الغرب وأمريكا على ذلك خوفًا من وحدة الأمة العربية والدين الإسلامي، وإن السلام الذي يريدونه بأساليبهم وطرقهم لن ينهي الصراع بين إسرائيل والعرب والمسلمين؛ لأنهم مازالوا على رأيهم؛ فقد قال إسحق رابين في إذاعة عبراية في 25-10 - 92: (إن قوة جيش الدفاع الإسرائيلي هي أكبر ضمان لاستمرار عملية السلام في المنطقة) فهل من يريد السلام يعتمد على الجيش؟ أخيرًا الحق للقوة، والعاجز يبحث عن شهود .
يوسف عز الدين ...(252/15)
عضو المجمع من العراق(252/16)
تأثير الإعلام المسموع في اللغة وكيفية
استثماره لصالح العربية*
للأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح
يعرف كل واحد ما للإعلام المكتوب والمنطوق من تأثير عميق وواسع جدًّا في استعمال الناس للغتهم، وهو جزء عن التأثير الشامل الذي تمتاز به وسائل الإعلام في جميع ميادين الحياة والفكر، وقد تضاعف هذا التأثير وقوي بتقدم الوسائل التقنية والتكنولوجيا عامة بكيفية عجيبة حتى صارت الكرة الأرضية، كما يشعر بذلك كل منا، عبارة عن قرية كبيرة لا يحدث فيها حادث ذو شأن إلا ويعلم به على الفور أكثر سكانها. فتأثير الإعلام- والاتصال الواسع السهل والسريع- من شأنه أن ينقل الأخبار بالألفاظ والأساليب التي تعوّد عليها المذيعون في الإذاعة والتليفزيون والمنشطون فيها، وبذلك صار دور هؤلاء في تشييع اللّفظة المحدثة دورًا
هامًّا جدًّا وكذلك الخطأ اللغوي، فمسؤوليتهم في ذلك كبيرة.وقد لا يشعر بخطورته أولو الأمر منا، فيما يبدو لنا؛ فقد تركوا في هذا الميدان الحبل على الغارب وخاصة في العشرينيات الأخيرة، خلافًا لما كان عليه الإعلام والتعليم عندما أنشئت المجامع اللغوية .
وليس غرضنا في هذا البحث القيام بتحليل للغة الإذاعة والتليفزيون، فقد قام بذلك الكثير من الباحثين. بل غرضنا هو أن نبين الأهمية العظيمة التي يكتسيها الإعلام ولاسيما المسموع منه في التأثير على الاستعمال اللغوي لا عند النخبة من المثقفين فحسب بل حتى في استعمال الجماهير للغة وخاصة الأطفال والشباب. وسنمثّل، على كل حال، لهذا التأثير ببعض الأمثلة.
... وسنقترح فيما يلي بعض الوسائل لاستثمار هذه المنابع من الإشعاع الثقافي لتستفيد منه كأداة اتصال لا أقل مما هي عليه اللغات الأوربية الكبرى من الحيوية والنجاعة في التبليغ.
منبعان أساسيان للتأثير:(253/1)
... إن هناك منبعين أساسيين يؤثران في استعمال الناس للغة أيّما تأثير، وهما عاملان قويان جدًّا في انتشار ألفاظ الحضارة الحديثة والمصطلحات العلمية والتقنية بل ولا مفرّ أبدًا من هذا التأثير ولا مردّ له. وهما المدرسة وامتداداتها من جهة، ووسائل الإعلام على اختلاف أنواعها من جهة أخرى. وهذا يرجع إلى أقدم الأزمنة إلا أن تعميم التعليم وارتقاء وسائل الإعلام وانتشارها الواسع في عصرنا هذا جعلها من الوسائل العظيمة التأتثير على عقول الناس وسلوكهم ولغتهم. وقد استغلت هاتين القوتين كلُّ الحكومات والأحزاب في كل دولة. أما فيما يخص البلدان العربية فإن الحكومات فيها لم تستغلّها استغلالاً عقلانيًّا في ميدان اللغة خاصة، وليس معنى ذلك أن السلطات المعنية في كل بلد غير شاعرة بأهمية التدخل في مصير اللغة باستغلال المدرسة على الأقل، فإن هناك الكثير من التوصيات في المؤتمرات لوزراء التربية والإعلام والتعليم العالي تنص على ضرورة هذا التدخل لصالح اللغة العربية. إلا أننا لم نسمع أن هذه التوصيات- ولو واحدة منها- قد حظيت بالتنفيذ الكامل وبالنتائج الملموسة. ثم إن القوانين والنصوص التي تخضع لها المجامع اللغوية تنص كلها، في كل بلد، على ضرورة إدخال المصطلحات التي انعقد عليها الإجماع في المستوى القومي، ومع ذلك فلا نعلم أن لفظًا واحدًا من تلك المصطلحات الحديثة فُرِض على الطلاب والتلاميذ الصغار .
هل يمكن أن تفرض اللغة وبالأحرى الألفاظ المحدثة؟(253/2)
... وكثيرًا ما سمعنا العلماء يصرِّحون بأن اللغة يستحيل أن يتدخل فيها الأفراد؛ لأنها ظاهرة اجتماعية؛ فلا قدرة للفرد على تغييرها بمحض إرادته. وهذا صحيح، قاله القدامى من علمائنا؛ لأن اللغة وضع من أوضاع المجتمع يتواضع عليه الناس بدون ما شعور منهم في الغالب، فلا يستطيع الفرد أن يغير من ذلك شيئًا. فاللغة لا تفرض؛ لأن جوهرها اجتماعي محض كما أن الأوضاع الاجتماعية لا تفرض بل يرتضيها المجتمع كمجتمع لا كأفراد(1) إلا أن المجتمع قد تؤثّر فيه عوامل بكيفية حاسمة، وذلك مثل ما يقوله وينشره الرجال ذوو النفوذ الفكري أو الديني أو السياسي كزعماء الفكر أو الدين أو السياسة . وعلى مثل ذلك يكون المعلم والمذيع بالنسبة إلى الأطفال والجماهير (2).
... وفإن كانت اللغة غير قابلة لأن تفرض بالقوانين فإنها، مع ذلك، تفرض
نفسها بسهولة عجيبة جدًّا عندما تأتي على لسان المعلم والأستاذ، كما يكون لها حظ كبير من ذلك بالنسبة إلى الملايين من الناس إذا ما استعملها مذيع الإذاعة والتلفزيون. فكأن المجامع تعيش في عالم، والمدرسة والإعلام في عالم آخر. فالوضع غير الاستعمال، وعلى هذا فإن استعمال بعض الناس هو قدوة لغيرهم بحكم منصبهم ووظيفتهم، فهم أصحاب نفوذ من الناحية اللغوية (زيادة على نفوذهم الاجتماعي وغيره). وهؤلاء هم كما قلنا، معلمو التعليم الابتدائي خاصة. والطفل الصغير إذا سمع معلمه يستعمل بكثرة لفظة لم يسمعها من بيئته غير المدرسية فإنه لا يشك أبدًا في وجودها في استعمال أكثر المثقفين. وكذلك هو الأمر بالنسبة للإعلام عند أكثر الناس وخاصة الطبقات المتوسطة فإذا سمعوا
مذيعًا يستأنسون به كلما ظهر في الشاشة ويكثر من استعمال كلمة أو عبارة أو مصطلح فإنهم يميلون إلى تبنى ذلك لثقتهم بالمذيع- كما يثقون غالبًا بما تكتبه وتنشره الصحف .(253/3)
وعلى هذا فلا ندري لماذا لا تلجأ السلطات في كل بلد إلى استغلال هاتين البؤرتين للإشعاع الثقافي واللغوي وبالدرجة الأولى. فالذين لا يمكن أن يفرض عليهم أي شىء من اللغة هم الذين تعوّدوا على استعمال معيّن إذ كان ما تعوّدوا عليه كافيًا، ولهذا فقد لا يكفي أن ترسل القوائم من الألفاظ والمعاجم الخاصة بالمصطلحات إلى العلماء والاختصاصيين الذين سبق أن دخلت في استعمالهم ألفاظ أخرى سواء أكانت صحيحة الوضع أم لا، عامية أم فصيحة، عربية الأصل أم أجنبية. فإذا كلموا في ذلك أي في سبب استعمالهم للأجنبي، قالوا: "إذا شاع اللفظ فلا مردّ له وسنة الله في اللغات أن تقتبس لغة من أخرى" وغير ذلك من الحجج التي أخذت عن اللغويين الوصفيين في الغالب.
الغرابة بالنسبة لمن؟
... وعلى هذا فإن مصير الكلمة المحدثة – والتي لا يعرفها أكثر الناس- لا يمكن أن يبت فيها فيقال إنها كلمة غريبة، فالغرابة بالنسبة لمن؟ فإن للمصطلح الجديد مصيرًا لا يتوقف شيوعه على معرفة الناس له مسبقًا فهذا دور. ثم إن غرابته في الوقت الراهن لا تمنعه من أن يكون مأنوسًا في وقت آخر إذا توافرت فيه شروط الشيوع واستئناس الناطقين له.(253/4)
... ثم إن دور المعلم ووسائل الإعلام تضاعف في عصرنا هذا، كما قلنا، تضاعفًا عظيمًا جدًّا، وذلك بحكم تعميم التعليم في جميع الأوساط والبيئات ودخول الإذاعة والتليفزيون في أكثر البيوت. ولم نر فيما مضى مثل هذه الظاهرة أعنى أن يتمكن الإنسان من أن يشاهد ويسمع كلام أشخاص يبث من جميع أنحاء العالم، وأخص بالذكر الناطقين بالعربية فيسمع من كل قطر عربي كلام أهله. وعلى هذا فالتأثير في اللغة من جهة معينة قد تضاعف أكثر فأكثر. فاللفظ المحدث، والعبارات الجديدة (المصوغة على قياس كلام العرب) يمكن أن تشيع شيوعًا لا مثيل له في أي وقت من الأوقات. والألفاظ والأساليب إذا كثرت على ألسنة هؤلاء فكن على يقين أنها ستُلفت انتباه المستمعين والمشاهدين. وإذا أدخلت المصطلحات في الكتب المدرسية على مستوى الوطن العربي فلا مناص من أنها ستشيع شيوعًا واسعًا. (1)
ماذا نقرّ من الألفاظ؟
... وقد يقول قائل: "يجب على المجامع اللغوية أن تقرّ الألفاظ التي دخلت في الاستعمال أو تضع لفظًا لما جدّ من جديد من المفاهيم العلمية والتقنية". وهذا ما يفعله المجمع الفرنسي فإنه ينظر فيما هو مستعمل بالفعل فإذا كثر واستقرّ على معنى(253/5)
معين أقرّه المجمع. أما المفاهيم الجديدة فليس للمجمع الفرنسي أن ينظر فيها؛ لأن العلماء والاختصاصين (وكذلك الهيئات العلمية) هم الذين يضعون اللفظ الجديد. وقد يدخل هذا الذي وضعوه في الاستعمال ويشيع غالبًا؛ لأن هؤلاء العلماء يخضعون وضعهم للألفاظ لقواعد التوليد اللغوي الخاص بالفرنسية (واللغات الأوربية عامة). وصارت هذه القواعد من السنن اللغوية عندهم. وذلك مثل الرجوع إلى مجموعة معينة من السوابق واللواحق اللاتينية واليونانية الأصل تواضع على الاستقاء منها كل العلماء في أوربا وأمريكا. فهذا هو شأن اللغات التي ينطق بها أهل الحضارة المتفوقة حاليًا على غيرها من الحضارات. وليس الأمر كذلك بالنسبة للعالم الثالث ولاسيما البلدان العربية؛ لأن المخترعين للشىء هم بالضرورة أصحاب التسمية لهذا الشىء.أما الناقلون المستغلون لهذا الذي
اخترع فلا يرفضون هذه التسمية غالبًا. أما الذين قد يرفضون فيختلفون بحسب أهمية تاريخهم وتاريخ حضارتهم وبقدر ما بقي فيهم من الشعور بهذه الأهمية وضرورة المحافظة على هويتهم. ففي هذه الحالة تنشأ المجامع اللغوية بل وهيئات أخرى من هذا القبيل تحاول أن تسدّ "الثغرات اللغوية" أي الفراغات التي غزتها في الحقيقة الألفاظ الأجنبية. فتضع الألفاظ الجديدة من صميم لغتها. وهذا لا يخص العالم الثالث بل هو موجود في قلب أوربا الآن. وذلك مثل اللغة الفرنسية التي عجزت عن مقاومة الإنجليزية في أكثر الميادين ويعجب الإنسان من كثرة ما أنشأه الفرنسيون في هذه العشريات من هيئات لغوية (وقد صار المجمع الفرنسي منذ زمان هيئة تشريفيه لا أكثر) (*). أما في البلدان النامية فقد(253/6)
يصيب بعض الشعوب والفئات شىء من اليأس في مغالبة اللغات المتفوقة، فإن لم يكونوا هؤلاء من الذين تغرّبوا التغريب العميق أقبلوا على التعريب اللفظي وتقبلوا ذلك بارتياح كامل مادام اللفظ قد صار بذلك مأنوسًا في السمع بل تحمسوا له وأيقنوا أنه أمر طبيعي. ولا سيما عند استماعهم للغويين الذين أثبتوا، بكيفية علمية لا غبار عليها، أن جميع اللغات تقتبس بعضها من بعض، ولا فائدة في معارضة ما لا مردّ له .
الاقتباس اللغوي العارم:
... فهذا وإن كان ظاهره صحيحًا فإنه يحتاج إلى شىء من الاستدراك والتوضيح. فصحيح أن الاقتباس اللغوي هو ظاهرة طبيعية كثيرة الوقوع جدًّا ولا تسلم لغة منه أبدًا. إلا أن هناك حقيقة أخرى وهي أن نفوذ اللغة،وحيويتها، ومن ثم مستقبلها
يقاس بسهولة تكيفها في ذاتها، وذلك بالرجوع إلى ما رزقها الله من الثراء المعجمي الكامن والقدرة الاشتقاقية. أما اللغات التي تكثر من الاقتباس حتى فيما يوجد له مقابل وحتى يشمل المفاهيم العادية غير العلمية فهذا يكون دليلاً قاطعًا على ضعفها وعجزها في داخل موطنها عن منافسة اللغات الأخرى، ومآل مثل هذه اللغات الضعيفة الزوال والانقراض وحلول غيرها محلّها (*) ولو في ميادين خاصة في بداية الأمر .
... ففي هذا الميدان أيضًا يؤدي الإعلام وخاصة المنطوق منه دورًا خطيرًا جدًّا في ذيوع الألفاظ الأجنبية حتى تلك التي بقيت على شكلها الأعجمي ولم تعرّب. ونحن لا ننكر أن بعض هذه الألفاظ تفرض نفسها، مهما كان الموقف ومهما اجتهد المسمون بالمحافظين على إيجاد المقابل العربي، وذلك مثل كلمة "إلكتروني" فمهما حاول(253/7)
الذين اقترحوا بدله "كهروبي" فإن الكلمة الأولى ستبقى هي الشائعة؛ لأنها من الأمثلة التي يصير فيه الاسم هو المسمى والعكس. فهي توحي إلى شيء يعجب به الإنسان فصار الاسم ذا هالة تشع إشعاعًا فلا يريد المستعمل أن يُذهب هذه الهالة باستعماله كلمة أخرى لا يمكن أن تقوم عنده مقامها. وهذا لا يتحقق دائمًا؛ لأن هناك قوانين لشيوع الكلمة وإقبال الناس عليها لا يعرفها علماء اللغة الذين لم يطلعوا على ما اكتشف من ذلك حديثًا. ومن ذلك ما عرفه علماؤنا قديمًا وأقروا بأنه من أسباب انزواء الكلمة وهو تنافر الحروف. وقد ورد شىء من ذلك فيما التقطه وجمعه علماء اللغة ولم يأت إلا في نص واحد أو اثنين. وقد أراد إحياءه بعض المجمعيين، ولا سبيل إلى ذلك، مثل : "الإرزيز" للتليفون و"المطثة" لمضرب الكرة، وغير ذلك .
وهناك حقيقة أخرى لا تقل أهمية(253/8)
عما ذكرناه وهو أن التدخل في مصير اللغة وتكييفها وتحسين مردودها في تبليغ المعلومات هو شىء ممكن جدًّا. ومن ثم فليس صحيحًا أن يكون "تكور" اللغة أي تحوّلها إلى نظام آخر ومحتوى آخر شيئًا محتومًا، بحيث لا تستطيع أية قوة وأية هيئة أن توقف ذلك أو تعارضه. أما التدخل فلا مثال أحسن من تدخل الهنود والعرب قديمًا في تدوينهم للغة التي أرادوا أن يحافظوا عليها. صحيح أن اللغة المتداولة في الخطابات اليومية هي التي تكون عرضة للتحول السريع، وقد يصعب بل يستحيل أحيانًا كثيرة أن يعترض على ذلك وخاصة في ظروف خاصة مثل الاضطرابات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كالحروب ونزوح أهل بلد إلى آخر وكغزو الغزاة وغيرها. أما لغة الثقافة أو اللغة المشتركة المستعملة في نشر التعليم وفي الاتصال مع الجماهير والإعلام وغير ذلك، فأكثر أحوالها البقاء على ما هي عليه بفضل تدخل السلطات المعنية وأعمال اللغويين والنحاة ونقاد الإنتاج الأدبي. وبالنسبة للغات الأوربية فأحسن مثال على ذلك هو ما قدم به الفرنسيون في القرنين السادس عشر والسابع عشر من تدوين وضبط للغة التي كان يحرر بها المثقفون وخاصة الكتاب والشعراء. فنجحوا في محاولاتهم النجاح التام. وناهيكم في زماننا هذا بمثال كلمة logiciel الفرنسية التي اقترحوها لتقوم مقام Soft-Ware ( وكانت قد شاعت في ميدان الحاسوبيات). فلا يوجد الآن ناطق بهذه اللغة إلا وهو يستعمل logiciel ليس إلا. والذي قد ضاعف هذه المجهودات وجعلها تنجح أيما نجاح هو هذا الإعلام المنطوق الذي نحن بصدد الكلام عنه.
طغيان العامية في الخطاب الإذاعي والتليفزيوني وسبب ذلك:(253/9)
... يكثر المذيعون من استعمال العامية وكذلك المنشطون في خطاباتهم. ونستثني من ذلك في الغالب نشرات الأخبار. يكثر ذلك بصفة خاصة في الحصص التي موضوعها الترفيه أو التسلية. وقد طغت أيضًا العامية على الفصحى في كل حصة يكون موضوعها تبادل الآراء أو الخبرة على شكل "استجواب" أو مجرد إجراء حديث. ويتعجب أكثر الناس من طغيان العامية في هذه الحصص الأخيرة إذ قد يكون مستواها عاليًا. وكل هذه الظواهر هي، في الحقيقة، جدّ طبيعية؛ لأن المنطوق المتبادل بين اثنين على الأقل يقتضي أن يلجأ إلى جانب من الاستعمال اللغوي يتّصف بالخفّة والاقتصاد أي بشيء كبير من العفوية؛ ولا سبيل إلى العثور عليه في العربية التي يتعلمها الناس في المدرسة (1). ويجهل الكثير من الناس أن للعربية الفصحى مستوًى عفويًّا مثل جميع اللغات الحية وأن العرب السليقيين كانوا يتخاطبون في حاجاتهم اليومية مثل ما يتخاطب الفرنسيون والإنجليز أي بلفظ سهل لا تكلف في تأديته. وهي
اللغة التي وصفها القدامى الذين استمعوا إليهم ودوّنوا كلامهم. وقرئ به القرآن، وذلك مثل ما روي عن أبي عمرو بن العلاء من اختلاس للحركات والاختزال والحذف والإدغام.
... أما في زماننا – ومنذ أقدم العصور- فقد صارت العربية تكتسب بالتلقين. والتلقين من عادته أن يهمل الخفيف من الأداء؛ لأن صاحبه يريد أن تعطى عناصر اللغة حقّها أي أن تحقق مخارج الحروف وأن تبيّن (إلى حد المبالغة أحيانًا) حركات الإعراب التي قد سقطت من العامية فابتعدت الفصحى في مستواها التخاطبي عن الأداء العفوي، إذ حافظت العامية على الخفة لأنها لغة تخاطب فقط (2) على الرغم من وجود قراءة قرآنية بهذا النوع من الأداء الخفيف؛ وذلك لاندثار درس القراءات في التعليم (ووجودها عند الاختصاصيين فقط وهم قلة).(253/10)
... وصارت الفصحى مبتورة من مستواها العفوي، ولا يمكن أن نقول إنها كانت على هذه الحال التي نعرفها اليوم فقط حتى في زمان السليقية إذ كانت اللهجات العربية هي لغة التخاطب. والحق أن ما كان يسمى بلغات العرب- وهي كيفيات في تأديتهم لعنصر واحد من عناصر اللغة – كانت توجد بالفعل في صميم الفصحى وكانت جزءًا منها، فالكثير من القراءات القرآنية كانت لغات، ويوجد في الشعر الفصيح الكثير من اللغات أي الكثير من التنوع في تأدية وحدة لغوية معينة(*) . وكان للعربية الفصحى التي نزل بها القرآن هذا المستوى العفوي وإلا فكيف نفسّر هذه الكثرة الكاثرة من أمثلة الاختزال والاختلاس والحذف – في الأداء والتراكيب – التي ذكرها سيبويه في كتابه ولم تنسب في أكثرها
إلى إقليم أو قبيلة؟ إنما الذي ينسب إلى القبائل هو غالبًا أداء مختلف عن الأكثر أو مساو له ولا يتصف غالبًا بالاختزال والتخفيف .
فالذي منع الناس والمنشطين في الإعلام من تجنب الفصحى الملقنة بالمدرسة هو عدم توفر الفصحى التي تعلموها على ما تتصف في لغة التخاطب العادي من الخفة في الأداء ومن الصيغ والتراكيب المأنوسة فيلجؤون إلى العامية، أو يخلطون بينها وبين الفصحى، ويميلون أحيانًا كثيرة وبكيفية عفوية إلى الاختلاس والاختزال كما كان ذلك موجودًا في الفصحى العفوية. فكأن التجاءهم إلى العامية أو هذا المزيج يريحهم من تكلف اللغة غير العفوية، وهو أمر طبيعي،ولكن الذي ليس بطبيعي هو أن يجهل أو يتجاهل أهل الاختصاص هذه
الحقائق، وأخطر من هذا أن يعتقد أن العامية – أي اللغة الملحونة- لامناص منها لاتصافها بالخفة وأنها اللغة الوحيدة التي يتخاطب بها الناس في حاجاتهم اليومية فيأتي بعض العلماء فيبرّر ذلك بقول المستشرقين أن الفصحى " لم تكن في يوم من الأيام إلا لغة أدبية مشتركة". وهذا كله مغاير للحقيقة وبالتالي ظلم للعربية .
اقتراحات لاستثمار الإعلام المنطوق:(253/11)
... إن هناك من الأخطاء اللغوية ما يكون سببه الوحيد لشيوعها هو الإذاعة والتليفزيون. لأنها لا تظهر إلا فيما يسمع بالفعل لا فيما تكتبه الصحف أو غيرها. وذلك مثل هذه الكلمات العربية: "كيان" و"خيار" و"عيان" فقد شاع على ألسنة المذيعين النطق في الكلمتين الأوليين خاصة بفتح الحرف الأصلي الأول وهو خطأ كما هو معروف. كما تغير النطق بعدة كلمات، وإن كانت مقبولة بشيء من التجوز، ومن ذلك كلمة "مهمة". كنا في شبابنًا لا نعرف إلا النطق بها على وزن مُفْعِلة (اسم فاعل أهم). فشاع الآن خاصة في بلدان الخليج مهمة بفتح الميم .
... وأقبح من "كيان" بكثير هو نزعة لاحظناها في الأداء للكثير من المذيعين فلا يعتدون في نطقهم بحرف المدّ في حالات كثيرة، وذلك مثل: "المدرسة الأساسية" فينطقون بها "المدرسة الأسسية"، ومثل: "البرنامج التعليمي" ينطقون به : "البرنامج التعلمي". وقد انتشر هذا النطق الفظيع شرقًا وغربًا بسبب الإعلام المنطوق وإن كان ظاهرة مثل الموضة في اللباس إلا إنه في منتهى الفظاعة لا من حيث الذوق بل من حيث إنه يؤذن بانحلال النظام الصوتي العربي في أعز صفاته وبالتالي يهدّد كيان العربية.
وعلى هذا فإننا نقترح أن تتخذ تدابير مستعجلة من جهة، وتدابير أخرى تحتاج إلى إعداد الوسائل من جهة أخرى.
أما في القريب العاجل فلا بد، في نظرنا، من :
1-إصدار مرسوم أو أي نص قانوني في كل دولة عربية يسمح للمجامع اللغوية بالقيام بمراقبة للخطاب الإعلامي وبصفة عامة كل كلام وحديث يذاع في الإذاعة والتليفزيون من حيث صحة التعبير وسلامته وما تقتضيه قواعد اللغة العربية لفظًا ومعنى، إفرادًا وتركيبًا، وذلك بإصدار مجموعة من التنبيهات وتطالب وسائل الإعلام بمراجعة خطابها في ضوء هذه التنبيهات .
2- تمتين العلاقات بين المجامع اللغوية وكل العلماء الذين لهم خبرة بتدريس العربية من جهة والمؤسسات الخاصة بالإعلام، وذلك:(253/12)
أ- بإعداد لقاءات مع أسرة المذيعين والمنشطين كالمحاضرات في اللغة العربية والموائد المستديرة حول السلامة اللغوية، والأداء، وغير ذلك .
ب- تنظيم حلقات تدريبية لكل من توظفه هذه المؤسسات كمذيع أو منشط وغيرهم ممن يسمع صوته كل يوم الملايين من المستمعين ويكون
موضوع هذه الحلقات: التدريب على الأداء السليم وعلى التعيير السليم من حيث النحو والصرف. أما فيما يخص التدخل في المدى المتوسط فيجب في نظرنا:
1- القيام بتأليف كتاب تعليمي يحتوي على قواعد النطق السليم المستخف (الفصحى المنطوقة) كما وصفه علماؤنا قديمًا وكما يطبق على القراءات القرآنية من نوع "الحدر" الذي يصلح هو وحده للتخاطب الطبيعي العفوي.
2- إدراج مادة الأداء للغة الفصحى المنطوقة واستعمال هذا الكتاب في معاهد العربية وتكوين أساتذة اللغة العربية وخاصة في المعاهد المتخصصة بتكوين المذيعين .
3- تنظيم دروس تليفزيونية في الأداء واللغة العربية.
... ... وبالله التوفيق
عبد الرحمن الحاج صالح
عضو المجمع المراسل من الجزائر(253/13)
مفاهيم مصطلحية
في مجال الإعلام والاتصال *
للأستاذ الدكتور عباس محمد الصوري
1- الحركة المصطلحية في اللغة العربية:
من أهم القضايا التي تواجه الوضع الثقافي للأمة العربية، حاليًا، الموقف من التفاعل اللغوي مع الحياة العصرية بكل ملابساتها التكنولوجية المعقدة وكيف تستطيع الأداة اللسانية العربية أداء وظيفتها العصرية ومحاورة العلوم والمعارف الحديثة بلغة علمية مواكبة، قوامها المصطلح الدقيق والعبارة الدالة .
لم تعد اللغة العربية تعطي بنفس الزخم والثراء اللذين عرفتهما أيام النهضة العلمية في تاريخها الأثيل. فهي الآن تأخذ كثيرًا وتكاد لا تعطي إلا النزر اليسير، وإذا كان الرصيد العلمي الذي تسعى إلى تكوينه قد
حصل بفعل الاستعارة من لغات أخرى وعن طريق النقل منها، فلا غرابة أن ينصب البحث على إشكالية إيجاد المعادل المصطلحي للكلم الأجنبي حيث يغزر الإنتاج في مجال العلوم الحديثة ومن ضمنها ميدان الإعلام والمعلوماتية … .
فالعربية ما فتئت تأخذ عن غيرها مثل سائر اللغات الحية التي تأخذ وتعطي بناء على مبدأ التأثير والتأثر الجاري به العمل في سائر الثقافات، والعربية حاليًا في أمس الحاجة للانفتاح على غيرها من اللغات، فهي مجبرة على استقبال أرتال من الكلمات الوافدة، فتعمل على تكييفها واستيعابها، فتتعرب ويكتب لها مقام طيب برحاب لغة الضاد . وبعض
المفردات الوافدة تستعصي على الاندماج فتبقى غريبة محتفظة بزيها الأعجمي دخيلة، لكن اللغة العربية تحتاج إليها وإلى مثيلاتها المعربات لما لها من خطورة في النفاذ إلى الحياة المعاصرة. ولقد دعت الحاجة إلى هذه المرونة حتى تستطيع اللغة العربية التصدي إلى هذا الكم الهائل من الألفاظ المستحدثة التي تتدفق في كل المجالات العلمية وبوتيرة مذهلة تتطلب ملاحقة دينامية وبنفس السرعة وعلى نفس الوتيرة.(254/1)
وإذا كان توفير المعادل المصطلحي في العربية ليس مستعصيًا في بعض العلوم الإنسانية مثل اللغويات والأدب والاجتماعيات إلخ… بحكم ما تراكم في اللغة العربية من مخزون معجمي غني وكاف لكي يمنح منه المصطلحيون بكل ارتياح، فإن الأمر يختلف في مجال العلوم التجريبية والتقنية التي نمسي فيها ونصبح على كم غزير يستحدث بلا انقطاع، تحاول اللغة العربية أن تلاحقه ولو على مستوى المواكبة، أما الإنتاج فهو يتوقف طبعًا على مستوى البحث العلمي الذي توضع بمقتضاه المفاهيم والتي تبنى عليها المصطلحات .
ليست المشكلة إذن في المصطلحات الجديدة بقدر ما هي في المفاهيم التي تعبر عنها، وسنحاول أن نستدل على ذلك من خلال هذه الدراسة التي تتخذ لها كموضوع مشروع إعداد قائمة بأهم المصطلحات الرائجة في الإعلام والاتصال التي تعالج مفاهيم تعبر عن الثقافة العربية والإسلامية .
2- الإعلام والاتصال : المفاهيم والمصطلحات:(254/2)
لقد أصبح الإعلام علمًا قائمًا بذاته، له مبادئه ومجالاته ومناهجه وله مصطلحاته التي تحدد تصوراته العلمية. والتحكم في هذه المصطلحات يجب أن يمر عبر مفاهيم دقيقة خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالتعبير عن التراث الإسلامي، وهو مجال ثقافي معقد ومتداخل يتسم بنوع من الراهنية السياسية والإيديولوجية (1) تروج له لغة مستحدثة عبر الوسائط المكتوبة والمرئية والمسموعة من الصعوبة الاقتناع ببراءتها. ذلك أن مصطلحات الإعلام ليست كلها تقنية، فنسبة كبيرة منها تحيل إلى مفاهيم لها أبعاد ثقافية ترتبط بالهوية العربية والإسلامية التي تعكسها اللغة العربية، وهي في نظر كثير من المفكرين" تشكل أحسن أداة لنقل مبادئ القومية"(2). ولقد نبتت هذه المصطلحات أصلاً وترعرعت في مناخ فكري ذي منظور غربي ينطلق من تصورات مغايرة تحاول اللغة العربية استيعابها من أجل توطينها وتعريبها. لكن عملية التوطين هذه ليست عملية هينة ولا ميسرة، فهي قد تمت بالنسبة لهذه النوعية من المصطلحات عن طريق النقل والترجمة، وعملية الترجمة تقتضي الالتزام بمنهجية صارمة تساعد على الحد مما يعتري المفاهيم المنقولة من جنوح أو خلل، وهذا ما يستدعي الوقوف على عينة من القضايا المصطلحية التي نسعى من خلالها أولاً إلى استجلاء المادة المعجمية المختارة لاختبار مدى صلاحيتها لنقل هذه المفاهيم في إطار مرجعيتها الثقافية، ومن هذه القضايا نسوق ما يلى :
3- في الإحالة المعجمية للمصطلح الإعلامي:
... كان المتن المصطلحي الذي اشتغلنا عليه يتألف من زهاء ثمانمائة وخمسين مصطلحًا (850)، قمنا بجرده من عينة اختيرت من عدة قوائم مصطلحية في مجال الإعلام والاتصال متنوعة في عدة معاجم متنوعة، لكن التركيز كان أساسًا على خمسة منها، وهي :
المعجم الموحد لمصطلحات الإعلام: إصدار مكتب تنسيق التعريب بالرباط سنة 1999م.
المعجم الموحد لمصطلحات المعلوماتية: إصدار مكتب تنسيق التعريب بالرباط سنة 1999م.(254/3)
معجم المصطلحات الإعلامية .د. كرم شلبي - دار الشروق . ط. 1. 1989م .
Glossairedetermes des telecommun-ications (F.A.A.E).
(UIT-UAT-PNUD-FADSE)
Genéve 87.
أعمال ندوة : الإعلام الإسلامي والعلاقات الإنسانية، ط، 2. الرياض. د . ت .
ولقد اتضح لنا خلال عملية التحليل لهذه المادة المصطلحية أن المصطلح الإعلامي يتسم بالغزارة في مساحة واسعة من المحاور المتعدد يمكن للباحث أن يتيه في أرجائها، وأن هذه المحاور، إذا ما لقيت العناية الجديرة بها فهي قمينة أن تعقد لكل محور منها دراسة مستقلة بها، فهناك مثلاً: الإعلام الصحافي المكتوب - والإعلام الإذاعي والتلفزي - والبريد- والقنوات الفضائية - والإنترنيت … إلخ ثم إن المصطلحات الرائجة بهذه المحاور منها ما هو تقني محض كالمسميات المتصلة بالوسائط والأجهزة والآلات، ومنها ما هو إحالي ثقافي، يعبر عن دخول مصطلحات جديدة تروج لمفاهيم يختلط فيها السياسي والفكري والعلمي، مثل ( الحركات الإسلامية) و(الأصولية) و (الإرهاب) و(المجتمع المدني) و(حقوق المرأة وحقوق الطفل) … إلخ.(254/4)
وهذا النوع من المصطلحات يطرح جديًّا عدة قضايا، على رأسها: نوعية العلاقة بين المعجم والمصطلح من جهة، وبين المصطلح وما يحيل إليه من مفاهيم من جهة أخرى. خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالبعد الاجتماعي والثقافي الذي يتحرك فيه هذا المصطلح. فالسياق الاجتماعي والثقافي يعكس نوعية المفاهيم التي ينقلها المصطلح على مستوى الحياة التي يعيشها المستعملون له أفرادًا وجماعات، كما يعكس أيضًا نوعية العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاجتماعي (3)، ومما يؤخذ على اللسانيات النظرية، وهي تهتم بالمعنى، أنها اتخذت لها منهجًا داخليًّا (يعتمد في تفسير المتغيرات على ظواهر لغوية محضة) (4)، أي أن هذا المنهج يغفل السياق أو الموقف أو المقام، فاللسانيات الاجتماعية هي التي تعطي أهمية للسياق الذي يحدث فيه الاتصال اللغوي، والمقصود به اعتبار الموقف أو المقام .
... ونحن عندما نتحدث عن الموقف لا يمكن تصوره دون العوامل الفاعلة فيه، وهي العوامل الاجتماعية التي تؤثر في النص الملفوظ وبه تحدث صياغة العبارة ونوع الأسلوب المستعمل كالأمر والنهي والإقناع والتأكيد … إلخ من هذه الزاوية الخارجية لعملية الاتصال.
ينظر ج. ما طوري إلى مفردات المعجم، فهو يرى أن دراستها هي دراسة المجتمع، وأن (الانطلاق من دراسة المفردات إنما يكون لمحاولة تفسير مجتمع معين)(5). فالمعجمية تتناول اللغة كظاهرة اجتماعية، وبالتالي فالمعجم -حسبه- لا يدرس لذاته وإنما يدرس لتفسير المجتمع، كيف ذلك؟ .(254/5)
... ينظر ج. ما طوري إلى المفردات باعتبارها أفعالاً اجتماعية، وهي تصنف في مجموعات تسمى حقولاً، وتصنف هذه الحقول (حسب التصورات والمفاهيم الخاصة بكل مجتمع والخاصة بكل حقبة زمانية) (6) ومعنى هذا أن اللغات يمكن أن تلتقي في أمور عامة، لكنها تختلف في تصوراتها ومفاهيمها الخاصة، والذي يهم في اختلاف اللغات (هو في رؤية العالم) وبالنسبة للمصطلحات، فجورج ما طوري لا ينظر إليها باعتبارها مفردات مجردة، وإنما ينظر إلى القيمة الاجتماعية التي تمنحها أهميتها، بمعنى أن أهمية كل مفردة إنما تحدث بفعل وضعها داخل السياق الاجتماعي والثقافي للغة التي يتحرك فيها المصطلح، أما خارجه فهي–كما يقول- مجرد سديم.
4- المعنى المعجمي والمفهوم المصطلحي:
... رأينا سابقًا كيف أن الألفاظ عمومًا تتأثر بسياقها الاجتماعي، والسياق الاجتماعي مشروع بنوعية التصورات والمفاهيم السائدة، وقد أشار ج. ما طوري إلى إمكانية إيجاد قواعد مشتركة بين اللغات على المستوى النحوي والصرفي بل وحتى البلاغي، لكن المستوى المعجمي يتميز بحمولته الثقافية الخاصة بكل شعب حسب عاداته وتصوراته وقيمه. فالنظام المعجمي- يختلف عن النظام النحوي (وهو نظام قاعدي)، فالأول مفتوح (7)، وقواعده التي تحكمه لا يقصد بها محدودية هذه القواعد على غرار القواعد النحوية والصرفية، فالتقابلات في المعجم مثلاً واردة لكنها تحمل مدلولاً مختلفًا من التقابلات التي تحكم النظام النحوي، فإذا أخذنا مثلاً مجال "السكن" كحقل من الحقول الدلالية فهو يشتمل على عدة مفردات، منها كلمة "منزل" التي لا تقابل كلمة "عمارة" مثلاً…(254/6)
... تتسم المعاني المعجمية نسبيًّا بالخصوصية وهي لا تجمعها قاعدة واحدة على نحو ما نجد في القواعد النحوية التي تتصف بالنظامية والاطراد (8)، لذلك جعله اللغوي بلومفيلد مجرد ذيل للنحو يتضمن قائمة من الاستثناءات الأساسية (9). فالمعجم إذن نظام مفتوح لما يتضمنه من معان تتغير وتتلون بحسب التجارب والأحقاب إلى حد يمكن وضع مخطط لحركية المفاهيم التي تعبر عنها الألفاظ.
والمعجميون يميزون بين التحليل المعجمي والتحليل المصطلحي والتعريف المصطلحي، فالألفاظ على مستوى التعريف المعجمي تساوي مدلولاتها حتى بين اللغات المختلفة وإلا استحال النقل من لغة إلى أخرى وبالتالي يصعب تصور فكرة "الترادف الكوني"، ومعنى هذا المفهوم هو افتراض أن لكل لفظ ما يوجد مرادف بالضرورة وبالقوة مرادف له، فإن لم يوجد بالفعل فهو كائن بالقوة، ويجب استنباطه (10). وهذا الافتراض يتصل بافتراض آخر يتعلق بإمكانية الاستنساخ الثقافي الذي يطرأ بواسطة الترجمة أي إمكانية الرحلة من ثقافة إلى أخرى دون اعتبار لما بينهما من اختلافات عن طريق الترجمة .(254/7)
... هذا عن التعريف المعجمي، أما التعريف المصطلحي فهو "تعريف يختص بالألفاظ التي تتصل بمجال من المجالات المعرفية في العلوم الطبيعية أو الإنسانية لدى جماعة من الباحثين في ميدان معين" (11)، يتحدث هذا التعريف عن المجالات المعرفية أي المفهومية، فالمفاهيم هي موضوع التحليل المصطلحي، يقول هـ. فيلبر أن التعريف المصطلحي ينبني على إيجاد " صيغة تصف مفهومًا بواسطة مفاهيم أخرى معلومة وتميزه عن المفاهيم داخل المجال المفهومي، كما تحدد موضعه فيها" (12) فالمصطلح يحاول ضبط المفهوم في مجال محدد ولذلك تجده يشكل المادة الأساسية للمعاجم المتخصصة، وتتميز هذه المعاجم بطابعها الاختزالي حتى لا يقع تشويش على المفهوم وعلى تحديده بدقة وصرامة مثلما نجد في المعاجم الطبية والبيولوجيا والفيزياء وغيرها… فالتركيز في هذه المعاجم على المفهوم العلمي جعل الصلة بالمظاهر اللغوية الأخرى في عملية الشرح ضئيلة، فالذي يهم هو "أن يحدد المصطلح بلغة واصفة بواسطة مفاهيم أخرى محددة"(13).
... فإذا كانت المفاهيم تشكل قوام التعريف المعجمي والمصطلحي، فما دورها في التعريفات الموسوعية؟ الواقع أن التدقيق في المفاهيم يحتل مرتبة ثانوية في التعريف الموسوعي؛ لأنه بطابعه يتعارض مع الاختزال والإيجاز، ويميل أكثر إلى التفصيل، ويتطرق إلى عدة مجالات بلا ضابط معين، فهو يستثمر كل المعلومات التي يراها المؤلف تهم القارئ في المدخل الذي يحرره.
... وسنأخذ مثالاً لمادة "حمْل Grossesse"، كيف عولجت في معجم لغوي، ثم في معجم مصطلحي وآخر موسوعي؟
الأول- في المنجد: الحمْل: مص. ما في البطن، ثمر الشجر. ج. أحمال وحِمَال وحُمُول.
الثاني-في معجم الطب لاروس: الحمْل
(Grossesse): حالة المرأة الحامل: يبدأ مع التلقيح وينتهي مع الولادة (تدوم فترة الحمل من 270 إلى 280يومًا).(254/8)
الثالث- في معجم لاروس الموسوعي: 1-"الحمْل: حالة المرأة الحامل من التلقيح إلى الولادة، مدة الحمل الطبيعية 280يومًا.
... 2- الحَمْل خارج الرحم حيث تستقر البويضة خارج الرحم وهناك تنمو/ الحمل العصبي هو مجموعة من المظاهر العصبية التي تشي بحالة الحمل دون أن يكون هناك تلقيح، وهي تتصل بحوافز, لا شعورية. يبدأ الحمل بتعشيش البويضة الملقحة في الرحم …. تتحَّول البويضة إلى مضغة، في حدود الشهر الثالث يتشكل الجنين الذي يحمل معه تحولات في جسم المرأة، فالرحم يتسع رويدًا ويتخذ حجمًا أكبر إلى حد يملأ البطن في الشهر التاسع. وابتداء من الشهر الرابع يمكن للمرأة أن تحس بحركات الجنين في بطنها الذي يسبح في السائل الأمنيوتيكي كما يمكن للطبيب أن يسمع دقات قلبه، في نهاية الشهر التاسع يصل الحمل إلى نهايته مع الولادة، وهي عملية الدفع بالجنين خارج الرحم" .
... مفهوم الحمل لا يتغير في المعاجم الثلاثة، لكن منهجية المعالجة اختلفت فيها سواء من حيث نوعية المعلومات أو كمها.
في المنجد اقتضى الشرح ثمانية ألفاظ مع الجمع بين حَمْل الإنسان
وحَمْل النبات (الإِثمار) .
... في المعجم المصطلحي: ارتفع عدد الكلمات إلى أربع عشرة كلمة، مع حذف معنى إثمار النبات من عملية الحمل، وهذا طبيعي؛ لأن المعجم يحدد المفهوم في مجال محصور هو مجال الطب.
... أما في المعجم الموسوعي، فقد بلغ عدد المفردات إلى ما يفوق مئة وعشر كلمات وفيه عولج الحمل جسديًّا ونفسيًّا وفيزيولوجيًّا وعلاجيًّا … إلخ.(254/9)
... انطلاقًا من هذه المعطيات المنهجية والإجرائية عمدنا إلى حصر مفاهيم الإعلام في المجال الإسلامي، وعند فرز المصطلحات التي انتقيناها كعينة ممثلة مما ينيف عن عشرين ألف مصطلح، لم نجد في المعالجة التي بين أيدينا منهجًا واضحًا يمكن الاستناد إليه، فالمصطلحات تارة تعالج من وجهة لغوية، ولاسيما إذا كانت تدل على الآلات والأجهزة، مثل : خط - هاتف- سلك- كشاف - كراس - قرص مدمج- تلفاز- بث - لازمة إعلانية … إلخ.
وتارة من وجهة مصطلحية يغلب عليها طابع القصد والإيجاز- كما هو مألوف في المعاجم المخصصة، لكننا وجدنا نسبة كبيرة من المفاهيم اختلطت في معالجتها المعايير، لا من ناحية النوع، ولا من ناحية الكم، والسبب حسبما رأينا يعود إلى طبيعة المفاهيم المنقولة أساسًا عن المناخ الفكري، الذي أنتجت فيه، ومنه هاجرت إلى اللغة العربية بحكم الجدل السياسي في وسائل الإعلام والذي لا بد أن يكون للثقافة العربية موقف منه، سواء على مستوى المصطلح أو على مستوى المفهوم الذي ينقله المصطلح. بالنسبة للمستوى الأول يجد الباحث نفسه أمام قضية كيفية صياغة لفظ المصطلح بقطع النظر عن مفهومه، هل يتم ذلك عن طريق التأصيل والتأثيل أو بواسطة تعريب المصطلح وتدجينه؟ وبالنسبة للمستوى الثاني يقتضي الأمر من الاقتناعات التي يحملها وقد تكون صادمة أحيانًا كثيرة لما يؤمن به من أفكار ومبادئ .
5- تأصيل المصطلح الإعلامي في الثقافة العربية:(254/10)
... هنالك هرمية تلتزم بها جل المنهجيات التي توظف في وضع المصطلح ينطلق فيها مكتب تنسيق التعريب من مبدأ "إعطاء الأسبقية للمصطلحات التي وضعتها المجامع ثم المصطلحات التراثية "ويلخصها مجمع العراق في: "تفضيل اللفظ العربي على المولد، والمولد على الحديث، واستعمال اللفظ العربي الأصيل إذا كان المصطلح الأجنبي مأخوذًا عنه…"(14). وهو نفس ما أكدت عليه قرارات اتحاد المجامع في مبدئها الأول الذي ينص على " الحرص على ما جاء في التراث العربي من مصطلحات عربية أو معربة، وتفضيل المصطلحات التراثية على المولدة" (15).(254/11)
... والواقع الذي نلمسه في لغتنا أنها لم تتحرج في الأخذ عن غيرها، والكلمات الوافدة تعرف اللغة العربية كيف تستوعبها، ولقد حاول علماؤنا منذ القديم اللجوء إلى ما هو متاح من وسائل الصرف والاشتقاق والنحت والاستعارة: وإذا أعوزتهم الحيلة عرَّبوا. أما التراث اللغوي فمن الصعوبة استسهال التصرف فيه على غرار ما فعل الأوربيون مع تراث اللغتين اليونانية واللاتينية الميتتين. فتراثنا، رغم القرون السالفة، ما يزال حيًّا في وجداننا بلفظه وبمفاهيمه، وما يتطلبه المصطلح من تخصيص وشفافية في التدليل يتعارض مع ألفاظ التراث التي ما تزال تجنح إلى التعبير وإلى الإبداع، مما يؤدي بحكم التاريخ والمجاز إلى تعدد الدلالة، وتعدد الدلالة في الألفاظ عملية غير اصطلاحية؛ لأن تحديد المفهوم فيها يرتبط بالسياق وليس بالميدان التخصصي الذي تندرج فيه، من هنا كان التعامل مع الألفاظ التراثية صعبًا، فمما يروج في صحافتنا العربية حاليًّا وبإلحاح مصطلحات مثل: إرهاب، أصولية، صحوة، إسلامي… إلخ، لها مفاهيم قدحية عند الغرب ونحن ننقلها أحيانًا بظلالها العنصرية دون احتراز، وهناك مصطلحات ترجمت إلى العربية على عجل وشاعت، مع أن لها مفهومًا خاصًّا في الثقافة الإسلامية مثل: (استنساخ) المأخوذة عن (clonage) : والمصطلح علمي يشير إلى هذه التجربة التي تمت على حيوان ثديي (نعجة) استخرج منه العلماء حيوانًا مماثلاً انطلاقًا من خلية له ناضجة (نعجة أخرى سموها دولِّي)، وقد أثارت عملية "الاستنساخ" الحيواني زوبعة من الردود السلبية والإيجابية خوفًا من أن تمتد العملية إلى الإنسان… لكن المصطلح قُبِل دون اعتراض، مع أن مادة "نسخ" ومزيدها "استنسخ" لا تعني "المماثلة" وإنما حسب المعجم تعني "الإزالة والإبطال والمسخ" وقد كان شيوخنا يطلقون على نسخ العقود مصطلحًا آخر هو "النظير" (الأصل ونظيره) للابتعاد عن معنى "الإبطال" الذي يوحي بها مدلول "النسخ".(254/12)
... هناك أيضًا كلمة "السخرية" لها مفهوم قدحي في الثقافة الإسلامية، لكنها في الثقافة الإعلامية ترجمت عن "satire" وهي تعني نصًّا مكتوبًا أو ملفوظًا يعمد فيه صاحبه إلى نقد معاصريه من المشاهير والسخرية من صورهم ومن أفعالهم وأقوالهم. وفي الإذاعة والتلفزة برامج خاصة يومية لتمثيل الشخصيات البارزة بشكل كاريكاتوري وفي مواقف هزلية تشيع مثالبهم… أما الألفاظ الأخرى مثل "أصالة" و"قومية" و"سني" و"شيعي" و"سلفي"… إلخ، والتي يشيع لها الغرب بمفاهيم قدحية، فهي في الثقافة الإسلامية لها عمقها التاريخي. المجيد. لكنها بحكم مفهومها التراثي والتاريخي يصعب التعامل معها كمصطلحات عصرية وإلاّ وقعنا في الشرك الثقافي العربي، ثم إن المنهج الاصطلاحي في حد ذاته ينفر من المنهج التاريخي التحاقبي على اعتبار أنه لا يتجاوز في التدليل "الحالة المعاصرة لنظم المفاهيم والمصطلحات الدالة عليها" (16) فالتعامل مع التراث لتحيين مصطلحاته عملية جذابة من الناحية النظرية، لكنها عمليًّا تدفع إلى مسالك وعرة قد لا يكون المحصول في أهميته على قدر ما فيه من جهد ووقت.
6- تأصيل المفاهيم(254/13)
... هل هناك حاجة إلى تأصيل المفاهيم التي تعبر عنها المصطلحات؟ هل هي قابلة لذلك أصلاً؟ من البديهي معرفة أن المفاهيم تتعارض وفكرة التعدد، وبالتالي فهي عصية عن التغيير. فالمفروض في المفهوم أن يكون دقيقًا وواضحًا "وقد بلغت العلوم الدقيقة ما بلغته اليوم بفضل التطور الذي شهدته مفاهيمها في مستوى الدقة والوضوح" (17) وحتى يتحقق ذلك يجب الابتعاد عن الإبهام وتعدد المفهومات في الدلالة على نفس المصطلح، وكذلك السقوط في تعدد المصطلحات للدلالة على نفس المفهوم. في الصحافة المكتوبة والمنطوقة رُوِّج أخيرًا (مثلاً) لمصطلح "المعتزلة الجدد" فما الذي يميز هؤلاء عن القدماء؟ ولماذا الابتعاد عن مصطلح "السلفية" الذي يحمل بعدًا فكريًّا ونهضويًّا مشرقًا؟ هل يمكن اعتبار مصطلح التأميم الذي خبا وهجه في المعترك السياسي مقابلاً للخوصصة (أوالخصخصة)؟
... هنالك مصطلحات كثيرة تروج لها الصحافة المكتوبة والمسموعة بإهاب تراثي، يراد لها أن تدل على مفاهيم مستحدثة ومستوردة، بدافع استنباتها في الثقافة العربية الإسلامية مثل: "الردة" و"السلفية الجديدة" "السبئية" إلخ … وقد عالج نماذج منها الشيخ عبد الله العلايلي في كتاب له تحت عنوان "مقدمات لا محيد عن درسها لفهم التاريخ العربي" وشرح فيه عينة من هذه المصطلحات القديمة في إطار قومي عربي …(254/14)
... وحتى تتضح البلبلة التي لحقت بالاتصال المفهومي في الإعلام العربي الحديث نسوق هنا–على سبيل المثال– مصطلحًا أثار زوبعة من التأويلات التي تصل أحيانًا إلى حد التناقض من حيث فهمه وتأويله، ونعني به مصطلح "المجتمع المدني" الذي شغل جمهور المعلقين والمحللين العرب، وسنعرض لثلات صور لتأويل هذا المصطلح الطارئ على الثقافة السياسية العربية بقلم ثلاثة صحافيين من ألمع الكتاب والمحللين المشهورين العرب، وفي أعداد متفاوتة في صدورها، نكتفي بتأمل النص فهو يغنينا عن الإحالة إلى كاتبه أو الصحيفة التي نشر بها :
النص الأول:
... المجتمع المدني: مصطلح قديم نسبيًّا، غامض في تعريفه ومفهومهٍ الحديث، لكن لندع المفهوم جانبًا لندرك أنه تعبير مؤدب وخجول عن مطالبة المثقفين بالديمقراطية ودولة القانون والنظام ومجتمع المساواة في الفرص والحقوق والواجبات والحريات..
النص الثاني:
... تدور هذه الأيام نقاشات متفاوتة الحدة والعمق حول "المجتمع المدني" حاولت البحث عن تعريفه … فيما أقتني من قواميس … المفاجأة الكبرى أنه لا وجود لهذا المصطلح. هناك القانون المدني (روما) والهندسة المدنية والمدن والحقوق المدنية، لكن لا وجود "للمجتمع المدني". ربما لأن القضية غير مطروحة في الأساس. وأحد تعريفات كلمة "مدني"… أنها "كل ما ليس عسكريًّا أو كهنوتيًّا"، غير أن التعريف الوحيد الذي عثرت عليه في كتاب فرنسيس فوكوياما (صاحب نهاية التاريخ) … يعرف المجتمع المدني بأنه "مجموعة من المؤسسات التطوعية والمعاهد"….(254/15)
… ومفهوم المجتمع المدني مصطلح أوربي ولد في النصف الثاني من القرن الثامن عشر للتعبير عن تحول حكومات أوربا الغربية من الحكم الفردي والاستبدادي المطلق إلى الديمقراطية البورجوازية. وفي أواخر القرن التاسع عشر اختفى ذلك المفهوم ولم يعد للحياة إلا في مطلع القرن العشرين على يد المفكر الإيطالي غرامشي الذي أراد الرد على ستالين وإثبات خصوصية علم اليسار الأوربي في مجتمعات كرست بعض أشكال التقاليد الديمقراطية والتعددية(18).
... إذا تأملنا هذه النصوص الثلاثة نجد أن الهاجس الذي تعبر عنه ليس هو حصر المفهوم بقدر ما هو العمل على إيجاد تصور له في الواقع، والمصطلح كما أسلفنا إنما ينبني على مفهوم متجذر في الواقع وفي مجال محدد، وليس موجودًا على مستوى الافتراض. تعبر هذه النصوص، أيضًا، عن البحث على ملامسة المفهوم داخل الحقل الثقافي العربي بإيجاد جذور له وأصول، فيصيب الباحث أحيانًا ويختل التحليل عنده كثيرًا، وهذا نموذج لمحاولة صريحة لتأصيل مفهوم مصطلح آخر مستحدث هو "حقوق الطفل" من خلال (وثيقة إسلامية بديلة لاقتراح الأمم المتحدة)، وبهذا النص الرابع، نختم هذا الحديث :
النص الرابع:
... أعدت اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل بالمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة وثيقة إسلامية للطفل تكون بديلاً عن وثيقة الأمم المتحدة للطفل…. وقد قال المدير العام للمجلس الإسلامي العالمي (بصدد هذه الوثيقة البديل): … إن وثيقة الأمم المتحدة لم تشر إلى الدين بأنه عامل فعال من عوامل تنمية الطفل بل اعتبرت الأديان والعقائد من العوامل التي تدعو إلى التفرقة بين الأطفال …
... ولم تؤكد ( هذه الوثيقة ) على
البعد الروحي والاجتماعي لتربية الطفل(254/16)
بنفس المعدل الذي أكدت فيه على أبعاد الانحلال الأخلاقي …. ولم تركز على دور الأسرة في تنشئة الأطفال بل ركزت على الأسرة البديلة… ولفظ الأسرة البديلة غير الشرعية ذكر في 106 بنودٍ من بنود الوثيقة وذكرت لفظ الأسرة صراحة 12 مرة. فوثيقة الأمم المتحدة تعطي الطفل انطباعًا سلبيًّا لإخراجه من الأسرة بنفس الطريقة التي أخرجت بها المرأة في وثيقة مؤتمرات المرأة- ولا تذكر هذه الوثيقة تعريفًا للأسرة على أنها وحدة مكونة من رجل وامرأة مرتبطين بعلاقة زواج شرعي ولكنها استخدمت بديلاً بأن للأسرة عدة أنماط مختلفة، وبذلك يشيع الأطفال والأبناء والأطفال غير الشرعيين في مجتمعاتنا الإسلامية مثل ما حدث في الغرب.
عباس محمد الصوري
عضو المجمع المراسل من المغرب
الهوامش:
يقول د. محمد المنجي الصيادي في كتابه: التعريب وتنسيقه في الوطن العربي. بيروت 1980 ص370 : "إن التعريب إنما هو اختيار سياسي وحضاري".
نفس المرجع . ص 375 .
د. عباس الصوري: الرصيد المعجمي في اللغة العربية، الرباط 1995 .
د. نهاد الموسي: نحو اللسانيات الاجتماعية في اللغة العربية. مجلة "الدراسات اللغوية"، الخرطوم 1985.
جورج ماطوري: منهج المعجمية، ترجمة د. عبد العلي الودغيري 1993 .
المرجع نفسه .
موسوعة:“La pleiade” ص 284.
د. علي القاسمي: علم اللغة وصناعة المعجم . ص : 6 .
المرجع السابق .
د. عباس الصوري: بين التعريب والتوحيد، ضمن ندوة "قضايا المصطلح في الأدب والعلوم الإنسانية " سنة 2000م .
د. حلام الجيلالي: تقنيات التعريب بالمعاجم العربية المعاصرة (منشورات اتحاد الكتاب العرب) 1999 ص: 137 .
نفس المرجع .
نفس المرجع .
د. محمود أحمد السيد: المبادئ الأساسية في وضع المصطلح وتوليده، مجلة "التعريب"، العدد 19/200.
ندوة "إقرار منهجية موحدة لوضع المصطلح العلمي العربي وسبل توحيده وإشاعته" المنعقدة بدمشق أكتوبر 1999.(254/17)
د. محمود فهمي حجازي: الأسس اللغوية لعلم المصطلح .
د. علي وطفة: إشكالية المفهوم/ مجلة "التعريب 19/2000.
اخترنا هذه النصوص الثلاثة وما يليها من أعداد متفرقة لجريدة "الشرق الأوسط" الذائعة في جل الدول العربية.(254/18)
ثانيًا - كلمة المجمع في تأبين فقيده المغفور له
الأستاذ محمد عبد الغني حسن
للأستاذ عبد السلام هارون الأمين العام للمجمع
أيها السادة المعزُّون، أيها السادة المعزَّون، أيها السادة المعزُّون:
جلّ ذا الخطب في عزيز علينا
كان يحتل في الدُّنا صرح معز
كان حق اليقين ثمت أمسى
بعـ فقدانه حقيقة لغز
فترى القوم كالحيارى يقولو
نَ مَنِ المعَزَّى؟ فيه وأين المعزِّى
هذا موقف من أشد المواقف التي تعرض للأصدقاء حينما يرون الوفاء ماثلاً أمامهم يريدهم على أن يقولوا كلمة العزاء في جمع حاشد ، الغائبون منهم فيه يُربون على الحاضرين آلاف الآلاف، فلك يكن رحيل فقيدنا ألمًا وحزنًا لمجمعنا هذا المحدود، ولكنه ألم العلماء، والأدباء، والمحققين، والشعراء جميعًا في عالم العروبة، على امتداد أطرافه، وترامي أقطاره ولا إخال قطرًا من أقطار العروبة تخفى عليه مكانة الفقيد وآثاره الثقافية الموسوعية، فقد كان زميلنا المغفور له ذائع الصيت، جليل المقدار، مشهودًا له بالبراعة والفضل، وجودة اليراع المبدع يقلبه بين منثور القول ومنظومه، على مدى متطاول من السنين يجتاز الخمسين من الأعوام عدًّا، كما يجتاز أضعافها من الأمكنة والأرجاء إحصاء، فآثاره في مصرنا وسوداننًا تجري من الإسكندرية إلى جنوب الوادي، وإخواننا في العراق وإمارات الخليج، وفي السعودية والأردن، وسوريا، ولبنان، وبلاد المغرب قاصية ودانية قاطبة ، يقرؤون أدبه، ويتابعون قلمه، ويتابعهم بقلمه ويصلونه ويصلهم بحبله المتين، ولا تكاد تجد مجلة ذات مقدار في تلك الأرض العريضة ليس له في ذراها مقيل كتابي أدبي أو نقدي أو تاريخي أو لغوي، تدعوه المحافل للإسهام في نشاطها، حريصة على ثمار قلمه أو جليل رأيه وفكره، فيمضي مستجيبًا لا يتخلف، ولا يتريث.(255/1)
... عرفت الفقيد في مقتبل الشباب ونحن نسعى لقطاف أوائل المعرفة في تجهيزية دار العلوم التي كانت نمطًا فريدًا بين دور العلم تجمع إلى أصول العربية والدراسات الدينية طوائف من علوم العصر وفنونه، فكان علمًا بارزًا بين إخوانه، مجليا بين أقرانه، ممتازًا بنشاطه في الحياة الاجتماعية، فلم تكن هناك مناسبة أدبية أو مباراة فكرية لم يكن فيها أبًا بجدتها، أو مشاركًا في حومتها ، لم يتخلف يومًا عما يقتضيه واجب الوفاء لإخوانه، أو لأساتذته ، الذين كان له بهم أوثق الصلات وأصفى المودات . حتى إذا اجتزنا هذه الدراسة الأولى وكنا في دار العلوم العليا في سنة 1928 رأيت هذا النشاط في أوجه ، وإذا الأهرام الغراء تفسح صدرها لفقيدنا وتنشر له شعره معتزة به كما تعتز بنشرها لشعر أمير الشعراء شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم ، وتمنحه لقبًا لم تمنحه لأحد من قبل ولم تمنحه لأحد من بعد، وهو اللقب الذي كان يعتز به ونعتز له به، وهو شاعر الأهرام، وقد كان الفقيد على صلة وثيقة بالصحافي القدير أنطون الجميل باشا رئيس تحرير الأهرام. وهى الصلة التي أوحت إلى أنطون الجميل أن يقدم له أول دواوينه الستة "من وراء الأفق" فيقول: سايرت الشاعر صاحب هذا الديوان، في معظم مراحل حياته الأدبية : عرفته أديبًا ناشئًا يقرض الشعر فيجيد قرضه، وينظم شعوره فيحسن نظمه، والصحف السيارة تفسح له مجال النشر على حياته، … وكان شغوفًا بالحرية كارهًا للقيود.
كتب إلي في أوائل سنة 1931، وهو في مطلع شبابه:
غدًا سيعدّون لي في حياتي
وَظِيفَة ذُلٍّ وَعَيْشٍ زري
وَلَكِنَّني سَأَبيعُ الوظيفـ
ـة بَيْعَ الأَبيِّ فَمَنْ يَشْتَرِى؟
فَقَدْ أَنْبرِي اليومَ نَحْوَ الحياةِ
وَعِنْدَ الوظِيفةِ لا أنبري
ولا أفتري اليوم زور الكلام
وعند الوظيفة قد أفترى(255/2)
ثم عرفته عضوًا في بعثة دراسية إلى المغرب للاستزادة من العلم والعرفان تستهويه محاسن أوربا ومفاتنها فينظم في معالمها وفي ناسها الكثير من قصائده، ولكن ذلك لا ينسيه معالم وطنه، ولا آحاده ولا جمعه، فيحن إلى مغانيه وإلى مواسمه، حنين المغترب، بلطفه ما تحمله إليه الصحف من أنباء مصر :
عَامَانِ يا عيدُ لَمْ أُمْتِعْ بَِمْشَهدِهَا
عَيْني، وَأُمْتعْ بِالأخبارِ آذاني
يأتي البشيرُ على الأهرامِ مُبتسمًا
ألقاهُ بالفرحةِ الكُبرى وَيَلْقَانِي
وعرفته بعد عودته من البعثة، وقد اكتمل نضجه واتسع أفقه، وقادته البعثة إلى الوظيفة التي كان ينفر منها، فلم يفتر زور الكلام ، وظل ينبري نحو الحياة ، فقام بواجبه للوظيفة من غير أن ينسى واجبه للأدب "هذا ما قاله أنطون الجميل"، وبعث برائعة من قصائده إلى صحيفة كوكب الشرق في سنة 1928 فقدم لها الأستاذ أحمد حافظ عوض وكان صاحب قلم، بقوله: "ولقد أنجبت الكوارث التي فنيت بها مصر في نهضتها الوطنية شعراء يلتهبون حبًّا لبلادهم وإخلاصًا لشعراء، هؤلاء الشعراء هم شعراء الشباب الطاهر البرىء، الذين لا يصانعون في الحق ولا يسترون الحقيقة بثوب الرياء فيطلعون على الناس بما يجول في ضمائر الناس، فهم للأمة في مطالبها ترجمان صادق ، وهم لها في ميولها قلب خافق، بارك الله فيهم وأدامهم في سماء الشعر كواكب لامعة، وبدورًا ساطعة، ثم يقول: وإلى القارئ خريدة عصماء، هي في الشعر ملك، نظمها شاعر من شباب اليوم الذين تسطع أنوار آرائهم في دياجير الحلك، فتنير الطريق للسائرين، غير راغبين في ثناء الوطن ولا في رضا غير رضا رب العالمين. هذا ما قاله أحمد عوض.(255/3)
كان الشعر زاد فقيدنا، كان طعامه وشرابه، وكان رفيقه إلى آخر أيام حياته كما كان رفيقة في أوائل أيام حياته. ودواوينه الستة الرقاق اللطاف شاهدة ونابضة بحياة مترامية الأطراف متواشجة العلاقات مع طائفة كبيرة من الأدباء والعلماء، إن لم نقل جميع الأدباء والأعلام المعترف بهم في زمانه، إذ كان محبًّا للناس جميعًا، حريصًا على غرس المودات بينه وبينهم، كما كانوا هم حراصًا على التودد إليه والقرب من ساحته. ونظرة متأنية في دواوينه التي حرص فيها على توضيح المناسبات وتأريخها "تشهد لأول وهلة باتساع الأفق الاجتماعي الذي يسبح فيه ويحلق في أرجائه".
أنطون الجميل، الشاعر محمد إقبال، محمد وحيد الدين الأيوبي، على الجارم، أحمد محرم، علي محمود طه، علي الجندي، إسعاف النشاشيبي، شعراء مصر جميعًا، شعراء العراق، وسوريا، ولبنان، والمغرب، والمهجر.
رثاء شوقي، وحافظ، وخليل مطران، وطنطاوي جوهري، وأحمد الإسكندري، ومصطفى عبد الرازق، وأحمد تيمور… إن دواوين محمد عبد الغني حسن سجل وثيق صادق لأحداث عصره، وشواهد أمينة لمن أراد أن يوغل في تاريخ الحركات السياسية والاجتماعية والأدبية في تلك الحقبة التي سعدت بأن تظله من الزمان.
ففي ديوانه(من وراء الأفق) نجد بحر المانش الثائر وهو في طريقه إلى لندن يوحي إليه: بهذه الأبيات:
غَضِبَ البَحْرُ غَضْبَة فَحَسِبْنا
هَذِهِ الأرضَ زَلْزَلَتْ زِلْزَالاَ
وَسَمِعْنَا الرِّياحَ تَصْفرُ في الجـ
ـوِّ صفيرًا يُقَطِّعُ الأَوصالَ
وجرى الغَيمُ في السَّمَاءِ عبوسًا
سَاحِبًا فوق شمسنا أذيالاَ
والصَّبَاحُ الضَّحُوكُ صَارَ كَئِيبًا
والضُّحَى الواقعيُّ أَضْحَى خَيَالاَ
وَكَأَنَّ السَّمَاءَ طَافَتْ مِنَ الأَرْ
ضِ فَجَادَتْ بِدَمعهَا هَطَّالاَ
وفي ديوانه(من نبع الحياة) يسجل قبل سفره إلى إنجلترا سنة 1932 أبياتًا مطلعها:
انشُرْ قَِلاعَكَ يا رُبَّانُ إنَّ بِنَا(255/4)
شَوْقًا إِلَى الْبَحْرِ أَوْ مَيْلاً إِلَى السَّفَرِ
وَغَنِّ لي في الهوى لحنًا أُرَدِّدُهُ
في هدأةِ البحرِ أو في جلوَةِ القمرِ
فيجيبه صديقه المرحوم عادل الغضبان في اليوم التالي على صفحات الأهرام أيضًا:
يَا رَاكلَ البَحْرِ تُسْبِيهِ رَوَائِعَهُ
في هدأةِ الليلِ أو في جلوةِ القمرِ
لَعَلَّ رؤيَتكَ الأمواجَ ثائرةً
تُوحي إليكَ رقيقَ الشعرِ والفِكَرِ
إِنْ تَنْأَ للعِلْمِ عَنْ مِصْرٍ وفِتْيَتِها
فَإنَّ ذِكْرَكَ مِلءَ السَّمْعِ والبَصَرِ
ويهدي إليه محمد وحيد الأيوبي قلمًا ثمينًا من الذهب الخالص، فيسطو عليه اللص، فيبكي القلم بهذه الأبيات:
وحيد من الأقلام لكنه مضى
وخلفني وحدي لغير رجوع
فَشَيَّعْتُهُ يومَ الوَداعِ بِحَسْرَتي
وَوَدَّعْتُهُ يَوْمَ النَّوَىِ بدمُوعِي
وكان عَلَى هَمِّ الزمانِ مُسَاعِفى
وَكَانَ إِلىَ قَلْبِ الزَّمَانِ شَفِيعِي
وحينما شكا إليه الشاعر محمد الأسمر اشتعال رأسه بالشيب داعبه بقوله:
أشابك ريبُ الدهرِ؟ والدهرُ أغلبُ
وكلُّ أعاجيبِ الزَّمانِ تُشَيِّبُ
ومن عاش فى الدنيا فتيًّا فؤاده
فما ضَرَّهُ إِنْ عَاش والرَّأْسُ شيَّبُ
ويزور مصر سنة 1928 وفد من رجال التربية والتعليم في فلسطين فيحييهم بقوله:
يا جارةَ النِّيلِ إِنَّا لاَ نَزَالُ على
عَهْدِ الوفاءِ الأحبَّاءِ الوفيِّينَ
فَلِلإِخَاءِ رعاءٌ في منازلنا
وللجوار ذمامٌ في نوادينا
للشَّرْقِ في مصرَ عَهْدٌ ليس يفصحه
مَكْرُ السِّياسَةِ في أهوائِها حِينَا
يا جارةَ الِّنيلِ إنَّا في العُلا نَسَبٌ
وفى الحوادث أشباهٌ عوادينا
فَمَا أصيلُك إلا من أصائِلنا
وما ليالِيكِ إلا من ليالينا
تمرُّ فيك المآسي وَهْى رائحةٌ
كما ترى الغوادي من مآسينا
وفى حرب الحبشة سنة 1942 يسقط القائد(الرأس كاسا) صريعًا في إحدى المعارك فتتولى ابنته قيادة الجيش وكانت حاملاً ووضعت وليدها بين أزيز الطائرات، ودوي المدافع، فيوحي إليه الشعر:
امرأةٌ لكنها كالرجال(255/5)
في الكر والفر وخوض القتال
قد صبرت للموت في ساعة
تنوء فيها بالخطوب الجبال
مَن علم الحسناء معنى الوغى
من ألهم الدرة معنى النضال
لكنها الأوطان في مجدها
يرخص في تحريرها كل غال
امرأة في القصر لكنها
في ساحة الحرب تقود الرجال
تصول في الميدان مشبوبة
كأنها مخلوقة للعضال
تحمل في أحشائها طفلها
فهو وليد الهول وابن النزال
يزدحم الموت فلا تنثني
ويعصف الهول فليست تبالى
وفى ديوانه(ماضٍ من العمر) نجد له قصائد خمسًا في الزعيم الإسلامي محمد إقبال ومرثية لوجدي ناجي شهيد العراق، ومراثي أخرى لأحمد شوقي، وخليل مطران وعلى الجارم، وعلي محمود طه، وأحمد الإسكندري، والشاعر أحمد محرم وقد ارتجل مرثيته يوم وفاته.
يصدر ديوانه(سائر على الدرب) بهذه المقطوعة التي جعل عنوانها "بلا تقديم" يقول :
لم أحاولْ تقديمَ نفسي بنفسي
أنا مستشفعٌ ليومي بأمسي
يوم ودَّعت من بنيَّ ثلاثًا
من وراءِ البحارِ ودَّعت أُنسي
لَيتَ شِعْري أفي الكؤوس بقايا
بعدَ أن حطَّمَتْ يدُ الدَّهْرِ كأسي
خَطَرَاتُ الأصيلِ منها
خير كفارةٍ لمغربِ شمسي
ويناجي أمه البرة الحانية بقوله:
أماه هل أحد يردُّ جوابي
صوتي بغيرِ حماك غيرُ مجابِ
الحب يا أماه منك مزاجُه
مهما شربنا فيه من أكواب
نلهو بما سَمِعَ الزمانِ بحُسْنِهِ
ونطيقُ كلَّ شقاوةٍ وعذابِ
ويكتب إلى صديقه المهجري إلياس فرحات، وإلى موسى كريم صاحب مجلة الشرق البرازيلية ، موصيًا إياهما بولده المهندس نبيل الذي اعتزم الهجرة إلى البرازيل من مقطوعة:
أودعت بين يديكم فِلذة الكبد
وقلت: سِرفِي أمانِ اللهِ يا ولدي
قضى الطموحُ عليه أن يغر به
عن ربعه الخصب أو عن عيشة الرغدِ
الحبُّ في عُشِّهِ والماءُ في فَمِهِ
لكنَّهُ هائمٌ كالطائرِ الغَرد
ظمآن والماءُ يجرى في جَدَاوِلنا
والنيل يروى على الشطين كل صَدِ(255/6)
ويرى فتاة عربية من أسرة محافظة تدخن وقد لفها الدخان وهى تنفثه في عصبية لا تتفق مع جمال أنوثتها، فطلبت والدتها، وهى أرملة المرحوم عادل زعينتر أن يكتب أبياتا تبغض إليها التدخين، فكان منها:
وعادة مشرقة الضياء
باهرة فى الحسن والبهاء
رقيقة كالزهرة الزهراء
ما بالها تلتف بالهباء
في سترةٍ كئيبةٍ كدراء
أشبه بالملاءة الدكناء
قبيحة المرأى بعين الرائي
ولم يفته أن يجامل كريمة" ثناء" بالشعر حين طلبت إليه أن يكتتب شيئًا في كناشتها، فكتب لها:
ثناءُ يا زهرتَنا النَّضِيرة
والنجمة المشرقة المنيرة
أنتِ بكلِّ حبِّنا جديرة
وأنتِ في منزلِنا أميرة
أنتِ محبوَبتُنا الصَّغِيرة
وفرحةٌ في بيتنا كَبِيرة
حَوَيْتِ من زَهْرِ الرُّبى عبيره
وَحُزْتِ من بَدْرِ السَّمَاءِ نوره
وأن يجامل ولده أحمد فى الاحتفال بعيد ميلاده وقد أهدى إليه زجاجة عطر ثمين:
أهديك أطيبَ عطرِ
من نفحِ أجملِ زهرِ
فالطيب للطيب يُهْدى
والنشر يهدى لنشرِ
ميلادُ أحمد ذكرى
جديرةٌ بالذِّكرِ
فكن كنفحة مسك
وكن كنسمة عطر
وبلغه وهو في غربته نبأ وفاة أمير الشعراء أحمد شوقي فرثاه بقصيدة نشرت في الأهرام سنة 1932 وجعل عنوانها " المعزف الصامت" يقول فيها:
ياصاحبَ المزمارِ كيفَ تحطَّمَتْ
مِنْ أَجْلِهِ الآمالُ حِينَ تحطَّما؟
قَدْ كُنْتَ ترسله عزاءً صافِيًا
حلوًا فيسلي الشاكيَ المتبرما
ذهب البيان كما ذهبت ولم يعد
هيهاتَ أن نلقى المضيّع منكما(255/7)
إن وفاة فقيدنا للشعر والشعراء أوحى إليه في عامنا السالف أن يكتب بحثًا تاريخيًّا مستفيضا لشعراء المجمع منذ نشأته إلى اليوم بعنوان "مجمعيون شعراء". وهى فكرة نبيلة لم تدر بخلد أحد من قبله، أو دارت ولم تجد مسربًا لإظهارها صورة نابضة، فإذا بالفقيد، وكأنه أمامنا اليوم، يجلو الصورة رائعة كاملة تنطق بما صمتت عن ذكره الأقلام والصحف في بحث فريد لم يغادر فيه أحدًا من القدماء إلا نوّة بفضله: إبراهيم المازني، العقاد، علي الجارم، عزيز أباظة، كما لم ينس من الأحياء: محمد مهدي علام، وإبراهيم الدمرداش، وحسن علي إبراهيم، ومن إخوانه العرب: محمد بهجة الأثري، وعمر فروخ، ويوسف عز الدين، وعبد الله الطيب، وعبد الله كنون، وكأنه ترك لي أن أتابع شيئًا من البحث ملحقًا بما أفاض فيه. وأنَّى لي مثل قوله وفضله؟.
إن شاعر المجمع محمد عبد الغني حسن كان في القمة العالية في إنشاد الشعر وترنيم القصيد. وكنا من قبل نعجب كل العجب لإنشاد الشاعر الخالد علي الجارم، وهو يتلو أشعاره في بيان صوتي قد يعلو البيان الأدبي فإذا بشاعرنا الفارع محمد عبد الغني حسن يسمو ويسمو، ويكتب التاريخ له براعة في الإنشاد، البالغ إلى صميم الأفئدة، حتى ليصدق فيه القول: (لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود).
ولد فقيدنا بمدينة النوابغ العباقرة مدينة المنصورة سنة 1907 لأبوين من محافظة بني سويف. وبعد أن أتم تعليمه الابتدائي والثانوي بمدارس المنصورة دخل تجهيزية دار العلوم. العليا إذ ذاك وحصل على دبلومها العالي في سنة 1932 ثم أوفد في بعثة إلى إنجلترا لدراسة التربية و علم النفس واللغة الإنجليزية بجامعة أكستر. وقد استطاع أن يجمع إلى جانب معرفته اللغوية هذه معرفته باللغة الفرنسية حين حصل على دراسة صيفية فيها بموطنها فرنسا..(255/8)
وعندما عاد إلى وطنه عين مدرسًا بالمنصورة الثانوية سنة 1936، ثم مدرسًا بمدرسة الخديو إسماعيل الثانوية، ثم مدرسًا للترجمة بكلية فيكتوريا سنة 1944. وفى سنة 1946 عُيِّن مديرًا للإذاعة، ثم أستاذًا للأدب العربي والنقد بالمعهد العالي للتمثيل، ثم أستاذا بكلية الشرطة، فمفتشًا عامًّا بالتعليم الثانوي والأجنبي سنة 1955.
... وإلى جانب عمله هذا عمل مديرًا للنشر والدعاية بدار المعارف، ثم استقال من العمل الحكومي ليتفرغ لإدارة مؤسسة المطبوعات الحديثة.
... ثم عاد إلى العمل الحكومي فعين مديرًا للنشر بالدار القومية سنة 1963. وفى سنة 1967 عين عضو مجلس إدارة منتدبًا بدار القلم ومديرًا للنشر بها ، كما عمل بتحرير كثير من المجلات، فعين رئيسًا لتحرير مجلة الناشر المصري التي كان يصدرها اتحاد الناشرين.
وفى سنة 1964 اختير لعضوية لجنة الدراسات الأدبية ولجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وعضوًا بلجان فحص الإنتاج المقدم لجوائز الدولة التشجيعية للشعر وللتراجم ولأدب الأطفال.
... ولقد كرمته الدولة بحصوله على نشان النيل من الطبقة الخامسة ، وعلى وسام الجمهورية من الطبقة الثالثة ، وبجائزة الدولة التشجيعية في فن السير والتراجم في سنة 1968، ونال وسام الرواد الأوائل للمعلمين في عيد العلم سنة 1977، كما اختير عضوًا مراسلاً لمجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1972.
وقد ظفر به مجمعنا الموقر عضوًا عاملاً فيه سنة 1978 في المكان الذي خلا بوفاة المرحوم الأستاذ الدكتور محمد رفعت أحمد، كما ظفر به المجلس القومي المتخصص للثقافة والإعلام.
والنشاط العلمي لفقيدنا وافر، يضرب في مختلف فروع الثقافة. هذا العالم الموسوعي بحق سطرت براعته الكثير من المقالات والبحوث التي نشرت في الدوريات العربية طوال ما يزيد على نصف قرن .(255/9)
أما مؤلفاته وآثاره الأدبية والنقدية والتاريخية والإسلامية فإن القلم والزمان هنا يعجزان عن تصويرها أو القول في درسها . ولا ريب أنها مجال لعدة دراسات جامعية تتناول أطرافها الباسقة، وأكتفي بسرد بعض عنواناتها ففي مجال الدراسة الأدبية نجد له: الشعر العربي في المهجر، الأدب والتاريخ الإسلامي، من أمثال العرب، الخطب والمواعظ، التراجم والسير، الفلاح في الأدب العربي.
فمن الترجمة في الأدب العربي، دراسات في الأدب العربي والتاريخ ، جوانب مضيئة من الشعر العربي.
وفي مجال السير والتراجم:
حياة مي، عبد الله فكري حياته وعصره، أحمد فارس الشدياق، المغربي صاحب نفح الطيب، مي أديبة الشرق والعروبة، ابن الرومي، تراجم عربية جرجي زيدان، الشريف الإدريسي، الشريف الرضي، حسن العطار، ابن سعيد المغربي، موسى بن نصير، أبو مسلم الخراساني ، بطل السند محمد بن القاسم .
وفي التاريخ:
... صراع العرب خلال العصور، علم التاريخ عند العرب ، المعاهدات والمهادنات في تاريخ العرب، تيجان تهاوت، ملامح من المجتمع العربي، غرائب من الرحلات .
وفي الدراسات الإسلامية:
... القرآن بين الحقيقة والمجاز والإعجاز، الإسلام بين الإنصاف والجحود.(255/10)
وفي مجال التحقيق العلمي كان للفقيد مشاركة مرموقة في إحياء التراث، منها مجهوده الممتاز في تحقيق كتاب تلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي، وقد قدم له بمقدمة نفيسة حقًّا استغرقت وحدها 160 صفحة من صفحات الكتاب ضمنها المذهب النقدي الجرىء للشريف الرضي وبين أنه لم يكن تقليديًّا في فهم النصوص، بل كان غواصًا سائرًا على الحجة الصادقة، وذيل الكتاب بفهارس تحليلية رائعة بلغت عشرة من الفهارس. وتحقيقه لهذا الكتاب ينم عن أمانة علمية دقيقة، ووفاء كريم لإخوانه المعاصرين، وعناية بنسبة القليل من الفضل لصاحبه وعزوه إليه، وإن كان الفضل كلمة تؤثر أو فكرة تطرح، أو نصًّا ينقل. وهى خَلّة نفقدها كثيرًا في العلماء والأدباء المعاصرين الذين يؤثرون إخفاء الفضل أو يستعملون المهارة في السطو .
... ومما ظفر به التراث العربي أيضًا تحقيقه لكتاب " حلية الفرسان وشعار الشجعان" لابن هذيل الأندلسي. وهو الذخيرة السادسة من ذخائر العرب بدار المعارف. وقد قدم له كمسابقة بمقدمة علمية نفيسة، كما ذيل له بتعليقات على كثير من الكلمات الإسبانية الدخيلة .
... أما الفهارس فقد ارتفع رقمها هنا إلى 17 فهرسًا، ويبدو أن الزوايا المتعددة من نشاطه الثقافي الموسوعي كما قلت من قبل، حرمت أسرة المحققين من جهوده التحقيقية، التي كان لها أهلاً، وبها جديرًا، والتي كان هذان النموذجان البارعان إعلانًا عن فضله برهانًا ساطعًا على اقتداره في فن التحقيق والإخراج ، ولكننا لا نستطيع أن نغفل مشاركته في إحياء التراث من زاوية صادقة، هي نقده العلمي الهادئ النافع لأعمال طائفة كبيرة من محققي التراث. وقد نُشِر كثير من هذا النقد في مجلة المجمع. ومن ذلك:
ديوان الصاحب شرف الدين الأنصاري تحقيق عمر موسى باشا ج 30
مطلع الفوائد ومجمع الفرائد، لابن نباته تحقيق عمر موسى باشا ج 34.
شرح مقامات الحريري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ج 35(255/11)
البرصان والعرجان للجاحظ تحقيق محمد مرسي الخولي ج 36
نشوار المحاضرة تحقيق عبود الشايجي ج 38
شعر عمرو بن معد يكرب تحقيق مطلع الطرابيشي ج 39
أدب القاضي، للمارودي تحقيق محيي هلال السرحان ج42
زيدة الآثار الجلية في الحوادث الأرضية تحقيق عماد عبد السلام رؤوف ج44
طبقات الأولياء تحقيق نور الدين شريبة ج46
لسان العرب، إصدار دار المعارف
ج 48
... أما نشاطه المجمعي فمنذ اختياره لعضوية المجمع ظل يسهم إسهامًا فعالاً في نشاط المجلس ومناقشاته، وفي المؤتمرات وبحوثها ودراساتها، وفي المجلة وموضوعاتها، وفي اللجان الخاصة التي سعدت بعضويته وهى: لجنة المعجم الكبير، ولجنة ألفاظ الحضارة ، ولجنة الفنون، ولجنة الأدب ، ولجنة التراث .
... هذا إلى جانب كلماته التي ألقاها في المجمع، وبحوثه وقصائده، وهذا ما عني أستاذنا الكبير الدكتور محمد مهدي علام بتسجيل عناوينها في كتابه: (المجمعيون في خمسين عامًا).
... لقد كان لنعي الفقيد الذي صدرت به الصفحة الأولى من صحيفة الأهرام نة أسى وحزن عميق في مصر وكثير من الأقطار العربية. وقرأنا في الأهرام كلمة وفاء له من الأستاذ الدكتور محمد مهدي علام، وأخرى بعنوان " شاعر الأهرام الخالد" بقلم الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، وأخرى في يوميات الجزيرة بالسعودية يقول فيها الأديب الفاضل عبد العزيز الرفاعي: "نعي إلي الصديق الأستاذ الجليل محمد عبد الغني حسن عضو مجمع اللغة العربية بمصر.وبوفاته تكون مدرسة هذا الجيل الماضي قد انقرضت إلا قليلاً. ثم يتابع القول فيقول:" وقد عرف الأستاذ محمد عبد الغني حسن بعناية وحفاوة بالأدب المهجري، وله فيه دراسة مستفيضة، كما اتصل بأعلامه اتصالاً شخصيًّا مكنه من الاطلاع على جوانب من هذا الأدب لا يصل إليها إلا من أتيح له مثل هذه اللقاءات الشخصية التي أتيحت له".(255/12)
... ويقول زميلنا الكريم الأستاذ الدكتور عدنان الخطيب في رسالة مسهبة منه إلى الزميل الكبير الأستاذ الدكتور إبراهيم مدكور رئيس المجمع: كنت بالأمس وراء مكتبي أتصفح عددًا من الصحف وردت إلى مدينة الرياض فإذا بعيني تقع على اسم زميل كريم وصديق عزيز علي، يتوج صفحة بأكملها، فأغمضت عيني وقد أوجست خيفة من أن يكون الزميل الصديق قد قضى نحبه، وإلا فما سر ضخامة الأحرف التي كتبت بها الصحيفة اسم أديب شاعر مصري، ولم يسبق لها أن نشرت له مقالاً أو شعرًا على ما أذكر أكثر من مرة أو مرتين على الأكثر… وعدت إلى الصحيفة أتم قراءتها، فراعني الخبر، وتحققت بأن زميلنا محمد عبد الغني حسن قد انتقل إلى جوار ربه في الحادية و العشرين من الشهر الماضي.
لقد أبكاني مصابنا بالزميل، وأحزنتني خسارتنا أديبًا واسع الاطلاع، ومحاضرًا حلو الحديث وشاعرًا رقيقًا أساس الشعر له قيادة . لقد بكيت فيه صديقا كريما حلو الشمائل لا يعرف الكره إلى نفسه مسربا على عظم في الوفاء لمن أحب" .
هذا جانب يسير حقًّا مما كتب الأدباء والعلماء في نعي المغفور له الزميل الحبيب محمد عبد الغني حسن.
... وإن فجيعة المجمع بفقد هذا العالم الجليل في علمه، الفاضل كل الفضل في خلقه ونبله، البار كل البر في شهامته ونجدته، فجيعة نسأل الله لنا جميعًا فيها الصبر، وندعوه أن يكتب لنا فيها أعظم الأجر.
وأنتم أسرة الفقيد في مناط قلوبنا ومجال أعيننا، وقوى الله من عزكم وشد من قلوبكم وثبت من أقدامكم، فلا
حول ولا قوة إلا به، ونحن جميعًا في يد الله وسلطانه، له الحمد، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
... عبد السلام هارون
... الأمين العام للمجمع(255/13)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله *
للأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم
ما ذُبْتُ شَوقًا لجيرانٍ بذِي سَلَمِ ... وَلا أَرَقْتُ لِذِكْرِ الْبَان والعَلمِ(1)
ومَا أَبحْتُ لِريمِ القَاعِ سَفْكَ دَمِي ... فِي الأشْهِر الحِلِّ أوفي الأشْهرِ الحُرُمِ(2)
وما سُعَادُ إذا بَانَتْ بِمُتْبِلَةٍ ... منِّي الفُؤادَ فإنَّ القَلْبَ في شَبِمِ(3)
إِنِّي اتجَهْتُ بِقَلْبي نَحْوَ بارِئه ... مِنْ مَطْلَعِ الفَجْرِ حتَّى غَيْهَبِ الظُّلَمِ
وسيِّدِي المُصْطَفَى أرْجُو شَفَاعتَهُ ... وهُوَ الشَفِيعُ لَنَا مِنْ زَلَّةِ القَدَمِ
إِنَّ المَشيِبَ عَلاَنِي فاتَّعَظْتُ بِهِ ... وكَمْ أرَقْتُ لِوزْري عَبْرَةَ النَّدَمِ
محمدٌ عَرَكَ الدُّنْيَا بِمَا حَفَلَتْ ... مِنَ الشقَاوَةِ والنُّعْمَى وَمِنْ غُمَمِ
جاءَ الحَيَاةَ يَتيِمًا قَبْلَ مَوْلِدِهِ ... وَفِى الطُفُولَةِ عَانَى شِقْوَةَ اللَّطَمِ(4)
فَعَاشَ مَعْ جَدِّهِ حِينًا وَفِى كَنَفٍ ... لِعَمِّهِ والعُرَى مَوْصُولَةُ الرحِمِ
وَحيِنَ شَبَّ رَعَى لِلْقَوْمِ شَاتَهُمُ ... كُلُّ النَبِيينَ قَدْ هَشُّوا عَلَى الغَنَمِ
وسَارَ بالْعِير والأَمْواَلِ مُتَّجِرًا ... وَهْوَ الأَمِينُ عَلَى قَوْمٍ وَماَلِهمِ
وهْوَ المُصَدَّقُ فِي قَوْلٍ وَفِى عَمَلٍ ... فَصَارَ يُكْنَى أَمِينًا وَهْوَ خَيْرُ سَمِي
وصَارَ يَعْجَبُ مِنْ قَوْمٍ فدِينهُمُ ... تَوَارَثُوهُ عنِ الآبَاءِ مِنْ قِدَمِ
أيَنْحُتُ النَّاسُ مِنْ أَحْجَارِهِمْ صَنَماً ... وَيَسْجُدُونَ خُشُوعًا خَشْيَةَ الصَّنَمِ؟!
وَكيْفَ يَحْكُمُ صَلْدٌ لا جَنَانَ لَهُ ... مَسِيرَةَ الكَوْنِ والأَجْرَامِ والسُّدُم(5)؟!
وكَيْفَ يَخْلُقُ هَذَا المَسْخُ مُقْتدِرًا ... إِنسًْا وَقَدْ خَلَقَتْهُ الإِنْسُ بالْقُدُمِ؟(1)
فَمَا تَعَبَّدَ فِي يَوْمٍ إلىَ وَثَنٍ ... وَلَمْ يُشَارِكْ بِقُربْانٍ وَلَمْ يَهِمِ(2)(/1)
بَلْ راحَ لِلْغَارِ يَصْفُو فِى تَأمُّلِهِ ... وَكَمْ تَغَيَّب نَجْمٌ وَهْوَ لَمْ يَنَمِ!
تَأَمَّلَ الفَجْرَ يَبْدُو والحَيَاة مَعًا ... وَكَيْفَ يَحْياَ مَواَتُ الأَرْضِ بِالدِّيَمِ؟
وتُشْرِقُ الشّمْسُ لِلأَحْيَاء جَالِبَةً ... دِفْءَ الحَيَاةِ وَيَسْرِى البَدْرُ فِي الغَسَمِ
وهذهِ الشُمُّ مَنْ أَرْسَى دَعائِمَهَا ... فَزَاحَمَتْ شُهُبَ الأَفْلاَكِ مِنْ شَمَمِ(3)
مَنْ خَالِقُ الرُّوحِ والإنْسَانِ هَلْ خُلقا ... سُدًى؟ ومَاذَا وَراءَ المَوْتِ مِنْ حِكَمِ؟
جَاءَ الَجَوابُ بِجُنْحِ اللْيلِ فاخْتَلَجَتْ ... لهُ العُروشُ وَكَانَ الفَجْرَ لِلأُمَمِ
جِبرْيلُ فِي الغَارِ قَالَ اقْرأْ مدُوِّيَةً ... فَقَالَ كَيْف؟َ ومَاَ عُلِّمْتُ بالقَلَمِ
فَغَتَّهُ ثُمَّ قَالَ اقْرأْ فَرَدَّدَهَا ... فَكانَ أَوَّلَ تَنْزِيلٍ مِنَ الكَلمِ
وأَصْبَحَ الهَدْيُ يَسرْي كُلَّ ناَحِيَةٍ ... كَالنُّورِ فِى الليْلِ أوكالبُرْءِ فِي السَّقَمِ
أَنِ اعْبدُوا اللهَ رَبَّ الخَلْقِ كُلِّهِمِ ... وَفاطِرَ الكَوْنِ والدُّنْيَا مِنَ العَدَمِ(4)
الوَاحِدُ الَفرْدُ عَالٍ لاَ شَرِيكَ لَهُ ... في الخُلْدِ والمُلْكِ والتَّدْبِيِر والْقِدَمِ
تَرَدَّدَ الوَحْيُ بالآيَاتِ مُنْزَلَةً ... فَسُطِّرَتْ كَنَظِيمِ الدُّرِّ والتُّوَمِ(5)
جَاءَ الكِتَابُ عَجِيِبًا فِى بَلاغَتِهِ ... وَمَا حَوَاهُ مِنَ التَّقْنِينِ والنُّظُمِ
فَمَا اسْتَطَاعَ محُاكَاةً له أَحدٌ ... فالإنْسُ وَالجِنُّ عَانٍ إثْرَ مُنْفَحِمِ(6)
فِي كُلِّ يَوْمٍ يُرِيكَ العِلمُ آيَتَهُ ... فالْيَومَ يُكْشَفُ مَا قدْ غَابَ عَنْ فَهِمِ
... ...
فِيهِ الهِدَايَةُ لِلدُّنْيَا وَآخِرَةٍ ... فِيِه الطَرِيقُ إلى الإيمَانِ والْعِصَمِ (1)
ذِكْرُ السَّعِيِر تَهَابُ النَفْسُ صُورَتَهُ ... أَمَّا الجِنَانُ فَمَثْوَى كُلِّ مُلْتَزِمِ(/2)
بِهِ الرَّوَائِعُ مِنْ وَعْظٍ وَمِنْ قَصَصٍ ... فِيهِ التَّأَمُّلُ فِى سَبْعٍ وَخَلْقِهمِ(2)
وَصَارَ يَدْعُو قُرَيْشًا لِلْهُدَى فَأَبَوْا ... وَقَابَلُوهُ بهُجْرِ القَوْلِ والصَّمَمِ
غَشَاوَةُ العيَنِ قَدْ تُشْفَى وإنَّ عَمًى ... يَغْشَى القُلُوبَ لَدَاءٌ غَيْرُ مُنْحَسِمِ
فَقِلَّةٌ آمَنَتْ والْجُلٌ قَدْ جَنَحُوا ... إلَى العِداءِ وإيِذَاءٍ ومُصْطَدَمِ
سَرَيْتَ فِي الليْلِ تَطْوِي الِبيدَ مُرتحِلاً ... بِقُدْرَةِ اللَّه لاَ بِالأَيْنُقِ الرُّسُمِ(3)
حَتَّى نَزَلْتَ القُدْسِ فاجْتَمَعَتْ ... مِنْ حَوْلِكَ الرٌسْلُ مِنْ خَاشٍ وَمُؤْتَمِمِ
ثُمَّ ارْتَفَعْتَ لِعَرْشٍ لا يقَارِبُهُ ... إلاَّ محمدُ دونَ الخَلْقِ كُلِّهِمِ
وَقَدْ تَجَلَّى الرحْمنُ وانْبَلَجَتْ ... مِنْ نُورِهِ سُنَنُ الإسْلامِ وَالذِّمَمِ(4)
وعُدْتَ تَدْعُو فَزَادُوا مِنْ عَدَاوَتِهمْ ... بِالضَّرْبِ والرَّجْمِ والتَّجْوِيعِ والْوصَمِ
وَصُدَّ مَنْ آمنَوُا باللهِ واعْتَصَمُوا ... وأَوْعدُوهُمْ بِتَشْرِيدٍ وَسفْكِ دَمِ
فَهَاجَرَ الَقْومُ تَتْرى مِنْ دِياَرِهِمُ ... يَبْغُونَ يَثْرِبَ فيِ مَأْوًى وُمعْتَصَمِ
مَاتَتْ خَديِجَةُ والأَعْماَمُ وارْتَحَلُوا ... وَأَوْحَشَتْ مَكَّةٌ منْ بَعْدِ فَقْدِهِمِ
وَلَمْ يَعُدْ لرِسولِ اللَّه مِنْ أَحَدٍ ... يُجِيرُهُ مِنْ عُتَاةِ الْكُفْرِ والنِّقَمِ
فَدَبَّروا قَتْلَهُ لَيْلاً بِزُمْرَتِهمْ ... فَلاَ يكَونُ لَهُ ثَأْرٌ لِمُنْتَقِمِ(5)
حَلَّ السُّبَاتُ بِهِم جَمْعًا فَلَمْ يَرَهُ ... عِنْدَ الخُروُجِ عُمَاةُ القَلْبِ واْلفَهَمِ(6)
...
...
فيِ الغَارِ حَلَّ مَع الصِّدِّيقِ مُخْتَبِئًا ... وَلاحَقُوهُ بِبِيضِ الِهنْدِ والدُّهُمِ
فيِ مَدْخلِ الغَارِخَاطَ العَنْكَبُوتُ شُعًا ... وَحطَّت الوُرْقُ في وَكْرٍ وَلَمْ تَجِمِ(1)(/3)
أَعْمَى الإلهُ قُرَيْشًا عِنْدَ مَدْخَلِه ... وَأَيقْنُوا أَنَّهُ خَاوٍ مِنَ النَّسَمِ
وأَوَّبُوا لِيُعِيدُوا عَنْه بَحْثَهُمُ ... في كُلِّ فَجٍّ وفَي الوُدْيَانِ والْقِمَمِ
سَاَر الرَّسُولُ مَعَ الصِّدِّيقِ مُرْتَحِلاً ... نَحْوَ المَديِنَة،ِ والأجْوَاءُ فِي ضَرَمِ (2)
وَفىِ قُباءَ أَناَخ الرَّحْلُ بَعدَ ضَنًى ... وَقُوبِلَ الرَّكْبُ بالتَّهلِيلِ والنَّغَمِ(3)
وخَطَّ فِيهَا رَسُول اللهِ مَسْجِدَهَا ... فَكَانَ أَولَّ مَا يُبْنَى لِمُؤْتَمِمِ
وفي الْمدِينَةِ أَرسَى أَصْلَ مَسْجِدِهِ ... وَصَار يَدْعُو لِرَبِّ الكَوْنِ والأُمَمِ
هَوَتْ قُلُوبٌ إلى الإِسْلاَمِ وانْدَفَعَتْ ... لِطاعَةِ اللهِ في حَشْدٍ وَمُزْدَحَمِ
وَحين آنَ أَذَى قَوْمٍ بِمَا كَفَرُوا ... دَعَا الرَّسُولُ إلَى بَدْرٍ لِمُنْتَقِمِ
هَبُّوا لِحَرْبِ قُرَيْشٍ فِى تِجَارَتِهَا ... فَأفْلَتَتْ عِيرُهُمْ مِنْ غَيْرِ مُلْتَحَمِ(4)
فيِ "يَوْمِ بَدْرٍ" أَهَاَب الكُفْرُ فَاجْتَمَعُوا ... مِنْ كُلِّ شاَكٍ بِخَطِّىٍّ وكلِّ كمِي(5)
وَقَالَ عَاقِلُهُمْ لاَ حَرْبَ فاتَّئِدُوا ... إنَّ اللَّطِيمَةَ قَدْ مَرَّتْ وَلَمْ تُضَمِ (6)
فَلَمْ يُعِرْهُ أَبوُ جَهْلٍ وَزُمْرَتُهُ ... أُذْناً وَشَدُّوا إلَى بَدْرٍ بِجمْعهِمِ
أَلْفًا بِفُرْساَنِهِم والخَيْلُ مُسْرَجَةٌ ... وَالقَلْبُ فيِ ضَرَمٍ بالْشَّرِّ مُتَّسِمِ
والْمُسْلِمُونَ بِبَدْرٍ قِلَّةٌ كَثُرَتُ ... بِنُصْرَةِ اللهِ والإيِمَانِ والْهِمَمِ
وأَرْسَلَ اللهُ أَلْفًا مِنْ مَلائِكِهِ ... يُبَشِّرُونَ بِنَصْرٍ وَالْوَطِيسُ حَمِ (7)
فَحَاقَ بِالْكُفْرِ كُلُّ الْخِزْي إِذْ دُحِرُوا ... وَفُرِّقوا بَيْنَ مَقْتُولٍ وَمُنْهَزِمِ
... ... ... ...
... ...
فَهَلْ تَأَمَّل أَهْلُ الشِّرْكِ واتَّعَظُوا؟ ... وَهَلْ تَخَلَّتْ نُفُوسُ الشَّرِّعَنْ سَدَمِ؟ (1)(/4)
إنَّ الأفاعِيَ قَدْ تَنْدَسُّ قاتِلَةً ... طَيَّ الحُجُوِرِ إذَا لَمْ تُؤْذَ بالثَّرَمِ (2)
فَبَعْدَ حَوْلٍ أَعَادُوا جَمْع شَمِلهِمُ ... يَبْغُونَ يَثْرِبَ، والأَرْوَاحُ في حَدَمِ(3)
وكُلُّ هَمِّهِمُ تَقْوِيضُ دَعْوةِ مَنْ ... يَدْعُو إلَى اللهِ والأَخْلاقِ والْقِيَمِ
وَفي الْمِدينَةِ هَبَّ الْمُسِلمونَ إلَى ... صَدِّ البَلِيَّةِ بِالْخَطّىِّ وَالْخُذُمِ (4)
سَارُوا إلَى أُحُدٍ أَمَّا الرَّمَاةُ فَقَدْ ... حَلُّوا بِتَلٍّ منَيِعٍ غَيْرِ مُقْتَحَمِ
دَرْءًا لِخَالِدَ والْفُرسَانِ إنْ هَجَمُوا ... والسَّهْمُ يَدْرأُ بَأْسَ الْفَارِسِ القَرِمِ
محمدٌ قاَلَ لاَتُخْلُوا أماكِنَكُمْ ... وابْقُوا عَلَى التَّلِّ حَتَّى لَوْ أرِيقَ دَمي
وطاعَةُ الْرُّسْلِ مثلُ اللَّهِ وَاجِبةٌ ... لمَّا عَصَوْا كَانَ دَرْسًا باَلِغَ اَلأَلَمِ
سَبْعُونَ مِنْ أَهْلِهمْ فيِ الدِّيِنِ قَد قُتِلُوا ... حَتَّى الرَّسُولُ فَلَمْ يَسْلمْ مِنَ الثَّلَمِ(5)
لَمَّا رَحَى الحَرْبِ قَدْ دَارَت لِصَالِحهِمْ ... وأَدْبَرَ الِّشْركُ تَحْتَ الصَّارِمِ الغَلِمِ(6)
وَقَدْ تَنَاثَرَ فَوْقَ الأَرْضِ زادهُمُ ... خَلَّوْا أَمَاكِنَهُمْ مَبْغاةَ مُقْتسَمِ
فَكَرَّ خَالِدُ بِالْفُرْسانِ فَاجَأَهُم ... والْمُشْرِكُونَ أَعَادُوا جَمْعَ صفِّهِمِ
وَمَاتَ حَمْزَةُ فِى أَوْجِ الوَغَى وَمَضَى ... مِنْ ضَرْبَةِ الغَدْرِ لاَ مِنْ لَهْذَمِ البُهَمِ(7)
مَا شَاءَ رَبُّكَ لِلإسْلامِ مُنتكَسًا ... فَالْمُسْلِمُونَ غَدَوْا كالأُسْدِ فَى الأَجَمِ(8)
تَحَصَّنُوا بِسُفُوح الطَّوْدِ فَامْتَنَعُوا ... عَلَى الْعَدُوِّ وَأَرْدَوْا كُلَّ مُقْتَحِمِ
...
...
...
... ...
وَحلَّ يَأْسٌ وَإرْهَاقٌ بِمَنْ كَفَرُوا ... فَأَدْبَرُوا وَنجَا الإسْلاَمُ مِنْ قُحَمِ
آبَتْ قُرَيْشٌ بِغَيْظٍ كاَدَ يَقْتُلُهَا ... فَمَا بَنَوْهُ لِهَدْمِ الْدِّينِ لَمْ يَقُمِ(/5)
وَاسْتَنْفَرُوا الْعُرْبَ أَدْنَاهُمْ وَقَاصِيَهُمْ ... فَاسْتُنْفِرَ الْجُلُّ فِي مَدٍّ وفِي دَعَمِ
جَاءوا وَيَثْربُ فِى قُرٍّ وَفِى سَغَبٍ ... فِي كَثْرَةٍ لَوْ دَنَتْ أَدَّتْ لِمُخْتَتَمِ (1)
فَصَدَّهُمْ خَنْدَقٌ عَنْ نَيْلِ بُغْيَتِهِمْ ... فَأَوَّبُوا بَعْدَ شَهْرٍ دُونَ مُغْتَنَمِ
سَلْماَنُ خَطَّ فَهَبَّ المُسْلِمُونَ مَعَ النـ ... نَبِيِّ لِلْحَفْرِ رَغْمَ الْجُوعِ والْحُزُمِ(2)
قَامَ الرَّسُولُ معَ الأَتْبَاعِ مُعْتَمِرًا ... فَأَوْقَفَتْهُمْ قُرَيْشٌ دُونَ قَصْدِهِمِ
وَتمَّ إبْرَامُ صُلْحٍ فِي حُدَيْبِيةٍ ... فَاحْتَجَّ صَحْبٌ وَمَا أَخْفَوْا مِنَ الْبَرَمِ
إلاَّ الرَّسُولُ جَلاَ المَولَى بَصِيرَتَهُ ... فَكَانَ يُبْصرُ فَتْحَ الْبيْتِ مِنْ أَمَمِ (3)
وَبْعدَ حَوْلٍ أَتَمُّوا فَرْضَ عُمْرتِهمْ ... وَقَدْ خَلَتْ مَكَّةٌ مِنْ كُلِّ ذِي نَسَمِ
سَعَى لِخَيْبَرَ لَمَّا أَنْ تَكَشَّفَ مَا ... قَدْ بَيَّتُوهُ لِغَزْوٍ شَامِلٍ عَرِمِ
قَدْ جَاءَ خَيْبَرَ لاَ حِصْنٌ لِيَعْصِمَهُ ... وَقَابَلُوهُ بِشُمِّ الْعُصْمِ والأطُمِ(4)
رَمَى بِه اللهُ فَانْهَارَتْ مَعَاقِلُهُمْ ... وَشُرِّدُوا في وِهَادِ الأَرَض وَالأكَمِ
الغَدْرُ شِيمَةُ أَهْلِ الْكُفْرِ مُذ وُجِدُوا ... والْغَدْرُ أَسْوأُ مَا في النَّفْسِ مِنْ شِيَمِ
أَرْدَوْا خُزَاعَةَ غَدْرًا رَغْم حِلْفهِمِ ... مَعَ النَّبِىِّ فَخَانُوا نَصَّ عَهْدِهِمِ
هَبَّ الرَّسُولُ بِجَيْشٍ جَحْفَلٍ لَجِبٍ ... لِفَتْحِ مَكَّةَ فَتْحًا غَيْرَ مُنْصَرِمِ
فُلَّ السِّلاحُ مَا اسْطاعُوا مُقَاوَمَةً ... مَنْ ذَا يُقَاوِمُ زَحْفَ الفَجْرِ في الظُّلَمِ
مَا جَاءَ تَنْكِيلاً بِمَنْ كَفَرُوا ... بَلْ جَاءَ لِلْهَدْيِ والْغُفْرَانِ وَالْحُرَمِ
مُغْتَالُ حَمْزَةَ غَدْرًا نَالَ مَغْفِرَةً ... وَهِنْدُ آكِلَةُ الأَكْبَادِ لَمْ تُسَمِ(5)(/6)
حَتَّى الْغَرِيمُ أَبوُ سُفْيَانَ كرّمَهُ ... وَصَارَ منْزِلُهُ فِي الأَمْنِ كَالْحَرَمِ
وَهَشَّمُوا كُلَّ ما فِى البَيْتِ مِنْ وثَنٍ ... فالْبَيْتُ لِلهِ لا لِلْمَسْخ وَالْفَدِمِ(1)
بِلاَلُ أَذَّنَ بِالْبَيْتِ العتيقِ وَقَدْ ... أَمَّ الصَّلاَةَ رَسُولُ الْخَيْرِ وَالرُّحُمِ (2)
وَأَسْلَمَتْ مَكَّةٌ وَالْمسلمُونَ غَدَوْا ... فِي الدِّينِ إخْوَةَ أَهْلِ الدينِ والُّلحَمِ
أتَتْ حُشُودٌ إلى الإسْلامِ ماثِلَةً ... إلاَّ هَوازنَ لَمْ تَمْثُلْ وَلَمْ تَرُمِ
فَكَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ بالْقَنَا دُحِروا ... رَغْمَ الكَمائِنِ مِنْ أَمْوَاجِ مُلْتَطِمِ
حَجَّ الرَّسُولُ مَعَ الأَتْباعِ حِجَّتَهُ ... كانَتْ وَدَاعًا بِلا دَمْعٍ وَلا ألَمِ
وَكيفَ تَدْمَعُ عَيْنٌ بَعْدَ أَنْ بَصُرَتْ ... بِالْهَدْيِ يَطْغَى مَكَانَ الكُفْرِ والْعُدُمِ (3)
وَحلَّ يَثْرِبَ والإسْلامُ مُزْدَهِرٌ ... فَوْقَ الْجَزِيرةِ والإيمانُ فِي عَمَمِ
وَفِى تَبُوكَ جَرَى الرُّومَانُ فِى هَلَعٍ ... قَبْلَ اللِّقَاءِ وَصَارَ البُهْمُ كَالبَهَمِ (4)
كُلُّ إلَى اللهِ مَاضٍ فِى مَسيِرَتِهِ ... والمَوْتُ غَايَةُ مَنْ يسْعى عَلَى قَدَمِ
وَمَا مُحمَّدُ بَاقٍ إنَّهُ بَشَرٌ ... مِنْ قَبْلِهِ الرُّسْلُ قد عَادُوا لِرَبِّهِمِ
لاَقَى الإلهَ وَقَدْ أَدَّى رِسَالتَهُ ... وَقَامَ للدِّينِ صَرْحٌ غَيْرُ مُنْهَدِم
اِنْ جِئْتَ مَكَّةَ يَمِّمْ نَحْوَ كَعْبَتِهَا ... وَكَعْبَةِ النَّاسِ مِنْ عُرْبٍ وَمِنْ عَجَمِ
يَكْفيِكَ أنَّ أَبا اسْمَاعِيل شَيَّدَهَا ... وَفَجَّرَ اللهُ فِيهَا وِرْدَ كُلِّ ظَمِي
وَطُفْ بِسَاحَتِها للهِ مُبْتَهِلاً ... سَبْعًا وهَلِّلْ لِذَاكَ الرُّكْنِ والْتَثِمِ
واخْشَعْ فَإنَّ رَسُولَ اللهِ قَبَّلَهُ ... فَإِنْ لَثَمْتَ فَذَا مِنْ وَارِفِ النِّعَم(/7)
وفِى المَدِينَةِ زُرْ قَبْرَ الرَّسُولِ وَلاَ ... تَمَسَّكِ الدَّمْعَ مِنْ هَامٍ وَمُنْسَجِمِ
هَدَاكَ مَنْ فِى الثَّرَى نَهْجًا وَمَوْعِظَةً ... وَقَالَ هذَا طَرِيقُ الحَقِّ فَاسْتَقِمِ
واطْلُبْ مِنَ اللهِ رضْوانًا ومَغْفِرَةً ... إِنَّ الْخَطَايَا لَدَى الرحْمنِ كاللَّمَمِ(*)
سَأَلْتُكَ العَفْوَ رَبيِّ إنَّني بَشَرٌ ... جَمُّ الذُّنُوبِ وَأَنْتَ الواسِعُ الكَرَمِ
... ... ... ...
للأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم
عضو المجمع(/8)
دور وسائل الإعلام العربية في انتشار طرق التعبير
عن دلالات البوادئ (Prefixes )
في العصر الحديث *
للأستاذ الدكتور نيقولا دوبريشان
السيد الرئيس الفاضل:
أيها الزملاء الأجلاء:
السيدات والسادة المحترمون:
... يعتبر الاحتكاك أو الاتصال بين اللغات أمرًا طبيعيًّا، وبخاصة في عصرنا – عصر انتشار وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها بين كافة فئات الشعوب – وقد احتكت اللغات بَعضُها ببعض – ومن بينها اللغة العربية – طوال عصور وجودها لكنَّ ذلك لم يُخلَّ ولم يضرَّ بأصالتها وعُموميتها، ولم يُؤثرْ في عناصرها ومكوّناتها الأساسية المتمثلة في قواعد صرفها ونحوها إلى حدٍّ ما، والمتن الجوهري من المواد والأصول والمفردات.
... وعندما نتحدث عن الاحتكاك أو الاتصال بين اللغات نقصد بذلك التأثير
والتأثر – وإن فضلا بصورةٍ مُباشرة أو غَير مُباشرةٍ، إن رَغبْنَا في ذلك أو لم نرغبْ فيه.
... وتُعتبر اللغة بمثابة كائن حيّ كما سماها جرجي زيدان منذ نحو قرن رغم كونها ظاهرة اجتماعية ومن الضروري أن تَنْمو وتتطورَ وتتحدث باستمرار من حيث المفردات والمصطلحاتُ بِحيثُ تتجاوبُ وتتماشى مع متطلبات العلم والمجتمع عامة. وقد حصل ذلك على مدى تاريخ جميع لغات العالم، لكنَّ معظمَها احتفظ على عموميتها وجاءت كل واحدة منها بإسهامها في إعفاء التراث الحضاري الدولي المتنوّعِ والقيم بفضل هذا التنوّع بوجه خاص.
ربما تعتبر بعض اللغات نفسَها
مهدده وبخاصة لغات الشعوبِ الصغيرة في عصر العولمة الذي نعيش فيه، إلا أنني شخصيًّا أعتقد أن فكرة سيادة اللغة الواحدة فكرة عابرةٌ ستؤول إلى فناء، وأن لغات الشعوب جميعًا ستجد الوسائل التي ستمكّنُها من البقاء والحفاظ على أصالتها استمرارًا بذلك في إسهامها في إبقاء وتطوير التراث الحضاري العالمي المتنوع، بعيدًا عن خطورة استنساخ حضارة واحدة أو بِضْع حضارات فقط.
السادة أعضاء المجمع الأفاضل:(/1)
سبق لي أن قدمت أمام حضراتكم ثلاثة بحوث حَولَ قضية التعبير عن مَعانِي ودلالاتِ البوادئ الأوربية في اللغة العربية أثناء أعمال مؤتمرات المَجْمَعِ في الدورات السابقة. وقد حاولتُ تصنيف البوادئ الأوربية في عدِة فئات، انطلاقًا من معانيها الأساسية، على ما يلي:
1- بوادئ النفي والحرمان.
2-بوادئ الدرجة العليا والدرجة الدنيا.
3-البوادئ التي تعبر عن الكمية والعدد.
4-البوادئ التي تعبر عن الموقع المكاني والزماني.
ويأتي البحث الذي سأقدم اليوم أمام حضراتكم مُلخَّصًا له، استكمالاً وتتمة للبحوث السابقة؛ إذ تناولت فيه الفئاتِ الأخيرة من البوادئ الأكثر انتشارًا وطرق ووَسائل التعبير عن معانيها ودلالاتها في اللغة العربية.
وأشرت أولاً إلى البادئتين "philo-" و "pro-" اللتين تعبران عن معاني الولاء والحب والإخلاص والإعجاب.
1-البوادئ التي تعبر عن معاني الولاء:
سبق أن تعرضنا في أحد البحوث السابقة لبادئتين أوربيتين تعبران عن معني المعارضة والمضادة ألا وهما "anti-" و"contra-". وقد أشرنا في معرض الحديث عنهما إلى أنهما تعتبران عادة ضدين للألفاظ التي تضافان إليها. لكن في حقيقة الأمر ليست هذه المعارضة أو المضادة واضحة تمام الوضوح. وقد حاول الأوربيون التعبير الواضح عن هذا التضاد عن طريق استخدام بادئتين أخريين ألا وهما في اللغة الفرنسية "philo-".
(<اليونانية"philo-"<اللفظ اليوناني و"philos" بمعنى "الصديق") و"pro-" (اللاتينية واليونانية "pro-"). وقد لاحظنا أن اللغة العربية وجدت طرقًا مختلفة للتعبير عن معاني البادئتين الأوربيتين المذكورتين وذلك إلى حد ما على الأقل تحت تأثير اللغات الأوربية لكن دون استبعاد إمكانية التأثير المباشر اليوناني واللاتيني.
وقد وجدنا نوعين من التراكيب المستعملة للتعبير عن معاني البادئتين:(/2)
1-1- يتمثل النوع الأول في تراكيب استعملت على الأخص في وسائل الإعلام ولم تدون في القواميس الثنائية اللغة التي راجعناها.
1-2- أما النوع الثاني فيتمثل في تراكيب مدونة في القواميس لكنها تتسم بكونها قليلة التداول باعتبارها عبارات مخصصة للاختصاصيين:
1-1- وتدخل في الفئة الأولى تراكيب نعتية تمثل أضدادًا للتراكيب التي تعبر عن معاني ودلالات البادئتين "anti-" و "contra-"، وهي تتضمن في صيغتها اسمي الفاعل المشتقين من فعلين على وزن "فاعَل":
"وَالَى" و"مَالأَ"، أي "موالٍ" و"ممالئ" ويتبعهما اسم مسبوق بحرف الجر "ل"، مثل:
اتجاهات موالية للغرب (لبنان 1982)
Fr. Prooccidental
أنظمة موالية للسوفييت (مصر 1993)
Fr. Prosoviétique
موالٍ للأمريكان (اليمن 1992)
Fr. Proaméricain
عناصر ممالئة للإمبريالية (العراق 1975) fr. Proimpérialiste وقد أحس الصحفيون الذين استعملوا تراكيب من هذا النوع بأنها تعبر عن معاني مضادة للتراكيب التي تعبر عن معاني البادئتين "anti-" و"contra-" وأوضح دليل على صحة هذا التقدير أنها تعقب أحيانًا التراكيب التي تعبر عن المعاني النقيضة، مثل:
نظام الحكم العميل المعادي للشعب والموالي للإمبريالية، وفي الوقت نفسه نجد محاولات للتعبير عن معنى هذه البادئة في التراكيب الاسمية، ومن أجل ذلك تم اللجوء إلى المصدر"ولاء" مثل:
الولاء للفاشية (العراق1975)
fr. Profascisme
1-2-أما النوع الثاني من التراكيب والتي تسجلها القواميس فتقابل وتطابق بصورة عامة الصيغ الأوربية التي تأتي فيها البادئة الأوربية "philo-".
ويدلل إدراج اسم الفاعل "مُحِبّ" المشتق من الفعل "أَحَبَّ" في هذه التراكيب فيما يدلل على أن اللغويين أو الاختصاصيين الذين اخترعوها كانوا على علم بالأصل اليوناني لهذه البادئة.
1-2-1 وقد أنشئت عدة تراكيب نعتية بالفاعل "مُحِبّ"، مثل:
محب للبشر
fr. Philantrope
(المورد المنهل والمفصل).
أو محب للناس(/3)
engl. Philanthropic
(فيهر)
محب للموسيقا
engl. Philanthropic
(المورد)
محب للفنون
fr. Philotechnique
(المفصل)
وإضافة إلى هذا النوع من التراكيب وجدنا في القواميس تركيبة جاء فيها اسم الفاعل "مُعْجَبٌ بِ" ليعبر عن معنى هذه البادئة:
معجب بالإغريق
engl. Philhellenic
(المورد)
1-2-2- كما دونّت القواميس بضع تراكيب اسمية جاء فيها الاسم "حُبّ" ليعبر عن معنى هذه البادئة، مثل:
حب البشر
fr. Philantropie
(المنهل والمفصل).
حب الموسيقا
fr. Phialarmonie
(المفصل).
1-2-3-لكن بعض المعجميين استخدموا مشتقات من المادة "صدق" للتعبير عن معاني هذه البادئة، مثل:
صديق اليونان
fr. Philhelléne
(المفصل).
مصادقة اليونان
fr. Philhellénisme
(المنهل).
1-2-4- وجدير بالذكر أن الاختصاصيين واللغويين العرب وجدوا وسيلة مناسبة للتعبير عن معنى "النيابة" التي تعبر عنه البادئة "pro-" في بعض المصطلحات الإدارية الثانوية واستخدموا للتعبير عن هذه الدلالة اسم الفاعل "نَائِب" المضاف إلى اسم وظيفة، مثل:
نائب القنصل
engl. Proco Nsul
(المورد)
2- البادئة التي تعبر عن معاني التكرار والإعادة والاستئناف:
تستخدم في اللغات الأوربية بادئة واحدة للتعبير عن معاني التكرار والإعادة والاستئناف، وغير ذلك من الدلالات المماثلة وهي البادئة "re-". وقد اختارت اللغة العربية عدة طرق مناسبة للتعبير عن دلالات هذه البادئة سواء في الصيغ الفعلية أو في الصيغ الاسمية والنعتية. وقد استخدم الطرق نفسها اللغويون والاختصاصيون على حد سواء.
2-1- من أجل التعبير عن دلالات البادئة "re-" من الصيغ الفعلية لجأت اللغة العربية إلى الفعل "أَعَاد- يُعِيد".(/4)
ويعبر هذا الفعل بوضوح عن عدد من الدلالات الرئيسية التي تعبر عنها البادئة اللاتينية الأصل "re-"، مثل التكرر والإعادة والاستئناف. ويتبع هذا الفعل مفعول به وهو مصدر الفعل الأساسي. إن عدد التراكيب من هذا النوع كبير، وهي تنتمي سواء إلى معاجم المصطلحات على اختلاف أنواعها أو إلى لغة وسائل الإعلام العادية. ونذكر منها على سبيل المثال:
أعاد الطبع
fr. réimprimer, rééditer
(المفصل).
أعاد البناء/ الإنشاء/ الإعمار
(المفصل، المنهل).
fr.reconstruire
أعاد الانتخاب
fr. Réélire
(مصر 1975، المفصل).
أعاد الصياغة
fr. Reformuler
(مصر 1975).
أعاد النظر في
fr. Réexaminer
(المفصل).
أعاد التصدير
fr. Réexporter
(المفصل).
ويمكن أن يستخدم الفعل "أَعَاد" مبنيًّا للمجهول، مثل:
أُعِيدَ انتخابه (سوريا 1975).
أم مصرفًا وفق الشخص، مثل:
نُعيد تشكيل المنظمات (مصر 1971).
2-1-1- وبالإضافة إلى الفعل "أعاد" تستخدم أفعال أخرى للتعبير عن دلالات البادئة "re-" :
(أ)- الفعل "جدّد":
جدد الانتخاب
fr. Réélire
جدد الاشتراك
fr. Réabonn
(المفصل).
جدد النشاط
fr. Réactiver
(المفصل).
(ب)- الفعل "كرَّر" الذي يعبر عن معنى التكرار ببالغ الوضوح: كرر التأكد
fr. Réaffirmer
(المنهل، المفصل).
كرر القول
fr. Redire
(المفصل).
(ج) الفعل "رَدّ" يستخدم في تركيب واحد تدونه القواميس والنصوص الصحفية والقانونية:
رَدّ الاعتبار
fr.réhabiliter
(المورد والمفصل وبرانوف).
2-1-2- وقد تم التعبير عن معاني البادئة "re-" في بعض التراكيب الفعلية بواسطة عدة عبارات ظرفية:
(أ) العدد الترتيبي المؤنث المنصوب "ثَانَيةً":
وحدة ثانية fr. Réunifier (المفصل).
قرأ ثانية fr. Relire (المفصل).
طبع ثانية fr. Rééditer (المفصل).
ربَّى ثانية fr. Réeduquer (المفصل).
انتخب ثانية fr. Réélire (المفصل).
نظّم ثانية fr. Réorganiser (المفصل).
بنى ثانية fr.reconstruire (المفصل).(/5)
أكد ثانية fr. réaffirmer (المفصل).
عمّد ثانية fr. rébaptiser (المفصل).
تلفن ثانية fr.retéléphoner (المفصل).
ترجم ثانية fr.retraduire (المفصل)
اقترع ثانية fr. revoter (المفصل).
زوّج/ تزوّج ثانية fr.remarier(المفصل).
وقد دون أصحاب المعاجم العديد من التراكيب المبنية على هذه الصيغة أي بالعدد التركيبي "ثَانِيَةً" وهي تعبر تمامًا عن معنى التكرار أو التكرر.
(ب) العبارة الظرفية "من جديد":
بنى من جديد
(المورد) engl. reconstruct
أكد من جديد
(سوريا 1975،المفصل) fr.réaffirmer
نظَّم من جديد fr.Réorganiser(المفصل).
(جـ) العبارة الظرفية "مَرَّةً أُخْرَى":
أكد مرة أخرى
fr.réaffirmer (سوريا 1975).
(د) اسم المفعول المنصوب "مُجَدَّدًا":
ربّي مجدَّدًا fr. Réeduquer (المنهل).
تولد مجددًا fr.renaitre (المفصل).
2-1-3- توجد في اللغة العربية عدة أفعال تقابل صيغًا بالبادئة "re-" في اللغات الأوربية:
استعاد
fr.recouvrer, récuperer, reprendre
استرد fr. reprendre, recouvrer
استأنف fr. rentamer
كرر fr.rentamer
أعاد fr. rentamer
2-2- من أجل التعبير عن دلالات البادئة "re-" في الصيغ الاسمية يستخدم عادة المصدر "إعَادَة"، مصدر الفعل الأساسي. وتقابل التراكيب التي يظهر فيها المصدر "إِعَادَة" بانتظام على وجه التقريب الصيغ الفعلية التي يستخدم فيها الفعل "أَعَاد":
إعادة الوحيد
fr.réunification (المفصل).
إعادة النظر في fr.Révision (المفصل).
إعادة الاحتلال fr. réocupation (المفصل).
إعادة الاستخدام
(سوريا 1998) fr. réutiliser
إعادة الهيكلة
(اليمن 1999) fr. restructurer
إعادة التنظيم
(المفصل، فيهر) fr. réorganisation
إعادة الطبع fr. réédition (المفصل).
إعادة التربية fr.rééducation (المفصل).
إعادة الانتخاب
(المفصل) fr. réélection
إعادة التصدير
(المفصل) fr. réexportation
وأحيانًا يضاف المصدر"إعادة" إلى اسم:(/6)
إعادة الحقوق fr. réhabilitation (المفصل، المنهل، فيهر).
2-2-1- يستخدم في تراكيب مماثلة المصدر "تَجْدِيد" أو المصدر "تَجَدُّد" والمصدر "رَدّ":
تجديد البناء
fr. reconstruction(المفصل، المنهل)
تجديد الاشتراك
fr. réabonnement (المفصل).
تجديد الانتخاب
fr. réélection (سوريا 1975)
تجديد البناء
fr. reconstruction (المفصل).
ردّ الاعتبار
fr. réhabilitation (المنهل، فيهر).
2-2-2- أما دلالة البادئة "re-" في الصيغ الاسمية فيتم التعبير عنها أحيانًا بواسطة الصفة "جَدِيد":
تولد/ مولد جديد
fr. reneissance(المفصل).
ظهور جديد
fr. réapparition (المنهل، المفصل).
زواج جديد
fr. remariage (المنهل، المفصل).
2-3- أما من ناحية مدى الكثرة فتأتي التراكيب الفعلية بالفعل "أعاد" وكذلك التراكيب الاسمية بالمصدر "إعادة في المقام الأول بين مختلف أنواع التراكيب التي تستخدم للتعبير عن دلالات البادئة "re-". ويمكن القول: إن الفعل "أعاد" ومصدره يعبران بدقة عن مختلف دلالات البادئة "re-".
وأنواع التراكيب التي يأتيان فيها قريبة إلى التراكيب المقابلة من اللغات الأوربية. وأصبحت التعابير التي يأتي فيها الفعل "أعاد" ومصدره نظامية إلى حد ما في حين أن تعابير الأنواع الأخرى من التراكيب ارتجالية طارئة عفوية سوى التراكيب التي يأتي فيها العدد الترتيبي "ثانية" والتي يبدو أن بعض المعجميين يفضلونها على غيرها. وهذا مما يفسر كذلك وجود تراكيب متوازنة مع التراكيب التي فيها الفعل "أعاد" أو مصدره، مثل :
أعاد البناء (فيهر) مقابل بنى ثانية (المنهل).
بنى من جديد (المورد)- جدد البناء (المورد).
أعاد الانتخاب مقابل انتخب ثانية (المنهل، المورد).
أعاد التوحيد مقابل وحَّد ثانية (المورد).
إعادة البناء مقابل تجديد البناء إلخ...(/7)
ويمكن القول: إن الفعل "أعاد" والمصدر "إعادة" أصبحا معتادين بحيث تتكون بمساعدتهما تراكيب جديدة من الأنواع المذكورة أعلاه عفويًّا دون انطلاق إجباري من تراكيب أجنبية مماثلة.
2-4- أما الفكرة الأساسية التي تعبر عنها مختلف أنواع التراكيب العربية المقابلة للصيغ الأوربية بالبادئة "re-" فإنها فكرة التكرار أو التكرر مع مختلف الدلالات الثانوية غير المحسوسة عند أول وهلة، مثل:
(أ) تكرار أو إعادة عمل جرى سابقًا، دون أي تغيير فيه:
أعاد الانتخاب ... الزواج ثانية
طبع ثانية أكد من جديد/ مرة أخرى.
(ب) تكرار العمل بإحداث تغيير عما كان سابقًا أو باحتمال إحداث تغيير:
أعاد الصياغة ... إعادة التربية
إعادة التنظيم ... ... إعادة التوزيع
(ج) العودة إلى حالة سابقة مماثلة أو معدلة:
إعادة التوحيد ... ... نظم ثانية
تجديد البناء ... ... رد الاعتبار
(د) استئناف عمل في ظروف إعادة النظر فيه أو تعديله:
أعاد النظر ... ... إعادة التقييم
إعادة الدراسة
(هـ) استئناف عمل انقطع سابقًا:
إعادة الفتح ... ... إعادة التعمير
(و) تجديد شيء:
جدّد الاشتراك ... تجديد الإيجار
وتعبر أكثر هذه التراكيب عن معنى تكرار أو تكرر العمل، وعن معنى إعادة وضع سابق.
وجدير بالذكر أيضًا أن عدد مثل هذه التراكيب التي تقابل الصيغ بالبادئة "re-" في اللغات الأوربية في ازدياد مستمر سواء في أسلوب وسائل الإعلام أو الأساليب العلمية التقنية، وذلك نتيجة للتطورات التي تجرى في جميع ميادين النشاط العلمي والحياة الاجتماعية السياسية.
3- التعبير عن معاني ودلالات عدد من أشباه البوادئ الأوربية في اللغة العربية الحديثة(/8)
بالإضافة إلى البوادئ يوجد في اللغات الأوربية عدد من أشباه البوادئ التي تختلف عن البوادئ بحصر المعنى بكونها ألفاظًا مستقلة في اللغات الأصلية، خلافًا للبوادئ، بحصر المعنى التي تستخدم في اللغات الأصلية، كألفاظ وكبوادئ في آن واحد. وقد استعملت اللغة العربية الحديثة مختلف الوسائل والطرق للتعبير عن دلالات العديد من أشباه البوادئ التي تستخدم على الأخص في المعاجم الاختصاصية، لكن بعضها دخل اللغة العادية أيضًا. وفيما يلي نقتصر على ذكر أهمها وأكثرها انتشارًا:
3-1- شبه البادئة "iso- " fr., engl. (gr.isos>)
بمعنى التعادل والتكافؤ. وقد تم التعبير عن هذا المعنى بمساعدة عدد من المصادر وأسماء الفاعلين المشتقة من الفعل على وزن "تَفَاعَلَ" الذي يعبر عن معنى التبادل والتكافؤ، مثل:
(أ) اسم الفاعل "مُتَسَاوٍ" المضاف إلى اسم مفرد أو مثنى أو جمع:
متساوي الضغط الجوي
engl. isobaric (المورد).
متساوي الساقين
engl. isoscel (المورد).
متساويا الزوايا
engl. isogonic (المورد).
متساوي اللون
fr. isochromatique (المفصل).
متساوي الزمن
engl. isochronal (المورد).
(ب) اسم الفاعل "متماثل" المضاف إلى اسم:
متماثل الميل
engl. isoclinal (المورد)
(ج) بعض أسماء الفاعلين المشتقة من أفعال على وزن "تفاعل" تعبر وحدها عن معاني شبه البادئة "iso-" :
متشاكل engl. isomorphic (المورد).
متقابل fr.isomorphe (المنهل).
متجازئ fr.isomére (المفصل).
ومن أجل التعبير عن معاني بعض الألفاظ الأوربية التي تتضمن شبه البادئة هذه تم اشتقاق أسماء فاعلين على وزن "مُتَفَاعِل" من أسماء أخرى أحيانًا دون وجود أفعال مقابلة على وزن "تَفَاعَل"، مثل:
متزاوٍ fr.isogone (المفصل، المنهل).
متلاون engl.isochromatic (المورد).
متقاطر engl. isodiametric (المورد).(/9)
(د) من أجل التعبير عن معنى شبه البادئة- "iso" من الأسماء تم اللجوء إلى عدد من المصادر على وزن "تَفَاعُل":
تشاكل engl. isomorphism (المورد).
تواقت fr. isochronisme (المفصل).
تشامج fr.isogamie (المفصل).
3-2- شبه البادئة "porte-" fr.
(< الفعلporter "حمل") بمعنى "حَامِل".
وقد تم التعبير عن معناه باسم الفاعل المذكر "حَامِل" والمؤنث "حَامِلَة، مثل: حامل الراية/العلم
fr. porte-banniere (المفصل).
حامل المفاتيح
fr.porte-clefs (المنهل).
حاملة الطائرات
fr.porte-avions/aéronefs (المفصل).
حاملة الأمتعة
fr. porte-bagage (المفصل).
3-3- شبه البادئة "meta-" engl.، "méta-" fr. (<gr. Meta "ورأ).
وتستخدم شبه البادئة هذه في عدة مصطلحات فلسفية:
3-3-1- وقد تم التعبير عن معناها في الصيغ الاسمية عن طريق الظرف "وَرَاءَ" المسبوق باسم الصلة "ما" والمتبوع باسم آخر:
ما وراء الطبيعة
engl. Metaphysics (المورد، فيهر).
ما وراء النفس
fr. métaphysique (المفصل).
لكن مجموعة المصطلحات الثانية عشرة الصادرة من مجمع اللغة العربية في القاهرة في عام 1970م سجلت على الصفحة 232 عددًا من الصيغ التي استخدام فيها الظرف "بَعْد" بدلاً من "وَرَاءَ"، أمثال:
ما بعد الطبيعة
engl. metaphysics (راجع أيضًا قاموس فيهر ص522).
ما بعد المنطق
fr. métalogique
ما بعد الأخلاق
fr. métamorale
3-3-2- أما النسبة "مَا وَرَائِىّ" فقد اعتبرت كافية وحدها للتعبير عن معنى الصفة "metaphysical" .
3-4- لكن اللغة العربية استخدمت الصيغ النعتية للتعبير عن معاني أشباه البوادئ وكأنها ميّزت بين أشباه البوادئ والبوادئ بذلك.
3-4-1- شبه البادئة "aéro-" fr.، "aero-" engl. بمعنى "الجَو" و"الهواء".
3-4-1-1- وقد تم التعبير عن معناها في حالة الصيغ الاسمية بالنسبة "جَوِّىّ"، وبالنسبة إلى الهواء: "هَوَائِىّ"، مثل:
محطة جوية
fr. aérogare (المنهل).
مطار جوي(/10)
fr. aérodrome (المفصل).
ملاّح جوي
fr.aéronaut (المنهل).
أوتوبيس جوي
fr.aérobus (لبنان 1979).
سفينة هوائية
fr.aérostat (المنهل).
ديناميكا هوائية
aerodynamics engl.
(المورد).
وأحيانًا يتم التعبير عن معناها بالاسم "هواء" المضاف إليه، مثل:
علم الهواء
aerology engl. (المورد).
ميزان الهواء
aerometer engl. (المورد).
3-4-1-2- أما في حالة الصيغ النعتية فقد تم التعبير عن دلالة شبه البادئة "aero-" بالنسبة "جَوِّىّ" أو بالنسبة "هوائِيّ" اللتين تتبعان نسبة أخرى:
بحري جوي
fr. aéronaval (المنهل).
ميكانيكي جوي
aeromechanic engl. (المورد).
لكن الاسم "جَوّ" عبر عن معنى شبه البادئة "aero-" بن صفة نعتية باعتباره حالاًّ في هذا التركيب:
مَحْمُولٌ جَوًّا
fr. aéroporté (المنهل، مصر 1973).
3-4-2- شبه البادئة"auto-" fr.,engl.(<gr.autos "ذاته"). وتعبر شبه البادئة هذه عن معنيين :
3-4-1- في أكثر الأحايين تعبر عن سير عمل معين من تلقاء نفسه أو ذاتيًّا.
وقد تم التعبير عن هذا المعنى بمساعدة النسبة "ذَاتِىّ" في صيغة نعتية حيث تتبع في العادة مصدرًا أو اسمًا عاديًّا في بعض الأحيان. وتم التعبير بهذه الطريقة عن عدد من المصطلحات السياسية التي تناقلتها الصحف، إضافة إلى عدد من المصطلحات العلمية المدونة في القواميس والمعاجم ومجموعات المصطلحات، ونذكر من المجموعة الأولى على سبيل المثال:
حكم ذاتي
fr.autonomie، engl.nutonomy (العراق 1968، فيهر).
سيرة ذاتية
fr.autobiographie، engl.
autobiography (تونس 1969).
انتقاد/ نقد ذاتي
fr. autocritique (لبنان 1968).
اكتفاء ذاتي
fr.autarcie، engl. autarky (لبنان 1968).
دفاع ذاتي
fr.autodéfence (المفصل، مصر 1999).
كما نذكر من المجموعة الثانية:
إيحاء ذاتي
fr. autosuggestion (المفصل).
تلقيح ذاتي
engl. autoinoculation (المورد) .
fr.autofécondation (المفصل).
تحليل ذاتي(/11)
fr.autoanalyse (المفصل).
إخصاب ذاتي
engl. autogamy (المورد).
كما تستخدم النسبة "ذَاتِيّ" أحيانًا مضافة إلى اسم للتعبير عن معنى صيغة نعتية:
ذاتي التغذية
engl.autotroph (المورد).
ذاتي الإخصاب
engl. autogamic (المورد).
ذاتي التولد
engl.autogenous (المورد).
وفي أحيان أخرى يتم التعبير عن معنى شبه البادئة "auto-" عن طريق الاسم "ذَات" أو الاسم "نَفْسَ" في صيغة الإضافة:
نقد الذات
fr. autocritique (مصر 1969).
انتقاد الذات
fr. autocritique (سوريا 1975).
استقلال الذات
engl. autonomy (مصر 1975).
الدفاع عن النفس
fr. autodéfence (ليبيا1979) .
3-4-2-2-أما المعنى الثاني لشبه البادئة هذه فهو "أوتوماتيكي". وقد تم التعبير عنه بمساعدة النسبة "ذَاتِىّ" أيضًا، مثل:
محوّل ذاتي
engl. autotransformer (المورد).
دفع ذاتي
fr.autopropulsion (المنهل).
ذاتي الحركة
fr. automatique(المفصل).
engl. automobile (المورد).
3-4-3- شبه البادئة fr., engl. bio- (<gr. Bios بمعنى "الحياة").
3-4-3-1- وتم التعبير عن معناها في الصيغ الاسمية بنسب مشتقة من أسماء تعبر عن معنى "الحياة"، مثل:
(أ) "حَيَوِيّ" (<حياة):
جغرافيا حيوية
engl. biogeography (المورد).
محيط حيوي
biospher engl. (المورد).
(ب) "أَحْيَائِيّ":
نشوء أحيائي
engl. biogenesis (المورد).
حفاز أحيائي
engl. biocatalyst (المورد).
(ج) "حَيَاتِيّ" (< حياة):
كيمياء حياتية fr. biochimie (المنهل).
3-4-3-2- أما معناها في الصيغ النعتية فقد تم التعبير عنه عن طريق تراكيب مؤلفة من نسبتين ثانيتهما "حيوي":
كيمِيحيوي
engl.biochemical(المورد).
نشويحيوي
engl.biogenic (المورد).
3-4-4- إن شبه البادئة "micro-"
(< gr. mikros).
تعبر عن معنيين: إما "مجهري" أو ["صغير"- دقيق"]. وقد استخدمت بالأساس النسبة "مِجهَرِىّ" للتعبير عن المعنيين المذكورين.(/12)
3-4-4-1- ومن أجل التعبير عن معنى شبه البادئة هذه في الصيغ الاسمية تستخدم هذه النسبة كنحت:
صورة مجهرية
fr.microphotographie (المنهل).
بنية مجهرية
fr.microstructure (المفصل).
جراحة مجهرية
fr.microchirurgie (المفصل).
وقد تمت محاولة للتعبير عن دلالة شبه البادئة هذه بمساعدة صيغة اسم التصغير "فُعَيْل"، لكن القواميس دوّنت صيغة واحدة من هذا النوع:
فُلَيْم
microfilm (<فلم) (المورد).
وقد تم التعبير عن معنى "صغير جدًّا" لشبه البادئة هذه عن طريق استخدام عدد من النعوت بهذا المعنى، مثل:
عالم صغير
fr.microcosme (المفصل).
فلم صغير
fr.microfilm (المنهل).
فلم مصغر
engl. microfilm (فيهر 513).
تحليل دقيق
fr.micro-analyise (المفصل).
بلور دقيق
fr.microcristal (المفصل).
نيزك دقيق
engl.micrometeorite (المورد).
3-4-4-2- أما للتعبير عن معنى شبه البادئة هذه الواردة في الصيغ النعتية فقد تم اللجوء إلى النسبة "مِجْهَرِيّ" المضافة إلى اسم:
مجهرى التبلور
engl. microcrystalline (المورد).
3-4-5- ويتم التعبير عن معنى شبه البادئة "macro-" (<gr. makros)
(ضد –micro) بمساعدة النعت "كبير" أو اسم التفضيل "أكبر":
جزيْئة كبيرة
fr.macromolécule (المفصل).
كرية حمراء كبيرة
fr.macrocyte (المفصل)
العالم الأكبر
fr. macrocosme (المفصل).
3-4-6- تظهر شبه البادئة
"engl., neo" fr., néo (<fr.neos "جديد") في عدد من المصطلحات الفلسفية والتاريخية والأدبية والسياسية بمعنى "جديد" أو "حديث".
3-4-6-1- ومن أجل التعبير عن معنى شبه البادئة "néo" من الصيغ الاسمية تم استخدام النعوت التالية:
(أ) "جديد":
كلاسيكية جديدة
fr.néo-classicisme (العراق 1980).
واقعية جديدة
fr.néo-realisme (لبنان1968).
استعمار جديد
fr. néo-colonialisme (لبنان 1968).
نازية جديدة fr.néo-nazisme (لبنان 1973).
ليبرالية جديدة
fr.néo-liberalisme (المفصل).
(ب) "حديث"(/13)
أفلاطونية حديثة
fr.néo-platonisme (العراق 1980).
استعمار حديث
fr.néo-colonialism (سوريا 1967).
كلاسيكية حديثة
fr.néo-classicisme (المفصل).
(ج) اسم المفعول "مُحْدَث":
انطباعية محدثه
engl.neo-impressionism (المورد).
واقعية محدثة
fr.néo-realisme (المفصل).
3-4-6-2- أما للتعبير عن معنى شبه البادئة هذه من الصيغ النعتية فقد تم استخدام النعت "جديد" والنعت "حديث":
(أ) إما مضافًا:
حديث التنصر
engl. meophyte (المورد).
(ب) وإما بعد اسم منعوت:
معتنق جديد (لدين)
engl.neophyte(المورد).
القوى الاستعمارية الجديدة
fr.néo-colonialiste (لبنان 1973).
3-4-7- تم التعبير عن معنى شبه البادئة " engl.,fr., psycho gr. Psyche>" نفس، روح") بعدد من التراكيب التي يستخدم فيها الاسم "نفس" أو النسبة "نفسي".
3-4-7-1- وللتعبير عن معنى شبه البادئة هذه من الصيغ الاسمية تم استخدام النسبة "نفس" أو "نفساني" في تراكيب نعتية:
تحليل نفسي
engl.Psychoanalysis (المورد، فيهر 985).
عالم نفسي
engl. Psychologist (المورد).
تحليل نفسي
engl. Psychoanalysis (المنهل، فيهر 200) .
طب نفساني engl.Psychiatry (فيهر 985).
كما يمكن استخدام الاسم "نفس" مضافًا إليه للتعبير عن معنى شبه البادئة "psycho-":
علم النفس
engl.psychology (المورد).
3-4-7-2- أما معنى شبه البادئة هذه من الصيغ النعتية فقد تم التعبير عنه بالنسبة نفسي المتصلة بنسبة أخرى. ولم تسجل الصيغ من هذا النوع إلا في القواميس:
تحليلينفسي
engl.psychoanalytic (المورد).
طبينفسي
engl. Psychiatric (المورد).
دينامينفسي
Psychodynamic (المورد).
3-4-8- تستخدم شبه البادئة "fr.,
Engl .thermo-" (< gr. Thermos "حرارة") سواء في صيغ اسمية أو نعتية.
3-4-8-1- ومن أجل التعبير عن معناها في الصيغ الاسمية تم استخدام النسبة "حَرَارِيّ" في تركيب نعتي:
ديناميكا حرارية
engl.thermodynamics (المورد).(/14)
تنظيم حراري
engl.Thermoregulation (المورد).
دفع حراري
engl. thermopropulsion (المورد).
3-4-8-2- أما للتعبير عن معناها في الصيغ النعتية فقد تم استخدام اسم فاعل منعوت بالنسبة "حَرَارِيّ":
مولّد حراري
fr. thermogéne (المنهل).
مصلّب حراري
fr.thermorigide (المنهل).
وفي عدة حالات اتصلت النسبة "حراري" باسم مختصر:
كهرحراري
engl.thermoelectric (المورد، مصر 1975).
نواحراري engl.thermonuclear (المورد).
3-4-9- تستخدم شبه البادئة "fr., engl., vice-" في اللغات الأوربية (< lat. Vice "بدلاً من") للتعبير عن عدد من الدرجات والوظائف والألقاب أو المؤسسات المقابلة لها.
3-4-9-1- ومن أجل التعبير عن لقب أو درجة أو وظيفة أو مؤسسة يستخدم المصدر "نِيَابَة" مضافًا إلى اسم الوظيفة المعنية أو اسم صاحبها، مثل:
نيابة للرئاسة
engl.vicepresidency (المورد، مصر1975).
نيابة الملك
engl. viceroyalty (المورد).
3-4-9-2- أما للتعبير عن حامل أو صاحب اللقب المعني فقد استخدام اسم الفاعل "نَائِب" في صيغة الإضافة، أي مضافًا إلى اسم الشخص الذي يؤدي وظيفة معينة:
نائب الرئيس
engl. vic-president (المورد، فيهر1008، العراق 1975).
نائب الملك
engl. viceroy (المورد، فيهر 1008، سوريا 1975).
نائب القنصل
engl. vice-consul (المورد، فيهر1008، سوريا1975).
نائب المستشار
fr.vicechancilier (المفصل).
نائب الأميرال
engl. vice-admiral (المورد).
3-5- ومن ناحية أخرى تم تعريب عدد من البوادئ وأشباه البوادئ المذكورة المستعارة من اللغات الأوربية في أكثر الأحيان مع الألفاظ التي تحتويها وبصورة استثنائية تم فصلها وإلصاقها بألفاظ عربية. ونذكر منها على سبيل المثال:
(أ) super- : سوبرفوسفات
(fr.> superphosphate ) (المنهل).
(ب) extra-: حكومة اكسترابرلمانية (fr. extraparlamentaire) (لبنان 1970).
(ج) hypo-: هيبوسولفيت(/15)
(fr.> hyposulfite) (المنهل، المورد) وهيبوسولفوروز
(engl.>hyposulphuros) (المورد).
وهيبوكلوروز
(fr.> hypoclorous).
(د) bi-: بيسولفيت
(fr. bysulfite>) (المنهل).
وبيكرومات
(fr.> bichromate) (المنهل).
(هـ) micro- : ميكروفون
(fr.> microphone ) (المنهل، فيهر935).
وميكروسكوب
(fr.microscope>) (برانوف990).
(و) auto- : أوتوغراف
(fr.>autographe) (فيهر33).
وأوتوقراطى (fr.autocrat ique>)
(فيهر 33).
وأوتوموبيل
(fr.automobile>) فيهر33).
(ز) meta-: ميتافيزيقا
(fr.métaphysi-que) (المنهل) إلخ...
وقد فصلت بادئتان واتصلتا بألفاظ عربية.
(أ) extra-: حومة اكستراسياسية
(fr. extraparlamentaire).
(ب) micro-: ميكروثانية
(engl. microsecond) (المورد).
4- وفي ختام حديثنا عن البوادئ وعن أشباه البوادئ عامة يمكننا صياغة عدة استنتاجات:
وأهم استنتاج هو أن اللغة العربية تمتلك إمكانيات كافية للتعبير عن معاني ودلالات البوادئ وأشباه البوادئ الموجودة في اللغات الأوربية. أما الطرق الرئيسية للتعبير عنها فتتمثل في صيغ الإضافة التي يقابل فيها المضاف البادئة الأوربية والصيغ التي تستخدم فيها حروف الجر المختلفة. ويبدو أن هذه الصيغ أقرب ما تكون إلى الصيغ الأوربية ذات البوادئ فيما يخص ترتيب العوامل الواردة فيها أو مكوناتها.
وقد سبق أن أشرنا في بحث سابق إلى أن حرف النفي "لا" أصبح بادئة حقيقية في اللغة العربية وهو يقابل العديد من بوادئ النفي والحرمان الموجودة في اللغات الأوربية.
أما صيغ الإضافة فيأتي فيها بصفة مضاف:
(أ) الاسم "غير" الذي يعبر عن دلالات بوادئ أو سوابق مثل "non-, in-, a- un-" والاسم "شبه" الذي يعبر عن دلالات مثل"semi-, hemi- quasi-, pars-, sub- والاسم "نصف" بمعنى "sub-, semi-" .
(ب) مصدر مثل: "عدم" "a-, un-, in-,"
-فرط "hyper-, super- "
-قلة "sub"
-نقص "hypo-sub-"
-حب "phylo-"
-إعادة وتجديد وردّ "re-"(/16)
-تعدّد "multi-, poly-"
(ج) اسم المرة "وحدة" بمعنى "uni-, mono-"
(د) المصدر الصناعي "أُحادية" بمعنى "uni-, mono-"
وقد أشرنا إلى أن ظهور بعضها ("غير"و"شبه") معرفًا بأداة التعريف دون تعريف المضاف إليه يدلل فيما يدلل على أن الأشخاص الذين يستعملونها شفويًّا أو خطيًّا وبخاصة الصحفيون منهم بدؤوا يعاملونها وكأنها بوادئ حقًّا.
كما لاحظنا وجود العديد من صيغ الإضافة التي يستخدم فيها بمثابة مضاف:
(أ) نعت أو صفة مثل:
شديد ... ... ... ... "ultra-"
طويل ... ... ... ... "hyper-"
قليل ... ... ... ... "sub-"
كثير ... ... ... "multi-, poli"
وحيد "uni-, mono-"
(ب) اسم فاعل مثل:
فائق "ultra-"
واحد "uni-, mono-"
ناقص "sub"
مفرط "super-"
نائب "sub-, pro-, vice-"
متعدد "multi-, poli-"
(ج) نسبة مثل:
أحادي "mono-, uni-"
ثنائي "bi-"
ثُلاَثي ."tri-" إلخ
وتعتبر الصيغ التي يرد فيها حرف من حروف الجر قريبة إلى أنواع الصيغ السابقة من ناحية التركيب. ونذكر من هذه الحروف.
-"فوق" بمعنى"ultra-, supra-, extra-"
-"وراء" بمعنى "ultra-"
-"تحت" بمعنى"infra-, hypo-, sub-"
-"دون" بمعنى "sub-, infra-"
-"قبل" بمعنى "pre-, semi-"
وقد سجل مؤلفو القواميس والمعاجم الثنائية اللغة العديد من الصيغ التي اختصر فيها المضاف أو الحرف واتصل بالمضاف إليه أو المجرور وفي هذه الحالة عومل المضاف أو الحرف وكأنه بادئة حقيقة. وقد سبق أن ذكرنا منها في البحوث المقدمة في المؤتمرات السابقة لمجمع اللغة العربية.
- شبه> شب: "hemi-, semi-"
-جزء> جز: "sub-"
-فرط> فر: "hyper-"
-فوق> فو: "super-"
-تحت> تح: "sub-, hypo-, infra-"
-دون> دو: "sub-, infra-"
كما ذكرنا استخدام نوع آخر من الصيغ القريبة إلى أنواع الصيغ المذكورة آنفًا والتي يرد فيها اسم الفاعل المقابل للبادئة قبل اسم مجرور بحرف من حروف الجر، مثل:
-"مخالف لـ"بمعنى "extra-"(/17)
-"مغالٍ في" بمعنى "ultra -"
-"مجاور لـ" بمعنى "sub-"
-"معاد لـ" و"مناف لـ" و"مناهض لـ "ومضادًّلـ" بمعنى "anti-"
-"موال لـ" و"ممالئ" لـ"بمعنى "pro-, philo"
-"مغرق في "بمعنى "ultra-"
-"محب لـ" بمعنى "philo"
-"مسرف في" بمعنى "ultra-"
وتجدر الإشارة إلى أن جميع الألفاظ المستخدمة للتعبير عن دلالات للبوادئ الأوربية تحتفظ بمعناها الأصلي وتستخدم كذلك في تراكيب حرة من الكلمات.
وبالإضافة إلى الطرق المذكور للتعبير عن دلالات البوادئ وأشباه البوادئ أشرنا كذلك إلى استخدام مختلف النعوت للتعبير عنها في عبارات نعتية عن طريق الترجمة الحرة.
وقد استخدمت في التراكيب النعتية:
(أ) صفات مثل "كبير" و"ضخم" بمعنى "super-".
(ب) صيغ التفضيل "أعظم و"أسرع" بمعنى "super-".
(ج) أسماء الفاعلين وعدد الترتيب "ثان" على وزن "فاعل".
أيضًا :
"مساعد" بمعنى "sub-".
"مضادّ" بمعنى "anti-".
"مفرط" بمعنى "super-".
"ثانٍ" بمعنى "sub-".
(د) نسبًا مثل:
"فوقي" بمعنى "ultra-, super-".
"فرعي" بمعنى "sub-".
"ثانوي" بمعنى "sub-".
"تحتاني" بمعنى "hupo-".
"نصفي" بمعنى "semi-, hemi-".
"استثنائي" بمعنى "super-".
"أُحادي" بمعنى "mono-, uni-".
يمكن القول بأن أنواع الصيغ والتراكيب المذكورة أعلاه أصبحت طرقًا عادية متعارفًا عليها للتعبير عن معاني ودلالات البوادئ وأشباه البوادئ في اللغة العربية لكن علاوة عليها ذكرنا العديد من أنواع التراجم التفسيرية المستعملة للتعبير عن هذه الدلالات.(/18)
ومما استرعى انتباهنا أثناء بحث قضية التعبير عن معاني ودلالات البوادئ وأشباه البوادئ أنه لم تتم محاولات للتعبير عنها في حالة الصيغ الفعلية إلا بصورة استثنائية. ونفسر ذلك بكون أوزان الفعل تشكل نظامًا محكمًا يصعب إدخال تعديلات عليه هذا من جهة، ومن جهة ثانية تعبر أوزان الفعل عن دلالات دقيقة جدًّا فمن الممكن الاستغناء عن محاولات إيجاد طرق للتعبير عن معاني البوادئ مع استثناءات قليلة. وقد سبق أن أشرنا إلى الطرق المستعملة للتعبير عن عدد محدود من البوادئ في حالة الصيغ الفعلية، مثل:
(أ) "أعاد" و"جدّد" و"كَرّر" و"ردّ" للتعبير عن معاني البادئة "re-".
(ب)"أفرط في "للتعبير عن معنى البادئة "super- ".
(ج)"أساء" للتعبير عن معنى البادئة "sub-".
(د) "أضعف" للتعبير عن معنى البادئة "hypo- " .
ونرى من المهم بمكان أن نشير إلى أن بعض الطرق المستخدمة للتعبير عن معاني ودلالات البوادئ أصبحت لا تنطلق إلزاميًّا من صيغ ونماذج أوربية مماثلة، وبخاصة الطرق المستعملة للتعبير عن دلالات البوادئ النفي والحرمان، بل في بعض الأحيان لا تقابل صيغ أوربية الصيغ العربية المعنية، وحتى لو وجدت ليس مستبعدًا ظهور صيغ عربية مستقلة عنها إذ إن هذه الطرق فرضت نفسها وأصبحت مكرسة في اللغة العربية للتعبير عن معاني ودلالات البوادئ وأشباه البوادئ.
ولا نستطيع اختتام هذه السلسلة من البحوث المتعلقة بالتعبير عن معاني ودلالات البوادئ وأشباه البوادئ الأوربية في اللغة العربية دون إبراز الدور المهم الذي لعبه ولا يزال يلعبه الإعلاميون بصورة عامة والصحفيون بصورة خاصة في فرض ونشر وإشاعة الوسائل والطرق المختلفة المستخدمة للتعبير عنها في العربية.
الزملاء الأجلاء،(/19)
نعيش في عصر تتعاقب فيه الأنباء والمعلوماتُ الخاصة بالاختراعات العلمية بسرعة لم نكن نتخيلُها قبل عشرين سنة، بل حتى قبل عَشْرِ سنوات. ويسمع العالم فورًا عن هذه الاختراعات بفضل وسائل الإعلام الحديثة من قنوات تلفزيونية فضائية ووكالات الأنباء وصحف وأخيرًا الإنترنت. نعيش في عصر تلاشت فيه الحدود المكانية والزمانية أو كأنها أصبحت دون الحتمية ويمثل الإعلاميون الفئة الأولى من الناس التي تطلع على هذه الاختراعات المتسارعة، في أحيان كثيرة قبل الاختصاصيين واللغويين في أوطانهم ويتعين عليهم حتمًا ترجمةُ المعلومات الخاصة بهذه الاختراعات وإذاعتها وإشاعتُها بين المشاهدين والمستمعين والقراء فور الاطلاع عليها دون استشارة الاختصاصين واللغويين وتتناقل جميع وسائل الإعلام هذه المقترحات سريعًا.
وفي بعض الأحيان يستعير الإعلاميون العربُ المصطلحات الأجنبية ويحاولون تعريبها قدر المستطاع. كما حصل مع التلكس والفاكس والإنترنت خلال العقود الأخيرة- وفي أحيان أخرى يترجمونها كما حصل مؤخرًا مع مصطلح (clouage ، الاستنساخ) مثلاً. وبسبب السرعة لا يجدون دائمًا أنسبَ الوسائل للتعبير عن تسميات المخترعات الجديدة لكن المصطلح الذي طَرحُوه شاع بين الناس عن طريق وسائل الإعلام، ومن الصعب استبداله بعد ذلك. وتفاديًا للالتباسات نرى من الضروري إقامة تعاون مستمر بين المؤسسات الإعلامية وبين الاختصاصيين والعلماء اللغويين، وإيجاد قنوات للتواصل الدائم بين العاملين في القطاعين المذكورين.(/20)
اخترت الأمثلة المذكورة في البحوث المتعلقة بالبوادئ من الصحف ومن القواميس. إن مؤلفي المعاجم والقواميس ترجموا العديد من الألفاظ الأوربية المؤلفة ببوادئ، ولا شك أن الكثير منها مخصص للاختصاصيين، لكن الصيغ الواردة في الصحف والتي تقابل ألفاظًا أوربية مؤلفة ببوادئ كانت أو أًصبحت جزءًا من اللغة العربية. لما أجد على الصفحة الأولى من صحيفة الأهرام التي تنتشر فيها أنباء محلية أو عربية، فهذا يعني أن الأساليب والطرق المعنية توطنت وتجنست وأصبحت جزءًا من أساليب هذه اللغة.
وختامًا، حاولتُ أن أشير بهذه المحاضرة والبحوث السابقة إلى أن
اللغة العربية لغةٌ أصيلةٌ قويةٌ قادرةٌ على مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل، على التطور والنمو والتحديث بحيث تتماشى مع تطور العلوم والتكنولوجيا والحضارة عامة.
وأشكر حضراتكم على صبركم وكل عام وأنتم بخير
نيفولا دوبريشان
عضو المجمع المراسل من رومانيا
المراجع:
1- برانوف: القاموس العربي- الروسي، موسكو 1985م.
2- فيهر: القاموس العربي الإنجليزي، بيروت 1977م.
3- مجموعات المصطلحات العلمية والفنية التي أقرها المجمع، 1960-2000م.
4- المفصل: جبور عبد النور، معجم النور المفصل، بيروت، 1995م.
5- المنهل: جبور عبد النور وسهيل إدريس، المنهل الوسيط، بيروت، 1977م.
6- المورد: منير البعلبكي، المورد، قاموس إنجليزي – عربي، بيروت، 1978م.
7- الصحف العربية الصادرة في الدول العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين.(/21)
في لغة الإعلام *
للأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي
تدخل لغة الصحافة في باب "الإعلام"، والإعلام مصطلح جديد أريد به أن يقابل كلمة أعجمية شاعت في باب هذا المصطلح الجديد في الإنجليزية والفرنسية. إن عامة المواد الجديدة ولا سيما المصطلح الفني في العربية محكوم بما هو سائر في هاتين اللغتين الأعجميتين. وكأننا لا نفكر في شيء خاص بنا نبتدعه ابتداعًا، ذلك أن العربية مغزوّة بل محاصرة بآلاف من المصطلح الجديد في العلوم والفنون كافة، فقد ورد في معلومات من الأمم المتحدة أن في كل سنة يجدّ أكثر من خمسة آلاف مصطلح علمي حضاريّ، فأين نحن من هذا السيل الآتي.
وهكذا صرنا إلى مصطلح "الإعلام" منقولاً من المصدرية إلى شيء آخر يندرج فيه حشد من الكلم الجديد (1) على أننا قد نجد بين العرب من يؤثر مصطلح "الاتصال" (2)، وإن كان هذا في حقيقته "التواصل". ومهما يكن من هذا الاختلاف فقد ثبت "الإعلام" فكانت مؤسسات الإعلام، ووزارات الإعلام وغير هذا مما يتصل بهذه الممارسات الجديدة.
وإني لأبدأ فأؤكد أن الكلام في لغة الصحف لا يدخل في باب الخطأ والصواب، والتصحيح اللغوي الذي صار مادة لأهل العلم ومدعيه، فقد كثرت الكتب والرسائل في هذا الشأن.
على أن الكثير من ذلك خروج عن العلم، وامتهان للعربية وكيد لسماحتها، وهي أوسع مما تخّبطوا فيه.
على أني لا أنكر أن يكون في هذه اللغة جنوح عن العربية، وأن الذي عرض في ذلك هو عينه الذي يعرض في كتابة سائر المترسلين. ولكني أقول: إن هذه اللغة قد تبتعد في هويتها عن الأصول العربية، وأنها ضرب من الممارسة اللغوية المعاصرة. وهي لشمولها وسعة انتشارها غزت ميادين أبعد ما تكون عن الصحف، ألا نرى أن لغة أهل الاجتماع عامة هي شيء من هذا الجديد الوافد. وقد نتحول إلى اللغة الأدبية الحديثة فنجدها تتلقّف كثيرًا من موادها من حيّز هذه الصحف.(/1)
لقد استقبل اللغويون في أوائل القرن الماضي، وأوائل هذا القرن "لغة الجرائد" استقبالاً غير حسن فراحوا
يعرضون لما كان فيها من الخطأ ، وما خرج فيه أصحابها عن قواعد العربية نحوًا وصرفًا وأبنيةً ونظام جُمَل. وقد ألفوا في هذا مصنفات .
قلت: بدأت الصحافة العربية في أوائل القرن التاسع عشر متسمة بصفات النثر في تلك الحقبة، فقد كانت مثقلة بالسجع وألوان البديع من جناس ومقابلة، فهي متكلفة عسيرة لا تصل إلى الغرض المراد إلا بعد عسر .
لقد ورد في افتتاحية العدد الأول من جريدة "الوقائع المصرية" التي أنشأها محمد علي باشا في القاهرة سنة 1828 (*) .
" الحمد لله باري الأمم، والسلام على سيد العرب والعجم، أما بعد، فإن تحرير الأمور الرافعة مع اجتماع بني آدم، المتدبّجين في جمعية هذا العالم، ومن ائتلافهم وحركاتهم، وسكونهم ومعاملاتهم، ومعاشراتهم التي حصلت
من احتياج بعضهم بعضًا، هي نتيجة الانتباه والتبصر بالتدبير والإتقان، وإظهار الغيرة العمومية، وسبب فعّال منه يطّلعون على كيفية الحال والزمان(1).
وقد كانت هذه اللغة الركيكة قد حفزت المعنيين بالعربية وأساليبها إلى أن يكتبوا في دفع هذه الهجنة على رأيهم.
على أن التنبيه على هذه اللغة وركاكتها وبعدها عن سماحة العربية لم يجد كثيرًا، فلقد ورد مثلاً في افتتاحية العدد الأول من صحيفة "لسان الحال" الصادرة في بيروت سنة 1877م، أي بعد صدور "الوقائع المصرية" بخمسين سنة تقريبًا، شيء لا يبتعد كثيرًا عما كانت عليه اللغة الصحفية في "الوقائع المصرية".
قال محرر "لسان الحال":
… الحمد لله الذي يسبَّح بحمده في الغدوّ والآصال، وينطق مفصحًا بتعداد آلائه لسان الحال، حمدًا يدوم آناء الليل وأطراف النهار، ما غرّد قمريّ، وترنَّم هزار (2) .(/2)
وقد نقف في صحافة هذه الحقبة على نمط من الإغراق في استعمال الألقاب في مدح من يتحدَّث عنهم. ومن هذا ما ورد في جريدة "وادي النيل" (3) عند صدور مجلتين في بيروت، إحداهما "الزهرة" ليوسف شلفون اللبناني المتوفى عام1890، والثانية "الجنان" للمعلم بطرس البستاني عام1883م، المتوفى سنة 1883م. وهاتان المجلتان تكادان تتشابهان في كثير من الصفات .
جاء في مقال "الوقائع":
"وكلتاهما من الطرافة والكياسة، وعظم الفائدة والنفاسة، في درجة عالية وهيئة حالية، وكأنهما فتاتان من الجزر الأوربية وقد بدتا في كنائس نصرانية متجملتين بمآزر شرقية عربية، أو برانس مغربية… إحدهما تنشر باسم "الزهرة" بتأليف الأديب الأريب، والكاتب اللبيب، والآخذ في الكتابة بمجامع الفنون المدعو يوسف الشلفون.. والثانية تظهر باسم "الجِنان" بقلم وإدارة المؤلف اللطيف، والمصنف الشاب الفهيم المعروف كذلك باسم سليم(1).
على أن هذا قد ذهب في صحف هذا القرن، فلم نجد شيئًا منه فيما كان ينشر يعقوب صروف منشئ المقتطف.
لقد كنا نقرأ فيما يكتبه صروف سنة1927م شيئًا يبتعد عن هذا التكلف الذي لا يخدم الفن الصحفي.
وقد أشار إلى هذا التحول أنيس المقدسي في المصدر الذي أشرنا إليه.
على أننا لم نتخلص في هذه الحقبة مما ألمحنا إليه من ثقل هذه اللغة الصحفية، وأنت إذا نظرت إلى ما كان يكتبه السيد محمد توفيق البكري المتوفى سنة 1932م وجدت أن التكلف في استعمال السجع والمحسنات البديعية واضح كل الوضوح. وقد أشار إلى هذا أنيس المقدسي في المصدر الذي تقدم ذكره .
قلت: لقد تصدى المعنيون بالحفاظ على العربية إلى لغة الصحف، وتنكروا لها. ومن هؤلاء الشيخ إبراهيم اليازجي الذي كتب مقالات عدة نشرها في مجلة "الضياء" بعنوان "لغة الجرائد" ثم أعيد نشرها في كتابه الموسوم بالعنوان نفسه (2).(/3)
على أن ما نبّه عليه اليازجي في "مقالاته" هذه بعيد عن اللغة الصحفية التي نشاهدها اليوم، وها أنذا قد اقتطفت نماذج منها مما ورد في بحث عن "الإعلام واللغة الإعلامية" للأستاذ منير البعلبكي ألقاه في "مجمع اللغة العربية" في القاهرة سنة 1987.
أقول: إذا كانت لغة الصحف في بلدان المشرق العربي متأثرة بأساليب ما هو شائع في الإنجليزية في أمريكا وإنجلترا (*) ، فإن لغة الصحافة في الشمالي الإفريقيّ متأثرة بما هو معروف متداول في الصحف الفرنسية.
وقد كان لي جولة في صحف المغرب وموريتانيا والجزائر وتونس وقفت فيها على طرائق من التعبير حكت ما هو معروف في الفرنسية. على أن هذا المحكي قد ألقت الضيم عليه عربية ضعيفة قد تحسب أن قائليها لم يجروا من العربية على عرق.
وسأستقري طائفة من هذه التعابير غير مُلزمٍ نفسي أن أخصها بهذا القطر أو ذاك ، ذلك أن مسألة
النسبة المحددّة لا تعني شيئًا يتسم بخصوصية بلد بعينه.
قرأت:
اجتمع بالدار البيضاء مبعوث الرئيس الليبي معمر القذافي قائد ثورة الفاتح من شتنبر مع زعماء من بلدان المغرب العربي.
أقول: "إن شتنبر" من أسماء الشهور المغربية وغيره هو سبتمبر، وهو شيء مما أخذه أهل هذه البلدان، ولم يستعملوا ما عرف العرب من أسماء الشهور التي عرفتها الأمم القديمة في بلدان المشرق، والتي استعملها العرب في ممارساتهم الاجتماعية والأدبية. لقد عرف العرب "أيلول" وهو اسم بابلي واستعملوه.
ومن عجب أن أهل اليمن عرفوا هذه الأسماء ولكنهم تأثروا بما هو شائع
وجار في مصر فصرنا نسمع ونقرأ "سبتمبر" والثورة السبتمبرية.
ومثل هذا يقال في "يناير" في مصر، وهو جانغي في بلدان الشمال الإفريقي، وفبراير في مصر وهي "فيفري" في تونس والجزائر والمغرب. وهكذا "مارس" و"أفريل" و"مايو" و"ماي" و"يونيه" و "جوان"، و"يوليو"، و"جويليه" و"أغسطس" و"غشت" ثم "سبتمبر" و"شتنبر" و"أكتوبر" و"نوفمبر" و"ديسمبر" و "دجمبر" .(/4)
وأنت ترى كل ذلك في بلاد الشام والعراق وبلدان الخليج والجزيرة: كانون الثاني وشباط وآذار وأيّار إلى آخره. قال أبو العلاء:
تشتاق أيّار نفوس الورى
وإنما الشوق إلى ورده
وغير هذا كثير .
و"الفاتح" في استعمال أهل طرابلس الغرب اسما لثورتهم يراد به "الأول" والاستعمال صحيح فصيح، غير أنهم التزموا به دون غيره، وكأن ما يرادف "الفاتح" لا يفي بالمراد.
... وقصة "اجتمع مبعوث الرئيس معمر القذافي .. مع" من الأساليب الجديدة التي لا نعرفها في فصيح العربية، ولكنها من لغة الصحف، ذلك أن "اجتمع" في العربية متطلب للواو بمعنى "مع" فلا نعرف: اجتمع مع، ولا اتفق فلان مع صاحبه، ولا اشترك مع، وغير هذا .
وقرأت: بعث أزيد من 46 طالبًا أستاذًا درسوا بالمدارس العليا للأساتذة رسالة يلتمسون إثارة مشكل وضعيتهم الإدارية والمادية..
أقول - من غير شك- إن قولهم: "طالبًا أستاذًا" هو ترجمة لعبارة فرنسية، والترجمة حرفية كما يقال الآن ولكني أريد أن أقف على "أزيد" هذه الصيغة التي لا نجدها إلا في نادر الاستعمال، وكأن العرب قد تحاشوا الياء المفتوحة والواو المفتوحة وهربوا إلى إعلالهما ألفًا . غير أن أهل هذه الديار "المغاربية" على اصطلاحهم الجديد يبتعدون عن "أكثر" لإلفتهم لـ "أزيد" مأخوذة من الألسن الدارجة.
وقولهم: "مشكل وضعيتهم".
... أقول: "والمشكل" يقابل "المشكلة" في استعمال أهل المشرق، وأنت لا تستغرب عدم استعمال هؤلاء للمشكلة، إذا علمت أن "المشكل" أرادوا به مقابلة الكلمة الفرنسية "Probléme"، ولما كانت هذه مذكرة في الفرنسية جعلوا ما يقابلها "مشكلاً" مذكرًا.
قد تقول: إن "مشكل" كان في استعمال القدماء، فقد جاء "المشكل" لموضع الإشكال كما في استعمال ابن قتيبة "وتأويل مشكل القرآن".
غير أني أقول إن "المشكل" في استعمال أهل ديار المغرب منظور فيه إلى الكلمة الفرنسية، وليس إلى ما ورد من تراثنا.(/5)
ومثل هذا يقال في استعمالهم في هذه الجملة لـ "وضعية" فهي تقابل "Sitiuation" وهذه مؤنثة في الفرنسية، ولذلك عدل إخواننا في هذه الديار عن المذكر"وضع".
ولا بد لي أن أستدرك فأقول: إن جملة ما يؤثر في الاستعمال في هذه البلدان هو صحيح تحتمله العربية بوجه من الوجوه، ولكنه ذو خصوصية اكتسبها من أنه منقول عن أصل أعجميّ.
وقرأت أيضًا :
إدارة مفاحم المغرب .
أقول: لا أدري إن كان مفرد "مفاحم" مفحمًا أو مفحمة. ولكن الذي استوقفني هو هذا الجمع، وكأنه جمع ما يستخرج منه الفحم. والناس تضبط لغتهم الحاجة التي تحكمهم . ومثل هذا قولهم أيضًا:
المؤسسة العامة للأبناك.
و "الأبناك" جمع "بنك" وهذه مما عُرِّب في اللغة العربية، وكأنّ العرب اتفقوا على تعريبها واستعمالها. وقد جُمعت في بدلان المشرق على "بنوك" كما يقال في شهر شهور. أما أهل المغرب فذهبوا فيها إلى "أبناك" وهم يجرون في هذا على قياس مماثل فجمع "نهر" أنهار.
أقول: ومسألة الجمع هي مسألة استعمال، فإذا شاع بناء في كلمة فيصبح ما جاز فيها من القياس مهجورًا.
وتقرأ في المغرب أن الشارع أو الطريق يُرسَم إليه بـ "محجّ".
أقول: واستعمالهم صحيح، وهو من العربية وليس من لغة فرنسية، ولكنه خاص بهم.
ويؤيد ما يذهبون إليه ما ورد في الحديث الشريف:
"تركتكم على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها…" (*).
وقرأت :
مديرية تكوين "أطر".
و"الأطر" في هذا ترجمة لـ"Cadres" الفرنسية، أو يندرج في "الأُطُر" العمال المختصون وشبه المختصين، وكذلك الموظفون.وكانت
هذه الكلمة "إطارات" في الصحف التونسية قبل ربع قرنٍ، فكان يقال: الإطارات الحزبية.
وقد وجدت هذه الكلمة طريقها إلى العربية في المشرق، ومنهم مَنْ عَرَّب الأصل الفرنسي وجمعه.
وقرأت من هذا :
وفاة 1272 شخص بسبب إصابتهم بالسيدا.(/6)
أقول و" السيدا" هو مرض الإيدز الذي نجده في صحف أهل المشرق. و"الإيذر" هو مرض نقص المقاومة، وقد صيغ من جمع أوائل حروف الكلمة في اللغة الإنجليزية، فالهمزة من كلمة، والدال من كلمة، والزاي من الكلمة، وهذا الاختزال وتكوين الكلم معروف في اللغات الغربية.
وقد اختلف الأمريكيون والإنجليز عن الفرنسيين، فأولئك يستعملون "إيدز" وهؤلاء يقولون: سيدا، والسبب أن نظام تأليف المركبات من الصفة والموصوف يختلف في الإنجليزية عن الفرنسية.
ومثل هذا يقول الفرنسيون: حلف "الأوتان" ويقول الأمريكيون والإنجليز حلف "الناتو" وهو شمال الأطلسي.
لكن الفرنسيين اضطروا إلى استعمال "يونسكو" على الطريقة الأمريكية الإنجليزية، لشيوع يونسكو أو أونسكو، وهي منظمة الثقافة والتربية والعلوم...
وقرأت: نُزعت الأراضي من مالكيها لاستغلالها من طرف مصالح المياه.
أقول: قولهم "من طرف" من الفرنسية (de la part). ولو أنهم اكتفوا بـ "من" الجارة لبقوا في حيز العربية، ولا أطلب إليهم التفاصح ليقولوا: من لدن مصالح المياه.
وقرأت: توصَّلنا برسالة من سكان القرية يثيرون فيها أنهم منعوا من زيارة مسجد المجاهدين .
أقول: واستعمال "توصَّل" مُعَدَّى بالباء يريدون به أنهم تسلَّموا رسالة.
وهم في هذا يجرون في نظرهم إلى قول الفرنسيين commoniquer de.
أقول أيضًا: وأهل الشرق يذهبون في خطأ باستعمالهم: "استلم" فيقولون استلمنا رسالة.
و"الاستلام" للحجر، وهو السلام بكسر السين، قال الفرزدق:
" ركن الحطيم إذا ما جاء يستلمُ"
وقرأت: إقامة البراريك، في الحدائق مما يشوهها.
أقول: "والبراريك" من الكلم الأعجمي، وأهل الصحف أهل جرأة عجيبة في تعريبهم. ونظير هذا قولهم: إحصاء سكان الكريانات.
ولا أدري ما الكريانات!!، وهي من الكلم الأعجمي.
ولا أبتئس كثيرًا في هذا فمثله استعمال "الفِلل" في الصحف المصرية جمع "Villa" والكلمة إيطالية الأصل.
وقرأت: ورشة لتعليم اللغة العربية!!(/7)
أقول: تعالى الله ما أجرأنا على العربية التي وصلنا بها لإقامة "ورشة" لتعليمها، هذا من المضحك المبكي.
ثم ماذا ألم نقرأ في صحفنا في المشرق العربي: لقد سددنا فاتورات تقاعسنا!!
وقرأت :
إن الدار البيضاء أحسن المدن الثالثعالمية!!
ولننظر إلى هذا النحت الجريء والتركيب الجريء!
ومثل هذا ما ننشر أن المنظمة الأفروآسيوية.
على طريقة ما يقول الأعاجم: أنجلوأميركان.
وقرأت: أن الحكومة تميل إلى الخوصصة.
أقول: وبعد نظري في هذه العبارة في صحيفة تونسية أدركت أن "الخوصصة". تعنى نقل الملكية العامة إلى الملكية الخاصة، أو ما يُدْعَى جعل ما هو قطاع عام قطاعًا خاصًّا. وقد سبق أن قال التونسيون بـ "التونسة" أي جعل الشيء الغريب تونسيًّا. وهذا كله من الكلم المعدول عن جهته (*) .
وردت "الصحف" في لغة التنزيل وأريد بها كل شيء مكتوب على رقوق أو عسب أو لحاف: كما كان الأمر في "الصحف" التي احتفظ بها بعد رسول الله صلى الله وعليه وسلم في بيت حفصة، وهي التي اتخذ منها عثمان -رضي الله عنه- أصول المصاحف في "جمعه" المعروف المشهور الذي اضطلع به جلّة من
الصحابة من كتاب الوحي، وغيرهم. فانتهوا إلى ما انتهوا إليه في استقرائهم واختيارهم واستحسانهم وجمعهم. و"للصحف" في لغة التنزيل العزيز حضور وافٍ، فقد جاء في قوله تعالى { وإذا الصحف نُشِرت } (1) كما ورد في قوله تعالى: { صُحف إبراهيم وموسى } (2).
و"الصحيفة" و"الصحف" شيء عرفه العرب قبل الإسلام، وصحيفة "المتلمس" الشاعر الجاهلي وخبره مع الشاعر طرفة بن العبد والقصة مشهورة معروفة في أدبنا القديم "الجاهلي".
وجاء الإسلام وأقبل المسلمون على لغة التنزيل يدرسونها ويقفون على معانيها وما أخذوا به من أسرارها فكان علمٌ، وكان منهج في الدرس والتلقّي، وكان من ذلك أن هُرِع أهل العناية إلى الأعراب يستفتونهم ويأخذون عنهم، حتى إذا عادوا بذخائر(/8)
لغوية وأدبية تتصل بالعربية والعرب وأيامهم وأخبارهم تصدروا لهذا الدرس الذي شقي به طلاب العلم، فكان مما يُحمَد عليه طلاب العلم أن يكون علمهم مأخوذًا عن شيخ من أولئك المشايخ النحارير يسمعون عنهم فيروون ما سمعوا، فكان درس وكانت "أمالٍ" يمليها "الجهابذة" الأعلام، وكانت رواية وقراءة.
وكان أن درجت أفواج من طلاب العلم على هذا السنن فأخذوا واستوعبوا ثم صنفوا الكتب ثم غَبَرَ دهرٌ فخلف بعد أولئك طلاّب جُدد لم يكن لهم أن يسمعوا كثيرًا على الشيوخ. ولم يُتح لهم أن يقصدوا بوادي الأعراب. يأخذون عن أهلها، ولكنهم تعجلوا المسيرة، ووجدوا أن طريق الأوائل مضن عسير، فلم يكن منهم إلا أن "عمدوا" إلى "صحف" المتقدمين ورسائلهم ومصنفاتهم، يقرؤونها فيفيدون منها. وكان لا بد أن يعرض
لهؤلاء في درسهم وقراءتهم الخطأ بسبب من التشابه في رسم الحروف، وبسبب ما يكون من "الإعجام" و"الإهمال"، وبسبب ما يعرض من الخطأ الذي مردّه الأبنية الصرفية والموقع النحوي الإعرابي للكلمة في موضعها. ومن هنا كان هذا الخطأ الذي يتصل بالرسم و"الإعجام" و"الإهمال" قد أخذ اسمه من مادة "صحف" فكانوا يأخذون العلم من "الصحف" و"الكتب" ولم يسمعوه من شيخ رواية ودراية. وصار هذا الذي لم ينل العلم عن طريقه الذي درج عليه المتقدمون
من أهل العلم "مصحِّفًا"؛ أي مرتكبًا للتصحيف وهو الخطأ. وقديمًا قالوا: لا يؤخذ العلم من "صحفي" وهو الذي عوّل على "الصحف" في تلقّيه للعلم، وقد ذمّوا "المصحَّف" بتشديد الحاء ونبزوه، ومن هنا نفهم قول أبي نواس في رثائه لخلف الأحمر:
تروغ في الطُّبَّاق والنزع الأَلَفْ
أودَى جماع العلم مُذ أودَى خَلَفْ
من لا يُعدُّ العلْمُ إلاّ ما عَرَفْ
قَلَيْذَمٌ من العَيالِيم الخُسُفْ
فُكلَّما نَشَاءُ مِنْهُ نَغْتِرفْ
روايةً لا تُجتَنى من "الصُحُفْ"(*)
أقول: هذه نبذة تاريخيه موجزة تتصل بـ"الصحف" وما كان من أمرها لدى الدارسين الأوائل .(/9)
ثم جاء عصرنا فكانت "صحف" جديدة، وهي غير "الكتب" القديمة، ولكنها مظانُّ جديدة فيها "الخبر" و"الرأي"، وما يعرض في البلد من شؤون اجتماعية واقتصادية وسياسية و"علمية"، وهي ليست خاصة بالبلد الذي تحرّر فيه، وإنما تنفتح على بلاد فسيحة الأرجاء من أقاليم الدنيا . إنك تجد فيها ما يتصل ببلدك كما تجد فيها ما يتصل ببلدان العالم المعمور.
وقد كان لنا "صحف" نحن العرب منذ أوائل هذا القرن، ولما كنا
في أعقاب القرن المنصرم وأوائل هذا القرن من الأمم المغلوبة على أمرها، المتأخرة في مسيرتها عن غيرها من
الأمم المتقدمة، ولما كنا أيضًا قد انقطعنا عن تاريخنا الثقافي وحضارتنا العريقة أقول: لما كنا بتلك الأحوال من التأخر والتخلف، صرنا نتطلع إلى العالم المتقدم وكان من جرَّاء ذلك أن كانت صحفنا في تلك الأحقاب معتمدة على ما ترفده به صحف العالم المتقدم ولا سيما ما كان من حضارة العرب .
أقول: وكما أفادت لغتنا العربية في أعقاب القرن الماضي وأوائل هذا القرن مما حفلت به اللغات الغربية استعانةً بذلك الوافد الدخيل، على التقرب من متطلبات العصر، كان ذلك الدخيل في الوقت نفسه مما حمل الضيم على العربية.
وقد كنت وقفت على لغة الصحف وقفة طويلة وكتبت في أساليب الصحفيين التي جنحت بالعربية
المعاصرة إلى لغة خاصة ذات سمات خاصة هي "لغة الصحف" ولا يعنيني هنا أن أشير إلى أنها لم تتصف بسلامة
المبنى والمعنى، وأنها تجاوزت في طرائقها المشهورة من قواعد العربية نحوًا وصرفًا.
لم أرد إلى شيء من هذا على أنه موجود فيها، ولكني أقول: "إنها نمط خاص في التطور التاريخي لهذه اللغة".
وقد حفزني الأمر إلى أن أعود إلى هذه اللغة عودة أخرى وذلك لأني- وقد وجدت نفسي في بلاد المغرب الأقصى، وفي حاضرته الرباط، وأنا أقرأ الصحف المغربية- مضطُّر إلى أن أقف على هذه اللغة التي استغربت من أمرها مسائل، وها أنذا أعرض لهذه "الغرائب" "النوادر" (1) :(/10)
قرأت في صحيفة "الاتحاد الاشتراكي" (2) المؤرخة في اليوم الثالث من تموز (جويليه) ما يأتي:
عقبَ انسحابه المفاجيء من
مؤتمر القمة الإفريقي التاسع عشر الذي انعقد في أديس أبابا عاصمة أثيوبيا،
وعودته من جولة في بعض بلدان المشرق العربي، صرح الرئيس معمر القذافي بأن ليبيا قامت بواجبها تجاه الصحراء العربية" وأنه لم يعد هنا أي مشكل أو خلاف بين المغرب وليبيا، وإنما المشكل هو المشكل القومي العربي أي مواجهة الخطر الصهيوني.
... أقول: في هذا الذي ذكرته من كلام "المحرَّر" في الصحيفة المشار إليها شيء، يجانب المشهور من القاعدة النحوية، وهو "عود الضمير على متأخر عنه" ليس إلى توجيهه أو تأويله من سبيل، وتلك قاعدة أدركناها ونحن صبية شُداة. وأنت ترى أن الضمير في "انسحابه" وهي الكلمة الثانية، ثم الضمير الآخر في "عودته"يعود على "الرئيس. في قوله: "صرح الرئيس معمر القذافي". وهذه عربية ملحونة، وذلك لأن بناء الجملة على هذه الصفة الأعجمية شيء لا نعرفه في عربيتنا الفصيحة، وربما صعب عليك أن تجده في الألسن الدارجة. إن تجاوز هذه القاعدة النحوية يقدح في جمال العبارة وحسن أدائها، ومن هنا كان أغلب ما اشتمل عليه علم النحو من فوائد شيئًا يتصل الوفاء به بالبيان العربي في صفائه وسماحته وفطرته.
ولا أريد أن أترك عبارة هذه الصحيفة مكتفيًا بمسألة "عود الضمير على المتأخر" بل أتجاوز ذلك إلى شيء آخر ظهر في هذه العربية المعاصرة ومنها عربية "الصحف"، وذلك كقول "المحرر" نفسه في هذا الذي أثبتناه من كلامه:"…وأنه لم يعد هناك أي مشكل"!؟.
أقول: إن قول المعربين في عصرنا: "إنه لم يعد" هو شيء من الدخيل الوافد من اللغات الغربية وأظن أن الأصل الفرنسي هو الذي جاء بهذا الأسلوب المولّد الدخيل، فهو من غير شك من قول الفرنسيين: "il n'est plus".(/11)
وقد يستغرب القارئ هذا ويحمله مني على الادعاء أو الخيال الكاذب، فأقول: لم نعرف نفي الفعل "يعود" بـ "لم" لإرادة هذا المعنى في أساليبنا العربية الفصيحة، وذلك لأن المعنى: "أن الشيء غير مُشكل، أو لم يَبقَ في الأمر مشكل"، فلم يؤلَف في العربية استعمال الفعل "يعود" لإرادة هذا الضرب من نفي الشيء.
ثم أقول: واستعمال "المشكل" شيء جميل في عربية إخواننا أهل الشمالي الإفريقي، والكلمة في بنائها على اسم الفاعل من العربية الفصيحة القديمة، وذلك لأن "المشكل" ما أشكل أمره ومعناه وما يتصل به، ولذلك عرفنا من أسماء الكتب "تأويل مشكل القرآن" و "تأويل مشكل الحديث" من مصنفات ابن قتيبة وغيرها من أسماء الكتب.
غير أن المشارقة من العرب بنوا كلمة جديدة مؤنثة هي "المشكلة" وكأنهم وضعوه ليقابلوا بها "Problem".
هذا شيء من تاريخ هذه الكلمة المفيدة.
2- وقرأت في هذه الصحيفة أيضًا قول المحرِّر نفسه:
" … فعلى مَدَى خمسة أيام حلّل دارسو اللغات بمعناها الواسع لغة التواصل الأدبي والسينمائي والمسرحي والإذاعي والتلفزي ولغة الإشهار… ".
أقول: لقد جاءت الكلمات في صورتها الأعجمية مع شيء من التغيير في الأصوات حينًا، وفي الأبنية، أو في كليهما حينًا آخر. إن التعريب على هذا النحو شيء حسن، وقديمًا درج الأوائل على هذا السنن الواضح. غير أني أقول: إن "التلفزة" على هذا الوزن توحي بالمصدر، وليس الآلة أو الأداة أي ما يسمى "الجهاز" في عربيتنا المعاصرة، ولعل الذي جنح إلى استعمال "التِّلفاز" كان ألصق باللسان العربي، وذلك لأن "تِلفاز" وهو " تِفعال" نظير "التمثال" و "التِجفاف" في كلام العرب. هذه مسألة يسيرة مفيدة يكون فيها العود إلى الأصول أكثر فائدة وأجلَّ عائدة.(/12)
وفي هذه العبارة التي أثبتها من الصحيفة شيء آخر، وهو "لغة الإشهار". أقول: وقد يقف المشارقة أمام هذه الكلمة ولا يتجّه منها لهم شيء في القراءة الأولى حتى إذا أطالوا النظر وعرفوا من سياقها شيئًا أدركوا أن "الإشهار" هي لغة الإعلام، وهي عندهم تقابل الكلمة الفرنسية "Publicité" وترجمة الكلمة الأجنبية هذه تطابق "الإشهار" أكثر من كلمة "الإعلام".
وهذه من سمات هذه العربية الصحفية في أقاليم البلاد العربية الإفريقية، ومثل هذه السمات اللغوية الخاصة بهذه الأقاليم الشيء الكثير(*).
3- وقرأت في هذه الصحيفة أيضًا:
… وانحصر "تدخل" البروفيسور "كالفان" حول تطبيقات السيميولوجية المتعدّدة..
أقول: والكلام على محاضرت علمية في "السيميولوجيا"، وهي شيء من مواد علوم اللغة في هذا العصر، يراد بها العلم الذي يعني الاتصال بوسائل مختلفة منها الكلمة ومنها الإشارة ومنها الحركة وأشياء أخرى.
وليس من وَكَدي أن أعرض لهذا الذي يشقى به الغربيون مما يتصل باللغة كالسيميولوجية والبنيوية وغير ذلك، ولكني أود أن أقف القارئ على شيء من الدخيل الجديد في العربية المعاصرة، ولا سيما في أقاليم الشمالي الإفريقي، تلك العربية التي ينظر الناطقونَ بها إلى لسان آخر هو الفرنسية يستوحونها ويفيدون منها.
ومن هذا ما جاء في العبارة التي اقتطعتها من "الصحيفة" في خبر "المحاضرة" التي كانت في "السيميولوجيا" وهو قوله :
و"انحصر تدخُّل البروفيسور..".
أقول: قد يقرأ أهل المشرق مثلاً. هذا فلا يهتدون إلى "التدخل" وما المراد به، وقد يمر به أحدهم فلا يصل منه إلى شيء. غير أن العارفين باللغة الفرنسية أو ممن اتصلوا بالفرنسيين يدركون أن "التدخل" هو "خطاب" أو "تعليق" أو نحو هذا، يشارك به مُحاضر
في مؤتمر أو ندوة أو ملتقى، وقد يكون "التدخّل" شيئًا غير موجز بل يكون خطابًا أو بحثًا.(/13)
وقد تسأل: وكيف أخذ إخواننا المغاربة والجزائريون هذا، والجواب: أنهم ترجموا به الكلمة الفرنسية "intervention" ويفيد التدخّل أو الدخول، فقد يتدخل الرجل بين جماعة ويشاركهم، ويتدخل الشيء في شيء آخر.
أقول: إن الترجمة دقيقة، ولكنها ولدت غرابة واستغلاقًا؛ وذلك لأن "التدخل" في العربية لم يُؤلف استعماله على هذا النحو، وإن كان من الجائز أن يقول الرجل:
قد "تدخّلت" في مناقشة الرأي الذي أبداه المحاضر. وعلى ذلك لا يمكن لقارئ المناطق أن يفهم "التدخل" في الصحيفة على أي وجه لم يكن يدرك ما للكلمة الفرنسية من أثر .
وقد ترجموا الكلمة الفرنسية المذكورة أيضًا بـ "التدخل" وربما قرأت "المداخلة" فقد تقرأ في أسلوب إخواننا أهل الشمالي الإفريقي تنبيه عريف الندوة إلى الحاضرين قائلاً: ينبغي أن تكون "المداخلات" موجزة(*).
وليس أمر هذا الجديد المولّد الدخيل غريبًا في هذه العربية الإقليمية فهو كثير قد يتجاوز الحصر.
وفي هذه العربية شيء آخر، فإذا كنا في المشرق العربي نلتزم بمصطلح "العمل" لما يقوم به العامل في المصنع والموظف في الوظيفة وغيرهما، فإذا إخواننا في الشمال الإفريقي قد اتخذوا "الشغل" مصطلحًا لهم فيقال عندهم مثلاً: الاتحاد العام للشغل، وأقرأ مثل هذا في "الصحيفة" نفسها.
4- انتصار الكونفدرالية الديمقراطية للشغل.
و"الشغل" هنا هو "العمل" والأمر متصل بـ "العمال". ولا أريد أن أقف على "الكونفدرالية" التي تعني لونًا من الاتحاد على نظام خاص يعرفه أهل هذا الفن في السياسة والاجتماع، ولكني أقول:(/14)
إن أهل الحاجة من أصحاب الاختصاصات قد عرَّبوا المصطلح الأجنبي بيسر وخفّة دون ضجة أو جعجعة أو السؤال من المجامع اللغوية، فأخذوا المصطلح الأجنبي وكسعوه بالياء المشددة مع التاء على طريقة المصدر الصناعي كالمادية والمثالية والنوعية والكمية وغيرها، فقالوا الديمقراطية والارستقراطية والفدرالية والكونفدرالية وغير ذلك. ولم ينتظروا رأي أهل الصنعة من أعضاء مجامع اللغة، وحسنًا فعلوا .
أقول هذا لأني أحسُّ أن أصحابنا أعضاء المجامع قد يتجاوزون الحدود، فيكثرون المناقشة ويظلون في خلاف طويل في أمر مصطلحات سلاح الطيران مثلاً، وقد اصطلح عليها أهل الاختصاص من الضباط العاملين في هذا الميدان ليقابلوا بها المصطلح في اللغة الإنجليزية، وهم أعرف بها وبحقائقها، ولكننا في المجامع نقرهم على صنيعهم بيسر، فيبدأ مع خبرائهم العسكريين جدل طويل لم يكن إلا عبثًا لا طائل وراءه.
وقد يحسن أعضاء المجامع صنعًا لو أنهم اقتصروا على التنبيه على ما في هذا المصطلح من تجاوز على قواعد اللغة في أبنيتها واشتقاقها. إننا نعلم أن هذه المصطلحات موافقة أو قريبة أحيانًا مما سُمّي المصطلح "الموحِّد" في "المعجم الموحِّد" الذي قام به الخبراء العسكريون في الجامعة العربية منذ سنين.
لو أن أصحابنا أدركوا صنيع اليهود في أرضنا المحتلة في المصطلح الجديد لعلموا أنهم اهتدوا إلى الطريق أمام هذه المئات من الآلاف من المصطلحات العلمية في العلم الجديد. لقد أدخل اليهود المصطلح الجديد من اللغات الغربية ولا سيما الإنجليزية ولم يغيّروا فيه شيئًا، وذلك لأنهم مدركون أن لغتهم قديمة ناقصة لا تحوي إلا القدر القليل من الكلم القديم .(/15)
إن تلكّؤ المجمعيين العرب في الاتفاق على المصطلح الجديد دفع بأهل الاختصاصات إلى أن يتخذ كل فريق منهم مصطلحًا له، فكان من ذلك أن وقعوا في خطأ لغوي لم يكونوا على علم به ذلك أن العربية على سعتها وسماحتها لا تقبل ما خولف فيها وجوه القياس في أبنيتها وصيغها.
ووجه المخالفة أن الفعل من "استبيان" هو "استبان" وهذا الفعل لا يمكن أن يكون مصدره إلا "استبانة" مثل "استقامة" والفعل "استقام".
أقول: لو وُجد في العربية الفعل "استبيَنَ" مثل "استحسَنَ" لكان "الاستبيان" بناء صحيحًا، ولكن معجمات العربية لم تثبت هذا. غير أني أميل إلى شيء آخر أذهب فيه إلى وجود هذا الفعل، أو أني أسعى إلى إحداثه بسبب شيوع "الاستبيان" الذي ما أراني أدفعه بقولي: إنه بناء لا وجود له في معجمات العربية، ذلك أن أهل الرأي في العلوم الاجتماعية قد درجوا عليه وشاع في استعمالهم شيوعًا عجيبًا، وهم يقابلون به الكلمة الأعجمية "questionnair". ولو أنك واجهتهم بالخطأ، وأن هذا المصدر مما لم تشر إليه المعجمات، ما استجابوا إليك ورفضوا البديل له وهو "الاستطلاع" مثلا.
أقول: إذا كان هذا هو وجه الأمر فهلا نبحث في العربية لنجد وجهًا يعين على إحداث الفعل "استبيَنَ" الذي تحوّل إلى "استبان". إن إحداثه يندرج في باب الاحتفاظ بالأصل قبل "الإعلال". ويؤيدنا في هذا أن العربية أعلَّت الكثير من الكلم، واحتفظت بطائفة على أصولها ومن ذلك ما جاء في بنات الياء من الأفعال:
قالوا: "استَغيَلَ" الشجر بمعنى التفّ على الأصل، ولم يقولوا: "استغال" ومثله "أغيَلَ" الشجر، على الأصل ولم يقولوا : أغال.
وقالوا "استَفيَلَ" الجَمَلُ ولم يقولوا: استفال .
وقالوا: "أغيَمَت" السماء على الأصل كما قالوا:أغامَت بمعنى غَيَّمَتْ.
وقالوا: "أغيَلَت" المرأة بمعنى أرضعت طفلها "الغَيْل" وهو لبنها وهي حامل. كما قالوا: "أغالَت" و "استغيَلَت"، وهي "مُغيل" بالمدّ، و"مُغيِل" بالياء المكسورة.(/16)
هذا شيء من الأفعال من بنات الياء مما كان حقه "الإعلال" فقد ورد مُعَلاّ كما ورد على الأصل .
فأما ما جاء من بنات الواو من الأفعال فهو كثير ومنه:
"أجوَدَ" و"أجادَ" الرجل. إذا كان ذا دابّهَ "جواد أو فرس جواد"، وكذلك "استجادَ". و"استجَوبَ" و"استجابَ" وكل منهما بمعنى، فقولنا "استجابَ" معروف، فأما "استجوبَ" فمعناه استفهم وطلب الجواب.
وقالوا:"استصَوبَ" و"استصابَ".
وقالوا: "استحَوذَ" ولم يقولوا: "استحاذَ".
وقالوا: "حوِرَ" و "عَوِرَ" ولم يقولوا فيهما: "حار" و"عار".
أقول: إذا كان هذا ما هو معروف في العربية، أليس لنا أن نحدث أصل "استبانَ" ونعيده إلى الوجود وهو "استَبْيَنَ" لنقول بصواب "استِبيان" التي لم نجد وسيلة إلى دفعها وحملها على الخطأ، لشيوعها وإصرار القوم على استعمالها. غير أني أود أن يفهم القارئ أني لا أجوّز الخطأ بحجة الشيوع بل إني أدفع الخطأ وأرفضه، ولا سيما ذلك الذي يهدم أصلاً من أصول العربية.
وقد انتهيت مما وقفت عليه في صحيفة "الاتحاد الاشتراكي" المغربية، غير أني وجدت أن من الخير أن أمضي في هذه اللغة الصحفية التي حفلت بالجديد الغريب كثيرًا ولنقف قليلاً على جملة من الكلم المجموع فأقرأ فيها مثلاً :
"… الانتهاكات والخروقات في انتخاب اللجان الثنائية بقطاع الصحة".
ومن المفيد أن أقف على الكلم المجموع في لغة صحف هذه الأيام فقد كثر حتى غدا شيئًا يسترعي النظر .(/17)
أقول: إن هذه الجموع هي في الأعم الأغلب جموع لمصادر، وليس في جمع المصدر من ضير فقد ورد شيء منه في العربي، لقد جمع "الخير" على "خيرات" في لغة التنزيل كما في قوله تعالى: { - - - عليه السلام - - ? - - رضي الله عنهم - مقدمة ?- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ? - ? - - - ? { - - ???? ? المحتويات ?- عليه السلام - - ? - - رضي الله عنهم - - ? - - - - - - - ... ???? } (سورة الأنبياء:73).
وليس لنا أن نقول: إن كلمة "خير" ليست من المصادر فقد استعملت في العربية استعمالاً كثيرًا على المصدرية. وقد سهل في العربية جمع المصدر، وهو من أسماء المعنى في الأصل، حين تحوّل به المعربون إلى اسم من أسماء الذات، فإذا قيل: "لقاءات" أو "نزاعات" فكأنهم أرادوا ما يكون في "اللقاء" أو "النزاع" من أحداث، وما يتصل بذلك فكان ذلك مسوغًا لجمعهما.
ومثل هذا. "الانتهاكات" التي وردت في عبارة الصحيفة التي أثبتناها. غير أن ورود هذا الكلم المجموع في صحفنا قد تأتى بسبب من الترجمة. فقد قالوا "النجاحات" وأرادوا بالكلمة جمع الاسم وليس المصدر أي ما تمَّ النجاح فيه من الأعمال والمنجزات.
وهذا من غير شك يومئ لى أن المحرر العربي قد نظر إلى الكلمة الأجنبية وهي Succés وهي مجموعة في الفرنسية دائمًا مختومة بعلامة الجمع، وكذلك في الإنجليزية، فلما نقلها إلى العربية جعلها جمعًا.(/18)
ولنقف على "خروقات" بمعنى "الانتهاكات" وهي من "خَرْق" وقد جمعت على "خروق" بعد تحولها إلى الاسمية وابتعادها عن المصدرية. غير أن "المحرر" لم يشعر بجمعها هذا فأراد أن يؤكد الجمع فصار إلى "جمع الجمع" فقال "خروقات". إن باب جمع الجمع مقيّد محدود، وليس لنا أن نتسع فيه، فقد قالوا: رجالات، تعني الجماعة القليلة من الرؤساء والوجهاء والأعيان، وليس الكثير بكثير من "الرجال" ومثل هذا "البيوتات", و"البيوت" جمع "بيت" وهو معروف فأما "البيوتات" وهي جمع الجمع فالمراد بها جملة قليلة من "البيوت" أو الأسر ذات الوجاهة، وقالوا: "بيوتات" قريش كبني هاشم وبني أمية وأُسَرٍ أخرى .
وقرأت بآخرة في حديث من أحاديث الصحف خصص للعمارة الحديثة فكان فيها ما أنا مثبته: أن "المعمار" الحديث يقوم على "تقنيات" العصر المعقد…".
وإطلاق "المعمار" على "العمارة" جهل بالعربية، وذلك لأن "المعمار" من ألفاظ المبالغة كالمِطعان والمِطعام ونحو ذلك، وليس فيه شيء من المصدرية أو نحوه. وقد عرف "المعمار" شهرة لطائفة من الرجال ومنهم "ابن المعمار" البغدادي (*).
ولما كان الكلام على مادة "عمر" وجدت أن المناسبة تدعو إلى الوقوف على "الاستعمار" الذي صار من مصطلح العصر ودلالته علمية فنية تاريخية يطول الحديث عنها.
أقول: إن هذه الدلالة جديدة، وليس من ضير أن نعطي هذه المعاني لكلمة "الاستعمار". وهذا يعني أن من طرائق توليد المصطلح أن تؤخذ الكلمة ذات الدلالة الخاصة القديمة وتعطى دلالة اصطلاحية جديدة.
إن كلمة "استعمر" في معناها القديم وثيقة الصلة بكلمة "عَمَر" فقد ورد في لغة التنزيل قوله تعالى : { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } 61 سورة هود. ومن غير شك أن إرادة الجديد لكلمة "استعمار" كانت بقصد أن تكون الكلمة ذات دلالة اصطلاحية خاصة.(/19)
ولنعد إلى عبارة الصحيفة التي أثبتناها لنقف على "التقنيات" فنقول: شاء المعنيون بالتعريب الحريصون على العربية أن يكون المصطلح بكلم عربي، وهو عندهم ألصق بالعربية من حيث إنها لغة عامرة تشتمل على الفوائد الجمة، ومن أجل ذلك كانوا
مدفوعين إلى أن يكون المصطلح الجديد كلمة عربية، ولا يصار إلى الكلمة الأجنبية إلا اضطرارًا .
لقد أرادوا بـ "التقنيات" "les technologies" وتشبثوا بمادة عربية وهي "يقْن" بكسر التاء، وتفيد الرجل العارف الماهر في الصنعة والعمل .
أقول: ولا يمكن أن تكون "التقنيات" تعريبًا للكلمة الأجنبية والقاف فيها يقابل الكاف. هذا غير صحيح؛ لأن "التقن" بمعنى الماهر الصَّناع هو من الفعل "تقن" الذي جاء منه "أتقَنَ". وعلى هذا لا يمكن أن يكون هذا المصطلح العربي مؤديًا ما تؤديه "التكنولوجيا". وكأن المعربين لم يهتدوا إلى وجه "التقنيات" وصيغتها وذلك أن منهم من ينطقها بتشديد النون، ومنهم من يخفف النون.
ثم ما لبث أن كان هذا المصطلح العربي من الكلم المهجور، فقلما
نبصره في الكتب وغيرها، من مصادر العلم. وعادت "التكنولوجيا" وكأن المعربين رضوا بها فجعلوها معرَّبة على صيغتها ولم يغيروا فيها شيئًا.
وإذا كانوا قد قبلوا "التكنولوجيا"(*) ولم يغيروا فيها شيئًا، فقد قبلوا مواد كثيرة نجدها في الصحف وغيرها فما زلنا نرى في "التلفاز" الكثير من ذلك كقولهم في المصطلح السينمائي "سيناريو"، كما نجد "الأوتوستراد" و"الاستاد" القومي لكرة القدم، ولو أردنا أن نعرض لهذا لطال بنا الكلام .
وشيء آخر في لغة الصحف يتسم بالجدّة والطرافة، وهذه الجِدَّة هي توليد دلالة جديدة ومنها:
1-"أننا نقرأ في صحف هذه الأيام: أن السلطة الحاكمة قد "تحفَّظَت" على رئيس النقابة الفلانية و "التحفّظ" هنا لا
يتصل بمادة "حفظ" ذلك أن المراد بـ "التحفظ" السجن أو نحو ذلك .
2- ونقرأ في صحف هذه الأيام: ينبغي "ترشيد" الاستهلاك .(/20)
أقول: و"الترشيد" مصدر الفعل المضاعف "رشَّد" ولا بد أن يكون في "الترشيد" شيء من "الرُّشد" وما يتصل بهذه الدلالة. غير أن المراد بـ "ترشيد الاستهلاك" هو "تقليل الاستهلاك".
وكأن معنى "التقليل" في استهلاك الغذاء قد يثير في النفوس ما يسوء، ولذلك يحسن التعمية في هذا الشأن والإيماء إليه بشيء ضدّه تقريبًا.
3- ونقرأ أيضًا ما يشبه هذا من حيث "الإيماء" إلى المعنى المقصود وهو قولهم: لجأت السلطات إلى "تحريك" الأسعار.
أقول: و"التحريك" مصدر للفعل "حرَّك" ولكن هذا "التحريك" لا يعني صراحة معنى الحركة، بل إنه يعني "رفع الأسعار"، ولما كان "رفع" الأسعار مما يمكن أن يثير الجمهور ويزعجه، لجأ أهل الرأي إلى الاستعانة بضرب من التعمية والإيماء فقالوا: "تحريك" الأسعار هربًا مما تؤدي إليه كلمة "رفع".
4- ونقرأ أيضًا :
إن جهات عدّة قد عملت على " احتواء" حركة التمرّد في صفوف فصائل المنظمة: والمراد بـ "الاحتواء" هنا السيطرة والغلبة والوصول إلى حل في الأزمة مثلاً.
أقول : وإعطاء "الاحتواء" هذه الدلالة هو شيء جديد عرفناه في لغة الصحف وأصل "الاحتواء" معروف يقال: احتوى عدة أبواب مثلاً، بمعنى اشتمل على .
أقول: إن جملة هذه "المجازات" والاستعمالات قد استقريته من الصحف في بلدان المغرب العربي بأقاليمه الثلاثة (تونس والجزائر والمغرب).
وقد يكون مفيدًا جدًّا أن أعرض لشيء آخر مما وقفت عليه في صحف المشرق العربي. ولا أريد أن أخصَّ بلدًا بعينه، فهي في جملتها تميل إلى التوحُّد، وليس من خصوصية خاصة في هذا البلد أو ذاك .
ولا بدّ من الإشارة إلى أن لغة الصحف في المشرق العربي كما هي في المغرب تتميز في أنها:(/21)
1- تزخر بالتعابير الجديدة، والمجازات الجديدة، وكله مأخوذ من اللغات العربية . وهذا الذي يأتي من هذه المصادر قد يوافق العربية بوجه من الوجوه على سبيل التوسع والاستعارة، وقد يكون مجافيًا للعربية، بعيدًا عنها، ولكننا ألفناه . إن هذه المولّدات من الألفاظ والتعابير والمجازات والجمل كثيرة، وقد يكون منها كتاب برأسه، أو قل: معجم جديد يشتمل على ما في الصحف وغيرها.
2- إن الذي نجده في الصحف يبتعد أحيانًا عن نحو العربية وأبنيتها. وسنعرض لجملة ذلك فنقول (*).
1-يجب أن تتصرف الدولتان الأعظم إزاء بعضهما على نحو أفضل ..
أقول : إن فيما جاء في الصحيفة اليومية في خبر "الدولتان الأعظم" ما لا تسيغه العربية فإن كلمة "الأعظم" هي الصفة المفيدة للتفضيل، وهي محلاّة بأداة التعريف، وفي هذه الحال لا بد من المطابقة بين الصفة والموصوف، فكان ينبغي أن يقول: "الدولتان العظميان" والمطابقة ما كان منها في التذكير والتأنيث.
وقد تعرف سبب ارتكاب هذا التجاوز إذا أدركت أن صاحب هذا الأسلوب قد نقل ما قرأه في الصحف الأجنبية الغربية ولا سيما ما كان منها باللغة الإنجليزية وفيها أن الصفة في هذا المقام تبقى على حالها.
2- وأقرأ قولهم:
وما زال علينا أن نقف في وجه المؤامرات .
أقول : إن الكاتب الصحفي مترجمًا كان أم غير مترجم غير ملمّ بالعربية، ولعله مثله في تلك اللغات
الأعجمية، ثم إنه لا يعرف من العربية إلا الأشتات التي تلقفها في المرحلتين: الإعدادية والتوجيهية، وتلك بضاعة مزجاة.
إنه في هذه العبارة يستعمل "مازال" ولا يأتي لها بخبر تتم به الفائدة. ولا أعرض لكلمة "المؤامرات" وهي جديدة، بمعنى الأحابيل التي يحوكها رجال السياسة وغيرهم في سلوكهم لتحقيق ما يبتغون.
أقول: إن في العربية ما يعين على استحداث هذا الجديد، ذلك أن في مادة "أمر" (*) شيء يصار به إلى هذا.
3- وجاء في صحيفة من صحفنا الأردنية قول أحدهم :(/22)
" … وانبّه على قلمي أن يترك الزمن الردئ … " .
أقول: هذا الأسلوب لا نجده إلا لدى المتساهلين بالعربية من كتاب العهد الجديد.
وقد أقول: أن ليس في العربية من ضير في هذا، ولكن لو كان هذا الكاتب قد وصل إلى هذا الجديد بيقظة وإدراك ومعرفة بالأصول والفروع.
إن استعمال "على" مع "التنبيه" يشير إلى الهفوات والغلطات، ومن هنا ورد في أسماء كتبهم :
1- التنبيه على حدوث التصحيف لأبي أحمد العسكري.
2- التنبيه على أغاليط الرواة لحمزة الأصفهاني .
ولو عدلنا عن استعمال "على" مع "التنبيه" إلى حرف الجر "إلى" لكان ذلك دالاً على غير الخطأ والغلط، كأن يقال: التنبيه إلى عمل البر والإحسان، مثلاً .
إن استعمال "على " في كثير من
مجالات القول مؤذن بالشر والأذى والاستيلاء (*) .
4- ونقرأ أيضًا قولهم كثيرًا :
" … وأكد الرئيس فلان على عروبة لبنان… " .
... أقول استعمال "أكد" على هذا النحو، وهي تصل إلى مدخولها باستعمال "على" ليس من العربية، والفعل متعد في العربية، وكان ينبغي أن يقال: "أكد الرئيس فلان عروبة لبنان…".
... وهذا التجاوز على المألوف من العربية كان بسبب أن الكلام كثير في اللغات الغربية ولا سيما الإنجليزية والفرنسية، والفعل في هاتين اللغتين يصل إلى مدخوله بالحرف "على" .
5- ونقرأ أيضًا قول أحدهم:
" إن ما يدور على البوابة الشرقية من معارك … " .
... أقول: "البوابة" من الخطأ استحدثناه، وليس فينا حاجة إلى توليد "البوّابة" التي هي في الأصل مؤنث "بوّاب" وهو "الأذن" القديم الذي يلزم باب الأمير أو الوزير أو غيرهما، فالبوّاب صاحب الباب كالجزّار والنجّار، والحدّاد، وحرفته "البوابة" كالنجارة والحدادة .
... وابن البواب من أشهر الخطاطين البغداديين في عصر الدولة العباسية، ولسنا ننكر تولد الكلم الجديد، ذلك أن الحياة المعاصرة تفرض علينا إحداث آلاف المصطلحات في كل باب من أبواب المعرفة الجديدة .
6- ونقرأ أيضًا قولهم :(/23)
"اتحدت الحكومات الغربية في عملياتها ضد الإرهاب…" .
أقول: و"الضدّ" في العربية هو المثل، والمخالف ضِدّ، وكلمات "الأضداد" شيء آخر، وهو أن الكلمة تعني شيئًا وضده معًا كقولهم: الجَون للأسود والأبيض. ومثل هذا كثير. وهي هنا نعت. ولا تكون غير نعت، وقد تأتي للجمع، قال تعالى :- رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? الله أكبر قرآن كريم ? - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - { ? المحتويات ? - ? - فهرس - - رضي الله عنه -? - - - ?? ???? } (سورة مريم 82) .
أما نحن اليوم فانحرفنا بالكلمة إلى استعمال جديد يبعدها عن النعت فتكون مصدرًا كما في الجملة المثبتة .
7- ونقرأ في الصحف ونسمع في الإذاعات قولهم:
"… وأتت الحرائق على كل شيء: البيوت، الأسواق، المحلات العامة والحقول " .
أقول: إن استعمال "الواو" للعطف في آخر هذه الكلمات شيء لا تعرفه العربية والصواب إثبات الواو بين المعطوفات واحدًا بعد آخر. وليس هذا الجديد إلا بسبب ما ألفوه في اللغات الغربية .
8- ونقرأ أيضًا :
"لقد سعت السلطات إلى تمرير هذه المسألة في الدوائر المسؤولة…".
أقول: و"التمرير" مصدر الفعل "مرّر" الذي ولّده المعاصرون ليقابلوا نظيره في اللغات الغربية، وليس في العربية شيء من هذا وليس فينا حاجة إليه، وفي العربية الكثير مما يؤدي معنى "التمرير" كالتعدية وغيرها.
9- ونقرأ قولهم:
"… وجدث هذا في إطار التوجه الجديد للمؤسسة من خلال ما بدا من الحلول…".
أقول: "الإطار" في حيز هذه الجملة من الاستعارة الجديدة من اللغات الغربية ولا ينصرف الإطار في العربية إلى غير معناه الحقيقي.
ثم إن استعمال "من خلال" التي شاعت شيوعًا عجيبًا من الاستعارة الجديدة أيضًا، وليس فيها شيء من معنى الظرفية الذي كان لها في العربية. وكأنها في الاستعمال الجديد تفيد ما تفيده لام الجر التي هي للتعليل والسبب، فكان ينبغي أن يقال:(/24)
"وحدث هذا في إطار التوجه للمؤسسة لما بدا من الحلول".
وقد جدّ في العربية المعاصرة مما نلحظه في الصحف الكثيرة مما يلتزم في مادة "التربية الرياضية" فأنت تقرأ مجازات جديدة مما تساهل فيها أصحابها، وليس لنا أن نحملها على الخطأ، ومن ذلك .
أ- الكلية الجامعية تقيم صاعقة تنشيطية بكرة القدم .
ب- فريقا الأردن والسعودية يقصان "شريط" البطولة.
جـ-البطولة"الكروية" لأمانة العاصمة، والفريق الكروي فيها.
د- التقى الفريق السعودي ونظيره "الإماراتي".
من المعلوم أن "الإماراتي" اختصار لفريق دولة الإمارات العربية المتحدة لكرة القدم!!
وقد نختم هذا الموجز بإيراد هذه الغرائب التي نجدها، وهي إما توليد جديد، وإما وجه من وجوه القول لم نألفه، ومن ذلك .
التوتر، التشنج، ساعة الصفر، المناخ الأدبي، الصناعة الدجاجية، الهدوء، الحذر، التشرذم، التقوقع، التحجر، الاستقطاب، المحور، التصعيد وكثير غيره.
خاتمة :
ما كان لي أن أذهب في استقرائي هذا إلى الاستيفاء، ولكني آثرت هذه الأشتات مما هو مني على طرف التمام كما قيل. ولكني قصدت أيضًا من إثبات هذه النماذج إلى أن أقول : إن الحاجة إلى وضع معجم جديد للعربية المعاصرة وحدها شيء تفرضه الضرورة القائمة، ثم إن عملاً كهذا مما ينبغي أن يكون لننتهي في تاريخ العربية إلى استجلاء معالمها . طوال العصور.
بحد التتمّة:
وجدت من المفيد أن أثبت هذا الملحق "الذي أقول فيه موجزًا ما كنت قد بسطته في بحثى وهو : أن هذه العربية المعاصرة في لغة الإعلام التي كنا نعدها في أوّل القرن العشرين "لغة جرائد" نبزًا لها، صارت ونحن في آخر القرن هي الفصيحة المعاصرة.
إن هذه العربية صارت لغة الأدب الجديد الذي تعمر به الصحف الذي يدعونه الحداثوي ولا أقول الحديث. هذه العربية التي تتضّح في أدبيات وزارات الثقافة في عالمنا العربي.
نجد في هذه العربية الكلم العامّيّ نحو دردشة وهلوسَة ومشوار(/25)
وواحة وقد نجد المستعار الذي لم نحسن استعارته، ومن هذا :
ورشة وأصلها Workshop الذي رأينا فيه ما هو "مشغل" لأصحاب الحِرَف. ولكننا حرفناه إلى غير هذا .
لقد وجدت من هذا : ورشة تعليم العربية لغير الناطقين بها، وورشة الأداء الفكري وورشة لتدريب خطباء المساجد، وورشة حماية الطبيعة.
ولو كان لي أن اُطيل لكان لي من هذا اللغط الكثير الكثير. .
إبراهيم السامرائي
عضو المجمع من العراق(/26)
رابعًا - كلمة الختام في تأبين الفقيد
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
الشكر الخالص للأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد عضو المجمع على كلمته الوافية في تأبين فقيد المجمع الأستاذ الدكتور محمد رشاد الطوبي ، وعزاؤنا للأسرة
الكريمة، داعين الله لفقيدنا أن يتغمده الله بواسع رحمته وفسيح جناته، وأشكر حضراتكم جميعًا على تفضلكم بمواساتنا في مصابنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.(234/1)
تحية مجمع اللغة العربية
حسن عبد الله القرشي
يَضْرَعُ النَّجْمُ يَستَنِير الحادِي
... وَيُجَلِّي الآمَالَ لِلْقُصَّادِ وَيُعيدُ التَّاريخُ أنْضرَ صحيا
نَ،بِذكرى الهدى وذِكْرى الرَّشادِ (مَجْمعٌ) قَدْ حَوَى المجَادَةَ جَمْعًا
... وأنالَ الجِراحَ خَيْرَ الضِّمادِ مَرْحَبًا مَنْبعَ الثَّقافاتِ طُرًّا
... عِيدُكَ الفَذُّ سيِّدُ الأَعْيادِ كُلُّ جيلٍ لَه إليكَ سَبيلٌ
... يَجتلي فيكَ فَرْحةَ الروَّادِ كلُّ عامٍ لنا لقاءٌ سَريٌّ
... نتلقاه كالشِّهابِ الهادِي نَلتَقي بالكِرامِ مِنْ عُصْبَة الضَّا
... د ومَرحى لعصبة الأمْجادِ يفد الفكر في حماهم نديًّا
... كوفود الرَّبيع في الميعادِ يتبارَوْن ، في سبيل المعالي
... فإذا الضادُ تجتني خَيْرَ زادِ نَذَروا لِلْعَلاءِ كُلَّ ثَمِينٍ
... مِنْ جُهُودٍ موصُولَةٍ بِجِهادِ
وتنادَوْا للطَّيِّباتِ دِرَاكًا
... تجتبيهم عَزائِمُ الأجْداد سَهَرُ اللَّيْلِ دَأْبُهمْ لِعَطاءٍ
... مُغْدِقٍ دائمًا جَنيَّ الحصادِ وأياديهُمو تفيضُ بنُعمى
... كلَّ حينٍ خيراتُها في ازديادِ
* ... * ... *
في زمَانِ الرَّمادِ ينتكس الحَقُّ(م)
... وتهتز راية الأجدادِ وتَضيع الحُقُوقُ في قَبْضَةِ البَغـ
... ي وتعلو منازل الأوْغادِ ولهم عُصْبَةٌ يطيبُ لديها
... مَا لهم مِنْ مَشَاكِلٍ واعتداد حيثُ يَبدو اللَّئيمُ صَاحِبَ جَدْوى
... وَيُقادُ الكَرِيمُ في الأصْفَادِ سِيَّما واللَّئيمُ يسنده البُطْ
... لُ فَيَأْبى للحقّ غيرَ العِنَادِ
* ... * ... *
يَا(فِلَسْطِينُ) كُلُّ أرْضِ(فِلَسطِيـ
ـنَ)بِلادي سَلِمْتِ من كُلّ عادي
يَا (فلسطينُ) لَنْ يطاردَكِ الشؤْ
... مُ، فَلِلشؤمِ كَبْوةٌ للمُعادي لا تَهوني فَلَنْ يغادرك الحقّ(م)
... فَلِلحَقِّ صَوْلَةٌ في الجِلادِ لَنْ يلي (القُدس) غَادِرٌ مستبدٌّ
... فالصناديدُ فيكِ بالمِرْصَادِ لا يهابون فالْفِداءُ شعارٌ(235/1)
... لهمو في حَواضِرٍ ، وبَوادِي قد يَصُولُ العَدوّ لكنْ سَيَلقى
... مِنْ كفاحِ الأبْطالِ كُلَّ جِهَادِ قَدْ خُلِقْنا لتَرتَوي الأرْضُ بِنا
... دَمَ أعْدائِنا غَداةَ التَّنادِي وليرتد كُلُّ بَاغٍ عَتيٍّ
... عَنْ حِمانَا، ويَنْطوي في كِبادِ
خَسأ الْبَغْيُ أنْ ينالَ مُرادًا
... مِنْ ذَكيِّ الفُؤادِ واري الزنادِ
* ... * ... *
مَرْحَبًا مَجمعَ العُرُوبة طُرًّا
... مَنْ سَمَا ذكْرُه إلى كُلّ نَادِي مَنْ كَساهُ الخُلودُ ثَوْبًا قشيبًا
... هو ثَوْبُ الفُصْحَى رَفيعُ الِعمادِ أَبْصَر الدُّرَّ فاستجاب له الدُّرُّ
... وخاطته نَفْحةُ الأوْرادِ وسَيَبْقَى مُضَمَّخًا بعبير الـ
... ـمجدِ مُسْتَشْرفًا لكلِّ البلادِ!
حسن عبد الله القرشي
عضو المجمع المراسل من السعودية(235/2)
كلمة الأعضاء العرب
للأستاذ الدكتور عبد الكريم خليفة
صاحب المعالي الأستاذ الدكتور مفيد شهاب وزيرَ التعليم العالي والدولةِ للبحث العلمي :
سيدي الجليل الأستاذ الجليل الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمعنا بالقاهرة ورئيس اتحاد المجامع العلمية واللغوية العربية:
أيها الزملاء الكرام :
سيداتي وسادتي :
أود أن اعتذر بداية، فقد علمت بالشرف الكبير الذي أولاني إياه زملائي الوافدون إلى مؤتمر مجمعنا بالقاهرة وذلك قبل بدء هذه الجلسة ببضع دقائق.
إنني باسم زملائي الوافدين من الأقطار العربية والأقطار الأخرى واسمي نقدم التحية والإجلال إلى مجمعنا بالقاهرة، إلى رئيسه وزملائنا العلماء الأفذاذ الذين خدموا العربية، لغة القرآن الكريم، ولغة الحديث الشريف، اللغة التي أعطت وتعطي أمتنا العربية هويتها .
تحية لهذا المجمع الخالد بخلود لغة هذه الأمة، وقد مضى على تأسيسه أكثر من سبعين عامًا، يقدم فيه علماؤنا الأجلاء خدماتهم لهذه اللغة العريقة.
أيها السادة الكرام:
وبعد هذه التحية فقد أثر في نفسي زميلي الكريم الأستاذ الدكتور كمال بشر في تساؤله الأخير وهو: ماذا قدمت أمتنا خلال القرن الماضي وبداية هذا القرن؟ ماذا قدمت الأمة العربية؟ إنها لم تقدم شيئًا أصيلاً، وإن السبب الأساسي الذي يواجه هذه القضية هي أنها تدرس وتعلم بغير لغتها بالدرجة الأولى، وهذه نتيجة للعوامل التي أشار إليها من السياسات الاستعمارية ... إلخ .(236/1)
إن الأمة الوحيدة – أيها السادة – في عصرنا الحاضر في الوقت الحاضر التي تدرس بغير لغتها هي الأمة العربية من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب. أقول: إن الأمة الوحيدة التي تدرس في الجامعات والبحث العلمي بغير لغتها هي الأمة العربية، إذا استثنينا القطر السوري الشقيق والقطر السوداني – إن هذا الوضع لا علاقة له باللغة العربية من حيث هي لغة، إن لغتنا قد برهنت خلال القرون أنها كانت كما أشار إليها أستاذنا الكبير رئيس المجمع والدكتور كمال بشر، كانت لغة العلوم ولغة البحث العلمي ولعدة قرون في العالم كله، وكانت إلى القرن السابع عشر هي لغة الأصول ولغة المصادر العلمية، وإنني أذكر في هذا المقام توصية أستاذ في جامعة ليدن مطالبته 1610 بعد أن ترك الجزء الأول من حديثه المعادي للإسلام عقيدة، يقول لهم: من واجبكم أن تتعلموا اللغة العربية، هذه اللغة لغة المصادر إذا شئتم أن تدرسوا الطب والصيدلة والعلوم والفلسفة... إلخ. ومن واجبكم أن تجمعوا هذه المخطوطات من جميع أنحاء العالم لكي تكون مصدرًا لنا في دراستنا، ونحن الآن بعد أن أشار معالي سيادة الوزير المكرم بأن من واجب مجمعنا أن يضع معجمًا يستوفي شروطًا معينة، فهذا حق وواجب على جميع مجامعنا، ولكن هذه التوصيات التي يوصي بها المجمع في كل عام، من المسؤول عن تنفيذها، وكانت أولى التوصيات في العام الماضي وما قبله أن تكون لغة الإعلام المرئي والمسموع بعيدة عن اللغة العامية، لقد أحصيت يا سادة قبل سنتين أو ثلاث برنامجًا للتليفزيون الأردني فوجدت أن نسبة ما يذاع بالعامية حوالي 82%، والباقي يدخل فيها برنامج القرآن الكريم الذي لا حيلة لهم فيه والأحاديث النبوية الشريفة، وبرنامج الأخبار الذي لا حيلة لهم فيه إلا أنهم يريدون إذاعة الأخبار إلى هذا القطر وإلى الخارج، وهذا يا سادتي يصدق على جميع –وأنا بدأت ببلدي – الأقطار العربية مع اختلاف اللسان وهذه ظاهرة مرضية، من الذي يسهر على(236/2)
تنفيذ توصيات واستعمال عشرات الآلاف من المصطلحات العلمية التي وضعها مجمعنا بالقاهرة منذ سنة 1932م حتى الآن؟ وقد تفرد مجمعنا بالقاهرة بأن وضع لكل مصطلح تعريفًا محددًا، فمن المسؤول عن استعمال هذه المصطلحات، ونحن نعلم أن اللغة تحيا بالاستعمال ولا تحيا بأن تبقى على الرفوف، إذن فإن هنالك سياسة لغوية، نحن ندعو هذه الأقطار العربية والحكام العرب بأن تكون لهم سياسة هي إعادة سيادة هذه اللغة في أوطانها. ونحن إذ نتحدث عن ذلك لسنا منغلقين ولسنا من الجماعة الذين ينغلقون على أنفسهم أو– كما يقولون – قصار النظر:إننا نعادي اللغات الأجنبية كلا، فاللغات الأجنبية لغات مصادر وهي نوافذ من خلالها نتصل بالعالم الخارجي، ولكن يا سادتي لغة الحوار والنقاش بين الطلاب وأساتذتهم هي اللغة القومية هي اللغة التي أثبتت نظريات علم النفس التربوي أن الإنسان يستوعب بلغته القومية أضعاف أضعاف ما يستوعب باللغة الأجنبية مهما كانت درجة إتقانه لهذه اللغة، فما بالنا ونحن في الجامعات التي تزعم أنها تدرس باللغة الأجنبية أنها في واقع الأمر تدرس بلغة خليط بين العامية والأجنبية إن كانت فرنسية أو إنجليزية هذه قضية أساسية ولابد أن نتفحص وأن نقوم خطواتنا ونحن في هذه المسيرة.
وبهذه المناسبة أرجو أن تسمحوا لي بحضور معالي الوزير الكريم وهي مصادفة أن يجتمع مؤتمرنا هذا مع مؤتمر للأمة العربية يمثل الرؤساء في القمة.إنني أدعو- باسمي واسم من يتفق معي بهذا الرأي- مؤتمر القمة أن يخطو الخطوة الحقيقية من أجل الإبداع والنهضة العلمية الحقيقية لهذه الأمة، بأن تكون العربية هي لغة التدريس الجامعي والبحث العلمي في جميع مستوياته .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد الكريم خليفة
عضو المجمع من الأردن(236/3)
كلمة السيد المهندس رأفت رضوان
مدير مركز معلومات مجلس الوزراء
الأستاذ الدكتور مفيد شهاب وزيرَ التعليم العالي والدولةِ للبحث العلمي :
الأستاذ الجليل الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية:
الأستاذ الدكتور كمال بشر الأمين العام لمجمع اللغة العربية :
الأساتذة الأجلاء :
يعظم جمال الأشياء عندما يلتقي شموخ التاريخ مع قمة الحداثة ويكتمل مفهوم التطور عندما يرتبط بمفاهيم الأصالة والتميز .
وإذا كنا قد تغنينا ذات لحظة بأن الأرض تتحدث العربية فإننا اليوم نشارك في احتفالية أنَّ الإنترنت تنطق العربية الصحيحة الأصيلة. وتعالج نقصًا واختلالاً كبيرًا فيها، جعل منها – حتى الآن – أداة لثقافة واحدة هي الثقافة الغربية.
والتحدي الثقافي تحدٍّ كبير. وقد تنوعت أدواته وآلياته بصورة تزايدت، وأصبحت الإنترنت على قمة هذه الأدوات بما استطاعت أن تحققه من تغيير لمفاهيم حضارية مستقرة ارتبط فيها التقدم بوسائل الانتقال، وجاءت الإنترنت لتعلن عن حضارة جديدة أساسها وسائل الاتصال. انطلقت هذه الحضارة الجديدة بسرعة مذهلة للجميع وتكاملت أدواتها بدخول أنظمة اتصالات لا ترتبط بالمكان، أطلقنا عليها المحمول، وبدأت تتشكل فعلاً ملامح الحضارة الجديدة المستندة إلى "اتَّصِلْ ولا تنتقلْ ".
في غمار هذا الخضم كان دائمًا يجول في خاطري تساؤل: أين لغتنا العربية الجميلة الأصيلة من هذه الهجمة العنترية التي ترفع راياتها فوق كل موقع عمل وإنتاج جديد؟.
شعرت بالخوف كثيرًا. ولم أكن أعرف ماذا نفعل؟ إلا أن رسالة خير ممهوره بتوقيع شيخ شيوخ اللغة العربية جاءت على غير موعد لتفتح
طاقة أمل في المستقبل .(237/1)
الرسالة تطلب بقوة أن تضع هذا المجمع الشامخ على سطح الإنترنت الجامح. وتضافرت الجهود: شباب محبٌّ لعروبته، ويملك أدوات الحضارة الجديدة مع صفوة من القائمين على العمل، جمعوا وبوبوا وفهرسوا إنجازات المجمع الكثيرة، فكان طبيعيًّا أن يكون مقرهم على شبكة الإنترنت تميزًا يدعو للفخر وخصوصية تضاف إلى كل المستخدمين .
مجمع اللغة العربية على شبكة الإنترنت ليس مقرًا عاديًّا، ولكنه بوابة علم تفتح لكل من يزورها، خلاصة بحث وتطوير دامت عبر عشرات السنين وقدمت للغة العربية إسهامات متميزة .
البوابة تفتح لكل من يطرقها آفاق معارف أربع هي :
معجم المصطلحات .
معجم ألفاظ القرآن الكريم.
كتاب الألفاظ والأساليب .
القرارات المجمعية.
كل معجم فيها يمثل امتزاج اللغة العربية بعلوم الحاسوب من خلال قواعد بيانات مبنية على اسمى عملية تسهل البحث وتحوله إلى متعة حقيقية.
عدد السكان العرب 280 مليون نسمة يشكلون 4.5% من عدد سكان العالم، لكن نصيبنا على الإنترنت حوالي 1.5% فقط كمستخدمين، أما نصيبنا كمشاركين فللأسف، لا يزيد عن 0.01% وهو ما يعني أن أولادنا وشبابنا عندما يمرون على الإنترنت فإنهم يمرون في ثقافات غربية بلغات غربية . وإننا وإنكم لم نضع لهم المحتوى المناسب. لكني أعلم أن بابًا قد انفتح، وأنه سوف يضيف كل يوم جديدًا إلى المحتوى العربي على شبكة الإنترنت .
أساتذتي :
بورك فيكم؛ فأنتم حفظة لغتنا الجميلة، بورك فيكم، فأنتم حفظة الكلمة التي هي سر من الأسرار الإلهية العظمى.
بورك فيكم أساتذة عطاء لا يتوقف، ونشكركم على إتاحة الفرصة لنا أن نضع هذه التكنولوجيا بين يدي شبابنا وقرائنا لخدمة مجتمعنا العربي
منافسًا على مستوى الحضارة الجديدة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رأفت رضوان
مدير مركز معلومات مجلس الوزراء(237/2)
كلمة الأستاذ الدكتور مفيد شهاب
وزير التعليم العالي والدولة للبحث العلمي
الأستاذ الدكتور شوقي ضيف، رئيس مجمع اللغة العربية، ورئيس اتحاد المجامع العربية:
الأعضاء الموقرون من المصريين والعرب والمستعربين:
الضيوف الكرام:
السيدات والسادة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
يسعدني غاية السعادة أن أحضر اليوم إلى هذا المكان المهيب، لكي أشهد مع صفوة من علمائنا الأجلاء، افتتاح مؤتمر مجمع اللغة العربية السنوي، والذي يدور في كل عام حول موضوع يتم اختياره بعناية، ودراسته بدقة. وقد أعجبني للغاية اختياركم الموفق لمؤتمركم الثامن والستين، موضوعًا على درجة كبيرة من الأهمية، وهو "التأثير المتبادل بين الثقافات العربية والأجنبية"، في وقت تتعرض فيه الثقافات العالمية لأخطر حملة تهدف إلى طمس بعضها، وتمكين بعضها الآخر من الهيمنة والاستئثار.
واسمحوا لي في البداية أن أرحب بالعلماء الأفاضل الذين يشاركون في هذا المؤتمر الكبير من مختلف البلاد الشقيقة والصديقة، راجيًا لهم طيب الإقامة في مصرنا الغالية، والتي تعتز كل الاعتزاز بحضورهم إليها، وتقدر كل التقدير جهودهم العلمية التي يبذلونها مع زملائهم من العلماء المصريين، في سبيل رفع راية العلم، وإرساء القيم الإنسانية .
الأساتذة والعلماء الأجلاء :
يمكن أن أقرر بكل اطمئنان أن مجمع اللغة العربية في القاهرة، يعد من أهم الصروح العلمية في حياتنا المعاصرة، فهو يضم كوكبة من كبار علمائنا، العاكفين على خدمة اللغة العربية، والباذلين كل ما في وسعهم من أجل الحفاظ عليها، والتمكين لها، من خلال عمل جاد، وجهد متواصل وتجرد كامل.
أجل في هذا المكان الجليل، توجد كتيبة من العلماء المناضلين، يقف كل فارس فيها حارسًا أمينًا على لغة الأمة، مدافعًا عنها، حريصًا على نشرها.(238/1)
وفي هذا المقام لابد أن نحيي معًا كل أولئك الأعلام الذين أقاموا صرح هذا المجمع الخالد، ووضعوا لبناته الأولى، وأضافوا إليها، حتى حققوا له، عبر أجيال متعاقبة، تلك المكانة التي أصبح يمثلها في مصر، والعالم العربي،وفي سائر دول العالم.
إن كل عالم في هذا المجمع الخالد قد استحق شرف عضويته بفضل ما تميز به طوال حياته العلمية من إخلاص في العمل، وصدق في الأداء، وصبر وكدح ومعاناة، وفرت له الكثير من التجارب، وزودته بالعديد من الخبرات. لذلك فإن هذا المجمع لا يقتصر دوره فحسب على وضع المعجم، ومتابعة الأساليب، وتطور المصطلحات، وإنما هو أيضًا بيت خبرة علمي أصيل يلجأ إليه الباحثون، ويجد الإجابة فيه كل صاحب سؤال أو استفسار حول اللغة العربية وأسرارها.
العلماء الأجلاء ،
رئيس وأعضاء المجمع الموقر:
إن اللغة ليست وعاء للفكر فحسب، وإنما هي أيضًا وسيلة التفاهم بين أفراد المجتمع، وأداة التواصل مع تراثه العلمي والأدبي، وبالتالي فإنكم حين تتعاملون مع اللغة، فإنكم تلمسون عصبًا يتحكم في حركة الوعي، وتأكيد الهوية. وقد أصبح من المعترف به أن اللغة العربية من أغنى لغات العالم في مفرداتها، وأساليبها، وجوانب بلاغتها، وحسبها شرفًا أن آخر الكتب السماوية قد نزل بها. كما أنها قد اجتذبت على مر العصور العديد من علماء الشعوب غير العربية إلى تعلمها وإجادتها والتميز فيها، من خلال ما كتبوه في مختلف فروع العلم وفنون الثقافة .
وبذلك فقد أسهموا في بناء صرح الحضارة الإنسانية، التي تعاونت في إقامتها العديد من الأمم، وكان لإسهام الأمة العربية فيها نصيب كبير.(238/2)
من هنا تأتي الأهمية الخاصة التي يوليها مؤتمركم لموضوع التأثير المتبادل بين الثقافة العربية والثقافة الأجنبية، والذي يأتي بحق في مكانه وزمانه المناسبين تمامًا. فليس من المعقول ما نشاهده حاليًّا من محاولة طمس معالم الثقافة العربية التي كانت همزة الوصل الأساسية بين ثقافات العالم القديم والعصر الحديث، كما أنها ظلت المرجع الرئيسي في أوربا خلال العصور الوسطى، وحتى مطالع عصر النهضة.
ويهمني في هذا المقام أن أشير إلى أن اللغة العربية قد نجحت خلال عصورها المزدهرة أن تقوم بدور مهم في التفاعل بين الثقافة العربية ومختلف ثقافات العالم، وتلك نقطة جديرة بالاعتبار، ذلك أن العرب لم يكونوا أبدًا – طوال تاريخهم – متعصبين أو منغلقين على أنفسهم، وإنما انفتحوا منذ اليوم الأول لمسيرة حضارتهم على كل الحضارات السابقة عليهم، والمعاصرة لهم، وحدث نوع من التفاعل المتبادل من خلال حركة الترجمة إلى العربية في بداية العصر العباسي، وحركة ترجمة أخرى من العربية إلى اللاتينية في الأندلس. ومع مطلع العصر الحديث، عاد العرب مرة أخرى إلى فتح نوافذهم على الثقافة الغربية الحديثة، من خلال حركة الترجمة التي بدأت في كل من مصر ولبنان، ثم تبعتها سائر الدول العربية، كما صاحبها حتى اليوم ابتعاث العديد من أبنائها إلى مختلف الجامعات الغربية للتزود من علومها ومعارفها، بهدف تزويد الأجيال الجديدة بمناهجها ونتائجها.
العلماء الأفاضل:
السادة رئيس وأعضاء المجمع الموقر:(238/3)
إن المجتمع العربي كله يتابع مجمعكم الموقر بكل التقدير، نظرًا لما يقوم به من خدمات جليلة للغة العربية؛ حفاظًا لها من التحريف واللحن، وإقرارًا لما ينشأ فيها من مصطلحات جديدة وألفاظ مستحدثة، واتجاهًا جادًّا إلى نشرها على ألسنة الأجيال الحديثة. لكن المجتمع مازال ينتظر منكم الكثير، ثقة منه في أنكم الأقدر على التفكير والتخطيط، والأكفأ في الإنجاز والتنفيذ. فهو يطالبكم بوضع معجم عصري متكامل يتدرج في مستوياته لكي يلبي حاجة كل الأعمار والثقافات، وهو يطالبكم بمواصلة وضع المعاجم المتخصصة في مختلف مجالات العلم والمعرفة، والتي أصبحت تتنوع وتتكاثر على نحو غير مسبوق، وهو يأمل منكم في الاستمرار في وضع المعاجم، ثنائية اللغة، التي تساعد المترجمين وغيرهم على سرعة إيجاد المقابل الدقيق لأي لفظ في اللغات الأجنبية، كما أنه يتطلع إلى إصدار مرجع مبسط في قواعد اللغة العربية، يسهلها على جميع أبنائها، والراغبين في استعمالها على نحو صحيح. وأخيرًا فإن التطور التقني في وسائل الاتصال الحديثة يفتح أمام اللغة العربية آفاقًا واسعة للانتشار والازدهار، وأعتقد أن الفرصة أمام مجمعكم الموقر قد أصبحت مهيأة للإفادة من تلك الوسائل، وفي مقدمتها شبكة الإنترنت، لكي توضع اللغة العربية جنبًا إلى جنب مع اللغات العالمية، وتقوم بدورها المأمول في تقديم الثقافة العربية، القديمة والمعاصرة، إلى كل مكان في العالم. وهذا ما أعتقد أنه يدخل في إطار مؤتمركم الحالي.
العلماء الأفاضل:
السادة رئيس وأعضاء المجمع الموقر:(238/4)
إن اللغة الدقيقة والواضحة هي عنوان المجتمع المتقدم، وليس الاستخدام السَّيِّئ للغة سوى علامة على الجهل والتخلف. ومن حقنا أن نعتز بلغتنا العربية، التي تمتد جذورها في التاريخ، ومع ذلك فإنها مازالت حيَّة على الألسنة، قد تتعثر أحيانًا ولكنها تتطور باستمرار، وقد تضعف على بعض الألسنة والأقلام، ولكنها تتألق لدى من يدرك قيمتها، ويستوعب أسرارها. وعلى عكس المتشائمين في النظر إلى واقعها، فإنني من أشد المتفائلين بمستقبلها، وأدلتي على ذلك كثيرة، فهي أولاً - قد أصبحت واحدة من اللغات الرسمية في هيئة الأمم المتحدة وجميع منظماتها. ثانيًا- أنها تحتل مساحات واسعة باتساع حركة التعليم المتزايدة في وطننا العربي. ثالثًا- أنها تحتل في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية مكانة مهمة لم يعد يقصرها على مكان محدود، بل إنه أصبح يحملها عبر المحيطات إلى مختلف القارات. وأخيرًا- فإن الأجيال الجديدة، وقد تزود بعضها باللغات الأجنبية، تقبل على اللغة العربية، وتستمتع بالنماذج الرائعة فيها. أما المؤشر الذي يزيدني تفاؤلاً فهو إقبال الكثير من الشباب في البلاد الأجنبية على تعلم اللغة العربية، ولعلكم تلاحظون معي انتشار مراكز تعليمها لغير الناطقين بها، سواء في داخل الوطن العربي أو في خارجه.
وإذا كانت اللغة العربية قد قامت بدور كبير في حركة التبادل الثقافي الذي شهدته الحضارة الإسلامية في عصور ازدهارها، فإنها قادرة بإمكانيات العصر الحاضر على أن تقوم بدور أكبر في هذا المجال، وذلك من خلال حركة ترجمة قويَّة وواسعة، وكذلك من خلال التعامل المباشر مع مختلف الأمم والشعوب، وخاصة بعد أن تطورت أجهزة الإعلام المعاصرة.(238/5)
الفرصة إذن مواتية لكي تؤكد اللغة العربية مكانتها على أرضها، وأن ترسل إشعاعها إلى كل مكان في العالم. وهنا تبرز مسؤولية مجمعكم الموقر في هذا العمل الكبير، الذي يستحق منكم الكثير من العمل وبذل الجهد، كما يساعد على نجاحه ما تتمتعون به من خبرات متراكمة، وما تقدمونه من أفكار مبتكرة .
العلماء الأفاضل:
السادة رئيس وأعضاء المجمع الموقر:
إن مؤتمركم الثامن والستين يأتي في مرحلة مهمة من تاريخنا الحديث، حققنا فيها الكثير من الإنجازات في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ونحن اليوم مقبلون على مرحلة جديدة، تتميز بالرغبة الصادقة في الانطلاق بمجتمعنا إلى آفاق واسعة من التقدم والازدهار، مؤمنين بأن أهم وسائل النهضة تكمن في العلم والتعليم، الذي يضعه السيد الرئيس محمد حسني مبارك في سلم الأولويات، وهو يأخذ من الدولة كل الاهتمام، وتتزايد ميزانيته باستمرار، حتى يحقق نتائجه المثمرة في التنمية البشرية، التي يعد
الإنسان المصري غايتها وركيزتها في الوقت نفسه .
ويطيب لي في هذا المكان الجليل، مجمع الخالدين بالقاهرة، أن أتوجه بخالص الشكر والتقدير للقائمين على تنظيم هذا المؤتمر السنوي الحافل، كما أرحب أشد الترحيب بكل العلماء الأفاضل، الذين يشرفوننا بحضورهم ومشاركتهم، من مختلف الأقطار الشقيقة والصديقة، راجيًا لهم جميعًا طيب الإقامة في بلدهم الثاني مصر، التي كانت وما زالت حصنًا للعروبة، ومنارة عالية للحضارة الإنسانية .
وفقكم الله ، وسدد على طريق الحق والخير والعلم خطاكم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفيد شهاب
وزير التعليم العالي
والدولة للبحث العلمي(238/6)
افتتاح المؤتمر
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع (*)
معالي الأستاذ الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم العالي والدولة للبحث العلمي :
الزملاء المجمعيون :
السيدات والسادة :
نجتمع اليوم لافتتاح مؤتمر المجمع السنوي للنهوض باللغة العربية لغة القرآن الكريم الخالدة بخلوده. ويسعدني أن أقدم باسم المجمع واسمي الشكر الصادق لمعالي الأستاذ الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم العالي والدولة للبحث العلمي لمشاركته لنا في هذا المؤتمر، والتنويه بأعماله اللغوية والعلمية، والترحيب بأعضائه المصريين والوافدين من البلدان العربية والإسلامية والأجنبية، وأحييهم جميعًا باسم المجمع واسمي تحية مقرونة بعواطف المودة لهم من عاملين ومراسلين . وإني أشكر
لحضراتكم جميعًا تلبيتكم الكريمة لدعوة المؤتمر كما نشكركم لإثرائه ببحوثكم وآرائكم العلمية القيمة، وأتمنى لجميع الزملاء طيب الإقامة بيننا في بلدهم الثاني مصر.
وموضوع المؤتمر هذا العام: "التأثير المتبادل بين الثقافة العربية والثقافات الأجنبية" وأقرب ثقافة أجنبية إلى الثقافة العربية الثقافة الإيرانية. ومنذ تمَّ فتح العرب لإيران في عهد عمر بن الخطاب نجد كثيرين من أهلها يؤثرون التعريب والدخول في الإسلام، وسرعان ما انتشرت العربية وانتشر الإسلام ولغته العربية في إيران. وبمرور الزمن عم الإسلام الأرجاء الإيرانية وعمت معه اللغة العربية. وهما أول تأثير للثقافة العربية في الثقافة الإيرانية، وازدهرا فيها ازدهارًا رائعًا، بحيث كسبت
الثقافة العربية شعبًا كاملاً من شعوب الحضارات القديمة، وامتزج بالعرب راضيًا وتكلم العربية في جميع شؤونه الثقافية والحضارية .(239/1)
وكانت الثقافة العربية قد أمضت أشواطًا في دراسة القرآن الكريم والحديث النبوي وتعاليمهما المثلى ودراسة الفقه وأوامر الشريعة الإسلامية ونواهيها، فتتلمذ الإيرانيون لأعلام العرب في كل ذلك وتمثلوه أروع تمثيل، وسرعان ما نهضوا بعلوم التفسير والحديث النبوي والفقه، وأصبح لهم فيها جميعًا أئمة عظام يتتلمذ عليهم الشباب من الطلاب، ويؤمونهم من كل فجّ وطريق، ويتعمق الإيرانيون العلوم الإسلامية جميعًا ويصبح لهم علماء مرموقون في اتجاهات التفسير السنية والاعتزالية والشيعية والصوفية، ويكفي أن نعرف أن أصحاب كتب الصحاح الستة في الحديث النبوي التي شاعت في العالم العربي إيرانيون جميعًا مما يدل بوضوح على مدى تأثير الثقافة العربية في الثقافة الإيرانية في الحقب الإسلامية الأولى .
وكما تمثلت الثقافة الإيرانية الإسلام والعلوم الإسلامية تمثلت الشعر العربي وحاكاه شعراؤها في أغراضه مديحًا وغير مديح وصوفيًّا وغير صوفي، وتأثير الثقافة العربية في الثقافة الإيرانية دينًا وعلمًا وشعرًا كان واسعًا إلى أبعد الحدود.
وكان تأثير الثقافة الإيرانية في الثقافة العربية عميقًا فقد نقل العرب ما أثر عن إيران في السياسة ونظم الحكم الساسانية، وفي السلطان وأصحابه وواجباتهم وآدابهم كما يتضح عند ابن المقفع في كتابه : "الأدب الكبير". وعند ابن قتيبة في الكتاب الأول من الكتب العشرة التي ألف فيها موسوعته "عيون الأخبار" وهو خاص بالسلطان الحاكم، وفيه يتحدث عن سيرته في الحكم وسياسته وأصحابه، وسجل في الكتاب بعض ما أثر في كتاب "التاج" عن ملوك الفرس وبعض ما أثر في عهد أردشير الملك الإيراني إلى ابنه وولي عهده :" سابور". ونقل العرب عن إيران نظام الوزارة، ونظام الدواوين وكتّابها. وتكونت لدى العباسيين طبقة كبيرة من الوزراء وطبقة أخرى كبيرة من كتّاب بلغاء محترفين، وكتب الجهشياري في ذلك كتاب الوزراء والكتاب .(239/2)
وأثرت الثقافة الإيرانية في الثقافة العربية بأجناس أدبية متعددة، من ذلك جنس القصص على ألسنة الحيوانات الذي يصوره كتاب "كليلة ودمنة" ترجمة ابن المقفع عن الفارسية، وكان قد نقل إليها من الهند، ولا يراد بالقصص فيه التسلية، وإنما يراد بيان المعايب ابتغاء تقويمها وتمثل معاني خلقية رفيعة، وحاكاها سهل بن هرون بمجموعة قصصية على مثالها، وسقطت من يد الزمن إلا قصة منها هي قصة "النمر والثعلب" التي نشرها الأستاذ عبد القادر المهيري بتونس. ودخل إلى الثقافة العربية من الثقافة الإيرانية جنس أدبي ثانٍ رفيع هو نظام التوقيعات، وهي جمل موجزة بليغة كان يكتبها ملوك إيران ووزراؤهم على ما يكتبه أفراد الشعب إليهم شاكين من ظلم جائر، وحاكاهم في ذلك خلفاء بني العباس ووزراؤهم، وبرع فيها جعفر ابن يحيى البرمكي وزير الرشيد فكان إذا وقع على ظلامة نسخت توقيعاته وتدورست بلاغاته . وجنس أدبي ثالث لإيران تأثرت به الثقافة العربية، وهو تقبيح الأشياء المستحسنة وتحسين الأشياء المستقبحة، ويذكر الجاحظ من ذلك عن شخص تحسين الكذب في مواضع وتقبيح الصدق في مواضع، وعن آخر تفضيل النسيان على الذكر والغباء على الفطنة، ويعرض نموذجًا لهذا الجنس الأدبي رسالة سهل بن هرون البديعة في تحسين البخل وتقبيح الكرم جعلها في فواتح كتابه: "البخلاء".
وتلك أطراف من التأثير المتبادل بين الثقافة العربية والثقافة الإيرانية.
ويسعدني أن أشيد باستمرار التعاون بين المجمع والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية ويمثلها الدكتور محمد هيثم الخياط في تحديد كافة بيانات مجموعة المصطلحات العلمية والفنية والأدبية للمجمع منذ إنشائه وبالمثل قواعد البيانات الجديدة.
كما يسعدني أن أشيد بجهد الأستاذ المهندس رأفت رضوان مدير مركز معلومات مجلس الوزراء، فقد أتاح لمجمع اللغة العربية موقعًا كبيرًا على الإنترنت يحمل قواعد بيانات المجمع التالية، وهي :(239/3)
أولاً : بيانات معجم ألفاظ القرآن الكريم.
ثانيًا : بيانات مصطلحات المجمع العلمية والفنية والأدبية منذ إنشائه إلى الآن .
ثالثًا : بيانات الألفاظ والأساليب
المدونة في أربعة مجلدات.
رابعًا : قرارات المجمع العلمية واللغوية الميسرة لقواعد العربية .
وبذلك أصبح نشاط المجمع في النهوض باللغة العربية منذ إنشائه في سنة 1934 مسجلا بوضوح على الإنترنت. وهو جهد مستحق لكل شكر يسجَّل تاريخيًّا للأستاذ المهندس رأفت رضوان ومركز معلومات مجلس الوزراء.
وأشكر شكرًا مكررًا جميع أعضاء المجمع المصريين والوافدين وجميع من لبوا دعوته لحضور افتتاح مؤتمره السنوي .
وكل عام وحضراتكم جميعًا في صحة تامة وسعادة هانئة .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شوقي ضيف
رئيس المجمع(239/4)
الثقافة العربية
جزء لا يتجزأ من الحضارة العالمية(*)
للأستاذ الدكتور نيقولا دوبريشان
تمثل الثقافة العربية إحدى طبقات الحضارة الإسلامية وحملت رسالتها منذ بداياتها وقد أثرت تأثيرًا بالغًا على الحضارة العالمية سواء بقيمها الذاتية أو بالعديد من قيم ثقافات أخرى احتكت بها ثم احتوتها وأصبحت حاملة وناقلة لها.
أتاح التاريخ للثقافة العربية فرصة لانتشارها على مساحة شاسعة من الكرة الأرضية، وأصبحت قادرة على استيعاب العناصر الثمينة للثقافات التي اتصلت بها ثم أثرت إلى حد بعيد الحضارة العالمية وأسهمت إسهامًا عظيمًا كريمًا في تراثها.
ولا نود أن نبرهن هنا على هذه الحقيقة الواضحة، نظرًا لاتساع هذا الموضوع ونظرًا لكون هذه الأمور جليَّة في كل مكان من العالم بحيث لا
يسع لأحد أن ينكرها وإن فعل أحد
ذلك لأبدى مجرد الجهل وسوء النية. وأتذكر فقط بعض الروائع من هذه الثقافة الضخمة التي أصبحت رموزًا للثقافة العربية التي تركت بصماتها في جميع مجالات الحضارة العالمية: قبة مسجد ابن طولون، وقلعة الحمراء بقصورها ومساجدها، والمئذنة الحلزونية لمسجد السمراء، وجامع الأزهر، وغابة أعمدة مسجد قرطبة وجامعة المستنصرية في بغداد، ومسجد الأمويين في دمشق، وقصور صقلية والمدارس الشهيرة في سمرقند وبخارى أو فاس ومراكش وقبة مسجد القيروان.
ولن يتمكن أحد من بحث وإدراك قضية التأثر والتأثير دون استعداد كامل لمعرفة مميزات وخصائص الثقافة العربية الأصلية، والتي تستمد منها قدرتها على التأثير.(240/1)
ولاشك أن الدين الإسلامي الذي حمل الثقافة العربية في العالم بأسره دين منور متسامح سمح، حيث اقترن الإسلام في كل مكان بالمدرسة وبالكتاب، ووقفت المدرسة دائمًا إلى جانب الجامع، وكانت قصور الخلفاء والأمراء دائمًا وفي كل مكان منتديات وحلقات علمية وأدبية. وقد وصف – على سبيل المثال – أحد كبار الباحثين في الثقافة الأوربية الغربية مكانة مراكز الثقافة العربية في الأندلس قائلا: "يعتبر مسجد قرطبة الكبير، مثله في ذلك مثل غيره من مساجد عواصم الخلافة، ليس مجرد مصلاة بل وكذلك مركزًا كبيرًا للعلوم". وحيث أشرت إلى إحدى روائع الحضارة العربية في الأندلس يجدر هنا ذكر الألفاظ المحفورة على برج "جيرالدا" في إشبيليه، وهو منارة المسجد العظيم السابق، حيث كتب عليه "مكرس للأبدية". وبفضل تداخلها وتشابكها مع ثقافات أخرى عملت الثقافة العربية من أجل الاستمرارية والديمومة، وبفضل ذلك لم تضمحل، ولم تفقد شيئًا وانتشرت من المدارس ومراكز الترجمة والمكتبات والمساجد الشهيرة القائمة في القاهرة ودمشق وبغداد وقرطبة وغرناطة ومدن المغرب العربي أشعةُ العلوم إلى جميع أنحاء العالم.(240/2)
بعثت أوربا ونهضت وهي تستمع إلى أصوات الفلاسفة والعلماء العرب في مساجد المدن الأندلسية، واندهش الأوربيون بالأفكار الخاصة بدوران الأرض وتحرك النجوم. ترجمت أعمال العلماء العرب إلى اللغة اللاتينية واستمرت دراستها في الجامعات الأوربية على امتداد قرون من الزمن وكان "قانون" ابن سينا في الطب المترجم في القرن الثاني عشر و"حاوي" الرازي المترجم في القرن الثالث عشر مراجع أساسية لدراسة الطب في الجامعات الأوربية حتى القرن السادس عشر. واطلعت أوربا في القرون الوسطى على فلسفة الإغريق بفضل التراجم العربية. واعترف العديد من الباحثين الأوربيين في ميدان تاريخ العلوم بأن العرب كانوا أساتذة لأوربا طوال ستة قرون. ونذكر على سبيل المثال أقوال الباحث الفرنسي "غوستاف لو بون" الذي توفي عام 1931م والذي أكد أن الكتب العربية المترجمة وبخاصة الأعمال العلمية منها كانت المرجع الوحيد للتعليم في جامعات فرنسا على امتداد أكثر من خمسة قرون، بل يمكن القول إن تأثير العرب في بعض ميادين العلوم امتدت إلى أيامنا هذه". ويكفي أن نذكر أيضًا إسهامات العرب في ميادين الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم الفلك والصيدلة. وهل هناك دليل على ذلك أسطع من استخدام عشرات بل مئات المصطلحات العلمية العربية في العديد من اللغات الأوربية حتى اليوم؟(240/3)
كما ألفت مئات الكتب والبحوث عن تأثير الشعر العربي القديم وحكايات ألف ليلة وليلة والمقامات على آداب العالم منذ قديم الزمن إلى عصرنا هذا، وعن تطور وتأثير الفنون وبخاصة العمارة والنحاتة التي بلغت مبلغ الرقة والأناقة وما هو أدل على ذلك – يا ترى؟ - من الإبداعات العربية المتوافرة في أكبر متاحف العالم الغربي، مثل متحف برلين حيث نجد منحوتات من قصر السمراء، ومتحف نيويورك حيث نجد محارب وصفحات بالخط الكوفي من القرآن الكريم، ومنحوتات من العاج المنفذة من الصقلية العربية في القرن الحادي عشر والمكتبة الوطنية في باريس، حيث نجد منحوتات من العاج ومكتبة جامعة أوكسفورد، حيث نجد منحوتات عربية من القرن العاشر، ومتحف لوفر حيث نجد الأقمشة المصرية من القرن العاشر، ومخطوطات مصورة لحكايات كليلة ودمنة، ومتحف أمستردام حيث نجد أواني بلورية من بلور الصخرة وحليًّا مصرية، ومتاحف لندن وسانكت بترسبورغ، حيث نجد أعمال التطريز المنفذة في عصر المماليك (القرنين الثالث عشر والرابع عشر) في مصر والمخطوطات المصورة لمقامات الحريري. وإذا دلت هذه المعروضات التي تفتخر بها أكبر متاحف الدنيا على شيء فإنما تدل على قيمة ومكانة الكتاب في الثقافة العربية والاهتمام الذي كان يحظى به الكتاب في الدولة العربية، ومدى دعم الكتاب الذي أصبح سياسة وعقلية في الدولة العربية طوال القرون، وعلى المستوى الذي توصلت إليه مختلف الفنون الأخرى. ومثلت الدقة والعناية والأناة والوعي والجهود المبذولة لنسخ الكتب وترجمتها وفهرستها وحفظها – إن كانت أصلية أو منقولة من لغات أخرى – مكونات لعمل ضخم من أجل إنقاذ جزء كبير من التراث القديم والقروسطي وإعادته إلى التراث العالمي وإدخاله إلى تداول القيم الدولي.
كان الكتاب ثمينًا وغاليًا في(240/4)
جميع العصور لكن في الدول العربية أنفق الجميع – الأثرياء والعلماء، الخلفاء والأمراء على حد سواء – من أجل تشجيع الكتاب وحفظه وتوزيعه ووصوله إلى جميع الناس المعنيين به ولذلك اهتم المجتمع العربي بل الإسلامي عامة بإنشاء المكتبات العامة في مختلف المدن، إضافة إلى العديد من المكتبات الخاصة، ونجد في الأدب العربي القديم – شعرًا ونثرًا – العديد من الشواهد على اهتمام العرب بالكتاب وحبهم له وعلى تقدير جهود الكاتب.
وتجدر الإشارة إلى الفن الجديد الناشئ من تراكب وتلاعب الحروف العربية والذي انتشر في فنون وحرف أخرى مثل فن العمارة والرسم والنحت وفن التزيين وصنع الكتاب إلخ...
كما انتشرت في العالم كله أخبار وحكايات وليس مجرد نوادر عن العلماء والخلفاء وتكريم العلماء في قصور الخلفاء والأمراء الذين كانوا عشاقًا مشهورين للكتب وتجميعها في المكتبات. وتميزت المكتبة بقيمة خاصة وكانت بمثابة ركيزة للتقدم في عصر الخلفاء. واستبق الخلفاء والأمراء في إنشاء المكتبات العامة وأصبحت شهيرة مثل دور الكتب والعلم المؤسسة في الموصل وبغداد ودمشق وحلب والقاهرة وغيرها من العواصم العربية. وقدر المقرزي عدد الكتب المتوافرة في مكتبة الأسرة الفاطمية في القاهرة بمليون وست مئة ألف نسخة. وقد تسببت غزوات التتار والصليبيين إضافة إلى الاضطرابات الدخلية في أضرار ضخمة لتراث القيم الثقافية العربية.(240/5)
وفي نفس الوقت مع التأثر الأوربي بالثقافة العربية علينا ألا ننسى أن الثقافة العربية استوعبت بدورها العديد من العناصر الفنية والأدبية والمعمارية من الحضارات الأخرى، من الأمبراطورية البيزنطية ومن بلاد الفرس ومن الإغريق والرومان ثم من الإسبان والطليان. وقد تطورت الحضارة العربية على أرضية شعوب أسهمت إسهامًا عظيمًا في إنشاء الحضارات القديمة، المعروفة بمهد الحضارة العالمية، في أحواض الأنهر الكبرى التي تجري في منطقة الشرق وحوض البحر الأبيض المتوسط، مثل بلاد الرافدين ومصر الفراعنة وقلاع الفينيقيين وبلاد الإغريق والرومان.
وفي إمكان الباحث أن يكتشف مثل هذه التأثيرات في ميادين مختلفة: الموتيفات الفارسية والهندية في المنسوجات والأبسطة والأواني والألوان والموتيفات المستخدمة لتزيين الكتب والموتيفات الرومانية والبيزنطية في فن الفسيفساء والعوامل الخاصة بفن العمارة في المغرب العربي والأندلسي، علاوة على العديد من الموتيفات الأدبية التي نجدها في حكايات مجموعة ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وغيرها. كما توارث العرب عن الحضارات السابقة منها وحرفًا أسهموا في تطويرها ومنها الملاحة والتجارة وبناء الطرق، إضافة إلى فن الحرب والمهارة الدبلوماسية والعديد من الحرف والتقاليد والعادات.
أما في عصرنا هذا فإن طرق التأثر والتأثير قد تعددت بفضل تبادل القيم الفنية ونجد الكثير من الأمثلة على ذلك في كل مكان ومنها الحفلات المسرحية وترجمة الأدب العربي والحفلات الموسيقية والمعارض الفنية والحفلات المستوحاة من مواضيع الأدب العربي القديم إلخ...(240/6)
ولا شك أن آثار الثقافة العربية في أرجاء البلاد الرومانية متنوعة وقد أُلِّفَتْ بحوث وكتب عديدة حول هذا الموضوع، وصدرت بحوث حول التأثرات في ميادين الموسيقا وفن العمارة والأزياء الشعبية وأخيرًا وليس آخرًا التأثيرات في ميادين اللغة والأدب الشعبي والعقلية، وكذلك حول المخطوطات العربية القائمة في المكتبات الرومانية، لكن هذا المجال لايزال مفتوحًا وستستمر الدراسات الخاصة به.
نيقولا دوبريشان
عضو المجمع المراسل
من رومانيا(240/7)
ثالثًا - كلمة الختام في تأبين الفقيد
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
المجمع يشكر الدكتور محمد عماد فضلى على كلمته ويشكر حضراتكم. نحسب – إن شاء الله - أن الدكتور حسن على إبراهيم من أهل الفردوس فقد كفل الحياة للكثير من الناس، وجعل صحتهم سليمة صحيحة بحيث يستطيعون العودة إلى الحياة ، وقد كان الفقيد طبيبًا صالحًا
عابدًا ذاكرًا لله ، وثالث شيء عجبت له أنه فقد ابنه الطبيب الفذ عليًّا وكان ينتظر أن يكون له مستقبل باهر والدليل على ذلك أنه وصل إلى الأستاذية في وقت مبكر، ورضي بقضاء الله واستسلم له في صبر. رحمه الله رحمة واسعة وأشكركم جميعًا .(241/1)
ثالثًا - كلمة الأسرة
لكريمة الفقيد
السيد الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع:
السادة الأفاضل أعضاء المجمع:
السيدات والسادة الحضور:
أقف اليوم هنا لألقي كلمة الأسرة في جمعكم الكريم لتأبين عالم جليل ومواطن صالح وأب حنون.
وأتذكر منذ سنوات عندما حصل والدي الدكتور الطوبي على عضوية مجمع اللغة العربية كان فخورًا بها… وكنت والأسرة فخورين به.
في هذه القاعة وفي عام 1989م عندما انتخب عضوًا عاملاً بالمجمع وقف والدي – رحمه الله – يلقي كلمته أمام أعضاء المجمع… وكنت بين الحضور أنظر إليه، وأفخر وأعتز به والآن كم هو اليوم أليم على النفس أن أقف أنا في نفس المكان لأتحدث عن العالم الجليل الذي رحل عنا، ولكنه مازال في قلوبنا وفي وجداننا ما حيينا، رحل والدي ولكنه ترك تراثًا علميًّا هامًّا وأنشأ أول مدرسة علمية للتشريح المقارن في مصر،كما أثرى المكتبة العلمية بالعديد من المؤلفات عن عالم الحيوان سواء بأبحاثه العلمية أم كتبه أم ترجماته.
وأنا لن أتحدث عن إسهاماته في مجال العلوم فحضراتكم أقدرُ مني على هذا،وقد تولى الأستاذ الفاضل الدكتور عبد الحافظ حلمي هذه المهمة.
أما أنا فسوف أتحدث عن الوالد… الذي جسد لي ولأسرته كل المعاني السامية والأخلاقيات الراقية والسلوكيات المتحضرة.
ولد والدي في مدينة طنطا عام 1909م وبدأ مرحلة الدراسة في كُتاب الشيخ علي في طنطا واستمر به حتى بلغ الثامنة من عمره وانتقلت الأسرة به إلى القاهرة حيث التحق بالمدرسة الابتدائية القريبة وبدأت رحلته مع التعليم والتعلم.(242/1)
ورغم التحاقه بكلية العلوم ودراسته العلمية البحتة إلا أنه كان محبًّا للغة العربية لغة القرآن الكريم… وكان مهتمًّا بها وبقراءة الشعر والأدب والاطلاع على كتابات الأقدمين والمحدثين من أدباء العرب كما اهتم بالبحث والاطلاع بالمشاركة في أعمال المجمع تمجيدًا لتلك اللغة ورغبة في الارتقاء بها إلى أعلى درجات السمو والنقاء. كان رحمه الله في سنواته الأخيرة، رغم ضعف ذاكرته، كان يتذكر الآيات القرآنية التي حفظها منذ كان صبيًّا صغيرًا في المدرسة وأيضًا كان يفاجئني بأبيات من الشعر يحفظها عن ظهر قلب. ماذا أقول عن والدي الذي علمنا احترام قيمتي العلم والعمل،الذي علمنا الأخلاق الكريمة والرحمة، الذي علمنا الالتزام والمحبة واحترام الكبير والعطف على الصغير، كان مثالاً لكرم الأخلاق ومثالاً للحفاظ على المبادئ والقيم ومثالاً للإنسان الذي يحترم نفسه ويحترم الآخرين. ورغم مكانته العلمية الكبيرة إلا أنه كان مثالاً للتواضع،لقد أعطى حياته للبحث العلمي حتى أقعدهُ الضعفُ والكبر.
لم يكن يسعى لمنصب وإنما كرس حياته للعلم وحده وفي الوقت نفسه لم يبخل على أي منا - نحن – أفراد أسرته الصغيرة – بنصائحه القيمة وخبرته العلمية والعملية، كان دائمًا موجودًا عندما نحتاج إليه يحيطنا جميعًا بحبه ورعايته. وإذا كان والدي قد أدى رسالته قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى – سبحانه وتعالى – فهذه سنة الله في الحياة ورغم خسارتنا فيه فإن ما يثبت قلوبنا وإيماننا ما جاء بالحديث الشريف: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولدٍ صالح يدعو له).
أيها السيدات والسادة أشكركم على هذه الثقة الكريمة وأتمنى لكم جميعًا موفور الصحة والعافية.
نجوى الطوبي
كريمة الفقيد(242/2)
لا ترادف بين لفظي الإرهاب والعدوان
للأستاذ علي رجب المدني
نستطيع أن نوقن بحقيقة أن كل دعوة إلى الله تخرج عن دائرة: "الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن" إنما هي دعوة تقوم على العدوان، ولا جناح علينا أن نصمها بالعدوان، وذلك فيما عدا حالات "دفع العدوان..." "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" الآية 194 من سورة البقرة "وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلُها" سورة الشورى الآية40.
فاستخدام وصف الإرهاب وإطلاقه على أعمال وتحركات تتسم بالعدوان، لا يعدو أن يكون أسلوبًا في التعبير يستهدف التلطيف والتخفيف، إذ إن الإرهاب في مضمونه الحقيقي لا يمكن أن يتحول إلى عدوان مؤذٍ ومؤلم، وهو ما لا يبدو معنيًّا فيما يستخدم في المساحات المختلفة مؤخرًا من نعوت الإرهاب.
ومن هنا يمكن القول أن ما تواتر من وصف للأعمال والأقوال العدوانية بلفظ الإرهاب لا يعدو أن يكون خاليًا من الإيذاء والإيلام.
إن النصوص القرآنية صريحة في تزكية هذا التخريج، فعندما نقرأ قول الله تعالى في سورة الأنفال الآية61 : "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" فإننا ندرك فورًا أن المقصود من الإرهاب هنا لا يعدو تخويف البغاة المعتدين من أن يمارسوا علينا بغيهم أو اعتداءهم، وهذا حق لنا بقدر ما هو واجب علينا، وقوله جل شأنه في سورة البقرة الآية 40:"وإياي فارهبون" وفي سورة النحل الآية 51: " فإياي فارهبون" فهو في هاتين الآيتين إنما يطالبنا بحق ناشئ عن عبوديتنا له تعالى شأنه. وهو غاية المشروعية. وفي سورة الأعراف الآية 116:"فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم" ولم يقل تعالى عدله "وأرهبوهم" تفريقًا بين مضموني الإرهاب والاسترهاب الذي لا يعدو معنى الطلب" إذ إن طلب الخوف لا يرقى إلى مرتبة الإخافة.(243/1)
وقوله تعالى لموسى أثناء المناجاة: "واضمم إليك جناحك من الرهب" الآية 32 من سورة القصص، والمقصود هنا "والله أعلم" أن يضم يده إلى قلبه تخفيفًا من وطأة الفزع والخوف" وهو ما لا يعني بحال أنه هدف لذلك الخوف وإنما زود بتينك المعجزتين لاستخدامهما الاستخدام المشروع في مواجهة فرعون وقومه. وهو الاستخدام الذي يستهدف الإعجاز والإقناع لا التخويف، الأمر الذي حدث فعلاً فيما بدا من رد فعل السحرة.
وقوله تعالى في سورة الأنبياء الآية 90: "إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين" وهم زكريا عليه السلام وزوجه وابنه يحيى عليه السلام.
فلو كانت الرهبة مما يصدر عن عدوان لما جاز مطلقًا أن يلتصق مضمونها (بأي وجه) بالذات العلية كمصدر لها أو كأسلوب في العبادة.
وقوله تعالى في سورة الحشر الآية 13: " لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون" وهو ما ينسحب عليه تحليلنا للآية السابقة، وغير خافٍ ما يتضمنه في كلتيهما من معنى التوقير والاحترام اللذين لا ينعت بهما العدوان وقوله تعالى في سورة المائدة الآية 82: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون" في معرض الثناء على وفد نصارى الحبشة الذين أوفدوا من طرف النجاشي إلى رسول الله مبايعين إياه بالإيمان والشهادة وهو ما ينسحب عليه أيضًا تحليلنا في الآيتين السابقتين.
وقوله تعالى في سورة التوبة الآية 34: "يا أيها الذين آمنوا إن كثيرًا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله.. إلخ الآية" وهو ما يصمهم بنقيض مضمون الرهبة من الله الذي تقتضيه هذه الصفة التي يفترض أن تكون من صفات الكمال. (فخوف الله كمال).(243/2)
وقوله تعالى في سورة التوبة الآية 31: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم ..إلى آخر الآية" وهو ما ينطبق عليه تحليلنا لمضمون الآية 34 مع تلازم الرهبة والوقار في كل ذلك تلازمًا يتجافى مع مفهوم العدوان الذي لم يقل أحد بتلازمه مع معنى الوقار والجلال والاحترام والتقدير.
وأخيرًا قوله تعالى في سورة الحديد الآية 27: "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها، فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون" صدق الله العظيم، وهنا يعني قوله تعالى أن للرهبة مقاييس تجعل منها عملاً من أعمال البر فإذا تعدته انقلبت إلى النقيض، وهو ما يمثل تسجيلاً دقيقًا لمراحل تاريخية تقلبت فيها الرهبانية بين مفهوم الرهبة من الخالق والرهبة من المخلوق.
إذن فمفهوم الرهبة إذا تعدى المشروع من مضامينها فإنه لا يصح أن يكتفى بتسميته إرهابًا لأن في ذلك تحميلاً للتعبير ما لا يحتمل وإنما يتدرج مباشرة تحت مضامين (العدوان) الذي يتحقق باستعمال صيغته مباشرة تسمية للأشياء بأسمائها ويتم استبعاد تعبير الإرهاب.
إن إطلاق كلمة (إرهاب) على العمل العدواني لا يعدو أن يكون تلطيفًا وتخفيفًا له وتجريدًا له من مفهومه الحسي والإيجابي، لأن الإرهاب لا يعدو في مضمونه التخويف.
وهنا يجدر بنا أن نقول دون مواربة: إن أعمال المستضعفين التي تنحصر في إعداد القوة بجميع مسمياتها من تسلح بآلة الدفاع وبالعلم وبقيم الحضارة والسمو الجماعي والأخلاقي والإنساني بوجه عام إنما تمثل إرهابًا مشروعًا وواجبًا من عند الله لا يجوز المساس بمضمونه أو التحول به إلى معنى العدوان. أما ما تجاوز ذلك فليس لنا أن نسميه إلا عدوانًا ولا شأن للإرهاب به.(243/3)
وعلى ذلك فإنني لا أطلب من ولاة الأمور وغيرهم أن يتوقفوا عن ردع العدوان ولكني أهيب بهم أن يعدلوا عن تسميته إرهابًا إلى استخدام اسمه الحقيقي إذا توافرت الأدلة على طبيعته العدوانية.
كما أهيب بقادة الفكر ورجال الإعلام أن يمعنوا النظر فيما قدمت
من تحليل وأن يولوه تجاوبهم واقتناعهم تصحيحًا لما تفرض اللغة تصحيحه وتسمية للأشياء بأسمائها دون مساس بما اصطلح عليه.
وينبغي ألا يغيب عن إدراكنا أن تعبير الإرهاب الذي يشيع استعماله إنما يستخدم ترجمة لتعبير الزلزال terroismo الذي وضعه العرب، وهو استخدام في الترجمة لا يعدو أن يكون افتراء على العربية وإهانة لها، وإن خلق الحياء ليفرض الإقلاع عن مثل هذا الافتراء وهذه الإهانة اللذين لا تقف انعكاساتهما عند حد، خصوصًا بعد أن نكشف أن هذا الاستخدام إنما يتيح ذريعة لأعدائنا أن يقتحموا مصادر تراثنا اللغوي ( في مقدمتها القرآن الكريم) بطلب التغيير والتبديل وإنها آنئذٍ لأم الكوارث ... والله أعلى وأعلم.
علي رجب المدني
عضو المجمع من ليبيا(243/4)
"بين مؤتمرين"
للأستاذ الدكتور كمال بشر الأمين العام للمجمع
الأستاذ الجليل الدكتور مفيد شهاب وزيرَ التعليم العالي والدولةِ للبحث العلمي :
الأستاذ الجليل الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع :
الأساتذة الزملاء الأجلاء :
السادة الحضور :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد ..
فهذا يوم من أيام الله مشهود، يتجدد فيه لقاءُ الكبار من أهل الفكر والرأي. يوم أغر على الزمان مفاخرًا بعطائه وبنوره ، بقدوم السادة النُّجُبِ يوم مشرقُ الطلعات ، رقيق البسمات ، وإن كانت تغشيه سحابة من حزن عميق ، وأسىً دفين، بغياب نجم لقاءاتنا السابقة ، واسطة العقد ، الذي تندر مضارعتُه في نور بيانه، وسطوع كلماته، واهتزاز أعواد منابره، إنه الزميل الراحل الأستاذ إبراهيم الترزي الأمين العام السابق للمجمع، رحمه الله رحمة واسعة، وعوّضنا فيه وعنه خير العِوَض. سلام على إبراهيم ، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.
أما أنا فلست عِوضًا . إنني – في الحق وبالحق – أترسَّم خطاه ، وأستشف – جُهد الطاقة – رؤاه ، وأخطو خَطْوه الذي نهجه ورعاه .
وها هو ذا جُهد المقل في كلمات قصار، فأقول :
أيها السادة :
إن مؤتمرنا هذا ليس كغيره من المؤتمرات السابقات . إنه يشبه سوابقه في شيء ، ويختلف عنها في شيء آخر ذي خطر وبال .
إنه يشبه سابقاته في تجديد اللقاء، والحديث عن مؤتمر سابق، وعما أعدّته لجانُ مجمعنا هذا، وَنَظَرَهُ مجلسُه الموقَّر ، ليكون بين يدي أعضاء المجمع، من العرب ومن غير العرب ، من المقيمين في أرض الكنانة، ومن الضيوف الكرام النازلين بين أهليهم وإخوتهم ، مشكِّلين معهم عِقدًا فريدًا غاليًا ، تزهو به اللغة العربية، وتزدان صدور الصادقين المخلصين في حب العربية والاعتزاز بها من شرق وغرب على سواء .(244/1)
ولكن مؤتمرنا هذا ، الراشدة طلائعُه اليوم ينماز من غيره من مؤتمرات سابقات – وربما من لاحقات – بخصوصية بارزة ، تنبئ، في وضوح وجلاء ، عن مدى التفاعل الحقيقي العميق بين مسؤولية مجمعنا الموقر، وما يَجْري في هذا العالم الفائر الثائر من أفكار وآراء ، بل وصراع ، حول الثقافات الإنسانية ومدى التأثير المتبادل بينها ، حتى يتبين وجهُ الحق في هذا الموضوع الشائك شديد التعقيد.
ونشرف الآن فندلُف إلى تقديم البيان المجمعيِّ المعتاد في مستهلّ كل مؤتمر، آخذين في الحسبان طرفي الموضوع من عمومية وخصوصية، فنقول :
أولا - المؤتمر السابق والمجلس ولجانه وأوجه نشاطه :
عقد المؤتمر تسع عشرة جلسة ، منها إحدى عشرة علنية :
أولاها – جلسة افتتاح المؤتمر .
وثانيتها- جلسة لاستقبال ثلاثة من أعضاء المجمع العاملين العرب وهم: الأستاذ أحمد شفيق الخطيب من فلسطين ، والأستاذ الدكتور محمد إحسان صالح النص من سورية، والأستاذ الدكتور محمد يوسف نجم من لبنان .
والجلسة العلنية الثالثة كانت لاستقبال اثنين من أعضاء المجمع العاملين من العرب وهما : الأستاذ الدكتور محمد محمد بن شريفة من المغرب ، والأستاذ الدكتور يوسف عز الدين من العراق .
أما الجلسة العلنية الرابعة فقد خصصت لتأبين علاَّمة العرب الأستاذ حمد الجاسر عضو المجمع الراحل من السعودية ، وقد ألقى كلمة المجمع في تأبينه الأستاذ الشاعر حسن عبد الله القرشي عضوُ المجمع المراسل من السعودية، كما ألقى الأستاذ الدكتور أحمد الضبيب عضوُ المجمع المراسل من السعودية كلمة أخرى في تأبين الفقيد تحت عنوان "حمد الجاسر والتراث: لمحات عن حياته وأعماله ومنهجه " .
والجلسات العلنية الأخرى خصصت لمحاضرات عامة ، هي:
* العامية فصحى محرفة ( عود على بدء ) ، للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيسِ المجمع .
* قضايا العربية على مدارج القرن الحادي والعشرين، للأستاذ الدكتور عبد الكريم خليفة عضوِ المجمع من الأردن .(244/2)
* أثر الفكر الإسلاميِّ في تقدم العلوم الطبيعية والتقنية ، للأستاذ الدكتور محمد يوسف حسن ، عضو المجمع .
* تأثير الإعلام المسموع في اللغة وكيفيةُ استثماره لصالح العربية ، للأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح عضوِ المجمع المراسِل من الجزائر .
* الأغنية الفصيحة ودورها في التثقيف اللغوي للأستاذ الدكتور كمال بشر عضوِ المجمع .
* دور وسائل الإعلام العربية في انتشار طرق التعبير عند دلالات البوادئ (السوابق) Prefixes في العصر الحديث، للأستاذ الدكتور نيقولا دوبريشان، عضوِ المجمع المراسِل من رومانيا.
أما الجلسات الأخرى من جلسات المؤتمر فكانت مغلقة ، نظر المؤتمر فيها مصطلحاتٍ في الفيزيقا، والنفط، والتربية الرياضية، وعلومِ الأحياء ، والطب ، والفلسفة الإسلامية ، والأعلامِ الجغرافية ، والجيولوجيا، والهندسةِ، والرياضيات، والكيمياء .
كما نظر المؤتمر أعمال اللجان اللغوية ، وهي لجان : أصول اللغة ، واللهجات والبحوث اللغوية ، والمعجم الكبير .
وألقيت في هذه الجلسات المغلقةِ بحوث عالج أكثرها قضية ( اللغة العربية في وسائل الإعلام ) وهي القضية المقترحة لبحوث المؤتمر .
وأصدر المؤتمر في جلسته الختامية توصياتٍ ، منها التوصياتُ التالية :
* يوصي المؤتمر باستخدام العربية السليمة في جميع وسائل الإعلام لأنها اللغة القومية المشتركة بين الشعوب العربية التي تجعل من شعوبها اتحادًا عالميًّا أمام التكتلات الأجنبية .
* تعمل وزارات الإعلام في جميع البلاد العربية على إلغاء الثنائية بين اللغة العربية والعامية في وسائل الإعلام ، وكذلك بين اللغة العربية واللغات الأجنبية .
* يوصي المؤتمر بالحرص على استخدام الفصحى في وسائل الإعلام، في المجالات السياسية والدينية والثقافية والعلمية .(244/3)
* يوصي المؤتمر وسائلَ الإعلام العربية أن تكون لأسماء البرامج الإذاعية والتليفزيونية فيها تسمياتٌ عربية ، وأن تتجنب استخدامَ التسمياتِ الأجنبية.
* يوصي المؤتمر أن تكون الفصحى الميسرةُ هي اللغةَ المستخدمةَ في برامج الأطفال، وبرامج الرسوم المتحركة حرصًا على التنشئة اللغوية الصحيحة للطفل العربي .
* يؤلِّف كلُّ مجمع عربي كتابًا للإعلاميين تُيَسَّرُ فيه قواعد النحو في ضوء كتاب " تجديد النحو " للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع.
المجلس واللجان :
عقد مجلس المجمع ثلاثًا وثلاثين جلسة ، منها جلستان علنيتان :
الأولى منهما لتأبين المرحوم الأستاذ إبراهيم الترزي الأمين العام السابق للمجمع، وألقى كلمةَ المجمع في تأبينه الأستاذ فاروق شوشة عضوُ المجمع، كما ألقى كلٌّ من الأستاذ الدكتور محمد يوسف حسن، والأستاذ مصطفى حجازي عضويْ المجمع قصيدةَ رثاء في تأبين الفقيد الراحل .
أما الجلسة العلنية الثانية فكانت لتأبين الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح عضوِ المجمع ، وقام بواجب المجمع نحو تأبين الفقيد الراحل الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائبُ رئيس المجمع .
وكانت الجلسات الأخرى مغلقة ، أُجْري فيها انتخابُ كمال بشر أمينًا عامًّا للمجمع لمدة أربع سنوات قادمة إن شاء الله. وانتخابُ الأستاذ الدكتور محمود علي مكي عضوُ المجمع، عضوًا بهيئة مكتب المجمع.
ونظر المجلس في جلساته المغلقة مصطلحاتٍ في الحاسبات ، والفلسفة الإسلامية ، والجيولوجيا، والنفط ، والهندسة ، والكيمياء ، والعلوم الطبية، والفيزيقا ، والرياضيات ، والأدب والأعلام الجغرافية ، وعلوم الأحياء وألفاظ الحضارة (مصطلحات في التربية الرياضية ).
كما نظر المجلس أعمالَ لجنة اللهجات والبحوث اللغوية ، ولجنةِ الأصول ، ولجنة الألفاظ والأساليب والمعجم الكبير ( المواد من أول حرف الدال إلى نهاية الدال والذال وما يثلثهما ).
أعضاءٌ راحلون :(244/4)
رُزِئ المجمع بفقد ثلاثة من أعضائه ، أولهم : الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي عضوُ المجمع من العراق ، وسيقوم المجمع بواجبه نحو تأبين الفقيد الراحل في مؤتمرنا هذا إن شاء الله . وثانيهم : الأستاذ الدكتور محمد رشاد الطوبي ، وثالثهم : الأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم ، وسيقوم المجمعُ بواجبه نحو تأبين الفقيدين الكريمين في جلستين يحددهما مجلس المجمع بعد هذا المؤتمر إن شاء الله .
صلات المجمع الثقافية :
* قام الأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد بتمثيل المجمع في الندوة التي أقامها مركزُ الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بعنوان: (الأرقام: التاريخ والهُوية ) .
كما تفضل سيادته بتمثيل المجمع في اجتماع المجلس العلمي لمكتب تنسيق التعريب بالرباط .
* وقام الأستاذ الدكتور محمود علي مكي بتمثيل المجمع في مؤتمر اتحاد المترجمين ببيروت .
* ومن عظيم التكريم تكريمُ الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيسِ المجمع؛ حيث حصل على درع الريادة في ملتقى القُرْضابيّة الليبي .
مطبوعات المجمع :
يواصل مركز الحاسب الآليّ بالمجمع نشاطَه في كتابة مطبوعات المجمع، وقد صدرت عنه المَطبوعاتُ التالية:
*مجموعة المصطلحات العلمية والفنية: الأعداد من الأربعين إلى الثالث والأربعين .
* معجم الحديث النبوي الشريف .
* أعداد مجلة المجمع: من العدد السادس والثمانين إلى العدد الثامن والثمانين.
وجارٍ إعداد ثلاثة أعداد أخرى
من المجلة: من العدد التاسع والثمانين إلى الحادي والتسعين .
* إعادة طبع الجزء الثاني من معجم المصطلحات الطبية .
* إعادة طبع أربعة أجزاء من كتاب الأفعال للسراقسطى .
مسابقة المجمع الأدبية :(244/5)
أعلن المجمع عن مسابقته الأدبية للعام المجمعي ( 2000 – 2001م)، وكان موضوعها ( القدس في الشعر العربي)، وقد وردت إلى المجمع أعمال كثيرة وكُوِّنتْ لجنةٌ لفحص هذه الأعمال من : الأستاذ الدكتور محمود علي مكي ، والأستاذ فاروق شوشة عضويْ المجمع، والأستاذ الدكتور عبد الحكيم راضي الخبير بلجنة الأدب بالمجمع ، وستعلن نتيجة المسابقة بعد مؤتمرنا هذا إن شاء الله.
أيها السادة :
يعمد المجمع في هذا المؤتمر إلى بحث موضوع : "التأثير المتبادل بين الثقافات العربية والأجنبية " وهو موضوع ذو أهمية خاصة في وقتنا هذا العصيب المشحون بالأزمات والتغيرات السياسية والثقافية والاجتماعية في العالم .
الثقافة خاصة من خواص الإنسانية قديمها وحديثها، مهما اختلفت الأمم وتباعدت الديار. الثقافة قدر مشترك بين جميع الأمم ، وإن كان لكل أمة خصائص بارزة تتآلف مع حياتها وأوجه النشاط فيها، ولم نعرف قط أن هناك ثقافة تفردتْ بالإبداع أو تفردت بالنقل أو خلت من السمات التي تميزها من ثقافات الأمم الأخرى .
أين هي الثقافة التي أبدعت ولم تنقل ؟ وأين هي الثقافة أو الحضارة التي يقال عن جميع علمائها إنهم من عنصر خالص ينتمون إليه، ولا يمتزج بالعناصر الأخرى ؟
فإذا ما تتبعنا ما جرى وما يجري من تبادل التأثير بين الثقافات العربية والأجنبية ، ألفينا الكثير من أنواع الأخذ والعطاء في هذه المجالات بصورة تؤكد أن هناك حوارًا دائمًا بين الثقافات الإنسانية بقطع النظر عن الحدود الجغرافية والعهود الزمنية.(244/6)
فمن المعلوم أن العرب نقلوا عن اليونان وغيرهم بالترجمة ضروبًا شتى من ألوان المعرفة والثقافة والعلم، في الطب والكيمياء والرياضيات والفلسفة . فأفادوا من هذا وذاك، ولكنهم في الوقت نفسه أضافوا إلى هذه المعارف وطوروها وصقلوها بل زادوا عليها وعمقوها، فمن منا ينكر جهود العرب والمسلمين في الطب وغيره من العلوم مما لم يوضع له نظير في الضخامة والتمحيص على قدر أسباب التمحيص في زمانه؟ وقد ترجمت كلها إلى اللاتينية ونقلت هذه البضاعة بين أطباء أوربا ولم يضارع مؤلفي العربية فيها أحد من العلماء الأوربيين إلى وقت غير بعيد. فقد ترجم كتاب "القانون" لابن سينا في القرن الثاني عشر الميلادي، وهو موسوعة جمعت خلاصة ما وصل إليه الطب عند العرب والإغريق والهنود والسريان والأنباط . وترجم كتاب "الحاوي" للرازي سنة 1279م وهو كما يقول العقاد أكبر من القانون وأوسع منه في المادة والموضوع وقد أكمله تلاميذ الرازي بعد موته لأنه عمل لا يضطلع به الأفراد.
وترجمت كتب ابن الهيثم في ذلك العصر، فكانت مرجع الأوربيين اللاحقين جميعًا في البصريات. واقترنت بحوث العرب في الطب ببحوثهم في الكيمياء فاستفاد الأوربيون منهم كثيرًا في هذا العلم. وربما كانت فائدتهم من دروس العرب الكيميائية أعظم مما استفادوه من دروسهم الطبية. وكما نقلت كتب الرازي نقلت كتب جابر بن حيان في الكيمياء، ومنها عرف الأوربيون تقسيم المواد الكيميائية إلى نباتية وحيوانية ومعدنية ... إلخ ، على ما يروي الثقات من الدارسين .(244/7)
وهذا التأثير الثقافي المتبادل ظاهر واضح أيضًا فيما يتعلق بالثقافتين العربية والفارسية. نعم، بذل الفرس جهودًا جبارة عميقة في خدمة العربية وعلومها والإسلام ومعارفه. هذا صحيح، ولكن هذا الذي قدمه الفرس من خدمة للعربية والإسلام لم يكن قبل امتزاجهم بالدعوة الروحية التي انبثقت من قلب الجزيرة العربية. فمن الحق أن يقال على ما يرى العقاد إن الجو العلمي الجديد الذي أحاط بهم بعد قيام الدولة العربية الإسلامية كان له فضل محدود ينسب إلى تلك الدولة، إذ لم تكن لهم في إبان مجدهم القديم فضيلة على العنصر العربي في الدراسات النظرية بها، أضف إلى هذا أن هؤلاء الفرس قد أفادوا من الثقافة العربية إفادة مستمرة حتى يومنا هذا، كما يظهر ذلك مثلاً في نظام الكتابة وتعرفهم أوزان الشعر العربي وموسيقاه .
ومازال لنظام الكتابة العربية أثر واضح في بلاد أخرى ، كما يظهر ذلك في كتابة اللغة الأوردية في باكستان بهذا النظام حتى الآن ، وقد كان هذا النظام سائدًا ومأخوذًا به في كتابة اللغة التركية حتى جاء كمال أتاتورك واستبدل به الكتابة اللاتينية سنة 1927م ومعلوم للكافة أن هذه اللغات الثلاث محشوة بالألفاظ والمصطلحات العربية والإسلامية التي زودتهم وأمدتهم بمفاهيم إنسانية جليلة .
فإذا ما انتقلنا إلى الجانب المادي من الثقافة لتأكد لنا أن الأوربيين وغيرهم اقتبسوا ما وسعهم الاقتباس من طراز البناء العربي متفرقًا في القصور والقلاع والأماكن المنتشرة هنا وهناك في شتى البقاع والأصقاع.(244/8)
وربما لا يدرك الكثيرون مدى التأثير والتأثر بين الأدب العربي والأدب الإسلامي في جملته، والآداب الأوربية. ويكفي لإجمال الأثر الذي أبقاه الأدب العربي الإسلامي في آداب الأوربيين أننا لا نجد أديبًا واحدًا من نوابغ الأدباء عندهم خلا شعره أو نثره من بطل إسلامي أو نادرة عربية ، كما يظهر ذلك مثلاً في تأثر القصة الأوربية في نشأتها بما كان عند العرب من فنون القصص في القرون الوسطى ، وهي المقامات وأخبار الفروسية ومغامرات الفرسان في سبيل المجد والغرام .
وما لنا نذهب بعيدًا ونغض النظر عن هذا التأثير العربي العظيم في الأوربيين وغيرهم من أمم الأرض جميعًا ، ونعنى بذلك الأديان الكتابية (الموسوية والمسيحية والإسلام ) التي ظهرت وانتشرت في أرض العرب وامتدت آثارها إلى العالم بأسره ونقلت هذا العالم من حال إلى حال ، إذ إن هذه الأديان في جملتها هي الأساس والمنبع الثر لكل القيم والمبادئ والفضائل ، وهي المورد الأساس لكل الثقافات والحضارات هنا وهنالك .
أيها السادة إذا كان ما قدمنا إنما يمثل جزءًا يسيرًا مما جرى ويجرى من التأثير المتبادل بين الثقافات العربية والأجنبية ، وهو في حقيقة الأمر تمثيل يشبه حسوة طائر من بحر عميق، فمن حقنا أن نقرر أن القضية ليست قضية صراع كما يتقوّل بعض المغرضين أو غير العارفين، وإنما هي قضية حوار متبادل عبر الأزمان والعصور.والأيام دول بين الأمم،كل يعطى ويأخذ، وكل يَمنح ويُمنح. والتعاور بين هذه الأمم في مدارج الرقي والقوة أو التخلف والضعف أمر محقق يؤكده التاريخ قديمُه وحديثه على سواء فالتبادل والتعاور من الخواص المميزة للإنسان الذي من شأنه أن يعمر الأرض ويستثمر خيراتها ، ولا يكون ذلك إلا بالتعاون والتعاطف والمودة مصداقًا لقول الخالق جل وعلا:" يأيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا " .(244/9)
وهنا يلح علينا سؤال مهم، يقول: ماذا قدّم العرب أو يقدمون لغيرهم في جملة العقود الأخيرة من القرن العشرين وما تلاه من أيام وشهور ؟
نجيب بوضوح قائلين: إن الطاقة أو القدرة على الابتكار والابتداع عند العرب والمسلمين قائمة بل هي حقيقة مؤكدة. ولكن الظروف التي لفّتهم وتلفّ حياتهم الآن حجبت هذه القدرة عن التفعيل والتفاعل مع ما يجري في هذا العالم الفائر الثائر ، وذلك مرده إلى أسباب عدة من أهمها آثار الاستعمار في جميع البقاع والأصقاع العربية والانشغال بقضايا الحرب والصراع مع غيرهم حتى هذه اللحظة، وعدم التعادل أو التوازن بين الطبقات في الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ، وضيقُ مساحة الحرية في الفعل والقول، الأمر الذي ظهر أثره بوضوح في قضايا الابتداع والابتكار. ومعنى هذا في النهاية أيها السادة أن العرب في مُكنتهم الآن أن يعيدوا تاريخهم المجيد ويملؤوا الدنيا بآثارهم الثقافية والفكرية في مجالات الحياة على اختلاف أنواعها وضروبها.
إن الابتكار المحقق لم يكتب قط لأمة من الأمم ولم يعهد قط في ثقافة قومية أنها كانت محض ابتكار خلا من كل استعارة أو اقتباس هكذا يقول العقاد .
وعلى كل حال فليس المقام مقام الحديث المستفيض في هذه القضية ذات الأهمية البالغة . فذلك شأن تلك الصفوة من العلماء الكبار الأفذاذ المجتمعين في هذا اللقاء الطيب الكريم ، ولنا أن نضع الكرة في ملعبهم يتعاملون معها بالطريق التي
تدرج بهم إلى مراقي القوة والعزة والتأثير في العالم في شتى مجالات الحياة، ثقافية كانت أم سياسية أم اقتصادية،والتي تؤهلهم للنصر والفوز بكأس التفوق والامتياز،على نحو ما جرى لأسلافهم في عصورهم الزاهرة.
والسلام عليكم ورحمة الله .
كمال بشر
الأمين العام للمجمع(244/10)
ثانيًا - كلمة المجمع في تأبين الراحل الفقيد
للأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد
السيد الأستاذ الدكتور شوقي ضيف، رئيس المجمع:
السادة الزملاء، أعضاء المجمع:
السيدات والسادة:
تبارك الذي خلق الموت والحياة، وعظُمت قدرَته، وجلَّتْ حكمته. فيعرف البيولوجيون أنه لولا الموتُ ما تجدَّدَتْ حياة، بل إنه ليُقَر في ذهني أنه لولا الموتُ ما كان للفظ "الحياة" معْنى، بل ما وُجدت مادته أصلاً في قواميس لغات البشر، وأنبأنا العليُّ القدير أنه قد خلق الموتَ والحياةَ ليبلوَنَا أيُّنا أحسنُ عملاً؛ فلولا الحياة ما كان هناك ابتلاء.
وأستاذي الجليل، الذي نُدبت لتأبينه اليومَ، باسم المجمع الموقر، هو – بإذن الله – من الذين حَسُنت أعمالهم، ويُحمد ذكرُهم.
في عام 1944م، اتَّخذتُ، وأنا بعدُ فتى من الأيفاع، مجلسًا أمام أستاذي الدكتور محمد رشاد الطوبي، في أحد مدرجات كلية العلوم بجامعة القاهرة، أتلقَّى – مع رفاقي – محاضراته في تصنيف الفقاريَّات، ثم في العام الذي تلاه محاضراته في علم التشريح المقارَن للفقاريات أيضًا. وكان أستاذنا مثالاً للمحاضر الذي يتقن أداء كلِّ شيءٍ: في لغته الإنجليزية الرصينة، وإلقائه المتأني، وشروحه الوافية، ورسومه الأنيقة الواضحة، كان أستاذًا من ذلك الطراز الذي يرتاح إليه طلابه، ويشعرون نحوه بكثير من التقدير والاحترام والامتنان. وما تغيَّرتْ - في نظري - هذه الصورة وأنا أقترب أكثر فأكثر من الأستاذ الطوبي في أعوامٍ وأعوام تالية.(245/1)
أكرمني الله فأصبحت معيدًا ثم محاضرًا في القسم الذي هو أستاذ فيه أو رئيس له، وفي الكلية التي اختير وكيلاً لها فيما بعد. باعد بيننا التخصص الدقيق، ولكن جمعت بيننا وشائج أخرى كثيرة: في جمعيتين لعلم الحيوان، ثم في اللجنة القومية للعلوم البيولوجية، التي تشرف، منذ إنشائها، برئاسة أستاذي الدكتور محمود حافظ، بارك الله في عمره وعلمه وجهوده، وقد كان الدكتور الطوبي عاكفًا، حتى أقعده الضعف والمرض، على كتابة جزء من مجموعات الحيوانات الفقارية من دليل تعدُّه هذه اللجنة من النباتات والحيوانات الشائعة في مصر.
كذلك قد حَرَصنا في "لجنة الكتب والموسوعات العلمية"، بأكاديمية البحث العلمي، على أن تنشر الأكاديمية عام 1992م كتابًا من سلسلة "قطوف من العلوم" التي كانت تصدرها اللجنة، بعنوان "جولة في عالم الثدييات" من إعداد المغفور لهما الأستاذين الدكتور كمال واصف والدكتور رشاد الطوبي، الذي كان عضوًا بارزًا في اللجنة، وضم هذا الكتاب نُخبة من المقالات المنشورة في "مجلة العلم"، التي كان الأستاذ الطوبي، أيضًا أحد مستشاري تحريرها. وكان بين المختارات عدد من المقالات كان قد نشرها الدكتور الطوبي نفسه في مجلة العلم.
وفي أواخر الثمانينيات تتابعت لقاءاتي بالأستاذ الدكتور الطوبي لنعمل مع الأستاذين الدكتور كمال واصف والدكتور سمير محمد بلتاجي في إعداد الجزء السابع الخاص بعلم الحيوان من سلسلة كتب عن "تأريخ الحركة العلمية في مصر الحديثة"، صدر في مايو 1990م في نحو 150 صفحة، وكابدنا في سبيل إعداده وجمع شتات مادَّته عناءً مضنيًا، وكان في تقديرنا أن هذا التسجيل لو تأخر عَقْدًا واحدًا من الزمان، لأفلت من ذاكرة التاريخ كثيرٌ مما كان ينبغي الحرص على الحفاظ عليه.(245/2)
أما الصلة الوثقى فقد كانت في رحاب هذا المجمع، صرح العربية الشامخ، فها هنا كان لقائي الأسبوعي، ما دمتُ ثاويًا في القاهرة، مع كوكبة من العلماء الأعلام الذين شرفتُ بالانضمام إليهم في لجنة علوم الأحياء والزراعة: خبيرًا منذ عام 1977م، ثم عضوًا عام 1992م. وكانت الحلبة عامرة بالفرسان، فقد كان فيها: الأستاذ الدكتور حامد عبد الفتاح جوهر، عالِم عالَم البحار وأحيائها، والأستاذ الدكتور عبد الحليم منتصر، عالِم النبات وجناته، ثم عمدةُ اللجنة وحجتها الثبتُ في الفقاريات والتشريح المقارن، فقيدنا الأستاذ الدكتور محمد رشاد الطوبي، الذي كان له الفضل في مدِّ اللجنة بعدد جمٍّ من المصطلحات الدقيقة الصك والتعريف، كانت بين ما تضمنه معجم "البيولوجيا"، الذي أصدر المجمع جزءه الأول عام 1984م وجزءه الثاني عام 1988م، ومضى الثلاثة إلى رحمة الله ورضوانه، وظل ملاذُنا وعزاؤنا في أستاذنا الجليل الدكتور محمود حافظ، ربّان اللجنة المحنَّك منذ نشرت أشرعتها، مدَّ الله في عمره وأمدَّه بحبلٍ من عونه.
الحُضورُ الكرامُ:
لقد انسقت مع خواطري عبر لمحات من شريط ذكرياتي مع الأستاذ الدكتور الطوبي، ولكن يبدو أنه يحسن بي أن أثوبَ الآنَ إلى ما كان ينبغي عليَّ ذكرُه من سيرته الطيبة. ولد – رحمه الله – في طنطا في منتصف أغسطس عام 1909م، وكان تعليمه العام كله في القاهرة، ثم أَتَمَّ دراسته الجامعية بتميز في كلية العلوم بالجامعة المصرية عام1932م، فعُيِّن معيدًا فيها، ثم حَصَل على درجة الماجستير عام 1936م من جامعة القاهرة، ودرجة دكتوراه الفلسفة في علم الحيوان من جامعة لندن عام1940م،وبعد عودته إلى كلية العلوم سلك في مدارج هيئة التدريس بها حتَّى عُين أستاذًا لعلم التشريح المقارن للفقاريات عام 1952م، وفي السنة نفسها اختير وكيلاً للكلية ومستشارًا لوزارة البحث العلمي.(245/3)
وفي مجال تخصصه الدقيق نشر الأستاذ الدكتور الطوبي – مستقلاًّ أو مشتركًا مع بعض تلاميذه – (بين عامي 1938م و 1989م) نيِّفًا وأربعين بحثًا في أمهات الدوريات العلمية العالمية، تناول معظمُها دراسات تشريحية أو جنينية لهياكل عدد كبير ومتنوع من الأسماك والعظايا والثعابين المصرية، وجماجمها على الأخص، كانت موضع التقدير العالمي بين العارفين، وأشادت بها المراجع العالمية المختصة، وفي المؤتمر العالمي الأول لعلم الزواحف، الذي عقد في مدينة كانتربرى عام 1989م، كُرِّم الأستاذ الطوبي بين العشرة الأوائل في هذا العلم.(245/4)
وهكذا أقام الأستاذ الرائد دعائم أول مدرسة علمية للتشريح المقارن في مصر، وقاد مجموعة من الباحثين من طلاب درجتي الماجستير والدكتوراه، الذين أصبحوا –بدورهم- أساتذة لعلمي التشريح المقارن والنمو الجنينيّ، تعتز بهم الجامعات العربية، وقد امتد النشاط الأكاديمي الجامعي للأستاذ الدكتور محمد رشاد الطوبي إلى خارج مصر، فقد استعارته كلية العلوم بجامعة الرياض لإنشاء قسم علم الحيوان بها عام 1958م، ثم استقدمته ليعود رئيسًا لذلك القسم بين عامي 1969م و 1973؛ كما أنه أعير إلى جامعة طرابلس بليبيا عام 1968م. أما الوجه المضيء الآخر من حياة الأستاذ الدكتور محمد رشاد الطوبي، فهو جهوده المتواصلة في تعريب لغة العلوم ونشر الثقافة العلمية، وقد ألممتُ بأطراف منها وأنا أستعرض ذكرياتي معه. فبعد تخرجه بسنوات قلائل اختير سكرتيرًا لتحرير مجلة "رسالة العلم" التي كانت تصدرها جمعية خريجي كليات العلوم، ثم دأب – رحمه الله – على نشر مقالات باللغة العربية في شتى جوانب المعارف البيولوجية في تلك الدورية الرائدة وفي مجلات المقتطف والهلال والمختار، ومجلة العلم، ومجلة الدوحة التي كانت تصدر في قطر، ومجلة العربي التي تصدر في الكويت، ومجلة الجيل التي تصدر في باريس. وكلها يشدُّ القارئ بعناوينه المعبرة ويستهويه بأسلوبه الجذاب، ولكن القائمة جدُّ طويلة.(245/5)
وفي عامي 1964م و 1965م نشر ثلاثة كتب في :"المكتبة الثقافية" التي كانت تصدرها وزارة الثقافة والإرشاد القومي، ثم نشر بين عامي 1946م و 1993م عشرة كتب في سلسلة "اقرأ" التي تصدرها دار المعارف بالقاهرة، ازدانت عناوين خمسة منها بآيات قرآنية: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون"(الذاريات:21)، "وجعلنا من الماء كلَّ شيء حي" (الأنبياء: 30)، و"خلق الإنسان من علق" (سورة العلق: 2) و"بَثَّ فيها من كل دابة (البقرة: 164)، و "فمنهم من يمشي على بطنه" (النور: 45)، وكلها دلالات واضحة على ما حوته هذه الكتب المبسطة من علم وإيمان ويُحتسب للأستاذ الطوبي أيضًا عدد من الأحاديث المذاعة من القاهرة ومن لندن، وعدد من الكتب العلمية المترجمة وأخرى حظيت بمراجعة ترجمتها، نُشرت في سلسلة "الألف كتاب" والمجموعة التي كانت تصدرها مؤسسة فرانكلين. وإلى جوار هذا الإنتاج الضخم في الثقافة العلمية شارك الأستاذ الطوبي في كتاب جامعي رصين عن "علم الحيوان العام" باللغة العربية، وآخر في "أساسيات علم الحيوان" باللغة الإنجليزية، نشرتهما مكتبة الأنجلو المصرية.
وكان للأستاذ الطوبي دور بارز في المجتمع العلمي المصري، لَمَعَتْ بعض جوانبه فيما تقدَّم، ولكننا نذكر أيضًا أنه كان عضوًا في المجمع العلمي المصري، والمجمع المصري للثقافة العلمية، ونقابة المهن العلمية والجمعية المصرية لعلم الحيوان، والمجلس التنفيذي للثقاة العلمية ولجنة الكتب والموسوعات العلمية بأكاديمية البحث العلمي، واللجنة القومية للعلوم البيولوجية، كما تقدم؛ كما أنه كان مثلاً مشرِّفًا لمصر في المحافل العلمية الإقليمية والدولية.(245/6)
أما جهوده البارزة في اللغة العربية العلمية، فقد تجلَّتْ – كما تقدم – في عمله خبيرًا في لجنة علوم الأحياء والزراعة، ثم في انتخابه عضوًا عاملاً في مجمع اللغة العربية عام 1989م، حين أحسن استقباله باسم المجمع أستاذنا الدكتور حامد عبد الفتاح جوهر. وقد أوجز الدكتور الطوبي – رحمه الله – عرض جهوده في خدمة التعريب، في بحث ألقاه عام 1990م، ممثلاً للمجمع في "المؤتمر الأول للكتابة العلمية باللغة العربية" في مدينة بني غازي بليبيا، بعنوان "تجربتي مع الكتابة العلمية باللغة العربية على مدى خمسين عامًا"، ثم في "حديث عن تعريب التعليم الجامعي"، ألقاه في المؤتمر السنوي للمجمع، في دورته الثامنة والخمسين في يناير عام 1992م، ونُشر في العام التالي في العدد الثالث والسبعين من مجلة المجمع (نوفمبر 1973م: ص 41 – 47).
وهذا كله، بل بعضُه، جدير بكل تقدير، ولقد شهد عام 1989م (عندما بلغ عالمنا الجليل الثمانين) ثلاثة مظاهر لهذا التكريم الرسمي، فقد حاز أستاذنا جائزة الدولة التقديرية في العلوم الأساسية، وأدرج في "الموسوعة القومية للشخصيات المصرية البارزة" التي تصدرها وزارة الإعلام، وكُرِّم في المؤتمر العالمي لعلم الزواحف، كما ذكرت.
وظل المجمعي المتفاني يتحامل على نفسه ليحضر بعض جلسات لجنة علوم الأحياء والزراعة والمجلس الأسبوعي للمجمع، حتى أقعده الضعف والمرض، ثم استوفى أجله، فرجعت نفسه إلى بارئها راضية مرضية في يوم الاثنين، الرابع من شهر مارس الماضي عام 2002م.
تغمد الله فقيدنا الكريم بواسع رحمته، وكتب أعماله الصالحة في ميزان حسناته وسوف تبقى ذكراه الطيبة عاطرة ناضرة ما بقيت مآثره الحميدة، وانتفع بعلمه المنتفعون، وتواصلت جهود تلاميذه، ورُفعت دعواتُ آله ومحبيه.
وإني لأتقدم، باسم المجمع الموقر وباسمي، بخالص العزاء إلى أسرة فقيدنا الكريم، وزملائه،(245/7)
وتلاميذه وعارفي فضله. وجزاه الله عن العلم واللغة العربية خير الجزاء. وأتمثل للجميع بقول حافظ إبراهيم:
أَلْهَمَ اللهُ فيكَ صبرًا جميلاً
... كلَّ من باتَ ناطِقًا بالضاد
شكر الله لكم… والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد الحافظ حلمي محمد
عضو المجمع(245/8)
ثانيًا - كلمة المجمع فى تأبين الراحل الفقيد
للأستاذ الدكتور محمد عماد فضلي
عضو المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الأستاذ الدكتور رئيس المجمع:
السادة الفضلاء أعضاء المجمع:
حضرات السادة والسيدات:
السلام عليكم ورحمة الله:
الحمد لله الذي يحمد على كل حال، نحمده على أن بعث فينا رسولاً يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة، بعثه ليتمم مكارم الأخلاق، فكان خلقه القرآن، وبذلك كان لنا فيه الأسوة الحسنة التي نحرص على اتباعها ليستقيم أمر ديننا ودنيانا، وكان علينا دائمًا أن نبحث فيمن حولنا عمن يحقق لنا أسوة حسنة تقربنا من الأسوة النبوية، فكان من رحمة الله بنا أن هيأ لنا هذا في آبائنا وأساتذتنا، وكان من فضل الله علىَّ أن أجد هذه الأسوة في فقيدنا الذي نؤبنه اليوم الأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم رحمه الله.
في أثناء دراستي الثانوية كنت على بينة لا بأس بها بأستاذية الدكتور علي إبراهيم بحيث أصبت بشيء من الحزن والإحباط يوم قرأت نعيه سنة 1947م وأنا طالب في التوجيهية، وأسفت لأنه لن تكون لدي فرصة للاستفادة من هذا الصَّرح الطبي إذ كنت أنتوي أن أتجه إلى دراسة الطب.(246/1)
ومرت الأيام وجاءني خطاب يدعوني لألتحق بمجمع اللغة العربية خبيرًا في لجنة المصطلحات الطبية، وإذا بي أجد نفسي في جو علمي وحضاري يقربني من أساتذتي الذين أجلهم، وكان على رأسهم الأستاذ الدكتور أحمد عمار رحمه الله، كما كان من بينهم الدكتور حسن إبراهيم ابن العملاق على إبراهيم، ولم يكد يمر بي وقت قصير في عضوية هذه اللجنة حتى تأكدت من أن ما كنت أصبو إليه من التعامل مع الأسوة العلمية والخلقية التي تهديني إلى الخير قد توافر لي بهذه العضوية، فأما الدكتور عمار فقد كان أستاذًا بكلية الطب وعملت تحت إشرافه طبيب امتياز، فكانت عضويتي باللجنة تأكيدًا لما لمسته منه من قبل، فقد كان لي أسوة حسنة. أما الدكتور حسن إبراهيم فلم أكن قد التقيت به من قبل كما أنى لم أكن طالبًا تحت إشرافه في أي وقت سابق، ولذا كان اقترابي منه في لجنة المصطلحات الطبية مصدرًا لإشعاع جديد يبين لي كيف يكون العالِم المتمكن والمعترَف بفضله العلمي في مصر وفي خارج مصر له مثل هذه الشخصية المتواضعة الحانية على من يرعاهم علميًّا وأدبيًّا.
ونجد مظاهر تواضعه واضحة في كلمته التي قدم لنفسه بها عند انتخابه عضوًا في المجمع، فيقول إنه شعر برهبة؛ إذ كيف يجلس بين أهل الفضل والعلم الذين يعرفون من أسرار اللغة ما لا يعرف، ويتسع علمهم الفياض دون آفاقه بكثير، وبهذه المناسبة أذكر تعليق الدكتور مدكور مرارًا أثناء مناقشة المصطلحات الطبية: "أطباؤنا أدباء وشعراء"، ويرد الدكتور حسن قائلاً: إنه سيكون دارسًا مستفيدًا، وإنه إن كان له جهد فإنه لن يتجاوز جهد المقل.(246/2)
وفي هذه الكلمة يتكلم عن الدكتور أحمد زكي الذي حل محله في المجمع فلا يكتفي باعترافه أن هناك بونًا شاسعًا بينهما، بل يصف تجربة شخصية مرت به في السنة الإعدادية حيث كان يحضر محاضرات الدكتور زكي في الكيمياء العضوية، فيقول إن هذه المحاضرات جعلت عسر الكيمياء العضوية مادة محبوبة مستساغة، وكان يقارن بين الدكتور أحمد زكي وبين رئيس القسم الأجنبي فيتعجب من كون هذا الرئيس العيى رئيسًا لهذا المارد المصري كما ذكر في هذه المقالة أنه نجح في إجراء عملية في القلب أثناء عمله في القوات المسلحة مما جعله يمارس جراحة القلب لمدة من الزمن إلى أن وصل جراحون شبان تخصصوا في هذا الفرع، فيقول إنه توقف عن جراحة القلب لأن تلاميذه الشبان كانوا خيرًا منه.
كانت مناقشاتنا في اللجنة الطبية ثرية بما تمدنا من علم وقيم خلقية ووطنية، وبما تمدنا به من التذوق الأدبي؛ فقد كان الدكتور حسن أحيانًا يمن علينا بشعره المبكر في شبابه لكي يخفف عنا الجهد المطلوب للتوصل إلى المصطلحات، ومن هذه الأمثلة الشبابية ما ذكره الدكتور أحمد عمار في تقديمه للدكتور حسن إبراهيم للمجمع وأذكر منها مثالين:
أولهما يقول:
تركت فؤادي رهينًا إليك
وودعت حبي كأن لن أعود
وصرت أجوب بجسمي البلاد
ولكن قلبي عنى بعيد
وثانيهما :
هويتها وهى بنت العشر مندفعًا
ثم افترقنا مع الأيام غلمانا
حتى التقينا ولكن بعد مرحلة
من الزمان بدار الأهل شبانا
بحيث اقترحت يومًا على الدكتور مدكور ألا نكتفي بما نتوصل إليه من مصطلحات تدون في المعاجم، بل علينا أن نسجل ما يدور في اللجنة من مناقشات ثرية وعميقة.(246/3)
أما في عمل المجمع فقد امتاز الدكتور حسن إبراهيم بجديته إلى أقصى مدى، فقد كان مثابرًا ومنتظمًا في الحضور حتى في أيام مرضه الأخيرة وكنا نشفق عليه مما يتحمله من إجهاد ولكن كنا نسعد بلقائه وإرشاداته في العمل. وقد كان مصممًا على الالتزام بالترجمة والبعد عن التعريب ومن أمثلة ذلك ما أصر عليه من وضع لفظ "الجزرين" بجانب لفظ "الكاروتين". وكان يراعي في اختيار اللفظ المترجم أن يكون ذا جرس محبب للأذن وقريبًا من الألفاظ المستخدمة فعلا، إذ إنه كان يجد في ذلك ما يجعل اللفظ سهل التداول مرشحًا للبقاء، وعلى هذا الأساس كنا نقبل أو نرفض ما سبق اتخاذه من ألفاظ في مجامع أخرى، وقد كان يدافع عن هذه الألفاظ في لقاءات المؤتمرات، ومن ذلك تمسكنا بمصطلح "الأيض" بدلاً من "الاستقلاب". وكنا بعد وضع الجملة التي تفسر المصطلح نعيد قراءتها مرارًا حتى نصل بها إلى صبغة عربية مناسبة وصحيحة. فإذا اخترنا لفظًا سبق استخدامه في التراث، أثبتنا بجانبه المصدر الذي استقيناه منه. وهكذا كان العمل في لجنة المصطلحات الطبية يجمع بين العلم والأدب والتذوق العربي. وقد كان يحرص على أن يلم تمامًا بكل الألفاظ قبل عرضها على مجلس المجمع أو مؤتمراته بحيث يكون قادرًا على توضيحها والدفاع عنها إذا لزم الأمر.(246/4)
وكان يأتي دائما وبيده دفتر الإيصالات الطبية حتى لا ينسى إثبات أي مبلغ يصله كما كان يقول، مع أنه كان يكتفي بمبلغ خمسة جنيهات نظير الكشف على المريض حتى نهاية ممارسته الطبية. أما إكرامه للعاملين بالمجمع فكان لا ينسى مناسبة أو عيدًا إلا ويغرق العاملين جميعًا بكرمه ولا يقتصر على من يعمل معنا في لجنة الطب، مع إرفاق هذا العطاء بكلمات طيبة تبين مدى تقديره للإنسان، وقد لمسنا مدى تقديره للمشاعر الإنسانية في فترات حزمه التي مرت به بعد وفاة نجله والسيدة حرمه، فطالما كنا نجده يسترجع هذه المشاعر المضيئة وننصت له بعض الوقت قبل أن نحاول تغيير الحديث إلا أنه كان يسبقنا بالانتقال السلس إلى جو العمل الجاد.
ولد الدكتور حسن علي إبراهيم بالقاهرة عام 1914م، وتخرج في كلية طب قصر العيني سنة 1937م وكان ترتيبه الأول ثم أتبع مراحل الممارسة الطبية الجامعية فحصل على ماجستير الجراحة 1941م وهي تعادل الدكتوراه الآن، واستمر في ممارسته الجامعية إلى أن أصبح رئيسًا لقسم الجراحة عام 1971م ثم عميدًا لكلية الطب في العام نفسه وحتى بلغ السن القانونية. ولم يقتصر نشاط الدكتور حسن الجراحي على كلية قصر العيني الذي أنشأ فيها قسم الجراحة التجريبية، بل أشرف على إنشاء قسمي الجراحة في جامعتي أسيوط والمنصورة، وعمل أستاذًا زائرًا في فيينا وباريس ولوس أنجلوس، وشهد العديد من مؤتمرات الجراحة وأشرف على العديد من رسائل دكتوراه الجراحة.(246/5)
وكان عضوًا في عدد من الجمعيات الطبية مثل جمعية الجراحة الدولية ببروكسل، والجمعية الطبية المصرية، وجمعية الجراحين المصرية، وجمعية الإسعاف الأهلية، وجمعية الهلال الأحمر المصري، والجمعية الخيرية الإسلامية، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية لسنة 1988م وانتخب عضوًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1978م. وبلغت أبحاثه الطبية المنشورة ما يزيد على خمسين بحثًا إلى جانب ما ألقى من محاضرات في المؤتمرات والجامعات المختلفة. ومثل هذا السجل الجدير بالفخر لم يكن يذكره الدكتور حسن في حديثه معنا ولم يكن يذكر المناصب التي تولاها ولا المراكز العلمية التي تبوأها، وكان إذا ذكر سنوات عمادته لكلية طب قصر العيني، فإنه كان يفعل ذلك ليشيد ببعض أعضاء هيئة التدريس، فيقول: وهذا يذكرني أقوال الأستاذ الدكتور عماد بأن السنوات التي قضاها عميدًا لكلية طب عين شمس كان يعتبرها وقتًا ضائعًا بالنسبة له، فاهتماماته العلمية والثقافية كانت تتجاوز مطالب هذا المنصب.
ونجد الدليل على هذا في اعتزاز الدكتور حسن إبراهيم بشعره الذي بدأه بعد زيارته للرسول عليه الصلاة والسلام وحيث كان مقصورًا على السيرة النبوية، وقد جمعه في ديوان. ومن بين قصائده قصيدتان عارض فيهما ميميتي شوقي والبوصيري بدأها بقوله:
ما ذبت شوقًا لجيران بذي سَلَم
ولا أرقت لذكر البان والعلم وما أبحت لريم القاع سفك دمى
في الأشهر الحل أو في الأشهر الحرم
وفي قصيدته النبوية الثانية وعنوانها "وقفة أمام قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -"، يقول:
مشيت وفي قلبي وجيب ورهبة
إلى خير قبر ضم خير رفات
وحولي من الأقوام حشد ميمم
إلى حيث يثوي منبع البركات
وفي قصيدة ثالثة أسماها"الروح" يقول:
إذا جلى النهار شمس الضحى
وسال نضارها في الخافقين وزينت السماء بقرط ماس
بكل نجومها والفرقدين فسبح باسم فاطرها جميعا(246/6)
وخالق لبنا والأصغرين لا يستطيع أحد أن يعرف مدى عظمة الدكتور حسن إبراهيم على حقيقتها إلا من تعايش معه في علاقة حميمة تمكنه من إدراك أبعاد هذه الشخصية الثرية الجادة الرحيمة والمتواضعة.
رحم الله فقيدنا وعوضنا عنه خيرًا
محمد عماد فضلي
عضو المجمع(246/7)
تأثير الثقافة العربية في الثقافة الغربية الحديثة
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف(*)
ورثت الثقافة العربية في القرون الإسلامية الأولى الثقافات العالمية الهندية والفارسية واليونانية، وابتدأ ميراثها للثقافة الهندية الرياضية في زمن مبكر؛ إذ أخذت عنها أرقام العدد، وأضافت إليها الصفر وكان لذلك أثره البعيد في نظام العدد العالمي إذ عُرفت فيه العشرات والمئات والآلاف ، ونقل الغرب النظام العربي للعدد عن الأندلس؛ إذ نزل بها جربرت الذي تقلد البابوية باسم سيلفستر الثاني في القرن العاشر الميلادي وعرف نظام الأرقام العربية الإسبانية ونقله إلى الغرب وأدخله في مدارسه. ونقل الغرب النظام العربي للعدد، وشاع في كل بلدانه، ودفعهم إلى إنشاء بنوكهم وأسواقهم المالية، ولولا العرب وما أخذه الغرب من أرقامهم ما كانت بنوك ولا أسواق مالية في العالم إلى اليوم.
وقدم وفد هندي في خلافة المنصور العباسي في منتصف القرن الثاني الهجري وفيه رجل ماهر في معرفة حركات الكواكب وحسابها وسائر أعمالها على مذهب كتاب هندي لهم يسمى جزؤه الأخير "سيدهانت" فأمر المنصور بنقل الكتاب إلى اللغة العربية، ليتخذه العرب أصلاً في حساب حركات الكواكب وظل العرب يعملون به إلى أيام المأمون؛ إذ نُقل إليهم كتاب بطليموس في الحساب والجداول الفلكية المسمى المجسطي فعملوا به. وأمر المنصور بنقل كتب أرسطو إلى العربية ونقل كتاب الأصول لإقليدس وهو في الأشكال الهندسية أمهاتها ومركباتها.
ومنذ هذا التاريخ أكبَّ العرب على ترجمة الثقافة اليونانية وجميع ما تحمله من علوم وفلسفة.وأسس المأمون
دار الحكمة ووظف بها طائفة كبيرة من المترجمين وخاصة لكتب الثقافة اليونانية وجُلبت كتب كثيرة من بلاد الروم وعمورية وأنقرة.(247/1)
وتبلغ هذه الموجة الحادة للترجمة أقصى غاياتها في عهد المأمون وعرف أن في جزيرة قبرص مكتبة تحتفظ بنفائس الكتب الفلسفية والعلمية اليونانية. فالتمس من حاكم قبرص أن يرسلها إليه، فأرسلها، وعهد المأمون إلى طائفة كبيرة من المترجمين فنقلوها إليه .. واستأذن ملك بيزنطة في أن يرسل إليه وفدًا من كبار المترجمين ليحملوا إلى بغداد روائع الكتب اليونانية، وأجابه إلى ذلك. وأقام المأمون مرصدًا كبيرًا لعلم الفلك وزيجاته، فازدهر هذا العلم الهندي لعهده، وكان من القائمين عليه محمد بن موسى الخوارزمي واضع علم الجبر الذي يفتتح به في بغداد عصرًا جديدًا في الرياضيات، وعُني علماء العرب حينئذٍ بعلم الكيمياء واستعانوا فيه بالترجمة عن اليونانية، وظلوا يزدادون فيه علمًا حتى نبغ فيه جابر ابن حيان ، فخلف فيه كثيرًا من النظريات في الإكسير وخواصه، وهو المؤسس الأول لعلم الكيمياء عند العرب. وكان يوحنا بن ماسويه يعكف على تشريح القردة. ويعد المؤسس للأبحاث الطبية عند العرب، وكانوا قد أكبوا على ترجمة ما لأبقراط وجالينوس من بحوث طبية ونقلوها إلى العربية.
ونمضي بعد المأمون فنجد الخلفاء يغدقون على المترجمين من اليونانية إغداقًا كبيرًا ويكفي أن نذكر ما أغدقه المتوكل على حنين بن إسحق كبير المترجمين من اليونانية حتى سنة 264 للهجرة، وقد أهداه ثلاث دور وحمل إليها كل ما تحتاجه من الأثاث والفرش وأقطعه بعض الإقطاعات، وجعل له راتبًا شهريًّا خمسة عشر ألف درهم.
ووراء الخلفاء أثرياء كانوا يعدون أنفسهم حماة للترجمة والمترجمين وينفقون عليهم أموالاً طائلة مثل ثلاثة أخوة من بني شاكر، وكان اثنان منهم يشغفان بالهندسة وكتبها ويشغف الثالث بعلم الحيل (الميكانيكا).
وكوَّن حنين بن إسحق مدرسة كبيرة للترجمة كان من تلاميذها ابنه اسحق وابن أخته حبيش وغيرهما.(247/2)
ويذكر لحنين أنه ترجم من اليونانية نحو مئة كتاب ورسالة، وكان يعنى أشد العناية بالكتب الطبية اليونانية لجالينوس وغيره ، وكان مثله ابنه، بينما كان ابن أخته حبيش يعنى بترجمة الكتب الفلسفية لأرسطو وغيره. وجعل المتوكل لحنين طائفة من شباب المترجمين يكتبون بين يديه، ويمرنهم على إتقان الترجمة الدقيقة، ومنهم أصطفن بن باسيل اليوناني الأصل مترجم كتاب ديسقوريدس في النبات والصيدلة لزمن المتوكل.
وتكاثر المترجمون في القرن الثالث الهجري = التاسع الميلادي عن اليونانية كثرة مفرطة، وأكبوا على المأثورات الإغريقية العلمية والفلسفية ينقلونها إلى العربية وكادوا لا يبقون كتابًا لليونان بدون ترجمة أو بدون شرح أو تلخيص حتى ليظن أن جميع كتب اليونان المهمة ترجمت إلى العربية في القرنين الثاني والثالث للهجرة.
ومن يرجع إلى كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة تهوله الكثرة الغامرة مما ترجم من عشرات الكتب والرسائل اليونانية.
ولما أوشكوا على الانتهاء من نقل التراث اليوناني العلمي والفلسفي أخذوا يراجعون نقل أسلافهم له ، وما وجدوه يستحق المراجعة وإعادة النقل أعادوه ، وهذا هو السر في أننا نجد بعض الكتب يذكر لها أكثر من مترجم ، حتى عند بعض المترجمين الكبار لدى الأسلاف مثل ثابت بن قرة المتوفى سنة 288 للهجرة، فقد نقح ترجمة كتاب أرسطو في النبات من عمل إسحاق بن حنين ، ونقَّح نقله لكتاب أصول إقليدس في الأشكال الهندسية، ويقول ألدومييلى صاحب كتاب العلم عند العرب : "إن هذا التنقيح يصلح الأصل اليوناني في غير موضع". ونلتقي بعده مباشرة بخاتمة هذا العصر من المترجمين: متَّى بن يونس، وكان من أصل يوناني ونقَّح جميع الكتب المنسوبة إلى أرسطو في المنطق وغيره.(247/3)
وبذلك ينتهي عصر نقل التراث اليوناني العلمي والفلسفي المزدهر إلى الثقافة العربية،بحيث أصبح جزءًا لا يتجزأ منها، وبحيث يتم العرب ما كان له من ازدهار في ديارها إذ كان قد أخذ منذ القرن الثالث الميلادي في الانهيار والتدهور ولم يعد شيء منه معروفاً إلا في ركن منعزل في أوربا ببيزنطة وفي مصر بالإسكندرية، وكان يعاني فيهما مما أصابه من التدهور الشديد،أما في أوربا فقد كانت الثقافة اليونانية مجهولة جهلاً تامًّا،فلم يكن يعرفها الإيطاليون والفرنسيون والإنجليز والألمان ولا أحد من أوربا الغربية والشرقية مما وراء بيزنطة يعرفها، إنما يعرفون فقط ما يستمعون إليه من التعاليم الدينية المسيحية على لسان الرهبان والأساقفة، وما قد يقرؤونه عندهم من كتب الإيمان المسيحي وحياة القديسين، وليس لهم أي صلة بالثقافة اليونانية وعلومها وفلسفتها التي بلغت غاية الازدهار عند أرسطو، بينما كان العرب ينقلون إلى ثقافتهم في القرنين الثامن والتاسع للميلاد الثقافة اليونانية، بكل أصولها وفلسفتها وعلومها، وهو أول فضل للعرب على الغرب المسيحي واحتفاظهم له بالثقافة اليونانية وأضافوا إلى هذا الفضل فضلاً ثانيًا بما زودوا الفلسفة اليونانية والعلم اليوناني به من زاد وَفْرٍ في النمو والتطور مما يعد معجزة للعرب بجانب المعجزة اليونانية، وانتفع الغرب عن طريق المعجزتين، فبنى عليهما ثقافته وحضارته الحديثة.
ونقف أولاً عند الفلسفة ، فقد احتفظ لها أصحابها باسمها اليوناني، وهو الفلسفة، وأضافوا إليه صفة عربية تميزه، هي الإسلامية، لأنها تمزج بين الفلسفة والإسلام.(247/4)
وأول فلاسفة العرب الكندي يعقوب بن إسحاق وهو عربي أصيل من قبيلة كندة ، وعاش في القرن الثالث حتى أواخر العقد السادس. وله كتب ورسائل تعد بالعشرات، وتبلغ في كتاب الفهرست لابن النديم نحو مئتين وأربعين ، وتتناول الإلهيات والعلوم الرياضية والهندسية والفلكية والجغرافية والطبيعية والمنطق. وهو أول فيلسوف إسلامي وفق بين الفلسفة والإسلام وله في إثبات النبوة كتاب. وكان يرى أن العالم محدث مخالفًا بذلك أرسطو القائل إنه قديم ، وأهم نظرية فلسفية له نظريته في أن العقل مصدر المعارف وتقسيمه إلى عقل فاعل هو الله جل جلاله، وعقل بالقوة في داخل الإنسان، وعقل بالملكة هو عقل الإنسان بعد حصول المعلومات فيه، وعقل مبين يؤدي للغير معقولاته.
ويقول ألدومييلي إن دى كريمونا الإيطالي كبير المترجمين في إسبانيا بالقرن الثاني عشر ترجم للكندي كثيرًا من كتبه ، وإن لها تأثيرًا عميقًا في الشعوب اللاتينية الأوربية.(247/5)
ونلتقي بعد الكندي بفيلسوف إسلامي كبير هو الفارابي المولود في فاراب من بلاد الترك وراء خراسان ويقال إنه فارسي، وتلقى في نشأته علوم الأوائل. وشغف بها في بغداد، وأكبَّ على كتبها واستوعبها، وأخذ يحاضر فيها عن فهم دقيق وبصيرة، وعُنى بشرح كتب أرسطو في علم المنطق وغيره وقارن بين الفلسفة والإسلام وذهب إلى أن كل موجود إما واجب الوجود وإما ممكن، والله وحده هو واجب الوجود وما عداه ممكن الوجود ، ولا جنس له ولا تركيب فيه ولا يمكن حدّه إذ لا يتحيز في مكان. ونوَّه بالعقل طويلاً، وقال إن الله فيض عنه منذ الأزل مثاله وهو العقل الأول الذي يفيض عنه الفلك. ولروعة أعماله سماه معاصروه المعلم الثاني بعد أرسطو. ومن كتبه البديعة فصوص الحكم، ولخص في أوراق منه فلسفته واتخذه ماكس هورتن موضوع دراسة ضخمة، وعني بوضع موسوعة للعلوم في عصره سماها "إحصاء العلوم" ترجمها إلى اللاتينية ديتريشي ودي كريمونا الذى ترجم له رسالته في المدينة الفاضلة وفيها يحاول وضع نظام دولة مثالية. وللدكتور إبراهيم مدكور عنه دراسة قيمة، وكانت وفاته سنة 339 للهجرة.
وجاء بعده الفيلسوف الإسلامي العظيم ابن سينا المولود بالقرب من بخارى سنة370 هـ / 980 م والمتوفى بهمذان سنة 428 هـ.
أكبَّ في فواتح حياته على إيساغوجي وإقليدس في الهندسة والمجسطي في الفلك ، واستغلقت عليه الإلهيات حتى قرأ فيها كتابًا للفارابي فاتضحت له. وتمتزج الفلسفة عنده بالروح الإسلامية، ولقب بالشيخ الرئيس. وينحو في فلسفته نحو الفارابي.
ويتفق معه في الإلهيات وتفاريع علم المنطق، وكان يرى – مثله – أن المادة لا تصدر عن الله ، لأنه منزه عن كل مادة وجسم. وكان يرى أن الله لا يصدر عنه إلا عقل واحد، وعن هذا العقل يصدر عقل يدير الفلك. وخطا بفلسفته الإسلامية خطوة نحو التصوف.(247/6)
وأهم كتب ابن سينا الفلسفية كتاب"الشفاء"وهو دائرة معارف كبرى في المنطق والطبيعيات والميتافيزيقا أو الإلهيات، ويذكر ألدومييلي ترجمة له. وترجمت أقسام منه إلى اللاتينية في العصور الوسطى. وبالمثل عنوا بترجمة كتاب "النجاة" ودراسته،وهو تلخيص كامل لكتابه"الشفاء"، وأيضا بكتابه الإشارات والتنبيهات وترجم إلى الفرنسية سنة 1892م. ومما شغل به الغربيون من كتبه كتابه في الرمد باسم "علاج العين". ولم يكن ابن سينا فيلسوفًا إسلاميًّا فقط، بل كان أيضًا طبيبًا عظيمًا، ومعجمه فيه الذي سماه "القانون" شاعت طبعاته في المدن الغربية شيوعًا كبيرًا حتى ليقال إنه طبع بالغرب في القرن الخامس عشر ست عشرة طبعة، وطبع في القرن السادس عشر عشرين طبعة. وأول مترجميه دي كريمونا في القرن الثاني عشر، وتشغل ترجمته ومؤلفاته وترجماتها عند ألدومييلي ثلاث عشرة صفحة.
ونضم إلى الفلاسفة الإسلاميين الثلاثة السابقين فيلسوف الأندلس في إسبانيا "ابن رشد" أهم فلاسفتها ، وقد وضع شروحًا مطولة ومتوسطة وموجزة لكثير من مؤلفات أرسطو.
وكل شروحه ترجمت إلى اللاتينية، وترجم إليها أيضًا كتابه "تهافت التهافت" الذي يرد فيه على كتاب الغزالي "تهافت الفلاسفة" مدافعًا بحرارة عن الفلسفة وأرسطو، كما ترجم كتابه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، ويريد بالحكمة الفلسفة، ومن قوله فيه:"الحكمة أي الفلسفة صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة، وهما مصطحبتان بالطبع ومتحابتان بالجوهر والغريزة. والفلسفة تخاطب الخاصة والدين يخاطب العامة".(247/7)
وحاول أن يوفق بين أرسطو وعلماء الإسلام بالقول بقدم العالم وحدوثه، فقال إن قدمه بالقوة وحدوثه بالفعل وهو قديم محدث معًا. ومنذ نقل دي كريمونا الإيطالى وميشيل سكوت الإنجليزي ( 1235 م ) وهرمان الألماني ( 1272م ) أعماله أخذت تدرس في الجامعات الأوربية بإسبانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإنجلترا وانتشرت أفكاره الرشدية على الرغم من مقاومة رهبان الدومينيكان. ولفلسفته وتعاليمه أنصار كثيرون وكان لأفكاره أثر كبير في قيام حركة التحرير والإصلاح الديني في النهضة الأوربية، وهو يعد بحق خاتمة الفلاسفة الإسلاميين العظام.
وقد جعل ألفونس السابع ( 1126 – 1157م ) طليطلة في إسبانيا المركز الذي تنتشر منه الثقافة العربية في أنحاء إسبانيا وأوربا، وقد دعا إلى مدينته المترجمين من أنحاء الغرب، وأدخل الثقافة العربية في مناهج المدارس المسيحية يساعده في ذلك أسقف طليطلة رايموندو، الذي حفز مدرسة المترجمين الطليطليين على نقل المؤلفات العربية في الفلك والرياضيات والطب والكيمياء والطبيعة وما وراء الطبيعة وفلسفة أرسطو وشروح الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد. وترجمت مؤلفات إقليدس وبطليموس وأبقراط وجالينوس بشروح أعلام العرب وبلغت طليطلة الذروة في عهد ألفونس الحكيم ( 1252 – 1284 ) وهرع إليها المتعطشون إلى مناهل العلم اليوناني والعربي من أمثال سكوت الإنجليزي الذي ترجم بعض كتب أرسطو وابن سينا والبطروجى وكتب ابن رشد وشروحه على أرسطو إلى اللاتينية، ومثله هرمان الألماني في كثرة الترجمة لكتب الثقافة العربية إلى اللاتينية، وقد نقل إليها كتب ابن رشد والفارابي.(247/8)
وبجانب طليطلة ومدرستها الكبيرة في ترجمة الثقافة العربية مدرسة سالرنو في جنوب إيطاليا،وقد نشأت في القرن العاشر الميلادي، وأتيح لها في القرن الحادي عشر الميلادي قسطنطين الإفريقي من قرطاجة التونسية، وكان قد ثقف العربية وعلوم الأوائل، وعرض على روجار الأول ملك صقلية ترجمة الكتب العربية فشجعه، فرجع إلى تونس واختار له أنفس ما كتبه أطباؤها، كما اختار له روائع ما كتب العرب في الفلك والرياضيات، وكان قد أصبح أسقفًا، فأسس له ديرًا في جبل كاسينو بالقرب من سالرنو، فأغرى رهبان الدير بتعلم العربية وترجمة ما حمله من الكتب العربية، واشترك معهم في الترجمة، ودُرس ما ترجموه في مدرسة سالرنو ومنها نقل إلى الجامعات الأوربية، وبذلك أصبحت مدرسة الترجمة في سالرنو مركزًا كبيرًا لنقل الثقافة العربية إلى الغرب منذ القرن الحادي عشر الميلادي.
ونقل الغرب عن العرب علوم اليونان والأمم القديمة وما أضاف العرب إليها من نظريات علمية قيمة، وأبدأ بالرياضيات وبعلم الفلك من علومها، فقد صاغ لهم الفزاري في القرن الثاني الهجري ما للهند فيه ولم يلبثوا أن نقلوا إلى لغتهم ما ذكره بطليموس الإسكندري من نظريات الفلك وتنشأ عندهم مراصده منذ عهد المأمون وزيجاته وآلاته. ومن كبار علماء الفلك في منتصف القرن الثالث الهجري ابن كثير الفرغاني. ويقول ألدومييلي إن لكتابه أصول الفلك ترجمات كثيرة إلى اللاتينية وأثر تأثيرًا محسوسًا في الغرب وله كتب متعددة في الأسطرلاب، ومن الفلكيين بعده أبو معشر البلخي المتوفى سنة 272 للهجرة وله تأثير واسع عند مسيحيي الغرب في العصور الوسطى. ومن كبار الفلكيين في المشرق بعده البتاني في أوائل القرن الرابع الهجري، وكان له مرصد على نهر الفرات وترجم زيجه إلى اللاتينية وضمنه أرصاد النيرين وإصلاحه لحركاتهما في كتاب بطليموس، ولنالينو كتاب عنه.(247/9)
وينشط علم الفلك وكل ما يتصل بالرياضيات في جميع البلاد العربية. وخير من يصور ذلك في مصر أبو كامل شجاع بن أسلم في أواخر القرن الثالث الهجري ويشتهر بتنقيحه لعلم الجبر، ويذكر ألدومييلي أن له رسالة في المضلع ذي الزوايا الخمس ترجمت إلى الإيطالية والألمانية، مما يدل على أنه كان حاذقًا في الرياضيات والهندسة. ومن كبار علماء الفلك المصريين ابن يونس، ويقول ألدومييلي : كان راصدًا للفلك عالمًا رفيع المنزلة للظواهر السماوية، وبدأ يعمل زيجًا في عهد الخليفة العزيز الفاطمي وأتمه في عهد الخليفة الحاكم، وكان كبيرًا ويشغل أربعة مجلدات ضخام ، ويدل على زيادة النشاط الرياضي بمصر والدراسات الفلكية والهندسية والفلسفية حينئذ أن عالما رأى خزانة القصر الفاطمي سنة 435هـ وكان بها في تلك الدراسات ستة آلاف وخمسمئة جزء وكرة نحاس من عمل بطليموس الإسكندري. واشتهر في عهد الأيوبيين قيصر بن أبى القاسم المتوفى سنة 649 للهجرة وكان مهندسًا كبيرًا. وأقام لأمير حماة في الشام نواعير نهر العاصي، وتنحدر إليها المياه من علو شاهق إلى اليوم، وأنشأ كرة سماوية عظيمة وهي محفوظة إلى الآن في المتحف الوطني لمدينة نابولي بإيطاليا.
ويؤلف البيروني سنة 421هـ كتابه القانون المسعودي في الفلك والتنجم، ويقال إنه يتفوق على كل كتاب فيهما. وترجم إلى اللاتينية.
ويزدهر علم الفلك في الأندلس منذ مسلمة المجريطى في أواخر القرن الرابع الهجري ، ويفتتح سلسلة الرياضيين العظام هناك وترجم إلى اللاتينية شرحه لقبة الفلك لبطليموس ورسالة له عن الأسطرلاب. ومن كبار علماء الفلك هناك الزرقالي المتوفى سنة 472هـ ، وله زيجات أو جداول فلكية، واخترع للأسطرلاب أجهزة دقيقة وابتكر في الفلك نظرية جديدة عن الكواكب السيارة والحركات الدائرية للنجوم ، وأعماله مترجمة إلى اللاتينية.(247/10)
ويشتهر بعده جابر بن أفلح الإشبيلي بكتابه في علم النجوم الذى سماه "إصلاح المجسطي" وترجمه دي كريمونا إلى اللاتينية. ويتألق اسم البطروجي في النصف الأول من القرن الثاني عشر الميلادي بكتابه في علم الهيئة الذي قوَّض فيه نظرية بطليموس في كتابه عن الكواكب السيارة ذاهبًا إلى أنها تتحرك في مدارات إهليليجية أو بيضاوية حول الشمس، وكانت نظرية بطليموس قد ظلت تنتقل قرونًا بعد قرون وجيلاً بعد جيل إلى أن هدمها البطروجي. وترجم ميشيل سكوت كتابه إلى اللاتينية سنة 614 هـ / 1217 م وبذلك أدخل نظرية البطروجي الفلكية مبكرًا إلى العالم الغربي ، وبدون شك اطلع عليها كبلر الألمانى ( 1571 – 1630 م ) وصاغ على أساسها نظريته الفلكية المشهورة في مدارات الكواكب السيارة وعُدَّ بها أبًا لعلم الفلك الحديث ، وهو ليس أباه الشرعي ، فأبوه الشرعي البطروجي الإشبيلي العربي.
ويلقانا في الهندسة الفضل بن حاتم وله شرح على كتاب الأصول في الهندسة ترجمه إلى اللاتينية دي كريمونا وله شرح على كتاب بطليموس في الفلك.(247/11)
وكما عُني الغربيون بمباحث الهندسة العربية عنوا بعلم العدد وحساب المثلثات. ومن العلوم اليونانية التي نهض بها العرب نهضة كبيرة الطب، وقد نقل العرب عن اليونان لبقراط وجالينوس كل ما ألفاه فيه من كتب ورسائل ، وازدهرت دراسة هذا العلم عند العرب ازدهارًا عظيمًا، ومن أكبر أطبائهم محمد ابن زكريا الرازي المتوفى سنة 320 للهجرة رئيس بيمارستان بغداد وأهم كتبه في الطب كتاب "الحاوي" وهو موسوعة طبية ضخمة، وتُرجم إلى اللاتينية، واستخرج منه مايرهوف 33 ملاحظة إكلينيكية مهمة وفيه وصف لكثير من الأمراض، ومن أشهر مؤلفاته رسالة في الفروق بين الجدري والحصبة، وهي بحث طبي عالمي وترجمت إلى اللاتينية واليونانية واللغات الحية. ويلي كتابه "الحاوي" في الشهرة كتاب المنصوري الذي ترجم مرارًا في العصور الوسطى وعصر النهضة، وطبع الجزء الأول منه الخاص بالتشريح طبعة فرنسية، وترجم بروند القسم الخاص بالرمد.(247/12)
وكانت مصر تعنى بالطب منذ عصر الفراعنة،وعنيت به في مدرسة الإسكندرية لعهد البطالسة، وظلت عنايتها متصلة بعد احتراق مكتبة الإسكندرية، أجيالاً بعد أجيال، ونرى عمر بن عبد العزيز حين صار خليفة يستدعي منها طبيبه ابن أبجر، ويَلْزمه، كما نرى هارون الرشيد يستدعي منها طبيبًا مشهورًا لعلاج إحدى جواريه هو بليطيان وكان بطريركًا لها في القرن الثامن الميلادي، وكانت كثرة أمراض العيون في مصر سببًا في نبوغ أطبائها في الرمد ولخلف الطولوني في القرن الثالث كتاب "النهاية والكفاية في تركيب العينين وأدويتهما"، وتألق اسم عمار بن علي طبيب العيون في عهد الخليفة الفاطمي الحاكم ، واشتهر بنجاحه في إجراء عملية ماء العين (الكاتاراكت) وابتكر لها الإبرة المجوفة التى تمتص ماء العين كما يقول ألدومييلي، وله المنتخب في علاج أمراض العين. ومن الأطباء الكبار في مصر علاء الدين أبو الحزم بن نفيس القرشي المصري في العصر المملوكي طبيب الظاهر بيبرس المتوفى سنة 687 وكان رئيسًا لأطباء مستشفى قلاوون واكتشف لأول مرة الدورة الدموية الثانية مسجلاً بذلك كشفًا طبيًّا مهمًّا. ويقول ألدومييلي: "إن سرفيتو نقله عنه في القرن السادس عشر كلمة كلمة. ومما يدل على شهرة مصر في الطب أن نجد السلطان العثماني يرسل في سنة 795 إلى السلطان برقوق المملوكي رسالة يسأله فيها أن يرسل إليه بطبيب مختص بأمراض المفاصل وأرسل إليه رئيس الأطباء ابنًا صغيرًا ومعه أدوية كثيرة لعلاجه.(247/13)
ويزدهر علم الطب في الأندلس منذ عهد عبد الرحمن الناصر في النصف الأول من القرن الرابع الهجري ، ولا يلبث هذا الازدهار أن يتوَّج بالزهراوي أبي القاسم خلف بن عباس طبيب ابنه المستنصر المتوفى سنة 404 للهجرة وهو أعظم الأطباء الجراحين من العرب ، وله موسوعة طبية في ثلاثين جزءًا سماها "التصريف لمن عجز عن التأليف" وجعلها ثلاثة أقسام : قسمًا في الطب العام والأمراض ، وقسمًا في الصيدلة، وقسمًا في الجراحة أرفق به صورًا كثيرة لآلاتها. وتُرجم جميعه وأجزاء منه إلى الغرب مرارًا، وانتشرت ترجماته في البلدان الأوربية، ويقول ألدومييلي إنه نال أسمى درجات التقدير في أنحاء أوربا، وظل يدرس في جامعاتها من القرن الحادي عشر الميلادي إلى القرن السابع عشر كما ظل الأطباء في الغرب يعدونه إمامهم في جراحة العظام وحصاة المثانة وتفتيتها وعمليات الفتق والدوالي وبذلك يعد أبًا للجراحة العالمية كما عد البطروجي أبًا لعلم الفلك وابن رشد أبًا لحركة التنوير الفكري في الغرب.
ومنذ القرن الخامس الهجري تشتهر أسرة بني زهر بأطبائها ، مثل عبد الملك الذي طبع كتابه "التيسير" في الغرب مرارًا. ويقول ألدومييلي: "يعد عبد الملك أعظم طبيب إكلينيكي عند العرب". ولابن رشد في الطب كتابه "الكليات" وفيه يعرض التشريح ووظائف الأمراض وأعراضها والأدوية وعلاجها ، وطبعاته تكررت في الغرب.(247/14)
وكما ازدهر الطب عند العرب ازدهرت الصيدلة منذ ترجمة كتاب ديسقوريدس في الحشائش والأدوية، ويشتهر كتاب فيها لسابور بن سهل في النصف الأول من القرن الثالث الهجري،وتكثر الصيادلة شرقًا وغربًا، وتشغل الصيدلة القسم الثاني من كتاب الزهراوي السالف،ويشتهر فيها بالقرن السادس الهجري كتاب الغافقي الأندلسي عن الأدوية المفردة في العقاقير وقد ترجم إلى اللاتينية. وأهم صيادلة العرب على مر العصور ابن البيطار الأندلسي الذى جعله السلطان الكامل الأيوبي رئيسًا للصيادلة بمصر، وأهم كتبه "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" وبه(330) دواء عن اليونان والعرب وزاد عليها 300 دواء، وترجم إلى الفرنسية والألمانية.
وترجم مبكرًا إلى العربية كتاب الأصول لإقليدس في الأشكال الهندسية ودفع إلى نشاط كبير في علم الهندسة. وللكندي فيه كتاب ترجمه دي كريمونا إلى اللاتينية، وله ترجمة فرنسية، ويقول ألدومييلي: "إنه أثر تأثيرًا ملحوظًا في: بيكون ووايتلو". ومن كبار الرياضيين وأهمهم أبو الوفا البوزجانى المتوفى سنة388هـ، ويقول ابن خَلِّكان: "هو أحد الأئمة المشهورين في علم الهندسة، وله فيه استخراجات عربية لم يسبق بها" ويقول فيه ألدومييلي : "شارح إقليدس وبطليموس عالم أصيل رفيع المنزلة ويقترن اسمه بتنمية حساب المثلثات والمسائل الهندسية". وأعظم المهندسين الرياضيين عند العرب الحسن بن الهيثم البصري نزيل القاهرة والمتوفى بها سنة 430هـ وقد ظل بها ثلاثين سنة ، وفيها ألف كتابه "المناظير في علم الضوء والعدسات" وفيه يذهب إلى أن الضوء ينشأ من المرئيات لا من العين ، كما كان يظن سابقوه ، ويدرس ظاهرة الانكسار الجوي والرؤية المزدوجة بالعينين ، وهو أول من استعمل الغرفة المظلمة. وتحدث ألدومييلي عن ترجماته وعمَّن تُعَدّ مؤلفاتهم مقتبسة من كتابه البصريات أو مأخوذة منه.(247/15)
وفى القرن الحادي عشر الميلادي استدعى الملك روجار الثاني ملك صقلية من غرناطة إلى بالرمو عاصمته الشريفَ الإدريسيَّ ليؤلف له كتابًا جغرافيًّا، ويقول ألدومييلي إنه من علماء العرب الذين اشتركوا في نقل كنوز العلم العربية إلى الغرب واستجاب لروجار، وظل عنده، وألف له كتابه الباهر: "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، وألحق به كرة فضية تزن ثمانمئة أوقية رسم عليها خريطة الأرض وأقاليم شعوبها المعروفة، مثبتًا عليها خطوط الطول والعرض لأول مرة في الخرائط العربية ويقوم الكتاب من الخريطة مقام الشرح والتكملة، وهما بحق كما يقول ألدومييلي عملان علميان باهران نقلا إلى الغرب كما نقلت الأعمال الباهرة السابقة لأعلام العرب في العصور الوسطى، وانتفعوا بها انتفاعًا عظيمًا.
ولعلي في هذه الكلمة الموجزة أكون قد أوضحت تأثير الثقافة العربية في الثقافة الغربية الحديثة، وما أتمت للعلم العالمي من اكتمال دوره الثاني إذ رعته ونمته صورًا
متنوعة من النمو وطورته أطوارًا شتى، انطلق الغرب بها ينشئ للعلم العالمي دوره الثالث للنهوض بالثقافة الغربية الحديثة.
والسلام عليكم ورحمة الله .
شوقي ضيف
رئيس المجمع(247/16)
واقع اللغة الأجنبية
في التبادل بيننا وبين الغرب(*)
للأستاذ الدكتور أحمد بن محمد الضبيب
لقد أحسن مجمعنا الموقر صنعًا حين جعل موضوع المؤتمر هذا العام هو: "التأثير المتبادل بين الثقافات العربية والأجنبية" فنحن في هذه الأيام أحوج ما نكون إلى دراسة علاقتنا بهذه الثقافات الأجنبية وتحديد موقفنا منها، لقد حاصرتنا الثقافة الغربية من كل جانب، وأخذت تضغط علينا من كل اتجاه، وبعيدًا عن نظرية المؤامرة فإن الصراع بين الحضارات لم يعد سرًّا بعد أن بشر به (سامويل هنتجتون)، وحسمه لصالح الليبرالية الغربية(فرانسيس فوكوياما)،وذلك من الناحية الأيديولوجية،أما من الناحية الاقتصادية فقد حسمته قواعد منظمة التجارة العالمية، وشروط صندوق النقد الدولي، وغيرهما من مؤسسات أقامها الغرب، للحفاظ على مصالحه
عن طريق الهيمنة وربط الأمم والشعوب بركابه، ثم جاءت القوة السياسية والعسكرية الضاربة كي تقسم العالم إلى قسمين لا ثالث لهما: عدو أو صديق، وتجعل الناس فريقين فريق الخير وفريق الشر، ولست أظن أن فريق الشر أو محور الشر كما سمي قد أخذ مصادفة من بلدان تمثل أهم ثقافات الشرق العظمى: الثقافة العربية الإسلامية، والثقافة الكونفوشيوسية، وهما تدخلان ضمن المحاور التي تحدث عنها (هنتجتون) في كتابه.
في ظل هذه القطع المدلهمة من السحب السوداء التي تظلل سماءنا هل يجوز لنا أن ننعزل عن العالم وأن ندير ظهورنا للمتغيرات ونجعلها تفعل بنا ما تشاء، أم نحاور هذه التيارات بالقدر الذي نستطيع، ونفيد منها بالقدر المناسب، ونراجع كثيرًا
من حساباتنا الماضية علَّنا نكتشف الأخطاء ونعمد إلى التصحيح الذي يكسبنا القوة دون أن يطيح بثوابتنا أو يمسخ وجوهنا، ويمسح ثقافتنا؟.(248/1)
لقد كانت حضارتنا الإسلامية حضارة منفتحة تثاقفت مع الحضارات الأخرى وتأثرت بها وأثرت فيها، لكن دون أن تفقد مقوماتها الأساسية أو ملامحها الخاصة. كانت حضارة واثقة من نفسها حتى في أوقات الهزيمة والانكسار، لم يتضعضع بنيانها ولم تهتز أركانها بدخول الفرس أو الترك أو التتار أو غيرهم في مجرى نهرها، وإنما احتضنتهم وحولتهم جميعًا إلى لبنات نافعة في صرحها العظيم.
هذه التجربة التي خاضتها الثقافة العربية عبر عصور الضعف السياسي والسيطرة الأجنبية ما أحرانا الآن أن نوجه إليها أنظار الدارسين، وأن نفيد من معطياتها التي مكنت هذه الأمة بثقافتها العربية من الحفاظ على الكيان دون الذوبان في خضم الأمم الأخرى.
إننا أمة لها تجارب في التثاقف مع الآخرين، وأزعم أنها تجارب ناجحة بالقدر الذي أفاد أسلافنا، ونحن الآن عندما نتثاقف مع الآخرين فإننا لا ندخل إلى هذا المجال من الأبواب الخلفية، وإنما ندخل إليه مزودين بتجارب عظيمة وغنية، ما أحوجنا إلى أن نتأملها ونرصد ما فيها من جوانب مشرقة نستضيء بها في هذا العصر.
ثم إن تجارب أمتنا – على ما فيها من غنى وثراء – لا تغني عن استقراء ما لدى الأمم الأخرى ذوات الحضارات المختلفة التي تثاقفت مع الآخر من منطلق الندية لا منطلق التبعية، وخطت لثقافاتها المحلية خطوطًا سوية أفادت فيها من الوافد بالقدر الذي لا يغير النسيج الثقافي أو يبدل الوجه الأصيل. بل إنني أكاد أجزم أن للتثاقف بين الأمم قوانين ونواميس تشبه إلى حد كبير النواميس الطبيعية المنضبطة، تؤثر في هذه الأمم سلبًا أو إيجابًا.
ولاشك أن في تجارب الأمم المعاصرة التي تنتمي إلى حضارات راسخة في القدم، وقد تماست مع الغرب، دروسًا لمن ألقى السمع وهو شهيد.(248/2)
فمن هذه الأمم اليابان التي ظهرت في هذا العصر ماردًا حقق كثيرًا من الإنجازات والتقدم العلمي والتقني والاقتصادي، بتبني ما يفيدها من معطيات الحضارة الغربية دون الانخراط كلية في النمط الغربي، بل مازالت اليابان تحتفظ بثروتها الروحية والثقافية، كما تحتفظ بلغتها التي تعتز بها وتحاول تطويرها لتكون صالحة لمقتضيات العصر الحاضر.
لقد كان هاجس اليابان عندما بدأت نهضتها أن تتخذ طريق التحديث لا طريق التغريب، والتحديث طريق شاقة لأنها تعتمد في الدرجة الأولى على الذات بكل ما تملكه من مخزون ثقافي، تتغير من خلاله نحو الأفضل دون أن تنجرف إلى الهاوية، بعكس بلدان أخرى استسهلت طريق التغريب القائم على استيراد الثقافة – وهي منظومة من القيم والنظم والمعايير – دون مراعاة للجوانب الذاتية والتراثية، فأصبحت مستهلكة تابعة فاقدة للابتكار والتميز. ومن الجوانب التي ضربت هذه البلدان في الصميم استيراد اللغة الأجنبية وتمكينها من حناجر أبنائها حتى إذا تمكنت فيها، واصطبغت بها منذ نعومة الأظفار فقدت العلاقة السوية بين الإنسان ولغته الأم فأصبحت اللغة الوطنية مكروهة مزدراة ينظر إليها بمنظار التخلف والتعويق الحضاري. وهو ما يحدث الآن – للأسف – في كثير من بلداننا العربية.(248/3)
تحاول هذه الورقة أن تحدد علاقتنا باللغة الأجنبية بوصفها نافذة نطل منها على الآخر، إذ لا أحد يشك في أن لغة الثقافة الأجنبية من أهم أدوات التثاقف إن لم تكن أهمها، ومما لاشك فيه أيضًا أن الأقدار في هذا العصر قد وضعت اللغة الإنجليزية في مقدمة اللغات التي لا غنى عنها في مختلف المجالات المهمة في الحياة، فقد غدت لغة العلم والطب والاختراعات والسياحة والاقتصاد، وأصبحت إجادتها لا غنى عنها لكل من أراد أن يطلع على الجديد من هذه المجالات في مصدره الأصلي، وهذا ما جعل معظم الناس في البلاد العربية يحرصون على التمسك بأذيالها والجري وراء سرابها ظنًّا منهم أن تعلم اللغة وحده سوف ينقل الأمة إلى فراديس الحضارة ونعم التقدم.
إننا هنا لا نهون من شأن اللغة الأجنبية، ولا ندعو إلى مقاطعتها أو ازدرائها، ولا نشكك في أهميتها وفائدة معرفتها، وإنما ننظر إليها بوصفها أداة نافعة ومهمة، نطمع في أن نحقق من تعلمها وتعليمها واستعمالها ما لم نوفق في الحصول عليه طيلة الزمن الماضي.
عندما بدأت علاقتنا بالحضارة الغربية الحديثة كان من علامات النضج الوطني والحضاري أن تنشأ مدرسة الألسن وأن تكثف البعثات العلمية إلى أوربا. تم ذلك وفق رؤية واعية وتخطيط سليم، إذ كان من نتيجته ازدهار الترجمة وتعليم العلوم والطب باللغة العربية، وكان المتوقع أن ينتهي ذلك بنا إلى ما انتهى به عند الأمم الأخرى من توطين العلوم والتقنية في بلادنا العربية، واستغلال مواردنا الاستغلال الأمثل، والمشاركة الجادة مع دول العالم الناهضة. لكن الأمور لم يرد لها أن تسير في هذا الاتجاه الذي يهدف إلى تقوية هذه الأمة وإعطائها فرص التقدم والنماء. وكان الاستعمار بالمرصاد لكل إنجازاتنا وآمالنا فحوَّلها جميعًا إلى ركام من الهشيم وأشعل فيها النيران، ثم أجهز علينا بوضع ورم سرطاني خبيث ينهش في جسدنا العربي، ويكلفنا الكثير من وسائل الوقاية والعلاج.(248/4)
وكان المؤمل أن تنعم البلاد العربية بعد زوال الاستعمار عن أقطارها الرائدة برؤية وطنية وحدوية يلتئم فيها الشمل ويتحد فيها الهدف، وينظر فيها إلى المستقبل على أنه مستقبل عربي واحد، فتتوحد السياسات – وإن اختلفت الأنظمة – ويتحقق بينها التكامل في الثقافة والاقتصاد والدفاع وأوجه التعاون المختلفة. لكن ذلك – لسوء الحظ – لم يحدث، لا لأنه مستحيل الحدوث، ولكن لأن الاستعمار لم يخرج من هذه البلدان إلا وقد اطمأن إلى أن ما يريده سوف يتحقق بأيدي أبناء هذه الدول. وأن ما بثه من أفكار خادعة قد وجدت ملاذًا آمنًا في أدمغة بعض المنتمين إلى فكره من أصحاب الرأي أو صناع القرار، هذا إلى جانب ما استقر في الأذهان من الإعجاب – بحسن نية أحيانًا – بكل ما هو أجنبي والتوق إلى التماهي معه دون شروط.(248/5)
وهكذا انحرفت المسيرة في الإفادة من الاحتكاك بالأجنبي فأصبح مفكرونا ومثقفونا أصداء وأبواقًا لكل ما يصدر عن الغرب، خيرًا كان أو شرًّا، وأخذ أدباؤنا ونقادنا يستوردون النظريات النقدية الغربية التي سادت ثم بادت في أوربا ويطبقونها، لا على أدبنا الحديث وحسب، وإنما على الأدب الجاهلي والإسلامي القديم، وأخذ بعض ضعاف شعرائنا – تحت شعار الحداثة – يرصدون كلمات باهتة باردة ثم يزجون بها للمطبعة مع وسمها بكلمة "شعر" على الديوان المزعوم لثقتهم بأن الناس لن تتقبل هذا الكلام الغث إلا على أنه من رديء النثر. ولم يقتصر الانحراف على الأدب والفنون حتى ابتعد المثقفون عن ذائقة العربي واضطروه إلى صياغة فنون أخرى من الأدب الشعبي لتلبي احتياجاته، وإنما امتد الانحراف إلى أمور أخرى كالاقتصاد الذي انتهى بنا إلى تحويل تجارنا ورجال الأعمال لدينا إلى سماسرة يستوردون البضاعة الأجنبية ويسوقونها في بلدانهم، جانين بذلك على الصناعة الوطنية، أو سادين الطريق إلى نشوئها واكتمالها، والدخول إلى العالم بها، في هذا العصر الذي يكون الاقتصاد عصب الحياة فيه، أو مبشرين ببيع مؤسسات الخدمات العامة في الدولة إلى القطاع الخاص عن طريق التخصيص بزعم عجز الدولة عن القيام بهذه الخدمات، ونحو ذلك من أفكار تسوق في الوقت الحاضر لعودة الأجنبي من النافذة للتحكم في مقدرات هذه البلدان النامية، وجعلها نهبًا للشركات الأجنبية.
وفي هذا المجال (مجال الاقتصاد) أخفقت اللغة الأجنبية في أن تدخلنا عصر التقدم لا لأن الوسط الاقتصادي لا يعترف بها، فهي مستعملة في كل جوانبه وتعد إجادتها شرطًا من شروط العمل في التجارة والصناعة،وما أكثر من يجيدونها،لكن توظيفها لم يتم بالصورة الصحيحة وإنما انحرف تبعًا لانحراف مجرى الاقتصاد والقائمين عليه والمشتغلين في مجاله. وبهذا أخفقت اللغة الأجنبية في أن تدخلنا القرن العشرين فضلا عن القرن الحادي والعشرين.(248/6)
وهذا الإخفاق في المجال الأدبي والاقتصادي انسحب أيضًا إلى المجالات الأخرى من أوجه الصناعة والزراعة والطب وغير ذلك فانتهى بنا المطاف إلى الاستيراد العشوائي، دون التمكن في أي مجال من المجالات الحيوية التي يمكن أن نتميز بها أو تكون مصدر قوة لنا في المستقبل.
إن المتأمل في هذا الوضع لابد له أن يتساءل عن السبب المهم في إخفاق اللغة الأجنبية في إدخالنا عصر التقدم والتقنية والرخاء على الرغم من إجادة الملايين منا لهذه اللغة مع ما نملك من الموارد والإمكانات مما لا يوجد لدى كثير من الأمم.
لكن متى كانت اللغة وحدها هي العربة التي تنقل الأمم من حالة التخلف إلى حالة التقدم والرقي؟ ألسنا نشاهد شعوبًا عديدة استبدلت بلغتها لغة أجنبية هي لغة المستعمر الذي كان يبسط نفوذه عليها،فعممت هذه اللغة في تعليمها،وجعلتها لغة الحديث والثقافة والدواوين الرسمية،ثم لم تحصد من وراء ذلك تقدمًا أو رقيًّا بل مازالت ترتكس في التخلف والهوان،وزادت على ذلك بأن تفجرت فيها انشقاقات ضربت وحدتها في الصميم تمثلت بين أنصار الثقافة التقليدية وأنصار الثقافة الأجنبية؟
المشكلة إذن لا تكمن في معرفتنا اللغة، فنحن الآن نمتلك من العارفين باللغة الإنجليزية والمتحدثين بها والكاتبين أعدادًا هائلة بالقدر الذي يمكن أن نقول معه إننا من الناحية الثقافية ليست لدينا أمية في هذا المجال.
لكن المشكلة تكمن في عدم توظيفنا لهذه اللغة الأجنبية التوظيف الصحيح، وعدم تحديد علاقتنا بها بوصفها أداة من أدوات التقدم الضرورية في هذا العصر.(248/7)
إن ما قمنا به حتى الآن لا يعدو أن يكون توظيفًا للغة لتكون أداة من أدوات العلاقات العامة، التي نتخاطب بها مع الأجانب في التجارة والسياحة والبحوث العلمية، لكننا لم نستفد من هذه اللغة لنقل التجارب الحديثة في شتى المجالات إلى مواطنينا بلغتهم الأم، كي يتوطن العلم وتستنبت التقنية.وإنما اكتفينا –في هذا الوضع– بجعل هذه اللغة وسيلة للتفاهم بين أصحاب التخصص الواحد، وهؤلاء استسهلوا الكتابة بها، فأخذوا ينشرون بها بحوثهم ويديرون بها ندواتهم ومؤتمراتهم، ويتخاطبون بها فيما بينهم، وكان من نتيجة ذلك أن أخذت معظم البحوث العلمية التي يجريها العلماء العرب تصب في مجرى الفكر الغربي، وتدور في ترس الصناعة الغربية، فلا يكاد يفيد منها الوطن العربي إلا عن طريق الاستيراد والاستهلاك. وأصبحت اللغة الأجنبية – إلى جانب عوامل أخرى – من العوامل التي تؤدي بالعالم أو المفكر إلى الهجرة والانسلاخ من الوطن لأن الانتماء اللغوي عامل مهم من عوامل الاستقرار العلمي والانتماء الثقافي.
ومع الإخفاق الشديد الذي منيت به تجربتنا مع اللغة الأجنبية كي تكسبنا مكانًا مرموقًا تحت الشمس، فإن كثيرًا من المنظرين والتربويين يرون أن شفاءنا من هذه العلة يكمن في زيادة الاتصال العشوائي بهذه اللغة دون نظر إلى الاحتياجات الحقيقية التي تلزمنا للنهوض من كبوتنا. فتتعالى الأصوات في بلادنا العربية لتدريس اللغة الأجنبية في المدارس الابتدائية منذ السنوات الأولى للطفل العربي وقد بدأت المدارس الخاصة بذلك في كثير من هذه البلدان، ثم تبعتها المدارس الرسمية، وفي بعض البلدان العربية لم يقف الأمر عند هذا الحد وإنما تطور لتعليم جميع المواد بلغة أجنبية ما عدا مواد اللغة العربية والدين.(248/8)
إن تعليم اللغة الأجنبية في الصفوف الأولى للمدارس الابتدائية يمس قضية من أهم القضايا التربوية ألا وهي قضية الانتماء، ولاشك أن تعليم اللغة الأجنبية في هذه المرحلة يخدش الانتماء القومي والوطني، ويجعل الطفل مشتتًا بين لغتين لغته الأم واللغة الأجنبية، بل مشتتًا بين ثقافتين، مما يحدث تشويشًا لغويًّا وعاطفيًّا، فاللغة لا تؤخذ مجردة وإنما يأتي معها كثير من الأفكار والتصورات الثقافية، مما يؤثر على ولاء الطفل للغته وثقافته، بفضل ما تحاط به اللغة الأجنبية من زخرف وما تملكه من إمكانات هائلة ومغريات عديدة، وما تتمتع به من دعاية إعلامية غوغائية.
لقد جربت بريطانيا تدريس لغة ثانية للأطفال في المرحلة الابتدائية، ثم عدلت عن ذلك خوفًا من تأثيره على ولاء الطفل الإنجليزي لوطنه. واللغة الثانية الآن تعطي للطفل البريطاني في المرحلة التي تعادل المرحلة المتوسطة لدينا، وكذلك الأمر في ألمانيا (التعليم من حولنا، كتاب مجلة المعرفة، الرياض:1422هـ، ص ص69و145).
وهنالك كثير من الدراسات التي تناولت تعلم اللغة بوصفها لغة ثانية للأطفال، وكثير منها يشير بما لا يقبل الجدل إلى عدم جدوى تعليم المواد الدراسية للمتعلم أيًّا كان سنه بلغة غير لغته الأم، (انظر إشارات إلى بعض هذه الدراسات في كتابنا: اللغة العربية في عصر العولمة، الرياض: مكتبة العبيكان سنة1422هـ/2001م ص13 – 26).
وفي بحث للدكتور ديفيد ولكنز بعنوان (اللغات الثانية كيف نتعلمها ونعلمها)، يشير إلى أن الكثيرين في مناطق من العالم قد عبروا عن "القلق من أن استخدام لغة للتعليم غير اللغة الأم قد أدى إلى نتائج تربوية متدنية، لم تعوضنا المستويات العالية من السيطرة على اللغة الثانية" (ولكنز، ديفيد اللغات الثانية كيف نتعلمها ونعلمها، الموسوعة اللغوية، تحرير ن.ي. كولنج، ترجمة د. محيي الدين حميدي ود. عبد الله الحميدان، الرياض: جامعة الملك سعود 1421هـ 2/540).(248/9)
والأمر الآخر الذي يحسن التنبه له أن للغة طريقتين للأخذ: طريقة الاكتساب وطريقة التعلم.
أما الطريقة الأولى فتكون بأخذ اللغة في سن مبكرة لا تتعدى العام الثاني عشر من عمر الطفل، وهي مرحلة أخذ اللغة سليقة، لكن الشرط الضروري لنجاح اكتساب اللغة أن يكون التعليم في بيئة اللغة الهدف. أي أن يكون الطالب منغمسًا لغويًّا وثقافيًّا في وسط هذه اللغة. وهذا ما لا يتحقق للطالب العربي في بيئته العربية.
ولهذا فإن الوسيلة الوحيدة العملية لأخذ اللغة الأجنبية بالنسبة لأطفالنا هي اتباع الطريقة الثانية طريقة التعلم، وهي تبدأ في المرحلة المتوسطة. أما المرحلة الابتدائية فأحرى بها أن تُمَحّض لاكتساب اللغة الأم وإجادتها سليقيًّا، وهنالك تجارب عربية مشجعة في هذا المجال. والواقع يشهد بأن معظم مشاهير علمائنا ومثقفينا قد تعلموا اللغة الأجنبية في مراحل متأخرة من أعمارهم، ومع ذلك لم يؤثر ذلك على عطاءاتهم العلمية والثقافية، ولم يقلل من مقدار استفادتهم من معطيات الثقافة الغربية وعلومها.
لم تكن البلبلة في الاقتراب من اللغة الأجنبية مقصورة على التعليم في المراحل الابتدائية أو الأولى من التعليم وإنما استمر الإخفاق في التعامل مع هذه اللغة في التعليم العالي، وإذا عددنا الجامعة المصرية التي أنشئت عام 1908م ممثلة لبدء التعليم الجامعي الحديث في البلاد العربية نكون قد أوشكنا أن نسلخ مئة عام من تاريخ التعليم العالي في البلاد العربية قضيناه في تعليم العلوم العصرية باللغة الأجنبية، ومع طول الزمن الذي استغرقته هذه التجربة إلا أن المخططين وأصحاب القرار لدينا لم يدركوا حتى الآن انعدام الجدوى الحقيقية في تعليم العلوم والطب وغير ذلك من العلوم باللغة الأجنبية.(248/10)
لقد سيطرت على مؤسسات هذا التعليم فئات لم تستشعر البعد الاستراتيجي المهم لإمكانات التعليم باللغة الأم، كحسن الإفادة من المعطيات العلمية، وسهولة هضمها من قبل الطلاب، إلى جانب توطين العلم في البيئة العربية بنشره بين الجميع عن طريق التأليف والترجمة، فقُضِي على حركات التعريب وانصرف الأساتذة عن لغتهم الأم، وأخذوا يحاضرون ويكتبون بلغات أجنبية (ركيكة في الغالب)، وكان من نتائج ذلك تدهور في مستوى الخريجين، وتراجع في الإبداع والابتكار، وتكريس للتبعية، وتعثر في السيطرة على مقاليد العلم المعاصر، وتخلف عن الركب نشاهده الآن واضحًا مقارنًا بأمم أخرى، ليست لديها العراقة الحضارية ولا الإمكانات المادية أو البشرية التي تملكها أمتنا، ولكنها أدركت أهمية التعليم الجامعي باللغة الأم، فسبقتنا بمسافات كبيرة وحجزت لها مكانًا متقدمًا بين الأمم.
وإذا أخذنا حركة الترجمة في
البلاد العربية وجدنا أنها تسير بخطى متثاقلة وهي – في الغالب – مشتتة وفردية، وخاضعة لأمزجة المترجمين والناشرين، وهذا يعني أن الترجمة لدينا عشوائية، ليست موظفة لبلوغ أهداف حيوية كبرى، والمعروف المشهود – في الثقافات القديمة والمعاصرة – أن الترجمة عمل مؤسسي يخدم استراتيجية وطنية أو قومية كبرى تستهدف النهوض والتقدم. وهذا – للأسف – ما أخفق العرب في تحقيقه.
ومن أكبر الدلائل على إخفاق التثاقف بيننا وبين الغرب أننا في الأحداث الأخيرة حينما اشتدت الهجمات الإعلامية الشرسة على ديننا وجنسنا وثقافتنا لم يجد الباحثون عن الحقائق عنا إلا ما كتبه أعداؤنا، وما بثته وسائل إعلام العدو عنا، من صحافة وتلفاز وأشرطة سينمائية، صنعت خِصِّيصًا لتشويه صورتنا لدى الآخرين. أو ما خلفته عنا دراسات قديمة منحازة، اعتمدت على صور نمطية للعربي، مستمدة غالبًا من تراث "ألف ليلة وليلة" وغيره من أدب السمر والحكايات الخيالية.(248/11)
إن الواقع يثبت أن تعاطينا مع اللغة الأجنبية تعليمًا واستعمالا لم يصل بنا إلى الهدف المرجو من النهضة، وأن تأثير هذه اللغة لم يكن بالقدر الذي بذلناه من أجلها واستثمرناه فيها من الجهد والوقت والمال،وعندي أن السبب في ذلك أننا لم نختط لأنفسنا – سواء على مستوى الأمة أو الدولة- طريقًا سوية تجعلنا نفيد من الاحتكاك اللغوي بالآخر. وإنما قضينا الوقت كله في استعمال اللغة الأجنبية لتلبية احتياجاتنا الآنية والاستهلاكية ثقافيًّا واجتماعيًّا.
لم يكتب لهذه الأمة أن تخلص لمشروع نهضوي عربي تكون اللغة الأجنبية فيه مفتاحًا للتقدم، ووسيلة لنشر الصورة الصحيحة عنا، ولا أظن أن ذلك سيكون ما لم نتخذ من الوسائل ما اتخذته الأمم الأخرى الناهضة، وأول هذه الوسائل – ولعله أهمها – استشعار الثقة بلغتنا وثقافتنا، ثم العمل انطلاقًا من هذا المبدأ إلى توظيف اللغة الأجنبية لتكون جسرًا يربط بين الثقافتين العربية والأجنبية عن طريق الإصرار على نقل العلوم ومعارف العصر إلى اللغة العربية، وإيجاد المراكز العلمية المتخصصة في الترجمة لمختلف العلوم والفنون، وتوجيه هذه العلوم والمعارف لخدمة النهضة بوجوهها المختلفة، وتعميق معرفة الآخر بنا عن طريق نقل الثقافة العربية بأبعادها المتعددة إلى اللغات الأجنبية، ورعاية المترجمين الأكْفاء، واستقطاب المترجمين الأجانب وتشجيعهم على المزيد من الترجمة عن اللغة العربية، وفق خطط مرسومة، تراعي الأولويات فيما يترجم من فكر الآخر، وما ننقله من فكرنا إليه، حسب إمكانات كل بلد، وما يتميز به من ثروات بشرية ومادية، وصياغة ذلك كله في مشروع تكاملي ينتظم البلاد العربية جميعًا. عندئذ نستطيع القول إننا وضعنا اللغة العربية في موقعها
الصحيح من حركة التثاقف الحضاري بيننا وبين الغرب.
أحمد بن محمد الضبيب
عضو المجمع المراسل من السعودية(248/12)
ثالثًا- كلمة المجمع في تأبين الفقيد
للأستاذ الدكتور يوسف عز الدين
"إبراهيم السامرائي
حرارة كامنة وثورة خافية"
إن ما يؤلم النفس ويدمي القلب ويوجع الجوارح موقف تأبين الراحلين، ورثاء الأحباب، والزملاء. لقد رثيت في المجمع ثلاثة من أساتذتي الذين أعيش بفضلهم وأتمتع بعلمهم، وأتغذى من أدبهم. هم محمد خلف الله أحمد، والدكتور توفيق الطويل، وعبد السلام هارون. وقد أبَّنت في هذا الموقف الزميل بهجة الأثرى. وقد فقدنا هذه السنة الأستاذ الدكتور إبراهيم الترزي الذي كان شعلة وقادة في العمل، ورقة عذبة للإخوان، يضفي علينا من خلقه الكريم وحبه الصادق ما يملأ النفس غبطة والجوارح سرورًا.فرحم الله إبراهيم الترزي وأسبغ الله عليه رضوانه.
وها أنا ذا أقف اليوم في تأبين زميل كان ملء العين في الدورة الماضية للمؤتمر،وقد عشت معه عمرًا جميلاً أيام الشباب النضر والكهولة الهادئة. أيام الإنتاج والإبداع في التدريس في جامعة بغداد والعمل في مؤتمرات المجمع.
إنها سُنة الحياة:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
... يومًا على آلة حدباء محمولُ
"كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام""والله يتوفى الأنفس حين موتها""وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله".
الموت هو الحقيقة الخالدة التي لا يمكن أن نماري فيها.
في العام الماضي في مثل هذه الأيام كنا نجلس في الفندق وكان شديد الألم من تجاهل الوطن العربي للعلماء والمفكرين وعدهم من الأجانب في الإقامة والعمل والسفر والانتظار الطويل في المطارات. وأوجعها كانت مشكلة الإقامة التي تفرض على العربي في وطنه العربي (رخصة عمل) عليه فتُفرَض وكأنه أجير يومي أو من عمال التراحيل.
وفي الغرب يجد العالم العربي كل تقدير ويمنح الإقامة الدائمة بيسر ويكتسب الجنسية دون عوائق.(249/1)
معرفتي بالدكتور إبراهيم ترجع إلى أيام كنا في دار المعلمين الابتدائية في الأعظمية، وقد كان طالبًا لامعًا معروفًا بالتفوق في باريس عندما كان يدرس فيها وأنا طالب في لندن. ثم درسنا في كلية الآداب زمنًا طويلاً. ثم طوحت بنا الأيام فسافر إلى عدد من الأقطار العربية منها تونس وصنعاء وعمان التي استقر بها أخيرًا.
نشر علمه وفضله في الجامعات العربية، وارتوت من فيض فكره عقول، وأينعت من علمه نفوس، وتغذت من ذهنه أفكار الطلاب وسمقت.
عدت بعد المؤتمر في السنة الماضية إلى ويلز وعاد هو إلى عمان وكنت أسمع بأنه في خير ودأب في المجمع والجامعة.
وفي صباح أحد الأيام اتصل بي هاتفيًّا السيد حازم السامرائي وقال بألم قد توفى إبراهيم وهزني الخبر وآذاني – وقال أريد أن تكتب لي صيغة النبأ لنشرها في جرائد لندن وبعدها كتبت مقالة عنه وأرسلتها إلى جريدة لندنية لا أظنها قد نشرتها.
كان إبراهيم نسيج نفسه، فقد قاسى صغيرًا مرارة اليتم، ورقد الألم في اللاشعور،وبالرغم من كثرة ما ألف وحقق وترجم ودرس،فلم يظفر من الكُتاب ما يوازي هذا الجهد الكبير.
وقد جمعت ما كتب عنده فوجدت المصادر التالية:
(شعراء سامراء) للشيخ يونس السامرائي فيه نصف صفحة مع قصيدة ولقد طبع الكتاب عام 1970م ولعله أقدم من كتب عنه.
(الأعضاء المراسلون) الذي أخرجه أستاذنا الدكتور مهدي علام رحمه الله، ولم يزد على أربع صفحات سنة 1995م.
أعلام الأدب في العراق الحديث للأستاذ منير بصري ج 3 سنة 1999م فيه أكثر من صفحتين، وذكر أنه أخذ من كتاب خليل إبراهيم (أدباء العراق المعاصرون) واستند على رأي الدكتور داود سلوم في كتاب لم يذكر اسمه.
(معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين) فيه صفحتان كبيرتان سنة 1995م.
وقد ألف الأستاذ أحمد العلاونة كتابًا بعنوان (إبراهيم السامرائي) سنة 2001 طبع في الأردن ضم ترجمة حياته وكثيرًا من مؤلفاته.(249/2)
كتبت جريدة (الديون) لصاحبها محمد سعيد الطريحي، التي تصدر في هولندا ترجمة ضافية وذكرت كتبه ومؤلفاته وشعره.
وبعد موته كتبت عنه عدة مقالات من قبل الدكتور جليل العطية والدكتور عز الدين رسول، وزودني الأستاذ نجدة فتحي صفوة بجريدة الحياة وتبعها بمقال كتبه سمير غريب، رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق بعنوان (ليس رثاء لمن رحل غريبًا العلامة إبراهيم السامرائي).
حياته بقلمه:
وقد عولت على كتاب الدكتور علام (الأعضاء المراسلون) فوجدته قال عن نفسه: إنه ولد في العمارة في سنة 1923م وأنه دخل الابتدائية ابن سبع سنين، ثم الإعدادية ثم قال تحولت إلى بغداد في دار المعلمين الابتدائية وأكملت خلال بقائي في الدار الدراسة الثانوية العامة ثم التحقت بدار المعلمين العالية سنة 1942م وقضيت بها أربع سنوات وتخرجت منها مدرسًا للعربية في المدارس الثانوية وبقيت سنتين في التدريس ورُشحت بعد ذلك في البعثة العلمية إلى باريس ودخلت السوربون ومكثت ثماني سنوات أتممتها في دراسة اللغات السامية وعدت في بداية عام 1956م حائزًا على شهادة دكتوراه دولة ومارست التدريس الجامعي أكثر من خمس وعشرين سنة، ثم طلبت الإحالة على المعاش. كتب هذا وهو يدرس في الجامعة الأردنية وقال شاركت في مؤتمرات ثقافية ولغوية وكذلك في ندوات وحلقات دراسية وملتقيات أخرى في العراق وفي خارجه وفي الأقطار الأجنبية.
وقال : كتبت الدراسات الكثيرة في العربية وتاريخها ونحوها القديم. كما كتبت في اللغات السامية وصلاتها بالعربية مما يدخل في علم اللغة المقارن والنحو المقارن، وكتبت في تطور العربية وأصولها القديمة والحديثة وانتهيت إلى العربية المعاصرة وكتبت في التعريب وفي المصطلح الجديد وهذه الدراسات نشرت في المجلات العلمية في العراق وفي خارج العراق ومنها مجلات المجامع اللغوية ومجلات الكليات والمؤسسات الثقافية الأخرى.(249/3)
وقد ذكر أكثر من عشرين من كتبه المؤلفة والمصنفة. وإنه حقق بعض الكتب القديمة في التراث، وذكر كتابين هما نزهة الأدباء للأنباري والمرصع لابن الأثير.
لقاء دائم:
كان لقائي به في المجمع كل سنة وكان لقاء الفندق مجالاً للحديث عن حياته، وكانت زوجه ترعاه وتحوب عليه وحدثني عما يعانيه نفسيًّا من المجتمع العربي وماقاساه من الزملاء الذين وثق بهم وعمل معهم وجحود الناس له. ومن أنظمة الدول العربية في الإقامة وإجازة العمل. وذكر مساعدة الأمير الحسن ابن طلال له بالتقدير في أمر الإقامة.
إن تفوقه على أقرانه وهو صغير كان سببًا في مضايقات نفسية له ولأمه. فقال: شقينا من أهلنا وقومنا، وقد أدركت هذا فكان لي من يومي وليلتي. وقد خبرت ضيق الناس وحسدهم وأنا صبي. رأيت من لداتي من أبناء رحمي من لم يكونوا مثلي . فكان ذلك أن أمست أمهاتهم يبغضن ما يكون من سيرتي وتفوقي في الدرس على أبنائهن في نكرانهن لما كانت فيه أمي المتعبة طوال حياتها.
وقد صاحبه هذا الإحساس طوال حياته، فقد كتب في كتابه (فوات ما فات)، "فقد هزني فيها ما حمله على الخصوم الذين تصدوا لي ولم أحمل عليهم شرًّا، ولا سعيت لهم بما يؤذيهم ولكنني أقول لقد كانوا إلبًا عليّ ولكني أتشبث بقول أبي العلاء : (فوا أسفى كم يدعي الفضل ناقص).
حالته النفسية:
كان الدكتور إبراهيم هادئ الحركة خفيض الصوت رقيق المعشر يتحدث دون انفعال أو صخب، ولكن في داخله تمور الآلام، وتكمن الأحزان، وهذا الحزن والألم من مظاهر أهل العراق لما قاسيناه من الحياة التي عشناها منذ أيام طويلة موروثة من السنين، كأنها كانت تثقله وتوجعه كثيرًا.
وتعمق الألم والحزن في نفس إبراهيم منذ طفولته المبكرة وقد وصفها في كتابه (فوات ما فات من حديث السنين)، بصورة مفصلة.(249/4)
انغمس إبراهيم في الدراسة ليبعد عن نفسه الآلام، فكانت حصيلة ذلك بحوثًا كثيرة وكتبًا غزيرة وأفكارًا جديدة حصدها من المكتبة الوطنية في باريس واللوفر والدراسات الشرقية، وصحبته في عمان باحثًا ودارسًا، إنه كثير الحفظ، ثر الرواية حريصًا على اللغة العربية وسلامتها. فأخرج جيلاً يسير على دربه ويتبع خطاه في البحث والتحقيق وحب اللغة العربية.
كتبه ومؤلفاته:
إنه باتساع ساحة عقله وذكائه استوعب ما حفظ من التراث العربي. وكانت قاعدته الدراسة الجادة في اللغات السامية والعكوف على المعرفة العميقة للنحو المقارن وفقه اللغة.
فقد أخرج من المؤلفات سبعة وخمسين مؤلفًا، وقام بتحقيق اثنتي عشرة مخطوطة، وترجم أربعة كتب. كما أوردتها جريدة الديوان الصادرة في هولندا. وهذه لم تذكرها المراجع التي كتبت عنه.
ومن كتب التحقيق ، (الأمكنة والجبال والمياه)، للزمخشري، و(المرصع في الآباء والأمهات) لابن الأثير، وكتاب (النخل) لأبي حاتم السجستاني وقد حقق مع الدكتور أحمد مطلوب ديوان القطامي وأخرج مع الدكتور مهدي المخزومي والدكتور علي جواد الطاهر والدكتور بكتاش ديوان محمد مهدي الجواهري، وحقق الزهري مع الدكتور نوري القيسي، وكشف النقاب عن الأسماء والألقاب لابن الجوزي، ونشر في مجلة كلية الآداب ببغداد، وحقق (السراج واللجام) لابن دريد الذي حققه وليم رايت , (إتمام الفصيح) الذي حققه آربري لابن فارس ونشر في مجلة المجمع العلمي العراقي، وغيرها من الكتب التي سبق أن حققها قبله المستشرقون مما أثار القول عن إعادة التحقيق، وفات القائلون أنه أعاد إلى التراث جانبًا مفقودًا ووضعه بين يدي الدارسين. وقد أصبحت هذه الكتب نادرة.(249/5)
فقد حدثنا الدكتور قاسم السامرائي بأن كتب التحقيق لا تطبع منها غير مئة نسخة إلى المئتين وليس هو الوحيد الذي أعاد تحقيق ما حققه المستشرقون، فهناك أساتذة أفاضل قاموا بما قام به مثل رمضان عبد التواب وعبد الحليم الطحاوي وصلاح الدين المنجد.
إن ما أخرجه من كتب في النحو واللغة والأدب يشكل ذخيرة للدارسين وقد طبعت هذه الكتب في بيروت وعمان وبغداد والقاهرة والرياض والكويت ودبي، وفيها المعاجم والأمثال والنحو والصرف كلها لخدمة اللغة العربية والحفاظ على أصالتها.
نقده:
كان شديد النقد، حاد العبارة، لا يكترث بلوم اللائمين ما دام يرى ذلك في الصواب، وجلب له عداء الباحثين لأنهم لا يرضون الكشف عن أخطائهم وليس هو الوحيد في هذه الحدة، فقد وجدناها عند العقاد، وزكي مبارك،والرافعي، وإبراهيم المازني.. لكن أهل مصر أرحب صدرًا وأرق خلقًا برغم شدة الخصومة وجرح القول، فهم يقبلون ما لا نقبل في العراق بسهولة ويسر.
سامراء:
لقب بالسامرائي نسبة إلى مدينة آرامية اسمها (سامرا)،هاجر منها أهله إلى جنوب العراق وعاشوا في مدينة العمارة وشكلوا جالية سميت بالسوامرة. و(سامرا) موجودة قبل أن تكون العاصمة الثانية للدولة العباسية التي عاش فيها سبعة من الخلفاء ما بين سنتي 836هـ – 893هـ وقد استمرت في الوجود لأن فيها إمامين من أبناء الرسول هما:علي الهادي وابنه الحسن العسكري. إذ جلب المتوكل على الهادي إثر رسالة بعث بها والي المدينة يقول فيها: إن الناس يقولون إن الخليفة (علي الهادي) لا (المتوكل) لاحترام المسلمين له وطاعتهم له وتقدير لشخصيته فهو من نسل الإمام علي (رضي الله عنه)، فسجنه في سامراء فكان موته فيها خيرًا على البلد التي يزورها كل سنة آلاف من الزائرين.(249/6)
كانت تقطن فيها سبع عشائر، ثم تفرعت إلى إحدى عشرة عشيرة وحتى لا تتفرق هذه العشائر ويضيع نسبها، اتفقت على جعل المدينة لقبًا لكل أبناء العشائر على اختلاف الأسماء وتعدد العشائر.
وقد اشتهر منها عدد كبير من العلماء والشعراء ولعل البحتري وقصيدة (البركة) من القصائد الرائعة التي نظمت في بركة المتوكل ونسيت بأنها نظمت في سامراء:
ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها
... نَعم ونسألها عن بعض أهليها
وقد رأيت حفرة متواضعة بين ركام من الحجارة والأنقاض قيل لي هذه هي البركة. تبكي على أيامها الناضرة الزاهرة وقد ابتعد دجلة عنها ولابد أن نذكر أن (كروسول) سجل صورًا عديدة من قصور سامراء لم يبق منها أي أثر بعد أن زحفت البيوت عليها.
كما اشتهرت قصيدة علي بن الجهم التي نظمها في سامراء:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
ولا يعرف الكثير إنها نظمت في رصافة سامرا وليست في رصافة بغداد وجسرها، فقد كانت هناك رصافة في الحيرة والأندلس ودمشق. ومن مشاهيرها ابن المعتز خليفة اليوم الواحد، وإبراهيم الصولي وأحمد النديم. ولا ننسى المعتصم وفتح عمورية وقصيدة أبي تمام، ونذكر الفتح بن خاقان الذي قتل دفاعًا عن المتوكل وفيها عرف عبد الملك ابن الزيات وغيرهم كثير.
موقف الشاعر من الحداثة:(249/7)
إن من يعيش ويحقق وينشر المخطوطات ويكب عليها سنوات عمره ويصرف شرخ الشباب، لن يعجبه الخروج عليه ومهاجمته والابتعاد عنه؛ لأنه يراه القاعدة التي يجب أن تحتذى والنبع الذي يجب أن يرتوي منه الأديب فلا عجب أن وقف الدكتور السامرائي موقفًا صلبًا أمام التطور والتجديد والخروج على عمود الشعر وأصالته، فقد نشرت مقالة في مجلة العربي نال منها الكاتب من أصحاب الشعر المحافظ، أصحاب الوزن والقافية (الذين مضوا وبقيتهم في عصرنا نسلبهم مما تمسك به هو وصحبه أولو الحداثة من مصطلح الإبداع الذي شاع بينهم). ولما قرأ ذلك قال حفزني الحديث الشريف (المتشبع بما لا يملك كلابس ثوبي زور)، والمتشبع هنا مما خيل لهم أنهم شبعوا وامتلؤوا ولكن هيهات هيهات، فهل كان لنا أن نحيي هذا الكلم؟ وكم بنا حاجة إلى مثله في عصر استعجمت فيه العربية)؟.
وقد كان يبتئس حين يرى الجديد الذي غلب على عربية الصحف التي تأثر بها أهل الأدب وقال: إن في العربية سعة أتبينها في لغة (التنزيل العزيز). وقد احتفي حفاوة بأمثلة الشعر الأصيل منها أبيات الشريف الرضي في رثاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
يابن عبد العزيز لو بكت العين(م)
... فتى من أمية لبكيتك أنت أنقذتنا من السب والشتم(م)
... فلو أمكن الجزاء جزيتك دير سمعان لا عَدتك الغوادي
... خير ميت من آل مروان ميتك
وقال: (احتفلت بها لما أنبأت من حرارة الصدق وما يدعوه نقاد عصرنا بـ (بالانفعال العاطفي)، هذا الانفعال الذي نسوه واستبدلوا به مصطلحًا جديدًا هو الإبداع).(249/8)
لقد تحريت إبداعهم في حديثهم عن فلان وفلان وجمهرة أخرى من ناشئة حداثتهم، فلم يكن لي شيء وعدت خالي الوفاض. وعندما قرأ الشعر الذي رثي به الشاعر الكبير نزار قباني وخرج بهذه النتيجة فقال: "قد يكون لي أن أقول إن لهؤلاء جملة ألفاظ لا تبئس مما هو دارج ولو كان لهم أن ينطلقوا من أسرار (الإعراب) في العربية مما هو نحو وصرف لفعلوا كما انطلقوا هربًا من الوزن والقافية).
وقد اتخذ من رثاء أصحاب الحداثة للشاعر نزار قباني نموذجًا من عدم فهم هؤلاء معنى الرثاء فقال: "نعم لو كان لهم ذلك لجاز، ألا ترى أن هذا الذي أبنوه وهو نزار قباني جنح إلى شامية يملأ بها جديده الرث، ألا تراه مرة قد أتى بشيء من تجربة العصر فجعله (كولا) مجتزئًا به عما هو (كوكا كولا) أو بيبسي كولا، قال هذا في جملة من أصحابه فكان بعض (الإبداع الجديد). وقال:"لقد أشرت إلى أن جمهرة من هؤلاء قد رثت القباني وبكته ولكني جريت مع هذا الذي سطر، فما كان لي أن أجد من الرثاء فيه.
وقد تحدث عن بدر شاكر السياب والبياتي ومن معهم من شعراء الحداثة. ولامهم لابتعادهم عن القديم (وقد ابتعدوا عن هذا وحجتهم أنه قديم رث بالٍ وتشبثوا برموز لم يدركوها لأنهم أخذوها مما يسطره فلان أو فلان من اللبنانيين الذين ليس لهم من العربية إلا رسم الحرف).
وقال: "وهل القارئ الأديب أن يتبين شيئًا من إنسانية أو حياة في كثير من أدب الكبار من أهل الحداثة. وأنت إذا استثنيت إقليمية السياب البصرية، فأي شيء تقف عليه لدى البياتي من حياة أو إنسانية؟ إن خمرته غير خمرة النواسي وليست خمرة عمر الخيام، إنه و غيره، عارٍ من بعيد عن الأناسي ثم إنهم لغطوا كثيرًا بشأن الأسطورة فهم لم يهتدوا إليها حتى السياب الذي لحق أو ألحق نفسه بجماعة (شعر) وفيهم يوسف الخيال الذي كان عيالاً على رموز رومانية وفينيقية وإغريقية".(249/9)
إن حياته التي غمرت بالمحافظة العميقة جعلته يقف بكل شدة وقساوة أمام كل ضرب من الخروج عن الأدب العربي القديم. فقد قرأت عليه قصيدة ونحن في باريس فثار عليّ بعنف وعلى شعري بقسوة، ولم أرد عليه، إنه شديد الحرص شديد المحافظة إلى حد القسوة.
فقد أكد تجديدي خمسة عشر كتابًا عن هذا الشعر وتمت ترجمته إلى الإنجليزية والفرنسية والبولونية والإسبانية ولغات أخرى.
شعره:
أخبرني في السنة الماضية بأنه في صدد طبع ديوان شعره ولابد أن خرج الديوان، لذلك اكتفيت ببعض ما توافر لدي من شعره.وأول هذه القصائد كان قد كتبها في باريس عام 1952م، وآخرها ما نشرته جريدة الديوان في هولندا وما نشر في مجمع البابطين.
لن يجد الدارس اختلافًا كبيرًا في أسلوب شعره بالرغم من مرور هذه الفترة من الزمن، فقد بقي محافظًا شديد المحافظة متمسكًا بعمود الشعر بقوة شديدة، فكان شعره جزل العبارة قوي الديباجة عميق الفكرة سامي المعاني، لكنه بقي في ساحة الأدب القديم لا يريم عنها ويخرج إلى حياة القرن، يحس القارئ بالألم الذي استكن في لاشعور الشاعر وعقله الباطن وهو يترجم الأسى والحزن والغربة بكل وضوح وبكل جلاء لم يقدر أن يتخلص من النسج القديم. وبقي في إطاره ينظم عواطفه وأحاسيسه ولم يخرج بك في شعره إلى العالم الجديد ولولا ذكر الأحداث المعاصرة لحسبته أحد شعراء العباسيين أو الأمويين.
الغربة والشتات:
إن الغربة الروحية والشتات للعالم العربي والمفكر العربي والهاربين من ديارهم مع المهاجرين عن أوطانهم واللاجئين من العرب سواء من فلسطين أو الوطن العربي كانوا رفقة الشاعر حينما قال:
أرفاق الشتات حسبكم رحبًا من أرضنا قطعًا
قد رضيت الصدى وبي ألم أتشهاه لا كمن رضعا
ورجوع يحفه شرف غير سعي لخائب رجعًا
وقد نشرت جريدة الديوان في هولندا له قصيدة طويلة حوالي السبعين قال في مطلعها:
أنا الشريد وصوت أيامي ورائي(249/10)
سجل فيها آلامه وغربته الروحية وشقاءه النفسي من الأيام وهي ظاهرة على جميع الشعراء العرب الذين هجروا بلادهم، قد أهاج الحنين في النفوس أرق أنواع الشعر الحزين وأعمق القصائد الراقدة في الإحساس والشعور الداخلي.
ومن القصيدة:
أنا الشريد وصوت أيامي ورائي
وبقاؤهن يقض مضجعي الكئيب وما ندائي
وأنا الشريد وأين قصدي والذي أشكو إزائي
ثم يهاجم الأيام التي تغيرت فيها المفاهيم العالية حتى تصدر الدجال والمرائي والمتزلف في الحياة العامة فقال:
لا كان عهدًا ساد فيه زعنفة مرائي
هي تلك الحياة ومازلت الشقي بها بدائي
سلبتني السمح البهي فهل بباقية غنائي؟
فتشت عن أهل المروءة قد تداعوا في الخفاء
غادرت أرضًا كان لي فيها لفيف من صفاء
طبعتهم مني هدى يقتاده بعضُ الإخاء
فإذا حرمت من الإخاء حرمت من نعم الوفاء
إني وإن ناجيت أشجاني سكبت لها غنائي
وجعلت من أنفي الحمى حمى فكان به احتمائي
ولم ينس معاناته من الإقامة وما قاساه من الحصول عليها فقال في محنة الإقامة:
أأنا البعيد الأجنبي وقد يقال أنا القريب؟
ولربما قد قيل لي: أنت الشقيق ولا أجيب
أسعى واستهدي الإقامة غالها زمن عصيب
أسعى لدائرة (الأجانب) كل قاصدها حريب
أفكل عام، كل منتحن بسحنته كئيب
يا صاحب الرأي الرشيد أنا البعيد أنا القريب
وأكون في بلد يقال له الشقيق أنا الحبيب
إنها حالة نفسية صور بها حال العربي في قطر عربي شقيق إنه الألم، لتفرق الأمة العربية وظهور الإقليمية التي غرسها فينا الأعداء وقد التزمنا بها وأصبحت حقيقة واقعة لا يمكن الخروج عنها.
هذه فكرة عامة عساني استوفيت جوانب عالم من علماء العربية وقف
حياته كلها على خدمة تراثها وبث العلم بين أبنائها محاضرًا وأستاذًا ومؤلفًا ومشرفًا. قليل مثله بين زملائه ذكاء وعلمًا وحبًّا للتراث الأصيل.
اللهم ارحمنا وارحم علماءنا وسدد الخطى في خدمة هذا الحرف الذي خدمناه لوجه الله والأمة والعلم.
يوسف عز الدين(249/11)
عضو المجمع من العراق(249/12)
قلائد المفاخر
بين الأصل الفرنسي لدبنج Depping والترجمة العربية للطهطاوي(*)
للأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي
كان كتاب "قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر" تأليف دبنج (باريس 1826م) وترجمة الطهطاوي أول كتاب يترجم من لغة أوربية حديثة وينشر باللغة العربية(القاهرة 1833م). ويهدف هذا البحث إلى التعريف بالمؤلف وبالكتاب وبصلة الطهطاوي به وعلمه في تعرف مشكلاته وفي التقديم له ومنهجه في الترجمة ومشكلات نقل المصطلحات وألفاظ الحضارة.
أولاً : المؤلف دبنج وكتابه
كان الكاتب الأوربي دبنج G.B.Depping.(1784– 1853) مؤلف أول كتاب كامل ترجمه الطهطاوي (1801 – 1873) من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية. لم يحظ هذا الكتاب
باهتمام كبير عند مؤرخي الإنتاج الفكري الأوربي، وإن كانت أعماله
بالألمانية والفرنسية قد سجلت في الببليوجرافيات الشاملة. ولد جورج برنهارد أو كما يقال بالفرنسية جورج برنار دبنج في مدينة مونستر Munster في ولاية فستفالين في ألمانيا، وهي مدينة صغيرة تقع في منطقة محافظة وتتوسطها جامعة عريقة.
كان أبواه ألمانيين، تاريخ مولده 11 مايو 1784م. درس في مدينة مونستر، ووصفت المراجع الفرنسية هذه الدراسة بأنها كانت ممتازة. وسافر سنة 1803م إلى باريس، فأعجبته الحياة والثقافة فاستمر هناك. لم يستقر هناك في منصب دائم، وتنوعت أعماله تنوعًا كبيرًا . بدأ
معلمًا للغة الألمانية، ثم عمل مراسلاً يقدم تقارير عن فرنسا في صحيفة Morgenblatt، ثم كان مدرسًا في المدارس الخاصة، ثم أمينًا لإحدى المكتبات، وفي كل هذه السنوات كان يؤلف ويكتب بشكل جاد. تنوعت أعمال دبنج تنوعًا كبيرًا، ألَّف بالألمانية في البداية ولكن أكثر إنتاجه كان بالفرنسية. وكانت مكانته كبيرة نسبيًّا في الحياة الثقافية الفرنسية حتى إنه نال في فرنسا عددًا من الجوائز.(250/1)
أول أعمال دبنج قصة شعرية ألمانية بعنوان مندور ولاورا (1806م)، ألَّف للأطفال مجموعة من الحكايات في مجلدين بالفرنسية (1807م)، ثم أعد للناشئة تدريبات نحوية لاتينية(1801م)، ثم كتب تاريخًا موجزًا لإسبانيا في مجلدين (1811م)، وكتب كتابًا عن العجائب ومظاهر جمال الطبيعة في فرنسا (1811م)،وكتابًا أساسيًّا في الجغرافيا (1812م)، وفي تلك السنوات المبكرة نشر كثيرًا في الدوريات الثقافية الفرنسية والسويسرية والألمانية بكلتا اللغتين الفرنسية والألمانية، وهكذا تحققت شهرته في فرنسا على وجه الخصوص.
لقد أنجز دبنج عدة أعمال كبرى، نشر المراسلات الإدارية في عهد لويس الرابع عشر في أربعة مجلدات، تعاون معه ابنه جيوم في إعداد المجلد الرابع ( 1829م – 1932م).
اهتم دبنج اهتمامًا خاصًّا بكتب الرحالة والجغرافيا والتاريخ. ألَّف بالفرنسية ( 1813م) كتابًا تناول رحلته من باريس إلى نيوشاتل في سويسرا، ونشر ( 1822م) كتابًا في مجلدين عن سويسرا، وكتابًا آخر تضمن رحلة طالب في قارات العالم في مجلدين أيضًا. وألَّف أيضًا عن جغرافية إسبانيا والبرتغال(1823م) وعن بلاد اليونان (1823م). وبعد ذلك نجد كتابه في الجغرافيا للشباب (1824). وفي العام الذي نشر فيه كتابه الذي ترجمه الطهطاوي(1826م) نجد له أيضًا كتابًا في مجلدين عن تاريخ الحملات البحرية للنورمانديين. وتدل قائمة كتبه ومقالاته بعد ذلك على استمرار هذه الاهتمامات بحياة الشعوب وتاريخها وعلاقات الدول.
الكتاب الذي عرفه الطهطاوي من مؤلفات دبنج في أثناء دراسته في باريس هو الكتاب الذي ترجمه له إلى العربية. كتب الطهطاوي عنه في سياق الكتب الفرنسية التي قرأها على مسيو شفالييه: "قرأت كتابًا يسمى سير أخلاق الأمم وعوايدهم وآدابهم" (تخليص الإبريز 333) . ويبدو لنا من عبارة الطهطاوي أنه قرأ الكتاب، ولم يقتصر فيه على صفحات محددة على نحو ما ذكر مع بعض الكتب. والكتاب المقصود هو:(250/2)
G.B.Depping , Apercu historique sur les Moeurs et Coutumes des Nations , Paris , 1826.
لقد شُغلتُ منذ نحو ثلاثين عامًا بالكتابة عن الطهطاوي (1973م) ونشرتُ تخليص الإبريز بالمقارنة بالأصول الفرنسية (1974م). ولكن كتاب دبنج ظل غير متاح لي، ولم يكن متاحًا – فيما يبدو – لمن كتبوا عن الطهطاوي. وعلى الرغم من دعوتي أكثر من مرة أستاذًا زائرًا بجامعة ليون الثانية في فرنسا 1995- 1996م إلا أنني لم أحصل على الكتاب إلا في ألمانيا(2000م)، أرشدتني شبكة المعلومات الببليوجرافية للمكتبات الألمانية إلى وجوده بالمكتبة الخاصة بقلعة الأمير في كورفي Corvey بالقرب من جامعة بادر بورن Paderborn . وبذلك يتيح وجود الأصل الفرنسي عمل طبعة علمية من الترجمة العربية مع التعليقات عن اللغة والمحتوى.
لم يترجم الطهطاوي مقدمة الكتاب كما لم يعرض للمراجع التي ذكرها المؤلف في آخر الكتاب، ونقل المترجم محتوى نصوص الفصول إلى العربية. تتضح من المقدمة سمات الإطار الفكري للمؤلف، ذلك أن حياة الشعوب المختلفة تتضمن اختلافات وظواهر متماثلة Les différences et les analogies (P.1) وأن هذا الموضوع من أهم موضوعات التأمل الفلسفي، وفي الوقت نفسه فإن هناك أخطاء كثيرة عند الرحالة. ولهذا كله وجد دبنج من الضروري أن يقدم كل أنماط الحياة في كل القارات إلى الشعوب المتحضرة، ونصّ على أنه استبعد في فصول الكتاب عدة موضوعات، منها: المؤسسات الدينية والمدنية والسياسية والأحكام المسبقة والخرافات.(250/3)
تضمن الأصل الفرنسي قسمين كبيرين: تناول القسم الأول فصولاً عن العادات والأعراف الخاصة بالمتطلبات الطبيعية، والمسكن، التغذية، الملابس والزينة، النظافة، الزواج، المرأة، الطفولة، الشيخوخة، الدفن، صيد البر والبحر، التجارة والنقود. أما القسم الثاني فقد تناول العادات والأعراف لدى الشعوب والقدرات العقلية عند الإنسان: اللعب والرياضة، الشعوب والموسيقا، الكتابة، الرقص، الفنون المسرحية، الأعياد والمواسم، آداب اللياقة، الضيافة، العبودية، الخرافات، الحروب والأسلحة، العقوبات، النبلاء والطبقات المغلقة، والملوك.
ونجد في داخل هذه الفصول معلومات عن مئات الشعوب والقبائل من كل القارات والجزر. وهذا ما يتضح – أيضًا – من قائمة المراجع التي جعلها المؤلف في آخر الكتاب. وفي مقدمتها كتب الرحالة، وقد اهتم بها المؤلف وذكر مراجع لكتب الرحالة وحوليات الرحالة، وصحيفة الرحالة والكشوف ومجلة العلوم الجغرافية والاقتصاد والرحلات. ونجد في المراجع مجموعات مصنفة طبقًا للقارات، تضمنت عن أفريقيا كتب الرحالة وملاحظاتهم في داخل القارة وفي مصر وبعضها مترجم عن الإنجليزية وبعد ذلك ترد الكتب عن القبائل في أمريكا وجميعها مترجم عن الإنجليزية والألمانية. وذكر بعد ذلك الكتب المؤلفة عن آسيا وبعضها مؤلف بالفرنسية وبعضها مترجم من الإنجليزية، وفيها حياة البدو العرب وقبائل وسط آسيا وجماعات الهند والصين. وفي الكتاب قسم عن أوربا والعادات القديمة والوسيطة والشعبية من روسيا والقوقاز والفنلنديين إلى الفرنسيين. وللكتاب مراجع عامة تضمنت دراسات في موضوعات محددة عبر الثقافات. وأكثر الكتب التي ذكرها المؤلف طبعت في الربع الأول من القرن التاسع عشر، ويتضح منها الاهتمام الكبير بالرحلات والكشف عن حياة الشعوب في كل القارات وجزر المحيطات.
ثانيًا:الطهطاوي والمقدمة الموسوعية(250/4)
كتب الطهطاوي تمهيدًا كبيرًا للترجمة يشغل الصفحات (1-104) أطلق عليه اسم سَابِقَة، وهذه الكلمة تستحق عناية خاصة في سياق استخدام المؤلفين حتى عصره لما كانوا يقدمونه قبل الموضوع الأصلي في كتبهم. هذا معجم موسوعي صغير ذو هدف واضح، وهو بعبارة الطهطاوي نفسه: "شرح الكلمات الغربية التي توجد في كتاب قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر مرتبة على حروف المعجم مضبوطة حسب الإمكان ومفسرة على الوجه الأتم" (ص1). لقد استخرج الطهطاوي هذه المداخل من الكتاب ونظر في بعض المراجع المساعدة، وقدّم بهذا كله شرحًا تعريفيًّا لكل مدخل منها. هدف هذه السابقة تقديم معلومات لغويَّة وتاريخيَّة ومعاصرة عما ورد في الكتاب من أسماء بلدان وأشخاص.
كان الطهطاوي مدركًا لأنه يقدم كلمات جديدة لم تذكرها المعجمات العربية أو معجمات المعرّبات، ومن هنا أهمية هذا العمل. كتب الطهطاوي: "ولما كانت هذه الألفاظ في الأغلب أعجمية، فلم ترتب إلى الآن في كتب اللغة العربية، وكان يتوقف فهم هذا الكتاب عليها عربناها بأسهل بما يمكن التلفظ به فيها على وجه التقريب حتى إنه يمكن أن تصير على مدى الأيام دَخِيلة في لغتنا كغيرها من الألفاظ المعربة عن الفارسية واليونانية"(ص1). والطهطاوي هنا يقوم بتعريب هذه الكلمات وهو واعٍ بأنها يمكن أن تستخدم بوصفها من الكلمات الدخيلة.
إنّ حصر هذه الكلمات الجديدة وشرحها جزء من تصوّر شامل لأهمية استيعاب المعاجم لكل مستحدث. كتب الطهطاوي: "ولو صنع المترجمون نظير ذلك في كل كتاب تُرجم في دولة أفندينا ولي النعم الأكرم لانتهى الأمر بالتقاط سائر الألفاظ المرتبة على حروف الهجاء ونظمها في قاموس مشتمل على سائر غريب الألفاظ المستحدثة التي ليس لها مرادف أو مقابل في لغة العرب أو الترك فإن هذا مما يفيد التسهيل على الطلاب، وبه تحصيل الإعانة على فهم كل علم أو كتاب" (ص1).(250/5)
وهنا نجد – إلى جانب الفكرة العامة بتنمية المعجم العربي في أحد جوانبه – كلمة قاموس بالمعنى الاصطلاحي الشامل لهذا النوع من الأعمال المرجعية اللغوية، وليس تسميته لعمل معجمي واحد. وهذا المعنى الاصطلاحي استقر في العربية في العصر الحديث، كما نجد هدف هذا العمل واضحًا، وهو المعاونة في القراءة لكتب جديدة في العلم.
تضم هذه السابقة أسماء أماكن وشعوب في مناطق العالم الجديد لم تكن أسماؤها معروفة للمؤلفين العرب وأسماء شعوب وأماكن في مناطق أخرى من العالم القديم رأى الطهطاوي أهمية التعريف بها. بدأت هذه السابقة بمدخل هو أبرزيلة، وفيه نجد كلمات جديدة ومهمة منها أمريكة والبرتوغال. ومن العالم القديم نجد الأعلام الجغرافية، الموسقو، أروبا، بحر الخزر، نهر ولغا. ونلاحظ هنا كتابة صوت (k) الأوربية تارة بالقاف طبقًا لنسق التعريب القديم وتارة بالكاف طبقًا للعرف الجديد، كما نجد حرف الواو بقيمته الصوتية
في اللغة التركية تدوينًا لصوت (V).
أسماء الشعوب كثيرة، كلمة الإفرنج ترد كثيرًا في تسمية سكان أوربا بعضهم أو كلهم وهي كلمة متداولة في العربية منذ عدة قرون قبل الطهطاوي، ولكن أسماء الشعوب والقبائل والجماعات المكتشفة بعد ذلك شرحها الطهطاوي في هذه السابقة، وبعضها في سياق داخل عن العالم الجديد: أروقانا إقليم في أمريكة في جنوب بلاد شيلي بين جبال إنده والبحر، "يقال لهم الأرقو ومستقلون بأنفسهم أعداء للأسبانيول وهم شجعان ومتوحشون وبأرضهم معدن ذهب عظيم(ص2). ومن أقصى الشمال في أمريكا ذكر الطهطاوي شعب "اسقيمو وأنهم مثل أهل لابونيا والسمويد ولهم توحش عظيم". وهنا نجد إلى جانب الاسيكمو ذكر شعبين آخرين، أحدهما: أهل لابونيا أي اللاب من أوربا الشمالية والثاني السمويد من الشعوب التركية في أقصى شمال آسيا.
وفي الوقت نفسه نجد الطهطاوي(250/6)
أفاد من المعلومات الواردة في التراث العربي في سياق كتاباته عن بعض المداخل، مثل: أورال، وسيلان، وسومطرا.
خصص الطهطاوي مداخل محدودة لأسماء الأعلام، كتب عن أوميروس في صفحتين معلومات مهمة عن رحلاته وأشعاره وقد اعتمد الطهطاوي في صيغة هذا الاسم على ما كان قد عرفه في التراث العربي، وقد أشار إلى قول لابن الصائغ في ديوانه يتضمن اسم: أوميروس. وهذه الصيغة تتفق في عدم نطق (h) مع الصيغة الفرنسية ولكنها تحتفظ بالنهاية اليونانية (os). وتقترب من الصيغة الأصلية اليونانية. وهنا نجد اسم ملحمته إلْيَادَة وملحمته أُودِسَّة مع ضبط الاسمين والإشارة إلى المشكلة الهومرية بشأن الشك في وجود المؤلف ومشكلة تدوين الملحمتين كما كتب أكثر من أربع صفحات عن بطرس الأكبر قيصر روسيا ( 28 – 32 ). وشبيه بهذا شرحه للمدخل المخصص للقب بابا (ص1)، وهنا نجد كلمات بعضها قديم، ولكن ورود كل هذه الكلمات هنا له أهميته في تاريخ استخدامها، منها: اسقف، الكرادلة.
الطريق هنا أن الطهطاوي خصص مدخلاً كبيرًا لآلة البارومتر، سماها بارومترا( ص16). عَرَّب هنا الصيغة الإيطالية، وكتب عن هذه الآلة أكثر من ست صفحات ( 16 – 22) حافلة أيضًا بالمصطلحات مثل المُنْجَمِدَات (16) والمائعات (17)، والجاذبية(21)،وخواص الجسم(17)، واهتم كذلك بأسماء الآلات، مثل الترمومتر (ص1)، والميكروسكوب (ص18) وشرحه بأنه "النظارة المكبرة".(250/7)
لم يقتصر الطهطاوي على العالم الجديد والمناطق المكتشفة فإنه ذكر أيضًا تأصيلاً لغويًّا طبقًا للمعلومات المتاحة آنذاك ومعلومات عن أماكن مألوفة في الأندلس. كتب: اغرناطة أو غرناطة مدينة من مدن الأندلس، وهي آخر تخت من تخوت ملوك الأمويين ببلاد الأندلس، وهي معرّبة من لغة أسبانيا عن اغرناده التي معناها رمانة" (ص2). والطهطاوي هنا دقق في التأصيل ولكنه لم يدقق في التاريخ، وذلك لأن آخر عهد للحكم الإسلامي في غرناطة في حكم الأمويين الذي كان قد انتهى.
صورة العالم في هذه السابقة تتضح فيها ملامح المناطق الآتية – إلى جانب الحضارة العربية الإسلامية:
أ- اليونان والرومان والجرمان والغال.
ب- أوربا في كل أقاليمها.
جـ - آسيا الوسطى:قبائلها وشعوبها.
د- الهند والصين.
هـ - جزر المحيطات.
و – أمريكا (الشمالية والجنوبية والجماعات القديمة فيهما).
تضاف إلى كل هذه المعلومات مداخل أخرى عن بعض الفنون قدّمت للقارئ العربي معلومات عن الفنون الحديثة مثل أوبرا أو أوبرة (ص8) وسبكتاكلات(ص8،ص49 – 50) وتياترة (ص38). وفي هذه المداخل نجد ألفاظًا بدلالات جديدة، منها اللاعب واللاعبة (ص50) في تسمية من يعمل في الفنون المسرحية.
وتتضح أهمية هذه السابقة من حيث تاريخ الكلمات وقضايا التعريب والتدوين في الجوانب الآتية:
ضبط الكلمات الدخيلة، كما كان ينطق بها في بداية النهضة في مصر والتعبير عن ذلك بمصطلحات متداولة مثل المُوَحَّدَة والمُثَنَّاة والمُثَلَّثَة، وكذلك الفوقية والتحتية.
استمرار العرف القديم في تدوين كلمات دخيلة منذ قرون مثل صقلية (ص58) والصقالبة (ص57) والصين (ص59)، وبداية التحول من العرف القديم إلى العرف الجديد في كتابة الأصوات غير العربية بالحروف العربية في الكلمات الجديدة:
K (ق أو ك) أمريقا/ أمريكة
t (ص أو ت)بريطانية(ص8) /بارومتر(ص1).
s (ص أو س) صيطا(ص58) /سرب (ص).(250/8)
تدوين حرف الواو للدلالة على القيمة الصوتية لصوت (V)، مثل ولغا Vulga وكذلك اسوج Swege، سكندناوة(ص51) Scandinavie .
استخدام الباء المثلثة المدلالة على صوت (P) المهموسة، مثل پاپا (ص16).
استمرار استخدام حرف الغين للدلالة على القيمة الصوتية لصوت (g) الانفجارية مثل غوتيق (ص63)، وكذلك تدوين الصوت نفسه بحرف الكاف، مثل إنكلترا (ص7)، وليس بالكاف الفارسية وكذلك كازيطة (17).
ومحاولة الرد إلى الأصل جعلته يكتب قيقرو أو قيقرون (ص72)، طبقًا للنطق اللاتيني، وليس شيشرون.
التأثر بالكتابة الفرنسية والنقل عنها بدون مراعاة النطق في اللغة الأصلية، وذلك في كتابته عن "مدينة تسمى وسهنجتون (ص14)، في مقابل Washington، وبذلك جعل (s) في هذه الكلمة صوتًا، و(h) صوتًا آخر، دون ملاحظة أنهما يدلان معًا على صوت واحد آخر sh (ش).
اعتماد الأسماء الفرنسية، مثل اسْطُونْيين (ص4) Estonien وليس Estonia، واقتراض الاسم الفرنسي للولايات المتحدة الأمريكية: Etats Unis ايتازوني أو ايتازونيا(ص14) مع وضع نهاية، وكتب أيضًا عن لندرة Londres (ص61).
كلمات وتراكيب عربية، مثل جبل النار Volcano (ص4) وكتبخانة Bibliothèque (ص5).
ذكر صيغ متعددة معربة للكلمة الواحدة واستقرار صيغة واحدة منها بعد ذلك: اسوج... وربما سميت بلاد السويد أو بلاد سويج أو بلاد اسويجة (ص5).
محاولة تأصيل بعض الكلمات بذكر معناها في لغاتها، مثل غرناطة (ص5) وفرنك (ص6)، ورومة (ص43).
استخدام مصطلحات وتعبيرات متداولة في النسق التركي، مثل قابولستان (ص6) أي بلاد كابول وما يسمى حاليًّا أفغانستان، وبلاد البشتاق (ص50) وما يسمى حاليًّا باسم البوسنة.
محاولة تعرف المصطلحات العربية إلى جانب المصطلحات الأوربية، مثل: "بحيرة خوارزم بالأفرنجية بحيرة آرال" (ص4).
ثالثًا : الطهطاوي وترجمة الكتاب(250/9)
كتب الطهطاوي مقدمة للترجمة تبين ظروف ترجمة الكتاب وأهمية نقله إلى العربية ومنهجه في عمل ذلك. نقله الطهطاوي وهو يدرس في باريس، كتب في مقدمة الترجمة: "طلب مني الخواجة جومار مدير تعليم الأفندية المصريين المبعوثين من طرف حضرة ولي النعمة إلى باريس كرسي الفرنسيس أن أترجم إلى العربية كتابًا لطيفًا يسمى بما معناه ديوان قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر فأجبته لذلك، علمًا بأنه نصوح في محبة أفندينا ولي النعم ومحب لمصر كأنها وطنه ويسارع في أن يشحنها بالمعارف والحكم" (ص2). ويثبت ذلك أيضًا إشارة الطهطاوي نفسه في تخليص الإبريز إلى هذا الكتاب بعنوان كتاب العوائد والأخلاق (تخليص 28)، وفي موضع آخر استفسر المستشرق رينو من الطهطاوي بتكليف من دبنج عن طبع ترجمة الكتاب في القاهرة ورغبته في الحصول على بعض النسخ (تخليص 331). وقد فصل الطهطاوي موضوعات الامتحان الأخير الذي رجع بعده إلى مصر، وفيه دفتران، تضمن الأول عدة موضوعات كان الطهطاوي قد ترجمها منها: كتاب دائرة المعارف في أخلاق الأمم وعواديهم (ص14). وبعد أن عاد الطهطاوي إلى مصر طبع هذا الكتاب سنة 1249هـ، متضمنًا السابقة المفصلة والنص المترجم. أما النصوص الأخرى التي يتضمنها الملف الأول فقد نشر الطهطاوي أهمها في تخليص الإبريز (1834م).(250/10)
يتضح من تقديم الطهطاوي للترجمة أهدافه من عملها، أراد تقديم قدر من المعرفة، كتب: "إن طبيعة كل فاضل، بل كل إنسان تشتاق إلى الإحاطة بعلم سائر المخلوقات التي ظهرت وانكشفت بواسطة الأسفار برًّا وبحرًا وإلى علم معاشها ومعادها وسائر عوائدها وفوائدها وأحوالها ومحالها إلى غير ذلك" (ص1). وهذا الهدف المعرفي يرتبط بزيادة حجم المعرفة المتاحة حتى أوائل القرن التاسع عشر من خلال كتب الرحالة الذين اعتمد عليهم المؤلف في تعرفه لأنماط الحياة في كل أنحاء الأرض. كان الطهطاوي مدركًا أهمية تقديم صورة المناطق المكتشفة وهي " بلاد الأمريكية والجزائر التي بالبحر المحيط" (ص2) من جانب ومدركًا استكمال المعلومات عن قسم آخر من الأرض "كان معروف الاسم مجهول الحال كالبلاد الأفرنجية والهندية والصينية وباطن الأراضي السودانية" (ص2). وتتضح من قائمة المراجع التي اعتمد عليها المؤلف مدى استيعابه لكل هذه المناطق. هذه المعلومات أصبحت متاحة في كتب "الأفرنج"وذلك بسبب"التجارات والمخالطة لسائر البلاد"ولذلك "اتسعت معارفها في الجغرافيا والميقات"، وقد وجد الطهطاوي أنه "لا سبيل حينئذ في معرفة أحوال البلدان والخلايق إلا بنقلها عمن حققها من الإفرنج".ومن هنا أهمية الترجمة العربية لهذا الكتاب.(250/11)
هناك تعديلات في الترجمة العربية جعلتها تختلف عن الأصل الفرنسي. وقد ذكر الطهطاوي أنه "حذف ما يذكره مؤلف الكتاب من الحط والتشنيع على بعض العوائد الإسلامية أو مما لا ثمرة لذكره في هذا الكتاب"(ص2). وقد دلت المقابلة بين الأصل الفرنسي والترجمة العربية أن الطهطاوي حذف أيضًا عدة صفحات من الكتاب لا صلة لها بالعوائد الإسلامية. من ذلك – على سبيل المثال – مقدمة المؤلف وتقع في أربع صفحات من الأصل. وحذف الطهطاوي أيضًا هامشًا يوجد في الصفحة (17) من الأصل وكان من المتوقع وجوده في الصفحة العاشرة من الترجمة. وليس فيها ما يدخل في التحفظ الذي ذكره الطهطاوي. وحذف الطهطاوي أيضًا قائمة المراجع التي تشغل ست صفحات في آخر الأصل الفرنسي، وتضم – في المقام الأول – كتب الرحالة الذين اعتمد عليهم دبنج، كتبوا عن آسيا وأمريكا وجزر المحيطات كما كتبوا عن العرب والأفريقيين والأوربيين.
تختلف الترجمة عن الأصل من حيث تنظيم النص في داخل كل فصل، وذلك لأن الترجمة المطبوعة حذفت فيها كل التقسيمات في داخل الفصل. لم يستخدم المترجم نظام الفقرات أو علامات الترقيم. تتابعت الكلمات في كل فصل من أوله حتى آخره دون تقسيم داخلي، وذلك على الرغم من وجود نظام الفقرات وعلامات الترقيم في الأصل الفرنسي.
هذا الكتاب له أهمية كبيرة في تاريخ المصطلحات وألفاظ الحضارة في العربية. لقد أفاد الطهطاوي في هذه السابقة وفي الترجمة أيضًا من التراث العربي ومن المتداول في عصره. يتضح هذا على وجه الخصوص في السابقة في كلمات مثل:سلطانية(ص5)، مملكة (ص4)، سراية (ص5)، تخت (ص5)، الأفلاق(ص6)،ولاية (ص6)، الدولة الالتزامية (ص9)، ومن الجانب الآخر نجد عنده تراكيب طريفة، منها: علم الخرافات (ص9)، الكرة الأرضية (ص10)، وعنده كلمات جديدة أخرى تستحق بحثًا تاريخيًّا لغويًّا، مثل كلمة جمهورية (ص11).(250/12)
طريقة الترجمة عند الطهطاوي تعتمد على المعنى العام للجملة والتعبير عنه بالعربية بأقل الكلمات، والطهطاوي لديه مهارة عالية في اختصار العبارة.
كل أمة Les divers Peuples de la terre
il y en a de si malheureux ou de si imprévoyans
فمن الناس من هو فقير الحال
Les plus délicates de toutes les parties de monde
أحسن مطعوم ومشروب
(قارن في الأصل 14 وفي الترجمة ص8).
وبعض المواضع يلاحظ حذف ترجمة المصطلح وما يتصل به اكتفاء بما ورد معناه في عبارة شارحة سابقة:
qui habitait les cavernes et que l'an applelait les troglodytes (p.5)
الترجمة: من .... يتخذ الكهوف والمغارات بيوتًا (ص4)، وبذلك حذف النص الثاني من العبارة المتضمن مصطلح troglodytes بمعنى
سكان المغارات.
ومن ذلك أيضًا حذف اسم علم اكتفاء بترجمة المعنى، من ذلك حذف اسم علم الشخص مثل (p12) des Héros d' Homére وفي ترجمة من مدحهم الشعراء (ص12)، ومثل هذا عدم ترجمة اسم الكتاب المقدس La Bible وجعل في مكانه: وهذا ما يحكى عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم(ص12).
وإلى جانب هذا وذلك نجد حذف جزئيات حضارية يصعب إيجاد المقابل المباشر لها، مثل أسماء الأطعمة، ذكرت في الأصل ( 22 – 23) وحذفت في الترجمة (ص12).
وعلى العكس من هذا كله نجد في الترجمة إضافات كبرى هي أدنى إلى التعليق. ومن ذلك ما ذكره الطهطاوي تعليقًا على طعام الفرنسيين، وقدم لذلك بعبارة : "ولمترجم هذا الكتاب أن يقول ...".... وهذا التعليق في اثنين وعشرين سطرًا،وختامه: آمين، انتهى كلام مُعَرِّب هذا الكلام(ص13).(250/13)
أما الإضافات المتكررة فهي زيادات شارحة أدخلها المترجم في سياق المتن، مثال ذلك موضوعات تناول بعض الأطعمة بالملعقة وابتداع استخدام الشوكة والسكين، أدخل الطهطاوي قبل ترجمة النص عبارة: ومما أعد من البدع المستحسنة (10). ومثل هذا إضافة عبارة: "وليس هذا بعجيب لما أن أكل الجراد حلال" (ص9). وهنا نجد مصطلحات فقهية إسلامية لا وجود لها في الأصل الفرنسي مثل البِدَع والحَلال. ومن الإضافات الشارحة ما يحدد الأماكن، مثال ذلك في الأصل في روسيا dans la Russie (p.g) ، فأضافت الترجمة: يعني بلاد موسقو (ص6). ومثل هذا نجده في ذكر جزر الفلمنك الجديدة la Nouvelle-Hollande فأضافت الترجمة: في البحر المحيط الأكبر (ص5) وكذلك: بلاد برو، أضافت الترجمة: في بلاد أمريكا (ص8) وهذه العبارات الشارحة المضافة كثيرة.
رابعًا: الترجمة وألفاظ الحضارة
هناك مصطلحات وألفاظ حضارية نجدها في الترجمة بالعربية على سبيل الاشتقاق من مواد لغوية عربية ومن أوزان عربية. من ذلك كلمة طِبَاعة بوزن فِعَالة للدلالة على الصناعة الآلية للكتاب وغيره. نجدها في الترجمة (64) في عبارة: بعد ظهور الطباعة، في مقابل : depuis que l'imprimérie (p.135-136)
وأصبحت هذه الكلمات العربية من متطلبات تلك السنوات في عصر محمد علي عندما بدأت المطبعة الأميرية ببولاق التي طبع فيها هذا الكتاب.
ومن الأبنية الصرفية القياسية، التي نجد منها كلمات دخلت في مصطلحات مهمة، وزن مُفَاعلة. وهناك كلمتان مُنَاطَحة ومُلاكَمَة. الكلمة الأولى في سياق "المناطحة للثيران" (ص53) في مقابل Les combats de taureaux (p.109) والكلمة الثانية ملاكمة (ص53) في مقابل ce qu'il appelle boxer (p.111).(250/14)
وزن مَفْعَلة نجده للدلالة على المكان في كلمة مَلْعَبة (ص67)، كتب الطهطاوي: في مدينة باريس خمسة وعشرون ملعبة من هذا اللعب، أعلاها الملعبة المسماة الأوبرة" (ص67)، وذلك تارة في مقابل théâtre وتارة في مقابل salle des spectacles (p.142) .
هناك دلالات جديدة في مجال الفنون المسرحية، عبر عنها الطهطاوي بالمادة: ل ع ب ، من ذلك الفعل: لعب واسم الفاعل منه: لاعب(ص67) في مقابل Les acteurs (p.145-147) و Jouer وقد تكررت الكلمات العربية لعب واللعبة ولاعب ولاعبة ولاعبون واللَّعَّابُون في الفصل الخاص في موضوع لعب السبكْتاكْل الرومية. هذه الكلمات تتخذ دلالات جديدة تتجاوز مجرد الحركة بهدف التسلية إلى تقديم العروض المسرحية، ولم يستخدم الطهطاوي هنا الفعل شَخَّص، كما لم يستخدم الفعل مَثَّل ومشتقاته على النحو الذي استقر بعد ذلك.
أفاد الطهطاوي من كلمات محلية للدلالة على مفاهيم لها أصولها في الحضارة العربية الإسلامية، وإن أصبحت في تطورها الأوربي الحديث جديدة نسبيًّا. ومن ذلك كلمة مَنْدَرَة (ص77)، كذا وليس الصيغة الفصيحة: منظرة في مقابل:
I'atrium ou la grande salle voutée(p.10)
وكتب الطهطاوي عن: خَزْنَة الكَرَار(ص7) في مقابل l'office (p.11) وعن خَزْنَة الكتب (ص7) في مقابل la bibliothèque (p.11)
التركيب وسيلة من الوسائل اللغوية للتعبير عن المفاهيم الواردة في الأصل الفرنسي. نقل الطهطاوي مصطلح les antiquités إلى: آثار القدماء(ص4)، وقد استقر هذا المصطلح بعد ذلك بحذف المضاف إليه، واتخذ دلالة اصطلاحية جديدة ومستقرة ولها أصولها العربية.عبر الطهطاوي عن les restaurants بالتركيب الإضافي: بيوت الأكل(ص13).(250/15)
كان الاعتماد على اللغة الفرنسية سببًا في ظهور أسماء بصيغ مخالفة للغة الأصل. ونذكر مثالاً من ألمانيا: شعب ومنطقة شفابن Die Schwaben في الجنوب الغربي، ذكر المؤلف الكلمة بالفرنسية La Souabe (p.120) ، وفي الترجمة نجد: "وفي بلاد النمسا سوابة (ص ) . وهكذا عرَّب الطهطاوي الكلمة عن الفرنسية. أما اسم بلاد النمسا فكان يدل في كتاباته على ألمانيا كلها.
وتتعقد الصيغة أكثر مع ذكره للفنلنديين بكلمة Les Finnois (p.123) ، ونقل ذلك إلى العربية: الفِنْوَى (ص58). وأسماء المدن كتبت بالنطق الفرنسي، مثل Londres لندرة، ومثلها New Market (p.113) كتبت مدينة نيومركة (ص54)، وكذلك أسماء الدول: (les) Etats Unis (p39) مقابلها في الترجمة مع الشرح: الايتَازُوِني أي مجمع الدول من
أمريكة (ص20).
الكلمات الدخيلة من الفرنسية تقدم في الترجمة فنونًا جديدة. كتب الطهطاوي عن السِبكْتَاكْل وأنها تسمى الكوميدية والتياتره ( ص 66 ، 67) في مقابل الكلمات الفرنسية comédie(p.143), les spectacles (p.141), théâtres(p.142). وباستثناء كلمة كُمِدْيَة التي استخدمها الجَبَرْتي فإن الفن المسرحي كان في هذه الكلمات من الجديد بالنسبة لقراء هذه الترجمة العربية.
ولهذا كله تعد هذه الترجمة العربية التي أعدها الطهطاوي وقدّم
لها ونشرها من أهم النصوص في تاريخ لقاء الثقافات، ولها أهميتها في التأريخ للمصطلحات وألفاظ الحضارة في اللغة العربية في بداية النهضة الحديثة. إنها تقدم الحلول اللغوية التي اقترحها الطهطاوي لإيجاد مقابلات دالة على المصطلحات وألفاظ الحضارة الحديثة، وتقدم في الوقت نفسه صورة للجديد في العلم والثقافة ومن هنا لها دلالتها أيضًا في تاريخ لقاء الثقافات.
محمود فهمي حجازي
عضو المجمع(250/16)
أثر الشعراء والنُّقَّاد الغربيين في شعرائنا ونُقَّادنا
في تحليل النص الشعري(*)
للأستاذ الدكتور محمد إحسان النص
جرى شعراؤنا القدامى على سنن وأعراف واضحة المعالم في نظام القصيدة العربية، وقد تبلورت هذه الأعراف فيما بعد فيما أطلق عليه مصطلح "عمود الشعر" والتزم هذه السنن شعراؤنا أحقابًا طوالاً قبل أن تتعرض القصيدة العربية لهزّات عنيفة في شكلها ومحتواها منذ أوائل القرن العشرين.
كان الشاعر العربي قبل الإسلام يفتتح قصيدته بالوقوف على الأطلال ووصف آثار الديار العافية ويعرّج بعد ذلك على النسيب، يقول فيه أبياتًا يمهّد بها لغرض القصيدة الرئيس. وقد يتخلل المقدمة وصف للناقة أو الثور الوحشي وغيرهما من ضروب الحيوان.
وقد ظل الشعراء في العصر الإسلامي يلتزمون هذا النهج، بوجه
عام، لم يشذ عنه إلا شعراء الغزل، ولاسيما شعراء الغزل العذري، فقد شغلهم حبهم عن الالتفات إلى فنون الشعر الأخرى ووقفوا شعرهم على الغزل وحده. وكان أكثر الشعراء التزامًا لنهج القصيدة الجاهلية شعراء المديح، وفي مقدمتهم جرير والفرزدق والأخطل.
وقد استقر في العصر الإسلامي شكل القصيدة العربية حين استخلص العالم الفذّ الخليل بن أحمد أوزان الشعر العربي من استقراء النصوص الشعرية ووضع قواعد علم العروض وفصّل في ذكر ما يعتري التفعيلات من الزحافات والعلل، كما أسس علم القافية من حيث أنواعها وحروفها وصورها. ثم جاء الأخفش فزاد في البحوث الشعرية بحرًا أتم به عدد البحور ستة عشر بحرًا وسماه
البحر المتدارك. ولم يكد يطرأ على صنيع الخليل في الأوزان الشعرية والقافية تغيير ذو شأن إلى يوم الناس هذا.(251/1)
على أنه ظهرت في العصر العباسي وفي الأندلس أشكال جديدة للقصيدة العربية (الموشح والزجل في الأندلس المواليّا والقوما والدوبيت في المشرق)، وهذه الأشكال بقيت هامشية في مسيرة الشعر العربي، فقد ظلّ جمهور الشعراء ملتزمين سنن القصيدة المتوارث في شكل القصيدة ومحتواها، ولم يتمرد على هذا النهج في العصر العباسي إلا بعض الشعراء المولدين ومنهم أبو نواس الذي دعا إلى التخلّي عن وصف الأطلال واستبدال وصف الخمر به فقال:
دع عنك ليلى ولا تطرب إلى هند
واشرب على الورد من حمراء كالورد
وسخر من الأعراف الشعرية التي تقضي باستهلال القصيدة بالوقوف على الأطلال فقال:
قل لمن يبكي على رسم درس
واقفًا ما ضرّ لو كان جلس
ومع ذلك فإن أبا نواس اضطر إلى التزام النهج التقليدي في مدائحه إرضاءً للممدوحين كقوله في مطلع إحدى مدائحه للرشيد:
قد طال في رسم الديار بكائي
... وقد طال تردادي بها وعنائي
على أن ثورة أبي نواس على نهج القصيدة كانت ثورة في فنجان، ولم يتابعه أحد في وصف الخمر بدلاً من وصف الأطلال.
ومن نواحي التجديد كذلك في نظام القصيدة العربية في العصر العباسي استهلال بعض الشعراء الحكماء قصائدهم بالحكمة مكان وصف الأطلال.ومن هؤلاء أبو تمام والمتنبي، وقد أظهر المتنبي ضيقه بالتزام الشاعر مدحه بالنسيب فقال:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم
أكل فصيح قال شعرًا مُتيم
وحين عمد بعض الشعراء إلى وصف الأطلال خالفوا القدماء في أسلوب العرض، فنسمع المتنبي مثلاً يقول:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها
وقوف شحيح ضاع في الترب(251/2)
ومنذ مستهلِّ القرن الثالث الهجري انصرفت طائفة من النقاد إلى (تقنين) نهج القصيدة العربية ووضع أصولها، وأول محاولة لهذا التقنين تمت على يد ابن قتيبة الدينوري (213 – 276هـ) في مقدمة كتابه "الشعر والشعراء"، وهو ينسب كلامه على نظام القصيدة إلى بعض أهل العلم، فذكر ابتداء القصيدة بذكر الديار والربع والآثار وارتحال الظاعنين عنها ثم وصله الوقوف على الأطلال بالنسيب وانتقاله إلى وصف رحلته ثم إلى غرضه من القصيدة وهو المديح، ثم قال: "فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدّل بين هذه الأقسام". فهو إذن قيد شعراء المديح بنهج القصيدة الموروث عن القدماء. ثم قال: "وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزل عامر أو يبكي عند مُشيَّد البنيان، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الدائر والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح...".
لقد جمّد ابن قتيبة شكل قصيدة المديح وحبسها في قوالبها القديمة ولم يبح للشعراء المحدثين أن يخرجوا عن هذه القوالب الشكلية وعن محتوى أقسام القصيدة.
وقد سبق ابن قتيبة ناقد نافذ البصيرة هو محمد بن سلام الجمحي (139 – 231هـ) فقدم لكتابه "طبقات فحول الشعراء" بمقدمة طويلة أبرز فيها ظاهرة انتحال الشعر، ولكنه لم يعرض لنظام القصيدة العربية، وإنما اكتفى بالحديث عن صناعة الشعر فقال: "للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات، منها ما تثقفه العين ومنها ما تثقفه الأذن ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان".(251/3)
ثم يأتي ناقد آخر كان متأثرًا بالمنطق اليوناني وهو قدامة بن جعفر (275 – 337هـ)، فيضع في كتابه "نقد الشعر" تعريفه المشهور بأنه: "قول موزون مقفى يدل على معنى"، ويجعل للشعر عناصر أربعة هي: اللفظ والوزن والقافية والمعنى، وهذا التعميم في حد الشعر من شأنه أن يدخل في الشعر كل كلام موزون مقفى وإن لم يكن ينطوي على مقومات الشعر الحقيقية.
وقد عاصر قدامة بن جعفر شاعر وناقد بصير بمذاهب الشعر هو أبو الحسن أحمد بن محمد المعروف بابن طباطبا (ت322هـ) فوضع كتابه الموسوم بـ "عيار الشعر"، الذي عرض فيه نظراته الصائبة في مقومات الشعر الشكلية والمعنوية خلافًا لقدامة بن جعفر الذي وضع للشعر قالبًا شكليًّا لا يمت إلى حقيقة الشعر بصلة.
جعل ابن طباطبا للشعر أدوات ينبغي توافرها في الشاعر قبل إقدامه على قول الشعر، وجعل الشعر صناعة، على الشاعر أن يستوعبها ويهيئ أدواتها، وجعل عيار الشعر "أن يعرض على الفهم الثاقب، فما قبله واصطفاه فهو وافٍ وما مجه ونفاه فهو ناقص"، وبذلك جعل تقويم الشعر وقفًا على الفهم والنظرة الثاقبة، وهذه النظرة المعيارية تختلف من ناقد إلى آخر، وتتوقف على التذوق للشعر، وضمَّن كتابه نصائح ونظرات يستهدي بها من أراد ولوج باب الشعر، وهذه النظرات النافذة تنبئ بما أوتيه ابن طباطبا من صحة الطبع الشعري وملكة التذوق المرهفة. على أنه لم يعرض لشكل القصيدة ونهجها.(251/4)
حتى أوائل القرن الخامس الهجري لم يأت ناقد يضع نظرية نقدية في تحليل القصيدة العربية، وكان شراح الدواوين الشعرية يقنعون بشرح معاني الألفاظ والأبيات، وقد يجنح بعض منهم إلى بيان رأيه في صور الشاعر وأخيلته، ما حسن منها وما قبح، مستندًا إلى حسه النقدي ومقدرته على تذوق الشعر واستشفاف مواطن الجمال والإبداع فيه. إلى أن أتيح للنقد العربي أن يظهر فيه علم فذ من أعلام النقد والبلاغة هو عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) الذي وضع أسس النقد المنهجي للنص الأدبي، شعرًا كان أو نثرًا، مدفوعًا ببيان الإعجاز القرآني، فوضع نظريته في النظم التي فسَّر بها الإعجاز القرآني والتي تنسحب على فن القول عامة.
وبعد انقضاء مئتي سنة على وفاة عبد القاهر الجرجاني يظهر ناقد فذ على نقد الشعر والبلاغة نظرات مبتكرة تغير ما ألفناه لدى نقادنا القدامى هو أبو الحسن حازم القرطاجني (608 – 684هـ) فيؤلف كتاب "منهاج البلغاء وسراج الأدباء"، الذي يعد فتحًا عظيم الشأن في موضوع الأدب بفرعيه النثر والشعر، وقد تزود حازم بثقافة واسعة خصبة متنوعة الآفاق: لغوية ونحوية وعقلية وفلسفية عربية ويونانية، وأخذ علمه عن شيوخ لا حصر لعددهم، وترك مؤلفات في جميع هذه العلوم، وكان إلى ذلك شاعرًا مجيدًا. ومما يؤسف له أن القسم الأول من كتابه المنهاج قد فقد وسلم لنا باقيه، وقد تناول فيه صناعة الشعر، ففصَّل القول في معاني الشعر ومبانيه وأسلوبه.(251/5)
وحتى ذلك العهد ظلّ الشعر العربي وفيًّا للشكل التراثي الخليلي، فكان شعرًا موزونًا مقفى يتألف من أبيات وكل بيت يتألف من شطرين، وينتهي الشطر الثاني بقافية تتكرر في جميع أبيات القصيدة، ولم يطرأ على هذا الشكل تغيير ذو بال إلا ما وجدناه من ظهور شكل الموشح الأندلسي وأشكال أخرى في العصر العباسي، ولم يقدر لهذه الأشكال الجديدة الاستمرار بل سرعان ما توارت، وظل الشعراء يقولون شعرهم على النهج الخليلي. وظلت رسوم القصيدة المتوارثة قائمة طوال العصور اللاحقة، باستثناء ما خالف فيه الشعراء المولدون في العصر العباسي أسلافهم في استهلال القصائد بالحكمة لدى المتنبي وأبي تمام أو بموضوع القصيدة مباشرة أو الخمريات عند أبي نواس.
كان النقد يواكب الحركة الشعرية في هذه الأحقاب، ولكن معظم النقاد كانوا من ذوي الثقافة العربية الخالصة وكانوا يتشبثون بنهج الشعراء القدامى، بل إن منهم من أعلن عدم رضاه عن شعر المولدين لما فيه من مخالفة ما ألفه العرب وما ألفوه هم من مذاهب الشعر، وكثيرون منهم وقفوا أمام شعر المحدثين عاجزين عن استيعاب الأساليب الجديدة ولم يرضوا عن إقحام النظر العقلي والمنطق والمعاني الغامضة في الشعر، ونحن نذكر المساجلة الطريفة التي قامت بين ناقد متشبث بالقديم هو أبو العميثل وبين أبي تمام حين قال له: يا أبا تمام: لم تقول ما لا يفهم؟. فأجابه أبو تمام: لم لا تفهم ما يقال؟. وهذه المساجلة تبرز مباينة أبي تمام لما ألفه النقاد والشعراء القدامى فهنا مناظرة بين ذوقين: ذوق عربي خالص يرى أن الشعر ينبغي أن يكون واضح المعاني بعيدًا عن الغموض، وبين ذوق شاعر محدث ذي ثقافة عقلية فلسفية يغوص على المعاني فلا تدرك إلا بكد الذهن، وقد جاءتنا كلمة ابن الأعرابي حين سمع شعر أبي تمام فقال: إن كان هذا شعرًا فما قالته العرب باطل.(251/6)
وعلى أن البحتري كان تلميذًا وفيًّا لأبي تمام الذي أخذ بيده في مسيرته الشعرية بوصيته المشهورة، فإنه لم يرض عن إقحام الشعراء المنطق والتعقيد المعنوي في الشعر، فقال أبياته المشهورة التي منها قوله:
كلفتمونا حدود منطقكم
... والشعر يغني عن صدقه كذبه
والشعر لمح تكفي إشارته
... وليس بالهذر طولت خطبه
كان إذًا ثمة تعارض بين اتجاهين في قول الشعر ونقده: أحدهما يجنح إلى الغموض والغوص على المعاني وإيراد النظرات الفلسفية، وفي هذا الاتجاه نلمس أثر الفلسفة اليونانية ومنطق أرسطو، واتجاه آخر يحمل الطابع العربي الخالص الوفي لأعراف الشعر والقصيدة العربية التراثية. على أن أثر الثقافة الإغريقية كان مقصورًا على الجانب الفكري في أشعار الشعراء القدامى العقلانيين ولم يمس شكل القصيدة، فقد ظل الشعراء ينظمون شعرهم على الأوزان الخليلية ورسوم القافية المتوارثة.
وقد بدأ انحدار الشعر العربي في أواخر العصر العباسي واستفحل في عصر الدول المتتابعة، فأخذ الشعراء ينظمون في موضوعات تافهة ويعنون بالألغاز والأحاجي وكثر النظم في المدائح النبوية على أنه ظهر في ذلك العصر قلة من الشعراء المجيدين كابن التعاويذي، وصفي الدين الحلي والسّريّ الرفاء.
فلما أطل عصر النهضة برزت طائفة من الشعراء اتجهت إلى إحياء الرسوم الشعرية القديمة ومحاكاة الشعراء القدامى الفحول ولاسيما شعراء العصر العباسي، وكان لهؤلاء الإحيائيين فضل إعادة مسيرة الشعر إلى ما كانت عليه في عصور الازدهار الحضاري والأدبي، فعاد إلى الشعر العربي تألقه وأصالته، وكان رائد هذا الإحياء محمود سامي البارودي وعلي الجارم ومحمد الأسمر، ومن سار في موكبهم من شعراء مصر والعراق والشام ولم يظهر في شعر هؤلاء تأثر ذو بال بالشعر الغربي.(251/7)
ثم ظهر بعدهم عمالقة شعراء النهضة الذين أخذوا بيد الشعر في مسالك جديدة وأنهضوه من كبوته وفي مقدمتهم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران. ولم يخل شعرهم من مسحة تجديدية ومن تأثر بشعراء الغرب ولاسيما شعر خليل مطران الذي قدم لديوانه بمقدمة نقدية كانت معلمًا فارقًا في مسيرة القصيدة العربية. ومع أن مطران التزم الأوزان الخليلية فإنه أدخل في طائفة من قصائده تجديدًا طفيفًا في شكل القصيدة، فنظم الخماسيات في ديوانه "حكاية عاشقين" وقد أعانته معرفته باللغة الفرنسية في الاطلاع على الأدب الفرنسي الذي كان له صداه في شعره.
وقد عاصر هؤلاء الشعراء فئة نزعت إلى التجديد في محتوى النص الشعري ولكنها حافظت على القالب التراثي في معظم أشعارهم ومن هؤلاء جماعة الديوان: عباس محمود العقاد وعبد الرحمن شكري، وشعراء المهاجر: جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وآخرون. وفي شعر جبران ونعيمة خروج يسير على شكل القصيدة التراثية.
وفي تلك الحقبة بدأت رياح التجديد القادمة من الغرب تهب على المشرق العربي فيسير في تيارها الشعراء في مصر وسائر الأقطار العربية والمهاجر. وقد وقف هؤلاء الشعراء على المذاهب الشعرية الغربية بعد زمن من ظهورها في الغرب، وأول مدرسة تركت بصماتها القوية في إنتاج الشعراء العرب هي المدرسة الرومانسية Romantisme التي كان من أعلامها في فرنسا الشعراء: لامارتين Lamartine والفرد دي موسيه A.De Musset والفرد دوفينيي A.De Vigny وفيكتور هوجو V.Huge الذي يحتفل الآن في فرنسا بانقضاء مئتي سنة على مولده، وشيلر Schiller وهيلدرلين Helderlin في ألمانيا وكولردج coleridge ووردذورث Wordsworth وشيلي Shelly وبايرون Byron في إنجلترا.(251/8)
وقد ظهر بعد هؤلاء شاعر فرنسي متميز ورث نهج الرومانسية ولكنه انحرف عنه بعد ذلك إلى الرمز، فمهّد بذلك لظهور الرمزية في فرنسا هو شارك بودلير Ch. Baudelaire وقد اشتهر ديوانه الذي مثل مذهبه الشعري والذي يحمل عنوان "أزهار الشر Les Fleurs du Mal ".
وفي حين كان الشعر الكلاسي موضوعيًّا لا يعبر عن ذاتية الشاعر، كان الشاعر الرومانسي مناقضًا له في تعبيره عن ذاتية الشاعر ومشاعره وأحلامه، فهو ينبع من داخل (الأنا) في حين أن الشعر الكلاسي يصدر عن خارجها. وقد تأثرت بالمنحى الرومانسي الغربي طائفة من الشعراء العرب في المشرق العربي ومغربه والمهاجر منهم خليل مطران وجماعة أبوللو التي أسسها في مصر الدكتور أحمد زكي أبو شادي وكان من أعلامها إبراهيم ناجي وممن تأثروا بهذا المنحى كذلك علي محمود طه.
على أن المنحى الرومانسي ما لبث أن تلقى صدمة عنيفة من المنحى الذي خلفه، والمدارس الفنية إنما تتعاقب وفق قانون الفعل ورد الفعل، فقط ظهرت جماعة من الشعراء الفرنسيين لم ترض عن إيغال المدرسة الرومانسية في الذاتية وجعل (الأنا) محور القصيدة، وهم أتباع المذهب البارناسي Les Parnassians الذين كان رائدهم الشاعر لوكونت دوليل L.de lisle مؤلف أنشودة المارسييز الشهيرة، وكان منهم شعراء كبار أمثال تيوفيل جوتيه Th.Gautier وتيوفيل دوبانفيل، وسولي برودوم S.Prudhomme وهيريديا heredia وغيرهم، وقد أرادت هذه المدرسة أن تعيد الشعر إلى الموضوعية عوضًا عن الذاتية. بيد أن هذه المدرسة لم يكن لها أصداء ذات شأن في الشعر العربي المحدث، فقد ظل الشعراء العرب المحدثون الرومانسيون ماضين في قول الشعر وفق المنحى الرومانسي.(251/9)
وتعاقبت بعد ذلك المذاهب الفنية والنقدية في الغرب، يحمل كل مذهب منها رؤيته الخاصة في النص الشعري. وأهم مدرسة ظهرت بعد ذلك وتركت أصداءها القوية في الشعر العربي المحدث هي المدرسة الرمزية Symbolisme وقد رفضت هذا المدرسة أن يكون الشعر ترجمة للواقع، وذهبت إلى أنه حصيلة مشاعر وأفكار يعبّر عنها الشاعر بالإشارة والرموز. وقد ظهرت هذه المدرسة في فرنسا نحو عام 1885م وكان ظهورها رد فعل لمنحى الفن والمذهب الطبيعي، ومذهب الرمز ينحو إلى إعطاء الكلمات قوة إيحائية من طريق الرمز والإيقاع الموسيقي. وكان من رواد هذه المدرسة في فرنسا الشاعر فرلين Verlaine ورامبو Rimbaud ومالارميه Mallarmé وما لبث هذا المنحى أن وجد له أنصارًا خارج فرنسا لدى الشعراء البلجيكيين أمثال رودنباخ Rodenbach وفرها يرن Verhaeren في روسيا وداريو Dario في إسبانيا وغيرهم كثير.
وقد تبنى هذا المنحى طائفة من الشعراء العرب المحدثين، والمعاصرين وأنا لا أتوخى إحصاءهم في هذه العجالة، وإنما أنوه بطائفة منهم: أدونيس ويوسف الخال ومجلة شعر في لبنان، وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وعبد الرازق عبد الواحد وبشر فارس ويوسف غصوب وصلاح لبكي وأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور وفاروق شوشة وغيرهم.
وقد أشرت سابقًا إلى أن ظهور المذاهب الفنية في الغرب سبق ظهورها لدى الشعراء العرب بزمن طويل، فقد وقف شعراؤنا على هذه المذاهب منذ مطلع عصر النهضة الحديثة وما بعده فاختار كل شاعر ما وافق هواه ومنزعه منها.(251/10)
وقد طرأ على النقد العربي الحديث هزة عنيفة بظهور الشاعر والناقد الأمريكي المولد توماس. س. إليوت T.S.Elliot (1888 – 1965) الذي تأثر بنظرات الشاعر والناقد الإنجليزي الشهير ماثيو أرنولد M.Arnnold ، فتبناها ثم طوّرها. وقد عرض نظراته النقدية في طائفة من مؤلفاته ثم طبقها في قصيدته المشهورة (الأرض اليباب) والذي يعنينا هنا من نظراته إنما هو اهتمامه بالتراث الأدبي العالمي وتضمين شعره ومقاطع من روائع التراث الغربي وهو يثبت هذه المقاطع بلغتها الأصلية، فاقتبس من إلياذة هوميروس ومن إنيادة فرجيل ومن جوته ودانتي الإيطالي في الكوميديا الإلهية ومن الشعر الرمزي الفرنسي، وشعر بودلير خاصة، وكانت ثقافته الواسعة معينة له في إيراد هذه المقتبسات. وإليوت هو الذي أوجد ما عرف في النقد بالمعادل الموضوعي، وذهب كذلك إلى دراسة النص الشعري بمعزل عن المؤثرات الخارجية من أي نوع كانت. وشعر إليوت يتسم بالغموض، ولكنه غموض العمق لا غموض البلاغة اللفظي والزينة، كما يتسم بالإفراط في العقلانية وغياب العلائق المنطقية، واستخدامه الصور بإفراط، ولكنها صور عسيرة على التصور، ولابد من إمعان النظر فيها لتكشف عن مدلولاتها. وقد اضطره منهجه هذا إلى التضحية بالشكل الشعري المتوارث في سبيل التعبير عن المحتوى، فظهر على يده ما عرف بالشعر الحر، العاري عن الوزن والقافية، وهذا اللون من الشعر لقي رواجًا لدى طائفة من شعرائنا المحدثين والمعاصرين.(251/11)
إن أول تغيير ذي شأن في شكل القصيدة العربية، إنما قام على يد الشاعرة والناقدة العراقية نازك الملائكة التي خرجت عن نهج الشكل الخليلي للقصيدة، وقد سبقها إلى التصرف في شكل القصيدة محاولات غير موفقة لم يقدر لها الاستمرار، وكانت أول قصيدة جنحت فيها نازك إلى مفارقة النهج الخليلي في شكل القصيدة هي قصيدة "الكوليرا" التي نظمتها سنة 1947م، وأطلقت على هذا الشكل الجديد مصطلح "الشعر الحر"، وفي الوقت عينه قال بدر شاكر السياب قصيدته (أزهار ذابلة) على غرار قصيدة نازك ثم أصدرت الشاعرة ديوانها "شظايا ورماد" الذي أثار عاصفة نقدية لدى ظهوره في سنة 1949م، ولكن هذا الشكل الجديد ما لبث أن استجابت له طائفة من شعراء العراق، فأصدر عبد الوهاب البياتي ديوانه "ملائكة وشياطين" على نمط شعر نازك وتبعه بدر شاكر السياب في ديوانه (أساطير) وتتابعت بعد ذلك دواوين عدة انتهجت سبيل نازك الملائكة.
وقد أوضحت الشاعرة بعد ذلك صنيعها في تطوير القالب الشعري التراثي في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" الصادر عام 1962م.
على أن ما أطلقت عليه نازك الملائكة. مصطلح "الشعر الحر" إنما هو في واقع الأمر شعر موزون تتكرر فيه تفعيلة واحدة في كل شطر ويلتزم إيراد القافية ولكنها تتنوع في القصيدة الواحدة، فهو ليس شعرًا متحررًا من الوزن والقافية ولا يصح أن نطلق عليه مسمى "الشعر الحر" والأصح أن يطلق عليه مصطلح (شعر التفعيلة) الذي درج على النظم فيه بعد نازك جمهرة من الشعراء، وكانت نازك في اختيارها هذا القالب الشعري الجديد متأثرة بقراءتها للشعر الإنجليزي، وقد أعانت الشاعرة إجادتها اللغة الإنجليزية على قراءة الشعر الإنجليزي وتذوقه.
وقد نظمت شعر التفعيلة جماعة كبيرة من الشعراء العرب في غير العراق ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: نزار القباني، وأحمد عبد المعطي حجازي، وفاروق شوشة وصلاح عبد الصبور، وكثير غيرهم.(251/12)
أما الشعر الحر بمعناه الحقيقي، أي الشعر المتحرر من قيدي الوزن والقافية الذي أدار ظهره للشكل المتوارث فقد ظهر متأخرًا، بتأثير تيار الشعر الحر الذي ظهر في الغرب وكان من أبرز الدعاة إليه الناقد والشاعر ت.س. إليوت ومن تابعه. وقد أطلق بعضهم على هذا النمط الشعري الجديد مصطلح "قصيدة النثر"، وفي هذا المصطلح تناقض بين جزأيه، فلفظ قصيدة يتناقض مع تعريف النثر، والأمثل أن يدعى الشعر الحر، وقد نظم فيه كثيرون، بعضهم من الشعراء الذين نظموا شعر التفعيلة، وبعضهم اقتحم بوابة الشعر الحر مباشرة. ومن المؤسف أن هذا الشكل الجديد قد أفسح المجال أمام طائفة ممن يزعمون أنهم شعراء وهم لا يملكون أية موهبة شعرية، فأسمعونا لغوًا وهذيانًا أطلقوا عليه اسم الشعر، وهو لا يمت إلى الشعر بصلة، وإنما جاؤوا بألفاظ مرصوف بعضها إلى جانب بعض لا تنطوي على أية دلالة ولا تستنبط منها أية صورة، متذرعين بدعوى أن شعرهم بما فيه من غموض لا يتأتى فك طلاسمه إلا عند أولي المقدرة على النفاذ إلى ما وراء الألفاظ والشكل الجديد للشعر.
وهذا التخبط في قول الشعر يذكرنا بما حل بفن التصوير حين نحا فيه المصور العبقري بيكاسو إلى التجريد فتابعه مصورون مبدعون وآخرون لا يملكون أية موهبة فنية، فصنعوا لوحات تجريدية لا تعدو أن تكون خليطًا اعتباطيًّا غير متجانس من الألوان والخطوط بعيدًا كل البعد عن الفن الأصيل، والفن براء منه.
إن استقصاء كل آثار المذاهب الشعرية والنقدية في شعرنا الحديث أمر متعذر بيانه في مثل هذا البحث الموجز وهو يحتاج أن يفرد له كتاب مستقل.
على أنني سأقف هنا وقفة سريعة عند المذاهب النقدية المحدثة في تحليل النص الشعري والتي تبنّت منهجًا أحاديًّا في تحليله.(251/13)
ومنها المنهج النفسي والمنهج الاجتماعي والمنهج التفكيكي، والمنهج الرمزي وأقوى هذه المناهج أثرًا في النقد العربي الحديث هو المذهب الذي دعا إليه الشاعر والناقد ت.س. إليوت، والقائم على دراسة النص الشعري بمعزل عن العوامل الخارجية، وكل هذه المناهج تجنح إلى نظرة جزئية أحادية في تحليل النص الشعري، وقد حاق الإخفاق بجميع هذه المناهج وعاد منظرو الشعر إلى نهج النظرية الشاملة التكاملية في تحليل النص الشعري.
وقد عاد اليوم معظم النقاد عن هذه المذاهب الأحادية النظرة واتجه معظم النقاد إلى دراسة النص الشعري دراسة تلمّ بجميع العوامل المؤثرة، وهذا النهج في الدراسة الشاملة أطلق عليه النهج التكاملي، وعندي أنه أصلح المذاهب في دراسة النص الشعري العربي.
والمنهج التكاملي يقوم على استخدام جميع المناهج الأحادية في دراسة النص مع دراسة العوامل الخارجية التي تعين على بيان محتوى النص أفكارًا وصورًا وأساليب.
وتحقيقًا لهذا المنهج في دراسة شعرنا القديم، يلاحظ أولاً أن دواوين شعرائنا القدامى قد وصلَنا الجانبُ الأكبر منها مرتبًا على حروف المعجم في القافية، فلم يرتب تاريخيًّا ولم تذكر المناسبة التي قيل فيها، باستثناء بعض الدواوين التي عني جامعوها أو أصحابها بذكر مناسبة كل قصيدة كديوان المتنبي وديوان المعرّي، ولكن هذا الشعر لم يرتب ترتيبًا تاريخيًّا، ومن هنا نجد صعوبة كبرى في النفاذ إلى دلالات النص ومعانيه وما يرد فيه من إشارات تاريخية أو دينية أو علمية أو غيرها، وبعض القصائد يتعذر فهم معانيها، ولذلك فإن تحليل هذه النصوص على الوجه الصحيح يقتضي تعرفنا العوامل الخارجية المؤثرة فيه قبل أن نتصدى لدراسة النص نفسه.(251/14)
ونريد بالعوامل الخارجية تعرّف سيرة الشاعر وما مر به من أحداث في حياته كان لها صداها في شعره، ثم أن نقف على المناسبة التي قيل فيها النص لاستجلاء معانيه، وإلى جانب ذلك ينبغي معرفة الزمن الذي قيل فيه النص والبيئة المكانية، لأن النص الشعري غير معزول عن عصره وبيئته وعن طبيعة قائله ونفسيته، ودعونا نطلق على جملة هذه العوامل مصطلح (جو النص). وبعد أن نفرغ من هذا الجانب نتصدى لدراسة النص نفسه مستغلين شتى المذاهب النقدية التحليلية، فندرس بنية النص حروفًا وألفاظًا وتراكيب، وندرس الصور التي احتوى عليها النص دراسة فنية تستجلي ما فيها من مناحي الإبداع والتجديد والمقدرة الإيحائية مع بيان أثرها في نفس القارئ. فعنصر التصوير والخيال بنوعيه الجزئي والكلي هما قوام الشعر الحقيقي إضافة إلى عنصر الموسيقا والإيقاع، وقد نضطر إلى استخدام المناهج النفسية والاجتماعية والرمزية وغيرها في تحليل محتوى النص.
تلكم هي مقومات المنهج التكاملي الشامل في دراسة النص الشعري. ولكي أبين مميزات هذا المنهج وضرورته أضع بين أيديكم قصيدتين مشهورتين من عيون الشعر العربي القديم، وهما قصيدة أبي تمام في فتح عمورية التي مطلعها:
السيف أصدق أنباءً من الكتب
... في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب
وقصيدة المتنبي التي مطلعها:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيًا
وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
وأنا لا أتوخى في هذه العجالة تحليل هاتين القصيدتين وفقًا للمنهج التكاملي الذي اتجهت إليه وارتضيته، لأن تحليلهما تحليلا وافيًا يحتاج إلى عشرات الصفحات، وإنما قصدي أن أبيّن ضرورة الوقوف على جو هاتين القصيدتين لنستطيع أن نتعرّف مراميهما وما فيهما من إشارات تاريخية وجوانب تتصل بالمعارف العلمية التي كانت سائدة في عصرهما، والحالة النفسية التي كان عليها الشاعران حين قال كل منهما قصيدته.
يبدأ أبو تمام قصيدته بهذا المطلع المشهور:
السيف أصدق أنباءً من الكتب(251/15)
في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب
فمن يجهل جو النص يتساءل ما هي الكتب التي يتحدث عنها أبو تمام، وما الذي يعنيه بقوله إن السيف أصدق أنباءً من الكتب. ويتضح المقصود حين نعلم ما كان شائعًا في عصر أبي تمام من استطلاع الغيب من طريق النظر في الأبراج السماوية والكواكب. فقد وقف العرب عصرئذٍ على ما عُرف بعلم النجوم، وهو يختلف عن علم الفلك القائم على أسس علمية لا مجال للطعن في صحتها. أما علم النجوم فهو يقوم على استشراف المستقبل من طريق النظر في النجوم والأبراج والتعرف إلى مصاير الناس وما يخبؤه لهم الغد من أحداث سارة أو سيئة، وهو ضرب من التخليط والتخرّص لا يقوم على أساس علمي ثابت، وقد امتهنته فئة استغلت توق الإنسان إلى معرفة ما يخبؤه له الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله وحده. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تجعل الاطلاع على الغيب من شأن الله وحده، من ذلك قوله تعالى : " وما كان الله لِيُطلِعكُم على الغيب" [ آل عمران 179]. وقوله تعالى: "إنما الغيبُ لله" [ يونس 20]. وثمة أحاديث نبوية تدعو إلى تكذيب المنجمين. وقد أدرك هذه الحقيقة بعض الشعراء القدامى الذين عرفوا بالحكمة، ومن ذلك قول زهير ابن أبي سلمى:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
... ولكنني عن علم ما في غدٍ عمِ
ومن المؤسف أن الاعتقاد بارتباط مصاير الناس بالأبراج السماوية مازال قائمًا إلى اليوم، في عصر التقدم العلمي المتنامي الذي نعيشه. وقد دأبت بعض الصحف والمجلات على تخصيص زاوية لتنبؤات الأبراج، وهو كلام بعيد كل البعد عن الحقيقة العلمية.(251/16)
وفي العصر العباسي شاع علم النجوم شيوعًا عظيمًا وأصبح للمنجمين فيه مكانة كبيرة حتى أصبح الناس لا يقدمون على أمر ذي بال إلا بعد استشارة المنجمين، وبات من المألوف أن لا يقدم الخليفة على بناء مدينة أو غزو عدو أو أمر هام إلا بعد استشارة المنجمين. وقد حدث أن الخليفة المعتصم لما عزم على غزو عمّورية استشار المنجمين فزعموا له أنهم يجدون في كتبهم أن هذه المدينة لا تفتح في هذا الوقت ويجب الانتظار حتى مقدم الصيف. ولكن المعتصم ضرب بأقوالهم عرض الحائط ومضى لطيته فورًا ففتح عمورية وأشعل فيها النار، مخالفًا أقوال المنجمين. وإعراض المعتصم عن الأخذ بأقوال المنجمين إنما مردّه إلى انتمائه إلى مذهب الاعتزال العقلاني الذي انتصر له أخوه المأمون قبله ، والمعتزلة هم الذين أرادوا تحكيم العقل في أمور الدين. فلا غرو أن يستخف المعتصم بأقوال المنجمين ويعرض عن مزاعمهم وتخرُّصاتهم. وكان أبو تمام كذلك ممّن ينزعون إلى تحكيم العقل في أمورهم. فلمّا انتصر المعتصم على الروم وفتح عمورية استغل المناسبة ليسخر من المنجمين وتخرُّصاتهم. فلولا معرفتنا مسبقًا بهذه الحقائق لما اهتدينا إلى إدراك ما قصده أبو تمام في مطلع قصيدته من تفضيل أنباء السيف والقتال على أنباء كتب المنجمين. وهو يمضي في الهزء بأقوالهم وتخرُّصاتهم فيقول بعد المطلع:
بيض الصفائح لا سود الصحائف في
متونهن جلاء الشك والرِّيَب والعلم في شهب الأرماح لامعة
بين الخمسين لا في السبعة الشهب أين الرواية بل أين النجوم وما
صاغوه من زخرف فيها ومن كذب تخرُّصًا وأحاديثًا ملفَّقةً
ليست بنبع إذا عُدّت ولا غَرَب
إلى آخر هذه المقدمة وكلها استخفاف بأقوال المنجمين.
ويشير في أحد أبيات القصيدة إلى أن عمورية فتحت قبل حلول الصيف وقد زعم المنجمون أنها لا تفتح قبل حلوله:
تسعون ألفًا كآساد الشرى نضجت
جلودهم قبل نضج التين والعنب(251/17)
هذا فضلاً عن إشارات أخرى لا تتأتى معرفتها إلا بمعرفة جو القصيدة.
ولننتقل الآن إلى قصيدة المتنبي التي مطلعها:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيًا
... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
تمنيتها لمّا تمنيت أن ترى
... صديقًا فأعيا أو عدوًّا مداجيا
وهي من أروع ما قاله المتنبي من الشعر، ولاسيما مقدمتها قبل انتقاله إلى مدح كافور. هذه القصيدة ذكرت مناسبتها، شأن جميع قصائد المتنبي، فوفرت على الدارس البحث عن مناسبتها، بل لقد ذكر زمانها وهو جمادى الآخرة من سنة ست وأربعين وثلاث مئة. ومع ذلك فإن المناسبة المذكورة لم توضح لماذا فارق المتنبي سيف الدولة، ولم كان حين قال هذه القصيدة في حالة إحباط شديد، فلابد للدارس من أن يلتمس في أخبار المتنبي ما يجلو أسباب قولها وسبب شعور المتنبي باليأس والحزن والإحباط في مطلعها، وهو شعور صادق ومؤثر.(251/18)
فإذا عدنا إلى أخبار المتنبي في مصادر ترجمته وقعنا على أكثر من سبب لمغادرته سيف الدولة، على إعجابه وحبه له وإيثاره على غيره من الممدوحين، وقد ذكروا من أسباب هذا الفراق الخصومة التي كانت بينه وبين ابن خالويه المقرّب من سيف الدولة والتي انتهت بضرب ابن خالويه المتنبي بمفتاح فشجه وأسال دمه، ومع ذلك لم ينتصر له سيف الدولة، وكان أبو فراس كذلك من خصوم المتنبي الألداء وكان لا يفتأ يحرض سيف الدولة عليه. ويستظهر الأستاذ العلامة محمود شاكر - رحمه الله - في كتابه عن المتنبي أن السبب الحقيقي لفراق المتنبي سيف الدولة هو حبه لخولة أخت سيف الدولة، وكان يتمنى الزواج منها، فلم تتحقق أمنيته وأثار عليه سيف الدولة وأبا العشائر وأبا فراس. يضاف إلى هذا كله خيبة آمال المتنبي في تحقيق مطامحه السياسية، في تولي إمارة ترضي نزوعه إلى المراتب العليا. ولعل هذه الأسباب مجتمعة كانت وراء مفارقته سيف الدولة ليحط رحاله في الشام ثم في الرملة ثم في مصر، في جوار كافور الإخشيدي الذي كان في نظر المتنبي عبدًا اغتصب عرش مولاه، والمتنبي لا يعجب إلا بعظماء الرجال.
هذه الأسباب تضع يدنا على أسباب مفارقة المتنبي سيف الدولة ومصيره إلى كافور، وكان الشاعر إذ ذاك في حالة إحباط شديد جعلته يضيق بحياته ويتمنى لقاء الموت. ومطلع القصيدة يصوّر لنا هذه الحالة أوضح تصوير، ويصور في الوقت
عينه تعلقه الشديد بسيف الدولة، وما يكنه له من حب وولاء صادقين.
فلابد لدارس هذه القصيدة من الالتفات إلى نفسية الشاعر التي تبدو سافرة جلية في مقدمتها، ولابد له من الإحاطة بالجو الانفعالي الذي يكشف عن الجوانب الخفية فيها.
فكذلك نرى أن تحليل النص الشعري لا يستقيم إلا بعد الإحاطة بجو النص وبدراسة متكاملة لجميع عناصره اللغوية والنحوية والبنوية والتصويرية والجمالية، والمنهج التكاملي هو المنهج الأصلح الذي يفي بكل هذه المتطلبات.
إحسان النص
عضو المجمع من سورية(251/19)
الجامور(*)
للأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي
في فهرس المصطلحات الحضارية التي استعملها الرحالةُ المغربي ابنُ بطوطة (ت 770هـ 1369م) نجد ذكرًا لكلمة الجامور مرتين اثنتين(1)... وبالعودة إلى المجلد الأول من الرحلة التي نشرتها أكاديمية المملكة المغربية نجد أن الهامش رقم سبعة، من الفصل الثاني المتعلق بمصر يتحدث عن الجامور الذي شاهده العبدري(ت688هـ 1289م)،على رأس منار الإسكندرية التاريخي عند رحلته الحجازية(2)، هذا المنار الإسكندري الذي تقوم على
قاعدته اليوم قلعة قايتباي بالإسكندرية، والذي تذكره عبد الواحد المراكشي في كتابه (المعجب) عندما تحدث عن منار حسن بالرباط وقال:إنه على هيئة منار الإسكندرية(3)..
وقبل العبدري وابن بطوطة وجدنا مؤرخ الدولة الموحدية أبا مروان عبد الملك ابن صاحب الصلاة (594 = 1198) عند حديثه عن جامع إشبيليه يذكره تحت اسم العمود العظيم قاصدًا به ما يصطلح عليه بالجامور(4) . وقبل جامع إشبيلية
وجدنا المؤرخين لجامعة القرويين التي جددت في الفترة ما بين عهد الأدارسة والمرابطين عندما أمست فاس حليفة لبني أمية بالأندلس، وجدناهم يتحدثون (345هـ= 956م) عن سيف الإمام إدريس الذي جعلوا منه جامورًا لمنار جامع القرويين(1)..
والجامور في المصطلح المعماري المغربي (ويجمع على جوامير) "مجموعة زخرفية تتكون من عمود تنتظم فيه ثلاث كرات، تكون في الأغلب من ذهب خالص أو معدن مموه بالذهب أو من فضة، مختلفة الحجم، تندرج من الكرة الأولى السفلى الكبرى، إلى الثانية، التي تليها في الحجم ثم إلى الثالثة العليا التي تكون أصغر، تتوج بهذه المجموعة "صومعة الصومعة" كما يسميها ابن صاحب الصلاة، يعني(252/1)
القبة الصغيرة التي تعلو الصومعة، ويسميها المغاربة بلهجتهم الدارجة(العزري)(2) وهي التي قد يوجد في جانب من جوانبها الصاري الذي يحمل الفانوس الذي يضيء للناس عند أذان العشاء والصبح، كما يجعل العَلَم الأبيض الذي يرفع عند حلول وقت الظهر والعصر، والعلم الأزرق إيذانًا بيوم الجمعة...
ومن الملاحظ أن هذه "المجموعة الزخرفية" قد تستعمل لتُزَين رأس خيمةٍ ذات ميزة خاصة، كأن تكون خيمة للسلطان، بين خيام متعددة تحمل اسم (أفْرَاك)، وهو وزن بالبربرية يعني سياجًا يكوِّن تقريبًا مدينةً كاملةً متحركة من الخيام المتنوعة الأحجام، فيها ما هو خاص بحريم الخليفة... ويحتوي على القبة العظمى الخاصة بالخليفة نفسه، كما
يحتوي على بيوت الوزراء والكبراء...هذا إلى المسجد وما يتصل به...
ومن الطريف أن نجد ابن الحاج النّميري (ت بعد عام 774هـ) يخصص صفحات طويلةً في كتابه (فيض العباب) لهذه المنشأة التراثية العظيمة التي تحمل اسم أفراك: و"أفراق السعيد كالبلد الواسع الأقطار، القائم الأسوار، البديع الاختطاط، الشريف الاستنباط المحكم الارتباط، وهو في وضعه مستدير الساحة، بدري المساحة، قد صنع من شقاق الكتان الموضونة، وفضلاته الفاضلة المصونة، وضوعفت طاقاته، وحذيت حذو القذة بالقذة مسافاته...
إلى أن يقول: وله بابان أحدهما جوفي وهو المسمى باب الصَّرْف، وهو مفتوح لبيت علا سَمكه علو السِّماك، وأشرف على المحلة إشراف البدر المنوّر الأحلاك ... والباب
الثاني بقبليه أمام البرج الذي كاد يبلغ عنان السماء، ويزحم النجوم المختومة كؤوسها بمسك الظلماء... فسيح مجال الإطناب، عاليّ سادل الجلباب، شديد الأركان يفوق شامخ البنيان... وزهى بجامورٍ تحسد الثريا اجتماع تفافيحه، ويود الشفق لو كان بعض ذوائبه المرسلة إلا هز ريحه(*)...(252/2)
ونحن إذا استشرنا كتب اللغة، ابن منظور مثلاً في تأليفه (لسان العرب) فإننا سنجد أولاً أن اللفظ عربيّ أصيل، وهو لغة في الجُمَّار(بضم الجيم وتشديد الميم المفتوحة) وهو قلْب النخل ولبه: يكون رخويًّا لينًا يتناوله الناس ويكون في أعلى النخلة.
ونقرأ عند ابن منظور أيضًا، مما يعبر عن معنى القمة، أن الجامور يعني الرأس تشبيهًا بجامور السفينة يعني أعلاها، وهكذا نرى أن الكلمة تعني شحمة النخلة تكون في
قمة رأسها، تقطع وتكشط فيوجد في جوفها لُبٌّ كأنه قطعة سنام، وهي رخصه تؤكل بالعسل والكافور... وجمَّر النخلةَ قطع جمارها أو جامورها، وجمرت المرأة شعرها: جمعته وعقدته في قفاها ولم ترسله.
ومن المعلوم أن الجامور متى قطع فإن النخلة تموت على نحو ما يحصل إذا فصل الرأس عن الإنسان(*)، ولذلك فإن أهل النخيل لا يقربون إلى الجامور اللهم في حالة ما إذا أصبحت النخلة غير ذات مردود أو أصابها ما حال دون عطائها، ففي هذه الحالة يقطعون الجامور ليتمتعوا به.
وبالمقارنة مع ما يوجد حول النخلة – كشجرة مقدسة – سواء في الديانة اليهودية والمسيحية والإسلامية
فإننا سنقف في كل جزء من أجزائها على ثروة هائلة من المفردات والتعابير التي تؤكد جميعها ما كان عند بعض الجهات من اعتبار كبير للنخلة لدرجة أن كانت معبودة عند بعض القبائل بعد أن كانت كذلك عند الإغريق(2).
وفي هذه الأجزاء اسمُ الجامور... حيث نجد صدى في اللغة العبرية لهذه المادة (جَمَرَ) التي تعني الأوْج والذروة... وهم يقولون إن التلمود يتكون من مشنا وهو المتن وجَمرًا (كمرا) وهو الانتهاء والتمام .
والجامور في دارجة أهل الخليج هو ما يعرف تحت اسم "الحِيب" كما أن الجامور هو المعروف في اللسان البربري تحت اسم اكْنيض...
ومن المهم أن نبحث عن الجامور – كمادة نباتية- في كتب(252/3)
الطب أيضًا، وهكذا سنجد أن ابن البيطار مثلاً يخصص فصلاً تحدث فيه عن الجامور أو الجمار، وينقل عن جالينوس أن اليونان يسمون قلب النخلة بالجمار يريدون به الجزء الأعلى منها، كما ينقل عن ديسقوريدس قوله: إن الجمار إذا أكل وطبخ يعمل ما يعمله الكُفُرَّي (بضم الكاف والفاء وفتح الراء مشددة:غشاء طلْع النخل أي زهره)، أي إنه يتخذ من لدن العطارين والعشابين لتحفيص الأدهان، أي جمعها وتغطيتها، وإذا خلط بالضمادات نفع في أوجاع الكبد، وإذا غسل الشعر بطبيخه سوده، وإذا شرب طبيخه وافق من كان به وجع الكلى أو المثانة والأحشاء...
وقد انتقل مفهوم الجامور– كمادة نباتية– تقع في أعلى النخلة، وتكلف الذين يريدون الوصول إلها الكثير من الجهد والخبرة،أقول انتقل هذا المفهوم إلى معنى آخر يعبر عن معنى الشموخ والعلو... حيث وجدنا أن الجامور
يعني كما قلنا آنفًا تلك المجموعة من التفاحات أو الرمانات، كما يسمونها بالأندلس، التي يختار لنصبها أعلى المنارات أو أعلى الخيمات.
وقد أثبت دوزي Dozy كلمة الجامور في ذيله على القواميس العربية، مادة جمر، مشيرًا إلى إفادة العبدري سالف الذكر والقائلة: إن الجامور الكبير كان موجودًا فوق منار الإسكندرية وأنه كان يعلوه جامور آخر دونه... وقد أضاف إلى هذا أن ابن الخطيب في أحد تآليفه المخطوطة ذكره على هذا النحو: "الطاعن في بحر الجو بالجامور الهائل...
وقد امتد استعمال هذه الزينة المعمارية على امتداد منطقة الغرب الإسلامي من فاس إلى تلمسان إلى تونس، أي المنطقة التي بقيت بعيدة عن التأثير المشرقي بما فيها منطقة المماليك باستثناء مآذن مصر التي نلاحظ على بعضها تأثيرًا بالجامور المعروف في المعمار المغربي(*).(252/4)
وقد تكون تلك التفافيح أو الرمَّانات ثلاثة، وقد تصل التفافيح أحيانًا إلى خمس على نحو ما نجده في منار جامع القرويين بفاس، وأحيانًا تقتصر على أربع على نحو ما كان في جامع إشبيلية بالأندلس (الخيرالدا)، ولكن الجامور في معظم الحالات لا يتجاوز الثلاث كما أسلفنا، وهو ما اعتمد عليه المعمار المغربي في منار الكتبية بمراكش، وفي منار مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء.
ولقد وجدْنا ذكرًا لهذا المصطلح الحضاري في رحلة ابن بطوطة مرتين – على ما أشرنا مرة أولى بمناسبة ذكر منار مسجد يقع في الأندلس. وتحديدًا في مدينة برشانة Pirrchena على بعد نحو خمسين كيلو مترًا شمال ألمريه، ومرة ثانية عند حديثه – وهو في بلاد (أوزْبك) عن ترتيب القوم في احتفالات العيد"... يقول ابن بطوطة جميعُ الأمراء الكبار والصغار وأبناء الملوك والأمراء
والوزراء والحجاب وأرباب الدولة يتمشون بين يدي السلطان على أقدامهم إلى أن يصل السلطان إلى الوطاق (بكسر الواو هو أفْرَاك)، وقد نصبت هناك باركة (خيمة) عظيمة لها أربعة أعمدة، وفي أعلى كل عمود جامور من الفضة المذهبة، له بريق وشعاع(*)...
وهكذا فالجامور يلازم المنارات والقباب وهو رمز لزينة الزينة... لفظ ما يزال إلى اليوم حيًّا في الاستعمال المغربي السائر عندما يتحدثون عن شخصيةٍ بلغت مركزًا متميزًا في الشهامة والفضل يقولون عنها:تستحق القُبَّة والجَامور!
وربما وجدنا الجامور مرفوعًا على بناية محترمة هنا أو هناك وقد نجده على ظهر ناموسيةٍ لكبير من الكبراء أو على أركانها الأربعة كذلك..
وقد تساءل أحد الدبلوماسيين من العلماء الباحثين الأكاديميين الإسبان:
هل إن هناك سرًّا خاصًّا وراء اختيار هذا العدد أو ذاك؟ ثلاثة أو أربعة أو خمسة...؟(1)(252/5)
ونحن إذْ نرجح أن يكون اختيار العدد خاضعًا لمزاج المهندس أو صاحب المبنى أو الصانع الذي "تكون عيْنه ميزانه" ... كما يقولون! نحن مع ذلك نرى أن الأمر ربما كان أبعد من هذا بمعنى أن الذي يختار رقم الثلاثة يقصد إلى التذكير بالتارات الثلاث الحاسمة في حياة المسلم المؤمن: الحياة والموت والنشور: "منها خلقناكم، وفيها نعيدكم، ومنها نخرجكم تارة أخرى..."
وفي الناس من ذهب إلى أن اختيار رقم الأربعة كان إشارة إلى العصور الأربعة في تاريخ البشرية: عصر آدم، وعصر نوح، وعصر موسى،وعصر محمد... وهي العصور التي ترمز إليها الآية الكريمة:" والتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين"...
أما الذين كانوا يعتمدون رقم الخمسة، فقد وجدوا في الفرائض اليومية الخمس ما يبرر القول بأن رقم الخمسة يوحي بالتنبيه الدائم والمستمر إلى الاهتمام بالفرائض الخمس، وقد قرأنا في الأشعار الكثيرة التي قيلت في (الجامور – السيف ) المرفوع على منار القرويين ما يشير إلى هذا:
وليس ارتفاعي في المنار لكربةٍ
... ولكنه كي يعلم الحق جاهله أحض على الخمس التي فاز أهلها
... ومن حاد عن أوقاتها أنا قاتله !
ولو أن هذه الأقوال لا تعدو أنها مجرد افتراضات، لكنها – مع ذلك – تعني اهتمام الناس بمسألة الجامور، كما تعني بسر الأرقام التي أخذت كثيرًا من اهتمام الذين ألفوا عن الأعداد وأسرارها واعتمدوا عليها في حل بعض المغيبات من أمثال الإمام ابن برجان دفين مراكش، ومحيي الدين بن عربي دفين دمشق الشام(2)
وقد عوضت هذه المجموعة أو الجامور كما نسميه بكل بساطة، عوضت في المساجد المشرقية بشكل هلال ينصب في أعلى قبة منار المسجد عوَّضوا به شكل الصليب في الكنائس المسيحية...(252/6)
ومع هذا فإننا نلاحظ أن المباني المدنية،في العالم الغربي، تشتمل أحيانًا على هذا الجامور وأعتقد أن البنائيين والمهندسين تأثروا في هذا التقليد عن طريق الأندلس التي – كما رأينا – كانت ترى في هذا الجامور ما يزيد في رونق البناء، ولا أستبعد التأثر أصلاً بفكرة الاحترام الذي يضفي على النخلة بما فيها الجامور الذي يتوج أعلاها، التأثر بتلك الفكرة لجعل الجامور رمزًا للسيادة والسموّ عندما رفعه على منارة أو على قبة في أفراح...
وقد اهتم الأجانب الذين اشتغلوا بالدراسات المغربية، اهتموا به في مذكراتهم ، ليس فقط من حيث عدد
التفافيح ولكن كذلك من جوانب أخرى: أسباب اختيارها أساسًا ليجمل بها المنار: الكاتب الإنجليزي طوماس بيلو (Thomas Pellow) الذي كان أسيرًا بالمغرب أيام الدولة السعدية، وجدناه يتحدث في مذكراته عن التفافيح الثلاث التي تنتظم في جامور جامع مراكش(*)
ويبدو أن النقل عن تأليف الحسن محمد الوزان الفاسي المعروف عند الأوربيين باسم (ليون الإفريقي) تأليفه المسمى: (وصف إفريقيا) المترجم من الإيطالية إلى الفرنسية، بما يحتوي عليه التأليف من غموض، خلق المجال لكثير من الأراجيف حول هذه التفافيح نظرًا لذكر التأليف لبعض الأعلام الشخصية التي فهمها المترجم الفرنسي على أنها تعني العهد الموحدي فعلق عليها حسب هذا الفهم، وفهمها آخرون على أنها تعني المنصور السعدي، وقد ترددت بعض الترجمات العربية بين متابعة تعليقات الترجمة الفرنسية وبين الصَّمت المطلق عن التعليقات .
ويهمنا هنا حديث ابن الوزان عن القبة التي تعلو المنار المتناهي الجمال، والتي رُكِّز عليها عمود فيه ثلاث تفاحات من ذهب تزن مئة وثلاثين ألف مثقال إفريقي، أكبر التفاحات السفلى وأصغرها العليا...(252/7)
قال: وقد أراد بعض الملوك أن يزيلوا هذه التفاحات ويسكوها نقودًا عندما اشتدت حاجتهم إلى المال، ولكنهم في كل مرة تحدث لهم حادثة غربية تلزمهم ترك التفافيح في محلها.. ثم يقول ابن الوزان: وفي أيامنا هذه أراد ملك مراكش الذي كان عليه أن يصد هجمات المسيحيين البرتغاليين غير مبالٍ بإصرار العامة على بقاء التفاحات في مكانها! فقرر أن ينزع هذه الكرات لكن السكان
منعوه من ذلك بحجة أنها تمثل أشرف حلية لمراكش..
ويختم ابن الوزان بهذه المعلومة التي زادت في اعتقاد بعض المعلقين بأن القصد إلى أيام المنصور السعدي، وليس إلى المنصور الموحدي، يقول ابن الوزان: ونقرأ في كتب التاريخ أن زوجة المنصور بعد أن بنى زوجها هذا الجامع أرادت أن يكون لها أيضًا نصيب في تأثيثه فباعت حليها من الذهب والفضة والجوهر الذي كان الملك أعطاها إياه عندما تزوجها، وأمرت بصنع التفاحات الذهبية الثلاث التي تعطي أبهى منظر لقبة الصومعة(*)
ويتأكد لديَّ أن ابن الوزان يتحدث عن الفترتين معًا: فترة المنصور الموحدي، وفترة المنصور السعدي، وبهذا نفهم الرواية التي تقول : إن
التفافيح كانت من بين الهدايا التي صحبت الأميرة الموحدية زينب في زفافها للأمير الحفصي بتونس(1)..
كما نفهم الرواية التي تقول إن التفافيح كانت هدية من الأميرة عودة (مسعودة) زوجة المنصور السعدي إلى الجامع الذي يحمل اسمها في مدينة مراكش...
وبين أيدينا مصدر معاصر عربي أصيل لجامور منار إشبيلية، مصدر شاهد عيان، هو ابن صاحب الصلاة سالف الذكر الذي يقول بالحرف: "زنة العمود الذي يحمل التفافيح مئة وأربعون ربعًا، وكان عدد الذهب الذي طليت به هذه التفافيح الثلاث الكبار والرابعة الصغرى سبعة آلاف مثقال كبار يعقوبية...
وقد حملت التفافيح على العجلات مجرورةً ورفعت بالهندسة(252/8)
حتى أعلى صومعة (الصومة المذكورة)، فكادت تعشى الأبصار من تألقها بالذهب الخالص الإبريز وبشعاع رونقها... وذلك يوم الأربعاء ربيع الآخر عام أربعة وتسعين وخمسمئة بموافقة التاسع عشر من مارس العجمي (1198) ... (2)
ويقودنا الحديث عن الجامور إلى ما يحكى عن هذا الموضوع مما لا يخلو من فائدة، مما قد نسميه (ثقافة الجامور) لاسيما وهو معدود – كما رأينا – من التراث المعماري الخاص ببلاد المغرب...
وهكذا فقد سمعنا من بعضهم أن التفافيح كانت توضع فيها الرسوم والعقود التي تتضمن اسم المؤسس والباني، وهي المقولة التي لم أجدْ لها ما يؤيدها مما وقفت عليه إلى الآن...
ولقد قرأنا عن المؤرخ الفرنسي كاسطون دوفيردان G. Deverdun في
كتابه عن ( تاريخ مراكش ) أن أحد ملوك إفريقيا السوداء(كاو Gao) أهدى ابنته في القرن الثامن عشر للعاهل المغربي ومعها أربع تفاحات ذهبية كبيرة، وفي المعلقين من كان يرى أن التفافيح كانت هديةً من أمير إفريقي لملك المغرب عندما كان في طريقه إلى مكة... والمهم في هذا أو ذاك أننا نقف على جانب من جوانب التوادّ المتواصل بين ملوك المغرب وبين باقي ملوك إفريقيا من الذين يحكمون الممالك التي تقع جنوب المغرب.
وقد نقل توربي ديلوف Turbet Delof في كتابه بعنوان "إفريقيا الغربية في الأدبيات الفرنسية" في القرن السادس والسابع عشر(1) ما يمكن أن نقول إنه أصل كل ما ذكره الغربيون عن (الجامور) وعن التفافيح في المصادر الأوربية...
وحسبما نقله هذا المؤرخ فإنه منذ ما قبل القرن السادس عشر سمعنا عن حكاية امتدت أطرافها إلى تونس حيث نجد أن جامور جامع تونس يحتوي على تفاحات كانت في الأصل هدية صحبت أميرة موحدية وهي تزف إلى زوجها الأمير الحفصي بتونس... وينبغي هنا أن نعيد إلى الذاكرة حديث الأميرة الموحدية زينب التي اعترض طريقها قراصنة من صقلية في قصةٍ مثيرة أشرنا إليها قبل قليل وقعت أحداثها على عهد الموحدين(2)(252/9)
وحسبما تحكيه كذلك الأسطورة الرائجة فإن زوجة المنصور السعدي كانت قد أفطرت ذات يوم من رمضان بمراكش... ورأت أن تكفر عن مخالفتها ببناء جامع يحمل اسمها وتزين جاموره بتفافيح صاغتها من الحلي الذي كانت تملكه على نحو ما
أشرنا إليه...
وتلخيص الحديث أننا أمام مفرد لغوي ومادة طبية ومصطلح حضاري يضرب في جذور التاريخ، وقد ظهر اسم الجامور واضحًا في المصادر المغربية والأندلسية وطوال العهد الإدريسي ثم العهد المرابطي والعهد الموحدي الذي اهتم ببناء المعالم الثلاثة: الكتبية بمراكش والخيرالدا بإشبيلية وحسان بالرباط تخليدًا
لانتصار الموحدين في موقعة الأرك(*)
عام 59 – 1194... واللفظ أخيرًا ، أصبح يحمل في المغرب اسم جائزة كبرى تمنح لأفضل وأحسن أداء في البرامج الإذاعية والتلفزية، ولعل عرض هذه الكلمة اليوم أمام أهم منبر للغة العربية، سيحييها ويحيي معها كل الآمال التي نتوق إليها جميعًا من أجل تحسين الأداء في أجهزة إعلامنا العربي ....
عبد الهادي التازي
عضو المجمع من المغرب(252/10)
العلاقات الثقافية مع آسيا الوسطى
الأصول والواقع وآفاق المستقبل(*)
للأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي
تمر منطقة آسيا الوسطى ودولها التي أعلنت استقلالها عن الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991م بمرحلة البناء الجديد وتكوين العلاقات الخارجية مع دول العالم. تضم المنطقة عدة دول أكبرها كَازَاخِسْتَان، مساحتها الضخمة وإمكاناتها الزراعية وثروتها البترولية والمعدنية وبنيتها الأساسية في التعاليم والجامعات وشعبها الراغب في العمل والبناء، كلها مقومات قوية للمستقبل.
وفي الوقت نفسه فإن البحث عن الأصول له ملامح واضحة. أكبر الجامعات في كازخستان هي جامعة الفارابي، وأعظم شوارع العاصمة الثقافية والاقتصادية وهي مدينة ألْماطِى، هو شارع الفارابي وطوله نحو عشرة كيلو مترات، وعليه
خصصت الحكومة الأرض المناسبة للجامعة المصرية (جامعة نور مبارك) التي تهتم في المقام الأول بالتراث المشترك، وتشارك من خلاله وبعملها في جانب مهم من تعرف الذاتية الوطنية لكازخستان.
تضم المنطقة أيضًا جمهوريات قِرْغِيزِسْتَان وتَاجِيكِسْتَان وأُزْبَكِسْتَان وتركمانستان وأسماء هذه الدول تتكون من اسم الشعب ثم كلمة ستان الدالة على المكان، تضاف إليها جمهورية آذَرْبَيْجَان. كلها تشترك في جوانب تاريخية وفي استقلالها الحديث، ولكنَّ ثمة فروقًا في داخل هذه البلاد من حيث الثروة ونظم الدولة. وسيكون التركيز في هذا البحث على كَازَاخِسْتَان وهذا هو الاسم الحديث أو قَازَاقِسْتَان وهذا هو
الاسم الموروث، وإن كانت بعض الملاحظات تتناول آسيا الوسطى كلها. وفي هذا البحث محاولة لعرض هذه الأصول ولتعرف أبعاد الواقع ولرسم بعض ملامح المستقبل بصفة عامة، مع التركيز على العلاقات الثقافية على وجه الخصوص.
أولاً : الأصول:(253/1)
القازاق أحد الشعوب التركية الذين ظلوا على مدى القرون يعيشون في المناطق الشرقية من آسيا الوسطى حتى حدود الصين ومنغوليا. النقوش الأورْخُونيَّة المدونة بين القرنين السادس الميلادي والثامن الميلادي هي أقدم ما كتب بالتركية، ورد اسم الترك لأول مرة فتأكد هذا الاسم الوارد – من قبل – في المدونات الصينية والبيزنطية. النقوش الأورخونية مدونة بحروف أبجدية، وكانت فكرة الكتابة الأبجدية – بصفة عامة – معروفة في هذه المنطقة عدة قرون.دونت بها النقوش الصُّغْدِية من بداية القرن الأول الميلادي، لكن الصغدية لغة إيرانية وسيطة كانت معروفة إلى حد ما في المنطقة. وعرفت هذه المنطقة في إطار انتشار المانوية والمسيحية في القرن الثالث الميلادي كتابتين أخريين أيضًا. "استعمل المانويون أبجديتهم واستعمل النصارى أبجدية أخرى سموها السريانية"(بارتولد27).واستمرت لبعض هذه اللغات تأثيراتها عبر القرون واستمدت منها بعض الكلمات، من ذلك قَاتُون أو خَاتُون بمعنى ملكة، وهي كلمة صُغْدِيَّة دخلت التركية (بارتولد 50)، واستمرت إحدى تلك الجماعات المسيحية تتعامل بالسريانية عبر القرون،حتى إن جمهورية كازاخستان المعاصرة تضم حاليًّا نحو مئة ألف من السريان،أي نحو ثلث عدد السريان في العالم. ظلت هذه المنطقة الواسعة يسودها النظام القبلي واللغات المحلية المتقاربة والكتابات المرتبطة بجماعات دينية محدودة في القرون الواقعة بين بداية المسيحية والفتح الإسلامي.(253/2)
تعددت الدول الحاكمة في تركستان ومنغوليا: دولة الأتراك الغُزّ حتى سنة 745م ثم دولة الأويْغُور وهم أيضًا من الشعوب التركية الشرقية، ثم امتداد دولة القِرْغِيز القادمين من الغرب إليهم سنة 840م، ثم هجرة بعض الأويغور وتكوين دويلة أويغورية في منطقة كان يتداول عليها نفوذ الصين والتبت. وهناك نقوش صغدية، وشواهد على دخول قبائل تركية في المعتقدات الشامانية ثم البوذية. ودونت نقوش كثيرة بالخط الأويغوري فكان الخط الثاني الذي دونت به لغات تركية، وهو خط أبجدي يعد امتدادًا للأبجدية الصغدية (بارتولد66).
ارتبطت بدايات التحول في آسيا الوسطى بالفتح الإسلامي لخراسان في ولاية قتيبة بن مسلم (76/ 705 – 98/715)، وهذا التحول حدث على مدى أكثر من مئتي سنة، وعرفت هذه المناطق في الكتابات العربية باسم ما وراء النهر. كانت القبائل التركية بدوية، وكان المسلمون من العرب والفرس قد دخلوا بشكل متزايد في مرحلة ما بعد البداوة "جاء كثير من الإيرانيين مع العرب وتوطنوا تركستان" (بارتولد 58)، وبدأ هناك نشر اللغة العربية مع انتشار الإسلام. أخذ العرب والإيرانيون المسلمون يتعاملون بالعربية شيئًا فشيئًا في المجالات الدينية والعلمية والثقافية الإسلامية، ولكنَّ عددًا كبيرًا من القبائل التركية البدوية ظلت زمنًا ما على معتقداتها القديمة.(253/3)
بدأت مرحلة جديدة من العلاقات بدخول عدد كبير من قبائل آسيا الوسطى في الإسلام على أيدي السامانيين الفرس في النصف الأول من القرن الثالث الهجري. لم تعد المصادر العربية تكتب عنهم باعتبار أكثرهم من الوثنيين كما كتب الجاحظ من قبل. أسلمت جماعات كبيرة من الترك وبدأ دخولهم نسق الدولة الإسلامية، ليكونوا جنودًا بالدولة الإسلامية. وبذلك وصلوا إلى حاضرة الخلافة العباسية في بغداد، كما بدأ ظهورهم في مصر، وتولى أحمد بن طولون حكم مصر وهو من هؤلاء الترك، وكلمة ترك لم تكن لها صلة آنذاك بالمنطقة الغربية حيث الدولة البيزنطية في آسيا الصغرى. ولكن التسمية بكلمة تركي كانت تدل في ذلك الوقت على الانتماء إلى منطقة آسيا الوسطى. حكم الطولونيون مصر وضمت حدود سلطتهم بلاد الشام وليبيا وبلاد النوبة. كوَّن ابن طولون جيشًا عماده الجنود الترك وأنشأ دارًا لصناعة الأسلحة في الروضة واهتم بالزراعة والصناعة وكانت الحرية الدينية مكفولة للمسلمين ولأهل الكتاب، فاحتفل المصريون بعيد وفاء النيل، كما وجه ابن طولون اهتمامًا خاصًّا للفروسية، وأنشأ بيمارستانًا للعلاج، وفي عهده كتب ابن عبد الحكم كتابه (فتوح مصر).وهناك آثار باقية من حكم ابن طولون، منها جامع أحمد بن طولون في مدينة القطائع التي أنشأها. وفي الوقت نفسه كان عدد الجنود الترك في جيش الخلافة العباسية في زيادة دائمة.(253/4)
وفي القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي زاد عدد المسلمين في آسيا الوسطى كلها، في الغرب أسلم بلغار الفولجا وفي الوسط والشرق أسلم سكان مئتي ألف خيمة (بارتولد89)، وقامت أول مملكة تركية إسلامية وهم القَرَاخَانِيُّون. وظهرت أهمية مدينة بَلاسَاغُون بوصفها مدينة إسلامية. وفي هذا السياق كانت العربية لغة الدين والعلم، إلى جانب استمرار اللغات المحلية، وذكر محمود الكَاشْغَرِي في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي عن مدينة طَرَاز – على سبيل المثال – أن أهلها يتكلمون الصغدية والتركية. ويبدو أن الأبجدية الأويغورية استمرت إلى جانب الكتابة العربية، إلى أن سادت الكتابة العربية.
وفي إطار الحضارة الإسلامية كانت اللغة العربية لغة الدين والعلم والثقافة في عصور ازدهار مدن التركستان، ومنها مدينة طَرَاز التي تقع الآن في جنوب كازاخستان، ومنها منظومة المدن الموجودة حاليًّا في جمهورية أزبكستان، وهي المعروفة عند العرب بأسماء بخارى وطشقند وسمرقند، والمدينتان تنتهي كل منهما بـ "قند" في التسمية العربية، وترجع إلى كلمة kent. إنها النهاية التي تنتهي بها أسماء مواقع كثيرة في أزبكستان وكازاخستان، وهي كلمة صُغْدِيَّة قديمة دخلت إلى اللغات التركية ومعناها مدينة. وقد عرف البيرُونِي في القرن الرابع الهجري تأصيل هذه الكلمة، وشرح اسم مدينة طاشكنت بأنها المدينة الحجرية.(253/5)
بدأت في هذا الإطار حركة علمية جديدة، من سماتها الأساسية ذلك الاهتمام الكبير بعلوم الدين وبعلوم اللغة وبالفلسفة والطب. كان أكثر الراغبين في العلم ينتقلون إلى البلاد العربية ويتقنونها ويؤلفون بها، وبعضهم عاد إلى موطنه. وهنا نجد أسماء عدد كبير من العلماء ينتمون إلى المنطقة الجنوبية من آسيا الوسطى التي تقع فيها اليوم جمهورية أزبكستان، منهم البخاري وابن سينا والترمذي وبعضهم من المنطقة الوسطى التي تقع فيها اليوم جمهورية كازاخستان، ومنهم الفارابي اللغوي والفارابي الفيلسوف والجوهري مؤلف الصحاح في القرن الرابع الهجري= العاشر الميلادي، ومنهم من ينتمون إلى منطقة في أقصى المشرق الإسلامي وتقع حاليًّا في داخل الصين، ومنهم محمود الكَاشْغَرِي المنسوب إلى مدينة كاشغر في القرن الخامس الهجري وهو رائد البحث العلمي في اللغات التركية.
لكل هؤلاء العلماء صلة وثيقة بالأقاليم العربية. الفارابي الفيلسوف عاش أيضًا في سورية ومصر، ومات ودفن في سورية. واهتمام المصريين بمعجم الصِّحَاح للجَوْهَرِي أدى إلى تسليم التلاميذ المصريين في الربع الثاني من القرن العشرين مختار الصحاح للرازي في طبعة محمود خاطر. والكاشغري ألف ديوان لغات الترك وأكمله في بغداد. وفوق هذا كله، فقد كان لمصر والدول العربية الأخرى الدور الحاسم في طباعة أكثر هذا التراث المؤلف باللغة العربية .
ويتضح جانب من العلاقات الثقافية مع آسيا الوسطى من اهتمام الجغرافيين والمؤرخين ومؤلفي كتب الطبقات بهذه المنطقة مدنها وحوادثها ونظمها الحاكمة وأعلامها العلماء على نحو جعل المصادر العربية تعد من أهم مصادر دراسة المنطقة. كتب عن آسيا الوسطى ابن خُرْدَاذَبّه في كتابه (المسالك والممالك)، وكتب عنها أحمد بن الواضح اليعقوبي في كتاب (البلدان)، وابن الفقيه الهمداني في (أخبار البلدان)، وابن حوقل في (المسالك والممالك)، والمقدسي في (أحسن التقاسيم).(253/6)
أما المؤرخون فقد كتبوا عن آسيا الوسطى، منهم البَلاذُري في (فتوح البلدان) والطبري في (تاريخ الأمم والملوك). ولابد أن نذكر على وجه الخصوص اهتمام ياقوت الحموي بهذه المنطقة في عملين مرجعيين كبيرين، هما(معجم البلدان) و(إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب). المداخل الجغرافية عن تركستان كثيرة في معجم البلدان، ومداخل الأعلام عن علماء آسيا الوسطى متعددة في (إرشاد الأريب). وقد استمر هذا الاهتمام في كتب التراجم، مثل(وفيات الأعيان)لابن خَلِّكَان.وفوق هذا كله فإن الصفحات الكثيرة التي سجل فيها ابن بَطُّوطَة نتائج رحلته وإقامته في آسيا الوسطى تعد من أهم المصادر العربية لدراسة هذه المنطقة.(253/7)
دخلت العلاقات مع آسيا الوسطى مرحلة جديدة في عصر سلاطين المماليك الذين حكموا مصر والشام في مرحلة دقيقة من تاريخ العرب والمسلمين. أكثر هؤلاء السلاطين من آسيا الوسطى، أسماؤهم تكشف ذلك الانتماء، أشهرهم الظاهر بيبرس الذي حافظ في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي على العلاقات المتجددة مع الأسر الحاكمة في آسيا الوسطى من القِبْجَاق. وكانت زوجة الظاهر بيبرس هي ابنة بركه خان سلطان القِبْجاق. وقصة العلاقات والمصاهرات تمثل الجانب الشخصي الكامن وراء تحالف بعيد المدى بين مصر المملوكية ودولة القِبْجَاق ضد دولة المغول بزعامة هولاكو، قضى جيش المغول على الخلافة العباسية في بغداد 1258، ثم هزم بركه خان جيش المغول سنة 1262، ولكنهم واصلوا تقدمهم في الأقطار العربية. وقبل سلطان مصر قُطُز التصدي بجيش مصر للخطر المغولي، وكان النصر بقيادة الظاهر بيبرس، تلك الشخصية النادرة التي يحبها المصريون ويفخر بها أبناء كازاخستان حتى اليوم. لقد حقق الظاهر بيبرس لمصر نصرًا كبيرًا بهزيمته لجيش المغول في موقعة عين جالوت. وبعد عودته إلى القاهرة جعلها مقر الخلافة الإسلامية بأن نقلها إليها بشكل رسمي، ولكنه اكتفى لنفسه بلقب سلطان، جاعلا الرئاسة الدينية العامة للخليفة حتى يكون حكم المماليك حكمًا شرعيًّا زمنيًّا تدعمه من الناحية الدينية الخلافة الإسلامية، وأكسبه هذا الموقف احترامًا كبيرًا لدى جمهور المسلمين.
وأغلب الظن أن الظاهر بيبرس هو الحاكم الوحيد الذي ألف له شعب مصر سيرة شعبية طويلة، تقع في نحو ثلاثة آلاف صفحة، الأمل كبير أن تتم ترجمتها قريبًا إلى اللغة القازاقية. وقد احتفلت كازاخستان بعد استقلالها في مدينة أتْراو مسقط رأس الظاهر بيبرس بهذه الشخصية النادرة، وذلك بوصفه رمزًا كبيرًا للبطولة والتخطيط وتقديرًا للعلاقة مع مصر.
ثانيًا: الواقع:(253/8)
1- اللغة القازاقية هي اللغة الوطنية في جمهورية قازاقستان منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي. وهي اللغة الأم عند أكثر من نصف المواطنين، وينتمي باقي المواطنين إلى جماعات لغوية متعددة، أكبرها الروس. وهذا الموقف اللغوي جعل للقازاقية وجودًا رسميًّا وللروسية وجودًا قويًّا في المدن على وجه الخصوص. تنتمي اللغة القازاقية إلى اللغات التركية المنتشرة من تركيا وأذربيجان غربًا إلى آسيا الوسطى كلها حتى داخل الصين. القازاقية أهم لغات الفرع القِبْجَاقي، ولهذا فإنها وثيقة الصلة من الناحية اللغوية بلغة القِرْغيز والتفاهم ممكن بين المتحدثين بالقازاقية والمتحدثين بالقرغيزية. ويضم الفرع القِبْجَاقي لغات كثيرة أخرى، منها اللغة التتارية، وكلها لغات متقاربة من حيث البنية، وتعيش جماعات من أبنائها في داخل كازاخستان. اللغة القازاقية لغة لاصقة من حيث البنية اللغوية. لا توجد سوابق توضع قبل الكلمة الأساسية. أكثر المعاني الصرفيَّة مثل الوجود والنفي والجمع وغير ذلك يعبر عنها باللواحق. ولهذا فإن اللواحق كثيرة ولها صيغها المتعددة، دراسة بنية اللغة القازاقية هي دراسة منظومة هذه اللواحق إلى جانب نظام الجملة.
كانت اللغة القازاقية تدون قبل عام 1929م بالحروف العربية، ثم بدأ التحول عن الحروف العربية وحلت محلها الحروف اللاتينية، وقيل آنذاك إنها أكثر تمييزًا لأصوات اللغة القازاقية، ومع هذا فمن يسمع اللغة القازاقية يلاحظ وجود صوت القاف في كلمات كثيرة، حتى إن الجملة القازاقية الواحدة يندر أن تخلو من صوت القاف الذي لا وجود له في الكتابة اللاتينية. ومع هذا فنحن نجد إلى اليوم من يجزم بأن الأبجدية العربية لا تستطيع تدوين كل الأصوات القازاقية وأن الأبجدية اللاتينية لا تعبر عنها بدقة، وتدون اللغة القازاقية منذ 1940م بالحروف الكيريلية التي تدون بها اللغة الروسية.(253/9)
تضم اللغة القازاقية إلى جانب المفردات الأساسية الموروثة والمشتركة في لغات القِبْجَاق بصفة خاصة واللغات التركية بصفة عامة، كلمات كثيرة دخلت إليها عبر القرون من الفارسية والعربية. ولكن الموجة الجديدة القوية تمثلت في الألفاظ الروسية، وخصوصًا في المصطلحات العلمية وألفاظ الحضارة الحديثة. إن نسبة عالية من الكلمات الأوربية المشتركة دخلت القازاقية بصيغتها الروسية. وبعد أن تقرر سنة 1940 تدوين اللغة القازاقية بالحرف الكيريلي الذي تدون به اللغة الروسية زاد دخول المصطلحات وألفاظ الحضارة الحديثة من الروسية ومن اللغات الأوربية الأخرى بالصيغة الروسية المدونة. ومع هذا كله، فقد تطلب تدوين الأصوات القازاقية التي لا توجد في الكتابة الروسية وجود رموز معدّلة، وتم الاتفاق على تسعة
حروف ذات علامات معدّلة، منها مثلا حرف K لتدوين القاف. وبذلك أصبحت الأبجدية القازاقية تتكون من حروف الكتابة الكيريلية الروسية وتسعة حروف أخرى معدّلة لتدوين أصوات أخرى في القازاقية. وليست كل هذه الحروف ذات دلالة فونيمية، فهناك حرفان b ، b، ليس لهما نطق خاص بهما، هما علامتان إرشاديتان دالتان على نطق الحرف السابق عليهما (*).
تتسم بنية اللغة القازاقية بسمات محددة، منها الإلصاق لأداء المعاني الصرفية المختلفة، مثل الجمع والمصدر، وكذلك الوجود والنفي والاتجاه وغير ذلك، وعلى سبيل المثال كلمة كتاب دخلت القازاقية وجمعها kitaptar . وإلى جانب الإلصاق فإن التركيب من أهم الوسائل لتكوين الكلمات في القازاقية، من ذلك على سبيل المثال الكلمات
المنتهية بكلمة (خانة)، مثل: المقصف ( Achana)، ودار الكتب (kitabhana)، والصيدلية (darihana)، dari بمعنى دواء وكلمة hana تدل على المكان.(253/10)
ومن الكلمات المركبة ما يبدأ بكلمة أق (ak) بمعنى أبيض، وكذلك ما يبدأ بكلمة قرا (qara) بمعنى أسود. وهناك أسماء أعلام وأماكن مركبة، مثل اسم الشخص أقنور aknur بمعنى النور الساطع، واسم مدينة qaraqul في قرغيزستان.
والتراكيب وسيلة مهمة لتكوين ألفاظ الحضارة في القازاقية، مثال ذلك شاش طراز sastaraz مكونة من sas بمعنى شعر و taraz بمعنى تصفيف. وبعض الكلمات المركبة تتكون من كلمتين عربيتين، ولكن الكلمة المركبة يكون لها معنى جديد، مثال ذلك خط خبر hat-habar بمعنى مراسلة.
أسماء الأعلام العربية من أهم المكونات المعجمية في القازاقية، نحو نصف أسماء الذكور والإناث ترجع إلى أصول عربية، وقد طرأت عليها تغيرات صوتية محددة. من أسماء الرجال (أَسَن) أي حسن، وهنا لا نجد الحاء العربية في القازاقية، و(أُمَر) أي عمر بدون عين، وكذلك (ألي) أي علي. أما اسم محمود فله عندهم أيضًا أهمية تاريخية، وكثير من أعلام الحضارة الإسلامية في آسيا الوسطى كان لهم هذا الاسم، منهم محمود الغزنوي، ومحمود الظاهر بيبرس ومحمود الكاشغري. ونجد من أسماء الإناث (لزّت) أي لذّة، و(إسِل) أي عسل، و(ليلى)، و(نايلة) وسيِّدة. وهناك أسماء مركبة كثيرة ونجدها في أسماء أعلام من القازاق، منها شمس الدين، وعبد الصمد، وعبد الستار.
أما أسماء الأعلام القازاقية والتركية العامة التي نجدها في العالم العربي فمنها اسم تمر عندهم، ومن الأصل اللغوي نفسه عند بعض الشعوب اسم تيمور، وهو من كلمة تمر temir ومعناها الحديد. ومن هذه الكلمة نجد مثلاً temir soli أي السكة الحديدية.(253/11)
أما العبارات العربية الكاملة فنجدها من الثقافة الإسلامية في الحياة اليومية، مثل السلام عليكم، وهي التحية الشائعة بين الرجال على وجه الخصوص. وهكذا أكثر الكلمات والعبارات المرتبطة بالثقافة الإسلامية. والطريف في هذا السياق أنهم لا يستخدمون – عادة – الكلمة العربية صلاة ولكنهم يفهمونها، ويعبرون عنها بكلمة namaz المستخدمة أيضًا في التركية. أما أكثر مصطلحات الدين فهي مأخوذة من العربية. ولكن ثمة مصطلحات محلية دالة على الأعياد، من ذلك عيد نوروز في 21 مارس من كل عام، وهو عيد الربيع وقد عادوا إلى الاحتفال به بعد أن استقلوا. أما عيد السنة الجديدة أو الاحتفال به فيسمى شَنَا شِيل، شنا تعنى جديد، وشيل تعني عام، وهنا نذكر ديوان بدر شاكر السياب شناشيل ابنة الحلبي.
وبعد فإن هذه الكلمات المشتركة لا يجوز أن تجعلنا نبالغ في هذا الجانب، ذلك أن التداخل الحضاري واللغوي مع الروسية على وجه الخصوص جعل نسبة كبيرة جدًّا من مصطلحات الحضارة والنظم الحديثة تدخل بالصيغة الروسية، من ذلك recpublika بمعنى الجمهورية، وكلمة الجمهورية غير مستخدمة في القازاقية ولا يعرفها إلا من يعرف العربية أو التركية. ومن ذلك أيضًا كلمة Universitet بالصيغة الروسية المأخوذة عن الألمانية بمعنى الجامعة. وكل مصطلحات الإدارة الجامعية على سبيل المثال : Prorektor و Rektor و Dekan تمثل ذلك التأثير الألماني في اللغة الروسية ثم في اللغة القازاقية. ويتضح الأمر أيضًا من متابعة معجمات المصطلحات العلمية حيث نجد المصطلح الأوربي بصيغته الروسية قد دخل أيضًا في حالات كثيرة اللغة القازاقية.(253/12)
الكلمات العربية الدخيلة في القازاقية تنتظم في مجالات كثيرة، منها ما يتعلق بالتعليم والثقافة. نجد كلمة (مِكْتب) Mektep بكسر الميم بمعنى المدرسة. ولكن الكلمة هنا تنتهي بالباء المهموسة لا بالباء العربية المجهورة في إطار قانون صوتي يفرض أن يكون الصوت الصامت في نهاية الكلمة مهموسًا، أما إذا كان هناك صائت بعد هذا الصامت فيظل مجهورًا Mektebi. كلمة كتاب kitap تنتهي طبقًا للقاعدة السابقة بالباء المهموسة، وكذلك كتابخانه kitaphana. ومن الكلمات الدخيلة من العربية كلمة edebiet بمعنى أدب، وكلمة تاريخ بمعنى علم التاريخ، وكلمة medeniet بمعنى ثقافة، وثمة فرق في استخدام الكلمتين في العربية والقازاقية، وهكذا نجد كلمات عربية تغير معناها تغيرًا محدودًا يجعلها مختلفة في الاستخدام بين العربية والقازاقية، من ذلك كلمة memleket ومعناها في القازاقية دولة وليست دلالتها مقصورة على الدولة التي على رأسها ملك، ومن ذلك كلمة sart ومعناها في القازاقية اتفاق. وكلمة sarap تقتصر على النبيذ، وكلمة hat بمعنى رسالة.
أما الكلمات القازاقية والتركية المشتركة المألوفة في العالم العربي الحديث فمنها: كلمة أورمان orman بمعنى غابة، وسراي caray بمعنى قَصْر، وكذلك: بَلْطَة وكُوريِك، مع ملاحظة أن كلمة بَلْطَشِي تعني في القازاقية نجار. وبعضها دخل إليها كما دخل إليهم من الفارسية، مثل خيار، وبازار التي تطلق في القازاقية على سوق المواد الغذائية، وكلمة قَنْت kant بمعنى سكر، أي قَنْد التي عرفتها العربية في العصر العباسي مع ملاحظة أن نهايتها عندنا بالدال المجهورة وفي القازاقية بالتاء المهموسة.(253/13)
وهناك أسماء مدن كثيرة نعرفها في العربية منتهية بصوت الدال المجهورة وهي في القازاقية ولغات آسيا الوسطى تنتهي بحرف التاء، من ذلك مجموعة المدن المنتهية بـ kent – بمعنى مدينة، من ذلك في كازاخستان مدينتا شِرْكِنْت، شِمْكِنْت، وفي أزبكستان مدينتا سمرقند Samarakent و طشقند Taskent.
الأدب القديم المدون بالقازاقية كان بالحرف العربي، وهناك – على سبيل المثال – ديوان كبير من الشعر الصوفي نظمه المتصوف الكبير أحمد اليِسَوِي من مدينة تركستان. وهو من أهم أعلام الصوفية. ديوانه يدور في النسق العربي الفارسي ومدون بالحرف العربي. الأدب القازاقي الحديث يبدأ في القرن التاسع عشر، وهنا يذكر اسم الأديب المفكر أباي Abai بوصفه مؤسس الأدب القازاقي الحديث، وباسمه سميت إحدى الجامعات في مدينة ألماطي. كان ميلاده سنة 1845م وعاش تسعة وخمسين عامًا وتوفي سنة 1904م. كانت حياته رمزًا لتحول ثقافي في المجتمع القازاقي آنذاك. تعلم أول الأمر في كُتَّاب القرية التربية الدينية الإسلامية واللغة القازاقية وكانت تدون آنذاك بالحروف العربية. ودخل في الثالثة عشرة من عمره مدرسة حديثة تعلم اللغة الروسية وهي أيضًا لغة تعليم المواد الأخرى. وهكذا أتاحت له اللغة الروسية أن يقرأ الأعمال الأدبية لبوشكين وليرمنتوف وكرولوف في أصولها، وقام بعد ذلك بترجمتها إلى اللغة القازاقية. كان أباي شاعرًا، منظوماته الشعرية معروفة لدى الشعب، ومنها بعض الأغاني القازاقية. وكان أباي يدعو إلى أن يتعلم التلاميذ – إلى جانب لغتهم الوطنية القازاقية – اللغة الروسية لتكون مفتاح المعرفة الأوربية.(253/14)
تضمنت مؤلفات أباي الأدبية نقدًا لملاك الأراضي الأغنياء ودعوة إلى العدالة الاجتماعية والإصلاح والاستنارة واحترام التراث الوطني. وقد ترجمت أعمال أباي إلى اللغة الروسية ومنها إلى عدد من اللغات العالمية، ولم يترجم منها شيء حتى الآن إلى اللغة العربية. ألفت عنه كتب كثيرة، أهمها كتاب: "مسار أباي Abai sili"، تأليف الأديب القازاقي مختار أَوِيزُوف، أي مختار عوض، كشف فيه عن دور أباي بوصفه شخصية تاريخية مؤثرة في حركة الاستنارة والديمقراطية. وتضمنت هذه السيرة الروائية عرضًا للحياة الوطنية بكل تناقضاتها وعاداتها، كما وصف الحياة اليومية للقازاقي الرعاة في حبهم للحرية، ورغبتهم في مستقبل أفضل. وأصبحت هذه السيرة الروائية من أهم ما ألف عن أباي شاعرًا ومفكرًا.
وفي تاريخ الأدب والثقافة القازاقية شخصيات لها مكانتها، منها التون سارين Y.Altun Sarin . ولد سنة 1841م وتوفي سنة 1889م. تلقى تعليمًا حديثًا، أتاح له قراءة أهم الأعمال الأوربية وفي مقدمتها مسرحيات شكسبير، وأشعار بيرون في الأدب الإنجليزي. وقرأ روائع الأدب الروسي لبوشكين وجوجول ولير منتوف وكرولوف. وطالع أيضًا الأعمال المهمة في الأدب الفارسي للفردوسي ونظامي. وبعد أن أنهى تعليمه كان يعمل في وظيفة كتابية، كما شُغل بالترجمة، ثم عمل مدرسًا. وأنشأ بعد ذلك عددًا من المدارس للأطفال. وألف كتبًا لتعليم القازاقية ولتعليم الروسية. وكانت كتبه للأطفال تؤكد قيمة العمل والأمانة والمعرفة. ومن هنا مكانته التربوية والأدبية.(253/15)
ومن رواد الدراسات اللغوية والاثنوجرافية شوخان ماليخانوف Shokhan Malikhanov ولد سنة1835م، درس في صباه الحروف العربية وقرأ بها النصوص الجَغَطَائِيَّة أي التركية الشرقية الوسيطة كما قرأ اللغات التركية الأخرى. ودخل وهو في الثانية عشرة من عمره المدرسة الحربية. وكان عمله العلمي يركز على جمع التراث ميدانيًّا،وله دور كبير في تسجيل اللغات المحلية والعادات والتاريخ، ومن ذلك الملحمة القرغيزية(Manas).وكان إنجازه كبيرًا في الجغرافيا والتراث الشعبي. وإلى جانب الأدباء القازاق والذين ألفوا بالقازاقية نجد أدباء قازاق ألفوا باللغة الروسية، منهم الشاعر سليمانوف Ulzhas Suleimanov،وله عدة دواوين.
الواقع الثقافي المعاصر في كازاخستان له ملامح حديثة، تم تأليف الموسوعة القازاقية في عدة مجلدات بإشراف مختار قُول محمد (وزير الثقافة والإعلام والتوافق الاجتماعي، حاليًّا)، وتعد الأكاديمية في العاصمة الثقافية ألماطي معجمًا كبيرًا للقازاقية. وهناك اهتمام كبير بالفنون الموسيقية وفي مقدمتها الأوبرا التي تحظى عروضها الكثيرة المنتظمة بآلاف المشاهدين في كل أمسية. حركة الترجمة والتأليف بالقازاقية تتطلب روافد كثيرة، ويعني أن يكون الرافد العربي الحديث له أهميته، وخصوصًا ترجمة الأدب العربي الحديث إلى القازاقية، وهم يشيرون إلى القصور الواضح في هذا الجانب.(253/16)
اللغة العربية لها وجودها في التعليم العام والتعليم العالي، وفي المركز الثقافي المصري وجامعة نورمبارك. اللغة العربية مادة جديدة في التعليم الحكومي في كازاخستان، كان هناك تَعَلُّم محدود لها في إطار حفظ آيات من القرآن الكريم لأداء الشعائر الدينية في خارج نظام التعليم الرسمي. اللغة العربية حاليًّا مادة دراسية يجوز للتلاميذ اختيارها في المدارس الحكومية. وهناك كتب مدرسية صغيرة لتعليمها، منها سلسلة في عدة أجزاء صغيرة. ويغلب عليها قطع القراءة مع بعض النحو النظري، وهي أقرب ما يكون إلى طريقة النحو والترجمة. وأثرها محدود في تكوين مهارات لغوية. والمدرسون كلهم من أبناء البلاد، وأكثرهم لم يزر الدول العربية ولم يدرس في جامعات عربية.(253/17)
أما على مستوى الجامعات فلم تكن في كازاخستان قبل الاستقلال أقسام للغة العربية، ولذلك فإن أول المتخصصين من كازاخستان في الأدب العربي هو الأستاذ الدكتور عبد الستار درويش درس بجامعة موسكو. ويوجد تخصص اللغة العربية في التعليم العام على مستويين، هما مستوى المعاهد العالية ومستوى الجامعات. هناك معاهد عالية تخضع لقانون التعليم العالي، الدراسة فيها لمدة ثلاث سنوات، ويجوز بعدها استكمال الدراسة بالجامعة في التخصص نفسه، ولمدة سنوات أكثر في حالة تعديل التخصص. اللغة العربية موجودة في أكثر من معهد، من ذلك معهد الحضارة العربية القازاقية في العاصمة الثقافية ألماطي، وبه قسم اللغة العربية وآدابها يضم نحو مئة وخمسين طالبًا في المقر الأساسي في ألماطي وله فرع ثانٍ في مدينة أخرى. أما على مستوى الجامعات فيوجد تخصص اللغة العربية في جامعة الفارابي – أكبر الجامعات القازاقية – وتضم كلية كاملة لتخصصات الاستشراق، وبها تخصصات لكل اللغات الكبرى في آسيا من التركية والفارسية والأردية إلى الصينية واليابانية. الدراسة لمدة خمس سنوات كاملة، وللطالب في مرحلة متقدمة من الدراسات العربية أن يختار تخصصًا واحدًا من ثلاثة تخصصات دقيقة: اللغة العربية وآدابها، اللغة العربية والتاريخ، اللغة العربية والترجمة. وتخصص اللغة العربية والتاريخ يهتم أيضًا بالعالم العربي المعاصر وبالعلاقات الدولية. أما الجامعات الأخرى التي تدرس اللغة العربية وآدابها، فهي الجامعات الآتية: جامعة أباي في ألماطي، جامعة أبلاي خان في ألماطي، جامعة أستنة في مدينة أستنة وهي العاصمة السياسية لجمهورية كازاخستان، وكذلك في الجامعة التركية في مدينة تركستان هي الجامعة المصرية جامعة نورمبارك التي تدرس أكثر المواد الدراسية باللغة العربية. كل هذه الجامعات بها برامج دراسية للدرجة الجامعية الأولى، ولكن جامعة الفارابي بها دراسات عليا لمنح درجة الماجستير برسالة صغيرة(253/18)
ودرجة الكانديدات التي تعادل في أكثر الدول العربية درجة دكتوراه الفلسفة. ولكن هناك درجة أكاديمية أرفع طبقًا لقانون التعليم العالي في كازاخستان وهي درجة دكتوراه العلوم. ولا توجد حاليًّا جهة جامعية تمنح هذه الدرجة من كازاخستان في تخصصات اللغة العربية وآدابها.
هناك مقررات في اللغة العربية لمستويات تعليم اللغة للكبار يقدمها المركز الثقافي لجمهورية مصر العربية،وله صلة بالجامعات والمكتبات الأكاديمية ويمدّها بقدر من المتاح من المواد التعليمية. ويشرف على فصول محدودة للمرحلة الابتدائية لأبناء المصريين.أما الجهود المتوقعة للملكة العربية السعودية فهي استكمال إعداد المركز الثقافي في مدينة ألماطي، وهناك تخطيط لإنشاء مدرسة سعودية به.
كان للدورات التي نظمها الصندوق المصري للتعاون الفني (وزارة الخارجية المصرية) ونُفذت في مركز اللغة العربية بجامعة القاهرة ومركز تعليم اللغة العربية بجامعة الإسكندرية دور كبير في تنمية المهارات اللغوية العربية لعدد من المتخصصين القازاق. ونفذت منظمة الإيسسكو دورة تدريبية واحدة(1999) في جامعة أبلاي خان في ألماطي.(253/19)
المكتبات التي تضم مقتنيات عربية أو مقتنيات بالحرف العربي هي مكتبات لخاصة الباحثين، منها المكتبة الأكاديمية في مدينة ألماطي. تضم مجموعات من الكتب والدوريات العربية أكثرها يرجع إلى النصف الأول من القرن العشرين، وفيها وجود واضح للمطبوعات العربية التي صدرت في استانبول والهند وروسيا، إلى جانب مصر ولبنان، ولكنَّ فيها قصورًا كبيرًا بالنسبة لأكثر ما صدر في الدول العربية في الخمسين عامًا الماضية. تضم هذه المكتبة أيضًا نحو عشرين ألف مخطوط بالمعنى الجديد للكلمة. أكثرها أصول خطية تركها المؤلفون القازاق مع أوراق خاصة ومُسوَّدات للكتب وغير ذلك مما دوّن باللغة القازاقية وأكثرها بالحرف العربي. وإلى جانب هذا العدد الكبير من أصول الكتب نجد مخطوطات عربية قديمة نسبيًّا، منها بعض المصاحف. ولكن عدد المخطوطات العربية يبدو هنا محدودًا جدًّا، وقيل إن بعض الأفراد يحتفظون في منازلهم ببعض المخطوطات. وتدل القرائن على أهم المجموعات من المخطوطات العربية التي توجد حاليًّا في روسيا، وعلى وجه الخصوص في مكتبة سانت بطرسبرج. ولكن أهم ما يلاحظ في هذه المقتنيات هو وجود عدد كبير نسبيًّا من المطبوعات القازاقية المدونة بالحروف العربية من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.(253/20)
العلاقات العلمية بين جامعات كازاخستان ومصر محدودة، وتتيح الاتفاقيات الحكومية تنميتها. التقدم العلمي في جامعات الاتحاد السوفيتي السابق كان يركز على بعض المجالات في داخل كل قطر. كان نصيب كازاخستان الفيزياء النووية والبترول ومركبات الفضاء، وكان العلماء من الروس والقازاق مواطنين من السوفيت. وظل التكوين السكاني في كازاخستان يضم القازاق مع الروس وجماعات إثنية كثيرة أخرى. هناك عدد محدود جدًّا من أعضاء البعثات المصريين يدرسون في جامعات كازاخستان للحصول على درجة الدكتوراه في تخصصات العلوم الأساسية. وفي الوقت نفسه يلاحظ وجود عدد كبير من الفلسطينين الذين درسوا من قبل في جامعات كازاخستان واستقروا بها وبعضهم حصل على الماجستير. وأكثرهم اكتفى بالدرجة الجامعية الأولى وبدأ بها حياته العلمية. ويبدو أن هذه الموجة قد انحسرت - على حد بعيد – في الإطار الجديد.
الإعلام الذي يُسْتقبل في كازاخستان موزع بين القنوات القازاقية اللغة، والروسية اللغة والقنوات الغربية من خلال نظام اشتراك، أما الاستقبال من خلال الأطباق فهو متاح بنظام آخر. معلومات المواطن هنا عن الدول العربية محدودة جدًّا، نظام التعليم لا يكاد يعطيها مكانًا مناسبًا. الأخبار السياسية تظهر من حين لآخر من خلال رؤية القنوات الغربية. هناك برامج قد تظهر عن مصر أو عن جامعة نورمبارك. ولكن ملامح الحضارة والحياة في العلام العربي تتطلب مزيدًا من التعاون. وليس هناك إعلام باللغة العربية من هنا، باستثناء نشرة صحفية عربية قازاقية تعتمد على الإعلانات. ولا يوجد مراسلون مقيمون عرب في كازاخستان أو مراسلون للإعلام القازاقي في الدول العربية.(253/21)
يعد اتفاق حكومتي مصر وكازاختسان الموقع في18/6/2001م على بدء الدراسة بالجامعة المصرية(جامعة نورمبارك) في العام الجامعي (2001/2002) نقطة تحوّل في العلاقات الثقافية. هدف الجامعة إعداد متخصصين في اللغة العربية والثقافة الإسلامية ودراسات العالم العربي والحضارة والتاريخ وعلم البلدان والترجمة والدراسات المقارنة وكل ما يخدم تنمية العلاقات العربية مع آسيا الوسطى. تنظم الجامعة دورات تدريبية في هذه المجالات، وتقوم بتنفيذ مشروعات علمية فيها، وقد بدأت مشروعات الترجمة وإعداد المعاجم وتدريب المتخصصين في الدراسات العربية.
تعمل الجامعة في إطار نظام جامعات كازاخستان وطبقًا للمواصفات الوطنية من حيث المكان والتجهيزات والمكتبات ومستويات هيئة التدريس والفئات المعاونة ونظام التخصص وغير ذلك. الجديد هنا أن لغة التدريس هي اللغة العربية، أما المواد القومية والثقافية التي يتطلبها قانون الجامعات مثل اللغة القازاقية وتاريخ كازاخستان وعلم الحضارة فهي باللغة القازاقية. ولهذا فإن أكثر الساعات في العامين الأول والثاني تهدف إلى تعليم العربية وتنمية المهارات اللغوية العربية إلى مستوى كبير، حتى في المقررات ذات الصبغة التخصصية مثل الحضارة الإسلامية أو التاريخ يكون الاهتمام – أيضًا – بالجانب اللغوي في إطار التخصص. أعضاء هيئة التدريس هم من القازاق والمصريين طبقًا لاتفاق الحكومتين، ومن المتوقع زيادة عدد أعضاء هيئة التدريس القازاق القادرين على تعليم مواد تخصصاتهم باللغة العربية، وذلك بعد حصولهم على الدرجات العلمية المناسبة. أما خريجو الجامعة فمن المتوقع أن يعملوا في مجالات تتطلب اللغة العربية، ومنها الوظائف الدينية ووظائف المدرسين للغة العربية والتاريخ والأخلاق وكذلك وظائف الترجمة والإعلام وأعمال الشركات والمؤسسات الاقتصادية الأخرى والسلك السياسي القازاقي.
ثالثًا - آفاق المستقبل:(253/22)
تعليم اللغة العربية في التعليم قبل الجامعي من أهم مجالات التعاون العربي في المستقبل. اللغتان القازاقية والروسية لهما المكانة الأولى في المدارس، والمجال بعد ذلك مفتوح للغات أخرى منها العربية. وهذا التعاون من شأنه تدريب المدرسين في المهارات اللغوية العربية وفي طرق تعليم العربية، وهناك مجال كبير لاستخدام التقنيات المتقدمة. ويتطلب النهوض بتعليم العربية إعداد منظومات متكاملة من المواد التعليمية المتدرجة والمتكاملة: كتاب التلميذ، كتاب المعلم، التسجيلات الصوتية، المعجم، التقنيات المتقدمة وغير ذلك. وهذه مجالات تتطلب في إطار التعاون برامج لتدريب المؤلفين والمعدين والمدرسين. وهنا مجال للتعاون الثنائي، وكذلك للعمل من خلال المنظمات الدولية.
الجامعات القازاقية جامعات صاعدة تطمح نحو الوفاء بمتطلبات التعليم الجاد والبحث العليم بالمعايير العالمية. ومن شأن مزيد من التعاون أن يتم التخطيط للنهوض بالدراسات العربية بصفة عامة، وفي المقدمة تنمية المعرفة باللغة العربية في مجالات الأدب والثقافة والإعلام والتراث الثقافي المشترك والدراسات المعاصرة والترجمة. ومن المفيد من الجانب الآخر تكوين جيل من المتخصصين العرب في الدراسات القازاقية ودراسات آسيا الوسطى من شباب الباحثين بأقسام اللغات الشرقية واللغة الروسية والعلوم السياسية. أما التعاون في مجالات الزراعة وتربية الحيوان والعلوم الأساسية والطب والعمارة في مستوى الجامعات فيتطلب تخطيطًا دقيقًا في إطار مشروعات مشتركة ذات طابع أساسي أو تطبيقي، وتتجاوز الزيارات العابرة.(253/23)
إعداد المعاجم الأساسية والمتخصصة والشاملة من أهم مجالات التعاون. يعتمد أبناء كازاختسان وباقي دول آسيا الوسطى – في المقام الأول – على معجمات ثنائية عربية روسية أو روسية عربية. هذه المعجمات اكتملت وتوقف نموها منذ سنوات طويلة. يوجد معجم مدرسي صغير جدًّا للعربية والقازاقية، لا يكفي متطلبات التعليم، فضلاً عن المتطلبات الأخرى. وقد بدأت جامعة نورمبارك في التخطيط لمنظومة كاملة من المعجمات الصغيرة والجامعية والكبيرة وكذلك المعجمات المتخصصة مع البداية بالكلمات الأساسية وبمجالات الثقافة الإسلامية والدراسات العربية. تكون هذه المعجمات أمام المتعاملين بالعربية والقازاقية على ورق أو في الحاسوب. أما التعاون في المعجمات الكبيرة للعربية وللقازاقية فله آفاق كبيرة، منها التأصيل المعجمي والمواد الموسوعية للأعلام والأماكن الخاصة بآسيا الوسطى في المعجمات العربية، وكذلك تأصيل آلاف الكلمات والتعبيرات العربية في لغات آسيا الوسطى .
الترجمة من العربية إلى القازاقية والعكس، تعد في البداية . لا توجد ترجمات قازاقية لعيون الأدب العربي الحديث، وهناك اقتراح بترجمة أعمال لنجيب محفوظ، ثم لأدباء العربية في العصر الحديث، ويقابل هذا عدم وجود ترجمات عربية لأعمال أباي أو مختار أو يزوف ( = عوض) وغيرهما من أدباء كازاخستان وآسيا الوسطى. المكتبة القازاقية تتطلب أيضًا ترجمات من العربية لمن ألفوا بها من أبناء آسيا الوسطى، مثل الفارابي اللغوي والفارابي الفيلسوف، وترجمات لمن ألفوا بالعربية عن آسيا الوسطى، مثل ياقوت الحموي أو ابن خلكان أو ابن بطوطة. وهناك اهتمام كبير بسيرة الظاهر بيبرس التي تقع في ثلاثة آلاف صفحة بالعربية، مع الأمل في إتاحتها أيضًا مترجمة إلى القازاقية. أما الكتب عن الإسلام والحضارة الإسلامية فلها أهميتها الخاصة مع حسن الاختيار وتقديم ما يناسب القارئ القازاقي المعاصر.(253/24)
الثقافة والفنون في كازاخستان لهما طابع خاص. نلاحظ التقدم الواضح في الفنون الموسيقية ومنها الأوبرا،وهذه الفنون لها مكانتها في نسيج الحياة . وهناك قمم عالية في الغناء الأوبرالي في كازاخستان، وآن الأوان أن يبدأ تعاون قوي في هذا المجال،وفي الموسيقا وإعداد الموسيقيين، وتبادل الفرق على نحو يقرّب بين الشعوب. أما المعارض بكل أنواعها فتعد مجالاً للتعاون: معارض الخط العربي، معارض الرسم، معارض عن تاريخ الحضارة، معارض الكتب العربية إلخ. وفوق هذا كله، فإن السينما العربية غير معروفة هنا. إن عرض بعض الأفلام الروائية والتسجيلية في دور العرض أو في المؤسسات الثقافية والتعليمية مصحوبة بالترجمة القازاقية سيكون إضافة مهمة في سبيل مزيد من المعرفة والصداقة بين الشعوب.
المكتبات الوطنية والجامعية والعامة تنقصها أكثر المطبوعات العربية الحديثة، النقل الجوي غير المباشر وتكاليف الشحن الباهظة يجعلان حركة الكتاب العربي إلى داخل المنطقة بالغة الصعوبة، ولعل الخط الجوي المتفق عليه بين القاهرة وألماطي ينفذ في عام2002م. ليمهد لحركة دائمة للأفراد والكتب والسلع الأخرى. أما مجالات التعاون في تطوير المكتبات وميكنتها لاستيعاب الكتب العربية فلها أهميتها المتزايدة. ومن المهم هنا تدريب عدد من أمناء الأقسام العربية بالمكتبات القازاقية الكبرى في مصر على استخدام التقنيات المتقدمة في الإعداد الفني للمعلومات عن الكتب العربية.(253/25)
الصورة الإعلامية عن العرب في آسيا الوسطى وعن آسيا الوسطى عند العرب تكاد تكون غير واضحة، وذلك على الرغم من حسن النية والرغبة الصادقة. هناك صورة تجارية محددة عن دبي، ولكن عدم المعرفة بالتاريخ الثقافي وبواقع الحياة في الدول العربية هنا وهناك تجعل تبادل البرامج الإعلامية بين هذه الدول ودول آسيا الوسطى مطلبًا عاجلاً، بهدف ثقافي حضاري يناسب المشاهدين. العلاقات المباشرة مهمة حتى يحصل المستمع أو المشاهد على رؤية حقيقية، وليس من خلال قنوات وسيطة لا صلة لها بنا أو بهم. وقد يؤدي التطور في الجيل القادم إلى إصدار طبعة أسبوعية عربية في آسيا الوسطى من إحدى الصحف العربية الكبرى، وتقديم معلومات مباشرة ومنظمة في الصحف العربية من خلال علاقات إعلامية قوية.
التراث الثقافي المشترك هو في المقام الأول كل ما ألفه علماء آسيا الوسطى بالعربية، وكل ما كتب بالعربية عن آسيا الوسطى في كتب التاريخ أو في المراجع العامة وكذلك السيرة الشعبية للظاهر بيبرس. وهناك عمل كبير يمكن إنجازه عن كل هذا التراث المشترك لجمع المخطوطات أو مصوراتها ولجمع المؤلفات وتحقيقها وطبعها ولدراستها ولترجمتها ولجمع النصوص من الكتب والمراجع العامة وتحقيقها والتعليق عليها وطبعها ودراستها وترجمتها، ولجمع مخطوطات سيرة الظاهر بيبرس أو مصوراتها ودراستها وترجمتها. هذه المجالات جادة للعمل العلمي في التراث الثقافي
المشترك.
الثقافة والسياحة بينهما علاقة قوية، وقلة المعرفة بمصر على سبيل المثال تعوق الحركة السياحية إليها. وقد نجد من يسأل عن تاريخ مصر أو آثارها أو واقعها وهو خالي الذهن عنها ومتردد في اتخاذ قرار السفر إليها. وكل من تابع البرامج القليلة عن الآثار الفرعونية نجده يخطط عند توافر الإمكانات لزيارة مصر. ولا شك أن وجود المعارض والأفلام السينمائية والمواد الإعلامية المتجددة سيقضي على الحواجز النفسية ويمهد لتدفق سياحي حقيقي.(253/26)
التعاون في مجالات الحياة يرتبط بالعمل الثقافي. والأمل كبير في تدفق المنتوجات عن طريق خط الطيران المباشر المتفق عليه وأن يكون عمل المشروعات الكبرى الصناعية والعلمية والزراعية مجالاً لمزيد من التعاون وهذا كله من ملامح عصر جديد استقلت فيه دول آسيا الوسطى وبدأت في العالم كله بدرجات متفاوتة اتجاهات العولمة. دول هذه المنطقة تطمح بقوة إلى تعاون من أجل المستقبل، والعلاقات الثقافية مع الدول العربية جزء من هذا الطموح.
محمود فهمي حجازي
عضو المجمع(253/27)
التعبير عن دلالات اللواحق الأوربية "suffixes" في اللغة العربية(*)
للأستاذ الدكتور نيقولا دوبريشان
تحتك الحضارات والثقافات واللغات على مر عصور التاريخ بعضها ببعض وينتقل العديد من الحقائق المادية والروحية من بعضها إلى غيرها. وقد أسهمت الحضارة العربية – باعتبارها حلقة أساسية للوصل بين الحضارات الكلاسيكية والحضارات الحديثة – في إغناء وتطوير التراث الحضاري الدولي في مختلف الميادين المادية والروحية في ميادين: علوم الفلك والرياضيات والكيمياء والفلسفة والمنطق وغيرها. كما أثر العرب في الحضارة المادية – من فن العمارة والملابس والمآكل – للبلدان المجاورة لهم بل ولبلدان أخرى بصورة غير مباشرة وكذلك في ميادين الموسيقا والآداب والفنون الشعبية. وقد دخل الكثير من الموضوعات والموتيفات العربية إلى الحضارة الإسبانية من جهة
وإلى الحضارة العثمانية من جهة أخرى وانتقلت منهما إلى العديد من البلدان الأوربية وبخاصة إلى بلدان منطقة البلقان. كما أثرت الحضارة العربية في حضارات شعوب آسيا الوسطى وآسيا الجنوبية الشرقية وإفريقيا.
ولاشك أن العناصر اللغوية وبخاصة المفردات تنتقل بسرعة وبسهولة من لغة إلى لغة أخرى إما بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة، أي عن طريق لغات أخرى، على ما حصل مثلا في حالة اللغة الرومانية التي دخلت إليها مئات المفردات العربية عن طريق اللغة التركية وعشرات المفردات العربية عن طريق اللغات اللاتينية(1).
ومن جهة أخرى دخلت عشرات المفردات العربية إلى العديد من اللغات الأوربية وأصبحت بذلك جزءًا من(254/1)
المعجم الدولي.(2) ونذكر فيما يلي عددًا من هذه المفردات التي نجدها في عديد من اللغات الأوربية بخط وبنطق متشابهين في اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والرومانية والألمانية والروسية وغيرها، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر. ونذكرها بصيغتها في اللغتين الإنجليزية والرومانية إلى جانب العربية طبعًا:
العربية ... ... ... ... الإنجليزية ... ... ... الرومانية
الله ... ... ... ... Allah ... ... ... ... Allah
القرآن ... ... ... ... Koran ... ... ... ... Coran
مسلم ... ... ... ... Muslim ... ... ... Moslem
مفتٍ ... ... ... ... Mufti ... ... ... ... Muftiu
قاضٍ ... ... ... ... Kadi ... ... ... ... Cadiu
مسجد ... ... ... ... Mosk ... ... ... ... Moschee
مسلمان ... ... ... Mussulman ... ... ... Musulman
مؤذن ... ... ... ... Muezzin ... ... ... Muezin
هجرة ... ... ... ... Hegira ... ... ... ... Hegira
شريف ... ... ... ... Sherif ... ... ... ... Serif
خليفة ... ... ... ... Caliph ... ... ... ... Calif
خلافة ... ... ... ... Caliphate ... ... ... Califat
مملوك ... ... ... ... Mameluke ... ... ... Mameluc
الكيمياء ... ... ... Alchemy ... ... ... Alchimie
الإبيق ... ... ... ... Alembic ... ... ... Alambic
الكحول ... ... ... Alcohol ... ... ... Alcool
القلى ... ... ... ... Alcali ... ... ... ... Alcali
الجبر ... ... ... ... Algebra ... ... ... Algebra
صفر ... ... ... ... Cipher ... ... ... ... Cifra
الملغم ... ... ... ... Amalgam ... ... ... Amalgam
شراب ... ... ... ... Syrup ... ... ... ... Sirop
السمت ... ... ... ... Azimuth ... ... ... Azimut
سمت ... ... ... ... Zenith ... ... ... ... Zenit
نظير ... ... ... ... Nadir ... ... ... ... Nadir(254/2)
المناخ ... ... ... ... Almanac ... ... ... Almanah
تعريف ... ... ... ... Tariff ... ... ... ... Tarif
مخزن ... ... ... ... Magazine ... ... ... Magazin
ديوان ... ... ... ... Divan ... ... ... ... Divan
قطن ... ... ... ... Cotton ... ... ... ... Cton
الموصل ... ... ... Muslin ... ... ... ... Muselina
دمشق ... ... ... ... Damask ... ... ... Damasc
أطلس ... ... ... ... Atras ... ... ... ... Atlas
سموم ... ... ... ... Symoon ... ... ... Simun
شرقي ... ... ... ... Sirocco ... ... ... Siroco
دار الصناعة ... ... ... Arsenal ... ... ... Arsenal
أمير البحر ... ... ... Admiral ... ... ... Amiral
أمير ... ... ... ... Emir ... ... ... ... Amir
سلطان ... ... ... ... Sultan ... ... ... ... Sultan
سلطنة ... ... ... ... Sultanate ... ... ... Sultanat
غزال ... ... ... ... Gazelle ... ... ... Gazela
كافور ... ... ... ... Camphor ... ... ... Camfor
القبة ... ... ... ... Alcove ... ... ... ... Alcov
فلاح ... ... ... ... Fellah ... ... ... ... Felah
ويلاحظ من هذه القائمة أن المفردات العربية الأصل التي أصبحت ألفاظًا دولية تنتمي إلى ميادين مختلفة مثل الدين والعلوم والتنظيم الإداري والعسكري والحياة المادية .(254/3)
هذا من جهة ومن جهة أخرى استعارت اللغة العربية بدورها العديد من الألفاظ من اللغتين الإغريقية واللاتينية في العصر القديم ومن اللغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية في العصر الحديث، وذلك ضمن الجهود من أجل تحديثها وعصرنتها. كما استعارت بعض الألفاظ العربية معاني جديدة وتراكيب المفردات من اللغات الأوربية وتشكلت في اللغة العربية بتأثير من اللغات الأوربية مجاميع وأنظمة من الطرق والأساليب والوسائل من أجل التعبير عن معاني البوادئ (السوابق) واللواحق الأوربية. وقدمت خلال السنوات الماضية أمام حضرات الأعضاء الأجلاء لمجمع اللغة العربية في القاهرة سلسلة من البحوث حول التعبير عن معاني البوادئ الأوربية وسأقدم أمام حضاراتكم اليوم أهم الطرق والأساليب المستخدمة في اللغة العربية للتعبير عن معاني عدد من اللواحق (suffixes) الأوربية ومقابلتها.
1- يوجد في اللغة العربية عدد محدود من اللواحق الأصلية ألا وهي: " ـَة" (التاء المربوطة) و" ـَان" (ألف مد ونون)و"ـِىّ"(ياء النسبة المشددة) و"ـِيّةُ" (التاء المربوطة للمصدر الصناعي).(3)
وتعتبر اللاحقة "التاء المربوطة" لاحقة حية منتجة في اللغة العربية المعاصرة؛ إذ اشتقت ولا تزال تشتق بمساعدتها صيغة المؤنث من صيغة العديد من صيغ المذكر، وكذلك اسم الوحدة من عدد من أسماء الجنس، ومصدر المرة من المصدر العادي على صيغة "فعلة" والمصدر الصناعي.
أما اللاحقة "ـَان" فتعتبر غير منتجة في اللغة الحديثة لكنها استخدمت في العصر القديم لاشتقاق عدد من الصفات على وزن "فعلان" وعدد من المصادر من الأفعال الثلاثية.
لكن اللاحقة"ـِىّ" استخدمت في العصر القديم لاشتقاق عديد من النسب، وازداد عددها تدريجيًّا بحيث أصبح من الممكن في العصر الحديث اشتقاق النسبة من أي اسم من الأسماء المفردة أو أسماء الجمع وغير ذلك من الألفاظ. (4)(254/4)
وقد لاحظنا أن هذه اللاحقة تقابل عددًا من اللواحق في اللغات الأوربية، وكثير منها يستخدم لاشتقاق النسبة فيها أيضًا. ونذكر أهم هذه اللواحق في اللغة الفرنسية:
Ique - : ... حقيقي véridique ... ... ... فوضوي anarchique ... ... ... جدلي dialectique
... ... بلقاني balcanique
al(e) - : ... جنائي pénal ... ... ... استوائي équatorial ... ... ... ختامي final
... ... بيضوي ovale
aire - : ... تعسفي arbitraire ... ... ... رجعي réactionnaire
... ... دائري circulaire
iste - : ... اشتراكي socialiste ... ... ... تقدمي progressiste ...
... ... طبيعي naturaliste
... ... تعبيري expressioniste
en - : ... أوربي européen ... ... ... كوري coréen
كندي canadien
ais - : ... فرنسي français ... ... ... إنجليزي anglais
ain - : ... كوبي cubain ... ... ... روماني roumain
4- أما لاحقة المصدر الصناعي "ـِيّة" فتقابل عددًا من لواحق الأسماء المجردة في اللغات الأوربية، أمثال:
- اللاحقة " isme –" التي تضاف إلى اسم آخر لاشتقاق أسماء مجردة تعبّر أساسًا عن معاني المذاهب والمفاهيم السياسية المقابلة للنسب المنتهية باللاحقة"iste –"(ـِىّ في اللغة العربية) والتي تعين أنصار هذه المذاهب والمفاهيم والتيارات والاتجاهات:
استعمارية ... colonialisme ...
استعماري ... colonialiste
فاشية ... ... fascisme ...
فاشي ... ... fasciste
إصلاحية ... réformisme ...
إصلاحي ... réformiste
واقعية ... réalisme ...
واقعي ... ... réaliste
لكن هناك مصادر عدد من الأفعال العربية التي تقابل الأسماء المجردة المنتهية باللاحقة isme – في اللغة الفرنسية وغيرها من اللغات الأوربية:
حياد ... ... neutralisme ...
تشاؤم ... ... pessimisme ...
إرهاب ... ... terrorisme
استعمار colonialisme ، impérialisme(254/5)
اللاحقة "ité –" التي تضاف إلى اسم آخر لاشتقاق المصطلحات الفلسفية من جهة والمصطلحات العلمية الفنية من جهة أخرى:
نسبية ... ... relativité ...
عقلية ... ... mentalité ...
غائية ... ... finalité
مكانية ... spatialité
إنتاجية ... ... productivité
كما يقابل عدد من الصيغ العربية المنتهية باللاحقة "ـِيّة" المشتقة من اسم التفضيل من وزن "أفعل" وكذلك من المشتقات الاسمية مثل صيغة المبالغة واسم الفاعل واسم المفعول الصيغ الفرنسية المنتهية باللاحقة " ité –":
أغلبية ... ... maforité ...
أولوية ... priorité ...
حسّاسية sensibitité
مسئولية responsabitité
لكن عددًا من مصادر الأفعال العربية يقابل أيضًا الصيغ الفرنسية
المنتهية باللاحقة " ité –" :
حصانة ... ... immunité ...
تقبّل ... ... receptivité
تضامن ... solidarité
اللاحقة " at – " التي تعبر عن معاني الوضعية أو الوظيفة أو المهنة الممارسة بل والمؤسسة المعنية:
أستاذية ... ... professorat ...
أسقفية ... ... épiscopat
2-لكن بالإضافة إلى هذه اللواحق الأوربية التي تعبر اللاحقة"ـِىّ" واللاحقة "ـِية" عن معانيها ودلالاتها توجد في اللغات الأوربية لواحق أخرى لا تقابلها اللاحقتان العربيتان المذكورتان.
2- 1- ومنها اللاحقتان النعتيتان "able–"و"ible–"اللتان تعبران عن معاني الاحتمال والإمكانية والقابلية، واللاحقتان الاسميتان المقابلتان"abilité–"و"ibilité–"
2- 1- 1- لا توجد في اللغة العربية لواحق مقابلة للاحقتين الفرنسيتين "able" و " ible" لكنها استخدمت عددًا من الطرق والأساليب المختلفة من أجل التعبير عن معانيها.
2-1-1-1-وتمثل أكثر هذه الطرق شيوعًا وانتشارًا استخدام اسم الفاعل المشتق من الفعل "قِبل" المتبوع بالحرف "لِ"، الذي يجر مصدرًا في أغلب الأحيان أو اسما آخر.(254/6)
وقد أصبحت هذه التراكيب مفيدة جدًّا لمصطلحات بعض العلوم مثل الفيزياء والكيمياء ولمعاجم علوم أخرى مثل الرياضيات والبيولوجيا والطب والاقتصاد والعلوم والسياسة، ونذكر على سبيل المثال:
قابل للحياة (W.,199)viable(1)
قابل للحل ... (V.Monteil, 146)soluble(2)
قابل للذوبانW.,315) dissoluble ...
قابل للشفاء W., 479) curable
قابل للنفاد ... epuisable ...
قابل للتلف ... périssable
قابل للتطبيق ... applicable
قابل للنقاش ... discutable
قابل للتبدل ... modifiable
قابل للتفاوض ... négociable
قابل للجدل ... discutable
1- 1- 2- كما تعبر عن معنى الاحتمال والإمكانية والقابلية أسماء الفعل المشتقة من أفعال أخرى تعبر عن هذه المعاني، مثل
"صلُح" و"جاز" و"جهَز" و"قدَر" إلخ:
(أ) اسم الفاعل "صالح لـ":
صالح للملاحة ... (W., 479) navigable
صالح للعمل ... ... praticable
صالح للزراعة ... arable
صالح للأكل ... ... comestible
صالح للشرب ... potable
(ب) اسم الفاعل "جائز" المضاف أو المعطوف:
جائز الإثبات(V.Monteil, 174) dmissible
جائز انتخابه ... ... eligible(3)
جائز إعادة انتخابه ... rééligible(4)
(جـ) اسم الفاعل "جاهز لـ":
جاهز للاستعمال ... utilisable
جاهز للاستهلاك ... consumable
(د)اسم الفاعل "نافذ":
نافذ المفعول ... (V.Monteil, 147) valable
(هـ) اسم الفاعل "قادر على":
قادر على الإعفاء (W.,1087) solvable
(و) اسم الفاعل "مثير" :
مثير للإعجاب ... admirable
(ز) ومما يؤكد ويثبت القابلية المتميزة لاسم الفاعل "قابل" للتعبير عن المعاني المذكورة آنفًا أنه يستخدم أحيانًا مسبوقًا بالاسم "غير" الذي يعبر عن معاني بوادئ النفي:
غير قابل للرجوع(W., 741) irrévocable
غير قابل للخرق inviolable
غير قابل للتطبيق ... inapplicable
غير قابل للتنفيذ ... inapplicable(254/7)
غير قابل للمناقشة ... indiscutableوأحيانًا يستخدم اسم الفاعل "صالح لِـ" في صيغة مماثلة:
غير صالح للتطبيق (V.Monteil, 147) inapplicable
2- 1- 1- 3- تستخدم نادرًا بمعنى أسماء الفاعل المذكورة في الفترة السابقة الأفعال التي اشتقت منها أسماء الفاعل المعنية، مثل:
(إنتاج) يقبل القسمة divisible
(داء) يقبل الشفاء ... (W.739) curable
(بضائع)تقبل الالتهاب(W.739) inflammable
(ما) يصلُح للاستثمار exploitable
ويمكن كذلك استخدام صيغة الفعل النافية:
لا يقبل الدحض incontestable
لا يقبل التجزئة indivisible
لا يقبل الشك indiscutable
(ملكية)لا يجوز المساس بهاintangible
2- 1- 1- 4- لوحظ أن صيغة المضارع لعدد من الأفعال تعبر "عن القدرة على تنفيذ العمل" (5) ويجوز أن يعبر المضارع عن إمكانية أو قابلية التنفيذ، وهذا المعنى يسمح بترجمة الصفات الفرنسية المنتهية بـ "able –" و" ible –" وبخاصة بصيغة الفعل المبني للمجهول". (6) وانطلاقًا من ذلك قرر مجمع اللغة العربية في القاهرة أثناء المؤتمر السنوي المنعقد في 1938م التعبير عن الصيغ المنتهية باللاحقتين "able –"و" ible –" في اللغة الفرنسية بمضارع الفعل المبني للمجهول.(7) ويذكر هذا القرار الأمثلة التالية:
يؤكل ... comestible ...
وضده لا يؤكل incomestible
يذاب ... ... soluble ... ... وضده لا يذاب insoluble
لكن خلال العقود الأخيرة ازداد عدد الصيغ من هذا النوع وبخاصة النافية منها بالحرف "لا":
لا يذكر ... notable
لا يرثى له ... (W.362) deplorable
لا يؤسف له ... (W.39) regrettable
لا يقهر invincible
لا يوصف ... indescriptible
لا يرغب فيه ... indésirable
لا يصدق ... incrédible
لا يطاق ... (W.574) insupportable
لا يستغنى عنه (W.686) indispensable
بل يمكن استخدام صيغة الفعل اللازم المبني للمعلوم مقابل الصيغ الأوربية المنتهية بـ "able – " و "ible – " :(254/8)
لا ينتهي ... ... interminable
(جزء) لا يتجزأ ... inséparable
2- 1- 1- 5- تعبر صيغة اسم المفعول لعدد من الأفعال عن معاني صيغ أوربية منتهية باللاحقتين "able –" و" ible – " ، مثل:
مأكول ... ... (W.23) comestible
مقبول ... ... acceptable, admissible
متنازع عليه ... contestable
محتمل ... ... (W.208) possible
مستحسن (178) agréable, appréciable
ويمكن نفي اسم المفعول باسم "غير" المستخدم هنا بمعنى بادئة للنفي:
غير مقبول inacceptable, inadmissible
غير منظور ... (W.977) invisible
غير مرغوب فيه ... indésirable
2- 1- 1- 6- يعبر بعض الصفات على وزن "فَعول" أو على وزن "فعيل" عن معاني الإمكانية والاحتمال والقابلية مما يجعلها قادرة على التعبير عن معاني عدد من المفردات الأوربية باللاحقتين"able–" و"ible –":
منيع ... (W.927) inexpugnable
شريب ... ... (W.246) potable
وجيه ... ... (W.1053) notable
ويستخدم بعضها في صيغ نافية:
لا مثيل له ... (W.892) incomparable
عديم النظير ... (W.597) incomparable
2- 1- 1- 7- هناك العديد من الصيغ بحرف النفي "لا" التي تقابل صيغًا أوربية باللاحقتين "able –" و" ible – " وبوادئ النفي:
(أ) العنصر الأساسي في بعضها اسم:
لا مراء فيه(W.905) incontestable, indubitable
لا مبرر له ... (W. 49) injustifiable
لا مفر منه ... (W. 701) inévitable
(ب) لكن العنصر الأساسي في البعض الآخر فعل:
لا يتصوره العقل ... inimaginable
لا يمكن التعبير عنه
(V.Monteil 151) ineffable
2- 1- 1- 8- كما يمكن التعبير عن معاني اللاحقتين"able–"و" ible –" بطرق أخرى :
(أ) – صيغة أفعل التفضيل:
أَحَبُّ ... (W.152) préférable
(ب) – اسم فاعل أو نعت مضاف:
سريع الرضى ... ... concilliable
سريع التأثير(W.407) impressionnable
سهل البلوغ/ المنال ... accesible
قريب المنال ... ... réalisable(254/9)
سهل المأخذ ... ... abordable
صعب المنال ... (W.1014) irréalisable
ممكن المنال ... (W.1014) réalisable
(جـ) الصفة "حَريٌّ" المتبوعة بالحرف "بِ":
حري بالذكر ... (W.173) considérable
حري بالتصديق ... (W.173) crédible
2- 1- 2- وتقابل في بعض الأحوال في اللغات الأوربية تراكيب اسمية باللاحقتين " abilité –" و "ibilité –" التراكيب النعتية باللاحقتين " able –" و " ible – " . ويعبر المصدر الصناعي "قابلية" المشتق من اسم الفاعل "قابل" والمتبوع بالحرف "لِـ" الطريقة الرئيسية للتعبير عن معاني اللاحقتين "abilité –"و" ibilité –"، مثل:
قابلية للتجزئة ... (W.123) divisibilité
قابلية للتوصل ... (W.741) conductibilité
لكن المصدر الصناعي "قابلية" أصبح يستخدم مضافًا، مثل:
قابلية القسمة ... (W.741) divisibilité
قابلية التغيير ... ... variabilité
قابلية الملاحة ... ... navigabilité
أما الصيغ النافية ببوادئ النفي فيتم التعبير عنها بمساعدة المصدر "عدم" المضاف والمصدر الصناعي "قابلية" المضاف إليه:
عدم قابلية التصرف inaliénabilité (1)
عدم قابلية التقادم imprescriptibilité(2)
2- 1- 2- 1- وبصورة استثنائية يستخدم المصدر "قبول" للتعبير عن معنى اللاحقة "abilité – " :
قبول القسمة divisibilité(3)
عدم قبول التفرقة(W.740) indivisibilité
2- 1- 2- 2- تقابل المصادر الصناعية المشتقة من أسماء المفعول التي تعتبر المشتقات التي تمتاز بأعلى درجة من التجريدية تقابل في بعض الأحوال صيغًا أوربية باللاحقتين "abilité – " و "ibilité –":
مسؤولية (W.391) responsabilité
مشروبية (V.Monteil,149) potabilité
مشروعية Iegitimité
ولهذا السبب بالذات أصدر مجمع اللغة العربية في القاهرة قرارًا في عام 1938م بصدد ذلك.(8)
كما يوجد عدد من المصادر التي تقابل صيغًا أوربية اللاحقتين " abilité –" و "ibilité –"، مثل:
استقرار stabilité(254/10)
لكن العديد من المصادر الصناعية المنتهية باللاحقة "ـِية" تقابل الصيغ الأوربية باللاحقتين " abilité –" و "ibilité –":
إمكانية (W.918) possibilité
صلاحية (W.522) applicabilité
نسبية relativité
غائية finalité
حساسية sensibilité
انفعالية (W.721) irritabilité
وتتبلور في اللغة المعاصرة طريقة التعبير عن معنى اللاحقتين
"abilité –"و " ibilité –"بالمصدر "سرعة" المضاف وبالمصدر "سهولة" المضاف:
سرعة التصديق (W.407) crédibilité
سهولة المنال accesibilité
3- هناك عدد من اللواحق في مصطلحات العلوم مثل الكيمياء والطب والصيدلة والفيزياء والرياضيات وقد استعارت اللغة العربية أكثرها من اللغة الفرنسية لكنها وجدت كذلك بين وسائلها ما يعادلها ويقابلها فيها.
3- 1- ونذكر على سبيل المثال اللاحقة الفرنسية "oide –"(< gr. - eidos) التي اقترح مجمع اللغة العربية في القاهرة التعبير عن معناها بالاسم "شبه" المضاف إلى اسم أو صفة من مصطلحات علم الكيمياء، (9) مثل:
شبه غرائي collide
شبه مخاطي ... mucoidde
شبه ظهاري ... épithélloide
كما وجدنا في المعاجم وفي الكتب
المدرسية:
شبه المعدن metalloide(المنهل)(*)
شبه المنحرف (W.453) trapézoide
شبه المعيّن (W.453) romboide
شبه الجرثوم bacteroide(المنهل)
كما تم استخدام الصفة "شبيه" للتعبير عن معنى اللاحقة "oide":
شبيه بالمنحرف (W.454) trapézoidde
شبيه بالمعين (W.454) romboide
شبيه بالإنسان anthropoide(المنهل)
لكن المجمع أقر في مؤتمر سابق التعبير عن معنى اللاحقة "oide –" بواسطة لاحقة النسبة "ـَاني" (10) فاقترح:
غرواني colloide (إلى جانب "شبه الغرائي)
قلواني alcaloide (إلى جانب "شبه القلوي")
3- 2- لكن اللغة العربية استعارت من اللغة الفرنسية العديد من اللواحق في مجال علم الكيمياء:
اللاحقة الفرنسية "oide –"
أصبحت "id –" في اللغة العربية وهي ألحقت سواء بالألفاظ العربية أو المعربة:(254/11)
غلسريد fr. Glycéride
سكريد (V.Monteil 143) fr. Glycoside
(ب) اللاحقة الفرنسية " eux –" (< lat.- osus) أصبحت في اللغة العربية "uz –" وألحقت بمصطلحات محلية أو مستعارة لكنها ترجمت في بلدان عربية أخرى بلاحقة النسبة "ـِىّ":
وقد ترجم المصطلح acide sulfureux في مصر بـ "حمض الكبريتوز" لكنه ترجم في سورية بِـ "الحمض الكبريتي" (V.Monteit,143). ونجد في سورية اللاحقة "oz –" إلا أنها تعادل اللاحقة الفرنسية "ose –" مثل جلوكوز ( < fr. Glucose) V.Monteil,143))
لكن اللاحقة " eux – fr." Ous –" engl. من المصطلح السياسي "engl. Officious, fr.officieux" ترجمت
بالاسم "شبه" أو بالصفة "شبيه":
شبه رسمي (W.454) engl. officious
شبيه بالرسمي (W.339) engl. Officious
(جـ) تمت استعارة اللاحقة " ate –" ( <–ate gr.)بالصيغة "at –" وألحقت بالأسماء العربية ، مثل:
لبنات (V.Moteil, 142) fr. Lactate
فحمات(1)(V.Monteil,142)fr. Carbonate
مئات(2) (V.Monteil, 143) fr. Hydrate
(د) تمت استعارة اللاحقة " ique –" في بعض البلدان العربية بصيغة"ik -" في مصطلحات مثل:
حامض الكبريتيك (V.Monteil, 143) acide sulfurique
(هـ) تمت استعارة اللاحقة الفرنسية " ure –" بصيغة " ur –"، مثل:
كبريتور < fr. Sulfure
فلورور < V.Monteil,143)fr. Fluourure
(و) تمت استعارة اللاحقة الفرنسية "ite –" بصيغة "it –"، مثل:
كبريتيت(< fr. Sulfite )( V.Monteil,143)
(ز) تمت استعارة اللاحقة الفرنسية "one –" بصيغة " un –" مثل:
خلّون < (V.Monteil, 143) fr. acétone
(جـ) تمت استعارة اللاحقة الفرنسية "yle –" بصيغة " il –" ، مثل:
حمضيل < (V.Monteil, 143) fr.acyle
فحميل < (V.Monteil, 143) fr.carbonyle
(ط) أما اللاحقة " ite –" الفرنسية من المصطلحات الطبية فقد ترجمت على العموم بالمصدر "التهاب" في صيغة الإضافة، مثل:
التهاب المعى< (V.Monteil,145)fr.entérite(254/12)
التهاب الشعاب< (W.,880)fr.bronchite
التهاب المعدة < (B.,934) fr.gastrite
التهاب اللوزتين< (B.,934)fr.amygdalite
(ى) أما اللواحق المستخدمة للتعبير عن الفصائل والفصائل الفرعية في علم النبات فقد تم التعبير عنها بلاحقة المصدر الصناعي "ـِيّة". (11)
4- ومن ناحية أخرى تمت ترجمة عدد من اللواحق الإغريقية الأصل أو اللاتينية الأصل بمفردات عربية(12) ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
(أ) اللاحقة الفرنسية logie – أو الإيطالية logia – استعيرت بصيغة "– لوجيا" (13) أو ترجمت بالاسم "علم"، مثل:
زولجيا أو علم الحيوان < fr.zoologie
علم الحشرات < fr. Entomologie
(ب) اللاحقة الفرنسية "algie –" ترجمت بالاسم "ألم" ، مثل:
ألم الأعصاب < fr. névralgie
(جـ) اللاحقة "phobie –" واللاحقة "phobe –" ترجمت بالمصدر "بغض واسم الفاعل"مبغض"على التوالي، مثل:
بغض الإنجليز < fr.anglophobie(المنهل)
مبغض للإنجليز < fr.anglophobe (المنهل)
كما ترجمت اللاحقة " phobie –"
من الصيغ الاسمية بالاسم "رهاب" أو الاسم "رهبة" مثل:
رهاب الحبس Fr.claustrophobie > (14)
رهبة الماء Fr.hrdrophoble > (المنهل).
(د) ترجمت اللاحقة " – manie " بالاسم "هوس" ، مثل: هوس السرقة < fr.cleptomanie(15)
5- وقد اتضح مما سبق ذكره أن اللغة العربية تستخدم وسائل مختلفة للتعبير عن معاني اللواحق الأوربية. وتقابل اللاحقتان العربيتان "ـِىّ" للنسبة و"ـِيّة" للمصدر الصناعي عددًا من اللواحق الأوربية. كما تمت
ترجمة عدد من اللواحق الأوربية الأخرى بطرق مختلفة واستعير عدد من اللواحق الفرنسية. وتجعل جميع هذه الوسائل اللغة العربية قادرة على التعبير عن معاني جميع اللواحق الأوربية، واستفاد مجمع اللغة العربية في القاهرة من هذه الوسائل كافة في مجموعات المصطلحات التي أعدها على مر السنين.
نيقولا دوبريشان
عضو المجمع المراسل
من رومانيا
المراجع
راجع بصدد ذلك:(254/13)
(أ) نيقولا دوبريشان، بعض الملاحظات حول المفردات العربية الأصل التي دخلت اللغة الرومانية بواسطة اللغة التركية، في مجلة حوليات جامعة بوخارست، 1965م.
(ب) نيقولا دوبريشان، الألفاظ ذات الأصل العربي الدخيل إلى اللغة الرومانية بواسطة اللغة التركية، في مجلة اللغة العربية في القاهرة، العدد 29، 1972م.
(جـ) نيقولا دوبريشان، تطور دلالات الألفاظ العربية الأصل في اللغة الرومانية، في المجلة العربية للثقافة، العدد 28، 1995م، تونس.
(د) نيقولا دوبريشان، المفردات العربية الأصل في الصحف الرومانية المعاصرة، في مجلة رومانو – أرابيكا، العدد 1، بوخارست 2001م.
نيقولا دوبريشان، اللغة العربية خارج حدودها، في اللغة العربية
وتحديات القرن الحادي والعشرين، تونس 1996م.
ونيقولا دوبريشان، وحدة اللغة العربية عامل أساسي من مقومات وحدة الأمة العربية، في القومية العربية والمستقبل، بغداد 1998م
Henri Fleisch, Traité de philologie arabe, Beirut, 1961, pp. 406 et D.Cohen, Remarques sur la derivation nominale par affixes dans quelques langues Sémitiques, in Semitica 14,1964, pp.80
4- Nicolae Dobrisan, Fonetica si morfologia limbii arabe contem porane, Bucharest, 1975, pp. 439 – 452, and Nicolae Dobrisan, Lexicologia araba, Bucharest, 1984, pp. 64-82
5- M. Gaudafroy- Demombynes, R.Blachere, Grammaire de L'arabe clssique, Paris, 1952, pp. 251
6- H.Fleisch, Etudes sur le verbe arabe, in Mélanges Louis Massignon II, Damasc, 1957, apud V.Monteil, L'Arabe moderne, pp.147
مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة، العدد 5، 1948م، ص88.
المرجع السابق، ص88.
مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة .
مصطفى الشهابي، أهم القرارات العلمية في مجلة مجمع اللغة العربية في دمشق، العدد 32، 1957م، ص600
V.Monteil, op.cit., p.145(254/14)
Josef Bielawski, Deux périodes dans la formation de la terminologie scientifique arabe, in Rocznik Orientallistyczny, 20, 1956, pp. 303
Nicolae Dobrisan, Lexicologie araba, Bucharest, 1984, pp.104
مصطلحات فلسفة، في مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة، العدد 23، 1968م، ص160.
15- المرجع السابق،ص160(254/15)
اللغة العربية والمصطلحات العلمية
في التعبير عن فكر ابن الهيثم(*)
للأستاذ الدكتور عبد الكريم خليفة
أيها السادة العلماء:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد واجهت اللغة العربية تحديًا لذاتها منذ اختارها الله - سبحانه وتعالى-لأن تكون لغة الوحي الإلهي، وصارت لغة التعبير عن حضارة عربية إسلامية، حضنتها دار الخلافة منذ صدر الإسلام والعصر الأموي، والعصور العباسية على امتدادها في الزمان والمكان. وأفرزت هذه الحضارة علماء مشهورين في مختلف مجالات المعرفة. وبدأت حركة الترجمة والنقل إلى العربية منذ وقتٍ مبكر. وكانت أكثر الكتب التي نقلت إلى العربية عن أصولٍ يونانية. وأفادت حركة الترجمة الواسعة من تراث الأمم الأخرى. فنقلت أيضًا عن اللغات الفارسية والسريانية والهندية..
وكذلك عن اللغة اللاتينية، مع تفاوتٍ كبير في درجة الاهتمام، وهذا واضح في قلة النصوص العربية التي وصلتنا مترجمة عن هذه اللغات الأخيرة لاسيما اللاتينية. وبلغت حركة الترجمة والتأليف ذروتها في القرنين الرابع والخامس الهجريين. ونجد أنفسنا أمام لغةٍ علمية عربية قد أصبحت في هذين القرنين لغة العلم الأولى، في جميع مجالاته وفروعه، في مراكز الإشعاع العلمي والثقافي: في بغداد والبصرة ونيسابور وأصفهان وجرجان وزنجان وشيراز ومور والري وبلخ وحلب ودمشق والقاهرة والقيروان وبجاية وتلمسان وفاس وقرطبة وأشبيلية وغيرها من المدن، من أقصى المشرق، على تخوم الصين إلى أقصى المغرب،على تخوم أوربا... وكانت العربية لغة
هؤلاء العلماء الأفذاذ في دار الإسلام، على اختلاف شعوبهم ومذاهبهم بل وعقائدهم ولغاتهم، قدّموا بها معارفهم وأبدعوا بها نظرياتهم بكل دقةٍ ووضوح. ولجأت جماعة منهم في القرن الرابع الهجري، أطلقت على نفسها اسم "إخوان الصفا وخلان الوفا" إلى تقديم علوم الأوائل بمصطلحاتها ومناهجها إلى عامة المثقفين، بلغة عربية صحيحة ودقيقة وواضحة.(255/1)
وفي مجال حديثي عن دور اللغة العربية، في التعبير عن الفكر العلمي لهؤلاء العلماء، في تلك الفترة من تاريخ تراثنا العلمي والحضاري، توقفت عند هذا العدد الضخم من العلماء الذين أبدعوا باللغة العربية في جميع مجالات المعرفة، على الرغم من اختلاف أصولهم وتعدد شعوبهم ولغاتهم. وأذكر منهم: ابن الهيثم أبا علي، وأشهر العلماء الذين عاصروه مثل: السجستاني وابن يونس والقاضي والنَّسَوي والبَيْرُوني وابن سينا وأبا الوفاء البوزجاني والكرخي والكرماني وابن السمح وابن الطاهر والسرقسطي والزهري والواسطي وأبا الحسن بن ليَّان.. وإن أول ما يتبادر إلى الذهن التساؤل: كيف استطاع هؤلاء العلماء ومن سبقهم في القرنين الثاني والثالث أن يرتقوا بالعربية للتعبير عن الفكر العلمي في أول تماس لها بعلوم الأوائل وحضارات الأمم السالفة؟ لقد كانت العربية – لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف – لغة الدين والعلم والدولة في كل بلدٍ دخله الإسلام. فكيف واجه هؤلاء العلماء نقل المصطلحات العلمية إلى اللغة العربية، وما مناهجهم في ذلك ؟ وما مناهجهم عندما انتقلوا إلى مرحلة الإبداع ووضع المصطلحات؟ وكيف شاعت هذه المصطلحات والتسميات والتعابير العلمية؟ وكيف اتجهت اللغة العربية العلمية إلى التوحد بعد تمام توحد اللغة الأدبية، ولغة علوم القرآن والحديث النبوي، وتوحد مصطلحات الفقه وعلوم النحو والصرف والبلاغة والعروض؟ وكيف واجهت العربية وضع النظريات وقوانين العلوم وصياغة التعريف والتحديد؟.(255/2)
وسنتناول في هذا البحث الصياغة اللغوية في التعبير عن الفكر العلمي للحكيم "بَطْلَيمُوس الثاني" أبي علي محمد بن الحسن بن الهيثم، وكما سمَّاه القدماء تِلْوَبطليموس في العلوم الرياضية والمعقولات(1). ولد ابن الهيثم في البصرة حوالي سنة354هـ سنة 965م. وفي عهد الحاكم بأمر الله (386هـ-411هـ) (966م -1021م)، ذهب إلى مصر حيث حاول أن ينظِّم فيضان النيل. وقد ترك هذه المهمة عندما تحقق من استحالتها... وبعد موت الحاكم عاد إلى القاهرة... وتوفي سنة 430هـ - 1039م. ويعرف ابن الهيثم في النصوص اللاتينية في القرون الوسطى باسم "ALHAZEN" وباسم "AVENETAN"(2). ليس من وكد هذا
البحث أن نترجم لأحد مشاهير الرياضيين العرب، وأشهر عالم عربي بالطبيعيات، كما تصفه دائرة المعارف الإسلامية في طبعتها الحديثة. ولكننا نريد أن نستبين مكانة العربية التي عبّر بها عن هذه العلوم المختلفة في مصنفاته التي تكوِّن بحث خزانة علمية تراثية .
لا أحد يزعم أن ابن الهيثم قد أبدع هذه اللغة العلمية، ولا أحد يزعم أنه وضع جميع هذه المصطلحات والمفاهيم. ولكن الذي لاشك فيه أنه أجاد استعمالها، وأضاف جديدًا فيما أبدع واجتهد في وضع مصطلحات وتسميات جديدة. وإن النظرة الشاملة في تصانيف مشاهير العلماء الذين عاصرهم، وأخذ عنهم، كما أخذوا عنه، تجيب عن هذه التساؤلات.
وإن الذي لاشك فيه أيضًا أن المصطلحات والتسميات، قد تتأثر بالبيئات المختلفة عند النقل أو(255/3)
الوضع. ألا نرى أسماء النباتات، مثلا تختلف باختلاف البيئات؟ وكذلك أسماء الحيوان ومصطلحات الصيدلة...إلخ؟. وكذلك قد تتنوع المصطلحات والعبارات العلمية، وتختلف باختلاف الاجتهادات... وربما وجدت كثرة الشروحات لهذه التصانيف، تفسيرها في توضيح مدلولات كثيرة من المصطلحات العلمية، فإنها لم تكن عائقًا، في سبيل التواصل العلمي والفكري، عند هؤلاء العلماء في مراكز الإشعاع العلمي والثقافي، في مختلف الأقطار التي كانت تضمها دار الخلافة. وإن القطيعة السياسية، مثلاً بين الأندلس وعاصمة الخلافة ببغداد، لم تكن لتؤثر على التواصل العلمي والفكري بين مراكز الثقافة والعلم في هذه الأقطار، ولا بين العلماء أنفسهم. وهذا يصدق على مختلف الكيانات السياسية التي نشأت بعد ضعف دولة الخلافة ببغداد. فنحن واجدون أنفسنا أمام حقوق المواطنة في دار الإسلام، على الامتداد الجغرافي والزماني لعدة قرون. كانت حقوقًا معترفًا بها، وغير قابلة للانتقاص، ولذا نرى الرحلات في طلب العلم، وانتقال العلماء للتدريس والتثقيف نامية ومزدهرة، بين مراكز الإشعاع العلمي والثقافي في الدول الإسلامية. وكانت طُرُق الحج وزيارة الحرم النبوي الشريف بالمدينة المنورة، والمسجد الأقصى المبارك بالقدس، سابلة. وانتشرت دور الوراقة، وأصبح نسخ الكتب والرسائل مهنة يعتاش منها كثير من العلماء والوراقين. ولا أدلّ على ذلك من هذا النصِّ الذي يرويه ابن أبي أصيبعة عن ابن الهيثم فيقول: "وخرج – ابن الهيثم – عن داره واستوطن قُبَّةً على باب جامع الأزهر، أحد جوامع القاهرة. وأقام بها متنسكًا متعزِّيًا مقتنعًا... واشتغل بالتصنيف والنسخ والإفادة. وكان له خط، قاعدتُه في غاية الصحة، كتب به الكثير من علوم الرياضة.(1) ويدعم ابن أبي أصيبعة هذه المعلومة عن مهنة النسخ في حياة ابن الهيثم، فيثبت رواية محددة ودقيقة فيقول: "وذكر لي يوسف الفاسي الإسرائيلي الحكيم بحلب، قال: سمعت أن ابن(255/4)
الهيثم كان ينسخ في مدة سنة، ثلاثة كتب في ضمن اشتغاله، وهي: إقليدس والمتوسطات والمجسطي، ويستكملها في مدة السنة. فإذا شرع في نسخها جاءه مَنْ يعطيه فيها مئة وخمسين دينارًا مصريًّا. وصار ذلك كالرسم الذي لا يحتاج فيه إلى مواكسة ولا معاودة قول. فيجعلها مؤونته لسنته. ولم يزل على ذلك إلى أن مات بالقاهرة في حدود سنة ثلاثين وأربعمئة أو بعدها بقليل. والله أعلم".(2)
ونحن في هذا البحث، نود أن نتوقف عند الذروة التي وصلت إليها اللغة العربية في التعبير عن فكر ابن الهيثم، مؤلفًا وناسخًا ومعلمًا.
وربما يفرض المنهج العلمي، أن نعرض ما صنفه ابن الهيثم، وأن نستقرئ منه المصطلحات والتعابير العلمية التي استعملها، وأن نحاول التمييز بين ما أخذه بالتواتر عن الآخرين، وبين ما وضعه اجتهادًا وإبداعًا. ولكن يد الحدثان والضياع والتلف قد امتدت إلى هذا التراث الضخم، وفَعَلت به ما فَعَلته بمعظم تراثنا العلمي والأدبي.
وقد حفظ لنا ابن أبي أصيبعة ثبتًا مهمًّا بمؤلفات ابن الهيثم، وأن أكثرها كان مخصَّصًا للرياضيات والطبيعيات (Physics)، وبعضها كان في موضوعات فلسفية وطبية. وربما كان من المفيد أن أورد النص الذي ذكره ابن أبي أصيبعة، لما له من دلالة مهمة في التوثيق، لمصنفات علمية لم يصل إلينا منها سوى النزر اليسير، وأن الكثرة الكاثرة لا نعرف عنها شيئًا . فربما تاهت في بعض الأقبية(255/5)
والمكتبات، وربما أنها فقدت إلى الأبد. ومن ناحية أخرى يقدم لنا هذا النص في فقراته الأولى، معلومات في غاية الأهمية عن التكوين الثقافي والعلمي لابن الهيثم، بما كتبه عن نفسه وبخطه. ويلقي الضوء على منهجه العقلي الذي ينطلق من الشك، إذ يقول: "إني لم أزل منذ عهد الصبا مرتابًا في اعتقادات هذه الناس المختلفة، وتمسك كل فرقة منهم بما تعتقده من الرأي. فكنت متشككًا في جميعه، موقنًا بأن الحق واحد"... إلى أن يقول: "وبَعَثْتُ عزيمتي إلى تحصيل الرأي المقرِّب إلى الله جَلَّ ثناؤه، المؤدي إلى رضاه، الهادي لطاعته وتقواه...". وبعد أن يستشهد بأقوال جالينوس... يقول ابن الهيثم. "فخضتُ لذلك في ضروب الآراء والاعتقادات، وأنواع علوم الديانات، فلم أحظ من شيء منها بطائل ، ولا عرفت منه للحق منهجًا ، ولا إلى
الرأي اليقيني مسلكًا مجدِّدًا. فرأيت أنني لا أصل إلى الحق، إلا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية، وصورتها الأمور العقلية...". وبعد هذا التمهيد يسرد ما صنعه من مصنفات في العلوم الرياضية، وكذلك ما صنعه في العلوم الطبيعية والإلهية..." ويتوقف ابن الهيثم عند رسالة مهمة من تآليفه، يبدو أنها تحتل في نفسه أهمية خاصة، فيقول: "ثم شفعت جميع ما صنعته من علوم الأوائل برسالة، بينت فيها أن جميع الأمور الدنيوية والدينية هي نتائج العلوم الفلسفية. وكانت هذه الرسالة هي المتمة لعدد أقوال في هذه العلوم.."(*)
وبعد أن يفرغ ابن أبي أصيبعة من إيراد ما وجده بخط ابن الهيثم،وهو نصٌّ يبلغ الذروة في التوثيق، يتابع تقصي مؤلفاته. فيكمِّل ثبت مؤلفات ابن الهيثم من خلال
فهرست وجده. يقول ابن أبي أصيبعة: "وهذا أيضًا فهرست وجدته لكتب ابن الهيثم إلى آخر سنة تسعٍ وعشرين وأربعمئة... (1)(255/6)
وربما كان من المفيد، ونحن نبحث لغة ابن الهيثم والمصطلحات العلمية في مصنفاته، أن نقف وقفة متأنية عند كتابه المشهور "كتاب المناظر". وقد شرحه كمال الدين الفارسي (المتوفى سنة 720هـ - 1320م)، وطبع في حيدرآباد (سنة 1347هـ-1348/1928م–1930م). وكان هذا المصنف قد ترجم إلى اللاتينية ونشر في (Basle) سنة 1572م. ويجمع الباحثون أنه في المقالة الخامسة، وصلت عبقرية ابن الهيثم الرياضية ذروتها، عندما حلَّ المسألة التي تحمل اسمه في الوقت
الحاضر. (2) وقد قام الأستاذ الدكتور عبد الحميد صبرة، بجهد متميز في تحقيق النص العربي لكتاب"المناظر"، ومراجعته على الترجمة اللاتينية(3) وفي تقويم هذا السفر الجليل يقول المحقق في تصدير الكتاب: "ولاشك في أن كتاب "المناظر" هو أنفس ما أنتج العلماء العرب في مجال الفيزياء. وهو بالإضافة إلى ذلك أهم كتاب في البصريات ظهر في الحقبة الممتدة بين القرن الثاني الميلادي، وفيه صنَّف بِطْلِمْيوس كتابه في "المناظر"، الذي يعتبر أتمَّ ما كُتب في هذا الموضوع في العالم القديم – وأوائل القرن السابع عشر للميلاد، حين ظهرت مؤلفات "كبلر" و"ديكارت" التي خطت بالبحوث البصرية خطوة جديدة..." (3) ويقوِّم
المحقق منهج ابن الهيثم في هذا الكتاب فيقول:"وهي دراسة قائمة على الاختبار التجريبي أو ما أسماه ابن الهيثم "الاعتبار"، واستخدام المناهج الرياضية في تفسير الظواهر الطبيعية.(1)
ونتوقف عند قول المحقق: "إن الاختبار التجريبي قد أسماه ابن الهيثم "الاعتبار" فهذا القول يقع في باب ما جاء به ابن الهيثم بألفاظ ومصطلحات فنية في مختلف المجالات العلمية التي صنَّف فيها، ولاسيما في "علم الضوء" وفيما يتعلق بتشريح العين... فالاعتبار لغويًّا من مادة "عَبَرَ". وعَبَرَ الرؤيا يَعْبُرها عَبْرًا وعِبَارَة. وعَبَّرها: فَسَّرَها وأخبر بما يؤول إليه أمرها. وفي التنزيل العزيز: "إن كنتم للرؤيا تَعْبُرون".(2)(255/7)
والعابر: الذي ينظر في الكتاب فيَعْبُره ، أي يَعْتَبِرُ بَعضه ببعض حتى
يَقَع فهمه عليه. ولذلك قيل: عَبَرَ الرؤيا، واعتَبَر فلانٌ كذا. وقيل أُخِذَ كلُّه من العِبْر، وهو جانب النهر...
والمُعْتَبِرُ: المستدل بالشيء على الشيء. في حديث ابن سيرين. كان يقول: "إنِّي أعتبرُ الحديث"، المعنى فيه، أنَّه يُعَبِّر الرؤيا على الحديث، ويعتبرُ به كما يعتبرها بالقرآن في تأويلها مثل أن يُعبِّر الغُراب بالرَّجل الفاسق... لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- ، سمَّى الغرابَ فاسقًا.
والعِبَرُ: جمع عِبْرَةٍ، وهي كالموعظة مما يتعظ به الإنسان ويَعْمل به ويعتبرُ، ليستدل به على غيره. والعِبْرَة الاعتبارُ بما مضى. وقيل العِبْرَة الاسم من الاعتبار...(3)
ولاشك في أن ابن الهيثم قد لمح هذه المعاني، عندما وضع مصطلح "الاعتبار" للدلالة على الاختبار التجريبي . وهو في ذلك يجسِّد قاعدة
مهمة من قواعد وضع "المصطلح". إذ يكفي أن يلمح الواضح علاقة ما بين المعنى اللغوي وبين المدلول الجديد، كي ينقل هذه اللفظة للدلالة على المعنى الاصطلاحي... وهذه قاعدة مطردة في علم المصطلح ومناهجه.
ويتطور المصطلح بتطور العلوم وتقدمها. وإنَّ وضع المصطلحات الجديدة تساير حالة الإبداع والابتكار. فالفكرة الواضحة في الذهن، تدعو بسهولة ويسر الألفاظ اللغوية للتعبير عنها. ومن هنا نجد مثلاً أن جابر بن حيَّان كان قد سمَّى "التجربة" "تدبيرًا". وعندما تطوَّر هذا العلم وتطوَّر المنهج العلمي في الفكر العربي الإسلامي،رأى ابن الهيثم أن مصطلح "الاعتبار" أكثر دقة وأوضح دلالة. وقد شغل المنهج العلمي التجريبي، مكانة متميزة في بحوث ابن الهيثم وكشوفه البصرية(1). فكان
من طبيعة الأشياء أن يخطو ابن الهيثم خطوات مهمة في تهذيب اللغة العلمية. فكان يختار كلماته بدقة ودراية.(255/8)
ونحن نجد أن كلمة "اعتبار"، قد جعلها أسامة بن منقذ ( 488هـ - 584هـ) عنوانًا لمصنَّفه "كتاب الاعتبار"، وهو سيرة أسامة بقلمه. وقد رمى من وراء هذا الكتاب تعليم أمثولة أدبية. وقد استوحى معنى "العِظَة" التي يرجو منها أن يَعْتَبر القارئ بما حلَّ بغيره. يقول أسامة: "فإنني رأيت يوم تقاتلنا نحن والإسماعيلية في حصن شيزر مُعْتَبَرًا، يوضِّح للشجاع العاقل، والجبان الجاهل، أن العمر موقَّت مُقَدَّر..."(2) ... وفي مكان آخر يستعمل مصطلح "الاعتبار" في المعنى ذاته: "فلا يظنُّ ظانٌّ أن الموت يقدِّمه ركوب الخطر، ولا
يؤخره شدَّة الحذر، ففي بقائي أوضح مُعْتَبَر..."(1) ومن الواضح أيضًا أن المعنى الاصطلاحي لكلمة "الاعتبار" في مجال النقد الأدبي، قد نظر الواضع إلى إيحاءات معنى: "عَبَرَ المتَاعَ والدَّراهم يَعْبُرها: نَظَرَكم وزنها وما هي؟، وعَبَّرها: وزنها دينارًا دينارًا.(2).
ونرى أيضًا أن لمصطلح "مقدِّمة" و"مقدِّمات"، مفهومًا خاصًا عند ابن الهيثم. إنه يميل إلى وضع نظريات، يسميها "مقدمات" لموضوعات هندسية. فمفهوم "مقدِّمات يعني "نظريات قوية قائمة بذاتها، لها وزنها في علم الهندسة"(3) ويورد الباحث الأستاذ إسحق عبد اللطيف، نصوصًا كثيرة لتوضيح مفهوم هذا المصطلح. ومنها قول ابن الهيثم في "مساحة الكرة" ونحن نقدِّم لذلك مقدِّمة عددية، قريبة المأخذ ... وقد بينا هذه
المقدمة بالبرهان المحقق في كتابنا في مساحة المجسَّم المكافئ. ونحن نستأنف البرهان في هذا القول ، لئلا يكون هذا القول محتاجًا إلى غيره."(4)
فمن الواضح أن ابن الهيثم يقصد بالمصطلح "مقدِّمة عددية" نظرية عددية... ونستطيع أن نشير في هذه الفقرة لمصطلحات علمية شائعة مثل: البرهان،والبرهان المحقَّق، والمساحة، والمجسَّم، والمكافئ، ومساحة المجسم المكافئ... ونُشير أيضًا إلى بعض التعابير العلمية، مثل قوله: "نستأنف البرهان عليها...".(255/9)
ويستعمل ابن الهيثم مصطلح "العَدْل"، كي يدل على مفهوم "الموضوعية"، إذ يقول: "... ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العَدْل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننقده طلبَ الحق لا الميلَ مع
الآراء". فمن الواضح أن مفهوم "العدل" في هذا النَّص يلمح خيوطًا دقيقة تربطه بالمعنى اللغوي لكلمة "العدل" وكذلك بالمعاني الاصطلاحية الأخرى في المفهوم القرآني وفي مفاهيم بعض الفرق الإسلامية، ومنها المعتزلة...
وربما كان من المفيد أن نجعل من بعض النصوص من كتاب "المناظر" لابن الهيثم، محورًا لدراستنا هذه لإلقاء الضوء على أسلوبه اللغوي ومنهجه العلمي في وضع المصطلحات واستعمالها وإشاعتها. يقول ابن الهيثم: "إنَّ الهواء جسم مُشِفٌّ شديد الشَّفِيف، إلا أنه ليس في غاية الشَّفيف بل فيه غِلَظٌ يَسير..."(1)
وإذا نظرنا في هذا النص بتمامه، نجد ابن الهيثم يستعمل كلمات سهلة واضحة الدلالة على المعاني
العلمية التي يريد عرضها. وقد تأخذ مكانها في إطار المصطلحات العلمية التي تجري على ألسنة ذوي الاختصاص. استعمل ابن الهيثم مثلاً في هذا النص: "جِسْمٌ مُشِفٌّ، و"شديد الشَّفِيف..." فالشَّفِيفُ مصدر شَفَّ... ومع أن الفعل "شَفَّ" ثلاثي، فقد استعمل اسم الفاعل من الفعل "أشّفَّ"، فقال: "مُشِفٌّ، ولم يقل "شافٌ"، واختار المصدر "الشفيف" ولم يختر "الشُّفوف" وهو يتكئ في ذلك على المعنى اللغوي: "وقد شَفَّ عليه ثوبه يَشفُّ شُفُوفًا وشفيفًا أيضًا، أي رَقَّ حتى يُرى ما خَلْفَه. وثوبٌ شَفٌّ وشِفٌّ أي رقيق. وتقول للبزَّار.: اسْتَشِف هذا الثوب أي اجعله طاقًا، وارفعه في ظلٍّ حتى أنظر: أكثيفٌ هو أم سخيف...(2)
ونستطيع أن نتقرَّى بعض التعابير والألفاظ التي أصبحت
مصطلحات، لها دلالات محدَّدة. وقد يشيع استعمالها في مصنفاته ومصنفات كثير من العلماء الآخرين.(255/10)
وعندما أخذت نصًّا محددًا من كتاب "المناظر"، وحاولت أن أستشف منهج المصطلحات التي استعملت في هذه العربية العلمية وجدت، أن عدد المصطلحات تتوزع على الوجه الآتي:
مصطلحات اشتقاقية ... ... 503
مصطلحات (تراكيب وعبارات لغوية)
... ... ... ... 460
مصطلحات مجازية أو بالنقل 89
مصطلحات معرَّبة ... ... 3
مصطلحات بالنحت ... ... لاشيء
مصطلحات بالرموز والمختصرات
... ... ... ... لاشيء
ألفاظ الحضارة ... ... 40
وهذا يعني أن الاشتقاق يكون أهم روافد اللغة في نموها واستيعابها المعاني والمفاهيم الجديدة، وكذلك يأتي، من حيث الأهمية، التعبير عن هذه المعاني بتراكيب أو عبارات لُغَوية فصيحة. وإن نقل اللفظة من دلالتها اللغوية للدلالة على معنى جديد، عن طريق المجاز يشكل رافدًا لا يستهان به. أما التعريب وهو أخذ اللفظة الأعجمية بعد إلباسها ثوبًا عربيًّا أو أخذها كما هي واستعمالها، وإجراء قواعد العربية عليها، نحوًا ونظمًا، فهو قليل من حيث المبدأ. أما وضع المصطلحات عن طريق "النحت" أو الرموز والمختصرات، فلم نجده مستعملاً في هذا النص.
فمن المصطلحات الاشتقاقية نذكر على سبيل المثال:(255/11)
مُؤَثِّر، متأثِّرٌ، استأنف، إبْصَار، بُطْلان، البَيْضِيَّةُ (الرطوبةُ البَيْضيَّةُ) حَيوانيَّة، مَخْروط، مُنْخَرِط، مُثَلَّث، مُجرَّد، جُزْئي، التَّجْسيم، الجليديَّة، جَنْبَةٌ، جِنْس، حَجْم، تَحْديب، حَدَّد، حَدْس، تَحْرير، تَخْطيط، إدْراك، التَّدَاخُل، الاسْتِدلال، دائرة، مُرَبَّع، رطُوبة، مُرَكَّب، تَزَايين، تَسْطِيح، مًسْفر، سَمْت، سَامَت، استواء، شَاخِص، مُشِفٌّ، تَشكَّل، صِفْر، صَفِيق، ضِلْع، طَبِيعة، طُفوليَّة، اعْتِبَار، اعْتَبَر، معْتَبر، القِدَم، العَرَض، انعكاس، عِلَّة، اعتياد، مُعَيَّن، غَايَة، فَرْد، تَفَاضُل، تَفَاوُت، مُقَابَلة، مِقْدار، مُقَدِّمَة، استِقْراء، اقْتِران، مُتَقَطِّع، تَقْعِير، مَقَالة، قَائم (زاوية قائمة)، كُرِيٌّ، مائِيَّة، نَصْبة، وَتَرَ، مُوَرِّد ( من لون الورد).(255/12)
ومن أمثلة المصطلحات التي وضعت عن طريق التركيب أو العبارة اللغوية نذكر ما يأتي: أثَّر في الحسِّ، أثَّر في النفس، أصْلُ إدراك اللون، آلات البَصَر، الآن الذي لا ينقسم، إدراك بالبديهة، تمام وكمال، اجتماع الصورة، جملة الصُّورتين، جمهور جملة المُبْصَر، تجويف القصبة المشتركة، جواهر مُشفَّة، حروف الكتابة، حركة السيلان، حاسَّة البصر، القوة الحسَّاسة، الهواء الحامل للصورة، الجزء الذي يحوزه المخروط، أشكال إحاطتها متساوية، في حالة المقابلة، مخروط الشُّعاع، خط معترض، خط دقيق، تخطيط الوجه، إدراك بالاستدلال، إدراك بالبديهة، إدراك بالتَّثاقُل، إدراك محقَّق على التحرير، الرطوبة الزُّجاجية، مُسْرِف البطء، سمت المخروط، سهم المخروط، مسافة معترضة، الأجزاء الشاخصة، زمان في غاية الصِّغَر، شكل كثير الأضلاع، ضوء ذاتي، ضوء عرضي، الاعتبار المحرَّر، الاعتبار المحقَّق، خط لا عَرْض له، انعطاف سطح الجسم، أصحاب التعاليم، الرطوبة العنبيَّة، المعاني اللطيفة، فسيح الأقطار، البصر البعيد المتفاوت، نقطة لا قدر لها، جزء مقتدر، قُرْنة في الحاجب، القوة الباصرة، القوة الحسَّاسة، القوة الحاسَّة، القوَّة المميِّزة، ضوء منكَسِر، الجسم اللطيف، تَلْوِيز العينين، نقطة لا مساحة لها، مبدأ النشوء، خطوط بلا نهاية، خطٌّ متوهَّم.
ومن أمثلة المصطلحات التي وضعت عن طريق النقل أو المجاز، نذكر ما يأتي: كوكب، كيفيَّة، لَبْس، المُلْتَحِمة، لطيف، مُمَاسٌّ، مُتَماس، مساحة، مَسَح، نِسْبة، تناسب، نقطة، أنْمُلَة، نهاية، نوعيَّة، هلال، موازٍ، متوازية، متوسط، آن، المجرَّة، جوهر، زاوية، سرعة، سكون، سُمْك، عنكبوتيَّة، القَرْنيَّة، كثافة.(255/13)
ومن المصطلحات المعرَّبة نذكر مثلا: "أبوقَلَمون"، أسطواني، قِرْطاس وربَّما مما له دلالته، أن نتوقف عند الألوان في هذا النص، ونذكر منها ما يأتي:أبيض، أرْجواني، أحْمَر، خُضْرة، أخَضَر زَرْعي، أخْضَر زنجاري، أخضر فستقي، خَمري، الكحلي، المَسَنِّي، أدكن، لون رقيق، ريحان، زرعي، أزرق، زنجاري، أسود، لون مشرق، العنبيِّة، مُغْدِر، فستقي، لازوردي، نقيُّ البياض، وردي.
وقد يكون للمصطلح الواحد معانٍ مختلفة باختلاف حقول المعرفة... وإن الدراسة الشاملة لمنهج وضع المصطلحات واستعمالها وإشاعتها فيما هو موجود بين أيدينا من كتاب "المناظر" لابن الهيثم تقودنا إلى أنَّ "الاشتقاق"، يمثل الرافد الرئيسي من روافد العربية، في نموها وتطورها من حيث استيعاب المعاني والمفاهيم الجديدة. ويلي الاشتقاق، من حيث الأهمية المجاز. وهو نقل الألفاظ من دلالتها على نص لغوي محدد، للدلالة على معنى اصطلاحي جديد، مثال ذلك: استعمال مصطلح "حساب" بدلاً من "أريثماطيقا"، في التراث العلمي. فقد نقلت لفظة "حساب" من معناها اللغوي المحدَّد، لكي تدل على معنى اصطلاحي جديد، هو هذا العلم المحدَّد... والأمثلة على ذلك كثيرة. ألا نرى في العصر الحديث كيف أطلقنا على جهاز الكمبيوتر لفظة "حاسوب" على وزن "فاعول" مشتقة من حَسَبَ، مع أنه ليس في الأمر حساب ولا تعداد... وهذا منهج علمي صائب... ومن قبيل ذلك فقد نقلنا كلمة "سيَّارة" من المعنى اللغوي الذي تدل عليه وهو "القافلة"،كي تدل على معنى اصطلاحي محدَّد هو هذه المركبة الجديدة، "الأوتوموبيل" وذلك، عن طريق النقل أو المجاز. وشاعت لفظة "سيارة" وأصبح الذهن عند سماعها، لا يتجه إلا لهذه المركبة الجديدة، بدلالتها الاصطلاحية.(255/14)
وربما كان من تمام هذا البحث أن نورد النصَّ التالي: "يقول ابن الهيثم: "إنَّ الأضواء التي تنفذ في الأجسام المُشِفَّة المخالفة الشَّفيف لِشَفيف الهواء، كالزُّجاج والماء والأحجار المُشِفَّة، وما يجري مجراها، إذا امتدت بَعْدَ نُفوذِها في هذه الأجسام، فليس تمتد إلا على خطوط مستقيمة أيضًا."(1)
ونلاحظ أن ابن الهيثم، بعد أن ذكر المقولة النظرية، يتحوَّل إلى منهجه التجريبي لإثبات النظرية فيقول:"وقد يمكن أن يُعْتَبَر هذا المعنى أيضًا بسهولة" ومن الواضح أن "الاعتبار" هنا يعني "التجربة".
ويواصل قوله: "وذلك يكون بأن يَعْتَمِدَ المُعْتَبِرُ جامًا من الزُّجاج الصافي المُشِفِّ، المستوي السطح، أو حجرًا من الأحجار المُشِفَّة، ويقابل به الشمس في موضع، يظهر فيه ضوء الشمس على الأرض أو على الجدار. فإنه يجد له ظلالاً على الأرض أو الجدار، ويجد ضوء الشمس مع ذلك ينفذ في الجسم المُشِفِّ. ويظهر في ظل ذلك الجسم المُشِفِّ ضوء ما، دون ضوء الشمس الصريح. ثم إذا قطع المُعتَبِرُ المسافة التي بين هذا الظل وبين الجسم المُشِفِّ بجسم كثيف بَطَلَ الضوء النافِذُ الذي كان يظهر في الظل، وظهر على الجسم الكثيف...إلخ." (2)
إن النظرية المتأنية في هذا النص، تدلنا على تمكن ابن الهيثم من نظريته، وقدرته على اختيار ألفاظه. فلغته سهلة الألفاظ واضحة المعاني، يعرض فيها نظريته بدقةٍ ووضوح.
ثم يَنْقُل معنى هذه النظرية (المقولة)، إلى ميدان التجربة. ويطلق، كما هو شأنه، على "التجربة" مصطلح "الاعتبار". فيستعمل الفعل "اعْتَبَر" بمعنى "جَرَّب" "يُجرِّبُ" أو أجْرى التجربة... ويشتق منها اسم الفاعل "المُعْتَبِر" للدلالة على مَنْ يقوم بالتجربة... ويستعمل في هذه التجربة "الجام" و"المُشِفَّ" و"ضوء الشمس الصريح" و "الجسم الكثيف" و"الضوء النافذ"... وجميعها ألفاظ عربية فصيحة الاشتقاق، جعل منها مصطلحات للدلالة على معانٍ علمية محدَّدة.(255/15)
ويواصل ابن الهيثم عرض كشوفه العلمية فيقول: "فقد تبيَّن من جميع ما شرحناه وبيَّنَّاه بالاستقراء والاعتبار، أن إشراق جميع الأضواء، إنما هو على سُمُت خطوط مستقيمة فقط. وأن كل نقطة من كل جسم مضيء – ذاتيًّا كان الضوء الذي فيه أو عَرَضيًّا – فإن الضوء الذي
فيها، يشرق منه ضوء على كل خطٍ مستقيم، يَصحُّ أن يُتَوَهَّم ممتدًا منها في الجسم المُشِفِّ المتصل بها. فيلزم من ذلك أن يكون الضوء يشرق من كل نقطة من كل جسم مضيء في الجسم المُشِفِّ، المتَّصل بها، إشراقًا كُريًّا، أعني على كل خط مستقيم يصح أن يمتد من تلك النقطة في الجسم المشف..."(*)
لقد استعمل ابن الهيثم في هذا النص، ألفاظًا سهلة سائغةً على كل لسان إذا استثنينا لفظة "الشف" ولفظة "كُريًّا". إنه بحق، يمتلك ناصية اللغة، كما يمتلك العلم، ولذا نراه يعبِّر عن أدقِّ الأفكار، بلغة سهلةٍ، وألفاظ مأنوسة، ومعانٍ واضحة ودقيقة. وأن المصطلحات العلمية التي يستعملها لها دلالاتها المحدَّدة عند أهل العلم... ففي هذا النص الذي أشرنا إليه، استعمل عددًا من المصطلحات العلمية مثل: "الاستقراء" و"الاعتبار" و"السموت" وهي جمع " سَمْت "،
و"الخطوط المستقيمة" و "الجسم المضيء ذاتيًّا" و"الجسم المضيء عرضيًّا" و"يشرق منه ضوء" و"الجسم المُشف المتصل"و"الإشراق الكُرِيُّ"...
فهذه مصطلحات علمية، تدل على معانٍ محدَّدة، موجهة إلى ذوي الاختصاص. وهي في الوقت نفسه ألفاظ عربية فصيحة وسهلة، وتكاد تجري على لسان كل من له حظ من الثقافة...(255/16)
وربما كان من المفيد في هذا العرض أن نتوقف عند بعض النصوص التي تحدَّث فيها ابن الهيثم عن الألوان فيقول: "فأما صور الألوان التي تصحب الأضواء العَرَضيَّة فإنها تظهر ظهورًا بينًا، إذا كانت الألوان أنفسها قوية، وكانت الأضواء المشرقة عليها قوية. وكان مقابلاً لها أجسامٌ مُسْفِرَةُ الألوان، وكانت تلك الأجسام معتدلة الأضواء. وذلك أن الأجسام المشرقة الألوان، كالأرجوانية والفرفيرية والصَّعَوِيَّة والريحانية وما جرى مجراها..."(*)
فقد استعمل ابن الهيثم مصطلحات علمية مثل: "صور الألوان" و"الأضواء العَرَضِيَّة" و"الأضواء المشرقة" و"أجسام مُسْفِرةُ الألوان" و"معتدلة الأضواء" و"الأجسام المشرقة الألوان". ويعطي أمثلة لهذه الأجسام الأخيرة. فيعدد ألوانها، ويذكر:"الأرجوانية"و"الفرفيرية" و"الصَّعَوية" و"الريحانية"... وما يجري مجراها...
وفي موضع آخر يتحدث ابن الهيثم عن الألوان فيقول: "إنَّ إدراك اللون بما هو لون يكون قبل إدراك مائية اللون. أعني أن البصر يدرك اللون ويحسُّ أنه لون، ويعلم الناظر إليه أنه لون، قبل أن يحسَّ أيَّ لون هو. وذلك أنه في حال حصول الصورة في البصر قد تلوَّن البصر. فإذا تَلَوَّنَ البصر أحسَّ أنه متلوِّن. وإذا أحسَّ بأنه متلوِّن اللون. فيكون
إدراك اللون بما هو لون قبل إدراك مائية اللون. ويكون إدراك مائية اللون بالمعرفة. والذي يدل على أن البصر يدرك اللون بما هو لون قبل أن يدرك أيَّ لون هو، هو المبصرات التي ألوانها قوية كالكحلي والخمري والمَسَنِّي وما أشبه ذلك، إذا كانت في موضع مُغْدِرٍ ولم يكن الموضع شديد الغُدْرَة. فإن البصر إذا أدرك اللون من هذه الألوان في الموضع المُغْدِر، فإنما يدركه لونًا مظلمًا فقط، ويحس أنه لون، ولا يتميَّز له أيُّ لونٍ هو في أول إدراكه..." ويواصل حديثه إلى أن يقول: "فتبيَّن من هذا الاعتبار أن البصر يدرك اللون بما هو لون قبل أن يدرك أيَّ لونٍ هو.(255/17)
والذي يدركه البصر من اللون في أول حصوله في البصر هو التلوُّن. والتلوُّن هو ظلمة ما، أو كالظل إذا كان اللون رقيقًا."(1)
ومن الواضح أن ابن الهيثم يبدأ بالنظرية، فيبرهن عليها برهانًا نظريًّا يحتكم فيه إلى المنطق ثم ينتقل منه إلى التجربة وفق منهج تجريبي... وقد استعمل في هذا النص عددًا من المصطلحات العلمية مثل: "إدراك اللون" و"مائية اللون" و"إحساس اللون" و"حصول الصورة" و"تلوُّن البصر" و"تمييز اللون" و"قياس اللون" و"المعرفة" بمعناها الاصطلاحي. ثم يذكر عددًا من الألوان القوية...(2)
وَلْنَتَأمَّل هذا النص من كتاب المناظر، حيث يقول ابن الهيثم: "فأما إدراك العِظَم، وهو مقدار المُبْصَر، فإنَّ كيفية إدراكه من المعاني المُلْتَبِسة. وقد اختلف أصحاب التَّعاليم في كيفية إدراك العِظَم".(3)
لقد استعمل ابن الهيثم مصطلح "العِظَم" وفسَّره بقوله:"وهو مقدار المُبْصَر" وهو في ذلك يتَّبع المنهج
العلمي في وضع "المصطلح" وإشاعة استعماله، وأن يكون مفهومًا بين "أصحاب التعاليم"... ونحن نلاحظ أن ابن الهيثم شأنه شأن الكواكب من علماء عصوره ومَنْ تقدَّمهم ومَنْ أعقبهم، حريصون على وحدة اللغة العلمية، وأن تكون المصطلحات مفهومة بين أوساطهم، إن لم تكن موحَّدة الدلالة شائعة الاستعمال، "لجمهور أصحاب التعاليم"...
وفي هذا النص الذي أوردناه، استعمل ابن الهيثم مصطلح:"أصحاب التعاليم". ومن الواضح أنه يقصد "المتخصصين في الرياضيات"... ويواصل حديثه فيقول: "فرأى جمهور أصحاب التعاليم أن مقدار عِظَم المُبْصَر إنما يدركه البَصَرُ من مقدار الزاوية التي تَحَدُثُ عن مركز البصر، التي يحيط بها سطح مخروط الشعاع، المحيط قاعدته بالمُبْصَر."(1)
ونلاحظ أنه استعمل المصطلحات: "مقدار عِظَم المُبْصَر" و"مقدار الزاوية" و"مركز البصر" و"سطح مخروط الشعاع" و"قاعدته"...(255/18)
ويسلك ابن الهيثم في وضع المصطلحات المنهج ذاته الذي اتبعه البيروني وابن سينا والفارابي وابن زهر وابن رشد وغيرهم من العلماء الذين ازدهرت بهم الحضارة العربية الإسلامية، وكانوا روافد مهمة وأصيلة في بناء الحضارة العالمية .
ونتوقف أيضًا عند هذا النصِّ الذي نجتزئه، بصورة عَفْوية ... يقول ابن الهيثم: "... إلا أنه ليس يقتنع التمييز في إدراك العِظَم باعتبار الزاوية فقط أو اعتبار الجزء من البَصَر الذي يُوَتِّرُ الزاوية..."(2)
فهذه لغة علمية، تكتب لأصحاب التعاليم، بل ولجمهور الخاصة. ومن الواضح أنه استعمل مصطلحات علمية، محدَّدة المفاهيم، مثل: "إدراك التمييز" و"إدراك العِظَم" و"اعتبار الزاوية" وكذلك "اعتبار الجزء من البَصَر" . والاعتبار هنا بمعنى القياس
التجريبي. كما أشرنا إليه سابقًا. ويشتقُّ ابن الهيثم الفعل من الجامد، بسهولة ويُسْر فيقول: "يوتِّر" فيشتقُّ الفعل المضارع من الاسم الجامد من "وتَرِ الزاوية"...
وأخيرًا أود أن نتوقف عند هذا النص الذي يختم فيه ابن الهيثم المقالة الثالثة من كتابه "المناظر"، إذ يقول: "وجميع الأغلاط في المعاني الجزئية، إنما يكون غلطًا في مجرد الحس، أو غلطًا في المعرفة، أو غلطًا في القياس، أو غلطًا في مجموع هذه الثلاثة، أو غلطًا في نوعين منها باجتماعهما. وليس يعرض للبصر غلط في المعاني الجزئية يخرج عن هذه الأقسام... فجميع أغلاط البصر في جميع ما يدركه من صور المُبْصَرَات، وفي جميع ما يدركه من المعاني الجزئية التي في صور المبصرات على انفرادها، تنقسم إلى الأقسام التي فصلناها، وتعرِضُ للبصر على الأمثلة التي
مثلناها، وتجتمع عللها تحت العلل التي حصرناها. وهذا حين نختم هذه المقالة ."(*)(255/19)
إن الكيفية التي ختم بها ابن الهيثم بحثه هذا، تبين لنا بوضوح منهجه العلمي الدقيق. فقد سجَّل في هذه الخاتمة ما توصل إليه من حقائق في البحث. وهذا يشكل ركنًا أساسيًّا من أركان المنهج العلمي الصارم. وإن ما يظهر من تكرار في بعض المعاني والألفاظ، إنما يشكِّل سِمَةً من سمات لغته العلمية التي تنزع للشرح والتوضيح وتيسير فهم الحقائق العلمية وتَقْرِيبها من الإفهام.
وإن مَنْ يتأمل المصطلحات والتراكيب العلمية التي يستعملها ابن الهيثم يجد أنها تطرد في لغته العلمية بصورة عامة في جميع مصنفاته. وعلى الرغم من أن كثيرًا من هذه المصطلحات العلمية، تستعمل في كثير من ميادين المعرفة، إلا أنها تكتسي غالبًا ظلالاً وتموجات دقيقة
في مدلولاتها، لتعبِّر عن معانٍ دقيقة تختلف باختلاف ميادين العلم وموضوعاته... وهذه قاعدة عامة تشترك فيها جميع اللغات العلمية في تطورها لاستيعاب كل جديد في حقول العلم والمعرفة.(255/20)
لقد استطاع ابن الهيثم، ومشاهير العلماء العرب والمسلمين الذين عاصرهم، والذين سبقوه، أن يرتقوا بالعربية كي تصبح لغة للتعبير عن حصيلة ما وصلت إليه المعرفة الإنسانية. وأن تصبح من خلال مصنفاتهم التي يصعب إحصاؤها لأن تكون لغة العلم والبحث العلمي في جميع مجالات المعرفة، بعد أن كانت لغة الآداب والفنون والحياة العامة. وقد ترك العلماء العرب والمسلمون، ومنهم ابن الهيثم، أحد مشاهير الرياضيين، والعالم المبدع بالطبيعيات، آثارًا مميزة في تطور اللغة العربية العلمية، للتعبير عن الفكر العلمي. فكانت إسهاماتهم رائعة في صياغة "المصطلحات" والتعابير العلمية وتحديد معانيها في ميادين المعرفة. ومن الواضح أنه كان إلى جانب بعض الألفاظ الأعجمية المعرَّبة، كانت القاعدة العامة، تتجه إلى وضع هذه المصطلحات وصياغتها من نسيج العربية الفصيحة. وذلك عن طريق الاشتقاق والمجاز والنحت، والنقل من معنى محدَّد للدلالة على معنى آخر. وحققت العربية في هذين القرنين الرابع والخامس لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، أدقَّ الخصائص لِلُّغة العلمية، سهولة ألفاظ وبساطة تراكيب ووضوح معانٍ، إلى جانب الدقة في التعبير عن الحقائق العلمية.
هذه هي اللغة العلمية التي عرفتها العربية في مؤلفات ابن الهيثم التي تربو على المئة مصنف. وقد ترجم بعضها إلى عدة لغاتٍ قديمًا وحديثًا. فترجمت مثلاً "مقالة في هيئة العالم"، ثلاث مراتٍ إلى اللاتينية. وكان لابن الهيثم تأثير كبير فيما بعد في ابن رشد والقزويني وكذلك في المؤلفين الغربيين(*) ومن المعروف أيضًا أن كتاب " المناظر" لابن الهيثم، ترجم إلى اللاتينية،ونشر في(Basle) سنة 1572م. وكان له تأثير كبير في فكر العلماء الغربيين. وإن الوثائق المتوافرة بين أيدينا تثبت أن اللغة العربية كانت لغة المصادر العلمية الأولى في أوربا على مدى القرنين(255/21)
السادس عشر والسابع عشر للميلاد. وأن تعلم اللغة العربية كان يعتبر واجبًا على طلبة العلم في كثير من الجامعات والمراكز العلمية الأوربية .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد الكريم خليفة
عضو المجمع من الأردن
ثبت المصادر والمراجع
ابن جلجل – أبو داود سليمان ابن حسان الأندلسي (ألفه سنة 377هـ)، بيروت، 1405هـ - 1985م.
ابن أبي أصيبعة – موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس السعدي الخزرجي، شرح وتحقيق نزار رضا، بيروت.
ابن حنين – إسحق (ت سنة 298هـ)، تاريخ الأطباء والفلاسفة، بيروت، 1405هـ - 1985م.
ابن الهيثم – الحسن بن الهيثم، كتاب المناظر. المقالات: 1- 2- 3 في الإبصار مع الاستقامة، حققها وراجعها على الترجمة اللاتينية عبد الحميد صبرة، الكويت،1404هـ-1983م.
ابن منقذ – مؤيِّد الدولة أبو المظفَّر أسامة بن مرشد الكناني الشيزري، كتاب الاعتبار، تحرير فيليب حتي، برنستون الولايات
المتحدة، 1930م.
البيهقي – ظهير الدين، تاريخ حكماء الإسلام، تحقيق محمد كرد علي، دمشق، 1365هـ - 1946م.
حاجي خليفة – مصطفى بن عبد الله القسطنطني الرومي الحنفي الشهير بالملا كاتب الجلبي، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، ج 1- 2، لبنان، 1413 – 1992م.
الزركلي – خير الدين، الأعلام، ج 1- 8، بيروت.
عبد اللطيف – علي إسحق، ابن الهيثم: دراسة تحليلية وتحقيق، عمان، 1413هـ - 1993م.
نظيف – مصطفى، الحسن ابن الهيثم: بحوثه وكشوفه البصرية، ج 1- 2، مصر، 1362هـ 1942م.
The Encyclopedia of Islam, New Edition, Vol. III,p. 788-789(255/22)
التنافذ الأدبي بين العربية والإنجليزية*
للأستاذ الدكتور يوسف عز الدين
قال الفيروزابادي النفاذ: جواز الشيء عن الشيء والخلوص منه. ونفذ القوم: صار منهم. وفي الوسيط أنفذ القوم: خرقهم ومشى وسطهم.
اخترت تنافذ الأدب في العربية والإنجليزية ولم أقل التنافذ الحضاري لأن الثقافة جزء من الحضارة،والأدب جزء من الثقافة، وابتعدت عن دراسة تنافذ العلم؛ لأنه أسرع في النفاذ من الأدب وأعمق في الفاعلية العلمية طوال عصر الإنسانية وأكثر انتشارًا، فقد أخذ العرب العلوم عن اليونان، فطوروها وأضافوا إليها الكثير، ولكنهم لم يترجموا الأدب. وفعل الغرب الفعل نفسه لما بدأت النهضة الأوربية فاهتمت بالعلوم عند الإسلام كالطب والهندسة والرياضيات والجبر بالدرجة الأولى وهذا ما قام به محمد علي باشا، فقد اعتمد على العلوم في
إنشاء الدولة بالدرجة الأولى.
وهذا ما نقوم به اليوم، فقد أخذنا المخترعات والعلوم الحديثة دون أخذ آدابها الاجتماعية وخصائصها الفنية فلم نطبقها في الحياة الاجتماعية والإنسانية حسب القواعد العامة، فكثرت المخالفات في السيارات وارتفاع أصوات مكبرات الصوت تقلق الآخرين وهم يفعلون هذا دون الشعور بحرية الآخرين وراحتهم؛ لأنها جاءت مباشرة دون تمهيد اجتماعي سابق.
وأخذنا آلات الطباعة والمطابع وتعلمنا الكتابة والقراءة على الأساليب الحديثة، ولكننا ما نزال نؤثر الحديث على الكتابة ونتخلص من الرد المكتوب ولو كان رسالة شكر وتقدير وتهاني مناسبات،بل فقدنا مجاملة الشكر وصدق الله تعالى حيث قال: { وقليل من عبادي الشكور } ونسينا { إذا حييتم
بتحية... } وأخذ الغربي آداب الإسلام بالرد والشكر والهدية والتقدير لمن يبادله الحديث.
أعيش أنا في الغرب منذ أكثر من ربع قرن فما سمعت آلات التنبيه في الشوارع أو أصوات المكبرات من الكنائس في الأعياد والأفراح والمآتم، إلا للضرورة القصوى.(/1)
إن الشعور بالمسؤولية الأدبية ضرورة لتقدم الأمة وتطور حضارتها وأهمها الحفاظ على المواعيد، إنها أول سلم الحضارة. والشعور النفسي بالآخرين أهم تنافذ حضاري واجتماعي في الأمم والشعوب المتقدمة.
فقد استفاد الغرب منا أكثر مما استفدنا منه اليوم، وطور ما وصل إليه من علم وفن ثم أدب فكان أكثر إبداعًا منا، وسيطر علينا حتى في طريقة الطعام وأعياد الميلاد واللباس، وكان التنافذ الأدبي أقوى من تنافذنا معه، فقد بدأ من جذور الثقافة العربية واهتم بالآداب العربية والعلوم الإنسانية وظهر ذلك في أدبهم شعرًا ونثرًا.
إن جميع جذور الثقافة في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا لها أسسها المختلفة وجذورها المتباينة ومع كل ذلك فقد أثرت الحضارة الإسلامية فيها لأنهم أخذوا ما يلائم حياتهم المادية وفكرهم الخاص مع أن جذور حياتهم الفكرية جاءت من اللاتينية والفكر اليوناني والروماني والمسيحية والوثنية التي كانت عليها قبل دخول النصرانية، فجاءت المسيحية والوثنية واليهودية تتنافذ مع بعضها في أدب الإنجليز والغرب عامة فهي واضحة في شعراء وكتاب أوربا.
قال الأستاذ E.L.Raneliagh (رانيلا)، لقد وصل إلينا الأدب الإغريقي من خلال الرومان. أي أنه وصل إلينا باللغة اللاتينية، إلا أن الجانب الأكبر من المعارف الإغريقية التي تضمنت العلم والفلسفة، وصلنا عن طريق البيزنطيين من خلال الترجمة العربية عن الإغريقية، وقد نمى العرب هذه المعارف، وانتقلت عنهم في العصور الوسطى إلى اللغة اللاتينية. لقد كانت إسبانيا وصقلية جسرين للمشروعات الضخمة للترجمة في القرن الثاني عشر التي انتقلت عبرها المعارف العلمية من العرب إلى غرب أوربا التي كانت آنذاك في مرحلة بدائية(1).(/2)
ومصداق ذلك أن المجمع العلمي العراقي لما احتفل بالكندي ببغداد وجدت كتب الفلسفة اليونانية مكتوبة باللغة العربية وأنها مفقودة من أصلها اليوناني، فقد حافظ العرب على كتب اليونان وهذا دليل اهتمام العرب وعنايتهم العلمية.
وقد اعترف الأستاذ رانيلا بهذا التنافذ في كتابه فقال: "إن ما ورثناه عن العرب غير مألوف لدينا، وليس هذا بالأمر الهين، فالناس الذين سُمَّوْا
في العصور الوسطى بالعرب أتوا من مجموعات إثنية مختلفة، من بينهم اليونان والفرس والهنود والقبط والأتراك والأرمن واليهود، وقد تم استيعاب الحضارة الفنية التي يمثلونها في الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية. ولكن انتشار الإسلام الباهر في القرن السابع، فرض عليهم ثقافة جديدة هي ثقافة الغزاة، وقد عبرت عن نفسها بأسلوب عربي جديد في الحياة(2).
وبالطبع كعادة كتاب الغرب يرون تأثير الحضارة اليونانية في تطور حضارتهم ولا يذكرون أن هذه الحضارة لم تتطور إلا من تنافذ الحضارة في مصر والعراق من فرعونية وآشورية وكلدانية، وجاء العرب والإسلام فبُعثت فيهم حضارة جديدة وخرجوا من حياتهم البدائية الساذجة إلى الحضارة المتقدمة والتطور في الفكر والأدب والعلوم والفنون.
في الأدب الإنجليزي:
نحن في الشرق العربي كانت
مصر الرائدة بالاستفادة من الأدب
الغربي بصورة مباشرة أو بالترجمة بداية من عهد محمد علي باشا. إذ
انسلت إلينا التيارات الغربية في هدوء منذ وصول البعثات التي أرسلها إلى أوربا وأتت ثمارها في عهد الخديوي إسماعيل، لأن التيارات لا تؤثر بصورة مباشرة، وتحتاج إلى فهم واستيعاب قبل قبولها.(/3)
وقد ازدهر التنافذ الأدبي فظهر البارودي وإسماعيل صبري وشوقي دون ضياع الشخصية الأدبية الأصلية، ثم جاء عبد الرحمن شكري ومطران والمازني والعقاد الذين درسوا اللغة الإنجليزية وكان شكري أكثرهم فهمًا ودراية بالإنجليزية وبعده المازني لأنهما درسا معًا. وأراد العقاد السير في هذا المضمار فاتصل بهما وأخذ يدرس اللغة الإنجليزية
بصورة عميقة، فقد ذهب مع المازني إلى عبد الرحمن شكري، ولم يجد غضاضة من الاستفادة منه والتدريس على يديه وقد ذكر لنا الدكتور رمزي مفتاح في كتابه عن هذه الفترة بقوله (.. كثيرًا ما جلس الشاعر المجدد الذي لم يزل طالبًا بالمدرسة، إلى دروسه، وجلس صديقاه ناحية يقرءان درسًا في آداب اللغة الإنجليزية، فرضه عليهما، أو يحفظان قصيدة رخيمة رأى في حفظها فائدة لهما، وكان إبراهيم أفندي يترجم الإنجليزية لصاحبه..(1). وقد كان حافظ إبراهيم يزور الجماعة ويأنس إلى لقائهم ويمزح معهم.
ومن شدة إعجاب العقاد بشكري كان يتأثر به ويأخذ منه حتى اتهمه جبران سليم بالسرقة من عبد الرحمن شكري(2).
عكف هؤلاء على الأدب الإنجليزي فوجدنا في أدبهم قصائد
متعددة من شللي الإنجليزي وهايني الشاعر الألماني وهود الإنكليزي وولز الإنجليزي وأدسون الكاتب الإنجليزي وشكسبير وكارلايل(*) وغيرهم،ووجدت آثار الشعر الإنجليزي في أدب هؤلاء حبا نحو التجديد وتطور الأدب وبخاصة الأشعار الإنجليزية المختار في Golden Treasury .
وأُخرجت مطبوعتان باسم الديوان وفي هذا الديوان توجه أقسى النقد إلى شوقي فقد قال الزميل الدكتور القط: "أما الديوان، وقد نشر عام 1921 فإن حملة العقاد فيه على شعر شوقي تتسم بقدر بالغ من الحدة".(/4)
إن اتصال الغرب بالعرب سواء كان مباشرًا أو غير مباشر كان سببًا في موجة الرومانسية وكان ترجمة Golden Treasury والاهتمام بالناقد الإنجليزي هازلت من المؤثرات الواضحة في شعر شعراء هذه الفترة. وكان حب التجديد والابتكار أو ما سمي بالعصرية والتي كانت (هوس المتعلم)، حتى قال معروف الرصافي:
وأجود الشعر ما يكسوه قائله
بوشي ذا العصر لا الخالي من العصر
لا يحسن الشعر إلا وهو مبتكر
وإي حَسُنَ لشعر غير مبتكر
وقد تبنى هذا التيار عبد الرحمن شكري وبعده المازني وتابعهما العقاد وقد ضمت جماعة (أبوللو) جماعة الشباب المتجدد وكان زكي أبو شادي من الدعاة بما نشر من الشعر وكتب من النثر، وكان من هذا الرعيل مطران وأبو الوفا والدكتور ناجي ومحمود حسن إسماعيل وحسن كامل الصيرفي وفي لبنان كان الأخطل الصغير وفي تونس أبو القاسم الشابي وفي سوريا عمر أبو ريشة وكان الزهاوي والرصافي والشبيبي من الرواد من العراق وجاء بعدهم جيل درس اللغة الإنجليزية وتعرف على
ت. أس. أيلوت وأديت ستول وعزرا باوند.
وقد حمل شعراء الغرب إلينا ما وصل إليهم من الفرنسية والإيطالية ومن الديانة المسيحية.وأخيرًا تأثر جيلنا الذي وصلته هذه التيارات وكان التجديد وظهور بعض هؤلاء في العراق وفي مصر ثم في جميع الوطن العربي.
وقد كان نقد الديوان ذا أثر في الحياة الأدبية منذ خرج إلى القول الجارح الذي يتجاوز النقد الموضوعي إلى ما يقرب السباب الشخصي في كثير من مواضع الكتاب... وتعود من ناحية أخرى إلى المزاج الشخصي للعقاد، وما عرف عنه طيلة حياته من اعتزاز مسرف لفكره وأدبه وانتقاد يبلغ حد الازدراء أحيانًا...(1).
الرومانتية:(/5)
نحن نعرف أن الشاعرين "وردزورث وكولورج"اتفقا على كتابة شعر جديد يقوم على إثارة القارئ عن طريق الإثارة والطرافة ويضيف الألوان إلى الطبيعة، وأن يكون الشعر من الحياة العادية الموجودة في كل مكان، على أن يكون عقلا وذات دراية وحس مرهف، فنظما القصائد الغنائية Lyrical Ballads ونشرت سنة 1798. فتأسس المذهب الرومانتي على ما قام به هذان الشاعران. وبعد مئة سنة وجدنا صدى هذا المذهب في العالم العربي وظهر فيها شعراء المذهب الجديد وجماعة أبوللو. والديوان(2).
أثر الأدب العربي في جوسرGhaucer
يظهر التنافذ الواضح في أبرز شعراء الإنجليز بل واضع أسس اللغة الإنجليزية، فقد كانت اللغة الفرنسية هي لغة مجلس الوزراء ومجلس
العموم والوزراء، وكانت اللغة في الجزيرة خليطًا من عدة لغات: كالنورماندية والألمانية والسكسونية والرومانية بعد أن رحلت اللغة الألمانية نحو هولندا وصعدت إلى الجزيرة، وهضمت الجزيرة اللغات التي جاء بها المحتلون لبلادها، ومن هذا الخليط كون "جوسر" اللغة الإنجليزية المعاصرة التي تحوي هذا الخليط اللغوي، لكنه صقل تلك اللغات وكون اللغة الإنجليزية لأن المجتمع كان بعيدًا عن لغة الكنيسة اللاتينية التي يعرفها رجال الدين واستفاد "جوسر" من الخليط ووضع أسس اللغة، وكان لغزوة النورمانديين أثر في مزاحمة الفرنسية للغة اللاتينية، فقد استعملت الدولة الفرنسية لما فيها من شعر وفن أقرب إلى الفهم من اللاتينية، إضافة إلى أن تعلم الفرنسية تقرب الناس من السلطة لفهم عقيدة
وأسلوب الحكم(1).
فقد استمرت الفرنسية لغة الجزيرة وكانت تصدر فيها الأنظمة والتزم بها الأشراف والنبلاء، والناس على دين ملوكهم وحكامهم، وفي مجلس النواب كانت المناقشات تتم بها، وقد بقيت هذه اللغة هي الرسمية ولم يخطب بالإنجليزية إلا سنة1341، وكان أول خطاب لرئيس الوزراء بها بعد أن وضع "جوسر" أصولها وقواعدها(2)، وهي واضحة في لغته.(/6)
إن تنافذ اللغة الفرنسية وما فيها من ترجمات للأدب العربي من جراء ترجمة ألف ليلة وليلة– ولابد أن هناك مؤثرات سابقة من الأندلس وبخاصة التروبادور– وقد عد (ج أديو) أثر ذلك مساويًا لأثره في الأدب الإنجليزي وكان هذا الأثر سبيلاً إلى سمو المشاعر وترقيق الأحاسيس وصقل الأدب الغربي في الغزل(3).
وقال "درايدون": "كان "جوسر" أول من هذب لغتنا الفقيرة وأغناها من الاقتراض من مقاطعة البروفانس أنقى الصيغ البيانية بعد أن انتشرت قصص التهذيب العربية على لسان الطير والحيوان(1). وقد عزا فليب حتي قصته The Squire's Tale إلى ألف ليلة وليلة التي أخذها من الأدب العربي فصلاً وتقليدًا(2)، كما وردت في قصص كنتربري(3).
أثر الأدب العربي في اللغة الإنجليزية قبل "جوسر" من تنافذ اللغات الأخرى:
قال ج أديو: إن أثر شعر التروبادور في الشعر الإنجليزي لا يختلف عن دوره في أوربا، وكان الأدب العربي عامل ترقيق وسبيلاً إلى صقل لغة الأدب الغربي والحب والوجدان. وقد أكد "درايدون" هذا
الأمر بقوله: "وكان جوسر أول من هذب لغتنا الفقيرة وأغناها بتماديه من الاقتراض من مقاطعة بروفانس، أنقى الصيغ البيانية المعروفة في تلك الحقبة(4)، بعد أن انتشرت في جميع أوربا قصص التهذيب العربية على لسان الطير والحيوان، وقد كانت مسرحية "درايدون" The Conquest of Granada واضح أثر التنافذ الأندلسي فيها لذا عزا "فيليب حتي" قصة The Squire's Tale بأنها مأخوذة من ألف ليلة وليلة ويظهر بوضوح أثر الأدب العربي في "جوسر" في الملحمة الإنجليزية The Seven Seers of Rome متى قورنت بالقصة الأولى من ألف ليلة وليلة في الفكرة والخيانة والتهمة نفسها في حكايات كنتربري(5).
إن"جوسر" هو أبو اللغة الإنجليزية كان يعرف الفرنسية لأنها لغة الدولة(/7)
والقوانين والبرلمان، فوجدت في شعره القافية، وقلد الموشحات الأندلسية مع تصرف حر واضح بقضية استيعاب الكاتب وهو أصلاً من "نورمنديا"، وفي اللاشعور يرقد المحفوظ اللغوي والأثر الاجتماعي، ولابد أن يظهر في الأدب وبخاصة بعد أن ضاق صدر الإنجليز من تسلط رجال الكنيسة في استعمال اللاتينية. وقد قال "السير هملتن كب": "إن ما وصل إليه الولع بالقصص الشرقية من نشاط أثر في القرن الثامن عشر وغض الطرف عنها مؤرخو (أدبنا بقصد وبعمد)" (1). ويؤكد كب أن قصة الوردة(Roman de la Rose)، التي ترجمها الشاعر من الفرنسية كان محاكيًا العرب في خيالهم وفكرهم وفي قصص "كنتربري" بصورة عامة وفيها العاطفة المرهفة والإحساس العميق في طور الأدب الإنجليزي وإن كان قد كتبها في أواخر حياته، ومع ذلك فقد نسخت خمسين مرة (2)، مما يدل على أهميتها في الأدب الإنجليزي وأثرها في إبداعه الشعري. فقد كانت الأندلس النافذة الحضارية التي دخل منها إلى أوربا في حياتها الفكرية والفنية والأدبية. وركز ذلك عندما وصلت الحركة الفكرية في صقلية التي ماتزال عادات أهل صقلية وطراز حياتها تختلف عن حياة إيطاليا، وبصورة واضحة في لغتهم ولا يرضى بعض أهل الجزيرة أن نسميهم الإيطاليين، ولم يخل الأدب الديني من آثار الأدب العربي. فقد قال "جوليان" حسب ترجمة الدكتورة سهير القلماوي: "إن الشعر الغنائي الإسباني القديم ربيب أدب الأندلسيين المسلمين، وهو المورد الذي استفاد منه الفرنسيون ومنه تنوعت أنواع الشعر في الغرب، وأثر في التطور والتجديد وبقاء أسس حديثة لهذا الأدب".
وقال السير هملتن كب وقد
استقر الرأي العام على وجود تجاذب وثيق بين الشعر العربي والشعر البروفانسي مؤكدًا " بأن مسيحي(/8)
الأندلس الذين صاروا نصف عرب هم بدورهم نقلوا كثيرًا من بذور الحضارة الإسلامية إلى الممالك الشرقية، وشمل قسمًا شبيهًا بهذا التوسع والنقل، تاريخ الشعر الأندلسي،وكثيرًا من الشعر الإسباني، مما أدى إلى ظهور الزجل"(1).
ومما لاجدال فيه أن الشعر الشعبي الفلانشيكو Vallancio يرتبط بالزجل العربي وتظهر آثار هذه الظاهرة بوضوح في شعر (ابن قزمان) المعاصر لشعر (التروبادورو) في أسلوب النظم والروي والقافية، ونجد التشابه واضحًا عند مقارنة المقطوعات مع شعر البروفانس الأول. وكان
الباحثون والنقاد يشكون في هذا الأثر حتى جاءت المفاجأة عندما عثر الباحثون على شعر غنائي لابن قزمان مكتوب باللغة الأندلسية الدارجة في الأندلس الإسبانية (2). وقد اعتمد الباحث على نصوص وموشحات برهنت على أن أوربا قلدت شعر الوشاحين والزجالين الذين سبقوهم بقرنين وقد أكدها (نيكل) عندما طبع ديوان ابن قزمان بالحروف اللاتينية وتجلت الحقيقة بأبحاث (كارسيه كوميز) و(سيرين) Sterne ، (3). ووضح (السير هملتن كب) مدى أثر العرب على الغرب بمقالته في تراث الإسلام: "ومهما كانت الدرجة التي حددها الباحثون لتأثير الشعر العربي في إثارة روح الإبداع في جو الشعر الرومانسي فإن الدين الذي تدين فيه أوربا للشعر
العربي في القرون الوسطى لا يماري فيه أحد"(*)،وملاحظة تلفت النظر بأن الوقوف على الأطلال تنافذ إلى الوقوف على البيوت. ففي قصيدة "جوسر" المتوفى عام 1400م يظل الشاعر يبكي كما يبكي امرؤ القيس، فهو يخاطب فيها بيت الحبيبة، ويراه بيتًا قفرًا بعد أن كان يزدهي بالأحباب، وقد غدا حزينًا. كما أن المصباح الذي كان ينير ظلمات القصر أصبح مظلمًا حزينًا بعد أن كان مشرقًا نيرًا وقال: "وجدير بك يا قصر أن تسقط وأن تنهار، وتذكر بعد أن رحلت من كانت هدفنا ومن كنا نسير إليها.
“O Poleis desolat,
O house, of houses whilom best y-hight
O paleis empty and disconsolat,(/9)
O thou Lanterne of which queynt in the light,
O paleis, whilom day that now art night.
Wel oughtestow to falle, and I to dye,
Sin she is went that wont was us to gye!”
ونجد ذلك عند "اللورد بايرون" في مطلع قصيدته (عروس أبيدوس The Bride of Abydos ) يتحدث عن الديار
التي عفت والأشجار التي اندثرت.
Know ye the land where the cypress and myrtle
Are emblems of deeds that are done in their clime?
الشاعر تنسون وامرؤ القيس
أما الشاعر الذي نقف عنده هو (تنسون).
لا جدال في أن الذوق الأدبي يختلف باختلاف الحضارة فلكل أمة براعتها الحضارية، والتذوق هو الممارسة الفنية، ولابد لها من قواعد لفهم الذوق بدراسة تاريخ الأمة. فنحن نتذوق الأدب الذي فيه الخيل والناقة والصحراء الصافية والسماء الزرقاء. ولن تجد شاعرًا عربيًّا وصف تساقط الثلوج ونزول الأمطار مع الصقيع ولا يكترث بطلوع الشمس وغروبها لأنه كائن بالرمضاء، والأمة الجائعة لا يطربها صوت العنادل وحفيف الأزهار، إنها تحلم بالطعام والكساء والشبع والرواء.
فالفنون تطور حضاري متقدم تتذوقه الشعوب القوية الغنية، وكان
العرب أمة قوية غنية، وكان الغرب أمة فقيرة بدائية تقتات على لحوم الحيوانات وتلبس جلودها من الصيد. هذا التنافذ الحضاري بين الغرب والعرب دعا إلى تقليد الأدب العربي والأخذ منه وكان الإسلام أساس التطور الحضاري؛ لأن الإسلام ساوى بين البشر، وعلا صيته حتى قال (أي أيم كريستي):" فأصبح الصيت الرفيع شبه الخرافي الذي كان يشار به إلى العرب حقيقة واقعة أمام المسيحية الحاشرة المتعجبة. وما لبثت حملات المتطوعين أن وجدت نفسها فجأة وهي على تماس مباشر بالنظام الذي كان يضيق من كل جهة بحدود تجاربهم وبعقيداتهم المحدودة"(1). فلابد إذن من الأخذ من هذه الحضارة ومنها اللغة والأدب، ولما تنافذت الحضارة الإسلامية بدأت تدخل(/10)
الفنون في القرن التاسع والعاشر وظهر أثرها بعد فترة طويلة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر حتى ألف الغرب هذه الفنون وبدأت الترجمة، ثم الفهم، ثم الهضم، ثم الإعجاب ثم التقليد. وقد امتازت اللغة العربية بأثرها الحضاري. فقد قال الصديق (أدمون بوزورث): (2) "إن الروح الحقيقية لمأثرة الأدب العربي لم يكن لها أن تفهم في الغرب وأن تؤثر تأثيرًا عميقًا في آدابه الوطنية حتى أخذ الشعر الذي هو التعبير الأكبر تميزًا لعبقرية الأدب العربي، طريقه إلى المعرفة، وكانت له مصاعب تحول دون تقبل هذا الشعر وفهمه بتقاليده وتعدد إشاراته". وقد وصف المستشرق الفرنسي (بلاشير) الشعر العربي بحق أنه حديقة سرية يتطلب دخولها لا معرفة عميقة باللغة العربية نفسها وحسب،إنما كذلك اعتناق عالم الفكر
الإسلامي بدينه وثقافته(1).
وكانت الترجمة التمهيد لهذا، فترجم (أنطوان كالان)، ألف ليلة وليلة لنشر الثقافة العربية حتى يألفها الغربي واختار ما يلائم الذوق . وقام
(وليم جونز) بترجمة المعلقات إلى الإنجليزية(2).
ولابد من القول إنني بحثت عن هذه الترجمة في المكتبات العامة ولم أعثر عليها لولا وجودها في مكتبة خاصة صورت منها الأجزاء التي أردتها.
إن الترجمة والتعريب أحد الأسباب النفسية التي بدأت تؤثر في الأدب الإنجليزي. وزادت الترجمة فوصلت إلى أكثر من مئة كتاب في القرن السابع عشر، وبالطبع ازدادت الكتب المترجمة حتى جاء القرن الثامن عشر فكانت القصص فيها مسحة شرقية، وأثرت الترجمات حتى
في الرواد (منهم ديدرو، وفولتير ومونتسكيو). ووصلت ترجمة (كالآن) إلى الأدب الإنجليزي بعنوان
Arabian Nights Entertainment (3).(/11)
أما الشاعر الكبير الذي تأثر بالأدب العربي فهو Tennyson الذي قرأ ترجمة (جونز) معتمدًا على ترجمته للمعلقات السبع وعلى شروح (الزوزني والتبريزي) نثرًا، وكتبت بأسلوب جميل متصرفًا في الترجمة ليلائم الذوق الغربي. لصعوبة فهم (جونز) للمعلقات لما فيها من إشارات حضارية ومواقع اختفى أثرها اليوم، ووجود كلمات يصعب فهمها – وهو العمل الذي قام به (كالان) و(فيتزجيرالد)، عندما نظم رباعيات الخيام التي لم ينشرها باسمه وطبع 250 نسخة فقط في الطبعة الأولى.
كان (تنسون) شاعر البلاط الإنجليزي، فهل أحس الشاعر
الإنجليزي بعمق الشاعر العربي؟ فوجد في امرئ القيس صدى لأحاسيسه المرهفة فكانت قصيدته Locksley Hall (3).
ولا يهمنا فيمن نظم الشاعر قصيدته إنما وجدنا التنافذ الشعري واضحًا وضوحًا جليًّا بين معلقة
(امرئ القيس وتنسون). وقد بدل اسم (فاطمة)إلى (Anny) ولاشك بأن هناك اختلافًا بين القصيدتين.أولاً لأن ترجمة (جونز)لم تكن دقيقة للظروف الفكرية عند الأديب الإنجليزي وصعوبة الكلمات اللغوية.وقد اعترف (جونز) بأنه قرأ شرح التبريزي وشرح الزوزني. ولكن لم يقدر على معايشة البيئة التي عاش امرؤ القيس فيها. ولنأخذ خمسة أبيات من القصيدة وهي:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمأل
ترى بعر الأرام في عرصاتها
وقيعانها كأنه حب فلفل
كأني غداة البين يوم تحملوا
لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وقوفًا بها صحبي على مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
فقد ترجمها "وليم جونز" بعد جهوده المضنية بما يلي:
Stay – Let us weep at the remembrance of our beloved, at the sight of the station where her tent was raised, by the edge of yon bending sands between DAHUL and HAUME.”(/12)
“TUDAM and MILRA; a station, the marks of which are not wholly effeced, though the south wind and the north have woven the twisted sand.”
“Thus I spoke, when my companions stopped their courses: only be patient.”
A profusion of tears, answered I, is my sole relief, but what avails it to shed them over the remains of a deserted mansion?
“Thy condition, they replied, is not more painful than when thou leftest HOWAIRA, before thy present passion, and her neighbour
REBABA, on the hills of MASEL.” (1)
وينظم (تنسون) قصيدته فيقول في قصيدة (لوكسلي هول):
- Comrades, leave me here a little, while as yet’tis early morn leave me here, and when you want me, sound upon the bugle-horn.
- Tis the place, and all around it, as of old, the curlews call dreary gleams about the moorland flying over Locksley Hall;
- Locksley Hall, that in the distance over looks the sandy tracts, and the hollow ocean-ridges roaring into cataracts.(2)
إن هناك اختلافًا بين القصيدتين جاء من ترجمة وليم جونز، لأنه قد تصرف في الترجمة. ولكننا لو قرأنا الترجمة لوجدناه قد حافظ على الجو العام وحور الأسماء إلى (تودم ومكرا) (توضح والمقراة) وزاد بعض الكلمات وحذف بعض الكلمات وجعل أم الحويرث (حاويره) وحذف كلمة (أم) من(أم الرباب) و (أم الحويرث).
قال امرؤ القيس:
ويومًا على ظهر الكثيب تعذرت
... عليَّ وآلت حلفة لم تحلل
فقد جاءت الحبيبة بالأعذار مع أنها أقسمت بأنها سوف تفي بالعهد وقال تنسون عن Anny :
- I said, My cousin may I speak and
speak, the truth to me. Trust me, cousin, all the event of my being sets to thee.(/13)
ويمكن مقارنة القصيدتين بوضوح، لظهور هذا التنافذ من (امرئ القيس) في (تنسون) من ترجمة (جونز) إلى قصيدة (تنسون). وفي كتابي (أثر الأدب العربي في حنايا الأدب الغربي) أكثر من تنافذ أدبي بين الآداب الغربية والآداب العربية.(3)
إن تتبع التنافذ الأدبي بين العربية والإنجليزية بل اللغات الغربية في القرن الذي ازدهر فيه الأدب الإنجليزي يحتاج إلى دراسة موسعة، وتتبع للأدباء في العهد الفكتوري.
هؤلاء الأدباء الذين شغفوا بالشرق بصورة عامة الذي كانت الدولة العثمانية ممثلة له. لذلك كثرت الترجمات من الأدب العربي وكثر حلم زيارة الشرق كما يحلم الآن أبناء الشرق بالسفر إلى الغرب لما نسمع عنه من تطور وتقدم في العلوم والفنون.
وقد كان وليم ثاكري William Thackeray من أولئك المهتمين بالشرق الذين يستوحونه في أدبهم، فقد قال الزميل رضا حواري عن (ثاكري): "إن حماس وليم ثاكري الشديد للشرق يبدأ من أيام رجولته المبكرة ومن إطار عقلي رومانطيقي وشاب، أساسًا وبصورة خاصة بحيث نجد كثيرًا من الأبطال الشابة في رواياته تقاسم مؤلفه الحالة الفنية المتسمة بالرومانطيقية بعضها شرقي صرف وبعضها مقلد للشرق على أن ثقافة (ثاكري) الشرقية إنما بالطبع جزء من مطالعاته العامة.
وقد عد زيارته للشرق أعظم ما حققه في حياته مع أنه كان شديد التتبع لأخبار الشرق وحياته، بقراءة الكثير من الكتب(*).
وكان (ثاكري) يتزود زادًا من اللغات الأجنبية سواء كانت ألمانية أو إنجليزية تتحدث عن الشرق. وقد قال
أحد هؤلاء الكتاب – الذين تأثر بهم –(/14)
معجبًا برسوخ العقيدة عند المسلمين: "إن آلافًا من أتباع محمد – صلى الله عليه وسلم - ينقضون على الموت في حومة الحرب وكأنهم ينقضون على فردوس أكيد". وبالرغم من أن المؤلف كان يكتب عن الإسلام والدولة العثمانية إلا أن الجهاد كان سببًا في بث الرعب في نفوسهم.. وقد رسم المؤرخون خريطة (لثاكري) ذكروا فيها بغداد وأدنة واستنبول وقد كان الأديب لشدة عنايته بالشرق قد أعد رسوم كتاب أديسون المسمى (دمشق وتدمر)، وهو كتاب عن دمشق وسورية أثناء حكم إبراهيم باشا عليها. وقد اهتم بتاريخ محمد علي باشا واستخدم الفترة في رواياته، وكتب مقالتين عنه منها: "محمد علي" و"السلطان التركي"، لأن أعماله هددت أوربا. فقد قرأ وصف الصحراء وحياة البدو وتأثر بقول (Kmylake ) ونقده فقال: "إن مؤلفه يخطئ في افتراضه بأن الصحراء وحياتها البدوية فقط تقع بين الشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية وأبواب بغداد. إذ ليس هناك من داعٍ لأن نشير إلى أن الأرض السورية بخضرتها وغنى مراعيها تمتد من جبال الجليل إلى الشرق مسافة طويلة قبل أن تبدأ الصحراء السورية الكبرى"(1).
إن تعليق (ثاكري) ونقده برهان على شدة ولوعه بالشرق وفهمه بطبيعة الأرض العربية في سورية ومقدار المساحة التي كانت تتسع لها سورية في عهده.
وقد طالع (نفح الطيب) وجاء في أدبه ذكر الخليفة الواثق. وتحدث عن عادات شرقية وحلق في الخيال، فذكر الجلوس على الأرض، والتدخين في الشرق، وذكر مناظر القاعات المصرية الطراز والغرف المقببة وجلوس الناس حول مواقد النيران. إنه خيال الرومانسية وذكر الواثق لاشك بأنه قرأ (ألف ليلة وليلة) وكان (Beckford) وترجمته أدت إلى زيادة معلومات (ثاكري) في العادات والسلوك. لأنه كان ملمًّا بالشرق وعاداته لأنه كان يعرف العربية وترجم بعض المخطوطات العربية المتنوعة. وكان طالع المعلقات وترجمة القرآن الكريم ومن هواة جمع المخطوطات العربية.(/15)
واستفاد (ثاكري) من ترجمة (نفح الطيب) جعلته يذكر الأندلس ومعركة (العقاب) التي جرت بين النصارى والمسلمين وإن لم يكن شديد العناية بالوقائع إنما كان يساير هواه فيها، وتلك طبيعة العمل الإبداعي، التصرف حسب خيال الكاتب وحسب فكره وعقيدته(2).
جيمس تومسون والأدب العربي
James Thomson
إن النص الأدبي الجيد في أي لغة دليل على أصالة المبدع، متى كان عميق المعنى سامي القصد، وهو النص الذي يكون سريع التنافذ بين نصوص الآداب الأخرى. ولا نعجب أن تتخطى النصوص الجيدة من لغة إلى لغة أخرى كما وجدنا تنافذ الأدب الألماني والفرنسي والإيطالي في الأدب الإنجليزي محملاً بالآراء العربية والأفكار الإسلامية. ولعل اللغة الفرنسية بما فيها من تأثيرات عربية وشرقية وإسلامية دخلت في فكر الأديب الإنجليزي أكثر من غيرها.
إن تنافذ لغة إلى لغات أخرى دليل على متانتها وقوتها وسمو حضارتها، فقد بدأ التنافذ الحضاري بين الشرق والغرب واضحًا بما حمله الصليبيون من الشرق من حضارة أدت إلى تقليد الشرق العربي حتى في الأزياء والطعام والأساطير، وقام أبناء الغرب برحلات متعددة إلى الشرق يدفعهم الشوق إلى الجديد. وكتبوا في رحلاتهم ما وجدوه بل إنهم بالغوا في ذلك واختلقوا المعلومات، ولهذه دخلت الثقافة العربية والشرقية والإسلامية في جذور الثقافة الغربية فازدهرت ثقافة الغرب. وقد تتبع المثقف الغربي الثقافة العربية في المخطوطات ودرسها وترجم الكثير منها، فطوَّر أدبه ووسع أفق فكره.
إن الاستفادة من الحضارة لا تكون بالتقليد إنما بفهمها أولاً ثم هضم تطورها واختيار ما يوافق الذوق الفني والأدبي، وإلا أصابته الحيرة الفكرية والمحنة الروحية التي نجدها عند بعض الكتاب والشعراء العرب اليوم.(/16)
وإن بناء الجسور وتعبيد الطرق ونشر وسائل المواصلات الحديثة كالسيارات والقطر والاستفادة من المخترعات الغربية العديدة، يجب أن تبني الإنسان وتطور ثقافته. لأن صناع الحضارة هم القادرون على الاختيار والاستيعاب ثم هضم حضارة الأمم الأخرى واحتواء
محاسنها.
ولابد من ذكر كتاب أثر في الغرب وأهملناه هو كتاب (ألف ليلة وليلة) ولم نقدره حق قدره فقد أثر في الغرب وتنافذ في عدة لغات غربية حتى عرفه الأميون فقد ذكر الباحث (رانيلا): "بأن حكايات ألف ليلة وليلة تسربت بين شعوب الغرب حتى عرفها الأميون، ودرسها الكتاب منذ 1704م عندما ترجمها (كالان) إلى الفرنسية وأخذتها الإنجليزية عن الفرنسية وتسربت من خلالها صور الشرق العربي المتعددة وبقي في ذهنهم صور (علي بابا والأربعين حرامي)، وعن (البساط الطائر) وعن (شهر زاد وشهريار) ولشدة إعجاب الإنجليز بها ظهرت في أربع طبعات سنة 1713م وقال (رانيلا) إنها نشرت في جريدة (لندن نيوز) مسلسلة واستغرق ذلك ثلاث سنوات من عام 1713م فأصبح أثرها جزءًا من ثقافة الصغار والكبار"(*).
وفي خلال قرنين طبعت أكثر من (400) مرة بلغات غرب أوربا، وقد أسهمت ألف ليلة وليلة في القرن الثامن عشر بالاهتمام بالدراسات الشرقية كما كانت دافعًا إلى تطور الفلكلور والقصص بوصفهما حقلاً للدراسة.
أما في مجال الخيال فقد أدت إلى نشأة مدرسة كاملة لما سمي بالروايات الشرقية. ويمكننا أن نصف تأثير الليالي على الحركة الرومانسية في القرن التاسع عشر بأنه كان هائلا وقال: "ولم تصبح ألف ليلة وليلة أدبًا فحسب، ولم تصبح أدبنا بل أصبحت في الحقيقة إحدى كلاسيكياتنا. فقد أعيدت طبعاتها وأخذت منها مسرحيات ورقصات (باليه) وأوبرات وأفلام ومسرح عرائس و(بانتومايم) بصفة خاصة للصغار"(1).(/17)
وقد استخدم (كالان) المخطوطة السورية لترجمة ألف ليلة وليلة لأنه كان يجمع المخطوطات العربية للمكتبات الفرنسية وقد بقيت ترجمته أساس الطبعات الأوربية لأكثر من قرن. والطريف أن بعض الأجزاء المترجمة من العربية ترجمت إليها، وأول نسخة مخطوطة كانت في مطبعة بولاق التي اعتمد عليها المستشرق (لين)(2).
ويظهر تنافذ الأدب الفرنسي المتأثر بالأدب العربي في الشاعر (تومسون)، وتومسون من الأدباء الإنجليز الذين أعجبوا بالأدب العربي بعد اطلاعه على أدب (ستندال Stendhal) الفرنسي المعجب بالأدب العربي،الذي ترجم كتاب ابن أبي حجلة (ديوان الصبابة) وسماه (De l'Amour) ولم يكن الكتاب مطبوعًا في
هذه الفترة إنما اعتمد على نسخ مخطوطة منه وقد كان تومسون في زيارة لستندال عندما قدمت له النسخة المترجمة، فأخذها تومسون عنوة من صديقه، وكانت سببًا في البحث عن نسخ أخرى بعد أن أعجبه ما فيها من قصص. ولشدة إعجابه تمنى أن يتعلم اللغة العربية، حتى يخلق اتجاهات أدبية في الحب ليست موجودة في الأدب الغربي.وأعجب تومسون بالحب العذري أو الجو الأفلاطوني،وكان الحب العذري من أسباب ظهور الأدب الرومانسي في أوربا.فقد اعتمد تومسون على النسخة التي ترجمها(فوربيل) لصديقه (ستندال) والتي اختطفها تومسون منه وكانت ذا أثر في أدبه ومؤلفاته.
الحب العذري:
وقد أثر الحب العذري في كتاب الغرب، فقد عد أسمى درجة في التضحية من أجل المحبوب، فقد عدّ ( أرنولد Mathew Arnold ) التضحية
بالنفس أعلى تضحيات البشر الذي ألهم الشاعر الألماني (Heine ) قصيدته (Der Asra ) وتنافذت إلى أدب تومسون عندما ترجمها إلى اللغة الإنجليزية. وقد اعترف تومسون بهذه الترجمة وذكر بأنه تصرف فيها.
وتأثر الأدب الإنجليزي بقصة(/18)
(وضاح اليمن) و(أم البنين)، لما فيها من الجمال الطبيعي والعاطفة الصادقة الحقة وهما ينبعان من معنى ذي قدسية. وهاتان الصفتان من بني عذرة هما اللتان أوحتا بالكثير للشاعر (هايني) الألماني الذي يعتقد اعتقادًا راسخًا بأن الحب الحقيقي الصحيح يحررنا جميعًا من كل المشاعر الوضيعة والأنانية ويدفعنا إلى التضحية بكل نعم الحياة الزائلة.
إن تأثر (تومسون) بآراء (هايني)، خير دليل على تنافذ العربية إلى الفرنسية بترجمة هايني وتأثر تومسون بهذه الترجمة وأوحت له بجميل شعره.
ويجب إفراد جزء من أثر الأدب العربي في تومسون الذي طوره وأبدع أمورًا جديدة محلقًا بعيدًا عن الواقع، يغلفها بصور الرومانسية لإثارة القراء في الأدب الغربي وشغفه.
كما أثر كتاب لين E.W.Lane
( Manners and Customs of the Modern Egyptians )، في أدب الشاعر عندما وصف النساء العربيات وذكر جمال العيون السوداء الواسعة ذات الرموش الجميلة الطويلة الساحرة.
إن اهتمام تومسون بالأدب العربي، طور أدبه فقد كان شديد الاهتمام به لأنه استفاد من ترجمة ستندال في كتاب De L'Amour وكان شديد الاهتمام والانفعال والتأثر العميقين بما أخذه ستندال من (ديوان الصبابة)، وقال: "لو لم أكن متقدمًا في العمر كثيرًا لتعلمت العربية، ذلك لأنني أجدني مسحورًا لوقوعي آخر الأمر على شيء ليس مجرد نسخة أكاديمية عن الأدب القديم... عندما كان يؤلف كتابه عن الحب وأراد أن تكون في خلال هذه الدراسة نفحات جديدة يدخلها في أدبه".(/19)
إن التنافذ الأدبي هو الذي يطور الأدب وينقذه من الجمود . ولهذا وجدنا الأدب الإنجليزي شديد التأثر بالأدب الفرنسي سواء بوب أودرايدون أو سونبرن Swinburne . وتأثر كارليل بالأدب الألماني ولا يمكن أن ننسى تأثر الشاعر جوته Goethe بالأدب الإسلامي وحاول في السبعين من عمره دراسة العربية والفارسية حتى أخرج الديوان الشرقي. وقد بقي الأدب العربي سبعة قرون يؤثر في الغرب، واشتهرت ملحمة دانتي
بأنها من إبداع الشاعر. فقد أخبرني الأستاذ كبريللي المستشرق الإيطالي بأثر الأدب العربي فيها. وأكد أثر الأدب العربي الأستاذ بلاشيوس، بصورة لا تقبل الشك.
وقد تنافذ أدب الغرب في الأدب العربي في أدب طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد والمازني وظهرت الروايات وأدب المسرح وأثر النقد الغربي في أدبهم. وكما تطور الأدب الغربي من الأدب العربي، ها هو ذا أدبنا يتطور من تنافذ الآداب الأخرى.
ولكن ما أخذوه من أدبنا هو أكثر مما أخذناه منهم.
يوسف عز الدين
عضو المجمع من العراق(/20)
التأثير المتبادل بين الأمثال العربية والأمثال الإسبانية(*)
للأستاذ الدكتور محمد محمد بنشريفة
من المعروف أن الأندلس كانت بلدًا تتعايش فيه الأديان والأجناس وتتعدَّد فيه اللغات والثقافات، وقد كان ذلك التعايش والتعدد في ظل دولة الإسلام ووحدة المذهب وسيادة اللغة العربية، إذ إن أكثرية أهل الأندلس أصبحت من المسلمين، ولكن كان إلى جانب هذه الأكثرية أقليات من النصارى واليهود الذين كانوا يعرفون اللغة العربية ويتدارسونها، فأما نصارى الأندلس الذين انتشرت بينهم اللغة العربية فقد دُعوا بالمستعربين Los Mozarabes لمعرفتهم بها واستعمالهم لها في أمورهم الدينية والدنيوية. "وكانت سماحة الإسلام وسلاسة اللغة العربية والمعاملة الكريمة التي تعامل بها الداخلون
الأولون مع المعاهدين من أسباب ظاهرة الاستعراب السريعة التي حصلت بعد قرن أو يزيد قليلاً من دخول الإسلام إلى شبه الجزيرة الإيبيرية"(1) وقد شكا بعض الرهبان من إقبال أبناء ملتهم على تعلم اللغة العربية وولعهم بآدابها، وشكوى الراهب القرطبي Alvaro معروفة، وقد جاء فيها أن إخوانه في الدين يجدون لذة كبرى في قراءة أشعار العرب وحكايتهم، وأن الموهوبين من شبان النصارى لا يعرفون إلا لغة العرب وآدابها ويؤمنون بها ويقبلون عليها في نهم وينفقون أموالاً طائلة في جمع كتبها(2)، ولعل من أسباب استعراب عجم الأندلس طموحهم إلى وظائف الدولة ورغبتهم في الوصول(/1)
إلى دواوين الحكومة، ومن المعروف أن الأمويين في الأندلس-مثل أسلافهم في المشرق– استخدموا عددًا من النصارى في مختلف الدواوين وقد وصل بعض هؤلاء إلى أعلى الدرجات لدى الأمراء والخلفاء الأمويين،ومنهم القومس ربيع ذو الحظوة عند الحكم الربضي والقومس ابن انتنيان الذي كان الكاتب الأعلى لدى عبد الرحمن الأوسط وولده محمد، وقد نوه ابن حيان ببلاغته وجودة رسائله وبصره بصناعة الكتابة الحسابية وتدقيقه لها وقال فيه: "كان قريع كل من ينتحل البلاغة في عصره"(1) ومثل هذين الأسقف ربيع بن زيد الذي كان مقربًا إلى عبد الرحمن الناصر، ونهض في عهده بمهمات،ومن هؤلاء المستعربين حفص القوطي الذي كان قاضيًا للعجم في عهد عبد الرحمن الناصر، وله
دور مهم في نقل تراث عجم الأندلس إلى اللغة العربية نثرًا ونظمًا، ومنه أرجوزة نظم فيها الزَّبور يبلغ عدد أشطارها خمسة آلاف وخمسمئة شطر وقد طبعت منذ سنوات في فرنسا(2)، ومن أغرب ما يذكر أن الدواوين الحكومية كانت تعطل يوم الأحد جاء في المقتبس لابن حيّان: "وكان أول من سن لكتاب السلطان وأهل الخدمة تعطيل الخدمة يوم الأحد من الأسبوع والتخلف عن حضور قصره قومس بن أنتنيان كاتب الرسائل للأمير محمد وكان نصرانيًّا ودعا إلى ذلك لنسكه فيه،فتبعه جميع الكتاب طلبًا للاستراحة من تعبهم والنظر في أمورهم فانتحوا ذلك ومضى إلى اليوم العمل عليه"(3) وهذا تسامح كبير، ويوجد مثله في مشاركة المسلمين بالأندلس للنصارى في أعيادهم الدينية(4).(/2)
وأما يهود الأندلس فقد ظهر فيهم كتاب وشعراء ومؤلفون باللغة العربية، ومن المعروف أنه كانت لهم ثقافتهم ولكنها نبعت من موارد الثقافة الإسلامية ودُونت باللغة العربية، وتأثر اليهود بالثقافة العربية واقتباسهم منها وتقليدهم لها يبدو أول ما يبدو في عناوين كتبهم التي ألفوها بالعربية طوال العهد الإسلامي في نحو العبرية وبلاغتها وعروض شعرها وموشحها ومنها –على سبيل المثال– كتاب"الحجة والدليل، في نصرة الدين الذليل" ليهودا ابن ليفي الطليطلي(1) وكتاب "الحديقة في معنى المجاز والحقيقة" لموسى بن عزرا(2)وقد ظهر في يهود الأندلس كتاب وشعراء ذكر بعضهم المقري في نفح الطيب(3)، ومنهم من أسلم أو تظاهر بالإسلام كأبي الفضل ابن حسداي وهو من
أشهر الكتاب في عصر الطوائف(4) وإبراهيم بن سهل الذي يعتبر من كبار شعراء الأندلس"(5).
كان مع هذا التعدد في الأديان بالأندلس تعدد في اللغات، فإلى جانب اللغة العربية التي كانت لها السيادة وجدت لغة عجم الأندلس الذين ظل عدد مهم على نصرانيتهم ولكنهم – كما أسلفنا – تعربوا وأصبحوا يدعون بالمستعربين Los mozarabes وكانت العجمية أو اللاطينية كما سماها ابن حزم مسموعة ومعروفة لدى عامة أهل الأندلس وخاصتهم باستثناء أهل قبيلة بلي الذين يقول فيهم ابن حزم: "وهم هناك إلى اليوم على أنسابهم لا يحسنون الكلام باللاطينية لكنه بالعربية فقط نساؤهم ورجالهم"(6) وتوجد آثار هذه اللاطينية أو الرومانثية في خرجات الموشحات وغيرها. لقد نشأ(/3)
عن هذا التعدد الديني واللغوي والثقافي الذي أشرت إلى بعضه بإيجاز شديد مظاهر متعددة من التأثيرات المختلفة تدخل في باب التأثير المتبادل بين الثقافات العربية والثقافة الأجنبية وهو موضوع مؤتمر المجمع هذا العام، وقد رأيت أن أتحدث عن التأثير المتبادل أو المنفرد بين الثقافة العربية والثقافة الإسبانية. ومن المعروف أن الراهب اليسوعي خوان أندريس كان أول من نبه في القرن الثامن عشر على تأثير الثقافة العربية في الثقافة الأوربية عبر الأندلس، وقد تعددت إشاراته إلى مظاهر هذا التأثير في العلوم والآداب الأوربية، وهي إشارات وصفها المستعرب الإسباني أنخل جنثالت بالنثيا بأنها مبهمة، وقال إنها بقيت "دون إثبات مؤكد في عصره لأن شيئًا من آثار الأندلسيين لم يكن قد
نشر إذ ذاك ، أما اليوم وبعد ثمانين ومئة عام ونيِّفٍ من نشر كتابه(1)، فإننا نستطيع أن نذكر عن تراث الأندلسيين أكثر مما ذهب إليه، وقد تحصل لدينا الآن من الحقائق التي كشف عنها وأثبتها المستشرقون من إسبان وغير إسبان ما يمكننا من أن نعرض موجزًا لآثار المسلمين الأندلسيين في آداب من جاء بعدهم من الشعوب الأوربية وخاصة الإسبان"(2) وقد عرض أنخل جنثالت بالنثيا مظاهر من هذه الآثار في كتابه الذي نقله إلى اللغة العربية الدكتور حسين مؤنس رحمه الله(3)،وقبله أعلن أستاذه خوليان ريبيرا أن الموشحات الأندلسية هي أصل شعر التروبادور كما أعلن تلميذه الثاني ميجيل أسين بلاثيوس رأيه الذي بسطه في كتابه "الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية" وافترض فيه أن دانتي اطلع على
ترجمة لقصة الإسراء وتأثر بها ثم صح افتراضه بعد ظهور ترجمات(/4)
أنجزت برسم الفونسو الحكيم(1)، وقد اندهش أنخل خنثالت بالنثيا للشبه العظيم بين مقامات الحريري وما يعرف في الأدب الإسباني بقصص الصعاليك أو المكدين(2) La novela Picaresca ، وعلاوة على ما هو معروف من انتشار مقامات الحريري بين الأندلسي(3) فقد وقفنا على مناظرة بين عالم مسلم عاش في مرسية بعد استيلاء النصارى عليها وراهب مسيحي حول بيتي الحريري الواقعين أثناء المقامة السادسة والأربعين من مقاماته وهما اللذان قال فيهما:
"أسكتا كُلَّ نافث، وأمنا أن يعززا بثالث" وهما:
سِمْ سمةً تحسن آثارُها
واشكر لمن أعطى ولو سِمْسِمَه
والمكرُ مَهْما اسطعْت لا تأتِه
... لتقتني السّؤدد والمَكْرُمَه
وكان هذا الراهب من جملة رهبان يخدمون الفونسو الحكيم وكانوا يشرئبون للنظر في علوم المسلمين وترجمتها للسانهم(4)، ووقفنا أيضًا على ما يفيد أنها ترجمت إلى اللاتينية أو القشتالية، فقد ذكر الصفدي في كتابه: "نصرة الثائر" خلال حديثه عن مقامات الحريري ما يلي: "ويحكى أن الفِرَنْج يقرؤونها على ملوكهم بلسانهم ويصورونها ويتنادمون بحكاياتهم، وماذاك إلا أن هذا الكتاب أحد مظاهره تلك الحكايات المضحكة، والوقائع التي إذا شرع الإنسان في الوقوف عليها تطلعت نفسه إلى ما
تنتهي إليه وتشوفت إلى الوقوف على آخر تلك القصة، هذا إلى ما فيها من الحكم والأمثال التي تشاكل كتاب كليلة ودمنة"(1) والصّفدي من مواليد القرن السابع الهجري، وفي هذا القرن كان الفونسو العالم الذي يبدو أنه من ملوك الفرنج المشار إليهم فيما حكاه الصفدي، وهو الذي أمر كذلك بترجمة كليلة ودمنة المذكور في النص أيضًا، وذلك في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي(2).(/5)
وبعد فإن الباحثين المحدثين – ومنهم المستعربون الإسبان – استطاعوا أن يظهروا فضل الثقافة العربية والأندلسية على ثقافة الغرب، وتمكنوا من الكشف عن عدد كبير من التأثيرات العربية في الآداب الإسبانية شعرًا ونثرًا، وأذكر من هؤلاء على سبيل المثال إميليو غوسيه غومس، وخوان
فيرنيث، وفرناندو لاكرانخا، وكورينتي.
وقد كان لأستاذنا المرحوم عبد العزيز الأهواني مساهمة ممتازة في هذا الموضوع، ولصديقنا وزميلنا الدكتور محمود مكي فيه كذلك جهود معروفة.
وقد أتيح لنا منذ عقود أن نقوم بجهد متواضع في هذا المجال عندما
حققنا أمثال العوام في الأندلس لأبي يحيى الزجالي القرطبي (617هـ - 694هـ) فقد قمنا بشرحها ومقارنتها بالأمثال العربية القديمة والمولدة، والحديثة من جهة وبالأمثال الإسبانية من جهة أخرى، وقد ظهر من تلك المقارنات مدى الصلة بين الأمثال التي كان العامة في الأندلس يتمثلون بها وبين الأمثال العربية سواء منها القديمة أو الحديثة، وهي صلة طبيعية لأنها جميعًا تنتمي إلى لغة واحدة، وقد عنينا إلى جانب ذلك بالمقارنة
بين الأمثال الأندلسية وبين الأمثال الإسبانية، وكان من شرطنا في هذه المقارنات جميعها أن يتوافر فيها التطابق بين نصوص الأمثال وصيغها، وأن تكون الأمثال المقارن بينها متفقة أو متقاربة على الأقل في مبناها ومعناها، إذ إن المقارنة على أساس المعنى وحده قد تكون أمرًا ممكنًا بين أمثال كثير من الأمم والشعوب.
وإنما توجهنا إلى الأمثال الإسبانية بعد الأمثال العربية لأن كلا من الأمثال الأندلسية القديمة والأمثال الإسبانية التي جاءت في أعقابها نتاج أرض واحدة، وثمرة بيئة طبيعية مشتركة، وإن اختلفت بعد ذلك بعض مظاهر الحياة ومصادرها، ولأننا قدرنا أن ثمانية قرون من الاختلاط والاحتكاك بين المسلمين والمسيحيين في الأندلس لابد أنها تركت آثارًا وخلفت بقايا ورواسب في مجال التراث الشعبي الإسباني عمومًا والأمثال منه خصوصًا.(/6)
وقد عني الباحثون المتخصصون – كما سبق – منذ عهد بعيد بدراسة أثر الإسلام في إسبانيا في مختلف النواحي الثقافية والحضارية والاجتماعية وغيرها، وأثبتوا بالأدلة والشواهد والمقارنات وجوه هذا الأثر في اللغة والشعر والقصص والفلسفة والعلوم. وتجاوزوا ذلك إلى الناحية الدينية فدرسوا تأثير الإسلام والتصوف الإسلامي فيها، وحددوا الأفكار والعناصر الإسلامية والصوفية في مؤلفات رجال الدين والتصوف من الإسبان(*). وأصبحنا أخيرًا نقرأ دراسات في الأصول والمصادر الإسلامية والعربية لبعض الروائع الأدبية الإسبانية الكبرى التي ترجع إلى ما يسمى بالعصر الذهبي في إسبانيا. وذلك مثل "دون كيخوته" لثرفانتيس و" الحياة حلم" لكالديرون وبعض مسرحيات لوبي دي فيجا، ومن الطريف أن عنوان إحداها مقتبس من مثل أندلسي ونعني بها El perro del hortelano فهو من المثل الإسباني: El perro del hortelano, ni
come las berzas ni las dejas comer وأصله من المثل الأندلسي الذي رواه الزجالي وابن عاصم هكذا:
- كَلْب الورد: لا يشَمّ ولا يخَلي أحد يشم(1).
وقد ظهر في عصرنا بعض المؤرخين من الإسبان يعزون إلى الإسلام وأيام المسلمين كثيرًا من النظم والتقاليد والعادات التي بقيت في الحياة الإسبانية بعد خروج المسلمين من الأندلس، ومن هؤلاء المؤرخين أميركو كاسترو الذي يقرر في أكثر من موضع من كتابه" "إسبانيا في تاريخها" أنه يجد في الإسلام وتراثه تفسيرًا لكثير من الحقائق التي خفيت عليه حين كان ينظر إليها من جانب واحد هو الجانب المسيحي(2) وبالإجمال فإن الدراسات التي تعالج
جوانب عامة أو خاصة من هذا الموضوع الكبير هي من الكثرة بحيث إن مجرد الإشارة إليها أو محاولة تلخيصها في هذا التمهيد يكون عملا لا غناء فيه وصنيعًا لا طائل تحته.
أما بالنسبة للتراث الشعبي -والأمثال منه خاصة - فقد رأينا المشتغلين بعلم الأمثال في إسبانيا(/7)
يقتصرون – حين يبحثون في أصول أمثالهم – على أصولها الدينية كالعهد القديم والعهد الجديد وأقوال آباء الكنيسة، أو أصولها اليونانية كأجوبة الكهنة وأقوال الحكماء وعبارات المسرحيات، أو أصولها اللاتينية، أو إلى منابع من البيئة الإسبانية المسيحية، ولم يدر بخلدهم أبدًا – ولو على سبيل الفرض والتقدير – أن تكون الأمثال العربية في الأندلس من أصول أمثالهم، وهم معذورون في هذا؛ لأنه لم تكن قد ظهرت بعد هذه
المجموعة من الأمثال العامية في الأندلس(1)، ومنها مجموعة ابن هشام اللخمي الإشبيلي، ومجموعة أبي يحيى الزجالي، ومجموعة أبي بكر ابن عاصم، ومجموعة المورسكي ألونسود الكستيليو.
وقد كان الدكتور عبد العزيز الأهواني رحمه الله رائدًا في هذا المجال، وذلك حين فتح باب المقارنة بين الأمثال العربية والإسبانية بنموذج يشتمل على واحد وعشرين مثلاً من الأمثال المتشابهة في مجموعتي ابن عاصم وسنتلانا(2). وقد نحونا نحوه ووسعنا دائرة المقارنة بالتماس النظائر والأشباه في أكثر من مجموعة إسبانية. وبدأنا بأقدم مجموعة في الأمثال الإسبانية وهي مجموعة المركيزدي سنتلانا
Inigo Lopez de Mendoza, Marqués de santillana (1458-1398) .
واسمها: "Réfranes que dicen las viejas tras el fuego" أي "الأمثال التي تقولها العجائز حول النار" وهي مرتبة على الحروف، وتشتمل على 725 مثلاً، وتليها في الأقدمية مجموعة هرنان نونث Hernan Nunez (1475-1553) وكان أستاذ البلاغة اليونانية بجامعة سلمنقة، وقد نشرت مجموعته لأول مرة سنة 1555 تحت
عنوان"Refranes o proverbios en romance"
وهي أيضًا مرتبة على الحروف، وتشتمل على 8331 مثلاً، وقد تتابعت المجموعات وبلغت في عصرنا مبلغًا كبيرًا من الكثرة والاتساع، كالمجموعة التي نشير إليها باسم مرتبها لويس مارتينيث كليسرLuis Martinez Kleizer واسمها Refranero General Ideologico"" فهي(/8)
تحتوي على أزيد من ستين ألفًا من الأمثال، وقد رتبها بحسب الموضوعات وضمنها معظم المجموعات القديمة والحديثة.
وقد قرأنا أيضًا الأمثال المستخرجة من بعض الأعمال الأدبية "الكلاسيكية" مثل ثلستيناLa Celestina ودون كيخوتة Don Quijote ورجعنا في أمثالهما وأمثال هرنان نونث إلى الكتاب الصادر عن منشورات أجيلار Aguillar تحت عنوان: Refranero Espanol كما انتفعنا أيضًا بمجموعة برجوا José Bergua وعنوانها كالعنوان
السابق:Refranero Espagnol(*).
وقد تجمع لدينا من الأمثال الإسبانية التي تتفق أو تتشابه في الصيغة والمعنى مع الأمثال العربية ما يزيد على مئتي مثل، ذكرنا نصفها تقريبًا في مواضعه من النص، وسوف نستدرك ما فاتنا في دراسات
مستقلة إن شاء الله، ولعلنا بمتابعة القراءة والمقارنة نخرج بأمثال أخرى. ونحن نرى أن مجموعات الزجالي وابن عاصم وألونسود الكاستيليو سوف تتيح للمشتغلين بالأمثال الإسبانية الرجوع إليهما ليجدوا فيها كثيرًا من جذور هذه الأمثال وأصولها.
إن التطابق التام بين بعض الأمثال الإسبانية والأندلسية لا يمكن تفسيره في نظرنا إلا بالترجمة والنقل، وسوف نعرض فيما يلي بعض الأمثلة، ونحيل في معظمها على الرجوع إلى رقم المثل في متن الزجالي المطبوع.
يقول الإسبان في الأمر الذي يحدث بغير حسبان ويقع فجأة على غير انتظار: Nace en la guerta lo que no
siembra et hortelano وترجمته: يولد (ينبت) في البستان ما لا يزرع البستاني.
وهذا المثل ليس إلا ترجمة دقيقة للمثل الأندلسي:
ينبت فالجنان، مالا يزرع الجَنَّان (1).
وينبغي أن نذكر أن الأندلسيين يستعملون الجِنان للبستان، والجَنَّان (بالتشديد) للبستاني، وهو استعمال ما يزال موجودًا في المغرب، وهذا الاستعمال موجود أيضًا في نثرهم وشعرهم كقول بعضهم:
كانَّه رَوض وردٍ جَنَّانُه حَبَشِيٌّ(/9)
وإذن فإن الصيغة الإسبانية ترجمة أمينة للصيغة الأندلسية، وتكاد الصيغتان تتفقان حتى في عدد الكلمات، وقد اختلفتا من ناحية السجع حيث تميزت به الصيغة الأندلسية ، ولكن هذا حسب أقدم رواية للصيغة الإسبانية وهي التي رواها هرنان نونث في القرن السادس عشر، لأننا نجدهم فيما بعد يقدمون الفاعل ليستقيم لهم ما يشبه السجع فيقولون:
Nace de la huerta, lo que el hortelano no Siembra
كما ورد المثل في مجموعة برجوا J.Bergua الحديثة،وفي هذا أيضًا دليل على الترجمة،إذ كلما كانت الصيغة الإسبانية قديمة كانت الترجمة فيها أكثر أمانة وأشد قربًا من الصيغة الأندلسية.
ومن الأدلة القاطعة بأن مثل هذا المثل لا يمكن أن يكون إلا بترجمة للصيغة الأندلسية احتفاظ بعضها بكلمة عربية أو أكثر في أول المثل أو في وسطه أو في آخره فمن ذلك المثل الإسباني : El polvo de la oveja,
alcohol es para el lobo
فهو ترجمة دقيقة للصيغة الأندلسية:
-غُبار الغَنَم،كُحُولْ هو لِعَيْن السَّبع(2).
وآية ذلك احتفاظ الصيغة الإسبانية بالكلمة العربية: الكحول التي هي نطق أندلسي لكلمة الكحل الفصيحة، وقد ترجموا السبع باللب وهما بمعنى واحد عند الأندلسيين، وكانوا يستعملون الكلمتين معًا لسبع الأندلس أوذئبها، وآية ذلك ثانيًا هذا التماثل في تركيب المثل في الصيغتين وتوالي الكلمات فيهما بترتيب واحد، ونلاحظ هنا أثر عجمية الأندلس في تراكيب اللهجة الأندلسية، وقد أشرنا إلى ذلك في أطروحتنا، ونحن نجزم بالترجمة في هذا وشبهه لأن له أيضًا أصلاً عربيًّا قديمًا، وقد رواه الثعالبي في التمثيل والمحاضرة كما يلي: "غبار الغنم كحل عين الذئب".
ومن هذه الأمثال الإسبانية التي نجد فيها بقايا من الصيغة الأندلسية قولهم:
El ajuar de la harnera, dos jarros y una hortera. Refr. Esp. Aguilar (H.Nunez) .Pag.229
وترجمته الحرفية: شوار الخبازة جرتان وصحفة:(/10)
"وهو ترجمة للمثل الأندلسي الذي رواه ابن عاصم هكذا:
- شوار دجيجة شقف وخرابة(1).
واحتفاظ المثل بكلمة الشوار El ajuar دليل على أصله الأندلسي
وكلمة شوار بمعنى جهاز العروس استعمال أندلسي معروف، وقد نجد هذا الاستعمال في أشعارهم الفصيحة كقول الرمادي(كتاب التشبيهات:43):
كانَّ السحاب الجود أعرس بالثرى
فلاح شوار الأرض في كل موضع
أما الفرق البسيط الذي نجده هنا وفي حالات أخرى فقد يكون مرده إلى تعدد الصيغ في المثل الواحد أو إلى تعديل الصيغة عند الترجمة بحيث يتوافر فيها الجرس أو السجع، فمن النوع الأول قولهم:
Cedacuelo nuevo, tres dias en estaca. Sentellana, pag.221
وصيغته الأندلسية كما رواها ابن عاصم: الغُرَيبل الجديد أربعين يوم(2). والمثلان يتفقان في تصغير الغربال، والتصغير سمة مشتركة بين
اللهجة الأندلسية واللغة الإسبانية، ويختلفان في عدد الأيام لأن المثل – فيما نقدر – كان يروى بأكثر من
صيغة، وقد تكون الصيغة الإسبانية صورة طبق الأصل لإحدى تلك الصيغ ودليلنا على هذا أن أصل المثل الأندلسي عامي مشرقي قديم، وقد رواه الآبي في نثر الدرر هكذا: المنخل جديد سبعة أيام(1)، وهو يروى في الأمثال المصرية هكذا: الغربال الجديد له علاقة(2).
ومن النوع الثاني أي اختلاف الصيغة لتعديل يقصد به السجع ويشبهه قولهم:
Nota, que el jarro no es bota
وترجمته الحرفية: لاحظ أن الجرة ليست زقا. فهو مأخوذ من المثل الأندلسي: لس يغلط فالزق بقلة(3)، ومثل هذا كثير. ونرجع الآن إلى الأمثال التي قلنا إنها تحتفظ ببعض الكلمات من الأصول المنقولة عنهافنذكر منها أيضًا قولهم:
De que non pueden al asno, ternanse al albarda وترجمته: لما لم يقدروا على
الحمار عدلوا للبردعة.
فاحتفاظه بكلمة البردعة دليل كاف على أنه مترجم ومنقول، وقد ورد في الأمثال الأندلسية بصيغ متعددة هي:
خل البغل واتكا على البردع.
يخلي البغل ويتكي على البردع.(/11)
آش قدر للحمار رجع للبردع: والأوليان رواهما الزجالي،
أما الأخيرة فرواها ابن عاصم(4)، وهي أقربها إلى الصيغة الإسبانية، ونحن نحكم هنا بأن المثل الأندلسي هو الأصل لا لأن كلمة منه بقيت في المثل فحسب، ولكن لأنه أيضًا مثل قديم ذكره الطالقاني في الأمثال البغدادية وذكره غيره. ومن الأمثال الإسبانية التي نستطيع أن نجزم بأنها عربية الأصل تلك الأمثال
التي تشتمل على أسماء عربية كعائشة وعلي وغيرهما(*).
ونريد بعد هذا أن نتساءل كيف ومتى ترجمت هذه الأمثال أو انتقلت إلى الإسبانية؟ نحسب أن الإجابة على هذا السؤال تتطلب دراسة دقيقة؛ولكننا نفترض أن تكون هذه الترجمة وقعت خلال العهود الإسلامية في الأندلس ونقدر أنها أثر من آثار الازدواجية اللغوية في الأندلس الإسلامية، حيث كان الأندلسيون عربًا وعجمًا، مسلمين ونصارى، يحسنون الكلام بالعربية والعجمية، وربما كان المثل الواحد يومئذٍ يقال بالعربية تارة وبالعجمية تارة أخرى، وقد يكون قسم من هذه الأمثال مما انتقل بواسطة المدجنين والمورسكيين حين أجبروا على الكلام بالإسبانية.
ونورد بعد هذا قائمة بأمثال يظهر
فيها التطابق بين الأمثال العربية والأمثال الإسبانية والأمثال الأولى
مقتبسة من مجموع الزجالي الذي حققته، أما الثانية فهي مأخوذة من معجم الأمثال الإسبانية الذي وضعه L.MARTINEZ KLEISER
1- إذا ريْت لحية جارَك اجعلْ متاعك فَالْبلل.
Cuando la barba de tu vecino vieres quemar,pon la tuya a remojar.
2- إذا ازْوجَ شيخ لصبية، يفرح صبيان القرِيَّة.
Viejo que con moza se casa, de cornudo no escapa.
3- إذا ريت حَيْش يَلْمَع، ادْرِ أنُّ لآخَر بَلَعْ.
Si la serpiente a otras no comiera, dragon no se hiciera.
4- إذا ريت حمارك يمشي لا تزيدُ منخسْ.
Caballo que vuela, no quiere espuela.
5- إذا شاخ الباز لعبت به العصافير.
Del lobo viejo se burla el perro.(/12)
6- إذا تاب الزَّفَّان تبقى مناكبُ تخجَلْ.
Quien esta hecho a danzar, no lo sabe dejar.
7- إذا جيت تقلي سوف تدري.
Alfreir de los huevos lo vera.
8- إذا أراد الله يعطيك دارَك يُدلُّ.
A Quien Dios quiere dar bien, a casa se le vién.
9- إذا وقعت البقرة غزرت السكاكين.
Cuando cae la vaca, aguzan los cuchillos.
10- إذا أبطار سولك ارْجوه.
Pues tarda el mensajero, buenas noticias tenemos.
11- إذا ريت اليهودي يذم السلعة ادرِ أنه يشتريه.
Quien afecta despreciar, es porque quiere comprar.
أو
Quien dice mal de la yegua, ese la merca.
12- إذا أقلك حمار استخير الله وانهق.
Si uno te llamare asno, mirate al rabo; si dos remédiete Dios.
أو
Cuando todos te dijeren que eres asno, rebuzna
13- إذا ريت الضباب ابشر بالطياب.
Manana de niebla, tarde de paseo.
14- أقِل للكلب قال الكلب لذَنابُ.
Mandan al gato, e el gato manda al su rabo.
15- أنا نِعَلْمُ العوم وهو يَغطسْنى.
Yo te ensenné a mear, y tu me quieres ahogar.
16- المولى يعطي والعبد يشد اسط.
Duenos dan y siervos lloran.
17- اش تنفع العُبْسَ والضياف قد حلُّوا.
Huesped que ha de ser por fuerza, mas vale con buena cara.
18- إن كان مضت الخواتم بقت الأصابع.
Si se perdieron los anillos, aqui quedaron los dedollos.
19- السلف، إمّا عداوة وإمّا تلف.
Al amigo presté, y sin dinero y sin amigo me quedé.
20- الثنا خير من الغنى.
Mas vale adarme de fama que libra de oro.
21- الحق عليه نور.
La verdad ama la claridad.
22- العُشى الطيب من بكري تظهر.
La buena cena, temprano paresce.
23- الغدوَ لك والعشي لغيرك.
Ayer para mi, hoy para ti.
24- الأنْقَر في بلاد العُمي يسمى أبو العيون.
En tierra de ciegos, el tuerto es el rey.(/13)
25- الكيّس والبطي في سَنْتَبّطْرُ يلتقي.
Camino de Sanctiago, tanto anda el coxo como el sano.
26- آخر باكورا بأول تين.
De higos Abrevas
27- القطاع تطلع الْما للصُّمْعَ.
A dinero en mano, el monte se hace llano.
28- اللب أي ياوي ما يادي.
El lobo de amano, donde mora no hace dano.
29- الذي خرق الأشداق، ياتي بالأرزاق.
Quien dio que nacer, dara que comer.
30- الجوع مالو عينين.
Estomago con hambre, no escucha a nadie.
31- افتح كرنب سقتلك.
A poca carne, mucha berza.
32- اربط اصبعك صحيح، صحيح تجد.
Quien sano ata su dedo, sano lo desata.
33- اشورني ولا تعمل برايي.
Toma mi cosejo, y haz lo que quisieres
34- أفقر من فار المسجد.
Mas pobre que una rata
35- بين أخذ الديك وإطلاق ينتتف ذنب.
Daca el gallo é toma el gallo, fincan las plumas en la mano.
36- برطال في الفم، خير من وزّ
فالكم.
Mas val paxaro en mano, que buytr volando.
37- جمل بدرهم واين الدرهم.
Ablanca vale la vaca: Quién tuviera la blanca!.
38- جارك جاران مشوم، يرى في عيني التبن ولا يرى في عينُ التمون.
Veo una pajuela en el ojo del vecino, y no una tranca en el mio.
39- جوعًا تهدّدُ بالشبع لس جوع.
No es hambre verdadera la que pronot hartura espera.
40- جارك القريب أخير من أخوك البعيد.
No hay tal hermano como el vecino mas cercano.
41- حزْن الجماعة فرَح.
Mal de muchos, gozo es.
42- حُمْره فالوجه أخير من غُصّه فالقلب.
Mas vale verguenza en cara que mancilla.
43- حرك المحسَّه في دار الخيل يقلق صاحب الدَّبْره.
Anda el almohaza y toca en la matadura.
44- حانوت بوجهين.
Casa con dos puertas.
45- خسارة لا يدري بها جارك
فضل هي كلها.
Mal que non te save tu vecino, ganancia t'es.
46- إشْ قدر للحمار رجع للبَرْدَع.(/14)
Quien no puede dar en el asno, da en la albarda.
47- خلِّ جدّي وجدك وانظر جلدي وجلدك.
Vive de la fama de tus hechos, y no de la memoria de tus abuelos.
48- ذا اليد يغسل ذا اليد.
La una mano lava la otra e las dos al rostro.
49- كلامًا مليحْ، ودّعُ يكون ريح.
Palabras sin pensamientos, puro viento.
50- كل شيء في وقتُ حتى البلوط فينّير.
Cada cosa en su tiempo, y nabos en adviento
51- كل ديك على مزْبلة صيّاح.
Cada gollo canta en su muladar.
52- كل بَرْطل على سنْبُلْهُ.
Cada gorrion, con su espigon.
53- كلب الوَرْد لا يشم ولا يخلي أحد يشم.
El perro del ortelano, nin come las vercas nin las dexa comer.
54- لِسْ يقول الحق، إلاّ صبي أو أحمق.
Ninos y gente loca, la verdad en la boca.
55- مِنْ هنا يتعوّج الفقوس.
Con estos derechos salen los cogombros tuertos.
56- لِسْ يسمع الله من ساكت.
Quien non fabla, non loye Dios.
57- لس يُغْلَط فالزّق بقله.
Nota, que el jarro no es bota.
58- لِس القِرْد شِي ولو لبس وشي.
La mona, aunque la vistan de seda, mona se queda.
59- لو كان الحمق وجَع، في كل دار كان يسمع.
Si la locura fuese dolores, en cada casa darian voces.
60- مَنْ كثرت صَناعُ، قلت قطاع.
Muchos oficios, pcos beneficios.
61- مَنْ شكا ضرسا قلعو.
Aquien duele la muela, que se la saque.
62- مَنْ جيه أجْلُ، يمد رجل.
A la muerte no hay remedio, sino tender la pierna.
63- مَنْ أكرا است ما يجلس عليه.
Quien su rabo alquila, non se sienta cuando quiere.
64- مَنْ غاب عن العين غاب عن القلب.
Lo que de los ojos no esta cerca, del corazon se aleja.
65- مَنْ بزق للسما لوجْهُ يَرْجعْ.
Escupe al cielo, y te caera sobre el pelo.
أو
Quien al cielo escupe, a su cara le cae.(/15)
66- مَنْ هُو مسعود الريح يحطب لو.
Aquien Dios quiere bien, el viento le junta la lena.
67- من هو في سعودُ النميلة تقودُ.
Quien esta en ventura, hasta la hormiga le ayuda.
68- من لا يرى من ورا الغربال أعمى هو.
Ya es harto ciego quien no ve por tela de harnero.
69- ما مع القِلة مروّة.
No hay virtud que no eche a perder la pobreza.
70- ما معك في دار المَلاّح راحَه.
No hay quien se pueda guardar del ladron del hogar.
71- ما انبنت الزهرا من يوم واحد.
La iglesia de Santa Maria no se hizo toda en un dia.
72- ما تقع الَّلماع، إلا فالثياب الرَّفاع.
En la tela mas delicada, cae la mancha.
أو
En la mas fina grana cae una mancha.
73- ما يضْرَا الريح إلا على رايس سو.
A nave rota, todo viento es en contra.
74- مَن تحب النشاطر تصبر على حرارة الجير.
Quien quiere cal, concerla ha.
75- من بغض الكرنب في شارب ينبت.
Aborreci el perejily naciome en la frente.
76- من أكل بالسف من متاع ياكل.
Quien come de emprestado, come de su sace.
77- من أي كفزت المعزة تكفز المعيزه.
Salto la cabra en la vina, tambien saltara la nina.
78- من لدغت الحية من الحبل ينفر.
El que de la culebra esta mordido, de la sombra se espanta.
79- من واظب الرحى يطحن.
Quien esta en el molino muele, que el otro va y viene.
80- من جلس بلا شغل يطلب في راس قولُ عظم.
Cuando el diablo no tiene que hacer, en algo se ha de entretener.
أو
Cuando el diablo no tiene que hacer, con el robo mata moscas.
81- من يهترق دقيقُ ما يجمع كُلُّ.
Agua vertida, non toda cogida.
82- من أرادُ بجل، فات كل.
Quien mucho quere, pierde todo.
83- من لا يفزَع لا يفزَّع.
A quien no teme, nada le espanta.
84- لا تؤخر عمل اليوم لغد.(/16)
Nunca dejes para manana lo que puedas hacer hoy.
85- من خرج من ضيق وسّع الله عليه.
Pasa la mala hor que Dios mejora.
86- مطر فَبْريل، خير من فيض النيل.
En abril, cada gota vale por mil.
87- من حلف على الله حنثه الله.
Quien a menudo jura, alguna vez se perjura.
88- ما يدري ما في الموق إلا من ضرب به.
Solo aquel puede decirlo que sabe sentirlo.
89- صاحب صنعتك عدوك، ولو كان أخوك.
Quien es tu enemigo? Hombre de tu oficio.
90- إذا ظهر الباكور ما يبقى أحد يعرف أخور.
Al tiempo de higo, no hay amigo.
91- صحيح الحَوْصَله مكسور الجناح.
El mal del milano, las alas.
92- ضَرْبَه بقدره إن لم تجرح تسوّد.
El golpe de la sartén, siempre tizna y no hace bien.
93- عُمْ واحرز ثيابك.
No es habilidad pca saber nadar y guardar la ropa.
94- عطي للبربري شبر طلب ذراع.
Al judio datle un palmo, étomara quatro.
95- عينًا لا ترى قلبًا لا يوجع.
Ojos que non ven, coracon que non quiebra.
96- عشقًا احماري شم واطلع.
El requiebro del villano, buen pillizco y revolver con el palo.
97- عبوسه لا مطلقة ولا محبوسة.
Haja la enlodada, ni viuda ni casada.
98- عندك شي تسوى شي.
Si nada tienes, nada eres.
99- عيشه أس معها ما تلْعق، على الجيرين تتصدق.
Haja no tiene que comer convida huespedes.
100- غُبار الغنم كُحولْ هُو لعين السبع.
El polvo de la oveja, alcohol es para
el lobo.
101- في راس الجمَل ما لِسْ في راس الجمّال.
Una cosa piensa el jumento y otra el harriero.
أو
Uno piensa el vayo é otro el que lo ensilla.
102- قسمة حَنَنّش: النصلي والنص بيني وبينك.
Partir como hermanos, lo mio, mio, lo tuyo de entrambos.
أو
Partamos como buenos hermanos: la mejor parte para mi, y lo demas para ambos.(/17)
103- قردًا شارف لس يُعَلّم الرقص.
Loro viejo no aprende a hablar.
104- شتمت مولايَ تحت كسايَ.
A so capa, riome yo del rey e del papa.
105- هو فالمَذاكِر، وهم يسمّوه عساكِر.
Fijo non avemos, énombre le ponemos.
أو
El hijo por nacer, y la pamilla ya a herver.
106- هو لم يحصل فالقرعَه وهو قد صار خل.
Aun non esta en la calabaca, é tornase vinagre.
107- لا تذم نهارك، حتى تسد باب دارك.
No alabes ninguna jornada hasta que la noche sea llegada.
108- يطلب التين فالضرو.
Pedir peras al olmo.
109- ينوّر ولا يعقد.
Badajo de campana, si florece no grana.
110- يرمي الحجر ويجي بَرّا.
Echa la piedra e absconde la mano.
111- يمني ولا يوقي.
Promesa larga, vispera de nada.
112- ياخذ النار بيد غَيْرُ.
Con la mano ajena sacar la bras; o la castana.
أو
Con A gena mano saca la culebra del forado.
113- يدًا لا تقدر تقطعها قبّلها.
Manos beso cada dia que ver cortadas querria.
أو
Mano besa hombre que la guerria ver cortada.
114- يتعلموا الحِجامه فروس اليتامى.
En las barbas del hombre astroso, se ensena el barbero.
115- ينبت فالجنان، ما لا يزرع
الجنّان.
Nace en la huerta lo que el hortelano no siembra.
116-حَلزومْ لِسْ معها أيْ تدور، تربط في ذنبها ثور.
No cabia el mur en el horado, y atose
una maza al rabo.
117- على قيس كيسك، تمد رجليك.
Achica cama, échate en medio.
محمد محمد بنشريفة
عضو المجمع من المغرب(/18)
رابعًا - كلمة الختام في تأبين الفقيد
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
الشكر الخالص للأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد عضو المجمع على كلمته الوافية في تأبين فقيد المجمع الأستاذ الدكتور محمد رشاد الطوبي ، وعزاؤنا للأسرة
الكريمة، داعين الله لفقيدنا أن يتغمده الله بواسع رحمته وفسيح جناته، وأشكر حضراتكم جميعًا على تفضلكم بمواساتنا في مصابنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.(234/1)
ثالثًا - كلمة الختام في تأبين الفقيد
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
المجمع يشكر الدكتور محمد عماد فضلى على كلمته ويشكر حضراتكم. نحسب – إن شاء الله - أن الدكتور حسن على إبراهيم من أهل الفردوس فقد كفل الحياة للكثير من الناس، وجعل صحتهم سليمة صحيحة بحيث يستطيعون العودة إلى الحياة ، وقد كان الفقيد طبيبًا صالحًا
عابدًا ذاكرًا لله ، وثالث شيء عجبت له أنه فقد ابنه الطبيب الفذ عليًّا وكان ينتظر أن يكون له مستقبل باهر والدليل على ذلك أنه وصل إلى الأستاذية في وقت مبكر، ورضي بقضاء الله واستسلم له في صبر. رحمه الله رحمة واسعة وأشكركم جميعًا .(235/1)
أولاً – كلمة الافتتاح
للأستاذ الدكتور كمال بشر الأمين العام للمجمع
أيها السادة :
هذا يوم حزين مملوء بالشجى والشجن، لقد افتقدنا عالمًا جليلاً كبيرًا من أعضاء مجمعنا الموقر هو الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي، وإبراهيم السامرائي علمٌ من الأعلام الكبار بل هو من قادة الأعلام وأشهد
أنني شخصيًّا تعلمت منه بقراءة أعماله وآثاره الخالدة، وأخذت عنه المنهجة والاتجاه والفكرة والتعمق، رحمه الله، رحمة واسعة.
والآن نبدأ بكلمة الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع فليتفضل:(236/1)
أولاً - افتتاح الجلسة للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
سيداتى سادتى :
يحتفل مجمع اللغة العربية اليوم بذكرى علم كبير من أعلام الجامعات المصرية، وكليات العلوم هو الأستاذ الدكتور محمد رشاد الطوبي، وقد بدأ حياته بالتعلم في الكُتاب وأتاح له ذلك حفظ القرآن الكريم، وقوم لسانه بالعربية مبكرًا، ثم حصل على الثانوية سنة 1928م ثم دخل كلية العلوم، وكان بارزًا وعالمًا بين زملائه، ثم حصل على بكالوريوس العلوم بمرتبة الشرف الأولى ثم عين معيدًا بالجامعة وبعدها حصل على الماجستير، وبعد ذلك أرسل في بعثة إلى إنجلترا وحصل هناك على درجة الدكتوراه سنة 1940م، ثم عاد إلى كليته وتدرج في وظائف التدريس حتى أصبح وكيلاً
للكلية سنة 1953، ولكفاءته العلمية الممتازة اختارته بلاد عربية كثيرة ليعمل في كلياتها وليستفيد الطلاب من علمه الغزير،منها:السعودية، والعراق وليبيا، وكان محبوبًا من زملائه وطلابه.وألف وراجع الكثير من الكتب العلمية لمؤسستين:مؤسسة الألف كتاب،ومؤسسة فرانكلين.وله جهود علمية كثيرة مشكورة بالإضافة إلى ما نهض به من التدريس في كلية العلوم وغيرها.وكان صديقًا ومحبًّا لزملائه.
أما بالنسبة لعمله المجمعي فقد اشترك في معجم الزراعة، ومعجم الأحياء بالمجمع، وله أثر فيهما واضح.
ولا نملك إلا أن ندعو الله أن يرحمه وأن يسكنه جنته، وأن يلهم آله الصبر والسلوان.
شوقي ضيف
رئيس المجمع(237/1)
أولاً - افتتاح الجلسة للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
سيداتي سادتي:
نجتمع اليوم لتأبين الراحل الكريم الأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم، فهو علم فذ من أعلام الطب في الجامعات المصرية، وله مشاركة في الطب العالمي ببحوث علمية قيمة، قد سجلها في مجلة المجمع. وقد تخرج الفقيد في كلية الطب في الأربعينيات ثم عين بها معيدًا ثم تدرج بالكلية ونال درجة الماجستير في الجراحة سنة 1941م، ونال الكثير من التقدير في كليات الطب في الغرب والعالم العربي، وأشرف على إنشاء كلية الطب بأسيوط، والمنصورة واشترك في حرب فلسطين سنة 1948م ونال وسام الجدارة، وهو عضو في جميع الجمعيات الطبية في مصر، وترجم الكثير من العلوم الطبية. وفاز بعضوية مجمع اللغة العربية سنة 1978م، ومن يومها نشط في عمل معجم الطب وأخرج حتى الآن أربعة أجزاء منه، وهو أول من قام بعملية جراحة القلب في مصر. وله جراحات كثيرة في قرح المعدة، وله أكثر من عشرين ألف عملية جراحية قام بها بقصر العيني، وله تاريخ طبي مجيد. وكنا نحظى بزمالته في هذا المجمع كما كنا نحظى بدماثة طبعه وكرم خلقه، بالإضافة إلى أنه كان شاعرا ممتازاً، بارعاً، وله ديوان باسم "محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" وفى بواكير حياته زار مستشفيات الغرب في باريس وفيينا، وألمانيا وهو علم تفخر به مصر في عالم الطب كما نفخر به نحن أعضاء المجمع فللمرحوم آثار مجيدة في علم الطب، وسوف يطبع مجمعنا جميع بحوثه في كتيب تخليدًا لذكراه. رحم الله فقيدنا وأسكنه جنته وألهم آله الصبر والسلوان .(238/1)
خامسًا - كلمة الأسرة
لأرملة الفقيد الراحل
يحز في قلبي أن أقف هذا الموقف و"إنا لله وإنا إليه راجعون" حين يترجّلُ الفارس عن فرسه ، تظل الفرس وحدها هناك في انتظاره غير أن فارسنا ترجل وفرسه بعد منطلقة.
لكنما الفرس كانت للفارس كل شيء كانت رفيقته الوحيدة، وجناحيه اللذين حلق بهما بعيدًا كانت هواه الذي استطاع أن يطفو فوق أديم الزمن متحررًا من قيود الفتور والملل، محملا دومًا بالسر والغموض والإثارة.
كانت العربية وحدها للفارس كل شيء؛ وقد حملته إلى عوالم ممتدة غريبة لا نهاية لها، فولجها مندهشًا وعاد منها مأخوذًا مأسورًا، وقد ملكت عليه جماح روحه.
وكان للعربية فارسها وحاميها، وقد تمكن برغم دهشته أن يدهشها كل مرة، وقد حمل من عوالمها أثمن ما تخفي، تلك الدرر التي لا تنالها إلا يد فنان ماهرة.
لكنما الاثنان – العاشق واللغة – كان يحملهما العطش دومًا، ويعيدهما دومًا في رحلة طويلة ممتعة.
وإذ ترجل الفارس؛ فإن الفرس بعد منطلقة فاللغة التي يعشق فقدته فارسًا، قائدًا، حبيبًا، لكنها لم تفقد بعد من يحملها وتحمله نحو عوالمها المدهشة التي لا تنفك تأتي بالجديد الجديد، وتجود بأكثر مما يجود به حاتم الطائي.
أيها الأحبة، إن الكلمات لتبخل أحيانًا، لتشح فجأة؛ إذ ننشد تبليغ ما يعتمل في نفوسنا من مشاعر دفاقة، إذ كيف لنا أن نوفي مجمع اللغة العربية في القاهرة حقه من العرفان والشكر وقد شمخ محتضنًا واحدًا من أبرز فرسانه، مقدرًا غيرته على العربية... فكرمه أحسن ما يكون التكريم. ووفاه حقه، وأحله منزلته من الثناء والتقدير.
أيها الأعزاء لا تسعف الكلمات كثيرًا في مثل هذا الموقف بل إنها
لتتراجع رويدًا رويدًا أمام الصمت الذي يمتد صادقًا ، عنيفًا، مربكًا ، معلنًا حقيقة لا فكاك منها؛ بأن أصدق ما يقال : لا تقوله الكلمات.
أرملة الفقيد الراحل(239/1)
ثالثًا - كلمة الأسرة
لكريمة الفقيد
السيد الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع:
السادة الأفاضل أعضاء المجمع:
السيدات والسادة الحضور:
أقف اليوم هنا لألقي كلمة الأسرة في جمعكم الكريم لتأبين عالم جليل ومواطن صالح وأب حنون.
وأتذكر منذ سنوات عندما حصل والدي الدكتور الطوبي على عضوية مجمع اللغة العربية كان فخورًا بها… وكنت والأسرة فخورين به.
في هذه القاعة وفي عام 1989م عندما انتخب عضوًا عاملاً بالمجمع وقف والدي – رحمه الله – يلقي كلمته أمام أعضاء المجمع… وكنت بين الحضور أنظر إليه، وأفخر وأعتز به والآن كم هو اليوم أليم على النفس أن أقف أنا في نفس المكان لأتحدث عن العالم الجليل الذي رحل عنا، ولكنه مازال في قلوبنا وفي وجداننا ما حيينا، رحل والدي ولكنه ترك تراثًا علميًّا هامًّا وأنشأ أول مدرسة علمية للتشريح المقارن في مصر،كما أثرى المكتبة العلمية بالعديد من المؤلفات عن عالم الحيوان سواء بأبحاثه العلمية أم كتبه أم ترجماته.
وأنا لن أتحدث عن إسهاماته في مجال العلوم فحضراتكم أقدرُ مني على هذا،وقد تولى الأستاذ الفاضل الدكتور عبد الحافظ حلمي هذه المهمة.
أما أنا فسوف أتحدث عن الوالد… الذي جسد لي ولأسرته كل المعاني السامية والأخلاقيات الراقية والسلوكيات المتحضرة.
ولد والدي في مدينة طنطا عام 1909م وبدأ مرحلة الدراسة في كُتاب الشيخ علي في طنطا واستمر به حتى بلغ الثامنة من عمره وانتقلت الأسرة به إلى القاهرة حيث التحق بالمدرسة الابتدائية القريبة وبدأت رحلته مع التعليم والتعلم.(240/1)
ورغم التحاقه بكلية العلوم ودراسته العلمية البحتة إلا أنه كان محبًّا للغة العربية لغة القرآن الكريم… وكان مهتمًّا بها وبقراءة الشعر والأدب والاطلاع على كتابات الأقدمين والمحدثين من أدباء العرب كما اهتم بالبحث والاطلاع بالمشاركة في أعمال المجمع تمجيدًا لتلك اللغة ورغبة في الارتقاء بها إلى أعلى درجات السمو والنقاء. كان رحمه الله في سنواته الأخيرة، رغم ضعف ذاكرته، كان يتذكر الآيات القرآنية التي حفظها منذ كان صبيًّا صغيرًا في المدرسة وأيضًا كان يفاجئني بأبيات من الشعر يحفظها عن ظهر قلب. ماذا أقول عن والدي الذي علمنا احترام قيمتي العلم والعمل،الذي علمنا الأخلاق الكريمة والرحمة، الذي علمنا الالتزام والمحبة واحترام الكبير والعطف على الصغير، كان مثالاً لكرم الأخلاق ومثالاً للحفاظ على المبادئ والقيم ومثالاً للإنسان الذي يحترم نفسه ويحترم الآخرين. ورغم مكانته العلمية الكبيرة إلا أنه كان مثالاً للتواضع،لقد أعطى حياته للبحث العلمي حتى أقعدهُ الضعفُ والكبر.
لم يكن يسعى لمنصب وإنما كرس حياته للعلم وحده وفي الوقت نفسه لم يبخل على أي منا - نحن – أفراد أسرته الصغيرة – بنصائحه القيمة وخبرته العلمية والعملية، كان دائمًا موجودًا عندما نحتاج إليه يحيطنا جميعًا بحبه ورعايته. وإذا كان والدي قد أدى رسالته قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى – سبحانه وتعالى – فهذه سنة الله في الحياة ورغم خسارتنا فيه فإن ما يثبت قلوبنا وإيماننا ما جاء بالحديث الشريف: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولدٍ صالح يدعو له).
أيها السيدات والسادة أشكركم على هذه الثقة الكريمة وأتمنى لكم جميعًا موفور الصحة والعافية.
نجوى الطوبي
كريمة الفقيد(240/2)
لا ترادف بين لفظي الإرهاب والعدوان
للأستاذ علي رجب المدني
نستطيع أن نوقن بحقيقة أن كل دعوة إلى الله تخرج عن دائرة: "الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن" إنما هي دعوة تقوم على العدوان، ولا جناح علينا أن نصمها بالعدوان، وذلك فيما عدا حالات "دفع العدوان..." "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" الآية 194 من سورة البقرة "وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلُها" سورة الشورى الآية40.
فاستخدام وصف الإرهاب وإطلاقه على أعمال وتحركات تتسم بالعدوان، لا يعدو أن يكون أسلوبًا في التعبير يستهدف التلطيف والتخفيف، إذ إن الإرهاب في مضمونه الحقيقي لا يمكن أن يتحول إلى عدوان مؤذٍ ومؤلم، وهو ما لا يبدو معنيًّا فيما يستخدم في المساحات المختلفة مؤخرًا من نعوت الإرهاب.
ومن هنا يمكن القول أن ما تواتر من وصف للأعمال والأقوال العدوانية بلفظ الإرهاب لا يعدو أن يكون خاليًا من الإيذاء والإيلام.
إن النصوص القرآنية صريحة في تزكية هذا التخريج، فعندما نقرأ قول الله تعالى في سورة الأنفال الآية61 : "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" فإننا ندرك فورًا أن المقصود من الإرهاب هنا لا يعدو تخويف البغاة المعتدين من أن يمارسوا علينا بغيهم أو اعتداءهم، وهذا حق لنا بقدر ما هو واجب علينا، وقوله جل شأنه في سورة البقرة الآية 40:"وإياي فارهبون" وفي سورة النحل الآية 51: " فإياي فارهبون" فهو في هاتين الآيتين إنما يطالبنا بحق ناشئ عن عبوديتنا له تعالى شأنه. وهو غاية المشروعية. وفي سورة الأعراف الآية 116:"فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم" ولم يقل تعالى عدله "وأرهبوهم" تفريقًا بين مضموني الإرهاب والاسترهاب الذي لا يعدو معنى الطلب" إذ إن طلب الخوف لا يرقى إلى مرتبة الإخافة.(241/1)
وقوله تعالى لموسى أثناء المناجاة: "واضمم إليك جناحك من الرهب" الآية 32 من سورة القصص، والمقصود هنا "والله أعلم" أن يضم يده إلى قلبه تخفيفًا من وطأة الفزع والخوف" وهو ما لا يعني بحال أنه هدف لذلك الخوف وإنما زود بتينك المعجزتين لاستخدامهما الاستخدام المشروع في مواجهة فرعون وقومه. وهو الاستخدام الذي يستهدف الإعجاز والإقناع لا التخويف، الأمر الذي حدث فعلاً فيما بدا من رد فعل السحرة.
وقوله تعالى في سورة الأنبياء الآية 90: "إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين" وهم زكريا عليه السلام وزوجه وابنه يحيى عليه السلام.
فلو كانت الرهبة مما يصدر عن عدوان لما جاز مطلقًا أن يلتصق مضمونها (بأي وجه) بالذات العلية كمصدر لها أو كأسلوب في العبادة.
وقوله تعالى في سورة الحشر الآية 13: " لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون" وهو ما ينسحب عليه تحليلنا للآية السابقة، وغير خافٍ ما يتضمنه في كلتيهما من معنى التوقير والاحترام اللذين لا ينعت بهما العدوان وقوله تعالى في سورة المائدة الآية 82: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون" في معرض الثناء على وفد نصارى الحبشة الذين أوفدوا من طرف النجاشي إلى رسول الله مبايعين إياه بالإيمان والشهادة وهو ما ينسحب عليه أيضًا تحليلنا في الآيتين السابقتين.
وقوله تعالى في سورة التوبة الآية 34: "يا أيها الذين آمنوا إن كثيرًا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله.. إلخ الآية" وهو ما يصمهم بنقيض مضمون الرهبة من الله الذي تقتضيه هذه الصفة التي يفترض أن تكون من صفات الكمال. (فخوف الله كمال).(241/2)
وقوله تعالى في سورة التوبة الآية 31: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم ..إلى آخر الآية" وهو ما ينطبق عليه تحليلنا لمضمون الآية 34 مع تلازم الرهبة والوقار في كل ذلك تلازمًا يتجافى مع مفهوم العدوان الذي لم يقل أحد بتلازمه مع معنى الوقار والجلال والاحترام والتقدير.
وأخيرًا قوله تعالى في سورة الحديد الآية 27: "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها، فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون" صدق الله العظيم، وهنا يعني قوله تعالى أن للرهبة مقاييس تجعل منها عملاً من أعمال البر فإذا تعدته انقلبت إلى النقيض، وهو ما يمثل تسجيلاً دقيقًا لمراحل تاريخية تقلبت فيها الرهبانية بين مفهوم الرهبة من الخالق والرهبة من المخلوق.
إذن فمفهوم الرهبة إذا تعدى المشروع من مضامينها فإنه لا يصح أن يكتفى بتسميته إرهابًا لأن في ذلك تحميلاً للتعبير ما لا يحتمل وإنما يتدرج مباشرة تحت مضامين (العدوان) الذي يتحقق باستعمال صيغته مباشرة تسمية للأشياء بأسمائها ويتم استبعاد تعبير الإرهاب.
إن إطلاق كلمة (إرهاب) على العمل العدواني لا يعدو أن يكون تلطيفًا وتخفيفًا له وتجريدًا له من مفهومه الحسي والإيجابي، لأن الإرهاب لا يعدو في مضمونه التخويف.
وهنا يجدر بنا أن نقول دون مواربة: إن أعمال المستضعفين التي تنحصر في إعداد القوة بجميع مسمياتها من تسلح بآلة الدفاع وبالعلم وبقيم الحضارة والسمو الجماعي والأخلاقي والإنساني بوجه عام إنما تمثل إرهابًا مشروعًا وواجبًا من عند الله لا يجوز المساس بمضمونه أو التحول به إلى معنى العدوان. أما ما تجاوز ذلك فليس لنا أن نسميه إلا عدوانًا ولا شأن للإرهاب به.(241/3)
وعلى ذلك فإنني لا أطلب من ولاة الأمور وغيرهم أن يتوقفوا عن ردع العدوان ولكني أهيب بهم أن يعدلوا عن تسميته إرهابًا إلى استخدام اسمه الحقيقي إذا توافرت الأدلة على طبيعته العدوانية.
كما أهيب بقادة الفكر ورجال الإعلام أن يمعنوا النظر فيما قدمت
من تحليل وأن يولوه تجاوبهم واقتناعهم تصحيحًا لما تفرض اللغة تصحيحه وتسمية للأشياء بأسمائها دون مساس بما اصطلح عليه.
وينبغي ألا يغيب عن إدراكنا أن تعبير الإرهاب الذي يشيع استعماله إنما يستخدم ترجمة لتعبير الزلزال terroismo الذي وضعه العرب، وهو استخدام في الترجمة لا يعدو أن يكون افتراء على العربية وإهانة لها، وإن خلق الحياء ليفرض الإقلاع عن مثل هذا الافتراء وهذه الإهانة اللذين لا تقف انعكاساتهما عند حد، خصوصًا بعد أن نكشف أن هذا الاستخدام إنما يتيح ذريعة لأعدائنا أن يقتحموا مصادر تراثنا اللغوي ( في مقدمتها القرآن الكريم) بطلب التغيير والتبديل وإنها آنئذٍ لأم الكوارث ... والله أعلى وأعلم.
علي رجب المدني
عضو المجمع من ليبيا(241/4)
تقدير وتكريم:
من عظيم التكريم تكريم الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع في الحفل الذي أقامه ملتقى القرضابية الثقافي الليبي بالاشتراك مع مؤسسة دار المعارف المصرية، حيث حصل سيادته على درع الريادة لدوره الريادي في الثقافة العربية الأصيلة، وعطائه الثري للأدب العربي واللغة العربية،وكان ذلك في يوم 28/10/2001م في قاعة الاحتفالات بوزارة الزراعة، تحت رعاية الأستاذ الدكتور يوسف والي نائب رئيس مجلس الوزراء، ووزير الزراعة واستصلاح الأراضي.
انتخاب أمين عام جديد للمجمع:
في الجلسة السابعة من جلسات مجلس المجمع يوم الاثنين 19 من شعبان سنة 1422هـ الموافق 5 من نوفمبر سنة 2001م تم انتخاب الأستاذ الدكتور كمال بشر أمينًا عامًّا جديدًا للمجمع، خلفًا للأستاذ إبراهيم الترزي الأمين العام السابق للمجمع رحمه الله وقد صدر قرار الأستاذ الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم العالي والدولة للبحث العلمي رقم 1616 بتاريخ 15/11/2001م باعتماد انتخاب سيادته أمينًا عامًّا جديدًا للمجمع لمدة أربع سنوات قادمة إن شاء الله.
انتخاب عضو جديد بهيئة مكتب المجمع:
في الجلسة الرابعة عشرة من جلسات مجلس المجمع يوم الاثنين 16 من شوال سنة 1422هـ الموافق 31 من ديسمبر سنة 2001م، تم انتخاب الأستاذ الدكتور محمود علي مكي عضو المجمع، عضوًا جديدًا بهيئة مكتب المجمع بالأغلبية المطلقة، في المكان الذي خلا باستقالة الأستاذ الدكتور عبد الرازق عبد الفتاح إبراهيم عضو المجمع من عضوية هيئة مكتب المجمع.
خبيران جديدان بالمجمع:
وافق مجلس المجمع في الجلسة الثامنة يوم الاثنين 26 من شعبان سنة 1422هـ الموافق 12 من نوفمبر سنة 2001م على ترشيح الأستاذ الدكتور مصطفى محمود عمارة، أستاذ الكيمياء الفيزيائية بكلية العلوم – جامعة الأزهر خبيرًا جديدًا بلجنة الكيمياء والصيدلة بالمجمع.(242/1)
وافق مجلس المجمع في الجلسة الحادية والعشرين يوم الاثنين 6 من ذي الحجة سنة 1422هـ الموافق 18 من فبراير سنة 2002م على ترشيح الأستاذ الدكتور محمد فتوح أحمد، أستاذ الدراسات الأدبية بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة خبيرًا جديدًا بلجنة الأدب بالمجمع.
أعضاء راحلون:
فجع المجمع في هذه الدورة بفقد خمسة من أعضائه، استأثرت بهم رحمة الله تعالى وهم:
الأستاذ إبراهيم الترزي الأمين العام للمجمع.
وقد أقام المجمع حفلاً لتأبينه في الجلسة الرابعة من جلسات مجلس المجمع يوم الاثنين 28 من رجب سنة 1423هـ الموافق 15 من أكتوبر سنة 2001م، وألقى كلمة المجمع في الحفل الأستاذ فاروق شوشة عضو المجمع.
الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح.
وقد أقام المجمع حفلاً لتأبينه في الجلسة الثانية والعشرين من جلسات مجلس المجمع يوم الاثنين 6 من ذي الحجة سنة 1422هـ الموافق 18 من فبراير سنة 2002م، وألقى كلمة المجمع في الحفل الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع.
الأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم.
وقد أقام المجمع حفلاً لتأبينه في الجلسة التاسعة والعشرين من جلسات مجلس المجمع يوم الاثنين غرة ربيع الأول سنة 1423هـ الموافق 13 من مايو سنة 2002م. وألقى كلمة المجمع في الحفل الأستاذ الدكتور محمد عماد فضلي عضو المجمع.
الأستاذ الدكتور محمد رشاد الطوبي.
وقد أقام المجمع حفلاً لتأبينه في الجلسة الحادية والثلاثين من جلسات مجلس المجمع يوم الاثنين 8 من ربيع الأول سنة 1423هـ الموافق 20 من مايو سنة 2002م. وألقى كلمة المجمع في الحفل الأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد عضو المجمع.
الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي عضو المجمع من العراق.(242/2)
وقد أقام مؤتمر المجمع حفلا لتأبينه في الجلسة الثالثة عشرة من جلسات مؤتمر المجمع يوم الثلاثاء 19 من المحرم سنة 1423هـ الموافق 2 من أبريل سنة 2002م، وألقى كلمة المجمع في الحفل الأستاذ الدكتور يوسف عز الدين عضو المجمع من العراق، كما ألقى الأستاذ مصطفى حجازي عضو المجمع قصيدة في رثاء الفقيد الراحل.
خبير راحل:
رُزئ المجمع في هذه الدورة بفقد الأستاذ الدكتور أحمد عبد العزيز ياسين الخبير بلجنة الكيمياء والصيدلة بالمجمع.
صلات المجمع الثقافية:
رشح المجمع الأستاذ الدكتور محمود علي مكي ليمثله في مؤتمر اتحاد المترجمين ببيروت.
رشح المجمع الأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد ليمثله في الندوات التي أقامها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بعنوان: (الأرقام: التاريخ والهوية).
كما رشح سيادته لتمثيل المجمع في اجتماع المجلس العلمي لمكتب تنسيق التعريب بالرباط.
ورشح سيادته لتمثيل المجمع في عضوية المكتب الدائم لحماية حق المؤلف بالمجلس الأعلى للثقافة.
- رشح المجمع الأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر ليمثل المجمع في الندوة التي أقامها المجمع اللغوي الجزائري بعنوان(مشروع الذخيرة اللغوية).(242/3)
ثانيًا - كلمة المجمع في تأبين الراحل الفقيد
للأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد
السيد الأستاذ الدكتور شوقي ضيف، رئيس المجمع:
السادة الزملاء، أعضاء المجمع:
السيدات والسادة:
تبارك الذي خلق الموت والحياة، وعظُمت قدرَته، وجلَّتْ حكمته. فيعرف البيولوجيون أنه لولا الموتُ ما تجدَّدَتْ حياة، بل إنه ليُقَر في ذهني أنه لولا الموتُ ما كان للفظ "الحياة" معْنى، بل ما وُجدت مادته أصلاً في قواميس لغات البشر، وأنبأنا العليُّ القدير أنه قد خلق الموتَ والحياةَ ليبلوَنَا أيُّنا أحسنُ عملاً؛ فلولا الحياة ما كان هناك ابتلاء.
وأستاذي الجليل، الذي نُدبت لتأبينه اليومَ، باسم المجمع الموقر، هو – بإذن الله – من الذين حَسُنت أعمالهم، ويُحمد ذكرُهم.
في عام 1944م، اتَّخذتُ، وأنا بعدُ فتى من الأيفاع، مجلسًا أمام أستاذي الدكتور محمد رشاد الطوبي، في أحد مدرجات كلية العلوم بجامعة القاهرة، أتلقَّى – مع رفاقي – محاضراته في تصنيف الفقاريَّات، ثم في العام الذي تلاه محاضراته في علم التشريح المقارَن للفقاريات أيضًا. وكان أستاذنا مثالاً للمحاضر الذي يتقن أداء كلِّ شيءٍ: في لغته الإنجليزية الرصينة، وإلقائه المتأني، وشروحه الوافية، ورسومه الأنيقة الواضحة، كان أستاذًا من ذلك الطراز الذي يرتاح إليه طلابه، ويشعرون نحوه بكثير من التقدير والاحترام والامتنان. وما تغيَّرتْ - في نظري - هذه الصورة وأنا أقترب أكثر فأكثر من الأستاذ الطوبي في أعوامٍ وأعوام تالية.(243/1)
أكرمني الله فأصبحت معيدًا ثم محاضرًا في القسم الذي هو أستاذ فيه أو رئيس له، وفي الكلية التي اختير وكيلاً لها فيما بعد. باعد بيننا التخصص الدقيق، ولكن جمعت بيننا وشائج أخرى كثيرة: في جمعيتين لعلم الحيوان، ثم في اللجنة القومية للعلوم البيولوجية، التي تشرف، منذ إنشائها، برئاسة أستاذي الدكتور محمود حافظ، بارك الله في عمره وعلمه وجهوده، وقد كان الدكتور الطوبي عاكفًا، حتى أقعده الضعف والمرض، على كتابة جزء من مجموعات الحيوانات الفقارية من دليل تعدُّه هذه اللجنة من النباتات والحيوانات الشائعة في مصر.
كذلك قد حَرَصنا في "لجنة الكتب والموسوعات العلمية"، بأكاديمية البحث العلمي، على أن تنشر الأكاديمية عام 1992م كتابًا من سلسلة "قطوف من العلوم" التي كانت تصدرها اللجنة، بعنوان "جولة في عالم الثدييات" من إعداد المغفور لهما الأستاذين الدكتور كمال واصف والدكتور رشاد الطوبي، الذي كان عضوًا بارزًا في اللجنة، وضم هذا الكتاب نُخبة من المقالات المنشورة في "مجلة العلم"، التي كان الأستاذ الطوبي، أيضًا أحد مستشاري تحريرها. وكان بين المختارات عدد من المقالات كان قد نشرها الدكتور الطوبي نفسه في مجلة العلم.
وفي أواخر الثمانينيات تتابعت لقاءاتي بالأستاذ الدكتور الطوبي لنعمل مع الأستاذين الدكتور كمال واصف والدكتور سمير محمد بلتاجي في إعداد الجزء السابع الخاص بعلم الحيوان من سلسلة كتب عن "تأريخ الحركة العلمية في مصر الحديثة"، صدر في مايو 1990م في نحو 150 صفحة، وكابدنا في سبيل إعداده وجمع شتات مادَّته عناءً مضنيًا، وكان في تقديرنا أن هذا التسجيل لو تأخر عَقْدًا واحدًا من الزمان، لأفلت من ذاكرة التاريخ كثيرٌ مما كان ينبغي الحرص على الحفاظ عليه.(243/2)
أما الصلة الوثقى فقد كانت في رحاب هذا المجمع، صرح العربية الشامخ، فها هنا كان لقائي الأسبوعي، ما دمتُ ثاويًا في القاهرة، مع كوكبة من العلماء الأعلام الذين شرفتُ بالانضمام إليهم في لجنة علوم الأحياء والزراعة: خبيرًا منذ عام 1977م، ثم عضوًا عام 1992م. وكانت الحلبة عامرة بالفرسان، فقد كان فيها: الأستاذ الدكتور حامد عبد الفتاح جوهر، عالِم عالَم البحار وأحيائها، والأستاذ الدكتور عبد الحليم منتصر، عالِم النبات وجناته، ثم عمدةُ اللجنة وحجتها الثبتُ في الفقاريات والتشريح المقارن، فقيدنا الأستاذ الدكتور محمد رشاد الطوبي، الذي كان له الفضل في مدِّ اللجنة بعدد جمٍّ من المصطلحات الدقيقة الصك والتعريف، كانت بين ما تضمنه معجم "البيولوجيا"، الذي أصدر المجمع جزءه الأول عام 1984م وجزءه الثاني عام 1988م، ومضى الثلاثة إلى رحمة الله ورضوانه، وظل ملاذُنا وعزاؤنا في أستاذنا الجليل الدكتور محمود حافظ، ربّان اللجنة المحنَّك منذ نشرت أشرعتها، مدَّ الله في عمره وأمدَّه بحبلٍ من عونه.
الحُضورُ الكرامُ:
لقد انسقت مع خواطري عبر لمحات من شريط ذكرياتي مع الأستاذ الدكتور الطوبي، ولكن يبدو أنه يحسن بي أن أثوبَ الآنَ إلى ما كان ينبغي عليَّ ذكرُه من سيرته الطيبة. ولد – رحمه الله – في طنطا في منتصف أغسطس عام 1909م، وكان تعليمه العام كله في القاهرة، ثم أَتَمَّ دراسته الجامعية بتميز في كلية العلوم بالجامعة المصرية عام1932م، فعُيِّن معيدًا فيها، ثم حَصَل على درجة الماجستير عام 1936م من جامعة القاهرة، ودرجة دكتوراه الفلسفة في علم الحيوان من جامعة لندن عام1940م،وبعد عودته إلى كلية العلوم سلك في مدارج هيئة التدريس بها حتَّى عُين أستاذًا لعلم التشريح المقارن للفقاريات عام 1952م، وفي السنة نفسها اختير وكيلاً للكلية ومستشارًا لوزارة البحث العلمي.(243/3)
وفي مجال تخصصه الدقيق نشر الأستاذ الدكتور الطوبي – مستقلاًّ أو مشتركًا مع بعض تلاميذه – (بين عامي 1938م و 1989م) نيِّفًا وأربعين بحثًا في أمهات الدوريات العلمية العالمية، تناول معظمُها دراسات تشريحية أو جنينية لهياكل عدد كبير ومتنوع من الأسماك والعظايا والثعابين المصرية، وجماجمها على الأخص، كانت موضع التقدير العالمي بين العارفين، وأشادت بها المراجع العالمية المختصة، وفي المؤتمر العالمي الأول لعلم الزواحف، الذي عقد في مدينة كانتربرى عام 1989م، كُرِّم الأستاذ الطوبي بين العشرة الأوائل في هذا العلم.(243/4)
وهكذا أقام الأستاذ الرائد دعائم أول مدرسة علمية للتشريح المقارن في مصر، وقاد مجموعة من الباحثين من طلاب درجتي الماجستير والدكتوراه، الذين أصبحوا –بدورهم- أساتذة لعلمي التشريح المقارن والنمو الجنينيّ، تعتز بهم الجامعات العربية، وقد امتد النشاط الأكاديمي الجامعي للأستاذ الدكتور محمد رشاد الطوبي إلى خارج مصر، فقد استعارته كلية العلوم بجامعة الرياض لإنشاء قسم علم الحيوان بها عام 1958م، ثم استقدمته ليعود رئيسًا لذلك القسم بين عامي 1969م و 1973؛ كما أنه أعير إلى جامعة طرابلس بليبيا عام 1968م. أما الوجه المضيء الآخر من حياة الأستاذ الدكتور محمد رشاد الطوبي، فهو جهوده المتواصلة في تعريب لغة العلوم ونشر الثقافة العلمية، وقد ألممتُ بأطراف منها وأنا أستعرض ذكرياتي معه. فبعد تخرجه بسنوات قلائل اختير سكرتيرًا لتحرير مجلة "رسالة العلم" التي كانت تصدرها جمعية خريجي كليات العلوم، ثم دأب – رحمه الله – على نشر مقالات باللغة العربية في شتى جوانب المعارف البيولوجية في تلك الدورية الرائدة وفي مجلات المقتطف والهلال والمختار، ومجلة العلم، ومجلة الدوحة التي كانت تصدر في قطر، ومجلة العربي التي تصدر في الكويت، ومجلة الجيل التي تصدر في باريس. وكلها يشدُّ القارئ بعناوينه المعبرة ويستهويه بأسلوبه الجذاب، ولكن القائمة جدُّ طويلة.(243/5)
وفي عامي 1964م و 1965م نشر ثلاثة كتب في :"المكتبة الثقافية" التي كانت تصدرها وزارة الثقافة والإرشاد القومي، ثم نشر بين عامي 1946م و 1993م عشرة كتب في سلسلة "اقرأ" التي تصدرها دار المعارف بالقاهرة، ازدانت عناوين خمسة منها بآيات قرآنية: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون"(الذاريات:21)، "وجعلنا من الماء كلَّ شيء حي" (الأنبياء: 30)، و"خلق الإنسان من علق" (سورة العلق: 2) و"بَثَّ فيها من كل دابة (البقرة: 164)، و "فمنهم من يمشي على بطنه" (النور: 45)، وكلها دلالات واضحة على ما حوته هذه الكتب المبسطة من علم وإيمان ويُحتسب للأستاذ الطوبي أيضًا عدد من الأحاديث المذاعة من القاهرة ومن لندن، وعدد من الكتب العلمية المترجمة وأخرى حظيت بمراجعة ترجمتها، نُشرت في سلسلة "الألف كتاب" والمجموعة التي كانت تصدرها مؤسسة فرانكلين. وإلى جوار هذا الإنتاج الضخم في الثقافة العلمية شارك الأستاذ الطوبي في كتاب جامعي رصين عن "علم الحيوان العام" باللغة العربية، وآخر في "أساسيات علم الحيوان" باللغة الإنجليزية، نشرتهما مكتبة الأنجلو المصرية.
وكان للأستاذ الطوبي دور بارز في المجتمع العلمي المصري، لَمَعَتْ بعض جوانبه فيما تقدَّم، ولكننا نذكر أيضًا أنه كان عضوًا في المجمع العلمي المصري، والمجمع المصري للثقافة العلمية، ونقابة المهن العلمية والجمعية المصرية لعلم الحيوان، والمجلس التنفيذي للثقاة العلمية ولجنة الكتب والموسوعات العلمية بأكاديمية البحث العلمي، واللجنة القومية للعلوم البيولوجية، كما تقدم؛ كما أنه كان مثلاً مشرِّفًا لمصر في المحافل العلمية الإقليمية والدولية.(243/6)
أما جهوده البارزة في اللغة العربية العلمية، فقد تجلَّتْ – كما تقدم – في عمله خبيرًا في لجنة علوم الأحياء والزراعة، ثم في انتخابه عضوًا عاملاً في مجمع اللغة العربية عام 1989م، حين أحسن استقباله باسم المجمع أستاذنا الدكتور حامد عبد الفتاح جوهر. وقد أوجز الدكتور الطوبي – رحمه الله – عرض جهوده في خدمة التعريب، في بحث ألقاه عام 1990م، ممثلاً للمجمع في "المؤتمر الأول للكتابة العلمية باللغة العربية" في مدينة بني غازي بليبيا، بعنوان "تجربتي مع الكتابة العلمية باللغة العربية على مدى خمسين عامًا"، ثم في "حديث عن تعريب التعليم الجامعي"، ألقاه في المؤتمر السنوي للمجمع، في دورته الثامنة والخمسين في يناير عام 1992م، ونُشر في العام التالي في العدد الثالث والسبعين من مجلة المجمع (نوفمبر 1973م: ص 41 – 47).
وهذا كله، بل بعضُه، جدير بكل تقدير، ولقد شهد عام 1989م (عندما بلغ عالمنا الجليل الثمانين) ثلاثة مظاهر لهذا التكريم الرسمي، فقد حاز أستاذنا جائزة الدولة التقديرية في العلوم الأساسية، وأدرج في "الموسوعة القومية للشخصيات المصرية البارزة" التي تصدرها وزارة الإعلام، وكُرِّم في المؤتمر العالمي لعلم الزواحف، كما ذكرت.
وظل المجمعي المتفاني يتحامل على نفسه ليحضر بعض جلسات لجنة علوم الأحياء والزراعة والمجلس الأسبوعي للمجمع، حتى أقعده الضعف والمرض، ثم استوفى أجله، فرجعت نفسه إلى بارئها راضية مرضية في يوم الاثنين، الرابع من شهر مارس الماضي عام 2002م.
تغمد الله فقيدنا الكريم بواسع رحمته، وكتب أعماله الصالحة في ميزان حسناته وسوف تبقى ذكراه الطيبة عاطرة ناضرة ما بقيت مآثره الحميدة، وانتفع بعلمه المنتفعون، وتواصلت جهود تلاميذه، ورُفعت دعواتُ آله ومحبيه.
وإني لأتقدم، باسم المجمع الموقر وباسمي، بخالص العزاء إلى أسرة فقيدنا الكريم، وزملائه،(243/7)
وتلاميذه وعارفي فضله. وجزاه الله عن العلم واللغة العربية خير الجزاء. وأتمثل للجميع بقول حافظ إبراهيم:
أَلْهَمَ اللهُ فيكَ صبرًا جميلاً
... كلَّ من باتَ ناطِقًا بالضاد
شكر الله لكم… والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد الحافظ حلمي محمد
عضو المجمع(243/8)
ثانيًا - كلمة المجمع فى تأبين الراحل الفقيد
للأستاذ الدكتور محمد عماد فضلي
عضو المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الأستاذ الدكتور رئيس المجمع:
السادة الفضلاء أعضاء المجمع:
حضرات السادة والسيدات:
السلام عليكم ورحمة الله:
الحمد لله الذي يحمد على كل حال، نحمده على أن بعث فينا رسولاً يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة، بعثه ليتمم مكارم الأخلاق، فكان خلقه القرآن، وبذلك كان لنا فيه الأسوة الحسنة التي نحرص على اتباعها ليستقيم أمر ديننا ودنيانا، وكان علينا دائمًا أن نبحث فيمن حولنا عمن يحقق لنا أسوة حسنة تقربنا من الأسوة النبوية، فكان من رحمة الله بنا أن هيأ لنا هذا في آبائنا وأساتذتنا، وكان من فضل الله علىَّ أن أجد هذه الأسوة في فقيدنا الذي نؤبنه اليوم الأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم رحمه الله.
في أثناء دراستي الثانوية كنت على بينة لا بأس بها بأستاذية الدكتور علي إبراهيم بحيث أصبت بشيء من الحزن والإحباط يوم قرأت نعيه سنة 1947م وأنا طالب في التوجيهية، وأسفت لأنه لن تكون لدي فرصة للاستفادة من هذا الصَّرح الطبي إذ كنت أنتوي أن أتجه إلى دراسة الطب.(244/1)
ومرت الأيام وجاءني خطاب يدعوني لألتحق بمجمع اللغة العربية خبيرًا في لجنة المصطلحات الطبية، وإذا بي أجد نفسي في جو علمي وحضاري يقربني من أساتذتي الذين أجلهم، وكان على رأسهم الأستاذ الدكتور أحمد عمار رحمه الله، كما كان من بينهم الدكتور حسن إبراهيم ابن العملاق على إبراهيم، ولم يكد يمر بي وقت قصير في عضوية هذه اللجنة حتى تأكدت من أن ما كنت أصبو إليه من التعامل مع الأسوة العلمية والخلقية التي تهديني إلى الخير قد توافر لي بهذه العضوية، فأما الدكتور عمار فقد كان أستاذًا بكلية الطب وعملت تحت إشرافه طبيب امتياز، فكانت عضويتي باللجنة تأكيدًا لما لمسته منه من قبل، فقد كان لي أسوة حسنة. أما الدكتور حسن إبراهيم فلم أكن قد التقيت به من قبل كما أنى لم أكن طالبًا تحت إشرافه في أي وقت سابق، ولذا كان اقترابي منه في لجنة المصطلحات الطبية مصدرًا لإشعاع جديد يبين لي كيف يكون العالِم المتمكن والمعترَف بفضله العلمي في مصر وفي خارج مصر له مثل هذه الشخصية المتواضعة الحانية على من يرعاهم علميًّا وأدبيًّا.
ونجد مظاهر تواضعه واضحة في كلمته التي قدم لنفسه بها عند انتخابه عضوًا في المجمع، فيقول إنه شعر برهبة؛ إذ كيف يجلس بين أهل الفضل والعلم الذين يعرفون من أسرار اللغة ما لا يعرف، ويتسع علمهم الفياض دون آفاقه بكثير، وبهذه المناسبة أذكر تعليق الدكتور مدكور مرارًا أثناء مناقشة المصطلحات الطبية: "أطباؤنا أدباء وشعراء"، ويرد الدكتور حسن قائلاً: إنه سيكون دارسًا مستفيدًا، وإنه إن كان له جهد فإنه لن يتجاوز جهد المقل.(244/2)
وفي هذه الكلمة يتكلم عن الدكتور أحمد زكي الذي حل محله في المجمع فلا يكتفي باعترافه أن هناك بونًا شاسعًا بينهما، بل يصف تجربة شخصية مرت به في السنة الإعدادية حيث كان يحضر محاضرات الدكتور زكي في الكيمياء العضوية، فيقول إن هذه المحاضرات جعلت عسر الكيمياء العضوية مادة محبوبة مستساغة، وكان يقارن بين الدكتور أحمد زكي وبين رئيس القسم الأجنبي فيتعجب من كون هذا الرئيس العيى رئيسًا لهذا المارد المصري كما ذكر في هذه المقالة أنه نجح في إجراء عملية في القلب أثناء عمله في القوات المسلحة مما جعله يمارس جراحة القلب لمدة من الزمن إلى أن وصل جراحون شبان تخصصوا في هذا الفرع، فيقول إنه توقف عن جراحة القلب لأن تلاميذه الشبان كانوا خيرًا منه.
كانت مناقشاتنا في اللجنة الطبية ثرية بما تمدنا من علم وقيم خلقية ووطنية، وبما تمدنا به من التذوق الأدبي؛ فقد كان الدكتور حسن أحيانًا يمن علينا بشعره المبكر في شبابه لكي يخفف عنا الجهد المطلوب للتوصل إلى المصطلحات، ومن هذه الأمثلة الشبابية ما ذكره الدكتور أحمد عمار في تقديمه للدكتور حسن إبراهيم للمجمع وأذكر منها مثالين:
أولهما يقول:
تركت فؤادي رهينًا إليك
وودعت حبي كأن لن أعود
وصرت أجوب بجسمي البلاد
ولكن قلبي عنى بعيد
وثانيهما :
هويتها وهى بنت العشر مندفعًا
ثم افترقنا مع الأيام غلمانا
حتى التقينا ولكن بعد مرحلة
من الزمان بدار الأهل شبانا
بحيث اقترحت يومًا على الدكتور مدكور ألا نكتفي بما نتوصل إليه من مصطلحات تدون في المعاجم، بل علينا أن نسجل ما يدور في اللجنة من مناقشات ثرية وعميقة.(244/3)
أما في عمل المجمع فقد امتاز الدكتور حسن إبراهيم بجديته إلى أقصى مدى، فقد كان مثابرًا ومنتظمًا في الحضور حتى في أيام مرضه الأخيرة وكنا نشفق عليه مما يتحمله من إجهاد ولكن كنا نسعد بلقائه وإرشاداته في العمل. وقد كان مصممًا على الالتزام بالترجمة والبعد عن التعريب ومن أمثلة ذلك ما أصر عليه من وضع لفظ "الجزرين" بجانب لفظ "الكاروتين". وكان يراعي في اختيار اللفظ المترجم أن يكون ذا جرس محبب للأذن وقريبًا من الألفاظ المستخدمة فعلا، إذ إنه كان يجد في ذلك ما يجعل اللفظ سهل التداول مرشحًا للبقاء، وعلى هذا الأساس كنا نقبل أو نرفض ما سبق اتخاذه من ألفاظ في مجامع أخرى، وقد كان يدافع عن هذه الألفاظ في لقاءات المؤتمرات، ومن ذلك تمسكنا بمصطلح "الأيض" بدلاً من "الاستقلاب". وكنا بعد وضع الجملة التي تفسر المصطلح نعيد قراءتها مرارًا حتى نصل بها إلى صبغة عربية مناسبة وصحيحة. فإذا اخترنا لفظًا سبق استخدامه في التراث، أثبتنا بجانبه المصدر الذي استقيناه منه. وهكذا كان العمل في لجنة المصطلحات الطبية يجمع بين العلم والأدب والتذوق العربي. وقد كان يحرص على أن يلم تمامًا بكل الألفاظ قبل عرضها على مجلس المجمع أو مؤتمراته بحيث يكون قادرًا على توضيحها والدفاع عنها إذا لزم الأمر.(244/4)
وكان يأتي دائما وبيده دفتر الإيصالات الطبية حتى لا ينسى إثبات أي مبلغ يصله كما كان يقول، مع أنه كان يكتفي بمبلغ خمسة جنيهات نظير الكشف على المريض حتى نهاية ممارسته الطبية. أما إكرامه للعاملين بالمجمع فكان لا ينسى مناسبة أو عيدًا إلا ويغرق العاملين جميعًا بكرمه ولا يقتصر على من يعمل معنا في لجنة الطب، مع إرفاق هذا العطاء بكلمات طيبة تبين مدى تقديره للإنسان، وقد لمسنا مدى تقديره للمشاعر الإنسانية في فترات حزمه التي مرت به بعد وفاة نجله والسيدة حرمه، فطالما كنا نجده يسترجع هذه المشاعر المضيئة وننصت له بعض الوقت قبل أن نحاول تغيير الحديث إلا أنه كان يسبقنا بالانتقال السلس إلى جو العمل الجاد.
ولد الدكتور حسن علي إبراهيم بالقاهرة عام 1914م، وتخرج في كلية طب قصر العيني سنة 1937م وكان ترتيبه الأول ثم أتبع مراحل الممارسة الطبية الجامعية فحصل على ماجستير الجراحة 1941م وهي تعادل الدكتوراه الآن، واستمر في ممارسته الجامعية إلى أن أصبح رئيسًا لقسم الجراحة عام 1971م ثم عميدًا لكلية الطب في العام نفسه وحتى بلغ السن القانونية. ولم يقتصر نشاط الدكتور حسن الجراحي على كلية قصر العيني الذي أنشأ فيها قسم الجراحة التجريبية، بل أشرف على إنشاء قسمي الجراحة في جامعتي أسيوط والمنصورة، وعمل أستاذًا زائرًا في فيينا وباريس ولوس أنجلوس، وشهد العديد من مؤتمرات الجراحة وأشرف على العديد من رسائل دكتوراه الجراحة.(244/5)
وكان عضوًا في عدد من الجمعيات الطبية مثل جمعية الجراحة الدولية ببروكسل، والجمعية الطبية المصرية، وجمعية الجراحين المصرية، وجمعية الإسعاف الأهلية، وجمعية الهلال الأحمر المصري، والجمعية الخيرية الإسلامية، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية لسنة 1988م وانتخب عضوًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1978م. وبلغت أبحاثه الطبية المنشورة ما يزيد على خمسين بحثًا إلى جانب ما ألقى من محاضرات في المؤتمرات والجامعات المختلفة. ومثل هذا السجل الجدير بالفخر لم يكن يذكره الدكتور حسن في حديثه معنا ولم يكن يذكر المناصب التي تولاها ولا المراكز العلمية التي تبوأها، وكان إذا ذكر سنوات عمادته لكلية طب قصر العيني، فإنه كان يفعل ذلك ليشيد ببعض أعضاء هيئة التدريس، فيقول: وهذا يذكرني أقوال الأستاذ الدكتور عماد بأن السنوات التي قضاها عميدًا لكلية طب عين شمس كان يعتبرها وقتًا ضائعًا بالنسبة له، فاهتماماته العلمية والثقافية كانت تتجاوز مطالب هذا المنصب.
ونجد الدليل على هذا في اعتزاز الدكتور حسن إبراهيم بشعره الذي بدأه بعد زيارته للرسول عليه الصلاة والسلام وحيث كان مقصورًا على السيرة النبوية، وقد جمعه في ديوان. ومن بين قصائده قصيدتان عارض فيهما ميميتي شوقي والبوصيري بدأها بقوله:
ما ذبت شوقًا لجيران بذي سَلَم
ولا أرقت لذكر البان والعلم وما أبحت لريم القاع سفك دمى
في الأشهر الحل أو في الأشهر الحرم
وفي قصيدته النبوية الثانية وعنوانها "وقفة أمام قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -"، يقول:
مشيت وفي قلبي وجيب ورهبة
إلى خير قبر ضم خير رفات
وحولي من الأقوام حشد ميمم
إلى حيث يثوي منبع البركات
وفي قصيدة ثالثة أسماها"الروح" يقول:
إذا جلى النهار شمس الضحى
وسال نضارها في الخافقين وزينت السماء بقرط ماس
بكل نجومها والفرقدين فسبح باسم فاطرها جميعا(244/6)
وخالق لبنا والأصغرين لا يستطيع أحد أن يعرف مدى عظمة الدكتور حسن إبراهيم على حقيقتها إلا من تعايش معه في علاقة حميمة تمكنه من إدراك أبعاد هذه الشخصية الثرية الجادة الرحيمة والمتواضعة.
رحم الله فقيدنا وعوضنا عنه خيرًا
محمد عماد فضلي
عضو المجمع(244/7)
سلامة الترجمة ودقة استيعابها شرطان
فيما يرجى من تأثير وتأثر بين الشعوب ومختلف الثقافات(*)
للأستاذ علي رجب المدني
لا جدال في أن تلاقح الثقافات وتنافسها على إرساء أسس الحضارة الإنسانية الأكثر قربًا من الكمال والمثالية، إنما يمثل كل ذلك هدفًا ساميًا لكل الرسالات السماوية التي أمد الله بها رسله منذ النشأة الأولى.
وقد لخص الله تعالى في القرآن الكريم هذا الهدف الأسمى في الآية 13 من سورة (الحجرات) عندما قال: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم". وواضح من سياق هذه الآية أنها تشير إلى وحدة الأصل (من أب واحد وأم واحدة) مما أدى إلى انتشار ذرية هذين الأبوين انتشارًا له أعدت ساحة كوكب الأرض لاستقبال أفواجها، على النحو الذي أدى بطبيعته إلى نشوء لهجات وأساليب نطق تختلف
عن اللغة الأم التي نزل بها الأبوان باعتبارها لسان الخالق عز وجل في كل أوجه خطابه ومخاطبيه (وتلك هي العربية).
ولقد كان من أثر التوالد والانتشار المذهلين أن تحولت الأسرة الواحدة إلى مجموعات سماها الله (شعوبًا وقبائل) تفصل بينها المسافات التي سبق في علمه تعالى أنها - أي المسافات- لن تلبث أن تتقلص وتنكمش بما يهدي إليه فئات من خلقه من مخترعات ومستحدثات كالذي نشاهده الآن من وسائل التواصل التي ساعدت على إبراز معجزة التعارف منذ أخذ نطاقه يتسع في تسارع لم تعرف له البشرية مثيلاً في ساحق عصورها.
وهنا يتعين السجود عرفانًا بإعجاز الله فيما أنبأنا به منذ ما يزيد
على أربعة عشر قرنًا من تحقق هذا التعارف بنسبة متقدمة مهدت للوصول إلى حده الأقصى الذي يؤمل الوصول إليه من خلال ما تدفع إليه أشواق الأخوة وحب السلام، والعودة إلى حضن الأسرة الواحدة الذي استقبل الفوج الأول من بني آدم وحواء منذ آلاف السنين.(245/1)
وليس من سبيل للوصول إلى هذه الخاتمة السعيدة المتمثلة في لقاء الإخوة وتعارفهم بعد طول جفاء وفراق اقترنا غالبًا بالعداء وسفك الدماء سوى الدخول في حوار نزيه متسام يسخر طاقات العقل البشري التي بلغت قمة تكاملها ونضجها وقطعت كل أنماط تجاربها، مما يسهل تحديد الهدف والوصول إليه لو برئت قوى البغي من نوازعها وجنحت إلى الالتحاق بالمسيرة الخيرة. وهو ما لا يبدو هدفًا مستحيلا بعد أن يقتنع الجميع بأن هذا الكون إنما يملكه إله واحد لا شريك له تتجلى حقيقته في إبداع خلقه، وما لابس هذا الإبداع من ضوابط وقوانين لا يستقيم المنطق إلا باعتقاد أن لها مدبرًا قويًّا واحدًا تفوق قدرته كل قدرة سواها وأنه المتفرد وحده بمعجزة (كن..)، وبتحلق الإنسانية كلها حول الاعتقاد بأنه المنفرد بالإلهية ولا شريك له، والاعتقاد بأننا غير مطالبين بمزيد التقصي عن حقيقة ذاته بعد إيماننا بتفرده بكل ذلك الإعجاز.
تلتقي البشرية حول (الكلمة السواء) ويتحقق لها من متابعة الحوار الهادئ والتحليل الدقيق لمضامين التعاليم السماوية واختيار النهج السليم الذي يجمع صفوفها في مساره ويحول دون عودتها إلى منطق التوتر والتنابذ والتعادي.
وهنا يتعين التعريج على موضوع آليات العمل للوصول إلى هذه النهاية السعيدة التي تلتقي عندها عقائدنا على اختلافها.
على أن البشرية ستنتهي إليها يوم أن يمن الله عليها بإيفاد رسوله الذي رفعه إليه - السيد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام - ليتم تعميم آخر الرسالات السماوية بكل ما تميزت به من مخاطبة العقل البشري البالغ منتهى نضجه وكماله ولا مناص من أن نعترف بأن أهم تلك الآليات وأكثرها قدرة على إنجاح الحوار والإيصال إلى التعارف المنشود من أقرب المسالك وآمنها يتحقق من خلال ترجمة النصوص، والتزام الحذر الشديد والتحري البالغ لدقتها ومطابقتها للحقيقة التي لا غنى عنها لوصل ما ظل منقطعًا بفعل المراحل السابقة التي يرجى تجاوزها.(245/2)
وأهم ما في هذا الجانب تحري التطابق في دلالة الأسماء على المسميات دون الانزلاق إلى استخدام شيء منها على نحو يغاير ما تعنيه في كل من اللغة المترجم منها إلى اللغة المترجم إليها. ذلك الانزلاق الذي لا تزال المسيرة مهددة به في بعض المفردات مما نكتفي بأن نورد منه مثالاً واحدًا من عديد الأمثلة، ومن شأن ذلك المثال الواحد أن ينير السبيل إلى إحصاء وحصر باقي المفارقات وعلاجها على نحو يقي من آثارها السيئة على مسيرة حوار الإخوة وتعارفهم.
وإليكم في ذلك كلمة (تروريزم TERRORISM) التي ما انفك الغرب يحاربها في أشخاص من يصمهم بها (أفرادًا ودولاً ...!)
إن القول بأن التعبير المقابل لتعبير (التروريزم) الذي تنادي شعوب الغرب وغيرها بمحاربته ومطاردته في عقر ديار من يتعاطونه، هو مصطلح(الإرهاب...!) إنما يعني إعطاء الضوء الأخضر للانقضاض على من تحوي ثقافتهم الموروثة هذا التعبير في عقر ديارهم بغية استئصاله من مصادر لغتهم وثقافتهم وحملهم على التوقف عن استعماله باعتباره جرمًا دوليًّا اصطلحت الدول كبيرها وصغيرها على محاربته واجتثاثه من أساليب تعبيرها ومصادر تراثها الديني والثقافي.
بل إن الأمر قد يتطور إلى القول بأن مجرد تجييش الجيوش واقتناء الأسلحة الحربية أيًّا كان نوعها مما يجب تحريمه على شعوب تنادي تعاليم كتابها المقدس بأن الهدف من تجييش تلك الجيوش واقتنائها الأسلحة الحربية إنما هو (إرهاب عدوها...) في حين أنها إنما تعني بهذا الإرهاب جعل ذلك العدو يهابها ويمتنع عن مهاجمتها واقتحام حدودها، مما يجعل تلك الجيوش والأسلحة وسيلة للسلام والإخاء البشري على نحو ما نشاهده فيما استقر عليه النظام الدولي المعاصر من جعله السباق على التجييش والتفوق الحربي مصدر أمن لحدود الدول وامتناعها على من قد تحدثه أطماعه باقتحام تلك الحدود والسطو على استقلال بلادها.(245/3)
فكيف يستقيم والحالة هذه أن نعتبر لفظ الإرهاب هو اللفظ المناسب للتعبير عن معنى الزلزال الذي هو وحده المعنى المطابق للفظ TERRORISM وبذلك نتحول من مفهوم (التأثير المتبادل بين الثقافة العربية والأجنبية) الذي هو هدف العدوان المختار لأبحاث مؤتمرنا هذا، إلى مفهوم تزكية العدوان على شعوبنا التي ترتبط بالمفهوم القرآني للإرهاب على النحو الذي لا يختلف في أغراضه عما اصطلحت عليه كل دول العالم من رغبة توفير الأمن لحدودها والهيبة لكيانها السيادي.
رغم أن القرآن في استعماله لتعبير (ترهبون به عدو الله وعدوكم) يقف بوضوح عند حد الرغبة في تأمين الحدود واجتناب التصادم دون أي تبرير لاستخدام الجيوش والأسلحة في العدوان على الآخرين على نحو ما فعلته وتفعله الدول التي يغريها تفوقها في الجيوش والأسلحة مما ظلت تشهده وتكابده القرون الأخيرة من غزو وعدوان.
فالإرهاب إذن لا يعني العدوان وإنما يعني إحداث ذلك القدر من الرهبة الذي يردع ذوي الأطماع السيئة عن أن يتقدموا لإشباع أطماعهم.
وعلى الرغم من أن اللغة العربية يقتصر نفوذها المدني والحضاري على المنطقة العربية إلا أن تعبير الإرهاب كنص قرآني هو ما يعني كل الشعوب التي تدين بالقرآن والإسلام وإن كانت تتخاطب بغير العربية التي تم عزلها عنها... ولا مجال للحديث عن تاريخ وكيفية ذلك العزل!..
ولا يخفى ما في ذلك من اتساع رقعة المجابهة حتى تشمل ما يقرب من ربع سكان الكوكب الأرضي والحالة هذه.
إن السمو الحضاري والإنساني الذي سبقت به الرسالة المحمدية ومجتمعها الأول الذي أسسته كل حضارات الآخرين كفيل بأن يقيم البرهان الصادق على صحة ما أوضحنا من مفهوم الإرهاب الذي لم يتردد قادة الكنائس النصرانية في اتخاذه لقب تشريف لهم حينما سموا أنفسهم (رهبانًا) وهم من أكثر الناس استعمالا لتعابير (الإخاء والمحبة والسلام!).(245/4)
ولا يستقيم القول مطلقًا بأن الله عندما يدعونا لرهبته في قوله تعالى: "وإياي فارهبون" يعني أن تزلزل الأرض تحت أقدامنا فزعًا وذعرًا، ولكن يدعونا لأن نملأ قلوبنا بمهابة سلطانه وخشيته والاحتماء بعدله ورحمته.
إن علينا - قبل أن نمضي في البحث عن سبل وأساليب التأثير المتبادل بين الثقافة العربية والأجنبية- أن نعمل أولاً على إقناع العالم صديقه وعدوه بضرورة التخلي عن استخدام كلمة الإرهاب كترجمة لتعبير (التروريزم) أو العكس، وأن يستبدل بها تعبيرًا عربيًّا أكثر دقة واستيعابًا ومطابقة (كالزلزال والعدوان والإرعاب والإقزاع) وما شاكلها من مفردات تدور كلها حول محور التسلط والسطو على الآخرين (أما الإرهاب فلا وألف مرة لا )..
وعلينا - نحن العرب - أولاً أن ننطلق من خلال مجامعنا العربية انطلاقة البدء بمحو هذه المفارقة المخزية وحمل الآخرين على أن يحذو حذونا، وإلا فإن الله والتاريخ ومستقبل أمتنا وأوطاننا كل أولئك سيحملوننا وزر هذا الإصرار الآثم الناجم عن استخدام هذه المفردة فيما لا يؤدي مضمونها السلمي الحقيقي ويقصيها عما يراد إلحاقه بها من معنى السطو والعدوان.
إن هاوية السقوط النهائي التي تهدد أمتنا وكياننا أضحت تتمثل بجلاء تام في إرغامنا - بتهديد السلاح والاجتياح - على أن نستبعد من كتاب ربنا - الذي هو قوام وجودنا وكرامتنا وإيماننا وأمننا - كل أو بعض الآيات التي لا يرضى عنها أولئك الذين نصبوا أنفسهم - تحت تعابير العولمة - ولاة أمر الحضارة المعاصرة واستباحوا إخضاع كل الدول والشعوب التي تمتنع عن تنفيذ ما يطلبون تنفيذه إشباعًا لغريزة الهيمنة الشريرة وتحرشًا بقيم الحضارة الروحية الرفيعة التي تصطدم بصخرتها إباحيتهم ورغبتهم في التفرد بالسيطرة التي تجتاح عقولهم وتحجب ضمائرهم.(245/5)
ويجدر بنا أن نشير إلى ما تضمنته الآية 27 من سورة (الحديد) في قوله تعالى: متحدثًا عن اتباع المسيح عليه الصلاة والسلام "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله". صدق الله العظيم.
وهنا تطلق البديهة تساؤلها المثير: كيف يمكن أن يكون الإرهاب رديفًا للرأفة والرحمة ثم يكون في ذات الوقت اسمًا من أسماء العدوان والإرعاب!؟ ولا أتصور جوابًا يليق بما يقتضيه أدبنا مع الله إلا أن نقول إن هذا الردف والدمج يحتمان أن نستبعد -بكثير من الفزع من التطاول على مقام الله- دلالة هذه الكلمة على قدرٍ ما من معنى العدوان والإرعاب وأن نبادر فورًا إلى إحلال إحدى هاتين المفردتين محلها عندما يحوجنا المقام للتنديد والتشهير واستباحة دماء الذين يعتدون ويرعبون دون أن يبادئوا بالعدوان والإرعاب.
ويكفي أن نقف لحظة تأمل في قوله تعالى: "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها، ما كتبناها (أي فرضناها) عليهم إلا ابتغاء رضوان الله" لندرك أن تعبير: "فما رعوها حق رعايتها" ينطوي على تقريع لأولئك الذين يستخدمونها بما لا يتفق مع مضمونها الحقيقي الذي شرعه الله.
ثم ختمها بقوله جل شأنه: "فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون". وإنما عدهم فاسقين لانحرافهم باستخدام هذه الكلمة أي (الرهبانية) في غير ما يتطابق مع مضمونها الحق الخالي من كل شائبة عدوان.(245/6)
إن التجانس بين مضامين الرأفة والرحمة والرهبانية يبدو واضحًا كل الوضوح من خلال تناسق سردها؛ الأمر الذي لا يجيز لنا - نحن معشر المسلمين المؤمنين بالقرآن في الأقل- أن نسمح بجواز إطلاقها على أي من أعمال البغي والعدوان والتطاول على الآخرين دون مبادأة منهم بالعدوان، كما سبق أن كررنا قوله مستمدين التأييد من المضمون الحقيقي لآية "وأعدو لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون .. إلى آخر الآية" وذلك وفق ما سبق توضيحه في ثنايا هذا البحث..
سيدي الرئيس، حضرات الزملاء:
إن علينا أن نبذل جهدًا في التعريف بعلم الترجمة .. كعلم متميز يتيح لمن ينبغ فيه أن يكون برزخًا مشتركًا بين مختلف الثقافات والعلوم ومن شأن هذا العلم لو مورس على وجهه الصحيح وبالدقة الكاملة أن يرفع من يتميزون فيه إلى قمة عالية من المكانة لا تنزل بحال من الأحوال عن مكانة كبار العلماء والمبدعين.
ويكفي أن يقال عنهم: إنهم الرسل الأمناء بين منابع العلوم والثقافات التي ينهلون منها ما يؤهلهم للتميز فيها جميعًا.
ولقد كان ديدن أعلامنا الأوائل في العصر الذهبي لأمتنا عندما حقق كبار العلماء الذين اشتغلوا بعلم الترجمة، تلك المعجزة التي أدت إلى نهضتها نهضة جعلت البشرية تتحدث عنها، وتنوه بها إلى يومنا هذا.
إنني أناشد قادة مجمعنا الموقر واتحاد المجامع العربية أن يتفضلوا بإصدار أمرهم بترجمة هذا البحث الترجمة الدقيقة إلى أهم اللغات التي تتيح لمضامينه التصحيحية الانتشار والتجاوب لدفع هذه الوصمة المتمثلة في استعمال كلمة الإرهاب على نحو يغاير ما تعنيه في كتاب الله واللغة التي أنزل بها...(245/7)
وأرجو أن يطرح اقتراحي هذا كبند إضافي في جدول أعمال مؤتمرنا حتى يتاح لي ولغيري من الزملاء حق إبداء آرائهم بشأنه، مقدرين أن هذا اللبس وهذا الخطأ الباديين في استخدام تعبير الإرهاب (معنيًّا به العدوان) هما لبس وخطأ انتشرا على ساحة العالم، وأن صدور هذه المبادرة - لأول مرة من مجمعنا- تتطلب أن يتجه الخطاب بشأنها إلى كل شعوب البشرية. وأن رسالة المجمع تتطلب - في أهم أغراضها- التصدي لهذا الأمر باعتبار المجمع الهيئة الأكثر اختصاصًا وجدارة وإقناعًا...
ولدفع هذا الشر المستطير فليعمل العاملون...
والله ولي التوفيق.
علي رجب المدني
عضو المجمع من ليبيا(245/8)
التداخلات اللغوية وأثرها في المجال الثقافي العربي*
للأستاذ الدكتور عباس الصوري
في التداخل اللغوي:
يمكن تناول البحث في موضوع التداخلات اللغوية من منظورين: الأول لغوي بحت، والثاني لغوي ثقافي حضاري. وفي كلا الاتجاهين يتعلق الأمر بالتأثيرات التي تتبادلها اللغات فيما بينها خلال تقاطعها، سواء على مستوى الشكل واللفظ أم على مستوى ما ترفده هذه الألفاظ من حمولات ثقافية معرفية وحضارية.
من المنظور اللغوي يمكن استجلاء التأثيرات التي تحدث بين لغة – هي لغة الانطلاق L-B – ولغة أخرى ينتقل إليها المتكلم يطلق عليها (لغة الهدف L-C) ودراسة التأثيرات المتبادلة بين اللغتين معًا، أو الوقوف عند تأثير واحدة منهما في الأخرى هو الذي يشكل بؤرة الدراسة البيداغوجية التي ينبغي فيها تيسير عملية امتلاك اللغة الهدف. هناك
يميز المتخصصون في علم التقابل اللغوي ( L.Contrastive) بين التداخلات اللغوية الإيجابية التي تؤدي إلى إغناء إحدى اللغتين والتداخلات اللغوية السلبية التي تشوش على الكفاية اللغوية لدى المتكلم، والتي تحدث بفعل الأخطاء التي يرتكبها نتيجة تداخل الأنساق لديه، لكن هذه الظواهر تقع بنسب متفاوتة حسب الحالة التي يوجد عليها المتكلم أمام لغتين:
الحالة الأولى: عندما يكون التداخل بين نسقين متفاوتين في إطار لغة واحدة شاملة كاللغة العربية التي يخترق فيها النسق اللهجي النسق الفصيح فيحدث في بنياته الدلالية والنحوية والصرفية وكذلك الصوتية خلخلة تبدو واضحة في مراوحة المتكلم بين النسقين دون القدرة على التحلل من العمق اللهجي الذي يشكل
أداته في التواصل الاجتماعي الحي، كما سنرى فيما بعد وتسمى هذه الحالة بالازدواجية اللغوية(Diglossie).(246/1)
الحالة الثانية: يطلق عليها "الثنائية اللغوية(L.BILINGUISME ) وتحصل عندما يستضمر المتكلم نسقين لغويين مختلفين، تعد الأولى لغة الأم والثانية أجنبية مثل ما يوجد لدى الشعوب المزدوجة بسبب تداخل الأعراق المكونة لنسيجها الاجتماعي.
الحالة الثالثة: تحدث بتأثير الثنائية اللغوية، وما تنقله من حمولات ثقافية تتداخل فيما بينها بفعل التساكن أو الجوار أو الهيمنة الاقتصادية أو السياسية وغيرها، ويطلق على هذه الحالة "حالة التثاقف" "ACCULTURATION" أو التداخل الثقافي.(246/2)
التداخل اللغوي إذن يمهد للتداخل الثقافي باعتبار أن اللغة تشكل مستودعًا لتجارب أصحابها وخزانًا يطفح بعاداتهم وآرائهم في الحياة وفي الكون، فكل لغة هي أشبه بمرآة تعكس من خلال بناها اللفظية والدلالية "رؤية خاصة بالعالم"، وكما تختلف اللغات عن بعضها، كذلك تختلف هذه الرؤى، ومن ثمة يمكن رصد نقط الاختلاف أو الائتلاف بين اللغات. لكن (الاحتكاك) وارد بين اللغات كما يزعم (جورج مونان)، وإذن ينصب التحليل على اللغتين اللتين يحصل بينهما احتكاك أو تقاطع؛ وما يترتب عنه من تداخل يؤدي إلى نتائج معينة، وهذه النتائج عبارة عن نصوص، وهكذا ندخل من الناحية النظرية في لغويات النص التي تتفاعل مع لغويات الترجمة (التنقل بين اللغتين) بأنواعها المختلفة، وسيكون الهدف ليس توليد نصوص متناظرة على أساس قواعد تحويلية مثلما هو الحال في اللسانيات التحويلية، أو نصوص إبداعية عندما نتعامل مع الألفاظ المتناظرة بين اللغتين،وقد انتقلت من المعنى المباشر DENOTATION إلى المعنى الإيحائي أو المجازي CONNOTATION فتؤول هوية المدلول بين اللغتين إلى إنتاج هلامي ملتبس. لذلك يرى كثير من علماء اللغة أنه إذا كان هناك من تقابل فإنه يكون على مستوى المعاني المباشرة مثلما هو الحال في العلوم حيث تدل الألفاظ على الشيء نفسه في اللغتين المتداخلتين، أما عندما يتعلق الأمر بالأدب أو حتى ببعض العلوم الإنسانية فإن البحث في إيجاد المعادل الملائم للفهم والانفتاح بين اللغات يصبح من قبيل الوهم، فالتمييز بين الدلالة اللغوية والدلالة المعجمية لا يمكن الإمساك به إلا من خلال المنظور الحضاري للغة.(246/3)
لكن اللغات الحضارية الكبرى مثل اليونانية القديمة كانت من القوة بحيث إنها لم تحس بالحاجة إلى الانفتاح على غيرها من اللغات والاستعارة منها مثلما يحصل بشكل طبيعي في المجتمعات الإنسانية. اللغات القوية تعتبر ما سواها رطانة، ولقد برهن عصر العولمة - الذي يجتاحنا حاليًّا برياحه الثقافية – على أن التاريخ يعيد نفسه مع اللغة الإنجليزية، فهي (لأقوى دولة في العالم مالاً واقتصادًا وتكنولوجيا ... تقبض على مفاتيح العلوم والمعارف والخبرات...) فعمليات التفاعل مع هذه اللغة لم يعد يجري كما يقول شوقي جلال: "بين طرفين من خلال تلاحم مباشر، بل إنها تجري من طرف واحد يبثها والآخر سلبي يتلقاها، لم تعد تفاعلاً بل غزوًا..".
على العكس من ذلك، كانت اللغة العربية في عز حضارتها لم تنغلق على نفسها، بل قوتها تكمن في قدرتها على الانفتاح، الشيء الذي أهلها لأن تنقل للإنسانية علوم الفرس واليونان والهند فترجمت عنها كتب الطب والفلك والتنجيم، وبعد ذلك جاءت كتب المنطق والحكمة أيام ارتفاع الزخم الجدلي الفكري والسياسي بين الفرق الإسلامية، ورغم الموقف المتحفظ من الميتافيزيقا، فإن المدرسة الرشدية انطلقت بحاضرة مراكش أيام الدولة الموحدية، وذلك عندما لاحظ الأمير الموحدي قلق عبارة أرسطو في الترجمة المشرقية فعهد إلى ابن رشد لبداية مشروعه في ترجمة النصوص الفلسفية الإغريقية ولاسيما الأرسطية منها، ولقد كان ابن رشد ضمن فريق من الفلاسفة الذين كانوا على بينة من الخطاب الفلسفي اليوناني مثل ابن باجة وابن طفيل وابن زهر وابن البناء، ولم يستسغ الفقهاء في ظل الدولة الموحدية جرأة ابن رشد وخطابه السابق على عصره والداعي إلى "فصل المقال في بيان ما بين الشريعة والحكمة من اتصال". ويبدو أن ابن خلدون استوعب الدرس جيدًا فيما بعد، فعمد إلى التحذير في مقدمته من الخوض في علوم الأوائل لأن ضررها في الدين كثير.
2- بين التفاعل الثقافي واللغوي:(246/4)
يقال إن ابن رشد لم يكن ملمًّا باللغة اليونانية، ومع ذلك استطاع بشهادة الخبراء في النصوص الفلسفية اليونانية أن يكون أمينًا لروح النص بطريقة لا تتأتى إلا لمن يملك عنان هذه اللغة، وهذا يدل على أن اللغة وحدها غير كافية لنقل ثقافة الآخر، وإنما يتطلب الأمر كفاءة من نوع خاص كالتي يتوفر عليها ابن رشد لنقل روح النص واكتناف رؤاه. اللغة إذن لا تعدو أن تكون بعدًا واحدًا في عملية التفاعل الثقافي والفكري لكنها عنصر أساسي وحاسم، لذلك كان الموقف من لغة الآخر مشوبًا دائمًا بالحذر والمساءلة، وقد انتقل هذا الحذر حتى بالنسبة إلى تعليم اللغات الأجنبية في إطار المنهاج المدرسي. ففي تقرير للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم حول واقع الثنائية اللغوية في أقطار المغرب العربي تبين أن العلاقة بين اللغتين العربية والأجنبية هي علاقة صدام وصراع لا علاقة حوار وإثراء متبادل. لكن المشكل يكمن في أن التداخل بين العربية واللغات الأجنبية أصبح جزءًا من اللغة العربية المعاصرة، وقد شاع ما تمخض عنه من دخيل فتنزل لدى العرب شعوريًّا أو لا شعوريًّا منزلة العربية رغم محاربته وعدم الاعتراف به. وانطلاقًا من هذا المنظور التربوي نريد معالجة مجموعة من المصطلحات الرائجة حاليًّا في مجال التداخل اللغوي والثقافي، وسنركز بصفة أخص على التأثير المتبادل بين لغتين في وسط ثنائي اللغة.
3- في التثاقف:
التداخل الثقافي الناشئ عن التداخل اللغوي يتجاوز علم التقابل اللغوي، فاللغات قد تتقابل فيما بينها، ولكنها لا تتداخل بالضرورة.(246/5)
فالتداخل يحصل عندما يكون هنالك نقل أو اقتراض أو استعارة وحينئذ يقع التأثير المتبادل، ويبدو هذا التأثير بارزًا أكثر عندما يتعلق الأمر بالتقابل اللغوي، لا على المستوى اللفظي المعجمي مثلما هو الحال في لغة العلوم (Denotation) وإنما على المستوى اللغوي الإبداعي والمجازي (Comnatation)، هنا يصبح عمل المعجمي عملاً معقدًا محفوفًا بالتخمين والظن والوهم،إن تلمس المسالك الملتفة والوعرة للإمساك ببطاقة هوية الألفاظ ومعرفة أعراقها وأنسابها أشبه ما يكون بالسقوط في المتاهة، فالمعجمي وهو يلهث وراء المعنى لا يقع إلا على الأشباح والظلال التي تكاثفت بفعل تجارب الأمم كالبلورات ذات المرايا المتعددة، وبالإبحار في اللغات الحضارية الكبرى مثل لغة العروبة تحتاج إلى رحالة جواب في حجم ابن حزم الذي عرف ما يجمع بين الأديان السماوية لا ما يفرق بينها أو ابن رشد الذي حاول أن يأتي بفصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال كما قلنا؛ فلقي العنت الذي نعرفه.
اللغة على مستوى التداخل الثقافي تعكس شيئًا آخر أكثر من الواقع هو ما يسميه مؤرخو الذهنيات والمقارنة بين الثقافات برؤية الأمة إلى العالم أي ما راكمته كل ثقافة من خلال مكوناتها المعرفيَّة من تجارب وأحوال وتصورات وأفكار وتطلعات وأحلام.
هذه الرؤية التي يمكن أن نطلق عليها مثلاً: الرؤية الإسلامية، في مقابل الرؤية المسيحية، أو البوذية إلخ... الرؤية العربية في مقابل الرؤية الغربية، الرؤية الفلسفية في مقابل الرؤية العلمية إلخ.
فلكل شعب رؤيته الخاصة للحياة وللكون، هنا تكمن عبقرية الثقافة ولاسيما الثقافة الأدبية، فاللغة العلمية التي يتحكم فيها المصطلح يحتكم فيها إلى المفهوم، وفي دنيا المفاهيم المصطلحات لا تختل قواعدها حتى بالترادف الذي نحاربه نحن في المصطلحات العربية.
- فمصطلح Portable يمكن أن يقابله: نقال، محمول، خلوي إلخ...
- ومصطلح(mamifère) ثديي، لبُون..(246/6)
- ومصطلح ( manoeubre ) ممارسة، تناول...
ولذلك كان الترادف في العلوم محدودًا، وحتى إذا وقع فهو لا يهدد المفهوم، بينما العكس في اللغة غير العلمية، غير المصطلحية، فالمفهوم فيها قابل للانزياح أي التعدد، والتعدد يؤدي إلى الاختلاف حول المعنى وحينئذٍ لا يعود هناك اتفاق، والمصطلحات إنما تستمد كيانها من الاتفاق، والمصطلحات التي ينزلق فيها المفهوم نحو حقل المعنى التابع لا تحتاج إلى المعاجم المصطلحية، وإنما إلى ما يسمى بالمعاجم الموسوعية، وسنضرب على ذلك أمثلة نستقيها من تجربة نعانيها حاليًّا مع مجموعة من الباحثين في عملية جمع المصطلحات الرائجة على المستوى الإعلامي في الصحافة كثيرًا وفي الدراسات السياسية، وسنبدأ بلفظ (إرهاب).
1- الإرهاب: في اللغة التخويف، في نطاق العبادات الإسلامية، مخافة الله وهي قمة الإيمان، نجدها اليوم تقابل (Terrorisme)، ويعنى به استعمال العنف مثل الاختطاف والتخريب والاغتيالات من قبل هيئات سياسية تنحو منحى العنف في تحقيق أهدافها. والاتجاهات الإرهابية في الغرب كثيرة تعلن عن نفسها بشتى الطرق.
فالتوسع في مصطلح الإرهاب إلى مفهوم " Terrorisme " حتى إذا كان بريئًا يتعارض مع مسلك الإسلام في التعامل مع العنف .. وبالتالي مع الرهبة في مفهومها الإسلامي.(246/7)
2- الاستشراق: دراسة الشرق العربي أو الشرق بصفة عامة، دراسة تاريخ شعوبه وحضارته، وهو اتجاه له مواقف معينة من الإسلام ومن اللغة العربية، وقد كُتِب عن الإسلام وعن الفكر الإسلامي شيء كثير في إطار الاستشراق لا يوافق المنظور الإسلامي ويرجع كثير من الباحثين الأمر إلى صورة العرب والمسلمين لدى الغرب، وهي في عمقها لا تخلو من استعلاء، لذلك دعوا إلى علم يقابل "الاستشراق" يسمى علم "الاستغراب"، بوصفه مشروعًا مضادًّا للاستشراق، فالاستشراق مواكب لقوة الغرب، وعن طريق "الاستغراب" يمكن تشييد هذه النظرة النسبية التي تحفظ المثقف العربي من الوقوع في الانبهار من قوة الغرب، والإحساس بالإحباط في مواجهة حضارته المادية، وهم يعتبرون ما بدأ به الإدريسي وابن بطوطة انطلاقًا لأعمال أمثال الطهطاوي والحكيم والطيب صالح صاحب "موسم الهجرة إلى الشمال"في تأسيس علم الاستغراب.
3- العولمة: عرف مصطلح "العولمة" استعمالات كثيرة خلال السنوات العشر الأخيرة مع ضبابية في تعريفه ومر بذلك إلى الخلط الواقع في مفهومه الثقافي.
هي وجه الرأسمالية الحديثة، وهي النظام الذي تسعى الدول الكبرى أن تتحكم من خلاله في العالم، ومن ثم جاء مصطلح "العولمة" وقد اختلف في الموقف منها، باعتبارها أداة حداثة تعتمد على التكنولوجيا، يراها بعضهم خشبة خلاص للخروج السريع من التخلف.
وإذا تأملنا مفهوم "تكنولوجيا" في إطار العولمة، فالمشكل ليس في مدلوله الذي يعني تيسير عملية الإنتاج بأقل التكاليف وأسرع الوسائل، وإنما في ما يترتب عن ذلك في الدول النامية التي تعاني من البطالة وشح المدخول وضعف الاستهلاك.(246/8)
لقد نسفت "العولمة" بقوتها المالية بعض البديهيات التي تقول، إن كل تطور تقني هو زيادة في الإنتاج وبالتالي زيادة في فرص الشغل ورفع الأجور إلخ... العكس ما حصل، لقد لجأت الشركات إلى تسريح العمال وتقليص مناصب الشغل كلما تقدمت في إدخال التكنولوجيا، وهكذا فتحت العولمة باب الأزمات المالية وأن وجه الحداثة الذي تعرضه العولمة يخفي وراءه وجهًا كالحًا ومكشرًا بالنسبة للدول الضعيفة التي تسعى إلى توطين التكنولوجيا للخروج من الأزمة.
4- تثاقف: هو مجموعة من الظواهر التي تنتج عن الاتصال المباشر والمتواصل بين مجموعة من الأفراد في لغاتهم، والتي عن طريقها تحدث تغيرات في اللغات وهذه الثقافات، ويبدو أن العلاقات بين اللغات لا تكون دائمًا متوازنة من حيث التأثير والتأثر مما يجعل بعض الثقافات تهيمن وتقوى وأخرى تضعف وتتفسخ، وقد تسمى أيضًا ثنائية ثقافية ( Biculturisme )، ويعني بها التساكن بين ثقافتين مختلفتين في المنطقة نفسها ، وهي من الرهانات التي لوحت بها الدول الاستعمارية في الظاهر، لكن الواقع أثبت أن ثقافة القوي هي التي تهيمن. والحوار بين الثقافات الذي يدعو إليه بعض المثقفين يجب أن تتوافر له شروطه، التكافؤ بين الثقافتين المتحاورتين فهو ليس كالحوار السياسي ينبني على أرضية للتنازلات بين الأطراف المتحاورة، وإلا كان غزوًا ثقافيًّا، والغزو الثقافي لا يتم دائمًا في ظل القهر واستعمال السلاح، لقد أصبح للغزو الثقافي سلاح أشد فتكًا يتجلى في ثورة المعلومات التي أضحت عمليات التفاعل الثقافي فيها لا تجري
بين طرفين وإنما من طرف واحد يبثها، والآخر سلبي يتلقاها.
عباس الصوري
عضو المجمع المراسل من المغرب
أهم المراجع:
حسن أوريد: حوار الحضارات والأديان والعولمة، الرباط 1998م.
بسام بركة: اللغة العربية واللغات الأخرى، أعمال ندوة الترجمة بالكويت 2001م.
محمد جسوس نتائج الازدواجية النفسي: الرأي الثقافي 23/2/1976م.(246/9)
شوقي جلال: التراث والتاريخ،سينا للنشر 1995م.
أحمد الحارثي: الصورة المتبادلة بين العرب والغرب، العلم 2002م.
ابن خلدون:المقدمة – المكتبة التجارية الكبرى – القاهرة .
عبد الواحد الراضي: التحليل النفسي والاجتماعي للمراهق المغربي: الرأي الثقافي 23/2/1976م.
عباس الصوري: مظاهر الدرس اللغوي، الرباط 1975م.
- في بيداغوجية اللغة العربية، دار النجاح الجديدة 1998م.
المعموري وآخرون: تأثير تعليم اللغات الأجنبية في تعليم اللغة العربية، تونس 1983م.
J.Y Lanchec: psycholinguistique et pédagogie des langues P.U.F.1976(246/10)
اللغة العربية بين العوربة والعولمة(*)
للأستاذ الدكتور كمال بشر الأمين العام للمجمع
أولاً - مقومات القومية:
يقرر الدارسون أن هناك خمسة عناصر أساسية يمكن اتخاذها معيارًا لتصنيف البشرية إلى أمم، ولوضع الفوارق بين هذه الأمم، وتعيين الخواص المميزة لكل منها. هذه العناصر هي: الجنس المشترك (أو الأصل) والدين والقومية واللغة والثقافة. وللغة والثقافة بوجه خاص دور بارز في هذا التصنيف والتحديد، إذ هما بمثابة المرآة العاكسة لكل أنواع النشاط الإنساني في هذه الأمة أو تلك وهذا المجتمع أو ذاك، وهما في الوقت نفسه بمثابة المرشد الذي يمكن أن يؤكد هذا التفريق أو ينفيه.
ثانيًا: لدينا أربعة مصطلحات هي: اللغة والثقافة والعوربة والعولمة
ونبدأ بتعريف هذه المصطلحات على النحو التالي:
* اللغة:
اللغة أداة تواصل ، وسبيل تبادل المنافع وقضاء المصالح بين أفراد المجتمع. يتكلم الإنسان تحقيقًا لخاصة الإنسانية فيه، وهذا يعني أنه اجتماعي بطبعه أي متكلم بطبعه. ويتكلم الرجل العادي في أغلب حالاته وملابساته الحياتية ليشبع اشتياقه إلى الاجتماعية، ويلبي نزعته إلى العيش في جماعة. إن اللغة أهم مقوم من مقومات بناء المجتمعات، تربط الأفراد بعضهم ببعض، وتضعهم على درب موحَّد من الرؤى والاتجاهات، فيقوى البناء وتتماسك لبناته، ويصير سكنًا لهم وعنوانًا لهويتهم وشخصيتهم.
* الثقافة :
الثقافة لها عشرات من التعريفات، وربما يقع الخلط بين مفهومها ومفهوم
الحضارة، وقد يستعمل المصطلحان على ضرب من الترادف. وفي رأينا أن الثقافة والحضارة متداخلتان بل متكاملتان، لا انفكاك لإحداهما عن الأخرى، إنهما تمثلان كُلاًّ ذا وجهين.(247/1)
ويعبر عن رأينا هذا الذي اخترناه مفكر عربي معروف هو الدكتور زكي نجيب محمود، يقول: وبين الثقافة والحضارة ما بين الروح والجسد. فالحضارة منشآت تراها الأبصار وتمسها الأيدي أدت إليها ثقافة تسري فيها بقيمها وأذواقها ومعتقداتها سريان الروح في الجسد، فترى الجسد ناشطًا بفعلها ولكنك لا تراها ".
وهناك على كل حال من يفرق بينهما تفريقًا واضحًا، حيث يطلقون المصطلح "الثقافة" على كل الأمور المعنوية (اللامادية) في المجتمع ، كالأديان والتقاليد والمعارف والآراء والأفكار والنظريات … إلخ . ويخصصون المصطلح "الحضارة" لكل ما يتعلق بالناحية المادية التي تتمثل في المخترعات والابتكارات والإنشاءات العمرانية والصناعية وكل مظاهر الإنتاج كالزراعة والتجارة، وغيرها من الحرف والصنائع التي يلجأ إليها الإنسان في حياته لدعم كيانه وتحقيق أهدافه في سهولة ويسر.
وهذا التفريق بين الحضارة والثقافة – وإن جاز قبوله نظريًّا – يعكر صفوه وينفي مصداقيته أحيانًا ما يوجد من تشابك بين المظاهر المادية واللامادية (المعنوية). فالمخترعات والابتكارات من وسائل الاتصال مثلا كالمذياع والتليفزيون والفاكس وبناء الجسور والقناطر وإقامة التماثيل والإنشاءات المعمارية – كل هذه المظاهر المادية ما كان لها أن تتحقق وتخرج إلى حيز التطبيق الفعلي إلا باعتمادها على تخطيط فكري مشحون بالنظر والتأمل وكوامن الخبرة والمعرفة .(247/2)
فالأَوْلى حينئذٍ أن نقول: إن الحضارة لا تعدو أن تكون تعبيرًا واقعيًّا عن مستوى متقدم من الثقافة. إنها ثقافة معقدة، فهي (أي الحضارة) من ناحية، أرقى درجات الثقافة. ومن ناحية أخرى تمثل الشكل المادي للثقافة. وهكذا يرتد بنا الأمر إلى تأكيد ما ذكرنا سابقًا من أن "الحضارة" و"الثقافة" وجهان لشيء واحد، وإن جاز توظيف هذين المصطلحين لمجرد تعيين هذا الجانب أو ذاك، عند إرادة هذا التعيين. على أن بعض الدارسين – كما قررنا قبل- يفلت من هذا الحوار ويخلص نفسه من هذا الجدل الشكلي ويؤثر توظيف المصطلح "الثقافة" وحده، مطرحًا المصطلح الآخر "الحضارة"، ويرى أن "الثقافة" ذات بعدين: أحدهما- مادي ويشمل كل ما يصنعه وينتجه الإنسان في حياته من أشياء واقعية ملموسة، كالسيارات والآلات والعدد والمنازل … إلخ. وثانيهما- لا مادي ويتمثل في كل مظاهر السلوك من عادات وتقاليد وأفكار ومعتقدات ومُثل وقيم .
ومن التعريفات العامة للثقافة بمفهومها الواسع - مع التركيز على خاصتها اللامادية- قول الدكتور حسين مؤنس في كتابه "الحضارة": "ثقافة الأمة تعني علمها غير الواعي الذي تتوارثه أجيالها وتسير به في شئون حياتها، أي هي طريقتها في الحياة، متضمنة اللغة أو اللهجة من اللغة ونظام إقامة البيوت وأنواع المأكل وطرق تحضيرها وطرق تناولها، والملابس والفرش والثياب وأشكالها، والأمثال والحكايات الشعبية، وتصور أهلها للدنيا وموقفهم من الحياة وطريقة سيرهم فيها، وطرائقهم في الصناعة والزراعة والتجارة والملاحة ".(247/3)
ويقرب منه أو يسير في اتجاهه ذلك التعريف الذي قدمه(إدوارد تيلر) للثقافة والذي – في الحق– ما يزال أساسا لأغلب التعريفات التي قدمت إلينا في هذا الشأن. يقول (تيلر) -وقد صاغ هذا التعريف سنة 1871-:"إن الثقافة هي ذلك المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفنون والأخلاق والتقاليد والقوانين وجميع المقومات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوًا في المجتمع".
* العوربة:
مصطلح حديث استخدمه بعض الكتاب والمفكرين العرب في مقابل (العولمة)ويعنون به نمط الحياة العربية، فكرية كانت أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. فهو مصطلح ذو خصوصية في مقابل عمومية المصطلح (العولمة) .
* العولمة :
وقد أصبحت العولمة حقيقة واقعة منذ انهيار حائط برلين عام 1989م، وانقضاء عصر الحرب الباردة، وانهيار النظم الشيوعية في أوربا الشرقية، وتفكك الاتحاد السوفيتي، واتجاه العالم كله نحو الاقتصاد الحر والاندماج في الأسواق الكبيرة، والاستفادة من المنجزات العلمية والتكنولوجيا الهائلة التي ولدها النظام العالمي الحالي.
ويمكن تعريف العولمة Globalization ، بأنها تعميم نمط من الأنماط الفكرية والسياسية والاقتصادية على نطاق العالم كله. ولأن الدعوة إلى العولمة، ولدت في الولايات المتحدة، فمن المفترض نظريًّا أنها تعني الدعوة إلى تبني النموذج الأمريكي في الاقتصاد والسياسة وفي طريقة الحياة بشكل عام،ومن ضمنها الثقافة والفكر والإعلام.
إن العولمة نفسها بآلياتها وتقنيتها ونظمها الثقافية قد تؤدي إلى ضياع أو إضعاف مئات اللغات،وتدفع التطور العالمي في اتجاه اللغة الواحدة والثقافة الواحدة واللسان الواحد .
وربما تؤدي العولمة إلى طمس الهويات والثقافات الخاصة والمحلية، وعلى رأسها جميعًا اللغات، التي تمثل بالطبع الوعاء الأول للثقافة والمخزون التاريخي للتقاليد والأعراف والفنون والإبداعات والعناصر المميزة لها .(247/4)
وتقول الأرقام الدولية الرسمية إن (تسعين)90% من العناصر التي تتحرك في شبكة الإنترنت هي بالإنجليزية وحدها، و(خمسة وثمانين) 85% من الاتصالات الدولية عبر الهاتف تتم بالإنجليزية أيضًا، وإن أكثر من 70% من الأفلام التليفزيونية والسينمائية بالإنجليزية، و(خمسة وستين) 65% من برامج الإذاعات في كل العالم بالإنجليزية.
إن ظاهرة العولمة في عالم غير متكافئ وفي ظل فجوة كبيرة تفصل بين شعوب متقدمة غنية ، وبين شعوب أخرى نامية فقيرة ، تحمل في طياتها تهديدًا بخطر ذوبان الثقافة تحت مظلة نمط ثقافي موحد، يضم منظومة من القيم، يتم فرضها على بلدان العالم، وهو في الغالب النمط الثقافي الغربي ، وبصفة خاصة الأمريكي ، وهنا تصبح الثقافات الوطنية محل اختبار حقيقي، إما أن تحافظ على تميزها وتفردها وسط هذا الذوبان الثقافي المتوقع ، أو تتعامل مع هذا النمط، وتتوحد معه فتفقد تميزها وتفردها، ومع مرور الوقت تذوب الهويات الحقيقية ، وتطمس الملامح الذاتية ، وذلك هو التحدي الحقيقي الذي يواجه العالم بأسره، وبصفة خاصة دول العالم النامي. ويكون السؤال الجوهري أمام هذا العالم هو كيفية المواءمة بين متطلبات العولمة وضرورة الحرص في ذات الوقت نفسه على التمسك بخصائص الهويات الوطنية وثقافاتها.
تلك هي القضية الجديرة بأوسع نقاش بين رجال الفكر والثقافة والإعلام في العالم النامي ، إذ الكل في قارب واحد .
والسؤال الآن : أين نحن ؟ وما موقفنا وموقعنا من هذه المواجهة الشرسة ؟ وماذا أعددنا لها لغويًّا وثقافيًّا ؟
لموضوع اللغة والثقافة في مجتمعنا العربي أهمية خاصة ، إذ إن وضعهما أو بناءهما الآن يحتاج إلى نظر ودرس كي نتعرف حقيقة الأمر فيهما، بالعود إلى بناء هذا الجانب أو ذاك ، ونكشف عن مكوناته ونخبر هندسته ودرجات التناسق والتكامل بين هذه المكونات .(247/5)
ولعل أول ما نلاحظه في هذا الشأن هو أن بناءنا اللغوي والثقافي بناء ينقصه التكامل والتجانس أو الانسجام بين وحداته . ففي هندسته نشاز ، وفي جوانبه ارتفاعات وانخفاضات ، وفي مادته أمشاج وأخلاط من العناصر . وفي عبارة موجزة نقول: إن هويتنا اللغوية والثقافية هوية مهزوزة ، يشوبها نوع من التفكك والاضطراب ، وضرب من التنافر والتناقض ، ومن ثم يسوغ لنا أن نقرر أن ليست لنا هوية لغوية وثقافية موحدة. فاللغة العربية ( وأعني بها اللغة المنطوقة ) تعاني من بلبلة الألسن، وتعدد اللهجات والرطانات التي تحسب بالعشرات ، بل بالمئات . وكذلك ثقافتنا القومية لم تنج من هذا التفرق والتمزق، ولم تسلم من الخلط وخلخلة البناء: فهناك ثقافة الخاصة، وخاصة الخاصة، وثقافة العامة، وعامة العامة، وثقافة رجل الشارع، وثقافة أهل الحرف والصناعات. وهذه الثقافات-وإن اتفقت في بعض الثوابت، وما أقلها- تدفع بأصحابها إلى مسارات من السلوك متباينة ، وتوجههم اتجاهات متباعدة ، ومن ثم يصعب الالتقاء عند نقطة الهدف القومي بعامة، وأعني بها فكرة الانتماء إلى الوطن المعين . وكذلك بالنسبة للغة .
اللغة العربية الآن فاقدة الهوية فاقدة العروبة . إنها أمشاج وأخلاط من الكلام :فصيحة نادرة الاستخدام ومملوءة باللحن والخطأ، وفي المدارس والمعاهد العامة تقدم بطريقة هوجاء ، غير منضبطة المعالم . وتقدم موادها أحيانًا باللغة العامية بل إن النحو نفسه يقدم بهذه الطريقة .(247/6)
أما في الجامعات فإن أصحاب الاختصاص فيها لا يلقون لها بالاً ، ولا يهتمون بها ولا بدروسها الاهتمام المناسب، حتى إن مؤلفاتهم وآثارهم المكتوبة محشوّة بالخطأ والتجاوز ونلاحظ الخلط كل الخلط في تقديم المواد العلمية ، كالطب والهندسة ونحوهما، حيث يؤثر بعضهم التعامل مع الطلاب باللغات الأجنبية، ضاربين صفحًا عن اللغة العربية، في حين أنه من الأوفق والأسلم بل من الواجب تعريب اللسان باستخدام اللغة القومية.
إن أهمية التعريب في الوطن العربي تكمن في نقطتين مهمتين تؤثران مباشرة على التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي نطمح إليها: أولاهما- إن الطالب الذي يتلقى دروسه وتعليمه بلغة أجنبية يعاني صعوبة استيعاب المادة التعليمية وتمثلها إلا إذا كان هذا الطالب قد بلغ شأوًا عاليًا من الثنائية اللغوية وهو أمر ليس في ميسور الأغلبية الساحقة من الطلاب . وثانيتهما- إن التنمية العلمية والتكنولوجية تحتاج إلى قاعدة شعبية واسعة تتمتع بثقافة علمية وتقنية ، وهذا ما يطلق عليه تعميم الثقافة العلمية، ولا يمكن إشاعة الثقافة العلمية ما لم تكن اللغة المستخدمة هي اللغة الوطنية التي يفهمهما الشعب ويصبح تعلمها في متناول الجميع .
والشارع العربي لا علاقة له بالفصيحة ، وإنما هناك لهجات ورطانات فائقة العد والحصر وهنا نقف وقفة قصيرة مع هذه المشكلة ، مشكلة الفصحى والعامية.
تناحر القوم وتصارعوا حول هذه المشكلة .
وما بالك بالمدارس الأجنبية ومدارس اللغات ؟
لا ننكر أن مدارس اللغات لها اهتمام بالتعليم بعامة وبالعربية أيضًا. ولكن المشكلة تكمن في سيطرة اللغات الأجنبية على الجو التعليمي هناك، الأمر الذي يحشو أذهان التلاميذ بثقافات أجنبية، ويجذبهم نحو هذه الثقافات فتهتز شخصيتهم ، ويضعف – بالتدريج – انتماؤهم إلى الثقافة العربية.(247/7)
أما المدارس الأجنبية فهي بدعة جديدة من بدع التغريب أو العولمة والمفروض ألا يلتحق بها تلميذ عربي، إنها خاصة بأهليها، ولكنا نعلم أن كثيرًا من أبنائنا يلتحقون بها. ما السر وما الحل ؟ لا أدري !!.
وليس معنى هذا كله أننا نحاول حجب اللغات الأجنبية أو اطراحها من الاهتمام. على العكس نحن نحرص كل الحرص على تعلمها والاهتمام بها ولكن بوصفها طلاءً لا بناء. البناء لغة عربية خالصة والطلاء أية لغة أجنبية أخرى .
وهذه الفوضى اللغوية أو ما نسميه نحن "التلوث اللغوي" واضح كل الوضوح الآن في السلوك اللغوي العربي وعند الشباب خاصة وهم رجال المستقبل وعماد الأمة .
* المشكلة :
إذن هناك مشكلة لغوية قد تؤدي إلى ذوبان اللسان العربي وفقد هويته، فيصبح القوم أقوامًا ناشزة متنافرة. وهذا بدوره يؤدي إلى الذوبان الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي أيضًا – كارثة حقيقية - .
* ماذا نفعل ؟
نحتاج إلى تربية لغوية عربية عامة شاملة : في البيت والمدرسة والجامعة والمجتمع بأسره .
* كيف ؟
الطريق الأساسي في هذا الأمر في رأينا هو ما أوجزناه في عبارة واحدة، هو "اسمع وأسمع" ومعناه إذا أردت أن تمرن على لغة ما أو أن تحاول اكتسابها فالنهج الصحيح هو أن تسمع اللغة التي تود تعلمها تكرارًا ومرارًا . وبالتدريج تستقر آثارها في الذهن ، وتستقر هناك خزينة لغوية من مفردات باللسان الحي بصورة جهرية فيزيد الخزن وتنمو اللغة، وتصبح عادة ميسورة .
لم نتحدث العامية بطلاقة ؟
لم نتعلمها بالطرق التقليدية في أي مكان، إنما تعودنا على سماعها وخبرناها ومارسناها، وعلى منوالها نتكلم.
وهنا يأتي دور الإذاعة والتليفزيون. دور خطير ذو بال. إننا قوم نسمع ولا نقرأ… إلخ .(247/8)
والمطالعة الجهرية بدور التعليم من خير السبل لتعرف اللغة واكتساب المهارة في استخدامها، المعلم الناجح يستطيع أن يعالج أصوات اللغة وصرفها ونحوها وأساليبها ودلالاتها في سهولة ويسر،كما يستطيع أن يعود تلاميذه على استخدام اللغة استخدامًا سليمًا إلى حد مقبول معقول.
ومناهج الدراسة في دور التعليم
تحتاج إلى نظرة علمية قومية، على أساس أن اللغة القومية هي الأساس لاكتساب المعارف وتحصيل العلوم كافة. وهذا يحتاج إلى دراسة مستقلة.
أما بالنسبة للثقافة فإن وضعها الحالي ليس بأوفر حظًا من اللغة. إنها هي الأخرى مشتتة الأنحاء والجهات. ثقافة عربية سطحية خليط من هنا وهناك في كل مناحي الحياة. علوم منقولة بالنص أو الترجمة المغلوطة. وفي الكليات العلمية يقع الخلط الكبير في المحاضرات، حيث يحاضرون بالعربية ممزوجة بلغات أجنبية ولهجات عربية عامة وهذه كارثة.
كيف يحصل الطلاب وكيف يستوعبون؟
أما الثقافة العامة ونعني بها أنماط السلوك بين الجماهير العريضة فهي سلوك غريب عجيب وتقليد أعمى لكل غريب صالحا كان أو طالحًا، دون تفريق أو وعي. فوضى في كل مظاهر الحياة، من خروج عن التقاليد والأعراف، في الملبس والمأكل والمشرب(المطاعم دون البيوت)، والتجاوز في التعامل بادعاء الحرية أو الانطلاق في آفاق الدنيا الواسعة. وما الرأي في اللافتات، وما يجري في السينما والتليفزيون من تمثيليات ؟
ومظاهر اللهو والعبث بين الشباب بادعاء الترويح عن النفس أو التجديد في أنماط السلوك الموروثة ، أصبحت عادات شبه مستقرة عند هذه الطائفة من الناس. وقد أدى هذا كله إلى حرمانهم من سمات الأسوياء من البشر، من المحافظة على الوقت، وتحمل المسؤولية والوفاء بالأمانة في أقوالهم وأفعالهم.
إنها جميعًا من آثار التغريب أو العولمة في الثقافة . ويبدو أن هذا التغريب له جذور ووجود من وقت غير قصير. أعني بذلك ما جرى ويجري من التقليد الأعمى للآخرين والنقل عنهم دون وعي.(247/9)
ومن المؤسف والمضحك معًا ما نلاحظه في العقود الأخيرة من الزمن من أن بعض السيدات الحوامل يسافرن إلى أمريكا أو إنجلترا ليلدن هناك حتى يكتسب الوليد جنسية فوقية لا عربية دونية .
أيها الناس: حقيقة الأمر أن العولمة هي أمركة سادت العالم طوعًا أو كرهًا، فمنهم من قبلها بنفسه ومنهم من فرضت عليه فرضًا وهي أمركة ثقافية ولغوية وسياسية وعسكرية أيضًا ونقول: لم هذا الفساد والإفساد الذي جرى ويجري للغتنا وثقافتنا؟ إنها قضية ذوبان لغوي وثقافي ويبدو أن هذا الذوبان آتٍ في القريب العاجل.
القضية ليست قضية أفراد أو فئة من الناس، إنها تحتاج إلى نظرة قومية سياسية علمية من الناحيتين اللغوية والثقافية، أو قل إن قضيتنا هذه تحتاج إلى تخطيط لغوي وتخطيط ثقافي وتخطيط روحي. كيف؟ الإجابة عند كل العرب مسؤولين وجماهير.
ونختتم كلامنا بالتساؤل الآتي: لم كان هذا الفساد والإفساد الذي غشَّى لغتنا وثقافتنا وغيرهما من السلوك في الحياة والتعامل معها ؟
هناك أسباب كثيرة منها :
1- النظرة الدونية إلى تراثنا ومقدراتنا وذواتنا وشخصنا .
2- ضعف الانتماء القومي .
3- التقليد أو النقل بدون وعي.
4- اللامبالاة والتسيب والأنانية والنظرة الفردية .
5- ذوبان الطبقة المتوسطة .
6- ضيق مساحة الحرية .
7- فقدان القدوة الصالحة ،
في البيت وفي الشارع والمدرسة والجامعة .
8- السطحية في التفكير والتعامل مع الأشياء .
كمال بشر
الأمين العام للمجمع(247/10)
التأثير المتبادل بين الثقافة العربية والأجنبية
للأستاذ حسن عبد الله القرشي
تبادل التأثير بين الثقافتين العربية والأجنبية وضع متسع منذ أن تلاقت الفئتان في مسيرة التاريخ، فقد كان للعرب تأثيرهم البالغ في الثقافة الأوربية كما كان لأوربا تأثيرها في الثقافة العربية في نواحٍ مختلفة.
ولابد من الإشارة إلى أن الجزيرة العربية هي أصل جميع الساميين كالكلدان والسريان والكنعانيين.
وقد سعد العرب بطائفة من الخلفاء حرصوا على رفع الشأن الثقافي، وفي مقدمتهم الخليفة المأمون العباسي الذي حرص على ترجمة العديد من كتب الغير حتى ازدحمت مكتبات بغداد بألوان من الثقافات الحية.
كما كان للعرب دورهم الفعال في الترجمة والبحث والعديد من الدراسات كما أشار لذلك عالم الاجتماع الكبير جوستاف لوبون.
ففي إبان النهضة الثقافية العربية كان العرب مثلاً عليًّا في الاختراع والابتكار.
وقد طلعوا على العالم يومًا بما بهر من علم ومعرفة. فقد اخترعوا مثلا علم الجبر وبرعوا في الرياضيات عمومًا واكتشفوا في علم الكيمياء التقطير وأهم المركبات الكيميائية كالحامض الكبريتي، والكحول واخترعوا في علم الحرب البارود والأسلحة النارية وأدخلوا كثيرًا من الأدوية المهمة إلى علم الطب، وهم الذين ابتكروا الصيدلة واستحدثوا الكثير في علم الجراحة، وكانوا أساتذة في العمارة والزخرفة واستخدموا البوصلة في الملاحة وحققوا الأعاجيب في علم الجغرافية.
وحين خبا سراجهم وخلف من بعدهم من أضاع هذا التراث الضخم تلقفه الغرب وحسنه وبرز فيه ثم زاد عليه ما يشاهد الآن من مخترعات ومبتكرات علمية حديثة.
ولقد برزت أمم كثيرة بامتزاجهم بالجو الأدبي العربي كالأمة الفارسية مثلاً، وبهذا الامتزاج نبغ منهم الفلاسفة والعلماء وكبار الشعراء، ويرجع الفضل في هذا إلى الدولة الإسلامية التي كان لها فضل الاختلاط بهم وبناء جدار مقارنة بينها وبينهم.(248/1)
أجل لقد ازدهرت الثقافة المقارنة أيما ازدهار في شتى فروع الثقافة. وإن واجب الأمة العربية أن تحاول استرداد ثقتها بنفسها، فالعطاء العلمي أصبح متاحًا لأمة العرب كما هو متاح للأمة الأوربية سواء بسواء، وحصل الكثيرون من أبنائها على أفضل درجات التشريف العلمي وعلى أقصى الشهادات العليا، وأصبح زاد المعرفة مائدة متاحة لصفوة كبيرة من البشر تنهل من معينه وتقبس من تراثه.
ولاشك أنه كان للهجرات العربية من شبه الجزيرة العربية إلى دول أخرى كالحبشة فضل كبير فيما تم من تفاعلات ثقافية، فالعرب بطبيعتهم أمة تهوى الهجرة خدمة للفكر والثقافة والتجارة، وقد جاء مضمون ذلك في القرآن الكريم حيث نصت عليه سورة (قريش) ومضمونها: "لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" وقد جاءهم في التجارة أيضًا لوم عنيف حين جاء في سورة (الجمعة) قوله تعالى:"وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها وتركوك قائمًا، قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين".
ولقد منَّ الله على بلاد العرب بأرضٍ خصبة ومراعٍ واسعة إلى ما قبل الإسلام في نواحي اليمامة (وقد لاحظ الرحالة الألماني "شونيفرت" أن القمح والشعير والجاموس والماعز والضأن والماشية وجدت في حالتها في اليمن وبلاد العرب القديمة قبل أن تستأنس في مصر والعراق).
وهناك مبدأ الأصالة بين الحضارات والثقافات، فهذا المبدأ قد ساد بين الجميع في حين لم توجد حضارة تفردت بالإبداع وتخصصت فيه دون غيرها من الحضارات سواء في مجالات العلوم أو في مجالات الثقافة وفي مجال الطب، فقد أشاد "هوميروس" في الأوديسة بمهارة الأطباء المصريين وشايعه "هيرودويت" حيث قال: "إنهم كانوا يعالجون أنواعًا من الأمراض يختص كل واحد منهم بمرض يبرع في علاجه".
كما أنه في مجال الطب استعان الفرس بأطباء السريان فأنشؤوا المدرسة الطبية والمستشفى المشهور بجند نيسابور.(248/2)
وفي القديم وعلى طريقة البدواة عرف العرب التطبيب في عصور الجاهلية، ومزجوا الطب بالكهانة فكان لكل قبيلة عرافها الذي يستشار فيما يجرب من أمور.
وفي المجال الطبي قال الحارث ابن كلدة : "من سرَّه البقاء ولا بقاء فليباكر الغداء، وليخفف الرداء وليقل غشيان النساء".
وكان ينهى عن الاستحمام بعد الطعام ويوصي بالتخفف من الديون والهموم ولا يخفى أن الإٍسلام قضى على الكهانة وفتح المجال للطب الطبيعي.
وحين مرض الصحابي سعد بن أبي وقاص، عاده النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "إني لأرجو أن يشفيك الله.." ثم قال للحارث بن كلدة عالج سعدًا مما فيه وكان الحارث على غير دين الإسلام.
وقد استقدم الملوك الأطباء البارعين وأتاحوا لهم الكثير لإجراء تجاربهم وبحوثهم.
وترجمت كتب ابن الهيثم فكان عليها اعتماد الأوربيين في البصريات.
والبحث يطول في استعراض الموضوع.
وذكر اٍلأستاذ عباس محمود العقاد أنه: "قد ظهر من برنامج جامعة (لوفان) المحفوظة أن كتب الرازي وابن سينا كانت هي المرجع المعول عليه عند أساتذة تلك الجامعة إلى أوائل القرن السابع عشر، وجاء المدد من الأندلس العربية فأمد أوربا بمرجعها الأكبر في الجراحة وتجبير العظام وهو كتاب (التعريف لمن عجز عن التصريف) لأبي القاسم خلف بن العباس، وقد طبع باللاتينية في القرن الخامس عشر، وكان قبل طبعه دروسًا متداولة بين أبناء الصناعة يعتمدون عليها في الأعمال الجراحية ولاسيما فتح المثانة وإخراج الحصاة. وقال العالم الطبيعي الكبير هاللر في رواية جوستاف لوبون:" إن كتب أبي القاسم كانت مرجع الجراحين جميعًا بعد القرن الرابع عشر الميلادي، وقد ترك كتيبًا صغيرًا عن الآلات الجراحية التي تستخدم في العمليات على اختلافها مع توضيحها بالأشكال وطرائق الاستخدام".(248/3)
"ولابد من كلمة عن التقويم فقد جاء في كتاب (حضارة العرب) لجوستاف لوبون:" أن التقويم السنوي الذي أصلح في عهد السلطان ملك شاه أصح من التقويم الغريفوري الذي أتمه الأوربيون بعد ستمئة سنة؛ لأنه يقع فيه خطأ ثلاثة أيام في كل عشرة آلاف سنة ولا يقع بحساب التقويم العربي غير خطأ يومين، وأنهم عرفوا مقياس خط النهار قبل الأوربيين بألف سنة".
ولاشك أن ائتلاف الفرس مع العرب كان أمرًا واضحًا وشائعًا وخير ما يصوره شعرًا قصيدة للشاعر الفحل مهيار الديلمي تلميذ الشاعر الشريف الرضي ونصها الآتي:
أعجبت بي بين نادى وقومها
... ذات حسن فمضت تسأل بي
سرها ما علمت من خلقي
... فأرادت علمها ما حسبي
لا تخالي حسبا يخفض بي
... أنا من يرضيك عند النسب
قومي استولوا على الدهر فتى
... ومشوا فوق رؤوس الحقب
عمموا بالشمس هاماتهمو
... وبنوا أبياتهم في الشهب
وأبي كسرى على إيوانه
... أين في الناس أب مثل أبي
قد قبست المجد عن خير أب
... وقبست الدين عن خير نبي
فجمعت المجد من أطرافه
... سؤدد الفرس ودين العرب!
وفي ظل التأثير المتبادل بين الثقافات يشير الأستاذ العقاد إلى كثرة اشتغال المسيحيين بالطب في ظل الدولة الإسلامية، ويشير إلى نبوغ كثير من نصارى المشرق في حقل الطب بينما كانت الكنيسة الغربية تحرم الاشتغال بالطب لاعتقادهم بأن المرض ضرب من العقاب من الله لا ينبغي للإنسان أن يصرفه عمن استحقه واستمر هذا الحجر على مزاولة الطب استنادًا على هذه الحجة حتى انقضاء العهد المسمى بعهد الإيمان مع استهلالة القرن الثاني عشر الميلادي وهو إبان الحضارة الأندلسية.(248/4)
وفي ذات الوقت يشير العقاد إلى أنه في عهد المقتدر بالله دعي إلى الامتحان في ميدان الطب في بغداد حوالي تسعمئة طبيب دون أن يغفل الإشارة إلى أن هؤلاء لا يمثلون إلا طبقة الدارسين للطب أو الراغبين في خوض هذا المضمار، وبالتالي فإن المتميزين من الأطباء الثقات قد تجاوزوا مرحلة الانغماس في الامتحان وكل ذلك في مجمله يكشف عن عناية مفرطة بالطب والصحة لم تشهدها حاضرة من حواضر العالم القديم.
كذلك لم يغفل العقاد الإشارة – في لمحة ذكية – حينما ذكر بأن كثرة عدد من التمس دراسة الطب ينطوي على دلالة هامة وهي أن دراسة الطب لم يكن مبعثها حاجة أفراد أو طوائف محددة وإنما كانت حاجة عمران كامل.
وهي في تصورنا وفي تصور كل منصف محايد دلالة على الرقي الحضاري الذي بلغته الأمة العربية والإسلامية والتي أدركت مدى أهمية هذا الحقل من الدراسات، فعملت على الشروع فيه باستجلاب الأطباء البارعين من الأمم الأخرى لتطبيب الملوك، ولكن كثرة عدد الأطباء يومئ إلى تبني هذا العلم من خلال دراسته والتوسع فيه حتى وجدنا ثماره تتجلى في ترجمة كتاب القانون لابن سينا في القرن الثاني عشر، وهو الموسوعة التي حوت خلاصة ما وصل إليه الطب عند العرب والإغريق والهنود والسريان والأنباط، وكذلك ترجمة كتاب الحاوي للرازي سنة 1279م، وهو أكبر من (القانون) وأوسع منه في المادة والموضوع كما يذكر العقاد، ولذلك أكمله تلاميذ الرازي بعد موته باعتباره عملاً لا يضطلع به الأفراد.
وامتدت الترجمة لتشمل كتب الحسن بن الهيثم في البصريات والتي عولت عليها أوربا في هذا الحقل.(248/5)
ومن المفارقة أن التراث الإغريقي لم ترثه أوربا عن طريق أسلافها مباشرة، فلقد جاء على لسان أبنائها فيما ينقله العقاد عن أساتذة الفلسفة: جيمس وستفال توسون، وفرانكلين شارلز بام وفان لو ستراند، قولهم: "في خلال قرنين نقل إلى العربية كل ما خلفه الإغريق من التراث العلمي على التقريب. وأصبحت بغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة مراكز لامعة لدراسة العلم وتلقينه. وأخذت المعرفة بهذه الثقافة الإغريقية العربية تتسرب إلى أوربا الغربية في أواخر القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر. ولم يكن تسربها من أثر الغزوات الصليبية كما يسبق إلى الخاطر، ولكنه جاء عن طريق صقلية إلى إيطاليا، ومن إسبانيا المحمدية إلى إسبانيا المسيحية ثم إلى فرنسا. وتسابق الرجال من ذوي العقول اليقظة "إلى بلارمة وطليطلة لتعلم اللغة العربية ودراسة العلوم العربية، والعجيب أن معظم هؤلاء الرجال كانوا من الإنجليز مثل أديلارد أوف بات، ودانيال أوف مورلي، وروجر أوف هيرفورد، واسكندر نكوام، وكانت رسالة أديلارد أوف بات في المسائل الطبيعية أول مؤلف علمي أنتجته أوربا الغربية في القرون الوسطى، وقضى بعض الطلاب سنين عدة في إسبانيا ثم قضوا أعمارهم كلها في هذا العمل المقصور على ترجمة الكتب العلمية العربية على اللغة اللاتينية" وهذه النقطة وإن كانت تومئ إلى فضل العرب في إمداد أوربا بمختلف العلوم حتى تلك التي كانت لدى أسلافهم من الإغريق فجهلوها حتى جاء المد الإسلامي إلى الأندلس ليجدوها على الأطباق العربية فإنها تكشف من جانب آخر ما يود هذا البحث أن يقوله وهو أن البناء الحضاري للإنسانية لا يمكن أن يقوم إلا بمؤازرة الأمم المختلفة وبمقدار ما تسهم به كل أمة من قدر.(248/6)
فالعرب والمسلمون لم يعيشوا كأمة منكفئة على ذاتها، وإنما سعت إلى التواصل مع الأمم الأخرى فاستفادت وأفادت، وإذا كانت استفادت من بعض الأمم كما هو الحال في مجال الطب فإنها عكفت عليه بالدراسة والتوسع وأفادت الأمم الأخرى بصورة تفوق استفادتها، وهو شأن كل منجز حضاري يضاف إليه مع مرور الزمن ويتوسع الدارسون في مجالاته وأبحاثه للوصول إلى مرحلة النضج والتميز.
ويشير المؤرخ الهندي مودا بخش في كتابه الحضارة الإسلامية إلى توسع العرب في دراسة الطب، ومدى استفادة أوربا من تطور دراسة الطب لدى العرب بقوله نقلاً عن المقري: "ونال الأندلسيون العرب تقدمًا ملحوظًا في الطب، وسأذكر لكم أسماء يحيى بن إسحاق، والكتاني، والزهراوي، وابن زهر".
وضع ابن زهر(كتاب التيسير) وهو كتاب طبي يتناول فن المحافظة على صحة الجسم، وهو الكتاب الذي قام الدكتور (بارافاكي) بمساعدة طبيب يهودي يدعى يعقوب بترجمته إلى اللغة اللاتينية عن ترجمة عبرية ليستفيد منه (جون داندلو) دوق البندقية وقد طبع منه عدة طبعات في أوربا.
أما كتاب (الزهراوي) فيتناول الجراحة ولا يزال موجودًا، وإني أشعر بالفخر، إذ إن المكتبة العامة في هذه المدينة تملك نسخة ممتازة منه، عاش يحيى بن إسحق في عهد عبد الرحمن الثالث الذي ولاه الوزارة وقد وضع كتابًا قيمًا عن المواد المستعملة في الطب.
وإذا كان حديثنا عن التأثير المتبادل بين الأمم المختلفة قد تركز على جانب الطب باعتباره الميدان الذي يعنى بشئون صحة الإنسان وقوام حياته وحرصه على درء الخطر عن نفسه ومواصلة مسيرة الحياة بقوة وثبات فإن المناشط الثقافية الأخرى قد مرت بالمسار نفسه من حيازة العرب المسلمين لتلك العلوم وتطويرها وبثها بين الأمم المختلفة وفي ذلك يقول جوستاف لوبون:(248/7)
"في تاريخ العرب إذن، مسائل كثيرة تتطلب حلاً، وفيه دروس وعبر جديرة بالحفظ، والعرب عنوان أمم الشرق التي تختلف عن أمم الغرب، ولا تزال أوربا جاهلة لشأنهم، فلتعلم كيف تعرفهم، فالساعة التي ترتبط مقاديرها في مقاديرهم قد اقتربت. إن ما بين الشرق والغرب من الاختلاف عظيم، ويبلغ في عظمه ما يتعذر معه اعتناق أحدهما مبادئ الآخر وتفكيره.
وقلبت مبتكرات العلوم والصناعة كيان الغرب المادي والأدبي رأسًا على عقب، فتعاني مجتمعاته المسنة تحولاً بعيد المدى، ويقاسي خلافًا شديدًا، ويكابد في سبيل معالجة الشرور التي نشأت عن ذلك الخلاف أزمة عامة تسوقه باطِّراد إلى تبديل نظمه،ويئن من عدم الانسجام بين المشاعر القديمة والمعتقدات الجديدة، ويألم من تصدع مبادئ الأجيال السابقة.
وتنال يد التغيير في الغرب الأسرة وحقوق التملك والديانة والأخلاق والمعتقدات".
وكأني بجوستاف لوبون يشير إلى العصور الوسطى، تلك الحقبة التي عاشتها أوربا في ظلام دامس ترزح تحت وطأة الكنيسة المنغلقة والتي انصرفت إلى إصدار صكوك الغفران وتعمل على حجب العلم عن الناس بل سعت إلى عمل حاجز يحجب بين العلم والمتطلعين إليه حتى استفاقت على أصوات الحضارة العربية المنبعثة من المشرق وأزالت الغشاوة عن أبصارها منارات العلم المشعة من جامعات قرطبة وغرناطة وطليطلة وغيرها من الحواجز الأندلسية التي بعثت شعاع الحضارة العربية الإسلامية ليسطع سناه في سائر أرجاء أوربا.
ويضيف بعض الباحثين إلى ذلك الحروب الصليبية كعامل أسهم في مد الغرب وتزويده بثقافة الشرق العربي المسلم فيرى أن تلك الحروب وسعت نطاق الاتصال والاتجار بين أمم الشرق والغرب، وفتحت أبواب الفهم والمعرفة لتضاف إلى انتقال الثقافة الإسلامية إلى أوربا عبر جامعات الأندلس وحملها الثقافة الإغريقية إلى أوربا بطريق إسبانيا وإيطاليا وجنوب فرنسا.(248/8)
ولسنا في حاجة إلى تناول حجم المكتبة الأندلسية من شعر ونثر ومدى تأثيرها على الآداب الأوربية بدءًا من الأدب الإسباني وامتدادًا إلى الأدب الإيطالي وانتهاءً بكافة الآداب الأوربية فذلك معلوم بالضرورة لدى كافة المثقفين.
ولقد نقل الأستاذ العقاد عبارة الكاتب الإسباني (الفارو): "إن إخواني المسيحيين يعجبون بشعر العرب وأقاصيصهم ويدرسون التصانيف التي كتبها الفلاسفة والفقهاء المسلمون، ولا يفعلون ذلك لإدحاضها والرد عليها بل لاقتباس الأسلوب العربي الفصيح. فأين اليوم من غير رجال الدين من يقرأ التفاسير الدينية للتوراة والإنجيل؟ وأين اليوم من يقرأ الأناجيل وصحف الرسل والأنبياء؟ واأسفاه إن الجيل الناشئ من المسيحيين الأذكياء لا يحسنون أدبًا ولا لغة غير الأدب العربي واللغة العربية، وإنهم ليلتهمون كتب العرب ويجمعون منها المكتبات الكبيرة بأغلى الأثمان، ويترنمون في كل مكان بالثناء على الذخائر العربية في حين يسمعون بالكتب المسيحية فيأنفون من الإصغاء إليها محتجين بأنها شيء لا يستحق منهم مؤونة الالتفات، فيا للأسى".(248/9)
إن المسيحيين قد نسوا لغتهم ولن تجد فيهم اليوم واحدًا في كل ألف يكتب بها خطابًا إلى صديق. أما لغة العرب فما أكثر الذين يحسنون التعبير بها على أحسن أسلوب، أو قد ينظمون بها شعرًا يفوق شعر العرب أنفسهم في الأناقة وصحة الأداء، ولم يحصر العقاد هذا التأثير في الإسبان فحسب بل يعرج على ذكر مقولة دانتي شاعر إيطاليا في عصر النهضة حينما قال: "إن الشعر الإيطالي ولد في صقلية" وهي إيماءة إلى تأثير العرب المسلمين في الشعر الإيطالي. ولم يكن من هدفنا في هذا البحث قصر الحديث عن تأثير العرب في الأمم الأخرى خاصة أوربا وبلاد الغرب، وإنما عنينا بذكر التأثير المتبادل بين الثقافات في محاولة الأمم نحو بناء نهضة شاملة، تسهم فيها كل أمة بالقدر الذي ترتقي إليه حضارتها، لذلك أشرنا إلى تأثير الثقافة الفارسية والهندية على الثقافة العربية. وألمحنا إلى اقتباس العرب للفلسفة الإغريقية ليعيدوا صياغتها إلى وارثها الأوربي عبر قنوات الأندلس.
ومن نافلة القول الحديث عن تأثير المنجزات الحضارية المادية الغربية على العالم العربي والإسلامي ونحن ننعم بمعطيات تلك الحضارة في سائر جوانب حياتنا وسفرنا وإقامتنا.
بل إن الأدب المعاصر يشكل ميدانًا فسيحًا لتلاقي ثقافة الأمم وتبادل تأثير كل أمة في مثيلتها.(248/10)
فإذا كان الأدب العربي تأثر بالمدارس الأدبية والنقدية الغربية المعاصرة كالكلاسيكية والرومانتيكية والرمزية وغير ذلك، وقرأ لشكسبير وملتون وهوجو ولامارتين، فإن الأستاذ العقاد يشير من جانب آخر إلى تأثير الثقافة العربية في أدب هؤلاء حينما يذكر أنه لم تنقطع الصلة بين الأدب العربي أو الأدب الإسلامي على الجملة وبين الآداب الأوربية الحديثة من القرن السابع عشر إلى اليوم. ويكفي لإجمال الأثر الذي أبقاه الأدب الإسلامي في آداب الأوربيين أننا لا نجد أديبًا واحدًا من نوابغ الأدباء عندهم خلا شعره أو نثره من بطل إسلامي أو نادرة إسلامية، ومنهم: شكسبير وأديسون وبيرون وكولردج وشلي من أدباء الإنجليز. ومنهم: جيني وهردر ولسنغ وهيني بين أدباء الألمان. ومنهم: فولتير ومنتسكيو وهيجو من أدباء الفرنسيين. ومنهم: لافونتين الفرنسي وقد صرح باقتدائه في أساطيره بكتاب كليلة ودمنة الذي عرفه الأوربيون من طريق المسلمين.
ثم يشير العقاد إلى تأثير القصة الأوربية في نشأتها بما كان عند العرب من فنون القصص في القرون الوسطى وهي المقامات وأخبار الفروسية ومغامرات الفرسان، ويذكر أن طائفة من النقاد الأوربيين أنفسهم ترى أن رحلات جليفر التي ألفها سويفت ورحلة روبنسون كروزو التي ألفها ديفوي مدينة لألف ليلة وليلة، ورسالة حي بن يقظان التي ألفها الفيلسوف ابن طفيل. وما ذكرناه لا يتجاوز كونه ومضات بين إشعاعات متعددة تبرهن على تلاقح الأمم وتبادلها الثقافي نحو بناء حضارة إنسانية شاملة لا تقتصر على أمة دون الأمم، ولا على جنس دون الأجناس وإنما تأثيرات متبادلة وأدوار متعاقبة تنهض فيها كل أمة بدورها المنوط بها بعد أن تكون قد استقت عناصرها الأساسية من أمة سبقتها إلى مضمار الحضارة.
وما ذكرناه ليس سوى غيض من فيض والمزيد متاح للصادي ولكل مستزيد في ما تضمنته المصادر والمراجع باستفاضة حول موضوع التبادل الثقافي والحضاري بين الأمم.(248/11)
حسن عبد الله القرشي
عضو المجمع المراسل من السعودية(248/12)
ثالثًا- كلمة المجمع في تأبين الفقيد
للأستاذ الدكتور يوسف عز الدين
"إبراهيم السامرائي
حرارة كامنة وثورة خافية"
إن ما يؤلم النفس ويدمي القلب ويوجع الجوارح موقف تأبين الراحلين، ورثاء الأحباب، والزملاء. لقد رثيت في المجمع ثلاثة من أساتذتي الذين أعيش بفضلهم وأتمتع بعلمهم، وأتغذى من أدبهم. هم محمد خلف الله أحمد، والدكتور توفيق الطويل، وعبد السلام هارون. وقد أبَّنت في هذا الموقف الزميل بهجة الأثرى. وقد فقدنا هذه السنة الأستاذ الدكتور إبراهيم الترزي الذي كان شعلة وقادة في العمل، ورقة عذبة للإخوان، يضفي علينا من خلقه الكريم وحبه الصادق ما يملأ النفس غبطة والجوارح سرورًا.فرحم الله إبراهيم الترزي وأسبغ الله عليه رضوانه.
وها أنا ذا أقف اليوم في تأبين زميل كان ملء العين في الدورة الماضية للمؤتمر،وقد عشت معه عمرًا جميلاً أيام الشباب النضر والكهولة الهادئة. أيام الإنتاج والإبداع في التدريس في جامعة بغداد والعمل في مؤتمرات المجمع.
إنها سُنة الحياة:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
... يومًا على آلة حدباء محمولُ
"كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام""والله يتوفى الأنفس حين موتها""وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله".
الموت هو الحقيقة الخالدة التي لا يمكن أن نماري فيها.
في العام الماضي في مثل هذه الأيام كنا نجلس في الفندق وكان شديد الألم من تجاهل الوطن العربي للعلماء والمفكرين وعدهم من الأجانب في الإقامة والعمل والسفر والانتظار الطويل في المطارات. وأوجعها كانت مشكلة الإقامة التي تفرض على العربي في وطنه العربي (رخصة عمل) عليه فتُفرَض وكأنه أجير يومي أو من عمال التراحيل.
وفي الغرب يجد العالم العربي كل تقدير ويمنح الإقامة الدائمة بيسر ويكتسب الجنسية دون عوائق.(249/1)
معرفتي بالدكتور إبراهيم ترجع إلى أيام كنا في دار المعلمين الابتدائية في الأعظمية، وقد كان طالبًا لامعًا معروفًا بالتفوق في باريس عندما كان يدرس فيها وأنا طالب في لندن. ثم درسنا في كلية الآداب زمنًا طويلاً. ثم طوحت بنا الأيام فسافر إلى عدد من الأقطار العربية منها تونس وصنعاء وعمان التي استقر بها أخيرًا.
نشر علمه وفضله في الجامعات العربية، وارتوت من فيض فكره عقول، وأينعت من علمه نفوس، وتغذت من ذهنه أفكار الطلاب وسمقت.
عدت بعد المؤتمر في السنة الماضية إلى ويلز وعاد هو إلى عمان وكنت أسمع بأنه في خير ودأب في المجمع والجامعة.
وفي صباح أحد الأيام اتصل بي هاتفيًّا السيد حازم السامرائي وقال بألم قد توفى إبراهيم وهزني الخبر وآذاني – وقال أريد أن تكتب لي صيغة النبأ لنشرها في جرائد لندن وبعدها كتبت مقالة عنه وأرسلتها إلى جريدة لندنية لا أظنها قد نشرتها.
كان إبراهيم نسيج نفسه، فقد قاسى صغيرًا مرارة اليتم، ورقد الألم في اللاشعور،وبالرغم من كثرة ما ألف وحقق وترجم ودرس،فلم يظفر من الكُتاب ما يوازي هذا الجهد الكبير.
وقد جمعت ما كتب عنده فوجدت المصادر التالية:
(شعراء سامراء) للشيخ يونس السامرائي فيه نصف صفحة مع قصيدة ولقد طبع الكتاب عام 1970م ولعله أقدم من كتب عنه.
(الأعضاء المراسلون) الذي أخرجه أستاذنا الدكتور مهدي علام رحمه الله، ولم يزد على أربع صفحات سنة 1995م.
أعلام الأدب في العراق الحديث للأستاذ منير بصري ج 3 سنة 1999م فيه أكثر من صفحتين، وذكر أنه أخذ من كتاب خليل إبراهيم (أدباء العراق المعاصرون) واستند على رأي الدكتور داود سلوم في كتاب لم يذكر اسمه.
(معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين) فيه صفحتان كبيرتان سنة 1995م.
وقد ألف الأستاذ أحمد العلاونة كتابًا بعنوان (إبراهيم السامرائي) سنة 2001 طبع في الأردن ضم ترجمة حياته وكثيرًا من مؤلفاته.(249/2)
كتبت جريدة (الديون) لصاحبها محمد سعيد الطريحي، التي تصدر في هولندا ترجمة ضافية وذكرت كتبه ومؤلفاته وشعره.
وبعد موته كتبت عنه عدة مقالات من قبل الدكتور جليل العطية والدكتور عز الدين رسول، وزودني الأستاذ نجدة فتحي صفوة بجريدة الحياة وتبعها بمقال كتبه سمير غريب، رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق بعنوان (ليس رثاء لمن رحل غريبًا العلامة إبراهيم السامرائي).
حياته بقلمه:
وقد عولت على كتاب الدكتور علام (الأعضاء المراسلون) فوجدته قال عن نفسه: إنه ولد في العمارة في سنة 1923م وأنه دخل الابتدائية ابن سبع سنين، ثم الإعدادية ثم قال تحولت إلى بغداد في دار المعلمين الابتدائية وأكملت خلال بقائي في الدار الدراسة الثانوية العامة ثم التحقت بدار المعلمين العالية سنة 1942م وقضيت بها أربع سنوات وتخرجت منها مدرسًا للعربية في المدارس الثانوية وبقيت سنتين في التدريس ورُشحت بعد ذلك في البعثة العلمية إلى باريس ودخلت السوربون ومكثت ثماني سنوات أتممتها في دراسة اللغات السامية وعدت في بداية عام 1956م حائزًا على شهادة دكتوراه دولة ومارست التدريس الجامعي أكثر من خمس وعشرين سنة، ثم طلبت الإحالة على المعاش. كتب هذا وهو يدرس في الجامعة الأردنية وقال شاركت في مؤتمرات ثقافية ولغوية وكذلك في ندوات وحلقات دراسية وملتقيات أخرى في العراق وفي خارجه وفي الأقطار الأجنبية.
وقال : كتبت الدراسات الكثيرة في العربية وتاريخها ونحوها القديم. كما كتبت في اللغات السامية وصلاتها بالعربية مما يدخل في علم اللغة المقارن والنحو المقارن، وكتبت في تطور العربية وأصولها القديمة والحديثة وانتهيت إلى العربية المعاصرة وكتبت في التعريب وفي المصطلح الجديد وهذه الدراسات نشرت في المجلات العلمية في العراق وفي خارج العراق ومنها مجلات المجامع اللغوية ومجلات الكليات والمؤسسات الثقافية الأخرى.(249/3)
وقد ذكر أكثر من عشرين من كتبه المؤلفة والمصنفة. وإنه حقق بعض الكتب القديمة في التراث، وذكر كتابين هما نزهة الأدباء للأنباري والمرصع لابن الأثير.
لقاء دائم:
كان لقائي به في المجمع كل سنة وكان لقاء الفندق مجالاً للحديث عن حياته، وكانت زوجه ترعاه وتحوب عليه وحدثني عما يعانيه نفسيًّا من المجتمع العربي وماقاساه من الزملاء الذين وثق بهم وعمل معهم وجحود الناس له. ومن أنظمة الدول العربية في الإقامة وإجازة العمل. وذكر مساعدة الأمير الحسن ابن طلال له بالتقدير في أمر الإقامة.
إن تفوقه على أقرانه وهو صغير كان سببًا في مضايقات نفسية له ولأمه. فقال: شقينا من أهلنا وقومنا، وقد أدركت هذا فكان لي من يومي وليلتي. وقد خبرت ضيق الناس وحسدهم وأنا صبي. رأيت من لداتي من أبناء رحمي من لم يكونوا مثلي . فكان ذلك أن أمست أمهاتهم يبغضن ما يكون من سيرتي وتفوقي في الدرس على أبنائهن في نكرانهن لما كانت فيه أمي المتعبة طوال حياتها.
وقد صاحبه هذا الإحساس طوال حياته، فقد كتب في كتابه (فوات ما فات)، "فقد هزني فيها ما حمله على الخصوم الذين تصدوا لي ولم أحمل عليهم شرًّا، ولا سعيت لهم بما يؤذيهم ولكنني أقول لقد كانوا إلبًا عليّ ولكني أتشبث بقول أبي العلاء : (فوا أسفى كم يدعي الفضل ناقص).
حالته النفسية:
كان الدكتور إبراهيم هادئ الحركة خفيض الصوت رقيق المعشر يتحدث دون انفعال أو صخب، ولكن في داخله تمور الآلام، وتكمن الأحزان، وهذا الحزن والألم من مظاهر أهل العراق لما قاسيناه من الحياة التي عشناها منذ أيام طويلة موروثة من السنين، كأنها كانت تثقله وتوجعه كثيرًا.
وتعمق الألم والحزن في نفس إبراهيم منذ طفولته المبكرة وقد وصفها في كتابه (فوات ما فات من حديث السنين)، بصورة مفصلة.(249/4)
انغمس إبراهيم في الدراسة ليبعد عن نفسه الآلام، فكانت حصيلة ذلك بحوثًا كثيرة وكتبًا غزيرة وأفكارًا جديدة حصدها من المكتبة الوطنية في باريس واللوفر والدراسات الشرقية، وصحبته في عمان باحثًا ودارسًا، إنه كثير الحفظ، ثر الرواية حريصًا على اللغة العربية وسلامتها. فأخرج جيلاً يسير على دربه ويتبع خطاه في البحث والتحقيق وحب اللغة العربية.
كتبه ومؤلفاته:
إنه باتساع ساحة عقله وذكائه استوعب ما حفظ من التراث العربي. وكانت قاعدته الدراسة الجادة في اللغات السامية والعكوف على المعرفة العميقة للنحو المقارن وفقه اللغة.
فقد أخرج من المؤلفات سبعة وخمسين مؤلفًا، وقام بتحقيق اثنتي عشرة مخطوطة، وترجم أربعة كتب. كما أوردتها جريدة الديوان الصادرة في هولندا. وهذه لم تذكرها المراجع التي كتبت عنه.
ومن كتب التحقيق ، (الأمكنة والجبال والمياه)، للزمخشري، و(المرصع في الآباء والأمهات) لابن الأثير، وكتاب (النخل) لأبي حاتم السجستاني وقد حقق مع الدكتور أحمد مطلوب ديوان القطامي وأخرج مع الدكتور مهدي المخزومي والدكتور علي جواد الطاهر والدكتور بكتاش ديوان محمد مهدي الجواهري، وحقق الزهري مع الدكتور نوري القيسي، وكشف النقاب عن الأسماء والألقاب لابن الجوزي، ونشر في مجلة كلية الآداب ببغداد، وحقق (السراج واللجام) لابن دريد الذي حققه وليم رايت , (إتمام الفصيح) الذي حققه آربري لابن فارس ونشر في مجلة المجمع العلمي العراقي، وغيرها من الكتب التي سبق أن حققها قبله المستشرقون مما أثار القول عن إعادة التحقيق، وفات القائلون أنه أعاد إلى التراث جانبًا مفقودًا ووضعه بين يدي الدارسين. وقد أصبحت هذه الكتب نادرة.(249/5)
فقد حدثنا الدكتور قاسم السامرائي بأن كتب التحقيق لا تطبع منها غير مئة نسخة إلى المئتين وليس هو الوحيد الذي أعاد تحقيق ما حققه المستشرقون، فهناك أساتذة أفاضل قاموا بما قام به مثل رمضان عبد التواب وعبد الحليم الطحاوي وصلاح الدين المنجد.
إن ما أخرجه من كتب في النحو واللغة والأدب يشكل ذخيرة للدارسين وقد طبعت هذه الكتب في بيروت وعمان وبغداد والقاهرة والرياض والكويت ودبي، وفيها المعاجم والأمثال والنحو والصرف كلها لخدمة اللغة العربية والحفاظ على أصالتها.
نقده:
كان شديد النقد، حاد العبارة، لا يكترث بلوم اللائمين ما دام يرى ذلك في الصواب، وجلب له عداء الباحثين لأنهم لا يرضون الكشف عن أخطائهم وليس هو الوحيد في هذه الحدة، فقد وجدناها عند العقاد، وزكي مبارك،والرافعي، وإبراهيم المازني.. لكن أهل مصر أرحب صدرًا وأرق خلقًا برغم شدة الخصومة وجرح القول، فهم يقبلون ما لا نقبل في العراق بسهولة ويسر.
سامراء:
لقب بالسامرائي نسبة إلى مدينة آرامية اسمها (سامرا)،هاجر منها أهله إلى جنوب العراق وعاشوا في مدينة العمارة وشكلوا جالية سميت بالسوامرة. و(سامرا) موجودة قبل أن تكون العاصمة الثانية للدولة العباسية التي عاش فيها سبعة من الخلفاء ما بين سنتي 836هـ – 893هـ وقد استمرت في الوجود لأن فيها إمامين من أبناء الرسول هما:علي الهادي وابنه الحسن العسكري. إذ جلب المتوكل على الهادي إثر رسالة بعث بها والي المدينة يقول فيها: إن الناس يقولون إن الخليفة (علي الهادي) لا (المتوكل) لاحترام المسلمين له وطاعتهم له وتقدير لشخصيته فهو من نسل الإمام علي (رضي الله عنه)، فسجنه في سامراء فكان موته فيها خيرًا على البلد التي يزورها كل سنة آلاف من الزائرين.(249/6)
كانت تقطن فيها سبع عشائر، ثم تفرعت إلى إحدى عشرة عشيرة وحتى لا تتفرق هذه العشائر ويضيع نسبها، اتفقت على جعل المدينة لقبًا لكل أبناء العشائر على اختلاف الأسماء وتعدد العشائر.
وقد اشتهر منها عدد كبير من العلماء والشعراء ولعل البحتري وقصيدة (البركة) من القصائد الرائعة التي نظمت في بركة المتوكل ونسيت بأنها نظمت في سامراء:
ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها
... نَعم ونسألها عن بعض أهليها
وقد رأيت حفرة متواضعة بين ركام من الحجارة والأنقاض قيل لي هذه هي البركة. تبكي على أيامها الناضرة الزاهرة وقد ابتعد دجلة عنها ولابد أن نذكر أن (كروسول) سجل صورًا عديدة من قصور سامراء لم يبق منها أي أثر بعد أن زحفت البيوت عليها.
كما اشتهرت قصيدة علي بن الجهم التي نظمها في سامراء:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
ولا يعرف الكثير إنها نظمت في رصافة سامرا وليست في رصافة بغداد وجسرها، فقد كانت هناك رصافة في الحيرة والأندلس ودمشق. ومن مشاهيرها ابن المعتز خليفة اليوم الواحد، وإبراهيم الصولي وأحمد النديم. ولا ننسى المعتصم وفتح عمورية وقصيدة أبي تمام، ونذكر الفتح بن خاقان الذي قتل دفاعًا عن المتوكل وفيها عرف عبد الملك ابن الزيات وغيرهم كثير.
موقف الشاعر من الحداثة:(249/7)
إن من يعيش ويحقق وينشر المخطوطات ويكب عليها سنوات عمره ويصرف شرخ الشباب، لن يعجبه الخروج عليه ومهاجمته والابتعاد عنه؛ لأنه يراه القاعدة التي يجب أن تحتذى والنبع الذي يجب أن يرتوي منه الأديب فلا عجب أن وقف الدكتور السامرائي موقفًا صلبًا أمام التطور والتجديد والخروج على عمود الشعر وأصالته، فقد نشرت مقالة في مجلة العربي نال منها الكاتب من أصحاب الشعر المحافظ، أصحاب الوزن والقافية (الذين مضوا وبقيتهم في عصرنا نسلبهم مما تمسك به هو وصحبه أولو الحداثة من مصطلح الإبداع الذي شاع بينهم). ولما قرأ ذلك قال حفزني الحديث الشريف (المتشبع بما لا يملك كلابس ثوبي زور)، والمتشبع هنا مما خيل لهم أنهم شبعوا وامتلؤوا ولكن هيهات هيهات، فهل كان لنا أن نحيي هذا الكلم؟ وكم بنا حاجة إلى مثله في عصر استعجمت فيه العربية)؟.
وقد كان يبتئس حين يرى الجديد الذي غلب على عربية الصحف التي تأثر بها أهل الأدب وقال: إن في العربية سعة أتبينها في لغة (التنزيل العزيز). وقد احتفي حفاوة بأمثلة الشعر الأصيل منها أبيات الشريف الرضي في رثاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
يابن عبد العزيز لو بكت العين(م)
... فتى من أمية لبكيتك أنت أنقذتنا من السب والشتم(م)
... فلو أمكن الجزاء جزيتك دير سمعان لا عَدتك الغوادي
... خير ميت من آل مروان ميتك
وقال: (احتفلت بها لما أنبأت من حرارة الصدق وما يدعوه نقاد عصرنا بـ (بالانفعال العاطفي)، هذا الانفعال الذي نسوه واستبدلوا به مصطلحًا جديدًا هو الإبداع).(249/8)
لقد تحريت إبداعهم في حديثهم عن فلان وفلان وجمهرة أخرى من ناشئة حداثتهم، فلم يكن لي شيء وعدت خالي الوفاض. وعندما قرأ الشعر الذي رثي به الشاعر الكبير نزار قباني وخرج بهذه النتيجة فقال: "قد يكون لي أن أقول إن لهؤلاء جملة ألفاظ لا تبئس مما هو دارج ولو كان لهم أن ينطلقوا من أسرار (الإعراب) في العربية مما هو نحو وصرف لفعلوا كما انطلقوا هربًا من الوزن والقافية).
وقد اتخذ من رثاء أصحاب الحداثة للشاعر نزار قباني نموذجًا من عدم فهم هؤلاء معنى الرثاء فقال: "نعم لو كان لهم ذلك لجاز، ألا ترى أن هذا الذي أبنوه وهو نزار قباني جنح إلى شامية يملأ بها جديده الرث، ألا تراه مرة قد أتى بشيء من تجربة العصر فجعله (كولا) مجتزئًا به عما هو (كوكا كولا) أو بيبسي كولا، قال هذا في جملة من أصحابه فكان بعض (الإبداع الجديد). وقال:"لقد أشرت إلى أن جمهرة من هؤلاء قد رثت القباني وبكته ولكني جريت مع هذا الذي سطر، فما كان لي أن أجد من الرثاء فيه.
وقد تحدث عن بدر شاكر السياب والبياتي ومن معهم من شعراء الحداثة. ولامهم لابتعادهم عن القديم (وقد ابتعدوا عن هذا وحجتهم أنه قديم رث بالٍ وتشبثوا برموز لم يدركوها لأنهم أخذوها مما يسطره فلان أو فلان من اللبنانيين الذين ليس لهم من العربية إلا رسم الحرف).
وقال: "وهل القارئ الأديب أن يتبين شيئًا من إنسانية أو حياة في كثير من أدب الكبار من أهل الحداثة. وأنت إذا استثنيت إقليمية السياب البصرية، فأي شيء تقف عليه لدى البياتي من حياة أو إنسانية؟ إن خمرته غير خمرة النواسي وليست خمرة عمر الخيام، إنه و غيره، عارٍ من بعيد عن الأناسي ثم إنهم لغطوا كثيرًا بشأن الأسطورة فهم لم يهتدوا إليها حتى السياب الذي لحق أو ألحق نفسه بجماعة (شعر) وفيهم يوسف الخيال الذي كان عيالاً على رموز رومانية وفينيقية وإغريقية".(249/9)
إن حياته التي غمرت بالمحافظة العميقة جعلته يقف بكل شدة وقساوة أمام كل ضرب من الخروج عن الأدب العربي القديم. فقد قرأت عليه قصيدة ونحن في باريس فثار عليّ بعنف وعلى شعري بقسوة، ولم أرد عليه، إنه شديد الحرص شديد المحافظة إلى حد القسوة.
فقد أكد تجديدي خمسة عشر كتابًا عن هذا الشعر وتمت ترجمته إلى الإنجليزية والفرنسية والبولونية والإسبانية ولغات أخرى.
شعره:
أخبرني في السنة الماضية بأنه في صدد طبع ديوان شعره ولابد أن خرج الديوان، لذلك اكتفيت ببعض ما توافر لدي من شعره.وأول هذه القصائد كان قد كتبها في باريس عام 1952م، وآخرها ما نشرته جريدة الديوان في هولندا وما نشر في مجمع البابطين.
لن يجد الدارس اختلافًا كبيرًا في أسلوب شعره بالرغم من مرور هذه الفترة من الزمن، فقد بقي محافظًا شديد المحافظة متمسكًا بعمود الشعر بقوة شديدة، فكان شعره جزل العبارة قوي الديباجة عميق الفكرة سامي المعاني، لكنه بقي في ساحة الأدب القديم لا يريم عنها ويخرج إلى حياة القرن، يحس القارئ بالألم الذي استكن في لاشعور الشاعر وعقله الباطن وهو يترجم الأسى والحزن والغربة بكل وضوح وبكل جلاء لم يقدر أن يتخلص من النسج القديم. وبقي في إطاره ينظم عواطفه وأحاسيسه ولم يخرج بك في شعره إلى العالم الجديد ولولا ذكر الأحداث المعاصرة لحسبته أحد شعراء العباسيين أو الأمويين.
الغربة والشتات:
إن الغربة الروحية والشتات للعالم العربي والمفكر العربي والهاربين من ديارهم مع المهاجرين عن أوطانهم واللاجئين من العرب سواء من فلسطين أو الوطن العربي كانوا رفقة الشاعر حينما قال:
أرفاق الشتات حسبكم رحبًا من أرضنا قطعًا
قد رضيت الصدى وبي ألم أتشهاه لا كمن رضعا
ورجوع يحفه شرف غير سعي لخائب رجعًا
وقد نشرت جريدة الديوان في هولندا له قصيدة طويلة حوالي السبعين قال في مطلعها:
أنا الشريد وصوت أيامي ورائي(249/10)
سجل فيها آلامه وغربته الروحية وشقاءه النفسي من الأيام وهي ظاهرة على جميع الشعراء العرب الذين هجروا بلادهم، قد أهاج الحنين في النفوس أرق أنواع الشعر الحزين وأعمق القصائد الراقدة في الإحساس والشعور الداخلي.
ومن القصيدة:
أنا الشريد وصوت أيامي ورائي
وبقاؤهن يقض مضجعي الكئيب وما ندائي
وأنا الشريد وأين قصدي والذي أشكو إزائي
ثم يهاجم الأيام التي تغيرت فيها المفاهيم العالية حتى تصدر الدجال والمرائي والمتزلف في الحياة العامة فقال:
لا كان عهدًا ساد فيه زعنفة مرائي
هي تلك الحياة ومازلت الشقي بها بدائي
سلبتني السمح البهي فهل بباقية غنائي؟
فتشت عن أهل المروءة قد تداعوا في الخفاء
غادرت أرضًا كان لي فيها لفيف من صفاء
طبعتهم مني هدى يقتاده بعضُ الإخاء
فإذا حرمت من الإخاء حرمت من نعم الوفاء
إني وإن ناجيت أشجاني سكبت لها غنائي
وجعلت من أنفي الحمى حمى فكان به احتمائي
ولم ينس معاناته من الإقامة وما قاساه من الحصول عليها فقال في محنة الإقامة:
أأنا البعيد الأجنبي وقد يقال أنا القريب؟
ولربما قد قيل لي: أنت الشقيق ولا أجيب
أسعى واستهدي الإقامة غالها زمن عصيب
أسعى لدائرة (الأجانب) كل قاصدها حريب
أفكل عام، كل منتحن بسحنته كئيب
يا صاحب الرأي الرشيد أنا البعيد أنا القريب
وأكون في بلد يقال له الشقيق أنا الحبيب
إنها حالة نفسية صور بها حال العربي في قطر عربي شقيق إنه الألم، لتفرق الأمة العربية وظهور الإقليمية التي غرسها فينا الأعداء وقد التزمنا بها وأصبحت حقيقة واقعة لا يمكن الخروج عنها.
هذه فكرة عامة عساني استوفيت جوانب عالم من علماء العربية وقف
حياته كلها على خدمة تراثها وبث العلم بين أبنائها محاضرًا وأستاذًا ومؤلفًا ومشرفًا. قليل مثله بين زملائه ذكاء وعلمًا وحبًّا للتراث الأصيل.
اللهم ارحمنا وارحم علماءنا وسدد الخطى في خدمة هذا الحرف الذي خدمناه لوجه الله والأمة والعلم.
يوسف عز الدين(249/11)
عضو المجمع من العراق(249/12)
دور العلاقات الدولية في التأثير المتبادل بين الثقافات(*)
للأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي
كانت أكبر مؤاخذة عندي على مؤرخينا بصفة عامة أنهم كانوا لا يولون اهتمامًا للتاريخ الذي يربط بلادنا بالأمم الأخرى، إن كان على صعيد العلاقات الدبلوماسية أو على صعيد العلاقات الثقافية والإنسانية، وكأنهم أو بعضهم على الأقل، يتعمدون الخوض في مثل هذه القضايا، وأحسب أنهم كانوا لا يريدون إطلاع الجمهور على ما كان من صلات بين القادة المسلمين والقادة المسيحيين لاعتبارات ظرفية.
وإلا فكيف نفسر صنيع الطبري وهو يعالج هذه العلاقات بالكثير من الشح في الكلام،والكثير من الحذر في التعليق(1)؟ حتى جاء بعده المقريزي مثلاً ليتحدث لنا عما قام به الخليفة
الوليد بن عبد الملك بن مروان، الذي عمر مسجد رسول الله بالمدينة المنورة عام 88هـ = 707م على يد واليه على المدينة عمر بن عبد العزيز(2).
وحتى يحقق ما خطط له الخليفة من إنشاء مسجد في مستوى مناسب بعث سفيره إلى إمبراطور الروم في بيزنطة الذي بعث باليد العاملة وبالمواد… تمامًا على نحو ما سيتم بالنسبة لجامع بني أمية بدمشق(3). وإلا فكيف نفسر سكوت ابن خلدون بالمغرب عن استنجاد دول أوربا ببني مرين لحماية أسطولها وبناء ممالكها على ما تشهد به المعاهدات المبرمة والممهرة بأختام الأطراف المعنية، سكوته على مثل هذه الاتصالات مع(250/1)
أنه شاهد عيان فيها حتى عثرنا على نصوص تلك المعاهدات في الأرشيف الفرنسي(1)، تساؤلات مذهلة لا نجد جوابًا عنها إلا فيما أخذ يظهر بين الحين والآخر عبر تلك الأرشيفات مما يرفع بعض الغموض الذي ظل طابع المصادر العربية لتاريخنا الدولي على العموم، واليوم ونحن مع هذا الموضوع الطويل العريض: (التأثير المتبادل بين الثقافات العربية والأجنبية) تنصب أمام عيني قصة طريفة حكاها المقري في (نفح الطيب)، ونجد المتعة نحن في ترديد صداها في مجتمعاتنا الأدبية مع معرض الحيرة التي تمتلك الإنسان وهو يمارس عمله اليومي، تلك الحيرة التي تجعلنا أحيانًا غير قادرين على التحرك، وربما عقيمي الإنتاج، معطلي الرأي.
القصة تقول عن أحد رموزنا الكبار علي بن سعيد الذي نعرفه
جميعًا من خلال تأليفه، ومن خلال مركزه ومكانته شرقًا وغربًا(2).
قال: أخذت مع والدي يومًا في الحديث عن اختلاف مذاهب الناس وأنهم لا يسلمون لأحد في اختياره.
فقال: أضرب لك مثلاً: يحكى أن رجلاً من عقلاء الناس كان له ولد، فقال له يومًا، يا أبي ما للناس ينتقدون عليك أشياء وأنت عاقل؟ ولو سعيت في مجانبتها سلمت من نقدهم. فقال: يا بني إنك غر لم تجرب الأمور، وإنَّ رضا الناس غاية لا تدرك، وإني أوقفك على حقيقة ذلك، وكان عنده حمار، فقال له: اركب هذا الحمار وأنا أتبعك ماشيًا، فبينما هو كذلك إذ قال رجل: انظر، ما أقل هذا الغلام بأدب! يركب ويمشي أبوه!! وانظر ما أشد تخلف والده لكونه يتركه لهذا! فقال له: انزل أركب أنا وامش أنت خلفي. فقال شخص آخر: انظر هذا الشخص ما أقله شفقة ! ركب وترك
ابنه يمشي! فقال له: اركب معي، فقال شخص: أشقاهما الله! فقال له: انزل بنا، وقدما الحمار وليس عليه راكب. فقال شخص: لا خفف الله عنهما! انظر كيف تركا الحمار فارغًا وجعلا يمشيان خلفه! فقال: يا بني: أسمعت كلامهم؟ وعلمت أن أحدًا لا يسلم من اعتراض الناس على أي حالة كان…(250/2)
هذه القصة الطريفة التي دونت لنا فصولها في النصف الأول من القرن السابع الهجري ونحن في الأندلس… هي ذاتها ينقلها الشاعر الفرنسي جان دو لافونتين ببعض الإضافة، عام 1668م تحت عنوان (الطحان وابنه والحِمار) فكيف وصلت إليه وبأي طريق؟ لا أرى جوابًا لذلك،إلا القول بأن الأمر حصل عن طريق العلاقات التي كانت تربط بين الأندلس والجهات الأخرى التي كانت لا تجد غضاضة في التناقل والتثاقف إن صح التعبير…
قال لافونتين عن الشيخ الطحان الذي قرر عزمه على أن يبيع حماره وحتى لا يتعب الحمار اتفق مع ابنه على أن يتعاونا على قيده وحمله لكي يصلا به إلى السوق وهو على حال من الراحلة تشجع الراغبين في شرائه(*).
وفي أثناء الطريق سمعا أحدهم، وكان أول من رآهم، يسخر من الوضع متسائلاً عن الحمار الحقيقي من بين الثلاثة؟! وهنا فكر الشيخ الطحان في أن يفك قيده وينزله إلى الأرض ويركب صغيره عليه، فمر ثلاثة من التجار فانتقدوا ركوب الطفل وتجشم والده السير في الطريق…! وهنا أنزل صغيره وركب هو فمرت ثلاث فتيات.. لم يترددن في انتقاد الوالد الذي رضي بترك ابنه يتحمل التعب… وحينئذ حمله معه على ظهر الحمار… وبعد ثلاثين خطوة ظهر فريق ثالث ينتقد فقدان العاطفة عند الأب والابن اللذين
يتعديان على هذا الحيوان! لاشك أنهما يرغبان في قتل الحمار، وبيع جلده في السوق! وهنا نزل الشيخ وأنزل معه ابنه وترك الحمار يمشي دون راكب… الأمر الذي ريح الحمار الذي خف ظهره! وهنا مر بهم أحد هم فقال متسائلاً: هل أصبح من"الموضة"أن يحتفظ الناس بحمارهم دون أن يستعملوه ويتحملوا هم المشي على أقدامهم، يمزقون أحذيتهم؟
واقتنع الشيخ الطحان أخيرًا بأن إرضاء الناس غاية لا تدرك، فلتفعلوا ما تعتقدون أنه الصواب ولا تبالوا بنقد ناقد ولا عتاب أحد!!(250/3)
ومثل ما وجدناه في المصادر الفرنسية التي لمسنا فيها هذا التأثر، نجده بطبيعة الحال في المصادر الإسبانية، التي كان لها مع التأثر والتأثير نصيب مهم، ويكفي أيضًا أن تتجول قليلا فيما يحتفظ به القاموس العربي من كلمات قشتالية وما يحتفظ به كذلك القاموس الإسباني من
تأثيرات عربية…
ونظرة عابرة على يوميات الوزير الغساني عندما زار إسبانيا أواخر القرن السابع عشر، وعلى يوميات ابن عثمان والزاياني، والغزال، والكردودي، والشنكيطي والوداني، ثم نظرة على زيارة أحمد زكي أواخر القرن التاسع عشر… ومحمد فريد في بداية القرن العشرين… ثم أحمد شوقي 1915 – 1919، وشهادات عبد الرحمن البرقوقي، ومحمد كرد علي، ومحمد الحبيب البتنوني… وسعيد أبو بكر، ومصطفى فروخ…
كل هذه الشخصيات إلى غيرها من الذين كتب لهم أن يتعرفوا على إسبانيا يعرفون أكثر من غيرهم عن التأثير المتبادل في الثقافة الموروثة عن الحضارتين(1).
ومثل هذا نقوله عن البرتغال التي امتزجت حضارتها بحضارة العرب عبر الوجود المغربي في ديارها(2).
ولابد أننا نعرف جيدًا عن أصداء المغرب عند المؤلفين الإنجليز… وخاصة من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر… أي منذ عهد إليزابيث(*) الأولى عندما تردد على إنجلترا سفراء من المغرب في مستوى رفيع… يضاف إلى هذا أن احتلال طنجة من قبل الإنجليز من عام 1661م إلى عام 1684م كان له تأثيره على العلاقات بين البلدين فيما يتصل بالتأثير المتبادل بين الثقافات…
وهنا سنقرأ القدر الكبير من أنماط الأدب الإنجليزي الذي كان غير قادر على حماية نفسه من التأثيرات المغربية في شتى مجالات الاتصال.
على أن هناك جانبًا لا ننسى أثره البارز فيما عرف عن العلاقات بين الجهتين، هذا الجانب الذي يتمثل فيما كانت البحار تشهده من عمليات قرصنة متبادلة بين الطرفين:(250/4)
الإنجليزي والمغربي، هذه القرصنة التي وإن تركت لها آثارٌ سلبية على العلاقات لكنها من جهة أخرى عملت على معرفة طرف بالطرف الآخر عن طريق الأسرى هنا وهناك، وما تركه بعضهم من مذكرات ويوميات ومؤلفات. ويكفي أن نعرف أن من بين سفراء المغرب إلى الملك شارل سفيرًا كان يقول الشعر بالإنجليزية، هو محمد بن حدو الذي قدم محاضرة في الجمعية الملكية البريطانية التي كانت بمثابة أكاديمية علمية على ذلك العهد.
ومثل هذا أقوله بالنسبة لنا نحن، فكم هي كثيرة أوجه الشبه بين ما كنا ننقله عن الثقافة الأخرى وبين ما يتردد في أوساطنا من عادات وعائدات، فقد كنا نقتبس ولكنا ننسب المقتبس إلى أهله، وهذه أمانة قل نظيرها في عرف الثقافات، كنا نقتبس ولكنا كنا نضيف، وكنا نسهم في تنمية الزاد المعرفي… هذه حقائق
لست بحاجة إلى ترديدها لأنها مقروءة في كل كتاب يتداوله المثقفون اليوم سواء أكانوا أطباء أم مهندسين أم جغرافيين أم دبلوماسيين. وما دام موضوع حديثنا اليوم عن دور العلاقات الدولية في هذا التأثير الذي أفضل أن أسميه كذلك "بالتأبير" فقد كنا نقوم – شعرنا أم لم نشعر –بعمليات "تأبير" نأخذ ونعطي، نؤثر ونتأثر من غير أن يقف بعضنا حاجزًا دون تلقي ما عند الآخر.
ونحن نتفاوض مع الأمم الأخرى حول قانون البحار مثلا كنا نستعمل في العصر الوسيط كلمة القرصان… استعملناها بالمفرد، والجمع: قراصنة، بل وجعلنا لها مصدرًا فقلنا القرصنة، ومع أن الكلمة من أصل أوربي، إيطالي: قرصال CORSAL باللام لكنه حُرِّفَ في استعمالنا، فيما بعد، إلى قرصان بالنون…
ونحن نتفاوض مع الأمم الأخرى في العصر الوسيط عما يحكم صلة السلام بيننا وبينهم كنا نضبط أمورنا فيما لنا وعلينا…(250/5)
وأريد التنبيه، قبل أن أستمر في الحديث، إلى أن الذين كانوا يدَّعون في القرن الماضي أن العرب إنما عرفوا أسلوب كتابة الاتفاقات عندما وقفوا على اتفاقية سليمان القانوني مع العاهل الفرنسي فرانسو الأول عام 1536م وإلا عندما أبرمت معاهدة (ويستفاليا) عام 1648م.
هؤلاء جميعًا كانوا لا يعرفون عن تاريخنا، وكانوا لا يعرفون عن علاقات العرب بغيرهم من الأمم من فجر التاريخ، علاقاتهم الموثقة بالمعاهدات والخطابات المفصلة بندًا بندًا في المدونات المنبثة في المكتبات عبر الدنيا شرقًا وغربًا.
هناك اتفاقية للخليفة المنصور الموحدي مع جمهورية بيزة عام 582هـ = 1186م تنص على كتابة خمس نسخ من المعاهدات ليتمسك بها كل الأطراف، وهناك اتفاقية للسلطان الأشرف ملك مصر مع الملك جيمي الثاني Jaime II ملك أراغون، بتاريخ 682هـ = 1292م تحتوي على البنود والشروط، الأمر الذي يزيف دعوى تأخرنا عن التوثيق والتدوين، وهكذا فإن قضية التأثير المتبادل بين الثقافات كانت تتم من خلال هذه العلاقات الدولية منذ وقت مبكر. ومن خلال تلك العلاقات الدولية نكتشف عددًا من الكلمات التي أصبحت سائرة الاستعمال في هذا اللسان أو ذاك.
وهكذا لم يسجن علماء اللغة أنفسهم في محيطهم الخاص، بل إنهم اقتبسوا من هذه اللغة أو تلك ما أثروا به لسانهم، على نحو ما نجده في المؤلفات التراثية والقواميس والموسوعات من كلمات فرضت نفسها على هذه البيئة أو تلك، فإن الكلمات العربية اقتحمت اللغات الأوربية، وطائفة من المفردات المستعملة في اللغات الأوربية أصبحت الآن مألوفة في اللغة العربية.
لنذكر مثلاً بعض الكلمات التي رحلت إلى الضفة الأخرى وأصبحت تحمل نفس المدلول الذي كان لها في الأسرة العربية…(250/6)
الأمان – الأمير – أمير البحر – البراءة – البركة – الترجمان – التنفيذ – التعريف – الجرة – الحلفاء – الحلقة – الخان – المخزن – المخطاف – دار الصناعة – الديوان – الرطل – الزعفران – الكحول – المصطكي – الناظر – العنبر – الغزال – القبة – الفندق – القاضي – السكة – السلطان – الشُّلظاظ – الظهير – المشرف – الولي – إلى آخر اللائحة الطويلة…
وفيما يتصل بالمفردات التي احتضنتها اللغة العربية فإن فيها ما يرجع لأصل أوربي، وفيها ما يرجع لأصل تركي، وفيها ما يرجع لأصل فارسي،وهكذا وجدنا في وثائقنا المتصلة بالعلاقات الدولية أسماء مثل: الأرمادا، أنجينيور،البابور، باصبور، باساجير، البنديرة، البوكاضو، البيلوط، الكدش، كانابي، كونطرباند، الكشنية كورطوازي، الكومانية، الكيرة، ميركانط، النورابل، الصاكا، الكولف،الفابور،الفريشكو،الفنيقة،سوطا، الشمرير، إلى آخر اللائحة الطويلة.
أما عن الكلمات التي ترجع إلى أصل تركي فإننا نجد:
الانكشارية – بقشيش – الطبجية – الكاهية – المنجنيق – السنجق – السفرجي – الجمرك – الياطاكان … إلى آخر اللائحة الطويلة…
وإني إذ أسوق هذه المفردات التي رحلت إلى الآخرين، أو استقبلناها نحن من الآخرين فإنه لا غنى لي عن القول بأن العلامة القلقشندي أورد في موسوعته التي تتناول جانبًا هامًّا من العلاقات الدولية لدار الإسلام، أقول أورد بدوره في صبح الأعشى طائفة من المفردات والكلمات التي أصبحت اليوم من موروثنا الحضاري مثل الحامكية واليرليغ والترجمان والدوك والدست
والرِّي والسبنية والسنجق، والفرمان والقنصل والقيصر، إلى آخر اللائحة التي جاءت في فهارس الصبح (*)…
ولابد لي أن أشير إلى ظاهرة أخرى تطرح إشكالية حضارية كبرى، وتتجلى في الأرقام التي تستعملها العوالم اليوم للتواصل فيما بينها من شانكاي إلى شيكاكو ومن جاكارتا إلى تنبكتو!(250/7)
كل الوثائق الدولية مشرقًا ومغربًا كانت قديمًا تجمع على كتابة الأرقام بالكلمات العربية، فهي تقول مثلاً في المغرب على عهد الموحدين: "وكتب في أوائل رمضان عام اثنين وثمانين وخمسمائة". وكان الأمر كذلك بالنسبة لأهل بلاد المشرق فقد كانوا يقولون على عهد الملك الأشرف مثلاً "انتظمت الشروط يوم الخميس تاسع عشر صفر سنة اثنتين وتسعين وستمائة".
وعندما ظهر العثمانيون بالمشرق شاع هناك استعمال الأرقام
التي كان يستعملها الأتراك وهي المعروفة عندنا بالأرقام الهندية، هذا بينما استمر المغاربة على استعمال الأرقام المعروفة في الموسوعات العالمية جميعها باسم الأرقام العربية Les chiffres arabes . ومن المعلوم أن من أقدم المخطوطات المغربية التي حملت هذه الأرقام هي مخطوطة العالم الرياضي الكبير ابن الياسمين المتوفى سنة ستمئة هجرية.
وقد أصبحت الرسائل الدبلوماسية في المغرب تحمل هذه الأرقام العربية، منذ بداية القرن العاشر الهجري عندما راحت رسالة من ملك المغرب إلى ملك البرتغال جان الثالث وهي تحمل تاريخ 24 صفر 932هـ(*).
ومن المعروف أن هذه الأرقام العربية نقلت إلى أوربا على مرحلتين اثنتين: مرة أولى مع سيلفيستر الثاني عندما ورد على الأندلس والمغرب، تحت اسم جيربير دورياك . ومرة
ثانية في بداية العهد الموحدي عندما كانت البعثات التجارية الأجنبية ترد على الموانئ المغربية لتختلط مع رجال الديوانية المغربية، وتنقل عنها طريقة التعامل، على ما يحكيه أولئك التجار أنفسهم…
أريد التأكيد على أن العلاقات التي كانت لنا مع الأمم الأخرى جعلتنا نتقبل بعض ما نتلقاه من كلمات على نحو ما حملت الطرف الآخر على تقبل ما يرد عنا.(250/8)
وليس معنى هذا أن العرب كانوا غير قادرين على أن يتوفروا على جهاز للترجمة يساعدهم على ما يرد عليهم كما يساعدهم على ما يصدر منهم، فإن كلنا يعرف أنه لم نجد عصرًا من العصور دون ما أن نسجل أسماء عدد من التراجمة الذين كانوا يتوفرون على لغات أخرى… ولكن الجوار والمخالطة اليومية اقتضت ذلك "التأثير" المتبادل الذي لم يكن هناك محيد عنه لاسيما فيما
يتصل بالمصطلح…
واليوم، ونحن نعيش عالمًا مثيرًا بأحداثه، غنيًّا بمصطلحاته، رهيبًّا بمستجداته… هل كان في الاستطاعة أن نحمي كتابتنا من تأثيراته؟! أبدًا… نحن نظل نسمع صباح مساء عن عبارات تنال إعجابنا ولا تلبث أن تصبح من صميم عربيتنا… لنأخذ لأنفسنا بعض الأمثال اليومية في تعابيرنا مثل نعت التحيات بكلمة الحارة، هذا النعت المنقول عن اللغة الفرنسية، ومثل قولهم الإسلام لعب دورًا في كذا… استعمال كلمة اللعب التي في نظرنا لا تتناسب مع الأداء الجدي المقصود. لكنها أصبحت اليوم سائدة في خطاب العلماء والأدباء.
فإذا ما أضفنا إلى هذه الترجمات التي أمست في صميم استعمالنا اليومي ما أصبحنا نسمعه عن كلمة (الكوادر) جمعًا لكادر!! وهي كلمة فرنسية عوضًا عن كلمة الإطار… ونسمعه عن جمع (المدير) على مدراء!! عوض مديرين، وعن نعت السيدة الوزيرة بالسيد الوزير بدون تاء…!
لقد سمحت لنفسي أن أسأل بعض الوزيرات عن رأيها في هذا النعت الخاص بالذكور فأحسست أن الوزيرة تفضل لبس البانطلون على التنورة!!
وفي كل مطلع شمس تقرأ عن اقتحام كلمات واستعمالات للغة العربية، فهل إننا سنقتنع بسنة الحياة تلك، أي أننا سنقبل هذا التأثير على أساس أنه قدر ومصير أو أن موقفنا سيكون على النقيض من هذا؟(250/9)
الذي أريد أن أقوله بهذه المناسبة إن مقاومة هذا التأثير، حسب تجربتي، غير مجدية وحدها، فإن أجهزة الإعلام طغى عليها العبء والحِمل فأخذت تهمل التنبيهات والإرشادات التي نبعث بها وتستسلم أمام التيار الذي يغزو مكاتب التحرير في كل ساعة وكل دقيقة.
والسلطة نفسها أي الجهات المشرفة على أجهزة الإعلام تواجه كل يوم عن طريق الجريدة، وعن طريق المجلة، بل وعن طريق الكتاب تواجه أنماطًا من التأثيرات في اللفظ والمعنى، ولم يكن ولن يكون في استطاعة أي أحد أن يقف أمام رغبة القارئ الذي تهمه الفائدة العاجلة دون ما أن يرضى بتوجيه أي تنبيه.
أعتقد أننا بحاجة ماسة إلى
ضرورة تعديل موقفنا من هذا الذي نخاف منه ونسميه تأثيرًا، مادام من غير المستطاع مقاومته ويبقى علينا في ذات الوقت أن نعمل بالتمييز بين ما هو تأثير لا يمس مقومات اللغة وجمالها ودلالتها،وبين التأثير الذي من شأنه أن يشوه الكلمة ويذهب بالمقومات.
عبد الهادي التازي
عضو المجمع من المغرب(250/10)
التثاقف السياسي والفكري*
للأستاذ الدكتور أبي القاسم سعد الله
لقد أحسن المجمع اختيار موضوع هذه الدورة وهو (التأثير المتبادل بين الثقافات العربية والأجنبية). فكل الدلائل تشير اليوم إلى ضرورة تدارس مثل هذا الموضوع القديم الجديد في آنٍ واحد.
إن التأثر والتأثير بين الثقافات أمر حتمي توجبه الشرائع والطبائع والعلاقات الإنسانية، وتشهد له الحضارات المتعاقبة الزاهرة منها والمندثرة على السواء. وقد كان ذلك موضوع بحث المتخصصين في مجالات المعرفة المختلفة. وكانت الثقافة الإسلامية قد أخذت من الثقافة الإغريقية دون شغل نفسها أيضًا بحجم تأثرها، وفي الوقت نفسه أخذ العرب المسلمون من ثقافات فارس والهند واليونان وغيرهم دون قيد من التأثر بالآخر كما نشعر اليوم. ومنذ عصر النهضة فعل الأوربيون ما فعل
غيرهم أيضًا فأخذوا من المسلمين الكثير من علومهم؛ لأن ذلك يصب في مصلحتهم، وربما دون الشعور بخطره، اللهم إلا بعض الأصداء التي تحسَّر أصحابها على تأثر شابهم بالمسلمين خوفًا على ضياع دينهم وهويتهم.
ومع تخلف الشرق وتفوق الغرب بدأت عقدة التأثر في الظهور. فقد أخذ الشرقيون (العرب المسلمون) يذكرون الغربيين بما لهم من أيادٍ بيضاء عليهم في تقدمهم العلمي والفكري، وما نقلوه إليهم من تراث اليونان، وما أثروا به عليهم أيام الحروب الصليبية وأيام حكمهم في الأندلس وصقلية. ومن جهة أخرى أخذ الغربيون يمنون على الشرقيين بأنهم إنما قلدوا اليونان (وهم غربيون) دون إضافة للثقافة الإنسانية وأنهم ليسوا مبتدعة وإنما هم متبعة،
وأن الغرب استقى العلوم والآداب القديمة (الكلاسيكية) مباشرة ودون واسطة من اليونان أنفسهم،ولم يحتاجوا إلى جسر من العرب والمسلمين للعبور إلى الثقافة الإغريقية.(251/1)
وكلما ازداد الشرقيون ضعفًا ازداد الغربيون نكرانًا للجميل وتعنتًا وابتعادًا عن تأثرهم بالمسلمين. ومنذ عقود قليلة ادعى أوغسطين بيرك (والد المستشرق الشهير جاك بارك J.Berque) أن ابن خلدون قرأ أرسطو ولكنه لم يفهمه فقدمه في صورة مشوهة.
وقد كان عصر التسلط الاستعماري الذي عبر عن المرحلة الحرجة المهمة في الشعور بعقدة التأثير والتأثر، وهذا العصر هو القرن التاسع عشر الذي يعرف أيضًا بعصر التغلغل الأوربي في البلدان الإسلامية، وقد رافقه فرض المفاهيم والثقافة الغربية. فالمستعمرون قد نظروا إلى أنفسهم على أنهم أصحاب حضارة متفوقة تميزت بذكاء أهلها الخاص وقدرتهم الخارقة على السيطرة على الطبيعة وعلى الأشياء، ومن ثمة فإنهم هم المؤثرون وغيرهم هو المتأثر دائمًا. وحاولوا فرض نموذجهم الحضاري وقيمهم بأساليب عديدة، منها الإجباري والقسري، ومنها الإغوائي والإغرائي، وليس هنا محل ذكر الأساليب الاستعمارية في التعليم والسياسة والإدارة ونظم الجيش والضرائب، فكل شعب جرب الاستعمار يعرف تلك الأساليب عن ظهر قلب.(251/2)
ويجب هنا ألا نكون متخوفين من الاستلاب أو يائسين من المقاومة، فالثقافة الأصيلة تؤثر في غيرها حتى وهي مغلوبة. وهناك شواهد على ذلك خلال التاريخ. فقد تأثر الرومان بثقافة الإغريق رغم أنهم كانوا هم الغالبين. وتأثر النورمان بثقافة المسلمين عندما تغلبوا على صقلية. وفي العصر الحديث نلاحظ تأثر الغربيين بثقافات المسلمين رغم تفوقهم الاستعماري. والمعروف أن المستوطنين الفرنسيين في الجزائر قد قلدوا كثيرًا من المعاملات والفنون وأنماط العيش واللسان، بل إن أدبهم قد تأثر بأدب الجزائر في روحه وطبيعته (وليس في لغته) حتى تحدث نقادهم عن "مدرسة الجزائر" الخاصة في الأدب الفرنسي وهي المدرسة التي كان من أبرز ممثليها (ألبير كامو). وبهذا الصدد نشير أيضًا إلى تأثر جيل من الجزائريين بالمدرسة الأدبية الفرنسية، وعلى رأس هذا الجيل (محمد ديب). وكلما كان شعب ما عصيًّا على الذوبان في غيره ومعتزًّا بثقافته كان أكثر تأثيرًا في غيره. وقد كنت أمزح مع بعض أصدقائي المصريين المتخوفين من تأثير ثقافة (الفاست فود) الأمريكية فأقول لهم مطمئنًّا لا تخافوا على مصر من الاستلاب ما دمتم تنتجون سندويتش "الفول والطعمية" !. والمعروف أن علماءنا يقولون إنه لا خوف على المسلمين ما داموا متمسكين بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- وكتاب الله منزل بلسان عربي مبين.(251/3)
ومع ذلك فلا نكران أن الثقافة الغربية المعاصرة قد أثرت فينا بدرجة كبيرة في مختلف المجالات. ونحن هنا لا نستثني البحث العلمي، ولا مناهج التربية والتعليم، ولا أساليب الحكم، ولا أنماط الآداب والفنون، ولا النطاق اللغوي والإعلامي، وإذا كنا الآن نشهد التأثير أوضح ما يكون في شبكة المعلومات (الإنترنت) والفضائيات ووسائل الاتصال الأخرى، فعلينا أن نتذكر عصر ظهور الصحافة والطباعة ووسائل النقل وثورة المواصلات ابتداء من القرن التاسع عشر. وقد أحدثت الحملة الفرنسية على مصر ثم الجزائر ثورة في العلاقات الثقافية، نتج عنها تغيير في نظم الحكم وفي الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وفي المفاهيم الفكرية والثقافية، وكان من مظاهر ذلك ظهور الصحافة وتحديث الجيش ونشأة المدارس "العصرية" وزيارات الغرب للاطلاع على ما عنده عن كثب، والكتابة عنه باندهاش واستغراب، وإرسال البعثات إليه للتعلم والاستفادة منه، والترجمة من لغاته، وظهور كتب بيننا من نوع كتاب (المرآة) لحمدان خوجة، و(تخليص الإبريز) للطهطاوي، و(أقوم المسالك) لخير الدين باشا التونسي، و(صفوة الاعتبار) لمحمد بيرم الخامس. ومن آثار هذا الاتصال ظهور فئة تشكك في قدرة اللغة العربية على مسايرة العصر ومواكبة التطور، وتحث العرب على اليقظة والاجتهاد ونبذ الجمود.
ولا يمكننا في هذه الورقة الإحاطة بكل مظاهر التأثر الثقافي أو حتى التثاقف. وحسبنا الاكتفاء بعنصرين في مجال التثاقف، وهما التثاقف السياسي والتثاقف الفكري.(251/4)
لقد كانت النظم السياسية والعسكرية أولى أوجه التثاقف عندنا، فقد كان حكام العرب والمسلمين تحت ضغط شديد لممارسة حياة جديدة في القرن التاسع عشر. فأنشأ محمد علي إدارة مختلفة عن إدارة المماليك، ورتب العساكر ترتيبًا لا عهد لمصر به، وجعل المستشارين والخبراء الغربيين يسهرون على إدارته ومدارسه وجيشه فترة طويلة من الوقت، وكان هؤلاء ينقلون بالطبع تجارب بلدانهم إلى مصر، وقد حصل الشيء نفسه تقريبًا في الدولة العثمانية على عهد محمود الثاني، إذ ألغى هذا الجيش القديم وأنشأ جيشًا جديدًا، وزوده بالأسلحة والتدريبات الحديثة (الأوربية)، واستغنى عن إدارات عتيقة، وأنشأ بدلها وزارات على الطريقة الأوربية، وسن قوانين لجمع الضرائب ومعاملة الأجانب لا عهد لمجتمعه المسلم بها؛ لأنها إجراءات قائمة على النموذج الغربي وتضمنها الخط الشريف لسنة 1839م، والخط الهومايوني لسنة 1856م. ولم يلبث إبراهيم باشا (مصر) وأحمد باي(تونس) وسفراء من إيران والمغرب، والدولة العثمانية والهند أن زاروا أوربا بأنفسهم وأعجبوا بتجربتها السياسية والتشريعية والعسكرية والتعليمية، ثم رجعوا وهم يخططون لتقليد الغرب فيما ينهض بالأمة في نظرهم ولا يخالف تعاليم الإسلام. ولم يكن ذلك التقليد عن قناعة فقط وإنما كان بضغط أيضًا.(251/5)
كانت فرنسا وإيطاليا وراء إصدار عهد الأمان في تونس، وهو تجربة فريدة من نوعها في العصر الحديث (1856م)، وهي كما تذهب الدراسات التثاقفية أولى التجارب "الدستورية" في البلاد العربية. و(عهد الأمان) ما هو إلا وثيقة مكتوبة نظمت أحوال الرعية (والمقصود بها هم الرعايا الأوربيون) في تونس حيث التزم الباي بمعاملة رعاياه بناء على نصوص ملزمة في المحاكم والجبايات والأمن ونحو ذلك . ولم يكن عهد الأمان "دستورًا" بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكنه أصبح تاريخيًّا دستورًا في نظر الحركة الوطنية التونسية بعد ذلك، إذ جعلته مرجعها السياسي في المطالبة بالاستقلال وأطلقته على الحزب المطالب به (الحزب الدستوري). ومن جهة أخرى كان الدستور العثماني(1876م) تجربة أخرى في التثاقف السياسي والتشريعي. فأمام الضغط الدولي وإعجاب بعض قادة الفكر العثمانيين بالتجارب الدستورية الأوربية وضع مدحت باشا صيغة الدستور العثماني، وجرت بناء عليه أول انتخابات نيابية، واجتمع المجلس (البرلمان) لأول مرة في أول عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ولكن هذا السلطان سرعان ما ألغى هذا الدستور عندما وجده مقيدًا لحريته الفردية. وحكمه المطلق، ومع ذلك فإن "الدستور" بقي مرجعًا للمنادين بالتطور والحرية السياسية وممارسة الحياة البرلمانية على الطريقة الغربية. وقد نجح أصحاب هذا التيار في إعادة العمل بالدستور سنة 1908م، ولكن جمعية الاتحاد والترقي التي جعلته من شعاراتها لم تحترمه أيضًا رغم إجراء الانتخابات واجتماع النواب وضمان الحريات ظاهريًّا. ولم يكن أمام هذه الجمعية إلا تجميد الدستور واللجوء إلى الاستبداد والقمع مما جعل بعض الأوربيين يدعون بأن العقل الشرقي لا يعرف إلا طريق الحكم الفردي. وقد عرفت الجزائر أثناء الحكم الاستعماري تجربة المجالس المحلية (البلدية والإقليمية) ثم المجلس النيابي ابتداء من مطلع القرن العشرين. ورغم شكلية هذه المجالس فإن التمثيل فيها(251/6)
كان أعرج، إذ كان الأوربيون فيها منتخبين بينما الجزائريون كانوا معينين، وكان الأولون، على قلتهم، أكثرية، وكان الأخيرون، على كثرتهم أقلية، ولم يعرف الجزائريون الانتخاب للمجلس العام (البرلمان) إلا بعد الحرب العالمية الثانية، ولاشك أن التجربة النيابية على الطريقة الأوربية، شكليًّا على الأقل، في بعض البلاد العربية مثل مصر وسورية وتونس، والعراق ولبنان كانت قد قطعت أشواطًا منذ الثلاثينيات من القرن العشرين.(251/7)
وفي نطاق التثاقف السياسي والتشريعي أيضًا نشير إلى تجربة الأحزاب السياسية أو الحياة الحزبية. ويمكننا القول إن البلاد العربية لم تعرف الأحزاب طيلة القرن التاسع عشر، وما حدث في تلك الأثناء لا يعدو أن يكون اتجاهات أو تيارات غير مؤطرة ولا منظمة، مثل لجنة الحضر في الجزائر بعد الاحتلال، وحركة النخبة في تونس ومصر بعد الاحتلال أيضًا. أما منذ مفتتح القرن العشرين فقد ظهرت أحزاب وجمعيات عربية سرية أو علنية مثل حزب اللامركزية والحزب الوطني المصري، ولكن الساحة شهدت تطورًا في ظهور الأحزاب السياسية الجماهيرية عندما ظهر حزب الدستور في تونس بقيادة عبد العزيز الثعالبي وحزب الوفد في مصر بقيادة سعد زغلول، ثم توالت الأحزاب، ففي الجزائر ظهر حزب الأمير خالد الذي تحول إلى نجم شمال أفريقيا، والأحزاب الوطنية في سورية ولبنان والمغرب والعراق، وأحزاب جديدة في مصر والجزائر. وكان بعض هذه الأحزاب يتخذ من الأحزاب الأوربية نموذجه، وأنا أعني هنا الأحزاب المغاربية على الخصوص. ومن جهة أخرى كانت السلطات الاستعمارية في المشرق وفي المغرب تكيف الحياة الحزبية والنيابية على النسق السائد في بلادها، فبريطانيا كانت تشكل "البرلمانات" والأحزاب العربية على نموذجها في المحميات والبلدان المنتدبة عليها، بينما كانت فرنسا تفعل الشيء نفسه مع أحزاب وبرلمانات مستعمراتها. وهكذا كانت عملية التثاقف السياسي والبرلماني والحزبي في البلاد العربية تسير في أغلب الأحيان تحت تأثير الدولة المستعمرة.(251/8)
وأمامنا اليوم مشهد آخر من هذا التثاقف. فأوربا لم تعد تتحكم مباشرة في البلاد العربية كما كانت في عهد الاستعمار، وإنما تتحكم بطرق جديدة كالضغط الاقتصادي والمالي والعقوبات والحصار. وقد رفع الأوربيون شعارات جديدة تتمثل في فرض احترام الديمقراطية والحريات السياسية والمدنية وحقوق الإنسان، وأخيرًا طرحوا أمامنا شعار العولمة. وإذا كانت التجارب السياسية والحزبية والبرلمانية متصلة بأوربا الاستعمارية في أغلب الأحيان فإن الشعارات الأخيرة كالديمقراطية، والحريات وحقوق الإنسان والعولمة، متصلة بأمريكا اتصالاً قويًّا. والمعروف أن أمريكا هي وارثة التجارب الأوربية مجتمعة. وبذلك يكون حديثنا عن التثاقف السياسي مع الغرب ليس منفصلاً عن بعضه، وسواء أحبت بعض الدول العربية أم كرهت فإنها جميعًا أصبحت تتحدث، وربما تتشدق عن الديمقراطية، وحتى تلك التي لا تمارسها بالطريقة الغربية تحاول أن تجد لها صيغًا أخرى كالشورى وأن تلبس عباءة التحرر بإدخال المرأة في الحياة النيابية والحكومية وغيرهما مثل القضاء والشرطة، ومن مظاهر هذا التقليد اتخاذ طقوس الدولة القطرية المستقلة بكل فعالياتها كعزف النشيد الوطني، وفرش السجادة الحمراء، والتراحم على روح الجندي المجهول، وإيقاد النار عند نصبه، والإيماء بالتحية للعلم الوطني، وعزف الموسيقا العسكرية واللحن الجنائزي، وغيرها من الطقوس التي لم تعرفها ثقافتنا السياسية، على ما أعلم.(251/9)
أما على مستوى التثاقف الفكري، فقد شهد عصرنا موجات من التأثير تمثلت في الحركات القومية والرومانتيكية والوجودية والسيرالية والاشتراكية والشيوعية. فمنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر تسربت الفكرة القومية إلى حياتنا، فتحركت المشاعر بالهوية والانتماء إلى الأمة العربية والاعتزاز باللغة والتاريخ وتجاوبت أطراف الأمة مع بعضها لأنها من جسم واحد. ويرجع المؤرخون ظهور القومية في أوربا إلى الثورة الفرنسية وما حركته من إحساس مشترك بين أفراد الأمة الفرنسية أمام الخطر الخارجي، ثم ردود الفعل التي أيقظتها لدى شعوب أوربا، التي وجدت نفسها مغزوة بجيوش نابليون. ولم يكن رد الفعل في العالم الإسلامي بالوتيرة نفسها التي كانت في أوربا، ولكن رد الفعل ترك بصماته في البلقان التابع للدولة العثمانية، وفي مصر بعد ذلك، كما تمثل في كتابات حمدان خوجة صاحب كتاب (المرآة) المشار إليه (1833م)، الذي كان رغم ميوله العثمانية قد ملأ كتابه بأفكار قومية ووطنية في رده على الاستعمار الفرنسي للجزائر. وقد تسربت القومية إلى مصر في كتابات رفاعة الطهطاوي، وإلى الشام في عهد محمد علي، ثم إلى إسطانبول، وبدأت تأتي أُكلها في عهد الإصلاحات العثمانية، ونشاط الإرساليات الأجنبية، فظهرت النخبة في تونس ومصر بعد احتلالهما، كما ظهر المثقفون الأتراك الذين اضطهدهم السلطان عبد الحميد واحتضنهم الغرب، وبخاصة في فرنسا. وقد ساعدت الصحافة والأدب وحركة الإحياء اللغوي واكتشاف التاريخ المشترك على الترويج للقومية لدى الشعوب المنضوية تحت الحكم العثماني. ومنها الشعب العربي، وكان من نتاج ذلك كتابات عبد الرحمن الكواكبي، وظهور الحركات القومية السرية مثل (جمعية العربية الفتاة) و(الجمعية القحطانية) و(المنتدى العربي) وغيرها، وعقد المؤتمر العربي الأول بباريس سنة 1913م. وإذا كانت حركة الجامعة الإسلامية قد اتخذت مرجعيتها من السلفية فإن حركة القومية العربية(251/10)
كانت تستمد مرجعيتها من التجارب القومية للأمم الأوربية، مثل إيطاليا الفتاة والقومية السلافية والقومية اليونانية والبولندية، وهكذا ظهرت (مصر الفتاة) و(تونس الفتاة) و(الجزائر الفتاة) و(تركيا الفتاة). وقد غذى الاستعمار هذا الشعور القومي بلجوئه إلى الاضطهاد والتفرقة وكبت الحريات ورفض مبدأ تقرير المصير والاستقلال. ولم يبق أمام الشعب العربي سوى رفع شعار القومية رغم تناقضه أحيانًا مع عالمية الإسلام ووحدة الأمة الإسلامية.
وفي ميدان الأدب ظهرت الحركة الرومانتيكية مؤثرة في جيل من الأدباء والشعراء والفنانين. وكانت هذه الحركة قد بدأت في أوربا أيضًا،وبالخصوص ألمانيا، في أواخر القرن الثامن عشر، ثم انتقلت إلى فرنسا وغيرها. وأثرت الرومانتيكية في مختلف الميادين عندهم حتى شملت السياسة والمجتمع والمسرح والتاريخ والأدب. ولكنها عندنا لم تؤثر بشكل واضح في غير الشعر والأدب والفن، ولاسيما الشعر والموسيقا، وقد وصلتنا متأخرة أيضًا، كما وصلتنا القومية متأخرة. فتاريخ تأثير الحركة الرومانتيكية لا يرجع إلى أبعد من نهاية الحرب العالمية الأولى. ومع ذلك كان لها أتباعها في الوطن العربي، مشرقًا ومغربًا، ففي المشرق ظهرت (جماعة أبوللو) بزعامة أحمد زكي أبو شادي، وانتشرت بين أدباء المهجر، وأدباء لبنان على التحديد، وفي تونس برز أبو القاسم الشابي، ورغم أن خصائص الحركة الرومانتيكية وعوامل ظهورها تختلف في عمقها عن الروح العربية إلى حد كبير فإنها وجدت أرضًا خصبة لدى جيل ما بين الحربين العالميتين. وكان الإحباط والقلق والحزن وحب الطبيعة قد وجه هذا الجيل إلى الحركة الرومانتيكية التي وجد فيها ضالته في البحث عن المجهول والخير والجمال. وبذلك حصل نوع آخر من التثاقف لا يقل أهمية عن التثاقف السياسي والاقتصادي والتربوي، إذ كلها تهدف إلى تكوين الإنسان المعاصر في قلب جديد.(251/11)
وعاصرت الرومانتيكية حركات فكرية وأدبية وفنية أخرى. منها السريالية التي سادت فترة قصيرة بعد الحرب العالمية الأولى في أوربا نتيجة الخسائر البشرية المروعة التي أصابت الإنسان وخيبت أمله في الحضارة الغربية التي تغنى بها الساسة والاقتصاديون والعسكريون وفلاسفة التفوق العنصري، فإذا هي نكبة على من صنعها. وقد جسد ذلك الشعور المنهار أزولد شبنجلر في كتابه (سقوط الحضارة) وإلى حد كبير أرنولد طويني في كتابه (دراسات في التاريخ). إن السريالية، ومعاصرتها الوجودية قد أثرتا أيضًا على العقل والعاطفة العربية. ونحن نجد ذلك في مدرسة بيكاسو الفنية التي كان لها معجبون في بعض البلاد العربية، ومدرسة جان بول سارتر التي أسهمت في تقديمها للقارئ العربي منذ الخمسينيات من القرن العشرين مجلة (الآداب) البيروتية التي ترجمت معظم أعمال سارتر وكامو وكير كجارد، بالإضافة إلى المدرسة العدمية التي راجت في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي بقيت على تأثيرها عند البير كامو، وهو فرنسي من مواليد الجزائر، وكان له قراؤه في البلاد العربية عند الجيل الذي ذكرناه.(251/12)
ويجب أن نشير هنا إلى تيارين آخرين كان لهما تأثيرهما على بعض مفكري العرب وهما: مدرسة شارل داروين أو مدرسة النشوء والارتقاء كما سميت في وقتها، ثم مدرسة سيقموند فرويد التي كان لها تأثيرها في الأدب وعلم النفس والتربية والعلاقات الاجتماعية. فقد ركزت الأولى على الطبيعة والخلق والخالق، ومبدأ التقدم نحو الأفضل، ونظرية البقاء للأصلح والأقوى التي روجها الفيلسوف نيتشة وغيره. أما مدرسة فرويد فقد خاطبت المشاعر البشرية والجوانب الخفية من الشخصية الإنسانية التي لا تظهر إلا في الأحلام. حقيقة أننا لا نجد إنتاجًا غزيرًا لهاتين المدرستين في مناهجنا وآدابنا، كما نجده مثلاً في إنتاجنا القومي، ولكن الثقافة العربية المعاصرة لم تكن بمعزل عن هذه المدرسة التي غزتنا عن طريق الترجمة والبعثات العلمية والدراسية، والأساتذة الوافدين.(251/13)
وآخر ما نرغب في الإشارة إليه في ورقتنا هذه هو التثاقف الأيديولوجي، ونعني به تأثر الفكر العربي المعاصر بالاشتراكية وحتى الشيوعية. إن علاقة الاشتراكية بالصراع الطبقي وعلاقة هذا الصراع بالطبقات المحرومة أو العاملة لدى الرأسمالية المتوحشة، قد فجرت المجتمع الأوربي من داخله ابتداء من الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ولا تعنينا هنا مسيرة الاشتراكية في أوربا وعلاقتها برأس المال والاحتكار والثروات والنظام الطبقي، ولكن يعنينا تأثر شريحة منا بها. ويمكن القول إن القمع الاستعماري هو الذي جعل بعض الشعوب العربية كالجزائر، تربط حركتها الوطنية مبكرًا بالمنظمات الاشتراكية (اليسارية). وإذا كانت البلاد العربية المشرقية لم تتأثر بالاشتراكية إلا في وقت متأخر نسبيًّا؛ لأنها إما كانت بلادًا مغلقة على نفسها، وإما كانت جزءًا من الدولة العثمانية، وإما كانت تحت الانتداب الجديد الذي لم يسبق له التعامل مع الثقافة الغربية، بينما كانت شعوب المغرب العربي غير الجزائر خارج دورة التأثير الإيديولوجي الأوربي، باستثناء تونس التي كانت محمية بتقاليد جامع الزيتونة إلى حد كبير، أما الجزائر فقد كان الاستعمار المباشر ووجود الاستيطان وامتداد الحزب الاشتراكي والشيوعي الفرنسيين إليها، كل ذلك سهل الطريق أمام رواج الاشتراكية والشيوعية حتى أن الأمير خالد صاحب أول مبادرة وطنية حديثة ألجأه القمع إلى الاحتماء بالأحزاب اليسارية الأوربية، وخاصة الفرنسية منها، وكان ميلاد أول حزب (نجم الشمال الإفريقي) في أحضان الحزب الشيوعي الفرنسي. ولكن هذا لا يعني أن الاشتراكية والشيوعية لم تجد لها موقعها في البلاد العربية بين الحربين. والواقع أن عددًا من الأحزاب والجرائد والقيادات جعلت من الاشتراكية شعارًا لها. وقد شهد عقدا الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين حدوث ثورات وانقلابات عسكرية قامت تحت شعار الاشتراكية، وهي تعني عندهم العدالة(251/14)
والمساواة. وذهب بعضهم إلى تسميتها بالاشتراكية العلمية حرصًا منهم على الوفاء للمعنى الحقيقي لها، وتمييزًا لها عن الاشتراكية الطوبائية (المثالية) أو السان سيمونيه. وقد انقسم العالم العربي عندئذٍ إلى من يطبق النظم التقليدية، بما فيها الرأسمالية الإسلامية، وإلى من يطبق النظم الاشتراكية، بما فيها الاشتراكية العربية. وهكذا سادت نظم عندنا تتخذ لها من الاتحاد السوفييتي نموذجًا في دوائر السلطة من حزب وحيد وأمين عام له ومنظمات تابعة للحزب، وبرلمان واحد من اختيار الحزب، وصياغة دساتير على غرار الدساتير السائدة في الدول الاشتراكية. وقد ترتب على ذلك تدخل الدولة في كل الأمور وعلى رأسها الاقتصاد والأرض والثروات الطبيعية والعلاج والتعليم والثقافة، ورغم أن بعض النظم العربية قد سمحت للأحزاب الشيوعية بالظهور فإن نظمًا أخرى لم تكن في حاجة إلى ذلك؛ لأنها هي نفسها تبنت الأطروحات الشيوعية، وبذلك أصبحت الأحزاب الشيوعية قوة مساندة للنظم الاشتراكية التي تتكامل معها، وحصل التثاقف الإيديولوجي لدى القيادات، بل إن بعض هذه القيادات أصبحت عضوة في تنظيمات دولية مماثلة، مما جعل عالمية النظام الاشتراكي والشيوعي أمرًا واقعًا بدل قومية العروبة وعالمية الإسلام.
وتخلص هذه الورقة إلى استنتاجات ليست بالضرورة محل اتفاق الجميع:
أن التثاقف السياسي والفكري قد نجح في البلاد العربية، أسوة بمعظم بلدان العالم، وبذلك انفتح الطريق أمام العولمة الثقافية التي يجب أن تتعامل معها الثقافة العربية بكل جدية.
أن التحفظ من التأثر بالآخر قد ضعف، حتى لقد ظهر من يقول إن تركة الاستعمار بما فيها اللغة هي غنيمة حرب.
أن الثقافة الأصيلة هي القادرة على التثاقف أي على تبادل التأثر والتأثير مع الثقافات الأخرى، وهي التي تقبل التحديث حسب نظرية طوينبي المعروفة.(251/15)
أن المد القومي قد أخذ في العقود الأخيرة في الانحسار أمام التيار الإسلامي، والمد العلماني، والاحتواء العولمي.
أن الثقافة العربية أثبتت قدرتها منذ الفتوحات الإسلامية وانتشار اللغة العربية معها على التعاطي مع الثقافات الأخرى بإيجابية، ومن ثمة فهي لا تعاني من أزمة الخوف من التخلف الذي أصابها؛ لأنها على ثقة بقدرتها على التجدد والتطور رغم أنها في عصرنا أصبحت متأثرة أكثر ما هي مؤثرة.
أن على أبناء الثقافة العربية اليوم أن يعوا دورهم بحيث لا يقعون في فخ الاندهاش والانبهار أمام الآخر، وعليهم أن يواجهوا بالاستجابة الواعية والإسهام المبدع ولكن بثقافتهم الحية ولغتهم المتجددة.
أبو القاسم سعد الله
عضو المجمع المراسل من الجزائر(251/16)
تأملات ونظرات في التأثير المتبادل بين الثقافات في عالمنا المعاصر(*)
للأستاذ الدكتور أحمد صدقي الدجاني
مدخل:
يمكن القول إن التأثير المتبادل بين الثقافات في عالمنا بلغ اليوم حدًّا غير مسبوق. وذلك بفعل ثورة الاتصال التي نعيشها. والأمر يصدق على التأثير المتبادل بين الثقافات العربية والثقافات الأجنبية.
لقد عرف تاريخ الإنسان هذه الظاهرة منذ كان الاجتماع الإنساني. ذلك أن الله سبحانه حين خلق الناس من ذكر وأنثى جعلهم شعوبًا وقبائل يعيشون مواطن تتباين في جغرافيتها، مختلفين في ألسنتهم وألوانهم. وجعل لهم الأرض ذلولاً ليمشوا في مناكبها وشاء لهم أن يسيحوا فيها وينتشروا، فكان أن تعددت ثقافاتهم من جهة وتواصلت فيما بينها من جهة أخرى، وتبادلت التأثير.
كثيرة هي الأمثلة التي حفظها التاريخ الحضاري على هذه الظاهرة.
وحين ننظر في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية يتداعى إلى الخاطر كتب كليلة ودمنة وحكايات ألف ليلة وليلة ورحلات السندباد البرية والبحرية وقوافل التجارة والحج إلى الأماكن المقدسة. ويبدو لنا دور موقع دائرتنا الحضارية في قلب العالم القديم وقاراته الثلاث آسيا وأفريقيا وأوربا في جعل التأثير المتبادل بين ثقافاتنا العربية والثقافات الأجنبية قويًّا متنوعًا.
الأمثلة على هذه الظاهرة اليوم حية، نراها في المواقع السياحية، وفي العواصم والمدن الكبيرة، وفي المحافل الدولية. وتسهم في تقويتها مختلف وسائل الاتصال وتحركات المهاجرين والسائحين. ويتداعى إلى الخاطر من هذه الأمثلة ما يحدث من تفاعل ثقافي في موسم الحج، وأنا أكتب هذه السطور يوم وقفة عرفة(252/1)
لعام 1422هـ حيث التقى أكثر من مليوني حاج على جبل عرفات من مختلف ثقافات دائرتنا الحضارية. وما رأيته في المعابد المصرية القديمة خلال رحلة نيلية قمت بها مؤخرًا مرة أخرى. وكنتُ كتبت عنها مسلطًا الضوء على تفاعل الثقافات وتبادل التأثير بينها. وما يحدث في مباريات كأس العالم في إطار الأولمبيات. وما شاهدته في ميادين مدن عالمنا التي زرتها. وقد استوقفني وأنا أمشي قبل أيام في بيروت مساء ليلة السبت ما يحفل به قلب المدينة من علامات التأثير المتبادل بين الثقافات. فهذا مبنى كامل مخصص لعرض نتاج الثقافات الغربية من كتب وأشرطة سينمائية وموسيقية. وهذا معرض ثقافي لبناني في مبنى مقابل في ساحة الشهداء الشهيرة. وهذه مقاهٍ في ساحة المعرض ومطاعم تحمل أسماء أجنبية من هذا القطر الأوربي وذاك.
والطابع السائد يجمع بين ثقافات حضارتين . وهذا شارع في لندن غلب عليه طابع ثقافات حضارتنا بحكم تجمع المهاجرين من أبنائنا فيه. ومثله حي في باريس. وهكذا.
مفاهيم : ثقافة، حضارة، عمران:(252/2)
أستحضر في بداية هذه التأملات بشأن التأثير المتبادل بين الثقافات مفهومنا لمصطلح الثقافة، وقد أثبتنا عصارته في كتابنا "عرب ومسلمون وعولمة". فالثقافة في أبسط تعريفاتها هي "جماع حياة المجتمع"، يكتسبها الفرد من مجتمعه، وينميها بجهد عقلي داخلي بعلم يتخصص فيه، فيتأدب – على حد تعبير أجدادنا – أخذًا من كل علم بطرف،ويعتز المجتمع بثقافته التي يتفرد بها لكونها نتاج امتزاج فكري نفسي عاطفي يوجه الإنسان، كما لاحظ د. أذرشب في ندوة التعاون العربي الإيراني، ويمكن أن نضيف "ونتاج امتزاج روحي" أيضًا. وقد قدر أحد الباحثين الغربيين "ميردوك" وجود ثلاثة آلاف ثقافة في عالمنا كما أورد هاري شابيرو في كتابه "نظرات في الثقافة"، وثقافة مجتمع ما تصور – كما لاحظ ويل ديورانت في موسوعته قصة الحضارة "عملية الانتخاب الطبيعي الذي تقوم به تجارب لا حصر لها..؛ كما تصور حكمة الأجيال التي تعاقبت في المجتمع فتجمعت تراثًا غزيرًا". ويلاحظ العلماء أن للدين تأثيرًا قويًّا على الثقافة، شأن اللغة. وانطلاقًا من هذا التعريف يمكن أن نتحدث عن "ثقافة النوبة" مثلاً في وادي النيل، ومثيلاتها هنا وهناك في عالمنا، باعتبارها "ثقافة محلية"، وعن "ثقافة قطرية" هي جامع للثقافات المحلية.(252/3)
مصطلح الثقافة يدعو إلى الخاطر مصطلح الحضارة التي هي في أبسط تعريفاتها: "نمط من الحياة يتميز بخطوط وألوان من الرقي.. وتقوم في دائرة من الاتساع المكاني والبشري والزماني .. وتتضمن نظمًا ومؤسسات وقيمًا ومعاني تنطوي الحياة عليها، وعددًا من الثقافات القطرية، في "جامع مشترك" تفاعل فيه الإنسان مع المكان والزمان، وكوَّنته عناصر "الدين بما يوفره من رؤية كونية"، و "لسان جامع مشترك إلى جانب ألسنة أخرى و"تاريخ وعادات ونظم وقيم" في دائرة واسعة ينتمي إليها حضاريًّا كل البشر المقيمين في هذه الدائرة على اختلاف أقوامهم ومللهم وأنماط حياتهم وشرائحهم الاجتماعية، وقد عرف تاريخ الإنسان قيام عدد من الحضارات وازدهارها وأفول بعضها".
كما يدعو إلى الخاطر أيضًا مصطلح العمران الذي هو مصطلح اقترحه ابن خلدون في مقدمته للدلالة على نمط الحياة بوجه عام، جاعلاً إياه إحدى الخواص التي تميز بها الإنسان عن سائر الحيوانات، وهو التساكن والتنازل في مصر أو حلة للإنس بالعشير واقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التعاون على المعاش. ومن هذا العمران ما يكون حضريًّا ومنه ما يكون بدويًّا. وقد استلهم ابن خلدون المصطلح من الهدي القرآني "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها". (هود61). والعمران في اللسان العربي هو نقيض الخراب وعمر الإنسان هو اسم لمدة عمارة البدن بالحياة، وهكذا يكون تعمير العالم المدلول الإيجابي للتغير، لأن التغيير يمكن أن يكون سلبيًّا فيغدو تخريبًا. وقد آن الأوان ونحن ننظر في مستقبل الحضارة ونرى ما يتم باسم التحضر على صعيد الإخلال بالبيئة وبمحيطنا الحيوي وعلى صعيد الهندسة الوراثية أن نميز بين التعمير الحضاري وأي تخريب في إطار الظاهرة الحضارية. وهذا ما دعا كاتب هذا الحديث إلى اقتراح مصطلح "العمران الحضاري" للدلالة على التوظيف الإيجابي للمنجزات الحضارية في كتابه "عمران لا طغيان".(252/4)
نظرات في الواقع الثقافي القائم في عالمنا:
إن النظر في التأثير المتبادل للثقافات في عالمنا المعاصر يدعونا إلى استحضار الواقع الثقافي القائم اليوم في عالمنا. وأذكر أني عُنيت بهذا الأمر بمناسبة اللقاء الإسلامي المسيحي الذي دعت إليه مؤسسة آل البيت في الأردن واتحاد الكنائس الإنجيلية في ألمانيا، وانعقد ببرلين بين 29/9 و 1/10/1999م . وقد استوقفتني مجموعة حقائق في هذا الواقع الثقافي:
* أول ما يلفتنا في هذا الواقع الثقافي هو تعدد الثقافات فيه وتنوعها وإدراك إنسان العصر، أينما كان، وفي أي دائرة حضارية يعيش، لهذه الحقيقة، وذلك بفعل ثورة الاتصال التي عرفته بالصورة والصوت من خلال التلفزة ووجهًا لوجه من خلال السياحة بهذا التعدد والتنوع، بدرجة لم يعرفها إنسان العصور السابقة.
* حقيقة ثانية تلفتنا في هذا الواقع هو أنه يشهد تغيرات ومحاولات تغيير وتطورات ومحاولات تطوير في كل دوائر العالم الحضارية. وهذه التغيرات والتطورات وثيقة الصلة بالسياسة والاقتصاد والاجتماع وتتبادل التأثير معها.(252/5)
* حقيقة ثالثة، أن الوعي بأثر العامل الثقافي في الاجتماع الإنساني هو اليوم قوي يدعو إلى أخذه في الاعتبار عند معالجة مختلف قضايا عالمنا ومشكلاته. وهذا عن آلان ثورين عالم الاجتماع في مقاله "التحولات الاجتماعية في القرن العشرين" بالمجلة الدولية للعلوم الاجتماعية (6/1998م)"هو الاختلاف الجوهري بين نهاية القرن التاسع عشر ونهاية القرن العشرين" وكان الفكر الغربي في نهاية القرن التاسع عشر شديد الانشغال بالعامل الاقتصادي والعامل العقيدي (الأيديولوجي). وقد فشلت محاولات القفز فوق هذا العامل الثقافي في الثمانينيات التي قام بها بعض مخططي السياسة الخارجية الأمريكيين، كما أوضح مايكل فلابوس في بحثه الثقافة والسياسة الخارجية الذي نشره في مجلة فورين بولسي في ربيع 1991م، وقرر فيه أن الحقيقة الأكبر بالنسبة للقبائل العالمية في منطقتها الثقافية وليس القرية العالمية، ملاحظًا أن العالم الكبير نفسه هو سلسلة من المناطق الثقافية يخفق كل منها بنبض مئات الملايين. وانتهى فلابوس في بحثه إلى أن الإحساس بالنفس عند الشعوب يتشكل أساسًا على مستوى المنطقة الثقافية، وليس على مستوى القومية أو الأممية. وهذا الوعي بأثر العامل الثقافي ينطلق كما أوضح كاتب هذا الحديث في كتابه "عمران لا طغيان" من حقيقة الانتماء لدائرة عمران حضاري. فهذا الانتماء الذي يتمثل مشاعر القوم ويستند إلى رؤى العقيدة، يورث الإحساس بالنفس ووعي الذات والشعور بالهوية.(252/6)
* حقيقة رابعة، هي أن هناك تفاعلاً جاريًا بين الثقافات على صعيد المجتمع داخل الدولة الواحدة، وعلى صعيد المجتمعات بين الدول. وهذا التفاعل الثقافي يقع في إطار التفاعل الحضاري بين الحضارات التي تضم كل واحدة منها عددًا من الثقافات ويشهد هذا التفاعل صورًا من الحوار الإيجابي الذي يثمر تعاونًا، كما يشهد أحيانًا صراعًا. ولقد شهد عالمنا في العقد الأخير من السنين محاولة لجعل صراع الحضارات هو الأصل وقام بالترويج لهذه الفكرة مراكز بحث أمريكية. وظهرت ردود أفعال واستجابات قوية لهذه المحاولة في مختلف الدوائر الحضارية، شهدت التأكيد على أن هدف التعاون بين الحضارات لمعالجة قضايا عالمنا ومشكلاته هو الأصل. ومن بين أمثلة كثيرة على هذه الاستجابات المؤتمر الدولي الذي دعت إليه منظمة تضامن الشعوب الأفريقية الأسيوية وانعقد في القاهرة بين 10 و 12/3/1997م بمشاركة مفكرين وسياسيين من مختلف أنحاء العالم ناقشوا تساؤلاً مطروحًا هو "صراع حضارات أم حوار ثقافات؟" ، وظهرت أعماله في كتاب قيم.(252/7)
* حقيقة خامسة، هي أن مختلف الحضارات الموجودة في عالمنا اليوم تتبادل التأثير والتأثر فيما بينها بدرجات متفاوتة، وتقف واحدة منها هي الحضارة الغربية بثقافاتها في أعلى سلم التأثير، وتحتل مكانة خاصة لما حققته في القرون الخمسة الأخيرة على صعيد العلم وبفعل ما حدث من خروج أوربي إلى القارات الأخرى وقيام دول أوربية بالاستعمار بمختلف أشكاله في أوطان وشعوب أخرى. وتبرز اليوم في الدائرة الحضارية الغربية محاولات قوى الهيمنة في الولايات المتحدة الأمريكية للتحكم في النظام العالمي والانفراد بقيادته رافعة شعار "النظام العالمي الجديد"، والسيطرة على الأسواق العالمية من خلال فرض "عولمة" خططت لها الشركات الكبرى عابرة القارات. وقد أصبحت هذه العولمة ظاهرة لها أبعاد أخرى سياسية وفكرية وثقافية، وصار لها ثقافة تعرف بها هي "ثقافة العولمة"، تحاول فرض أنماط تفكير وأساليب حياة "المجتمع الأمريكي" على المجتمعات الأخرى.
* حقيقة سادسة، هي أن البعد الروحي في مختلف الثقافات يبدو جليًّا، من خلال قوة تأثير القيم الروحية. وهناك اليوم في الدوائر الحضارية ظاهرة "إحياء روحي" يستلهم "المقدس" . وهكذا يبرز دور الدين في الثقافة. وقد تناول كاتب هذا الحديث هذه الظاهرة في كتابه "تجديد الفكر استجابة لتحديات العصر" الذي خصص الباب الثالث فيه للفكر الديني. وكان مما أشار إليه قيام اليونسكو بتنظيم سلسلة ندوات عن "إسهام الأديان في ثقافة سلام".
حول التأثير المتبادل بين الثقافات العربية والثقافات الأجنبية:(252/8)
حين ننظر في التأثير المتبادل بين الثقافات العربية والثقافات الأجنبية، نلاحظ أنه يتم ضمن ظاهرة التفاعل الحضاري بين الحضارة العربية الإسلامية وحضارات عالمنا الأخرى. ذلك أن موقع دائرتنا الحضارية بين قارات آسيا وأفريقيا وأوربا يجعلها على تماس مع خمس دوائر حضارية أخرى تجاورنا هي الأفريقية والصينية والكونفوشوسية والهندوكية والأرثوذكسية السلافية والغربية في فرعها الأوربي. الأمر الذي يوجد تأثيرًا متبادلاً بين الثقافات العربية وثقافات تلك الحضارات. كما أن وجود مهاجرين عربًا في الفرع الأمريكي في الدائرة الغربية وفي دائرة حضارة أمريكا الجنوبية اللاتينية مع انتشار الثقافات الأمريكية عبر وسائل الاتصال يوجد مثل هذا التأثير المتبادل.
يستحق التفاعل بين الثقافات العربية وثقافات كل من الدوائر الحضارية الأخرى في عالمنا النظر والدراسة. ونقتصر في هذا الحديث على طرح أفكار تتصل بالتأثير المتبادل بين الثقافات العربية والثقافات الغربية. ونمهد لها بإلقاء نظرة على الواقع الثقافي في الغرب.
حول الواقع الثقافي في الغرب:(252/9)
لقد صدرت دراسات كثيرة حول هذا الواقع، فصلت الحديث عن مرحلة "ما بعد الحداثة" . وهناك انطباع قوي لدى المختصين بأن إحساسًا بعدم اليقين يشيع في الأوساط الفكرية والثقافية. فعدد المثقفين والمفكرين الذين يتخوفون من شبح الخواء الفكري وتراجع الروح النقدية في الفكر الغربي – على اختلاف منطلقاتهم ومرجعياتهم – في تزايد. وهؤلاء يعارضون الرأي القائل "بنهاية التاريخ" وأن النموذج الاقتصادي والسياسي لليبرالية الغربية هو ثقف التطلع الإنساني. ولقد سبق لكاتب هذا الحديث أن نظر في كيفية رؤية الأوربيين أنفسهم في هذه المرحلة، معتمدًا على أعمال ندوة هامبورج حول العلاقة بين الحضارتين الغربية والعربية، ولاحظ فيه أن كثيرين من الغربيين غير راضين عن الحالة الحاضرة التي عليها الحضارة في أوربا الغربية. وهم يعانون من مرورهم بفترة عصيبة تتصف بفقدان الحيوية الاقتصادية، ويحزنون على خضوع أوربا السياسي والعسكري للولايات المتحدة، ويشعرون بالغيظ لعجزهم عن مجاراة حيوية اليابان في الميدان الاقتصادي. وقد أصبحت قناعتهم بما كانوا يعتبرونه رسالتهم ضعيفة، وتعمق الشك لديهم فيما اعتبروه حقًّا لهم من قبل. ويتداخل هذا الشك في النقاش حول قيمة التقدم التقني. ويقول هؤلاء إن واقع الأمر في أوربا الغربية يعطي انطباعًا بأن الأوربيين يبتعدون عن ذواتهم، ويبدو هذا حتى في الفن الذي ينتجونه إذ تضاءل فيه الطابع الأوربي. وهم يلاحظون أن الخروج الأوربي في عصر الاستعمار لغزو أوطان الآخرين لا يمكن تفسيره في منظور اقتصادي أو سلطوي فقط، وإنما في المقام الأول من منظور الوعي العميق بنشر "رسالة" صاغتها عقيدة دينية وفلسفة دنيوية، استمدوا منها مشروعية "تصرفاتهم الفاتكة والوحشية" مع الآخرين، كما أوضح إدوارد مورتيمر وجونتر ديهل في بحثيهما لندوة هامبورج. ومجمل القول إن لسان حال هؤلاء الأوربيين الغربيين يقول: "نحن ننظر إلى وضعنا الحضاري الراهن في كثير(252/10)
من الريبة والشك". وتأتي تصريحات استند كنثربري في 8/1999م حول عدد من القضايا العصرية لتقدم مثلاً على ذلك.
إن الواقع الثقافي في الغرب اليوم يدعو إلى التفكير في ظواهر لافتة أوجزها آلان تورين في بحثه "التحولات الاجتماعية في القرن العشرين" بالمجلة الدولية للعلوم الاجتماعية 6/1998م، في ثلاث: هي، أن المؤسسات من كل الأنماط تتصدع، وانتصار ما يمكن تسميته الفردانية أو النزعة الفردية، وقيام عالم بلا مؤسسات ذي نظرة تجمع بين العالمية والفردية في تزامن وتماكن. وقد أوضح تورين أن جميع هذه الخطوط ذات صلة بالتغيرات الاجتماعية، وأن المشكلات اليوم هي تحطيم الروابط المؤسساتية والاجتماعية والثقافية وتحرير الفردية والمتعة والسعادة مع انبثاق صراعات على المستويين العالمي والقومي.
في ظل هذا المناخ الثقافي تبرز "المغالاة" في أشكال كثيرة على مختلف الصعد. ونحن نرى اليوم أمثلة على هذه المغالاة في الحياة الاجتماعية على صعيد الأسرة والتعامل مع الأجيال أطفالاً وشبابًا وشيوخًا. والأمر نفسه في الحياة الثقافية في عصر العولمة. ومع المغالاة يكون "التطرف" ومن مظاهره "العنف" يطبع التصرفات. وتشتد الحاجة إلى سكينة النفس والعودة إلى التوازن. والشواهد على ذلك كثيرة في مختلف الأقطار، وفي الولايات المتحدة بخاصة حيث تفعل الثقافة السينمائية والتلفزة فعلها في انتشار العنف والشهوة.(252/11)
يدعو هذا الواقع الثقافي إلى الخاطر ما شهده القرن العشرون من أحداث تفاعلت في تكوينها أحوال مادية مع أفكار، وعانى العالم ودائرة الحضارة الغربية بخاصة من حربين عالميتين ثم من سلسلة حروب إقليمية، وحدثت ثورتا التقنية والتحرير، وظهرت آثار عصر الحداثة الغربي التي أدت إلى عصر "ما بعد الحداثة" الذي انتشر فيه فلسفة تشكك في فلسفة الحداثة عزاه "جان فرانسواز يشيوتار" إلى التقدم في العلوم وهكذا نجد هذا الواقع الثقافي في الغرب يشهد حوارات ساخنة حول مشكلات عالمنا والتحديات التي تواجهنا يكون لها صداها في دوائر الحضارات الأخرى التي تشهد هي الأخرى هذه الحوارات.
حول الواقع الثقافي في دائرتنا الحضارية:
حين نتأمل الواقع الثقافي في دائرة الحضارة الإسلامية، يلفتنا وجود "حيوية" فيه، ومحاولات فكرية لمعالجة المشكلات وحالة إحياء روحي. ونلاحظ أن المناخ السائد متقلب أحيانًا، وأن الحيوية المفعمة بالحماس والأمل والتوق إلى الإنجاز والعمل تقترن بمشاعر إحباط. ولا يزال التدافع قويًّا بين تياري الانكماش والانغماس يحتدم فيه الصراع أحيانًا في نطاق التفاعل مع الحضارة الغربية. كما لا يزال تيار الاستجابة الفاعل يحاول بلورة رؤيته لإسهام حضارته في العمران العالمي. وذلك بعد أن فشلت محاولات "التحديث" التي شارك فيها الانغماسيون قوى الهيمنة الاستعمارية التي تسلطت على ديار الإسلام. وتؤكد ظاهرة الإحياء في هذه الدائرة على ضرورة اقتران العقل بالضمير في الإنسان، ومن ثم على الأخلاق، ويرتفع فيها نداء العمل لمعالجة المشكلات العالمية برؤية مؤمنة، ويبرز فيها العامل الثقافي الحضاري الذي "يصاحب دومًا أوقات التوتر والتغير والتحول، باعتباره يدعو إلى استمرار النضال في مواجهة عمليات الاقتحام". كما يلاحظ أنور عبد الملك في بحثه "الوجهة الحضارية في صنع العالم الجديد".
مشكلات لها بعدها الثقافي:(252/12)
واضح أن الواقع الثقافي في هاتين الدائرتين الحضاريتين – الغربية والإسلامية – كلتيهما، يشهد انشغالاً بالمشكلات التي تواجه عالمنا وبتحديات العصر. وهي جميعها عالمية الطابع، وإن كانت درجة إلحاح كل منها تختلف بين دائرة وأخرى، شأن حجم المشكلة وقوى التحدي.
لقد تناولت تقارير دولية ودراسات كثيرة بالحديث هذه المشكلة والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والفلسفية والسياسية. وأشارت إلى المديونية والعجز التجاري، وانخفاض المدخرات والاستثمار، وانعدام المنافسة الصناعية على الصعيد الاقتصادي، وإلى عدم كفاية الرعاية الصحية، وضعف جودة التعليم، وتدهور البيئة الاجتماعية الأساسية، والتدهور الحضري الواسع، وبروز شرائح غنية جشعة، وتفاقم فقر الكثيرين، ومرض الادعاء القضائي وتفاقم مشكلة العنصرية، وانتشار الجريمة والعنف، وضعف الأسرة على الصعيد الاجتماعي، والإباحية المفرطة المثيرة للشهوة، وترويج الفساد الخلقي عبر التلفزة، وتدهور الوعي المدني وظهور ثقافات تكمن فيها الفرقة على الصعيد الثقافي، وظهور دائرة مغلقة في النظام السياسي. وشيوع إحساس عام متزايد بالفراغ الفكري على الصعيد الفكري الفلسفي. وممن درس هذه المشكلات في أمريكا برجنسكي في كتابه "الانفلات"، وتتبع كيف تفعل فعلها في دولة تحتل موقعًا قياديًّا في النظام العالمي السائد الذي تلح قضية إصلاحه على كثير من المفكرين. كما عرض كاتب هذا الحديث في كتابه "تجديد الفكر استجابة لتحديات العصر". والحق أن المجلات العلمية المختصة في هذه المجالات جميعها تتضمن الكثير في وصف هذه المشكلات والتحديات وتعليل أسبابها واقتراح أفكار لمعالجتها والاستجابة لها. ونشير إلى أمثلة وقف أمامها كاتب هذا الحديث بمناسبة عكوفه عليه. فهذه المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية خصصت عددها 126 الصادر في 11/1990م للتغيرات في أنماط الأسرة بفعل الهندسة الوراثية والعوامل السكانية والسياسات الأسرية(252/13)
والقيم، ولا يتسع المجال لأكثر من هذه الإشارة. وهذه رسالة اليونسكو في عددها 3/1999م تعرض لمشكلة الفقر وتشرح مقاييسه وتتناوله في ملف بعنوان "صفقة جديدة للفقراء". وكانت المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية قد خصصت عددًا لتغير الأماكن الحضرية في عالمنا وما نجم عن ذلك من تفكك أوصال المدن وتغير المفاهيم التي تحدد معنى الحضر وآثار ذلك على الأسرة. وقد عقدت محافل علمية في دائرة الحضارة الإسلامية عددًا من المؤتمرات والندوات لمعالجة هذه المشكلات والتحديات من أمثلتها تلك التي نظمها المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن وأكاديمية المملكة المغربية. وبدا واضحًا أهمية البعد الثقافي.
إن المتأمل في هذه المشكلات يلاحظ أنها ناجمة عن قصور في الرؤية الكونية للعالم الإنساني فيه، ينجم عنه فصل العقل عن الضمير، والسلام عن العدل، والضرورات عن الأشواق، فتختل التصرفات. وحدث الطغيان.. طغيان الإنسان على أمه الأرض، وطغيان الإنسان على أخيه الإنسان، وطغيان الإنسان على نفسه ومن هنا تأتي أهمية توافر الرؤية الكونية السليمة التي ننطلق منها نحن العرب في تحديد دورنا في التطوير الثقافي في عالمنا.
إن القيام بهذا الدور على صعيد الفرد الإنسان والنجاح فيه، كفيل بتغيير المناخ النفسي الذي يغلب فيه الإحباط واليأس والتشاؤم اليائس من الجنس البشري، إلى التفاؤل الفاعل والثقة بانتصار الخير وبالقدرة على التغيير لما هو أحسن.(252/14)
إن القيام بهذا الدور على صعيد الاجتماع الإنساني والنجاح فيه، كفيل بمواجهة شطط "العولمة" وتجاوزاتها في محاولة فرض نموذج ثقافي بعينه خدمة لأغراض اقتصادية، ومحاصرتها "بالعولمة" التي تعتمد تعارف الثقافات والحضارات وحوارها وتفاعلها الإيجابي دونما فرض قسري. "فليس هناك بلد في العالم ولا قارة يمكنه الادعاء بأنه نموذج يتعين على باقي الكوكب الأرضي أن يحذو حذوه، وإلا تعرض للافتقار أو الزوال"،كما أوضح آلان تورين في مقاله "الحداثة والخصوصية الثقافية" بالمجلة الدولية للعلوم الاجتماعية 11/1988م . وإن محاولة أمركة الثقافة وفرض سياسة الحماية الثقافية "بالعولمة" تواجه معارضة قوية، كما أوضح جريجوري كلايز في مجلة ديوجين (العدد 80 في 4/1988م)في معرض حديثه عن هذه المحاولة في أوربا وبقية العالم. وهو يصفها بأنها " فصل في مسرحية طويلة ومستمرة تحاول فيه الثقافة الأمريكية الفتية والعدوانية أن تضرب الثقافة العريقة في أوربا وتمحو الثقافات الأخرى في العالم". وقد أوضح س.ك. ديوب من الهند في حديثه عن الأبعاد الثقافية للتنمية بالمجلة الدولية للعلوم الاجتماعية 11/1988م" أن ثمة افتراضًا خاطئًا يتمثل في اصطناع تناقض بين التقاليد والحداثة" وبين أن أحدهما لا ينفي الآخر، ولاحظ تزايد الوعي الذاتي بالثقافة والإصرار العنيد عليها، معللاً ذلك بأنه حرص على الذاتية الثقافية وخوف من ضمورها واختفائها، وانتهى إلى القول أن الذاتيات الثقافية لن تندثر، فلا جدوى من محاولة طمسها. وهذا كله يؤكد إمكان النجاح في هذا الدور على صعيد الاجتماع الإنساني.(252/15)
كما أن القيام بهذا الدور على صعيد الاجتماع الإنساني والنجاح في التأكيد على مبدأ العدل الذي ينطلق من الرؤية الكونية المؤمنة، كفيل بنشر ثقافة تساعد على معالجة مشكلة الفقر المتفاقمة في عالمنا على صعيد المجتمع الواحد وعلى صعيد دول غنية وأخرى فقيرة. وكذلك على معالجة المشاكل الأخرى الخاصة بالأسرة والمرأة والشباب.
إن هذا التطوير الثقافي يدعو أيضًا إلى التمسك بمبدأ التعارف وصولاً إلى التعاون على البر والتقوى، مع دعوته للتمسك بمبدأ كرامة الإنسان ومبدأ وحدة أصل البشرية ومبدأ المساواة ومبدأ العدل والتكافل. وهذا يعني أن الأصل هو تعاون الحضارات لا صراعها، وأن
المجتمع الإنساني مدعو إلى الوصول بكل تياراته إلى كلمة سواء هي العمل لصالح الإنسان، وأن لبني البشر أن يستبقوا الخيرات. وهكذا يكون الإسهام في مواجهة خطر طغيان الإنسان على أخيه الإنسان.
واضح أن الثقافة التي تستند على هذه الرؤية الكونية المؤمنة كفيلة بمعالجة الغلو والتطرف، لكونها تحث على "الوسطية" و"الاعتدال" ، وتدعو إلى "التوازن". وهذا ما يجعلها قادرة على الإسهام في مواجهة خطر طغيان الإنسان على البيئة. ولافت أن فكرة"التوازن" تنتشر اليوم للتكامل مع فكرة"النمو"في أوساط المعنيين بالتنمية، خبراء وسياسيين على السواء.
أحمد صدقي الدجاني
عضو المجمع المراسل من فلسطين(252/16)
العلاقة بين اللغة الفارسية والعربية(*)
للأستاذ الدكتور مهدي محقق
إن تأثير اللغة الفارسية في اللغة العربية أو العربية في الفارسية لا يدرس في مقالة أو مقالتين؛ لأن هذا التأثير تم في ميادين متفاوتة وأزمنة مختلفة. وما نقدم في الصفحات التالية إنما هو مجمل من ذلك الموضوع الطويل. وأود أن أبحث في مقالتي هذه حول أثر اللغة الفارسية في اللغة العربية، وسأنتهز فرصة أخرى للبحث حول أثر اللغة العربية في اللغة الفارسية إن شاء الله تعالى.
دخل اللغة العربية قبل الإسلام قسم من الكلمات الفارسية على يد الذين كانوا على صلة بالفرس. وقد كان الأثر الأكبر في هذه الصلة للمناذرة – اللخميين – الذين كان آخرهم النعمان بن المنذر. كان هؤلاء يحكمون بلاد الحيرة التي كانت عاصمتها مدينة الحيرة وكان موقعها على بعد فرسخ جنوبي الكوفة. وفي
أبيات الشعراء، الذين كانوا في ذلك العهد، يُرَى كثير من الكلمات الفارسية. ومن هؤلاء الشعراء يمكننا أن نعد الأعشى ميمون بن قيس الذي ننقل هنا بعضًا من أشعاره المتضمنة أمثال هذه الكلمات لضيق المجال عن ذكرها جميعًا.يقول في إحدى القصائد:
لنا جلَّسان عندها وبنفسج
... وسيسنبر والمرزجوش منمنما وآس وخيرى ومرو وسوسن
إذا كان هنز من ورحت مخشَّما وشاهسفرم والياسمين ونرجس
... يصبّحنا في كل دجن تغيَّما(1)
يلاحظ أنه أورد في هذا الشعر كلمات كَلستان وبنفشه وسوسن برو مرزجوش وشاه اسبرم وياسمن ونركَس الفارسية وسواها. وأشار في قصيدة أخرى إلى ساسان وكسرى شهنشاه:
فما أنت إن دامت عليك بخالد
... كما لم يخلَّد قبل ساسا ومورق
وكسرى شهنشاه الذي سار ملكه
له ما اشتهى راح عتيق وزنبق(2)
ويذكر كذلك في أماكن أخرى أسماء الآلات الموسيقية، وقد كانوا يسمونه "صناجة العرب" أي لاعب الصنج عند العرب، فكلمة صنج معربة من گنچ الفارسية بنفس المعنى، وقد أشار إليه المنوجهري الدامغاني في إحدى قصائده:
أبر زير وبم شعر أعشى قيس(253/1)
... زننده همى زد بمضرابها
وكأس شربت على لذّة
... وأخرى تداويت منها بها
وإن كلمة سمسار الفارسية التي عربت بصورة سفسير وردت في شعره هو بلفظها الفارسي:
وأصبحت ما أستطيع الكلام
... سوى أن أراجع سمسارها(3)
وأصل هذه الكلمة من السانسكريتيه انتقلت إلى العرب عن طريق الفرس(4) وقد نقل حديث عن قيس بن أبي غرزة قال فيه: "كانوا يسموننا سماسرة فسمانا الرسول تجارًا"(5)
ذكر أبو حاتم الرازي في كتاب الزينة أن كسرى سأل حين دخل الأعشى بلاط الأكاسرة: من الرجل؟ فقيل : منشد. ثم يقول أبو حاتم: المنشد بمعنى المطرب والمغني لا بمعنى الشاعر، لأن الأناشيد والأغاني الفارسية كانت كلمات غير مقفاة ولا موزونة ولا يستقيم إطلاق اسم الشعر عليها(6) وقد فات أبا حاتم أن قصائد ما قبل الإسلام كانت شعرًا ولكن على وزن هجائي لا وزن عروضي وقد عرف مثل هذا الشعر حتى بعد الإسلام ولا يزال يرى في البقاع المحلية في إيران، بل إن بعضًا من الشعراء العرب حاولوا تقليده.
يذكر على بن ظافر الأزدي في (بدائع البدائة) أن شاعرًا أنشد سنة 607 أمام أحد الأمراء أبياتًا لم تكن على أوزان العروض، ثم ألقى شاعر آخر بذلك الوزن شعرًا عربيًّا مطلعه:
ما لذة المعنى - ... إلا مدامته
ووصل من عليه - ... قامت قيامته(7)
ونلتقي في قصائد أصحاب المعلقات أحيانًا بكلمات فارسية، ومن ذلك قول امرئ القيس:
إذا زاعه من جانبيه كليهما
مشى الهربذى في دفّه ثم فرفرا(8)
كلمة (هربذ) هي (هيربد) التي فسرها كتاب القواميس من العرب بحارس النار، وقد وردت في كتاب أفستا بمعنى الأستاذ والمعلم.
كذلك قال عمرو بن كلثوم العتابي:
وسيد معشر قد توَّجوه
... بتاج الملك يحمي المحجرينا(9)
كلمة (تاج) فارسية كانت في ةيولهپلا(تاژ)وقد نقلوها في العربية إلى باب تفعيل فبنوا منها توّج يتوّج.(253/2)
وفي مدينة الحيرة هذه التي ذكرنا، كان للأساطير والأقاصيص الفارسية مدخل ونفوذ كما ينقل ابن هشام في كتاب سيرة النبي، إذ يذكر أن نضر بن الحارث كان يعلم في الحيرة قصص ملوك إيران ورستم واسفنديار، وأنه كلما كان النبي في مجلس ما يذكر الله ويخيف الناس من عذابه،ويتحدث عن الأمم الغابرة التي غضب الله عليها، كان يقوم ويقول: "يا معشر قريش تعالوا أحدثكم بحديث أحسن من حديثه، ثم كان يروي لهم قصص ملوك الفرس ورستم واسفنديار".(10)، وذكر المفسرون أن الآية الكريمة : "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم"(11) إنما نزلت فيه.(253/3)
كذلك نجد بعضًا من الأسماء التي هي في الأصل فارسية، مثلا في الرجال: قابوس المعرب عن كاووس وقد كان النعمان بن المنذر يلقب أبا قابوس. وفي النساء: دختنوس اسم بنت لقيط بن زرارة وهو معرّب عن دخت نوش(12) ولما كان عدد من الكلمات الفارسية صار من اللغة العربية، فقد ظهر قسم من تلك الكلمات في القرآن الكريم مثل إستبرق المعربة عن استبرك وإبريق المعربة عن آب ريز، وكنز المعربة عن كَنج وسجيل المعرَّبة عن گنس كل و أمثالها. ولقد ثقل على بعض العلماء أن يسلموا بوجود كلمات غير عربية في القرآن ورأوا ذلك متنافيًا مع الآية الكريمة: "إنا أنزلناه قرآنًا عربيًّا" وكذا و"هذا لسان عربي مبين"، كانوا مضطرين لإيجاد حل لذلك. فبعض الفقهاء كالشافعي كانوا يعتقدون أن ليس في القرآن قط كلمات غير عربية، وما يرى فهو من باب توارد الكلمات(13) وأيد ذلك أيضًا بعض المفسرين كالإمام الفخر الرازي، وهكذا نقل أصل هذا البحث من علم اللغة إلى علم أصول الفقه. وفي مباحث ألفاظ القرآن قيل في الحديث عن الحقيقة الشرعية أن كلمة قرآن من المفاهيم التي تدل على الكل وعلى الجزء، والضمير في إنا أنزلناه إنما يعود على السورة لا على القرآن(14) وقد ذكر جلال الدين بن عبد الرحمن السيوطي في كتاب (المزهر) أقوال علماء اللغة بشأن الكلمات غير العربية في القرآن، وهو يميل إلى الأخذ برأي القائلين إن هذه الكلمات أعجمية باعتبار الأصل، عربية باعتبار الحال(15)، وتوجد منه أيضًا رسالة باسم المتوكلي، فيما ورد في القرآن باللغة الحبشية والفارسية والهندية والتركية والزنجية والنبطية والقبطية والسريانية والعبرانية والرومية والبربرية. ومن المستشرقين كتب آرتور جفري قاموسًا للدخيل من كلمات القرآن فسر فيه الكلمات الفارسية وشرحها.(253/4)
وكان بعض الكفار في صدر الإسلام يعتقدون أن سلمان الفارسي لقن النبي بعضًا من المطالب، وقد نزلت الآية: "لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين"(16) في الرد على هذه الفئة. ومنشأ هذا التوهم أن سلمان كان مقربًا جدًّا من الرسول حتى عده الرسول من أهل بيته قائلاً: سلمان منا أهل البيت(17) يقول ناصر خسرو في ذلك:
قصة سلمان شنيدستي وقول مصطفى
كوزاهل البيت چون شدبازبان ىولهپ(18)
وكلمة (خندق) المعربة عن كندكةيولهپلاإنما دخلت العربية على يده، بل ذكروا أنه قال بالفارسية حين انتخبوا أبا بكر خليفة في سقيفة بني ساعدة: "كرديد ونكرديد"(19) التي ترجموها بعبارة "أصبتم وأخطأتم"(20) فيستفاد من ذلك أنه كان أحيانًا يتكلم لغته الأصلية، وقد ذكروا أنه رغم تعلمه اللغة العربية كانت تظهر في لغته لكنة فارسية، ويقول ابن منظور في لسان العرب في مادة (رضخ): "كان سلمان يرتضخ لكنة فارسية".
بالإضافة إلى القرآن نشهد كذلك في الأخبار والأحاديث كلمات وتعابير فارسية ننقل كنموذج بضع جمل منها:
في حديث الحسن البصري فقال: "بهل بهل" بالفارسية ومعناها "خل خل"(21).
في حديث عيسى: "أنه لم يخلف إلا قفشين" كلمة (قفش)(22) معرب (كفش) أي (الخداء).
في حديث مجاهد: يغدو الشيطان بقيروانه إلى السوق. كلمة قيروان معرب كاروان ومعناها القافلة.
ومثلها: أكل الحسن أو الحسين تمرة من تمر الصدقة فقال النبي كخ كخ. وكذلك: أهدى رجل من العراق إلى ابن عمر جوارشن(23)
كلمة (جوارشن) في الجملة الأخيرة معربة عن (كوارشن) التي صارت في الفارسية (كوارش) وكانت اسم أكلة. وقد نقل الجاحظ في البخلاء أن رجلاً كان يضرب غلمانه فلمَّا سألته عن السبب في ذلك قال: إنهم أكلوا كل جوارشن عندي.(24)(253/5)
ويبدو أثر اللغة الفارسية في اللغة العربية أوفر بعد الإسلام نتيجة للاختلاط والتعايش المشترك. وكان هذا التأثير يتم أحيانًا بواسطة الأسر التي هاجرت من إيران إلى البلاد العربية كما هو الحال مثلاً مع والد المهلب الذي كان نساجًا هاجر إلى جزيرة خارك ثم إلى عمان وترك ديانته الزرادشتية وأسلم مبدلاً اسمه إلى أبي صفرة، وأحيانًا أخرى بواسطة النساء الفارسيات اللواتي انتقلن إلى البيت العربي، فكان لابد لهن من أن تؤثر لغتهن في أزواجهن وأبنائهن، وكن في معظمهن من الجواري. أهدى الوليد بن زيد (125 – 126هـ) ابن ميادة الشاعر جارية طبرستانية جميلة جدًّا كان نقصها الوحيد في نظر ابن ميادة في لغتها إذ لم تكن تحسن العربية، فقال فيها:
بأهلي ما ألذَّك عند نفسي
... لو أنك بالكلام تعرِّبينا
ومثلها الذين كانوا من أصل فارسي، فلم يكونوا يحسنون مخارج الحروف العربية كزياد الأعجم (المتوفى سنة 100هـ) الذي وصل في الشعر والشاعرية إلى مرتبة عالية ولكن كانت بلسانه لكنة فارسية تجعله يلفظ العين همزة والحاء هاء فلقبوه الأعجم(25) وللسبب نفسه لقب الصوفي المعروف حبيب العجمي بلقب العجمي إذ كان يقول: "الهمد بدلاً من الحمد"(26) وقد كانت لبعض العرب ألقاب فارسية بالإضافة إلى أسمائهم العربية. يقول ابن قتيبة: "إن علي بن خليل وهو معاصر لجرير كان يلقب بردخت أي الفارغ من العمل(27) ويقول ابن سعد في الطبقات: "يزيد بن أبي يزيد المتوفى 130هـ كان يلقب رشك"(28).(253/6)
ونرى أحيانًا عبارات فارسية نقلت إلى العربية في النصوص التاريخية. يقول محمد بن جرير الطبري: "كان آخر ما قال جد الطاهريين طاهر بن الحسين (159 – 207) الجملة التالية: "در مرج نيز مردي فايد"(29) والمعنى: في حالة الموت أيضًا تلزم الشجاعة. وكذلك ينقل أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني عن إسحاق الموصلي أنه كانت لإسحاق بن إبراهيم المصعبي قصيدة تختتم بجملة "يا مرد مي خور"(30) أي: يا رجل اشرب الخمر. وكان نفوذ الفارسية بحيث كانت خطب بعض المجالس تلقى باللغتين كما ينقل الجاحظ في (البيان والتبيين) ذاكرًا أنه كانت لموسى الأسواري حلقة يجلس العرب فيها على اليمين والفرس على الشمال، فكان يقرأ آية من القرآن فيفسرها للعرب بالعربية ثم يلتفت إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية(31).
وقد أشار الجاحظ في البيان والتبيين إلى نفوذ الكلمات الفارسية في اللغة العربية. من ذلك قوله: "إن أهل المدينة يسمون البطيخ خربز والسميط روذق وكذا أهل الكوفة الذين يسمون الحوك بادروج والمربَّعة جهار سوك والسوق وإزار والقثاء خيار.(32) ويذكر ياقوت الحموي أحد محال البصرة باسم شهار سوج(33) أي المربَّعة. أما نفوذ الفارسية في البصرة فكان لدرجة أن كثيرًا من الأمكنة تنتهي أسماؤها بالألف والنون وهما علامة للنسبة خاصة باللغة الفارسية، وقد ذكر البلاذري في كتابه مهلبان، اميتان، جعفران،عبد الرحمانان،عبد اللان، وكذلك في أقنيتها المشهورة خالدان وطلحتان نسبة لخالد وطلحة،ومن هذا القبيل أيضًا عبادان(34) ويورد الجاحظ في كتاب البيان والتبيين بعضًا من الأشعار العربية التي استعملت فيها كلمات فارسية، ومما ينقله:
لزم الغرّام ثوبى
... بكرة في يوم سبت
فتمايلت عليهم
... ميل زنكىٍّ بمست(35)
أي كميل مخمور إلى زنجيٍّ(253/7)
ونرى في كتابه (البخلاء) أسماء كثير من الأطعمة والألبسة والورد بصورها الفارسية أو معربة، مثل: خشكنان، دوشاب، سكباج، فشقارج، فالوذج، نشاستج، وكذا يرى في كتابه الآخر(التبصر بالتجارة)أسماء فارسية كثيرة، فمثلاً حين يذكر الفيروزج يقول: "وخير الفيروزج الشيربام الأخضر الأسمانجوني كلمة آسمانجون معرب آسمانكَون بمعنى سمائي اللون أي الأزرق.وفي قصة يوردها الصولي عن الكلمات الفارسية المستعملة في العربية يذكر في أسماء الأطعمة: أسفيداج،سكباج،دوغباج وأمثالها،ومن الأشربة:سكنجبين،خلنجبين جلاب وأمثالها، ومن مصطلحات الدواوين: روزنامج، اسكدار، فروانك(36)، وماشابهها.
وقد استنكر البعض كالأصمعي(37) والمقدسي(38) وأبي حاتم الرازي(39) التكلم بالفارسية وحملوا عليه، ومع ذلك كان تأثير هذه في العربية وآدابها كثيرًا، وكانت كلماتها فيها من الكثرة بحيث ظهرت قواميس لضبطها يمكن أن نعد من أهمها: (شفاء الغليل في معرفة الدخيل) للخفاجي، و(المعرب من الكلام الأعجمي) للجواليقي.
ونرى الكلمات والتراكيب الفارسية وفيرة في أشعار بشار بن برد التخارستاني، وأشعار أبي نواس الحسن بن هاني الأهوازي، الذي لم يكتف بالكثير من الألفاظ والتراكيب الفارسية يوردها معربة في أشعاره، بل أورد في ديوانه بالمضامين الكثيرة من الأمثلة الفارسية نحو:
كقول كسرى فيما تمثّله
من فرص اللص ضجّة السوق(40)
وهو مضمون المثل المستعمل اليوم: "دزد بازار آشفته مى خواهد "أي اللص يطلب السوق المزدحم. وبقيت منه كذلك أشعار تشتهر باسم الفارسيات(41) ينقل فيها عين اللفظ الفارسي في الجمل العربية:
بحرمة النوبهار - ... وكتك الفرخار
وبته الكرفكار - وشمسها الشهريار
وماهها الكامكار - ... وجشن كاهنبار
وآتشان الوهار - وخرّه ايرانشار(42)(253/8)
في هذه الأشعار نرى الكلمات الفارسية بصورتها ةيولهپلا:كتك = كده أي المنزل. كرفك = كرفه أي الثواب، آتشان جمع آتش أى النار = فيةيولهپلاآتشخان، الوهار = بهار أي الربيع، إيرانشار = إيران شهر، شهر = المدينة. وأشار البحتري في سينيته إلى أنوشروان ودرفش كاويان أي العلم المنسوب إلى كاوه الحدّاد وإلى خسروپرويز والباربد الموسيقوس:
وإذا ما رأيت صورة أنطا
... كية ارتعت بين روم وفرس
والمنايا مواثل وأنوشر
وان يُزْجي الصفوف تحت الدَّرَفْسِ
وتوهمت أن كسرى ابرويـ
... ز معاطى والبلهبد أنسى(43)
وفي الأشعار التالية لأبي العلاء المعري نرى اصطلاحات الشطرنج مستعملة بصورها الفارسية:
أيها اللاعب الذي فرس الشط
... رنج همّت في كفه بالصهيل من يباريك والبياديق في كف
... ك يغلبن كل رُخٍّ وفيل تصرع الشاه في المجال ولو جا
... ء مردّى بالتاج والإكليل (44)
وللمثال ننقل ما يلي بعض الأشعار العربية التي استعملت فيها كلمات فارسية:
أورد أبو حيان التوحيدي في كتاب (الإمتاع والمؤانسة) البيتين التاليين:
أبو العباس قد حجّ
... وقد عاد وقد غنّى وقد علق عنازًا
... فهذا هم كما كنا (45)
ويقول الحريري في كتاب (درّة الغواص في أوهام الخواص):"يقولون للمخاطب هم فعلت وهم خرجت"(46) وهذا من الأغلاط القبيحة. وكان الأخفش يقول لتلاميذه:"لا تقولوا عندي كلمة هم وبس، وكذا لا تقولوا أليس لفلان بخت؟(47).وينقل السيرافي عن الأصمعي في كتاب (أخبار النحويين) البيتين التاليين:
أيها المغرور هلَّ لك
... عبرة في آل برمك غرّهم عن قدر الله
... حساب الهشت مرّك(48)
وكلمة هشت فارسية معناها: ثمانية.
وأورد أبو الفتح البستي في البيت التالي كلمة باغ الفارسية بمعنى الحديقة والبستان:
فقيّم الباغ قد يهدي لمالكه
برسم خدمته من باغه التحفا(49)
ويقول الفرزدق:
لبس الفرند الخسرواني فوقه
مشاعر من خزّ العراق المفوف(50)(253/9)
كلمة (الفرند) معرب (برند) بمعنى (الحرير والديباج)، و(الخسرواني) منسوب إلى (خسرواي الكسرى).
ويقول أعشى همدان:
وأبو بريذعة الذي حدثته
فينا أذلّ من الخصي الريدج(51)
كلمة (ريدج)، (ريدك) الفارسية بمعنى (الغلام المملوك).
وقال الكميت:
كأن سوابقها في الغبار
... صقور تعارض بيزارها(52)
كلمة (بيزار) معرب (بازيار) الفارسية ومنه كلمة (البيزرة).
كذلك قال البحتري:
أو أبلق يلقي العيون إذا بدا
... من كل لون معجب بنموذج(53)
كلمة (نموذج) معرب (نموتك) البهلوية (نمودة) الفارسية.
وقال أبو العلاء المعري أيضًا.
إذا قيل لك اخش الله
... مولاك فقل آرى(54)
(آرى) في الفارسية بمعنى (نعم).
وينقل الثعالبي في (يتيمة الدهر) كثيرًا من المواقع التي استعمل الشعراء العرب فيها كلمات فارسية، منها:
غلام أعجمي فيه ظرف
... وحذق بالتلطف والتأتّي
سقاني دو و سه وازددت منها
على سكري وصبّحني بهفت(55)
دو =اثنين،سه = ثلاث، هفت = سبع.
ونقل كثير من الكلمات الفارسية المركبة إلى باب فعللة الرباعي المجرد فنحتوا شَبْكرة من شَبْكور وبيزرة من بازيار وبندرة من بندار ودهقنة من دهقان ونورز من نوروز ودروزة من دروازة. فقد استعمل الحريري في مقاماته كلمة مدروز من الدروازة(56) الفارسية بمعنى الدرب أي الباب الواسع.
ويتحدث الثعالبي في يتيمة الدهر عن شخص يتعهد عمل البندرة(57) ويُنسب إلى العزيز بالله الفاطمي كتاب في شئون البازي وامتلاك البزاة يسمى البيزرة(58) وصاغ شاعر من كلمة نوروز فعل نوروز فقال:
نورز الناس ونورز
... ت ولكن بدموعي(59)
كذلك صاغوا على هذا الوزن أسماء المدن فاشتقوا فعل جهرم من مدينة جهرم، ومروز من مرو، وخرسن من خراسان، واستعملوا أمثال هذا للثياب المنسوبة إلى تلك المدن يقول أبو نواس:
مقرطق خرسنوه في حداثته
لم يغذُ الله في مرو ولا طوسا(60)(253/10)
وقد التبس على كثير من القدماء والمحدثين معًا أمثال هذه الكلمات فلم يهتدوا إلى وجه اشتقاقها. يقول ياقوت الحموي في معجم الأدباء إن أحدهم سأل الزجّاج النحوي عن وجه الاشتقاق في كلمة قصعة وسبب تسميتها بهذا الاسم فقال: لأنها تقصع الجوع(61) وفاته أن كلمة قصعة معرب كلمة كاسة ولا ارتباط لها بفعل قصع يقصع. وقد انتبه السيوطي في كتابه (المزهر) إلى أمثال هذه الاشتباهات فقال:
إن من يجعل الكلمة الفارسية المعربة مشتقة من العربية إنما مثله كمثل من يدّعي أن سمك البحر مولود من طير السماء(62)
ومن لطيف الالتباسات في هذا المضمار أن شاعرًا جاء بلدًا من بلدان الفرس يلفظون فيه كلمة (مُرد) ومعناها (رجل) بضم الميم. فحين كانوا يخاطبونه مُرد كان يظن أنهم يدعونه بمُرد جمع أمرد، فيقول:
بأيدي رجال ما كلامي كلامهم
يسمونني مردًا وما أنا والمرد(63)
وجاء في مقدمة ديوان بشار هذا البيت:
مرّ بنا مقرطق
... ووجهه يحكي القمر(64)
وقد التبس الأمر على مصحح الديوان فلم يدرك أن مقرطق مأخوذة من قرطق التي هي معرب كرته ومعناها القميص، فجعلها مأخوذة من قرط التي هي حلية الأذن.
وفي البيت التالي لأبي نواس:
مشمر ثيابه عن موزج
... كأنما علّ بصبغ النيلج(65)
جعل شارح الديوان كلمة (موزج) بمعنى (جناح) بينما هي معرب (موزه) التي هي اسم نوع من الأحذية.
ونرى أحيانًا بعض الكتّاب يظهر عجزه عن فهم بعض الكلمات كما فعل مصحح(يتيمة الدهر)إذ أعيته كلمة نمكسود(66)في شعر ابن الحجاج فطبعها بالتاء (تمكسود) وقال هو نفسه أنه لم يفهم هذه الكلمة، أما الشعر فهو:
قد ملح ابني فكيف يشرف من
... أمسى ولحم ابنه نمكسود(67)
وفضلاً عن الكلمات دخل اللغة العربية كثير من مضامين الأمثال والحكم التي كانت في الفارسية، وقد صرح الكتَّاب العرب بأن عند الفرس أمثالاً رفيعة.(253/11)
وقد ذكر الميداني في مجمع الأمثال البيتين التاليين حين أورد المثل الذي يقول: "إذا جاء أجل البعير حام حول البير":
أسارت الفرس في أخبارها مثلاً
... وللأعاجم في أيّامها مثلُ
قالوا: إذا جمل جانت منيّته
يطوف بالبئر حتى يهلك الجمل(68)
وهو مضمون ما قاله ناصر خسرو:
اشتر وچهلاك تشگ خواهد
... آيد بسر هچولب جر
وذكر ياقوت في معجم الأدباء أن محمد بن الملك الزيات قال لواحد ممن حرموا نعمة الأدب:
أو ارو عن فارس لنا مثلا
... فإن أمثال فارس عبر(69)
بل ظهرت أمثلة الفرس وتشبيهاتهم في كتاب مستقل باسم (ثمار الأنس في تشبيهات الفرس) لأبي سعد نصر بن يعقوب(70)
هذه الأمثال والحكم والتشبيهات والتمثيلات الفارسية نجدها بصورة أوفى وأوفر في كتب النثر والنظم العربية. وبين كتب النثر تحظى كتب الجاحظ وأبي عبيدة وأبي حيان التوحيدي وأبي الحسن العامري في هذا الميدان بأهمية خاصة، كما نرى هذه الأمثال أيضًا في دواوين شعراء كأبي نواس وبشّار.
ويسمي الثعالبي في (يتيمة الدهر) كثيرًا من الشعراء الذين كانوا ذوي لسانين بل كانوا يترجمون شعرهم الفارسي إلى العربية شعرًا،ويصرح أن بديع الزمان الهمذاني كان ينظم أشعارًا فارسية ثم يترجمها شعرًا إلى العربية(71)، ويسمي أيضًا عددًا من الشعراء نظموا قصائد ضمنوها أمثالاً فارسية ترجموها إلى العربية،منهم أبو عبد الله الضرير وأبو الفضل السكري المروزي.
وننقل هنا للمثال بعضًا من أبيات هذين الشاعرين التي تتضمن أمثالاً فارسية مع الأبيات الفارسية التي تضم هذه الأمثال:
يقول أبو عبد الله الضرير:
وكم عقعق قد رامَ مشية قبحة
فأنسى ممشّاه ولم يمش كالحجلِ
وهذا نفسه المضمون المعروف:
خاقاني آن كسان كه طريق توميروند
زاغند وزاغ را روش كبك آرزوست
ويقول في هذه القصيدة:
يواسي الغراب الذئب في كل صيده
وما صاده الغربان في سعف النخل(72)
ويقول ناصر خسرو مخاطبًا غرابًا:
نجويى جز فساد وشرازيرا(253/12)
... هميشه كَركَ باشد ميزبانت
ويقول أبو الفضل السكري المروزي:
إذا وضعت على الرأس التراب فضع
من أعظم التلّ إن النفع منه يقع
وهذا مضمون المثل الفارسي الذي قاله أيضًا ناصر خسرو:
كربسر بر خاك خواهى كردناجار أي بسر
آن به آيدكان زخاكى هرجه نيكوتركنى
وكذا:
إذا الماء فوق غريق طما
... فقاب قناة وألف سواء
وهو مضمون المثل الفارسي:
آب كَزسركذشت در جيحون
هچبدستى هچنيزه اى جه هزار
وكذا:
ادّعى الثعلب شيئًا وطلاب
قيل:هل من شاهد؟قال:الذنب. وهذا المثل الفارسي المعروف به روباه كَفتند شاهدت كو؟كَفت:دنبم أى سألوا الثعلب أين شاهدك؟ قال: ذنبي واستعمله العطار النيسابوري في هذا البيت:
زروباهي پبرسيدند أحوال
... ز معروفان كواهش بود دنبال
وكذا:
تبختر أخفاء لما فيه من عرج
... وليس له فيما تكلفه فرج
وهذا مضمون المثل الفارسي الذي قاله كذلك ناصر خسرو:
خفته أى خفته وكَويى كه من آكاهم كى شود بيرون لنكيت به رهوارى وكذا:
من رام طمس الشمس جهلاً أخطا
... الشمس بالتطيين لا تغطى
وهو مضمون المثل الفارسي الذي قاله فخر الدين أسعد الجرجاني:
بخواهش باد رانتوان كَرفتن
... فروغ خور بكَل نتوان نهفتن
كم ماكر حاق به مكره
... وواقع في بعض ما يحفر(73)
وذا مضمون المثل الفارسي الذي أورده الفردوسي:
كسى كو بره بركند ژرف اچه
... سزدكَر كند خويشتن رانكَاه
ومعظم هذه الأمثال يرى في كتب
أندرزنامه أي كتب الحكم البهلوية، كالمثل الأخير الذي جاء في كتاب أندرز آذرباد مهر پسندان كما يلي:
هركى هميمالان راذاچه اپكندخويش أندرافتيد.
ونسب ناصر خسرو هذا المثل إلى أفستا وزند:
أز بديها خود دچيپببدكنش
... أين نوشتستند دراستا وزند
دنچناكَاهان اچبه أندر فتاد
... آنكه أومر ديكَران رااچه كند
وجاء هذا المثل في العربية بصورة حديث:"من حفر بئرًا لأخيه،وقع فيه".(253/13)
وهنا أختم مقالتي وأرجو أن تكون هذه الوجيزة مفيدة للذين يهتمون بالأدب المقارن. وختامًا أسأل من العلماء الكرام أن ينظروا إليها بعين العناية والرضا.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدى المساويا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مهدي محقق
عضو المجمع المراسل من إيران
المصادر
الصبح المنير في شعر أبي بصير، ص201.
الصبح المنير ، ص 145 .
المصدر السابق، ص 214.
هرمزدنامه، للأستاذ پورداود، ص 231.
المعرب للجواليقي،ص 201.
كتاب الزينة لأبي حاتم الرازي ، ج 1 ص 123.
حاشية معاهد التنصيص للعباسي، ج 2 ص 64.
ديوان امرئ القيس ص 90.
شرح المعلقات للزوزني، ص 146.
سيرة النبي لابن هشام، ج1 ص320.
سورة لقمان، الآية 5 .
المعرب للجواليقي، ذيل دختنوس وقابوس.
الجاسوس على القاموس، لأحمد فارس ص 212.
معالم الأصول، للحسن بن شهيد الثاني، ص 21.
المزهر للسيوطي، ج 1 ص 159.
سورة النحل، الآية 103.
سفينة البحار للقمي، ج1 ص 647.
أسمعت قصة سلمان وقول المصطفى وكيف صار من أهل البيت ولسانه بهلوي .
الاحتجاج للطبرسي، ص 43.
الترجمة الحرفية للعبارة: فعلتم وما فعلتم.
بحار الأنوار للمجلسي، ج 6 ص 354.
المعرب للجواليقي،ص 268.
نقلاً عن كتاب الاشتقاق والتعريب لعبد القادر المغربي، ص 47.
البخلاء للجاحظ، ص 35 .
الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ج 14 ص 103
تذكرة الأولياء للعطار، ج1 ص 21.
الشعر والشعراء لابن قتيبة، ص 447.
طبقات لابن سعد، ج7 ص 13.
تاريخ الرسل والملوك للطبري، ج 3 ص 1063.
الأغاني، ج5 ص 85.
البيان والتبيين للجاحظ، 1 – 139.
البيان والتبيين، 1- 49 و 20 .
ياقوت، ذيل هذه الكملة.
فتوح البلدان للبلاذري، 346 – 372.
البيان والتبيين ، ج1 ص 143
التبصر بالتجارة للجاحظ، ص 11.
أدب الكاتب للصولي، ص 193.
الكامل للمبرد، ص 239.
أحسن التقاسيم للمقدسي، ص 418.
كتاب الزينة لأبي حاتم الرازي، ج1 ص 71.
ديوان أبي نواس ، ص 451.(253/14)
نشر مجتبي مينوي إحدى هذه القصائد في مجلة كلية الآداب بجامعة طهران مطلعها:
حماني وصل أبناء القسوس
نجيب الفرس بهروز المجوس
نسخة ديوان أبي نواس المخطوطة في مكتبة مجلس الشورى بطهران ص 332.
ديوان البحتري، ص 110.
شرح التنوير على سقط الزند لأبي العلاء المعرّي، ج2 ص317.
الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، ج 2 ص 174.
كلمة هم بالفارسية بمعنى كلمة أيضًا.
حواشي الدكتور مصطفى جواد على الإمتاع والمؤانسة.
أخبار النحويين للسيرافي، ص 51.
ثمار القلوب للثعالبي، ص 3.
نقلاً عن المخصص لابن سيده، ج4 ص 32.
الصبح المنير، ص 318.
المعرب للجواليقي، ص 78.
نقلاً عن الموازنة للآمدي، ص 255.
لزوم ما لا يلزم لأبي العلاء المعرّي، ج1 ص 200.
يتيمة الدهر للثعالبي، ج3 ص 91.
مقامات الحريري، ص 314.
يتيمة الدهر، ج4 ص 133.
طبع هذا الكتاب محمد كرد علي في دمشق سنة 1953.
الخطط للمقريزي، ج2 ص391.
ديوان أبي نواس ، ص 203.
معجم الأدباء لياقوت الحموي، ج1 ص 59.
المزهر للسيوطي، ج1 ص 159.
البيان والتبيين للجاحظ، ج2 ص 169.
ديوان بشار ، ج 1 ص 7 .
ديوان أبي نواس ، ص 664.
نمك = ملح، نمكسود = مملح، ما يحفظ من اللحوم بالتمليح.
يتيمة الدهر ، ج3 ص 76.
مجمع الأمثال للميداني ، ذيل المثل المذكور.
معجم الأدباء، ج 1 ص 31.
يتيمة الدهر، ج 4 ص 390.
يتيمة الدهر ،ج 4 ص 257.
يتيمة الدهر، ج 4 ص 90.
يتيمة الدهر، ج4 ص 77.(253/15)
تأثير النظريات العلمية اللغوية المتبادل
بين الشرق والغرب: إيجابياته وسلبياته(*)
للأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح
إن التأثير الحضاري وخاصة الثقافي منه هو ظاهرة طبيعية نشأت مع نشوء الحضارات المتتالية وبحكم اتصال الشعوب منذ أقدم العصور في أشكال متنوعة سلمية وغير سلمية. والتأثير المتبادل بين الثقافات الأجنبية والثقافة العربية قد حصل من أول وهلة في الطرف الغربي من العاهلية الإسلامية: بين أوربا وصقلية والأندلس خاصة. والذي اخترناه في هذا البحث من هذا التأثير هو ميدان النظريات اللغوية وهو ميدان أعتقد أنه لم يُستقص فيه البحث؛ إذ لا يزال يسوده غموض كبير سواء فيما يخص التأثير اليوناني أو الهندي على العرب أم تأثير العرب على الغرب. وذلك لأن هذا البحث يحتاج فيه صاحبه أن ينظر في جميع ما ألف من دراسات في اللغات وفي نحو هذه اللغات أو
فلسفتها في القرون الوسطى وفي بداية النهضة الأوربية حتى القرن التاسع عشر. وفي الوقت نفسه أن يُحصي جميع ما نقل من العربية إلى اللاتينية من كتب النحو العربي وكتب الفلسفة العربية التي عالجت كل أو بعض ما يخص اللغات. وهذا عمل كبير جدًّا لم يخض فيه الباحثون بعد إلا القليل. وقد كثرت الأقوال الجازمة وغير المنصفة عن حصول تأثير المنطق اليوناني على النحو العربي دون الدراسات المطولة الموضوعية وفي مقابل هذا لا نجد أحدًا تطرق إلى تأثير النحو العربي – من حيث المفاهيم ومنهج التحليل – على النظريات اللغوية الغربية قديمًا وحديثًا، وربما لا يتصور هذا أحد من المستشرقين. ومع ذلك فهناك نصوص كثيرة وشهادات موضوعية(254/1)
صادرة من علماء غربيين لا يشك في نزاهتهم أشاروا بصراحة إلى هذا. والكشف عن هذه الشهادات، غير كافٍ في الحقيقة،لإثبات عمق التأثير. ولا مفر من الرجوع إلى النصوص هي بعينها القديمة منها أو القريبة العهد لنتبين بالتصفح الواسع لها والتحليل المباشر ماهية المفاهيم العربية العلمية التي تسربت إلى الثقافة الغربية وإلام صارت؟ وكيف تبوأت مكانتها في النظريات الحديثة؟.
أولاً – تأثير منطق أرسطو في النحو العربي:
1- متى تأثر النحو العربي بهذا المنطق؟
نشرنا في 1964م مقالاً حاولنا(1) أن نبرهن فيه على أن النحو العربي
لم يتأثر في نشأته ولا عند اكتماله في زمان الخليل وسيبويه بمنطق أرسطو إطلاقًا. وقد أقرَّ بذلك بعد سنتين المستشرقان كارتر (Carter) وتروبو (G.Troupeau) (2).
وحصل التأثر بالفعل في زمان ابن السراج (3) – ومعاصريه كابن كيسان وغيرهما وأولئك الذين سُمُّوا بالمدرسة البغدادية. وقد ازدهرت الفلسفة اليونانية في بغداد وذلك في عهد المعتضد بالله بالضبط(4). وهناك شاهد عيان عاش في ذلك الزمان وهو تلميذ ابن السراج أبو القاسم الزجاجي. قال في كتاب "الإيضاح في علل النحو" عند كلامه عن حد الاسم: "ولأن المنطقيين وبعض النحويين قد حدوه حدًّا خارجًا عن أوضاع
النحو فقالوا: الاسم صوت موضوع دال بالاتفاق على معنى غير مقرون بزمان وليس هذا من ألفاظ النحويين ولا أوضاعهم إنما هو من كلام المنطقيين وإن كان تعلق به جماعة من النحويين وهو صحيح على أوضاع المنطقيين ومذاهبهم لأن غرضهم غير غرضنا" (ص48). وقال أيضًا: "ولابن كيسان في كتبه حدود للاسم ... هي من جنس حدود النحويين. وحده في الكتاب المختار بمثل الحد الذي ذكرناه من كلام المنطقيين" (ص50).(254/2)
أما قبل ذلك بقليل فقد لاحظنا في بعض النصوص تسربًا خفيفًا للمنطق وهو يكاد لا يعتد به. وهو القول بأن الخبر هو الكلام الذي يجوز فيه التصديق أو التكذيب وذلك عند المبرد – شيخ ابن السراج – وهذا اقتباس لم يترتب عليه شيء إذ لم يغير شيئًا من النظرية العربية التي أخذها الأخفش عن سيبويه.
ثم إن الناظر الممعن في كتاب "الأصول" لابن السراج لا يمكن أن تغفل عنه التقسيمات الكثيرة التي أقامها في هذا الكتاب لأول مرة في تاريخ النحو والتي جوهرها القسمة الأفلاطونية: من الجنس إلى الأنواع والفصول. وكذلك الحدّ الذي يبنى على الجنس والفصل. وقد ورد في ترجمة ابن السراج أنه درس المنطق على الفارابي بعد موت شيخه المبرد كما أخذ منه الفارابي الشيء الكثير من علوم العربية(*) (كما سنراه فيما بعد).
2- لا أثر لمنطق أرسطو فيما سبق ذلك:
أجمع المستشرقون قبل اليوم على حصول هذا التأثير بل ذهب بعضهم إلى أن مفاهيم النحو العربي الأساسية كلها مأخوذة من منطق أرسطو. ولم يأت أحد منهم بأي دليل اللهم إلا القول باستحالة إبداع العرب لكل هذه المفاهيم الدقيقة الناضجة في
مدة قصيرة. وهو دليل واهٍ لأن العرب أبدعوا أشياء كثيرة غير النحو في هذه المدة القصيرة مثل مفاهيم الفقه الإسلامي ومنطق القياس التمثيلي (وهو غير السلوجسموس) ومسالك العلة عند الأقدمين وهي مفاهيم ومناهج عربية محضة، فلا يوجد علاقة بين العلة الفقهية والنحوية من جهة وعلل أرسطو من جهة أخرى(*).
فإضافة إلى ما أثبتناه في بحثنا في 1954م فإننا نقول بأنه لا يمكن أن يثبت التأثير في جوهر النحو العربي إلا إذا كانت مفاهيمه الأساسية وبالتالي تحديداته ومناهج التحليل فيه تتغلب عليها النزعة المنطقية الأرسطوطاليسية لا أي نوع من المنطق وليس الأمر كذلك. فإن النحو العربي الخليلي قد بني كله على مفاهيم أصيلة لا يوجد لها نظير في منطق أرسطو. فأساسها التمييز الصارم بين اللفظ والمعنى أي بين(254/3)
بنية الخطاب وما يدل عليه بلفظه من جهة وبين هذه الدلالة اللفظية والدلالات غير اللفظية من جهة أخرى.ثم إن هذا اعتبار لغوي محض وليس بمنطقي ولا سبيل إلى عثوره في المنطق اليوناني، أما ما يخص البنية فتكتشف بحمل العبارات التي تنتمي إلى فصيلة واحدة بعضها على بعض. وأما في مستوى الكلام فبهذا الحمل يتضح أن البنية المجردة التي ينطوي تحتها كل كلام فهو العامل والمعمول الأول الذي لابد منه ثم المعمول الثاني والمخصِّصات، وهذا أيضًا أمر لغوي محض وليس له مقابل في المنطق الأرسطي. وفيما يخص أصوات اللغة فلا نجد عند النحاة العرب مفهوم المصوت القصير ولا الطويل ولا المقطع ولا المصوت المزدوج بل نجد فيه مفهومًا خاصًّا بهم هم وحدهم وهو الحركة ومقابلها السكون،وقد بني التحليل الصوتي – والعروض– كله على هذين المفهومين.
وللعرب الجهر والهمس والشدة والرخاوة ولا يوجد مثل هذا إطلاقًا عند اليونانيين،وأما الهنود فنجد عندهم مثل هذا لكن بتصور آخر، ثم ليس عندهم ما يقابل الحرف المتحرك والحرف الساكن(*) فهو شيء تفرد به العرب.
ثم في أي مكان يمكننا أن نعثر في كتب المنطق اليوناني على المفاهيم الرياضية التي كانت أساسًا للمنهجية التحليلية الخليلية كالعلامة غير الظاهرة والابتداء وخلو الشيء (كل هذا هو الصفر) وكمفهوم المثال أو البناء ومفهومي الأصل والفرع والقسمة التركيبية في تقاليب حروف الكلمة وكل ما بنى عليه من الجبر التركيبي الذي وضعه الخليل.
3- غزو منطق أرسطو للفكر العربي وامتزاجه بالنحو العربي وما ترتب على ذلك من اختفاء المفاهيم الأصيلة:(254/4)
على إثر ما حصل من تسرب الكثير من المفاهيم المنطقية في النحو العربي في نهاية القرن الثالث الهجري (ويتراءى ذلك جيدًا في جميع الكتب النحوية) أعجب العلماء بما أدخل من الحدود على النحو مما سموه "بأوضاع المنطقيين". وخاصة في الكثير مما جاء بعنوان "مختصر في النحو" ألف لتعليم العربية مثل "الموجز" لابن السراج و "الجُمل" للزجاجي وغيرهما. ففيها أثر واضح للمنطق اليوناني، إلا أن النظرية الأساسية لم تمس. فكأن الحدود وبعض المفاهيم أضيفت فقط إلى ما عرف من حدود القدامى وتفطن الكثير من العلماء إلى وجود نظريتين مختلفتين في النحو فنبهوا القراء – كما فعل الزجاجي في الإيضاح – ومن جاء بعده ممن استساغ المفاهيم المنطقية فميزوا فيما بعد، بين الحد بالجنس والفصل وبين الحد بذكر
الصفات اللازمة أي الخصائص أو العلامات وهو الحد العربي (وسموه "الحد بالرسم" تخليطًا بينه وبين الحد الرسمي المنطقي). ويقول ابن يعيش في شرحه للمفصل:"والفرق بين العلامة والحد أن العلامة تكون بالأمور اللازمة والحد بالذاتية"(7/3).
وبعد ذلك بالغ بعض النحاة من المتأخرين فأدخل في النحو الكثير من المفاهيم الفلسفية المحضة وذلك مثل ابن العريف في شرحه لجُمل الزجاجي. يقول: "قد يتركب الاسم مع الفعل فيكتفي به دون الحرف لأن العَرَض إذا اتصل بالجوهر اكتفى وقام به وكان موجودًا به". (مخطوط دار الكتب بمصر / الورقة8).
إلا أن هذا الإقحام للمفاهيم غير اللغوية في الدراسة اللغوية كان غير خطير إذ كانت تستعمل فيه المصطلحات كما وضعت على أصلها. والخطر بل الطامة الكبرى هو اختفاء المفهوم الأصيل مع بقاء(254/5)
اللفظ نفسه واستبداله بمفهوم غريب عن النظرية الأصيلة(1). وقد أشرنا من قبل إلى ما حصل من فظيع الخلط بين مفهوم السلوجسموس الأرسطوطاليسي وبين القياس العربي الذي ليس هو مجموع مقدمتين ونتيجة بتاتًا. ولحُسن الحظ لم يحصل هذا عند النحاة، حتى المتأخرين منهم، ولكن حصل - مع الأسف - عند بعض المحدثين من علمائنا في اللغة. فقد بحث بعضهم عن القياس عند أبي علي الفارسي وليس في ذهنه إلا المقدمتان والنتيجة. وبعضهم يجعله مماثلاً الـ Analogia وهي إحدى الصور الاستدلالية الثلاث عند أرسطوطاليس: القياس والاستقراء والتمثيل؛ وذلك لأنه كثيرًا ما لاحظ أن القياس غير اليوناني قد يُسمَّى قياس التمثيل(2). وكمصطلح "مفرد" أيضًا فقد يطلق على مفهوم "ما لا يدل جزؤه على جزء من معناه" وهو مفهوم أرسطوطاليسي يذكره عند حدّه
للاسم و"الكلمة" (الجزء الثاني من الحكم المنطقي). ولا يدل هذا اللفظ عند سيبويه ولا الخليل على هذا ، بل يدل على ما ليس مركبًا (كثيرًا ما يقول النحاة: "إفرادًا وتركيبًا"). وكذلك هو الأمر بالنسبة لكلمة "علة" فهي لا تدل منذ زمان بعيد على ما قصده الخليل وتلاميذه، فقد حدد هذا اللفظ في كتاب العين هكذا: "حدث يشغل صاحبه عن وجهه"(تحقيق درويش 1/ 100) وهو ما يمنع أن يكون الشيء مثل نظائره ويخرجه من بابه. وصار يطلق أخيرًا على كل سبب وعلى ما كان يُفهم من العلل الأربع الأرسطوطاليسية(1).
وهذا التخطيط هو خطير وهو عندنا من أسباب الجمود الفكري العربي لأنه منعنا (مع أسباب أخرى هامة) من أن نواصل أعمال المبدعين من أسلافنا . وقد تفطن لذلك الكثير
من العلماء منهم ابن تيمية وقد بين الفروق القائمة بين الحد العربي والحد الأرسطي وبين القياس اليوناني الذي سماه بالقياس الشمولي وبين القياس العربي وهو غير القياس التمثيلي،ولا يعني به ما يعنيه أرسطو من التمثيل.(254/6)
ثانيًا- تأثير النحو العربي وفلسفة اللغة عند العرب في النظريات اللغوية الغربية:
1- مفاهيم لغوية ظهرت عند الغربيين ولا أثر لها في التراث اليوناني اللاتيني:
لقد دخلت المفاهيم اللغوية العربية أوربا عن طريق الفلسفة العربية التي نقلت إليهم مع الكثير من كتب العلوم ابتداء من القرن العاشر والحادي عشر الميلادي وقد تجند لترجمة الكتب العربية عدد كبير من المترجمين في الأندلس وصقلية وأوربا (مثل حلقة اكسفورد) (2). هذا
زيادة على ما كان اطلع عليه بعض العلماء الأوربيين من هذه المفاهيم في هذه الكتب مباشرة ومن كتب النحو بفضل معرفتهم للغة العربية ونخص بالذكر الداعي إلى "علم التجربة" (Scientia Experimentalis)(1) لأول مرة في أوربا ألا وهو روجر بيكون الإنجليزي Roger Bacon (المتوفى في 1214م).
مفهوم علم اللسان:
وقد اطلع روجر بيكون على ما كتبه أبو نصر الفارابي في كتاب "إحصاء العلوم" الذي كان نقل إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر (ترجمة G.Cremonensi ). يقول بيكون: "إن النحو هو في جوهره واحد في جميع اللغات وإن كانت تتنوع تنوعًا عرضيًّا" (2) . ويقول الفارابي: "وهذه ليست توجد في العربية فقط بل في جميع الألسنة...
فعلم النحو في كل لسان إنما ينظر فيما يخص تلك الأمة وفيما هو مشترك له وغيره"(ص61).
وأول من قال بذلك في تاريخ الإنسانية هو الفارابي ولم يسبقه إلى ذلك إلا بعض النحاة كالمبرد وأتباعه (خاصة ابن السراج والزجاجي)؛ إذ صرح بأن الأقسام الثلاثة للكلم هي موجودة في جميع اللغات وربما استوحى الفارابي من شيخه ابن السراج فكرته من هذا الكلام فعممه بتطبيقه على جزء كبير من اللغة. ومن ثم جاءت فكرة الكليات اللغوية (The Universals ).
وانتشرت هذه الفكرة في أوربا وكانت المصدر لما سمَّوه "بالنحو العام"Grammaire générale أوGrammaire Universal ألف فيه ج.هاريس(J.Harris) الإنجليزي كتابه Hermes (3)وكذلك فلاسفة "الموسوعة"(254/7)
الفرنسيون (والنحاة الذين ساهموا في تحرير هذه الموسوعة) وغيرهم. أما التسمية الحديثة Science of language فهي ترجمة للعبارة العربية "علم اللسان" التي استعملها الفارابي ونقلت عن طريق الترجمة اللاتينية Scientia Lingue. واندفع هذا الميدان من جديد – بعد أن سادت البحوث في تحول اللغات التاريخي في القرن التاسع عشر – بشكل جديد تمامًا بداية من فردينان دي سوسور . واستخدمت لفظة Linguistique = علم اللسان أو اللسانيات لأول مرة في عام 1826م.
مفهوم العامل:
ظهر في القرن الثالث عشر الميلادي – لأول مرة في تاريخ أوربا – مفهوم العامل والعمل واستعمل في ذلك اللفظ اللاتيني REGERE ومعناه الأصلي هو التدبير والتحكم في الشيء، وطبق على الفعل الذي جُعل هو السبب في ظهور الإعراب. يقول بطرس هلياس الفرنسي (في الفرنسية
"Pierre Hélie" إن أهل زماننا من النحاة يقولون dictio regit dictionem : بينما كان يقول بريسيانو (النحوي) D.exigit.D :" فلا أرى بأسًا في هذا المصطلح الذي جاء من نُحاتنا فهو مجاز، له دلالة [فالعامل] بمنزلة القائد الذي يسير(regit)جيشًا فكذلك هو الفعل الذي يسير الرفع في التركيب"(1). ويقول من جهة أخرى: "العمل معناه أن تتحكم كلمة في كلمة أخرى في داخل تركيب حتى يكتمل هذا التركيب"(241).
وكُتب لهذا المفهوم وهذا اللفظ بالذات النجاح الكامل، فقد اطرد استعماله في أكثر كتب النحو باللغات الأوربية، واستعمل بعضهم مرادفًا له وهو gobernare وكان معناه في ذلك الزمان (حتى الآن) "تسيير العامل للإقليم". وعند ظهور البنوية تُرك هذا المفهوم فأحياه من جديد، منذ عهد قريب جدًّا، تشومسكي وله تقريبًا نفس المعنى عنده(2).(254/8)
فهذان اللفظان بهذا المعنى في النحو لا نجد لهما أثرًا إطلاقًا في أي كتاب نحو أو لغة ألف في أوربا قبل القرن الثالث عشر. والغريب أن العامل بهذا المعنى هو مفهوم مأنوس عند النحاة العرب، بل هو من مفاهيم النحو الأساسية(*). ولا ندري هل أخذ النحاة الغربيون هذا المفهوم من العرب؟ وإن حصل هذا فكيف كان ذلك؟ أمن كتب النحو المترجمة أم روجه أحد من درسوا العربية على أصحابها في مدارس الأندلس؟ أو صقلية من أولئك العلماء المترجمين أو غيرهم؟ ومهما كان فإن ترجمة Erpenius في بداية القرن السادس عشر للآجرومية استعملت فيها كلمة rectio للعمل وregens للعامل. وإن دل ذلك على شيء فهو أن المترجم الأوربي علم أنهما يدلان على مفهوم واحد.
المسند والمسند إليه:
يستعمل بطرس هلياس – السابق الذكر – لأول مرة أيضًا – اللفظين
Supponi و Apponi وصارا فيما بعد Suppositum و Appositum للدلالة على المسند والمسند إليه ويقابلهما في المنطق الـ Subjectum و الـ Proedicatum وهما في الأصل لا في جميع الأحوال الموضوع المحمول في منطق أرسطو واستعارهما النحاة الرومانيون ولا يزال يستعملهما النحاة الغربيون بهذا المعنى إلى يومنا هذا. ويبدو أن نحاة القرن الثالث عشر رفضوا الخلط بين المفهوم المنطقي وبالمفهوم اللغوي المحض – الذي يتمثل في المصطلح العربي المسند والمسند إليه (وظهر لأول مرة عند سيبويه). فمن المنظور المنطقي هو الحكم الذي محكه الصدق أو الكذب ومن المنظور اللغوي هو الخطاب الذي يصلح للبيان والإفادة ليس إلا. وربما أداهم ذلك إلى تبني المفهومين العربيين ونرجح ذلك لأن الكلمتين اللاتينيتين الأوليين معناهما المعتمد والمعتمد عليه ولا تعنيان – وكذلك
المسند والمسند إليه – أن حكمًا حمل على موضوع فاحتمل الصدق أو الكذب ( وهذا يمكن أن يقال عن الجملة الخبرية فقط وليس بالضرورة).(254/9)
2- مفاهيم لغوية عربية اقتبسها العلماء الغربيون في القرنين السادس عشر والتاسع عشر:
من أوائل العلماء الأوربيين الذين تأثروا بالنحو العربي مباشرة لا عن طريق الفلسفة – نذكر اللغوي الإسباني Sanctius (1). ويعرف بأنه كان واسع الاطلاع ولاسيما فيما يخص النحو العربي. وفي كتابه الأساسي المسمى بـ Minerva (2) في نحو اللغة اللاتينية قد أحاط حقيقة بكل المفاهيم الأساسية التي اطلع عليها في كتب النحو العربية التي راجت في زمانه وخاصة التقسيم الثلاثي للكلم، وتبنى هذا التقسيم من النحاة
الفرنسيين BuffierوDangeau. هذا ولم يشر سنكتيوس ولا مرة إلى أن التقسيم الثلاثي هو لأرسطو كما فعله الكثيرون في زماننا(3).
إن سنكتيوس هو أول من أدخل مفهوم الإضمار في النحو اللاتيني وسماه بالـ Ellipse. وحاول مثل النحاة العرب أن يعلل الكثير من العبارات المختصرة بتقدير ما هو محذوف. وبرع في ذلك وهو لا يتعسف في ذلك أبدًا؛ لأن الإضمار هو نتيجة لعملية خاصة وهي حمل العبارات بعضها على بعض ليكتشف البنية التي تجمعها إن وجدت. وقد تخرج بعض العبارات عن نظائرها ولا تطرد بسبب الحذوف لأسباب كثيرة كالاستخفاف وطرد الباب ورفع اللبس وغير ذلك مما ذكره العرب في كتبهم. وأخذ ذلك نحاة بورويال إلا أنهم تعسفوا إذ كانوا قد قرروا أن
تكون جميع العبارات أيًّا كانت على نمط واحد ولو اقتضى ذلك التقدير غير المعقول، كل ذلك باسم المنطق والعقل(*). وتأثر أيضًا بهذا المذهب النحوي الفرنسي المشهور Dumarsais الذي حرر الكثير من المقالات في "الموسوعة" في القرن الثامن عشر.
واقتضى ذلك أن يستعير سنكتيوس من النحاة بالضرورة مفهوم القرينة المقالية والحالية إذ لا يمكن كما صرح بذلك كل النحاة أن يحدث أي حذف وأي إضمار إلا ومعه سياق أو حال يرتفع به اللبس ( Situation or Context) .(254/10)
ثالثًا- تأثير النحو العربي على علماء القرن التاسع عشر عن طريق أستاذ هذا الجيل منهم: وهو Sylvestre de Sacy (المتوفى في 1838م):
بدأت الدراسات الخاصة باللغة العربية في الجامعات الأوربية في القرن السادس عشر فترجمت بعض
المختصرات النحوية كالآجرومية والكافية لابن الحاجب وغيرهما واستمر ذلك حتى ظهر أحد كبار المستشرقين الذين أنتجوا كثيرًا من الدراسات في اللغة العربية وهو Sylvestre de Sacy الفرنسي الذي عاش في بداية القرن التاسع عشر. واشتهر هذا الرجل الفذ بحيث نزح إليه الكثير من الطلبة من الألمان ومن خارج فرنسا وكان معه عالم آخر اسمه Chézy تتلمذ عليهما جماعة ممن صاروا بعدهما من عمالقة التفكير اللغوي الأوربي. ونذكر منهم فون هومبولت Von Humbolt والأخوين جريم Grimm وفريدريك شلجل. وهم من مؤسسي اللسانيات الأوربية.
وقد أطلع دي ساسي هؤلاء على الكثير من المفاهيم التي لم تكن معروفة وذلك مثل المادة الأصلية التي سموها جذر الكلمة. فهذا كان مجهولاً تمامًا عند علماء الغرب قبل القرن التاسع عشر. وصرح بعضهم
أنهم وجدوا هذا المفهوم عند علماء الهنود القدامى، ويكون هذا صحيحًا بالنسبة إلى بعضهم إلا أن هذا الجذر قد عرف قبل أن تترجم وتنشر الكتب الهندية (في وسط القرن التاسع عشر وبعده).(254/11)
وقد اشتهر عند هؤلاء العلماء مفهوم الجذر فراحوا يحللون الكلم إلى جذور ولواصق (affixes) . وعرفوا أيضًا مثال الكلمة (وزنها وبناءها) ولم ينتبهوا إلى أهميته العظيمة كما لم يتفطنوا إلى أنه ناتج عن تحليل رياضي يحتاج إلى أن تجرد الوحدات ويرمز إليها برموز مثل (ف/ع/ل) في العربية ثم أضف إلى هذا أن التحليل عندهم منذ أقدم الأزمنة هو تحليل تقطيعي فقط، فيجب أن يُفضي إلى قطع صوتية محسوسة لا مجردة. وإلى الآن تجهل اللسانيات الغربية ما "للمثال" العربي من قيمة ابستمولوجية عظيمة كما يجهل الكثير من معاصرينا أن المثال يوجد أيضًا في مستوى الجملة وليس خاصًّا بالكلم.
هذا واهتم العلماء الألمان كثيرًا بعد دراستهم على دي ساسي وعلى من تتلمذ عليه من شيوخهم بالنحو العربي وبما كتبه علماؤنا في الصوتيات خاصة. ونذكر ههنا البعض منهم:
1- Ernst Brucke (ابتداء من1849م): تطرق في كتابه: Grundzuge der Physiologie und Systematic der Sprachlaute إلى ما قاله عن النظام الصوتي في لغتهم كل من اليونان والهنود والعرب. وله أيضًا دراسة عن الأصوات في العربية: Beitrage zur Lautlehre der arabischen Sprache (1960م).
2- Czermak: له دراسات في الصوتيات المخبرية هامة.
3- Wallin: ترجم إلى الألمانية نصوصًا خاصة بأصوات العربية. وترجم إلى الألمانية أيضًا عدة نصوص من كتب القراءات، وكليات أبي البقاء وغيرهما. وعلَّق عليهما وذلك في دراسة: Uber die Laute des
Arabischen und ihre Bezeischnung in L.D.M.G,1855,p.1-69,p.599-665.
4- R.Lepsius : اهتم أيضًا بصوتيات العربية وله: Uber die Arabischen Sprachlaute und deren Unschrift, (1861م).(254/12)
هذا ولم يعرف القدامى من علماء اليونان ولا الرومان ولا أوربا حتى نهاية القرن التاسع عشر معنى المجهور والمهموس كما استغلقت على أفهامهم بعض المصطلحات الصوتية العربية وكانت غريبة على الثقافة الغربية قديمًا وحديثًا (حتى على هؤلاء الذين ذكرناهم).
قال ماتسون (Mattson) في كتابه عن لهجة بيروت(1911م): "في وقت متأخر تحصل علماؤنا في المشرقيات على المعلومات الصوتية التي كانت تنقصهم فاستطاعوا أن يفهموا في الأقل ما كان العرب قد لاحظوه وأثبتوه، وكان العرب قد أصابوا في معظم ما قالوه: (ص10). وذكر ماتسون دي ساسي الذي لم يدرك شيئًا من التقسيمات الصوتية العربية
وقد منع ساسي وبعض من جاء بعده من فهم هذه الأشياء وما ورثوه من الصوتيات اليونانية فكان كالحجاب على عقولهم وعلى أذهانهم وكيف كان يمكن أن يميزوا بين المجهور والمهموس وهم لا يعرفون أن هذا يحصل في "أقصى الحلق" بوجود "صوت الصدر" (*) (اهتزازات الأوتار) ( وقد استغلق ذلك إلى الآن على زملائنا) وأقر الغربيون ذلك التمييز نهائيًّا يوم تمكنوا من مشاهدة هذا الاهتزاز في المختبرات الصوتية في نهاية القرن العشرين.
وينطبق هذا أيضًا في الوقت الراهن على مفاهيم خاصة بعلماء العرب ولا مقابل لها أبدًا في الصوتيات الحديثة، وهو مفهوم المتحرك والساكن، وحرف المدّ وامتناع الابتداء بالساكن، وكون العين حرفًا بينيًّا، وغير ذلك، وقد حاولنا أن نبرهن على صحة كل هذه المفاهيم بالاختبار بالأجهزة الحديثة.
رابعًا- تأثير اللسانيات الغربية الحديثة في التفكير العلمي العربي:
اكتشف الباحثون العرب المحدثون ما جدّ من جديد في ميدان البحث اللغوي في الغرب منذ زمان غير بعيد، وذلك بما أوفد إلى هذه البلدان من وفود طلابية أو باتصال مباشر، في المغرب العربي خاصة.(254/13)
وأول ما حصل هو في وقت ازدهار المذهب اللغوي المسمى بالبنوية ( Structuralism). وكان الذين أخذوا عن الأساتذة الغربيين قد أبهرهم هذا المذهب إلى حد بعيد (حتى أبطل الكثير منهم كل ما وصل إلينا من أسلافنا حتى من المبدعين منهم) وذلك مثل نقضهم المعيار حتى كظاهرة واعتماد الوصف وحده وبالتالي رفض العلة والتعليل. ثم حاول بعضهم أن يطبقوا مفاهيم البنوية ومناهجها على العربية كما هي دون أي نظر أو نقد أو تمحيص سابق. ثم مضى زمان حتى ظهر مذهب جديد ألا وهو النحو التوليدي التحويلي فتحمس بعضهم له وراحوا يطبقونه - كما أخذوه - على العربية ثم ظهرت مذاهب مختلفة منها الوظيفية الحديثة(وأحد زعمائها: Dick الهولندي) فحصل مثل ما حصل في السابق. والذي يؤاخذ على هؤلاء ليس هو الاقتباس من غيرهم، فهذا جائز ومرغوب فيه، بل الاقتباس بدون نظر وبدون تمحيص والارتياح الكامل لأي مذهب أو موضة تظهر في الغرب والاقتناع الراسخ أن ما مضى عليه زمان فلابد أن يكون غير ذي قيمة في جملته، وهذا خضوع تام للإيجابية الأوربية القائلة بأن العلم هو هذا الذي تمارسه أوربا وحدها منذ أول نهضتها؛ لأنه إيجابي أي غير ميتافيزيقي يعتمد على ظاهرة الحواس. وهيهات أن تكون العلوم في هذه البلدان نفسها على هذا الشكل الساذج كما تصورته الإيجابية ( Positivism ).
الجانب الإيجابي لنظريات اللسانيات الحديثة:(254/14)
أثبت العلماء الألمان في القرن التاسع عشر ثم سوسور ونظراؤه أن الظواهر اللغوية كأي ظواهر يمكن أن تدرس دراسة علمية موضوعية، وأن الألسنة البشرية مثل كل الظواهر تتحول من حال إلى حال عبر الزمان حتى تصير ألسنة أخرى، وأن لهذه التحولات الزمانية قوانين صارمة، ثم أثبتوا بعد ذلك أن الألسنة يجب أن تدرس أيضًا في حد ذاتها، أي من حيث هي أدوات للاتصال والتبليغ، وأن لكل واحد منها نظامًا من الرموز الصوتية خاصًّا بها، ونظامًا من الدوال المفردة والمركبة يجب أن يحلل تحليلاً موضوعيًّا لا لغرض التعليم بل من أجل اكتشاف أوصافه وخصائصه. فتبين للناس حينئذٍ أن دراسة اللغات ليس الغرض منها بالضرورة اكتساب القدرة على استعمالها بل أيضًا الكشف عن أسرارها في ذاتها. وكثرت - على هذا - الدراسات والبحوث في أكثر اللغات البشرية من حيث هي ظواهر تستحق الدراسة العلمية لا لغرض آخر غير تحصيل العلم النظري لا المهارة فقط وذلك بالتحليل الدقيق الخاضع لمقاييس معينة. فهذا كله إيجابي جدًّا على الرغم من المذاهب الكثيرة المتشعبة التي ظهرت بعد سوسور في كيفية تناول هذه الدراسة العلمية واشتد الاختلاف فيها بسبب اختلاف التصور لماهية اللغة: هل يبنى التحليل كله على كون اللغة أداة تبليغ أو هناك أوصاف أخرى للغة عميقة لا يمكن أن يتغافل عنها؟ وهل يجوز لنا أن نكتفي بالوصف لنظامها الباطني؟ بل هل هذا النظام هو مجرد نظام تقابل بين الوحدات؟ وألا يجب أن نعتد بمعيار اللغة كظاهرة وكآلية اجتماعية ينتظم عليها استعمالها إذ لا توجد لغة في الدنيا دون معيار معين؟ وغير ذلك. فكل هذا مفيد لأنه سيؤدي بنا إلى تصور موضوعي للغة. ولكل هذا أيضًا تطبيقات كثيرة في ميدان تعليم اللغات وأمراض الكلام والعلاج الآلي للغة.(254/15)
وفيما يخص هذا العلاج الآلي للغة فقد نشأت منذ عهد غير بعيد تكنولوجيا خاصة باللغة منذ أن صار العلماء والمهندسون يستعينون بالحاسوب في تحليل اللغة، ولهذا الميدان خصوبة عجيبة إذ لا يزال يأتينا أصحابه بمعلومات جديدة قد لا يستطيع اللغوي أن يحصل عليها هو وحده(*).
الخاتمة:
لقد حصل تأثير متبادل واسع في ميدان النظريات اللغوية ومناهجها
التحليلية بين الحضارتين العربية والغربية منذ زمان بعيد كما رأيناه، إلا أن معرفة ذلك تحتاج إلى أن يتفرغ لها وينكب على دراسة هذا التأثير كل من يهتم بذلك. ويجدر بنا أن نقول إن الكثير من المفاهيم العربية اللغوية تحتاج إلى أن ينظر فيها بجدّ وبموضوعية، ولاسيما تلك التي لا تزال غامضة عند الكثير من الباحثين، ونأمل أن تتضافر الجهود للحصول على تجديد كامل للسانيات العربية إن شاء الله.
عبد الرحمن الحاج صالح
عضو المجمع المراسل
من الجزائر(254/16)
سابعًا- ختام الجلسة للأستاذ الدكتور شوقي ضيف
رئيس المجمع
أشكر للأستاذ خالد نجل الفقيد هذه الكلمة الجامعة التي شكر فيها المجمع، والمجمع حقيقة حزين منذ أن فقد هذا العالم الجليل الذي سبقنا إلى الدار الآخرة ، وكنا نتمنى أن نكون نحن السابقين ، وإن شاء الله سيُعنى المجمع بنشر بحوثه التي أعدَّها في
حياته، وأذكر هذا أمام أسرته ليكون وعدًا منا، وأقدم الشكر لحضراتكم على مشاركتكم لنا في تأبين الأستاذ الكبير أحمد مختار عمر، وأدعو الله تعالى أن يجزيه الجزاء الأوفى بالدار الآخرة ، وأكرر الشكر لحضراتكم جميعًا.(255/1)
رابعًا- ختام الجلسة للأستاذ الدكتور شوقي ضيف
رئيس المجمع
أشكر المهندس الكريم محمد علي الحديدي، على هذه الكلمة البديعة، وأكرر الشكر لحضراتكم جميعًا على تجشمكم الرحلة إلينا لسماع التأبين.
وأقدم الشكر أيضًا والعزاء للأسرة الكريمة وللسيدة العظيمة حرم الدكتور علي الحديدي وأبنائه، وأرجو الله أن ينزله منازل العلماء الأبرار المخلصين إن شاء الله.(/1)
رابعًا- ختام الجلسة للأستاذ الدكتور شوقي ضيف
رئيس المجمع
شكرًا للسيدة الأستاذة الدكتورة نادية محمود، على هذا التعبير الرائع، وللأستاذ الدكتور عطية عبد السلام عاشور، ولا شك أن هذه الأعمال
العلمية العظيمة للدكتور مختار سيكون جزاؤه بها الجنة والفردوس الأعلى إن شاء الله، ونحن نختم هذا الحفل بقراءة الفاتحة لروحه الطاهرة .(/1)
رابعًا – كلمة الختام
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
في ختام هذا الحفل أتوجه بالشكر العميق للزميل الدكتور كمال دسوقي على كلمته الضافية، كما أشكر الأستاذ الدكتور إسماعيل صبري عبد الله، على كلمته التي أحاط فيها ببعض الجوانب الإنسانية فى حياة الراحل الكريم، ونأمل أن تتاح فرصه أخرى يستطيع
فيها أن يحدثنا عن شقيقه، ويكشف لنا ما لا نعرفه عن زميلنا الراحل ، كما لا يفوتني أن أشكر باسم الزملاء جميعًا واسمي السادة الحضور على حضورهم هذا الحفل وللأسرة الكريمة خالص العزاء .
وشكراً لكم جميعًا ورفعت الجلسة .(/1)
أولاً- افتتاح الجلسة
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم، أيها السادة الحضور: نجتمع اليوم لتأبين شخص عزيز عليكم وعلينا وعلى المجمع هو الأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر، هذا الرجل الذى لم نكد نفرح به حتى استأثرت به رحمة الله تعالى، فهو شخصية علمية عظيمة، كان المجمع يتمنى أن يظفر به سنوات طويلة، ولكن الله أراد ذلك، وإرادته فوق أمنيات ورغبات المجمع . رحم الله الدكتور أحمد مختار عمر الذي أمضى حياته في خدمة اللغة العربية لغة القرآن الكريم الخالدة بخلوده، فقد تخرج في كلية دار العلوم سنة 1958م، وحصل على الماجستير سنة 1963م، ورحل بعدها إلى إنجلترا
فحصل على الدكتوراه من جامعة
كمبردج في لندن، وهو شخصية علمية فريدة، إنتاجه العلمي ضخم، له نحو ثلاثين كتابًا، كل كتاب يعد أساسًا لاتجاه جديد في المعرفة اللغوية والأدبية، فله كتاب عن لغة القرآن الكريم، وله كتب أخرى رائعة، وشارك في ندوات عديدة تصل إلى أربعين ندوة ومؤتمرًا بالإضافة إلى البحوث وهي تربو على أربعين بحثاً علميًّا قيمًا، كل بحث يستحق أن يفرد بالدراسة والتعليق عليه من صفوة العلماء، ومكتبة المجمع تعتز بمؤلفاته وبحوثه، وهي موجودة عندنا لمن يريد أن يطلع عليها.(/1)
{ صدر حديثًا من مطبوعات المجمع }
1- ما يعوّل عليه في المضاف والمضاف إليه للمجبيّ ( الجزء الأول)
2- كتاب في أصول اللغة (الجزء الرابع) .
3-إعادة طباعة كتاب ديوان الأدب للفارابي .
4-إعادة طباعة كتاب الأفعال للسرقسطى.
5-أعداد مجلة المجمع من العدد
الحادي والتسعين إلى الثامن والتسعين.
6-كتاب بحوث ودراسات في اللهجات العربية ( وهو كتاب يتضمن أعمال لجنة اللهجات بالمجمع منذ إنشائه حتى الدورة السبعين 2003-2004م).
7-حرف الخاء من المعجم الكبير (الجزء السادس ) .
8- معجم أصول الفقه.(/1)
أولاً – افتتاح الجلسة
للأستاذ الدكتور كمال بشر
الأمين العام للمجمع
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا يوم من أيام المجمع الحزينة، ذلك أن علمًا عاليًا فقدناه هو الأستاذ الدكتور عبد القادر القط، الذي كان معروفًا ومعلومًا ومشهورًا بعلمه وسكونه وأخلاقه، وأذكر أنني عاصرت شيئًا من أيامه في لندن، وكان يشار إليه بالبنان، وكنا نخشى أن نقترب إليه أو أن نمس مكانه خوفًا من الجلوس إليه والحديث معه، لأنه أعلى قدرًا وأعظم منزلاً، ذلك لأنه قبل أن يصل إلى البعثة في لندن كان معروفًا، وزادت معرفته وشهرته هناك، حيث بدأ الرجل يعمل، وهو رجل من النوع الفريد .
قرأ التراث وفهمه واستوعبه وجدد أفكاره، وثقلها بتراث أو بثروة حديثة جديدة، فجمع بين الحسنيين، جمع القديم والحديث في بوتقة واحدة هي ذهنه الوقاد المتفتح، هذا كان عبد القادر، كنا نعده رائدًا ومازال رائدًا .
وعندما وصل إلى الوطن مصر المحروسة كان له شأنه أي شأن علمًا وخلقًا وسلوكًا وتواضعًا، نِعْم القائد ونِعْم الرائد، كان معلمًا ورائدًا، نعم التعليم ونعم الريادة . فتح بابًا جديدًا في البحث الأدبي ونقده، وكان له منهجه وهو منهج معروف ينسب إليه وحده، وتبعه من تبع، وعارضه من عارض، ولكنه كان صُلبًا واقفًا على قدميه فاتحًا أبوابًا كثيرة لم يعهدها الناس من قبل في الأدب العربي ونقده، وفي الأدب الإنجليزي كذلك، وأشهد أن عبد القادر القط هذا العظيم كان قدوة في كل شيء، الهدوء والاطمئنان، والثقة، والتفتح والمعرفة بالقديم والجديد، لا أريد أيها السادة أن أطيل، فمعنا الآن الأستاذ فاروق شوشة وهو من هو في علمه وفضله ومعرفته الوثيقة بفقيدنا العظيم فلنستمع إليه ولنتذكر ما فعله عبد القادر، وما يفعله الأجيال من بعده تابعين له ولآرائه العميقة،
فليتفضل الشاعر العظيم فاروق شوشة المعروف في العالم العربي بأسره بالقيام بواجب المجمع نحو تأبين الفقيد الراحل .(/1)
كلمة في افتتاح المؤتمر للأستاذ الدكتور مفيد شهاب
وزير التعليم العالي والدولة للبحث العلمي
الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية، ورئيس اتحاد المجامع العربية:
الأعضاء الموقرون، من المصريين والعرب والمستعربين:الضيوف الكرام:
السيدات والسادة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا هو المؤتمر التاسع والستون لمجمعكم الموقر، يعقد في مرحلة من أدق المراحل التي تمر بها أمتنا العربية،مؤكدًا أن لغتها التي هي من أهم الروابط بين أبنائها، تقف على حمايتها كتيبة مناضلة من العلماء الأجلاء، أعضاء هذا المجمع، لكي يحفظوها من الضياع، ويصونوها من الإهمال، ويؤكدوا مكانتها بين سائر لغات العالم.
وكم يسعدني غاية السعادة أن أحضر في كل عام إلى هذا المكان المهيب، لكي أفتتح معكم فعاليات هذا اللقاء السنوي الهام، الذي يدور حول موضوع معين يتم اختياره بعناية، وتدور حوله مناقشاتكم باستفاضة. وقد أعجبني عنوانه هذا العام: (معاجمنا اللغوية: حاضرها ومستقبلها).وهو عنوان يضعكم أمام مسئوليتين كبيرتين: مراجعة الحاضر للوقوف على ما فيه من عناصر القوة والضعف، واستشراف المستقبل من أجل التوصل إلى أفضل المعاجم التي يحتاج إليها أبناء اللغة العربية، وغير الناطقين بها.
واسمحوا لي في البداية أن أرحب بالعلماء الأفاضل الذين يشاركون في هذا المؤتمر الكبير من مختلف البلاد الشقيقة والصديقة، راجيًا لهم طيب الإقامة في مصرنا الغالية، والتي تعتز كل الاعتزاز بحضورهم إليها، وتقدر كل التقدير جهودهم العلمية التي يبذلونها مع زملائهم من العلماء المصريين في سبيل رفع راية العلم، وإرساء القيم الإنسانية.(/1)
ويمكن أن أقرر بكل اطمئنان أن مجمع اللغة العربية في القاهرة يعد من أهم الصروح العلمية في حياتنا المعاصرة، فهو يضم كوكبة من كبار علمائنا، العاكفين على خدمة اللغة العربية، والباذلين كل ما في وسعهم من أجل الحفاظ عليها، والتمكين لها، من خلال عمل جاد، وجهد متواصل، وتجرد كامل.
أجل في هذا المكان الجليل، تتجمع نخبة متميزة من العلماء الأفاضل، يقف كل منهم حارسًا أمينًا على لغة الأمة، مدافعًا عنها، حريصًا على نشرها.
وفي هذا المقام لابد أن نحيي معًا كل أولئك الأعلام الذين أقاموا صرح هذا المجمع الخالد، ووضعوا لبناته الأُوَل، وأضافوا إليها، حتى حققوا له، عبر أجيال متعاقبة، تلك المكانة التي أصبح يمثلها في مصر، والعالم العربي، وفي سائر دول العالم.
إن كل عالم في هذا المجمع الخالد قد استحق شرف عضويته بفضل ما تميز به طوال حياته العلمية من إخلاص في العمل، وصدق في الأداء، وصبر وكدح ومعاناة، وفرت له الكثير من التجارب، وزودته بالعديد من الخبرات. لذلك فإن هذا المجمع لا يقتصر دوره فحسب على وضع المعاجم، ومتابعة الأساليب، وتطوير المصطلحات، وإنما هو أيضًا بيت خبرة علمي أصيل، يلجأ إليه الباحثون، ويجد الإجابة فيه كل صاحب سؤال أو استفسار حول اللغة العربية وأسرارها.
كما يطيب لي بهذه المناسبة أن أهنئ المجمع، في نفس الوقت الذي أهنئ فيه أربعة عشر عالمًا، تم اختيارهم لكي يصبحوا أعضاء في هذا الصرح العلمي الكبير. ولا شك أنكم باختيار هذا العدد دفعة واحدة سوف تضيفون إلى قوة المجمع قوة أخرى، تشدّ من أزره، وتجدد دماءه، وتدفع العمل فيه خطوات إلى الأمام.
العلماء الأجلاء:
رئيس وأعضاء المجمع الموقر:(/2)
إن اللغة العربية، التي هي أساس عملكم، ومحور اهتمامكم، تعدّ من أشرف النعم التي منحها الله تعالى للإنسان. فبواسطتها تفاهم مع إخوته بوضوح، وحدد متطلباته بدقة، وبفضلها سجل تاريخه، واحتفظ بتجاربه، وبمقدار ما يحصله من ألفاظ وتعبيرات، يستطيع أن يفكر ويبدع في مختلف العلوم والآداب. بكلمة (كن) يخلق الله تعالى من العدم ما يشاء. وقد أطلق الله تعالى على عيسى- عليه السلام- كلمة الله. وعلى محمد- صلى الله عليه وسلم- أنزل القرآن، بلسان عربي مبين، فصار دستورًا تظل أمته تتلوه وتتدبره إلى يوم الدين.
وهكذا فإن مجمعكم الموقر يكتسب شرف مهمته من شرف اللغة التي يسهر على رعايتها، والعناية بها. ومن هذا المنطق، فإن المجتمعات العربية كلها تنظر إلى هذا المجمع بكل التقدير، نظرًا لما يقوم به من خدمات جليلة للغة العربية، حفاظًا لها من التحريف واللحن، وإقرارًا لما ينشأ فيها من المصطلحات الجديدة، والألفاظ المستحدثة. وإلى جانب هذا وذاك، فإنه يتطلع منكم إلى العمل على تسهيل تعلمها لكل الراغبين فيها.
وفي لقائي بحضراتكم في العام الماضي، تشرفت بأن طرحت على مجمعكم الموقر مجموعة من الاقتراحات، تتمثل فيما يلي:
أولاً: وضع معجم عصري متكامل، يتدرج في مستوياته لكي يلبي حاجة كل الأعمار والثقافات.
ثانيًا: مواصلة وضع المعاجم المتخصصة في مختلف مجالات العلم والمعرفة، والتي أصبحت تتنوع وتتكاثر على نحو غير مسبوق.
ثالثًا: الاستمرار في وضع المعاجم ثنائية اللغة، التي تساعد المترجمين وغيرهم على سرعة إيجاد المقابل لأي لفظ في اللغات الأجنبية.
رابعًا: إصدار مرجع مبسط في قواعد اللغة العربية، يسهلها على جميع أبنائها، والراغبين في استعمالها على نحو صحيح.(/3)
وأخيرًا: فإن التطور التقني في وسائل الاتصال الحديثة يفتح أمام اللغة العربية آفاقًا واسعة للانتشار والازدهار، وأعتقد أن الفرصة أمام مجمعكم الموقر قد أصبحت مهيأة للإفادة من تلك الوسائل، لكي توضع اللغة العربية جنبًا إلى جنب مع اللغات العالمية، وتقوم بدورها المأمول في تقديم الثقافة العربية، القديمة والمعاصرة، إلى كل مكان في العالم. وهذا ما أعتقد أنه يدخل في إطار مؤتمركم الحالي.
العلماء الأفاضل:
رئيس وأعضاء المجمع الموقر:
لقد قيل بحق إن اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة. والواقع أن العلاقة بينهما علاقة عضوية، يرتفعان معًا، ويهبط أحدها حين يهبط الآخر. لذلك فإن كلاّ من الازدهار الفكري والتقدم العلمي سوف يدفع اللغة العربية إلى مزيد من التقدم والرفعة، ومما يبشر بالخير ما نشاهده جميعًا من إقبال أبناء الجيل الجديد على الأخذ بوسائل التقدم العلمي الحديث، واستخدامهم الجيد للحاسب الآلي، وتعاملهم بمهارة مع شبكة الإنترنت، ومن المؤكد أن هذا التوجه العلمي سوف ينعكس على فكرهم، وبالتالي سيكون له مردوده الإيجابي على استخدامهم اللغة، بحيث تكون أكثر دقة ووضوحًا، وأنصع تعبيرًا وبيانًا.
العلماء الأفاضل:
السادة رئيس وأعضاء المجمع الموقر:
... إن مؤتمركم التاسع والستين يأتي في مرحلة مهمة من مسيرتنا في مصر، حققنا فيها الكثير من الإنجازات في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ونحن اليوم مقبلون على مرحلة جديدة، تتميز بالرغبة في الانطلاق بمجتمعنا إلى آفاق واسعة من التقدم والازدهار، مؤمنين بأن أهم وسائل النهضة تكمن في العلم والتعليم، الذي يضعه السيد الرئيس محمد حسني مبارك في سلم الأولويات، وهو يأخذ من الدولة كل الاهتمام، وتتزايد ميزانيته باستمرار، حتى يحقق نتائجه المثمرة في التنمية البشرية، التي يعد الإنسان المصري غايتها وركيزتها في نفس الوقت.(/4)
ويطيب لي في هذا المكان الجليل، مجمع الخالدين بالقاهرة، أن أتوجه بخالص الشكر والتقدير للقائمين على تنظيم هذا المؤتمر السنوي الحافل، كما أرحب أشد الترحيب بكل العلماء الأفاضل، الذين يشرفوننا بحضورهم ومشاركتهم، من مختلف الأقطار الشقيقة والصديقة، راجيًا لهم جميعًا
طيب الإقامة في بلدهم الثاني مصر، التي كانت ومازالت حصنًا للعروبة، ومنارة عالية للحضارة الإنسانية.
وفقكم الله ورعاكم، وسدد على طريق الحق والخير والعلم خطاكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مفيد شهاب
وزير التعليم العالي والدولة
للبحث العلمي(/5)
ثالثًا- كلمة الأسرة
للسيدة حرم الفقيد الراحل
السادة الأفاضل أعضاء مجمع اللغة العربية :
زملاء وأصدقاء عبد القادر القط :
بالنيابة عن أسرة الدكتور القط لا أشكركم فقط على هذا الاحتفال بحياة الدكتور القط وصداقاته وأفكاره ومبادئه، بل يمتد شكري للاهتمام والعطف الذي أبديتموه تجاهه وتجاه
أسرته أثناء فترة مرضه وإقامته بالمستشفى. فشكرًا لكم.
إنني في غاية السرور لوجود الدكتور شوقي ضيف على رأس هذا الحفل وأتمنى له الشفاء التام .
إن أسرة عبد القادر القط تتوجه بالدعاء لله عز وجل أن يمتعكم بالعافية والرضا طول العمر. وشكرًا(/1)
افتتاح المؤتمر (*)
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
معالي الأستاذ الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم العالي والدولة للبحث العلمي:
الزملاء الأجلاء:
السيدات والسادة:
نحتفل اليوم بافتتاح المؤتمر السنوي لمجمع اللغة العربية في دورته التاسعة والستين، وأشكر باسم المجمع والمؤتمر الأستاذ القانوني الكبير الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم العالي والدولة للبحث العلمي؛ لمشاركته المجمع في هذا الاحتفال السنوي، وأرحب معه بالزملاء المجمعيين الوافدين من الأقطار العربية والإسلامية والغربية، وأحييهم – معه- تحية شكر وثناء لما تحملوا من مشقة الرحلة إلينا كي يسهموا في مؤتمر المجمع ببحوثهم العلمية السديدة، وليتدارسوا- مع زملائهم المصريين –
ما أنجزته لجان المجمع في الدورة الماضية من مصطلحات علمية وقرارات لغوية. وإني لأتمنى للزملاء الوافدين إلى المؤتمر طيب الإقامة بيننا في بلدهم الثاني مصر، وأنا وأعضاء المجمع نرحب بالأعضاء الجدد في هذا الحفل الكريم.
وموضوع مؤتمر المجمع لهذا العام: معاجمنا اللغوية: حاضرها ومستقبلها، وقد بدأ إنجازها في القرن الثاني الهجري، وكان الخليل بن أحمد العالم العبقري الفذ أول من تصدى لوضع معجم يحصر ألفاظ العربية، ورأى ترتيبها ترتيبًا صوتيًّا على مخارج الحروف، وبدأه بالحروف الحلقية، وأنهاه بالحروف الشفوية، ويختم كل حرف بالهمزة الحلقية لما يلحقها من تغيرات صوتية، وافتتحه بحرف العين الحلقية لأنها لا تتغير في
الأبنية الصوتية، وسماه بها، وجعل ترتيب ألفاظه على أساس الحروف الأصول دون الزوائد، وكل كلمة فيه تذكر تقليباتها ابتغاء الحصر المعجمي، ووضع مصطلح المستعمل لما أُنْجز من ألفاظ اللغة ومصطلح المهمل لما لا يوجد، ورتبت ألفاظ كل مادة على أساس الأبنية الثنائية فالثلاثية فالرباعية فالخماسية.(/1)
وتوالت بعد الخليل معاجم الترتيب الصوتي في القرنين الرابع والخامس للهجرة، ووصل إلينا منها معجم تهذيب اللغة للأزهري المتوفى سنة 370 للهجرة، وهو معجم مشرقي التزم فيه بمنهج الخليل الصوتي، وكل ما احتفظ به معجم العين من المواد اللغوية، ومثل هذا المعجم في الالتزام بمنهج الخليل الصوتي معجم المحكم لابن سيده الأندلسي المتوفى سنة458 للهجرة، وقد زاد في تقسيمات أبنيته بابًا سماه مرة بالسداسي ومرة بالملحق بالسداسي، وقد وضع فيه ألفاظًا أعجمية. والصرفيون ينكرون عليه ذلك قائلين إنه لا يصح وزنها بالميزان الصرفي لأن الوزن خاص بكلمات العربية.
وفي أثناء تمسك علماء المعاجم بمنهج الخليل الصوتي أخذ نفر منهم يعنى في معجمه بترتيب الكلمات فيها ترتيبًا هجائيًّا، وشاع هذا الترتيب الهجائي للمعاجم منذ القرن الرابع الهجري بدءًا من ابن دريد المتوفى سنة 328 للهجرة، وسمى معجمه "جمهرة اللغة" مرتبًا كلماته على أساس الحروف الأولى من أصولها، وعُني في عرض الكلمات بعرض تقليباتها المتعددة كما صنع الخليل في معجم العين. وفي أواخر القرن الرابع الهجري ألف أحمد بن فارس المتوفى سنة 395 للهجرة معجميه: "المجمل" و"مقاييس اللغة"واتخذ في ترتيبهما العام الترتيب الهجائي، ويبدأ مع كل حرف بمثيله بالكلمات وما يليها إلى نهاية الترتيب الهجائي ويليها بالكلمات الأخرى التي سبقت الحرف الأول في الكلمة بنفس الترتيب الهجائي، ويعنى برد مفردات كل مادة من مواد اللغة إلى أصولها الدقيقة.(/2)
وتخضع معاجم الترتيب الهجائي لإحدى طريقتين إما ترتيبها بحسب الحرف الأول، ويشتهر باتباع هذه الطريقة الزمخشري في معجمه: "أساس البلاغة"، ويتميز بذكر المجاز في معجمه والتمثيل له. وإما أن ترتب الكلمات في المعجم بحسب الحرف الأخير، ويشتهر من معاجم هذه الطريقة أربعة معاجم، أولها معجم الصحاح للجوهري المتوفى سنة: 393 للهجرة وهو موزع على أبواب الحروف الهجائية وبه أربعون ألف مادة لغوية، وظل هذا المنهج متبعًا في تأليف المعاجم الكبرى في القرون التالية. وأشهرها وأكثرها شيوعًا وانتشارًا ثلاثة معاجم: لسان العرب لابن منظور المتوفى سنة 711 للهجرة، والقاموس المحيط للفيروزآبادي المتوفى سنة 817 للهجرة، وتاج العروس للزبيدي المتوفى سنة 1205 للهجرة. ولسان العرب يعتمد بدقة على خمسة معاجم هي:
1-تهذيب اللغة للأزهري.
2-المحكم لابن سيده.
3-الصحاح للجوهري.
4-حواشي ابن بري لشرح أبياته.
5- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير.
... ويقول ابن منظور: جمعت في لسان العرب ما تفرق في تلك الكتب من العلوم ونقلت من كل أصل مضمونه ولم أبدل منه شيئًا. ومعنى ذلك أنه نقل مادة كتابه حرفيًّا من تلك الأصول الخمسة، ولم يتصرف فيها أي تصرف، وبلغ عشرين مجلدًا ضخمًا، وهو من أكبر المعاجم العربية.
... والقاموس أو البحر الأعظم للفيروزآبادي مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي المتوفى بزبيد في اليمن سنة 817 للهجرة، ومعجمه في أربعة مجلدات ضخام، وهو فيه يخلص الواوي من اليائي، وإذا جاء بالمؤنثة فيه يقول وهي بهاء إلى غير ذلك من مصطلحات لضبط الأسماء في القاموس ضبطًا دقيقًا. ويتسع في ذكر المعرب من الألفاظ الفارسية.(/3)
... ومعجم تاج العروس لمحمد مرتضى الحسيني الزَّبيدي المتوفى سنة 1205 للهجرة بالقاهرة، ومعجمه شرح للقاموس المحيط استحال على يديه إلى موسوعة عربية كبرى اعتمد فيها على ما سبقه من المعاجم والكتب اللغوية التي بلغت نحو مائة وعشرين معجمًا وكتابًا، ويقول إنه كان ينقل عنها مضمونها ولم يبدِّل فيها شيئًا. وقد أضاف إليها مادة لغوية كبيرة مما استجد من الألفاظ، وتخللتها بعض ألفاظ عامية.
... ونمضي إلى العصر الحديث فيضع اللبنانيون ثلاثة معاجم مرتبة ترتيبًا هجائيًّا هي محيط المحيط لبطرس البستاني حوالي سنة 1883م وأقرب الموارد للشرتوني حوالي سنة 1912م، ويضع لويس معروف المنجد حوالي سنة 1946م، وبالمثل يضع أحمد رضا العاملي معجم متن اللغة سنة 1953م. وبها جميعًا بعض القصور اللغوي. ويعنى مجمعنا اللغوي بمصر منذ سنة 1934م بوضع معجمين: وسيط ووجيز وينجزهما ويتبعهما بمعجم ثالث كبير أُخرج منه خمسة أجزاء حتى الآن، ومعاجم المجمع مرتبة حسب الحروف الأصول دون الزوائد، وتقدم في المواد الأفعال على الأسماء والثلاثي يتبعه الرباعي والخماسي، وتضبط عين المضارع من الثلاثي، وتذكر المعربات والدخيلة من الألفاظ الأجنبية، ويقدم في الأسماء المعنى الحسي على المعنى العقلي، والحقيقي على المجازي، وتسجل الشواهد وخاصة من القرآن والأحاديث والأشعار، وتذكر الأعلام والأماكن المشهورة، وتضاف للتوضيح خرائط وصور ورسوم. والمعجم الوجيز معجم مدرسي مختصر من المعجم الوسيط.(/4)
وتلك معاجمنا في الحاضر، وستفيد في المستقبل من معجمين كبيرين غربيين: معجم فرنسي لدوزي الهولندي المتوفى سنة 1883م وكان قد درس المعاجم العربية ورآها تقصر في حصر الألفاظ، ورأى أنه ينبغي أن تستكمل بمعجم عربي يتدارك نواقصها، وظل سنوات طويلة يعنى بهذا العمل، وجمع له آلاف البطاقات وأخرجه في مجلدين كبيرين وحري أن تؤلف له لجنة تتوفر على نقل ألفاظه وأساليبه إلى العربية وتنقلها إلى المعجم الكبير، وتختار منها ما يتلاءم ومنهج الوسيط.
... أما المعجم الثاني العربي فمعجم ألماني ألفه هانز فير HANS WEHR وسماه "معجم اللغة العربية المعاصر" اعتمد فيه على الصحائف المصرية
مثل: الهلال، والصحافة السورية واللبنانية، كما اعتمد فيه على أدباء مصريين ولبنانيين من أمثال طه حسين، وحسين هيكل، ومحمود تيمور، وتوفيق الحكيم والمنفلوطي، وجبران خليل جبران وأمين الريحاني، وميخائيل نعيمة، مع إضافات لعلماء ألمان اختصوا في العربية بالجامعات الألمانية، وحري أن تؤلف له لجنة لنقل ما فيه من ألفاظ عربية عصرية إلى معجمنا الكبير والإفادة منها في معجمنا الوسيط.
وسلام الله على حضراتكم جميعًا ورحمته وبركاته..
شوقي ضيف
رئيس المجمع(/5)
كلمة الأعضاء العرب
للأستاذ علي رجب المدني (عضو المجمع من ليبيا)
صاحب المعالي الدكتور مفيد شهاب وزير التعليم العالي والدولة للبحث العلمي، سيدي الجليل الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمعنا بالقاهرة ورئيس اتحاد المجامع العلمية واللغوية العربية:
أيها الزملاء الكرام، سيداتي وسادتي:
إنه لشرف عظيم أعتز به أن تفضل السيد الرئيس فطلب إليَّ أن أتحدث باسم زملائنا من البلاد العربية، والواقع أنني بقدر ما أحمل من شكر لهذا التقليد فإني أجد في أعماق نفسي تساؤلاً: لماذا يُعتبر الأعضاء العرب شيئًا غير الأعضاء المصريين ونحن أمة واحدة وشعب واحد وشيء غير قابل لأن يتجزأ ؟
وإني لأرى أن هذا الوضع إنما فرضه علينا أعداؤنا بسبب حدود لم يكن لها قبل أن يحلُّوا في ديارنا وجود، هذه الحدود هي المسؤولة عما لا يزال مترسبًا في أعماقنا من شعور بالفرقة والتفرق .(/1)
ونرجو أن تتكاتف الجهود لاستئصال هذه البذرة الأليمة لنعود أمة واحدة ، فعلينا أن نستأصل – ولو في ضمائرنا – شأفة هذه الحدود، ونحس إحساسًا عميقًا بأننا شعب واحد وأمة واحدة تواجه عدوًّا واحدًا مشتركًا، الله –سبحانه وتعالى- هو خالقنا جميعًا، وآدم هو أبونا جميعًا، وحواء هي أمنا جميعًا وبهذا الثلاثي الأعظم لا يجوز لنا أن نفترق، والله –سبحانه- لم يفرق بيننا إلا كمؤمنين وغير مؤمنين ، ونحن مؤمنون برسالته العظمى التي هي خاتمة الرسالات، والتي اعترفت بكل الرسالات، وجعلت شرع من قبلنا شرعًا لنا فيما لم يرد فيه ناسخ، هذه الشريعة هي التي أسست معيار الفارق بين مؤمن وغير مؤمن، فنحن -المؤمنين- إخوة، ونرجو لغير المؤمنين أن يسكب الله في قلوبهم الهداية ويحملهم على أن يعرفوا حقائق هذا الدين وأهدافه ومثله وغاياته حتى ينضموا إلى ركب أمته فنعود أمة واحدة وأبناء أسرة واحدة، ونحن الآن وإن كنا أسرتين بهذا المعنى فإننا لا نستطيع أن ننسلخ من كوننا أبناء آدم وحواء نلتف حول مائدتهما عليهما السلام .
سيداتي سادتي :(/2)
إنني بعد هذه المقدمة لا أجد إلا أن أعبر عما في نفسي من إعزاز وإجلال لمجمعنا العظيم الذي سجل أمجادًا في تاريخ هذه الأمة، فهو لم يبار- ولا ينافس في هذه المهمة العظيمة، ومن هذه الأمجاد صموده السنوي منذ سنة 1934م بمؤتمره هذا، فلم يتخلف فيه سنة واحدة، ولم تقوَ الحرب العالمية الثانية بكل عنفوانها وقسوتها، وبكل ما أحدثته من ارتجاج في كوكب الأرض، لم تقوَ تلك الحرب على أن تمنع مؤتمرنا هذا من انعقاده في موسمه المألوف، وإذا كان مجمعنا قد صمد في وجه تلك الحرب الضروس التي اعتُبرت الحرب العالمية الثانية، والتي استمدت شرعيتها مما نتج عنها فيما بعد من توجه العقل البشري لاستحداث الأمم المتحدة، فإن مجمعنا هذا لم يدر في خلد أحد من رجالاته أن يتوقف إزاء هجمة لعصابة إجرامية عدوانية فقدت كل معنى للشرعية وفقدت كل معنى لرباط الدولة، فهاجمت جزءًا من بلادنا العربية بكل قسوتها وشراستها وعدوانها وطغيانها وطمعها في أن تستولي على ثروته، وفي أن توجد لنفسها وجودًا عسكريًّا جبارًا شريرًا لايهدد العرب فقط، وإنما يهدد العرب والمسلمين المتمثلين في شعبي إيران وتركيا وكل البلاد الإسلامية .
أيها الإخوة الأعزاء :(/3)
إن هذا العدوان يستفز فينا الإحساس بالمسؤولية عن أمتنا، وعن مصيرها، ويجعلنا نتجه وجهة رجل واحد لكي نوقف هذا العدوان ونعزز جانب من يحفزهم الإحساس بمسؤولية مواجهته. وفي مقدمة هؤلاء جميعًا مصر القلب والرأس والضمير الذي نستمد منه جميعًا أقوى معاني الثبات، مصر التي نحمد الله تعالى أن قيض لها رجلا شحنه الله بالعقل الرشيد، وشحنه الله بالضمير اليقظ، وشحنه بالرجولة والمثل العليا، حتى استطاع أن يسير بسفينتها وسط الصخور، ليحفظ لنا جميعًا عربًا ومسلمين – هذا الكيان ليصل إلى ما هو عليه الآن بعد أن كان مهددًا في حقبة من الحقب الماضية بالكثير من التخلف والضعف، وهذه كلمة حق لا بد لي أن أعلنها وأنا الذي أكره أن أمدح الآخرين، وأكره أن يقال عني إنني من المداحين، لكنني لا أملك إلا أن أقول هذه الكلمة. وأثني عليها بكلمة تقدير وإجلال وثناء على الرجل الذي وضع رأسه في كفه سنة 1969 وقام بالثورة في ليبيا وهو الأخ معمر القذافي الذي أعلن ثورة لا على من يحكم ليبيا فقط وإنما على من يحكمون أفريقيا جميعًا؛ (وأنا أعلم هذه الحقيقة) وأرجو المسلمين جميعًا أن يقدروه، هذا الرجل بدأ ثورته لا من أجل شعب مكون مما لا يزيد على أربعة ملايين فقط، وإنما كانت ثورته منذ اللحظة الأولى من بداية الثورة سنة 1969م على كل الأنظمة التي تحكم أفريقيا، وكانت كلها أنظمة مصنوعة من الاستعمار الأوربي الأجنبي الشرس الطامع المستغل لثروات أفريقيا وخيراتها، والذي استغلها بالقروض وبدلاً من أن يقدم لها القروض لتعميرها، قدم لها قروضا تزيد من إذلالها حيث تواطأ مع من يتلقون منه هذه القروض على أن يحول الجزء الأعظم منها لحساباتهم الخاصة في أوربا، وعلى أن ينفقوها على أنفسهم، ويضعوها على كاهل شعوبهم حتى تركوها بعد حقبة قليلة من الزمن فريسة للجهل والمرض والذل والتخلف والفقر لم ينقذها من كل ذلك إلا معمر القذافي جزاه الله خيرًا، وعلينا جميعا أن نعترف(/4)
له بهذا الفضل، كما كان في مقدمة المعترفين له بهذا الفضل السيد الرئيس محمد حسني مبارك أبو
العرب لأن مصر هي أم العرب ولهذا أكتفي بهذه التحية وهذا التكريم وأشكركم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
علي رجب المدني
عضو المجمع من ليبيا(/5)
رابعًا- كلمة أخرى في تأبين الفقيد للأستاذ مصطفى حجازي
عضو المجمع
السيد الأستاذ الجليل رئيس المجمع:
السادةُ الأعضاء الأجلاّء:
أيها الحفل الكريم:
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد :
فقد أردت أن أشارك في هذه المناسبة الحزينة بأبيات لا أعدُّها رثاءً يفي بقدر الراحل العظيم، وإنما هي زَفْرة أرجو أن تريح الصدر الكليم، ودمعة لعلها تخفِّف اللّوعة ، واسمحوا لي أن أقدم لها بكلمة قصيرة أُجمِلُ فيها الحديث عن صداقة حميمة دامت زُهاءَ أربعين سنة .
فقد عرفت الفقيد العزيز الدكتور أحمد مختار عمر في منتصف الستينيات من القرن الماضي – وسبقه إليَّ علمُه قبل أن أرى شخصه، فقد حضر إليَّ والده المرحوم الأستاذ عبد الحميد عمر يحمل مجلدًا ضخمًا يشتمل على رسالته للماجستير التى وجَّهه إلى موضوعها، وأشرف عليه فيها أستاذه الجليل المرحوم الدكتور إبراهيم أنيس، وعنوانها :" الفارابيُّ اللغويّ ومعجمه ديوانُ الأدب "، ونال بها درجة الماجستير بامتياز سنة اثنتين وستين وتسعمائة وألف "ومعها طلب يلتمس فيه أن يقوم المجمعُ الموقر بنشرها، فاستمهلتُه أيامًا، لأعرض الأمرَ على لجنة إحياء التراث بالمجمع – وكنت يومئذ أمينَها – وحين عرضتُها على اللجنة، أبدت إعجابها الشديد بها، وقررت أن يقوم صاحبُها الدكتور أحمد مختار عمر بتحقيق " ديوان الأدب " للفارابي ، وأن يختصر دراسته هذه للماجستير لتكون مقدمتَه للكتاب الذي يتولّى مراجعتَه أستاذُه الدكتور إبراهيم أنيس عضو المجمع.(/1)
ويحدثنا الدكتور أنيس في تصديره للجزء الأول من ديوان الأدب قائلا: "تمنّيت مع الزمن أن أظفر بأحد النابهين من تلاميذي، ليقوم بدراسةٍ علمية لمعجم" ديوان الأدب" في رسالة جامعية، حتى قيَّضَ الله لي من أبنائي في كلية دار العلوم طالبًا نابهًا هو أحمد مختار عمر، أخذ بنصحي وتوجيهي، وقام بتلك الدراسة سنة 1962م... ثم علمت – بعد ذلك- أن لجنةَ إحياء التراث بالمجمع رأت – مشكورة وبدون اقتراحٍ أو توصيةٍ مني – المبادرة إلى نشر هذا المعجمِ الجليل، فسعدتُ بقرارها ، وزاد من سعادتي أنها عهدت بتحقيق مخطوطه إلى صاحب أولِ دراسة جِدِّيّة أصيلةٍ لهذا المعجم، وجاء تكليفُها له في وقت اكتمل له فيه النضجُ العلميُّ، فأحسنت بذلك الاختيار والتوقيت، ثم فُوجِئتُ باختياري مراجعًا لذلك التحقيق، فسعدت بتلك المراجعة بعد أن شاهدتُ ما بذله المحقّقُ من جهد علمي في تحقيق النصّ، و من اتباعه أدق وأحدث الطرق في تحقيق المخطوطات، وتعليقاته على بعض النصوص تعليقات علمية أصيلة استمدها من الدراسات اللغوية الحديثة في مجالي المورفولوجيا وعلم الأصوات .." كانت تلك بدايةَ صلتي به، ثم جعلت هذه الصلةُ تنمو منذ مطلعِ السبعينياتِ،مع صدور أجزاء ديوان الأدب تباعًا، ثم ازددت قربًا منه في الثمانينياتِ في أثناء عملي رئيسًا لقسم التراث العربي بوزارة الإعلام في الكويت، حيث كان يعمل بجامعتها رئيسًا لقسم اللغة العربية بكلية الآداب بها، وقد لقيت منه – في هذه الرحلة – عونًا كبيرًا في مراجعة تحقيق العديد من أجزاء تاج العروس الذى كنت أشرف على تحقيقه ونشره.(/2)
وكان – رحمه الله – غزيرَ الإنتاج، وكان يحرص على أن يُهديَ إليَّ كلَّ جديد عن تأليفه، وكنت مع كل كتاب له أزداد إعجابًا بعلمه، وإيمانًا باستحقاقه عضوية المجمع، وكنت أتعجَّل فوزَه بها بعد عودته من الكويت واستقرارِه أستاذًا ووكيلاً لكلية دار العلوم، وكان حصوله على العضوية في سنة 1999 م من دواعي سروري وسعادتي، وبدأت أعماله في اللجان، ومناقشاتُه في المجلس تنبيء بجديدٍ من الحيوية، ومزيدٍ من النشاط، وتبشر بعطاء نافع ، تمنَّيت أن يدوم طويلاً
وقد كنتُ أرجو أنْ أُمَلاّه حِقْبةً
فحالَ قضاءُ اللهِ دونَ رجائِيا
ثم كان مرضُه المفاجيء، ورحيلُه العاجل، صدمةً لنا جميعًا، لا نملك
معها إلا أن نسترجعَ، ونعتصمَ بالصبر، ونذرِفَ دمعةً حَرَّى على أُخوَّة كريمة، وصداقة حميمة. وكثيرًا ما تعزّيت بقول ذي الرمة – ولله دَرّه– :
لعلَّ انحدارَ الدمع يُعْقِب راحةً
من الوجْدِ أو يشفي نجىّ البلابلِ(/3)
تحية مجمع اللغة العربية في دورته التاسعة والستّين (*)
قصيدة
للأستاذ الشاعر حسن عبد الله القرشي
مَأْرزَ الفُصْحُى مِنَ القَلبِ سَلاَمُ
... عِشْتَ تغذو الكونَ فَضلاً لا يُرامُ
عِشْتَ مِصْبَاحًا مُضِيئًا أبدًا
... عَلَمًا ذِرْوَتُه ثَمَّ ضِرَام
إِيهِ حصنَ الضَّادِ كَمْ أَهْدَيْتَنا
... مِنْ صُنُوفِ الْعِلم دُرًّا لاَ يُسَامُ
جَوْهَرًا مِنْ كَلِمٍ أَوْ نََغَمٍ
... لا يُباريهِ مِن الكَوْنِ مَقَامُ
أَيّهذَا الحِصْنُ قَدْ عُدْتَ لَنا
... موئلاً في سَاحِهِ يَحلو المُقَامُ
إِيِه حِصْنَ الضَّادِ مَنْ فُرسَانُهُ
... لَهُمُ في الفْضل عَهدٌ وذمامٌ
كالصَّباحِ العاطِرِ الفَذِّ لَهُم
... نَفَحاتٌ هيَ للخَيِر تؤامُ
الحواريّونَ عِلْمًا ونَدًى
... لَيْسَ يُفْريِهمْ ثَراءٌ أَوْ حُطَامُ
ملؤوا الآفاقَ فِكرًا خَالدًا
... خَيْرُ مَا يُهْديِ المجلُّونَ الْعِظَامُ
هِمَمٌ تعْلُو بهمْ فَوقَ الذُّرَى
... فِي أيادِيِهِمْ مِنَ العِلْم زِمَامُ
لَم يُبالُوا في مَسِيراتٍ لَهُمْ
... رَهَقًا أَوْ ينثَني مِنْهم حُسَامُ
فهُمُ أنْجالُ أَفذاذٍ مَضَوْا
... (خالدٌ) منهُمْ، و(سَعْدٌ)، و(هِشَامُ)
لَهمُ في الْفَضْل ذِكْرٌ نابِهٌ
... قُلِّدُوا مِنْه مَدَى الدَّهْرِ وسَامُ
في اشتقَاقٍ واصطلاحٍ بَرَعُوا
... مثلَما يبرَعُ في الرَّسْم الْهُمَامُ
فَإذا الآياتُ مِنْ إبْداعِهمْ
... وَحْدةٌ ليسَ يُغَطِّيها لِثَامُ!
وإذَا هُمْ لِلْمعالي أَنْجُمٌ
... في مَسارِ الأفْقِ للأَمجاد هامُ!
أُمَّتِي فِيم تَفَشّاكِ انقسامُ
... وَعَرا فَجْركِ غَيْمٌ وَجَهامُ
كُنتِ شَمْسًا فَوْق هَاماتِ الذُّرَى
... كُنتِ نُورًا إن تَحدَّانَا ظَلاَمُ
وإذا ما هَزَّنَا جُرْحٌ جَوًى
... مَسَّه منكِ شِفَاءٌ والتِئامُ
كانَتِ الْوَحْدة تعْلونا مَعًا
... فإذَا الكُلُّ شِقَاقٌ واتِّهَامُ
يَسْخر البَاغُونَ مِن فرقتنا
... جَاهِلِيُّونَ مُضِلُّونَ طَغَامُ(/1)
فَلماذَا الخُلْفُ يعْرُونا معًا
... وَحِمانا مِنْ أسَانَا يُسْتَضَامُ؟
جَفَّتِ البَهْجَةُ مِن أجْوائِنا
... وَدَهَى الأَهْلَ انحسارٌ وانْفِصَامُ
فَتَحدَّانا الْعِدَى في زُمَرٍ
... مِلْؤهَا حِقْدٌ وخُبثٌ، وانتِقَامُ
كَمْ تَظَنَّواْ أَنَّنا فِي عَيْلَةٍ
... لاَيُبارِينَا إلى المَجْدِ اقْتِحامُ
خسِئوا نحن الأُلَى، كَمْ عَمِلُوا
... كَم سَهِرْنا نَحنُ والنَّاسُ نِيامُ!
يَا رِفَاقَ الجُرْحِ لاَ تَكْتئبُوا
... فَالأمَانيُّ إذا شِئْنَا دَوَامُ
نَحْن لانَنْسَى بأنَّا أمَّةٌ
... كَمْ لَهَا في مَوْكبِ العِزّ زمامُ!
يا (فِلَسطِينُ) التي نَذْكُرُها
... فإذَا القَلْبُ جِراحٌ لا تَنَامُ
وإذا الآلاَمُ تَسْتَهْدِفُنا
... وإذا الأحْلاَم يَعلُوهَا قَتَامُ
أنت مَهْمَا أوغَلُوا في غَدْرهمْ
... قَلْعَةٌ لا يتَحدَّاهَا اهْتِضَامُ
الْفِدائِيونَ في أَرْبَاضِها
... هَامهُم في حُبِّها المَوْتُ الزُّؤَامُ
أَرْهَبُوا كُل خَؤُونٍ مَاكِر
... فَهُمُ في جَبْهةِ الدُّنْيا سَنَامُ
سَوفَ يدنُون إلى غاياتهم
فَهي ما يَهفُو لَه الصيد الكِرامُ
مَجمَع الأَمْجَادِ مَرْحًى أبَدًا
... وَسَقَى واديكَ في الكَوْن الغَمَامُ
يا حِمَى الآدابِ يامُلْبِسَها
... حُلَلاً وَهَّاجةً لَيْسَ تُسامُ
دُمْتَ للفُصحى سِيَاجًا خَالِدًا
لَيْس يعرُوُه مَدَى الدَّهر اختِتَامُ!
حسن عبد الله القرشي
عضو المجمع المراسل
من السعودية(/2)
ثانيًا- كلمة الأستاذ الدكتور كمال بشر
الأمين العام للمجمع
بسم الله الرحمن الرحيم، السادة الحضور:
هذا يوم حزين ، نحن في أشد الحزن والأسى على فقدنا شابًّا شيخًا، إنني من أقرب الناس معرفة به، فقد عرفته وهو طالب في الفرقة الرابعة سنة 1958م، فحينما كنت أطلع على مجلة الكلية وجدت بحثًا ممتعًا، وعرفت أن صاحبه طالب ، فقلت من هذا الطالب؟ فقال: أنا، فقلت له: رعاك الله وأبقاك وأطال عمرك، لقد قارعت الشيوخ الكبار وكتبت في مجلتهم، وأجدت بما لم يجُد به بعضهم . ومنذ هذا اليوم وعلاقتنا تزداد يومًا بعد يوم فقد كان نموذجًا منفردًا لا يمكن تعويضه بحال، يتمتع بالصدق
والإخلاص والوفاء والانضباط الشديد، حتى أن بعضهم كان يظن جهلاً وغباءً أنه يتعسف أحيانًا، والحقيقة أنه كان يتمسك بالحق ولا يهمه في الله لومة لائم، وفي مجمعنا كان عملاقًا فقد كان يقوم بأعمال مجموعةٍ من الرجال في كثير من لجان المجمع، وكان هو العمود الأساسي والباحث الأول في كل هذه اللجان، والمتتبع والموجه والمصحح، أنّى لنا أن نعوض هذا الإنسان الفريد علمًا وخلقًا وسلوكًا؟. لا أريد أن أطيل على حضراتكم فالكلمة الآن لشاعر العربية الأستاذ فاروق شوشة، وهو أيضًا من أقرب الناس إلى الفقيد وأعرفهم به .(/1)
ثالثًا- كلمة الأسرة
للأستاذة الدكتورة نادية محمود مختار
بالإنابة عن الأسرة وبالأصالة عن نفسي أتقدم بخالص الشكر والامتنان إلى مجمع اللغة العربية شاكرة له هذا الجهد الكبير، والوفاء العظيم لإحياء ذكرى والدي الأستاذ الدكتور محمود مختار عالم الفيزيقا والعميد الأسبق لكلية العلوم جامعة القاهرة وعضو مجمع اللغة العربية، والذي رحل عن عالمنا في الرابع من يناير الماضي.
فكما سمعنا استرسل العلماء الأجلاء مشكورين في وصف تاريخه العلمي والعملي من إنجازات وإنشاءات ومؤلفات بمنتهى النظام والدقة، كما تناولوا أيضًا الجوائز والأوسمة التي حصل عليها والدي -رحمه الله- أثناء رحلته العلمية. وقد طالعتنا الجرائد في الشهور القليلة الماضية بعدة مقالات عظيمة تسرد فيض نتاجه العلمي. وفي تقديري إنه لمن أعلى الأوسمة التي حصل عليها والدي هذا الحشد، وتلك المقالات التي تنم عن إخلاص وعرفان ووفاء صادق. فكم كان رحمه الله يعتز بانتمائه لهذا الصرح العظيم. وأود أن أشير هنا إلى أنه مهما طال عمر الإنسان على الأرض فالحياة قصيرة، ولكن الأطول بقاء السيرة الطيبة والذكرى العطرة التي يخلد بها الزملاء والعلماء من الأجيال اللاحقة أستاذًا أضاف إلى العلم والتعليم .
ولقد استعرضت السنوات العديدة التي جاورت فيها والدي وهو يمارس الحياة الجامعية والعلمية. فكان بالنسبة لي دون أن أشعر نموذجًا للأستاذ الجامعي كما ينبغي أن يكون. كان معلمًا متواصلاً مع تلاميذه، أستاذًا جادًّا في عمله، عالمًا متطورًا في أدائه، إنسانًا متواضعًا في خلقه ودائم العطاء بلا حدود . واستمر هذا العطاء ولم ينته إلا بانتهاء الحياة نفسها. والآن أدركت أن المعادلة
صحيحة وعادلة. فبقدر العطاء كان الوفاء.
أكرر شكري لمجمعكم الموقر كما أشكر السادة الحضور على شعورهم الطيب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/1)
أولاً – افتتاح الجلسة
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
أيها السادة:
نجتمع اليوم للقيام بواجبنا نحو فقيد عزيز علينا هو المرحوم الأستاذ الدكتور علي الحديدي عضو المجمع الراحل الذي عاش حياته كلها معلمًا أليفًا للغة العربية، وتخصص فيها في كلية دار العلوم، ونال أعلى الدرجات، ثم ذهب إلى جامعة لندن، وأكمل فيها تعليمه للحصول على درجة الدكتوراه، وحصل عليها سنة 1959م، ثم عاد إلى مصر وعمل أستاذًا في كلية البنات، وظل فيها يحترف تعليم الشباب، ويقدم نماذج طيبة للأمة، ثم ذهب إلى استراليا في بعثة لخدمة اللغة العربية أيضًا وظل هناك سنتين كان فيهما نعم السفير المصري العربي، وعكف على الدراسة كعادته، وأنتج هناك إنتاجًا وافرًا. ولم يبقَ شيء يكتب عن استراليا إلا كتبه، فكتب عن الدراسات الإسلامية والعربية فى استراليا، وكتب عن الحياة الأدبية فى استراليا، والحركات الأدبية هناك، وكتب عن تعليم العربية للأجانب كتابًا رائعًا يمكن أن يفيد منه كل من يعنى بتعليم الأجانب، وكتب كثيرًا عن الحركة المسرحية فى استراليا وعن تاريخها، وكان مفكرًا عظيمًا، فكتب لمصر عن بطليها : عبد الله النديم ومحمود سامي البارودى كتابة رائعة، وعلّم أيضًا فى جامعات أوربية مختلفة فى ألمانيا ويوغسلافيا وفى إنجلترا حينما كان يطلب العلم فيها. فهو شهيد العلم والعلماء، وكنا نتمنى أن ننعم به طويلاً في المجمع اللغوى، ولكن تلك إرادة الله، ولا راد لقضائه، وعمل أيضًا فى الجامعات العربية، حيث ظل أربع سنوات في الكويت، وفي ليبيا، وفي الرياض .
ويعد الراحل علي الحديدى من الرواد الذين كتبوا فى أدب الأطفال، فكان علمه نبراسًا للكبار والصغار. ولكن تلك إرادة الله، ونحن راضون بها.(/1)
وكان هادئ النفس يلقاك بالبشر والترحيب، ونحن أحسسنا في المجمع بخسارة كبيرة عندما فقدناه ولكننا نرضى بقضاء الله كما يرضاه أبناؤه ونرضاه جميعًا. وأقدم العزاء لأسرته ولزوجته الكريمة ولنا جميعًا،
فكلنا نشترك في الحزن عليه، وندعو الله أن يتقبله ويدخله فردوسه جزاءً لما قدم لشباب الأمة ولشيوخها وللمجمع اللغوى ولجامعات مصر والعالم العربي وغير العربي.
ويتفضل الأستاذ الشاعر الأديب المبدع فاروق شوشة بإلقاء كلمة المجمع في تأبين الفقيد الراحل .(/2)
أولاً – افتتاح الجلسة
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
أيها السادة الكرام:
نجتمع اليوم لتأبين علم من أعلام المجمع الراحلين وهو الأستاذ الدكتور محمود مختار-رحمه الله – الذي يعد من المجمعيين الذين خدموا هذا المجمع خدمة علمية كبيرة جدًّا؛ فالدكتور محمود مختار أحد بناة هذا المجمع، الذين قدموا له أعمالاً جليلة تجعله – بحق – من روَّاد هذا المجمع. فقد دخل المجمع سنة 1974م، وكان أحد أعمدة المجمع الذين لم يضيعوا دقيقة واحدة من حياتهم في شيء آخر سوى مجمع اللغة العربية وما يقدمونه إليه من أعمال علمية زاهرة ، وكان أول عمل علمي زاهر للدكتور محمود مختار في المجمع وضعه معجم الفيزيقا والإشراف على طبعه؛ لأنه هو الذي دفع المجمع إلى إنشاء لجنة لوضع هذا المعجم فبدأ بمعجم الفيزيقا النووية والإلكترونات وأخرج فيها معجمًا به ألف ومئتا مصطلح فيزيقي، ثم تحوَّل إلى الفيزيقا جميعها فجمع بحوثها وأعمالها ، وأخرج فيها جزأين جديدين، وبهذين الجزأين يصبح له في المجمع ثلاثة أجزاء كلها في الفيزيقا، وهو قبل ذلك تخرج في كلية العلوم سنة 1925م وكان متفوقًا فأرسل في بعثة إلى إنجلترا وحصل على الدكتوراه، وعاد ليعمل في قسم الفيزيقا بكلية العلوم فعين معيدًا بها سنة1929م وأصبح عميدًا لها سنة 1964م، ولأنه كان مخلصًا متفانيًا من أجل الكلية وطلابها فقد ظل عميدًا لها مدة طويلة؛ فنهض بها نهضة عظيمة وأخرج عشرة مجلدات في الفيزيقا ثم تحوَّل من الكلية إلى مجمع اللغة العربية ، فأصبح من كبار العلماء الذين يقودون المجمع في بحوثه العلمية، فهذا الشخص العظيم الذي نجتمع اليوم لتأبينه، لم يقف في المجمع عند معاجم الفيزيقا ولم يكتفِ بها وإنما أضاف إلى ذلك معجمًا جديدًا لم نكن نفكر فيه بدونه ؛ لأنه كان دائمًا سابقًا ومتفوقًا فحينما فكَّر المجمع في وضع معجم الحاسبات، فكر الأستاذ الدكتور محمود مختار – رحمه الله – في أن يقوم هو بإخراج(/1)
هذا المعجم فأخرج الجزء الأول منه وكان قبل وفاته مباشرة يستعد لإخراج الجزء الثاني، وإن شاء الله تعالى سيُطبع هذا الجزء الثاني قريبًا بفضل الأساتذة المجمعيين الكبار الذين عاونوه في هذا المعجم (معجم الحاسبات) رحم الله الزميل الكريم؛ فقد أخرج في حياته أربعة معاجم، ثلاثة في الفيزيقا بالإضافة إلى معجم في الحاسبات، وهذه أعمالٌ جليلة، تجعلنا نحزن حزنًا عميقًا على أنه فارقنا، فأعماله خالدة سواء في كلية العلوم أو في المجمع ولعلكم تعلمون أن له من الأساتذة الكبار الذين
تتلمذوا على يديه في كلية العلوم والمجمع، كثيرين قد تفوَّقوا في حياتهم العلمية بفضله وبفضل تقديمه العلم المفيد لهم، وبفضل إشرافه على أعمالهم، فهو جدير بكل ثناء وتقدير فهذه الأعمال خلدت اسمه، وسيظل اسمه لامعًا عندنا ضمن رواد النهضة العلمية التي يقوم بها المجمع، فقد استأثرت به رحمة الله ونحن في أشد الحاجة إليه، وإلى الانتفاع بعلومه الغزيرة، وقدرته العلمية الباهرة على إخراج معاجم لم يكن يسبقه فيها أحد كإخراج معجم الحاسبات .
و الكلمة الآن للأستاذ الدكتور عطية عبد السلام عاشور عضو المجمع حيث يلقي كلمة المجمع في تأبين الفقيد.(/2)
سادسًا- كلمة الأسرة
للأستاذ خالد أحمد مختار عمر
السيد الرئيس ، الأعضاء الكرام،
السادة والسيدات الضيوف:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد …
فأذكر سعادتَنا بعضوية والدي ـ رحمه الله ـ في مجمع اللغة العربية وانضمامهِ إلى خيرة رجال الفكر واللغة والأدب، ولم يخطر ببالي حين ذاك أنه سوف يترك لي حمل مسؤولية الحديث عنه بالنيابة عن الأسرة في يوم تأبينه. فأشكركم جميعا على حسن استقباله في يوم تعيينه. وأشكركم كذلك على حسن توديعه في يوم تأبينه.
السادة الأفاضل:
أنا اليوم مطالب بالحديث عن والدي الذي ودعنا بجسمه وما زال علمُه وفضلُه ملءَ السمعِ والبصر.
فحاولت أن أضع الكلمات، مثل: أب، أخ، صديق، حنون، عطوف، كريم، رحيم، وغيرها في جمل وعبارات.
ولكن اللسان أبى أن يسمع للعقل ولبى نداءَ القلبِ بالصمت.
فلم توجد من الكلمات ومرادفاتها ما يمكن أن تعبر عما في القلب وتفي هذا الإنسان حقه. فاعذروا عجز لساني عن الحديث عنه كابن له فهو كالشجرة الوارفة التي أظلت من تحتها ومن في جوارها بالحب والحزم والرعاية والعلم . فلم يبخل على قريب أو غريب برأي أو بمالٍ أو بعلمٍ.
العلم… نعم أيها الجمع الكريم، فخلال وجودي معه في أيامه الأخيرة، سَمِعتُ أساتذته قبل تلاميذه، وزملاءه قبل أصدقائه وهم ينادونه بالعالم الجليل… لقد رأيت من هم أكبر منه سنًّا يقبلون رأسه، ومن هم أصغر منه سنًّا يقبلون يده، ويدعون له بالشفاء رحمة بالعلم، ولكنْ لكل أجل كتاب. لقبتموه بالعالم وهو يستحقه عن جدارة.
لقد وعد الله – تعالى- في كتابه العزيز ورسوله الكريم في أحاديثه الشريفة، بحسن المنزلة والثواب للعالم وطالب العلم .
فعسى اللهُ أن يتقبل منه علمه وأن يجزيه عنه كل خيرٍ ويدخله فسيح جناته.
وأسألكم أن تدعوا له بالرحمة والمغفرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/1)
أولاً - افتتاح الجلسة
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
... سيداتي سادتي:
... نجتمع اليوم لتأبين الراحل الكريم الأستاذ الدكتور أحمد عز الدين عبد الله، فهو علم فذٌّ من أعلام القانون الدولي في الجامعات المصرية والعربية، وأحد عباقرة مصر المعاصرين فقدتهم أخيرًا بعد أن أدى لها واجبه كاملاً في القانون وفي كل ما يتصل به من بحوث، ومن يرجع إلى جهوده في مجمع اللغة العربية يندهش ويذهل من كثرة أعمالة المجمعية. وقد قدم ما لا يستطيع غيره أن يقدمه، فنحن نعلم جميعًا أنه ظل يتابع العمل في معجم القانون بعد شيوخه السابقين الذين شرف المجمع بعضويتهم ممن عملوا بالقانون أمثال السنهوري، وعبد الحميد بدوي وغيرهما من عظماء القانون. وقد شرف المجمع بعضويته في عام 1974م وكان لا يقل عظمة على الرغم من أن لجنة القانون كانت عند الراحل الكريم هي الشجرة المباركة التي كان يحلو له كثيرًا أن يتفيأ ظلالها، كما كان يطيب له أن يشذّب أغصانها الرائعة حتى تجود بما تحمله من ثمرات يانعة. على الرغم من ذلك فإن هذه اللجنة لم تكن محور اهتمام الراحل الكريم فحسب بل امتد نشاطه ليشمل لجنتين أخريين هما:
(أولاً) لجنة ألفاظ الحضارة الحديثة:
... التي كان مقررًا لها لسنوات طويلة استطاع خلالها أن يبث فيها من روحه الوثابة ما جعلها تفيض نشاطًا وحيوية كان من نتيجتها أن أخرجت اللجنة معجمًا فريدًا هو (معجم الموسيقا) الذي يضم كمًّا كبيرًا من مصطلحات هذا الفن الراقي الجميل. كما كان من حصاد ذلك النشاط وتلك الحيوية كمًّا هائلاً من مصطلحات الألعاب الرياضية مثل كرة القدم، وكرة السلة، وكرة اليد، وألعاب القوى، وغيرها من أنواع الألعاب الأخرى التي تمثل أهمية كبيرة ليس للمثقف العادي فحسب بل للمواطن العادي في مصر وجمع أقطار العروبة.
... وقد تم أخيرًا جمع هذه المصطلحات وتبويبها وتسجيلها تمهيدًا لنشرها في معجم متخصص في القريب إن شاء الله.(/1)
(ثانيًا) لجنة الاقتصاد:
... فكان الراحل الكريم من أعضائها البارزين، وحظيت اللجنة بنصيب وافر من اهتمامه، وكان الراحل العظيم حريصًا كل الحرص على بقائها واستمرارها، وقد تمثل هذا الحرص في ترشيحه عددًا من علماء الاقتصاد من ذوي المكانة العالية في هذا المجال.
... ولا ننسى أن أحمد عز الدين عبد الله -رحمه الله - هو الذي قاد الحملة المجمعية ضد كتابة لافتات المحال التجارية بحروف غير عربية.
... وقد ظل -رحمه الله- حاملاً لواء هذه الحملة المجمعية حتى توّجت بصدور قرار وزير التموين والتجارة الداخلية السابق الدكتور أحمد جويلي الذي يحظر على المحال التجارية كتابة اللافتات بحروف غير عربية.
... ولا ننسى كذلك ونحن نعدد مآثر الفقيد الراحل أن نذكر له بالخير مشاركته الكبيرة في إعداد قانون جديد للمجمع ليحل محل القانون الذي كان معمولاً به منذ إبّان الوحدة بين مصر وسورية.
... فقد اضطلع هو وزميله وزميلنا القانوني الفذ الأستاذ مصطفى مرعي -رحمهما الله- بإعداد هذا القانون ولائحته الداخلية، وبعد سنوات من العمل الشاق صدر القانون رقم 14 لسنة 1982م الذي نعمل به منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.
... هذه إلمامة سريعة عن جهود زميلنا الراحل الكريم الأستاذ الدكتور أحمد عز الدين عبد الله وعن مآثره ومناقبه، وكم كنت أتمنى أن يتسع أمامنا الوقت أكثر فأكثر حتى لا أضطر إلى كبح جماح قلمي الذي يود أن يتحدث عن الفقيد العزيز.
...
نسأل الله تعالى أن يتغمد الراحل الكريم بواسع رحمته، وأن يفسح له في جنته وأن ينزله منازل الصديقين والأبرار، وحسن أولئك رفيقًا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،(/2)
"أنيس المشَرِّحين"
من المعاجم الرائدة في التقنية(*)
للأستاذ الدكتور يوسف عز الدين
... نعيش اليوم في عالم مملوء بالاختراعات والاكتشافات العلمية الكثيرة، والتطور التقني المتسارع المذهل والمعلومات التي لا يمكن حصرها بسهولة ويسر. وعلى الأمم الواعية أن تواكب هذه الأحداث العلمية المعقدة، وضرورة الاستفادة من كل جزء منها، واحتواء هذا التطور التقني لكي تطور حياتها وتجد لها مكانًا بين الأمم، وتستفيد الاستفادة الكاملة منها في مختلف مناحي الحياة.
... كان المذياع يحمله الحصان وأصبح يحمل في الجيب، وكان الهاتف مختصًّا بالحديث وغدا آلة حسَّابة فيها الأرقام المحفوظة والتسجيل الذي يرد عن صاحبه، ويسجل الأحاديث في الغياب ويعيد ما سُجل عليه وغير ذلك، ومثله الساعة والسيارة.. إلخ. وها هي
الحسابة ينقلها صاحبها أنى ذهب، وكانت في حجم حجرة كبيرة، إضافة إلى علوم الفضاء والمحطات الفضائية، ومثله الطائرة التي تطير بلا طيار، والصواريخ الذكية، وتطور العلوم الدقيقة التي تسند هذه المخترعات في الهندسة والكيمياء والفيزياء.
ما موقفنا في العالم العربي؟
... ليس أمامنا إلا احتواء هذه المخترعات والاستفادة منها ونشرها. ولمعرفة أجزائها لا بد من وضع معجم موحَّد يجمع مصطلحات هذه التقنية التي دخلت في كل جزء من أجزاء حياتنا. وقد قامت المجامع في الوطن العربي ببعض الجهود ولكنها لم تفِ إلا باليسير القليل من الحاجة المتزايدة لافتقارها إلى المال ووفرة العلماء،
لأن المساندة المالية محدودة وعدد العلماء لا يكفي هذا الزخم الفياض من المعلومات. ولا بد من رأب الصدع العلمي الواسع في البلاد العربية التي أصبحت سوق استهلاك لهذه المخترعات.. التي لم تتمكن من صنعها أو وضع الأدوات الاحتياطية لها بجدارة كاملة.(/1)
... فعسى أن تشكل لجان لجمع هذه الآلاف المؤلفة من الألفاظ والمصطلحات ووضعها في معجم كما صنع مجمع اللغة العربية في المعجم الطبي والمعاجم الأخرى.
محمد علي باشا والعلوم:
... وقد تنبَّه محمد علي باشا، الرجل الأمي إلى ضرورة العناية بالعلوم التقنية. وفي عهده نشر منها وترجم من اللغات الأجنبية ما يطور العلم التقني والعلوم في دولته، وما زالت آثاره واضحة بالكتب العلمية التي طبعت والمنشورات المتعددة، وفيها الكثير من المصطلحات المفيدة. وقد كان العلماء يجمعون المقالات العلمية من المجلات لترجمتها ونشرها في "يعسوب الطب" التي لم أجد أعدادها كاملة، وفي "روضة المدارس" وهي كاملة. ويلاحظ المتتبع الاهتمام بوضع معاجم للألفاظ الأجنبية. ومن هذه المعاجم التي عثرت عليها:
"أنيس المشَرِّحين" في علم الطب
... من المقدمة والفهرست الموجود في دار الكتب القومية برقم "10 طب" في الطبعة التاسعة الصادرة سنة 1828م، التي وضعها خليفة عبد اللطيف، نعرف أسماء البلدان التي أخذ منها هذا المعجم: مصر واليابان.
ولابد من مقارنة الحركة العلمية في مصر والحركة العلمية في اليابان التي بدأت في مدة واحدة، ونرى أين وصلت اليابان وما نحن اليوم عليه في مصر وحالتها العلمية؟!
فقد تقدمت اليابان تقدمها المعروف الذي هيمن على العالم بالتطور التقني والعلمي، وزاحمت الدولة التي استعمرتها برغم إصابة اليابان بقنبلتين ذريتين، ومع أنها لا تملك الموارد الأولية والسند المالي كما هو عند الدول العربية. وها هي الصين التي أرسلت مركبتين للفضاء، كما أن روسيا وتقدمها معروف، ومعروف التقدم التقني في الشرق الأقصى.(/2)
كانت مصر الرائدة في النهضة الحديثة ولولا كرومر وفرض اللغة الإنجليزية لكان التقدم التقني فيها لا يقل عنه في الدول الكبرى، لأن الغرب كان يخاف من النهضة المصرية ورغبات مصر في دولة متقدمة فحال دون تقدم المجتمع فكريًّا ووقف أمام التطور الحضاري والعلمي في مصر، ومع ذلك لم تنحسر اللغة العربية وتتقهقر أمام الغرب، وهي التي حوت حضارات العالم في الماضي، فقد احتوت السريانية واليونانية والقبطية. وليس هناك صعوبة كبرى اليوم في وضع معجم تقني يجمع الألفاظ والمصطلحات العلمية الحديثة لتكون عند الدارس العربي المعاصر، للاستفادة المباشرة من التقدم العلمي العربي وخبراته التي تنمو كل يوم وفهم المضامين العلمية، لأن التعمق والفهم يعيدان الثقة للعالم العربي؛ ليربط الاتصال العلمي الجديد بالواقع، ولاستنباط واختراع الجديد لهذه العلوم عند الاستفادة الكاملة من العلم. ومن الضروري نشره في المدارس والجامعات والمعاهد المختلفة حتى يقدر الباحث على التعبير عن فكره بالعربية في جميع العلوم، بعد أن فرضت الحضارة الجديدة علمها وآلاتها الجديدة على حياة العالم، وبعد أن تشابكت المصالح الكبيرة، وأصبح العالم قرية صغيرة يسهل فيها الانتقال والاحتواء بالاستفادة السريعة من وسائل المواصلات.
إن معجم "أنيس المشَرِّحين" خير مثل على نهضة مصر العلمية الرائدة وقابلية التطور الذهني لدى علمائها. وقد وضع لهذا المعجم الفهرست المرتب حسب الحروف اللاتينية، وسماها الإفرنجية، ليسهل على الطالب البحث عن المقابل العربي. وقد كان الباحث دقيقًا، فقد أفرد لكل كلمة إشارة تدل على أصلها الذي أخذها منه مع أن مصر لم تكن قبل حملة نابليون (1796م) بحاجة إلى اللغات الأجنبية.
ولكن علماء الأزهر بذلوا جهدًا كبيرًا ومشقة واسعة في ترجمة العلوم ووضع المصطلحات الجديدة لقضايا التقنية الغربية.(/3)
فقد جاء محمد على مع القوة العثمانية سنة 1801م، مع مساعدة الإنجليز، للقضاء على بقايا حملة نابليون. وقد اختاره المصريون حاكمًا للبلاد وصدر الفرمان من الباب العالي سنة 1805م، ثم حسم الأمر وأصبح الحاكم الأول بعد واقعة القلعة سنة 1811م والقضاء على المماليك. كان همه الأول إنشاء جيش قوي، وشدد على العلوم وأرسل البعثات ومعها رفاعة الطهطاوي، ثم فتحت مدرسة الألسن سنة 1837م في الأزبكية. وذكر المؤرخون أنه ترجم حوالي ألف كتاب ورسالة. إن حركة نقل العلوم إلى العربية كانت بحاجة إلى معجم بل معاجم لها، ومنها يعرف الباحث الصيغ التقنية والمصطلحات التي كتبت بها. وقد ذكر جاك تاجر والرافعي أسماء الكتب التي ترجمت منها على سبيل المثال:
1-كشف المصون في تطبيق الهندسة على الفنون.
2-الروضة السندية في الحسابات المثلثية.
... إن دقة الصنع التقنية دلت على مواكبة الذهن العلمي لتطور العلم في العالم مما وضع من الألفاظ والمصطلحات. ولم تكن أسماء لأشياء جديدة جامدة، بل أصبحت أدوات فعالة لتسهيل العلم الغربي الجديد والقدرة على نقل اللفظة القريبة إلى العربية. وكوَّنت هذه القدرة الذهنية الوقادة الفكر العلمي التقني المبكر، وسهل استعماله بالعربية. ولولا كرومر وفرض اللغة الإنجليزية في التعليم لكانت العلوم الحديثة قد نقلت إلى العربية وأصبحت التقنية سهلة الفهم عند العلماء.
... لا شك أن محمد علي باشا كان الباعث الأول عندما اعتنى بالعلوم الجديدة التي تخدم تطور إصلاحاته في خلق فكر علمي تقني حديث في الهندسة والجراحة والأمراض والرياضيات والطب. ومع ذلك فقد ترجمت بعض العلوم الإنسانية لبرنار دي سابيير ولافونتين وإسكندر دوماس وغيرهم.
محتويات المعجم:(/4)
... وُضِع للمعجم مقدمتان: الأولى بالعربية، والثانية باللغة الإنجليزية. وقد عرَّف جذور الاصطلاحات والألفاظ التي ترجمها من اللغات الأجنبية. وقد وضع أمام المصطلحات علامات تعرف أصل كل مصطلح ليعرف الدارس الجذور لكل لفظة أو مصطلح. فإن كانت يونانية أو إن العرب أخذوها من اليونانية فقد سجلها بالحروف اليونانية. وذكر المصطلحات العربية التي تغيَّر معناها اللغوي وأبقى الألفاظ والمصطلحات التي شاع استعمالها لدى المعاصرين. وذكر الكلمات العربية التي استعملت في اللغات الأوربية، وكان شديد الدقة؛ فأفرد الكلمات التي يشك في أصلها بعلامة خاصة وتتبع الكلمات العربية التي استعملت في الطب عند العلماء العرب والأطباء وأفردها بعلامة خاصة. كما فرق بين المصطلح الذي يأتي في مكانين من الاستعمال. ولم يقف عند علم الطب إنما وضع مصطلحات في الكيمياء. وعندما لم يجد في التراث العلمي العربي ما يقابل المصطلح الذي معه، وضع هو المصطلح الذي رآه مناسبًا.
... والجدير بالذكر أن بعض الألفاظ ما تزال مستعملة وحيّة عند الأطباء المعاصرين، وهو دليل على أصالة التقنية، وفهم المصطلح مثل: الأوردة والشرايين وأسماء العظام وأسماء الأعضاء التشريحية الخارجية والداخلية للجسم وبعض الأمراض المعروفة مثل انسداد الشرايين وانسداد مجرى البول وبعض مصطلحات أمراض العين.
وتظهر الروح العلمية السليمة في ذهن الباحث عندما أعد هذه المصطلحات؛ فلم يقل إن هذه الألفاظ غير قابلة للتغيير متى وجدت المصادر التي تعينه على التغيير في المستقبل.(/5)
... وأخيرًا هذا معجم تقني رائد جدير بالعناية به، فقد فكر العالم المصري في وضعه سنة1824م وجمع فيه الألفاظ والمصطلحات الأجنبية وما يقابلها بالعربية. ويمكن أن يعد أول معجم تقني وضعه العالم المصري "خليفة عبد اللطيف"، وعلى هذا أرجو أن تؤلف لجنة في المجمع لوضع معجم تقني جديد يواكب، على قدر المستطاع، حركة العلم الحديثة وحاجات طالب العلم، مثل المعاجم التي وضعها المجمع، كالمعجم الطبي، واستدراك ما وضع حديثًا. وبالله التوفيق وبه نستعين.
وقفة تأمل:
... لاحظت أن المعجم طبع سنة 1828م ويذكر التاريخ أن رفاعة رافع الطهطاوي عاد سنة 1831 وأن مدرسة الألسن تأسست سنة 1836 بالأزبكية.
... كيف تسنى لخليفة عبد اللطيف إخراج المعجم؟ فقد قال:
... "بذلت جهدًا واسعًا في تصحيح وتكبير الفهرست حسب قدرتي لكي أجعله معجمًا كاملاً للتشريح..." وقال: الألفاظ التي وضعتها للضرورة وتأكدت أنها من كتابات العرب الغير (كذا)موجودة في "كلكتا" عندما بحثت عنها...".
... وقد أضاءت لي كلمة "كلكتا" الطريق. ولما بحثت وجدت أن هناك كلية إسلامية فيها تدرس الطب باللغة العربية اسمها "الكلية الإسلامية المحمدية" وهي بعناية شركة الهند الشرقية البريطانية. وكان "أنيس المشرحين" معتمدًا على كتاب بـ الإنجليزية لمؤلف اسمه "روبرت هوبر Robert Hoper" والغريب أن يترجمه اسكتلندي اسمه "جون تيلر John Tyler". وقد طبع عدة مرات وأن خليفة اهتم به، فقد اعتمد على الطبعة التاسعة.
... من ذلك نرى اهتمام العالم المصري بالاستفادة من الكتب الأخرى لكي تسير قافلة التعليم حتى عادت
البعثة التي أرسلها محمد علي باشا وسارت سيرًا حثيثًا حتى أوقف الاستعمار المسيرة وفرض الإنجليزية على المدارس.
يوسف عز الدين
عضو المجمع من العراق(/6)
ثالثًا- كلمة الأسرة
للأستاذ الدكتور إسماعيل صبري عبد الله
الأستاذ الدكتور رئيس المجمع،
السادة الأساتذة أعضاء المجمع،
السيدات والسادة:
أود بادئ ذي بدء أن أقول إنني لم ألتقِ بأستاذنا الدكتور رئيس المجمع إلا قليلاً، ولكنني التقيت به كثيرًا من خلال كتبه القيمة التي أحرص على اقتنائها وخاصة ما يتصل منها بتاريخ الأدب العربي، فهو مرجع يرجع إليه كل من يرغب في التعرف على تاريخ هذا الأدب.
أود ثانيًا أن أشكر المجمع على إقامة هذا الحفل احتفاء بذكرى شقيقي الدكتور أحمد عز الدين عبد الله . كما أقدم شكر الأسرة على هذا الاهتمام فأنا أحتاج إلى كل بلاغة الدكتور كمال دسوقي من أجل أن أعمق الشكر الذى نحس به نحن أفراد أسرة الفقيد .
أيها السيدات والسادة :
أستأذن في أن أتحدث قليلاً عن شقيقي الراحل الكريم الذى لم يكن أخًا فحسب بل كان أيضًا أبًا ومعلمًا فأنا أحد ثمراته التي تعهدها بالرعاية والعناية حتى نمت وترعرعت و بلغت أوج نضجها، لقد قلت إنه كان لي أبًا لأنه هو الذي تولى تربيتي ورعايتي حيث رحل والدنا قبل أن أتم السادسة من عمري، وبعده رحل أيضًا أخوان آخران أكبر من عز الدين فحمل على عاتقه مسؤولية الأسرة و هو فى السابعة عشرة من عمره وكان وقتها طالبًا فى كلية الحقوق، وعشت معه ووجدت الإحساس بالمسؤولية الكاملة نحو الأسرة وصغار الأبناء، فقام على أكمل ما يمكن أن يقوم به أب لابنه، ولكنه أيضًا كان أخًا كريمًا ففارقُ السن لم يكن فارق أجيال، وبالتالي كان حساسًا وحريصًا على تنمية شخصيتي واعتدادي برأيي، لم يعطني يومًا درسًا خصوصيًّا. قال لي أمامك الكتب والمراجع ولى النتيجة آخر العام وتذاكر وقتما تحب، فغرس فى نفسي حب العلم والإخلاص في تحصيله حتى لأقف عن الحد العادي.(/1)
وكنت أتمتع حين أناقشه فى مسألة في القانون كنت أُعد نفسي للمناقشة كأنها مناقشة رسالة علمية لكي أقارعه الحجة بالحجة، وكان سعيدًا بهذا فهو معلم بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ولا أقصد بكلمة المعلم هنا ما كان يحمله من علم أخذته عنه أجيال وأجيال بل أقصد أيضا السلوك الشخصي والقيم والجدية والإتقان والعمل وعدم التسرع في إبداء الرأي، وأن ينمو أخوه الأصغر منه مستقلاًّ بشخصيته. وأضرب مثلاً على ذلك فقد كان عز الدين عازفًا عن الاشتغال بالسياسة لما جلبته على أسرتنا من ويلات، فقد عانت أسرتنا الكثير من الاشتغال بالسياسة منذ أيام الخديوي إسماعيل أي أيام اعتقال جدنا إسماعيل صبري عبد الله، ولكن لم يمنعني من إبداء الرأي، و أن أكون صاحب رأي حر وأدافع عنه بشرط أن يكون هذا الرأي مؤثرًا وليس عاطفة عابرة وليس وليد الوقت أو نتيجة جلسة مع الأصدقاء وكان أيضًا نموذجًا للأستاذ الجامعي الحريص على مكانته العلمية. ومثال ذلك عندما كنت فى ليسانس الحقوق جامعة عين شمس قامت بيني وبين زميلي الدكتور شمس الدين الوكيل -رحمه الله- منافسة على المركز الأول وكان أن يكون ترتيبي الأول هو عهد قطعته على نفسي لأن المرحوم عز الدين حاول أن يغريني بدراسة الطب فقلت له فى أحسن الظروف سوف أكون طبيبًا فى الريف.
ولكن لو دخلت كلية الحقوق سوف أكون الأول وأسافر بعثة وأكون أستاذًا في الجامعة فاقتنع ولكن بشرط ألا أذكر لأحد في الكلية أنني شقيق الدكتور عز الدين إلا بعد أن أكون الأول، فربى هذا في نفسي الاعتزاز، وحين حققت هذا الهدف فكل من يسألني هل أنت شقيق الدكتور عز الدين فأقول لا الدكتور عز الدين هو شقيقي فكان -رحمه الله- سعيدًا بذلك. فخسارتي الشخصية فيه ضخمة جدًّا فالعلاقة بيني وبينه كانت أكثر من مجرد علاقة أخوة فإذا كان الله قد
وفقني في عملي العلمي فهذا يرجع إليه.(/2)
مرة أخرى.أكرر الشكر لحضراتكم بقدر اعتزازي لهذه المؤسسة وهذا ما ورثته من الدكتور عز الدين عبد الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/3)
ثالثًا- كلمة الأسرة
للمهندس محمد علي الحديدي
العلماء الأفاضل أعضاء مجمع الخالدين، الحضور الكرام:
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته،،،
بداية أشكر لحضراتكم جميل صنعكم وعظيم وفائكم، وأخص بالشكر الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع والأستاذ فاروق شوشة على كلمته الشافية الوافية.
تحدث أستاذ اللغة العربية في المرحلة الإعدادية ذات يوم عن مجمع الخالدين، ورأيت نظرات الإجلال في عينيه وهو يصف أعضاءه بذوي الرؤوس الفضية، لاشتعال رؤوس معظمهم علمًا ووقارًا، فحملني شوق المعرفة حملاً من أمام أستاذي في المدرسة وأجلسني بين يدي أستاذي في الحياة، لأنهل من فيض علمه وأسأله متلهفًا عن مجمع اللغة العربية. سألته وأنا على يقين بالإجابة، وكيف لا؟ فمن غيره أوقعني في هوى جميلة الجميلات؟ ومن سواه شغفني بها حبًّا؟
وكان أبي- أنار الله قبره كما أنار عقولنا- كان إذا سُئل لا يعطي إجابة فحسب ولكنه يعطيك منهجًا للبحث، فيرد باقتضاب شافٍ. فأما إن كان السائل يبغي قشور العلم كفته الإجابة، وأما إن كان غواصَ علمٍ أثارت إجابته في رأسه عاصفة من الأسئلة يصطدم فيها بكل أدوات الاستفهام الواحدة تلو الأخرى ولا تخمد حتى إجابة السؤال الأخير. ومع كل سؤال أسأله تزداد ابتسامة الرضا في عينيه إشراقًا. كنت أحار في أسلوبه، ولم أدرِ أنه هكذا يسقي العلم رشفة رشفة.
سألته عن مجمع اللغة العربية فقال لي بنشوة: ذلك مكان يا فتى يصان فيه عرض لغتنا الجميلة. وبقدر ما أثارت إجابته من أسئلة فقد كبح حيائي جماح لساني المتهور أن أسأله. ولم لا تكون أنت بين حماة العربية وأنت أصب عشاقها؟ واستحال سؤالي للأب إلى مسألة لله.(/1)
ولم يخب ظني، فإذا بي أدخل المجمع يوم استقباله محمولاً على محفة علمه، مزهوًا وكأنني انتخبت معه، حتى إذا رأيت ذلك الحشد المهيب من أساطين اللغة قلت في نفسي- مخاطبًا أستاذ العربية في المرحلة الإعدادية- "عفوًا أستاذي، بل هم ذوو الرؤوس الذهبية، فالرأس بما وعى وليس كما بدا".
وإذا بي أحمد الله كما كان يحب أن يحمده أبي "اللهم لك الحمد والشكر كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك" فالحق أن الحق قد حباني بنعمة أن أكون ابنًا لعلي الحديدي، نعمة ما استطعت حتى الآن- وما أظنني أستطيع- أن أحصيها أو أن أقابلها شكرًا. فقلما يولد امرؤ فيجد أبًا مثله. لقد أرضعتنا أمنا وقام هو بالفطام، وكان فطامه لنا حبًّا وعلمًا وخلقًا حميدًا، فلم أرَ مثله محبًّا لأسرته، مضحيًا بكل غالٍ ونفيس من أجلها، وكان حبه لنا لا يقف عند الكلمة الطيبة والنظرة الحانية ولكنه كان يتخلل إلى أنفسنا، فكأنما يقرأ مكنون صدورنا ويكشف حاجتنا فيلبيها كما يلبي النور العيون.
عندما رأى علي الحديدي قسوة الغربة في عيون ولديه، لم يعيه اتخاذ القرار بالعودة إلى مصر تاركًا وراءه مغريات المال والمنصب. فهل يغنيه المال عن راحة البال؟ وهل يداوي المنصب أمراض الغربة؟ وجاء الرد واضحًا وكان فعله قاطعًا.(/2)
لم يكن علي الحديدي أستاذًا في العربية وحسب، ولكنه كان أستاذًا في الحب. كان يحبنا وفي ذات الوقت يعلمنا كيف نحب، وكان حبه نهرًا فراتًا يتلون طعمه حسب الطاعم فللزوجة طعم المودة والرحمة والأمن، وللأبناء طعم العطف والقدوة والعطاء، وللأخ طعم التلاحم والتكاتف، وللصديق طعم الصدق والمروءة، وللناس طعم الكلمة الطيبة والوجه الصبوح، وللكل الكرم، فكان سخيًّا في ابتسامته، سخيًّا في علمه، سخيًّا في عطائه. وهكذا تضلع الكل من نهر حبه فأحبه الكل. ومازال وحي كلماته يتبادر إليَّ من موقف لآخر فكان يوصيني- جزاه الله عنا خيرًا- بقوله" الكلمة الطيبة تلين الحديد، والابتسامة مفتاح لكل باب".
وعندما كنت أنطق كلماتي الأولى كان يرغبني في ترديد الأذان كلما ارتفع صوت المؤذن، ورغم أني كنت أنطق أنصاف كلمات، إلا أنها كانت تقع منه موقعًا عظيمًا، فأراد الله أن يكافئه فكان ترديد الأذان خلف المؤذن آخر كلماته في الدنيا.
وكما كان النيل يفيض بالخير كان علي الحديدي يفيض علينا بالحب. وعرف العالم الجليل والفلاح الأصيل كيف يغرس فينا بذور العلم والمعرفة فكان يشعرنا أن العلم صلاة وجعل من بيتنا محرابًا للعلم، ولم يكن يكفيه- رحمه الله- أن يرى ولديه طالبي علم وكفى، بل أراد أن نتذوق حلاوة السعي وراءه والمثابرة في كسبه، بل والتميز فيه، فشجعنا على الدراسة العليا، وجعل من علمه وخبرته وماله بسطًا نمشي عليها لندرك غايتنا. وكم شكيت له عناء البحث وطول أمده ووعثاء سبيله، وما إن أنتهي من شكواي حتى أرى شهوة العلم في عينيه، فإذا هي تشعل في نار السعي من جديد.
ولن أنسى ما حييت دقات قلبه الطاهر التي رج لها جسدي رجًّا، وهو يضمني مهنئًا عند حصولي على درجة الماجستير، ولا عبرات الفرحة التي انهمرت من عينية الكريمتين فروت ظمأ سنين البحث في لحظات.(/3)
ولما كان غرس علي الحديدي علمًا وماؤه حبًّا، فما إن رأى زرعه يكبر أمام عينيه إلا ورعاه بالحكمة، وشذبه بحسن الخلق.
وكان جل ما أكرمه به ربه الحكمة البالغة، والبصيرة النافذة، فكان له لكل مقام مقال، ولكل عقل خطاب، ولكل سؤال جواب.
كان يستعين على الشدائد بالصبر، فإذا اشتد الكرب أيقن بالفرج، فلطالما ردد أمامي:
"ضاقت فلما استحكمت حلقاتُها
فرجت وكنت أظنها لا تُفرج"
وكان إذا قدر عَفَا وغفر، وإذا سألته يذكر قول الله تعالى "ألا تحبون أن يغفر الله لكم"
وكان لحكمته الجمة مقصدًا من الجميع، الكبير والصغير، القريب والبعيد، الكل ينشد فيه الرأي الصائب والنظر الثاقب.
والحق أني كنت أحار من أمر حكمته وأقول لنفسي: "أنى يكون لي معشارها؟" وكنت أعمد أن أناقشه أو حتى أجادله علني استسقي من حكمته شيئًا، فما أظنني نلت إلا غرفة بيدي، وإذا حزبني أمر هرعت إليه أطلب مشورته، وإذا بالأمر يتلاشى أمام عيني، وينصرف عقلي تلقاء ما يقول، حتى أكاد أنسى ما جئته من أجله.
ولأن علي الحديدي ورث عن أبويه جميل الخلق، وعرف قدر ذلك الميراث، أبى إلا أن يمتد الميراث جيلاً بعد جيل، كان الصدق قوله، والتواضع شأنه، والأمانة رسالته، والمروءة فعله، والإقدام شيمته.
وكانت أخلاقه الكريمة تتراءى لنا كألوان زاهية ترسم لوحة خلابة لا يمل الناظر إليها أبدًا، لوحة أحاطها إطار من رقة القلب ونبل المشاعر فكان إذا سمع بكاء طفل انفطر قلبه حتى إنه يكاد يوبخ والديه. وكنت في صباي إذا قطعت حبل أفكاره بسؤال أو تعليق ساذج لم ينهرني أو يلمني بل كان يقول في ابتسامة نقية "ويل للشجي من الخلي".
هكذا كان علي الحديدي، أيها الحضور الكرام، أو هكذا كان بعض علي الحديدي، فما أظنني على مدى ثلاثين عامًا قد أحطت بها خُبرًا.
رحمك الله يا أبي، فبفضلك عرفنا كيف نرفع هامتنا بين الناس وبفضلك عرفنا كيف نخفضها أمام الله، رحمك الله يا أبي عشت عليًّا ومت أبيًّا.(/4)
الحضور الكرام:
عندما كان علي الحديدي في أيامه الأخيرة كان شوقنا عظيمًا لعودته إلى منزله ولكن يبدو أن شوق الأرض لابنها كان أحر وأعظم، فرجعه الله إليها كي تقر عينها ولا تحزن.
رب ارحمه كما رباني صغيرًا وكبيرًا
"ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين"
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،(/5)
خامسًا- كلمة السيدة سماح رضوان سالم
تلميذة الفقيد
"إِنَّ أَوْلَى الناسِ بإبراهيمَ لَلَّذين اتَّبَعُوه"
آل عمران/68
... هذه الوقفة وقفها أستاذي الفقيد عندما أعددتم لقاءً عن العلامة الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس لأنه كان التلميذ الوحيد له ولم يُدْعَ للكلام عنه.
... وهأنذا اليوم أكثر تلاميذ الفقيد قربًا له ، وأكثرهم تعاملاً معه أقف وقفته وأردد قوله تعالى: "إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه "
... فالحاضرون بين فاقد أب ، أو أخ ،أو زميل ، أو صديق ، أو أستاذ. أما أنا فمصابي كبير لقد فقدت الأب والأخ والصديق والأستاذ والرئيس .
... لقد كنت أراه بمتوسط خمس ساعات يوميًّا لمدة أربع سنوات متواصلة، وفي بعض الأحيان يصل المتوسط إلى ثماني ساعات يوميًّا رؤية عن قرب، مع احتكاك مباشر ونقاش حول العمل، وذلك منذ أن بدأت العمل معه في يونيه عام 1998 م.
"إنا لله وإنا إليه راجعون"
اللغة العربية تنعى حظها منذ عقود
واليوم راح صوتها الذي كانت تنعى حظها به أحمد مختار عمر انتقل إلى جوار الله عالم جليل وأب رحيم وأخ عزيز وصديق حميم ورئيس عظيم.
بكل الحزن أنعى إليكم العالم والأب والأخ والصديق والرئيس الأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر الأستاذ بقسم علم اللغة بكلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة- والذي رأيته لأول مرة عندما تقدمت للعمل معه في يونيه 1998 م حيث وافق على عملي معه أنا ومعظم من تقدم إلى هذا العمل ، وقام بإعطاء رقم كودي لكل منا. كنت أنا رقم 2 لأن اسمي كان في الترتيب الألفبائي يلي باحثة أخرى كانت معي في الاجتماع نفسه ـ وطبعًا لم أكن أعلم هذا السبب إلا بعد مرور فترة من الزمن، وأنا أعمل معه حتى فهمت طريقته في التفكير ـ لم يكن أحد منا يعلم ما الذي ينوي الدكتور فعله ، ولكن الجميع كانوا يعلمون شيئًا واحدًا هو أن الشرف كل الشرف ينالونه عندما يعملون مع هذا العالم الفذ.(/1)
... وكان يقوم بشرح المطلوب لكل فرد على حدة، ويعطينا الكتب التي سنعمل منها، ويراجع عمل كل منا في اجتماعات دورية، ولم يسلم أحد منا من ملاحظاته على أعمالنا التي كان يشوبها دائمًا النقص والقصور، فلم نكن قد تعلمنا الدقةَ والنظامَ والمفاهيمَ المعجميةَ والسرعةَ وحبَّ العملِ والانكبابَ عليه، ولكنه صبر علينا ليخرج أفضل ما عندنا من طاقة، فتعلمنا منه جميعًا كل شيء .
... تعلمتُ منه حب العمل والإخلاص له ، تعلمت منه ثواب المحسن ، تعلمت منه المنطق في التفكير والدقةَ والنظامَ وكيفيةَ تدوين الملاحظات وكيفيةَ كتابةِ التقاريرِ والرسائلِ والأبحاثِ، وكيف أن لكل مقام مقالاً ، وأن اللغة أداةٌ للتوصيل ولا مجال للغة الأدبيةِ الإنشائيةِ في العمل اللغوي ، وأن ما يمكن التعبيرُ عنه برمز لا يصح أن نعبرَ عنه بكلمة كاملة ، وأن اللغةَ التلغرافيةَ التي تصل إلى ما تريد من أقرب طريق هي اللغةُ التي يجب أن تكون في التعاملات الكتابية .(/2)
تعلمت منه المباشرةَ والوضوحَ في كل التعاملات البشرية ، تعلمت الحزمَ والشدة، تعلمت كيف يكون الرئيس في العمل أبًا وأخًا وصديقًا، تعلمت أن الإنسانَ يظلُّ دائمًا في حالة تعلم، تعلمت كيف أفكر، تعلمت أمانة الكلمة، تعلمت كيف يكون عقلُ الإنسان مرتَّبًا، فقد كان لا ينطق إلا كلامًا مرتَّبًا ممنطقًا، تعلمت كيف يحترم الإنسان عقله دون أن يصل إلى مرحلة الغرور،تعلمت احترامَ الوقتِ وتقديسَه، تعلمت كيف يكون لي بصمةٌ في أي شيء أقوم به، تعلمت أن أخاطبَ الناسَ على قدر عقولهم، تعلمت منه كيف أسمو على أحقاد الآخرين، تعلمت كيف أن تَبَسُّمَك في وجه أخيك صدقة، تعلمت احترامَ رغبات الآخرين، تعلمت ألا حياءَ مع الحمقى، تعلمت أن للحق وجهًا واحدًا، تعلمت كيف تكون الثورةُ لاستعادة الحق المسلوب، وأنه ما ضاع حق وراءه مُطالب، تعلمت الاهتمام بكل شيء، وأيِّ شيء حتى لو اعتبره الناس شيئًا هينًا، تعلمت ألا أنعزلَ عن العالم وأتابع كلَّ أحداثِه، تعلمت كيف أحترمُ طاقةَ الجسد، تعلمت أن الفرصَ العظيمةَ تأتي عندما لا نحتقرُ الفرصَ الصغيرة، تعلمت كيف يكون للإنسان قيمة في حياته، تعلمت كيف يكون الدين سلوكًا لا مظهرًا.
أنعى إليكم عالمًا عاش حياته يدلّل في كل لحظة أنه يعشق العلم لم يترك لنا فرصة أن نعبرَ بلساننا عن إنجازاته، فإنجازاته تعبر عن نفسها، وتقول لكل من يهمه الأمر هأنذا نتاجُ السنين، نتاجُ الفكر الواعي، نتاجُ العملِ المخلصِ في خدمة اللغة والدين، نتاج الدقةِ والنظامِ وقبلهما العبقرية.
... آهٍ لو تعلمون ماذا أحسست عندما أعطاني سيرتَه الذاتيةَ لأكتبها على الحاسوب، وقفت أمامها لا أصدق أن عهد المعجزات يعود، وقفت في حالة ذهول وانبهار وإجلال لإنسان استطاع أن يجعل للحظة في حياته أكبر قيمة في الوجود، تعلمت من هذه الوريقات التي تقابل عمرًا كاملاً كيف يعيش الإنسانُ لهدف نبيل ويظل يعمل من أجله حتى يأتي الميعاد.(/3)
... وفي النهاية تعلمت الدرس الذي أصر الدكتور أحمد مختار عمر أن يعلمني إياه حتى وهو ذاهب إلى مثواه الأخير أن العمل لا يتوقف بغياب أحد. وأن الرسالة لا بد أن تكتمل وأن لكل عمل مقدمة وموضوعًا وخاتمة.
وأن خاتمة العلمِ والإنسانِ والأبِ والأخِ والصديقِ والرئيسِ ستكون الجنة إن شاء اللهُ ربُّ العالمين.
وأختم كلمتي التي لم تعبر عما يجيش في صدري كما ينبغي، ولم تعط الفقيد حقوقه التي في رقبتي …. ولكن أختمها بتسعة أبيات
شكرًا لكم، وشكرًا لرحابة صدركم أن سمحتم لتلميذة أن تعبر عن مشاعر الحزن والأسى والفخر
والاعتزاز بأنها قد تعلمت على يد
من قصيدة للدكتور بدوي طبانة قالها في حفل تكريم أُعِدَّ للفقيد عام 1973م في ليبيا لتوديعه … قال فيها بعد مقدمة طللية:
عالم من علماء هذا الزمان هو
الأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر رحمه الله وأدخله فسيح جناته.(/4)
ثانيًا- كلمة المجمع في تأبين الفقيد
للأستاذ الدكتور عطية عبد السلام عاشور عضو المجمع
السيد الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع ، السادة أفراد عائلة الفقيد، الدكتورة نادية محمود مختار، السادة أعضاء المجمع والحضور الكرام :
يعز علي أن أقف اليوم مؤبنًا فقيد المجمع المرحوم الأستاذ الدكتور محمود مختار عبد الرحيم .
ولد الفقيد في 19/2/1907م وتلقى تعليمه في مراحله الأولى: الابتدائي بمدرسة خليل أغا الابتدائية، والثانوي بمدرسة الزقازيق الثانوية، وحصل على إجازة البكالوريا (علمي) عام 1925م، وخلال دراسته الثانوية حببه مدرسه الشيخ أبو العينين جعفر في اللغة العربية، كما حببه في الفيزيقا (الطبيعة) أستاذه عبد العزيز الغباشي وقد تنبأ الاثنان له بالتفوق في كلا المجالين.
وبعد حصوله على البكالوريا التحق بمدرسة المعلمين العليا بهدف أن يصبح مدرسًا رغم أنه كان يُفضِّل أن يكون مهندسًا. وتصادف أن افتتحت في نفس العام 1925م كلية العلوم بالجامعة المصرية، وهي الكلية التي لم تجد طلابًا للالتحاق بها عند إنشائها. ولحل هذه المشكلة، تم "شحن" خمسة من الطلاب المتقدمين لمدرسة المعلمين العليا في تاكسي، كما يتذكر الفقيد، وأرسلوا إلى كلية العلوم، وكانوا هم من أول من يلتحق بالكلية الجديدة ومن يتخرج فيها من شعبة "الرياضيات والفيزيقا". ويذكر الفقيد أن والده تساءل عن الوظيفة التي سوف يشغلها بعد تخرجه في هذه الكلية. وكان التساؤل منطقيًّا لأن من يتخرج في كلية الهندسة سوف يعمل مهندسًا ومن يتخرج في كلية الطب سوف يعمل طبيبًا، ولكن ما هي هوية هذه الكلية الجديدة، وكان رد الدكتور محمود مختار: "سوف أكون عالم ذرة".(/1)
وقد حصل الفقيد فعلاً على درجة البكالوريوس عام 1929م ضمن أول دفعة تتخرج في هذه الكلية، كما ذكرت سابقًا، وذلك بعد أن درس على يد العالم الجليل "علي مصطفى مشرفة" ونخبة من الأساتذة الأجانب. وكان من حظ مصر والعالم العربي وجود العملاق علي مصطفى مشرفة الذي دعا إلى تمجيد العلم والبحث العلمي – وقد كان العلم في ذلك الحين لا يحظى بأي اهتمام.
وقد عمل على أن تكون كلية العلوم مماثلة في مناهجها ومستواها لأرقى كليات العلوم بالجامعات البريطانية وفي هذا الإطار كان الخريجون الأوائل يوفدون إلى بريطانيا للحصول على درجات الدكتوراه، وكان هذا الإيفاد يتم بعناية فائقة من حيث اختيار الأستاذ المشرف وتحديد المجال الذي سوف يعمل فيه الموفَدُ، وليس عشوائيًّا كما يحدث في كثير من الأحيان. ولظروف عائلية اعتذر عن السفر المرحوم الدكتور محمود مختار فور تخرجه، مثل ما تم مع زملائه، وبدلاً من ذلك حصل على درجة الماجستير في الفيزيقا من كلية العلوم بجامعة القاهرة عام 1935م، علمًا بأن محكمي الرسائل في هذا الحين كانوا من أئمة الأساتذة وهو أسلوب لا تزال تسير عليه كلية العلوم بجامعة القاهرة حتى الآن، وفي عام 1937م، تم إيفاد الدكتور محمود مختار إلى الكلية الإمبراطورية الشهيرة بجامعة لندن للحصول على درجة الدكتوراه تحت إشراف أشهر أساتذة الصوتيات في ذلك الحين: ريتشارد سون، وتم كل ذلك بالتنسيق مع الكلية الأم وبالاتفاق بين الدكتور مشرفة وريتشارد سون. وقد حصل الفقيد على الدرجة المطلوبة بعد سنتين فقط وعاد إلى مصر عام 1939م، وعين في وظيفة مدرس بقسم الفيزيقا، وتدرج في وظائف هيئة التدريس فشغل وظائف أستاذ مساعد، وأستاذ جـ، ب، أ، وأستاذ كرسي الفيزيقا التجريبية، وكان أول مصري يرأس قسم الفيزيقا، كما اختير وكيلاً للكلية، ولم يكن هناك عندئذٍ إلا وكيل واحدٌ للكلية، كما أصبح عميدًا للكلية واستمر يشغل منصب العمادة إلى أن أحيل إلى التقاعد(/2)
فعين أستاذًا متفرغًا إلى أن وافته المنية .
وخلال هذا التاريخ الجامعي المجيد أشرف على عشرات من طلاب الدراسات العليا الذين حصلوا على درجات الماجستير والدكتوراه تحت إشرافه، وأصبحت الصوتيات موضوعًا يشتهر به قسم الفيزيقا بكلية العلوم بجامعة القاهرة، وترجع إليه الهيئات الجامعية ومراكز البحوث في العالم فيما يقابلها من مشكلات .
ومن أهم إنجازاته المبكرة، تسجيل السلم الموسيقي الشرقي وصياغته على أسس رياضية علمية ، الأمر الذي أبعد عنه صفة السماعية وخلصه من شوائب كثيرة .
وقد فعل ذلك بتشجيع من علي مصطفى مشرفة الذي كان يشاركه حبه الموسيقا . وقد تم نشر البحث الخاص بهذا الموضوع في الدورية البريطانية الشهيرة Nature . وفي هذا المجال أجرى الفقيد أيضًا بحوثًا على الآلات الموسيقية الفرعونية القديمة .
ولم يقتصر النشاط العلمي للفقيد على جامعة القاهرة ، وإنما امتد إلى كل من المركز القومي للبحوث والمعهد القومي للقياس والمعايرة حيث أنشأ وحدة لفوق الصوتيات في كل منهما.
كما امتد نشاطه إلى مجال الطاقة النووية حيث كان واحدًا من الرعيل الأول ، وعضوًا بأول مجلس إدارة لهيئة الطاقة النووية عام 1956م، وقد كُلِّفَ بصياغة قانون وقاية العاملين في مجال الإشعاع، وقد صدر هذا القانون عام 1960م، ولا يزال ساريًا بالصيغة التي وضعها الفقيد حتى الآن. ونتيجة لهذا النشاط، اختارته وزارة الصحة مستشارًا للهيئة العليا للأشعة وعضوًا في مكتبها التنفيذي، وفي هذا المجال أيضًا أنشأ الفقيد دبلومًا بجامعة القاهرة يحصل عليه الأطباء بعد تدريبهم .(/3)
وفي مجال عضوية الجمعيات العلمية والنشر العلمي، كان الفقيد واحدًا من المؤسسين الأوائل للجمعية المصرية للعلوم الرياضية والفيزيقية تحت إشراف المرحوم علي مصطفى مشرفة، وشغل منصب الأمين العام والرئيس لهذه الجمعية، كما أشرف على تحرير الدورية التي تصدرها الجمعية . وقد ساهم في إنشاء الجمعية الفيزيقية المصرية ورأس مجلس إدارتها وهيئة تحريرها على مدى ثمانية أعوام. وأنشأ أيضًا مجلة (بحوث النظائر والإشعاع) عام 1967م، ورأس هيئة تحريرها على مدى خمسة عشر عامًا .
وبالإضافة إلى الجمعيات السابقة، انتخب الفقيد عضوًا في كل من الأكاديمية المصرية للعلوم والمجمع المصري Institut d’ Egypte . والمجمع المصري للثقافة العلمية وهيئة التوحيد القياسي. كما كان رئيسًا للجنة القومية المصرية للاتحاد الدولي للفيزيقا البحتة والتطبيقية منذ إنشائها بأكاديمية البحث العملي والتكنولوجيا وحتى العام الماضي، ورأس المؤتمرات التي عقدتها عن تعليم الفيزيقا ، كما انتخب عضوًا في لجنة التعليم المنبثقة عن الاتحاد الدولي وشارك في اجتماعاتها الدولية على مدى ست سنوات .
وقد مثل مصر في المجلس الدولي للاتحادات العلمية "الإكسو" من 1979 إلى 1980م .
ونأتي الآن إلى خدماته للغة العربية :
ففي مجال تعريب العلوم، شارك الفقيد في تأليف وترجمة ثلاثة وعشرين كتابًا تناولت مناهج الفيزيقا في المرحلة الجامعية، وأيضًا مجال البحوث العلمية في الفيزيقا، أذكر منها: أصول علم الفيزيقا (خمسة أجزاء)، الفيزيقا التجريبية، علم الضوء- الفيزيقا النظرية (ثلاثة أجزاء).
وفي مجال التراث العلمي شارك الفقيد في تحقيق كتاب "المناظر" للحسن ابن الهيثم.
وقد قدرت الدولة جهود الفقيد فمنحته وسام الاستحقاق عام 1956م لخدماته في مجال الطاقة النووية . كما منح عام 1987م جائزة الدولة التقديرية في العلوم الأساسية. وحصل أيضًا على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى .(/4)
وأنتقل الآن إلى تاريخه المجيد في مجمع اللغة العربية الذي بدأ بانضمامه إلى المجمع خبيرًا بلجنة مصطلحات الفيزيقا عام 1962م مشاركًا في النشاط الذي كان يرعاه الأستاذ مصطفى نظيف والأستاذ الدكتور محمد مرسي أحمد عضوا المجمع. وفي عام 1974م انتخب الفقيد عضوًا بالمجمع وباشر مهامه مقررًا للجنة مصطلحات الفيزيقا وعضوًا بلجنة مصطلحات الكيمياء ، وبعد ذلك مقررًا للجنتي مصطلحات الفيزيقا وعلوم الحاسب.
وخلال ذلك ، أشرف على إصدار معجم مصطلحات الفيزيقا الحديثة من جزأين ومعجم مصطلحات الحاسبات، كما شارك في إصدار معجم مصطلحات الرياضيات في ثلاثة أجزاء.
وقد شارك الفقيد في مؤتمرات المجمع ببحوث عديدة، كما شارك في مؤتمرات واجتماعات عن تعريب المصطلحات ممثلاً للمجمع في عديد من البلاد العربية .
ومن أهم إنجازاته بالمجمع إنشاء مركز الحاسبات والإشراف عليه حتى وفاته، وقد أدى ذلك إلى نقلة موضوعية شاسعة في عمليات التحرير والنشر والتخزين لإنتاج المجمع من المصطلحات في جميع الفروع. وكان -رحمه الله- يتابع العمل في هذا المركز باستمرار ويعمل على تحديث معداته ويرأس جميع اللجان الخاصة باختيار وشراء هذه المعدات .
وكان للفقيد فضل إدخال كلمة فيزيقا بدلاً من فيزياء وكلمة حاسب بدلا من حاسوب وقد يختلف معه البعض في هذا الشأن .
حضرات السيدات والسادة
هذا بعض من كل، والوقت لا يتسع لذكر كل مآثر فقيدنا العظيم وفقيد العلم والمعرفة واللغة العربية ، ولكني لابد أن أؤكد على إنسانية الفقيد وسماحته فلا أذكر أن رأيته غاضبًا، بل
كان دائمًا مبتسمًا ومرحبًا، وقد كان بارًّا بعائلته، فشارك السيدة المرحومة قرينته عناء مرضها الطويل وكان خير الرفيق لها .
رحم الله الفقيد رحمة واسعة جزاء ما قدم وأعطى وأتقدم لمصر عامة ولأسرته الكريمة بخالص العزاء، وأدعو الله أن يلهمهم وإيانا الصبر على فراق الفقيد الكريم .(/5)
ثانيًا- كلمة المجمع في تأبين الفقيد الراحل
للأستاذ فاروق شوشة
عضو المجمع
الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع، الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع، الأستاذ الدكتور كمال بشر
الأمين العام للمجمع، أسرة الفقيد
الكبير الدكتور عبد القادر القط، الأساتذة الزملاء والأصدقاء :
أيها الحفل الكريم :
... لن نجد وصفاً أدقّ لشبابِ فقيدنا الكبير عضو المجمع الدكتور عبد القادر القط، ووعيه الباكر بالحياة: فلسفًة وتناولاً واقتحامًا، كهذه الأبيات المنتزَعةِ من إحدى قصائده المتوهجة بروح الصبا والشباب ونزعاته القلقة، الباحثة عن خيوطٍ من اليقين، العامرةِ بطموح يحفز الخُطى ويوسّع من آفاقِ الرؤى، في ديوانه الوحيد : "ذكريات شباب".
هذا الديوان الذي نظمه صاحبه(/1)
بين عامي 1941و1943م، ولم يأذن بنشره إلا بعد خمسة عشر عامًا، تغيّر فيها ذوق صاحبه الشعري ووعيه بتيارات الشعر والنقد الأدبي، وإن ظلّ طيلة الوقت يتكئ إلى حسِّه الرومانسي، باعتباره واحدًا من شعراء هذا الاتجاه الذي كان من أعلامه في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته: إبراهيم ناجى، وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وغيرهم. لكنَّ الناقد الكبير آثر أن يطلق على هذا التيار تسميته الخاصة: "الاتجاه الوجداني". وعندما أصدر كتابه المتميز "الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر" فقد كان يؤَصّلُ لهذا الاتجاه في مراحله المختلفة بدءًا بمدرسة الإحياء ورائدِها البارودى: وهي مرحلة الإرهاص بالحركة الرومانسية في الشعر العربي الحديث التي تأثر بها الرُّصافي والزَّهاوى في العراق، وشوقي في مسرحه الشعري، ثم ينمو هذا الاتجاه الوجداني عند مطران، وشكري، والعقاد، والمازني، وأبي شادي وشعراء المهجر الأمريكي. أما مرحلة ازدهار هذا الاتجاه الوجداني بعد ذلك فيمثلها حشد كبير من شعراء الوطن العربي من بينهم: ناجي، وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل في مصر، والشابي في تونس، والتيجاني في السودان، والأخطل الصغير بشارة الخوري وأمين نخلة في لبنان، وأبو ريشة في سوريا .(/2)
... كان الذوق الأدبي الذي يستند إليه ناقدنا الكبير ذوقًا مثقفًا، مدربًا، يستند إلى وجدان شديد الحساسية ونفْس متوهجة بالصفاء والشفافية واقترابٍ حميم من حركة الحياة يجعله في القلب منها، ائتناسًا بالبشر ومعرفةً بنزوعاتهم، وفهمًا لما يصدُر عنهم. تشكلت معالم هذا الذوق خلال سنواته الدراسية في كلية الآداب متتلمذًا على صفوةٍ من الأعلام في قامة طه حسين وأحمد أمين وغيرهما، ثم من خلال عمله ـ بعد التخرج ـ أمينًا في مكتبة الجامعة طيلة ست سنوات بين عامي 1939و1945م قارئًا نَهِمًا لفنون من الشعر والإبداع وألوانٍ من المعارف والثقافات، كانت زاده وعُدّته وهو يتوجه مبعوثًا إلى جامعة لندن للحصول على الدكتوراه في موضوع يمثل ذِروة اهتمامه الشعري والنقدي معًا، هو "كتابُ الموازنة بين أبي تمام والبحتري للآمدى " تحت إشراف مستشرق ذائع الصِّيت هو " آربري " الذي عُرف بترجمته للقرآن الكريم وللمعلقات .(/3)
... وطَوال عمله الجامعي، مدرسًا فأستاذًا فرئيسَ قسم فعميدًا لكلية الآداب في جامعة عين شمس، فعميدًا لكلية الآداب في جامعة بيروت العربية حتى 1982م، كانت جوانب هذه الشخصية الأدبية والعلمية الفريدة قد اكتملت، وتحققت الصورة التي ارتضاها لنفسه : الأكاديمية التي تقوم على مسؤولية المعرفة والاستنارة والابتكار والتأثيرُ المُشع الواسع المدى، الذي يتعدى أسوار الجامعة، متفاعلاً مع الواقع الأدبي والثقافي في المجتمع كله . وكأنه يترسم خُطى أستاذه العميد طه حسين، وخطى رفاقه من جيل الرواد الكبار، الذين جعلوا من الجامعة قيادة فكرية وثقافية وعلمية وأدبية للمجتمع . ثم جاءت رئاسته لتحرير أربع مجلات أدبية وثقافية هي على التوالي : الشعر، والمسرح، والمجلة، وإبداع، بين عامي 1964و1992م دليلاً على التزامه بهذا الدور، وشاهدًا على تصاعده وعمق تأثيره يومًا بعد يوم، وخاصة عندما كان يشغل موقعه المتميز في هيئة المجلس الأعلى للثقافة، ومقررًا للجنة الشعر فيه، وثق الصلة بحركة الأجيال المتعاقبة نقدًا وإبداعًا، على مستوى مصر والوطن العربي .(/4)
... وطوال سنوات عطائه ـ نقدًا وإبداعًا ـ عُرف الدكتور عبد القادر القط بدماثته النادرة وخلقه الرضي السمح ولسانه العَف والتزامه الجاد. كما عُرف بمنهجه النقدي الذي يقوم على التعامل مباشرة مع النصوص الأدبية، والنفاذ إلى جوهر بنيتها وتشكيلها وعالَمها من الصور والرموز والإيحاءات والدلالات، صادرًا عن شاعريته وثقافته التراثية والعصرية وخبرته الطويلة وتمرسه بالشعر العربي والعالمي. بعد أن نجا من الوقوع في شرَك المذهبية الضيّقة أو الإيديولوچيا المتزمتة التي قيدت حركة نقاد آخرين ومسخت كتاباتهم وحولتها إلى أحكام آلية ـ نتيجة للتعصب المذهبي . مؤثرًا ألاَّ يكون في موقف القطيعة المعرفية أو النقدية في وجه أي إبداع جديد، حتى لو كان هذا الإبداع خارجًا على المألوف أو مجاوزًا للقواعد والضوابط . مدركًا أن دوره وأستاذيته يفرضان عليه ـ باستمرار ـ موقف الأبوة والرعاية والتوجيه في حنو ورفق، مُنبهًا وُسعه إلى العثرات والأخطاء والميْل والانحراف والزلل، في لغة أدبية راقية، وترفع عن الدنايا والصغائر .(/5)
... لكنَّ الباحث عن حقيقة فقيدنا الكبير الدكتور عبد القادر القط وعن حجم عطائه، لن يجده كله في كتبه المنشورة المعروفة مؤلفةً ومترجمة : بدءًا بكتابه في الأدب المصري المعاصر، فقضايا ومواقف، فالشعرِ الإسلامي والأموي، فالاتجاهِ الوجداني في الشعر العربي المعاصر، فكتابه الذي لم يلق ما يستحقه من اهتمام ومتابعة وهو كتاب " الكلمة والصورة " الذي يضم مقالاته وتحليلاته النقدية للدراما التليفزيونية والمسلسلات التي شغلت الناس باعتبارها لونًا جديدًا من ألوان الإبداع الأدبي يستأثر باهتمام الملايين ومتابعتهم، ويؤثّر تأثيرًا بالغًا في عقولهم ووجدانهم وسلوكهم . وهو لا يكتفي بالتحليل النقدي للفكرة أو النص المكتوب وإنما يتجاوز ذلك إلى طريقة رسم الشخصيات وتصويرها وإلى إخراج الحلقات وصولاً إلى أدق التفاصيل المتصلة بالحركة والملابس واللغة والديكور والإضاءة وغيرها، الأمر الذي يضع ناقدنا الكبير في موضع الريادة بالنسبة للنقد التليفزيوني الموضوعي ومتابعة المسلسلات الدرامية بوجه خاص. ولن يغيب عن قارئ كتابه البديع " الكلمة والصورة " هذه الرؤية المتكاملة التي تكشف دومًا عن وعيه العميق وأفقه الإنساني الرحب وبصيرته النافذة وعدسته اللاقطة. ولعل كثيرين لا يعرفون أن الدكتور القط كان دومًا على رأس مستشاري الإنتاج الدرامي التليفزيوني الذين يُعهد إليهم بقراءة النصوص وتقييمها والحكم على صلاحيتها قبل اعتمادها للتنفيذ. وكثيرًا ما كانت له نظراته وآراؤه التي تعدل وتغير وتلغى وتعترض على كثير من هذه النصوص. وكانت آراؤه دائمًا موضع الثقة الكاملة والتقدير العميق لناقد كبير له نظراته الموضوعية الصائبة .(/6)
... وفي كتابه الأخير "أربعون صباحًا " ـ الذي يضم كثيرًا من مقالاته نصف الشهرية على صفحات الأهرام طيلة ثلاث سنوات، في هذا الكتاب كشف عن العديد من جوانب هذه الشخصية الفكرية الفريدة وهو يروى فصولاً من سيرته الذاتية في مرحلتي النشأة الأولى والتكوين، ثم مرحلة البعثة والعمل الجامعي بعدها، كما يروي ذكريات حميمةً ـ ما تزال حية في وجدانه عن عالم القرية وشخصياتها التي تركت تأثيرها فيه وفي قصائده، وعن آرائه في موضوعات ثقافية واجتماعية عديدة مِثل إصلاح حال التعليم، وكيفية التعامل مع شباب هذه الأيام والسلبيات العديدة في الأداء الحكومي، ومقارنة أحوالنا- نحن المصريين- بالآخرين الذين أتيح لهم ـ في بلادهم ـ درجة أعلى من الحرية والتحضر والكرامة الإنسانية .
... فضلاً عن بقية الموضوعات التي تؤكد دوره النقدي والتنويري ـ على مدار أكثر من نصف قرن، مقومًا وعارضًا، مُحلِّلاً وموجهًا، في أبوة حانية، وأستاذية لا تعرف التعصب لاتجاه أو الانحياز لتيار، وأفقٍ رحب يتسع لكل ألوان التجديد كافة، ولشتى صنوف المغامرة والخروج على المألوف، دون حجْر أو تزمت أو تعصّب . لإيمانه العميق بالمستقبل، وبحركة الأجيال في الإبداع، وحق كل جيل في أن تكون له لغته وطرائقه وأحلامه وتطلعاته .(/7)
... أقول إن الباحث عن حقيقة الدكتور القط لن يجدها كاملة ـ في هذه الآثار المنشورة أو ترجماته البديعية لبعض مسرحيات شكسبير وبعض قصص الكتاب الأمريكيين والروس، ـ التي قدَّم بها نموذجًا رفيعًا للترجمة الأدبية الراقية والأمينة، لكنه سيجد حقيقته في مئات الندوات والحوارات والمشاركات التي أعطاها الدكتور القط مساحةً واسعة من وقته وجهده واهتمامه بحيث أصبح واسطة العقد في ندوات الإذاعة وندوات التليفزيون، والجمعيات الأدبية والمحافل الثقافية . ويبدو أن ناقدنا الكبير كان يؤْثر هذه الصيغة الشفاهية غيْرَ المقيدة بشروط الكتابة ودواعيها في التعامل مع القضايا والنصوص الأدبية أكثرَ من الكتابة عنها . ولو أن ما قاله عبر مئات الحلقات والمناقشات النقدية ـ طوال سنوات عمره جُمع ونشر لكان له ولنا من ذلك كتبٌ بالعشرات. لكن ذلك كله تبدد مع الأثير، ولم يبق منه إلا عطر الذكرى، وتلك الصورة الحميمة لناقدنا الكبير وهو يحنو ويهتم، ويشارك ويقدم عشرات الأسماء من مختلف الأجيال، يأخذ بأيديهم ويفسح لهم في مجالات النشر والحياة ويدعمهم أدبيًّا وماديًّا، بالرغم من تعرضه لعقوق بعضهم وتنكرهم لأبوته الروحية وأستاذيته، لكن هذا العقوق لم يكن ليُخلّف في نفسه مرارة تذكر، أو ليصرفَه عن دوره المعتاد رائدًا ومُعلمًا.(/8)
... وعندما توّجت مسيرة ناقدنا الكبير بعضوية مجمع اللغة العربية على رأس الكوكبة الأخيرة التي شرُفت بهذه العضوية ـ التي تأخرت كثيرًا بالنسبة له ولآخرين، ربما كان من الأوفق لو ولجوا إلى رحاب المجمع وهم أوفرُ نشاطًا وقدرة وحيوية وجلَدًا. وفي تاريخ المجمع والمجمعيين تلتمع أسماء العلماء الأجلاء الذين نالوا شرف عضويته ولمّا يتجاوزوا الأربعين من العمر، وامتدت حياة بعضهم ـ في ظلال المجمع ـ لأكثرَ من نصف قرن، يعطون ويسهمون ويضيفون ويُجدّدون ـ أقول عندما تُوّجت مسيرة ناقدنا الكبير بهذه العضوية، مدركًا أنه قد بدأ يشارف نهاية المضمار ـ كان صوته عميقًا ومؤثرًا وهو يعرض لعلاقته القديمة الحميمة باللغة العربية ويقول :
... كانت اللغة العربية في بداية هذا العصر الحديث عُدّة الشعب العربي في نهضته الحضارية، ووسيلة إلى المعارف العصرية في العلم والأدب، وسلاحه الفكري والنفسي في مواجهة الغزو الغربي المزوّد بآلة الحرب وسلطان العلم والمعرفة .
... وقد حمل عبء هذه النهضة القومية الحديثة، بأدبها وعلمها وسياستها، أعلامٌ كانوا ـ على اختلاف ملكاتهم ـ يؤمنون بأن اللغة ـ وما تحمله من تراثٍ وتاريخ وروح حضارة ـ هي المنطلق الأول لكي يتصل القديم بالجديد، ويتوحدَ فكر العرب ووجدان الشعب العربي في صورة عصرية . تأخُذ من القديم أصحّه للبقاء، وتقتبسُ من الحديث أَنفعه للنهضة، وأقدَرهُ على مواجهة حاجات العصر .
... في ظل هؤلاء الأعلام ونُورهم، نَمت الفطرة عند الكثيرين، فغدت موهبةً واعية قادرة، بما اكتسب من علم وخبرة، ومن فكرٍ عصري مستنير لكل هذا نشأ هذا المجمع العربي الجليل الذي أشرُف اليوم بانتسابي إليه .
... وفي لمحة مفعمةٍ بالشجن، تعطفُ الحاضرَ إلى الماضي في حياة الدكتور القط ووجدانه، وتتطلع إلى ما يمكن أن يتسع له المستقبل من أحلام العمر وتطلعاته، كان الدكتور القط يقول ونحن لا ننتبه كثيرًا لمعنى ما كان يقول :(/9)
" أمدٌ طويل ذلك الذي يمتدّ بين البدايات الأولى لهذا الحب القديم، وما اكتسب صاحبه على طول الدرب وامتداد الأجل من الرواد الراحلين . ولعلَّ العشق الفطري أصبح اليوم أكثر وعيًا وحكمة. لكنَّ أوتاره ما زالت مشدودة إلى القلب، تستجيب لكلِّ لمسة من أنامل ذلك الحب القديم. فما بالي اليوم ومئاتُ الأنامل من هذا الجمع الجليل تمتد في كرمٍ لتشدّ من بعض أوتاره تلك التي قد يكون بعضُها قد وهَى مع الزمن، فتحرِّكَه ليعزفَ لحنًا، لعله مازال قادرًا على أن يُطرب أهل زماننا المتحرك السريع . "
... وعندما بدأ فقيدنا الكبير يشارك في جلسات المجمع، يصغي إلى حواره ومناقشاته، لم تُخْفِ طبيعته النقدية نقده للطريقة التي يدور بها عمل المجمع ولم يخفِ ضيقَهُ باستغراق مصطلحات العلوم لجلسات المجمع الأسبوعية، معلنًا أكثر من مرة، في صراحة ووضوح، أن هناك من قضايا اللغة في علاقتها بالمجتمع والحياة والإبداع والإنسان العربي ما يستحق الاهتمام والبحث والمناقشة، وأن قضية المصطلحات ـ على أهميتها ـ واحدة من القضايا التي ينبغي أن ينشغل بها المجمع، وأنَّ ترك هذه القضايا أو تأجيلها إلى مؤتمرات المجمع السنوية لتناقش إحداها في عدة أيام ليس بديلاً عن الاهتمام المستمر بها على مدار العام المجمعي كله . كان يرى أن علاقة المجمع بالمجتمع في حاجة إلى تصحيح أو تصويب . وأن الرأي العام ـ اللغوي والثقافي ـ ينتظر من المجمع الكثير، وأن هذا الكثير أهم بكثير من المصطلحات التي يُصدرها المجمع في معاجم متخصصة هي في رأيه لا يكاد يشعر بها أحد، ولا يستعملها حتى الذين ينبغي أن يكونوا أولَ مستخدميها، من العلماء والأساتذة والباحثين والمترجمين، فهم يمضون في طريقهم بوسائلهم هم، وأساليبهم الخاصة في الترجمة والتعريب والاشتقاق والقياس فضلاً عن صياغة لغتهم العلمية على النحو الذي يريدون.(/10)
... وكان فقيدنا الكبير كلما ضاق صدره بانكباب المجمع المستمر على قضية المصطلحات، تخلف عن الحضور جلسة أو جلستين . ثم يعود فيفاجئه أن الأمر لم يتغير، وأن ما يُؤمله من عكوف على القضايا والمشكلات الخاصة باللغة العربية لم يتحقق. وكان هناك دومًا بالطبع حماسُ المتحمسين والمؤمنين بالنهج الذي يعترض هو عليه ويود تغييره. فيصمت مستسلمًا مبتلعًا حسرته وحزنه الشفيف، وقد يشارك بين الحين والحين في تصويب ما يراه غير دقيق في الترجمة عن الإنجليزية التي كان يتقنها، ويترجم عنها في وضوح ودقة وسلاسة . ولم يمنعه هذا الموقف النقدي من عمل المجمع من مشاركته الجادة في مناقشة كثير من مصطلحات الأدب والفلسفة وألفاظ الحضارة والجغرافيا في مجلس المجمع، قبل عرضها على مؤتمر المجمع السنوي لإقرارها .
... من المؤكد أن افتقادنا للدور الذي كان يقوم به الدكتور عبد القادر القط في حياتنا الأدبية والثقافية والجامعية والمجمعية سيبقى قائمًا، لزمان طويل . نفتقد فيه أكبر ناقد معاصر، اختصّ الإبداع الشعري بالنصيب الأوفى من كتاباته واهتمامه، واختصّ أجيالنا الأدبية برعايته وعنايته، واختص مجمعنا اللُّغوي بنقده الحريص على حيويته وفاعليته وتطويره . نفتقد فيه إنسانًا جميلاً، كان وجودُه الإنساني نسمة نديّة وخُلقًا سمْحًا ولغة عفة .(/11)
... ولقد تُوِّجت مسيرته بالعديد من الجوائز : جائزةِ الدولة التقديرية في الآداب، وجائزة الملك فيْصل العالمية، وجائزة مبارك في الآداب . لكن أعظم جوائزه وأبقاها جائزة الحب العميق والتقدير الكبير اللذيْن يحملهما له أبناؤه ورفاقه وتلاميذه، رمْزًا من رموزنا المضيئة، وعَلما من أعلامنا الرفيعة ورائدًا من رواد الاستنارة والتقدم، الذين آمنوا بالحرف العربي، وبعبقرية اللغة العربية والثقافة العربية، فباحت لهم بمكنون أسرارها، وهم ينفذون إليها مسلحين بثقافتهم التراثية وثقافتهم العصرية، ورؤيتهم الإنسانية الموضوعية الشاملة، ونزوعهم المستقبلي، الواثق دومًا بأن الغد يحمل في طياته آفاقًا أرحب وأشمل .
... وسنذكر فيه دومًا رقة وجدان الشاعر، ورهافة روح الفنان، فقد كان الشاعر فيه أبرزَ ملامحه وأصْفى تجلياته. وعندما توقّف عن إبداع الشعر انسكبت شاعريته في كتاباته النقدية وفي دراساته وترجماته، وفي سلوكه اليومي
الحضاري المترفع، الجدير بالمحبة والاحترام .
... وسوف يبقى بيننا دومًا صوته الشعري الجميل وهو يُردد :
كلُّ هذا الوجودِ كيف تلاشَى
واستقامت مِن بعده الأعمارُ؟
ومضيْنا، قد دُمَرت لحظاتٌ
عامراتٌ، وطُمرَت أنهارُ
وتلقّت مِن الزمانِ سطورًا
حادثات، يخطّها المقدارُ
أين ولّى سروُرنا وأسانا
وانقيادٌ لحبِّنا ونِفارُ
وانمحت من إحساسنا خلجاتٌ
قد غَذاها إحساسنا الزخارُ ؟ !
كلُّ ما قد مضى، فللعدم الطاغي
يُزجَّى، وغيبنا أسرارُ
وقُصُارانا بين ماضٍ وآتٍ
خَلساتٌ من الحياةِ قِصارُ
رحم الله فقيدنا الكبير وسلام عليه في الخالدين(/12)
المعاجم المتخصصة، معاجم المستقبل (*)
للأستاذ الدكتور محمد إحسان النص
... بين أيدينا معاجم خلّفها لنا اللغويون العرب القدامى ومعاجم وضعت في العصر الحديث، وهذه المعاجم منها معاجم للألفاظ – وهي الغالية- ومعاجم للمعاني، ومعاجم متخصصة في فن من الفنون.
وثمة مآخذ على اللغويين القدامى الذين وضعوا المعجمات العامة، وأشهرهم: إسماعيل بن حمّاد الجوهري (ت 793هـ) مؤلف معجم "الصحاح"، ومجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت 817هـ) واضع معجم "القاموس المحيط"، وابن منظور محمد بن مكرم (ت 711هـ)، صاحب معجم "لسان العرب". وهو أوسع معاجمنا القديمة. ومن هذه المآخذ أنهم لم يعنوا باستيفاء المادة اللغوية بذكر تصريف الأفعال، وبيان اختلاف الجموع والمصادر باختلاف الألفاظ
المفردة. وعدم عنايتهم بشرح معاني طائفة من الألفاظ الدالة على ضروب الحيوان والنبات وغيرها لشهرتها، والاكتفاء بذكر لفظ (معروف)، إضافة إلى عدم التزام نهج واضح في إيراد مفردات المادّة، إلى غير ذلك من المآخذ.
ويؤخذ على بعض المعاجم الحديثة إيراد ألفاظ عامّية بحجة شيوعها في الاستعمال. وإيراد ألفاظ دخيلة لم تقرّها مجامع اللغة العربية، وعدم ذكر أصولها في لغاتها. وعدم استيفاء وجوه تصريفها وضبطها بالشكل، وهناك مآخذ أخرى. والحاجة ماتزال قائمة لوضع معجم عام يستوفي جميع الشروط، ومنها العناية بذكر المصطلحات المحدثة التي أقرّتها مجامع اللغة العربية، وإثبات أسماء الأعلام التاريخية والجغرافية
بتخصيص قسم خاص بها في المعجم،
على نحو ما نجد في المعاجم الغربية. ونأمل أن يتولّى مجمع اللغة العربية بالقاهرة إعادة النظر في معجم "الوسيط" لتلافي ما فيه من نقص وحذف ما ينبغي حذفه من الألفاظ الدخيلة.(/1)
وقد عنيت طائفة من اللغويين العرب القدامى بوضع معجمات للمعاني، وأشهرها معجم "المخصص" لابن سيده علي بن إسماعيل المتوفي سنة 458هـ، وكذلك عنيت طائفة أخرى بتأليف كتب حول موضوعات محدّدة، مثل الكتب المؤلفة في الخيل والإبل والغنم وسائر أنواع الحيوان. والكتب المؤلفة في الآثار العلوية والمعالم الجغرافية والسلاح والملابس والجواهر ونحوها، وهذه الكتب المفردة كانت الأصول التي استمد منها واضعو المعاجم العامة.
وفي العصر الحديث كثرت المعجمات المتخصصة فأُلّفت معجمات للألوان والملابس والمصطلحات وتصريف الأفعال والأحجار الكريمة، وكذلك ألفت معجمات للألفاظ المترادفة أشهرها معجم "تحفة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد، لإبراهيم اليازجي"، وقد قامت مكتبة لبنان في بيروت بنشر طائفة كبيرة من هذه المعجمات.
إنّ لغتنا العربية تفتقر اليوم إلى معجم مهم ينبغي أن تُشمّر سواعد أهل اللغة لوضعه هو "المعجم التاريخي" للغة العربية، ليؤرخ حياة الألفاظ العربية وتراكيبها منذ أقدم العصور حتى يوم الناس هذا. وقد قامت الأمم الغربية بوضع معاجم تاريخية للغاتها، مع أن هذه اللغات حديثة العهد نسبيًّا، في حين أن اللغة العربية يتجاوز عمرها ستة عشر قرنًا، وقد تطوّرت معاني مفرداتها وتراكيبها عبر تاريخها الطويل تطورًا عظيم الشأن، باعد في بعض الأحيان بين دلالاتها في القديم ودلالاتها المحدثة مباعدة واسعة. والحاجة ملّحة لرصد التطوّر الذي أصاب معاني الألفاظ العربية وليس لعلماء العربية عذر في عدم المبادرة إلى وضع هذا المعجم.
وقد وضع المستشرق فيشر معجمًا تاريخيًّا للغة العربية ولكن معجمه وجيز لا يفي بالغاية المتوخاة وهو غير مستوفٍ.(/2)
وقد تداعت مجامع اللغة العربية مؤخرًا إلى وضع هذا المعجم وأقرّ اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية وضعه وأُلّفت لجنة من أعضاء مختلف المجامع والمؤسسات اللغوية كُلّفت وضع خطة مفصلة لهذا المعجم والإعداد لتأليفه يرأسها الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس اتحاد المجامع العربية، وسوف تجتمع هذه اللجنة في حين قريب في القاهرة لمباشرة العمل في هذا المعجم.
* ... * ... *
... إن تأليف المعاجم في عصرنا الحاضر ينبغي أن يتّجه نحو وضع المعاجم المتخصصة، فهي-في ظني- معاجم المستقبل. وعلى وفرة ما أُلّف من هذه المعاجم حتى اليوم ما تزال الساحة اللغوية مفتقرة إلى وضع معاجم أخرى كثيرة تتناول شتى الجوانب، أذكر منها على سبيل المثال:
1- معجم النبات:
... بين أيدينا معجم للألفاظ الزراعية وضعه الأستاذ العلاّمة مصطفى الشهابي الذي تولّى رئاسة المجمع العلمي العربي بدمشق نحو تسع سنوات، وهو يحمل شهادة مهندس زراعي، ومعجمه هذا سدّ ثغرة في تعرّف أنواع النبات، ولكن هذا المعجم يحتاج اليوم إلى إعادة النظر فيه، فقد عرفت أنواع من النبات لم يقف عليها الأستاذ الشهابي، ومعجمه لا يفصّل ذكر خصائص كل نوع، ونحتاج اليوم إلى وضع معجم شامل لأنواع النبات، يذكر خصائص كل نوع منه وما يستفاد منه في الغذاء والصناعة والمعالجة الطبيّة، ويذكر إلى ذلك مواطن زراعته وشروط نجاح هذه الزراعة، ويزين بالصور الملوّنة. وفي هذا الباب لا غنى لنا عن الاستفادة من بحوث الغربيين ومؤلفاتهم، ووضع هذا المعجم مَنُوط بعلماء النبات والزراعة في العالم العربي، ولا بد إلى هذا من الاستعانة بعلماء اللغة العربية ليعملا معًا في وضع هذا المعجم. ويشار إلى ضرورة ذكر اسم كل نبات وفصيلته وذكر اسمه باللغتين الإنجليزية والفرنسية إضافة إلى اسمه العلمي.
* ... * ... *
2- معجم الحيوان:(/3)
وصلنا من مؤلفات العلماء العرب القدامى كتب متفرقة في الحيوان، في الخيل والإبل والغنم والطير والسباع وغيرها، وقلّ أن نجد عالمًا لغويًّا ليس له بحث أو كتاب في الحيوان، وقد فُقد الكثير منها، وممن ألفوا في هذا الباب أبو عبيدة معمر بن المثنى، له كتاب في الحيوان، ولجابر بن حيّان كتاب في الحيوان كذلك، ومّمن ألفوا كتبًا أو أبوابًا في الإبل: أبو زياد الكلابي، وقطرب، وأبو زيد الأنصاري، والأصمعي، وأبو حاتم السجستاني، وغيرهم كثير، وأُلّفت في الخيل عشرات من الكتب لما للخيل من عظيم الشأن في حياة العرب، وممَّن ألفوا في الخيل أبو عبيدة والأصمعي والرّياشي العبّاس بن الفرج، وأبو عمرو الشيباني وكثيرون غيرهم.
... ولكنَّ أوسع ما وصلنا من كتب الحيوان كتاب الحيوان للجاحظ وكتاب حياة الحيوان للدَّميري محمد بن موسى (ت 808هـ)، ولكن هذين الكتابين لا يغنيان عن تأليف معجم شامل للحيوان، فالمنهج الذي اتّبعه الجاحظ ليس المنهج العلمي الأمثل، ومع أنه كان يلجأ إلى التجربة والمعاينة فإن كتابه لا يستوفي ذكر جميع أنواع الحيوان ويفتقد التنسيق والترتيب، ولا يفصّل ذكر الجوانب العلمية التي يعنى بها الباحثون في الحيوان في هذا العصر، كذكر فصيلة الحيوان ومواطن وجوده وخصائصه وما يمكن أن يستفاد منه وغير ذلك، وقد عوّل الجاحظ في مؤلفه على كتاب الحيوان لأرسطو ولكنه خالفه في بعض ما جاء فيه، ثم أضاف إلى ما أتى به أرسطو مشاهداته وتجاربه.
... والحاجة في وقتنا هذا قائمة لوضع معجم شامل مفصّل دقيق لأنواع الحيوان ينهج واضعوه النهج العلمي في وصف الحيوان وبيان كل ما يتصل به مع تزيينه بالصور وذكر اسم الحيوان باللغتين الإنجليزية والفرنسية. ووضع هذا المعجم منوط بالعلماء العرب المختصين بالحيوان مع الاستعانة بعلماء اللغة العربية، ولا غنى في هذا الباب أيضًا عن الاستعانة بالمراجع الغربية، فعلم الحيوان قد تقدّم لديهم تقدّمًا عظيمًا.(/4)
* ... * ... *
3- معجم القبائل العربية:
... لخدمة التراث العربي والمجتمع العربي ينبغي وضع معجم موسع أو موسوعة لقبائل العرب، بالاعتماد على كتب الأنساب العربية والمراجع التاريخية. وقد وضع الأستاذ عمر كحالة -رحمه الله- معجمًا لقبائل العرب استغرق أجزاء كثيرة، ولكنه لم يكن من المتعمقين في معرفة أنساب العرب فلم يعرّف بالقبيلة تعريفًا وافيًا، ولم يذكر سلسلة نسبها ولم يرجعها إلى أصولها التي تفرّعت منها، وقد فاته الوقوف على بعض كتب الأنساب ولا سيما اليمنية منها. وفي سبيل إنجاز هذا المعجم لا بد من الرجوع إلى جميع كتب الأنساب التي ألفها علماء النسب في مختلف الأقطار، ومن أهمها كتاب "جمهرة النسب" لابن الكلبي، و"جمهرة الأنساب" لابن حزم، وكتاب "النسب" لأبي عبيد القاسم بن سلام. وكتاب "الاشتقاق" لابن دريد، وكتاب "نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" للقلقشندي، وكتاب "الإكليل" للحسن بن أحمد الهمداني، وهو أفضل مرجع لأنساب القبائل اليمنية، ولا بد من الرجوع إلى الكتب التي تناولت أنساب قبيلة بعينها، مثل كتاب "نسب قريش" للمصعب الزبيري، وكتاب "جمهرة نسب قريش" للزبير بن بكّار، وغيرهما من الكتب.
... وقد ألّفتُ كتابًا موسّعًا في هذا الباب عنوانه: "قبائل العرب: أنسابها وأعلامها" رجعت فيه إلى جميع كتب الأنساب المتوافرة لدينا. على أن جميع هذه الكتب لا تغني عن وضع معجم مفصل أو موسوعة لقبائل العرب، وفق خطة دقيقة مفصلة تتوخى بيان أصول كل قبيلة ومواطنها وبيان تفرّعها إلى بطون وعشائر، مع مراعاة ترتيب أسماء القبائل على حروف الهجاء، وإذا مدّ الله في عمري سوف أقوم بتأليف هذا المعجم بعون الله تعالى.
* ... * ... *
4- معجم البلدان:(/5)
وضع الباحثون الجغرافيون واللغويون القدامى عددًا وافرًا من كتب البلدان، ومنها "كتاب البلدان" لأبي حنيفة الدينوري، ذكره ابن النديم في الفهرست، وينسب إلى الجاحظ كتاب في البلدان لم يصل إلينا، ولهشام ابن الكلبي كتابان في البلدان أحدهما: "كتاب البلدان الكبير" والثاني "كتاب البلدان الصغير" وهما من كتب ابن الكلبي المفقودة، وممن ألفوا في المسالك والممالك: ابن خُرداذبة، وأحمد بن واضح، وابن الفقيه، وأبو زيد البلخي، وأبو إسحاق الإصطخري، وابن حوقل، وآخرون.
على أن أهم كتب البلدان التي وصلت إلينا كتابان هما "معجم ما استعجم" لأبي عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي (ت 487هـ)، و"معجم البلدان" لياقوت الحموي (ت 626هـ)، وهو أوسع ما وصلنا من كتب البلدان، وقد بذل ياقوت جهده في استيفاء ذكر البلدان المعروفة لعهده وضَبَطَ أسماءها بالشكل وعيّن موقعها الجغرافي، ولكنه ضمّن معجمه أخبارًا أدبية وأشعارًا فأصبح بذلك مرجعًا أدبيًّا فضلاً عن كونه مرجعًا جغرافيًّا، وقد وقعت في معجم البكري ومعجم ياقوت أخطاء في ضبط أسماء بعض الأماكن والبلدان، وقد نبّه العلامة حمد الجاسر -رحمه الله- على طائفة منها في مجلته (العرب).
وياقوت لم يذكر في معجمه بلدانًا كثيرة لأنه لم يعرفها، ولا سيما البلدان البعيدة عن بلاد العرب، فغدت الحاجة ماسّة لوضع معجم جغرافي موسّع لبلدان العالم، قديمها وحديثها، مع العناية بذكر موقعها وكل ما يتصل بها جغرافيًّا وتاريخيًّا وذكر أسمائها المعروفة في لغاتها وما يقابلها في اللغة العربية وتعيين مواقعها بوضع خريطة للمناطق التي تقع فيها، ولابد من الرجوع إلى المراجع الأجنبية لهذا الغرض، ويحسن وضع صور لبعض معالم البلدان المذكورة في المعجم.
5-معجم الألفاظ المعرّبة:(/6)
... تتوافر لدينا في الوقت الحاضر آلاف من الألفاظ الأجنبية التي تحتاج أولاً إلى التعريب، ثم إلى وضع معجم يضمّها، ولوضع هذا المعجم ينبغي أن نستقصي الألفاظ المعرّبة منذ العصر الجاهلي حتى اليوم. ومن شأن اللغات أن يستعير بعضها من بعض،وقد استعارت الأمة العربية منذ القديم ألفاظًا فارسية ورومية وهندية وسريانية ونبطية وغيرها، وكتاب المعرَّب للجواليقي يضمّ طائفة كبيرة من الألفاظ المعرّبة المستعارة من شتى اللغات، والفارسية خاصة، لكنه لم يستوف ذكر جميعها.
... وقد دخل اللغة العربية في العصور المتتابعة آلاف من الألفاظ المستعارة من لغات الأمم التي توالت على الحكم في الأقطار العربية، ومنها اللغات التركية والفارسية والجركسية والمغولية والقفقاسية (القبجاق) وغيرها. وإذا تصفحنا كتب التاريخ والحضارة والعلوم مثل كتاب "صبح الأعشى" للقلقشندي و"نهاية الأرب" للنويري و"السلوك" للمقريزي وغيرها وقعنا على آلاف من الألفاظ المعرّبة، وقد عني القلقشندي بالمصطلحات الديوانية، وأورد مؤلفون آخرون ما كان مستعملاً من المصطلحات في رتب الجيش وآلات الحرب وغيرها.
... وفي العصر الحديث دخل اللغة العربية ألفاظ لا حصر لها مستعارة من لغات الأمم الغربية في شتى العلوم والمعارف، عُرّب بعضها ولم يعرّب بعض آخر، والحاجة قائمة إلى وضع معجم يضم كل ما عُرّب من ألفاظ الأمم الأخرى قديمًا وحديثًا، وينبغي ضبط نطقها بالعربية وبلغتها الأصلية مع التنبيه على أصولها وبيان دلالتها على وجه الدقة.
* ... * ... *
6- معجم السّلاح:(/7)
... عُني اللغويون العرب القدامى بتأليف كتب أو فصول من كتب تضم أسماء الأسلحة التي عرفها العرب وذكروا أوصافها وأنواعها ومواطن استعمالها، ومنها:السيف والرمح والحربة والقوس والترس والسهم والنُشّاب والدرع والعمود. وكان المتحاربون منذ العصر العباسي يستخدمون ضروبًا من السلاح وجدوها لدى الأمم التي خضعت لسلطانهم أو التي كانت معادية لهم كالمجانيق والدبّابات ومقذوفات النفط وغيرها.
... وقد ذكر لنا من أسماء العلماء الذين ألفوا كتبًا أو فصولاً في السلاح: النَّضر بن شميل (ت 203هـ)، ذكروا أنه ألّف كتابًا ضخمًا أسماه "كتاب الصفات"، وقصر الجزء الخامس منه على السلاح وأنواعه وصفاته، ولكن كتابه هذا لم يصلنا. ومّمن تناولوا موضع السّلاح أيضًا الأصمعي عبد الملك بن قريب، وابن دريد، ومحمد بن الحسن بن دينار، وأبو دلف القاسم بن عيسى العجلي، وآخرون.
... وممن وصلتنا كتبهم وبحوثهم في السّلاح أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ) كتابه "فقه اللغة"، فقد وقف الباب الثالث والعشرين على الثياب والسلاح، وذكر فيه أسماء السيوف وصفاتها وأسماء الحراب والرّماح والنّبال والسّهام والقسيّ والدروع وأوصافها. وأفرد ابن قتيبة في كتابه "أدب الكاتب" فصلاً صغيرًا لأسماء السلاح والأفعال المتصلة باستعماله. وكذلك أفرد ابن السّكّيت للسلاح فصلاً صغيرًا موجزًا في كتاب "الألفاظ"، وفي كتاب "الغريب المصنّف" لأبي عبيد القاسم بن سلاّم كلام مفصّل في السلاح تحت عنوان "كتاب السلاح" وتحدّث فيه عن أسماء السيوف ونعوتها وعن الرماح والأسنّة والقِسيّ ونعوتها والسّهام والدّروع والبيض والتروس والجعاب، وأورد بعض ما قيل في أنواع السلاح من الشعر.
... على أن أوسع مرجع لموضوع السلاح هو كتاب "المخصص" لابن سيده، فقد أفرد بابًا مطوّلاً للسلاح سمّاه "كتاب السلاح"، وهو يستغرق من الجزء السادس من الكتاب زهاء 118 صفحة، من الصفحة 16 إلى الصفحة 134.(/8)
... لقد استوفى اللغويون العرب القدامى الكلام في أنواع السلاح المعروفة لعهدهم وألّفوا فيها فصولاً وكتبًا. أما المحدثون فلم يلق موضوع السلاح لديهم ما هو جدير بالعناية، وقد تطورت أنواع السلاح في عصور الدول المتتابعة والعصر العثماني والعصر الحديث تطورًا باعد كل المباعدة بينها وبين الأنواع المعروفة للعرب القدامى، ولم يعد لتلك الأنواع شأن كبير في عصرنا، وحلّت محلّها أنواع جديدة أعظم فتكًا منها كالقنابل والصواريخ والمدافع والغازات القاتلة، واخترعت القنبلة الذرية والهيدروجينية والنترونية، واستخدمت في القتال وسائل مستحدثة كالطائرات والبوارج والمدمرات والطرادات وغيرها، فمن الواجب أن يوضع معجم يستوفي ذكر أسماء السلاح قديمة وحديثة.
* ... * ... *
7- معجم الوقائع العربية:
... إن الوقائع التي خاضها العرب، سواء ما كان منها وقائع داخلية نشبت بين قبائل العرب، أو بين الدولة الإسلامية وقبائل العرب، أو الوقائع التي خاضها العرب في قتال الأمم الأخرى- ومنها الفتوح الإسلامية- كل هذه الوقائع أخبارها مبعثرة في المصادر التاريخية، ومن المفيد أن يضمّها معجم واحد يرتب على أحرف الهجاء ويفصل فيه ذكر هذه الوقائع.
ويشتمل هذا المعجم على ما يأتي:
أولاً- أيام العرب في العصر الجاهلي:
وهي تنقسم أقسامًا خمسة:
1- وقائع خارجية بين العرب والفرس، وأهمها "يوم ذي قار" الذي انتصرت فيه بنو شيبان على جيش كسرى ومن كان معه من قبائل العرب.
2- وقائع بين القبائل العدنانية والقبائل القحطانية، ومنها على سبيل المثال أيام خزار وأوارة والكُلاب وطِخفة.
3-أيام القبائل القحطانية فيما بينها، ومن أهمها الحروب التي نشبت بين دولتي الغساسنة بالشام والمناذرة بالعراق، ومنها: "يوما حليمة" و"عين أُباغ"، ومن هذه الوقائع أيضًا الحروب التي نشبت بين قبيلتي الأوس والخزرج بيثرب ومنها: حرب "سُمير" وحرب "حاطب" و"يوم بُعاث".(/9)
4-أيام العدنانية فيما بينها: وهي أكثرها، ومن أشهرها "يوم شِعب جَبلة" وحرب "البسوس" بين بكر وتغلب، وحرب "داحس والغبراء" بين بني عبس وذبيان، و"أيام الفجار" و"يوم رحرحان" و"يوم النِّسار".
5-الحروب ضمن القبيلة الواحدة، وهي أسوأ الحروب لأنها تؤدي إلى تصدع القبيلة وربما أدّت إلى فنائها، ومنها: الحرب التي نشبت بين بطون قبيلة عدوان وأدّت إلى فناء عظمها، وحرب الفساد التي وقعت بين بطون طيِّئ بين جديلة والغوث. ومنها: الحرب التي نشبت بين بطون قبيلة بجيلة والتي تشتتت بطون بجيلة بسببها وتفرقت في قبائل العرب.
... ثانيًا- غزوات الرسول- صلى الله عليه وسلم - والوقائع بين المشركين والمسلمين: ومنها: غزوة بدر وغزوة أحد وغزوة الخندق ومؤتة وتبوك.
... ثالثًا- الفتوح العربية منذ عهد أبي بكر حتى نهاية عصر الراشدين.
... رابعًا- الوقائع بين الدولة الأموية والثائرين عليها، وبين الدولة الأموية والدول المجاورة.
... خامسًا- الوقائع بين الدولة العباسية والثائرين عليها، وبين الدولة العباسية والدول المجاورة.
... سادسًا- الوقائع بين الدولة العربية ودولة الروم.
... سابعًا- فتح الأندلس والوقائع بين العرب والإسبان.
ثامنًا- الحروب بين الدول العربية بالأندلس وأعدائها.
... تاسعًا- الحروب الداخلية بين عرب الأندلس.
عاشرًا- الحروب التي نشبت إبان عصور الدول المتتابعة.
حادي عشر- الحروب التي نشبت في العصور المتأخرة وفي العصر الحديث.
* ... * ... *
8- معجم المعالم الجغرافية (الجبال والأودية والصحاري والأنهار والبحيرات والبحار).
... إن المراجع الجغرافية تذكر ما في كل قطر من جبال وأنهار وسائر(/10)
المعالم الجغرافية ولكن المرء قد يحتاج إلى معرفة موقع مَعْلَمٍ بعينه، فوضع معجم شامل يعينه في تعرف هذا الموقع. وترتب المعالم الجغرافية على الحروف، ويذكر إلى جانب كل معلم مكان وجوده وحدوده وأبعاده وكل ما يتصل به مما يهمّ القارئ معرفته. وربما يحسن رسم خارطة لهذه المعالم موزعة على القارات.
* ... * ... *
... هذه مقترحات تتناول المعاجم المتخصصة التي أرى من المفيد وضعها، وربما كان من المناسب توزيع هذه المعاجم على مجامع اللغة العربية.
والسلام عليكم ورحمة الله
... ... محمد إحسان النص
عضو المجمع من سورية(/11)
ثانيًا – كلمة المجمع في تأبين الفقيد الراحل
للأستاذ فاروق شوشة
عضو المجمع
الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع:
الأساتذة الزملاء أعضاء المجمع:
أسرة الفقيد الكريم:
السادة الضيوف:
أتيح لي أن أقترب منه لأول مرة، في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وأنا بعدُ طالب علم في الجامعة، حين ذهبت مع أسرة مجلة كلية دار العلوم للقاء الكاتب الكبير أحمد الصاوي محمد نائب رئيس تحرير الأهرام في ذلك الحين، وإجراء حوار معه لمجلة الكلية. استقبلنا في مكتب الأستاذ الصاوي شاب شديد التهذيب، مشرق المحيَّا، رحَّب بنا في مودة لافتة، ثم أجلسنا عن حوله معتذرًا عن انشغال الأستاذ الصاوي بأمر عاجل، وطلب منا أن نترك أسئلتنا واعدًا بالحصول على الإجابات وتهيئتها لنا فيما بعد. لم يقل لنا هذا الشاب الرقيق من هو؟ ولم يذكر أنه من خريجي دار العلوم، لكنَّا عرفناه فيما بعد أنه الأستاذ علي الحديدي، وأنه يعمل في مكتب الأستاذ الصاوي محررًا وقارئًا لبريد بابيه الشهيرين، "ما قل ودل"، و"إبر النحل"، يقرؤه ويختار منه ما يستحق التعليق، وكان إلى جانب عمله في الأهرام، يمارس مهنة التدريس في الصباح.(/1)
وانقضت على هذا اللقاء الأول سنوات عدة، سافر هو خلالها إلى إنجلترا في بعثة تعليمية للحصول على الدكتوراه- تاركًا من ورائه عمله في الصحافة وفي التعليم – فالتحق بكلية الدراسات الشرقية في جامعة لندن وعين بعد عودته إلى مصر عام 1960م مدرسًا في كلية البنات بجامعة عين شمس، وهي الكلية التي سيقدر له أن يرتبط بها أستاذًا ورئيس قسم ووكيلاً، وأستاذًا متفرغًا، وأن يلتمع اسمه على مدار هذه السنوات علمًا بين أقرانه، ورائدًا من رواد الدراسة الأدبية. ثم كان اللقاء الثاني به في مكتب شقيقه الأكبر الإذاعي الرائد حسني الحديدي – كبير المذيعين بالإذاعة في ذلك الحين- وكان بصحبته الأديب الشاعر عبد العزيز عتيق، كانت المناسبة مناقشة ديوان عتيق "في ظلال النخيل" في برنامج مع النقاد من إذاعة البرنامج الثاني -البرنامج الثقافي الآن – وسعدت بالدكتور علي الحديدي – الأستاذ الجامعي – مناقشًا للديوان وناقدًا مرهف الحس لعالم الديوان الشعرى ضمن من كنت أستعين بهم من النقاد الكبار.
ثم علمت بسفره إلى استراليا للعمل أستاذًا للعربية وآدابها والدراسات الإسلامية في جامعة ملبورن سنة 1963 لمدة عامين. وقد كان هذان العامان اللذان قضاهما في استراليا من أخصب سنوات حياته العلمية والاجتماعية وأحفلها بالعطاء والإنتاج.
فمن الناحية العلمية أنجز العديد من المقالات والدراسات والبحوث – باللغتين العربية والإنجليزية – عن مستقبل الدراسات العربية والإسلامية في جامعات استراليا، وعن الإسلام هناك وعن الحركة الأدبية والثقافية وعن المسلمين في استراليا وعن المسرح الاسترالي: أصوله ومنابعه. وعن الهجرة الإسلامية إلى استراليا، بالإضافة إلى ترجمته لأول مسرحية استرالية يتم نقلها إلى العربية وهي مسرحية "البرج" للكاتب الاسترالي هال بورتر التي صدرت في سلسلة المسرح العالمي (عدد ديسمبر 1969م) عن وزارة الإرشاد والأنباء في الكويت.(/2)
أما عن الناحية الاجتماعية فقد شارك الدكتور علي الحديدي والسيدة قرينته- شريكة حياته وكفاحه-في العديد من المناسبات الوطنية والقومية التي كانت تقيمها السفارة المصرية في ملبورن، باعتباره أول أستاذ مصري يتاح له العمل في استراليا، واكتشاف هذه القارة البكر التي لم نكن نعرف عنها وعن أدبها وثقافتها إلا أقل القليل، فضلاً عن قيامه بجهد موفور في تعليم أبناء تلك البلاد اللغة العربية وإرشادهم إلى مبادئ الإسلام، حاملاً على عاتقه عبء هذه الرسالة فضلاً عن قيامه بها على الوجه الأكمل.
لقد شغلته منذ ذلك الحين قضية تعليم اللغة العربية لغير العرب، فألف بعد عودته من استراليا كتابًا رائدًا بعنوان: "مشكلة تعليم العربية لغير العرب"، وهو كتاب يمثل حصاد خبراته وفكره من خلال سفرتيه إلى إنجلترا واستراليا، مزج فيه بين الفكر النظري والتطبيق العملي، واضعًا منهجًا لمتعلمي العربية وطريقةً لمدرسيها. الأمر الذي جعل من هذا الكتاب الصادر عام 1967م حُجة في مجاله، ومرجعًا فريدًا بين أيدى الباحثين الدارسين، باعتباره أول ما كتب في هذا المجال.(/3)
كما شغلته أيضًا قضية اللغة العربية في مواجهة التحديات العالمية، والعلمية منها على وجه الخصوص والارتقاء بأسلوب الكتابة عند الموظفين والعاملين في الدولة. وهو الذي أفاد من عمله طيلة خمس سنوات مدرسًا في وزارة التربية والتعليم – بعد تخرجه في كلية دار العلوم سنة 1949م ثم حصوله على الدبلوم العام في التربية وعلم النفس من كلية التربية قبل سفره إلى إنجلترا للحصول على الدكتوراه، فألف كتابًا عن المسؤولية في تربية الأطفال بين المدرسة والأسرة، وضرورة إشراك الآباء والمعلمين في العملية التربوية والدعوة إلى أن يمارس الأطفال القراءة خارج فصول الدراسة، الأمر الذي نبه المسؤولين في وزارة التعليم إلى أهمية تشكيل مجالس الآباء والمعلمين تحقيقًا للفكرة التي كان هو أول من دعا إليها ونبه إلى أهميتها. فضلاً عن اهتمام هؤلاء المسؤولين بتشجيع الأطفال على القراءة الحرة والتوسع في إنشاء المكتبات الثابتة والمتنقلة لتيسير القراءة عليهم.(/4)
ويتسع مجال العمل الأكاديمي أمام الدكتور علي الحديدي لمهام وخبرات جديدة، لقد أتيح له العمل في العديد من الجامعات العربية والأجنبية. في ألمانيا وفي سراييفو-في ظل الدولة اليوغوسلافية السابقة-وفي الجامعة الأمريكية بالقاهرة حيث عمل سنوات طويلة كان من حظي مشاركته بعض هذه السنوات، نجدد فيها من صداقتنا القديمة ما توقف وانقطع، تجمعنا لقاءات حميمة دائمة، ومشاركات علمية واجتماعية شتى، ورفقة حياة أطالع من خلالها العديد من جوانب نفسه المفعمة بالخير والمحبة والقدرة على المشاركة الفياضة بنزعة إنسانية تجسد أصالته الريفية، ودماثه طبعه، وانفتاحه على آفاق أكثر اتساعًا ورحابًا نتيجة لدراسته في الغرب، وأسفاره المتعددة واختلاطه بالعديد من الشعوب والثقافات بالإضافة إلى إعارته للجامعة الليبية في طرابلس لمدة أربع سنوات، ولجامعة الكويت لمدة أربع سنوات أخرى، فقد عمل أستاذًا زائرًا في جامعتي قطر والرياض، أستاذًا للأدب العربي الحديث، ومشرفًا على العديد من الرسائل العلمية، حيث تخرجت على يديه أجيال من الباحثين والدارسين.
كان فقيد المجمع الدكتور علي الحديدي –طوال حياته العلمية والعملية والأكاديمية مولعًا بالابتكار والتجديد. يطأ الأرض البكر فلا يتركها على حالها، وإنما يستنبت فيها أفكارًا جديدة ومشاريع جديدة لم يسبقه إليها أحد. هكذا كان الأمر عندما تصدى لتأليف أول بحث أكاديمي عن أدب الطفل باللغة العربية ما يزال حتى اليوم مرجعًا أصيلاً وشاملاً للدارسين والباحثين، في هذا الجنس الأدبي، الذى لم يبدأ الاهتمام بالبحث فيه إلا منذ أمد قريب، فضلاً عن البحوث والدراسات التي كتبها والمحاضرات التي ألقاها داعيًا إلى الاهتمام بأدب الطفل ومنحه المكانة اللائقة به.(/5)
الذين اقتربوا من الدكتور علي الحديدي وعرفوه عن كثب يلمسون فيه وجدانًا ذكيًّا مرهفًا، نابضًا بنزعة وطنية أصلية تتوهج غيرْةً على الوطن واندفاعًا في سبيله منذ كانت سنوات طلبه للعلم، في الأزهر الشريف ثم في دار العلوم هذه السنوات كلها حافلة بالمشاركة الوطنية في الأحداث والمواقف التي اشتعلت بها مصر طوال أربعينيات القرن الماضي، في مواجهة الاستعمار والقصر وحكومات الأقلية المستبدة. كان علي الحديدي واحدًا من زعماء الطلبة الغيورين على وطنهم مصر، الملتهبين حماسًا ونضالاً في سبيل تحريره ونصرته وإعلاء شأنه، ومن هنا لم يكن صدفة أو غريبًا اختياره لعبد الله النديم موضوعًا لرسالته للدكتوراه، فهو الشخصية الوطنية والأدبية الفذة التي استقطبت كل صور الجهاد والنضال بالفكر والشعور والقلم واللسان والكفاح المعلن وغير المعلن، والظاهر والسري كان اختياره للنديم اختيارًا يتكه إلى شخصية النديم ومواقفه الوطنية فضلاً عن أدبه المطبوع، كما كان اختياره لرب السيف والقلم محمود سامي البارودي موضوعًا لدراسة منهجية ثرية للبارودي فارس الثورة العرابية وشاعرها، وهكذا جمعت كتابات الدكتور علي الحديدي بين النديم وإبداعه في الشعر الشعبي، والبارودي وريادته للبعث الشعري باعتباره علمًا على الإحياء، ورافعًا للواء سيسير في موكب من بعده: إسماعيل صبري، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومحمد عبد المطلب، وأحمد محرم،وعلي الجارم،وغيرهم من كبار شعراء مصر والوطن العربي.(/6)
وفي مجمع اللغة العربية كانت مرحلة التتويج في هذه الصداقة الحميمة والأخوة الموصولة التي جمعت بيننا. ومن خلال لجنة الأدب التي سعدت فيها بزمالته، وفي جلسات المجلس الأسبوعية، كنت أرى فيه دائمًا رمزًا للالتزام والجدية والانضباط، لا يكاد يتخلف إلا لعذر قاهر. كما كان حرصه على المشاركة في لجنة المعجم الكبير – طيلة سنواته المجمعية منذ ديسمبر عام 1994م- كانت هذه المشاركة وجهًا من وجوه التعبير عن هذه العلاقة الحميمة التي ربطت بينه وبين اللغة العربية، صحفيًّا ومعلمًا وأستاذًا جامعيًّا، ثم مجمعيًّا كان كما وصفه الدكتور بدوي طبانة-رحمه الله – في كلمة استقباله له عضوًا جديدًا بالمجمع:" تروعك دماثةُ خلقه وهدوء طبعه وسكينة نفسه، ولكنك ستعرف أنك تجلس إلى رجل يحمل بين جنبيه فؤادًا ذكيًّا وقلبًا نابضًا بالحياة".
ثم حين قال عنه أيضًا: " ستراه محبًّا للحركة ولوعًا بالأسفار ومزايلة الديار، تدفعه روحه الوثابة إلى النَّقلة والنزوح من شرق إلى غرب، ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، حتى لكأنه نضو أسفار وجواب آفاق،ولكنه لا يجري وراء عَرضٍ من أعراض الدنيا، فقد كفاه الله مؤونتها، ولكنه باحث عن المعرفة، وطالب للحكمة التي هي ضالة المؤمن ينشدها أنى توقعها. وكأنه عضو في مملكة النحل يجوب الرياض ويتنقل بينها وبين الأزهار يمتص رحيقها ويختزن سلافها، ليخرجه شرابًا سائغًا، بل علمًا نافعًا فيه شفاء لما في الصدور وريٌّ للنفوس الظماء إلى المعرفة النافعة التي تنمي العقول وتشحذ الألباب".(/7)
تُرى، هل كان الإحساس اللاواعي بقرب الرحيل، هو الذى دفع فقيدنا الكريم إلى أن يعكُف مؤخّرًا على كتابة سيرة حياته، ورحلته الممتدة مع الأيام من القرية إلى الجامعة، ومن مصر إلى إنجلترا، ثم إلى استراليا وغيرها من البلاد العربية والأجنبية متوقفًا أمام العديد من الوجوه والملامح والمواقف التي تركت أثرها عميقًا في ذاكرته، وفي مجرى حياته العلمية والعملية؟ يرفده فيض غزير من المعرفة والتجارب الحية، وقلم عَف شديد الإنصاف بعيد عن الزّيغ، حانٍ على مواطن الضعف الإنساني عند البشر، باسط فكره في لغة رائقة متدفقة منسابة، لاعنت فيها ولا تكلف ولا مشقة، كطبع صاحبها السمح وخلقه الرضي الوادع. وصدر كتابه "رحلة مع الأيام" قبل رحيله بأسابيع قليلة، وقد وضع عليه هذه الكلمات: "الكتاب مقدمة لسيرة أطول عن الحياة، أرجو أن أسطرها إن شاء الله إذا امتدَّ الأجل"، لكن القدر لم يسعفه في إكمال أجزائه التالية التي تصور امتداد العمر والمسيرة، وامتلاء الرحلة بالمزيد من الخبرات والتجارب والمواقف، بعد أن توقف الجزء الذي صدر، عند عودة المؤلف من استراليا عام 1965م.(/8)
هأنذا الآن، أحاول أن أستعيد سمته وصورته وصوته، في حفل استقباله عضوًا بهذا المجمع، عندما كان يتحدث في كلمته عن أمله الكبير في أن يمد المجمع نشاطه اللغوي إلى مجال تعليم العربية لغير الناطقين بها،فيصنّف معجمًا يضم الكلمات الأساسية في اللغة العربية حديثًا وفهمًا، كما فعل المهتمون باللغتين الإنجليزية والفرنسية.وأن يضع المجمع في مخططه التصدي لتلك الهجمة الشرسة التي انتشرت في مجتمعنا هذه الأيام، وهي التسميات الأجنبية التي ملأت الشارع المصري، وما شاع في أحاديث المثقفين وفي كتابات المجلات والصحف وفي الإذاعة المسموعة، والمرئية، من كلمات وعبارات أجنبية، وأن يكون للمجمع دور كبير في مناهج اللغة العربية التي تُدرس في التعليم العام وفي الجامعات. والجامعات ووزارة التعليم الآن-هكذا كان يقول- بصدد إعادة النظر في المناهج وتطويرها وتخطيطها على أسس جديدة، واشتراك المجمع في هذا التطوير بخاصة في مناهج اللغة العربية أو تدريس المواد الأخرى باللغة العربية بدلاً من العامية، يجعله مؤثرًا في السياسة التعليمية المستقبلية، التي ستنشأ عليها أجيالنا القادمة.
ولم يفته-في غمرة أمنياته وأحلامه المجمعية-اقتراح بأن يكون للمجمع رداء خاص به مميز له، ذو لون وشارة يتفقان مع مقام المجمع، وأن يصمم هذا الرداء فنان كبير، ليرتديه الأعضاء في المؤتمرات والمناسبات الرسمية كما يحدث في الأكاديميات العالمية والجامعات الشهيرة والهيئات العلمية الدولية.(/9)
ولم يطل المقام بفقيدنا الكريم حتى يرى تحقق أمنياته المجمعية. لكنه استطاع أن يترك تأثيره عميقًا في كل من زامله من الأعضاء أو صادقه من الأصدقاء أو تعامل معه من العاملين في المجمع. ولقد شهدت بنفسي - في مرات كثيرة – كيف كان الدكتور الحديدي صوت العاملين في المجمع لدى إدارته، يحمل مطالبهم وينقل شكاواهم ويوضح مواقفهم – يثقون فيه ويلجؤون إليه ويرون فيه الأخ الأكبر، والمعين الذى لا يضيق صدره ولا يرتد وجهه ولا ينقطع عونه.
وبعد، لقد كُتب علينا- نحن أعضاء المجمع- أن يستقبل بعضنا
بعضًا، وأن يودع بعضنا بعضًا، لا يدري مُستقبِل اليوم مَنْ مودعه غدًا، ولامؤبن اليوم مَنْ سوف يؤبنه بعد حين. لكن سماء المجمع – في عامه الأخير – شهدت رحيل عدد غير قليلٍ من نجومه وكواكبه، واحدًا بعد الآخر، وحين نتلفت حولنا فلا نجدهم، فغاية ما نقول إنها إرادة الله وسنة الله في الحياة. نودع الراحلين منا إلى أكرم جوار، وندعو للقادمين من بعدهم بموفور الأجل والعطاء، ونستنزل شآبيب الرحمة على فقيدنا الكريم الدكتور علي الحديدي، داعين له بخير مثوبة ورضوان، ولأسرته الكريمة بصادق العزاء والمواساة.
والسلام عليكم ورحمة الله ،،،(/10)
(بين مؤتمرين)
للأستاذ الدكتور كمال بشر الأمين العام للمجمع
الأستاذ الجليل الدكتور مفيد شهاب وزيرَ التعليم العالي والدولةِ للبحث العلمي :
الأستاذ الجليل الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع :
الأساتذة الزملاء الأجلاء :
السادة الحضور :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد ..
فهذا يوم من أيام المجمع مشهود، يتجدد فيه لقاءُ الكبار من أهل الفكر والرأي. لقاء الرجال ذوي الحنكة والخبرة في رسم الخطوط ونسج الخيوط التي تشكل منظومة أو بنية قومية بلبناتها وعناصرها المختلفة. التي تقع منها اللغة العربية وثقافتها موقع العماد أو القوام الذي يضمن بقاءها ويحميها من الضعف والوهن، بتأثير عوادي الزمان. إنه لقاء يوحِّد ولا يفرق، يُجمِّع ولا يُبدد. ويا ليت هذا النموذج كان مبدأ مقررًا للقوم أجمعين. فلو كان الأمر كذلك ما وقعت الواقعة ونزلت النازلة التي تجتاح بلد الرشيد وتملأ أرضه وسماءه بالنار والحديد. وما كان هذا الهوان والاستخفاف بموطن الرسالات السماوية – فلسطين. ولكن يبدو أن الفرصة قد ضاعت وتفرق القوم شيعًا وأحزابًا، فكان ما كان.
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوانُ عليه
... ... ما لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ
والآن أيها السادة : إنه لشرف عظيم أن أقدم البيان المجمعيَّ المعتاد في مستهلِّ كل مؤتمر، آخذين في الحسبان طرفي الموضوع من عمومية وخصوصية ، فنقول :
أولاً:المؤتمر السابق والمجلس ولجانه وأوجهُ نشاطه :
عقد المؤتمر سبع عشرة جلسة، وكان منها سبع جلسات علنية:
- أولاها – جلسة افتتاح المؤتمر .
- ثانيتها جلسة تأبين الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي عضو المجمع الراحل من العراق. وقد ألقى كلمة المجمع في تأبينه الأستاذ الدكتور يوسف عز الدين عضو المجمع من العراق.
- الجلسات العلنية الأخريات خُصِّصت لمحاضرات عامة، وهي:
* "تأثير الثقافة العربية في الثقافة الغربية الحديثة"، للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع.(/1)
* "العلاقات الثقافية مع آسيا الوسطى: الأصل والواقع وآفاق المستقبل"، للأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي عضو المجمع.
*"أثر اللغة الفارسية في اللغة العربية"، للأستاذ الدكتور مهدي محقق، عضو المجمع المراسل من إيران.
*"الاحتكاك بين اللغات والتعبير عن معاني اللواحق suffixes الأوربية في اللغة العربية الحديثة"، للأستاذ الدكتور نيقولا دوبريشان عضو المجمع المراسل من رومانيا.
*"اللغة والثقافة بين العوربة والعولمة"، للأستاذ الدكتور كمال بشر الأمين العام للمجمع.
*"فِطرة الله، برزخٌ مشترك بين الثقافات والحضارات البشرية يتعين التواصل والحوار في حماه لتحقيق التعارف الذي يَنْشده الله"، للأستاذ علي رجب المدني، عضو المجمع من ليبيا.
-أما الجلسات الأخرى من جلسات المؤتمر فكانت مغلقة، نظر المؤتمر فيها مصطلحات في الفيزيقا، والنفط، والتربية الرياضية، وعلوم الأحياء، والطب، والفلسفة الإسلامية، والأعلام الجغرافية، والجيولوجيا، والهندسةِ، والرياضيات، والحاسبات، والصيدلة.
... كما نظر المؤتمر أعمال اللجان اللغوية، وهي لجان: اللهجات والبحوث اللغوية، والألفاظ والأساليب، والمعجم الكبير، والأدب.
وألقيت في هذه الجلسات المغلقةِ بحوث عالج أكثرُها قضية: (التأثير المتبادل بين الثقافات العربية والأجنبية) وهي القضية التي اقترحت لبحوث المؤتمر.
... وأصدر المؤتمر في جلسته الختامية توصياتٍ، منها التوصياتُ التالية:
*دعوة الأمة العربية بكل طوائفها وطبقاتها إلى حفز المهم وحشْد كل القوى المادية والمعنوية في مواجهة الغزو الصهيوني الوحشي الغاشم على الشعب الفلسطيني.
*تشجيع الشباب وحثهم على العود إلى تاريخهم لتعرّفه واستيعابِ أحداثه وعبره، كي يفيدوا منه في تأكيد الانتماء والوقوفِ على نصيب الأمة العربية من التأثير المتبادل بين الثقافات الأخرى.(/2)
*دعوة وسائل الإعلام والصِّحافة بوجه خاص، بحيث تسير في نهجها اللغوي على طريق عربيٍّ سليم صحيح، إذ إن موقعها جميعًا يمثل قدوة في سبيل اكتساب اللغة.
*تُوصي المجامع اللغوية العربية بالعمل على تأكيد قنوات الاتصال وتعميقها مع الوزارات والهيئات المختلفة، وبخاصة الجامعات ومراكز البحوث ووسائل الإعلام.
*تيسير نشر وتوزيع جميع قرارات المؤتمرات اللغوية وتوصياتها إلى الكافة مثقفين وعامة. وتأكيدًا لذلك، يعمل كل مجمع في بلده على هذا النهج من التواصل وإبراز دوره العلمي والثقافي في محيطه المحلي.
المجلس واللجان :
عقد مجلس المجمع سبعًا وعشرين جلسة ، منها ست علنية :
- الأولى منها لتأبين المرحوم الأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم عضو المجمع، وقد ألقى كلمةَ المجمع في تأبينه الأستاذ الدكتور محمد عماد فضلي عضوُ المجمع .
- أما الجلسة العلنية الثانية فكانت لتأبين الأستاذ الدكتور محمد رشاد الطوبي عضوِ المجمع ، وقام بواجب المجمع نحو تأبين الفقيد الراحل الأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد عضو المجمع .
- وخُصِّصت الثالثة لتأبين الأستاذ الدكتور عبد القادر حسن القط عضو المجمع، وقام بواجب المجمع في تأبينه الأستاذ فاروق شوشة عضو المجمع.
- وكانت الرابعة لتأبين الأستاذ الدكتور أحمد عز الدين عبد الله وأبَّنَه الأستاذ الدكتور كمال دسوقي عضو المجمع
- وخُصِّصت الخامسة لتأبين الأستاذ الدكتور علي الحديدي وقام بواجب المجمع نحو تأبينه الأستاذ فاروق شوشة عضو المجمع.
- أما السادسة فقد كانت لتأبين الأستاذ الدكتور محمود مختار عضو المجمع، وقد قام بواجب المجمع نحو تأبينه الأستاذ الدكتور عطية عبد السلام عاشور عضو المجمع.(/3)
وفي هذا المقام، ننعى إليكم فقيدة المجمع السيدة أوديت إلياس التي كانت تشغل منصب وكيل الوزارة لشؤون مكتب المجمع. وفي الوقت نفسه نرجو من الله التوفيق والسداد للأستاذ شعبان عبد العاطي الذي خلفها في هذا المنصب فهو خير خلف لخير سلف.
وكانت الجلسات الأخرى مغلقة نظر المجلس فيها مصطلحات: علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، والكيمياء والصيدلة، والجيولوجيا، والهندسة، والنفط، والأعلام الجغرافية، والرياضيات، والفيزيقا، والأحياء، والطب، والحاسبات.
- كما نظر المجلس أعمالَ لجنة الأصول، وأعمال لجنة اللهجات والبحوث اللغوية، والمعجم الكبير نظر مواد من حرف الدال (من درأ إلى آخر مادة درز).
- وخُصِّصت جلستان أخريان جرى فيهما انتخاب أعضاء جُدد، بلغ عددهم أربعة عشر عضوًا وسوف يستقبلهم المجمع بعد انقضاء مؤتمرنا هذا بإذن الله. وهم:
1- الأستاذ الدكتور محمد عبد الرحمن الشرنوبي في المكان الذي خلا بوفاة الشيخ محمد متولي الشعراوي.
2- الأستاذ الدكتور محمد حسن عبد العزيز في المكان الذي خلا بوفاة الأستاذ الدكتور عبد السميع محمد أحمد.
3- الأستاذ الدكتور محمد الجوادي في المكان الذي خلا بوفاة الأستاذ الدكتور عبد العظيم حفني صابر.
4- الأستاذ الدكتور محمد سلطان أبو علي في المكان الذي خلا بوفاة الأستاذ الدكتور سيد رمضان هدارة.
5- الأستاذ الدكتور محمد صلاح الدين فضل في المكان الذي خلا بوفاة الأستاذ الدكتور بدوي طبانة.
6-الأستاذ الدكتور علي حلمي موسى في المكان الذي خلا بوفاة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن محمد السيد.
7-الأستاذ الدكتور محمود فوزي المناوي في المكان الذي خلا بوفاة الأستاذ الدكتور سليمان حزين.
8-الأستاذ الدكتور حسنين محمد ربيع في المكان الذي خلا بوفاة الأستاذ الدكتور عبد العزيز السيد صالح.
9-الأستاذ الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف في المكان الذي خلا بوفاة الأستاذ إبراهيم الترزي.(/4)
10- الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور في المكان الذي خلا بوفاة الأستاذ الدكتور محمد رشاد الطوبي.
11- الأستاذ الدكتور أحمد علي الجارم في المكان الذي خلا بوفاة الأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم.
12- الأستاذ الدكتور محمد بلتاجي في المكان الذي خلا بوفاة الأستاذ الدكتور عبد القادر حسن القط.
13- الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم الفيومي في المكان الذي خلا بوفاة الأستاذ الدكتور أحمد عز الدين عبد الله.
14- الأستاذ الدكتور عبده الراجحي في المكان الذي خلا بوفاة الأستاذ الدكتور محمود مختار.
خبراء جدد بالمجمع :
وافق مجلس المجمع على ترشيح خبراء جدد بالمجمع وهم:
1- الأستاذ الدكتور أحمد أمين حمزة بلجنة الفيزيقا.
2- الأستاذ الدكتور أحمد محمد السباعي بلجنة الهندسة.
3- الأستاذ الدكتور محمد رشاد الهبيري بلجنة الهندسة.
4- الأستاذ الدكتور أحمد فرج علي محمد بلجنة الحاسبات.
5- الأستاذ الدكتور أحمد أحمد تيمور بلجنة الطب.
6- الأستاذ الدكتور محمد عباس أحمد بلجنة الطب.
صلات المجمع الثقافية :
* قد سعد المجمع باشتراكه في حفل افتتاح مجمع اللغة العربية بليبيا في السادس عشر من: يونيو 2002م، وحضر الحفل كل من الأستاذ الدكتور شوقي ضيف والأستاذ الدكتور كمال بشر والأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر والأستاذ فاروق شوشة.
* وشارك الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع، والأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد في مؤتمر التعريب العاشر الذي عقده مكتب تنسيق التعريب في دمشق في المدة من 20 – 25 من يوليه سنة 2002م، وقد أعد الأستاذان الفاضلان تقريرين عرضا على مجلس المجمع.(/5)
* كما شارك الأستاذ الدكتور كمال بشر الأمين العام للمجمع والأمين العام لاتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية في ندوة الاتحاد التي انعقدت في رحاب مجمع اللغة العربية الأردني في المدة من 16 – 19 من سبتمبر سنة 2002م، وكانت بعنوان" قضايا اللغة العربية في عصر الحوسبة والعولمة"، وقد أعد الأستاذ الدكتور كمال بشر تقريرًا عن هذه الندوة عرض على مجلس المجمع.
* رشح المجمع الأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي عضو المجمع لتمثيل المجمع في الندوة التي سينظمها مجمع اللغة الفارسية وآدابها بطهران خلال شهر مايو 2003م.
* في النهاية نقول: بدأ المجمع في تفعيل موقعه في شبكة الإنترنت، إرسالاً واستقبالاً. وقد تلقى المجمع عددًا من التساؤلات والاستفسارات حول مشكلات لغوية من أفراد وهيئات، وقام المجمع بالإجابة عنها.
جوائز التقدير والتكريم للأعضاء:
سعد المجمع بفوز ثلاثة من أعضائه بجوائز الدولة وهم:
1- الأستاذ الدكتور عبد القادر حسن القط – رحمه الله – وقد فاز بجائزة مبارك في الآداب لعام (2002م).
2- الأستاذ الدكتور أحمد مستجير، وقد فاز بجائزة مبارك في العلوم .
3- الأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد، وقد فاز بجائزة الدولة التقديرية في العلوم .
* جدد المجمع ترشيح الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع لنيل جائزة مبارك في الآداب لعام 2003م.
* جدد المجمع ترشيح كل من: الأستاذ الدكتور حسن الشافعي لنيل جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، والأستاذ الدكتور علي الحديدي – رحمه الله – لنيل جائزة الدولة التقديرية في الآداب لعام 2003م.
* كما رشح المجمع الأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر عضو المجمع لجائزة الملك فيصل العالمية في مجال الدراسات التي تناولت التدوين اللغوي إلى نهاية القرن الخامس الهجري.
مسابقة المجمع الأدبية :(/6)
أعلن المجمع عن مسابقته الأدبية للعام المجمعي (2000 – 2001م)، وكان موضوعها (القدس في الشعر العربي)، وقد وردت إلى المجمع أعمال كثيرة وكُوِّنتْ لجنةٌ لفحص هذه الأعمال من: الأستاذ الدكتور محمود علي مكي، والأستاذ فاروق شوشة عضويْ المجمع، والأستاذ الدكتور عبد الحكيم راضي الخبير بلجنة الأدب بالمجمع ، وفاز بهذه الجائزة الدكتور فاروق محمود عبد القادر.
كما أعلن المجمع عن مسابقته السنوية في إحياء التراث. وقد تقدم للجائزة عملٌ واحد هو شرح تحقيق (الكافية في النحو لابن الحاجب بشرح الرضي الاستراباذي النحوي) للدكتور عبد العال سالم مكرم، وقد عهدت اللجنة بفحصه إلى الأستاذ الدكتور محمود علي مكي عضو المجمع والأستاذ الدكتور فيصل عبد السلام الحفيان( خبير اللجنة) ورأت اللجنة أن هذا العمل يستحق الفوز بجائزة المجمع في إحياء التراث لعام 2001/2002م.
إنتاج المجمع:
1- النشر:
- فيما يتعلق بالنشر، أخذ المجمع في هذا العام طريقًا جديدًا في نشر إنتاجه على الكافة، مثقفين وغير المثقفين وعهد بتوزيع هذا الإنتاج إلى مؤسسات كبرى مثل الأخبار والأهرام ودار المعارف والهيئة المصرية العامة للكتاب.
2- الإعداد للنشر:
يواصل مركز الحاسب الآلي نشاطه في إعداد إنتاج المجمع للنشرعلى النحو التالي:
- كتاب في أصول اللغة (الجزء الرابع).
- كتاب ما يعول عليه للمحبِّي (الجزء الأول).
- معجم الحاسبات.
- أعداد مجلة المجمع من العدد الثامن والثمانين إلى التسعين .
- معجم الحاسبات.
- العدد الرابع والأربعون من مجموعة المصطلحات العلمية والفنية.
- إعادة طبع كتاب التكملة والذيل والصلة للصاغاني (ستة أجزاء)
3- الإعداد للطبع:
يتابع المجمع جهوده في إعداد إنتاج آخر للطبع، كما يتبين فيما يلي:
- كتاب اللهجات.
- كتاب التكملة والذيل والصلة للزبيدي (الجزء الثامن).
- حرف الخاء من المعجم الكبير (الجزء السادس).
- كتاب ما يعول عليه (الجزء الثاني).(/7)
- معجم ألفاظ الحضارة .
- معجم الفيزيقا من حرف ( L - A ) (طبعة محدثة).
- معجم الكيمياء والصيدلة (طبعة محدثة).
- العدد الخامس والأربعون من مجموعة المصطلحات العلمية والفنية.
- أعداد مجلة المجمع من العدد الحادي والتسعين إلى الثالث والتسعين.
* ... * ... *
تجديد البنية الأساسية لمقر المجمع:
- قام المجمع بتجديد لبنيته الأساسية في كل المرافق، وتكلفت هذه التجهيزات مبالغ كبيرة تصل إلى ربع مليون جنيه.
ثانيًا:
أيها السادة :
هذا مجملٌ لما جرى وما كان يجري في مجمعنا الموقر هذا العام من جهود بارزة يعكسها إنتاج موفور في إطار مسؤوليته الملقاة على عاتقه، وهي رعاية اللغة العربية وصوْن ثقافتها، وتوسيع دوائر هذه الثقافة وتعميقها، تأكيدًا للقومية العربية، ومدًّا لحبل الوصل بينها وبين القوميات الأخرى دون إفراط أو تفريط.
والآن ندلف إلى إطلالة سريعة على موضوع البحث في مؤتمرنا هذا الذي نسعد بافتتاحه اليوم. هذا الموضوع - كما تعلمون - هو: "معاجمنا اللغوية: حاضرها ومستقبلها " وإنه لموضوع ذو أهمية بالغة في هذا الوقت بالذات، حيث ينبغي أن نقف على أرض صلبة تحدد موقعنا من العالم الفائر الثائر وتنشر ثمرات جهودنا، حتى يكون لنا نوع من الاستقلال الفكري، والعملي في هذه الدنيا.
أخشى أن أقول أيها السادة: إن عِقْدَ العرب قد انفرط وتناثرت حباتُهُ أدراجَ الرِّياح. ولم تَبْقَ من هذا العِقْدِ إلا واسطتُه وهي اللغة القومية، وأخشى أن أقول أيضًا إن هذه الواسطة من المحتمل أن تذوب أو تنفلت أو تُلوّث. من المحتمل أن تذوب وسط هذا البحر الهادرة أمواجُه بألسن العولمة أو تقذفه إلى اليابسة ويصبح أثرًا بعد عيْن، وربما تنفلت هذه الواسطة من يد العرب؛ إذ إنها يد مهزوزة مرتعشة لا تلبث أن تسقط منها هذه الواسطة وتطوى في التراب.(/8)
أما التلوث فهو واقع بالفعل، ويسود الأجواء العربية كلها، حيث يتكلم العربي المعاصر لغة عربية كسيحة محشوة برطانات ولهجات غير عربية مغلوطة بناء وأداء.
وقد آن الوقت للمفكرين الصادقين المخلصين لقوميتهم أن ينظروا في أدواء العربية ليقدموا لها الدواء. وفي ظني أن الخطوة الأولى للتخلص من هذه الأدواء أن نحاول النظر في لغتنا نظرًا جديدًا. ومن حسن التدبير أن بدأ مجمعنا الموقر في الانطلاق إلى الغاية المنشودة، فكان هذا الموضوع الذي استقر الرأي عليه، وهو: "معاجمنا اللغوية: حاضرها ومستقبلها".
ذلك أن المعجم ماضيه وحاضره ومستقبله هو جامع اللبنات والمكونات للبناء، فإذا صحت اللبنات صح البناء.
ومعلوم أن معاجمنا القديمة زاخرة بالمادة اللغوية والثروة اللفظية للغتنا العربية في عصور مختلفة، ولكنها مع ذلك مشوبة بشيء من النقص والقصور، يظهر ذلك مثلاً في طرائق إعداد المادة وتصنيفها وشرحها وبيان معانيها المختلفة حسب سياقات الكلام وخلوِّها جميعًا من وسائل التوضيح الإضافية المتمثلة في الرسوم والصور إلى آخره.
ثم جاءت طفرة حديثة نسبيًّا في الحاضر في صنع المعاجم اللغوية تحاول علاج هذا النقص القديم والتخلص من شوائب القصور فيها، حاول هذا الصنع الحديث نسبيًّا أفراد وهيئات مختلفة وبذلوا ما بذلوا من جهد. ولكنهم حتى هذه اللحظة لم يستطيعوا الوصول إلى النموذج الأوفى، والأدق في صنع المعجمات. ففي بعضها نوع من الخلط والاضطراب ونقص في المواد وفي الشرح وفي التحليل إلى آخره. وبالجملة فإن معاجمنا الحاضرة لا تعدو أن تكون امتدادًا للمعاجم القديمة وإن بشيء من التعديل والتطوير.
ومن هنا كان لابد من وضع خطة علمية دقيقة لصنع معاجم لغوية حديثة تلائم ظروف المستقبل وتتمشى مع حاجاته.
ولتحقيق هذا الأمل ينبغي أن نأخذ في الحسبان بعض المبادئ والمعايير التي تضمن نجاح العمل . من أهم هذه المبادئ والمعايير ما يلي:(/9)
1- تشكيل هيئة قومية تمثل كل البلاد العربية لوضع خطة علمية دقيقة للقيام بهذه المسؤولية.
2- إعداد الكوادر البشرية اللازمة لإنجاز هذا العمل الكبير.
3- الاستعانة الضرورية بالأجهزة الحديثة، كالحاسوب، إذ إن استخدامه بطريق حصيف مدروس يوفر علينا كثيرًا من الوقت والجهد.
4- ليس من المناسب قصر العمل في هذا الميدان على اللغويين وحدهم إذ من الضروري في رأينا اشتراك نفر من العلماء في التخصصات المختلفة للاسترشاد بآرائهم والانتفاع بثروتهم العلمية في هذا المجال.
5- قد يكون من الضروري تصنيف المعجمات بحسب المستويات الثقافية والعمرية .
ويمكن أن يسير العمل على الوجه التالي:
- جمع المادة التي ينبغي أن يقوم بها الأكفاء من العارفين باللغة العربية وغيرها من اللغات.
- وتتلوها خطوات أخرى يعرفها الثقات ذوو الخبرة في تسيير عجلة العمل من بدايتها حتى نهايتها، من إدخال المادة في الحاسوب وتصنيفها ومراجعتها مراجعة جماعية بصورة أو بأخرى توحيدًا للنفس وتنسيقًا للعمل، حيث إن العمل الفردي في المراجعة لا يفيد كثيرًا.
- ومن الأولى مراجعة المادة من حيث دقتها ووفاؤها بأغراض الحياة مع الأخذ في الحسبان ما جد من جديد في الثروة اللفظية وشاع استعماله وصح بناؤه.
- ومن مسؤوليات المراجعة أيضًا وسم المفردات بسماتها المميزة لها كلما أمكن ذلك، من حيث كونها قديمة أم حديثة، مهجورة أم مستعملة، قليلة الاستعمال أم نادرته معربة أم دخيلة، إلى آخره.
- ويبقى التمويل وهو شأن أولي الرأي من المهتمين بقوميتهم وذاتيتهم الشخصية.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أسجل شكري العميق لكل الإخوة والأبناء العاملين بالمجمع، رجالاً ونساءً، بمختلف مواقعهم ومسؤولياتهم الوظيفية، وشكرًا آخر أعمق وأوسع لعمال هذه الدار الطيبة.(/10)
أشكر هؤلاء وأولئك على إخلاصهم وتفانيهم ليل نهار بصدق وإخلاص في الإعداد لهذا المؤتمر، وتسيير عجلته على الوجه الذي يليق بمقامكم ويسعد بحضوركم .
وقد تم كل ذلك واكتملت حلقاته بالتوجيه الراشد من الرائدين الكبيرين الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع، والدكتور محمود حافظ نائب الرئيس.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كمال بشر
الأمين العام للمجمع(/11)
إشكالات العولمة والتحدي الحضاري بين الإسلام والغرب
( موقف المفكرين العرب من العولمة )
للأستاذ الدكتور محمد إبراهيم الفيومي
إن العصر الذي نعيش فيه هو بلا شك عصر العولمة الثقافية، عصر احتدم فيه الصراع بينها وبين الثقافة العربية والإسلامية، ولا ينبغي أن نرفضه، وننأى عنه، أو أن نقاومه ونصطدم به، بل علينا أن نعمق رؤيتنا فيه حتى يمكننا أن نتعرف على الجوانب الإيجابية والسلبية منه. فعالم اليوم هو عالم التفاعل مع العصر الحاضر،عصر تبادل المعرفة والمعلومات، واكتساب الخبرة في العلوم الحديثة والتكنولوجيا المتطورة. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تعايش العرب مع العصر الذي يعيشون فيه، يأخذون من العولمة الثقافية ما ينفعهم، ويطور مجتمعاتهم، وينمي قدراتهم المادية والبشرية .
جاء توجس العرب من العولمة بعد أن وطدت الولايات المتحدة أقدامها في إنشاء نظام اقتصادي عالمي جديد، ويليه نظام جديد للتجارة العالمية (الجات)، ثم نظام إعلامي جديد، شرع المنظرون الأمريكيون من الفلاسفة والمفكرين في التحدث بكل جدية واهتمام عن وضع نظام ثقافي عالمي جديد، الغرض منه السعي نحو توحيد الثقافات وتقريب شقة الخلافات بين الحضارات .
لذلك نرى أن المفكرين العرب مختلفون في تحديد موقفهم تجاه العولمة، والواضح أن بينهم خلافات سياسية وأيديولوجية وعقائدية وفكرية عميقة في تحديد موقفهم من ظاهرة العولمة وانعكاساتها على الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات العربية. ولقد انقسم المفكرون العرب حول العولمة إلى أربع فئات، لكل منها وجهة نظر تختلف اختلافًا بيِّنًا عن الأخرى في تنظيرها للعولمة .(/1)
*الفئة الأولى من المفكرين العرب: الرافضون الذين يرون أن العولمة تعبر عن أعلى مراحل الاستعمار التي أفرزتها الثورة التكنولوجية والمعلوماتية، وتهيمن على رأسمالية السوق، وتحكمها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية وشركاتهم العلمية والصناعية والتكنولوجية الضخمة متعددة الجنسية عابرة المحيطات، فعلى هذا تكون العولمة في مفهوم هؤلاء المفكرين ما هي إلا أداة سياسية إمبريالية استعمارية هدفها إذلال الشعوب، ومع خصوصيات ثقافاتهم، وحجم تراثها وأصالتها ومعتقداتها، والإضرار بهويتها القومية. كل هذا يؤدي طوعًا أو كرهًا إلى سيادة الدول الغربية على الدول النامية اقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، ومن ثم يخشى هؤلاء المفكرون أن تدور تلك الدول في فلك الإمبريالية الأوربية والأمريكية، وترزح ثانية تحت ظل الاستعمار في ثوبه الجديد .
*الفئة الثانية من المفكرين العرب: الذين يرحبون بالعولمة، ويسعون وراءها ويشجعون تواجدها في الدول العربية. وهؤلاء لهم منطقهم وتنظيرهم الخاص بهم في رؤيتهم للعولمة. فهم يرون أن هذا العالم الذي نعيش فيه في وقتنا الحاضر، لا شك أنه غير عالم الأمس. ففي عالم اليوم يعيش الناس في عصر العلوم الحديثة، والتكنولوجيا المتقدمة، وعلوم الاتصالات الكونية، والمعلوماتية المعرفية ،وشبكات الرسائل الإلكترونية (الإنترنت) . وهو ما يعرف بعصر ما بعد الحداثة.(/2)
ومن أهم خصائصه: أنه لا يسمح بانغلاق الشعوب على نفسها، أو التقوقع داخل حدودها، أو الانكفاء على ماضيها، أو اجتزاء تراثها لتصبح سجينة له. ومن ثم ترى هذه الفئة من المفكرين العرب المحدثين أن العولمة تفرض تحديات كبرى على الأمم والشعوب لم تكن لها وجود من قبل، فانهيار الاتحاد السوفيتي، وانتصار الرأسمالية الأمريكية، وانبثاق النظام الاقتصادي العالمي الجديد وما تبعه من إقامة منظمة التجارة الدولية ( الجات)، والتعامل مع المصارف الدولية للنقد والتجارة، كل هذا فرض تحديات لم يكن لها سابق في مواجهتها، لذا لزم التعامل معها، والإفادة الإيجابية منها. فقطار التنمية الدولية يتحرك بسرعة فائقة مذهلة، وعلى الدول النامية القفز فيه، وأخذ مكان فيه. ولن ينتظر قطار العولمة المترددين من شعوب العالم الثالث الذين عجزوا عن اللحاق به. فالنهاية المنتظرة لتلك الشعوب التهميش وما يصاحبه من تخلف اقتصادي وثقافي وعلمي وتكنولوجي.(/3)
*الفئة الثالثة من المفكرين العرب: يمثلون التيار الحيادي الذي يدعو إلى إيجاد شكل مناسب من أشكال العولمة يتفق ومصالح وطموحات الدول العربية، فهى فئة وسطية توفيقية، تأخذ من العولمة ما يتفق مع مصالحها القومية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية . وبالمثل فإنها ترفض مالا يتفق مع تلك المصالح، فهي تقبل ما يساعد شعوبها على التطور والنمو في مختلف ميادين الحياة. فالعولمة الغربية في نظر هذه الفئة من المفكرين العرب لا تقبل كلها ولا ترفض جلها، إنها تتخير ما يناسب الأمة العربية ولا يؤدي إلى تخلفها عن ركب التطور والنمو، فهي ليست رافضة كل الرفض للعولمة بمفهومها الغربي ، كما رفضها المفكرون العرب من الفئة الأولى التي ترى العولمة ما هي إلا نظام استعماري من وضع دول غربية استعمارية رأسمالية إمبريالية، ومن واجب الأمة العربية رفضها والابتعاد عن التعامل معها. ولا هي رافضة بالمثل العولمة التي يتصورها المفكرون العرب من الفئة الثانية الذين يهرولون إلى الدعوة للعولمة الغربية، وإبراز محاسنها، وتشجيع الدول العربية إلى الأخذ بها دون مراعاة لمصالح الدول العربية والحفاظ على هويتها الثقافية .(/4)
*الفئة الرابعة من المفكرين العرب: تمثل تيار العولمة المحايد محايدة إيجابية، رؤيته برجماتية نفعية أداتية، وهدفه السعي إلى إيجاد شكل وسطي من أشكال العولمة باعتبارها ظاهرة تاريخية ينبغي على الدول العربية التعامل معها بحذر وفطنة، بحيث لا نأخذ من العولمة بمفهومها الغربي كل شيء، وبالمثل لا نترك كل شيء. فهي فئة تدعو إلى الوسطية بين التحيز الكامل والرفض الكامل للعولمة. ولذا فهم يرحبون بعولمة يفقد العرب فيها استقلالهم السياسي، وحريتهم الاقتصادية، ودون هيمنة من الثقافة الغربية أو إحساس بالتفوق العنصري أو الاستعلاء الحضاري، فالعولمة التي يدعو إليها هؤلاء المفكرون هي عولمة تؤكد السيادة الفكرية العربية،وترسخ الهوية الثقافية العربية توخيًا لإشاعة قيم التسامح الفكري وترسيخ الهوية الثقافية العربية .
*الفئة الخامسة من المفكرين الإسلاميين العرب: يرفضون أي شكل من أشكال العولمة في صورتها الحالية، ويدعون إلى عولمة إسلامية تقوي عرى المسلمين، وتحافظ على دينهم ومعتقداتهم وتراثهم، وترفع من شأنهم. فالمفكرون الإسلاميون يرفضون التسلطية الثقافية في العولمة، ويقاومون أي نموذج للثقافة الواحدة يضعه الغرب المسيحي والذي لا يصلح لكل الأديان والمذاهب. والكثير من هؤلاء المفكرين يرون أن الإسلام يدعو إلى العولمة ولكنها عولمة يستفيد منها مختلف الدول الإسلامية اقتصاديًّا وثقافيًّا دون التنازل عن المعتقدات والتقاليد والقيم الإسلامية.(/5)
على أي حال من خلال مواقف المفكرين العرب نستطيع القول: إن مفهوم العولمة يعد من أكثر المفاهيم المتداولة غموضًا في العشرين عامًا الأخيرة، تختلف فيه الآراء، وتتشعب فيه التفسيرات، وتتضارب فيه التفسيرات، وتتضارب فيه الاجتهادات. ولاشك أن هذا يرجع إلى حداثة استخدام المصطلح، وخاصة أن هذا المصطلح تندرج فيه عمليات مختلفة في نظم متشعبة منها : الاقتصاد والتجارة والمصارف والإعلام والثقافة والاجتماع . تلك النظم التي غالبًا ما يلح الغرب في تطبيقها كثيرًا ما تغلف بأهداف سياسية، وأغراض نفعية، يستفيد منها على حساب الدول النامية.
فالعولمة في مفهومها المستعمل حاليًّا التي وضعته الدول الغربية تعني هيمنة النظام العالمي على مختلف شعوب العالم، لتحل محل سيادة الدولة الوطنية على مقدرات مجتمعها كما كان الحال من قبل على مر التاريخ الإنساني، فالعولمة - كنظام عالمي جديد - تتجه نحو تحرير الاقتصاد والتجارة والمصارف والإعلام والثقافة والاجتماع من قبضة الدولة وسيطرتها على مؤسسات المجتمع ليدور في فلك العالمية والكونية بدلاً من فلك المحلية والوطنية والقومية .
ورغم انقسام المفكرين العرب حول العولمة فإن هناك قاسمًا مشتركًا يوحد بينهم وهو عدة محاذير من سيطرة العولمة وهيمنتها على الدول النامية :
*المحذور الأول : أن تؤدي الهيمنة إلى تنازل الدولة الوطنية عن حقوقها السياسية القومية تحت تأثير ضغط الدول الغربية عليها.
*المحذور الثاني : أن تؤدي الهيمنة إلى رضوخ الدولة الوطنية لما تمليه عليها الدول الغربية اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا .
*المحذور الثالث : أن تؤدي الهيمنة إلى استغلال الثروات الوطنية البشرية منها والمادية للدول النامية والإضرار بخطط التنمية بها .
*المحذور الرابع : أن تؤدي الهيمنة إلى الإخلال بالعقائد والتقاليد والقيم السلوكية للمجتمعات النامية؛ وذلك بهدف إحلال الحضارة الغربية محل الحضارة القومية .(/6)
*المحذور الخامس : أن تؤدي الهيمنة إلى سيطرة نموذج الثقافة الغربية لإحلاله محل الحضارة القومية، ويكون من نتيجة ذلك أن تتخلى الدول النامية عن الضوابط الثقافية التقليدية والتراثية والقيمية التي ورثتها منذ أجيال بعيدة .
ونحن في عرضنا لتلك المحاذير الخمسة من العولمة لا ندعو إلى الإعراض عنها أو مقاومتها، ولا نقصد بأي حال من الأحوال رفضها، أو الإعراض عنها أو الإقلال من شأنها أو من النفع الذي قد يعود منها، ولكننا نحرص كل الحرص على أن تتعامل الدول العربية مع العولمة بكثير من العقلانية والواقعية وإجراء الدراسات العميقة بشأنها، آخذة في الاعتبار وفي حساباتها تلك المحاذير حتى تصبح العولمة عاملاً إيجابيًّا في معاونة الأمة العربية على التطور والنمو والارتقاء، لا عاملاً يؤدي سلبًا إلى الهيمنة عليها، أو السيطرة على مقدراتها، أو تنازلها عن حقوقها القومية .
والذي زاد من حدة هذه المحاذير هو الكاتب الأمريكي فرانسيس فوكاياما في كتابه " نهاية التاريخ وآخر البشر" الذي أكد على أن العولمة طريق يؤدي إلى الهيمنة والتبعية .
ولكني أرى إذا كنا من أنصار ما نطلق عليه حوار الفكر، وحرية الرأي، ونقاوم ما نسميه فرض الأمر الواقع على الأمة العربية، فحتمية العولمة لا تعني قبول كل ما يضعه الغرب من أنظمة اقتصادية وثقافية واجتماعية أو غيرها، بل على المفكرين العرب أن يقوموا بدراسة عميقة لكل ما يقدمه الغرب تحت مظلة العولمة، نأخذ منها ما ينفعنا، ونترك ما يضر مجتمعاتنا العربية .
ونحن في كل هذا ندعو إلى حوار بناء وإيجابي مع المنظرين للعولمة ليس من أجل خلق صراع معهم، ولا استخفاف بآرائهم أو الإنقاص منها، ولكن لتوضيح الاستراتيجية التي بنيت عليها العولمة ومدى استفادة الدول النامية منها على المدى القريب والبعيد. ولنكن صرحاء في كل هذا .
وهذا الموضوع يندرج أيضًا ضمن موضوع التحدي بين الإسلام والغرب بكل مشاكله وقضاياه .(/7)
وكنا نرى أن مسألة العلاقة بينهما - كما تبدو - دائما كأنها تعبر عن سوء فهم كبير يغلفها ضباب كثيف لأنها لم تطرح من بابها الصحيح على مائدة البحث العلمي ، كما أن دراستها لم ترتكز على أسس التفاهم المشترك التي كان ينبغي أن تنهض عليها، الأمر الذي ترتب عليه ضياع الحقيقة وعدم وصولنا إلى نتائج مجدية أو حاسمة.
لذلك كان يساورنا معتقد مفاده: أن ثمة طريقًا آخر، أو طريقة أخرى أكثر فائدة بالنسبة لنا جميعًا من ذلك اللغط وذلك الضجيج الذي تبثه أجهزة الإعلام هنا وهناك، ولا يلبث أن يتكشف عن سراب .
ولا نظن أن الطريق إلى التاريخ، هو أسلوب العنتريات والمواجهات المكشوف في ظل اختلال كامل في موازين القوى، ليس ذلك هو الذي يقودنا إلى دخول حلبة التاريخ .
لذلك ومن أجل توضيح الصورة القاتمة بين مثقفي العرب والاستشراق نرى علنيًّا معالجة سوء التفاهم المشترك، وهو ما يسمى تصفية الجو الفكري والثقافي بين الجانبين من الضلال الثقافي الذى تغص به حلبة الصراع، ولن تتحقق تلك التصفية إلا إذا كان للجانب الآخر حق الكلام موضحًا موقفه.
إن النزاهة العلمية تقتضي منا إثبات الرأي، والرأي الآخر، لكي تتضح قيم التفاهم المشترك حول هذا الصراع الدائر، فنحن لا نخشى آراء الآخرين، ولا حتى انتقاداتهم فلدينا من الثقة الكافية بأنفسنا لخوض الصراع الفكري حول أهم القضايا التي تخص ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وهي كما تبدو لنا في عدة استفهامات تعكس في الوقت نفسه قضايا التحدي بيننا وبين الاستشراق. ومن قضايا التحدي :
أولاً - تنابز الإعلام الغربي بالإسلام والعرب :
درج الإعلام الغربي والأمريكي على تصوير الإسلام في صورة مارد لو خرج من قمقمه لهدد التقدم والحضارة والمدنية .
إذ العربي في نظر الغرب جاهل بطبيعته، والمسلم متعصب بطبيعته، في حين أن المسيحي متسامح بطبيعته، ولا يمكننا أن نتسامح لأننا لسنا أوربيين.(/8)
وهذه الأحكام المسبقة تحولت إلى صفات ثبوتية نهائية تلصق بالآخرين غصبًا عنهم، ولافكاك لهم منها، وبالتالي فهي تهدد المجتمع دائمًا بالنزيف الداخلي أو شبح الحرب الأهلية .
وتلك هي العقبة التي تراكم عليها ثوابت التحدي الحضاري، وذلك من اصطناع العرقية الغربية، وبقية لوثة استعمارية لم يتخلص الغرب منها ثم حملتها أكاديمية الاستشراق، ولا صلة لمثقفي العرب في وقف البث الهجائي الموجه لعالم الإسلام وخاصة أنها قضايا وليدة نزوات الغرب العصبية، وتلك أولى مهام تصفية الجو الثقافي، فهل يتحمل الغرب تبعة إيقاف ذلك النزيف الطافح ؟
إذا كانت التكنولوجيا صنعت تاريخًا للحضارة - حضارة الأدوات - فإن الحكمة هي التي سمت بالمفهوم الإنساني أن تسجل تاريخها السامي باستقرار السلام بين الشعوب . إن التاريخ لا يعطي نفسه بسهولة، ولن يدخله من أراد دخوله في ظل اختلال كامل في موازين القوى، متخذًا أسلوب المواجهات المكشوفة، والأسلحة الفتاكة المدمرة، والذين يندفعون وراء هذا الأسلوب بشكل مباشر أو غير مباشر يبغون تكسير أنفسهم، هذا هو الصراع الحضاري، أما أسلوب الحكمة مهما كان طويلاً وشاقًّا فهو دائمًا طريق السلامة والأبقى، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها كما ورد في الأثر الإسلامي .
ثانيًا - التهيؤ النفسي في قبول النقد والنقد الذاتي :
إذا كانت لنا وجهة نظر في الغرب وأدواته من الاستشراق فلماذا لا نحاول أن نعرف رأيهم في الموضوع وما هي ردودهم علينا وحججهم في الدفاع عن أنفسهم ؟(/9)
إن النزاهة العلمية تقتضي منا إثبات الرأي والرأي المضاد لكي تتضح جوانب المناقشة الصراعية التي فرضها الغرب على الشعوب النامية، وينبغي أن نمتلك الثقة الكافية بأنفسنا لخوض هذا الصراع الفكري حول أهم القضايا التي تخص ماضينا وحاضرنا، لقد آن الأوان أن نرتفع من مرحلة الصراع الفكري إلى مرحلة الحوار الحضاري، وآن أن ننتقل من الموقف الدفاعي والتغني بالذات أو الهجومي المتطرف إلى موقف المسؤولية العقلية والنضج الثقافي.
ثالثًا: عدم تكافؤ مستوى الخطابين الإسلامي والغربي :
إن معركة الخطابات التي تتناظر مع الرجم بالصواريخ ليست على مستوى الكفاية الثقافية بين الجهتين لأن الغرب أقوى من المسلمين، وليس بالضرورة أن تكون الحكمة الصائبة في جانب الأقوى الغالب إنما يلازمه التخويف والزجر والردع وفرض السيطرة الظالمة وفقدان الحكمة .
ولهذا السبب يبدو على الخطابات الإسلامية طابع الغضب والاحتجاج والاتهام والتشكيك، شأن المغلوب لا الغالب، والمدروس لا الدارس، أما خطابات الغرب فتبدو باردة هادئة متزنة، وأحيانًا متغطرسة ومتعجرفة شأن الغالب فهو المسيطر ليس فقط اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا، أو سياسيًّا وعسكريًّا وإنما منهجيًّا ومعرفيًّا .
رابعًا : تبادل عدم الفهم لثقافة الآخر :
إن الخطابات الغربية الصادرة عن الغرب ليست شيئًا واحدًا كما نتوهم أو كما يشاع أحيانًا في بيئاتنا الثقافية العربية أو الإسلامية، فالغرب ليس كتلة واحدة صماء، وإنما هو مشكل من عدة تيارات ثقافية وفكرية وحساسيات عرقية وسياسات تستبيح حق الشعوب، وسيطرة شائهة الوجه على موازين القوى .(/10)
وبالتالي فموقفه ليس واحدًا من الإسلام أو العرب، فالخلاف المنهجي يرشح دائمًا بموقف نفسي ، أو قل إنه مرتبط دائمًا بموقف نفسي، من الموضوع المدروس، سلبًا أو إيجابًا، فإذا ماقلنا على سبيل المثال بأن تخلف العربي يعود إلى عوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية، فإن ذلك يعني أنه قابل للتغير، بخلاف القول بالتركيبة الذهنية للعرب، فإن ذلك يعني أنه خاصة أزلية لا فكاك منها، هكذا نجد أنه تترتب على الرؤيتين نتائج خطيرة.
كذلك فإن خطابات المثقفين العرب إزاء الاستشراق ليست كتلة واحدة منسجمة، وإنما هي مشكَّلة من عدة اتجاهات متغايرة ومتنوعة، بل ومتناقضة فليسوا كلهم أعداء للمنهجية العلمية والتفكير المنطقي كما يزعم الرأي العام الغربي أو الأوساط المهيمنة فيه، وإنما ينقسمون آراء شتى واتجاهات مختلفة مثلهم في ذلك مثل بقية البشر، فهم ليسوا من صنف والآخرون من صنف آخر، فالإنسان محكوم بالتاريخ والظروف الاجتماعية والاقتصادية، وليس محكومًا بصفات وراثية أو عرقية ثابتة .
وسبب عدم تلاقي الغرب بالشرق حضاريًّا هو :
أن الكثير من المثقفين لم يطلعوا بشكل كافٍ على الثورة المنهجية التي حصلت في الغرب نفسه، كذلك في المقابل لم تفد المنهجية الغربية الجديدة جديدًا في مواقف بعض المستشرقين – وهو ليس بالقليل – في دراستهم للإسلام والعرب، فهل هذا يسمى قصورًا أو تقصيرًا ؟
خامسًا - تأجيل البحث عن حقيقة الصراع الحضاري :(/11)
إنه من الصعب إجراء مناقشة رزينة وهادئة حول حقيقة التحدي الحضاري في ظل صراع ثقافي وسياسي وعسكري محتدم بين الطرفين إلى درجة أنه يصعب قول أي شىء بهدوء، أو بموضوعية واتزان، وبالتالي فالبحث عن الحقيقة يبدو عملية شائكة ومحفوفة بالأخطار، وبالتالي فإن تأجيل البحث عن حقيقة الصراع بحجة أن هذا الصراع يعني تأجيله إلى ما لا نهاية، ويعني أيضًا تأجيل البحث العلمي في الساحة العربية إلى ما لا نهاية، وهذا ولاشك يفيد أن التوصل إلى خطاب عربي إسلامي ذكي ومرن ومنفتح، عملية ليست سهلة على الإطلاق ضمن هذه الظروف بالذات، ظروف مجتمعات مضطربة خائفة، يطحنها الجوع، تجمعات مهددة بالنزيف الداخلي والحروب الأهلية .
سادسًا - هل يدرس الاستشراق "الشرق" وفق مفاهيم الغرب أو الشرق أو ماذا ؟ :(/12)
يرى الغرب أنه منذ أربعة قرون قام ببلورة المفاهيم الأساسية للبحث، وفي الغرب وحده، تبلورت مفاهيم التاريخ والتجريب والتنمية والتقدم ، أي كل ما يشكل الميراث الفكري للإنسان الحديث ويرى الغرب أن الشرق لم يساهم في الميراث الحديث، طيلة تلك الفترة، وتلك مفخرة يحسبها الغرب لنفسه، لذلك يرى الغرب أن من أغرب الغرائب أن يطلبوا – أي أهل الثقافات المدروسة من الغرب – التراجع عن مفاهيمه وتصوراته ومنهجياته عندما يدرس حضارات الشرق لمجرد إرضاء الشرق، والأشد غرابة كما يرى الاستشراق: أن يطلب منه تبني مفاهيم الشرق وتصوراته في عملية الدراسة، لاريب في أن هذه المفاهيم والتصورات ذات قيمة تاريخية عظيمة بل وعظيمة جدًّا ولكنها أصبحت الآن من قبل التطور للفكر البشري، جزءًا لا يتجزأ من التراث البشري العام وهي ذات قيمة تاريخية، فالواقع يجبرنا على الاعتراف بأننا لا نجد للشرق المعاصر أي مساهمة في بلورة المفاهيم الحديثة والأفكار الأساسية والتأويلات الحديثة للتاريخ والحياة، إنه لم يساهم طيلة القرون الأخيرة بأي شيء منها، ونحن لا نزال ننتظر منه أن ينهض ويقول لنا العكس ويكذب رأينا.
ولكن مادام الشرق في نظر الاستشراق لم ينجح حتى الآن في كسر هذه العقدة، عقدة الظنون والاشتباه والضغينة تجاهه والتي تسيء إلى تعاونه الصادق مع الغرب فسوف يظل الخلاف قائمًا، لكننا نرى أن الشرق ليس بهذه الصورة القاتمة إنما الشرق علم وثقافة ومنهج، وإذا كنا مقبلين على طريق عمل مشترك ومتقابلين على ورقة تحمل صيغة ثقافية مشتركة، فعلينا متآزرين أن نتفق على قواعد منهجية يقوم عليها الحوار المشترك وتكون مرجعية معيارية دون التلويح بالتنابز والإثارة .(/13)
لقد كان الاستشراق أولاً أحد الجوانب المتفرعة من عصر التنوير ثم الوضعية والمادية التاريخية الأوربية وهو يحمل رؤيته الأوربية إلى خارج نطاق الغرب للحضارة والتاريخ والسياسة والدين، وللمجتمع والبشر، وقد اعتبر في البداية كعلم واحد متكامل ثم سرعان ما انقسم إلى فروع وتخصصات مستقلة بعضها عن بعض ومتعلقة بمختلف الحضارات الخاصة بالشرق الأفريقي والأسيوي، كل هذه التخصصات راحت تحمل اسم التسمية العامة:" الاستشراق " وأصبحت هذه التسمية هي القاسم المشترك بينها .
غير أن الاستشراق اتهم من قبل الشرق بأنه المساعد والحليف للتغلغل الاستعماري الأوربي في أرض الإسلام، وحاكم الشرق على أصوله ومقاصده ومناهجه ونتائجه، وتلك مرحلة خلت حكم فيها الشرق وحاكمه واستبد بآرائه وكان وفق مناهجه هو، فكيف يطلب من الشرق أن يسلم قيادته مرة ثانية، بل وعليه أن يعلن وصاية الغرب على نفسه ؟ .(/14)
إن الاستشراق من خلال تاريخه في نظر الشرق، متهم بأنه كان دائمًا إما المستكشف الطليعي الذي يسبق الاستعمار ويمهد له الطريق ، وإما الحليف والمستشار التقني للتاجر الأوربي، أو السياسي الأوربي، أو للمستغل الغربي، إنه أحد المسؤولين إن لم يكن المسؤول الأول، عن الشرور التي أصابت الشعوب الشرقية من جراء الاستعمار، غير أن المستشرقين يرون أن هذا الاتهام قد ضخم وبولغ فيه، أما اعتزازهم بالجانب الآخر وهو الاستكشاف العلمي للحضارات في التاريخ العام للبشرية وقيمة هذه المساهمة، فإن هذه المساهمة وهي من مفاخر الاستشراق ينظر إليها على أنها ساعدت أوربا على تغلغلها الاقتصادي والسياسي في الشرق الحديث من أجل استعباده واستغلاله، وهذا لا ينكر. ولكن الاستشراق يرى من العدل والإنصاف ألاَّ تعمم هذه الحالات أو الأحداث الخاصة حتى لا تشمل الإدانة كل بحوث الاستشراق، ومثل هذا التعميم وهو من أخطاء المنهج نتيجة خلط الأمور، إذ من الخطأ والمغالطة في نظر الاستشراق المعاصر أن يكون الباعث الوحيد والأساسي لاهتمام أوربا بالعالم الشرقي من النواحي التاريخية واللغوية والأدبية أو أنه كان مرتبطًا بالمخططات السياسية والاقتصادية للاستعمار .
ويعترف الاستشراق المعاصر بأخطاء الرعيل الأول من المستشرقين الذين أقاموا في كنف الاستعمار، لكنه يرى أنه إذا ما تجاوز الشرق هذا الموقف المغلوط ضد الاستشراق وارتفع إلى مستوى التطور التاريخي للبحث العلمي وابتعد عن الانخراط في المحاكمات الجدلية فسوف يصبح الجو الثقافي خالصًا من المغالطات الثقافية ويحقق المزيد من التقدم والتطور .
أما إذا وقف الطرفان عند عقدة الظنون والاشتباه والضغينة تجاه بعضهما فسوف يسوء الأمر منقلبًا .
سابعًا - تجديد مناهج الإسلاميين :(/15)
إن تأخر المجتمعات الشرقية منذ بضعة قرون بالقياس إلى المجتمعات الغربية قد أدى إلى عدم تمكنها، حتى وقت قريب، ومن إنتاج العلماء والباحثين القادرين على إنتاج البحث العلمي، أقصد عدم تمكنهم من الاستفادة من تقدم العلم التاريخي وتطبيقه على تاريخهم الخاص بالذات، ومن المعلوم أن تطبيق النقد التاريخي على كل الثقافات والشعوب شيء ضروري، ولا يمكن التراجع عنه لأنه يمثل حركة التاريخ.
إن دخول الزملاء المسلمين إلى ساحة البحث العلمي مؤخرًا سوف يتيح إعادة التوازن هذه، وسوف يعين على تقديم صورة مدروسة دراسة علمية واضحة عن تلك المجتمعات المعنية من الداخل لا من الخارج فقط .
ونأمل أن يتم ذلك بروح التعاون والأخوة الصادقة بينهم جميعًا وذلك هو الواجب الثقافي .
هناك فرق - ولابد أن يكون هناك فرق - بين الطريقة التي يدرس بها المسلم المعاصر تاريخه، والطريقة التي يدرس بها المستشرقون، وبعض هذه الاختلافات يعود إلى تعلق بعض المسلمين بالمناهج القديمة لثقافتهم فقط وبعضها الآخر يعود إلى تمسك بعض العلماء الغربيين بمناهج معادية لدراسة الدين، ورغم ذلك فإننا نجد أن هؤلاء العلماء قد اختاروا موضوع دراستهم وتوجيه أبحاثهم طبقًا لحاجيات البيئات الاجتماعية التي ينتمون إليها، وآن الأوان أن يقوم المفكرون الإسلاميون بعبء رسالتهم – وهو مشروع قومي ديني – بتوضيح أنفسهم وشعوبهم وكيفية مواكبة العصر أو ملاحقته .
ثامنًا - الدعوة إلى إنشاء علم الاستغراب :
يرى المستشرقون أن نقطة اللقاء بين المستشرقين والشرقيين تتركز حول تعلم المسلمين المناهج الحديثة في البحث العلمي وهم بذلك يكملون مناهج الاستشراق في البحث وقد يصححونها.
ويرى الإسلاميون أن نقطة الالتقاء بينهم تتركز حول عدم إقحام المناهج المعادية للدين، فإن استجاب الاستشراق لذلك كملت حلقات التلاقي.(/16)
وإذا كان الإسلاميون ينزعجون من تطفلنا على مجال دراستهم وأنهم أولى بذلك منا فإنه ينبغي أن يعرفوا أيضًا أن الاستشراق الأوربي هو الذي أخذ المبادرة في العصور الحديثة لدراسة تاريخهم الخاص، وأنه لولاه لكانوا عاجزين عن أن يقولوا عن ماضيهم بطريقتهم الخاصة.
فنحن لا نزال نمتلك حتى الآن المزية المتفوقة التالية: إننا قادرون على الاهتمام بتاريخ شعوب العالم وليس فقط بتاريخنا الخاص.
بمعنى آخر: فإننا نقدم لدراسة كل من هذه الشعوب حسًّا تاريخيًّا عامًّا ولا يستطيع الشرقيون أن يمتلكوا ما يوازيه ماداموا عاجزين عن توليد علماء الاستغراب، وهكذا يتقاذفون سهام النقد الجدلي عن قوس خاب باريه .
يطرح فرانسيسكو جبرائيل سؤالاً كثيرًا ما يردده الشرقيون على سمع المستشرقين وهو : على فرض أن لكم بعض الفضل في دراسة ماضينا، فماذا تفعلون بحاضرنا ؟
فحاضرنا يطرح عليكم همه ومشكلته منذ الآن فصاعدًا ويفتح بيننا وبينكم أزمة أنه يشكل أزمة، فهذا الشرق يريد أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه إنه يريد أن يخرج من هامشيته، وهذا الشرق المنبعث الآن يقف أمامكم بكل مشاكله وحاجياته، ورغبته العميقة في تذوق ملذات هذا العالم وأطايبه، وهي رغبة لم تشبع بعد كما حصل عندكم، فما هي نوعية اهتمامكم به؟ وما هي الوسيلة التي ستستخدمونها لدراسته ومساعدته بعد أن قضى على قمعكم البشع واستعماركم؟ وكيف يمكنكم أن تطمعوا بعد الآن في كتابة تاريخنا وتحليل مشاعرنا وآمالنا عن طريق منهجيتكم القديمة المصبوغة بالعرقية المركزية الأوربية ؟
ومن المعروف أن هذه المنهجية أو ذلك التصور هو الذي أتاح لكم أن تعتبروا أوربا محور التاريخ العالمي ومركزه، هذا مع العلم أنها قد أصبحت الآن في طريق الانحطاط العرقي تلك التي أخرجت قضية العلاقات الثقافية بين الإسلام والاستشراق عن الموضوعية إلى المناظرة والمساجلات الجدلية .(/17)
إن هذه التساؤلات والاحتجاجات الغاضبة تعكس أسلوب الهياج الصارخ والعواطف الغاضبة التي حكمت لغة حوار ذميم وقع فيه الطرفان، لكن بعد دخول المفكرين الإسلاميين حلبة البحث العلمي، وأصبحوا ذاتًا فاعلة على مسرح التاريخ، وليس فقط ذاتًا سلبية منفعلة تدار أمورها من الخارج تستطيع أن تناقش قضاياها والقضايا المشتركة بهدوء وتعقل .
يقول كلود كاهين: إني أعترف بأن المستشرقين كانوا قد ركزوا اهتمامهم أكثر مما يجب – وفي غالب الأحيان – على بعض الفترات التاريخية أكثر من غيرها، وهي الفترات التي بدت لهم أكثر إشعاعًا وإشراقًا من غيرها، وهكذا أهملوا فترات تاريخية أخرى أكثر حداثة من حيث الزمن، وهي لا تقل أهمية من أجل فهم العالم الحديث للشعوب العربية والإسلامية، إذا ما نظر إليها من وجهة نظر معينة أو من زاوية أخرى، ولا ينبغي أن تقع في التطرف المعاكس فلاتهتم إلا بالتاريخ الحديث وتهمل
القديم، فلكي ننمي الوعي القومي لشعب ما، ولكي نساهم في انطلاق ثقافته الجديدة فإن أفضل وسيلة ليست بالضرورة استخدام تاريخه الحديث وإنما تاريخه القديم والمنسي .
وهذا التحدي يرتهن علاجه بالنظر في المناهج الجامعية وفتح أقسام علمية تتابع بعمق وبجدارة العلاقات الثقافية بين الإسلام والغرب .
محمد إبراهيم الفيومي
عضو المجمع(/18)
تذكارية
طه حسين (*)
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف
الموضوع الذي أردت أن أشرف بإلقائه على مسامع حضراتكم هو تذكارية طه حسين، وأستهل كلمتي بتحيتكم وتحية ذكراه العطرة تحية عرفان وإجلال وإكبار لتأثيره العميق في حياة مصر الفكرية والاجتماعية والأدبية، ولأنه – غير منازع- حامل لواء النهضة الأدبية بمصر في القرن العشرين.
وقد ولد سنه 1889م في قرية بجوار مدينة مغاغة بالصعيد، وفقد بصره في سنته الثالثة، وعوض عنه ذكاء حادًّا وذهنًا متوقدًا وبصيرة نافذة وإرادة صلبة. وحفظ القرآن الكريم في كُتاب القرية،وإضافة إليه حفظ مجموع المتون استعدادًا لدخول الأزهر، وكان
قد سبقه إليه أخ، فاصطحبه معه، وهو في الثالثة عشرة، وانتظم فيه، وأخذ يتمثل علومه اللغوية والدينية ، وكان
الشيخ سيد المرصفي يدرس لطائفة من طلابه بعض كنوز التراث الأدبي العربي دراسة تصقل أذواقهم وتنمي فيهم ملكة الكتابة الأدبية فأعجب به ولزم دروسه الصباحية.
وفتحت الجامعة الأهلية القديمة أبوابها للطلاب سنة 1908م فانتسب إليها والتحق بمدرسة حرة لتعليم الفرنسية، وأخذ يختلف إلى دروس الشيخ المرصقي صباحًا، ومساءً يختلف إلى محاضرات المستشرقين من الإيطاليين والألمان والفرنسيين، وتمثَّل عنهم منهج الغربيين في دراسة تاريخ الأدب، وعلى هدي هذا المنهج كتب رسالة قيمة عن أبي العلاء المعري وعصره وحياته وفلسفته وشعره وقدمها سنه 1914 م إلى الجامعة، ونال بها درجة الدكتوراه، ولما أظهر فيها من حسن الاستعداد(/1)
العلمي لدراسة الأدب العربي قررت الجامعة الأهلية إرساله في بعثة إلى فرنسا بالسنة التالية، والتحق بجامعة مونبلييه، واضطر إلى العودة سريعًا إلى الجامعة لسوء حالتها المالية، وتحسنت ظروفها، فعاد بعد ثلاثة أشهر، ولكن لا إلى مونبلييه وإنما إلى باريس، وأخذ يستمع إلى محاضرات أساتذة السربون والكوليج دى فرانس في علم الاجتماع والفلسفة والأدب الفرنسي وتاريخ الإغريق والرومان ونال من السربون درجة الدكتوراه في فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، وكان قد استقر في نفسه أن نهضة الفكر الأوربي اعتمدت على الأصول الكلاسيكية اليونانية واللاتينية، فأكب على تعلم اللغتين القديمتين اللاتينية واليونانية وتعاونه فتاة فرنسية، اختارها – فيما بعد- شريكة لحياته، ووصفها فقال: إنه وجد عندها كل ما كان يفقده إذ بدَّلته من الظلمة نورًا ومن البؤس نعيمًا ومن اليأس أملاً ومن الشقاء سعادة. ونال درجة الدكتواره في تحليل فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، كما نال دبلوم الدراسة العليا في القانون المدني الروماني.(/2)
وعاد إلى مصر وجامعته في أكتوبر سنة 1919 م وعين فيها أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني، وآمن بأنه ينبغي على مصر أن تعتمد في نهضتها الأدبية- مثل أوربا – على الأصول الكلاسيكية اليونانية، ودار العام، فنشر لطلابه وللأدباء كتابًا نفيسًا عن الشعر التمثيلي عند اليونان وتاريخه، وأهم شاعرين من شعرائه وأهم مالهما من تمثيليات، وفي العام التالي ترجم إلى العربية كتابًا لأرسطو عن نظام الأثينيين في الحكم، وما فيه من تفصيل عن نشأة الديمقراطية عندهم ونموها نموًّا سريعًا، وكأنما يريد للمصريين أن يأخذوا بها في الحكم، وأصدر حزب الأحرار الدستوريين جريدة السياسة في ديسمبر سنة 1922م وجعله محررها الأدبي، وظل سنين طوالاً ينشر فيها كل يوم أحدٍ قصةً تمثيلية ملخصة من الأدب الفرنسي وكل يوم أربعاء بحثًا أدبيًّا عن عصر أبي نواس، ودعاه عصر الشك والمجون والزندقة. وأثار بمقالاته كثيرين قالوا: إنه شوَّه عصرًا مزدهرًا من عصور حياة الأسلاف هو عصر هارون الرشيد وابنه المأمون، وردَّ بأن البحث العلمي ينبغي أن يتخلص من تقديس السلف ومن الأهواء والعواطف، واستشهد بعصور كانت زاهية في تاريخ اليونان القديم وتاريخ فرنسا الحديث وكانت من أكثر عصورهما لهوًا ومجونًا..
وتحولت الجامعة الأهلية في سنة 1924 م إلى جامعة حكومية، وأصبح طه حسين فيها أستاذًا لآداب اللغة العربية في كلية الآداب، وعمل على أن يكون بالكلية قسم للدراسات القديمة اليونانية واللاتينية، حتى تستفيد مصر من أعظم حضارتين في العالم القديم. ونشر في سنة 1925 م كتابه : " قادة الفكر " مبينًا فيه المراحل التي تطور فيها العقل الإنساني، إذ بدأ بمرحلة شعرية يمثلها هوميروس، وتلتها مرحلة فلسفية يمثلها سقراط وأفلاطون وأرسطو، ثم مرحلة سياسية يمثلها الإسكندر المقدوني، ثم مرحلة دينية تمثلها المسيحية والإسلام.(/3)
ومضى طه حسين يحاضر الطلاب في اللغة العربية عن الشعر الجاهلي، ولم يلبث في سنة 1926 م أن نشر كتابه : " في الشعر الجاهلي " ألفه على ضوء منهج الفيلسوف الفرنسي ديكارت في البحث العلمي القائم على الشك حتى يصل إلى اليقين على أسس قويمة، وبهذا المنهج عدَّ الأحكام الأدبية التاريخية عند الأسلاف أحكامًا إضافية يمكن لباحث معاصر أن يعيد النظر فيها وأن يثبت بجانب أحكامهم أحكامًا أدق وأصدق، وانتهى في دراسته للشعر الجاهلي إلى أن كثرته منتحلة موضوعة في العصور الإسلامية. ودعا إلى حرية الفكر في البحث الأدبي وعدم التقيد فيه بمذهب أو عقيدة. وأثار الكتاب عاصفة عنيفة من النقد في الأوساط الأدبية والدينية، وخاصة عند مصطفى صادق الرافعي وعلماء الأزهر لشكه الواسع في الشعر الجاهلي وتعرضه فيه لمسائل تمس الدين واتهمه بعض الكتاب بالإلحاد وقدم إلى النيابة العامة لمحاكمته، وبرأته من تهمة الإلحاد.(/4)
وفي السنة التالية أعاد نشر الكتاب نشرة موسعة بعنوان جديد، هو "في الأدب الجاهلي" وفيه يقول : إن مؤرخ الأدب العربي ينبغي أن يكون واسع الثقافة بالعلوم اللغوية والدينية والتاريخ والفلسفة، والآداب الأجنبية القديمة والحديثة، ويعرض مقاييس تاريخ الأدب، ويقول : إن المقياس السياسي لا يصلح، إذ قد تضعف الحياة السياسية في الأمة، ويرتقي الأدب ويزدهر، كما حدث عند العرب في القرن الرابع الهجري، ويبسط القول في المقياس العلمي الذي وضع مناهجه في القرن الماضي ثلاثة من مؤرخي الأدب الفرنسي: من أولهم سانت بيف (Saint Beuve) الذي عني بالدراسة لشخصيات الأدباء دراسة مفصلة بحيث تستخلص فصائلهم وخصائصها على نحو ما يصنع علماء النبات في استخلاص فصائله النباتية وخصائصها العلمية. وثانيهم تين (Taine) الذي أخضع تاريخ الأدب في الأمة إلى ثلاثة قوانين حتمية جبرية تطبق على جميع أفراد الأدباء في الأمة. وهي قوانين: الجنس، والمكان أو البيئة، والزمان أو العصر، وثالثهما برونتيير (Burnetieie) الذي فتن بمذهب دارونِ في تطور الكائنات العضوية، وطريقه على المسرح والنقد الأدبي والشعر الغنائي ذاهبًا إلى أن الأنواع الأدبية تخضع للتطور على نحو تطور الوعظ الديني الذي شاع بفرنسا في القرن السابع عشر إلى الشعر الغنائي الرومانسي الذي شاع في القرن التاسع عشر.
ويبدو أن طه حسين كان يعجب خاصة منهم بالمؤرخ الأدبي(Taine)؛ إذ جعل كتابه:" تاريخ الأدب الإنجليزي " أحد موضوعين درسهما لطلاب الليسانس في قسمه بقاعة البحث في العام الدراسي 34/1935م.(/5)
ومع إعجاب طه حسين بتين وغيره من أصحاب المقياس العلمي قال: إن تاريخ الأدب لا يمكن أن يكون علمًا خالصًا، له قوانين علمية كقوانين علوم الطبيعة؛ إذ لا يمكن لمؤرخ الأدب أن يتخلص إزاء الأثر الأدبي من ذوقه وبيان متعته بالأثر الأدبي على نحو ما يتخلص عالم الطبيعة في وضع قوانينها العلمية. هداه تفكيره إلى مقياس جديد لتاريخ الأدب سماه "المقياس الأدبي"، وهو مقياس يفسح لمؤرخ الأدب في بيان تذوقه للأثر الأدبي وتأثيراته وانطباعاته إزاءه، مع إفادة في الوقت نفسه من مناهج المقياس العلمي.، ومضى في الكتاب يتسع في نظرية الانتحال في الشعر الجاهلي وأسبابه محتكمًا إلى مذهب الشك الذي أوجبه في البحث العلمي الفيلسوف الفرنسي ديكارت، ومهما قيل عن غلوه في نظريته فإنها أدت دورًا مهمًّا في دراسة الشعر الجاهلي طوال هذا القرن العشرين، إذ أصبح الدارسون له ولشعرائه لا يدرسونه هو وشعراءه، إلا بعد التثبت ونفي الزائف من رواياته والاعتماد على الوثيق منه الذي لا تدخله الشبهة والريبة.
ووجهت معركة الشعر الجاهلي طه حسين إلى تفكيره في نشأته وفقده لبصره وكفاحه في الأزهر والجامعة الأهلية وعبوره البحر المتوسط للتزود من الآداب الكلاسيكية القديمة والأدب الفرنسي الحديث، وأخذ في كتابة ترجمته الذاتية: "الأيام" بأسلوبه الساحر الخلاب، ونشر الجزء الأول منها في سنة 1929 م وأتبعه- فيما بعد- بجزأين، وتعد أروع سيرة ذاتية لأديب مصري، مما جعلها تترجم إلى نحو ثلاثين لغة.(/6)
وانتخبه أساتذة كلية الآداب عميدًا في سنة 1930 م وكان أول عميد مصري لها، فتح أبوابها للفتيات المصريات، ودخلن أقسامها المختلفة، ونادى بأن التعليم الجامعي حق للفتيات، وأخذت برأيه سريعًا كليات الجامعة المختلفة، وهو فضل له على مصر ونهضتها النسائية والعلمية. وكان إسماعيل صدقي تولى رياسة مجلس الوزراء سنة 1931م وأصبح حاكم مصر المطلق، فتنكَّرَ للديمقراطية التي أحرزها لمصر دستور سنة 1923م فألغاه، وأقام مكانه دستورًا آخر، وكوَّن له حزبًا وأصدر للحزب صحيفة لم يكن لها قراء، فأوعز إلى حلمي عيسى وزير المعارف في وزارته أن يطلب إلى طه حسين كتابة مقالات أدبية بها، فرفض طلبه، فأصدر حلمي عيسى قرارًا بنقله من عمادة كلية الآداب إلى ديوان الوزارة، وكان ذلك عدوانًا صارخًا على استقلال الجامعة. فقدم إلى الوزير استقالته، واستقال- متضامنًا معه – لطفي السيد مدير الجامعة، وثار الطلاب في كلية الآداب وثار معهم طلاب الكليات الجامعية للدفاع عن كرامة الجامعة واستقلالها المهيض، وظل طه حسين طوال حكم صدقي يصب عليه وعلى حكمه مقالات نارية ملتهبة في صحيفة "كوكب الشرق " ثم في صحيفة " الوادي " إلى أن سقطت وزارته ومعها دستوره.(/7)
وفي السنوات الثلاث خارج الجامعة نشر كتابه "في الصيف" سنة 1932 م وهو مجموعة رسائل تصف رحلة له في البحر وبعض ذكرياته. وفي سنة 1933 م نشر دراسة أدبية له عن " حافظ وشوقي " كما نشر مقالات صحفية عن بعض شعراء الجاهلية، وكأنه أراد أن يخفف حدة نظريته في أن الشعر الجاهلي منحول موضوع، ونشر الجزء الأول من سلسلته الرائعة :"على هامش السيرة "، وضمَّ إليه – فيما بعد – جزأين، وهو في الأجزاء الثلاثة يتخذ مما في السيرة النبوية من أحداث وأشخاص مادة واسعة لقصص تصويري رائع، ويقول في المقدمة: إن الذي ألهمه بهذا العمل الإبداعي شعراء التمثيل اليونانيون؛ إذ يأخذون من إلياذة هوميروس بعض الأساطير ويحيلونها تمثيليات بديعة، وتبعهم شعراء الرومان والأوربيون يأخذون بعض التمثيليات اليونانية، ويعيدون صياغتها في لغتهم لإمتاع النظارة بها. وبذلك أضاف إلى دعوته إلى إحياء التراث الأدبي العربي والاستمتاع بقراءته إحياء جديدًا له يحبِّب الشباب إلى قراءته في لغة عصرية وقصص تصويري بديع .
وعاد طه حسين إلى كلية الآداب في نوفمبر سنة 1934م وكان يوم عودته يومًا مشهودًا استقبله فيه أساتذة الكلية وطلابها استقبالاً عظيمًا، وأصبح – منذ هذا اليوم – استقلال جامعة القاهرة وما نشأ بعدها من جامعات راسخًا، وترجم طه حسين في سنة 1935م تمثيلية أندروماك لراسين من الأدب الفرنسي ونشر سيرة أديب كان زميلاً له في الجامعة الأهلية وفي السربون، كما نشر كتابه:" من بعيد "، وفيه يقارن بين الإسلام والمسيحية في خصومة العلم ومحاربة الآراء، يقول : صفحة (219):(/8)
"إن تبعات المسيحيين أثقل من تبعات المسلمين في مناهضة العلم ومحاربة الرأي، فأنت تستطيع أن تعد العلماء والمفكرين الذين أوذوا في البلاد الإسلامية، وأنت تستطيع أن تلاحظ أنهم قليلون جدًّا، وأن تلاحظ أنهم لم يلقوا من الأذى إلا قليلاً، ولكنك لا تستطيع أن تعد العلماء والمفكرين الذين أوذوا في ظل المسيحية فستجدهم كثيرين جدًّا، وسترى أنهم لقوا من الأذى ألوانًا منكرة أخفها السجن وأقساها الموت والعذاب ".
وانتخب عميدًا للكلية ووضع فيها – لأول مرة- نظام المعيدين والمعيدات، وتوسع في مجانية الطلاب، ونشر كتابه " من حديث الشعر والنثر" وجعل فيه الأدب العربي يتلو الأدب اليوناني ويتقدم الأدب اللاتيني والفارسي، ودرَّس فيه عبد الحميد الكاتب، وابن المقفع، والجاحظ وأبا تمام، والبحتري، وابن الرومي وابن المعتز، ونشر كتابًا عن " المتنبي "في جزأين حلل فيه شعره ونفسيته وشخصيته تحليلاً دقيقًا، وقضى الصيف في قرية من قرى جبال الألب والتقى فيها بتوفيق الحكيم، وألف معه كتاب "القصر المسحور"، وهو مجموعة رسائل أدبية " تخيلا " فيها شهرزاد، وأفضى كل منهما أمامها بآرائه في الأدب والحياة.
وساهمت كلية الآداب في الحركات الأدبية، فاحتفلت بالعيد الألفي للمتنبي وأقامت أسبوعًا لدراسة الجاحظ، ومثلت مصر في المؤتمرات العلمية المختلفة، وخاصة مؤتمرات المستشرقين، مما رفع المكانة الأدبية لمصر. وأرسلت الكلية بعثة من أساتذتها إلى اليمن سجلت اكتشافات مهمة جيولوجية وغير جيولوجية، وأحضرت معها مئة وخمسين نقشًا أثريًّا للغة الحميرية وسجلت على أسطوانات لهجات جنوب اليمن.(/9)
وأخذ طه حسين يفكر تفكيرًا عميقًا في حياتنا الثقافية والتعليمية ووضع لها برنامجًا مفصلاً في كتابه : "مستقبل الثقافة " الذى نشره في جزأين سنة 1938 م وفيه يذهب إلى أن مصر لا تنتمي إلى الشرق، وإنما تنتمي إلى أوربا و الغرب، إذ حضارتها الفرعونية أم الحضارة الإغريقية، ويقول: إن مصر أصبحت أوربية في الحياة المادية والمؤسسات الثقافية والسياسية، وعلى أبناء مصر أن يتلاحموا ثقافيًّا مع أوربا وأن يزداد اتصالهم بها قوة من يوم إلى يوم، حتى نصبح جزءًا منها لفظًا ومعنى، وحقيقة وشكلاً، وإن علينا أن نسير سيرة الأوربيين، ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها وحلوها ومرها وما يحب منها وما يكره. وأثار الكتاب عليه حملات شعواء، وهو - في رأيي ـ لا يريد أن يجعل المصريين، جنسًا وأصولاً أوربيين ، إِنما يريد أن يملأ قلوبهم حماسة وتصميمًا على أن يصبحوا مثل الأوربيين علمًا وأدبًا وفنًّا وفكرًا وحضارة.
ويبدو أنه أحس حدة آرائه في الكتاب لفصله فيه مصر عن الشرق ووصلها بأوربا والغرب ، فحاول أن يخفف من هذه الحدة بمقال في مجلة الثقافة، وفيه يقول عن الذوق : " إنِ الذوق العام يختلف باختلاف البيئات، فهناك أشياء يقبلها الذوق العام الأوربي ولا يقبلها الذوق العام المصري، وليس على مصر من ذلك بأس، فليس من الضروري أن نشبه الأوربيين في كل شيء ولا أن نقلدهم في كل شيء ".(/10)
ونشر في الجزء الثالث من حديث الأربعاء دراسات لعلي محمود طه وإبراهيم ناجي وإيليا أبي ماضي، ونشر في سنة 1939م كتابه " مع أبي العلاء في سجنه "، عرض فيه جوانب نفسية وفلسفية من شعره، وأتبعه- فيما بعد – بكتيب سماه "صوت أبي العلاء" نشر فيه باقة طريفة من أشعاره وترك – حينئذٍ- عمادة كلية الآداب- مع احتفاظه بأستاذيته فيها للعمل مراقبًا للثقافة في وزارة المعارف أملاً في أن يحقق بعض آرائه في التعليم المدونة في كتابه: " مستقبل الثقافة" . وينشر في سنة 1941 م قصته : " دعاء الكروان" للتنفير من جريمة الثأر صيانة للعرض ، ويقوم فيها صراع بين الغريزة والضمير ومطالب الفرد والجماعة.
ويستولي حزب الوفد على مقاليد الحكم ويصبح مستشارًا فنيًّا لوزارة المعارف ويستجيب له وزيرها أحمد نجيب الهلالي في جعل التعليم الأولي الإلزامي مجانًا وتعميمه في أبناء الشعب. ونشر قصة " الحب الضائع " كما نشر طائفة من نظراته التحليلية في القصص والمسرحيات الفرنسية بكتابيه : " لحظات"، و"صوت باريس"، ويندبه نجيب الهلالي مديرًا لجامعة الإسكندرية، فيُتم إِنشاءها بكلياتها المختلفة ، ويجلب إِليها ما ينقص كلياتها من صفوة الأساتذة المصريين والأجانب، وينشر في سنة 1943م قصته " أحلام شهرزاد " ويعرض فيها بعض مشاكل العصر خلال الأسطورة القديمة عن شهر زاد، وشهريار، وينشر قصته" شجرة البؤس" وهي تعرض أسرة تعاقب فيها ثلاثة أجيال، ويتضح فيها صراع عنيف بين المثل العليا للعقل والعلم، والتقاليد البالية، ويصور الأسرة وما تشقى به من البؤس. ويترك جامعة الإسكندرية مع استقالة الوزارة الوفدية وينشر "جنة الشوك " وهى محاورات قصيرة لاذعة بين شيخ وتلميذه لإصلاح الفاسد في المجتمع، وينشر مجموعة من مقالاته باسم" فصول في الأدب والنقد".(/11)
ويصبح رئيس تحرير مجلة "الكاتب المصري " الشهرية، ويعمل فيها على نهضة كبيرة في الأدب والترجمة والفكر ، وينشر فيها مقالات إِضافية عن الأدب العربي وبعض أدبائه، وشعرائه، وبعض أدباء الغرب الكبار ومتفلسفيه وعن سيسرون الخطيبب الروماني، وكان يحاول – بقوة – أن يمزج بين الأدب العربي والآداب العالمية على نحو ما يلاحظ في مقاله عن الحب في كتابين لابن حزم واستندال، وَقَرَنَ ثورة الرقيق في إِيطاليا أثناء القرن الأول للميلاد إِلى ثورة الزنج بالبصرة في القرن التاسع الميلادي ، ويترجم لأندريه جيد مسرحيَّتَي أَوديب وتيسيوس، كما يترجم لفولتير قصة "زاديج أو القدر". ويؤلف كتابًا عن الخليفة عثمان، ويتبعه فيما بعد – بكتاب عن علي بن أبى طالب وبنيه مصورًا فيهما الفتنة الكبرى لعهدهما وما اقترن بها من دوافع ومؤثرات بشرية، ونشر كتابه: "الوعد الحق"، وصور فيه ظهور الإِسلام، ودعا إِلى آرائه الاشتراكية في الحياة. ونشر "جنة الحيوان" وهى مجموعة رسائل أدبية رمزية، ونشر مجموعة أقاصيص باسم " المعذبون في الأرض " تصور ما كان يجثم على صدور المصريين من ظلم في عهود الإِقطاع والفساد السياسي .
وقد عاش طه حسين – طوال حياته- يدعو بقوة في مقالاته وقصصه إِلى العدالة الاجتماعية، وهو واضع صيغة تكافؤ الفرص بين أبناء الأمة، وحملتها عنه الصحف المصرية والعربية .(/12)
ويصبح طه حسين وزيرًا للمعارف سنة 1950 م فينادي بأن التعليم حق لكل أفراد الشعب كحقهم في الماء والهواء، ويفكُّه من عقال المصاريف إِذ يقرر مجانية التعليم الثانوي مثل التعليم الأولي ، ويفرض على الوزارة وجبات غذائية مجانية لتلاميذ جميع المدارس، أولية وثانوية، ويكرم المعلمين في المدارس ويحاول إنصافهم، وخفض مصروفات الجامعات، وأنشأ جامعة عين شمس، وجمع لهيئات التدريس فيها صفوة من الأساتذة والباحثين، وأنشئ المجلس الأعلى للجامعات في عهده ، وأبى أن يرأسه أو يكون رئيسه، إِذ قال: إِن رئيسه ينبغي أن يكون من بين الجامعيين حتى يكون استقلال الجامعات كاملاً. ومن أعماله القيمة في وزارته إِنشاؤه معهد الدراسات الإِسلامية بمدريد، وإلحاقه به صفوة من الخريجين في كليات الآداب وكلية دار العلوم ليرعاها، ولتلتحق بجامعة مدريد، وتدرس الأدب الأندلسي بإِشراف مستشرقين، ولا يزال المعهد قائمًا، ولا تزال البعوث إِليه متصلة للتعمق في دراسة الحضارة الأندلسية العربية وتأثيراتها في الغرب.(/13)
ويترك منصب الوزارة وتقوم الثورة المجيدة، ويعود إِلى نشر مقالاته النقدية في الصحف، وخاصة صحيفة الجمهورية، وينشر من مقالاته فيها كتابه "خصام ونقد" سنة 1955م وفيه يناقش قضايا مهمة مثل قضية الأدب للحياة، ورده على شباب الأدباء في قولهم إِن الأدب يرتفع عن الجمهور وهمومه، ويتخلف عن الدور الطلائعي في خدمته للثورة، ومن أهم القضايا فيه قضية الفصحى والعامية ويقول: إِن الأدب الصحيح هو أدب الفصحى وما يحمل من الجمال، إِذ الأدب في مثل فنون الموسيقا والنحت والرسم والتصوير فن جميل ممتع للروح وغذاء للقلوب والعقول. وكان عضوًا بارزًا في المجلس الأعلى للعلوم والآداب والفنون، وهو أول من منح جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 1958م. ونشر مقالات نقدية بديعة في كتابه :" نقد وإصلاح " في نفس السنة وفيه يتحدث عن لغة الأدب ويقول: إنه ينبغي أن تكون أنيقة تسمو على اللغة الصحيحة التي يستخدمها أنصار الواقعية الذين لا يكلفون أنفسهم أن يتعلموا الأداة الأولى للأدب وهي اللغة؛ لأن تعلمها عسير إذ يفرض على الذين يريدون أن يعرفوها جدًّا وكدًّا وعناء. وفي الكتاب نقد لبعض القصص والدواوين المعاصرة. ونشر في سنة 1959م كتابه الرائع :" مرآة الإسلام " وهو يستهله بموجز عن تاريخ الجزيرة العربية ومكة قبل الإسلام، ويكتب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مولده إلى بعثته وهجرته إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى محاولاً أن يعرضها من خلال آيات القرآن الكريم. ويلم ببيعة أبي بكر بعده، ثم يتحدث عن القرآن المعجزة الكبرى التي ليس لها مثيل سابق ولا لاحق في تاريخ الإنسانية، ويقول: إن على العرب المعاصرين أن يتخذوه أساس وحدتهم، ويعرض في آيات وسور كريمة بيانه المعجز وفواصله، ويلخص موضوعات سورة البقرة وآل عمران، ويتحدث عن سنة الرسول وتشدده في العبادة. والكتاب يصور إيمانه العميق بالإسلام والقرآن ورسوله.(/14)
ويطيب لي أن أذكر شيئًا من أعماله في إحياء كنوز التراث العربي من ذلك إحياؤه مع عبد الحميد العبادي لكتاب نقد النشر لقدامة، واشتراكه في لجنة جامعية لإحياء كتاب " الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة الأندلسية"، وهو أهم كتاب في التراث الشعري الأندلسي، وحققت منه ثلاثة أجزاء واشترك مع إبراهيم الإبياري في إحياء الجزء الأول من " لزوم ما لا يلزم" لأبي العلاء المعري، وإحياء كتاب "تجريد الأغاني" لابن واصل، وأشرف على تحقيق كتاب "تعريف القدماء بأبي العلاء" وإحياء كتاب "شروح سقط الزند" وديوان المعتمد بن عباد.
وكان رئيسًا للجنة الثقافية الدائمة بجامعة الدول العربية من سنة 1954م إلى ربيع سنة 1972م، وأقام لها مؤتمرات ثقافية عربية متعددة وعمل على إحياء طائفة من كنوز التراث العربي مثل "سير أعلام النبلاء" للذهبي، وكتاب "الغني في أبواب التوحيد والعدل" لعبد الجبار، ويقع في عشرين جزءًا أشرف منها على إحياء السابع والثامن والتاسع والحادي عشر والرابع عشر والخامس عشر، والعشرين وكلف بعض الباحثين في البلاد العربية بكتابة كتب عن الأدب العربي في أوطانهم، وكنت من بينهم، فألفت كتابي عن "الأدب العربي المعاصر في مصر"، وعني بترجمة تمثيليات شكسبير.(/15)
وكان عين في المجمع اللغوي عضوًا عاملاً سنة 1940م وأشرف على لجنة المعجم الكبير فيه، واستطاع أن يخرج الجزء الأول منه سنة 1956م ووضع في مقدمته منهجه، ووضع لائحة لجنة الأدب في المجمع، وكلها تعمل على تشجيع شباب الأدباء في مسابقات سنوية، ودعا في المجمع بقوة إلى تيسير النحو التعليمي وحمل المجمع سنة 1945م على عقد مؤتمر له، ونشرت لابن مضاء القرطبي كتابات يبتغي بها تيسيره فألقى عنه محاضرة بالمجمع، وتلاها في سنة 1955م بمحاضرة عن مشكلة الإعراب دعا فيها إلى تيسير النحو التعليمي وتبسيطه، وسن طه حسين في المجمع سننًا طيبة، من أهمها: سُنة استقباله الأعضاء الجدد، وسُنة وداع من رحلوا عن المجمع من الدار الفانية إلى الدار الباقية. وقبيل رحيله عن دنيانا دعا في منزله رئيسي مجمعي بغداد ودمشق وبعض أعضاء المجمعين ومجمع القاهرة واقترح عليهم قيام اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية فوافقوه واختاروه رئيسًا له، فوضع قانونه ولائحته ونظام مجلسه، وجعل له شخصية معنوية، وينعقد سنويًّا إلى اليوم، ويعمل على تنسيق الجهود العلمية في المجامع وتوحيد المصطلحات العلمية والفنية الحضارية.(/16)
ومنذ العشرينيات في القرن الحاضر يتألق اسم طه حسين في مصر والبلاد العربية كافة لا في حياتنا الأدبية وحدها، بل أيضًا ضد الاستعمار البريطاني في مصر والديار العربية، ويكافح الاستعمار الفرنسي في البلاد المغربية بمقالاته الصحفية منذ سنة 1953م حين خلعت فرنسا الملك محمدًا الخامس من عرشه في المغرب ونفته وأسرته إلى كورسيكا ثم مدغشقر، ورد إلى فرنسا وسام جوقة الشرف الذي أهدته إليه غضبًا لقمعها الثائرين الأحرار في البلاد المغربية، ويهنئ مراكش بفرض إرادتها واستقلالها عن فرنسا وعودة ملكها محمد الخامس إلى عرشه سنة 1956م، كما يهنئ تونس بإكراهها وزير المعارف التونسي – بتكليف من الرئيس بورقيبة – فدعا طه حسين في يونيه سنة 1957م ليكون ضيف تونس أسبوعًا يشرف فيه على أول امتحان جامعي في اللغة العربية والآداب العربية لطلاب دار المعلمين العليا، واستجاب للدعوة واستقبلته تونس وجامعة الزيتونة استقبالاً حافلاً، وأشرف على امتحان الطلاب وأقامت له رياسة الحكومة استقبالات كبرى. وفي اليوم الخامس أقام الرئيس الحبيب بورقيبة مأدبة عشاء على شرفه قلده فيها وسام الاستقلال.
وألقى محاضرة له بتونس ازدحم فيها المستمعون ازدحامًا شديدًا، ويعود إلى القاهرة ويدور العام، فتدعوه وزارة الشؤون الخارجية المغربية لزيارة المغرب الأقصى، واستجاب للدعوة ونزل مع عقيلته طنجة واستقبله فيها حاكمها في يوم 24 من يونيه سنة 1958م.(/17)
وفي 26 من يونيه لقي جلالة الملك محمد الخامس فاحتفى به، ومن قوله له: إننا نرحب بكم كعلم من أعلام الأدب العربي، وإننا وكذلك الشعب المغربي نذكر دائمًا مواقفكم في أيام محنة المغرب، ودفاعكم المجيد عن قضيته مما كان له أكبر التشجيع لنا للمضي في كفاحنا إلى النصر، وينبغي أن تعتبروا أن هذا البلد هو وطنكم لأنه بلد عربي وجزء لا يتجزأ من العرب. وأجابه طه حسين بكلمة قال فيها: إنه لشرف لي أن آتي إلى هذا البلد الذي استكمل استقلاله، وأن أحظى بمقابلة بطل التحرير الذي ضحى بكل نفيس وغالٍ في استقلال بلاده، وبعد تبادل كلمتيهما عانق جلالة الملك محمد الخامس طه حسين وقلَّده وسام الكفاءة الفكرية، الذي أحدثه في عهد الاستقلال، وكان طه حسين أول من تقلده، وزار طه حسين مع مدينة الرباط مدن الدار البيضاء وفاس وتطوان وألقى فيها جميعًا محاضرات أدبية بديعة.
ويعود طه حسين إلى مصر وطنه الذي كرمه مرارًا وتكرارًا منذ أن كان شابًا منتسبًا إلى الجامعة الأهلية، ومازال يكرمه ويهديه الجوائز الأدبية حتى أهداه قلادة النيل، وقد تبارت الجامعات الغربية في تكريمه: جامعات روما وليون ومونبيلييه ومدريد وأكسفورد وقد بهر بجامعة مدريد الأساتذة بمحاضرة طويلة جعل موضوعها المقارنة بين الأدب العباسي والأدب الأندلسي الذي نشأ في ديارهم، كما بهر أساتذة جامعة أكسفورد بمحاضرة فيها باللغة اللاتينية. وكرمته وأشادت به المنظمات العالمية وفي مقدمتها اليونسكو التي أوصت أعضاءها في سنة 1989م أن يقيموا له احتفالات في مئوية ميلاده، وأهدته هيئة الأمم المتحدة جائزة حقوق الإنسان قبل وفاته بيوم واحد.
أيها السادة:(/18)
تلك كلمة مجملة أشد الإجمال عن قيادة طه حسين في القرن الحاضر لنهضة أدبية مصرية كبرى ظل يغذيها ويرعاها عصرًا بأكمله من سنة 1920 م إلى سنة 1972م غذاها بنماذج مثلى من التمثيليات اليونانية والفرنسية ونماذج مثلى أخرى من أعلام الأدب والفكر الفرنسيين والغربيين، وغذاها بدراسات قيمة من الأدب العربي وأدبائه قديمًا وحديثًا وظل يحاول الارتفاع به إلى منزلة الآداب العالمية مع ما كتب فيه من قصصه البديعة. ووضع سُننًا وتقاليد في التعليم الجامعي وجامعاته، وفي المجمع اللغوي، وفي وزارة التربية والتعليم ورد فيها – لأول مرة – إلى أبناء الشعب حقوقهم في مجانية التعليم الأولي والثانوي سوى كتاباته الذهبية المخلصة عن الإسلام ومشاعره الدينية، وكان في مقالاته ومؤلفاته
ومحاضراته وأحاديثه صاحب أسلوب أدبي رائع واحد، إذ كانت العربية طائعة له يصطفي لنفسه وأدبه منها ما يشاء من الألفاظ الرصينة العذبة، وكان لا يزال يلائم فيها بين اللفظة واللفظة في جمال النغم والجرس بحيث تمتع الآذان والأذهان، ومهما قلت وضفت وتحدثت فلن أستطيع أن أوفيه حقه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته…
شوقي ضيف
رئيس مجمع اللغة العربية
بالقاهرة(/19)
مجلة مجمع اللغة العربية
( تصدر مرتين في السنة )
العدد الثامن والتسعون
ربيع الأول 1424هـ – مايو 2003م
المشرف العام :
الدكتور شوقي ضيف
رئيس التحرير:
الدكتور كمال بشر
أمين التحرير :
سميرة شعلان
... ... ... ... مساعدا أمين التحرير :
جمال عبد الحي أحمد
خالد محمد مصطفى
مجلة مجمع اللغة العربية
( تصدر مرتين في السنة )
العدد السادس والتسعون
صفر 1423هـ – مايو 2002م
المشرف العام :
الدكتور شوقي ضيف
رئيس التحرير:
الدكتور كمال بشر
أمين التحرير :
سميرة شعلان
... ... ... ... مساعدا أمين التحرير :
جمال عبد الحي أحمد
خالد محمد مصطفى
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -(/1)
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -(/2)
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -(/3)
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -(/4)
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -(/5)
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -(/6)
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -(/7)
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -(/8)
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -(/9)
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -(/10)
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -(/11)
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -(/12)
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -(/13)
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -(/14)
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -
- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم -(/15)
المعجم العربي والاستعمال الحقيقي للغة العربية(*)
للأستاذ الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح
... إن أكثر المعاجم العربية التي ألّفت منذ النهضة إلى غاية منتصف القرن العشرين تتصف غالبًا بصفتين اثنتين: الأولى- اعتماد أصحابها على المعاجم القديمة، واستخراجهم منها ما يبدو لهم أنه من الألفاظ التي يحتاج إليها المثقف العربي في عصرنا هذا أو مما قد يرد بكثرة في النصوص القديمة أو الحديثة. وذلك بدون اللجوء إلى أي مقياس علمي إلا التحسّس أو الهاجس معتمدين في ذلك عند العلماء المتميّزين منهم على علمهم الغزير ومعرفتهم العميقة للغة العربية وخاصة مفرداتها ومدلولاتها. وهذا لا بد من الاعتراف به. فهم لا يرجعون في الغالب إلى الاستعمال الموضوعي للغة العربية في خارج ما تحصل لهم من علم عن هذا
الاستعمال كما كان يفعله علماؤنا
القدامى الذين دونوا كلام العرب، وكما يفعله العالم اللساني في زماننا هذا. أما الصفة الثانية- فهي عدم لجوئهم إلى تدوين واسع لما يستعمل بالفعل الآن باللغة الفصحى، أو استعمل قديمًا أي إلى مدونة كبيرة من النصوص يعتمد عليها الباحث كمرجع موثق شاهد على الاستعمال الحقيقي للغة الفصحى. ثم إن أكثر المعاجم العامة التي ظهرت في هذه الفترة كانت -زيادة على ذلك- لا تعرض إلى اللغة المعاصرة، أي المولد من الألفاظ، إلا قليلاً مع أن هذا المولد قد يكون وضع على قياس كلام العرب مثل السيارة والطيارة والباخرة والقطار وغير ذلك، وقد دخل ذلك في الاستعمال وشاع شيوعًا واسعًا، وأخص بالذكر المولد العفوي الذي وضعه أفراد الشعب للضرورة الملحة (**).
المعجم العربي في زماننا هذا:(/1)
... لقد تأخر المعجميون العرب تأخرًا كبيرًا في العناية باللغة المستعملة بالفعل – القديمة أو الحديثة- ولم يظهر منهم هذا الاهتمام إلا القليل منهم، التفت إلى مؤلفي المعاجم في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين مثل عائلة البستاني والإسكندر معلوف وغيرهم إلا أن ذلك كان قليلاً وغير منتظم (1). وقد سبقهم إلى ذلك مؤلفو المعاجم المزدوجة، اللغة العامة لا المتخصصة – وهذا طبيعي – وكان أكثرهم من غير العرب. فمن تلك المعاجم: نذكر معجم ليون برشيLeon Bercher, Lexique francais-arabe الصادر بالجزائر في 1938م ثم في 1944م ويقول صاحبه إنه أراد أن يكمل معجم Belot (الذي تنقصه الكثير من الألفاظ المولدة المعاصرة). ثم صدر بعد ذلك معجم المستشرق المشهير شارل بيلاL’Arabe vivant:
(Ch. Pellat) نشر في باريس في1952. وأعظم معجم تناول الاستعمال المعاصر للعربية الفصحى هو ما قام بوضعه العالم الألماني هانس واهر Hans wehr (2) وعنوانه:
Arabisches Worterbuch fur die Schrif-tsprache der gegenwart (Munster, 1952).
ونقله على الفور إلى الإنجليزية الأمريكي كوان J.Milton Cowan وضم إليه الإضافة وسماه: (Wiesbaden, 1961) A Dictionnary Modern Written Arabic
وقد جمع هذا المعجم بين ما اشتمل عليه معجم Bercher ومعجم Pellat وغيرهما واعتمد صاحبه أيضًا على مدونة اشتملت على عدة نصوص مما أنتجه طه حسين، ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور، وجبران خليل جبران، وأمين الريحاني، وغيرهم. وكذلك الكثير من المقالات التي نشرت في الصحف والدوريات وغير ذلك.(/2)
... فهذه المعاجم تخص اللغة العامة وتحتوي على الكثير من مصطلحات الإدارة وألفاظ السياسة. وفضلها الكبير، ولا تعادلها في ذلك أي محاولة، هو اعتمادها على مرجع علمي لا يمكن ردّه، وهو تدوين لما يستعمله الناس بالفعل من العربية الفصحى وإن كان ينقصها شيء- إن كان هناك نقص- فهو في نظرنا عدم التفاتها إلى الاستعمال المنطوق للفصحى (الخطب المسموعة والمحاضرات والموائد المستديرة وكل ما يذاع في الإذاعة وغير ذلك) وهذا قد قصده بالفعل المؤلف.
وبدأ المؤلفون العرب للمعاجم العربية غير المزدوجة يبدون شيئًا من الاهتمام باللغة المعاصرة ويتراءى ذلك في محاولة أصحاب معجم "المنجد" بإدخال بعض الكلمات المولدة، وكذلك الدخيلة منها الشائعة ولا بد من الاعتراف لهم بفضل عظيم جدًّا، وهو رجوعهم الدائم إلى التراث للبحث عن اللفظ الفصيح الدال على مسمى قديم قد يسمى في كل بلد من البلدان بتسمية أخرى غير الفصيحة، وذلك كأسماء الحيوانات والنباتات (التمّ والفقمة وحمار الزرد وغير ذلك). وصدر في السنوات الأخيرة "المعجم الوسيط" في مصر والمعجم الأساسي، نشرته المنظمة العربية والثقافة والعلوم وحاول أصحابهما أن يدخلوا الكثير من الألفاظ ذات المدلول المحدث- وأكثرها من الدخيل أو العامي الجارى استعماله في لغة التخاطب- ومهما كان فهو محاولة طيبة في إدماج المستعمل حديثًا في المعاجم العامة.(/3)
هذا وعزم أصحاب "المنجد الحديث" على تأليف منجد للغة المعاصرة بكاملها. ونشروا في عام 2000م: "المنجد في اللغة العربية المعاصرة". يقول أصحابه في مقدمتهم له: "يضم [هذا المعجم] جميع المفردات والعبارات التي يحتاج إليها مثقف القرن الحادي والعشرين حتى المأخوذة من أصل غير عربي". وهي محاولة جدّ إيجابية وسيكون لها أثر عميق في نشر الثقافة المعاصرة بالعربية ومن هذا عدم الاكتفاء في ذلك بلغة أجنبية كما هو الحال في الكثير من المؤسسات التعليمية والعلمية العربية (مع الأسف) في زماننا هذا.
إلا أن هذا المعجم (وكذلك كل المعاجم التي ذكرناها) اعتمد على منهج فيه شيء من التساهل وهو الاكتفاء بالمسح للمعاجم المزدوجة اللغة واختيار اللفظ العربي المقابل للفظ الإنجليزي أو الفرنسي دون مقياس علمي يعتمدون عليه في الاختيار.
هذا وقد كثرت في هذه السنوات الأخيرة المعاجم المزدوجة اللغة، وقد سبق كل هذا ما صدر في نهاية القرن الماضي من المعاجم المزدوجة الجيدة مثل المورد (إنجليزي/عربي) والمنهل (فرنسي/عربي) وفيهما من المصطلحات الحديثة الكثيرة الورود في الاستعمال، ويبدو هنا أيضًا أن المؤلفين اعتمدوا غالبًا على الحدس والتخمين الشخصي نظرًا إلى عدم اعتمادهم فيما يبدو على تدوين واسع، وكان اعتمادهم هنا أيضًا على معرفتهم الواسعة للغة العربية في استعمال المحدثين لها (وإلاّ ما كان يمكن أن يختاروا المفردة المتواترة).
ضرورة الرجوع إلى الاستعمال الحقيقي للفصحى، الحديث منه والقديم، في البحث المعجمي وفي صناعة المعاجم:(/4)
منذ عشرات السنين كنت أتساءل باستمرار لماذا يقلد العرب في عصرنا الغربيين في كل شيء في كل ميدان علمي أو غير علمي، ويقتبسون منهم كل شيء- بدون تمحيص غالبًا- إلا في ميدان واحد هو صناعة المعاجم ووضع المصطلحات. فما لاحظناه عند العلماء الغربيين في هذا الميدان هو اعتمادهم المطرد على الاستعمال- ولا يشذ عن ذلك أحد – عند تأليفهم لمعجم عام أو مختص. وذلك على شكل تدوين عينة كبيرة لهذا الاستعمال، وعلى أساس القواعد المتعارف عليها في تأليف المعاجم. وقد يكون هذا الاستعمال موزعًا على أقاليم أو بلدان وغير ذلك من الأماكن، وذلك ليمكن الإشارة إلى كثرة الاستعمال أو قلته في كل من هذه الأماكن (ويطرد هذا في معاجم اللهجات واللغات الإقليمية والعاميات)، وقد يهتم المعجمي إلى تطور المفردة لفظًا ومعنى عبر الزمان في مختلف الأقاليم فلابد أن يعتمد إذن على مدونة تغطي الاستعمال لعدة سنوات بل قرون.
ولنأخذ مثالاً "ذخيرة اللغة الفرنسية Trésor de la langue francaise" فإنه يغطي الاستعمال للغة الفرنسية لمدة قرنين، وقد دونت المعطيات اللغوية (النصوص الأدبية والعلمية) لما أنتجه الفرنسيون في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. وتتبع الباحثون استعمال كل مفردة في جميع سياقاتها في جميع النصوص المدونة. ولجؤوا في ذلك إلى الحاسوب.ثم حرر
كل عالم عددًا من المداخل اعتمادًا على هذا الذي دوّنوه أولاً ثم على الدراسات الدقيقة للسياقات - كل السياقات- لجميع الكلمات. فأصدروا هذه الذخيرة في 16جزءًا كبيرًا على شكل معجم (من 1976م إلى 1994م) (وهو عامٌّ وتاريخي وعلمي). ثم شرعوا في حوسبة المعجم نفسه ليصير آليًّا وأنهَوا هذا العمل الكبير العملاق في 1998م ولم يبخلوا فبذلوا الجهود والأموال الهائلة لإنجازه، ووفّقوا إلى حدّ بعيد في كل ذلك فهو الآن في متناول أي باحث في أي وقت باللجوء إلى شبكة الإنترنت(*).(/5)
هذا والاستعمال لا ينبغي أن يقتصر فيه على زماننا الذي نعيش فيه فهناك مئات الآلاف من النصوص في التراث لم تجمّع بعد، ولم تستغل لتشتتها فحان الوقت أن تحوسب وترتبط بعضها ببعض
حاسوبيًّا حتى يتمكن الباحث أن يلقي كل الأسئلة الممكنة عليها وذلك مثل هذا السؤال: هذا المفهوم المعبّر عنه بهذه الكلمة الإنجليزية، هل له مقابل واحد في الاستعمال في وقتنا هذا أو أكثر من مقابل؟ وما هو الأشيع؟ وأين وردت سياقاته؟ وما درجة تردّده في جميع هذه النصوص؟ ثم إن لم يرد في الاستعمال فأي لفظ عربي يقابل هذا المفهوم؟ (إن كان وضع له لفظ بقي حبرًا على ورق في قوائم المصطلحات الموضوعة). وسؤال آخر مثل: كلمة "فصيح" ما هي السياقات التي وردت فيها منذ أول ظهورها في نص إلى يومنا هذا؟. ومن هذه السياقات المجمّعة يمكن أن يستنتج الباحث مختلف المدلولات التي دلت عليها من عصر إلى آخر وهذا يؤدِّي إلى الكلام عن مشروع المعجم التاريخي.
المعجم التاريخي: كيف، يا ترى، يمكن أن تستخرج مدلولات الألفاظ المختلفة عبر العصور إن لم يلجأ إلى مثل هذه الذخيرة الآلية الحاسوبية. وقد يستطيع الباحث إذا قلّت النصوص في عصر من العصور كالجاهلية- مثلاً – أن يفترض وجود بعض المدلولات لبعض الألفاظ في هذا العصر بفضل تحليلاته للسياقات القليلة التي وردت فيها، ولكن كيف يمكن أن يستدلّ على ذلك إذا عُدَّت النصوص بالملايين ابتداء من القرن الثاني الهجري وما بعده؟ وكيف يمكنه أن يستخرج هذه المدلولات من النصوص بدون أن تكون لديه وتحت تصرفه مجمعة مدوّنة محوسبة مندمجة(*)؟.
ويوجد في التراث الكثير من الألفاظ الفصيحة القديمة والمولدة (لأنها جاءت على قياس كلام العرب) الدالة(/6)
على مسميات حضارية وما يتعلق بالحياة اليومية من أسماء للأدوات والملابس والمأكولات، ويكثر ذلك في القصص وكتب الأدب والتاريخ والرحلات وأوصاف المجتمعات وغير ذلك، ولا يمكن أن يحصر كل ذلك إلا بهذه الحوسبة للنصوص التراثية بأكملها لا بجزء صغير منها كما هو الحال في زماننا (1).
فالرجوع إلى الاستعمال القديم ضروري جدًّا على مثل الرجوع إلى استعمال الناس للفصحى في عصرنا هذا. ثم زيادة على ما تحصله من السهولة للباحثين في اللغة ووضع المصطلحات فإن المدونة الآلية (الحاسوبية) هي بمنزلة مرجع كبير جدًّا يغطي كل التراث مع هذا الفارق العظيم: إنه يستجيب لأي سؤال بسرعة الضوء ويمدنا بمعلومات لا يمكن أن نحصل عليها بالأيدي الجرداء ولو
اجتمع على ذلك ألف شخص في أكثر من سنة.
ومهما كان الأمر فإنه لا يتصوّر أن يوضع معجم في اللغة بدون توثيق لما يتضمنه من الألفاظ ودون أن يُعرف من أين استقيت، فهل هي ألفاظ وضعتها جماعة من العلماء واقترحها صاحب المعجم، أمُ هي مفردات وردت في الاستعمال بالفعل؟ وهذا قد حققه علماؤنا قديمًا، وكانوا يوثقون ذلك بأكثر من شاهد. فلماذا نتراجع نحن اليوم عن هذه الميزة العلمية التي يبنى عليها كل عمل وكل بحث علمي؟
ثم إننا لا نقصد من كلامنا هذا أن يكون الاستعمال للفصحى في
عصرنا هذا هو الاستعمال الأمثل فيجب أن يتّبع كما هو. فإن في هذا
الاستعمال الشيء الكثير من الاختلاف (كثرة المصطلحات للمفهوم الواحد) والكثير من العامي والدخيل (2) وأخطر(/7)
من هذا هو وجود فراغات مهولة: فهناك مفاهيم علمية كثيرة جدًّا لا مقابل لها في العربية. ولكن كيف يمكن أن نعالج هذه النقائص إن لم نستطع أن نطلع على كل هذه الاستعمالات- كل ما يجرى استعماله حقيقة لا فيما يتخيله الناس- أي بالدقة العلمية التي لا تسامح فيها وهو المسح الكامل للواقع. واطلاعنا الموضوعي (بدون سابق ظن) على جميع ما ورد في التراث بالشمولية الكاملة سيمكننا من استبدال الفصيح بغير الفصيح(1) ويجب أن يراعى في ذلك- أي في اختيار اللفظ وإقراره- القوانين الاجتماعية وغير الاجتماعية التي يخضع لها شيوع اللفظ وعدم شيوعه (وهي معروفة اكتشفت قديمًا وتحقق من وجودها العلماء في عصرنا).
مستقبل المعجم العربي:
قواعد المعطيات النصية أو مشروع
الذخيرة العربية:
إن الوسائل التكنولوجية الحديثة وأخص بالذكر الحاسوب في أحدث
صوره هي التي ستمكننا من تدوين
العدد الهائل من النصوص بالفصحى (الأدبية والعلمية والتقنية وغيرها) يتراءى فيها الاستعمال المعاصر وكذلك الاستعمال في كل عصر من خلال النصوص التراثية التي وصلت إلينا (2). وكنا قد عرضنا هذا المشروع على عدة جهات منها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وأخيرًا على اتحاد المجامع اللغوية وغيرهما.
... إن ما أسميناه مشروع الذخيرة اللغوية العربية يرمي إلى ضبط بنك آلي (حاسوبي) من النصوص
القديمة والحديثة بالعربية
الفصحى ويفترق عن البنوك المتواجدة بـ:
1- الشمولية الكاملة (في المكان والزمان).
2-اندماج المعطيات النصية- كأنه
نص واحد- حاسوبيًّا ومرتبة ومصنفة بحسب العصور وفنون المعرفة.
3-كونه آليًّا وعالميًّا إذ سيكون له موقع في شبكة الإنترنت.
4-يمثل الاستعمال الحقيقي للغة العربية قديمًا وحديثًا وبذلك يكون موثقًا التوثيق الكامل، ويضاف إلى ذلك ما لم يدخل في الاستعمال، ولم يشع أو ترك منذ زمان مما هو موجود في المعاجم القديمة والحديثة أو في قوائم المصطلحات المجمعية.(/8)
5-سرعة استجابة هذا البنك لأي سؤال.
... فهذا البنك الآلي الشامل لا يمكن أن يستغنى عنه في هذا الزمان الذي
نعيش فيه، وعلى أساسه وبالرجوع إليه وبالاستقاء منه لكل المعلومات اللغوية الخاصة بالاستعمال الحقيقي للعربية خاصة يمكن أن تحرّر الكثير من الدراسات وتؤلف الأنواع الكثيرة من المعاجم وذلك مثل:
-المعجم التاريخي الذي أشرنا إليه.
-معاجم تقنية (مصطلحات العلوم والثقافة).
-معاجم للمعاني.
-معاجم ألفاظ الحياة القديمة والحديثة.
-معاجم بأسماء الأعلام والأماكن. وغير ذلك من المعاجم.
حجة واهية لبعض المعارضين(1): ضخامة العمل (2).
... أجمع العلماء على أهمية هذا المشروع القومي وخطورته، وذهب الكثير إلى أنه ستتوحد المصطلحات العربية بالرجوع إلى الذخيرة بكيفية تلقائية (سيختار الباحثون اللفظ الفصيح
الأشيع) ثم إنه سيمكّن كل مواطن من أن يطَّلع على معلومات ثقافية تربوية صعبة المنال زيادة على اللغوية منها وذلك بسبب السهولة العجيبة التي يتصف بها البحث في الإنترنت. وإن كان الإنترنت يجيب عن كل شيء بلغة أجنبية (و62 بالمائة بالإنجليزية الآن) فإن المعلومات الخاصة بتراثنا ضئيلة جدًّا بل ومشوهة. فحان لنا أن ننشئ الإنترنت العربي للحفاظ على هذا التراث العظيم، واستثماره على مستوى الوطن العربي، وفي جميع الأوساط والفئات الاجتماعية لفائدتها.
... ألا يحق لنا أن تتضافر جهودنا على هذا المستوى العالي وهو مستوى الدول وأن تشارك في إنجازه كل المؤسسات العلمية العربية؟ وإذا قسنا ضخامة هذا العمل بفوائده الثورية فلا يمكن لعاقل ورجل نزيه إنكار هذه الحقائق والتمسك العنيد بحجة "ضخامة العمل"! (إلى متى؟)
معجم الطفل:(/9)
... عمل كبير أنجز في هذا الميدان على مستوى الوطن العربي: وهو الرصيد اللغوي العربي لقد ألّفت في عصرنا معاجم مدرسية جيدة وهي محاولة طيبة نافعة بلا شك؛ إلا أنَّ أكثر ما ألف إلى الآن لم يخضع بعدُ للمقاييس التي يجب أن تعتمد عليها في هذا الميدان. وأكثر هذه المعاجم الخاصة بالطفل أو الطلاب اعتمدت كما قلنا على المعاجم القديمة مع التفات غير كاف إلى ما أحدث في أيامنا من أسماء الآلات والمفاهيم العلمية والتقنية وما أبدع وغير ذلك. وكل ذلك تم على طريقة ذاتية في الغالب لا تعتمد على جرد النصوص المحررة أو المنطوقة (الفصيحة) بل يختار أصحابها غالبًا ما يبدو لهم أنه معروف شائع ويضيفون إلى ما اختاروه بعض الكلمات ذات المفهوم المحدث كما هو الحال بالنسبة إلى سائر المعاجم. أما المقاييس في هذا الاختيار وهذه الإضافات فهو حَدْسي محض في غالب الأحيان وهو الشعور الذاتي بأن هذا اللفظ أو ذاك هو المناسب أو هو الشائع (بالنسبة إلى أي بلد أو أي فئة) أو هو متروك تمامًا.
... وقد أنجز بعض العلماء في المغرب العربي في آخر السبعينيات مشروعًا سمّوه "الرصيد اللغوي الوظيفي" وكان إجابة ملموسة للسؤال المتداول في أوساط التربويين آنذاك: ماذا يجب أن نقدم بالفعل في مدارسنا للمتعلم من مادة لغوية نوعًا وكمًّا؟ وكان يتصف هذا الذي يقدم للطفل (وما يزال في غالب البلدان) بالإفراط والتفريط، أي كثرة المفردات بالنسبة للصف الواحد وحشو ذهن الطفل بما لا يفيده في سنه ولا فيما بعد، من جهة، وقلة الألفاظ بل وفقدانها، من جهة أخرى فيما يحتاج إليه أشدّ الحاجة في حياته اليومية من تسميات للأسماء المحدثة في زماننا هذا. فكأنَّ المدرسة(/10)
مكان غريب في حياة الطفل لأنَّها لا تستجيب لهذه الحياة بالذات. وعلى هذا حدّد أصحاب هذا المشروع فكرة الرصيد هكذا: "إنَّ الرصيد من اللغة التي يجب أن تُعَلَّم للطفل هي مجموعة من المفردات والعبارات العربية الفصيحة أو ما كان على قياسها مما يحتاج إليه التلميذ في سِنّ معينة من عمره حتّى يتسنى له التعبير عن الأغراض والمعاني العادية التي تجري في التخاطب اليومي من جهة، ومن ناحية أخرى التعبير عن المفاهيم الحضارية والعلمية الأساسية التي يجب أن يتعلمها في هذه المرحلة" (*).
واعتمدوا في استخراج هذا المعجم على هذه المبادئ:
1-ينبغي أن يُنطلق من الواقع المشاهَد ومن رصد هذا الواقع.
2-أن يكون هذا الواقع المنطلق منه المعني بالأمر وهو المتعلم نفسه:
ينطلق من اهتماماته وما يحتاج إليه بالفعل لمواجهة الحياة لا لإلقاء الخطب وقرض الشعر فقط.
3-ألا يتجاوز الرصيد الحد الأقصى الذي يستطيع الطفل أن يكتسبه وألا يقل عما يجب أن يعرفه.
... وعلى هذا تم استخراج الرصيد بالنظر في ثلاثة أنواع من المعطيات فوجب جردها فيما يخص مفرداتها مع ضبط تواترها وانتشارها: الكتب المدرسية، وعيِّنة من كتابات التلاميذ، وما يتفوهون به في مخاطباتهم مع الصغار والكبار، وبهذا تحصلوا على اهتمامات الطفل وما يوجد بالفعل في لغته، من فصيح وغير فصيح، ومن عربي وأعجمي (وسجّل كلام الطفل في كل البلدان المغربية في المدن والأرياف). وتمَّ الإحصاء بالحاسوب، ثم اخْتِيرت
الألفاظ الفصيحة الشائعة والكثيرة الدوران واضطروا إلى سدّ الثغرات الكثيرة التي تخص المسميات الحديثة بوضع ألفاظ تدل عليها، أو تعميم لفظ فصيح يستعمل في بلد واحد أو ناحية واحدة من البلد الواحد (مثل توت الأرض للفراولة أو صفاق العجلة وغير ذلك).
وضبطت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم رصيدًا مماثلاً بنفس الطريقة، وشمل كل البلدان العربية بدون استثناء (*).
-معاجم المعاني:(/11)
... ابتكر العلماء العرب هذا النوع من الفنون اللغوية، وقد لا يصح أن يطلق عليها اسم المعجم؛ لأن أغلب ما ألفوه في هذا الميدان مادته اللغوية غير مرتبة الترتيب الألفبائي.
إلا أنه لا يمنع الباحث في زماننا أن يعيد ترتيبها على هذا النمط وهذا اقترحناه أيضًا منذ القديم: نضيف إلى الكتب القديمة التي
عالجت موضوع المعاني فهارس متنوعة: أحدها للمعاني نفسها وآخر لكل الألفاظ التي وردت فيها؛ وذلك ليسهل الرجوع إليها. وقد ظهرت في القديم كتب مهمة جدًّا، من ذلك "الغريب المصنّف" لأبي عبيد القاسم بن سلام، و"تهذيب الألفاظ" لابن السكيت، و"الألفاظ الكاتبة" للهمداني، و"متخيّر الألفاظ" لابن فارس، و"فقه اللغة" للثعالبي، و"المخصص" لابن سيده. وكلها تحتاج إلى أن تفهرس على الطريقة التي ذكرناها.
... هذا، ولا مانع من أن نقوم في
زماننا بمثل ما قام به هؤلاء العلماء بالاعتماد على قاعدة المعطيات النصية إلا أنه يجب أن ننتهج في ذلك النهج السليم الذي اتبعه العلماء الغربيون فيما أسموه بـ Dictionnaire analogique وهو مفيد جدًّا (مع احترام خصائص العربية) وما نشرته دار النشر Duden وما ألفه الدكتور Corbeil في الكندا. وتدخل في هذا الصنف من المعاجم أيضًا معاجم خاصة بالمترادفات والأضداد وهو أيضًا مفيد.
-معاجم العلوم والتكنولوجيا:
... تصدر في أيامنا هذه، وفي كل سنة العشرات من المعاجم المزدوجة اللغة في المصطلحات العلمية والتقنية. والذي لاحظناه هو الفوضى الكبيرة في وضع المصطلح العلمي، والاختلاف الكبير بين واضع وآخر وبلد وآخر. وهذا على الرغم مما أسّسوه من المؤسسات لتوحيد المصطلحات كاتحاد المجامع اللغوية ومكتب تنسيق التعريب.(/12)
ويمكن أن نتفادى كل هذه الفوضى- في رأينا- بشيئين: أحدهما هو أن يتم إنجاز الذخيرة اللغوية العربية في أقرب وقت حتى تكون في متناول الجميع (بواسطة الإنترنت) والثاني هو أن يتخذ جميع وزراء التعليم العالي والتربية العرب قرارًا معيَّنًا في شأن المصطلحات على مستوى جامعة الدول العربية. فأما القرار المشار إليه فالغرض منه هو التزام المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام (طوعًا واقتناعًا) على استعمال المعاجم الموحَّدة التي تضعها المؤسسات المعنية بذلك بعد الاتفاق عليها بالنسبة لكل هذه المؤسسات. ولا يحصل هذا الاتفاق على هذه المعاجم إلا بعد الاتفاق على مقاييس علمية تختار على أساسها المصطلحات. وتكون هذه المقاييس هي التي اقترحها العلماء. ويمكن أن ينص هذا القرار أيضًا على عدد من الإجراءات الرامية إلى كيفية تطبيقها علميًّا. ونحن مقتنعون من ضرورة
تدخل أعلى المسؤولين في هذا الميدان.
في الختام يمكن أن نقول: إن
المعجم العربي في وقتنا الحاضر هو في طور النمو، وقد وضعت المعاجم الكثيرة في شتى ميادين العلم، وهذا جيد إلا أن المعجم العام والمعجم المدرسي لا يزالان في نظرنا دون المستوى المطلوب كيفًا وكمًّا. وكل ما ظهر فلا يزال عالة على المعاجم القديمة، في الغالب، من حيث المنهج وطريقة الاستقاء. فما رأينا من يهتم بالاستعمال الحقيقي للغة العربية إلا القليل. فقد اتفق بعض العلماء على عدد من المقاييس يعتمد عليها في اختيار الكلمات ومع ذلك قل من يلجأ إليها من الواضعين للمصطلحات ويقي اختيار الكلمات على مقياس
ذاتي ودون الرجوع إلى واقع الاستعمال للعربية الفصحى(*). ولهذا أيقنا أن مشروعًا يرمي إلى تدوين هذا الاستعمال- كما فعله أجدادنا- هو شيء ضروري جدًّا
ونرجو من الله أن يوفقنا ويوفّق جميع من يساهم في إنجازه.
والله وليّ التوفيق
... عبد الرحمن الحاج صالح
عضو المجمع المراسل من الجزائر(/13)
ثالثًَا- كلمة المجمع في تأبين الفقيد
للأستاذ فاروق شوشة عضو المجمع
الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع:
الأساتذة الزملاء:
أيها الحفل الكريم:
لم يكن يدور بخَلَدِى ـ وأنا أجلس منكم هذا المجلس منذ عدة أسابيع، مؤبنًا فقيدنا الكريم الأستاذ الدكتور علي الحديدي عضو المجمع ، وأقولُ في ختام تأبينه : " لقد كُتب علينا ـ نحن أعضاء المجمع ـ أن يستقبل بعضنا بعضًا، وأن يودع بعضنا بعضًا، لا يدري مستقبِل اليوم من مودِّعه غدًا، ولا مؤبِّن اليوم من مُؤبِّنه بعد حين ـ لم يكن يدور بخلدى أن القدر يخبئ لنا نازلة أشدّ هولاً ، وحدثًا أعمق إيلامًا برحيل الصديق العزيز والمجمعي الجليل الدكتور أحمد مختار عمر. وهو الذي كان حتى الأيام السابقة على مرضه المفاجئ ورحيله المباغت، موفور النشاط والحيوية والعطاء، قائمًا برسالته المجمعية على خير وجهٍ يتطلبه الالتزام وحمل المسؤولية، مشعًّا على أصدقائه وزملائه بفيض من مودته ومحبته وصفاء نفسه، ورضيّ خلقه وموفور أدبه.(/1)
أجل، فقد كان فقيدنا الكريم إنسانًا كالنسيم، ينشر أريج مودته في كل موضع يكون فيه، وينعم برفقته كل من عرفوه عن كثب. وأشهد - وقد صحبته قرابة نصف قرن، منذ عهد طلب العلم في الجامعة، وكنت أسبقه في دار العلوم بعامين - أشهد بأن هذه الصحبة الطويلة الحميمة لم يشبْها في يوم من الأيام ما يكدرها، ولم يُرَنِّقْها ما يُصيب أحوال الناس من فتور وسأم. بل كانت مثالاً لكل ما هو أصيل وحقيقي، يزداد عتقًا وأصالة يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام، ومنذ عهد طلب العلم في دار العلوم، في منتصف الخمسينيات، حتى تجاورنا طيلة ثلاث سنوات في جلسات المجمع، لم أرَ منه إلا ما يودُّه الصاحب من صاحبه ويرضاه. تجمعنا الرسالة المشتركة: عشقًا للغة العربية، وغيرةً عليها، وحزنًا لما أصابها على ألسنة الناس وأقلامهم، وتفكيرًا مستمرًّا فيما ينبغي أن تكون عليه حال المجمع تطويرًا، وقدرةً على المزيد من الإنجاز، واقترابًا أكثر من روح العصر ومشكلات الواقع اللغوي. وهو هو لايتغير ولا يتبدل. شديد الانضباط كبندول الساعة. تميزه الجدة والرصانة والمبادرة، والوداعة والبشاشة والمحبة، واللسان العفّ، المترفِّع عن الصغائر والصغار.(/2)
ومنذ عرفته لأول مرة – ولم يكن قد بلغ العشرين بعد – كانت رسائله شبه اليومية إلى العديد من الصحف السيارة، تصويبًا لخطأ، أو تصحيحًا لمعلومة ، أو تعليقًا على رأي قيل، تشير إلى استعداده اللغوي المبكر، وفطرته السليمة، وهو يتابع كل ما يُنشر بعين يقظة، وحسٍّ غيور، امتدادًا لما كان يصنعه والده الأستاذ عبد الحميد عمر، وكان من رجال التربية والتعليم، تملؤه محبة العربية والحرص عليها والدعوة إلى التماس الصواب فيها والبعد عن الخطل فيما يُكتب ويُقال ويُسمع، ولم تتوقف رسائل الوالد وتعقيباته وتصويباته يبعث بها إلى الكُتَّاب والصحفيين والإذاعيين – فضلاً عن نشر كثير منها – حتى يوم رحيله. وهكذا كان ابنه أحمد مختار – وهذا هو اسمه المركَّب وحده – غُصْنًا مورقًا في شجرة كريمة، هُيِّئ له من حسن الرعاية والتوجيه، ووجود القدوة والنموذج – متمثلاً في أبٍ يتعشق العربية ويمنحها كل اهتمامه – ما جعله يخطو خُطواته العلمية في دأب وثقة، لا يرضى لنفسه إلا بأن يكون الأول في كل شيء بَدْءًا من حصوله على الليسانس الممتازة من كلية دار العلوم عام ثمانية وخمسين، ثم على درجة الماجستير في علم اللغة من دار العلوم أيضًا، وإيفاده إلى إنجلترا للحصول على درجة الدكتوراه في علم اللغة من جامعة كمبردج – التي سيظل مرتبطًا بمكتبتها، يقصدها في صيف كل عام، ليتزود بالجديد، ويتابع حركة العلم اللغوي في إنجلترا وفي العالم كله، ويجمع مادته اللازمة لدراساته الجديدة وأبحاثه المتتابعة – ثم هو يعود من جامعة كمبردج ليتدرج في سُلَّم العمل الجامعي، وليصبح، في سنوات معدودة، واحدًا من الأساتذة اللامعين في دار العلوم وفي خارجها، ثم يمضي به المسار إلى كلية التربية في جامعة طرابلس بليبيا، وكلية الآداب في جامعة الكويت، ويعود إلى دار العلوم وكيلاً لكليته العتيدة وأستاذًا متفرغًا بها.(/3)
لم يكن أحمد مختار عمر مجرد أستاذ جامعي لعلم اللغة لكنه كان حركة علمية دائبة تنشر وهجها في كل مكان. فهو مقرر لجنة المعجم العربي الحديث بالصندوق العربي للإنماء الاقتصادي، وهو مستشار لكثير من الهيئات والمؤسسات المصرية والعربية من بينها لجنة مدخل قاموس القرآن الكريم بمؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ولجنة المعجم العربي الأساسي بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وهيئة معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين، والهيئة الاستشارية لمعهد المخطوطات العربية، وقسم المعاجم بمؤسسة سطور، ولجنة الدراسات الأدبية واللغوية بالمجلس الأعلى للثقافة.
وكان من ثمار هذه الرحلة الحافلة حصوله على جائزة التفوق العلمي من المكتب الدائم لتنسيق التعريب بالرباط عام اثنين وسبعين، وجائزة مجمع اللغة العربية في تحقيق النصوص عام تسعة وسبعين، ووسام العراق وجائزته في الدراسات اللغوية عام تسعة وثمانين.(/4)
وحين تُوّجت الرحلة الثرية باختياره عضوًا في مجمع اللغة العربية. ثم اختياره مقررًا للجنة الأصول، كان ذلك بمثابة الفصل الأخير في كتاب حياته العلمي واللغوي، الكاشف عن عقليته المتمسكة بالتيسير والتطوير، المتابعةِ لما قام به السلف المجمعي العظيم من جهود ومنجزات في مجال أصول اللغة من اشتقاق ونحت وقياس ومجاز – في محاولة دائبة لتطوير اللغة وإثرائها وتنميتها وتطويعها لمطالب العلوم الحديثة والحضارة. وهي جهود توضح كيف أن البحوث اللغوية المتعمقة تؤدي إلى أقيسة جديدة من شأنها الوفاء بمتطلبات حياتنا اللغوية والثقافية المعاصرة. وكان أكثر ما يُحزن الراحل الكريم أن يجد معارضة لاتجاهه واتجاه لجنة الأصول المجدِّد، الذي كان يريد به وَصل ما انقطع من عمل السلف المجمعي، ووصلاً للدراسة اللغوية بواقع اللغة في حياة المجتمع. وكان أشدَّ ما يصدمه ويستثيره ما يُقال في معرض الاحتجاج لعدم قبول كثير مما تعرضه لجنة الأصول من أفكار وتوصيات، من أن قبول هذه الأفكار من شأنه أن يتسبب في بلبلة المتعلمين والناشئة، وتغيير ما في الكتب المدرسية من قواعد مستقرة لا ينبغي الاقتراب منها. وكان يضرب لي المثل دائمًا بقرار سابق للمجمع يرى فيه إجازة إلحاق تاء التأنيث بفَعول بمعنى فاعل فيقال: امرأة عجوز وعجوزة وصبور وصبورة، وقرار بتأنيث صيغة فعلان بالتاء وجمعها جمعي تصحيح بحيث يقال باطراد في تأنيث مثل غضبان: غضبانة، وفي جمع غضبان: غضبانون كما تصنع العامية، وفي جمع غضبانة: غضبانات. وبالمثل يقال عطشان وعطشانة وعطشانون وعطشانات. وما أقره المجمع من جواز تقديم لفظ النفْس أو العين على المؤكد فيقال: نفسُ المصدر أو في نفْسِ المصدر كما يقال هذا عيْنُ ما قلت، وما ذكرته في عيْن الوقت المناسب. وما قرره المجمع من إجازة جمع فاعل للمذكر العاقل على فواعل مثل: حادث وحوادث، وغامض وغوامض، وساقط وسواقط، وناشئ ونواشئ، وباسل وبواسل، وناجع ونواجع(/5)
وغائب وغوائب، وخاطئ وخواطئ وعاجز وعواجز. ويُعلق على هذا كله في مرارة: لقد كان السلف المجمعي أكثر منا شجاعة وعلمًا، وجرأةً على التيسير والتطوير، فما بالنا نتقاعس ونتراجع بالقياس إلى ماصنعوه وما أنجزوه؟
أما منهج الدكتور أحمد مختار عمر في تناول الظاهرة اللغوية، فكان دائمًا منهج من يأخذ من الحياة ما هو مقروء ومسموع. ولست أنسى مشاركته الأخيرة في المؤتمر الأول لعلم اللغة الذي أقامه قسم علم اللغة بكلية دار العلوم في ديسمبر الماضي. وكان بحثه إلى المؤتمر بعنوان: من الآثار الإيجابية للغة الإعلام : "الاستجابة الآنية لاحتياجات اللغة وسدّ فجواتها المعجمية"، وهويشير إلى نماذج أمكن رصدها من الألفاظ والعبارات الجديدة التي يعود الفضل في وجودها وانتشارها إلى أجهزة الإعلام، بالإضافة إلى عدد من الأقيسة التي توسعت هذه الأجهزة في استخدامها، فمن الكلمات والتعبيرات: الخصخصة، والاستنساخ، والعقوبات الذكية، والقتل الرحيم، وغسيل الأموال، والبوت – عن حق البناء والانتفاع ثم الرد إلى الحكومة – والناتج المحلي، والتضخم، واليورانيوم المستنفد، والمنضَّب، والمخصَّب، وعالمية الثقافة، والعولمة، وعُقدة الخواجة، ودُول الطوق، وتجميد الأموال، وجماعات الضغط، واقتصاد السوق، والإغراق الاقتصادي، والنشطاء (جمع ناشط) مثل نشطاء الانتفاضة، ونشطاء حقوق الإنسان، والجمرة الخبيثة. وبالنسبة للأقيسة التي استخدمتها لغة الإعلام يشير إلى الإكثار من توليد أفعال على وزن فعَّل أو فَوْعل أو فعلن مثل: صوَّب المسألة، قنابل مُسيِّلة للدموع، تدويل القضية، تجذير الأفكار، تفويج الحجاج – أى جعلهم أفواجًا - والإكثار من صوغ المصدر الصناعي من كل اسم جامد أو مشتق أو من المصادر نفسها، مثل: النديَّة، الحتمية، العفوية، العقلانية، الإشكالية، التلقائية، ومثل: التبادلية، التعادلية، التعاوضية. والظرف، مثل: التحتية، الفوقية، الخلفية، الدونية، الوسطية.(/6)
واسم الفاعل، مثل: الجاذبية، العائلية، الفاعلية، الهامشية. ومن الجموع، مثل: الجماهيرية، الحدودية، الرجالية، والهوية. ومثل النسب إلى ألفاظ الجموع: درس أخلاقي، اتحاد طلابي، بحث وثائقي، تدريب مهني، مدن سواحلية، مطلب جماهيري، صوت ملائكي.
ولم ينس فقيدنا الكريم في ختام بحثه – أن يوجه تحيته للجنود المجهولين الذين يقبعون خلف الكواليس في الصحافة والإذاعة والتليفزيون ويسابقون الزمن في ملاحقة آخر المُستجدَّات على الساحتين المحلية والعالمية، يجتهدون في التعبير عن متطلبات العصر، ويتولون الترجمة من لغة المرسل إلى لغة المتلقي في وقت قياسي. إنهم يُشكّلون ورشة عمل تطرق الحديد وهو ساخن، وتطرح اجتهاداتها في اللحظة المناسبة، ويسدون فراغات ما كان يصح أن تترك لأهل اللغة أو المجامع اللغوية، يتداولون في أمرها طويلاً فيختلفون ولا يتفقون. وقد كان مرجعيِّةَ هؤلاء المبدعين في لغة الإعلام ذوقُهم اللغوي المتميز، وحساسيتُهم التعبيرية الفائقة، واستغلالُهم قدراتِ اللغة وطاقاتِها الكامنة، واستفادتُهم من عبقريتها في اشتقاق الكلمات وتوليد آلاف الجُمل والعبارات، فكان التوفيق حليفهم.
في كتابه البديع " العربية الصحيحة " الذي أصدره عام 1981م تشغله ضرورة وجود دليل يستعين به الباحث عن الصواب اللغوي متسائلاً: هل اللغة العربية الصحيحة – ولا أقول الفصحى – لغة فوق مستوى البشر؟ أهي عصيِّة لايقدر على التمكن منها والسيطرة عليها إلا أولو العزم؟ وكل ما كان يطمح إليه من خلال بحثه الميداني هو أن تُصبح هذه العربية الصحيحة لغة المثقفين في مواقفهم الجادة، في أحاديثهم وحواراتهم ومحاضراتهم، في اجتماعاتهم ولقاءاتهم، في مجالسهم وندواتهم وعلى ألسنتهم وأقلامهم.(/7)
لكن كيف يكون الطريق إلى تحقيق ما يبدو وكأنه المستحيل؟ يجيب الدكتور أحمد مختار بأن ذلك لن يكون إلا إذا تغير أسلوبنا في تعليم اللغة العربية وتعلمها، واتخذنا خطوات جريئة في سبيل تيسير اللغة العربية وربطها بالحياة، وقبِلنا الكثير من التعابير والألفاظ والأساليب المستحدثة، ما دام لها وجه في العربية تُخرَّج عليه.
وأخيرًا، إذا استطعنا أن نثير الحافز في نفوس التلاميذ، وأمكننا أن نبعث فيهم روح الغيرة على اللغة، حتى يعتبروها جزءًا من كيانهم ومقومًا لعروبتهم وأساسًا لدينهم.(/8)
لذا، فقد جاءت كل أمثلته واستشهاداته التطبيقية من لغة المثقفين اليوم، معتمدًا على لغة الكتابة المعاصرة في الكتب والصحف والمجلات، ولغة الأحاديث الإذاعية وبخاصة نشرات الأخبار وما يُقدَّم من برامج بالعربية الصحيحة. وإن هذا الكتاب "العربية الصحيحة" ثمرة قراءات وملاحظات وتعليقات استمرت قرابة ثلاثين عامًا رجع فيها إلى آلاف من النماذج المكتوبة والمنطوقة، تشغله وتروعه أخطاء من قبيل خلطهم بين الغَداء والغِذاء، والعَشاء والعِشاء، وجُرْم وجِرْم، ونفِد ونفَذ،وأثناء وثنايا، والأخير والآخر، والثمين والسمين، والحَيرة والحِيرة، والطَّرْف والطَّرَف، والفِطري والفُطريّ، والوَفَيَات والوَفِيَّات، وسَجْن وسِجْن، ودعوتان ودعويان، وقولهم تجرُبة وتجارُب بدلاً من تجرِبة وتجارِب، وربيع الثاني وجَماد الثاني بدلاً من ربيع الآخر وجمادى الآخرة. وأجهزة التصنت بدلاً من أجهزة التنصُّت لأن الفعل نَصَت وليس صنَت، وصوت جَهُوري بدلا من جَهْوَري، وخُضراوات بدلاً من خَضْراوات، وصمَّام الأمن بدلاً من صِمام الأمن، منَبّهًا إلى الوهم الذي يقع فيه البعض حين يمنع بعض الكلمات من الصرف لانتهائها بألف وهمزة مثل: آباء وآراء وآلاء وأبناء وأعضاء وأكفاء وأعداء، وبالمقابل صرف كلماتٍ تستحق منع الصرف مثل: أجلاء، أبرياء، أثرياء، أحباء، نُجلاء، حكماء، سعداء، شعراء. وغيرها. ويتوسع في الأمر أكثر فأكثر، في كتابه "أخطاء اللغة العربية المعاصرة: عند الكتاب والإذاعيين"الصادر عام 1991 م الموضوع يشغله ولا يفارقه، وإحساسه العميق بالمسؤولية تجاه ما يحدث في الساحة اللغوية يُضنيه ويلاحقه، وهو يحاول في إيجاز ووضوح شديدين أن يأخذ بيد من ينشُدون الكمال من أصحاب القلم واللسان، مهما كان تخصصهم أو تنوعت اهتماماتهم، متميزًا بجمعه الميداني لمادة الكتاب وأمثلته اللغوية، وجداوله التلخيصية وتدريباته النوعية فضلاً عن تدريباته عامة، مستمدًّا أمثلته(/9)
وتعبيراته في كل تدريباته من اللغة الفصحى الحية المستعملة اليوم، وليس من لغة التراث، أو كتب الأخطاء الشائعة، أو التصويب اللغوي. وهو في حرصه على الدقة والتسجيل الأمين ينسب كل خطأ إلى صاحبه باسمه. فيقول: فهل نلوم المذيعين حتى الكبار أو المخضرمين منهم إذا ندَّت عنهم كلمة أو زلُّوا في ضبط أخرى، ومن ذلك قول سامية صادق: إنه لنا نعم الأب والجِدّ (بكسر الجيم) وقول أحمد سمير: فأردُوه قتيلاً (بضم الدال) وقولُه: لقد خسر مباراتِه (توهمًا أن الكلمة من جمع المؤنث السالم) وقولُه: أصعب الحلْقات (بسكون اللام) والصواب فتحها: وقولُ محمود سلطان: ملايينٌ من الناخبين(بصرف ملايين وتنوينها وهي ممنوعة من الصرف) وقوله: نشَبت أعمال عنف (بفتح الشين) وقوله: لاقُوا حَتْفهم (بضم القاف) وقوله: ثلاثَ مَائَة قتيل (بدلا من ثَلاثِمِائِة)، وقولُ درية شرف الدين: مضى على إقراره أكثرَ من قرن (بنصب أكثر مع أنها فاعل مرفوع).
ويورد الدكتور أحمد مختار كثيرًا من نماذج الخلط بين اسم الفاعل واسم المفعول (المُتعذِّر والمُتعذَّر، المُطبِق والمُطبَق، المتعيِّن المُتعيَّن، المتوازِن والمتوازَن، المُقتصِر والمُقتصَر، المختلِطة والمُختلَطة ...إلخ)
وأخطاء النسب وتجوزاته، والخلط بين المفرد وجمع المؤنث السالم (رفات، معاناة، مباراة) وبين جمع التكسير وجمع المؤنث السالم (بنات، قُوَّات، صفات) ومعاملة جمع التكسير معاملة جمع المؤنث السالم (قضاة، أصوات، أوقات) فيقولون خطأً: إن قُضاتِنا، أصدر أصواتٍ، الذين يَدَعُون الأوقاتِ تمر …إلخ .. كما يحتشد الكتاب للحديث عن الكثير من المآخذ الصوتية والنطقية، والمآخذ الصرفية، والمآخذ النحوية والتركيبية والمآخذ المعجمية والدلالية.
ويغامر العالم اللغوي الدكتور أحمد مختار عمر في مجال لم يُسبق إليه من خلال كتابه "اللغة واللون" الذى أصدره عام 1982م.(/10)
وتشي فصول الكتاب بالمنهج الذى اتبعه الباحث، والقضايا التي شغلته بَدْءًا من تسمية الألوان عبر التاريخ، ثم الألفاظ الأساسية للألوان (ويقول إنها كانت عند العرب الأزرق والأصفر والأسود والأبيض والأخضر والأحمر) والألفاظ الثانوية للألوان مثل: التعبير عن درجات الحُمرة، بلفظ أرجوان للشديد الحُمرة وبهرمان لما هو دونه بشيء من الحمرة، وهناك المُفرّج والمُوّرد والمُلهّب. وهناك أيضًا الأحمر القاني، والعاتك والذَّريحيّ والثقيب. ويقولون: أحمر ناصع ونصَّاع ويانع وزاهر وناضر وأحمر قاتم وفاقع وفُقاعي. وللحمرة مع السواد وضعوا ألفاظًا مثل: أسفع وغسيق وأحْسَب وأحوى وأدبس وأجمح وكُميْت، ثم يعرض الدكتور أحمد مختار للألفاظ الشائعة للألوان، والتصرف في ألفاظ الألوان، والتعبيرات اللغوية، والمعايير القياسية للألوان، والألوان والجمال، والألوان والمنفعة، والألوان والمعتقدات، والألوان والأصوات، والألوان والتحليل النفسي. هي إذن أول دراسة في اللغة العربية تجمع بين اللون واللغة، تلبيةً لحاجة اللغوي المتخصص والمثقف العام، والدكتور أحمد مختار بخبرته الواسعة وحسّه اللغوي المرهف وثقافته العميقة، يتناول قضايا اللون من جانبيها: اللفظي واللوني، ويربط العلم بالفن، ويتخطى ما يسمى بالإنسانيات والعلوم، ويجمع ألفاظ الألوان العربية من المعاجم القديمة والحديثة، ويقدم قائمة بأهم المقررات والتعبيرات ذات العلاقة بالألوان .(/11)
فما الذي تقوله هذه الدراسة اللغوية الرائدة ـ مثلاً ـ عن اللون الأبيض رمز الطهارة والنقاء ؟ إنه يمثل " نَعَمْ " في مقابل " لا "الموجودة في الأسود، والصفحة البيضاء التى سُيكتب عليها كل شيء، وأحدُ الطرفين المتقابلين فهو يمثل البداية في مقابل النهاية، والألف في مقابل الياء. وفي التعبيرات التي استخدمها العرب القدماء وصفوا الأرض بأنها بيضاء أي ملساء لا نبات فيها، وقالوا كلَّمته فما ردّ عليّ سوداءَ ولا بيضاءَ أي كلمة قبيحة أو حسنة، والخيط الأبيض أول ضوء النهار، وصحيفته بيضاء: أي ذو سمعة طيبة ولا مَغمَزَ عليه. وكَذْبَة بيضاء: لا ضَررمنها، وانقلابٌ أبيض: لم يُستخدم فيه السلاح، ورفعَ الراية البيضاء: استسلم وأعلن الطاعة، وقلبه أبيض: لا حقد فيه ولا كراهية. ومن الأمثال والاستخدامات الشائعة: القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود، ما عندي أبيض ولا أسود، أعطاه شيكًا على بياض .
إن موضوع الألوان ـ لاتساع مجاله ـ يقع في دائرة اهتمام الفنان والكيميائي، وعالم اللغة، والنفس، والطبيعة ووظائف الأعضاء وغيرها. لكن ، سيذكر التاريخ لأحمد مختار عمر أنه أول من جمع بين اللغة واللون في كتاب واحد بالعربية .(/12)
وعندما ألف فقيدُنا الكبير كتابه "اللغة واختلاف الجنسين" الصادر عام ستة وتسعين ، كان أول كتاب عربي يتناول قضية العلاقة بين اللغة والجنس من جانبين متكاملين هما: نظرةُ اللغة إلى الجنس وكيفية تعاملها مع ظاهرة التذكير والتأنيث من ناحية، وتعامل الجنس مع اللغة والخصائص التي تميز طريقة كل جنس في هذا التعامل من ناحية أخرى. من هنا، كان تعرض الكتاب لأهم الحركات النسائية العالمية، ورصد آثارها المختلفة على الجانب اللغوي ومحاولاتها المتكررة لإيجاد لغةٍ متوازنة جنسيًّا، غير متميزة ذكوريًّا، هذه الدراسة المبتكرة لأحمد مختار عمر تردُّ التنوعات اللغوية ذات العلاقة بجنس المتكلم والاختلافات الموجودة في كلام الرجال والنساء إلى جملة من العوامل الفسيولوجية والاجتماعية والثقافية، وتُبين ردود الأفعال المتفاوتة للمجتمعات الغربية تجاه ظهور المرأة متحدثة عامة في الإذاعة ثم في التليفزيون، بدءًا من عشرينيات القرن الماضي حتى الآن.
ويجيب الكتاب عن التساؤل الغائب: هل هناك لغة نسائية في مقابل التساؤل المطروح دائمًا: هل هناك أدب نسائي؟. من خلال دراسته لتعامل الجنس مع اللغة صوتيًّا ونطقيًّا ولفظيًّا وتعبيريًّا وتركيبيًّا ونحويًّا وأسلوبيًّا.(/13)
وفي ذروة اكتمال الرحلة العلمية الحافلة بثمار البحث والخبرة والوعي، والمشاركة في عديد من الملتقيات والمؤتمرات والمحافل والمشروعات العلمية ، في مصر والعالم العربي، جاء اهتمامه بالمعاجم اللغوية والمعجم الحديث الذي أفرد له كتابًا رائدًا في بابه عنوانه "صناعة المعجم الحديث" أصدره منذ خمس سنوات، وعيناه طوال صفحات الكتاب على مستقبل المعجم العربي. بالرغم من اعتذاره من عدم المشاركة في لجنة المعجم الكبير منذ اليوم الأول لدخوله مجمع اللغة العربية ؛ لأنه كان يرى فيه صورة مستحدثة من معاجم قديمة، يعتمد العمل فيه بالدرجة الأولى على النقل من المعاجم السابقة ونسبة الجديد فيه هي الأقل، وكان دائم الجهر برأيه وموقفه من ضرورة البدء والانطلاق من قاعدة بيانات لغوية ضخمة، يتم فيها جمع ملايين الكلمات المستخدمة الآن ، مستخدمين القارئات البصرية في تخزين المادة، مستعينين ـ ونحن في عصر الحواسب ـ بالتقدم في وسائل البحث الآلي. وهو في حديثه عن المعاجم لا يتوقف عن مجرد النظر والنقد والتحليل ، بل يشارك عبر المسيرة الحافلة في إصدار العديد من المعاجم، بدءًا بالمُنجد في اللغة لكُراع، فمعجم القراءات القرآنية، فالمعجم العربي الأساسي، متوِّجًا هذا كله بالإشراف على إصدار " المكنز الكبير " منذ ثلاث سنوات معجمًا شاملاً للمجالات والمترادفات والمتضادات، ومعه فريق عملٍ ضخم، يقرُب من أربعين عضوًا، يضم مجموعة من المساعدين والباحثين اللغويين والمحررين، ومساعدي الباحثين والمحررين مع الاستعانة بخبير في الشؤون البرمجية والحاسوبية. فجاء بالفعل كما وصفه الدكتور أحمد مختار بكلماته معجمًا فريدًا في نوعه، جديدًا في شكله وإخراجه، حيث جمع لأول مرة في تاريخ المعاجم العربية عدة أشكال من المعاجم في معجم واحد. لقد ضم هذا المعجم بين دفتيه معجمًا للموضوعات أو المعاني أو المجالات، ومعجماً ثانيًا للمترادفات والمتضادات، ومعجماً ثالثًا(/14)
لمعاني الكلمات، ومعجمًا رابعًا للألفاظ والكلمات. الأمر الذي يجعل من (المكنز الكبير) نقطة تحول في صناعة المعجم العربي. فهو ليس تكرارًا ولا تقليدًا لعمل معجم سابق، أو جَمْعًا لمعجم من عدة معاجم، كما كان الأمر في العديد من المعاجم السابقة. واقتضى العمل فيه عدم الاكتفاء بجمع المادة كليًّا من معاجم السابقين بل ضُمَّت إليها مادة غزيرة مستقاة من تفريغ العشرات من كتب اللغة والأدب ودواوين الشعر، وعينة من الصحف اليومية. ولكي ندرك حجم الجهد وقيمة العمل يكفي أن نذكر أنه يحتوى على 34530 مدخلاً، مُوزَّعًا على 1851 موضوعًا أو مجالاً دلاليًّا، ويقع في 1232 صفحة.
هل ثم حاجة إلى ذكر أهم كتبه ومؤلفاته بدءًا بتاريخ اللغة العربية في مصر، والنشاط الثقافي في ليبيا من الفتح الإسلامي حتى بداية العصر التركي، والبحث اللغوي عند العرب، والبحث اللغوي عند الهنود، وأسس علم اللغة، ومن قضايا اللغة والنحو، وديوان الأدب للفارابي (تحقيق ودراسة)، ودراسة الصوت اللغوي، وعلم الدلالة ، والنحو الأساسي، ولغة القرآن، ومعاجم الأبنية في اللغة العربية، وأسماء الله الحسنى (دراسة في البنية والدلالة) فضلاً عن كتب سبقت الإشارة إليها: العربية الصحيحة، واللغة واللون، واللغة واختلاف الجنسين، وأخطاء اللغة العربية المعاصرة عند الكُتَّاب والإذاعيين ؟(/15)
وهل ثم حاجة الآن إلى التذكير بأنه كان على سرير مرضه الأخير، ومؤتمر المجمع في دورته التاسعة والستين يناقش آخر أبحاثه التي أقرتها لجنة الأصول ومجلس المجمع، في موضوعي الجمع بين تاء التأنيث ونون النسوة عند الإسناد. ودخول الواو على ما بعد إلا، من منطلق حرصه على التيسير والتطوير؟ وكأنه يُعطينا ـ جميعًا ـ درسًا في أن الفارس الحقيقي هو من يظل يحمل رايته، منافحًا دونها حتى الرمق الأخير والنفس الأخير ولم تكن رايته إلا العربية، لغة القرآن، ولغة الإبداع، ولغة العلم، ولغة التواصل، التي عاش لها، وأعطاها كل عمره وجهده.
ها نحن أولاء : نتلفت من حولنا فلا نجده. لا نجد الإنسان الجميل الممتلئ بشرًا وإقبالاً ومودة، والعالم الجادَّ الساعي في دأب لا يعرف الكلل إلى إنجاز عمله وحمل أمانة وجوده في المجمع وفي خارج المجمع، والصديق الصدوق الذي يعرف للصداقة معناها الإنساني الرفيع، والأب المثالي والزوج الفاضل، والرفيق الأمين. لم يكن أحمد مختار عمر مجرد عالم لغوي أو عضو في مجمع الخالدين، لقد كان بمفرده مجمعًا حيًّا يسيرُ على قدمين. الآن وقد ترجل الفارس عن صهوة جواده ، تاركًا قلمه وأوراقه وميراثه الضخم من العلم والخبرة والبحث والإنجاز، فإنا لا نملك إلا أن نقول إنها إرادة الله وسُنة الله في الحياة، نودِّع الراحلين منا إلى أكرم
جوار، وندعو للقادمين من بعدهم بموفور الأجل والعطاء. ولسنا نملك له إلا الترحم والدعاء، ولأسرته الكريمة الصابرة، ولكل أصدقائه ورفاقه وزملائه وتلامذته ومريديه صادق العزاء .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(/16)
المعجمات العامة والخاصة (*)
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
السادة الزملاء المجمعيون:
المعجمات كتب تحمل مفردات لغوية إما لأمة فتسمى معجمات عامة، وإما لفرع من فروع الأمة مثل الجغرافيين والمؤرخين والفلاسفة والأدباء، فينسب إليهم، فيقال معجم الأدباء مثلاً إلى غير ذلك من فروع المعجمات، فتسمى المعاجم حينئذٍ معجمات خاصة.
أ - المعجمات العامة:
والمعجمات العامة لا تكتفي بتسجيل مفردات اللغة بل تضيف إليها تسجيل هجائها ونطقها وتأصيلها ودلالتها أو معناها. وتعني كلمة معجم إزالة العجمة أو الغموض. وشركتها فى وقت متأخر بنفس هذا المعنى كلمة قاموس التي سمى بها الفيروزآبادي معجمه، وأصْلها في اللغة (البحر العظيم) وَسُمِّي بها كل معجم لغوي على التوسع.
وتشمل المعاجم تأصيل الكلمات أي تأريخها ومصطلحاتها وأصواتها التي جعلتها تسجَّل في ذاكرة الحاسوب بمنطوقها الدقيق كما جعلتها تسجل على الأقراص المدمجة وعلى شبكات الإنترنت. وانفرد العالم العربي بالسبق في صنع المعجمات منذ وضع الخليل ابن أحمد المتوفى سنة 170هـ معجمه الذي سماه "معجم العين"، اختارها اسمًا له دون الهمزة أول الحروف الهجائية، لأنه تلحقها تغيرات كثيرة بخلاف العين التي هي من الحروف الحلقية وقد افتتح بها معجمه، لأنها لا يمسها تغير فى الأبنية الصرفية، وأنا أوجز منهجه فى هذا المعجم العام؛ لأن علماء العرب المعجميين تمسكوا بأكثر قواعده فى معاجمهم العامة والخاصة.
وقد رتب الخليل مفردات معجمه على أساس مخارج الحروف، فبدأه
بالحروف الحلقية، وأنهاه بحروف العلة والهمزة، واتَّخذ فيه القواعد التالية:
1- ترتب مفردات المعجم على أساس حروفها الأصول في الكلمة، ولا أهمية للحروف الزوائد. وظلت هذه القاعدة الأساس في المعاجم العربية بعد الخليل حتى العصر الحديث.(/1)
2- ترتب الكلمات المجموعة في مادة لغوية ترتيبًا داخليًّا على أساس الأبنية : الثنائي، الثلاثي (الصحيح والمعتل واللفيف أي المجتمع فيه حرفا علة) الرباعي، الخماسي.
3- توضع الكلمة وتقاليبها في مادة واحدة. وأطلق الخليل على الصيغة الموجودة في المادة لفظ "مستعمل" والصيغة التي لا توجد لفظ "مهمل".
وتمسكت المعاجم بهذه القواعد – بعد الخليل – إلى العصر الحديث فلابد أن تجمع مفرداتها باعتبار الحروف الأصول وحدها دون الزوائد، ولابد أن ترتب كلماتها على أساس الأبنية، ولابد أن توضع تقاليب الكلمة في مادة واحدة. وأُلِّفت بعض المعاجم مرتبة ترتيبًا صوتيًّا على مخارج الحروف مثل معجم العين للخليل، ووصل إلينا منها اثنان: تهذيب اللغة للأزهري، والمحكم لابن سيده الأندلسي. واختلفت المعاجم بعد ذلك فمنها ما أُلِّف حسب الحرف الأول في ترتيبه مثل معجم أساس البلاغة للزمخشري، ومنها ما أُلِّف حسب الحرف الأخير في الكلمات مثل الصحاح للجوهري وثلاثة من المعاجم العامة، هي لسان العرب لابن منظور التونسي المتوفى سنة711 للهجرة، والقاموس المحيط للفيروزآبادى المتوفى سنة 817 للهجرة، وتاج العروس للزبيدي المتوفى سنة 1205 للهجرة. وفيما يلي كلمة عن كل معجم من المعاجم الثلاثة العامة.
لسان العرب لابن منظور: ولد ابن منظور في القاهرة، وقيل في طرابلس سنة 630 للهجرة / 1232 للميلاد، وتوفي بالقاهرة سنة711 للهجرة/ 1311 للميلاد عمل في ديوان الإنشاء بالقاهرة ثم ولي القضاء في مدينة طرابلس. ومعجمه "لسان العرب" طبع مرارًا منذ سنة 1300هـ / 1882م. ويقول ابن منظور في مقدمة معجمه: إنه اعتمد فيه على خمسة معاجم هي:
1- تهذيب اللغة للأزهري.
2- المحكم لابن سيده الأندلسي، وهما من أمهات كتب اللغة.
3- الصحاح لإسماعيل ابن حماد الجوهري.
4-حواشي ابن بري على الصحاح.(/2)
يقول ابن منظور عنه: أتيح له الشيخ أبو محمد بن برى فتتبع ما فيه، وأملى عليه أماليه، مخرجًا لسقطاته، مؤرخًا لغلطاته.. ورتبه ترتيب الصحاح فى الأبواب والفصول.
5- النهاية فى غريب الحديث لابن الأثير الجزري.
ويقول ابن منظور عن عمله في كتابه إنه جمع فيه ما تفرق في تلك الكتب (الخمسة) المذكورة ونقل من كل أصل مضمونه. ويقول لم أبدل منه شيئًا فيقال: (بدَّل) فإنما إثمهُ على الذين يبدلونه، بل أديت الأمانة في نقل الأصول بالنص، وما تصرفت فيه بكلام غير ما فيها من النص، فليعتد من ينقل عن كتابي هذا أنه ينقل عن هذه الأصول الخمسة؛ إذ نَقَل عنها حرفيًّا ابن منظور مادة كتابه، ولم يتصرف فيها أي تصرف، حتى بلغ بها عشرين مجلدًا ضخمًا، وراجعها عالم حجة من أعظم علماء مصر حينذاك هو الشيخ العلامة أبو محمد بن بري.
القاموس المحيط للفيروزآبادي:
ولد الفيروزآبادي محمد بن يعقوب الشيرازي سنة 729هـ وانتقل مبكرًا إلى العراق، وجال في الشام، ومصر، وأخذ عن علمائهما جميعًا، ودخل الروم والهند، واستقر في زبيد باليمن، وبالغ في إكرامه سلطانها الأشرف إسماعيل وتوفي بها قاضيًا سنة 817هـ وانتشر معجمه: "القاموس" انتشارًا واسعًا في البلدان العربية حتى صار اسمه علمًا على كل معجم عربي.
والقاموس مطبوع في أربعة مجلدات ضخام وميَّزه الفيروزآبادي بسبع ميزات : الأولى- أنه جعل الكلمة الأصلية فيه بين قوسين ويعلو الكلمات المزيدة على معجم الصحاح للجوهري خط ممتدٌّ إشارة إلى الفرق بينهما.(/3)
الميزة الثانية- تخليص الواوي من اليائي في المعتلّ، فتكتب صورة الواو، وتذكر مادتها اللغوية، وتصوَّر الياء وتتبعها مادتها اليائية مثل (أتا) فإن العرب استعملوا فيها مادة (الأتَوُ) وهو الاستقامة في السير ومادة (الأَتْي) وهو (الإتيان والمجيء) فتكتب أولاً صورة الواو، وتذكر مادتها، فإذا فرغ من المادة الواوية كُتبت صورة الياء وأتبعت بمادتها اليائية، وإن أُهمل أحد الحرفين: الواو أوالياء تُرك وصُوِّر المستعمل فقط، وقد يصور الحرفان معًا مجموعين وتليهما مادتاهما، وقد يحذفان وتذكر مادتاهما، وقد تحذف إحداهما وتذكر مادتها مما يتطلب الإحاطة التامة بالصيغتين الواوية واليائية ومادتيهما المختلفتين.
والميزة الثالثة- أن جَمْعَ اسم الفاعل المعتل العين إذا جاءت صحيحة مثل (جَوَلة) جمع (جائل) ذكرت فيقال: جَوَلة،أما إذا اعتلت فإنها تقلب ألفًا مثل (بائع وباعة وقائد وقادة وسيد وسادة).
والميزة الرابعة- أن كلمة المؤنث لا تذكر مرة ثانية بعد ذكر المذكر إذ يقال: "وهى بهاء أي أن أنثى هذا المذكر بهاء" وتُرك هذا المصطلح مرارًا.
والميزة الخامسة- أنه إذا ذكر الماضي وحده أو المصدر وحده فالمضارع مضموم العين مثل: (يكتُب)، أما إذا ذكر الماضي والمضارع معه فإن الفعل يكون من باب (ضَرَب) ما لم يمنع من ذلك مانع كأن يكون الفعل حَلْقي العين أو اللام مثل (منع) فإن الباب فيه الفتح، وربما جاء مضمومًا مثل: صرَخ يصرُخ ونفَخ ينفُخ أو مكسورًا مثل: نزَع ينزِع ورجَع يرجِع، وربما جاء الضم والفتح مثل: صلَح يصلُح ويصِلح وفرَغ يفرُغ ويفرِغ ورعدَت السماء ترعُد وترعِد، وربما جاء الفتح والكسر مثل رضَع يرضَع ويرضِع ومنَح يمْنَح ويمنِح ونبَح ينبَح وينبِح، وربما جاءت الحركات الثلاث مثل: نحَت ينحُت وينحَت وينحِت ونبَغ ينبُغ وينبَغ وينبِع.(/4)
والميزة السادسة- قال اللغوي أبو زيد: المشاهير المتداولة من الأفعال التي يجيء ماضيها الاصطلاحي على فعَل بالفتح أنت بالخيار في المضارع فإن شئت قلت: يفعُل بضم العين، وإن شئت قلت يفعِل بكسرها، وإذا لم يقيَّد المضارع حينئٍذ بضم أو بكسر فهو بالفتح.
والميزة السابعة- أن الفيروزآبادي اتخذ فيه خمسة أحرف رموزًا لدلالات متعددة، فالميم لمعروف والعين لموضع، والجيم للجمع، والرمز بالجيمين لجمع الجمع، والرمز بثلاث جيمات لجمع جمع الجمع، وبالهاء لقرية، وبالدال لبلد. وبقيت بالقاموس ضوابط واصطلاحات أخرى تعرف بالممارسة والاستقراء، منها أنه يقدم ذكر المقيس من المصادر والجموع على غيره، ومنها أنه اختار استعمال- لفظين- التحريك ومحركًا في الكلمة المبدوءة حروفها بفتحتين مثل جَبَل وفَرَح، ويطلق الفتح أو الضم أو الكسر على المحرك بإحداها.
تاج العروس
للسيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي:(/5)
هذا المعجم أكبر المعاجم العربية، وهو ليس كتابًا مستقلاًّ، بل هو شرح على القاموس المحيط للفيروزآبادي توسع فيه مؤلفه توسعًا كبيرًا، حتى أصبح أكبر المعاجم العربية، وأوضح المؤلف في مقدمته مصادره فيه، ومنها المعاجم والكتب اللغوية السابقة له مثل: الصحاح للجوهري، وتهذيب اللغة للأزهري، والمحكم لابن سيده، والجمهرة لابن دريد، والمجمل لابن فارس، والعباب والتكملة للصاغاني، ومعاجم القرآن والحديث النبوي مثل: مفردات القرآن للراغب الأصبهاني، والأساس والفائق للزمخشري، والنهاية لابن الأثير، وكتب القراءات، وشروح الشعر، مثل: ديوان الهذليين لأبي سعيد السكري، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وأجزاءٍ من تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وطبقات المفسرين للداودي، وطبقات الشافعية للسبكي، والجواهر المضيئة في طبقات الحنفية للقرشي، والبداية والنهاية لابن كثير، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي، والتذكرة في الطب للأنطاكي، وكتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري، وكتاب المعرب للجواليقي، وكأنه لم يترك كتابًا لهم في المعاجم واللغة وشروح الشعر والدراسات اللغوية مثل: الخصائص لابن جني، والمقصور والممدود للقالي، وأخذ ما لا يكاد يحصى من كتب الطبقات، والوافي بالوفيات للصفدي.(/6)
وكان الزبيدي ينقل في كتابه التاج عن هذه المصادر وأمثالها نقولاً كثيرة دون أن يدخل عليها أي تبديل أو تغيير، فلم يبدل فيها أي شيء قائلا: "وأنا مع ذلك لا أدعي فيه دعوى فأقول: شافهت أو سمعت أو رحلت، أو أخطأ فلان أو أصاب أو غلط القائل في الخطاب.. ولعمري لقد جمع فأوعى، وأتى بالمقاصد ووفى، وليس لي في هذا الشرح فضيلة أمتُّ بها ولا وسيلة أتمسك بها سوى أنني جمعت فيه ما تفرق في تلك الكتب من منطوق ومفهوم، وسميته تاج العروس من جواهر القاموس". وأتبع هذا الكلام بحديث عن عشرة مقاصد للكتاب من أهمها: بيان سعة لغة العرب، والمتواترُ في الكتاب عن الرواة والآحاد والمطرد والشاذ والمعرَّب والمولد والأضداد.
وكانت مصر البلد الذي اختاره لتأليف معجم تاج العروس فيه، وبدأ بها جزأه الأول سنة 1174 للهجرة بعد قدومه إلى مصر بسبعة أعوام كان فيها بعدُّ لكتابته، واستغرق الجزء الأول منه ستة أعوام وبضعة أشهر، وأتم الأجزاء التسعة الباقية في سبعة أعوام وبضعة أشهر، إذ انتهى منه سنة 1188 للهجرة. وأكمل معارضته على كتاب التكملة للصاغاني في جمادى سنة 1192 للهجرة .
وبتاج العروس انتهت المعاجم العامة القديمة، معاجم الأسلاف. وأنتقل إلى معاجم المجمع العامة، وهي اثنان: معجم كبير ومعجم وسيط، والمواد فيهما مرتبة وَفْق الحروف الأصلية للكلمات دون الحروف المزيدة، وأعرض المنهج الذي وضعه المجمع لكل منهما في إيجاز.
منهج المعجم الكبير:(/7)
توضع في أول المواد النظائر السامية إن وجدت، وترتَّب المعاني الكلية متدرجة من الأصلي إلى الفرعي، ومن الحسي إلى المعنوي ومن الحقيقي إلى المجازي ومن المألوف إلى الغريب. وقدمت الأفعال على الأسماء، والثلاثي منها على الرباعي، والمجرد على المزيد واللازم على المتعدي، والمبني للمعلوم على المبني للمجهول. وتضبط عين المضارع بوضع خط أفقي صغير عليها، وتوضع الضمة والفتحة فوق هذا الخط والكسرة تحته هكذا: (ـَُِ). وإذا اختلف الفعل الثلاثي الأجوف بين واوي ويائي فُصل بينهما في المعاني والأمثلة. ويَذْكر ما نصت عليه المعاجم من مصادر الثلاثي ويقدم القياسي، ولا تذكر مصادر غير الثلاثي لأنها قياسية. ولا تذكر المشتقات لأنها قياسية أيضًا.
وتذكر الكلمات التي وقع الإبدال في بعض حروفها مثل: وشاح فقد أبدلت الواو همزة فتذكر إشاح، وتحال على مادتها وشاح، ولا يذكر من الجموع إلا جموع التكسير القياسية، أما غير القياسية فلا يذكر منها إلا ما نص عليه. وما تصرف من المعربات في مادته الثلاثية مثل لجام يذكر في مادته وما لم يتصرف فيه بالاشتقاق يذكر كاملاً في مادته مثل: أرخميدس، فإنها تحال على أصلها: أرشميدس. وما عربه نصارى الشرق ينطق كما عربوه مثل بطرس في (peter) أو بقطر في (victor) وبولس في (poul) وتستكمل المواد اللغوية عند الحاجة، وبالمثل يتوسع في الاشتقاق من الجامد. ويستشهد من القرآن الكريم، والحديث النبوي، والنصوص الأدبية، والمثل والشعر.
الجانب الموسوعى:(/8)
يذكر من مصطلحات العلوم العربية ما شاع استعماله بين العلماء مما له صلة بالحياة العامة وألفاظ الحضارة، كما تذكر أعلام الأماكن والبلدان وأسماء الدول والمدن الشهيرة وأسماء المشاهير من الرجال، وتذكر وفاة العَلَم بالتاريخين الهجري والميلادي، وتذكر أهم الحيوانات والنباتات العربية. ويشار إلى ما قاله علماء الحيوان والنبات من العرب، ويستعان للتوضيح بصور الحيوانات ورسوم النباتات، وتعرَّف تعريفًا علميًّا دقيقًا مع ذكر مقابلها الأجنبي.
منهج المعجم الوسيط :
وضع المجمع هذا المعجم ليحافظ على سلامة اللغة العربية ويجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون، ملائمة لحاجات الحياة المعاصرة، وبادر باتخاذ الوسائل التي تكفل له ذلك وما يطوى فيها من قرارات لغوية، منها:
1- فتح باب الوضع للمحدثين عن طريق الاشتقاق والمجاز والارتجال.
2- إطلاق القياس ليشمل ما قيس من قبل وما لم يُقَسْ.
3- الأخذ بالسماع من طوائف المجتمع كالنجارين والحدادين وغيرهم من أصحاب الحرف والصناعات.
4- الاعتداد بالألفاظ المولَّدة والمعربة والدخيلة والمحدثة.
5- الاعتداد بالمصطلحات العلمية فى مختلف العلوم والفنون وبالتعريفات العلمية الدقيقة.
وأهملت في هذا المعجم الألفاظ الجافية الحوشية، والمترادفات الناشئة عن اختلاف اللهجات مثل: اطمأن واطبأن.
وروعي أن تكون ألفاظ المعجم من السهل الناصع المأنوس من الكلمات والصيغ. وعُزِّز بالاستشهاد المحكم من القرآن والأحاديث والأمثال والأشعار وتراكيب الأدباء وصيغهم البلاغية. وقُدِّمت فيه الأفعال المجردة على المزيدة، والأفعال على الأسماء، والمعنى الحسي على المعنى العقلي، والحقيقي على المجازي والفعل اللازم على المتعدي، وفُصِل مضعف الرباعي من الثلاثي مثل زلزل وزلَّ.
وأهمل من المؤنثات ما كان بالتاء زيادة على مذكره لوضوحه وشهرته، وما كان يؤنث بغير التاء اكتفي منه بما يخفى على كثيرين. ويراعى ذكر ما أقره المجمع مثل:(/9)
1-قياس المطاوعة لفعَّل مضعف العين مثل تفعَّل.
2-قياس المطاوعة من فَعْلَلَ وما ألحق به مثل دحرجته فتدحرج.
3-قياس تعدية الفعل الثلاثي اللازم بالهمزة.
4-قياس صيغة استفعل لإفادة الطلب والصيرورة.
5-قياس صنع المصدر الصناعي بزيادة ياء مشددة على الكلمة.
6-قياس صوغ مصدر على فُعال من الفعل اللازم المفتوح العين للدلالة على المرض.
7-قياس صوغ مصدر على فِعالة من الثلاثى للدلالة على الحرفة أو ما يماثلها.
8- قياس صوغ اسم على وزن مِفْعل ومِفْعال ومِفْعَلة وفَعَّالة من الفعل الثلاثي للدلالة على الآلة مثل مِبْرد – مِسْمَار – مِكْحَلة – سَمَّاعة.
9-قياس صوغ مَفْعلة اسمًا للمكان الذي تكثر فيه بعض أسماء الأعيان مثل: مَأْسَدة، مَبْطَخة.
10-تكمل المادة اللغوية إذا ورد بعضها ولم يرد البعض الآخر.
11-تذكر الرموز التي وضعت للمعجم مثل (ج)، للجمع و(مو) للمولد و(مع ـ) للمعرب، و(د) للدخيل.
12-يوضع في المعجم ما يحتاج إليه من الصور والرسوم للحيوانات والنباتات للتوضيح.
ب - المعاجم الخاصَّة:
بجانب المعاجم العامة الكثيرة التي وضعها العرب لألفاظ العربية محاولين تفسيرها معاجمُ خاصة وضعوها للألفاظ الغريبة في كتاب الله. وبالمثل عُنُوا بوضع كتب للحديث النبوي ومعاجمه، أو للفقه والشريعة أو لأي علم من العلوم. وتسمى معاجم خاصة لأنها تخص القرآن الكريم أو الحديث النبوي أو علمًا من العلوم. وأستهلها بالمعجم الذي وضعه المجمع اللغوي لألفاظ كتاب الله باسم :
معجم ألفاظ القرآن الكريم:
تتعقب اللجنة التي عنيت بوضعه في مقدمته كتب التاريخ والتراجم والدراسات القرآنية، وما ألف من كتب في تفسير غريب القرآن، وبلغت ثلاثة وثلاثين كتابًا أو معجمًا، ولم يكن بد لها من اتباع أحد منهجين في التأليف:(/10)
المنهج الأول: التزام ترتيب السور القرآنية وآياتها على نحو ما نجد في كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة المتوفى سنة 209 للهجرة، وكلمة مجاز المسمى بها الكتاب لا تعني المعنى البلاغي إنما تعني المعنى اللغوي أي المسلك والطريق إلى تفسير ألفاظ القرآن الكريم وفهم أساليبه على ضوء طبيعة لغة العرب وأساليبهم في الكلام.
والمنهج الثاني: الترتيب الهجائي أو المعجمي كما في "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502 للهجرة، وهو يتبع ذكر المواد اللغوية القرآنية، ويذكر فيها تفسير الكلمات القرآنية مستطردًا إلى تفسير ما يعنُّ له من حديث نبوي أو أثر أو أي أسلوب أو أي لفظ من ألفاظ المادة.
وقدمت ورقة عمل مقترحة في معجم المجمع، وهي:
أولاً- في عرض المادة:
1- تُحرَّر معاني الألفاظ في ضوء السياق اللغوي وضوء ما ورد في القرآن من صور المادة في دقة وإيجاز.
2- لا تُعْرَضُ الكلمة إلا في موطن واحد، وإذا كان للكلمة أكثر من معنى يشار إلى المعاني خلال عرض الآيات.
3- تجرَّد المواد من ذكر الأرقام، وإن كان من المتسحسن أن توضع علامة مميزة أمام بدء المادة أو أمام كل صورة من صورها.
4- مراعاة الترتيب الهجائي في عرض المادة، وسيأتي تفصيل ذلك في الأفعال والأسماء.
ثانيًا: منهج العرض والتنسيق:
أ- فى الأفعال:
1- تذكر الأفعال بجميع صورها.
2- تُسْتَوْفَي صور الماضي ومعه الماضي المبني للمجهول، ثم المضارع ومعه المبني للمجهول منه ثم الأمر.
3- يذكر الفعل اللازم أولاً ثم المتعدي بحرف، ثم المتعدى لمفعول به ثم المتعدى لمفعول وبحرف، ثم المتعدي لمفعولين وهكذا.
4- يذكر من الأفعال المجرد بجميع صوره ثم المزيد.
5- يتبع الترتيب الهجائي في كل ذلك، كما يتبع مع الضمائر واللواحق، فمثلاً: تذكر ضرب ثم ضربنا، ثم ضربت ثم ضربتما ثم ضربتم ثم ضربتن ثم ضربوا. ومع الفعل المزيد يذكر: أسلم قبل سالم وسالم قبل سلَّم.(/11)
ومع الفعل المضارع يتبع الترتيب الهجائي في أوله ولواحقه كالتالي:
أضرب، تَضْرب، نَضْرب، يضرب.
ومع تضرب يرتب الفعل هكذا : تضرب، تضربان، تضربون، تضربين.
ثالثًا – في الأسماء:
1- يتبع الترتيب الهجائي.
2- يذكر الاسم النكرة : مرفوعة ومجرورة ثم منصوبة، ثم المعرف بأل ثم المضاف للظاهر ويرتب هجائيًّا بحسب ما أضيف إليه، ثم المضاف للضمير، ويرتب هجائيًّا بحسب ما أضيف إليه.
3-عندما تتعدد صور الاسم الواحد في مبدأ حروفه، يبدأ بالفتح ثم بالضم ثم بالكسر.
4-عند التعريف للأعلام يلتزم التعريف المفيد الموجز مع الانتفاع بسياق القرآن ومضامينه في التعريف.
رابعًا- حروف المعاني:
كحروف الجر والاستفهام والشرط والنداء: تذكر معانيها في السياق القرآني مع الاكتفاء بمثال قرآني واحد.
الأعلام القرآنية تضاف مع تعريف موجز ومع الانتفاع بالسياق القرآني في التعريف ومضامينه.
وكان تفكير المجمع في وضع هذا المعجم ثمرة سنوات طوال كان أعضاء المجمع فيها يتحاورون في منهجه ويتناقشون طويلاً فى تأنٍّ شديد حتى استطاعوا إخراجه في هذه الصورة الحية الخالدة.
كتب غريب الحديث:
ألِّفت عشرات من الكتب في غريب القرآن حتى لتجمع مقدمة معجمه فيها ثلاثة وثلاثين كتابًا، وتكثر بالمِثل كتب غريب الحديث تقربًا إلى الله ورسوله. وكان أول من بدأ التأليف في غريب الحديث أبو عبيدة المتوفى سنة 210هـ وتبعته جماعة كان منهم أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ وكتابه: "غريب الحديث" من أروع الكتب التي ألفت في الموضوع، ونشره المجمع لنفاسته وأهميته.
غريب الحديث
لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي:(/12)
ضم أبو عبيد في هذا الكتاب ما كتبه أسلافه في غريب الحديث من مؤلفات حققها تحقيقًا علميًّا دقيقًا ضابطًا لألفاظها ومفسرًا لمعانيها، ومرتبًا بدقة لمسانيده: مسانيد الصحابة وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون ثم بعض أمهات المؤمنين وغيرُهن، ثم مسانيد التابعين وغيرهم. وعُني بتأليفه أزمنة طوالاً يعاود النظر فيه، حتى أصبح كما يقول الخطابي إمامًا لأهل الحديث به يتذاكرون وإليه يتحاكمون. وظل طوال أربعين عامًا يراجع فيه وينقح، ما وسعه التنقيح والمراجعة، وبحق لقب في عصره سابقَ معاصريه في علوم القرآن وإمامَهم في علوم الحديث واللغة والفقه. وقد ذكرت الكتب الكثيرة التي ترجمت له عشراتِ العلماء الذين أخذ عنهم من مثل: أبي عبيدة، والأصمعي وأبي زيد، والكسائي، والشافعي، وغيرهم من لغويي الأمة وفقهائها العظام. وفي كتابه : غريب الحديث يقول اللغوي الكبير ابن درستويه: جاء أبو عبيد فجمع عامة ما في كتب غريب الحديث التي سبقته وفسرها وذكر أسانيدها، وصنف كتابه المسند على حدته وأحاديث كل رجل من الصحابة والتابعين على حدته وأجاد تصنيفه، ورغَّب فيه أهل الحديث والفقه واللغة، لاجتماع ما يحتاجون إليه فيه. ويقول أبو سليمان حَمْد بن محمد بن إبراهيم الخطابي المتوفى سنة 388 للهجرة في كتاب غريب الحديث لأبي عبيد: كان أول من سبق إلى إتقان هذا التصنيف ودل مَنْ بعده عليه أبو عبيد القاسم بن سلام فإنه قد وعى تصنيف عامة ما يحتاج إلى تفسير من مشاهير كتب غريب الحديث، فصار كتابه إمامًا لأهل الحديث به يتذاكرون، وإليه يتحاكمون. ويتكاثر التأليف في غريب الحديث منذ أواخر القرن الثاني للهجرة. ويذكر الأستاذان طاهر الزاوي ومحمود الطناحي في مقدمة تحقيقهما لكتاب النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير المتوفى سنة 606 للهجرة خمسة وأربعين كتابًا في غريب الحديث ألفت حتى عصره، ومنها كتاب لابن قتيبة المتوفى سنة 276للهجرة، وكتاب الدلائل لقاسم بن(/13)
ثابت السرقسطي الأندلسي المتوفى سنة 302 للهجرة وكتاب لأبي بكر الأنباري المتوفى سنة 328 للهجرة، وقيل عن مصنفه في غريب الحديث إنه كان خمسة وأربعين ألف ورقة، ومنها كتاب الفائق في غريب الحديث للزمخشري المتوفى سنة 538 للهجرة.
وقد بدأت هذه الجهود في شرح غريب الحديث منذ أبي عبيدة معمر بن المثنى في أواخر القرن الثاني الهجري حتى انتهت إلى كتاب النهاية في غريب الحديث لابن الأثير.
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير:
لأحمد بن محمد بن علي الفيومي، وهو منسوب إلى فيوم العراق لا إلى فيوم مصر. من علماء القرن الرابع عشر الهجري إذ توفي سنة 770 للهجرة 1368 الميلاد. والمصباح المنير معجم لغوي خاص لشرح غريب كتاب الرافعي في الفقه، وفي مقدمته أنه استمده من معاجم لغوية مثل: تهذيب الأزهري، ومجمل ابن فارس، وديوان الأدب للفارابي، والصحاح للجوهري وأساس البلاغة للزمخشري، ومن معاجم فرعية خاصة مثل إصْلاح المنطق لابن السكيت وفصيح ثعلب. ورتب ألفاظه وفقًا لحروفها الأصول مبتدئًا من حرف الألف في الحروف الهجائية إلى حرف الياء، غير أنه وضع الألفاظ الرباعية والخماسية مع الألفاظ الثلاثية، فوضع بَرْقَعَ الرباعية مع بَرَقَ الثلاثية.
وأكثر من الاستشهاد بالأحاديث النبوية، وعُني بإبراز المعاني الفقهية إلى جانب المعاني اللغوية، وتوسع في المشتقات والتزم بالإشارة إلى أبواب الأفعال فيقول مثلا: دَ فَّ من باب فَعَل وأكثر من ذكر جموع الأسماء والصفات، ومن التفصيل في المسائل اللغوية والصرفية والنحوية. وضبط المادة بالعبارة كأن يقول : الطُّنْب بضمة وسكون الثاني. وذيل المؤلف المعجم بخاتمة نحوية وصرفية في منتهى الدقّة. وحاول تخليص الواوي من اليائي. وكتب الباب والفصل ورأس كل مادة باللون الأحمر. وعُني بالضبط فيه وذكرِه أبوابَ الفعل عناية كبيرة.
المعجم الوجيز:(/14)
هذا هو المعجم الثالث لمجمع اللغة العربية، وهو معجم مدرسي ومختصر، ولذلك وضعته في المعاجم الخاصة وقد عني المجمع بمعجم كبير ومعجم وسيط تحدثنا عنهما، وبقي هذا المعجم الوجيز الذي جعله المجمع وافيًا بحاجة التلاميذ في التعليم الثانوي بلغة فصيحة ليس فيها ألفاظ حوشية غريبة مع إدخال ما دعت إليه الضرورة من الألفاظ المولَّدة والمحدثة والمعربة والدخيلة. وقد وعى المعجم من مادة اللغة نحو خمسة آلاف مادة وأضاف فيها الصور والرسوم التي يُحتاج إليها في معرفة الحيوانات والنباتات وبعض الآلات، واختير له من الجموع والمصادر أشهرُها وأكثرُها استعمالاً.
وقُدِّمت في المعجم الأفعال على الأسماء والمجرَّد من الأفعال على المزيد، ووضعت لهما في المقدمة جداول تضبط ترتيبهما، وقُدِّم الفعل اللازم على المتعدي والمعنى الحسِّي على المعنى العقلي.
وما ألحق بالرباعي مثل كوثر وضع في باب: كثر، ووضع المضعف الرباعي مثل زلزل في بابه الرباعي لا في زلَّ الثلاثي.
والكلمات التي أبدل أولها الواوي تاء مثل تجه وتؤده وتقي وضعت مع أصلها في باب الواو، وذكرت الكلمات حسب نطقها لا حسب تصريفها.
وذكرت طائفة من المصطلحات العلمية الشائعة التي يستخدمها التلاميذ في دروسهم وأحاديثهم، وضبطت التعريفات بلغة سهلة واضحة.
ورتبت الكلمات في المعجم وَفْقَ الحرف الأول فالثاني فالثالث من حروف الهجاء. وتوضع نجمة في أول المادة. والرموز (ج) للجمع وَُِ لضبط عين الفعل في المضارع (جج) لجمع الجمع وتوضع الحركات: الضمة والفتحة فوق خط والكسرة تحته هكذا ـَُِ.
ومثل أذَّن وتأذَّن واستأذن تطلب في أصلها الثلاثي: "أذن". وضع تعلَّم وعلَّم وتعالم واستعلم في أصلها "علم". ويطلب في المعجم: الأديب ومأدبة في أدب. وإن كان المعرب غير مشتق فإن حروفه كلها تعد أصولاً مثل : إبريق، جلسرين.
وأخيرًا أرحب بكل ملاحظة على كل ما ذكرت وأي اقتراح أو استدراك.(/15)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
شوقي ضيف
رئيس المجمع(/16)
للعصا واليد، وهما مؤنثان ولكن ذُكّرا لتذكير الخبر، كما أنه قد يُؤنَّث المذكر
لتأنيث الخبر كقراءة(1) من قرأ : ثم لم يكنْ فتنتهم إلا أن قالوا، بالياء في (يكن )(2).
* ... ... * ... *
النوع الثانى - المشار إليه بصيغة المثنى المؤنث :
المشار إليه بـ"هاتين "
وقد ورد المشار إليه بهذه الصيغة في آية " - رضي الله عنه - - - - - ? - ? - الله أكبر ? { ? - - ? - ? - ? تمت - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - ? - الله أكبر ? - - - رضي الله عنهم - - ? فهرس ? { - ?- رضي الله عنه - - - عليه السلام - - ? - - - ????- رضي الله عنه - - ?- رضي الله عنهم - - " (القصص /27)،والمشار إليه هو ابنتا سيدنا شعيب، قال الزمخشري: وصْف البنتين بـ" هاتين" فيه دليل على أنه كان له غيرهما(3) .
* * *
ثالثًا : المشار إليه بصيغ الجمع بنوعيه :
المشار إليه بـ " هؤلاء "
1-اسم الإشارة لجمع المذكر أو المؤنث القريب ، وقد لاحظت على(/1)
المشار إليهم بـ ( هؤلاء ) عقلاء، أو منزّلون منزلة العقلاء، مثال العقلاء آية: " ? - ?? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ??- رضي الله عنهم - - ??- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم ? - ??- رضي الله عنهم - - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - ? - - رضي الله عنهم - - ?- رضي الله عنهم - مقدمة - - رضي الله عنهم - - - ?? المحتويات ? - - - ?? مقدمة ? - ? المحتويات ? - ?? - المحتويات ? - - ? - - قرآن كريم - صدق الله العظيم - - - رضي الله عنهم - - ? - - - رضي الله عنهم - - - ?? { { ? - - - المحتويات ? - - - ?? مقدمة ? - ? المحتويات ? - ?? - "(آل عمران /66) وآية " { المحتويات ? بسم الله الرحمن الرحيم ? المحتويات ? - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ??- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم ? - ??- رضي الله عنهم - - - - قرآن كريم ? - ? - ? { - - ? المحتويات ? - - - ?? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - " (البقرة / 85) وآية "??- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم ? - ??- رضي الله عنهم - - ? الله ? قرآن كريم - { ? - - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -? - - - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - - { ??- رضي الله عنه - - - - - - ? - - رضي الله عنه - فهرس " ، (النساء /78). ومثال ما هم منزلون منزلة العقلاء آية: " { المحتويات ? بسم الله الرحمن الرحيم } - قرآن كريم ? - ? - ? الله أكبر - - فهرس - - رضي الله عنه -? ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - ? - - صلى الله عليه وسلم -??? - ? - - { - - - تمهيد ? - ? - - رضي الله عنه -? - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ??- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم ? - ??- رضي الله عنهم - - - - قرآن كريم ? { ?? - - رضي الله عنه - - ". (الأنبياء /65) .(/2)
2-وأن المشار إليهم قد يكونون ذكورًا مثل ما تقدم، وقد يكونون إناثًا كما في آية: " - رضي الله عنه - - - - - ??- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم ? - ??- رضي الله عنهم - - ? - ? - - - عليه السلام - - - رضي الله عنه - - تمت ? { ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - - ? - - رضي الله عنه -? - ? - ??? - ?". (الحجر / 71)
3-وأن المشار إليهم يكونون قبل اسم الإشارة كثيرًا مثل آية: " ? المحتويات - - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - - - - - فهرس - ? { - ??? - { - - - } - قرآن كريم ? - - صلى الله عليه وسلم -? - - - جل جلاله - - - ??- رضي الله عنه - الله أكبر - صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله ? - ?- رضي الله عنه - - ? تمهيد ? - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ?- جل جلاله -? تم بحمد الله ? - ? - ? تمهيد ? تمهيد ? - ? - - - ? - ? المحتويات قرآن كريم ??? { ? - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - قرآن كريم ? { - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -??? - { - ? - } - - صلى الله عليه وسلم -? - - ? - - ??- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم ? - ??- رضي الله عنهم - - - - - رضي الله عنهم - - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله - رضي الله عنه -??? - { - - - } - قرآن كريم ?- جل جلاله -- رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -? ? - - ? تمهيد - رضي الله عنهم - - "، (النساء/51)، فالمشار إليه الجبت والطاغوت، وهم الأصنام والشياطين، وآية:" - - - صلى الله عليه وسلم -? - ? - ??- رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ? - - صلى الله عليه وسلم -? - ? - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - صدق الله العظيم ? المحتويات ? - - - ?? - - - صدق الله العظيم - عليه(/3)
السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - ?? - ? - - رضي الله عنه - - - - قرآن كريم ? - قرآن كريم ? { - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ??- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم ? - ??- رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنه - الله أكبر ? - ??- رضي الله عنهم -? - ?? { - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -?? ? - - - - " (يونس /18)، والقليل أن يكون المشار إليه بعد اسم الإشارة، مثل الآية: السابقة ( هؤلاء بناتى ).
4- وأن المشار إليهم قد يكونون حاضرين مثل الآية السابقة مباشرة، وآية: " - رضي الله عنه - - - - { - ? - ? الله أكبر قرآن كريم ??? تمهيد - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ?? - - - رضي الله عنهم - - ? - - صلى الله عليه وسلم - - ? - ??- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم ? - ??- رضي الله عنهم - - تمت ? { ? المحتويات ? - - ? - - رضي الله عنه -??? - ? - ? - ? " (البقرة / 31)، وآية: ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم )، وغيرها من الآيات (*) ، وقد يكون المشار إليه غائبًا مُنْزلاً منزلة(/4)
الحاضر، كما في قوله تعالى:" - - - ? - - ? - { - رضي الله عنه - تم بحمد الله - صدق الله العظيم ? - - - تمهيد { - - - - ?? - - رضي الله عنه - الله أكبر - - رضي الله عنه -?- رضي الله عنهم - - { المحتويات ? بسم الله الرحمن الرحيم - - - ? { ? مقدمة ?- عليه السلام - - ? - { قرآن كريم - رضي الله عنهم - - - { - رضي الله عنهم - - ??? الله أكبر - } - جل جلاله -? } تم بحمد الله - رضي الله عنه - - - - - - - - رضي الله عنهم - - ? الله أكبر ? { ?? مقدمة ? - - ? - - صلى الله عليه وسلم -? - - - فهرس - - رضي الله عنه -? { بسم الله الرحمن الرحيم ? - ?? - ? - - رضي الله عنه - - { - ? - ? { - عليه السلام - - ? - ?? - صدق الله العظيم ? - ? - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - ?- صلى الله عليه وسلم -- عليه السلام - - - - جل جلاله -? - - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - فهرس - ??- رضي الله عنه - - ???? ? - - - - - - مقدمة - - - - - رضي الله عنه -??? - { - - - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ? المحتويات ? - ? - ? - - - - - - رضي الله عنهم - - - ? - ? - - ??- صلى الله عليه وسلم - - المحتويات ? - ? { - رضي الله عنه -? - } تم بحمد الله } - قرآن كريم ? الله أكبر - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - ? - ? - - رضي الله عنه - - ???? ? المحتويات ? - - عليه السلام - - - - ?- صلى الله عليه وسلم - - - ? ? المحتويات - - رضي الله عنه -?? - - - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله } - قرآن كريم ? - - - - - - - رضي الله عنه -??? - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ? - فهرس - - ? ? صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ??- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم ? - ??- رضي الله عنهم - - ? المحتويات ? - ? - - ??? - - رضي الله عنهم - -(/5)
? المحتويات - - رضي الله عنه -?? - - - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله } - قرآن كريم ? - - - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ? - - رضي الله عنه -??? - ? - ??? - ? - " (الزمر /51:49) .
المشار إليه بـ"أولاء "
اسم الإشارة للجمع القريب ، وقد ورد في آيتين من كتاب الله، أولاء قوله تعالى : " ? المحتويات ? - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ??- رضي الله عنهم - - ??- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم - - صلى الله عليه وسلم -? - ? المحتويات ? - - رضي الله عنه - - قرآن كريم - - ?- رضي الله عنه -? تم بحمد الله
- صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ? - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم - تمهيد ?- رضي الله عنه -? - " (آل عمران /119)، المشار إليهم (أنتم)، والغرض من هذا التركيب كله بيان خطأ المخاطبين ـ وهم المؤمنون ـ في حبهم لأهل
الكتاب في حين أنهم لا يحبونهم، يقول الزمخشري :" أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب، وقوله (تحبونهم ولا يحبونكم) بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء ) (1).
الآية الثانية هى:"- رضي الله عنه - - - - - ? المحتويات ? - ??- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم - - صلى الله عليه وسلم -? - - - فهرس - - رضي الله عنه -? - ? - - صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - - ? تمهيد ? - ? - - رضي الله عنه -?- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - ? - - - ? { ? تمت - - عليه السلام - - - ?- رضي الله عنهم -?? - - رضي الله عنه -- سبحانه وتعالى -? - "، (طه /84) المشار إليهم هم قوم موسى، والغرض من هذا التركيب تقريب المشار إليه(2).
* * *
المشار إليه بـ" أولئك"(/6)
اسم الإشارة للجمع البعيد، وقد لاحظت على المشار إليه بهذه الصيغة الملاحظات الآتية :
الملاحظة الأولى: أن المشار إليهم عقلاء، وليس فيهم غير عقلاء كما سبق في المشار إليه بـ (هؤلاء)، وعلى سبيل المثال آية: " ? صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - - - عليه السلام - - - صلى الله عليه وسلم - -
فهرس - - رضي الله عنه - - ? - - - رضي الله عنهم - - - - ?- رضي الله عنه -?- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - مقدمة - - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام - - ??- رضي الله عنهم - - - عليه السلام - قرآن كريم ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ? - ? تم بحمد الله - رضي الله عنهم - - ???? - - - - صلى الله عليه وسلم -? - - ? - رضي الله عنه - تمت - - - بسم الله الرحمن الرحيم ? - ? - ??- رضي الله عنهم - - - - جل جلاله - - قرآن كريم ? - ?? } تم بحمد الله "، (الإسراء /19) ، وآية " - رضي الله عنه -??? - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - - صلى الله عليه وسلم -? - - ? - - } - قرآن كريم ? - } - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - ? - ?- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه -?? - - درهم ???? - - - - صلى الله عليه وسلم -? - - ? ? المحتويات ? - - - ? - - - - - رضي الله عنه -? ???? - - تم بحمد الله " (الحج /57)، الملاحظة الثانية : أن المشار إليه دائمًا قبل اسم الإشارة (3)(/7)
الملاحظة الثالثة : أن المشار إليه في المرتبة البعيدة إما لأنهم منزلون منزلة الغائبين مثل آية :" } تمت ? { - رضي الله عنه -??? - { - - - } - - صلى الله عليه وسلم -? - - ? - - } - قرآن كريم ? - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - - } ?? - صدق الله العظيم فهرس - - ? - - - رضي الله عنه - تمهيد ? { ? - ? صدق الله العظيم ? تم بحمد الله المحتويات ? - ? - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ??? - ? } تم بحمد الله ??? - - } - - - - جل جلاله - تمهيد - رضي الله عنهم - - - - ? قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - ?? - - ??? مقدمة ? - - - رضي الله عنهم - - ???? - - - - صلى الله عليه وسلم -? - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - - - ? - - - - - رضي الله عنه -? ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ? - - - صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله - رضي الله عنه -??? - ???? الله أكبر "(آل عمران/91)، وإما لأن من وراء ذلك غرض بلاغي، وهو أن ما جاء بعد المشار إليه يستحقه ويختص به، من ذلك ما جاء في قوله تعالى " - رضي الله عنهم - - ? - ? - - ? - ?- رضي الله عنه - - ? تمهيد ? - - -(/8)
- صدق الله العظيم - - ? - - عليه السلام - - - ? مقدمة - ?? - - الله - ? - - صدق الله العظيم - ? { ? - ? - ? - ? - - ??? - رضي الله عنه -??? - { - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - ? تم بحمد الله ? - ? - ? - ? - - رضي الله عنه -?? - - - ? - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - - ? { ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - فهرس - - قرآن كريم فهرس - - ? - - - - ??? الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ? - ?- عليه السلام - - ? - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? { ?? - ? - ??? - رضي الله عنه -??? - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - ? تم بحمد الله ? - ? - - - - ?? - - رضي الله عنه - - ? - الله أكبر ? - - رضي الله عنهم - - ? - - - ? { - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - ? - الله أكبر ? - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله - رضي الله عنهم - - ? - ? - - - ? - - رضي الله عنه - - ? - - - رضي الله عنهم - - - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - ? - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - ? - قرآن كريم ? - ??? - رضي الله عنهم - - ???? - - - - صلى الله عليه وسلم -? - - - فهرس - - رضي الله عنه -? - الله - ? - صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله ? المحتويات ? - ? فهرس - { - } - رضي الله عنهم - - ???? - - - - صلى الله عليه وسلم -? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ? - - - قرآن كريم ? - ? - ??? - ? - - - "، (البقرة /5:2)، يقول الزمخشرى موضحًا ذلك: وفى اسم الإشارة الذي هو (أولئك) إيذان بأن ما يرد عقيبه فالمذكورون قبله أهْل لاكتسابه من أجل الخصال التى عُدَّدت لهم، كما قال حاتم : ولله صعلوك، ثم عدّد له خصالاً فاضلة ثم(/9)
عقَّب تعديدها بقوله:
فذلك إنْ يهلك فحُسْنى ثناؤه
وإن عاش لم يقْعد ضعيفًا مُذَمَّما
ثم يوضح سبب تكرير (أولئك) بقوله : " وفى تكرير أولئك تنبيه على أنهم كما ثبتت لهم الأثرة بالهدى فهي
ثانية لهم بالفلاح "، ثم يقول : "فانظر كيف كرر الله - عز وجل - التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى، وهى ذكر اسم الإشارة وتكريره، وتعريف المفلحين وتوسيط الفصل بينه وبين أولئك ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا" (*)، ومن ذلك قوله تعالى : - " ? - ?- صلى الله عليه وسلم -? - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ??? - ? - ? - ? - - - ????? - رضي الله عنه -??? - { - - - - - - - ? { المحتويات ? - ? - - عليه السلام - - ? - ?- صلى الله عليه وسلم - - ? { - رضي الله عنه - - - ?? - تم بحمد الله } - ? قرآن كريم ? - - - - - ? الله أكبر ? { ? - - - ? الله أكبر ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? مقدمة ? - - - ? { - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ??? - ?- عليه السلام - - ????? - رضي الله عنهم - - ???? - - - - صلى الله عليه وسلم -? - ? المحتويات ? - ? - فهرس - - رضي الله عنه -? ? المحتويات ?- عليه السلام - قرآن كريم فهرس - - ? صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله ? المحتويات ? - ? فهرس - { - ? { - رضي الله عنهم - - ? مقدمة - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - درهم ???? - - - - صلى الله عليه وسلم -? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ? - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -? - - رضي الله عنه - - ? - ? - ? - - - " (البقرة /157:155)
* * *
المشار إليه بـ"أولئكم"
اسم الإشارة للمشار إليه في المرتبة البعيدة، المتصل به كاف الخطاب، وقد ورد مرتين في كتاب الله : المرة الأولى : قوله تعالى :(/10)
"- رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -? - ? - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه -??? - - رضي الله عنهم - - - - عليه السلام -? - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -? - - ? - ? - تمت - صلى الله عليه وسلم - - ? المحتويات ? - قرآن كريم ? - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ? - - رضي الله عنه - - } - قرآن كريم ? - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ? - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ? - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ? قرآن كريم - - } - ? - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله } - ?- صلى الله عليه وسلم - - - ? - - فهرس - ? { ? { - عليه السلام - - ? - ??? - - - } - قرآن كريم ? - ? - ? - ? - - { - - ?? - تمت ? - - ? ? المحتويات { - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - قرآن كريم ? - ? - - رضي الله عنه -- سبحانه وتعالى -??- رضي الله عنه - - } - ? قرآن كريم ? { ? - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - ? - ? - - - ? { - المحتويات فهرس - - - - - - } - ? قرآن كريم - ?? - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - - رضي الله عنه - - ? - ? - - صلى الله عليه وسلم - - ? المحتويات ? - - صلى الله عليه وسلم -? - ? - - ? ? المحتويات ? - قرآن كريم ? - ? - ? - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? { ? - - رضي الله عنهم - مقدمة ? المحتويات ? - قرآن كريم ? - ? - ??? { - صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم - ? المحتويات ? - ???? - - - - صلى الله عليه وسلم -? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - ? - - رضي الله عنهم -?- رضي الله عنهم - - ? المحتويات ? - - - ? المحتويات ? - ? - فهرس - - رضي الله عنه -? - - جل جلاله - - ? - ?? - ? - - - جل جلاله -- جل جلاله - - ? تمهيد(/11)
- تم بحمد الله " (النساء /91)، المشار إليهم (آخرين) وهو في المرتبة البعيدة لأنهم غائبون فناسب أن يشير إليهم بالصيغة البعيدة .
المرة الثانية : آية: " ? - ? - ? - - } ?? - - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - - رضي الله عنهم - - ? صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله ? - ? - ???? - - - - صلى الله عليه وسلم -? - ? الله - صلى الله عليه وسلم - - - ? - - - ? - - عليه السلام -? - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - - ?? ? - ? - - - - - - " (القمر/43)، المشار إليهم قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون الذين ورد ذكرهم في الآيات السابقة (1).
رابعًا - الإشارة إلى الظرف:
أسماء الإشارة إلى الظرف التي وردت في القرآن الكريم هي: ههنا، وهنالك، وثَمَّ.
المشار إليه بـ" ههنا"
قد وردت هذه الصيغة في أربع آيات من القرآن الكريم :
الآية الأولى : } " - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - قرآن كريم ? { - رضي الله عنه - - ? قرآن كريم - - - رضي الله عنه - تمت - - - - - - جل جلاله - - - - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ? - ? تم بحمد الله - } - - ???? - ? - } تم بحمد الله - - عليه السلام - - ? - ? - ? - - - - جل جلاله -? - ?- رضي الله عنهم - - " (آل عمران/154)، المشار إليه هنا مكان، وهو مكان غزوة أحد .
الآية الثانية : " } ? - - رضي الله عنهم - - ? - - - - ? - تمهيد الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - درهم - - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - سبحانه وتعالى - - ? - ? - { - ? - ? الله أكبر ? { - - - جل جلاله -? - ?- رضي الله عنهم - - - - - صلى الله عليه وسلم -? - ??? - - " (المائدة / 24)، المشار إليه هنا مكان وهو خارج مصر، يقول القرطبى : "أمر موسى قومه أن يدخلوا الأرض المقدسة التى فرض الله دخولها عليهم، ولما خرجت بنو إسرائيل من مصر أمرهم بجهاد أهل أريحا من بلاد فلسطين، فقالوا مقالتهم (2).(/12)
الآية الثالثة : " - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - - عليه السلام - - ?- سبحانه وتعالى -? - - صلى الله عليه وسلم - - - ?? - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - - جل جلاله -? - ?- رضي الله عنهم - - - ??? - ? تم بحمد الله - - عليه السلام -? " (الشعراء/146)، المشار إليه في هذه الآية مكان وهو
ديار أهل صالح (1).
الآية الرابعة :" { { ? - فهرس - - ? ? مقدمة - - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ? قرآن كريم - عليه السلام - - ? - - - - - عليه السلام - - ? - ?- رضي الله عنهم - - ? - ?? - - قرآن كريم " (الحاقة /35)،المشار إليه هنا مكان ، وهو الجحيم، كما ورد في آية:" - بسم الله الرحمن الرحيم ? بسم الله الرحمن الرحيم - رضي الله عنه - - ?? - { - ? - - - ? فهرس قرآن كريم - - - ? ". (الحاقة /31) .
* * *
المشار إليه بـ "هنالك "
اسم الإشارة هو " هنا "، واللام للبعد، والكاف للخطاب؛ فهى إشارة للظرف البعيد، وقد وردت هذه الصيغة في تسع آيات هى :
الآية الأولى : " - درهم ? - - - عليه السلام - - ? - - - رضي الله عنه -?- رضي الله عنهم - - - ? - ? - - - - رضي الله عنهم - - ?? مقدمة ? - - عليه السلام - - } " (آل عمران /38)، المشار إليه يجوز أن يكون مكانًا وهو: أمام المحراب، ويجوز أن يكون زمانًا، أى وقت دخول زكريا على مريم ووجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وقولها: إن الله يرزق من يشاء
بغير حساب ، قال أبو حيان : " أصل
هنالك أن يكون إشارة للمكان ، وقد يستعمل للزمان، وقيل بهما في هذه الآية، أى : في ذلك المكان دعا زكريا، أو في ذلك الوقت لما رأى هذا الخارق العظيم لمريم ممن اصطفاها الله ارتاح إلى طلب الولد …" (2).(/13)
الآية الثانية : " } - قرآن كريم ? - ? - ?? - ? - رضي الله عنهم - - ? - - - عليه السلام - - ? - } - قرآن كريم ? - فهرس - - { الله أكبر - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -??? - ??? - ?" (الأعراف/119)، المشار إليه هنا يجوز أيضًا أن يكون مكانًا أو زمانًا ، أى : غُلب جميعهم في مكان اجتماعهم، أو في ذلك الوقت (3)، والمقام هو غلبة موسى على سحرةِ فرعون .
الآية الثالثة : "- رضي الله عنهم - - ? - - - عليه السلام - - ? - ? { - عليه السلام - - ? - - - عليه السلام - قرآن كريم ? - - - ? - ? - - { - رضي الله عنه -? - - - - - عليه السلام - قرآن كريم ? - ? - ? - - رضي الله عنهم - - - - - - - عليه السلام - قرآن كريم - صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم ? - ? - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - جل جلاله - تمهيد ? { ??" (الكهف/44)، يجوز أن يكون المشار إليه مكانًا أو زمانًا ، أي : في ذلك الموقف والمقام المقتضي للحيرة والدَّهَش، وهو موضع الحساب، أو
في ذلك الوقت وهو يوم الجزاء (1).
الآية الرابعة : " - رضي الله عنهم - - ? - - - عليه السلام - - ? - ? { - عليه السلام - - ? - - - عليه السلام - قرآن كريم ? - - - ? - ? - - { - رضي الله عنه -? - - - - - عليه السلام - قرآن كريم ? - ? - ? - - رضي الله عنهم - - - - - - - عليه السلام - قرآن كريم - صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم ? - ? - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - جل جلاله - تمهيد ? { ??" (الكهف /44)،المشار إليه في هذه الآية زمان، أى حينما، أحيط بثمر الرجل المشرك قال هذه المقالة ويجوز أن يكون مكانًا، وهو الدار الآخرة (2).(/14)
الآية الخامسة : " - - - - ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ? { ? - ? - - { - ? { ? تم بحمد الله - - الله أكبر - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - { ? - - - ? - رضي الله عنه -??? الله أكبر { - - { - تم بحمد الله } - ? قرآن كريم - رضي الله عنه -?- رضي الله عنهم - - - درهم ? - - - عليه السلام - - ? - - - جل جلاله - - قرآن كريم ? تمهيد ? بسم الله الرحمن الرحيم " (الفرقان /13) المشار إليه في هذه الآية مكان، وهو نار جهنم.
الآية السادسة : " - رضي الله عنهم - - ? - - - عليه السلام - - ? - - عليه السلام - - ? - ? - ? - - - - - قرآن كريم ? - ? تم بحمد الله ? - ? - ? - - - } - قرآن كريم ? - ? - ? - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - - رضي الله عنه - - ? - ? - - - جل جلاله - - - ? - - { " (الأحزاب/11)المشار إليه ظرف مكان للبعيد، هذا أصله فيُحمل عليه، أي: في ذلك المكان الذي وقع فيه الحصار والقتال (3).
الآية السابعة :"? - - ? - - } تم بحمد الله - درهم ? - - - عليه السلام - - ? -
? بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم -? - ? - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله ? - - - رضي الله عنه - - ? مقدمة - } - - " (ص /11)، المشار إليه في هذه الآية ظرف مكان كما فهمت من التفسير يقول أبو حيان: " وهنالك ظرف مكان يشار به للبعيد، والظاهر أنه يشار به للمكان الذي تفاوضوا فيه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتلك الكلمات السابقة وهو مكة فيكون ذلك إخبارًا بالغيب عن هزيمتهم بمكة يوم الفتح، وقيل هنالك إشارة إلى الارتقاء في الأسباب، أي هؤلاء القوم إن راموا ذلك حُنْدٌ مهزوم (4) .(/15)
الآية الثامنة: " - - - ? - - ? - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - - ? - ? تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - ? - - - - ???? - ? - - { - رضي الله عنه -? - - - ? - - عليه السلام - - ? - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - درهم ? - - - عليه السلام - - ? - ا - - قرآن كريم ? - ??? تمهيد ? - ? - - " (غافر/78)،المشار إليه في هذه الآية زمان، وهو يوم القيامة، لأن الزمخشري فسر أمر الله بالقيامة(5).
الآية التاسعة : " - - - فهرس - - ? } - ?- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - - - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - ? - - رضي الله عنه - - } - ? قرآن كريم ? - - - - - } - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -? ? - - - ? - ?? فهرس - رضي الله عنهم - - ? فهرس - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - الله أكبر ? - - ? - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ? -(/16)
- } - ? - ?? مقدمة ? - - رضي الله عنه -??? - ? - ??? تم بحمد الله ???? ? بسم الله الرحمن الرحيم فهرس - - ? ? - - رضي الله عنه - - ? المحتويات ? - ?? - ? - - رضي الله عنه - - ? المحتويات ? - ? { ?- رضي الله عنهم - - - ? { - - - - - } - ?- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - - - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - ? - - رضي الله عنه - - } - تمهيد } - جل جلاله -? - ? - - - ?? - { - - - ? - - - ? تمهيد فهرس - - رضي الله عنهم - - - ?? ?? فهرس ? - - - رضي الله عنه - - ?? } - عليه السلام - - ? - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - ? - - - عليه السلام - - ? - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -? - ??? - - ? - - - " (غافر /85:84)،المشار إليه ظرف زمان، قال الزمخشري: "وهنالك مكان مستعار للزمان، أي: وخسروا وقت رؤية البأس "(1) .
وبعد استعراض المشار إليه في هذه الآيات يمكن أن يقال : إن "هنالك" كما يشار به إلى المكان يشار به إلى الزمان بخلاف ما قال به النحاة من أنه يشار به إلى الزمان قليلاً (2).
* * *
المشار إليه بـ"ثَمَّ"
وردت هذه الكلمة في أربع آيات من كتاب الله وهى :
1- "ولله المشرقُ والمغرب - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام - - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - ? } - قرآن كريم - - - عليه السلام - قرآن كريم ? - { المحتويات - - - ? ? مقدمة ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - - - - - - ? { { - - - ??? - ?- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - رضي الله عنه -?". (البقرة /115).(/17)
2- - - - جل جلاله -?? - - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - { المحتويات - صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم - رضي الله عنه -??? - - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنهم - - - " .
(الشعراء/64)
3- - - - ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - تمهيد ? - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - { المحتويات - صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم - تمهيد ? - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - - - - - ??- رضي الله عنه - الله أكبر - - - ? - ? تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ? - - ? - - - " (الإنسان /20)
4- "?? مقدمة ? الله أكبر ? { ? - ? قرآن كريم - { - - - - قرآن كريم ? - - عليه السلام - - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - ???? - ? - - - { قرآن كريم ? - - رضي الله عنهم - - - ?? - ? - ??? - - رضي الله عنهم -?? - - - - ??? - - رضي الله عنه - تم بحمد الله " .
(التكوير / 19 :20).
* *
هذا، وأود أن أسجل شيئًا مهمًّا وهو أنه يمكن أن تأتي صيغة، من صيغ أسماء الإشارة، مكان الأخرى لضرب من التصرف، والافتنان في القول، إلا إذا كان هناك مانع من التبادل، يقول الفراء : وقوله تعالى : " ذلك الكتاب"، يصلح فيه " ذلك " من جهتين، وتصلح فيه " هذا " من جهة، فأما أحد الوجهين من " ذلك " فعلى معنى : هذه الحروف يا أحمد ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه
إليك، والآخر أن يكون " ذلك " على معنى يصلح فيه " هذا"، لأن قوله "هذا "، و " ذلك" يصلحان في كل كلام إذا ذكر ثم اتبعته بأحدهما بالإخبار عنه، ألا ترى أنك تقول : قد قدم فلان فيقول السامع : قد بلغنا ذلك، وقد بلغنا هذا الخبر، فصلحت فيه " هذا " لأنه قد قرب من جوابه فصار كالحاضر الذى تشير إليه، وصلحت فيه " ذلك " لانقضائه والمنقضي كالغائب .(/18)
ثم يقول : " ولو كان شيئا قائمًا يُرى لم يجز مكان " ذلك " " هذا "، ولا مكان "هذا" "ذلك"، وقد قال الله عز وجل : " واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق " إلى
قوله : " وكل من الأخيار " ثم قال : " - - - ?- رضي الله عنهم - - ? - ? - ? - "(ص45:49) وقال جل
وعز في موضع آخر :
" وعندهم قاصرات الطرف أتراب " ثم قال : " - - - ?- رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -? - - رضي الله عنه -? قرآن كريم ? - الله ? قرآن كريم - عليه السلام - - ? - ? - - - - ?- رضي الله عنه -? - - - " (ص52/ 53) وقال جل ذكره:" وجاءت سكرة الموت بالحق " ثم قال: " } - رضي الله عنهم - - ? - ? - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - تمهيد - جل جلاله -? - ? مقدمة ? - ? تم بحمد الله ? - - ?- رضي الله عنه -- صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله " (ق/19) ولو قيل في مثله من الكلام في موضع " ذلك " : "هذا " أو في موضع "هذا" : " ذلك " لكان صوابًا، وفي قراءة عبد الله بن مسعود " هذا فذوقوه " وفى قراءتنا " ذلك فذوقوه ".
ثم يقول : " فأما مالا يجوز فيه " هذا " في موضع " ذلك " ولا " ذلك " في موضع " هذا " فلو رأيت رجلين تنكر أحدهما لقلت للذي تعرف : من هذا الذي معك، ولا يجوز ها هنا: مَن ذلك ؟ لأنك تراه بعينه " (*).
ويقول الرضي : " وإنما يُورَد اسم الإشارة بلفظ البعد لأن المحكي عنه غائب، ويجوز في هذه الصورة على قلة : أن يُذكر اسم الإشارة بلفظ الحاضر القريب نحو قلت لهذا الرجل،
وهالني هذا الضرب، أي: هذا المذكور عن قريب . لأن المحكي عنه وإن كان
غائبًا إلا أن ذكْره جرى عن قريب فكأنه حاضر، وكذا يجوز لك في القول المسموع عن قريب ذِكْر اسم الإشارة بلفظ الغيبة والبعد كما تقول : بالله الطالب الغالب وذلك قسم عظيم لأفعلن .(/19)
قال تعالى : (- رضي الله عنهم - - ? - ? - - - - ? - ? - ?? - - ? - - - ? } - } - - ? - ? المحتويات ? - فهرس - ? - الله ? تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - )(*)، مشيرًا بذاك إلى ضرب المثل الحاضر المتقدم، وهو قوله:"- رضي الله عنهم - - ? - ? - - } تمت - صلى الله عليه وسلم - - ? - - ??? - { - - - } - - صلى الله عليه وسلم -? - - ? - - } - قرآن كريم ??- رضي الله عنه - - } - - - - - ???- رضي الله عنه - - ? - - - } تمت - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -??? - { - - - } - قرآن كريم ? - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -? } - قرآن كريم ??- رضي الله عنه - - } - - - } - { - رضي الله عنه -? - - - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ? المحتويات ? - ? - - { - - - رضي الله عنهم - - ? - ? - - - - ? - ? - ?? - - ? - - - ? } - } - - ? - ? المحتويات ? - فهرس - ? - الله ? تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - "، (محمد /3) .
* * *
ويمكن بعد هذه الملاحظات والتأملات في المشار إليه في القرآن أن أسجل النتائج الآتية من خلال هذا البحث :
1-أن أسماء الإشارة تعين على الاختصار في الأساليب العربية، وهذا
ما شرحه الزمخشري عند الكلام عن " ذلك".
2-أن أسماء الإشارة تستعمل استعمال ضمير الغائب، وضمير الغائب يستعمل استعمال اسم الإشارة .
3- أن المشار إليه يُذكر قبل اسم الإشارة، وهذا هو الكثير، وقد يأتي بعده وهذا هو القليل.
4-أن المشار إليه قد يكون بدلاً من اسم الإشارة وقد يكون خبرًا عنه، وقد يكون غير ذلك .
5- أن المشار إليه قد يكون محسوسًا حاضرًا، وقد يكون معنى من المعاني،
أو غائبًا.
6- أن المشار إليه الظرف قد يكون مكانًا أو زمانًا .
7- أنه كانت هناك أغراض بلاغية من وراء استعمال اسم إشارة معين لمشار إليه معين .(/20)
8- أنه يجوز أن تحل بعض أسماء الإشارة مكان بعضها الآخر ، وقد لا يجوز، وذلك له مواضع، وهذا له مواضع.
أ. د . محمد حسنين صبرة(/21)
ثانيًا- كلمة المجمع في تأبين الفقيد الراحل
للأستاذ الدكتور كمال محمد دسوقي عضو المجمع
السيد الرئيس، السادة الزملاء، سيداتى، سادتى :
في صباح الأربعاء السابع عشر من أبريل 1974م، أقيم بدار المجمع بالجيزة حفلُ استقبال أربعة أعضاء جدُد، افتتحهُ نائب الرئيس الأستاذ زكى المهندس بقوله: "إنه ليَسُرُّ المجمع كل السرور أن يستقبل اليوم أربعة من أعضاء المجمع الجدُد ـ هم الأساتذة : على النجدى ناصف، والأستاذ محمد شوقي أمين، والدكتور أحمد عز الدين عبد الله، والدكتور عثمان أمين . ولما كان من المقرر أن يستقبل هؤلاء الزملاءَ الزميلُ الجليلُ الأستاذ عبد الحميد حسن ـ الذي اعتذر لوَعكةٍ أصابته ـ فقد دَعا الدكتور محمد مهدى علاَّم عُضوَ المجمع إلى أن يتفضل مشكورًا بإلقاء كلماتِ الاستقبال التي كان قد أعدَّها (عبدُ الحميد) لاستقبالهم؛ على أن يُلقي كلّ منهم بعدَ ذلك كلمةً يتحدثُ فيها عن سَلفِه".(/1)
... وعَن الدكتور أحمد عز الدين عبد الله، قال الدكتور مهدى علام في استقباله (عن لسان الأستاذ عبد الحميد حسن): هذا علَمٌ من أعلام القانون، وأستاذ من أساتذة الفقه التشريعي . وإن انضمامه إلى مجمع اللغة العربية، ومُشاركتَهُ للأعضاء الذين حَظِىَ بهم المجمع من قبل؛ سيكون قوة لها شأنها في مجال الدراسات اللغوية القانونية التي يُعنَى بها المجمَع. وسيكون ذلك عونًا على تعريب التعليم القانوني بالجامعات، وعلى تأليف المراجع المختلفة في هذا الميدان باللغة العربية السليمة. وسيُنشَرُ كلُّ ذلك في سائر الدول العربيةِ ويتجهُ الجميعُ وجهةً موحدة تزيد الوحدة السياسية والاجتماعية قوة وازدهارًا ـ ثم يقول في ختام كلمة استقبال الزميل الكريم إلى رحاب مجمَعنا الموقر بالترحيب والتهنئة: "كي يسير في مجال الإنتاج والابتكار والتجديد مع زملاء أعِزاء يضُمهم المجمع، هذه صفحة ناصعة مجيدة من صفحات الجهاد العلمي القانونى، وهو جهاد يرفعُ من قَدر مصر ورجالها الأفذاذ في القانون بين أمم العالم " .(/2)
... ويتجلى حُسن الاختتام ـ كما تجلَّت براعة الاستهلال ـ في كلمة استقبال الألمعي عبد الحميد حسن للدكتور عز الدين التي عبر فيها عن جدَارتِه بالتقدير والإعجاب لِما كان له من شأن في شَتَّى النواحي القانونية، وللمكان المرموق الذي سَما إليه عن جدارة واستحقاق … إلى خمسة عوامل: الدرجات العلمية التي نالها، الوظائف التي شغَلها، النقابات والهيئات العلمية التي هو عُضوٌ فيها، التدريس بالجامعات العربية والأجنبية، المؤلفات والبحوث العلمية التي كتبها. أما هو (عز الدين عبد الله) فَيرد في تواضع وامتنان -قلَّ أن يجودَ بهما- على مُستقبِله باسمِ المجمع عبد الحميد حسن قائلاً : "إن كلمة الشكر تضيقُ عن إيفائه حقه لقاء ما تلقاه به في كلمته ـ التي ألقاها مشكورًا أيضًا الصديق الدكتور مهدي علام ـ ثم يذوبُ رقةً ومَودَّه فيستطرد: "وإذا لي أن أعَقب، لَقُلتُ إني لا أزال طالبَ معرفة، وإني لواجدٌ في مُصاحبة هذه الصفوة من العلماء طريقًا للمنهل العذب في مختلف فروع المعرفة " فما أروعَ أن تنحني هامةُ الراسخين في العلم عندما تطأ أقدامُهم عَتباتِ مجمع الخالدين !(/3)
... فمُنذ تخرج عزُّ الدين بالليسانس في الحقوق من جامعة القاهرة سنة 1933م ولَمَّا يكتمل عمرُه العشرين؛ تابع الدراسات العليا بها ، فحصل على دبلومتَى القانون الخاص (1937م) فالعام (1938م) ثم توَّج ذلك كله بالدكتوراه في الحقوق (1942م) و(عن الرسالة التي تقدم بها لنيل الدرجة) كتب له القانوني الكبير الدكتور عبد الرازق السنهوري مقدمةً أشاد فيها بمقدرة الدكتور عز الدين عبد الله وأثنَى عليه الثناء المُستطاب. وكان مما قاله: " إني أرى الرسالة قد غاصت في أعماق المسائل التي تعرَّض لها الكاتب، ثم انبسطت على جميع تفصيلاتها، فلم تترك شاردةً ولا واردةً إلا كانت لها سجلاًّ محفوظًا. وقد أدهشَنِي المؤلف بقدرته على تفتيح الآفاق الواسعة في الموضوع ـ حيث إن المؤلف عالج المسائل في وضعِها العملي الصحيح، ولم يَنفُذ إليها عن طريق النظريات العلمية؛ بل من الطريق الذي تبرز فيه أمام القضاء . فلا أشُك في أن للمؤلف شخصية بارزة في كتابته تجعل القارئ يشعر بها من أول صفحة في الرسالة إلى آخر صفحة".(/4)
... ولما كان الدكتور عز الدين قد اختار أن يتخصص في أشد فُروع القانون صعوبةً وعُسرًا ـ وهو القانونُ الدولي الخاص، الذي مضى يُدرِّسه ويؤلف فيه ويرتقي الدرجات صُعُدًا حتى كُرسيِّ أستاذيته سنة 1952م ـ مع أن توزيع الدروس قد حَدَّد له في البدْء أن يكتب في القانون المدني وقانون المُرافعات ويُدرسهما ويؤلف فيهما ـ فقد أضفى على هذا العلم من شخصيته ما لم يكتَفِ فيه بالنظريات المقارنة المتعمقة لمختلف موضوعاته؛ بل عمَد إلى أن يُثري فِكره هو بأصول من مُختلِف فروع القانون الخاص وكذلك القانون الدولي العام، وأَن يُوازن بين مختلِف النزَعاتِ (الوطنية والدولية) التي تتجاذبُ الباحثَ في هذا الفرع من فُروع القانون. وبمواءَمة موضوع تخصصه هذا باستعدادات وميول شخصية كباحث، توافَر له في ذلك الكثير من الزاد، وهيَّأهُ لأن ينشر من المؤلفات والبُحوث في القانون الدولي الخاص ما جاوز الخمسين عَدًّا، أكثرُها بالعربية وبَعضها بالفرنسية (مما كان يُحاضِر فيه بالفرنسية بأكاديمية القانون الدولي بلاهاى منذ نمَت عام 1973م ونُشِرَت محاضراتُه ونبذةٌ عن تاريخ حياته بحَوليَّتها). ولم يَمرُّ عام من عمره دونَ أن يُعيد طباعة مؤلَّف له يتابع فيه تطورَ التشريع والفقه والقضاء، أو ينشُرَ بحثًا جديدًا يختار موضوعًا له ما استجدَّ من موضوعات في ميدان العلاقات الدولية الخاصة ـ حتى بعد اختياره عميدًا لكلية حقوق عين شمس سنة 1956م وشَغلِه منصب العمادة لعشر سنوات متتالية؛ لم تحُلْ جَسامةُ أعبائه دون متابعة التأليف والنشر والدفع بمعين الإنتاج إلى البلاد العربيةِ ليصبح عُمدَة يُعوِّلُ عليه الباحثون في مختلف موضوعات القانون الدولي الخاص.(/5)
... وتقديرًا منه لصعوبة المادة القانونية التي نذَر نفسَه لها طوال أربعين سنة في رحاب الجامعة، مَشتَغِلاً بالعلم في دأب وإخلاص، دُون أن يبهره بريقُ أيّ منصب خارجَها؛ عُنِيَ عنايةً بالغَة بالعملية التعليمية وشُغِف بها. فوفَّرَ جهده لطلابه، يُعلمُهم ويُربي الملكةَ القانونيةَ عندهم ـ في جَوّ تسودُه رعايةُ الأب لأبنائه . لقد جاوزَ عدَدُ الخريجين من طلابه بكلية الحقوق جامعة القاهرة ثم بكلية الحقوق جامعة عين شمس خمسةً وعشرين ألفًا يَشغَلون المُتنوع من الوظائف بمُختَلف الجهات في مصر والبلاد العربية: وظائِف الهيئات القضائية حتى العليا منها، وظائفِ السلكين السياسي والقنصلي، الوظائف القانونية والقضائية حتى العليا منها ـ في مختلف الإدارات الحكومية والقطاع العام، كما عَمِل الكثيرون منهم في مجال المحاماة . فلتقدير الأستاذ أن الدراسة النظرية في القانون تظل جامدة لا تدبُّ فيها الحياةُ ـ مَا لَم تُصاحبها دراستُه في حال الحياة والحركة، أي في التطبيق العملي ـ خصوصًا القانون الدولي الخاص الذي يَندُر المتخصصون فيه لصعوبة مُمارسته فِقهًا وقضاءً ـ فقد عُنِيَ بدراسته بِمُقتَضَى أحكامه المنشورة وغير المنشورة ـ مما يشهدُ به ما أثبتَه من أحكام في هوامش مؤلفاته وبحوثه. لذا فحين أراد أن يطبق ممارسة القانون بنفسه، طلَب إدراجَ اسمِه بجدول المحامين المقْبولين لدى محكمة النقض، وأُجيبَ إلى طلَبه سنة 1952م ولم يزَل قائمًا حتى وفاته قيدُه بنقابة المحامين كما بعُضوية مجمع اللغة العربية (1974م) والجمعية المصرية للقانون الدولي (فمجلس إدارتها ونائب رئيسها قبل ذلك حتى سنة 1971م)، والجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، وعضو مجلس إدارتها من 1968م حتى 1974م، وجمعية التشريع المُقارن بباريس منذ 1967م.(/6)
... ولَستُ أنسَى ما حَييتُ ـ مِمَّا ظلَلت أتنَدَّر به معه فيما بعدُ خلال لقاءاتنا العلمية والعائلية حتى عُضويتي للمجمع عام 1991م -أنه منذ خلَف الدكتور إسماعيل غانم بالفصل الدراسي الثاني للفرقة الرابعة وأحَلَّ كتابَه " القانون الدولي الخاص المصرى"، جـ1، في المقدمة العامة والجنسية والمَوطن ومركز الأجانب ـ الذي ظلَّت تظهر له سنويًّا منذ 1958 طبقات مَزيدة ومُنقحة وفق آخر التعديلات التشريعية، و 1960م الخاصة بقانون جنسية الجمهورية العربية المتحدة لدَولة الوحدة بين مصر وسورية ـ حتى 1962م -أنني كنتُ على عَجلٍ من الحصول على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس الذي أدعم به رسالةَ دكتوراه الفلسفة في علم النفس العقابي بكلية الآداب، لأنه كان قد تَمَّ تعييني مدرسًا بقسم الدراسات الاجتماعية جامعة القاهرة فرع الخرطوم وأنا ناجح بتخلُّف في مادة القانون الدولي الخاص ورَحلتُ فعلاً إلى السودان . كان يجِيئُنا بالفرع يومئذٍ عمدَاءُ الكلياتِ المناظرة بالجامعة الأم، ومنهم الدكتور علي راشد الذي خلف الدكتور علي بدوي في قراءة رسالتي لدكتوراه الآداب في سيكولوچية العقاب التربوي والقانوني الجنائي وقبول الاشتراك في مناقشتها؛ لولا أعذار مَرضية حالت دون ذلك. وقد عَرض عليَّ أحدُهم أن تُحوَّل إليَّ بفرع الخرطوم مادة القانون الدولي المُتبقية عليَّ لأداء امتحانها إن لم يُوافقِ الفَرعُ على انتدابي لمعهد الدراسات الجنائية. بحقوق القاهرة لتدريس علم النفس العقابي مع الأستاذ المستشار محمَّد فتحيِ لِعدَم الاستغناء عني للفصل الدراسي الثاني. وكان الرأيُ الذي ساد أخيرًا أن لا سَبيل سوى العودة فورًا بنهاية العام الجامعي مبكرًا بالسودان في أواخر أبريل، وحضور محاضرات الدكتور عز الدين الأسبوعية التي يُركزها في شهر مايو قبل الامتحان لتدريب آلاف طلاب الانتظام والانتساب بكليتي الحقوق والشرطة على حَل مسائل تنازُع قوانين الموطن(/7)
والجنسية ومركز الأجانب. فقد كانت ورقة امتحان مادة الدكتور عز الدين عبد الله في مادة القانون الخاص للفرقة النهائية تحوى سؤالاً إجباريًّا أولاً عن مسألة عويصة في أحكام هذه المراكز القانونية، وعليها عشر درجات، ثم سؤالين يختار الطالبُ أحدَهما في موضوع نظري فليس من الممكن مهما أبدع في العرض أن يحصُل على أكثر من ثماني درجات. ومن ثم كان علي أن أُتابع حُلُوله الشَّيِّقة للقضايا مُتابعتي في الشريعة قبل ذلك بالفرقة الثالثة لمسائل المواريث كي أؤدي الامتحان.
السيد الرئيس، السادة الزملاء:(/8)
... في حديثه عن سلَفه بحفل استقباله يقول الدكتور عز الدين عبدالله:" لقد تفضل المجمعُ باختياري عُضوًا به في المكان الذي خلا بوفاة العالم اللغوي الجليل المرحوم الأستاذ علي الجندي.وإذا كان المجمعُ قد أحلَّني مكانه، فإن خلافته في مكانه أمر يشقُّ على مَن يخلُفه. فلستُ أقفُ اليوم مُعرِّفًا بسلفي العظيم وقد اتخذ مكانه في موضع الإشعاع من ميادين العلم والمعرفة. وإذا كنا الآن في موقف الذكرى من فقيدنا العزيز، فإنني أجِملُ تاريخه فيما يسمحُ به الوقتُ من كلمات: لقد كانت حياتُه مليئة بالعمل العلمي الجاد المُجدِّد في كافة مراحلها بالتعليم العام ومرحلة الأستاذية بكلية دار العلوم. كان نَتوجًا في علوم البلاغة – حيث تجلَّت مواهبه في أقوى مظاهرها وأجمل صورها. وبجانب ذلك، كان فقيدُنا أديبًا شاعرًا جاوزت قصائدُ منظوماتِه الألف، وأربَتْ عيون أبياتها على عشرة آلاف. ومِمَّا أخرجَه من كتب في الأدب والبلاغة والنقد: فَن الأسجاع، فن الجنِاس، فَن التشبيه، البلاغة الفنِّية، سياسة النساء، الشعراء وإنشاد الشعر، خمسة أيام في دمشق، الشذا المؤنس في الورد والنرجس، نفح الأزهار في مولد المختار، قرة العين في رمضان والعيدين، الشاعر المؤمنُ الصوفي، سيف الله خالد، الجِنُّ بين الحقائق والأساطير. ومن مؤلفاته بالاشتراك: أطوار الثقافة والفكر، سجعُ الحَمام في حِكَم الإمام. ومن مؤلفاته الشعرية: ألحانُ الأصيل، وترانيم الليل، وديوان أغاريد السحر-الذي نال الجائزة الأولى من المجمع عام1948م-". وعن نشاطه خارج الجامعة – في المناصب التي اجتذبتهُ إليها- يذكر أنه كان عضوًا بلجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنُون والآداب والعلوم الاجتماعية؛ وعضو لجنة التعريف بالإسلام، ومقرر لجنة القرآن والسنة بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.(/9)
... ولئن كان الدكتور عز الدين مُقِلاًّ في الحديث عن نَفسه وعن سلَفه هكذا في حفل استقباله وسط كوكبة احتفالات المجمع بالقادمين، وتأبينه للراحلين جماعيًّا خلال شهري أبريل ومايو 1974م، فقد تدفقت مشاعرهُ وانطلق لسانُه في تأبين صنوه الدكتور عبد الحكيم الرفاعي- في الحفل الذي أُقيم بدار المجمع بالجيزة صباح الأربعاء 29/5/1974م عقب استقباله هو بستة أسابيع، وفي نفس القاعة كما يقول نائب الرئيس الأستاذ زكي المُهندس- الذي استهل تأبينَه قبل ذلك للمرحوم الأستاذ علي السباعي (الأربعاء 22/5/1974) بأن من أعجب تصاريف الأيام وقسوة أحكام القدَر مرور سنتين اثنتين فقط على استقباله بكل بهجة وسرور وتوديعه اليوم بكل حسرة وأسى؛ إذ يفيضُ عز الدين بالذكريات قائلاً: إن معرفَتَه بالرفاعي بدأَت سنة 1930م حين كان يطلُب العلم بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وكان قد مَضَى عامٌ على عَودَته من باريس مع زملائه بالبعثة ليعيَّنُوا أعضاء في هيئة التدريس بهذه الكلية: "وسرعانَ ما لَمسنا في هذا الجيل من المدرسين الشبان طابعًا مُعينًا يتميزون به أسبَغَتهُ عليهم الظروفُ التي عاشوا بها. فهم قد عاصروا في سنوات شبابهم الأولى أحداث ثورة السَّنَة التاسعة عشرة حين كان العمل الوطني فداء وتضحية تزين جيدَ صاحبها، ولم تكُن حرفةً تُدِرُّ الغُنم فاعتنقوا مبادئها. وهُم قد عاشوا مُدَّة البعثة في فرنسا يغمرُهم فيضُ الاعتزاز بالوطن، واحترام حُرِّيات الإنسان، والتشبث بالحياة الديمقراطية مما زكَّاه خُروجُنا من الحرب العالمية الأولى منتَصرين على العدوان والبغي؛ لذا جُبلَ ذلك الجيلُ من الأساتذة على الوطنية الصادقة والعمل الجاد في أداء رسالة العلم، وتنشئة شباب جاد تشبَّع بثقافة العصر وحضارته. "وقد كان لنا من أستاذنا الرفاعي مجموعة مُثل نعجب بها ونسعى إليها: غزارة في العلم، أمانة في أداء الواجب، رقة في الحس، واحترام للنفس وللغير؛ يُغلِّفه(/10)
ويزينُه رداءٌ من أدب جَم وتواضع جذاب".
... حين حصل على درجة الليسانس في الحقوق سنة 1925م والتفوُّق لازِمةُ كل امتحان أدَّاه، وأُوفِد خلال ذلك العام في البعثة العلمية إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية، واتسعت أمامه آفاق العلم والمعرفة كان نَهمًا؛ فحصل على كل دبلومات الدراسات العليا التي كانت تُنظمُها لوائح جامعة باريس آنئذٍ عن ميدان القانون والاقتصاد- وهى دبلومات: الاقتصاد السياسي، القانون العام، القانون الخاص، القانون الروماني، القانون الجنائي، علم العقاب- لينتَهي به المطاف إلى الحصول على الدكتوراه بأعلى مراتبها سنة 1929م. وبهذه الثروة العلمية التي عاد بها إلى أرض الوطن، عُيِّن مدرسًا في كلية الحقوق بجامعة القاهرة حيث تدرَّج في هيئة التدريس إلى أستاذية كرسي الاقتصاد السياسي. وبتدَفُّق إنتاجه العلمي- بحيث لم يكن يَمرُّ عام دون أن يظهر له فيه كتابٌ يُطبع أو بحثٌ يُنشَر- نُدب الرفاعي عميدًا لكلية حقوق جامعة بغداد (1944م) ليُوثق الصلات العلمية والإنسانية بين أساتذة القانون والاقتصاد بالعِراق وزملائهم في مصر، فَمُديرًا للشئون الاقتصادية بجامعة الدول العربية (1947م) حيثُ (خَطَبَته) وزارةُ المالية في نفس العام وحتى 1952م ليكون وكيلاً لها لشؤون الضرائب، وحيثُ اتسع له مَجال التطبيق لعلم المالية العامة وانفتح أمامه مجالُ إصلاح هذا الجهاز، وهو من أقوى وأهم أجهزة الدولة صلةً بالمواطنين، وأشدَّها تأثيرًا في شؤون حياتهم.(/11)
... ويَتَوالَى انتقالُ الدكتور الرفاعي إلى ميدان آخر من أَوجُه النشاط الاقتصادي- بِتَعيينِه سنة 1952م رئيسًا لمجلس إدارة بنك الائتمان العقاري- الذي أُدمج بعد ذلك في البنك العقاري المصري، ثم تعيينه سنة 1955م نائبًا لمُحافظ البنك الأهلي فمُحافظًا له. فلما أُنشئ البنكُ المركزي بوظائفه الخطيرة، واختير الرفاعي محافظًا له حتى 1964م، وقعت الواقعة التي ما كان لها من دافع؛ إذ طُلبَ إليه اتخاذُ إجراءٍ معين في مجال النقد، وهو يُقدر بعلمه وخبرته ما لهذا الإجراء من خطر على المصلحة الاقتصادية للبلاد. فأعدَّ مذكرةً برأيه وعاد إلى منزله حيث طالَعَتهُ صُحُف الغَد بتعَيين شخصٍ آخر في مكانه. وعَرف أنه عُزل من مَنصبه، فتلقَّى هذا الجزاءَ بالصبر والإيمان على ما ابتلاهُ اللهُ في إخلاصه لعمله ووطنه، وقنع بالعمل أستاذًا غير متفرغ بكلية الحقوق جامعة القاهرة يُحاضِر طلابَ الدراسات العليا، ويُشرف على رسائلهم العلمية إلى أن أقعده المرضُ عنه.(/12)
... بعد هذا العَرض المُوجَز لحياة الرفاعي العلمية والعاملة- كما يقول عزُّ الدين- يستطرد فى سرد نتاجه العلمي بدءًا بمؤلفه في الاقتصاد السياسي (1936، 1937م)، فمؤلفه عن الضرائب المباشرة في مصر (1942م) الذي أرسى فيه قواعد فِقه الضريبة المصري الذي أعانَ القُضاة والباحثين على فَهم نظامه الضريبي الجديد، فعلم "المالية العامة والتشريع المالي" للعراق (1945م) ثم العديد من البحوث المتخصصة في مختلف موضوعات الاقتصاد السياسي، والمالية العامة والتشريع الضريبي، إلى جانب تلك المؤلفات العامة. ودُونَ دراسة تحليلية لبحوث ومحاضرات الرفاعي رأى أن المَقامَ يضيقُ بها، لم يقصُر عن ذكر ما تتميز به بصفةٍ عامة مِن أنه جرى فيها على تعَقب الأحداث والمشاكل الاقتصادية المهمة داخل مصر وخارجها، وعَرْض كل منها بالشرح والتحليل، ورَدِّها إلى أصولها ومُسبِّباتها، ومناقشة وسائل علاجها. ويضرب أمثلة لذلك: سلسلة مقالاته عن تأثير الأزمات الاقتصادية الإنجليزية (في الثلاثينيات) في النظام النقدي المصري، تثبيت الدولار المُؤقت، وتطور السياسة النقدية في الولايات المتحدة الأمريكية، سياسة رفع الأسعار في أمريكا، تخفيض قيمة العملة في بلجيكا، التعويضات وتسويتها في مؤتمر لوزان (1932م)، حماية صناعة السكر في مصر، تخفيف أعباء الدين العام، الضريبة على الأرباح الاستثنائية، ضريبة أرباح المهن غير التجارية، وتعديل نظامها في قانون 1939م، الأرصدة الإسترلينية المُجمَّدة لمصر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وأخيرًا في سنة 1960م: الاتجاهات الاقتصادية في السنوات الخمسين الأخيرة في ضوء الدراسات في مصر والخارج.(/13)
... وهكذا لا تقتصر جُهودُ الرفاعي على التأليف والبحث والمُحاضَرة، بل تتعداها إلى الإسهام في حَل الكثير من المشكلات الاقتصادية ومُعالجة آثارها على الصعيدين القومي والدولي. من ذلك: مُساهَمتُه في وضع الأسس الفنية والتشريعية لاستقلال الجنيه المصري عن الجُنيه الإسترليني، وتخليصه من التبعية التي ربَطتهُ بها إنجلترا منذ 1916م لخدمة أغراضها الاستعمارية، واستعانة الحكومة السورية به في تنظيم فَصل النقد السوري عن الارتباط بالفرنك الفرنسي. وفي مؤتمر التعويضات الألمانية (1945م) مثَّلَ الرفاعي بلادَه دفاعًا عن حقوقها وطلباتها، وبمؤتمر الصلح المُنعقِد في باريس (1946م) ودَورات انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك (1946م) كان الرفاعي مَندوبَ مصر في لجان الشؤون الاقتصادية والمالية، والشؤون الاجتماعية والإنسانية والثقافية، والشؤون الإدارية والميزانية، كما كان ممثل الحكومة المصرية في مؤتمر لجنة التجارة الدولية المُنعقد بجنيف (1948م) ومؤتمر الحِراسات الألمانية المُنعقد ببروكسل (1950م). وحُسنُ خِتام أمجاد الرفاعي هذه- كما يقول عز الدين وكأنه يتحدث عن نفسه- كونه قد عاش مستورَ الحال لأنه لم يتَّخِذ من جمع المال هَدفًا. بَيْد أنه قد مات مع هذا غَنِيًّا بتركته الكبيرة التي تُوفي عنها بعناصرها المتعددة: الثروة العِلمية التي أفاد منها جيله ولا زال ينتفع بها كلَّ مَن جَاء بعدَه، الخدمات الجليلة التي قدمها لوطنه والتي لا يزال يفيدُ منها بَنُو أمته، جيلُ الاقتصاديين الذين تلقوا العلم عنه ويضطلعُ الكثيرون منهم في البلاد بأخطر المهام الاقتصادية.
السيد الرئيس، السادة الزملاء:(/14)
... لابُد لي في موقف تأبين الراحل الكبير أحمد عز الدين عبد الله مِن أَن أُشير إلى أن انتخابَه لعضوية المجمع واستقباله به عام 1974م، وما قالَه عن نفسه وسلَفه وتأبين أستاذه الرفاعي ردًّا على مُستَقبلِيه زكي المُهندس وعبد الحميد حسن ومَهدي علام وغيرهم مِمن قرَّظوه وأشادوا به ومَجَّدوه- كالسنهوري- يمثلُ نقطة انتقال (في العام الأربعين لإنشاء المجمع) من التقاليد المَجمعيَّة السامية إلى التقنين المؤسسي اللائحي لِفعاليات المجمع- ليس فقط في تشكيل لجانه، وانتخاب أعضائه، وأحكام وسائله في تحقيق أغراضه. فقد بدأ المجمعُ عَام 1934م بسبع لجان لُغوية: المُعجم الكبير، وأُصول اللغة، والألفاظ والأساليب، واللهجات، وتيسير الكتابة العربية، والأدب، وإحياء التراث. وأتبعها بستِّ لجِان: الفلسفة والعلوم الاجتماعية، التربية وعلم النفس، التاريخ، الجغرافيا، القانون، الاقتصاد. ثم لَحِقت بها إحدى عشرة لجنة عِلمية لوضع مصطلحات العلوم الكونية والأساسية: الطِب، الكيمياء والصيدلة، الأحياء والزراعة، الجيولوجيا، الهيدرولوجيا، النفط، الفيزيقا، الهندسة، الرياضيات، المُعالجة الإلكترونية للمعلومات، ألفاظ الحضارة ومصطلحات الفنون. وكما يقول العارفُ بالله ومجمع لغة القرآن مهدى علام، فإن اللجانَ المجمعية التي نشََأَت وتطورت قد حَدثَ لها تغَيُّرٌ كبير في أسمائها، إذ بدأ المجمعُ بتكوين ثماني لجان، أَخذَت تتفرع وتَزيدُ عامًا بعد عام. فمثلاً لجنةُ الآداب والفنون الجميلة أصبحت الآن (1984م في العيد الخمسيني) لجنتين، هما: لجنة الأدب، ولجنة الآثار والفنون والعمارة. ولجنة اللهجات، ونَشر النصوص القديمة أصبحت الآن (1984م أيضًا) لجنتين هما: لجنة اللهجات ولجنة إحياء التراث العربي:(/15)
... أما عُضويةُ المَجمع، فقد كان الفَوزُ بها منذ إنشائه سنة 1932م حتى عام 1946م ثم 1961م بالتعيين بمرسوم: الفَوج الأول صدر مرسوم بتعيين عشرين عضوًا مُناصَفَةً بين المصريين والعرب والمُستعربين في أكتوبر 1933م، فالفَوجُ الثاني صدر المرسوم بتعيين عشرة أعضاء مصريين عام 1940م (لِرَفع عدد المصريين العاملين إلى عشرين)، فالثالث صدر المرسوم بتعيين عشرة أعضاء مصريين آخرين ليصل عدد أعضاء المجمع المصريين (أُسوةً بالأكاديمية الفرنسية) إلى أربعين- وهؤلاء هُم الذين قال عنهم الأستاذ أحمد أمين عند استقبالهم: العشرة الطيبة. ثم إنه – لاستيفاء هذه الأعداد: العشرين فالثلاثين فالأربعين من الأعضاء المصريين على التوالي، كانت تصدُر مراسيم بتعيين أعضاء في الكراسي التي تخلُو بوفاة شاغليها، ثم استقر الانتخابُ للفوز بالعضوية منذ 1945م وما بعدها كل عام أو عامين حتى 1959م وإلى أن صدَر سنة 1960م القرارُ الجمهوري بتوحيد مجمعَي القاهرة ودمشق- باعتبارهما فرعين لمجمع واحد مَقرُّه القاهرة، وعددُ أعضائه ثمانون، نصفُهم من المصريين، وعشرون من السوريين، والباقون من البلاد العربية الأخرى- ممَّا استدعى صُدور القرار الجمهوري سنة 1961م بتعيين العشرة الأعضاء العاملين المصريين الذين سمَّاهم الدكتور مدكور يوم استقبالهم "السلسلة الذهبية". وتضمَّن القرار أيضًا تعيين أحد عشر عضوًا من ممثلي البلاد العربية الشقيقة.
... ومع ما استدعاه تطور المجمع هكذا من التزايد في اختيار أعضائه العاملين المصريين" كارمًا على إثر كارم" كما يقول مؤلف" المجمعيون في خمسين عامًا "الدكتور مهدي أثابَهُ الله وطيب ثراه- لمواكبة اطراد التوسع في إنشاء اللجان العلمية الكونية والأساسية والاجتماعية الإنسانية على النحو الذي رأيناه.(/16)
... ومع الاستقرار على ملء الكراسي التي تخلُو بطريق انتخاب مَن يَحُلُّ مَحلَّهم؛ لم يكنْ يُرَاعَى في إحلال عضو جديد مَحل عُضو راحل أن يكون من نفس التخصص. فالجميعُ أولاً وأخيرًا قد انضموا إلى رحاب المجمع الجليل ليُؤدوا رسالته- بإخلاص المؤمنين وتواضُع العلماء- باعتبارهم في الأصل سدنة اللغة العربية ثم خُدام تخصصاتهم العلمية في إعداد قوائم فمعاجم مصطلحاتها التي تُعرضُها لجانُهم على المجلس فالمؤتمر لإقرارها. ولن يكمُل تخصصُ أحدهم في اللغات التي يبحثون بها (إنجليزية، فرنسية، ألمانية، إيطالية، هولندية، عبرية، سريانية، فارسية أو أردية، تركية أو حَبشية، هيروغليفية، قِبطية، يونانية أو لاتينية أو آشورية)؛ أو يُجدى تخصُّصُ بعضهم في أحَد العلوم الإنسانية (كالأنثروبولوجيا والاقتصاد والإحصاء)؛ ومن بَاب أَولى في الطب أو الهندسة، أو الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء أو النفط أو الجيولوجيا... إلاّ بقدر معرفته، بل تبحُّره في محيط المعرفة اللغوية الأدبية- مما يجعل للتنوُّع في إطار التخصص، أو للتخصص في إطار التنوع- صَدَاهُ وترجَمَته العلمية في مشاركة عدد كبير من هؤلاء الأعضاء في لجانٍ متعددة التخصصات داخل المجمع، كما تترامي خارج المجمع خبراتهم وأنشِطتهم العميقة بعُضوياتهم في مجامع البحوث العلمية، والشؤون الإسلامية، والمجالس القومية المتخصصة، والمجلس القومي للثقافة والإعلام كمجلس للعلوم والفنون والآداب والثقافة العلمية، وفي جمعيات التشريع والاقتصاد، والتاريخية والجغرافية مع ما في ذلك من مخاطر على الأداء المجمعي الذي غايتُه التعريب، ويتأثرُ أعضاء المجمع الذين هم في نفس الوقت وبِنَفس اللجان أعضاء بمَجلسَي البحُوث والشؤون الإسلامية، والمجلس الأعلى للثقافة بالحوارات الجارية حول صِراع الحضارات، وتحدِّيات العُروبة والإسلام، والتراثية والأصُولية مُقابل الانفتاحية التنويرية... فَيتَراخَى التمسُّك بثَوابت(/17)
وحدة اللغة داخل تعدُّدية الفكر بمذاهبه وطوَائفِه ومُعتَقَداته في مُواجهة حركات العَولَمة والانفتاح والعنصرية والتطرف التي تسعى لمحو القوميات وطمس الهويات وإزالة القيم... مِمَّا عبرنا عنه في بحثنا المُقدَّم لمؤتمر المجمع الرابع والستين 97/1998م بعنوان: اللغة العربية وتنازُع الاختصاص بين أهل العِلم والتعليم والإعلام (منشور بالعدد السابع والثمانين/ القسم الأول من مجلة المجمع ص 163-198).
... لقد كان من أبرز نشاط عز الدين المَجمعي منذ انتخابه للعُضوية ومُشاركته مُشاركة فعالة فى أعمال مجلسه ومؤتمره ولجانه- وبخاصة لجنة القانون والشريعة ولجنة الاقتصاد- جُهودُه مع الأعضاء الآخرين في تعديل قانون المجمع الجديد الذي أصدره رئيس الجمهورية بقرار مجلس الشعب (رقم14 لسنة 1982م) بإعادة تنظيم مجمع اللغة العربية، الذي يُحَدِّدُ أغراضَه، ووسائل تحقيق هذه الأغراض... بما يتألَّفُ له مَجلسُه ومؤتمرُه ومكَتبه في حُدود اختصاص كل منها، وشُروط انتخاب أعضائه بما يتوافَر من صِفات، ثم اختيار رئيس ونائب رئيس وأمين عام المجمَع واختصاص كل منهم.. الذي يستمر العملُ به باللائحة المعمول بها وقت صُدُوره فيما لا يتعارضُ مع أحكامه، وإلى أن يَضَعَ مجلسُ المجمَع لائحته الجديدة بقرار من وزير التعليم الذي صدَر به القرارُ الوزاري رقم 990 بتاريخ 9/11/1986م ويُنصُّ على العمل بهذه اللائحة الداخلية للمجمع سواء في اختيار أجهزته وقياداته من رئيس ونائب وأمين فمكتب المجمَع (في الفصول الثلاثة الأولى للباب الأول)، ثم عُضوية المجمع (في الباب الثاني)، وأحكامه متفرقة (في الباب الثالث). لا شك أنه كان لعِز الدين عبد الله بمكانته القانونية اليدُ الطولَى في صياغة لائحة المجمع الجديدة، التي لا تكاد تختلف عمَّا كان جاريًا العملُ به من حَيثُ تشكيلات مجلسه ومؤتمره ولجانه ومكتبه، وانتخاب قياداته وأعضائه، ومراحل الإنتاج العِِلمي المجمَعي،(/18)
وهو ما سبقت الإشارة إليه على أنه انتقالٌ بالأكاديمية من التقليدية المجَمعية إلى التقنين المُؤسَّسي اللائحي لفاعليات الأفراد داخل التنظيمات. ومع أنَّ مهمة تعديل القانون ووضع لائحته الداخلية هما بلُغَة القانونيين عمل تقريري لا إنشائي؛ فقد كان المأمول أن يكون عز الدين المَرجع الذي يُعوَّل عليه فيما يلزَمُ من تفسيرات وإيضاحات أو يُطلَب منه من مَشورات؛ لكنه حتى فيما يتعيَّن مَعه أخذ الأصوات لحَسم خلاف أو اقتراع على تجديد انتخاب... يَظلُّ الرجلُ صامتًا كالجبل الأشم، بل يُغادر القاعة لكيلا يُدلي بصوته فيُرجح إحدى الكفتين... كان يَدلِفُ إلى قاعة المجلس من أبعَد أبوابه عند بدء الجلسة ويجلسُ إلى أول مقعد قد خُصصَ له، لا يُحيِّى أَو يُسلم أو يُدلي برأيه في حوار أو مناقشة، بل لا يدافع مع خبير لجنته عن اعتراضٍ على أحَد مصطلحاتها؛ فمن المُبالَغة في الصمت يُمكنُ أن تسميهُ (صَموتًا) قياسًا على وصفه هو لِغزارة إنتاج سلفه الجندي بأنه كان (نَتُوجًا)، ولِنَهَم صاحبه الرفاعي في تحصيل العلم والمعرفة بأنه كان(نَهيمًا). وطالما سعيتُ إليه في أعقاب جلسة عاصفة أسألُه المشورة في إجراء لائحيٍّ نختلف حول صحته وأنا أداعبُه: في بَيته يُؤتَى الحكَم فلا ينطق، وإذا نطق بعد لأيٍ قال: لا تشغل نفْسك، فالخِلافُ لن يُفسد للود قضية. ألا ترى الرئيس (مدكور) يُمسك بالعصَا من الوسط لا يريد أن ينحاز إلى أي من الطرفَين، وأنَّ حسمَه للخِلاف هو بعباراته المأثورة: لا مشاحة في الاصطلاح: اللجنة هي صاحبة القرار؟.(/19)
... هكذا يتورَّع رجلُ القانون العظيم عن إعمال اللائحة في تسيير أعمال المجمع واقتضاء جُهود كبار العلماء المُخلصين الغَيورين، ويتحرَّج عن قول: هذا خطأ والصوابُ كذا؛ فيُعطي لنفسه صفة السيادة أو الرئاسة. إنه يُؤثر أن تسود تقاليدُ المجمَع الراسخة قَبل القانون واللائحة- منذ كان مَجمَعًا أهليًّا حتى بعد تنظيمه الرسمي بقانون تأسيسي ولائحة تنفيذية- إيمانًا منه بأن المؤسسات باقية والأفراد زائلون، ولا تُحَلُّ بلائحة أو قانونٍ تلك الأعمال المجمعية النبيلة" التي تضطلعُ بها ثلاث مجموعات: عُلوم اللغَويات، والكونيات، والإنسانيات التي- لاختلافها في دَرَجة اليقين المَعرفي، والدقة التعريفية، والضبط التعبيري- يتنازع أعضاء اللجان وخُبراؤها فيما بينهم حول اجتهادات كل منهم، ويتعيَّنُ حين عرض إنتاجها على مستوى المجلس أن تسود فيما بين اللجان روحُ تقبل المُغايرَة المُؤَدى إلى المُسايرة، والتفرُّد المُوصّل للتوحُّد، والافتراق الذي ينتهي بالاتفاق ... كما قلتُ في كلمة تهنئتي بانتخاب الرئيس شوقي ضيف بالإجماع غير مُنازعٍ في مُبايَعتنا له على جهاد النفس في خدمة لُغة القرآن ما دام يُولي الأصلَح والأقدر ولا يستعينُ بالأرضَى والأقرب، وأن العدلَ والإحسان اللذَين ندعو الله أن يُعينه عليهما نُريدُهما في مُواءمة نَوازعنِا إلى الاعتداد بالتخصص، أو الرسوخ في العلم، أو الاقتصاد في الاعتقاد، مما ينشأ عنه بالضرورة الاختلافُ في الرأي، والتمسك بالذاتي المألوف، ومُوالاة الزملاء من رفاق الدَّرب بالسِّن أو المَعهدية أو المسيرة النضالية. أما في إرساء تقاليد مراحل عرض الإنتاج العلمي المجمعي على المجلس؛ فقد قلُتُ في تهنئة الأستاذ الدكتور محمود حافظ بانتخابه نائبًا للرئيس: أرجو أن توافقني على أننا ابتغاءَ الوصول إلى الأجود والأَمثل، نَشُقُّ على أَنفسنا قبل النظر في موضوع مصطلحات كل لجنة بمناقشة خُطتها ومنهجها، ومَدى(/20)
تَفرُّدها أو تداخُلها مَع مصطلحات علوم أخرى مكملة أو مُساعدة، ونُعاودُ التشكك في المنقول منها بلُغته الأجنبية رمزًا أو نُطقًا مَهمَا استقر الأَخذُ به لمسايرة التقدم العلمي العالمي، ونُكرِّر الدعوة لِحَث المُشتغلين بالعلوم الحديثة على تقليل نسبة المُعرَّب إلى العربي فيما يَعرضُون من مصطلحات جرَى استعمالُها على ألسنِة أهل التخصُّص وفي لغة التعليم وأجازَها المجمَع... إلى حدِّ المُناداة دائمًا بوضع قواعد هي موضوعَة فعلاً وأقرها مجلسُ ومؤتمر المجمَع مِرارًا وبالدَّورتَين السابقتين 1994م، 1995م وهي مُوزعة علينا وتحت أيدينا ونُصب أعيُننا وضمائرنا .. بحيث إنه حين نَصلُ إلى العَرض الموضوعي للمصطلحات لا يتسعُ الوقتُ المُخصَّص لجلسة مُناقشتها إلاَّ للمرُور العاجل الذي لا يشفي غُلة واضعيها إلى الاستفادة بملاحظات زملائهم وتبادُل التقدير والثناء على العاملين من الخبراء المُختصِّين.
السيد الرئيس، السادة الزملاء:
... بهذا التراث المَجمعي التليد، الذي أَرسَى به أسلافُنا العِظامُ التقاليدَ المَجمعيةَ الشامخَة الأبِيَّة في تسيير أعمال مجمَعنا المُوقر؛ مِمَّا نفخَر به ونَعتَز- مُتَمثِّلين قولَ الفَرزدق:
أولئك آبائي، فَجِئنِي بمثِلِهم
... إذا جمَعتْنا يا جَريرُ المجامعُ
... نستَمطر الرحَمات على الذين انتقلوا إلى جوار ربِّهم، وندعو بطول
العُمر ودوام العَطاء لمن لا نزالُ مُهتدين بِهَديهم وسائرين على نَهجِهم في أن نَصطفي من اللاحقين خيرَ خلف للسابقين، كَيما تتواصل أفواجُ موكب الخالدين على طريق حراسة اللغة والحفاظ عليها وحمايتها وإعلاء شأنها. والله يقول الحق وهو يَهدي السبيل، نِعْم المولى ونعَم النصير.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
... ...(/21)
مجامع اللغة العربية
للأستاذة الدكتورة وفاء كامل فايد
اللغة هي قوام الهوية وعماد الشخصية، وهي الراسمة لبناء القومية، المشكلة لهندسة هذا البناء على المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. واللغة هي الأمة أو القوم أو الجماعات أو الأفراد ممثلين في لسانهم. واللسان يستمد مادته وطاقاته الفاعلة من الفكر. وبين اللسان والفكر تفاعل يعد خاصة لازمة من خواص العملية اللغوية التي تعد تمثيلاً صحيحًا لحياة الإنسان وتكوينه. فللغة ثنائية تعدل وتطابق ثنائية الإنسان: اللغة فكر ولسان كما أن الإنسان روح وجسد، وهناك تطابق مادي بين اللسان والجسد، وتطابق معنوي بين الفكر والروح .
وكانت غاية الرواد الأوائل الذين أنشؤوا مجامع اللغة العربية خدمة الإنسان ورعايته من خلال خدمة اللغة ورعايتها، وبوصفها الأداة الأساسية الفاعلة في تنمية الفكر وصقله وتهذيبه وتثقيفه؛ حيث إن دراسة اللغة هي دراسة الإنسان نفسه، والنظر في مقوماته الحياتية: ثقافية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية، وسياسية أم سلوكية؛ فالكل يجتمع في اللغة اعترافًا بموقع اللغة في المجتمع .
نشأة المجامع العربية :
عرفت مصر أول مجمع لغوي في العالم العربي، فقد تأسس عام 1892م(1) (المجمع اللغوي للوضع والتعريب ) برياسة محمد توفيق البكري، وكان من أعضائه الإمام محمد عبده، والشيخ محمد محمود الشنقيطي. وكان حريصًا على أن يثبت أن اللغة العربية تحوي ذخائر تفي بكل احتياجاتها العلمية والحضرية الحديثة. ولم يعقد هذا المجمع إلا عدة جلسات – كان آخرها في 27/2/1893م (2) – حاول فيها أن يحدد أغراضه، وأن يعرض لطائفة من الألفاظ قدِّر لبعضها الحياة (3) وعطِّل بعد بضع سنوات، ثم أعيد، وبقي إلى ما بعد عام 1922م (4) .(/1)
وأنشئ في مصر عام 1917م (مجمع دار الكتب ) الذي اشتهر بنسبته إلى كاتب سره أحمد لطفي السيد. واقترح أن يتكون من ثمانية وعشرين عضوًا ، منهم خمسة وعشرون من العرب، وواحد من كل من الفرس والسريان والعبرانيين. واختير سليم البشري – شيخ الأزهر – رئيسًا لهذا المجمع،وكان من أعضائه أحمد الإسكندري، وحمزة فتح الله ، وحفني ناصف. وقد وضع طائفة من الألفاظ لاستعمالها في الحياة العامة، ولكن معظمها كان يتسم بالغرابة؛ فلم يقدر لها البقاء. ولم يعمر هذا المجمع طويلاً، فانفض في عام 1919م، ثم حاول العودة عام 1925م، ولكنه لم يعقد إلا جلسة واحدة (5)
وفي دمشق تألف ( المجمع العلمي العربي ) بدمشق عام 1919م من رئيسه محمد كرد علي وثمانية أعضاء. وقد وكل إليه النظر في اللغة العربية وأوضاعها العصرية، ونشر آدابها وإحياء مخطوطاتها، وتعريب ما ينقصها من كتب العلوم والصناعات والفنون من اللغات الأوربية، وتأليف ما تحتاج إليه من الكتب المختلفة المواضيع علي نمط جديد. وعني أيضًا بجمع الآثار القديمة، وبجمع الكتب المخطوطة والمطبوعة(6)، وتأسيس دار كتب عامة لها، وبإصدار مجلة خاصة به تنشر فيها أعماله وأفكاره (7) . وكانت مجلته شهرية في بدايتها، فظهر العدد الأول منها في أوائل عام 1921م، وكان المجلد الأول يحوي اثني عشر جزءًا، ومنذ عام 1931م صار المجلد مكونًا من ستة أجزاء، ثم منذ عام 1949م صارت المجلة فصلية (8) وما زال هذا المجمع يحرص في عمله علي وضع المصطلحات وتنقيحها، وينشر مجلته التي يبذل فيها جهدًا كبيرًا في تحقيق التراث ونشره وفهرسته ونقده .(/2)
وأسس في بيروت ( المجمع العلمي ) عام 1920م (9) ، وكانت الغاية منه المحافظة على اللغة العربية، ورفع شأنها، والعناية بالمباحث والأعمال المتعلقة بأصولها وآدابها، والمحافظة على الآثار، ودراسة تاريخ لبنان وجغرافيته. وأول رئيس له هو عبد الله بن ميخائيل البستاني(10) وقد صدر مرسوم بإلغائه بعد حوالي عامين من ميلاده، ولم يصل إلينا أي أثر من آثاره (11).
وفي ديسمبر 1932م صدر بالقاهرة مرسوم ملكي بإنشاء مجمع اللغة العربية، وبدأ عمله في 1934م. وقد سمي في البداية" مجمع اللغة العربية الملكي"، ثم غير اسمه في عام 1938م فصار ( مجمع فؤاد الأول للغة العربية ) ، ثم غير بعد ذلك إلى مجمع اللغة العربية (12) .
وحدد المرسوم (13) أغراض المجمع وهي :
1-أن يحافظ على سلامة اللغة العربية، وأن يجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها، ملائمة لحاجات الحياة في العصر الحاضر،وذلك بأن يحدد في معاجم أو تفاسير خاصة، أو بغير ذلك من الطرق، ما ينبغي استعماله أو تجنبه من الألفاظ والتراكيب .
2-أن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية، وأن ينشر أبحاثًا دقيقة في تاريخ بعض الكلمات، وتغير مدلولاتها.
3-أن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة بمصر وغيرها من البلاد العربية .
4-أن يبحث كل ماله شأن في تقدم اللغة العربية .
كما نص المرسوم على أن يصدر المجمع مجلة تنشر أبحاثه التاريخية وقوائم الألفاظ والتراكيب التي يقرها، وتفسح المجال لمناقشات الجمهور واقتراحاته.
وقد نص المرسوم على أن " تتخذ وزارة المعارف العمومية كل الوسائل التي تكفل اتباع قرارات المجمع في أمر اللغة العربية وألفاظها وتراكيبها، وذلك بإذاعتها إذاعة واسعة، وباستعمالها بوجه خاص في مصالح الحكومة، وفي التعليم والكتب الدراسية المقررة ".(/3)
ونص المرسوم على أن يتكون المجمع من عشرين عضوًا عاملاً، يختارون من بين العلماء المعروفين بتبحرهم في اللغة العربية، أو بأبحاثهم في فقه هذه اللغة أو لهجاتها (14) ، من غير تقيد بالجنسية .
وملاحظ أن مبدأ عدم التقيد بالجنسية، في اختيار أعضاء المجمع العاملين، جعل المجمع المصري مؤسسة علمية لا تحفل بالاعتبارات السياسية أو العنصرية، وهو مبدأ لم يسبقه إليه مجمع آخر فيما نعلم .
وقد نشر المجمع المصري محاضر جلساته في الدورات الأربعة الأولى مرة في كل عام بدءًا من عام 1936م، أما محاضر دور الانعقاد الخامس فتأخرت إلى عام 1948م، بسبب الحرب العالمية الثانية، ثم استأنف المجمع نشر محاضر جلسات المجلس التالية ابتداء من عام 1970م، كما نشر المجمع مجموعة البحوث والمحاضرات الخاصة بمؤتمره منذ الدورة الخامسة والعشرين عام 1960م حتى الدورة السادسة والثلاثين عام1971م. وابتداء من الدورة السابعة والثلاثين عام 1971م قسمت أعمال المؤتمر إلى قسمين: الأول منهما يشتمل على محاضر الجلسات، والثاني يختص بالبحوث، ونُشِر القسمان في مجلد واحد، ما عدا أعمال مؤتمر الدورة السابعة والثلاثين فقد نشرت في مجلدين .
أما مجلته فكانت الأعداد الأولى منها حولية : ظهر العدد الأول منها عام 1934م، والرابع عام 1937م، أما العدد الخامس فقد ظهر في عام 1948م. وصدر بعده ثلاثة أعداد حتى عام 1955م، ثم عادت إلى الظهور مرة أخرى في كل عام لمدة عامين، وظهرت بعد ذلك بمعدل عددين في العام، ماعدا عامي 1968م و 1970م فقد ظهر في كل منهما عدد واحد من المجلة .
وأنشئ المجمع العلمي العراقي عام 1947م، وتألف من عشرة أعضاء، وعقد أولى جلساته في 12/1/1948م (15). وكان أول رئيس له هو محمد رضا الشبيبي. ونصت المادة الثانية من نظامه (16) على أن يقوم :
أ-بالعناية بسلامة اللغة العربية، والعمل على جعلها وافية بمطالب العلوم والفنون وشؤون الحياة الحاضرة .(/4)
ب-بالبحث والتأليف في آداب اللغة العربية، وفي تاريخ العرب والعراقيين ولغاتهم وعلومهم وحضارتهم .
ج-بدراسة علاقات الشعوب الإسلامية بنشر الثقافة العربية .
د-بحفظ المخطوطات والوثائق العربية النادرة، وإحيائها بالطبع والنشر على أحدث الطرق العلمية .
هـ-بالبحث في العلوم والفنون الحديثة، وتشجيع الترجمة والتأليف فيها، وبث الروح العلمية في البلاد .
وعمل هذا المجمع على نشر التراث العربي. ومن أهم مطبوعاته :
1-تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي ( ثمانية أجزاء ) .
2-خريدة القصر للعماد الأصبهاني (أربعة أجزاء ).
3-تاريخ الأدب العربي في العراق لعباس العزاوي ( جزآن ) .
4-صورة الأرض للشريف الإدريسي.
5-الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور لضياء الدين بن الأثير .
6-تاريخ علم الفلك في العراق لعباس العزاوي .
كما قام بطبع معاجم المصطلحات التي أقرها، ومنها: مصطلحات في علوم الفضاء، ومصطلحات في السكك الحديدية، وفي علم التربة، وفي القانون الدستوري وغيرها .
ولازال هذا المجمع يتابع نشاطه. وقد صار رأيه ملزمًا لكل الأجهزة المعنية في العراق، التي يجب عليها الرجوع إليه وفقًا لقانون الحفاظ على سلامة اللغة العربية الذي صدر عام 1977م.
وكان التفاهم بين المجامع اللغوية العربية، وتوحيد مناهج عملها في شؤون اللغة، ضروريًّا لتحقيق نهضة شاملة في مختلف المجالات اللغوية، حتى تساير اللغة العربية العصر وتلاحق تطوره. وعلى هذا فقد أوصى المؤتمر الأول للمجامع اللغوية العلمية العربية، المنعقد في دمشق عام 1956م، بتأسيس اتحاد للمجامع اللغوية العلمية، ينظم الاتصال بين المجامع العربية، وينسق أعمالها(17) .(/5)
وانعقد في القاهرة الاجتماع الأول لهذا الاتحاد عام 1957م؛ من أجل النظر في وضع نظام أساسي له. وجاء بالنظام الأساسي لاتحاد المجامع اللغوية العربية أنه يختص بتنظيم وسائل الاتصال بين المجامع اللغوية العلمية العربية وتنسيق جهودها، ووضع المشروعات التي تحقق أهدافه، ودراسة المصطلحات الحديثة التي ترد من المجامع، واقتراح توحيد المختلف عليه منها، إلى جانب تنظيم عقد مؤتمرات دورية للدراسات العربية والإسلامية، يشترك فيها أعضاء المجامع والعلماء المتخصصون (18) .
وانبثق المكتب الدائم لتنسيق التعريب في الوطن العربي عن مؤتمر التعريب الأول المنعقد بالرباط عام 1961م. فقد أوصى المؤتمر الأول للتعريب بأن " ينشأ له مكتب دائم مقره المملكة المغربية – تحت إشراف الجامعة العربية – تمثل فيه جميع الدول العربية " (19) ، وينسق جهودها في ميدان التعريب . وقد عين السيد عبد العزيز بنعبد الله مديرًا عامًّا للمكتب منذ عام 1962م. ومن أهداف المكتب العمل على متابعة حركة التعريب خارج حدود الوطن العربي، والسعي إلى توحيد المصطلحات العلمية، ونشرها، وتعميمها، وإقرارها، والعمل على كشف ذخائر العربية واستيعاب كنوزها، ومحاربة الدخيل،وإحلال اللفظ العربي الأصيل محله(20) وتنسيق التعاون بينه وبين المجامع اللغوية والهيئات العلمية المختصة، وشُعَب التعريب في كل بلد عربي (21) .
وقد أصدر مجلة ( اللسان العربي) ، التي ظهر عددها الأول عام 1962م، كما أصدر سلسلة من المعاجم العلمية تضم مجموعات من المصطلحات في مجالات متعددة ، وما زال المكتب يتابع نشاطه في مختلف الاتجاهات .(/6)
وصدر قانون مجمع اللغة العربية الأردني عام 1976م، وينص على ألا يزيد عدد أعضائه العاملين عن عشرين عضوًا. وباشر المجمع عمله رسميًّا في 1/10/1976م (22). وكان أول رئيس له هو عيسى الناعوري. وقد بدأ المجمع عمله بخمسة أعضاء، وأصدر مجلته عام 1978م. وأقر العمل في المشروعات التالية :
1-حصر المفردات المستعملة في المرحلة الابتدائية، ضمن مشروع توحيد هذه المفردات في العالم العربي. وقد أنجز هذا العمل بالتعاون مع الجامعة الأردنية .
2-ترجمة الكتب العلمية الجامعية، ضمن حملة مركزة لأجل تعريب التعليم الجامعي.
3-تعريب المصطلحات العلمية والفنية الأجنبية المستعملة في مختلف الدوائر والمرافق الحيوية في الأردن (23).
وقد صدر العدد الأول من المجلد الأول من مجلة المجمع الأردني في أوائل 1978م .
وصدر قانون إنشاء المجمع الجزائري للغة العربية في 19 أغسطس عام 1986م، وتم تنظيم إدارة المجمع بموجب المرسوم المؤرخ في 30 يونيه 1987م، وتنصيب المكتب التنفيذي له في 21 سبتمبر 1998م، وعين عبد الرحمن الحاج صالح رئيسًا له في 7 أكتوبر 2000م (24) .
وأهداف المجمع هي :
1.خدمة اللغة الوطنية بالسعي إلى إثرائها وتنميتها وتطويرها .
2.المحافظة على سلامة اللغة العربية والسهر على مواكبتها للعصر، باعتبارها لغة اختراع علمي وتكنولوجي .
3.المساهمة في إشعاعها باعتبارها أداة إبداع في الآداب والفنون والعلوم.
ويضم هذا المجمع ثلاث لجان دائمة: إحداها للمعاجم والمصطلحات، والثانية للتأليف والترجمة والنشر، والأخيرة للتوثيق والتنشيط والاتصال .
وتقرر أن يصدر المجمع الجزائري مجلة دورية ينشر فيها إنتاج المجمع من مصطلحات وبحوث ودراسات تتعلق باللغة العربية وآدابها وفنونها وتراثها ومستجداتها، إلى جانب المقالات والمداخلات والمناقشات التي تجري خلال المؤتمرات والندوات العلمية والمتعلقة باللغة العربية (25).(/7)
وتم إعلان قيام مجمع اللغة العربية في الجماهيرية الليبية العربية الديمقراطية عام 2002م.
وعضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة لها شروط مميزة من حيث الكفاية العلمية والخبرة العميقة، ومن حيث مسوغات الترشيح للعضوية. ويتم الترشيح بتزكية كتابية من عضوين في الأقل، يشار فيها إلى الموقع العلمي للمرشح، ومجمل نشاطه وإنجازاته في إطار اهتمامه، وكل ما من شأنه أن يؤهل هذه التزكية للنظر. ويطرح الترشيح على المجلس للتصويت السري .
وتنقسم العضوية في مجمع القاهرة وغيره إلى عضوية عاملة و عضوية بالمراسلة، ولا تمنح هذه أو تلك إلا إذا تحققت شروط الترشيح والقبول المشار إليهما، وتعطى العضوية بالمراسلة للمواطنين وغيرهم. ولم يحدد قانون مجمع القاهرة سنًّا معينة للعضوية، ولم يفرق بين الرجال والنساء. وعلى الرغم من ذلك لم ينل العضوية إلا البالغون ستين سنة فما فوق إلا نادرًا، ولم يحظ العنصر النسائي حتى الآن بعضوية واحدة في هذا التاريخ الطويل.
وللعضو المراسل الحق في حضور المؤتمر السنوي العام والاشتراك في فعالياته، وله الحق في طرح بحوثه وأفكاره على المجمع أو لجانه ( دون حضوره) ، وفي نشر ما يود نشره بمجلة المجمع .
ويبلغ عدد الأعضاء العاملين الآن أربعين عضوًا من المصريين إلى جانب الأعضاء من غير المصريين. ويتم عمل المجمع من خلال لجان متخصصة، بلغ عددها ستًا وعشرين لجنة، ويعقد مؤتمرًا عالميًّا سنويًّا، يناقش المواد التي أعدتها اللجان في مختلف العلوم والفنون لإقرارها من أعضاء المؤتمر، في جلسات مغلقة ومقصورة على أعضاء المؤتمر.(/8)
ويحدد المجمع كل عام موضوعًا عامًّا ذا علاقة وثيقة بمسؤولياته في اللغة والثقافة، وذا نسب قريب بسياق الأحداث العلمية والفكرية والثقافية الجارية في المدة الزمنية التي تنتظم انعقاد المؤتمر. تقدم فيه بحوث ودراسات من المشتركين في هذا المؤتمر. وتناقش معظم البحوث والدراسات في الجلسات المغلقة، وقليل منها ما يحظى بعمومية الطرح على الجماهير في قاعة المحاضرات العامة، وكان الموضوع المختار هذا العام 2002 هو :" التأثير المتبادل بين الثقافات العربية والأجنبية " وجاء اختياره انعكاسًا لما يثار حول قضية (صراع الحضارات والثقافات ) .
وتجري التقاليد في مجمع اللغة العربية بالقاهرة على رصد جائزتين كل عام: إحداهما في الأدب وفنونه، والأخرى في تحقيق التراث العربي بكل ألوانه. وفي ذلك تشجيع للدارسين على الدرس والبحث العملي الجاد، إلى جانب التقاط كنوزنا العلمية والثقافية المطمورة في طيات التاريخ، وإخراجها إلى النور؛ لتستشف منها الأجيال الخبرة، وتقف على ما يحسب بمعيار العلم ثروة فكرية ذات خطر وبال. فضلاً عما يتحقق من توثيق الصلة بين المثقفين ومجمع اللغة العربية .
أما مسؤوليات المجمع فيمكن إجمالها فيما يلي :
1.تنمية الثروة اللغوية لجعل اللغة قادرة على التعبير عن المصطلحات العلمية الحديثة، ومعطيات الحضارة وألفاظها، ومستجدات الفكر. وذلك في إطار المحافظة على سلامة اللغة العربية، وعدم الخروج على أبنيتها وأطرها العامة .
2.دراسة اللهجات، وإعداد الأطالس اللغوية .
3.العناية بالقضايا التعليمية والتطبيقية، كتيسير النحو والصرف، وتيسير الكتابة والإملاء. وبناء على ذلك اندرجت جهود المجمع ضمن أربعة أبواب رئيسة هي :
أ-محاولة الوفاء بحاجة اللغة العربية إلى المعاجم المتطورة، الوافية بما استقر في اللغة من الأوضاع المحدثة والتقنيات المعجمية الحديثة .
ب-وضع المصطلحات العلمية والحضارية والفنية .
ج- إحياء التراث القديم .(/9)
د-تيسير متن اللغة، وقواعدها وكتابتها.
التنمية اللغوية في نشاط المجامع العربية :
1-الأبنية والتراكيب :
ساعد مجمع اللغة العربية المصري على زيادة الثروة اللغوية العربية بإقرار صيغ قياسية جديدة لبعض المعاني(26) ، والموافقة على توسيع قواعد الاشتقاق (27) والقياس (28) والتضمين(29) ، وإرساء مبدأ تكملة المواد اللغوية، التي وردت غير مكتملة في المعاجم (30)، بمصادر أخرى هي كتب الأدب والعلم والتاريخ، إلى جانب الاحتجاج بلفظ الحديث النبوي(31) في أحوال خاصة، مما كان له أكبر الأثر في اتساع حدود اللغة، وطواعيتها للتعبير عما يحتاج إليه العرب في حياتهم الحديثة .
ولم تنفرد المجامع اللغوية العربية الأخرى بإصدار قرارات علمية. وقد يرجع هذا إلى اكتفاء تلك المجامع بالاشتراك الفعلي لأبرز أعضائها في مجمع القاهرة، حيث يشتركون في مناقشة قراراته وإصدارها .
2-المصطلحات العلمية :
كرست المجامع العربية جهودًا كبيرة لخدمة المصطلحات العلمية لتطويع اللغة للوفاء بحاجات العلم والحاجات العصرية والحضارية المختلفة، ولمعاونة الباحثين في التأليف العلمي باللغة العربية؛ حتي يمكن السير في طريق تعريب العلم، والدراسة العلمية باللغة العربية .
وقد كرس مجمع القاهرة 70% من نشاطه لجمع المصطلحات ومناقشتها وإقرارها.
أما المجمع السوري فقد اكتفى بجهود أعضائه الفردية، ولم يقم بتشكيل لجنة دائمة لدراسة المصطلحات إلا عام 1977م.
ونهج المجمع العراقي نهج المجمع المصري فوجه جهودًا كبيرة إلى المصطلحات.
وتركزت جهود مكتب تنسيق التعريب على هذا المجال، سواء في نشر المصطلحات أو المعاجم المتخصصة، التي أنجز عددًا كبيرًا منها .
3-ألفاظ الحضارة :(/10)
صرف مجمع القاهرة جانبًا كبيرًا من وقته – في البداية – في إيجاد كلمات عربية فصيحة، في ميدان الشؤون العامة، يحلها محل الكلمات الأجنبية الدخيلة، أو الألفاظ التي لا ترجع إلى أصل عربي فصيح، في ميدان الشؤون العامة – مثل الكلمات: (الطربال، الصرح، الأطم) التي أقر المجمع استخدامها للدلالة على كل بناء عالٍ، كالعمارات الشاهقة، وبخاصة ناطحات السحاب (32) ونشر قوائم المصطلحات الخاصة بشؤون الحياة العامة في الأعداد الأولى لمجلته ومحاضر جلساته، كما نشر بعضها في الصحف، حتى يطلع عليها الجمهور فيستخدمها بديلاً لما شاع من الألفاظ غير الفصيحة. ولكن ألفاظه لم تجد بين أفراد الشعب ما كان مقدرًا لها من الشيوع؛ فقد رفض الناس موقف المجمع الذي تمثل في مراقبة ما يدور على ألسنتهم، ثم إحلال كثير من الألفاظ المهجورة محل الكلمات التي تشيع بينهم. ولم يأبه الشعب بألفاظ المجمع على الرغم من فصاحتها، فلم يكتب لها الانتشار. ولم يجد المجمع بدًّا من ترك هذا الميدان.
ولكن كثيرًا من الكتاب لم يهملوا المصطلحات الحضارية، ولم يستسيغوا استعمال الأسماء الأجنبية لها، فوضعوا مقابلات عربية لتلك الأسماء. وهكذا نشأت كلمات فصيحة لتكافح كلمات أجنبية أو عامية كان سلطانها متغلبًا على أقلام الكتاب (33).(/11)
ثم كان للمجمع موقف آخر: فقد مال – بعد ذلك – إلى أن يسجل ما شاع من ألفاظ الحضارة ويجعلها من مظانها، ثم يهذبها ويقرَّ منها ما يرتضيه.وما لا سبيل إلى إقراره يدعه للزمن والاستعمال؛ كي يصلح من شأنه، ويقوِّم من عوجه (34). وكان من أعضائه الذين ارتبط اسمهم بألفاظ الحضارة محمود تيمور، الذي دأب على تسجيل ما استخدم من تلك الألفاظ في وسائل الإعلام أو الكتب، ثم تهذيبها وصقلها وعرضها على مؤتمر المجمع. وقد بدأ هذا المنهج في الدورة الثامنة عشرة عام 1952م، وعاد إليه في الدورة الحادية والعشرين عام 1955م، ثم دأب على ذلك سنويًّا بدءًا من مؤتمر الدورة الثالثة والعشرين عام 1957م حتى الدورة الثامنة والثلاثين عام 1972م. وقد ضم بعض ما جمع وصقل من ألفاظ الحضارة في معجمه الذي صدر عام 1961م، بعنوان ( معجم الحضارة ).
4-دراسة اللهجات :
وفقًا لنص مرسوم إنشاء المجمع المصري شكلت- منذ بداية عمل المجمع – لجنة خاصة باللهجات، حددت ضمن أهداف عملها استقراء الألفاظ والتراكيب الدائرة على الألسنة في الأقطار العربية، وتسجيلها في معاجم وأطالس لغوية، واستقراء الروايات التي وردت من اللهجات العربية القديمة في أمهات الكتب العربية، وكذلك الدراسة المقارنة بين اللهجات العربية الحديثة. ولم تشر مطبوعات المجمع إلا إلى عدد من الدراسات والجهود الفردية في هذا المجال، مثل البحث الذي قدمه كارل نلينو عن ( دراسة اللهجات وأهميتها)، وبحث عيسى إسكندر المعلوف عن ( اللهجة والعامية في لبنان وسوريا)، وبحث خليل عساكر عن ( الأطلس اللغوي)، وبحث محمد فريد أبي حديد، بعنوان (موقف اللغة العربية العامية من اللغة العربية الفصحى)، وبحث عبد العزيز مطر عن ( خصائص اللهجة البدوية في إقليم ساحل مريوط)، وبحث أحمد علم الدين الجندي وعنوانه ( التميميون ومكانتهم في العربية )، ودراسة رمضان عبد التواب عن (اللهجة العامية المصرية في القرن الحادي عشر الهجري).(/12)
أما المجمع السوري فلم يحتوِ ( المنشور العام ) الذي صدر بتشكيله على إشارة لدراسة اللهجات؛ لذا نجده قد أهمل دراسة اللهجات، وعارض بعض أعضائه دراستها – عند بحث الموضوع في مجمع القاهرة – ويلحظ في تعليق أعضائه الاستخفاف باللهجات (35) .
ولم ينص قانون المجمع العراقي على دراسة اللهجات، ولم يكن بين اللجان التي شكلها لجنة لبحث اللهجات. ويبدو أنه كان يرى البحث في اللهجات عملاً لا يدخل ضمن أعمال المجمع، رغم إقرار أعضائه بفائدة هذه الدراسة للفصحى نفسها، واشتراك بعضهم (36) في إلقاء بحوث عن اللهجات (37).
أما مكتب تنسيق التعريب فقد أنشئ لغرض محدد، وليس من أهدافه دراسة اللهجات، وإن كان قد نشر بعض البحوث التي تعالج هذه الدارسة.
5-القضايا التعليمية والتطبيقية :
أ-تيسير النحو والصرف:
كان لاتصال النحاة بالعلوم المختلفة أثر في تعقيد الدراسات النحوية والصرفية؛ فقد أخذ النحويون بأساليب غيرهم من العلماء، كالفقهاء والمناطقة، وغالوا في فلسفة النحو مما أدى إلى صعوبته .
وحاول عدد من المفكرين الإسهام في تيسير النحو بتأليف كتب، أو بوضع قواعد أساسية بسيطة له، ومنهم حفني ناصف (38)، وعلي الجارم(39)، وإبراهيم مصطفى (40) ، ومحمد كامل حسين (41) ، وتمام حسان (42) .(/13)
كما حاولت وزارة المعارف العمومية التصدي لقضية تيسير النحو، فألفت عام 1937م لجنة للبحث في تيسير قواعد النحو والصرف والبلاغة. ووضعت اللجنة تقريرًا يتضمن اقتراحاتها بشأن هذا التيسير وبعثت الوزارة هذا التقرير إلى المجمع، الذي تولى بحثه وأصدر قرارات وافق عليها مؤتمر المجمع، مع التنبيه على أن تؤلف الوزارة كتابًا يطبق فيه التيسير المقترح، ويعرض على مجلس المجمع لمراجعته واستكمال النقص فيه. وبعث المجمع بتقريره إلى الوزارة، مصحوبًا بدعوته إلى تأليف الكتاب، فلم تستجب الوزارة إلى دعوته، وألفت كتبًا لم تعرض على المجمع، وقامت بتدريس النحو الميسر في مصر وسوريا – أيام الوحدة – نحو عامين، ثم عدل عنه (43) .
وشكل المجمع لجنة لوضع كتاب في النحو على أساس قواعد التيسير التي أقرها مؤتمره، على أن يعرض الكتاب على المؤتمر قبل نشره، ولم تخطُ اللجنة أي خطوة في اتجاه تأليف الكتاب.
ولم تُشِرْ مطبوعات المجمع السوري إلى أنه اشترك في محاولات تيسير النحو .
أما المجمع العراقي فقد أسهم في تلك المحاولات بأن شكل لجنة أصدرت عددًا من التوصيات، تتصل مجموعة منها بالمبادئ التي ترتكز عليها محاولة التيسير، وتتعلق المجموعة الأخرى بمفردات المنهج النحوي وطريقة التأليف فيه (44) .
ولم يشترك مكتب تنسيق التعريب في محاولات التيسير إلا بطريق غير مباشر، حين نشر بعض البحوث التي تناولت هذا الموضوع (45) .
ب-تيسير الكتابة والإملاء :(/14)
ربط علماء العربية كتابة الحروف بعلم الصرف، كما في رسم الألف المقصورة، فقد رأوا أن الألف الثالثة تكتب ألفًا إذا كان أصلها واوًا، وتكتب ياء إذا كان أصلها ياءً، كما رأوا أن الألف الزائدة عن ثلاثة تكتب ياء. كما ربطوا الكتابة العربية بعلم النحو في عدد من المسائل، منها اتصال (لا) النافية بـ ( إنْ) الشرطية، نحو ( إلاَّ تفعلوه)، وبـ ( أنْ ) الناصبة، في مثل ( ألاَّ يتخذوا من دوني وكيلا ). وعدم اتصالها بـ (أنْ) المفسرة أو المخففة من الثقيلة، نحو ( أن لا تعلو عليَّ)و( أن لا تخافوا ولا تحزنوا). ومنها زيادة الألف بعد واو ضمير الجماعة في مثل (ضربوا) وعدم زيادتها بعد واو جمع المذكر السالم عند إضافته، مثل ( مسلمو المدينة ) .
وربط الكتابة العربية بعلمي الصرف والنحو يشكل صعوبة فيها؛ إذ يفترض في متعلم الكتابة معرفة الأصل الاشتقاقي للكلمة، أو معرفة معنى الحرف الذي يكتبه؛ حتى يمكنه أن يتبين الوجه الصحيح في الكتابة .
ومن أوجه صعوبات الكتابة العربية كتابة الهمزة: إذ يتشكل رسمها باختلاف موقعها من الكلمة وحركتها أو حركة ما قبلها. ومن أوجه صعوباتها أنها لا تعبر عن الحركات في بنية الكلمة، وتلجأ إلى الشكل لضبط الكلمات التي تؤدي إلى اللبس، مما يؤدي إلى حدوث الخطأ في القراءة إذا تغير موقع الحركة.
ومن صور اختلاف النطق عن الكتابة – مما يوقع الطفل في اللبس - الواو التي تثبت كتابة لا نطقًا، مثل (أولئك) و( عمرو) – إلا في حالة نصبه – وكذلك الواو التي تثبت نطقًا لا كتابة كما في مثل ( داود ) و (طاوس ) و ( هاون ) .(/15)
شغل مجمع القاهرة منذ إنشائه بتيسير الكتابة العربية، وتقدم ثلاثة من أعضائه بمقترحات حول هذا الموضوع. فقدم عبد العزيز فهمي – في يناير عام 1944م – مشروعه الخاص وهو استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية (46) . وفي فبراير عام 1944م عرض على الجارم مشروعه الخاص بتيسير الكتابة(47)، الذي اقترح فيه إبقاء صور الحروف العربية على حالها، ومحاولة تصوير الكلمة كما تنطق، بإضافة زوائد تكتب في بنية الكلمة للدلالة على الحركات. وفي مؤتمر يناير عام 1951م، اقترح محمود تيمور تسهيل شكل الكتابة المطبعية(48)، بالاقتصار على صورة واحدة للحروف، هي التي تقبل الاتصال من أول الكلمة، وذلك في الحروف التي تتصل بغيرها .
وأقرت لجنة تيسير الكتابة عام 1959م عددًا من القواعد لضبط الكلمات بالشكل في الكتب المدرسية. كما اتفق على أن تقوم طريقة تيسير الكتابة على أساسين :
1-اختصار صور الحروف، بتمثيل الحرف بصورة واحدة، أيًّا كان موقعه من الكلمة .
2-الاحتفاظ بطبيعة الخط العربي،
وتجنب المباعدة بين القديم والجديد .
كما شكل مجمع القاهرة لجنة للإملاء، حاولت معاجلة الصعوبات التي يواجهها المبتدئ في تعلم الإملاء، في تقرير عرض في عام 1948م على مؤتمر المجمع، الذي وافق على قواعد رسم الهمزة، وعلى فصل الأعداد من ثلاث إلى تسع عند إضافتها إلى مئة .
ج-كتابة الأعلام الأجنبية بحروف عربية :
انفرد مجمع القاهرة بتوجيه اهتمامه إلى هذه المشكلة، وذلك منذ أوائل سنيه، فشكل لجنة لبحثها(49)، وضعت قرارات أقر المجمع عددًا منها، ولم يؤخذ بهذه القرارات، ولم يلتزم بها إلا بعض المترجمين أحيانًا. ثم اقترحت قواعد(50)، وافق عليها المؤتمر، تفادت معظم المآخذ التي لوحظت على القرارات السابقة. وقد سار التعريب على هذه القواعد إلى حد كبير .
منجزات المجمع المصري :
يمكن أن نرصد منجزات المجمع فيما يلي :
أولاً – المعاجم اللغوية العامة :(/16)
1-المعجم الوسيط. 2-المعجم الوجيز.
3-معجم ألفاظ القرآن الكريم .
4-المعجم الكبير ( صدر منة خمسة أجزاء ) .
5-مقدمة المعجم اللغوي التاريخي (مع بداية حرف الهمزة ) لفيشر .
ثانيًا - المعاجم العلمية المتخصصة:
1-المعجم الفلسفي .
2-المعجم الجغرافي .
3-معجم الفيزيقا النووية .
4-معجم الفيزيقا الحديثة .
5-معجم ألفاظ الحضارة والفنون .
6-المعجم الجيولوجي .
7-المعجم البيولوجي.
8-المعجم الطبي .
9-معجم الهيدرولوجيا ( علم المياه ).
10-معجم علوم الأحياء والزراعة .
11-معجم الصيدلة .
12-معجم علم النفس .
13-معجم الهندسة .
14-معجم الحاسبات .
15-معجم الموسيقا .
16-معجم مصطلح الحديث النبوي.
17- سلسلة من ( مجموعة المصطلحات العلمية والفنية والقانونية) التي أقرت في المجمع .
ثالثًا: إحياء التراث :
أصدر المجمع عددًا من الكتب في مجال إحياء التراث، هي :
1-عجالة المبتدي وفضالة المنتهي للحازمي الهمداني .
2-التكملة والذيل والصلة للصاغاني (ستة أجزاء ) .
3-ديوان الأدب للفارابي ( أربعة أجزاء ).
4-كتاب الأفعال للسرقسطي ( أربعة أجزاء ).
5-كتاب الجيم للشيباني(أربعة أجزاء). 6-التنبيه والإيضاح عما وقع في الصحاح لابن بري .
7-كتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام .
8-التكملة والذيل والصلة للزبيدي .
رابعًا - القرارات العلمية :
أصدر المجمع قرارات في مختلف شؤون اللغة العربية، تضمنتها .
1-مجموعة القرارات العلمية .
2-في أصول اللغة ( ثلاثة أجزاء ).
3-الألفاظ والأساليب ( ثلاثة أجزاء).
4-مجموعة القرارات العلمية التي أصدرها المجمع في خمسين عامًا.
خامسًا - مجلة المجمع :
وهي دورية استقر أمرها على أن تكون نصف سنوية، صدر منها حتى الآن سبعة وثمانون عددًا.(/17)
ولا يخفى علينا أن معظم هذه الأعمال تحتاج إلى جهد دؤوب مخلص لإنجازها: فصناعة المعجمات اللغوية مثلاً تحتاج إلى معرفة واسعة وخبرة عميقة، لا يتحقق وجودهما إلا في خاصة الخاصة العارفين الذين يشكلون فيما بينهم منظومة عمل متناسقة الأدوار والمسؤوليات؛ حتى يخرج العلم وافيًا بالغرض، ملبيًا حاجة أصحاب اللغة في سهولة ويسر .
وصناعة المعجمات الاصطلاحية تحتاج إلى عمق معرفة بمختلف العلوم والفنون، إلى جانب القدرة على التعامل بصدق مع التخصصات المختلفة بلغاتها الأصلية، ذلك أن المصطلحات العلمية التي ينشغل بها المجمع أكثرها أجنبي، وليس التعامل معها مقصورًا على مجرد ترجمتها أو تعريبها، وإنما يمتد الأمر فيها إلى شرح مفاهيمها وتفسيرها تفسيرًا علميًّا دقيقًا، يفي بدلالاتها الخاصة في إطار موضوعها، وبتقريب هذه الدلالات نفسها إلى القارئ العربي، وتلك مهمة بالغة الصعوبة .
ومعاجم المصطلحات ذات أهمية كبيرة لخدمة التعريب، وخاصة في مجال التدريس الجامعي في كليات الطب وغيرها، وليس بخافٍ أن دراسة العلم باللغة القومية تسهل على الطالب استيعاب المادة العلمية؛ إذ تزيح عن كاهله عبء ترجمة المادة المقدمة له باللغة الأجنبية إلى لغته الأم أولاً، كي يستطيع فهم محتواها. والانشغال بالترجمة أولاً ثم الفهم، مما لا يتيح له التميز والنبوغ الذي يكون في مقدوره إذا ما درس المادة بلغته الأم.
وفي هذا العصر الذي تزاحم فيه اللغات الأجنبية اللغة العربية في عقر دارها، في كل مجالات الحياة : في التعليم العام، والجامعي، وفي الإعلام المسموع والمنظور والمقروء، وفي التدفق المتسارع لفيض المعلومات الناتج عن الثورة المعلوماتية، وفي لافتات الشارع، نجد أن مسؤولية المجامع اللغوية تتضاعف؛ كي تواجه طوفان هذا الزحف الأجنبي على أهم مقومات هويتنا وكياننا. وتحفظ لغتنا من الذوبان في هذا التيار الجارف .(/18)
والمجمع المصري يبذل جهدًا كبيرًا في ملاحقة ذلك التيار الدائم من الكلمات والعبارات المترجمة التي تشيع على الألسنة بعد دورانها في لغة الإعلام، ويبذل وسعه في تسجيل الظواهر اللغوية المحدثة، ثم يتتبع أقوال العلماء القدماء بصدد هذه الظاهرة، لكي يجد فيها منفذًا لإقرارها. ويتبع ذلك بإحصاء الأمثلة المروية لهذه الظاهرة من المعاجم المطولة . ثم يحاول جاهدًا إقرار الصيغة التي يأنس إليها الجمهور؛ حتى لا يصدم أبناء العربية في حسهم اللغوي .
ولاشك أن هذا العمل المتواصل غير المنقطع يحتاج إلى عدد كبير من شباب الباحثين الجادين، يشكلون فريق عمل متكاملاً متناغمًا، ترصد له المكافآت المناسبة؛ كي يبذل ما في طاقته لملاحقة التطور المتسارع في اللغة، وينفي عن المجمع تهمة البطء الشديد في العمل، التي كثيرًا ما توجه إلى المجمع .
وعدد الأعضاء العاملين، الذي لا يزيد على أربعين عضوًا قليل بالقياس إلى عدد لجان المجمع الذي يبلغ ستًا وعشرين لجنة. وزيادة عدد الأعضاء لازمة كي يتاح لهم الإشراف الفعلي على عمل اللجان، والمتابعة الجادة لعملها، وتفعيل هذا العمل وسرعة إنجازه .
التوصيات :
1. العمل على أن تكون قرارات المجمع ملزمة للوزارات والهيئات والجامعات، عن طريق إصدار قانون يلزم الجهات المسؤولة بالأخذ بقرارات المجمع، كلاًّ فيما يخصه، والحرص على تفعيل هذا القانون .
2. توسيع دائرة نشاط المجمع بحيث يتصل اتصالاً مباشرًا بالجهات المعنية والوزارات – وبخاصة وزارات التربية والتعليم، والتعليم العالي، والإعلام – ونقابة المعلمين، وهيئات التدريس؛ لصناعة جسور علمية تسهم في حل المشكلات اللغوية والأدبية .
3. توثيق أواصر الصلات بين المجمع والهيئات والمؤسسات العلمية المهتمة باللغة العربية وقضاياها خارج الوطن.
4. العمل على إصدار ( المعجم اللغوي التاريخي )، الذي نص مرسوم إنشاء المجمع على وضعه.(/19)
5. تعزيز دور الإعلام في محاولة التقريب بين المجمع والمؤسسات الثقافية والجماهيرية، من خلال التعريف بجهود المجمع وأعماله، وتوسيع دائرة التعريف بأعمال المجمع من خلال موقع له على الشبكة العالمية "الإنترنت ".
6. إنشاء مطبعة خاصة بالمجمع، وزيادة ميزانيته وإمكاناته، والعمل على استقلاله ماديًّا وإداريًّا.
7. توسيع دائرة العضوية بالمجمع، وفتح الباب أمام الدماء الشابة والعنصر النسائي، وتوفير الرعاية الصحية والاجتماعية لأعضاء المجمع.
8. إنشاء لجنة مستقلة للترجمة والتعريب، وتوسيع دوائر عمل اللجان حتى يمكن الاتصال بالمؤسسات الإعلامية لحثها على رصد أعمال المجمع والتعريف بها، ومتابعة تنفيذ القرارات ومعالجة أوجه القصور .
9. العمل على توزيع مطبوعات المجمع أولاً بأول على الجماهير؛ لتوثيق صلته بهم، وتوسيع دائرة نشاطه الثقافي من خلال المحاضرات العامة والندوات، وطرح القضايا اللغوية والأدبية والثقافية العامة.
10. زيادة الاهتمام بمجلة المجمع، وجعلها ربع سنوية، وتوسيع دائرة نشرها وتوزيعها.
هوامش البحث
(1)( عيسى إسكندر المعلوف : المجامع العلمية في العالم ) – مجلة المجمع العلمي العربي – المجلد الأول -ص 104.
(2) ( اللغة العربية وعلوم العصر : عائشة عبد الرحمن ) –اللسان العربي – المجلد 13ص23 – "أبحاث ودراسات "-1976م.
(3)( عبد القادر المغربي: مجامعنا اللغوية وأوضاعها )- محاضر جلسات مجمع اللغة العربية بالقاهرة – الدورة 14-ص381 – 2، وأيضًا مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة : ج7 – ص125، مجمع اللغة العربية في ثلاثين عامًا – إبراهيم مدكور – ص 15.
(4)عبد الله الجبوري : المجمع العلمي العراقي – ص 15 .
(5)إبراهيم مدكور : مجمع اللغة العربية في ثلاثين عامًا ( ماضيه وحاضره) – ص 16-17، محاضر جلسات مجمع اللغة العربية – الدورة14 – ص383.(/20)
(6)من المنشور العام الذي صدر باسم رئيس المجمع العلمي في شهر أيلول عام 1919م – تاريخ المجمع العلمي العربي : أحمد الفتيح – ص 11.
(7)المنشور العام السابق – تاريخ المجمع العلمي العربي : أحمد الفتيح – ص14-15، ومجلة المجمع العلمي بدمشق – المجلد الأول ص 6.
(8)أحمد الفتيح : تاريخ المجمع العلمي العربي – ص 171، 175.
(9)( عيسى إسكندر المعلوف: المجامع العلمية في العالم ) – مجلة المجمع العلمي العربي – المجلد الأول – ص105.
(10)( محمد شمام: تاريخ المجامع اللغوية في العالم العربي )- ( اللسان العربي – المجلد 14-ج1 – ص 196 .
(11)المرجع السابق : ج 1 – ص 197.
(12)لم تعثر الباحثة على مرسوم بتغيير الاسم، ولكن المجلة صدرت بالاسم الجديد ابتداء من العدد السابع، المطبوع عام 1953 م.
(13)مجلة مجمع اللغة العربية الملكي – ج1:ص6 ، 7.
(14)مرسوم إنشاء المجمع،: مجلة مجمع اللغة العربية الملكي –ج1 –ص 6،7.
(15)عبد الله الجبوري : المجمع العلمي العراقي – ص 44 .
(16)مجلة المجمع العلمي العراقي- المجلد الأول – ص 3، وأيضًا المجمع العلمي العراقي – عبد الله الجبوري – ص 37.
(17)مجلة المجمع العلمي بدمشق – المجلد 32 – ج1-ص222، مجلة المجمع العلمي العراقي – المجلد 4-ج 2 – ص738.
(18)مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق – المجلد 32 –ج3 – ص 553-555، مجلة المجمع العراقي – المجلد 4 – ج2 – ص 743 وما بعدها.
(19)مجلة اللسان العربي – المجلد 10 –ج2 – ص 23.
(20)مجلة اللسان العربي – المجلد 10-ج2 – ص24.
(21)المرجع السابق : المجلد 9- ج1-ص470.
(22)مجمع اللغة العربية الأردني في عامه الأول ( من منشورات مجمع اللغة العربية الأردني ) : ص6 –7، اللسان العربي – المجلد 15-ج3 –ص21.
(23)مجمع اللغة العربية الأردني في عامه الأول : ص10 –11.
(24)النظام القانوني للمجمع الجزائري للغة العربية : صورة مرسلة بالناسوخ ( الفاكس ) .
(25)المرجع السابق .(/21)
(26)كما في صيغ اسم الآلة : مجمع اللغة العربية في ثلاثين عامًا – مجموعة القرارات العلمية: ص34 –35، البحوث والمحاضرات – مؤتمر الدورة 29 : ص 240، 256.
( 27) محاضر الجلسات – دور الانعقاد الأول: ص 356، والثاني: ص 10.
(28)محاضر جلسات الدورة 15 – ص 498، مجمع اللغة العربية في ثلاثين عامًا – مجموعة القرارات العلمية : ص11، مجلة مجمع اللغة العربية : ج7 – ص302.
(29)محاضر الجلسات – دور الانعقاد الأول – ص 236، مجمع اللغة العربية في ثلاثين عامًا: مجموعة القرارات العلمية: ص 5.
(30)مجلة مجمع اللغة العربية – ج3 – ص 211 وما بعدها، مجمع اللغة العربية في ثلاثين عامًا – مجموعة القرارات العلمية : ص18 – 20 ، مجلة مجمع اللغة العربية الملكي –ج2 – ص32.
(31)محاضر جلسات الدورة الرابعة – ص 433، 434، ومجلة مجمع فؤاد الأول : ج4-ص7.
(32)محاضر الجلسات – مجمع اللغة العربية الملكي – الدورة الثانية : ص 30.
(33)محمود تيمور : معجم الحضارة – ص6.
(34)إبراهيم مدكور: مجمع اللغة العربية في ثلاثين عامًا : ماضيه وحاضره – ص 59 – 60.
(35)مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق: المجلد 52- ص 466 .
(36)منهم محمد رضا الشبيبي الذي نشر( أصول ألفاظ اللهجة العراقية) ببغداد عام 1956 م.
(37)محاضر الجلسات – مجمع القاهرة – الدورة 15:ص449 .
(38)الذي ألف كتبًا لتعليم النحو تحت عنواني (الدروس النحوية) عام1886م، و(قواعد اللغة العربية) عام 1891م.
(39) الذي ألف مع مصطفى أمين كتاب ( النحو الواضح ) من ثلاثة أجزاء، في أواخر العقد الثالث من القرن العشرين.
(40)الذي ألف كتاب ( إحياء النحو ) في عام 1936م.
(41)حاول أن ييسر دراسة النحو بوضع قواعد بسيطة له ، ضمنها بحثه (النحو المعقول) : مجلة مجمع اللغة العربية – ج 27 – ص 24 –59.
(42)الذي ألف كتاب ( اللغة العربية معناها ومبناها ) .
(43)مجمع اللغة العربية: ماضيه وحاضره – ص80.(/22)
(44)مجلة المجمع العلمي العراقي – المجلد 27 – ص317 –318.
(45)منها بحث تمام حسان المشار إليه: اللسان العربي – المجلد 11 –ج1-ص285 .
(46) محاضر الجلسات – الدورة 10 – ص 275 – 312 ، محاضر الجلسات – الدورة 19 – ص80، 360.
(47)محاضر الجلسات – الدورة 19 – ص80، 360.
(48) محاضر الجلسات – الدورة 17 – ص513 –517 .
(49)من الشيخ الإسكندري، والأب أنستاس ماري الكرملي، والأساتذة ماسينيون، ونلينو، وليتمان / محاضر الجلسات – دور الانعقاد الثالث – ص32 ، 37 .
(50)البحوث والمحاضرات – مؤتمر الدورة 30 – ص236 – 238.
* * *
ثبت المراجع
أولاً - الكتب المطبوعة :
-إبراهيم بيومي مدكور :
مجمع اللغة العربية في ثلاثين عامًا ( ماضيه وحاضره )- الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية – القاهرة – 1964 م.
أحمد الفتيح :
تاريخ المجمع العلمي العربي (مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق ) – مطبعة الترقي – 1956م.
تمام حسان :
اللغة العربية معناها ومبناها – الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1973م.
عبد الله الجبوري :
المجمع العلمي العراقي – مطبعة العاني – بغداد 1965 م.
علي الجارم :
النحو الواضح – مطبعة المعارف – القاهرة – ط2 –1931 م.
محمود تيمور :
معجم الحضارة – المطبعة النموذجية – القاهرة – 1961م.
ثانيًا - الدوريات :
اللسان العربي :
-المجلد 9- ج 1- المكتب الدائم لتنسيق التعريب – الرباط –1972م.
-المجلد 10 – ج 2 – المكتب الدائم لتنسيق التعريب – الرباط –1973م.
-المجلد 11 – ج1 – المكتب الدائم لتنسيق التعريب – الرباط –1974م.
-المجلد 13 – " أبحاث ودراسات " – المكتب الدائم لتنسيق التعريب – الرباط –1976 م.
-المجلد 14 – ج 1 – المكتب الدائم لتنسيق التعريب – الرباط – 1976م.
-المجلد 15 – ج 3 – المكتب الدائم لتنسيق التعريب – الرباط – 1977م.
-مجمع اللغة العربية الأردني في عامه الأول – مطبعة التوفيق – عمان – ب. ت .(/23)
-مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق – المجلد الأول – الطبعة الثانية – دمشق 1969م.
-مجلة مجمع العلمي العربي بدمشق – المجلد 32 – دمشق 1957م.
-مجلة المجمع اللغة العربية بدمشق : المجلد 52 – ج 2 – دمشق 1977 م.
-مجلة المجمع العلمي العراقي – المجلد الأول – بغداد – 1950م.
-مجلة المجمع العلمي العراقي – المجلد 4 – ج 2 – بغداد – 1953 م.
-مجلة المجمع العلمي العراقي- المجلد 27 – مطبعة العلمي العراقي – بغداد 1976 م.
مطبوعات مجمع اللغة العربية بالقاهرة :
-البحوث والمحاضرات – مؤتمر الدورة 29 – القاهرة 1964م.
-البحوث والمحاضرات – مؤتمر الدورة 30 – القاهرة 1965م.
-مجلة مجمع اللغة الملكي – ج 1- المطبعة الأميرية – القاهرة 1935م.
-مجلة مجمع اللغة العربية الملكي– ج2 – المطبعة الأميرية – القاهرة 1936م.
-مجلة مجمع اللغة العربية – ج 3 – المطبعة الأميرية – القاهرة 1937م.
-مجلة مجمع فؤاد الأول : ج4 –المطبعة الأميرية – القاهرة 1939م.
-مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة : ج7 – مطبعة وزارة المعارف العمومية 1953م.
-مجلة مجمع اللغة العربية – ج27 – الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية – القاهرة 1971 م.
-مجمع اللغة العربية في ثلاثين عامًا ( مجموعة القرارات العلمية) – مطبعة الكيلاني – ط 2 – القاهرة 1971م.
-محاضر الجلسات – دورة الانعقاد الأولى – المطبعة الأميرية – القاهرة 1936م .
-محاضر الجلسات – دورة الانعقاد الثانية – المطبعة الأميرية – القاهرة 1937م.
-محاضر الجلسات – دورة الانعقاد
الثالثة – المطبعة الأميرية – القاهرة 1938م.
-محاضر الجلسات – دورة الانعقاد الرابعة – دار الطباعة المصرية – القاهرة 1939م.
-محاضر الجلسات – دورة 10 – مطبعة الكيلاني – 1970 م.
-محاضر الجلسات – دورة 14 – الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية – القاهرة 1972 م.(/24)
-محاضر الجلسات – دورة 15 – الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية – القاهرة 1973 م.
-محاضر الجلسات – دورة 17 – الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية – القاهرة 1975 م .
-محاضر الجلسات – دورة 19 – الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية – القاهرة 1977 م.
-النظام القانوني للمجمع الجزائري للغة العربية .
وفاء كامل فايد
كلية الآداب - جامعة القاهرة(/25)
السماع في اللغة عند القدماء والمحدثين
رأي في علاج المشكلة اللسانية
للأستاذ الدكتور صادق عبد الله أبي سليمان
ملخص البحث :
يهدف هذا البحث إلى تبيين أهمية السماع بوصفه وسيلة إجرائية مجرّبة يمكن الاعتماد عليها في إذاعة
الفصحى وعلاج مشكلات اللسان فيها، وضرورة الاتجاه إلى بحث السبل التي تنمّي مهارته في أهلها، ولكي يبين صحة دعوته في فعالية السماع في اكتساب اللغة تحصيلاً وإثراءً وسلامةَ أداءٍ يركن إلى الماضي والحاضر؛ فبين أوّلاً ما يدلل على أن العرب القدماء بفطرتهم انقادوا إليه، فعملوا على تهيئة جو السماع النقي الذي يتيح للناشئة كسب الفصاحة وامتلاك ناصية بيانها القولي، كما استعرض مظاهر
عناية علماء العربية به في دراستهم للغة وتقعيدهم لها، ثم عرّج على المحدثين ليبين أنهم أولوه عناية القدماء مستفيدين في ذلك من منهجية الدرس اللغوي الحديث واستعانته بمختبرات اللغة ووسائلها الحديثة.
وختم البحث بتعزيز رأيه في أهمية السماع في علاج المشكلة اللسانية غير مهمل دور النحو-على الرغم من عدم تعويله عليه في تربية ملكة اللسان-في معاضدة السماع في إتقان مهارة اللغة وإصلاح زلل اللسان،وذلك في ظل عدم توافر جو السماع النقي،وقلة المتحدثين بالفصحى في هذه الأيام.
*السماع وسيلة كسب ملكة اللسان
(1)
مدخل:(/1)
هيأ الله لكل إنسان جهازًا نطقيًّا يمكنه من القدرة على الكلام، كما أودع فيه جهازًا سمعيًّا له أثره في ضبط الكلام الصادر منه؛ واستقبال الكلام الوارد إليه، ولا يخفى ما لِهذا العقل الذي يتحلى به الإنسان من أثر ضابط فعال في هذا المجال؛ فيجعله قادرًا على المحاكاة والإنتاج والإبداع والتمييز والتصنيف، والإفادة من المسموع وتخزينه وتذكيره به وقت الحاجة؛ فقد فَضَّل الله - سبحانه وتعالى- الإنسان على سائر مخلوقاته بما خصه من مزية الكلام؛ فالكلام ظاهرة اتصال يتميز بها هذا الإنسان الذي خلقه الله " في أحسن تقويم" عن غيره من الكائنات الحية التي سخرها جميعًا لخدمته.
وترتبط هذه الأجهزة في عملية إنتاج الكلام الذي يتكلم به الأفراد والمجتمعات ببعضها ارتباطًا عضويًّا لا انفصام فيه،وإنَّ تعطُّل أي منها أو إصابته بضرر سيترك بصماته في الكلام؛ فالجهاز النطقي وإن شكَّل مصدر القدرة الإنسانية لإنتاج الكلام فإنه مرتبط باللغة المخزونة”langue”في العقل التي اعتاد جهازه السمعي على سماعها ونقلها إليه عبر شبكة اتصال ربانية معقدة، ينهل منه وقت الحاجة فيعيده كلامًا “parole” إلى سيرته الأولى: ينتقل عبر شبكة الاتصال الربانية ذاتها إلى المستقبِل؛ وهكذا دواليك.
ولله دَرُّ الشاعر العربي حين يقول:
إن الكلامَ لَفي الفؤاد(1) وإنما
جُعِلَ الّلسانُ على الفؤادِ دليلا(2)
على أننا ننبه في هذا المجال على ضرورة التفريق بين أمرين:
الأول- القدرة على إنتاج الكلام بصفة عامة:
ويشكل جانب الاستعداد الفطري في عملية إنتاج الكلام، وهو من منجزات الجهاز النطقي الذي أودعه الله في الإنسان، وجعله مطواعًا قادرًا على نطق أيٍّ من اللغات التي يعتاد على سماعها، والنسج على منوالها.
الآخر- الكلام ذاته:(/2)
وهو يشكل الجانب المكتسب في عملية الكلام؛ فجهاز الطفل النطقي أسيرُ ما اعتاد جهازه السمعي على سماعه، يحاكيه ليصبح لسان حاله الذي يتعامل به مع الآخرين؛ فالكلام لا يتم أخذه إلا بالسماع من الآخرين، وإن اعتياده على سماعِ لغةٍ ما، هو معيار نجاحه في أدائها أداءً سليما.
إننا نلمس هذا الحال في حياتنا، فجميعنا أميًّا ومتعلمًا وعالمًا يتكلم العامية دون تعلم، ولا يكاد يخطئ في استعمالها صوتًا وصرفًا ونحوًا ودلالةً، ومتعلمنا وعالمنا تعلم اللغة العربية الفصحى في مراحل دراساته المختلفة؛ ولكنه عند تكلمه بها يخطئ؛ لعدم استعماله لها استعمال حياة.
وكذلك نتعلم اللغات الأجنبية، وأيًّا كان تفوقنا في امتحاناتها فإن تعلمنا لها سيبقى دون جدوى، وسنبقى نتلعثم في نطقها، وغير قادرين على استيعاب كلام أهلها ما لم نختلط بهم فنعايش كلامهم سماعًا، وهو أمرٌ عايشنا تطبيقه، فالعامل البسيط في تحصيله العلمي قد تراه يجيد لغة صاحب العمل الأجنبي؛ لأنه عايشها سماع حياة من فيه، وهو أمرٌ نلمسه واقعًا معاصرًا؛ فكثير من العمال الفلسطينيين يجيد التحدث باللغة العبرية.(/3)
وفي ضوء هذا نستطيع القول بأن اللغة ملك السماع؛ فاللغة التي تعتاد الأذن على سماعها هي التي ستصير لغة سامعها، أيًّا كان أصله العِرْقي، فلا علاقة بين العرق واللغة- كما أوضح غير عالم لغوي في دراساته(3)- ولا يورثها الآباء للأبناء إلا بقدر سماعهم لها منهم، ولو كانت اللغة وراثة لبقينا على لغة أسلافنا الأولى لا تغيير فيها، ولَما تكلم العربي الذي يُولَد في غير وطنه العربي لغة البلد الذي رُبِّيَ فيه وليدًا، ولَما وجدنا أبًا لا يجيد إلا لغة واحدة، وابنه يجيد لغتين أو أكثر؛ فاللغة ظاهرة اجتماعية قابلة للتغير على ألسنة الأبناء بفعل عوامل كثيرة منها: التعليم، والمصاهرة، والمهنة، والانتقال من مكان إلى آخر، ومخالطة طبقات أخرى غير طبقته الأولى، وغيرها؛ الأمر الذي يهيئ لملامح لغوية جديدة تتوطد على ألسنة الأبناء وأبنائهم جيلاً بعد جيل وهلم جرا.
وعلى هذا فإن القول بإمكان الاستدلال بطريق الكلام على الأصول العرقية ليس دقيقًا، وإنه إذا كان بالإمكان ردُّ ظاهرةٍ لهجيةٍ حديثةٍ إلى ظاهرةٍ لهجيةٍ قديمةٍ فهذا لا يعني أن الناطق بظواهرَ من هذه اللهجة القديمة اليومَ أو غدًا يرتدُّ في أصوله العرقية إلى أصحابها الأوائل(4) .
إن اللغة- فيما نؤكد- رهينة السماع، وقدرة الله- سبحانه وتعالى- منحت الإنسان جهازًا نطقيًّا قادرًا على التكيف، فيمكنه محاكاة الكلام الذي يتردد على أذنه، واقتضت حكمته اختلاف ألسنة بني البشر، يتكلم الإنسان منها ما اعتاد على سماعه ومعايشة أهله، فقال عز من قائل: "ومن آياته خَلقُ السمواتِ والأرضَ واختلافُ ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآياتٍ للعالِمين"(الروم:22).(/4)
إن ارتباط الكلام بالسماع نتبينه فيمن ابتُلوا بعاهة الصمم، أو نقصٍ في السمع، فكانوا بكمًا أو مرضى كلام لا يعون إلا القليل، فلو كان الأمر أمر وراثة لوجدناهم يتكلمون لغة آبائهم، ولَما وجدنا المكفوف الذي لم يُعَطَّل جهازه السمعي يتكلم ويتعلم ويبدع في أمور كثيرة، وهكذا فإن السمع وسيلة الإنسان إلى امتلاك اللغة، ووسيلته إلى الفهم والتعلم، ومادام الإنسان يسمع فهو يتعلم.
السماع فطرة العربي القديم في اكتساب فصاحة العربية:
وتطبيقًا عمليًّا لأهمية السماع في تحصيل فطرة اللغة وجدنا العرب في العصر الجاهلي تتخذ منه وسيلة لتربية أبنائها منذ الصغر على الفصاحة، فكانوا يرسلونهم إلى البادية موطن الفصاحة والفراسة في اعتقادهم الراسخ، ولا أظننا لم نطّلع على قصة تربية سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم - على يد حليمة السعدية في مضارب بني سعد، وقد أشار- صلى الله عليه وسلم - إلى أثر هذه النشأة في فصاحته فقال:" أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد"(5)، واستمرت هذه العادة إلى ما بعد العصر الجاهلي فرأينا خلفاء بني أمية والعباس يرسلون أبناءهم إلى البادية، وكذلك وجدنا كبار الشعراء أمثال بشار بن برد ينشؤون نشأتهم الأولى فيها، وكأن الفصاحة في نظرهم عنصر من عناصر اللبن الذي ترضعه هؤلاء الأمهات البدويات لأطفالهن، جاء في ابن منظور: "وأَفصحَ اللبن: ذهب اللِّبَأ عنه...، وفَصُحَ اللبن: إذا أُخذت عنه الرّغوة؛ قال نَضْلَةُ السُّلَمِي:
رَأَوْهُ فَازْدَرَوْهُ، وَهْوَ خِرْقٌ
وينفعُ أهلَهُ الرجلُ القبيحُ
فلم يَخْشَوا مَصَالَتَهُ عَلَيْهِمْ
وَتَحْتَ الرّغوةِ اللبنُ الفصيحُ وأفصحت الشاة والناقة: خلص لبنُهما، وقال اللحياني: أفصحت الشاة: إذا انقطع لِبَؤُها وجاء اللبن بعد"(6)، هكذا فإن من معاني الفصاحة في اللغة اللبن الخالص.(/5)
وجدناهم يتخذون السماع وسيلة لتعليم أبنائهم بل من يتوسمون فيه موهبةً معينةً كالشعر أو الخطابة؛ فقد رُويَ عن الخليل بن أحمد الفراهيدي: "أنه كان بالصحراء فرأى رجلاً قد أجلس ابنه بين يديه وأخذ يردد على سمعه(نعم لا، نعم لا لا،نعم لا، نعم لا لا) مرتين، فسأله عن هذا، فقال: إنه التنغيم، بالعين المعجمة نعلمه لصبياننا"(7) أو التنعيم بالعين المهملة كما في رواية أخرى(8).
السماع والمنهج الإسلامي:
لفت القرآن الكريم إلى أهمية السمع للإنسان في غير آية منه(9)، فقال مثلاً: "إنما يستجيب الذين يسمعون"(10)،ولحكمةٍ ربانيةٍ بالغةٍ كان تقديم السمع على البصر والعقل في كثيرٍ من الآيات القرآنية الكريمة(11)، قال عز من قائل: "وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون"(12) وكذلك كان تقديم(السميع) على (العليم) في جميع الآيات القرآنية(13)، وتقديمه على البصير(14) إلا في قوله تعالى: "مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلاً أفلا تَذَكَّرون"(15)، وإنها لَحكمةٌ ربانيةٌ عُبِّر عنها لغة، فكان تقديم لفظ " صُمّ"على "بُكْم" لفتًا إلى طبيعة إنسانية يرتبط السمع فيها بالكلام، وأنّ من يولد أصم يحيا أبكم، ولو كانت أعضاء جهازه النطقي جميعها سليمة، قال تعالى : "صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون"(16) .(/6)
وإن لنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المثل الحي في الاستفادة من أذنيه، إذ حفظ القرآن سماعًا من جبريل -عليه السلام-، وأسمعه للناس، وهو الإنسان الأمي الذي لا يكتب ولا يقرأ، وفي إدراك أهمية السمع في التحصيل واكتساب التربية، فقد وجدنا حرص السنة النبوية على الاستفادة من هذه الخاصة المهمة في تربية المجتمع التربية الإسلامية؛ وذلك بإسماع الوليدِ- منذ لحظة ولادته الأولى- الأذانَ في أذنه اليمنى، وإقامة الصلاة في اليسرى، وهذا دليلٌ عمليٌّ على أداء جهاز الوليد السمعي لوظيفته حالة ولادته، وحثٌّ على التنبه لأثره السمعي في التنشئة اللغوية والأخلاقية وغيرها.
وفي مجال تلاوة القرآن الكريم ما زلنا في مساجدنا ومراكز تحفيظ القرآن الكريم نتبع طريقة القراء وعلماء التجويد في تعليم النشء التلاوة، حيث الشيخ يقرأ، وتلامذته يستمعون إليه أو يرددون قراءته.
*علماء العربية القدماء والسماع
(2)
يلاحظ المُطَّلِعُ على تراثنا اللغوي اهتمام علمائنا العرب القدماء بالسماع، وقد تبدى ذلك في مقامات مختلفة نوردها على النحو التالي:
أولاً-النص على أهمية السماع في تحصيل اللغة:
نص علماء اللغة العرب على أهمية السماع في تحصيل اللغة وإتقانها وتنميتها، فقال ابن فارس: " تؤخذ اللغة اعتياداً كالصبي العربي يسمع أبويه وغيرهما، فهو يأخذ اللغة عنهم على مر الأوقات، وتؤخذ تلقنًا(17) من ملقن، وتؤخذ سماعًا من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة، ويُتَّقى المظنون" (18) .
وهكذا فإن ابن فارس وهو ينص على أن اللغة تؤخذ سماعًا نراه ينبهنا على أن اللغة ظاهرة إنسانية مكتسبة، ويحدد مصادر اكتسابها أو تحصيلها على النحو التالي:
أ-السماع العفوي:(/7)
وهو ما يكتسبه الفرد طفلاً منذ أيامه الأولى من أبويه وأفراد عائلته والمحيطين به من جيرانه وأبناء مجتمعه، فالتواصل أو إن شئت فقل التفاعل الاجتماعي بين الفرد والمحيطين به هو المصدر الأول لاكتساب اللغة، وقد لفت ابن خلدون الذي رأى أن السمع أبو الملكات اللسانية(19) إلى أثر هذا المصدر وتكراره- وهو ما عبر عنه ابن فارس بكلمة "اعتيادًا"- في تكوين ملكة الإنسان اللغوية التي تُمكِّنه من اللغة، ينطقها دون تكلف أو عناء، يقول: " والملكات لا تُحَصَّل إلا بتكرار الأفعال....فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أوّلاً ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك، ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة، ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكةً و صفةً راسخة، ويكون كأحدهم، هكذا تَصَيَّرَتِ الألسن واللغات من جيل إلى جيل، وتعلمها العجم والأطفال"(20).
ولفت ابن جني إلى أهمية السماع في تنمية ملكة الفرد اللغوية التي يكتسبها من أبناء جماعته، وذلك حين تحدث عن اتصال العرب ببعضهم وأثره في انتقال لغاتهم إلى بعضهم فقال: "إنهم بتجاورهم وتلاقيهم وتزاورهم يَجْرون مجرى الجماعة في دار واحدة، فبعضهم يلاحظ صاحبه ويراعي أمر لغته(21)، كما يراعي ذلك من مُهمّ أمره"(22). وهكذا تتنامى حصيلة الفرد اللغوية ما دام متصلاً بغيره من الناس.
ووجدنا الجاحظ ينص على أثر السماع في الفصاحة والتقويم، فيقول: "وأنا أقول: إنه ليس في الأرض كلامٌ هو أمتعُ ولا آنَقُ، ولا ألذُّ في الأسماع، ولا أشدُّ اتصالاً بالعقول السليمة، ولا أفتقُ لِلِّسانِ، ولا أجودُ تقويماً للبيان، من طول استماعِ حديث الأعراب العقلاء الفصحاء، والعلماء البلغاء"(23).
ب- التلقين:(/8)
وهو الإسماع المقصود الذي يُلْجَأُ إليه بغية التعليم وصقل الموهبة، ويكون بالمشافهة حيث يقصد الناشئ مُعَلِّمًا يأخذ عنه لغته أو علومه أو أدبه سماعًا، وكما سبق فقد تجلى ذلك عند العرب في تدريب أبنائها على قرض الشعر فيمن كانوا يلتمسون فيه هذه الموهبة، وفي مجال تلقين القرآن الكريم وتحفيظه وجدنا حكمة الباري - سبحانه وتعالى- قضت بنزول كلامه مُنَجّمًا تيسيرًا على أمة لا يقرأ أكثرها، فتتمكن من تلقنه وحفظه، قال تعالى: "وقرآناً فَرَقْناه لتقرأه على الناس على مُكْثٍ ونزّلناه تنزيلا " (الإسراء:106)، كما قضى المنهج الإلهي أن يتلقى الرسول- صلى الله عليه وسلم - القرآن سماعًا من فم جبريل، ويعرضه عليه استيثاقًا وتثبيتًا له في عقله: " وقال الذين كفروا لولا نُزِّلَ عليه القرآنُ جملةً واحدةً، كذلك لِنُثَبِّتَ به فؤادَكَ ورَتَّلْناه ترتيلا " (الفرقان:32)، وكان الرسول الأمين يعرض القرآن على جبريل في السنة مرة، وعرضه في سنة وفاته مرتين، تقول فاطمة -رضي الله عنها-"أَسَرَّ النبي- صلى الله عليه وسلم - إليّ( أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضورَ أجَلي)"(24).(/9)
كما أمره - سبحانه - وتعالى - أن يطبق هذا المنهج الحكيم في التلقي والعرض في نقل القرآن إلى المسلمين، فقد جاء عن "أُبَيِّ بن كعب أن جبريل عليه السلام أتى النبي- صلى الله عليه وسلم - فطلب منه أن يقرأ القرآن عليه، وأنه- صلى الله عليه وسلم - قرأه عليه في السنة التي قُبض فيها مرتين(25). كما قرأه -صلوات الله وسلامه عليه- على عبد الله بن مسعود، قال ابن مسعود:" لقد أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا وسبعين سورة من فمه إلى فمي"(26)، كما طلب منه أن يقرأ القرآن عليه(27)، وممن عرضوا القرآن على الرسول أيضًا عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وأبو الدرداء(28)، وما يزال هذا المنهج في التلقي(29) والعرض متبعًا في تلاوة القرآن الكريم وتعليم أحكام تجويده.
ج – الرواية:
والرواية بمثابة أخذ اللغة بوسيط اصطلح علماء العربية القدماء على تسميته باسم"الراوية"، أو هي سماعٌ غير مباشر للغة؛ فهي الطريق الثاني لأخذ اللغة بعد طريق السماع الأول، هذا ولم يقتصر أمر الرواية عن العرب في نقل اللغة فقط، فقد قرأنا في مصنفات التراث عن رواة الشعر والأنساب والقراءات والحديث والأخبار وغير ذلك، وقرأنا فيها عن اختلاف الروايات، فضلاً عمن وصفهم الخليل بن أحمد الفراهيدي بـ " النحارير" الذين" ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادة اللَّبس والتعنيت"(30) .
وعلى هذا فإنه يمكننا أن نفهم ما جاء عن علماء العربية في مجال التحذير من عدم التثبت من نزاهة الراوي وصدق روايته؛ ويدخل في هذا المقام ما نص عليه ابن فارس بشأن أخذ اللغة، قال:" فَلْيَتَحَرَّ آخذ اللغة وغيرها من العلوم أهل الأمانة والثقة و الصدق والعدالة(31) ، وما جاء عن ابن الأنباري حين وجدناه يشترط في ناقل اللغة شروطًا منها أن يكون "عدلاً... (32)، فإن كان ناقل اللغة فاسقًا لم يُقْبَل نقله"(33).(/10)
وإذا كان الأمر كذلك فإنه يمكننا أن نفهم لِمَ كان تدقيقهم في البحث عن أحوال اللغات وروايتها جرحًا وتعديلاً، وتأليفهم الكتب المستوثقة في تمييز أهل الصدق من أهل الكذب، وما مغزى عباراتهم الدالة على هذا المضمون ؟ فقد كانوا يقولون: " سمعنا من العرب الموثوق بعربيتهم" و" العرب الموثوق بعربيتها " وسمعنا ممن يوثق بعربيته" و" حدثنا من نثق به " و" أخبرني الثقة" و" حدثني من أثق بعربيته" و" حدثني الثقة عند العرب "و" أخبرني فلان وفلان، وهما عدلان "(34) ،... إلخ، وفي هذا السياق لفت السيوطي من قبل إلى أن" كثيرًا ما يقع في كتاب سيبويه وغيره:(حدثني من لا أتهم) و(من أثق به)"(35).
وكذلك نفهم إجماعهم على أهمية التواتر في النقل، وأن"ما انفرد بروايته واحد من أهل اللغة ولم ينقله أحد غيره" يشترط في قبوله أن يكون "المتفرد به من أهل الضبط والإتقان، كأبي زيد والخليل والأصمعي وأبي حاتم وأبي عبيدة وأضرابهم، وشرطه ألا يخالفه فيه من هو أكثر عددًا منه"(36).
ثانياً-جمع اللغة:
نَشطَ علماء العربية في جمع لغتهم من مصدرها العرب الخُلّص؛ فقد أيقنوا وهم يضعون علومها ضرورة مشافهتهم، فوجدناهم يشافهون الأعراب الذين كانوا يفِدون إلى بلاد الدَّرْس كالبصرة والكوفة وبغداد وغيرها، وكذلك رأيناهم يَخِفُّون فيجوبون البوادي والقفار بحثًا عن صواب اللغة؛ فقد ذُكر أن الكسائي (ت. 189هـ) لمّا لقي الخليل (ت 175هـ) في البصرة بهرته غزارة علمه، فسأله عن مصدره، فقال الخليل:" من بوادي الحجاز ونجد وتهامة، فخرج الكسائي حتى أنفد خمس عشرة قنينة حبر في الكتابة عن العرب سوى ما حفظه"(37) ، وأن أبا عمرو الشيباني(ت. 206هـ) ذهب إلى البادية ومعه دستيجان حبرًا فما خرج حتى أفناهما، يكتب ما سمعه عن العرب(38) .(/11)
كان الارتحال إلى مصادر اللغة الفصيحة منهجًا عامًّا اعترف به علماء اللغة العربية منذ بداية عهدهم بالدرس اللغوي، وقد وجدناهم وهم يطبقونه يحددون قبائل وبيئات معينة(39)، وكان معيارهم في اختيار البيئات اللغوية الموثوق في فصاحة لغتها. يعتمد على مدى توغل أبنائها في البداوة وانصرافهم عن مداومة الاختلاط بغيرهم من الأمم الأخرى اختلاطًا يؤثر في لغتهم، يقول أبو نصر الفارابي: "وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم" (40) .
والروايات في مجال اهتمام علماء العربية القدماء بالسماع ودقتهم في الأخذ من أفواه العرب كثيرة، سواء في الذهاب إلى مصادر اللغة في أماكنها في قلب الجزيرة العربية، أو بوفود أهل اللغة من البدو إليهم بالبصرة أو الكوفة أو بغداد، يأخذون عنهم، ويحتكمون إليهم؛ ومن مظاهر اهتمامهم بالسماع وهم يجمعون اللغة هذه الروايات التي نقرؤها في كتب الأخبار واللغة، فهي توضح حرصهم الشديد على التأكد من صحة ما يسمعونه، والتثبت من صحة نطقه؛ فقد جاء عن أبي عمرو بن العلاء(ت 154هـ) أنه لم يكن متأكدًا من حركة الفاء في كلمة"فرجة" أهي بالفتح أم بالضم؛ فقد ذُكر أن الحجاج بن يوسف قد توعده بالقتل فَفَرَّ منه إلى الصحراء، وبينما كان على هذا الحال سمع مُنْشِدًا ينشدها بالفتح، وذلك في قوله:
ربما تَجْزَعُ النُفُوسُ من الأمْـ
رِ لهُ فَرْجةٌ كَحَلِّ العقالِ
ثم أردف قائلاً: " إلا أنه قد مات الحجاج"؛ فقال أبو عمرو:" فما أدري بأيهما كنت أشد فرحًا بقوله: (فَرْجَة)، أو بقوله: (مات الحجاج)(41).
وكذلك رُوي عن أبي زيد الأنصاري(ت.215 هـ) أنه قال: " طُفت في عليا قيس وتميم مدة طويلة... أسأل صغيرَهم وكبيرَهم؛ لأعرف ما كان منه- يعني عين المضارع من الماضي الثلاثي- بالضم أََولى، وما كان منه بالكسر أَولى" (42).(/12)
ومما يدخل في مجال الدقة في السماع وتحري الصواب فيه أن علماء العربية وخاصة في أواخر ما أسموه بعصر الاحتجاج، لم يسلّموا لهؤلاء البدو في كل ما يسمعونه منهم؛ فقد كانوا حريصين على التأكد من مصداقية فصاحة صاحبه ؛ لذا فقد وجدناهم يوثقون ما يسمعونه من لغة أو شعر أو حديث نبوي شريف على طريقهم في السند؛ لفتًا إلى أهمية السماع ووجوب التوثق من صحة المصدر. ومن مظاهر هذا الحرص أنهم كانوا يختبرون الأعراب القادمين إليهم من البادية؛ لأن منهم من اتخذ اللغة حرفة يعتاش منها، فوجدنا عالم اللغة ابن جني يحذر جمهور العلماء من الثقة بكل المسموع، فيقول:" فإياك أن تخلد إلى كل ما تسمعه، بل تأمل حال مورده، وكيف موقعه من الفصاحة، فاحكم عليه وله"(43)ويضرب لذلك مثلاً بأحد مُدَّعي الفصاحة، وكيف كان القياس وسيلته إلى كشفه، فيقول :" وقد كان طرأ علينا أحدُ من يَدَّعي الفصاحة البدوية، ويتباعد عن الضَّعْفَةِ(44) الحَضَرِيَّة، فتلقينا أكثر كلامه بالقبول له، وميزناه تمييزًا حَسُنَ في النفوسِ موقعُه، إلى أن أنشدني يومًا شعرًا لنفسه يقول في بعض قوافيه: أشأؤها(45) وأدأؤها(46) بوزن أشععها وأودععها، فجمع بين الهمزتين. كما ترى، واستأنف من ذلك ما لا أصل له، ولا قياس يسوغه، نعم، وأبدل إلى الهمز حرفًا لا حَظَّ في الهمز له، بضد ما يجب؛ لأنه لو التقت همزتان عن وجوبِ صنعةٍ لَلَزِمَ تغييرُ إحداهما، فكيف أن يقلب إلى الهمز قلبًا ساذجًا عن غير صنعة ما لا حَظَّ له في الهمز، ثم يحقق الهمزتين جميعًا! هذا ما لا يبيحه قياس، ولا ورد بمثله سماع" (47).(/13)
وكذلك كان من مظاهر حرصهم في أخذ رواية اللغة ودقَّتهم في التحري أيضًا ما يمكن تسميته بمنهج" القياس الخاطئ" الذي اعتمدوه في فَحْص سلامة لغة الراوية؛ فقد كانوا يصنعون له قياسًا خاطئًا ويسألونه عنه، فإن وقع لسانه فيه امتنعوا عن الأخذ عنه، وكان من ذا ما جاء عن ابن جني في سؤاله لأبي عبد الله الشجري قال: "كيف تجمع دكانًا؟ فقال: دكاكين، قلت: فَسِرْحَانًا؟ قال: سراحين، قلت: فَقُرْطَانًا؟ قال: قَراطين، قلت: فعثمان؟ قال : عثمانون ، فقلت له : هلا قلت أيضاً عَثامين؟ قال: أيش عثامين! أرأيت إنساناً يتكلم بما ليس من لغته، والله لا أقولها أبدَا؟!(48)، وسؤاله له(49) أيضاً فيما نصه" كيف تقول: ضربت أخوك؟ فقال: أقول: ضربت أخاك، فأدرته على الرفع، فأبى، وقال: لا أقول: أخوك أبداً. فقلت: كيف تقول: ضربني أخوك، فرفع، فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول: أخوك أبدًا؟ فقال: أيش هذا! اختلفت جهتا الكلام"(50)، وهناك روايات أخرى كثيرة في هذا المجال(51) .
وهكذا كان حال اللغويين يختبرون رواة اللغة: صحةً وغلطًا، صدقًا وكذبًا، فإن لمسوا فيهم ما يشين سلائقهم بهرجوه وصدوا عن الأخذ عنهم (52)، ووصموهم بما ينبئ عن هذا الضعف السَّليقي، وكان من ذا "هيهات أبا خيرةٍ، لان جلدك"(53)، أو "أريد أكثف منك جلدًا، جلدك قد رق"(54).
ثالثًا- وضع قواعد اللغة:(/14)
إن الاطلاع على تاريخ العرب وتراثهم- كما يتضح في سطور هذا البحث- يدلل دلالةً واضحةً على وعي العربي فطرةً وصناعةً بخاصية اللغة الصوتية أداءً حيًّا منطوقًا، واقترانها بالسماع تحصيلاً وتعليمًا، ففي مجال الدراسة وجدنا كيف أن أبا الأسود الدؤلي وهو يضع علامات التشكيل، يركن إلى السماع والملاحظة، أو إن شئت فقل بلغة الإعلاميين: اعتمد الصوت والصورة المتمثلة في حركة شفتيه، فيقول لكاتبه:" إذا رأيتَني قد فتحتُ فمي بالحرف فانقط نقطة على أعلاه، وإذا ضممتُ فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإذا كسرتُ فمي فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعت شيئًا من ذلك غُنة فاجعل مكان النقطة نقطتين"(55).
... إن تأمُّلَنا لهذه الرواية يوضح لنا كيف كان الأداء بالصوت والصورة المصدر الطبيعي الذي انبثقت منه هذه المصطلحات النحوية : " الفتحة " و" الضمة" و" الكسرة" الذائعة إلى يومنا.
وفي مجال التقعيد وجدنا علماء العربية يجلون السماع، ويعتبرونه ركناً أساسيًّا في وضع القاعدة اللغوية؛ فقد كانوا لا يعبؤون إلا بما ثبت سماعه، ووجدنا جمهورهم لا يضع القاعدة إلا مما كثر ذيوعه على الألسنة، وبالجملة فإنهم لم يضعوا قاعدة بغير سماع ثبتت صحته، وقد مرَّ بنا كيف كانوا يتثبتون من صحة السماع أو الرواية، وينصون على ضرورة ذلك.
رابعًا- تعريف اللغة:
... وتجلى الوعي التراثي بصوتية اللغة في تعاريف علماء العربية النظرية للغة، حيث صدّروها بالنص على صوتيّتها؛ فوجدنا عالمنا ابن جني يعرّفها بأنها: " أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"(56)، وهو تعريف تواتر نقله نصًّا أو مضمونَّا" في كتب علماء العربية القدماء، ولم يشذ علماء العربية المحدثون عنهم، حيث اقتبسوه في مصنفاتهم، ودرسه بعضهم إلى جانب التعريفات الحديثة التي اطّلع عليها، وحاول أنْ يبين ما فيه من خصائص جامعة تعرف باللغة، ومميزاتٍ علميةٍ تتفق وما يقوله علماء اللغة المحدثون في مفهوم اللغة"(57).(/15)
خامسًا- ذم أخذ اللغة بغير سماع:
لمّا كانت الكتابة تجريدًا للغة من صفتيها النطقية والسمعية وجدنا علماء العربية وهم الغُيرُ على لغتهم والحريصون على أخذها سليمة كما ينطقها أهلها الفصحاء يتحرجون من أخذها عن الصحف أو الكتب التي أرجعوا إليها بعض أخطاء العلماء والرواة؛ لذا وجدناهم يكرهون الرواية عن الصحف، بل يمتنعون عنها فلا يأخذون منها إلا ما ثبتت صحته عند الرواة والعلماء(58)، يقول ابن سلام: " وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه(59) أن يقبل من صحيفة، ولا يروي عن صحفي"(60).
... وعرّفوا" المُصَحِّف والصَّحفي- بأنه- الذي يروي الخطأ عن قراءة الصحف"(61)، وجاء عن المعري أن " أصل التصحيف أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفة، ولم يكن سَمِعَهُ من الرجال، فيغيره عن الصواب"(62)، ونراهم ذمًّا يطلقون مصطلحي" التصحيف" المأخوذ من الصحيفة وجمعها صحف وصحائف، و"التحريف" المأخوذ من الحرف وجمعه حروف وأحرف على الخطأ الذي يصيب اللغة نتيجة الخطأ في كتابتها أو قراءتها، وهما مصطلحان اقترن أحدهما بالآخر عند بعض علماء العربية في هذا المجال؛ فوجدنا من يرادف بينهما، أو يطلق التصحيف على تغيير نقط الحروف المتماثلة في الشكل كالباء والتاء والثاء، والجيم والحاء والخاء وغيرها،والتحريف على تغيير الحروف المتشابهة رسماً كالدال والراء والميم والقاف وغيرها(63) .
... ووجدنا علماء العربية يتحدثون عن أخطاء الوراقين أو النساخ وطرائق تقويمهم، ويهجون من يأخذ علمه عن الصحف، فقالوا ذمًّا:" هل هو إلا لحانة صحفي"، وهجا الجاحظ أحمد بن عبد الوهاب بأنه: " كان قليل السماع غمرًا (64)، وصحفيًّا غفلاً"(65)، وهكذا فإن غفلة هذا الرجل عند أديب العربية سببها عدم أخذه العلم من صدور الرجال مصدره الموثوق، وعيب الشاعر أبو النَّجم العجلي لذكره الكتابة في شعره إذ قال:
أَخْرُجُ من عندِ زيادٍ كالخَرِفْ(/16)
تَخُطُّ رجلايَ بخطٍّ مختلِفْ
كأنما تكتبان لامَ أَلِفْ (66)
رأى علماء العربية أن الحافظة أو الذاكرة عليها المعوّل، وقرأناهم يقولون:" مذاكرة الرجال تلقيحٌ لألبابها"، وحرصًا على سلامة الأخذ ودقته وجدنا ابن قتيبة ينص على أن " كل عِلْمٍ محتاجٌ إلى السماع، وأحوجه إلى ذلك علمُ الدين، ثم الشعرُ، لما فيه من الألفاظ الغريبة، واللغات المختلفة، والكلام الوحشي، وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه"(67)، ثم يضرب أمثلة لما وقع فيه التصحيف(68).
وفي المقام المضاد وجدنا من ينكر معرفته بالكتابة، والرواية متواترة في محاولة الشاعر ذي الرمة كتمان معرفته بها؛ فنراه يطلب من أبي عمرو بن العلاء - عندما رآه يكتب في دكان طحّانٍ بالبصرة، فسأله:" ما هذا يا ذا الرمة؟"- ألا يذيع ما رآه، قائلاً: " اكتم عليّ يا أبا عمرو"(69).
وفي روايةٍ أخرى أنه قال في شعره(70):
كأنما عينُها منها(71) وقد ضَمَرَت
وضمَّها السيرُ في بعضِ الأضاميمُ(72)
ولمّا سئل:" من أين عرفت الميم؟" فقال: والله ما أعرفها؛ إلا أني رأيت معلمًا خرج إلى البادية فكتب حرفًا، فسألته عنه، فقال: هذا الميم؛ فشبهت به عين الناقة"(73) .
السماع السلبي بين الفطرة ومجال الدراسة:
... ... وجدنا العرب في اهتمامهم بالسماع يتنبهون إلى ما يمكن تسميته بأثر" السماع السلبي"، ونلمس التنبه في نهي الكفار بعضهم عن سماع القرآن الكريم؛ خوفًا من تأثيره فيهم؛ فيكون استماعهم سببًا في دخولهم في دين الإسلام(74)، قال تعالى على لسانهم: " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تَغلبون"(75).(/17)
... والروايات كثيرة في حرص العرب على نقاء أنسابهم ولغتهم، وقد وجدناهم بفطرتهم يدركون أثر السماع السلبي في توهين لغتهم، ويتخذون الإجراءات الوقائية للحفاظ عليها نقية؛ فها هم أهل جبل عُكاد "باليمن قرب زَبيد"(76) يشهد لهم العلماء من أمثال الفيروزآبادي(77) وياقوت الحموي(78) والزَّبيدي(79) باستعصام ألسنتهم بالفصاحة" بحكم أنهم لم يختلطوا بغيرهم من الحاضرة في مناكحة، وهم أهل قرار لا يظعنون عنه ولا يخرجون منه"(80) ولا يسمحون للغريب أن يقيم عندهم أكثر من ثلاث (81) ليال خوفًا على لسانهم"(82)، ووجدنا أحد الأعراب يلمس بفطرته العربية السليمة أثر مخالطة غير العرب في اللغة، وذلك حين سأله أبو عمرو بن العلاء عن مصدر فصاحته، فأجاب:" إنا سكنّا أرضًا لا نسمع فيها ناجخة التيار"(83)، أي أنه وقومه يعيشون في مكان لا يسمعون فيه صوت الموج(84)؛ إشارة إلى عزلتهم وعدم اختلاطهم بغيرهم من الأجناس غير العربية.
وفي مجال دراسة اللغة والتقعيد لها يظهر تنبه علماء اللغة العربية لأثر" السماع السلبي" في المقامات التالية:(/18)
1- إشارتهم إلى تداخل اللغات وإفساد السلائق بمجاورة الأعاجم، ونهيهم عن أخذ اللغة من القبائل العربية التي جاورتهم، وقاموا بتحديدها لتوجيه الدارسين لعدم الاعتراف بلغتها، وذلك على النحو الذي نلاحظه عند الفارابي، حيث أشار إلى أن قبائل لخم وجُذام وغسان وإياد وبكر وعبد القيس لا يؤخذ بلغتها لمجاورتها الفرس أو الروم أو الهنود واحتكاكها بهم(85). 2- تضعيفهم لغة هؤلاء العرب الذين ترددوا على الأعاجم وامتناعهم عن الأخذ عنهم، وفي هذا المقام وجدنا الجاحظ أديب العربية يورد أمثلة لخروج الأعاجم في كلامهم على نظام العربية ليبين أن فهم العربي عنهم دليل على طول مخالطته لهم(86)، وأوضح أن النحويين متى وجدوا " أعرابيًّا يفهم هذا وأشباهه بهرجوه، ولم يسمعوا منه؛ لأن ذلك يدلّ على طول إقامته في الدار التي تُفسد اللغة، وتنقص البيان"(87) . ووجدنا ابن خلدون- في الطرف الآخر- يعلل لفصاحة لغة قريش ببعدها " عن بلاد العجم من جميع جهاتهم"(88)، ولفساد ملكة اللغة العربية الفصحى في عهده بمخالطة العرب الأعاجم(89)، ويذكر أن من خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد"(90).
3- حديثهم عن أثر المكان في فساد اللغة، فأشاروا في هذا المقام إلى أثر الحاضرة في ليونة لغة أهلها، وقبولهم للتأثر والتغير ومباهاتهم به، وقد لمس ابن جني عالم اللغة هذه الخاصة المهمة فيهم فقال:" وليس أحدٌ من العرب الفصحاء إلا يقول: إنه يحكي كلام أبيه وسلفه، يتوارثونه آخر عن أول، وتابع عن متبع، وليس كذلك أهل الحضر؛ لأنهم يتظاهرون بينهم بأنهم قد تركوا، وخالفوا كلام من ينتسب إلى اللغة العربية الفصيحة"(91).(/19)
وكان لاستقرار الحضر في ديارهم أثره في تهيئة المجال لهم للاتصال بالآخرين، واستمرار تأثرهم بغيرهم، وقد أشار الجاحظ إلى شيء من هذا فقال:" وأهل الأمصار إنما يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب؛ ولذلك تجد الاختلاف في ألفاظٍ من ألفاظِ أهل الكوفة والبصرة والشام ومصر"(92). و"أن أهل المدينة لمّا نزل فيهم ناسٌ من الفرس في قديم الدهر عَلِقوا بألفاظٍ من ألفاظهم؛ ولذلك يُسَمّون البِطّيخ: الخِرْبِز، ويسمون السَّميط: الرَّذْدَق، ويسمون المَصُوص: المَزُور، ويسمون الشِّطرنج: الأَشْتَرَنج، في غير ذلك من الأسماء، وكذلك أهل الكوفة؛ فإنهم يسمّون المسْحاة: بالْ، وبالْ بالفارسية"(93).
كما أشار ابن خلدون إلى اختلاف لغة الأمصار في عصره، فقال:" اعلم أنّ عُرْفَ التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مُضَر القديمة ولا بلغة أهل الجيل، بل هي لغةٌ أخرى قائمة بنفسها بعيدةٌ عن لغة مضر، وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا، وهي عن لغة مضر أبعد"(94).
وقد دفعت هذه النظرة إلى لغة أهل الحضر، بل إلى واقعهم اللغوي المختلف عن الواقع اللغوي البدوي بالعلماء إلى القول بفساد لغتهم ولينها(95)، والإعراض عن أخذها عنهم، فوجدنا أبا عمرو بن العلاء عندما سمع قول عبيد الله بن قيس الرقيات:
إنَّ الحوادثَ بالمدينةِ قدْ
أَوَجَعْنَني وقَرَعْنَ مَرْوتيَهْ
ينتهر منشده قائلا:" ما لنا ولهذا الشعر الرخو، إن هذه الهاء لم توجد في شيء إلا أرْخَتْه"(96)،ووصم عبد الملك بن مروان قافيته بالتخنّث(97).
ووجدنا الأصمعي وهو يُخطِّئُ ذا الرُّمة في تأنيثه كلمة (زوجة) في قوله:
أذو زوجةٍ في المِصْرِ أم ذو خصومةٍ
أراك لها بالبصرةِ العام ثاويا(98)(/20)
معللاً ذلك بأن الشاعر" طالما أكل المالح والبقل في حوانيت البقالين"(99)، وذلك كناية عن طول مكثه في الحاضرة مما أثّر في توهين لغته، ووجدناه أيضًا لا يأخذ بلغة الكميت، وكان يقول:" هذا جُرْمُقاني من أهل الموصل، ولا آخذ بلغته"(100).
على أن هذه المعايير التي اعتمدها علماء العربية في تضعيف لغة أهل الحاضرة ومن جاور الأعاجم أو اختلط بهم لم تسلم من خروق، وليس أدل على ذلك من افتخار البصريين على الكوفيين بقولهم:" نحن نأخذ اللغة من حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز وباعة الكواميخ،(101) وذلك كناية عن تساهلهم في أخذ اللغة، ومما يُروى عنهم في هذا السياق أنهم" لو سمعوا بيتًا واحدًا فيه جواز شيء مخالف للأصول، جعلوه أصلاً، وبوّبوا عليه بخلاف البصريين"(102)، وأن عَلَمَهم الكسائي-كما يقول أبو زيد الأنصاري-أتى "البصرة، فلقي عيسى والخليل وغيرهما، وأخذ منهم نحوًا كثيرًا، ثم صار إلى بغداد فلقي أعراب الحُطَمَة، فأخذ عنهم الفساد من الخطأ واللحن، فأفسد في ذلك ما كان أخذه بالبصرة كله"(103)، وأعراب "الحطمة" أو "الحُطَمِيَّة" بطن من عبد القيس نزلوا بِقَطْرَبُّلَ وغيرها من قرى سواد ببغداد "(104)، كما أشار السيوطي إلى أن اختلاطه بأعراب الأَبُلَّة أفسد علمه(105) ومما يدخل في خروق هذا المعيار العام عناية ابن مالك في كتبه بنقل لغة لَخمْ وخزاعة وقضاعة(106)، وهي من القبائل المنصوص على عدم الأخذ عنها.(/21)
وكذلك وجدنا احتجاجهم بلغة شعراءَ اتصلوا بملوك الفرس وبعرب المناذرة المتاخمين لهم، والغساسنة المتاخمين للروم، فمن المعروف أن "الأعشى"(صنّاجة العرب) وفد على ملوك الفرس، والنابغة الذبياني وفد على المناذرة والغساسنة،" وحسان بن ثابت" وفد على الغساسنة، وقد استشهد سيبويه بهم في كتابه(107)، وكذلك وجدناه يستشهد بشعراء من قبائل نُصَّ على عدم الأخذ منها، فقد أخذَ عن "الأخطل"من تغلب(108) و"أمية بن الصلت"(109) من ثقيف، و" زياد الأعجم"(110) و"الصلتان العبدي"(111) من عبد قيس، و"عدي بن الرقاع"(112) من قضاعة و"القطامي"(113) من تغلب و"أبو محجن الثقفي"(114)من ثقيف وغيرهم.
ووجدنا ابن جني يستشهد بـ "عدي بن زيد"، رغم ليونة شعره عندهم، مع ملاحظة أنه لم يذكر اسمه في المواضع الأربعة التي استشهد به فيها إلا مرة واحدة(115)، كما وجدناهم يستشهدون بذي الرمة رغم ما أخذوه عليه من وهن، فقد قال بلال بن بردة لأبي عمرو بن العلاء:" أتأخذون عن ذي الرمة؟ قال:إنه لفصيح، وإنّا لنأخذُ عنه بتمريض"(116).
وأيًّا ما تكن مبررات علماء العربية القدماء في عدم الأخذ بلغة الحاضرة ومن جاور الأعاجم أو اختلط بهم فإن خروجهم عليها، وأخذهم اللغة من بعض العرب في المواطن ذاتها لا يعدّ مستهجنًا عندي؛ لأن القول بضعف لغة أهلها يشكل رأيًا عامًّا، ولا يعني- فيما أفهم- عدم وجود الفصاحة السليمة عند بعض أبنائها، وهو أمرٌ قد ينطبق على أكثر من احتج بلغتهم.
السماع عند المحدثين
(3)
لم يبتعد المحدثون في مجالاتهم التخصصية المختلفة من لغوية وتربوية واجتماعية ونفسية وغيرها عن القدماء في موقفهم من السماع واعتمادهم عليه، والإقرار بأهميته في تحصيل اللغة وترسيخ ملكتها وامتلاك ناصية بيانها، كما أكدوا مثلهم أهميته لدراستها ووصفها والتقعيد لها، وذلك على النحو التالي:
أولاً- التحصيل:(/22)
نص المحدثون على أن اللغة ظاهرة اجتماعية؛ فهي بنت الاستعمال: تنمو بنمو مجتمعها وتجمد بجموده، وأنه هو الذي يكسبها لأفراده، فليست اللغة عندهم غرزية، وإنما هي ظاهرة إنسانية مكتسبة يأخذها الفرد منذ ولادته بالسماع والمحاكاة.
وإشارة إلى أهمية السماع في اكتساب اللغة وجدناهم يتحدثون في دراساتهم عن عاهة الصمم وأثرها في التحصيل اللغوي، وينبهون على أن الأطفال الصمّ منذ الولادة يعيشون بكمًا، ولو كانت أعضاء جهازهم النطقي سليمة، وأن الذين يصابون بالصمم بعد تعلمهم الكلام ينسون ما تعلموه رويدًا رويدًا، وأن تعليم الصمِّ الكلامَ غالبًا تكون نتيجته الفشل؛ لأن السماع والحافظة والفهم كلها عوامل مرتبطة ببعضها(117).
وكذلك أكد المحدثون أهمية التلقين والتمرين في عملية إكساب الناشئة اللغة وتقوية ملكتها فيهم، ونصوا في هذا المجال على أهمية القدوة أو النموذج أو المثال الذي يشكل عنصرًا رئيسًا في وجود البيئة اللغوية النقية التي يعيشون فيها، وأشاروا في هذا المقام إلى فعالية دور البيت ورياض الأطفال والمدرسة والمعلم والمسجد والإذاعة وغيرها من الوسائل التي تتخذ اللسان وسيلة اتصالها بالجماهير(118).
ثانياً- القراءة:(/23)
عُني المحدثون ولا سيما التربويون بالقراءة بوصفها أداة تنمي قدرات الفرد في مجالات الاطلاع المختلفة وترفع مستواه فيها، وأشاروا في هذا المقام إلى درس القراءة الفعّال في" الكسب اللغوي، وتنمية حصيلة التلميذ من المفردات والتراكيب الجديدة"، وتدريبه على" جودة النطق وحسن الأداء وتمثيل المعنى"(120)، فما القراءة- في الأغلب- إلا عملية حركية تعيد للمكتوب خاصته اللغوية، وهي النطق، أو هي بتعريف الأستاذ عبد العليم إبراهيم :" عملية يراد بها إيجاد الصلة بين لغة الكلام والرموز الكتابية"(121) ، فهي تَعَرُّفٌ على الرمز المكتوب وإكسابُه- في الأغلب- ملامحه الصوتية لفهم مضمونه، والتفاعل معه نقدًا أو استفادة منه في شؤون الحياة المختلفة(122).
ويقسم التربويون القراءة من حيث الشكل وطريقة أدائها إلى القراءة الصامتة وهي غير مسموعة؛ لذا فلا يعنينا أمرها في هذا البحث، والجهرية التي تتميز عن سابقتها بأنها تحويل النص المكتوب إلى صوت منطوق مسموع، أو إن شئت فقل: إنها قراءةٌ للآخرين؛ لذا فإن التربويين يعوّلون عليها، ويحرصون على صقلها في تلامذتهم بوصفها مهارة مهمة لاكتساب اللغة يمكنها تكوين مهارة التعرف على الحروف والكلمات والجمل ونطقها ودلالتها المعنوية، ويمكن للمعلم من خلالها تصحيح أغلاط تلامذته في النطق، وتمكينهم من إتقان النطق وإجادة توصيل المعنى، وتهيئتهم لخطاب الجماهير(123).(/24)
... ويضيف بعض التربويين إلى هذين النوعين من القراءة نوعًا ثالثًا هو" قراءة الاستماع"؛ فهم يرون أن الاستماع كالقراءتين الصامتة والجهرية وسيلةٌ إلى الفهم، والاتصال اللغوي بين المتكلم والسامع، وإذا كانت القراءة الصامتة قراءةً بالعين، والقراءة الجهرية قراءةً بالعين واللسان، فإن الاستماع قراءةٌ بالأذن(122)، وتتمثل في الإصغاء إلى المقروء بغية الاستفادة من لغته مفرداتٍ وتراكيب، ومضمونه أفكارٍ وآراء ومعلوماتٍ لتسخيرها في مجالات الحياة المختلفة، وهي مهارةٌ يمكن لمدرسينا الاستفادة من إمكاناتها في إثراء لغة تلامذتهم ومعارفهم، حيث يطلبون منهم إعادة ما يسمعونه من قصة أو خطبة أو موضوع أو غيره، ففي ذلك فائدة تدريبية لهم على الانتباه واختبار قدراتهم في الإعادة والمحاكاة والإلقاء.
ثالثًا- تعليم اللغة لغير أهلها:
وفي مجال تعليم اللغة لغير الناطقين بها نلاحظ التركيز واضحًا على مهارة الاستماع، فنجد المعلمين يعنون بإسماع متعلميهم اللغة من أفواه أهلها في معامل اللغة “Language Laboratories” أو قاعات الدرس من خلال الوسائل المسموعة والمرئية، كما يتيحون لهم فرص التدرب على المحاكاة، وذلك من خلال القراءة الجهرية ودروس المحادثة وحثهم على معايشة اللغة فيما بينهم.
وكان التقدم العلمي في إنجاز القواميس الناطقة دعمًا لاتجاه السماع في تعلم اللغات؛ فالكتابة الصوتية أيًّا كانت قدرتها على تمثيل اللغة حرفيًّا فهي غير قادرة على نقلها للمتعلمين أداءً صوتيًّا سليمًا(124)؛ فاللغة تؤخذ سماعًا" عن طريق الفم والأذن، وليس عن طريق القلم والعين"(125).(/25)
... ولمّا كان الأمر كذلك وجدنا علماء اللغات اليوم يبدؤون بتعليم تلامذتهم اللغات عن طريق الاستماع والحديث قبل تعليمهم القراءة والكتابة(126)، وليس أدل على أهمية السماع عندهم من تسميتهم واحدة من طرق تدريس اللغات الأجنبية بـ الطريقة السمعية الشفوية"”Audio-Lingual Approach”(127)، فهم يرون أن" المدخل إلى السيطرة على اللغة شفهيًّا هو الاستماع؛ لأن الاستماع مرهون بالنطق، والنطق مرهون بالاستماع".(128)
وفي إطار علم اللغة التطبيقي ”Applied Linguistic’s”- ثمرة التلاقي بين علم اللغة وغيره من العلوم كالاجتماع وعلم النفس والتربية التي تُعنى في جوانب منها باللغة- وجدنا العناية بدراسة جوانب الاتفاق والاختلاف بين اللغة الأولى والثانية، ومنها الخصائص النطقية التي تميز لغة عن أخرى(129).
... ومما يدخل في مجال الاهتمام بسماع اللغة من أفواه أهلها وأثره الفعال في التحصيل ما تحرص عليه بعض الدول ولا سيما المتقدمة من تخصيص المنح لإيفاد المتعلمين من أبناء الأمم الأخرى لتعلم لغتها، غير عابئة بما تنفقه عليهم من أموال، وكذلك ما نراه من حرص الدول الإسلامية غير العربية على إرسال أبنائها إلى الأزهر الشريف في مصر وإلى البلاد العربية لتعلم اللغة والدين؛ ولم يكن هذا الاهتمام منهم إلا نتيجة إدراكهم أن اللغة تعاملٌ قبل أن تكون علمًا، وأن اكتسابها مشافهةً من مصدرها الأول يَفْضُلُ بكثيرٍ سماعها من وسيط؛ فأيًّا تكن قدرة المدرس المحلي في امتلاك اللغة الأجنبية التي يقوم بتدريسها لبني لغته الأم فلن يبلغ في تمثيلها لهم نطقيًّا مبلغ أهلها، وإن اختلاط المتعلمين بأهل هذه اللغة الأجنبية سيحقق لهم القدر الأكبر من صحة الأداء والكلام “accuracy”.
رابعاً- مجال الدراسة والجمع:(/26)
اعتنى المحدثون في مباحثهم بالسماع بوصفه طريقًا معتمدًا لجمع اللغة من أفواه الناس وحصر أنماطها؛ لتشكل المادة الخام التي يعتمد عليها عالم اللغة في الدراسة واستنباط القوانين اللغوية، وفرقوا في هذا المقام بين اللغة المنطوقة المسموعة أو إن شئت فقل: لغة المشافهة، ولغة الكتابة الرسمية أو الفصيحة بمصطلحنا العربي، ورأوا في اللغة المسموعة مصدرًا ثرًّا للدراسة اللغوية الحية، وفي المنهج الوصفي “Descriptive method” منهجًا صالحًا تبدأ به أية دراسة لغوية علمية؛ فهو يعتمد على ملاحظة المنطوق حال نطقه بالوسائل العضوية والمعملية، كما تحدثوا عن دور مساعد البحث" راوية اللغة" “Informant”، أو ما أسموه “Native speaker” صاحب اللغة أو”Ideal speaker hearer” النموذج أو القدوة، فهو فرد من أفراد اللغة المدروسة، ويمثل أهلها في الدراسة اللغوية.
... وتأكيدًا على حيوية الدراسة وتمثيلها لحاضر اللغة المدروسة أداءً وتركيبًا وجدنا المحدثين يتحدثون عن المنهج السنكروني “Synchronic” في دراسة اللغة، وهو منهج- كما هو معروف- يدرس اللغة في واقعها المعيش، ويفرقون بينه وبين المنهج الدياكروني “Diachronic” الذي يُعنى بدراسة اللغة تاريخيًّا(130).
وفي مجال اللغة العربية دفع إيمان الباحثين العرب باجتماعية اللغة إلى القول بضرورة رفدها بما يجدّ على ألسنة الناس من فصيح اللغة أو ما يمكن تفصيحه تلبيةً لمتطلبات العصر العلمية والحضارية، وكان دعوة غير عالم من علماء العربية المحدثين إلى جمعٍ جديدٍ للغة العربية في العصر الحديث يكون مصدره فئات المجتمعات العربية جميعها، ورأوا أن اللغة هي ملك متكلميها، وأن ليس هناك فرقٌ بين القدماء والمحدثين في هذه الملكية؛ فاللغة لمن آلت إليه، فهو يملكها، وله حق التصرف فيها(131).(/27)
كما وقف مجمع اللغة العربية في القاهرة على هذه القضية، وأصدر قرارات تُشرّع حق المحدثين في الوضع، والأخذ بمبدأ السماع منهم، وإطلاق القياس ليشمل ما قيس من قبل وما لم يقس، وتكملة فروع مادة لغوية لم تُذكَر بقيتها، وجمع المصطلحات الفنية والبحث في الألفاظ المستعملة في الوزارات والمصانع وغيرها، ودراسة الكلمات الشائعة وغير ذلك؛ الأمر الذي سوّغ للمجمعيين وضع لغة القرن العشرين بجانب لغة العصر الجاهلي، وأن يكون معجمهم مُعَبِّرًا عن عصور اللغة كلها: ويُستشهد فيه بالقديم والحديث على حد سواء، وتشمل كل مادةٍ لغويةٍ فيه جميع ألفاظها ومشتقاتها ومصادرها وأفعالها(132).
خامسًا- ماهية اللغة:
... وفي مجال تصور ماهية اللغة أكد المحدثون ما جاء عن القدماء بشأن النص على خاصة اللغة الصوتية السمعية، وأن أية دراسة لغوية علمية ينبغي أن تبدأ بوصفها ودراستها صوتيًّا، وتجلى وعيهم بهذه الخاصة في:
1- اختصاص دراسة الصوت بثلاثة فروع دراسية هي:
أ- علم الأصوات النطقي أو الفسيولوجي
”Articulatory or Physiological Phonetic’s”
ب- علم الأصوات الأكوستيكي أو الفيزيائي
“Acoustic or Physical Phonetic’s”
ج- علم الأصوات السمعي
“Auditory Phonetic’s” (133)(/28)
2- تفريق دي سوسير ومن تابعه بين "اللسان"”Langue” بوصفه النظام المتجانس الذي أقره المجتمع، و" الكلام"”Parole” وهو منطوق الفرد في المجتمع(134)، ويكاد يشبهه ما جاء عن تشومسكي والتحويليين بشأن التفريق بين مصطلح" القدرة" “Competence” المقابل لمصطلح "اللسان" عند الوصفيين، ويعني به قدرة "صاحب اللغة"“Native speaker” أو ما أسماه بـ" المتكلم المستمع المثالي" ”Ideal speaker hearer” على إنتاج ما لا حدَّ له من الجمل، وذلك من خلال معرفة كافية بقواعد اللغة تمكّنه من امتلاك ملكتها، وهذه القدرة أو إن شئت فقل الملكة اللسانية تشكل" البنية العميقة" “Deep structur” مصدر" الكلام المنطوق" “Performance” الذي قابل مصطلح “Parole”، وهو عنده الكلام الذي يتكلمه الإنسان ويشكل" البنية الظاهرة" “Surface structure” التي تقدم الجانب الأدائي الصوتي لِما يدور في عمق الإنسان من عمليات عقلية معقدة تكمن وراء قدرته الإبداعية ”Creativity” في إنتاج ما لا نهاية له من جمل اللغة(135)
3- التفريق بين اللغة والكتابة، فقد ميز المحدثون بين اللغة والكتابة، فإذا كانت اللغة هي الرموز الصوتية التي تعبر عن أغراض المجتمع ، فإن(/29)
دور مجمع اللغة العربية الأردني في تعريب
التعليم العلمي الجامعي في الأردن
للأستاذ الدكتور عبد الرؤوف خريوش
ملخص البحث :
الحمد لله الذي شرف اللغة العربية بجعلها لغة القرآن الكريم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد ،
فيتناول هذا البحث قضية تعريب العلوم في الأردن، فالأردن عاش قضية التعريب ( تدريس العلوم باللغة العربية ) سنة واحدة فقط؛ لذلك فإن المشاكل والمعوقات التي اعترضت التعريب لم تكن معوقات ومشاكل يسهل أو يصعب حلها، بل إن المسألة تعدت ذلك لترتبط بإيمان المؤسسات العلمية، وموقفها من التعريب، فرد الباحث أصول المشكلة إلى الماضي؛ ليكون إطلالة على جهود العلماء العرب في هذا المجال، ثم تطرق إلى أهمية التعريب العلمية، واللغوية والدينية .
إن فكرة تعريب التعليم الجامعي، لم تكن وليدة الساعة، بل هي قضية عربية أملتها ضرورات دينية،وقومية، وعلمية، ووطنية، نصت على ذلك مؤتمرات المجامع اللغوية في الوطن العربي، فدعت إلى تعريب العلوم، وتدريسه باللغة العربية، من هنا بدأ المجمع بوضع خطة تهدف إلى تعريب التعليم العلمي الجامعي في الجامعات الأردنية، فبدأ بالتنفيذ في العام الدراسي 1980/1981م، ثم توقف، فما هي الأسباب التي أدت إلى توقف عملية التعريب في الأردن والتعرض للخطة التي وضعها المجمع، ودراستها من كل الزوايا؛ لمعرفة فيما إذا كانت كافية لتعريب العلوم،والإيفاء بمتطلبات العلم الحديث ؟
Abstract
The Arabic language is highly esteemed because it is the language of both the Holy Quran and prophet Mohammed (Peace be upon him). This research deals with the issue of Arabization of the uni-versity education in Jordan, in particular, teaching scientific subject in Arabic.(/1)
This has been experienced for one year. The main obstacle is the translators’ the faith in the Arabic language, both indi-vidually and institutionally. Most of The researchers have dealt with Arabization from a historic point of view.
To whom it may concem. Arabization is a necessity, and as a result, many institutions tried to apply this, in particul-ar, Jordanian Universities in the academic year 1980-1981. Unfortunately,Arabization has been stopped since then. This research is an attempt to expose the causes behind the problem of Arabization, stud-ying the Assembly’s schemes from different angles to know whether these schemes are sufficient to deal with such an intricate problem or not.
مقدمة البحث :
الحمد لله الذي شرف اللغة العربية بجعلها لغة القرآن الكريم، والصلاة والسلام على رسل الله أجمعين، و صلى الله وسلم على نبيه الكريم، محمد بن عبد الله الأمي الصادق الأمين وبعد ،
فإن حركة تعريب التعليم العلمي الجامعي من المواضيع المهمة؛ التي تشكل تحديًا من تحديات اللغة العربية المعاصرة في العصر الحديث، تمليها ضرورات قومية، ووطنية، واجتماعية، وعلمية؛ فاللغة العربية كانت ولا تزال هي الأساس الذي قامت عليه الجمعيات السياسية العربية في عصر النهضة، فكان التمسك باللغة، والدفاع عنها أمام التتريك من أسس المقاومة، فكانت قومية اللغة سمة بارزة في الشعراء الذين نادوا بالتمسك بالعروبة واللغة أساسًا للقومية.(/2)
ومع بدء فك العزلة خرج العرب وانفتحوا على العالم الآخر؛ فانبهروا من التقدم العلمي السريع الذي توصل إليه الغرب، والذي توج أخيرًا باستعمارهم الدول العربية، فحاول السيطرة على المنطقة العربية بكل السبل والطرق؛ فكانت محاولة فَرْنسة اللغة في المغرب العربي، ونجلزتها في المشرق العربي، وبدأت المقاومة لذلك عن طريق بعض المراكز العلمية والحضارية العربية، كالأزهر الشريف في مصر، والقرويين في المغرب، والزّيتونة في تونس، وبعض المعاهد السورية واللبنانية في الشام ؛ لذلك فإن مجاراة الغرب، ومسايرة تقدمه العلمي يجب أن يكون لغويًّا؛ لأن اللغة وعاء للأفكار والأحاسيس والتطلعات والمشاعر؛ ليتمكن العرب من التقدم العلمي والإبداع الفكري والمعرفي؛ إذ دخل العلم كله في عصر تقني، تتسارع فيه المعارف بشكل لم يسبق له نظير، وتسارعت مع هذه المعارف الألفاظ اللغوية والمصطلحات الدالة عليها، كما يشكل إرهاصًا بأن لغة العلم سوف يكون لها أعظم الأثر في الحياة العادية للبشر في القريب العاجل، فضلاً عن استعمالها في المؤسسات والمنشآت العلمية والثقافية، وفضلاً عن تدوينها في معاجم خاصة تكون مرجعًا مهمًّا لمن يريد التقدم في هذه الميادين .
وقد بدأت تباشير النهضة الفكرية العربية بإحياء لغوي في فنون اللغة والأدب، منذ رفاعة الطهطاوي ( ت 1873م ) الذي سافر إلى باريس؛ فألف كتاب ( تلخيص الإبريز في أيام باريس)، وبه عرب المصطلحات والأسماء، واضعًا إياها في معجم صغير، كذلك نُشرت أمهات الكتب، ووضعت المعاجم، وما صاحبها من الدعوة إلى توسيع التدريس باللغة العربية الفصيحة؛ لأنها تمثل الدعامة الأساسية لمواجهة الغرب؛ لذلك ولج العرب هذا الميدان في مصر زمن محمد علي (ت 1849م )، وفي سوريا ولبنان، ومع دخول الاستعمار الإنجليزي إلى مصر توقف هذا الاتجاه في مصر واستمر في سوريا ولا يزال إلى الآن.(/3)
وبعد ذلك بأربعين عامًا دخل التدريس باللغة العربية العراق، ثم أعقبه الأردن، فالسودان ولأهمية الموضوع قامت دراسات حول تعريب العلوم والمصطلحات، ففي الأردن - ميدان البحث – وضع عبد الكريم خليفة كتاب اللغة العربية والتعريب في العصر الحديث، تحدث فيه عن التعريب وتجربة تعريب التعليم الجامعي في الأردن، مستعرضًا الإرهاصات الأولى للتعريب في الأردن، والمشاكل التي اعترضت التجربة، كما تطرق إلى نشأة المجمع اللغوي الأردني، ومهمته ودوره في تعريب العلوم.
ونجد كتابًا آخر حول الموضوع لمحمود إبراهيم بعنوان " تعريب التعليم الجامعي " تحدث فيه عن أهمية التعريب في مجال الإبداع المعرفي، مبرزًا المشاكل والحلول، وآراء المعارضين والرد عليهم .
كما نجد دراسات على شكل أبحاث منشورة بمجلة مجمع اللغة العربية الأردني، قيَّمت تجربة المجمع في تعريب التعليم الجامعي في الأردن، نذكر منها : دراسة محمود السمرة، وهي بعنوان " تجربة مجمع اللغة العربية الأردني في تعريب العلوم "، ودراسة عادل جرار " قضايا تعريب الكيمياء ومشاكله "، ودراسة أحمد سعيدان ( ت 1991 م) " ما السبيل لتعريب التعليم الجامعي في العلوم الطبيعية ؟
من هنا جاءت دراسة الباحث استكمالاً لهذه الدراسات، لتلقي الضوء على التجربة، متناولاً من خلالها الأهمية القومية واللغوية للتعريب، كما تستعرض البدايات الأولى للتعريب، ودور المؤسسات العلمية التي تساهم في تعريب العلوم في الأردن، من خلال ترجمة الكتب العلمية؛ التي عُربت وطُبقت في الجامعات الأردنية، إضافة إلى رأي الأساتذة والدارسين والطلبة في تعريب العلوم؛ لتقف على أهم المشاكل التي تعترض تعريب العلوم؛ والوصول إلى النتائج المهمة؛ التي تدفع باللغة العربية نحو الأمام لتكون لغة التعليم العلمي في جامعات الوطن العربي كافة.(/4)
لذلك كان لابد من إجراء مقابلات مع المدرسين والطلبة والمسؤولين عن المؤسسات التعليمية في الأردن للإجابة عن عدة تساؤلات تتعلق بالتعريب، ودور اللغة العربية في تنمية العلوم، وموقف المسؤولين عن تعريب العلوم، والأسباب التي أدت إلى وقف عملية التعريب .
أولاً - أهمية التعريب في الوطن العربي، والحاجة إليه عربيًّا .
أهمية اللغة على الصعيد القومي :
تعد اللغة أساسًا من أسس القومية العربية قديمًا وحديثًا؛ لأنها من أهم عوامل الوحدة العربية، كونها لغة الأمة كلها، ولعل اللغة العربية من أهم اللغات العالمية الحية؛ التي حافظت على بنيتها عبر العصور المختلفة، وحافظت على جماليتها وفنها وعلميتها، على الرغم من المخاطر التى تعرضت لها الأمة، فإذا كانت اللغة العربية تتصف قديمًا بأنها لغة العلوم، فإنها اليوم، ومن خلال خصائصها، لغة تنمو وتتطور، وتواكب العلم وابتكاراته، وهذا يعني بقاء اللغة ستة عشر قرنًا حية راسخة قوية في وجدان أهلها، وعقولهم؛ بفضل عوامل ساعدت على ذلك، ومن أهمها:
1-الشعر الجاهلي : فقد جمع العرب في جاهليتهم شعرًا رائعًا، تعدى مراحل البدايات الأولى للتكوين والتطور، فما زلنا إلى اليوم نقرأ المعلقات على أنها من الروائع الشعرية، وقد قيل في الجاهلية شعر كثير، صيغ بأسلوب رائع متين، وبلغة عربية بليغة وفصيحة، ما زال إلى اليوم يقرأ على أنه لغة الجمال والتصوير.(/5)
2-القرآن الكريم: وهو أهم عامل من عوامل حفظ اللغة العربية؛ فقد نزل على سيدنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خالص النسب العربي، من قريش سيدة قبائل العرب، فهو آخر الكتب السماوية، أنزله الله تعالى متعهدًا بحفظه " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " (1) والله تعالى بهذا الحفظ إنما حفظ اللغة من الضياع والتحريف، وأعطى لها صفة الجمال والبلاغة، ففي القرآن من البلاغة والإعجاز ما لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، فهو معجزة النبي الكريم، وبه تحدى المتكلمين، والشعراء، واللغويين، فهو الكتاب الوحيد الذي تكاملت به اللغة العربية بكافة مستوياتها، فكان القرآن بذلك رابطًا مقدسًا للغة العربية؛ حيث يقرأ على الرهبان وأصحاب الديانات الأخرى، وآياته تتلى على المتعلم والجاهل، يحفظها الأمي والمتعلم على حد سواء؛ مما يجعل معالجة موضوع اللغة العربية يختلف اختلافًا جوهريًّا عن معاجلة العاميات الأخرى .
3-التشريع الإسلامي: للتشريع الإسلامي دور كبير في وحدة أكثرية سكان الوطن العربي؛ الذين يدينون بالإسلام، والذين تتوافر فيهم الوحدة الجنسية واللغوية والروحية والتاريخية منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان، ولا يزال الوطن العربي واحدًا في أصوله وفروعه؛ لأن وحدته الفكرية مستمدة من مصادر التشريع الإسلامي المتمثلة في القرآن والسنة والسماع والإجماع والقياس؛ والتي وضع أئمة الإسلام والعلم قوانين تحفظها من التحريف والوضع .(/6)
4-حركة التأليف عند العرب : شهدت العصور الإسلامية الأولى ازدهارًا في شتى المجالات الفقهية والمنطقية واللغوية والتاريخية، مما أظهر المذاهب الأربعة، ونشطت معها حركة الترجمة؛ فُترجمت كتب كثيرة عن الحضارات الأخرى، تُعرّف بالعلوم المختلفة؛ التي لم يعرفها العرب من قبل، وألفت كتب في المعاجم، والسير التاريخية، ما زالت هذه الكتب تقرأ إلى اليوم على أنها من أهم المصادر والمراجع، وترجمت إلى لغات أخرى، مما أعطى اللغة العربية دورًا مُهمًّا في قراءة التاريخ البشري، ونقل العوم إلى حضارة الغرب، ولعل حركة الترجمة قد أغنت اللغة العربية، مما جعلها أكثر اللغات حيوية، ومجاراة لكل العصور، في كل الميادين العلمية والمعرفية والإنسانية، وبذلك انتقلت معظم المعارف العلمية من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى عن طريق الترجمة، والتجارة، والفتوحات الإسلامية، والحروب الصليبية .
وإذا كانت هذه العوامل قد حافظت على اللغة العربية كأساس من أسس الوحدة العربية، فإن المركزية العربية الممثلة بالدولة الإسلامية كانت عاملاً آخر، حافظ على تماسك الأمة العربية ووحدتها في العصور المزدهرة، مما أعطى العرب دور الريادة عالميًّا في كافة الميادين؛ فأضاؤوا بعلومهم ومعارفهم عصور الظلمة التي عاشتها أوربا .
ومع مرور الوقت بدأت الحضارة العربية التراجع – إلى حين – خصوصًا أواخر العهد العثماني، مما أدخل اللغة العربية في الصراع من أجل الحفاظ على هويتها من الهجمة التي بدأ العرب يتعرضون لها مع بدايات التقدم العلمي والمعرفي عند الغرب .(/7)
ومع بداية عصر النهضة بدأت المحاولات جادة في طمس الهوية العربية عن طريق تتريك اللغة أو فرنستها؛ ليحكموا سيطرتهم، وليفرغوا العرب من محتواهم الفكري؛ الذي ظل لقرون عدة محتوى صلبًا، باقيًا بوجودهم، ضخمًا بما يحمل من إرث حضاري يزخر بالمعارف والعلوم؛ لذلك تكالبت عليهم الجهود الاستعمارية، ممثلة بالثالوث الفرنسي البريطاني الصهيوني لطمس الهوية العربية، مما وضع العرب في مواجهة هذا الثالوث، من منظور التحدي والشعور القومي، دفاعًا عن دينهم ولغتهم وهويتهم العربية الأصيلة .
من هنا تأتي أهمية اللغة على الصعيد القومي، فهي ترتبط بإرث حضاري وفكري يصعب أن تنفصل عنهما، أو أن يفصل بينهما فاصل، كما أنها تعبر عن حضارة الشعوب وثقافتها، يقول عبد الكريم الباقي:" إن اللغة ذاكرة لها سجل حضارتها التالدة، ومطية حضارتها الطارفة، وهي إرادتها الفكرية المتشوقة نحو التقدم والعلا (2) لذلك فاللغة تساهم في وجود كيان واحد للشعوب العربية على اختلاف مواطنها؛ هذا الكيان يقوم على تراث حضاري ترتبط به مشاعر القرابة الروحية والوجدانية؛ فيساهم ذلك في مقاومة المحاولات الرامية إلى تشتت هذا الكيان بتشتيت لغته من خلال طرق مختلفة ومتنوعة مثل إحلال العاميات، والتدريس باللغة الأجنبية، وغير ذلك ؛ فتشتت الأمة بتشتت لغتها" وفي المقابل تشتت اللغة يندر بتشتت الأمة، وتواري شأنها، وأفول مجدها، وتمزق شملها، وانتشار عقدها" (3)(/8)
إن وجود لغة موحدة للأمة عامل مهم في الحفاظ على الهوية العربية، فباللغة تعبر الأمة عن ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وبها تربط الماضي بالحاضر؛ لتساهم في تطور الإنسان العربي، ولأهميتها انعقدت الندوات والمؤتمرات؛ التي تنص على أن اللغة العربية الفصحى هي لغة الأمة، ويجب أن تكون اللغة القومية للعرب، تعبر عن الأفكار والأحاسيس والمشاعر، وبها يدون العرب معارفهم وعلومهم، ويخاطبون الأمم الأخرى بلغة واحدة، تدفعهم نحو التقدم والعلا؛ ليأخذوا دور الريادة في نشر العلوم. إن اللغة العربية كما يقول عبد الله فكري ( ت 1889 م) سبيل تقدم العرب في جميع أحوالهم (4) .
مفهوم التعريب وأهميته عند العرب:
ظاهرة التعريب جزء من ظاهرة تعرف بتأثير اللغات فيما بينها، وهي ظاهرة حية تعرفها اللغات كافة نتيجة لحركة التاريخ المتجدد، والمتغير دائمًا، تحكمها أسباب عدة : كالترحال، والغزو، والتبادل التجاري، والثقافي، والمجاورة، وغير ذلك، وقد عرف العرب هذا كله على مدار تاريخهم القديم والحديث، مما جعل اللغة العربية متأرجحة بين القوة والضعف، تقوى بقوة أهلها وعزتهم، وتضعف بضعفهم؛ إذ تتفاوت الشعوب فيما بينها في الثقافة والحضارة، مما قد ينعكس على اللغة .
كان العرب في العصر الجاهلي يعيشون في قلب الصحراء؛ وكان اتصالهم بالشعوب الأخرى قليلاً جدًّا، إلا ما كان من مبادلات تجارية عبر القوافل العربية شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، أو عن طريق مجاورتهم أممًا أخرى مثل : مجاورتهم الفرس، واليونانيين والروم؛ لذلك كانت الألفاظ الدخيلة على اللغة العربية قليلة جدًّا، معظمها يتصل بالنواحي المادية؛ التى استعملها شعراء العصر الجاهلي في شعرهم (5)(/9)
ومع بداية الفتح الإسلامي خرج العرب من الصحراء فاتحين للبلاد والأمصار؛ فخرجت لغتهم معهم، فأثرت في لغات الأمم والبلاد التي كانوا يفتحونها، وتأثرت بها، مما دفع اللغويين العرب إلى جمع اللغة واستنباط القوانين الخاصة؛ التي تحمي اللغة من أن يمسها خلل في بنيانها، من جراء دخول أمم كثيرة الإسلام، واتخذت العربية لغة لها، باعتبارها لغة القرآن الكريم، ولغة الدولة، فظهرت مصطلحات لغوية جديدة كالدخيل والمعرب، وسنعرض الآن تعريفات للتعريب، تمثل آراء العلماء العرب قديمًا وحديثًا .
فقديمًا عرفه الجواليقي ( ت 540 هـ ) بقوله: " إن هذا كتاب يذكر فيه ما تكلمت به العرب من الكلام الأعجمي، ونطق به القرآن المجيد، وورد في أخبار الرسول (صلى الله عليه وسلم )، والصحابة، والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، وذكرته العرب في أشعارهم؛ ليعرف الدخيل من الصريح "(6).
وفي عصر النهضة فإن معنى التعريب تطور ليدل على نقل اللفظة الأجنبية إلى العربية. يقول الخفاجي (ت1069هـ ):" اعلم أنّ التعريب نقل اللفظ من الأعجمية إلى العربية " (7)، أما الشيخ طاهر الجزائري فيعرفه بقوله :" التعريب نقل الكلمة من العجمية إلى العربية، والمعرب في الكلمة التي نقلت من العجمية إلى العربية سواء وقع فيها تغيير أم لا، غير أنه لا يتأتى في التعريب غالبًا إلا بعد تغير الكلمة " (8)(/10)
وحديثًا فإن مفهوم التعريب ارتبط بدوره في الحياة العربية المعاصرة وتطورها، يقول عبد الكريم خليفة : " فالتعريب يعني : المشاركة المبدعة للمؤسسات العلمية العربية : في بناء الحضارة العالمية، والخروج من حالة التبعية الفكرية والثقافية " (9) ، وإذا كان هذا التعريف يتحدث عن دور التعريب، فإن المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة قد وضعت تعريفًا شاملاً للتعريب، وهو: " يراد به أكثر من اعتماد اللغة العربية في سائر مراحل التعليم، أداة للتعبير؛ ولكن المعاني الأوسع التي نقصدها من التعريب، تعريب الإدارة، والتشريع، وتعريب الثقافة، وما تنطوي عليه من أساليب المعيشة، وأنماط السلوك، ويعني التعريب من بين ما يعني العناية باللغة العربية أداة للتعبير والتفكير في النتاج الأدبي والفني، وفي وسائل الإعلام، وفي مراسلات المؤسسات؛ حتى تسري القدرة منها إلى البيت، والنادي، وبالتالي تضيق الفجوة بين العامية والفصيحة بتنقية العامية، وتأصيلها، وردها إلى الفصيحة، ونشر التعليم والثقافة العامة، وتعريب الثقافة يعني جعل الحياة العربية في حقيقتها مادة للأدب والفنون، كما يعني تحصين الناشئين من السيل الغامر من الثقافات الأجنبية غير الملائمة لطبيعة الحياة العربية، ويسري ذلك على آداب السلوك في نطاق الأسرة ومؤسسات التعليم والعمل(10)(/11)
من هذا التعريف ندرك أن مفهوم التعريب تطور عن المفهوم القديم؛ الذي كان يبحث في دخول الكلمة الأعجمية إلى اللغة العربية، وملاءمة الذوق العربي؛ إذ تطور المفهوم ليصبح استعمال اللغة العربية استعمالاً شاملاً منذ البدايات الأولى للتعليم، إلى المراحل العليا، مراحل التأليف وغيرها، ولعل معنى التعريب بالإضافة إلى ما ذكر يجب أن يشتمل على الترجمة العلمية من كتب، ومصطلحات، ورموز، وتأليف علمي باللغة العربية؛ حتى نثري المكتبة العربية بالكتب، فتصبح اللغة بذلك وعاء للأفكار والإحساسات، ولغة التعبير في كل المجالات .
هنا تكمن أهمية التعريب والتأليف العلمي باللغة العربية، وهي الحقيقة التي أدركها العلماء العرب الأوائل وعملوا بها، حتى غدوا علماء عصرهم؛ إذ لعبوا دورًا مهمًّا وبارزًا في التأليف العلمي باللغة العربية، قبل مرحلة الترجمة وبعدها؛ والتي مكنتهم من الاطلاع على علوم الأمم، فهم لم يكونوا ناقلين فقط بل منقحين، وناقدين، ومضيفين بعلومهم الشيء الكثير في مجالات العلوم المختلفة.(11)
أهمية التعريب والحاجة إليه في الحياة العربية المعاصرة :
إن الجهود الاستعمارية الرامية إلى طمس اللغة والدين، بقيت متواصلة، تهدأ حينًا، وتحتد حينًا آخر؛ فالجهود العربية في المجال العلمي؛ التي بدأت في عصر النهضة، واجهت هجمة استعمارية شرسة، عصفت بتلك الجهود، مما أدى إلى قتل روح الإبداع وهذا بدوره أدى إلى النزوح عن اللغة العربية، وعدم اعتمادها لغة التدريس في المجالات العلمية.
ورغم زوال الاستعمار إلا أننا ما زلنا نشهد آثاره واضحة جلية في معظم جامعاتنا؛ وذلك باعتماد لغته في تدريس العلوم على الرغم من النداءات الصادرة عن المجامع اللغوية، والجامعة العربية، الداعية إلى اعتماد اللغة العربية في التدريس .(/12)
إن التدريس باللغة العربية لا يعني بالضرورة إهمال اللغة الأجنبية؛ التي تمكننا من الاطلاع على ثقافة الآخرين، وإبداعاتهم في المجالات المختلفة؛ بل نعني به اعتماد اللغة العربية لغة حوار وتأليف علميين؛ من أجل تعميق الوعي، والفهم باللغة الأم، الأمر الذي يؤدي إلى تطوير الأمة ونهوضها؛ لهذا كله فإن للتعريب أهميات: علمية، ولغوية، وقومية، هذه الأهميات ترتبط بالحياة المعاصرة للإنسان العربي، الساعي دومًا للتقدم، والتطور، والتخلص من التبعية، والجمود؛ ليعود كما كان في العصور الإسلامية الزاهية، صاحب إبداعات علمية، تدفع به ليكون في مصاف الأمم المتقدمة .
أهمية التعريب القومية :
إن أهمية التعريب القومية تأتي في أن التعريب يوحد العرب في لغة الحوار الموحدة المعروفة لديهم، بالإضافة إلى أن اللغة قادرة على صقل كيان عربي موحد، يتمتع بمركزية عربية قوية " اللغة مكون أساسي من مكونات هويات الأمم"(12)؛ لذلك فإن من شأن التعريب أن يصبغ الحياة بصبغة عربية إسلامية، وهو مظهر من مظاهر جمع فكري لشعوب
ج
أمة مقسمة إلى كيانات سياسية مختلفة، فعامل توحيد الأمة مهم لأبناء الأمة
العربية الواحدة، ولابد من أن تركز الأمة على حضارتها ودينها من جديد والآن وقد تخلصنا من الاستعمار المباشر في صوره العسكرية والسياسية؛ والذي شل قدراتنا على الحركة؛ فإن من واجبنا الديني والقومي أن نتابع حركة التحرر الوطني، ونقبل بها إلى غايتها المنطقية، بأن نرفد ثورتنا السياسية، التي خرّجْنا بها الاستعمار المباشر، بثورة حضارية، نعيد بها النظر في كل مجالات حياتنا، فننفي عن وجودنا كل مظاهر التخلف والجمود، وموروثات لديهم، بالإضافة إلى أن اللغة الاستعمار ونظمه " (13)
أهمية التعريب العلمية:(/13)
تتجلى الأهمية العلمية للتعريب في أنه يرتبط بالثقافة العربية الإسلامية في مواجهة التحديات؛ لذلك فإن من أسباب عدم النهوض كحقيقة في عالمنا الإسلامي والعربي حتى الآن، هو ارتباط علومنا باللغة الأجنبية المستمرة في سبيل الوصول إلى المعرفة بدلاً من ربطها باللغة العربية؛ فانعزلت عن ماضيها في غرابة من تراثها، وتاريخها، ولغتها، من هنا فإن أهمية التعريب العلمية، هي ربط التراث العلمي القديم بمستجدات العلوم الحديثة للنهوض بالأمة، فنعيد صقل تراثنا العلمي من جديد بلغتنا القومية بقالب علمي حديث، يوصلنا إلى التقدم العلمي، ويخرجنا من ردهات الثبوت، ويجد لنا مكانًا بارزًا، ومهمًّا إلى جانب الحضارات المتقدمة الأخرى:" لم تقم نهضة علمية حقيقية في عالمنا العربي والإسلامي حتى الآن، ولم نتقدم صناعيًّا ولاتكنولوجيًّا؛ لأننا نجتر أساليب الغرب ومعرفته اجترارًا، ونقلدها تقليدًا دون أن يكون ذلك جزءًا من تكويننا الفكري والاجتماعي " (14)
وللتعريب أهمية علمية أخرى، تكمن في أنه يرفد الأمة بعلوم العصر، ويساهم في تنمية المجتمع عامة؛ فيكون العلم في متناول الجميع، مما يساعد على ازدياد الوعي، وتنامي الجماهير عامة، كما يساهم في فتح آفاق علمية واسعة، وينمي إبداع المشتغلين بالعلوم، مما يؤهلهم إلى الابتكار العلمي، حين يتعمقون في فهم التعريب بلغتهم؛ لأن اللغة الأم، هي لغة الأفكار والأحاسيس للإنسان .
أهمية التعريب اللغوية :
يمكن إجمال أهمية التعريب اللغوية في النقاط التالية:
-يساهم في إثراء اللغة العربية في ميادين المصطلحات والرموز والمعاجم المتخصصة.
-إثراء المكتبة العربية بالكتب العلمية المؤلفة في اللغة العربية .
-ربط التراث العلمي العربي بالحاضر، وإنهاء القطيعة بينهما .
-ينمي روح الإبداع والتأليف لدى الطالب منذ تلقيه العلم.(/14)
-إن تدريس المواد العلمية باللغة العربية يحفز بصورة تلقائية المدرس، والمترجم إلى ترجمة هذه المواد باللغة العربية، مما يدفعه إلى الأمام، وإلى دعم تجربته، وممارسة الترجمة .
وهناك أهمية لغوية أخرى للتعريب، وهي الخوض في ألفاظ ترد إلى لغات أجنبية، مردها اللغة العربية، وهذا يفتح، ويسهم في إثراء الدراسات اللغوية المقارنة؛ فقد تنبه الدارسون، والباحثون إلى كثير من الألفاظ المشكوك فيها، وفي معرفة ألفاظ، ومصطلحات غربية، هي في الأصل عربية، مثل مصطلحات المعادن، وألفاظ أثبتها علماء عرب، بعد أن شكك علماء الغرب بأصلها، وردوها إلى أصولها العربية، فمكنت الدارسين من الوقوف أمام الألفاظ الدخيلة، التي لا تتناسب وذوق اللفظ العربي (15) .
ولا يفهم من التعريب إضعاف اللغات الأجنبية، وعدم الأخذ منها، بل هي، أي اللغات الأجنبية رافد نطَّلع به على ما يستجد من علوم نفهمها، ونعيد صقلها بلغة عربية سليمة، مما يؤهل علماءنا إلى الإنتاج، والإبداع إذ التعريب الجامعي تلبية لطموح الأمة العربية في أن يعود إليها مجدها العلمي على أيدي علمائها المعاصرين، حتى يستطيع الشباب العربي بلغتهم الأم تمثل ما يدرسون في العلوم البحثية والتطبيقية تمثلاً علميًّا قويًّا .
ثانيًا - دور مجمع اللغة العربية الأردني في تعريب التعليم العلمي الجامعي :
في عام 1921م أسس المغفور له الأمير عبد الله بن الحسين(ت1951م) إمارة شرق الأردن، وكان الأمير أديبًا شاعرًا، جمع حوله الكثير من رجالات الشعر والأدب، فكان للغة العربية أهمية خاصة، فأصدر عام 1924م مرسومًا يدعو فيه إلى تأسيس مجمع علمي، يكون مقره عمان عاصمة شرق الأردن، وانتخب سماحة الشيخ سعيد الكرمي (ت 1935م) رئيسًا له، وضم إلى عضويته كلاًّ من : رضا توفيق بك، والشيخ مصطفى الغلاييني (ت1944م)، ورشيد بك بقدونس (ت1943م) ، ومحمد بك الشريقي (ت1970م) .(/15)
وكان لهذا المجمع أعضاء شرفيون، هم : أحمد زكي باشا ( 1934م)، رئيس المجمع العلمي بدمشق، والسيد محمد كرد علي (ت1953م)، والشيخ عباس الأزهري، والأب إنستاس الكرملي ( ت 1947م )، والسيد إسعاف النشاشيبي (ت 1948م) ، إلا أن المجمع لم يستمر طويلاً؛ نظرًا للظروف الصعبة؛ التي كانت تعصف بالمنطقة.
والأردن كأحد أجزاء هذا الشرق العربي، خاض معركة اللغة العربية قيادة وشعبًا على امتداد وجوده، فهذا الملك الهاشمي الحسين بن طلال رحمه الله ( ت 1999م) يعمل منذ توليه زمام الأمور على نشر اللغة العربية، فبدأ بالجيش العربي، فعرّبه في 21/3/1956م. ثم تسير العجلة بالإنسان الأردني نحو الأمام؛ فأنشئت المؤسسات العلمية، والتعليمية، لتكون مركزًا للإشعاع الفكري والحضاري، ولتعكس حضارة الأمة، تربطها بالماضي، وتمتد للمستقبل، لتساهم في بناء حضارة الإنسان الحقة .
وتبرز اهتمامات الحسين باللغة العربية حين أصدر المرسوم الملكي الداعي بإنشاء المجمع اللغوي الأردني عام 1976م، ليقود هذا المجمع مسيرة اللغة العربية نحو الأمام، متخذًا من التعريب وسيلته لتحقيق العلم والتعلم، فباشر بوضع خطة تهدف إلى تعريب العلوم .
مشروع المجمع في تعريب التعليم العلمي الجامعي :(/16)
استمرارًا لحركة تعريب العلوم في الوطن العربي، خطا الأردن خطوة سريعة وجريئة؛ فقد رأى مجمعه اللغوي من منظور علمي وقومي ضرورة تعريب التعليم الجامعي": وأن يتجاوز مرحلة المنادي بالمبادئ والحوار والمناقشة حول قدرة اللغة وأهليتها وتجاربها التاريخية إلى مرحلة التطبيق العلمي " (16) ، من هنا وضع المجمع مشروعه في تعريب التعليم العلمي، مرتكزًا على نص القانون، الذي يقضي بأن تكون لغة التدريس في الجامعات هي اللغة العربية " (17)، ومتماشيًا مع الأهداف العامة؛ التي رسمها مكتب تنسيق التعريب في الوطن العربي، الداعية إلى تعريب التعليم العلمي في الوطن العربي، فالمجمع رأى أن التعريب ضرورة منهجية ذات فوائد جمة على المستويين العلمي والقومي، ونتائجها ذات أثر بعيد في مسيرة الوطن العربي الحضارية، والعلمية، والاقتصادية، والاجتماعية .
بدأ المجمع تنفيذ مشروعه كجزء من خطته الرامية إلى تعريب التعليم والمصطلحات العلمية عبر مراحل زمنية متعاقبة (18)، فشكل أربع لجان لهذه الغاية من أصل لجانه الإحدى عشرة، واللجان الأربع هي :
-لجنة التأليف والترجمة للعلوم الإنسانية .
-لجنة التأليف والترجمة للعلوم التطبيقية الهندسية والزراعية .
-لجنة التأليف والترجمة للعلوم الصحية .
-لجنة التأليف والترجمة للعلوم الأساسية .
وعمد كذلك إلى مراسلة مؤلفي الكتب العلمية، دور النشر من أجل الحصول على إجازة ترجمة الكتب ونشرها، ثم كلف لجانًا من المتخصصين لاختيارها، وطلب من المترجمين والمراجعين العلميين الإفادة مما أصدرته المجامع اللغوية العربية، ومؤتمرات التعريب، والمؤسسات التخصصية، والتنسيق مع الجهات العربية ذات العلاقة عن طريق الكتابة إليها .
بدأ المجمع عمله في ثلاثة اتجاهات، هي : ترجمة الكتب العلمية، التأليف العلمي باللغة العربية، تعريب الرموز العلمية .(/17)
أولاً - ترجمة الكتب العلمية المراد تدريسها: اختار المجمع سبعة عشر كتابًا لتدرس في الجامعات الأردنية بعد ترجمتها وتعريبها، أصدرها المجمع على ثلاث مراحل متعاقبة، هي :
المرحلة الأولى - صدرت للتطبيق في العام 80/81 لطلاب السنة الأولى، وشملت الكتب التالية :
1-حساب التفاضل والتكامل والهندسة التحليلية، لمؤلفه أيرل وسود كوفسكي، شارك في ترجمته كل من : أحمد سعيدان (ت1991 م)، أحمد علاونة، محمد عرفات النتشة، وليد ذيب، حسن العزة، صدرت الطبعة الأولى مترجمة في عام 1979م، والثانية في عام 1981م، يقع الكتاب في جزأين كبيرين، وفي كل جزء مسرد للمصطلحات الخاصة به.
2-البيولوجيا، تأليف ريتشارد جولدني، شارك في ترجمته كل من : عدنان علاوي، أحمد الديسي، حميد الحاج، وهم من الجامعة الأردنية؛ وناجي أبو رميلة، وسامي عبد الحافظ من جامعة اليرموك. صدر الكتاب مترجمًا على شكل جزأين في عام 1980م، ملحقًا به معجم صغير يضم المصطلحات الخاصة به.
3-الجيولوجيا العامة: تأليف روبرت ج فوستر، شارك في ترجمته كل من: عبد القادر عابد، شاكر المقبل، سعد حسن الباشا. صدر الكتاب مترجمًا في جزء واحد عام 1980م، يشتمل على مسرد للمصطلحات الخاصة به .
4-الفيزياء الكلاسيكية الحديثة، المجلد الأول، تأليف: كينث، وفورد، صدر مترجمًا في عام 1981م، شارك في الترجمة: همام غصيب، عيسى شاهين، في آخره مسرد للمصطلحات والرموز الخاصة به .
5-الكيمياء العامة، تاليف فريدرك لونجوا، شارك في ترجمته كل من: عادل جرار، مروان كمال، عدنان أبي صالح، ربحي الزرو، سليمان سعسع. صدرت ترجمته في العام الدراسي 80/1981م، الكتاب يقع في جزء واحد، وملحق به مسرد للمصطلحات الخاصة به، إضافة إلى جدول للعناصر والذرات الذرية .(/18)
المرحلة الثانية : بدأ التخطيط لها في عام 1981م، وذلك بتشكيل لجنة استشارية مكونة من مدرسي الجامعتين ( الأردنية واليرموك )، من أجل اختيار الكتب الصالحة للسنة الجامعية الثانية في تخصصات الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والبيولوجيا؛ وقد اختارت اللجنة ما بين كتابين وثلاثة كتب للمقرر الواحد، وعهد المجمع بترجمة هذه الكتب إلى المترجمين من أساتذة الجامعتين، بموجب عقود حدد بها مكافآت الترجمة، وموعد التسليم، وغير ذلك (19) ، وقد تم ترجمة سبعة كتب في هذه المرحلة الممتدة ما بين عامي 1982م-1984م، والكتب المترجمة هي:
1-الجبر المجرد بطريقة التعليم الذاتي النشط، تأليف: ديفد ستون وفرانس جوليك، ترجمه ذيب حسين، وراجعه محمد عرفات النتشة، وأشرف على إخراجه أحمد سعيدان. صدرت ترجمته في عام 1982م، وملحق به مسرد للمصطلحات الخاصة به .
2-الكيمياء غير العضوية، تأليف أي هيوهي، ترجمه الأستاذان: حمدا لله الهودلي، ومنار فياض، راجعه وأشرف على إخراجه عادل جرار، صدرت ترجمته على شكل جزأين في عام 1983م، ملحق بكل جزء مسرد للمصطلحات الخاصة به.
3-مقدمة للتكوين الجيني، تأليف: ستيفن، واربنهاير، ترجمه رمسيس لطفي، صدرت الترجمة في عام 1983م، يضم مسردًا للمصطلحات الخاصة به .
4-مقدمة للبصريات الكلاسيكية الحديثة، تأليف جرجين مايراوندن، ترجمه عمر حسن الشيخ، وأحمد سالم، نشر بعد ترجمته على نفقة مؤسسة عبد الحميد شومان في عام 1983م، وفي نهايته مسرد للمصطلحات الخاصة به .
5-الكيمياء التحليلية، تأليف دونالد ج بترزيك، وكلايد فرانك، ترجمه عبد اللطيف جابر، وسليمان سعسع، أشرف على إخراجه كمال عوض الله، صدرت ترجمته في عام 1984م، ويضم مسردًا للمصطلحات الخاصة به.(/19)
6-مبادئ التحليل الرياضي، تأليف أ.ج . مادكوس، ترجمة وليد ذيب، مراجعة محمد عرفات النتشة، وأحمد سعيدان، أشرف على إخراجه كمال عوض الله، صدرت ترجمته في عام 1984م، يضم مسردًا للمصطلحات الخاصة به .
7-مبادئ المعادلات التفاضلية وتطبيقها، مساق موجز، تأليف: وليم ديرك، وستايلي فردمان، ترجمة أحمد سعيدان، مراجعة محمد عرفات النتشة، أشرف على إخراجه كمال عوض الله، نشرت ترجمته في عام 1984م، يضم مسردًا للمصطلحات الخاصة به .
المرحلة الثالثة : في هذه المرحلة تم ترجمة كتابين صدرا في عامي 85 /1986م، هما :
1-الفيزياء الكلاسيكية الحديثة، المجلد الثالث، تأليف: كنث، وفورد، ترجمه عمر حسن الشيخ وعيسى شاهين، راجعه وأشرف عليه عمر حسن الشيخ، صدرت ترجمته في عام 1985م، بنفقة مؤسسة عبد الحميد شومان، وبه ملحق للمصطلحات الخاصة به .
2-الكيمياء الحيوية للخلية وعلم وظائفها، تأليف: ادوارد، و هسال، ترجمة سليمان سعسع، وعادل جرار، صدرت الترجمة في عام 1986م، ويضم مسردًا للمصطلحات الخاصة به، مرتبة ترتيبًا لاتينيًّا .
ثانيًا: التأليف العلمي باللغة العربية:
إن لتأليف العلوم باللغة العربية أهمية بالغة؛ فبالتأليف تحيا اللغة، وتنتج علومها، وبه نشرك الجماهير في التطورات العلمية، ونطورها، وبالتالي تكون عاملاً قويًّا في التنمية. ولعل التراث العلمي العربي زاخر بالكتب المؤلفة باللغة العربية على شكل مخطوطات، هي رهن رفوف المكتبات الآن؛ لذلك فإن من شأن التأليف باللغة العربية أن يربط الماضي بالحاضر، ويدفع على تطوير الأمة، ويساعد على بسط العلوم وامتلاكها، وتنقيتها، وإبداعها، وبذلك يستطيع العرب امتلاك التكنولوجيا الحديثة، وغيابها معوق للتطور العلمي العربي؛ لذلك كله دفع المجمع باتجاه تأليف العلوم باللغة العربية، وتم تأليف بعض الكتب العلمية بإشراف المجمع، أو عن طريقه، أو بدعم منه لتدرس في الجامعات الأردنية، وهذه الكتب هي :(/20)
1-الكيمياء في حياتنا ، تأليف عادل جرار : كتاب ضخم، طبع على نفقة مؤسسة عبد الحميد شومان، الكتاب شامل، يدرس لطلبة السنتين الأولى والثانية في الجامعة الأردنية، يقع الكتاب في أربعمئة وثلاث وتسعين صفحة ضمنها المسائل، والحلول، والصور الملونة، ومسردًا للمصطلحات الخاصة به .
2-الكيمياء التحليلية للحليب ومنتجاته، تأليف سمير عميش : الكتاب يقع في مئتين وست صفحات، منها مئة وسبع عشرة صفحة تحوي مادة علمية على شكل معجم أحادي اللغة، يفسر المواد ويعرفها .
3-مبادئ التحليل العادي، تأليف عبد المجيد نصير :الكتاب يقع في مئتين وتسع وستين صفحة به مسرد للمصطلحات العلمية الخاصة به، يدرس لطلبة الرياضيات في جامعة اليرموك. يقول مؤلفه في مقدمة كتابه: "فإنني على يقين بأن تعريب التعليم الجامعي، لا يقوم به قرار سياسي، أو إداري، بل تطبيق علمي يقوم به المدرسون العرب في الجامعات العربية فإيماني بضرورة تعريب التعليم في مراحله كافة، إيمان ثابت لا يتزعزع بحمد الله"(20) . نشر الكتاب عن المكتب العلمي للتجارة والاستثمار، أربد 1984 م .
4-علم السموم الحديث، تأليف عبد العظيم سلهب : نشر الكتاب بدعم من مجمع اللغة العربية الأردني ليدرس في الجامعات الأردنية، صدر الكتاب في عام 1990م عن دار المستقبل للنشر والتوزيع .
وهناك كتب ألفت باللغة العربية لم تلق الدعم، بل إن ما يشكو منه الأساتذة، هو عدم الدعم والقبول، فالكتب المؤلفة باللغة العربية تلقى رواجًا من قبل الطلبة في الجامعات الأردنية والعربية .
ثالثًا - تعريب الرموز العلمية: تعد الرموز العلمية الدولية من قضايا التعريب الأساسية حديثًا؛ لذلك كان لمجمع اللغة العربية الأردني إسهامات في هذا المجال؛ فأعد مشروعًا لتعريب الرموز العلمية وبدأ العمل به على مرحلتين :(/21)
الأولى - كانت الفكرة تقوم على ترجمة الرموز الرياضية والفيزيائية، والكيميائية؛ فشكلت لجنة مؤلفة من الأساتذة: أحمد سعيدان، ومحمد أحمد حمدان، وعبد المجيد نصير، والسيدة منى مهيار، ثم وضعت اللجنة الأسس التي يقوم عليها المشروع ، وهي :
-التعريب لا الترجمة، وهي الغاية؛ إذ لابد من إصباغ طابع عربي على العلم.
-الأخذ بالإشارات، وإجراء ما يلزم من تعديل عليها .
-الإفادة من مؤسسة إبزو .
-وضع منهجية كاملة تماشي هذا التعريف الشامل للعلم.
سارت اللجنة على منهجية محددة، صنفت على ضوئها الرموز العلمية وفق مجموعات حرفية أربع هي: حروف هندسية، وحروف مقطوعة، وحروف معقوفة، وحروف ابتداء، ثم وضعت لكل مجموعة ثلاثة أشكال هي: عادي، ومجوف، ومستدير. صدر الكتاب عن مجمع اللغة العربية الأردني، وهو ضمن إصداراته.
الثانية - وهي مرحلة تطويرية للمرحلة الأولى، هذه المرحلة أخذت الطابع العربي الشمولي فنظمت ندوة في عمان 1987م، دعت إليها المجامع اللغوية والعلمية العربية، تهدف إلى صبغ هذه الرموز بصبغة عربية؛ لتكون فائدتها أعم وأشمل. نشرت الندوة على شكل كتاب عام 1987م.
كما ساهم المجمع مع المنظمة العربية للمواصفات والمقاييس في تعريب رموز وحدات النظام الدولي ومصطلحاتها، وهو أول عمل علمي يصدره المجمع منشورًا، على شكل كتاب صغير، كان هذا في عام 1981م.
واجهت عملية تدريس العلوم باللغة العربية مشاكل كثيرة أدت إلى وقفها بعد عام من تطبيقها والعودة إلى التدريس باللغة الإنجليزية؛ أي لم يتم التدريس باللغة العربية إلا لعام واحد فقط، هو العام الدراسي 80/1981م.
وللوقوف على الأسباب التي أدت إلى وقف المشروع كان لابد من إجراء دراسات حول ذلك، وامتزاج آراء المسؤولين، والأساتذة، والطلاب حول تدريس العلوم باللغة العربية، ومعرفة المشاكل التي واجهتها، وأدت إلى توقف العملية.(/22)
الدراسات : أجريت دراسات حول توقف عملية تدريس العلوم في الجامعات الأردنية باللغة العربية، منها:
1-دراسة مجمع اللغة العربية الأردني، فقد كلف اثنين من الباحثين المختصين بالقياس والتقويم، وهما: لطفي لطفية، ويعقوب أبو حلو، من أجل تقويم السنة الدراسية لهذه الكتب، وبعد الدراسة والتحليل توصلا إلى النتائج التالية:
-هبوط نسبة الرسوب من32 %، حين كانت تدرس باللغة الإنجليزية، إلى 3% حين درست باللغة العربية .
-درجة رضا المترجمين عن الكتب العلمية التي تم اختيارها للترجمة والتدريس أعلى من رضا المدرسين .
-تقارب رضا المترجمين والمدرسين عن خطوة مجمع اللغة العربية .
-تفاوت رضا الطلاب ما بين جامعتي اليرموك والأردنية عن كتاب الرياضيات .
2-ومن الدراسات التي أجريت حول المشروع، دراسة محمود السمرة، والتي خلص من خلالها إلى أن السبب في وقف مشروع تعريب العلوم في الجامعات الأردنية، يعود إلى :
-عدم إيمان هيئة التدريس في كليات العلوم باللغة العربية " ولو أنهم آمنوا أن التدريس باللغة العربية يعني: محافظة الأمة على شخصيتها، وأن أفراد الأمة لا يمكن أن يبدعوا إلا من خلال لغتهم، وأن الطالب الجامعي لا يمكن أن يستوعب المادة استيعابًا دقيقًا إلا من خلال لغته؛ لهان عندهم أي جهد يمكن أن يقدموه من أجل التعريب"(21)
-انخفاض نسبة الرسوب مثلاً في مادة الجيولوجيا من 26% حين كانت تدرس باللغة الإنجليزية إلى 4 % حين درست باللغة العربية .
-المعارضة لحركة التعريب ما زالت قوية ، وحادة .
آراء المسؤولين في المؤسسات العلمية: جاءت آراء المسؤولين في الجامعتين متقاربة، فرئيس الجامعة الأردنية السابق، فوزي غرايبة عزا وقف التجربة إلى أربعة أسباب، هي :
-عدم وجود جهة مركزية واحدة تختط مثل هذه السياسة .
-وجود معوقات مادية .
-غياب وحدات ترجمة سريعة، تترجم ما يستجد في ميدان العلوم؛ لذلك واجهنا مشكلة المرجع العلمي المناسب.(/23)
-عدم وجود قناعة لدى أعضاء هيئة التدريس لتدريس العلوم باللغة العربية، حتى ولو جاء قرار فوقي يلزمهم بذلك.
ولم يبتعد نائب رئيس جامعة اليرموك السابق أحمد سالم عن هذه النقاط، وأضاف إليها نقطة أخرى تتمثل في عدم نشاط هيئة التدريس في ترجمة بعض المراجع المهمة إلى اللغة العربية .
أما رئيس مجمع اللغة العربية عبد الكريم خليفة؛ الذي واكب التعريب مذ كان في اللجنة الأردنية للتعريب والترجمة والنشر التابعة لوزارة التربية والتعليم؛ التي أسست في سنة 1961م، إلى أن حولت إلى مجمع اللغة العربية الأردني، فعزا وقف التدريس باللغة العربية إلى عدم الالتزام وعدم الاستمرار بذلك، فالمرجع العلمي المترجم والمصادر والمصطلحات المعربة ليست سببًا؛ لأننا نستطيع التغلب عليها في أثناء العمل، كما أن سنة واحدة لا تكفي للحكم على تجربة بالفشل .
آراء الأساتذة : جاءت آراء الأساتذة في الجامعتين، الأردنية واليرموك متباينة؛ فمنهم من أيد، وهم الأكثرية، ومنهم من عارض، ويمكن أن نجمل آراء الأساتذة في النقاط التالية:
-لم تكن التجربة كافية للحكم عليها بالفشل .
-قلة الجهود المبذولة لها .
-عدم جدية الأساتذة في الكليات العلمية .
-المصطلحات العلمية لم تكن موحدة.
-اعتمدت التجربة على الجهد الفردي.
-عدم وجود تعريب على المستوى القومي.
-عدم متابعة المدرسين لترجمة كتب جديدة تفي بالغرض؛ لذلك ندرت الكتب المترجمة .
-عدم وجود قرار سياسي ملزم للتعريب .
وفي الإطار نفسه، تقدم ثمانون من أعضاء هيئة التدريس في جامعة اليرموك بمشروع تعريب العلوم، والتدريس باللغة العربية، واضعين خطة رفعت إلى مجمع اللغة العربية، والمسؤولين عن المؤسسات العلمية، هذه الخطة تتكون من ستة عشر بندًا تشمل نواحي التعريب المختلفة، وهذه البنود هي :(/24)
1-تشكل الدوائر العلمية المختلفة لجانًا ميدانية متخصصة من أعضاء هيئة التدريس، ممن يؤمنون بأهمية التعريب، وممن تتوافر فيهم القدرة على أداء هذا العمل .
2-تشكل لجنة تنسيق عملية التعريب في الجامعة الواحدة كل سنتين ممثلين عن اللجان الميدانية في تلك الجامعة، تنتخبهم اللجان بواقع ممثل واحد عن كل لجنة .
3-تقوم اللجان باقتراح الكتب القيمة؛ لدارسة إمكانية إقرار هذه الكتب، بالتعاون مع لجنة التعريب في المجمع اللغوي الأردني .
4-تنتخب لجنة التنسيق الواحدة هيئة إدارية مكونة من ثلاثة إلى خمسة أعضاء، للقيام بالمهام الإدارية، ينتخبون من بينهم رئيسًا يمثل اللجنة في الاتصالات مع الجهات المعنية .
5-تعقد لجنة التنسيق اجتماعات شهرية أو حسب الحاجة .
6-يناط بلجنة التنسيق متابعة أعمال اللجان الميدانية، والعمل كحلقة وصل بينها وبين لجنة التعريب في المجمع اللغوي .
7-بعد تبني لجنة التنسيق ترجمة كتاب معين، يقوم المجمع بإجراء الاتصالات اللازمة مع الجهات ذات العلاقة داخل الأردن وخارجه، للتأكد من عدم ترجمة الكتاب من قبل جهات أخرى، تُجنّب الازدواجية في العمل .
8-تقوم لجنة التعريب في المجمع بالإشراف على مراجعة ما تم إنجازه من كتب ترفع لها من لجنة التنسيق .
9-يقوم المجمع بالتعاون مع الجامعة ذات العلاقة بنشر ما يؤلف، وما يترجم من كتب من قبل اللجان الميدانية، وذلك على نفقة المجمع، أو الجامعة، وتحت إشرافهما، في حالة النشر في وحدة النشر التجارية .
10-يعمل المجمع على إطلاع الجامعات العربية، والمؤسسات العلمية ذات العلاقة على كل ما يتم إنجازه من مؤلفات وترجمات، وعلى ما هو قيد التنفيذ منها، لضمان تسويقها على أوسع نطاق .
11-يتولى المجمع بالتعاون مع لجان التنسيق وضع معاجم المصطلحات العلمية، والتنسيق مع الجهات المماثلة في الوطن العربي؛ لتحديث هذه المعاجم بشكل دوري، أو يزود المجمع لجان التنسيق بكل ما يجد من مصطلحات.(/25)
12-يعمل المجمع والجامعات مستقبلاً على تأسيس دار للترجمة مزودة بالكوادر المؤهلة لترجمة الدوريات، والمواضيع المختلفة .
13-تعمل الجامعات على وضع الحوافز، والمكافآت المناسبة لتشجيع العاملين في التعريب .
14-تقوم لجنة التعريب بالتعاون مع لجنة التنسيق في الجامعات بعقد مؤتمر سنوي في مجمع اللغة العربية الأردني، يشارك فيه أعضاء اللجان الميدانية؛ وذلك لمناقشة الصعوبات التي تواجه عملية التعريب، ولوضع التوصيات والحلول المناسبة لها.
15-يقوم المجمع بعملية إعلامية مستمرة على كافة الأصعدة؛ لبيان أهمية التعريب الشامل في تدعيم لغتنا العربية؛ التي هي ركيزة أساسية في استقلالنا، وفي القضاء على التخلف العلمي في الوطن العربي.
16-يوجه المجمع الدعوة المستمرة إلى الجهات الرسمية ذات العلاقة لاستصدار قانون حماية اللغة العربية، ولانتهاج سياسة التعريب الشامل(22).
هذه الخطة عكست موقفًا من مواقف متعددة تجاه التعريب في الأردن، لم يؤخذ بها لثغرات فيها، كما يقول المسؤولون في المجمع؛ لأن التجربة توقفت ، ولم تستمر .
آراء الطلاب : تباينت آراء الطلاب في التعريب، منهم المعارض ومنهم المؤيد، على أن السواد الأعظم منهم قد اتفق على ضرورة الشرح الكافي باللغة العربية، مع إبقاء المصطلحات الأجنبية وضرورة ترجمتها ترجمة علمية مبسطة؛ لأن الترجمة التي يواجهها الطلبة، هي الترجمة العصية الفهم عليهم؛ لأنها ترجمت ترجمة علمية بحتة؛ لذلك فهم يرون أن الترجمة المستمرة، هي أساس لاستمرار عملية التعريب، خصوصًا الترجمة المتواصلة لكل ما يستجد من علوم في كافة الميادين العلمية.(/26)
المعارضون: يمكن إجمال رأيهم بعدم جدوى التعريب؛ لأن لغة العلم هي اللغة الإنجليزية، والعلم في تطور دائم، لا يقف عند حد معين، والدول العربية سياسيًّا، منقسمة فيما بينها تجاه القضية، فدول مثل السودان وسوريا تؤيد التعريب ودول أخرى تعارض، كما أن الكتب المتوفرة باللغة العربية تكاد تكون معدومة، وإن وجدت فهي قديمة لا تلبي الحاجة العلمية المتجددة، أضِفْ إلى ذلك، أن الكتب المترجمة غير دقيقة، ولغتها صعبة غير واضحة وغير مبسطة، وهذا يعوق الفهم لهذه الكتب، وبالتالي عدم فهم المقصود، خصوصًا المصطلحات، أما لغة الشرح فنحن نفهم حين يكون الشرح باللغة العربية أكثر منه باللغة الإنجليزية.
المؤيدون : يرى المؤيدون أن اللغة العربية لغة أجدادنا يجب المحافظة عليها، ويجب دعمها لأن كثيرًا من الدول الأخرى تدرس بلغتها، واللغة العربية لغة مليار مسلم ويزيد، وهي لغة تخاطب في الأمم المتحدة، أضف إلى أن العلوم جاءت في الأصل من العرب بلغتهم، ترجمها الغرب، وأخذ بها، أما لغة الشرح فالفهم يتعمق باللغة العربية أكثر منه باللغة الإنجليزية، وإذا أضفنا أن الذين يدرسون العلوم ليسوا كلهم قد درسوا العلوم باللغة الإنجليزية، فإن الشرح العميق وفهم المصطلحات سيكون ناقصًا، فكيف أفهم منه؟ وكيف أتواصل معه؟ سيكون ذلك بلغة أخرى ليست العربية الفصحى بالتأكيد، وليست الإنجليزية؛ لأنه لم يدرس باللغة الإنجليزية، هذا لا يعني إهمال اللغة الأخرى، بل لابد من الأخذ بها؛ لمعرفة ما يستجد من علوم. المطلوب بالنسبة إلينا هو تعميق الشرح باللغة العربية، وخصوصًا المصطلحات العلمية .
ثالثًا - أهم المشاكل التي واجهت مجمع اللغة العربية في تعريب التعليم العلمي الجامعي :
واجهت قضية التعريب منذ أن بدأت في العصر الحديث مشاكل عديدة، بعد أن سقطت الدول العربية تحت الاستعمار الأوربي.(/27)
ورغم استقلال الدول العربية، وبداية عهد ثقافي جديد تمثل بإنشاء المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومؤسساتها، فإن هذا كله لم يحد من مشاكل تعريب العلوم، بل بقيت مشاكله تزداد مع ازدياد المد الثقافي الغربي وتطور علومه، هذه المشاكل تتفاوت من بلد إلى آخر؛ لكنها متقاربة في المشاكل الكبرى.
والأردن كغيره من الدول العربية يواجه مشاكل جمة في تعريب العلوم. وسيعرض الباحث هنا المشاكل مبرزًا حل كل مشكلة عقب الحديث عنها.
1-مشكلة الكتاب الجامعي : هي مشكلة تعوق عملية التعليم والتعريب؛ لأن الكتب المؤلفة باللغة العربية قليلة ولا تفي بالغرض، وسبب ذلك يعود إلى قلة المؤلفين العلميين باللغة العربية.
أما على صعيد الكتب المترجمة؛ فهي أيضًا قليلة جدًّا، على الرغم من وجود مكتب التعريب والترجمة والنشر التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بدمشق؛ الذي أسس عام 1991م، ولعل سبب تفاقم مشكلة الترجمة يعود إلى :
-عدم وجود الترجمة الفورية لما يستجد من أبحاث في مجالات المعارف والعلوم.
-عدم ترجمة الكتاب بطبعاته الجديدة؛ فالعلم في تطور مستمر؛ لذا يجب مواكبة هذا التطور بواسطة الترجمة.
-قلة الكتب العلمية المترجمة في الوطن العربي بشكل عام، وهذا يؤدي إلى افتقار المكتبة العربية إلى الكتب العلمية، ووفرتها، مما يعوق البحث العلمي لدى الطالب؛ الذي يفتقر دائما إلى وفرة الكتب العلمية المترجمة. وعليه فلابد من مواجهة هذا كله من خلال :
-إعطاء حوافز تشجيعية للمؤلفين، واعتماد التأليف العلمي باللغة العربية في الترقيات العلمية .
-الترجمة الفورية لما يستجد من معارف وعلوم.
-الطباعة الجيدة، والتوزيع السريع للكتب المؤلفة أو المترجمة.
-تدريب أكفاء في التحرير والإخراج الفني .
-الدقة في انتقاء الكتب العلمية المراد ترجمتها، وتوخي الدقة العلمية عند التأليف.(/28)
2-مشكلة المصطلح: إن مشكلة توحيد المصطلح في الوطن العربي لا تزال قائمة، رغم الجهود المبذولة من أجل توحيده؛ فاختلاف مصدر المصطلح يؤدي إلى اختلاف في ترجمته، مما يعني قلة المعاجم الاصطلاحية المتخصصة؛ فيشكل ذلك مشكلة في طريق البحث العلمي .
إن حل المشكلة يكمن في استخدام المصطلح في مجال التأليف العلمي باللغة العربية؛ لأن حياة المصطلح بالاستعمال، لا في صفحات المعاجم على الرفوف، وفي حالة إيجاد لجنة عربية موحدة متخصصة تتولى أمر تعريب المصطلح، فإن هذا الأمر يساهم في الحد من مشكلة توحيد المصطلح في الترجمة.
3-مشكلة المدرس الجامعي: تعتمد هيئة التدريس في مصادرها العلمية على لغات عدة، وليست اللغة الإنجليزية فقط؛ لذلك فاللغة الإنجليزية هي لغة أجنبية لبعض المدرسين؛ الذين تلقوا علومهم بلغة أجنبية أخرى، ومع قلة إتقان العربية الفصيحة، فإنهم يلجؤون إلى التدريس بالعامية العربية مع تطعيمها بالعامية الإنجليزية؛ مما يؤدي إلى التشتت في المعلومات العلمية لتشتت مصادرها، فيؤدي ذلك إلى تشتت الطالب فكريًّا؛ فيحدث فجوة علمية بين العلم واللغة .
ومن مشاكل هيئة التدريس عدم إيمانهم بقضية التعريب، والسبب في ذلك يعود إلى عدم اعتماد الأبحاث المترجمة في السلم الوظيفي، كما أن نشر الأبحاث في دوريات عربية مشهورة معدوم لديهم، لقلة توافر هذه الدوريات التي تتمتع بالمكانة العلمية العالية؛ لذلك فإن عملية تحسين وضعهم المالي والعلمي يساعد المدرس، ويدفعه إلى الاهتمام باللغة العربية، والتعريب .
4-مشكلة المعاجم العلمية : إن المعاجم المؤلفة باللغة العربية قليلة إذا ما قيست بالمعاجم المؤلفة باللغات الأجنبية؛ وهذا راجع إلى قلة الترجمة،(/29)
إضافة إلى ندرة التحقيق العلمي للمخطوطات العلمية المؤلفة باللغة العربية منذ القدم؛ لذلك لابد من التحقيق العلمي للكشف عن الكتب العلمية ومصطلحاتها، وتفسيرها، حتى نرتقي باللغة العربية، ونتواصل مع الحضارة الحديثة بلغتنا الأم .
5-مشكلة اللغة العربية : تشهد اللغة العربية تراجعًا في المجالات العلمية لقلة العناية بها منذ المراحل التعليمية الأولى، فلغة التدريس أصبحت بالعامية لا الفصيحة، إضافة إلى إدخال لغة أجنبية تدرس للتلاميذ منذ المراحل الأولى، الأمر الذي يؤدي بالطلاب إلى التشتت الفكري عند التعليم بواسطة لغتين ؛ لذا فلابد من التركيز على اللغة العربية منذ المراحل التعليمية الأولى، وفرض اللغة الفصيحة لغة للتدريس بدلاً من العامية، كما لابد من مضاعفة الجهود الرامية إلى تثبيت اللغة العربية الأولى كلغة للحوار العلمي في المؤتمرات التي تعقد، واستحداث طرق تعليمية أكثر جدية، من أجل الوصول إلى اللغة العربية العلمية السليمة .
6-مشكلة الطالب الجامعي: إن قلة المراجع العلمية، وقلة إيمان هيئة التدريس بالتعريب يؤثر سلبًا على الطالب الجامعي في المجالات العلمية؛ لأن الطالب يتلقى علومه بلغة أجنبية، ليست لغته الأم، فتصبح اللغة الأجنبية لغة التفكير بالنسبة إليه، واللغة الأم لغة السوق ولغة التعامل اليومي لا لغة العلم؛ لذا فلابد من توحيد لغة العلم ولغة الحياة اليومية، واللغة التي يفكر بها يجب أن تكون هي اللغة التي يتعامل بها مع المجتمع لتصبح لغة الحوار، والنمو والإبداع؛ لذلك فإدخال التعريب في الجامعات الأردنية بالتدرج يساهم في تطوير لغة الحوار، والإبداع، والترجمة، والتأليف العلمي، وهذا من شأنه أن يرفع من مكانه اللغة العربية.(/30)
7-مشكلة المؤسسات العلمية الحكومية وغير الحكومية: إن إيمان المؤسسات العلمية العربية عمومًا بالتعريب ضعيف، وظهر ذلك بانقسام الدول العربية بين مؤيد للتعريب ومعارض في مؤتمر التعريب السابع الذي عقد في الخرطوم عام 1994م، ورغم ذلك ما زالت جامعات بعض الدول التي تؤيد التعريب تدرس العلوم باللغة الأجنبية. ونرى أن الدافع الأساسي للتعريب هو إيمان المؤسسات العلمية به، مع وجود قانون يلزم هذه المؤسسات بضرورة تنفيذ القرار، كل ذلك يدفع بعملية التعريب إلى الأمام، ويساهم في حل المشكلة .
8-المشكلة الاجتماعية: هذه المشكلة ترتبط بتعامل الخريج مع المجتمع، فالخريج يتلقى علومه، ويصقل معرفته بلغة غير لغته الأم؛ التي يتعامل بها مع المجتمع يوميًّا، وسيجد نفسه يومًا بعد يوم غريبًا عن المجتمع والعلم؛ لأجل ذلك لابد من وجود اللغة الأم كرابط بينه، وبين المجتمع وبين العلم، وبين التفكير؛ ليؤدي رسالته، فتشكل الرابط بينه وبين المجتمع وبين العلم، تنمو مع نمو المجتمع وتتطور بتطوره.
9-المشكلة المادية : وهي كبرى المشاكل التي تواجهها الأردن في مجال التعريب، بسبب موارده المحدودة والشحيحة، والتعريب بمفهومه الشامل، من ترجمة، وتأليف علمي، وإعداد للكادر كل هذا يحتاج إلى دعم مالي متواصل؛ لأن العلم لا يتوقف، فهو في تطور مستمر، والتعريب يجب أن يواكب هذا التطور، وهذا يتجاوز إمكانيات الدولة الواحدة؛ لذلك لابد من تكاتف الجهود بين المؤسسات العلمية في الوطن العربي، من أجل الوصول إلى التقدم المنشود؛ الذي نرجوه لأبنائنا .
إن الحل الأمثل لكل ذلك هو البدء بالتعريب، وذلك ببدء التدريس باللغة العربية؛ لأنه الطريق الأمثل للتعرف على المشكلات، وحلها في الوقت نفسه.
خاتمة :(/31)
إن التجربة التي عاشتها الجامعات الأردنية لم تكن كافية ليحكم عليها بالفشل أو النجاح؛ لأن التعريب ليس التدريس فقط، إنما هو عملية متكاملة، من تأليف وترجمة وإبداع فكري، إنها عملية ترتبط بالتفكير، كيف نفكر؟ وبأي لغة يجب أن نفكر ؟ إنها عملية أكثر من أن تتحدد برأي أو تؤخذ كفكرة مجردة بعيدة عن الواقع المعاش، المتواصل منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان، صعودًا إلى غايات المجد في ظل الحضارة العربية الإسلامية المزدهرة قديمًا، فنزولاً إلى درجات الانحدار مع قدوم الاستعمار حديثًا، فكيف نصنع لأنفسنا مجدًا يخرجنا من ردهات الثبوت ليتواصل مع الأمجاد السابقة، ونحن في قطيعة
مع لغتنا، لا نجرؤ على استغلالها علميًّا في جامعاتنا ؟
إن لغتنا العربية قادرة على أن تربط الماضي بالحاضر؛ لأنها مرتبطة
بتفكير الأمة وعقلها منذ القديم إلى اليوم، والأمة التي تفكر بعقلها، وتعبر عن هذا التفكير بلغة غير لغتها ستبقى جامدة، والوطن العربي اليوم منذ عصر النهضة كان صراعه في إيجاد لغة يعبر بها عن تفكيره، وهو مدعو اليوم من أجل تدعيم لغة الأم أكثر من أي وقت مضى؛ وذلك بجعل لغة القرآن، لغة العلم هي اللغة الرسمية في تدريس المواد العلمية كافة ، وغير العلمية باللغة العربية .
عبد الرؤوف خريوش
جامعة القدس المفتوحة فلسطين
هوامش البحث
1-سورة الحجر، آية 9
2-عبد الكريم اليافي، التعريب في الوطن العربي، مجلة التعريب،عدد 1، دمشق: منشورات المجلة ، 1991م، ص : 17 .
3-المرجع نفسه، ص : 17.
4-محمود إبراهيم، تعريب التعليم العالي، عمان : دار آفاق للنشر 1994م، ص: 100 .
5-انظر : السيوطي، ( جلال الدين )، الإتقان في علوم القرآن ، ج 2.
6-الجواليقي، ( أبو منصور )، المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم، تحقيق أحمد شاكر، القاهرة : دار الكتب المصرية، 1361 هـ، ص : 15 .(/32)
7-الخفاجي ، ( شهاب الدين)، شفاء الغليل فيما لكلام العرب من الدخيل، تحقيق عبد المنعم خفاجي، القاهرة : المطبعة المنيرية، الأزهر، 1371هـ، ص : 3 .
8-الجزائري، ( الشيخ طاهر )، التقريب لأصول التعريب، القاهرة: المطبعة السلفية ، (د . ت) ص : 9.
9-عبد الكريم خليفة، اللغة العربية والتعريب في العصر الحديث، عمان: منشورات مجمع اللغة العربية الأردني، 1987م ، ص : 6.
10-المرجع نفسه، ص 6 – 7 .
11-للاطلاع انظر : قدري حافظ طوقان، تراث العرب العلمي ، ط2، بيروت : دار الشروق، 1963م، ص 310، وعبد الحليم منتصر، أثر العرب في النهضة العلمية الأوربية، منشورات مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة، ج25، ص : 51، ومحمد يوسف حسن، التراث الجيولوجي عند العرب، مجلة مجمع اللغة في القاهرة، ج40، ص : 199.
12-محمود إبراهيم، تعريب التعليم العالي،عمان،دار آفاق للنشر،ص:46.
13-عون الشريف قاسم، الإسلام والثورة الحضارية، بيروت: دار القلم، 1980ص : 65.
14-عون الشريف قاسم، الإسلام والبعث القومي، بيروت : دار القلم، 1980م، ص: 206.
15-عبد العزيز بن عبد الله، التعريب ومستقبل اللغة العربية، القاهرة: منشورات معهد البحوث والدراسات العربية ، 1975م، ص : 105.
16-عبد الكريم خليفة، اللغة العربية والتعريب في العصر الحديث، عمان، منشورات مجمع اللغة العربية الأردني. ص : 17 .
17-المرجع نفسه، ص : 17.
18-مدخل إلى مجمع اللغة العربية الأردني، عمان : مجمع اللغة العربية الأردني، 1988م ، ص :1.
19-عيسى الناعوري، دراسات عن واقع الترجمة في الوطن العربي،
القسم الأول، تونس: المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة ، 1985م.
20-عبد المجيد نصير، مبادئ التحليل العددي ، أربد : المكتب العلمي للتجارة والاستثمار، 1984م، المقدمة .
21-محمود السمرة، تجربة مجمع اللغة العربية الأردني في مشروع تعريب العلوم، مجلة المجمع، عدد 15 – 16، عمان: منشورات المجمع، ص : 97.(/33)
22-عبد الكريم خليفة، اللغة العربية والتعريب في العصر الحديث، عمان، منشورات مجمع اللغة العربية الأردني ص : 144.(/34)
المشار إليه في القرآن الكريم
مواضعه، وأحكامه، والغرض منه
للأستاذ الدكتور محمد حسنين صبرة
مقدمة :
أحمدك ربي حمدًا لا بلوغ لمنتهاه وأصلي وأسلم على أشرف خلقك وأفصحهم، سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين .
وبعد
فهذا بحث في المشار إليه في القرآن الكريم , أردت به أن أبين مواضعه، وأن أبين صِيَغَه، هل محسوس، أو هو أمر معنوي ؟ هل هو مفرد، أو مثنى، أو جمع ؟ هل هو عاقل أو غير عاقل ؟ هل قريب أو بعيد ؟ وأبين حكمه الإعرابي. وأبين الغرض من استعمال اسم إشارة معين دون غيرها. إذْ لا ينفك المشار إليه من اسم الإشارة .
وليس من هدفي ذكر كل مشار إليه في القرآن الكريم، بل سأكتفي بنماذج مؤدية للغرض، ثم أشير إلى بقية المواضع المشابهة في كتاب الله .
وأود أن أقول إن كثيرًا من أفكار هذا البحث كان معتمدًا على ملاحظاتي الشخصية، وعلى تأملاتي في التراكيب القرآنية التي وردت فيها أسماء الإشارة، وذلك من خلال "معجم الأدوات والضمائر في القرآن الكريم "، للدكتور إسماعيل عمايرة، والدكتور عبد الحميد السيد، ومن هنا كانت مراجع هذا البحث قليلة نسبيًّا، فلم ألجأ إلى المراجع إلا حينما يُسْتشكل عليّ شىء، أو أريد أن أوضح شيئًا .
وسأتناول صيغ الإشارة للمفرد، ثم صيغ الإشارة للمثنى، ثم صيغ الإشارة للجمع، مع اللواحق المختلفة، والله الموفق والمستعان.
أولاً- المشار إليه بصيغ الإشارة الموضوعة للمفرد بنوعيه :
النوع الأول- المشار إليه بصيغ الإشارة إلى المفرد المذكر:
المشار إليه بـ " هذا "
لاحظت على المشار إليه باسم الإشارة " هذا " ما يأتى:(/1)
1 – أن يكون بعد اسم الإشارة ، فإما أن يُعرب بدلاً من اسم الإشارة ، كآية: " - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - - - - - - ?- رضي الله عنهم - - ? تمت - - عليه السلام -?? - ? { ? - - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - - - - عليه السلام - - - رضي الله عنه -- سبحانه وتعالى -??? - " (يونس /37) وآية:" - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - قرآن كريم ? { - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - جل جلاله -- رضي الله عنه - - فهرس - ? - - عليه السلام - قرآن كريم ?- رضي الله عنه - - ? - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - ?- رضي الله عنهم - - ? - ?- رضي الله عنه - - ? تمهيد ? - - - - صدق الله العظيم ? - ? - - - رضي الله عنه -?? - - - - عليه السلام - - - ?? - ? - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - - عليه السلام - - - ? - - - - صدق الله العظيم ? { - - رضي الله عنهم - - - - ?? مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - - "(الكهف /49)
وآية:"- رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - قرآن كريم ? { - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ?- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - ?- رضي الله عنهم - - ? - ??- عليه السلام - قرآن كريم ? - - - تمت ? { ? - ?? - ? - - رضي الله عنه -??? - ? - ? - ? "، (الملك /25)ومثل ذلك ما جاء في الآيات: آل عمران:8، والمائدة: 31، والأنعام: 19، والأعراف: 169، ويوسف: 3، وإبراهيم: 45، والإسراء: 9، وآيات أخرى (1)
وإما أن يُعرب خبرًا عن اسم الإشارة، كآية: " - - - ?- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - ?- رضي الله عنه - - ? - ? مقدمة ? - - جل جلاله -? - - رضي الله عنه - - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - "(/2)
والمراد بالكتاب: القرآن، بدليل ما جاء بعده، وآية:" - - - ?- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ? - ??- رضي الله عنه - - - ? - ? - - { " (هود/72)، وآية:" - - - عليه السلام - - ??? تمهيد ?- رضي الله عنه - - - - - ?- رضي الله عنهم - - ? المحتويات ? فهرس - ??"(يوسف/19). ومثل ذلك ما جاء في الآيات: الأنعام:92،155،والأنبياء:24 وسورة ص: 23، والجاثية: 29، والتين:3.
2- أن يكون المشار إليه قبل اسم الإشارة، فإما أن يعرب اسم الإشارة نعتًا للمشار إليه كآية: " المحتويات ? - قرآن كريم ? - ? - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله ? المحتويات ? - ? - ? قرآن كريم - ? - - - ?- رضي الله عنهم - - " (آل عمران /125) وآية: "? - ? - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -? - ? - - جل جلاله -? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - عليه السلام -? - - - { ? - ? المحتويات ? - ? تم بحمد الله ? قرآن كريم - رضي الله عنه - - - - - ?- رضي الله عنهم - - "، (الأنعام /130)،وآية:" - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ? قرآن كريم - عليه السلام - - ? - - - - ? ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - - - - - - رضي الله عنه - الله أكبر - - رضي الله عنهم - - - - } - قرآن كريم ? - فهرس - - عليه السلام -? - - - { ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - ? تم بحمد الله ? قرآن كريم - رضي الله عنه - - - - - ?- رضي الله عنهم - - " (الأعراف /51).ومثل هذا ما جاء في
الآيات: التوبة: 28، ويوسف: 15،
والكهف: 62، وغيرها من الآيات (2).
وإما أن يكون اسم الإشارة غير(/3)
نعت، كما في آية: " - - رضي الله عنهم - - ? - ? - } - قرآن كريم ? - ? - ? - - { - ? { ? تم بحمد الله صدق الله العظيم ? تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - - صلى الله عليه وسلم - بسم الله الرحمن الرحيم - { - ? - ? - - - } - قرآن كريم ? - - - - - - - ?- رضي الله عنهم - - - ? - { - - - - - - جل جلاله -? - ? - ? - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله - ? تمهيد - - "، (البقرة /25)، فالمشار إليه هو كلمة (رزقًا)، وآية: "- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - ? ? المحتويات ? - - - الله - ? - ?? - - جل جلاله - - - - - رضي الله عنهم - - ?? - { - ? - - - عليه السلام - قرآن كريم ? - } - قرآن كريم ? - - - { - ? - - - - ?- رضي الله عنهم - - ? المحتويات ? تمهيد ? - ? - - ? { ? مقدمة ? - - ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ?- رضي الله عنهم - - قرآن كريم ? تم بحمد الله - ?? } - - جل جلاله - - ?" (طه /88)،فالمشار إليه (عجلاً)، وآية:" } - ?- صلى الله عليه وسلم -? - - رضي الله عنهم - - - - - ? - صدق الله العظيم ? { - } - ? - ? - ? { - - فهرس - - صلى الله عليه وسلم - - ????? - - عليه السلام - - ? - ? { - ? ? بسم الله الرحمن الرحيم - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنه -???- رضي الله عنه - - } تمت ? { - - - ?- رضي الله عنهم - - - - صلى الله عليه وسلم -? - - رضي الله عنه -? - رضي الله عنهم - - { - - درهم ? - ?- صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنه - - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - " (طه/117:116)، ومثل هذا ما جاء في الآيات: الأعراف: 6، والمؤمنون: 23، 24،والمطففين: 17.
3- وقد يكون المشار إليه السابق مضمون عدة جمل أو تراكيب كما في(/4)
قوله تعالى: "- رضي الله عنهم - - ??? الله أكبر - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -? - ?? ? - قرآن كريم - ? - - - - - رضي الله عنهم - - ? - ? - - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? قرآن كريم - رضي الله عنه - - ? - - ??- عليه السلام - قرآن كريم ? - - - ???? ? المحتويات - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - ? - - { ??- رضي الله عنه - الله أكبر - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم -? } تم بحمد الله ? - ?? - - - رضي الله عنهم - - ? - - ? - - رضي الله عنهم -?- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ???? ? - - { { - - تمهيد - جل جلاله -? - - ?? - - - - ?? - ? ? صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله - - - ?- رضي الله عنهم - - "(ق/21 :22)،(فالمشار إليه في هذه الآيات يمكن أن يقدر بكلمة: الذي ذكر، أو المذكور، ومثل قوله تعالى: " - - رضي الله عنهم - - - ?- صلى الله عليه وسلم - - ? صدق الله العظيم ?- رضي الله عنه - صدق الله العظيم - عز وجل - - رضي الله عنه -??? - ? - - - رضي الله عنهم - - ? - ???? - صدق الله العظيم ? { - - - جل جلاله - - - - - ? قرآن كريم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - فهرس - - صلى الله عليه وسلم - الله } - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? صدق الله العظيم ?- رضي الله عنه - صدق الله العظيم - عز وجل - - رضي الله عنه -??? - } - - رضي الله عنهم -?? - ? - ???? } تمت ? { - - - ?- رضي الله عنهم - - - عليه السلام - قرآن كريم ? - مقدمة - ? - ? قرآن كريم - ?? - - - ? - ???- رضي الله عنهم -?? - - - " (الصافات /60:58)، وتقدير المشار إليه هنا كما قدرته في الآيات السابقة، ومثل قوله تعالى: "? فهرس - صلى الله عليه وسلم -? - ? } ? فهرس قرآن كريم ? - ? - ?? - - - ? - - فهرس - ? { ?? - - - عليه(/5)
السلام - قرآن كريم - رضي الله عنهم - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? - { - ? - - - ???? { المحتويات ? بسم الله الرحمن الرحيم } - قرآن كريم - - ?? - - ? قرآن كريم - ? ?? مقدمة ? - ? - - عليه السلام - - ? صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ? - - - - - رضي الله عنه -? ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - رضي الله عنهم - - ? - - - ???? ? - ? - - درهم } الله أكبر ? { - تمهيد الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ? - - ? - - رضي الله عنهم -?? - - - ? - قرآن كريم ? - - تمهيد ? - - - ???? } تمت ? { - - - ?- رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله بسم الله الرحمن الرحيم ? - - ? - ?? مقدمة ? - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -? - - رضي الله عنه -- سبحانه وتعالى -? - - - "، (الدخان /50:47) ونرى ذلك في: هود: 61، 62، ويوسف: 15- 25 – 29.
4– وقد يكون المشار إليه مصدر الفعل السابق، مثل آية:" - - - رضي الله عنهم -?- رضي الله عنهم - - - صلى الله عليه وسلم - - - { - - ? - - - رضي الله عنهم - - - - - جل جلاله - - ? - - ? { - ? - ? فهرس ?- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } } تمت ? { - - - ?- رضي الله عنهم - - ????- رضي الله عنهم -? - - ? - - - رضي الله عنهم - - ?? (ص/5) فالمشار إليه هو (الجعْل) المفهوم من قوله (أجعل) ، وآية: " } - - صلى الله عليه وسلم -? - ? - ?? - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنه -? ? - ? - ? - - رضي الله عنهم - - ? - - - عليه السلام -? } } تمت ? { - - - ?- رضي الله عنهم - - ????- رضي الله عنهم -? - - ? - - - رضي الله عنه - - ? - " (ص/ 6)، المشار إليه (الصبر) المفهوم من قوله (اصبروا).(/6)
واسم الإشارة في هذا مثل ضمير الغائب المفرد في عَوْدِه على مصدر الفعل السابق مثل آية: "? المحتويات ? - ? - ? - ? - ? - المحتويات ? - - - - عليه السلام - - ? { - - ? - - - ? - - - ? - - - - عليه السلام -? - صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله ? { - - ???? فهرس - - رضي الله عنهم - - ? - - - - رضي الله عنه -??? تم بحمد الله ? - قرآن كريم - - ? تم بحمد الله - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - - - - رضي الله عنهم -?- رضي الله عنهم - - ? - - - - صدق الله العظيم ? { - - - عليه السلام - - ??? - ? المحتويات ? - - - } ???- رضي الله عنهم - - ??- رضي الله عنه - - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ? - ? - قرآن كريم ? - ? - ?? مقدمة ? - "(آل عمران 125 ،126)، فالضميران في (جعله و به) عائدان على (الإمداد) المفهوم من الفعل (يمددكم)، وآية:" تمت ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ? - - رضي الله عنه - - - جل جلاله - - - - عليه السلام - قرآن كريم ? - - ? ? - ? - - رضي الله عنهم - - ? المحتويات ? - { - " (الأنفال /19)، فالضمير (هو) يعود على(الانتهاء)، المفهوم من الفعل (انتهوا) .
5– قد يكون المشار إليه مؤنثًا، ويشار إليه باسم الإشارة (هذا)، كما(/7)
في قوله تعالى: " - - - فهرس - - ? - - عليه السلام -?- عليه السلام - - { { ? - } ? - - - - { - ?? - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - - - - - - - ?- رضي الله عنهم - - - ? فهرس - - عليه السلام - - " (الأنعام / 78) وقد علل الزمخشري هذا بقوله: " فإن قلت: ما وجه التذكير في قوله " (هذا ربى) والإشارة إلى الشمس ؟ قلت: جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شىء واحد، كقولهم: ما جاءتْ حاجتك، ومن كانت أمك، " ? بسم الله الرحمن الرحيم - - صدق الله العظيم ? - - - ? المحتويات ? - ? - - رضي الله عنه - - ? - ?? - صدق الله العظيم ? { تمت - صلى الله عليه وسلم - - } - قرآن كريم ? - - - - "، (الأنعام /23)، وكان اختيار هذه الطريقة واجبًا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث، ألا تراهم قالوا في صفة الله: علاّمة، وإن كان العلامة أبلغ احترازًا من علامة التأنيث "(1)، وقال العكبري: " وإنما قال للشمس (هذا) على التذكير، لأنه أراد: هذا الكوكب، أو الطالع، أو الشخص، أو الضوء، أو الشىء، أو لأن التأنيث غير حقيقى "(2) .
ولكني أرجح رأى الزمخشري، لأنه استند إلى واقع اللغة ويشبه هذا آية:(/8)
" - - - ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ? - ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - ? - فهرس - - رضي الله عنه -? - - - جل جلاله -? - ?- رضي الله عنه - - - - عليه السلام -? } - قرآن كريم ? - - - - ? - - - - - - جل جلاله -??? - - رضي الله عنهم - - ? قرآن كريم - - ?? - - - رضي الله عنه -? فهرس - - - - جل جلاله -? - ? { - - - - ? الله ? تم بحمد الله - - - - ?- رضي الله عنهم - - - ? - ? { - - - - ?- رضي الله عنهم - - - صدق الله العظيم ? { ? - - ???- رضي الله عنهم - - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه -??? - } - صلى الله عليه وسلم - - } - - "، (الأنفال /31)، وآية: " - ? - - - - ? ? المحتويات ? - ? الله - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - - - جل جلاله -? - ?- رضي الله عنه - - - - عليه السلام -? - - - عليه السلام - - ??? - ? تم بحمد الله } - قرآن كريم ? - - - - - - - ?- رضي الله عنهم - - ? - ? - ? - ???? - - تم بحمد الله "، (النمل :13) فأرى أن تُؤول الآيات بالقرآن .
6- قد يكون المشار إليه مفردًا لفظًا، ولكن معناه جمع مثل آية: " - - - ?- رضي الله عنهم - - ? - ? قرآن كريم - ? ? المحتويات ? - - رضي الله عنه - - ? { - تم بحمد الله ? المحتويات ? - - رضي الله عنهم -? } تم بحمد الله - صدق الله العظيم - - - - رضي الله عنهم - مقدمة ? - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ? المحتويات ? - ? - "(ص/59).
7- قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن المشار إليه جمع، ولكنه مفرد، كآية: "وإذا لم تأتهم بآية: قالوا لوْلا اجْتَبيْتَها قل إنما أتَّبع ما يُوحى إلى من ربي، " - - - ?- رضي الله عنهم - - ? - ?? - - - ?- رضي الله عنه - - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ? المحتويات ? تمهيد ? فهرس - { - " (الأعراف/203)، قال أبو حيان: " أي هذا الموُحى إليًّ الذي أتبعه .(/9)
وأخبر عن المفرد بالجمع لاشتماله على سُوَرِ وآياتٍ ، وقيل هو على
حذف مضاف، أي ذو بصائر"(1)، ومن ذلك قوله تعالى :" - بسم الله الرحمن الرحيم ? بسم الله الرحمن الرحيم - رضي الله عنهم - - ? - - جل جلاله -? - - رضي الله عنهم -?- رضي الله عنهم - - - - فهرس - - رضي الله عنه -? - { - رضي الله عنهم -? - ? - - ? - صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله ? - ? تم بحمد الله - } - - - - رضي الله عنهم - - ??? - } - - - - ? - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ??? - ? - - - - عليه السلام -? - - - عليه السلام - قرآن كريم ? - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه -??? - { - - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - فهرس - ??- رضي الله عنه - - ???? ? المحتويات ? - } - ? { صدق الله العظيم - - } - قرآن كريم ? - ??? - - درهم - - رضي الله عنه -? - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ? - - - - - ?? - - { - } تمت ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -??? - ? - ? { ? - - - ? المحتويات ? - ????- رضي الله عنه - - ?? - - - عليه السلام - - ? - ?- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - ???- رضي الله عنه - - } ? - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ??? { ? - ? - ? - - - ???? - - - ?- رضي الله عنهم - - ? - ???? - ?- رضي الله عنه - - ? } - } - جل جلاله - - ? - - - جل جلاله - - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? { - رضي الله عنهم - - ? مقدمة - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - الله ? قرآن كريم - { ? - - - - قرآن كريم ?- جل جلاله -? - قرآن كريم ? - " (الجاثية /18 :20)، قال الزمخشري : " هذا القرآن بصائر للناس … وقرىء: هذه بصائر، أي: هذه الآيات " (2) .(/10)
8- وقد يحذف المشار إليه كما نرى في قوله تعالى: " ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - - رضي الله عنهم - - - ??- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ?- عليه السلام - - ??? - - ? - ? - { ? - - - ? - - - رضي الله عنه - - ? - - صلى الله عليه وسلم - - ???? - - - ?- رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -? - - رضي الله عنه -? قرآن كريم ? - ? الله ? قرآن كريم - عليه السلام - - ? - ? - - - - ?- رضي الله عنه -? - - - ???? } تمت ? { - - - ?- رضي الله عنهم - - - - - جل جلاله -? - ? - ? - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ?? مقدمة - - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله - - - - ?? الله أكبر ???? - - - ?- رضي الله عنهم - - - - - ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -
- رضي الله عنه -????? { ? - ? - { - - ? - - - - - - رضي الله عنه -?- رضي الله عنه - تم بحمد الله "،(ص/ 52: 55) قال أبو حيان: " قال الزجاج: الأمر هذا، وقال أبو علي: هذا للمؤمنين، وقال أبو البقاء: مبتدأ محذوف الخبر، أو خبر محذوف المبتدأ: (*) .(/11)
9- أن المشار إليه كثيرًا ما يكون غير عاقل، والآيات السابقة شاهدة على ذلك، ومثل هذه الآيات، آية:" - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ? قرآن كريم - رضي الله عنه - - ? - - - ? تمت - - رضي الله عنه - - ? - - رضي الله عنه - - ? - - - - - - ?- رضي الله عنهم - - ? - ? - - رضي الله عنه -? ? المحتويات - - رضي الله عنه - - ?? ???? - - - رضي الله عنهم - - ?? مقدمة ? - - - عليه السلام - - - ? - - - ?- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - ? - ? تم بحمد الله ? - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ? - "، ( فاطر/12) وقد يكون عاقلاً مثل آية: " - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام - قرآن كريم - ? - { - - ?? ??? - - - ? - - عليه السلام - - ? تمت - - ? - - رضي الله عنه - - ? { - رضي الله عنه - - - - ?- رضي الله عنهم - - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ?? مقدمة ? - - رضي الله عنهم -? - ? { - - - ?- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ?? فهرس ? } - صلى الله عليه وسلم -? - - رضي الله عنه -?"، (القصص /15) وآية:" } تمت ? { - - - - ?- رضي الله عنهم - - ?? درهم - صلى الله عليه وسلم - - "،(ص/23) وآية:" - - - ?- رضي الله عنهم - - ? - - ? - - رضي الله عنه - الله أكبر - صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله ? - ? - - - - - - - - فهرس - - صلى الله عليه وسلم - الله } - - " ( النجم /56)
10- قد يكون من وراء استعمال اسم إشارة معين مع مشار إليه معين غرض بلاغي ، من ذلك التعظيم
بالقُرب في آية:" } تمت ? { ? - - - ?- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - تمت - - عليه السلام -?? - ? { ? - - - ??(/12)
- ? - ? - - عليه السلام - - ?? - ? - ? - - - ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم - عليه السلام - قرآن كريم ? - - صلى الله عليه وسلم - - "(الإسراء/ 9)،
ومن ذلك التحقير بالقرب كما في آية: " - - - ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - ?- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - تمت ? { - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -? - ? - ? - - رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم ? { - ?- صلى الله عليه وسلم -? - ? - - - - ?- رضي الله عنهم - - - صلى الله عليه وسلم - - - ? - { - - - - رضي الله عنهم - { - رضي الله عنهم -?- رضي الله عنه - - ? - - - ? صدق الله العظيم قرآن كريم ? - - عليه السلام - - "، (الفرقان/41)،وستتكرر هذه الأغراض
البلاغية في صيغ إشارية أخرى .
المشار إليه ب " ذا "
المشار إليه بـ " ذا" هو اسم الموصول (الذي) كما في آية:" صدق الله العظيم } تم بحمد الله - - - - ? - { - - - ??? - ? { ? - { - - - - ??? - - - - - جل جلاله - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة "، (البقرة/245). وآية: " صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - - ? - { - - - ?? - ??? - - ??? فهرس - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -?? - صدق الله العظيم ? { ?? مقدمة ? الله أكبر ? - ? - ? - " (البقرة/ 255)، ونجد هذا التركيب أيضًا في: آل عمران : 160، والأحزاب : 17 ، والحديد:11، فمن: استفهامية مبتدأ، وذا: خبر، والذي: بدل والغرض من هذا التركيب يختلف باختلاف السياق الذي ورد فيه فالغرض منه في الآية:
الأولى تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة في سبيل الله (1) والغرض منه في الآية: الثانية النفي(2) وهكذا.
* * *
المشار إليه بـ "ذلك"
اسم الإشارة في هذه الصيغة هو (ذا)، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب للمفرد المذكر.
ويلاحظ القارئ على المشار إليه بهذه الصيغة ما يأتي:(/13)
1-أن المشار إليه يأتي قبل اسم الإشارة، ولم يأت بعده إلا في آية: - رضي الله عنهم - - ? - ? - - " ? - ?- رضي الله عنه - - ? تمهيد ? - - - - صدق الله العظيم - - ? - - عليه السلام - - - ? مقدمة - ?? - - الله - ? - - صدق الله العظيم - ? { ? - ? - ? - ? - - "، ( البقرة /2)، ونرى ذلك في قوله تعالى:" ? تمهيد - رضي الله عنه - - ? - ??- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - ? - فهرس - - رضي الله عنه -? ? - { - ? - - - - - ? { - عليه السلام - - - تمهيد ? - - رضي الله عنهم - - ? - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم -?? - - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - ?- رضي الله عنه -?? - - ?? } تم بحمد الله ? - - - - - رضي الله عنهم - - ? - ? - - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - ? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ? - } - قرآن كريم ? الله أكبر - - - - - - صلى الله عليه وسلم -? - ??? - - رضي الله عنه - - ? تمهيد ?- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه -?? - ? - - - - - قرآن كريم ? - ? - ? { - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ?? - - ? - } - جل جلاله - - - - ? - ? - - رضي الله عنه -?? - ? - - - رضي الله عنهم -?? - - - - - رضي الله عنهم - - ? - ? - - - - ?? - } - قرآن كريم - ?- رضي الله عنه -? } - قرآن كريم ? الله أكبر - - - } - صلى الله عليه وسلم - - - - صلى الله عليه وسلم -? - - رضي الله عنه - - ??- رضي الله عنه - - "(/14)
(البقرة /61) وآية:" ? - ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - الله أكبر ? - - رضي الله عنه -??- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ?- رضي الله عنهم - - قرآن كريم ? تم بحمد الله - صدق الله العظيم - ??- رضي الله عنه - - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - - - - ? - - - { المحتويات ? بسم الله الرحمن الرحيم ? المحتويات ? - ? - - - ? تم بحمد الله - - - - ? - ??? - - - - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ?? فهرس ? - ??- رضي الله عنه - - ? المحتويات ? - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - قرآن كريم ? - ? - ? - ? ???? { المحتويات ? بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنه - الله أكبر ? قرآن كريم - ?- رضي الله عنه -? المحتويات ? - - جل جلاله -- رضي الله عنه -? - صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله ? - ??- رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - ? - ? - - ? المحتويات ? - ? - - رضي الله عنهم -? - - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -? - ? - ?? فهرس - "، ( البقرة/51-52) وآية: "? - ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - ? - - رضي الله عنه - - - - - الله أكبر - ??- رضي الله عنه - الله أكبر ? المحتويات ? - ??- عليه السلام - - ? } - - - - ? - { - - ?? } ? - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - ? - ? - ? - - } تم بحمد الله ? المحتويات ? - - ? - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - ? - ? - - - ???? - - عليه السلام - - ? - ? { - ? ? فهرس قرآن كريم ? - ? - ?? - - - { - ????- رضي الله عنه - - ? - - - رضي الله عنهم - - ? - ? - - - - ? - ? - ? - ? - - - - - - رضي الله عنه - - ? قرآن كريم - رضي الله عنهم - - ? - - - ? المحتويات ? تمهيد - ? - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ?? مقدمة ? - ?-(/15)
رضي الله عنه - - - - عليه السلام -? ? المحتويات ? - ? - - رضي الله عنهم -? - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - ? { ?? - - ???? { المحتويات ? بسم الله الرحمن الرحيم ? تمهيد - - - - المحتويات ? - ? - قرآن كريم ? - ? - - صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله ? - ??- رضي الله عنه - - - درهم ? - ? - - "( البقرة /72 :74) وآيات أخرى كثيرة (3).
2-أن المشار إليه مضمون عدة تراكيب سبقت، يمكن تأويله بكلمة (المذكور) أو(ماسبق من أفعال).وأرى أن السبب في ذلك أن اسم الإشارة قد يستعمل استعمال ضمير الغائب، فكما يكون مرجع ضمير الغائب سابقًا عليه في الغالب ، يكون المشار إليه
بـ(ذلك) سابقًا عليه ومن استعمال اسم الإشارة استعمال ضمير الغائب قول الرضي:"لفظ (ذلك) يصح أن يشار به إلى كل غائب عينًا كان أو معنى، يحكى عنه أول ثم يُؤتي باسم الإشارة، تقول في العين: جاءني رجل فقلت لذلك الرجل، وفي المعنى تضاربوا ضربًا بليغًا فهالني ذلك الضرب "(1) .
ومن هنا اتصلت باسم الإشارة كاف الخطاب، فالمشار إليه إما أن يكون قد سبق وانتهى زمنه وسماعه مثل آية: البقرة :" وضربت عليهم الذلة والمسكنة "، وإما أن يكون من وراء ذلك غرض بلاغي سيأتي ذكره إن شاء الله.
ومن استعمال ضمير الغائب استعمال الإشارة قول زائد بن صعصعة الفقعسي:
رَمَتْني عن قوْسِ العدو وباعدتْ
عُبيْدة زاد الله ما بيننا بُعدا
إذا ما انتسبنا لم تلدْني لئيمةٌ
ولم تجدى مِن أنْ تُقرّي به بُدًّا
فالضمير في (به) معناه: بهذا الكلام السابق، وهو قوله (لم تلدني لئيمة)(2)، ويقول الدكتور محمد سالم الجرح:" ونحن نعرف أن اللغة العبرية تستعمل ضمير الغائب بنصها للإشارة للبعيد" ثم يقول في الهامش:" يمكن أن يقارن بذلك أيضًا الاستعمال العربي الشائع: هو من العميد، أو هاهمو المسلمون قد فعلوا وفعلوا، فاستعمال هاهو، وهاهم على بابه إشاري محض" (3).(/16)
3-أن المشار إليه قد يكون شيئين، وذلك إذا تقدم الظرف ( بين ) على
(ذلك)، يقول الله تعالى:" } - قرآن كريم ? - - - - ??? - - - - - عليه السلام - - - - - رضي الله عنهم - - ? - - عليه السلام - - ?? } ?- رضي الله عنه - - ? - - - عليه السلام - - { - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله { - ? - - - رضي الله عنه - - - - - ?? مقدمة ? الله أكبر ? { ? - قرآن كريم ? { - رضي الله عنه - - - { - } - ? { ? - - رضي الله عنه - - - { - رضي الله عنه - - - صدق الله العظيم ??? - - - ? - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - ? - ? - - تمت - - عليه السلام - قرآن كريم - رضي الله عنه -? - ???- رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - ? - ? - - } } - قرآن كريم ? - - رضي الله عنهم -??? - - - ? - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - صلى الله عليه وسلم -? - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ? - ? - "
(البقرة /53) أي بين الفارض والبكر، يقول الزمخشري موضحًا ذلك : فإن قلت: (بين) يقتضي شيئين فصاعدًا، فمن أين جاز دخوله على (ذلك) ؟
قلت: لأنه في معنى شيئين، حيث وقع مشارًا إلى ما ذكر من الفارض والبكر، فإن قلت: كيف يشار به إلى مؤنثين، وإنما هو للإشارة إلى واحد مذكر ؟ قلت: جاز ذلك على تأويل ما ذُكر، وما تقدم للاختصار في الكلام، كما جعلوا: (فَعَل) نائبًا عن أفعال جّمة تذكر قبله، تقول للرجل: نِعْمَ ما فعلت، وقد ذكر أفعالاً كثيرة وقصة طويلة، كما تقول: ما أحسن ذلك، وقد يجري الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا، قال أبو عبيدة: قلت لرؤبة في قوله:
فيها خطوطٌ من سواد وبلَقْ
كأنه في الجلد توليعُ البَهَقْ
إن أردت الخطوط فقل: كأنها، فقال: أردت: ذاك، ويلك، والذي حسُن منه أن أسماء الإشارة تثنيتها وجمعها وتأنيثها ليست على الحقيقة، وكذلك الموصولات،ولذلك جاء (الذي) بمعنى الجمع " (1) .(/17)
ومن ذلك قوله تعالى : " } تمت ? { - رضي الله عنه -??? { ???- عليه السلام - - ? - ? - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ??? - ? - - ? - { - - - - عليه السلام - قرآن كريم ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ? - ??? - ?- رضي الله عنهم - - - - - ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ? قرآن كريم ? تم بحمد الله - - - - فهرس - ? { ? - - قرآن كريم فهرس - - ? - - - } - قرآن كريم ? تم بحمد الله - - - - - فهرس - - - - ? - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -?? - - - رضي الله عنه - - ? - { } - } - - - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - صلى الله عليه وسلم -? - ? - ? - - رضي الله عنه - - { - - - - صدق الله العظيم ? { الله - - ? - - - ????? - رضي الله عنه -??? - - - ? - - - - تم بحمد الله - رضي الله عنه -???- رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - ? - ? - - - سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم - - فهرس - ? { ??- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم ? - ??- رضي الله عنهم - - - سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ? { ??- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم ? - ??- رضي الله عنهم - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - ? - ??? - ? - - - صدق الله العظيم فهرس - - ? - رضي الله عنهم - - ? - - صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله ?? - - - الله - - ? تمهيد - رضي الله عنهم - - "، ( النساء/142 :143)أي: بين الكفر والإيمان(2).(/18)
ومنه أيضًا آية: " - رضي الله عنه -??? - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - ? { } - قرآن كريم ? { - ? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ? المحتويات - - } - قرآن كريم ??? - ? - ? - ? المحتويات - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - - صلى الله عليه وسلم -? - ?- سبحانه وتعالى -? { - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - تمت - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ???- رضي الله عنه - - - درهم ? - ? - - - - جل جلاله - تم بحمد الله - - عليه السلام - قرآن كريم - - "، ( الفرقان /67) أي: بين الإسراف والتقتير .
4- أن هناك أغراضًا بلاغية من وراء استعمال اسم الإشارة " ذلك ".(/19)
من هذه الأغراض تعظيم المشار إليه ببعد المنزلة ومن ذلك قوله تعالى " - درهم ? - ? - - - - جل جلاله - تم بحمد الله - - عليه السلام - قرآن كريم - - "، ( الفرقان /67) إشارة إلى بعد منزلة كتاب الله، أو تحقير المشار إليه بإبعاده والتنفير منه، ومن ذلك قوله تعالى: - تمهيد ? - - عليه السلام -?- عليه السلام - - - صلى الله عليه وسلم - - " - ? - { - - - ? - ? - - - - ? - ????- صلى الله عليه وسلم - - - - - ? - ??? - درهم ? - ? - - - ? - ? - { - - - - ?? - - رضي الله عنه - - - بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - عليه السلام - - ? - - - "(الماعون 2:1) ومن هذه الأغراض استحقاق المشار إليه بما حدث له، نجد ذلك في قوله تعالى: "? - - { { - - رضي الله عنهم -?? - - رضي الله عنهم - - ? - - - - رضي الله عنه - - ? قرآن كريم - - - ??? - { - - - } - ? قرآن كريم ? - - - - } تمت ? { { - - - ? - - ? { - ? ? صدق الله العظيم ?- رضي الله عنه - صدق الله العظيم - عز وجل -- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ?? - - - عليه السلام - - ? - ??- صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - ? - - - جل جلاله -- رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله } - قرآن كريم ? - - - - ? المحتويات ? - فهرس - ? - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - عليه السلام -? - - - عليه السلام - - ? - - الله أكبر - } - - ? - ? - - رضي الله عنه -?? - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة ? - قرآن كريم ? { - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ? - - صلى الله عليه وسلم -? - - - عز وجل - - - - - رضي الله عنه -? ? - - ? - - رضي الله عنهم -?? - - - ????? - رضي الله عنهم - - ? - ? - - - - رضي الله عنهم - - ? - ? تمهيد - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - - ? المحتويات ? - - ? - ? - - صلى الله عليه وسلم - - " (آل(/20)
عمران/182:181)
* * *
المشار إليه بـ "ذلكما"
اسم الإشارة للمفرد المذكر، في المرتبة البعيدة، والمخاطب مثنى، وقد جاء هذا الاسم في قوله تعالى: - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -" ? مقدمة - رضي الله عنهم -?- رضي الله عنه - تم بحمد الله - صدق الله العظيم ? - ? تمت - - - - ? تمت - - عليه السلام - - - رضي الله عنه - - - ? } - رضي الله عنه - - - - - - - - رضي الله عنهم - - ? - ? - - رضي الله عنه - فهرس - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - الله أكبر ? { ??? - - - عليه السلام - - - صلى الله عليه وسلم - - ? - ????- صلى الله عليه وسلم - - - - - ? - - رضي الله عنهم - - } - رضي الله عنه - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنهم - - - ? - ? - الله أكبر ? { ??? - - - عليه السلام - - - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - ? مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - - - ? قرآن كريم - ? ?? - ? - - عليه السلام - - - - - ? - ? - ? - ? - ? - - - ? - ? - { ? - - - ? مقدمة ? - ? تم بحمد الله } - - عليه السلام - - ? } ? مقدمة - - رضي الله عنه - الله أكبر ??? - ? - - ?- صلى الله عليه وسلم -? - - رضي الله عنه - - ? - } - ? الله أكبر ? { - درهم - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - الله أكبر - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله - رضي الله عنه -??? - ? - ? - ? - ? - - - ???? - رضي الله عنه - - - - - - صدق الله العظيم(/21)
- - رضي الله عنهم - - ? - - ? - ? - - رضي الله عنه - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنهم -? - ? ??? مقدمة ? الله أكبر - - - - رضي الله عنهم - - ? - ? - - صدق الله العظيم ? { - - رضي الله عنهم - - ? - ? - ? - ? تمهيد - رضي الله عنه - الله أكبر ?? - ? - - ?- صلى الله عليه وسلم -? - - رضي الله عنه - - ? - - - ? تمهيد - - تمت - صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم - - ? - - عليه السلام - - ? - ? - - رضي الله عنه - - - - - رضي الله عنهم - - ? - ? - ? - - - - - ? تم بحمد الله ?? - - رضي الله عنهم - - ? - - رضي الله عنه -? ? - ? فهرس - - عليه السلام - - - "(يوسف/37:36)
المشار إليه في هاتين الآيتين قبل اسم الإشارة وهو: علم التأويل، وقد تعلمه قبل أن يأتى له الفتيان، فناسب أن يستعمـ ل اسم الإشارة للبعيد، والمخاطب بمثنى وهو الفتيان. والضمير في تأويله الأول قد استعمل استعمال اسم الإشارة، فقد سأل الفتيان عن رُؤْيَيَيْن، وليس رؤيا واحدة، فيكون التقدير: بتأويل ذلك (*).
***
المشار إليه بـ "ذلكم "
اسم الإشارة للمفرد المذكر في المرتبة البعيدة، والمخاطب جمع مذكر، ويلاحظ على المشار إليه باسم الإشارة هذا مايأتى:
1-أن المشار إليه قد يكون قبل اسم الإشارة،وأنه قد يكون مضمون تركيب أو عدة تراكيب، كما في قوله تعالى:(/22)
" - { - - - - صلى الله عليه وسلم - - ??- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه -??? - { - - - } - قرآن كريم ? - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -? - صدق الله العظيم } - قرآن كريم ? - ? - ? - - - - ? - قرآن كريم ? - ? - - عليه السلام - - ? - - ? ? المحتويات ? تمهيد ? - قرآن كريم ? - ? - - - ? - - رضي الله عنهم - مقدمة } - قرآن كريم ? - ? - ? - - رضي الله عنه - - ? - فهرس - } - قرآن كريم ? - ? - - - - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنه -? - - رضي الله عنهم - - ? - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - ? المحتويات ? - ? - ? - - ? - ? - - رضي الله عنهم - - ? المحتويات ? - { - ? المحتويات ? - ? - - رضي الله عنهم -? - - - - - صلى الله عليه وسلم -? - { - - - - - "، (النور /27). وقوله:" - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ? - - رضي الله عنه - - ? { - - - رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - عليه السلام - - ? - - - - صدق الله العظيم ? { ?? - { - - - ? - { - ? - ? صدق الله العظيم - - ? مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - - ?? - - رضي الله عنهم - مقدمة - ?? - ? - - رضي الله عنه - - ?? فهرس - - ? { - صلى الله عليه وسلم - - ? } - قرآن كريم ???- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - ? - - تمهيد ? - - - - رضي الله عنه - تمت - - عليه السلام - - - ? - ? - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ??? - ? { ? - - - ? - } - صدق الله العظيم ? - ? - - - - ? الله أكبر - ? - ??- رضي الله عنه - الله أكبر - صدق الله العظيم ? { - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم -?? - ?- صلى الله عليه وسلم - } - - - ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -(/23)
? بسم الله الرحمن الرحيم ? - ? - ? - } - قرآن كريم ? - ? - ?? - - - ? ? قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت - - - - - - - - فهرس - ? - ? - } ? - ? - - رضي الله عنهم -?? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - - - } - قرآن كريم ???- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - ? المحتويات ? تمهيد ? - ? - - المحتويات ? - - - ?- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ?? مقدمة ? - ? - ? - ? - - رضي الله عنهم -? - - - - - صلى الله عليه وسلم -? - { - - - - - "،(الأنعام /152) وقوله: " ? - ? { المحتويات ? - - { - - عز وجل -- صلى الله عليه وسلم - - ? صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله ? - - - عليه السلام -? - - ? قرآن كريم - رضي الله عنه -?? - ?? ? المحتويات ? - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ? تم بحمد الله قرآن كريم ? - - - - عليه السلام -?? قرآن كريم ? - ? - - - - - رضي الله عنهم -?? - - - - - قرآن كريم ?- رضي الله عنه -? - - - - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ? - - عليه السلام -? - - - - جل جلاله -? - - صلى الله عليه وسلم - - - - قرآن كريم ? - ? - - رضي الله عنه - - ? - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ? - - عليه السلام -? - - - - ? - - - ??- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ? تمهيد ? - ? - - ??- سبحانه وتعالى - - - رضي الله عنه - - صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله ? المحتويات ? تمهيد ? فهرس - { - ? بسم الله الرحمن الرحيم - ??- رضي الله عنه -? " (إبراهيم /6)(/24)
1-أن المشار إليه قد يكون بعد اسم الإشارة، ويعرب خبرًا، وهو إما لتعظيم المشار إليه، أو لإبعاده، مثال الأول آية: " - رضي الله عنه - - } - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - { { ? - } ? - - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - - { ? - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -
- - ? - - ? - ? - - - - - - رضي الله عنهم - - - } - صدق الله العظيم - - - - تم بحمد الله - ? المحتويات ? تمهيد ? - ? - - ? - - - " (فاطر :13) وآية:" ? المحتويات ? - ? - ? - - ? - - - ? المحتويات ? تمهيد - - - عليه السلام - - ?? - - - عليه السلام - - - - رضي الله عنه - تمهيد - رضي الله عنه - - - ? ? - - - - - عز وجل -- عليه السلام - - - ??? - فهرس - ?- رضي الله عنهم -?? - - - " (غافر /64) ومثال الثانى أية:" - - رضي الله عنهم - - ? الله أكبر ? { ? المحتويات ? - ? - ? - - ? صدق الله العظيم ? - ?? - } ? - - - ? - ? - قرآن كريم - - ? - ?? فهرس - عليه السلام -? - - - عليه السلام - - ? - ?- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - " (آل عمران /175).(/25)
1-وقد يكون الغرض من اسم استعمال اسم الإشارة "ذلك" استحقاق المشار إليه لما حدث له، كما في قوله تعالى: " المحتويات ? - ? - ? - - - - رضي الله عنهم - - ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - - ? - - - قرآن كريم ? مقدمة - رضي الله عنه - - ?? - - - ?? ??? - - } - - ? - ? - - رضي الله عنه -?? - ? - - { - رضي الله عنه -? - - - - - رضي الله عنهم - - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - ??- جل جلاله -? - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? مقدمة - رضي الله عنه - - ? - - - "( غافر /75) وقوله تعالى: " - - - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ? قرآن كريم - عليه السلام - - ? - - - ? - ? - - - - - جل جلاله -- رضي الله عنه - الله أكبر - - رضي الله عنهم - - - - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - - ? - فهرس - - عليه السلام -? - - - { ? - ? - ? - ? تم بحمد الله ? قرآن كريم - رضي الله عنه - - - - - ?- رضي الله عنهم - - ? - ? - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -? - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - - } - جل جلاله - - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ? - - - صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله - رضي الله عنه -??? - ???? الله أكبر ???? المحتويات ? - ? - ? - - ? - ? - ? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? المحتويات ? - ? - - - ? تم بحمد الله - - ? تمهيد ?- رضي الله عنه - - - - عليه السلام -? ? - - - - - جل جلاله -- صلى الله عليه وسلم -? - ? - " (الجاثية /34، 35)
***
المشار إليه بـ"ذلكن"(/26)
اسم الإشارة للمفرد المذكر، في المرتبة البعيدة، والمخاطب جمع مؤنث، ونرى ذلك في قوله تعالى: "- رضي الله عنه - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - - عليه السلام - قرآن كريم ? - ? - - ?? ? { - - جل جلاله - - ? - - رضي الله عنهم - - ? - - - ? المحتويات - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - - ? تم بحمد الله - - ? - - ? - - رضي الله عنهم -?? - - - ? - ?- صلى الله عليه وسلم -?- رضي الله عنه - - ? - - - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنه - - - ? صدق الله العظيم - رضي الله عنه -? ?? مقدمة ? - ??? الله أكبر } ? - - - - - رضي الله عنهم - - - ?- رضي الله عنه -? - { - - - ? مقدمة } - ? الله أكبر ? { - - رضي الله عنهم - - - - عليه السلام - - - رضي الله عنه - - - - - ?? - - ? فهرس - - ? - ??? - - تم بحمد الله ???? - ? - - - - ? ? تمهيد - رضي الله عنهم -?? - - رضي الله عنهم - - - صدق الله العظيم ? - ? - ? - - رضي الله عنهم - - ? - ? تمهيد فهرس - - رضي الله عنهم - - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم ? - ? - - - ? { ? المحتويات - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - ??- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ? - مقدمة - - - ? - - ? - ? تم بحمد الله ? تمهيد - - - - عليه السلام -?- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ? - - - - رضي الله عنهم - - ? فهرس ?- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ? - ? { ? } تم بحمد الله - - جل جلاله - - - ? - - ? - ? تمهيد - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - ? - ? - - - - صدق الله العظيم ? - ? - فهرس - - رضي الله عنه -? } - ? - - - - ? ??? مقدمة - عليه السلام - - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - ?? مقدمة - رضي الله عنه - الله أكبر ? - - رضي الله(/27)
عنهم - - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم ?? { ? - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم ? - - عليه السلام - - ? - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم ? - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ??- رضي الله عنهم - مقدمة ? - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - ?- رضي الله عنهم - - - ? - - ? - - ? تمت ? { - - - - ?- رضي الله عنهم - - - صدق الله العظيم ? { ? - فهرس - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? - - - ???? ? تمهيد - - - - - - صدق الله العظيم ? - ? - ? - - - ? - ? - { - - - ?? - } - ? - ? - ? - ? مقدمة - ?? " ( يوسف /32:30)
المشار إليه سيدنا يوسف، وعبرت عنه النسوة بالفتى وهو قبل اسم الإشارة .
وأشارت إليه امرأة العزيز باسم الإشارة في المرتبة البعيدة بالرغم من
أنه حاضر ، وكان يمكن أن تقول:
" فهذا الذى وذلك رفعًا لمنزلته في الحُسْنِ، واستبعادًا لمحله فيه، وأنه لغرابته أن يوجد منه " (1).
* ... * ... *
المشار إليه بـ"هكذا "
نرى ذلك في قوله تعالى: " - - - فهرس - - ? ? المحتويات - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - - - ? - - - - - - ?- رضي الله عنهم - - - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? { ? - - رضي الله عنه -? } ? تمهيد - - - - - ?? مقدمة ? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - } - - - عليه السلام - قرآن كريم ? - - " ( النمل 42). فهذا الاسم مكون من همزة الاستفهام، وها التنبيه، وكاف التشبيه، واسم الإشارة (ذا) والمشار إليه العرش، قال الزمخشرى: " لم يقل: أهذا عرشك ؟ لئلا يكون تَلْقينًا " (2).
* * *
النوع الثاني: المشار إليه بصيغ الإشارة للمفرد المؤنث:
المشار إليه بـ"هذه"
يلاحظ المتأمل على المشار إليه باسم الإشارة (هذه) ما يأتى:(/28)
1- أنه قد يكون بعد اسم الإشارة، فيعرب بدلاً مثل آية: " ? - ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - جل جلاله -? - ? - } - قرآن كريم ? - ? - ? - - - ? فهرس ? - ?- رضي الله عنهم - - - { - رضي الله عنه - - ? - - { ? - - - " (البقرة /58)، وآية: "? - ? - ? - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - - - - ?? ? فهرس ? - ?- رضي الله عنهم - - - - عليه السلام - - ? الله أكبر - - - - - - { - عليه السلام - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة "، ( الأعراف/156)، وآية:" - - - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -??? - { - ? - } - ? قرآن كريم - { } - - - - - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ? المحتويات ? - - - - عليه السلام - - - } - قرآن كريم ? - - - - - - - ? - - رضي الله عنهم - - ??? - { - ? - - } - قرآن كريم ? - - - ? مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - - ?? ? فهرس ? - ?- رضي الله عنهم - - - - عليه السلام - - ? الله أكبر - - - - - ? { - عليه السلام - - - - - رضي الله عنهم - مقدمة " (النحل /30) ، أو يعرب خبرًا، كما في آية: " ?? فهرس ? - ?- رضي الله عنهم - - ? { - - - - رضي الله عنه - الله أكبر ? - - - (الأعراف /73) وآية:" } تمت ? { ??? فهرس ? - ?- رضي الله عنهم - - ? المحتويات ? - ? - } تم بحمد الله ? - " (الأنبياء /92 ) وآية:"?? فهرس ? - ?- رضي الله عنهم - - "? - { ?- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - " ( يس / 63) .(/29)
2- وقد يكون المشار إليه قبل اسم الإشارة، فيعرب اسم الإشارة نعتًا، أو غير نعت، مثال النعت آية: " } - ? قرآن كريم ? الله - رضي الله عنهم -?? - - - - ? المحتويات ? - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم - - ? المحتويات ? - ? - ? - - عليه السلام - قرآن كريم ? - ??? فهرس ? - ?- رضي الله عنهم - - - فهرس - ? { ? { - - جل جلاله - - ? - - رضي الله عنهم - - ? - - - "،(الكهف : 19) ومثل غير النعت آية: " - - - ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ? تمهيد - - ? - الله أكبر ? - ? - - عليه السلام - - قرآن كريم ? - بسم الله الرحمن الرحيم ? - ?- جل جلاله -? - - ? صدق الله العظيم } تم بحمد الله ? - قرآن كريم ? { - رضي الله عنه - - ? المحتويات ? تمهيد - - - صلى الله عليه وسلم - - ? مقدمة ? - - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنهم - - ??? فهرس ? - ?- رضي الله عنهم - - - - جل جلاله - - ?- رضي الله عنهم - - - ? { " (التوبة /124) فالمشار إليه كلمة (سورة) وهي نائب فاعل، وآية:" - - - ? - - ? ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - ? - - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ? { - عليه السلام - - - - { - رضي الله عنه -? - - - } - قرآن كريم ? - - - - - - عليه السلام - - - - ?? فهرس ? - ?- رضي الله عنهم - - } " ( الأعراف /131) فالمشار إليه (الحسنة)، وهي فاعل .(/30)
3- وقد يكون المشار إليه مضمون عدة تراكيب، كما في قوله تعالى : " - عليه السلام - قرآن كريم ? - - ? - { - - - ? - ? - ? - ? } - - - ? - - ?? ? - - - رضي الله عنهم - - ? - - - ? - ? - - رضي الله عنه - - ? - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ? } - - رضي الله عنهم - مقدمة - - - ? { ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - - ? - - ?? ? - ? - ??? - - - - رضي الله عنه -???- رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ? - ? - - - - ? - ? - - { - رضي الله عنه - تمهيد ? - - - ? } - قرآن كريم ? مقدمة ? - - ?- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - { - ? - - { - ? الله - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ? - - ? - ? - ?? - - رضي الله عنه -? ? المحتويات ? - - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - ? قرآن كريم - رضي الله عنهم - - ? - - - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ?- صلى الله عليه وسلم - - ? - - تمت - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله } - ? قرآن كريم - - - ?- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ? - } - - صلى الله عليه وسلم - - - ? - ? مقدمة ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - ? - - } - ? قرآن كريم - رضي الله عنه -?- رضي الله عنهم - - { - - - - رضي الله عنه -????? - ? - ? - ? - - - - رضي الله عنه -???- صلى الله عليه وسلم - - - - - ???? - - - - عليه السلام - - - - ? - { - - عز وجل -- صلى الله عليه وسلم - - ? صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ?? فهرس ? - ?- رضي الله عنهم - - - ? - ? قرآن كريم ? - - عليه السلام - - - - - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله - رضي الله عنه -??? - ? - ? } ? - - - "، (يونس /22) فيمكن أن يكون المشار إليه مضمون ما سبق وهو " الوقعة أو الحادثة " .(/31)
4- ويلاحظ القارئ أن المشار إليه في الآيات السابقة غير عاقل، وكذلك في بقية الآيات، إلا إذا عَدَدْنا " الأمة" عاقلة في قوله تعالى:( إن هذه أمتكم).
5- وقد يكون المشار إليه محذوفًا، كما في آية : " } - قرآن كريم ??? - ? - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ?? ?? فهرس ? - ?- رضي الله عنهم - - - { - عليه السلام - - ?? - - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم ? قرآن كريم - رضي الله عنه - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? { - رضي الله عنهم - - ?- عليه السلام - - ? { ? - ? - - - { { ? { ? - ? - ??? - - - - - ? - قرآن كريم ??? - - رضي الله عنهم - - ? - - - " (هود /99) قال أبو حيان: "والإشارة بقوله: في هذه، إلى الدنيا، ودل عليها قوله: ويوم القيامة لأنه الآخرة "(*) .
6- وقد يكون من وراء المشار إليه أغراض بلاغية كأن الغرض من الإشارة إليه تمييزه أبلغ تمييز كآية: " - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - ? { - - ? فهرس ? - ?- رضي الله عنهم - - فهرس - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - } ? - - - - - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ? - - رضي الله عنه - - - ? - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله - رضي الله عنه -??? - ? - ? { ? - - - " (البقرة/ 35)، وآية:" } ?? فهرس ? - ?- رضي الله عنهم - - ? { - - - - رضي الله عنه - الله أكبر ? - - - ? المحتويات ? تمهيد - - - { - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -? } - - رضي الله عنهم - - - صلى الله عليه وسلم -? - - - - ? " (الأعراف /73) ومن هذه الأغراض التعريض بغباء السامع الذي لا يتميز الشيءعنده(/32)
إلا بالحس والإشارة كما في آية: " ? فهرس ? - ?- رضي الله عنهم - - ? - - } - جل جلاله - - - - ?? - { - - - بسم الله الرحمن الرحيم ? - - ? - - { - ? - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - ? - - - - ? - "، (الطور /14).
المشار إليه باسم الإشارة " تلك "
هذا الاسم مكون من اسم الإشارة (تي)، وحذفت الياء لالتقاء الساكنين: الياء واللام، ومن لام البعد، وكاف الخطاب . ويلاحظ القارئ على المشار إليه ما يأتي:
1- أنه قد يكون مضمون جملة، أو عدة جمل، وهو قبل المشار إليه، مثل قوله تعالى: " } - قرآن كريم ? - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم - - - - ? - ? - - رضي الله عنه - - - { } - جل جلاله -- رضي الله عنهم - - ? - - - - صدق الله العظيم ? { صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - تمت - - - - ? - قرآن كريم ? - ?- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - - ? - ?- رضي الله عنه - الله أكبر - - درهم ? - ? - ? المحتويات ? - - - ? الله أكبر - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - " (البقرة /111)، فالمشار إليه قَصْر دخول الجنة على اليهود والنصارى، وقوله تعالى: " } - ? مقدمة ? - ? المحتويات ? تمهيد - - - - - - ? - - - ? الله - - عليه السلام - - ? - ? - - - ? { - ? { - - - - - - فهرس - ? { ? المحتويات ? - ?? - - - - ? - - صدق الله العظيم ? - ? } - - رضي الله عنه - تمهيد ? - ? المحتويات ? - { - ? المحتويات ? - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? } - - رضي الله عنه - تمهيد ? - - صدق الله العظيم ? - { - - - المحتويات ? - - رضي الله عنه -? ? - - - ? المحتويات ? تمهيد ? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - - جل جلاله -? - - - قرآن كريم ? الله أكبر - -(/33)
رضي الله عنه - - ? - - صلى الله عليه وسلم - تم بحمد الله
? المحتويات ? تمهيد - - ?? الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - - - - رضي الله عنه - - - ? ? المحتويات ? - ? - فهرس - - رضي الله عنه -? - - ?- رضي الله عنه -?- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ? - - جل جلاله -- رضي الله عنه -? } - صدق الله العظيم ?- رضي الله عنه -?? - - - - ? - صدق الله العظيم ? - - صلى الله عليه وسلم -? - ???- رضي الله عنه - - } - قرآن كريم ??- رضي الله عنه - - ? - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - - - - ? - - - ? المحتويات ? - - - - } - قرآن كريم ? - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ? - - عليه السلام - - ?? - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ?? - - رضي الله عنهم - مقدمة - رضي الله عنه -? } ?- رضي الله عنه - - - - - رضي الله عنه - - ? المحتويات ? - - - ??? - - - ? - - - ??- عليه السلام - - ? - - } - - - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ??? - - - ? - - - ? - - عليه السلام - قرآن كريم ? - - } - - - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله ? - ? - - ?? - - - } - بسم الله الرحمن الرحيم ? بسم الله الرحمن الرحيم } - قرآن كريم - - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم - - عليه السلام - - ? - ? - - - - فهرس - ? { ? - ? - { - - - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ?? - - صلى الله عليه وسلم -? - ???- رضي الله عنه - - ? - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ??? - ?- رضي الله عنه -? - ?? ? - ? - ? - - - رضي الله عنهم - - ? - - - - رضي الله عنهم - - ? - ? - ? - - صلى(/34)
الله عليه وسلم -? - ? فهرس ? - - - - - - ? - - رضي الله عنهم - - قرآن كريم ? - - رضي الله عنه - - ? { - - - " (البقرة /187)، وكذلك كل آية فيها: (تلك حدود الله) .
2- وأنه قد يكون المشار إليه بعد اسم الإشارة مثل آية:" - رضي الله عنهم - - ? - ? - ? - ? - - - - - - - - - جل جلاله -? - - ? - ? ? المحتويات ? - - ???- رضي الله عنه - - - - فهرس - - رضي الله عنه -? - ???- رضي الله عنه - - - المحتويات ? - ?- جل جلاله -? } تم بحمد الله صدق الله العظيم } تم بحمد الله - المحتويات ? - - - ? - - - } - رضي الله عنهم -? - ?- عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? بسم الله الرحمن الرحيم ? - - ???- رضي الله عنه - - - تمهيد ?- رضي الله عنهم - - - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - - " (البقرة /253)، والمشار إليه هنا بدل، ومثل مجيئه بدلاً آية:" - درهم ? - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - - ? { ? - - - ? المحتويات ? - ? - - جل جلاله -? - فهرس - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - - - - - } - قرآن كريم ? - - - - ? - - عليه السلام - - ? - - رضي الله عنهم -?- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ? - ? - ? - ? - - رضي الله عنهم - - ? - - - جل جلاله - - ??? قرآن كريم } تم بحمد الله " (الكهف /59)، وقد يكون خبرًا كآية: " - - - - - - رضي الله عنهم - - ? - ? - ? تمهيد ?- رضي الله عنه - - - - عليه السلام -? ? - ?- رضي الله عنه - - ? - ? - - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - ? - { - رضي الله عنه -? - - - " (يونس /1)، وآية:"- رضي الله عنهم - - ? - ? - ? تمهيد ?- رضي الله عنه - - - - عليه السلام -? ? - ?- رضي الله عنه - - ? - ? - - - ???? - ? - ? - - - ". (الشعراء /2) .(/35)
3- كما نلاحظ أن المشار إليه إذا كان بعد اسم الإشارة كثيرًا ما يكون جمع تكسير لغير العاقل، كما في آيات: (تلك حدود الله)، وآيات: (وتلك الأمثال)، و(تلك القرى) وقد يكون جمع تكسير للعاقل مثل (تلك الرسل) وقد يكون جمع مؤنث لغير العاقل كما ورد في الملاحظة رقم: 3، وقد يكون مفردًا غير عاقل أيضا كما في آية: "- رضي الله عنهم - - ? - ? - ? { } - { - ? - - - " (مريم / 63)، وآية:" - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - درهم ? - ? - - رضي الله عنهم - - ?- جل جلاله - - ? - - عليه السلام - - ? - - ?- رضي الله عنهم - - قرآن كريم ? - ?- رضي الله عنه - - " (طه /17) وآية:" - رضي الله عنهم - - ? - ? - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? { - رضي الله عنهم - - ??? الله أكبر - { - - { ? - - - { - فهرس - - رضي الله عنه -? " (الشعراء/22)
4-أما استعمال اسم الإشارة في المرتبة البعيدة فإنما لأن المشار إليه انقضى زمنه وسماعه فهو بمنزلة الغائب البعيد، كما في قوله تعالى: " ? بسم الله الرحمن الرحيم - صلى الله عليه وسلم - - ? المحتويات ? - - جل جلاله -? - - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - - { - ?? ? - ? { - عليه السلام - - - ?- رضي الله عنهم - مقدمة - - قرآن كريم ? { ??- رضي الله عنه - - ? المحتويات ? قرآن كريم - رضي الله عنهم - - ? - - -(/36)
? - ? { - رضي الله عنه - - - - - ? مقدمة - ? - - رضي الله عنه - - ? - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -? - ? - ?? - - - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله - ? - ??- رضي الله عنه - - } - قرآن كريم ? - - - - ? - ? - ??- رضي الله عنه - الله أكبر - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - ? - - ? { - رضي الله عنه - مقدمة ? - - ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنهم - - ?? - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -? - بسم الله الرحمن الرحيم ?? - ?- رضي الله عنه - - ? - ? { - - - ???- رضي الله عنهم - - ? - ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - ?- رضي الله عنهم - - ? - ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - جل جلاله - - ? - - ? { - - جل جلاله - - ? فهرس ?- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? صدق الله العظيم ?- رضي الله عنه - صدق الله العظيم - عز وجل -- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ?? - - - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - ? - ? - ? تم بحمد الله - رضي الله عنهم - - ? - ? - ? { } تم بحمد الله ? - ? - - - ? تمهيد فهرس - - رضي الله عنهم - - } " (البقرة 134:133) وإما لتعظيم المشار إليه وتفخيمه (1) مثل :
"- رضي الله عنهم - - ? - ? - ? - - } - - - - ? - - رضي الله عنه - - ? - - - رضي الله عنهم - - - - - رضي الله عنهم - - ? - - رضي الله عنهم -?? - صدق الله العظيم - عز وجل - - رضي الله عنه -??? - { - ? - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -? - - ? - ? - - - قرآن كريم ? - ?? - ?? ??? - - } - - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - جل جلاله - - - - - - ? " (القصص /83)
* * *
ثانيًا- المشار إليه بصيغ الإشارة الموضوعة للمثنى بنوعيه:(/37)
النوع الأول : المشار إليه بصيغ الإشارة للمثنى المذكر:
المشار إليه بـ" هذَانِ"
المشار إليه بهذه الصيغة ورد في آيتين من كتاب الله، الأولى في قوله تعالى:" ? تمت ? { ? تمت ? - - ?- رضي الله عنهم - - ? تمت ?- رضي الله عنه - - ? - ? - - - - "(طه /63)
والمشار إليه هو موسى وهارون، في آية:" ? - - رضي الله عنهم - - ? - - - - تمهيد الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - - قرآن كريم ? - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -" (طه/42)، الآية : الثانية: " ? تمت - - - ?- رضي الله عنهم - - ? تمت - - رضي الله عنهم - - ??- رضي الله عنهم - - } - قرآن كريم ? - - ?- رضي الله عنه - - ? - - - - ?? ? المحتويات ? - ? - - - عليه السلام - - } " (الحج /19)، والمشار إليه هو الذين آمنوا ، والذين كفروا ، وهذا مراعاة للفظ خصمان، و( اختصموا ) مراعاة للمعنى، كقوله تعالى :" المحتويات ? - ? { ? تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم } تم بحمد الله ??? - - رضي الله عنه - - ? - - - - رضي الله عنهم - - ? - - - ? { - ? } - - رضي الله عنهم - مقدمة - - - ? { } - قرآن كريم ? - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - " (محمد /16) ولو قيل هؤلاء خصمان، أو اختصما جاز، يُراد المؤمنون والكافرون(2).
* ... ... * ... *
المشار إليه بـ" ذانك "
اسم الإشارة للمثنى المذكر، والمخاطب مفرد مذكر، وقد ورد المشار إليه بهذه الصيغة في قوله تعالى: " - درهم ? الله أكبر ? - - - ? ? تمت - - عليه السلام - - ?- رضي الله عنهم - - ? - ? - صدق الله العظيم ? تم بحمد الله - درهم ? } - - - " (القصص /32) والمشار إليه : العصا واليد، قال أبو حيان : ( فذانك إشارة(/38)
اتجاهات معاصرة في صناعة المعجمات العامة (*)
للأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي
... تكونت خبرات كثيرة في صناعة المعجمات في الأعوام المائة الماضية على وجه الخصوص، وذلك تلبية لمتطلبات ملايين التلاميذ والطلاب وللوفاء بحاجة جمهور المثقفين والقراء والكتاب، واستجابة للتقدم العلمي ومصطلحاته المتنامية. وقامت مؤسسات كبرى متخصصة في صناعة المعجم في عدد من دول العالم فعرفت من خلال العلم والتطبيق عددًا من الأسس والمواصفات. وبعد ذلك كانت التقنيات المتقدمة أدوات للإنجاز الدقيق في داخل تلك المؤسسات، وأتاحت التقنيات هذه المعجمات بطرق حديثة، تمكن أيضًا من تجديدها بسهولة ودقة. وهذا البحث محاولة لتعرف الأسس العامة لصناعة المعجمات العامة الحديثة من أجل الإفادة منها في
النهوض بصناعة المعجمات العربية العامة.
أولاً- أسس عامة:
1- تعددت أنواع المعجمات الحديثة تعددًا كبيرًا لتلبية متطلبات مختلفة:
المعجمات العامة بأحجامها المختلفة.
المعجمات التاريخية الشاملة والانتقائية.
معجمات المترادفات والفروق الدلالية.
معجمات التراكيب (للمسكوكات، للعبارات الاصطلاحية، للتراكيب الفعلية، للوحدات الدلالية المركبة).
المعجمات المصوّرة (على أساس لوحات شاملة ومركبة ومتعددة الكلمات).
المعجمات الموضوعية (طبقًا للمجالات الدلالية).
المعجمات الإملائية (للهجاء الصحيح).
المعجمات الصوتية ( للنطق الصحيح للكلمة).
معجمات الأطفال والناشئة.
معجمات متخصصة ( في مجالات علمية أو مهنية محددة).
معجمات أسماء الأماكن.
معجمات لغوية لأسماء الأعلام.
معجمات موسوعية ( للأعلام والأماكن والحوادث والمفاهيم والأفكار والنظم والمؤسسات).
المعاجم المفهرسة للنصوص.
المعاجم المفصلة لمعاونة المترجمين (في الفهم السليم والصياغة الدقيقة).(/1)
2)المعجمات الحديثة لا توجه إلى مئات أو آلاف من الباحثين اللغويين أو العلميين وحدهم. أنواعها المتعددة تخاطب قطاعات مختلفة من المستفيدين:
معجمات الأطفال من عدة مستويات، وتعتمد أساسًا على اللوحات المصوّرة، تختص كل منها بمجال محدد. الأطفال من السنة الخامسة والسادسة من العمر يجدون في أصغر مستويات هذه المعاجم وسيلة تعليمية ممتعة ومفيدة. وبعض هذه المعاجم المصوّرة للأطفال من السنة الثامنة من العمر يضم أربعة آلاف كلمة بالألمانية ومثلها بالإنجليزية، وتكون موزعة على أساس اللوحات المصوّرة طبقّا للموضوعات (PONS).
المعجمات المؤلفة للطلاب والكبار متنوعة بشكل كبير، بعضها له أهداف لغوية محددة: معجم التراكيب السياقية، معجم المترادفات، معجم العامية، وبعضها معجمات عامة يتراوح عدد مداخلها بين خمسين ألف ومئة وثلاثين ألف مدخل، ويكون المعجم في مجلد واحد كبير تتراوح صفحاته بين 850 صفحة و1570 صفحة (Pons)ومن المعاجم المؤلفة للطلاب ما يهدف إلى معاونتهم في مجال التخصص بتقديم المصطلحات الأساسية مع تعريفات واضحة وأمثلة حقيقية. وقد يكون المعجم مزدوج اللغة ويقتصر على المصطلحات الأساسية المختارة بعناية باللغتين مع التعريفات والأمثلة. ومن أهم المجالات التي أعدت لها معجمات أساسية متخصصة: البنوك والمالية، علم الحاسب، الطباعة والنشر، الزراعة، التسويق، الطب، القانون، الاقتصاد، أعمال المكاتب، السياحة.
معجمات المصطلحات المؤلفة للمتخصصين يغطي كل منها تخصصًا عامًّا أو تخصصًا دقيقًا: الإلكترونيات، الصوت، تخطيط الإنتاج، صناعة النسيج، علم الحاسب، إنتاج الأنسجة الصناعية، الاتصالات، تقنيات الميكنة، صناعة البناء، إنتاج الآلات، صناعات الأخشاب، صناعة المركبات.. إلخ.(/2)
المعجمات الكبيرة تمثل اتجاهًا جديدًا لتلبية متطلبات الطلاب والمترجمين والباحثين، بعضها مزدوج يقدم المفردات من كل المستويات اللغوية، من اللغة الأدبية إلى مستويات العامية، مع معلومات عن استخدامها في التركيب النحوي ومستوى استخدامها اجتماعيًّا أو قطريًّا والتخصصات التي تنتمي إليها. وصل عدد مداخل المعجم الكبير للإنجليزية والألمانية إلى 280 ألف كلمة في 1700صفحة، وللإنجليزية والفرنسية إلى 240 ألف كلمة.
3- تكوّن في القرنين الماضيين مفهوم جديد لصناعة المعجم، لم يعد هدف المعجم الحديث مقصورًا على شرح الكلمة الصعبة أو النادرة. لقد أصبح المعجم العام مرجعًا يرشد إلى ما يأتي.
الإملاء الصحيح للكلمة (طبقًا للقواعد الإملائية المعتمدة).
التصريفات الأساسية للكلمة (مفرد/ جمع، ماضي/ مضارع، أمر).
تأصيل الكلمة (الأصيلة والدخيلة).
تاريخ الكلمة (أقدم نص وردت به أو تاريخ هذا النص).
هـ- نطق الكلمة ( مع التدوين بالرموز الصوتية).
و-معاني الكلمة (التعريفات).
ز- تراكيب الكلمة (علاقاتها في النظام النحوي).
ح-المستوى اللغوي للكلمة (عامي، بائد، إداري، محلي، طبي، عسكري، كيمياء، فيزيقي، جيولوجي... إلخ).
4- تعددت أوعية إتاحة المعجمات الحديثة للمستفيدين:
المعجمات المطبوعة على أوراق بين دفتي كتاب في مجلد واحد أو أكثر.
المعجمات المتاحة على أقراص مدمجة CD.
المعجمات المتاحة في الإنترنت.
5- بعض المعجمات متاح في كل هذه الأوعية، وهناك عدة أمثلة دالة:
أ- معجم Collins Cobuild English Dictionary يضم 75 ألف كلمة وتعبير إنجليزي، طبع على ورق في 1990 صفحة. أما على الأقراص المدمجة فنجد مجموعة Collins Cobuild on CD-ROM التي تضم المعجم اللغوي ثم معجم الاستخدام ثم النحو ثم بنك اللغة الإنجليزية. ويقوم بنك المعطيات اللغوية- الذي أعد على أساسه هذا المعجم- على خمسة ملايين كلمة.(/3)
ب- معجم Wahrig, Deutsches Worterbuch يضم 250 ألف مدخل وتعبير ألماني، طبع على ورق في 1451 صفحة. ويوجد أيضًا على قرص مدمج.
ج- بعض المعجمات المتخصصة متاحة في طبعة ورقية وأيضًا على قرص مدمج، مثال ذلك: Richter, Ekkehard, Technisc-hes Worterbuch, 1999 يضم 180 ألف مصطلح تقني بالإنجليزية والألمانية على قرص مدمج، وطبع على ورق أيضًا في مجلدين.
د- هناك معاجم متاحة للاستخدام عن طريق الحاسب، ذات محتوى ضخم. وذلك مثل Personal Translator لمعاونة المترجمين للألمانية والإنجليزية. يضم المعجم 280 ألف كلمة، بها 16 معجمًا عامًّا ومتخصصًا. وطبعته الموسعة تضم 360 ألف كلمة مع التعريفات.
هـ- في بعض الدول مثل اليابان زاد الاعتماد بشكل خاص على المعجمات المتاحة على أقراص مدمجة في داخل حاسب صغير زيادة مطردة، وقل بالمقابل استخدام المعجمات المتاحة على ورق. وترى بعض المؤسسات الحاسوبية في ذلك الأمر اتجاه المستقبل. وإذا مجمع اللغة العربية بالقاهرة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية قد جمع ما أقره المجمع من المصطلحات العلمية (نحو 150 ألف مصطلح) على قرص مدمج واحد فإن إتاحته للأفراد وكذلك من خلال الإنترنت يعد مطلبًا متكررًا.(/4)
5- أصبحت صناعة المعجم في المقام الأول من عمل مؤسسات متخصصة في كل منطقة لغوية، مثل Bertelsmann, Langenscheidt, DUDEN, PONS في ألمانيا، Larousse في فرنسا، The Word Publishing Company في الولايات المتحدة. المعجمات العامة الحديثة الصادرة عن هذه المؤسسات ليست أعمالاً فردية، وإذا كان بعضها يبرز اسم المحرر الكبير المشرف على المشروع فإن إلى جانبه عشرات أو مئات المعاونين والمحررين والمستشارين والفنيين. أما المعجمات الصغيرة والمتخصصة فبعضها أعمال فردية أو أعمال لعدد محدود من المؤلفين: أما معجمات اللغات غير الأوربية التي صدرت في أوربا فأكثرها لمؤلف واحد ولعدد محدود من المؤلفين. ومن أنجح تلك التجارب ذلك التعاون بين مؤلفين من أبناء الألمانية والعربية في إعداد المعجم الألماني العربي الذي شاركتُ فيه (1962-1965) واكتمل وطبع عدة طبعات.
6- كانت المعجمات عبر القرون أعمالاً فردية، أما في القرن العشرين فقد استقرت صناعة المعجم في داخل مشروعات المؤسسات المتخصصة لعدة أسباب:
أهمية إنجاز المعجم في وقت مناسب طبقًا لخطة محددة، وضرورة تجديد المعجم بعد سنوات قليلة.
تجديد مجالات التخصصات العلمية وأهمية وجود مستشارين كثيرين ومحررين متخصصين.
أهمية الإفادة من قاعدة معلومات لغوية عريضة، كانت يومًا ما على شكل آلاف البطاقات، وأصبحت اليوم أكبر وأدق من خلال الحاسب بملايين المعلومات.
أهمية تعديل المداخل والشروح بطريقة منظمة وسهلة.
تكاليف الجمع والطباعة والتجليد مرتفعة لا يمكن تعويضها إلا من خلال توزيع قوى لمئات الآلاف من النسخ بمواصفات دقيقة علميًّا وتقنيًّا.
إمكان التعاون عبر الدول وعبر اللغات في إعداد المعجمات مزدوجة اللغة أو متعددة اللغات.
صناعة المعجم عمل شاق وجاد، ولا يكفي أن يكون إعداد المعجم مجرد عمل جانبي لنخبة من اللغويين والعلميين.(/5)
7- أكثر المعجمات العامة تصدر في مجلد واحد كبير.وقد تطورت التقنيات الطباعية والمواصفات حتى وصلت إلى درجة عالية من الوضوح القرائي مع الأبناط الصغيرة، وإلى جعل الصفحة تتحمل عددًا من السطور في عمودين أو ثلاثة. وبذلك أصبح المجلد الواحد يحمل المادة التي تشغل عددًا كبيرًا من المجلدات في حالة الطباعة العادية. مثال ذلك: Webster’s New World Dictionary.
يقع في 1724 صفحة على عمودين، في كل عمود منهما 100سطر= 200سطر، بمتوسط8-9 كلمات، وبذلك تحمل الصفحة الواحدة عددًا من الكلمات كان يمكن في الطباعة العادية أن يشغل 5-6 صفحات ذات 30 سطرًا×10كلمات. ومعنى هذا أن هذا المعجم ذا المجلد الواحد كان من الممكن أن يكون في 620 صفحة. ولو وزعت هذه الصفحات على مجلدات عادية لكنا أمام عدد كبير جدًّا من الأجزاء. لقد طبع المعجم الوسيط في مجلدين يضمان 1111صفحة ×3 أعمدة ×36سطرًا×6كلمات، وبالمقارنة به يكون حجم المادة المطبوعة في هذا المجلد الواحد الضخم أكثر من ضعف مجموعة المادة المطبوعة في المعجم الوسيط.
... ... ... إن فكرة جعل المعجم العام الواحد في مجلد واحد استقرت في صناعة المعاجم في الولايات المتحدة وأوربا. وأصبحت معجمات كثيرة تقع كل منها في مجلد واحد، بمتوسط قدره 1500 صفحة، ويتجاوز بعضها هذا العدد بمئات الصفحات. بعض المعجمات مثل المعجم الألماني/ العربي- الذي شاركتُ في إعداده- كان في طبعته الأولى في مجلدين، ولكن الطبعات التالية جمعتهما في مجلد واحد يضم 1472 صفحة. وعلى أساس هذه الخبرة فقد يكون من المناسب عند عمل الطبعة الرابعة من المعجم الوسيط أن يكون في مجلد واحد.(/6)
8- تتفق أكثر المعجمات الحديثة في بيان أسماء كل المشاركين في صناعة المعجم (ومنهم: المحرر العام، والمحرر العام المشارك أو المحررون العامون المشاركون، والمستشارون، ومحررو التأصيل، ومساعدو البحث، والفنيون: الرسام والتصميم والإنتاج). تكتب أسماؤهم على ظهر ورقة الغلاف، حرصًا على حفظ حقوقهم المعنوية. وقد اتضح في عدد من المعاجم المعاصرة أهمية وجود مجموعة متفرغة من المحررين من أصحاب التخصصات المتكاملة لا يقل عددها عن عشرة محررين، يقوم كل منهم بعمل محدد طبقًا لتقسيم العمل. وفي الوقت نفسه يقوم عدد كبير من الخبراء في كل المجالات والتخصصات التي يتطلبها علم المعجم بتزويد هيئة التحرير بالتعريفات المناسبة للمداخل التي تقع في مجالات تخصصاتهم، وعدد هؤلاء يتراوح بين مئة ومئتين.
9- اتصخ في إعداد الطبعة الثالثة من معجم وبستر الدولي للغة الإنجليزية (1961م) أهمية وجود محررين دائمين لعدد من التخصصات، منهم محرر واحد لكل من: الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء، علم النبات، علم الأحياء، الفلسفة، العلوم السياسية، مقارنة الأديان، التاريخ، علم المكتبات، الدراسات اليونانية واللاتينية، علم النصوص القديمة، علم اللغة، التأصيل المعجمي، علم الأصوات. وبعد أربعين عامًا من التقديم العلمي والتقني نجد الطبعة السابعة من معجم اللغة الألمانية Wahrig, Deutsches Worterbuch (2001) تنص على إفادتها لمتابعة التغيرات الجديدة من مختصين في المجالات الآتية: علوم الحاسب، العلوم الطبيعية، الطب، الاقتصاد، الألعاب الرياضية، الإعلام، إلى جانب ألفاظ الحياة الحديثة.
10- أصبحت المعجمات العامة للمثقف والطالب- التي تضم مداخل من اللغة المعاصرة- ذات عدد كبير من الكلمات، يتجاوز عددها مئة ألف وقد يصل إلى أربعمئة وخمسين ألف مدخل وتعبير:
Webster’s New World Dictionary (1964) 142.000
DUDEN Deutsches Universalwort-erbuch (2001) 140.000(/7)
DUDEN, Das grosse Worterbuch der deutschen Sprache, in 10 Benden 200.000
Wahrig, Deutsches Worterbuch (2001) 250.000
PONS Grossworterbuch Deutsch- Englisch und Englisch- Deut-sch (2002) 300.000
Webster’s third New International Dictionary (1961) 450.000
11- إنّ اللغات الأوربية تنمو مفرداتها بشكل دائم، وتراعي المعجمات العامة والمتخصصة ذلك. وقد لوحظ في طبعات متعددة لمعجم عام واحد زيادة المداخل طبقًا للمعدل التالي:
... ... (1980م-1985م) الزيادة خمسة آلاف مدخل.
... ... (1986م-1994م) الزيادة عشرة آلاف مدخل وتعبير.
... ... (1994م-2000م) الزيادة ثلاثة آلاف مدخل.
... ... وبعض المعجمات الكبيرة مثل المعجم الكبير للغة الألمانية الذي يضم مئتي ألف مدخل في عشرة مجلدات 4800 صفحة (2001م) يهدف في المقام الأول إلى الحصر الشامل للمداخل والدلالات في لغة القرن العشرين، ولا يضم من كلمات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلا ما يفيد في قراءة الأدب.
ثانيًا- مكونات المعجم:
1-المداخل العادية:
هناك اتفاق في صناعة المعجمات العامة الحديثة للغات الأوربية الكبرى على أن كلمات المداخل هي مفردات اللغة طبقًا لما يظهر ببحث الواقع اللغوي، وليس بالنسخ من المعاجم السابقة.
الكلمات الدخيلة التي أصبحت من رصيد اللغة وذاع استخدامها تكون لها مداخلها. تذكر كل كلمة مع تنوعاتها الكتابية والنطقية. أما اللغة المصدر التي دخلت منها الكلمة فتذكر صيغتها أو مكوناتها مع معناها في تلك اللغة، وذلك في التأصيل المعجمي للكلمة.(/8)
تشكل المصطلحات العلمية الأساسية مكونات مهمة في صناعة المعجمات العامة للغات الكبرى الحديثة. ويكفي على سبيل المثال أن نشير إلى معجم DUDEN Universalworterb-uch ذي المجلد الواحد الذي يقع في 1892 صفحة، فهو يتضمن تحت مادة Computer خمسة وعشرين مدخلاً. ويعد اختيار هذه المصطلحات من أصعب المهام، وعلى سبيل المثال فإن مصطلحات المعجم المذكور اختيرت من مئة وثمانين تخصصًا علميًّا وتقنيًّا ومهنيًّا. وحرصًا على عدم إثقال المعجم العام بما ينبغي أن تختص به معجمات متخصصة كثيرة فإن صناعة المعجمات للغات الأوربية تعتمد على ما دخل اللغة العامة من مصطلحات علمية، ويكون تعرف ذلك في ضوء المطبوعات المختارة. وكان هناك اقتراح قديم في مجمع اللغة العربية بأن تجمع هذه المصطلحات من المعجمات العامة للغات الأوربية ويبحث المعجم لها عن مقابلات عربية أو معربة، وتدخل بعد ذلك معجمات المجمع وبلا تزيد، وذلك أن عدم التحديد يجعل المعجم العام بلا حدود واضحة.
المداخل الفرعية للكلمة هي الصيغة الفرعية أو الصيغ الفرعية من الناحية النحوية، تكون مماثلة لغويًّا ودلاليًّا للكلمة المدخل على نحو يجعل من غير المناسب إفرادها في مدخل مستقل. بين كلمة المدخل والمعلومات عنها توضع علامة، ثم المدخل الفرعي مع نطقه، ونوعه من حيث أنواع الكلم، ثم علامة، ثم المدخل الفرعي الثاني ونوعه من حيث أنواع الكلم، وهكذا.
2- المداخل الخاصة:
... ... ... المداخل الخاصة هي مداخل تدخل المعجم وإن لم تكن من الكلمات العادية في اللغة:
الاختصارات:
... ... ... توضع في صفحة متقدمة بين صفحات المعجم قائمة الاختصارات المستخدمة في تحرير مداخل المعجم. أما الاختصارات الشائعة في الحياة فيعد كل منها مدخلاً مستقلاًّ، يوضع في مكانه طبقًا للترتيب الألفبائي للحروف، وذلك مثل الاختصار د د ت، والاختصار أ ش أ.
الصيغ المنسوبة:(/9)
... ... ... هي الكلمات المنسوبة إلى أسماء لها مداخل في المعجم، مثل: سوري صيغة نسب سوريا. تذكر كلمة سوري في ترتيبها طبقًا للحروف الأصول مع الشرح والإحالة.
جـ- العلامات التجارية:
... ... ... تتحول بعض العلامات التجارية أو أسماء المنتجات إلى كلمات عادية، مثل: وينج، فياجرا، أسبرين. وتكون لها مداخلها، طبقًا لمنهج محدد في الاختيار بمعايير متوازنة.
د- أسماء الأعلام:
... ... تتضمن: أعلام الأشخاص وأعلام الأماكن والحوادث المهمة. وتكون لها مداخلها طبقًا لمنهج محدد في الاختيار.
هـ- الجداول:
... ... ... هي الجداول المتضمنة جزئيات كثيرة في نظام محدد، وذلك مثل العملات والأوزان والمقاييس والمكاييل، وكذلك العصور الجيولوجية والعصور التاريخية والكواكب والجدول الدوري للعناصر. يوضع لكل منها جدول شامل يمثل مدخلاً، وتتم ... الإحالة إليه من مداخل مختلفة تمثل عناصره.
3- تنوعات الكلمة تعني صيغ التدوين المختلفة للكلمة الواحدة. توضع صيغة التدوين الأكثر قبولاً أولاً، ثم تذكر في المدخل نفسه الصيغة أو الصيغ الأخرى. وتطبيق هذه القاعدة في العربية يكون لكلمات، مثل: موسيقا، موسيقى، أو: شئون، شؤون، أو: مسئول، مسؤول، أو: إنجلترا، إنكلترا، إنفلترا.
... ... ... أما إذا كانت الكلمة من المشترك الكتابي، أي لها أصلان مختلفان ولكن التدوين واحد فينبغي أن يكون لهما مدخلان مختلفان. وتطبيق ذلك في العربية الفعل وَرَدَ، بمعنى: نزل أو وصل، أصيل في العربية مشترك في فصيلتها اللغوية، ومنه فَعّل: وَرَّدَ. أما الكلمة الفارسية وَرْد فقد دخلت العربية، ومنها الفعل: وَرَّد. هما أصلان مختلفان، وبالتالي فإن كل فعل منهما من أصل مختلف. وطبقًا لهذه القاعدة يكون كل واحد منهما في مدخل مستقل.
4-في معاجم عدد من اللغات الأوربية تقسم كلمة المدخل إلى مقاطعها، وبعد ذلك ترد المعلومات الآتية:
النطق.
نوعها من حيث أنواع الكلم.
صيغتها التصريفية.(/10)
التأصيل.
التعريف، أي شرح الدلالات.
مؤشرات الاستخدام.
5-المعجمات الأوربية العامة تذكر النطق، ولهذا أهميته في بعض اللغات الإنجليزية والفرنسية بسبب اتساع الفروق بين النطق والتدوين؛ وذلك واضح بدرجة أقل في الألمانية والإسبانية والعربية. ومع هذا كله فثمة قضايا في هذا الصدد بالنسبة لصناعة المعجم العربي الحديث:
تقتصر الأصوات الدخيلة على كلمات دخيلة جديدة، وذلك مثل صوت (V) في فيلا، وفيتامين، وفيينا.
بعض المثقفين العرب ينطقون بعض أصوات الكلمات الدخيلة على نحو نطقها في لغتها أو أقرب ما يكون إلى ذلك، وذلك مثل صوت (u) في الألمانية و(u) في الفرنسية. وعلى وجه الخصوص في أعلام المدن، مثل Munchen وأعلام الأشخاص مثل Comu. وكان مجمع اللغة العربية قد أقر مجموعة قواعد لتدوين الأصوات الأجنبية بالحرف العربي. وإذا كان الرأي بعمل معجم يتضمن جانبًا موسوعيًّا وتمثيل هذه المداخل فيه مع تدوين النطق، فمن الضروري الاتفاق على رمز لتدوين هذا الصوت.
هناك خلاف حول أربعة رموز لتدوين صوت الجيم الشديدة وما يماثلها: ج (في مصر)، ? (في تونس)، گ، ك (في المشرق)، غـ (في معربات قديمة في المشرق على وجه الخصوص). النطق موحد والكتابة مختلفة.
6- التصنيفات:
أنواع الكلم في التصنيفات الموروثة في دراسة العربية: اسم وفعل وحرف، ولا يكفي هذا التصنيف الثلاثي لأغراض المعجم. وهنا تكون الإفادة من المصطلحات الأساسية للتصنيفات الصرفية، مثل مقصور، ومنقوص، اسم فاعل، اسم مفعول، اسم مكان، مصدر. وكذلك الإفادة من مصطلحات العمل النحوى: متعدٍ، لازم. وكذلك من بعض مصطلحات باب الإعراب والبناء. تحدد المصطلحات المناسبة وتستخدم بالشكل المناسب.
... ... هناك معجمات تشير مع كل كلمة إلى النوع الذي تنتمي إليه طبقًا لنظام محدد من الاختصارات:
n. noun
u.t. transitive verb
v.i. intransitive verb
Pron. Pronoun(/11)
... ... في اللغة الألمانية تنتظم الأسماء من حيث نظم التصريفات طبقًا لحالات الرفع والنصب والجر والإضافة إلى ثلاثين نوعًا، حصرها معجم Wahrig في المقدمة، وكان يذكر مع كل مدخل رقمًا يشير إلى نوعها من هذه الأنواع.
ب- أكثر الكلمات لها صيغ تصريفية، وذلك باستثناء الكلمات الجامدة والأدوات وما يماثلها. من ذلك في الأفعال: الماضي والمضارع والأمر. وفي الأسماء: المفرد والمثنى والجمع. تحرص المعجمات العامة للغات الحية على ذكر هذه التصريفات الأساسية مع المدخل، دون افتعال واعتمادًا على الاستخدام اللغوي الحقيقي. ولهذا لا يذكر المعجم صيغة جمع لكلمات لا تستخدم في النصوص الطبيعية إلا بصيغة المفرد. ولا يذكر صيغة مفرد لكلمات لا ترد إلا جمعًا. المعجم وثيقة واقعية للغة، وليس مجالاً لافتراضات قياسية لا أساس لها في المدونة اللغوية. وهناك صعوبات ترد مع بعض الكلمات، مثل صيغة المؤنث، أو التعبير عن التفضيل. وهنا يتوقع القارئ عونًا من المعجم، وعلى وجه الخصوص يبحث القارئ الصغير والشاب عن ذلك في المعاجم المدرسية والعامة. وفي هذا الصدد فمن المفيد عمل نظام عرض واضح لتتابع هذه الصيغ التصريفية، مثل تتابع صيغ الأفعال؛ أو اتباع نظام يقوم على الرموز مثل حرف
(ج) للإشارة إلى الجمع.
7- المداخل الموسوعية:
... ... تتفاوت المعجمات العامة الحديثة في موقفها من المداخل الموسوعية:
المعجمات الأمريكية مثل Webster تهتم بالمداخل الموسوعية مع المداخل اللغوية في سياق ترتيبي واحد. تضم هذه المداخل الموسوعية: أعلام الأشخاص، الدول، العواصم والمدن المهمة، المؤسسات المهمة، الحوادث المهمة.
معجمات القارة الأوربية تركز على المداخل اللغوية، ولا تكاد تقبل في المعجم اللغوي مداخل
موسوعية. وفي معجمDUDEN UNIVERSALWORTERB-UCH نجد أسماء الدول في نسق المعجم اللغوي ولا نجد مداخل موسوعية أخرى، وكذلك العواصم وصيغ النسب إليها للمذكر والمؤنث.(/12)
بعض المعجمات الفرنسية تجعل المعجم اللغوي ثم المعجم الموسوعي بين دفتي مجلد واحد مثال ذلك: Le Maxidico، القسم اللغوي في 1206صفحة، ثم القسم الموسوعي بعد ذلك من 1207-1718. ولكن معجم لاروس العام يعطي في داخل بعض المداخل اللغوية شرحًا يتضمن معلومات موسوعية دون تعمد ذلك، ولكن بهدف بيان المعنى.
هناك اتجاه قوي في ألمانيا وبريطانيا لتأليف مستقل باسم المعجم الموسوعي Lexikon في الألمانية وEncyclopaedic Dictionary في الإنجليزية. وهذا النوع من المراجع يتسع أيضًا لاستيعاب المفاهيم العلمية والنظريات والاتجاهات والمعلومات المهمة، مثل بيان الحائزين على الجوائز، وغير ذلك مما يدور في ذهن المثقف المعاصر من أسئلة معرفية عامة.
8- التأصيل:
أ-إن مفهوم التأصيل Etymology على نحو ما استقر في إطار علم اللغة المقارن في أوربا في القرنين التاسع عشر والعشرين لا يقتصر على بحث الكلمات الدخيلة في لغة ما من لغة أخرى، بل يستوعب- من حيث المبدأ- كل كلمات اللغة، ومنها الكلمات الموروثة عن اللغة الأقدم التي نجدها مشتركة في لغات الفرع اللغوي الواحد مع تغيرات صوتية وتغيرات في الصيغة. وهذا المفهوم أخذت به المعجمات العامة والجامعية المؤلفة للغات الأوربية، ولم يدخل التأصيل أكثر المعجمات الصغيرة. وأخذ بهذا المفهوم معجم عربي واحد، هو المعجم الكبير لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ولهذا نجد التأصيل في بداية عدد كبير من المواد اللغوية المورثة والمشتركة في الفصيلة اللغوية التي تنتمي إليها العربية إلى جانب تأصيل الكلمات المعربة والدخيلة. ولكنه لا يكاد يوجد في المعجمات الأخرى لمجمع اللغة العربية.(/13)
ب-هناك اهتمام خاص في المشروعات المعجمية الكبيرة والجامعية بالتأصيل، ويتضح من ذكر التأصيل وخبرائه على الغلاف الخارجي أو الداخلي والإشارة إليه في المقدمة وفي دليل استخدام المعجم. ويتأكد ذلك الاهتمام في داخل أكثر المواد المعجمية بطريقة منظمة.
ج-يتناول التأصيل أصل كلمة المدخل في اللغة المصدر، والتغيرات اللغوية التي حدثت حتى وصلت الكلمة إلى صيغتها الحالية. وعلى سبيل المثال فإن تأصيل أكثر الكلمات في الإنجليزية يمضى بها إلى الفرع الجرماني أو إلى اللاتينية أو اليوناينة أو الفرنسية، ويعود بقدر منها إلى الإسبانية والإيطالية والروسية، وهنا كلمات أخرى دخلت إليها من العربية والفارسية والتركية والأردية، بل هناك مفردات عالمية دخلت اللغات الأوربية، وأصل بعض هذه الكلمات من لغات الهنود الحمر والجزر البولينيزية. وكل اللغات الحية فيها ألفاظ دخيلة، ولكن بعضها أصبح عالميًّا. ومن التأصيل المعجمي في المعجمات العامة والجامعية الحديثة أن يكشف هذه الأصول ويعرضها للقارئ بطريقة دقيقة ومركزة. وهذا جانب يربط اللغة بالحياة، وإنها في الوقت نفسه صورة من لقاء اللغات والثقافات. وهناك معجمات عامة تضيف بعد التأصيل بيان تأريخ أقدام استخدام موثق للكلمة في اللغة التي يعد لها المعجم، من تلك المعاجم المعجم العام من إنتاج لاروس للغة الفرنسية.
د- يتضمن التأصيل في المعجمات الكبيرة والجامعية ما يأتي:
أ-اللغة المصدر التي دخلت منها الكلمة، مثال ذلك قد تكون الكلمة دخلت من الفرنسية القديمة إلى الإنجليزية، اللغة المصدر هناك هي الفرنسية القديمة.
ب- الصيغ المناظرة في لغات أخرى من الفصيلة نفسها، وفي تلك الحالة تذكر صيغ أخرى من لغات هذا الفرع اللغوي. ومثل هذا مطبق في المعجم الكبير لمجمع اللغة العربية بالقاهرة في تأصل مواد لغوية كثيرة وأصيلة بذكر النظائر في اللغات السامية المختلفة.(/14)
ج- الصيغة الأقدم التي نشأ عنها كل ما سبق، وفي تلك الحالة تذكر الكلمة اللاتينية بصيغتها ومعناها.
هـ - يكون التأصيل بطريقة دقيقة مع استخدام رموز محددة تجعل نظام التحرير صحيحًا من الناحية العلمية وواضحًا للقارئ واقتصاديًّا في النفقات. هذه الرموز المحددة بدائل لعبارات طويلة تستهلك الوقت والجهد والمال.
1) أهم هذه الرموز بعد قلب اتجاه الكتابة:
... ... ... > أصلها
... ... = تساوي
... ... - ولهذا
2) يوضع التأصيل كله بين قوسين معقوفين.
3) يوضع نظام اختصارات للغات حرصًا على الترشيد:
L. = Latin G. Greek
4) توضع كل صيغة بكتابتها بالحرف اللاتيني أو تنقل إليه إذا كانت كتابتها العادية بخط آخر. مثل الخط الكيريلي أو اليوناني أو العبري أو الكانجي يكتب مع كل صيغة معناها في لغتها.
5) التأصيلات الخاصة بكلمات مختصرة أو منحوتة أو منسوبة لا يكون بالبحث في مراحل تاريخية أقدم، بل يكون طبقًا للنسق الآتي:
يكون تأصيل الاختصارات ببيان الكلمات التي أخذ عنها الاختصار، وذلك، مثل: ليزر:
Laser < Light amplification by stimulated emission of radiation
الكلمات المكونة بطريق النحت من كلمتين أو أكثر يكون تأصيلها ببيان الكلمتين المكونتين أو الكلمات المكونة:
بَسْمَل= قال بسم الله الرحمن الرحيم
Motel < Motor + hotel
الكلمات المكونة من صيغة النسب وجمعها: الشوقيات، جمع شوقية أي قصيدة شوقية، نسبة إلى شوقي:
سيفيات، جمع سيفية، أي قصيدة متصلة بسيف الدولة.
روميات، جمع رومية، أي قصيدة في الصراع مع الروم.
رباعيات، جمع رباعية، أي قصيدة رباعية.
9- التعريفات:
التعريفات هي الشروح التي تقدم في المعجم لبيان دلالات المدخل:
الدلالة المعجمية تقدم مع كلمات اللغة.
ب- الإحالة التبادلية إلى كلمة أخرى ذات تعريف وافٍ تكون في بعض الحالات بديلاً لشرح الدلالة المعجمية ومرشدًا إليها.(/15)
جـ- المعجمات التي تتضمن مداخل موسوعية عن الأشخاص أو الأماكن أو المؤسسات أو الحوادث المهمة يكون التعريف بها في المقام الأول متضمنًا أهم المعلومات عنها.
د- الكلمات الوظيفية مثل حروف الجر، وأدوات الجر، وأدوات الاستفهام، وأدوات الشرط... إلخ يكون التعريف بها ببيان تصنيفها واستخدامها طبقًا لقواعد اللغة.
هـ- ترتيب الدلالات في داخل المدخل الواحد موضوع دقيق، وفيه اتجاهات:
ترقيم الدلالات من وسائل بيان تنوع دلالات الكلمة الواحدة.
ترتب بعض المعجمات العامة دلالات الكلمة الواحدة طبقًا للأهمية والشيوع والحداثة. يوضع في البداية المعنى الأكثر وقد يكتفي به القارئ الباحث عن معنى الكلمة بقراءة المعاني الأولى.
ترتب بعض المعجمات دلالات الكلمة الواحدة من أقدم الدلالات إلى الأحدث، ليقرأ القارئ من خلال هذا الترتيب ملامح التغير عبر القرون في مسار دلالي تاريخي. ويرى بعض معجميين صدق هذه الطريقة من حيث تغير الدلالات، ويرى غيرهم أن هذه الرؤية التاريخية تناسب الباحثين أكثر من مناسبتها لجمهور القراء.
تتفق المعجمات في جعل الدلالات التخصصية والمحلية والدلالات الأخرى الخاصة بمستويات لغوية محدودة وكذلك الدلالات البائدة في آخر دلالات كلمة المدخل.
بعض المعاجم تخصص عدة مئات من الفقرات للمترادفات، بمعنى الألفاظ ذات الدلالات المتقاربة. تجمع هذه المترادفات في موقع واحد وتشرحها لبيان الفروق بينها، وتكون الإحالة التبادلية من كل كلمة في المجموعة إلى مكان المجموعة الكاملة.
تكون الإحالات التبادلية بين المداخل المتقاربة دلاليًّا، على أن يوضع التعريف المفصل مع المدخل الأكثر شيوعًا. وتكون الإحالة إلى الكلمة الأخرى أو الكلمات الأخرى. ورمز الإحالة فاصلة منقوطة (؛) وبعدها كلمة يتفق عليها في تحرير المعجم، وذلك مثل: أيضًا: ثم ترد الكلمة، أو مثل: انظر: ثم ترد الكلمة.
10- مؤشرات الاستخدام:(/16)
... ... ... هي ما يرشد إلى استخدام غير شائع في كل المنطقة اللغوية، تذكر المؤشرات ما يوضح الاستخدام أو مستواه أو التصنيف الاجتماعي له، ويمكن تصنيف هذه المؤشرات بمراعاة ما يأتي :
المنطقة الجغرافية، ويقتصر بيان ذلك على الكلمات والتعبيرات غير المشتركة، والتي تستخدم في منطقة جغرافية محددة.
درجة القبول الاجتماعي، ومن هناك التحفظ تجاه بعض الكلمات أو الدلالات بأنها مكشوفة فاضحة أو بذيئة أو سوقية أو عامية.
المستوى الثقافي؛ ويقتصر بيان ذلك على الكلمات الشاعرية، والكلمات التي يتسم بها حديث الأكاديميين، والكلمات المألوفة في الخطاب الديني.
الانتماء المهني، ويتصل ذلك بالمصطلحات المختصة بتخصص محدد ينسب إليه المصطلح. تتعدد دلالات الكلمة بتعدد التخصصات، فيراعى ذلك في مؤشرات الاستخدام وبيان المعنى.
مدى القدم، ومن حيث الجانب توصف بعض الدلالات بأنها بائدة.
... ... ... وحتى لا تتعدد هذه المؤشرات تعددًا يجعلها غير واضحة فمن المفيد حصرها وتعريف كل منها في نظام محدد العناصر.
11- نظام التحرير:
يتضمن نظام التحرير مجموعة المواصفات التي تظهر عند طباعة المعجم:
الحروف الغليظة والحروف العادية بهدف الوضوح القرائي لكلمة المدخل وكذلك المداخل الفرعية. وأفادت بعض المعجمات من ذلك في المقدمة، فطبعت الكلمات الدالة في نسق المقدمة بحروف غليظة.
نظام النقل الحرفي من النظم المختلفة للكتابة إلى النظام المطبق في المعجم، وكذلك علامات الترقيم المناسبة للتأصيل.
نظام علامات الترقيم المناسبة للفصل بين الدلالات.
نظام الاختصارات والرموز.
ب- وينبغي أيضًا تحديد المواصفات الطباعية بالتعاون مع خبراء الطباعة:
البنط المناسب للمداخل والشروح.
أنواع الحروف المستخدمة.
الحرف العادي والحرف الأسود.
نظام الأرقام وأشكالها.
جـ- هناك اختصارات تستخدم كثيرًا في داخل المعجم تخصص لها صفحة في بداية المعجم، وتتضمن الاختصارات الدالة على ما يأتي:(/17)
أنواع الكلم.
مصطلحات التصريفات.
المعلومات التأصيلية.
مؤشرات الاستخدام.
د- الاختصارات المتداولة في المنطقة اللغوية تكون في أماكنها في المعجم بمراعاة حروفها بوصفها مداخل معجمية، مثل: أ ش أ، كونا، وكذلك: ليزر، رادار.
هـ- تكون الرموز أو الأرقام هادفة إلى الوضوح القرائي:
بيان حدود التأصيل.
الفصل بين الدلالات.
بيان الإحالات التبادلية.
بيان المداخل متعددة الكلمات.
و- بيان الصيغة الأقدم المفترضة في حالة التأصيل في اللغات الأوربية، ذلك بذكر الأصل في اللغة الهندية الأوربية الأقدم في حالة الكلمات الموروثة في اللغات المنتمية إلى تلك الفصيلة اللغوية.
12- مقدمة المعجم:
... ... تتفق مقدمات المعجمات العامة الكبيرة في أنها تعطي القارئ:
معلومات عن المعجم: هدفه، طبيعته، المستوى اللغوي للمداخل، منهج إعداده، أنواع المشاركين فيه.
دليل استخدام المعجم حتى يتمكن القارئ من سهولة البحث فيه والإفادة القصوى منه.
قائمة الاختصارات المستخدمة في المعجم.
يتكون دليل استخدام المعجم من عناصر، قد توجد كلها أو بعضها في الدليل:
اختيار المداخل.
ترتيب المداخل.
نظام الكتابة.
الأبناط المستخدمة.
هـ- مفهوم المدخل.
و-المعلومات الصرفية والنحوية عن الكلمة.
ز-مستوى الاستخدام ومجال التخصص.
ح-نسق الترتيب في داخل المدخل الواحد.
ط-طرق التعريف (الشرح).
ي- نظام الإحالات.
ك- بيان المترادفات.
ل- بيان التنوعات الإملائية.
م- بيان المتضادات
ن- التأصيل المعجمي.
تختلف مقدمات المعجمات العامة الكبيرة في مدى تضمنها ما يأتي:
موجز تاريخ اللغة.
موجز قواعد اللغة.
موجز تاريخ صناعة المعجم في تلك اللغة.
قواعد الإملاء الصحيح الجديدة.
هـ- بيان الأعلام الجغرافية وصيغ النسب إليها.
13- اللوحات والرسوم:
... ... تضم بعض المعجمات في داخلها عددًا من اللوحات والرسوم، التي تتوافر كلها أو بعضها في معجمات عامة كبيرة، وأهم أنواعها ما يأتي:
الخرائط.(/18)
أشكال أنواع الحيوان والنبات.
الأشكال الهندسية.
أشكال الأدوات والآلات.
هـ- أجزاء جسم الإنسان.
و- الطرز المعمارية.
ز- بعض المعالم الأثرية.
14- ملاحق المعجم:
... ... ... تضم ملاحق المعجم والغلاف الداخلي والصفحات الملحقة بمتن المعجم مجموعة من المكونات التي قد يتوافر عدد منها في المعجم الواحد. ومن النادر أن تتوافر كلها في عمل معجمي واحد. وأهم هذه المكونات ما يأتي:
الوحدات القياسية:
العلامات والرموز المستخدمة في بعض العلوم (الفلك، العلوم البيولوجية، الكيمياء، التجارة والمالية، والرياضيات).
جدول الحروف (في نظم الكتابة اللاتينية والعربية والعبرية واليونانية والكيريلية والقوطية).
توزيع اللغات في الفصيلة اللغوية التي تنتمي إليها اللغة.
15- تجديد المعجمات:
أ- المعجم العام المؤلف لجمهور المثقفين عمل مرجعي لا بد أن يكون حديثًا ومتجددًا ليفي بالمتطلبات المعاصرة. في مقدمة إحدى طبعات وبستر عبارات دالة على الموقف في معجمات اللغات الأوربية من التغير اللغوي الحادث، ذلك أن معجمي بيلي Bailey أو جونسون أو غيرهما لا يمكن أن يقرأ بهما القارئ صحيفة نيويورك تايمز، قيمتهما التاريخية في اللغة مثل كتابات روجر بيكون للمتخصص في الفيزياء النووية. ولما كانت الحياة متغيرة وكذلك المصطلحات وألفاظ الحضارة والكلمات والتعبيرات، فإن تجديد المعجمات الحديثة مطلب مجتمعي وثقافي.
... ... ويتضح في مقدمات الطبعات المتتابعة من المعجمات أهمية تجديدها المستمر في ضوء عدة اعتبارات:
عدم جمود المفاهيم العلمية.
ب- حقيقة التغير المعجمي في ضوء التقنيات الجديدة.
جـ-وجود كلمات جديدة في ضوء التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
د- أهمية إدخال مواد موسوعية جديدة وتحديثها.(/19)
... ... وفي هذا الصدد استقر في تجديد المعاجم مبدأ عدم النقل في التعريفات من المعاجم الأخرى. وفي مقدمة أحد المعاجم نص على ذلك: كل تعريف يكتب من جديد بأبسط لغة مع الدقة والكمال.
... ... ومن أمثلة الحرص على تجديد المعجمات، عدم إنهاء العمل في تجديد المعجم إلا في آخر لحظة ومع المراجعة الطباعية. وعلى سبيل المثال عند إعداد الخامسة من Webster’s New World Dictionary كان هناك جانبان مهمان لا ينتهيان مع المراجعة النهائية للمعجم عن طريق المستشارين، وهما تواريخ وفيات الأعلام الذين ماتوا بين مراجعة المعجم والجمع الطباعي، وكذلك أحدث المصطلحات العلمية والتكنولوجية التي ظهرت في تلك الفترة الوجيزة.
16- جوانب تجديد المعجمات الحديثة:
... ... اتضح بمتابعة مقدمات عدة طبعات من معاجم كبيرة للغات أوربية أن أهم اتجاهات تجديد المعجم تتضمن ما يأتي:
1) التدقيق في معاني الكلمة بهدف صياغة التعريفات لجعلها أكثر وضوحًا.
2) إضافة إمكانات استخدام الكلمات في سياقات حية.
3)إعطاء معلومات عن الإمكانات النحوية لاستخدم الكلمة.
4) إعطاء مزيد من الاهتمام للتطور التاريخي للمفردات من حيث الدلالة والاستخدام.
5) التدقيق في تأصيل المفردات.
6) إضافة الكلمات الجديدة المستخدمة في الكتابات المتداولة.
7) إضافة المصطلحات العلمية الجديدة التي دخلت الاستخدام العام.
8) إضافة الألفاظ الدالة على التكنولوجيا الجديدة في حدود المعجم.
9) إضافة الخرائط والرسوم والجداول الإيضاحية.
10) تحديث الملاحق المعرفية المصاحبة للمعجم.
11) إعادة عرض موجز القواعد النحوية والتصنيفات الصرفية وتصريف الأفعال.
12) إعادة عرض موجز قواعد الإملاء.
13) عمل مزيد من التنظيم والترتيب والتنسيق الطباعي بهدف مزيد من الوضوح القرائي.
17- الفروق بين معجمات حديثة:
... ... يتضح أيضًا من مقدمات معجمات عامة أن بعضها يختلف عن بعضها الآخر من حيث الموقف من الجوانب الآتية:(/20)
أ- مدى الاهتمام بالأعلام الجغرافية، ترحب بها معاجم أمريكية طبقًا لخطة محددة، وتجعلها معاجم أوربية في خارج حدود المعجم اللغوي في إطار تصوّر أنها تعد مداخل مستقلة أو تدخل في المعجم الموسوعي أو تكون في ملحق موسوعي للمعجم.
ب- مدى استيعاب أسماء أعلام الشخصيات المشهورة. تهتم بها-أيضًا- معجمات أمريكية، وتجعلها معجمات أوربية في خارج المعجم اللغوي.
جـ- مدى قبول الكلمات الدخيلة في اللغة، والمقصود بها هناك تلك الكلمات الدخيلة المتداولة في الكتابات غير المتخصصة.
د- تختلف المعجمات العامة الكبيرة عن المعجمات الوسيطة في المعلومات اللغوية عن الكلمة الواحدة، وكذلك في بيان الدلالات، فضلاً عن الاختلاف في عدد المداخل.
ثالثًا- التقنيات:
1- بدأت الإفادة من الحاسوب في صناعة المعجمات العامة منذ أكثر من ثلاثين عامًا. وعلى سبيل المثال جعل معهد اللغة الألمانية Institut fur die deutsche sprache في مدينة مانهايم في ألمانيا الحاسوب من أدوات تحديد المداخل وتعرف سياقات الاستخدام. كانت الإفادة من الحاسوب في ذلك الوقت (1970م) تقوم على تخزين يومي منظم للكلمات الواردة في صحف ومطبوعات مختارة، وترتب مجموع كلماتها طبقًا للشيوع وطبقًا لبدايات الكلمات وطبقًا لنهايات الكلمات. وتكون هذه النواتج الثلاثة متاحة للمعجميين في تلك المؤسسة الضخمة التي تعد سلسلة معجمات DUDEN.
2- بذلت جهود كثيرة في عدد من الدول الأوربية لبناء قاعدة بيانات لغوية في المؤسسات العاملة في صناعة المعجمات العامة:
كل المؤسسات الكبرى المعنية في أوربا بصناعة المعجم تستخدم الحاسوب لخزن البيانات المعجمية طبقًا لأهداف العمل.
بعض المؤسسات الصناعية والتجارية الكبرى لها بنوك مصطلحات في التخصصات التقنية التي تهتم بها المؤسسة، إلى جانب المصطلحات التجارية اللازمة لإبرام التعاقدات، وبعضها يصدر معجمات متخصصة مزدوجة اللغة.(/21)
المشروعات المعجمية ذات الأهداف التعليمية تتعامل بالحاسوب في تخزين البيانات المعجمية، وذلك بهدف عمل معاجم مزدوجة اللغة، ومن ذلك القاموس المدرسي العربي الهولندي.
تم إنجاز مشروع المعجم المدرسي العربي القازاقي بإشرافي باستخدام الحاسوب في جمع المادة ومقابلاتها من مسارد معجمية كثيرة، وأفاد الحاسوب في الترتيب الألفبائي وفي حذف التكرارات (يصدر2003م).
3-من أكثر المشروعات إفادة من الحاسوب في صناعة المراجع العربية موسوعة أسماء العرب. أنجزت في إطار تعاون بين جامعة السلطان قابوس وجامعة القاهرة. كانت البيانات الإحصائية واللغوية والاجتماعية والموسوعية تعدها مجموعات عمل متعددة، تدخل هذه البيانات من روافدها المختلفة، تسجل فور ورودها من مجموعة العمل الواحدة في أماكنها طبقًا للترتيب الألفبائي للمداخل. ويتم طلب المادة المخزنة لأغراض التحرير والمراجعة. وبعد أن تم ذلك كله وصحح النص لم يكن ثمة حاجة إلى إعادة الجمع الطباعي فقد أخذ القرص وتعاملت به المطابع.
4- على مستوى اللغات الأوربية يعد مشروع برمنجهام للغة الإنجليزية من أهم المشروعات؛ وهو مشروع Cobuild. ويقوم على الأسس الآتية:
تجاوز الانطباع الفردي إلى الحكم الموضوعي في العمل المعجمي.
الفرق الأساسي بين العمل المعجمي الفردي والعمل المؤسسي هو في حجم المادة اللغوية المتاحة.
لم يكن من الممكن منذ عشرين عامًا الكلام عن نصوص بملايين الكلمات.
التعاون بين العمل العلمي في مؤسسة علمية والنشر التجاري في دار نشر ضروري في صناعة المعجم، ومن هنا تعاونت جامعة برمنجهام مع دار نشر Collins.
هـ- تضمنت المرحلة التمهيدية لهذا المشروع في السبعينيات من القرن العشرين ما يأتي:
عمل برامج الحاسب.
تنظيم مقررات تدريبية للطلاب والمعاونين.
توعية الرأي العام بأهمية المشروع.
تأسيس استخدام الحاسوب بشكل جادٍّ في العمل المعجمي.
و- كانت تجربة الخطة بين عامي 1980م-1986م:(/22)
صقل الخطة من خلال الممارسة.
وضع منظومة تقنيات للملاحظة والتحليل والتسجيل.
إصدار كتاب منهجي بعنوان Loking up (1999م).
تحرير مبدئي لعمل معجمي.
ز- اتضح من العمل عدم وفاء التقنيات المعروفة حتى ذلك الوقت في صناعة المعجم. وتبين أهمية اعتماد ثلاثة مفاهيم جديدة في صناعة المعجم، وهي: التضام collocation وعلم الدلالة semantics والتداولية pragmatics.
ح-أصبح الاهتمام بالعلاقات الدلالية كبيرًا في معجم Cobuild.
ط- بدأت دراسات تقابلية للإنجليزية مع لغات أخرى بهدف الإفادة من النتائج في تعليم الإنجليزية لأبناء اللغات الأخرى.
5-الجهود العربية المنجزة أهمها مشروع البيانات المعجمية في إحدى شركات الحاسوب الكبرى، وعنوانه "المكنز". ومحتوى هذا المكنز مجموعة من النصوص المختارة من العربية الفصحى المعاصرة في أقطارها المختلفة إلى حد بعيد وفي مجالات معرفية متعددة، وذلك بهدف تعرف الألفاظ والمصطلحات والتعبيرات المستخدمة في اللغة العربية في العصر الحديث، وذلك إلى جانب الإفادة من كلمات القرآن الكريم وكتب السنة. وقد بلغ حجم النصوص التي دخلت ذاكرة الحاسوب عدة ملايين من الكلمات، ومن المتوقع أن يصل حجم النصوص إلى 500 مليون كلمة. وقد اتضح من هذه النصوص وجود عدد محدد من الكلمات ترد في تلك النصوص، وزودت هذه الكلمات عن طريق مجموعة باحثين في هذا المشروع بعدد من المعلومات الصرفية والدلالية.
6-المشروعات الجارية في الدول العربية كثيرة للإفادة من الحاسوب بهدف تكوين قاعدة بيانات لغوية. ومن أهمها:
مشروع المعجم التاريخي للجمعية التونسية، وفيه اهتمام بالمراحل التاريخية المختلفة للعربية. بدأ العمل بالشعر الجاهلي، وكانت بعض رسائل الماجستير في جامعات مصرية قد شرعت في ذلك منذ ثلاثين عامًا، وذلك قبل التطور الكبير في عمل الحاسوب.(/23)
مشروع الذخيرة اللغوية العربية الذي بدأ التخطيط له في الجمهورية الجزائرية، يطمح إلى تعاون المؤسسات المعنية في الدول العربية. وهو مشروع علمي ينطلق من الاستعمال الحقيقي للغة العربية، كما يتضح في المؤلفات والمحاضرات والمقالات وفي المعاجم العربية. ويتضمن المشروع عمل "بنك النصوص الآتي" يخدم العمل من أجل "إنجاز المعجم الجامع للغة العربية"، وكذلك عمل منظومة من المعجمات الأخرى. وهو مشروع عربي تكون المشاركة فيه في كل بلد من مهمة مؤسسة علمية أو ثقافية، تكون من أقدم المؤسسات وأقواها من حيث إمكانات التنفيذ.
... ... كل هذه الجهود مفيدة. وينبغي أن تكون متاحة بشكل منظم لمجمع اللغة العربية بالقاهرة وللمجامع اللغوية.
7- قبل هذا كله، حان الوقت لخدمة صناعة المعجمات العربية بتكوين قاعدة بيانات معجمية في مجمع اللغة العربية على أساس المواد المتاحة في المعجمات العربية التراثية والمعجمات التراثية المتخصصة والمعجمات المكملة، والمعجمات ذات المداخل العربية والمعجمات ذات المقابلات العربية، وكتب لحن العامة وغير ذلك من الكتب التي تضم كلمات عادية ومصطلحات علمية وتعبيرات مشروحة. وفي هذا الصدد تكون الإفادة من المشروعات الجارية باستخدام التقنيات الحديثة لإدخال هذه المواد بأقل جهد ممكن، وذلك بعد التثبت من إمكاناتها ودقتها.
8- من الضروري التخطيط لتجديد المعجمات مع كل طبعة جديدة، وفي تتابع زمني سريع وهذا ممكن باستخدام الحاسب. ولن يكون جمع المادة من جديد مطلوبًا، بل التعديلات تدخل وحدها، ثم يكون العمل متاحًا للطباعة. ووزارة التربية والتعليم في مصر- على سبيل المثال- تطبع المعجم الوجيز في كل سنة، ولا يمر عام دون أن نرى طبعة مصوّرة هنا أو هناك من "المعجم الوسيط". وهذا يشهد بحاجة المثقفين إلى مثل هذه المعجمات.
رابعًا- قضايا تطبيقية:(/24)
1-تتضمن معجمات جديدة للغة العربية دلالات جديدة لكلمات قديمة. ويتضح في المعجم الوسيط والمعجم الوجيز هذا التوجه المهم. وفي الوقت نفسه أخذت المعجمات الحديثة تتضمن كلمات عربية جديدة من الرصيد العربي الجديد الذي تكوّن بأوزان عربية، فاتخذ مكانه في نسق المفردات العربية. إنّ المعنى اللغوي القديم العام لا يغني عن المعنى الاصطلاحي الحديث. وتتعقد المشكلة أكثر، إذا كان المعنى القديم قد أصبح بائدًا. وذلك مثل الفعل أَكْسَدَ، لا يغني ذكر معناه القديم المذكور وحده في بعض المعجمات الحديثة عن معناه الجديد في علم الكيمياء.
2- الكلمات البائدة أو المهجورة لها مكانها في معجماتها أو في المعجمات الشاملة الكبيرة، ولكن وجودها في معجم صغير مؤلف للتلاميذ يجعل فائدتها محدودة وقد يكون ذلك على حساب كلمة متداولة يحتاج التلميذ معلومات عنها، وعدم تمييز البائد المهجور عن الكلمات الحية المستخدمة يربك الدارس الأجنبي على وجه الخصوص وهو يبحث عن كلمة يستخدمها فيظنها مستخدمة.
3- تضمن المعجم الوسيط والمعجم الوجيز بعض المداخل والدلالات المصرية. ولا شك أن وجودها ضروري في المعجم، ولكن استكمال المعجم يتطلب أيضًا وجود ما يناظرها في الأقطار العربية الأخرى.
4- ألفاظ الحضارة تدل على تطور مهم في تاريخ الإنسان وتتطلب عناية خاصة لبيان ذلك. مثال ذلك الأبجدية وكذلك كلمة أبجد، لابد من شرح دقيق يساعد القارئ في الفهم الدقيق وعدم الخلط. ليست المشكلة مجرد وجود الكلمة، بل تذكر معجمات أوربية حديثة معلومات وجيزة عن كون الكتابة الأبجدية ترجع إلى الفينيقيين، أو إلى الأجريتيين وانتقلت من ساحل الشام إلى بلاد اليونان ومنها إلى بلاد أوربا وغيرها، وأن ترتيب الحروف يرجع إليهم أيضًا.(/25)
5- بعض الكلمات تمثل الاستخدام العادي في بعض الدول العربية، ولكنها غريبة في دول أخرى، وذلك مثل أسماء الشهور السريانية (مادة: آب والمواد المماثلة)، ومن المفيد في الشرح بيان منطقة استخدام هذه الشهور، حرصًا على التحديد وعدم التعميم. ومثل هذه الملاحظة تصدق أيضًا على الشهور القبطية (مادة: أبيب والمواد المماثلة). وهنا يكون بيان منطقة استخدام هذه الشهور ضروريًّا، مع النص على أنها تكاد تكون مقصورة على الريف، مع ذكر المقابل بالشهور الميلادية.
6- بعض مصطلحات العلوم الإنسانية لها أصول قديمة، ولكن الدلالة الجديدة محددة وليست عامة ولا تطابق الدلالة القديمة. وكل هذه الدلالات ينبغي فصلها وعدم خلطها أو تداخل المراحل التاريخية: مثال ذلك الآثار وعلم الآثار. وليس دقيقًا أن علم الآثار يدرس "الوثائق والمخلفات القديمة". علم الوثائق تخصصٌ مختلف عن علم الآثار الذي يدرس التراث الحضاري القديم والوسيط، مثل: علم الآثار المصرية وعلم الآثار اليونانية، الرومانية وعلم الآثار الإسلامية. وكلمة "الأدب" تتطلب شرحًا محددًا يجعلها دالة على الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرحية، ولا يكفي أن يقرأ القارئ الحديث أن الأدب هو الجميل من النظم والنثر.
7- المصطلحات في الدراسات الأدبية والعلوم الاجتماعية والدراسات الإنسانية ليست حقائق مطلقة، بل يرتبط كل منها بزمن محدد أو نسق اجتماعي أو مدرسة علمية أو سياق تاريخي معين. ولهذا ينبغي أن يكون الشرح متضمنًا التحديد الزمني أو النسق الاجتماعي أو المدرسة العلمية أو ما يماثل ذلك. أمثلة ذلك: مدخل الأبيقوريين، شُرح دون تحديد زمني لهم في بعض المعجمات. وهنا تتضح أهمية بيان الزمن، ولابد من تحديد المرحلة التاريخية لظهورهم لئلا يجعل لهم القارئ زمنًا غير زمنهم. ومثل هذا يطبق أيضًا على المدارس الأدبية والاتجاهات الفكرية.(/26)
8- المذاهب الدينية والفِرق والنِّحل وما يماثلها ينبغي التدقيق في الشرح، كلمة (الخوارج) تثير استياء من يوصفون بها. أما (الإباضية) فإنهم ليسوا مجرد "بقايا في الجزائر وعمان"- كما ورد في بعض المعجمات الحديثة- فهم يشكلون المذهب الرسمي لسلطنة عمان، ومنهم أيضًا جماعات لها شأن في جنوب الجزائر، وفي جزيرة (جِرْبَة) في الجمهورية التونسية.
9- المصطلحات الدالة على الجماعات والكتابات الخاصة بالمعتقدات تتطلب عناية خاصة. مصطلح (العهد القديم) يتطلب شرحًا يوضح أنه يتكون من التوارة والأنبياء والمكتوبات. ومن ذلك (الزبور) صحف داود عليه السلام. وهنا يكون من المفيد الإحالة إلى كلمة (مزمور والجمع مزامير)، وذلك لأن الزبور يعرف أيضًا بالمزامير التي توجد في سفر خاص بها من أسفار المكتوبات في العهد القديم. أما كتب اليهود المتأخرة فمنها (المشنا) وهي مذكورة في المعجم الوسيط والمعجم الوجيز، ولكن شرحها وهو الجمار فهو غير مذكور وكلاهما يكوّن التلمود، وله مدخل في كلا المعجمين. ترتبط بعض أوصاف الأماكن بموقف ديني مسيحي في بعض المعجمات العربية الحديثة، وذلك مثل عبارة: (الأرض المقدسة) شرحت على أنها المباركة. وليست هذه العبارة عامة تطلق على أي مكان مبارك، بل هي خاصة بفلسطين، الصليبيون وصفوها بأنها terra sancta ومعناها الحرفي الأرض المقدسة. وعندما ترد في معجم عربي حديث يتضح أنه لا يكفي النقل عن معاجم أوربية، بل ينبغي النص على أن هذه التسمية من وجهة نظر أوربية مسيحية، وإضافة الرؤية الإسلامية مهمة هنا، فالأراضي المقدسة تضم مكة المكرمة والمدينة المنورة.(/27)
10- أسماء الأعلام الجغرافية تتطلب تجديدًا مستمرًّا وتدقيقًا دائمًا، وتتضمن أسماء الدول وعواصمها وعدد السكان. وعلى سبيل المثال (إقليم السند) كان يعد من أقاليم الهند قبل التقسيم، ولكنه منذ قيام دولتين في شبه القارة يقع في باكستان. وبعد ذلك حدث انقسام لباكستان ولم يعد هنا ما يسمى باكستان الشرقية وباكستان الغربية. وبعض المعجمات العربية الحديثة معلوماتها قديمة نسبيًّا. ومن هنا ينبغي وجود مداخل متعددة: الهند، باكستان، بنجلادش، إذا اقتصر المعجم على أسماء الدول. وإذا كان القرار بإضافة الأقاليم الكبرى فإنها تضاف كلها بطريقة متوازنة. الأمر نفسه بالنسبة لعواصم الدول وحواضر الأقاليم. إن أسماء القارات (آسيا، أفريقيا، أوربا، استراليا، أمريكا) تجعل القارئ يريد من المعجم اللغوي أن يدله على حدود هذه القارة وتلك ومعلومات عنها. بعض المعجمات تحدد ذلك بطريقة علمية صحيحة، وذلك بذكر الأقاليم المناخية والسكان ولكن القارئ ينشد أيضًا شرحًا أبسط بذكر بعض الدول بطريقة سهلة تقرب المعنى.
11- بعض النباتات لها عدة أسماء، منها أسماء متداولة في المعجمات وأسماء علمية وأسماء متداولة في الحياة اليومية. وبيان العلاقة بين هذه الأسماء عن طريق الإحالات التبادلية مما يوضح المعنى. مثال ذلك: الآنسون، الينسون، وأنيس.
12-يمثل المعجم الوسيط ثم المعجم الوجيز تقدمًا كبيرًا في صناعة المعجم. يضم كلا المعجمين مداخل كثيرة من الألفاظ العالمية التي تستخدم في لغات كثيرة نجدها في لغات العالم الكبرى وفي دوله المختلفة من اليابان وآسيا الوسطى إلى أوربا وأمريكا فضلاً عن دول أخرى تعلم بتلك اللغات أو تأخذ منها المصطلحات وألفاظ الحضارة. وأهم المجالات الدلالية لهذه الكلمات العالمية تتضمن:
1) الشهادات.
2) الوحدات القياسية.
3) العناصر الكيمياوية.
4) أسماء النبات.
5) أسماء الحيوان.
6) أسماء الشعوب.
7) أسماء القارات.
8) أسماء المذاهب.(/28)
9) المصطلحات الأساسية في الصحة.
10) الحرب الحديثة.
11) وسائل المواصلات الحديثة.
12) الفنون الحديثة.
... ومن المفيد في هذا السياق جمع هذه الكلمات لمعرفة النواقص لاستكمالها، ومن ذلك على سبيل المثال نجد في كلا المعجمين كلمة (دبلوم) ولكنا لا نجد الشهادات الجامعية الأخرى.
13- بعض المفاهيم الجديدة دخلت بمصطلحاتها في علم الأنثروبولوجيا واستقرت هذه المصطلحات في لغات مختلفة، وفي معجمات كثيرة للغات الحديثة، على نحو جعلها من الرصيد العالمي الجديد، منها مصطلحات: تابو وطوطم وفتش. كلمة تابو Tabu أو Tabu ليست أوربية الأصل، كما أنها ليست عربية الأصل، ولكنها من إحدى اللغات البولينيزية ودخلت اللغات الأوربية في القرن التاسع عشر بمعنى المحرّم أو الممنوع طبقًا للمعتقد. وكلمة طوطم Totem أصلها من إحدى لغات الهنود الحمر، دخلت لغات مختلفة وأصبحت مصطلحًا دالاًّ على اعتقاد بعض القبائل البدائية في صلتها وقرابتها من حيث الدم بحيوان محدد أو كائن طبيعي معين، يتخذونه رمزًا لهم. الفتش في الألمانية Fetisch والفرنسية fétiche والإنجليزية fetish، بمعنى اعتقاد بعض القبائل البدائية في قوة خارقة للعادة كامنة في بعض الأشياء المادية. هذه الكلمات التي لا تكاد تخلو منها المعاجم الأوربية ولا نجدها في معجمات عربية كبيرة. وهذا يتطلب موقفًا عامًّا من تلك الكلمات العالمية.(/29)
14-هناك كلمات عالمية دخلت لغات كثيرة، ولم تعد مقصورة على لغة المنشأ. ومعرفة أصول هذه الكلمات من الجوانب الطريفة في المعجمات الحديثة. من ذلك كلمة الطباق، نسبة إلى جزر Tobago من جزر الأنتيل الصغير وأطلق عليه في لغة الكاريبي taboco وtobaco وفي الإسبانية tabaco والفرنسية tabac. وهناك ثمار دخلت من العالم الجديد إلى العالم القديم واستقرت وأصبحت من أهم المكونات في الطعام ودخلت لغات كثيرة. إن أصل النبات مع اسمه من العالم الجديد. ومن أهم الأمثلة: أناناس Ananas من لغة توبي Tupi من لغات الهنود الحمر في البرازيل، دخلت هذه الكلمة أول الأمر إلى البرتغالية واللغات الأوربية الأخرى ثم انتقلت إلى لغات كثيرة في العالم، ودخلت العربية، وقبِل المعجم الوسيط والمعجم الوجيز هذه الكلمة. كلمة (طماطم) دخلت المعجم الوسيط والمعجم الوجيز مع تصنيفها في علم النبات بأنها "نبات حولي من الفصيلة الباذنجانية، يؤكل نيئًا ومطبوخًا". وهذا شرح من أجل التيسير للقارئ الذي لا يعرف الفصيلة الباذنجانية. وهذه الكلمة التي نجدها في عدد كبير من معجمات اللغات الحديثة أصلها في لغة النواتل tomatl ودخلت منها إلى الإسبانية tomate ثم منها إلى لغات أخرى، وقد شرحت في معجم وبستر على أنها: ثمرة حمراء أو مصفرة، مستديرة أو أقرب إلى الاستدارة، في داخلها سائل، تستخدم بوصفها من الخضَر، ثم ذكر تصنيفها في علم النبات. ومن لغات الهنود الحمر أيضًا لغة الأزتك التي قدّمت للغات الأخرى وللعربية كلمة الكاكاو، وأصلها فيها cacaual. وقد قبلها المعجم الوسيط والمعجم الوجيز.(/30)
... ... بعض الكلمات من لغات محلية في العالم القديم، ولكنها دخلت لغات كثيرة فأصبحت من الكلمات العالمية. مثال ذلك كلمة مانجو وأصلها من لغة التأميل من اللغات الدرافيدية في جنوب الهند. الصيغة الأصلية mam-kay دخلت البرتغالية manga وأصبحت في لغات أخرى mango. والاستخدام العربي يتراوح بين هاتين الصيغتين. والمعجم الوسيط وكذلك الوجيز ذكرا الكلمة بالصيغتين (المنجة، المنجُو)، مع تعريف علمي، وكذلك كلمة (الأنبج) مع شرحها بهما، وذكر أن موطنها الأصلي بلاد الهند. ومن هذه الكلمات العالمية في مجال الطعام (الأنشوجة) ذكرها المعجمان الوسيط والوجيز مع شرح علمي. وتذكر معجمات أوربية أصلها في لغة الباسك، ومنها دخلت لغات أوربية مختلفة ansiovis ، anschouis وanschove . ولكن بعض هذه الكلمات العالمية إلى حد ما والمستخدمة في أكثر الأقطار العربية بصيغة أو بأخرى، تذكرها معجمات اللغات الأوربية وتتحفظ معجمات عربية في قبولها. مثال ذلك كلمة بطاطس أو بطاطا. أصلها في لغة هابيتي batata دخلت الإسبانية patata للدلالة على البطاطا الحلوة، وفي الإنجليزية potato.
15- هناك كلمات عالمية دالة على منتجات التكنولوجيا الحديثة في المجال العسكري أو المجال المدني. من ذلك كلمة (طربيد) التي قبلها المعجم الوسيط والمعجم الوجيز. هذه الكلمة أصلها في اللاتينية والإسبانية torpedo اسم سمكة تهاجم عدوّها بضربات فيها شحنة كهربائية، فتشل حركته بسرعة بالغة.(/31)
16-المصطلحات الخاصة بعلوم الأرض بعضها مصطلحات عالمية، من ذلك أسماء العلوم: جغرافيا وجيولوجيا وجيوفيزيقا. وتذكر معجمات اللغات الأوربية الوسطى والكبرى هذه المصطلحات، ومع دلالة كل مصطلح تأصيله المعجمي. المكون الأول geo- بمعنى الأرض ثم المكون الثاني. أما مصطلح "بركان"، وكان يطلق عليه حتى عصر رفاعة الطهطاوي "جبل النار"، فقد استقر في العربية وفي اللغات الأوربية، وأصله الأول Vulkanus اسم إله النار عند الإيتاليين سكان أحد الأقاليم القديمة فيما يسمى الآن إيطاليا.
17-هناك مصطلحات عالمية في مجال المال، منها كلمة "بورصة"، تذكر معجمات أوربية الكلمة اليونانية byrsa واللاتينية bursa بمعنى كيس الجلد وكيس النقود، وتذكر أسرة الصرافين الهولندية van der Bursa، وتتنوع دلالات الكلمة بين المؤسسة النقدية في أكثر اللغات الأوربية، والمعنى الفرنسي للدلالة على المنحة الدراسية bourse. أما الكلمات الدالة على العملات النقدية القديمة والحديثة فإن أكثرها كلمات عالمية إلى حد بعيد. من ذلك كلمة دينار وكلمة درهم، وكلمة جنيه وكلمة ليرة. ودخلت بعد ذلك كلمة دولار وكلمة أويرو. هذه الكلمات تذكرها المعجمات الوسيطة والكبيرة للغات الأوربية مع تأصيلها. كلمة دينار: dinarius من اللاتينية، وكلمة ريال من الإسبانية والبرتغالية real عن اللاتينية regalis بمعنى الملكي، أو العملة الملكية. وهي حاليًّا اسم العملة السعودية والقطرية والعمانية.
18-المصطلحات السياسية المتداولة مثل الديموقراطية والارستقراطية تذكر معجمات أوربية وسيطة وكبيرة دلالة كل كلمة منها كما تذكر تأصيلها. كلمة الارستقراطية أصلها في اليونانية aristos بمعنى الأفضل وkratein.وقد دخلت هذه الكلمة المركبة عددًا من اللغات الأوربية الحديثة aristocratie في الفرنسية، Aristokratie في الألمانية، وaristocracy في الإنجليزية.(/32)
19- يتطلب التعريف بالحركات والمنظمات السياسية تدقيقًا كبيرًا، الصهيونية في تعريفها في معجمات أوربية أنها حركة كانت في البداية تهدف إلى إقامة دولة وطنية يهودية والآن تهدف إلى النهوض بها، ولكنا نجد في معجم عربي حديث تعريفًا أقل وضوحًا يجعل الصهيونية حركة تدعو إلى إقامة مجتمع يهودي مستقل في فلسطين، والصهيونية لم تكن هادفة إلى مجرد إقامة مجتمع، بل إلى إقامة دولة. وفي مقابل ذلك يتطلب تعريف العروبة تدقيقًا سياسيًّا، يوضح أنها ليست خصائص الجنس العربي بقدر ما هي الانتماء والعمل على الوحدة العربية. وفي هذا السياق، لا يمكن غياب جامعة الدول العربية في شرح كلمة جامعة.(/33)
20- هناك مصطلحات وألفاظ حضارية في الحضارة الإسلامية عبر القرون، وتتطلب تأصيلاً معجميًّا في ضوء الدراسات الفارسية والتركية والأردية ودراسات آسيا الوسطى. وهي كلمات كثيرة ترد في نصوص الكتب العربية على مدى خمسة قرون على الأقل. لا شك أن التأهيل المعجمي من أهم جوانب التجديد في صناعة المعجم العربي الحديث. كاد "المعجم الكبير" ينفرد بهذا الجانب، بالإضافة إلى حالات معدودة في غيره من المعجمات. ولكن غياب التأصيل عن المعجم الوسيط يجعل كثيرًا من القراء لا يجدون ما ينشدونه من بحث عن بعض الكلمات. من ذلك ألقاب الحكام في التاريخ وفي الحضارات الأخرى، بعضها دخيل في العربية، لأن الحكام كانوا غير عرب أو أنهم كانوا يحكمون بلادًا غير عربية. ويطمح المثقف والطالب إلى معرفة أصل اللقب، وأمله في المعجم أن يفي بهذا المطلب. لقب "الإخشيد" لا يكفي أن يقال إن معناه: ملك الملوك ولا تذكر بدقة اللغة التي كان فيها هذا المعنى. وكذلك لقب الخديوي، فلم يكن مألوفًا استخدامه لقبًا لحاكم مصر بصفة عامة تحت سيادة العثمانيين، بل هو لقب استخدم في فترة محدودة من الخديوي إسماعيل إلى بدايات القرن العشرين، وهذا التحديد التاريخي مهم. أما لقب الخاقان فلم يكن ملوك الترك جميعًا على مر العصور يتخذون هذا اللقب، بل ارتبط بنظم حكم محددة. وكذلك لقب الخان الذي كان يطلق في مرحلة تاريخية محددة على من يحكم إقليمًا من أقاليم آسيا الوسطى، يسمى خانيه. وزوجته هي الخانم، وعربت: هانم. ومن ذلك أيضًا لقب الخاتون وهو من أقدم الألقاب في آسيا الوسطى، ورد في النقوش الصُّغْدِيّة والتركية القديمة: قاتون بمعنى الملكة وزوجة الملك. ولا يكفي في معجم حديث أن تشرح بأنها المرأة الشريفة، فنحن لا نستخدم تلك الكلمة استخدامًا عامًّا لهذا المعنى، بل لها دلالة مرتبطة بمرحلة تاريخية محددة. ومن ذلك اللقب الهندي (بيجوم = بيكَوم) الذي يرجع أصله الأقدم إلى التركية(/34)
بيكيم بمعنى زوجة البك، وقد دخل الأردية بمعنى السيدة المبجلة.
... ... ولكن الألقاب والدرجات الجامعية الحديثة تتطلب رؤية ومنهجًا حتى تدخل معجمات العربية، وكذلك أسماء الشهادات: دكتور، دكتوراه، ماجستير، ليسانس، بكالوريوس. معاجم اللغات الأوربية لا تغفل هذه الكلمات، وقد قبِل المعجم الوسيط والمعجم الوجيز من هذه المجموعة كلمة دبلوم، واقتصر في دلالتها على أحد معانيها. إجازة فوق البكالوريوس ودون الدكتوراه، وهنا مجال لتأصيل الكلمة من جانب ولبيان معناها العام والقديم الدال على الوثيقة بصفة عامة، ثم دلالتها على الشهادة الفنية المتوسطة، وعلى الشهادة الجامعية فوق البكالوريوس. وإذا كان المعجمان الوسيط والوجيز قد قبلا الدبلوم فمن المناسب أن نقبل أيضًا باقي الكلمات الدالة على الشهادات.
21- بعض أسماء الأماكن في آسيا، تتكون من مكون عربي ومكون غير عربي، وذلك مثل آباد، في: عشق آباد عاصمة جمهورية تركمانستان، وإسلام آباد عاصمة باكستان، وحيدر آباد (الدكن) في الهند. والقارئ العربي يرى من المهم معرفة معنى (آباد) وأنها تدل على المدينة في تلك اللغات. وشبيه بهذا أسماء الدول المنتهية باللاحقة (ستان)، مثل قازاقستان، أوزبكستان، تاجيكستان، ودلالاتها: بلاد القازاق أو بلاد الأزبك، أو بلاد التاجيك. وكان الترك العثمانيون يطلقون على بلاد العرب: عربستان، وهو حاليًّا اسم إقليم حدودي بين إيران والعراق. ومثل هذا التساؤل نجده مع كلمات تنتهي بـ (خانه)، وذلك مثل جبخانه، كتبخانه، دفترخانه، وفيها المكون الأخير (خانه) بمعنى (مكان) في الفارسية ثم التركية ثم القازاقية.(/35)
22-هناك دلالات جديدة كثيرة لكلمات قديمة، منها في مجال الحاسب الآلي كلمة (فارة) وهي الأداة الصغيرة يحركها مستخدمه للتحكم في الأوامر، ولا تكفي الدلالات القديمة ولا بد من ذكر المعنى الجديد أيضًا. وليست (الحصانة) مقصورة على حالة المرأة العفيفة، كما ورد في بعض المعجمات الحديثة للعربية، فهناك دلالات أخرى للكلمة ترتبط بالحصانة الدبلوماسية والحصانة البرلمانية. وكلمة (المحضر) ليست مجرد سجل لأي شيء، بل هو لأغراض رسمية محددة في الشرطة أو في القضاء أو في المجالس الرسمية مثل محضر مجلس الجامعة.(/36)
23- يتوقع القارئ أن تكون كلمات لغة الشرح فصيحة معاصرة وبسيطة. في شرح كلمة (جمرك) نجد كلمة (جُعْل) ونجد كلمة (مكس)، وكلاهما من المفردات غير المألوفة لمن يبحث عن دلالة الجمرك. وفي شرح كلمة (جزيرة) نجد عبارة: يُحْدِق بها الماء، وكان الشرح ممكنًا باستخدام عبارة يحيط بها الماء. وتعد قضية وسائل شرح الدلالة وتوخي الوضوح والسهولة في ذلك من أهم موضوعات صناعة المعجمات الحديثة. والتكرار المعجمي أو ما يماثله لا يشرح المعنى، وفي شرح كلمة (الثعبان) في أحد المعجمات العربية الحديثة ذكر أنه اسم عام لكل حيوان من مرتبة الثعابين. وفي مقابل هذا نجد شرح الكلمة المقابلة في معجمات أوربية عامة يتضمن كونه من الزواحف، وأن يتصف بـ (الجسم الممتد، والذيل، وأن بعض أنواعه سام). وهذا الشرح موجّه للقارئ العام في معجم عام وليس للقارئ المتخصص. وقد يكون من المفيد هنا الاسترشاد في الشرح بالمعجمات العالمية العامة، إذا كان الهدف إعداد معجم عربي عام، وذلك للنظر في مكونات الشرح التي ينبغي أن تكون بسيطة واضحة. وفي هذا الصدد قد يتم التسامح في سرد الخصائص العلمية لصالح البساطة والوضوح حتى نقرب المعنى. ومن الصعب أن نتوقع فهم القارئ لشرح، مثل: القِنْو التام من النخل بشماريخه وبُسره (ص525). ولا شك أن لغة الشرح ينبغي أن تكون واضحة وبسيطة وعصرية.(/37)
24-هناك قضية منهجية واضحة في المعجمات العربية القديمة على نحو ما نجد في المُعَرَّب للجواليقي، وهي قضية ترتيب الكلمات ذات الأصول غير العربية. يكون ترتيبها في مكانها طبقًا لمجموع حروفها دون أن نفتعل لها أصلاً ثلاثيًّا لا وجود له في تأصيل الكلمة. وعلى الرغم من وضوح هذا الأمر على المستوى النظري فإن التطبيق في صناعة المعجم لم يكن مطردًا، ربما يرجع ذلك إلى عدم وضوح تأصيل الكلمة. كلمة (بيرم) ليست عربية الأصل، هي معربة عن التركية Bairam بمعنى العيد بصفة عامة والعيد الديني الإسلامي مثل عيد الفطر وعيد الأضحى المبارك على وجه الخصوص. كل حروفها أصول وليست من المادة العربية (برم). وكذلك كلمة (إسكلة) بمعنى مرفأ السفن وبمعنى السلم المتنقل، والواقع أنها من Scala في اللاتينية واللغات الناجمة عنها ودخلت العربية والتركية منذ قرون، وفك التقاء الصامتين بوضع ألف وحركة قبل أصل الكلمة. قد يتساءل قارئ عن ترتيبها ومدى مراعاة الألف في أول الكلمة، وعدم وجود هذه الألف في الأصل اللاتيني. وفي بعض المعجمات العربية كان الحل أن توضع في ترتيبها العادي طبقًا لحروفها تيسيرًا وتقريبًا.
خامسًا- آفاق المستقبل في صناعة المعجمات العامة:
1- صناعة المعجمات العربية بالمعايير المعاصرة ليست من الممكن أن تكون عملاً فرديًّا أو أن تكون من عمل مجموعة محددة ذات تخصصات متجانسة. ومن الضروري عند التخطيط لإعداد معجم عربي جديد أو تطوير المعجمات المتداولة أن تتكامل خبرات كثيرة في فروع العلوم اللغوية والعلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الدقيقة والعلوم الطبية، والتكنولوجيا، إلى جانب من يعملون في تحرير المعجم.
2- الإفادة من الحاسب أصبح ضروريًّا في مراحل العمل المختلفة، لا يقتصر ذلك على استخدام الحاسوب بعد إعداد المادة، بل يمكن الإفادة منه في عدة عمليات مهمة: جمع المادة اللغوية، عمليات الإعداد، التحرير، التعديل والتطوير.(/38)
3- من المهم تكوين قاعدة بيانات معجمية لغوية لخدمة صناعة المعجم، تضم كل المادة المتاحة في المعجمات العربية العامة والمتخصصة وما أقره مجمع اللغة العربية من مصطلحات وألفاظ وأساليب، وكذلك كل ما يفيد صناعة المعجم من المعلومات الواردة في كتب النحو والتفسير والمنطق وغير ذلك، مع المتابعة الكاملة لكل الجهود الفردية في دراسة المصطلحات وألفاظ الحضارة المعتمدة على نصوص عربية.
4- من الضروري متابعة الجهود المعجمية العربية في كل الأقطار العربية وغير العربية. ومنها معجم دوزي Dozy المكمل للمعجمات العربية، وكذلك الإفادة من الجهود المتميزة في إعداد معجمات للعربية الفصيحة في العصر الحديث مثل جهود Baranov وWehr، أو في بحث العربية الفصحى في مراحلها المبكرة، مثل معجم العربية الفصحى بتحرير M.Ullmann.
- R. Blachére, Dictionaire arabe- francais – anglais. 1964.
- R. Dozy, Supplément aus dictionaires Arabes. 2e éd. 1927.
-M. Ullamann, Worterbuch der klassischen arabischen Sprache, 1957.
-H. Wehr, Arabisches Worterbuch fur die Schriftsprache der Gegenwart 5. Auflage 1985.
5- ينبغي أن يكون التطوير الدائم للمعجمات المتداولة التي أصدرتها مجامع اللغة العربية عملاً مستمرًّا، يتعاون فيه أعضاء المجامع والخبراء، وذلك على أساس خطة واضحة تحدد مجالات التطوير وحدوده (المداخل الجديدة، التأصيل المعجمي، المعلومات النحوية، الدلالات الجديدة، المصطلحات الأساسية،التصويبات). وقد يكون من أبسط الطرق- وليس من أدقها-أن يطلب المجمع من كل أعضائه من كل الدول العربية والأجنبية أن يقدموا تصحيحاتهم وتدقيقاتهم وإضافاتهم الدلالية، ثم تقوم لجنة محدودة بتحرير الطبعة الجديدة في ضوء ذلك.
6- تكون إتاحة المعجمات المجمعية بكل الوسائل الحديثة، وفي مقدمتها الأقراص المدمجة، والطبعات التجارية، والإنترنت.(/39)
7-أهمية عمل معجم موسوعي يكتمل به المعجم الوسيط، ومعجم موسوعي مدرسي صغير يكتمل به المعجم الوجيز. ويتضمن كل منهما المداخل المناسبة عن أعلام الشخصيات، والدول، والعواصم، والأماكن،
والحوادث التاريخية، والمؤسسات، والمفاهيم العلمية، والمدارس الفكرية، والاتجاهات، وغير ذلك مما يلبي المتطلبات المعاصرة. يكون اختيار المداخل من عمل المجمع بمعايير موضوعية متوازنة، ثم يكون التنفيذ بنظام التكليفات الفردية، وبعد ذلك يكون الإقرار النهائي من خلال مجلس المجمع ومؤتمره السنوي.
... ... وبعد فإن ما لا يُدرك كله لا يُترك كله، ولكن المجتمع العربي يتوقع من المجمع الموقر معجمات عامة متجددة ووافية تفي بالمتطلبات المعاصرة.
... ... محمود فهمي حجازي
... ... ... عضو المجمع(/40)
أرقامنا عربية أم جوبارية؟ (*)
للأستاذ الدكتور يوسف عز الدين
اختلف العرب في الأرقام أشكالها وقد كنت أعتقد أن الأرقام التي يستعملها الغرب عربية؛ لأنهم سموها Arabic Numberals، وقد أكد المثقف العربي هذا الرأي ونشره في الساحة الفكرية وآمنت به الفضائية السورية وأخذت به، كما سرت الفكرة في الفضائية المصرية في بعض نشراتها، وسبق أن أخذت به جريدة الشرق الأوسط التي تصدر من لندن مع بعض الصحف العربية الأخرى.
وقد بذل المغاربة جهدًا كبيرًا في نشر الفكرة جريًا على تسمية الغرب وقد ظهر لي بعد ذلك أن هذه الأرقام هندية سنسكريتية جوبارية آرية برهمية الأصل وصلت إلى العرب عبر
الترجمات العربية لكتب الحساب الهندي والجبر والمقابلة، ولما ترجمت هذه الكتب، من العربية إلى اللاتينية، حسبها الغرب أرقامًا عربية؛ لأنها جاءت إليهم عبر العرب. أما الأرقام الشائعة في المشرق العربي فهي في أصلها فينيقية- آرامية – نبطية – تدمرية، وهي لذلك عربية الأصل.
وقد بحث الدكتور قاسم السامرائي في هذه الأصول بحثًا مستفيضًا في كتابه "علم الاكتناه العربي الإسلامي(**)وجاء بالوثائق التي تبرهن على أن الأرقام التي تستعمل في أوربا والمغرب العربي أصلها هندي وليس عربيًّا وهي لذلك في الأصل هندية(/1)
سنسكريتية، وعرض آراء الدكتور التازي وآراء الباحثين في المغرب وأشار إلى أن المغرب العربي أخذها من الأندلس وأن أهل الأندلس كانوا يستعملون خليطًا من الأرقام حتى القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) مثل 3 ،P ، 5 ، ع التي لم يزل الإيرانيون والباكستانيون يستعملونها حتى اليوم، إضافة إلى ما يسمى الأرقام الفاسية التي تعود في أصولها للأرقام اليونانية القبطية التي سماها محمد المنوني "الأرقام الرومانية المتمغربة" (1) وأشار إلى أن مخطوطة المسالك والممالك للبكري الأندلسي المتوفى سنة 487هـ والمؤرخة في القرن السادس الهجري مرقمة بهذا الترقيم، وإلى هذا أشار قاضي فاس إبراهيم بن محمد اليزناسني حين قال: "إن الرسم الرومي قد استفاض بين المسلمين حتى صار كسائر رسوم المسلمين
كأشكال الغبار وغيرها من المصطلحات"(2)
وقد شرح الخوارزمي نفسه في أول كتابه في الجبر والمقابلة نوعية الأرقام فقال: "ولدى الهنود تسعة أحرف والتي تبدو مثل التالي: 8,7,6,5,4,3,2,1 وهناك اختلافات في شكل الأحرف وذلك باختلاف الأشخاص الذين يكتبونها وخاصة ما يتعلق بـ: 8, 7, 6, 5 إلا أن ذلك يجب ألا يسبب صعوبة تذكر، حيث هي رموز تدل على أرقام، وإن هذه صور الأرقام حدثت بها الاختلافات التي ذكرناها". وهنا نسب الخوارزمي هذه الأرقام إلى الهند وإن كتبت بأشكال مختلفة، فالأرقام على رأي الخوارزمي هندية سنسكريتية.
وقد استمر الحسابون في المشرق والمغرب يستعملونها مع الأرقام النبطية العربية وتبرهن النقائش والنقود وكتب التراث الرياضي التي
وصلت إلينا على ذلك مثل: (رسالة في كيفية رسوم الهند في تعلم الحساب) و(رسالة في أن رأي العرب في مراتب العدد أصوب من رأي الهند فيها) للبيروني و(نزهة النظار في علم القلم الهندي الغبار) لابن الهائم وغير ذلك كثير.(/2)
وقال ابن الياسمين المتوفى بمراكش سنة 01ع هـ: "اعلم أن الرسوم التي وضعت للعدد تسعة أشكال يتركب عليها جميع العدد، وهي التي تسمى أشكال الغبار، وهي:8,7.6.5.4.3.2.1 وقد تكون: 1. 2. 3. 4. 5. 6. 7. 8. 9. ولكن الناس عندنا على الوضع الأول، ولو اصطلحت مع نفسك على تبديلها أو عكسها لجاز، ووجه العمل على حاله لا يتبدل".
... فإن قوله: "ولكن الناس عندنا على الوضع الأول" يريد به أهل الحساب، وهذا ما لم يتنبه إليه من كتب في أصول الأرقام، كما يتضح ذلك من قول قاضي فاس، كما أنهم لم يتنبهوا إلى أن لفظة "الغبار" هي تحريف للفظة "جوبار" الهندية وأن الأرقام الهندية السنسكريتية هي التي تسمى: "الأرقام الغبارية".
... لا شك في أن السمو الحضاري عند الأنباط دعاهم إلى اختراع الأرقام الخاصة بهم أو طوروا ما كان معروفًا عند الفينيقيين والآراميين قبلهم وهم تجار، ورأس مال التاجر الأرقام الحسابية، وقد ثبت أنهم استعملوها إضافة إلى نظام حساب الجمل في تواريخ حوادثهم فانتقلت هذه الأرقام مع خطهم إلى الهند وبخاصة إلى المناطق الغربية من الهند بحكم تجارتهم مع الهند، كما نراه عند البيروني، وإلى عرب الحجاز قبل الإسلام وانتقلت بعد الفتوحات الإسلامية إلى المناطق الأخرى بعد أن مرت بأدوار من التطور والتغيير في أشكالها وطرائق رسمها.
... إن ظاهرة الأرقام من اليسار إلى اليمين تلائم اللغة السنسكريتية ولذلك، لما ترجمت كتب "الحساب والجبر والمقابلة" من العربية إلى اللاتينية كتبوها من اليمين إلى اليسار كما جاءت في المخطوطات العربية وهذا ما نراه واضحًا في كتب "الحساب والجبر والمقابلة" اللاتينية المترجمة من العربية.
... ولست بصدد ذكر براهين الدكتور قاسم السامرائي، والوثائق التي قدمها، ولكن أرجو أن تؤلف لجنة للبت في الأرقام بالاعتماد على الباحث نفسه أو على كتابه، فهذا من واجب المجمع، فقد برهن على أن الأرقام في(/3)
المشرق إنما هي أرقام فينيقية- آرامية- نبطية عربية الأصل أثرت في الهند ونقلت من العرب إلى الغرب الأوربي فظنها إخواننا المغاربة أنها عربية؛ لأن الغرب سماها في أول الأمر "الأرقام العربية" Arabic Numberals وشاعت بهذا الاسم منذ زمن طويل وبقينا نسميها كذلك وهي ليست كذلك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... يوسف عز الدين
عضو المجمع من العراق(/4)
الكلمة العربية ودورها في شعر الهوسا
للدكتور مصطفى حجازي السيد حجازي
أستاذ لغة الهوسا وآدابها
معهد البحوث والدراسات الأفريقية
جامعة القاهرة
تنتشر الكلمات العربية في لغة الهوسا انتشارًا واسعًا، سواء أكان ذلك في النثر أم في الشعر، إلا أنها في الشعر أكثر منه في النثر، ويهدف هذا البحث إلى دراسة مجال انتشار الكلمة العربية، وموقعها في التراكيب، والعبارات العربية المقترضة في شعر الهوسا. وقد ركزت في هذه الدراسة على ستة دواوين يمثل أصحابها فترات زمنية وثقافات مختلفة .
الكلمة العربية في القافية:
وقد درست مجال انتشار الكلمة العربية في شعر الهوسا من جانبين، الأول - وقوعها في موقع القافية. والثاني - وقوعها في داخل البيت. فمن المعروف أن اللغة العربية من اللغات القديمة الخالدة على مر العصور والأزمان، حفظها القرآن الكريم من التفرع إلى لغات مختلفة، كما حدث للغة اللاتينية مثلاً، وهي ثرية بالمفردات المجمعية، كثيرة المعاجم التي تخدم موضوعات مختلفة، لذلك كان الشاعر العربي لا يجد صعوبة في نظم القصائد الطوال، ذات القافية الواحدة، وحرف الروي الواحد.
وإذا كانت مفردات اللغة العربية تسعف الشاعر العربي في القصائد الطوال، فالحال غير ذلك بالنسبة للغة حديثة مثل الهوسا، فعمرها لا يتجاوز عشرة قرون إلا قليلاً، ومفرداتها اللغوية ممدودة، ومعاجمها معدودة، لذلك كانت قلة المفردات اللغوية تمثل عقبة أمام الشاعر الذى يسعى لنظم القصائد الطوال، وإطلاق العنان للصور والخيالات. ولا سيَّمَا أنه اتخذ البحور العربية في الشعر بدخول الإسلام والثقافة العربية إلى بلاده، وهجر الشعر الحر الذي لا يتقيد بالبحور والقافية .
من هنا كانت الكلمات العربية تلعب دورًا كبيرًا في قافية شعر الهوسا، وكان على الشاعر أن يلجأ إليه ليثري بها شعره من حيث المعاني والصور، وتمده بالنفس الطويل الذي يسنه في نظم القصائد الطوال .(/1)
وقد قمت بحصر الكلمات العربية والهوساوية في دواوين أربعة من الشعراء، واستخرجت النسبة المئوية للكلمات العربية والهوساوية في القوافي. والكلمات الهوساوية غير المكررة، والمكررة وعدد مرات تكرارها في القصيدة الواحدة، بصرف النظر عن الضمائر الشخصية التي تضاف إليها، واللواصق الصرفية التي تلحق بها. واعتبار الكلمة الأخيرة في المسمطات كالقافية في القصيدة التقليدية، فكان بيانها كالتالي :
اسم الشاعر والديوان
علي نمنج
Wakokin lmfiraji
عدد أبيات الديوان ... 1720
عدد الكلمات العربية 496
النسبة المئوية 28.8 %
عدد الكلمات الهوساوية 1224
النسبة المئوية 71.2%
كلمات غير مكررة 782
كلمات مكررة 162
عدد مرات تكرارها 442
اسم الشاعر والديوان
صالح كونتا جورا
Kimiyya Da Fosaha
عدد أبيات الديوان ... 1252
عدد الكلمات العربية 305
النسبة المئوية ... 24.36%
عدد الكلمات الهوساوية 947
النسبة المئوية 75.64
كلمات غير مكررة 305
كلمات مكررة 138
عدد مرات تكرارها 642
اسم الشاعر والديوان
إبراهيم يارو محمد
Wakokin Hlikimomin
Haw sof
عدد أبيات الديوان ... 1860
عدد الكلمات العربية 569
النسبة المئوية 30.59%
عدد الكلمات الهوساوية 1291
النسبة المئوية 68.41%
كلمات غير مكررة 413
كلمات مكررة 169
عدد مرات تكرارها 878
اسم الشاعر والديوان
يوسف بوتشي
Wakar tarihin Rikicin
Najeriya
عدد أبيات الديوان ... 1000
عدد الكلمات العربية 98
النسبة المئوية 9.8 %
عدد الكلمات الهوساوية 902
النسبة المئوية 90.2 %
كلمات غير مكررة 28
كلمات مكررة 43
عدد مرات تكرارها 874(/2)
ويمتاز علي نمنج (1895م) بثراء مفرداته المعجمية؛ لذلك لا يلجأ إلى الضمائر الشخصية أو اللواصق الصرفية إلا قليلاً جدًّا، ويساعده على ذلك أن كل قصائده من نوع المسمطات الخماسية فديوانه Wakokin Jmfiraji يحتوي على أربع قصائد طوال مجموع قوافيها 1720 قافية، تحتوي على 496 كلمة عربية أي بنسبة 28.8%، بينما نجد القوافي الهوساوية 1224 كلمة أي نسبة 71.2 % ، كما أنه يتميز بقلة تكرار الكلمات الهوساوية .
أما صالح كونتا جورا (20/10/1929م) فقد بدأ ينظم الشعر وينشره في صحيفة جاسكيا منذ عام 1949، وثقافته عربية إسلامية وغربية عمل بإذاعة جمهورية مصر العربية في الفترة 1962م-1963م. كما قام بتدريس علوم الدين من 1963م-1971م، ثم عمل محررًا بدار النشر لشمال نيجيريا N.N.P.C وقد أثرت هذه الحياة العلمية الحافلة في شعره، فديوانه Kimiyya Da Fasaha يحتوى على خمس قصائد مجموع أبياتها 1252 بيتًا، عدد الكلمات العربية في قوافيها 305 أي بنسبة 24.36% ، وعدد الكلمات الهوساوية 947 أي بنسبة 75.64 % وهو يمتاز بكثرة مفرداته المعجمية، وقلة الالتجاء إلى الضمائر الشخصية، واللواصق الصرفية في قوافيه، حيث نجد قصيدته الأولى بعنوان Girmam sami Ga Mutum تقع في 285 بيتًا من الشعر التقليدي تنتهي قوافيها بالياء المفتوحة.
Allah sanin Konli na boye da bayyane
الله يعلم كل شيء خفي وظاهر .
Agare Ka duk yattara Kai dai Ka iya
لديك تجمع كله . أنت وحدك الذي تعلمه .(/3)
وتحتوي قوافي هذه القصيدة على 86 كلمة عربية و199 كلمة هوساوية، منها اثنتان وعشرون كلمة ترد كل منها مرة واحدة في القصيدة، وخمس وعشرون كلمة تتكرر في 177 موقعًا، حيث تتكرر كلمة jiya بمعنى السماع 38 مرة، وكلمة daya بمعنى واحد28 مرة، وكلمة Wuya بمعنى الصعوبة تتكرر 16 مرة، وكلمة gaskiya بمعنى الحقيقة تتكرر 12 مرة، وكلمة zuciya بمعنى القلب تتكرر 11 مرة، وكلمة tsaya بمعنى الوقوف تتكرر 10 مرات ، وباقي الكلمات تتكرر آحاد المرات .
والقصيدة الثانية بعنوان Fahimta Wakar وتقع في 106أبيات، وتنتهي قوافيها بالتاء المفتوحة ta وهي تمثل ضمير الغائبة في حالة الإضافية ولاصقة المصدرية في المصدر يقول مطلقها : YA Jamaa mu gode Allah don ya Kamata أيها الناس لنشكر الله لأنه واجب Mai iko da gaskiya mahalicein halitta
القادر الصادق خالق، الخلق. وتحتوي قوافي القصيدة على أربع وعشرين كلمة عربية، واثنتين وثمانين كلمة هوساوية، 37 كلمة جاءت كل منها مرة واحدة، و13 كلمة تكررت في 45 موقعًا. حيث جاءت كلمة Kamata بمعنى الوجوب 7 مرات والباقي من مرتين إلى خمس مرات، وبذلك تقل الكلمات المكررة وعدد مرات تكرارها في هذه القصيدة.
أما القصيدة الثالثة فهي بعنوان Barnar Munafuki DA Na Munafuni Ga jama’a ، وتنتهي قافية القصيدة بلاصقة المصدرية ci، وتقع في 117 بيتًا ويقول في مطلعها
Ku Tattaro ya ‘uwa ku jiya
Mu tashi haikan mu bar bacci
وتحتوي قوافي القصيدة على ثلاث وثمانين كلمة عربية، وأربع وثلاثين كلمة هوساوية، ووردت ست كلمات كل منها مرة واحدة وعشر كلمات شغلت ثمانيةً وعشرين موقعًا، حيث تكررت كلمة baci ست مرات، وكل من كلمتي batunciوhanci أربع مرات والباقي من الكلمات تكررت مرتين .
وإذا كان الشاعر في هذه القصيدة لم يلجأ إلى تكرار الكلمات الهوساوية كثيرًا إلا أنه كرر كلمةmanafunci وهي كلمة منافق العربية 52 مرة .(/4)
والقصيدة الرابعة بعنوان Kasa Aikin jalla, ta fi kame Bada Mamaki وهي من نوع المسمطات الرباعية، وتقع في 288 بيتًا. وتقل الكلمات العربية في قوافيها، إذ تبلغ إحدى وخمسين كلمة، أما الكلمات الهوساوية فتبلغ 237 كلمة ، جاءت 115 كلمة منها مرة واحدة، و43 كلمة تكررت في 122 موقعًا، وقد تكررت كلمة ce بمعنى تكون 12 مرة، وكلمتا daki بمعنى حجرة وkai بمعنى الوصول كل منهما 9 مرات، وكلمة ba وهي أداة نفي ، ثماني مرات، وكلمة taki ، وهي ضمير للإضافة في حالة المخاطبة 7 مرات، وأكثر باقي الكلمات مرتين أو ثلاث .
ولم يلجأ الشاعر في هذه القصيدة إلى الضمائر الشخصية واللواصق الصرفية والتكرار الكثير، ويرجع ذلك إلى كون القصيدة من نوع المسمطات.
أما القصيدة الخامسة فهي بعنوان Mutum cikin Bincikin aiki وهي من نوع المسمطات الرباعي، وتقع في456 بيتًا، تحتوي قوافيها على 61 كلمة عربية، و395 كلمة هوساوية، و125 كلمة جاءت كل منها مرة واحدة، و47 كلمة شغلت 270 موقعًا، وقد تكررت كلمة aiki بمعنى عمل 51 مرة، وكلمة ba وهي أداة نفي 14 مرة، وكلمة jiya بمعنى السماع 12مرة، وكلمة gani الرؤية magana الكلام ، و yi العمل كل منهما 10 مرات، وكلمة esaya بمعنى الوقوف 6 مرات وكلمةdaki بمعنى حجرة و gamewa بمعنى الرؤية،و ne بمعنى يكون كل منها خمس مرات، وماعدا ذلك تُكرَّر مرتين أو ثلاث .
مما سبق نلاحظ أن الشاعر وإن لجأ إلى تكرار بعض الكلمات، فإن عدد مرات تكرار الكلمة قليل، وأنه لم يعمد إلى الضمائر الشخصية واللواصق الصرفية كثيرًا، وأن ثروته في المفردات المعجمية وفيرة مما ساعده على نظم القصائد الطوال .(/5)
أما إبراهيم يارو محمد فهو يمثل جيل الشبان الذين تلقوا تعليمهم في نيجيريا الذين لم تمكنهم حداثة سنهم من الثراء اللغوي الذي لوحظ عند الشاعرين السابقين- الحاج علي نمنج وصالح كونتا جورا – وله ديوان شعر بعنوان Wakokin Hikimomin Hausa طبعة في 1974م ويحتوي هذا الديوان على إحدى وعشرين قصيدة، القصار منها من نوع الشعر التقليدي، والطوال من نوع المسمطات الخماسية، ويبلغ عدد أبيات الديوان 1860 بيتًا، وأكثرها من الشعر التعليمي، سواء كان لتعليم أركان الدين الإسلامي، كالتوحيد والصلاة والصيام والزكاة والحج، أو لتعليم مفردات لغة الهوسا، وهو نمط فريد من الشعر التعليمي حيث يختار الشاعر حرفًا من أحرف الهجاء ويذكر كل الكلمات التي تبدأ به وينظمها في قصيدة واحدة. فقصيدة yar Bahaushiya تجمع أكثر المفردات التي تبدأ بحرف الباء فيقول في مطلعهاBatun, yar Bahaushiya tana Bincik?n Kasa مشكلة الفتاة الهوساوية التي تنبش الأرض .
Tana Binciken harshe da waka a Bar Biya حيث يذكر في كل شعر ثلاث كلمات تبدأ بحرف الباء، وهكذا في قصيدتيMai و Garkuwa yar Zabuwa وهذه القصائد الثلاث السابقة لا تحتوي على أية كلمة عربية في قوافيها، بينما نجد قصيدة Amsar Abashiya تحتوي قوافيها على كلمتين، وقصيدة tsamiya Mai على كلمة واحدة .
وباستثناء هذه القصائد الخمس نجد القصائد الأخرى وعدد أبياتها 1680 بيتًا. يبلغ عدد الكلمات العربية بها 564 كلمة أي بنسبة 33.57 % من مجموع أبيات القصائد الست عشرة الباقية .
وبدراسة هذه القصائد لوحظ أن قصيدته عن التوحيد tauhidi وعدد أبياتها 85 بيتًا تحتوي على ستين كلمة عربية وخمس وعشرين كلمة هوساوية، أى أن الكلمات العربية أكثر من الهوساوية، ونجد ثماني كلمات هوساوية جاءت كل منها مرة واحدة، وثلاث كلمات تكررت في 17 موقعًا، حيث تكررت كلمة gare بمعنى عند 11 مرة .(/6)
أما قصيدته عن الصلاة sallah وعدد أبياتها مئة بيت، وتحتوي على خمس وأربعين كلمة عربية، وخمس وخمسين كلمة هوساوية، 17 كلمة جاءت كل منها مرة واحدة، وعشر كلمات تكررت في 38 موقعًا، حيث تكررت كلمة ciki بمعنى في إحدى عشرة مرة، وكلمة domin بمعنى من أجل 6 مرات، وكلمة aiki بمعنى عمل خمس مرات، وتنتهي قافيتها بالتاء المفتوحة ta وهي تمثل ضمير الغائبة في حالة الإضافة، ولاصقة صرفية للمصدر .
أما قصيدته عن الصيام Azumi فعدد أبياتها 81 بيتًا، وتحتوي قوافيها على إحدى وعشرين كلمة عربية، وستين كلمة هوساوية، 12 كلمة جاءت كل منها مرة واحدة، و12 كلمة تكررت في 48 موقعًا، حيث تكررت كلمة aika بمعنى الإرسال 13 مرة وكلمة Fara بمعنى البدء سبع مرات، وتنتهي القافية بضمير الغائب في حالة الإضافة shi .
وقصيدته عن الزكاة zakka وتقع في 88 بيتًا، وتحتوي قوافيها على 36 كلمة عربية، و52 كلمة هوساوية، 12 كلمة جاءت كل منها مرة واحدة، و6 كلمات تكررت في 40 موقعًا، حيث تكررت bada بمعنى العطاء 16 مرة، وكلمة gane سبع مرات، وتنتهي القافية بالتاء المفتوحة ta وهي تمثل ضمير الغائبة في حالة الإضافة ولاصقة المصدرية .
وقصيدته عن الحج Haji وعدد أبياتها 110 أبيات، وتحتوي قوافيها على 45 كلمة عربية، و65 كلمة هوساوية، 170كلمة جاءت كل منها مرة واحدة، وثماني كلمات aika بمعنى الإرسال 14 مرة، وgane بمعنى الرؤية 13 مرة، وتنتهي قافيتها بالتاء المفتوحة وله قصيدة في مدح رسول الله yabon Manzon Allah وعدد أبياتها 52 بيتًا وتحتوي قوافيها على 18 كلمة عربية، و34 كلمة هوساوية، 14 كلمة جاءت كل منها مرة واحدة، و6 كلمات تكررت في عشرين موقعًا، حيث تكررت كلمةmusawa بمعنى، aikaua بمعنى الإرسال 4 مرات وتنتهي القافية بالواو المفتوحة wa وهي لاصقة المصدرية.(/7)
وقصيدة تحصي شعراء الهوسا بعنوان Wakar Mawakan Hausa Nijeriya وعدد أبياتها 77 بيتًا، تحتوي قوافيها على ثلاث كلمات عربية و74 كلمة هوساوية، ثلاث كلمات جاء كل منها مرة واحدة، و9 كلمات تكررت في 71 موقعًا، حيث جاءت كلمة daya 27 مرة، gaskiya 25 مرة وتنتهي قافيتها بالياء المفتوحةya .
قصيدة Wakar Halaiyen Mata Maza Da Karuwai وعدد أبياتها 82 بيتًا تحتوي على 17 كلمة عربية و65 كلمة هوساوية، جاءت 14 كلمة كل منها مرة واحدة، و7 كلمات تكررت في 51 موقعًا. حيث وردت كلمةdaya 16 مرة، gaskiya 14 مرة، وKauciya 8 مرات، وتنتهي قافيتها بالياء المفتوحة ya .
قصيدة yobon Gwani وعدد أبياتها 75 بيتًا تحتوي على 24 قافية عربية، و51 قافية هوساوية، حيث جاءت 17 كلمة كل منها مرة واحدة، و34 كلمة تكررت في 12 موقعًا، وتكررت كلمة iko بمعنى القدرة 9 مرات. وتنتهي قافيتها بضمير الغائب في حالة الإضافة shi .
قصيدة Mutumcin Mutumtaka وعدد أبياتها 45 بيتًا، وتحتوي قوافيها على 9 كلمات عربية، و36 كلمة هوساوية، جاءت 22 كلمة كل منها مرة واحدة، و4 كلمات تكررت في 14 موقعًا، وتنتهي قوافيها بضمير المخاطب Ka .
قصيدة Wakar yan Kungiyar Rasha وعدد أبياتها 53 بيتًا، وتحتوي قوافيها على كلمتين عربيتين، و51 كلمة هوساوية، جاءت 4 كلمات كل منها مرة واحدة، و7 كلمات تكررت في 47 موقعًا حيث تكررت كلمة daya عشرين مرة، و gaskiya 12 مرة، وتنتهي قافيتها بالياء المفتوحةya.
قصيدة wakar Jihar Kano أي شعر إقليم كنو، وعدد أبياتها 65 بيتًا وكل قوافيها تنتهي بكلمة عربية واحدة وهي jiha عدا ثلاثة أبيات ينتهي الأول بكلمة raha أي راحة والآخران ينتهيان بكلمة Waha واحة . وتنتهي قافيتها بالهاء المفتوحة .(/8)
وكل هذه القصائد التى أشرنا إليها من النوع التقليدي للقصيدة العربية، التي يلتزم فيها الشاعر بقافية واحدة، وحرف روي واحد، وهي تحتاج ثروة غزيرة من المفردات؛ لتساعد الشاعر على الإحالة في القصيدة، وهو الأمر الذي لم يتيسر للشاعر، لذلك نجد عدد أبياتها يترواح من 45 إلى 110 أبيات وهو يلجأ فيها إلى تكرار الكلمات، والضمائر الشخصية واللواصق الصرفية. وهو يعوض هذا في القصائد الأخرى من نوع المسمطات حيث يساعده تغير القافية وحرف الروي على الإطالة إلى حد ما، لذلك نجد قصائده من هذا النوع يتراوح عدد أبياتها من 200إلى 220 بيتًا باعتبار أن الشطر يمثل بيتًا .
ومن أنواع المسمطات الخماسية قصيدة بعنوان zaman Wa’azin Duniya ، وعدد أبياتها 200 بيتٍ، وتحتوي قوافيها على 43 كلمة عربية و157 كلمة هوساوية، جاءت 30 كلمة منها مرة واحدة، و30 كلمة تكررت في 127 موقعًا، حيث تكررت كلمة gaskiya 29مرة، وكلمة gare 17 مرة، وكلمة mutane بمعنى الناس 10 مرات، وgane 8 مرات، و yi 7مرات.
والقصيدة الثانية عن هذا النوع بعنوان Rokon ubangiji بمعنى رجاء الله، وعدد أبياتها 200 بيتٍ، وتحتوي قوافيها على 100 كلمة عربية ومثلها كلمة هوساوية، جاءت 33 كلمة كل منها مرة واحدة، و13 كلمة تكررت في 67 موقعًا.
والقصيدة الثالثة بعنوان wakar Hankakli أي شعر التعقل، وعدد أبياتها 200 بيت، وتحتوي قوافيها على 48 كلمة عربية، و125 كلمة هوساوية، حيث جاءت 39 كلمة كل منها مرة واحدة و21 كلمة تكررت في 113 موقعًا، وجاءت كلمة Daya 26 مرة، وgare 14مرة، وgane 10مرات، وyi 7 مرات و kan بمعنى الرأس و gaskiya كل منهما 6مرات. والقصيدة الرابعة بعنوان Wakar Harshen Hausa أي شعر لغة الهوسا، وعدد أبياتها 220 بيتًا، وتحتوي قوافيها على 30 كلمة عربية، و190 كلمة هوساوية، جاءت 111 كلمة كل منها مرة واحدة، وعشر كلمات تكررت في 79 موقعًا .(/9)
وعلى مستوى الديوان كله نلاحظ أن الشاعر يلجأ إلى الضمائر الشخصية، مثل ta وهو ضمير الغائبة وshi وهو ضمير الغائب، و mu وهو ضمير المتكلمين وka وهو ضمير المخاطب في حالة الإضافة، و wa وهي لاصقة صرفية لتكوين المصدر .
كما يلجأ إلى تكرار الكلمات كثيرًا في القصيدة، وعلى مستوى الديوان كرر كلمة daya 114مرة، وكلمة gaskiya 96 مرة، وgare 52 مرة، وgane 38 مرة. وإن كان قد استطاع أن يتحاشى الكلمات العربية في كافة القصائد التعليمية التي تحصي المفردات الهوساوية فإنه لم يستطع الاستغناء عنها في غيرها من القصائد وإن كان حداثة سنه عند تأليف هذا الديوان وثروته اللغوية المحدودة جعلت نسبة هذه الكلمات تصل إلى 33.57 % وهي نسبة تزيد عما هي عليه في شعر الحاج علي نمنج 27.8 %، وصالح كونتا جورا 24.36% .
أما يوسف بوتشي فقد كتب قصيدة عن الحرب الأهلية التي وقعت في نيجيريا في 1967م، بعنوانWakar Tarihin Rikicin Najeriya وهي تقع في ألف بيت، ألفها في سنة 1970م وهو طالب في قسم التاريخ أحمدو بللو، والطالب عادة محدود الثروة اللغوية، إذا قيس بغيره من كبار الشعراء، مثل علي نمنج (1895م)، وصالح كونتا جورا (1929م) ، إلى جانب أن ثقافته لم تكن عربية كغيرة ممن تلقى تعليمه في جامعة الأزهر ودرس علوم اللغة العربية والدين الإسلامي، لذلك لم ترد الكلمات العربية في قصيدته إلا بنسبة 9.8%.
كما نجد أن الكلمات العربية الواردة في قصيدته محدودة ومكررة، فكلمة duniya بمعنى العالم تتكرر 49 مرة، وكلمة lafiya بمعنى السلام ترد 16مرة، وكلمة nahiya بمعنى ناحية أو إقليم تتكرر 13 مرة، و9 كلمات أخرى تشغل 21 موقعًا. وذلك من مجموع الكلمات العربية التي بلغ عددها في القصيدة 98 كلمة .(/10)
أما الكلمات الهوساوية التي استعملها في قافية قصيدته وعددها 902 كلمة نجد 4 كلمات منها تتكرر 488 مرة ، حيث تكررت كلمة daya 189 مرة، ونيجيريا 141 مرة، وgaskiya 80 مرة، و jiya 78 مرة، بينما تكررت4 كلمات أخرى 86 مرة. أما الكلمات التي لم تتكرر في القصيدة فهي 28 كلمة فقط. وهو مثال واضح لمن يلجأ إلى تكرار الكلمات الهوساوية لقلة الحصيلة اللغوية من الكلمات العربية والهوساوية .
الكلمة العربية داخل البيت .
ونلاحظ أن عدد الكلمات العربية داخل البيت في شعر الهوسا التعليمي يختلف باختلاف الموضوع الذي تدور حوله القصيدة، ففي كتاب " أشعار للأطفال don yara Wakaki " الذي ألفه محمد بلارهي عمر، يتناول فيه أنواع الأطعمة والمأكولات الشائعة في بلاد الهوسا، في قصيدة بعنوان Abimcin Hausawa في 21 بيتًا، لانجد فيها من الكلمات العربية سوى كلمتين وهما البصل albasa، وطماطم tumaturi بخلاف كلمتي الله ربي Allahu Rabbana الذي يختم بهما القصيدة.
وفي الكتاب نفسه نجد قصيدة Itatuwa da amfaminsu الأشجار وفوائدها، وتقع في 40 بيتًا، يذكر فيها أسماء الأشجار الشائعة في بلاد الهوسا، ولا نجد من بين أسماء هذه الأشجار اسمًا واحدًا عربيًّا .
وإن وردت كلمة sahara بمعنى الصحراء، وduniya بمعنى العالم. وفي الأبيات الأربعة الأخيرة من القصيدة يدعو الشاعر الله ويتوسل برسوله – كعادة الشعراء مستعملاً بعض الكلمات العربية .(/11)
وفي قصيدة له بعنوان Sunayen Dabbobi أسماء الحيوانات يتناول أسماء الحيوانات المعروفة في بيئة الهوسا في خمسة وثلاثين بيتًا، لا يرد فيها من الكلمات العربية سوى كلمة dabbobi جمع كلمة dabba وهي كلمة دابة العربية، وتستعمل بمعنى حيوان، وبعض الكلمات العربية القليلة مثل كلمة jawabi بمعنى كلام، jalla umurnin أى أمر الله، وsutura سترة بمعنى ثياب، وamana أمانة، hakki بمعني حق وكلها كلمات لا علاقة لها بأسماء الحيوانات. وفي الأبيات الثلاثة الأخيرة يختم القصيدة بالخاتمة الدينية المعتادة .
وفي قصيدة أخرى بعنوان Tsuntsaye Kwari Da أي الحشرات والطيور، يذكر أسماء الحشرات والطيور المعروفة في بيئة الهوسا، في اثنين وعشرين بيتًا، ولا نجد فيها اسمًا واحدًا من الأسماء العربية سوى الكلماتashirin عشرين، وjimlata جملة، و Kammala كبّل، وhakki حق،rahim رحيم و Jalla جلَّ، وكلها لا علاقة لها بموضوع القصيدة، وتعتبر محدودة بالنسبة للمفردات اللغوية الواردة في القصيدة .
وعندما يتعرض نفس الشاعر لموضوع عام مثل Mutum cikakken أي الإنسان الكامل، نجد أنه لايكاد يخلو بيت من كلمة أو كلمتين من الكلمات العربية، فعدد أبيات القصيدة 25 بيتًا، يرد فيها ثلاث وأربعون كلمة عربية .
ونفس الأمر في قصيدة له بعنوان Batun Gaskiya أى قضية الحقيقة، نجد القصيدة تقع في 36 بيتًا، وتحتوي على 48 كلمة عربية.(/12)
وكما تقل الكلمات العربية في القصائد التعليمية التي تتناول أسماء الحشرات والطيور والحيوانات والأشجار والأطعمة التي تشيع في بيئة الهوسا، نجدها تكاد تنعدم في القصائد التي تعلم الطلاب مفردات لغة الهوسا. ففي قصيدة للحاج إبراهيم يارو محمد بعنوان Wakar yar Bahaushiya أي شعر الابنة الهوساوية، وتقع في 30 بيتًا، يجمع فيها عددًا كبيرًا من المفردات الهوساوية التي تبدأ بحرف الباء B ، بينما لا يرد فيها إلا خمس كلمات عربية، وهي idan ، إذا، Kullum كل يوم بمعنى دائمًا، وBushara بشارة ، وBasira بصيرة، و Kalma كلمة ، بينما نجد متوسط الكلمات الهوساوية التي تبدأ بحرف الباء ست أو ثماني كلمات في البيت الواحد.
والأمر نفسه في قصيدة له بعنوان Wakar ‘ yar Zabuwa أي شعر الدجاجة الصغيرة، وتبدأ مفرداتها بحرف الزاي، وعدد أبياتها 20 بيتًا، ولانجد فيها سوى ست كلمات عربية. بينما نجد قصيدة Garkuwa Wakar Mai أي شعر الطاهية، تقع في 30بيتًا ولا نجد فيها كلمة واحدة عربية، وكذلك قصيدة Wakar Mai Tsamiya أي شعر صاحب شجرة التمرهندي؛ تقع في 27 بيتًا ولا نجد فيها سوى كلمة واحدة في قافية القصيدة، بينما متوسط الكلمات التي ترد وتبدأ بحرف G أو TS يتراوح بين سبع وثماني كلمات في البيت الواحد .(/13)
وإذا كانت الكلمات العربية تكاد تنعدم في هذا اللون من القصائد التعليمية – فيما عدا ما يرد في الخاتمة الدينية – فإننا نجد الحال غير ذلك في القصائد التي تتناول موضوع العبادات، كالتوحيد والحج والصلاة والصيام والزكاة، حيث نجد الكلمات والمصطلحات العربية كثيرة، حتى أنه لا يكاد يخلو بيت واحد من أربع أو خمس كلمات عربية، ويبدو هذا واضحًا فيما كتبه إبراهيم يارو محمد، ففي قصيدة له بعنوان الحج، وتقع في مئة وعشرة أبيات نجد 314 كلمة عربية، وفي قصيدة عن الزكاة، وتقع في 88 بيتًا، نجد 202 كلمة عربية، وفي قصيدة عن التوحيد تقع في 85 بيتًا نجد 305 كلمة عربية، وفي قصيدة عن الصيام تقع في 81 بيتًا، نجد 149 كلمة، وفي قصيدة عن الصلاة تقع في مئة بيت نجد 347 كلمة عربية.
وتكثر الكلمات العربية عادة في الافتتاحيات الدينية في مطلع القصيدة، سواء كانت هذه القصائد في العبادات أو في غيرها من الموضوعات ، ففي مطلع قصيدة بعنوان التوحيدTauhidi لإبراهيم يارو محمد يقول : (1)
Zan fara baitoci da sunan Rabbana
سأبدأ الأبيات باسم ربي
Bismillahi Parki alkarimu rahimu
بسم الله الملك الكريم الرحيم
Allah ka ba ni hikima ka ban kuma tuntuni
اللهم هبني الحكمة وهبني التذكر .
Albarkacin sunanka rabbu Karimu
ببركة اسمك رب كريم
Ni nai nufin waka a Kan tauhidi ne
إني قصدت نظم الشعر في التوحيد.
Allah Ka ban hikima in wake fahimu
اللهم هبني الحكمة لأنظم شعرًا مفهومًا .
Dan Annabinka Muhammadun Wal Alihi
من أجل نبيك محمد وآله .
Da sahabihi ya jalla rabbu hakimu
وصحبه يا – الله – جل رب رحيم.
ويقول نفس الشاعر في مطلع قصيدته عن الحج : (2)
Na dauri niyyar yin Rasida kan hajjil
عقدت النية لنظم قصيدة عن حج.
Dakin Ta’ale Rabbu mai rahamata
البيت، تعالى رب ذو الرحمة .
Ya rabbi salli ala Nabiyu Muhammadu
يارب صلِّ على النبي محمد .(/14)
Wa alihi da sahali don alblait? وآله والصحب لأجل البيت .
وكما تكثر الكلمات العربية في مطلع القصيدة تكثر في نهايتها، نلاحظ ذلك في قصيدة لإبراهيم يارو محمد عن الصلاة ، يقول : (3)
Ya rabbi salli ala nabiyyuka Musdafa
يارب صلِّ على نبيك مصطفى
Wa alihi Wa sahabi don sallata
وآله والصحب من أجل الصلاة
ويقول سعد زنجر في مطلع قصيدة له بعنوان Wakar Maraba da sojo
شعر الترحيب بالجنود : (4)
Rabbi domin Mursalina
رب لأجل المرسلين
Anbiya da mukarralina
أنبياء مقربين
Don Waliyyai salhina
لأجل الأولياء الصالحين
Awwalina da lahirina
أولين وآخرين
Ba mu ‘ yanci babu Runtatawa
هبنا حرية غير منقوصة
ويقول معاذ هطيجا في قصيدة له بعنوان I lmin Zamani العلم الحديث (5)
Ka sami duk abin da mutum ya yi
اعلم أن كل ما يفعل الإنسان .
Kansa zai hau babu ruwan wani
سيقع عليه ولاشأن لأحد
In hairi hairi zai gani
إن خيرًا، خيرًا سيرى .
In ko sharri sharri zaigani
إن كذلك شرًّا، شرًّا سيرى .
Faman ya’ amal misral zar
فمن يعمل مثقال ذرَّة
Rati can Izazul Kun sani
هناك في سورة الزلزلة تعرفون
Allah shi ne masanin abin
الله هو العالم بما .
Da yake fili da na badini
يكون ظاهرًا وباطنًا .
Kullu shai’in la yahafa alai
كل شىء لا يخفى عليـ
hi , Alimun Ko du kankani
ـه، عالم بكل صغيرة
وفي قصيدة أخرى بعنوان " بر الوالدين(6)
Birrul Walidaini
يقول معاذ هطيجا :
Arziti ba shi baka’u
ليس للرزق بقاء
Sai da kauna da raja’u
إلا بالحب والرجاء
Dan mu rayu su’ada’u
لنحيا سعداء
Najidul haira jaza’u
نجد الخير جزاء
Na ga birrul Walidainl
نرع بر الوالدين
Wazkurullaha Kasira
واذكروا الله كثيرًا
Mai irada duk da Kudura
صاحب الإرادة كلها والقدرة
Babu waye da basira
لاذكاء ولا بصيرة
Babu Rarfi da dabara
لاقوة ولا حيلة
Sai da ikon Rahamani(/15)
إلا بقدرة الرحمن
Rabbana ya Rahamani
ربِّ يارحمن
Wa li tsarkin Kur’anl
وبطهارة القرآن
Don wali shehu Tijjani
لأجل الولي الشيخ التيجاني
Na yi roko don Ka ba ni
أسألك لتهبني
So da yardar walidaini
حب ورضا الوالدين
وإذا أردنا تتبع الكلمات العربية المقترضة في شعر الهوسا وبيان مدى انتشارها على مستوى البيت والقصيدة لطال بنا الحديث، ولكن نكتفي بهذا القدر اليسير لنعرف موقع الكلمة العربية في التراكيب .
موقع الكلمة في التراكيب .
يختلف موقع الكلمة العربية في شعر الهوسا، فقد ترد الكلمة مفردة، وقد ترد في عدة أنماط من التراكيب التي ترتبط أجزاؤها بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا، فلا يستغني جزء عن الجزء الآخر، كالمضاف والمضاف إليه، المعطوف والمعطوف عليه، وحرف الجر والمجرور، والمصدر واللاصقة الدالة على الشخص والزمن. وقد مر بنا كثير من الأمثلة التي تقع فيها الكلمة مفردة ولا ترتبط بما قبلها أو بعدها .
تركيب الإضافة :
يقع الاسم في لغة الهوسا في موقعي المضاف والمضاف إليه، ويرتبط المضاف بالمضاف إليه بأداة ربط متصلة وهي n في حالة كون المضاف مذكرًا و r في حالة كون مؤنثًا، ويكون الاسم مؤنثًا إذا انتهى بحركة الفتحة a باستثناء عدد محدود من الأسماء .
وفي نفس الموقعين تقع الكلمة العربية المقترضة في شعر الهوسا، فتأتي في موقع المضاف مرتبطة بالمضاف إليه بأداة الربط n و r حيث يكون المضاف إليه كلمة هوساوية. يقول سعد زنجر في قصيدة له بعنوان الشمال جمهورية أم ملكية (7)
Arewa Jumhuriya Ko Mulukiya
Ga saranta go ilmi ciki
ها السلطة وها العلم فيها .
Ga dola shari’ar gaskiua
ها العدالة شريعة .
فنجد كلمة shari’a وقعت في موقع المضاف ، وهي كلمة مؤنثة، فارتبطت بالمضاف إليه بأداة الربط r (8)
ويقول معاذ هطيجا في قصيدة له بعنوان yabon ubangiyi مدح الله :
Ni’imarsa ta gajiyar da duk mai lassafi
نعمته أعجزت كل عادٍ(/16)
Haka nam azabobinsa mal al’arshi
وهكذا عذابه ذى العرش .
فجاءت كلمة ni’ima مضافة إلى ضمير الغائب sa وارتبطت به بأداة الربط r وكذلك كلمة azabobi وهي جمع كلمة azaba عذاب جاءت مضافة إلى نفس الضمير، ولكنها ارتبطت به بأداة الربط n لكون الاسم مذكرًا .
وكذلك تأتي الكلمة العربية في موقع المضاف إليه مسبوقة بإداة الربط n أوr يقول سعد زنجر في قصيدة له بعنوان(9) Bidi’a Subhona Rabblika Rabbil ‘izzati amma
سبحان ربك رب العزة عمَّا
Yasifuna domin rashin ilmi ga ‘yan bidi’a
يصفون لعدم العلم لدى أهل البدعة .
فنجد كلمتي ilmi على bidi’a بدعة وقعتا في موقع المضاف إليه وارتبطتا بالمضاف بأداة الربط n .
ويقول معاذ هطيجا في قصيدة له بعنوان Birrulwaldaini Kau da aikin asharari : (10)
ابعد عن عمل الأشرار
Wanda Ke son shi yi sharri
الذي يحب أن يفعل الشر
فجاءت كلمة asharari في موقع المضاف إليه، وارتبطت بالمضاف وهو aiki عمل بأداة الربط n .
وإذا كانت الكلمة العربية في الأمثلة السابقة وقعت في موقع المضاف والكلمة الهوساوية وقعت في موقع المضاف إليه، والعكس، فإن الكلمة العربية قد تقع في موقعي المضاف والمضاف إليه في تركيب واحد وترتبطان معًا بأداة الربط n أوr. يقول معاذ هطيجا في قصيدة له بعنوان I lmin Zamani أي العلم الحديث.(11)
Iania’armu Ku jawo hankalinku
يا أهلنا اشحذوا عقولكم
Ku lura da halin zamani
واهتموا بطبيعة العصر الحديث .
فجاءت كلمة hali وهي عربية مقترضة بمعنى حال أو طبيعة في موقع المضاف، وzamani والزمان بمعنى العصر الحديث – في موقع المضاف إليه، وارتبطت الكلمتان العربيتان بأداة الربط n وفي موضع آخر من القصيدة يقول (12)
Daukaka da mutumci duk suna
الرفق والإنسانية كلاهما يكونان
Gum sana’ar ilmin zamani
حيث صناعة العلم الحديث .(/17)
فجاءت كلمة sanaa صناعة، وهي كلمة مؤنثة في لغة الهوسا في موقع المضاف، وilmi علم، في موقع المضاف إليه، وارتبطت الكلمتان بأداة الربط r كما وقعت كلمة ilmi في موقع المضاف و zamani في موقع المضاف إليه، وارتبطت الكلمتان بأداة الربط n .
ويقول سعد زنجر في قصيدة له بعنوان البدعة bidi’a :
Ka duba m nssin Risala Kirayaniyya
انظر نص الرسالة القيروانية
Akan batun rantsuwa damin Ka bar bidi’a
في مشكلة اليمين لتترك البدعة (13)
فجاءت كلمة nassi (نص)، في موقع المضاف وRisala (رسالة )في موقع المضاف إليه وبينها أداة الربط n .
ويستعمل المتكلم الهوساوي أحيانًا كلمة ta لربط المضاف بالمضاف إليه بدلاً من r في حالة كون المضاف اسمًا مؤنثًا، وna بدلاً من n في حالة كونه مذكرًا، سواء كان ذلك لربط كلمتين هوساويتين أو عربيتين مقترضتين . يقول معاذ هطيجا :
Ya ce shari’a ta Allah za’a yi
قال ستقام شريعة الله
Kar ya ji an yi zalunci
كي لا يشعر أنه وقع ظلم (14)
فاستعمل الشاعر ta بدلا من الرابطة r فبدلاً من قوله Allah shart’ar قال : shari’a ta Allah .
ويقول نفس الشاعر في قصيدة له عن النميمة واللواط والشر :
Ba zaka gan shi wurin lacca da mas muitin
Sai bin gidaje yana fatawa ta addini
إلا نتبع المنازل يفتي فتواي الدين (15)
ويقول سعد زنجر في قصيدته عن البدعة:
Ai babu lalle da Arabiyya wurin Allah
Im balu ilmi na nahawu gare ka ko rafa’a (16)
فاستعمل الشاعر رابطة الإضافة na بدلاً من n فبدلاً من أن يقول: ilmin nahawu قال : ilmi na nahawu .
ويقول في موضع آخر من هذه القصيدة :
Da malaman gaskiya fitilu na zamani
وعلماء الحقيقة مصابيح الزمان
Don haskakawar duhun fitinu na mai bidi’a
الإضاءة ظلام فتن صاحب البدعة(17)
ويقول في قصيدته
Arewa,Jumhuriya ko Mubukiya
I lmi na sanu’a nai yawa
علم الصناعة كثير(/18)
Da shirin addinin gaskiya
وهداية الدين الحق
فاستعمل في الشطر الأول رابطة الإضافة (18)Ilmi na sana’a na
وفي الشطر الثاني استعمل /n/ adinin gaskiya
وإذا كانت الرابطة ta أو na تربط كلمتين عربيتين في سطر واحد فإنها تربط كذلك كلمة عربية بأخرى هوساوية أو العكس.
يقول معاذ هطيجا في قصيدة له بعنوان Birrul walidaini aiki na farilla Kyauta
أحسن أداء الفريضة
Bi iyayeka Ka bi Allah
اتبع والديك اتبع الله (19)
فربط كلمة aiki وهي كلمة هوساوية في موقع المضاف بكلمة farilla فريضة وهي عربية بأداة الربط /na/
ويقول سعد زنجر .
Da tabi’ina da tabi’ihim da ihsani
التابعين وتابعيهم بإحسان
a kan tafarki na sunna wanda ba bidi’a
علي طريق السنة التي ليست بدعة(20):
فربطت كلمة na كلمة tafarki وهي هوساوية بكلمة sunna وهي عربية في موقع المضاف إليه .
كما تربط الرابطة الكلمة العربية في موقع المضاف بكلمة هوساوية في موقع المضاف إليه. يقول سعد زنجر في قصيدته السابقة :
Yau ga shi saba juma mun zamo bambam
اليوم ها نحن خالفنا بعضنا وصرنا مختلفين .
Bina kan Hadisi na Manzo Annalim sa’a
على حديث الرسول نبي السعادة(21)
فربط كلمة Hadisi وهي عربية في موقع المضاف بكلمة Manzo وهي هوساوية في موقع المضاف إليه بالرابطة /na/ .
الاستغناء عن الرابطة .
وقد تقع الكلمتان العربيتان في موقع المضاف إليه مع الاستغناء عن أداة الربط . وذلك عندما يقترض تركيبًا مكونًا من المضاف والمضاف إليه. يقول معاذ هطيجا في قصيدة له بعنوان : نحارب الجهل Mu yaki jahilci
Yauan tankiya ga ‘yan inta
Duk mai haddasa su jahilci
Hawannafsi’ Kin zumunta mun
San mai haddasa su jahilci (22)
فاستعمل الشاعر عبارة Hawannafsi وهي عبارة عربية مكونة من المضاف والمضاف إليه، دون استعمال أداة الربط الهوساوية .
ويقول في قصيدة بعنوان :
Gaokiya ba ta sake gashi(/19)
الحقيقة لا تغير الشعر .
Ka kiyaye hududnllahi suna
احفظ حدود الله فهي
Nan, amru da nahayi suna Kanka
أمر ونهي لديك (23)
ويقول :
Kama ka zama shaudanulinsi
وأنت صرت شيطان الإنس
Sai hirzi kai da masoyanka(24)
فنجد الشاعر استعمل في البيت الأول عبارة hudndullahi والبيت الثاني عبارة shaidanulinsi وهما عبارتان عربيتان يتكونان من المضاف والمضاف إليه لم يستعمل الشاعر رابطًا للإضافة فيهما .
ويقول :
Ba zaka ce ya sauka yau a jiha kaza
لا تقل إنه نزل اليوم في جهة كذا .
Kuma gabe za shi sauka can al’arshi
وغدًا سينزل هناك على العرش .
فاستعمل الشاعر كلمةjihakaza وهي عربية إلا أنه حذف التاء في كلمة جهة، بناء على عادتهم في حذف تاء التأنيث العربية من الكلمة المقترضة .
وهكذا نجد العبارات العربية التي تتكون من المضاف والمضاف إليه تستعمل كثيرًا في شعر الهوسا دون رابطة مثل Birrul walidaini برالوالدين، ورضاء الله Rilaullahi ورضاء الوالدين walidaini Rila’il.
تركيب العطف :
من أهم حروف العطف في الهوسا هو /da/ وهو يعطف الاسم على الاسم، وكما يكون المعطوف والمعطوف عليه كلمتين هوساويين يكون كذلك كلمتين عربيتين، ويمكن أن تقع الكلمة العربية المقترضة في موقع المعطوف عليه حيث يكون المعطوف كلمة هوساوية .
يقول الشاعر في ديوان Gangar Wa'azu (25)
Ba sukuni ga mai iyali
لا راحة لذي الأولاد .
Da shi da mai son ikon cluniya
هو ومحب سلطة الدنيا .
ويقول في نفس القصيدة
Mabuga hisabi da masu faraili
A tashi nema ai tafiyar wuni
فنلاحظ أنه في البيت الأول عطف ضمير الغائب shi وهو كلمة هوساوية على كلمة iyali بمعنى الأولاد وهي عربية، وفي البيت الثاني عطف كلمة masu أصحاب وهي هوساوية .(/20)
على كلمة hisabi وهي عربية مستعملاً حرف العطف da ، وتقع الكلمة العربية كذلك في موقع المعطوف، يقول سعد زنجر في قصيدته الشمال جمهورية أم ملكية :
ya mallaki dukkan talikai
يا مالكًا كل الخلائق
Na Kwari da tudu da samaniya
في الوادي والجبل والسماء (26)
ويقول في نفس القصيدة :
Shaihu haminu shi da Migaddadi
الشيخ الأمين هو والمجدد .
Sun bar mana girman cluniya
تركوا لنا عظمة الدنيا .
ففي البيت الأول عطف كلمة samaniya وهي عربية على كلمة tudu وهي هوساوية، وكذلك كلمة Migaddadi وهي عربية على shi وهي كلمة هوساوية مستعملاً حرف العطف da .
وقد يكون المعطوف والمعطوف عليه كلمتين عربيتين، يتوسطهما حرف العطف الهوساوي، يقول الشاعر في قصيدة Gangar Wa’azu :
Malamai hudu. Malam ya ce mana
أربعة علماء، قال المعلم لنا .
Su zasu Rare nai Kukan wani
Masu tauhidi da Mahaddata
أهل التوحيد والمحدثين .
Samunsu zai yi wuya sai nadiran
وجورهم سيكون صعبًا – ولا موحدون إلا نادرًا (27)
ففي البيت الثاني جاء المعطوف Mahaddata والمعطوف عليه tauhidi وهما كلمتان عربيتان توسطهما حرف العطف da. ويقول في موضع آخر من القصيدة :
Fastami’u kun ji aya ta fadi
قالت الآية فاستمعوا .
Wansutu ka Kawaita wuri uku
وأنصتوا واهدؤوا في ثلاثة أماكن .
Cikin masallaci da jana’izai
في المسجد والجنائز .
Wurin Karatu ba a zantuka
ومكان قراءة القرآن لا يتحدث .(28)
ففي البيت الثاني عطف Jana’izai جنائز على masallaci المصلى، وهما كلمتان عربيتان توسطهما حرف العطف /da/ وقد جمع معاذ هطيجا الحالات الثلاث السابقة في موضع واحد في قصيدتهUbangyi yabon شكر الله حيث يقول :
Wuta da aljanna da cuta da lafiya
النار والجنة والمرض والعافية .
Ko ka gaya mini wanda ya yi su ban da shi ?
هل تقول لي من خلقهم إلا هو ؟
Fakrun da riz kun duk tafarkin Jalla ne(/21)
الفقر والرزق كلاهما عن طريق – جلَّ الله .
Mutuwa da rayawa ina wani ban da shi
الموت والحياة لا يكونان لأحد إلا هو
Haulun da Ruwa duk garai suke tattara
الحول والقوة كلاهما لديه تجمعا.
Subhanahu Mannanu balui aua shi
Sarki da ba wami Wanda zai masa Kasli (29)
الملك الذي لا يشاركه أحد
ففي البيت الأول استعمل الشاعر aljanma وهي كلمة عربية معطوفة على كلمه wuta النار وهي هوساوية، ونفس الكلمة العربية استعملها معطوفًا عليه بالنسبة لكمة Cuta بمعنى المرض وهي هوساوية، وكلمة Lafuya العافية وهي عربية استعملها معطوفًا على كلمة cuta. وبينها حرف العطف : da
وفي البيت الثاني استعمل rizkun رزق معطوفة على كلمة
fakrun وكذلك في البيت الثالث استعمل كلمة kuwa قوة معطوفة على كلمة Haulum حَوْل وهما كلمتان عربيتان بينهما حرف العطف da
* *
وقد يقترض الشاعر عبارة العطف العربية كاملة، أى تتركب من المعطوف والمعطوف عليه وحرف العطف العربي، فيقول سعد زنجر في قصيدة له يرحب بالجنود العائدين من الحرب العالمية :
Marhaban ahlan wa sahlan
مرحبًا أهلاً وسهلاً
Kai maraba da soja malam
رحِّب بالجنود يا سيدي (30)
فاقترض الشاعر العبارة العربية " أهلاً وسهلاً " كاملة بما فيها حرف العطف ويقول في قصيدة عن البدعة :
Duba ga nassi Ka zama koyi da manzanni
انظر إلى النص لتتعلم من الرسل .
A kan jidali da al’adu na ‘yan bidi’a
في معارضة عادات أهل البدعة .
Fa’in taualau’ idan suka sama baudewa
فإن تولوا، أى إذا بدؤوا الإعراض .
Suka juya baya ga ma’anar Kamilar da’a
وأعطوا ظهورهم لكلام كامل الطاعة أي النبي .
Suje da niyyarsu mudai hasbuna lahu
فليذهبوا بنيتهم ونحن حسبنا الله .
Wani’ima , madalla mai tanyo dukan janna’a
Ni’imal Wakilu mu dogara gumsa ba tsaro
ونعم الوكيل، نعتمد عليه بلا خوف .(/22)
Ni’iman Nasiru bisa kan taimakon jama’a
نعم النصير على مساعدة الناس (31)
فنجد الشاعر في البيت الثاني يستعمل حرف العطف الفاء في قوله " فإن تولوا" وفي البيت الثالث يستعمل حرف العطف – الواو – في قوله "حسبنا الله ونعم " .
وهكذا نجد الكلمة العربية تقع في عبارة العطف في موقع المعطوف والمعطوف عليه وأحيانًا أداة العطف .
تركيب الجار والمجرور :
وتقع الكلمة العربية في الهوسا في موقع الجار والمجرور، حيث يكون حرف الجر هوساويًّا، والمجرور كلمة عربية، يقول سعد زنجر في قصيدته عن البدعة :
Farko su Kan ce Karamban-inka zai ja Ka
في البداية يقولون عادة – تطفلك سيجرك .
Zuwa ga halakarka don ka zargi ‘yan bidi’a
إلى هلاكك للومك أبناء البدعة (32)
ويقول في قصيدته الشمال جمهورية أم ملكية .
Addu’armu ga Allah Rahimi
دعاؤنا الله الرحيم
Ya Kiyaye Arewa gaba daya
ليحفظ الشمال جميعًا (33)
ففي البيت الأول جاءت كلمة halakarka هلاكك، وفي البيت الثاني لفظ الجلالة في موقع المجرور مسبوقًا بحرف الجرga بمعنى إلى. ويقول سعد زنجر في مطلع قصيدته عن البدعة :
Ka daura niyya a kan waka kana addu’a
اعقد النية على قول الشعر ثم الدعاء .
A’uzu billahi daga shaidani a kan bidi’a
أعوذ بالله من الشيطان على البدعة .
ويقول في موضع آخر من القصيدة .
Manzo ya ce latazalu tutar akwai jama’a
Da zata dage a kan sunna da kin bidi’a
ففي البيت الأول جاءت كلمة bidi’a وفي البيت الثاني كلمة (34) sunna في موقع المجرور مسبوقين بحرف الجر akan بمعنى على كما جاءت كلمة shaidani في البيت الأول مسبوقة بحرف الجرdaga بمعنى مِن.
وأحيانًا يستعمل الشاعر حرف الجر العربي إذا كان الاقتراض وقع على عبارة عربية تتكون من الجار والمجرور. يقول سعد زنجر في قصيدة البدعة :
Kama dai ala kulli halin na ji fatawarka
على كل حال سمعت فتواك .(/23)
Bisa tsarkarka ga niyya kan gudun bidi’a (35)
ففي الشطر الأول استعمل الشاعر عبارة " على كل حالٍ " وهي عبارة عربية مكونة من حرف الجر "على" والمجرور " كلّ " .
ويقول في موضع آخر من نفس القصيدة :
Ko ko yana dariya zanee na wargi n e
Ko kuma ya gunce ta Billahil. Lazi da ba’a (36)
فاستعمل الشاعر عبارة" بالله الذي" وهي عبارة عربية تتكون من حرف القسم مسبوقًا بلفظ الجلالة.
ويقول معاذ هطيجا في نهاية قصيدة له بعنوان Totoein shaihu Da waninsu Tammat bi hamdillahi summa bi fathillahi
تمت بحمد الله ثم بفتح الله .
Summa bi aunillahi laisa ka mislihi
ثم بعون الله ليس كمثله . (37)
ونلاحظ أن الشاعر نسج هذا البيت كله بكلمات عربية بعد أن أبدل الأصوات التي يصعب عليه نطقها بأصوات أخرى، فاستعمل الهاء بدلاً من الحاء والهمزة بدلاً من العين والسين بدلاً من الثاء كما استعمل حرفي الباء والكاف قبل المجرور .
* *
المصدر :
يتكون الفعل في لغة الهوسا من المصدر مسبوقًا بالسابقة الدالة على الشخص والزمن، فكلمة ci تعني الأكل و su السابقة الدالة على الغائبين و Ka الدالة على الزمن الماضي وبذلك يكون الفعل Suka Ci معناه أكلوا، وكذلك za تدل على المستقبل و ta تدل على الغائبة فتكون Zata ci بمعنى ستأكل. وهكذا باقي الأزمنة والضمائر .
يقول سعد زنجر
Ya mllaki dukkan talikai
ملك كل الخلائق .
Na Kwan da tudu da samaniya
في الوادي والجبل والسماء . (38)
فاستعمل الشاعر الفعل ya mallaki ملك وهو مكون من اللاصقة ya الدالة علي الفعل الماضي المسند إلى الغائب، والمصدر mallaki وهو مقترض من الفعل الماضي ملك .
ويقول معاذ هطيجا في قصيدة بعنوان
Birrul walidauni Tun Kana can ckin uwarka
منذ كنت في بطن أمك
Babu ma wanda ke ganinka
ولا يوجد أحد يراك
Suka himmantu taltalinka
ويهمون بالاستعداد .
Duk sun dauki tanadinka(/24)
والكل يستعد للقائك (39)
فاستعمل الشاعر كلمة himmantu وهي مقترضة من كلمة همَّه العربية مسبوقة باللاصقة suka الدالة على الماضي المسند إلى الغائبين .
ويقول سعد زنجر في قصيدته مرحبًا بالجنود العائدين من الحرب العالمية Kai, muna fahari da murna
عجبًا، نفخر ونسرُّ
‘yan Nijeriya sun yi suma
أبناء نيجريا اشتهروا (40)
فاستعمل الشاعر المصدرfahari الفخر مسبوقًا باللاصقة muna الدالة على الفعل المضارع المسند إلى المتكلمين .
وهكذا تُستعمل الكلمة العربية كمصدر يسبق لواصق الماضي والمضارع والمستقبل .
وكما يستعمل المصدر في حالة بناء الفعل للمعلوم، يستعمله كذلك في حالة بنائه للمجهول، يقول معاذ هطيجا في قصيدته عن النميمة واللواط والشر.
Hira da su an haramta Kar a rabu da su
السمر معهم حرِّم حتى لا يُقلَّدوا .
Dan jahili sai su rinjaye shi da hiyanatu
لأن الجاهل يقلدونه في الخيانة (41)
فاستعمل الشاعر كلمة haramta وهي مقترضة من الفعل "حرم" في موقع المصدر مسبوقًا بكلمةan وهي لاصقة المبني للمجهول في حالة الماضي .
ويتكون اسم الفاعل في لغة الهوسا من إضافة السابقة :ma قبل المصدر وحذف الحركة الأخيرة منه وإضافة حركة الكسرة في حالة المفرد والفتحة في حالة الجمع كاسم الفاعل ma dinki بمعنى خياط ويقول الشاعر في قصيدة Gangar Wa’azu
Masu tauhidi da mahaddata
أهل التوحيد والمحدثون .
Samunsu zai yi wuya sai nadiri
وجودهم سيكون صعبًا ولايوجدون إلا نادرًا. (42)
فاستعمل الشاعر كلمة mahaddataمحدث وهي مكونة من السابقة اسم الفاعل ma يليها المصدر haddata وهو مشتق من الفعل حدَّث .
وبنفس الطريقة يتكون اسم المكان حيث يستعمل المصدر مسبوقًا بالسابقة ma وقلب الحركة الأخيرة في المصدر إلى كسرة. يقول نفس الشاعر في موضع آخر من القصيدة :
Cikin Masallaci da jana’za
في المصلى والجنائز .
Wurin Karatu ba a zantuka(/25)
ومكان قراءة – القرآن – لا يُتكلم.(43)
فاستعمل الشاعر كلمة masallaci مصلى وهي مكونة من السابقة ma متبوعة بالمصدر sallaci وهي عربية مشتقة من الفعل صلَّى.
أنماط العبارات العربية :
يختلف أسلوب استعمال الكلمات العربية في شعر الهوسا، فبعض الكلمات تأتي منفردة، وبعضها ترد في تراكيب ترتبط وحداتها بعضها ببعض، والبعض الآخر يرد في عبارات أو جمل عربية مقتبسة وتضمن البيت .
وبعض الكلمات العربية التي ترد في شعر الهوسا، يأتي المرادف لها من الكلمات الهوساوية. يقول الشاعر في Gangar wa’azu
Fastami’u Kun ji Aya ta fadi
قالت الآية فاستمعوا – اسمعوا –
Wansutu Ka Kawaita wuri uku
وأنصتوا . اهدؤوا – في أماكن ثلاثة.
Ckin masallaci da jana’izai
في المصلى والجنائز .
Wurin Karatu ba ‘a Zantuka
حيث قراءة – القرآن لا يتكلم (44)
فاستعمل الشاعر كلمة فاستمعوا Fastamiu العربية وجاء بعدها المرادف وهو Kun ji بالهوسا، وكلمة وأنصتوا Wansutu وجاء بالمرادف لها Ku Kawaita اهدؤوا. والكلمتان مقترضتان من قوله تعالى :" وإذا قرئ القرآن فاستعموا له وأنصتوا "الأعراف آية 7 "
ويقول معاذ هطيجا في قصيدة له في شكر الله : yabon uhangiji
Shi ne saburu ubangyi hakuri garai
هو صبور أي رب لديه صبر .
Kame mutum shi ka aikata ya san shi
كل شيء عمله الإنسان يعرفه .
Shi ne sami’u Basiru mai ji mai gani
هو سميع بصير ذو سمع وذو بصر .
Kame ya darsu a zuciya ya san shi
وكل شيء يخطر بالقلب يعرفه (45)
فاستعمل الشاعر في البيت الأول كلمة Saburu ثم جاء بمرادفها وهي لديه صبر hakuri garai وفي الشطر الأخير استعمل كلمتي sami’u وبصير وجاء بمرادفهما وهو maiji ذو سمع maigani ذو رؤية .
ويقول سعد زنجر في قصيدته عن البدعة :
Duba ga nassi Ka zam Koyi cla Manzannl
انظر إلى النص لتتعلم من الرسل .
Akan jidali da al’adu na ‘yan bidi’a(/26)
جدال وعادات أبناء البدعة .
Fa’in tawalau, idan suka soma baudewa
فإن تولوا ، إذا بدؤوا الإعراض .
Suka juya baya ga ma’amar Kamilar da’a
وأعطوا ظهورهم لكلام كامل الطاعة – الرسول .
Su je da niyyarsu nui dai hasbunal-lahu
فليذهبوا بنيتهم ونحن حسبنا الله .
Wani’ima , madalla mai tanyo dukan jana’a
ونعم، الحمد لله معين كل الناس .
Ni’imal wakilu mu dogara gunsa-ba tsoru
نعم الوكيل، نعتمد عليه بلا خوف .
Ni’iman Nasiru bisa Kan taimakon jama’a
نعم النصير في مساعدة الناس (46)
ففي البيت الثاني استعمل الشاعر كلمة tawalau Fa’in’ فإن تولوا، ثم شرح معناها قائلاً : " إذا بدؤوا الإعراض.
Idan suka soma baudewa وفي البيت الرابع جاءت عبارة “ Ni’imal waklu نعم الوكيل ثم شرح معناها قائلاً نتوكل عليه بلا خوف . ma dogara gunsa ba tsora وفي الشطر الثاني استعمل عبارةNasiru mi’iman نعم النصير ثم شرح معناها قائلاً bisa Kan taimaken jama’a في مساعدة الناس.
وتكثر هذه الظاهرة عند ذكر المصطلحات العلمية كمصطلحات علم التوحيد مثلاً ففي قصيدة لإبراهيم يارو محمد بعنوان التوحيد Tauhidi يورد صفات الله سبحانه وتعالى كما وردت في كتب التوحيد، ثم يشرح معنى كل صفة من هذه الصفات يقول .
Musan Kyamu bi nafsihi na Kdusuna
نعرف أنه القائم بنفسه القدوس .
ثم يشرح معنى " القيام بنفسه Kyamu benasfsihi فيقول Allahu shi ya wadata Kansa rahimu
الله هو الغني بنفسه رحيم .
Allahu shi wahdaniya bisa mulkihi
الله هو الواحد في ملكه .
ثم يشرح كلمة “ Wahadaniya “ فيقول :
Allah guda daya ne ga dukan alamu
الله واحد في كل العالم
Kudura irada duk suna ga azizuma
القدرة والإرادة كلتاهما لديه العزيز.
ويشرح صفات القدرة والإرادة فيقول:
Dukan nufi iko yana ga salamu
كل الإرادة والقدرة لديه السلام .
I lmu hayatu wasama’u duk yana dasu(/27)
العلم والحياة والسمع كلها لديه .
ويشرح هذه الصفات الثلاث فيقول :
Da sani da rai Allah’ yanaji slimu
العلم والحياة، والله يسمع فهو العليم .
Basaru Kalamu Kadiran zan bayyama
البصر والكلام فهو قادر، وسأشرح ذلك .
ويشرح الصفات قائلا :
Magama gani iko yana ga halimu
الكلام والرؤية والقدرة لدى الحليم (47)
وهكذا يستمر الشاعر فيذكر الصفات كما هي باللغة العربية في الشطر الأول ويأتي بمفرداتها أو يشرحها في الشطر الثاني من البيت.
وقد يورد الشاعر جملة أو شطرًا باللغة العربية ثم يليه شرحه بلغة الهوسا. يقول معاذ هطيجا في قصيدته عن النميمة واللواط :
Immi bada’tu Bi ismillahi hali Kuna
إني بدأت باسم الله خالقنا
Na Fara waka da sunan jalla Rahamanu
بدأت الشعر باسم – الله – جل الرحمن(48)
ويقول في قصيدته mu nemi Ilmi نطلب العلم
Innamal ilmu munzus sigari
إنما العلم منذ الصغر .
ثم يشرح معنى الشطر قائلاً :
Tun ana yara’ka bidar ilmu
اطلب العلم منذ الصغر (49)
ففي الشطر الأول أورد العبارة العربية كاملة، وفي الشطر الثاني شرح معناها بلغة الهوسا .
العبارات العربية :
تختلف أنماط العبارات المستعملة في شعر الهوسا، ويمكن تقسيم هذه العبارات إلى ثلاثة أقسام :
أ- العبارات الأدبية :
وهذه العبارات تكثر في شعر الشعراء ذوي الثقافة العربية . ويختلف طول هذه العبارات من عبارة لأخرى فبعضها يتكون من جمل بسيطة والبعض الآخر يتكون من عبارات مركبة. فمن العبارات البسيطة قول سعد زنجر في قصيدته عن البدعة :
Manzo ya ce latzalu tutar akwai jama’a
قال الرسول لا تزال راية الإسلام مرفوعة ما وجد الناس .
Da zato dage akan sunna da kin bidi’a
الذين يناضلون من أجل السنة ضد البدعة (50)
ففي الشطر الأول استعمل الشاعر عبارة عربية بسيطة وهي عبارة لاتزال .
ويقول معاذ هطيجا في قصيدة له بعنوان: نحارب الجهل Muyaki jahileu :(/28)
Kif indaka in ji sarkin
قال الأمير قف عندك
Adalei mai hanin Nhararanci
العدل يمنع الشر (51)
ففي الشطر الأول من البيت استعمل الشاعر عبارة عربية بسيطة وهي قوله Kif indaka: قف عندك .
ويقول معاذ هطيجا في قصيدة له بعنوان طبائع الناس:alayen Matane متحدثًا عن المتكبر .
Labudda na yi zato ashe ba Ka sanshi ba
لابد، ظننت أنك لم تعرفه .
Kewa Kamar Kashi yake dubansa
الجميع ينظر إليه كالشيء الكريه (52)
ويقول في موضع آخر من نفس القصيدة.
Har abadal’abadi ba ya arziki
حتى أبدا الآباد لا يرزق .
Labudda sai ya Kasa tsaransa
لابد أن يفقد رفاقه (53)
فاستعمل الشاعر في البيت الأول والثاني عبارة لابد Labudda
وفي الشطر الأول من البيت الثاني استعمل عبارة أبد الآباد abadal’abadi
أما العبارات المركبة فقد تشمل شطرًا من البيت وقد تصل إلى بيت كامل أو عدة أبيات، يقول معاذ هطيجا في ختام قصيدة له بعنوان yaben ubangifi :
Ni ne Mu’azu Hadeja ni na yi wallafor
إني معاذ هطيجا الذي ألفه .
Haza dakallu minal Kalili yabon shi
هذا أقل من القليل في مدحه (54)
فاستعمل الشاعر في الشطر الثاني عبارة عربية مركبة وهي قوله: هذا أقل من القليل .
ويقول في قصيدة له يذم الخمر وشاربها :
La amana wala meyalasatu
لا أمان ولا مجالسة .
I lla bi laruratin dan giya
إلا بضرورة لشارب الخمر .
ويقول موضحًا أثرها السيِّئ في جسم شاربها .
Wa tafsidi mala san nan
وتفسد المال حينئذٍ .
Wa tankusa imanin mashayin giya
وتنقص إيمان شارب الخمر .
Sannan watalurru fi sabihi
تضر في صدره .
Abadan Kuma ba zama lafiya
دائمًا ولا يصير سليمًا .
Kul haza munkarun Rabbana
كل هذا منكرٌ ربنا .
La tuwa hizna da sharrin giya
لا تؤاخذنا بشر الخمر (55)
ويقول في نفس القصيدة مخاطبًا شارب الخمر :
ويقول في نفس القصيدة ومخاطبًا شارب الخمر .(/29)
To. am muku gargadi Ko Ku dauka
حسنًا لقد أنذرتكم لعلكم تتقون
Ko KU kikan fadin gaskiya
أو ترفضون قول الحق
Lakin alhakku taz haru yauman
لكن الحق يظهر يومًا
La mabin wola duniya
لا مال سيغني – ولا دنيا (56)
* *
ب- العبارات الدينية :
شعب الهوسا متدين بطبعه؛ لذلك تكثر العبارات الدينية على ألسنة أفراد الشعب بصفة عامة، وترد كثيرًا في أشعارهم الدينية وغير الدينية إلى جانب الافتتاحيات والخواتم الدينية لقصائدهم، وتكون هذه العبارات الدينية قصيرة عادة من هذه العبارات الشائعة قولهم: "الحمد لله". يقول سعد زنجر في ختام قصيدة له عن الشائعات ‘yan baka:
Alhamdulillahi mun ida sako
الحمد لله أدينا الرسالة
Muna gargadin dan gari har da bako
أنذرنا ابن المدينة والضيف . (57)
ويقول معاذ هطيجا في قصيدته عن النميمة واللواط والشر :
Alhamdulillahi waka ta yi tasiri
ويقول معاذ هطيجا في قصيدة له بعنوان نطلب العلم Mu nemi Ilmi :
العلم يزيد الإيمان
Lilmu yazidul imana
Nayazidul sehata fi jisimi
ويزيد الصحة في الجسم
Wa yazidul haira alalarali
ويزيد الخير على الأرض .
Wa yozidul ria ka ilal Kaumu
ويزيد الرزق للقوم (58)
الحمد لله للشعر تأثير .
Fasko da Karshe da sunan Jalla Rahamanu
أولاً وأخيرًا باسم الرحمن جلّ(59)
ويقول نفس الشاعر في نهاية قصيدة له بعنوان " أعلام الشيخ " :
Tutocin shaihu da waninse
تمت بحمد الله Tammat bi hamdillahli
ثم بفتح الله Summa bi fathillahi
ثم بعون الله Summa bi aunillahi
ليس كمثل الله Laisa Kamislillahi
لا ثاني له واحد
Ba na biyun sa shi daya (60)
ومن العبارات الدينية المستعملة كثيرًا عبارة " سبحان الله ". يقول معاذ هطيجا في قصيدته " الحقيقة لا تغير الشعر " :
Gaskiya ba ta sake Gashi
Subhaballahi Karimin sarki
سبحان الله ملك كريم .
Rablu Ka tsarkoke bayinka
ربّ طهر عبادك (61)(/30)
ومن العبارات الدينية قولهم "أعوذ بالله" يقول سعد زنجر في مطلع قصيدته عن البدعة :
Ka daura niyya akun waka Kana addu’a
اعقد النية على قول الشعر ثم الدعاء .
A’uzu billahi daga shaidam a kan bidi’a
أعوذ بالله من الشيطان من البدعة(62)
ويقول معاذ هطيجا :
Lakin sharrinka zai bi ka bar
Ya zuwa Kabari wurin Kwanciya
Inna wana’uzu billahe min
Sharrin caca da sharrin giya (63)
وقولهم: " أستغفر الله" يقول معاذ هطيجا :
Me Za a ba wane wofi bai shigar jama’a
Kullum riken tasbaha qu masu adclini
Sai kun yi zance ya ce Astgfirullaha
I rinsu ma ba ni sen zance da su ainu (64) :
ومن العبارات الدينية قولهم: " إن شاء الله" يقول سعد زنجر في قصيدة له بعنوان " الشمال جمهورية أم ملكية ":
Tutoein shaihu Mujaddacli
أعلام الشيخ المجدد
Dada ba su zama jumhuriya
أبدًا لن تصير جمهورية
In sha’ Allahu, Mu tsarkake
إن شاء الله نتطهر
Bisa fatan za mu bi gaskiya
وتتخلل الأدعية الدينية كثيرًا من شعر الهوسا. يقول معاذ هطيجا: (65)
Allahu ahfizna bi jahil Musdafa
الله احفظنا بجاه المصطفى
Wa hi jahil Nabi Musa din sandarsa
وبجاه النبي موسى وعصاه
La haira illa hairuhu Rablul Wara
لاخير إلا خيره رب الورى .
Subhana tsarki ya tsaya a gareshi
سبحان الطهر وقف عليه (66)
ومن العبارات الدينية الأحاديث النبوية الشريفة يقول معاذ هطيجا في قصيدة له بعنوان Mu nemi ilmi :
I dilibul ilma walau bi Sini
اطلب العلم ولو بالصين
Hadisi ne ma bidar ilmu
حديث عن طلب العلم
I lmud duniya ilmud dini
علم الدنيا علم الدين
Su ne rabbai biyu don ilmu
هما قسمان للعلم (67)
ويقول في موضع آخر من القصيدة .
Innamal a’amabu binniyati
إنما الأعمال بالنيات
Jama’a mu yi kwazo don kammu
Subhanallohi karimin sarki
سبحان الله ملك كريم(/31)
Rabbu shi kyautata Karshemmu
اللهم أحسن خاتمتنا (68)
أما عن اقتباس الآيات القرآنية في شعر الهوسا فهي كثيرة، حيث ينتشر حفظ القرآن بين من يتلقون العلم في "الكُتاب " أو فيما يعرف بلغة الهوسا "مدرسة المنزل " Makarantar Gida " حيث يتلقى الطفل فيها القرآن الكريم، وما تيسر من علوم الدين، ونلاحظ أن صور تأثير القرآن على شعر الهوسا يتنوع تنوعًا كبيرًا فهو أحيانًا تأثر بالمعنى، وأحيانًا أخرى تأثر ببعض المفردات القرآنية. الباهرة، وفي أحيان كثيرة يحتذي النسق القرآني ويتفق في هذا الاحتذاء، وقد يكون التأثر بمجرد استلام لبعض الآيات أو سور القرآن وأفكاره .
حركة الإعراب في الكلمة :
عندما تقترض لغة الهوسا كلمة
عربية، تقترضها منتهية بحركة واحدة لا تتغير، من موقع لآخر – إلا أن الكلمة العربية الواردة في عبارة أو جملة مقتبسة، تأتي حركتها الأخيرة علي حسب موقعها في الجملة مقتبسة، ويلاحظ ذلك من الأمثلة التالية، المستقاة من ديوان معاذ هطيجا .
يقول في قصيدة له بعنوان شكر الله yabon ubangyi :
Allahu ahfizna bi jahil Musdafa
الله احفظنا بجاه المصطفى .
Wa ! bi jahi Annabi Musa don sandarsa
وبجاه النبي موسى لأجل عصاه .
La haira illa hairuhu Rabbul Wara
لاخير إلا خيره رب الورى.
Subhana tsarki ya tsaya a gare shi
سبحان الطهر قائم لديه (69)
يلاحظ أن الشاعر في هذه الأبيات اقتبس بعض العبارات والجمل العربية الفصحى، وجاءت الكلمات مضبوطة حسب موقعها في الجملة، فلفظ الجلالة Allahu جاء مرفوع بالضمة لأنه في موقع المنادى، وفعل الأمرahfiz جاء مبنيًّا على السكون، وjahi مجرورًا بالكسرة حيث سبقه حرف الجر bi، وكلمة خير haira جاءت منصوبة لوقوع لا النافية للجنس قبلها، وكلمة خيره hairuhu جاءت مرفوعه لأنها وقعت خبرها .
ويقول في موضع آخر من القصيدة .
Huwa Haliku dayyanu laisa Kamislihi
هو الخالق الديان ليس كمثله(70) .(/32)
جاءت الجملة العربية المقتبسة صحيحة من حيث الإعراب، فضمير الغائب هو Huwa مبني على الفتح في محل رفع وكلمة “ خالق Haliku مرفوعة بالضمة لأنها خبر، والديان dayyanu صفة للخبر مرفوعة بالضمة و misli مجرورة بالكسرة لوقوعها بعد كاف التشبيه .
ويقول في نهاية القصيدة .
Ni ne Mu’azu Hadeja ni na yi Wallafar
إني معاذ هطيجا ألفته .
Haza akallu mKalili yabon shi
هذا أقل من القليل بمدحه .
وفي الشطر الأخير جاءت جملة "هذا أقل من القليل " سليمة من الناحية الإعرابية .
ويقول في نهاية قصيدة له :
Tammat bi hamdillahi
تمت بحمد الله
Summa bi fathillahi
ثم بفتح الله
Summa bi aunillahi
ثم بعون الله
laisa Kamislillahi
ليس كمثل الله (71)
فجاءت الكلمات " حمد hamdi " وفتح fathi " و " عون auni " ومثل misli " مجرورة بالكسرة لأنها وقعت بعد الباء في الحالات الثلاث الأولى والكاف في الحالة الرابعة، كما جاء لفظ الجلالة " الله llahi " مجرور بالكسرة لوقوعه في موقع المضاف إليه .
ويقول :
Allah shi ne masanin abin
الله هو عالم بـ
da yake fili da na badini
ما يظهر وما يخفى
Kullu shai’in la yahafa alai
كل شيء لا يخفى عليـ
Hi Alimun Ko da kankani
ـه عالم بكل صغيرة (72)
فجاءت الجملة العربية " كل شيء لا يخفىعليه " سليمة من الناحية الإعرابية.
وله قصيدة بعنوان " برالوالدين Birrul Walidaini " استعمل فيها كثيرًا من الكلمات والعبارات والجمل العربية التي جاء الكثير منها سليمًا من الناحية الإعرابية، نقتبس منها هذه الأشطر :
كل يوم يفكرkullu yaumin sai tunani
بارك الله علينا Barskal lahu alaina
ما رضاء الله إلا ullahi illa Ma rida
في رضاء الوالدين
Fi rida’il Walidaini (73)(/33)
ففي الشطر الأول جاءت كلمة كل "Kullu " مرفوعة لأنها وقعت مبتدأ ويومyaumin جاءت مجرورة ومنونة لأنها في موقع المضاف إليه، وجاءت كلمة رضاء rida’u في الشطر الثالث مرفوعة لأنها مبتدأ وجاءت في الشطر الرابع مجرورة rida’i لأن حرف الجر سبقها.ولفظ الجلاله "الله" جاء في الشطر الثاني مرفوعًا لأنه في موقع الفاعل، وفي الشطر الثالث مجرورًا بالكسرة لأنه في موقع المضاف إليه.
ويقول في قصيدة له بعنوان " الحقيقة لا تغير الشعرGaskiya Ba ta Sake Gashi":
Ka girmama Allah da Maaiki
عظم الله والرسول
Da iyaye duk da sarakinka
ووالديك وكل رؤسائك
Wa ulul amri minkum. Duba
وأولي الأمر منكم، انظر
Ka kiyaye fadar Mahaliecinka
واحفظ قول خالقك
فجاءت الآية الكريمة" وأولي الأمر منكم " سليمة من الناحية الإعرابية. ويقول :
Rashin tarbiyya mai Kuau
عدم التربية الجيدة
Shi ne cikas a kasashemnu
هي الغلطة في بلادنا
Innamal ilmu munzus sigari
إنما العلم منذ الصغر .
Tun ama yara Ka bidar ilmu
منذ الصغر اطلب العلم (74)
فاستعمل الشاعر جملة " إنما العلم منذ الصغر " سليمة من الناحية الإعرابية.
وغير ذلك الكثير من العبارات والجمل العربية المقتبسة في الشعر الهوساوي والتي يرد الكثير منها خاليًا من الأخطاء النحوية إلا أن البعض الآخر لا يخلو من هذه الأخطاء، ومن أمثلة هذه الجمل قول معاذ هطيجا في قصيدته شكر الله yabon ubangiji :
Alkibriya’u li Rabbana sifatun bihi
الكبرياء لربنا صفة به .
Duba cikin Ta’alimu a same shi
انظر في التعاليم تجده (75)
ففي بداية الشطر الأول جاءت كلمة رب منهية بالفتحة Rabba والمفروض أن تكون Rabbi لوجود حرف الجر bi قبلها .
وفي قصيدة يتحدث فيها عن النميمة واللواط والشر يقول :
Tubu ilallahi kabla mautu ihiwanu
توبوا إلىالله قبل الموت – أيها الإخوان (76)(/34)
فجاءت كلمة mautu منتهية بالضمة وكان يجب أن تكون منتهية بالكسرة mauti لوقوعها في موقع المضاف إليه في وسط السياق العربي .
وفي نهاية القصيدة يقول :
Baiti tamanin wala zada wala nakasa
ثمانون بيتًا لا زادت ولا نقصت .
والمفروض أن يكون الشطر
La zadat wala nakasat
ويقول في قصيدة له عن الخمر وشاربها :
La amana wala mujalasatu
لا أمانة ولا مجالسة
هlla bi laruratin alan giya
لشارب الخمر إلا لضرورة (77)
فجاءت كلمة mujalasatu مرفوعة بالضمة والمفروض أن تكون منصوبة بالفتحة لوقوعها بعد لا النافية للجنس .
وقد يكون الخطأ النحوي لضرورة شعرية ولا سيما في القافية .
كقوله في قصيدة برالوالدين :
Arziki ba shi baka’u
ليس للرزق بقاء
Sai da Kauna da raja’u
إلا بالحب والرجاء
Don mu rayu su’ada’u
لكي نحيا سعداء .
Najidul haira jaza’u
نجد الخير جزاء (78)
فجاءت الكلمات:raja’u ) وsu’ada’u وjaza’u ) في نهاية الأشطر مرفوعة بالضمة لضرورة شعرية والمفروض أن تكون مجرورة بالكسرة في الشطر الثاني، ومنصوبة بالفتحة في الشطرين الثالث والرابع. ويقول في قصيدة له بعنوان" نطلب العلم Munemi ilmi :
Alilmu yazidul imana
العلم يزيد الإيمان
Wa yazidul sihaira fi jisimu
ويزيد الصحة في الجسم
Wa yazidul haira alal arali
ويزيد الخير علىالأرض
Wa yazidul rizka ilal Kaumu
ويزيد الرزق للقوم (79)
فجاءت كلمتا الجسم jisimu في قافية البيت الأول وكلمة Kaumu في قافية البيت الثاني مرفوعتين وهما مسبوقتان بحرف جر وذلك لضرورة شعرية .
الخاتمة :
وخلاصة القول أن الكلمات العربية تنتشر في شعر الهوسا كما تنتشر في نثره، إلا أنها في الشعر لها طابع خاص، فهي تقل في القصائد التعليمية التي تتناول البيئة ومحتوياتها، أو اللغة ومفرداتها، وتكثر فيما عدا ذلك ولا سيما إذا كانت تتناول موضوعًا عامًّا أو دينيًّا .(/35)
كما أنها تكثر في قافية القصيدة فقد تراوحت فيما بحثت من قصائد من 24% إلى 30% من مجموع كلمات قافية القصيدة. وهي تساعد الشاعر على نظم القصائد الطوال، وأن الشاعر يضطر في كثير من الحالات إلى تكرار الكلمات الهوساوية ليتحاشى الكلمات العربية، وتقع الكلمة العربية في جميع المواقع التي تقع فيها الكلمة الهوساوية، فتقع في موقع المضاف والمضاف إليه، المعطوف عليه والمعطوف، والجر والمجرور وقد يكون حرف الجر أو العطف عربيًّا في التراكيب العربية المقتبسة .
والشاعر يقتبس في شعره الكثير من العبارات والجمل العربية ولا سيما إذا كانت ثقافته عربية إسلامية، سواء كانت تعابير أدبية أو دينية كالأحاديث
النبوية والآيات القرآنية، وأن كثيرًا من
القصائد تتخللها الأشطر أو الأبيات أو المقطوعات العربية الخالصة .
وقد تأتي العبارة أو الجملة العربية المقتبسة سليمة تمامًا من حيث
التركيب والإعراب... وقد يأتي بها بعض الأخطاء النحوية، وإن كانت هذه الظاهرة تكثر في قافية القصيدة حيث يتحكم حرف الجر وحركته في القافية، وهذه من الضرورات الشعرية التي يلجأ إليها بعض الشعراء سواء في العربية أو الهوساوية .
كما لوحظ أن بعض الشعراء يلجأ إلى استعمال الضمائر الشخصية مثل ضمائر الغائب والمخاطب والمتكلم كحرف للروي؛ حتى يطيل من أبيات القصيدة، وقد يرجع ذلك إلى ثروة الشاعر اللغوية المحدودة أو ثروة اللغة نفسها حيث إن اللغة الهوساوية لا تتمتع بوفرة المفردات المعجمية التي تتمتع بها اللغة العربية مثلاً .
د . مصطفى حجازي
هوامش البحث
1-إبراهيم يارو محمد ص 1
2-المرجع السابق ص 9
3-المرجع السابق ص 5
4-سعد زنجر ص 6
5-معاذ هطيجا ص10
6-المرجع السابق ص20
7-سعد زنجر ص 16
8-معاذ هطيجا ص 10
9-سعد زنجر ص 1
10-معاذ هطيجا ص 20
11-المرجع السابق ص 10
12-المرجع السابق ص 11
13-سعد زنجر ص 6
14-معاذ هطيجا ص 17
15-المرجع السابق ص 38
16-سعد زنجر ص 14(/36)
17-المرجع السابق ص 1
18-المرجع السابق ص 6
19-معاذ هطيجا ص 21
20-سعد زنجر ص 1
21-المرجع السابق ص 1
22-معاذ هطيجا ص 15
23-المرجع السابق ص 24
24-المرجع السابق ص 25
25-Gangar wa’azu ص 25
26-سعد زنجر ص 13
27- Gangar wa’azu ص 5
28-المرجع السابق ص 8
29-معاذ هطيجا ص 4
30-سعد زنجر ص 6
31-المرجع السابق ص 3
32-المرجع السابق ص 2
33-المرجع السابق ص 13
34-المرجع السابق ص 1
35- المرجع السابق ص 1
36- المرجع السابق ص 5
37-معاذ هطيجا ص 10
38-سعد زنجر ص 14
39-معاذ هطيجا ص 20
40-سعد زنجر ص 60
41-معاذ هطيجا ص 37
42- Gangar wa’azu ص 5
43-المرجع السابق ص 8
44-المرجع السابق ص 8
45-معاذ هطيجا ص 3
46-سعد زنجر ص 1
47-إبراهيم يارو محمد ص 1
48-معاذ هطيجا ص 35
49-المرجع السابق ص 35
50-سعد زنجر ص 1
51-معاذ هطيجا ص 17
52-المرجع السابق ص 49
53- المرجع السابق ص 53
54- المرجع السابق ص 5
55- المرجع السابق ص 43 ،44
56- المرجع السابق ص 47
57- المرجع السابق ص 35
58-سعد زنجر ص 13
59-معاذ هطيجا ص 39
60-المرجع السابق ص 10
61-المرجع السابق ص 22
62-سعد زنجر ص 1
63-معاذ هطيجا ص 46
64-المرجع السابق ص 38
65-سعد زنجر ص 21
66-معاذ هطيجا ص 3
67-المرجع السابق ص 31
68- المرجع السابق ص 35
69-المرجع السابق ص 3
70- المرجع السابق ص 4
71- المرجع السابق ص 10
72- المرجع السابق ص 21
73- المرجع السابق ص 20
74- المرجع السابق ص 31
75- المرجع السابق ص 5
76- المرجع السابق ص 77
77- المرجع السابق ص 41
78- المرجع السابق ص 21
79- المرجع السابق ص 35
مصادر البحث :
1-Aliyu Namangi. Wakokin Imfiraji, N,N,P,C,1973
2-Gangar Wa’azu ,N,N,P, C, 1970
3-Ibrahim yaro Muhammed, Wakokin Hikimomin Hausa, N,N,P,C,1474
4-Mu’azu Hadeja, Wakokin Mu’azu Hadeja,N,N,P,C1972
5-Sa’adu Zungur, Wakokin Sa’adu Zungur,N,N,P,C,1971(/37)
6-Salihu Kwantagora, Kimiyya Da Fasaha N,N,P,C,1472
7-Yusuf. A,Bichi, Wakar Tarihin Rikicin Najeriya, N,N ,P ,C1971
N.N.P.C.=Northern. Nigerian, puplishing Company.(/38)
أولاً: كلمة المجمع في استقبال
الأستاذ الدكتور محمود فوزي المناوي
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
الأستاذ الدكتور محمود فوزي المناوي أستاذ أمراض النساء والتوليد المتفرغ بكلية طب قصر العينى، وأمين عام الجمعية الطبية المصرية، عَلَمٌ فذ في الطب بكلية طب جامعة القاهرة ظل متفوقًا في سنوات تعلمه بالمرحلتين: الابتدائية والثانوية إلى أن دخل كلية الطب ونال بكالوريوس الطب والجراحة سنة 1958م وعين في كليته نائبًا للتوليد وأمراض النساء سنة 1960م ونال دكتوراه التوليد وأمراض النساء سنة 1964م والبورد الأمريكي فيهما سنة 1976م وزمالة الكلية الأمريكية فيهما سنة 1978م وحصل على إجازات ومهمات في الجامعات الأمريكية من سنة 1968 حتى سنة 1973م وأصبح أستاذ أمراض النساء والتوليد بكلية طب جامعة القاهرة سنة 1977م. وانتخب عضوًا بمجلس نقابة الأطباء لمدة ثماني سنوات متوالية من سنة 1976 حتى سنة 1984 وكان رئيسًا للجنة العلاقات الخارجية واللجنة العلمية ولجنة التعليم الطبي المستمر، واختير عضوًا في اللجنة العليا لمنح جوائز الدولة بأكاديمية البحث العلمي، واختارته رئيسًا للجنة المتاحف ولجنة تاريخ وفلسفة العلوم، وانتخب بمجلس إدارة الجمعية الطبية المصرية عضوًا سنة 1980، ثم أصبح أمينًا عامًّا لها حتى الآن، وعين عضوًا في هيئة تحرير تاريخ الحركة العلمية في مصر الحديثة، واختارته كلية طب قصر العيني للإشراف على متحفها وهو صاحب الفكرة في إنشائه، كما اختارته لإنشاء مكتبة الطلبة الحديثة وتحديث مكتبة الدراسات العليا وهو أمين عام للجمعية الطبية المصرية ورئيس مجلس إدارة الجمعية المصرية لجراحة مناظير أمراض النساء والعقم.(234/1)
... ومن مظاهر التقدير العلمي له بالخارج انتخابه عضوًا بالجمعية الأمريكية للخصوبة منذ عام 1972 ومنحه جائزة الجمعية الطبية الأمريكية للتعليم الطبي عام 1973م، وانتخابه عضواً بالجمعية الأمريكية لجراحة المناظير منذ عام 1975م، وانتخابه زميلاً للكلية الأمريكية لأمراض النساء والولادة منذ عام 1978م، ومستشارًا دوليًّا للجمعية الأمريكية لجراحة المناظير منذ عام 1980م، وعضوًا للتحرير في أول مجلة أمريكية عالمية لجراحة مناظير أمراض النساء عام 1995م، ومستشارًّا دوليًّا للاتحاد الفيدرالي العالمي لجمعيات جراحة المناظير وأمراض النساء سنة1996م، وعضوًا بلجنة الاعتماد الأمريكية للجراحة المتقدمة لمناظير وأمراض النساء عام 1996، وعضوًا بجمعية أمراض النساء والولادة لولاية ميرلاند الأمريكية.
ورأس الأستاذ الدكتور محمود فوزي المناوي برنامج التعليم الطبي المستمر لمدة ثماني سنوات من1976م – 1984م وقد نظم اثنتين وخمسين ندوة في جميع محافظات مصر بالاشتراك مع وزارة الصحة والجمعية الطبية المصرية وأساتذة الجامعات.
وأشرف وشارك مجلس إدارة الجمعية الطبية المصرية في الدورات التدريبية للممارس العام الإخصائي الناشىء لمدة أسبوعين كل عام من عام 1980 حتى عام 1998. وشارك مع مجلس إدارة الجمعية الطبية المصرية في إنشاء أول زمالة للجمعية الطبية المصرية للممارسة العامة. وبتكليف من مجلس إدارتها قام بدراسة وكتابة برامج التدريب والتعليم لأمراض النساء والتوليد.(234/2)
وأسس مدرسة طبية متميزة متخصصة في جراحة المناظير والجراحة الميكروسكوبية لعلاج العقم، وهو صاحب الدور الريادي في إدخال هذا التخصص إلى مصر وتطويره وتوسيع قاعدة المشتغلين به من خلال تدريب أجيال متوالية. واشترك في إنشاء أول مركز للطب الوقائي في كلية الطب، ووضع جميع برامج دراسته لفرع الولادة ورعاية الأمومة والطفولة. ومن مظاهر تقدير الدولة الرسمي له منحه جائزة الأستاذ الدكتور عبد الفتاح يوسف في التوليد وأمراض النساء من أكاديمية البحث العلمي سنة 1982م ووسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى سنة 1983م وجائزة الدولة التقديرية سنة 1999م. ومن التقدير العلمي العالمي له انتخابه زميلاً للكلية الأمريكية للولادة وأمراض النساء عام 1978م، واختياره محكِّما دوليًّا لمجلة الجمعية الأمريكية للمناظير النسائية عام 1985م، ومستشارًا دوليًّا للجمعية الأمريكية لجراحة المناظير النسائية منذ عام 1985م حتى الآن واختياره لعضوية المجلس الاستشاري للاتحاد الفيدرالي الدولي لجراحة مناظير أمراض النساء عام 1996م.(234/3)
ومن أعماله البارزة الكبرى في تاريخ الطب بمصر كتابه : قصر العيني : مدرسة وتاريخ نشرته نقابة الأطباء عام 1979م، وفيه جهد علمي كبير لبيان مسيرة الطب المصري منذ إنشائه سنة 1827. واستخدم مضامين البرديات المصرية المتناولة لأمراض النساء والولادة في كتاب التاريخ من أمراض النساء والتوليد في عهد الفراعنة، ونشر ذلك في مجلة الجمعية المصرية للولادة وأمراض النساء عام 1977. وأسهم مساهمة واضحة في العلوم الطبية بكتاب تاريخ الحركة العلمية في مصر الحديثة، نشر أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا سنة 1995. وبمرور تسعين عامًا، سنة1999، على إنشاء جامعة القاهرة، ألف كتاب حكماء قصر العيني يتضمن عمداءها السابقين، ثم الجمعية الطبية المصرية وأطباءها إلى اليوم، ثم الأطباء المعاصرين. وألف كتاب حكماء وشعراء من أون إلى قصر العيني، وفيه عرض تاريخي للطب في زمن الفراعنة والإغريق والإسكندرية وعند العرب الأقدمين وصدر الإسلام والعصرين الأموي والعباسي وفي بلاد العجم والمغرب والأندلس ومصر والشام والعراق والسعودية ولبنان واليمن وتونس وسورية، وهو إلمام سريع بتاريخ الطب في مصر واليونان والبلاد العربية، ويؤلف بالاشتراك كتابًا عن متحف قصر العيني، ثم يؤلف كتابه الأخير أزمة التعريب، وهو يعرضها من جميع جوانبها الطبية والمجمعية، ويصور بدقة جهود الأطباء المجمعيين في التعريب ويدعو إليه دعوة حارة.
وللأستاذ الدكتور محمود فوزي المناوي مشاركة فعالة متميزة
بمحاضرات وأبحاث أذاعها في أكثر من 36 مؤتمرًا علميًّا، سوى نشره لستة وخمسين بحثا في كبرى المجلات الطبية العلمية العالمية. وبجانب كل تلك الجهود العلمية العظيمة أشرف على ثلاثة وستين طالبًا حملوا – بإشرافه – رسالة الماجستير الطبية، كما أشرف على تسعة عشر باحثًا نالوا بإعداده لهم درجة الدكتوراه الطبية.
وهو – بكل ما قدمت – جدير بأن يصبح عضوًا عاملاً بمجمع اللغة العربية.(234/4)
أولاً: كلمة المجمع في استقبال
الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم الفيومي
والأستاذ الدكتور عبد الحميد عبد المنعم مدكور
للأستاذ الدكتور كمال محمد دسوقي
السيد الرئيس: السادة الزملاء:
سيداتي، سادتي:
الحمد لله الذي مَنَّ على مجمعنا الجليل بعُضوية اثنين من أقدم وأحدث خُبراء الدراسات الإسلامية بلجنة الفلسفة والعلوم الاجتماعية: الشرعية والدينية: من كلية أصول الدين الأزهرية الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم الفيومي بإسهامه سنة 1983 في إعداد مصطلحات المنطق القديم التي عَهِد إليه بها وعرَضَها على المجلس وأقرَّها المؤتمر عام 1984 مُقرر اللجنة المرحوم الدكتور توفيق الطويل. ومن كلية دار العلوم الرائدة الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور بمشاركته في كتابة مصطلحات الفلسفة الإسلامية التي تقدمت بها اللجنة للمجلس منذ 1998 بعد مُهمة علمية لكليهما في فرنسا أوفدهما في بعثة إليها الأزهر (الفيومي 1971 – 1973) ودار العلوم (مدكور 1973)؛ ومع عضوية كليهما بلجنة الفكر الإسلامي بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية (الذي تولى الفيومي أمانته سنة 1993) .. اللذَين رشحهما لعضوية (لجنة) الفلسفة الإسلامية بالمجمع عضوُ لجنة الفلسفة والعلوم الاجتماعية الأستاذ الدكتور حسن عبد اللطيف الشافعي "لما لهما من حياة علمية بحثية وتأليفية وتدريسية حافلة بالعطاء" أرفقها بسيرتهما الذاتية.(235/1)
فالأستاذ الدكتور محمد إبراهيم الفيومي – الذي حصل على الشهادة العالمية من كلية أصول الدين بالأزهر الشريف وهو في الخامسة والعشرين عام 1963م، فالماجستير في الفلسفة الإسلامية عن "الإمام الغزالي" من نفس الكلية عام 1968م، فالدكتوراه عن "القلق الإنساني" عام 1974م – كان قد اشتغل باحثًا بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر عام 1970م، وترقى بها أستاذًا مساعدًا 1978م فأستاذًا بكلية الدراسات العربية والإسلامية بالأزهر عام 1984م حيث أُعيرَ إلى جامعة قطر للإسهام في إنشاء كلية مماثلة بها عام 1978م، فجامعة السلطان قابوس للإسهام في إعداد مناهج الجامعة ورئاسة قسم الآداب بها عام 1985م؛ وعاد ليتولى بجامعة الأزهر عمادة هذه الكلية، وأمانة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية عام 1993م، وليِنَال عضويةَ مؤتمرات: السيرة والسنة النبوية الشريفة (قطر 1983م) فالأزهر (1985م)، فالمؤتمر العلمي الأول للفلسفة الإسلامية عن "الفلسفة وتحديات العصر" بكلية دار العلوم (1974م)، فأمين المؤتمر السادس للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالإسكندرية (1994م)، فالخامس لوزراء الأوقاف والشؤون الإسلامية بالدار البيضاء/ المغرب (1995م)، فمؤتمر مجمع البحوث الإسلامية عن (هذا هو الإسلام) الذي شارك فيه ببحثٍ عنوانُه "الإسلام دينُ الحضارة الإنسانية" أبريل 2002م، وكذلك مؤتمر لشبونه/ البرتغال عن (العولمة والثقافة والدين) الذي شارك فيه ببحث عنوانه "إشكالات العولمة والتحدِّي الحضاري بين الإسلام والغرب (أكتوبر 2002م).(235/2)
كذلك فالفيومي عضو لجان: الموسوعة الإسلامية (تركيا 1984م)، واللجنة الدينية المنبثقة عن مجلس اتحاد الإذاعة والتليفزيون (1984م)، ولجنة وضع بروتوكول بين جامعة الأزهر وجامعة هاوارد الأمريكية (1995م)، ولجنة وضع مشروع المركز الإسلامي بألمانيا (1995م)، ثم إنه أيضًا عضوُ ندوات: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة الأهرام عن: الشباب والتطرف الديني وتطبيق الشريعة الإسلامية (1985م)، وندوة التراث والحضارة الإسلامية في إسبانيا المنعقدة بكلية الآداب جامعة القاهرة في ذكرى المستشرق آسين ميلاتيوس (1993م) وندوة: علم الاجتماع في مصر – إلى أين؟ كلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر (1993م)، وندوة دول الكومنولث والحضارة الإسلامية التي عقدتها الكلية ذاتها في نفس العام، وندوة الأديان والتسامح الديني التي نظمتها مع الجمعية الوطنية باستانبول منظمةُ اليونسكو (1996م)، وندوة: الاجتهاد الجماعي وجهود المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، كلية الشريعة بجامعة الإمارات بالعين (1996م).(235/3)
وللفيومي العديد من البحوث والدراسات التي أثمَرتها عضويتُه بتلك المؤتمرات واللجان والندوات في موضوعات: التوفيق بين الدين والفلسفة (قطر1399هـ –1979م)، سيكولوجية الحوار الفكري بين الشرق والغرب (قطر1402هـ - 1982م)، الإسلام والغرب، مجلة التربية، دائرة البحوث التربوية، المديرية العامة للتربية بوزارة التعليم بسلطنة عمان (1983م)، التوظيف التاريخي للإرهاصات النبوية في سيرة ابن هشام، مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية الحادي عشر، نوفمبر 1985م، الدين والحضارة، علم النفس المعاصر وثنائية الإنسان من منظور إسلامي (مجلة المنتدى، أبريل 1989م، فالمجلة المصرية للدراسات النفسية، ديسمبر 1992م، مكسيم رودنسون والتحدي الحضاري بين الإسلام والغرب (مجلة الهلال 1999م)، ابنُ باجة – فيلسوفُ مغتَرب في الأندلس، مجلة كلية آداب جامعة القاهرة (1993م)، التمايز بين الفكر الإسلامي والفلسفة الإسلامية، الاجتهاد ضرورة دينية واجتماعية، مدارس المفسرين (مجلة الأزهر 1997، 1998)، منهج توثيق السنة النبوية الشريفة – ملحق لمجلة الأزهر ... إلى جانب إحدى وثلاثين دراسة في الفكر الإسلامي والفلسفة – نشَر منها بمكتبات الأنجلو المصرية ودُورِ الفكر العربي والمعارف والقلم الكويتية والجيل ... عدةَ طبعات لرسالة دكتوراه "القلق الإنساني" ومقدمة في علم الاجتماع الديني، قضايا في الاجتماع الإسلامي، الإسلام واتجاهات الفكر المعاصر، تاريخ الفكر الديني الجاهلي، ملاحظات على المدرسة الفلسفية في الإسلام، رسالة في الحوار الفكري بين الإسلام والحضارة، وبين العرب والحضارة، تأملات في أزمة العقل العربي، الوجودية فلسفة الوهم الإنساني، تاريخ الفلسفة الإسلامية في المشرق، تاريخ الفلسفة الإسلامية في المغرب والأندلس، المدرسة الفلسفية في الإسلام بين المشائية والإشراقية، محاضرات في منهج الدين المقارن، الاستشراق وتطور الصراع الغربي مع الإسلام، اللقاءات التاريخية(235/4)
بين الإسلام والغرب، منعطفات الخلافة في تاريخ الإسلام السياسي، مناهج المعرفة، في مناهج تجديد الفكر الإسلامي، الإسلام وتحديات الوعي، محاضرات في الفقه الأكبر... وعن مكتبة الأنجلو المصرية (1977م)، صدر له الإمام البوصيري وابن عطاء الله، ثم عن الدار المصرية اللبنانية عامي 1998 و 1999: الإمام الشافعي، الشيخ الأكبر ابن عربي، الحلاج.. وأخيرًا عن دار الفكر العربي (2002م)، ستة مجلدات "تاريخ الفرق الإسلامية، الخوارج والمرجئة، الشيعة العربية والزيدية، الشيعة الشعوبية والإثنا عشرية، المعتزلة: وتكوين العقل العربي، أبو الحسن الأشعري، فحص نقدي لعلم الكلام، الماتريدي: وحدة أصول علم الكلام.
* ... * ... *(235/5)
أما أحدث خبراء الفلسفة الإسلامية الفائز بمقعد رابع أعضائها بلجنة الفلسفة والعلوم الاجتماعية فقد تدرج بكلية دار العلوم من مدرس (1980م)، إلى أستاذ مساعد (1990م)، فأستاذ (1995)، وأعير لكلية التربية جامعة الملك سعود بالرياض (1983– 1988) فجامعة قطر (من 1993 حتى 1998)، وعاد إلى كليته أستاذًا منذ منتصف 1998م حتى الآن – واكتسب منذ حصوله على الدكتوراه (1980م)، خبرات تدريسية للفلسفة الإسلامية بكليات الآداب والتربية والألسن في جامعات عين شمس وقناة السويس وطنطا والمنوفية وكلية الدراسات العربية والإسلامية بالفيوم ... حيث درَّس على مستوى الليسانس مواد العقيدة الإسلامية (من الكتاب والسنة)، وعلم الكلام، والفلسفة الإسلامية، والتصوف الإسلامي، وعلم الأخلاق، والفكر الإسلامي الحديث – مما ألف فيه (بأرقام إيداع بدار الكتب المصرية – كما يقول)، وحيث درَّس بقسمي الثقافة الإسلامية بكلية تربية جامعة الملك سعود بالرياض، وكلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية بقطر: مواد أصول الدعوة الإسلامية، تاريخ الدعوة الإسلامية ورجالها، المذاهب الفكرية المعاصرة، الثقافة الإسلامية بمستوياتها ومساقاتها المختلفة، والمنطق الحديث ومناهج البحث... وبالدراسات العليا في كلية دار العلوم: العقيدة الإسلامية، الفلسفة الإسلامية، التصوف الإسلامي، وعلم الكلام والفرق، ومناهج تحقيق المخطوطات (مما ندبه خبيرًا بمركز تحقيق التراث بدار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة منذ 1982م، ودبلوم مركز تحقيق التراث بجامعة المنيا، ووضع وتطوير مناهج بعض الأقسام العلمية بالجامعات المصرية والعربية للثقافة الإسلامية والدراسات الإسلامية والدعوة وأصول الدين بولاية كيرالا بالهند (موفدًا من جامعة قطر)، وقيامه بتحكيم بحوث وأعمال علمية لتلك الكليات والجامعات الإسلامية (العالمية بإسلام أباد/ باكستان)، والأردنية، والإمارات، والمعهد العالي للفكر الإسلامي –(235/6)
إلى جانب إشرافه (واشتراكه في مناقشة رسائل وتقارير، وباللجان العلمية الدائمة لترقية أساتذة تلك الجامعات مشاركته في إعداد مصطلحات موسوعة المفاهيم الإسلامية العامة التي أصدرها المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف (2001م) بعشر مواد، وفي دائرة سفير للمعارف الإسلامية بمواد: الأحمدية، الأزارقة، اختيار، استقراء، روح، زمان...
وللدكتور مدكور من المؤلفات خمسة عشر كتابًا، وعشرون بحثًا علميًّا: من الكتب – إلى جانب رسالتي الماجستير في "أبو طالب المكي ومنهجه الصوفي" (1972م)، والدكتوراه في "الولاية عند شمس الدين ابن عربي" (1980م)،: دراسات في علم الأخلاق ، دراسات في الفكر الإسلامي، نظرات في حركة الاستشراق، في الفكر الفلسفي الإسلامي – مقدمات وقضايا، بواكير حركة الترجمة في الإسلام، تقديم وتحقيق وتعليق الجزء الثاني من كتاب " مدارج السالكين لابن قيم الجوزية" الذي نشرته دار الكتب والوثائق القومية (1996م)، فالثالث (2000م)، فالرابع (2001م)، فالخامس الذي هو تحت الطبع، دراسات في علم الكلام، دراسات في العقيدة الإسلامية، نظرات في التصوف الإسلامي، تحقيق كتاب "كشف التمويهات" لسيف الدين الآمدي (بالاشتراك مع أ.د. حسن الشافعي) المعد للنشر بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية – أما بحوثه العلمية المنشورة بحوليات ومجلات أو المقدمة لمؤتمرات وندوات، فموضوعها: الإسلام والفكر، الدين والفلسفة عند محمد إقبال، المنهج في علم أصول الفقه، لمحة عن نشأة التصوف عند المسلمين، حي ابن يقظان، اللمع لأبي نصر السراج الطوسي، النهضة الإسلامية في فكر محمود قاسم، أبو العباس أحمد بن عطاء الأدمي، جوانب من التفكير الديني عند العقاد، الترجمة والحوار مع الآخر، أفعال العباد عند الصوفية، الإسلام والغرب في ظل العولمة، حركة الفكر الإسلامي المعاصر خلال القرن العشرين، الحوار الإسلامي المسيحي دراسة لإحدى الوثائق، لمحة عن الصهيونية(235/7)
والتنصير، الاستشراق، المشروع الحضاري لمالك بن نبى ودور العقيدة فيه، العناية الإلهية ومشكلة وجود الشرّ في العالم عند صدر الدين الشيرازي، الدعوة الإسلامية في عصر العولمة.
السيد الرئيس، السادة الزملاء:
إن لإنشاء وتطور لجنة العلوم الفلسفية والاجتماعية بمجمع اللغة العربية كإحدى ثلاث مجموعات لجانه السبعة والعشرين اللغوية والعلمية والإنسانية لشأنًا يستوجب الوقوف عنده لتدبره وإنصافه ورد اعتباره لتمكينه من النهوض بأعبائه ومسؤولياته. فالمرحوم الدكتور مدكور حين قدم للمعجم الفلسفي الذي نشر سنة 1979م قد كرر ما أشار إليه من زمن – على مدى ما يقرب من خمسين سنة عضوية وأمانة فرياسة للمجمع "إنه قد توافرت لدى مجمع اللغة العربية مادة كافية من لغة العلوم تسمح له بإخراج معاجم متخصصة (بدأ فعلاً إخراج بعضها)، وأن المعجم الفلسفي هذا ثمرة جهود متوالية طوال ربع قرن أو يزيد، اضطلعت به لجنة متخصصة – على غرار عمل المجمع بوجه عام – من كبار مَن وقفوا أنفسهم على الدراسات الفلسفية وأبلوا في ذلك بلاء حسنًا، نخص بالذكر منهم الذين انتقلوا إلى جوار ربهم على التوالي: محمود الخضيري، محمد يوسف موسى، أحمد فؤاد الأهواني، محمود قاسم، وعثمان أمين – جزاهم الله على ما قدموه للغتهم وأمتهم خير الجزاء. ونقدم الشكر خالصًا للدكتور توفيق الطويل والأستاذ سعيد زايد اللذين عاشا مع هذا المعجم وأسهما في إعداده وأشرفا على إخراجه وتنقيحه ... هي لجنة العلوم الفلسفية والاجتماعية التي تقوم على كبار المشتغلين بالمادة من أساتذة عاملين أو غير متفرغين، والتي التزمت في وضع هذا المعجم بطائفة من المبادئ أهمها:
1- أن يكون معجم مصطلحات فحسب، تُترك فيه الأعلام جانبًا – إلا ما كان منها أسماء أشخاص أو أماكن أصبحت شبيهة بالمصطلح كالأفلاطونية والأرسطية، والأكاديمية والإسكندرانية.(235/8)
2- عنايته الخاصة بالميتافيزيقا والأخلاق، والمنطق، وعلم الجمال، دون مصطلحات الاجتماع وعلم النفس – إلا ما كان منها ذا طابع فلسفي، وكذلك مصطلحات العلوم الرياضية والطبيعية.
3- قيامه أساسًا على الفلسفة الإسلامية والفلسفات الغربية – قديمها ومتوسطها وحديثها ومعاصرها – فلا مجال من الفلسفات الشرقية إلا لبعض مصطلحات الفلسفة الهندية ، لما لها من شأن في تاريخ الفكر الإنساني وارتباط بالفلسفة الإسلامية (يعرض في أضيق الحدود بلغته الأصلية ما دام لم يُعرَف له مقابل عربي مشهور).
4- قصده إحياء المصطلح العربي القديم ما لم يطغ عليه استعمال حديث (أو أصبح لا يلائم المدلول الفلسفي المعاصر) أقره جمهور الباحثين والدارسين واستُخدم في التعليم والتأليف العام والجامعي.
5- حرصه على ذكر المقابل الفرنسي والإنجليزي أمام المصطلح العربي عونًا للباحث والدارس وتعميمًا للاستفادة به في مغرب العالم العربي ومشرقه، وأحيانًا اليوناني واللاتيني بيانًا للأصل وزيادة في الإيضاح – باستبعاد دائمًا للبحوث اللغوية والملاحظات الفيلولوجية.
6- اعتماد الشرح على التركيز وعرض الأفكار الأساسية بلغة سهلة وأسلوب واضح – مع الإشارة لأهم الآراء والمذاهب دون دخول في التفاصيل الدقيقة أو وقوف عند الخلافات المدرسية ووجهات النظر المتبادلة، والإشارة لبعض المصادر وإيراد بعض النصوص في غير توسع – إذ لا محل لهذا المعجم (الفلسفي) أن يكون موسوعيًّا يستقصي البحث ويستوفي الشرح والبيان، ولا أن يُعدَّ معجمًا تاريخيًّا يتتبع الفكرة منذ نشأتها.(235/9)
كان هذا هو ما استقر عليه منهاج إبراهيم مدكور في شأن المعاجم المتخصصة التي "توافرت للمجمع فيها مادة " كافية من لغة العلم تسمح بإخراجها" وقد أخرج منها في عام 1974م معجمًا في الفيزياء النووية وآخر في الجغرافيا، ويعد العدة لإخراج معجمات في الجيولوجيا والفلسفة وفي الطب والصيدلة ..." بما ينشر لغة العلم في العالم العربي بأسره وما ييسرها للباحثين والدارسين ويجمعهم فيها على كلمة سواء. وقد تأكد للشيخ هذا المنهاج لمعاجم المجمع المتخصصة الذي رسمه في مقدمة المعجم الفلسفي (1979م)، وهو يتولى إخراج معجم العلوم الاجتماعية (1975م)، الذي أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب بالاشتراك مع الشعبة القومية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) والذي أشرف على إخراجه بالتعاون مع مركز القيم الثقافية بالقاهرة حين رأت المنظمة العالمية إسناد مهمة إخراج معجم من طراز المعجم الفرنسي والمعجم الإنجليزي – الذي ظهرت طبعته الأولى (1964م)، والثانية (1965م)، إلى مجمع اللغة العربية "لما لمسته من عنايته الطويلة والمستمرة بالمصطلح العلمي وتمثيله للبلاد العربية كلها تقريبًا"، منذ نبتت الفكرة في اليونسكو 1952م ونمو علم الاجتماع نموًّا ملحوظًا في العقدين الأخيرين، ومع هذا لا تزال مصطلحاته يشوبها الغموض فلا تنعم بما ينبغي لها من شيوع واستقرار، ومنذ شكلت في أوربا وأمريكا لجنة "من كبار المتخصصين لبيان الغرض من هذا المعجم (الاجتماعي) وهو "أن ينصب على مصطلحات علم الاجتماع وما يتصل به من علوم مساعدة كالأنثروبولوجيا وعلم النفس والاقتصاد والسياسة والقانون"، ولتحديد إطاره ورسم منهجه في "أن تصاغ تعريفاته على غرار تعريفات معجم لالاند المشهور، فيشار إلى الدلالة اللفظية للمصطلح ودلالاته العلمية الهامة وما طرأ عليها من تطور، ولا مانع من إيراد نصوص تعين على الشرح والتوضيح لأمهات المصطلحات التي يقتصر على عرضها – في عناية خاصة بأسماء(235/10)
النظريات والمذاهب والمعاني الأساسية، واستغناء ما أمكن بالأسماء عن الأفعال والمشتقات والأوصاف.
ويعبر الشيخ في تصديره لمعجم العلوم الاجتماعية هذا الذي أسند إليه عما لاقاه في الاضطرار لتحمل هذا العبء من عناء الإجراءات الشكلية والإدارية إزاء الاهتمام العالمي بمصطلحات علم الاجتماع وما يتصل به من علوم مساعدة (أصبح لها في مجمع اللغة العربية إلى جانب لجنة الفلسفة والعلوم الفلسفية الاجتماعية العامة: منطق وأخلاق وجماليات الفنون والآداب وأنثروبولوجيا وحضارات) لجان "مستقلة للتربية وعلم النفس والقانون والسياسة والاقتصاد وما لاقاه من صعوبات إضافة إلى ما يزيد على خمسمئة مصطلح في العلوم الاجتماعية التي أقرها المجمع للمعجم الفلسفي (الذي سيصدر 1979م) إلى ما يتداوله الباحثون والدارسون من مصطلحات اجتماعية تكاد تبلغ الألفين – للانتهاء إلى اختيار نحو ألف مصطلح مع مقابلها الإنجليزي، تقسم إلى قسمين متعادلين: نصفها الأول ينصب على الاجتماع والأنثروبولوجيا، والثاني على مصطلحات بعض العلوم المساعدة (من إحصاء واقتصاد، وقانون وسياسة، وتربية وعلم نفس)... حتى إذا ما أتم هذه الخطوة، وتكونت السكرتارية الفنية التي تتابع العمل وتنسقه بإشراف أحد أساتذة الاجتماع التي دعت إليها لجنة المجمع المشكلة من أعضائه منذ 1964م لتحديد منهج العمل والإشراف على تنفيذه، وعقدت ندوة المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عن "المصطلح الفلسفي والاجتماعي" التي شارك فيها جمع كريم من أساتذة الفلسفة والاجتماع في العالم العربي عرضت عليهم المصطلحات للتدارس وإبداء ملاحظاتهم والإلحاف في رجاء قيامهم بصياغة تعريفاتها كل في اختصاصه.. بما يرضى تمسك اليونسكو بشمول اختصاص مجمع اللغة الأم بالتعريب وتمثيله لكافة البلاد العربية... اضطلع (المرحوم) الأستاذ سعيد زايد المدير العام لمجمع اللغة العربية بمراجعة التجارب المتعددة لأصوله المجزأة في(235/11)
صبر وجلد، واختتامه بفهارس إنجليزية وفرنسية تُيسر الكشف والاطلاع، وإخراجه على النحو اللائق منذ معايشته كفكرة، واستغراق الهيئة المصرية للكتاب عامي الإعداد لطبعِه وإخراجه – طيب الله ثراه وأثابه عمَّا أفنى فيه عمره منذ اصطفاه وصحبه معه إلى رحاب المجمع من مكتبة كلية الآداب أستاذه مدكور سنة 1946م.
ومع ما في آخر فقرة من خمس صفحات (تصدير) معجم العلوم الاجتماعية مما يؤكد تعمد شيخنا مدكور أن يصف الفلسفة بالعربية – إذ يقول: وبعد، ففي الجو اليوم سحابة من تلك السحب التي تظهر من حين لآخر للتشكيك في كفاية العربية، أفليس في ظهور هذا المعجم اليوم ما يضيف جديدًا إلى ما آمن به مجمع اللغة العربية دائمًا من أن هذه اللغة كفيلة بأن تواجه كل متطلبات الفكر ومستحدثات الحضارة؟ فقد تفجرت الخلافات بين أساتذة الفلسفة – خصوصًا في ندوات المجلس الأعلى للثقافة الذي يستهدف إرساء مشروع ثقافي عقلاني تنويري (في تقييم كتاب "ابن رشد كمفكر عربي" رائد للاتجاه العقلي) حول ما إذا كانت فلسفة ابن رشد عربية أم إسلامية، ومدى صحة وصف الأبحاث ولقب المشرف على إصدار الكتاب بالعربية حينًا والإسلامية أحيانًا، واتسع الخلاف ليثير التساؤل حول ما إذا كان هناك تناقض بين ما هو عربي وما هو إسلامي لقيام الحضارة العربية الإسلامية على أيدي مفكرين غير مسلمين (نصارى ويهود ومجوس وصابئة..) ومفكرين ليسوا عربًا (من الفرس والترك والهنود والتتار..) بل تعمَّق الخلاف ليقطع بأن سبب ما نحن فيه من أزمات إنما هو في عدم التفرقة بين ما هو إسلامي وما هو عربي كقضية زائفة تتوارث، ويتجدد الحديث عنها فلا تحسم بخصوصية اللغة داخل عالمية الإسلام... وقد حضرتُ هذه الندوة وتحفظتُ على الاستشهاد بلجنة فلسفة المجمع في عدم تسمية الفلسفة إسلامية بل عربية ( في لغة التعبير عنها) التي يشتغل أعضاؤها ( وهم نفس أعضاء لجنة المجلس الأعلى للثقافة) بإعداد مصطلحاتها – على غرار(235/12)
نهج المعجم الفلسفي – بعدة تعريفات للمصطلح الواحد عند المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة – بنص عبارات أصحابها موثقة بمصادرها كإحياء للتراث . وتشجيع على الرجوع لهذه الينابيع للاستزادة من الشرح والتفسير، وتذكير للغرب بأن حضارتهم وريثة هذا الفكر العربي الإسلامي الأصيل.
وفي غمرة خلط الأوراق بين عُروبة الفلسفة وإسلاميتها وتراجع "المشروع الثقافي التنويري" عن التمسك بثوابت وحدة اللغة داخل تعددية الأفكار والمذاهب، وغلبة الاتهامات بالرجعية التراثية، والظلامية الانغلاقية مقابل التقدمية التجديدية، والتنويرية الانفتاحية، وصراع الأصولية والعلمانية، والتبعية أم الندية في الانفتاح على الثقافات والحوار مع الآخر... تسود الاتهامات بالعروبية النفطية الاستثمارية، والشرق أوسطية لتمرير الصلح مع إسرائيل، والقول بدين عربي وفلسفة إسلامية، واستغلال عقلانية وعروبة ابن رشد لغرض سياسي إعلامي ربما يتطلبه واقع العصر الذي نعيش فيه، والمشروع الثقافي الذي به نستنهض أمتنا العربية للإصلاح والتجديد... بعقلانية التأويل والبرهان والجمع بين الحكمة والشريعة بلا تعارض بينهما في الاتجاه نحو مقصدهما الذي منحه الله للبشرية وهو العقل ... تقدم الرئيس شوقي ضيف بما له من إيمان صادق بجعل (عالمية) الإسلام قادرة على جمع الشعوب الإسلامية في مواجهة تحديات (العولمة) وأخطار محو الهوية العربية الإسلامية في الحاضر قدرة اللغة العربية على استرداد أمجاد الحضارة العربية الإسلامية في الماضي، وبما له من بحوث ومؤلفات في اللغة والأدب بمختلف عصوره وجهود تبسيط النحو وتيسيره وإعادة طبع الوجيز والوسيط لتوزيعهما على طلبة المدارس في مصر والبلاد العربية إلى جانب آرائه ونظرياته في الدراسات الإسلامية وعلوم الشريعة والعقيدة وتفسير القرآن، وأن مدكورًا ومصطفى عبد الرازق قد درسا "الفلسفة الإسلامية" لا العربية وألفا فيها بهذا الاسم الذي لا نملك تغييره لو(235/13)
أعدنا طباعة كتبهما .. أو تدريسها بأقسام اللغة العربية والفلسفة بكليات الآداب ودار العلوم والأزهر الشريف والجامعات العربية الإسلامية ... فوجَّه عضوَ اللجنة الكريم الأستاذ الدكتور حسن الشافعي الذي أعانه الله على تنشيط لجنة الشريعة ليَصدر عنها معجمَا مصطلحات الحديث الشريف وأصول الفقه إلى جانب عمله في لجان الأدب واللغة – إلى عرض خطة جديدة لعمل لجنة الفلسفة – بوصفها تشمل مجالات: 1- المنطق وآداب البحث والمناظرة. 2- علم الكلام والملل والنحل. 3- الأخلاق والفكر السياسي. 4- التصوف. 5- الفلسفة العقلية وأن هدفها: التعريف الموجز قدر الإمكان على أساس: أ- البدء بتحديد المعنى اللغوي العام للمصطلح، والإشارة إلى استخداماته الفرعية والخاصة عند اللزوم. ب- لا يستشهد بالنصوص (آيات وأحاديث) إلا عند الحاجة وبالقدر المناسب. جـ- لا يتضمن المعجم أية أعلام إلا إذا دلت على اتجاهات أو مذاهب. د- تضع اللجنة "المعجم الفلسفي" للمجمع أمام نظرها – مع الاقتصار على الجانب الإسلامي والعربي دون تعرض للفلسفة الغربية قديمة أو معاصرة. هـ- تعرض الأفكار والتصورات التراثية كما عرضها المفكرون المسلمون بصرف النظر عن الفكر العلمي المعاصر – إلا إذا تعارضت مع حقيقة علمية مقررة، فيشار إلى هذه الحقيقة أيضًا.. هذا بعد رقمي1، 2 من الخطة (في تناقضهما): 1- تُستخرج المصطلحات من المصادر التراثية للفكر الإسلامي العربي في المجالات (الخمسة) المذكورة، وترتب ألفبائيًّا حسب صياغتها العربية. 2- يتم التعريف بكل مصطلح منها (بأسلوب معاصر)، مركز وواضح، على مسؤولية اللجنة!!(235/14)
وبعد أن استردَّت أنفاسَها من استرداد إنتاجها طوال أربع سنوات على خطة قائدها مدكور اللجنةُ المشكلة من دسوقي وحامد طاهر وعاطف العراقي ومراد وهبة وسعيد زايد، استأنفت العمل بقيادة الشافعي (خبيران كل جلسة)، مستفيدة بما كان قد أبيح لقائد فرق العمل في لجان الشريعة والأدب من إطالة في التعريفات والبدء بعديد المعاني اللغوية للاصطلاحات والكثير من الأمثلة والشواهد (الذي وصل أحيانًا لأكثر من صفحة كاملة،وكثيرًا ما ضاق به صدر المناقشين من أعضاء المجلس وتحرجوا من انتقاده لكونه يتصل بالشريعة والعقيدة).. وكانت سعادتها بالغة بإعادة صياغة التعريفات، والكشف عن أرقام آيات القرآن المستشهد بها على المعاني اللفظية الاصطلاحية للألفاظ، واستخراج الترجمتين الإنجليزية والفرنسية للألفاظ من ترجمات معاني ألفاظ القرآن، وضبط كتابة المصطلح العربي بالحروف اللاتينية الساكنة والمصوتة بالشكل – وفق أكثر النظم تطبيقًا في دول القارة الأوربية – الذي أمدنا به الزميل الدكتور محمود فهمي حجازي الذي ضممناه لعضوية اللجنة وحضور اجتماعاتها وعرض المجلس والمؤتمر لإنتاجها – الذي يشارك فيه بتصويبات وتعديلات – سواء في هذا الضبط بالشكل للإسلاميين غير الناطقين بالعربية، وفي ترجمات المصطلحات للإنجليزية والفرنسية بين القديم والحديث، ومدى ما لابد من الإشارة إليه في اختلاف المعنى الحديث لمصطلح علمي عن المعنى التراثي.. الأستاذان الدكتور محمود علي مكي والعلامة الدكتور عبد الحافظ حلمي – كل هذا قبل أن تفتخر لجنة الفلسفة وتعتز بانتداب عضويها الكبيرين الشافعي وحجازي رئيسَي جامعتين إسلاميتين عالميتين كسفراء لمجمع اللغة القاهري لدى شعوب غرب ووسط آسيا المسلمة غير الناطقة بالعربية، وقبل أن ندعو الله للرئيس شوقي ضيف لما هداه الله إليه من إكمال خطة سلفه مدكور في إيجاد فلسفة عربية مهدت لها الترجمات عن السريانية والفارسية والهندية (المشرقية)(235/15)
واليونانية ومهدت ترجماتها هي إلى اللاتينية والعبرية فاللغات الأوربية (بالأندلس) للحضارة الغربية ... بخطته هو في تعريب الفلسفة والعلوم الدينية والشرعية لغير الناطقين بالعربية، وكانت سعادتنا بالغة بما افتتح به مؤتمر المجمع العام الماضي من محاضرة عن أثر الحضارة العربية في الحضارات الأوربية التي أفاض فيها بالحديث عن الترجمات العبرية واللاتينية لمؤلفات وشُروح ابن رشد الأرسطية في العصور الوسطى التي مهدت لعصر النهضة الأوربية.
السيد الرئيس: السادة الزملاء:(235/16)
لقد شغل لجنةَ الفلسفة والعلوم الاجتماعية على مدى اثنتي عشرة سنة منذ توليت أمرها، اضطلاعُها بتنفيذ خطتي الفلسفة العربية المتجهة إلى الغرب، فالإسلامية الموجهة لغير الناطقين بالعربية في الشرق... شغلها عن التفكير في كيانها ورسالتها ومكانتها بين ثلاث مجموعات لجان المجمع اللغوية (8 لجان) فالعلمية (12 لجنة) فالإنسانية (7 لجان) – من حيث اعتبار مُنشئها ومقررها مدكور كافة اللجان التي أنشئت تابعة لها وعلومًا تتفرع عنها (كالاجتماع والأنثروبولوجيا، والتاريخ والجغرافيا، والاقتصاد والسياسة، والتربية وعلم النفس، بل الشريعة والقانون) علومًا اجتماعية – على نحو ما هي مصنفة به في المجالس العليا للثقافة والبحوث والشؤون الإسلامية .. يُطلَب منها الترشيحُ لجوائز الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية في كافة هذه التخصصات ولا يكفي العدد المحدد لكل منها إلا لفوز بعضها دوريًّا بينها كل عام .. فالذي أدى إلى توقف بعضها عن العمل لفترات طويلة (وربما دائمة) إنما هو لكون نظام انتخاب الأعضاء عندنا – خصوصًا عدم شغل المقاعد الشاغرة أولاً بأول، وتراكمات خلوات أعضائها، لا يمد الواحدة منها في انتخابات بعد أخرى بترفيع أقدم خبراء كل منها خلفًا لمقررها كي يستمر في قيادة خبرائها لاستمرار إنتاجها. بل ربما أدى عدم انتخاب أعضاء لبعضها إلى عدم انعقادها أصلاً وتبقى ضمن تفريع لجان العلوم الاجتماعية حبرًا على ورق – دورة بعد أخرى – كالاقتصاد والسياسة التي هي الآن أهم وألزم وأحوج تخصصات العلوم الاجتماعية وجودًا وإنتاجًا لمصطلحات علومها المتجددة والمستحدثة. وإن نظرة لما أسفرت عنه من نتائج انتخاباتنا الأخيرة المتخصصة والعامة، في ظل نظام الانتخاب الحالي، تبين بجلاء كيف أنها لم تسعف لجان العلوم الاجتماعية السبع حتى بعضو واحد لبعض اللجان بينما زادت في واحدة منها عضوين إلى ثلاثة من العاملين بأحد فروع تخصصاتهم في إعداد معجم واحد،(235/17)
ولا هي أفرزت للجان اللغويات والآداب (التي تشكو من العجز في أعضائها) أكثر من ثلاثة من بين ستة عشر يعز على الكثيرين عدم فوز هذا أو ذاك من بقيتهم، والحال كذلك بالنسبة للجان العلمية التي رشح أعضاء إحداها للفيزياء ثلاثة أو أربعة لم يفز منهم غير واحد، والأخرى ثلاثة أطباء ضم إليها منهم اثنان .. لقد ترتب على هذا الإحباط للجميع التراخي في المبادرة باستقبال الأعضاء القدامى للزملاء الجدد الذين زكوا ترشيحهم والذين عليهم بدورهم أن تشمل كلمة شكرهم على حسن الاستقبال الإفاضة في تكريم أسلافهم الذين حلوا محلهم في شغل مقاعدهم – غالبًا في غير تخصصهم، مما سوف تلزمه جلسات ولا يتسع وقت المجلس خلال الأسابيع القليلة الباقية على انعقاد المؤتمر في الرابع والعشرين من مارس للإعداد له فضلاً عن استكمال عرض ما لديه من مصطلحات بجلسات إضافية أيام الأربعاء .. وإزاء اعتراض بعضنا بحق على إمكان استقبال هذا العدد الكبير جماعات كل جلسة لأن ذلك يهدر حق السابقين واللاحقين جميعًا في تكريم المجمع لهم وفي تكريمهم لأسلافهم فرادى لا مثنى أو ثلاث ورباع، وحسبنا إجراء الانتخاب لشغل مقاعد المتوفين قبل تأبينهم ولمجرد الإعلان عن خلو مقاعدهم عند مليك مقتدر، والاكتفاء بموافقة الوزير على نتائج الانتخابات لدعوة الفائزين الكرام إلى الاشتراك في أعمال المؤتمر كأعضاء عاملين إلى حين التفرغ لاستقبالهم فيما بعد.(235/18)
فلعل الذي نتعلمه بتقوى الله من هذه التجربة، أن تكون انتخاباتنا فردية بقوائم نسبية لكل من مجموعات لجان المجمع الثلاث على حدة وأن يستكمل النقص في أعضاء كل مجموعة أولاً بأول. وفي نهاية كل دورة يكون قد تم انتخاب واستقبال العضو الجديد كي يشارك في أعمال لجنته بجلستي ما قبل العطلة وجلستي ما بعدها بشهري يونيو وسبتمبر للإعداد لعمل المجلس بالدورة الجديدة الاثنين الأول من أكتوبر – حتى نتفادى التراكمات التي أدت بنا هذا العام بطوله إلى تجاوزات التقاليد المجمعية الراسخة في أن يكون الاصطفاء والاحتفاء بالقادمين مع الترحُّم والتقرب للراحلين عهد انتساب وانتداب للعمل على جعل اللغة في خدمة سائر التخصصات، وميثاق تجردٍ من موالاة رفاق التخرج المعهدي أو التوجه العقائدي أو القرابة والموطن، وإيمان بأن عمل اللجان يكمل بعضه بعضًا لا غنى لأي منها عن الأخرى، وأن العلوم الاجتماعية الإنسانية هي دعامة اللجان اللغوية والعلمية التي تستند إليها في تعريب العلوم الحديثة بما يتيسر لكل منها من اصطلاحات خاصة بها في إعداد معاجمها النوعية وفي علاقات أعضائها بعضهم ببعض وفي تعاونهم ومشاركتهم اهتمامات تحقيق أهداف المجمع اللغوي العلمي المشتركة. ومرحبًا بأعضاء لجان العلوم الاجتماعية الذين انضموا إلى قدامى الخبراء والأعضاء والذين شغلوا مقاعد خالية، ودعاءً إلى الله أن يعينهم على تسيير ما توقف منها أو يكاد في استعانة بمن يمدون لهم يد العون من
اللغويين والعلميين المؤمنين برسالتهم
المقدرين لدورهم وأهميتهم المرحبين بإنتاجهم وزمالتهم.
والله الموفق لما فيه الخير والرشاد،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(235/19)
أولاً: كلمة الافتتاح
للأستاذ الدكتور كمال بشر الأمين العام للمجمع
بسم الله الرحمن الرحيم، أيها السادة والسيدات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
لا يسعنا ونحن في هذه الظروف العصيبة التي يمر بها عالمنا العربي بأسره من ضياع، سواء أكان ماديًّا أم روحيًّا أم أدبيًّا ، وذلك مما نزل بنا بأيدينا، إلا أن أقول ما قلته من قبل، وأعيده الآن.
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيْهِ
مَا لِجرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلاَمُ
أيها الناس: على الرغم من هذا كله نحن في يوم سعيد مجيد عظيم، يوم الخالدين ، تلك فرصة طيبة لانضمام هذه الكوكبة من الفرسان، فرسان العلم والفكر والثقافة إلى مجمعنا العظيم.
هذه المجموعة العظيمة، كل واحد منها رائد في ميدانه، هم شباب الشيوخ أو شيوخ الشباب، ينضمون إلى شيوخ الشيوخ، وهنا تتواصل الأجيال، ليسلم كل جيل الراية إلى جيل آخر ليمتد حبل الوصال، وتقوى البلاد، وتقوى الأفئدة، ويقوى القوم.(236/1)
ربما يستيقظون من رقدتهم، ربما يفكرون فيما حل ويحل بنا لمئات السنين، ونتمنى لهم التوفيق وأملنا كبير في هذه المجموعة من الفرسان، وأنا أعرفهم جميعًا، فكل منهم أمة في عمله وفي مجال تخصصه، وهم أربعة نستقبلهم اليوم يكونون كلاًّ متكاملاً، فهناك أستاذ التاريخ والثقافة العربية والحضارة الدكتور حسنين محمد ربيع، وهناك أستاذ الأدب والنقد، فهذا يوم التاريخ وذاك يوم الأدب ومجالاته وأفكاره، وهناك الطبيب الكبير الدكتور محمود فوزي المناوي، إنه يولّد وأرجو منه هنا في مجمعنا الخالد أن يولّد في مجال اللغة والفكر وهو أهل لذلك، إذ يضرب بعيدًا إلى أمجاد العلماء، فجده أستاذ الأساتذة في الفقه الحنفي، وأنا درست بعض كتب هذا الجد العظيم، منها "فتح القدير في مذهب أبي حنيفة". ويلف كل هذا الدكتور محمد سلطان أبو علي رجل التخطيط والمال يمولنا بكل ما يستطيع من أفكار وآراء تلم هذا الحشد العظيم في مجمعنا، البعض يقولون إننا منعزلون، لسنا منعزلين، فهم الذين عزلونا، لأن القوم لا يدركون تمامًا من نحن وماذا نصنع، في حين أننا نبني أسس القومية والشخصية الذاتية والهوية العربية، لأن اللغة هي القوام الأساسي في بناء أية حضارة، وأية ثقافة، وأية سياسة، وأي اقتصاد أيضًا. ولكن الناس لا يهتمون بنا ولا بأعمالنا ولا بأفكارنا ولا بأجسادنا ولا بعقولنا ولا بالمكان الذي نعيش فيه.(236/2)
أيها الناس: لا أريد أن أطيل عليكم، والآن أترككم مع شيخ الشيوخ الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع، وهو حبر أولاده وأحفاده وهم شيوخ الشباب أو شباب الشيوخ، سيلتقي الجمعان على خير إن شاء الله، فأترككم الآن مع أستاذنا الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع ليلقى كلمة المجمع في استقبال كل من الأستاذ الدكتور حسنين محمد ربيع، والأستاذ الدكتور محمد صلاح فضل، والأستاذ الدكتور محمود فوزي المناوي. ويعقبه الأستاذ الدكتور أحمد سالم الصباغ ليلقى كلمة المجمع في استقبال الأستاذ الدكتور محمد سلطان أبو علي. فليتفضل.(236/3)
أولاً: كلمة المجمع في حفل استقبال
الأستاذ الدكتور محمد الجوادي
للأستاذ الدكتور كمال محمد دسوقي
السيد الرئيس، السادة الزملاء:
سيداتي، سادتي:
بمثل ما عاصرنا في مراحل متعاقبة من حياتنا الثقافية والسياسية: عودة الروح وعودة الوعي – في كتابات أديبنا الكبير توفيق الحكيم. فإننا اليوم – نحن شيوخ المجمع الخالدين بأرواحنا، الفانين بأجسادنا – نُعاصِرُ عودة الذاكرة (الفردية والجماعية، الوطنية والقومية)؛ مُمَثَّلةً في عضو المجمع الجديد محمد محمد الجوادي طبيب أمراض القلب والأوعية الدموية – الذي حضرتُ مناقشة رسالته في الدكتوراه عن "تقييم أبعاد وظائف القلب في المُسنِّين" سنة 1990م، وقبل ذلك مناقشة رسالته في الماجستير عن "مُذيبات تخثر الدم كمذيبات للأحشاء القلبي الحاد " سنة 1985م – زين "الأطباء الشُّبَّان" تخرُّجًا وتخصُّصًا وممارسةً لكن رفيق الشيوخ الحكماء خبرةً وموسوعيةً وتمرُّسًا – الذي بَهر أبصارنا الكليلة جميعًا – علميين ولغويين وأدباء ومؤرخين، واختطف قلُوبَنا العانية بفقدان الذاكرة الآنية القريبة – كأخص أعراض مرض الشيخوخة عمومًا الذي لا يسلمُ منه كبارُ السن – مع استرجاعهم الدائم وترديدهم الدائب لأدق تفاصيل ذكريات وأحداث حياة الصبا والشباب، وأمجاد مواقف الحياة الوظيفية والمهنية، الاجتماعية والأسرية التي لا يمَلُّون اجترارها فيترحمون على أيام زمانها؛ وفي ترنمٌ بقول الشاعر:
ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يومًا
... فأُخِبره بما فعلَ المشيبُ
لا يكفون عن سرد أقاصيص بطولات الفتوة ومغامرات الشباب الغابرة الحاضرة - كما في انزعاج من أفُول شمس حياتهم التي تُوشك على المغيب - يخيِّمُ النسيانُ على ما فعلوه بالأمس أو منذ قليل ليطغى عليه التكرار الممل بآلية ورتابة لذكريات الماضي السحيق.(237/1)
عَرفتُ الدكتور محمد محمد الجوادي عام 1981م وأنا نائب رئيس الجامعة لشؤون التعليم والطلاب في بداية نشاطه العلمي وما يزال طالب دراسات عليا يُهدي إليَّ أعداد مجلة البيئة والمجتمع التي أشرك في الكتابة بها عن بحوث إنتاج الطاقة الحيوية (البيوجاز) أبنائي بكلية الهندسة، وشارك بها في مؤتمر "الشباب والتربية البيئية" بالهند (1980)، فمؤتمر الطاقة العالمي بنيروبي (1981)، و"مستقبل البيئة في الثمانينيات" بالمملكة المتحدة (1983) – الذي هيَّأهُ لعضوية لجنة "معهد الدراسات المتقدمة لِحلف الأطلنطي" لصياغة التقرير، وندوة التشريعات البيئية بالقاهرة (1997). ومنذ تولى بمؤسسة الأهرام إخراج "الأطلس التشريحي" الذي كان يُصدره لطلاب كلية الطب ويوزعه بثمن التكلفة العميد د. محمد عبد اللطيف، فإصدار المجلة الطبية المصرية الجديدة (1986)، والمجلة المصرية للعلوم التطبيقية (1987)، فالمجلة الأفريقية للأمراض (1989). اختير عضو مجلس إدارة مطبعة جامعة الزقازيق (1988) والعضو المؤسس لدار النشر بالجامعة (1989)، فلما آن أن أشرع في إصدار الجزء الأول من موسوعتي "ذخيرة علوم النفس" التي لم أستطع تقديم أصولها كاملة لدور نشر مكملان ومكجروهل العربيتين ببيروت والقاهرة أو لمؤسسة الأهرام أو الهيئة المصرية العامة للكتاب – لضرورة تصحيح بروفاتها بنفسي وأنا بالخارج للإنفاق على طباعتها، تولى الجوادي مهمة الجمع الإلكتروني بمطابع تجارية كان الكثير من خريجي الجامعة الشبان قد احترفوا العمل بها في حجرات من مساكنهم، فهو يوافيني كل ثلاثاء في الحقيبة الدبلوماسية لسفارتنا بالخرطوم بلفائف البرومايد الثقيلة حينئذٍ كي أردها إليه بحقيبة الجمعة – إلى أن وصلنا إلى التصوير الضوئي للأفلام وتقدمنا لمؤسسة الأهرام للتوضيب والطباعة والتجليد. فلازلت أذكر له بالحمد والثناء بنوته العلمية لي مع سائر أساتذته الذين يقول هو عنهم إنه: (رُزق التوفيق والهداية وحب(237/2)
أساتذته وعطفهم، وأنه قد نال التقدير المبكر فدفعه هذا إلى أن يهب حياته للعلم والبحث والتأليف).
وفي مضمار تخصصه بالطب، بدأ الجوادي بنشر سلسلة من كتب الطب المتخصصة باللغة العربية آخرُها في العام الماضي كتابُه "أمراض القلب الخلقية الصمامية" وكتابه "أمراض القلب الخلقية: الثقوب والتحويلات". كما نشر مجموعة قيمة من البحوث العلمية الأصيلة التي ركز في عدد كبير منها على موضوعات تخصصه البحثي الدقيق وهو "الوظيفة الانبساطية للقلب" والدراسات التطبيقية المتعلقة بتقييم هذه الوظيفة في مختلف الأعمار والصحة والمرض. كذلك فإن له مجموعة قيمة من المقالات المرجعية التي تميَّز بها بين أقرانه في أمراض القلب والأوعية الدموية وعلاقتها بأجهزة الجسم الأخرى، ومجموعة أخرى من المقالات في نظم المعلومات الطبية. غير أن أعظم عمل علمي يُقدر للجوادي قيامه بإعداد ونشر الببليوجرافيا القومية للطب المصري (في ثمانية أجزاء) من خلال فهرسة مئة وخمسين دورية طبية في الفترة من 1985 حتى 1988 (ثلاث سنوات) بما يُعطي فكرةً جيدةً عن الإنتاج العلمي في مجال قطاع البحوث الطبيَّة.. بما في ذلك أسماء المشاركين ومعاهدهم العلمية وتاريخ النشر وملخص لكل بحث. وقد أصدرت هذه الببليوجرافيا الأكاديميةُ الطبية العسكرية. ومن أهم إنجازاته المعجمية أيضًا اشتراكه مع أستاذه الدكتور محمد عبد اللطيف في تزويد قاموس نوبل الطبي ذي ثلاث اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية بإضافة اللفظ العربي كي يصبح قاموسًا رباعي اللغة، وتزويده بمسرد عربي مرتب لكل المصطلحات الواردة فيه بكافة اللغات لينشره في طبعة فاخرة الكتاب المصري اللبناني في ثلاثة أجزاء.(237/3)
ذلكم أن الجوادي كان قد كرَّس جُهوده ولمَّا يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر للدراسات الببليوجرافية تأريخًا وتراجم للشخصيات والأحداث والدوريات والبحوث... في شتى مجالات الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية لمصر الثورة (التي نشر عنها منذ 1986م مراجع أساسية بعنوان: النخبة الحاكمة في مصر، الوزراء، المحافظون، البنيان الوزاري في مصر من 1978 حتى 2000 )، فتاريخ الحياة العقلية والفكرية في مصر المعاصرة (التي نشر عنها مجلدين كبيرين" تكوين العقل العربي" كمدارسة لمذكرات المفكرين والتربويين، ثم "في خدمة السلطة" كمدارسة لمذكرات سبعة من كبار الصحفيين، فتاريخ الصحافة الثقافية (الذي قام فيه بتعريف وفهرسة وتوثيق مجلة "الثقافة" من 1939م حتى 1952م – كدراسة فريدة تؤرخ لحياة مجلة ثقافية أدبية عن طريق فهرسة موضوعاتها ومقالاتها، وتحليل مضمونها، والتعريف بكتابها. كذلك دراسته الببليوجرافية لتاريخ التعليم الطبي المصري في العصر الحديث. فإلى كتاباته في الصحف عن تكريم العلماء، ومقالاته التي زادت على ثلاثمئة – بالأهرام خصوصًا – في رثاء أو تأبين "وفيات الأعيان"، ومشاركته في الموسوعات العربية الهامة عن مشاهير الأعلام... إليه في هذا – وكثير غيره – يرجع الفضل في اتخاذ الخطوات الأولى لإصدار موسوعة "الشخصيات المصرية العامة" الصادرة عن هيئة الاستعلامات. كما - بعنايته بتقييم المناهج الخاصة بكتابة التاريخ – عن طريق إصدار طبعة بعد أخرى من رسالته "أدباء التنوير والتاريخ الإسلامي" عكف على دراسة منهج أحمد أمين وطه حسين والعبادي في كتابة التاريخ الإسلامي.(237/4)
وتتجه عناية الجوادي في نفس الوقت إلى التراجم – تلك التي نشر منها ثلاثة عشر كتابًا تُبلور ستة منها تاريخ الحركة العلمية في مصر المعاصرة - بدءًا بكتابه عن "الدكتور محمد كامل حسين عالمًا ومفكرًا وأديبًا" - الذي نشر سنة 1978 بعد فوزه بجائزة مجمعنا الأولى في الأدب وإرشاده مبكرًا إلى الطريق إلينا الذي ظلَّ سائرًا فيه بجد حتى وصل، وثانيها كتابه عن العالم المصري الكبير الدكتور علي مصطفى مشرفة(1982) الذي نال عنه جائزة الدولة التشجيعية في أدب التراجم – مما مهَّد لمنحه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى (1985). أما الأربعة الكتب الباقية فكانت عن: الدكاترة أحمد زكي، وعلي باشا إبراهيم، ونجيب محفوظ، وسليمان عزمي. ويمتد نشاطه إلى الشخصيات السياسية والأدبية فينشر خمسة كتب عن توفيق الحكيم، وإسماعيل صدقي، وسيد مرعي، والمشير أحمد إسماعيل، والشهيد عبد المنعم رياض، وتظهر له إلى جانب تلك التراجم الشخصية تراجم مجمعة يؤرخ فيها لأكثر من خمسين شخصية من أعلام الوطن، في كتابين عنوانهما :"مصريون معاصرون" و"يرحمهم الله". كما يُعرِّجُ على دراسة "دور الطوائف المهنية المختلفة في تاريخنا المعاصر التي لعل آخرها كتاب" قادة الشرطة في السياسة المصرية (1952 – 2000)، وقبل ذلك كتاب "محاكمة ثورة يوليو" عن تاريخ العلاقات المتوترة بين الثوار ورجال القانون والقضاء، وكتابه عن "دور الأجهزة الأمنية : المباحث والمخابرات في التاريخ المصري المعاصر، ومجلده عن "الأمن القومي لمصر"، وكتابه عن دور المؤسسة الدبلوماسية المسمى "معارك التفاوض من أجل السلام".(237/5)
ويؤلف الجوادي ثلاثة مجلدات ضخمة في التاريخ العسكري لحروب مصر المعاصرة: عن حرب 1967 ومقدماته في حروب اليمن 1962والعدوان الثلاثي1956وحرب فلسطين 1948 باعتبارها "الطريق إلى النكسة"، وعن الفترة ما بين حربي 1967 و1973 التي شهدت حرب الاستنزاف يصدر كتابه " في أعقاب النكسة" ، ثم عن حرب 1973 ينشر كتابه: "النصر الوحيد". ثم يلتفت للوراء فيؤرخ لفترة قيام الثورة 1952 ونهاية عصر الملكية وما سبقها من إرهاصات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.. في مجلد ضخم بعنوان "على مشارف الثورة". وفي دراسة رائدة لفترة السنتين الأوليين من عمر الثورة 1952 – 1954 اللتين شهدتا تحول حركة الجيش "نحو حكم الفرد" من واقع مذكرات قادة الضباط الأحرار يؤلف كتابًا بهذا الاسم، كما في دراسة تحليلية يعرض وقوع الثوار في حيرة أهل الثقة وأهل الخبرة بكتابه "مذكرات وزراء الثورة". وفي دراسة بفكر غير تقليدي أيضًا للقضايا السياسية الراهنة يجمع مقالاته عن الصراع العربي الإسرائيلي في كتاب له بعنوان: "الفلسطينيون ينتصرون أخيرًا". وهكذا بتجميع دراساته للقضايا العامة في ستة مجالات: التنمية الاجتماعية والاقتصادية، مستقبل الجامعة العربية، القاهرة تبحث عن مستقبلها، مستقبلنا في مصر: دراسات في الإعلام والبيئة والتنمية، الصحة والطب والعلاج في مصر، آراء حرة في التربية والتعليم، التنمية الممكنة، أفكار لمصر من أجل الازدهار.. تدعو إنجازاته هذه إلى أن يطلب منه الاشتراك بجهوده في: موسوعة الكويت العلمية للأطفال، وفي الموسوعة الإسلامية العامة، ومعنا في موسوعة الشروق (التي ظهر منها الجزء الأول فقط ثم توقفت)، وموسوعة آل البيت... ومن ثم يكسب تسع عضويات: لجنة موسوعة وزارة الأوقاف بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، فاللجنة المصرية لتاريخ وفلسفة العلوم، وبأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا: خبير لجنة الثقافة العلمية بالمجلس الأعلى للثقافة، فاللجنة(237/6)
التحضيرية لمؤتمر تطوير التعليم الثانوي، عضو مجلس إدارة الجمعية المصرية لتاريخ وفلسفة العلوم، عضو المجمع المصري للثقافة العلمية، عضو لجنة معهد الدراسات المتقدمة في حلف الأطلنطي لصياغة تقرير مستقبل البيئة في الثمانينيات... كما عمل مستشار الأكاديمية الطبية العسكرية (1986 – 1990) والهيئة العامة للاستعلامات لموسوعة الشخصيات المصرية (1985 – 1989)، ومقرر لجنة التلوث بالضوضاء في الاتحاد العالمي للشباب والبيئة، ومسؤول اللجنة الثقافية بالجمعية المصرية لأمراض القلب.(237/7)
من أجل هذا، لم يكن من المستغرب أن نفاجأ في آخر أيام تقديم أوراق ترشيح دفعة أولى من الزملاء الجدد بتلقي ملف ضخم بمؤهلات ترشيح الدكتور محمد محمد الجوادي لعضوية المجمع. فالاسم ليس غريبًا على أسماعنا، ولا الشخص بعيدًا عن مطالعاتنا بالصحف اليومية، وتقديرنا لما يبعث به لكل منا بين الحين والحين من إهداءات كتبه وبحوثه التي نشكره عليها. وهو هو الشخص الممتلئ حماسة وحيوية الذي نلتقي به في شتى مجالات أنشطتنا بمجامع البحوث العلمية والإسلامية ولجان الثقافة العلمية والإعلام والمجالس القومية المتخصصة. مما يعيد لكل منا صورة شبابه في واحد أو أكثر من ميادين نشاطه، فيتمنى لو أنه كان مزكيه على طلب ترشيحه مع مرشحيه الكبيرين هيكل وعلم الدين، ويُضمرُ في نفسه أنه سيصوت له ويرحب به - لا عبرة بكونه قد اكتشف أنه يتقدم لكرسي التاريخ الشاغر منذ المرحوم حسين مؤنس، أو ربما لِعدَم العلم بأن المتقدم لهذا الكرسي منذ أواخر الدورة الماضية أوراقه مودعة لدى الأمين العام في سرية لم يكشف النقاب عنها بحكم مسؤوليته عن الحياد... وهو العالم الجليل الأستاذ الدكتور حسنين ربيع أستاذ التاريخ بكلية الآداب والنائب السابق لرئيس جامعة القاهرة – الذي لاشك سوف يسعده حين يظفر بالانتخاب في دورته العامة التالية (التي كان مقررًا أن تتأجل لما بعد المؤتمر حيث يكون قد تم استقبال الأربعة الفائزين لرفع نصاب ثلثي عدد الناخبين ويكون الجوادي قد قام بواجب تزكية الأستاذ الكبير وحسن استقباله - لولا أن تقرر التعجيل بانتخابات المرحلة الثانية) سوف يسعده حينئذ أن يتخذ منه العون والسند في وصل التاريخ الوسيط والحديث بالمعاصر، وإنشاء قاموس للأعلام العربية يعنى بالمصطلحات السياسية المستحدثة كمكونات أساسية في العلوم التاريخية، ويتوسع في مجموعة الأفعال الرباعية الخاصة بالتكنولوجيا – كما يقول بمقال الجمهورية 11/2/2003م.(237/8)
وإذ يزكي الجوادي نفسه في "مقدمة" سيرته الذاتية التي قدَّمها (وهو العليم بالسير والأنساب والتراجم الشخصية) بأنه رزق التوفيق والهداية وحب أساتذته وعطفهم، ونال التقدير المبكر – فدفعه هذا إلى أن يهب حياته للعلم والبحث والتأليف ، فهو ينفي عن نفسه تهمة تصريحاته للصحف على الفور بأنه فاز بالعضوية ككاتب الأهرام وأستاذ الطب بجامعة الزقازيق (الأهرام 14/1/2003م) - لأن الصحيفة ذاتها ذكرت في نفس الإطار عن انتخاب الشرنوبي لكرسي الجغرافيا أنه عميد كلية التربية الأسبق، وعن الدكتور سلطان أبو علي أنه وزير الاقتصاد السابق، وعن الدكتور محمد حسن عبد العزيز أنه الأستاذ المتفرغ بكلية دار العلوم. كما ينفي مظنة السماح بنشر صورته أيضًا في جريدة الوفد بنفس تاريخ 14/1/2003 وبأخبار اليوم 22/1/2003 مع عناوين: كرسي التاريخ لأستاذ الطب: نتيجة غير نمطية لانتخابات مجمع اللغة العربية - لأن هذه الأخيرة ذكرت أنه أستاذ مساعد القلب الذي كان (ينافسه) الدكتور محمد حسنين ربيع أستاذ التاريخ بكلية الآداب ونائب رئيس جامعة القاهرة السابق – لكونه يطلق عليه - رغم تخصصه في أمراض القلب "جبرتي العصر"؛ ويتبرأ مما ورد بالجمهورية 11/2/2003 أنه بدأ المشوار من الجمهورية، ويتنصل من محاولة المحرر استدراجه للإجابة عن تساؤلات وجه الغرابة وأسباب الهجوم على اختياره عضو المجمع اللغوي بأنه "لم يسع للانضمام إلى المجمع وإن كان ذلك يسعده، ومن ثم لا تفسير عنده لهذا الهجوم ولا تفكير لديه في الانشغال بمعارك جانبية لا جدوى منها كما لا وقت للالتفات إلى صراعات لا قيمة لها.. فالصحفيون في كافة الصحف على معرفة وثيقة به منذ عشرات السنين كما أن أغلب أعضاء المجمع الذين رشحوه ولديهم من قديمٍ الصورُ الفوتوغرافية التي نشر منها محرر أخبار الجامعات محمود عارف بأخبار اليوم إحداها مع وصفه بأنه أستاذ (مساعد) ينافس أستاذًا نائب رئيس جامعة سابق في تخصص التاريخ(237/9)
كنتيجة غير نمطية للانتخابات... وبمعلومات قديمة أيضًا للإثارة ومحاولة السبق الصحفي كلمة شيرين المنيري بأهرام 16/2/2003 أنه الطبيب الثاني عشر في مجمع الخالدين لكونه أصغر الأعضاء سنًّا، ولحصوله على جائزة المجمع منذ ثلاثين سنة عن كتاب" محمد كمال حسين (تقصد كامل) – عالمًا ومفكرًا وأديبًا" – فهو لا يجهل أنه في الثانية والخمسين من العمر، وأن من أعضاء المجمع الكبار في القديم والحديث من فازوا بالعضوية في تلك السن وربما قبلها...
السيد الرئيس : السادة الزملاء:
لتكن إرادة الله الذي نزَّل الكتاب وهو يتولى الصالحين تجديد شباب مجمع الخالدين بواحدٍ من ثلاثة الفائزين الأصغر سنًّا في أول دورة انتخابات ولو بكرسي أحد تخصصاته المتعددة على غير انتظار – الأستاذ الدكتور محمد محمد الجوادي على النحو الذي عرضنا - بالنظر لإمكان مشاركته في أعمال لجان أخرى كالطب أو الإعلام - خيرًا وبركة على مجمعنا الذي يحتاج إلى التجديد والتحديث بدماء حارة تتحمل عن الآباء عبء تنكس الخلق وعجز الشيوخة عن استمرار العطاء حتى مجيء أجلهم الذي لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، في اعتزاز بتواصل الأجيال، واطمئنان إلى تعاقب الخلف والسلف، والسكينة التي يُنزلها الله في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم. فانتخاب الجوادي ينعش ذاكرة الشيوخ المجمعيين بالتقاء الماضي والحاضر تطلعًا إلى المستقبل، بقدر ما يحيي الذاكرة الجماعية الوطنية والقومية بمعايشة أحداث عولمة وأمركة التاريخ للعالم الجديد (خصوصًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2000)، ليُعلِّمنا كيفية مواجهتها والتعامل معها في ضوء تاريخنا القديم والوسيط والحديث. كما أنه يرسخ مبدأ كون المجمعيين يختارون أصلاً لخدمة اللغة والتعريب في مجال تخصصاتهم الدقيقة والشاملة بأكثر من لجنة – مما يبرز الأهداف والوسائل التي تفيدنا في(237/10)
الخوض بمعترك ثقافات الصراع العنصري والإثني الديني والسياسي والاقتصادي وهي تستبدل بثقافة السلام ثقافة الحرب والعدوان. ثم إنه يدرأ عن المجمعيين مظنة موالاة أعضاء لجان أخرى خارج المجمع وداخله لتحقيق منافع خاصة أو تبادل مصالح شخصية بدلاً من التوحد والتكامل والتفاني في بلوغ غايات الانتساب إلى مجمع اللغة وتعريب العلوم والفنون. فمرحبًا بالجوادي ورفاقه في زُمرة الخالدين الأربعة عشر الذين ندخرهم ليتقدموا في قوة واقتدار مسيرة مجمعنا الحصين نحو عيده الماسي بعد سبع سنوات.
والسلام عليكم ورحمة الله(237/11)
ثالثًا: كلمة الختام
للأستاذ الدكتور كمال بشر الأمين العام للمجمع
أعود مرة أخرى إلى تهنئة المجمع بهؤلاء الأعلام الذين يعدون بحق شخصيات عامة تتطلع إليها الأمة العربية، ويهتم بأبحاثها وكتبها كل مثقف عربي، ولا شك أن مصر كلها تقدر أولئك الأعلام الأربعة، والمجمع يتطلع - كما تتطلع الأمة كلها - إلى
ما سيقدمونه من دراسات مهمة تكون عونًا لنا فيما نريد من نهضة المجمع.
وأشكر حضراتكم جميعًا لحرصكم على المشاركة معنا في استقبال هؤلاء الأعلام الأربعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(238/1)
ثالثًا: كلمة الأستاذ الدكتور حسنين محمد ربيع
في حفل استقباله عضوًا بالمجمع
سيدي العالم الجليل الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية وشيخ المجمعيين:
سادتي العلماء الأجلاء أعضاء المجمع الموقرين:
سيداتي وسادتي:
أقف اليوم وقفة إجلال ومهابة، أمام هذا الجمع الكريم، أمام سدنة اللغة العربية وحماتها في مجمع الخالدين، وهذه الصفوة من العلماء الجهابذة، والنخبة من الأساتذة الرواد في هذا المجمع العظيم، متوجهًا إلى الله العلي القدير بعظيم الحمد ووافر الثناء ابتداءً، أن أولاني ثقتكم الغالية، بتفضلكم مشكورين بانتخابي عضوًا عاملاً بمجمعكم الموقر، صرح اللغة العربية الشامخ، وكعبة العربية وحصنها الحصين، الذي حمل لواءها أكثر من سبعين عامًا من الزمان عاليًا خفاقًا، وأحاط بأصولها العريقة، وآدابها الوفيرة، وعلومها الرائدة، ومعاجمها المنوعة، وبحوثها النامية، مع مستويات الفكر المعاصر، ومستحدثات التقنيات والمعارف. مع كل هذه المهام المنوطة بالمجمع، والآمال المعقودة عليه، وما تفضلتم بإنجازه مشكورين.(239/1)
... ... وكان طبعيًّا أن يظل اللحاق بعضوية مجمع الخالدين مطلبًا عزيزًا لكل باحث مدقق في علوم العربية وتراثها العظيم، وكان انتسابي إلى محرابكم المقدس أملاً بعيد المنال، فأنَّى لي أن أكون من سدنة مجمع الخالدين، أرتوي من علمكم الغزير، وفيضكم العميم، وأسهم معكم مساهمة المقل فيما تنهضون به من جهد مشكور، من أجل رفعة شأن هذا الصرح التليد. واسمحوا لي - حضراتكم - أن أعبر عما يختلج في صدري من مشاعر جياشة، لاهجة بالشكر الخالص والامتنان العظيم نحوكم جميعًا، فقد طوقتم عنقي، وأسبغتم عليَّ تكرمة ما كانت في حسباني، وأنا على مشارف نهاية مشواري على درب العلم ومسالكه. لقد جاء انتخابكم لي عضوًا في هذا الصرح العتيق، والحصن المنيع، أرفع وسام وأعز تقدير لشخص وهب حياته للعلم والتعليم والبحث العلمي: رسالة ووظيفة … فالحمد لله والشكر لله ..
مع الرجاء والأمل في أن أكون - عند حسن الظن بي - معطاء لهذا المجمع الخالد: جهدًا، وفكرًا، وإنتاجًا، وانتماءً، ومدافعًا، ومعضدًا لرسالته السامية.
السادة الأساتذة العلماء الشوامخ:
أستأذن حضراتكم في أن أتوجه بالتقدير العميق، والامتنان والشكر الجزيل، على الكلمة البليغة الضافية، التي ألقيت اليوم بمناسبة استقبالي عضوًا بالمجمع الموقر، وفقًا لتقاليده العريقة، وسنته المحمودة. ولا أجد من عبارات التقدير اللائقة ما يفي الشكر خالصًا على ما تضمنته من صفات وسجايا لشخصي المتواضع. وما من شك في أن سيدي العالم الجليل الأستاذ الدكتور شوقي ضيف، رئيس المجمع هو الأولى بها، فهو نعم القدوة، والريادة، والمثل الأعلى: علمًا، ونبلاً، وتواضعًا، وله منى أخلص الثناء، وصادق الوفاء.
سادتي الأساتذة العلماء الأجلاء:(239/2)
... ... إنه لتقليد كريم من غير شك، ما جرى عليه مجمع الخالدين من تأكيد وتوثيق صلة الخلف بالسلف من بين أعضائه، وما يمثله ذلك من معاني الوفاء والقيم والتقاليد والأعراف، لتعميق الانتماء والولاء، وتعظيم الأصالة والمعاصرة، تحت مظلة لغوية مجمعية، يتعاون فيها صفوة من علماء مصر وشوامخها تعاونًا علميًّا صادقًا. وجريًا على هذا التقليد الحميد، أشرف اليوم بحديث مجمل عن أحد شوامخ المجمع الراحلين، أُوليت شرف خلافته في كرسيه العلمي بالمجمع، وهو المغفور له - بإذن الله تعالى - الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح.
السادة الأساتذة أعضاء المجمع الموقر:
... يعز علي أن أقف اليوم بين أيدي حضراتكم متحدثًا عن سيرة عالم جليل، ومؤرخ كبير، وأحد أساطين التاريخ والآثار في مصر والعالم العربي، هو الفقيد العزيز المرحوم الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح محمد حسن، الذي رحل عن دنيانا الفانية بجسده، بعد حياة زاخرة بالعطاء والعمل المثمر البناء، وبعد أن أثرى المكتبة العربية بمؤلفاته وبحوثه ودراساته المتميزة، كما أثرى بها -رحمه الله - المحافل العلمية والتعليمية والثقافية في مصرنا العزيزة والعالم العربي.
... واسمحوا لي - حضراتكم – أن أُلقي بعض الضوء علىمسيرة هذا العالم الجليل، طيب الله ثراه، وجزاه خير الثواب، على ما قدمه للعلم والعلماء، وما بذله للمؤسسات التعليمية والبحثية والعلمية والثقافية.
... ... بدأ الراحل الكريم مشوار حياته العلمية بالحصول على ليسانس الآداب من قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول عام 1948م. وبكَّر منذ البداية في الاهتمام والتخصص في علم الآثار، فحصل على دبلوم المعهد العالي للآثار المصرية من جامعة فؤاد الأول عام 1951م، وكان ذلك تمهيدًا لحصوله على درجة الدكتوراه في الآثار المصرية من جامعة القاهرة عام 1956م.(239/3)
... ... وكانت المحصلة العلمية تأهيلاً متميزًا لسيادته، ليبدأ عمله الوظيفي ورسالته العلمية الجامعية، فعين معيدًا بقسم الآثار بكلية الآداب جامعة القاهرة. ثم تدرج في السلك الجامعي من بدايته فعمل مدرسًا ثم أستاذًا مساعدًا فأستاذًا لكرسي تاريخ مصر والشرق الأدنى القديم، ثم رئيسًا لمجلس قسم الآثار المصرية في كلية الآثار ثم عميدًا للكلية.
... ... هذه المسيرة الأكاديمية الرائعة، كان حصادها وفيرًا ومباركًا، وتجسد فيما يلي: ...
- تكوين مدرسة علمية متميزة في علوم الآثار والتاريخ القديم، والحضارة المصرية وصلاتها بحضارات الشرق العربي القديم.
- المساهمة في الكشف عن العديد من المعالم الحضارية في هضبة الجيزة، وتونة الجبل بالمنيا، ومدينة أونو القديمة في عين شمس.
- إثراء المكتبة العلمية بمؤلفاته وبحوثه، فقد ترك أكثر من خمسين كتابًا وبحثًا في مجال الآثار والتاريخ القديم.
- حاضر وشارك في مؤتمرات وندوات عالمية للآثار المصرية، عقدت في مصر وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها.
ناقش – بالإضافة إلى الإشراف - العديد من الرسائل العلمية لدرجتي الماجستير والدكتوراه.
والفقيد الراحل لم تشغله الأعباء العلمية والأكاديمية عن تحمل مسؤولياته التنويرية والتثقيفية في مجتمعه الذي أعطاه كل جهده، وكل وقته؛ فكان نائبًا لرئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وعضوًا بالمجمع العلمي المصري، وعضوًا بمجمع اللغة العربية، وعضوًا بالمجلس القومي للثقافة، وعضوًا بالمجالس القومية المتخصصة، وعضوًا في جمعيات علمية متخصصة في علوم الآثار في المملكة المتحدة، وكندا، وألمانيا.
سادتي الأساتذة العلماء الأجلاء:
الراحل الرائد الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح كانت له إسهاماته الرائعة والرائدة في مجال المصريات، والمجال لا يتسع لحصرها، وإن كنا نشير في إيجاز إلى نماذج منها:(239/4)
اختلف المرحوم الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح مع المدارس الغربية التي تُحمِّل النص القديم أكثر مما يحتمل. من ذلك ما فسروه بأن المصري القديم - في عصور ما قبل التاريخ - كانت لديه عادة أكل لحوم البشر، استنادًا إلى بعض المتون من أن الملك كان يتناول في وجبات الطعام أعضاء المعبودات. ونفى الدكتور عبد العزيز صالح ذلك مفسرًا ما قيل بأنه تعبير مجازي يدل على قوة الملك في العالم الآخر.
وكانت له وجهة نظر مصرية صحيحة حول موضوع ألوهية الفرعون، فهذه الألوهية لم تكن بالمعنى الصريح للكلمة في اللغة العربية، وإنما قد تعني "مقدس" والقداسة ليست مطلقة، وهي محدودة وأقل من سلطة الآلهة أنفسهم.
وانفرد المرحوم الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح بتقديم دراسة تفصيلية عن التعليم ومراحله ومناهجه في مصر القديمة. وهذه دراسة غير مسبوقة في العالم كله في هذا المجال، أكد فيها فضل السبق للحضارة المصرية في وضع مناهج للتعليم منها مناهج: الأدب والتاريخ، والرياضيات والجغرافيا.. إلخ. كما أشار فيها إلى المناظرات العلمية التي كانت تعقد بين المثقفين المصريين القدماء في مختلف العلوم، وتمارين الطلاب لحفظ ما يطلبه منهم المعلم، وتصويباته لهم. كما أشار إلى وجود مكتبات في مصر القديمة.
السادة الأساتذة العلماء الشوامخ:
لقد كان الراحل الكريم الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح من خيرة العلماء المصريين، ومن الرواد الأوائل في علوم المصريات. يضاف إلى ذلك تواضعه الجم، وزهده الدنيوي، وتسابقه إلى خدمة من يقصدونه في الخير والشدائد.(239/5)
... وتكريمًا له، وتقديرًا لمكانته العلمية، وأنشطته الأكاديمية والثقافية وتميزها وتفردها، نال جائزة الدولة التشجيعية في الآثار عام 1962م، ثم كرمته الدولة أيضًا بنيل جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية1963م، ووسام الجمهورية من الطبقة الثانية 1982م. وتقديرًا لمكانته العلمية، خصصت هيئة الآثار المصرية العدد الخاص بعام 1987م في مجلة حولياتها ليصدر باسمه.
... رحم الله أستاذنا المرحوم الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح، كان عظيمًا في أستاذيته، رائدًا في تخصصه، مثالاً وقدوة في خلقه وسلوكه.
... وكان للأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح نشاط في مجمع الخالدين، إذ كان مقررًا للجنة التاريخ، وأسهم في إنجاز العديد من ألفاظ الحضارة ومصطلحات التاريخ والآثار، وفكّر- رحمه الله - في إصدار معجم وافٍ لمصطلحات الآثار في صيغها الأجنبية والعربية.
... وتعلمون - حضرات الأساتذة الأجلاء - أن جهود مجمع اللغة العربية قد اندرجت ضمن أربعة أبواب رئيسة هي:
1) محاولة الوفاء بحاجة اللغة العربية إلى المعاجم المتطورة والوافية بما استقر في اللغة من الأوضاع المحدثة والتقنيات المعجمية الحديثة.
2) وضع المصطلحات العلمية والحضارية والفنية.
3) إحياء التراث القديم.
4) تيسير متن اللغة، وقواعدها وكتابتها.(239/6)
... لذلك أسأل الله - سبحانه وتعالى - العون والمساعدة لكي أحقق ما كان يأمله المرحوم الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح في إنجاز معجم لألفاظ التراث الحضاري ومصطلحات التاريخ والآثار التي كانت مستعملة في عصور مصر التاريخية، وبخاصة في العصور الوسطى، ومعظمها مأخوذ من لغات غير عربية كالتركية والفارسية والمغولية والسريانية واليونانية وغيرها. وهذه الألفاظ والمصطلحات من الأدوات المهمة التي لا يمكن لمن يريد التأريخ لنظم الحكم في العالم الإسلامي في تلك العصور الاستغناء عنها. وهي تعد مفاتيح لما يستغلق فهمه من التنظيمات الإدارية والسياسية والحربية والاقتصادية، فضلاً عن الحياة الاجتماعية والثقافية.
ولا شك أن إصدار معجم الألفاظ الحضارية والمصطلحات التاريخية في صيغها العربية والأجنبية سيكون إضافة متميزة، وإنجازًا كبيرًا يحسب لمجمع الخالدين.
... كما أدعو الله - العلي القدير - أن يمنحني القدرة والعون، لإحياء دور لجنة التاريخ في مجمع اللغة العربية للحفاظ على التراث القديم وكنوزه، والعمل على تحقيق
نفائسه ونشرها، والخروج به من سراديب المخطوطات إلى عالم المطبوعات.
والله ولي التوفيق
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
...(239/7)
ثالثًا: كلمة المجمع في استقبال
الأستاذ الدكتور محمد عبد الرحمن الشرنوبي
للأستاذ الدكتور كمال محمد دسوقي
بسم الله الرحمن الرحيم
سيداتي – سادتي:
في نفس هذه الساعة، وبذات تلك القاعة لخمسة عشر يومًا خلت، افتتح إمامنا العِزُّ بن عبد السلام شوقي ضيف – أولَى احتفاليات أعياد مجمعنا باستقبال من أسماهم الفرسانَ الأربعةَ الذين يُرحِّب بهم المجمع ويَعتزّ: الربيع جدَّ الحسنين، والفضل بن الصلاح، والمناوي المحمود، فسلطان الاقتصاد أبا عليٍّ - الذي أنابَ عنه في تقديمه الأستاذ الدكتور أحمد سالم الصباغ.
وقد أفاضَ علينا البهجة والسرور يومئذ الأمين العام الذي له باسمه ولقَبه صِفَتَا الكمال والبشر وهو ينثرُ الزهور والرَّياحينَ التي عَبق بها جو المكان فتعطرَت الأنفاسُ وتشنفت الآذان. وبما استلَّ من كون القرآن ربيع قلوبنا في خريف حياتنا، لم تخلُ دُعاباتُه من التحذير من أشواك الورود التي من أجلها نحب الورد ونعشق الزهر– لكن بدون مشاغَبة قطف الزهور، بل مجرد شَم نسيمها العليل بالفُلِّ والياسمين.
واليوم فأنا أُتبعُ استقبال أربعة فُرسان المَعبد الأماجد بالترحيب بأربعة عِرسان لجان العلوم الفلسفية والاجتماعية الإنسانية: مدكور والفيومي والجوادي والشرنوبي لعرائس الشريعة والفقة وأصول الدين الأزهرية الشريفة والدرعمية الرائدة – أستقبلُهم فُرادى بأولوية إشهارِ الرئيس خِطبة كل منهم لعروسه بانتخابات المرحلة الأولى التخصصية فالثانية العامة، كي لا يخطبَ أحدُهم وسط كثرة الخُطَّاب على خِطبة أخيه أو يبيع ويشتري على بيع وشراء أخيه.
ورَيثَما أقُدِّمُ كلاًّ منهم بمؤهلات كفاءته لعروسه، وتَعرسه هو وتَودُّده لها ولوَليها الذي أخطبها له وباركَ قرانَهما؛ تكونُ لي فترةُ التقاط أنفاس تقديم من بعدَه ثانيًا، فالثالثِ والرابع في خُطبة استقبال واحدة نَسعَدُ فيها بِبَركة كلمة كل منهم على أسْرة المجمع.(240/1)
وكما وَعَدنا الأمين العام، فإنه في السادس والعشرين من مايو – بعد أن يكون باقي الفرسان والعرسان لكافة اللجان قد تم استقبالهُم – سوف نُدعَى جميعًا لوليمة العرس وطَعام الزفاف التي يُقيمها بالمجمع - كي يتحاب الجميعُ ويتآلفوا قبل نهاية الدورة المجمعية، ويتهيؤوا في فترة إعراسهم لاستقبال الدورة الجديدة– خيرًا وبركة على المجمع .
وأستعينُ بالله فأقول:
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الرئيس: السادة الزملاء:
سيداتي، سادتي:(240/2)
... يسعدني أن أرحب باسمكم، لعضوية المجمع العاملة بلجنة الجغرافيا العتيدة.. في اضطلاعها باصطناع الجغرافيا التاريخية وتخطيط المدن والعمران البشري، لتعريب أسماء الأعلام المتغيرة المستحدثة لدول العالم وعواصمها وبلدانها على خريطة العالم وفق الحوليات والأطالس المعتمدة .. بالأستاذ الدكتور محمد عبد الرحمن الشرنوبي، سليل الجغرافيين الأفذاذ في هذا المضمار، انتهاء "بالعلامة محمد السيد غلاب" الذي تجسدت فيه عبقريات "مصطفى عامر" بتفكيره المرتب الدقيق، ومحمد عوض محمد بأدبه الرفيع وتجواله الفكري الواسع، ومحمد متولي بحرفيته الشديدة وتدقيقه الأشد، حتى أستاذه الكبير سليمان حزين (الذي وقع في أسره منذ مطلع شبابه أواخر الثلاثينيات وأول الأربعينيات بسحر بيانه في تقديم علم الجغرافيا) كما يقول غلاب عن نفسه في تاريخ حياته… الشرنوبي الذي كان من فضل الله علينا أن جاء فوزه بمقعد أسلافه هؤلاء بالأغلبية المطلقة بأولى جولات انتخاب أول التخصصات الخمسة الشاغرة تقديرًا لجدارته واستحقاقه الاستمرار في مهمته – ليس فقط لكونه المرشح الوحيد لهذا الكرسي الشاغر– بل لما توافر له في مؤهلات ترشيحه من اهتمامات علمية تمثلت في المهام والمؤتمرات التي شارك فيها، والبحوث والدراسات في موضوعات البيئة والسكان والخرائط والمساحة الطبوغرافية والديموجرافية والأنثروبولوجية لدول العالم العربي (الكويت والبحرين وقطر وعمان والإمارات والسعودية وإيران والعراق)– إلى جانب استراتيجيات التنمية الإقليمية لمحافظة الفيوم المصرية، ومؤلفاته الأساسية في علوم الجغرافيا الطبيعية والسياسية، والجغرافيا العامة وتطبيقاتها الميدانية في حل المشكلات البيئية المعاصرة بالبحث الجغرافي في الإنسان والبيئة .. التي قام بها – مما أوجزتُ في طلب ترشيحه، ولعل آخر ما اطلعتُ عليه أخيرًا من مؤهلات تزكيته لهذه المهمة التي انتخب لإنجازها: "الموسوعة المبسطة لدول العالم"(240/3)
التي نشرت بالاشتراك مع زميله الدكتور محمد كمال لطفي (1997م) والتي قال في مقدمتها: إنها تفيد كمرجع مبسط للمثقفين والمشتغلين بأمور السياسة والاقتصاد والدبلوماسية والتاريخ والجغرافيا السياحية والسكان، وإنها تراعي ترتيب دول قارات العالم أبجديًّا مع خرائط توضح حدود الدول وعواصمها وجيرانها… كما تراعي ما يطرأ على هذه الدول من تغيرات في أمور السياسة والاقتصاد والسكان التي تتعرض لها بين الحين والحين بما يستلزم ملاحقتها كل خمس سنوات بدلاً من الملاحقة السنوية التي لا تقدر على تكلفتها غيرُ الأطالس الحولية العالمية.
السيد الرئيس، السادة الزملاء:(240/4)
... كانت لجنة الجغرافيا قد فرغت (1974) من إصدار الجزء الأول من "معجم الجغرافيا "الطبيعية والمناخية الإقليمية والنباتية والحيوانية والاقتصادية، وتُواصلُ في الجزء الثاني التركيزَ على الجغرافيا التاريخية السلالية والعرقية للسكان من جهة، العمرانية للبيئة في علم تخطيط المدن الذي نما في أوربا لتعمير ما خربته الحرب العالمية الثانية.. من جهة أخرى… بالنظر إلى كون الجغرافيا البشرية دراسةَ الإنسان في البيئة الطبيعية كمقر ومأوى إيكولوجي مستقر على أرض ذات تربة وصخور، وسهول ووديان، يلفها غلاف جوي تُسقط عليها سحابات الأمطار التي يعيش عليها النبات والحيوان ، وتغيُّر اجتماعي ونظم اقتصادية وسياسية ذات استمرارية في الزمان – مما مؤداه – أن للجغرافيا ثلاثة أبعاد: الزمان والمكان والإنسان . وهالَ الجغرافيين العربَ الأفذاذ ما أدت إليه الصراعات الإثنية الناجمة عن تفكك الإمبراطوريات المنهارة في الشرق والغرب إلى جبهات تحرير بشناق وشيشان، أكراد وألبان… تسعى للاستقلال وتطالب بالحكم الذاتي وحقوق الإنسان تلك التكتلات التي عمدت منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وانسلاخ دول شمال ووسط آسيا فالاتحاد اليوغوسلافي بوسط أوربا إلى بوسنة وهرسك وصرب وكروات … منذ حربي الخليج الأولى والثانية في الثمانينيات والتسعينيات – كإرهاص بنظام عالمي جديد يقوم على التطهير العرقي والإبادة الجماعية والتهجير القسري والاغتصاب وتدنيس الأرحام … مما لا نزال نعاني منه الانفراد الأمريكي كقوة عظمى مهيمنة تكيل بمكيالين في محاربة حركات مقاومة الاحتلال على أنها قواعد إرهاب – وتنتقم لكسر هيبتها الاقتصادية والعسكرية في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2000م من الدول الإسلامية التي كانت هي قد أمدتها بأسلحة الدمار الشامل، للقضاء على الشيوعية في أفغانستان، واليوم تفتش عما بقي لديها من أسلحةٍ تُوجَّه ضدها لتتخذ من ذلك ذريعة احتلالها والسيطرة على ثروتها، بل(240/5)
تغيير نظم الحكم فيها إلى حكومات موالية لامناوئة – خصوصًا في الصراع العربي الإسرائيلي الذي مضى عليه أكثر من نصف قرن، وتُعاود الحكوماتُ الإسرائيلية تدميرَ البنية الأساسية لمؤسسات السلطة الفلسطينية والقضاء على مقومات الشعب الفلسطيني أراضى وسكانًا واقتصاديات واتفاقيات سلام .. بدعم من المارد الأمريكي الذي تخطط له وتشارك معه العدوان الوحشي الآثم على ما يسمونه "بؤر الشر "في العراق وإيران بعد أفغانستان وباكستان … لرسم "خريطة الطريق" إلى عالم أمريكي جديد …(240/6)
... وفي استشعار لهذا الخطر الداهم على قوميتنا العربية وهويتنا الثقافية الذاتية، وبروح الدفاع عن الأراضي العربية المحتلة في فلسطين المغتصَبة واستقصاء الجغرافيا التاريخية لسوريا ولبنان ومصر كدول مواجهة للعدوان، اتخذ مجلس مجمعنا الجليل سنة1994م قرارًا أن يكون موضوع بحث المؤتمر السنوي التالي: أسماء الأعلام والأماكن بالوطن العربي – لاسيما بأرض فلسطين – التي يعمل اليهود جاهدين على تغيير أسمائها وإعطائها أسماء أخرى عبرية، ووجه أستاذنا الدكتور سليمان حزين مقرر لجنة الجغرافيا إلى الأمين العام للمجمع بتاريخ 19/5/1995م تزكية طلب ترشيح (وقعتُه والمرحوم أ.د. عبد العزيز صالح كأعضاء معه بلجنة التربية وعلم النفس التي كان يختار لها أعضاء جغرافيين وتربويين) … للأستاذ الدكتور محمد السيد غلاب، مؤكدًا على ضرورة انتخابه في هذه الدورة بالذات عضوًا عاملاً متميزًا في هذا المضمار – بوصفه المختص الأساسي من بين الجغرافيين العرب بهذا الموضوع – بما فيه فلسطين خاصة – قائلاً إن لديه نسخةَ القاموس الإفرنجي الوحيدة التي سيُنقَل عنها وقد قدمها إلينا ونحن نقوم الآن بتصويرها لمجمع اللغة العربية الذي لا يستطيع اقتناء القاموس المشار إليه لعدم توافره في الأسواق والمكتبات… مختتمًا بأن انتخاب الأستاذ الدكتور غلاب في هذه الدورة ضرورة تقتضيها حاجة العمل إليه للمؤتمر القادم. ومنذ انتخابه لعضوية المجمع عام 1994م حتى رحيله في الخامس والعشرين من أكتوبر 1997م كان يعقد جلسة صباح الاثنين بالمكتبة مع المرحوم أ.د. إبراهيم رزقانة وانضمام الدكتور الشرنوبي وزميله الدكتور إمبابي كخبيرين … ولما تكرر غياب الدكتور حزين عن حضور الاجتماع وأنوبُ عنه في حضور الجلسة بصفة شخصية، كتب المقرر رسميًّا للمجلس بأن أنوب عنه في حضور اللجنة وعرض إنتاجها على مجلس المجمع فالمؤتمر. ولهذا كانت مطالبتي منذ سنتين بإعمال المادة 25 من اللائحة بانتخاب(240/7)
أقدم خبراء لجنة الجغرافيا (وغيرها) العاملين في نوع بعينه من اختصاصاتها ليصبحوا أعضاء مقررين لما يستكملونه من إنجازاتها … وإن اختيار الشرنوبي بأَول مرحلتَي الانتخاب لهو الانتصار الأكيد للأخذ بهذا المبدأ.
... والحقيقة أن المرحوم الأستاذ الدكتور محمد غلاب – كما قلت في خطاب تأبينه بالمجمع – كان بحكم تكوينه العالم الجغرافي المتقد إيمانًا بوطنيته المصرية وقوميته العربية – ليس فقط في تتبعه تاريخ التراث الجغرافي في مصر منذ رسم أول خريطة في العالم لجزء من أرض مصر في جبال البحر الأحمر للبحث عن مناجم الذهب قبل خمسة آلاف سنة، والعثور على خريطة لبابل في القرن الثاني قبل الميلاد، وأن جغرافيًّا مصريًّا هو الذي رَسَم أول خريطة جغرافية للعالم في ذلك الحين، بل في اختياره موضوعًا لرسالته في الماجستير (التي حصل عليها من جامعة مانشستر في أغسطس 1949م) "العلاقات المتبادلة بين هضبة يهوذا والسهل الساحلي في فلسطين – دراسة في الجغرافيا التاريخية من أقدم العصور حتى العصر العربي"، ثم في اختياره موضوعًا لرسالته في الدكتوراه من جامعة الإسكندرية (التي حصل عليها في مارس 1953م): "الجغرافيا التاريخية للساحل الفنيقى وظهيره من أقدم العصور حتى نهاية عصر البرونز" .(240/8)
... وقد زادنا غَيرةً وحماسًا للمشاركة في بذل الجهود في ذلك الحين ما قلتُ إنني أذكر أنه قد أُهديت إليَّ صورةٌ من الطبعة العربية الثانية (1986م) التي أصدرتها مؤسسة الأبحاث العربية في شوران، بيروت، لبنان لكتاب أستاذ التاريخ العربي اللبناني د. كمال سليمان الصليبي الذي عنوانه: "التوراة جاءت من جزيرة العرب"، الذي لم تقبل الكثير من دور النشر الأجنبية إصدار الأصل الألماني منه أو ترجمته الإنجليزية وبادرت مؤسسة دير اشبيجل الألمانية بطلب حقوق النشر من المؤلف كي تتولى إصداره وتوزيعه بكل اللغات على بلدان العالم شريطة تقويمه إيجابيًّا من جانب علماء وأساتذة التاريخ . وجاءت توصية علماء اللغات السامية الذين يؤيدون استناد المؤلف على الأدلة التي اكتشفها في مجالي اللغة والآثار تنقض نظريات علماء التوراة التقليدية في أصول الجغرافيا التاريخية التي تفتقر إلى التمحيص والتدقيق المألوفة بينهم – حيث ناصبوا الكِتابَ العداء وشنُّوا حملةً إعلامية واسعة ضد مؤلفه في الدوائر الأكاديمية الغربية الصهيونية عمومًا وداخل وخارج فلسطين المحتلة خصوصًا – حتى قبل أن يرى الكتابُ النورَ أو يُعرَف مضمونُه وتُقرأ نصوصُه بأية لغة من لغات العالم. وبعد أن تعاقدت المؤسسة الألمانية مع عدد كبير من دور النشر الأجنبية لينزل الكتاب إلى الأسواق في 27 مارس (آذار) 1985م باللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية والهولندية والدانيمركية – إضافة إلى العربية ، اضطرَّت الحملةُ إحدى دور النشر على التراجع عن عقدها مع دير اشبيجل، فأُجبِرت هذه بدورها على تأجيل موعد النشر الموحد باللغات المختلفة ستة أشهر ليتم ظهور الكتاب في 27 (أيلول) سبتمبر 1985م.(240/9)
... وكما يقول المؤلف العربي اللبناني: "فإن يكن التحامل على الكتاب ومؤلفه مُبرَّرًا من جانب الدوائر الصهيونية وأجهزة إعلامها – لكونه ينقض التقاليد الراسخة للجغرافيا التاريخية للتوراة بما يستوجب إعادة النظر في أسس الحضارة الغربية التي يعتبرونها قائمة على نصوص العهد القديم ككتاب مقدس حاول مؤلفُ الكتاب أن يثبت أن أحداثه لم تكن ساحتها في فلسطين، بل إنها وقعت في جنوب غرب الجزيرة العربية، معتمدًا على زياراته الشخصية لمناطق عسير وجنوب الحجاز ومشاهداته لمواقع وأمكنة الأحداث … فما بال الأوساط العربية تتحامل على الكتاب بدعوى أنه يحمل دعوة لاحتلال اليهود بلدًا عربيًّا آخر غير فلسطين أو الزعم بأنه يدُلُّ اليهودَ على أرض الحجاز وعسير لكي يستردوها؟ إنه يدرأ عن نفسه هذه الاتهامات الباطلة بقوله : إنه لم يرجع في قراءاته المتأنية للتوراة وشروحاتها وما كُتِب عنها أو ورَد في شأنها .. إلا إلى مصادر عربية كمعجم أسماء الأماكن في المملكة العربية السعودية الذي وضعته مجموعة العلماء السعوديين وعلى رأسهم المَجْمَعي العريق شيخنا حمد الجاسر– الذي علق على تعقيبي بأنه فعلاً قد أقرَّ مؤلفَ الكتاب على صحة دعواه وما ورد به من تحقيق للأماكن والأحداث، وأنه ما كان للعرب ألا يطلعوا على ترجمة عربية لكتاب كهذا يقرؤه الناس بكل لغاتهم وهم يجاهدون لإحقاق الحق في الصراع العربي الإسرائيلي على أرض فلسطين المحتلة التي يتخاطب العدو الصهيوني في أخبارها مع دول العالم بإحلال تسميات عبرية محل الأسماء العربية للمواقع والبلدان .
السيد الرئيس، السادة الزملاء:(240/10)
... كلما تذكرت مجادلاتي بالخرطوم أيام شبابنا الذي جددته لنا انتخابات ثَلاثَةٍ من كراسي التخصصات الخمسة الشاغرة وأولهم الشرنوبي– مع المرحوم الدكتور غلاب، بأنني – إذا كنت أعتبر الفلسفة أم العلوم فهو يقول إن الجغرافيا علم العلوم وإنها في بعض جامعات الغرب قسم من أقسام كليات العلوم لا الآداب، أدركت لماذا لا يتُوه رجل الجغرافيا وسط دوامات المعارك الفكرية والثقافية الأيديولوجية والعقائدية التي تعصف برجل الفلسفة، وازددت إيمانًا بأن الجغرافي يقف على أرض صُلبة من العلم الطبيعي والبيولوجي للبيئة وهو يَدرُس المجتمع والسكان أعراقًا وسلالات في المكان والزمان، بينما الفيلسوف يتأمل العلل الفاعلة والغائية المجردة التي يُرجع إليها العللَ المادية والصورية المباشرة القريبة فيما يسميه فلسفة ومناهج وتاريخ العلوم التجريبية والاستدلالية. كنت أشفق دائما من كون (سليمان) الذي آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب كأب للجغرافيين في شتى مجالات الأنشطة الجامعية والمجمعية الأكاديمية والثقافية الشرعية والعقلية بالمَجمَعَين اللغوي والعلمي ومجلسي الشؤون والبحوث الإسلامية ومراكز البحوث والدراسات العربية والإسلامية والمجلس الأعلى للثقافة والإعلام … لعشرات السنين على مَر العصور، يصطفي من خِيرَة تلاميذه من يعملون معه بلجنتي الجغرافيا والتربية وعلم النفس بالمجمع اللغوي ليدعم المجمع العلمي بخبراء وأعضاء مجمع اللغة - حتى اللغويين والأدباء – وبذا يفتح لهم باب الاختيار لعضوية لجان المجلس الأعلى للثقافة الذي هو رائده وراعيه كوزير ثقافة أسبق، والمجالس القومية المتخصصة للتعليم والبحث العلمي والثقافة والإعلام كمقرر لهما– مما كنت على وجل من أن يَزُجَّ بهم في عواصف تيارات الفكر المتلاطمة التي لا ينجو منها إلا أمثاله من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في مواجهة الصراعات الفكرية المحدثة وهي تطغى على المحافظة على الهوية والتراث.(240/11)
... لكن على هَدْي من ذلك كان اطمئناني إلى اصطفائه الدكتور محمد عبد الرحمن الشرنوبي للجنة الجغرافيا التاريخية بالمجمع اللغوي لعضوية فأمانة المجمع العلمي الذي يرأسه أ.د. محمود حافظ إبراهيم بعد أن لم يجد المرحوم حزين أعظم منه قدرًا لخلافته في رئاسة الأكاديمية الفرنسية التي مصَّرها وحشد لها كل أكابر العلماء الذين أصبح يحتفي بهم الشرنوبي كأمين عام في مواسم محاضرات المجمع التي يلقيها المسؤولون عن السياسات القومية والمشروعات التنموية… بعد أن اضطلع الشرنوبي بكفاءة واقتدار بتجديد مبنى المجمع العريق وتجهيزاته ليظل منارة إشعاع يتطلع للانتساب إليها وكسب عضويتها أكابرُ أهل العلم والتعليم والإعلام. ففي سيرة الشرنوبي العلمية التي أرفقتُها بطلب ترشيحه لعضوية المجمع اثنتان وعشرون عضوية جمعية علمية ولجنة تحضيرية ومجلس إدارة وزمالة وخبرة واستشارة وتحكيم، وحزب سياسي وهيئة تحرير مجلة، ومركز ووحدة بحوث، وشُعبة وموسوعة … مصرية وقومية عربية، بريطانية وآسيوية – كما أن في هذه السيرة الذاتية ثماني وعشرين مهمة علمية ومؤتمرًا شارك فيها بالعشرين سنة الأخيرة – منذ مؤتمر جامعة القاهرة ومؤتمر الغذاء العالمي بالبصرة سنة 1981م حتى المؤتمر الإقليمي الدولي لنظم المعلومات الجغرافية والتكامل الإقليمي بالقاهرة (أبريل 2002م) بعد مؤتمر "التربية في عالم متغير" (القاهرة 2001م)، وستة المؤتمرات السنوية لتعريب العلوم عند العرب(1995-2000م)، وفيما بينهما (رجوعًا إلى البدايات الأولى): مؤتمر نظم المعلومات الجغرافية الثاني لمجلس الوزراء والجامعات المصرية (أبريل 2000م) والمؤتمر التأسيسي لجمعية عمداء كليات التربية في الجامعات السورية بدمشق (مايو 1999م)، فآخر مؤتمرات السكان الدولية بالقاهرة ومركز القاهرة الديموغرافي (1996م)، مؤتمر نظم المعلومات الجغرافية الأول، إدارة الأمم المتحدة لخدمة الدعم والإدارة من أجل التنمية(240/12)
(ديسمبر1995م)، مؤتمر الجغرافيا والاتجاهات العلمية الحديثة (1995م)، مؤتمر التجديد التربوي في ضوء متغيرات العصر(1995م)، مؤتمر الفيوم عبر العصور(1995م)، مؤتمر الجمعية الجغرافية المصرية (1994م)، الجغرافيا والتخطيط (1992م) ، دور التربية في تنمية المجتمعات المحلية (1991م)، الجغرافيا والمجتمع (1990م)، المؤتمر الكارتوغرافي الدولي الذي نظمته الأمم المتحدة بنيويورك (مايو1985م)، مؤتمر تاريخ العلوم عند العرب بالكويت (1983م).
... هكذا، لا يخطئ الشرنوبي هدفه أو تزل قدمه على أرض الواقع العلمي والبحثي كخبير في الدراسات الإنسانية والبيئية الاجتماعية والتربوية لعدد كبير من المؤسسات الحكومية والخاصة، محليًّا وعربيًّا، بوزارتي التعليم والتربية المصرية والكويتية، ووزارة التخطيط، والمجلس الوطني للفنون والآداب، ومؤسسة التقدم العلمي ومركز البحوث والدراسات الكويتية، واتحاد الجامعات العربية، ورئاسة تعليم البنات، وجامعات الملك سعود والبصرة وبغداد والجامعة الأردنية . فهو يسهم في إخراج" الخرائط الطبوغرافية لأركان الجيش الكويتي"(1981م) والأطلس العربي بمصلحة المساحة العسكرية المصرية (1995م)، وينشر أول كتاب بالعربية في جغرافية السكان (طبعة أولى 1971م) وفي خرائط التوزيعات البشرية (طبعة أولى 1970م) فدراسات ديمغرافية عن التركيب السكاني لكل من مصر والكويت والبحرين وقطر وعمان والإمارات والسعودية وإيران والعراق – إلى جانب مؤلفاته المنشورة التي بلغت خمسةً وثلاثين مؤلفًا وبحثًا وأطلس... في شتَّى هذه الموضوعات.
السيد الرئيس، السادة الزملاء:(240/13)
... بمثل ما تدارس أسلافنا العظام مدى صحة كون العربية لغة الضاد في تأويلات النحاة منذ سيبويه حتى الفرَّاء – التي أجملها العلاَّمة إبراهيم أنيس في مقاله المنشور بمجلة المجمع الذي اتخذتُه في تأبين شيخنا مدكور بقصيدة "بكائية الضاد" مدارسة لكونه فريدًا كحرف الضاد في لغة العرب واعتباره مذتكر القرآن يسره له الله ليجلو ما غمض في قوله تعالى:"ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مُدَّكِر "… كانت لنا مدارسة لوصفنا بالخالدين الذي كان ينفر منه شيخنا الدكتور حزين ورَجوتُه ألا يَضنَّ علينا بهذا الوصف الذي نستمد منه العزاء والجزاء وشفاء ما في الصدور وهدى وموعظة للمتقين؛ لأنه في ريادته لمجلس الشؤون الإسلامية والبحوث الإسلامية (يجاور) حديقة الخالدين بالدراسة. فنحن ندرك يقينًا أننا لسنا خالدين بأشخاصنا وذواتنا قدر خلودنا بخدمة لغة القرآن العظيم في تخصصاتنا، ونوائم في نفوسنا بين الإيمان بأن "خير الناس من طال عمره وحَسُنَ عملُه" – بتوريث علم ينتفع به، وولد صالح يدعو له – قدر إيماننا بقول الله تبارك وتعالى "ومن نُعمره نُنكِّسه في الخلق "، فنرده في هرمه وشيخوخته إلى ما كان عليه في الصِّبا لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا مما كان يعلمه، وينتكس من بعد القوة ضعفًا وشيبة فيحتاج إلى رفيقه الذي يأخذ بيده، وعضده الذي يستند إليه، وسمعه وبصره ورئته التي بها يسمع ويبصر ويتنفس … كما قلت في تهنئة المرحوم إبراهيم الترزي بتجديد انتخابه أمينًا عامًّا من رئاسة مدكور الذي كان يسعى إليه بأعمال المجمع في فراش مرضه إلى رياسة شوقي ضيف الذي منذ مَنَحه العضويةَ وأحسن استقبالَه يزكى انتخابَه ليكون له هذا الرفيق.(240/14)
... وحتى بالمفهوم الشائع عن وصف أعضاء المجمع بالخالدين لكون العضو تستمر عضويته حتى وفاته وأن الترشيح لشغل مقعده لا يتم إلاَّ بالإعلان عن خلو هذا المقعد ، يختلط ما في المعنى الأدبي لخلود العلماء ورثة الأنبياء ما بين دعاء زكريا في ندائه الخفي: "ربِّ إني وَهَن العظمُ مِنِّى واشتعل الرأسُ شيبًا ولم أكن بدعائك ربِّ شقيًّا.. وإني خِفْتُ الموالي مِنْ ورائي (بني عمي وعصبتي) فخفَّت وذهبَت عني – في قراءة عثمان – وكانت امرأتي عاقرًا (لا تلد) فهب لي من لدنك وليًّا" يرثني ويرث من آل يعقوب (العلم والنبوة)، واجعله رب رضيًّا (في دينه وخلقه)" … بالحكمة الشرعية في كون الوريث أو الموصى له المُتعجلِ وفاة وصيه أو مورثه يُردّ عليه قصدُه في خلافته وتبوُّء مقعده في الخالدين… فإن موالاة المجمعي الرضي عشرات السنين لمورثه أو وصيه الذي طال عليه الأمدُ بتعطُّلِ جوارحهِ وخفُوت صوته بارتجاف شفتيه عن النطق وارتعاش أنامله عن الإمساك بالقلم … طوال غيبوبة المرض واحتضار الموت … ولا تُطاوعه قسوةُ القلب على تمني موته لتَبوُّء مقعده … لا يعدِم أن يصرف ولاءه لعصبيات أخرى (مَعهَدية تخصصية، أو عقدية دعوية، أو قرابية جهوية) تناصره وتؤازره على بلوغ غايته أن يصل إلى العضوية فلا يظل (خبيرًا) حتى الثمانين – إن لم يزاحمه من الخارج في انتخابات تالية من لا يزال في الستينيات ويفوز بالعضوية دونه … ليبوء بالحسرة والخسران من استعان بغير الله في انتظار الولاية الشرعية أو لجأ إلى الموالاة بالمجاملات الشخصية أو "التربيطات الشللية" كما قال مرارًا الذين ترشحوا من خارج اللجان فلم ينالوا حظهم، ويَصدُق على الجميع قول أحد الناقدين لكيفية اختيار المجمع لأعضائه – سامحه الله "إن المجمع يختار لعضويته الذين لا يكاد الواحد منهم يُسلِّم حتى يودَّع". فالحقيقة أنه بينما عمل أكابر المجمعيين (خبراء) لعشرات السنين في انتظار الخلافة الشرعية(240/15)
لمورثيهم – مقابل الذين نالوا العضوية ابتداء في الستينيات من العمر – لم يعمِّر البعض أكثر من عامين أو ثلاثة عقب انتخابه دون أن يصير مورثًا أو وريثًا.
... والحقيقة الأخرى التي لا تخفى على أحد، أن العضويات محددة وقلما تستكمل الأربعين وإن تأجيلَ مَلء الكراسي الشاغرة بوفاة شاغليها أولاً بأول في نهاية كل دورة مجمعية لاستيفاء خُلُوَّات لجان المجمع السبعة والعشرين الموزعة على ثلاث مجموعاتها: اللغوية الأدبية، العلمية الكونية والأساسية، فالاجتماعية الإنسانية، بتنَاسبٍ وتكامل، هو الذي يحجب أثناء دورات الانتخاب الجماعية المتباعدة مبدأ كون العضوية بالمجمع هي أساسًا لتعريب وإنتاج معاجم مصطلحات وتعريفات لغة العلم والتعليم والإعلام في حدود التخصصات – بما لا تُسِفر عنه مرحلتا الانتخاب لكراسي مخصصة وأخرى عامة عن المزيد من إثراء لجان وفيرة الأعضاء ومن افتقار لجان فقيرة من الأصل. فكما يقول (أبو همام) د. عبد اللطيف عبد الحليم ( الوفد 18 فبراير 2003م): "نحن بشر ولسنا ملائكة. والمجاملات واردة، وتكون مطلوبة في بعض الأحيان وإن استغلها بعض المرشحين غير المؤهلين (كعلاقات اجتماعية) بنوع من تبادل المصالح. وليس معنى ذلك أن مَن هم خارج المجمع أقل استحقاقًا للعضوية ممن هم داخله . فالجميع كما يقول عضو المجمع الطاهر مكي في نفس المقال: "فضلاء ويستحقون أن يكونوا أعضاء. والكثير منهم أعضاء في مؤسسات علمية أخرى – مجامع وجمعيات ونقابات – تخدم الوطن ويستطيعون فيها العمل والإنتاج". ولكن " المقاعد محدودة،وعند الترشيح تلعب أشياء كثيرة دورها – ليس منها (الواسطة). والذي لا يصيبه الدور الآن سيأتيه بعد ذلك. لكن لابد أن يخرج من انتخابات الدورة الثانية ثلاثة وثلاثون من بين الثلاثة والأربعين مرشحًا. وأُضيفُ إلى هذا أن غالبية الذين لم يحالفهم الحظ في الفوز بالعضوية الآن – سواء من داخل المجمع وخارجه – خبراء قدامى لا تزال(240/16)
محفوظة وجاهزة تحت الطلب مؤهلات ترشيحهم لمعاودة الانضمام إلى اللجان التي عملوا بها وأُجيزوا بطَلَبهم للعمل خارجها وستكون تزكية لهم لدى زملائهم وعارفي فضلهم ومُقدِّري جهودهم وتميزهم" .
السيد الرئيس، السادة الزملاء:
... على تقوى من الله ورضوان، أعاننا الله على استكمال أساس بنيان مجمع الخالدين ورثة الأنبياء والمرسلين، من السابقين الأولين ومن اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين – مستبشرين بالبيع الذي بايعناهم به أن لهم الجنة يجاهدون في سبيل الله جهاد النفس الأكبر. وبذكر الله الذي به تطمئن القلوب لانت جلودنا وقلوبنا بعد قشعريرة خشية الله في اصطفاء من زكاهم الله لحراسة لغة القرآن في جو الترقب وإعداد أجناد الله المرابطين لمغالبة وترهيب أعداء العروبة والإسلام. فمرحبًا بزمرة الزملاء الجدد الذين تحف بهم الملائكة قائلين سلام عليكم طِبتم فادخلوها خالدين، وهنيئًا للمجمع الجليل اختيار الدكتور محمد
عبد الرحمن الشرنوبي خلفًا لسلسلة أعلام الجغرافيا العظام، داعين الله له بالتوفيق والسداد فيما نُدِب له مع معاونيه من رفاق الدرب على طريق مواصلة الاجتهاد لتحقيق أهداف لجنة الجغرافيا التاريخية البشرية، الإقليمية العمرانية والسياسية ... التي نتطلع لها ونهفو لإصدار معجمها.
وشكر الله لكم كريم تزكيتكم، وحسن استقبالكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،(240/17)
ثالثًا: كلمة الأستاذ الدكتور عبد الحميد عبد المنعم مدكور
في حفل استقباله عضوًا بالمجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.
السيد الأستاذ الدكتور شوقى ضيف، رئيس مجمع اللغة العربية الموقر:
السيد الأستاذ الدكتور كمال بشر، أمين المجمع الموقر:
السادة الأساتذة الأجلاء أعضاء المجمع وشيوخه الكرام:
الحفل الكريم:
السلام عليكم جميعًا ورحمة الله وبركاته ..... وبعد
فإنه ليسعدني ويشرفني أن أقف بينكم الآن، بمناسبة هذا الاحتفال الكريم باستقبالي عضواً بهذا المجمع الجليل، الذي هو حصن اللغة العربية الحصين، وملاذها الأمين. وقد استحق ذلك لأنه ندب نفسه ـ منذ نشأته، وما يزال ـ للقيام بأقدس مهمة، وأنبل غاية، وهى حراسة اللغة العربية الشريفة، لغة القرآن الكريم، وهى لسان حضارتنا، ووعاء تراثنا، وعنوان أصالتنا، ومظهر عراقتنا، ومناط فخرنا، ومرآة حياتنا العقلية والفكرية والاجتماعية والنفسية، وإنه لشرف عظيمُ يفخر به كل من يكون جنديًّا من جنودها، فكيف بمن يكون فى موضوع القيادة والريادة فى الدفاع عن حماها، والذود عن حياضها؟ وهى الريادة المنوطة بكم، والقيادة المعقودة لكم، ولَلأنتم بها أرفع ذكرًا، وأنبل ـ عند الله وعند الناس ـ موقعاً، وإنكم لتنالون بذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ شرف الدنيا وكرامة الآخرة، بما بذلتم، وتبذلون من وقت وجهد، لأداء هذه المهمة الجليلة فى الحفاظ على العربية، وإثرائها والنهوض بها، وإمدادها بكل ما ييسر لها سبل البقاء والنماء والمغالبة فى عالمنا هذا، الذي تصطرع فيه الثقافات، والحضارات، ويسعى بعضها ـ بما أتيح له من عوامل القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية والتقنية ـ إلى الهيمنة على الفكر واللغة والثقافة، فى العالم كله، على نحو يهدد كثيرًا من اللغات.(241/1)
ويأتي ذلك مصاحبًا لتلك العولمة الكاسحة المتوحشة التي تريد أن تفرض على البشرية كلها حضارة مركزية واحدة ، غربية الطابع والقيم والثقافة، وفى ظل تقدم وسائل الاتصال، وأجهزة الإعلام ستذوب لغات وتضمحل لغات أخرى، ويقتضي ذلك جهدًا مضاعفًا لحراسة اللغة العربية والحفاظ عليها، من مثل هذا الغزو الخارجي، ثم مما تلاقيه هذه اللغة على أيدي بعض أبنائها من قلة ولاء، وضعف انتماء، وإهمال يصل إلى حد التفريط، واستعلاء عليها يدعو إلى العجب!!
وإنكم ـ أيها العلماء الأجلاء ـ لفي طليعة هذه الكتيبة المجتهدة المحتسبة، فى صبر وزهادة وبذل كريم.
فما أشرف الغاية، وما أكرم القائمين على النهوض بها، وإن هذا العمل لجدير بأن يكون فى ميزان الحسنات، عند كرام الناس، ويوم يقوم الناس لرب العالمين.
* وإن خير ما أبدأ به ـ بعد هذه التقدمة التي أتقدم لكم فيها بجزيل الشكر على فضلكم ـ أن أحمد الله ـ عز وجل ـ وهو الحقيق بالحمد والشكر فله الحمد والمنَّة وله الثناء الجميل المستطاب، على ما أفاض عليَّ من خير، وما أسبغ من نعمة ظاهرة وباطنة، لا يمكن الوفاء بحقها، وأداء شكرها، وإنني لأرجو أن يكون فى هذا الاعتراف بالعجز عن أداء حق الشكر ما يدفع عنى الوقوع فى التقصير تجاه ما ينبغي لله عز وجل من جميل الشكر وجزيل الحمد والثناء .
ثم أتقدم بخالص الشكر وعظيم الامتنان لهؤلاء الأساتذة الكرام الذين شرّفوني بتزكيتهم لي، وتقديم اسمي إلى إخوانهم المجمعيين.(241/2)
وأخص بالذكر والشكر أستاذتي العالم الجليل الأستاذ الدكتور كمال بشر، أمين المجمع، والعميد الأسبق لكليتي العريقة دار العلوم، وهذه مكرمة تضاف إلى مكارمه ومآثره، وهى كثيرة ترجع أوائلها إلى عهد الطَّلب بالكلية، فقد كان من مآثره وفضائله أن كان يكلفنا ـ ونحن طلاب فى مرحلة الدراسة الجامعية الأولى - بإجراء بحوث علمية فى المواد التي يقوم بتدريسها، ثم يأذن لنا بإلقائها على زملائنا فى المحاضرات لتكون موضع التوجيه والتصويب والتقويم، وأذكر أنني فى ذلك العهد البعيد (1965) قمت بإجراء بحث عن: الترادف فى القرآن الكريم، وقد قلت فى أوائل هذا البحث عن عرض الاتجاهات التي سادت بين العلماء حول هذه القضية: إن كثيرًا مما يُظَنُّ أنه ترادف يرجع إلى تعدد اللهجات، وإننا نفتقد كل هذه القضية وقضايا لغوية ونحوية أخرى مماثلة ـ إلى أن يكون لدينا معاجمُ تاريخية كتلك التي توجد فى اللغات الأجنبية، ثم أن يكون لدينا معاجمُ لهجية، وبذلك نجمع بين إطاري الزمان والمكان فيما نقوم به من درس لغوى، ولعلها كانت إشارة واعدة إلى رغبة مبكرة فى خدمة اللغة العربية والانتساب إلى من يقومون بخدمتها والدفاع عنها. ولعل هذه المعاجم التاريخية واللهجية ما تزال تمثل أمالاً تنتظر الإنجاز والتحقيق.
وكان من مآثره وفضائله ـ كذلك ـ أنه كان يقيم فى نهاية كل عام دراسي حفًلا تكريميًّا لأوائل الطلاب بالكلية، وقد أٌتيح لي أن أحضر هذه الاحتفالات فى بيته العامر، وكان ينالنا فيه من كرمه المادي والمعنوي ما يملأ نفوسنا بشرًا وتفاؤلاً وأملاً فى المستقبل.
ثم كان من تمام فضله أن قام بترشيحي وتزكيتي عندكم فبارك الله له وعليه وشكر له هذا التفضُّلَ الكريم.(241/3)
ثم أتوجه بالشكر ـ خالصًا وعميقًا ـ للأستاذ الدكتور محمود علي مكي، العلم الحجة، فى الدراسات الأندلسية، بجوانبها المختلفة: لغة وأدبًا وتاريخًا وفلسفة. وقد تفضل بالمشاركة فى تزكيتي وترشيحي: كرمَ نفس منه، وحسن ظن بي فجزاه الله عني خير الجزاء، وأسأل الله عز وجل ألا أخلف له ـ ولا لغيره ـ ظنًا، وأن يجعلني أهلاً لهذه الثقة الكريمة التي أوْلاني وأوليتموني إياها.
أما أخي الأكبر، أو شيخنا الأكبر كما يسميه إخوانه وزملاؤه فى دار العلوم، العالم الثقة، المجاهد المحتسب، الأستاذ الدكتور حسن محمود عبد اللطيف الشافعي، فإني لا أملك من الكلمات ما أوفيه حقه، وما شأني وإياه إلا كما قال القائل:
له أيادٍ عليَّ سابغة
أُعَدُّ منها ولا أعددها
ثم أتوجه بالشكر إلى الأستاذ الجليل الأستاذ الدكتور كمال دسوقي، الذي شرَّفني باستقباله لي، فقد وصفني بما لست له أهلاً، وقد أضفى عليَّ من لطفه وفضله ما لم يخطر لي على بال، وكان هذا دَأْبَهُ معي، منذ أن التحقت بهذا المجمع المبارك خبيرًا بلجنة الفلسفة التي شَرُفَتْ بإشرافه عليها، وقيادته لها، وقد أحسن استقبالي، وآنَسَ نفسي بما أذهب عنها الرهبة التي كانت تملؤها، وهى تخطو خُطُواتها الأولى فى رحاب هذا الموقع المهيب، وقد بذل من جهده ووقته فى لجنة الفلسفة وفى غيرها من اللجان التي كان له فضلُ الإشراف عليها ما لا يحتاج إلى مزيد بيان، وقد أبلَى في ذلك بلاءً حسنًا، أعانه عليه ما له من تجربة علمية تتسم بالعمق والأصالة والتمكن، ويكفي الإشارة هنا إلى المعجم الفذَّ الذي أعدَّه لمصطلحات علم النفس، متضمنًا أكثر من خمسة وعشرين ألف مصطلح، ويكفي أنه ينهض ـ الآن ـ في هذا المقام بتقديم أربعة من الأعضاء، فجزاه الله عني وعنهم خير الجزاء.(241/4)
أيها السادة العلماء الكرام: شاءت إرادة الله تعالى أن أُخْتار للمقعد الذي كان يشغله من قبلُ الأستاذ العالم الكبير الدكتور محمد رشاد الطوبي، وهو عَلَم شامخ من العلماء الذين تفخر بهم الأوطان، ويزدهي بهم العلم والعلماء، في مجال تخصصهم، ويعترف لهم بالفضل أساتذتهم وأقرانهم وتلاميذهم على حد سواء.
وبه وبأمثاله يكتسب البحث العلمي ثراء ورصانة وجِدَّة وتميزًا، بما يضعون له من قواعد، وما يصلون إليه من نتائج، وما يتركونه فيه من بصمات علمية، يخطو بها العلم خطوات واثقة إلى الأمام.
وقد شَغَلتْ حياةُ هذا العالم العظيم مُعْظم سنوات القرن العشرين وطَرَفاً يسيرًا من أوائل هذا القرن الحادي والعشرين(*) وكانت ولادته في العام التاسع من أوائل القرن العشرين (1909) وتمت هذه الولادة في طنطا التي كان قد انتقل إليها والده بسبب عمله، وبدأ حياته التعليمية بها. وقد افتتحها بحفظ ما تيسر له من القرآن الكريم، على عادة أهل مصر في ذلك الزمان. وظلَّ على ذُكْر له إلى نهايات عمره المديد، كما تقول كريمته الأستاذة نجوى الطوبي. ثم عاد مع أسرته إلى القاهرة، ودرس بها المرحلتين:
الابتدائية والثانوية، ثم التحق بكلية العلوم بجامعة القاهرة سنة 1928 وتخرَّج منها بمرتبة الشرف الأولى سنة 1932، وعُيِّن معيدًا بها عام تخرجه بقسم علم الحيوان، ونال منها درجة الماجستير سنة 1936. ثم سافر في بعثة إلى إنجلترا، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة لندن سنة 1940. ثم عاد إلى الكلية، وترقى في درجاتها العلمية، حتى نال درجة الأستاذية سنة 1952 أستاذًا لعلم التشريح المقارن للفقاريات، ثم اختير في العام نفسه وكيلاً للكلية، ومستشارًا لوزارة البحث العلمي.(241/5)
وقد أعير كذلك إلى جامعة طرابلس بليبيا سنة1968. واتسع نشاطه العلمي الزاخر لكتابة البحوث العلمية، والكتب الثقافية، والترجمة عن اللغة الإنجليزية، والمراجعة لبعض المترجمات التي قام بها بعض زملائه، كما كتب مقالات
كثيرةً جدًّا باللغة العربية في شتى جوانب المعرفة البيولوجية، ولا سيما في مجال تخصصه، ونشر كثيرًا منها في بعض المجلات العلمية كمجلة العلم، والمقتطف والهلال والمختار، ومجلة الدوحة بقطر، والعربي بالكويت والجيل في باريس.
وقد شارك في كثير من الجمعيات المختصة بعلم الحيوان، كما كانت له مُشَاَركات باللجان العلمية، ومنها:
- عضويته للمجمع العلمي المصري.
- عضويته للمجمع المصري للثقافة العلمية.
- عضويته لنقابة المهن العلمية.
- عضويته للجمعية المصرية لعلم الحيوان.
-عضويته للمجلس التنفيذي للثقافة العلمية.
-عضويته للجنة الكتب والموسوعات العلمية بأكاديمية البحث العلمي.
-عضويته للجنة القومية للعلوم البيولوجية .
- عضويته للجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة.
ثم تُوِّج هذا كله باختياره عضوًا بمجمع اللغة العربية.
وتقول كريمته الأستاذة نجوى الطوبي ـ في الاحتفال الذي أقيم بالمجمع لتأبين الراحل الكريم: إنه كان ـ على الرغم من دراسته العلمية البحتة – محبًا للغة العربية، لغة القرآن الكريم، وكان مهتمًّا بها وبقراءة الشعر والأدب، والاطلاع على كتابات الأقدمين والمحدثين من أدباء العرب. ويصفه الأستاذ الدكتور حامد عبد الفتاح جوهر في استقباله له:" إنَّهُ كان طالبًا مُبرزًا بين زملائه، وكان يمتاز بشغف للعلم، وحرص على تحصيله، كما عُرف بِلُغته السليمة وأسلوبه الرصين" .
* * *(241/6)
ولن نستطيع – في هذه العجالة – أن نقدمِّ صورة تليق بقدر هذا العَلَم الكبير؛ ولذلك سنختصر الحديث عنه اختصارًا ، نرجو ألا يوقع في تقصير – ويمكن القول بأن المحاور الأساسية التي حكمت علمه وفكره وبحوثه وحياته واهتماماته تندرج تحت خمسة محاور:
*المحور الأول ـ اهتمامه بقضية تعريب العلوم، وتعريب لغة البحث العلمي:
ويأتي الاهتمام بهذا المجال ثمرة من ثمرات العناية بهذه القضية الجوهرية التي شغلت أجياًلا من العلماء والباحثين على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين، منذ بَدَأ تأسيس معهد للطب في مصر 1827، وقد عُقدت لهذه القضية مؤتمرات، وندوات، وألقيت من أجلها بحوث ودراسات، وعقد لها المجمع إحدى دوْراته، (دورة عام 1992) ولكن الذي جَعَل هذه القضية حيَّة في ذهنه ما شهده من مواقف بشأنها في كليته التي تعلم فيها، وهي كلية العلوم بجامعة القاهرة التي أنشئت سنة 1925.
وقد استُدْعِي للتدريس بها عددٌ من الأساتذة البريطانيين، وأصبح التدريس فيها باللغة الإنجليزية، وارتضى ذلك بعض الأساتذة المصريين، ولكن أستاذه الدكتور محمد ولي لم يقبل هذا الوضع، وأصر على التدريس باللغة العربية، وقد قام فى الثلاثينيات من القرن العشرين بتدريس مادة الحيوان باللغة العربية لطلبة الدراسات الإعدادية في الطب والصيدلة وطب الأسنان، وهي تشتمل على مبادئ علوم التشريح والأجنة والوراثة والأنسجة والكيمياء الحيوية والطفيليات وغيرها.(241/7)
وقد سار الأستاذ الدكتور الطوبي على الدرب نفسه، وشارك في الدعوة إلى هذا المنهج، والترغيب فيه بفضل هؤلاء الأساتذة الأعلام كالدكتور محمد ولي، والدكتور عبد الحليم منتصر، والدكتور حامد عبد الفتاح جوهر، ولكلٍّ منهم جهوده القوية في هذا المجال، فقد كان هؤلاء يشعرون كما يقول الدكتور جوهر "بواجب قومي، هو تعريب العلم، فأنشأنا مجلة علمية، نِصْفَ سنوية باللغة العربية، أسميناها "رسالة العلم"......وكانت تلك المجلة من أوائل المحاولات الحديثة لتعريب العلوم " وقد انتُخب الدكتور الطوبي بسبب كفاءته في التحرير العربي– سكرتيرًا للتحرير في تلك المجلة (ص176،175) وقد أطلق هؤلاء صيحتهم المشهورة: العربية لغة العلم، التي جعلها أستاذه الدكتور محمد ولي عنوانًا للمحاضرة العامة التي ألقاها في المجْمع المصْري للثقافة العلمية سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وألف". ويقول الدكتور الطوبي عنها: "وفي رأيي أن تلك المحاضر كانت بدء المسيرة الجادة نحو تعريب العلم في مصر في العهد الحديث " (صـ 183، 184).
وقد بذل الدكتور الطوبي جهدًا حميدًا في الدعوة إلى التعريب وناقش ـ بِلُغةٍ علمية رصينة ـ المشكلات التي يثيرها الرافضون لهذه الفكرة، الواقفون في وجهها، ومن بينها ما يتعلق بوضع المصطلحات العلمية، وأشار إلى الجهود الكبرى التي قام بها المجمع في هذا الحقل الحيوي، وكشف عن أن التعريب لا يحتاج إلى مناقشات وحوار، بل إنه في حاجة إلى نية صادقة، وعزيمة لا تلين، ثم هو بحاجة – كذلك – إلى قرار واحد يصدره صاحب القرار، كي يصبح هذا الحلم حقيقة واقعة كما هو حاصل في سوريا التي جعلت العربية لغة العلم في جامعاتها منذ استقلالها عام 1945م.(241/8)
ولم ينتظر الأستاذ الدكتور الطوبي، وأمثاله من أجلاء العلماء – ومنهم الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع – صدور مثل هذا القرار بل بادر مع جماعة من هؤلاء العلماء بتقديم نموذج علمي رفيع للتأليف باللغة العربية في مجال علم الحيوان، وقد أصدروا كتاب "علم الحيوان العام" الذي كان يُدَرّس في كلية العلوم بجامعة القاهرة ومثيلتها بالرياض، وجعلوا من أهدافهم في كتابة هذا المرجع العلمي باللغة العربية ـ كما قالوا في تقديمهم للكتاب:"أن يكون ذلك مُعينًا للطلاب على استيعاب المادة العلمية، ثم أن يكون لبنة في البناء الشامخ الذي نهدف إلى إقامته، وهو بناء المكتبة العلمية العربية، للأخذ بأسباب النهضة القوية التي يتردد صدى ندائها في كل أرجاء الوطن العربي"(*).
وقد أشاد المؤلفون ـ في مقدمته ـ بجهود مجمع اللغة العربية وهيآت التدريس في وضع المصطلح، ثم دَعَوْا إلى تنسيق الجهود، حتى لا تتعدَّد المصطلحات في تراجمها وتعاريبها" وقد جاء الكتاب في ستمائة وخمسين صفحة كتب منها الأستاذ الدكتور الطوبي ما يقارب الثلث، وحفِل الكتاب بالمصطلحات وترجماتها، وفيه مواجهة مباشرة للمصطلحات، وجهد تطبيقي قاصد إلى حلها.
ويساءل المرء – في حسرة وأسى – ماذا لو أخذ بهذا المنهج كبار علمائنا في مجالات تخصصهم؟! وماذا كان سيحدث من الناحية الواقعية – لو(241/9)
تم الأخذ بهذا المنهج منذ ذلك الزمن المبكر؟! لا شك أن الحصيلة كانت ستكون عشرات من آلاف المصطلحات في كل مجال، مما كان سيؤدي إلى حل هذه المشكلة حلاًّ جذريًّا، ولكننا – للأسف – بارعون في إضاعة الوقت والفرص، على نحو يبعث على الأسى، وقد قامت محاولات سابقة في هذا المجال، ولكن هذه المحاولات لم تستمر لأسباب عديدة، بل تم الارتداد عنها، وهي تلقى مقاومة عنيدة من بعض ذوي الاختصاص، الذين لا يرتضون أن تكون اللغة العربية لغة تعليم وبحث علمي. وما تزال المشكلة – على الرغم من حرص المخلصين على اللغة والعروبة- قائمة على قدم وساق، بل إنها تزداد صعوبة وتعقيدًا، بسبب التقدم الهائل الذي يصل إليه العالم من حولنا.
هذا، مع ما ينبغي الإقرار به من أن التقدم لن يتحقق في أي مكان إلا بلُغَة أهله، ولن يكون بمستطاعنا أن
نتقدم أو أن نُحلِّق بأجنحة الآخرين، وإنما سنظل نهباً للتبعية والتردي والجمود. وأن مما يزيد الأسى أن بعض اللغات التي كانت في عِداد اللغات الميتة، قد تم إحياؤها، وأصبحت لغة تعليم وبحث علمي، على حين تحرم اللغة العربية، ذات التاريخ العريق من ذلك، وينبغي ألا ييأس المخلصون من الاستمساك بالأمل، ومواصلة العمل من أجل تحقيق هذا الأمل العزيز، في أن تكون اللغة العربية لغة علم وتعليم وبحث علمي كما كانت قديمًا في عهد الدولة العباسية، بعد إنجاز حركة الترجمة الكبرى، وكما كانت حديثًا في عهد الطهطاوي وتلاميذه، ثم على يد هؤلاء العلماء المخلصين من أمثال الدكتور محمد ولي والدكتور الطوبي وأمثالهما ممن يحملون الراية من بعدهم، ويسعون إلى تحقيق هذه الغاية نفسها.(241/10)
وقد قلت في ختام بحث طويل عن الترجمة، في سياق الحديث عن الضوابط التي ينبغي مراعاتها عند القيام بالترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية:" أن تكون الترجمة مقدمة لتعريب لغة العلم والبحث العلمي في البلاد العربية، بحيث تكون اللغة العربية هي لغة التدريس والبحث العلمي في الجامعات ومؤسسات البحوث والمؤتمرات العلمية في البلاد العربية، لأسباب عديدة، من أهمها: أننا لن نبني نهضة، ولن نؤسس حضارة، ولن يكون لنا أصالة وتميز إلا إذا فكَّرنا بلغتنا، وجعلناها وعاءً حيًّا لهذه الحضارة التي نرغب في بنائها وإقامتها" (*).
*المحور الثاني ـ ويتمثل المحور الثاني في تقريب الثقافة العلمية إلى جمهور القراء من غير المتخصصين، وتخليص اللغة العلمية –قدر الأفكار –
من الغموض والصعوبة والتعقيد وتؤدي الجهود – في هذا المجال – إلى بناء ثقافة علمية تقوم على إشاعة الفهم بمسائل العلم، وتكوين قاعدة علمية تكون منطلقًا لمزيد من البحث العلمي الذي يقوم به أهل الاختصاص من العلماء والباحثين.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف قام الأستاذ الدكتور الطوبي بكتابة عدد من المؤلفات في لغة علمية مبسَّطة يستطيع القارئ غير المتخصص متابعتها، واكتساب حصيلة علمية معقولة منها، كما أضاف إليها عددًا من المترجمات لتحقيق هذا الهدف نفسه، وقد دفعه إلى ذلك ما رآه من جهود مبذولة في هذا الشأن في أوربا، وهو يقول:" والمكتبة الغربية زاخرة بأمثال هذه الكتب المبسطة، أما مكتبتنا العربية فمازالت في أشد حالات الافتقار إلى هذا النوع من الكتب العلمية التي يستطيع القارئ العادي أن يستوعب ما بين دفَتيها في
سهولة ويسر .. وهذا الكتاب كتاب مبسط ميسر، يسد فراغًا كبيرًا في ثقافتنا الصحية(1) … ".
ويُثْني مراجع الكتاب الأستاذ الدكتور محمود محمد رمضان على الكتاب بقوله :" إن هذا الكتاب الذي يترجم إلى العربية يعد فتحًا جديدًا للمكتبة العربية (ص4،5 من المقدمة)".(241/11)
وهو يشترك مع الأستاذ الدكتور مصطفى عبد العزيز في كتابة كتاب عن الفيتامينات، والمؤلفان يشيران في المقدمة إلى أهمية موضوع الكتاب ، ولذا: " رأينا أن نلج هذا الموضوع الهام.. عسى أن نسُدَّ به فراغًا ملحوظًا في المكتبة العربية "(2).
ويقول في تقديمه – بوصفه مراجعًا – لترجمة كتاب :" شخصية الحيوان":" إن فائدة هذا الكتاب لا تقتصر على المتخصصين في علم الحيوان أو طلابه وهُوَاته، بل تمتد أيضًا إلى الباحثين عن الثقافة العامة،
ممن لم تتوافر لهم مثل هذه الدراسات" (1).
*المحور الثالث ـ استخدام المعرفة العلمية ونتائج البحث العلمي في إذ كاء وإيقاظ الشعور الديني، وتأكيد قضايا العقيدة، وإقامتها على أسس علمية موثقة، ويتحقق ذلك بالإشارة إلى ما في الكون من تدبير وتسخير ونظام وعناية، هي صفات تتجلى في كل ما خلق الله تعالى من نباتات وجمادات وحيوانات برية وبحرية، زاحفة، وما شية وطائرة، وهي تُعَدُّ بالآلاف بل بآلاف الآلاف من الأنواع والفصائل والسلالات .
ولا تقتصر هذه الحقائق على ما يُستخلص من هذه الموجودات، بل إنها تمتد إلى الإنسان نفسه، ولذلك يضع على عناوين بعض كتبه آيات قرآنية تدل على موضوعها، ويتجلى فيها
صُوَر من الإعجاز القرآني، ومن ذلك
ما كتبه تحت عنوان "وفي أنفسكم أفلا
تبصرون"، [الذاريات: 21]. وهو يعلل لهذا الاختيار بأن هذه الآية الكريمة التي اختيرت لتكون عنوانًا لهذا الكتاب تمتاز – بشكل واضح – ببساطة في التعبير، وتركيز في الكلمات، وعمق في المعنى، وهذا هو إعجاز القرآن". ثم يذكر أنه حاول جهده أن يقدم ما ينطوي عليه الجسم الإنساني من مظاهر الإبداع في صورة سهلة ميسرة، مبتعد ما استطاع عن التعقيدات العلمية التي لا يهتم بها إلا المتخصصون في هذه العلوم(2).
وينطبق ذلك على كتبه الأخرى التي كتبها لتحقيق هذه الغاية، ومنها:
- "وجعلنا من الماء كل شيء حي"
- "خلق الإنسان من علق"
- "وبث فيها من كل دآبة"(241/12)
- "فمنهم من يمشي على بطنه"
ويقول الدكتور الطوبي في مقدمة كتابه "وجعلنا من الماء كل شيء حي" [الأنبياء30] إن هذه الآية الكريمة تحتوى هي الأخرى على معانٍ لا تقل في دقتها وروعتها عن الآية السابقة(1) كما أنها حافلة بكل ما يبعث على الدهشة والإعجاز، وهي – أيضًا – قد تمت صياغتها في كلمات قلائل، وتعبيرات واضحة، تجعل من اليسير على كل إنسان أن يتفهم معناها، ويدرك القصد منها. وهذا هو إعجاز القرآن في كل آياته وكلماته" (2).
وقد جمع في هذا الكتاب معظم الآيات التي تحدثت عن الماء، وجعل من بعضها عناوين لبعض فصوله، مقررًا – بعد الدراسة والاستقصاء لما تتضمنه هذه الآيات من إشارات أن القرآن الكريم به ذكر لكل ما يتعلق بالماء .. (3).
ويسير الدكتور الطوبي على الدرب نفسه فيقدم في كتابه:" خَلَق الإنسان من علق" [العلق: 2] دراسة مكملة لما بدأ به كتابه الأول:" وفي أنفسكم أفلا تبصرون"، وقد خصصه لدراسة خلق الإنسان، على ضوء ما جاء في القرآن الكريم من آيات تتحدث عن هذا الخلق، وتشرح مراحله وأطواره، وتبرز ما تجلَّى في ذلك كله من دلائل العلم والحكمة والقدرة والإتقان، وكان مما وجَّه النظر إليه في كتابه تلك "التطورات الجنينية التي يتم حدوثها في الأرحام.. والتصويرات الدقيقة التي يقدمها لنا القرآن الكريم. وهو ما لم تتح معرفته علميًّا، إلا بعد نزول القرآن الكريم بأزمنة طويلة، حيث أظهرت البحوث العلمية الحديثة دقة الأوصاف، وكذلك التسلسل التطوري في تكوين الجنين في أطواره الأولى التي كان يغلفه الظلام" (4) وهو يجري على
هذا النسق في كتابه:" فمنهم من يمشي على بطنه(1) (النور:45).
وهكذا يتعانق العلم والدين وتتكاتف جهود العلماء وأهل الاختصاص في الدين على نشر التعاليم الدينية والروحية، وإعادة القيم الدينية، ومقاومة ما انتشر في المجتمع من مظاهر الانحلال والفساد"(2).(241/13)
ويلفت النظر في هذه الجهود أن الدكتور الطوبي لا يلجأ إلى ربط مفتعل أو متعسف لحقائق العلم بحقائق الدين، وإنما يسوق الحقائق العلمية التي تدل بذاتها على عظمة الخالق، وحكمته وشمول علمه وكمال عنايته، فتؤدي هذه الحقائق ذاتها إلى تأكيد اليقين بما يدعو إليه الدين من إيمان بالله تعالى وما يترتب على ذلك من طاعة وعبادة ورضا وتسليم.
*المحور الرابع ـ البحث العلمي الأصيل المتخصص، الذي تتجلى فيه
دقة العالم وصَبْره وكفاءته وإضافته إلى العلم، وما يؤدي إليه ذلك كله من كشف للمجهول وتطور للعلم ونفع للإنسانية.
وقد أنجز في هذا المجال أكثر من خمسين بحثًا علميًّا نشرت في مختلف الدوريات العلمية في إنجلترا وألمانيا وأمريكا.
وقد أشادت بها المراجع العلمية العالمية المتخصصة، ولقي بسببها من التكريم ما هو جدير به. ففي المؤتمر العالمي الأول لعلم الزواحف الذي عُقد في مدينة كانتربري 1989 كُرِّم الأستاذ الطوبي بين العشرة الأوائل في هذا العلم .
... ثم حاز الأستاذ الدكتور الطوبي جائزة الدولة التقديرية في العلوم الأساسية عام 1989 أيضًا، وأدرج ضمن الشخصيات المصرية البارزة التي تصدرها وزارة الإعلام (المرجع السابق 388، 389).
واختيرت بعض كتبه للتدريس ببعض الجامعات، وشارك في تقويم البحوث العلمية في لجان الترقية لدرجة الأستاذية.
*المحور الخامس ـ العمل في المجمع عند اختياره خبيرًا، ثم انتخابه عضوًا به عام 1989.
ويدلنا هذا التاريخ على أنه اختير عضوًا بالمجمع وسنه ثمانون عامًا وهي سِنٌّ تستوجب الراحة والهدوء بعد عناء السنين ومواصلة البحث منذ شبابه الباكر، بل إن هذه السِّنَّ قد تدعو إلى شيء من الملل والسآمة، على نحو ما قال الشاعر القديم:
سئمتُ تكاليف الحياة ومَنْ يعش
ثمانين حولاً – لا أبالك – يسأمِ(241/14)
ولكن عالمنا الجليل لا تأخذه سآمة ولا يثنى عزمه ضعف ولا وهن بل إنه واصل في المجمع ما كان قد بدأه عند اختياره خبيرًا. وقد عمل في ذلك سنوات طويلة في لجنة علوم الأحياء والزراعة، واشترك في صَكِّ آلاف
المصطلحات العربية، كما اشترك في لجنة إعداد المعجم البيولوجي الذي أصدر المجمع جزأه الأول سنة1984، وتلاه الجزء الثاني 1986(*).
وهكذا ظل هذا العالمُ الفذُّ، والعلم الشامخ يواصل العطاء، على امتداد حياته المباركة، التي آذنت بالانتهاء منذ أربعة عشر شهرًا في الرابع من مارس 2002م.
وأصحاب هذه الجهود العلمية المخلصة الأصيلة لا يطويهم الموت، بل إن ذكراهم الحية تظل قبسًا يضيء لمن بَعْدَهم الطريق، ويدفعهم إلى مواصلة الجهد والعطاء، الذي تتواصل به الأجيال وينمو به الخير، وتتقدم به البشرية وإنني لأدعو الله عز وجل أن يُعْظِمَ أجره، ويُجْزل عطاءه وجزاءه،وأن يرفعه إلى أعلى عليين، في رحابه الكريم.
أيها السادة العلماء الأجلاء:
إن هذه الأعمال العظام التي أشرت إلى بعض ملامحها العامة: تأليفًا
وترجمة ومراجعة، ومشاركة في أعمال المجمع ولجانه تجلِّي هذا العبء الثقيل الذي يثقل كاهل من يأتون من بعد هؤلاء الأعلام الكبار الجهابذة.(241/15)
وإذا كان – من تمام الحديث – أن أقول كليمات في نهاية هذا الحديث فإنها كليمات قصار، تحاذر أن تقع في مهواة الحديث عن النفس. وهو منزلق خطر، يوشك أن يكون فخرًا أو عُجْبًا، وكلاهما مما لا يليق بطلاب العلم الذين يسعون إلى التخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، وقد نهى الله تعالى عن تزكية النفس في مثل قوله الكريم" هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم، فلا تزكوا أنفسكم، هو أعلم بمن اتقى" (النجم: 32). فلنتجاوز ذلك إلى ما أرجو أن أكون قد تعلمته على يدي أساتذتي الذين تلمذت لهم منذ بداية عهد الطلب في كتَّاب شيخي الحافظ المتقن، الشيخ فرج عبد العاطي، إلى شيوخي وأساتذتي في معهد القاهرة الديني، إلى العلماء الأجلاء في كليتي العريقة العزيزة دار العلوم. ولقد كان لها وللأزهر الشريف أكبر الأثر في حياتي الدراسية والعلمية ففيهما تحددت الاتجاهات، وتشكلت الانتماءات، وتكونت بذور الأفكار، واللبنات الأولى لمعارفي، ومعارف زملائي وأقراني، ولا سيما في دار العلوم، التي هي بفضل الله تعالى، ثم بجهود علمائها وأعلامها– معقل منيع من معاقل اللغة العربية، وحِصْن حصين من حصون الإسلام وعلومه وثقافته. وهي تجمع – في دقة – بين الأصالة والمعاصرة، وتوازن – في حكمة – بين الجديد والقديم، وتسلك مسلك القصد والتوسط والاعتدال، وتطبع أبناءها الملتزمين برسالتها – بروح من التسامح وسعة الصدر، وانفساح الأفق والتقبل المحمود لتعدد المشارب، وتجاور الثقافات.(241/16)
وقد كان من المجمعيين الذين تلقيت العلم – مع زملائي – على أيديهم: الأساتذة الكبار: إبراهيم أنيس، وعلى النجدي ناصف، وعطية الصوالحي، وأحمد الحوفي، وبدوي طبانة، وكمال بشر، وأمين السيد، وعبد الرحمن السيد، وأحمد هيكل، إلى أمثالهم من الكبار من غير المجمعيين، ومنهم :الأستاذ الشاعر علي الجندي، ومحمد ضياء الدين الريس، ومحمد حلمي أحمد، وعبد الحميد الدواخلي، ومحمد سالم الجرح، ومحمد غنيمي هلال، وعلي الجندي، وعبد الحكيم حسان، ومحمود الربيعي، ومصطفى زيد، وغيرهم:
أولئك آبائي فجئني بمثهلم
إذا جمعتنا ـ يا جرير ـ المجامع
... وقد طلبنا العلم في قسم الفلسفة الإسلامية بالكلية على أيدي أساتذة كبار، يتقدمهم أستاذنا محمود قاسم، ويعاونه في التدريس والتعليم: علي النشار، ومحمود عبد الهادي أبو ريدة، ومحمد علي أبو ريان، ويحيى هويدي، ومحمد كمال جعفر، وأحمد عبد الحميد غراب ثم كان هناك اتصال، بعد المرحلة الجامعية الأولى، بالإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود، وشيخ المجمعيين إبراهيم مدكور، وأبي الوفا التفتازاني، وغيرهم من أعلام الفلسفة وكبار المشتغلين بها .(241/17)
... وينتمي هؤلاء إلى مدارس فكرية مختلفة، فمنهم من هو عقلي النزعة، فلسفي المشرب والتوجه، ومنهم من ينتمي إلى الفكر الكلامي بمدارسه المختلفة، ومنهم من يميل إلى فكر السلف، أو ينتسب إلى التصوف بما فيه من وجدان وإشراق. وما يقوم عليه من ذوق وإلهام. ولقد كنت وزملائي نستمع ـ في بعض الأحيان ـ إلى الرأي وضده، والفكرة ونقيضها، ونسمع من الأدلة والحجج ما يؤيد به ذوو الآراء آراءهم، على ما فيها من تعارض واختلاف، فوقر في قلوبنا أن الدليل ينبغي أن يكون هو الفيصل في الرفض أو القبول، وأن الفكرة التي تفتقد دليلها، تفتقد ـ في الوقت نفسه ـ مشروعية وجودها، وأن النظرة النقدية يجب أن تكون حكَماً عند الاختلاف ثم وقر في قلوبنا ـ كذلك ـ أن هذه الاجتهادات المختلفة إنما هي تجليات للعقلية العربية الإسلامية. وأنها ينبغي أن تناقش بما هو جدير بها من التجلَّة والاحترام، في غير إزراء بها، أو استخفاف بقائليها، أو تعصب لها أو ضدها، وأن أجْدَرَ المواقف بالاتباع هو موقف الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن الكلمة الحكمة هي ضالة المؤمن، أَنىَّ وجدها فهو أحق بها.(241/18)
... وكان مما استخلصناه من التعلُّم على هؤلاء الأعلام الكبار أن الفلسفة، ذات مجالات متعددة تحسب ما انتهى إليه الرأي عندهم، منذ دعوة الشيخ مصطفى عبد الرازق، شيخ الجامع الأزهر (1947)، وأن الانحصار الضيق في فرع بعينه من فروع هذه الفلسفة قد يحجب عن صاحبه جوانب كثيرة من التفسيرات والرؤى والحقائق، وأن التكامل بين هذه الفروع خير من العصبية لأحدها، على حساب الفروع الأخرى. وتقتضي هذه النظرة توسيع قاعدة المعرفة، والتنقل الطليق بين مجالاتها المختلفة للبحث فيها عن كل ما يبني العقل، ويثري العلم، ويجلو الحق، ويدعو إلى الخير والكمال والجمال، وهو نموذج يؤدي إلى وحدة المعرفة، وتكامل الأفكار، وإشاعة روح التسامح، وإغلاق الأبواب أمام التعصب الذميم، الذي يتنافى مع الروح العلمية بما فيها من رحابة واتساع.
... ثم إن هذا النموذج التكاملي يتسق مع ما يعرفه أهل الاختصاص في العلوم العربية الإسلامية من أن هذه العلوم ترجع ـ في أصلها ـ إلى تلك الدوحة المباركة التي نشأت في ثقافتنا حول الكتاب العزيز، والسنة النبوية المطهرة، ومن الخير ـ إذن ـ أن تتوطد بينها الروابط والوشائج والصِّلات. وفي هذا إحياء لما كان عليه القدماء من أعلام هذه الفلسفة، الذين جمعوا ـ إلى دراساتهم الفلسفية ـ ثمرات متنوعة من حقول المعرفة العربية الإسلامية.
أيها العلماء الأجلاء:
يبقى أن أشير أخيرًا، في إيجاز شديد، إلى بعض ما يخطر ببالي في هذه اللحظات، التي أخطو فيها خطواتي الأولى في هذا المجمع المهيب، وإني لأقول كلماتي، على استحياء، فأهلُ مكة أدرى بشعابها ،وأنتم أَخْبر بواقع الأمر فيما يتعلق بنشاط المجمع وأعماله، ولكم الخيرة فيما تروْن، وفيما تأخذون به منها، وما تتركون ومن ذلك:(241/19)
-العمل على إخراج المعجم التاريخي للغة العربية ولهجاتها، أسوة بما هو متبع في اللغات الأخرى، وقد كان هذا ـ وما يزال ـ أملاً ينتظر التحقيق، وسيكون لهذا المعجم ـ عند إنجازه ـ دور كبير في حل كثير من المشكلات اللغوية.
- العمل على إخراج معجم لأعلام الفكر العربي الإسلامي، يكون مرجعًا للدارسين والباحثين. وقد كانت هناك جهود سابقة لكتابة مثل هذا المعجم، ولكنها توقفت، وإنه لمن الخير المؤكد مواصلة السير في هذا المجال، وينبغي ألا تقتصر هذه المعاجم على الأعلام القدامى، بل ينبغي العناية بأجيال العلماء من المحدثين والمعاصرين، الذين يُعَنَّى الباحثون إذا أرادوا أن يعرفوا عنهم شيئًا ذا بال، وذلك لقلة المعلومات، وندرة المصادر، وقد يضطرون ـ في أحيان كثيرة ـ إلى الاعتماد على الاتصالات الشخصية، التي قد لا يصل الباحث من ورائها إلا إلى أقل القليل مما يريد.
- ما يزال تراثنا العربي الإسلامي يحتاج إلى مزيد من الجهود، لنشره وتحقيقه والتعريف به. ولن يتحقق ذلك ـ على الوجه الأكمل ـ إلا بتخريج جيل، بل أجيال جديدة، ممن يعرفون فن التحقيق، ويتمرسون به، ويحيطون بقواعده وأصوله: نظريًّا وعمليًّا، ويمكن النظر في إنشاء دبلوم لتحقيق التراث، يقوم المجمع بوضع مناهجه، وتحديد موادِّه العلمية، ويشرف على تنفيذه.
وهو أولى من يستطيع القيام بهذه المهمة الجليلة، ويمكن الاستعانة ـ في هذا المجال ـ بمن يهمهم أمر هذا التراث، ويُعَنِّيهم شأنه ومصيره.
- ويتصل بهذا الأمر أن يعمل المجمع على تشجيع العمل في حقل التحقيق، ولقد يساعد على ذلك ـ ضمن وسائل عديدة ـ أن يقوم المجمع بزيادة عدد الجوائز المخصصة للتحقيق، وزيادة قيمة هذه الجوائز، بحيث تكون حافزًا قويًّا لولوج مجال التحقيق، والصبر على أعبائه ولأوائه.(241/20)
- مواصلة السير ـ بجد وعناية وتصميم ـ في إصدار المعاجم العلمية، وينبغي عد م الاقتصار على تعريب المصطلحات وإخراج المعاجم المتخصصة، مع الإقرار بأهميتها، والاعتراف بقيمتها العالية، وتقدير الجهود المبذولة في إعدادها وإنجازها لكن هذا الجهد سيزداد كمالاً وفائدة إذا أضاف إلى ذلك كتابة مراجع أساسية في العلوم المختلفة، باللغة العربية، يُطَبَّق فيها ما توصَّل إليه المجمع من تعريب للمصطلحات، وتكون نموذجًا يمكن احتذاؤه من الباحثين والعلماء في الأقسام العلمية المختصة. ويمكن للمجمع أن يخصص جوائز لمن يقومون بهذه المهمة، تشجيعًا لهم على السير في هذا الطريق.
أن يضيف المجمع ـ إلى ما يقدمه من محاضرات، تُقَدَّم أثناء مؤتمراته السنوية ـ مواسم ثقافية ممتدة، تقدَّم فيها محاضرات منتظمة، تربط المجمع بالمجتمع و بالمثقفين، وتتيح لطلاب العلم والمعرفة أن يستزيدوا من العلم الكثير الذي لا يعرف الناس عنه إلا أقل القليل.
- ألا يقتصر العمل في لجان المجمع العلمية على الأعضاء والخبراء وحدهم، بل يضاف إليهم عدد من الباحثين المساعدين الذين يراعى فيهم أن يكونوا حاصلين على درجة الماجستير في التخصص الذي يعينون فيه، ثم أن يكونوا على دراية عالية باستخدام أجهزة التقنية الحديثة، ليكونوا أكثر عونًا للجان العلمية في تجهيز واستحضار المادة العلمية باستخدام هذه الأجهزة.
- أن ينشط المجمع في وضع منجزاته من المعاجم والمصطلحات والقرارات والبحوث العلمية، وما يصدره من مجلات وكتب، على أقراص ممغنطة، وأن يسعى إلى تعريف الناس بجهوده، وأن يقوم بتيسير الوصول إليها عن طريق الإهداء إلى الأقسام المتخصصة، أو عن طريق شبكة الاتصالات الدولية (الإنترنت) ليزداد الانتفاع بهذه الجهود العظيمة في داخل مصر وخارجها.
- أن يتم تجميع الاقتراحات والتوصيات التي صدرت من قبل، وأن يتم فحصها لمعرفة ما أنجز منها، وما لم ينجز، حتى لا تضيع الاقتراحات(241/21)
النافعة التي صدرت عن عقول مخلصة، حريصة على اللغة العربية، وعلى النهوض بها.
ثم أما بعد، فإني أشكر لكم، أيها السادة الأساتذة الموقرون ما قدَّمتموه لي من فضل، وما أتحتموه لي من فرصة، وأسأل الله عز وجل لكم مزيدًا من الصحة والعافية، والتوفيق والسداد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(241/22)
ثانيًا: كلمة الأستاذ الدكتور محمد سلطان أبو علي
في حفل استقباله عضوًا بالمجمع
الأستاذ الفاضل الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية:
الأساتذة الأجلاء أعضاء المجمع:
سيداتي سادتي:
... لقد عنيت باللغة العربية في مجال الاقتصاد منذ فترة ليست بالقصيرة، وحرصت على التحدث بالفصحى في مختلف المحافل كلما أمكن ذلك. كما شغلت بوضع المصطلحات الاقتصادية العربية المنضبطة للمصطلحات الإنجليزية المستحدثة. وهذا ليس فضلاً منى إذ إنه جهد قليل في الوفاء بما هو مفروض علينا من مسؤولية تجاه لغتنا العربية الثرية. ولم يراود مخيلتي، أو يدور بخلدي في يوم من الأيام أنني سوف أحظى بشرف الانتماء إلى هذا المجمع العريق ـ مجمع الخالدين ذلك أن الانتماء إلى هذا الصرح العتيد، قلعة الإعلام والمنارة الباسقة ومدرسة الأجيال شرف رفيع وتكريم كبير لمن يناله… وربما أكون قد فعلت شيئًا لا أدريه شفع لي في ذلك، حيث إن لكل مجتهد نصيبًا، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
... فلكم منى أيها العلماء الأفاضل جزيل الشكر وعميق الامتنان. وما لي لا أشكركم وقد توجتم عنقي بجميل لن أنساه ما حييت وذلك بتفضلكم بخلع هذا التكريم على شخصي الضعيف وإلباسي حلّة المجمعيين. ومهما قلت فلن أستطيع أن أوفيكم حقكم، وأدعو الله العلي الكبير أن يجزيكم عنى خير الجزاء.
... وإلى الأخ والصديق الأستاذ الدكتور أحمد سالم الصباغ الشكر والعرفان بفضله على ما أفاض فيه من إطراء لي في تقديمي لحضراتكم ومن صفات لا أدّعيها وأرجو الله أن أكون أهلاً لها.
سيداتي سادتي:(242/1)
شاء الله تعالى – وما شاء كان – أن أخلف علمًا بارزًا وأستاذًا جليلاً هو الأستاذ الراحل الدكتور سيد رمضان هدارة - طيب الله ثراه ورحمه رحمة واسعة - وأتمثل بعض كلماته التي ألقاها في حفل استقباله عضوًا عاملاً بالمجمع حين يقول: "أشفق على نفسي من العبء الذي يقتضيه هذا الشرف الذي أزهو به (في خلافته) إذ إن الخلف محمّل بأمانة ومسؤولية ضخمة أقل ما فيها أن يتخذ من سلفه قدوة وألا يكون أبطأ منه خطى، ولا أقل منه عطاء" أعانني الله على ذلك. وأضرع إلى الله العلي القدير أن يوفقني في الاقتراب ولو عن بعد من مستواه الرفيع وعطائه الفذ الفياض.
أستأذن حضراتكم – في حدود الوقت المتاح – أن أذكر في عجالة بعض مناقب سلفي الراحل. وأقرر حقيقة على استحياء وخجل وهي أنني لم أشرف بالمعرفة المباشرة لهذا العالم الجليل إلا أن ما استنه المجمع من سنن حميدة وتقاليد راقية تتعلق بذكر أعمال السلف وتذكر صفاته في حفل استقبال الأعضاء الجدد وفي تأبينه عند رحيله إلى الرفيق الأعلى، قد أحاطني خبرًا ببعض ما تحلى به من صفات وما أنجزه من أعمال.
فكما ذكر العالم الجليل الدكتور محمود مختار– طيب الله ثراه – أن المكانة العلمية للدكتور سيد رمضان هدارة تزهو منذ عام 1942م (اثنين وأربعين وتسعمئة وألف) حيث تخرج طالبًا متميزًا في كلية العلوم في الفيزيقا والرياضيات ثم تخصص في أحدث مجالات الفيزيقا وأهمها وهو مجال الأشعة الكونية.(242/2)
والإنتاج العلمي المتميز للدكتور هدارة أكبر من أن نحصره ونعده عدًّا في هذه السطور القليلة. ومن ثم يلزم الإيجاز والاختصار. ففي مجال تخصصه العلمي ألف الكثير من الكتب الدراسية كما ترجم العديد من الكتب المرجعية نذكر منها: الطبيعة النووية عام 1956م، وخواص المادة والصوت في ذات العام، وتجارب في الذريات عام 1961م، والكهرباء والمغناطيسية عام 1962م، والفيزيقا للجامعات عام 1964م. وفي مجالات الثقافة العلمية قام الدكتور هدارة بتأليف وترجمة العديد من الكتب ننتقي منها ما نشر بين عامي 1960و1972 وهي:
- آفاق العلم، رحلة إلى الفضاء، كوكب اسمه الأرض، هذا الهواء وهذا الماء، الذرات والطبيعة والإنسان.
- أما مؤلفاته من الكتب الثقافية في الأعوام 1972-1974 فمن بين ما تضمه:
- قصة الطيران، الضوء والألوان، الزمن، الطاقة الذرية، باقة من الأضواء.
وكما تعلمون حضراتكم فقد عمل الدكتور سيد رمضان هدارة خبيرًا علميًّا في مجمعنا لمدة تربو على عشرين عامًا إلى أن أصبح عضوًا عاملاً به. وخلال هذه الفترة الممتدة أسهم في إخراج عدد من المعجمات العلمية الفيزيقية بالمجمع منها:
- معجم الفيزيقا النووية والإلكترونيات وعدد مصطلحاته مئتان وألف.
- معجم الفيزيقا الحديثة (جزآن) خمسة آلاف مصطلح.
- معجم المصطلحات النووية للجنة الطاقة الأمريكية، ألف مصطلح.(242/3)
أما أعماله الإنشائية فهي عديدة أيضًا .. حيث أقام في مصر أول تلسكوب لرصد الأشعة الكونية وذلك لدراسة طبيعتها ومكوناتها وبخاصة ما تحويه من ميزونات. كما أنشأ المعهد القومي للقياس والمعايرة في عام 1965م (خمسة وستين وتسعمئة وألف). وقد عمل أمينًا عامًّا لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، ووكيلاً أول لوزارة البحث العلمي. وكان شعلة نشاط في هذه المواقع بحيث أطلق عليه صفة "دينامو الأكاديمية" لما قام به من تنشيط في إنشاء مدارس البحوث التطبيقية وإرساء سياسة البحث العلمي على أسس ثابتة ومستقرة من أجل خدمة الاقتصاد القومي، وكذلك وضع السياسة العلمية للبحوث المتقدمة.
سيداتي سادتي:
وعلى صعيد آخر، فإن إسهامه في مجال اللغة العربية العلمية وإنجازاته الخارقة فيها قد تميزت بإثرائه لها بإنتاج وافر متميز في مجال حضاري هام يضعها في مصاف اللغات المتقدمة في العلوم والتقنيات الحديثة. وكان شغفه وحبه للغة العربية لا تحده حدود وكانت ثقته في قدرتها على مواكبة التقدم لا يأتيها الشك من أي اتجاه، إذ يقول: "إن اللغة العربية هي الأمة العربية… التي ظلت على مدى العصور لغة الدين والأدب والإنسانية والاجتماع… صالحة صلاح الإسلام نفسه في جميع جوانبه لحياة البشر… وإن كانت قد تأخرت بعض الوقت عن الركب الحضاري تحت ضغط الهجمات الاستعمارية الشرسة فإنها ما زالت تحتفظ في داخلها بعنصر الأصالة الكامنة فيها".(242/4)
ولم يكن قوله هذا نابعًا من عاطفة جياشة فقط بل مؤسسًا على حقيقة علمية وردت بين كلماته المأثورة عن تعريب التعليم بالكليات الجامعية العلمية حيث يقول:"إن تلقي العلم بلسان أجنبي كارثة بعيدة المدى لإعاقة التقدم الحضاري، ودعوة مرذولة لنشر التبعية والانتماء الفكري وجريمة في حق اللغة العربية". وكذلك كان له أسلوبه المتميز في كيفية اختيار ووضع المصطلح العلمي العربي، إذ يرى ضرورة أن يكون "أسلوبها وحيد الدلالة لا يقبل الإيحاء أو الغموض أو اللعب بالألفاظ تحت أي مسمى".
وإذا كنت قد تحدثت عن الجوانب العلمية والثقافية في حياة الأستاذ الدكتور هدارة فيجب ألاّ أنسى ذكر سماته الشخصية. ويكفي أن أقتبس هنا ما ذكرته قرينته الفاضلة في حفل تأبينه. فقد قالت: "عرفناه نحن رب أسرة، زوجًا وأبًا وأخًا معطاء حنونًا متفائلاً دومًا، لا يعرف إلا الصدق والوضوح … ولم يكن ليبخل أبدًا على أحد بأي عون مهما كانت طبيعة هذا العون. فقد كانت سعادته في إسعاد الآخرين وتيسير حياتهم إن استطاع".
سيداتي سادتي:
إن اللغة – كما يقال – هي وعاء الثقافة الأكبر. ولست في حاجة أن أذكر أمام حضراتكم أنها أيضًا من مقومات ومتطلبات تقدم الشعوب ورقيها. ويشكو بعض الاقتصاديين العرب – في زعمهم – من قصور اللغة العربية عن مواكبة التحديث والتطوير في الاقتصاد. وهذا زعم خاطئ يرجع أساسًا إلى أمرين اثنين:
أولهما: الابتعاد عن لغتنا العربية وعن قراءة أمهات الكتب التي وضعها العلماء العرب الأوائل في مجال الاقتصاد كالماوردي، وأبي يوسف، والكسائي، وابن خلدون، وابن عابدين وغيرهم.
وثانيهما: أن المصطلحات والمفاهيم الخاصة بالاقتصاد ترتبط بالبيئة التي تمت بها. وقد حدث التطور والتقدم في علم الاقتصاد في غير البلاد العربية وبلغات أجنبية، وكلما تأخرنا عن مواكبة ركب التقدم تباعدت الشقة بين لغة الاقتصاد الحديث والمصطلحات العربية المناظرة.(242/5)
وفي هذا المناخ تبرز الحكمة العميقة لاهتمام المجمع باللغة العربية العلمية بصفة عامة وتزداد أهمية هذه الحكمة في مجال الاقتصاد بالنظر إلى أن اللغة العربية تحمل بين طياتها القيم والثقافة العربية التي نحن في أشد الحاجة إليها اليوم. ومن أهمها ضرورة الالتزام بالتكافل الاجتماعي وعدالة توزيع الثروات والدخول بين الأمم والأفراد ضمن قيم أخرى. وعالم الاقتصاد اليوم يئن تحت وطأة تزايد التفاوت في توزيع الدخول وازدياد الأثرياء ثراء وزيادة الفقراء فقرًا في ظل العولمة المتوحشة التي تسود العالم حاليًّا.
ويخسر العالم كثيرًا ونخسر نحن معه أيضًا بما نعيش فيه من تخلف اقتصادي وتقني حيث إن العالم لا يعترف إلا بالقوة والنجاح. ومن ثم تتوارى القيم العربية الاقتصادية السديدة والنافعة للبشرية جميعًا وراء ما نعانيه من تخلف وتدني مستويات المعيشة في معظم بلاد العالم العربي والإسلامي. وانطلاقًا من اهتمام المجمع باللغة العربية العلمية ومن بينها الاقتصاد يصبح وضع معجم للمصطلحات الاقتصادية الحديثة ضرورة ملحة وخطوة أولى لتقدم الأمة. تزيد من إسهام المجمع في خدمة اللغة العربية ومجتمعاتنا النامية، وأسأل الله أن يوفقني في الإسهام في تحقيق هذه الغاية.
العلماء الأفاضل: سيداتي سادتي:
لقد حملتمونني مسؤولية تنوء بها الجبال بتشريفي بالانضمام إلى
مجمع الخالدين وأرجو الله مخلصًا أن يوفقني إلى خدمة اللغة العربية الخالدة لغة القرآن الكريم، وأن أكون عند حسن ظنكم، وأن أنهل من فيض علمكم وأسترشد بحكمتكم وأقتدي بكم.
وفي الختام أسأل الله العظيم لكم جميعًا أيها العلماء الأفاضل – رئيس وأعضاء المجمع – أن يمتعكم بموفور الصحة والعمر المديد والتوفيق في مزيد من خدمة لغتنا العربية الخالدة إن شاء الله .
والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.(242/6)
ثانيًا: كلمة الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم الفيومي
في حفل استقباله عضوًا بالمجمع
الأستاذ الدكتور شيخ اللغويين شوقي ضيف:
الأساتذة أعضاء المجمع الموقر:
سادتي:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
... فإن من أطيب الطيبات وأزكى النفحات، أن أقدم بين أيديكم أطباق التحية عامرة بالحب والود، لصفوة كرام بررة، أفسحوا لي مكانًا بينهم، كم استهواني الطموح إليه، وهزتني الأماني إلى السعي إليه، ركضًا، وكنت كلما سعيت إليه ألفيته عزيزًا نواله، بعيدًا مناله: وقالت لي النفس: هيهات هيهات كيف السبيل إلى تلك الشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
... ثم حدثتني نفسي أن لا سبيل إليه، وحسبك أن تلزم باب الطموح فقط، وحسبك أن تعود من الغنيمة بالإياب.
... فهو دار أهل الصفوة الأخيار الذين رابطوا في ديار الحكمة، سدنة لغة القرآن الكريم وبيانه، ثم شاءت إرادة الله، ولله مشيئات وإرادات يسبغها على من يشاء من عباده "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها" أن تحدث من الأمر ما لا يقع في الخاطر ولا يخايل الخيال فتحققت الأمنية، التي كادت أن تخبو ثم أشرقت بارقة من أمل على يدي شيوخي الأجلاء، فشدوا من أزري، و أفسحوا لي مقعد صدق بينهم حتى انتظمت في عقدهم النظيم، وهم الأعلون. ... على ضعف حيلتي، وقلة بضاعتي، وفقر زادي ثم استغرقتني مشاعر الخوف من عظم المسؤولية وجسامة الأمانة.
... فنديت عيناي – فكفكفت من دمعها قائلاً: هؤلاء هم القوم لا يشقى بهم جليسهم. هؤلاء هم قومي الذين عمرت بهم الجامعات، في مصر والعالم العربي والإسلامي، وارتفعت بالحق والعلم أصواتهم على منابر البلاغة ومنصات القضاء، على مستوييه الجالس والواقف، وعمرت بهم المعاهد والمدارس، وصدرت عنهم الفتاوى والتشريع، واستقرت بهم مقاعد النيابة في البرلمان وحرروا بأقلامهم آلاف الصفحات التي سجلت للتاريخ علمهم وآدابهم في جميع فروع المعرفة.(243/1)
... هؤلاء هم سدنة اللغة وحماتها، والذين أخرجوا أحدث معاجمها. هؤلاء هم حراس التراث، وطلائع المستقبل، هم علماء اللغات قديمها وحديثها، والواصلون لأصول العربي بقديم تلك اللغات، والناقلون إليها أحدث ما في الفكر الإنساني، مصطلحًا وتعبيرًا. حسبي شرفًا أن أكون واحدًا منهم.
... أما أخي الفاضل الأستاذ الجليل الدكتور كمال دسوقي، فله أجمل الشكر وأوفاه على كلماته الطيبات التي قدمني بها إليكم ووصفني فيها لكم بما لا أستحقه من تلك الأوصاف الفاضلة.
إنما هي المجاملة وحسن الظن وكرم الضيافة، وحق على الكريم أن يُكْرِم ضيفه. فشكرًا لك أخي الكريم.
... أما أستاذي الجليل الدكتور أحمد عز الدين عبد الله – رحمه الله تعالى رحمة واسعة - الذي وصلني بسلسلة السند الموصول المتصل بإجلاسي على كرسيه. بمجمع اللغة العربية فقد قال عنه الأستاذ الدكتور مهدي علام وهو يقدم لكتابه: "المجمعيون في خمسين عاما" (وفي ميدان الفقه القانوني. من عراقة عبد العزيز فهمي إلى اجتهادات عز الدين عبد الله) فهو من أصحاب الاجتهاد والتجديد لما تميز به من ثقافة واسعة جمعت بين الثقافتين الغربية والعربية، وهكذا أتيح له رحمه الله من المصادر والمراجع، وأسباب الثقافة ما لم يتيسر لقرنائه. هيأته ثقافته الواسعة أن يشغل بجدارة فائقة كرسي الحقوق في الجامعة(*).(243/2)
ولقد أفاء الله عليه من نعمه ظاهرة وباطنة، فقد رزقة حافظة قوية ذكاء طيبًا استطاع به أن يجنح إلى التخصص في كتاباته ودراسته، فهو يفرغ إلى فرع من فروع الفن فيجمع مادته ويدرسها دراسة متأنية. ثم يقدمها في ثوب قشيب فلا تتنقل إلا إلى زهرة فواحة أو روض أريج. وقد رزق عز الدين رحمه الله من القبول والنجاح ما مكَّن له في قلوب معاصريه، ثم في قلوب من أتوا بعدهم من رجال القانون وفقهائه فلم يستطع أحد منهم أن ينكر عليه فضله، ولم تبدر منه بادرة تتخون محاسن أعماله. وحين أخذت في قراءة تاريخه ارتسمت في مخيلتي ملامح شخصيته، ولما أخذ قلمي يخطها وجدته هو قد رسمها وهو يؤبن الأستاذ الدكتور عبد الحكيم الرفاعي – رفيق دربه فاسمحوا لي أن أستعيرها منه كما خطها يراعه وهي لا تخرج عن قوله تعالى: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد". يقول: من الرجال من يسبق جيله فيكون رائدًا في المجتمع الذي يعيش فيه.
ومن الرجال من لا يلهيه عرض الحياة الدنيا، فيملأ نفسه بما ينفع المجتمع الذي يعيش فيه من علم أو أدب أو فن.
ومن الرجال من يكون مكتمل الشخصية فلا يبهره بريق منصب أو جاه.
ومن الرجال من يفهم حقيقة الحياة، ويفهم قدر الإنسان فيها، فيكون التواضع طبعه.
ومن الرجال من لا تهزمهم أحداث الحياة فيكون بين قومه جلدًا.
ومن الرجال من يتجرد من الأنانية فيكون بين قومه عزيزًا.
وهكذا كان فقيدنا العزيز العالم الأستاذ الدكتور أحمد عز الدين عبد الله. فمن هو؟
من هو أحمد عز الدين عبد الله؟(243/3)
1- ولد الأستاذ الدكتور أحمد عز الدين عبد الله بقرية الريرقون التابعة لمركز ملوي بمحافظة المنيا في سنة 1913م، والتحق بكتاب هذه القرية وهو في السادسة من عمره حيث تعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب، وحفظ بعض الأجزاء من القرآن الكريم ثم انتقل إلى القاهرة وتلقى في مدارسها التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي الذي كان خاتمته شهادة (البكالوريا) التي حصل عليها في سنة 1929م.
وشاء أن يتخذ الجامعة مكانًا يتزود فيه بالعلم، فالتحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة وتخرج منها حاملاً شهادة الليسانس في الحقوق سنة 1933م قبل أن يكتمل العشرين من عمره، ثم تابع الدراسة العليا بها حتى حصل على درجة الدكتوراه في الحقوق سنة 1942م.(243/4)
2- ثم عين في هذا العام مدرسًا بكلية الحقوق بجامعة القاهرة. وشاءت مقتضيات العمل وهو يرتقي صعدًا درجات العضوية لهيئة التدريس حتى شغل كرسي الأستاذية، أن يكتب في القانون المدني وأن يدرس قانون المرافعات ويؤلف فيه، وأن يستقر في النهاية على التخصص في القانون الدولي الخاص، أستاذًا مساعدًا فأستاذ كرسي هذه المادة منذ سنة 1952م. وقد اقتضى هذا التخصص في فرع من فروع القانون عسير، ألا يكتفي الباحث فيه بالدراسة المتعمقة المقارنة في مختلف موضوعاته، بل يتعين عليه أن يسير فكره بأصول من مختلف فروع القانون الخاص وكذلك القانون الدولي العام، وأن يوازن بين مختلف النزعات، من وطنية ودولية، تتجاذب الباحث في هذا الفرع من فروع القانون. وقد توافر للأستاذ الدكتور أحمد عز الدين عبد الله من كل ذلك الزاد الكثير، مما أتاح له أن ينشر من المؤلفات والبحوث في القانون الدولي الخاص ما جاوز الخمسين، أكثرها باللغة العربية وبعضها باللغة الفرنسية، وذلك في اتصال كان من شأنه أن كاد ألا يمر عام من عمره دون أن يعيد طباعة مؤلف له يتابع فيه تطور التشريع والفقه والقضاء، أو أن ينشر بحثًا جديدًا يختار موضوعًا له ما استجد من موضوعات في ميدان العلاقات الدولية الخاصة.
وعندما اختير عميدًا لكلية الحقوق بجامعة عين شمس، وشغل العمادة مدة 10 سنوات متتاليات (من أول أكتوبر سنة 1956م إلى أكتوبر 1966)، لم تحل أعباؤها دون متابعة التأليف والنشر. وصار إنتاجية العلمي مَعينًا امتد تدفقه إلى الكثير من البلاد العربية، وأصبح عمدة فيها يعول عليه الباحثون في مختلف موضوعات القانون الدولي الخاص. رحم الله العالم العامل الفقيه المجتهد رحمة واسعة وأسبغ عليه رضوانه وأورث خلفه القدرة على تحمل المسؤولية. والله من وراء القصد.
والآن: ماذا أعددت لهذا الأمر العظيم الذي حملته منذ الساعة؟(243/5)
... لقد أعددت له كل ما وضعته على كاهلي الأعوام الخالية من خبرات وتجارب في ميدان الفكر والثقافة وما تلقيته من أساتذتي وشيوخي ...
وما زلنا وقوفًا أمام مدخل الفلسفة القائل: حددوا معنى ألفاظكم.. وتلك قضية اللغة العربية الغنية فما زال بعض أهل العربية يقولون: إن اللغة العربية غير محددة المعاني.. ومن هنا سلك القدماء سبيلاً واحدة في التقديم لأي قضية بتعريف المصطلح: لغة واصطلاحًا ولو جربنا على هذا العرف العلمي لبطل القول المزعوم بأن العربية لا تقوى على حسم القضية الفكرية.
... وأذكر مثالاً: هناك تمايز فكري بين الفكر الإسلامي: نشأة وتاريخًا وقضايا ومنهجًا. وبين الفلسفة نشأة وتاريخًا وقضايا ومنهجًا.. ورغم ذلك فهناك من يصرف قلمه وفكره على دمجها.. ولا يلتفت في أن منهج الدمج بينهما يقضي على الأصالة الفكرية للعقل العربي والتراث الإسلامي.
... يقول ابن جني في خطبة كتاب المحتسب: لعل الخطرة الواحدة تخرق بفكري أقصى الحجب المتراخية عني في الشتات من أمري ولقد جرى ابن جني في كتاب الخصائص على التمييز بين الألفاظ واستعمالاتها فيقول(*) هذا باب القول على الفصل بين الكلام والقول..
(ومن أول الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماع الناس على أن يقولوا: القرآن كلام الله. ولا يقال: القرآن قول الله .. إلخ.
وذلك هو أدخل في باب الفلسفة والفكر الإسلامي والمنطق العربي.
يقول رؤبة:
يا رب إن أخطأت أو نسيت
فأنتَ لا تَنْسَى ولا تموتُ
قال تعالى: "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا. ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين"..
مع شكري وتقديري لكم جميعًا.(243/6)
ثانيًا: كلمة الأستاذ الدكتور محمد الجوادي
في حفل استقباله عضوًا بالمجمع
... أحمد الله الحي القيوم الذي لا إله إلا هو، وأصلي وأسلم على نبيه الكريم، وأسأله سبحانه وتعالى أن يفتح لي أبواب رحمته، وأن يوفقني إلى صادق القول وصالح العمل، وأن يديم علي الانتظام في هذا المحراب، لا يمنعني عنه إلا مرض ظاهر، أو عذر قاهر. وأبدأ بأن أشكر أستاذي الجليل الدكتور كمال دسوقي وما أظنني بقادر، فليس لي لسانه الفتىّ، ولا بيانه القوي، ولا حديثه الطليّ، ولا صوته الشجيّ، ولا إلقاؤه العفيّ، وقد أثنى عليّ بما هو أهله لا بما أنا أهل له، وقد بالغ بكرمه في تصوير شبابي وقدراتي مع أني أدرك مدى عجزي وضعفي، ولعل أبا العلاء قد سبقني إلى ما أريد حين قال:
وما بعد مر الخمسَ عشرة من صبا
ولا بعد مرِّ الأربعين صباء
... ولا أنكر أني جفلت من الترشيح، وانتشيت بالترجيح، ثم اكتنفني الوجل الآن .. نعم، فهذا هو المكان الوحيد الذي يشعر الإنسان أنه أقل من أن يكون عضوًا فيه، والحق أن رهبتي لم تزل تتضاعف حتى تذكرت أن كلاًّ من حضراتكم قد وقف موقفي هذا من قبل، وأنه عانى ما أعاني، ولهذا فإني أناشدكم الغفران بحق سالف التجربة.
... أعترف أني لم أنته من إعداد كلمتي هذه إلا منذ ساعة واحدة، وقد اختصرت ثلاثة أرباعها حين تنبهت إلى ما كان ينبغي على أن أنتبه له من قبل، وهو أني اليوم واحد من أربعة، بل واحد من عشرة.
... ولست بقادر على أن أجد ما يعبر عن امتناني أن تصاعدتم بي إلى هذا الشرف، والحق أن انتخابكم لي لم يكن أولى درجات هذا التصاعد، فعلى ثلاثين من حضراتكم ومن أسلافكم تلقيت العلم بطريقة مباشرة، وغير مباشرة، على مدى ثلاثين عامًا، ولا أظن أحدًا صُنع على أعين المجمعيين كما صنعت، ولا نال من تشريفهم وتوجيههم ما نلت، وقد كنت – على سبيل المثال – من المشغوفين بمجلة المجمع منذ ثلث قرن، ولا زلت آنس بأعدادها حين أستوحش من دنياي.(244/1)
... بفضلكم آن لي أن أبدأ حياتي اليوم طالبًا منتظمًا في هذا المجمع بعدما قضيت حياتي الماضية طالبًا منتسبًا أقتنص لحظات الصلة المباشرة بأساتذتي الذين هم أنتم، وقد غمرتموني بذلاً وحنوًّا وعطاءً ورفقًا وتعبيرًا وتوجيهًا وصقلاً وتهذيبًا وتشذيبًا وترتيبًا وتنضيدًا وترويضًا وتنويرًا وتبصيرًا وتصويبًا وكأنكم كنتم تعدونني لهذه اللحظات وأظنكم قد جدتم عليّ بثقتكم كيما تعجلوا بغبطتكم بمن صنعتموه على أعينكم، وكيما تستأنفوا جهدكم في هذا الصنيع عن قرب.
... وأرجو أن تأذنوا لي بتقديم بعض لمحات من الشكر الضئيل لمن دفعوا بي إلى هذا المرتقى بدءًا بالعالمين الجليلين اللذَيْن جادا عليّ بالتزكيةً وهما أستاذي الدكتور أحمد هيكل الذي اجتمعت له سجايا التألق والتأنق والتفوق والتدفق والتوهج والتأجج، في النثر والشعر والنقد والدرس والعمادة والوزارة والدبلوماسية والبرلمان.
... وأستاذي الدكتور أحمد علم الدين الجندي.. الذي أنعم الله عليه بالجمع بين أدب الدنيا وأدب الدين، ونحو العقول ونحو القلوب، كما اختصه بقدرة فائقة على ثلاثة مناشط مجمعية: تقضي تأثر النحو بعلم أصول الفقه، ودرس اللهجات، وتعمق مظاهر الصراع بين القراء والنحاة، وقد تمكن بدراساته للقراءات الشاذة من إخصاب التفكير اللغوي صوتيًّا وصرفيًّا ونحويًّا ودلاليًّا وأسلوبيًّا.
... ويدل علي بمثل فضل هذين العالمين أستاذي الحبيب الدكتور الطاهر مكي.. الذي حرر ترشيحي من أسر الرؤية الضيقة، كما حرره بعباراته الضافية. ولا غرو فهو أستاذ الأدب العربي في جميع عصوره.. هو الناقد الناثر المحقق المؤرخ. وهو الأمير المجير والسفير القدير والسمير الأثير. وهو الرائد السباق الذي لم يترك كتابًا فريدًا بديعًا في الأدب الأندلسي إلا ترجمه وحققه وقدمه.(244/2)
... أشكر أستاذي الرئيس الدكتور شوقي ضيف، وأنا بعض منه، هو المجمعي الوحيد الذي جمع الأمانة والنيابة والرياسة، هو عميد الدراسات الأدبية، أستاذ الأساتذة وشيخ الجهابذة، صاحب النشاط المتئد، والفكر المجتهد، والذهن المتقد، جمع الأقدار القصوى من الرزانة والوقار والدقة والأناة والدماثة.
... أشكر شيخنا أستاذي الدكتور محمد نايل وهو صاحب الفضل والفضيلة، ذو النفس الأبية والأخلاق الرضية والروح الشابة والهمة الوثابة والهامة الوضاءة. الذي طور تاريخ البلاغة العربية على نحو غير مسبوق، قارن بين عهدها الفطري وعهدها الفلسفي، وخالف السكاكي فقال: إن البلاغة فن واحد لا ثلاثة، وقدم تفسيرًا جديدًا لمذهب الصرفة الذي نسب إلى النظام، معولاً في هذا على نصوص الجاحظ.
... أشكر أستاذي الدكتور محمود حافظ، وأنا منه أيضًا، العلم الخفاق الذي لا نعرف مثله مَنْ وهب حياته كلها مضاعفة ومكثفة ومركزة زمانًا ومكانًا للمدرسة العلمية الوطنية في مجال تخصصه، ضاربًا أرفع مثل للصوفية النادرة، وقد وهبه الله نفسًا راضية سامية، وعقلية ناقدة رائدة.
... أشكر أستاذي الدكتور عبد الحافظ حلمي، هو العابد الماجد الناسك الزاهد الذي يترفع عن الدنيا والدنايا من دون أن يجاهر بهذا الترفع، وكأنه يترفع حتى على الترفع نفسه. وسعت شخصيته العلوم والآداب والمعارف والفضل والنبل والخلق والسمو والرفعة والتجويد والإتقان والإبداع والتهذيب والإخلاص والتفاني والدقة والرقة والعطف والحنو. اجتمعت له مزايا رفيعة لا يقل حظه من كل منها عن حظه من الأخرى فهو الحصيف الشريف العفيف الأليف اللطيف الظريف.
... أشكر أستاذي الدكتور عبد الرازق عبد الفتاح بعقله الذكي، ومنطقه القوي، وفكره الصفي، وفؤاده الرضي، وعطفه الخفي، هو في فنه الرئيس النبيه النزيه، والعالم الحازم الصارم.(244/3)
... أشكر أستاذي الدكتور محمد يوسف حسن هو الشاعر الأديب اللبيب الأريب، الجد الحنون والأب الفاضل، والابن البار، أحد أصحاب الفضل على هذا الوطن في الكشف عن فحم المغارة، وعميد الجيولوجيين الكتاب.
... أشكر أستاذي الدكتور أحمد مدحت إسلام شيخ الكيميائيين، هو الكاتب المطبوع، والموسيقار الموهوب، الأمين المبين الرصين الرزين، خطه سلاسل الذهب، وخطاه سير الصالحين، عزفه أنغام الجنة، وعزوفه ترفع الواصلين.
... أشكر أستاذي الدكتور أحمد مستجير صاحب القريحة الوثابة، والبديهة الحاضرة، والرؤية الثاقبة، والإنجازات الزاهرة، والعلم الجارف، والظل الوارف.
... أشكر أستاذي الدكتور أمين علي السيد، هو المتبتل المتفضل، مقال الإيمان الفاعل، والأدب الفاضل، والخلق الكامل.
... أشكر أستاذي الجليل مصطفى حجازي الذي أستحضر فيه صورة والدي الحبيب، عليه رحمة الله، هو الأستاذ الذي جمع الرواية، والدراية، والعلم، والحكمة، والموهبة، والقدرة، والفهم، والفطنة، والحماسة، والكياسة، والصفاء، والنقاء.
... أشكر أستاذي الدكتور محمود علي مكي بموسوعته، ولوذعيته، وألمعيته، وذاكرته، وحافظته، وفهمه، ودأبه، وهو في مجمعنا هذا بحر العلوم والفنون، ومهوى الأفئدة والظنون.
... أشكر أستاذي فاروق شوشة وقد اجتمع له الوجه المشرق، واللفظ المبرق، والسمت الحسن، والصمت البليغ، والصوت الجميل، والصيت الأجمل.
... أشكر أستاذي الدكتور أحمد سالم الصباغ المهذب المرتب، نموذج الارتقاء، ومنتهى الارتجاء.
وبالإضافة إلى هؤلاء جميعًا أذكر بكل الامتنان فضل أستاذي الدكتور محمد الأمين بسيوني حجة الجيولوجيا، وأستاذي الدكتور عطية عاشور عبقري الرياضة البحتة. وأستاذي الدكتور عماد فضلي بسحره الخفيّ، وقلبه الخلي.(244/4)
وأخيرًا أو مسك الختام: أشكر أستاذي الدكتور كمال بشر بفتوته وتلقائيته، بشبابه المتجدد، ولفظه المتودد، وهو الذي أضفى، مأجورًا ومشكورًا، على فوزي مذاق الانتصار، ونكهة الازدهار.
ليس الشكر شكري وحدي، ولكني مكلف به من ثلاث: من جيل بأكمله، كان يرنو إلى تشجيعكم واعترافكم، فإذا بكم تتعطفون وتجودون على فرد منه بثقتكم، ومن مهنة الطب التي شملتموها على مدى تاريخ المجمع بأكبر قدر نالته مهنة من التقدير والإعزاز، ومن جامعة الزقازيق ثامنة الجامعات في وطننا وقد شرفتموها مرة بعد أخرى حتى جعلتم لها ثلاثة مقاعد بينما لا تزال أخواتها تشرئب إلى هذا المحراب، وقد حرص أستاذي الدكتور عبد الحميد بهجت فايد رئيس الجامعة أن يشاركنا هذا الحفل الكريم بنفسه وأن يشترك بنفسه في أداء حق هذا الشكر.
(وهنا وقف الدكتور عبد الحميد بهجت فايد رئيس جامعة الزقازيق فحيا الحضور الذين بادلوه التحية بعاصفة من التصفيق).
وظني أن وجودي بينكم ليس إلا كوجود التلميذ الوحيد في إحدى كليات أكسفورد التي تنتظم مجموعة من خيار الأساتذة البريطانيين ومعهم طالب واحد فقط استكمالاً لشكل الكلية التي تجمع الطلبة والأساتذة.
يتضاعف إحساسي بالعجز حين أذكر أسلافي في هذا المقعد الذي تصاعدتم بي إليه، فسلفي الأول فيه هو الأستاذ أحمد السكندري، وهو ليس من مؤسسي مجمعنا فحسب، لكنه من أبرز المؤسسين للمجامع التي سبقت، ولو أن الفكرة المجمعية تجسدت في شخص من جيله لتجسدت فيه هو نفسه، وقد آلت إليه دونًا عن غيره من معاصريه وتابعيه عمادات اللغة العربية الثلاث: في وزارة المعارف، ودار العلوم، وكلية الآداب.
وسلفي الثاني الفقيه الكبير الأستاذ أحمد إبراهيم، هو أول علماء الشريعة في مجمعنا، وهو أسن الدراعمة الثلاثة والأربعين الذين وصلوا إلى عضوية مجمعنا، وهو صاحب أول كلمة يلقيها في المجمع عضو منتخب.(244/5)
وسلفي الثالث الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، هو أول أديب ينتخب لعضوية المجمع، قد نال ما يشبه الإجماع ممن سبقوه إلى المجمع معينين من عمالقة الفكر واللغة والأدب.
وسلفي الرابع الدكتور أحمد عمار، هو أول جراح منتخب في هذا المجمع، وثالث نواب الرؤساء الستة، ورابع الأطباء الأربعة عشر، وصاحب أطول مدة قضاها طبيب في هذا المجمع.
وسلفي الخامس الدكتور عبد العظيم حفني صابر، هو أول صيدلي ينضم إلى عضوية هذا المجمع. ولست أنكر أنه قد ازدهاني أن يكون هو سلفي، وقد كان واحدًا من القلائل الذين اختصهم التاريخ بالريادة والعمادة والمشيخة، وهو عميد الصيادلة المصريين والعرب في عصرنا الحديث، فقد كان على رأس أول دفعة أتيحت لها دراسة الصيدلة دراسة عالية، ثم أصبح عميد كلية الصيدلة وقد تولى أمرها عَقْدًا كاملاً من الزمان، أتيح له فيه أن يبلور للكلية تقاليدها ولوائحها ونظمها، وأن يختصها بطابعها المميز بين أخواتها الجامعيات، وأن يجعل منها رائدة نظيراتها في جامعاتنا الأخرى.
وقد عاش حياته العلمية باسم لامع، وصيت ذائع، وكان من أرباب العلم العميق، والدرس المستقصي، وقد نال كل تقديم وتقدير حظي به أمثاله من قبيل الأوسمة الرفيعة وجائزة الدولة التقديرية.
وقد كان من توافق الأقدار أن يصل إلى عضوية هذا المجمع هذا الصيدلاني الرائد من أولى دفعات كلية الصيدلة، كما وصل ثلاثة من أولى دفعات كلية العلوم: محمد مرسي أحمد، ومحمود مختار، وحامد جوهر، ورابع من الدفعة الثالثة: عبد الحليم منتصر، وخامسة من الدفعة الرابعة: محمد رشاد الطوبي، وسادس من الدفعة السابعة: محمود حافظ، كما وصل أول أولى دفعات كلية الآداب سليمان حزين، واثنان من الذين بدؤوا الدراسة في الدفعة الثانية: أحمد بدوي، ومحمود شاكر، واثنان من الدفعة الثالثة: عثمان أمين، ومراد كامل.(244/6)
وقد ألف وصنف في العقاقير والغذاء والدواء وتاريخ الصيدلة والنباتات الطبية والعقاقير عند العرب وتاريخ العلوم الصيدلية وتاريخ تعليمها.
ولد الدكتور عبد العظيم حفني صابر في السابع عشر من يناير 1908، في دكرنس محافظة الدقهلية، وبعد أن حصل على درجة البكالوريوس في الصيدلة من جامعة القاهرة عام تسعة وعشرين (1929) ابتعث إلى إنجلترا حيث درس في جامعة لندن وحصل على بكالوريوس الصيدلة من هذه الجامعة (1932)، ثم على درجة دكتوراه الفلسفة في العقاقير (1934)، وعاد فعمل مدرسًا بقسم العقاقير (1934)، ثم نال درجة أستاذ مساعد (1946)، ثم درجة الأستاذية (1949)، واختير عميدًا لكلية الصيدلة في1956، وحتى أحيل إلى التقاعد، ثم عمل أستاذًا متفرغًا بقسم العقاقير منذ 1972 وحتى وفاته.
وقد أنشأ عليه رحمة الله مدرسة علمية في علم العقاقير والنباتات الطبية، وتولى الإشراف على ثلاث وعشرين رسالة في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، كما أنشأ محطة تجارب للنباتات الطبية في كلية صيدلة القاهرة، وأنشأ قسمًا مستقلاًّ للأقرباذين في كلية الصيدلة مستقلاًّ عن القسم القائم وقتئذ في كلية الطب، وبذل جهده في إنشاء مكتبة علمية لهذا القسم زودت بأكثر من سبعة آلاف مجلد، ووضع مؤلفات علمية متميزة، ويعتبر كتابه في العقاقير على سبيل المثال بمثابة المرجع الأساسي في هذا العلم، وعنه نقل الأساتذة اللاحقون ولخصوا وأضافوا.
وقد نشر الدكتور عبد العظيم حفني صابر أكثر من مئة وعشرة أبحاث في المجلات العلمية العالمية، واهتم بتاريخ الطب، فشارك في أكثر من عمل علمي في هذا المجال، ووضع كتابًا بعنوان "تاريخ الصيدلة عند العرب"، كما اشترك في المؤتمر الدولي السادس عشر لاتحاد تاريخ وفلسفة العلوم في بوخارست 1981.(244/7)
وواظب على حضور المؤتمرات الصيدلية الوطنية في القاهرة والإسكندرية، كما حضر مؤتمرات اتحاد الصيادلة العرب في السبعينيات، واشترك في المؤتمر الدولي للصيدلة في فيينا 1980.
وحظي بعضوية هيئات علمية رفيعة في مصر وخارجها، فانتخب عضوًا في الأكاديمية المصرية للعلوم، والمجمع العلمي المصري، كما كان عضوًا في الجمعية الصيدلية، والجمعية النباتية، والجمعية العربية لأبحاث النباتات الطبية، وقد اختير رئيسًا فخريًّا مدى الحياة لهذه الجمعية.
وفي صناعة الدواء كان له شأن علمي كبير، فقد اختير مرتين رئيسًا للجنة الدائمة لدستور الأدوية المصري، كما وضع الدليل القومي للأدوية في مصر، واختير أيضًا مقررًا للجنة الإشراف على المشروع القومي للنهوض بالنباتات الطبية وزراعتها في مصر.
وعلى مدى حياته حفل بكثير من التقدير، فقد نال الميدالية الذهبية لأحسن الأبحاث في مؤتمرات اتحاد الصيادلة العرب بدمشق 1970، كما نال الميدالية الذهبية التقديرية من جمعية الصيدلة المصرية 1971، ثم نال جائزة الدولة التقديرية 1985، وهو العام الذي انتخب فيه عضوًا في مجمع اللغة العربية.
ولم تبخل عليه الدولة بالتكريم اللائق به وقد منح وسامين من أوسمة الطبقة الأولى، وسام الاستحقاق (1973)، ووسام العلوم والفنون (1980).
أساتذتي الأجلاء:
تتوقعون مني حديثًا عن التاريخ مع أني لا أظن التاريخ منفصلاً عن اللغة والأدب أو الفن والطب، وإنما هو صورة من صور هذه الميادين الأربعة، وقد وعى علماء الإسلام هذه الحقيقة وعيًا لم تصل إليه الحضارة، حتى إن الببليوجرافيين القدامى اكتشفوا بالإحصاء أن التاريخ بعد علوم الشريعة واللغة والأدب هو أكثر العلوم التي صنف فيها علماء حضارتنا على مدى قرون متصلة.(244/8)
والتاريخ هو علم العلوم، فلابد لكل علم من تاريخ، ومن دون هذا التاريخ لا تقوم للعلم قائمة، وإنما تظل موضوعاته وجزئياته متفرقة متناثرة، ولا يمكن للمؤرخ أن يصل إلى التفوق في كتابته للتاريخ إلا بأن يتعلم حقائق ما يؤرخ له، وبأن يرتقي بتعلمه إلى درجة العلم، ولعل هذا هو السر فيما نراه في اللغات المختلفة من تكرار التعبير الوصفي القائل بأن هذا أو ذاك عالم بالتاريخ، ولا أظن العلم بالتاريخ يكتمل من دون الإلمام بالطب، ذلك أن دراسة النفس البشرية والطبيعة الحية كفيلتان بأن تفكَّا للمؤرخ كثيرًا من مغاليق الأحداث، ومواضع الاختلاف، ذلك أن التاريخ الحق يستلزم ارتياد المجهول وتحقيق المأثور على حد سواء، كما يتطلب تهذيب العشوائيات وتفنيد الشائعات وضبط الروايات وعقد الموازنات، وهو بعد هذا بحاجة إلى الإصابة في الاستدلال، والبراعة في التأويل، والتجرد في إهمال العقل، وتحكيم المنطق، ولست أبالغ إذا قلت إن على مَنْ يريد أن يكتب التاريخ أن يقرأ في غير التاريخ، ذلك أن مصادر التاريخ تتعدد بتعدد المخلوقات والموجودات، كما أنها تتجدد مع كل مهارة قادرة على استخلاص الحقيقة أو استنباطها، ومع هذا فإن أسلافنا من العرب القدامى اكتشفوا أبدع الأوعية التاريخية في الفنون والآداب، وقد هدتهم سليقتهم إلى الاحتفاظ بتاريخهم من خلال الشعر الذي هو ديوان العرب، وقد تنبه المعجمي الخالد محمد محمود الصياد إلى أن الحقائق الجغرافية لم تتردد في شعر كما ترددت في شعر الجاهليين، والمعلقات السبع حافلة بالأعلام الجغرافية وصور البيئة.
ولعلكم تدركون أكثر مني فضل فنون الحضارة المصرية القديمة على معرفتنا بتاريخ هذه الحقيقة السحيقة.(244/9)
والحق أن المؤرخين لا يكفون عن توسيع وتنويع وتطوير وتحديث الأدوات التي يعولون عليها في كتابة التاريخ وهم يعتمدون بحصافة ومهارة على المأثورات والحكايات الشعبية والأعمال الفنية والآثار والمذكرات واليوميات والمخطوطات والوثائق والمراسلات والعملات والكتب، وهم يوظفون ما يوظفه القانونيون من الأدلة والقرائن، وما يوظفه الأطباء من فحوص وتحليلات، وما يوظفه المهندسون من قياسات ومنظورات، وما يوظفه العلماء من حسابات وتجربة، وما يوظفه الفقهاء من منقول ومعقول، وما يوظفه الفنانون من اتباع وابتداع، وما يوظفه الفلاسفة من مقولات ومقدمات وقياس، وما يوظفه الاقتصاديون من ضوابط وشرائط، وما يوظفه المحاسبون من التقري والتقصي، والمؤرخ بعد هذا كله ليس إلا فنانًا يتمثل الواقع العريض بنظرة رحبة لكنها فردية في المقام الأول، وذاتية في المقام الأخير.
على أن المؤرخ مع هذا مطالب بأن يبحث في العلم عن الحقيقة، وهو مطالب بأن يكون له نصيب كبير من الفلسفة من دون أن يعلن عن هذا، كما أنه مطالب بأن يكون مؤمنًا إلى درجة اليقين مع أنه يكاد يكتشف في كل واقعة أن اليقين الوحيد هو أنه لا يقين .. لكنه مع هذا لابد أن يصل إلى الحق في حدود المعرفة، وهو ملوم إذا تجاهل الحق الظاهر، أو تكاسل عن الحق الذي تحجبه الغيوم الزائلة أو الضلالات الحائلة.
ومع أن التاريخ أكبر من أن يكون ذا غرض؛ فإنه يهدينا كثيرًا من النعم والسحاب، فهو يساعدنا على استخلاص العبر، وعلى حفظ الجنس، وبقاء النوع، وعلى تأصيل العقيدة، وعلى تنمية الشعور بالوطن، وعلى المثل الخلقية، كما أنه يكفل لنا تنمية المهارات القمينة بتطوير وسائل الحياة.(244/10)
لست أحب أن أسترسل في مثل هذا الحدث عن التاريخ من دون أن أشير في عجالة سريعة إلى أسلافنا من المجمعيين الأفذاذ الذين اشتغلوا بالتاريخ، ولعلكم تعلمون فضل أسلافنا من المجمعيين الموسوعيين الذين اشتغلوا بالتاريخ وبغيره من الفنون والعلوم والآداب: أحمد أمين، وعباس العقاد، ومحمد حسين هيكل، وطه حسين، وأحمد حافظ عوض، وعبد القادر حمزة، ومحمد توفيق دياب، ومحمد زكي عبد القادر، ومحمد فريد أبو حديد، ومحمد مهدي علام، ومحمود شاكر وأحمد السعيد سليمان.
وبالموازاة لهم فقد اختص هذا المجمع نفسه بعضوية مجموعة من أفذاذ علمائنا الذين أسهموا بجهد وافر في تاريخ العلوم، بدءًا بمصطفى نظيف أول من توصل إلى سبق ابن الهيثم في ابتداع الطريقة العلمية والأخذ بأسبابها، ومحمد كامل حسين الذي وفق إلى آراء دقيقة في تاريخ الطب العربي والإسلامي والفرعوني، وقدري حافظ طوقان وعبد الحليم منتصر وكلاهما مرجع لتاريخ العلوم عند العرب.
وعلى رأس المتخصصين في التاريخ يأتي عميد مؤرخي العصور الإسلامية الأستاذ عبد الحميد العبادي، والعالم الثبت الحجة محمد عبد الله عنان الحقوقي الذي وهب حياته لتأريخ الأندلس والأندلسيات، ومحمد شفيق غربال صاحب القول بأن الجغرافيا تتكامل مع التاريخ في تجلية مقومات حضارة الإنسان، ومحمد رفعت المؤرخ المربي، وحسين مؤنس الذي مزج التاريخ الحق بالأدب الساخر في سبيكة فريدة احتفظ لنفسه بسرها، ومحمد الطيب النجار الذي ارتقى بالدراسات التاريخية في جامعة الأزهر إلى آفاق أكاديمية حديثة وارتاد مع طلابه غار حراء وغار ثور ونقض تفريق السابقين بين الأنبياء والرسل، وأقام أدلته من القرآن الكريم على أن كل نبي رسول وكل رسول نبي.
ومن أساتذة التاريخ القديم أذكر الدكتور أحمد بدوي وقدرته على تطويع البحث التاريخي لمعطيات الآثار والمعلومات الحضارية، والدكتور عبد العزيز صالح أول وأعظم من أرخ للتربية والتعليم في مصر القديمة.(244/11)
كما أذكر من المجمعيين العرب مؤرخ الجزيرة العربية حمد الجاسر، والمؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب، والمؤرخ العراقي أنستاس ماري الكرملي، ومن الطريف أن لكل منهما كتابًا يحمل عنوان "خلاصة تاريخ بلده"، فللأول خلاصة تاريخ تونس، وللثاني خلاصة تاريخ العراق، والمؤرخ السوري محمد كرد علي، ومؤرخ لبنان عيسى إسكندر المعلوف، ومؤرخ الجزائر أحمد توفيق المدني.
ولعل هذا يقودني إلى أن ألمح في عجالة إلى بعض علاقتي بتاريخ المجمع والمجمعيين، وقد ترجمت لأربعة من المجمعيين في كتب مستقلة وهم: محمد كامل حسين، وأحمد زكي، وعلي إبراهيم، وتوفيق الحكيم، كما نشرت ترجمات لمجموعة أخرى منهم في عدد من كتبي ومقالاتي، فترجمت لأحمد أمين، والعقاد، وطه حسين، وهيكل، والمراغي، وعبد العزيز فهمي، والسنهوري، وعزام، وأبي حديد، والعبادي، وعبد الله عنان، وحسين مؤنس، وعبد الحليم منتصر، ومحمد محمود الصياد، ومحمد الفحام، ومحمود توفيق حفناوي، وعلي عبد الرازق، وأحمد عبده الشرباصي.
وشاركت في ندوات علمية عن أحمد لطفي السيد، ومصطفى عبد الرازق.
ورثيت إبراهيم مدكور، وبدر الدين أبا غازي، وإبراهيم الدمرداش، ومحمد زكي عبد القادر، ومجدي وهبة، ومحمد متولي الشعراوي، وسليمان حزين، ومحمود مختار، وعلي الحديدي.
وتتلمذت تلمذة مباشرة على كل من عطية الصوالحي، وعلي السباعي، وعلي النجدي ناصف.
وشرفت بتقدير كريم ممن منحوني جائزة المجمع منذ أكثر من ربع قرن، وقد كان من بينهم الأساتذة محمد خلف الله، ومهدي علام، وعبد القادر القط، وإبراهيم الترزي، وتوفيق الطويل، ومحمد زكي شافعي، ومحمد الطيب النجار، وحامد جوهر، وسيد رمضان هدارة ، وأحمد السعيد سليمان، وعبد العزيز صالح، وأحمد مختار عمر.
أساتذتي الأجلاء:(244/12)
إن الناظر إلى تاريخ مجمعنا لا يملك إلا تسجيل الإعجاب من قدر النجاحات التي أحرزها فيما مضى من عمره، ولست مبالغًا إذا قلت إن نجاح مجمعنا فاق نجاح الأكاديمية الفرنسية التي تكبره في العمر بثلاثة قرون، وقد تحقق هذا بفضل سيطرة الفكرة المجمعية على أغلب مَنْ اختيروا أو انتخبوا لعضوية هذا المجمع، وقد شرف بعضوية هذا المجمع من المصرين مئة وأربعة وخمسون يكتملون بزمرة هذا العام إلى مئة وثمانية وستين، وقد كان إيمانهم العميق وعقلهم المتفتح وخبراتهم العريضة تحدوهم إلى بذل جهد ناضج ودؤوب وذكي من أجل أهداف سامية، وهكذا ألفينا مجمعنا وقد انتزع لنفسه مكانات متعددة فأصبح متمتعًا بسلطات التحكيم والإفتاء، فضلاً عن التشريع والقضاء والوضع، وبجهده تبلور أول عمل جماعي في تاريخ اللغة العربية، وأول معجم وسيط، وأصبح أول هيئة علمية تتمتع بكل ما يتمتع به من مرجعية ومصداقية، وقد صاغ وسوغ فكرة الاجتهاد في علوم اللغة على نحو لم يتيسر بعد للاجتهاد في علوم التشريع، ووضع للاجتهاد الأطر الكفيلة بمأسسته وبنزع الطابع الفردي عنه، كما انتبه المجمعيون إلى مسؤوليتهم عن كشف طاقات اللغة المبدعة، وإلى مسؤوليتهم عن تطويع هذه الطاقات من أجل الغايات التي لا تفتأ تتكأكأ على اللغات، وشغل المجمع نفسه بتيسير الكتابة حتى نجح في اختصار صندوق الطباعة، ثم جاء عصر المعلومات فأفاد من جهود المجمع ووظفها لنجاحات أسرع، لكنه في الوقت ذاته خلق أفقًا جديدًا لتطوير توظيف اللغة، وارتاد المجمع مناطق قديمة من صعوبات قواعد اللغة كجنس العدد وتيسير الإعراب، ومع أنه لم ينته إلى صورة محددة للتجديد فقد وفر من الدرس اللغوي ما هو كفيل بهدايتنا في مستقبل قريب إلى ابتداع الحلول الذكية.(244/13)
وقد كان اجتماع تخصصات العلوم والحضارة في أشخاص أسلافنا من المجمعيين الأفذاذ كفيلاً بتصوير وتطوير قدرة اللغة على الاستطاعة لكل ما تتطلبه تخصصاتهم، وقد كان المجمع محظوظًا من ناحية أخرى حين انتخب الأسلاف خلفاءهم من العلماء المتميزين، والباحثين المدققين، والأساتذة المتمكنين، كما انتخبوا له المشرعين والقضاة، والأطباء والمهندسين، والأدباء والمؤرخين، وهكذا تمكن المجمع حتى في عصر الفرد من أن يكون عقلية مجمعية متميزة بارتقاء أدائها لكل وظيفة تصدت لها بفضل مهارات وملكات متآزرة، وقد ضاعف من هذا أن أغلب المجمعيين تميزوا بالتفوق الساطع في أكثر من مجال، ومع أن مسارات الحياة الجامعية في وطننا قد فرضت (بكل أسف ودون قصد) الكسوف والخسوف على بعض مناحي التفوق في شخص كل عالم حقيقي فإن هذا المجمع قد قام في المقابل، وحده، بتصحيح هذا الوضع ومكن هذه المواهب من السطوع والإشعاع والنفاذ إلى قلب حضارتنا.
ولا يزال المجمع يسير على سننه في هذا المجال. فالدكتور كمال دسوقي تخرج في كليتي الآداب والحقوق، وتولى عمادة كلية التربية، كما أن الدكتور شفيق بلبع تخرج في كليتي الزراعة والصيدلة، وكذلك تخرج الدكتور حسن الشافعي في كليتي دار العلوم وأصول الدين. أما الدكتوران أحمد مدحت إسلام وعماد فضلي فيجمعان إلى التفوق في تخصصيهما الدقيقين النبوغ في الموسيقا، وكما مارس الدكتور عبد الحافظ حلمي القانون فقد مارس الدكتور الطاهر مكي الصحافة.(244/14)
ومن الواجب أن نشير إلى أن مجمعنا في سياساته وقراراته قد آثر التدرج على الطفرة، ومع هذا فإنه بما آثره من تفضيل هيأ لغتنا لقبول طفرات ذكية في عصر يعول على الطفرة كثيرًا ويوظفها بحسابات دقيقة ومستقصية متجنبًا بهذا آثارها غير المرغوبة، وظني أن مجمعنا بفضل جهود أسلافنا قد وصل بمتن اللغة العربية إلى النقطة القابلة للتطفير، وقد آن الأوان على سبيل المثال لتوظيف رصيدنا من جذور العربية غير المستعملة لأداء المعاني المستحدثة التي يغرينا الاستسهال بأن نعرب ألفاظها، وأمامنا في هذه الحالة أكثر من طريق، أولها: أن نبحث للمعنى الجديد عن جذر غير مستعمل قريب في مبناه من جذر يعبر عن معنى قديم مقارب. وثانيها: أن نشذب الألفاظ ذات الأصول الأجنبية من حروف الزيادة ومن الحروف التي تبدو متنافرة مع بعضها، ثم نضفي على هذا الجذر حقوق التجنس أو المواطنة بين جذور العربية.
ومع أني أرى الأفق واسعًا ورحبًا في الجذور الرباعية، إلا أني أدرك أن التحدي الحقيقي هو أن نحيي الجذور الثلاثية المهجورة، وهو أكُل كبير ليس بقادرٍ عليه إلا المجمع.
ولهذا فإني أظن المجمع في مستقبل أيامه قادرًا على أن تشمل مظلته عددًا من المهام التي هي بحاجة إلى جديته وتفوقه، وأتصور أن مكتبة المجمع بحاجة إلى ثورة من الاهتمام والاحتفاء تكفل لها أن تكون أفضل المكتبات اللغوية في العالم العربي كله، وأن تكون مثابة لكل أساتذة اللغات في جامعاتنا يقضون بين جنباتها عامًا على الأقل قبل أن يرتقوا في مدارج الرقي الأكاديمية، وأحسب المجمع قادرًا على أن يكثر ويعلي من جوائز تحقيق التراث التي يمنحها، كما أحسب المجمع قادرًا على أن يتبنى مركزًا لتحقيق التراث ومعهدًا للمخطوطات من هاتيك التي لا تجد أبوة كأبوته، كما أن المجمع مطالب بأن يزيد من قيمة جائزته الأدبية يجعلها تحتل مكانها الطبيعي كأرفع وسام يناله أهل الأدب.(244/15)
ومن ناحية أخرى فإني أحسب المجمع مطالبًا بأن يتبنى اعتماد منهج ميسر لتعليم اللغة العربية للأجانب بكل ما يقتضيه هذا المنهج من وسائل سمعية وبصرية معينة، كما أحسبه مطالبًا على وجه السرعة بوضع قوائم موحدة لكتابة الأعلام العربية في اللغات المختلفة، وكتابة أعلام اللغات الأخرى في اللغة العربية.
وفي كل الأحوال فإن المجمع مطالب بأن يعيد النظر في الإفادة من وقت أعضائه وهم كنوز نادرة وليسوا ثروات عابرة، ولا أتصور المجمع يدخل أعوامه القادمة بدون تهيئة صومعة كاملة في مبناه لكل عضو من أعضائه الأربعين، فمن خلال هذه الصومعة التي تهيئ المناخ الأمثل للعمل قريبًا من الزملاء والمراجع والناسخين والمساعدين يمكن للمجمع أن يضاعف من إنتاجه وفضله في كل المجالات التي يتصدى لها.(244/16)
وإني لأحلم بأن نجد عن قريب سبيلاً تشريعيًّا يمكننا من أن يكون ربع الأعضاء غير المصريين [على الأقل] مشاركين في نشاط مجلس المجمع على مدار العام وليس في المؤتمر فحسب، كما أني أحسب مهمة المجمع من الجلال بحيث تجعل من حق الأعضاء العرب أن يتمتعوا بالجنسية المصرية أو بكامل حقوقها الخضراء بمجرد حصولهم على هذه العضوية، كما أرجو أن نجد في القاهرة المناخ الذي شهدته عواصم الفكر على مدى التاريخ حين تستقطب العاصمة المجمعيين الشيوخ للإقامة فيها كي يثروا عمل المجمع على نحو ما كان شيوخ العلوم والفنون ينتقلون إلى عواصم الخلافة متى أصبحت لهم المكانة الأولى في تخصصاتهم في أزمنتهم، وفي هذا الصدد يجدر بي أن أذكر لحضراتكم أن ثلاثين في المئة من الأعضاء المصريين العشرة الأوائل كانوا من المتمصرين ولم يكونوا من المصريين بلغة اليوم، وقد أصبح أولهم شيخًا للإسلام بعد عشرين عامًا من عضويته في المجمع، وكان ثانيهم يهوديًّا تولى منصب الحاخام، وكان ثالثهم مسيحيًّا بلغ المئة من العمر بينما هو يمارس العمل المجمعي، بل إني لا أعدو الحقيقة إذا أشرت إلى أن سُدس زوجات المجمعيين الحاليين من السيدات الأوربيات الفاضلات.
أساتذتي الأجلاء:
بقي أن أحدثكم عن فهمي للغة، واللغة في رأيي هي الحضارة، هي أكبر بكثير من أن ننظر إليها على أنها وعاء الحضارة و جسدها أو روحها أو مستودعها أو أداتها أو ركنها أو مرآتها، وإنما هي الحضارة نفسها، فإذا أردنا الاحتياط أو البناء على الأقل كما يقول الفقهاء، فليس في وسعنا أقل من أن نقول إنها قلب الحضارة.
والحضارة من ناحية أخرى ليست إلا اللغة: مكتوبة ومنطوقة، مخطوطة ومطبوعة، مصوغة ومتحولة، متجسدة ومؤداة، مرسومة ومشفرة، مرموزة ومبرمجة، لكنها في كل هذه الصور لغة لتتحول كالطاقة من صورة إلى أخرى، وهي في هذا التحول لا تتبدد، وإنما تتجدد.(244/17)
اللغة في رأيي هي ذاتنا بل ذواتنا، وهي أكبر بكثير من أن تكون شيئًا نملكه أو يملكه الأقدمون، كما أنها أعظم بكثير من أن تكون شيئًا يعطينا حقوق التصرف والانتفاع والحيازة، فاللغة أكبر بكثير من أن تخضع لتصوراتنا حول حقوقنا في هذه الممارسات، فأجسادنا تبلى وتفنى بينما اللغة باقية، وأرواحنا تصعد إلى بارئها بينما تبقى اللغة، وطوال حياتنا تتغير ملامحنا وتتجدد دماؤنا وتنضو أجسادنا جلودها ولكن اللغة تظل باقية، تنقطع بعض الأنساب وتختلط أنساب بأنساب وتبقى اللغة تصلنا بمن لم نرهم، وبمن يباعد بيننا وبينهم الزمان أو المكان. واللغة في كل هذا ليست جزءًا منا أو من شفراتنا الوراثية، وهي ليست موروثًا ينتقل عبر الأجيال، وإنما هي ذات موازية لها من البقاء والتجدد والاستمرار ما يفوق ما لذواتنا أجمعين، ولهذا فإنني لا أظن اللغة ملكًا لنا، وإنما هي التي تملكنا، ونحن قد نغتر فنظن أنفسنا نحافظ عليها أو نتحكم فيها بينما نحن بالكاد قد أدركنا أو أفدنا من بعض الظواهر دون أن ندرك حقائق هذه الظواهر، وليس أمرنا مع اللغة حتى الآن إلا كأمر أسلافنا الأوائل الذين هداهم الله إلى ركوب البحر فظنوا أنفسهم قد ملكوه، واللغة بحر محيط يمكننا من أن نصل ونتصل ونتواصل وننتقل وننقل ونُنقل ونراسل ونتراسل، وهو مع هذا يحتفظ لنفسه بقوانينه وبإرادته وثوراته التي هي من إرادة الله، ويترك لنا الفرصة لنكتشف بعض أسراره ولنطور ونحدث من وسائل تيسير وتشكيل مركباتنا فحسب، ومع هذا فإن فيما يتركه لنا مجال رحب لنا ولأجيال كثيرة من بعدنا.(244/18)
لست أظن اللغة بعد هذا في حاجة إلى أن تتشبه بالشريعة، ولا هي في حاجة إلى أن نأصل لها حاجتها إلى الإجماع، ولا حاجتها إلى القياس، فاللغة تتسع للشريعة ولغير الشريعة، وللقانون ولغير القانون، وهي أعم بكثير من الشريعة ومن القانون، ومن التعسف أن نطبق على الأعم ما ينطبق على الأخص، كما أن وسائل اللغة تتعدى وسائل الشريعة، كما أنني لست أظن اللغة في حاجة إلى أن تقدم مشبهة ذلك التشبيه التقليدي المتكرر بأنها كائن حي، فالفصحى الخالدة كما نعرف أكبر من أن تكون كائنا حيًّا يتمتع بالحياة فحسب، لأنها هي الحياة نفسها، ولأنها صورة من صور الخلود الذي اختص به المولى عز في علاه بعض ما خلق.
ومن باب أولى فإن اللغة أعظم من أن تصور جسدًا أو بدنًا يتطلب الرعاية والعناية والعلاج والأطباء، إنما اللغة في حقيقة الأمر هي منبع العلاج، ومصدره.
كما أنني لست متقبلاً للفكرة التي تنسب إلى أهل اللغة أو علمائها بعض الفضل عليها حين يبدعون فيخلدون آثارًا تنقل عن لغاتهم، إنما الفضل للغة حين تعطينا الفرصة لإثبات ذواتنا حين نكتب بها فنجيد، أو نتكلم بها فنؤثر، أو نتدارس منطقها فنرتقي في مدارج الرأي والفكر، أو نحذو حذوها فيمنحنا الخلود بعض أسراره.
ويبدو لي أني أستمع الآن إلى صوت التاريخ وهو يعلن أن اللغة العربية التي آل إليكم أمرها قد أوشكت على الدخول في عصر جديد يهيئ لأهلها وللبشرية جميعًا استجلاء بعض كنوزها وتوظيف هذه الكنوز، والفضل في هذا لعصر جديد نعيشه هو عصر المعلومات.(244/19)
وبوسعنا أن نرى أبناءنا وهم يعرفون النحو ويجيدون الحديث من دون الوقوع في الأخطاء النحوية ومن دون أن يتطامنوا للصيغة التي يقدم إليهم بها النحو العربي الذي لا نزال نقدمه بقواعده المعقدة المركبة أو المربكة حتى يومنا هذا. ولن يتحقق هذا إلا إذا أعدنا النظر في تكويننا العقلي الذي يعلي من شأن قواعد المنطق النظري والقياس المنطقي دون أن يدري أن لكل منحى من مناحي الحياة منطقة الخاص، ولعلي أردد على حضراتكم رأيي القائل بأن الرياضيات الحديثة التي قام عليها عصر المعلومات كله لم تنطلق إلى هذه الآفاق الرحبة واللانهائية إلا حين تخلت عن إعمال المنطق القديم واكتشفت ما سمي بالمنطق الرياضي، والمنطق الرياضي يا سادتي يؤمن بالجمع وبالطرح وبالضرب وبالقسمة، لكنه يدرك حدود المدى صلاحية كل قاعدة للتطبيق، فالجمع العام شيء وجمع الثواني والساعات والدقائق شيء ثانٍ، وجمع الأيام والأسابيع شيء ثالث، وجمع الشهور والسنوات شيء رابع، وجمع السنوات الكبيسة غير جمع السنوات البسيطة.. لكن مفهوم الجمع في الزمن يشمل هذه الأحوال الخمسة ذات القواعد التي لا تبدو قابلة للتطبيق بقاعدة عمومية مطلقة، لكنها في عصر المعلومات تتطبق في لمح البصر.(244/20)
وظني أن اللغة حقًّا مطلقًا في أن يكون لها منطقها اللغوي على نحو ما نما المنطق الرياضي وازدهر، ولو أننا آمنا بالمنطق اللغوي لخلصنا على سبيل المثال مما تفرضه علينا نظريات العامل بكل ما تحتويه من تأويل وتدليل وتخريج وتسبيب وتعنت وتعسف، وبكل ما تعانيه من عجز عن أن تفسر كل شيء وأن تحكم على الدوام في سلاسة ويسر وعن أن تُفهم ويُقتنع بها، وأنتم الذين علمتموني أن اللغة سابقة في الوجود على المنطق، وليس من الحكمة أن نحكم في أمور اللغة بقواعد المنطق، وإنما الحكمة أن نستنبط ونستكشف ونستقرئ ونستخرج منطق اللغة، وهو منطق ذكي وسلقي، وحيّ وخالد لكنه لا يزال في حاجة إلى الاكتشاف.. بل ربما أكون أكثر دقة إذا قلت إنه هو في حاجة إلى التحرير، إنه يطلب الحرية بعد أن استعبدناه واستبعدناه فقد استعبدناه للمنطق الأرسطي طوال قرون طوال واستبعدناه عن موقع قيادة فكرنا.. إنه يطلب الحرية وهو أولى بهذا الموقع من غيره.
وقد آن للمنطق اللغوي أن يحكم باسم نفسه لا أن يبحث عن آخرين يحكمون له فيتحكمون فيه ويعجزون عن أن يحققوا له السيادة التي يستحقها. ولعلي أذكر لكم أن الرياضة كانت تقدم على أنها لغة خاصة لها مسمياتها ورموزها ومصطلحاتها وقواعدها، وظني اليوم أننا بحاجة إلى أن نقدم اللغة للأجيال القادمة على أنها رياضة لها منطقها وهندستها وجبرها ومعادلاتها وتفاضلها وتكاملها ونسبيتها.(244/21)
ولست من الذين يزعجهم تفشي العامية في لغة التخاطب اليومية، ولا في وسائل الإعلام، بل أظنني أرى وصول هذا التفشي إلى هذا المنحدر الذي وصل إليه علامة ذات جدوى في تنبيه مجتمعاتنا العربية إلى خطورة ما استنامت له، ولعلكم بدأتم ترون الفضائيات الفصحى وهي تتمتع بتفوق ساحق على تلك الفضائيات التي تبنت اللهجات المحلية ومن حسن الحظ أن القرن الجديد لا يعطي لأنصار التفتت إلا الفتات، بينما يعطي لأنصار التوحد كل شيء، أقول كل شيء ولا أكتفي بأن أقول يعطيهم الجزء الساحق، على أن هذا لا يعفي مجمعنا – في رأيي – من أن يسارع ويمارس سلطته في أن يمنح تقديره من خلال جوائز مؤسسية لكل من يتفوق في التزام الفصحى فردًا أو جماعة أو مؤسسة أو إذاعة أو قناة أو صحيفة.
وبهذا ندفع الجميع وهم يتسابقون إلى الحرص على قيم عليا وقيم فصحى في الوقت ذاته، ومع هذا فإني بطبعي كطبيب أعود لأكرر اقتناعي بما أثبته علم فقه اللغة من أن اختلاف لغة الكتابة عن لغة التخاطب ليس أمرًا شاذًّا حتى نتلمس علاجًا له، بل هو السنة الطبيعية في اللغات جميعًا.
ولهذا فإني أرجو أن ننظر للعامية على أنها ابنة من بنات العربية حتى لو ضلت، ولنتذكر أن الصواب في اللغة مناطه الشيوع كما قال محمود تيمور فغلبة اللفظ في الاستعمال أسطع برهان على صلاحيته وأقوم دليل على صدق الحاجة إليه.
بيد أني مع هذا أرجو أن نعنى بأبجديتنا المكتوبة عناية تمكنها من استيعاب الفصحى، ويكفيني في هذا أن أشير إلى رأي سلفي المجمعي العظيم محمد رفعت فتح الله القائل بأن الحروف العربية تتدانى من الخمسين!! وقد نشر رأيه هذا في "الأهرام" منذ عام 1936.(244/22)
بقي في نهاية كلمتي أن أشير إلى ملحوظة مهمة وهي: أن أستاذي الدكتور كمال دسوقي قد تفضل عليّ بإطلاعي على مشروع كلمته في استقبالي، وقد ألححت على سيادته وألحفت في الرجاء أن يحذف الجزء الذي يرى سيادته أنه يدرء به عني ما نسب إليّ من تصريحات صحفية. والحق أني لا أتنصل من أي كلمة من هذه التصريحات، وأقدر للصحافة
وللإعلام الدأب والاهتمام والقدوة والصدق، ولست أجد مجالاً لهذا الدفاع الذي يتولاه محام قدير رغم أنف موكله. وقد وعدني أستاذي الدكتور كمال دسوقي أن يحذف هذه الفقرة، ولكني من باب الاحتياط أطلعت سيادته على نيتي في التعليق عليها بما تتضمنه فقرتي هذه من إعزاز للصحافة واعتزاز بها، وبشيوخها وفتيانها على حدٍّ سواء.
والله ورسوله أعلم،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(244/23)
ثانيًا: كلمة الأستاذ الدكتور محمد صلاح فضل
في حفل استقباله عضوًا بالمجمع
أستاذَ الأجيال، وإمام العلماء في اللغة والأدب رئيس المجمع:
أساتذتي الأجلاء، زملائي الكرام:
... مع أنني أجنح دائمًا إلى تفادي الصيغ المكرورة، في المواقف التقليدية، فلا مناص لي اليوم وفاء واعتزازًا بثقتكم الغالية والغالبة، من أن أنحني إكبارًا لكم فردًا فردًا، حيث طوقتم رقبتي بعقِد الصحبة والمحبة، وتكرم علي شيخي العظيم بهذه الكلمات السخية النبيلة وإذا كان لي أن أستعير لسان الأوائل، من الأندلسيين الذين أوثرهم، للتعبير عن مدى امتناني لثناء أستاذي الجليل، فليسمح لي أن أنشده بيتين لابن سعيد المغربي، وردا كما يعرف في "رايات المبرزين" التي حظيت بعنايته، يقول فيهما:
يا سيِّدًا قَدْ زَادَ قَدْرًا إِذْ غَدَا
كَرَمًا لمن هو دونه يتودَّدُ
و الغُصْنُ مِنْ فَوْقِ الثَّرَى لَكِنَّهُ
كَرَمًا يَميلُ إلى ثَرَاهُ وَيَسْجُدُ
على أن كل ذلك يتجاوز قدري مِمَّا يجعلني أخشى أن تكونوا قد أسرتموني بما يشبه الإجماع، وكسرتم شوكتي المسنونة في التمرد والنقد وشهوة التغيير للأفضل.
... لكن دعوني أتصور أنكم تعرفون عني هذه الآثام، وتغفرونها لي، وأن شفيعي في هذا الغفران هو الهوى الطاغي والعشق المضني، لصاحبة العصمة التي نتجمع حولها، ونجلس في محرابها، ونقومُ على خدمتها ورعايتها، بكل ما مُنِحْنا من فهم وعلم وقدرة على التواصل الخلاق. إنها العربية، لسان الدين ورقعة الوطن، وصفحة التاريخ الوضيء.(245/1)
... ولا أخفي عليكم أن هذا المجمع الموقر كان يتراءى لي دائمًا كعبة للثقافة الأصيلة، ومصنعًا للإنتاج الفكري والعلمي الثقيل، عبر قنوات اللغة وتشكلاتها المختلفة، وأن تحويله إلى معبد مغلق، يقتصر على سدنته وطقوسه وحاشاكم ذلك، خطر يؤدي به إلى الجمود والعزلة عن حركة الحياة الموّارة في محيطها الصاخب، إذا كانت حياة اللغة تكمن في توظيفها واستخدامها على أسئلة الأقلام وأطراف الألسن فإن الركون إلى الترفع والاعتصام بالعمل الصامت في بطون الكتب فحسب قد يضعف فعالية التواصل مع المجتمع.
... وهناك سؤال معرفيّ يقُض مضجعي، طالما تمنيت أن أطرحه عليكم حتى نتفق على الإجابة الرشيدة عنه، وإن كنت ألمح في ممارسة المجمع لمهامه عبر سبعين عامًا – هي عمره الموصول حتى الآن – بوارق لافتة ولامعة تحدد استراتيجية هذه الإجابة الضرورية وهو:
... - هل نحن المولدون، أبناء القرن الخامس عشر الهجري، أهل هذه اللغة وورثتها وأصحاب الحق في تنميتها والإبداع فيها والحياة بها أم أننا لازلنا دخلاء عليها، نستعيرها كل يوم، ثم نردها آناء الليل وأطراف النهار إلى أصحابها الأولين، اعتمادًا على السماع وتقديسًا للمأثور، وحفاظًا على المورث منها. أم أنها وقف يستحيل التصرف في أصوله، وتتعين الإفادة بخيراته وثماره على شرط الموقف ووصاياه في حججه الشرعية؟(245/2)
... أطرح هذا السؤال وأنا أعرف أن مناقشة الشرعية اللغوية أكثر صعوبة علينا من الحديث عن الشرعية الدولية، ولا أجازف بالمصادرة على المطلوب في هذه الكلمة، لكنني لابد أن أحيّي اجتهاداتكم المبتكرة في المصطلحات وألفاظ الحضارة، والتزامكم الأصيل بمنطق العربية وأساليبها في الاشتقاق والتوليد، وأدعوكم إلى التوسّع في القياس، والاعتماد على فقه النظائر لمواجهة النوازل اللغوية الأليمة، تفاديًا لطرفي الرحى في الاغتراب الثقافي، بالارتماء في حِضْن الأسلاف من جانب، أو اللجوء إلى حضْن الآخرين من جانب آخر. لا مفر لنا من أن نكون ذواتنا، أن نملك لغتنا وهويتنا وأن نكون قادرين على تجديدها وإثرائهما في الآن ذاته.
... ولأن فسحة الوقت بالغة الضيق، أرجو أن تأذنوا لي بأن أقترح عليكم عدة أمور أراها على قدر كبير من الأهمية:
... أولها: أن نبدأ مشروعًا طموحًا لتكون مجموعة عمل من الباحثين الشباب بمنهج علمي مدروس، لعمل مسح علمي شامل ومتواصل، للغة الصحافة ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، باستخدام الحواسب الآلية وتقنيات الأسلوبية الإحصائية لرصد المفردات والتراكيب في مختلف المجالات، وبحث حركيتها ودلالاتها، لا بهدف تصويب الأخطاء وردع المخالفات كما قد يتبادر إلى الأذهان على أساس معياري، وإنما بطريقة وصفية تكشف عن مناطق التوفيق الجماعي في ابتكار الصيغ وأسباب الحيوية في لغة الكتابة واقتراح البدائل الممكنة والعمل على ترويجها بمختلف السبل.(245/3)
... وثانيها: أنه انطلاقًا من أهمية الاعتراف بدور كبار المبدعين في إثراء اللغة، وقدرتهم على تنميتها بكفاءة أدبية عالية، ومتابعة لتقليد المجمع في فتراته الزاهية عندما كان يضم بين جنباته أعلام الكتاب والشعراء والقصاصين مثل هيكل والمازني وطه حسين وتيمور والعقاد والحكيم وعزيز أباظة وعلي الجندي وعلي الجارم، يتعين علينا أن نختار من كتاب اليوم ومبدعيه من نجعله الناطق بلساننا المعبر لدى الحياة الثقافية عن رسالتنا وطموحاتنا، وأن نخصص بعض مقاعد المجمع لهذه الغاية، دون أن يكون جنس الكاتب أو عمره العامل الحاسم في ذلك، بل عشقه للغة وقدرته على إخصابها.
... وثالثها: تطوير جوائز المجمع، وذلك بجعلها أكثر عروبة وقومية من ناحية، وشاملة لأشكال الخطاب الأدبي المحدث من ناحية ثانية، وفي هذا الصدد فقد يكون من المناسب إنشاء أمانة فرعية خاصة باتحاد المجامع العربية للإشراف على هذه الجوائز ومضاعفة قيمتها عدة أضعاف ترتفع بمستواها المادي والأدبي، وتفريع جوانبها لتشمل المجالات الآتية:
1- الإبداع الشعري البليغ.
2- الكتابة القصصية والروائية بالفصحى.
3- الترجمة المتقنة إلى العربية.
4- المقال الصحفي الأفضل لغة وصياغة.
5- الأداء الإذاعي والتليفزيوني الأصوب.
... المقترح الرابع والأخير: توجيه الاهتمام العلمي والاستثمارات الاقتصادية الكافية لتمويل مشروعات تعريب برامج الحواسب الآلية وتطويعها للمقتضيات الدلالية والتقنية للغة العربية بحيث يسهم ذلك في تنشيط الترجمة الآلية وحل المشكلات التي لا تزال تعترض سبيلها مثل الاستخدامات المجازية والفنية؛ لأن ترك ذلك رهنًا لمشروعات المؤسسات التجارية الخاصة قد عطّل مسعى الإفادة من هذه التقنيات المحدثة وتطويعها لاستيعاب متطلبات العربية واحتواء معجمها وأساليبها، ولأن هذه البحوث هي التي تشكّل طرائق المستقبل وسبل التوافق العلمي معه.(245/4)
... أرجو ألا أكون قد تجاوزت قدري بهذه المقترحات اليسيرة، لكنها مجرد آراء تبغي أن تسهم معكم وبفضل رحابة صدركم في تحريك صورة المجمع وطرحها بقوة على الحياة الثقافية في الوطن العربي الكبير.
أساتذتي الكبار:
... منذ مئة عام على وجه الدقة، وقبل ثلاثة عقود من قيام مجمعنا الحصين، طافت بذهن شاعر النيل العظيم حافظ إبراهيم نفحة غيرة شديدة على العربية، وإشفاق غريب على مستقبلها، فأنشأ القصيدة الفريدة على لسانها ومطلعها كما تذكرون وتكررون في خطبكم:
رَجعتُ لنفسي فاتَّهَمْتُ حَصَاتِي
وناديت قَوْمي فَاحْتسبتُ حياتي
رَمَوْني بعُقْمٍ في الشبابِ وليتني
عَقِمتُ فَلَمْ أجزَعْ لقولِ عُداتي
ولدتُ ولمَّا لَمْ أجدْ لعرائسي
رجالاً وأكفاءً وأدتُ بناتي
وَسِعُْت كتابَ اللهِ لفظًا وغايةً
وما ضِقْتُ عن آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ
فكيفَ أضيقُ اليومَ عنْ وصفِ آلةٍ
وتنسيقِ أسماءٍ لمُخْتَرَعَاتِ
... ثم تأتي تلك الأبيات التي زرعها المبدع الكبير فاروق شوشة في وجدان الأجيال التالية .. أنا البحر في أحشائه .. إلى أن يقول حافظ:
إلى معشرِ الكُتَّابِ والجَمْعُ حَافِلٌ
بسطتُ رجائي بَعْدَ بَسْطِ شَكَاتِي
فإمَّا حياةٌ تبعثُ المَيْتَ في البِلَى
وتُنْبِتُ في تِلْكَ الرُّموسِ رُفَاتي
وإمَّا مَمَاتٌ لا قيامةَ بَعْدَه
مَمَاتٌ لَعَمْرِي لم يُقَسْ بِمَمَاتِ
... فلتقر عين حافظ إبراهيم، فما شهدته اللغة العربية في هذا القرن المنصرم كان أجمل الحياة وأعمقها وأخصبها بفضل أمثالكم من العلماء والكتاب والمثقفين.(245/5)
فالحياة لا تتوقف ولا تتدهور، كما نتوهم كثيرًا من فرط غيرتنا وحماسنا، ولكنها ترقى وتتقدم، وإن لم يكن ذلك في خط مستقيم غالبًا، بل عبر ثنيات وتعرجات ماكرة، وما كان يعتبره أسلافنا من بعد نهاية عصر الاحتجاج في نهاية القرن الثاني للهجرة وبعد موت ابن هرمة مظهرًا للضعف في اللغة والشعر والأدب أصبح فيما بعد يمثل عصور ازدهار عبقرية العربية وشموخ كبار أدبائها القدماء والمحدثين.
... وأعتقد أن المستقبل يحمل لهذه الأمة، عكس ما نستشعره اليوم، بشائر نهضة علمية وفكرية شاملة يتعين على اللغة أن تتأهب للقيام بها.
أساتذتي الأفاضل:
... اسمحوا لي وفاء لتقاليد المجمع أن أتحدث فيما بقي لي من دقائق عن العلم الكبير الذي يشرفني أن أحتل مقعده اليوم، وهو أستاذنا الدكتور بدوي طبانة، وأرجو أن تأذنوا لي بشيء من النبرة الشخصية في الحديث عنه، فأنا لا أستطيع أن أكون محايدًا في تعبيري عن ديْني وتقديري لمن جلست منهم مجلس المتعلم، وقد فتح لي الدكتور طبانة مع زملائي في دار العلوم نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات مغاليق البلاغة التي كنا ندرسها طلاسم محفوظة، ومحنطة في المرحلة الثانوية الأزهرية، جعلنا نعايش عبد القاهر الجرجاني وأبا هلال العسكري وقدامة ابن جعفر بقدر من الحميمية والحب، كما جعلنا إبراهيم أنيس نعشق ابن جني وعلماء اللغة، ووضعنا أحمد هيكل في قلب تجربة الشعر الأندلسي وتاريخه، وكمال بشر وتمام حسان في صلب علوم اللغة المحدثة، وغنيمي هلال في عين النقد الحديث، كان جيلي محظوظًا بتلمذته المباشرة على هؤلاء، وغير المباشرة على أقطاب الفكر الأدبي واللغوي في مصر والوطن العربي.
... ولا أستطيع أن أنسى أن أكثر ما كان يبهرني في محاضرات بدوي طبانة هو فصاحته الطليقة، وبلاغته خلال حديثه في علوم البلاغة بلغة عربية رائقة، لا يتسرب إليها لحن ولا تشوبها أية عجمة.(245/6)
... كنت تسمعه يرتجل متدفقًا كما لو كان يقرأ من كتاب مسطور، أو يتلو مما حفظه من صفحات مطولة لأساطين البلاغة والبيان في كل العصور.
... وعندما احتدم الصراع على كرسي الأستاذية بينه وبين الناقد العلامة الشاب حينئذٍ المرحوم غنيمي هلال، كان هوانا مع صاحب النقد الحديث، لكن ميزان الجامعة وحكمة الكبار آثرت بدوي طبانة بالاختيار.
... وإذا كان من الضروري أن أذكركم بشيء من سيرته العلمية العاطرة وهو الذي صحبكم زهاء ثماني سنوات منذ قبوله عضوًا في المجمع عام 1992م، وكان شيخًا في الثامنة والسبعين من عمره، فيكفي أن أشير إلى أنه تخرج من دار العلوم في العام الذي ولدت فيه 1938م، وكان في الرابعة والعشرين من عمره، وهذا سن قياسي بالنسبة لعصره، ثم ابتعث للتدريس في بغداد، والتحق أستاذًا بدار المعلمين فعكف على تدريس كتاب "الطراز في أسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز" ليحيى بن حمزة العلوي، وكأنه قد حدد مسيرته ومصيره في دراسة البلاغة العربية وجلاء منجزات أعلامها طيلة عمره المديد. فألف فيها نيفًا وعشرين كتابًا توَّجَها بموسوعة ضافية هي " معجم
البلاغة العربية "، وقام بتدريسها في
الجامعات المصرية والعراقية والليبية والسعودية.
... ويذكر المرحوم الدكتور علي الحديدي في تأبينه له أنه كان يتمثل قبيل وفاته ببيتين من الشعر هما:
لِي خَمْسٌ وثمانونَ سَنَة
فإذا حققتها كانت سِنهْ
إِنَّ عُمْرَ المَرْءِ ما قَدْ سَرَّهُ
ليس عمرَ المرءِ مَرّ الأزمِنَة
... ولقد أسعد بدوي طبانة حياتنا العلمية ومجمعنا الموقر بعطائه الخصب فله الرحمة ولكم الشكر.(245/7)
ثانيًا: كلمة الأستاذ الدكتور كمال بشر
الأمين العام للمجمع
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا يوم من أيام مجمعنا، مجمع الخالدين، نستقبل فيه كوكبة أخرى من الفرسان ذوي ألوان مختلفات مؤتلفات، مختلفات في الطلاء، مؤتلفات في البناء، بمعنى أن لكل واحدٍ من الأربعة اتجاهًا معينًا في العلم والمعرفة، وهذا لون، ولكن الأربعة يلتقون في مكان واحد، لهدف واحد، في اتجاه آخر متكامل، ومعنى هذا أنهم يكونون نسيجًا متكاملاً يزهو بألوانه، ويعتز بخيوطه وخطوطه.
... هذه هي الكوكبة الجديدة من الفرسان: اثنان جوالان باحثان كاشفان هما الدكتور محمد الشرنوبي، ابن بطوطة بصورة من الصور، يجمع ويسجل. ويأتي زميله الدكتور محمد الجوادي، يسجل الجوار بين الزمان والمكان أو يسجل الجوار بين المكان وساكنيه وقاطنيه. والفارسان الآخران هما فيلسوفان، اجتمعا، وتفرقا هُنيهة من الزمان، ثم اجتمعا في النهاية، أولهما: الدكتور محمد الفيومي صاحب الموسوعة الكبيرة في الفرق الإسلامية، وهي قضية غامضة إلى حد كبير على كثير من الناس، ولكن الفيومي هذا كشف الغطاء عن كل هذا الغموض، وبين للناس حقيقة هذه المذاهب، وهذه الطوائف الإسلامية التي ما زال الخلاف بينها ظاهرًا من وقت إلى آخر.
... وثانيهما الدكتور عبد الحميد مدكور وهو تلميذي وصديقي وعزيزي، قديم حديث، قرأ التراث واستوعبه، ولكن لديه الجدة والحداثة، الحداثة هنا تعني التحديث، ساكت صامت ولكنه دائم الفكر، يحاور نفسه في أفكاره بغية الوصول إلى كشف الحوار بين الإنسان وربه حتى يصير الإنسان مرتبطًا بربه، ومن ثم اهتم هذا الرجل بالأخلاق والسلوك، لأن الإنسان أخلاق وسلوك. أما العقيدة والعبادة فهذه أشياء بينه وبين الله، ولكن المهم أيها الناس، السلوك والأخلاق. كيف تعامل ربك؟ كيف تعامل نفسك؟ كيف تعامل ما ومن حولك؟ هذه هي الثقافة، هذه هي الأخلاق، وهذا ما أراده الإسلام، وإن كان كثير من الناس لا يفهمون هذا المعنى.(246/1)
... نقدم هؤلاء الفرسان ونحييهم، ويستقبلهم باسم المجمع اليوم شيخ من
شيوخ القبيلة هو الدكتور كمال دسوقي، ذلك العلم الفحل، الواسع المعرفة، عميق الإدراك، عميق النظرة، متنوع الفكر، متنوع الثقافة، متنوع التخصص، فأنعم به، وأنعم بهم وهنيئًا لمجمعنا. والكلمة الآن لسيادته فليتفضل:(246/2)
ثانيًا: كلمة المجمع في استقبال الأستاذ الدكتور حسنين محمد ربيع
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
الأستاذ الدكتور حسنين محمد ربيع
أستاذ تاريخ العصور الوسطى بكلية الآداب.
ونائب رئيس جامعة القاهرة الأسبق
ومدير فرع الجامعة العربية المفتوحة في مصر.
وأمين عام اتحاد المؤرخين العرب.
أولاً- المؤهلات العلمية:
1- درجة الليسانس في الآداب من قسم التاريخ بكلية الآداب في جامعة القاهرة سنة 1959م.
2- دبلوم في التربية وعلم النفس من كلية التربية بجامعة عين شمس بتقدير جيد جدًّا سنة 1960م.
3- ماجستير في الآداب من قسم التاريخ (شعبة تاريخ العصور الوسطى) بكلية الآداب في جامعة القاهرة بتقدير ممتاز سنة 1964م.
3- دكتوراه في تاريخ العصور الوسطى – جامعة لندن سنة 1969م.
ثانيا: التدرج الوظيفي:
- معيد بقسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة القاهرة سنة 1961م.
- محاضر بقسم التاريخ بمدرسة الدراسات الشرقية بجامعة لندن.
- مدرس تاريخ العصور الوسطى بكلية الآداب في جامعة القاهرة.
- أستاذ (من الخارج) بقسم الدراسات العربية بالجامعة الأمريكية في القاهرة0
- أستاذ زائر بمعهد الشرق الأوسط بجامعة كولومبيا بنيويورك ومعهد دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية في سنتي 1973م و1974م.
- أستاذ مساعد تاريخ العصور الوسطى بكلية الآداب في جامعة القاهرة منذ سنة 1974م.
- أستاذ تاريخ العصور الوسطى بكلية الآداب في جامعة القاهرة 1983م.
- وكيل كلية الآداب سنة 1985م.
- عميد كلية الآداب بجامعة القاهرة سنة 1989م.
- نائب رئيس جامعة القاهرة لشؤون خدمة المجتمع وتنمية البيئة سنة 1993م.
- أستاذ متفرغ بكلية الآداب في جامعة القاهرة.
- مدير فرع الجامعة العربية المفتوحة في مصر سنة 2002م.
ثالثا: الخبرات العلمية والمهنية:(247/1)
وفيها يذكر أنه ألقى محاضرات عامة في التاريخ بجامعات ميتشجان وآن أريور وبرنستون وهارفارد، ويذكر زيارته لجامعة سعودية، وجامعة إيرانية، وعضويته في لجان المجلس القومي للثقافة والفنون والآداب، وعضويته في اللجان العلمية للترقيات بالمجلس الأعلى للجامعات، وفي قطاع الآداب والعلوم به، وعضويته في لجان المجلس الأعلى للآثار والثقافة، وفي مؤتمرات التعليم واجتماع خبرائه، وزيارة الأكاديمية القازاقية لبحث التعاون بينها وبين مصر في مجال التاريخ والآداب0 وألقى محاضرات في جامعات طشقند، وسمرقند، وبخارى، في جمهورية أوزباكستان بتكليف من صندوق التعاون الفني المصري مع جمهوريات الكومنولث الإنجليزية والجمهوريات الإسلامية في الفترة من 10- 23 يناير 1996م وتناولت المحاضرات الموضوعات التالية:
الأمير تيمور: نشأته – حروبه – إنجازاته الحضارية.
مدينة سمرقند في عصر تيمور.
دور علماء آسيا الوسطى في الحضارة الإسلامية وأثرها في أوربا بالعصور الوسطى: الإمام البخاري.
وزار جمهورية أذربيجان لبحث أوجه التعاون الثقافي والعلمي مع جامعاتها، ومراكزها العلمية بتكليف من صندوق الكومنولث للدول الإسلامية المستقلة حديثًا عن الاتحاد السوفيتى في 25-30 يونيه سنة 1997م.
وزار جامعة إدارة الأعمال الدولية والاقتصادية بالصين الشعبية لدعم العلاقات الثقافية والعلمية بينها وبين جامعة القاهرة والتمهيد لإنشاء قسم اللغة الصينية بكلية الآداب في جامعة القاهرة من 7- 13 من ديسمبر سنة 1997م. وهو مقرر المؤتمر القومي لتطوير التعليم العالي المنعقد في يومي 13 – 14 من فبراير سنة 2000م.
وزار الجمهورية العربية السورية مع وفد جامعة القاهرة لمناقشة برنامج التعليم المفتوح بين جامعة القاهرة والجامعات السورية، من 16 إلى 20 من مايو سنة 2001م.(247/2)
وزار الجامعة المفتوحة في المملكة المتحدة في برمنجهام وميلتون كينيس ليطلع هناك على برامج التعليم المفتوح ومتطلباته التكنولوجية، وهو عضو هيئة تحرير مجلة مكة المكرمة في العددين الرابع والخامس ومجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة.
وقد أشرف الأستاذ الدكتور حسنين محمد ربيع على كثير من رسائل الماجستير والدكتوراه في تاريخ العصور الوسطى بكلية الآداب في جامعة القاهرة وجامعة أم القرى بمكة المكرمة والجامعة الأمريكية في القاهرة وكلية التربية للبنات بجدة ، واشترك في مناقشة كثير من رسائل الماجستير والدكتوراه بتخصص تاريخ العصور الوسطى في جامعة القاهرة والإسكندرية والزقازيق، وجامعة الأزهر، والجامعات الأمريكية بالقاهرة، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، والمدينة المنورة، وجامعة أم القرى بمكة، وكلية البنات بجدة.
رابعًا- المؤلفات:
1- النظم المالية في مصر زمن الأيوبيين (مطبعة جامعة القاهرة 1964 م)0
2- The Financial System of Egypt (A. H. 564 – 741/ A. D. 1169 – 1341), Oxford University Press, 1972. (In English)
3- دراسات في تاريخ الدولة البيزنطية (القاهرة 1983).
4- Fifty Documents in Medieval History, edited With Dr. Said Ashour, Cairo, 1971 (In English)
5- تحقيق الأجزاء: الرابع والخامس والسادس والسابع من "مفرج الكروب في أخبار بني أيوب" لجمال الدين بن واصل. وترجم الجزأين الرابع والخامس إلى الفارسية.
6- اشترك في تحرير الجزء الثالث من الموسوعة المصرية التي تصدرها الهيئة العامة للاستعلامات، وعنوانه: تاريخ وآثار مصر الإسلامية، طبع لندن 1977م.
7- دليل وثائق الجينز الجديد (بالاشتراك) مطبوعات مركز الدراسات الشرقية بجامعة القاهرة1993م.
8- محاضرات في علم التاريخ، طبع القاهرة 1998م.(247/3)
9- تحرير بعض المواد العلمية في الموسوعة العربية الميسرة (الطبعة الثانية) طبع دار الجيل 2001م، وأشرف على المعلومات الخاصة بتاريخ الوطن العربي.
خامسًا: البحوث والدراسات:
وهي كثيرة، ومنها: دراسات عن تاريخ اقتصاد الشرق الأوسط في العصور الوسطى سنة 1970 (بالإنجليزية).
- وبحث عن السلطان قلاوون في دائرة المعارف الإسلامية، الطبعة الجديدة.
- وبحث عن السلطان الظاهر بيبرس في دائرة المعارف الإسلامية، الطبعة الجديدة.
- وبعض النظم الزراعية في العصور الوسطى بمصر.
- وبحث عن منهج السيوطي في كتابة التاريخ.
- وبحث عن الري بمصر منشور في دائرة المعارف الإسلامية.
- وبحث عن الأزهر في العصرين الأيوبي والمملوكي.
سادسًا: حضور مؤتمرات وندوات كثيرة:
1- مؤتمر الأندلس ملتقى ثلاثة عوالم: العالم العربي – العالم الأوربي – العالم الأمريكي (بمدينة إشبيلية 1991م) وعنوان البحث: أضواء جديدة على فتح الأندلس لجزيرة كريت.
2- مؤتمر تحديث الدراسات التاريخية بجامعة القاهرة في أبريل سنة 1992م. 3- مؤتمر دولي لتاريخ الحروب الصليبية في استانبول بيونيه، وعنوان بحثه: صلاح الدين وبيزنطة.
4- مؤتمر مصادر1997 تاريخ القدس بكلية الآداب جامعة القاهرة (مارس 1998م).
5- ندوة سواحل مصر الشمالية عبر العصور وقدم بحثًا عنوانه: حصار الصليبيين لمدينة دمياط.
6- شارك في ندوة الدور الوطني للكنيسة المصرية، في أبريل 1999م بالمجلس الأعلى للثقافة.
7- شارك في مؤتمر جامعة القاهرة لتطوير التعليم الجامعي، مايو سنة 1999م.
8- شارك في المؤتمر القومي للتعليم العالي، في فبراير سنة 2000م.
9- شارك في ندوة : طرق التجارة العالمية عبر العالم العربي على مر عصور التاريخ، في نوفمبر سنة 2000م بالقاهرة.
10- شارك في مؤتمر جامعة القاهرة الثالث عن الجامعات في خدمة المجتمع وتنمية البيئة، في مايو سنة 2001م.
11- شارك في ندوة آثار القدس في مارس سنة 2002م.(247/4)
سابعًا- الجوائز التي حصل عليها:
1- حصل على جائزة جامعة القاهرة التقديرية في العلوم الاجتماعية سنة 1999م.
2- حصل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية سنة 2001م.
وهذه المؤتمرات والندوات والبحوث والمؤلفات تجعله جديرًا باستحقاقه أن يصبح من أعضاء المجمع اللغوي في دورته التاسعة والستين.(247/5)
ثانيًا: كلمة الأستاذ الدكتور محمود فوزي المناوي
في حفل استقباله عضوًا بالمجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
"والحمد لله الذي نزل الكتاب بلسان عربي مبين"
سيدي رئيس المجمع وعميد المجمعيين:
أيها الزملاء والأخوة الكرام، أيتها السيدات الفضليات:
يشرفني أن أتحدث إليكم زميلاً، وأشعر أنني لا أستطيع أن أكافئ فضل أساتذتي الذين فكروا في ترشيحي والذين أيدوا ونصروا، وأشعر أيضًا أنني أشد عجزًا عن مكافأة هذه التحية الكريمة التي استقبلني بها أستاذي وأستاذ الجيل الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية، فهذه حفاوة بالغة لا أظن أن هناك ما يبررها إلا كرمكم.
إن ما شرفتموني به لَهُوَ أعزُّ عندي من كل ما جنيته في حياتي من تقدير وتكريم، وأسأل الله أن يوفقنا جميعًا لخدمة اللغة العربية – التي شرفها الله تعالى بأن اختارها لتكون لغة وحيه الذي أوحى به إلى محمد -صلى الله عليه وسلم - خدمة صادقة يرضى عنها الله جل شأنه.
أيها السادة:
إنه مما يزيد من شعوري بالغبطة والامتنان، أنكم أفسحتم لي مكانًا عزيزًا بينكم، فكم هي جميلة هذه التقاليد الراسخة التي تأصلت بكم والتي تتضمن كل معاني السمو والنبل والإخلاص التي قلما توجد بين غيركم؛ فمنها الاحتضان والتواصل والوفاء والتخليد: الاحتضان في استقبالكم، والتواصل في عطائكم، والوفاء في اعترافكم بالفضل لأهله، والتخليد فيما تقدمونه مما يرضي الله وينفع الناس.(248/1)
ولقد أوليتموني شرف الانتساب لمجمعكم، وهو شرف لم أكن أحلم به، ومسؤولية كبيرة ألقيت على عاتقي، أرجو أن أنهض بها وأن أوفيها حقها، لأن سلفيَّ الجليلين في هذا الكرسيِّ الأستاذ زكي المهندس والأستاذ الدكتور سليمان حزين كانا – وما زالا بعد رحيلهما – عالمين لهما ثقلهما في المجتمع بعامة، وفي مجمعكم الموقر بخاصة، فقد اختيرا في رحاب مجمعكم الموقر بخاصة، ليكونا من سدنة اللغة العربية مسجلين اسميهما في سجل الخالدين، بما حافظا عليه من أصالتها وعراقتها، وبما أضافا إليها من أسباب الحياة والقوة.
لقد أنشئ هذا الكرسي ليشغله بادئ ذي بدء الأستاذ زكي المهندس بك العالم الذي جمع بين التخصص في الدراسات الأدبية والتربوية فتميز بها ونبغ فيها. وكان صدر المرسوم الملكيُّ باختياره ضمن عشرة خالدين لعضوية مجمع اللغة العربية الملكي في عام (1946) ستة وأربعين وتسعمئة وألف. وظل العالم الأديب يشغل هذا الكرسي لمدة اثنين وثلاثين عامًا، انتهت في عام ثمانية وسبعين وتسعمئة وألف، ليحل محله في هذا الكرسي أستاذنا الفاضل العالم الموسوعي، وشيخ الجغرافيين في مصر المغفور له الأستاذ الدكتور سليمان حزين، الذي وصفه إمام المجمعيين العرب أستاذنا الدكتور شوقي ضيف بأنه من القمم الشامخة للتعليم الجامعي والثقافة العربية لتعدد أعماله العلمية والثقافية الرائدة على الصعيدين القومي والدولي. فقد كان رائدًا من رواد هذا الجيل الأشم الذي أسهم في بناء النهضة العلمية والثقافية في مصر والعالم العربي؛ لأن عمله كان مصدر متعته، وعلمه مبلغ سعادته، وخدمة المجتمع هي غاية توفيقه. وكان إيمانه بالتطور إيمانًا عميقًا، فسار نحو الإصلاح يبتغي الرقي – ليس لذاته - وإنما لمجتمعه المصري والعربي الذي عاش فيه وله.(248/2)
ولأن هذا العالم لم يكن ذا تخصص واحد، فقد كان جغرافيًّا وأثريًّا ومعنيًّا بشؤون الدراسات الاجتماعية والسكانية في مصر وخارجها، وهو ما أهله لتولى رئاسة العديد من الاتحادات والمراكز العلمية والبحثية المتخصصة.
ولأن سجله حافل بالأعمال العلمية والفكرية والثقافية التي سخرها لخدمة المجتمع فقد عهد إليه بإنشاء جامعة أسيوط، وظل يتعهدها وينميها ويطورها حتى عين وزيرًا للثقافة ليضفي عليها من واسع خبراته ومواهبه العلمية الكثير.
وحصل على أرفع الأوسمة ونال العديد من الجوائز ومن بينها وأبرزها جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية.
وفي مجمع الخالدين كان مقررًا للجنة مصطلحات الجغرافية، ومقررًا للجنة التربية وعلم النفس، وأشرف فيهما على دراسة الآلاف من المصطلحات ووضع المقابلات العربية لها وشروحها، وقد ساعده على ذلك حصيلته من اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية وهي اللغات التي ألف بها أكثر من مئة مؤلف.
ونظرًا لأنه قدم للغة العربية أجل الخدمات فقد اجتاز أبواب الخلود حينما استأثرت به رحمة الله تعالى وارتحل إلى جوار ربه راضيًا مرضيًّا.
وهذه الأيام طعمت شجرة المجمع بأعواد طيبة لم يراع في اختيارهم إلا وجه الله والعلم والوطن، ولا يخفى على علم حضراتكم أن هذا المجمع قد صدر المرسوم الملكي بإنشائه وتعيين أعضائه العشرين الأول في السادس من أكتوبر عام ثلاثة وثلاثين وتسعمئة وألف، واجتمعوا لأول مرة في مبنى المجمع القديم بشارع قصر العيني عام (1934) أربعة وثلاثين وتسعمئة وألف، ويزيد عدد أعضائه إلى ثلاثين عضوًا في عام أربعين وتسعمئة وألف، ثم صدر مرسوم ملكي في الحادي عشر من سبتمبر عام ستة وأربعين وتسعمئة وألف بتعيين العشرة الكرام ليصبح عدد الأعضاء أربعين عالمًا من الخالدين.(248/3)
إلا أن الفترة السابقة على إنشاء المجمع لم يؤرخ لها بالكامل، على الرغم من أهميتها، فمنذ تولي محمد علي حكم مصر في مستهل القرن التاسع عشر الميلادي بدأت الإرهاصات الأولى في ترسيخ قواعد اللغة العربية واستخداماتها العلمية تلوح في الأفق. لقد تنبه محمد علي لأهمية اللغة في بناء قواعد الدولة الحديثة التي كان يطمح في إنشائها، فبعد إنشاء مدرسة طب قصر العيني التي أشرف عليها (كلوت بك) الطبيب الفرنسيُّ الأصل، كانت قرارات محمد علي وأوامره تتجه دائمًا صوب الاهتمام باللغة العربية فيها، فعين بالمدرسة عددًا من المصححين والمترجمين والمراجعين كان على رأسهم الشيخ محمد الهراوي رئيس مصححي المدرسة. وكانت مدرسة الطب آنذاك تعتمد على الأطباء الأجانب، إلا أن أوامر الباشا كانت قد صدرت إلى كلوت بك في عام (1248هـ/1832م) اثنين وثلاثين وثمانمئة وألف بإلزام الطلبة المصريين المبتعثين إلى أوربا " لتلقي فنون الطب بها بترجمة الكتب التي يدرسونها أولاً بأول إلى اللغة العربية وإرسالها إلي مصر".
كذلك فقد صدرت أوامره إلى وكيل ديوان الجهادية في عام (1249هـ/ 1833م) ثلاثة وثلاثين وثمانمئة وألف بتنفيذ ما أقره مجلس الديوان بشأن التنبيه على "شواري الأطباء الأجانب بالسعي والاجتهاد في تعلم اللغة العربية ورَفت التراجمة الموجودين مع من يكون أدى الخدمة مدة سنة من الحكماء المذكورين".(248/4)
وقد كانت هذه هي بعض السبل التي اتخذها محمد علي للنهوض باللغة العربية، وتوطين علم الطب في مصر باللغة الأم، وهي البداية التي انطلقت منها العناية باللغة العربية خلال القرن التاسع عشر الميلادي، إذ استمر التعليم في مدرسة الطب باللغة العربية نحو ستة وسبعين عامًا إلى أن تحول إلى الإنجليزية بقرار من اللورد كرومر في عام (1903م) ثلاثة وتسعمئة وألف، حيث وجد المستعمرون في اللغة العربية – لغة الدين والتراث والتاريخ – عنصر توحيد في الوطن العربي يقض مضاجعهم، فبذلوا ما في وسعهم لمحاربتها بشتى الطرق. ولكن على الجانب الوطني والقومي بدأ في مصر نشاط ملحوظ – في ظل الاحتلال الإنجليزي – للاعتداد باللغة العربية والتمسك بها.
ففي عام (1892م) اثنين وتسعين وثمانمئة وألف قامت دعوةٌ حمل لواءها عبد الله النديم تمخضت عن إنشاء (مجمع لغوي علمي) هو مجمع البكري الذي قام بإنشائه ووضع لائحته الشيخ محمد توفيق البكري والشيخ محمد عبده والشيخ محمد محمود الشنقيطي، وهو ما شجع الكثيرين من أبناء مصر والوطن العربي آنذاك في السير على هذا النهج القديم، فأنشئ نادي العلوم عام (1908م) ثمانية وتسعمائة وألف، وهو العام نفسه الذي صدرت فيه اللائحة التأسيسية للجامعة الأهلية المصرية التي نصت على أن تكون لغة التعليم فيها "هي اللغة العربية دون سواها"، ثم أنشيء مجمع دار الكتب المصرية الذي دعا إليه أحمد لطفي السيد عام (1916م) ستة عشر وتسعمئة وألف وترأسه الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر آنذاك، وضم من بين أعضائه الشيخ حمزة فتح الله والأستاذ حفني ناصف والشيخ أحمد السكندري.(248/5)
وفي أبريل من عام (1917م) سبعة عشر وتسعمئة وألف صدر أول أعداد المجلة الطبية المصرية التي أنشئت لتحقيق غرض أساسي وهو "ترقية لغة الطب" في مصر والوطن العربي. وفي السادس عشر من يناير عام (1920م ) عشرين وتسعمئة وألف، اجتمع اثنان وأربعون طبيبًا بدار الجامعة المصرية واتفقوا على إنشاء الجمعية الطبية المصرية لتحقيق أهم أهدافهم وهو "إحياء اللغة العربية الطبية والتمشي بها مع العلم الحديث".
ثم تجمعت الجهود المصرية والعربية مرة أخرى من خلال المؤتمرات الطبية التي عقدتها الجمعية الطبية المصرية في المدن العربية ومنها: القاهرة والقدس وبغداد ودمشق وبيروت وبلغ عدد هذه المؤتمرات المنعقدة حتى عام (1932م) اثنين وثلاثين وتسعمئة وألف – وهو تاريخ إنشاء المجمع – خمسة مؤتمرات أثمرت في بدايتها تكوين لجنة علمية تعنى بـ (نقل المصطلحات الطبية العربية) وتتألف من كل من الدكتور علي إبراهيم، والدكتور محمد شرف، والشيخ أحمد السكندري، والشاعر علي الجارم، كما انتهت جميع هذه المؤتمرات إلى التأكيد على توحيد دعائم اللغة العربية وتوحيد المصطلحات الطبية والنهوض بها في البلدان العربية كافة.
كما أن المؤتمرين اتفقوا فيما بينهم على وجوب إنشاء (مجمع علمي لغوي حكومي) يقوم على تنقيح اللغة ويتكفل بكل ما يحتاجه الطب العربي والأطباء، على أن يكون من ضمن أعضائه بعض علماء فقه اللغة.
وقد أدت نتائج المؤتمرات والمقترحات والتوصيات التي أعلنت آنذاك إلى اتخاذ الحكومة المصرية موقفًا جديًّا لإنشاء مجمع علمي للغة العربية.(248/6)
وتشير الوثائق إلى أن التفكير في مشروع إنشاء مجمع اللغة العربية الملكي بدأ في وزارة المعارف في صيف عام (1929م) تسعة وعشرين وتسعمئة وألف حيث تم ترشيح أسماء خمسة وعشرين مصريًّا من المهتمين بشؤون اللغة العربية في جميع التخصصات العلمية، وتسع من الدول العربية، وأربعة وعشرين من الأجانب المستشرقين، اختير من بينهم عشرة علماء من المصريين، وخمسة علماء من الدول العربية، وخمسة من المستشرقين.
ومما هو جدير بالملاحظة أن أعضاء لجنة نقل المصطلحات الطبية كان قد تم ترشيح أسمائهم جميعًا ولم يكن بينهم الدكتور علي إبراهيم، والدكتور محمد شرف اللذان انضما لعضوية المجمع في عامي (1940م) أربعين وتسعمئة وألف و(1946م) ستة وأربعين وتسعمئة وألف على التوالي.
كما أن معظم المرشحين من الدول العربية كانوا من المواظبين علي حضور المؤتمرات الطبية العربية قبل إنشاء المجمع ومنهم الأب أنستاس الكرملي من العراق والأستاذ محمد كرد علي بك من الشام، والسيد حسن عبد الوهاب من تونس، والأستاذ بشارة الخوري من لبنان.
واشتملت أسماء المستشرقين الأجانب أيضًا على عدد من المهتمين باللغة العربية وعلومها وآدابها فاختير منهم الأكثر إسهامًا في تقدم اللغة ورقيها وتطورها.
وهكذا تضافرت الجهود وتوحدت وتوجهت نحو رفعة اللغة العربية لتصب في بوتقة واحدة هي مجمع اللغة العربية الملكي في عام (1932م) اثنين وثلاثين وتسعمئة وألف.
أيها السادة:(248/7)
إن علاقتي بأعضاء مجمع الخالدين قد بدأت منذ ما يقرب من خمسين عامًا فقد كان للكثيرين منهم الفضل في تكويني العلمي، فمنذ عام (1952م) اثنين وخمسين وتسعمئة وألف تتلمذت في السنة الإعدادية للطب على أيدي اثنين من العلماء المجمعيين وهما: الأستاذ الدكتور محمود مختار والأستاذ الدكتور محمود حافظ، وفي كلية الطب تعلمت على أيدي الأستاذ الدكتور محمد أحمد سليمان، والأستاذ الدكتور أحمد البطراوي، والأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم، والأستاذ الدكتور أبو شادي الروبي، وَوقعَ قرار تعييني معيدًا بكلية الطب المجمعي الأستاذ الدكتور أحمد بدوي وأجاز رسالتي للدكتوراه أستاذي الأستاذ الدكتور أحمد عمار.
حتى عندما تزوجت فقد ارتبطت بابنة المجمعي الأستاذ الدكتور محمد مرسي أحمد، وحضر عقد قراني المهندس أحمد عبده الشرباصى والأستاذ الدكتور عبد العزيز السيد، وأذكر أن الأستاذ فاروق شوشة يشاركني تاريخ الميلاد، يومًا وشهرًا وسنةً، ومحلّ الميلاد، ويوم أن حصلت على جائزة الدولة التقديرية كان هو نفسه يوم حصول الأستاذ الدكتور محمود حافظ على جائزة مبارك، وكلانا من فارسكور، وكلانا محمود إن شاء الله تعالى.
لقد عشت أيها السادة محاطًا بحب وتوجيه العلماء المجمعيين الذين تأثرت بهم كثيرًا، وتعلمت منهم كثيرًا ولعل هذا هو أحد الأسباب التي جعلتني أشرف أن أكون بينكم اليوم.
وينبغي أن أذكر هنا وفاءً لعالم جليل من أكثر الذين تأثرت بهم هو أستاذي المجمعي الأستاذ الدكتور أحمد عمار الذي دارت معه عدة لقاءاتٍ وجلساتٍ ومحاورات عام (1977م) سبعة وسبعين وتسعمئة وألف، حين بدأت قضية التعريب تراودني، وتلح علي منذ ذلك الوقت، وإذا بي أجد نفسي تلميذًا وسط أساتذة رواد يدرسون هذه القضية المصرية، ويتابعونها، فأخذت أتتلمذ عليهم وأهتدي بعلمهم وحكمتهم، وأستمتع برحيق فكرهم وعمق دراساتهم. هذا من جانب.(248/8)
أما من الجانب الآخر فإن الظروف والتحديات الدولية تحتم علينا الآن أن نعطي أهمية أكبر لقضية التعريب بمفهومها الواسع؛ لأن قضية التعريب في أزمة، وغايات التعريب في أزمة أشد من أزمة التعريب ذاتها، فلكل عصر لغته العلمية المشتركة، لابد أن نكون واقعيين علميين، نواكب التقدم ونأخذ بمصادر العلم والقوة والرقي.
إن اللغة العربية هي العنصر الأول الذي يطبع هُويتنا ويحددها وقد نعتها بعض العلماء بالسلاح، وأدرجها ضمن الأسلحة التي يجب أن يتحصن بها المؤمن، والتي تدخل في الآية الكريمة " وَدَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم ..." (سورة النساء، آية 102). وهكذا فإن المحافظة على اللغة العربية تظل الهدف الأساسي لمجمعنا.
والقرآن الكريم أيها السادة هو النموذج الأسمى للعربية، وهو النموذج الأعلى للبيان المعجز أيضًا، وسيظل القبلة الخالدة في استلهام أنصع الأساليب لنظم الكلام. فمادام القرآن محفوظًا والإسلام قائمًا، فلن يكتب لهذه اللغة الفناء. وكيف لا يبقى محفوظًا وقد تكفل الله تعالى بحفظه "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ( سورة الحجر، آية 9).
لقد كانت اللغة العربية دائمًا قادرة على مسايرة التقدم الحضاري، معبرة عنه بما لها من خصائص المرونة والطواعية، وبما أوتيت من غزارة وسعة، وبما لها من تراث أصيل عميق بعيد الأثر في مراحل التاريخ وكانت أيضًا، وما زالت ولسنوات طويلة، لغة التعليم والتعلم والعلم.
ولكن مع نهاية القرن العشرين بدأت تظهر للأسف الشديد جفوة ملحوظة بين اللغة العربية الفصحى وبين المتعاملين بها من المصريين والعرب، فحلت محلها اللغة العربية العامية الدارجة في كثير من التعاملات وظهر التغريب واضحًا في الشارع والإعلام العربي، وبدأنا نتذكر ما قاله حافظ إبراهيم على لسان اللغة العربية:
وَسِعْتُ كتابَ اللهِ لفظًا وغايةً
وما ضِقْتُ عن آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ
فكيفَ أضيقُ اليومَ عن وَصْفِ آلةٍ(248/9)
وتنسيقِ أسماءٍ لَمُخْتَرَعَاتِ؟
إن تعريب التعليم شيء وتعريب المصطلح شيء آخر، ولن يضير التعريب أن تكون بعض المصطلحات المستخدمة بألفاظها الأجنبية حتى نتمكن من صك المصطلح العربي المقابل. إننا نطالب باستخدام اللغة القومية؛ لأن اللغة كيان فكري ونفسي، أما المصطلحات فهي قوالب لفظية جُعلَت لاستيعاب معانٍ محددة، وليست هي بحد ذاتها صميم المشكلة، وبالتالي فلا ضير من أن نُعَلم بالعربية ونستعمل بعض المصطلحات الأجنبية، لأن هناك آلاف المصطلحات العلمية التي تضاف سنويًّا، ولأن المصطلحات العلمية اليوم مصطلحات عالمية تكاد تكون متماثلة في معظم اللغات الحية. ونحن نريد أن تصبح لغتنا قادرة على الوفاء باحتياجاتنا المعاصرة، وأن تصبح وسيلتنا إلى معارف العصر وعلومه ومخترعاته ويجب ألا نكبل هذه اللغة بقيود تحد من انطلاقها كي تعبر عن حياتنا وفكرنا.
إن النظام العالمي الجديد يمثل تحديًا مباشرًا لهويتنا العربية الثقافية والحضارية، وإذا لم نسارع كي نجد حلاًّ لأزمة التعريب بمفهومها الشامل فسوف نتعرض لأخطار التبعية والهيمنة، وسوف نواجه محنة التغريب.
إن العولمة تعزز سيطرتها على العالم العربي والإسلامي وتتغلغل تغلغلاً عميقًا لتفكيكه وتشكيله على هواها، لأن الغرب يريد أن يفرض أفكاره وقيمه وثقافته وحضارته، مستغلاًّ عوامل التفتت والانهيار التي تنخر في جسد الأمة العربية الإسلامية وتظهر نتائجها فيما نراه من ظواهر اجتماعية متباينة بين غنى فاحش وفقر مدقع، وبين أمية وتعليم متخلف، وتعليم أجنبي بلغة تزيد من تغريب شبابنا وعدم انتمائه. إننا أمام تحد خطير، والخوف كل الخوف من عدم استعمال الأسلوب العلمي في مواجهة العولمة، وأن يكون رد الفعل عندنا يفتقر إلى العقلانية، فيتجه إما إلى تطرف يتبنى الثقافة الغربية (التغريب) أو تطرف ينحو نحو الانغلاق ورفض التعامل، وكلاهما كارثة محققة.(248/10)
ويستخدم مهندسو العولمة "اللغة" كوسيلة للاختراق الحضاري للتأثير على الهوية الثقافية ثم خلخلتها من الداخل تمهيدًا للقضاء على الموروث الحضاري الذي هو أهم مقومات الدول. وهناك قلق حقيقي، ظاهر ومستتر، من تزايد الوزن الحضاري للغة العربية، فهي لسان حوالي (250) مئتين وخمسين مليون عربي بالإضافة لتأثيرها الديني والعقلي على أكثر من مليار مسلم في العالم. لقد أعلن الكاتب الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا – الحائز على جائزة نوبل في الآداب لعام (1989م) تسعة وثمانين وتسعمئة وألف عن تنبؤاته المستقبلية وتقديراته الاستشرافية حول مصير اللغات الإنسانية قائلاً" إنه نتيجة لثورة الاتصالات سوف تنسحب أغلب اللغات من التعامل الدولي وتتقلص محليًّا ولن يبقى من اللغات البشرية إلا أربع قادرة على الوجود العالمي والتداول الإنساني، وهي: الإنجليزية والإسبانية والعربية والصينية ". وقد أحدثت هذه التنبؤات زوبعة في دهاليز مراكز العمل والتخطيط للعولمة الثقافية.
أساتذتي ... زملائي:
إن وضع استراتيجية متكاملة للتعريب لمواجهة تحديات العولمة يستتبع أولاً توافر رغبة صادقة، تتمثل فيما يعلقه المجتمع من آمال على التعريب، وقدرة في الجهد المبذول من قبل أهل الفكر والعلم، وبهما يمكن أن ننتقل إلى مرحلة العزم، وهي منوطة بالقوى صاحبة القرار، والسلطة التنفيذية القادرة على تجنيد جميع القوى والتيارات من أجل تنفيذ التعريب بمفهومه الشامل والعصري، وهذا يتطلب إعداد الكوادر القادرة من المتخصصين والمفكرين اللازمين للقيام بالأعمال والإنجازات التي يتطلبها التعريب.(248/11)
إن جوهر الصراع العالمي هو سباق في تطوير التعليم، وإن حقيقة التنافس الذي يجري في العالم هو تنافس تعليمي، وسوف يعاد على ضوئه تصنيف الدول وفق مستوى تعليم أفراد كل دولة ونوعية تعليمهم. وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل يمكن في ظل نظام عالمي جديد، وفي ظل العولمة أن نقف بمعزل عن الآخرين؟ وكيف يمكن أن نوفق بين هذا النظام العالمي الجديد باتجاهاته التغريبية وبين قضية التعريب التي تعاني نقص الاعتمادات، وعدم وجود استراتيجية واضحة وتجاهل لمحنتها – ولا أقول أزمتها؟ إن اللغة العربية كي تتمكن أيها السادة من معايشة عصر العولمة، والتعامل مع مفردات التقنية التي فرضت نفسها على مختلف قطاعات الحياة المعاصرة، عليها أن تخضع لدراسة شاملة وجذرية، كي نتوصل معًا إلى الاستراتيجية الهادية للمنظومة القومية للتعريب، وفلسفتها ومبادئها وأهدافها ولتكون أساسًا ينطلق منه برنامج تطوير، في ضوء الرؤية الواضحة للتحولات الجذرية المحلية والإقليمية والعالمية.
أيها السادة:
إننا في حاجة إلى أن يكون هناك إدراك واعٍ لطبيعة الدور الخطير الذي يلعبه التعريب في نمو أمتنا العربية ومستقبلها وهويتها للتواؤم مع التطورات التقنية بالغة التأثير وسرعة التطور في تقنيات الاتصالات والحاسبات الإلكترونية والمعلومات والمصطلحات العلمية، والتأكيد على اندماج اللغة والعلم والتقنية مع جميع المنظومات المجتمعية، ومن ثم يكون التفاعل والتعامل الإيجابي مع متطلبات عصر المعرفة والتقنية والعولمة هو التحدي الرئيسي للمجامع العربية والمجتمع العلمي أمام قضية التعريب.(248/12)
إن الدعوة إلى استخدام اللغة العربية في التعليم العالي لا تعني أبدًا إهمال اللغة الأجنبية أو التقليل من شأنها، بل هي مقترنة دومًا بالدعوة إلى وجوب إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل لاتخاذها أساسًا في استمرار الاتصال بالتطور العلمي العالمي، والتمكن من إكمال الدراسة والتخصص، ونشر البحوث العلمية في المجلات والدوريات العلمية العالمية. وهنا أودُّ أن أؤكد على أنَّ إتقان اللغة الأجنبية شيء واستخدامها بديلاً عن اللغة القومية شيء آخر، إذ في إتقان اللغة الأجنبية دعم للثقافة ورقي لها في كل ميادين العلم، وأما استخدامها بديلاً فعزل للغة القومية ووأد لها. وعلى ذلك يصبح الجهد الذي ينبغي أن يبذل في سبيل التعريب فرض عين لا فرض كفاية.
إن التعريب عكس التغريب، والفارق الظاهر للعيان بينهما (نقطة) إلا أنه في جوهره إما أن يكون اختراقًا أو احتراقًا، إننا إن استطعنا أن نصل إلى درجة التعريب الكامل فسوف نخترق الثقافات الأجنبية السريعة التطور يومًا بعد يوم، وإذا لم نستطع أن نبلغ هذه الدرجة فإننا – لا مناص – سوف نحترق بتفوق الأجانب علينا علميًّا، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تفوقهم الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي، وإلى أن نكون خارج التاريخ.
أيها الزملاء:
لن نمل من الترديد أن الفرق بين التعريب والتغريب (نقطة) ولكنها نقطة سوداء بحجم الكرة الأرضية تُغشي عيوننا، فلا نرى ما حولنا، وعندما حَدَّثونا عن تنوير مُصطنع بدلوا هذه النقطة بقرص الشمس عند الظهيرة، فبدل أن يُنير الطريق، غَشيَت الأبصارُ، فضللنا الطريق.
وقد قطعت على نفسي مَوْثقًا يتحتم علي الوفاءُ به وهو مواصلة النضال والتواصل مع ما قام به أجدادي من "الأسرة المناوية" في خدمة اللغة العربية، وعلوم الطب خلال العصور الإسلامية المتعاقبة، وسألتزم بهذا العهد ما بقيت حيًّا. وأشكركم سادتي وسيداتي لكريم مشاعركم وجميل إصغائكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(248/13)
رابعًا: كلمة الأستاذ الدكتور محمد عبد الرحمن الشرنوبي
في حفل استقباله عضوًا بالمجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي العالم الجليل رئيس المجمع:
السادة الأجلاء أعضاء المجمع:
السيدات والسادة:
... بعد تقديم غاية الحمد لله ذي الفضل العظيم، والصلاة والسلام على محمد خير اللاهجين وعلى آله وصحبه الأكرمين.
... فقد أشرقت شمس هذا الصباح بشروق غير أي شروق، فقد كان شعوري معه جديدًا غريبًا، فاليوم تتاح لي فرصة الجلوس إلى حضراتكم مستمعًا ثم متكلمًا ... وها قد استمعت للكلمة الضافية المجاملة المحبة منكم على لسان أستاذنا الفاضل كمال دسوقي، ولا تزال كلمات التشجيع ممن زكوني واختاروني لمجمعكم الكريم تطارد مسامعي، وعبارات التهاني تطارد تواضعي وضعفي، وهيبة هذا الموقف تزلزل وجداني وترتجف معها خلجات قلبي ولساني.(249/1)
... أما كوني متكلمًا الآن، فإنني أعتذر مقدمًا عن لغتي وبياني، فأنا هنا أصغر من سلطان اللغة العربية، وأضعف من أن أبين شعوري لها، كما أن مهابة الموقف بعد أن ولجت هذا الصرح، وجلست هذه المنصة، وحفَتني هذه الصحبة العالمة، تجعل من التعبير أضعفه ومن البيان أسكنه ومن البلاغة أدناها، وإنني في هذا المقام الذي أرجو أن يتسع لشكري، وأن يتحمل وجلي وتعثري، أتقدم بالثناء العطر الحسن الجميل، إلى أساتذتي من فحول هذا المجمع الشامخ ، ممن زكوني وقدموني واختاروني، الشكر لأساتذتي الأجلاء كمال دسوقي ومحمود حافظ وعبد الحافظ حلمي. فهؤلاء الكبار هم الذين وقّعوا صك ترشيحي، والشكر لكبيرنا في هذا المجمع الخالد الأستاذ الدكتور شوقي ضيف وصحبه الكرام، وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور كمال بشر الذي صحبني هو والدكتور شوقي ضيف إلى هذه المنصة أمام حضراتكم، ثم من قبل هذا ومن بعده، يكون الشكر واجبًا لأعضاء المجمع الكرام الذين وضعوا علامة الموافقة والصلاحية أمام اسمي الضعيف وشخصي المبتدئ. لكم الشكر سادتي الخالدين الساهرين على أمن اللغة العربية وصرحها الشامخ.(249/2)
إنني أعود بذاكرتي إلى ماضي الأحداث، لكي أنتقي منها بعض ما ساقني ودفع بي دفعًا إلى هذا المكان، أتذكر معاجم الجغرافيا وقصتي معها، كانت هذه المعاجم – وبعضها أطلق عليه قواميس – دليلاً مرشدًا وإن كان غير كافٍ، ليحدد الأعلام والظاهرات والعناصر الجغرافية، وكانت من العربية والإنجليزية والفرنسية، وكان بعضها استظهارًا وحصرًا بقدر المتاح، ولم يكن أبدًا حصرًا مطلقًا أو مدًّا بغير نهاية، ولا زلت أذكر ما جاء به "مونكهوس" و"ددلى ستامب"، ولا زال في منزلي قاموس الجغرافيا القديمة بالعربية والفرنسية لأحمد زكي بك، والقاموس الجغرافي للقطر المصري الصادر عن نظارة المالية، وكلاهما صدر في عام واحد هو عام 1899، والقاموس الجغرافي لمحمد رمزي في أجزائه الستة المعروفة، وكلها أعمال كبيرة في إطار عصورها أو فتراتها الزمنية، هذا بالإضافة إلى معاجم العلوم الاجتماعية وعلوم الأرض وموسوعاتها على امتداد الغرب والشرق.(249/3)
... أما قصتي مع المعجم الجغرافي الذي صدر في ستينيات القرن الماضي، وكان لأستاذي الدكتور يوسف توني الذي علمني الكثير، فحينما كنت طالبًا بقسم الجغرافيا بكلية الآداب جامعة عين شمس، اختصني أستاذي هذا بالذهاب إلى المطبعة لتسليم مسودات معجم جغرافي كان يقوم بإعداده نظرًا لقربها من منزلي، على أن أعود إليه بها مرة أخرى بعد تصويبها لمراجعتها من جديد. كنت أنتهز الفرصة بين الذهاب والعودة لأقرأ هذه المسودات. ولقد آنست في صاحبها قبول الرأي والمناقشة من أحد طلابه (وكان هذا غريبًا علينا). فاستأذنته في إضافة صورة المصطلح إلى جوار معناه إذا كان متعلقًا بظاهرة جغرافية غير مألوفة، ولقد بادلني جمال الفكرة، وإن أشار إلى صعوبة تنفيذها، وألمح لي بأدب جم أن ذلك لم يفته منذ البداية، فأشرت عليه برسم الممكن منها، وكنت أجيد الرسم إجادة مقبولة، وكان نصيبي من إعجاب أساتذتي بقسم الجغرافيا كبيرًا، وأستاذي كان يعلم ذلك من خلال وجودي المستمر بغرفة رسم الخرائط بالطابق الرابع من الكلية، وبما كنت أنجزه وأعرضه في معارض الكلية. فسألني وهل تستطيع ذلك؟ فأجبت بأن ذلك سهل إذا تم تزويدي بالصورة الفوتوغرافية للظاهرة، فكان يجمع لي المراجع الأجنبية التي كان يذهلني إخراجها وهي مصقولة الورق جيدة الطباعة فاخرة الصنعة لأحول الظاهرة المصورة إلى ظاهرة مرسومة، ونجحت في ذلك إلى حد مناسب، وتم تنفيذ الفكرة، وخرج هذا المعجم بشكله الأخير مزودًا برسوم للظاهرات الجغرافية قدر الممكن والمتاح مرجعيًّا وفنيًّا.(249/4)
... ولقد كان من ثمار هذا التكليف، قراءتي الكاملة لهذا المعجم، ورصيد لا بأس به من الدراية بالمصطلح الجغرافي ودلالته، ونسخة مجانية منه لها موقع مكين في مكتبتي. كل هذا وأنا لا زلت طالبًا في الفرقة الثالثة بالجامعة، ولكن الزاد الحقيقي كان في الرجوع إليه بين الفينة والفينة ليس بشعور القارئ فقط، بل بشعور المشارك المتواضع (هكذا كنت أشعر) ومع تواتر الأيام ونضج المعرفة الجغرافية، كان الشعور بالنقد الصامت المؤدب.
... ويوم كلفت بأمانة مؤتمر تاريخ العلوم عند العرب – وكان بدولة الكويت في ثمانينيات القرن الماضي – التقيت بكثير من العلماء من غير الناطقين بالعربية من كل أنحاء العالم، وكان التعريب أحد قضايا هذا المؤتمر، وكان أخص ما يهمهم هو الدراية بالمصطلح ومرادفه ضبطًا ومعنى، وفي تسعينيات القرن الماضي طلب إلي أستاذي الدكتور محمد كمال لطفي المشاركة في إخراج موسوعة مبسطة لدول العالم والتعريف بها موقعًا ومناخًا وسكانًا واقتصادًا، ولقد فعلناها بجرأة نحسد عليها ، وإذا بها تسد نقصًا حقيقيًّا في المكتبة الجغرافية المعاصرة، ومع مرور الأيام بانت لنا عشرات الملاحظات التي نتمنى أن يمد الله في عمرنا حتى نتجاوزها في طبعة لاحقة تكون عند حسن الظن بأعمالنا وأعمارنا.(249/5)
... و يوم كلفني أستاذنا الكبير الدكتور سليمان حزين - رحمه الله - بالانضمام إلى خبراء الجغرافيا بمجمعكم الموقر، وجدتني جالسًا إليه ومعه الأستاذ الدكتور محمد السيد غلاب والأستاذ الدكتور إبراهيم رزقانه رحمهما الله في ركن من مكتبة هذا المجمع الخالد. وهالني موقفي بين هؤلاء العمالقة الأفذاذ، وعدت إلى نفسي وهي تحدثني: كيف السبيل إلى حوار أسبوعي مع هؤلاء الكبار؟ .. وكان ذلك مدعاة إلى السعي الحثيث نحو مزيد من القراءة والبحث والغوص في بحار المصطلح الجغرافي وأعلام الجغرافيا تحت مظلة اللغة العربية الجميلة، ويوم فقدت هؤلاء الأساتذة واحدًا إثر الآخر ، أحسست باليتم الحقيقي الذي يتسم بالحزن والأسى، فقد كانت مدرستهم العريقة أشهر وأكبر وأعظم من أن يرثها أحد، وإذا كان أستاذنا الكبير الدكتور كمال دسوقي قد أطلق عليَّ في حديثه اليوم عبارة سليل الجغرافيين الأفذاذ، فإنه – وإن طوق عنقي بعرفان لا حدود له – قد أحلَّني دارًا أرجو من الله صادقًا أن تكون إقامتي فيها على نهج هؤلاء العظماء، حتى أكون خلفًا مجتهدًا لخير سلف، دون أن تطول هامتي هاماتهم، وبغير فتنة تجعلني في مصافهم ومواقعهم، وسأبقى مجتهدًا في مدرسة لم يتخرج منها أحد حتى الآن. تحت ظل وارف، في جنة زاهرة، تحفها رعاية الله، وتحيط بها رحمته، وتعيش فيها أفئدة علماء اللغة ومحبيها من حضراتكم أعضاء المجمع الموقرين.
سادتي الأجلاء:(249/6)
... إن للجغرافيا - ربما دون غيرها من فروع المعرفة - سمات شديدة الخصوصية، فهي العالم كله، ساكنه ومتحركه، هي الأرض بما عليها وبمن عليها، هي اليابس والهواء والماء والأحياء .. تعيش في منظومة فريدة من صنع الخالق، لها موازين العدل التي تديم بقاءها بإذن الله، وتبقى في نظمها السرمدية بأمره تعالى، وتتفاعل فيها العناصر الطبيعية في انضباط رباني خارق، وتعبث بها عقولنا وأفكارنا تحت مقولة النظم البشرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإذا كانت هي كل ذلك، فماذا بقي غيرها؟ إن الجغرافيين يعتمدون على كل هذا الغير من العلوم، إنهم يعترفون بجهلهم إذا لم يعتمدوا على واحد أو أكثر من العلوم الأساسية بكل فروعها وبلا استثناء، ويخطئ من يظن أن الجغرافيا مجرد علم مستقل، كما يخطئ من يظن – بنفس القدر - أنها علم تابع. والمجال والحوار والخلاف محتدم حتى اليوم تحت مظلة الفكر الجغرافي قديمه وحديثه.
وإذا كانت العولمة في حاضرنا الآن وهي تحمل كل عناصر الغزو الثقافي بزعامة الشمال، وتهب عواصفها العاتية علينا بسرعة وإلحاح، وتثور براكينها تزلزل أركان الجنوب، فإن الاجتياح في مَقدمِه العاتي يقابل أول ما يقابل تلك المساحة العربية المتاخمة، ومن ثم فإن خطورتها على مسيرة تعريب المصطلح تصبح طاغية، لأنها موجهة بخبث إلى عقلية الإنسان وتفكيره، ومن ثم فقد أصبحت تهدد خصوصيته وفطرته، وتضعف من عربيته لغة وحضارة. ويزيد الأمر صعوبة وخطورة ثورة المعلومات الكثيفة والمتزايدة كسلعة غالية الثمن، كما أصبحت حكرًا لبعض اللغات، ليس من بينها العربية حتى الآن على الأقل، حتى إن البعض أصبح ينادى بجرأة شديدة بألا ضرورة لمزيد من التعريب للغة العلوم والآداب والفنون وغيرها، متصورين وهمًا أن الأفضل هو متابعة العلم من مصادره وبلغة هذه المصادر، وكل هذا يضعنا في مأزق الملاحقة والتحدي.(249/7)
وإن جاز لي التعبير، بل أتجاوز فأقول: إن تلك الدوافع أدعى وأشد إلحاحًا ومطاردة للعاملين في حقل اللغة العربية، ومن أقدر على المواجهة من مجمعكم الخالد؟
إنني أضع نفسي من اليوم في خدمة اللغة العربية، فهي سيدتي وفطرتي، وملاذي، هي منارة السالكين نحو عزة دين الله ورفعته وكتابه، وسوف أعمل مع زملائي الخبراء في الجغرافيا وغيرها على أن أضيف جديدًا، ويشغلني إضافة لما تواجهه العربية من أزمات وتحديات، اجتهادات مرسومة أو مصورة إلى المصطلح، وأتصور أنني سأعرض على مجمعنا الخالد - يومًا ما - دراسة موقف الخرائط الجغرافية، وصور وأشكال الظاهرات، وموقع كل هذا من البيان العربي لهذا التخصص، لأن اللغة هي العنصر المنطوق من الحضارة، والعناصر الجغرافية والظاهرات هي وسيلة مصاحبة وضرورية أحيانًا لحسن تسجيلها بشرط تميزها بخصائص فريدة تحقق الغرض من البيان والتفسير والوضوح – وآنئذٍ – وإذا قُبل الموضوع كبحث، فإنني سأتقدم بضوابط مقترحة لتحقيق هذه الغاية، وقد يشاركني في ذلك خبراء الأحياء والجيولوجيا والفيزياء والفلك أو غيرهم، كما سأتمسك مع زملائي باقتراح اللجوء إلى الاشتقاق حسب معايير اللغة أو اقتراح تعريب المصطلحات الوافدة مباشرة شرط استساغتها نطقًا وسمعًا.(249/8)
... وإذا كان من تقاليد مجمعنا الخالد أن أتحدث بوصفي عضوًا جديدًا عن سيرة حياة سلفي الراحل فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي أشرف اليوم باحتلال كرسيه الذي خلا، فكيف بي وهذا المأزق الكبير، فقد أحلّني مجمعكم المكان ذاته، فأي فخر هذا وأي اعتزاز يمكن أن أشعر به، أي متعة تلك التي أتحتموها لي باختلاس بضع دقائق (عوضًا عن عشرات السنين) تتاح لي للحديث عن هذا القطب المبدع؟. لقد قال فضيلته ـ رحمه الله ـ يوم جلس على هذه المنصة عام 1988م في حفل استقباله " لقد فرحت بهذا اليوم ترشيحًا، وفرحت به ترجيحًا وفرحت به ترسيمًا وفرحت به استقبالاً، ومن أولى بهذا من مجمعنا الموقر الذي شاء الله له أن يجمع الصفوة من عباقرة الأمة وشاء أن يجمعهم بعد نضج، هذا النضج يعطي ثمرة ما مضى بغير دخائل تدفع إلى غير مستساغ، لأننا قد شبعنا من كل شيء وبقي لنا أن نُشبع ملكة النفس استعدادًا إلى لقاء الله". أما راحلنا الكبير الأستاذ عبد السلام هارون الذي شغل منصب أمين عام هذا المجمع آنئذٍ، فقد قدم فضيلته بتساؤل يقول فيه: "من ذا الذي يجلس القوم أمامه صاغين منصتين كأن على رؤوسهم الطير يتسابقون إلى مجلسه ويتسارعون حراصًا على اقتباس علمه، واغتنام إرشاده في كل صغيرة أو كبيرة من أمور الدين والدنيا، ما يدع شاردة يشير إليها الكتاب الكريم، أو واردة تدل عليها ألفاظه المصطفاة، وأساليبه المنتقاة، إلا حام حولها أو نطق بها أو أوضح المراد منها باللفظ الميسر والعبارة السخية من غير حجاب أو ستار، فيظل القوم عنده في يقظة فكرية ونهم علمي حتى ينتهي اللقاء ... إنه مجلس يحرص الناس في دورهم وفي جميع مواطنهم وملتقياتهم على الاستماع إليه والإنصات لعلهم يُفلحون".(249/9)
... وبعد كل هذا – الذي أراه خير موجزٍ – للتعريف بهذا السلف الصالح المجد المجتهد، ماذا يمكنني أن أضيف؟ إن هذا اللمعان وذلك السطوع الذي لازم هذا العالم الفذ، ووضع على هامته تاج المهابة والحب، كان لابد أن يتوقف يومًا كُلنا بالغوه، لقد غاب الضوء وبقي النور، فغادرنا تاركًا ألسنة الملايين تنهج بالدعاء له، وتسارع لاقتناء دروسه سمعًا ورؤية… فياسادتي، أي فخر أناله اليوم بغير غرور؟ وأي شرف أحصل عليه بغير تعالٍ بأن أجلس اليوم على مقعده بينكم يا حكماء اللغة وفقهاءها.
... وبعد .. فإن لي الحق اليوم – ودون إخلال بتقاليد التواضع المستقرة وأعرافها – أن يداخلني شعور بالفخر والاعتزاز المقرون بكل الشكر والامتنان على كريم صنعكم رغم أنكم وضعتم في معصمي قيود الحرية التي كنت أتمتع بها قبل ولوجي هذا الصرح، فستتغير لغة التعبير لا شك،
سيصبح لزامًا من الآن أن أتدرب على الفصحى في معهدكم، وإن كنت أظن أن فصحى المجمع غير الفصحى التي أعرفها قبل احتلالي هذا المقام الرفيع.
سادتي:
... أطلت عليكم، وأثقلت على مسامعكم، ولكنها السعادة حينما تستدرجني لمزيد من الحديث ... وأي حديث هذا؟ إنه حديث في مجمع الخالدين.
... فشكرًا لحسن استماعكم وشكرًا لتشريفكم واستقبالكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(249/10)
"كتاب الزينة"
إرهاصات أولية في العمل المعجمي العربي
للأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح المقالح
مقدمة:
... ترتبط أهمية المعجم التاريخي في سعيه إلى رصد ما اكتسبته مفردات اللغة عبر العصور من استعمالات تختلف قليلاً أو كثيرًا في دلالاتها الوظيفية والمعرفية. وغياب هذا المعجم في اللغة العربية يشكل نقصًا واضحًا لا في شأن اللغة ذاتها وحسب، وإنما في شأن مستخدميها أيضًا لما تمتلكه اللغة – أيّ لغة – من قدرات على التطور ولكونها أداة تعبير متجدد عن الفكر والوجدان وما يبحث عنه المتحدثون بها من قدرات إضافية لتفسير النظريات والظواهر المتجددة في الحياة.
... ولا أجد – كواحد من أبناء هذه اللغة والمتعاملين معها بصورة يومية – ما يقنعني بأن علماء اللغة العربية الذين درسوا كل صغيرة وكبيرة تتعلق بهذه اللغة، وممن حققوا نجاحًا منقطع النظير في حقول المعرفة اللغوية، قد كانوا يجهلون أهمية تتبع التطور التاريخي للمفردات، والتغيير الذي يطرأ في مجال استخداماتها اللغوية وفي الشعر العربي بخاصة. والتفسير الوحيد الذي يجعل غياب هذا المعجم مقبولاً – من وجهة نظري – أن علماء اللغة العربية قد اكتفوا بما قدموه من دراسات تفصيلية وشروح واسعة حول ما اتسمت به اللغة عمومًا من دلالات تتحدد وتتجدّد بتجدد استعمالاتها المجازية، وما تتعرض له من تحولات عبر تنقلاتها من المحسوس إلى المجرد أو من المجرد إلى المحسوس، وهو باب واسع لم يتم إلحاقه بالدراسات المعجمية حتى لا يدركه الثبات اللغوي ولا تقف التأويلات المجازية عند حدس التوسعات الاستعمارية.(250/1)
... ولو أن الحضارة العربية لم يدركها ما أدرك الحضارات السابقة واللاحقة ممن تعثر وعطب لكان علماء اللغة العربية قد أنجزوا المعجم التاريخي منذ وقت مبكر، ولكانوا قد اهتدوا بحسهم النقدي وبصيرتهم اللغوية النافذة إلى العناية بكل ما تدعو الحاجة إليه. والدليل على ذلك هذا الكتاب الذي جعلته محورًا ومدارًا لبحثي المتواضع لما يقدمه من إرهاصات أولية عن بداية إدراك أهمية تأليف معجم تاريخي لألفاظ اللغة العربية، يقف جنبًا إلى جنبٍ مع القواميس والمعاجم والموسوعات التي اعتنت بجمع هذه الألفاظ واشتقاقاتها ومترادفاتها. وليس من باب التفاخر القول بأن الأيام أثبتت أن أولئك العلماء هم الذين وضعوا الأسس الأولى للنظريات اللغوية التي يأخذ بها الآن المشتغلون بعلم اللغة المعاصر.
تمهيد:
... ليس من المبالغة في الشيء القول بأن اللغة العربية حظيت من أبنائها القدامى بجهود مخلصة تضيق عن الحصر، وبعناية صادقة لم تحظ بها لغة من اللغات العريقة والباقية على وجه الأرض. وما المعاجم والقواميس العديدة والمباحث اللغوية المختلفة في فقه اللغة والبلاغة والنقد الأدبي والدراسات النحوية إلاَّ الدليل القاطع على هذه العناية الفائقة غير المسبوقة. وقد شمل الاهتمام اللغوي كل ما يتعلق باللغة من معانٍ وسياقات وتعدد دلالي. كما عُني فقهاء اللغة بالمشترك اللفظي والنحت والتركيب المزجي والاشتقاق والأضداد والمجاز، فضلاً عن دراسة العلاقة بين اللفظ والمعنى. ولم يترك هؤلاء العلماء الأوفياء للغتهم شاردة ولا واردة – على حد تعبيرهم – تتعلق باللغة إلاَّ عالجوها وأقاموا عليها الشواهد والحجج في قدرة على التأصيل والتحليل والتطبيق والتوثيق.(250/2)
ومما حاوله اللغويون العرب القدامى ولم يصلوا فيه إلى الغاية التي كانوا يتمنونها البحث عن تطور استخدام المفردات، وهو المعروف في العصر الحديث بالمعجم التاريخي، الذي يتناول تطور الألفاظ العربية عبر العصور، ومدى ما تمثلته من دلالات ومعانٍ جديدة، وما دخل عليها من تغيرات في الاستعمال.
... لقد أجهد علماء العربية القدامى أنفسهم في جمع الألفاظ العربية وترتيبها وتحديد معانيها، ونجحوا كذلك في حصرها وكان إمامهم الأول في هذا الجهد الخليل بن أحمد الذي جعله تواضعه يقول بأنه لا يحصر اللغة العربية إلاَّ نبي، وكان عمله الفذ بداية القواميس والمعاجم الموسوعية كالقاموس المحيط، ولسان العرب، وتاج العروس، وهي الأشهر والأوسع في التداول. وفي العصر الحديث "حققت معاجم مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومعاجم مكتب تنسيق التعريب في المغرب، والمعاجم التي ألفها اللبنانيون المحدثون، حققت كثيرًا من الأماني"(1).
... ولعل عناية فقهاء اللغة بالمجاز قد أغناهم عن تتبع التطور الذي لحق بمدلولات الألفاظ، وأن هذا التطور – من وجهة نظرهم – ما هو إلاَّ ضرب
من المجاز وليس تطورًا في المعاني تقتضيه طبيعة الحياة، كما أن المحافظ على ألفاظ القرآن الكريم بدلالاتها الثانية قد صرف العلماء عن إيجاد مثل هذا المعجم التاريخي اعتقادًا منهم أن الاعتراف بتطور هذه الدلالات يباعد بين القرآن ومعانيه الثابتة، وهو تصور خاطئ أثبتت القرون المتلاحقة خطأه، ومن هنا فقد تم التركيز على المجاز الذي يجعل المفردة تمتلك درجة من التجدد والغموض الذي يستعصي على التفسير أحيانًا، وكان ذلك الحل واضحًا منذ الخطوة الأولى في تأسيس المعجم الأول. و"إن قراءة متأنية للمعجم الخليلي تبين علاقات الأخذ والتحوير والاستقراض التي تقدم في هذا الطور من حياة اللغة. فما نسميه اليوم "المفهوم" قد لا يكون في هذا الطورسوى "استعارة" وحسب لمعنى اعتباري" (2).(250/3)
... لكن هذه الإنجازات تبقى محدودة الشأن إذا ما قيست بما قدمه
الآخرون في حقل الدراسات اللسانية المعاصرة وفي المجال المعجمي، ولم تزل جهات الاختصاصات سواء في الجامعات أو المجامع عاجزة عن الاستفادة من التراكم المعرفي للدراسات اللغوية، الذي حققه العلماء السابقون من جهة، والإضافات المعاصرة من جهة والوقوف على التجارب المتحققة بشأن المعجم التاريخي. ومن سوء الحظ أن مشكلاتنا مع المعاجم لم تعد واقفة عند ترتيب ألفاظها وفق النظام الألفبائي أو انطلاقًا من مخارج الحروف، كما لم تعد في الوقت الحاضر قائمة على خلاف البصريين والكوفيين، ولا في التمييز بين المستويات اللغوية، وتفضيل لهجة على غيرها، وإنما المشكلات الأهم والأخطر في انصراف الأجيال الجديدة عن اللغة العربية واتجاه الآباء المتعلمين والمثقفين إلى تدريس أبنائهم اللغات الأجنبية والإنجليزية على وجه الخصوص؛ لأنها لغة الحياة والعمل بل لغة المستقبل – كما يقولون – والتحدي الأكبر أمامنا جميعًا يتمثل في السؤال الآتي: كيف نعيد الثقة بلغة الضاد، لغة القرآن الكريم، لغة الإبداع العربي؟ وكيف يكون العمل على إعلاء مكانتها لتكون لغة للحياة والفكر والعلوم والفنون والآداب؟(250/4)
... والإجابة على السؤال تستدعي تفكيرًا طويلاً من علماء اللغة، ومن المجامع العربية الموكل إليها طرح حلول للمشكلات التي تواجهها اللغة، بعيدًا عن التفريط والمواقف الانفعالية لأنصار التساهل أو أنصار التشدد. وللغة العربية من ماضيها الإسلامي ما يشكل مرجعية صحيحة للتيسير واستيعاب الجديد وتحقيق المنفعة، فقد استطاعت اللغة في ذلك الحين أن تضع لكل جديد ما يناسبه من الكلمات والتعابير وأن تستعير ما ينقصها دون خوف ولا تردد. والوضع العربي الآن لا يختلف كثيرًا عما كان عليه في بداية النهوض العربي عقب ظهور الإسلام، وستبقى اللغة العربية بقواعدها النحوية، التي لا تخلو من صعوبة، وبتشكيلاتها الإملائية، التي لا تخلو هي الأخرى من بعض الزوائد والنواقص، أحسن حظًّا من غيرها من اللغات التي يراها البعض نموذجًا للتيسير والاستجابة لما تفرضه طبيعة التطور ومعطيات العصر.
... يضاف إلى ذلك كله العمل على تلافي القصور الناتج عن غياب المعجم العربي التاريخي الذي من شأن إنجازه على المستوى المطلوب أن يحقق التطور الأمثل في فهم تاريخ اللغة العربية، والتغير الذي طرأ على مفرداتها؛ إذ "ما تزال مفردات اللغة تفتقر إلى مزيد من الإيضاح والتعريف العلمي الأصيل. فالمعنى فيها تعوزه الدقة في تحديد الدلالة. وما يزال المراجع لمعجماتنا يشعر بنقص في المعنى العام الشامل لكل أصل من أصول الألفاظ. ويتحسس الذهن هذه الثغرة الواضحة بين المفهوم الحالي للفظة والمفهوم الذي أطلقت أول مرة من أجله. وعلى ذلك يمكن القول أن التطور التاريخي للمدلول لم يحظ
بعرض منهجي علمي شامل، في كل ما
صدر من معجمات جديدة. والمعاجم بين أيدينا لم تقم على دراسة عميقة لمفهوم الألفاظ"(*) ليس ذلك وحسب وإنما لم تقم على دراسة بعضها أو كلها من تطور طفيف أو تام في المعنى، وهو ما تهدف الوصول إليه المعاجم التاريخية في العصر الحديث.
كتاب الزينة إرهاصات أولى:(250/5)
... العنوان الكامل للكتاب هو: (كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية) وهو من تأليف الشيخ العلامة أبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي المتوفى 322هـ. وقد تولى تحقيقه والتعليق عليه الأستاذ حسين بن فيض الله الهمداني الحرازي من علماء اليمن. والكتاب من منشورات مركز الدراسات والبحوث اليمنى عام1994م. وقد ظهرت طبعته الأولى بعد وفاة محققه المرحوم الهمداني باثنين وثلاثين عامًا، وللكتاب مقدمتان الأولى بقلم
الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس وهو من ألمع المشتغلين بموضوع اللغة العربية والعاملين في مجال اللغويات، وكان عندما كتب هذه المقدمة عميدًا لكلية دار العلوم (1956م)، والمقدمة الثانية للمحقق، وقد أورد الدكتور أنيس في مقدمته ما يشير إلى أهمية الكتاب، وإلى أنه يحقق جزءًا من أمنية لخَّصها بالقول: "ود كثير من الدارسين في العصر الحديث لو أمكن أن نتتبع الألفاظ العربية في العصور المختلفة، لتبيَّن مدى تطورها من حيث الدلالة، ولنقف على ما أصابها كلها أو بعضها من تغير في الاستعمال العلمي والأدبي جيلاً بعد جيل، حتى صارت إلى ما نألفه منها الآن" (1).
... وتمضي مقدمة الدكتور أنيس إلى الحديث عن مؤلف الكتاب وأنه يبدو لغويًّا أكثر منه فقيهًا "فهو يطنب فيما يتطلبه اللفظ من بحث لغوي ويقتصد فيما يتطلبه من شرح ديني
آخذًا بالحيطة، وابتعادًا عن مجال الظن والمسائل الشائكة. وهكذا يعتبر كتابه
كتابًا لغويًّا، يمكن أن نتبين منه تطور هذه الألفاظ في دلالالتها، وما عرض لها من تغير أو تحول"(2).
... وقبل أن يختم الدكتور أنيس مقدمته التي جاءت من عالم لغوي معروف للتنبيه إلى أهمية الكتاب نجده يقول: "ولعل في نشر كتاب الزينة ما يحفز الهمم بين الدارسين في عصرنا الحاضر على أن يتوفروا على تلك الدراسة الدلالية للألفاظ العربية متخذين من ذلك الكتاب الأسوة الحسنة" (3).(250/6)
... أما مقدمة محقق الكتاب فقد تركز الحديث فيها عن المؤلف وعصره، ومؤلفاته وعن انتمائه المذهبي، وآراء المؤرخين وتعليقاتهم على الكتاب وصاحبه. ومما جاء في هذه المقدمة: "ومهما يكن الأمر، فإن أبا حاتم قد نجح إلى حد كبير في تقديم موضوعات الكتاب تقديمًا لغويًّا
واقعيًّا. وقد نجح كذلك في أن يجعل كتابه نافعًا للأديب والفقيه والعامة والخاصة" (1).
... والحقيقة أن فضل كتاب الزينة هو اتخاذ صاحبه نهجًا غير مسبوق في قراءته لقائمة من المفردات والنظر في مستوياتها المتداخلة والمختلفة للكشف عن الدلالات السابقة والراهنة لهذه المفردات، من خلال شروح وافية وقريبة من الأنساق المعجمية الحديثة واستدلاله بشواهد قرآنية وشعرية، وهو ما يمكن اعتباره بداية التفكير في إعداد المعجم التاريخي الذي يتناول التحول في الألفاظ من خلال السياق أو الانتقال من الدلالات المحسوسة إلى المجردة والعكس، فضلاً عن تتبع المفردات التي تعددت معانيها، والتمييز بين مختلف أنواع التوسعات. ولست أزعم أن كتاب "الزينة" معجم تاريخي في اللغة وتطور مدلولاتها، وقد لا يعدو أن يكون مدخلاً أوليًّا إلى هذا المعجم المنشود. وهو يقدم أشتاتًا من المفردات الدينية التي(250/7)
برزت مع ظهور الإسلام والتي يربطها نظام نسقي وسياقي موحد. وقد استعان مؤلفه بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وبأقوال المفسرين واللغويين مركزًا جهوده على إثبات الثراء المادي والمعنوي الذي تتمتع به اللغة العربية بوصفها أهم اللغات العالمية في عصره: "بما حباها الله به من مكانة وبما نقل إليها من علوم الطب والهندسة والحساب والفلك والفلسفة"(2)، والمؤلف يبدأ كتابه بتصدير يقدم فيه بيانًا لبعض ما اشتمل عليه الكتاب من مفردات أدركها التطور التاريخي وبعد أن كان لها في وقت سابق مدلولات معينة صارت تحمل مدلولات جديدة، وإن ظلت بعض هذه المفردات تحمل مدلولاتها القديمة. ولم يسلبها الاستعمال الجديد وجودها الأول ومعجميتها السابقة. تظهر في السياق كما هو الحال مع مفردة "الرب" التي أصبحت بعد ظهور الإسلام من أسماء الله عز وجل بشرط بقاء الألف واللام التي أصبحت
– كما يقول المؤلف – "من سَنْخِ الكلمة. لأن الألف واللام إنما تسقطان عن الاسم الذي يكون في الخصوص
مرة كقولك رب الدار، وفي حال العموم مرة كما جاء في صفة الله عز وجل: فقل الرب" (*).
... ويمكن اعتبار هذه البداية الفريدة في التأليف المعجمي نموذجًا للاتجاه الذي كان ينبغي أن يتحرك فيه القاموسيون أو بعضهم لتطوير مهمة المعجم، والخروج به من مرحلة جمع المفردات، وجعله أكثر فائدة من خلال سياق تحليله لعملية تطور الدلالات وتمثل الألفاظ للمعاني المختلفة بدلاً من جعل ذلك التطور ينضوي تحت مفهوم التفكير المجازي واللغة المجازية. فقد نجح تطور الحياة في أن يعطي لبعض الألفاظ – من خلال الاستخدام – معاني مستقلة تختلف تمامًا عن تلك التي يعطيها لها القاموس القديم. ومن مقتضيات اللغة أن تساير الكائن الحي في تطوره، وألا تخضع للمعاجم التي
تم وضعها في طور تاريخي معين ووفقًا لاجتهادات تتصل بشأن المحافظة على اللغة من التسرب والضياع.(250/8)
... ويلزمنا للتنبيه على تفرد عمل "كتاب الزينة" ومادته اللغوية المعجمية أن ننوه بمنهج صاحبه في تأليف المعجم لاسيما إذا وضعناه في إطاره الزمني. فالمعجم مؤلف في أواخر القرن الثالث الهجري، وذلك تاريخ مبكر قياسًا إلى الجهد المعجمي واللغوي عامة، ونقتبس هنا قول المؤلف في المقدمة: "ثم ذكرنا بعد ذلك معاني أسماء الله عز وجل وصفاته وما يجوز أن يتناول فيها، ثم معاني أسماء تذكر باللغة العربية مما هي في العالم ومما جاءت في الشريعة، مثل الأمر والخلق، والقدر والقضاء، والدنيا والآخرة، واللوح والقلم، والعرش والكرسي والملائكة، وما لها من الأسامي والصفات، والجن والإنس، ومعنى إبليس، والشياطين، وما لها من الصفات مثل: الرجم، والمارد،
واللعين، وغير ذلك، والنار وما لها من صفات مثل: لظى، والسعير، والحطمة، والحميم، وجهنم، والهاوية، وسقر، ومعنى الصراط، والأعراف، ومعنى البرزخ، ومعنى الثواب، والعقاب، والإثم، والوزر ...إلخ " (*).
... وهنا نكشف أن صاحب الزينة يتدرج منهجيًّا في تعقب دلالات الألفاظ والأسماء كما قال، على الشكل الآتي:
1- الأسماء
2- المعاني
3- الصفات
فهو لا يعد قارئه بالتوقف عند معاني الأسماء، وإلاَّ لكان معجمه كسائر المعاجم السابقة عليه أو اللاحقة له، لكنه يقود قارئه إلى "الصفات" التي تلي المعاني، وهي في رأينا دليل اهتمامه بما نسميه اليوم "التعدد الدلالي" أو "التوسع الدلالي" بعبارة أدق، كي نشير إلى الأصل الذي توسعت المادة اللغوية عنه من الناحية الدلالية، ومما يؤيد رأينا هذا، انصراف المؤلف عند
سوق أدلته، إلى الشواهد الشعرية، لما نعلمه في الشعر من قدرة على تمثل مجازات الألفاظ، وقابليته على استيعاب(250/9)
الدلالات المتوسعة عن المفردة ومعناها القاموسي، بسبب ما يمتلكه الشعر من طاقة صورية ومجازية متأنية عن التخيل الذي هو أساس عمل الشاعر، وثمة تأييد آخر لما ذهبنا إليه أن المؤلف عقد فصلاً مطولاً قبل الشروع في تفصيل مادة المعجم، مخصصًا لما أسماه في المقدمة "فضيلة الشعر وما فيه من النفع العظيم" وكأنه في معرض الانحياز إلى القائلين بفضل الشعر على النثر وامتيازه عنه بهذا التوسع الذي يبسطه في معجمه..
وسنورد للقارئ أمثلة مما امتلأت به صفحات الكتاب بجزأيه:
الشعر
... (و"الشعر" هو الكلام الموزون على روي واحد، المقوم على حذو واحد. قد حذي البيت بالبيت حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة، حتى لا يخالف
بعضه بعضًا في الوزن والروي: وإنما سموه شعرًا، لأنه الفطنة بالغوامض من الأسباب. وسموا
"الشاعر" شاعرًا، لأنه كان يفطن لما لا يفطن له غيره من معاني الكلام وأوزانه وتأليف المعاني وإحكامه وتثقيفه، فكان لا يفوته من هذه الأسباب كلها شيء. قال عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
... يعني أن الشعراء لم يدعوا شيئًا إلاَّ فطنوا له. يقال شعرت بالشيء إذا فطنت له. قال الكسائي في قول الله عز وجل "ولكن لا تشعرون" شعرت بالشيء شعرًا وشعورًا) (1).
القصيدة
... (وسموا الكلمات المنطوقة المؤلَّف بعضها إلى بعض منظومًا موزونًا "قافية" وجمعها قوافٍ.
قال النابغة:
قوافي كالسِّلام إذا استمرت
فليس يرد مذهبها التظني
... يعنون بالقوافي أنه الكلام الذي يقفو بعضه بعضًا على مثال واحد، ثم سموا اجتماع القوافي "قصيدة" قال جرير:
في ليلتين إذا حددت قصيدة
بلغت عمان وطيِّ الأجبال
... يعني بالقصيدة أنها الكلمة التي ملئت بالمعاني، وكثرت فيها الألفاظ المستحسنة. يقال: ناقة قصيدة، أي ممتلئة كثيرة اللحم سمينة، فكأنهم شبهوا القصيدة بذلك)(2).
باب المصور(250/10)
... "ومن صفاته "المصور" الصورة الغاية والمثال. قال عز وجل "هو الله الخالق الباريء المصور" فابتدأ بالخالق ثم الباريء، ثم بالمصور، لأنه قدر تراكيب الخلائق، ثم برأ لها النسمات، ثم أظهر صورها، فقامت تامة بتدبيره عز وجل. والصورة اشتقاقية من صار يصير، ومعناه التمام والغاية، ومن أجل ذلك قالوا: إلى ماذا صار أمرك؟ أي إلى أين انتهى وما غايته؟ وتكون
الصورة معناها المثال. ومنها قيل للتماثيل تصاوير، لأنها مثلت على مثال الصور، فكأن كل أمر إذا انتهى إلى غايته وتمامه ظهرت صورته وبرز مثاله. ويقال: كيف صورة الأمر؟ أي كيف مثاله؟" (1).
باب السلام
... "والسلام اسم من أسماء الله عز وجل. السلام هو الله، قال الله: "السلام المهيمن". ومنه سمي الرجل عبد السلام، كما يقال عبد الله. وزعم بعض أهل اللغة أن السلام بمعنى السلامة، كما يقال الرضاع والرضاعة، واللذاذ واللذاذة. سمي نفسه عز وجل "سلامًا" لسلامته مما يلحق المخلوقين من العيب والنقص والفناء والموت والزوال والتغيير. قال الله عز وجل: "والله يدعو إلى دار السلام". فالسلام هو الله عز وجل وداره الجنة. ويجوز أن يكون سماها دار السلام، لأن الصائر إليها سلم فيها من كل ما يكون في الدنيا
من الآفات كالمرض والموت والهرم
وغير ذلك، فهي دار السلام. ومثله: "لهم دار السلام عند ربهم"(2).
باب الجبار
... "ومن صفاته عز وجل "الجبار"
... الجبار: النخل الذي طال وفات اليد. والجبار في كلام العرب: النخل الذي طال وفات اليد. يقال نخلة جبارة: إذا طالت فلم يقدر المتناول أن يبلغ أعلاها. قال امرؤ القيس:
سوامقَ جبار أثيث فروعه
وعالين قنوانًا من البسر أحمرا
وقال الجعدي:
بتثليث أو نخل منقوحة
مواقير جبارة المرطب
... فالجبار هاهنا: النخل الذي طال وفات اليد. ويقال ناقة جُبّارٌ، إذا عظمت وسمنت، والجمع جبابر، وفرس جبار: إذا كان قويًّا مشرقًا متناهيًّا في الكرم... إلخ"(3).
باب الحكيم(250/11)
"الحكيم بمعنى المحكم" قال أبو عبيدة: العرب ربما وضعت فعيلاً في موضع مفعل، وربما وضعته في موضع مفعَِل، بكسر العين وفتحها. وقال: وحكيم في معنى محكِم بكسر عين الفعل. وقال في معنى قوله الكتاب الحكيم قال: المحكَم بفتح الكاف، ومعناه المبين الواضح... قال غيره: فالله سبحانه وتعالى سمى نفسه حكيمًا، لأنه أحكم ما خلف، فلم يفته شيء، ولم يكن فيه خلل، ولم يعجزه شيء من لطيف الخلق وجليله، ولم يدع شيئًا مما ينبغي أن يكون مخلوقًا إلاَّ خلقه بحكمته، ومنع بعضه أن يفسد بعضًا، وقدر على إمساكه كله، وجعله يمسك بعضه بعضًا عن أن يبطل أو يفسد إلاَّ بأمره وذاته، فذلك كان حكيمًا. ويقال في كلام العرب: أحكمت الشيء، أي استوثقت منه ومنعته أن يفسد، وأحكمت البناء، أي بنته بناءً لا يتداعى، ويقال أحكمت الرجل عن الشيء، إذا منعته عنه.
ويقال حكمتُ الغلام أحكمه، أي منعته عن الفساد، وأحكمته أيضًا، لغتان. قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفاهكم
إني أخاف عليكم أن أغضبا
... أي امنعوهم من التعرض لي. ومنه سميت "حكمة اللجام" لأنها تمنع الدابة. والحاكم يحكم بالشيء، فيمنع الناس من الظلم... إلخ" (*).
باب آمين
... "قالوا: "آمين" اسم من أسماء الله عز وجل
... "معنى آمين" يقال بعد الدعاء: آمين معناه: يا ألله، قال بعضهم: إنما معنى قول المصلي بعد فراغه من قراءة سورة الحمد "آمين"، معناه يا ألله اشهد، ولكن لا يجوز إظهار قوله: اشهد، لأنه كلام.
... "آمين بالمد وآمين بالقصر" وآمين، قال قوم من أهل اللغة، هو مقصور، وإنما أدخلوا فيه المدَّة بدلاً من يا النداء، كأنهم أرادوا يا "آمين" ومنهم من يختار القصر فيقول: "أمين" مقصورًا وأنشد:
أمين فزادَ الله ما بيننا بعدا
... فيقصر الألف ولا يمدها ويفتحها لانفرادها وانقطاعها عما يضمر فيها من معنى النداء، حتى صارت عندهم معنى "كذلك فعل الله" .... إلخ"(1).
باب القلم(250/12)
... "يروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ الوحي عن جبرئيل، وجبرئيل عن ميكائيل، وميكائيل عن إسرائيل، وإسرائيل عن اللوح. واللوح عن القلم.
... وأما اشتقاقه من اللغة فإنه يقال: قلّمته، أي قطعته وهيأته من جوانبه وسويته. قال: وقيل لأعرابي: ما القلم؟ ففكر ساعة وقلب يديه، ثم قال: لا أدري. فقيل له توهمه فقال: هو عود قُلِّم من جوانبه كتقليم الأظفور فسمي قلمًا. قال المقنع الكندي:
يخفى فينقص من شعيرة أنفه
كقلامةِ الأظفور من مقلامه
... والقلم في كلام العرب القدح والسهم الذي يتساهم به. والأقلام السهام تجال على الشيء الذي يقسم. قال عز وجل: "إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم". وقال أبو عبيدة: أقلامهم أقداحهم. وقال بعض أهل التفسير: أقلامهم سهامهم. قال: وذلك أن الأنبياء تشاحوا أيهم يكفل مريم، فضربوا عليها بالسهام، فخرج سهم زكريا عليه السلام. قال الله: "وكفلها زكريا". ويقال: إن الإقليم أخذ من ذلك فقال: إن الأرض سبعة أقاليم، أي سبعة أسهم. فإقليم إفعيل من القلم. وقال قوم: سمي السهم قلمًا، لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم وإيضاءهم بالقلم فسمى السهم قلمًا لذلك. وقال غيره: سمي قلمًا، لأن القدح على هيئة القلم... إلخ"(2).
باب اللوح
... "قال الله عز وجل: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ".
... "ألواح موسى" روى أبو عبيدة بإسناد له عن مجاهد في قول الله عز
وجل "كتبا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء" قال كانت الألواح من زمرد أخضر. فلما ألقى موسى عليه السلام الألواح بقي الهدى والرحمة، وذهب التفصيل... ثم قال: "أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة" أي نسخ الهدى والرحمة. وعن ابن عباس قال: لم يبق من الألواح إلاِّ سدسها...(250/13)
... "اللوح العظيم" قال بعض أهل المعرفة: سمي اللوح الذي يكتب فيه لوحًا، لأنهم كانوا يكتبون في العظام، كعظم الكتف وغير ذلك، فكل عظم كتبوا فيها سموه لوحًا، ثم سُمِّي كل ما يكتب فيه من الخشب لوحًا، لأنه نحت على الهيئة. واللوح العظيم. يقال: رجل عظيم الألواح، إذا كان كبير اليدين والرجلين عظيمهما. وكل عظيم يسمى لوحًا. قال الجعدي:
ولوحي ذراعين في بركة
إلى جوجؤٍ رهل المنكب
... لوحي ذراعين: يعني عظم الذراعين "ألواح السفينة" وسُمِّيت ألواح السفينة ألواحًا لأنها نحتت على هيئة الألواح التي يكتب فيها. قال الله عز وجل: "وحملناه على ذات ألواح ودسر"....إلخ"(*).
... ولو توقفنا قليلاً عند المواد المعجمية المختارة في بحثنا، لتأكد لنا ما ذهبنا إليه من عناية "كتاب الزينة" – كمعجم – بجانبين شديدي الأهمية هما: الدلالة كاتساع ضروري للاستخدام الكلامي والممارسة اللغوية، وعدم التحدد بالمعنى، والوقوف عنده شأن المعجمات السائدة. والجانب الثاني هو تعقب التطور الدلالي للمفردة عبر تاريخية كلامية يستمدها المؤلف من القرآن الكريم والشواهد الشعرية، ففي حديثه عن مفردة (الشعر) ومفردة (القصيدة) يمزج المعنى المحدود للمفردتين بالدلالة المستخدمة ويربط ذلك بالمصطلح والمفهوم الأدبي لهما فيربط الشعر بالفطنة كميزة للشاعر لا
يشاركه فيها غيره، وهي التي تجعله يحس الأشياء ويرى فيها مالا يراه سواه. وفي مفردة (القلم) يتتبع صاحب كتاب الزينة اشتقاقاتها وما تحتشد به من معانٍ قبل أن تصبح علمًا على القلم الذي نكتب به. وفي (الصورة) يربط المفردة بالاصطلاح الفني والمفهوم التخييلي للتصور والتمثيل فهو يرينا علة تسمية (التماثيل) تصاوير؛ "لأنها مثلت على مثال الصور" وهكذا في بقية المفردات التي اخترناها نماذج في بحثنا هذا وهي محدودة أو في بقية المفردات التي تناولها الكتاب.(250/14)
... وبعد، فتلك نماذج من "كتاب الزينة" تشهد على نجاح المحاولة المبكرة لهذا النوع من العمل المعجمي الهادف إلى رصد التغييرات الدلالية في المفردات العربية ضمن سياق تاريخي يخرج بها – أي بالتغييرات الدلالية – من منطقة المعنى المجازي إلى إعطاء المفردات معنى قائمًا بذاته ويمنحها السمات المعجمية التي للألفاظ المستقلة بمعانيها خارج نطاق النظرية الدلالية القائمة على المفهوم الاستعاري أو المجازي أو على ما صار يسمى بالانزياح وانحراف المعنى وبقية الاجتهادات اللسانية المعاصرة.
... وقد يتساءل البعض ممن سيمعنون النظر في هذه النماذج عن الجديد الذي أضافه أبو حاتم في كتابه هذا، فقد قام بجمع موضوعاته من مؤلفات علماء العربية والمفسرين الذين يشير إليهم، وقد أطلق محقق الكتاب ما يشبه هذا التساؤل علمًا بأن أبا حاتم لم يقف عند الجمع ولم يكتفِ بتفسير المعاني والكلمات التي تغيرت مدلولاتها في العصر الإسلامي عما كانت عليه في العصر الجاهلي – كما يقول المحقق – وحسب، وهو جهد يستحق عليه الثناء الجزيل، وإنما لأنه أول من تولى القيام بهذه المهمة المعجمية وتخصيصها بكتاب مستقل. ولا يعيبه أو ينقص من جهده أنه قام بجمع الأسماء والكلمات التي عاشت في بحوث علماء اللغة العربية وأهل التفسير، لأن تلك هي المهمة الأساسية لأصحاب المعاجم، والعمل المعجمي ليس ابتكارًا واختراعًا ولا صياغة على غير مقال، وإنما هو تنظيم وتدوين وجمع وتبويب، وهذا ما أجاده وأحسن فيه صاحب كتاب الزينة. وتكفيه هذه الشهادة المنصفة من علامة لغوي معاصر أنفق عمره في دراسة اللغة العربية وتدريسها وأعني به الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس الذي أشار في نهاية تقديمه للكتاب إلى أنه جدير بتحفيزهِمَم الدارسين في عصرنا الحاضر، على أن يتوفروا على تلك الدراسة الدلالية للألفاظ العربية متخذين من هذا الكتاب الأسوة الحسنة.
خاتمة:
... وبعد،(250/15)
... فقد كان الهدف منذ البدء في إعداد هذا البحث المتواضع أن يتضمن شيئًا من الإجابة على سؤال تردد ويتردد كثيرًا في أوساط المعنيين
بالعربية ومعاجمها مؤدَّاه: أين موقع المعجم التاريخي بين المعاجم العربية المعروفة التي هدفت إلى رصد فصيح العربية وصحيحها؟ وأن يتضمن – أي هذا البحث – في الوقت ذاته شيئًا من الرد على أولئك الذين لا يفتؤون يجاهرون بعجز التراث العربي وتجاهله التام لأسئلة المعرفة اللغوية المعاصرة، وهو افتئات جائر ومحاولة غير بريئة لإسقاط عجز الحاضر على الماضي. فقد أثبت "كتاب الزينة" أن علماء اللغة العربية لم يغفلوا عن التغييرات الدلالية لمفردات اللغة. ولا يعلم إلاَّ الله وحده عن جهود مماثلة كثيرة لم تر النور وضاعت أو احترقت بين آلاف الكتب التي حكمت عليها عصور من الأمية والتخلف بالضياع والاحتراق.
عبد العزيز صالح المقالح
عضو المجمع من اليمن(250/16)
أبو القاسم بن سديرة: حياته ومؤلفاته
للأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله
... يمكن أن نصنف مثقفي الجزائر خلال القرن التاسع عشر الميلادي إلى ثلاثة أصناف: صنف يمثله الذين ابتعدوا عن التعامل مع الإدارة الفرنسية أو عزلوا أنفسهم عنها لأسباب دينية أو اجتماعية فاتخذوا الخلوة في الزوايا يتعبدون ويعلمون القرآن الكريم ومبادئ الإسلام، أو هاجروا إلى البلاد الإسلامية واستقروا فيها، وصنف ثانٍ يمثله الذين اختاروا التعاون مع الإدارة الفرنسية فوظفتهم كمدرسين وخطباء وأئمة ومعلمين وصحفيين ونواب، ولكنهم كانوا منها على حذر، يقاومون بالوسائل المتاحة تدخلها في شؤونهم الإسلامية والاجتماعية ويبتعدون عن المسائل السياسية، أما الصنف الثالث فيمثله الذين قبلوا الحكم الفرنسي لبلادهم ورحبوا به متأثرين بالثقافة الفرنسية فتصاهروا مع الفرنسيين وتبادلوا معهم المصالح، وهكذا أصبحوا داعمين لسياسة الاندماج التي تعني ذوبان الجزائريين في البوتقة الفرنسية، ورضوا بما عرضه عليهم الفرنسيون من التجنس بجنسيتهم بشرط تخليهم عن الأحوال الشخصية الإسلامية ودخولهم تحت طائلة القانون الفرنسي، وقد كان أبو القاسم بن سديرة من هذا الصنف الأخير.
حياته:
... ولد ابن سديرة في مدينة بسكرة وسط الأربعينيات من القرن التاسع عشر، وهذا يعني أنه فتح عينيه على الدنيا فوجد الاحتلال الفرنسي جاثمًا على بلدته ووطنه. وبسكرة هي بوابة الصحراء وعروس الزيبان في مصطلحات الكتاب والرحالة؛ لأنها ترقد في حضن جبال الأوراس الشماء، ولكنها في نفس الوقت منفتحة على الصحراء وواحاتها. وكانت السلطة المحلية فيها متنازعة بين عائلتين عريقتين هما:(251/1)
عائلة بوعكاز المتوطنة في بسكرة منذ الهجرة الهلالية، وعائلة ابن قانة القادمة إليها من مدينة القل نتيجة مصاهرتها مع أحد بايات قسنطينة. وكانت هذه السلطة المحلية في يد "شيخ العرب" الذي لم يكن يحكم فقط بسكرة وما حولها بل كان نفوذه يمتد جنوبًا إلى وادي "ريغ" ووادي "سوف" وغيرهما من الواحات الواقعة في أعماق الصحراء الشرقية، وفي سنة 1842م احتل الفرنسيون بسكرة فواجهوا فيها مقاومة عنيفة أشهرها ثورة الزعاطشة (1849)، كما استعملوا فيها سلاح تفريق الصفوف لكي يسودوا. فتارة يقربون إليهم عائلة بوعكاز، وتارة يقربون عائلة ابن قانة إلى أن استقروا على إسناد الأخيرة ومنحها لقب شيخ العرب، وقد أضاف تدخل الأمير عبد القادر عنصرًا ثالثًا حيث اعتمد تارة على عائلة بوعكاز، وتارة على عائلة ابن عزوز المنتمية للطريقة الرحمانية والتي لم تكن لها علاقة بالسلطة الزمنية من قبل.
... نشأ ابن سديرة في هذا الجو المشحون بالثورات والتوجس وتبديل الولاءات، وليس غريبًا أن نعرف أن ولاءه كان لعائلة ابن قانة التي توطدت علاقتها كما قلنا بالفرنسيين، وقد ألمح الذين تعرضوا لحياته أنه كان يتيمًا من عائلة فقيرة، وربما كان ذلك يعني اعتماد ابن سديرة على إنعام (شيخ العرب) ابن قانة، ذلك أننا وجدنا في الوثائق أن هذا كان في مراسلاته معه يمن عليه ويذكره بأنه هو الذي رباه واعتنى به، وقد أشار ابن سديرة نفسه في كتابه(*)، عندما تعرض لكلمة (سدرة) بأن اسم عائلته مشتق منها وأنه تصغير (سديرة) وأن أصل الكلمة وارد في القرآن وهو (سدرة المنتهى). هذا وقد حفظ ابن سديرة القرآن الكريم كله في أحد مساجد بسكرة لكنه لم يذكر المسجد كما لم يذكر شيخه أو مؤدبه، بينما نوه بمعلميه الفرنسيين، وانتقد طريقة التعلم في المساجد والزوايا وحبذ طريقة التعلم في المدرسة الفرنسية.(251/2)
... أول مدرسة فرنسية في بسكرة نشأت سنة 1855م، أي بعد أن قطع ابن سديرة مرحلة متقدمة في حفظ القرآن، إن لم يكن قد أكمله. لكن هذه المدرسة لم تكن سوى مكان مفتوح لدروس وتمارين في الهواء الطلق حسبما ذكر ابن سديرة نفسه. فمن أشار إليه بهذه المدرسة المفتوحة؟ هناك أمران نعرفهما من دراستنا للتعليم الفرنسي الموجه للأطفال الجزائريين، فهذه المدرسة كانت خاصة للجزائريين وليست للجميع، ويخبرنا الفرنسيون أنفسهم بأنهم كانوا "يزرعون" المدرسة وسط تجمع من الأهالي فمن جاءهم درسوا له مبادئ بسيطة تدخله في "الأسرة الفرنسية" ومن ابتعد عنهم لا يسألون عنه.
... ويبدو أن معلمي ابن سديرة الفرنسيين قد اكتشفوا ذكاءه الفطري وميوله فركزوا عليه إلى أن جعلوا منه
رجلاً يستجيب لحاجتهم. وقد نوه ابن سديرة نفسه بمعلمه الأول في بسكرة، وهو كولومبو Colombo الذي يسيمه "معلمي المحترم" ويذكر أن الذي أشار ببناء مدرسة في بسكرة قرب سوق البلدة هو الجنرال ديفو Devaux الذي كان قائدًا عسكريًّا للناحية والذي كان يتقن اللغة العربية، ويزور المدرسة بعد بنائها ويتعرف على تلاميذها ومدى تقدمهم ليختار منهم النوابغ، وكان هدف الجنرال (ديفو) إدخال الأهالي في الثقافة الفرنسية. ولا شك أنه كان يعرف حالة ابن سديرة الاجتماعية وقد ذكر هذا أن الجنرال، وقد لقيه سنة 1860م في بسكرة وشجعه على تعلم اللغة الفرنسية(1) ومن ذكرياته عن مدرسته الأولى في بسكرة أنها افتتحت في الهواء الطلق كما قلنا، وأن معلمه الفرنسي كان يلتقي بالأطفال تحت ظل النخيل في بستان محمد الصغير بن قانة (شيخ العرب)، ليتعلموا مبادئ اللغة الفرنسية(2).(251/3)
... وصل ابن سديرة تعلمه في الجزائر العاصمة في تاريخ غير محدد، وربما يكون بين سنة 1860م وسنة 1861م، فقد أنشأ الفرنسيون سنة 1857م معهدًا مزدوج اللغة (العربية والفرنسية) في العاصمة كتجربة يسترضون بها الأهالي الذين كانوا يقاطعون المدارس الفرنسية خوفًا على أبنائهم من فقدان هويتهم الدينية والحضارية، ويحققون من ورائها تخريج فئة من المتعلمين تنفعهم في مجالات التعليم والقضاء والترجمة. وباقتراح من مثال ليون روش L. Roches والجنرال بيدو Bideau وباقتناع من الإمبراطور نابليون الثالث الذي كان يفكر في إعادة الأمير عبد القادر إلى الجزائر ليحكمها نيابة عنه، افتتح الفرنسيون معهدًا سموه المدرسة السلطانية(1) ورشحوا له أبناء الموظفين الجزائريين وأغروهم بمنحة وإقامة داخلية وضمان وظيفة بعد التخرج. وقد استقبل المعهد حوالي مئة وخمسين
تلميذًا، أغلبهم لم يرض أهلهم بالسكنى الداخلية خوفًا على هويتهم، وقبلوا فقط مبدأ الدراسة المزدوجة. ويبدو لنا أن ابن سديرة الذي كان أحد أولئك التلاميذ كان يقيم داخليًّا سيما وقد جاء من بعيد، ولا ندري هل رشحه ابن قانة أو أن معلميه الفرنسيين هم الذين جندوه للمدرسة الجديدة اقتناعًا بجدارته. ومن أساتذته في المدرسة السلطانية لويس برينييه، Bresnier وأوكتاف هوداس O. Houdas اللذان نوه ابن سديرة بفضلهما عليه في تعلم اللغة العربية. وقال إنه بفضلهما تعلم الطريقة التحليلية في دراسة اللغة العربية، وانتقد الطريقة التقليدية التي كان يسير عليها شيوخ الزوايا والمساجد في تعليم هذه اللغة(2).
... وفي سنة 1863م، اختير ابن سديرة لمواصلة تعلمه في مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال) بفرنسا، وكان ذلك بمنحة من الحكومة وبموافقة من الجنرال قريزلي، فقضى سنتين في(251/4)
فرساي. ويظهر أنه كان يتردد أثناء ذلك على باريس ويطلع على التطور الاجتماعي والثقافي والسياسي فيها، وقد أظهر تفوقًا أثناء دراسته جعلت مدير المدرسة ينوه به في نهاية السنة الأولى ويطلب من حاكم الجزائر أن يرسل إليه طلبة من أمثال ابن سديرة للدراسة في مدرسة فرساي(1)، وبعد سنة أخرى تخرج ابن سديرة من المدرسة متفوقًا على أقرانه، وحصل على جائزة تشجيعية وعلى تقدير مدير المدرسة وأساتذتها(2).
... ويتذكر ابن سديرة حادثين متصلين بهذه الفترة من حياته: الأولى لقاؤه مع الأمير عبد القادر أثناء زيارته لفرنسا سنة 1865م، وحضوره في جامعة السوربون حفل توزيع الجوائز، ففي هذه الحفلة قدم وزير المعارف ديروي Duruy ابن سديرة إلى الأمير الذي قال له (حسب رواية ابن سديرة) "تذكر يا بني أن روابط الاعتراف
بالجمل هي سلاسل ذهبية لا تنقطع"(3). أما الحادثة الثانية فهي تنويه ابن سديرة بأستاذين جامعيين من أساتذته، هما قلانشان Glanchant وفونسان Foncin، فقال عن الأول إنه ساهم في تكوين مستقبله وإنه كان مهتمًّا به منذ سنة 1865م حين كان (قلانشان) مديرًا لديوان وزير المعارف (ديروي)، وكان هذا الوزير قد قرر مكافأة ابن سديرة على تفوقه في دراسته وتخرجه من مدرسة ترشيح المعلمين، فحضر قلانشان إلى حفل التخرج وقدم له المجلدات الأربعة التي ألفها الوزير هدية منه، علامة على تقديره العالي له، وقال ابن سديرة إن هذه الكتب ما تزال (سنة 1887م) تحتل مكان الشرف في مكتبته.
... أما الرجل الثاني (فونسان) فقد ألقى محاضرة في الجزائر سنة1886م في النادي السانسيموني عن نشر اللغة القومية (الفرنسية) على يد(251/5)
الرابطة الفرنسية في العالم Alliance Française. وفي عبارات إطراء أشاد فونسان بصفة خاصة بالطلبة الأهالي الذين أصبحوا يحتلون مراكز مرموقة في الطب والتعليم والوظيفة الإدارية في الجزائر، منوهًا بأن أحدهم أصبح أستاذًا في المدرسة العليا للآداب بالجزائر أصله من مدينة بسكرة، ومن الواضح أن هذا الإطراء الخاص يعني ابن سديرة نفسه، ولذلك أحس بضرورة الاعتراف بالجميل، فقام يشكر الأستاذ فونسان على شكره باسمه الخاص وباسم زملائه الجزائريين؛ لأن ذلك يشجعهم على المضي كما قال في طريق التقدم ويجعلهم مدينين بتكوينهم لحكومة فرنسا.(251/6)
... منذ خريف 1865م أصبح ابن سديرة معلمًا في مدرسة ترشيح المعلمين بالجزائر، وهي مدرسة أنشئت حديثًا، وكانت تتألف من قسم خاص بالفرنسيين وقسم خاص بالجزائيين (الأهالي) مع تمييز واضح في فترة الدراسة ومحتوى البرنامج. وخلافًا لبعض زملائه لا نجد ابن سديرة يساهم في تحرير جريدة (المبشر) الحكومية، ويبدو أنه كرس حياته لمهنته وهي تخريج المعلمين وتأليف الكتب المدرسية التي تخدم نفس الغرض. وفي سنة 1870م دخلت فرنسا في حرب مع بروسيا انتهت بهزيمتها وسقوط الإمبراطورية وقيام الجمهورية الثالثة. ولا ندري هل خدم ابن سديرة في الجيش الفرنسي عندئذ. والمرجح أن يكون قد فعل لأن من بين الأوسمة التي حصل عليها ميدالية عسكرية. ومهما كان الأمر فإن الفرنسيين راجعوا بعد حرب 1870م منظومتهم التربوية وطرق تعليمهم مستفيدين من التجربة الألمانية في هذا المجال، ويهمنا هنا مراجعة برنامج وهيكلة المدارس الفرنسية الإسلامية الثلاث التي كانت تحت إدارة شيوخ جزائريين، فأصبحت، بعد المراجعة تحت إدارة مستشرقين فرنسيين وأدخلت عليها مواد جديدة تجعلها تخدم فكرة اندماج الجزائريين في فرنسا وإبعادهم عن هويتهم العربية الإسلامية، وقد شمل التعديل دخول ابن سديرة كأستاذ لمادة اللغة العربية الدارجة، والهاشمي بن الونيس لمادة اللغة الزواوية ورينية باصيه لمادة الأدب العربي، وكميل صابتيه لمادة العرف عند البربر.(251/7)
... وقبل أن نتحدث عن مؤلفاته نشير إلى ما يساعد على فهم تطوره الفكري والاجتماعي والوظيفي. ففي سنة 1865م زار نابليون الثالث الجزائر. وعلى إثر الزيارة أصدر قانونًا يفتح به الباب أمام الجزائريين ليتحولوا من مجرد رعايا إلى مواطنين فرنسيين بشرط تنازلهم عن أحوالهم الشخصية الإسلامية، مما يعني "التجنس". ولكن الجزائريين تمسكوا بحالة الرعية إلا القليل منهم، فكان ابن سديرة من هؤلاء القلة. والغالب أنه تزوج من امرأة فرنسية؛ لأننا وجدنا في الوثائق أن له ابنا سماه (شارل) طبقا لقانون التجنس المشار إليه.
... وفي سنة 1871م حدثت ثورة عارمة في الجزائر وهي المعروفة بثورة الحاج محمد المقراني المدعوم بالطريقة الرحمانية التي كان يتزعمها الشيخ محمد أمزيان الحداد. وكان لهذه الثورة عواقب مدمرة على الجزائريين؛ لأن الفرنسيين استغلوها لمصادرة أراضي الثوار والحكم بالإعدام أو النفي من البلاد على مجموعة منهم. وكانت منطقة الثورة هي التي زارها ابن سديرة بتكليف من الحاكم العام (لويس تيرمان) (L. Tirman)، وكتب عنها تقريرًا مفصلاً نشره سنة 1886م وأشادت به جريدة (المبشر) الرسمية.
... ومن جهة أخرى عين ابن سديرة معاونًا في محكمة الاستئناف بالعاصمة على إثر تخلص السلطة الفرنسية من المحاكم الشرعية وإضعاف دور القضاة المسلمين وإعطاء صلاحياتهم للقضاة الفرنسيين، كما عين ابن سديرة عضوًا في الجمعية الآسيوية بباريس، وهي الجمعية التي كانت تصدر (المجلة الآسيوية) التي كانت لسان أقطاب الاستشراق. وقد حصل ابن سديرة كذلك على أوسمة عديدة مدنية وعسكرية اعترافًا بخدماته لفرنسا.(251/8)
... إن ما يلفت النظر في ثقافة ابن سديرة العربية أنها لم تكن ثقافة عميقة مستقاة من أمهات التراث العربي الإسلامي على يد شيوخ متمرسين في اللغة والأدب والفلسفة.فثقافته العربية لا تعدو حفظ القرآن الكريم في صباه ثم التحول إلى اللغة الفرنسية وثقافتها. ويبدو أن مستواه في هذه الثقافة لم يكن أيضًا على درجة عالية. فهذه الثقافة قامت على عنصرين: ثقافة معلم في اللغة العربية، وبالخصوص العربية العامية، واللغة الزواوية وهي أيضا عامية. ولولا حفظه القرآن الكريم في صغره بالطريقة التقليدية لكانت علاقته باللغة العربية ربما علاقة واهية. غير أن الرجل كان طموحًا مثل أمثاله من الشبان الفقراء والأيتام وكان يتمتع بذكاء وفطنة، وقد وجد من يأخذ بيده ويكتشفه، لتحقيق آماله، فهو من هذه الناحية مثل معظم أولاد الفقراء الذين
إذا واتتهم الظروف يصبحون أعلامًا ويحققون أحلامًا لا يحققها أولاد الأغنياء.
تآليفه:
... بدأ ابن سديرة في نشر مؤلفاته التعليمية منذ السبعينيات من القرن التاسع عشر، وكانت بعض مؤلفاته قد طبعت أربع مرات أثناء حياته، وآخر كتاب مطبوع اطلعنا عليه له صدر بتاريخ 1898م، أي ثلاث سنوات قبل وفاته. كما أن الذين نعوه قالوا إنه كان على وشك الانتهاء من تأليف كتاب آخر قبل أن يدركه الموت. ومهما كان الأمر فقد ألف الكتب التالية، وهي مرتبة حسب ظهورها على غلاف آخر كتاب مطبوع له(1).
1- موجز النحو العربي للغة العامية (الدارجة)، الكتاب الأول.
2- الدروس التطبيقية في اللغة العربية، وهو كتاب موجه إلى طلاب الثانويات والمعاهد والمدارس الابتدائية.
3- دروس في الأدب العربي: نصوص للترجمة من كتاب المستطرف، وألف ليلة وليلة، وأمثال بيدبا، ومروج الذهب، ط. 2.
4- محاورات فرنسية – عربية لرولان دي بوسيه، ط.2 منقحة ومزيدة.
5- قاموس فرنسي – عربي باللغة العامية الجزائرية. ط.4.(251/9)
6- قاموس عربي – فرنسي باللغة العامية الجزائرية، يحتوي على الكلمات والعبارات المتداولة والرسائل وعقود المحاكم.
7- دروس في اللغة القبائلية (لهجة زواوة) يشتمل على النحو وترجمة قصص وحكم.
8- اللغة العربية الفصحى: الصرف والنحو والعروض.
9- كتاب الرسائل العربية الخطية، مستوى طلاب الثانويات والمعاهد ومدارس ترشيح المعلمين في الجزائر. وقد سماه بالعربية (كتاب الطالب المبتدي في تخريج الخط العربي).
10- دروس متدرجة في الرسائل العربية الخطية.
11- تقرير عن منطقة القبائل من 71 صفحة ونشرة مستقلاًّ، ثم ضمن كتابه: دروس اللغة القبائلية، سنة 1887م.
... ولنتناول الآن بعض هذه المؤلفات، التي يلاحظ عليها أنها كلها بالفرنسية عدا (كتاب الرسائل في جميع المسائل)، وكتاب الأدب العربي المشتمل على نصوص من المصادر المذكورة، ثم (كتاب الطالب المبتدي في تخريج الخط العربي):
أ- والتقرير المشار إليه كتبه على إثر قيامه بمهمة كلفه بها الحاكم العام للجزائر لدراسة أوضاع منطقة القبائل التي أخذ الفرنسيون يركزون عليها لأغراض خاصة ولكن التقرير اقتصر على ناحية تعرف بالقرقور حيث زار ابن سديرة مراكز التعليم والتصوف واستمع لكبار الناحية ورأيهم في التعليم الفرنسي، وفي أنسابهم، ومسألة الاندماج مع الفرنسيين، وأثر ثورة 1871م عليهم. والتقرير غني بالمعلومات ليس فقط بالنسبة للعادات والتقاليد والموروث الشعري والديني، ولكن بالنسبة لحياة المؤلف أيضًا إذ كثيرًا ما يستطرد فيتحدث عن نفسه هنا وهناك وأين كان سنة كذا، وماذا قال فيه فلان، وإبداء رأيه في الحضارة والتقدم والدين ونحو ذلك، وسنرجع إلى بعض هذه النقاط في نهاية الدراسة.(251/10)
ب- كتاب دروس اللغة القبائلية البالغ 600 صفحة، قسمه إلى فصول، منها تصورات أولية والنظام المتبع لكتابة القبائلية (الزواوية) بالحروف الفرنسية، ثم ملاحظات عامة. أما أقسام الكتاب فهي: عناصر النحو القبائلي، وتقاليد وأساطير، ونصوص للترجمة، والعرف، والمحاجي (الفوازير)، والأغاني، وبعض النصوص مكتوب بالعربية.
ج- كتاب نحو اللغة العربية الفصحى(*) ويبلغ 510 صفحات، وقد قسمه إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي: الحروف أو
الأبجدية، والقراءة والكتابة، والقسم الثاني خصصه للصرف والنحو، والقسم الثالث تناول فيه النثر والشعر.
د- كتاب دروس في الأدب العربي، وعنوانه بالعربية (التحفة السنية في النوادر العربية)، لذلك يمكن تسميته بكتاب النوادر. وهو كتاب أصدره سنة 1879م، محتويًا على نصوص مختارة من عدة كتب معروفة ومن مصادر أخرى، فقد رجع فيه إلى المستطرف، ثم إلى ألف ليلة وليلة، وأمثال بيدبا الحكيم منقولة من كتاب كليلة ودمنة، ونصوص أخرى من مروج الذهب للمسعودي، ثم يذكر نوادر مختلفة من مصادر أخرى، وينتهي الكتاب بمجموعة من الأبيات الشعرية لكل بحر من بحور الشعر، فيها حكم وأمثال وفوائد أدبية، وقد أنهى الكتاب بعبارة تقليدية هي: "تم الكتاب بعون الملك الوهاب، على يد ناقله الشيخ المدرس أبي القاسم بن سديرة".
... وقد ذكر أن من أهداف الكتاب التمرنَ على الترجمة من العربية إلى الفرنسية، وتحضير المستعربين للأعمال الأكثر جدية، كدراسة مقدمة ابن خلدون، ومجالس الحريري، ودواوين المتنبي والحماسة وغيرها من أمهات الأدب الشرقي Littérature Orientale حسب قوله، وقد نقل نصوص الكتاب بيده، ونوه بمساهمة تلميذه الفرنسي دوكري Ducret إذ خط له أنواعًا مختلفة من الخطوط العربية ليتخذها المبتدئون مثلاً ويتعودوا منها على قراءة المخطوطات، وهو كتاب موجه أساسًا إلى المستعربين (الأوربيين).(251/11)
هـ- كتاب الدروس المتدرجة لكتاب الرسائل العربية الخطية ويبدو أنه هو الكتاب الذي سماه (كتاب الطالب المبتدي لتخريج الخط العربي) وهو كتاب أصدره سنة 1893م محتويًا على 319 + XIII صفحة، وقد راجعه أحد كتاب المجلة الآسيوية Journal Asiatique قائلاً إن مؤلفه غير غريب على قراء المجلة لأنه بإصدارته في موضوعات التعليم والنحو والقواميس والمجاميع قد أسهم، حسب رأي هذا الكاتب، في خدمة اللغتين العربية والقبائلية. وكان ابن سديرة يوجه تأليفه لخدمة التراجمة العسكريين ومتصرفي البلديات المختلطة (بلديات سكانها مسلمون وفرنسيون) ولكنها مع ذلك مؤلفات لفتت انتباه المستشرقين في أوربا أيضًا، مضيفًا بنوع من السخرية: إن العالم له ما يستفيده دائمًا حتى من نثر القياد والباشاغوات (حكام مسلمون في خدمة فرنسا) الذين لا يدعون أنهم من أصحاب الأقلام السيالة ولا الرسائل ذات الطراز العالي. وقد أشاد الكاتب بالدور الذي لعبه ابن سديرة في جعل اللغة الفرنسية تتغلغل شيئًا فشيئًا، مضيفًا بذلك تنويعات كثيرة إلى عمل يتقنه جيدًا، كما أنه لم يهمل النقد الجاد المتدرج من السهل إلى الصعب وقد نوه الكاتب أيضًا بطريقة الإحالات التي ضمها الكتاب لشرح المفردات والمصطلحات المحلية، مع ذكر الأمثال والحكم والقواعد، وهو ما تفتقر إليه كما قال، المعاجم الفرنسية وبذلك يكون ابن سديرة قد سار في الطريق الذي بدأه دوزي Dozy(*).
تقييم:
... بعد أن تعرضنا لمسيرة ابن سديرة وبعض مؤلفاته، هل بالإمكان معرفة رسالته أو تحديد دوره؟ لقد عاش معاصرًا لجيل من الجزائريين كانوا يتململون من سلوك الإدارة الاستعمارية ويعبرون عن ذلك التململ تارة بالعرائض أو باللسان في المجالس المحلية وتارة بالهجرة الدائمة أو المؤقتة من الوطن. كان ابن سديرة معاصرًا للمكي بن باديس وابنه حميدة، ومحمد الصالح بن مهنا، ومحمد بن رحال، وعبد القادر المجاوي وأمثالهم(251/12)
ممن كانوا موظفين لدى الإدارة ولكنهم مع ذلك لم يسكتوا عن أفعالها الداعمة للجهل والمتسببة في فقر الناس وقمعهم، وكانوا ينادون بالإصلاح السياسي والاجتماعي وبالتعليم وحرية التعبير والتنقل وأداء الحج والكف عن
مصادرة الأراضي، والتخفيف من الضرائب. ولكن ابن سديرة كان غائبًا تقريبا عن ذلك كله.
... ومن ناحية أخرى عاش العالم الإسلامي أحداثًا كبيرة بين 1870م – 1900م ولكننا لا نجد لابن سديرة موقفًا منها، فقد وقعت تونس ومصر تحت الاحتلال الأجنبي وبرزت حركة الجامعة الإسلامية وحركة الخلافة، وتطورت الصحافة والطباعة، وتكررت الزيارات المتبادلة بين العلماء المشارقة والمغاربة. ولم نعرف أنه كان لابن سديرة رأي أو دور في ذلك. فما السبب؟ هل لكونه محدود الثقافة أو
لكونه متفرغًا كليًّا لمهنة التعليم؟ أو لكونه مرتبطًا ارتباطًا "أعمى" بالفرنسيين؟ ...
... لذلك نرجع إلى سؤالنا الأول وهو ما دور ابن سديرة في حياة بلاده؟ لقد عرفنا أنه امتهن التعليم وبرع فيه، وأنه جمع بينه وبين الاستشارة القضائية للفرنسيين في محكمة الاستئناف، كما خاض ميدان التأليف المدرسي. والظاهر أنه كان منقطعًا للتعليم والتأليف اللذين أخذا عليه جميع أقطاره كما يقولون. أما الموقف من الدين، والأهالي والفرنسيين فقد عبر عنه بأساليب مختلفة، كما في تقريره سنة 1887م إلى الحاكم العام، وفي بعض هوامش مؤلفاته التي حلاها بأخباره وآرائه.(251/13)
... ويمكننا حصر موقفه فيما يلي: الدعوة بحماس إلى تعليم اللغة الفرنسية للجزائريين، دون المواجهة واللجوء إلى العنف معهم. وقد لخص ذلك في قوله: إن الأهالي أطفال كبار، فإذا كانوا عميانا فيجب إدخال النور إلى أعينهم، وإذا كانوا صمًّا فيجب مخاطبتهم بصوت عال، وقال إن الجهل هو الداء الوحيد الذي يجب اجتثاثه. ودافع عن القرآن لأنه كتاب يدعو إلى التسامح ونبذ التعصب. وقال إن متعلمي الزوايا لا يفسرون القرآن، وإنما الذين يفسرونه هم علماء الشريعة، ولكنهم في الجزائر لم يتركوا أثرًا يذكر، وافتخر بأنه تعلم الطريقة التحليلية من معلميه الفرنسيين.
... وعبر عن يقينه بأن اليوم الذي يؤلف فيه الأوربيون والأهالي وحدة أصبح قريبًا، وتنبأ بأن زمن الثورات ضد الفرنسيين قد ولى وحل محله زمن التقدم، وأن الجميع سيتعاونون في نظره، من أجل شرف ومجد فرنسا.
... عندما توفي ابن سديرة نعته بعض الصحف الحكومية مثل (المبشر) و(نشرة أفريقيا الفرنسية) ولكنها لم تذكر شيئًا عن تجنسه ولا عن المقبرة التي دفن فيها، واكتفت بالقول إن أعيان مدينة الجزائر، من مسلمين وأوربيين، مشوا في جنازته، وإن تلميذه وزميله، رينيه باصيه عميد المدرسة العليا للآداب هو الذي أبنه بكلمة جاء فيها أن ابن سديرة من عائلة فقيرة ولكن ارتفع
شأنه في ميدان التعليم بفضل حزمه وجده وحسن سلوكه، وأنه اكتسب محبة رؤسائه الفرنسيين، وأنه خدم اللغتين العربية والقبائلية(*).
... ... أبو القاسم سعد الله
عضو المجمع المراسل
من الجزائر
...(251/14)
أولاً: افتتاح الجلسة
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
نحتفل اليوم باستقبال أربعة أعضاء جدد من كوكبة الأعلام الذين حظي بهم المجمع فى هذه الدورة، وهؤلاء العلماء الأفاضل هم:
الأستاذ الدكتور عبده علي الراجحي وهو علم من أعلام اللغة والأدب، وإني أهنئ المجمع به لما له من أفكار وآراء لغوية وعلمية خصبة، والأستاذ الدكتور علي حلمي موسى، وهو عالم من علماء الرياضيات العظماء، وأهنئه لما له من أبحاث قيمة ومن أهمها الفيزياء الذرية،
والأستاذ الدكتور أحمد علي الجارم فهو من أشهر أطباء مصر والعالم العربي في طب الجهاز الهضمي، وهو أديب له مؤلفات كثيرة وأشعار تجذب القراء إليها، والأستاذ الدكتور محمد بلتاجي حسن، وهو عالم من علماء الفقه الإسلامي، وعالم من علماء الشريعة الإسلامية والتصوف.. والله أسأل أن ينفع بهم ويوفقهم في أداء رسالتهم المجمعية وأن يثروا المجمع ببحوثهم القيمة التي سيكون لها أثرها الواضح إن شاء الله.(252/1)
أولاً- كلمة الافتتاح للأستاذ الدكتور كمال بشر
الأمين العام للمجمع
سعد المجمع باختيار الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح المقالح ليكون عضوًا عاملاً به، وكان ينبغي أن يستقبل منذ اختياره، ولكن لظروف متعددة أُجِّل حفل الاستقبال حتى هذه اللحظة، والأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح المقالح معروف ومشهور، فهو رئيسٌ سابق لجامعة صنعاء لعديد من السنوات، وهو الآن مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية، ورئيس مركز الدراسات والبحوث اليمنية، وهو أستاذ النقد الأدبي بكلية الآداب جامعة صنعاء، أسهم في أشياء كثيرة، وأخرج إنتاجًا غزيرًا ولعلكم تعرفون
أنه حصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة عين شمس.
... ونحن اليوم نستقبله في هذا الحفل المتواضع في هيئته العميق في دلالاته ليكون عضوًا بيننا فنفيد من علمه.
والآن نحن على موعد للاستماع إلى كلمة المجمع في استقبال هذا العضو الكريم يلقيها أستاذنا الكبير الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع ثم يليه الأستاذ أحمد ياسين السليماني ليلقي كلمة العضو الجديد بالنيابة عنه.(253/1)
** انتخاب الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيسًا للمجمع لفترة رئاسية ثالثة:
صدر القرار الوزاري رقم 387 لسنة 2004م. باعتماد انتخاب الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيسًا للمجمع لفترة رئاسية ثالثة اعتبارًا من 1/3/2004م.
** انتخاب الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائبًا لرئيس المجمع لفترة ثالثة:
صدر القرار الوزاري رقم 388 لسنة 2004م باعتماد انتخاب الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائبًا لرئيس المجمع لفترة ثالثة، اعتبارًا من 28/5/2004م.
** أعضاء عاملون مصريون جدد بالمجمع:
* صدر القرار الوزاري رقم 278 لسنة 2003م باعتماد انتخاب كل من السادة الأساتذة الآتية أسماؤهم بعد أعضاء عاملين بالمجمع هم:
1) الدكتور محمد عبد الرحمن الشرنوبي خلفًا لفضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي.
2) الدكتور محمد حسن عبد العزيز خلفًا للدكتور عبد السميع محمد أحمد.
3) الدكتور محمد الجوادي خلفًا للدكتور عبد العظيم حفني صابر.
4) الدكتور محمد سلطان أبو علي خلفًا للدكتور سيد رمضان هدارة.
* ... * ... *
* صدر القرار الوزاري رقم 279 لسنة 2003م باعتماد انتخاب كل من السادة الأساتذة الآتية أسماؤهم بعد أعضاء عاملين بالمجمع وهم:
1) الدكتور محمد صلاح الدين فضل، خلفًا للأستاذ الدكتور بدوي طبانة.
2) الدكتور علي حلمي موسى خلفًا للدكتور عبد الرحمن محمد السيد.
3) الدكتور محمود فوزي المناوي خلفًا للدكتور سليمان حزين.
4) الدكتور حسنين محمد ربيع خلفًا للدكتور عبد العزيز صالح.
5) الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف خلفًا للأستاذ إبراهيم الترزي.
6) الدكتور عبد الحميد عبد المنعم مدكور خلفًا للدكتور محمد رشاد الطوبي.
7) الدكتور أحمد علي الجارم خلفًا للدكتور حسن علي إبراهيم.
8) الدكتور محمد بلتاجي حسن خلفًا للدكتور أحمد عز الدين عبد الله.
9) الدكتور محمد إبراهيم الفيومي خلفًا للدكتور محمود مختار.
* انتخاب ثلاثة أعضاء عاملين جدد من غير المصريين وهم:(254/1)
الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح من الجزائر.
الدكتور علي فهمي خشيم من ليبيا.
الدكتور محمد هيثم الخياط من سورية.
** وتوثيقًا للصلة الثقافية التي تربط المجمع بالأقطار العربية والإسلامية وغيرها، تم اختيار ثمانية أعضاء مراسلين جدد بالمجمع وهم:
الدكتور صادق عبد الله أبو سليمان- فلسطين.
الدكتور عبد الستار درويش– كازاخستان.
الدكتور علي القاسمي– العراق.
الدكتور عوض القوزي– السعودية.
الدكتور لي قوانغبين- الصين.
الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي- قطر.
الدكتور نعمة الله إبراهيموف– أوزبكستان.
الدكتور واسم محمد علييف – أذربيجان.
* ... * ... *
**أعضاء راحلون:
فقد المجمع ثلاثة من أعلامه رحمهم الله، وهم:
الدكتور أحمد مختار عمر.
الدكتور محمد عماد فضلي.
الدكتور عبد الله الطيب من السودان.
* ... * ... *
**كما فقد المجمع أربعة أعضاء مراسلين هم:
الدكتور فؤاد محمد فخر الدين عضو المجمع المراسل من إندونيسيا.
الدكتور داود كارون عضو المجمع المراسل من إنجلترا.
الدكتور شمس الدين ضياء الدين بابا خان عضو المجمع المراسل من أوزبكستان.
الدكتور أحمد صدقي الدجاني عضو المجمع المراسل من فلسطين.
** خبراء جدد بالمجمع:
وافق مجلس المجمع على ترشيح خبراء جدد بالمجمع وهم:
الدكتور سمير عبد الغني والدكتور محمد عطية زمزم بلجنة الهندسة.
المهندس فاروق إبراهيم علي، والدكتور محمود إبراهيم خليل بلجنة ألفاظ الحضارة.
الدكتور محمد مدحت جابر عبد الجليل بلجنة الجغرافيا.
الدكتور محمد أحمد محروس الدَّرْش بلجنة الاقتصاد.
الدكتور فتحي أحمد عبد الرازق جلال، والدكتور محمد سلامة أبو خليفة بلجنة الفلسفة والعلوم الاجتماعية.
الدكتور محمد نبيل غنايم بلجنة الشريعة.
الدكتور محمد إبراهيم بكر، والدكتور حامد غانم، والدكتور عبد العزيز محمود عبد الدايم بلجنة التاريخ والآثار.(254/2)
الدكتور أحمد عطية المحمودي، والدكتور إبراهيم عبد المجيد ضوة، والدكتور محمد عبد العزيز عبد الدايم بلجنة أصول اللغة.
الدكتور عزت جاد، والدكتور سعد الوكيل بلجنة الأدب.
الدكتور محمد أحمد حامد، والدكتور محمد داود بلجنة الألفاظ والأساليب.
الدكتور محمد رضا عوضين بلجنة الطب.
الدكتور السيد أحمد حامد بلجنة الاجتماع والأنثروبولوجي.
** صلات المجمع الثقافية:
* رشح الأستاذ الدكتور محمود علي مكي لتمثيل المجمع في ندوة الاتحاد الدولي للأكاديمية بمدينة برشلونة بإسبانيا في المدة من 27 – 31 من مايو سنة 2004م.
** جوائز التقدير والتكريم للأعضاء:
سعد المجمع وسعدنا جميعًا بفوز الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع بجائزة مبارك في الآداب لعام 2003م. ونتمنى لسيادته الفوز بجائزة نوبل في الآداب التي رشح لها هذا العام.
تجديد عضوية الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع لمجلس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا.
رشح المجمع الأستاذ الدكتور كمال بشر الأمين العام للمجمع لجائزة مبارك في الآداب لعام 2004م.
رشح المجمع الأستاذ الدكتور كمال محمد دسوقي عضو المجمع لجائزة مبارك في العلوم الاجتماعية لعام 2004م.
رشح المجمع الأستاذ مصطفى حجازي عضو المجمع لجائزة الدولة التقديرية في الآداب لعام 2004م.
رشح المجمع الأستاذ الدكتور حسن محمود عبد اللطيف الشافعي عضو المجمع لجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية لعام 2004م.
** مسابقة المجمع الأدبية:
أعلن المجمع عن مسابقته الأدبية للعام المجمعي (2003-2004م)، وكان موضوعها (بغداد في الأدب العربي)، والمجمع في انتظار الأعمال التي ستقدم إليه في هذه المسابقة.
كما أعلن المجمع عن مسابقته السنوية في إحياء التراث للعام المجمعي (2002-2003م)، وقد فاز بهذه الجائزة الأستاذ الدكتور البصرية" تأليف صدر الدين علي بن أبي الفرج ابن الحسن البصري (656هـ) لاستيفائه شروط الجائزة بجدارة.(254/3)
كما أعلن المجمع عن مسابقته في إحياء التراث للعام المجمعي الحالي (2003-2004م).(254/4)
أولاً- كلمة الافتتاح
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
الزملاء المجمعيون الأجلاء:
السيدات والسادة :
هذا يوم مشهود من أيام المجمع، يوم نستقبل فيه اثنين من الأعلام الكبار في اللغة والأدب. وإني أهنئ بهما مجمعنا والمجامع اللغوية العربية والهيئات العلمية لأن لهما أفكارًا وآراء لغوية وعلمية خصبة كلها تساعد فى النهوض بهذه الهيئات لغويًّا وأدبيًّا وعلميًّا. وهذان العلمان كل منهما أستاذ في مجاله له تلامذته ومريدوه، ألا وهما الأستاذان الجليلان الدكتور
محمد حسن عبد العزيز، والدكتور محمد حماسة عبد اللطيف. وأنا إذ أهنئهما بعضوية مجمعنا أهنئ المجمع أيضًا بدخولهما إلى رحابه، فلا ريب أنهما سيثريان المجمع ببحوثهما القيمة التي سيكون لها أثرها الواضح إن شاء الله في النهوض بالعربية، والله أسأل أن ينفع بهما ويوفقهما في أداء رسالتهما المجمعية، وأترك الكلمة للزميل الأستاذ الدكتور كمال بشر الأمين العام للمجمع ليرحب بالزميلين الكريمين، وشكرًا .(255/1)
أولاً- كلمة المجمع في استقبال
الأستاذ الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف
للأستاذ فاروق شوشة
الأساتذة الزملاء:
أيها الحفل الكريم:
هذا عالم لغوي من طراز مختلف بدأ بما يبدأ به الآخرون ويشاركونه فيه، من حفظ القرآن الكريم، ودراسته في الأزهر الشريف، ثم في دار العلوم، وتخصص في اللغة العربية والعلوم الإسلامية على مستوى الليسانس ثم على مستوى الماجستير والدكتوراه، يلازمه الامتياز ولا تفارقه مرتبة الشرف الأولى في كل مراحله: الليسانس والماجستير والدكتوراه، منذ خُطواته الأولى مُعِيدًا بقسم النحو والصرف والعروض في كلية دار العلوم في عام 1967، فمدرسًا مساعدًا، فمدرسًا، فأستاذًا مساعدًا، فأستاذًا فرئيسًا لقسم النحو والصرف والعروض، وصولا إلى ما هو عليه الآن أستاذا للنحو والصرف والعروض ووكيلاً لكلية دار العلوم لشؤون التعليم والطلاب. وتتسع مسيرة حياته العلمية للعمل في جامعة الكويت وفي جامعة الملك عبد العزيز بالسعودية والجامعة الإسلامية العالمية في إسلام أباد، وفي جامعة العين بالإمارات العربية المتحدة، وفي معهد الإذاعة والتليفزيون، وفي الجامعة الأمريكية بالقاهرة: قلت إنه بدأ بما يبدأ به الآخرون ويشاركونه فيه، لكنه سُرعان ما يجاوز هذه البدايات التي تجمع بينه وبين أقرانه، ليكون مختلفًا، وهو يصنع لنفسه وبنفسه، مشروعه العلمي الشديد الخصوصية والتمايز. جناحاه: علمه اللغوي المتعمق، وموهبته الإبداعية الأصيلة، ولوجًا من الباب الضّيق، الذي سيصبح – من بعد – عنوانًا على هذا المشروع، وهو "النحو النصّي" تتتابع تجلياته دراسة بعد دراسة، وكتابًا بعد كتاب، على مستويين من تنظير واعٍ، وتطبيق ميداني مستوعب.(/1)
لقد أدرك الصديق العزيز، العالم اللغوي الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف، الذي نحتفل اليوم باستقباله عضوًا في مجمع الخالدين، أدرك منذ وقت مبكر أن الركود الذي تعانى منه الدراسات النحوية الآن – رغم ما تقذف به أفواهُ المطابع من عشرات الكتب – يحتاج إلى فتح نافذة في جداره الأصم، حتى تتحرك هذه الدراسات في مجرى يضمن لها السلاسة والاستمرار، ويتيح لها حياة طبيعية، بدلاً من تلك الحياة المصطنعة المُتكَلّفة التي لن يصبر عليها القائمون بالأمر طويلاً.
من هنا، كان انطلاقه في مشروع حياته الكبير، إلى الإسهام في حقل الدراسة اللغوية التحليلية للنصوص الأدبية يقوده حِسٌّ لغوي صحيح، وبَصَرٌ صائب، وذوق أدبي مرهف، إلى الاقتراب من أسرار الكلمة القرآنية والتركيب القرآني، وتهيئه موهبته الشعرية – مبدعًا ومتذوقًا – لرؤية العمل الشعري في ضوء جديد. لم يعد الدرس النحوي - على يديه – يدور أَوْ يحلق في فراغ ، بل لابد – في رأيه - من تعانق النحو مع النص الأدبي، والانطلاق من النحو في تفسير النص الشعري، فالنص لا يمكن أن يَتنصّص – هكذا يقول – إلا بفتل جديلة من البنية النحوية والمفردات، هذه الجديلة هي التي تخلق سياقًا لغويًا خاصًا بالنص نفسه. وعند محاولة فهم أي نص وتحليله، لابد من فهم بنائه النحوي على مستوى الجملة أولاً، وعلى مستوى النص كله ثانيًا. إن مفهوم النحو – عنده – أوسع من المفهوم الذي يحصره في دائرة الإعراب الضيقة، وهو مفهوم يعود به إلى الصيغة التي كان عليها علم العربية عند الأوائل، عندما كان يراد به دومًا النحو واللغة والصرف والاشتقاق والمعاني والبيان والعروض والقافية وقرض الشعر والخط وإنشاء الخطب والرسائل والمحاضرات. ما الذي يعنيه هذا الكلام ؟(/2)
نحن كما قلت منذ البداية أمام عالم لغوي من طراز جديد مختلف. له مدرسته في النقد اللغوي، وهي مدرسة تعيد علم العربية – النحو – إلى سابق دائرته الكبرى ومفهومه الأوسع وعلاقاته الحية بالإبداع الأدبي شعرًا ونثرًا. ثم نحن أمام عالم لغوي يتابع ما بدأه عبد القاهر الجرجاني – منذ مئات السنين – في نظريته المعروفة "بالنظم"حين أفاض في ربط المعاني النحوية بمدلول النص الأدبي، وأرجع كل مزية في التعبير إلى المعاني النحوية لا غير. "فليس النظم عنده في مجمل الأمر إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرفَ مناهجه التي نُهِجَتْ فلا تزيغَ عنها، وتحفظ الرسوم التي رُسمت لك فلا تُخل بشيء منها. غير أن جهد عبد القاهر من وراء نظرية النظم كان في أساسه دفاعًا عن إعجاز القرآن وبيان طريقه وتعليم طريق الجدل في ذلك وعدم الوقوع في مغالطة الخصُوم، الأمر الذي جعل تطبيقاته لهذه النظرية – كما يرى الدكتور حماسة – تدور على مستوى الجملة الواحدة بوصفها وحدة فنية مستقلة. فكان طبيعيًّا – أن يتجاوز الدكتور حماسة هذا الموقف الجزئي في التطبيق، وهو يتعامل مع النصوص بكاملها، بادئا من المقولة البسيطة العميقة في الوقت نفسه: الشعر فن لغوي قبل كل شيء وبعده. إذن فالهدف من تحليل القصيدة هو إضاءتها وكشف بعض أسرارها اللغوية، وتفسير نظام بنائها وطريقة تركيبها وإدراك العلاقات فيها. لقد أنتجت لنا دراسات الدكتور حماسة وتحليلاته منهجًا متكاملاً، في ضوء وعيه بالوسائل اللغوية التي تجعل الشعر شعرًا ومدى تشابك هذه الوسائل وتداخلها، واهتمامِ كلّ فريق من الباحثين بوسيلة دون أخرى، العروضيون لا يعنيهم إلا الوزن، علماء القافية لا يهتمون إلا بالقافية، النحويون يصرفون همهم إلى الإعراب وتحقّقه، واهتمامِ البلاغيين بالمشابهة الظاهرية.(/3)
وهو – في هذا الإطار – يحدد للنحو دورًا واضحًا في حياتنا المعاصرة– يتجاوز التخطئة والتصويب اللذيْن لا يعبأ بهما كثيرون – بسلوك سبيلين كلاهما نافع للعربية، وكلاهما يُكسبُ النحو حياةً وفاعلية.
أولهما: أن يتجه النحو إلى العربية المعاصرة في نصوصها الفصيحة، فيجمعَ تراكيبها ويصنف أنماطها ويُقدم وصفًا دقيقًا لها. فما كان خارجا عن الأصل القديم وليس له منه نظير، وهو مع ذلك مُتعارَف غير منكور وذو دلالة، وليس له في قواعد النحو ما يصفه، كان لابد من تقديم وصف نحوي مناسب له مُعينٍ على فهمه وتفسيره.
والآخر: أن يعمد النحويون المعاصرون إلى النصوص العربية قديمها وحديثها – كما فعل الأسلاف العظماء مع القرآن الكريم والشعر – فيحاولوا الكشف عن دور النحو في بنائها، وبيان ما تقوم به المعطيات النحوية في تركيبها وترابط أجزائها واستواء هيئتها، وما تقدمه في إنتاج دلالتها، وقيمة هذا الدور في تحديد الدلالة. بذلك يرتبط النحو في الأذهان، خاصة أذهانَ الناشئة – بجانب عملي مفيد من جانب، وبالدلالة من جانب آخر.
تتجلى أهمية هذا الكلام، وجِدَته وخطورته، عندما نتأمل كثيرًا من الكتابات النقدية لنقاد لا يملكون حسًّا لغويًّا أو قدرة على تحليل النصوص الأدبية تحليلاً لغويًّا. يتحدثون عن هوامش النص ودلالاته الخارجية والمؤثرات الاجتماعية والسياسية والتاريخية والنفسية فيه. ثم تنقطع أنفاسهم دون أن تكون لديهم القدرة على الاقتراب من البنية اللغوية للنص، وهي هدف النقد الأساسي وجوهره.(/4)
ونتأمل بالمقابل الدكتور حماسة وهو يخطو خطواته الواثقة في بناء منهجه والمضيّ به إلى مشارف اكتماله: يكتب عن فاعلية المعنى النحوي في بناء الشعر، وعن لغة الشعر في تناول النحاة ، وعن الشعر الحر بين الالتزام وعفوية التعبير، وعن حركة القافية بين الاطراد الموسيقي وسلامة الإعراب، وعن حركة الرويّ في القصيدة العربية، وقضية الفصل بين الشعر والنثر في التقعيد النحوي، وعن منهج التحليل النصي للقصيدة، وعن آية الجنون بالشعر، وعن نمط صعب من العلاقة بين وزن الشعر وبنائه عند محمود شاكر، وعن الضرورة الشعرية في النحو العربي، وعن الجملة في الشعر العربي، مفجّرًا تيارًا نقديًّا لغويًّا تحليليًّا، لا يكتفي بالتنظير، وإنما يعمد إلى التطبيق على نماذج من الشعر القديم والشعر المعاصر، مُقتفيًا خطوات الأسلاف العظام من أمثال ابن جني والجرجاني والزمخشري وغيرهم.
وعلى سبيل المثال، فإن معالجته النحوية الدلالية للظواهر النحوية والصرفية المخالفة في شعر صلاح عبد الصبور، تكشف لنا عن الوقْف على الاسم المنصوب المنوَّن بالسكون، وصرف الاسم الممنوع من الصرف، ومنع الاسم المصروف من الصرف، وتقدير الفتحة على المضارع الناقص، وقصر الممدود، ومدّ المقصور وتخفيف المشدّد وتشديد غير المشدد، وإبدال الهمزة في غير مواضع إبدالها، وقطع همزة الوصل، وإشباع فتحة أنا في الوصل، وحذْف نون الرفع من الأفعال الخمسة بلا ناصب ولا جازم، وحذف الفاء من جواب الشرط.. هذه النماذج وغيرها من الظواهر المخالفة يمتلئ بها كتابه ظواهر نحوية في الشعر الحر: دراسة نصية في شعر صلاح عبد الصبور، يستخدم فيها معطيات البحث اللغوي في دراسة الأدب، باعتبارها دراسة في نحو النص، وهو ليس نحْوًا تقويميًّا يُعنى بالتصويب والتخطئة، ولكنه وصفي تفسيري. يصف الظاهرة، ويحاول أن يفسَرها في إطار النص، تفسيرًا يتلاءم مع السياق الخاصّ بالنص نفسه.(/5)
لذا فهو يطلق صيحتَهُ المدوية، التي ينبغي أن نصغي إليها باهتمام: لابد من رفع الوصاية على الشعراء الكبار، تلك الوصاية التي يفرضها من يرون الصواب رأيًا واحدًا، وقد رأينا أن كل استعمال ورد في شعر صلاح عبد الصبور من الاستعمالات المخالفة لنظام قواعد النثر المطّردة، له عمق استعمالي قديم، استعمله من قبل شعراء يُحتجُّ بلغتهم مقياسًا يقاس عليه. وهو مما يؤكد الدعوة إلى فصل الشعر عن النثر في التقعيد النحوي، لأن التسوية بينهما ظلمت الشعر بوجود ما يسمّى ضرورة فيه. وظلمت النثر بفرض قواعد عليه لم تستعمل فيه، ولأن قواعد كلّ فن لابد أن تكون نابعة منه، من خلال نماذجه التي تُعدّ معيارًا يقاس عليه.
هذه الدراسات اللغوية التحليلية النصّية، تكشف لنا عن ناقد من طراز جديد مغاير، ناقد نحن في أشد الحاجة إليه على مستوى القراء والدارسين والمبدعين. ناقد يسدّ الهُوّة القائمة بين أصحاب الدراسات النحوية من جهة، والإبداع الأدبي من ناحية أخرى. ناقد يعيد إلى الكتابة النقدية بهاء اكتمالها وروعة تملكها لأدواتها اللغوية التحليلية، ووعيها بالبنية التحتية للنص الأدبي، في علاقاتها الأفقية والرأسية.
ثم هو مهموم – كهمنا وأشدّ – بمشكلة الضعف اللغوي على الألسنة والأقلام، وما يردده البعض من أن للنحو وقضية الإعراب دورًا فيها. ورأيه الجديد الشجاع في هذه القضية – وهو عالم النحو – أن النحو براء مما يلقيه الناس من التبعة على النحو وطريقة تعليمه وتدريسه. لقد ضعفت استجابة الطلاب لدراسة النحو لأن لغتهم ضعيفة، فإذا قويت لغتهم قوي النحو وقويت الاستجابة له. وهو يرى أن نهضة اللغة جزء من النهضة الاجتماعية الشاملة، ويقول للذين يسترون عجزهم اللغوي بكرههم للنحو وضيقهم به وبأهله: إنكم مخطئون، لأنكم لو أحسنتم إعداد أنفسكم بالقراءة والاطلاع لاستقام لكم أمر النحو ولصلح حالكم معه.(/6)
هذا البصر الصائب بجوانب المشكلة وحقيقتها، يردّنا إلى أن فهم العربية – شأنها في ذلك شأن أية لغة – ينبع أولاً من الاهتمام بالقراءة واتساع الثقافة ومعالجة النصوص معالجة تبصر ونفاذ. ويكون دور النحو في هذا دور المساعد المعين. والدليل على ذلك أن كثيرًا من الكتاب والأدباء والشعراء لا يجيدون النحو كما يراه النحاة. بل يجيدون فهم العربية من خلال تعرّف أنماطها وطرائق تركيبها. ومن هنا ينبغي علينا أن نبدأ الإصلاح من محاولة توسيع دائرة الاهتمام بالقراءة والتذوق ونشر التعليم والحث على تحصيل الثقافة والمعرفة، لا بالدعوة إلى زيادة مقررات النحو وزيادة ساعاته والتوسع في دروسه.
وبعد، هل أقدم إلى مجمع اللغة العربية رجلاً يعرفه المجمع أوثق المعرفة وأتمّها؟ ويشهد عن كثب جهوده ومشاركاته وغيْرته وحماسته – طيلة سنوات – خبيرًا في لجنة الأصول، مسهمًا في أعمالها ببحوثه الجديدة المبتكرة، وخبيرًا في لجنة المعجم الكبير يشارك في مراجعة مواده ومناقشتها في جلسات اللجنة وعرضها في مؤتمر المجمع السنوي. فضلاً عن اشتغاله بمتن اللغة، ومراجعته تحقيق الجزأين السابع والثلاثين والثامن والثلاثين من معجم تاج العروس.(/7)
ثم هو نفسه الشاعر الذي تجلت إبداعاته الشعرية في ثلاثة أعمال شعرية، اثنان منها صدرا بالاشتراك هما: ثلاثة ألحان مصرية ونافذة في جدار الصمت، وثالثها قصيدته الطويلة "حوار مع النيل". هنا لابد أن يقال إن صاحبنا من القلة القليلة التي لم تُجفف الأكاديمية والعمل الدراسي والبحثي ماء شاعريتها ولم تطفئ كيمياء توهجها. البحث الأكاديمي وعي وانكشاف ووضوح، والإبداع غيبوبة ولغة ما بين الظلال، وبحث دائب لا واعٍ في محاولةٍ للفهم والتفسير. لكن محمد حماسة عبد اللطيف – الشاعر – استطاع أن يقبض على هذه الجمرة المقدسة، جمرة الشعر، وأن يحتفظ بها حارة متوهجة حتى اليوم. في قصيدة من شعر البدايات – عُمرها ثلاثون عامًا – وعنوانها "الوداع الأخير" يقول:
اتركيني غير باكيةٍ
ليس بي للدمع مُرتجَفُ
واستريحي، لم يعد ألمي
ذلك اللون الذي وصفوا
عادَ لي ما غابَ من رشَدي
وتولاني له أسفُ
فاسَتقر القلبُ وانخلعتْ
شوكةٌ في الروح ترتجفُ
* * *
يا مثالاً صغته بيدي
كان بالأضلاع يكتَنفُ
حُبه يقتات من كبدي
من دمي ما شاء يغترف
كان إمّا شَفَّهُ ظمأٌ
من رحيق القلب يرتشفُ
كان إمّا شاقه لعبٌ
في حنايا النفس ينعطف
كان في عينيَّ مشرقة
وله في العين مُنصَرفُ
لا أبالي الناسَ إن جهلوا
ما ألاقي فيه أم عَرفوا
كيف أمسى نهرنا كدِرا
وهوتْ من بيننا كِسَفُ؟
كيف! لا كيف! فقد ثار فيكِ
صراخُ الطين، هل أقف!
إنني ماض على ألمي
لا أُحب السر ينكشفُ
فاتركيني غير باكيةٍ
ليس بي للدمع مُرتجَفُ
إنني حطّمتُ ما خلقَتْ
يدُ قلبي، ولْيَكُنْ تكفُ
لا تظنيّ بي معاودةً
إنني بالِكبْرِ مُتَّصفُ
وصولا إلى أحدث قصائده "حوار مع النيل" التي تحمل كلماتها منذ السطر الأول بَصْمته اللغوية الإبداعية، في استخدامه لصيغة المفعول معه وهو يقول:
سرت والنيلَ
قلت: ألا طفه، كان يبكي
فرحتُ أهدهدهُ
قلت: لا تبكِ، واحكِ، فقال:
يا بني امضِ، لا تُثرِ الهمَّ
دعني وشأني، همومي ثقِال(/8)
قلتُ: أُعطيكَ سمعي وقلبي
تَخفف من الهم،
ليس مع الهمّ غيرُ الوبال!
قال: إني حزينٌ
وأنْتَ، ألستَ حزينا؟
فقلت: كلانا حزين على كلّ حال!
أي تدفق في مجرى الشعور، وأيّ قدرة على التعبير، وأي سلاسة
وانثيال! أهلاً بك أيها الصديق العزيز، والعالم المجدد الرصين، إضافة إلى رصيد المجمع من صفوة أعضائه، الذين اتخذوا من العربية وخدمتها والنهوض بها وجعلها قادرة على الوفاء باحتياجات العصر – رسالة حياة. أهلا بك حبةً وضيئة مُشعة في العقد المجمعيّ النّظيم، تزينه وتُضيف إليه، وتجعله دومًا المكان اللائق به، من اللغة والحياة والتاريخ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،(/9)
أولاً- كلمة المجمع في حفل استقبال
الأستاذ الدكتور محمد بلتاجي حسن
للأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي
حين جاء البشير إلى الشيخ بلتاجي حسن يحمل له التهنئة بنجاح ابنه الأكبر في ليسانس دار العلوم، وأن ترتيبه الثالث في دفعته حمد الله على نعمائه ،وحين وافاه الخبر بأنه عُين معيدًا في قسم الشريعة الإسلامية كبّر ثلاث مرات، فقد كان يدعو الله جاهدًا أن تستمر سلسلة العلم الشرعي في بيتهم. كان الأب عالمًا أزهريًّا مستنيرًا يدرس التفسير والحديث في المعهد الديني في طنطا أكثر من ثلاثين عامًا متتالية، ومعهد طنطا يومئذ يجمع أفاضل شيوخ الأزهر، وكان ملتقاهم اليومي في بيت الشيخ بلتاجي، في صورة ملتقى علمي خاص، إذ كان الشيخ يشغل منزلاً رحبًا لا يشاركه فيه أحد.
وقد جاهد الأب ابنه لكي يحفظ القرآن الكريم ولما يكمل التاسعة من عمره، فلما حصل على الثانوية الأزهرية ترك له حرية أن يختار ما يشاء من الكليات فاختار دار العلوم، وكان أوضح صفاتها في تلك الأيام التنافس الشديد بين طلابها على التقدم، وكان أول دفعة عام 1962م الدكتور صلاح فضل، الذي سعدنا باستقباله في المجمع في الأسابيع الماضية، ونحن نسعد اليوم باستقبال ثالثها في الترتيب الدكتور محمد بلتاجي.
حين عدت من الخارج عام 1964م لأتسلم عملي مدرسًا في دار العلوم بعد اغتراب دام ثمانية أعوام، عرفت محمد بلتاجي معيدًا، شابًّا واثقًا من نفسه بغير زهو، معتدًّا بشخصه دون غرور، وعرفت منه أن موضوع رسالته للماجستير "منهج ابن الخطاب في التشريع" وأشهد أن الموضوع راقني، وأحسست معه، أن هذا الباحث لن يكون فقيهًا نمطيًّا. في هذه الدراسة استوعب فقه عمر رضي الله عنه، دراسةً وتأصيلاً وتحليلاً ومقارنة.(/1)
وكانت رسالته للدكتوراه عن "مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجريً"، وفيها استخلص بالمقارنة والتأصيل والتحليل المنهج الفقهي لتسعة من أئمة الفقه الإسلامي هم: زيد بن علي صاحب "المجموع الفقهي"، ت 122 هـ، وجعفر الصادق إمام الشيعة الإمامية، ت 148هـ "وابن أبي ليلى فقيه أهل العراق، ت 148هـ، والإمام أبو حنيفة، ت 150هـ، والأوزاعي فقيه أهل الشام، ت 157هـ "، والثوري، ت 161هـ "، والليث بن سعد فقيه أهل مصر، ت 175 هـ "، والإمام مالك، ت 179 هـ.
وفي عام 1973م نشر كتابه: "دراسات في أحكام الأسرة: مقارنة بين الشريعة الإسلامية وغيرها، ومهد له بمبحث طويل عن تاريخ تطبيق الشريعة الإسلامية ومناهجها وقضاتها في مصر، وتتبع هذا التطبيق منذ الفتح الإسلامي حتى العصر الحديث، وبيَّن الظروف التي دخلت فيها القوانين الوضعية، وعقد مباحث عديدة لإنشاء عقد الزواج في الفقه الإسلامي، قارن فيها بين المذاهب الإسلامية المختلفة، وبينها وبين ما عند طوائف اليهود والنصارى والهندوس، وما في القوانين الوضعية، خاصة القانون الفرنسي، ثم عرض لمباحث انقضاء الزواج بالطلاق والتطليق والفرقة والموت، مقارنًا ما في مذاهب الفقه الإسلامي بما عند الطوائف الأخرى. وأفرد قسمًا ثالثًا بحث فيه من كافة الجوانب قضيتي: تعدد الزوجات وقوامة الرجل على المرأة، وكل قضية منهما تتخذ مجالاً للطعن في الإسلام من مخالفيه، وأثبت في استدلال موضوعي أن هاتين القضيتين تعتبران، لمن يفهمهما حق الفهم، مجالاً تتجلى فيه عظمة الفقه الإسلامي وتفوقه على غيره من التشريعات، وأنه يتضمن المصلحة الحقيقية للأسرة في مجموعها، إذا أحسن الناس فهمه وتطبيقه، وهو كتاب يعتبر في منهجه المقارن رائدًا متميزًا، وأعيد طبعه أكثر من عشرين مرة.(/2)
وبعد ذلك بعام، أي في سنة 1974م نشر بحثه: "قضية الاختلاف الفقهي بين المذاهب"، كيف نشأ وما مدى مشروعيته، وكيف يواجهه المسلم المجتهد والمسلم العامي، وهل يعتبر هذا الاختلاف نقصانًا في الشريعة؟ أو يعتبر مصدر ثراء وتجدد عطاءٍ للفقه الإسلامي؟ وهل أُغلق باب الاجتهاد كما يزعم بعض الناس أو أن الاجتهاد مستمر ماضٍ إلى يوم القيامة؟ ومن الذي كلّفه المشرّعُ بالاجتهاد الفقهي بين المسلمين؟ في الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها قدم لنا الباحث وجهات نظر أصيلة تعتبر إضافة ذات وزن إلى بحوث الفقه المعاصرة.(/3)
في العام التالي لنشر هذا الكتاب ألقى على طلاب الدراسات العليا محاضرات عن "مناهج البحث في الفقه الإسلامي" استخلص فيها منهجًا متميزًا للبحث في الفقه، واستعان في تأسيس هذا المنهج بعلوم الحديث من حيث توثيق النصوص، وأصول الفقه من حيث قواعد الاستنباط الفقهي الصحيح، والفقه المقارن من حيث الإفادة من نماذج الاجتهاد السابقة، كما استعان بالدراسات المعاصرة في علم "المنهج المقترح في مجال فقه الأموال والاقتصاد المعاصر، فكتب دراسة بعنوان: "نحو وجهةٍ إسلامية في التنظيمات الاقتصادية المعاصرة، وفيها استعرض تاريخ دخول هذه التنظيمات مثل البنوك وشركات التأمين ونحوهما، إلى بلدان العالم الإسلامي وقدّم منهجًا مقترحًا للنظر إليها في ضوء معطيات الفقه الإسلامي ومنهج البحث المقترح فيه. وقد تولى بنفسه تطبيق هذا المنهج على قضية التأمين المعاصر وأخرج فيه كتابه عام 1979: "عقود التأمين من وجهة الفقه الإسلامي"، استعرض فيه نشأة هذه العقود في العالم الإسلامي وآراء فقهاء المسلمين فيها منذ أفتى الفقيه الشامي ابن عابدين، المتوفي 1836م برأيه حتى عصرنا الحاضر، ثم قدم تكييفا فقهيًّا شاملاً لم يُسبق إليه في شموله وعمقه، قاسه فيه على أحكام الشريعة ومقرراتها الثابتة، ثم اقترح فيه البديل الإسلامي الذي يخلو من كافة المخالفات والمعاذير الشرعية، وقد تبنى اتحاد البنوك الإسلامية بالعالم الإسلامي نشر هذا البحث في طبعة خاصة، عام 1982، ثم أعيد طبعه بعد ذلك مرارًا.(/4)
... وطبَّق هذا المنهج نفسه على قضية الملكية الفردية فأخرج عام 1980 كتابه "الملكية الفردية في النظام الاقتصادي الإسلاميّ، وفيه مَيّز هذا النظام عن غيره من النظم، ثم بيّن الإطار العام لقضية الملكية وأنها "مِلكية استخلاف" وليست مجرد "وظيفة اجتماعية"، كما أنها ليست في الوقت نفسه حقًّا مطلقًا من كافة القيود، وعرض بالتفصيل والتأصيل لقضية تأميم الممتلكات الخاصة في إطار الدعوة الاشتراكية إلى تأميم مصادر الإنتاج الرئيسة في المجتمع وأثبت في وضوح أن الفقه الإسلامي الصحيح لا يتوافق مع هذه الفلسفة الوضعية، بل يتخالف معها. وبسط الأسباب التي تنشئ الملكية الفردية في الفقه الإسلامي، والقيود التي ترد عليها، والحقوقَ التي فيها، وفي هذا الإطار عرض البحث لقضايا عديدة منها: "قضية المزارعة أو كراء الأرض" وفرض وظائف مالية في أموال الأغنياء ـ بعد دفع الزكاة ـ بشروط وقيود، و"تسعيرُ السلع الخِدْمات في المجتمع"، وغير ذلك من القضايا المتصلة بالملكية الفردية، ونال هذا الكتاب جائزة الدولة التشجيعية في الشريعة الإسلامية عام 1982.(/5)
وفي عام 1980 نشر أحد أهم كتبه، وهو: "دراسات في الأحوال الشخصية" وفيه قدّم دراسة فقهية مؤصلة للقرار بقانون رقم 44 لسنة 1979، الذي احتوى على تعديلات أساسية خطيرة في قوانين الزواج والطلاق في مصر تناول فيه دراسة كافة الأحكام الفقهية التي تضمنها القانون، وأثبت بالبحث التفصيلي المؤصَّل أن بعض هذه الأحكام " كما صيغت في القانون تخالف أحكام الشريعة الإسلامية، ومن ثم تخالف مذاهب الفقه الإسلامي في مجموعها، وهي أيضًا تخالف الدستور المصري الذي ينص في مادته الثانية على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، ومن ثم أشار إلى عدم دستورية هذه الأحكام لمخالفتها هذه المبادئ الأساسيّة، وقد حكمت المحكمة الدستورية العليا بعد ذلك، مايو 1985 بعدم دستورية هذا القانون، واستعانت في تقرير ذلك بدراسات فقهية في مقدمتها كتاب د. محمد بلتاجي، ومن ثم عُدّلت صياغة معظم المواد التي اعترض عليها، وذلك في القانون البديل رقم 100 لسنة 1985 وأزيلت منه معظم الأحكام التي كانت موضع اعتراضه، لمخالفتها قواعد الفقه الإسلامي، والمادة التي لم تعدل في القانون الجديد، واعترض عليها الدكتور بلتاجي في بحثه، وهي الخاصة بمسكن الحضانة عادت المحكمة الدستورية العليا في يناير 1996 فحكمت بعدم دستوريتها. وكان كتابه عن "مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة" وهو دراسة فقهية موسعة مؤصلة قرر فيها حقيقة مكانة المرأة من نصوص القرآن والسنة الصحيحة وأقوال الفقهاء والمحققين، وشكل مجموعُ ذلك بناءً عقليًّا محكمًا تجلت فيه حقيقة هذه المكانة في إطارها العقلي الصحيح ولم يغفلْ أيَّ رأي أو وجهةِ نظرٍ مخالفة، وإنما تناولها كلها بالدرس في حوار فقهي منهجي.(/6)
... وآخر مؤلفاته، وصدر منذ عامين، كان دراسة عن" الجنايات وعقوباتها في الإسلام وحقوق الإنسان" وفيه أوضح التقسيم الإسلامي للجنايات وعقوباتها، وتكلم عن هذه العقوبات من منطلق ما وصلت إليه البشرية في "حقوق الإنسان" موضحا الفلسفة التي يقوم عليها نظام العقوبات في الإسلام، وأنها تختلف عن الفلسفة التي تسود الحضارة الغربية في الموضع نفسه لاختلاف المسار التاريخي والاجتماعي بينهما، فقد بدأت الحضارة الغربية عنيفة جدًا في نظرتها إلى الجريمة، فكانت تقضي مثلاً بعقوبة الإعدام في أكثر من مئة مخالفة، بعضها تافه كصيد الأسماك مثلاً من بعض الأنهار، فلما تطورت نظرتها إلى القضية أصبحت، تدريجًا، أكثر ميلاً إلى مراعاة ظروف الجاني الاجتماعية والنفسية، فخففت من العقوبات وتراجع مواقف الزجر عن الجناية في النظام العقابي الغربي، أما الإسلام فسلك طريقًا آخر: أن يكون مبدأ الزجر عن ارتكاب الجناية قويًّا ظاهرًا مؤثرًا مقدمًا في اعتباره على التعاطف مع ظروف الجاني الاجتماعية والنفسية.
وبينت الدراسة أن الشريعة الإسلامية نظام متفرد بذاته، له فلسفته وأهدافه ومنطلقه الخاص به، ومن حق كل حضارة أن تنطلق مقولاتها من فلسفتها الخاصة وعقيدتها المتميزة، وكل محاولة لجبر المسلمين على تغيير قيمهم وعقائدهم ونظامهم الخلقي والتشريعي هي في حد ذاتها مخالفة لحقوق الإنسان في أن تكون له عقيدته الخاصة به ومنطلقه المتميز في النظر إلى الحياة والكون.(/7)
يصدر الدكتور بلتاجي في دراساته عن خطة عقلية تهدف إلى تجلية حقائق الفقه الإسلامي في مسيرته الطويلة، منذ عصر الرسالة حتى وقتنا الحاضر، بناها على إدراك واضح للتحديات الحضارية التي يواجهها الفقه الإسلامي في عصرنا الحاضر، حيث تتصارع المذاهب والعقائد والديانات والحضارات، وهو ما يفرض على دارس الفقه الإسلامي والمتخصص فيه مواجهة فكرية ملائمة لجوانب هذا الصراع في وقت تحاول فيه قوى عالمية عاتية، وأخرى محلية خافته ولكنها مثابرة تحاول تهوين صلة المسلمين بتراثهم الفقهي، بالتقليل من شأنه، والسخرية منه، والزعم بعدم صلاحيته لمواكبة الفكر الحضاري الحديث وتطوراته. ومن ثم عني في مؤلفاته بإثبات ثراء الفقه الإسلامي في مجالاته المتعددة، التي تحكم الحياة الإسلامية كلها، وخصوبته وإمكانات العطاء المتجددة فيه، وصلاحيته لمواجهة كافة مشكلات الحياة المعاصرة، باجتهادات أصيلة، تقوم على المصادر الأصلية من القرآن والسنة الصحيحة والاجتهاد، وتحقيق أكبر قدر من مصالح الناس وهو في ذلك كله يصدر عن وعي واضح بما يواجه الإسلام من تحديات.
... هذه الدراسات الجليلة أهلته لعضوية عدد كبير من اللجان العلمية المتخصصة في مصر وخارجها.(/8)
... لقد أمضى الدكتور بلتاجي أربعين عامًا في دار العلوم، لم يفارقها غير سنواتٍ أربع، معارًا لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في السعودية، ولم يواصل تكملة السنوات المتاحة له قانونًا، عاد بعدها عاقدًا العزم على عدم تكرار هذه التجربة مرة أخرى إلى أي بلدٍ نفطي أو خليجي، مهما تكن الظروف، فقد وعى أن تكوينه النفسي والعلمي لا يتوافق مع عمله فيها، حيث تسود اعتبارات اجتماعية وقبلية وطقسية تجعل الحياة فيها لونًا من المكابدة المستمرة مع النفس والأوضاع السائدة هناك. وأتاحت له الأعوام المتتابعة في دار العلوم، أن يكون مدرسة علمية شامخة للدراسات الإسلامية، أصبحت مقصد مئات الطلاب من مختلف بقاع العالم الإسلامي والغربي، من مذاهب مختلفة: سنة وشيعة وإباضية، في مختلف فرقهم يتخصصون في الدراسات العليا في الشريعة الإسلامية وأصبحت الدراسات الإسلامية في دار العلوم قسيمة لعلوم اللغة والأدب والنقد شهرة وتقديرًا.
... وإلى جانب ما يتميز به عالمنا الجليل في سبر أغوار المشكلات الدينية. في سهولة ويسر، نأى بجانبه عن كل ما يشوب كرامة العالم، وأحاط نفسه بسور عمال من الكبرياء الحقة، يحول بينه وبين الزلفي والملق، أو العمل لغير وجه الله، مراقبة شديدة لضميره وواجبه، عف عن المادة في مختلف مظانها، فما طلبها ولا تكالب عليها، وسبلها معروفة ميسرة لمن يلتمس مطالب الدنيا الفانية، ولم يقبل ولا لحظة واحدة أن يكون من فقهاء السلطة والشرطة، وتكالب عليها كثيرون ليصبحوا وزراء ولو لشهور!
* ... * ... *(/9)
... وتبقى كلمة أخيرة، اختصرتها مضطرًّا وما كان لي أن أسقطها، وهى عن الدكتور محمد بلتاجي العميد، فقد ظل عميدًا منتخبًا، أؤكد على كلمة "منتخبا" طوال تسع سنوات، مارس فيها مهمته بصفته مختارًا من زملائه لا عميدًا موظفًا، وأحسب أن مواقفه الرصينة والشرفاء من أمثاله العمداءِ الآخرين، كانت وراء اغتيال الديمقراطية في الجامعة والعودة إلى نظام تعيين العمداء.
وأكتفي من إنجازاته عميدًا بعمل واحد عجز الذين سبقوه عن القيام به، وهو الاحتفال بمرور مئة عام على إنشاء دار العلوم، وتأخر الاحتفال عن موعده قرابة عشرة أعوام، فتصدى للأمر، وأنجزه، في صورة قومية عربية، توج الحفل بأن شرفه السيد
رئيس الجمهورية، وكان الحفل الوحيد في نطاق الحفلات التي أقيمت في الجامعات في ظروف شبيهة الذي يحضره رئيس الجمهورية، تقديرًا لدار العلوم ودورها في خدمة اللغة العربية والدراسات الإسلامية ومنح بهذه المناسبة عددًا من كبار خريجيها وعلمائها وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى.
وبذلك اكتملت الحلقة فقد حضر حفل العيد الذهبي لدار العلوم الزعيم الخالد الذكر سعد زغلول، وحضر حفلها الماسي الزعيم مصطفي النحاس، وحضر حفلها المئوي الرئيس حسني مبارك .
الزملاء المجمعيون السيدات والسادة:
آمل أن أكون قد ألقيت بصيصًا من الضوء على سيرة الزميل الكريم الذي نسعد اليوم بانضمامه إلى قافلة المجاهدين من أجل اللغة وقرآنها.
والله يتولانا جميعًا بالتوفيق.(/10)
أولاً- كلمة المجمع في استقبال
الأستاذ الدكتور علي حلمي موسى
للأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
الأستاذُ الدكتور رئيسَ المجمع ..
الأساتذةُ الزملاء أعضاء المجمع
السادةُ والسيدات شهودَ هذا الحفل.
سلامُ الله عليكم، ورحمته وبركاته تحوطكم وترعاكم
... لقد شرّفني مجلس المجمع بأن ندبني لأنوب عنه فى تحية الدكتور علي حلمي موسى واستقباله فرعًا جديدًا ناضرًا فى دوحته الفينانة. والاستقبال ترحيب وإعلان للبهجة والسرور، ولكنْ جرى عرف المجمع على أن يكون الاستقبال أيضًا تقديمًا وتعريفًا بالقادم العزيز، والواقع أنه قد قُدِّم وعُرِّف، فعُرِف وانتُخب لينضمّ إلى نخبة الخالدين عن بصيرة وبيِّنة واقتناع. ولكنْ لا بأس؛ فذكرُ بعضِ مآثر زميلنا الجديد ومنجزاته، تكريمٌ له وفتحٌ لآفاقِ التعاون معه، وتعبير عن سعادتنا بما وفقنا الله إليه من حسن اختياره.
... والواقع أنني والدكتور علي حلمي موسى رفيقا دربٍ واحدٍ، بل رفيقا دربيْن اثنين: درب العلوم ودرب العربيّة، وإنْ كنتُ بحكم السنِّ ـ ولا فخرَ ـ قد وطِئَتْ قدمايَ الدربيْن قبله بسنوات. وقد أسعدني أن نلتَقِي فى جامعة الكويت، وأن تجمعنا الأعوام والأيام، والمسار والغايات، ثم أن أستقبله مرحبًا في حفل مجمعنا هذا الصباح .(/1)
... وأوّلُ ما يشدُّ الانتباه في تاريخ الدكتور علي حلمي بن أحمد بن موسى الفكريِّ والعلميّ هو ولعه بارتيادِ الآفاقِ البينيَّة، أي مجالاتِ تَقابُلِ العلوم المختلِفة وتَداخُلِها، حيث يُرجى تولُّدُ أفكارٍ وتطبيقاتٍ مَسُتحدثة، بل ربما إلى نشأة علوم جديدة. فالشابُّ السكندريُّ المولد (يوليو،1933) حَصَل عامَ ثلاثةٍ وخمسين(1953)، وهو في العشرين من عمره، على بكالوريوس العلوم في الرياضيات تقدير ممتاز مع مرتبة الشرف من جامعة عين شمس، ولكنه نال درجة الدكتوراه من جامعة لندن عام ثمانية وخمسين (1958) في الفيزياء ـ أو الفيزيقا ـ الرياضية، ومع ذلك عُيّن عندما عاد من بَعثته مدرسا في قسم الرياضيات التطبيقية بجامعة عين شمس ثم حُسم هذا التذبذب ـ الطبيعيُّ ـ بين الرياضيات والفيزيقا، بانتقال الدكتور علي حلمي موسى عامَ أربعة وستين (1964) أستاذًا مساعدًا للفيزياء النظرية بقسم الفيزياء، وأنشأ أوّل وَحدة في الجامعات المصرية في بحوث الفيزياء الذرية النظرية.(/2)
... ولكنَّ الوجهَ الآخرَ المهمَّ لهذه الثنائية العلميّة أنها أَهَّلَتْ الدكتور علي حلمي، عندما أعير لجامعة الكويت عام تسعة وستين (1969)، لأن يدلِفَ إلى الباب الثالث في حياته الفكرية. وذلك أنه شرع عندئذ في الإفادة من خبراته السابقة في تسخير الحاسوب في القيام بدراسات إحصائية تحليلية لقضايا لغويّة وقرآنيّة متعدِّدة. فقد قام أوّلاً بدراسةٍ إحصائية للجذور الثلاثية لمفردات اللغة العربية، ثم لجذورها غير الثلاثية، ثم لجذور معجم لسان العرب، ثم لمعجم تاج العروس (بالاشتراك مع الدكتور عبد الصبور شاهين)، ثم لجذور معجم الصِّحاح. ونُشرت النتائجُ المفصّلة لهذه الدراسات بين عامَيْ إحدى وسبعين (1971) وثلاثة وسبعين (1973) في خمسة أعدادٍ مستقلة من مطبوعات جامعة الكويت، يتراوح عددُ صفحاتها بين مئةٍ وستَّ عشْرةَ صفحة وثلاثمئةٍ وإحدى وعشرين صفحة. ثمّ عرض الدكتور علي حلمي دراسة مقارنةً لنتائجه عن تحليل معاجم العربية الثلاثة أمام ندوة المعجم العربيّ التاريخيّ التي عُقدتْ في تونس عام تسعة وثمانين (1989).(/3)
... كذلك قدَّم الدكتور علي حلمي موسى ـ باللغتيْن العربيَّة والإنجليزية ـ جوانِبَ مختلِفةً من دراساته الإحصائية اللغوية في عدد من المؤتمرات الإقليمية والدولية عُقدتْ بين عامَيْ ثلاثة وثمانين (1983) واثنين وتسعين (1992) في مصرَ وسورية والمملكة الأردنية والمملكة المغربيّة والكويت وبروناي وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. ومن عناوين تلك الإسهامات التي تشدّ الانتباه : " إنتروبيا اللغة العربية " و "ضغطُ النصوص العربية باستخدام التشفير الرياضي" و"مكنزٌ للعربية القياسية الحديثة" و" نموذجٌ رياضي للتنبُّؤِ الآلي لحركات التشكيل فى اللغة العربية"، و" الحوسبةُ والإحصاءُ اللغويّ". ولهذا كله كان من الطبيعيّ أن يُختار الدكتور علي حلمي موسى رئيسًا للاتحاد الدّولي لحوسبة اللغة العربية، الذي أُنشئَ في هولندا عام ثلاثةِ وتسعين (1993) .
... وكان الدكتور علي حلمي قد عاد من الكويت عام ثلاثة وسبعين (1973) أستاذًا للفيزياء النظرية بكلية العلوم بجامعة عين شمس، ثم رئيسًا لقسم الفيزياء ثلاث دورات، ثم أستاذًا متفرغًا بها منذ عامِ ثلاثة وتسعين (1993). وفي عام خمسة وسبعين (1975) حوَّل الدكتور علي حلمي دراساته الحاسوبية نحو ألفاظ القرآن الكريم، فنشر فى مجلة الدَّوحة مقالاً بعنوان" ماذا قال العقل الإلكتروني عن القرآن؟"، أردفه ببحثٍ باللغة الإنجليزية في دورية نمساوية عامَ تسعة وسبعين (1979)، وبآخرَ في عددٍ خَاصّ أصدرته مجلة "عالم الفكر" الكويتية عام اثنين وثمانين (1982) عن القرآن والسيرة النبوية، بعنوان: "استخدام الآلات الحاسبة الإلكترونية في دراسة ألفاظ القرآن الكريم". (وقد التقيتُ مع الدكتور علي في هذا العدد نفسِه، إذ نشرتُ فيه مقالاً في نحو مئة صفحة، بعنوان: " العلوم البيولوجية في خدمة تفسير القرآن الكريم").(/4)
... وقد أحسن الدكتور علي حلمي موسى صُنعًا إذْ جمع دراساتِه الحاسوبيَّةَ عن القرآن الكريم في كتاب أصدره في مطلع القرن الحادي والعشرين (2001م) بعنوان "ألفاظ القرآن الكريم: دراسة علميَّة تكنولوجيّة، في ما يَقرب من مئتيْ صفحة، راجيًا" أنْ يكون علمًا نافعًا لكل قارئ حريص على الاستزادة من كنوز القرآن الكريم (ص8). والكتاب مفعم بالأرقام والجداول والإحصاءات، منها: إحصاءٌ لألفاظ القرآن وَفقًا للحرف الأول منها، ولعدد حروفها، وإحصاءاتٌ مختلِفة لأسماء الأعلام والأقوام والأماكن، وإحصاءاتٌ للألفاظ المشتقة من جذور ثلاثية وأخرى للألفاظ المشتقة من جذور غير ثلاثية ويلاحِظ الدكتور علي حلمي أن القرآن الكريم يحوي ثُلُثَ الجذور الثلاثية في معجم الصِّحاح، وهذه ـ في رأيه ـ " نسبة كبيرة جدًّا لا يوجد وجهٌ للمقارنة بينها وبين ألفاظ أيّ كتاب على وجه الأرض" (ص8)، وأن هذا في حدِّ ذاته " إعجاز كبير ينفرد به كتاب الله" (ص51). ويلاحظ الدكتور علي أيضًا أنّ ما يقرب من ربع الجذور الثلاثية في لغة القرآن قد ورد مرة واحدة فقط في القرآن الكريم، وهو يرى أن ذلك أيضًا" إعجاز بلاغيّ فذّ" (ص.ص9 و82 ). وثمَّةَ إحصاءاتٌ للفظ الجلالة وأسماء الله الحسنى، وغيرُها كثير، ولكن الدكتور على حلمي يُفرد الفصل الثامن من كتابه لدراسة العلاقة بين الحروف والحركات في لغة القرآن الكريم، ومعتمدًا طبعًا على التمثيل الصوتي للألفاظ وَفقًا لقراءة حفص، ومُجْريًا دراسته على عيِّنة مكية، تتألف من سورة الأعراف وبعض قصار السور، وأخرى مدنية تتألف من سورة البقرة.(/5)
... وينبغي ألاَّ يفوتَني أن أنوِّه بأن هذه الاهتماماتِ الواسعة لم تصرفْ الدكتور علي حلمي عن واجبات تخصُّصه الأكاديمي الأصلي، من بحوث ورعاية لطلاب مدرسته العلمية. ولكنَّ المقام لا يتسع لتفاصيل ذلك، وقد تكفينا بعض الإشارات. قاد الدكتور علي حلمي، عام سبعة وسبعين (1977) فريقًا بحثيًّا لاستخدام التقانة المتقدمة للكشف عن الآثار وُفِّق إلى اكتشاف فجوات في تمثال أبي الهول، كما أنه أنشأ في جامعة عين شمس أوَّل وَحدةِ بحوثٍ في مجال الفيزياء الذريَّة النظرية، و" وَحدةً للوسائط المتعدِّدة لإنتاج برمجيات الفيزياء ". وهو الباحث الرئيس لمشروع اليونسكو لبرمجيات تعليم الفيزياء في الجامعات العربية، منذ عام سبعة وتسعين (1997).
... وكان من الطبيعي أن يشارك الدكتور علي حلمي موسى في عضوية كثير من اللجان والهيئات، وأن ينشر عددًا من المقالات واسعة التنوّع، وأن يشارك في مؤتمرات محلية وإقليمية ودولية في مشارق الأرض ومغاربها ( تقدم ذكرُ بعضها)، وأن يكون موضع التكريم والتقدير المرَّة تِلْو المرَّة. فهو قد فاز عام أربعة وستين (1964) بجائزة أمين لطفي في الفيزياء، التي مكَّنَتْه من زيارة جامعة لندن عامًا كاملاً، ثم حَصَل على منحةٍ للبحث العلمي من مؤسسة فولبرايْت هيّأتْ له أن يُمِضَى في الولايات المتحدة الأمريكية أصياف أعوام سبعة وثمانين، وثمانية وثمانين، وتسعة وثمانين. هذا فضلاً على أنه أحرز جائزة الدولة التشجيعية في الفيزياء عام أربعة وسبعين (1974)، ثم جائزة البنك الأهلي للإبداع العلمي عامَ ألفيْن. وهو حائز أيضًا على وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى.(/6)
... ولي بالدكتور علي حلمي موسى صلات خاصة، ألْمَمْتُ بطرفٍ منها، ولكنني أودّ أن أنوِّة الآن ببعضها. فذاتَ يومٍ من عام ثمانية وتسعين (1998) كنت أعرض على زملائي أعضاءِ اللجنة القومية لتاريخ وفلسفة العلم محتويات عدد مارس من تلك السنة من مجلة " العلوم والفلسفة الإسلامية " (Arabic Scienees and Philosoplay)، التي تصدر من كيمبردج، وأشرت إلى مقال بعنوان" بطليموسُ وابنُ الهيثم وكِيْلر ومسألة الصور الضوئية"، لكاتب أمريكي، وقلت إنني ألاحظ حيْف الكاتب في الحكم على أعمال ابن الهيثم المشهودِ لها، وتمنيت أن يدرس أحد الفيزيائيين المقال ويردَّ عليه. وقد نهض الدكتور علي حلمي بهذه الدراسة وأمتعنا، في الموسم الثقافي للجمعية المصرية لتاريخ العلوم، بمحاضرة عن " ابن الهيثم المفترى عليه". وفي الصيف قبل الماضي، أشفقت على نفسي من الرحلة الطويلة إلى المكسيك التي كان عليّ أن أقوم بها لأمثل اللجنة القومية في الجمعية العامة للاتحاد الدولي لتاريخ العلوم والمؤتمر الدولي الحادي والعشرين المصاحِبِ لها، فخفَّ إلى نجدتي أخي الدكتور علي حلمي، فكان خير سفير لمصر واللجنة. كذلك يسعدني أيضًا أن أراه وجهًا مشرقًا دائمًا في المؤتمرات السنوية للجمعية المصرية لتعريب العلوم، وكان له فيها إسهامات قيمة.(/7)
... وصلة الدكتور علي حلمي بالمجمع قديمة، فهو يقول إنَّ تَوَجُّهَهُ نحو استخدام الحاسوب في دراسة معاجم اللغة العربية الكبرى كان بإيحاء من عضويْن جليليْن من أعضاء المجمع: الدكتور محمد كامل حسين والدكتور إبراهيم أنيس. ثم إنه مَثَّل المجمع، بتكليف رسميٍّ من رئيسه، في الحلقة التي أقامتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في الرِّباط عام ثلاثة وثمانين (1983)، حول استعمال الحرف العربي في الحاسوب"، ثم إنه ألقى بحثيْن في ندوة" قضايا اللغة العربية في عصر الحوسبة والعولمة" التي أقامها اتحاد المجامع العلمية العربية في عمَّان العامَ الماضي. فهكذا كان الدكتور " موسى" يُصنع، علميًّا ولغويًّا، على عين المجمع، وهاهو الآن يحتلٌ مكانه في قلبه، وسوف يُسهم من داخله ـ وبعون الله ومشيئته في كثير من أعماله: أوَلاً في الإفادة من تخصصه العلمي بضم جهوده إلى جهود الأساتذة الأعضاء والخبراء الحاليين في مجالات الفيزيقا والحاسبات، وفي حوسبة أعمال المجمع العلمية والإدارية وتمام الإفادة من عُدته الحاسوبية. أما دراساته الحاسوبية فى ألفاظ القرآن الكريم واللغة العربية ومعاجمها فهي قاعدة ثريّة، تؤتِى ثمارها وتتفتح وأسرارها بمعايشة الكوكبة الزاهرة من أعضائه أعلام علماء اللغة. وقد سبق للدكتور علي حلمي أن كتب عام 1982يقول: "وإن المشتغلين بالبحوث اللغوية وتأصيل الكلمات العربية، وكذلك علماءَ الأصوات وأساتذة البلاغة والنقد، سيجِدون في هذه النتائج ما يعينهم على تقويم آرائهم ونظراتهم الخاصة، كما تسعفهم في تقويم آراء القدماء ونظراتهم"
(عالم الفكر، 1982، ص 1086) .(/8)
... وفي هذه الجلسة الحافلة، ليس لنا، أنا وصاحبي، إلا ربعُ الوقت على أحسن الفروض، فأكتفي بهذه الإشارات المُجملات. وأختم حديثي، مكرِّرًا ـ باسمكم جميًعا ـ الترحيب بزميلنا العزيز الأستاذ الدكتور علي حلمي أحمد موسى، داعيا له بدوام النجاح والسَّداد، إنه ـ سبحانه ـ وليّّ التوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،(/9)
ثالثًا- تحية مجمعية مهداة لنخبة (الأربعة عشر) السنية
للأستاذ علي رجب المدني عضو المجمع من ليبيا
يا نخبةً سَعِدَتْ رُوحِي بمقدِمِها
إلى رُبَانا وعَزَّ العلمُ والقلمُ
لقد أضفتم إلى أمجادِ مجمعِنا
مجدًا بمقدمكم واستبشَرَ الرَّحِمُ
وَحُقَّ للخالدينَ الشُّمِّ من حضروا
كذاكَ من عبروا أن يزدهوا بِكُمو
والمجمعيُّونَ أَعْلامٌ مُقامهمو
بقمَّةٍ لا تُرَى من فَوْقِها قِمَمُ
العِلْمُ (لا غيره) ما قد سما بِهِمُو
إلى ذُرَاهَا وقد ساقتهم الهِمَمُ
فَهُمْ لربِّ الوَرَى في خَلِقِه رُسُلٌ
(خلف النَّبِيِّينَ) تَجْلُو مِنْهُمُ الظُّلَمُ
وما انجلتْ ظُلمةٌ إلا بِمَعْرِفٍَة
والعلمُ نورٌ مِنَ الرحمنِ مُحْتَرَمُ
لا يستوي عالمٌ مع غيرِهِ أبدًا
بذاك كَرَّمَ ربُّ الناسِ مَنْ عَمِلُوا
لكِنَّ ذا العلمِ يحميهِ ويسندُهُ
تُقًى تََعَزَّزَ بالإيمانِ مُنْتَظِمُ
به يكونُ كتابُ اللهِ مُقتَبسًا
وفَيْضُ إلهامِهِ تسمو به الشِّيَمُ
وأنتمُو مَن أَرَى أهلاً لذاكَ فلا
يُقْعَدْ بِكُْم مُقْعِدٌ أو تَثْنِكُمْ نِقَمُ
علي رجب
عضو المجمع(/1)
ثالثًا: كلمة الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح المقالح
في حفل استقباله عضوًا جديدًا بالمجمع
ألقاها الأستاذ أحمد ياسين السليماني نيابة عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع،
الأستاذ الدكتور كمال محمد بشر الأمين العام للمجمع،
... يسرني أن أجلس في هذا المقعد لأنوب عن أخي العزيز وأستاذي القدير الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح المقالح، وهو أمر مكنني به ربي من أن أتبوأ هذا الشرف العظيم وأن أحضر بين أهرامات الأمة في هذا المكان الموقر، قديمًا كان أقصى حدود حلمي أن أرى العالم الجليل الأستاذ الدكتور شوقي ضيف الذي عرفناه من خلال كتبه، ولم أكن أعرف يومًا أنّ الله تعالى قد قيَّض لي يومًا أن أجاوره في هذا المنبر فأحمد الله كثيرًا على ذلك، وأحمده أيضًا على أنه مكنني من أن أجلس بينكم جميعًا.
ولا يفوتني قبل أن أقرأ كلمة الأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح أن ألتفت قليلاً إلى المأساة التي تعاني منها الأمة بسبب ما يجري الآن في العراق من عدوان غاشم، وتلك مسألة تحتاج إلى نظرة صادقة وجدية لكي نستعد لمرحلة أظنها أكثر صعوبة وأسوأ مما نتصور.
فاسمحوا لي أساتذتي الأجلاء أن أقرأ كلمة الأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح وأن تتحملوني برحابة صدر الآباء للأبناء وسماحتهم لهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع المحترم،
الأساتذة أعضاء المجمع الأفاضل،(/1)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فاسمحوا لي في البداية أن أتقدم بخالص الشكر وعميق التقدير على الثقة التي أولاني إياها رئيس المجمع وأعضاؤه الكرام باختياري زميلاً لهم، وإنه ليشرفني ويسعدني الانتماء إلى هذه المؤسسة العلمية، وفي الوقت نفسه اسمحوا لي أن أتقدم بصادق الاعتذار عن تخلفي من عدم حضور اجتماعات المؤتمر لأسباب صحية تمنعني مؤقتًا من مغادرة المدينة التي أقيم فيها، وأحيانًا لمبارحة المنزل الذي أسكنه، ويبشرني الطبيب المشرف على علاجي بأن هذه الحالة المؤقتة ستزول إن شاء الله، وبإمكاني بعد عامين أو ثلاثة التنقل والسفر وقتما أريد، وحتى ذلك الحين أستميحكم العذر في الغياب عن مؤتمركم السنوي مع استعدادي الدائم للمشاركة في الأعمال البحثية المنوطة بالعضو العامل.(/2)
السيد الرئيس، السادة الأعضاء، لقد كان عضو المجمع السابق الأستاذ أحمد علي عقبات الذي شغل عضوية المجمع منذ أواخر الستينيات إلى التسعينيات من القرن المنصرم هو اليمني الوحيد الذي يشرف بزمالتكم، ولقد كان لاختياره لهذا المنصب العلمي حكاية سأحاول إيجازها لحضراتكم في كلمات قليلة؛ فقد كان المرشَّح للمجمع شخصًا آخر هو الأستاذ علي عقبات العلامة اللغوي والحاصل على العالمية من الأزهر الشريف، ولكن المرشِّح الفاضل كان قد وصل مرحلة من العمر يصعب معها المشاركة في هذا المجال، ولذلك فقد أشار على الجهات المختصة بترشيح أحد أبناء عمومته هو الأستاذ أحمد علي عقبات بدلاً منه، وذلك لعلم هذا الأخير وفضله واهتمامه بالأدب وحفظ الشعر ورواياته، والعلامة علي عقبات المرشَّح الأول للمجمع الذي يبدو أن ترشيحه تم من قِبل أحد زملائه القدامى في الأزهر الشريف كان واحدًا من أفضل علماء اللغة العربية في العصر الحديث، كما كان خطيبًا لامعًا، إذا صعد المنبر استأثر بالعقول والأسماع، وكان افتتانه بالمتنبي وحفظه ديوانه موضع أحاديث لا تنتهي. وقد كان ـ رحمه الله ـ يعاني من الظلم والاضطهاد لاسيما بعد فشل الثورة الدستورية فى اليمن (مارس 1948م)، حيث اقتيد للسجن، ونجا من الإعدام بأعجوبة ليبقى أسير سجنه سبع سنوات، خرج بعدها محطمًا مُنْكَسِرَ الأحلام غير مبالٍ بما يحدث حوله، لكنه أحسن في ترشيح الأستاذ أحمد علي عقبات الذي تم قبوله عضوًا في المجمع، وظل ناشطًا على مدى ثلاثين عامًا تقريبًا، مواظبًا على حضور المؤتمرات السنوية، وسعى طوال هذه الفترة إلى إعداد معجم حول المفردات العامية فى اللهجة اليمنية وعلاقتها بالفصحى، لكن المنية وافته قبل أن ينجز هذه المهمة التي أخذت جانبًا كبيرًا من وقته وتفكيره، وكان ـ رحمه الله ـ محدِّثًا بارعًا شديد الحضور في المجالس، يحرص دائمًا على أن يتحدث بالفصحى في منزله وبين أصدقائه بعيدًا عن التصنع(/3)
والافتعال. وقد عرفته عن قرب، وزادت هذه المعرفة توثقًا عندما كان يأتي إلى القاهرة لحضور المؤتمر السنوي للمجمع ويصر على اصطحابي معه إلى حفل الافتتاح، كما توثقت علاقتنا أكثر وأكثر بعد عودتي إلى صنعاء في أواخر السبعينيات.
السيد الرئيس، والسادة الأعضاء،
تستيقظ في ذاكرتي اليوم، وأنا أقدم نفسي إليكم، مشاعر لا أستطيع إخفاءها، وهي تعود إلى فترة دراستي الجامعية حينما كنت أسعد بحضور بعض جلسات مؤتمركم هذا، لأتابع بشغف وإعجاب كلمات الأساتذة الأجلاء من رعيلٍ طوى القدر المحتوم أشخاصهم وأبقى آثارهم المضيئة، ومن تلك المشاعر التي كانت تراودني يومئذ حلم المشاركة في هذا المجمع الجليل الذي بفضله استطاع لساننا العربي أن يقاوم التغريب والتشويه، واستطاعت لغة القرآن الكريم أن تعيد اكتشاف نفسها والأشياء المستجدة في المحسوسات والظواهر؛ في المخترعات المادية والظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وأن تصمد في مواجهة التهجين اللغوي والتغريب والركاكة مؤكدة بذلك أن اللغة أهم عنصر من عناصر التجديد والبقاء، وإنها وقد نجحت بفضل جهود المجامع العربية وجهود المخلصين من أبنائها في عدد من الأقطار العربية، وأثبتت حقيقة كونها لغة لكل العصور والأزمان، ومن حيث إن اللغة أي لغة وعاء فكري ووجداني لنفس الإنسان وكيانه على السواء. فإنه يكفي لأن تكون لأمة من الأمم لغة حية قابلة للتجديد والتطور ليصبح كل شيء بعد ذلك ممكنًا ميسورًا، أما حين تفقد الأمم لغاتها وينال العوج لسانها فإنها تفقد الحضور المحلي والعالمي، وتعجز عن امتلاك الأشياء وتحقيق طموح إنسانها المعاصر .(/4)
أساتذتي الأجلاء إن الزمان يمشي وعقارب اللغات تمشي معه ترصد تحولاته ومتغيراته، وتسجل الجزئيات والكليات من أنشطته لتستعيدها الأجيال القادمة، ولو بعد قرون، وبدون هذه اللغة فإن كل شيء حولنا سوف يطمره النسيان ويدركه الانتفاء، فاللغة ذاكرة الزمان كما هي ذاكرة الإنسان، ويستحيل على البشر أن يكونوا على ما هم عليه الآن بدون اللغة، كما يستحيل عليهم أيضًا أن يواصلوا الارتقاء المنشود دون لغة، ومن هنا يأتي الاهتمام المفعم بالولاء للغة، ولهذا تناضل الشعوب من أجل المحافظة على لغاتها وما تؤديه من دور حضاري وروحي كما تناضل من أجل إقامة جسور التواصل والتفاهم المشترك بين أبنائها، فضلاً عما تستوعبه من حقائق الحياة ومعارفها، وأزعم أنه لن يكون لنا – نحن العرب – وجود حيوي وفاعل ودور مؤثر ما لم تعد للغة العربية مكانتها وتأثيرها في الوطن العربي أولاً، وفي امتداده الإسلامي ثانيًا، وما لم يتأكد الخلاص من ميراث عهود الانحطاط والتخلف، وما لم نتبين الأخطاء الناتجة عن انتشار المدارس والجامعات الأجنبية في عدد من الأقطار العربية، في غياب الاهتمام الموازي للغة العربية وما تواجهه في هذه المدارس والجامعات من تحديات وإهمال، وكما أن لكل شعب حقًّا في الدفاع عن نفسه وعن الأرض التي يعيش عليها، فإن له الحق في الدفاع عن لغته والحفاظ على تراثه، فاللغة في مقدمة العوامل المكوّنة لمقومات الهوية الوطنية والقومية، والتغاضي عن محاولة إقصائها من تدريس العلوم في الجامعات والتقليل من شأنها في المحافل الدولية لا يقل خطورة عن التغريب للوطن في ذاته، فاللغة ليست أداة لتوصيل المعرفة فحسب، وإنما هي وسيلة المشاركة الكبرى بين أبناء الوطن الواحد، المشاركة في التفكير والإبداع والبناء، وهي البوابة المشرعة في اتجاهين، أحدهما على الجديد بكل فاعلياته ومنطلقاته، والآخر على الموروث بكل قيمه ودلالاته. لقد شكل الخوف من غلبة الآخر لغويًّا وما(/5)
يترتب على تلك الغلبة من خطر انمحاء الشخصية العربية بداية التحدي للمواجهة، وقامت مصر العربية بدور لا ينكر في هذه المواجهة وفي إيقاظ الضمير النائم لا من خلال المعارك الكلامية بل من خلال المواقف العملية والإجراءات العلمية، فكان مجمعنا الموقر وليد هذه اليقظة، واتجه رواد النهضة الفكرية والأدبية إلى نشر روائع التراث في الأدب العربي وكانت الجامعات في مصر، يساندها الأزهر الشريف، قلاعًا في خوض المعارك العلمية للمحافظة على اللغة العربية وشحذ همم أبنائها لإثبات القدرات الكامنة داخل هذه اللغة، وسرعان ما وجد هذا الشعور المشترك تجاوبًا في عدد من الأقطار العربية، لكن الهجمة على اللغة اشتدت في الآونة الأخيرة فدعت إلى مزيد من التأمل والنظر بعين البصيرة إلى الآثار المترتبة عليها، ومن ذلك اللافتات التي تملأ شوارع البلدان العربية بالحروف الأجنبية والمسميات المنافية للعروبة، والتي أصبحت من الأمور الاعتيادية التي تقع عليها العين كل يوم ولا تستفزُّ مشاعر الأطراف المسؤولة في الدولة وفي المجامع والجامعات، وهي دليل واحد من أدلة كثيرة على التقصير الواضح من قِبل هذه الجهات تجاه هذه الظاهرة التي عمت المدن العربية، وصار من غير المعقول أن تمر مثلاً بواحدة من أسواق صنعاء وترى لافتة بالألوان تحمل عنوانًا أجنبيًّا ما حتى دون ترجمة بجواره إلى اللغة العربية وكأن لغة القرآن الكريم والأدب العربي على مر عصوره عاجزة عن إسعافنا بالأسماء والعناوين العربية.
السيد الرئيس، السادة الأعضاء،
أكرر التعبير عن سعادتي العميقة باختياركم لي زميلاً عاملاً في هذا المجمع الموقر، متمنيًا لكم وله التوفيق والنجاح في مهمته العلمية(/6)
الشاقة في عصر يشهد أعنف المواجهات بين الثقافات الإنسانية، ومحاولة طغيان بعضها على البعض الآخر لأسباب لا تتصل بالمعنى الراقي الذي تشتمل عليه الثقافات، وإنما لأغراض تتعلق بالهيمنة وفرض النفوذ السياسي والاقتصادي، ومحو الهوايات القومية والوطنية،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
عبد العزيز صالح المقالح
عضو المجمع من اليمن(/7)
ثانيًا- كلمة الأستاذ الدكتور أحمد علي الجارم
في حفل استقباله عضوًا بالمجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
السيد الأستاذ الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع
السيد الأستاذ الدكتور كمال بشر الأمين العام للمجمع
حضرات السادة الأفاضل أعضاء المجمع الكرام
سيداتي وسادتي:
" رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي" صدق الله العظيم.
أبتدئ كلمتي بحمد الله العلي العظيم، الأول والآخر، والحي الباقي، يفنى كل شيء في هذه العوالم ويبقى وجهه ذو الجلال والإكرام.
كما أبتدئ كلمتي بذكر خاتم رسله وأنبيائه والصلاة والسلام عليه – محمد بن عبد الله – أدى الأمانة خير أداء، وحمل الرسالة بكل الجهد والعناء، رسالة الدين الإسلامي الحنيف، بكرمه وسماحته وعدالته، وباستوائه ووسيطيته، كما ترك لنا القرآن الكريم نورًا وهديًا، وأمنًا وأمانًا، بلغة عربية خالدة نعتز بها غاية الاعتزاز ونفتخر بها فَخْرًا لا حد له.
وأمليتَ دستورًا شقينا بتركه
ورُحنا على الأيامِ نشكو ونعتبُ.
كأنَّ – وما تُغني كأنَّ – فَخَلِّها،
فإنَّ مِنَ التشبيهِ ما يُتَصَعَّبُ.
وماذا يقولُ الشعرُ في آيّ رحمةٍ
لها الله يُملي والملائكُ تَكْتبُ؟
أيها السادة:(/1)
لقد تفضل بعضكم بترشيحي لعضوية هذا المجمع العتيد؛ ثم قمتم – تفضلاً وتكرمًا – باختياري زميلاً جديدًا لكم، فأوليتموني شرفاً كبيرًا، أجد نفسي عاجزًا كلّ العجز عن التعبير عن مقدار شكري وامتناني لكم، كما أدعو الله العليّ القدير أن يوفقني في أن أكون عند حسن ظنكم وأن أكون قريبًا من قامتكم، وأعدكم أنني سأحاول غاية جهدي أن أكون عضوًا نافعًا لهذا المجمع العتيد – مجمع الخالدين – في نصرة اللغة العربية الشريفة؛ خاصة أنها تجابه هذه الأيام كثيرًا من محاولات النيْل منها بدعاوى خاطئة ومغرضة، بعضها من الداخل وبعضها من الخارج. ولا يخفى عليكم الغرض الخفي من هذه المحاولات. وعلينا جميعا أن نتصدى لها – هذا التصدي الذي أضعه في مقام الجهاد المقدس، لا لنصرة مقدساتنا فحسب، وإنما لنصرة حياتِنا ووجودنا ذاتِه.
" ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" صدق الله العظيم.
ولقد كان لنبأ ترشيحي ثم اختياري عضوًا بمجمعكم الموقر وقعٌ سعيدٌ عليّ وعلى كل من حولي من الأهل والإخوان وتواردت على ذهني فورًا ذكرياتٌ كريمة منذ كنت أذهب إلى المجمع في ذلك الوقت في مكانه الأول لأداء أمور الوالد المرحوم "علي الجارم" المتعلقة بالمكتبة أو بمجلة المجمع، وتشرفت وقتئذ بمعرفة بعض السادة العاملين في المجمع مثل: الأستاذ العالم الفاضل محمد شوقي أمين الذي أصبح عضوًا بعد ذلك، والأستاذ عبد الفتاح الصعيدي، والأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله الأديب المعروف.
ورجعت مرة أخرى إلى المجمع في الثمانينيات عندما كنت أقوم بإعادة نشر تراث الجارم شعرًا ونثرًا وبحوثًا لغوية مما دعاني إلى مراجعة شاملة لمكتبة المجمع ومحتوياتها وساعدني ذلك في إعادة نشر "ديوان الجارم" "وسلاسل الذهب" "وجارميات" وكتابيّ "الجارم في ضمير التاريخ" و"الجارم في عيون الأدباء".(/2)
ورجعت أخيرًا في عام 1997م لأشارك المجمعَ احتفاليته الكريمة بالوالد الشاعر "علي الجارم" بإلقاء كلمةٍ عنه بعد أن ألقى السادة الأساتذة الدكتور شوقي ضيف، والدكتور كمال بشر، والدكتور الطاهر مكي، والدكتور محمود فهمي حجازي، والمرحوم الدكتور علي عشري زايد كلماتهم كما ألقى الأستاذ الدكتور محمود مكي قصيدةَ الجارم في رثاءِ زميله وصديقه المرحوم محمد أمين لطفي.
وأخيرًا هاأنذا أعود إلى المجمع العتيد عضوًا جديدًا أتشرف بانتمائي إلى هذه العصبة الكريمة داعيًا الله الكريمَ في أن أكون – مرة أخرى – عند حسن ظنهم في أداء الدور البنّاء والسامي الذي يطالبنا المجتمع بأدائه.
لقد تأسس هذا المجمعُ العتيد عام 1934م وقد حرص أعضاؤه الكرامُ منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا – على مفاهيم رسالته التي أُنشئ من أجلها . فعملوا ويعملون حتى الآن على أداء هذا الواجبَ المقدس بجهدٍ خارقٍ مشكور. ولا أدّعى – فى كلمتي هذه – أنني سوف أضيف شيئًا إلى هذه المفاهيم المستقرة إلا أنني آمل فى تفعيل الدور الخاص بعلاقات المجمع بالمجتمع، وأن نبذل جَهدًا أكبر – مثلاً – في تعميق الاتصال والتنسيق بوزارة التعليم التي تقوم بتعليم اللغة العربية للنشء خاصة في المراحل الأولى وتعميق الاتصالات أيضًا بوزارة الإعلام بما يتبعها من صحافة وإذاعة وتلفاز حتى تنتقل ثمار جهودكم الجبارة إلى المجتمع في سهولةٍ ويسر. وهكذا تحققون الأهداف الحقيقيةَ التي أنشئ من أجلها هذا المجمع العتيد. أنا أعلم أن هذا الموضوع – وبالرغم من أهميته الخطيرة – ليس سهلاً وله عدةُ جوانبَ متداخلة ومتشابكة مما يجعل تنفيذه في غاية الصعوبة. إلا أن الهدفَ السامي الذي ينبغي علينا أن نسعى لتحقيقه وهو توصيلَ ما تؤدونه من جهد خلاّق للحرص على اللغة العربية إلى المواطن العربِّي في كل مكان يُلزِمنا بمزيد من العمل المخلص لتنفيذه.
سيدي الرئيس، حضرات السادة الأفاضل:(/3)
إنه لشرفٌ كبيُر لي أن أكون عضوًا بمجمعكم الكريم في المحل الذي خلا بوفاة العالم الأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم طيّب الله ثراه وأثابه خيرَ الثواب. وللراحل الكريم حق كبير عليّّ ليس لأني سوف احتل مقعده في مجلسكم الموقر فقط وإنما حقّه كبيرٌ عليّ عندما كان أستاذًا لي وأنا طالب في كلية الطب جامعة القاهرة في الأربعينيات ثم عميدًا لي عندما كنت أستاذاً بنفس الكليّة في أوائل السبعينيات وقد اختارني سيادته حينئذ أن أكون رائدًا للشباب في الكلية وأخبرني أنه لم يجد أحدًا يثق فيه لكي يتولى هذا المنصبَ سواي، وقت أن كانت الجامعة وطلابها بل والشعب أجمعه في أشدّ البلبلة والتوتر في أعقاب نكسة 1967م وقبل حرب التحرير المجيدة في أكتوبر عام 1973م.
أما عن المرحلة التي كان فيها أستاذًا لنا بالكلية فقد كان سيادته نموذجًا رفيعًا للأستاذ الجامعي الفاضل وكان قدوةً مشرفةً لنا من دماثة أخلاق وهدوءٍ في الطبع وعلمٍ واسعٍ نغرف منه ما نشاء؛ وسيرةٍ عطرة فوالده جراح مصر الأكبر الدكتور علي إبراهيم باشا الذي كان مديرًا لجامعة القاهرة وعضوًا مؤثرًا في مجمع اللغة العربية في ذلك الوقت. وكم كان يؤثرني سيادته بحديثه الممتع في الأدب وفي الطب معًا أو بشعره النقيّ الجميل عندما كنت أزوره بمكتبه عندما كان عميداً للكلية أو في مكتبه بمستشفاه الخاص بالدقي. ولكيّ أدلل لكم أيها السادة على عظمة هذا الرجل في المحيط الجامعي أن سيادته تولى عمادة الكلية فترة أولى بالاختيار، وعند نهاية هذه الفترة صدر قانون تعيين عمداء الجامعات بالانتخاب وليس بالاختيار، وبدون أن يزكيّّ نفسه – حصل سيادته على جلِّ أصوات الأساتذة وكان عددهم يربو على الستمئة في ذلك الوقت.(/4)
انتخب المرحوم الأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم عضوًا عاملاً بالمجمع في عام 1978م في المكان الذي خلا بوفاة العالم الكبير الأستاذ الدكتور أحمد زكي عالم الكيمياء المعروف. وكان سيادته – رحمه الله حُجة في اللغة العربية بجانب كونه حُجة في تخصصه. وقد استقبل الأستاذ الدكتور أحمد عمار عضو المجمع الدكتور حسن علي إبراهيم بكلمة جامعة ذكر فيها أن سيادته ورث عن أبيه المرحوم الدكتور علي إبراهيم باشا خصائصَه وفضائله وراثة منحة وهبة، كما اكتسبها اكتسابًا بفطنته و يقظته.
ولد الدكتور حسن علي إبراهيم في التاسع من سبتمبر عام 1914م وتخرج في كلية الطب جامعة القاهرة عام 1937م ظافراً على الأولوية بين زملائه، ونال درجةَ الماجستير المعادلة لدرجة الدكتوراه في ذلك الوقت عام 1941م، ثم نال زمالة كلية الجراحين الملكية بإنجلترا عام 1946م. ومنحته هذه الكلية أستاذية "هنتر" وهو أول جراح غير بريطاني يمنح هذا اللقب. وتدرج سيادته في مناصب التدريس حتى عين أستاذا للجراحة التجريبية عام 1962م ثم عُين عميدًا للكلية عام 1972م حتى بلغ السنّ القانونية عام 1974م. وعلى الصعيد المصري لم يقتصر نشاط سيادته على كلية الطب جامعة القاهرة، وإنما أشرف على إنشاء قسم الجراحة بكلية الطب بجامعة أسيوط، ثم كلية الطب بجامعة المنصورة. وفي أثناء حرب فلسطين عام 1948م اشترك سيادته في السلاح الطبي تكليفًا بالجيش ونال نوطَ الجدارة تقديرًا لخدماته. كما كان عضوًا بمجلس إدارة الجمعية الطبية المصرية وجمعية الجراحين المصرية وجمعية الإسعاف وجمعية الهلال الأحمر والجمعية الخيرية الإسلامية.(/5)
وقد حصل سيادته على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الطبية عام 1959م كما حصل على جائزة الدولة التقديرية عام 1988م كما حصل على وسام العلومِ والفنون من الطبقة الأولى ووسام الجمهورية من الطبقة الثانية عام 1983م. وله من البحوث الأكاديمية ما يربو على خمسين بحثًا نشر في المجلات والدوريات الطبية العالمية ونال على يديه العديد من الباحثين درجة الماجستير والدكتوراه فى مادة الجراحة العامة.
أما عن نشاطه المجمعي فقد كان سيادته مقررًا للجنة المصطلحات الطبية – التي أخرجت أربعة أجزاء من المعجم الطبي حتى الآن، وكان عمله فيها يتصف بالجد والمثابرة والتجويد في ظل سماحة خلق ودماثة طبع ولطف أجمع عليه جميع من عرفوه أو عملوا معه؛ كما كان سيادته شاعرًا رقيقًا اتجه بشعره إلى الوجدان والعاطفة والذي تجسم كثيرًا بعد زيارته للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام . ونستمع إلى شعره فى مدحه والثناء عليه معارضًا بردة البوصيري ونهجها لشوقي قائلا:
ما ذبت شوقًا لجيرانٍ بذى سَلَمِ
ولا أرقتُ لذكرِ البانِ والعلمِ
وما أبحتُ لريمِ القاعِ سفكَ دمى
في الأشهر الحلّ أو في الأشهر الحُرمِ
وفي قصيدته النبوية الثانية وعنوانها "وقفة أمام قبر الرسول" صلى الله عليه وسلم يقول:
مَشيتُ وفي قلبي وجيبٌ ورهبةٌ
إلى خير قبرٍ ضم خيرَ رفاتِ
وحولي من الأقوامِ حشدٌ ميممٌ
إلى حيث يثوي منبع البركاتِ
وكان سيادته يلقي هذه القصائد في المؤتمرات السنوية للمجمع.
ولا أجد وأنا أنهي كلمتي تلك إلا أن استعير ما قاله الشاعر الكبير علي
الجارم بك يصف صديقه وزميله الجراح الكبير علي إبراهيم باشا عام 1941م عندما بلغ سيادته سن الستين وأجد أن ما قاله ينطبق ويتطابق تطابقًا تامًا على من نتذكره الآن وهو نجله الكريم الأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم:
له مِبضعٌ تجرىِ الحياةُ بحدِهِِ
يُصيبُ حُشاشاتِ المنونِ إذا أدمى
كأن به نورًا من الله ساطعًا(/6)
يُضىء له نهجَ الطريقِ إذا أمّا
أصابعُ أجدى خِبرةً من أشّعةٍ
وأصدق إن مرت على جَسَدٍ حكما
إذا ما امرؤ أهدى الحياة لميتٍ
فذلكَ قد أهدى الوجودَ وما ضَمّا
وأخيرًا – وقبل أن أترك مكاني في هذا اللقاء أتوجه بالشكر العميم إلى أخي الفاضل الكريم الأستاذ العالم الدكتور الطاهر مكيّ على كلمته الرقيقة الطيبة وأدعو الله العليّ القدير أن يجازيه خير الجزاء الذي هو به حق جدير.
والسلام عليكم ورحمة الله،(/7)
أولاً- كلمة المجمع للأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكي
في استقبال الأستاذ الدكتور أحمد علي الجارم
اثنان من أعضاء هذا المجمع الموقر، على امتداد تاريخه، كان أبواهما مجمعيين. ولست أعرف لهما ثالثًا.
أولهما الذي نحتفي اليوم باستقباله عضوًا في مجمعنا، ألا وهو الأستاذ الدكتور أحمد علي الجارم، ابن المرحوم الشاعر الكبير علي الجارم، وثانيهما المرحوم الأستاذ الدكتور حسن علي إبراهيم ابن المرحوم الدكتور علي إبراهيم، ومن الصدف اللافتة أن الأول منهما يشغل مكان الثاني الذي غادر دنيانا في العام الماضي إلى عالم الأبدية الخالد، رحمه الله.
فالدكتور أحمد علي الجارم، إذًا، خيار من خيار. في بيئة علمية دينية نشأ، وفي بيتٍ عريقٍ كريم، رب الأسرة من تلاميذ الإمام محمد عبده وسيد المرصفي أيام كان طالبًا في الأزهر، وأهَّله نبوغُه وتفوقُه وعشقُه اللغةَ العربية، وموهبتُه الشعرية أن يلتحق بدار العلوم، وهي في أزهى عصورها: أمين باشا سامي ناظرها، وحسن توفيق العدل أول من حدَّث دراسة الأدب وتاريخه، بعد عودته من ألمانيا، وهو أبرز علمائها، ويشارك الأستاذ الإمام في امتحان طلابها، ويكتب تقريرًا يدفعه إلى وزير المعارف، يؤكد فيه على أهمية الدار، ويضمّنه مقولته الخالدة: "لو أن باحثًا مدققًا أراد أن يبحث عن اللغة العربية أين تموت وأين تحيا لوجدها تموت في كل مكان وتحيا في دار العلوم".
... في دار العلوم هذه كان علي الجارم أول دفعته، فابتعث إلى بريطانيا ليدرس التربيةَ وعلم النفس والأدبَ الإنجليزي على امتداد أربعةِ أعوامٍ كاملة.(/1)
حتى إذا استقر في القاهرة ربَّ أسرة، كان مجلسه بين أبنائه وزواره يعكس هذه الثقافة في جوانبها المتعددة، عربية أصيلة أو حديثة وافدة، ويُنفق الوقت في مجلسه بين أشعارٍ تُنشد، لرب البيتِ نفسه أو لآخرين، ونوادر تراثية تحكى، وقضايا نقدية تثار، وذكرياتٍ عما رآه العائدُ من الغرب، وفيه ما يُعجب، وما هو موضعُ الرفضِ والإنكار، وبدهي أن ينعكس شيء من هذا على أبناء صاحبِ البيت، وخاصته المترددين عليه، وأن يترك في أعماقهم أثرًا قويًّا، يترك صداه واضحًا في تكوين مِزاجهم.
... ويتجلى هذا الأثر كأقوى ما يكون في أحمد أصغر الأبناء ، وكان الأب يخصه بمزيد من الرعاية الحانية جعلته أشدَّ ملازمة لأبيه، فأتيحت له الفرصة، ولمّا يزل صبيًّا ناشئًا أن يدس بصره وعقله في الكتب والمجلات التي كانت تصدر في الأربعينيات لصفوة الأدباء والشعراء، تأتي الأبَ هدايا أو اشتراكًا أو شراء.
هكذا نما حب العربية وتراثها في أعماق الفتى، حتى إذا التحق بالمدرسة الثانوية وجد فيها ما يدعم كلَّ ما قرأ، ويؤكد هذه الموهبة عنده، إنها الفترة الخصبة الزاهرة في تاريخ التعليم في مصر، حيث يقرأ التلاميذ بجوار المقررات الثابتة، ما عرف يومها بالقراءة الحرة، وفيها عرف التلميذ أحمد الجارم، كما عرف غيره بداهة، جلّ ما في مكتبة المدرسة؛ عبقريات العقاد، وأدبيات طه حسين، وكتاباتِ المازني والزيات، ومؤلفات أحمد أمين ومحمد حسين هيكل وآخرين إلى جانب قصائد كثيرة ومتنوعة من الشعر العربي الرصين الجميل، لشعراء العرب الكبار من قديمهم وحديثهم، والتي تضمن أغلبها " المنتخب من أدب العرب " في جزأين وكانت الوزارة تعطيه لكل التلاميذ. إلى جانب دواوين كبار الشعراء كالمتنبي والبحتري وأبي تمام، والبارودي وشوقي وحافظ، وكثيرين غيرِهم، ممن كانت مكتبة الجارم الأب تحظى بدواوينهم.(/2)
وأكدت الممارسة العملية هذا الميل في نفس الفتى، إذ كان الأب يعتمد عليه في متابعة إبداعاته الأدبية المتعددة: من شعر وروايات تاريخية وبحوثٍ أدبية ولغوية في دور النشر المختلفة، وعلى هذه المائدة الثرية، الحافلةِ بمختلف الطعوم، تكوّن وجدانُ الفتى، وتشرب حبَّ الأدب العربي الجميل، والشعرَ القوي الرصين، إذ كان الأبُ المبدعُ صاحب مدرسة ومنهج متفرِّد في إبداعه: ناظمًا أو ناثرًا، محققًا أو مترجمًا.
كان يمكن للتلميذ الفتيّ أن يمضي مع هواياته تلك إلى غايتها، وأن يصبح في عالم الأدب كما كان أبوه، ولكن حدثًا أليمًا حل بالأسرة غيّر اتجاهه، حين فقدت الأسرة ابنها البكر عام 1935م، وكان وقعُ الحدث على الأب عنيفًا، هدّ قواه، وأعلّ صحتَه، ساعتها رأى أحمد أن يتجه إلى المكان الذي يستطيع معه أن يرعى أباه على نحو أفضل، وأن يخدمه صحيًا، واستقر رأيه على أن يدرس الطب بدل الأدب، وهي أمنية لم تحقق في جانب منها، ولم يستطع أن يجلس من والده العليل مجلس الطبيب، إذ فارق الأب الحياة عام 1945م، قبل أن يكمل الابن دراسة الطب، وترك هذا الإحساس في أعماقه جرحًا غائرًا، أحسب أن الزمن لم يستطع أن يمحوَه.
ومع دراسته في كلية الطب ظلت أشياء كثيرة تتفاعل في أعماقه، وتشي بما سوف ينتظره، وأن صلته بما بدأ به حياته لن تنقطع، ففي عام 1947م مثل الشاعرُ علي الجارم مجمع اللغة العربية في المؤتمر الثقافي العربيِّ الأول الذي عقدته جامعة الدول العربية في لبنان، مع زملاء له منهم الدكتور أحمد أمين والدكتور عبد الوهاب عزام، وفيه نظّم علي الجارم خالدته: "العروبة" ، كي تلقى في الجلسة الافتتاحية ومطلعها:
لبنانُ روضَ الهوى والفنُّ لبنانُ
الأرضُ منك وهمسُ الدوْحِ ألحانُ
هل الحسانُ على العهدِ الذي زَعمتْ؟
وهل رِفاقُ شبابي مِثْلما كانوا؟
أين الصِّبا؟ أين أوتاري وبهجتُها
طوتْ بساطَ ليالِهنّ أزمان
أرنولها اليومَ والذكرى تؤرّقُنى(/3)
كما تنبّه بعد الحُلْم وسنانُ
هَبْني رَجَعتُ إلى الأوتارِ رنَّتها
فهل لشرخ الصِّبا واللهو ِرُجعان؟
وهي قصيدة طويلة، تعد من روائع الشعر العربي، وكأنما كان يتحدث في مطلعِها عن واقعه، فلم يكن الشاعر بقادرٍ صحيًّا على إلقائها بنفسه كما كان يفعل مع كل قصائده دائمًا فألقاها ابنه أحمد، الطالب في كلية الطب، نيابة عنه، وهو يومئذ في التاسعة عشرة من عمره، فكان في إلقائه لها سرُّ أبيه، وقديمًا قالت العرب: "من شابه أباه فما ظلم" ولقي إلقاؤه استحسانًا من المؤتمرين ومن المجتمع اللبناني، أدباء ومثقفين، لتمكنه على الرغم من حداثة سنه، وقالت الصحف عنه: "إن الولد طبعة جديدة من أبيه".
ويتفرغ الجارم الشاب لدراسة الطب، ويحصل على درجة الدكتوراه في الأمراض الباطنة، ثم يوفد إلى إنجلترا ليتخصص في أمراض الجهاز الهضمي والكبد، ويعود من بعثته عام 1963م ليقوم بعمله أستاذًا متميزًا في قسم الأمراض المتوطنة والمعدية وأمراض الجهاز الهضمي في كلية الطب في جامعة القاهرة، ثم رئيسًا له، فأستاذًا متفرغًا فيه.(/4)
وقد اشترك مع زملائه في النهوض بالقسم وتطويره، وأسهم في إجراء البحوث الإكلينيكية والمعملية والميدانية، في مجال الأمراض الأكثر انتشارًا في مصر، كالبلهارسيا وتليف الكبد وتضخم الطحال، ومد خبراتِه إلى خارج كليته، فأشرف على إنشاء أقسام الأمراض المتوطنة في كليتي طب الأزهر وطنطا، وعلى إقامة معهد تيودور بلهارس في أكاديمية البحث العلمي، وأشرف عليه طوال عشرِ سنين، حتى أصبح معهدًا بحثيًّا عالميًّا، معترفا به دوليا وأسهم في أبحاثه والدراسات الخاصة بمرض البلهارسيا ومضاعفاته، مع الجامعات ووزارة الصحة مما عاد بالنفع الكبير على عامة المواطنين في مصر، خاصة القاطنين في الريف وتقديرًا لهذا الجهد حصل على جائزة بلهارس من مؤسسةِ بهرنج في ألمانيا، لتميز بحوثه، وبحوث معهد بلهارس، في مكافحة هذا المرض في مصر، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية للإبداع في مجال العلوم الطبية عام 1997م ، فله أكثر من مئةِ بحث منشور في المجلات الطبية المصرية والعالمية، في مجال الأمراض المتوطنة والمعدية وأمراض الكبد والجهاز الهضمي، وهيأت له مكانته العلمية أن يكون رأس مدرسة علمية متميزة تحتذي خطاه ومنهجه، وتتخذه قدوة وهاديًا، في كلية الطب جامعة القاهرة والجامعات الأخرى.
وإلى جانب ذلك كله، شارك الدكتور أحمد علي الجارم في أكثر من مؤتمر دولي يتصل بتخصصه، وعمل مع أكثر من جمعية طبية في مصر يتصل نشاطها بمجاله، وآخر ما كان من هذا الجانب اختيارُه عضوًا في أكاديمية نيويورك للعلوم في أبريل عام 1999م.
وفي أواخر الستينيات اشترك بصفته خبيرا بالمجلس الأعلى للعلوم في مشروع تعريب الطب، وقد توقف المشروع إذ ذاك بعد عامين من بدئه، وخبرته في هذا المجال ذات أهمية، وأحسب أن المجمع الموقر سوف يفيد منها، لا فيما يعرّب من مصطلحات فحسب، وإنما في بعث المشروع برمته من جديد.(/5)
غير أن مهمة أخرى كانت تنتظر الجارم الطبيب الكبير، تعيده إلى الاهتمام باللغة والأدب. ففي نهاية الخمسينيات وعلى امتداد الستينيات شهدت الحياة الأدبية في وطننا لونًا من النقد الغوغائي، والرقابة الجاهلة، يريان في ذكر أَعلام ما قبل الثورة عملاً لا خير فيه، وفيما أبدعوا شرًّا يجب أن يتوارى ويختفي، وبدأ صغار النقاد والشعارير يتطاولون على عظماء تاريخنا الأدبي، ويحولون دون نشر تراثهم، فاختفت من المطابع والمكتبات والمدارس أمهات كتب الأدب ، وروائع دواوين الشعر، فتصدى الدكتور الجارم لهذا العدوان فيما يتصل بوالده، وبدأ يعيد نشر تراثه، شعرًا وروايات وأبحاثًا ومقالات، وصدرت كلها في مجلدات كبار، وأعيدت طباعتها أكثر من مرة، وتلقاها الجمهور الظامئ إلى الشعر الرصين وإلى كل فن جميل بالقبول والترحيب، واحتل " ديوان الجارم " و"السلاسل الذهبية" في النثر، مكانهما في المكتبات العامة والخاصة، وأصبحا من مواطن البحث في الدراسات العليا في جامعاتنا، إلى جانب كتابين ألفهما أحمد الجارم عن والده وهما: " الجارم في ضمير التاريخ"، و" الجارم في عيون الأدباء". وهو في ذلك كله يجمع ويصوّب ويعلّق، ويرد ويناقش القضايا التي أثارها الآخرون.
ولعمري – أقولها وأؤكد عليها – إني لا أعرف فيما درست أو قرأت ابنًا كان له هذا الموقف من أبيه، عرفانًا جليلاً، وتقديرًا عميقًا لدوره الذي كان له في الحياة الأدبية وأن يتجاوز ذلك مجرد الإحساس والشعور إلى العمل المثمر المفيد والخالد.(/6)
إن الطب ليس مجردَ علم يُدرس، ولا حرفة تُمتهن، وإنما هو فوق ذلك كله وقبله رسالة إنسانية تؤدى، وبقدر ما يكون حظ الطبيب منها تكون عظمته وروعته، وأحسب أنها الأصعب، لأنها خليقة تصدر عن النفس ولا تأتي من خارجها، وكان للدكتور أحمد الجارم من ذلك النصيبُ الأوفي، فهو الطبيب الإنسان حقًّا، ماردّ لائذًا بعلمه، ولا أبطأ في استجابة مستغيث، ولا تكاسل عن واجب، ولا نفد صبرُه إزاء عليل، فكان الطبيب الرحيم الودود ، المبتسم دائمًا المتفائل أبدًا ، المؤمن بالله في كل خطاه، وقد أجمل المرحوم محمد شوقي أمين عضو المجمع هذه الخلال الجميلة في أبيات من الشعر أهداها إلى الدكتور أحمد علي الجارم يقول:
بسم الله الرحمن الرحيم
تحية إلى مفخرة الطب الأستاذ الدكتور "أحمد الجارم":
يا " أحمد بنَ عليٍّ بنَ الجارم
حُزت المكارمَ كارمًا عن كارم
العبقريةُ عن أبيك وراثةً
برزتْ بطبك في أصالةِ عالم
أما المروءةُ فهي فيك سجيةٌ
تزهو بشائرُها بوجهٍ بَاسم
تغدو على الداء الكمينِ بخطَّةٍ
فيها الشفاءُ لحائرٍ متشائمِ
لك من أناملك اللطافِ أشعةٌ
فتحسُّ ما يُوحي برأيٍ حاسمِ
كتب الإلهُ لقاصديك سلامةً
يا فاضلَ الحكماءِ غير مزاحم
يَجزيك ربُّك خيَرَ ما يُجزى به
في الناس ذو القلبِ الكبيرِ الراحمِ
طوبى " أبا حسن " لمثلك محسنًا
طابت حياتُك في سلامٍ دائمِ
القاهرة في: ربيع الثاني 1409هـ - نوفمبر 1988م.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،(/7)
ثانيًا- كلمة الأستاذ الدكتور علي حلمي موسى
في حفل استقباله عضوًا بالمجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
"ربَّنا آتنا من لدنكَ رحمة وهيئ لنا من أمرنِا رَشَدَا "
الأستاذ الدكتور شوقي ضيف
الأستاذ الدكتور محمود حافظ
الأستاذ الدكتور كمال بشر
السادةُ أعضاء المجمع الموقر
السيداتُ والسادةُ الحضور
إنه لشرفٌ عظيمٌ لي أن أقفَ لأقدمَ أولَ كلمةٍ لي بوصفي عضوًا في هذا المجمع الموقر الذي يحظى بكلِّ التقدير والاحترام.
لقد استمعتُ بمزيدٍ من التأثرِ للكلمةِ الرائعةِ التي ألقاها باسم المجمع الأخُ الصديقُ الأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد، فاسمحوا لي أن أتوجهَ إليهِ بعظيمِ الامتنان مع خالص المودِة والتقديرِ على ما حباني به من عطفٍ وشملني به من رعايةٍ يحاولُ بهما أن يقربَني منكم بما تستطيعون به الاطمئنانَ إلى القادم إليكم، الذي يعتقدُ أنه يريدُ الاستفادةَ من علمِكم.
كما يسعدني أن أتقدم إلى أستاذي الدكتور محمود حافظ نائب رئيس المجمع بعظيم الشكر على ترشيحي لعضوية المجمع.
السادة أعضاء المجمعِ الموقرِ
اسمحوا لي أن أقدم لكم خالصَ شكري على تفضلِكم باختياري عضوًا بمجمعكم الموقرِ الخالدِ بإذنِ اللهِ خلودَ اللغةِ العربيةِ. ويسعدني ويشرفني أن أبذُلَ ما أستطيع من جهدٍ لأشاركَكُم مشاركة فعالة في حَمْلِ بعضِ أعباءِ البحوثِ اللغويةِ لنحققَ الأغراضَ السامية التي أنشئ هذا المجمعُ لتحقيقِها.
السادةُ أعضاءُ المجمعِ الموقرِ
لقد أوليتموني شرفَ مقعَدَ الدكتور عبد الرحمن محمد السيد، الذي انضمَّ إلى مجمعِكم الموقر في شهرِ رمضانَ المعظمِ، وكان انتقالُه إلى الرفيق الأعلى فى شهرِ رمضانَ الكريمِ أيضًا.(/1)
لقد كان الدكتور عبد الرحمن السيد - رحمه الله - من أساطين اللغةِ العربيةِ، وأفنى حياتَهُ في خدمةِ لغةِ القرآن الكريم، وظهر ذلك في مؤلفاتِه القيمةِ في النحو وتاريخِهِ بدءًا بنشأةِ مدرسةِ البصرةِ النحويِة وتطورِها والخلافِ بينَ علماءِ البصرةِ وعلماءِ الكوفةِ. وبيّن أهمية هذا الخلافِ وأوضحَ ما يتميزُ به نحوُ البصرةِ من عمومٍ ومرونةٍ، وتحدث عن عللِ النحوِ وما لها من قيمة، كما تحدث عن الإعرابِ وعلاماتِهِ وموقفِ المُحْدَثين من هذه العلامات وفنّد كلَّ الحُجَجِ التي اعتمدوا عليها.
كما تحدثَ عن حياة ابنِ مالكٍ وأساتذتِهِ وتلاميذِهِ، وكذلك عن حملةِ أبى حيانَ الأندلسي على ابنِ مالكٍ، فأثبت خطأه فى بعض ما أخذهُ على ابن مالكٍ وتحامُلهُ عليه فى كثير مما رماه به.
وتناول أدلة ابنِ مالكٍ وبيّن أنه كان أول من أكثرَ الاستشهادَ بالحديثِ الشريفِ. وأثبت أن ابنَ مالكٍ يرى أن الوظيفة الحقيقية للكلامِ هي الفهمُ والإفهامُ.
ومن بين مؤلفات الدكتور عبد الرحمن السيد كتابُ " الكفايةُ فى النحوِ " الذي تناول فيه أبوابَ النحوِ وفِقًا لترتيبها فى ألفيةِ ابنِ مالكٍ. كما تعرض فى كتبهِ لدراسةِ العروضِ ونقدِهِ ودراسةِ القافيةِ وموسيقا الشعرِ.
ولقد كان الدكتور عبد الرحمن السيد على صلةٍ وثيقةٍ بمجمَعِكم الموقرِ حتى من قبل عضويته به، فقد كان يتابعُ قراراتِ المجمعِ فى كلِّ ما يتصل بدراستِهِ، أما أعمالُهُ فى المجمعِ فقد اشتركَ فى لجنةِ الأصولِ وكان تيسيرُ النحوِ هدفَهُ، كما كان عضوًا في لجنةِ الألفاظِ والأساليبِ حيث صحّح عشراتِ الكلماتِ والعباراتِ وردها إلى الأصلِ الفصيحِ، كما أسهمَ فى أعمالِ المعجمِ الكبيرِ.
وكان رحمه الله في جميعِ أعمالِهِ في المجمعِ ينشطُ للحوارِ والنقدِ والتمحيص، فإن كان العملُ صالحًا مدحَهُ وزكّاه وإن بدا له فيه مأخذٌ جهرَ برأيهِ فيه.(/2)
لقد اتسمت حياةُ الدكتور عبد الرحمن السيد كلُّها بالحرصِ على أداءِ الواجبِ والالتزامِ بمكارم الأخلاق والنزاهة في إصدار الأحكامِ، وهو علمٌ من الأعلامِ الذينَ عَرَفتهم الجامعات فى الوطن العربي ووثِقت بهم واعتمدت على حسن تقديرهم وأخذت بآرائهم العلمية فيما تعرضُ من أمورِ.
السادةُ أعضاء المجمعِ الموقرِ لقد بدأت علاقتي باستخدام التكنولوجيا في بحوث اللغة العربية منذ أكثر من ثلاثةِ عقودٍ بناءً على اقتراحٍ من الأستاذين الدكتور محمد كامل حسين والدكتور إبراهيم أنيس رحمهما اللهُ.
وقد احتوت هذه الدراساتُ التي شملت معاجمَ الصحاحِ ولسانِ العربِ وتاجِ العروسِ على جداولِ تتابعِ الحروفِ في الجذورِ العربيةِ بالإضافةِ إلى إحصائها، وكذلك على توليدِ الجذورِ من أحرفٍ محددةٍ. فبعضُ مجموعاتِ الأحرفِ الثلاثةِ يولّدُ ستة جذورٍ، وبعضُها يولد خمسة جذورٍ أو أربعة أو ثلاثة أو جذرين أو جذرًا واحدًا فقط.
وفي منتصفِ السبعينياتِ اقترحَ الأستاذُ الدكتور عبد العزيز كامل أن أتابعَ البحثَ في ألفاظِ القرآن الكريمِ وأرشدني إلى المعجمِ المفهرسِ لألفاظِ القرآن. وقد تم تصنيفُ الألفاظِ وترتيبُ ورودِها تنازليًّا. واستخدام هذه البياناتِ لمحاولةِ تفسيرِ معاني فواتحِ سورِ القرآنِ. وتضمنت الدراسة إيجاد العلاقةِ بينَ الصوامتِ والحركاتِ في القرآن الكريمِ.
وقد كان لهذا العملِ تأثيرٌ كبيرٌ على حياتي الشخصيةِ.
السادةُ أعضاء المجمعِ الموقرِ
إن اقتناءَ المجمعِ لشبكةٍ حاسوبيةٍ سوفَ يوفرُ له قاعدةً صُلبة لبناءِ تطبيقاتٍ لغويةٍ عديدةٍ من أهمِّها المعجمُ العربيُ التاريخي نظرًا لأهميته الكبرى فى البحوثِ اللغويةِ والتاريخيةِ والحضاريةِ .(/3)
فقد كان للعرب عنايةٌ وشغفٌ بلغتهم لأسبابٍ عقائديةٍ وثقافيةٍ وحضاريةٍ، حتى قال فيهم "أوْجُسْتْ فيشر" المستشرقُ الألمانيُ والمبادرُ الأولُ لوضعِ معجم تأريخي للغةِ العربية – قال: " إذا استثنينا الصينَ فلا يوجدُ شعبٌ آخرُ يحقُّ له الفخارُ بوفرةِ كتبِ علومِ لغتِهِ وشعورهِ المبكرِ بحاجتِهِ إلى تنسيقِ مفرداتِها بحسبِ أصولٍ وقواعدَ".
وقد وضع أستاذنا الدكتور شوقي ضيف الأسسَ التي ينبغي اتباعُها لوضعِ هذا المعجم في بحثه القيم الذي ألقاه في ندوةِ المعجمِ العربي التاريخي في تونس عام تسعةٍ وثمانينَ وتسعمائةٍ وألف. وقد كان لي شرفُ حضورِ هذه الندوةِ.
لقد ظهر من نتائج حوسبةِ المعاجمِ أنّ بعضَ الجذورِ المدونةِ فى
معجمِ الصحاحِ لم ترد في معجمِ لسانِ العربِ رغمَ تأخرِهِ عن الأولِ. كما ظهر أنّ بعضَ جذورِ لسانِ العربِ لم ترد في معجمِ تاجِ العروسِ. لذا فإن تأريخَ الألفاظِ العربيةِ سوفَ يُلقي الضوءَ على نُمُوِّ شجرةِ اللغةِ العربيةِ وفروعِها.
إن استخدامَ التكنولوجيا في إنجازِ هذا العملِ الكبيرِ سيكونُ له مردودٌ سريعٌ يدفعُ العملَ بلا شكٍّ نحو التميُّزِ. ولكنّ الحاسوبَ لا يمكنُهُ القيامُ بهذا العملِ بغيرِ علماءِ اللغةِ إذ يجبُ أن يشتركَ عددٌ كبيرٌ من المجمعيينَ في الوطنِ العربيِ الكبيرِ في هذا العملِ الضخمِ ليكونَ أحدَ مشروعاتِ اتحادِ المجامعِ العلميةِ العربيةِ.
أشكركم على حسنِ استماعكم
والسلام عليكم ورحمة الله
علي حلمي موسى
عضو المجمع(/4)
ثانيًا- كلمة الأستاذ الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف
في حفل استقباله عضوًا بالمجمع
الأستاذُ الدكتور رئيس المجمع الموقر
السادة أعضاء المجمعِ الموقرين
الحفل الكريم
يعرف كثير من المثقفين مكانةَ مجمعِ اللغة العربية، ويقدُرونه حقَّ قدره، ويؤمن غير قليلٍ منهم بدوره المنوطِ به، والرسالة التي يتغياها، ويسعى إليها. ويقْرِن بعضهم بينه وبين أعلامه المرموقين سابقِهم ولاحقِهم، ويقيسون إلى أقدارهم قدره، أو يقيسون إلى قدره أقدارهم. ويُسلِّم الجميعُ بشرف المنتسبين إليه الذين حَظُوا بعضويته، فنالوا مقعدًا فيه؛ ومن ثمَّ تهوي إليه أفئدة، وتستشرفُه هامات، وتتنوَّرُه عيون، ويتطلع إليه متطلعون.
وقد كنت ممّن قدر لهم أن تربطهم بالمجمع وبعض رجاله رابطة، وتَصِلَهم بهم واصلة؛ إذْ تلمذتُ – وهذا من تقدير الله – لبعض علمائه، وصادقتُ – وهذا من أَنْعُم الله – بعضَ أعلامه، وقد عملتُ خبيرًا في ثلاثٍ من لجانه لعشر حججٍ خلوْنَ، أختلف إلى مجالسه، وأشهد بعض أعماله، وأُسْهِم في بعض ما يصدر عنه بنصيب مقسوم.
ولم تكن تلمذتي لبعض علمائه، ولا صداقتي لثلة من نابهي رجاله، ولا إسهامي في شيء من أعماله لتغريَني بالطمع، أو تخدعَني عن نفسي فأتطلعَ إلى أن يفسحوا لي بينهم مكانًا، أو أقتعدَ بجانبهم مقعدًا، ولم يجمح بي التظِّني إلى هذا إلاّ أن يكون أمنيّة لمتمنّ، أو همهمةً من همهمات النفس، أو خاطرًا يسنح في سبحة من سبحاتِ الخيال.
ولكنّ الله – سبحانه – يسّر لي منكم – أيها السادة – من ينظرون في مرآة نفوسهم إلى مَنْ حَوْلهم فرأوا فيّ مالا أراه في نفسي، وهم صفوة من العلماء زكت نفوسهم، وصفَت قلوبهم، وأحبوا لي ما يحبونَ لأنفسهم، فاستأذنوا لي عليكم، وسعَوْا لي عندكم، وعَنْ حُسْن ظنٍّ قَبلْتُم مَسْعَاتَهم، وحملْتُموني إليكمْ عَلى ظَهر فَضْلهم:
سَعَوْا لي وكانَ الفضْلُ منهم خليقةً
وقَدْ قيل قبلاً: رُبَّ سَاعٍ لقاعدِ(/1)
إلى هؤلاءِ الصفوة الذين رشحوني إليكم، وزكَّوْني عندكم، وإليكم جميعًا– أيها السادة أصحابَ الفضل – سواءٌ منكم من وافق هؤلاء الصفوة ومَنْ خالفهم، ومن ساندهم ومن عاندهم أقدم الشكر خالصًا غير مشوب، والعرفان بالفضل صادقًا غير مكذوب، لما أَوْلَيْتموني من شرف الارتقاء إلى قنة مجمعكم الباذخة، والانتماءِ إلى سدّته الشامخة، وأسأل الله أن يجعلني مصدِّقا لمن أحسن بي الظن، وأن يجعل الشكر موصولاً بالعمل النافع لما اخترتموني له وانتدبتموني إليه، ولئن كانت يد الشكر لا تستطيع أن تفي بما لكم عليّّ من دين؛ إنّي لأكل إلى الله القادر حسن مثوبتكم وجميل الجزاء.
وأما أنت أيها الصديق الأثير، والشاعر الكبير الأستاذ فاروق شوشة – وقد أنعمتَ عليّ بتقديمي ضمن ما تتعاهدني به من الإنعام- فإن استطعتُ أن أناصبك حبًا بحبّ، فلن أستطيع أن أطاولَك بيانًا ببيان. لقد حلَيْت مني عاطلا، ونفيت عني باطلاً، وجبرت كسيري، وغفرت تقصيري، ونَفَّقْت ما ركد ، وأشعلت ما خمد.
فلأ شكرنّك حُسْنَ ما أَوْليتني
شكرًا تَحلّ به المطِيُّ وترْحَلُ
وما يكنْ من أمر ما تفضلت به عليّّ، فما هو إلا شهادة أخٍ كبير في أخٍ له صغير.
أما سلفي الراحل الكريم الأستاذ إبراهيم الترزي، أمين المجمع السابق، فقد كنت أتمنى أن أجلس إلى جواره لا أن أكون له خلفًا فأقتعد مقعده، وقد كان يرجو – طيب الله ثراه – أن يشهد هذا اليوم، وكان يمنيني أن يقدمني إليكم. وعندما أُبلغت أنني سأشغل كرسيّه ردّدت بيني وبين نفسي الآيةَ الكريمة "إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه". ولقد فقدت بفقده شقيقًا من أشقاء النفس، كان لي ملاذًا وموئلاً في كثير من الأمور، وإني لقائل فيه ما قال الشّمرْدَل بن شريك:
لعمري لئن غالت أخي دارُ غربةٍ
وآب إلينا سيفُه ورواحلُهْ
وحَلَّت به أثقالَها الأرضُ، وانتهى
بمثواه منها، وهو عفٌّ مآكلُهْ
لقد ضُمِّنَتْ جَلْدَ القُوى، كان يُتّقَى(/2)
به جانبُ الثغرِ المخوفُ زلازلُهْ
وصولٌ إذا استغنى، وإن كان مقترًا
من المال؛ لم يُحْفِ الصديقَ مسائلُهْ
إلى اللهِ أشكو لا إلى الناس فقدَهُ
ولوعةَ حزنٍ أوجعَ القلبَ داخِلُه
أعلم أن هذا الموقف ليس موقف تأبين أو رثاء، ولكنها لوعة حزنٍ لم أستطع أن أنهنه عنها النفس، أو أمنع منها اللسان.
أيها السادة:
لا أزيدكم معرفة بالأستاذ إبراهيم الترزي إذ أتحدث عنه إليكم، فقد كان ملء الأسماع والأبصار والقلوب من لدن بدأ حياته التعليمية في معهد الزقازيق الديني بالأزهر الشريف إلى أن فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها.
في سني دراسته الأولى قيض الله له جدًّا من العلماء كَلَّ بصره من كثرة المطالعة وكَبْرة السّن، فاصطفى حفيده إبراهيم يطالع له، ويتدارس معه، فتربى إبراهيم في سن مبكرة على البرّ بأهله، وعلى العطاء لمن حوله، وعلى العمل لغيره قبل نفسه. وقد كافأه الله على هذا البرّ فتفتحت ملكاته في هذه السنّ على الثقافة العربية الإسلامية، وامتلأت نفسه بتراث العربية، وأشرب في قلبه أعلام هذا التراث وفكره، حتى أصبح – وهو ما يزال طالبًا بالمعهد الديني – شاعرًا مرموقًًا، وأديبًا معروفا. وقد وهبه الله، إلى الشعر والأدب، الصورة الحسنة والسمت الجميل، والخلق الدَّمِث، والأدب الراقي، والحماسة المهذبة، والكرم الأصيل، فهوتْ إليه الأَفئدة، وصَغَت إليه القلوب.
ولما التحق بدار العلوم كان نجمًا في سمائهًا ساطعًا، وعلمًا بين أبنائها ظاهرًا فهو شاعرها في المحافل، وحامل لوائها في المنتديات، يتردد معَهُ اسمُها على صفحات الصحف فيما يكتب من مقالات، وعَبْر موجات الأثير فيما يُغَنَّى له من شعر وأغنيات.(/3)
وبعد تخرجه في دار العلوم قضى بضع سنين يعلم العربية وآدابها في إحدى المدارس الشهيرة بمصر الجديدة، وسرعان ما انتقل إلى المجمع اللغوي، يعمل محررًا بالمعجم الكبير، وهو العمل الذي أهلته له ثقافته، وتَعَشُّقُه العربية؛ فوجد فيه ضالته المنشودة، وطلبته المقصودة، فأعطى المجمعَ خُلاصَة نفسه غير باخلٍ ولا ضنين.
لقد استقام الأستاذ إبراهيم إلى المجمع، وأخلص له، لم يَفْتنه عنه تطلّبُ مالٍ، أو سعىٌ في تكثيره، ولم يُغْره عنه ما يُقدّم له من عروض؛ فقد كفاه أمرَ المال شيء ورثه عن والديه، وما تمتع به من قناعة وغنى نفس، ولذلك منح المجمعَ عن رضًا كلَّ وقته، وبذل له خالص فكره، وظل على الجادة المجمعية – كما يقول عن نفسه – سنواتٍ شارفت الثلاثين يسوس جهازها العلمي والإداري ما وسعه الجهد ليعمل بكل طاقاته في لجان المجمع ومجلسه ومؤتمره، ومجلته التي تصدر عنه ويديرها ويرأس تحريرها فيما بعد. ويدور هذا النشاط كلّه في فلكِ العربية التي حُبِّبت إليه من مطالع حياته. وظل هذا دَأْبَه وعملَه حتى اخْتَاره أعضاءُ المجمع عُضوًا في هذا المجمع الموقر عن جدارةٍ واستحقاق، وفاز منهم بإجماع لم يشهْد من قبلُ ولا منْ بَعْدُ له مثيلاً. وكان الأستاذ إبراهيم يعتقد أن المجمع لا يَعْدِلُه شيء، ولا يُوازِن عضويتَه مَنْصِب، وأذكرُ أنَّ أحد أَصدقائه المقرَّبين، وكان قد نال جائزة كبيرة تقدر بمئة ألف دولار، لم يهنئ إبراهيمَ بفوزه بعضوية المجمع، فحدثني إبراهيم في ذلك غضبانَ أسِفًا، فقلت له: إنك لم تهنئه بالجائزة التي نالها، فهي واحدة بواحدة، فاتنفض محنقًا قائلاً: أ إنّك لتُسوّي بين عضوية المجمع وهذه الجائزة؟ ماذا تعني هذه الجائزة مهما بلغت أمام عضوية المجمع؟(/4)
لقد أحب إبراهيم المجمعَ والعاملين به، وأكبر أعضاءه؛ فأحبه العاملون بالمجمع، وأكبره المجمعيون، وبادله الجميع حبًا بحبّ. وكان من ثمرة حبه للمجمع العملُ الدائبُ في خدمة لجانه، وخاصةً لجنةَ المعجم الكبير التي كان لها مقررًا، وكان من ثمرة هذا الحب أيضًا كتابُه "التراث المجمعي في خمسين عامًا" الذي أحصى فيه كلّ ما صدر عن المجمع في خمسين عامًا، وصنفه تصنيفًا علميًا دقيقا، فيسَّر به الإفادة من عمل المجمع، وأكمل به عملين سابقين قام بهما علَمان كبيران من أعلام المجمع الموقر هما الأستاذ الدكتور مهدي علام؛ والأستاذ الدكتور شوقي ضيف، وكل منهما شغل منصب أمين المجمع الذي شغله من بعدهما الأستاذ إبراهيم.
ولم يحب إبراهيم المجمع إلا لأنه يحبُّ الرسالةَ التي ينهض بها، والغاية التي يتغياها؛ إذْ كان يرى أن لا سبيل إلى استعادة نهضتنا اللغوية بعد همود وخمود في العصور المتأخرة إلا بإنشاء المجامع اللغوية العربية التي لا تكتفي بحماية لغتنا ورعايتها، بل تدفع بها إلى آفاق التطوير والتجديد حتى تكون في طليعة اللغات الحضارية الكبرى في عصرنا الحديث. وكان يرى أن لهذا المجمع الذي يَعُدّه الأشقّاءُ العرب مجمعهم الأم أعظمَ إسهام في النهوض بهذه الرسالة وأدائها باقتدار ونجاح.(/5)
تعلمون – أيها السادة – أن الأستاذ إبراهيم كان عاشقًا لتراث العربية والإسلام، وكان لا يفتأ ينقب فيه، ويغوص في بحاره يستخرج لآلئه ودرره ويستكشف مُثُله وقيمَه، يجلوها، ويزيل ما علاها من صدأ السنين، وينفُض عنها غبار الزمن، آملاً أن يبتعث فيها الحياة بين أبناء أمته، يدفعه حبّه للنموذج ونشدانُه للمثل الأعلى في كل جانب من جوانب الحياة. وكان قد وجد نفسه في الكتابة الدرامية لِمَا رأى من إقبال الناس عليها، وقوة تأثيرها فيهم، وتأسيهم بشخوصها وأبطالها، ولعله سلك سبيل الدراما ليحقق غايته. وقد قطع فيها شوطًا طال مداه وحُمِدَت عقباه، وقد اختار النموذج في كل مجال، ففي مجال اللغة يقدم مسلسلاً عن "الخليل بن أحمد"، وفي مجال الحديث نجد عملاً عن "الإمام البخاري"، وفي مجال الفقه يكتب عن "الأئمة الأربعة" وفي مجال الاعتقاد يقدم "الإمام الغزالي" و"ابن تيمية"، وفي الأدب والشعر يقدم "الجاحظ أديب العربية" و"الجزار الشاعر"، وفي مجال التاريخ يكتب عن "مجالس هارون الرشيد" و"قراقوش المظلوم"، وفي مجال الاجتماع يكتب عن "الكواكبي أبي الضعفاء" و"قضاة العرب" و"شاعرات عربيات" و"ظرفاء من مصر"، وفي مجال المسرح يكتب عن "أبي خليلٍ القبَّاني".
وفي كل ما يكتب كان يلتزم العربية الفصحى التي "لا تفسد الدراما، بل تكون – كما يقول الأستاذ فاروق شوشة – إضافة وإثراء للإبداع الأدبي التمثيلي المؤلف بالفصحى، ولم يقتنع إبراهيم بغير النجاح الجماهيري الواسع الذي جاء بمثابة قياسٍ لرأي الناس، وشهادة للعربية عندما يتمرس بها كاتبٌ صَناع".
وإلى ما سبق شارك الأستاذ إبراهيم في تأليف عددٍ من الكتب المدرسية، فكانت تمتاز بصفاء اللغة، وحسن الاختيار، ونصاعة العرض وقوة البيان.(/6)
ولقد عهد إليه المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت بتحقيق بعض الأجزاء من معجم تاج العروس، فحقق الجزأين العاشر والثالث والثلاثين. وكان اسمه طيب الله ثراه – يتصدر أسماء المشاركين في هذا المعجم الكبير في اللوحة المذهبة التي أعدت للعرض والتكريم في ذلك الحفل الضخم الذي أقيم بمناسبة الانتهاء من إصدار هذا المعجم الواسع "تاج العروس"، ولم تشأ إرادة الله أن يشهد الأستاذ إبراهيم هذا التكريم؛ إذ إن ذلك كان بعد رحيله بأشهر معدودة.
وقد شارك أيضًا في مراجعة الجزء الرابع من كتاب "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد". وبهذا وغيره كان حقيقًا بالشهادة التي أدلى بها في حقه عميد الدراسات الأدبية الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع إذ يقول إنّه "امتلك ذخيرة غزيرة من اللغة بشتى فروعها، ومن الأدب بشتى فنونه، ودبّج كثيرًا من المقالات والبحوث الأدبية القيمة، وتوفر على خدمة اللغة ومعاجمها خدمة مثمرة، وحقق بعض نفائس التراث واللغة مع تعليقات ومراجعات سديدة، واقتحم عقبة الدراما مع فيض من مسلسلات تمثيلية ممتعة مع إدراك بصير لمواطن الجمال في الكلمة وحسن الصياغة ونصاعة البيان".
ويعلم جميع من في المجمع أعضائِه والعاملين به همتَه العالية في استقبال الزملاء الجدد، وتوديع الراحلين منهم وتأبينهم، وكأنّه المسؤول وحده عن أمر المجمع وأعضائه، وكانت هذه الهمة لا تَفْتُر ولا تلين أبدًا إذا اتصل ما تُستَنْهَضُ له بالمجمع في كلِّ شأن من شؤونه أو بأحدٍ من رجاله.
أما صفاته الشخصية التي ضبطت سلوكه في الحياة والناس فقد كانت تلخصها صفة واحدة "حبّ الله والناس"، وتفرعت عن هذه الصفة الأم كلُّ صفاته الأخرى. وأولى الصفاتِ الفروعِ كرمُه الذي لا يباريه فيه أحد، يبذله رضيًّا به قلبه، سخية به نفسه، متهلّلاً به وجهُه، يقوم إلى أحسن ما عنده فيقدمه لا يبتغى به منًّا ولا رياء، ولا يريد به شكورًا ولا جزاء:(/7)
إذا القوم أمّوا بيته فهو عامد
لأحسنِ ما ظنوا به فهو فاعله
يشهد بذلك كل من أتيح له أن يُدْعى إلى بيته العامر الذي كثيرًا ما أُنْشِدَتْ فيه قصائد المديح يمازحه بها إخوانه من الشعراء، ويدور من حولها سمر وأحاديث، وأذكر أن السابقَ المجلّيَ دائما كان الشاعر الكبيرَ فاروق شوشة فقد كان الذي يكتب ما يلقيه لا يستطيع متابعته فيما يرتجل من شعر، وكان الأستاذ إبراهيم يهش لهذا الشعر ويطرب له، ويزداد به وجهه إشراقا كأنه أمير من أمراء العصور الخوالي، وكان يشارك على استحياء بإكمال قافية، أو تصحيح لفظة، ويستحث بعض الجالسين على شيء من هذا، وكان يحتفظ بهذا الشعر، ولديه منه دفاتر ذوات عدد.
وكان روادُ بيته وشهود لقاءاته ساداتٍ من أعضاء المجمع، وأعلام الثقافة والأدب والشعر، ووجهاء المجتمع، وأساتذة الجامعات.
وإلى هذا الكرم النادر المثال هناك صفات أُخَرُ أعدّ منها ولا أعددها، فهناك سماحة الخلق، والقناعة والرضا، والعفو، ولين الجانب، وحلاوة المعشر والأنفة من الدنية، وشموخ النفس، والوفاء، والتواضع، وكراهية الغيبة، والغضب للحق، كل هذه وغيرها مما لم أذكر فروع عن تلك الصفة الأم تتجلى في مواقفها ومناسباتها وهي كثيرة في حياة الأستاذ إبراهيم، وقد شهدت منها أطرافًا، وكنت أرى هذا الأوّاه الحليم يهدر كالبحر الغاضب تتلاطم أواذيه عندما يشعر أن حرمة من حرمات الله مُسَّت، ولو كان ذلك بلفظ يجىء عفو الخاطر لم يقصده صاحبه، ويظل على هذا الغضب الهائج لا يبالي في ذلك شيئًا إلاّ أن يثوب صاحب القولة إلى رشده، أو يعتذر عما بدر منه وهو له غير مريد، حينئذٍ يعود إلى الأستاذ إبراهيم هدوؤه، ومَأْنُوسُ عَهْدِه من الصفاء، ويفتح لمن حوله قلبه الذي يقول عنه في قصيدةٍ مِنْ رائعِ شِعْرِه:
إن قلبي لكم مَرادٌ فسيحٌ
ومكانٌ يؤمّه الأُلاّف
اقصدوه ففيه ظلّ ومأوًى
ولمن حار منكمُ إيلافُ(/8)
هذا طرف من سيرة الأستاذ إبراهيم الترزي، رضي الله عنه، "إن إبراهيم كان أُمَّة قانتًا لله حنيفا" فسلام عليه في الخالدين.
أيها السادة:
لئن كانت لغتنا العربية في حاجة إلى مجمع اللغة حين أنشئ منذ سبعين عامًا؛ إنّ حاجتها إليه الآن لأشدّ، وإن ضرورة استمراره في عمله من أجلها لأحدّ. فلم أر كالعربية لغة يتحيفها ذووها، ويهتضمها بنوها، سواء أكان ذلك عن جهالة وغرارة، أم كان عن نية سَوْء أو قصد مدخول. ولم أر كالعربية لغة يكيد لها الكائدون، ويتربص بها الدوائر المتربصون، ويريد هؤلاء وأولئك لها الزوال. وقد لبّس هؤلاء الكائدون على الناس أمرهم، ولبسوا لهم مسوح الباحثين، وطيالسة العلماء ردَحًا طويلاً من الزمن، ثم صرَّح الشر وأمسى وهو عريان، وهاهم الآن يفرضون بالقوة ما أرادوه احتيالاً وجثموا بآلاتهم الجهنّمية على صدر الأمة العربية، يحاولون طمس معالمها، وتغيير هويتها، وتبديل ثقافتها، ومحو لغتها، وإزالة تاريخها، يصرحون بهذا لا يبالون، ويعلنونه لا يستحيون.
ومن سنن الله في الكون أيها السادة أن اللغات لا تعزّ إلا بعزة أهلها، ولا تذلّ إلا بذلتهم. فإذا عزّ قوم، عزّت لغتهم وقويت، وفرضت نفسها على الآخرين. وإذا ضعفوا وذلوا؛ ضعفت لغتهم وذلت وهانت عليهم وعلى الآخرين. فترى أهلها يلجؤون إلى لغات غيرهم في الحديث يتراطنون بها، وفي التعليم يتكلفونها ويحملون أبناءهم عليها، وفي كل مشهد من مشاهد الحياة بها يتواصلون. إنهم يذهبون إلى لغة عز أهلها، وارتقوا، وتقدموا، يظنون أنهم إذا تكلموا لغتهم صاروا مثلهم. وهذا – لعمري – من الظن الخائب، ومن تعليل النفس بالسراب الخادع يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.(/9)
وتستطيع أن تعتد بهذا المقياس في بيان حال اللغة العربية في أيامنا هذه، وإنك لواجد عجبًا من العجب، ومطلعٌ على ما يُخْزِي النفوس. ودونك أيَّ شارع من الشوارع، سرْ فيه، واقرأ لافتات المحالّ، وإعلانات الأعمال، وسوف تشعر للوهْلةِ الأولى أنك تسير في شارع أجنبي لا يتكلم أهله العربية. ثم انظر في التعليم ومدارسه وجامعاته وسوف تدرك أن التعليم الأجنبي إنما هو لأبناء المثقفين الذين بهم يُقْتَدى، ولغيرهم من الموسرين الذين يدفعون الآلاف لا يبالون بالة فيثيرون حَنَق غير القادرين. وأما التعليم العربيّ فهو لأبناء الفقراء المعوزين الذين يَلقَوْنَ الإهمال والزراية. وانظر فيما يحيط بحياتنا كلها من مآكل ومشارب، وأدوات ومخترعات، وأعمال وإعلانات، ولقاءات واجتماعات، وارقب نسبة الأعجمي إلى العربي من كل ذلك، وسوف ترى أننا ابتعدنا عن العربية مسافات يقول معها المشفقون: هل إلى مرد من سبيل !.
حدث هذا كله والمجمع اللغوي بين ظهرانينا، يصوغ المصطلحات في مختلف العلوم والفنون، ويقدم المعجمات لكل المستويات، ويسهر على اللغة يصحح ويسهّل، ويتخذ القرارات، ويعقد المؤتمرات لا يُفتّر عن غايته ولا يحيد. وهذه مطبوعات المجمع على تنوعها تقفنا على عمل المجمع الموصول، وجهده الدؤوب لخدمة اللغة والعمل على نهضتها. ولكن ماذا يجدي نور المصباح لمن يعصبون أعينهم بخرق سوداء،ويمشون في ظلام من أنفسهم والنور من حولهم يملأ الفجاج!(/10)
ونحن نعلم جميعًا أن المجمع اللغوي لا يملك سلطة تنفيذية يجبر بها الناس على اتباع ما يقدمه، ويُلْزِمُهم بِالأخذ به، أو يُكرههم عليه، وليس المجمع إلى هذا مؤسسة تعليمية ينتظم المتعلمون في فصولها ويتلقون دروسها. ولكنه مؤسسة بحثية ذات رأي ومشورة، وتوجيه وإرشاد. ونحن في حاجة إلى "وعي لغوي" يغذّي الغيرة على اللغة، ويعمل على حمايتها، بوصفها غيرةً على الذات وحمايةً للنفس في ظل قوة منفردة في العالم تريد أن تصوغ كل شيء على ما تراه.
إنّ المجمع اللغوي هو الجهة المرجوّة لإيجاد هذا الوعي اللغوي ونشرهِ وإشاعته في الناس، ولذلك أقترح على المجمع الموقر أن يقترب من الناس، لأن كثيرًا منهم يظنون المجمعيين في جزيرة منعزلة، يتكلمون فيما بينهم لغة منقرضة لا يهتمون بما يشغل الناس. وقد عمل بعض أعداء اللغة منذ أول نشأة المجمع اللغوي على تثبيت فكرة عزلة المجمع حتى لا يؤدي غايته المأمولة. وإني لأعتقد أنّ المجمع قادر على أن يحقق هذا الاقترابَ الوقور الذي يحقق غايته في غير ابتذال مقيت ولا تعالٍ مذموم.(/11)
كما أقترح على المجمع الموقر أن يكون عمله من أجل تيسير اللغة وإصلاحها قائمًا على مشروع علمي متكامل، فلا يعتمدَ على التجزيء بحيث تُتناول مسألة من هنا ومسألة من هناك. وإني لآمل أن ينهض المجمع الموقر بمثل ما نهض به أسلافنا من العلماء الأوائل؛ إذ جمعوا اللغة من أجل وصفها وتفسيرها، ولعل لغتنا الآن في حاجة إلى جمع جديد يصف نحوها وصرفها ودلالة مفرداتها وتراكيبها. وهذا عمل علمي ضخم يحتاج إلى مالٍ ورجالٍ، وإلى علماء أمناء على اللغة من أعضاء المجمع ومن يختارونهم من المتخصصين يضعون الأسس، ويرسمون المنهج ويتابعون الأداء في تجرد وصبر، ثم يصفون النتائج الوصف العلمي المأمول. وبهذا يؤدي العمل إلى غايته في تيسير اللغة لأبنائها، فليس من اللائق ولا من المقبول أن يكون في اللغة مفرداتها وتراكيبها ما ليس له وصف في كتاب نحوها. وحبذا لو شارك في هذا المشروع اتحاد المجامع العربية.
وليس في هذا المقترح خروج على سنة معهودة أو طريقة ممهودة؛ إذْ إن الاجتهاد مقبول ما لم يُلْوِ بنصّ، أو ينتهكْ حرمة شرع كما يقول ابن جني، ونحو اللغة – كما يقول أيضًا – علم منتزع من استقراء هذه اللغة فكل من فرق له عن علة صحيحةٍ وطريقٍ نَهْجَة كان خليل نفسه وأبا عمرو فكره.
إنّ هذا المقترح أمنية تتخايل في عقول بعض الباحثين المخلصين واللغويين الجادين، ولكن تحقيقه لا يمكن أن ينهض به فرد واحد ولو كان من أولي العزم، بل يحتاج إلى مؤسسة لها من الاحترام والتوقير مثل ما للمجمع اللغوي، ويحتاج إلى مالٍ أعلم أن المجمع بما يتمتع به من علماء ذوي قدر، ورجال أولي مكانة يستطيع أن يجد السبيل إلى ما يريد منه إذا عزم على هذا أمره، وعقد عليه فكره.
أيها السادة:
يقول الله تعالى "لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم أفلا تعقلون" [الأنبياء: 10] وقد فسر العلماء "ذكركم" في الآية الكريمة بأنه: شرفكم استنادًا إلى قوله تعالى: "وإنَّه لذكر لك ولقومك(/12)
وسوف تسألون" [الزخرف:43]، كما فُسّر أيضًا بأنه العمل على ما فيه حياتكم، استنادًا إلى قوله تعالى: "يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" [الأنفال: 24] وإذن الاهتمام باللغة التي اختارها الله تعالى لسانا لكتابه الكريم اهتمام بالكتاب الكريم نفسه، ومن ثم فهو اهتمام بشرفنا، والعمل على ما فيه حياتُنا.
وفقنا الله لخدمة هذه اللغة الشريفة في ظل مجمعكم الموقر. وشكرًا لكم على ما أوليتم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،(/13)
ثالثًا- كلمة المجمع في استقبال
الأستاذ الدكتور محمد حسن عبد العزيز
للأستاذ مصطفى حجازي
السيد الرئيس
السادة الأعضاء الأجلاء
أيها الحفل الكريم
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد:
فقد أسعدني كلَّ السعادة أن أنوبَ عن المجمع الموقر في استقبال الزميل الفاضل، والصديق الحميم، الأستاذ الدكتور محمد حسن عبد العزيز، وقد سألته أن يحدثني عن نشأته الأولى، وعن مدارجه في سلم تعليمه في مراحلِه المختلفة ـ الأزهريةِ منها والجامعيّة ـ فحدثني ـ حفظه الله ـ قائلاً: وُلدت في مدينة "فاقوس" بمحافظة الشرقية في الثلاثين من شهر ديسمبر سنة اثنتين وأربعين وتسعمئةٍ وألف، لأبٍ يعمل موظفًا بوزارة الداخلية، وكنت ابنَه الوحيدَ بين أربع بنات، سَبَقتني إحداهنَّ، ولحقت بي الباقيات، وكان والدي ـ رحمه الله ـ قد نذر لله إن رزقه ولدًا ليسمِّينَّه مُحمدًا، وليجعلنَّه من أهل العلم، ومثل هذا النذرِ كان مألوفًا في أبناء هذا الجيل، وفي أجيالٍ قبله أيضًا، وكانوا يعنون بأهل العلم علماء الأزهر.
وهكذا تحددت معالم الطريق لحياتي ومستقبلي ـ من حيث لا أدري ـ قبل أن أولد.
... وفي سن مبكرة عرفت طريقي إلى الكُتّاب ، فكنت أذهب إليه كلَّ صباح لأتعلمَ مبادئ القراءةِ والكتابة والحسابِ، وشيئًا من القرآن الكريم.
... ويذكر أن ناظر المدرسة الابتدائية الأميرية زار الكتّاب يومًا، ليختار من أبنائه بعضَ النجباء الواعدين، ليلتحقوا بالمدرسة الأميرية، وأنه كان واحدًا من القلة التي وقع عليها الاختيار، حيث قضى فيها ثلاثَ سنوات، أنهى معها مُقَرَّرَ الصف الثالثِ الابتدائي، وكان يغدو إلى مدرسته صباحًا، ويَرُوح إلى شيخه عصرًا، ليتمَّ له حفظَ القرآن الكريم وتجويدَه.(/1)
ويذكر أن والده ـ رحمه الله ـ كان شديد الحفاوة به، يتعجَّلُ نضجَه، ويتعهدُه برعاية لا تخلو من شدة لا تناسب طفولَتَه، ويذكر لنا مثالاً طريفًا من هذه الرعايةِ المتشددةِ في تلك السنِّ الباكرة، فيقول: "كنت أجيدُ القراءةَ والكتابةَ إجادة لا تكون لمن هو في سِنِّي، فكان أبي يكلفني أحيانًا بما لا يُطِيقه الأطفال، فقد جاءني يومًا بدَواة وريشة (وهما من أدوات الكتابة حينذاك) ومعهما كراسةٌ ونسخةٌ من مجلة الهلال. وطلب منى أن أنسخَها، فأجبته إلى ما طلب سمعًا وطاعة، وكان عملاً مُضْنِيًا مضجرًا، قضيتُ فيه وقتًا طويلاً، ولم أكن أفهم كل ما أنسخه، على أن ذلك لم يذهب سدى، فقد أعقبني إجادةَ الخط، وحسنَ القراءة، ولعل هذا هو ما كان يريده لي أبي من حيث لا أدري".
... وكان مُقدَّرًا له أن يُتِمّ تعليمَه الابتدائيَّ إلى غايته المؤدية إلى التعليم الثانوي، ولكن مشيئةَ الله قضت أن يُنقل والده إلى المنصورة ـ موطنِ أهلهِ ومسقطِ رأسِ والديه ـ وأن يلتحق فيها بمدرسة المحافظة على القرآن الكريم التي تُعِدُّه للالتحاقِ بالمعهد الديني، وبذلك يفي الوالدُ بنذره، ويتحققُ له ما تمنَّى، ويثاب المرءُ رغم أنفه كما يقولون.
ويحدثنا عن موقف لا يخلو من طرافة حين ذهب ليقدم أوراقَ التحاقه بمعهد المنصورة الديني، وهو عاري الرأس، يرتدى قميصًا وبنطلونًا، فيستقبله أمينُ المعهد متجهِّمًا ، وينكر عليه أن يكون زِيُّه ومظهرُه صورةً لطالب من أهل العلم، وكان عليه بعد ذلك أن يرتديَ الكاكولةَ، ويعتجرَ العمامةَ، على كُرْه منه، ثم لا يلبث أن يَتَخلى عنهما حين سُمِح بذلك لمن يشاء.(/2)
وتتلقاه مفاجأةٌ أخرى في المعهد الديني حين يجدُ نفسه أصغرَ طالب في الفصل، ويجدُ بقيةَ الطلاب من حوله ـ وبعضهم من المتزوجين ـ ينبِذُونه في لقاءاتهم وأحاديثهم، فمالهم ولهذا الطفلِ الذي لم يبلغ الحُلُمَ بعد؟ ولم يشفع له من هذه النظرة أنه كان الظاهرَ عليهم، والفائقَ دائمًا في الدرس، وفي الامتحان.
ويحدثنا طويلاً عن دراسته الأزهرية في المرحلتين الابتدائية والثانوية، منكرًا بعض ما كان يُدَرَّسُ فيها مما يراه لا يناسب سنَّ الطالب أو إدراكَه، مثنيًا على بعضها الآخر، مُشِيدا بنحو ابن هشام في "قطر الندى" و" شُذُور الذهب" معجَبًا بتفسير النسفي، وشرح ابن حجرٍ على صحيح البخاري.
ويقع في هذه الفترة في مرحلة عشقِ البطل، والتأثرِ بالمثل الأعلى، فيلتمسُه فى بعض أساتذته وشيوخه، الذين يُجلُّهم، ويرى فيهم الأُسوةَ الحسنةَ، والقدوةَ الصالحة، ويذكر منهم بالحمد والثناء الأساتذةَ: عبد الحكيم المرسي، وعبد المنعم أبو العطا في الأدب ـ ومحمد موافي في النحو، وأحمد عوض الله في البلاغة، ويمتدح طريقَتَهم في التدريس، وأسلوبَهم في التربية.
ويشهد أن هذه الفترةَ من التعليم الأزهري كانت عميقةَ الأثر في نفسه، فقد علمته كيف يفكر تفكيرًا علميًّا صحيحًا، وكيف يستقصي مَسائل البحث، ويستقرئُ المفرداتِ وصولاً إلى النتائج، ولا يتعجلُ الجوابَ عما يُسأل عنه، حتى يتبين وجهَ الصواب فيه بالرجوع إليه في مظانِّه .(/3)
ويُثْنِي الثناءَ كلَّه على أستاذه محمدِ حسام الدين، الذي كان يُدَرِّسُ له النحوَ واللغةَ الإنجليزية ـ فقد تخرج في كلية اللغة العربية، وفي كلية الآداب أيضا ـ وهو الذي حبَّب إليه الالتحاقَ بكلية دار العلوم، وحثَّة على التوسع في تعلم الإنجليزيةِ حتى أتقنَها ـ فيما بعد ـ ففتحت له مغاليقَ كثيرة، ويذكر أنه زار أستاذَة حسام َ الدين هذا ـ بعد حصوله على الثانوية الأزهرية ـ فسأله الأستاذ ـ يستثير طموحَه، ويحفزه على التفوق ـ: "أتحب أن تكون واحدًا من مئةٍ، أم واحدًا من عشرة؟ قال: فقلت: بل واحدًا من عشرة، فقال: أتحبُّ أن تكونَ واحداً من عشرة، أم واحدًا من اثنين؟ قال: فقلت: بل واحدًا من اثنين، قال: فلتعملْ من الآن لتكونَ كذلك دائمًا، وكانت تلك وصيةً غاليةً، عملت بها، وصَدَّقْتها. فكنت دائمًا واحدًا من اثنين، أو واحدًا من ثلاثةٍ، لا أكثر ... وكان هذا هو ترتيب نجاحي في سِني دراستي الجامعية "
... وقد دعاه جِدُّه في دراسته، وحرصُه على التفوّق إلى طلب المزيد من المعارف التي لا تُتِيحها كتبُ الدراسة ومقرَّراتُها، فعرف طريقَه مبكرًا إلى المكتبات العامة، ووجد ضالَّتَه في مكتبة البلدية، وفي قصر الثقافة بالمنصورة، وكان موقعُهما على النيل يغريه بالمواظبة على الذَّهاب ـ يوميًّا ـ إلى إحداهما، ولاسيما في شهور الصيف، حيث يجد فيهما من نفائس الكتب ما يُغَذِّى نهمه في القراءة، ويشبِعُ رغبته في الاستزادة من العلم والمعرفة .(/4)
وفي قصر الثقافة مارس نشاطًا آخرَ كان جديدًا عليه، فقد طُلِب منه أن يقدم ـ هو وزميلٌ له ـ عرضًا لكتاب " لكيلا تحرثوا في البحر " لخالد محمد خالد، فعَرضاه في نَدْوة حضرها جمعٌ غفير من المثقفين، وحَظِيت من الحاضرين بالحفَاوة والتقدير، ويذكر أن قراءته لهذا الكتاب أزكت في نفسه نزعةً قويَّة للإصلاح والتغيير، وكانت حافزًا له على اقتحام مجال النشاط الطلابي، فانتُخِب رئيسًا لاتحاد الطلاب بالمعهد الديني، ثم أمينًا عامًّا لاتحاد طلاب محافظة الدقهلية، ودُعِىَ بهذه الصفة ممثِّلا للطلابِ فى حفل وضع حَجَر الأَساس لجامعة المنصورة .
... وقد استدرجه هذا النشاطُ إلى تَزعُّم الدعوةِ لمُقاومة " مشروع تطوير الأَزهر " استجابةً لروح المعارضة السارية بين الطلاب، وبين كثير من المشايخ المحافظين حينذاك، وأوشك نشاطُه في هذه الواقعة أن يعصِفَ بمستقبله الدراسيّ، وهو يستعدُّ لامتحان الثانوية الأزهرية سنه 1964 لولا أن تداركه الله برحمته .
... ويحدثنا عن دراسته في دار العلوم، ويذكر كيف مالت نفسه فيها إلى دراسة الأدب والنقد، بفضْل ما أتاحه له أساتذتُها ـ في هذين العلمين ـ من آراءٍ جديدة، وآفاق رَحْبة لم تتح له من قبل ، ويذكر منهم ـ بالثناء والتقدير ـ أستاذَهِ الدكتور أحمد هيكل الذي كان يَبْهَرُه بدقة تَحليلاته، وسلاسةِ عباراته، وأستاذَه الدكتور الطاهر مكي ـ العائد َتوًّا من بعثته بإسبانيا ـ وكان يُدهشُه بغزارة علمه، وعُذُوبة حديثه، ولُطفِ معشره، كما يثني ثناء عاطرًا على الدكتور محمود الربيعي أستاذِه في النقد الأدبي الحديث ـ الذي استطاع أن يُدِيرَ اتجاهَه في الدراسات العليا إلى هذا العلم بمذاهبِه ونظرياتِه الجديدة، وكان يناقش معهم نصوصًا لأدباء العصر في القصة والمسرح في ضوء هذه المذاهب وتلك النظريات.(/5)
... ويقول صاحبنا:" وهكذا هَيّأت نفسي لدراسةِ النقد الأدبي، وأنهيت السنةَ التمهيديةَ للدراسات العليا فيه بامتياز، وسَجَّلت للماجستير موضوعًا عنوانه "الاتجاهُ الاجتماعي في النقد الأدبي الحديث" ومضيتُ في البحث حتى كدت أُنهيه .. كانت تلك إرادتي، ولكن الله أراد لي شيئًا آخر .. فقد أعلنت كليةُ دار العلوم عن حاجتها إلى مُعِيد في"علم اللغة" فتمنيتُ أن أكونَه، وتقدمت ـ في جماعة كبيرة ـ لشغل هذه الدرجة، وفزتُ بها من دونهم، فولَّيْت وجهي شَطْر" علم اللغة " وكان ما اختاره الله لي خيرًا مما اخترته لنفسي، والله غالب على أمره "وأصبحت معيدًا في قسم " علم اللغة" تلميذًا لأَشْياخ هذا العلم وفقهائه، أَدِين بالفضل فيه لرُوّاده من أساتذتي الأَجلاء: الدكتور إبراهيم أنيس ـ رحمه الله ـ والدكتور تمام حسان، والدكتور كمال بشر، والدكتور عبد الصبور شاهين ـ أطال الله أعمارَهم ونفع بهم ـ ووجدتهم ـ وقد نال أغلبُهم درجاتِهم العلميةَ من إنجلترا ـ يُتْقِنون لغة أجنبية، فأدركت أن علم اللغة ـ وهو علم جديد في الغرب نفِسه ـ لا بد لتعلُّمِه من إجادة لغة أجنبية،وبدأت رحلةً في طلب الإنجليزية، وكانت رحلةً شاقةً كلفتني كثيرًا من الوقت والمال، حتى أتْقنتُها، وصرت أقرأُ بها أصولَ هذا العلم في كتب رُوّاده من الإنجليز " .(/6)
كانت تلك خلاصةَ سيرته قبل أن ألقاهُ في سنة تسعٍ وستين وتسعِمئةٍ وألف، حين عُيِّنَ في مجمع اللغة العربية محررًا في المعجم الكبير، وكنت حينذاك المسؤولَ عن المعجم الكبير تحريرًا ومحررين، وقد استقبلته ـ يومئذ ـ مُرَحِّبا به ، وبينت له طبيعةَ عملِه بصورة مجملة، ودعوتُه إلى مُلازمةِ أحد زملائه من قدامى المحررين، ليفصِّلَ له ما أجملتُه، ويُدَربَه على كيفيةِ جمع المادة اللغوية من معاجم اللغة: لسانِ العرب، والصحاح، والتهذيب، والمحكم، والقاموس، والتاج … وغيرِها من المصنفات اللغوية الأخرى، وتزويدِها بالشواهد، وترتيبِها في مداخل، ثم مراجعتِها مع أحد خبراء المعجم .. إلى غير ذلك من خُطُوات صياغة المادة المعجمية وتحريرِها وفق المنهج المرسوم، وإعدادِها للعرضِ على لجنة المعجم الكبير التي كانت تضم حينذاك أكثرَ من ثلث أعضاء المجمع من كبار رجال اللغة والأدب والعلم والفلسفة، وسُرعان ما لَقِنَ منهج المعجم، وثَقِفَ تطبيقَه، وأصبح واحدًا من خيرة محرري المعجم الكبير.
كانت مادة الجزء الأول من المعجم المشتمل على حرف الهمزة قد اكتملت ـ حينذاك ـ واختارت لجنة المعجم الكبير من بين أعضائها ـ لتنسيقِ صياغته وإقرارِ مادته للطبع ـ السادةَ: الدكتور إبراهيم مدكور، والأستاذ عبد الحميد حسن، والدكتور الشيخ عبد الرحمن تاج، والدكتور محمد مهدى علام، فاخترته محررًا وأمينًا لهذه اللجنة التي عرفت بلجنة التنسيق ـ وهي التي قدمت الجزء الأول للطبع، وتابعت عملَها هذا فيما تلاه من أجزاء.(/7)
وبقيت لجنة المعجم الكبير العامةُ المؤلفةُ من السادة الأعضاء: الدكتور إبراهيم أنيس، والدكتور أحمد بدوي، والدكتور أحمد الحوفي، والأستاذ عباس حسن، والدكتور عبد الحليم منتصر، والأستاذ عبد الفتاح الصعيدي، والأستاذ عبد السلام هارون، والأستاذ عطية الصوالحي، والأستاذ علي الجندي، والأستاذ محمد خلف الله أحمد، والدكتور محمد عوض محمد، والأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد ـ بقيت هذه اللجنة تناقش ما يُعِدّه المحررون والخبراء ليعرض على مؤتمر المجمع كل عام.
وكان محررو المعجم الكبير يومئذ نخبةً من طِراز نادر، يُتْقِنُ عملَه الذي يعرف خَطَرَه،ويَقْدُرُ الذين يُعرَض عليهم هذا العمل ـ في اللجنة والمؤتمر ـ حقَّ قَدْرِهم.
بقي في عمله هذا قرابةَ ثلاثين شهرًا، نُقل بعدها إلى عمله في كليته، حيث تَدَرَّج في سُلَّم الرقىِّ بها: معيدًا، فمدرسًا مساعدًا، فمدرسًا، فأستاذًا مساعدًا، فأستاذًا، فوكيلاً للكلية لشؤون الدراسات العليا والبحوث، فرئيسًا لقسم علم اللغة إلى اليوم.
وحين انتقل إلى كليته معيدًا وجد نفسه يُفارقُ المجمعَ بشخصه، وقد بقيَ قلبُه معلقًا به، حَفِيًّا بأعماله، وفيًّا لزملائه فيه، فكان حالهُ كما قال جعفرُ بن عُلْبةَ الحارثي:
هواىَ مع الركب اليَمانين مُصعدٌ
جَنِيبُ وجُثمانى بمكة موثقُ
ويذكر المحتفى باستقباله " أن فترةَ عمله بالمجمع كانت من أخصِبِ مراحلِ حياته العلمية، فهي التي قَرَّبته من العمل اللغويّ في المعاجم والمصطلحات، وعَلَّمته كيف يستخرجُ مادة لغوية من المعاجم، وكيف يُصَنِّفُها وفقًا لمقتضيات الصناعة المعجمية. وأكسبته خبرةً عظيمة يَسَّرَت له ـ فيما بعد ـ عَملَه في تحرير رسالتيه للماجستير والدكتوراه "(/8)
ويرد الفضل في بناء شخصيته العلميَّة إلى أستاذه الجليل الدكتور كمال بشر، فهو الذي قادَ خطاه في دراساته العليا، فاختار له موضوعًا للماجستير "الخصائصُ التركيبية للجملة في لغة الصحافة المعاصرة" وهو موضوع لم يُطْرَق من قبل، كما اختار له موضوعًا للدكتوراه هو" الربط بين التراكيب في العربية المعاصرة" فكان هذا وذاك فتحًا جديدًا له ، وبدايةً لبحوث عديدة أنجزها عن الفصحى المعاصرة، وكأنما أوغل به أستاذُه الدكتور بشر ـ في هذا المجال ـ ليُعِدَّه للعمَل المجمعي في مستقبل أيامه، فما لبث أن استعاده المجمع إلى كنفه خبيرًا في لجنتي "الأصول "و "الألفاظ والأساليب" .
ويُثَمِّنُ غاليًا عملَه خبيرًا في هاتين اللجنتين أكثر من عشرين سنة، فقد أثمر كثيرًا من البحوث التي نُشِر بعضها في الجزء الثالث من سلسلة "في أصول اللغة " وبعضُها قيد النشر في الجزء الرابع، نذكر منها ـ على سبيل المثال ـ البحوثَ التالية:
1ـ صيغ يستوي فيها المذكر والمؤنث.
2ـ إضافة أدنى العدد إلى الوصف، جمعَ تصحيح أو جمعَ تكسير.
3ـ "حتى" في بعض تعبيرات عصرية.
4ـ جواز حذف المعطوف عليه.
5ـ " لا " المعترَضَة بين الصفة والموصوف .
6ـ زيادة النون في (فعلن) وما يشتق منها.
7ـ صيغة (تفاعل) للتكرار والموالاة، أو لوقوع الفعل فى مُهْلة أو تَدَرُّج.(/9)
كما كان نشاطه في لجنة " الألفاظ والأساليب" مُثمرًا لطائفة أخرى من البحوث والتقارير التي سَوَّغت استعمالاتٍ عصرية للكلمات "ليس" و"ربما" و"إنما" و"سواء" كما صَحَّحت أيضًا دلالاتٍ مستحدَثةً لبعضِ المواد اللغوية في أساليب عصرية منهاـ على سبيل المثال ـ: "النقاهة" و"عَضّد" و"تَعضِيد" و" رضخ لأمره" و"تكتّم"، و"انسجم وانسجام" و"استهتر فلان بفلان" و"طعامٌ نَيٌّ ونَيِّئٌ" و"حيَّد وحايد" و"مذ ومنذ" في استعمالات عصرية " وهي منشورة في الجزء الثالث من سلسلة " الألفاظ والأساليب " وثمة غيرُها قيدَ النشر في الجزء الرابع إن شاء الله:
... أما خبرتُه العمليةُ في مجال التدريس الجامعي ـ الذي هو أحب شيء إلى نفسه كما يقول – فقد بلغ فيها الغايةَ حتى أصبح رئيسًا لقسم علم اللغة في كليته، ولم يشأ أن يَقْصِرَ علمَه على بني وطنه في دار العلوم، وفي كلية الإعلام، وفي معهد التدريب الإذاعي والتليفزيوني، وفي كلية التربية بطنطا، وفي كلية الدراسات العربية بالفيوم، بل أحبَّ أن يمتدَّ عطاؤُه إلى بعض الأقطار العربية، فقد أعيرَ إلى المملكة العربية السعودية أستاذًا في كلية التربية بالمدينة المنورة، ثم أستاذًا بقسم الدراسات العليا في كلية اللغة العربية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، ثم أعير إلى الكويت أستاذًا للدراسات العليا في قسم اللغة العربية بكلية الآداب، وقد ترك في كل معهدٍ منها أثرًا حسنًا، وذِكرًا عطِرًا، وله هنا وهناك تلاميذُ نجباء، أشرف على رسائلهم للماجستير والدكتوراه، ويسعده اليوم أن يرى بعضَهم في مواقع مرموقة، ومناصب رفيعة.
أما إنتاجه العلميُّ المنشور، فهو كثير، أَعُدُّ منه ـ ولا أعَدِّدُه ـ فمنه الكتب الآتية:
1- مدخل إلى علم اللغة.
2- لغة الصحافة المعاصرة.
3- النحت في اللغة العربية.
4- التعريب بين القديم والحديث.
5- القياس في اللغة العربية.
6- مصادر البحث اللغوي.
7- المصطلح العلمي عند العرب.(/10)
8- التراث اللغوي العربي (ترجمة بالاشتراك).
9- العربية الفصحى الحديثة (ترجمة).
10- ما يُعوَّل عليه في المضاف والمضاف إليه، للمُحبِّي ـ تحقيق ـ الجزء الأول.
ولا أحب أن أطيل بذكر بُحوثه الكثيرةِ في العديد من الدَّوريّات المتخصّصة المُحَكَّمة، مثل: مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومجلة كلية دار العلوم، ومجلة اللسان العربي بالدار البيضاء.
كما شارك ببحوثه في كثير من المؤتمرات ـ في مصر، وفي غير مصر ـ فمن ذلك:
1-مؤتمر تطوير اللغة العربية في المرحلة الثانوية: بحث عنوانه " كتب النحو والاستخدام اللغوي المعاصر" ـ القاهرة ـ 1988م
2- مؤتمر أهداف تعليم اللغة العربيةـ وزارة المعارف السعودية 1986م بحث عنوانه " دراسة نقدية لأهداف تعليم اللغة العربية في المرحلة الابتدائية"
3- مؤتمر اللغة العربية في المستوى الجامعي ـ جامعة الإمارات العربية سنة 1994 بحث عنوانه " تيسير النحو العربي للناشئة"
4- مؤتمر التعريب الثامن بدمشق (مكتب تنسيق التعريب بالرباط) 1994م .
5- مؤتمر تعريب العلوم الهندسية والرياضية ـ (الجمعية المصرية لتعريب العلوم بالاشتراك مع جامعة الأزهر)1995م – بحث عنوانه: " تجارب ناجحة في تعريب العلوم الهندسية والرياضية.
6- المؤتمر الثاني لتعريب العلوم ( الجمعية المصرية لتعريب العلوم بالاشتراك مع جامعة الأزهر) بحث عنوانه:" المصطلح الطبي بين الترجمة والتعريب" 1996.
7- المؤتمر الثالث لتعريب العلوم ( الجمعية المصرية لتعريب العلوم بالاشتراك مع جامعة عين شمس) بحث عنوانه:" دور مجمع اللغة العربية بالقاهرة في تعريب المصطلح الطبي سنة 1997.
هذا إلى إسهامه في كثير من الندوات بمحاضرات ومداخلات قَيِّمة.(/11)
وبعد: فذلكم هو زميلُنا الفاضل الدكتور محمد حسن عبد العزيز، بدأ حياتَه العلمية محررًا في هذا المجمع العريق، ثم عاد إليه خبيرًا منذ عشرين عامًا، وهاهو اليوم يستعيدُه مجمعُه إلى كنفه عضوًا عاملاً ،يَعِدُه بالكثير في مشروعه الكبير عن "تنمية الثروة اللغوية في العربية المعاصرة " ولديه الكثيُر الذي يشغله من هموم اللغة والمجمع، وفي مقدمته مشروعه الكامل لتحديث المعجم الوسيط الذي مضى على طبعته الأخيرة قرابة عشرين عامًا ظهرت فيها ـ كما يقول ـ: "مفاهيم جديدة في كل مناحي الحياة العامة، وفي العلوم المختلفة، وفي مجالاتها التقنية، وأصبح الناس في حاجة إلى معجم لغوي يواكب العصر، ويفي بحاجات العلماء والباحثين والطلاب.
وهانحن نستقبله اليوم، ليحقق للمجمع آماله، وينجزَ فيه أعماله "ولا يُدْعَى للجُلّي إلا أخوها."
فمرحبًا به زميلاً كريمًا، وحارسًا أمينًا في كتيبة المُرابطين من ُحماة الفُصْحى، الذين يحفظون تراثها، يُرْفدونها بدماء جديدة تجري في عروقها، تمنحها الحيوية، وتتيح لها البقاء والنماء إن شاء الله.
شكرًا لكم على الإصغاء، ومعذرة عن الإطالة
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/12)
ثانيًا: كلمة المجمع في استقبال
الأستاذ الدكتور عبد العزيز صالح المقالح عضوًا بالمجمع
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
يستقبل المجمع اليوم الدكتور عبد العزيز المقالح، وهو يمني المولد والمَرْبَى وثَقِف العربية وأتقنها.
ورأى أن يلتحق بإحدى الجامعات المصرية، واختار كلية الآداب بجامعة عين شمس، وأكبَّ فيها على الدراسة والاستماع إلى محاضرات أساتذتها، وحصل منها سنة 1973م على درجة الماجستير ثم على درجة الدكتوراه سنة 1977م.
وعاد إلى وطنه واشتغل بالتدريس في كلية الآداب بجامعة صنعاء، وتنقل في وظائفها حتى أصبح أستاذا للأدب الحديث والأدب الشعبي في الكلية. وهو في أثناء ذلك يعنى عناية خصبة واسعة بالدراسات الأدبية والفكرية تجعله في طليعة أساتذة الجامعات العربيّة المعاصرين، وأذكر منها كتاب الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن، وفيه تطور في أربع مراحل، وفي كل مرحلة يصور تطور الأبعاد الموضوعية في الشعر اليمني المعاصر سواء البعد الوطني أو القومي أو الاجتماعي، ويضيف في المرحلة الثالثة البعد الإنساني، وفي المرحلة الرابعة يضيف البعد العاطفي والاقتراني أوالتاريخي وبالمثل، يعرض في الأبعاد الفنية بالمراحل الثلاث الأولى التطور في العناصر الشعرية، وفي المرحلة الأخيرة يعرض القصيدة الجديدة والقصيدة التجريبية وقصيدة النثر والقصيدة المترجمة وأسلوب الأداء الدرامي. والكتاب دراسة تحليلية مفصلة للشعر المعاصر في اليمن. وله بجانب ذلك كتب متعددة يتناول فيها الشعر اليمني مثل:
الشعر بين الرؤية والشكل، ومن البيت إلى القصيدة، وشعراء من اليمن، وأزمة القصيدة العربية، والزبيري ضمير اليمن الثائر، وله دراسات في الرواية والقصة القصيرة، وأوليات النقد الأدبي في اليمن، وأوليات المسرح في اليمن. وله كتب أخرى متعددة منها قراءة في فكر الزّيْديَّة والمعتزلة.(/1)
والدكتور عبد العزيز المقالح شاعر مبدع فذ أسهم بحظ كبير في اتجاهات التجديد للشعر العربي المعاصر، وله نحو عشرة دواوين أذكر منها:
ـ لابد من صنعاء سنة 71
ـ مأرب يتكلم ( بالاشتراك ) سنة 72
ـ رسالة إلى سيف بن ذي يزن سنة 73
ـ هوامش يمانية عن تغريبة ابن زريق
البغدادي سنة 74
ـ عودة وضاح اليمن سنة 76
ـ الخروج من دوائر الساعة السليمانية سنة81
ـ أبجدية الروح سنة 98
إلى غير ذلك من دواوين شعرية رائعة.
وهو الآن رئيس لجامعة صنعاء ورئيس لمركز الدراسات والبحوث اليمني. وأرحب – ويرحب مجمع اللغة العربية وأعضاؤه – به زميلاً عاملاً مستحقًّا للتكريم والتقدير.(/2)
ثالثًا- كلمة الأستاذ الدكتور عبده علي الراجحي
في حفل استقباله عضوًا جديدًا بالمجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمده تعالى، ونستعينه، ونستهديه، ونصلي ونسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين …
شيخنا الرئيس الدكتور شوقي ضيف.. شيخنا نائب الرئيس الدكتور محمود حافظ: شيخنا الأمين العام كمال بشر:
شيوخنا الأعزاء:
ما أظن واحدًا من الأربعة عشر صحبة سعده مثل ما صحبني اليوم؛ وذلك من وجوه كثيرة.
أولها- أني جئت في ساقة هذه الكتيبة الميمونة. ومن يكن في الساقة يكن أقرب إلى الأمن وأبعد من أخطار الصف الأول. ورؤيته أوسع وأشمل، وهو أحفظ لمتقدميه، وأخوف عليهم، وأرعى لهم، وهي خلالٌ أدعو الله سبحانه أن يهديني إليها.
وثانيها- أن يستقبلني الشيخ الأمين. وشهادته فيَّ قد يعتورها شيء في النفس؛ فهو لا ينظر إليّ منذ اتصلت به قبل أربعين عامًا إلا بعين من الرضا - وهي على ما تعملون- على أنكم قد تغضون الطرف عن هذا من أجل الفقير الذي تستقبلونه، فالمحبة وحدها حقيقة أن ترفع أقدار الناس.
على أن بِشرًا ليس الأمين العام وليس هذا المحب فحسب؛ بل هو شيخي وأستاذي، وهو الآن شيخ الوقت بين اللغويين، أسهم مع نفر مبارك في إقامة دولة علم الفقه في العالم العربي، تمّام وبشر في الدار، والسعران وبخاطره الشافعي في الإسكندرية.. جاء هذا النفر بعد مرحلة أنيس في التبشير بعلم اللغة .. وحين علا صوتهم أوجس الناس خيفة من هذا العلم الوافد وارتابوا في غاياته، لأنهم تحدثوا عن درس اللهجات، وخلط الناس بين الدعوة إلى الدرس والدعوة إلى الاستعمال … ثم إنهم صدّعوا الناس بمصطلحات غريبة عن الفونيمات والمورفيمات والوصفية والمعيارية والآنية والتاريخية. وقد لا يدرك أحد من الأجيال الحالية ما عاناه هذا النفر وقتذاك.(/1)
غير أن بشرًا كان له دوره الخاص في إذابة كثير من الشكوك والمخاوف بما آتاه الله من روح الدعابة والفطرة الطبيعية على إشاعة البهجة … ثم إنه لم يقف عند الدرس الجاف الذي كان معهودًا في علم اللغة. بل ولج إلى اللغة الحية المتدفقة، ولا يزال يعشقها في هذا التدفق حيث يكون.
ويأتي جيلنا: عبد التواب وحجازي وشاهين ومختار عمر والفقير إلى الله متابعًا جيل بشر، يأخذ عنه أخذًا مباشرًا، ويمزجه بما كان وبما هو كائن مما جعلنا نزعم أننا أضفنا شيئًا ما، وما هو في الحق إلا ثمرة للغرس المبارك.
أيها الشيخ الأمين .. لتدم محبتك … وليدم بشرك .. ولتكن دائمًا حيث تحب وحيث نحب لك أن تكون.
أما ثالث هذه الوجوه فهو الفضل الذي ادخره الله لي بأن أشغل مقعدًا كان يشغله كبير من الكبار … جبل من جبال العلم .. عقلية عظيمة .. وهمة عظيمة .. رزقه الله طول العمر وحسن العمل .. ذلك شيخ شيوخ الفيزيقا الدكتور محمود مختار- رحمه الله – فهو واحد ممن ينتمون إلى النصف الأول من القرن الماضي .. عصر الإتقان … لا نعرف واحدًا من أبنائه إلا وهو يتقن عربيته ويتقن تخصصه ولا يعمل أحدهم عملاً إلا أحسنه .. كلهم كان يحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب … ومحمود مختار مثال قوي على هذا الوقت .. يصحب أستاذه علي مصطفى مشرفة.. ويقتفى أثره .. ويظل يثابر لا تفتر له همة ، فيقدم العلوم بالعربية، ويضيف من العلوم ما لم يكن لمصر به عهد … ويسهم في كل ميدان يدعم العلم، فيؤسس الجمعيات والمجلات العلمية.
وإن جهوده في التعريب لحقيقة أن تكون موضع درس ومتابعة.
قلت إنه سعد ساقه الله إليّ إذ كنت أزعم بصفتي لغويًّا – وللغويين مزاعم كثيرة – أن اللغة لا يمكن درسها إلا من طريق " العلم " .. نقصد العلم التجريبي بمناهجه وإجراءاته وأدواته .. من أجل ذلك سُمِّي هذا الدرس فى العالم "علم اللغة".(/2)
والتراث العربي شاهد على ما كان من إدراك علمائنا القدماء لانتهاج سبيل قريبة من سبيل العلم … وحين نستحضر الآن صورة أبي الأسود وهو يقول لكاتبه " إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه إلى أعلاه، وإن ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف " لا نرى فيه إلا إقرارًا لمبدأ الملاحظة وسيلة إلى التسجيل وإلى الوصف الصحيح .. ولنا أن نتصور الخليل وهو يدير دوائره يمنة ويسرة، ويعمل أدواته الرياضية، ويصل إلى المستعمل والمهمل .. ولنا أن نستدعي طريقة ابن جني، وهو يفسر الظاهرة اللغوية بالأدلة الطبيعية من الاستثقال والاستخفاف، وقولتَه المشهورة: "هذا برهان هندسي".
وحين نعبر التراث القديم إلى زماننا هذا نرى درس اللغة في قلب العلم.. خذ الأصوات اللغوية وحدها، ندرسها مع أستاذ في الفيزيقا، وأستاذ في التشريح، وأستاذ في الرياضة، وأستاذ فى اللغة …
ثم خذ اكتساب الأطفال للغة، والعمليات العقليةَ فى إنتاج الكلام واستقباله، وخذ القوانين الكلية التي تجمع البشر على ظواهر واحدة ..
أليس ذلك كله جديرًا أن يدرك لغويٌّ مثلي يظنه الناس لا يعمل إلا فى الضمة والفتحة والكسرة … أن يدرك نعمة الله الكبرى حين يخلف رجلاً في قدر محمود مختار … رحمه الله رحمة واسعة .. وجزاه عنا وعن العلم وعن العربية خير الجزاء.
أيها السادة ..(/3)
حين أراني في المجمع العريق أعلم علم اليقين أن ذلك حصاد أجيال متوالية من المربين والمعلمين، أسهم كل واحد منهم فى صناعة إنسان .. فى صدارتهم يأتي أبي رحمه الله .. كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب .. والأصل فى القرية أن يبقى أكبر الأولاد إلى جانب أبيه … فكيف أصر أن يدفع بي إلى المدرسة رغم أن رسوم الدراسة كانت عشرة جنيهات .. وهو قدر من المال ينوء به أولو اليسار آنذاك … كان وجهه يضيء فرحًا وهو يراني أنتقل من علم إلى علم … وكانت الدنيا لا تسعه وهو يشهدني أخطب الناس فى المسجد … أما حين سمعني أتكلم الإنجليزية، فلا أستطيع أن أصف لك مشاعره .. إن الوالد الأمي الذي يفعل ذلك لهو عندي فوق كل الآباء…
وأذكر منهم شيخي الشيخ بلال عبد الجواد شيخ كتاب قريتي: كفر الترعة الجديد مركز شربين ، دقهلية الذي لم يكن يقبل قط، ونحن فى الرابعة إلا أن يعطي كل حرف حقه .. وعلى منهجه العلمي الصابر قلقلنا وأخفينا وأظهرنا وغننا ومددنا حيث يجب كل أولئك … وأذكر أنه ظل يأخذ برأسي شهرًا كاملاً حتى أقرأ قوله تعالى (فاختلط به نبات الأرض) فلا يذهب تفخيم الخاء برقة التاء ولا تغلظ اللام لإطباق الطاء.
ثم أذكر منهم الأستاذ محمد موسى مدرس اللغة العربية بمدرسة زغلول الابتدائية بالسرو، الذي كان يتوسم فيَّ خيرًا، فأخذني يومًا إلى ناظر المدرسة ليأخذ عليَّ موثقًا ألا أشتري قلم الحبر الذي وفد إلى ريفنا أول مرة في الأربعينيات .. وكنا لا نذهب إلى المدرسة إلا ومعنا الدواة والريشة .. وكان الأستاذ موسى يرى هذا القلم الجديد شرًّا ووباء على العربية لأنه سوف يفسد خطوطنا … وكان إتقان الخط من فرائض العربية عند التلميذ والمعلم على السواء …(/4)
أذكر هؤلاء الثلاثة نماذج لما كان سائدًا من مراقبة الله في تربية الناشئة، والإخلاص في ذلك، والصبر عليه .. وهذا المنهج هو الذي جعل الإتقان سجية، وغيابه في زماننا هو الذي يجعل من الانهيار الماثل أمرًا لا يستغربه الناس ..
ثم يأتي من أخذت عنهم من أصحاب الخبرة والمكانة والإنجاز .. وهم عدد كبير يضربون في غير ميدان، في اللغة والأدب، والفقه، والفلسفة، والتاريخ، والاجتماع، والإنجليزية، والألمانية … وتعلمت كثيرًّا جدًّا من زملائي ومن تلاميذي .. لا أتوقف عند واحد من أولئك الذين ذكرت، وأنا أستحيى أن أوجز الكلام عن كل منهم في الوقت المحدود … وكلهم له فضل .. وفضلهم هذا هو الذي أكسب فقيرًا مثلي عضوية المجمع الخليل.
أيها السادة:
اخترتم واحدًا من الإسكندرية. يحمل إليكم كل مرة البحر، واتساعه، وانفتاحه، الإسكندرية بوابة الغرب، وعاصمة الحضارة الهيلينية .. ومعبر المغاربة إلى الحج، وطريق أهل المشرق إلى الأندلس.
أنضم إليكم وقد سبقني ثلاثة من شيوخ الإسكندرية الأعلام، كان كل منهم أمة في بابه، أولهم عبد الحميد العبادي، شيخ المؤرخين، وإمام التقاليد العريقة. أما الآخران فقد تلمذت لهما أيام الطلب الأول محمد خلف الله أحمد صاحب النبرة الفريدة في نطق العربية … وواحد من الذين أرادوا التجديد في درس الأدب حين عاد من بريطانيا بالوجهة النفسية … لم يكن عميدًا عابرًا في كلية الآداب بل كان هو العميد حين كانت العمادة قيمة علمية ومسؤولية ثقافية.
شيخي الجليل محمد طه الحاجري، صاحب الجاحظ، ومحقق أعماله الكبرى .. وليس هذا في ميزان العلم بقليل، ثم أجيء بعدهم بما يقرب من نصف قرن وأنا الفقير في هذه البضاعة كي أكون السكندري الوحيد في المجمع العريق، فأي عبء حملتموني أيها السادة.(/5)
وهنا شيوخنا الأعزاء – أحلم بأن أرى المجمع يضم علماء من أصقاع مصر .. من أسوان وطنطا ودمياط وأسيوط .. ولا يحول بعد المسافة بينهم وبين المجمع .. وثقافتنا ترسخ فينا أن الذي يسعى إنما يسعى دائما من أقصى المدينة .. ولم نر في كتابنا رجلاً من أدنى المدينة يسعى .. ومن فتش عن صاحب علم وجده.
أيها السادة:
أعلم أن هذا المجمع العريق يؤثر أن تكون أعماله خلف أبواب مغلقة بعيدًا عن أضواء الإعلام .. غير أني قد أجرؤ على الحلم أن يكون المجمع أكثر حضورًا في حياة الناس وبخاصة عند أهل الصنعة منهم، نصلهم، وندفع إليهم بأفكارنا ومقترحاتنا ونتلقى منهم تغذية راجعة كما يقول أهل التربية، وفي جلستنا هذه واحد من علماء الحاسوب المشهورين، له ريادة خاصة مع علوم العربية.
وليس كثيرًا أن نطلب إليه تزويد المجمع بقاعدة بيانات عن أبناء مصر المهتمين بالعربية في مختلف المجالات، وأحسب أن ذلك سوف يزود المجمع بحيوية متجددة، ويضفي على أعماله شرعية مكينة.
شيوخنا الأعزاء:
قد يكون من اللازم دائما أن نراجع أنفسنا فننظر مثلاً في أهداف المجمع التي أقرت منذ إنشائه، قد نقر هدفًا، وقد نعدله، وقد نستبدل به غيره، أو نضيف أهدافًا لم تكن منظورة آنذاك.(/6)
ولعلي أشير هنا إلى المعاجم على وجه الخصوص، وقد أنجز المجمع منها ثروة هائلة، غير أن المعاجم اللغوية العامة في حاجة إلى إعادة نظر وإلى جهد علمي متكامل، فنحن لا ننجز المعاجم إلا ليستعملها الناس واستعمال المعجم مهارة لابد أن يمارسها الإنسان من الصغر، وحين يتلقى طلاب المرحلة الثانوية المعجم الوجيز ينبذونه وراء ظهورهم لما نعرفه من أسباب، والدول المتقدمة تعنى عناية خاصة بمعاجم الأطفال، فنرى معاجم لمرحلة ما قبل المدرسة، وأخرى للمرحلة الابتدائية وثالثة للمرحلة المتوسطة، وهكذا يصبح استعمال المعجم مهارة يتقنها الناشئ إتقانًا طبيعيًّا. فهل نطمح أن يكون للمجمع دور ما في إصدار معاجم خاصة للمراحل العمرية المبكرة ؟…
شيوخنا الأعزاء:
أطمح أيضًا أن يكون للمجمع كلمة قوية في " تعليم العربية " وليكن صوت المجمع في هذا الشأن عاليًا مسموعًا، ولنذكّر قومنا– دائمًا – أن التنمية لا تتحقق بالتخطيط الاقتصادي والسياسي، بل يستحيل وجودها ما لم تقم على قاعدة لغوية مكينة.
ومن أسف أن أشير إلى أن المواطن الفرنسي الذي يعلّم الفرنسية خارج وطنه يعفى من الجندية، فهم يجعلون تعليم اللغة الوطنية مناظرًا لحماية تراب الوطن، وهذا حق، فكيان الأمة ولغتها لا ينفصلان.
شيوخنا الأعزاء:
ما أستطيع أن أختم هذه الكلمة دون أن أذكّر نفسي وإياكم بما آلت(/7)
إليه أحوال البصرة وبغداد والموصل، وهي أسماء قد لا تعني عند الكثيرين شيئًا لما نعلمه من قصور في نظامنا التعليمي والإعلامي، لكنها عندنا تمثل كل شيء، إن كل خلية في كياني تكونت في البصرة وفي بغداد، وأساليب التفكير عندنا غُذيت على ما كان يجري هناك. والعربية التي حملتنا هذا التاريخ الطويل أخذناها عن شيوخنا في البصرة وبغداد. وأنا على يقين أن المجمع العريق بشيوخه القدامى والوافدين حقيق على أن يستمسك بما أعطتنا إياه البصرة وبغداد وأن نجعل من هذه المدن أعلامًا مذكورة في كل آن بأن ندعو الله سبحانه أن يهبنا القدرة على أن نحمل الأمانة، وأن نتبع في كل وقت قرآن قرآنه، إنه سبحانه ولي ذلك وهو القادر عليه.
شيخنا الرئيس – شيخنا الأمين .. شيوخنا الأعزاء .. أشكر لكم جميعًا ما تفضلتم به وأدعو الله لكم بالصحة والسعادة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،(/8)
ثانيًا- كلمة ترحيب بالعضوين الجديدين
للأستاذ الدكتور كمال بشر الأمين العام للمجمع
أيها الناس هذا يوم سعيد مجيد عظيم يوم مشهود من أيام الخالدين، نحن نستقبل اليوم فارسين من فرسان اللغة والنحو والأدب، ألا وهما الزميلان الأستاذان الجليلان الكريمان: الدكتور محمد حسن عبد العزيز، والدكتور محمد حماسة عبد اللطيف، فنتمنى لهما التوفيق والسداد. وأملنا كبير فيهما، وأنا أعرفهما معرفة جيدة، فكل منهما أمة في مجاله. يلقي الزميل الأستاذ مصطفى حجازي عضو المجمع، كلمة المجمع في استقبال الفارس الأول وهو الأستاذ الدكتور
محمد حسن عبد العزيز، كما يلقي الزميل الأستاذ فاروق شوشة كلمة المجمع في استقبال الفارس الثاني في حفل اليوم وهو الأستاذ الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف.
أيها الناس لا أريد أن أطيل عليكم، والآن أترككم مع الزميل الأستاذ مصطفى حجازي ليلقي كلمة المجمع في استقبال الزميل الدكتور محمد حسن عبد العزيز، ثم يعقبه الأستاذ فاروق شوشة ليلقى كلمة المجمع في استقبال الأستاذ الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف، فليتفضل.(/1)
ثانيًا: كلمة المجمع في استقبال الأستاذ الدكتور عبده علي الراجحي
للأستاذ الدكتور كمال بشر الأمين العام للمجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها السادة، كنتُ قد عَقدتُ العَزْمَ على أن آتيَ بِكلامي في هذا المَقَامِ ارتِجالاً، كَعَادَتِي منذ أكثَرَ من خَمْسِينَ عامًا في مَقَامَاتِ البَيَانِ وخِطَابِ الجَماهير. ولكنِّي (هذه المَرة وفي مرات أخرى معدودة) خشيتُ أن يجنح بي المقام فأُرَدَّ على عَقِبيّ خَاسِئًا حَاسِرًا.
فَعمَدْتُ بعدُ إلى كِتَابَةِ هذه الكلماتِ القَصيراتِ ذاتِ الخطُوطِ المَحْدُودَة والقُيودِ المَمْدودة، وفاءً بِحَقِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الراجِح عقْلاً وفِكرًا وثقَافَةً وسُلوكًا، ووفاءً بِحَقِّكُم أيضًا في وجُوبِ الالتزامِ بانضباطِ التزمين، حتى لا يَنْدَمَ على حضورِه زائِر أو يتأفَّفَ ويَتَملمَلَ في مقعده شَاهد أو ناظِر. وعلى هذا أقول:
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيسَ المجمع:
السادة الزملاء الأفاضل أعضاءَ المجمع:
السادة الحضور:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وبعد،
فإنَّها لسعَادَةٌ غامِرةٌ أن وكَّل إليّ مجلسُ المجمع الموقَّر شَرفَ استقبال فارس من نمط فريد، تعتزّ قبيلة الشيوخ بانضمامه إلى حوزتها، وتزهو برشده وحصافته وبُعدِ نظره، في كيفيات الصولان والجولان في ميدانهم الذي يعِزّ على الكثيرين انتِسابُهم إليه أو الاقترابُ منه.
ذلكم الفارس أيها السادة، هو الأستاذ الدكتور عبده الراجحي. إنه فارس ذو رياستين حظيتا بتاجين مختلفين طلاء، مؤتلفين بناء، فكان التكامل في الطبع والصُّنع ، تكاملَ الإنسان على الوجهِ الذي أراده الله للأناسيّ الذين مازهم منهم، وفضلهم على سائر مخلوقاته.(/1)
أما الرياسة الأولى فقد خُلِعَ عليه تاجُها من الريف المصري العظيم. نشأ الراجحي وتربّى على "مصطبة" القرية، حيث يجلس العُمَدُ وحواريّوهم. وما أدراك من هم العُمَدُ في أيَّام الزمان الجميل الذي فاز صاحبنا بالعيش فيه لسنوات معدودات. جالسَ زميلُنا المحتفى به هؤلاء الأماجدَ ذوي الحُنكَةِ والدُّرْبَةِ، مستمعًا في البدء لما يقولون، مشاركًا بعدُ في الحوار، وإن على استحياء، حتى صلُبَ عوده واستقام بنيانه، وتفتَّحَ ذهنه ونما فكره، مزوّدًا بقيم الريف المصري الأصيل ومبادئه التي تصنع الرجال من أمثال "عريسِنا" الراجحي، الذي أبى إلا أن تكون قرينتُه هي مصر، حيث البذلُ والعطاء والنعمة والرخاء. فليقدِّمْ لها ولشبابها حقَّ الوفاء وما يسطيعه من جهد وعطاء.
وكان ما كان، انصرف الصبي إلى كتّاب القرية، شأنه في ذلك شأنُ السلالةِ الطيبة من أبناء ذوي الحصافة والرُّشد من فلاحي مصر، في تربية الأجيال. حفظ القرآن الكريم، وألمَّ بشيء من قواعد الحساب ورسوم الكتابة وضوابِط الإملاء، فتفتَّح ذهنه، وأخذ يفعّل طاقاتِه وإمكاناته في استقبال المعارف والتوليد منها، وإن بالتدريج، حتى رشحه هذا النهجُ الواعي من الاستقبال والإرسال للانخراط في ميدانٍ من المعرفة أوسعَ وأرحب، وأكثر تنوعًا.
التحق بالتعليم العام وقضّى فيه سنواتِه المقررةَ المرسومة، دون انقطاع أو ملل أو تكاسل، حتى نال الثانوية العامة بكفاية الشباب وعزم فِتيان الرجال. وكان للكتّاب أثرُه البالغ في هذا النجاح وذاك التوفيق، إذ إن "قرآنه" بإحكامِ آَيِهِ، وعمق فكره، وإجادة قراءته، وتجويد أدائه – كل ذلك قد منح الفتى الرجلَ حكمة التفكير، وحسنَ التدبير، والإفصاحَ عن كل ذلك بلسان عربي مبين، أغراه، بل دفع به دفعًا إلى حيث "العوربة"، انتماءً وفكرًا. ونموذجُها الصحيح الموثوق به، هو قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية.(/2)
انتقل صاحبنا "الراجحي" إلى الإسكندرية، مطبوعًا على "الانتماء" الذي شرب من أفاويقه على مصطبة القرية وصُبَّ في عقله صبًّا وملأ وجدانه، وأفصح عن نفسه سلوكًا وتصرفًا في دنيا الله.
وفي "عروس" البحر المتوسط، وجد العريس طِلبته، وفاز بحورته، فحلا له المُقام، الرائق المنعش، حتى يستطيع التوليدَ من فكره الخِصب، وينصرفَ في أناة وحكمة إلى رعاية ما يولّد وينتج، والدفعِ بكل ذلك إلى الميادين العربية، فارسًا من فرسانها المجلّين.
بدأ شوطَ الرياسة الثانية بآلياتها، وفعّلها على خير وجه، حتى تشقَّ له الطريقَ الصحيح وتكفلَ له إكمال المسيرة بنجاح وتوفيق، إلى أن حاز تاج التفرّد والامتياز في ميدان العلم والمعرفة بعامة، وفي ميدان الدرس اللغوي وما لفّه من ثقافات متنوعات على وجه الخصوص.
حصل على درجة الليسانس في الآداب من جامعة الإسكندرية سنة 1959م ثم عيّن معيدًا بقسم اللغة العربية بكلية الآداب سنة 1961م، وخطا بعدُ خطواتٍ واثقةً في الدرس والتحصيل حتى نال درجَتي الماجستير والدكتوراه من هذه الجامعة، وتمّ له حصدُ هذه الدرجات العلمية جميعًا سنة 1967م.
وفي هذا العام نفسه عمل مدرسًا بقسم اللغة العربية. وتدرج الرجل في سلم الصعود العلمي الأكاديمي إلى أستاذ مساعد فأستاذ سنة 1977م.
ولم يقف الأمر بزميلنا الفاضل الدكتور الراجحي عند هذا الحد من المواقع الأكاديمية الفائقةِ القدْر الرفيعةِ القيمة في قوافل العلم والفكر، بل تعداه إلى ما هو أوسعُ وأرحب. رشحته عبقريته وأهّلته إمكاناته المنوّعة إلى تولّيه مناصبَ إداريةً علميةً ذاتَ شأن مقرر معلوم، في رسم الخطوط ولمِّ الخيوط، ومتابعةِ ما رُسم ونُظم بصدق وحزم. تولّى صديقنا المحتفى به عددًا كبيرًا من هذه المناصب الجامعة بين الحسنيين، نذكر منها ما يلي على ضرب من التمثيل:(/3)
عمل رئيسًا لقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، ثم وكيلاً للدراسات العليا والبحوث بالكلية نفسها، ومديرًا لمركز تعليم اللغة العربية للناطقين باللغات الأخرى، ومديرًا لمعهد الدراسات اللغوية والترجمة. وقد شرفت به كل هذه المناصب (وغيرُها) في إطار جامعة الإسكندرية. ولكنَّ همة الرجل ونجاحاتِه في تسيير شؤون هذه المناصب وتصريفِ أمورها قد شاع قدرها وعلا ذكرها، وامتدّ ريحها الطيبُ إلى مناطق أخرى في العالم العربي، حيث اختير عميدًا لكلية الآداب – جامعة بيروت العربية، ورئيسًا لقسم تأهيل معلمي اللغة العربية للناطقين باللغات الأخرى، بجامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية بالسعودية.
وطار ذكرُ الراجحي، واتسعت آفاق علمه وفضلِه، فلبّى دعواتٍ متعددات متنوّعات من جامعات وهيئات علمية، عربيةٍ وغير عربية، معارًا أو زائرًا أو مشتركًا في مؤتمرات وندوات.
أعير إلى جامعة بيروت العربية مرتين، كما أعير إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. ودُعي أستاذًا زائرًا إلى جامعة صنعاء، وجامعة "إرلانجن" بألمانيا.
أما حضوره إلى المؤتمرات والندوات واشتراكُه فيها بالبحوث والمناقشات والتعليقات فأمر فائق القدر في العدّ، عظيمُ الأهمية في معناه ومغزاه، ودليلُ عالمية الأستاذ، وأمارةُ سعةِ معارفه وعمقِ فكره. ويزيد من قيمة هذا الحضور، ويؤكد شمولَ المعرفة، وخاصّةَ الانتماء الحقيقي إلى الإنسانية في عمومها، بقطع النظر عن الزمان والمكان، أن كانت هذه المؤتمراتُ والندوات مشغولةً بدراسات وبحوث ذاتِ ألوان متنوّعات تقابل ألوانَ الفكر عند الإنسان واتجاهاتِه في الحياة، مهما بعُدَ موطِنهُ أو اقتربَ في الشرق والغرب على سواء.
وتلك نماذج معدودة مما جَهِدَ الرجل نفسَه في حضور هذه المؤتمرات والندوات والأخذِ بنصيب ذي أثر فاعل فيها:
- مؤتمر مشكلات تعليم اللغة العربية بالجامعات العربية – بالإسكندرية.(/4)
- مؤتمر تقنية الحاسوب واللغة العربية- الرياض بالسعودية.
- مؤتمر العلاقات الإسلامية البيزنطية- سالونيك اليونان.
ومن نماذج الندوات:
- الندوة الأولى لتعليم اللغات – جامعة الكويت.
- الندوة الأولى للّسانيات – الرباط – المغرب.
- ندوة مشكلات تعليم اللغة العربية للناطقين باللغات الأخرى – كوالا لامبور (ماليزيا).
أما المؤتمرات والندوات التي شرُفت بحضوره، مقتصرًا على المناقشات والتعليقات، من حيث عددُها وزمانها ومكانها، فحدِّث عنها ولا حرج، وليس لدينا من الوقت ما يسوّغ لنا الكلامَ عنها أو الإشارة إليها.
السادة الحضور:
كل ما ذكر من نماذجَ أو صورٍ للنشاط الفكري المتنوع الصفات والسمات، لا يعدو أن يكون حَسْوَةَ طائر من بحر عميق. إنها مجرد لافتات تنبئ عن طبيعة البضاعة وصنوفها، وتُفْصح عن تفردها وامتيازها بالطبع والصُّنْع. وهي بضاعة أو مخزونٌ منها لا يستطيع امتلاكَها أو التصرف فيها إلا القليل من الرجال، وفي مقدمتهم زميلنا الكريم الدكتور الراجحي.
وليس هذا فقط، فلقد برزت إلى الوجود بضاعات أخرى أعمقُ تأثيرًا وأكثرُ انتشارًا ونفعًا. بضاعاتٌ ذات طعوم ومذاقاتٍ متنوّعةٍ، تلبّي حاجة المتخصصين، وتمنح مفاتيح المعرفة اللغوية والثقافية للجماهير العريضة. طرحها صاحبنا المحتفى به على هؤلاء وأولئك في صورة كتب مؤلفة ومترجمة، ودراساتٍ وبحوث كثيرة.
ولسنا بقادرين في هذا المقام على أن نقف عند كل هذه الآثار وقفات خاصة. وتكفينا الإشارةُ إلى نماذج منها بذكر عناوينها، وهي أمارة مضامينها، والكاشفةُ عن مجالاتها، وما خُصِّصت له من البحث والدرس.(/5)
ومن اللافت للنظر – إعزازًا وتقديرًا – أن جاءت هذه الأعمال والآثار لتغطيَ مساحاتٍ واسعةً من مجالات الفكر الإنساني بصنوفه المتعددة: في الفكر اللغوي والأدبي والثقافي والاجتماعي، وحقولِ المعرفة العامة. وكان للفكر اللغوي منها النصيبُ الأكبر، وفاء بمسؤولياته في إطار اهتماماته، بحكم موقعه الذي رُسم له أو رسمه لنفسه. كتب وأجاد في الدرس اللغوي، القديم منه والحديث والعام والخاص، والنظري والتطبيقي. ولم يكن كل ذلك مقصورًا على مستوى من التحليل اللغوي دون آخر، بل غطّى مجملَ الفروع اللغوية بمنهج مقبول معتدّ به، بعيدٍ عن الاضطراب أو الخلط بين المناهج، كما نلمسه أحيانًا من بعض الدارسين المتخصصين وغير المتخصصين.
وهذه نماذج من أعماله اللغوية، مشفوعةً بأمثلة من مجالات الفكر الأخرى:
- النحو العربي والدرس الحديث – النحو العربي وأرسطو – دروس في المذاهب النحوية – دروس في شروح الألفية – فقه اللغة في الكتب العربية – النظريات اللغوية المعاصرة وموقفها من العربية – اللهجات في القراءات القرآنية – التطبيق الصرفي – التطبيق النحوي – علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية – أسس تعلّم اللغة وتعليمها (مترجم بالاشتراك) – مشكلة تعليم النحو لغير الناطقين بالعربية – كلام الأطفال – اللغة وعلوم المجتمع .
وفي الأدب والأسلوب: علم الأسلوب والمواءمة.
وفي الثقافة والمعارف العامة: الشخصية الإسرائيلية – هيراقليطس فيلسوف التغير – عبد الله بن مسعود.
أيها السادة:
ماذا يعني هذا الإنتاج الغزير، والجهدُ الفائق الذي لا يعرف الكلل أو الملل؟ إنتاج متواصل الحلقات في الزمان والمكان، وجُهْد الأوفياء المخلِصين من شباب الشيوخ و شيوخ الشباب الذين اكتملت لديهم الأدوات الفاعلة من فتوّة الشباب وحُنْكة الشيوخ.(/6)
فلو اقتصرنا في هذا المقام – نظرًا لضيق الوقت – على أعماله في الميدان اللغوي العام، لأوجزنا الكلام في جملة واحدة: الدكتور الراجحي علم نادر المثال، يرود ويقود ويرشد ويوجّه. ولم يقف هذا وذاك عند فترة من الزمان محدودة، أو موقع من المكان خاص، أو جانب من الدرس اللغوي دون آخر. لقد اتسعت جهوده وامتد فكره إلى مجمل مسارات الدرس اللغوي، في فلسفته واتجاهاته ومناهجه ورجاله على امتداد الزمان المتعاقبةِ خطواتُه واتساعِ المكان المتراميةِ أطرافُه في القديم والحديث.
وفي إيجاز آخر أقربَ صلةً وأوثقَ نسبًا بموقعه في مجمع الخالدين، نقول: إن الراجحي فارس لغوي يصول ويجول في ساحات الدرس اللغوي العربيّ بعامة، بالتركيز على ميدانين افترقا في المسيرة زمنًا واتجاهًا، وائتلفا، بل تكاملا في الهدف المطلوب والقصد المرغوب، وهو خدمة اللغة العربية ونفع أصحابها.
الميدان الأول:
يتمثل هذا الميدان في محاورة الجنود لتعرف مواقعهم وجملةِ نشاطهم، ولتصنيفِ هذا النشاط من حيث صلاحيتُه وإمكاناتُه للوصول إلى الغاية المنشودة: نظر وفكّر وتدبّر في مجمل ذلك المحصول اللغوي الضخم الواسعِ الأبعاد والجنبات الذي ألقى به إلينا ذلك النفرُ من المقاتلين الأشدّاء من علماء العربية في القديم. صنع هذا كلَّه بحكمة وأناة، فألفى هذا المحصولَ غذاءً طيبًا وثمرًا نافعًا، يُزيل الجَوْعة ويصرف اللوعة ويمسح الدمعة، وإن كان يحتاج في إعداده وطرائق تناوله إلى شيء من الحصافة وبُعد النظر في اختيار ما يناسب أو يلائم الظرفَ والمناسبة من هذا الإعداد وذاك التناول.(/7)
هداه فكره إلى أن التقعيد اللغوي عند العرب، جاء مبنيًّا على منهجين متكاملين، تكاملَ الإنسان صاحبِ اللغة. بُنِيَ التقعيد عندهم على "النقل" و"العقل" معًا، فالتقى الجمعان التقاءً كاملاً مع طبيعة الإنسان وخاصته المتمثلة في الجسد والروح. يؤكد صاحبنا الدكتور الراجحي هذا المعنى بقوله: "إن النحو العربي (ويقصد به قواعد العربية في عمومها المعبر عنها حديثًا بالمصطلح Grammar ) كان صورةً للمناخ الفكري العام في الحياة الإسلامية ... وإن هذا المناخ قد زوّده بالاتجاه النقلي الذي أفضى إلى منهج وصفي واضح، وزوده أيضًا بالاتجاه العقلي الذي أدى به إلى عدم الوقوف عند الوصف المحض، وإنما تعداه إلى تفسير ظواهِرِ العربية تفسيرًا عقليًّا. ويستمر قائلاً: "والذي لاشك فيه أن النحو العربي بامتلاكه هذين الاتجاهين، استطاع أن يُثبت صلاحيته التي لا تنكر في فهم طبيعة العربية".
ومن الطريف حقًّا، أن هذا المعنى الذي يتضمنه مسلك العرب في التقعيد وارتضاه صاحبنا المحتفى به – هذا المعنى نفسه بالتصريح والتضمين، قد أدركه ووعى حقيقتَه بعضُ شعراء العربية في القديم. فهذا واحد منهم يقول:
إِنَّ الكلاَم لَفي الفُؤَادِ وَإِنَّما ...
جُعِلَ اللِّسَانُ على الفؤادِ دليلا
ويقول آخر:
لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌٌ، وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ ...
فَلَمْ تَبْقَ إِلاَّ صُورَةُ اللَّحْمِ والدَّمِ
فاللسان في البيتين (وهو الجارحة) يمثل الجسد، والفؤادُ في هذا المقام هو "العقل" فاكتمل الأمر للإنسان، كما اكتمل المنهجُ: "منهج النقل ومنهج العقل"، وفاء بوفاء، والتقاء كاملاً بلا مراء.
وليس هذا فقط، فإن هذا المسلك الثنائيَّ المتكاملَ في تقعيد العربية يلتقي التقاء يكاد يكون مباشرًا مع ما قرره علماء اللغة الأوربيون في العصر الحديث، من أمثال "همبولت" الألماني و"تشومسكي" الأمريكي المعروف. ويقول الدكتور الراجحي راويًا ومفسرًا أفكار الرجلين في هذه القضية:(/8)
"إن اعتبار اللغة عملاً للعقل أو آلةً للفكر، والتعبيرَ الذاتيَّ، يعني أن للغة جانبين: جانبًا داخليًّا وآخر خارجيًّا. وكل جملة يجب أن تدرس من الجانبين. أما الأول فيعبر عن الفكر، وأما الثاني فيعبّر عن شكلها الفيزيقي باعتبارها أصواتًا ملفوظة". ويستمر قائلا: "وهذه الأفكار هي التي ظهرت بعد ذلك عند "تشومسكي" تحت اسم البنية العميقة والبنية السطحية، ولما كانت البنية العميقة تعبر عن المعنى في كل اللغات، فإنها تعكس أشكال الفكر الإنساني. وعلينا أن نعرف كيف تتحول هذه البنيةُ إلى كلام على السطح. ولما كانت اللغة لانهائيةً فيما تُنتج من جمل، رغم انحصار مادتها الصوتية، فإن هذا النحوَ يهتم أيضًا بدراسة النظام الأساسيِّ الذي تتولد منه قوانينُ البنية العميقة قبل تحويلها إلى كلام على السطح".
ومن هنا نحا الدكتور الراجحي باللائمة على كل أولئك الذين لم يَرُقْهم هذا المنهج، ونعتوه بنعوت تشي بعدم الرضا أو عدم قبوله جملة وتفصيلاً، ووصفوا حصيلته اللغوية (والنحوية منها بوجه خاص) بالجمود والتخليط في الأحكام نتيجة الخلط في مناهج التفسير والتحليل. ووقف وقفة خاصة عند الوصفيين الذين أنكروا بصراحة جدوى الاعتماد على الجوانبِ العقلية في التحليل اللغوي. في رأيهم أن هذا الاعتماد يستلزم الدخول في ميادين المنطق والفلسفة، وما إلى ذلك من مجالات تقود إلى الافتراضات والتخمين والحدْس،الأمرُ الذي لا يفيد كثيرًا في تحليل اللغة بوصفها ظاهرة اجتماعية.(/9)
وأنا بموقعي في مدرسة الوضعيين أودّ أن أطمئن زميلنا الفاضل بأن الوصفيين في جملتهم لا ينكرون الجانب العقلي للغة. إنه هناك. ولكنهم يدركون صعوبة الكشف عما يجري في هذا الجانب كشفًا علميًّا دقيقًا يعتمد عليه. ومن ثم – في رأيهم – كان الاعتماد عليه أو الأخذ به في التحليل والتفسير السليم للغة مدعاة للشك في الوقوف على أرض صلبة تنبئ عن حقيقة ما يجري في العقل وكوامنه من أسرار وأفكار. ورأوا الاكتفاء بوصف الواقع الحيّ المنطوق، على أساس أن هذا المنطوق مرآة صادقة تعكس كوامن العقل ومخزون من الفكر اللغوي. ومعناه بعبارة أخرى، أن الاكتفاء بوصف البنية السطحية لا يعني إنكار البنية العميقة، بوصفها خاصة لغوية إنسانية. هذه الخاصة الإنسانية منحة من الله جل وعلا، وهي صالحة للعمل بالتفعيل والتوليد منها حسب البيئة اللغوية المعينة. والبيئات اللغوية كثيرة لا حصر لها، ومن ثم لا نعجب ولا ندهش إذا جاء هذا التوليد مختلفًا من بيئة إلى أخرى، بل من فرد إلى فرد آخر.
ويمكن توضيح هذه القضية التي حار اللغويون (وغيرهم) في تعرّف حقيقتها والكشف عن أسرارها، بالإشارة إلى "الحاسوب" (الكمبيوتر) وتقنياته وطبيعته وكيفيات تفعيله.(/10)
جهاز الحاسوب بهذا الوصف (أوHardware) يقابل الكفاية أو المقدرة اللغوية عند الإنسان Competence، ولكن وظيفة هذا الجهاز لا تظهر ولا يكون لها أية قيمة إلا بالبرمجة Software فكذلك تلك الكفاية أو المقدرة اللغوية لا تفصح عن نفسها ولا يكون لها أي مردود إلا بتفعيلها. وهذا التفعيل يقوم به الفرد أو الأفراد أو البيئة اللغوية المعيّنة. ومعلوم أن البيئات اللغوية لا حصر لها ولا عدّ، وكذلك الحال بالنسبة لناتج التفعيل. والتفعيل مختلف من شخص إلى آخر ومن مكان إلى آخر. ومن ثم كان اختلاف اللغات هذا الاختلاف الكبير من حيث نتائج التفعيل perfermance، وهو ما يشار إليه بالبنية السطحية، في مقابل البنية العميقة التي يشترك في امتلاكها كل إنسان سويّ. وهذه البنية العميقة، (وهي تمثل الجانب العقلي للغة)، ليس من السهل معرفتها أو الكشف عن حقيقتها. ومن هنا اكتفى الوصفيون بالنظر في البنية السطحية بالوصف، إذ هي أقرب منالاً، وأوثق واقعية وقبولاً للدرس والتحليل.
ومعنى هذا كله أن الوصفيين لا ينكرون وجود الكفاية أو المقدرة أي الجانب العقلي للغة، ولكنهم لعجزهم (وعجز غيرهم بلا شك) عن سبر أغوارها، اكتفوا بدراسة ما يتولد منها بتفعيلها (برمجتها) بمنهج الوصف.
فدراسة الواقع اللغوي الحيّ بالوصف إنْ هو إلا منهج، كما أن دراسة الجانب العقلي منهج آخر. وكل منهج له ما يسوغه ويرشح قبوله، وفقًا للهدف من الدرس والتحليل. وقد نحا تشومسكي(وغيره) هذا النحو العقلي بهدف الوصول إلى ما يعرف بالقواعد العالمية universal grammar بالاعتماد على الخاصة المشتركة بين البشر وهي الكفاية أو المقدرة اللغوية.
ومعلوم أن فكرة "القواعد العالمية" هذه كان لها وجود في القديم، حيث حاول بعض الدارسين الوصول إليها ولكنهم فشلوا، كما فشلت المحاولة، ولم يزل الأمر على ما هو عليه حتى الآن على الرغم من محاولات العقليين، ومن أهمهم في عصرنا الحديث تشومسكي.(/11)
ومهما يكن الأمر، فقد نجح الراجحي وفاق غيره من اللغويين المعاصرين في أمور مهمة ذات شأن، التبست على بعض الدارسين. من أهمها:(1) التأكيد على سلامة منهج البحث اللغوي عند الأسلاف وبخاصة المتقدمون منهم، من أمثال الخليل وسيبويه. وأزاح عنه تهمةَ القصور فيه، وإن كان الأمر يحتاج إلى مزيد من إلقاء الضوء على أبعاده التي تحتاج من ذوي الاختصاص إلى تعميق النظر فيه واستيعابِ طبيعته، بدلاً من التعجّل في إصدار الأحكام غير العادلة. (2) ثبت لديه بوضوح أن هذا المنهج ليس بدعًا ولا صُنعًا مزيّفًا، وإنما هو منهج صالح متقبّل، لوفائه بطبيعة اللغة وطبيعة صاحبها أيضًا، كما قرر ذلك أهل النظر من اللغويين المحدثين، كما أشرنا إلى ذلك قبلاً، وهكذا التقى القبيلان: القديمُ والحديث.
وفي هذا الذي نقول ما يُسلمنا فورًا إلى مزيد بيان عن جهوده المتواصلة في خدمة اللغة العربية ووصْل ماضيها بحاضرها، وهذا جُلّ ما يأمُله المخلصون، كما يتبين لنا ذلك بوضوح، بذكر شيء عما شغل به نفسَه للوصول إلى هذا الهدف.
الميدان الثاني:
هذا هو الميدان الذي يؤكد المسيرة المتواصلة من العمل العلمي الناشرِ مظلتَه من قديم إلى حديث، ومن درس نظري إلى آخر تطبيقي. شغل الدكتور الراجحي نفسه منذ وقت غير قصير بقضية ذات أهمية بالغةٍ في دنيا العرب والعربية. ذلك أنه انصرف منذ عقود من الزمن إلى قضية العمل على نشر اللغة العربية وتوسيع مجالات الوصل والاتصال بها في العالم شرقه وغربه على سواء. تلك هي قضية تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها التي يُحسب الدكتور الراجحي من أوائل اللغويين الجامعيين الذين أدركوا– بصدق– أن هذه اللغةَ لا ينبغي حبسُها في دارها،إذ هي لغةٌ ذاتُ قرار مكين تزيد من ثقافات الآخرين وتضيف إليهم آفاقًا جديدة من المعرفة،التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان،مهما بعُدت الديار ونأى المكان.(/12)
بدأ الراجحي عمله في هذا الميدان بتخطيط محكم ونظر ثاقب صائب في وضع المناسب من المقررات وكيفياتِ إنجازها على الوجه السليم، على خلاف ما كان يجري هنا وهناك بطرق عشوائية لا تفكير فيها ولا تدبير.
بدأ عملَه في هذا الشأن على استحياء مع مجموعات صغيرة من غير العرب، للتجريب وكسب الخبرة، ثم اتسعت دوائر الخبرة والتجريب، وبمبرور الزمن أسَّس أو أُسِّس له مركزٌ مستقل بجامعة الإسكندرية، ووُضِعت له النظم واللوائح الكافية لتحقيق هذا المطلب القومي النبيل وسار العمل في هذا المركز بنجاح كبير وتوفيق من الله عظيم وبفضل إدارة الراجحي له.
يؤكد ذلك حضورُ الوافدين إلى هذا المكان بأعداد كبيرة من هنا وهناك من شتى بلدان العالم. حتى صار مَعْلمًا من معالم الإشعاع اللغوي والثقافي العربي.
ساعده على هذا النجاح معرفتُه الواثقة واستيعابُه العميق لأبعاد ذلك العلم الحديث نسبيًّا، علم اللغة التطبيقي الذي كتب فيه الكتبَ والبحوث مؤلفةً ومترجمة.
ولم تقف هِمَّة ذلك الرجل الكريم عند هذا المكان المحدود؛ إذ قد سبقته معارفُه وخبراته في هذا الميدان، وطارت إلى بلدان مختلفة عربية وغير عربية، فدُعِي إليها مرات عديدة، وكان منها على ضرب من التمثيل كما سبق أن بيَّنا، إعاراتُه المتعددة إلى جامعة الإمام بن سعود للاشتراك في العمل أو الإشراف عليه، حتى انتهى به الأمرُ إلى رياسة قسم تأهيل معلمي اللغة العربية لغير الناطقين بها في هذه الجامعة.
وما تزال معارف الرجل وخبراته في هذا الميدان العصيِّ امتلاكُه أو الاقتراب منه، تدرج من مكان إلى مكان ومن زمن إلى آخر حتى هذه اللحظة.
بارك الله في الرجل ونفع الناس كافة بعلمه وفضله.
أيها السادة:(/13)
من كل هذا الذي مضى يمكننا القول باطمئنان: إن الدكتور الراجحي صاحبُ مدرسة لغوية عربية، لها مناهجها المتميزة وأهدافُها الواضحة، تنهض هذه المدرسة على مبدأ يؤكد أن الفكر العربي عمومًا يقع تحت خطرين:خطرِ الموت جمودًا إذا انكفأ على القديم وحده،وخطرِ الموت انسلاخًا إذا ترك القديم كلَّه وغاص في الحديث وحده. إن تجدد الحيوية يقتضي ترسيخ الجذور في التراث والاندماجَ في الوقت نفسه في حركة العصر.
وفي عبارة أخرى نؤكد ما قاله غيرُ واحد من العارفين بالدكتور الراجحي والمستوعبين لثمرات جهوده العميقة المتواصلة قالوا كثيرًا نلخص بعبارتنا بقولنا: إن الراجحي يجمع بين القديم في أصالته والحديث في جدته وطرافته. يقول الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، رئيسُ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والوزيرُ السعودي الأسبق:
"يمتاز الدكتور الراجحي في دراساته اللغوية بالجمع بين القديم والجديد وتحس عندما تقرأ له أنك تقرأ لعَلَم من أعلام اللغة والنحو القدماء. فهو متمكن من التراث اللغوي الأصيل، معتزّ به، قادر على تقديمه للأجيال الجديدة بأسلوب يجمع بين سلامة اللغة ورصانتها وبين وضوح التعبير والقدرة على إيصال المعلومات. وتقرأ له – من جانب آخر – فتجد نفسك أمام عالم لغوي معاصر، عارفٍ بكل مستجدات علوم اللغة الحديثة، ناقدٍ لها، منتقٍ منها ما يتناسب مع أساليب العربية وخصائصها. فهو لا يتنكر لتراثه اللغوي، لكنه لا يقتصر عليه". حقًّا إنه يجمع بين القديم في أصالته والحديث في جدته وطرافته.
وإني لأختتم كلمتي المتواضعة هذه بتلك الأبيات التي رواها عن أبي تمام زميلُنا الفاضل الدكتور محمود مكي عند استقباله لسميّه الدكتور الطاهر مكي:
إن يُكْدِ مُطَّرَفُ الإخاء فإننا
نغدو ونسري في إخاءٍ تالدِ
يختلفْ ماءُ الوِصالِ فماؤنا عذبٌ
تَحَدَّرَ مِنْ غَمَامٍ واحدِ
يفترقْ نَسَبٌ، يؤَلِّفْ بيننا
أدبٌ أقمناه مُقامَ الوالدِ(/14)
إيراد هذه الأبيات وتسجيلُها هنا له ما يسوّغه ويرشّح قبولَه في هذه المناسبة الطيبة. إننا – نحن الأربعة – نشترك في سمة واحدة، هي "الفلحنة"، وإن كان للمكّيين مزيدُ اختصاص "بالصَّعْدنة". والصعدنة في حقيقة الأمر هي أمارة "المِصْرنة" التي غطت
مظلتُها أرجاءَ أرض الكنانة – مصرَ المحروسة.
فمرحبًا بك أيها الزميل العزيز في مجمع الخالدين، وهنيئًا لشيوخ الدار على الفوز بك، شابًّا في الحيوية والفتوّة وشيخًا في الحُنكة والخبرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كمال بشر
الأمين العام للمجمع(/15)
ثانيًا- كلمة الأستاذ الدكتور محمد بلتاجي حسن
في حفل استقباله عضوًا بالمجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
الأستاذ الدكتور رئيس مجمع اللغة العربية
الأساتذة الكرام أعضاء المجمع
السادة الحضور
يسعدني غاية السعادة ويشرفني غاية الشرف أن أقف هذا الموقف الكريم بينكم يخفق قلبي بالشكر لكم أن تفضلتم وأتحتم لي أن أكون عضوًا في هذه المؤسسة العظيمة (مجمع اللغة العربية) الذي يشْرف بالحفاظ على أشرف اللغات، لغة القرآن الكريم الذي " نزل بلسان عربي مبين".
وبعد رحلتي مع القرآن الكريم حفظًا وتلاوة ودرسًا وفهمًا وتعليمًا هذه الرحلة التي جاوزت نصف قرن، ولله الحمد والمنَّة – فإنه ثبت في يقيني أن العمل على خدمة هذه اللغةِ الشريفةِ عبادةٌ جليلةُ القدر عظيمةُ الأثر إن شاء الله تعالى في الدنيا والآخرة، ولا عجب فكل شيء عنده بمقدار، ولم يكن اختيار (العربيةِ) وعاءً للقرآن الكريم عبثاً أو محضَ مصادفة، وقد كان من أثر هذا أنّ المثقف العربيَّ يفهم اليومَ نصوصًا بليغة قيلت منذ ألفٍ وخمسمئة عام كأنها أُبدعت اليوم حيث يجد القارئ فيها متعةَ الإبداعِ وسحرَ البيان؛ ذلك أنّ التلازمَ بين العربيةِ والقرآنِ الكريم خلع ثوب الخلد عليها وجعل دراساتِ القرآنِ الكريم نماذجَ حاضرةً دائمًا في العقل العربي، ومثَّل ذلك كلُّه أوثقَ الروابط بين أفرادِ وجماعات وأقطار الأمة العربية.(/1)
وفي هذا ما يدل أعظم الدلالة على خطأ المقولة التي تتردد أحيانًا على ألسنةِ بعضِ دارسيِ الإسلاميات الذين يبررون عدم إتقانهم العربيةَ بأنه لا يلزمهم ذلك لأنهم إنما يطلبون العلم الشرعي لا اللغوي، وهذه مقولة باطلة يحمل عليها مزيجٌ من الجهل المركب والقعودِ عن الواجب المحتّم لأنّ العلمَ الشرعيّ الصحيح لا يُنال إلا بالإمامةِ في اللغة؛ حيث يؤول الدرس الشرعيّ دائمًا إلى نص قرآني معجز أو نص من السنّةِ الصحيحةِ التي أوتيَ صاحبُها (صلى الله عليه وسلمُ) جوامعَ الكلم، فالفكرُ الشرعيّ ينتهي دائمًا إلى نص عربيّ مبين، ومن ثمّ لم يكن عجيبًا أن يكون أولُ شرطٍ لفقه أحكام الشريعة عند أبي إسحاق الشاطبي صاحبِ (الموافقات والاعتصام) أن يصل الفقيهُ إلى درجةِ الإمامةِ في اللغة. ولعل الأيام المقبلة ـ إن شاء الله ـ تتيح لي أن أكشفَ في وضوح عن فكرة نبتت في ذهني منذ سنوات مؤداها أنّ كثيرًا من المشكلات والاختلافات في الأحكام الفقهية الاجتهادية تجدُ الحلَّ الصحيحَ لها إذا احتكمنا إلى معطيات العربية، ذلك الاحتكام الذي يجمع بين العمق والشمول وفقهِ الجذور اللغوية فقهًا يرجع أحيانًا إلى الأصول الساميّة التي نبعت عنها العربية.
السادة الحضور:(/2)
كان مما زادني شرفًا وسعادة في موقفي هذا أن حللتُ محل الأستاذ الدكتور عبد القادر حسن القِط الناقدِ الكبير الذي جمع بين الشعر إبداعًا ودراسة وبين دراسة الأدب وترجمة بعض عيونه العالَمية إلى العربية. وقد ولد عام 1916م وتوفيّ رحمه الله تعالى عام 2002م، وتخرج من قسم اللغة العربية بآداب القاهرة عام 1938م، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة لندن عام 1950م، وعمل في كلية آداب عين شمس حتى انتخب عميداً لها عام 1980م، وانتخب عضوًا بمجمع اللغة العربية عام 1999م، وفي أثناء ذلك كلهِ رأس تحرير مجلات: الشعر والمسرح، والمجلة، وإبداع. وقد أعطى رحمه الله للدراسات اللغوية والأدبية والنقدية الكثيرَ من الجهد والإبداع ممّا يعرفه وأفاد منه أعظمَ إفادةٍ تلاميذُه الكثيرون في مصر وفي البلاد العربية والإسلامية، مما جعله قدوة يحتذى بها في مجال العطاء الشريفِ الذي بارك الله فيه فاستمر إلى ما بعد الخامسة والثمانين، ووصل فيه إلى المدى الذي يصعب أن يُلحق فيه.. رحمه الله تعالى، ونفع بجهوده العظيمة في الأدب والنقد نفعًا موصولاً لا انقطاعَ فيه.
وأكرر شكري وأطيب أمنياتي لكافة أعضاء المجمع الموقر:
رئيسه الأستاذ الدكتور شوقي ضيف، ونائبه الأستاذ الدكتور محمود حافظ وأمينه العام الأستاذ الدكتور كمال بشر الذي تتلمذت عليه في دار العلوم منذ قرابةِ نصف قرن.
كما أتقدم بخالص الشكر وموفور التقدير إلى الأستاذ الدكتور الطاهر مكي الذي يجمع – في مزيج نبيل – بين رعاية الأستاذ لتلاميذه وصدق الأخوَّة لهم.
كذلك أتقدم بمثل ذلك إلى أستاذنا الدكتور أحمد هيكل أتم الله عليه نعمة الشفاء والعافية، وبمثله أتقدم لأستاذنا الدكتور أمين السيد وأستاذنا الدكتور علم الدين الجُندي متعهما الله تعالى بالصحة والعافية.
كذلك أتقدم لصديقنا الكبير شاعرِ مصر والعروبة الأستاذ فاروق شوشة بالشكر والتقدير وأطيب الأمنيات.(/3)
وأجدها مناسبة طيبة لتحية الصديق الكبير الدكتور أحمد مستجير عالمِ الوراثة الأول في مصر والشرق وأكرر شكري له وأطيبَ أمنياتي.
وبالشكر الجزيل كذلك أتقدم إلى أستاذنا الجليل الدكتور عبد الحافظ حلمي، ولا أنسى ذكرى الصديق الكريم الأستاذ أحمد مختار عمر رحمه الله تعالى وشكر له ما تقدم به من خير كثير.
ومن الحق أن أرجوَ بقيةَ أعضاءِ المجمعِ الموقَّر الذين لم تسعف الذاكرة الكليلة بتشريفي بذكر أسمائهم في هذا الموقف، أن يعتبر كل منهم هذه الكلمة الموجزة شكرًا خاصًا به.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/4)
رابعًا- كلمة الأستاذ الدكتور محمد حسن عبد العزيز
في حفل استقباله عضوًا بالمجمع
أستاذي الجليل رئيس المجمع:
أساتذتي الأجلاء أعضاء المجمع:
سيداتي وسادتي شهود هذا الحفل الكريم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد
فإن هذا اليوم الكريم يوم استقبالي عضوًا في مجمعكم الموقر ثالث ثلاثة أيام سعيدة في حياتي العلمية، أولها يوم حصولي على درجة الدكتوراه عام ثمانية وسبعين، وثانيها يوم حصولي على درجة الأستاذية عام واحد وتسعين.
كان حصولي على الدكتوراه تقديرًا لرسالة، وكان حصولي على الأستاذية تقديرًا لأعمال علمية محدودة. أما انتخابي عضوًا في المجمع فقد كان تقديرًا لحياة علمية كاملة وشهادة من صفوة العلماء والمفكرين الخالدين، لهذا فسعادتي بهذا التقدير أعظم واعتزازي بهذه الشهادة أعمق.
لهذه المعاني الجليلة يسعدني – أعضاء المجمع الكرام - أن أتوجه إليكم بجميل الشكر وعظيم التقدير على أن أوليتموني ثقتكم الغالية، وتفضلتم عليّ بانتخابي عضوًا في زمرتكم المباركة. وإني أعد ذلك شرفًا أزهو به، ووسامًا على صدري أتيه به، وإني لأسأل الله تعالى أن يُعينني على خدمة أهداف المجمع التي تجردتم لها وعملتم لتحقيقها.
وإني لأجد نفسي عاجزًا عن توفية العالم الفاضل الذي قدمني إليكم- أستاذي مصطفى حجازي – حقه من شكري لما طوق به عنقي من جميل ثنائه، ولما أضفاه عليَّ من فضله وحسن ظنه.
وفي هذا المجلس الكريم مجلس الشكر على الجميل والعرفان بالحق أذكر فضل أستاذي الدكتور كمال بشر - وهو فضل قديم جديد - فقد اختار لي موضوعي للماجستير عن لغة الصحافة المعاصرة فدلني على مجال بحثي لم يطرق من قبل في العالم(/1)
وكان من ثمرات هذه العلاقة أنني قدمت إلى اللجنتين ما يزيد على خمسين مذكرة أو تقريرًا فيما يتصل بعملهما من مسائل لغوية ولم يخل كتاب من كتبي أو بحث من بحوثي في اللغة العربية من فصل أو أكثر عن قرارات المجمع في هذا الخصوص، فعلت ذلك في (التعريب بين القديم والحديث) و(القياس في اللغة العربية) و(النحت في اللغة العربية) و(الوضع اللغوي في الفصحى الحديثة) بل كتبت بحثًا ضافيًا بمجلة المجمع عن (جهود مجمع اللغة العربية في تعريب المصطلح العلمي). وفي أثناء هذه الفترة الحافلة من عملي في اللجنتين نمت علاقة خاصة قائمة على الحب والفهم بشيخين جليلين من مشيخة المجمع أولهما الأستاذ الدكتور شوقي ضيف وثانيهما الأستاذ محمد شوقي أمين.
أما الدكتور شوقي ضيف، فقد كنت من المعجبين به طالبًا، وتتلمذت على مؤلفاته جميعًا لاسيما موسوعته العلمية (تاريخ الأدب العربي) بيد أن جلوسي إليه في لجنتي الأصول والألفاظ والأساليب كان درسًا لا تنقضي منافعه في العلم فيما يكتب من مذكرات وتقارير وفيما يضيفه من تعليقات ومراجعات، وفي السلوك، فقد كان دائمًا مهذب العبارة هادئ النبرة موضوعي النظرة. وكانت نصائحه وتوجيهاته لي رائدًا في حياتي العلمية حتى اليوم. جزاه الله عني خير الجزاء ومتعه بالصحة والعافية.
وأما الأستاذ شوقي أمين فقد كان إنسانًا نبيلاً نادر المثال يعطي أبدًا ولا ينتظر من أحد شيئًا. وقد ضاع كثير من علمه – بكل أسف لأنه لم يكن حريصًا على جمعه أو نشره. وقد استفدت منه فائدتين بليغتين الأولى:
روح التيسير التي تجري كالدم في كل ما يدرسه من مسائل اللغة والنحو وكل ما يقترحه فيها. كنت تراه أقرب أعضاء اللجنة إلى تقدير اللفظ المحدث الشائع، والثانية: أسلوبه الوجيز المحكم مع رشاقة وتدفق، واحتجاجاته القوية المدعومة بالوثائق رحمه الله رحمة واسعة.
وكانت جهود المجمع موضع بحث ونقد في رسائل جامعية أشرفت عليها ومن بينها:(/2)
(جهود مجمع اللغة العربية في دراسة العربية المعاصرة) دكتوراه.
(المصطلحات المركبة في المعجمات المتخصصة لمجمع اللغة العربية) ماجستير.
(المشتقات ودورها في الاصطلاح العلمي في أعمال مجمع اللغة العربية بالقاهرة) ماجستير.
وثمة رسالة رابعة نوقشت من أسبوعين بعنوان (معاجم المجمع المتخصصة دراسة في المادة والمنهج). وتفضل العالم الجليل والمجمعي الحجة الأستاذ الدكتور عبد الحافظ حلمي بمناقشتها والحكم عليها.
سادتي الكرام..
لعلى أطلت في حديثي عن علاقتي الوثيقة بالمجمع منذ عهد بعيد، وما فعلت ذلك إلا لهدف أحدثكم عنه الآن، إن هذه العلاقة تفرض عليَّّ – بما توافر لي في أثنائها من معرفة بتاريخ المجمع، ومن مراجعة لأعماله ومن مدارسة لقراراته، ومن اطلاع على ذخائره ومن مشاركة في مجالسه ومؤتمراته – أن أقول كلمة أرجو بها وجه الله والحقيقة. وقد قيل يومًا لأرسطو ما قولك في أفلاطون؟ قال: أفلاطون حبيب إلي نفسي، ولكن الحقيقة أحب إلى من أفلاطون. وأنا أقول عن المجمع ما قاله أرسطو عن أفلاطون.
لهذا أرجو أن تتسع صدور أساتذتي لما أقول عن المجمع ، فما دفعني إلى ذلك إلا تقديري العميق لدور هذه المؤسسة الكبيرة في خدمة اللغة العربية منذ إنشائها حتى اليوم، وإلا رغبتي الصادقة في دعم أعمالها وتفعيل دورها ونشر رسالتها.
المصطلحات العلمية:(/3)
لقد نجح المجمع حقًا في وضع الأسس النظرية والمنهجية التي توضح ما ينبغي أن يتوافر في العملية الاصطلاحية من شروط، كما أنه نجح في تحديد طرق الوضع في العربية وترتيبها من حيث الأولوية، ومن حيث ملاءمتها لطبيعة اللغة العربية ومن حيث وفاؤها بالمطلوب، ونجح كذلك في تهيئة العربية لهذه العملية بتوسيع أقيستها، وإحياء عدد كبير من صيغها لتؤدي المعاني التي يحتاج إليها العلماء والمترجمون، وأباح القياس فيها، كما أنه أقر كثيرًا مما شاع بين العلماء والأدباء من ألفاظ وأساليب محدثة كان يعترض على استعمالها على نحو أو آخر.
مع تقديري العظيم لكل هذا ولما أنجزه من معجمات متخصصة بهذا الشأن فإني أرى أن خطة المجمع لبناء منظومة مصطلحية شاملة لم تعد صالحة وأن ما تنتجه لجان المجمع المختلفة من مصطلحات ليس مكافئًا لما هو مطلوب ولما ينفق من نفقة، وليس وافيًا بحاجة الناس في هذا الوقت الذي تتسارع فيه جهود العلماء والمؤسسات العلمية لتحقيق إنجازات غير مسبوقة في كل مجال، وما ينبني على ذلك من ظهور ما لا ينحصر من المصطلحات الجديدة أو من المصطلحات التي أعيد تعريفها.
لم يعد يكفى – مع انتشار الهيئات العالمية المعنية بالمصطلحات – أن تعكف كل لجنة من لجان المجمع العلمية على معجمٍ ما في مجالها تقضي معه سنوات في تعريبه وتنقيحه، وفقًا للأسس المجمعية المعتمدة، ثم تعمل على نشره منجمًا في مجموعة المصطلحات العلمية الخاصة بالمجمع كل عام، فإذا ما توافر لها قدر مناسب أعادت نشره أيضًا منجمًا في أجزاء، وبذلك قد يستغرق العمل في هذا المعجم (الذي هو في الغالب متوسط الحجم) سنين طويلة، وبمرور هذه السنين يتجاوزه العلم، ولا تتحقق الفائدة المرجوة منه.(/4)
وسوف أقدم إليكم مثالاً واضحًا لذلك أحد معجمات المجمع وهو (معجم المصطلحات الطبية)، بدأ العمل به عام ثمانية وسبعين ثم ظهر الجزء الأول منه عام خمسة وثمانين وهو خاص بالحروف A.B.C ثم ظهر الجزء الثاني عام تسعين وهو خاص بالحروف DFG وظهر الجزء الثالث عام ألفين وهو خاص بالحروفH.I.k K وقد استغرق إنجاز هذه الأجزاء ما يزيد على عشرين عامًا، وما بقي من حروف – وفقًا لهذا التقدير – سوف يستغرق عشرين عامًا أخرى.
والخطة التي أقترحها لإنجاز المنظومة المصطلحية العربية كاملة وافية تقوم على اختيار أحدث معجم وأوفاه في مجاله، ويراعى أن يكون محققًا للمعايير التي اشترطها المجمع في معاجمه المتخصصة، ثم تكلف لجنة من العلماء أهل الاختصاص لترجمته واستكماله، ومع اللجنة عضو مجمعي أو أكثر يراجع وينقح، ويتحقق من استيفائه لمعايير المجمع في الاصطلاح، وتحدد مدة قصيرة لإنجاز هذا المعجم في هذه المرحلة. وبعد الانتهاء منها يعرض على اللجنة المختصة لمراجعته كاملاً، ثم يعرض على مجلس المجمع فمؤتمره لاعتماده.
وبذلك يتوافر لدينا معجم متخصص كامل في كل علم من العلوم أو فرع منه، معجم يواكب التقدم العلمي، ولا يتخلف عنه بحال من الأحوال.
المعجم الوسيط:
مضى على نشر الطبعة الثالثة ثمانية عشر عامًا حدثت في أثنائها أحداث كبرى في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وظهرت في حياتنا المعاصرة مسميات من ملابس ومآكل ومشارب، وأجهزة ومُعَدَّات.. لم يكن لنا بها عهد. وقد اقتحمتنا هذه الأشياء بأسمائها الأجنبية، كما ظهرت مفاهيم جديدة في كل مناحي حياتنا الفكرية في الآداب والعلوم ، وفي كل مجالات التِّقنية. وأصبح الناس في حاجة إلى معجم لغوي يواكب العصر الذي نعيش فيه (العقد الأول من القرن الحادي والعشرين) ويفي بحاجات العلماء والباحثين والطلاب ويساير ما يطرأ على حياتنا اللغوية من تغيرات.(/5)
وفي هذه الفترة التي نتحدث عنها تطورت صناعة المعجم في الغرب تطورات عظيمة في شكله ومادته، فشكله جذاب بما يتوافر فيه من طباعة أنيقة ودقيقة ومن صور ورسوم بيانية، وطريقة البحث عن المطلوب فيه أيسر …إلخ.
أما مادته فقد جعلته أقرب ما يكون إلى موسوعة لغوية مختصرة لمعارف العصر الحديث في كل مجالاتها.
لهذا وذاك أصبح تحديث المعجم الوسيط ضرورة علمية لمواكبة العصر الحديث عصر المعلومات والعولمة، وللوفاء بحاجات الناس من العلماء والباحثين والطلاب وغيرهم ممن يرغب في استشارته.
وقد تقدمت إلى لجنة الألفاظ والأساليب بخطة مرحلية مفصلة لإنجاز النشرة الرابعة للمعجم الوسيط بما يحقق الهدف من إخراجه في وقت محدد وفقًا للمنهج العلمي المعتمد. ولكني لا أدري حتى الآن مصيرها.
المعجم الكبير:
مضى على ظهور الجزء الأول من المعجم الكبير في تجربته الأولى نحو نصف قرن إذ ظهر عام ستة وخمسين وتسعمئة وألف، ومضى على ظهور الجزء الأول في صورته المعتمدة نيف وثلاثون عاما. إذ ظهر الجزء الأول عام سبعين وتسعمائة وألف والجزء الخامس عام ألفين. وتضم الأجزاء التي ظهرت مواد حرف الهمزة والباء والتاء والثاء والجيم والحاء ولو مضى المعجم الكبير على هذه الوتيرة فسوف نحتاج إلى ما يزيد على تسعين عامًا لإنجازه. وسوف أترك هذا التقدير دون تعليق.
لهذا لابد من وضع خطة عمل جديدة محدودة المدة، لإنجاز المعجم في مراحل منضبطة، ولعل مما يفيد في هذا الشأن:
- أن يزيد عدد المحررين اللغويين العاملين في جمع المادة وتصنيفها وأن نعمل على تنمية مهاراتهم بعقد دورات علمية لتأهيلهم لهذا العمل.
- أن يزيد عدد الخبراء الذين يراجعون المادة (لغوية كانت أم موسوعية).
- ويعقب ذلك أو يوازيه زيادة عدد اللجان المجمعية التي يوكل إليها إقرار الصيغة النهائية للمادة.(/6)
- أن يعهد بطبعه ونشره إلى دار نشر كبيرة ملتزمة بمدة محددة لإخراجه وما أظن المجمع يشكو من قلة الاعتمادات المالية لتحقيق مثل هذه الخطة.
وفي نهاية حديثي هذا أقول (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) 0
سادتي الأجلاء..
شاء الله عز وجل أن أشغل مكان أستاذي اللغوي الكبير الدكتور عبد السميع محمد أحمد فصادف في نفسي رضًا؛ إذ يتيح لي ذلك أن أفيه بعض حقه.
ولد الدكتور عبد السميع محمد أحمد في السادس من نوفمبر من سنة خمس عشرة وتسعمئة وألف، التحق بكلية دار العلوم وتخرج فيها عام أربعين وتسعمئة وألف. ثم اشتغل فترة ببعض المدارس الابتدائية والثانوية0 وفي أثناء ذلك التحق بكلية الآداب ونال منها درجة الدكتوراه في اللغات السامية القديمة (اللغة الحبشية - الجِعِزِّيَّة) عام اثنين وستين وتسعمئة وألف.
عين الدكتور عبد السميع مدرسًا بكلية الألسن عام سبعة وستين وتسعمئة وألف، ومضى في سلك التدريس إلى غايته.
ولكن دور عالمنا الجليل لم يقف عند هذا الدور، بل كان له دور رائد في بناء كلية الألسن مؤسسة جامعية أكاديمية لها وزنها العالي بجامعة عين شمس. عين وكيلاً لها أولاً ثم اختير عميدًا لها عام تسعة وستين وظل في عمادتها إلى عام واحد وثمانين وتسعمئة وألف. ليعمل أستاذًا متفرغًا بها منذ هذا التاريخ.
كان عطاء عالمنا الجليل بكلية الألسن عطاء موفورًا، فقد أتاح لدارسيها أن يلتحقوا بالدراسات العليا بالكليات الجامعية للحصول على درجة الماجستير والدكتوراه. وتابع نجاحه في إرساء دعائم هذه الكلية فأنشأ لها مبنى جديدًا في رحاب جامعة عين شمس، وهكذا اكتمل بناء هذه الكلية العلمي والمعماري شامخًا.
وفي هذا الدور يقول الدكتور محمد عوني: وهو عندي ثالث اثنين عملاً من أجل الألسن، فالشيخ رفاعة مُنشئها والدكتور مراد كامل مُحييها والدكتور عبد السميع مُطورها".(/7)
وتوالى عطاؤه وافرًا متدفقًا فأقام ندوة عالمية كبرى عن رفاعة الطهطاوي مؤسس المدرسة، ونجح كذلك في نشر الأبحاث التي ألقيت فيها. ووفقه الله – في فترة عمادته المباركة – في إصدار خمسة أعداد من (صحيفة الألسن).
ولعالمنا الجليل بحوث علمية عديدة منها:
- قوانين الملوك (الجِعِزِّية) وهو بحث من وثيقة كَنَسِية مكتوبة باللغة الحبشية القديمة المعروفة بالجِعِزِّية، أصلها الذي ترجمت عنه هو (المجموع الصفوي) الذي وضعه في القاهرة (الصَّفَويّ) أبو الفضل العسال، وهو أحد الكتاب البارزين في الدولة الأيوبية بمصر في القرن السابع الهجري. وهذا المجموع هو خلاصة ما توصل إليه المشرع المسيحي موصولا بمنابعه الأولى من الكتاب المقدس، والقوانين الرسولية، وقرارات الآباء في المجامع وآرائهم المثبوتة في تعاليمهم ومؤلفاتهم، وما أمكن استمداده من التشريعات المحلية ذات الأصول المرعية، أو تسرب إليه من تقاليد وعادات وأعراف أهل البلاد.
درس الدكتور عبد السميع هذا كله مقارنًا الترجمة بالأصل مثبتًا المصادر التي أخذ منها الصفوي مجموعه، وقد خصص فصلاً كبيرًا عن المصادر الإسلامية التي استقى منها مسائل عديدة وبخاصة في أبواب القرض والرهن والضمان والكفالة.. وغيرها من أبواب المبايعات.
- الهبة في القانون الإثيوبي.
- الوديعة في القانون الإثيوبي.
- دليل مدرسة الألسن.
- دليل كلية الألسن.
* وفي كلا الدليلين بحث مدعوم بالوثائق.
- بحث مدعوم بالوثائق عن (تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها).
وله بحوث أخرى لم تنشر مطبوعة: عن السيرة النبوية لابن هشام، وتاريخ الأمم والملوك لابن جرير الطبري، والكامل في التاريخ لابن الأثير ، وكتاب الروضتين في تاريخ الدولتين لأبي شامة القدسي، وتاريخ العلماء والرواة لابن الفرضي.
أما مؤلفة الكبير عن (المعاجم العربية) فقد كان بحق – كما وصفه – دراسة تحليلية للمعجم العربي قديمًا(/8)
وحديثًا، وهو من أصول هذا العلم، ولا يستغني عنه طالب أو باحث، وكان – رحمه الله – بعد أن أنجزه ينوي أن يَتْبَعَهُ جزء ثان عن معاجم المعاني أو الموضوعات، ولكن مشاغله الإدارية حالت دون إنجازه.
وقد قدرت الدولة ما اضطلع به من أعمال جليلة فمنح وسام الجمهورية من الطبقة الثانية في السابع من ديسمبر عام اثنين وثمانين وتسعمئة وألف، وتقديرًا لدوره البارز في الإشراف على تدريس اللغة الصينية بكلية الألسن منحه معهد (كمين) بالصين الشعبية الأستاذية الفخرية عام اثنين وتسعين وتسعمئة وألف.
رحم الله شيخنا الجليل وجزاه عنا وعن العلم خير الجزاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،(/9)
تنشئة الطفل في اللغة:
مبدأ سيادة ملكة الفصحى
للأستاذ الدكتور صادق عبد الله أبو سليمان
موجز بحث:
... ... ينطلق هذا البحث من فكرة أن تنشئة الطفل التنشئة اللغوية السليمة سيسهم الإسهام الفعّال في حل المشكلة اللغوية، وخلق الجيل القادر على اتخاذ الفصحى أداة طيعة: يقيمها لسانه وينقشها قلمه.
... ... وقد بدأ البحث ببيان أهمية اللغة لبني البشر، وذكّر في مجال تنشئة الطفل العربي اللغوية بالمنهج العربي الجاهلي في هذا المجال، وأشار إلى حاجة المكتبة العربية إلى مباحث
وأعمال متخصصة في ميدان دراسة لغة الطفل، وأن التراث العربي بما فيه من دراسات لغوية جادة، كان الطفل
مبعثها – قد انحرف ليُعنى بلغة الكبار فوضع قواعدها صوتًا وصرفًا ونحوًا، وحفظ متنها وفسّر معانيها معجمًا ودلالة؛ لذا فقد طالب الدارسين بتقديم دراسات في لغة الطفل، وتحدث عن متطلبات تأسيس الطفل لغويًّا، ومعوقاته وطرائق التغلب عليها، كما فصّل القول في تعليم الطفل اللغة الثانية وأثره على لغته الأم.
أهمية اللغة للإنسان (مدخل):(251/1)
... ... اللغة – أية لغة – علامات يُهتدى بها، فهي هبة الله للبشر، وأعز نعمة منحها لهم، فقد ميزهم بها عن غيرهم من دواب الأرض، قال تعالى: ? صدق الله العظيم ? تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ?? مقدمة ? - ?- رضي الله عنه - - - - عليه السلام -? ? - ? - - رضي الله عنهم - - ? المحتويات ?- عليه السلام - قرآن كريم ?- رضي الله عنهم - - - - - - - ??? - - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - ? فهرس - ? - ? - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ? تمهيد ? - - - جل جلاله -? - ? - - صلى الله عليه وسلم - - ? - ? - ? الله أكبر ?- عليه السلام - قرآن كريم ? - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - } تمت ? { - ?? - رضي الله عنهم - - ? - ? - - - تمهيد ?- رضي الله عنه - - - عز وجل -- رضي الله عنهم - - رضي الله عنه -??? - ? - ?- رضي الله عنهم -?? - ? - - ???? (1).
... ... إن اللغة رابطة من أهم الروابط الاجتماعية، تصل الفرد بغيره تفاهمًا إنسانيًّا، ووسيلة عظيمة تعينه على تحقيق احتياجاته، فهي – منطوقة مسموعة أو منقوشة مكتوبة – رموزٌ بيانيةٌ توصيليةٌ رائعةٌ تفوق غيرها من وسائل البيان، وهي مرتبطة بالعقل الإنساني يمدها بعناصر الحياة والتمايز؛ لأنها أداتُه المؤتمرة بأمره، المعبرة عن طاقاته، وإن الإنسان لا يستطيع أن يعبر عما يدور في خلَده من فكرٍ أو مضمونٍ ما لم يجد اللغةَ الدالّة عليه ، وكذلك لا يستطيع إنتاج اللغة – وسيلته التعبيرية – ما لم يكن هناك فكر أو
مضمون في ذهنه يحتاج إلى إبانة، فإذا كان الفكر هو مصدر اللغة فإن اللغة هي وعاء الفكر ووسيلته الأولى إلى الظهور والذيوع، وتحقيق أهدافه التي صدَر لأجلها، وعلى هذا فإن العلاقة بينهما تعادلية ارتباطية، وجود أحدهما يستدعي وجود الآخر.(251/2)
... ... ولما كانت اللغة على هذا النحو من الأهمية: وسيلةً إنسانيةً أُولى في التعبير والتوصيل عن الفكر أو المضمون، فقد وجدنا شعوب الأرض كافة تعنى باللغة، وتسعى إلى فهم طبيعتها والحفاظ على خصائصها، فتتخذ الوسائل الواقية لحمايتها؛ لأنها تمثل الهوية المميزة التي ينبغي للخلَف أن يرثها عن سلفه، أيًّا كانت الأحوال!.
وإذا كان الأمر كذلك فليس غريبًا أن أقول: إن التمسك باللغة يشكل فطرة إنسانية لا ترتبط بلون أو جنس، ولا بجهالة أو عِلْم، فهو من الخصائص التي لا تمايز فيها بين بني البشر في مختلِف مواطنهم؛ وقد تحادثت وبعضًا
من الهنود الحمر في أمريكا عن توقعي لانقراض لغتهم وبالتالي ذوبانهم في يومٍ ما، مبررًا ذلك بقلة عددهم، وضعف إمكاناتهم، واختلاطهم بالكثرة من حولهم: تَمْلك العلم والسيطرة، ورغم إحساسي باقتناع مَنْ حدثتُ بما سمع؛ لأنه يحياه واقعًا عبر عنه زعيمهم – في "ياكما" – لسانًا ممتعضًا من بني جلدته: يهجرون الموطن الأصل بحثًا عن الدعة والحضارة، - كان رده الذي حمل في طياته التصميم على الحفاظ على هويته اللسانية، أيًّا كانت الظروف، ولو أدت إلى نشرها لغة ثانية، إنها تجربة – كما حدَّثَ مازحًا – خاضها اختبارًا في الجامعة، حيث اختارها اللغة الثانية يُمتحن فيها بعد لغة الكثرة الغالبة الأولى!.
... ... والعرب أمةٌ ضاربةٌ جذورُها في القدامة، وعنايتهم بلغتهم، واعتزازهم بها، وبمن ملَك قصَبَ السبق فيها فطرةٌ متأصلةٌ معروفةٌ دلالتها فيهم؛ فقد
وجدناهم بحثًا عن نقاء اللغة وفصاحتها يُرسلون أطفالهم ليرضعوا الفصاحة العربية من أثداء البدويات في عُمق الفيافي، ووجدناهم يقيمون الأعراس والولائم للنابغين فيها بلاغة شعريةً أو خطابية.(251/3)
... وقد تحدى الإسلام هذا التمايز الفطري فيهم، وطلب منهم محاكاة قرآنه بل الإتيان ولو بسورة مثله؛ بذًّا لهم، وتنويهًا بمعجزته، ولو كان الإنس والجن بعضهم لبعض ظهيرًا، قال تعالى : - ? - ???? { - ? تمهيد - رضي الله عنهم -?- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - ? - - - ? { الله أكبر تمهيد { - - - صدق الله العظيم ? - ? - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنه -? تمت - صلى الله عليه وسلم - - } - قرآن كريم ? - ? - - رضي الله عنه - - ? - ? - ? - ? - - - - ?- رضي الله عنهم - - ? تمت - - عليه السلام -?? - ? { ? - - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ? - ? - - رضي الله عنه - - ?? - ? - ? الله ? - ? - ? قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - - ? المحتويات ? - ????- رضي الله عنه - - - ???- رضي الله عنه - - ? - - - - - ? - - ? ???? (1)، وقال عز من قائل تمت ? { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? المحتويات ? - - ? - - ?? - - ? - - عليه السلام - - - - - ? } تم بحمد الله - - عليه السلام - - ? - } - - رضي الله عنه - الله أكبر - - فهرس - - رضي الله عنه -? - - رضي الله عنه - الله أكبر ? - ? - - رضي الله عنه -? } - قرآن كريم ? - ? - - ? - - - عليه السلام - - قرآن كريم ? - ? - صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله ?? - ? - ? - ? } تم بحمد الله } - قرآن كريم ??? - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ? - - عليه السلام -? - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنهم - - ? { صدق الله العظيم ? } تم بحمد الله ? تمت - صلى الله عليه وسلم -? - ? - - - - ? { ? المحتويات ? - - ? - - رضي الله عنه -??? - ? - ? - ? ????"(2).
... ...(251/4)
وكثيرةٌ هي المواقف التي كَشَفَتْ عن اعتزاز العربي بلغته، وإدراكه لِما لها من أثر فعّال في النفوس إنْ سلمًا
وإنْ حربًا، فعلى مر عصور العرب وجدنا الأديب العربي لسانَ حال قومه ورسولهم المسجل لفضائلهم، المذيعَ لأخبارهم، المتغني بمفاخرهم، ففي الجاهلية مثلاً وجدنا هند بنت عتبة زوج أبي سفيان تقف والنساء خلف الرجال في المعارك يضربن بالدفوف، ويحرِّضْنَهم، فقالت هند فيما تقول الرواية:
ويهًا بني عبدِ الدار ... ويهًا حماةَ الديار
ضربًا بكل بَتّار
وقالت أيضًا:
إن تُقبلوا نُعانق ونفرشُ النمارق
أو تدبروا نفارق فراقَ غيرِ وامِقْ"(1)
... ... ومن بعدُ قرأنا القائد العربي الفذ صلاح الدين الأيوبي يخاطب جنده، مبينًا لهم أثر الكلمة في انتصاراته على الأعداء، قال: " لا تظنوا أني ملكتُ
البلاد بسيوفكم بل بقلم الفاضل". وبلغ
من تقديره له، واعتماده عليه أنْ جعله
له وزيرًا لا يستغني عنه، ولا يفارقه في سلمٍ أو في حرب"(2).
... ... وما خبر إدراك تأثير الكلمة في عصرنا إلا واضح جلي فيما نشهده في الحرب الإعلامية بين الدول، والدعايات التجارية ترويجًا لبضاعةٍ ما، وانظر موقف طائفة من البرلمانيين الإسرائيليين إزاء إدخال بعض قصائد الشاعر العربي الفلسطيني محمود درويش في المقررات الدراسية الإسرائيلية.
... إن اللغة وسيلة مهمة للأمة في سلمها وحربها، وهي عنصر مهم في إحداث التآلف وتقوية الروابط بين المتحدثين بها، فمتى اجتمعت جماعةٌ على لغة واحدة فقد ضمِنَتْ لنفسها أهم عناصر التقارب والتآلف والترابط في كثير من الأمور؛ الأمر الذي تنبهت له الدول المستعمرة سلْبًا؛ فقد وجدناها في كثير من البلدان التي(251/5)
افترستها تعمل على محو لغة أهلها، وإحلال لغتها محلها بوسائل الإغراء المختلفة؛ لأنها تدرك أن هدم اللغة يشكل تفتيتًا لأهم عناصر قوتهم، وتقويضًا لأهم مقوماتهم في التوحد والبقاء المتمايز واستمراريته، حيث ربْط الماضي بالحاضر، واستشراف المستقبل على أساسٍ منه؛ لذا فقد وجدنا الشعوبَ المغلوبةَ ينبه قادتها ومفكروها ومثقفوها وأدباؤها على ضرورة محاربة هذه المآرب الاستعمارية الهدامة، وينصون بالوسائل الإعلامية المتاحة لهم على أن التمسك لغة البلاد الأصلية والمحافظة عليها من أهم عناصر بناء الذات المتميزة وتوطيد استقلالها.
ومثالٌ صادقٌ على هذه المسألة من بين كثير من الأمثلة الصادقة في وطننا العربي ترسيخًا لدعائم الفصحى، ما أنشده الشاعر العربي الفلسطيني إبراهيم طوقان (1905 –
1941م) لسانًا وطنيًّا صادقًا
في رثاءجبر ضومط(1): (بحر
الطويل)
إذا لغةٌ عزَّتْ، ولَوْ ضيمَ أهلُها
فقد أوشكَ استقلالُهُمْ أَنْ يُوَطَّدا
وقد وجدنا هذا الشاعرَ يُسَخِّرُ قلمه الطيِّع ولسانه الذّرِب لمحاربة دعاة العامية، ويُصر على تقديم برامجه في الإذاعة الفلسطينية باللغة العربية الفصحى المأنوسة، مقدمًا الدليل على حيوية لغتنا العربية، وأنها صالحة لكي تكون لسانَ منابرِ تثقيفِ الشعوب العربية الإسلامية(2).
... ومثال آخر حققه الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود (1913-1948م)، فقد قرأناه يربط قوة الشعب بسلامة الوطن واللسان معًا، فيقول:
والشعبُ إنْ سَلِمَتْ لَهُ أَوطانه
وَلِسانُهُ لمْ يخشَ قطْعَ الهامِ
وَيُحَذِّرُ من خطر الاستعمار اللغوي:
لا تأمنوا المستعمرينَ، فكمْ لهم
حَرْبٌ تَقَنَّعَ وجهُها بِسلامِ
حرْبٌ على لغةِ البِلاد وأهلِها
لَيْسَتْ تُشَنُّ بمدفعٍ وحُسامِ
ولم يكن هذا التحذير إلا بيانَ
شاعرٍ يعرف ما للكلمة البليغة في أبناء(251/6)
جلدته من تأثير فعّال؛ لذا فإنه ينبه على أن أي اتجاه للبناء واستعادة الأمجاد ينبغي أن يتجه أولاً إلى لغتهم يجتمعون بها:
لنْ يستعيدَ العُرْبُ سالِفَ مجدِهِم
ولسِانُهُمْ غَرَضٌ لِرَمْي سِهام
إِنْ يَرْفعوا ما انْقَضَّ مِنْ بُنْيانهم
فالضادُ أولُ حائِطٍ ودعامِ(*)
وليس أدل على أهمية اللغة – أية لغة – من عناية العلماء في مختلف تخصصاتهم الإنسانية والعلمية بها، فكلٌّ منهم يُعنى بالخطاب اللغوي الذي يصوغ به مضمون علمه، ويهمنا في هذا المقام أن نشير إلى علماء التربية ورأيهم في ضرورة العناية باللغة، وأن العناية بها- كما يقولون – لا ينبغي أن تكون مهمة درس اللغة وحده، فكل المقرراتفي رأيهم ينبغي أن تكون مجالاً
خصبًا لتطبيق اللغة والتمرين على استعمالها، فاللغة محاكاة ومطلبها الاستعمال.
وفيما نرى فإن النجاح في تحقيق سلامة اللغة محاكاةً واستعمالاً لا يمكن أنْ يتحقق إلا إذا تم التناسق بين المُنْتِجِ والمستقبِل، فعلى المنتج أن يبحث عن اللغة التي يستطيع من خلالها أن يصل إلى مستقبلِه: وهي اللغة التي ينبغي لها أن تتوافق ومستواه التحصيلي، دون إخلال بالسلامة اللغوية أو هَدْرٍ لمحتوى المضمون أوخصائصه، وعلى المستقبِل أن يصون رسالةَ المنتج؛ فإذا ما أدّى دوره حاكاه بأمانة واقتدار، فاللغة تُحْييها الحياة، ولا تحيا إلا في الحياة، فلا لغة بدون حياة، وحياة الحياة لغة، وحياة اللغة حياة، وكلٌّ يؤدي دوره في الآخر.
لماذا العناية بلغة الطفل؟:
(1)
ينبغي أن تكون إجابتنا عن هذا السؤال دافعًا مهمًّا لدارسي اللغات
بعامة لتخصيص جزءٍ من جهودهم لدراسة لغة الطفل، فإذا كانت لغة المجتمع أمرًا جديرًا بالعناية، فإن الاهتمام بلغة الطفل(1) واختصاصها بالعناية درسًا، والرعاية تطبيقًا من الأمور الأوجب؛ ولعل أهم ما يدفع على تَعَهُّد هذا المجال الحيوي بالعناية – من وجهة نظري – ثلاثة أسباب رئيسية:(251/7)
1-افتقار المكتبة العربية إلى دراسات في لغة الطفل:
وهو سببٌ عامٌّ يتطلب جهود المفكرين والعلماء في المجتمع العربي، وذلك بالعمل على مد المكتبة العربية وإثرائها بدراسات ومؤلفات في مجالات لغة الطفل؛ فالمكتبة اللغوية العربية ماتزال تفتقر إلى مباحث
وأعمال متخصصة، تتحدث عن خصائص لغة الطفل ومتنها، وكيفية
تنميتها ووسائل تحصيلها، فأكثر ما
كُتب في هذا المجال لا يتخطى حدود علماء التربية وعلماء النفس، أما جهود اللغويين العرب في التعرف على لغة الطفل العربي فنادرة، انحصرت في بعض المحدثين الذين تأثروا بعلماء النفس والتربية؛ وإذا كان إسهام العربي القديم في هذا المجال الخصب يكاد يكون معدومًا فإن ما نستغربه في هذا المقام هو أن التفكير في وضع النحو العربي كان مرجعه – فيما ترويه بعض الروايات التي ذُكرت في توضيح أسباب وضعه – إلى خطأ ابنة أبي الأسود الدؤلي (ت. 69هـ) أو غيرها ممن في سِنِّها أو مثله في تشكيلِ جملةٍ
تفوهت بها في حضرته، تقول الرواية: "إن ابنة أبي الأسود الدؤلي قالت له: يا أبتِ ما أشدُّ الحرِّ؟، في يوم شديد الحر، فقال لها: إذا كانت الصقعاء من فوقك، والرمضاءُ(2) من تحتك، فقالت: إنما أردت أن الحرّ شديد، فقال لها:
فقولي إذن ما أشدَّ الحرَّ!"(1)، وفي رواية أخرى إنها قالت له: " ما أحسنُ السماءِ؟ قال: أىْ بُنية، نجومُها، فقالت:إني لم أُرِدْ أي شيء منها أحسن؟ وإنما تعجبت من حسنها؛ فقال: إذن فقولي: ما أحسنَ السماءَ!"(2).
ومما يؤيد رأينا في أن انحراف لغة الطفل عن نظام العربية المألوف لفت أنظار أسلافنا فتحسسوا وسائل العلاج، ما جاء عن زياد ابن أبيه حين سأل أبا الأسود الدؤلي أن يصنع شيئًا يقي أولاده من اللحن، قال:" إنَّ بَنِيَّ يلحنون في القرآن، فلو رسمتَ لهم رسمًا"(3). وقال: "إن الظئرَ(4) والحشم قد أفسدوا ألسنتهم، فلو وضعت لهم كلامًا"(5).(251/8)
وأيًّا يكن الأمر في صحة خبر هذه الرواية أو عدمه، أو كونها سببًا من أسباب نشأة نحونا العربي، فإن في
استنطاقها ماله دلالاتٌ رامزةٌ تصب في خدمة ما نصبو إليه؛ فهذه الرواية تبين أن عالم النحو العربي الأول قد فكر في استعصام لغة ابنته بل لغة النشء من الخطأ، فاهتدى إلى وضع علم النحو، وكيف أن العناية بلغة النشء وتهيئة المناخ الصالح لاكتسابهِ اللغةَ سليمة نقية ينبغي أن تكون من أولى أولويات المجتمع.
وإذا كان نحاة العربية ولغويوها القدماء قد انحرفوا عن العناية بلغة الطفل إلى النموذج في لغة الكبار، فوضعوا له القاعدةَ وكِتابَها، وجمعوا
ثروتَهُ، ووضعوا لها معجمها، فإن من أوجب واجبات نحاة
العربية ولغوييها وعلمائها وأدبائها المعاصرين تصحيحَ المسار، وتقديمَ ما يحتاجه طفلنا العربي من اللغة: نطقًا ومعجمًا، إذاعةً وكتابًا، أنشودةً وروايةً وهلمَّ جرًّا.
إن مطلب هذه الدراسة اللغوية يتلخص في توجيه نظر الدارسين العرب ولا سيما علماء اللغة منهم إلى ضرورة أن يعتنوا بلغة الطفل العربي؛ فيقدموا فيها الدراسات المتخصصة التي تبحث فيها؛ وتبين خصائصها، واحتياجات الطفل منها، وكيفية تكوين قاموسه اللغوي وإثرائه بما يتناسب ومراحل نموه وقدراته الفكرية، والمشكلات التي تواجهه في التحصيل، وكيفية مساعدته في التغلب عليها؛ وذلك وفق أسس علمية تقوم على التسلسل المنهجي المنتظم.
2- خصائص فسيولوجية في الطفل:
ونحن في هذا المقام سنقف عند خاصتين رئيستين تتوقد بهما الفطرة الإنسانية في مرحلة الطفولة خاصة، ونرى أن لهما تأثيرًا مباشرًا قويًّا في تحصيل الطفل اللغوي وتنميته وهما:
أ- الاكتساب:(251/9)
... إذا كانت اللغة فطرة بشرية فهذا لا يعني أن الطفل يولد وهو يتحدث لغة أبويه، وإنما يكتسب فطرته اللغوية من الوسط الذي يحيا فيه، وهو أسرته وبيئته، فهذا الوسط، أو – إن شئت فقل:- هذا المجتمع هو الذي يورثه لغته اكتسابًا تحصيليًّا بالسماع والمحاكاة؛ فالوراثة اللغوية ليست غرزية عِرقية تنتقل للطفل من الأب والأم، وإنما هي الوراثة التحصيلية، أو هي الوراثة المجتمعية الجَمْعية التي يورثها المجتمع لكلِّ مَنْ يعيش فيه، دون أدنى علاقةٍ بوراثةِ عِرقية؛ لأن الطفل إذا ما وُضع منذ ولاته في بلدٍ يتكلم أهله لغةً غير ما يتكلم أبواه فإنه سيرث عنهم فقط ما سمعته أذناه، وحاكاه لسانه؛ فلا مخلَّفاتٍ لغويةً وراثيةً لديه، كأنه الصحيفةُ البيضاءُ تحتاج إلى مَنْ يُحْسِنُ النقش فيها، وعليه فإن الوعي بهذا السلوك الفطري في اكتساب اللغة أمرٌ له أهميته في توجيه الطفل الوجهة اللغوية السليمة التي نرغبها له.
... ... هذا وإذا كان اكتساب اللغة ظاهرة إنسانية عامة فإنه عند الطفل الخاصة الفطرية الأولى؛ فهو – كما قلنا – يستقبل الحياة صحيفة نقية بيضاء، لا مخزون منها لديه ولا تجارب، بعثه الله فيها وقد زوده بقدرة عقلية متوقدة، تتفتح فيه يومًا تلو يوم، ولديها الإمكانات الواسعة على الاكتساب والتخزين والإنتاج، ومدّه باحتياجاته وقت الحاجة تَرْدادًا لمخزونٍ أو إبداعًا فيه.
... ... وقد تحسس المثل الشعبي هذه القدرة على الاستقبال والتخزين فوجدناه ينص على أن " العِلْمَ في الصغر
كالنقش في الحجر"، وهو أمرٌ نتحسسه في حياتنا اليومية، فقد نجد الواحد منا
يذكر أشياءَ وعتها حافظته يرجع عهدها إلى بداية طفولته، ولا يتذكر أشياء أخرى فعلها بالأمس القريب.
ب- التقليد:(251/10)
... ... إن التقليد فطرة في الطفل(*)، وفي مجال اللغة نراه بما يمتلك من أجهزة عضوية مرنة مطواعًا سريع الاستجابة للتشكل، لا يجد صعوبة كالكبير في التخلي عن عادة تجذَّرت فيه، فَلَمّا يعتدْ على شيء، وهو حين ينتقل هو وأسرته إلى بلد جديد يتحدث أهله لغةً أو لهجةً مختلفة، تجد لسانه ينتقل إليها أسرع من غيره؛ فالكبير بفعل عاداته الصوتية التي مَلَكَتْ لسانَه يصعب عليه الانتقال إلى عادات صوتية غير مألوفة
لديه(1)، وأيّاً كانت براعته في إجادة نظامها اللغوي فلن يصل في نطقه أو تقليده رتبة الإجادة التي يصلها الصغار فيه.
... ... إن الطفل بخصائصه الفسيولوجية ومرونة جهازه النطقي ومطاوعته قادر بسهولة على إجادة مهارة التقليد اللغوي التي يتجه إليها الطفل بدافع ميله الفطري، وإن الطفل في تقليده لمسموعه لا يقلد كالببغاء تُردد" ما تَسمعه من أصوات، بل
يرددها فاهمًا معناها فهمًا كاملاً أو
ناقصًا من سياق الحديث وملابسات
الأحوال، وبعد أن يتم له حفظها وتستقر في متن لغته يلفظها وحده كلما أراد التعبير عما تدل عليه"(2)؛ الأمر الذي يدلل على أن التقليد اللغوي عنده ليس" عملية آلية مجردة عن القصدِ والإرادةِ وعملِ الفكر" كما ذهب بعض الدراسين(3).
... ... إن عملية التقليد اللغوي التي يقوم بها الطفل عملية فطرية إرادية لا
تقتصر على ترداد الأصوات وكلماتها، ولكنها تشمل نظام اللغة كله صوتًا وصرفًا ونحوًا ومعنًى، يقوم الطفل بمحاكاته عند الحاجة بعد سماعه وتخزين ما يفهمه منه في دماغه: مخزن اللغة وطاقتها القياسية الإبداعية؛
لذا فإن " كل ارتقاء في تفكير الطفل
ودرجة فهمه يتبعه ارتقاءٌ في تقليده، ونموٌّ في محصوله اللغوي"(*)، وقدرةٌ على إبداع الجديد في اللغة، يضعه بوحيٍ من مخزونه؛ ليعبِّرَ به عن الجديدِ في العلم أو الفكر أو الحضارة وهلمَّ جرًّا.(251/11)
وعلى هذا فإن التقليد اللغوي بجانبيه الفسيولوجي المادي صوتًا وصرفًا ونحوًا، والدلالي وما يرتبط به من عوامل اجتماعية ونفسية وسياقية يشكل مصدرًا مهمًّا في اكتساب الطفل للغته، بل في اكتساب الإنسان لها بصفة عامة، وهو مصدر له وجهان: الأول تكراري محض، والآخر إبداعي قياسي.
3- التأسيس خير من التصحيح:
إذا كان ما يتمتع به الطفل من خصائص فسيولوجية يجعل الاهتمام بتنشئته اللغوية ضروريًّا، فإن هناك مبررًا منطقيًّا آخر يدفعنا إلى
الإلحاح على ضرورة العناية بتربية الطفل اللغوية؛ فالطفل وهو يبدأ الحياة يحتاج إلى المربي أو الصائغ المُفْتَنّ يشكله التشكيل السليم المبني على أسس سليمة؛ فأن تنشئ بنيانًا على قواعد متينة خيرٌ لك ألف مرة من إقامة مثله على قواعد هشة ثم تحاول إصلاحها بتقويتها أو رفدها بأخرى؛ وعليه فإن الاتجاه نحو تربية الطفل التربية اللغوية السليمة خير من معالجة نتائج التربية اللغوية الخاطئة.
إن إعداد الأجيال المرتكزة في تربيتها على أسس سليمة ينبغي أن يكون أول طرقنا لحل المشكلات اللغوية التي يعاني منها الكبار في المجالات المختلفة، وإن سلوك هذا الطريق الموثوقة نتائجه – بمشيئة الله– لا يحتاج منا ما يحتاجه علاج نتائج التربية غير السليمة من الجهد والتكاليف، فالكبير الذي درج على خطأٍ لغويًّا كان أم غيره يحتاج إلى ضعفين مما يحتاجه الطفل في التنشئة: فهو يحتاج إلى تعريفه و إقناعه بخطئه أولاً ثم يأتي دور التصحيح، وهو أمرٌ قد تكون نتيجته النجاح أو الفشل.
متطلبات تأسيس الطفل لغويًّا
(2)
... ... إذا كان الإنسان ابن بيئته فإن السعي إلى تأسيس الطفل في اللغة يتطلب توفير الجو اللغوي النقي، أو إن شئت فقل: بيئة النماء المعقمة لغويًّا تأخذ بيد الوليد رويدًا رويدًا؛ لتصل به إلى بر الأمان اللغوي فيعيش حياته محصَّنًا بما هُيِّئ له.(251/12)
... ... إن تهيئة البيئة اللغوية السليمة أفضل الوسائل لإكساب الناشئة اللغة الصحيحة، والدافعة لهم إلى التحدث بها في مجالات الحياة المختلفة؛ الأمر الذى يمكن لهم فيها ويكسبهم سليقتها دون تلعثم أو غلط؛ فاللغة هي أصوات: والأصوات ترددها الألسنة وتسمعها الآذان، فإذا نطقتها سليمة كانت إعادة إنتاجها تغذية راجعة – في الأغلب – سليمة.
وإن لنا في المنهج العربي القديم منهجًا سليمًا نتبعه في تربية الطفل اللغوية، وذلك بوضعه في بيئة اللغة السليمة: يعيش مع الفصحاء وذوي المنطق السليم فيصلب عوده في اللغة مستقيمًا فصيحًا، وتترسخ فيه ملكتها – فلا يظنَّ ظانٌّ أننا ندعو إلى تجديد عهد إرسال الوِلْدان إلى أمهاتٍ أعرابياتٍ يسكنَّ في البوادي لإرضاعهم فصاحة اللغة؛ فهذا أمرٌ مضى عهده، ولا سبيل إلى الرجوع إليه.
... إن عنايتنا بالمنهج العربي وتطبيقه في هذا المقام لهو أمرٌ نعتمد عليه في الإقناع بالأثر البليغ لخلق المناخ اللغوي السليم الذي يسمع فيه الطفل منذ نعومة أظفاره اللغة سليمة معافاة؛ الأمر الذي يعزز اللُّغةِ الفصيحة على ألسنتهم، ويجعل مواقعها فيها سليمةً ميسورة، وهو مناخ يقوم على تآلف شقين متكاملين يعتمدان السماع وسيلة أولى فعّالة في اكتساب اللغة، وامتلاكها أداة تعبيرية طيِّعة، وهما:
الأول – شق عَمَلي:
... ... وهو يبدأ بحياة الطفل، ويعمل فيه مع بدء عمل خليقته اللغوية، ويستمر معه في أطوار حياته، وتقوم عناصره على الأمور التالية:
أولاً – الأسرة:
... إن لنا في انتشار التعليم في أرجاء العالم العربي ووجود الأسر المتعلمة الكثيرة فيه تشجيعًا على التعويل على دور الأسرة في صناعة اللغة السليمة في الأطفال أجيال المستقبل؛ فهي مجتمع الطفل الأول: تستقبله وليدًا فترعاه بفطرة الحب والحنان نافخة فيه خصائصها ودينها وتراثها وعاداتها، وتكون اللغة وسيلتها الفعّالة الأولى في توصيلها وتواصلها معه.(251/13)
... ... إن فطرة اكتساب اللغة الفصيحة ينبغي أن يكون مبدؤها البيت؛ فهو المؤهل الأول لارتياد هذا الباب، وذلك بما يملكه من علاقة التواصل الحميمة بأبنائه، وإمكانات التأثير والتوجيه والمراقبة، فهو الذي يجلب لهم أجهزة المذياع والتسجيل المرئي والمسموع، ويزرع فيهم حب المسجد وتلاوة القرآن وحفظه، ويوجههم إلى القراءة في البيت
والمكتبات العامة، ويذكي فيهم حب
اللغة والتنافس في الإلقاء والتعبير الحر عن أنفسهم بها، فيسمع في جلسة سمر خطبة من أحدهم، وقصيدة شعر من آخر، أو قصة طريفة...إلخ.
... ... وسيبقى كلامنا نظريًّا لا فائدة منه ما لم نجد الطرق التي يمكن من خلالها تفعيل دور الأسرة الخلاق في مجال بناء الطفل اللغوي، وإن توعية الأسرة بأهمية دورها في رعاية أبنائها لغويًّا، وضرورة تعويدهم على ترسيخ استعمال الفصحى السليمة في تعاملهم تأتي في مقدمتها؛ لذا فإن العناية بلغة الطفل تستوجب الاهتمام بلغة الأبوين لكونهما المثال الحي أو القدوة التي يقتديها الأبناء، وقد أشار ابن فارس أحد علماء العربية الأوائل إلى حقيقة دورهما في التنشئة اللغوية، فقال:" تؤخذ اللغة اعتيادًا كالصبي العربي يسمع أبويه وغيرهما، فهو يأخذ اللغة عنهم على مرّ الأوقات"(1).
... وننبه في هذا المقام على أهمية دور الأم في سلوك الطفل اللغوي؛ لارتباطه بها أكثر من غيرها في أفراد الأسرة والمحيطين به، لوجوده - في الأغلب – معها في البيت في أكثر وقته، وقد أوضحت الدراسات(2) أن حرمان الطفل من أمه أو غيابها عنه يعيق نموه اللغوي(3)، ولعلها العناية الإلهية بالنشء أمرت الأمهات بالبقاء في البيوت" - رضي الله عنه - تمت ? - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ?? - صدق الله العظيم ? - ? - قرآن كريم ? - ? - " (4)،(251/14)
وقد نفخت في النساء فجعلتهن أكثر كلامًا من الرجال(5)؛ لذا فإن على الأمهات أن يتحسسن هذه الخاصة فيهن، فيحرصن على سلامتها فى أبنائهن، ويدركن أنهن إذا كن يرضعن بلبنهن أطفالهن الحياة فإن عليهن أيضًا أن يرضعْنَهُنَّ بحنانهنَّ فصاحة اللغة مناغاةً وكلامًا وغناء.
إن الذي ننص عليه في هذا المقام أن الأسرة نواة المجتمع، وهي
صورته المصغرة تؤثر فيه وتتأثر به؛ لذا فإن صلاح لغتها يعني صلاح لغته، وإن علينا تبصرتها بأهمية دورها في بناء سلوك أطفالها اللغوي
البناء السليم، وقد أكد المحدثون
بتجاربهم ودراساتهم هذا الدور الرائد للأسرة، فأشاروا إلى الآتي(1):
-سرعة نمو لغة الطفل الوحيد في أسرته عن نظيره في الأسرة التي تملك مجموعة من الأفراد، وهي نتيجة تنطبق على الطفل الأول في الأسرة؛ وأن اهتمام الأسرة بأطفالها
بصفة عامة كتشجيعهم على القراءة والتعبير الحر والخطابة يساعد على تفوق مهاراتهم اللغوية؛ الأمر الذي ينتج عنه " النجاح في تحصيل المواد
المختلفة...؛ ذلك لأن اللغة تلعب الدور الأكبر في استقبال الأفكار واستيعابها والتعبير عنها، فالتلميذ المتقدم في مادته اللغوية يفوق أقرانه في سرعة الفهم والتحصيل لما يقرأ، ويقوده هذا في النهاية إلى نجاحٍ محقق في دراسته، بل في الحياة بجملتها"(2).
- اختلاف مستوى أسرة الطفل في مجالات العلم أو الثقافة أو
الحضارة أو الاقتصاد وغيرها يؤثر في نموه اللغويّ وما يمتلكه من ثروة لغوية.
- اضطراب العلاقات في الأسرة يترك أثره السيئ على الطفل بصفة عامة، وفي مجال اللغة قد يكون له أثره السيئ في اضطرابات الكلام عنده، كالتأتأة والتلعثم والمنطق غير الواضح.
... - تأخر النمو اللغوي عند أطفال الملاجئ أو دور الأيتام مقارنة بأقرانهم الذين يعيشون في أسرهم؛ وإن عودة طفل المعاهد إلى أمه وأسرته في أيام الأعياد والإجازات يسهم في تقدم نموه اللغوي.
ثانيًا- أنشطة وأدوات عملية:(251/15)
... ... وتتمثل هذه الأنشطة والأدوات في أوجه كثيرة، يسهم فيها المجتمع
والمؤسسات التعليمية والثقافية والدينية
وغيرها، ويجمع بينها أنها غير
منهجية ليس لها أوقات محددة أو اعتبار في النتائج المدرسية، وتصب
في اعتماد الأبناء على ذواتهم في
التثقيف؛ الأمر الذي يُقوّي حصيلتهم اللغوية والمعرفية، وتتمثل هذه الأنشطة والأدوات في التحصيل والتدريب والإنتاج، وذلك على النحو التالي:
التحصيل: وينقسم إلى قسمين:
التحصيل بالسماع: وعناصر تغذيته هي:
المسجد: حيث تلاوة القرآن الكريم وحفظه، وإلقاء الدروس في الفقه والتفسير، وسماع الخطب الدينية، فهو عنصر مهم في إثراء اللغة وتهذيبها، وتلقيح الذاكرة بتعويدها على الاسترجاع.
الإذاعة والتلفاز: حيث نشرة الأخبار وكثير من البرامج والأعمال التمثيلية الفصيحة.
المهرجانات والندوات الأدبية: حيث يتبارى الأدباء والفصحاء في عرض ذخائرهم اللفظية والأسلوبية.
النشيد والأغاني: إن استغلال موسيقية العربية الفصيحة وأوزان بحورها الوافرة الأنغام في النشيد والأغاني لما يسهم في تنمية ثروة الطفل اللغوية وترسيخ الملكة اللسانية فيه، والتذوق الشعري والموسيقي.
الحكاية والمسرحية: إن أسلوب الحكاية والتمثيلية القائم على الحوار وإثارة الخيال من العناصر المهمة التي يمكن الاستعانة بها في إثراء لغة الطفل وتجاربه.
ب- التحصيل بالقراءة:
... ... لا أحد ينكر أثر القراءة في تنمية قدرات الطفل وزيادة خبراته في اللغة وغيرها، وتغذيته بروح القدرة على الإبداع، وقد أدركت العرب ما للكتاب من قيم فقال شاعرها:
أَعَزُّ مكانٍ في الدُّنا سرجُ سابحٍ
وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ
وقال آخر:
نِعْمَ الأنيسُ إذا خَلَوت كتاب
تلهو به إن مَلَّكَ الأصحابُ
لا مُفْشِيًا سرًّا إذا استَودَعتَه
وتُفادُ منه حكمةٌ وصوابُ(251/16)
... إن علينا أن نداوم على تشجيع أبنائنا على المطالعة الحرة في المكتبة: (مكتبة المنزل – المدرسة – النادي – البلدية... إلخ)، وتوفير الكتاب والمجلة والقصة المناسبة لهم ولبيئتنا العربية، والمواكبة لروح التُقدم العلمي والحضاري في عصرنا.
التدريب والإنتاج:
وإذا كان السماع والقراءة من أدوات اكتساب اللغة فإن التدريب على على استعمال المُكتسَب اللغوي ومعاودة إنتاجه أو غيره نشاط فعال يعزز السلوك اللغوي الفصيح، ويصب في خانة حفظه، وتعويد الذاكرة على استرجاعه عند الحاجة.
... ... وتتجلى أهم مجالات الطفل في التدريب والإنتاج؛ بغية تنمية محصوله اللغوي في:
-المسابقات: وتكون في حفظ القرآن والشعر، وإلقاء الخطب في الموضوعات المختلفة، والكتابة في مجالات الأدب المختلفة، واختبار مدى حصيلة الطفل اللغوية: كسؤاله في الكلمات المترادفة أو المتضادة، أو التي تبدأ بحرفٍ مشتركٍ أو تنتهي به، وهكذا.
- برنامج الإذاعة المدرسية: وهو مفيدٌ في التحصيل والتدريب والإنتاج، وله أثره في تشجيع الطفل لغويًّا وإبداعيًّا ومواجهةً للجمهور.
- مجلة الحائط: يسهم فيها الأطفال بمقالاتٍ يبدعونها، وتخضع لإشراف أستاذ اللغة العربية وغيره.
-مجلة الطفل: وتكون في صنوف المعرفة المختلفة، وحبذا تشجيع التلاميذ الصغار على نشر إنتاجهم الإبداعي فيها.
- إقامة الرحلات: يُحث فيها التلامذة على التعبير الحر والخطابة الارتجالية والتمثيل والإنشاد؛ فتكون بمثابة رحلة لغوية تُطبق فيها مهارات استعمال اللغة العربية الفصحى.
... - عرافة الاحتفالات: ولها أثرها في انطلاق الطفل إلى مخاطبة الجماعات؛ الأمر الذي يُكسبه الجرأة الكلامية والخطابية.
ثالثًا- اهتمام أولي الأمر:(251/17)
... إن ما ندعو إليه بشأن إذاعة الفصحى في الألسن العربية، وتوجيه النظر إلى الطفل العربي بأن نربي لسانه عليها يتطلب دعم أولي الأمر ورعايتهم في الدول العربية كافة، فبيدهم سلطة القرار، ووسائل التنفيذ والتشجيع التي تمهد الطريق لنجاح المشاريع التي يقومون عليها.
إن الحفاظ على اللغة العربية الفصحى: لغة القرآن والعروبة أمانة في أعناق أولي الأمر فينا، وإن على المختصين والمستشارين وذوي الحظوة عندهم واجبَ التذكرة، والحثَّ على توفير السبل الداعمة لعلمائها.
... ... إن جهود علماء العربية في التيسير أو الإصلاح أو نشر الفصحى لن تُؤتي ثمارها المرجوة لها ما لم يقف أولو الأمر في جانبها، ويدفعوا بالطاقات الخلاّقة من أبناء العروبة والإسلام؛ لوضع الخطط اللازمة لإذاعتها، وغرس فعالياتها في تربة معقمة صالحة للاستقبال، ولن تكون التربة كذلك ما لم تكن هناك توعية شاملة وتوجيه منهجي سليم يوطدان في أبناء العروبة حب لغتهم الفصيحة: وسيلة التواصل المُوحِّدَة.
... وليس من شك في أن الشارع العربي – في أغلبه – سيستقبل الفصحى بالترحاب؛ فالعامية العربية ليست بعيدة في كثير من ملامحها وألفاظها عنها، وما فهم الأميين للخطباء والمذيعين، وكذلك طربهم لسماع الفصحى وتذوقهم لشعرها وخطابتها إلا أدلة يمكن الاعتماد عليها.
وأذكر في هذا المقام كيف أن جدي – رحمه الله – وهو الرجل العامي، كان يُغيِّر طريقه حال عودته من المسجد أو السوق بغيةَ سماع صوت حفيده وهو يقرأ أو يُقرئ التلاميذ شعر الفصحى ونثرها، وكيف أن والدي – أمد الله في عمره – وهو الإنسان العامي أيضًا، يطرب طرب والده عندما يسمع أحفاده يقرؤون الشعر أو يخطبون، وتراه يطلب منهم الإعادة.
الآخر – شق عِلْمي:(251/18)
... وهو من مهام المؤسسة العلمية والتربوية، حيث تقديم الدراسات والأعمال والتطبيقات التي تعزز الاتجاه بالطفل نحو استعمال الفصحى في حياته، وتقوم ركائز هذا الشق – في نظرنا – على تحقيق الأمور التالية:
1- دراسة الطفل العربي:
وتهدف هذه الدراسة إلى تقديم بحوث علمية جادة في طبيعة الطفل العربي وظروفه واحتياجاته في ضوء واقع بيئتنا العربية الإسلامية، ونحذر في هذا المقام من النقل الحرفي عن الأجانب؛ فهناك الكثير من دارسينا أمسى مجرد ناقل عنهم، وإن ما يقدمه في مجالات تخصصه يعكس في أغلبه هذه الصورة التي قد لا تتوافق وبيئتنا وظروفها واحتياجاتها، وقد رأينا جملةً من كتبنا التربوية واللغوية تقع في هذا الشرك فتقدم لدارسيها منقولها الذي لا يتوافق ومتطلبات التأسيس اللغوي وغيره التي نسعى لتحقيقها لطفلنا العربي، وإن تطبيق المنقول بحذافيره على أطفالنا يضر بمصطلحاتنا العربية الإسلامية في التأسيس الواعي.
وقد نستفيد من غيرنا في مناهج البحث والدراسة والتجربة، ولكن ليس شرطًا أن تتفق نتائجنا ونتائجهم، أو تطبيقاتنا وتطبيقاتهم؛ فلكلًٍّ ظروفه وحدوده التي يجول فيها؛ لذا فإن النجاح في التعرف على طبيعة طفلنا العربي واحتياجاته ستشكل معطياته القاعدة التي ينطلق منها المتخصصون في حل مشكلاته، وتلبية متطلباته في مجالات التخصص المختلفة؛ الأمر الذي سيترك الآثار الإيجابية في تنمية مهاراته اللغوية وغيرها.
2- دراسة لغة خطاب الطفل:
نحن بحاجة إلى دراسات وتطبيقات في مجالات لغة خطاب الطفل الشفوية والمكتوبة تعتمد في فلسفتها على واقعنا العربي، وتهدف إلى تحديد احتياجات الطفل اللغوية.
إن تجديد احتياجات الطفل من اللغة سيوفر مادة خطابه اللغوي مما سيؤمن مخاطبة الخطاب الذي يفهمه، وييسر الطريق لإثراء لغته ومواءمتها بالمضمون؛ الأمر الذي يسهم في إنشائه إنشاءً لغويًّا صالحًا، ويصب في خانة نجاح العملية التعليمية بصفة عامة.(251/19)
إن الاعتماد على قدرة المؤلف الذاتية أو خبرته أو ذوقه لا يشكل الطريق السليم لتحديد متطلبات الطفل
من مفردات اللغة وتراكيبها وصورها البلاغية؛ فالوسائل الذاتية – لا ريب –
يختلف تقديرها من مؤلف إلى آخر: وكذلك حال تقدير سهولة لغة النص أو
صعوبتها لا ينبغي أن يُترك أمرها
لمعايير المؤلف الذاتية؛ لذا فنحن نرى أن النجاح في تحديد متطلبات الطفل اللغوية يتطلب خطةً عِلْميةً مدروسةً يُجمع عليها جمهور المختصين، ونرى أن يكون من عناصرها:
-القيام بجمعٍ شاملِ لِلغةِ الطفل العربي المسموعة والمقروءة، والاستفادة من معطيات المنهج الاستقرحصائي في الجمع والدراسة.
- إعداد رجالات التربية واللغة لاختبارات واستبيانات لغوية تساعد في عملية الجمع، وتسهم في التعرف على احتياجات الطفل اللغوية.
- توجيه الباحثين في الدراسات العليا وغيرها إلى إجراء دراساتٍ في مؤلفات الأطفال من كتبٍ وقصصٍ وأناشيدَ ومجلاتٍ للتعرف على انقرائيتها(*).
وإن من فوائد تنفيذ هذه الإجراءات أنها تسهم بدقة في:
-تحديد متطلبات الطفل اللغوية بالوقوف على خصائص لغته: إفرادًا وتركيبًا.
-تحديد الصعوبات اللغوية التي تواجه الطفل في انقرائية النص المكتوب أو المسموع.
-تقدير مفردات اللغة وخصائصها التركيبية التي يألفها الطفل على أسس علمية.
-التعرف على قاموس الطفل اللغوي والمساعدة في تنميته وفق تدرّج سِنِّه.
-مدّ معجمات الطفل الصفّية أو المرحلية بمادتها من المفردات.
-مدّ الكُتّاب بالمفردات التي تعينهم على خطاب الطفل بلغةٍ مناسبةٍ له، والوصول إلى عقليته دون غموض؛ الأمر الذي يشجعه على المطالعة ويُشوِّقه إليها، ويعينه على فهم مقروئه وتفسير سطوره بيسر.(251/20)
-تقريب العامية من الفصحى، وذلك بانتقاء فصيحها وإذاعته، وتهذيب ما حرّفته ألسنة العامة منه، وذلك بصياغته الصياغة العربية الصحيحة؛ وإن النجاح في تحديد احتياجات الطفل من هذه الألفاظ سيسهل عملية إذاعة الفصحى على لسانه، والتعبير بها عما يدور في خلَده من فكرٍ وأحاسيس.
3- لغة البيئة التعليمية:
... ونعني بالبيئة التعليمية في هذا
المقام: المؤسسة التعليمية والمعلِّم والكتاب المقرر.
أ-المؤسسة التعليمية:
... وهي الروضة أو المدرسة، وهما المكانان اللذان تُؤدّى فيهما عملية تعليم الطفل وفق خطط ومناهج مدروسة،، وتأتي أهمية المؤسسة التعليمية من كونها المكان العلمي الأول الذي يرتاده الطفل بعد البيت، ويقضي فيه أكثر وقته، وإذا ما ربطنا نظامية عملها في التعليم والتدريب والمتابعة أدركنا أهمية دورها في التأسيس والتدريب، وأنها التربة الصالحة لتربية الطفل لسانيًّا وترسيخ ملكته فيه، فهي القادرة على تهيئة البيئة اللغوية السليمة له: في فنائها وقاعات تدريسها يتكلم المعلم اللغة الفصحى، وفيها يَسمع الطفل هذه اللغة، ويتدرب على الإلقاء والتعبير الفصيحين في ظل المراقبة اللغوية الواعية.
ب- المعلِّم:
... يشكل المعلم بالنسبة لتلميذه
حجر الزاوية في نجاح مهمة البيئة التعليمية؛ فهو القدوة والمثل الحي الذي يَعمل التلميذ – في الأغلب الأعم – على تقليده، فإذا ما ربطت بينهما علاقة الألفة والمودة ازداد تأثيره فيه، وإذا كان المعلم أكثر الناس قربًا من التلميذ بعد الأسرة فإن الاعتماد على فعالية دوره في التنشئة سيحقق غالبًا النتائج المرجوة منه، وذلك لمداومة صحبته لتلامذته، وقد رأينا ناشئة العرب القدماء تحرص على صحبة الشعراء والبلغاء وشيوخ القبيلة للاستفادة منهم فصاحة الكلمة وبلاغتها، وقد وجدنا الجاحظ يشير إلى نحو هذا حين قال: " وبطول الاختلاف إلى العلماء(251/21)
ومدارسة كتب الحكماء يجود لفظه ويحسن أدبه"(*)؛ لذا فنحن نشدد في هذا المقام على ضرورة سلامة لغة المعلم، وأن يكون المرجع الفصيح المعوَّل على احتذائه.
إن على المسؤولين – مشرِّعين ومنفِّذين، رسميين وتربويين – مسؤوليةَ إيجاد هذا المعلم، وهو أمرٌ لن يتم تحقيقه إلا بتضافر الجهود، فللمسؤولين الرسميين دورهم في التشريع والتنفيذ وللتربويين من موجهين ونظّار دورهم في المتابعة، ومعالجة ضعف بعض المعلمين في اللغة بوسائلهم التي لا يفتقدونها.
... وإن على المؤسسة الجامعية الدور الأكبر في مهمة إعداد هذا المعلم المثال في لغته الفصيحة، وإن على كليات التربية خاصة - وهي التي تخرّج المربي الحاضن معلم الروضة، ومعلم المدرسة – العنايةَ بمقررات اللغة العربية التي تنمّي في خريجيها في تخصصاتهم المختلفة مهارات التحدث والكتابة بالفصحى، فتعلمهم مخارج الأصوات وصفاتها الفصيحة، وتنبههم على مواطن الخطأ فيها وكيفية علاجه، وتعلمهم أيضًا خصائص لغة الطفل ووسائل تنميتها، وكيف
يتعاملون معه بلغةٍ سليمةٍ بعيدةٍ عن التقعر، قريبةٍ إلى لغة الحياة اليومية دون تحريف، وغير ذلك من الموضوعات التي يرى الدارسون حاجة هؤلاء الخريجين إليها.
ج- الكتاب المقرر:
... ... لا أحد ينكر ما للكتاب من أثر في تنمية العقول وإثرائها معرفيًّا ولغويًّا، ولا نود في هذا المقام الحديث عن خصائص الكتاب ومناسبته لمستوى التلميذ وعقله، وضرورة تواؤم لغته ومضمونه، وغير ذلك، فقد أفاض التربويون في هذه المسألة وأشبعوها درسًا ووصفًا.
... ... على أننا نود في هذا المقام الوقوف عند ثلاثة أمور نراها مفيدة في مقام تنشئة الطفل اللغوية:
الأمر الأول – كتاب القواعد النحوية:
... نذكِّر في مقام الحديث عن كتاب القواعد النحوية بأن العرب القدماء تكلمت العربية الفصحى، ونزل عليها(251/22)
القرآن نظامًا لغويًّا مُحْكمًا قبل وضْعها، فالقاعدة صناعةٌ علميةٌ تعليمية، وتحصيل اللغة سماعًا فطرة إنسانية؛ الأمر الذي نفسر به خطأ كثير من حملة الشهادات العليا في أثناء خطابتهم أو قراءتهم أو كتابتهم.
... إن القول بكفاية القاعدة لإجادة الفصحى واكتساب سليقتها لا يمكن الركون إليه، وإن التطبيق لمضمونها ومداومة التفطن له في القراءة والحديث والكتابة لَمن أهم الوسائل الموثوقة لتحقيق ملكة اللغة وسلامتها.
... إن ما نقوله في هذا المقام لا يعني التنكُّر لدرس النحو أو التقليل من أهميته؛ فنحن من المؤمنين بدوره في التمكين لسلامة اللغة العربية وحفظ نظامها في العصور المختلفة، ونرى ضرورة دراسته وممارسة أدائه في مراحل التعليم المختلفة: يطَّلِعُ عليه التلميذ الطالب
أوّلاً مُيَسَّرًا(*) بصورة مبسطةٍ وأسلوب سهل تدعمه الأمثلة الحية، بعيدًا عن الجدل والافتراضات
مبسطةٍ وأسلوب سهل تدعمه الأمثلة الحية، بعيدًا عن الجدل والافتراضات والخلافات، ومن بعدُ يستفيد منه بشكل تكاملي تطبيقي في اطّلاعه على كتب المطالعة والنصوص، والتعرف على أسرار العربية في صياغة مفرداتها وهندسة تراكيبها لاحتذائها، ويركن إليه في التحقق من سلامة لغته المنطوقة والمكتوبة وإقالة عثراتها؛ الأمر الذي يمكّن للقاعدة النحوية ومصطلحاتها نظرًا وتطبيقًا بوصفها وسيلةً تربويةً مختصرةً يُلجَأ إليها عند الحاجة.
الأمر الثاني – الكتاب المُتَرْجَم:
... ... يقع الباحث في أدب الطفل ومعرفته المنطوقة والمكتوبة على صنوف مترجمة، ونحن لا نمانع من الترجمة بل نؤيد الاستفادة منها، ونرى الحاجة إليها ماسة في عصرنا الذي تميز بسهولة الاتصال فيه وسرعته.(251/23)
على أن ما نود التنبيه عليه في هذا المقام أيضًا هو ضرورة الاهتمام بمضمون المُترجَم ولغته، فلا أترجم للطفل قصةً أو مسلسلاً إذاعيًّا مسموعًا أو مرئيًّا بعيدًا في أهدافه وسلوكياته عن جوِّنا العربي الإسلامي ومتطلباته، أو بلغة يظهر فيها أثر اللغة المترجَم عنها.
إن التدقيق في لغة المترجَم أمرٌ
ينبغي العناية به، فلا يخرج إلا بعد
مراجعة متأنية؛ لأن خروجه على
النظام اللغوي المألوف يضر بتنشئة الطفل اللغوية.
الأمر الثالث – المعجم اللغوي:
... إن إيجاد قاموس الطفل اللغوي الموافق لمستواه سيشكل مددًا للغته مع إثرائها، وفي هذا المقام ندعو إلى إيجاد معجمٍ لغويٍّ لكلّ صفٍّ في المرحلة الدراسية، ولنبدأ من الصف الأول الابتدائي، وأن نراعي في كل معجم صَفّي نمو الطفل العقلي ومتطلبات جذبه؛ فالطفل في سنيه الدراسية الأولى يحتاج إلى الصورة والرسم واللون وسائل إيضاحية تسهم في إكسابه قراءة اللغة وكتابتها.
... إن المعجم الصفي سيكون وسيلة النشء في تحصيل مفردات لغته الحياتية ومصطلحات العلوم المختلفة؛ فينبغي أن تحتوي مادة هذا المعجم على مفردات المقررات الدراسية ومصطلحاتها التي تمر بالنشء في أثناء دراسته في كل صف، وأن يراعى في متن المعجم الصفي التالي التخفف من متن سابقه وهلمَّ جرًّا؛ وهذا يعني أن متن المعجم الصفي التالي سيتألف مما هو جديد في لغة مقررات الصف الخاص به. ...
... ... إن إعداد هذا المعجم الصفي سيكون مفيدًا للطفل حيث يُمْكِنه من خلاله الاطّلاع على مفردات لغته ومصطلحات علومه بلغةٍ سليمةٍ وأسلوبٍ يناسبه، وإذا كانوا قديمًا يقولون: لا يحيط باللغة إلا نبي، فإن المعجم وهو خزانة اللغة، أراه يمثل دور النبي في جمع اللغة والحفاظ على سلامة متنها.(251/24)
وكذلك فإن إعداد هذا النوع من المعجمات الذي تفتقر إليه مكتبتنا العربية سيكون مفيدًا أيضًا للكبار؛ فهم الذين يؤلفون للصغار، ومما لا شك فيه أن لغة هؤلاء الكبار الموافقة لمستوياتهم الفكرية تختلف عن لغة الصغار ومستوياتهم الفكرية؛ لذا فإن مثل هذا المعجم سيعين مؤلفي الأطفال على الحصول على المفردات التي يفهمها الطفل وتلائم مستواه، وبذلك يستطيع الكبار أن يقدِّموا للأطفال ما يريدون تقديمه لهم من معلومات وتجارب بلغة يفهمونها.
... إن النجاح في إعداد هذا المعجم سينتج عنه النجاح في إيجاد لغةِ تواصلٍ مشتركةٍ بين المؤلف الكبير والقارئ الصغير، أو بتعبيرٍ آخرَ بين المرسل الكبير والمستقبل الصغير؛ فما يزال مؤلفو كتب الأطفال يعتمدون على قدراتهم الذاتية في اختيار مفردات اللغة وتراكيبها التي يؤلفون للطفل بها؛ الأمر الذي قد ينجحون فيه أو لا، وإن عدم النجاح في اختيار لغة التأليف المناسبة للطفل سيترك آثارًا ضارةً على استيعابه، وسيشكل عنده عقدة استصعاب اللغة.
... وليس من شك في أن إيجاد هذا المعجم سيشكل عنصرًا مهمًّا في
عناصر توحيد المتكلمين بلغته
شكلاً ومضمونًا، حيث سيوجِد
لغةً عربيةً مشتركةً لأطفال العرب
جيل المستقبل الواعد؛ لذا فإننا نرى أن يحتوي هذا المعجم على المستعمل
المشترك من العربية الفصحى السائدة في لغة الحياة العصرية بصفة عامة، وأن يتم شرحه بلغة سهلة توضحها الصور والرسوم، وألا يحتوي على ما لا يحتاجه الطفل من مفردات اللغة، فلا حاجة للطفل إلى كلماتٍ مهجورةٍ أو سوقيةٍ أوغيرِ أخلاقية.
وإذا كنت في مقام آخر قد قدمت الأسباب الموجبة لإنشاء مركز لغوي تطبيقي فلسطيني للعناية بشؤون اللغة في فلسطين(*)، فإن تعميم
هذه الدعوة عربيًّا هو الأَولى في هذا
المقام، وإن الاهتمام بلغة طفلنا العربي ينبغي أن يكون هدفًا رئيسًا
من أهداف مراكز اللغة التطبيقية
التي نأمل في ذيوعها في وطننا
العربي الكبير، وإن إعداد خطة(251/25)
هذه المعجمات الصفِّيَّة قد يكون
من مهامها، كما أن على الجامعات
وأساتذتها تقديم الدراسات في لغة
الطفل والمشاركة في إعداد المعجمات الصفية، فتوجِّه طلبة الدراسات العليا في كليات التربية وفي تخصصاتهم المختلفة إلى دراسة انقرائية لغة المقررات في كل صف على حدة تحت إشراف الأساتذة المتخصصين في التخصص واللغة.
... ... معوقات تنشئة الطفل اللغوية
(3)
هناك مجموعة من المعوقات تعترض طريقنا في تنشئة الطفل العربي لغويًّا، ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار فنسعى إلى التغلب عليها، وأهم هذه المعوقات:
أ-مدى وعي الجماهير العربية بأهمية اللغة:
إن وعي الجمهور بجدوى
التنشئة سيسهل مهمة القيام بها ويسهم
في نجاحها. على أن كثيرًا من أبناء
العروبة قد تراه ينصرف عنها منشغلاً بأعباء الحياة فلا يعنيه أن يزيد عليها مشغلةً جديدةً ليس لها أثرٌ في التخفيف عنه؛ الأمر الذي ينعكس سلبًا على دور الأسرة أو البيت في التنشئة، وإن في تندر بعض أبناء الأمة – بقصد أو دون
قصد – (*) على العربية وأستاذها أو المتحدثين بها دلائلَ أخرى على مدى الوعي.
... إن التخفيف من وطأة هذه المؤثرات السلبية على التنشئة يتطلب اهتمام المسؤولين وغيرهم من مفكري الأمة، وذلك بتوعية الجماهير العربية بجميع فئاتها بأهمية اللغة وتعريفها أنَّ أيَّ سعيٍ إلى بناء أمةٍ عربيةٍ موحدةٍ سيبقى منقوصًا ما لم يلتفت أصحابه إلى أثر كلمة اللغة السحرية في اجتماع
القلوب، وليس أقوى من الاعتماد على
الفصحى في إنجاح هذه المسألة.
ب-ازدواجية اللغة(*):(251/26)
... إن وجود لغتين إحداهما منطوقة يتحدث بها الجميع والأخرى فصيحة تُستعمل في الكتابة ناموسٌ طبعيٌّ في كثيرٍ من اللغات الحية، والقول بوجود الازدواجية اللغوية في العربية أمرٌ لا يمكن إنكاره فيها منذ العصر الجاهلي؛ لذا فنحن لا نستطيع أن نزعم بأنا قادرون على إزاحة العامية، - هذه اللغة التي يتحدث بها الشارع العام – وإفساح المجال للفصحى لتكون اللغة الوحيدة في ميدان الكلام والكتابة، فهذه الرغبة تخالف طبائع اللغات في الازدواجية، وهبْ أننا وصلنا إلى بغيتنا فإن كون اللغة ظاهرة اجتماعية قابلة
للتغير في الحياة سيعيد كرّة الازدواجية مرةً أخرى، وذلك بفعل عواملَ كثيرةٍ أهمها: اتساع رقعة حدود العربية الجغرافية، وكثرة المتحدثين بها
واختلاف ثقافاتهم وأمزجتهم؛ وكون
العامية لغه الفطرة: تطرق أسماعنا، وتلوكها ألسنتنا ليل نهار، وصباح مساء.
... وإذا كنا لا نستطيع أن نزعم بإمكان إزاحة العامية والقضاء عليها قضاءً مبرمًا لصالح الفصحى، فإن ما يمكن زعمه – في هذا المقام –أننا قادرون على التمكين للفصحى على ألسنة الناس، وإيجاد الأكفياء الكُثر القادرين على استعمالها أداةً لسانيةً كتابيةً طيِّعةً عامة، وليكن اهتمامنا بتنشئة الطفل الفصيحة هي المدخل لترسيخ ملكة الفصحى بين الجماهير العربية في مختلف أصقاعها.
ج – اللغات الأجنبية:
... إن ازدياد احتكاك أبناء العربية بغيرهم من أصحاب اللغات الأخرى في حاضرنا بوسائل الاتصال السريعة
والمتنوعة، وكثرة الوافد الغريب من
ألفاظ حضارية ومصطلحات علمية
علينا: تردده الأفواه العربية مع شعور بالحاجة إليه – يترك أثره السيئ في مسيرة التنشئة اللغوية.(251/27)
... ... إن سماع الطفل لكلمات أجنبية في مجتمعه العام، مثل: " أسنسير – أوتوبيس أو باص – بسكليت أو بسكلتّة – تاكسي – تي شيرت – چورنال – سينما أو سيما – فرسون – فلاس فرمشيه أو أجزخانة – كارّة – كارت أو كرنيه – كندشن – ماتش – ميكرفون" وغيرها، ثم سماعه لبدائلها العربية في البيئة التعليمية : " مصعد كهربائي أو مصعد آلي – حافلة – درّاجة – سيارة أجرة – قميص بل نوع من القمصان – صحيفة – دار الخيالة – خادم - كوب أو كأس أو قدح – صيدلية – عربة – بطاقة – تكييف – مباراة – مكبر الصوت أو مُسْمِع(*)" سيشكل عنده مشكلةً حقيقيةً في الاستيعاب والتصور.
... وإذا كنا نعلم أن هناك كلماتٍ
أجنبيةً كثيرةً ما يزال بديلها العربي
مفقودًا أو غير متفق عليه أدركنا حجم
المشكلة، وأدركنا ضرورة تعميم استعمال الكلمات العربية البديلة التي حازت نسبة كبيرة من القبول في لغة الحياة العامة.
د- مؤثرات سلبية في أثر البيئة التعليمية:
... وإذا كنا قد عوّلنا على دور البيئة التعليمية الفعال في نشر الفصحى وتعميق جذورها على الألسن فإن عدم
تحدث المعلمين جميعهم بها، وتعثر ألسنتهم فيها عند سعيهم إلى التحدث بها – ما يفقد القدوة أثره المنشود، ويحرم الطفل من المثال الحي الذي يحاكيه.
... وإذا افترضنا أن معلم مقرر اللغة العربية – وهو افتراضٌ غير واقعيٍّ في الغالب – يتكلم الفصحى في شرحه وحديثه مع تلامذته، ويطلب منهم الحديث
بها في قاعة الدرس وفناء
المدرسة، فسنجده يكاد الفرد
في صنيعه؛ فأكثر مدرسي المقررات
الأخرى يهدمون إنجازه، حيث يتخذون
العاميةَ المشوبةََ بألفاظٍ أجنبيةٍ لسان
حالهم في التوصيل، ومما يزيد الطين بِلَّةً في هذا المقام هو عدم اقتناع بعضهم بجدوى التدريس بالفصحى أو التكلم بها، وتراه يبث رأيه في تلامذته.
إن معالجة هذه الظاهرة الخطيرة في المؤسسة التعليمية يتطلب أمورًا إجرائيةً إداريةً تطبيقية، تتمثل في:(251/28)
-اتخاذ القرار الذي يُلزم المدرسين
جميعَهم بالتعامل مع تلامذتهم بالفصحى، وأن تكون كل المقررات مجالاً خصبًا لتطبيق الفصحى فيها.
-توعية المعلمين بأهمية الفصحى، وأن كُلاً منهم ينبغي أن يكون في درسه معلمًا لها.
-الإيعاز إلى كليات التربية في الجامعات بضرورة العناية بلغة خريجيها في التخصصات المختلفة؛ فهم معلمو المستقبل.
-متابعة فحص لغة المعلمين، وإجراء الدورات التأهيلية للمعلمين الضعفاء في لغتهم.
-مدّ المعلمين بالنصوص التي تُمَكِّنهم من لغة تلامذتهم، وتسهل وصولهم بها إليهم.
وأخيرًا، وبصفة عامة أقول: إن آمالنا في حل مشكلاتنا اللغوية يتطلب تحقيقُها تكثيفََ العناية بلغة أطفالنا وتشكيلهم فيها تشكيلاً عماده التأسيس الواعي والاطلاع والمعرفة في ظل انتشار التعليم وانحسار الأمية.
... وفي الطَّرَف البعيد في ظل تنوع مصادر القراءة والمعرفة يتوجب علينا أن نحقق لأطفالنا الجو المناسب لبيئتنا العربية، دون أن نحرمهم من الاستفادة من هذا الثراء في النواحي العلمية المتطورة.
... إن عالمنا اليوم يتميز بالانفجار المعرفي السريع في تتابعه وتغيره، وإن التعليم الرسمي بمناهجه الثابتة البعيدةِ فتراتُ تطويرها عاجز عن ملاحقته، وإن المعادل الموضوعي لهذا كله هو العناية بأطفالنا، وتشجيع إقدامهم على الاطلاع الحر وتنميته، فالتثقيف الذاتي الواعي ينبغي أن توجه أنظار أبنائنا إليه.
تعليم الطفل غير لغته الأم
(4)
يحرص بعض الآباء على وضع أبنائهم في رياض أو مدراسَ خاصةٍ تُعنى بتدريسهم لغة ثانية أو أكثر، وتراهم يهشون ويبشون كلما وجدوهم يتفوقون في تحصيلهم منها، ولكن الذي ننبه عليه في هذا المقام اللغوي هو أن تعليم الطفل للغة الأجنبية في مرحلته التعليمية الأولى سواء في الرياض أو صفوف المرحلة الابتدائية الدنيا يؤثر تأثيرًا سلبيًّا على نظام لغته الأم ولا سيما نظامها التركيبي؛ فالطفل(251/29)
في هذا السن المبكر بحاجة إلى ترسيخ ملكة نظام لغته الأم أولاً، ولا يكون ذلك إلا باكتسابه خالصًا نقيًّا دون اختلاطه بنظامٍ لغويٍّ آخرَ قريبٍ في
خصائصه من نظامها أو بعيد؛ لأن هذا
النظام سيولد اختلاط النظامين عنده.
فإذا ما ربطنا هذا الأمر بقدرة الطفل
الفائقة في هذه المرحلة من حياته على
التقليد والتخزين، فقد يكون من العبث تصور نقاء أيٍّ منهما عنده؛ لأن " أغلب ما يسمعه الطفل في صغره – له، كما يقول الأستاذ محمد خلف الله أحمد – موقع خاص عنده؛ ذلك لأنه يعنيه ويهمه ويرتبط برغائبه وراحة جسمه... وكل ما يسمعه الطفل ولو من لغة غير لغته الأصلية يُخَلِّف أثرًا عنده، والأمثلة على ذلك كثيرة في الدراسات الحديثة"(1)، وتراه يكتفي منها بمثالين: الأول خاص بـ" طفلة فرنسية كانت لها حاضنة تتكلم الفرنسية بلهجة إيطالية، ثم تركتها هذه الحاضنة قبل أن يتفتق لسانها بالكلام بمدة وجيزة، فما
هو إلا أن بدأت الطفلة تتكلم حتى لوحظ أن في لسانها شيئًا من اللهجة الإيطالية، ولم يزل هذا يلازمها حتى سن الثالثة"(2)، والآخر خاص بـ" طفل
عاش في سيليسيا السنة الأولى
والنصف من حياته، ثم جيء به إلى برلين، في وسطٍ لم تُتَحْ له فيه فرصة
سماع اللهجة السيليسية، فكان مما دهش له المحيطون به أَنْ سمعوه، وهو في سن الخامسة، ينطق بأساليبَ وتعبيراتٍ سيليسية(*).
وإذا كانت مرحلة الطفولة تمثل الخطوات الأولى في تكوين شخصية أفراد المجتمع، ولها خصائصها الفطرية القوية التي تعين على التحصيل والتخزين فإن سماعه لنظام لغوي أو أكثر إلى جانب نظام لغته الأم سيدخل الضيم على لغته الأم وسيجعل القول بسلامتها أمرًا مشكوكًا في صحته، وقد يكون لنا في كثيرٍ من أطفال فلسطينيي 1948 يخالطون
الألسنة العبرية المثل الحي في هذه المسألة.
إن من أهم خصائص هذه المرحلة التقليد والتطلع إلى القياس أو الإبداع، فإذا ما عرفنا أن القياس أو الإبداع مصدره مخزون التقليد في(251/30)
دماغ الطفل، أدركنا أن تحصيله
المهجَّنَ من الكلام الذي سمعه، سيكون مصدرهُ المعتَمَدَ في قياسه لمفردات لغته وتراكيبها؛ الأمر الذي يَنتج عنه أغلاط لغوية ومشكلات في تذوقه لِلُّغةِ – أية لغة منهما: الأم أو الثانية – وفهمه لمضامينها المختلفة ولا سيما المجازية والمعنوية المجردة.
وإن مما يزيد الأمر تعقيدًا في هذه المسألة ما أشار إليه دارسو لغة الطفل، فقد تحدثوا عن الصعوبات التي يواجهها الطفل في اكتساب لغته الأم، فكان مما أشاروا إليه: تلك الصعوبات الصوتية التي تواجهه في نطق لغته، فتراه يُحَرِّف كثيرًا من أصوات
الكلمات، أو يزحزحها من أماكنها قلبًا مكانيًّا في الألفاظ، وتقديمًا أو تأخيرًا في التراكيب والأساليب، وغالبًا ما يكون إدراكه لدلالات الكلمات التي تدل على معانٍ معنوية مجردة غامضًا غير دقيق، وكذلك فإن ما يُجريه من أقيسه
يلجأ إليها في لغته عند الحاجة قد
يعتري بعضه الخطأ، وذلك لأسباب كثيرة أهمها: أن الطفل في سنيه الأولى
لا يمكنه أن يسمع كل ما في نظام لغته من مفرداتٍ وصيغٍ وتراكيبَ ودلالات، وقد لا يتمكن من الاستفادة بكل مخزونه وقت الحاجة، فقد لا تسعفه الذاكرة، وقد يكون لديه معوقات في ذكائه وقدرته على التحصيل والإنتاج؛ فالناس والأطفال منهم يتفاوتون في أمور كثيرة منها مستويات استقبالهم وإرسالهم(1).
وإذا كان هذا هو حال الطفل في اكتساب اللغة الواحدة فما بالنا حين نراه
وهو غَضٌّ مُشْرفٌ على الحياة – يجمع في تحصيله اللغوي بين نظامين لغويين أو أكثر، بَعُدَتْ خصائص أحدهما عن الآخر أو قربت، وسيزداد أمره عسرًا وتعقيدًا حين يكون أحدَ أطفال هذه الشعوب التي تعاني من مشكلة الازدواجية اللغوية ( الفصيحة(251/31)
والعامية)؛ فهو سيكون في هذا المقام الضنك بين همّين: هَمّ هذه اللغة الجديدة وهي التي لا يسمعها إلا في مقامات علمية، تفرعت منها لغته العامية: لغة الفطرة التي بدأ حياته بها، وهَمّ اللغة الأجنبية الثانية التي يختلف نظامها اللغوي عن لغته الأم بشكل قريب أو بعيد.
وقد رأينا علماء التربية في دراستهم يشيرون إلى" أن ميلاد الأطفال في أسر تتكلم لغتين يؤدي إلى أن تكون مفرداتهم أقل من المعدل بالنسبة لأعمارهم الزمنية(2) و" أنهم سيجدون صعوبات أكثر في تعلم اللغة من الأسر التي تتحدث بلغة واحدة مع أطفالها، وقد وجد أيضًا أن الأطفال من الأسر ذات اللغتين يلاقون في العادة صعوبات أكبر في تعلم اللغة الواحدة"(3).
وفي مجال تعليم الطفل لغتين
في آن واحد نرى علماء التربية ينبهون على أنه يعثّر "مهاراته اللغوية،
ويؤخرها في كلتا اللغتين، ويُحدث تعطيلاً في تقدم التلاميذ عند تعلم اللغة"(*).
إن الطفل الذي تتجاذبه لغة ثانية أو أكثر تراه يستعمل كُلاًّ منهما على حساب نظيرتها، فهو يداخل إحداهما في الأخرى؛ الأمر الذي يضعف أداءه فيهما ظاهرًا، ويؤخر نموه اللغوي.
ونُذَكِّر في هذا المقام بنظام التربية اللغوية الحصين الذي اختطه العرب القدماء في العصر الجاهلي وطبقوه لتعليم لغتهم الفصيحة لأبنائهم نقية خالصة؛ فقد كانوا يرسلونهم إلى
البادية بعيدًا عن ترف المدينة وما فيها
من اختلاط لغوي – وإن كان قليلاً في أيامهم – ليرضعوا باختلاطهم بفصحاء العرب لبن الفصاحة نقيًّا خالصًا من منابعه الصافية الأصيلة، وكذلك نُذَكِّر في هذا المقام أيضًا بهذا المنهج اللغوي
العربي في التقعيد؛ فقد كان ينأى في
وضع القاعدة اللسانية عن اللغة التي يكون مصدرها العرب الذين عاشوا في المدن وحضارتها أو خالطوا الأعاجم.(251/32)
وعلى هذا فنحن نحذر من تعليم الطفل اللغة الثانية في رياض الأطفال وسني المرحلة الابتدائية الأربع الأولى؛ لما له من نتائج غير مفيدة في اكتساب سليقة اللغة الأم؛ فهذه المرحلة تشكل التلقي الواعي وغير الواعي في حياة الطفل، وتتسم بسرعة التقبل؛ الأمر الذي قد يكون من نتائجه – في الأغلب – الخلط بين نظامي اللغتين.
إن سؤالاً لمعلمي المرحلة الابتدائية الدنيا في مدارسنا ولا سيما الصف
الأول عن مدى إجادة تلامذتنا الذين
يتعلمون لغتهم العربية فقط لمهارة الكتابة، يدلك جوابه على مدى معاناة المعلمين في اكتسابهم لها، وأنهم يقضون أكثر من نصف السنة حتى تدرج يدهم على مسك القلم والكتابة ، فإذا ما أضفنا إلى هؤلاء النشء تعلم
كتابة لغة أخرى أدركنا مدى الارتباك
الذي سيقعون فيه من هذه الثنائية، وسيزداد هذا الارتباك إذا ما كانت كتابة اللغة الأخرى تختلف في خصائصها عن خصائص كتابة لغته الأم: كأن تكتب إحداهما من اليمين إلى اليسار، والأخرى بالعكس، أو يكون للحرف في إحداهما صور تختلف باختلاف موقعه في الكلمة، أو تكتب إحداهما بأحرف متصلة ونظيرتها نظام متميز في كتابة الحركات، ويزداد الأمر سوءًا عند اختلاف اللغتين في أنظمة الصوت والصرف والتركيب؛ الأمر الذي سيربك هذا الطفل الغض، ويجعله في
حيرة قد تقضي على مستقبله في
المدرسة، إنْ لم يخضع لنظامٍ صارمٍ في المتابعة المدرسية والبيتية، وهو عملٌ سيرهقه كثيرًا.
أما المعلم – سواء معلم اللغة الأم أم الثانية – فسيزداد عناؤه، وخاصة في ظل اكتظاظ صفه
بالتلاميذ(1)، وعدم توفير الإمكانات
والوسائل السمعية والإيضاحية اللازمة لتعلم اللغات.(251/33)
نَخْلص مما سبق إلى أن تزاحم لغتين أو أكثر على لسان الطفل وهو في مقبل حياته نراه يضرّ بتمكنه من نظام لغته الأم، وأن إكسابه نظامها وتعميق درايته به ينبغي أن يسبق تعليمه اللغةَ الثانية، وقد رأينا الجاحظ أديب العربية الأكبر ينص في انتقاده للغة التراجمة في أيامه على هذا المعنى حين ذكر أن كلام الترجمان بلغتين معًا يدخل الضيم على لغته؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى، وتأخذ منها
وتعترض؛ وكيف يكون تَمَكُّن اللسان
منهما مُجْتَمِعَين فيه كتمكُّنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليها"(2).
وإذا كنا نؤمن إيمانًا قويًّا بهذا
كله فنحن نعي جيدًا أن من يتعلم لغةً
ثانيةً أو أكثر منذ الصغر اختلاطًا أو
درسًا سيجيد التكلم بها أكثر من نظيره
الذي سيتعلمها في مرحلةٍ متأخرةٍ عنه، على أن هذه الإجادة لن تجعله يتحدث بها كأهلها، وأن ما نحذر منه في هذا المقام هو أن هذا الطفل الذي اختلط لسانه بلغتين أو أكثر سيكون نموه رهين نمطين متقاربين أو متباعدين: نمط مجتمعه، ونمط مجتمع اللغة أو اللغات الأخرى؛ وهو أمر سيترتب عليه مؤثرات فكرية ونطقية وغيرها، قد تجعله يحيا الحياة ثنائي السلوك والفكر والثقافة.
وقد أشار علماء التربية إلى
شيء من هذا حين نصوا على أن تعلم كلمتين لشيء واحد أو لفكرة واحدة
ونظامين من القواعد ينعكس سلبًا على الطفل فيتداخل تفكيره، ويعتاص كلامه(1)؛ الأمر الذي دفع بعضهم إلى
القول بوجود علاقة بين ثنائية اللغة
والتأتأة من أمراض الكلام، فقد أجريت دراسةعلى أطفال بأعمار (4-17 سنة) كان من نتائجها" أن 2.8% من الأطفال ثنائيي اللغة كانوا مصابين بالتأتأة، بينما لم يزد المصابون بالتأتأة عن 1.8% فقط من أطفال وحيدي اللغة"(2).(251/34)
إننا نؤمن بأن إتقان ملكة اللغة الأم أولاً سينعكس على قوة التحصيل في كل شؤونها الحياتية والعلمية، وقد لفت أحد علماء العربية إلى أن "معرفة مفردات اللغة نصف العلم؛ لأن كل علم تتوقف إفادته واستفادته
عليها"(3)، فهي بتعبير آخر أساس
التوصيل والتلقي.
إن إتقان المرء لملكة لغته الأم سيوطد له في إتقان مضامين مجتمعه، وسيجعله يتجه إلى تعلم اللغة أو اللغات الأخرى محصّنًا
قادرًا على التعبير عن لغته وتوصيل مضامينها بيسر.
ولعلي أوضح هذا الأمر بما نلاحظه في الترجمة عن الآخرين؛ فإن عدم إتقان أيٍّ من اللغتين المترجَم منها
أو إليها ستظهر آثاره الضارة جلية تركيبًا واصطلاحًا؛ الأمر الذي يذكّرنا في هذا المقام بحركة الترجمة في العصر العباسي، وما وُجِّه إليها من انتقاداتٍ أشارت إلى لغتها وتفاوت التراجمة في وضوحها وسلامتها(*).
ونحن نعايش في هذه الأيام التي يُقبل فيها كثير من أبناء العربية على
الترجمة من اللغات الأخرى وقائع هذه
القضية، فقد تشدك ترجمة فلانٍ لوضوحها وسلامة مفرداتها وتراكيبها، وتزعجك ترجمة فلان آخرَ لغموضها وركاكتها وعدم ترابطها وبعدها عن نظام العربية، وهو أمرٌ قد نرجع سببه
الأول إلى عدم امتلاك هذا المترجِم غير المفصح لناصية البيان في نظام لغته مفرداتٍ وتراكيب، وإن عدم دراية نفر من مترجمينا بثروتنا الاصطلاحية في المجالات المختلفة وقواعد وضع المصطلح العربي من أسباب هذا التعثر الذي نلحظه في تعريب الأجنبي وترجمته بمقابلات عربية متنوعة.
وقد أراني في هذا المقام مدللاً على أن التمكن في اللغة الأم يكون وراء التفوق في الترجمة إليها بمقامين عايشتهما:
الأول- عندما كنت طالبًا في مرحلة
الليسانس في كلية الآداب في جامعة
الإسكندرية، حين زار قسم اللغة العربية أحد المستشرقين، وكان يلقي محاضراته باللغة الإنجليزية، رغم معرفته بالعربية التي لا يقيمها لسانه كأهلها، وتولى الترجمة له أستاذان(251/35)
فاضلان أحدهما أكمل الدكتوراه في الأدب على يديه في جانب من تراثنا العربي صاغه بالإنجليزية، والآخر لغويٌّ ضليعٌ دَرَسَ العربيةَ في الريف، وحصل على أعلى الدرجات فيها في بلده مصر الكنانة، ثم طاف في بعض
البلاد؛ الأمر الذي مكّن للسانه في الإنجليزية، ولكن الإبانة في المقامين اختلفت درجاتها، أدركها أيضًا هذا المستشرق الذي استعجم لسانه بالعربية، وكان لرجاحة ترجمة الأستاذين اللغوية أثرهما في تولية مسؤولية الترجمة كاملة.
الآخر- عندما كنت في زيارة للولايات المتحدة الأمريكية، وكان يصحبنا مترجمان: أحدهما فلسطيني لاجئ، بدأت دراسته للإنجليزية في مدارس اللاجئين في المرحلة الإعدادية ثم سافر إلى أمريكا بعد دراسته الجامعية، وعمل في حقل الترجمة، والآخر عربي تونسي أقام لسانه العربية والفرنسية صغيرًا، ثم تعلم الإنجليزية، وقد ترافق وسابقه في الترجمة إلى العربية، ولكنه لم يبلغ في إجادتها مبلغه، فقد كانت عربيته مفككة غير موضحة أحيانًا مقارنة بصاحبه، وذلك بشهادة جميع أعضاء الوفد المكون من دول عربية مختلفة: (تونس – السعودية – سوريا – فلسطين – لبنان).
... وعليه فإنه يمكن القول بأن امتلاك الفرد لملكة لغته الأم يعينه على تعلم اللغة الأجنبية الثانية، ويُسهِّلُ عليه اكتسابها دون خلط في نظام اللغتين؛ الأمر الذي يظهر أثره النافع في عملية الترجمة.
... وفي الختام، نود ونحن في مقام الحديث عن مجال اللغات ونشرها أن ننبه على أمرين:(251/36)
الأول- إن المحافظة على اللغة العربية والعمل على نشرها سليمةً معافاةً واجبٌ عربيٌّ وإسلامي؛ فهي لغة القرآن الكريم وصاحبة التراث العربي والإسلامي العريق، وإن الاتجاه بناشئة العرب إلى التكلم بغيرها، أو إتقان غيرها على حسابها يضر باللغة العربية لتأثيره السلبي في خصائصها؛ وليعلم هؤلاء الذين يدعون إلى تعلم الأجنبية منذ نعومة أظافر أطفالنا أنهم يخربون بأيديهم ما بناه الأسلاف الذين حافظوا على لغتهم دون كَدٍّ أو ملل.
الآخر- إن علينا في مسألة تعلم اللغات الأجنبية أن نفرق بين اتجاهين:
أ- اتجاه تعلم اللغات الأجنبية بهدف إتقانها:
... إن اتجاه تعلم اللغات الأجنبية بغية إتقانها إتقان أهلها لها: حركةً وسكونًا، نبرًا وتنغيمًا، مطلبٌ – فيما نظن – بعيد المنال لا يمكن تحقيق مهارته بدقة؛ فهو يتطلب طول الإقامة، ومداومة استعمال اللغة المتعلَّمة على حساب اللغة الأم؛ لأن اللغة هي الاستعمال أو هي الحياة، وأن الإنسان رهين لغة بيئته.
... ولعل مما يدعم ما نذهب إليه أن كثيرًا ممن خاض تجربة محاكاة لهجة بلدٍ أو لغة بلد عاش بين أهليه ردحًا من الزمن يُحِسُّ في أحيانٍ كثيرةٍ أو قليلةٍ بأنه عاجزٌ عن الفلاح في إحكام صيغة المحاكاة.
ب- اتجاه تعلم اللغات الأجنبية بهدف تحصيل العلوم:
... إن الاتجاه إلى تعلم اللغات الأجنبية بهدف الانتفاع بها في تحصيل علوم أهلها، ومطالعة مصنفاتهم فيها أمرٌ ينبغي تعزيزه، ويمكن أن يتم بإتقان علماءِ الأمة لِلُغةِ تخصصاتهم ومصطلحاتها، وتكون مهمتهم متابعة الجديد فيها، وتعريف تلامذتهم من بني جلدتهم على مضامينها بلغتهم الأم.(251/37)
... وليس من شك – في ضوء العلاقة الوطيدة التي تربط اللغة بالفكر – في أن تعليم العلوم بلغة معلميها أجدى في التحصيل والفائدة؛ فقد أثبتت دراسات التربويين أن الطلبة الذين يتعلمون العلوم بلغتهم الأم يتفوقون على أقرانهم الذين يتعلمون باللغة الثانية؛ وليس هذا الأمر غريبًا؛ فالذين يتعلمون بغير لغتهم يحتاجون إلى تذليل صعوبات استيعاب اللغة الثانية وفهم تصورات أهلها لها، إضافةً إلى استيعاب المادة العلمية المدروسة.
... إن اتجاهنا بأبنائنا إلى تعلم لغات الآخرين ينبغي أن يتم بعد غرسنا فيهم ملكة لغتهم الأم، وأن يكون بمقدار ما يحقق مصالحنا في الاطلاع على منجزاتهم العلمية والحضارية ولعل من البدهي القول: إن التخلي عن لسان الأمة في أيِّ مجالٍ كان، معناه التخلي عما يمكن أن يميزها فيه، ونسبته إلى الآخر؛ الأمر الذي يقضي على مصلحتها في التمايز، وإن اتجاه الأمة بأبنائها إلى تعلم لغات الآخرين
بالمفهوم الذي أوضحناه لا نراه
يتعارض ومصالحها في التمايز، ولا يعرِّض لغتها إلى الخطر بل قد يصب في خدمتها؛ فإذا ما أحسنت الأمة
توظيف اطلاعها على منجزات الآخرين، وعَلَّمتها لأبنائها باللغة الأم فإنها تسهم في إثرائها وتجديدها وخلق معجماتها التخصصية.
... وإن نظرةً إلى العالم من حولنا سترينا كيف أن الشعوبَ المتقدمةَ تُعَلِّمُ أبناءها بلغاتها الأصلية؛ لأنها تعلم عِلمَ
اليقين أن التعليم بلغةِ الآخَر والكتابة فيها يعني إذابة الهوية، وقطع الصلة بين الماضي والحاضر!.
صادق عبد الله أبو سليمان
عضو المجمع المراسل
من فلسطين
* ابن الأنباري، أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن محمد:
... ... نزهة الألباء في طبقات الأدباء، تحقيق إبراهيم السامرائي، مكتبة المنار – الزرقاء: الأردن، ط3/1405هـ - 1985م.
* إبراهيم طوقان:
... ... ديوان إبراهيم طوقان، دار العودة – بيروت، 1998م.
* بشر، د. كمال محمد:(251/38)
دراسات في علم اللغة، الناشر: دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة، 1998م.
* الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر:
-البيان والتبيين، تحقيق أ. عبد السلام محمد هارون، مطبعة المدني، الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة، 5/1405هـ - 1985م.
- الحيوان، (الجزء الأول) تحقيق أ.عبد السلام محمد هارون، مكتبة
مصطفى البابي الحلبي، ط1/1350هـ - 1938م.
* د. حسن شحاته:
... أدب الطفل العربي دراسات وبحوث، المطبعة التقدمية، الناشر: الدار المصرية اللبنانية – القاهرة، ط2/1414هـ - 1994م.
* د. حلمي خليل:
- اللغة والطفل دراسة في ضوء علم اللغة النفسي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ط1/1987م.
- المولَّد دراسة في نمو وتطور اللغة العربية بعد الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب – فرع الإسكندرية، ط1/1978م.
* الزبيدي، أبو بكر محمد بن الحسن:
- طبقات النحويين واللغويين، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، 1392هـ - 1973م.
* السعران، د. محمود:
- علم اللغة مقدمة للقاريء العربي، الناشر: دار المعارف بمصر، فرع الإسكندرية، ط1/1962م.
- اللغة والمجتمع رأي ومنهج، الناشر: دار المعارف بمصر، فرع الإسكندرية، ط2/1963م.
* سلام، د. محمد زغلول:
... الأدب في العصر الأيوبي، دار المعارف بمصر، 1968م.
* أبو سليمان د. صادق عبد الله محمد مبارك:
- قطوف من كتب اللغة، الناشر: مطبعة المقداد – غزة، ط2/1417هـ - 1997م.
- نحو إقامة مركز لغوي تطبيقي في فلسطين، مجلة المنبر/ عدد21 – فبراير 1999م.
* السيرافي، أبو سعيد الحسن بن عبد الله:
- أخبار النحويين البصريين، نشره فريتس كرنكو، المطبعة الكاثوليكية – بيروت، بول كتنر – باريس، 1936م.
* الشحات السيد زغلول:
- السريان والحضارة الإسلامية، الهيئة المصرية العامة للكتاب – فرع الإسكندرية، ط1/1975م.
* صالح الشماع:(251/39)
- اللغة عند الطفل منذ الميلاد إلى السادسة، تقديم د.يوسف مراد، ملتزم الطبع والنشر دار المعارف بمصر، 1955م.
* صباح حنا هرمز:
- سيكولوجية لغة الأطفال، دار الشؤون والثقافية العامة – بغداد، ط1/1989م.
* عبد الرحيم محمود:
- الأعمال الكاملة – عبد الرحيم محمود، المقالات النقدية، جمعها وحققها عز الدين المناصرة، دار الكرمل – عَمان 1993م.
* ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا:
- الصاحبي، تحقيق السيد أحمد صقر، دار إحياء الكتب العربية – فيصل عيسى البابي الحلبي، ط1/1977م.
* الفيروز آبادي، مجد الدين يعقوب:
- القاموس المحيط، تقديم نصر الدين الهوريني، دار الجيل – بيروت، د.ت.
* ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم:
... - تأويل مشكل القرآن، دار إحياء الكتب العربية – عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1373هـ - 1954م.
* القفطي، جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف:
... - إنباه الرواة على أنباه النحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2/1401هـ 1981م.
* د. محمد خلف الله أحمد:
- بحوث ودراسات في العروبة وآدابها، مطبعة الجبلاوي، معهد
البحوث والدراسات العربية – القاهرة، ط1/1970م.
* ابن هشام المعافري، أبو محمد عبد الملك:
- السيرة النبوية، قدم لها وعلق عليها وضبطها: طه عبد الرؤوف سعد، شركة الطباعة الفنية المتحدة، الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية، 1974.
* النووي، محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف:
... - شرح النووي على صحيح مسلم، المطبعة الكستلية – القاهرة 1280هـ.
* وافي، د. علي عبد الواحد:
- علم اللغة، مطبعة نهضة مصر، الناشر: دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة – القاهرة، ط7/1393هـ - 1973م.
- نشأة اللغة عند الإنسان والطفل، مطبعة نهضة مصر، الناشر: دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة – القاهرة، ط4/1401هـ - 1908م.(251/40)
الحذف الصوتي في الأفعال المعتلة
بين العربية والعبرية
للدكتور محمد صالح توفيق
مجال بحثنا هذا هو " الحذف الصوتي في الأفعال المعتلة"، ومنهجه هو المنهج المقارن بين لغتين من أسرة واحدة، هما العربية والعبرية، وحرصنا على استخدام كلمة "الصوت" دون "الحرف" الذي ألفه القارئ العربي، فالحرف لا يمثل سوى الرمز المكتوب للصوت اللغوي، ولا يدل على الحركات، أما الصوت فيشمل الصوامت والصوائت، فالإسقاط من خصائص الصوامت، والتقصير يراد به الحركات.
وحصرنا ظاهرة" الحذف الصوتي" في باب واحد هو " الأفعال المعتلة " التي هي من الألفاظ المغرقة في القدم، ويشترك في أغلبها العربية وأخواتها، بل إن الغالبية العظمى من الأفعال المعتلة في اللغة العربية، كما رويت في العهد القديم، لها نظائر عربية، وهذا يفسر سبب اقتصار البحث في منهجه على المقارنة بين هاتين اللغتين دون أخواتهما من اللغات المسماة بالسامية.
بقي أن نلفت النظر إلى أن البحث سوف يركز على الفعل الثلاثي المجرد من الأفعال المعتلة، فهذا أصل الإعلال بصوره الثلاث المعروفة وما اشتق من هذه الأفعال المعتلة فيعلّ بالحمل عليه، لأنه فرعه؛ لذا قصرنا الحديث عما هو أصل، وتاريخيّ ، وشائع في اللغة العربية والعبرية .
جدير بالذكر أن بضع علماء اللغة المحدثين قد تحدث عن نشأة الأفعال المعتلة، وذهب إلى " أن الأفعال كانت في الأصل ثنائية، ثم ضُعِّفت، ثم حصلت تغيرات صوتية في أحد المثلين – فخالف صاحبه، وكثرت بذلك الأفعال ومعانيها " (1) وذهب الدكتور بول كراوس إلى أن طائفة من حالات الاعتلال توضح أن هذا الاعتلال قد يكون مرحلة وسيطة بين مرحلة الثنائية ومرحلة الثلاثية" (2). ولقد دفعتني هذه الملاحظة إلى تصنيف البحث في مباحث ثلاثة تركز على الحذف الصوتي في هذه الأفعال المعتلة. وفقنا الله جميعًا لكل خير، وجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
* * *(252/1)
المبحث الأول: الحذف الصوتي في الأفعال المعتلة الفاء
لابد من التذكير هنا بأن الواو والياء في اللغة العربية قديمها وحديثها هي من الأصوات الصامتة حين تتصدر الكلمة كما في وقف، يسر، ويسميهما علماء الأصوات " أنصاف الصوائت " لأنهما يمثلان وحدتين أو عنصرين في نظام الأصوات الصامتة، ويبدو أن هذه الحالة للواو والياء المتحركتين هو الأصل التاريخي في اللغات المسماة بالسامية، بدليل عدم ذكر الواو والياء إلا مرة واحدة في الأبجدية الإملائية في هذه اللغات، ويؤكد هذا الفهم لدينا ما قاله رايت w. wright :" إن العرب لم يكن لديهم في الأصل علامات للحركات القصيرة. ومن أجل الدلالة على الحركات الطويلة والحركات المركبة استخدموا تلك الأصوات الثلاث الصامتة التي تعدّ أقرب الأصوات إليها في النطق وهي(1) – أي الألف – للدلالة على a، و(ي) – أي الياء- للدلالة على i أو ai، و( و) – أي الواو – للدلالة على u و au "(3) .
وقد عاملت العبرية الهاء معاملة أصوات المد، وصارت الهاء تكتب في آخر الكلمات العبرية ولا تنطق، وقد ذهب بعض الدارسين إلى جعل صوت الهاء ناتجًا من الانفتاح الشديد السعة، مما دعاه إلى إخراج صوت الهاء من الصوامت، وقد سمى ( كانتينو) ما يصدر من هذه الطريقة الأصوات الهاوية كالهاء.(4) ومن هنا عاملت العبرية الأفعال المبدوءة بالهاء معاملة المثال .
وهناك من الدارسين المحدثين من صنّف صوت النون ضمن طائفة من الأصوات عرفت بـ "شبه الحركات". وهي الأصوات المائعة، وهي أصوات مجهورة كالحركات، ويتّسع معها مجرى الهواء كما يتّسع مع الحركات(5).
نخلص مما سبق إلى أننا سنتناول في هذا المبحث الفعل المبدوء بالهمزة (الألف)، والواو، والياء، والهاء، والنون، وهي أفعال دخلها الحذف لهذه الأصوات، والتعويض عنها أحيانًا طلبًا للخفة، وللتخلص من الثقل الذي أوجده تجاور الأصوات أحيانًا .
أولاً- الأفعال التي فاؤها واو أو ياء :(252/2)
الفعل المعتل الفاء في العربية يكثر عليه أن يبدأ بالواو، مثل : وقف وزن. وضع . وجد، ويقل أن يبدأ بالياء نحو: يسر، يمن. في حين أن العبرية يبدأ فيها الفعل المثال بالياء نحو ?????? : وثب،?????? ورث ????? وهب، ومن الواضح أن هذه الياء تقابل الواو العربية.
وتحرص اللغات المسماة بالسامية على وجود هذه الأفعال في صورتها الثلاثية. كما يقول موسكاتي:" وفي النحو السامي تتجمع مجموعات من الأفعال تحت مصطلح الأفعال الضعيفة (المعتلة). وتعد صيغها ممكنة التفسير على أساس الجذر الثلاثي الأصول، إما بتغييرات لفظية هي سمة الأصوات الساكنة ذوات العلاقة، أو بعملية القياس. لقد أظهرت أكثر الدراسات اللغوية تقدمًا أن هذه الأسس تكفي لتفسير عدد محدود من هذه الصيغ الفعلية فقط، أي : تلك التي تحتوي أصواتًا حلقية وحنجرية، وتلك التي تبتدئ بالياء "– y " . وفي المجموعات الباقية يمكن أن نتبين أننا إنما نعالج في الأغلب جذورًا تتألف من ساكنين، أما الأصل الثالث فقد نشأ ثانويًّا في عملية توحيد مع النظام الثلاثي الغالب"(6).
ويعزز ذلك ما نلاحظه من أن الواو أو الياء المتحركة هي مثل أي حرف صحيح، لا يدخله التغيير، ولدينا في العربية أفعال مبدوءة بالواو، وهي ذات علاقة كبرى بالأفعال الثلاثية الصحيحة، من ذلك: نشر ووشر، نصب ووصب، ونطأ ووطأ، ونخز ووخز، وغير ذلك من الأمثلة .
أما الفعل المضارع المعتل الفاء فقد اتفقت اللغتان العربية والعبرية على حذف الفاء منه، وفي العربية أمثلة غير يسيرة مكسورة العين، وحذف فيها حرف المثال نحو: يقف، يجد، يزِن، يعِد، يصِف، يرِد، يصل، يلِد. وقد حصر العلماء السبب الصوتي وراء هذا الحذف وهو وقوع الواو بين ياء وكسرة، فالفعل (يزن) أصله: (يَوْزِن) فحذفت الواو للثقل.(252/3)
يؤكد هذا التعليل ابن يعيش بقوله: " إنما حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة في الفعل، والأصل فيه: "يَوْعِد"، وذلك أن الواو مستثقلة، وقد اكتنفه ثقيلان: الياء والكسرة، فلما اجتمع هذا الثقل وجب تخفيفه بحذف شيء من هذه الأشياء المستثقلة، فلم يجز حذف "الياء"؛ لأنها حرف المضارعة، وحذفها – بمعناها مع كراهية الابتداء بالواو، ولم يجز حذف "الكسرة"؛ لأنه يعرف بها وزن الكلمة، فلم يبق إلا حذف "الواو" وكان أبلغ في التخفيف، لكونها أثقل من "الياء" و"الكسرة" مع أنها ساكنة ضعيفة، فقوي سبب حذفها"(7) .(252/4)
ويبدو أن هذا التفسير الصوتي لدى علمائنا القدامى هو من إيحاء الكتابة العربية التي أهملت حركة الفتحة مع الياء، وكلاهما يمثل مقطعًا مستقلاًّ بعد الحذف، ولكن هذا المقطع في الأصل هو مقطع مغلق بسكون الواو هكذا (يَوْعِد - yaw c idu يَعد ya c idu) فالذي حدث صوتيًّا هو أن الصوت اللين المركب (aw) اختصر إلى الفتحة القصيرة، وهي نفس المعاملة الصوتية للكلمات " حوض، قَوْل، بيت " وكان على علمائنا مراعاة وجود الفتحة كأثر صوتي في هذا التغير الصوتي للكلمة بدليل حين توجد الضمة مثلاً مع الياء لا يكون هذا الحذف، كما في الأفعال: يُولد، يُوزن، يُوجِد. وقد اقترب من هذا الفهم عمر ابن ثابت الثمانيني حين قال:" ثقل عليهم الخروج من ياء إلى واو بعدها كسرة، كما ثقل عليهم الخروج من كسر لازم إلى ضم لازم؛ فلأجل هذا أسقطوها فقالوا: "يَعِد" ويَزِن" و" يَرِد " و"يَجِد". ولما أسقطوها مع الياء أسقطوها مع جميع حروف المضارعة، فقالوا: تَعِد " و"نَعِد" و"أعِد" وإنما أسقطوها في جميع حروف المضارعة؛ لأنها مساوية للياء في كونها حرف مضارعة، والعلة في إسقاطها هي وقوعه بين الياء والكسرة، يدلّك على ذلك أنها إذا زالت الكسرة بعدها صحت ولم تسقط ... ويضبط هذا كله قوله تعالى : { لم يَلد ولم يُولد } سقطت الواو من (يلد) لوقوعها بين ياء وكسرة، وثبتت في قوله تعالى (ولم يولد) لوقوعها بين ياء وفتحة (8).
كما حذفت فاء الفعل المثال في الأمر والمصدر، يقال:" عِدْ "، "عِدَة" و"زن" فالأمر على وزن " عِل" والمصدر على وزن "عِلة" بزيادة التاء عوضًا عن المحذوف، قال عنه سيبويه:"اطرد ذلك في المصدر وشبه بالفعل؛ إذ كان الفعل تذهب الواو معه، وإذ كانت المصادر تضارع الفعل كثيرًا... فإذا لم تكن الهاء فلا حذف، لأنه ليس عوض... فإن بنيت اسمًا من "وعد" على "فعلة " قلت: "وعدة"، وإن بنيت مصدرًا قلت: "عِدَة"(9) .(252/5)
أما في اللغة العبرية فيكثر فيها بدء الفعل المثال بـ "الياء" وتعامل هذه اللغة الأفعال المبدوءة بالياء معاملة العربية للفعل المثال المبدوء بالواو، فتحذف فاء المثال العبري – وهي الياء – في المستقبل والأمر، والمصدر، ويعوض عنه بالتاء أيضًا مع المصدر. وفي بعض الحالات تصح هذه الياء امتدادًا لكسرة حرف الاستقبال، كما في الفعل???? فالمستقبل منه ?????? طاب يطيب، ويبدو أنها هي الياء الأصلية في حين أن الياء التي تحذف هي المنقلبة عن واو في العربية، ومن أمثلة فاء المثال:
????? نزل ????? ينزل ??? انزل ????? نزوًلا فهذه الياء تتحول إلى واو في معظم التصاريف ???? أنزل ومثله ????? عُلم، أعلن من الماضي ?????? عرف، ومنه????? توراة من الفعل الماضي ?????.
ومن المعلوم أن اللغة العبرية خطت خطوة أخرى مع الفعل المثال الذي حذفت ياؤه في المستقبل، وهي الاستعاضة عن المحذوف بإطالة حركة الكسر مع حرف الاستقبال ليصبح صيريه بدلاً من حيريق قطان يقال ?????? جلس ?????? يجلس.
????? عَلمِ، عرف ????? يعلم، يعرف، ومن المعلوم أن الأمر في اللغتين من أي بنية هو تابع للمستقبل وجار مجراه، لذلك حذفت فاء المثال في الأمر تبعًا للفعل المستقبل، يقال:
???? ثب من ?????? ??????? وثب يثب ?? اعرف من ?? ??? ?? ??? عرف يعرف.
والعلة في كون الأمر تابعًا للمستقبل أنه مضارع له في معناه، وهذا يفسر لنا القاعدة النحوية العربية: يبنى الأمر على ما يجزم به مضارعه.(252/6)
وكذلك المصدر في اللغتين تحذف منه فاء المثال، ويعوض عنها بتاء في آخره، يوضح ذلك ابن بارون بقوله: "وأما المصادر فاللغتان متجانستان في سقوط فاء الفعل من الأفعال التي فاؤها ياء عندنا، وواو عند العرب، وثبوت التاء آخرًا نحو??? و ??? و??? و??? و???? ونظائرها: ثقة، زنة، عدة، جدة. فإن هذه التاء تاء على الحقيقة، ويبدو ذلك عند اتصالها بالمبنيّات، وهذا مختص في العربية بهذه البنية من المصادر؛ لأنها قد جاءت عندهم أيضًا على بنية الوعد: الوزن"(10).
ويبدو لنا أن وراء حذف فاء المثال من المصدر هو التنافر الذي نجده في الازدواج الصوتي في بداية المصدر (و = wi) فالواو وحدها لا تمثل ثقلاً لوجودها مذكورة في الأفعال الماضية مع الفتحة نحو: وَجَد، وَزَن، وعَد.
ومن أجل الاطلاع على تفصيل أكثر حول الأصل الواوي في العربية والياء المبدلة عنها في العبرية أذكر خلاصة ما استنتجه موسكاتي وزملاؤه وهو: " حدث في السامية الشمالية الغربية تطور متميز هو قلب الواو ياء y ? w في أول الكلمة، (كما في الأكدية والعربية والأثيوبية: "ولد y ? w " بمعنى حمل، والأوغاريتية والعبرية والسريانية: يلد yld).. وبقيت الواو الأولى في حرف العطف، وفي أسماء قليلة، وقد تفسر بقايا الواو في النبطية (في حالات وجود الياء في اللغات الشاملة الغربية الأخرى) بالتأثير العربي" (11).
ويمكن تلخيص ما سبق في نقاط:
1- تحذف فاء الفعل المثال، وهي الواو في صورة المضارع والأمر والمصدر اقتصادًا في الجهد العضلي، والتخلص من الثقل الذي تحدثه الكسرة الواردة في عين الفعل.
2-حذف الواو العربية في الفعل المثال أكثر من حذف الياء، لأن حذف الواو لا يؤدي إلى لبس، وهو الأصل، أما حذف الياء، فيؤدي إلى اللبس، لذلك لم تحذف من المضارع يينع، ييسر، وهو اللبس الذى يحدث بين الماضي والمضارع في حالة الحذف. ولعل هذا يفسر لنا وجود ياء تبقي في العبرية في المستقبل في مثل?????? "يطيب".(252/7)
3-لوحظ في العبرية والسريانية تطويل صوت المد في صدر الفعل المستقبل بعد حذف فاء المثال كما في ?????? يجلس.
4-اتفاق المصادر في اللغتين العربية والعبرية في سقوط فاء الفعل المثال وثبوت التاء في آخره كما في ?????? ثبة، جلوس.
ثانيًا- الأفعال التي فاؤها " همزة ":
تطلق الألف في العربية وأخواتها على الهمزة، وبعض العلماء يطلق على الهمزة مصطلح "الألف المتحركة" في مقابل "الألف الساكنة" التي تطلق على ألف المد في نحو" قال". قال الزبيدي: "والهمزة أخت الألف – قديمة مسموعة مشهورة، سميت بها؛ لأنها تهمز، فتنهمز عن مخرجها، قاله الخليل، فلا عبرة بما في بعض شروح الكشاف أنها لم تسمع،وإنما اسمها الألف ... قال شيخنا: وقد فرق بينها وبين الألف جماعة بأن الهمزة كثر إطلاقها على المتحركة، وألف على الحرف الهاوي الساكن الذي لا يقبل الحركة " (12).
وهذا يدل على أن الهمزة فرعية على الألف في الشكل الكتابي على الأقل، وأن الألف إنما همزت بسبب تحركها، ولعل اللهجات الحجازية قد عرفت الهمزة في طور متقدم من حياتها؛ لوجود الهمز كصوت حلقي في جميع اللغات المسماة بالسامية لدرجة أن الأكدية فقدت أصوات الحلق الأربعة (العين والغين والهاء والحاء) واستعاضت عنهم بالهمزة التي حلت محلهم، فصارت الهمزة تمثل عندهم خمسة أصوات أصلية. ولأستاذنا الدكتور كمال بشر قول صائب في شأن الهمزة حيث يرى أن " بالعربية أصوات تقل أو يندر وجودها في كثير من اللغات المعروفة لنا في الشرق والغرب على سواء، من ذلك الهمزة المعروفة لنا في التراث بهمزة القطع، كما في الصوت الأول من نحو "أحمد" و" أعرف" و"أعلام" مثلا، فهذه الهمزة ليس لها وجود في كثير من اللغات الأوربية وغيرها(13).
وهذا الرأي يتفق في أساسه مع ما قررناه من أن العربية وأخواتها تختص وتنفرد بالهمزة التي تتميز بها عن لغات الفصائل اللغوية الأخرى.(252/8)
والذي يعنينا في صوت الهمزة هو مجيئها في صدر الأفعال، وما يطرأ عليها من تغيير، وأبدأ بحديث ابن جني:" يقولون: يأخذ، ويأكل، ويأمر، فيفتح حرف المضارعة، ويسكن ما بعده. وإذا أمروا قالوا: خُذْ، وكُلْ، ومُرْ، بلا همزة وصل. فالقول في هذا: أن أصله: أُؤْخذ، وأُؤْكل، وأُؤْمر، فلما اجتمعت همزتان، وكثر استعمال الكلمة، حذفت الهمزة الأصلية، فزال الساكن، فاستغني عن الهمزة الزائدة " (14).
ومما يلاحظ على نص ابن جني أنه ذكر علتين وراء حذف الهمزة في نحو: خذ، وكل، ومر، إحداهما: اجتماع همزتين في البداية، مما أدى إلى التخلص من المتماثلين بحذف الهمزة الأصلية أولاً، والعلة الثانية: كثرة استعمال الكلمة في صورة الحذف للهمزة، إذ هي أكثر الأصوات تعرضًا للتغيير والحذف، ولذا غلب الحذف هنا على الأصل، ولا يجوز الإتمام، فلا يقال: أؤخذ، أؤكل، فهذا هو الأصل المهجور والمرفوض استعماله.
وهذا الحذف للهمزة في الأمر عده الصرفيون العرب من الحذف غير القياس، لأن القاعدة الصرفية توجب قلب الهمزة الثانية من جنس حركة الأولى ما دامت ساكنة، فالقياس قلب الهمزة الثانية واوًا؛ لانضمام ما قبلها، ولكن الحذف أمر أخف من القلب، ولذا التزم العرب بالحذف هنا، لكثرة استعماله لديهم.
ومما يلاحظ في اللغة العبرية أن الأفعال المهموزة الفاء إذا جىء بالمستقبل منها تسهل الهمزة مثل ????? أكل، المستقبل منه: ?????? يأكل، وكذلك ????? قال، المستقبل منه ?????? والأصل:????????، ????????، وكعادة اللغة العبرية فهي تعوض عن تسهيل الهمزة بإطالة الباتح إلى قامص، فتصير الصيغة التي معنا ????? ??????، وهو الاستخدام الذي نسمعه في اللهجات العامية الحديثة، ولكن العبرية خطت خطوة ثالثة وهي تحول القامص إلى ضمة طويلة ممالة، فالتقى مقطعان متماثلان في حركة الضمة، فتحولت الحركة في المقطع الثاني إلى الباتح.(252/9)
وقد اختار هذا التفسير اللغوي لهذه الأفعال العبرية "موسكاتي" وزملاؤه، قال:" السمة الأولى للأفعال المهموزة هي حذف الهمزة التي تأتي بعد الحركة مباشرة، مع التطويل الناتج لصوت المد السابق في الرقعة السامية الشمالية، مثلاً من الجذر "أخذ " السامية الأصل " يأخذ" .. في العبرية: y?h { e { z يمكن أن يقدم نتيجة تطور ما يأتي:يأخذ ya’hudu، تصيرy?h { uz، ثم تصير y?h { oz ، ثم تصير y?h { ez (بالمخالفة) وهذا التطور، مع ذلك، مقصور على أفعال قليلة مع الهمزة بصفتها الصوت الأصلي الأول (أبد bd’ " يهلك" أبى by’ "يريد" وki’ "يأكل" وmr’ "يقول وpy’ "يخبز") (15) وتصريف هذه الكلمات من قبيل تصريف المعتلات بالمقابلة مع الآخر" (16).
ولكن اللغة العبرية تحتفظ بالهمز في بداية فعل الأمر، وتنطقه محققًا ????? قل، ????? كل. ووراء هذا سبب صوتي، وهو أن فاء الفعل – وهو الهمز – حذف عند دخول حرف الاستقبال – وهو الهمز أيضًا لاجتماع همزين ولكن هذا الهمز الأصلي عاد للظهور في صيغة الأمر، عند الاستغناء عن همزة الاستقبال، وحين يكون حرف الاستقبال هو الياء أوالتاء أو النون تسهل الهمز فيصير ألفًا لا ينطق وإنما تطال الحركة السابقة عليه.
ثالثًا- الأفعال التي فاؤها " هاء":
حروف المد واللين في اللغة العبرية هى ? ،?، ?،?. والهاء تستعمل كثيرًا في موضع حروف المد الأخرى، إذ إن الهاء حرف رخو مهموس يستخدم للتعبير عن معانٍ مختلفة، ويراها العلماء تعويضًا ظاهريًّا عن الواو والياء في أواخر الأفعال المعتلة، فهي ليست أصلية، بل أصلها هو الواو أو الياء التي تظهر عند الإسناد.
صلة الهاء بأصوات المد معروفة تاريخيًّا في العربية وأخواتها، وقد أشار إلى شيء من ذلك ابن جني، حين قال: "لو كانت ألف " آل" بدلا من هاء "أهل" لقيل: انصرف إلى آلك، كما يقال: انصرف إلى أهلك ولقيل: آلك
والليل، كما يقال: أهلك والليل، وغير ذلك مما يطول ذكره" (17).(252/10)
... ومن المؤكد أن علماء العربية القدامى قد أدركوا العلاقة القوية بين الهاء والهمزة في صدارة الكلمة، ومن هؤلاء ابن جني الذي قال: "وروينا عن قطرب عن أبي عبيدة أنهم يقولون: أل فعلت؟ ومعناه: هل فعلت؟ "(18) وهذا مما يفسره التبادل الصوتي في أداة الاستفهام العبرية (?) الهاء التي يقابلها في العربية الهمزة وهل، وكذلك أداة النداء العبرية وهى الهاء، وهذه الهاء هي نفسها أداة التعريف في العبرية، مما يؤكد لدينا سهولة التبادل الصوتي بين صوتي الحنجرة (الهمزة والهاء). يقول أستاذنا الدكتور محمد بحر عبد المجيد: "يتبادل صوت الهاء مع الهمزة في اللغتين مثل هاء التعريف في العبرية وهمزة "أل" المعرفة في العربية. والهاء في الأوزان المزيدة في العبرية، والهمزة في الأوزان المقابلة في العربية. وهاء الاستفهام في العبرية والهمزة الاستفهامية في العربية" (19).
ومن المعلوم أن اللغة العبرية تعامل الفعل الذي فاؤه هاء معاملة الأفعال اليائية الفاء عبريًّا والواوية الفاء في العربية، فتحذف الهاء في المستقبل والأمر والمصدر يقال: ?????? : ذهب?????? : يذهب ???? اذهب ????? ذهاب، ويظهر مع المصدر التعويض بالتاء عن الهاء المحذوفة ولدى علماء الساميات احتمال قد يصل إلى درجة اليقين لدي، وهو أن أصل هذا الفعل بالواو (????)بدلاً من????(20).
وثمة ما يشير – وإن كان الأمر يحتاج إلى إحصاء – إلى أن في العربية أفعالاً تنطق بالهاء مرة والواو مرة أخرى، وتتفق في المعنى، من ذلك: (هصص الرجل): برق عينيه، و(وصصت المرأة) : ضيقت نقابها لتظهر عيناها (21) وكذلك الفعلان "هزر" و"وزر" كلاهما يدل على الضرب والغلبة، ومثله أيضًا: هزم فلان العدو هزيمة: كسر شوكته، و: وزم فلان الشيء: ثلمه، أي: كسر حرفه. والتفسير الصوتي الذي(252/11)
نرتضيه هو أن المتكلمين بهذه اللغات استغنوا عن الواو في بداية الكلمة لصعوبتها، وعوض عنها بالهاء، وأجنح إلى أن هذا حدث مع الكلمات العربية (شفوي وشفهي وسنهي وسنوي)، وأمثلة هذا كثيرة بين اللغة العبرية واللغة العربية ????? =أتم، ????? (آرامية) =هناك، وهي ذات علاقة لغوية بقول العرب وتن بالمكان: ثبت وأقام به.
رابعًا - الأفعال التي فاؤها نون:
حرص علماء اللغة العربية القدامى على بيان الشبه بين النون وحروف المد في وجوه عديدة، يقول ابن جني" إن للنون شبهًا بحروف اللين قويًّا لأشياء منها: أن الفئة التي في النون كاللين الذي في حرف اللين، ومنها: اجتماعها في الزيادة معهن، ومعاقبتها لهن في الموضع الواحد من المثال الواحد .. وجعلوها أيضًا علم الرفع في نحو يقومان ويقومون وتقومين كما جعلوا الواو والألف علمًا له في نحو: أخوك
وأبوك، والزيدان، والزيدون إلى غير ذلك مما يطول ذكره " (22) .
وقال الثمانيني:" فما أشبهت النون لحروف المد من هذه الوجوه أجروها مجراها،ومع هذا فلابد أن يكون الفرع أنقص من الأصل، ولا يجوز أن يساويه" (23) ويخيل إليَّ أن معاملة العبرية للأفعال النونية الفاء معاملة أصوات المد وراءه هذا الشبه الموجود، والواضح في كثير من ظواهر اللغة العربية. وحين تكثر النونات في الكلمات العربية تبدل النون ياء كما في تظنيت بدلاً من تظننت، وتسنيت بدلاً من تسننت، ومن الأمثلة المشهورة قول العرب إيسان وإنسان وكثيرًا ما تحل الياء محل النون في العبرية، ومن أمثلته ??? و ??? = قام، ??? و ??? = خرج.(252/12)
وقد خص الدكتور إبراهيم أنيس صوت " النون" بعناية خاصة في كتبه، ومما تفرد بذكره قوله: " يعرض للنون من الظواهر اللغوية ما لا يشركها فيه غيرها لسرعة تأثرها بما يجاورها من أصوات، ولأنها بعد اللام أكثر الأصوات الساكنة شيوعًا في اللغة العربية، والنون أشد ما تكون تأثرًا بما يجاورها من أصوات حين تكون مشكلة بالسكون، حينئذٍ يتحقق اتصالها بما بعدها اتصالاً مباشرًا.(24) وهذا ما شاع في العبرية مع الأفعال النونية الفاء في نحو ????? أعطى فالنون تفنى في الصوت التالي لها، ويعوض عن ذلك بالتشديد فيقال?????? يعطي. ويشيع هذا الفناء بالنون في وسط الكلام في الضمير?????? أنت، ???? = بنت??????= أنثى. ?????? حنطة.
وتتفق اللغتان العربية والعبرية في عدم فناء النون في أصوات الحلق الواقعة بعد النون الساكنة، فالعربية تنطق النون كاللام الساكنة لبعد الحرفين عن مخرج أصوات الحلق مثل: من آمن، من عليم، من حكيم وتلجأ العبرية إلى حذف النون والتعويض بإطالة حركة الصامت السابق عليها، يقال ????? جرى، تدفق، والمستقبل????? يجرى، يتدفق يقول موسكاتي: " في السامية الشمالية تدغم النون التي لا يليها صوت مد بوجه عام، بالصوت الساكن الذي يليها، مثلا: الأكدية indin "أعطى" تصير iddin، والأوغاريتية yupl "يسقط تصير yppl ، والعبرية yins } or "يحرس" تصير yis { so { r، والسريانية nent { or "ينظر" تصير: net { t { or ولا يحدث هذا الإدغام في العبرية قبل سواكن المجموعة الحلقية والحنجرية، إذ إن هذه السواكن لا يمكن أن تضعف"(25).
وقد عاملت العبرية الفعل ????? معاملة الفعل النوني الفاء ??? فحذفوا اللام وعوضوا عنها بتشديد الحرف التالي لها فقالوا ????? يأخذ.
المبحث الثاني: الحذف الصوتي في الفعل المعتل العين(252/13)
الفعل الذى اعتلت عينه يسمى (الأجوف)، والقاعدة الصرفية المشهورة في الفعل الماضي:"تحركت الواو أو الياء، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا" وهذه القاعدة تتحدث عن الأصل التاريخي القديم "قَوَل – بَيَع" والتي صارت تنطق "قال – باع".
وعين الأجوف في اللغتين العربية والعبرية يكون صوت مد، هو الواو أو الياء، ويندر وجود صوت الألف كعين للفعل الأجوف في العربية مثل : يخاف، يهاب، وينعدم ذلك في العبرية في الماضي والمستقبل. وقد أشار علماء العربية إلى أن الألف لا تكون أبدًا أصلاً،ولا تكون بدلاً من أصل(26).
ونبدأ حديثنا عن الفعل الماضي الأجوف:
ذهب علماء العربية القدامى إلى أن صيغة فعل من الأجوف تتوالى فيها الأمثال التي تتميز بانفتاحها الشديد مما يؤدي إلى الثقل، فالفعل (قام) أصله ق ـَـ وَـ م ـَـ qawama، والفعل (باع) أصله: بَـ ى ـَـ ع ـَـ baya’a.
ومن تعليلاتهم الصوتية ما يقوله الثمانيني:" حروف المد واللين تتقارب وتتجانس، والحركات مأخوذة منها، فإذا ضمت الواو فكأنها واوان، وإذا انكسرت الياء فكأنها ياءان، وإذا انضمت فكأنها ياء وواو وإذا انفتحت فكأنها ياء وألف؛ لأن العرب تجري هذه الحركات مجرى هذا الحروف، فلما كانت حركة الياء والواو تؤدي إلى هذا الثقل والاشتباه قلبوهما إلى حرف يأمنون حركته. وهذا وجه حسن قوي في القياس" (27) .
والصوت الأخف الذي يذهب الثقل عندهم هو (الألف) الذي صورها لنا ابن جني بأنه: "أصل المد، وأقواه، وأعلاه، وأنعمه، وأنداه. وإنما الياء والواو في ذلك محمولان عليها، وملحقان في الحكم بها"(28).(252/14)
ويخيل إليَّ أن علماءنا القدامى حرصوا على أن ينصوا في قاعدتهم على تحريك الواو أو الياء، لاعتبارها من الحروف وليست من الحركات التي لا تتحرك، وما كان أيسر عليهم أن يقولوا ما يقوله المحدثون سقوط الواو وإطالة الصامت وهو الفتحة القصيرة فصارت ألفًا. وقد أساء فهمهم بعض اللغويين المعاصرين فقال: " إن قول الصرفيين بأن (قال) أصلها (قَوَل) تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، وكذلك (باع) أصلها: بَيَع .. لا يسلم لهم؛ لأن الواو والياء لما تحركتا قويتا بالحركة، فأصبحت كل منهما تشبه الحروف الصحيحة، وبهذا لم تقو على قلب الواو والياء ألفًا لأن الواو والياء لا يقلبان إلا بعد إيهانهما بالسكون"(29) أقول: إن الصرفيين القدماء حرصوا على النظام الصوتي الثلاثي للكلمة، وراعوا الشبه بين المعتل والصحيح، لذا حرصوا على ذكر تحريك الواو والياء، يقويها ويقربها من الصحيح. ولكن الذي لا يمكن قبوله هو أن الواو أو الياء قلبت ألفًا دون أية ذكر للفتحة التي كانت معهما، فنحن لدينا ثلاثة مقاطع قصيرة مفتوحة هي a / ya –ba فإذا أبدلنا الياء ألفًا فأين فتحة الياء وفتحة العين؟ إن التفسير المقبول حينئذٍ هو إسقاط الياء، وتحويل الكلمة إلى مقطعين الأول منهما طويل مفتوح (baa) والثاني كما هو مقطع قصير مفتوح.(252/15)
وفي اللغة العبرية يأتي الفعل الماضي مع ضمائر الغياب في صورة ثنائية الحرف الأول منها مشكل بالقامص، والثاني آخر الفعل ساكن مثل ??? قام ??? صام، ??? نام. وحركة القامص العبرية تعادل ألف المد في العربية، بل ذهب أستاذنا الدكتور محمد بحر عبد المجيد إلى "أن العبرية كانت تثبت الألف كالعربية قبل إدخال الشكل في الكتابة العبرية، ونجد آثار ذلك في عدة مواضع في العهد القديم، مثلاً في سفر هوشع10/14???? "(30). وهذا ما أقره ابن بارون مركزًا على الواقع الصوتي حين قال: "الأفعال المعتلة العين متفقة في اللغتين بإبدال عين الفعل الذي هو واو أو ياء بالألف، مثل: قام، باع، ونظير ذلك ??، ?? ،?? ، إلا أن الألف عند العرب ثابتة في الخط واللفظ، وهي عندنا ثابتة في اللفظ، ساقطة في الخط، إلا في ألفاظ يسيرة شاذة لا يقاس عليها"(31). وقد ذهبت الأستاذة الدكتورة نازك إبراهيم عبد الفتاح إلى أن الأجوف في العبرية في صورة الماضي "ينتمي إلى مجموعة الأفعال ذات المقطع الواحد، وقد صار ثلاثيًّا أيضًا بتقوية العنصر الصوتي، وهو الياء أو الواو"(32).
وعندما يسند الفعل الماضي الأجوف إلى ضمائر المتكلم والخطاب وضمير الغائبات (في العربية) مثل: (قلت. قلنا. قلن – بعت. بعنا – فيغلب ضم المقطع الأول (pu) وكسر المقطع الأول (bi) . وقد رأى برجشتراسر أن: "مما خالفت فيه العربية اللغة السامية الأم، أن الأفعال الجوفاء، شبهت حركة ماضيها بحركة مضارعها، في مثل:"قمت" على قياس: " يقوم" و "سرت" على قياس "يسير"، والحركة في العبرية والآرامية هي الفتحة دائمًا، كما هي في الغائب، أي: قام، وسار، مثال ذلك في العبرية ???????? مضارعها ?????? ، ???????? مضارعها ?????? ويوجد نوع ثالث في العربية: خاف يخاف خفت، وحركة فائها بالكسرة، لأنها وزن فعل"(33).(252/16)
ولكن "رايت " يتحدث عن الأصل العربي فيقول:" إذا كان حرف العلة – الواو، أو الياء – حركته الفتحة فإن حرف العلة يحذف، وتتحول الفتحة قبله إلى حركة تناسب حرف العلة المحذوف مثل:
قَوَمْتُ ? قُمْت ? سَيَرْتُ ? سِرْت
ويحدث هذا التغيير أيضا مع الواو المضمومة أو الياء المكسورة التي سبقها الحرف الأول مفتوحًا، فإن هذه الفتحة تتحول إلى الحركة التي تجانس حركة المحذوف ، يقال :
طَوْلت ? طُلت ? هَيِبت ? هبت
فإذا كانت الواو مكسورة، فتتحول الفتحة مع الحرف الأول إلى كسرة مثل:
خَوِفْتُ ? خِفْت
مَوِتْتَ ? مَوِتَّ ? مِتَّ ."(34)
والتفسير الصوتي المقبول للفعل الأجوف المسند إلى تاء الفاعل مثلاً على النحو التالي:
- الأصل التاريخي مع الضمير
qawamtu sayartu
- تحويل الصيغة
qawumtu sayurtu
-حذف حركة الفاء
qwumtu syurtu
-نقل حركة العين
quwmtu suyrtu
-حذف الواو أو الياء لالتقاء ساكنين
qumtu surtu
الفعل المستقبل الأجوف:
لخص علماء العربية القدامى صورة المستقبل الأجوف في تغييراته الصوتية في أنه يعل إعلال ماضيه، حتى يجري الفعل على وتيرة واحدة فلا يختلف، ولذا قالوا في المستقبل: "يقوم" والأصل : يَقْوُم "والفعل" يصوغ" أصله " يَصْوُغ. نقلوا ضمة الواو إلى الصاد فصار " يصوغ" على وزن "يفعُل". أما الفعل:"يبيع" أصله: "يَبْيِع "نقلوا كسرة الياء إلى الباء فقالوا: "يبيع" على وزن "يفعِل" (35).
ومن الأفعال الجوفاء "يخاف" "يهاب" يقول ابن يعيش عنهما:" نقلوا الفتحة من الواو والياء في "يخوَف" و"يهيَب" إلى ما قبلهما، وهو الخاء والهاء، ثم قلبتا – أي الواو والياء – ألفين لتحركهما في الأصل وانفتاح ما قبلهما الآن، ففي هذين الفعلين أعني "يخاف" و"يهاب" نقل وقلب، وفي "يقوم " و"يبيع" نقل فقط.(252/17)
وتميل العبرية إلى تغيير التركيب المقطعي لأصل الفعل المستقبل الأجوف ???????، فهو مكون من قطعتين yaq/ wum تتحول نهاية المقطع السابق لتصبح بداية المقطع الجديد، وينطق المقطع الأول طويلاً مفتوحًا هكذا ?????? yaa/ quum ومثله المعتل العين بالياء نحو??? - ?? يغني فأصله???????? .
هذا معناه أن الذي يظهر في المستقبل في العربية والعبرية هو ضمة طويلة أو كسرة طويلة، بعد حذف الواو أو الياء. ويفترض هنا وجود الصامت المحذوف الذي هو الصامت الثالث في الكلمة، في حين أن أنصار الثنائية يرون أن الفعل الأجوف أصله ثنائي، ولا يوجد معنا صامت ثالث فيه، وليست الضمة الطويلة دليلاً على الواو المحذوفة، ولا الكسرة هي الدليل على الياء المحذوفة. وقد ذكر جزينيوس Gesenius أن ممن يؤيد فكرة أن الفعل الأجوف ثنائي الأصل بوتشر Bottcher و" مولرMuller " و"شتاده stade " و"فلها وزن Welhausen " وأثبتوا ذلك بتصريف الفعل الأجوف في الماضي والمستقبل نحو: قال، باع، خاف، طال في العربية qaam ، meet ، boo?، عبريًّا وانتهوا إلى أن الذي يظهر في المستقبل هو ضمة طويلة كما في ????? يقوم، أو كسرة طويلة كما في ?????? يضِيع (37).
ويبدو لنا أن اللغويين العرب القدماء على حق حين نظروا إلى الأفعال الجوفاء على أنها ثلاثية الأصل، ونختلف معهم فقط في التفسير الصوتي لهذا التحول من "يقْوُل" إلى "يقُول" ومن "يبْيِع" إلى يبِيع" فهم لا ينصون على حذف الواو، وإنما يرون فيها مجرد نقل ضمة الواو وكسرة الياء إلى ما قبلها، والأمر عندنا أن بداية المقطع الثاني (wu) أو(yi) تحول إلى ضمة طويلة وإلى كسرة طويلة مما يدل على إقساط رمز الواو والياء.(252/18)
وقد ذهب بعض اللغويين المعاصرين إلى "أن الأصول الثلاثية الصوامت لا تمثل المرحلة النهائية من مراحل التحليل، إذ الواقع أن من بين هذه الأصول الثلاثية أنواعًا من الأفعال تعد ثنائية، ولا تعد ثلاثية، إلا لاعتبارات صرفية، تلك هي الأفعال المضعفة والمعتلة التي لا يكون فيها لتكرار الصامت الثاني، أو لإضافة حرف العلة تأثير يذكر في تغيير المعنى الأساسي الذي يفيده الأصل الثنائي، وذلك نحو(ندّ) فإنه أصل ثنائي يفيد معنى الحركة أو الابتعاد، سواء ضعف ثانيه فقيل (ندّ) أو مد أوله فقيل: (ناد) أي "تحرك أو تمايل من النعاس " (38).
إن ما يهمني في النص السابق هو عبارة " إضافة حرف العلة (لا يكون له) تأثير يذكر في تغيير المعنى الأساسي الذي يفيده الأصل الثنائي" هذا الحكم يحتاج منا إلى اختيار إحدى مواد المعجم لنتبين من خلاله مدى التأثير وعدمه، ويعيننا في ذلك كثيرًا معجم مقاييس اللغة لابن فارس، وليكن المثال لدينا من باب الهمزة:
-قال ابن فارس في باب (أث)" هذا باب يتفرع من الاجتماع واللين، وهو أصل واحد".
- قال ابن دريد: أث البيت أثا: إذا كثر. ونبت أثيت. " (39).
وفي "باب الهمزة والواو وما بعدهما من الثلاثي" في هذا الباب عند ابن فارس جاءت الأفعال الجوفاء كلها من أصل ثلاثي، له معان مختلفة عن الثنائي المستعمل منها ومن ذلك: أوى يأوي إليه إواء. والآوي أحسن(40) في حين أن كلمة " أو" مثلاً كلمة شك وإباحة، و (أي) كلمة تعجب واستفهام(41).
ولو نظرنا في "باب الهمزة والياء وما يثلثهما في الثلاثي " فستتضح لنا الصورة أكثر فقد وجدت أن " الأد" يعني القوة، وكذلك:"الأد" يدل على القوة(42) والحفظ مما يدل هنا على توافق المضعف الثلاثي مع الفعل الأجوف.(252/19)
وقد تصفحت باب الباء فوجدت بونًا شاسعًا بين (بعْ) التي تعني الثقل والإلحاح و(بيع) التي تعني بيع الشيء. وكذلك (بان) التي تعود إلى اللزوم والإقامة في حين أن (بان يبين) تعود إلى بعد الشيء وانكشافه.
وصيغة الأمر الأجوف في اللغتين تابعة للمستقبل فيها حسب ما هو في سائر الأبنية يوضح ذلك موسكاتي بقوله:" يظهر في الأمر صوت المد الطويل المناسب بين الأول والثالث، مثلاً: الأكدية: كون k?m "أثبت"، والعبرية والسريانية والأثيوبية q?m "قم" (العربية: قم) بسبب إسقاط صوت المد الطويل في المقطع المغلق)؛ الأكدية: ??m ، والعبرية ??m، والسريانية s?m "والأثيوبية m ضع" (العربية : شِمْ، للسبب نفسه في أعلاه).. وصوت المد المتميز يبقى وهو طويل (كذلك في العربية) في تصريف الأفعال المزيدة في الصدر(43).
والذي نراه أن العربية في صيغة الأمر الأجوف للواحد المخاطب لا تسقط صوت المد الطويل بل تقصره فقط، فالأصل qoom قوم والمنطوق qom. والعامية المصرية يحافظون في نطقهم على صوت المد الطويل كاملاً، نسمع كثيرًا: (ياخى قوم). ويقصر أيضا صوت المد الطويل في العربية عند إسناد الفعل الأجوف إلى ضمير المخاطبات نحو: أيتها النساء قمن.
وقد اتفقت اللغتان في وجود صوت المد الطويل عند إسناد الأجوف إلى ياء المخاطبة وواو الجماعة، نحو???? = قومي=?????? قوموا. وتبقى الواو في صورة الضمة الطويلة الصريحة عند إسناد الفعل الأجوف العبري إلى ضمير المخاطبات في مثل ??????= قمن.(252/20)
والصيغة المصدرية الشائعة من الفعل الأجوف تحافظ على الواو أو الياء في صورة الضمة الطويلة الممالة، نحو: ???? قيام???? صيام. وهذا مما يؤكد أن اللغتين تتعامل مع الفعل الأجوف على أنه ثلاثي الأصل ويندر أن تنفي هذا الزعم بعض التغييرات الصوتية المعينة. ويتأكد الأصل الثلاثي لدينا إن نظرنا إلى لغة ثالثة أخت لهما هي الأثيوبية، ففيها مثلاً bayana بمعنى: تحقق، و dayana بمعنى: دان، فقد بقيت هذه الأفعال الجوفاء على صورتها البنائية الثلاثية (44).
ونأتي إلى الحديث عن الفعل المضارع الأجوف في حالة الجزم، نلاحظ أن النحاة العرب يرون أن الواو – كصوت صامت – حذف للالتقاء الساكنين نحو: يقولُ لم يقلْ. والحق أن الذي حدث هو تقصير الضمة الطويلة فصارت ضمة قصيرة مع الجزم yaqol ? yaqool ويحدث شبيه بهذا في العبرية حين يقع الفعل المستقبل الأجوف بعد واو القلب في نحو??????? vayyaqom قصرت حركة القاف هنا بعد أن كانت ضمة طويلة في قولهم yaaqoom ويفسر هذا أستاذنا الدكتور محمد بحر عبد المجيد الذي يقول:" الفرق بين اللغتين أن في العربية جزمًا وتأكيدًا للنفي، وفي العبرية جزم وتأكيد للإثبات. وسبب الجزم في العبرية هو أن واو القلب تجذب النبرة في الفعل المضارع إليها، وتكون النبرة على حرف المضارعة، ويحدث تأثير رجعي للنبرة، وتكون نتيجة هذا الجذب تخفيف الضغط على المقطع الأخير في الفعل، فيحدث أن حركة فاء الفعل الأجوف تقصر. وهذا هو الذي يحدث أيضًا في العربية، وليس نتيجة لالتقاء الساكنين كما يقول النحاة العرب. فالجزم قطع، وهنا قطع للحركة الطويلة. وربما الخلط عند النحاة العرب بين حروف المد والسكون هو الذي دعاهم إلى القول بأن الحذف هنا نتيجة التقاء ساكنين"(45).
المبحث الثالث: الحذف الصوتي في الفعل المعتل اللام(252/21)
اصطلح علماء العربية القدامى على تسمية الفعل المعتل اللام بـ "الناقص" نحو: غزا، سعى. وَسُمِّيَ بذلك لنقصانه بحذف آخره في بعض التصاريف كـ غزت، ورمت، وقيل: سمي ناقصًا لعدم قبوله بعض حركات الإعراب كما سمي أيضًا (ذا الأربعة)؛ لأنه عند إسناده لتاء الفاعل يصير معها على أربعة أحرف نحو: غزوت، ورميت.
أما علماء العبرية فقد قسموا "الأفعال المعتلة اللام على ضربين: ضرب لامه حرف لين، وضرب عينه ولامه حرف واحد، وهذا الضرب يمثل ذا المثلين فأما الضرب الذي لامه حرف لين فهو الذي لامه عندنا ألف أو هاء"(46).
ويرى بعض العلماء أن الواو والياء في الأفعال الناقصة لا تمثل لام الفعل، بل هي مجرد صوائت، وليس لها قيمة فونيمية، لكي يخبرنا بأن هذه(252/22)
الأفعال ثنائية الأصل ومن أمثلته??? yad في العبرية اشتق منها الفعل????? ، وأيضا الفعل?? saw "أمر، قد اشتق منها الفعل????? siwwa أمر(47).
وهذا الرأي لا يعد دقيقًا، لأنه غير مطابق للواقع اللغوي الذي يظهر الواو والياء في تصاريف الأفعال الناقصة. وسنفصل القول في هذه الآراء في نهاية هذا المبحث إن شاء الله.
أولاً- الفعل الماضي المعتل اللام:
صورة الفعل الماضي المعتل اللام في العربية أنه يتكون من مقطعين، الأول قصير مفتوح، والثاني: مقطع طويل مفتوح، نحو: سعى sa aa دعا da aa، وقد رأى علماء العربية أن الأفعال التي من ذوات الياء ترسم الألف – الحركة الطويلة – على صورة الياء، وما كان من ذوات الواو يكتب ألفًا مطلقة مثل: دعا، غزا، دنا.
ويحسن بنا أن نتتبع آراء علمائنا الأقدمين في مظانها، لبيان التغير الصوتي في نهاية الأفعال الماضية الناقصة، ونبدأ بما ذكره سيبويه قال: "وإذا كانت الياء والواو وقبلها فتحة، اعتلت وقلبت ألفًا، كما اعتلت وقبلها الضم والكسر، ولم يجعلوها وقبلها الفتحة على الأصل، إذا لم تكن على الأصل وقبلها الضمة والكسرة، فإذا اعتلت قلبت ألفًا، فتصير الحركة من الحرف الذي بعدها، كما كانت الحركة قبل الياء والواو، حيث اعتلت ما بعدها. وذلك قولك: رمى ويرمي، وغزا ويغزو، ومرمى ومغزى"(48).
وعند إسناد الفعل الماضي الناقص إلى تاء الفاعل ونون النسوة يتضح الأصل الثلاثي، وحدد ذلك سيبويه بقوله:" وأما قولهم: غزوت ورميت، وغزون ورمين، فإنما جئن على الأصل، لأنه موضع لا تحرك فيه اللام، وإنما أصلها في هذا الموضع السكون، وإنما تقلب ألفًا إذا كانت متحركة في الأصل، كما اعتلت الياء وقبلها الكسرة، والواو وقبلها الضمة وأصلها التحرك" (49).
ولكن الألف – الحركة الطويلة – تتحول إلى فتحة قصيرة في صيغة الغائبة "رمت" أما "رميا" و"غزوا" فكرهوا الحذف مخافة الالتباس ويمكن توضيح ذلك عن طريق البيان التالي:(253/1)
رمات ra/maat ? رمت ra/mat
نلاحظ أن الذي حدث هو التخلص من المقطع الصوتي المديد المقفل الذي فيه ثقل، ولا يوجد هذا المقطع الثقيل مع إسناد الفعل إلى ألف الاثنين فتبقى الواو والياء. يقول الثمانيني ": تقول:"رمى" فإذا ألحقتها التاء أسقطتها؛ لسكونها وسكون التاء فقلت:"رمت" و"غزت" (50) والأمر ليس فيه حذف هنا وإنما هو تقصير للحركة الطويلة فقط، وليس التقاء الساكنين هو السبب، وإنما وجود الثقل في المقطع المديد بدليل وجود، تحرك الساكن الأخير أحيانًا، ولا تعود الألف نحو: رمت المرأة. وحدث تقصير للحركة الطويلة أيضًا عند إسناد الفعل لواو الجماعة نحو:" رموا" و"سعوا".
أما صورة الفعل الماضي الناقص في اللغة العبرية فكثيرًا ما يرد منتهيًا بالألف مثل????? قرأ، ????? برأ،????? وجد. وأحيانا تكون لام الفعل هاء – تحل محل الألف–نحو:?????? بنى ?????? صنع ????? اشترى.
ومن المتفق عليه صوتيًّا أن الهاء المتطرفة في هذه اللغة تشبه الألف اللينة، وقد رأت الأستاذة الدكتورة نازك إبراهيم عبد الفتاح أن " هذه الهاء التي تظهر في نهاية الفعل كدليل إملائي على حركة نهائية، يكون أصلها إما (ياء) وهي أكثر شيوعًا، أو واوًا، وهي نادرة في العبرية، مثال:?????? (كشف) أصله:???،ومثال الثاني:?????? (هدأ) أصله ???– عند تصريف هذا الفعل في الماضي تظهر الياء الأصلية أو الواو عدا الغائب مفردًا أو جمعًا في التذكير والتأنيث"(51) ويحسن التنبيه هنا إلى أن الذي يظهر في الكتابة العربية بالهاء، تقابله العبرية بألف المد نحو?????? بنى. وهذان الحرفان ليسا من الأصل الثلاثي للكلمة، فمعظم اعتلال الناقص في اللغتين بالياء، وقليل من الأفعال يعتل لامها بالواو.(253/2)
وهذا التغير الصوتي اتفقت فيه اللغتان والسريانية، وقد رجع الدكتور عمر صابر عبد الجليل هذا التغير الصوتي إلى أن هاتين اللغتين فقدتا الإعراب ولزمتا السكون في أواخر الكلمات، قال:" إن الفعل الناقص في العبرية والسريانية قد طرأ عليه – بعد أن سكنت لامه قياسًا على الفعل الصحيح – التغيرات الصوتية التالية:
-في الناقص اليائي تماثل الصوت المزدوج /ay/ فتحول إلى الصائت الطويل /e/، الذي تحول في فترة معينة من حياة اللغة إلى الصائت الطويل (a) هكذا.
في العبرية مثل:?????? b?na ? b?n? ? banay وفي السريانية نحو:?? ظُ rma ? rme ? rmay.
-في الناقص الواوي تماثل الصوت المزدوج /aw/ فتحول إلى الصائت الطويل ((? الذي تحول في فترة معينة من حياة اللغة إلى الصائت الطويل (?) هكذا.
في العبرية?????? g?l ? ? ? g?l ? gal aw “ (52) .
والفارق هنا بين الأصل العبري والسرياني الذي ارتضاه الدكتور عمر، والأصل العربي المفترض هو أن العربية ما زالت تحتفظ بالصائت الإعرابي (الفتحة القصيرة) في نهاية الماضي الناقص، في حين فقدته العبرية والسريانية في فترة متأخرة من حياتهما، وسكنت أواخر كلماتهما.(253/3)
وهذه الأفعال الماضية عند تصريفها مع الضمائر يلاحظ أن صيغة الغائب تحقق الهمزة وتنطق يقال:???????? وجدتْ ???????? أمرتْ، ويحدث هذا مع الأفعال التي لامها ألف. أما الأفعال التي لامها هاء، فإنهم يبدلون هذه الهاء تاء حتى لا تتكرر هاءان في الكلمة في آخرها، فمثلاً????? اشترى وصيغة الغائبة ???????? ويبدو لي وجود خلط هنا بسبب الكتابة الصوتية، فرمز ( ? ) يدل في العبرية على الفتحة الطويلة كما يدل على الهمزة، ومن هنا لم يبدلوا الألف ياء، مراعاة للأصل الذي يظهر في بقية التصاريف، وإنما عاملوا الألف بالمدلول الآخر وهو الهمزة ولذلك حققوها حين تحملت الحركة، وهذا ما حدث مع لام الفعل (الهاء) حيث عاملوها معاملة هاء التأنيث التي تتحول إلى تاء عند الإضافة، وهنا أضيف ما يمثل علامة التأنيث على بنية الفعل وهو ??? فحولوا الهاء التي هي من بنية الفعل إلى تاء، وكأنها تاء زائدة عن الفعل. وقد ساعد على ذلك عدم نطق الهاء الأخيرة، والاكتفاء بالفتحة الطويلة قبلها في النطق.
أما الضرب الثاني الذي ذكره ابن بارون تحت عنوان "المعتل اللام" فهو الفعل المضعف، حيث قال:" وقد يثبت المثلان معًا في بعض الألفاظ، منها في اللغتين على الكمال والتمام، وعوض أيضًا من واحد المثلين بحرف لين مثل: ??? ????? (أيوب6/24) من??? ونظير ذلك: أمليت الكتاب وأمللته، وتظنيت مثل تظننت. على أنه يسوغ لنا أن نقول في هذه: إنها لغة أخرى على حيالها في ذلك المعنى بعينه" (53).
إن ابن بارون قد أثار مسألة العلاقة بين الفعل الناقص والمضعف وهي المسألة التي اختلف حولها كثير من اللغويين المحدثين، فهي لدى بروكلمان من القياس على الأفعال الصحيحة، فصيغ " قصيت" بدلاً من "قصصت"، و"أمليت" بدلاً من "أمللت" هي وفقًا لنموذج وزن "فعل" من الفعل الناقص نحو: رمّيت rammayta(54).(253/4)
أما الدكتور إبراهيم أنيس فقد صنف هذه الأمثلة تحت عنوان "المخالفة" ورأى أن علماء العربية القدامى لم يفطنوا لهذه الظاهرة، وأشار إلى المخالفة سيبويه في باب سماه "باب ما شذ فأبدل مكان اللام لكراهية التضعيف وليس بمطرد "ثم ضرب أمثلة لهذا كـ [تسريت وتظنيت وتقصيت]، ورأى أنه نظرة سريعة في كتب اللغة وقواميسها، وجمع عشرات الأمثلة، فيها معتل العين أو اللام يشترك في المعنى مع مضعف من نفس المادة، والنتيجة التي توصل إليها:" الأصل في كل هذه الأمثلة هو التضعيف ثم سهل مع تطور الزمن بالاستعاضة عن أحد الصوتين المتماثلين بالياء أو الواو ولخفتهما "(55).(253/5)
ويتفق الدكتور إبراهيم السامرائي مع وجهة النظر لدي الدكتور أنيس حيث قال:" العرب تبدل الياء من أحد التضعيفين فيقولون: (تظنيت) والأصل ( تظننت) لأنه من الظن. ومنه (قصصت) و( قصيت). والمستقرئ للنصوص اللغوية واجد من هذا الموضوع شيئًا يصلح أن يكون مادة مفيدة للبحث "(56) ويبدو أن علاقة الفعل الناقص بالفعل المضعف قد شغلته كثيرًا في كتبه، مما قاله في "فقه اللغة المقارن " إن كثيرًا من الفعل الناقص جاء عن المضعف على طريقة التعويض، فالفعل (كنى) في العربية و(كنه) في العبرية، هما من هذا الباب. ولابد من الإشارة إلى أن الهاء المعوض في العبرية يقابله شيء كثير في العربية، فالكنه بمعنى الحقيقة هو من هذا الباب أيضًا. ولو استعرضنا على طريقة الاستقراء طائفة من الأفعال الناقصة في العربية لنعرف السبيل إلى صيرورتها على حالتها من النقص، لوجدنا أن من بينها كثيرًا ما جاء من المضعف بإبقاء التضعيف ومد الفتح في الآخر يصبح ألفًا، وبهذا استحال الفعل رباعيًّا ناقصًا مع بقاء التضعيف في عينه. ومن أمثلة ذلك ما يلي: مد تصبح مدى، مط تصبح مطى { { المحتويات ? بسم الله الرحمن الرحيم - - - رضي الله عنهم - - - - - - فهرس - ? { ?? - ? - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - - { ?- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - ???? } سورة القيامة وربما جاء من هذه الأفعال التي استحالت على هذه الطريقة رباعية ناقصة أفعال ثلاثية: فمن (ذرى) جاء (ذرا) ومن (سلى) جاء (سلا) "(57).
ولا يفوتنا هنا أن نتحدث عما جاء في المقالة اللغوية القيمة للأستاذ حامد عبد القادر، وعنوانها "ثنائية الأصول اللغوية "وبعد مناقشة طيبة لهذه المسألة أشار إلى كيفية العدول من الفعل المضعف إلى الناقص فقال: "وقد يكون التخلص من التشديد هو السبب في مد الحرف الثاني بدلاً من تشديده، فينشأ الناقص ... ونمثل للتقارب الشديد بين معنى المضاعف والناقص بما يأتي:(253/6)
(أ) في العبرية: ????????? أي: قطع، و????????? أي : تحرك و??????????? أي:اختار،و?????????? أي: ضرب.
(ب) في العربية: قصا عنه قصوًا. أي: بعد وانفصل كقصى. وقصى عنقه أي: كسرها، ومنه: قصى الأظفار، أي: قصها. وقلى الجبال بمعنى قللها، وكبا بمعنى انكب، وند الشيء : تفرق كند، ومدى البصر يفيد معنى المد أو الامتداد، وقضى في الأمر، أي: حكم فيه برأي قاطع يفيد معنى القضى.. ومطا ومط بمعنى ، ونطا يفيد معنى نط، وغذى وغذ أي : سال، وشظى وشظ: فرق، وصحا وصح بمعنى" (58).
وقد أشار الدكتور عمر صابر إلى أن " كل من فون سودن وأونجناد (قد ذهبا) إلى أن الأصل في المضاعف ثنائي البنية، وقد ثلث بتضعيف عين الفعل . وقد قيس تصريف الفعل المضاعف في الأكدية على نموذج الفعل الصحيح. وفي العبرية ترد كثير من الأفعال الناقصة بجانب الأفعال المضاعفة نحو:?????? ???? أخفى، ستر،????? ? ????? سكت، صمت????? ? ????? زاد،كثر، وغير ذلك " (59).
وفي الختام أراني أجنح إلى أن الأفعال المعتلة اللام إنما نشأت عن تطور في الأفعال الصحيحة الثلاثية، والمضعف الثلاثي هو مرحلة وسطى، في فترة زمنية لاحقة، وبعد فك الإدغام صار أحد المثلين الواو أو الياء في الأمثلة السباقة .
ثانيًا: المضارع المعتل اللام:
قاس علماء العربية المضارع المعتل اللام على أبواب المضارع الصحيح، وقد لخص لنا هذه الأبواب الشيخ الحملاوي فقال:" الناقص إن كان بالألف في الماضي، وبالواو في المضارع فهو من باب نصر، كدعا يدعو. وإن كان بالألف في الماضي وبالياء في المضارع، فهو من باب ضرب، كرمى يرمي، وإن كان بالألف فيهما فهو من باب فتح، كسعى يسعى – وإن كان بالواو فيهما فهو من باب شرف كسرو يسرو. وإن كان بالياء فيهما فهو من باب حسب، كولي يلي، وإن كان بالياء في الماضي والألف في المضارع فهو من باب فرح كرضي يرضى ".(253/7)
وقد نحا هذا التقسيم الدكتور محمد بحر عبد المجيد، ولكن بالنظر صوتيًّا إلى حركة العين فقال :" أما الناقص من الأفعال فتتبع لامها في العربية حركة عينها، فإذا ضمت عينها كانت لامها واو مد مثل : يدعو، يرجو. وإن كسرت عينها كانت لامها ياء مد مثل: يرمي، يجري، وإن فتحت عينها كانت لامها ألف مد مثل: يسعى، يرعى" (61).
ويجدر بنا أن نبدأ حديثنا عن المضارع المعتل اللام بالألف، دون النظر إلى ماضيه مفتوح العين أو مكسورها نحو: سعى يسعى، رضي يرضى. ويكفي في بيان ذلك أن نذكر هنا ما قاله الثمانيني:" إذا كان الماضي. على " فعل" ولامه واو قلبت ياء لانكسار ما قبلها ... نحو: رضِيَ، شِقيَ، غبِيَ لأنه من الرضوان والشقاوة والغباوة. والأصل: " رَضِوَ، شَقِوَ وغَبِوَ" فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. فإذا صرت إلى المستقبل قلت : "يرضَى، يشقَى، يغبَى" قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها"(62) وقال: " فأما سعى يسعى .. جاء المستقبل على " يفعل " لأن عينه من حروف الحلق، وانقلبت الياء في مستقبله ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها فقالوا: يعسى" (62) .
ما تقدم هو من الإشارات الخفيفة التي تدل على ثلاثية المقاطع لهذه الأفعال المعتلة اللام بالألف، هذه الألف رآها القدماء أحد حروف المد وهي حروف ساكنة عندهم، تدرج ضمن طائفة الصوامت التي تقبل السكون كما تقبل الحركة، ولخص ابن يعيش حالة الألف في العربية فقال: "اعلم أن الألف لا تكون أصلاً في الأسماء المتمكنة، ولا في الأفعال أيضًا، إنما تكون بدلاً وزائدة " (64).(253/8)
هذه الأفعال" يسعى – يرضى – يخشى " ثلاثية الأصل ثنائية المنطوق، والتفسير الصوتي المقبول لدينا هو سقوط الياء، فطال المقطع المفتوح على سبيل التعويض، ومن خلال الحركتين القصيرتين هكذا يسعى yas /a/ ya صارت yas/caa وقد عبر عن ذلك ابن جني بقوله: "ومن ذلك حذفهم الأصل لشبهه عندهم بالفرع، ألا تراهم لما حذفوا الحركات – ونحن نعلم أنها زوائد في نحو: لم يذهب، ولم ينطلق – تجاوزوا ذلك إلى أن حذفوا للجزم أيضًا الحروف الأصول، فقالوا: لم يخشَ "(65) .
ويؤخذ من كلام ابن جني أن العرب عدوا الألف على أنها "صامت" أي حرف حسب تعبيرهم اعتمادًا على الشكل الكتابي، ومن هنا رأى أن الألف يعد الأصل الثالث الذي حذف عند الجزم، في حين أن علماء اللغة المحدثين عدوا الألف حركة طويلة، وحدث أن قصرت هذه الحركة عند الجزم، ولا يتعارض هذا مع اتفاقنا مع علمائنا القدامى في أن الأصل التاريخي للأفعال المعتلة إنما هو الثلاثي، والعبرة لدينا في التحليل الصوتي بالنطق لا بالرسم.
والأمر هنا كالمضارع المجزوم، الأصل أن تحذف الألف من آخر الفعل عند النحاة العرب، لبناء الأمر على حذف حرف العلة يقال:
اسعَ.ارضَ. اخشَ. والتفسير الصوتي هنا هو ما قلناه في المضارع المجزوم من تقصير الحركة الطويلة .(253/9)
وفي اللغة العبرية ما يعرف بالفعل المستقبل الذي لامه ألف نحو:????? ??????? ????? ??????? نقول بشيء من الحذر هنا إن " الألف " هنا هي الرمز الكتابي للصوت الصامت "الهمزة" وقد سهلت هذه الهمزة هنا فأصبحت في النطق صوت المد، التي تعود إلى الأصل عند اتصال الفعل بياء المخاطبة وواو الجماعة، يقال: ?????????? تأمرين ?????????? تأمرون، والمقابل اللفظي لهذا الفعل العبري ??????? هو الفعل العربي المنطوق (يقرأ)، وأجد مثيلاً لذلك قديمًا مما حكاه سيبويه: "قال" سمعت أبا زيد يقول: ومن العرب من يخفف الهمزة، فيقول: قريت ونشيت وبديت، ومليت الإناء، وخبيت المتاع، وما أشبه ذلك. قال: قلت له: كيف تقول في المضارع ؟ قال : أقرا، وأخبا بالألف. قال : قلت القياس: أقرى، مثل: رمى يرمي. وجوابه – مع التعويل على السماع – أنهم إن التزموا الحذف جرى على القياس، مثل: قريت الماء في الحوض أقريه، وإلا أبقوا الفتحة في المضارع تنبيهًا على انتظار الهمزة، فلو قيل: أقرى، زالت الحركة التي تنتظر معها الهمزة، فلهذا حافظوا عليها" (66) .
إن المضارع الذي قرأه العرب بالألف (أقرا) ليس فيه الهمزة، فالهمزة هي همزة فقط حين تحقق وتنطق بالفعل، أما المنطوق هنا فهو الألف أو الفتحة الطويلة، ومن السهل التبادل بين الحركات الطويلة في سياقات صوتية معينة كما هو الحال معنا (أقْرِى) على وزن (أرمي).(253/10)
ومن الجدير بالذكر أن الدكتور رشاد الشامي وقف على التداخل بين الأفعال المعتلة اللام بالألف والياء والواو في عبرية المشنا، فرأى أن البساطة في لغة المشنا أدت إلى "طمس الفروق بين الأفعال المعتلة اللام بالألف، والأفعال المعتلة اللام بالهاء والياء، وذلك لأن هاتين المجموعتين تتشابه من الناحية الصوتية، ومن الصعب التمييز بينهما في لغة الحديث، بل وهناك بعض الأفعال من هذه الصيغ تستخدم في نفس المعنى مثل??????= ?????????????، المزامير143/3،???????? المزامير51/10) ... ? ????? = (????????? أيوب12/2، ???????? المزامير73/12) ... وقد زاد في لغة المشنا الميل لطمس الفوارق بين هاتين الصيغتين، وأدمجت الأفعال المعتلة اللام بالألف، إلى حد كبير في الأفعال المعتلة اللام بالياء" (67) .
يتضح لنا من كل ما تقدم أن صوت الألف في نهاية الفعل الناقص، في اللغتين العربية والعبرية، من الأصوات التي يكثر ورودها في الكلام، وهي أكثر تعرضًا للتطور اللغوي من غيرها من إبدال، وسقوط من الكلام أحيانًا، والواقع أن في هاتين اللغتين أمثلة تؤكد وجود علاقة معنوية بين الأفعال المعتلة اللام بالألف، والمعتلة اللام بالياء والواو.
??????= بكى، والأصل: بكَىَ ??????= بنى، والأصل: بَنَى، "وكولر" وغيره قد قابلوها بالفعل ??????، ويتضح صحة هذا بالمقارنة مع الأكدية والعربية(68) .
?????= ذكا، ذكى، ذكو: طهر، نقى. وفي العربية: زكا وزكى الزرع: نما، والزكاة: الطهارة.
????? ـ ????? : أصاب، نزل بـ. وفي العربية: قرى الضيف: أضافه. كلا الفعلين العبريين يدلان على معنى القراءة. واسم المفعول بالألف ?????? مقروء، وبالياء ????? مدعو، المعروف بـ ??????? قارئ القرآن، مذيع.(253/11)
ونشرع بعد هذا في الحديث عن المضارع المعتل اللام بالواو أو الياء ولابد من التنبيه أولاً على أن الواو والياء كصوتي مد في نهاية المضارع هما متطوران تطورًا تاريخيًّا(وليس افتراضيًّا كما يظن الصرفيون) عن الواو والياء الصامتتين المتلوتين بالحركات. وثانيًا: مما ذكره علماء الساميات " أن الأفعال المعتلة الآخر في الحبشية والأوجاريتية هي ثلاثية المقاطع، تنتهي بواو أو ياء متبوعة بالحركة نحو: الفعلين talawa (تلا) وbakaya (بكى)، وهذا ما بقي في العربية في نحو: "سرُو" خزِي" " روي " ... الأمر الذي يقوي اعتقادنا أنها الظاهرة الصرفية الأكثر أثرًا في الصيغ السامية " (69) .
فمن الواضح في العربية أن الفعل الذي ضمت عينه فلامه من أصل واوي نحو: يدعو، ينمو، يدنو، والفعل الذي تكسر عينه فلامه من أصل يائي، نحو يقضِي، يجرِي، يرمِي، يمشِي ...إلخ . وأصل هذه الصيغ في حالة الرفع بالياء المتحركة بالضمة، والواو المتحركة بالضمة، وفي هذا النطق استثقال لمجيء الضمة على كل من الياء والواو ويبدو أن التطور الصوتي جاء على النحو التالي:
يَدْعُوُ ? يَدْعُوْ ? يَدْعُو
yad uu ? yad uw ? yad uwu
يَرْمِيُ ? يَرْمِيْ ? يَرْمِي
yarmii?yarmiy ? yarmiyu
وتبقى الواو والياء في حالة النصب؛ لتحملها حركة الفتحة، وتبقى على الأصل الثلاثي القديم لن يدعُوَ، لن يَرْمِيَ.
أما في حالة الجزم، فالنحاة العرب رأوا أن المضارع هنا يجزم بحذف حرف العلة ( الواو أو الياء) ونقول: الذي حدث هو تقصير الصائت الطويل إلى ضمة قصيرة في نحو: لم يدع، وإلى كسرة قصيرة في نحو: لم يرم. ولا نشك في أن الإبقاء على حركة الضمة القصيرة هو دليل على الأصل الواوي، والإبقاء على الكسرة القصيرة هو الدليل على الأصل اليائي هنا.
وفي اللغة العبرية ينتهي الفعل الناقص بالكسرة الممالة (السيجول) المتبوعة بالهاء نحو?????? بنى ??????? يبني ????? صعد???????? يصعد.(253/12)
ويبدو أن الأصل كان بالياء المسبوقة بالفتحة ???????، وحدث التطور الصوتي على النحو التالي:
??????????????????????????????
وتتغير هذه المعالجة الصوتية عند إسناد الفعل إلى الضمائر المتحركة، فتظهر الياء نحو????????? = بنيتُ. ويبدو لي أن الهاء هنا ليست بدلاً من الياء، فلا علاقة صوتية بينهما كالتقارب الصوتي مثلا، ولا يمكننا الجزم بأن الهاء هنا عوض عن الياء المحذوفة، وليس من الإسراف هنا أن نفترض أن المد هنا طارئ، وأنه نشأ عن الوقف على نهاية الكلمة، فجيء بالهاء لغلق المقطع المفتوح، وهذا شأن ياء المتكلم المحركة بالفتحة كما في قوله تعالى: { - } تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام - - ? - - صلى الله عليه وسلم -? - ?? مقدمة - رضي الله عنه - - ?- رضي الله عنه - - ? - ?? - ? - - - رضي الله عنهم - - ??? - ? - قرآن كريم ? { - عليه السلام - - - ? ?? - - رضي الله عنه - - ? - فهرس - ?- رضي الله عنه - - ? بسم الله الرحمن الرحيم - - - المحتويات - صلى الله عليه وسلم -? - ? مقدمة - عليه السلام - - ? تمهيد ?- رضي الله عنه - - ? - ???? ? بسم الله الرحمن الرحيم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ? - ? - - صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ? مقدمة - عليه السلام - - ? - - - - ? مقدمة ???? } سورة الحاقة آية (25،26). وكثيرًا ما كان أهل الحضر في الحجاز يقفون بالهاء، حكى سيبويه" قالوا: هيه، وهم يريدون هي، شبهوها بياء بعدي. وقالوا: هوه، لما كانت الواو لا تصرف للإعراب، كرهوا أن يلزموها الإسكان في الوقف، فجعلوها بمنزلة الياء "(70) .
* * ... *
الخاتمة
في نهاية هذا البحث تجدر الإشارة إلى أهم النتائج التي توصل إليها وذلك على النحو التالي:(253/13)
لقد بدا واضحًا لنا أن اللغويين العرب القدماء على حق حين نظروا إلى الأفعال المعتلة على أنها ثلاثية الأصل. ولكننا نختلف معهم فقط في التفسير الصوتي لهذا التحول من ( يَقْوُل ? يقول، يَسْعَى ? يَسْعَى) فهم لا يرون وجود حذف لصوت العلة وإنما يرون إبدالاً لنقل، والتفسير المقبول هو أن بداية المقطع الثاني (wu) و (yu) تحول إلى صائت طويل فقط بعد سقوط الواو أو الياء.
أكدت الدراسة أن اللغتين العربية والعبرية تهتمان بحذف فاء المثال في المستقبل، والأمر، والمصدر، وتعوض عن المحذوف بتاء في آخر المصدر نحو ?????ثبة، جلوس.
كشفت الدراسة عن أن صوت الهمزة أكثر الأصوات تعرضًا للتغير الصوتي وبخاصة حذفه في أول الفعل، أو في آخره، وتحرص العبرية على إطالة حركة حذفه السابق عليه.
أشارت الدراسة إلى أن الهاء في العبرية تقع موقع أصوات اللين في بداية الفعل نحو??????ذهب، وفي آخر الفعل نحو?????? واصطلح علماء العبرية على تسميتها بصوت لين أو علة، حين وجدوا أنها تأخذ أحكام أصوات العلة من حذف فاء المثال، وإطالة حركة الصامت قبلها نحو ??????يذهب، وتأتي في نهاية الفعل الناقص كدليل إملائي على وجود صائت طويل مكانها هو الياء أو الواو.
أظهرت الدراسة أن النون من الأصوات اللغوية التي تشبه أصوات المد ويحدث التعاقب الصوتي كثيرًا بين النون والياء نحو: إيسان وإنسان و??? و???،والأفعال النونية الفاء تعاملها العبرية معاملة المثال فتحذف الفاء، وتعوض عن هذا بالتشديد أو إطالة حركة الصامت قبلها.
انتهت الدراسة إلى أن المضارع المعتل العين أو اللام لا يحذف منه حرف العلة كما يقول علماء النحو العربي، بل خضعت هذه الأفعال لقاعدة تقصير الصائت الطويل لم يقُلْ لم يسْعَ ، لم يدْعُ ، لم يرْمِ.(253/14)
أكدت الدراسة أن المنهج المقارن هو السبيل لمعالجة صور الأفعال المعتلة في العربية، وعن طريقه يمكن الكشف عن التغييرات الصوتية التي مرت بها هذه الأفعال عبر فترات التاريخ المختلفة.
ثبت لنا أن ابن جني تجاوز الصواب حين أنكر وجود أصول تاريخية ظهرت فيها الأفعال المعتلة ذات أصول ثلاثية ( قَوَمَ – بَيَعَ – استقْوَم) فالمقارنة السامية أثبتت وجود هذا النطق قديمًا في الحبشية والأوجاريتية والبقايا اللغوية في العربية والعبرية نحو: استحْوَذَ، أطْوَلَت، التي هي منبهة على أصل الباب.
ولعل من الخير أن نشرع في فصل قواعد المعتل عن الصحيح، لأن الفعل (قال) في تركيبه الصوتي يختلف عن الفعل (كتب) مثلاً، وكل منهما
له تركيب مقطعي يختلف عن تركيب الآخر. ومراعاة النظرإلى الأفعال المعتلة في ضوء المنهج المقارن، الذي يؤكد الأصل التاريخي،
والابتعاد عن التركيز على الأعمال الذهنية المجردة التي تجهد الذهن في تمارين باب الإعلال. وما زال يحدونا الأمل في الأخذ بالتفسيرات الصوتية الحديثة، التي هي الأقرب إلى الإقناع، والأخذ بها يختصر لنا بابًا مطولاً في كتب الصرف، ويضم لنا ما تفرق من أحكام صوتية ذات صلة بالأفعال المعتلة.
د.محمد صالح توفيق
كلية دار العلوم جامعة القاهرة
ثبت الحواشي والمراجع التي اعتمد عليها البحث
د/غالب فاضل المطلبي، في الأصوات اللغوية ص 195، منشورات وزارة الثقافة والإعلام ، العراق 1984م.
السابق ص 196.
W. wright, Agrammar of Arabic Languagu vol.7.p.7.
كانتينو، دروس في علم الأصوات العربية ص24-25، ترجمة صالح القرماوي منشورات الجامعة التونسية 1966 م.
فندريس اللغة ص 52-53، ترجمة عبد الحميد الدواخلي، ومحمد القصاص، مطبعة لجنة البيان العربي، القاهرة 1950م.
موسكاتي (وزملاؤه)، مدخل إلى نحو اللغات السامية المقارن ص 266، ترجمة د/ مهدي المخزومي، ود/ عبد الجبار المطلبي، عالم الكتب، بيروت 1993م.(253/15)
ابن يعيش (ت643هـ) شرح الملوكي في التصريف ص 334، تحقيق د/فخر الدين قباوة، دار الأوزاعي بيروت 1988م.
الثمانيني، عمر بن ثابت (ت422هـ)، شرح التصريف ص374 – 375، تحقيق د/إبراهيم ابن سليمان البعيمي، مكتبة الرشد، الرياض 1999م.
سيبويه ، عمرو بن عثمان (ت180هـ)، الكتاب 4 / 336 ، تحقيق أ/عبد السلام محمد هارون، دار الجبل، بيروت 1991م.
ابن بارون، إبراهيم بن إسحاق (ت1128م)، الموازنة بين اللغة العبرانية والعربية د/أحمد محمود هويدي، ضمن سلسلة الدراسات الأدبية واللغوية، نشر مركز الدراسات الشرقية، جامعة القاهرة 1999م.
موسكاتي، مدخل إلى نحو اللغات السامية المقارن ص 83، مرجع سابق.
الزبيدي، محمد مرتضى الحسيني (1205هـ)، تاج العروس من جواهر القاموس 4/94، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت 1306هـ.
د/كمال بشر، خواص صوتية تمتاز بها اللغة العربية ص35، مقال ضمن مجموعة مقالات مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الجزء الحادي والسبعون، 1993م.
ابن جني، أبو الفتح عثمان (ت392هـ)، سر صناعة الإعراب جـ1/112، تحقيق د/حسن هنداوي، دار القلم، دمشق 1993م.
يظهر لنا هنا وجود خطأ في الكتابة الصوتية، وكذلك الترجمة، وتصحيح ذلك abad هلك، abay أراد. Akal أكل، amar قال apay خبز.
موسكاتي، مدخل إلى نحو اللغات السامية المقارن ص 270، مرجع سابق.
ابن جني، سر صناعة الإعراب 1/102، مرجع سابق.
السابق 1/106.
د/محمد بحر عبد المجيد، بين العربية ولهجاتها والعبرية ص50، القاهرة 1980م.
السابق ص 136.
يراجع هنا المعجم الوسيط، مادتا (هصص) و(وصص)، نشر مجمع اللغة العربية بالقاهرة، 1973م.
ابن جني، سر صناعة الإعراب 2/440 ، مرجع سابق.
الثمانيني، شرح التصريف 546 مرجع سابق.
د/ إبراهيم أنيس، الأصوات اللغوية ص 67، مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة 1990م.
موسكاتي، مدخل إلى نحو اللغات السامية المقارن ص 272، مرجع سابق.(253/16)
ابن عصفور الإشبيلي (ت669هـ)، الممتع في التصريف 1/279، تحقيق د / فخر الدين قباوة منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت 1979م.
الثمانيني، شرح التصريف ص 299، مرجع سابق.
ابن جني، أبو الفتح عثمان (392هـ) ، الخصائص 3/129، تحقيق محمد علي النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1999م.
د/ أحمد علم الدين الجندي، بين الأصول والفروع في التغيير الصوتي الصرفي ص40، ضمن مجموعة مقالات مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة ج 69، نوفمبر 1991م.
د/محمد بحر عبد المجيد: بين العربية ولهجاتها والعبرية ص 133، مرجع سابق.
ابن بارون، الموازنة بين اللغة العبرانية والعربية ص76، مرجع سابق.
د/نازك إبراهيم عبد الفتاح ، الفعل في اللغة العبرية ص18-19، القاهرة، الطبعة الثالثة.
برجشتراسر، التطور النحوي للغة العربية ص 35، محاضرات ألقاها في الجامعة المصرية عام 1923، علق عليه د/رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجى بالقاهرة 2003 م. ط رابعة .
W. wright Agrammar p. 1.84.85.
الثمانيني، شرح التصريف ص 526 وما بعدها ، مرجع سابق.
ابن يعيش، شرح الملوكي في التصريف ص 446، مرجع سابق.
للمزيد في هذا الموضوع ينظر:
Gesenius Hebrew grammar p. 115,116 oxford second edition 1910.
د/صلاح صالح حسنين: جذور الأسماء والأفعال في اللغات السامية بين الثنائية والثلاثية ص7، ضمن مجموعة مقالات مجلة كلية اللغات والترجمة ، جامعة الأزهر، العدد الرابع عشر 1986م.
ابن فارس، أبو الحسين أحمد (ت395هـ)، معجم مقاييس اللغة 1/8، تحقيق أ/عبد السلام هارون، مطبعة الحلبي بالقاهرة 1969م.
السابق 1/151 وما بعدها .
السابق 1/32 .
السابق 1/11، و 1/163.
موسكاتي، مدخل إلى نحو اللغات السامية المقارن ص 274.
للمزيد من هذه الأمثلة في الحبشية يرجع إلى دلمان .
A.dilmann, Grammatik der athroischen sprache p. 163-165.
د/محمد بحر عبد المجيد، بين العربية ولهجاتها والعبرية ص 69، مرجع سابق .(253/17)
ابن بارون، الموازنة ص 77، مرجع سابق .
لمعرفة الزيادة حول آراء المستشرفين في هذا الشأن يراجع: المعجم التأصيلي للفعل الناقص في اللغات السامية د/عمر صابر عبد الجليل ص14 وما بعدها، ضمن سلسلة الدراسات الأدبية واللغة، نشر مركز الدراسات الشرقية، جامعة القاهرة 2003م.
سيبويه، الكتاب 4/382، مرجع سابق .
السابق والصفحة .
الثمانيني، شرح التصريف ص 457، مرجع سابق .
د/نازك إبراهيم عبد الفتاح، الفعل في اللغة العبرية ص 20، مرجع سابق.
د/عمر صابر عبد الجليل، المعجم التأصيلي للفعل الناقص ص 14، مرجع سابق .
ابن بارون، الموازنة ص 78، مرجع سابق .
للمزيد من هذه الأمثلة يراجع .
Bro ckelmann, Grundriss der vergleicnenden Grammotic der semitiscnen B 1.633 Berlin 1,1908.
د/إبراهيم أنيس، الأصوات اللغوية ص 211 – 212، مرجع سابق .
د/إبراهيم السامرائي، فقه اللغة المقارن ص43، بيروت 1978م.
السابق ص 198 – 199 .
أ/حامد عبد القادر، ثنائية الأصول اللغوية ص 128، ضمن مجموعة مقالات مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الجزء الحادي عشر، القاهرة 1959.
د/عمر صابر عبد الجليل، المعجم التأصيلي للفعل الناقص ص 24، مرجع سابق .
الشيخ أحمد الحملاوي، شذا العرف في فن الصرف ص 36، ضبطه وشرحه د/محمد أحمد قاسم، المكتبة العصرية ، بيروت 2001 م .
د/محمد بحر عبد المجيد، بين العربية ولهجاتها والعبرية ص 141، مرجع سابق .
الثمانيني، شرح التصريف ص 455، مرجع سابق .
السابق ص 436.
ابن يعيش، موقع الدين ( 643هـ )، شرح المفصل 5/145، نشر مكتبة المتنبي بالقاهرة ( د ت ).
ابن جني، الخصائص 1/311، مرجع سابق.
الفيومي، أحمد بن محمد بن علي (ت 770هـ)، المصباح المنير ص262، مكتبة سلبنان 1987م.(253/18)
د / رشاد الشامي: تطور خصائص اللغة العبرية: القديمة – الوسيطة – الحديثة ص56، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة 1978م. وللزيد أيضا د/ليلي أبو المجد، قواعد اللغة العربية في عصر المشنا ص 26 وما بعدها، القاهرة 1998م.
للمزيد من هذه الأمثلة يراجع: المعجم التأصيلي للفعل الناقص ص 39، مرجع سابق.
للمزيد في هذا الموضوع، يراجع: فقه العربية المقارن د/رمزي منير بعلبكي ص 140 وما بعدها، دار العلم للملايين، بيروت 1999م.
سيبويه، الكتاب 4/164 ن مرجع سابق .(253/19)
"تلمُّسُ أثر المماثلةِ في نموّ المعجم العربيّ: دراسةٌ صوتيّة معجميّة
للدكتور مهدي أسعد عرار
تقوم هذه المباحثة على استشراف مجموعة مصطفاة من المواد المعجمية لتكون مُثلاً دالة على أن بعض مواد المعجم العربي فروع تتصل بنسب حميم إلى أصول، وصفوة القول فيها أن بمكنة المرء أن يجد مادتين تعودان إلى أصل واحد؛ إذ إن المعنى المثبت تحت مادة ما هو المعنى المثبت تحت المادة الأخرى مع وجود اتفاق كلي بينهما في المعنى، أو افتراق جزئي، وينبني على هذا إلماحة إلى تضخم المعجم العربي أولاً، واشتماله على مواد يمكن أن ترد إلى جذور أخرى ثانيًا، وأثر اللهجات العربية في تخلق هذه الظاهرة ثالثًا، ودور المماثلة الصوتية في شيوع تلكم اللهجات رابعًا، والباحث إذ يقارب هذا المطلب فإنه يستجمع حديثًا عن تفسير هذه الظاهرة تفسيرًا لسانيًّا حديثًا، ملتفتًا إلى بعض ملاحظ القدماء الذين عرجوا على هذا الدرس مترددين بين نظرين من التفسير؛ أولهما: اللهجي، وثانيهما: الصوتي.
The Influence of Assimilation on The Development of rabic Lexicon: A Phonetic and Lexical Study
This Study Looks into
a selected group of lexical roots which prove that some roots in the Arabic Language are related to each other through assimilation of branches which have the same stem.This proves that roots in Arabic Language have gone through a process of chang, the influence of old Arabic dialects in the development of this linguistics phenomenon, and the role of sound assimilation in the spread of the different Arabic dialects.
تقديم:(254/1)
ما فتئ علماءُ العربيّة يقرّرون، على وجهٍ من الإحكام، أنّ بين كثيرٍ من كلماتِ العربيّة، والموادِّ المعجميّة لُحمَةً جامعةً، وصلةَ رحمٍ قويّة، وهم إذْ يصدرون عن هذا النّظرِ الثّاقبِ المستحكِم فإنّهم يضربون المثلَ مستشرفين الباعثَ والتّعليل، وقد تباينتْ مظاهرُ تقريرهم المتقدّم بيانُه، فألمح بعضُهم إلى تلكم الصّلات الدّلاليّة في ثنْيِ حديثِه عن أشتاتٍ مجتمعات، كأنْ يضمِّنَ كتابَه فصولاً من هذا، كإشاراتِ ابن قتيبةَ في باب "الُمبْدَل"(1)، وإشاراتِ القالّي إلى ما تتعاقبُ فيه العين والحاء، والهمزةُ والهاء، وغير ذلك(2)، وابنِ السِّيد في الاقتضاب(3)، وجنح ابنُ فارسٍ إلى تلمُّس المعنى الجامعِ الذي يكتنف كلَّ استعمالٍ لغويٍّ يُشتَقّ من المادّةِ الأمّ، ليكونَ هذا المعنى الجامعُ كالخيطِ الذي ينتظم حبّات العِقد الواحدِ، وذهب ثالثٌ إلى الاعتقادِ بتصاقبِ الألفاظِ لتصاقب المعاني(4)، وإمساسِ الألفاظِ أشباه المعاني(5)، ونهدتْ ثلّة رابعةٌ للتتصدّر صنع مصنَّفاتٍ قائمةٍ برأسها، ولتستجمعَ، من بعدُ، حديثًا عن إبدالِ الأصواتِ المتقاربةِ، ومن هؤلاءِ ابنُ السِّكّيت(6)، والزّجاجيّ(7)، وأبو الطّيّبِ اللّغويّ(8).(254/2)
والحقّ أن هذه المباحثةَ لا تترسّمُ قصدًا مضمارُه الأنظارُ المقارنة التأصيليّة(9)، لا ولا الوقوفُ عند ظاهرِة الإبدال في الكلمِ العربيّ؛ إذ إنّ هذه الظّاهرةَ أوسعُ من هذه المباحثةِ بكثير، فضلاً عن أنّ كثيرًا ممّا ينتسبُ إلى ظاهرةِ الإبدال لا يُعَدّ مماثلةً صوتيّة البتة، بل هو تقاربٌ صوتي محض، أو لَهَجاتٌ عربيّةٌ متباينة، فلا مماثلةَ في "مكّة وبكّة"، ومدحته ومدهته"، و"أراق وهراق"، و"استعديت واستأديت"، وما أكثرَ هذه الأمثلةَ ونحوَها في المعجمِ العربيّ وكتبِ "الإبدال"، والذي تُعنى به هذه المباحثةُ هو تلمّس أثرِ المماثلة الصّوتية في تخلّق موادَّ معجميّة تفيء في أصولِها إلى مادّةٍ أمّ هي الأصل، والنّقطةُ التي تنداحُ منها المباحثةُ هي استشراف مجموعةٍ مصطفاة من الموادّ المعجميّةِ لتكونَ مُثُلاً دالّة على أنّ كثيرًا من موادّ المعجمِ العربيّ فروعٌ تتّصلُ بنسبٍ حميمٍ إلى أصول، ولتكونَ هذه المعالجات بَعْدًا دراسةً تطبيقيّة في المعجمِ العربيّ، وخطوةً أخرى في سبيل مطلبٍ عزيزٍ اسمه "المعجم اللّغويّ التّاريخي".(254/3)
أمّا المماثلة في الدّرس الصّوتيّ الحديثِ فإنّها تقوم على مبدأ التّكيّفِ والتّكييف؛ إذ يكونُ ثمّ صوتٌ مؤثِّر مكيِّف، وصوت آخرُ متأثّر متكيِّف، وهذا ما يقتضيه تجاورُ الأصوات، وقد عُرِّفتْ بأنّها تَحوّلُ الفونيمات المتخالفةِ إلى متماثلةٍ تماثلاً جزئيًّا أو كليًّا، وفي باب الحديثِ عن المماثلةِ يُشار إلى أنّها قد تكون تامّةً أو جزئية بالنّظرِ إلى مدى تأثيرِ الصّوتِ المكيّف في المتكيّف، وأنّها قد تكونُ رجعيّةً أو أماميّة بالنّظر إلى موقعِ الصّوت المتكيّف، وأنَها قدْ تكونُ تجاوريّةً أو تباعديّة بالنّظر إلى وجود صوتٍ يفصلُ بين المكيِّف والمتكيِّف(10)، فنحن نلفظُ السّين صادًا في قولنا "مسطور"، وصفوةُ القولِ أنّ مماثلةً وقعتْ بين الطاء المكيِّف والسّينِ المتكيِّف فأفضتْ إلى نطقِ السّين صادًا وفاءً بملمح التّفخيمِ الآتي من الطاء على مجاورِه "السّين"، والحقّ أنّ المتأمّلَ برويّةٍ يجد موادَّ لغويّةً كاملة قد أتتْ على المعجمِ العربيّ من هذه الجهة، صحيحٌ أنّ بِمُكْنَتِه أنْ يردّ بعضَها إلى اللَّهَجات العربيّة، ولكنْ، تبقى المماثلةُ المدخلَ الرئيسَ لمعالجةِ هذه المسألة، فبالمماثلةِ يُفسَّر التّباينُ اللَّهْجيّ، وسأكتفي بما تقدّم من بيانٍ نظريّ لأنتقلَ منه إلى البيان التّطبيقيّ المجلّي لهذه الظّاهرِة التي هي محلّ بحثٍ ونظر:
رجس – رجز:
إذا ما أُنعِم النّظرُ في هاتين المادّتين فإنّ المتبصِّر سيقف على اتّفاقٍ دِلالي وافتراق، وإخالُ أنّ الهاجسَ الذي يسكنُ خاطره أنّهما مادّتان لهما أصلٌ واحد، ثمّ اختصّتْ كلّ واحدة بمعنى أو معانٍ اقترنتْ بها وذاعت، ولكنّ هذا لا ينفي التّداخلَ البتّة. لننظرْ فيما ورد في مادّة "رجس" أولاً، وما ورد في مادّة "رجز" ثانيًا، ليكونَ هذا مدخلاً يتأسّس عليه تلمّسُ أوجه الاتّفاقِ والافتراق ثالثاً.
في رحاب مادّة "رجس":.(254/4)
الرِّجس: القَذَر، وقيل: الشّيء القَذِر، ورجل مرجوس ورجِس: نجس، والرَّجاسة: النّجاسة، وقد يُعبَّر به عن الحرام، والفعلِ القبيح، واللّعنة، والعذاب، والكفر(11)، و"الرِّجس: العذاب كالرِّجز"(12)، وقد جنح الأزهريّ إلى أنّ الرِّجس في دعاء الوتر: "وأنزلْ عليهم رِجْسَك وعذابك" بمعنى الرِّجز، وهو العذاب، وقد قُلبت الزّاي سينًا، كما قيل الأسْد والأزْد"(13)، والرَّجَس شدّة الصّوت، وصوتُ الرّعد وتمخّضُه، ويقال ارتجست السّماء إذا أرعدت وتمخّضت، وناقة رَجْساء الحنين: متتابعتُه، ورِجْس الشّيطان: وسوسته(14).
في رحاب مادّة "رجز":
جاء أنّ الرَّجَز أنْ تضطربَ رجلُ البعير أو فخذاه إذا أراد القيام، والرَّجَز ارتعادٌ، ويقال للرّيح إذا كانت دائمة: رَجْزاء، وقد رجزت الرّيحُ، والرَّجَز: البحر العروضيّ المعروف، وقد سُمّي كذلك لاضطرابِه تشبيهاً بالرَّجَز الذي هو في النّاقة، والارتجاز: صوتُ الرّعد المتدارك، وارتجز الرّعد ارتجازًا إذا كان له صوتٌ متتابع، و"الرِّجْز: القَذَر مثل الرِّجْس، والرِّجز: العذاب، والرِّجس: عبادة الأوثان"(15).(254/5)
أحسب أنّ أصلَ مادّة "رجز" أو "رجس" – مِن وجهة دلاليّة – هو التّتابعُ والحركة، ويصدّقُ هذا المذهبَ إشارةُ ابن فارسٍ في مقاييسه إلى أنّ الرّاء والجيم والزّاي أصلٌ يدلّ على اضطراب، ومن ذلك رَجَز النّاقة ورَجَز الشّعر (16)، وقد ألمح بلْ صرّح بهذا ابن منظورٍ حين جنح إلى أنّ أصلَ الرَّجَز في اللّغة التّتابع؛ تتابعُ الحركات(17)، وعند استرفادِ هذا الأصلِ الدّلاليّ العريضِ يغدو بِمُكْنَة الباحث أنْ يجمعَ شتات ألفاظ المادّتين تحتَ معنى جامع، فالرِّجز وهو العذاب، سمِّي بذلك لأنّه مُقلقِل لشدّته، "فله قلقلةٌ شديدة متتابعة"(18)، والرّيح رَجْساء ورجزاء، والرّعدُ والسّماء كذلك بالسّين والزّاي، ورِجْس الشّيطان ورِجْزه : وسوستُه وحركتُه في النّفسِ والخواطر، ورَجَز الشّعر، كلّ هذا، إنْ بالسّين أو الزّاي، يجمعُه معنى عريضٌ عنوانُه الحركة والتّتابع.(254/6)
وما يدلّ على تداخلِ المادّتين، بلْ لنقلْ إنّ الرِّجْس صنو الرِّجز، إشارةُ الفرّاء إلى أنّهما لغتان(19)، وأنّهما في مذهبِه بمعنى واحد(20)، وقد عدّهما الزّجاجيّ من بابِ الإبدال(21)، ولا يُنسى في هذا المقامِ إشارةُ ابن منظور إلى أنّ "الرِّجس هو الرِّجز" في مادّة "رجس"، وأنّ "الرِّجز هو الرِّجس" في مادّة "رجز"، ولكنّ مادّة "رجز" تمايزتْ مستقلّةً بمعانٍ مخصوصةٍ في رحلةِ العربيّةِ في عصورِها المتقادمة، كالبحرِ العَروضيّ المعروفِ، مع اقتضاءِ التّقرير بأنّ التّداخلَ بينهما قائم، وإذا كانتْ هذه المادّة في عصورِها المتقادمةِ بالسّين – وهو ما أُغلِّبُه – فإن مماثلةً مضمارها الجهرُ قد وقعتْ فأفضت إلى تخلُّق شقيقتِها؛ إذْ إنّ الجيم المجهورةَ أثّرت في السّين الصّفيريّة المهموسةِ فقُلبتْ زايًا صفيريّة بعد أن اعتراها ملمحُ الجهرِ الآتي عليها من "الجيم"، وإنْ كانتْ زائيّةَ الأصل فإنّ التّخفّفَ من جهر الزّاي في "الرّجس" "أفضى إلى تخلُّقِ المادّة الأخرى، والحقّ أنّ أبا حيّان قد وقف عند هذه الظّاهرةِ الصّوتيّة على وجهِ التّعيين، أعني أثرَ الجيم في السّينِ في سياق كلمةٍ ما، فقدْ ذكر أنّ السّين "ربّما أُبْدِلتْ زايًا بعد جيمٍ أو راء نحو: جُزْتُ ورزت في جست ورست"(22).
صعق – زعق:
وهاتان مادّتان تلتقيان على معنى عريضٍ هو "الصيّاح"، فيقال: صعق الإنسانُ، فهو صَعِق إذا غُشي عليه، وذهب عقلُه من صوتٍ يسمعه كالهدّة الشّديدة، ومثل الصّاعقة: الصّوت الشّديد من الرّعدة، وقيل الصّاعقة: صيحةُ العذاب(23)، وقد استشرف ابن منظورٍ التّطوّرَ الدّلاليّ في قولنا "صعق" إذا مات؛ إذْ إنّ "الصَّعْق" أن يُغشَى على الإنسان من صوتٍ شديد يسمعه وربّما مات منه،
"ثّم استعمِل في الموت كثيرًا" (24)، ويُقال أيضًا في استعمالاتِ هذه المادّة: صَعَق الثّور صُعاقًا: خار خُوارًا شديدًا(25).(254/7)
وليست تلكم الاستعمالاتُ المتقدِّمُ بيانُها، والآتيةُ من مادّة "صعق" بمتجافيةٍ عن الاستعمالاتِ الآتية من مادّةِ "زعق"، فالزَّعق "الصيّاح، والزّاعق: الذي يسوقُ ويصيح بدوابّه صياحًا شديدًا، ويقال: مرّ يزعق بدوابّه: أي يطردُها مسرعًا ويصيح في آثارها، وزَعْقة المؤذّن: صوته، والزّعِق والمزعوق: النّشيط الذي يفزع من كلّ شيء(26)، وليس أدلّ على هذا التّداخلِ بين معاني هاتين المادّتين من المعنى القُطْبِ الذي ينتظمُ كلّ مادّة عند ابنِ فارس، فقد قال في مادّة "زعق": "الرّاء والعين والقاف أصلٌ يدلّ على شدّة في صياح أو مرارة أو ملوحة"(27)، وفي مادّة "صعق" قال: "الصّاد والعين والقاف أصلٌ واحد يدلّ على صَلْقَة وشدّة صوت"(28)، وليس يخفى أنّ المعنيين العريضين اللّذين ينتظمان هاتين المادّتين إنّما هما واحدٌ لا ريب، ولكنْ، ثم افتراقٌ دِلالّي؛ إذْ إنّه يقال: ماء زُعاق: مرٌّ غليظ لا يُطاق شربُه من أُجوجته، وطعام زُعاق: كثيرُ الملح"(29)، ولكنّ هذا الافتراقَ لا ينفي الاتّفاقَ البتّة، بل الأخيرُ أعلى وأظهر، ولعلّ باعثَ تردّد المادّتين بين الزّاي والصّاد، وكلاهما رخوٌ صفيريّ لثويّ، هو العين؛ إذْ إنّ العين مجهور، ولعلّ هذا يرجّح – ولا أقول يجزم – أنْ يكونَ الأصل "صعق"، ثم قُلبت الصّاد زايًا وفاءً بقواعدِ المماثلة، فالعينُ مجهور، والصّاد مهموسٌ، فحلّ محلّه ما هو قريبٌ منه في المخرج والرّخاوة، فكان الزّاي، لأنّه مجهورٌ كالعين، وفي عاميّتنا نجد أمثلةً من مِثل هذا المتقدِّم، فنحن نقول في "صعتر" – وهو النّباتُ المعروف –"زعتر" ذاهبين بالكلمة نحو الزّاي، وقد وردتْ في المعجمِ العربيّ بالسّين والصّاد: "سعتر"، و"صعتر"(30)، ولكنّ جهرَ العين هو الذي أفضى إلى نطقِها بالزّاي في عاميّتنا، بل إنّ نطقَها بالزّاي في إِلْفنا العاميّ مّما انعقدَ عليه الإجماعُ اليومَ، فغدا مّما استحكم وشاع، وكنتُ قد سألتُ طالبًا من أبناء(254/8)
العربيّةِ الشّادين أنْ يكتبَها فجنح في رسمها إلى "الزّاي" واهمًا أنّ هيئةَ رسمِها تطابق مطابقةً مرآويّة هيئةَ التّلفّظ بها، وليس ذلك كذلك، وليس – من وجهةٍ أخرى – هذا المثالُ المستقَى من عاميّتنا ببعيدٍ عمّا وقع في مادّة "صعق" و"زعق"، وقد تنبّه ثعلبٌ إلى بعضِ هذا، فوقف على مُثُل من المماثلة الصّوتيّة، ومن ذلك ما الباحثُ خائض فيه، فقد قرّر، على وجه من التحكّم، أنه "إذا جاءتْ الصّاد ساكنةً، وكان بعدها طاء أو حرف من السبّعة المطبَقة المفردة جُعلت صادًا أو سينًا أو زايًا مُمالة بين الصّاد والزّاي" (31)، وقد عقد القاليّ في أماليه مطلبًا للقول عنوانُه:"ما جاء من الكلمات بالصّاد والزّاي"، وهو قريب مما تقدّم(32).
عسد – عصد – عزد:(254/9)
مثال مُبينٌ عن فعلِ المماثلةِ الصّوتيَّة في نموّ المعجمِ العربيّ، فقد ذهب ابنُ منظور في مُفتتحِ حديثه عن مادّة "عزد" إلى أنّ تداخلاً بين العزْد والعصْد قد وقع، أمّا ما ورد تحت مادّة "عسد" من معانٍ فمفاده إحكامُ الفتل، فنقول: عَسَد الحبلَ عَسْدًا: أحكم فتلَه، وفي مادّة "عصد" أشار إلى أنّ العصْدَ هو اللّيّ، فنقول: عَصَد الشيءَ فهو معصود وعَصيد، وعَصَد البعير عنقَه: لواه، وكذلك الرّجُل، وعصد السهمُ: التوى في مرٍّ ولم يقصد الهدف، والعَصْد والعزْد: النّكاح والجماع، وعصَد الرجلُ المرأة وعزَدها نكحها(33)، ولعلّ المعنى الجامعَ الذي ينتظمُ هذه الموادّ الّثلاث هو اللّيّ، ومن هنا جاء: عصَد البعيرُ رأسَه، وعسَدَ الحبلَ إذا أحكم فتله، وفي إحكامهِ ليّ وتوثيقٌ، وكذلك الحال في مادّة "عزد"، وقد جمع ابنُ السِّيدِ هذه الكلماتِ الثّلاثَ معًا في جَعبةٍ واحدة ذاهبًا بها إلى أنّ معناها واحد(34). أمّا عن باعث اجتماعِ هذه الموادّ على معانٍ واحدة فمردّه إلى المماثلةِ من غير جهة: جهة التّفخيم، وجهة الجهر، ولذا تكوَّن في المعجم العربيّ ثلاثُ موادّ تفيء إلى أرومةٍ واحدة، ولكلّ واحدة صِبغة صوتيّة تميّزها عن الأخرى، وأوّلها: المفخَّمة "عصد"، وثانيها: المرقَّقة "عسد"، وثالثها: المجهورة "عزد". أمّا التّرقيق فلعلّه آتٍ من مجاورة الصّاد للعين والدّال المرقَّقين، وقدْ يكون الأصلُ التّرقيقَ ففُخّمت السّين على ألسنةِ بعض العرب فغدتْ صادًا، فصار لدينا "عصد"؛ إذْ إنّ السّين والصّادَ شقيقتان لا فرقَ بينهما إلاّ في ملمح صوتي واحدٍ مميِّز، وهو التّفخيم، فكلا الصّوتين مهموسٌ ورخو وأسنانيّ لثويّ، أمّا الزّاي فقد جاءتْ بأثرٍ من الدّال، وهي – أعني الدّال – مجهورة، والسّين مهموسةٌ، فاكتسبتْ السّين ملمحَ الجهر من الدّال، فأَذِنَ هذا بصيرورتِها زايًا، والحقّ أنّ القدماء التفتوا بكثيرٍ من لطفِ النّظرِ والرّويّة إلى هذا(254/10)
المطلب؛ مطلبِ تعاقبِ السّين مع الصّاد، والسّين مع الزّاي، وقد وقف عند هذه الظّاهرةِ سيبويه وقوفَ المدقّق المتبصّر ملتمسًا وقعَ تجاور الأصوات في بعضها، وهو ما يُوسَم في الدّرس الصّوتي الحديثِ بالتّباين الألفونيّ، ومن ذلك ما عُرِض آنفًا من حديثٍ عن قلب الصّاد أو السّين زايًا في بعض البيئات الكلاميّة، ومنه "العصد"، والحقّ أننا – مِن وجهةٍ صوتيّة نطقيّة فاقعة – لا ننطق صادًا صريحةً عند تلفّظنا بكلمة "العصد"، بل نحققُ زايًا يعتريها تفخيمٌ آتٍ من العين، وقد ورد سيبويهِ من قبلُ على هذا مُلْمِحًا إلى ملحظين هما مضمارُ هذا البحث، وأوّلهما: الباعثُ اللّهْجي. وثانيهما: التّجاورُ الصّوتيّ، فقال في حديثه عن مجاورةِ الصّاد للدّال: "وسمعنا العربَ الفصحاءَ يجعلونها زايًا خالصة،…، وذلك في قولهم: التّصْدير: التّزْدير، وفي الفَصْد: الفزد، وفي أصدرت: أزدرت"(35)، ومن مثلِ ما تقدمّ التفاتةُ أبي حيّانَ المعْجبةُ إلى أثر تجاورِ السّين للدّال السّاكنة المؤْذِنِ بقلبها زايًا، فقال: " وإنْ سُكِّنتْ السّين ووليتها دال، نحو: أسْدل ويُسْدل، فقيل: يجوز أنْ تُبدلَ زايًا محضة، وقيل يُضارع بها الزّاي ولا تخلص زايًا" (36)، "والعرب تقول: ازْدق، بمعنى: اصدق" (37)، وقريبٌ من هذا نصّ ورد عند ابنِ السّكّيتِ والقالي والسّيوطيّ، وفيه يُشار إلى ملحظ قلبِ الصّاد زايًا، وهو: "وسمعت أعرابيًّا يقول: لم يُحرَم من فُزْدَ له، أراد: مَن فُصِد له، وأبدل الصّادَ زايًا، والمعنى: لم يُحرَم من أصاب بعضَ حاجته وإنْ لم ينلْها أحد كلّها"(38).
خسق –خزق:(254/11)
وبين هاتين المادّتين تداخلٌ لا يخفى على ذي تأمّل، وجماع معناهما: الطّعن، وخرَق السهمُ: إذا أصاب الرّميّة ونفذَ فيها، وسهم خازق: مقرطِسٌ نافذ(39). أمّا مادّة "خسق" فعنها قال ابن منظورٍ: " إنّ الخاسق من السّهام هو المقرطِس، وخسق لم ينفذْ نفاذًا شديدًا " (40)، وقد التفتَ إلى هذا التّداخلِ بين هاتين المادّتين، فقال ابن منظورٍ: "وهو لغة في الخازق"(41)، و"خَزَق السهمُ وخَسَق بمعنى واحد… والسّهم إذا قرطس فقد خَسَق وخَزَق، وسهم خازقٌ وخاسق"(42). والظّاهر، بلا ريب أنّ هاتين المادّتين إنّما تعودان إلى أصلٍ واحد؛ ذلك أنّ المعنى المُثْبَت تحت مادّة "خزق" هو المعنى المُثْبَت تحتَ مادّة "خسق"، وينضافُ إلى هذا المتقدّمِ إشارةُ ابن منظورٍ إشارةً قطعيّة الدّلالةِ والثّبوت إلى أنهما لغتان، وينبني على هذه الإشارةِ إشارةٌ إلى تضخّم المعجم العربيّ ونموّه أولاً، وإلى اشتماله على موادّ يمكن جدًّا أنْ تُرَدَّ إلى أخرى ثانيًا، وإلى أثر اللَّهَجاتِ العربيّة التي كان لها سُهْمَةٌ في ذلك ثالثًا، وإلى دور المماثلة الصّوتيّة في شيوع هذه اللّهجاتِ رابعًا، فمخرج "الخاء" لهويّ، ويليه "السّين" في "خسق"، وهي أسنانّية لثويّة، والقاف طَبقيّة، ومعلومٌ أنّ انتقالَ طرفِ اللّسانِ من الصّوت اللّهويّ "الخاء" إلى الأسنانيّ اللّثويّ "السّين" إلى الطّبقيّ جهدًا عضليًّا في النّطق زائدًا، ولعلّ هذا هو الذي أَذِنَ بحلولِ الزّاي محلّ السّين في هذه البيئِة الصّوتيّة "خسق"، فاقترب مخرجُ الزّاي، وهو لثويّ خالص، من مخرج الخاءِ والقاف، وقد انبنى على هذا أنْ وُجِد جذران لغويّان ينضويان تحت لواء المعجمِ العربيّ، ولكنّ مواضعَ الاتّفاقِ الغالبِ أمرهُ على هاتين المادّتين تشي بأنّهما يفيئان إلى أصلٍ واحد، وربّما كان هناك تفسير آخر لوجود هاتين المادّتين بمعنى واحدٍ، وهو وجود " القافِ" في مادّة "خسق"، ولعلّها القافُ اليمانيّة التي(254/12)
نرسمها "g" في الإنجليزيّة، وهي مجهورة، وجهرُها هذا هو الذي كسا السّين بهذا الوسم الصّوتي فغدتْ زايًا، ولعلّ ما يسندُ هذا الرأيَ الذي أرجّحُه على سابقِه أمران:
أوّلهما: أنّ سيبويهِ في وصفِه صوامتَ العربيّة، ومن بعدهِ ابنُ جنيّ، جنحا إلى عدّ "القاف" العربيّة مجهورةً(43)، وهي في يومنا هذا ليستْ كذلك البتّة إلاّ فيما يتجلّى في بعض عاميّاتنا عامّة، والبدوية خاصّة، إذ تُنطق في بعض البيئات "g".
وثانيهما: إلماحةُ ابن جنيّ وأبي حيّانَ إلى ظاهرة قلب السّين زايًا في بعضِ اللّهجات والبيئاتِ الكلاميّة، سواء أكانتْ ساكنةً عند ابنِ جنيّ أم متحرّكةً عند أبي حيّان، "فلو تحرّكت السّين ووليها قافٌ فلغة كَلْبٍ إبدالُها زايًا: يقولون: سَقَر: زَقَر"(44)، ويقولون: "سَقْر" و"زَقْر"(45). ومّما هو قريب ممّا تقدّم تداخلُ الموادّ الآتية:
عسق – عزق- عسك.
يقال: عَسِقَ به عسَقا إذا لزمه ولزق به وأولع به، وكذلك تعسَّق، وعَسِقت النّاقة بالفحل: أربت، والعُسُق: المتشدّدون على غرمائِهم في التّقاضي، ويقال: في خُلقه عَسَق: أي التواء وضيق(46)، واللاّفتُ للخاطر أنّ هذه المعانيَ الواردةَ تحت مادّة "عسق" هي نفسُها الواردة تحت "عزق"، فالعُزُق السّيّئو الأخلاق، والعَزوق: مَن فيه شدّة وعسر في خُلقه، وعزِق به: إذا لصق به ولزمه (47)، وكلّ هذه المعاني مترددّة بين المادّتين، ولكنّ الذي انفردتْ به مادّةُ "عزق" هو المِعْزقة والمِعزق، وهو ما تُعزَق به الأرضُ فأسًا كانت أو مِسْحاة (48)، أمّا مادّة "عسك" فهي مرادفةٌ لمادّة "عسق"؛ إذْ إنّ من اللّغويين مَن عدّ الكاف في "عسك" بدلاً من القاف في "عسق"(49).(254/13)
أحسبُ أنّ المادّةَ التي انشعبتْ إلى ثلاث شُعب هي "عسق"، أمّا "عزق" و "عسك" فهما آتيتان منها، والظّاهرُ أنّ صلةَ رحمٍ لغويّةً تتجلّى بين هذه الموادّ فيما تحملُه من دلالات، كدِلالة اللّصوق في مادّة "عسق" و"عزق" و"عسك"، والعينُ والسّين والقاف عند ابنِ فارسٍ أصلٌ صحيح يدلّ على لزوقِ الشّيء بالشّيء (50)، والعينُ والسّين والكاف أصلٌ صحيح قريبٌ من ذلك إذ نقول: عسِك به: لزمه(51)، أمّا العين والزّاي والقاف فليس فيه – كما يرى ابن فارسٍ – من كلامٍ أصيل (52)، وإخالُ أنّ للماثلةِ الصّوتيّة يدًا في شيوعِ المادّتين، ولعلّ المرجَّح أنّ الأصل سينيّ، وينبني على هذا أنّ الكافَ في "عسك" آتيةٌ بأثرٍ من التّرقيقِ الواقعِ في السّين، فقُلِبت القاف كافًا، وأنّ الزّاي في "عزق" آتية من غير جهةٍ، فالعين صوتٌ مجهور فَعَلَ في السّينِ الصّوتِ المهموس فجُهِّرَ، وقد تكون القافُ المتقادمةُ التي في هذه المادّة يمانيّة مجهورةً – وهي قافُ العربيّةِ التي وصفها سيبويهِ، وقد أتى عليها كلام قبْلاً – فَفَعَلَتْ في السّين فغدتْ زايًا، كلّ ذلك مرشَّحٌ ومفسِّر، ولكنْ، يبقى ثمّ مُستأنَسٌ يُستعانُ به على ترجيح أنّ "عسك" حادثة متخلِّقة، وهذا ما شُهِد به من قبلُ، وأنّ "عزق" كذلك بشهادة ابن فارس، وأنّ الأصل في كثير مِن مثل هذه الموادّ "السّين" بشهادةِ ابنِ جنّي وأبي حيّانَ في المعالجة السابقةِ على هذه.
سقع – صقع:(254/14)
يستدرك ابن منظورٍ على نفسه في مُفْتَتح حديثِه عن مادّة " سقع " مقرًّا بأنّ هاتين المادّتين لهما أصل واحدٌ وإنْ وردتْ كلّ واحدة في موضع مستقلٍّ تحت مادّة معجميّة مستقلّةٍ قائمة برأسها، و"كلّ ما يُذْكَر في ترجمة" صقع" بالصّاد فالسّين فيه لغة"(53)، ولذا ما فتِئ يشير إلى هذا التّداخل في ثِنْيِ عرضه للمادّتين مُقرنًا كلمات مادّة "صقع" مع كلمات مادّة "سقع" في موضع كلِّ منهما، فالسَّقْع والصّقْع: الضّرب بباطن الكفّ(54)، أو ببسط الكفّ(55)، و"خطيب مِسْقَع مثل مِصْقع، والسَّقْع لغة في الصّقْع، و"كلّ ناحية سُقْع وصُقع، والسّين أحسن" (56)، والسُّقْع: ما تحت الرّكية وجُولُها من نواحيها، وكذلك الصّقع، والجمع أَسْقاع وأصْقاع، والسّين في هذه أحسن أيضًا(57)، والأصْقع والأسْقع من الطير والخيل وغيرهما: ما كان على رأسه بياض(58).(254/15)
والظّاهر ممّا تقدّم أنّ السّين والصّاد مرشَّحتان للتّعاورِ في مواضعَ مخصوصة، وقد تنبّه إلى هذا ثُلةٌ من القدماء، فعرّجوا على النّظر في مُثُلِ بعض هذا التّعاور المفضي إلى التّقاربِ الصّوتي، والتّوافق المعنويّ، ومن هؤلاءِ ثعلبٌ وابن السّكّيت في حديثِه عن باب الإبدال الواقعِ في السّين والضّاد(59) وابنُ السِّيد في "الفرق" حين عرض لمطلب القولِ على الفَرق بين السّين والصّاد (60)، وأبو حيّان في ارتشاف الضّرب(61)، والحقّ أنّ هذا كثير في حياتنا اليوميّة، فنحن نقول "مسْطوح" مستشرفين وجه كتابتها بالأصل، متلفّظين بها صادًا، وقد وضع ابن السِّيد قاعدة عريضة تفسّر تعاورَ السّين والصّاد معتمدًا على السّماع والقياس؛ إذ إنّ بعض الألفاظِ سُمِعتْ بالسّين، وأخرى سُمِعت بالصّاد، وهذا محتكَم نسترفده آنَ الحكمِ على كلمةٍ أوجذر بأنه سينيّ أو صاديّ، أمّا الذي ينقاس عنده – وهو موضع التّمثّل في هذا المقامِ – فهو ما يتوافقُ مع الدّرسِ الصّوتيّ الحديث، فكلّ "سينٍ وقعت بعدَها غين أوخاء أو عين أوقاف أو طاء جاز قلبها صادًا،…، وإنّما قلبوها صادًا إذا وقعتْ بعدَها هذه الحروف لأنّها مستعلية، والسّين حرف مُسْتَفِل، فثقل عليهم الاستِعلاء بعد التسفّل لما فيه من الكُلْفة"(62). والأمر كذلك عند أبي حيّان، فقد عرّج على هذا الملحظِ مستشرفاً دورَ اللّهجات في هذا؛ إذْ إنّ الصّاد تُبْدَل من السّين جوازًا على لغة بني العنبر إنْ وليها غينٌ أو خاء أو قاف …"(63). وقَدْ استشرف هذا الملحظَ من قبلهِ ابنُ السّكّيت مقرّرًا أنّ بني العنبر يقولون: الصّوق والصّاق؛ يعنون السّوق والسّاق" (64)، وقد ورد مثلُ هذا عند ابن جنّي، فقد أشار إلى أنّه إذا كان بعد السّين غينٌ أو خاء أو قاف أو طاء جاز قلبها صادًا، ومن ذلك قوله – تعالى -: "كأنّما يُساقون" و"يصاقون"(65).
سفق – صفق:(254/16)
يقرّر ابنُ منظورٍ آنَ وروده على مادّة "سفق" و"صفق" أنّ السَّفْق لغة في الصّفق(66)، وهأنذا أعرّج على ما ورد في المادّتين من اتّفاق لا يكادُ يخفى لأجمعَ شتاته في جعبةٍ واحدةٍ مستصفاها: ثوب سَفيق وصفيق، وسَفُق الثّوب إذا كثف، وسَفَق وجهَ الرّجل وصَفَقه: لطمه، وأسفق الغنمَ وأصفقها إذا لم يحلبها في اليوم إلاّ مرّة، والمادّتان عند ابنِ السّكّيت وابن السّيد البطليوسيّ بمعنى واحد(67)، ولمّا تناقل الرّواة حديث النّبيّ – صلّى الله عليه وسلّم – "… كان يشغلهم السّفْق بالأسواق" تردّدوا فيه بين السّين والصّادِ، وقد وقف ابنُ الأثيرِ عند هذا الحديثِ مرتين: الأولى عند ورودِه على ألفاظِ السّين، والثّانيةِ عند ورودِه على ألفاظِ الصّاد(68)، والحقّ أنّ بيانَ هذا التردّدِ والتّداخلِ قريب، وقد عمل على تجليتهِ ابن منظورٍ نفسُه، فقد قرر أنّ "السّين والصّاد يتعاقبان مع القافِ والخاء، إلاّ أنّ بعضَ الكلماتِ يكثُر في الصّاد، وبعضها يكثُر في السّين"(69)، وليس غرضُ الباحثِ في هذا المقامِ التّصريحَ بالأصل، فقد يكون السّينَ، وقد يكون الصّاد، وإذا كان الأوّل فإنّ ذلك يُلْمح إلى أنّ القاف المفخَّمةَ أثَّرتْ في السّين المرقّّقةِ فأكسبتْها تفخيمًا، فصار عندنا "صفق"، "سفق"، وإذا كان الأصلُ الصّادَ فلربّما أتى على الصّاد ترقيق من الفاء، والحقّ أنّ وجهة هذا البحثِ ليستْ تفيء إلى التأصيل أو الأنظارِ المقارنة للوقف بها على رأي قطعيّ الثّبوتِ، فقد يكون الأمرُ بالضّدّ في بعض الأمثلةِ والموادّ، إذ إنّه مّما لا يُوقف عليه إلاّ بالتّوهم ورمي النّظر في تكهّن وتخطّف وراء أزمنة أو أصولٍ متقادمةٍ يكادُ يكون جلّها دارسًا.
سرط – صرط.(254/17)
جماع دلالةِ مادّة "سرط" الابتلاعُ، فنقول: سَرِطَ الطّعامَ والشّيءَ سرَطًا وسَرَطانًا إذا ابتلعه، والمِسْرط: البلعوم، والسِّراط: السّبيلُ الواضح، وقد يكون بالصّاد(70)، وقد قرأ بعض القراء: "اهدنا الصّراط المستقيم"(71) بالصّاد(72)، والظّاهر أنّ دلالة "السّراط"، إنْ بالسّين أو الصّاد، متطوّرةٌ في دلالتها عن المعنى الأوّل، وقد ألمح إلى هذا ابنُ فارسٍ في حديثهِ عن المعنى الجامعِ الذي ينتظم عقدَ مادّة "سرط"، فأشارَ إلى أنّ السّينَ والرّاء والطّاء أصلٌ صحيح يدلّ على غيبةٍ في مرّ وذهابٍ، ومن ذلك: سرطتُ الطّعام : إذا بَلعته، لأنّه إذا سُرِط غاب، وكذلك السِّراط، لأنّ الذاهبَ فيه يغيبُ غيبةَ الطّعام المسترطَ(73)، وقد التفت إلى وجهٍ آخرَ جامعٍ العكبريّ، فرأى أنّه سمّي سِراطاً لجريان النّاسِ فيه كجريان الشّيءِ المبتلَع(74).
والظّاهر مّما تقدّم أنّ ثّمة مماثلةً لا تخفى أدّتْ إلى وجود هاتين: "السراط والصّراط"، وهي مماثلةٌ في التّفخيمِ؛ إذْ إنّ الأصلَ – كما يقرّر ابنُ منظورٍ والعكبريُّ – السّينُ، ولكنّها اكتسبتْ صفة التّفخيمِ الآتي مِن مجاورتها الطاء "سرط"، فغدتْ صادًا، وأصبح في جعبةِ المعجميّين مادّتان حمّالتان لمعنى واحدٍ، وقد عرّج العكبريّ على هذه المماثلةِ الواقعةِ بين الطّاء والسّينِ مستشرفًا ومفسِّرًا أحسنَ تفسير، ومجلّيًا لتباينِ القراءاتِ في هذا الحرف، "فمن قرأه بالسّينِ جاء به على الأصلِ، ومن قرأه بالصّادِ قلبَ السّين صادًا لتجانسَ الطّاءَ في الإطباقِ، والسّين تشاركُ الصّادَ في الصّفيرِ والهمس، فلمّا شاركت الصّادَ في ذلك قربت منها، فكانتْ مقاربتُها لها مجوّزَةً قلبَها إليها لتجانسَ الطّاء في الإطباق"(75).
غتت – غطط:(254/18)
وفي هاتين المادّتين يتجلّى أثرُ التّفخيم أو التّرقيقِ في نموّ المعجمِ العربيّ، فقدْ ذهب ابنُ منظورٍ إلى أنّ الغَتّ كالغطّ (76)، ولكنّ هذا الاتفاقَ لا ينفي بعضَ الافتراق، وقد جاء في مادّةِ "غتت": غتَّ الضّحكَ: وضع يدَه أو ثوبَه على فيه ليُخفيه، وغتّ في الماء، وهو ما بين النّفَسين من الشّرب والإناءُ على فيه، أي: تنفّس الشّارب من الشراب، وغتّه: عصره، وغتّه في الماء غتّا: غطّه(77).
وعند الورودِ على مادّة "غطط" فإنّنا نلفي أنّ الدّلالةَ التي تلتقي عليها هذه المادّةُ لا تكاد تفارقُ دِلالةَ مادّة "غتت"، فيقال: غطّه في الماء: غطسه ومقله فيه، والغطّ: العصر الشّديدُ والكبس، ومنه الغطّ في الماء: الغوص، وغطّ في نومه: نَخَرَ، والغَطيط: الصّوت الذي يخرج مع نَفَس النّائم، وهو ترديدُه حيث لا يجد مَساغًا(78).(254/19)
والمتأمّل برويّة يجد أنّ هذا المعنى الأخيرَ قريبٌ من معنى: غتّ الشّاربُ في الماء، وهو التنفّس في الشّراب؛ إذْ إنّه قد يصدرُ منه صوتٌ كما يصدرُ مِن النّائم في نَخَره، وقد استشرف ابنُ فارسٍ معاني مادّة "غطط" مشيرًا إلى أنها تلتقي على أنّ الغينَ والطّاء أصل صحيحٌ يدل على "صوت"، ومن هنا جاء غَطيط الإنسانِ في نومهِ، ومنه الغَطَاط: وهي القَطا سمِّيتْ بذلك لصوتها، وكذلك: غطّه في الماء، فممّا يصحّ في الفهم ويستقيمُ أنْ يكون المتعيّنُ منها ذلك الصوتَ الذي يكون من الماء أو النَّحَر(79)، ومن مثله غتّه في الماء، وفي مادّة "غتت" جنح ابن فارسٍ إلى أنّ ثَمَّةَ إبدالاً وقع؛ إذْ إنّنا نقول: غططته وغتته(80)، والمرجَّح – بالفيءِ على ما ذُكر آنفًا – أنّ مادّة أمًّا هي الأصل، وأنّ أخرى جاءتْ منها، وإذا كانتْ في أصلِها المتقادمِ بالتّاء، فإنّ تعليلَ وجود مادّة "غطط" حاضرٌ عتيد؛ إذ إنّ الغين مفخَّم، فأكسب التّاءَ هذه السّمةَ الصّوتيّةَ، والتّاء والطّاء صنوان لا بَونَ بينهما – من وجهةٍ صوتيّة – إلاّ في ملمح واحدٍ هو التّفخيم، فكلاهما مهموسٌ وانفجاريّ وأسنانيّ لثويّ، ويظهرُ أنّ هذا التّطابقَ في الوصف الصّوتيّ هو الذي أَذِن باستحالةِ التّاء طاءً. أمّا إذا كان الأصلُ "طائيًّا" فقد سُمِعتْ عن العرب الخُلَّصِ الذين يُحتَجّ بعربيّتهم بالوجهين: التّائيّ والطّائيّ، وظلّ التداخلُ بين المادّتين قائمًا، وقد ورد اللغويّون على أمثلةٍ من مثلِ هذا بعدَ عصورِ الاحتجاج، ولكونِها خارجةً عن مضمارِه فقد عدّوها هُجْنةً مستقبَحة، ولَحنًا مَرذولاً، وهي في حقيقتِها قريبةٌ مما وقع في مادّة "غتت" و "غطط"، ومن ذلك حديث ابنِ السّكّيت "عمّا يُتكلَّم فيه بالصّاد مّما يَتكلّم به العامّة بالسّين، ومّما يُتكلّم فيه بالسّين فيتكلّم العامّة بالصّاد"(81)، وحديثُ ابن مكّيّ عن نطق الطاء تاءً، والظّاء ذالاً، والدّال ضادًا، والسّين(254/20)
صادًا، وغير ذلك مما ذكره(82).
سغسغ – صغصغ:
وبين هاتين المادّتين يتجلّى اتّفاقٌ كلّيّ، ولا يكاد يظهرُ ملمحٌ أو أدنى ملمحٍ من افتراق؛ ذلك أنّ ما جاء من معانٍ تشتملُ عليها مادّة "سغسغ" هي نفسُها التي وردتْ في مكانٍ آخرَ في المعجمِ العربيّ تحت مادّة "صغصغ"، وفيما يأتي فضلُ بيان يجلّي ما البحث خائضٌ فيه:
سغسغَ الدّهنَ في رأسه: أدخله تحتَ شعرهِ، وسغسغ رأسَه بالدّهن روّاه ووضع عليه الدّهنَ بكفّيه وعصره، وسغسغ ثريدَه: روّاه بالدّهن والسّمن، وتسغسغ في الأرض: دخل (83)، وكذلك الحال في مادّة "صغصغ"، فنقول: صغصغ رأسه بالدّهن، وصغصغ ثريدَه، "وهي لغة في سغسغ"(84).
إخالُ أنّ المادّة الأصلَ التي انشعبت عنها الأخرى هي "سغسغ" ، ولكنّ الغين من الأصوات المفخّمة، وقد أذن هذا التّفخيمُ الذي يعتري الغينَ في سياقهِ أنْ تكتسي السّين المرقّقةُ بشيء منه تأثّرًا ومماثلة للغين في ملمحٍ صوتي واحد، فأفضى هذا كلّه إلى استحالتِها صادًا، و"لولا إطباقُ الصّادِ لكانتْ سينًا، ولولا إطباقٌ في الطّاء لكانتْ دالاً، ولولا إطباقٌ في الظّاء لكانت ذالاً"(58) وقد انبنى على هذا، في أنظارِ المعجميّين عند جمعِ العربيّة، وجودُ مادّتين ترويان هيئتين صوتيّتين متباينتين، مع تجلّي تقاربٍ صوتي، وتطابقٍ معنويّ، ومما يعضد هذا المذهبَ أنّ بعض اللّغويّين رجّح أن يكون "سغسغ" بالسّين، وأنّ الصّاد قد تعاقبتْ مع الغين(86).
ولما ورد مصنفو غريب الحديث على حديثِ ابن عبّاسٍ في طيب المُحْرِم، ولفظُه: "أمّا أنا فأسغسغه في رأسي" ، تباينوا في هيئة تلفّظه، فمنهم من جاء به بالسّين، ومنهم مَن جاء به بالصّاد(87).
سفع – صفع:(254/21)
معاني " سفع" متعدّدة، والذي له عينُ العنايةِ في هذا المقامِ هو ما يُومئ إلى التداخلِ الحادثِ بين مادّة "سفع" و "صفع"، ومِن ذلك: سَفَع الطّائر ضَريبتَه وسافَعها إذا لطمها بجناحهِ، والمسافعة: المضاربة، وسَفَع وجهَه بيدهِ سَفْعا: لطمه، وسَفَع عنقَه: ضربها بكفّه مبسوطةً، وقد انتقلتْ هذه الدّلالةُ من المحسوسِ إلى المجرَّد، فقيل: امرأةٌ مسفوعة، وبها سَفْعة، أي إصابةُ عين، وكأنّها ضربةٌ من عين(88)، ويقال أيضًا – وأحسبُه من المجاز المتقادمِ الذي غدا أصلاً – سَفَعته النّارُ والشّمس: لفحته، وجماع المعنى المستشرَفِ مما تقدّم أنّ دلالة "السّفع" قريبةٌ من معنى الضّربِ، ويعضدُ هذا التّقريرَ سفعُ الطّائر والإنسانِ والشّمس والسَّموم، والملاحظُ أنّ مادّة "صفع" في المعجم العربيّ لا تكاد تجاوزُ هذا الذي تقدَّم؛ إذْ إنّ "الصّفْع" معناه الضّربُ بجمع الكفّ القفا، وقيل – وهذا يسندُ وجهَ التّعاورِ بين السّينِ والصّاد على هذه الكلمةِ – أنْ يبسطَ الرّجلُ كفّه فيضربَ بها قفا الإنسانِ أو بدنَه(89)، وقد تقدَّم هذا المعنى والاستعمالُ الدّلاليّ في السّطورِ المذكورة آنفًا، والذي ينبني على هذا أنّ دلالةَ "سفع" و"صفع" واحدةٌ، ولكنّ لسيرورةِ العربيّة عبرَ الزّمانِ والمكان والإنسان سهمةً في اختصاصِ كلّ واحدةٍ بمعنًى يكادُ يكون عَلَمًا على كلتا المادّتين، فالصّفْع اللّطم والضّرب، والسّفْع كذلك، ولكنّ الأخيرةَ ذاعتْ في سفع النّارِ والسّموم والشّمسِ وتغيير لونِ البشرة(90)، ولعلّ الباعثَ على وجودِ المادّتين معاً هو المماثلةُ الصّوتيّة، فقد يكون الأصل الصاد، ولكنها اكتست بالترقيق من مجاورتها الفاء فصارت سينًا، وقد تقدم آنفًا حديث عن بعض الكلمات التي تروى بالسين والصاد، ولكن إحداهما أكثر وأعرف، ولا ينسى ثانيةً وثالثةً فعلُ اللَّهجات العربية، وهذا كلّه أذِن بأن يشتمل المعجم العربيّ على مادّتين متقاربتين مِن وجهة(254/22)
صوتيّةٍ ودلاليّة.
لعثم – لعذم:
للثّاء والذال ملامحُ صوتيّةٌ متماثلة، فكلتاهما رِخوة مرقَّقة بيأسنانيّة، ولكنّ وقوعَ الثّاء مجاورةً لمجهور في بيئةٍ صوتيّة ما قد يعملُ على صيرورتِها مجهورة، لتغدوَ في نطق المتلفّظ بها ذالاً صريحةً، وقد وقع أمثلةٌ من هذا في المعجمِ العربيّ، ومن ذلك التّداخلُ الصّوتيّ بين عنوانِ هذه المباحثة الجزئيّة "لعثم – لعذم"، وهما بمعنى واحدٍ(91)، وجماع معناهما التمكُّث والانتظارُ والتأنّي، وقد قرِئ: وما تلعثم عن شيء: وما تلعذم(92)، وقد أشار ابن السّكّيتِ إلى أنّ الذّال بدلٌ من الثّاء(93)، وعلى هذا المتقدّم فالحاصل أنّ الثّاء هي الأصلُ في الغالب الكثير، وقد وقعتْ مماثلة صوتيّة بين الثّاء المهموسةِ والعين المجهورةِ، فاكتسبتْ الثّاء صفةَ الجهر لتغدوَ ذالاً في النّطقِ، ولينبيَ على هذا كلّه وجودُ مادّتين لهما أصلٌ واحد.
وممّا هو مضارعٌ لما تقدّم باب القول على:
بثعر – بذعر:
ومع كونِهما حمّالتين لدِلالةٍ واحدةٍ لا وجودَ للافتراق ولا لشبهةٍ، فقد وردتا في المعجمِ تحت مادّتين متباينتين:"بثعر" ، و"بذعر" ، والمعنى المتعيّنُ فيهما التّفرق، فنقول: ابذعَرّ النّاسُ إذا تفرّقوا، وابذعرّت الخيلُ وابثعَرّت إذا ركضتْ تُبادر شيئًا تطلبُه، وإخال أنّ مادّة "بثعر" من مقلوب مادّة "بعثر"، وفي "البَعْثرة" و"البثْعَرة" تفرّقٌ وشتات، وهذه ظاهرةٌ فاشيةٌ في المعجم العربيّ تُوسَم بأنّها من سُننِ الكلامِ العربيّ، وعنوانها العريضُ "القلب" ، فنقول: صاعقة وصاقعة، وعَميق، ومعيق، وجذب وجبذ، وممن وقف عندها مُفرِدًا لها بابًا ابنُ فارس في "الصّاحبيّ"، وأبو حيان في "الارتشاف"، والسّيوطيّ في "المزهر"(94).(254/23)
أمّا عن تخلُّق المادّتين فالباعث الأوّلُ هو: "بثعر"، ويسند هذا أنّه من مقلوب "بعثر"، فالباء المجهورة في "ابثعر" أكسبتْ مجاورتها "الثّاء" المهموسةَ صفة الجهر، فغدتْ على الهيئة الجديدة المتخلّقةِ عنها :"ابذعرّ".
نسغ – نزغ:
وبين هاتين المادّتين اتّفاقٌ دلاليّ وافتراق، وجماعُ معنى النّزْغ: أن تنزغَ بين قومٍ فيحملَ بعضهم على بعض بفساد بينهم، ونزَغ: أفسد وأغرى(95)، والنّزْغ الكلامُ الذي يغري بين النّاس، والنّزْغ: شبه الوخزِ والطّعن، "ونَزَغَه بكلمة: نخسه وطعن فيه مثل "نَسَغَه"(96)، أمّا في مادّة "نسغ" فقد بيّن ابنُ منظور أنّ "نَسَغَه بيد أو رمحٍ أو سوط نَسْغًا: طعنه، وكذلك أنسغه ونسَغَه بكلمة: مثل نَزَغَه"(97)، ونَسَغَت الواشمة بالإبرة: غرزتْ بها، والنّسغ تغريزُ الإبرة(98).(254/24)
يظهر مما تقدّم أنّ هاتين المادّتين تلتقيان على قدرٍ معنويّ مشترَك، وأنّهما تفترقان، فالنّزْغ في دلالتهِ العامّةِ الإفسادُ والطّعن، والنّسغ تغريزُ الإبرة والطّعن باليد أو الرّمح، وأحسبُ بعد هذا المتقدم أن لهما أصلاً واحدًا، وأن عوارض صوتية خاصة أدت إلى وجود أخرى، فإن كانت السّينُ هي الأصلَ فإنّ قواعدَ المماثلة، والبيئةَ الصّوتيّة التي وردتْ فيها "السّين" اقتضت أنْ ينالَ السّينَ – وهي مهموسة صفيريّة – بعضُ الجهر الآتي من مجاورتها "الغين"، فاستحالتْ السّين "زايًا" مجهورة، وبقي معنى المادّة الأمّ مكتنفًا المادّةَ الحادثةَ المتخلِّقة منها، ويدلّ على هذا المعنى الكلّيُّ الذي يكتنف مادّتي "نزغ" و"نسغ" ، فَنزْغ الشّيطانِ أو المفسد كنسغِ الواشمةِ التي تغرز إبرتَها؛ إذْ إنّ الأوّلَ يغرزُ إبرته المجرَّدةَ التي هي ضرب من الشّرّ أو وسواسٌ يقع في النّفس، ولعلّ المعنى الكلّىّ الذي تلتقي عليه هاتان المادّتان هو "الطّعن" إنْ معنويّا وإنْ ماديًّا، ثم إنّ ابن منظورٍ جنح جنوحَ المدلّل الممثّل على تداخلِ معاني هاتين المادّتين، ففي مادّة "نزغ" قال: "ونَسَغَه بكلمة: مثل نَزَغَه"(99)، وقد جمعهما الزّمخشريّ في أساسِه مرّتين مقرّرًا أنّ "نزغه مثل نسغه" (100).
جذا – جثا:
وهاتان مادّتان بين معنييهما اتّفاقٌ وافتراق، ولكنّ الاتّفاقَ مستحكِمٌ ظاهر، فقد جاء في اللّسانِ أنّ معنى "جثا" الجلوسُ على الرّكبتين، ويقال جاثيتُ ركبتي إلى ركبتهن وتجاثَوْا على الرّكب، والجاثي: القاعد(101)، أمّا عن وجوه الاتّفاقِ فقد جاء في اللّسانِ أنّ الجاثيَ كالجاذي(102)، وأنّ "جثا جَثْوًا وجُثُوًّا كجذا جَذوًا وجُذُوًّا،…، والجَثوة والجِثوة والجُثوة لغة في الجَذوة والجِذوة والجُذوة، وزعم يعقوبُ أنّ الثّاء هنا بدل من الذّال"(103)، وعند الفرّاء تستوي هاتان المادّتان على معنى واحدٍ، وعند أبي عمرو وابن جنّيّ: "جذا وجثا لغتان"(104).(254/25)
ولكنّ وجه الافتراقِ بين هاتين المادّتين يتجلّى عند إشارةِ بعض علماء العربيّة إلى فرقٍ دلاليّ يتربّع على دائرةِ دلالةِ كل منهما، فالدّلالةُ عند الجوهريّ: الجاذي: المقعي منتصبَ القدمين، وهو على أطرافِ أصابعهِ(105)، وعند ثعلب: الجذوّ على أطرافِ الأصابع، والجثوّ على الرّكب(106)، وعند ابن الأعرابيّ: الجاذي على قدميه، والجاثي على ركبتيه.
أحسبُ أنّ ثّمة مادّة أصيلةً، ويسند هذا النّظرَ ما تقدم من إلماحاتِ القدماء إلى وجهِ الاّتفاق، أو إلى كونِهما لغتين تفترقان في المبنى، وتلتقيان في المعنى، ولكنّ سيرورةَ هذه الكلمةِ عبر الزّمان، وتقادمَ العربيّة، وتباينَ اللّهجات، كلّ هذا تضافرَ ليفضيَ إلى انشعاب أخرى تلابسها، فاختصتْ كلّ واحدة – عند بعض علماء العربيّة – بفرق دلالّي واحدٍ، كأنْ يكونَ الجثوّ على الرّكب، والجذوّ على أطرافِ الأصابع، ويظهر أنّ ثّمة ملمحًا دلاليًّا عريضًا جامعًا، وإذا ما أريد تفسيرُ هذا فالقول فيه حاضر؛ ذلك إنّ للباعث اللّهجيّ يدًا في ذلك، وهذا مذهبُ أبي عمرو(107)، وابنِ جنّي(108)، وللتّقاربِ الصوتيّ يدٌ في ذلك كذلك، وقد ذهب ابن قتيبةَ(109)، والزّجاجيّ(110) وأبو حيّان(111) إلى أنّ "جثوت" و "جذوت" بمعنى واحدٍ، فإذا كان الأصلُ في تَينك المادّتين هو "جثو" و "الجثوة" فإنّ ذلك يرشّحُ لظنّ يقومُ في النّفسِ مفادُه أنّ الذّال منقلبةٌ عن "الّثاء" وفاءً بقواعدِ المماثلةِ الصّوتيّة؛ إذ إنّ الثّاء المهموسةَ استرفدتْ صفةَ الجهر من الجيمِ المجهورة، فاستحالتْ ذالاً، إذْ لا بونَ بين الثّاء والذّال – من وجهة صوتيّة – إلاّ في الجهرِ والهمس، فكلاهما – أعني الثّاءَ والذّال – بيأسنانيّ، ورخو، ومرقّق.
شزب – شسب:(254/26)
جاء في اللّسانِ أنّ الشّازبَ هو الضّامر اليابس من النّاس وغيرِهم، وأكثر ما يُستعمَل في الخيل والنّاسِ، والشّازبُ الذي فيه ضمورٌ وإنْ لم يكن مهزولاً، وقوس شَزْبَة ليسَت بجديدة ولا خَلَقة، كأنّها التي شَزَب قضيبُها، أي : ذَبَلَ، وهي الشَّزيب(112)، ولما ورد ابنُ منظور على مادّة "شسب" ألمح بأنّ الشّاسبَ لغة في الشّازب، وهو النّحيف اليابس من الضُّمْر، والشّسيب: القوس(113).
لعلّه يصحّ في الفهم أنْ يقال إنّ تقاربًا صوتيًّا، وتوافقًّا معنويًّا يتجلّيان في المعجم العربيّ بين هاتين، ولكنّ بواعثَ متباينةً أدّت إلى انشقاقِ واحدةٍ عن الأخرى، ولما جُمعَتْ العربيّة، واستوتْ معجماتُها على سوقِها تبيّن أنّ ثَم مادّتين لا تكادان تتباينان في دلالتهما، ولذا نبّه المجمعيُّون إلى أنّ هناك تداخلاً لغويًّا مردّه إلى اللّغات، وإذا ما أردنا أنْ نفسّر هذا تفسيرًا صوتيًّا فلعلّ للماثلةِ الصّوتيّة يدًا في هذا ثانيةً وثالثةً ورابعةً، وهي مماثلةٌ في المخرج، فالشّين في مخرجِها غاريّة، والسّين أسنانيّة لثويّة، والزّاي لثويّة، ولذا فإنّ انتقالَ اللّسانِ من المخرجِ الغاريّ إلى اللّثويّ أيسرُ من انتقالِه إلى الأسنانّي اللثّويّ، ولا يُنسَى في هذا المقامِ المماثلةُ في الجهرِ بين الزّاي والباء المجهورتين، أمّا الشّين فهي ليست كذلك في هذا الملمحِ الصّوتي.
صَفوة المُستْخلَص:(254/27)
معلومٌ أنّ العربيّةَ بناء ائتلافي ينتظم لَهَجاتٍ متعدّدةً، فقد كانتْ تلكم اللّهجاتُ التي أقيمت عليها العربيّةُ تلتقي على قدرٍ أساسيّ مشترَكٍ في مستويات العربيّة المتباينة: الصّوتّي، والصّرفّي، والتّركيبيّ، والمعجميّ، ولكنّ هذا الاتّفاقَ العريضَ لم يكن ليرفعَ الافتراقَ، ومن وجوه هذا الافتراقِ ما نحن فيه مِن مُثُلٍ مجلّية لتباينٍ في نطق بعض جذور العربيّة، ولعلّ كثيرًا من هذا يتّسعُ للتّفسيراتِ الصّوتيّة عامّة، والمماثلةِ خاصّة، والحقّ أنّ هذين الملحَظين: اللّهْجيّ والصّوتي، هما قطبا الرّحى اللّذان يدور عليهما هذا البحثُ، ولعلّه – من وجهةٍ تطبيقيّة أخرى – يحسنُ أنْ أقتبسَ نصًّا من المعجمِ العربيّ يصلحُ بيانًا مجلّيًّا لذَيْنِك الملحظَين: اللّهجيّ والصّوتي وأثرِهما الظّاهرِ في نموّ المعجمِ العربيّ، وقد ورد هذا النّصّ الذي لّما يأتِ بيانُه عند غيرِ واحدٍ من علماءِ العربيّة، كابنِ السّكّيت في حديثهِ عن الإبدال(114)، والقالّي في مطلبه:"ما تتعاقب فيه القاف والكاف من الألفاظ"(115)، وابنِ جنّي في حديثِه عن صوتِ القاف(116)، وابنِ منظورٍ في مادّة "قشط": "تميم وأسَد يقولون: قَشَطت بالقاف، وقيس تقول: كَشَطت، وليست القاف في هذا بدلاً من الكاف، لأنّهما لغتان لأقوام مختلفين، وقال في قراءة عبد الله بن مسعود:"وإذا السّماء قُشِطت"، بالقاف، والمعنى واحد"، وبمكنةِ الباحثِ أنْ يستشرفَ بُعدًا آخرَ ذا صلة بما ذُكر في تفسيرِ هذه الظّاهرة، ومُستصفاه أنّ بعضَ القبائلِ كانتْ قد أجمعتْ على نطقِ كلمة ما أو كلمات بالتّاء مثلاً أو السّين أو الكاف، وأنّ قبائلَ أخرى نطقتْ بها بالطّاء أو الصّاد أو القاف، ثم لما جُمعت العربيّةُ من أفواهِ العرب الخُلَّصِ الأقْحاحِ سُمعت بعضُ الموادّ والكلماتِ على هيئتين أو أَزْيَد، فبُثَّتْ في المعجمِ العربيّ على الهيئاتِ المسموعةِ إقرارًا بأنّ كلّ ما ورد عن العربِ الذين(254/28)
يُحْتجّ بعربيّتهم صحيحٌ لا شِيَةَ عليه ولا شبهة، وقدْ ورد في البحثِ قَبلاً حديثٌ عن أمثلةٍ بعدَ عصورِ الاحتجاج(117)، وهي في حقيقتها قد تفسّر جزءًا مما يقومُ عليه هذا البحث، ومن ذلك ما تقدّم من حديثٍ عن نطقِ الطّاءِ تاءً، والظّاء ذالاً، والدّال ضادًا، والسّين صادًا، وغير ذلك مما ذُكر(118).
وينضافُ إلى ما تقدّم أنّ علماء العربيّة كانوا قد وقفوا على هذه الظّاهرةِ وقوفَ المدقق المتأمِّل، مستشعرين بأثرِ تجاورِ الأصواتِ في المماثلة وتخلّقِ جذورٍ مجمعيّة حادثةٍ تنتسبُ إلى أصول سابقةٍ، وحسبي ما
تقدّم من إلماحاتِ القدماء المتكاثرةِ بين سطورِ البحثِ إلى هذا الملحظِ، وليس ينُسَى أنّ مظاهرَ المماثلة فيما تقدّم قد تكونُ في "الجهر" أو "التّفخيم" أو "التّرقيق" أو "المخرج".
أمّا عن دلالة الجذورِ والموادّ التي عولجتْ في هذا البحثِ – وهي نماذجُ جزئيّةٌ تدلّ على موجِّهاتٍ كلّيّةٍ – فمنها ما بقي في رحلةِ العربيّة على حالهِ من تطابقٍ معنويّ كلّيّ؛ وذلك نحو:"صغصغ" – "سغسغ"، و"السّراط" – "الصّراط"، ومنها ما تمايز مستقلاًّ بمعانٍ مخصوصة يمكنُ ردّها إلى المعنى الكلّيّ الجامعِ؛ وذلك نحو: "جثا" و"جذا"، ومنها ما اتّسعتْ دائرةُ دِلالِته فتميّزت عن الأخرى في سيرورة العربيّة عبر الزّمانِ
المتقادِم، والمكان المتطاوِل،
والإنسانِ المتمايز.
د. مهدي أسعد عرار
فلسطين
جامعة بيروزيت- قسم
اللغة العربية وآدابها
(1) ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم (276هـ) – أدب الكاتب، شرح على فاعور، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988م، 316.
(2) القالي، أبو عليّ إسماعيل بن القاسم (356هـ) – الآمالي، تحقيق محمد عبد الجواد الأصمعي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1996م، 2/67، 2/68، 2/78، 2/79، 2/113، 2/155.(254/29)
(3) ابن السيد، عبد الله بن محمد البطليوسي(521هـ) – الاقتضاب في شرح أدب الكتاب، تحقيق مصطفى السقا وحامد عبد المجيد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1990م، 2/253.
(4) ابن جني، أبو الفتح عثمان (392هـ) – سر صناعة الإعراب، تحقيق حسن هنداوي، ط2، دار القلم، دمشق، 1993م، 2/147.
(5) ابن جني، أبو الفتح عثمان (392هـ) – الخصائص، تحقيق محمد
علي النجار، ط3، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ودار الشؤون الثقافية، بغداد، 1990م، 2/154.
(6)القلب والإبداع لابن جني، منشور ضمن كتاب "الكنز اللغوي في اللَّسن العربي، تحقيق أوغست هفنر، الطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1903م.
(7)الإبدال والمعاقبة والنظائر لابن جني، تحقيق عز الدين التنوخي، ط2 دار صادر، بيروت، 1993م.
(8)الإبدال لابن جني تحقيق عز الدين التنوخي، المجمع العلمي العربي، دمشق، 1961م.
(9)ممن لهم دراسات مقارنة في هذا المطلب إسماعيل عمايرة، ومن ذلك: "نمو الجذور اللغوية – في سبيل معجم تاريخي للعربية، مجلة دراسات، مج 26 – ع2، الجامعة الأردنية، 1999م، 518-544. وتأصيل الجذور اللغوية في المعجم العربي: في سبيل معجم تاريخي للعربية، مجلة الدراسات الإسلامية والعربية، بلومنغتون، إنديانا، أمريكا(منشور في كتابه: تطبيقات في المناهج اللغوية، دار وائل، عمان، 2000م).
(10)لتعريف المماثلة انظر: أحمد عمر، دراسة الصوت اللغوي، 378، ومحمد الخولي، الأصوات اللغوية، ط2، دار الفلاح، عمان، 1992م، 217.
(11)ابن منظور، أبو الفضل محمد بن مكرم(711هـ) – لسان العرب، ط1، دار صادر، بيروت، (د.ت)، مادة "رجس".
(12)المصدر نفسه، مادة "رجس".
(13)المصدر نفسه، مادة "رجس".
(14)المصدر نفسه، مادة "رجس".
(15)المصدر نفسه، مادة "رجز".
(16)ابن فارس، أبو الحسين
أحمد بن فارس (395هـ)- معجم مقاييس اللغة، ط1، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، 1991م، مادة "رجز".
(17)ابن منظور، اللسان، مادة "رجز".(254/30)
(18)المصدر نفسه، مادة "رجز".
(19)المصدر نفسه، اللسان، مادة"رجس".
(20)ابن السكيت، القلب، 44.
(21)الزجاجي، الإبدال،65.
(22)أبو حيان، أثير الدين محمد بن يوسف (745هـ) – ارتشاف الضرب من لسان العرب، تحقيق مصطفى النحاس، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، 1997م، 1/158.
(23)ابن منظور، اللسان، مادة"صعق".
(24)المصدر نفسه، مادة "صعق".
(25)المصدر نفسه، مادة "صعق".
(26)المصدر نفسه، مادة "زعق".
(27)ابن فارس، المقاييس، مادة "زعق".
(28)المصدر نفسه، مادة "صعق".
(29)ابن منظور، مادة "زعق".
(30)المصدر نفسه، مادة "زعتر" ومادة "صعتر".
(31)السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (911هـ)-المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق محمد أحمد جاد المولى وعلي البخاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، القاهرة، (د.ت)،1/474.
(32)القالي، الأمالي، 2/113.
(33)ابن منظور، اللسان، مادة"عزد" ، ومادة "عصد".
(34)ابن السيد، عبد الله بن محمد البطليوسي (521هـ) الفرق بين الحروف الخمسة، تحقيق على زوين، مطبعة العاني، بغداد، (د.ت)، 701.
(35) سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان (180هـ) – كتاب سيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، ط3، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1988م، 4/478.
(36)أبو حيان، ارتشاف الضرب، 1/158.
(37)ابن السكيت، القلب، 45، وقد عرج على هذه الظاهرة الصوتية عند قبيلة "كلب" ابن جني: انظر: ابن جني، سر الصناعة، 1/196.
(38)ابن السكيت، القلب44، والقالي، الأمالي، 2/114، السيوطي، المزهر،1/467.
(39)ابن منظور، اللسان، مادة "خزق".
(40)المصدر نفسه، مادة "خسق".
(41)المصدر نفسه، مادة "خسق".
(42)المصدر نفسه، مادة "خزق".
(43)سيبويه، الكتاب، 4/434، وابن جني، سر الصناعة، 1/277.
(44)أبو حيان، ارتشاف الضرب، 1/158.
(45)ابن جني، سر الصناعة، 1/196.
(46)المصدر نفسه، مادة "عسق"
(47)المصدر نفسه، مادة "عزق".
(48)المصدر نفسه، مادة "عزق".(254/31)
(49)ابن السكيت، القلب، 38، واللسان، مادة "عسك".
(50)ابن فارس، المقايس، مادة "عسق".
(51)المصدر نفسه، مادة "عسك".
(52)المصدر نفسه، مادة "عزق".
(53)ابن منظور، اللسان، مادة "سقع".
(54)المصدر نفسه مادة "سقع".
(55)المصدر نفسه، مادة "صقع".
(56)المصدر نفسه، مادة "سقع".
(57)المصدر نفسه، مادة "صقع".
(58)المصدر نفسه، مادة "سقع" ومادة "صقع".
(59)ابن السكيت، القلب، 42.
(60)ابن السيد، الفرق، 699.
(61)أبوحيان، ارتشاف الضرب، 1/158.
(62) ابن السيد، الفرق، 709 – 710
(63)أبو حيان، الارتشاف، 1/158.
(64)ابن السكيت، القلب، 42.
(65)ابن جني، سر الصناعة، 1/212.
(66)ابن منظور، اللسان، مادة "سفق".
(67)ابن السكيت، القلب، 42، وابن السيد، الفرق، 707.
(68)ابن الأثير، مجد الدين أبو السعادات (606)هـ - النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق أحمد الزاوي ومحمود الطناحي، دار الفكر، بيروت، 1963م، 2/376، و3/38، ابن منظور، مادة "سفق".
(69) المصدر نفسه، مادة "سفق".
(70)المصدر نفسه، مادة "سرط".
(71)الآية (الفاتحة، 6).
(72)المصدر نفسه، مادة "صراط".
(73)ابن فارس، المقاييس، مادة "سرط".
(74)العكبري، عبد الله بن الحسين(616) – إملاء ما مَنَّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1979، 1م، 7.
(75)المصدر نفسه، 7.
(76)ابن منظور، اللسان، مادة "غتت".
(77)المصدر نفسه، مادة "غتت".
(78)هذه المعاني تحت مادة "غطط" في اللسان.
(79)ابن فارس، المقاييس، مادة "غطط".
(80)المصدر نفسه، مادة "غتت".
(81)ابن السكيت، يعقوب بن السكيت(244)، إصلاح المنطق، تحقيق أحمد شاكر وعبد السلام هارون، ط3، دار المعارف، القاهرة، 1949م، 183.
(82)ابن مكي، عمر بن خلف(501)، تثقيف اللسان وتلقيح الجنان، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990م، 53-وما بعدها.
(83)ابن منظور، اللسان، مادة "سغسغ".(254/32)
(84)المصدر نفسه، مادة "صغصغ".
(85)ابن جني، سر الصناعة، 1/241.
(86)ابن الأثير، النهاية، 3/33.
(87)المصدر نفسه، 3/33.
(88)ابن منظور، اللسان مادة "سفع".
(89)المصدر نفسه، مادة "صفع".
(90)المصدر نفسه، مادة "سفع".
(91)ابن السكيت، القلب، 39، وابن منظور، اللسان، مادة "لعثم"، وأبو حيان الارتشاف، 1/159.
(92)اللسان، مادة لعثم و"لعذم".
(93)ابن السكيت، القلب، 39، والمصدر نفسه، مادة "لعذم".
(94)ابن فارس، أبو الحسين أحمد ابن فارس (395هـ) – الصاحبيّ في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها، تحقيق عمر الطباع، ط1، مكتبة المعارف، بيروت 1993م، 208، وأبو حيان، ارتشاف الضرب، 1/160، والسيوطي، المزهر، 1/476.
(95)اللسان، مادة "نزغ".
(96)المصدر نفسه، مادة "نزغ".
(97)المصدر نفسه، مادة "نسغ".
(98)المصدر نفسه، مادة "نزغ".
(99)المصدر نفسه، مادة "نسغ".
(100)الزمخشري، جار الله محمود بن عمر (538هـ) – أساس البلاغة، دار الفكر، بيروت، 1989م، مادة "نزغ"، ومادة "نسغ".
(101)ابن منظور، اللسان، مادة "جثو".
(102)المصدر نفسه، مادة "جذا".
(103) المصدر نفسه، مادة "جثا".
(104)المصدر نفسه، مادة "جذا" ابن جني، سر الصناعة، 1/190.
(105)المصدر نفسه، مادة "جذا"
(106)المصدر نفسه، مادة "جذا"، وقد ذكر المعنيين ابن السكيت، القلب، 40.
(107)المصدر نفسه، مادة "جذا".
(108)ابن جني، سر الصناعة، 1/190.
(109)ابن قتيبة، أدب الكاتب، 316.
(110)الزجاجي، الإبدال، 47.
(111)أبو حيان، ارتشاف الضرب، 1/159.
(112)ابن منظور، اللسان، مادة "شزب".
(113)المصدر نفسه، مادة "شسب".
(114)ابن السكيت، القلب، 37، مع
اختلاف يسير في لفظ هذا النص بين هذه المصادر.
(115)القالي، الأمالي، 2/139.
(116)ابن جني، سر الصناعة، 1/277.
(117)الصحفة 12 من البحث.
(118)الصفحة 12 من البحث.(254/33)
1.ابن الأثير، مجد الدين أبو السعادات (606)هـ - النهاية في غريب الحديث والنثر، تحقيق أحمد الزاوي ومحمود الطناجي، دار الفكر، بيروت، 1963م.
2.أحمد مختار عمر – دراسة الصوت اللغويّ، عالم الكتب، القاهرة، 1991م.
3.الأزهري، أبو منصور محمد ابن أحمد (370)هـ - تهذيب اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، مراجعة علي النجار، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة 1964م.
4.إسماعيل عمايرة، تأصيل الجذور اللغوية في المعجم العربي: في سبيل معجم تاريخي للعربية، مجلة الدراسات الإسلامية والعربية، بلومنغتون، إنديانا، أمريكا (منشور في كتابه: تطبيقات في
المناهج اللغوية، دار وائل، عمان، 2000م).
5.إسماعيل عمايرة، نمو الجذور اللغوية – في سبيل معجم تاريخي للعربية، مجلة دراسات، مج 26 – ع2، الجامعة الأردنية، 1999م، 518 –544.
6.ابن جني، أبو الفتح عثمان(392هـ) – الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، ط3، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ودار الشؤون الثقافية، بغداد، 1990م.
7.ابن جني، أبو الفتح عثمان (392هـ) – سر صناعة الإعراب، تحقيق حسن هنداوي، ط2، دار القلم، دمشق، 1993م.
8.أبو حيان، أثير الدين محمد بن يوسف (745هـ) – ارتشاف الضرب من لسان العرب، تحقيق مصطفى النحاس، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، 1997م.
9.الزجاجي، أبو القاسم عبد الرحمن ابن إسحاق (337هـ) – الإبدال والمعاقبة والنظائر، تحقيق عز الدين التنوخي، ط2 دار صادر، بيروت، 1993م.
10.الزمخشري، جار الله محمود بن عمر (538هـ) – أساس البلاغة، دار الفكر، بيروت، 1989م.
11.الزمخشري، جار الله محمود بن عمر(538هـ) – الفائق في غريب الحديث، تحقيق علي البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، بيروت، 1993م.
12.ابن السكيت، يعقوب بن إسحق(244)-، إصلاح المنطق، تحقيق أحمد شاكر وعبد السلام هارون ط3، دار المعارف، القاهرة، 1949م.(254/34)
13.ابن السكيت، يعقوب بن إسحاق (244)، القلب والإبدال، منشور ضمن كتاب" الكنز اللغوي في اللَّسن العربي، تحقيق أوغست هفنر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1903م.
14.سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان(180هـ) – كتاب سيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، ط3، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1988م.
15.ابن السيد، عبد الله بن محمد البطليوسي(521هـ) الاقتضاب في شرح أدب الكتاب، تحقيق مصطفى السقا وحامد عبد المجيد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1990م.
16.ابن السيد، عبد الله بن محمد البطليوسي(521هـ) الفرق بين الحروف الخمسة، تحقيق علي زوين، مطبعة العاني، بغداد، (د.ت).
17.السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر(911هـ) – المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق محمد جاد المولى وعلي البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر، القاهرة، (د.ت).
18.أبو الطيب اللغوي، الإبدال، تحقيق عز الدين التنوخي، المجمع العلمي العربي، دمشق، 1961م.
19.العكبري، عبد الله بن الحسين (616)- إملاء ما مَنَّ به الرحمن مِنْ وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط، 1979، 1م.
20.عمر عكاشة، الفعل الرباعي في لسان العرب: دراسة تأصيلية، رسالة ماجستير، كلية الآداب، الجامعة الأردنية، 1995م.
21.ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس (395هـ) – الصاحبيّ في فقه اللغة العربية ومسائلها تحقيق عمر الطباع، ط1، مكتبة المعارف، بيروت 1993م.
22.ابن فارس، أبو الحسين أحمد ابن فارس (395هـ)- معجم مقاييس اللغة، ط1، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، 1991م.
23.القالي، أبو عليّ إسماعيل بن القاسم
(356هـ)-الآمالي، تحقيق محمد عبد
الجواد الأصمعي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1996م.
24.ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم (276هـ)- أدب الكاتب، شرح على فاعور، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988م.(254/35)
25.محمد الخولي – الأصوات اللغوية، ط1، دار الفلاح، عمان، 1990م.
26.ابن مكي، عمر بن خلف (501)، تثقيف اللسان وتلقيح الجنان، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990م.
27. ابن منظور، أبو الفضل محمد بن مكرم(711هـ)- لسان العرب، ط1، دار صادر بيروت، (د.ت).(254/36)
مشكلة تحديد الجذور في المعاجم العربية
للدكتور رجب عبد الجواد
ثمة فكرة مُهمَّة تنبَّه لها الخليل ابن أحمد (ت 175هـ) عند وضع معجمه " العين "؛ وهي أنَّه ما من كلمة في العربية إلا ولها جذر لغوي؛ أي حروف أصول تتولَّد عنها، وبالاشتقاق يتم توليد الكلمات من هذه الجذور، ولذا فقد نظم الخليل في معجمه المفردات تبعًا لأصولها فقط، وغضَّ البصر عن الحروف الزوائد.
وقد ظلَّت فكرة الخليل هذه هي السائدة بين كلَّ المعاجم العربية، فلم يخرج معجم واحد منذ الخليل حتى الآن عن الأخذ بفكرة الجذر أو الأصل، اللهمّ إلا كتب المعرَّب والدخيل؛ كالمعرَّب للجواليقي (ت 540 هـ)، وشفاء الغليل للشهاب الخفاجي (ت 1061هـ)؛ لأن أصحاب هذه الكتب يؤمنون بأن الكلمة المعرَّبة كلّ حروفها أصول، ولا سبيل إلى الاشتقاق منها.
أمَّا بقية المعاجم العربية فقد أقامت مداخلها على أساس الجذر اللغوي للكلمات، من منطلق أن اللغة العربية لغة اشتقاقية تنمو بالاشتقاق، بل إن الاشتقاق هو أهم وسيلة لتوليد الألفاظ، عن طريقه تنمو اللغة وتتسع ويزداد ثراؤها، فالاشتقاق مثل موادّ البناء التي منها تؤسس الأبنية، أو كتلك المعادن التي منها الطائرات والساعات ... إلخ.
وعلى الرغم من أخذ المعاجم العربية بفكرة الجذر اللغوي وتطبيقها تطبيقًا صارمًا فإن أصحاب هذه المعاجم اختلفوا فيما بينهم حول أصل الجذر اللغوي لكثير من مفردات اللغة، وترتَّب على ذلك وضع هذه المفردات في أكثر من موضع تحت أكثر من جذر أو أصل، وأُعيد شرح وتفسير هذه المفردات بشواهدها كاملة في أكثر من موضع في المعجم الواحد، كما اختلفت الجذور اللغوية لهذه المفردات في المعاجم المتعددة، فاختلف موضع كلّ كلمة في كلَّ معجم تبعًا لجذرها اللغوي في هذا المعجم أو ذاك.(255/1)
ولم يسلم من هذه الآفة معجم واحد من معاجمنا العربية القديمة بدءًا من عين الخليل وانتهاءً بتاج العروس للزَّبيدي (ت 1205هـ). وهذا البحث يهدف إلى رصد هذه الظاهرة من خلال الشواهد والأمثلة في إطار المعجم الواحد، ثمّ في إطار أكثر من معجم، مع التركيز على أكثر معاجمنا شهرةً؛ كصحاح الجوهري (ت نحو 398هـ)، ولسان العرب لابن منظور (ت 711هـ)، والقاموس المحيط للفيروزا بادي (ت 817 هـ)، وتاج العروس للزَّبيدى (ت 1205 هـ) إلى جانب بعض المعاجم الأخرى.
ويوضَّح هذا البحث الأسباب التي أدت إلى هذا الخلاف حول تحديد الجذر اللغوي للكلمات، ثمَّ يبيِّن النتائج التي ترتبت على هذا الخلاف بين المعاجم، وأخيرًا يحاول وضع الحلول المبتغاة لهذه المشكلة؛ كي نتفاداها فيما نصنعه من معاجم في قابل الأيام.
وقد اقتضت طبيعة هذا البحث أن ينقسم إلى أربعة أقسام:
أولاً: ظاهرة الخلاف المعجمي حول الجذر اللغوي للكلمات.
ثانيًا: أسباب الخلاف حول الجذر اللغوي للكلمات.
ثالثًا: نتائج الخلاف المعجمي حول جذور الكلمات.
رابعًا: الحلول المقترحة لهذه المشكلة.
أولاً: ظاهرة الخلاف حول الجذر اللغوي للكلمات:
... تتجلَّى هذه الظاهرة بشكل واضح في الكلمات التي وردت في أكثر من موضع في المعجم الواحد تحت أكثر من جذر، أو وردت في مواضع متعدَّدة تحت جذور متعدَّدة في أكثر من معجم؛ وسوف نرصد هذه الظاهرة في إطار المعجم الواحد، ثم في إطار أكثر من معجم.
1- في إطار المعجم الواحد:(255/2)
... نأخذ على سبيل المثال لا الحصر هذه الظاهرة في " تاج اللغة وصحاح العربية " للجوهري، فقد أعاد معظم الكلمات المنتهية بالهمزة مرَّة أخرى في نهاية معجمه في باب الواو والياء بقوله: " وكلّ ما فيه من الهمزة فهي مُبدلة من الياء أو من الواو، نحو القضاء أصله: قضاي؛ لأنه من قضيتُ، ونحو العزاء أصله عَزَاو؛ لأنه من عَزَوْتُ، ونحن نشير في الواو والياء إلى أصولهما " (*). فالبدء والبديء بمعنى الأول في مادتي (ب د أ) و(ب د ي)، وامرأة بَذِئة في ( ب ذ أ) و(ب ذ ي)، والبارئ والبريَّة في (ب ر أ ) و(ب ر ي )، وحتأتُ الكساء: إذا فتلت هُدْبه في (ح ت أ) و(ح ت و )، وحضَّأتُ النار: سعَّرتها في (ح ض أ) و(ح ض و)، المُحْبَنْطِئ: الممتلئ غيظًا في ( ح ب ط أ ) و ( ح ب ط ي )، وحَّلأْتُ السويق: حلَّيته في ( ح ل أ )
و(ح ل و)، والحَمْءُ: كلّ مَنْ كان مِنْ قِبَل الزوج في (ح م أ) و(ح م و)، والخابية: الحُبُّ ( الوعاء ) في (خ ب أ) و(خ ب ي)، ودارأته: اتقيته ولاينته في (د ر أ) و (د ر ي)، الذُّرِّيَّة في (ذ ر أ) و( ذ ر ي)، والرويَّة في (ر و أ) و(ر و ي)، ورثأْتُ زوجي بأبيات في (ر ث أ) و(ر ث و)، وضاهأتُ وضاهيْتُ يُهمز ولا يُهمز في (ض هـ أ) و(ض هـ ي)، والفَرَأُ: الحمار الوحشي في (ف ر أ ) و(ف ر ي)، ومَتَأَه بالعصا: ضَرَبه في (م ت أ) و(م ت و) ، والنبي في (ن ب أ) و(ن ب و)، والوَبأُ في (و ب أ) و(و ب ي).
... كما أن هناك كلمات غير مهموزة الآخر في الصحاح وردت في موضعين تحت جذرين مختلفين؛ منها على سبيل المثال لا الحصر:
... ...(255/3)
قَبَأَ: أكل وشرب، في (ق ب أ) و(ق أ ب)، والأرطي: شجر ينبت في الرمال، في (أ ر ط) و(ر ط ي)، والأَرَيْقُ: الدَّاهية، في (أ ر ق) و(و ر ق)، واسْت الدَّهْر: القِدَم، في (أ س ت) و(س ت ه)، والإِشْفى: المِثْقَب، في (أ ش ف) و(ش ف ي)، والإستبرق: الديباج الغليظ، في (ب ر ق) و(س ر ق)، والسَّتُّ: عَدَدٌ بعد الخمس، في (س ت ت) و(س د س)، والأحد: الواحد، في (أ ح د) و(و ح د)، وانْبَاقَ: هَجَمَ، في (ب و ق) و(ن ب ق)، والإنسان: البشر، في (أ ن س) و(ن و س)، والبُلَهْنية: السعة من العيش، في (ب ل ه) و(ب ل هـ ن)، والثُّبَة: الجماعة، في (ث ب و) و(ث و ب)، واندحَّ: اتَّسع، في (د ح ح) و(ن د ح)، والدَّرْحاية: الرجل الضخم القصير، في (د ر ح) و(د ر ح ي)، والدَّرْدَم: الناقة المُسنَّة، في (د ر د) و(د ر د م)، وانْدَالَ: سال، في (د و ل) و(ن د ل)، والرَّفاء: الالتئام والاتفاق، في (ر ف أ) و(ر ف و)، والرُّفَهْنية: سعة العيش، في (ر ف ن) و(ر ف هـ)، والزَّوَنْزَى: المتحذلق المتكايس، في (ز ي ز ) و(ز و ي)، واليستعور: نبات، في (س ع ر ) و(يـ س ت ع)، والقاني: الشديد الحُمْرة، في (ق ن أ) و(ق ن و )، ولعلَّ: حرف ترجَّي، في (ع ل ل) و(ل ع ل)، والذي: اسم موصول، في(ل ذ ذ) و(ل ذ و)، ومؤتة: اسم أرض وغزوة، في (م أ ت) و(م و ت)، والتَّنَاوُح: التقابُل، في (ن و ح) و(ن ح و)، والإيماء:الإشارة، في (و م أ ) و(و م ي).(255/4)
... وقد زادت هذه الظاهرة عند ابن منظور (ت 711هـ) في " لسان العرب المحيط "؛ فقد وردت لديه كلمات مشروحة ومُفسَّرة بشواهدها في موضعين من معجمه، وهناك مفردات في ثلاثة مواضع، بل لقد بلغ الأمر مداه؛ فقد وردت بعض المفردات في أربعة مواضع، وفي خمسة مواضع، وفي ستة مواضع، وفي كلَّ موضع تتكرر الكلمة هي هي بشرحها وشواهدها، ويرجع السرّ في تكرار هذه المفردات تحت جذور متعدِّدة إلى أن اللسان في حقيقته ليس معجمًا واحدًا بل خمسة معاجم، حاول ابن منظور التنسيق بينها، ولمَّا كانت هذه المعاجم الخمسة لا تنتمي إلى مدرسة معجمية واحدة، ، فقد نجم عن ذلك اختلاف الجذور اللغوية لكثير من الكلمات تبعًا لرؤية كلَّ صاحب معجم، فلديه معجمان ينتميان إلى مدرسة القافية هما: صحاح الجوهري وحواشي ابن بري (ت 582هـ )، ومعجمان ينتميان إلى مدرسة التقليبات الصوتية، هما تهذيب اللغة للأزهري (ت 370هـ)، والمحكم والمحيط الأعظم لابن سيده الأندلسي (ت 458هـ)، ومعجم يتبع المدرسة الهجائية الألفبائية؛ وهو "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (ت 606هـ)، ومن الكلمات التي وردت في اللسان في موضعين تحت جذرين لغويين ما يأتي:(255/5)
بتأ في المكان: أقام، في (ب ت أ) و(ب ت و)، والبطء: المَهَلُ، في (ب ط أ) و(ب ط ي)، والمُحْبَنْطِئ: العظيم البطن، في (ح ب ط) و(ح ب ط أ)، والبداية: نقيض النهاية، في (ب د أ) و(ب د ي)، والبذاءة: الفُحْش، في (ب ذ أ) و(ب ذ ي)، والبريَّة: الخَلْق، في (ب ر أ) و(ب ر ي)، والزيُّ: الهيئة، في (ز و ي) و(ز ي ي)، والوبُّ: التهيؤ للحرب، في (أ ب ب) و(و ب ب)، والتوبيخ: اللوم والعَذْل، في (أ ب خ) و(و ب خ)، وتأبير النخل: تلقيحه، في (أ ب ر) و(و ب ر)، والإبريسم: الحرير، في (إ ب ر ي س م) و(ب ر س م)، والعُنْبَبُ: موضعٌ، في (ع ب ب) و(ع ن ب)، والتأرور: العون، في (أ ت ر) و(ت أ ر)، والستُّ: عدد بعد الخمسة، في (س ت ت) و(س د س)، والأُداف: الذَّكَر، في (أ د ف) و(و د ف)، والأيَّل: الذكر من الأوعال، في (أول) و(أ ي ل)، والعَيْدان: النخل الطوال، في (ع د ن) و(ع و د)، والأذربي: منسوب إلى أذربيجان، في (أ ذ ر ب) و(ذ ر ب)، والإِرَةُ: القديد، في (أ ر ه) و(أ ر ي)، والإستبرق: الديباج الغليظ، في (إ س ت) و(ب رق)، والأصطبَّة: مشاقة الكَتَّان، في (أ ص ط ب) و(ص ط ب)، والإصطبل: موقف الدابَّة، في (أ ص ط ب ل) و(ص ط ب ل)، والإصطفلين: الجزر الذي يُؤكل، في (إ ص ط ف ل) و(ص ط ف ل)، والأَصَفُ: نبات الكَبَر، في (أ ص ف) و(ل ص ف)، واليأفوخ: ملتقى عظم مقدم الرأس ومؤخره، في (أ ف خ) و(ي ف خ)، والأَفْكَل: الرَّعدة من برد أو خوف، في (أ ف ك ل) و(ف ك ل)، والأَفَاةُ: المطر الضعيف، في (أ ف و ) و(هـ ف و )، والتأكيد: التثبيت، في (أ ك د) و(و ك د)، والإكاف: شبه الرحال والأقتاب، في (أ ك ف) و(و ك ف)، والإكاء: شِداد السَّقاء، في (أ ك و) و(و ك ي)، والأَلْس: الخداع والغش، في (أ ل س) و(و ل س)، والإله: الخالق، في (أ ل ه) و(ل و ه)، والأنيت: الأنين، في (أ ن ت) و( ن أ ت)، ويَنْبَاعُ: يجري ويتثنَّى، في (ب و ع) و(ن ب ع)، وحتَّى: حرف معنى، في (ح ت ت) و(ح ت(255/6)
ي)، والأَنْدَرْوَرْد: نوع من السراويل، في (أ ن د ر و ر د) و(ن د ر)، وهاتِ: أَعْطِ، في (هـ ي ت) و(هـ ت و)، ولعلَّ: حرف رجاء، في (ع ل ل) و(ل ع ل)، والمِسْحاة: المِجْرَفة، في (م س ح) و(س ح و)، والغَيْسَان: حِدَّة الشباب، في (غ ي س) و(غ س ن)، والمِئِنَّةُ: الخليق، في (أ ن ن ) و(م أ ن)، وياهَنَاهُ: يا رجل، في (هـ ن ن) و(هـ ن و)، والجاه: المنزلة، في (و ج ه) و(ج و ه)، والميدان: المكان الفسيح، في (م ي د) و(م د ي)، والتصدية: التصفيق، في (ص د د) و(ص د ي)، وشجرٌ لاثٍ: مُلْتَفٌّ، في (ل و ث) و(ل ث و)، والأُثْكُول: الشَّمْراخ، في (ث ك ل) و(أ ث ك ل)، وأَحْيَا: ماء بالحجاز، في (ح ي ا) و(أ ح ي ا)، والاست: فتحة الشَّرَج، في (أ س ت) و(س ت ه)، والبَأْدلة: ما بين العنق إلى الترقوة، في (ب د ل) و(ب أ د ل)، والنبراس: المصباح، في(ب ر س) و(ن ب رس)، والتليد: القديم، في (ت ل د) و(و ل د)، وتبوك: اسم أرض، في (ب و ك) و(ت ب ك)، وبَاثَ المكان: حفر فيه، في (ب و ث) و(ب ي ث)، والباج: الطريقة المستوية، في (ب أ ج) و(ب و ج)، والتَّلَه: الحَيْرة، في (ت ل ه) و(و ل ه)، والتَّوَلَة: الداهية، في (ت أ ل) و(ت و ل)، وأحمق تائك: شديد الحمق، في (ت و ك) و(ت ي ك)، والتَّيه: الهلاك، في (ت و ه) و(ت ي ه).
وهناك كلمات وردت في اللسان في ثلاثة مواضع تحت ثلاثة جذور لغوية منها:(255/7)
الأنبجانية:كساء، في(أ ن ب ج) و(أ ن ب ج ن) و(ن ب ج)، والتابوت: الصندوق، في (ت ب ت) و(ت و ب) و(ت ب ه)، والباز:طائر، في( ب أ ز) و(ب و ز) و(ب ز و)، والاتَّخاذ: الأَخْذ، في ( أ خ ذ) و(ت خ ذ) و(و خ ذ)، وباد الشيءُ: ظهر، في (ب و د) و(ب ي د) و(ب د و)، وتلَّص الشيء: أحكمه، في( ت ر ص) و(ت ل ص) و(د ل ص)، والأُرْز: نبات، في(أ رز) و(ر ز ز) و(ر ن ز)، والإسفنط: الخمر، في ( أ س ف ط) و(أص ف ط)و(س ف ط)، والدَّيْدَبُون: الباطل، في (د ي ب) و(د ب ن) و(د د ن)، والذُّرية: النَّسل، في (ذ ر أ ) و(ذ ر ر) و(ذ ر ي)، والمُرْفَئِنُّ: الذى نَفَر ثم سكن، في (ر ف أ) و(ر ف ن ) و(م ر ف)، والتُّرْتُب: الأمر الثابت، في (ت ر ب) و(ت ر ت ب) و(ر ت ب)، والإنسان: البشر، في (أ ن س ) و(ن و ت) و(ن و س)، والملائكة: المخلوقات النورانية، في (أ ل ك) و( ل أ ك) و(م ل أ ك).
... وهناك كلمات وردت في اللسان في أربعة مواضع تحت أربعة جذور لغوية مختلفة، منها:
... العُرْبون التي وردت في (أ ر ب) و(ر ب ن) و(ع ر ب) و(ع ر ب ن)، وكلمة الأوشاب التي وردت في (أ ش ب) و (ب و ش) و( و ب ش) و( و ش ب )، وكلمة السَّنَة بمعنى العام، وردت في (س ن ت) و (س ن ه) و(س ن و) و(س ن ي)، بل لقد وصل الأمر إلى ورود بعض الكلمات في ستة مواضع تحت ستة جذور لغوية؛ مثل كلمة ( بغداد ) التي وردت في : (ب غ د د) و(ب غ د ذ) و(ب غ ذ د)و(ب غ ذ ذ) و (ب غ د ن) و( م غ د ن).(255/8)
... ولم تقف هذه الظاهرة عند الصحاح واللسان فحسب وإنما امتدت إلى القاموس المحيط وتاج العروس، ففي كتاب " الجاسوس على القاموس " لأحمد فارس الشدياق في النقد الحادي والعشرين للقاموس المحيط خصَّصه لما ذكره الفيروزابادي في موضعين غير منبَّه عليه، وربما اختلفت روايته فيه، وقد جاء هذا النقد في ثلاث وعشرين صفحة، ذكر فيها الكلمات التي أوردها الفيروزابادى في موضعين تحت جذرين مختلفين؛ كما أشار الزَّبيدى في شرحه على القاموس إلى كلمات أوردها الفيروزابادي في موضعين مثل: القَيَّد: السهل الانقياد في (ق و د) و(ق ي د)، والإرْدَخْل: التارُّ السَّمين في (أ ر د خ ل) و(ر د خ ل)، والرُّؤال: اللُّعاب في (ر أ ل) و(ر و ل)، والعَبَاءة في (ع ب و) و(ع ب ي)، والبُستان في (ب س ت) و(ب س ت ن)، والشَّوْشَب: العقرب في (ش ب ب) و(ش ش ب)، والصنتيت: الكتيبة في (ص ت ت) و(ص ن ت)، والكُنْتي: الشيخ المُسِنُّ في (ك ن ت) و(ك و ن)، ومَرْقَس: لقب شاعر في (ر ق س) و(م ر ق س)، والعِزَة والجمع عِزُون في (ع ز و) و (ع ز ي)، والإيناق في (أ ن ق) و (ي ن ق)، والكرى: النُّعاس في (ك ر و) و(ك ر ي).(255/9)
... وعلى الرغم من نقد الزَّبيدي لصاحب القاموس فإنه هو نفسه لم يسلم معجمه (تاج العروس) من هذه الظاهرة؛ بل إن تاج العروس الذي يُعدُّ أكبر معجم عرفته العربية حتى اليوم تفشَّت فيه هذه الظاهرة بصورة يصعب معها الإحصاء؛ فلقد كان الزَّبيدي في معجمه كحاطب ليلٍ لا يترك شاردة وواردة إلا ذكرها في معجمه، وعدَّد للكلمة الواحدة أكثر من جذر لغوي، وذكرها في أكثر من موضع، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: الفَرْتَنَى: المرأة الفاجرة في (ف ر ت) و(ف ر ت ن)، واِسْتَأْتَتِ الناقة: طلبت الفَحْل في (أ ت ي) و(س ت و)، والحومان: نوع من النبات في (ح و م) و(ح م ن)، واقتنَّ الوعل: انتصب في (ق ت ن) و (ق ن ن)، بل إن كلمة (الذُّرية) وردت عنده في ثلاثة مواضع: (ذ رأ) و(ذ ر ر) و(ذ ر ي).
... وعلى الرغم من أن الصاغاني وجَّه سهام نقده للجوهري في " التكملة والذيل والصَّلة "، وكان أكثر ما وجهه من نقد للجوهري أنه ذكر الكلمة الواحدة في موضعين مكرَّرًا إياها بشرحها وتفسيرها وشواهدها فإن الصاغاني نفسه لم تسلم تكملته من هذا التكرار؛ فمما ورد عنده في موضعين: العِنْدَأْوَة: الالتواء والعُسْر في (ع د أ) و(ع ن د)، والرُّبانية: ماء باليمامة في (ر ب ب) و(ر ب ن)، والمِتَّيخة: العصا في (ت ي خ) و(م ت خ)، ودُرَّانة: اسم امرأة في ( د ر ر) و(د ر ن)، واِذْلَوْلَى: أسرع في (ذ ل ل) و(ذ ل و).
2- في إطار أكثر من معجم:(255/10)
... إذا كانت الكلمة في المعجم الواحد تتكرر في أكثر من موضع لاحتمالها جِذْرين أو أكثر فإن تعدُّد مواضعها في أكثر من معجم أمرٌ بَدَهيٌّ وطَبَعي؛ لاختلاف وجهة نظر كلّ معجم حول الأصل اللغوي للكلمة؛ فكلمة الإستبرق عند الأزهري في "تهذيب اللغة" في الأصل الخماسي (س ت ب ر ق)، وفي صحاح الجوهري في موضعين (ب ر ق) و(س ر ق)، وفي اللسان في ثلاثة مواضع: ( إ س ت ب ر ق) و(ب ر ق) و(س ر ق)، وفى القاموس المحيط في موضعين: (ب ر ق) و(س ر ق)، وكلمة السندس في صحاح الجوهري في (س د س)، وفي اللسان والقاموس المحيط في (س ن د س)، والشَّمَرْدَل: الفَتِيُّ من الإبل في مقاييس اللغة لابن فارس في (ش م ر)، وفي اللسان في الخماسي (ش م ر د ل)، والخُبَعْثِن: القوي الشديد من الرجال في مقاييس اللغة لابن فارس في (خ ب ث) وفي صحاح الجوهري في (خ ث ن) وعند ابن منظور في اللسان في (خ ب ع ث ن)، والزَّوَنْكل: القصير في صحاح الجوهري وتكملة الصاغاني في (ز ك ل)، وفي اللسان والقاموس في (ز ن ك ل)، والسِّرْحال: الذئب في القاموس في (س ر ح)، وخالفه صاحب التاج فوضعه في(س ر ح ل)، والسَّلْسبيل في صحاح الجوهري في (س ب ل)، وفي تكملة الصاغاني والقاموس المحيط في (س ل ل)، وفي اللسان في (س ل س ل)، وفي تاج العروس في(س ل س ب ل)، وسَنْجَلَ: ملأَ الحوضَ عند الصاغاني في التكملة في (س ج ل) وفي التاج في (س ن ج ل)، وفرس مِشْيال الخَلْق: مضطرب في صحاح الجوهري واللسان في (ش و ل) وعند الصاغاني وصاحب التاج في (ش ي ل)، وصَؤُلَ البعير: إذا واثب الناس ليأكلهم في اللسان (ص ول) وفي القاموس والتاج (ص أ ل)، والإصطبل والإصطفلين وردت في القاموس المحيط في (إ ص ط ب ل) و(إ ص ط ف ل) وفي التاج في (ص ط ب ل) و(ص ط ف ل)، والصِّيلة: عُقْدة العَذَبة في القاموس المحيط في (ص و ل) وفي التاج (ص ي ل)، والضِّئْبِل: الداهية في تهذيب اللغة وصحاح الجوهري في (ض ب ل) وفي القاموس(255/11)
المحيط والتاج في ( ض أ ب ل)، واضمحلَّ الشيءُ كتبه صاحب القاموس بالحمرة على أنه مستدرك على الجوهري، وليس كذلك فقد ذكره الجوهري في الثلاثي في (ض ح ل) وذكره صاحب القاموس في الرباعي (ض م ح ل)، والحُنْدُرة عند الجوهري في (ح د ر)، وعند ابن منظور في (ح ن د ر)، والمنجنيق في جمهرة اللغة لابن دريد في (ج ن ق) وكذلك في صحاح الجوهري وتاج العروس، وعند الأزهري في تهذيب اللغة في (م ج ن ق) وفي اللسان في الموضعين (ج ن ق) و(م ج ن ق)، والقنقرش: العجوز الكبيرة في جمهرة اللغة لابن دريد في (ق ق رش) وحكم بزيادة النون، وعند الجوهري في (ق ن ق ر ش) وحكم بأصالة النون، والخندريس: الخمر عند الجوهري في (خ د رس) وفي اللسان والقاموس المحيط في (خ ن د ر س)، وكارزين: موضع بفارس عند الفيروزابادي في (ك ر ز) وفي التاج في (ك ر ز ن)، والألماس عند ابن الأثير في النهاية في الرباعي(أ ل م س) وعند الفيروزابادي في القاموس المحيط في (م و س)، واللُّمَة: المثيل في السنِّ في الصحاح (ل أ م) وفي اللسان (ل م م)، والمِشْلَوْز في تهذيب اللغة (ش ل ز) وتبعه صاحب اللسان، أما صاحب القاموس فقد أوردها في (م ش ل ز) وتبعه صاحب التاج، واتلأبَّ في الصحاح في (ت ل ب) وفي اللسان في (ت ل أب)، واحزألّ في الصحاح واللسان في (ح زل) وفي القاموس والتاج في (ح ز أ ل)، واسمألَّ في الصحاح والقاموس والتاج في (س م ل) وفي اللسان في (س م أ ل)، ويَنْبَاعُ في الصحاح في (ن ب ع) وفي تكملة الصاغاني في (ب و ع) وفي اللسان في الأصلين (ن ب ع) و(ب و ع) وكذلك في القاموس والتاج، والحَوْأب: وادٍ في وهدة من الأرض في صحاح الجوهري وتكملة الصاغاني في (ح و ب) وفي حواشي ابن بري واللسان في (ح أ ب )، والقَنَّور: الشديد الضخم في الصحاح والقاموس والتاج في (ق ن ر) وفي اللسان في (ق ن و ر)، والبُنْدك من القميص لبنته في صحاح الجوهري في (ب د ك) وعند ابن بري وابن منظور في (ب ن د ك)،(255/12)
والتابوت في صحاح الجوهري في (ت و ب) وفي حواشي ابن بري والنهاية لابن الأثير في (ت ب ت) وفي المحكم لابن سيده في (ت ب ه) وفي اللسان في (ت ب ت) و(ت و ب) و(ت ب ه)، والبان:ضرب من الشجر في صحاح الجوهري في (ب و ن ) وعند ابن سيده في (ب ي ن) وفي اللسان في الموضعين (ب و ن) و(ب ي ن)، والتأْلَب: شجر تتخذ منه القسي في تهذيب اللغة في (أ ل ب) وفي الصِّحاح في (ت أ ل ب) وفي اللسان في الموضعين (أ ل ب) و(ت أ ل ب)، والتَّوْأم في تهذيب اللغة في (و أ م) و(ت أ م) وفي صحاح الجوهري في (ت أ م) وفي اللسان في الموضعين (و أ م) و(ت أ م)، والرِّئبال: الأسد عند الجوهري والصاغاني في (ر ب ل) وعند ابن سيده وصاحب القاموس في ( ر أ ب ل) وفي اللسان والتاج في الموضعين: (ربل) و(رأبل)، والزِّنبيل والزِّنجيل في القاموس في (ز ب ل) و(ز ج ل) وفي التاج في (ز ن ب ل) و(ز ن ج ل)، والزَّنجبيل في الصحاح واللسان والقاموس والتاج في (ز ن ج ب ل) وأورده الصاغاني في ( ز ج ب ل)، وأناض النخلُ: أينع أورده الجوهري في (أ ن ض) وتبعه صاحب اللسان، أمَّا الصاغاني والزَّبيدي فقد أورداه في (ن وض) وقال الزَّبيدي: وذكر الجوهري هنا: أناض النخل، وتبعه صاحب اللسان وهو غريب، فإن (أَنَاضَ) مادته (ن و ض) وقد أغفله المصنِّف وهو نُهْزته وفُرْصته، والغِرْقِئ: قشر البيض عند الجوهري في الرباعي (غ ر ق أ) وفي القاموس المحيط في الثلاثي (غ ر ق)، والمُهْوَأَنُّ: الصحراء الواسعة عند الجوهري في (هـ و أ) وعند ابن بري وصاحب اللسان في (هـ أ ن) وعند الصاغاني وصاحب القاموس في: (هـ أ ن) و(هـ و ن)، والحرف (حتَّى) في تهذيب اللغة للأزهري في (ح ت ي) وفي صحاح الجوهري في (ح ت ت) وفي اللسان في الموضعين:(ح ت ي) و(ح ت ت)، والعَوْهَج: الناقة الطويلة في صحاح الجوهري وتكملة الصاغاني في (ع هـ ج) وفي القاموس والتاج في (ع و هـ ج) وقد وضعها صاحب اللسان في الموضعين: (ع هـ ج) و(ع و هـ(255/13)
ج)، والتُّعضوض: ضربٌ من التمر في تهذيب اللغة للأزهري في (ت ع ض) وتابعه في ذلك صاحب اللسان، أما صاحب القاموس المحيط فقد أوردها في ( ع ض ض) واستدركها عليه صاحب التاج في (ت ع ض)، والترنوق: الطين الذي يرسب في مسايل المياه في القاموس المحيط في ( ر ن ق) واستدركه عليه الزَّبيدي في التاج في (ت ر ن ق).
... وأختتم هذه النقطة باستقراء الصفحة الأولى من باب الهمزة في أول "تاج العروس" والتي عرض فيها للخلاف المعجمي والصَّرفي حول أصل كلمتين هما: الأباءة، والأُثْئية، فالأباءة عند الخليل في العين والجوهري في الصحاح في (أ ب ي) وعند ابن بري والفيروزابادي في (أ ب أ) فما كان من الزَّبيدي إلا أن أورد الكلمة في الموضعين: (أ ب أ) و(أ بـ ي).
أمَّا الأُثْئِيَة كالأُثْفِيَة واحدة الأثائي؛ وهي الجماعة، فقد أوردها الخليل في العين والجوهري في الصِّحاح في الأصل الرباعي ( ث أ ث أ) وأوردها أبو عبيد القاسم بن سلاَّم في "الغريب المصنَّف" وابن بري في حواشيه والفيروزابادي في القاموس المحيط في (أ ث أ) أما الصاغاني في التكملة فقد أوردها في (ث و أ)، وهكذا يمضي الزَّبيدي في رصد الخلاف بين أصحاب المعاجم حول الجذر اللغوي لكثير من الكلمات، واضعًا هذه الكلمات تحت جذور متعدِّدة كما ارتآها أصحاب المعاجم من قبله، متأسِّيًا في ذلك بابن منظور في اللسان.
ثانيًا: أسباب الخلاف حول الجذر اللغوي للكلمات:
... يمكننا إرجاع الخلاف المعجمي حول جذور الكلمات إلى عدد من الأسباب في طليعتها ما يلي:(255/14)
1- ما حدث لكلمات اللغة من إبدال صوتي عند الاستعمال؛ فالإبدال الصوتي معناه إحلال صوت محلّ صوت في الاستعمال اللغوي، فيظهر للكلمة صورتان: قبل الإبدال وبعده، فيقوم صاحب المعجم بوضع الصورتين تحت جذرين لغويين في مكانين مختلفين، وبهذا توضع الكلمة بصوتها المبدل مرَّةً وبصوتها المبدل منه مرَّة أخرى، ثم يقوم صاحب المعجم بشرح الكلمة وتفسيرها في الموضعين كأنه لا علاقة لإحداهما بالأخرى، أو كأنهما كلمتان مختلفتان تمامًا، والأمثلة على ذلك تفوق الحصر، سأذكر بعضها من "لسان العرب" لابن منظور: الأبُّ والوبُّ في (أبب) و(وبب)، وأبَّخه ووبَّخه في (أبخ) و(وبخ)، وأبر النخل ووبَّره في (أبر) و(وبر)، وأبز وهبز في (أبز) و(هبز)، وأبش وهبش، وأبص وهبص، وأبهل وعبهل، وأتل وأتن، وأته وعته، وأثجل وعثجل، وأثكل وعثكل، وإجل وإيل، وأدف وودف، وأرش وحرش، وأرق ويرق، وأزب وأزم، وأزد وأسد، وأزن ويزن، وأبش وحبش وهبش، وأشج وأشق، وأصص وعصص، وأفخ ويفخ، وأفل وأفن، وأفا وهفا، وأكد ووكد، وأكف ووكف، وأكا ووكى، وألس وولس، وألك وعلج، وأمص وعمص، وردم ولدم، ورزم ورسم، ورقم ورقن، وزجم وزكم، وزحم وزهم، وزردب وزردم، وثدم وفدم، وهكذا في المادتين تُعاد الكلمة مرَّة أخرى بشرحها وتفسيرها كأنهما كلمتان لا علاقة بينهما، وكأنها لم تُذكر من قبل؛ كما في بل وبن، وهتل وهتن، ودمل ودبل، وتبت وتبه، ودار ودال، وعرق وعلق، وخرط وخلط، وغرب وغلب، وجبر وجبل، ومطع ونطع، ونصح ونصع، ومدح وندح، ودلهم ودلهن، وسدن وسدل، وخمل وخمن، وذهل وذهن، ودمدم ودندم، وقشط وكشط، ومأص ومعص، ودقق ودكك، وقهر وكهر، وسحق وسحك، وحرقل وحركل، وهتل وهطل وهتن، هذا فضلاً عن الإبدال الناتج عن اللهجات العربية القديمة؛ كالكسكسة والكشكشة والعجعجة والطُّمْطُمانية والوتم والاستنطاء وغيرها مما ورد في المعاجم في أكثر من موضع، وهاهي الكلمات التي وردت في الصحاح واللسان في موضعين مشروحة كما(255/15)
هي في الموضعين بسبب الإبدال الصوتي فالندأة والندهة كلمة واحدة وردت في الصحاح في موضعين (ندأ) و(نده)، وأومأ هي أوبأ أُبدلت الميم باءً وقد وردت في الصّحاح في (و ب أ) و(و م أ) ونَأَتَ بمعنى أنَّ وردت في الصحاح في (ن أ ت) و(ن هـ ت) لأن الهمزة أُبدلت في بعض الاستعمال هاء، والأثكول وردت في اللسان في (أثكل) و(عثكل) لإبدال الهمزة عينًا، والإِجَّل: الذكر من الأوعال وردت في اللسان في ثلاثة مواضع: (أجل) و(أ ول) و(أيل) لسببين: إبدال الجيم ياء، والخلاف بين الواو والياء، وكذلك: الأُرْثة: الحدُّ الفاصل بين الأرضين، وهي أيضًا الأُرفة ووردت في اللسان في (أ ر ث) و(أ رف )، والأَزْد: حي من اليمن، وهو الأَسْد بالسين ووردت في اللسان في (أ ز د) و(أسد)، والأُزْنيَّة: الرماح وهي اليُزنية في (أ ز ن) و(يزن)، والأُشَّج: دواء، وهو الأُشَّق في (أشج) و(أشق)، والأُصُّ: الأصل، وهو العُصُّ في (أصص) و(عصص)، والأَلَب: البَيْض من جلود الإبل، وهو اليَلَب في (ألب) و(يلب)، والآمص: ضرب من الطعام وهو العامص في (أمص) و(عمص)، والأنقليس: نوع من السمك، وهو الأنكليس في (أنقلس) و(أنكلس)، والأَيْم: الحيَّة، وهي الأيْن في (أيم و(أين)، وإضان: اسم موضع، وهو إطان – بالطاء ، وإظان – بالظاء – في (أضن) و(أطن) و(أظن)، والبُرْعُل: ولد الضبع، وهو الفُرْعُل في (برعل) و(فرعل)، والبَرْغ: اللُّعاب، وهو المَرْغ في اللسان في (برغ) و(مرغ)، والبُزاق هو البُساق والبُصاق في اللسان في (بزق) و(بسق) و(بصق)، وبَزَغَتْ الشمس هو بَزَقَت في (بزغ) و(بزق)، والبلتم: الثقيل البليد، وهو البَلْدم في اللسان في (بلتم) و(بلدم)، والبِرْسام: الموم وهو البلسام في (برسم) و(بلسم)، والبَنَان هو البنام في (بنن) و(بنم)، والدفتر هو التفتر في (دفتر) و(تفتر)، والدِّخريص هو التخريص في (دخرص) و(تخرص)، والميس: التبختر هو البيس في (بيس) و(ميس) والتأتأة: دعاء التيس وهي(255/16)
الثأثأة في (تأتأ) و(ثأثأ)، والتُّوز: الطبيعة والخُلُق وهي التوس في (توز) و(توس)، والتوت: الفرصاد وهو التوث في (توت) و(توث)، والمُتْمئِلّ: الطويل وهو المُتمهِلّ في (تمأل) و(تمهل)، واتمألّ: طال وانتصب، وهو اتمأرّ في اللسان في (تمأل) و(تمأر)، وتلَّص الشيء: أحكمه، وهو أيضًا: ترَّصه، ودلَّصه، في اللسان في (تلص) و(ترص) و(دلص)، وازبغلّ الثوب: ابتلّ، وهو اسبغلّ في (زبغل) و(سبغل)، والسَّجَنْجل: المِرْآة، وهي الزَّجَنْجَل في تاج العروس في (سجل) و(زجل)، وسَدَلَ الثوب، وهو زَدَلَه، في التاج في (ز د ل) و(سدل)، والزِّمْجيل: النَّمِر، وهو الزِّنجيل ورد في التاج في (زمجل) و(زنجل)، والسَّمَنْدل: طائر، وهو السَّبندل، ورد في التاج في (سمدل) و(سبدل)، والسَّبَعْلل هو السَّبَهْلل، ورد في التاج في (سبعل) و(سبهل)، والسِّرْحان: الذِّئب هو السِّرحال، ورد في التاج في (سرحن) و(سرحل)، والصَّيقل: السيف، وهو السيقل، في التاج في (صقل) و(سقل)، والمُسْمَئِلّ: الطويل من الإبل، وهو المُسْمَعِلّ والمُسْمَهِلُّ، ورد في التاج في (سمأل) (وسمعل) و(سمهل)، والسَّغِل والسَّغِن والصَّغِل: الرديء السَّيئ، ورد في التاج في (سغل) و(سغن) و(صغل)، وسَغْبَل الطعام: أدمه بالإهالة أو السَّمن، وصَغْبله، ورد في التاج في (سغبل) و(صغبل)، واضمحلَّ الشئ، واضمحنَّ، ورد في التاج في (ضمحل) و(ضمحن)، والعَرْجلة: القطعة من الخيل، وهي الحَرْجلة، وردت في التاج في (عرجل) و(حرجل)، والطِّرْجهارة: نوع من الأواني، والطِّرجهالة، في القاموس والتاج في (طرجهر) و(طرجهل)، والإبزيم والإبزين في اللسان في (بزم) و(بزن)، والبُسْكل من الخيل هو الفُسْكل، ورد في اللسان في (بسكل) و(فسكل)، والبَسْطة هي البصطة ورد في اللسان في (بسط) و(بصط)، وابثعرَّ الخيل: ركضت، وابذعرَّ، ورد في اللسان في (بثعر) و(بذعر)، وبَحْثَر الحبَّ وبَعْثره، في اللسان في (بحثر) و(بعثر)،(255/17)
وبَعْثَر وبَعْذَر في اللسان في (بعثر) و(بعذر)، والبُحْدري هو البُهْدري: المقرقم الذي لا يشبُّ، ورد في اللسان في (بحدر) و(بهدر)، والبُحْتر والبُهْتر في (بحتر) و(بهتر)، والبَحْدَلة هي البَهْدلة في اللسان في (بحدل) و(بهدل)، وبَخَزَ عينه: فقأها، وبَخَسَ، وبَخَصَ، في اللسان في (بخز) و(بخس) و(بخص)، والبردعة والبرذعة في اللسان في (بردع) و(برذع)، وبلأز الرجلُ: فرَّ، وبلأص، في اللسان في (بلأز) و(بلأص)، وامرأة بَهْكلة: غضَّة، وبهكنة، في اللسان في (بهكل) و(بهكن)، والبَهْس: الرَّطْب من المُقْل، وهو أيضًا البَهْش، ورد في اللسان في (بهس) و(بهش)، وبنَّس: تأخَّر، وبنَّش في اللسان في (بنس) و(بنش)، والبُنُح: العطايا، وهو المُنُح، في اللسان في (بنح) و(منح)، وبَلْهَسَ في مشيته: أسرع، وبَلْهَصَ، وبَلأَسَ، وقد ورد في اللسان في (بلهس) و(بلهص) و(بلأس).
وهكذا تعامل أصحاب المعاجم مع الكلمة التي حدث لها إبدال صوتي على أنها كلمتان تستقلُّ إحداهما عن الأخرى، على الرغم من أن الشرح والتفسير والشواهد في الموضعين هو هو دون تغيير إلا تغييرًا طفيفًا.(255/18)
2- شقَّ عدد كبير من الألفاظ الأعجمية طريقه إلى اللغة العربية منذ العصر الجاهلي، وبعض هذه الألفاظ مع كثرة الاستعمال من جانب وتعدُّد المستعملين من جانب آخر أخذ عددًا من الأشكال أو الصور، وقد ترتب على هذه الأشكال أو الصور جذور لغوية متعدِّدة تتناسب مع كلِّ شكل أو صورة؛ فأصحاب المعاجم جعلوا الجذر اللغوي لكلمة (الطسّ): ط س س، أما الطَّسْت فجعلوا جذرها اللغوي (ط س ت)، والطّش: (ط ش ش)، والطَّشْت: جذرها (ط ش ت)، على الرغم من أنها كلمة واحدة في لغتها الفارسية، لكنها في الاستعمال العربي أخذت عدة صور وترتب على ذلك تعدُّد الجذور اللغوية للكلمة، أمَّا كلمة: الأرز فجذرها (أرز)، والرُّزُّ جذرها (رزز)، وأمَّا الرُّنْز فجذرها (رنز)، وقس على ذلك السِّرْبال والسروال والشروال، ففي التاج لها ثلاثة جذور هي: (سربل) و(سرول) و(شرل)، أمَّا بغداد فقد ورد لها في اللسان ستة جذور لغوية: (بغدد) و(بغذد) و(بغدذ) و(بغذذ) و(بغدن) و(مغدن)، وكذلك الصيدلاني والصندلاني والصيدناني، لها في التاج ثلاثة جذور: (صدل) و(صندل) و(صدن)، وكذلك الطبرزد والطبرزذ والطبرزل والطبرزن بمعنى السكر، فارسي مُعرَّب، ورد في التاج تحت أربعة جذور لغوية، والإسفنط والإصفنط والإسفند والإصفند، والإبزين والإبزيم، والبِرْسام والبِلْسام والجرْسام والجِلْسام، والبَرَنْساء والبَرَنْشاء، والباريَّة والبورياء والبوري والبُوريَّة، والبرَّكان والبَرْنكان، والدِّخْريص والتخريص، والخزُّ والقَزّ والقَهْز، والدِّرْياق والترياق والطِّرياق، والرُّزْدَاق والرُّسْداق والرُّسْتَاق والرُّزْتاق، والعُرْبون والعُرْبان والأُرْبُون والأُرْبان والرُّبون، والفُنْدق والفُنْتُق، والفالوذ والفالوذج والفالوذق والفولاذ، والكافور والقافور والقفُّور، والقاقُزَّة والقاقُوزة والقازوزة، وقُرْبَق وكُرْبَق وكُرْبَج، والمردقوش والمرزقوش والمَرْزَنْكوش، والمُسْطار والمصطار،(255/19)
والنَّوْرَج والنَّيْرج والنَّوْجر، والأَرَنْدج والَيَرنْدج، فهذه الكلمات المعرَّبة التي جمعتها من المعرَّب للجواليقي استعملها العرب بعدّة صور، ووضعها أصحاب المعاجم على هذه الصور، ووضعوا لكل صورة جذرًا لغويًّا وتكرر الكلام المشروح هو هو دون تغيير.
هذا من جانب تعدُّد صور الكلمات المعرَّبة بسبب كثرة الاستعمال وتنوعه، أمَّا إذا دخلت الكلمة المعرَّبة حقل اللغة العربية في صورة واحدة فإن جذرها اللغوي يتعدَّد أيضًا بسبب تباين مواقف أصحاب المعاجم من المعرَّب، فمنهم من يرى أن الكلمة المعرَّبة لا يُشتق منها ولا يُتصرَّف فيها، ولذا فجميع حروفها أصول، وتوضع في المعجم بحسب جميع حروفها، ومن هؤلاء مرتضى الزَّبيدي في "تاج العروس"؛ ففي معرضه لكلمة (المنجنيق) يقول في مادة (جنق): "وقد اختلفوا في وزن هذا اللفظ على أقوال للفرَّاء والمازني وأبي عُبيد والتوزي، وهل الميم هي الأصلية أو النون أو غير ذلك، واستدلّوا بـ: جنقونا وبعدم زيادة الميم في مثله في غير ذلك مما لا طائل تحته، والصواب عندي أن حروفه كلها أصلية؛ لأنه عجمي لا سبيل فيه إلى دعوى الاشتقاق ولا مرجَّح في ادّعاء زيادة بعض الحروف دون بعض ولا داعي لذلك، فالصواب إذن أن يُذكر في فصل الميم كما هو ظاهر والله أعلم" ا. هـ
وهكذا في أكثر من موضع في التاج يعبِّر الزَّبيدي عن رأيه هذا؛ بل يتعجَّب ممّن يتصرّفون في الألفاظ الأعجمية؛ ففي حديثه عن (الزَّنْدَبيل) يقول في مادة ( زن دبل): الزَّنْدبيل: الفيل العظيم، وزعم قوم أن نونه أصلية كغيره، وصرَّح الشيخ أبو حيان بأن نونه زائدة، قلت: كيف يكون ذلك، وهم قالوا: إنه مُعرَّب: زَنْدَهْ بيل، ومعناه بالفارسية: الفيل الحي، ويُكنى به عن العظيم، فتأمّل ذلك!! ا. هـ.(255/20)
ومن أصحاب المعاجم من يرى ضرورة تطويع الكلمات المعرَّبة للأوزان والصيغ العربية ما أمكن ذلك، وعلى رأسهم الجوهري، الذي طبَّق ذلك تطبيقًا عمليًّا في معجمه الصّحاح، وجاء تعريفه للتعريب متَّسقًا مع ما صنعه في الصّحاح؛ يقول في تعريف التعريب: وتعريب الاسم الأعجمي أن تتفوَّه به العرب على منهاجها، ولذا وضع كلمة الإستبرق في (برق) مرَّة وفي (سرق) مرَّة أخرى، والمنجنيق في (جنق)، والسندس في (سدس) على خلاف مع غيره.
ومنهم من تأرجح رأيه في هذه القضية ووجد أن أفضل الحلول لهذه المشكلة هو وضع الكلمة تحت أكثر من جذر متبعًا المعاجم التي سبقته وجامعًا بينها، كما فعل صاحب اللسان وصاحب التاج، فكلاهما وضع كلمة (المنجنيق) تحت جذرين: (جنق) و(مجنق) جمعًا بين الرأيين السابقين، والإستبرق في (إستبرق) و(برق)، والإسفنط في (أسفط) و(سفط)، والإشْفي في (أشف) و(شفي).
وهكذا ترتَّب على تباين صور الاستعمال اللغوي للكلمات المعرَّبة من ناحية وتباين موقف أصحاب المعاجم من المعرَّب من ناحية أخرى ورود كلمات كثيرة تحت جذور لغوية متعدِّدة في المعجم الواحد فضلاً عن المعاجم المتعدِّدة.
3- تحقيق الهمز وتخفيفه في الاستعمال اللغوي عند العرب، فلقد كان الحجازيون لا يهمزون، والتميميون يهمزون، وهذا استعمال فصيح وذاك استعمال فصيح أيضًا، فاضطر أصحاب المعاجم إلى ذكر الكلمة التي اُستُعملت استعمالين بتحقيق الهمز وتخفيفه في موضعين: موضع الهمز وموضع التسهيل أو التخفيف، وقد ظهر هذا جليًّا في معاجم القافية؛ كصحاح الجوهري، ولسان العرب، والقاموس المحيط، وتاج العروس، فالكلمات المهموزة اللام التي وردت في باب الهمزة أُعيدت مرَّة أخرى في باب المعتلّ بالواو أو بالياء، وكأنها من الأصلين؛ لأنها اُسْتُعملت تارة مهموزة وتارة مخفَّفة، وقد ذكرنا الأمثلة على ذلك من صحاح الجوهري في بداية هذا البحث.(255/21)
4- ما حدث لبعض كلمات اللغة من قلب مكاني بتقديم صوت على صوت في الكلمة الواحدة، الأمر الذي أدَّى إلى أن يصبح للكلمة شكلان: شكل قبل القلب؛ نحو: جذب، وشكل بعد القلب: جبذ، فتعامل أصحاب المعاجم مع الكلمة على أنها كلمتان، فوضعوها تحت جذرين مختلفين: (ج ذ ب) و(ج ب ذ) وفي كلا الموضعين أعادوا الشرح والتفسير كأنهما كلمتان مختلفتان من أصلين مختلفين، وباستقراء بعض المواد اللغوية في اللسان اتضحت الظاهرة في الآتي: اضمحلَّ وامضحلّ في (ضمحل) و(مضحل)، وعميق ومعيق في (عمق) و(معق)، ويئس وأيس في(يـ أ س) و(أ ي س) وحَمْتٌ ومَحْتٌ في (حمت) و(محت)، ورَهْسَمَ ورَهْمَسَ في (رهسم) و(رهمس)، وكذلك بَكَلَ ولبك، ورَبَضَ ورَضَبَ، ومُكَلَّب ومُكبَّل، ولَقَمَ ولَمَقَ، وفَحَثَ وحَفَثَ، وسَلْسال ولَسْلاس، والكُرْفُس والكُرْسُف، وطَرْشَمَ الليلُ وطَرْمَشَ، ونَزَغَ الشيطان ونَغَزَ، واللَّزِج واللَّجِز، وكلام حُوشي ووحشي، والأوباش والأوشاب، والقِماط والمِقاطَ، والبِطِّيخ والطِّبِّيخ، والبعض والبضع، وقَبَأَ إذا أكل وشرب، وقأب، وفي الصحاح (قبأ) و(قأب)، وأَمْق العين ومُؤْقها، في اللسان في (أمق) و(مأق)، والأنيت والنأيت: الأنين، في اللسان في (أنت) و(نأت)، وبرِط الرجل: إذا اشتغل عن الحق باللَّهو، وبَطِر، في اللسان في (برط) و(بطر)، وبَعْكَر الشيء: قطعه، وكعبره، في اللسان في (بعكر) و(كعبر)، والبُحْتر والحُبْتر: القصير، في اللسان في (بحتر) و(حبتر)، وبَخْلَصٌ وبَلْخَصٌ: غليظ كثير اللحم، في اللسان في (بخلص) و(بلخص)، والبَلْت: القطع، والبَتْل، في اللسان في (بلت) و(بتل)، وبَلَكَ ولَبَكَ، في اللسان في (بلك) و(لبك)، وتَبَهْلَصَ الرجلُ من ثيابه: خرج، وَتَبَلْهص، في اللسان في (بهلص) و(بلهص)، والبَهْلَقة: سوء الخُلُق، والبَلْهَقة، في اللسان في (بلهق) و(بهلق)، والتَّرْخ: الشرط، والرَّتْخ، في اللسان في (رتخ) و(ترخ)، وتَرْعَبٌ(255/22)
وتَبْرَعٌ: موضعان، في اللسان في (ترعب) و(تبرع)، وذَحْمَلَه: دحرجه، وذَمْحَلَه، في التاج في (ذحمل) و(ذمحل)، وبالدال أيضًا (دحمل) و(دمحل)، والزَّغملة: الضغينة، والزَّغْلَمة، في التاج في (زغمل) و(زغلم)، الزَّفْقلة: السرعة، والزقفلة، في اللسان في (زفقل) و(زقفل)، وزَهْمَل المتاع: نضَّده، وزهلمه، في التاج في (زهمل) و(زهلم)، والمستول: الذي أُخذ ما عليه من اللحم، والمسلوت، في التاج في (ستل) و(سلت)، والطَّهْبَلة: الذهاب في الأرض، والطَّهْلَبة، في التاج في (طهبل) و(طهلب)، والعندليب والعندبيل، في التاج في (عندلب) و(عندبل). والعَسْطَلة: الكلام غير ذي نظام؛ وهي العَلْسطة والعَطْلسة، وردت في القاموس والتاج في (عسطل) و(علسط) و(عطلس).
5- ما حدث للخط العربي من تصحيف في النَّقْط وتحريف في الضبط والشكل، وخاصة ما أخذه أصحاب المعاجم من مادة لغوية مكتوبة في الصُّحف من قبل، فلقد كان أصحاب هذه المعاجم يجمعون مادتهم من مصادر متعدِّدة، وكان النصيب الأوفر من هذه المادة اللغوية مأخوذًا مما كان مكتوبًا من قبل، والقليل من هذه المادة جمعوه من
أفواه الأعراب، ولذا وقعوا في كثير من أوهام التصحيف والتحريف، وقد ساعد على ذلك سهولة تصحيف الخط العربي وخلوّه في ذلك الوقت من النقط والضبط، الأمر الذي أدّى إلى أن يرصد أصحاب المعاجم الكلمة صحيحة مرَّةً ومُصحَّفةً مَرَّةً أخرى كأنها كلمة أخرى تحت جذرين لغويين مختلفين، ولم يسلم من التصحيف كبار اللغويين، فقد نُقل عن الخليل بن أحمد (ت 175هـ) أنَّه صحَّف كلمات كثيرة رُويت في معجم العين.(255/23)
... لقد استدرك أبو بكر الزُّبيدي على الخليل في معجمه العين عددًا من التصحيفات التي وقعت في هذا المعجم، وقد أوردها السيوطي في "المزهر"(*)، كما أورد السيوطي تعريف أبي العلاء المعرِّي للتصحيف بقوله: أصل التصحيف أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفة، ولم يكن سمعه من الرجال فيغيره عن الصواب، وقد وقع فيه جماعة من الأَجِلاّء من أئمة اللغة
وأئمة الحديث، حتى قال الإمام أحمد ابن حنبل: ومَنْ يعرى من الخطأ والتصحيف؟! (1).
... وقد أجمع المحقِّقون على أن التصحيف يقع في النَّقْط؛ كتحويل الياء إلى باء أو الغين إلى عين، أمَّا التحريف فيقع في شكل الحروف المتقاربة؛ كتحويل الواو إلى راء أو الذال إلى زاي، أو الدال إلى راء، أو الدال إلى لام، أو النون إلى زاي، وقد يكون التحريف بالزيادة في الكلام أو النقص منه، وقد يكون بتبديل بعض كلماته أو بحمله على غير مراده، فهو بهذه التعريفات أعمّ من التصحيف، وإن كان بعض القدماء لا يفرِّق بين التصحيف والتحريف ويجعلهما مترادفيْن(2).
ولا شك أن التصحيف والتحريف يؤديان إلى تغيير أصل الكلمة، وهذا التغيير يؤدي إلى أن تصبح الكلمة كلمتين، فيورد أصحاب المعاجم
الكلمتين تحت جذرين مختلفين؛ مرَّة قبل التصحيف ومرَّة بعد التصحيف، وآية معرفة التصحيف والتحريف في المعاجم أن تجد تعريف الكلمتين تعريفًا واحدًا، والشرح والتفسير هو هو في الكلمتين، ففي اللسان: الأُداف: الذَّكَر، في (أدف)، ثم في (أذف): الأُذاف: الذَّكَر، وفي مادة (أرخ): الأَرْخ: الفتيُّ من بقر الوحش، وفي مادة (أزخ): الأَزْخ: الفتي من بَقَر الوحش، وفي مادة (تعر): جُرْحٌ تعَّار:يسيل منه الدم، وفي مادة (تغر):الكلام نفسه، وفي مادة (نعر) كذلك، وفي مادة (نغر) كذلك أيضًا، وبذلك وردت الكلمة تحت أربعة جذور: (تعر) و(تغر) و(نعر) و(نغر).(255/24)
وممَّا ورد مصحَّفًا ومحرَّفًا في معجم العين مما استدركه الزُّبيدي على الخليل: الهَميغ: الموت، صارت بعد التصحيف: الهميع، والفُقاعي: الأحمر، صارت: القُفاعي، والزُّغلول: الخفيف،
صارت: الزعلول، والمُمغَّط: الطويل،
صارت: المُمعَّط، وابذعرَّ: تفرَّق، صارت: ائذعرّ، وغَسَا الليل: أظلم، صارت: عسا، والحَجَل: أولاد الإبل، صارت: الجحل، والتلخيص صارت: التلحيص، السَّحْت: شدة الأكل، صارت: السَّحْب، وبنات بَخْر: ضرب من السحاب صارت: بنات بَحْر، ومَرَخْتُ الجِلْد: دهنته، صارت: مَرَّحْتُ، والخوت والخوتان: حومان الطائر صارت: الحوت والحوتان، والزَّخْزب: الشديد الغليظ صارت: الزَّحْزب، والكهكاهة: المتهيب صارت: الكهكامة، والفُرْهد: الناعم صارت: القُرْهد، والفحيح: صوت الأفعى صارت: الفخيخ، والقَلَح: صُفْرة الأسنان صارت: القَلَخ، والحِضْب: حية بيضاء صارت: الخِصْب، والخيتار: الجوع الشديد صارت: الخِنْتار، ومَاحَ: تَبَخْتَر صارت: مَاخَ، والفَدَغ: التواء في القَدَم صارت: الفَدَع.
... أما ما ورد من تصحيف وتحريف في صحاح الجوهري مما أورده السيوطي في "المزهر":
الدَّنْدَنة صارت: الدَّبْدَبة، والذُّناني: مخاط الإبل صارت: الذُّنابي، واحنقَّ الفرس: ضَمُر صارت: احتق، والعاتك: الأحمر صارت: العانك، وتبجبج اللحم: كثر واسترخى صارت: تَنَجْنَجَ، وهو شِرْداحُ القدم: عظيمها عريضها صارت: شرداخ، والجيدر: القصير صارت: الجَيْذَر، ووَطْب حَشِر: وَسِخ صارت: جَشِر، والخبير: لُغام البعير صارت: الحبير، والعُرادة: اسم فرس صارت: العُرارة، وساح الفرس بذَنَبه صارت: شاح، وشَمْج بن فزارة: بطن صارت: شَمْخ.(255/25)
... هذا إلى جانب ما أورده ابن بري في حواشيه على الصحاح، وما أورده الصاغاني في "التكملة والذيل والصلة"، وما أورده الفيروزابادي في "القاموس المحيط"؛ كما في (ندأ): نَدَأَه؛ كمَنَعَه: كرهه، أو الصواب فيه: بَذَأَه – بالباء الموحَّدة والذال المعجمة-، ووَهِم الجوهري، وفي (هرأ): وهُرِئَ القومُ كعُنِيَ: إذا قتلهم البرد أو الحرّ، وبخطِّ الجوهري: هَرِئ كسَمِع، وهو تصحيف، وفي (مطر): وماطِرون: بلدة بالشام، ووهم الجوهري فقال: ناطِرون، بالنون، وذكره في (ن ط ر)، وهو غلط.
... وعلى الرغم من تتبُّع الفيروزابادي الدقيق لما وقع فيه الجوهري من تصحيف أو تحريف فإنه هو نفسه لم يسلم من هذه الآفة، وقد تتبعه الزَّبيدي في تاج العروس، وكشف ما لديه من تصحيف وتحريف ففي مادة (عجيل) يقول صاحب التاج: العَجْيَلة: الشِّدَّة، وقد نقلها المصنِّف من كتاب الأفعال لابن القطاع، وهي عنده العَجْبَلة – بالباء –(*)، كما خصَّص أحمد فارس الشدياق النقد الثالث والعشرين من كتابه "الجاسوس على القاموس" لتفنيد خطأ صاحب القاموس وتحريفه وتصحيفه ومخالفته لأئمة اللغة، نقله الشدياق مما علَّقه نصر الهوريني على هامش القاموس المطبوع بمصر، ومن كلام شارح
القاموس مرتضى الزبيدي في تاج العروس، ويقع هذا النقد في مئة وعشر صفحات، بترتيب القاموس المحيط.(255/26)
ومما ورد في اللسان تحت جذرين لغويين، والشرح والتفسير والشاهد واحد في الموضعين؛ وذلك بسبب التصحيف والتحريف ما يلي: أَحُو أَحُو : كلمة تُقال للكبش إذا أُمر بالسِّفاد، وهي في القاموس والتاج: أجي أجي – بالجيم والياء -، وفي اللسان أيضًا: المُسْتَأخِد – بالدال -: المسكين، قال أبو منصور الأزهري: هذا حرف مُصحَّف، والصواب: المُسْتَأْخِذ – بالذال -، وقد ورد في اللسان في (أخد) و(أخذ)، وأديك: اسم موضع؛ ويروي: أريك، وورد في اللسان في (أدك) و(أرك)، وفي اللسان: الأُداف: الذَّكر، والأُذاف كذلك وردت في (أدف) و(أذف)، والأَزْخ: الفتي من بقر الوحش، وهو الأَرْخ – بالراء-، وردت(255/27)
في اللسان في (أرخ) و(أزخ)، والأَفْر- بالراء – والأفز – بالزاي وردت في اللسان في (أفر) و(أفز)، وبعثر طعامه: فرَّقه، وبَغْثَره – بالغين – ورد في اللسان في (بعثر) و(بغثر)، والبهاويز من النوق والخيل الجسام، قال الأزهري: أظنه تصحيفًا، وهي البهازير، وقد وردت في اللسان في (بهزر) و(بهوز)، وارمعلَّ الصبي: سال لُعابه، وارمغلّ – بالغين – وردت في القاموس والتاج في (رمعل) و(رمغل)، والرعبل: المرأة الحمقاء، وردت في القاموس والتاج بالراء (رعبل)، ولكنها وردت في الصحاح وتكملة الصاغاني بالزاي (زعبل)، وزَنْفَلَ في مشيته: تحرَّك كالمُثْقَل بحِمْل، وردت في التاج في (زنفل)، وفي مادة (زنقل) يقول: زَنْقَلَ في مشيته مثل زَنْفَل أهمله الجماعة كلهم، وأنا أخشى أن يكون تصحيفًا، والسَّحْبَلة: الخصية المتدلية، والسَّجْيَلة كذلك، وردت في التاج في (سحبل) و(سجل)، والمُسْمَعِلُّ: الطويل من الإبل، وهو أيضًا المُسْمَغِل – بالغين – وقد ورد في التاج في (سمعل) و(سمغل)، والشَّنْفَلة: إخراجك الدراهم في المطالبة، وهي في القاموس والتاج بالفاء في (شنفل)، وفي المحيط لابن عباد والعباب للصاغاني بالقاف: الشنقلة في (شنقل)، والصِّئبل: الداهية، وردت في القاموس في (صأبل)، وعند الجوهري: الضِّئبل – بالضاد – في (ضأبل)، وقد وردت في التاج في الموضعين: (صأبل) و(ضأبل)، والضَّحْل: الماء القليل، وردت في القاموس والتاج في (ضحل)، وفي التاج وحده وردت كلمة الضكل – بالكاف - وقال عنها صاحب التاج: ولم أجده في أصول اللغة التي بأيدينا، ولعلّه تحريف الضَّحْل – بالحاء – فانظره، والضندل – بالضاد -: الضخم الرأس، وهو الصندل – بالصاد – أو الصواب بالصاد كما نبَّه عليه الصاغاني، وقد ورد في التاج في (صندل) و(ضندل)، والعِرْهِلّ: الشديد من الإبل، والعِزْهِلّ كذلك، وقد ورد في القاموس والتاج في (عرهل)و(عزهل)، والعَذْفَل:العريض الواسع، وهو الغَذْفل،(255/28)
والغَدْفل، وقد ورد في التاج في ثلاثة مواضع: (عذفل) و(غذفل) و(غدفل).
... وهكذا نرى أنه لم يسلم من آفة التصحيف والتحريف أحد من أصحاب المعاجم بدءًا من الخليل وانتهاء بالزَّبيدي على الرغم من تنبُّههم لهذه الآفة، وعلى رأس هؤلاء المتنبهين لهذه الآفة الأزهري (ت370هـ) الذي قال في مقدمة تهذيب اللغة: "ولو أني أودعتُ كتابي هذا ما حوته دفاتري، وقرأته من كتب غيري، ووجدته في الصحف التي كتبها الورَّاقون، وأفسدها المصحِّفون، لطال كتابي، ثم كنت أحد الجانين على لغة العرب ولسانها، ولَقليلٌ لا يُخزي صاحبه خير من كثير يفضحه"(*).
... ويقول الجوهري في مادة (سعتر): "السَّعْتر: نبتٌ، وبعضهم يكتبه بالصاد في كتب الطبِّ لئلاَّ يلتبس بالشعير".
... أما صاحب اللسان فعلى الرغم من أنَّه أشار في مواضع متعدِّدة إلى الكلمات التي حدث لها تصحيف فإنه يعقد لها جِذْرين في معجمه تحت مادتين مختلفتين مع تغيير طفيف في الشرح بما يُوهم أنهما كلمتان مختلفتان؛ ففي مادة (ضجن): الضَّجَنُ؛ بالجيم: جبلٌ معروف، قال الجوهري: والحاء تصحيف، قال ابن مُقبل:
في نِسْوةٍ من بني دَهْيٍ مُصَعِّدةٍ
أو من قنانٍ تَؤُمُّ السَّيْرَ للضَّجَنِ
وبعدها مباشرة في مادة (ضحن) يقول: الضَّحَنُ: اسم بَلَدٍ؛ قال ابن مُقْبِل: وذكر البيت وقال بعده: وقد تقدَّم في ترجمة (ضجن)؛ بالجيم المعجمة.
6- ما حدث لبعض كلمات اللغة من الإعلال؛ ترتَّب عليه خلاف بين اللغويين حول أصل الحرف الذي حدث له الإعلال، وامتدّ هذا الخلاف إلى أصحاب المعاجم، فاضطر بعضهم إلى أن يضع الكلمة في موضعين أو أكثر على قدر الآراء التي اُخْتُلف فيها، ثم(255/29)
يعيد شرحها وتفسيرها ويذكر شواهدها، كما فعل صاحب اللسان مع الكلمات الآتية: الزيّ أوردها في (زوي) و(زيي)، وكلمة (الأيِّل): الذكر من الأوعال أوردها في (أول) و(أيل)، وكلمة السنة التي أوردها تحت (سنو) و(سني) و(سنت) و(سنه)، وكذلك فعل صاحب القاموس المحيط مع كلمة القيِّد: السهل الانقياد التي أوردها تحت (قود) و(قيد)، والعَباءة أوردها تحت (عبو) و(عبي)، والعِزَة وجمعها عِزُون تحت (عزو) و(عزي)، والكرى تحت (كرو) و(كري)، وكل هذا بسبب الخلاف حول أصل الحرف الذي حدث له الإعلال.
... ولم يقف الخلاف حول أصل حرف العلّة (الواو أو الياء) بل امتدّ هذا الخلاف إلى المعتلّ الوسط (الأجوف) والمعتلّ الآخر (الناقص)، وهل الكلمة من الأجوف أو من الناقص، وقد ترتَّب على ذلك وضع الكلمة تحت جذرين لغويين؛ فالجوهري في الصحاح أورد كلمة الثُّبة بمعنى الجماعة تحت جذرين: (ثوب) و(ثبو)، وكلمة التناوح بمعنى التقابل تحت جذرين هما: (نوح) و(نحو)، وفي اللسان وردت كلمة (هاتِ) في (هيت) و(هتو)، وكلمة الميدان في (ميد) و(مدي)، وشجرٌ لاثٍ؛ أي ملتفٌّ في (لوث) و(لثو).
... وهكذا أدَّى الخلاف حول أصل الكلمة هل هي من الأجوف أو من الناقص إلى وضعها في المعجم مرتين تحت جذرين أحدهما أجوف والآخر ناقص.(255/30)
... لقد امتدّ الخلاف المعجمي إلى الاضطراب حول الكلمة هل هي من الصحيح أو من المعتلّ، الأمر الذي أدَّى إلى وضعها تحت جذرين أحدهما صحيح والآخر معتلّ، ثمّ يتمّ شرح وتفسير الكلمة في الموضعين دون تغيير؛ ففي صحاح الجوهري وردت كلمة الأرطي في (أرط) و(رطي)، وكلمة الأَرَيْق: الداهية في (أرق) و(ورق)، وكلمة الإشفى: المِثْقبِ في (أشف) و(شفي)، والأحد في (أحد) و(وحد)، والفعل انْبَاقَ بمعنى هجم في (بوق) و(نبق)، والإنسان في (أنس) و(ونس)، واسم الموصول (الذي) في (لذذ) و(لذو). وفي اللسان كذلك وردت كلمة (الأُداف) بمعنى الذَّكر في (أدف) و(ودف)، والإرة بمعنى القديد في (أره) و(أري)، والفعل يَنْبَاعُ في (بوع) و(نبع)، والحرف حتَّى في (حتت) و(حتي)، والمِسْحاة: المِجْرفة في (مسح) و(سحو)، والغَيْسان: حدّة الشباب في (غيس) و(غسن)، والنداء: يا هَنَاهُ بمعنى يا رجلُ في (هنن) و(هنو)، والتصدية بمعنى التصفيق في (صدد) و(صدي)، والذُّرية في (ذرر) و(ذري) إضافة إلى (ذرأ)، والحومان: نوع من النبات في (حمن) و(حوم)، والكُنْتي: الشيخ المسنّ في (كنت) و(كون)، والمِتِّيخة: العصا في (تيخ) و(متخ)، والفعل اِذْلَوْلَى بمعنى أسرع في (ذلل) و(ذلو). فهذا التعدُّد في الجذر اللغوي لهذه الكلمة جاء نتيجة الخلاف حول أصل الكلمة هل هي من المعتلّ أو من الصحيح، فاضطرّ أصحاب المعاجم إلى وضعها مرَّةً تحت الجذر الصحيح ومرَّةً تحت الجذر المعتلّ.(255/31)
7- ما حدث لبعض كلمات اللغة من حَذْفٍ فقط أو من حَذْفٍ وتعويض معًا، فظاهرة الحذف في العربية معروفة في عدد من الكلمات التي حُذف أولها أو وسطها أو آخرها، وقد يُعوَّض عن الحرف المحذوف بحرف آخر أو لا يعوَّض، فمما حُذف أوله مع التعويض بالتاء في آخره: صفة، وهبة، وصلة، وعِدَة، وسِمَة، وسِنَة... إلخ، ومما حُذِف وسطه: مُذْ؛ التي أصلها مُنْذُ، وسَهْ؛ التي أصلها سَتَهْ، ومما حُذف آخره دون تعويض: فم، ويد، ودم، وأب، وأخ ... إلخ، ومما حُذف آخره مع التعويض بتاء في آخره: سَنَة، وشَفَة، وكُرَة... إلخ، ومما دار حوله الخلاف في حذفه وتعويضه: اسم، وابن، وبنت، وإنسان.(255/32)
... إن الخلاف حول أصل الحرف المحذوف، وأصل الحرف الذي جاء عوضًا عن المحذوف وموضع كلٍّ من المحذوف والمعوَّض أدّى إلى وضع كثير من هذه الكلمات تحت أكثر من جذر لغوي؛ فكلمة العِضَة وردت في الصحاح والقاموس والتاج تحت جذرين هما: (عضه) و(عضو)؛ لخلافٍ بين أصحاب المعاجم حول أصل الحرف المحذوف هل هو الهاء أو الواو، فمن قال أصله الواو استدلَّ بأن جمعه: عضوات، ومن قال أصله الهاء استدلَّ بقولهم في التصغير: عُضَيْهة، والشَّفَة في اللسان تحت جذرين (شفه) و(شفو)؛ لخلافٍ بينهم حول لام الكلمة، فبعضهم قال: لامها هاء؛ بدليل تصغيرها: شُفَيْهة، وجمعها: شِفَاه، فلامها هاء عند جميع البصريين وابن بري، وبعضهم قال: لامها واو – كما في تهذيب اللغة للأزهري – نقلاً عن الليث: الشَّفة نقصانها واو، تقول: شفة وثلاث شفوات، والفم وردت في اللسان والتاج في موضعين: (فمم) و(فوه) على خلاف حول الأصل الثلاثي للكلمة هل هو: فمم أو فوه ثمّ حُذفت الهاء وقُلبت الواو ميمًا، واليد وردت في (يدو) و(يدي)، والدم كذلك في (دمو) و(دمي)، ولذا كان المأخذ الأول الذي أُخذ على معاجم القافية أنها جمعت بين الواوي واليائي في موضع واحد؛ تخلُّصًا من الخلاف الذي دار بين الصرفيين حول ما أصل لامه واو أو ياء، أمَّا المعاجم الأخرى فقد آثر بعضهم وضع الكلمة تحت الجذرين الواوي واليائي مع رصد الخلاف حول ذلك.(255/33)
8- الخلاف حول الأصلي والزائد من حروف الكلمة؛ وخاصة ما ثانيه ياء؛ نحو: البيطر، والفيلق، والبيدق، والبيهق، والصيقل، والغيهب أو ما ثانيه واو؛ نحو: الجوهر، والكوثر، والكوكب، والتولب، والجولق، والحوشب، والدورق، والرَّونق، والصَّولجان، والجورب أو ما ثانيه نون؛ نحو: البُنْدق، والجندل، والجُنْدُف، والجِنْعِظ، والغُنْدَر، والفُنْدق، والقَنْبَر، والقُنْبُع، والقَنْبَل، فمنهم من عدَّ الياء والواو والنون حروفًا زائدة فوضع هذه الكلمات تحت جذرٍ ثلاثي، ومنهم من عدَّ هذه الحروف أصلية ووضع هذه الكلمات تحت جذر رُباعي، ومنهم من وضعها تحت الجذرين: الثلاثي والرباعي، وأعاد شرح الكلمة وتفسيرها في الموضعين، فعلى سبيل المثال لا الحصر: كلمة القَنْبَر في صحاح الجوهري تحت الجذر الثلاثي (قبر)، وفي القاموس المحيط في الرباعي (قنبر) وقال: وقَنْبَر اسم، وقد ذكره الجوهري في (ق ب ر) واهمًا، وفي اللسان أوردها في الموضعين: (قبر) و(قنبر)، وفي تاج العروس أوردها في الرباعي (قنبر) مؤيدًا صاحب القاموس المحيط قائلاً: وقد تمحَّل شيخنا – الفاسي - للجواب عن الجوهري بما لا يصلح به الاحتجاج؛ فإن النون ثاني الكلمة لا تزاد إلا بثبت ولا دليل على زيادتها فافهم، والبنْصَر عند الجوهري في (بصر)، وعند الفيروزابادي في (بنصر) وتبعه صاحب التاج، وفي اللسان في الرباعي (بنصر) مخالفًا الجوهري على غير عادته.(255/34)
9- إدراج الحروف وما يشبهها من الأسماء المبنية في المعاجم دون خطة محكمة، ومحاولة تصريف هذه الحروف أو الأسماء المبنية تصريفًا متباينًا بين معجم وآخر؛ فالحرف (حتَّى) وضعه الجوهري تحت الجذر (حتت)، وتبعه في ذلك ابن بري وصاحب القاموس والتاج، أمَّا صاحب اللسان فقد وضعه تحت جذرين: (حتت) و(حتي)، و(لَقَدْ) وضعها صاحب اللسان تحت جذر (ل ق د) على الرغم من أن اللام ليست من أصل الكلمة، وأمَّا (لعلَّ) فقد وضعها الجوهري تحت جذرين هما: (علل) و(لعل)، وتبعه في ذلك صاحب اللسان، وأمَّا (هذا) فقد وضعها صاحب اللسان تحت جذرين هما (ذا) و(هذي).
... أمَّا (فِلَسْطين) فقد أوردها الجوهري في (طين)، ونقده ابن بري قائلاً: حقُّه أن يُذكر في فصل الفاء من حرف الطاء؛ لقولهم: فِلَسْطون، وأوردها صاحب اللسان في المادتين: (فلسط) و(طين)، أَمَّا الفيروزابادي فقد أوردها في (فلسط) وكتبها بالأحمر على أن الجوهري أهملها هنا، ثم عاد وذكرها في (طين)، وأمَّا (صِفِّين) فقد أوردها الجوهري في (صفن) واعترض ابن بري وقال: حقُّه أن يكون في (صفف)، وأورده صاحب اللسان في المادتين: (صفف) و(صفن)، أمَّا الفيروزابادي فقد تابع الجوهري على غير عادته وأوردها في (صفن)، وأما الصّين فقد أوردها الجوهري في (صون) وأوردها صاحب اللسان في (صين)، وهذا يؤكد عدم وجود خطة محكمة في التعامل مع الأعلام والأسماء المبنية والحروف واختلاف جذرها بين معجم وآخر.
ثالثًا: نتائج الخلاف المعجمي حول جذور الكلمات:
... يمكننا تلخيص أهم النتائج التي ترتبت على الخلاف بين أصحاب المعاجم حول أصول أو جذور الكلمات فيما يأتي:
1- لقد تضخَّمت معاجمنا العربية(255/35)
بصورة ملموسة، لمحها وأشار إليها المرحوم أحمد أمين في مقالته "أسباب تضخُّم المعجمات العربية"(*)، وقد ذكر في مقالته خمسة عشر سببًا لتضخُّم هذه المعاجم؛ وهي: اختلاف العرب في اللهجات، وتحريف بعض الأفراد لكلمات اللغة، والقلب المكاني، وتعدُّد استعمال الكلمة بين قبيلتين أو أكثر، والجمع اللغوي العشوائي الذي لم يحدِّد القبيلة التي تنطق بالكلمة المجموعة، وتوسُّع بعض الأعراب في المجاز، وعدم تحرِّي الدقة عند الجمع والتفريق بين الثقة وعدم الثقة، والتصحيف الذي وقع فيه بعض العلماء، والزعم بأن العرب لا تخطئ في نطقها لا لفظًا ولا معنى، واحتمال الخطأ في السمع عند جمع اللغة، وتعرُّض المتأخرين من أصحاب المعاجم لما ليس لهم به علم؛ كما فعل صاحب القاموس في حديثه عن الهرميْن اللذين بمصر، وإدخال أصحاب المعاجم أشياء كثيرة في معاجمهم من نبات وحيوان وأسماء
مدن وقرى، وعدم اكتفاء أصحاب المعاجم بذكر الأعلام الأعجمية بل استطردوا في تصريفها ووزنها، وأخيرًا مزج أصحاب المعاجم بين اللغة والأدب.
وعلى الرغم من ذكر هذه الأسباب الكثيرة فإنه سها عن أهم سبب منها؛ وهو تعدُّد الجذر اللغوي للكلمات في المعاجم؛ لأن هذا يعني أنه تحت كل جذر تتكرر الكلمة ويُعاد شرحها وتفسيرها وتُذكر شواهدها مرَّة أخرى دون داعٍ إلا داعيًا واحدًا هو عدم الاتفاق على جذر واحد للكلمة.(255/36)
2- وَضْع الكلمة في المعجم في غير موضعها الحقيقي، أو وضعها في أكثر من موضع، الأمر الذي يُصعِّب على الباحث الوصول إلى الموضع الصحيح للكلمة، أو تحديد الجذر اللغوي الحقيقي لها، فوَضْع الكلمة في أكثر من موضع يجعل الباحث يتردّد بين الجذور اللغوية المذكورة للكلمة فلا يصل إلى الرأي الصائب، وقد يكتفي بأول جذر لغوي يقابله للكلمة، أو قد يحكم على الكلمة بأنها غير موجودة في المعجم؛ لأنه توقَّع أن تكون تحت جذر معيَّن ثمّ لم يجدها، وقد وقع في هذه المشكلة كبار المعجميين؛ كالفيروزابادي الذي حمَّر كثيرًا من الموادّ اللغوية؛ ظنًّا منه أنها لم ترد في صحاح الجوهري، والحقيقة أنها وردت في موضع آخر غير الموضع الذي أراده، فقد حمَّر الفيروزابادي مادة (ترجم) التي ذكر فيها الترجمان؛ وهو المفسِّر للسان، وقد ذكره الجوهري في مادة (رجم)، وقد علَّق على ذلك صاحب التاج قائلاً: "أهمله الجوهري هنا وأورده في تركيب (رجم)، فكتابة المصنِّف إياها بالأحمر فيه نظر"، كما حمَّر الفيروزابادي مادة (دردم) وذكر فيها الدِّرْدم؛ وهي الناقة المُسنَّة، وقد ذكرها الجوهري في (درم)، وحمَّر مادة (زلقم) وذكر فيها الزُّلقوم، وفسَّره بأنه الحلقوم، وقد أوردها الجوهري في مادة (زقم) وجزم بزيادة اللام، كما حمَّر الفيروزابادي مادة (قحو) وذكر فيها: قَاحَ الجرحُ يقوح، والقاحة: الساحة، وقد ذكرها الجوهري في (قيح)، وبالمثل استدرك الزَّبيدي على صاحب القاموس ألفاظًا لم يهملها، وإنما ذكرها في مواضع أخرى، ففي مادة (تذرب) ذكر الزَّبيدي أنَّ المؤلِّف قد أغفله، والحقيقة أنه لم يغفله وإنما ذكره في مادة (ذرب).(255/37)
... إن معظم الاستدراكات التي قام بها الزَّبيدي على القاموس المحيط كانت من باب أنَّ المصنِّف وضع كثيرًا من المفردات تحت جذر لغوي لم يوافقه عليه الزَّبيدي ونقل هذه المفردات تحت جذر لغوي آخر مردِّدًا جملته الشهيرة: "وهذا موضعه"؛ ففي مادة (ثكل): "والإثكال؛ بالكسر والأُثْكول؛ كأُطروش لغة في العِثْكال والعُثْكول وهو الشمراخ الذي عليه البُسْر، هنا ذكره الجوهري والصاغاني وقلَّدهما المصنِّف، والصواب ذكرهما في فصل الهمزة؛ لأنها أصلية مُبْدلة
من العين، وقد مرَّت الإشارة إليه"(1)، وفي مادة (جيل) يقول: "والجيلان من الحصى: ما أجالته الريح، هذا حقه أن يُذكر في (ج ول) وقد تقدَّم هناك، وإعادته هنا تكرار وإن كان الصاغاني أيضًا أعاده هنا"(2)، وفي مادة (تمأل):
"واتمألَّ الشيء: طال واشتدّ كاتمهلَّ، هكذا ذكره هنا، والصواب ذكره في مأل؛ فإنه ذكر المُتْمَهِلّ في (مهل) وهما واحد كما سيأتي"(3).
... وهكذا اقتصَّ الزبيدي من الفيروزابادي للجوهري الذي وُجِّهت إليه سهام النقد من ثلاث جهات من ابن بري في حواشيه، ومن الصاغاني في تكملته، وأخيرًا من الفيروزابادي في القاموس المحيط، وأغلب هذا النقد يدور حول قضية واحدة؛ هي وَضْع الجوهري الكلمات تحت جذر لغوي معيَّن ارتآه هؤلاء الثلاثة أنه كان ينبغي أن يضع هذه الكلمات تحت جذر لغوي آخر غير الذي ارتضاه الجوهري،
وهاهو ابن بري ينتقد الجوهري؛ لأنه جعل كلمة (الحوأب) تحت الجذر اللغوي (حوب)، وكان حقه أن يُذكر في (ح أ ب)؛ لأن الواو فيه زائدة؛ ولأن الهمزة لا تزاد وسطًا؛ فوزنه إذن (فَوْعَل) لا (فَعْأل) كما ظنّه الجوهري(1)، ويقول ابن بري في كلمة (است): قد وَهِم في هذا الفصل بأن جَعَل استًا في فصل (أست) وإنما حقُّه أن يُذكر في فصل (سته)، وقد ذكره أيضًا في ذلك الموضع، وهو الصحيح؛ لأن همزة (است) موصولة بإجماعٍ، وإذا كانت موصولة فهي زائدة(2).(255/38)
3- لا يمكن أن تعطي الدراسات الإحصائية للجذور اللغوية نتائج دقيقة محكمة في ظلِّ تعدُّد الجذر اللغوي للكلمة وورودها في أكثر من موضع في المعجم كما حدث مع كلمة (بغداد) التي وردت ستّ مرّات تحت ستة جذور مختلفة، وقد نبَّه إلى ذلك أحد
الباحثين بقوله: إن الدراسات الإحصائية للجذور في بعض معاجم القافية كالصحاح واللسان والتاج والتي اعتمدت على ما جاء في هذه المعاجم من غير تهذيب للأصول المتداخلة لا تُعدُّ كاملة، ولا يمكن أن تعطي نتائج دقيقة؛ لكثرة ما جاء في تلك المعاجم في غير موضعه، أو جاء في موضعين أو أكثر"(3)، كما أن نقل الكلمة من موضعها الثلاثي إلى الرباعي أو العكس يرجِّح كفة إحصاء جذر على جذر ويرفع من نسبته المئوية دون مبرِّر حقيقي إلا أنَّ صاحب المعجم ارتأى ذلك، أو لعدم الاتفاق على الحرف الزائد في الكلمة؛ فعند الجوهري أي كلمة رباعية ثانيها (نون) أو (واو) أو (ياء) وضعها في الجذر الثلاثي حاكمًا بزيادة هذه الحروف الثلاثة؛ فالسُّنبل في (سبل) والجَنْدَل في (جدل) والصَّنْدَل في (صدل) والعندل
في (عدل)، وكذلك الزوقل والكوكب والجوهر والسَّوْملة (الفنجانة الصغيرة) في: (زقل) و(ككب) و(جهر) و(سمل)، أمَّا البيهس والبيطر والبيهق والفيصل والصيدن والضيزن والضيون ففي: (بهس) و(بطر) و(بهق) و(فصل) و(صدن) و(ضزن) و(ضون)، وقد خالفه صاحب القاموس في كثير من ذلك؛ فالجندل عنده كجعفر في الرباعي (جندل) وكذلك الصندل في (صندل) والعُنْبُل في (عنبل)، والعُنْتل في (عنتل)، وفي كثير من الأحايين يضع صاحب القاموس الكلمة في الموضعين؛ فالسُّنبل عنده في (سبل) و(سنبل)، والعندل في (عدل) و(عندل)، والعُنْصل في (عصل) و(عنصل)، وكلّ هذا بسبب الخلاف حول الأصلي والزائد من حروف الكلمة.
... فحروف الزيادة عند النحويين عشرة جُمعت في قولهم: سألتمونيها أو أمان وتسهيل، أمَّا عند المعجميين فإنها(255/39)
تزيد على العشرة؛ فالحاء حرف زائد عند ابن فارس في كلمة (الحِبَجْر: الوتر الغليظ) وإنما الأصل: الباء والجيم والراء، والكاف حرف زائد في كلمة (الحِسْكِل: الصغار من كل شيء) وإنما الأصل: الحِسْل(1)، والباء حرف زائد في الكلمات الآتية: البَحْظَلة والبِرْدس وبَلْذَمَ والبِرْقِع والبَرْكَلَة؛ لأن أصلها: (حظل) و(ردس) و(لذم) و(رقع) و(ركل)، والراء حرف زائد في: البِرْشاع والبَرْغَثَة والبَرْجَمَة؛ لأن أصلها: (بشع) و(بغث) و(بجم)، والعين حرف زائد في قولهم: تَبَعْثَرَتْ نفسي؛ لأنَّ أصلها: (بثر)(2)، والجيم حرف زائد في الفعل: تَجَرْجَمَ؛ فالجيم الأولى زائدة، وإنما هو من قولنا للحجارة المجتمعة: رُجْمة، وأوضح من هذا قولهم للقبر: الرَّجَم، وكذلك الجيم زائدة في كلمة الجُخْدُب؛ لأن أصله من الخَدَبِ، وهكذا غيَّر المعجميون مفهوم فكرة حروف الزيادة النحوية وطبَّقوها
على الجذور اللغوية فأدرجوا أفعالاً رباعية في جذور المعجم الثلاثية، على الرغم من أن حروف الزيادة عند النحويين كان لها وظيفة اشتقاقية في بناء الكلمات التي تؤدِّي دلالة معيَّنة(*)، فالبون شاسع بين النون الزائدة في كلمة (سنبل) عند المعجميين، وبين زيادة الهمزة والنون في الفعل: اندفع، أو اللام عند المعجميين في (عبدل) واللام في الفعل (غلَّق) عند النحويين المترتِّب عليها دلالة جديدة.
... ولم يقتصر الخلاف بين النحويين والمعجميين حول حروف الزيادة وإنما امتدّ ليشمل الخلاف بين أصحاب المعاجم فيما بينهم، الأمر الذي أدَّى إلى وضع الكلمة في غير جذرها الحقيقي، مما ينتج عنه خلل في الإحصاء الدقيق لعدد الجذور اللغوية في كلِّ معجم.
4- إنَّ تعدُّد الجذر اللغوي للكلمة الواحدة في المعجم يؤدي إلى الحكم على الكلمة بأنها من أصلٍ ليست منه،(255/40)
ومن ثَمَّ يؤدِّي إلى اضطراب في وزن الكلمة وتصريفها وجمعها وتصغيرها، فكلمة (العَلْجن: الناقة الشديدة أو المرأة الحمقاء) أوردها الجوهري في (عجن) وحكم بزيادة اللام، وأوردها الأزهري في (علج) وذكرها في باب ما زادت فيه العرب النون من الحروف، وبناء على كلام الجوهري يصبح وزنها: فَلْعَل أمَّا عند الأزهري فوزنها: (فَعْلَن)، وقد اضطرب صاحب اللسان فأوردها في (علجن) مُثبتًا لامها ونونها، وجامعًا بين الرأيين السابقين، وكلمة (القيِّد: السهل الانقياد) أوردها صاحب القاموس في (قود) و(قيد)، فعلى الجذر الأول يكون اشتقاق الفعل منها: قاد يقود، من باب فَعَلَ يَفْعُل، وعلى الجِذْر الثاني يكون الفعل: قَادَ يقيد من باب: بَاعَ يبيع؛ وبذلك لا يمكن الحكم على الفعل هل هو من الأجوف الواوي أو من الأجوف اليائي، وقس على ذلك الكلمات التي وردت في ثنايا البحث واُخْتُلف فيها: هل هي من الصحيح أو من المعتل، وهل هي من الأجوف أو الناقص.
5- فُقْدان المعاجم العربية مصداقيتها، بأن تصبح اللغة فيها عُرْضة للقبول والرفض، على الرغم من أن المعجم هو متن اللغة وأصلها، وكثيرًا ما يحسم المعجم خلافًا صرفيًّا أو نحويًّا أو دلاليًّا، فالمادة اللغوية التي جُمعت حتى أواخر القرن الثاني الهجري ثبتت ورسخت بل وانتقلت من معجم إلى آخر حتى اليوم، فصارت لها قدسيتها وجلالها؛ فإذا جاء صاحب اللسان وحشد في معجمه الكلمات التي حدث لها إبدال أو تصحيف أو تحريف أو قلب مكاني وأوردها تحت أكثر من جذر لغوي أدَّى هذا إلى انصراف الدارس عن المعجم، وما أكثر انصراف الدارسين عن معاجمنا العربية!!.(255/41)
6- إنّ تعدُّد الجذر اللغوي للكلمة وورودها في أكثر من مكان في المعجم الواحد يفوّت على القارئ فوائد كثيرة وخاصة إذا اختلف شرح الكلمة بالزيادة أو النقصان في الموضعين؛ فإن القارئ إذا اكتفى بموضع واحد دون الآخر رُبَّما فاته كثير من النصوص أو الآراء أو النقول أو الشواهد، وهو ما يؤدِّي كثيرًا إلى إيقاع القارئ في أحكام خاطئة أو معلومات غير وافية أو آراء متعارضة، ففي الصحاح في مادة (علج): والعَلْجَن – بزيادة النون -: الناقة الكِنَاز اللحم. وقال الراجز:
وخَلَّطَتْ كُلَّ دِلاَثٍ عَلْجَنِ
تَخْليطَ خَرْقَاءِ اليَديْنِ خَلْبَنِ
أمَّا في مادة (علجن): العَلْجَنُ: الناقة المُكْتَنِزة اللَّحم، ويُقال نونه زائدة. فالجوهري في الموضع الثاني نسب زيادة النون لغيره بقوله: (ويُقال)، كما أنَّه أهمل الشاهد الشعري الذي ذكره في الموضع الأوَّل. وفي اللسان في مادة (جرفض): "قال الأزهري: قال ابن دريد في كتابه: رَجُلٌ عُلاَهِضٌ جُرَافِضٌ جُرَامِضٌ، وهو الثقيل الوَخِم؛ قال الأزهري: قوله رَجُلٌ عُلاَهِضٌ مُنْكر وما أُراه محفوظًا، وذكره ابن سيده أيضًا". وفي مادة (جرمض) يعيد الكلام كلّه بحذافيره حتى إذا وصل عند: "وذكره ابن سيده أيضًا" يضيف: وقال: والجُرامِضُ والجُرَمِضُ: الأكول الواسع البطن، والجِرْمِضُ: الصلب الشديد". وبذلك فوَّت صاحب اللسان على القارئ كلام ابن سيده في الموضع الأوَّل.(255/42)
... ومن الملاحظ على المعاجم التي وردت فيها الكلمة في موضعين أو أكثر أنه قلَّما يتطابق الشرحان في الموضعين أو الأكثر تطابقًا تامًّا، فثمَّة فرق في الشرح أو الأحكام أو النقول أو الشواهد، ولذا وجب على الدارس ألا يقتصر على موضع واحد، بل عليه أن يبحث عن الكلمة في كل ما تحتمله من جذور لغويّة، خاصَّة إذا كان يطالع الكلمة في اللسان أو التاج؛ لاعتمادهما على معاجم كثيرة سابقة عليهما وغير متَّفقة في المنهج من ناحية وحِرْص صاحبيِ اللسان والتاج على عدم تَرْك شيء من اللغة.
رابعًا: الحلول المقترحة لتعدُّد جذور الكلمات في المعاجم العربية:
... يمكننا تصوُّر عدة حلول لمشكلة تعدُّد الجذور اللغوية في المعجم الواحد أو المعاجم المتعدِّدة على النحو التالي:
1- بالنسبة لما تمَّ تأليفه من معاجم القدماء فليس لنا أن نغيِّر فيها أو نبدِّل، أو نقدِّم أو نؤخِّر، فهذا لا يملكه إلا أصحابها، ولكننا يمكن أن نذيِّل كلّ معجم من هذه المعاجم بكشَّاف معجمي يذكر لنا الكلمة ومعناها والجذور اللغوية التي وردت تحتها، وهذا الكشَّاف خاصٌّ فقط بالكلمات التي وردت تحت أكثر من جذر، وفي أكثر من موضع في المعجم، فنقول على سبيل المثال: الكلمة – معناها – الجذر الأول – الجذر الثاني – الجذر الثالث، حسب ما ورد للكلمة من جذور في اللسان مِثْل: المَحَارَةُ: الصَّدَفَة، في: (ح و ر)، (ح ي ر)، (م ح ر)، فلو أنَّنا طبَّقنا هذا الكشّاف المعجمي على أكثر معاجمنا شهرةً؛ لحللنا مشكلة الجذور المتعدِّدة، ولأصبح من السهل على الدارس أن يجمع الشروح التي ذُكرت للكلمة تحت جذور متعدِّدة في مكان واحد تعمُّ به الفائدة ويتكامل فيه شرح الكلمة.(255/43)
2- أمَّا بالنسبة لما يمكن تأليفه من معاجم في قابل الأيام فيمكننا سدّ هذه الخلة عن طريق وضع الكلمات في المعجم بعد تجريدها من حروف الزيادة ماعدا الكلمات المعرَّبة التي ذكرها علماؤنا القدامى ولم يختلفوا في عُجْمتها فإنها توضع على اعتبار أن جميع حروفها أصول – كما نادى بذلك صاحب التاج -، وأمَّا الكلمات التي حدث لها إبدال صوتي فتُذكر في موضع واحد تحت جذر واحد مع الإشارة إلى ما حدث لها من إبدال في هذا الموضع الواحد فقط، وكذلك الكلمات التي حدث لها قلب مكاني تُذكر في مكان واحد تحت جذر واحد مع ذكر ما حدث لها من قلب مكاني، فكلمة (يئس) لا تُذكر مرَّة أخرى في (أيس) وإنما يُكتفى بوضعها في موضع واحد دون أن نعنِّي أنفسنا كثيرًا في أيهما كان الأصل قبل حدوث القلب، ثمّ نحشد الشرح والتوضيح والشواهد تحت هذا الموضع الواحد فقط.
3- لمحاصرة ظاهرة التصحيف والتحريف في معاجمنا العربية لابدَّ من استقراء الكتب التي نبَّهت على ما وقع فيه أصحاب المعاجم من تصحيف وتحريف ثم تصحيح هذه المعاجم في طبعات دقيقة خالية من هذه الآفة، فأبو بكر الزُّبيدي نبَّه على تصحيفات الخليل في العين، والسيوطي ذكر تصحيفات الجوهري في الصحاح، وأحمد فارس الشدياق ذكر تصحيفات الفيروزابادي في القاموس المحيط في كتابه القيِّم: الجاسوس على القاموس، فيمكننا من خلال هذه التنبيهات أن نقوم بتصويب هذه المعاجم وإن لم يتيسَّر لنا إعادة طبع هذه المعاجم فلا أقلّ من أن نذيِّل هذه المعاجم بالتصويبات؛ ليقوم كلّ قارئ بتصحيحها في مواضعها من المعجم.(255/44)
... أمَّا فيما سنقوم به من معاجم فلكي نتفادى التصحيف والتحريف لابدَّ من الاعتماد على الضبطيْن معًا؛ الضبط بالقلم، والضبط بالعبارة، وأعني بضبط القلم: الضمَّة والفتحة والكسرة والسكون والتنوين والشدّة وغيرها مما يُوضع على الحروف، أما الضبط بالعبارة فهو وَصْف صاحب المعجم لكيفية النطق الصحيح بالكلمة التي هي مَظِنَّة التصحيف، فيقول مثلاً: العتب: بالعين المهملة والتاء الفوقية والباء الموحَّدة، وبذلك لا تتصحَّف بكلمة الغيث، وهذه الطريقة أدقُّ ضبطًا، وأقوم سبيلاً؛ إذ كان الضبط بالقلم عُرْضةً للمحو أو التغيير(*).
ومما يتصل بوسائل القضاء على ظاهرة التصحيف في المعاجم العربية أن تُذكر الكلمة في المعجم ويُذكر بعدها كلمة مشهورة على مثالها في المبنى والمعنى معًا فإن لم يتيسَّر ففي المبنى فقط، ورائد هذه الوسيلة هو الفيومي(ت770هـ) صاحب "المصباح المنير"، فمما ورد فيه من ذلك قوله: أَجَلْ مِثْلُ: نَعَمْ وزنًا ومعنًى، وقوله:
وأَسِفَ مِثْل: غَضِبَ وزنًا ومعنًى، وقوله: والأفيل: الفصيل وزنًا ومعنًى. أمَّا ما ورد عنده متفقًا في المبنى فقط قوله: والأَبور وزَان رَسول، وقوله: الإِبْط والجمع: آباط مثل: حِمْل وأحمال، وقوله: آبِق والجمع أُبَّاق مثل: كافر وكُفَّار، ولم يكتف الفيومي بضبط الاسم على مثال مشهور فحسب، بل ضبط الأفعال عن طريق ذِكْر بابها في الماضي والمضارع والتمثيل لها أيضًا بفعلٍ مشهور، بقوله: وَأَبَدَ الشيءُ من
بابيْ ضَرَبَ وَقَتَلَ، وقوله: أَبَقَ العبدُ أبقًا من بابيْ تَعِبَ وقَتَل في لغةٍ والأكثر من باب ضَرَبَ. وبهذه الطريقة نضمن انحسار ظاهرة التصحيف والتحريف وبعدها عن معاجمنا.
4- الكلمات التي استعملها بعض العرب مهموزة واستعملها آخرون مُخفَّفة توضع في المعجم تحت الجذر اللغوي المهموز مع الإشارة إلى استعمالها مخفَّفة في الموضع نفسه دون إفراد جذر لغوي آخر لها.(255/45)
5- الكلمات التي اُخْتُلف في حروفها الأصول والزوائد أو الصحيحة والمعتلَّة توضع في موضع واحد تحت جذر واحدٍ هو المرجَّح مع ذكر الآراء المتعدِّدة والخلافات في هذا الموضع فقط، أمَّا ما اشتدَّ فيه الخلاف وخفي أصله وتساوت فيه الأدلّة وآراء العلماء فيوضع تحت أحد الجذور وفقًا لاختيار صاحب المعجم وترجيحه مع ذكر الآراء الأخرى التي قيلت حول الكلمة وجذرها اللغوي.
6- الكلمات الثنائية التي حُذف منها الثالث أو لم يحذف مثل:أب، ويد، ودم،
وفم، وعن، وأنْ، وبَلْ، وقد، وهل... إلخ توضع في مدخل ثنائي يناسبها مع الإشارة إلى الحرف المحذوف إن كان هناك حذف، وإن لم يكن هناك حذف توضع في موضعها الذي يحدِّدها لها حرفها الثاني؛ فالحرف أَنْ يوضع قبل (أنن)، وبل قبل (بلل)، وقد قبل (قدد)، فلابد إذن من مدخل ثنائي مستقلّ يُسهِّل على الباحث الوصول إلى هذه الكلمات دون عناء ومشقة في بداية المادة المعجمية.
د. رجب عبد الجواد
كلية الآداب - جامعة حلوان
أهمّ المصادر والمراجع
أولاً: المصادر:
ابن الأثير: مجد الدين المبارك بن محمد (ت 606هـ):
- النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق د. محمود الطناحي، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1963م.
أحمد بن فارس اللغوي (ت 395هـ)
- مجمل اللغة، تحقيق زهير عبد المحسن سلطان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الثانية، 1986م.
- مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1371هـ.
الأزهري: أبو منصور محمد بن أحمد الهروي (ت 370هـ):
- تهذيب اللغة، تحقيق عبد السلام هارون وآخرين، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1964 – 1967م.
ابن بري: أبو محمد عبد الله بن بري المصري (ت582هـ):
- التنبيه والإيضاح عمَّا وقع في الصّحاح، تحقيق مصطفى حجازي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط الأولى، 1980م.
البندنيجي: اليمان بن أبي اليمان (ت 284هـ):(255/46)
- التقفية في اللغة، تحقيق خليل إبراهيم العطية، مطبعة العاني، بغداد، 1976م.
التادلي المغربي: أبو زيد عبد الرحمن بن عبد العزيز (ت 1200هـ):
- الوشاح وتثقيف الرماح في ردّ توهيم المجد الصّحاح، مطبعة بولاق، القاهرة، 1281هـ.
الجواليقي: أبو منصور موهوب بن أحمد بن الخضر (ت 539هـ)
- المعرَّب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم، تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط الثالثة، 1995م.
الجوهري: إسماعيل بن حماد أبو نصر (ت 398هـ):
- تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، 1984م.
الخفاجي: شهاب الدين (ت 1061هـ).
- شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل، تصحيح بدر الدين النعساني، مطبعة السعادة، القاهرة، 1325هـ.
الخليل بن أحمد: الفراهيدي (ت 175هـ)
- العين، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1980م.
ابن دُريد: أبو بكر محمد بن الحسن الأزدي البصري (ت 321هـ):
- كتاب جمهرة اللغة، تحقيق سالم كرنكو، حيدر آباد الدكن، الهند، 1351هـ.
الزُّبيدي: أبو بكر محمد بن الحسن (ت 379هـ):
- مختصر العين، تحقيق د. نور حامد الشاذلي، بيروت، 1996م.
الزَّبيدي: مرتضى الحسيني (ت 1205هـ):
- تاج العروس من جواهر القاموس، المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306هـ.
الزمخشري: محمود بن عمر جار الله (ت 538هـ):
- أساس البلاغة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط الثالثة، 1985م.
ابن السكيت: يعقوب بن إسحاق أبو يوسف (ت 244هـ):
- الإبدال، تحقيق حسين محمد شرف، مطبوعات مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1978م.
ابن سيده: علي بن إسماعيل (ت 458هـ):
- المخصص، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، د. ت.
- المحكم والمحيط الأعظم، تحقيق مصطفى السقا ود. حسين نصار، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، 1958م.
الصاحب: إسماعيل بن عبَّاد (ت 385هـ):(255/47)
- المحيط في اللغة، تحقيق محمد حسن آل ياسين، مطبعة المعارف، بغداد، ط الأولى، 1975م.
الصاغاني: الحسن بن محمد بن الحسن (ت 650هـ):
- التكملة والذيل والصلة، تحقيق عبد العليم الطحاوي، مطبعة دار الكتب، القاهرة، 1970م.
- العباب الزاخر واللباب الفاخر، تحقيق محمد حسن آل ياسين، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1981م.
الصفدي: صلاح الدين خليل بن أيبك (ت 764هـ):
- تصحيح التصحيف وتحرير التحريف، تحقيق السيد الشرقاوي ومراجعة د. رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط الأولى، 1987م.
- غوامض الصحاح، تحقيق عبد الإله نبهان، منشورات معهد المخطوطات العربية، الكويت، 1406هـ.
ابن الطيب الفاسي: أبو عبد الله محمد بن الطيب الشرقي (ت 1173هـ):
- إضاءة الراموس وإضافة الناموس على إضاءة القاموس، تحقيق د. عبد السلام الفاسي ود. التهامي الراجي الهاشمي، مطبوعات وزارة الأوقاف، المغرب، 1983م.
- شرح كفاية المتحفِّظ، تحرير الرواية في تقرير الكفاية، تحقيق د. علي حسين البوَّاب، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض، 1983م.
أبو الطيب اللغوي: عبد الواحد بن علي (ت 351هـ):
- الإبدال، تحقيق عز الدين التنوخي، مطبوعات المجمع العلمي العربي، دمشق، ط الأولى، 1960م.
العسكري: أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد (ت 382هـ):
- شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف، تحقيق عبد العزيز أحمد، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، ط الأولى، 1963م.
- تصحيفات المحدِّثين، ضبط وتصحيح أحمد عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى، 1988م.
الفارابي: أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم (ت 350هـ):
- ديوان الأدب، تحقيق د. أحمد مختار عمر، ومراجعة د. إبراهيم أنيس، مطبوعات مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1974م.
الفيروزابادي: مجد الدين محمد بن يعقوب (ت 817هـ)
-القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة، ط السادسة، بيروت، 1998م.
الفيومي: أحمد بن محمد بن علي المقري (ت 770هـ):(255/48)
- المصباح المنير، تحقيق عبد العظيم الشناوي، دار المعارف، القاهرة، 1977م.
القاسم بن سلاَّم: أبو عبيد (ت 244هـ):
- الغريب المصنَّف، تحقيق د. محمد المختار العبيدي، مطبوعات بيت الحكمة، تونس،1989م(جـ1)، 1990م (جـ2)، 1996م (جـ3).
القالي: أبو علي إسماعيل بن القاسم (ت 356هـ):
- البارع في اللغة، تحقيق د. هاشم الطعَّان، دار الحضارة، بيروت، 1975م.
ابن منظور: جمال الدين محمد بن مكرم أبو الفضل (ت711هـ):
- لسان العرب، دار صادر، بيروت، د. ت.
ثانيًا: المراجع:
إبراهيم أنيس: تطور البنية في الكلمة العربية، مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء الحادي عشر، القاهرة، 1959م.
إبراهيم بن مراد: مقدمة لنظرية المعجم، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1997م.
أحمد أمين: أسباب تضخم المعجمات العربية، مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء التاسع، القاهرة، 1957م.
أحمد الخراط: معجم مفردات الإبدال والإعلال في القرآن الكريم، دار القلم، دمشق، 1409هـ.
أحمد عبد المجيد هريدي: - ظاهرة المخالفة الصوتية ودورها في نمو المعجم العربي، مكتبة الزهراء، القاهرة، 1989م.
- نشوء الفعل الرباعي في اللغة العربية، مكتبة الزهراء، القاهرة، 1988م.
أحمد فارس الشدياق: - الجاسوس على القاموس، مطبعة الجوائب، إسطنبول، 1299هـ.
أحمد مختار عمر: - البحث اللغوي عند العرب، عالم الكتب، القاهرة، 1981م.
- صناعة المعجم الحديث، عالم الكتب، القاهرة، 1998م.
إميل بديع يعقوب: - المعاجم العربية اللغوية، بدايتها وتطورها، دار العلم للملايين، بيروت،1985م.
أمين محمد فاخر: - دراسات في المعجم العربي، مطبعة حسان، القاهرة، 1404هـ.
- ثنائية الألفاظ في المعاجم العربية وعلاقتها بالأصول الثلاثية، دراسة معجمية إحصائية، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1398هـ.
بطرس البستاني: - في شوائب المعاجم، مجلة المشرق، بيروت، المجلد التاسع والعشرون، 1931م.(255/49)
توفيق شاهين: أصول اللغة العربية بين الثنائية والثلاثية، مكتبة وهبة، القاهرة، 1980م.
حسين نصار:- المعجم العربي نشأته وتطوره، دار مصر للطباعة، القاهرة، 1956م.
رفيق بن حمّودة: - تقويم المعجم العربي القديم، حوليات الجامعة التونسية، العدد الثاني والثلاثون، 1991م.
رياض زكي قاسم:- المعجم العربي، بحوث في المادة والمنهج والتطبيق، دار المعرفة، بيروت، 1407هـ.
السيد يعقوب بكر:- دراسات مقارنة في المعجم العربي، مطبوعات جامعة بيروت العربية، 1970م.
عباس حسن:- رأي في بعض الأصول اللغوية والنحوية، مطبعة العالم العربي، القاهرة، 1371هـ.
عبد الرزاق بن فرج الصاعدي:- تداخل الأصول اللغوية وأثره في بناء معاجم القافية، مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، رقم الإصدار (36)، د. ت.
عبد الرزاق محيي الدين:- العمل المعجمي بين علوم العربية، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد السادس عشر، بغداد، 1968م.
عبد السميع محمد أحمد:- المعاجم العربية، دراسة تحليلية، دار الفكر العربي، القاهرة، 1984م.
عبد القادر أبو شريفة وآخران:- علم الدلالة والمعجم العربي، دار الفكر للنشر والتوزيع، بيروت، 1409هـ.
علي حسين البوّاب:- ظاهرة الإبدال اللغوي، دار العلوم، الرياض، 1404هـ.
علي حلمي موسى:- إحصائية جذور معجم لسان العرب، مطبوعات جامعة الكويت، 1972م.
- دراسة إحصائية لجذور معجم الصحاح باستخدام الكمبيوتر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1978م.
علي القاسمي:- علم اللغة وصناعة المعجم، مطبوعات جامعة الرياض، 1975م.
فؤاد ترزي:- المعاجم العربية وضرورة تهذيبها، مجلة مجمع اللغة العربية، دمشق، المجلد السابع والأربعون، الجزء الثاني، 1972م.
محمد بدوي المختون:- ظاهرة القلب المكاني في العربية، مجلة كلية اللغة العربية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد الحادي عشر، سنة 1401هـ/ 1981م.(255/50)
محمد مصطفى رضوان:- دراسات في القاموس المحيط، منشورات الجامعة الليبية، 1393هـ/1973م.
محمود فهمي حجازي:- علم اللغة العربية، وكالة المطبوعات، الكويت، 1973م.
مراد كامل: نشأة الفعل الرباعي في اللغات السامية، مطبعة المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، القاهرة، 1963م.
مصطفى جواد: أثر التضعيف في تطور اللغة العربية والإبدال الذي
غفل عنه علماء اللغة، مجلة مجمع اللغة العربية، القاهرة، الجزء التاسع عشر، 1965م.
نشأت محمد:- علم المفردات في إرثنا اللغوي، دار العلوم، الرياض، 1401هـ/ 1981م.
هاشم طه شلاش:- دراسة في مختار الصحاح، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الرابع والثلاثون، الجزء الثالث، بغداد، 1403هـ/ 1983م.
- الزَّبيدي في كتابه "تاج العروس"، دار الكتاب للطباعة، بغداد، 1401هـ/ 1981م.(255/51)
المصطلحات العلمية(*)
للأستاذ الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع
المصطلح العلمي:
هو الكلمة أو العبارة الاصطلاحية في أي فرع من فروع العلم، وتبدأ بسيطة محدودة ثم تأخذ في النمو والتكاثر حتى تبلغ الآلاف في أي علم، وبذلك تفصله عن اللغتين اليومية والأدبية، إذ اللفظة والعبارة فيهما حرة لا تتقيد بحقائق معينة. وللعلماء الحرية الكاملة في وضعها، ومن قديم يقول أسلافنا: لا مشاحة أي لا جدال في الاصطلاح.
المصطلح العلمي العربي:
لم يكن للعرب في الجاهلية مصطلحات علمية، إذ كانوا لا يزالون في طور البداوة والحياة الفطرية، فلما نزل الإسلام في ديارهم رأوا فيه شريعة إلهية ذات فروض لا عهد لهم بها مثل الصلاةِ الفريضة المكتوبة على المسلم، وأصل معناها الدعاء،
وانتقلت إلى الفريضة المعروفة شرعًا ومثلها الصوم ومعناه اللغوي الإمساك، فدل شرعًا على الإمساك عن الطعام من مطلع الفجر إلى غروب الشمس، والزكاة وكانت دالة على النماء فأصبحت دالة شرعًا على ما يعطيه من المال صاحبه للفقراء والمساكين، ومثل الحج كان دالاً على معنى القصد، فأصبح دالاً في الشرع على قصد الكعبة في أشهر معلومات بإحرام وطواف ونسك معروف. وتَبِع هذه الفرائض فروضٌ وضعت لها مصطلحات مثل ما يتبع الصلاة من الوضوء والتيمم والركوع والقيام والسجود. ولم يحدث ذلك في العبادات وحدها، فقد حدث في المعاملات وفي كثير من فروع الشريعة والفقه. وأخذت علوم كثيرة تنشأ حول القرآن مثل علم القراءات ومصطلحاته، ومثل علوم
اللغة والنحو وعلوم البلاغة.(/1)
وأخذ العقل العربي يتلقى في القرن الثاني الهجري علومَ الأمم الأجنبية من طبيعة وكيمياء ورياضيات وحيوان ونبات وطب وصيدلة وزراعة وهندسة وفلسفة ومنطق، وأخذت الدولة العباسية تنفق ـ منذ القرن الثاني الهجري ـ نفقات كثيرة على المترجمين إلى العربية من السريان واليونان والفرس والهنود. ولم يلبث هارون الرشيد أن أنشأ دار الحكمة للنهوض بالترجمة، جعل أمينها يوحنا بن ماسويه، وجعل كتّابًا حاذقين يكتبون بين يديه.
وتحولت هذه الدار في عهد المأمون إلى مؤسسة علمية كبيرة، واختار لها أعظم المترجمين:حنين بن إسحاق، وأعظمَ الرياضيين: الخوارزمى مخترعَ علم الجبر. وازدهرت حينئذٍ الحركتان: العلمية والفلسفية في القرون التالية حتى القرن السابع الهجري.
وعادت الحركة العلمية إلى الازدهار منذ عصر محمد علي وإرساله البعوث إلى فرنسا، وقامت نهضة علمية كبيرة في القرن التاسع عشر، وما لبث الإنجليز أن احتلوا مصر سنة1882م وعملوا على إضعاف حركتها العلمية، وقاومهم المصريون وأنشؤوا الجامعة المصرية وبدأت أهليةً سنة 1908 م ثم تحولت حكومية سنة 1925م وواكبها نشاطٌ في وضع المصطلحات العلمية وصدور بعض المعاجم مثل معجم أسماء النبات للدكتور أحمد عيسى سنة 1926م، جمع فيه كل ما عرف من أسماء النباتات في المؤلفات العربية، وصدر في العام نفسه قاموسُ أو معجمُ الدكتور محمد شرف في العلوم الطبية والطبيعة، ويضع فيه المقابلات العربية للمصطلحات الأجنبية، ويضم أكثرَ من أربعين ألف مصطلح علمي أجنبي.(/2)
وقبل وضع هذين المعجمين ظهرت دعوات لقيام مجمع لغوي، وتسمى أولاها دعوة مجمع البكري سنة 1892 م ولم يكتب لها تحقيق ذلك، وفي سنة 1908م نادت بذلك دعوة في نادي دار العلوم، ولم تحظَ بالبقاء طويلاً، ومثلها دعوة دار الكتب سنة 1916م لمديرها حينئذٍ أحمد لطفي السيد إذ فكر في تكوين مجمع لغوي واقترح أن يكون أهليًّا لا حكوميًّا، وتألف من ثمانية وعشرين عضوًا: خمسة وعشرين من العرب، وثلاثة أعضاء من إيران والسريان2 والعبرانيين، ورأسه الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر، وقرر بعض ألفاظ في مسميات الحضا2رة والحياة العامة، ولم يكتب لها البقاء، وقامت الثورة المصرية سنة 1919 م وانفض هذا المجمع.
إنشاء المجمع اللغوي:
صدر المرسوم بإنشاء المجمع سنة 1932م وجَعلَه تابعًا لوزارة المعارف العمومية (وزارة التربية والتعليم الآن) وحدد المرسومُ أهدافه في المادة الثانية منه ببذل الجهود للحفاظ على اللغة العربية، وجعلها وافية بحاجات العلوم والفنون وشؤون الحياة في العصر الحاضر، وتهيئة الوسائل لذلك بوضع المعاجم وغيرها، والتنبيهِ على ما في العربية من الألفاظ والصيغ العلمية، والعمل على وضع معجم تاريخي لغوي، والعنايةِ بدراسة اللهجات العربية الحديثة في مصر وغيرها من الأقطار العربية، واتخاذِ كل الأسباب لتقدم العربية.
وهي أهداف علمية ظلت بالمجمع طوال سنوات متعاقبة، فقد دأب في الحفاظ على اللغة العربية الفصحى بين شعوب الأمة العربية وتمكنها من التعبير السائغ عن متطلبات العلوم والفنون العربية والتكنولوجيا المعاصرة ومواكبة الفكر العالمي ووضع المعاجم السديدة والمصطلحات العلمية والفنية الحديثة.
وفي المادة الثالثة من المرسوم أن المجمع يُصدر مجلة تضم بحوث أعضائه، وما يريد التنبيه على استعماله أو تجنبه من الألفاظ. ويعنى المجمع بتحقيق بعض نفائس التراث العربي التي يراها ضرورية لأعماله ودراساته اللغوية ويعمل على نشرها.(/3)
وفي المادة الرابعة من المرسوم أن المجمع يتكون من عشرين عضوًا عاملاً من بين العلماء المعروفين بتعمقهم في اللغة العربية أو ببحوثهم في فق2هها ولهجاتها دون تقيد بجنسية الأع2ضاء، كما صنعت الأكاديمية الفرنسية. وبذلك اصطبغ المجمع اللغوي المصري في نشأته بصبغة عال2مية، وتتضح في أعضائه العشرين الذين عُيِّنوا في تأسيسه، إذ عُيِّن فيه عشرة من المصريين، وضُمَّ إليهم خمسة من كبار المستشرقين الغربيين، وخمسة من علماء العربية النابهين في البلاد العربية.
وفي المادة التاسعة يدعى المجمع للانعقاد مرة كل سنة لمدة شهر على الأقل؛ لينظر في الموضوعات المنوطة به ويتخذ فيها القرارات، واختيار رئيسه وأعضائه.
ويَعْقد المجمع في المؤتمر العلمي السنوي عشرين جلسة يتدارس فيها المسائلَ المعروضة عليه ويناقشها مناقشة علمية دقيقة. ويعهد المجمع في كل علم من علومه إلى لجنة تختار من بين أعضائه، ويجوز أن يدعى إلى اجتماعات اللجان بعضُ العلماء المختصين في الموضوعات المطروحة وتكون آراؤهم استشارية. وتُلْحق ميزانية المجمع بميزانية وزارة المعارف العمومية. وتتولى تلك الوزارة إدارة الأموال التي قد ترد إلى المجمع تبرعًا. وتتولى وزارة المعارف العمومية طبع ما يحتاجه المجمع، وتتخذ كل الوسائل لإذاعة قرارات المجمع في شؤون اللغة وألفاظها وتراكيبها، لاستخدامها في مصالح الحكومة وفي التعليم والكتب الدراسية المقررة ويُلْحق بالمجمع الموظفون اللازمون لأعماله.
ونصت لائحة المجمع على أن للمجمع الحقَّ في دراسة قواعد اللغة وأن يتخير من آراء السابقين ما يوسع القياس فيها لتفيَ بالأغراض العلمية، وأن يستبدل بالألفاظ العامية والأعجمية غيرها من الألفاظ العربية التي استخدمها الأسلاف، فإن لم توجد أسماء عربية قديمة وُضعت أسماء جديدة عن طريق الاشتقاق أو المجاز أو غيرهما.(/4)
وإذا تعذر ذلك لجأ المجمع إلى التعريب، ويقوم المجمع بوضع معجمات لمصطلحات العلوم والفنون، ويضع معجمًا كبيرًا يجمع شوارد اللغة مع بيانه لأطوار كلماتها. وفيما يختص بالأعضاء تنص اللائحة أن يُرَشِّح العضوَ العاملَ الجديد عضوان عاملان بتقرير كتابي وافٍ يبين مكانة العضو العامل العلمية، ويَتم انتخابه سريًّا.
وجعلت اللائحة للرئيس المحافظة على نظام الجلسة ومراعاة القانون واللائحة، وهو الذي يمثل المجمع ويتحدث عنه ويدير المناقشات ويشرف على سير أعمال المجمع، وهو الذي يفتتح الجلسة ويختتمها. ويُنْتَخَب الأمين العام بالأغلبية المطلقة لمدة أربع سنوات، ويشرف على تحرير محاضر الجلسات، وعلى ما ينشره المجمع، وعلى شؤون مكتبته، ويوقِّع على جميع الأوراق الخاصة بمسائل المجمع.
صَوْغُ المجمع للمصطلحات العلمية:(/5)
تختلف اللغات في مدى قابليتها ومرونتها لاستخدام المصطلحات العلمية، ومرونة اللغة العربية ومدى قابليتها لتلك المصطلحات لا تكاد تحد، وقد استطاعت ـ بعد الفتوح الإسلامية- أن تتحول سريعًا من لغة بدوية إلى لغة متحضرة، كما استطاعت أن تتحول سريعًا إلى لغة علمية، وازدهر فيها العلم وفروعه في العصر العباسي ازدهارًا عظيمًا بفضل مرونتها الهائلة، ومرونة أهلها لها تميِّزها بالسعة في اشتقاقاتها سعة لم تعرف للغة سواها، إذ تزخر بصيغ شتى للأسماء: كاسم الزمان واسم المكان والمصدر الميمي واسم المصدر واسم الآلة وأسماء الحرف والألوان وأسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهة، سوى السيول التي لا حصر لها من الأسماء العربية، حتى قال اللغويون: إن أصولها ترجع إلى سبعين ألف مادة. وهذه المادة بل المواد الغنية في الأسماء تقترن بها مواد غنية في الأفعال، فكل فعل ثلاثي يمكن أن يصبح رباعيًّا بصيغ أفعل وفعَّل وفاعل أو خماسيًّا بصيغ انفعل وافتعل وتفعل وتفاعل وافعلَّ، أو سداسيًّا بصيغ استفعل وافعَوَّل وافْعوعل، وبالمثل كل فعل رباعي يمكن أن يصبح خماسيًّا بصيغة تفعلل أو سداسيًّا بصيغة افعلَّل وافعللَّ.(/6)
واستطاعت العربية في العصر العباسي بهذه السعة الهائلة في اشتقاق الأسماء والأفعال أن تتحول سريعًا من لغة البداوة ومعارفها السطحية إلى لغة علمية، وبلغت فيها بالعلم إلى عصر ذهبي لا يقل مجدًا عن عصر العلم المجيد للغة اليونانية إن لم يفقه مجدًا وازدهارًا. وَوُضِع في العربية حينئذٍ كثير من المصطلحات في مختلف العلوم اللغوية وغيرها، واستعانوا في ذلك بطبيعة اللغة الاشتقاقية، يستمدون منها ما يريدون من المصطلحات العلمية عند الإغريق وغيرهم كالفرس والسريان، ولم يجدوا حرجًا من الإسراف في ذلك. واستقر في نفوس المجمعيين وجوب الوصل بين المصطلحات العلمية القديمة للأسلاف ومصطلحات العلم الحديثة. وفي الدورة الأولى تقرر تفضيل المصطلحات العلمية القديمة في الصناعات وغيرها على المصطلحات الحديثة، واتسع نقاش المجمعيين ـ منذ الدورة الأولى ـ في أربعة موضوعات تتصل بصوغ المصطلحات العلمية الحديثة وهى: النحت والتعريب والتوليد والترجمة، ونتحدث بكلمات مجملة عن كل منها.
النحت:
النحتُ نوع من الاختصار في التعبير، وهو صوغ كلمة من كلمتين أو أكثر، ونَحَتَ الأسلافُ صيغًا كثيرة، فقالوا : (سَبْحلَ) من (سبحان الله)، و(حمدل) من (الحمد لله)، و(بَسْمل) من (بسم الله)، و(حوقل) من : (لا حول ولا قوة إلا بالله)، وقالوا: (الفنقلة) من قولهم: (فإن قيل). وقالوا (الفذلكة) من قولهم (فذلك كذا)، وقالوا في النسب إلى قبيلة (عبد شمس): (عبشمي)، وإلى (حضر موت) : (حَضْرمِىّ).
واختلف علماؤنا السابقون في النحت هل هو سماعي أو قياسي، وترى الكثرة أنه سماعي، غير أن بعض المعاصرين أجازوه قائلين: إن ما فيه من ثقل يخف بكثرة الاستعمال على الآذان. وارتضى المجمع استعماله في المصطلحات وخاصة حين تلجأ إليه الضرورة العلمية.
المعرب:(/7)
عني المجمع بتعريب المصطلحات الأجنبية منذ دورته الأولى، وكان أول قرار له فيه إجازته على طريقة العرب في تعريبهم، وظلوا يناقشون موضوع التعريب في الدورات التالية، ويتخذون فيه القرارات، من ذلك قرار النطق بالمعرب قديمًا من الأعلام كما عربها نصارى المشرق، من ذلك بطرس في (Peter) وبقطر في (Victar) وبولس في (Paul) ويعقوب في (jecab) وأيوب في (job). ويحسن مراجعة القواعد التى أقرها المجمع في كتابة الأعلام الأجنبية في كتاب "مجموعة القرارات العلمية".
وواضح من أول قرار للمجمع في المعرب أنه أباح تعريب الألفاظ الأجنبية إذا لم يكن لها نظير في العربية عند الضرورة، سواء أكان اللفظ على أوزان العرب أو لم يكن على أوزانهم، وقرر سيبويه ذلك في المعرب قديمًا. وتشدد ابن بري اللغوي المصري في ذلك بالقرن السادس الهجري؛ إذ رأى فيما خالف أوزان العرب أن نلتزم فيه جميع حركاته.
واتضح لعلماء العرب أن ما في العلوم من المصطلحات الغربية العلمية القديمة قليل، وأن مصطلحات العلوم الغربية الحديثة تعد بالآلاف، فضلاً عن أنها تتجدد باستمرار، فإن نحن لم نتوسع في قبولها أغلقنا بأيدينا أبوابًا واسعة من تعريب المصطلحات العلمية الغربية الحديثة، مع ملاحظة أن لغة العلم ليست لغة محلية بل هي لغة عالمية، وفي ذلك ما يسوِّغ للمجمع فتحَ باب التعريب، ودعا ذلك العربية من بعض الوجوه إلى الاستعانة بلغتين قديمتين هما اللاتينية واليونانية فاتخذت العربية كثيرًا من ألفاظهما مصطلحات علمية دقيقة لها حين توجد الحاجة العلمية الملحَّة.
التوليد:
المراد بالتوليد هنا اطراد قواعد الاشتقاق على المصطلحات العلمية الأجنبية المعربة، وعد الأسلاف ذلك من باب التوليد، وأباحه المجمع بشرطين: إذا أساغه الذوق، واتضحت حاجة المجمع إليه، ومما أجازه المجمع من ذلك:
1-بستر بسترة، والفعل مأخوذ من لويس باستير صاحب طريقة خاصة في التعقيم، ومنه يقال لبن مبستر.(/8)
2-بلور بلورة، من البلور المعرب قديمًا.
3-تلفن من كلمة التليفون المعربة.
4-فبرك، من الفابريكة، والفعل يدل على صنع الشيء بآلة الفابريكة.
5-كهرب كهربة، من الكهرباء المعربة.
6-تلفز، إذا تحدث في التليفزيون المعرب.
7-أكسد أكسدة، فهو مؤكسِد بكسر السين، ومؤكسَد بفتح السين، وتأكسد تأكسدًا من الأكسدة المعربة.
ويطبق ذلك العلميون في مصطلحات علمية معربة كثيرة.
الترجمة:
هي الوسيلة الغالبة في صوغ المصطلحات العلمية الأجنبية، ودائمًا تكبُّ اللجان العلمية في المجمع على البحث عن ألفاظ عربية تصلح أن تكون أسماء تطلق على تلك المصطلحات. ويغلب أن يؤدَّى المصطلح الجديد في العربية بلفظ مفرد، حتى يصبح علمًا واضحًا عليه، شأن العربية فيما وُضع فيها من مصطلحات علمية قديمًا. ويمكن الاستعانة في الترجمة بالمبادئ والأسس التي قدمها الأستاذ الدكتور المرحوم محمود مختار إلى المجمع نهجًا علميًّا في الترجمة ومما جاء فيه:
أولاً: وضع المقابل الإنجليزى أو الفرنسي بجوار المصطلح العربي المقترح مع الاستضاءة بالأصل اللاتيني أو الإغريقي إن وجد، ومع مراعاة أن يؤدِّي المصطلحُ العربي بوضوح مدلولَ المصطلح الأجنبي.
ثانيًا: إيثار الألفاظ غير الشائعة لأداء المصطلحات العلمية دون أى لَبْسٍ مثل تفضيل كلمة امتِزاز على كلمة امتصاص، ولذلك لجأ الغربيون في المصطلحات العلمية إلى استخدام كلمات ترجع إلى أصول لاتينية أو إغريقية.
ثالثًا: التعريب عند الحاجة الملحة، وذلك إذا كان المصطلح يعود إلى أصل لاتينى أو يوناني أو شاع استعماله دوليًّا أو كان منسوبًا إلى عَلَمٍ عُرف به بين العلماء مثل ديناميكا Dynamics ونيوترون Neutron إلى غير ذلك.(/9)
رابعًا: عَدُّ المصطلح المعرب عربيًّا، وإخضاعه لقواعد اللغة في الاشتقاق وغيره إن أمكن، فمثلاً كلمة أيونIon المعربة تثنى وتجمع فيقال: أيونان وأيونات، ويوصف بها فيقال: جهد أيوني، ويشتق منها الفعلان: أيَّن وتأيَّن، واسما الفاعل والمفعول، فيقال غاز مؤيَّن وأشعة مؤيَّنة. وينحت من الكلمة حين تضاف إلى كلمة أخرى فيقال مثلاً: كايتون (أي أيون كاثودي).
خامسًا: صوغ لفظة مفردة للمصطلح ما أمكن، إذ العربية تميل في المصطلحات إلى الألفاظ المفردة، ويساعد ذلك على تسهيل الاشتقاق والنسبة والإضافة، ولذلك يفضل التعريب أحيانًا على الترجمة، فمثل كلمة ترمومتر المعربة أخف من ترجمتها بمثل مقياس درجة الحرارة.
سادسًا: توحيد المصطلحات المشتركة عربية أو معربة ذات المعنى الواحد بين فروع العلم المختلفة مثل: نترون وإلكترون المتداولين في كثير من العلوم.
سابعًا: تبين الفروق الدقيقة بين الألفاظ المترادفة والمتقاربة المعنى مثل كلمتي المقاومة والممانعة.
ثامنًا: يعرف المصطلح العلمي تعريفًا بينًا واضحًا. وتكتب الأعلام الأجنبية والمصطلح المعرب بالصورة التي ينطقان بها في لغتيهما.
تاسعًا: تكتب المصطلحات الأجنبية في المعاجم مبدوءة بحروف صغيرة إن لم تكن أعلامًا. ولا يعرف المصطلح العربي بالألف واللام تيسيرًا للكشف عليه في المعجم.
اللجان العلمية ووضع مصطلحات العلوم ومعاجمها المختلفة:(/10)
أنشأ المجمع ـ منذ قيامه ـ لجانًا علمية متعددة في فروع العلوم المختلفة، وأسندها إلى كوكبة من أعلام المجمعيين في مختلف التخصصات العلمية، وحين تتصدى لوضع مصطلح ترجمة أو تعريبًا يدرس المصطلح معنى ومبنى وأصله اللاتيني أو اليوناني، ويبحث عن أفضل الألفاظ المقابلة له، وإذا استعصى عليها أن تجد له مقابلاً عربيًّا مناسبًا لجأت إلى التعريب، كما صنع العرب قديمًا حين عربوا ألفاظًا عن اليونانية والسريانية والفارسية، وجارى العرب المحدثون القدماء في التعريب عن اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية. ولا تماثل العربية لغة في مرونتها وسعة اشتقاقاتها مما أتاح لها القدرة على وضع المصطلحات الحديثة لجميع فروع العلم والفلسفة.
وتكب اللجان العلمية على وضع مصطلحاتها في العلوم مع ما يقابلها من المصطلحات الأجنبية ومع تعريفها دقيقة، وبلغ عدد اللجان العلمية في المجمع ثلاث عشرة لجنة علمية، وفي مقدمتها لجنة القانون، وقد أتمت معجمها سنة 1997 م في القرن الماضي، ويحمل ثلاثة عشر فرعًا من فروع القانون، وهي فروع : القانون المدني، والقانون التجاري، وقانون المرافعات، والقانون الإداري، وقانون التأمين، وقانون العقوبات، وقانون الإجراءات الجنائية، والقانون الدستوري، والقانون الدولي العام، والقانون الدولي الخاص، والقانون البحري، والقانون الجوي، وقانون التشريعات الاجتماعية.
وفرغت لجنة الطب من وضع أمهات المصطلحات بفروع الطب الأساسية، وتبلغ نحو خمسة وعشرين ألف مصطلح طبي، وافق المجمع على بضعة آلاف منها في التشريح وعلم الوظائف والبكتريا والكيمياء الحيوية، والرمد والصحة، وعلم الأمراض، والطب الباطني، وطب المناطق الحارة، والطب الشرعي، وأمراض الجلد، وعلم الأنسجة، والجراحة، وعلم أمراض النساء والولادة، وطب الأسنان.
وتَعمل اللجنة الآن في إعداد معجم طبي عام صدر منه حتى الآن ثلاثة أجزاء.(/11)
وتعنى لجنة علوم الأحياء والزراعة بدراسة مصطلحات علوم النبات والحيوان والحشرات والبحار والزراعة. وبلغت جملة المصطلحات التي درستها اللجنة ووضعت لها المقابلات والتعريفات نحوَ عشرة آلاف مصطلح . ووضعت اللجنة بحوثًا قيمة في أنواع الحيتان والثعابين وألفاظ النخيل. ووضعت مصطلحات التحضيرات الخاصة بالفحص المجهري. وراجعت طائفة من المصطلحات التي أصدرتها منظمة الأغذية والزراعة الخاصة بالبيئة النباتية مراجعة لغوية وعلمية دقيقة.ووضعت مصطلحات تصنيف الكائنات الحية.
وصدرت للمجمع في عام 1965م الطبعة الأولى من معجم الجيولوجيا، وبه 1500 مصطلح، وتوافرت للجنة أعداد كثيرة من مصطلحاته، فأعادت طبعته الأولى في طبعة ثانية، ونشرتها سنة 1982م حاملة خمسة آلاف مصطلح في مجلات الجيولوجيا الطبيعية وعلم الصحة، وعلم البلورات والجيولوجيا الاقتصادية والجيولوجيا التطبيقية، وزُوِّدَ المعجم بفهرس هجائي عربي شامل للمصطلحات ونحو 238 رسمًا.
وأصدرت لجنة الفيزيقا في عام 1974م معجم الفيزيقا النووية والإلكترونيات في ألف ومئتي مصطلح، وأتبعته في سنة 1984م بالجزء الأول لمعجم الفيزيقا الحديثة، ولم يلبث أن نشر في سنة 1986م الجزء الثاني للفيزيقا الحديثة، ويحمل الجزآن (5000) مصطلح علمي تناولت جميع فروع علم الفيزيقا وتطبيقاته.
وصدر الجزء الأول لمعجم الحاسبات سنة 1978م شاملاً سبعمئة مصطلح ثم صدر منه جزآن وهو ثمرة من ثمار العلم الحديث الذي يتناول المعالجة الإلكترونية للمعلومات. واللجنة المختصة بصدد إخراج معجم وسيط في هذا التخصص الحديث.(/12)
والجزء الأول من معجم الكيمياء والصيدلة صدر سنة 1983م حاملاً (3200) ثلاثة آلاف ومئتي مصطلح، وصدر الجزء الثاني شاملاً(3000) ثلاثة آلاف مصطلح، وبين يدي اللجنة مادة كبيرة نحو سبعة آلاف مصطلح، تمهيدًا لطبعها. وتشمل المصطلحات: علوم الكيمياء العضوية، وغير العضوية والفيزيقية، والكيمياء التخليقية، والصيدلية، ونظرًا لتنوع التركيب الكيميائي للمادة وضع نظام ييسر صوغ المصطلحات ترجمة أو تعريبًا. وعندما استعصت الترجمة لجأت اللجنة إلى التعريب في المركبات الكيميائية والأحماض والمواد.
وصدر الجزء الأول من معجم النفط سنة 1993م مشتملاً على أربعة آلاف وخمسمئة مصطلح للمصطلحات العلمية والفنية والتكنولوجية المتصلة بالنفط وعمليات الحفر والاستكشاف والإنتاج والتسويق وغيرها.
وصدر للمجمع الجزء الأول من معجم الهندسة، وبالمثل من معجم الهيدرولوجيا.
ووضعت لجنة التربية وعلم النفس الجزء الأول من مصطلحاتها مع تعريفاتها، وبالمثل وضعت لجنة التاريخ مئات المصطلحات في التاريخ القديم والإسلامي والحديث، والأمل معقود على لجنته لوضع معجمه نهائيًّا، ونشرت لجنة الجغرافيا من قديم معجمًا جغرافيًّا قيمًا، والأمل معقود على اللجنة لإكمال معجم السكان.
وأختم حديثي عن معاجم المجمع بالأجزاء الثلاثة النفيسة التي وضعتها لجنة الرياضيات وأخرجتها إخراجًا علميًّا رائعًا.
توحيد المصطلحات العلمية العربية:(/13)
كان من أهم الأسباب في ازدهار حركتنا العلمية قديمًا توحيد المصطلحات العلمية في أوطاننا العربية، مما هيأ لقيام وحدة علمية بين علماء العرب في جميع ديارهم وأقطارهم من أقاصي إيران إلى أقاصي الأندلس، ولنضرب مثلاً بعلم الطب، فمصطلحاته عند ابن سينا في بخارى أو غيرها من مدن إيران التي نزلها هي نفسها مصطلحات الأطباء في جميع بلدان العالم العربي لا فرق فيها بين بلد في الشرق وبلد في الغرب ولا بين عالم في الأندلس وعالم في مصر أو في العراق. وأتاح ذلك للعلوم العربية نهضة كبرى؛ إذ تعاون في كل بلد عربي علماؤه مع جميع العلماء من العرب في كل مكان، والعلم يخطو دائمًا إلى الأمام بجهود العلماء المشتركة، وكثيرًا ما كان يحدث رحيلُ عالم من وطن إلى وطن عالم عربي آخر سمع به ليحاوره في آرائه العلمية على نحو ما نعرف عن ابن بطلان العراقي الطبيب ورحيله إلى مصر، ليلقى طبيبها ابنَ رضوان، ويحاورَه في بعض آرائه الطبية وظل بالقاهرة ثلاث سنوات يحاوره فيها ويناقشه في مشاكل الطب وأمراضه وأدوائه. ولو أن مصطلحات علم الطب لم تكن موحدة في زمنهما ما استطاع هذان الطبيبان العراقي والمصري التفاهم، وهو ـ دون ريب ـ ثمرة الوحدة العلمية في الطب التي كانت قائمة حينذاك بين علماء العرب في الطب وغير الطب.
وهي وحدة يفتقدها العرب اليوم؛ إذ لا تجد قطرين عربيين يتفقان على مصطلحات علمية في أي علم، ومن أهم الأسباب في ذلك ما كان من الاحتلال الإنجليزي والفرنسي لديارنا وسيطرة الدولتين على التعليم بلغتيهما في البلدان التابعة لكل منهما، فاختلفت الصيغ العلمية في البلدان المحتلة بالإنجليز عما يقابلها من الصيغ في البلدان العربية المحتلة بالفرنسيين، وأدى ذلك إلى بلبلة واسعة في نطق المصطلحات العلمية بالبلدان العربية.(/14)
ومن الحق أن المجمع اللغوي القاهري يتخذ فكرة توحيد المصطلحات العلمية في العالم العربي شعارًا له، حتى يعيد للعرب وحدتهم العلمية، ويتخذ لذلك وسائل كثيرة منذ إنشائه، منها: أنه راعى منذ تأسيسه أن يضم إلى أعضائه المصريين العشرة المؤسسين له خمسةً من الأعضاء اللغويين في العراق وسوريا ولبنان وتونس، واتسع المجمع بالفكرة بعد ذلك فضم إليه أعضاء لغويين من المغرب والجزائر وليبيا وفلسطين والأردن والسعودية واليمن، وهم مع رئيس المجمع القاهري وأمينه العام ورؤساء المجامع اللغوية يكوِّنون اتحاد المجامع اللغوية، وبعد انعقاد مؤتمر المجمع مباشرة ينعقد اتحاد المجامع اللغوية ويدرس ما يعرض عليه من الاقتراحات والأعمال اللغوية العلمية ابتغاء النهوض بها في العلوم المعاصرة في وحدة علمية، ولن يتم ذلك إلا إذا توحدت المصطلحات العلمية في جميع أقطارنا العربية، كما كان الشأن عند أسلافنا، فمصطلحات علم مثل الطب في كتاب القانون لابن سينا هي نفسها مصطلحاته في مؤلفات مهذب الدين الدخوار، وابن القف في دمشق، ومؤلفات ابن رضوان وابن النفيس في القاهرة، ومؤلفات أحمد الجزار في بيت الحكمة بتونس، ومؤلفات الزهراوي، وابن رشد في قرطبة. وهو ما نأمل أن يتم مثله في عصرنا لمجامعنا اللغوية.
وينشر مؤتمر المجمع القاهري سنويًّا قراراته ومصطلحاته ويرسلها إلى الهيئات العلمية في الأقطار
العربية، ويتقبلونها تقبلاً حسنًا ويستظهرها بعض علمائهم في معاجمهم العامة على نحو ما يرى في معجم المورد اللبناني. وكل ذلك يدل بوضوح على أن ما تأمله البلاد العربية من تعريب التعليم الجامعي في عصرنا يوشك أن يتحقق قريبًا.
وسلام الله على حضراتكم جميعًا ورحمته وبركاته...
شوقي ضيف
رئيس المجمع(/15)
التعليم واللغة العربية في أوزبكستان(*)
للأستاذ الدكتور نعمة الله إبراهيموف
إنه من المعروف أن اللغة العربية كانت لغة العلم والتعليم في تركستان، وأن الحروف العربية كانت حروف الكتابة في تركستان قبل الثورة البلشوية في روسيا، وراح البلاشفة أبعد من ذلك في سياسة طمس المعالم الثقافية لشعب كان حتى الاحتلال منارة علمية وثقافية في المنطقة وفي العالم الإسلامي. فأغلقت المساجد و مؤسسات التعليم الإسلامية بكل مستوياتها، وألغت تعليم اللغة العربية في كل أنحاء المنطقة، واستبدلت بالحروف العربية المستخدمة آنذاك في الكتابة الحروف اللاتينية أولاً في عام 1927م، كفترة انتقالية لتخفي أهدافها الحقيقية التي نضجت في عام 1940م. ثم استبدلت أخيرًا بها الحروف الروسية (الكيريلي). وذلك بعد أن نجحت في تحويل اللهجات المحلية غير المكتوبة إلى لغات وضعت لها الأبجديات
السلافية، لتضع بذلك الحواجز القومية بين الأشقاء من أبناء تركستان. ولنتصور معًا وضع شعب بأكمله حُوِّل إلى شعب أمي لا يعرف القراءة والكتابة بلغة أجداده مرتين خلال فترة تجاوزت عشر السنوات بقليل. وبني سد منيع يحول بينه وبين التراث المكتوب لأجداده العظام أمثال: الخوارزمي، والبيروني وابن سينا، والبخاري، والترمذي، والغجدواني، والنقشبندي، وتوالى الكثيرون غيرهم الذين أبدعوا بإنتاجهم الفكري الشهير في العالم أجمع وكتبوه باللغة العربية وبلغتهم الأصلية بالحرف العربي ليتحول هذا التراث إلى مادة للمستشرقين الروس ولتلاميذهم يأخذون منه أسباب السيطرة الثقافية على الشعوب الإسلامية الرازحة تحت حكمهم، والتخطيط لإخضاع غيرهم من الشعوب.(/1)
ولقد وجهت أوزبكستان عناية خاصة خلال سنوات الاستقلال لإحياء القيم التي ورثناها عن أجدادنا العظام، ولتطوير نظام التعليم القائم وتعزيز أسسه القومية، ورفعه إلى المستوى العالمي ومتطلبات العصر الحاضر. وكانت نقطة البداية بصدور قانون التعليم الذي أصدره عالي مجلس (البرلمان) في أغسطس/آب عام1997 م، والبرنامج القومي لإعداد الكوادر القومية اللذان كانا نتيجة طبيعية للإصلاحات الجارية في نظام التعليم، والمتبادلات الجارية في كل نواحي الحياة الاجتماعية وإثباتًا لدور الفرد في الحياة الاجتماعية في بلادنا.
ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى حقيقة الإصلاحات الجارية في نظام التعليم في بلادنا وأنها أصبحت بالتدريج الأساس الذي تعتمد عليه السياسة الحكومية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولهذا صبت مؤسسات التعليم في أوزبكستان اهتمامها على النواحي الإنسانية، والتربوية والثقافية، وعلى الثقافة الروحية للإنسان.
وانطلقنا في ذلك من حقيقة أن الثقافة لا يمكن أن تكون دون القيم المغروسة في الفرد، ودون تطوير وإغناء تلك القيم للأجيال القادمة. ومساعدتها على استيعاب الغنى الثقافي والمعرفي المتراكم، ومساعدة تلك الأجيال على استخدامه في الحياة العملية، وتشكيل الإنسان المتعلم والمزود بالثقافة الرفيعة.
وإذا كانت التحولات الاقتصادية موجهة نحو المستقبل، فإنها في المجال الروحي موجهة ليس نحو المستقبل وحده، بل وإلى درجة ما موجهة نحو الماضي، أي نحو دراسة وتحليل واستخلاص العبر من التاريخ الوطني، واكتشاف العلاقة الموضوعية التي تربطه بالتراث الثقافي، والقيم الإنسانية والمعاصرة بشكل عام.(/2)
ولبلوغ الوعي كان لابد من إحياء الدولة القومية بشكلها المعاصر، أي الدولة القادرة على التكيف مع المجتمع الدولي. ولتحقيق هذا الغرض كان لابد من أن نعود إلى مصادرنا الثقافية، واستيعاب وتطوير الجانب الإيجابي منها، واستيعاب كل الغني الروحي الذي يحمله لنا تاريخ الماضي. ولهذا نرى اليوم أن مدرسي مادة "الوعي الفكري"، يحرصون على إجراء حوار مع الطلبة حول القيم الخالدة، وحول أفكار ومعتقدات الإنسان، وحول التراث الثقافي، وعلاقة النظام العلمي بالقيم الثقافية، والعادات والتقاليد، والعبادات في عصرنا الحاضر.
إن القيم الثقافية القومية ليست ظاهرة عادية عندنا، ولكنها تشكلت من خلال المناقشات الجارية مع الأجيال الشابة، فهي في تطور وتجدد دائمين. وذلك ما جعل دولتنا الشابة بعد الاستقلال توجه عناية خاصة لكل ظاهرة تتعلق بالتراث الثقافي، في آنٍ واحد بالتوجه إلى هذا التراث من خلال نظرة نافذة متفحصة.
وكان من الطبيعي أنه من الخطأ الوقوع بالتبعية لماضينا أثناء البحث عن الذات على طريق المستقبل والتطور، وكان من الخطأ الفادح اختيار طريق الانعزال وضيق الأفق القومي للسير على هذا الطريق. فكان من الطبيعي أن نعمل من أجل أن تعتمد ثقافتنا المعاصرة على التراث التاريخي الغني، وأن تستوعب كل النواحي الإيجابية في الثقافتين الشرقية والغربية.
وبقي أمامنا في الوقت الحاضر حل إشكالية تحديد ثقافة مفهوم الإسلام، واحترام ثقافة الآخر ليس داخل بلدنا وحسب، بل في المجتمع الدولي من خلال التصدي مع المجتمع الدولي لحل المشاكل الثقافية والحضارية العالمية. وتوسيع الآفاق الثقافية من خلال تشجيع رفض تقسيم العالم إلى هؤلاء من "جماعتنا" و أولئك " أغراب" عنا، وتعبير" نحن" و " هم ".(/3)
ويمكن أن نشير بارتياح إلى أنه في جامعة طشقند الحكومية للدراسات الشرقية اليوم تعمل بشكل فعال في أقسام اللغات: العربية، والصينية، والكورية، و اليابانية، والتركية، والفارسية، والأوردو، والهندية، والبشتو، والداري، وغيرها ولغات وتاريخ واقتصاد دول آسيا المركزية، وجنوب آسيا، ودول آسيا والمحيط الهادي. وفي جامعتنا نعد كوادر المستقبل في المجالات الدبلوماسية، والسياسة، وفي التاريخ، والأدب، والاقتصاد، والعلاقات الدولية والدراسات الإسلامية.
وتشكلت الحضارة العربية على خريطة الحضارة الإنسانية عندما تكونت الحضارة الإسلامية في جزيرة العرب خلال القرن السابع الميلادي، وتوسعت بعد ذلك فضمت العديد من الدول المجاورة لها ومن بينها ما وراء النهر.
وأخذت ثقافة الحضارة الإسلامية العربية في التطور في آنٍ واحد مع تطور الدولة الإسلامية. ولم يؤثر انهيار الخلافة سلبًا على الحضارة الإسلامية؛ لأنه خلال القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين شهدت الثقافة العربية الإسلامية انطلاقة كبيرة. وتبلورت ثوابت الشرع الإسلامي، وامتدت المناقشات الفقهية إلى مواضيع العقل والإيمان، وحرية الاعتقاد. وتطور الشعر، والفلسفة، والتاريخ، والطب، والفيزياء، والكيمياء، وعلم الفلك. وهذا الازدهار السريع تفسره بعض الأسباب:
أولاً_ أن ثقافة المدن عند العرب في القرن السابع الميلادي وصلت إلى مستوى رفيع جدًّا؛ وكانت اللغة العربية الفصحى، سبباً لتطور الإبداع الشعري و فن الخطابة.
ثانياًـ تشجيع الخلافة للقيم الثقافية من خلال الدواوين التي أقيمت من أجلها، تلك الدواوين التي تركت أثرًا كبيرًا في الحياة الفكرية عند العرب.(/4)
ومن بين المراكز الإسلامية الكبرى آنذاك كان منطقة ما وراء النهر (آسيا الوسطى)، أي تركستان (بلاد الترك) التي كانت خلال تلك المرحلة متسعًا منفتحًا، غير خاضع لمعايير أو قيود قد تفرض عليه الجمود. واخترقه طريق الحرير الشهير الذي جلب إلى تركستان من الصين، والهند، وبيزنطة، والحجاز، ومصر، والشام، ليس البضائع فقط، إنما مختلف المؤلفات العلمية والأدبية، و الأفكار والمعارف الجديدة. ولم يرفض التركستانيون تلك المعارف والأفكار بحجة أنها من مصادر غير إسلامية بل على العكس طوروا من خلال ما تركه لهم أجدادهم وأضافوها إلى الثقافية المحلية المتجددة. وبعد ذلك صدروها بشكل ومضمون جديدين إلى مختلف بقاع العالم: إلى المحيط الهندي، والمحيط الهادي، وبحر الأورال، وبحر قزوين، وبحر الشمال، والبحر المتوسط ، والبحر الأحمر، و الخليج العربي.
والمهم أنه على أساس الخبرات والمعارف العالمية من عربية، وصينية، و يابانية، وكورية، وهندية، وفارسية، وتركية، تمكنوا من تشكيل أفكار جديدة، واتجاهات جديدة في العلوم والآداب وقاموا بالاكتشافات الفريدة والجديدة. وهنا يمكننا أن نشير إلى مواهب عظيمة عاشت فيما وراء النهر آنذاك كالخوارزمي، والزمخشري، وابن سينا، ويسوي، وقشقاري، والمرغيناني، والكثيرون غيرهم. ممن أغنوا التراث الإنساني العالمي بالأفكار الجديدة والرائدة.
وعملاً بالحديث الشريف للنبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اطلبوا العلم ولو في الصين" فقد سافر علماء ما وراء النهر إلى القاهرة، والإسكندرية، وحلب ودمشق، وبغداد للدراسة والتحصيل العلمي، والتدريس والبحث العلمي.
وعندما أسس الخليفة المأمون مع بداية القرن التاسع الميلادي في بغداد "بيت الحكمة" الذي يشبه اليوم أكاديمية العلوم، دعى الكثير من علماء آسيا الوسطى. وكان أول مسؤول (رئيس، ونائب رئيس) لأكاديمية المأمون كما تسمى في المراجع الأوربية، الفرغاني، والخوارزمي.(/5)
والمأمون نفسه قبل أن يتولى الخلافة كان واليًا على خراسان، وكان قصره في مرو يشكل تجمعًا أشبه ببيت الحكمة، حيث جمع من حوله أفاضل العلماء في المنطقة، دعاهم كلهم عندما أصبح خليفة لنقل تلك التجربة إلى العاصمة بغداد.
ومن الحقائق الثابتة أن أكثرية علماء الرياضيات والفلك في أكاديمية المأمون ببغداد كانوا من آسيا الوسطى وإيران. ويجب الإشارة إلى أنه عمل مع الخوارزمي في الأكاديمية، شقيقاه أحمد وحسن.
وبعد مرور قرنين من الزمان على تأسيس أكاديمية المأمون في بغداد، قام خوارزم شاه المأمون في هيرات بتأسيس أكاديمية أخرى حملت نفس الاسم "أكاديمية المأمون". ومنذ سنوات صدر قرار رئيس جمهورية أوزبكستان بفتحها من جديد، و هاهي قد فتحت أبوابها اليوم من جديد في خوارزم.
والجميع اليوم يذكرون تاريخ تأسيس جامعة السوربون في عام 1200، وكذلك يذكرون تاريخ افتتاح جامعتي أكسفورد، وكمبردج ولكن القلة القليلة تعرف حقيقة وجود سبع عشرة مدرسة عليا في سمرقند وحدها في القرن التاسع الميلادي ووجود عشر مدارس في بخارى، وحوالي خمس عشرة مدرسة عليا في خوارزم وفرغانة، وهنا يجب أن نشير إلى أن مصطلح مدرسة عليا آنذاك كان يحمل معنيين اثنين: الأول مدرسة بمستوى رفيع من حيث الأهمية، والبناء المعماري ومستوى الخطوط العربية والزخارف.
والثاني: بمستوى التعليم العالي. وبمقاييس اليوم فهي جامعة، لأن المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية في بلادنا منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم تسمى "مكتب" .(/6)
وخلال القرنين الرابع عشر، والخامس عشر الميلاديين قدم إلى المدارس العليا فيما وراء النهر علماء من روما، وخراسان، وغيرهما من الدول. كما عمل أيضًا في المدارس العليا في بغداد علماء من أنحاء العالم. وقد ذكر محمود حجي أنه في عام198 للهجرة، أثناء حكم عبد الله المأمون بن هارون الرشيد وبعده قد قام بالتدريس في المدارس مدرسون من اليونان، ودرس العلماء المسلمون اللغة اليونانية، وبعدها بدأت دراسات حادة لليونان.
وعن نظام التعليم في المدرسة العليا آنذاك تحدثنا بعض الوثائق التي حملت إلينا بعض الأرقام الدقيقة عن عدد الدارسين والمدرسين والقراء والفراشين و غيرهم ممن عملوا في تلك المدارس. وتذكر لنا هذه الوثائق أنه بالإضافة إلى المسائل المالية كان مدراء تلك المدارس يقومون بتنظيم شؤون التعليم، بالاستقدام و الاستغناء عن خدمات المدرسين وغيرهم من العاملين في المدرسة.
وكانت تلك المدارس تحصل على نفقاتها من الدخل الذي وفرته أملاك الوقف المخصصة للمدرسة، وعلى
أساسها كانت تحدد رواتب المدرسين
والمستخدمين، ومِنحَ طلاب المدرسة الذين كانوا يحصلون على نقود ذهبية أو كميات من القمح والشعير. وكمثال على ذلك نذكر أنه في المدرسة "الإخلاصية"، التي بناها علي شيرنوائي في هيرات، كانت الرواتب الشهرية والسنوية تدفع على الشكل التالي:
صدر متولي (مدير المدرسة): ثلاثة آلاف دينار ذهبي في السنة؛ المدرس: ألف دينار ذهبي في السنة. الطلاب:المتفوقون: أربعة وعشرون دينارًا ذهبيًّا في الشهر؛ المتوسطون: ستة عشر دينارًا ذهبيًّا في الشهر؛ العاديون: اثنا عشر دينارًا ذهبيًّا في الشهر(*).
وهنا يجب أن نشير إلى أن كل مجموعة من الدارسين كانت تضم أربعة وعشرين طالبًا، واعتمادًا على ذلك كانت تعد المناهج والبرامج الدراسية لكل مدرس ولكل مجموعة دراسية.(/7)
وتمتعت المكتبات آنذاك بوضع خاص، وكان من الطبيعي أن تملك كل مدرسة مكتبتها الخاصة التي تضم مجموعة من المراجع المخطوطة اللازمة للعملية التعليمية والبحوث العلمية.
وعلى سبيل المثال كان في المدارس الهامة - التي شيدت في بلاد ما وراء النهر في عهد التيموريين، وخراسان، وخاصة في سمرقند، وبخارى، وهيرات،وغيرها من المدن الهامة- حجرة خاصة في كل مدرسة لحفظ مخطوطات الكتب التعليمية والمراجع العلمية والأدبية الخاصة بالعملية التعليمية. وضمت تلك المخطوطات كتبًا في الدين وتفسير القرآن الكريم، والحديث، والفقه، والفلسفة، واللغة، والأدب، والتاريخ، والرياضيات، والكيمياء، والجغرافيا، والفلك، وغيرها من المواضيع التي يتعلمها الدارسون. وتؤكد المراجع التاريخية وجود تلك المدارس ذات البرامج الجامعة في (ما وراء النهر) منذ القديم.
وهذا التقليد العريق وجد مكانه في أوزبكستان المعاصرة، حيث تعمل في طشقند اليوم الجامعة القومية، والجامعة الاقتصادية، والجامعة التكنولوجية، والجامعة الإسلامية، والجامعة ذات العلاقات الاقتصادية الدولية والدبلوماسية، وجامعتنا للدراسات الشرقية. كما تعمل في عاصمة كل ولاية وفي عاصمة قره قلباغستان جامعتها الخاصة بها من أجل وضع البرنامج القومي لإعداد الكوادر الوطنية وقانون التعليم. لقد تدارسنا باهتمام كبير خبرة الدول المتقدمة في التعليم كالولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا العظمى، وفرنسا، وألمانيا، والصين، واليابان، وكوريا، والهند، وباكستان، وإيران، وتركيا، والدول العربية.(/8)
وشملت التغيرات الجذرية الجارية في جمهورية أوزبكستان منذ اليوم الأول للاستقلال، التعليم الوطني بكل مراحله، قبل المدرسي، والمدرسي قبل الجامعي، و العالي، وضمن السياسة الاقتصادية والاجتماعية التي يتبعها الرئيس إسلام كريموف. فإن أوزبكستان اليوم ماضية بثبات لتصفية آثار الحكم الشيوعي البغيض الذي رزح الشعب الأوزبكستاني تحته لأكثر من سبعة عقود، ونعمل على بناء دولة سيادة القانون، والمجتمع الديمقراطي العادل. من أجل أن تحتل أوزبكستان موقعها الملائم في المجتمع الدولي كعضو كامل الأهلية في الأسرة الدولية، وهو الأمر الذي يتطلب من الدولة تحقيق الأمن والاستقرار والوئام والتلاحم بين كل أبناء الشعب الأوزبكستاني بمختلف قومياتهم ودياناتهم.
إن نجاحات الإصلاحات الجارية في جمهورية أوزبكستان لم تأتِ من عبث، لأن نجاحات أية حركة إصلاحية ديمقراطية في العالم، لابد وأن تبدأ من مستوى الثقافة والوعي الجماهيري، ومدى مشاركة كل أبناء المجتمع بالإصلاحات الجارية وتأييدها، والتفاف كل الشرائح الاجتماعية حول القيادة التي تتولى عملية الإصلاح والتغيير السلمي والديمقراطي داخل المجتمع ولصالحه.
ولا أحد ينكر حقيقة أهمية التعليم الرسمي في عملية التوعية الدينية والثقافية لأبناء المجتمع الواحد مهما تباعدت أفكارهم وتعددت معتقداتهم. لأن التعليم أساسًا يعمل على صهر أبناء المجتمع الواحد في إطار الإيمان والوطنية والإخلاص لله وحب الوطن.
وقد حظي التعليم الرسمي بمكانته الملائمة في السياسة الحكومية الأوزبكستانية منذ الأيام الأولى للاستقلال، حيث وضعت الحكومة الأوزبكستانية مبادئ محددة للسياسة التعليمية جاء فيها:(/9)
أن يتمتع التعليم والتربية بالطبيعة الديمقراطية الإنسانية؛ وأن يكون التعليم بمراحله المختلفة متواصلاً؛ إلزامية التعليم الابتدائي والمتوسط العام والفني؛ وحرية اختيار التعليم المتوسط العام والفني في ثانويات النظام التعليمي الجديد ( ليتسيه، كوليج)، علمانية نظام التعليم العام؛ أن يكون التعليم الرسمي متاحًا للجميع في إطار المعايير التي تقررها الدولة؛ أن يكون المدخل لاختيار البرامج والمناهج التعليمية موحدًا ومتكامًلا؛ أن يشجع التعليم المواهب؛ تكامل الإدارة الحكومية والاجتماعية لنظام التعليم العام.
كما حددت مبادئ السياسة التعليمية الحكومية ضرورة تعليم اللغات الأجنبية في جميع المراحل التعليمية من أجل تحقيق المنجزات والتقدم والأخذ بالتقنيات المعاصرة في العالم، والاندماج داخل المجتمع الدولي الذي لا يمكن أن يتم دون تعلم اللغات الأجنبية، بما فيها لغات الشعوب المجاورة للشعب الأوزبكستاني وهي: العربية، والفرسية، والهندية، والأوربية، والصينية، واليابانية، والكورية، والتركية، والتي يتم تدريسها فعلاً في مدارس الجمهورية الابتدائية والإعدادية و الثانوية.
ومن نتائج بحث ميداني أجراه خبراء مركز التعليم بوزارة التعليم الوطني بجمهورية أوزبكستان، وشمل المدارس المتخصصة بتعليم اللغة العربية بمدينة طشقند، من أصل تسع ولايات تدرس في مدارسها المتخصصة اللغة العربية منذ خمسينيات القرن العشرين. نرى أن عدد الشُّعب المتخصصة بتعليم اللغة العربية فيها هو (174) شعبة، تضم (5107) طالبًا وطالبة، وتدرس اللغة العربية بشكل مكثف فيها كلغة أجنبية ما بين ست وسبع ساعات أسبوعيًّا، من الصف الأول الابتدائي، وحتى نهاية المرحلة الثانوية. وفي الوقت ذاته تدرس اللغة العربية في المدارس ( الليتسيه) الثلاث التابعة لجامعة طشقند الحكومية للدراسات الشرقية بمدينة طشقند 371 طالب وطالبة.(/10)
ومن المتبع وفق القوانين السائدة في مجال التعليم بجمهورية أوزبكستان أن يختار أولياء أمور الطلاب اللغة الأجنبية التي سيدرسها أبناؤهم، عكس المتبع في المرحلة الثانوية والجامعية حيث يختار الطالب بنفسه اللغة الأجنبية التي يرغب الاستمرار في تعلمها. وهو ما ينعكس مباشرة على عدد الطلاب الملتحقين في صفوف المرحلة الابتدائية والإعدادية الإلزامية في الجمهورية، والمرحلة الثانوية التي يلتحق فيها الطلاب بمدارس الليتسيه المتخصصة بإدراك منهم للمستقبل الذي ينتظرونه لأنفسهم.
وكذلك الأمر في المدارس غير المتخصصة بتعليم اللغة العربية، والتي تبدأ اللغة الأجنبية ( ومن بينها اللغة العربية) فيها من الصف الخامس الابتدائي بمعدل ثلاث ساعات في الأسبوع، ويبلغ عددها في مدينة طشقند أكثر من خمسين مدرسة، يدرس فيها اللغة العربية كلغة أجنبية أكثر من ثلاثة عشر ألف طالب وطالبة، إضافة لتدريس اللغة العربية كلغة أجنبية في المدارس غير المتخصصة في جميع الولايات في أوزبكستان.
كما أظهر البحث أن عدد معلمي اللغة العربية بمدينة طشقند هو ستة وخمسون معلمًا ومعلمة، (جميعهم من خريجي جامعة طشقند الحكومية للدراسات الشرقية، ويحملون درجة دبلوم تخصص في اللغة العربية). وهو ما يعني أن تلك المدارس وغيرها من مدارس الجمهورية تعاني من نقص كبير في عدد مدرسي اللغة العربية، خاصة وأن الأنظمة المعمول بها تحدد عدد طلاب الشعبة الواحدة ما بين ثمان إلى عشرة طلاب فقط.(/11)
أما على صعيد الكتاب المدرسي فعلى الرغم من عدم مبادرة أي من الدول العربية إلى مساعدة جمهورية أوزبكستان بعد استقلالها في عملية تجديد مناهج وكتب تعليم اللغة العربية المدرسية والجامعية، فقد حدث ذلك من خلال التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والصين، واليابان، وكوريا، وتركيا، وروسيا الذين حرصوا على تقديم العون الفني والتقني و المادي، وإعداد وإعادة تأهيل المعلمين من أجل التوسع في تدريس لغات تلك الدول.
ومع ذلك فإننا نرى أنه جرى بجهود الخبراء المحليين تجديد شامل لمواد تعليم اللغة العربية المستخدمة في جميع المدارس والجامعات، وتم إصدار بعض الكتب التعليمية المدرسية والجامعية والقواميس نذكر منها: النعيم ـ قاموس عربي أوزبكي. وقواعد اللغة العربية.
وهذا في اعتقادنا غير كافٍ ونحن بحاجة ماسة لتعاون فعَّال مع إدارات المناهج وطرق التدريس في الدول العربية لتطوير مناهج ومواد وكتب تعليم اللغة العربية الموجودة في مدارس وجامعات الجمهورية في الوقت الحاضر، واستكمال الناقص منها.
أما على صعيد التعليم العالي فاللغة العربية تدرس اليوم كلغة أجنبية في جميع مؤسسات التعليم العالي دون استثناء، وفق خيار الطلاب واحتياجات مؤسسات و أجهزة الدولة المختلفة. وفي الوقت الذي تقوم به جامعة طشقند الحكومية للدراسات الشرقية بإعداد المدرسين والمتخصصين باللغة العربية، نرى أن الجامعة الإسلامية في طشقند تقوم أيضًا بتدريس اللغة العربية إلى جانب إعدادها للكوادر الوطنية المتخصصة في شؤون الشريعة الإسلامية.(/12)
وهنا يجب أن نشير إلى جهود جمهورية مصر العربية التي تعتبر الدولة العربية الوحيدة التي توفد إلى أوزبكستان بعض المدرسين للمساعدة في تدريس اللغة العربية وخاصة في جامعة طشقند الحكومية للدراسات الشرقية، والجامعة الإسلامية في طشقند. إضافة لقيام مركز العلوم والتعليم المصري بطشقند بتنظيم دورات لتعليم اللغة العربية للراغبين من مختلف الأعمار من مواطني جمهورية أوزبكستان. وهذا برأينا لا يكفي، ونحن في جمهورية أوزبكستان نتطلع إلى تعاون أفضل مع الدول العربية في مجالات تطوير مناهج وكتب تعليم اللغة العربية كلغة أجنبية في جميع المستويات التعليمية، والدراسات العربية والإسلامية، والمشاركة في الجهود المبذولة اليوم في أوزبكستان لدراسة وتحقيق المخطوطات العربية و الإسلامية الموجودة في مكاتبنا.
وأعتقد أن لقاءنا هذا سيوفر لنا بعض الخبرات الجديدة التي ستساعدنا دون شك على تطوير نظام التعليم في أوزبكستان، وخاصة في عصرنا الحاضر عندما طغت التكنولوجيا والصناعة على كل شيء، وأصبحت الثقافة وتعلم اللغات والعلوم الإنسانية ينظر إليها كعبء زائد في مؤسسات التعليم التقنية.
ومن النواحي الإيجابية أيضًا أن الجميع أصبحوا يدركون أخطار
العولمة وفوائدها على الثقافة الوطنية، وعلى عملية الإصلاح الجارية في نظم
التعليم.
وأوزبكستان التي اختارت طريق الإصلاحات الجذرية في التعليم، توجه اليوم أكثر من 11% من دخلها القومي إلى التعليم، وأصبحت حصة التعليم من موازنة الدولة حوالي 36% ليشغل التعليم في بلادنا مكانته اللائقة، ويصبح أداة للإنتاج وتطوير الثقافية الوطنية هي جزء من الثقافة الإنسانية المتحدة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نعمة الله إبراهيموف
عضو المجمع المراسل
من أوزبكستان(/13)
الجهود اللغوية للشيخ محمد الطاهر التليلي(*)
للأستاذ الدكتور أبي القاسم سعد الله
هناك عوامل كثيرة جعلت الشيخ محمد الطاهر التليلي يكثف جهوده في التأليف اللغوي والأدبي. فأصله عربي من نسل الخليفة أبي بكر الصديق، وثقافته عربية تلقاها في جامعة الزيتونة بتونس، وبيئته عربية لأنه ولد وترعرع في الصحراء بين الرمال والنخيل ووسط القبائل الهلالية التي استوطنت واحة (وادي سوف) الواقعة في شرقي الجزائر قادمة من مصر عبر ليبيا فتونس. ويضاف إلى هذه العوامل جثوم الاحتلال الفرنسي على وطنه ونكران هذا الاحتلال لعروبة وإسلام الجزائر وطمس ثقافتها وإحلال لغته (الفرنسية) محل لغتها العربية، مما أحدث رد فعل في الجزائر كلها ضد الاحتلال ودفع بالبعض، ولا سيما قادة
الرأي في منطقة وادي سوف، إلى الارتماء في أحضان حركة الإصلاح
الديني والاجتماعي والثقافي، وهو ما قام به الشيخ التليلي بكل اقتناع وحماس.
ونود الآن أن نستعرض حياة الشيخ التليلي الثقافية باختصار، متجاوزين تآليفه الدينية والتاريخية والفلكية… ، مشيرين إلى مساهمته في اللغة والأدب، ومركزين فقط على جهوده اللغوية.
حياة الشيخ التليلي باختصار:
... ولد الشيخ محمد الطاهر التليلي في بلدة قمار (إحدى بلدات وادي سوف) سنة 1910 كما أثبت ذلك بنفسه في دفتر سماه (هذه حياتي). وبعد عمر طويل في الكفاح ضد الجهل والفقر توفي – رحمه الله – في آخر سنة 2003، فيكون قد عاش 93 سنة، قضى منها أكثر من ستين سنة في التعليم والتأليف وإجابة السائلين
والزائرين عن مسائل الفقه واللغة والتواريخ المحلية والقضايا الاجتماعية التي تطرأ على الناس في بيئة صحراوية نائية.(1)(/1)
... وبعد حفظه القرآن الكريم في أحد مساجد (قمار) وتتلمذه على بعض شيوخها في القراءات والمتون وحضوره دروسًا حرة كان يلقيها بعض الأدباء أمثال محمد اللقاني أو دعاة الإصلاح أمثال عمار بن الأزعر، توجه سنة 1927 إلى جامع الزيتونة في تونس وانخرط في سلك طلابه، وظل به إلى أن حصل منه على شهادة (التحصيل) بعد سبع سنوات من الدراسة المتوالية، وهي الشهادة التي
تؤهل صاحبها للتعليم في المدارس، وتولي الوظائف الدينية والتربوية .
رجع الشيخ التليلي من تونس إلى بلدته (قمار) سنة 1934، ولكنه لم يجد عملاً يعيش منه، وبخاصة بعد أن تزوج، وكان عليه أن يعول عائلة ويستقل عن والده في تدبير رزقه. وقد ضاقت به الحال فاشتغل تارة فلاحًا وتارة تاجرًا، ولكن "كل ميسر لما خُلق له"، فلم يربح في الفلاحة كما لم ينجح في التجارة.واتصل برئيس جمعية العلماء(2) الشيخ عبد الحميد بن باديس(3)زعيم الحركة الإصلاحية. وكانت الجمعية تقوم بالتعليم العربي الحر في مدارس حرة من تأسيس
الشعب نفسه وتبرعاته، دون الاعتماد على تمويل الحكومة (الفرنسية). عينت الجمعية اليشخ التليلي معلمًا في إحدى قرى مدينة بجاية، ولكن الحاكم الفرنسي هناك طرده منها بدعوى عدم امتلاك رخصة رسمية للتعليم وأنه أجنبي على المنطقة. فعاد الشيخ إلى بلدته (قمار)، وبقي جليس الفقر والبطالة، وزادت الحرب العالمية الثانية حاله سوءًا حين تقابلت جيوش الحلفاء والمحور في تونس وعلى الحدود الجزائرية الشرقية، فكانت منطقة (سوف) مسرحًا لمعارك بين الطرفين، وحلت الأراضي التي فتكت بالمئات من السكان، ولم تنجلِ هذه الغمة إلا بعد سنة 1945م.
... رغم التضييق الإداري على الشيخ التليلي باعتباره من تيار الإصلاح، فإن أهل قمار طلبوا منه أن يعلم أولادهم في مدرسة أسسوها لهذا الغرض، وهي مدرسة (النجاح) الحرة
التي بقي يديرها بنفسه ويعلم فيها إلى
استقلال الجزائر عن فرنسا عام1962م.(/2)
... وخلال سنوات الفقر والبطالة والمرض، ثم سنوات التعليم ومواجهة الإدارة الاستعمارية وظروف ثورة التحرير الجزائرية (1954 –1962م)، أنتج الشيخ التليلي مجموعة من المؤلفات والأشعار والتقاييد والفتاوى نذكر منها هنا ما له صلة باللغة والأدب(*):
1- زهرات لغوية من كتاب الألفاظ الكتابية للهمذاني.
2- تجريد شعر مقامات الحريري .
3- مجموع الأمثال العامية في سوف.
4- معجم الكلمات العامية الدارجة في الصحراء الجزائرية.
5- تلخيص كتاب الأضداد للمتوزي.
6- شواهد الكلمات العامية من اللغة العربية الفصحى.
7- قصة الشيخ العجوز (نظم).
8- الدموع السوداء (ديوان شعر).
ويهمنا في هذا المجال مؤلفاته اللغوية التالية:
الزهرات اللغوية، ومجموع الأمثال العامية، ومعجم الكلمات العامية، وشواهد الكلمات العامية.
أولاً – زهرات لغوية من كتاب الألفاظ الكتابية للهمذاني:
وهو دفتر من 37 صفحة من الحجم الكبير. اقتطف الشيخ مادته أو زهراته من كتاب (الألفاظ الكتابية) لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني المتوفى سنة 320 هـ. قال الشيخ التليلي إنه اقتطف من كل باب من أبواب هذا الكتاب ثلاث زهرات، أي أمثلة أو نماذج، مثلاً (باب إصلاح الفاسد) جاء منه الشيخ بالأمثلة (أو الزهرات) الآتية: لمَّ فلان الشعث، وضمّ النشر، ورم الرث، وكلها تعني أصلح الفاسد.
... وقد نبه الشيخ في مقدمته إلى أنه عزم على جمع مفردات لغوية قليلة بهدف مساعدة طلاب المدارس، ولا سيما مدرسة النجاح التي كان يشرف عليها، على كتابة الإنشاء والقيام بالتمارين الكتابية أو التعبيرية، حسب مراحل التلاميذ الابتدائية. "وبعد، فإني عازم – بحول الله – على جمع مفردات لغوية قليلة العدد في كراس صغير (يعني في عدد أوراقه وليس في حجمه) يساعد تلاميذ مدرسة النجاح في قمار، وكل المدارس التي على شكلها، على كتابة الإنشاء والتمارين الكتابية أو التعبيرية، حسب درجات الدراسة الابتدائية عندنا " (المقدمة).(/3)
... وفي الصفحة 36 من الدفتر كتب الشيخ التليلي (باب جملة من أمثال العرب التي على وزن أفعل). وجاء من هذا الباب بأمثلة أو زهرات عديدة، فقال: " تقول العرب في أمثالها: أجمل من رعاية الذمام، أروح من يوم التلاق، أحرّ من يوم الفراق، أنضر من روضة" ..(صص 36- 37).
ويمكن القول إن الزهرات اللغوية عبارة عن اختصار أو مختار من كتاب الهمذاني الهدف منه تعليمي وهو تربية الناشئة على حب الأدب الجميل والذوق السليم وخدمة التراث العربي رغم العراقيل التي كانت الإدارة الفرنسية تضعها في وجه اللغة العربية.
ثانيًا – مجموع الأمثال العامية:
... هذا الدفتر يضم 35 صفحة من الحجم الكبير. وقد رتبه الشيخ على حروف الهجاء ولم يكتب له مقدمة. ويبدو أنه كان ينوي كتابة مقدمة له عندما ينتهي من جمع الأمثال. أما عدد الأمثال التي جمعها لكل حرف فيتراوح بين صفحة واحدة في عمودين، مثل حرف الجيم والحاء، وبين ثماني صفحات ذات عمودين أيضًا، مثل حرف الألف. وهناك حروف بصفحتين وعمودين مثل حرف الباء والتاء. ومن الأمثلة التي أوردها لحرف الألف والباء والتاء:
1- إذا كان في راسك ما يعبّي جمل أنا في راسي ما يعبّي قافلة.
2- إذا كان الأيام عكستْ ساميها وارقدْ.
3- إذا جاك الكسادْ علّي لْوسادْ.
4- إذا أحبك القمرْ واش عندك في النجومْ.
5- اللي فات ماتْ واللي طاح راحْ .
6- بعد ما شابْ دارولو حجابْ.
7- باب ربّي ما عليه بوابْ.
8- بصبصلو يرجعْ لأصلو.
9- باتْ بلا لحمْ تصبح بلا دَين.
10- بنت العم ولو بارت والشينة ولو دارتْ والمدينة ولو جارتْ .
11- تبّعْ السارق لباب دارو.
12- تبّعْ جارك والاّ نقلْ باب داركْ.
13- تبديل السروجْ فيه راحة.
14- تبّع بوك لا يغروكْ…(/4)
أما صفحة 36 من الدفتر ففيها نصوص نقلها الشيخ – كما قال – من اليوميات أو الرزنامة. وجاء بنقول من ابن عروس، ومن محمد المرزوقي الذي روى عن علي القفصي شاعر الملحون. وأخيرًا ذكر الشيخ بعض الأحاجي أو الحكايات العامية.
ثالثًا ـ معجم الكلمات العامية الدارجة في الصحراء الجزائرية:
... ... هذا العمل لم يكتب له الشيخ مقدمة كما فعل مع كتبه الأخرى، ولم يذكر منهجه فيه وإنما هو دفتر يضم مجموعة من الكلمات دون ديباجة. ويبدو أن الشيخ لم ينته من جمع مادته، ومع ذلك نجده قد ترك صفحة بيضاء في أول الدفتر لكتابة المقدمة، ثم بدأ بحرف الألف، ثم حرف الباء إلى آخر حروف الهجاء. وقد جعل كل صفحة تحتوي على خمسة أعمدة يضم كل عمود مجموعة من الكلمات. والملاحظ أن بعض الصفحات منتهية وأعمدتها مغلقة بينما بعض الصفحات والأعمدة ما تزال مفتوحة للإضافات. وإذا كان العمود مغلقًا فإن عدد الكلمات فيه يصل غالبًا إلى ست وعشرين كلمة، وإذا كانت الصفحة كلها منتهية فإن عدد كلماتها حوالي ثلاثين كلمة (أي 26x 5=130). وقد أحصى الشيخ بنفسه عدد الكلمات التي جمعها على هذا النحو في الدفتر كله فوصلت إلى 5038 كلمة.
... والملاحظ أن آخر صفحة في الدفتر ليست هي حرف الياء، وإنما صفحة إضافية عنوانها (طائفة من أسماء النخيل المعروفة في صحراء الجزائر عامة وفي سوف خاصة). وذكر من هذه الأسماء ثلاثة وعشرين اسمًا منها: دقلة نور، غرس، دقلة بيضاء، حلواية، حمراية، عمّاري، تانسين، تفزّوين، تمرجورت، يتيم،بيض حمام، بوفقوس، علي وراشد،تكرمست، طرطبوشت (أوطنطبوشت)، ذُكار(فحل النخل، حسب تعريف المؤلف) وغيرها إلى ثلاثة وعشرين اسمًا.(/5)
... رتب الشيخ الكلمات العامية حسب حروف الهجاء فبدأ بحرف الألف فذكر منها إحدى وثمانين كلمة، وحرف الباء (327 كلمة)، وحرف التاء (108 كلمات) وحرف الجيم (158 كلمة)، وهكذا. وكثير من الكلمات وضع الشيخ إلى جانبها تفسيرًا لها بكلمة أو بعبارة. وهو يكتب الكلمة بالحبرِ الأزرق وتفسيرها بالحبر الأحمر. مثلا كلمة (جبيرة) فسرها بكلمة (محفظة). (جلب) فسرها (غنم)، ومن حرف الباء (بَتْبته) تفسيرها (ضَرَبه) (برْفطه) تفسيرها
(خدعه)، (باسل) تفسيرها (ثقيل)،(بَلْبل) فسرها (للعتروس)، (بوروبة) فسرها (لعبة) إلخ .
رابعًاـ شواهد الكلمات العامية من اللغة العربية الفصحى:
... ... هذا الدفتر كتب له الشيخ مقدمة وأطلق عليه أيضًا اسم (القول الفصل في رد العامي إلى الأصل)، وهو دفتر يبلغ أكثر من مئة صفحة، في كل صفحة ثلاثة أعمدة: عمود للمصدر، وعمود للكلمة، وعمود لبيت الشاهد. ويقصد بالمصدر الكتاب أو الديوان الشعري الذي عثر فيه على الكلمة. وقد رجع الشيخ إلى كتب التراث والدواوين الشعرية، وهو يذكر مع المصدر الجزء، إن كان للكتاب أجزاء، ورقم الصفحة. ولكنه لا يذكر الطبعة، فقد يكون المصدر قد أعيد طبعه، مثل كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه الذي يذكره أول مرة بعنوانه الكامل ثم لا يشير إليه بعد ذلك إلا مختصرًا بكلمة (العقد) فقط. وكذلك فعل مع كتاب (الكامل) للمبرد، ودواوين الشعراء.(/6)
... أما (الكلمة) فيشير بها إلى الكلمة الشائعة في العامية بناحية (سوف)، وهو أحيانًا يشكلها كلها أو يشكل منها الحرف المقصود لمعرفة النطق الدارج، بالقياس إلى النطق الفصيح. وأحيانًا لا يذكر الكلمة الواحدة بل يذكر معها كلمة أخرى توضح معناها كالصفة أو المضاف إليه، مثل (لقمة طعام) و(النَّوى للتمر) و(تقَوّس ظهره) و(الجبار من النخيل) و(قارح=الجمل) و(المرمر=للياجور، القرمود)… هذا وقد بلغ مجموع الكلمات والعبارات التي رجع بها إلى الأصل الفصيح واستشهد لها بالشواهد من أمهات التراث حوالي 1500 كلمة.
... وأما (بيت الشاهد) فيورده من أصله أو من مصدره في الديوان أو الكتاب، وهو يكتب البيت المقصود، وقلما يكتب البيت الذي قبل الشاهد أو بعده. والتعبير: (بيت الشاهد) يدل على أن الشيخ قد اكتفى بالشواهد الشعرية من كتب التراث ولم يلجأ إلى الاستشهاد بالنثر. وربما كان يعتقد أن الشعر (وهو ديوان العرب) هو الذي يستدل به على فصاحة الكلمة وعلى تأصيلها ومن ثمة تأصيل الكلمة العامية أيضًا. والملاحظ أن شواهده كلها تقريبًا ترجع إلى الأدب القديم الجاهلي والمخضرم.
... وحوالي الصفحة الثمانين من الدفتر غير الشيخ منهجه فقسم الورقة إلى عمودين فقط مع تصرف وتوسع في وصف الكلمة فجعل العمود الأول (الكلمة الدارجة)، مثل (حلقة الباب) و(قعقع الجمل)، و(جماعة خوص العيون).(/7)
... وأما العمود الثاني فجعله لأبيات الشاهد ولكن بدون عنوان محدد، فقال في أعلاه: "وهذه طائفة أخرى من الكلمات تسجل هنا لتلحق بالطائفة الأولى" أي تلك الثلاثية الأعمدة. وقد استقى الشيخ الطائفة المضافة من كتاب (رغبة الآمل شرح كتاب الكامل)، تأليف سيد علي المرصفي، ولذلك قال في أعلى الصفحة: " أكثر ما في هذه الصفحة وما بعدها منقول من كتاب رغبة الآمل.." وعندما تقدم عمله في هذا القسم أصبح يكتب عمودين للصفحة الواحدة فيكتب الكلمة العامية في العمود الأول، ويكتب في العمود الثاني عبارة (الشاهد لها من الفصحى) وأحيانًا (الشاهد من الفصحى) بدون كلمة (لها).
... وقد آن لنا أن نذكر وصف الشيخ لمنهجه في جمع مادة هذا التأليف التي رجع إليها في مظانها في كتب الأدب ودواوين الشعراء ومختلف المعاجم بحثًا عن الأصل الفصيح للكلمات المستعملة في منطقة(سوف) وما حولها من الصحراء حيث مرابع القبائل العربية التي استوطنت المنطقة منذ الفتح الإسلامي، وخصوصًا منذ القرن الخامس الهجري، تاريخ ما يعرف بالتغريبة الهلالية نحو المغرب العربي.
... يقول الشيخ التليلي في مقدمة (شواهد الكلمات العامية من اللغة العربية الفصحى) مايلي: "وبعد، فقد رأيت أن أشرع – بحول الله وإعانته – فيما عزمت عليه منذ أمدٍ مديد، من تسجيل ما أجده في كتب الأدب ودواوين الشعر وفي مختلف المعاجم والقواميس العربية من الكلمات الفصيحة المنثورة هنا وهناك التي ترادف أو تقارب أو تطابق تلك الكلمات المستعملة في لغتنا العامية مما يمكن أن يعد من غريبها أو مما تفردت به هذه العامية دون أمها الفصحى فيما زُعم، مع أن له أصلاً أصيلاً وعرقًا طويلاً في شجرة لغتنا الأولى ، اللغة الأم".
... "وهذه الكلمات العامية كنت قد سجلتها في كراس خاص كرسالة صغيرة معتزما أن أبحث لها عن شواهد من الفصحى لأثبت للقارئ نسبها النسيب من أصلها الفصيح عندما تسنح الفرصة وتسمح الظروف".(/8)
... "وها أنا الآن أتوكل على من بيده الحول والطول فأثبت هنا الكلمة العامية وأردفها ببيت من الشاهد أو بفقرة الشاهد من شعر العرب ومنثورهم، وأقتصر على نقل الشاهد ولا أتوسع فيه. ثم أذكر المصدر الذي نقلت منه هذا الشاهد. وليس من شرطي
أن تكون كلمة الأم مطابقة لكلمة البنت مطابقة النعل للنعل بل يكفي أن تكون بينهما صلة ما تدل على أن هذه من تلك، وأنها أثر لها يدل عليها عند ذهابها أو غيابها".
... ومما يلاحظ على النص السابق ما يلي:
1-أن الشيخ بدأ عمله في جمع الكلمات الدارجة في كراس. ولم يكن في هذه المرحلة يبحث عن الشواهد الفصيحة التي تثبت الصلة بين العامي والفصيح. ونحن لا نجد هذا الكراس ضمن مؤلفات الشيخ، وإنما وجدنا الكلمات الدراجة في عمود وبيت الشاهد في عمود آخر، إلى جانب عمود ثالث يتضمن المصدر، كما سبقت الإشارة.
2-يشير الشيخ إلى أن خطته تشمل الشواهد من الشعر والنثر" من شعر العرب ومنثورهم" حسب تعبيره، ولكن دراستنا للدفتر جعلتنا لا نعثر على منثور العرب وإنما على شعرهم فقط. وحتى استشهاد الشيخ من (العقد الفريد) و(الكامل) اقتصر على ذكر الشواهد الشعرية دون النثرية (*).
3- أن الشيخ أثبت فعلاً أن الصلة بين الكلمة المستعملة والكلمة الأصل ليست دائمًا متطابقة، ويكفيه أن بينهما هذه الصلة ولو كانت بعيدة أو متغيرة.
... ونسوق الآن بعض النماذج مما أورده الشيخ لنستدل أولاً على منهجه ولنتعرف ثانيًا على مقصوده من البحث عن الصلة بين الكلام الدارج والأصل الفصيح(*).
... وهكذا سار الشيخ التليلي مع كل الكلمات الواردة في تأليفه، وهي كثيرة. ونود الآن أن نذكر نماذج أخرى من الكلمات مع ذكر المصدر ولكن دون ذكر
الشاهد(*)، اختصارًا فقط، وعلى القارئ المهتم أن يرجع إلى الكلمات في مصادرها، وهي التي يسميها الشيخ الكلمات المستعملة أو الدارجة في منطقة سوف:
... ...(/9)
وإليك نماذج أخرى من الكلمات والعبارات الدارجة في منطقة سوف، دون ذكر المصدر ولا الشاهد، رغم أن الشيخ التليلي قد ذكر لكل كلمة شاهدها ومصدرها،كما سبق. والهدف هو إثراء الذخيرة اللغوية العربية،ولا سيما من
المناطق التي قد يظن البعض أنها ابتعَدت عن العربية الأصلية أو أنها بيئات حرفت فيها العربية عن أصولها أو ذابت في غيرها. وهذه هي القائمة المأخوذة عفوًا من عشرات الكلمات التي سجلها الشيخ في تأليفه(*):
... وفي الخاتمة نقول إن الدفاتر التي أشرنا إليها تحتوي على سجل حافل بالكلمات والأمثال والأشعار العربية المشاعة الآن في الجنوب الجزائري، وفي منطقة وادي سوف على وجه التحديد. ولا شك أنها تمثل ذخيرة لغوية كبيرة لمن أراد المزيد من البحث في هذا الميدان. وسيجد الباحث هذه الكلمات ليس فقط في الحديث اليومي ولكن في الأمثال وفي الأشعار الدارجة أيضًا. وهي ثروة لغوية قد تتأثر بالاستعمالات الحديثة وباللغات الأجنبية الغازية عن طريق وسائل الإعلام، كما أن تفاعل السكان مع بعضهم وانتقال تجار وطلبة وموظفي
أهل الجنوب إلى حواضر شمال البلاد، وكذلك العكس، قد يؤثر في هذا الرصيد اللغوي الذي ما تزال الصحراء تحتفظ به، وهو في جملته رصيد عربي أو ذو أصول عربية ما تزال تختزنه كتب التراث كما رأينا في الأمثلة التي اقتبسناها. ومن ثمة فإن فضل الشيخ التليلي في الحفاظ على هذا الرصيد يستحق التقدير والتثمين لأن التدوين هو خير وسيلة لحفظ تراث الأمة.
أبو القاسم سعد الله
عضو المجمع المراسل
من الجزائر(/10)
التعريب والتغريب(*)
للأستاذ الدكتور عوض بن حمد القوزي
تميزت العصور الذهبية للغة العربية بالنشاط الواعي لاكتساب اللغة وتوسيع معجماتها، وَحَرصَ أبناؤها على التغذية اللغوية الرافدة والراجعة، فاتجه أبناء هذه الأمة نحو اللغات الأجنبية المعاصرة يترجمون معارفها، ويضيفونها إلى مكتسباتهم الفكرية والثقافية، ولم يجدوا حرجًا في ذلك، لأن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنَّى وجدها، وكما نشطت الترجمة وكثر المترجمون، نشطت علوم العربية باتساع ثقافات أهلها، وأصبحت المكتبات ودور الحكمة تعج بطلاب العلم من كل حدب وصوب، وانتشرت صناعات الوراقة والترجمة، وكثر المؤدبون، ونشطت الرحلة لطلب المعرفة من كل مكان، إذ صارت حواضر العالم الإسلامي يومذاك قبلة المتعلمين من جميع أصقاع المعمورة،
ينهلون من علومها، وينقلونها إلى بلادهم، ناهيك عن الحركة الداخلية المتمثلة في الرحلات العلمية التي يقوم بها الطلاب المسلمون من الأندلس والمغرب إلى مصر والشام والعراق، وما كان يواجه به أولئك الوافدون من حسن استقبال وضيافة، ومن عطف ورعاية حتى سرى حب العلم في الصغير والكبير والوزير والأمير ناهيك عن حب الخلفاء وتشجيعهم لحلقات العلم وتدارس المعارف، والإغداق على المعلمين والمتعلمين، بتذليل كل صعوبة تعترضهم، وإزالة كل ما يشغلهم من أمور الدنيا إلا أمور الكتاب وشؤون المعرفة.
... ... وبسبب ذلك الحماس والاهتمام والحكمة في نشر العربية وعلومها، وفي النهضة الفكرية للأمة، لم تجد البلاد المفتوحة حرجًا من تعلم العربية، بل(/1)
بل وجدت شعوبها حماسًا يدفعها إلى هذه اللغة، لا لأنها لغة القرآن الكريم فحسب، بل لأنها لغة فكر وثقافة وأدب، وقد تسابق الأعاجم إلى تعلم العربية حتى إن بعضهم كان يقرئ طلابه بها تارة فيخيل إليك أنه لا يعرف سواها، ثم يلتفت إلى مجموعة أخرى من طلابه فيقرئهم بلغتهم الأعجمية، فيخيَّل إليك أنه لا يجيد غيرها من اللغات، حتى إنه لا يُدرى بأي لسان هو أبين. [ انظر مثالاً على ذلك: موسى بن سيار الأسواري، الجاحظ: البيان والتبيين، ج1 ، ص368 ] . وما قيل عن الأسواري يقال عن لُغْدَةَ الأصبهاني أحد معاصري أبي حنيفة الدينوري ( ت282 هـ) الذي كان يلفت أنظار معاصريه في بغداد، ويبهرهم بفصاحته، ومعرفته لغة العرب [ انظر: ياقوت: معجم الأدباء، ج3، ص82 ]. ولقد بلغت بعض الشعوب الأعجمية من الفصاحة والحذق للعربية ما جعل المقدسي يشبه عربية إقليم ما بين النهرين بعربية العراق حسنًا في السمع، وبلغ به الإعجاب أن ادعى أن أصح العربية يُتكلم بها في الإقليم اللغوي الفارسي، لأنهم يتكلفونها تكلفًا، ويتعلمونها تعلمًا. [ المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ص 128، 146 ].
... ... ولقد وصف المقدسي أهل خوزستان بـ : " أنهم يمزجون العربية والفارسية؛ إذ يحسنون اللغتين على السواء، وأحسن ما تراهم يتكلمون بالفارسية حتى ينقلوا إلى العربية " [ المصدر السابق، ص 418 ].
ولو سئلنا عن السبب المحرِّك
للشعوب، وما الدافع لهم إلى تعلم
العربية، لوجدنا الجواب عند غير العرب، وهو أن لهذه اللغة ميزة ظاهرة، فهي منطقية في تعبيرها أكثر من أية لغة أخرى.[ انظر هاملتون جب: تعليق على محاضرة الدكتور إبراهيم مدكور: "منطق أرسطو والنحو العربي " ألقيت في مجمع اللغة العربية بالقاهرة الدورة (15) عام 1949م محاضر جلسات الدورة الخامسة عشرة، ص 371 ].(/2)
... ... وهي في جملتها فن منظوم، منسق الأوزان والأصوات، لا تنفصل عن الشعر في كلام تألفت منه ولو لم يكن من كلام الشعراء، وهذه الخاصة ظاهرة من تركيب حروفها على حدة، إلى تركيب قواعدها وعباراتها، إلى تركيب أعاريضها وتفعيلاتها في بنية القصيدة " [ انظر: العقاد: الشعر ديوان العرب، ص 8 ].
... ... يقول الكرملي: " إن لسان العرب فوق كل لسان، ولا تدانيها ألسن أخرى من ألسنة العالم جمالاً ولا تركيبًا ولا أصولاً" [ الكرملي: نشوء اللغة العربية ونموها واكتمالها، ص1 ] ويمتدح ابن جني تراكيب هذه اللغة وأساليبها وبعض خصائصها فيقول: "إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقة ما يملك عليَّ جانب الفكر حتى يكاد يطمح به أمام غلْوَة السحر " [ ابن جني: الخصائص، ج1 ، ص47 ].
... ... وليس ما قصدناه في هذا البحث من " التعريب " تلك المفاهيم الاصطلاحية التي فرغ الباحثون من دراستها وإقرار مدلولاتها، وجعلوا بعضها خاصًّا وبعضها عامًّا مفرقين بين مصطلحات " المعرَّب، والدخيل، والمولَّد، والمحدث"، فتلك أمور فرغ من بحثها والخوض فيها من جديد، واتخذت مجامع اللغة العربية قرارات فيها. [ انظر بحث الأستاذ محمد شوقي أمين، المقدم إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة، (جلسة يوم الاثنين 30 من صفر عام 1396 هـ الموافق الأول من مارس (آذار) سنة 1976م)] حيث تقرر أن :
المعرَّب: لفظ أجنبي غيَّره العرب.
والدخيل: لفظ أجنبي دخل العربية دون تغيير.
والمولّد: ما استعمله الناس قديمًا بعد عصر الرواية.
والمحدث: ما استعمله الناس في العصر الحديث.
أو حدودًا قريبة من هذه [ وانظر: الموضوع نفسه، بقلم الدكتور شوقي ضيف – عضو المجمع – تعقيبًا على بحث الأستاذ محمد شوقي أمين، الجزء الثالث من كتاب ( في أصول اللغة ) الذي أصدره المجمع في عيده الخمسين، ص 378 – 381 ].(/3)
ولكنا نعني بالتعريب اتشار العربية خارج الجزيرة، ودخولها مع الإسلام في البلاد المفتوحة شرقًا وغربًا.
ومعروف أن الدول التي انضوت تحت راية الإسلام كانت لها لغاتها وثقافاتها، ولم يكن بالسهولة المطلقة أن تنتشر العربية في تلك الأقطار، ولا أن تبلغ ما بلغته من انتشار، لكن العربية دخلت في صراع مع تلك اللغات جميعها، وكانت حدّة الصراع وقوته تتفاوت بين لغة وأخرى، فالفارسية مثلاً كانت قوية في موقفها ضد تيار العربية، وذلك لشدة نفوذها في منطقة بلاد فارس، ولما تحمله من ثقافة وما تحتفظ به من حضارة لا تزال ماثلة إلى اليوم.
إلاّ أن العوامل السياسية والاقتصادية والدينية فضلاً عن عامل الهيبة والتفوق الذاتي للغة كانت وراء غلبة العربية على تلك اللغات [ انظر: أحمد مختار عمر: من قضايا اللغة والنحو، ص 62-71 ].(/4)
وحيث كانت القوة السياسية في أيدي العرب في تلك الأقطار، فقد بذلوا جهودًا في تعريب البلاد الإسلامية، وذلك باستثمار نشر الإسلام بين مواطنيها، وأخذت العربية تسير جنبًا إلى جنب مع الإسلام حيث حلّ، لاسيما حين عُرِّبت الدواوين، وأصبحت المكاتبات الرسمية بين تلك الأقاليم وعاصمة الخلافة الإسلامية باللغة العربية، وكان من حرص الولاة العرب تشجيع ذويهم على الانتشار في البلاد الإسلامية، وهذا الانتشار كان له نتائجه اللغوية؛إذ ظهرت في البداية لغة هجين بين القادمين العرب وبين الأهالي فلا هي بالعربية الخالصة، ولا هي لغة أهل تلك الأقاليم وحدها، إلا أن الدافع الديني كان له دوره في نشر العربية، خاصة عند أولئك الذين يتطلعون إلى فرص العمل التي لا يتمتع بها غير المسلمين، وهي المتمثلة في القيادة والسيادة، والتخلص من الضرائب التي كانت مفروضة على غير المسلمين، وكان للإسلام دوره في تقوية مركز اللغة العربية حيث نزل، فالقرآن عربي وبه يكون تعبدهم، والعربية مصدر للتعايش مع العرب الفاتحين، ومؤهل للحصول على مركز في الدولة الجديدة، الأمر الذي أكسب اللغة العربية قوة ذاتية، سارع بانتشارها في تلك الأقاليم، ناهيك عما في هذه اللغة من ثقافة وأدب وقدرة على استيعاب اللغات والثقافات الأخرى، والاستفادة من ثقافاتها وحضارة شعوبها، فهي لغة ليست مغلقة على نفسها، بل تتمتع بالطواعية والقدرة على الاكتساب والاتساع للدخيل، وكان لطبيعة الإسلام في المساواة بين معتنقيه – لا فرق بين عربيهم وعجميهم إلا بالتقوى – آثارها في إفشاء روح المحبة والأخوة بين الجميع، وتعاونهم في نشر الرسالة، واجتذاب الأعاجم لتعلم العربية، وبدأ انصهار الشعوب تحت مظلة واحدة هي مظلة الإسلام، وكان من نتائجه إصهار بعض العرب إلى المسلمين من غير العرب مما نتج عنه جيل جديد ولد مسلمًا، عربيًّا في الغالب، أو كانت العربية عليه أسهل، لسماعه إياها في البيت والمسجد(/5)
والكتَّاب. وكان لبعض خلفاء الدولة الإسلامية دور في إرساء دعائم العربية في تلك الأقطار بما اتبعوا من أساليب تعريب الدواوين، وإسناد مسؤولياتها إلى عرب أو من يجيدون العربية، وكان للذميين من هؤلاء مكان في الوظائف الرسمية، حتى جاء عمر بن عبد العزيز، الذي أمر ولاة الأقاليم بألا يولوا أمور المسلمين أحدًا من أهل الذمة، فانصهر جلُّهم في الإسلام إما عن قناعة ورغبة، وإمَّا خوفًا من ضياع فرص العمل التي تحصلوها، إضافة إلى مشروعه المتضمن إلغاء ضريبة الرؤوس على غير المسلمين إذا هم اعتنقوا الإسلام ومقولته في هذا الخصوص مشهورة: " إنَّ الله إنما بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هاديًا ولم يبعثه جابيًا ".
وإذا كان القرن الأول الهجري قرن توطين للإسلام في البلاد المفتوحة، فإنه قرن ازدواج لغوي أيضًا في تلك البلدان، وقرن صراع بين الثقافات تفوقت فيه العربية أحيانًا في مكان، وعجزت في آخر بحسب ثقافة الشعوب وقلة الوافدين العرب إليها، وبمقدار قوة الإسلام أو ضعفه فيها، وقد استمر الصراع اللغوي، وتذبذب الألسنة بين لغة الدين والعبادة، وبين لغة الثقافة الأصلية، وواجهت العربية صعوبات كبيرة حتى سيطرت في النهاية على النشر والإبداع الأدبي والديني، ولم ينته القرن الهجري الثالث حتى كانت العربية هي اللغة الرسمية في معظم البلاد الإسلامية وظهرت سيطرتها على تلك اللغات التي أخذت تنحسر شيئًا فشيئًا، وتنزوي في الجبال والأودية البعيدة عن العمران، وقد ظهر مؤلفون وكتاب من غير العرب فحملوا لواء الثقافة الجديدة مع احتفاظ بعضهم بلغته الأصلية، وتخلي بعضهم الآخر عنها، حتى عدَّ بعضهم من الفصحاء ومن ذوي اللسانين.(/6)
والعربية في انتشارها هذا شرقًا وغربًا لم تخل من التأثر بلغات الشعوب المفتوحة، لما تمليه طبيعة التعايش بين السكان، إلا أن تأثيرها على اللغات الأخرى كان أشد لما يدعمها من أسباب أهمها الدين الإسلامي. وبين التأثير والتأثر ظهرت الحاجة إلى تعريب بعض الألفاظ الأعجمية، وإخضاعها لقوانين الصرف العربية، وإدخالها في الاستعمال الأدبي واللغوي فاقترضت العربية ثروة هائلة من الألفاظ، واستطاعت أن تلبي حاجات الكتاب والمبدعين برصيد لغوي كبير، أتاح لهم اقتحام الميادين الثقافية المختلفة، فأنتجوا زخمًا هائلاً من الكتب في شتى العلوم. وبانتشار الإسلام واتساع رقعة العربية احتاجت اللغة إلى مواجهة متطلبات التوسع والتطور، عندما نشأت علوم غير معروفة قبل الإسلام واحتاج القومة على اللغة إلى مواكبة عصرهم بتطوير لغتهم وتوسيعها. فكان أمامهم طرق لتوسيع لغتهم، ووسائل يرجعون إليها عند وضعهم لمصطلحاتهم الطارئة في العلوم العقلية والنقلية، من تلك الوسائل: الاشتقاق والنحت والتعريب " ووسيلة أخرى لدى علماء البيان هي " المجاز " وقد لجأت العربية إلى هذه الوسائل للتغذية الراجعة، ومعنى هذا أنها محتاجة لمواصلة نجاحها وهيمنتها على اللغات الأخرى في الأقاليم الإسلامية، تلبية لحاجات النجاح إلى رافد لغوي يستجيب لعوامل التطور مما لم تألفه العربية في جزيرتها، وكان لها ما أرادت إذ عرَّبت بعض الألفاظ الأعجمية، وأدخلتها في لسانها، واختط علماؤها قواعد تُخضع المعرَّبات لأبنية كلام العرب وأوزانه، وكان التعريب خير معين في عصر ظهرت فيه نواة التأليف والترجمة، وأخذت تتطور من عصر إلى آخر، حتى بلغت أوجها في عصر المأمون الذي يُعدّ العصر الذهبي لنقل العلوم العصرية إلى العربية كالطب والفلسفة والرياضيات والفلك والكيمياء، هذه العلوم وغيرها تستدعي مصطلحات جديدة كان على العربية خلقها ودمجها في ألفاظها، وقد حققت العربية تقدمًا في هذا الشأن مَكَّنَ(/7)
العلماء – على اختلاف مشاربهم – من بلوغ الغاية في علومهم، واتسع معجم اللغة العربية بما عرَّبه العلماء من الألفاظ والمصطلحات الأجنبية، وبما وظفوه من ألفاظهم العربية، فنمت بذلك اللغة واتسعت، وسهلت للعلماء وسيلة التأليف وأداة التعبير المناسبة. وقد سلك نقلة اللغة والمترجمون سبلاً ناجعة للسيطرة على المصطلحات الجديدة سواء في العلوم النقلية أو العلوم العقلية وهي كما يأتي:
1- تحوير المعنى اللغوي القديم للكلمة العربية، وتضمينها المعنى العلمي الجديد.
2- اشتقاق كلمات جديدة من أصول عربية أو معربة للدلالة على المعنى الجديد.
... 3- ترجمة الكلمات الأعجمية بمعانيها.
4- تعريب كلمات أعجمية وعدّها صحيحة.
... فلم يجمدوا في أداء مهمتهم، بل داوموا على الاشتقاق والتعريب لتنمو اللغة، وتتسع العلوم الجديدة، [ انظر: الأمير مصطفى الشهابي: المصطلحات العلمية في اللغة العربية في القديم والحديث، ص 28 ].
ويستمر أمر التعريب لا تتجاهله العربية حتى عصرنا هذا، استجابة لحاجة العلوم الحديثة إليه، ويقوم عليه علماء العربية المعاصرون، ويكون لمجامع اللغة العربية الدور البارز في إقراره وسيرورته، ونظرًا لتعقد الحياة وتلونها في العصر الحديث وكثرة المخترعات، فقد أصبح لزامًا على العرب أن يواجهوا الزخم الهائل من المصطلحات الحديثة بما يناسبه من الألفاظ المعرَّبة أو المنحوتة أو أيَّا ما يكون، وإلا عاشوا خارج إطار الصورة الحيَّة، واضطروا أن يتقبلوا الدخيل مهما كانت سيطرته وشذوذه.(/8)
... ... وإذا كان " التعريب " يعني باختصار سيطرة العربية على اللغات الأجنبية في البلاد المفتوحة إسلاميًّا، وقدرتها على الاكتساب من تلك اللغات والخروج في النهاية بثقافة إسلامية عربية قوية مازالت تقتات عليها الأجيال، فإن " التغريب " يعني كيف سحب البساط من تحت أهله وظهر الوجه الآخر للعملية اللغوية، وهو وجه سلبي – غالبًا – في الوقت الذي كان " التعريب " إيجابيًّا كله وفي جميع مراحله. فمنذ سقوط بغداد وخروج العرب من الأندلس أخذت العربية تتقهقر عن مكانتها في الشعوب المفتوحة شرقًا وغربًا، ولم يعد هناك الكتاب والشعراء والأدباء الذين عهدناهم إبان قوة الدولة الإسلامية، ولم يبق الحال عند انحسار اللغة العربية وتراجعها أو تقهقر سدنتها، بل أخذ الغزو الأجنبي – وخاصة الغربي – في مهاجمتها في عقر دارها، تارة بالهجوم عليها وعلى الشعوب الناطقة بها، في شكل استعمار عسكري وثقافي، وأخرى في شكل عكسي من أشكال الاقتراض اللغوي، فنال من العربية وهجَّن ألسنة أهلها طوعًا أو كرهًاعن طريق سيطرته على ميادين التعليم، والإنتاج العلمي والثقافي، ثم السلوك اللغوي في الحياة العامة [ انظر: كمال بشر: خواطر مؤتلفات في اللغة والثقافة، ص 144 وما بعدها ].(/9)
... ... فعندما تعرضت الشعوب العربية للاستعمار الغربي، لم يقف الضرر عند السيطرة على الأوطان وحكم شعوبها، بل تعدى ذلك إلى لغتها وثقافتها، إذ أخذت بريطانيا وفرنسا خاصة في نشر ثقافتيهما ولغتيهما، وظهرت مع ذلك الدعاوى ضد العربية، وأنها لغة لا تنهض بمتطلبات العلوم الحديثة، وأن الإعراب الذي هو أهم مميزاتها يقف حائلاً ضد التفكير الحرّ بها، ورسم الأعداء طرقًا كثيرة للإطاحة بلغة البيان والفصاحة، فتارة يزينون لشعوبها الكتابة باللهجات المحلية، والتخلص من الإعراب، وتارة بالعدول عنها لفظًا وكتابة إلى اللغات الحديثة. وتارة بتشويه وجه العربية في نفوس أبنائها، وتارة بإيهامهم بصعوبتها وتعقيد قواعدها وإعرابها، وأخرى بعدم قدرتها على مواجهة المصطلحات العلمية الحديثة… إلى غير ذلك من أشكال الحروب النفسية على مستخدميها، وأخذت تنحسر في دارها متوارية خجلاً من الوافد الذي أخذ يزاحمها ويهدد كل ما ارتبط بها من مقومات "الهوية العربية"، وأخذ يعصف بشعوبها من كل جانب، فتارة بإحلال لغته الأصلية مكان العربية – كما هو الحال في شعوب المغرب العربي – وتارة بإفساح المجال لتعايش اللغتين معًا – كما هو الحال في مصر – مع إعطاء الفرصة للغة الأجنبية في التغلب والسيطرة، ثم بتشجيع البعثات إلى البلاد الغربية لاكتساب الثقافة الغربية لغة وسلوكًا، ومن ثم تطبيقها في شكل استعلائي يجذب الآخرين إليها وينفرهم من لغتهم الأصلية، ويشعرهم بحاجة مجالات العمل إلى اللغة الأجنبية، وضعف الفرص أمام من لا يجيدها فظهرت المدارس الأجنبية متظاهرة بتخريج جيل قادر على التعايش مع الحياة المعاصرة، وشرعت في مزاحمة المناهج التقليدية في التعليم العام والجامعي معًا، إذ كان للغة الأجنبية مساحة من المنهاج تزاحم المساحة المعطاة لتعلم قواعد العربية وعلومها الأخرى، حتى كادت العربية تصبح "لغة ثانوية" في وطنها. بعدما زاد انتشار هذه المدارس في بلد كمصر، وأصبح(/10)
الالتحاق بها مطلب كل أسرة وحلم كل بيت، والشعور بالزهو والافتخار عندما يقول بعضهم: إن أبناءهم يدرسون في مدارس أجنبية، ذات نفقات باهظة في الوقت الذي يحسّ الآخرون بالحسرة والمرارة من عدم تمكين أبنائهم من فرص التعليم في هذه المدارس [المصدر السابق ص 149] هذا مثال حيّ على التغريب الموجه الذي تعاني منه اللغة العربية، بل "الهوية العربية" والأمة العربية كلها.
... ناهيك عن التغريب في مجالات الإنتاج العلمي والثقافي الذي امتد إلى الصحافة الجماهيرية والمجلات الأدبية المتخصصة، بنزع الأصالة اللغوية منها، وإخراجها إلى شكل ذي مظهر براق، تشوبه العجمة، وتتخلله ألفاظها، رغبة في التباهي بإجادة اللغة الأجنبية والثقافة المعاصرة، وما عليها لو خرجت الجمل مشوهة، والصياغة اللغوية متغيرة، لأن ذلك كله من مقتضيات التطور والارتقاء، وأن "الحداثة" تتطلب مثل هذا الخروج المقصود، لا الانحراف غير المقصود، حتى إن بعض الكتابات التي نسميها عربية لم تعد مفهومة عند كثير من أبناء العروبة، وأضحت تحتاج إلى بيان أو ترجمة، ليسهل إدراك معانيها.
... ويرجع أستاذنا الدكتور كمال بشر هذا الأمر إلى خلوّ الساحة العربية من ثقافة عربية أصيلة تشبع حاجاتنا الفكرية والإنسانية في إطار العالم الغائر الثائر المملوء بالحركة والنشاط في شتى الاتجاهات، وإلى عدم القدرة أو ضعف الرغبة في الابتداع والابتكار، بالإضافة إلى العزوف عن الإنتاج الفكري العربي الأصيل إما لعدم القدرة على استيعابه وكثرته، وإما لصعوبة مادته اللغوية، وأساليبه التعبيرية، ونتيجة لذلك التفت الناس إلى منابع ثقافية أخرى تشبع حاجاتهم الفكرية وتفتح لهم منافذ جديدة تحرك الهواء الراكد وتنقيه من شوائب الجمود، وأن المحصول الفعلي لهذا كله هو "التغريب" الفكري واللغوي الذي هو أشبه بالزهور الصناعية التي لا طعم لها ولا رائحة [انظر المصدر السابق، ص 160 – 163](/11)
... ... ومن مظاهر "التغريب" ما يطفح على عبارات المتحدثين وكتابات المثقفين من استخدام لبعض الألفاظ الأجنبية في الوقت الذي يمكنهم تجنبها إلى ألفاظ عربية، لكن التباهي بالثقافة الغربية والشعور بالفوقية يدفع هؤلاء إلى تطعيم مقولاتهم المكتوبة أو المنطوقة بمصطلحات أجنبية، متظاهرين بأنها أسبق إلى ألسنتهم أو فهمهم من مماثلها العربي، وهو شعور لعمري يفصح عن الانهزام الداخلي للشخصية العربية، وتعلقها بالقشور، وانصرافها عن الجوهر، حتى إن صحافتنا العربية أصبحت لا تتحرج في عرض مثل هذه الأطروحات، وربما حرصت على استكتاب أولئك الذين يظهرون خبراتهم الأجنبية في انتقاء المصطلحات الأجنبية حتى مع علم القارئ العادي بالمماثل العربية، ولم يقف الأمر عند الصحافة أو الإذاعة، فهناك التلفاز الذي تعج برامجه بمثل هذه الممارسات، حتى إن العربية الفصحى أضحت في وسائل إعلامنا غريبة في ديارها. وانسياقًا وراء تيار "التغريب" تجاوز الإعجاب باللغات الغربية المثقفين إلى العامة، حتى أولئك الذين لا يجيدون تركيب جملة أجنبية واحدة، أو نطق بعض كلماتها، تراهم يقلدون ما يسمعون من ألفاظ وتعبيرات في السياسة والتجارة والأخلاق، لا فرق إن عدوها من التندر تارة أو من قبيل التظاهر باتساع الثقافة والمعرفة تارة أخرى، وأصبح من مظاهر العولمة الحديثة وهو هنا ما نسميه تغريبًا ما يعج به الشارع العام من لافتات بأسماء المحلات التجارية والخدمية بكتابات أجنبية بارزة، وإن هم عجزوا عن الحرف الأجنبي ترجموه بالحرف العربي، وكل ما يهمهم أن يحمل المكان الطابع الغربي سواء كتب اسمه بالحروف الأجنبية أو كتب بالحرف العربي، المهم أنه ممهور بالصبغة الأجنبية، وغالبًا ما تكون غربية.(/12)
... ولم يقف أمر "التغريب" عند هذه الحدود وهذه الآثار ، فقد تجاوزها إلى التعليم ومناهجه، لاسيما في التعليم الجامعي، فالعلوم البحتة من طب وهندسة وكيمياء وفيزياء وما يتبعها من علوم تدرس في جامعاتنا العربية كلها باللغة الإنجليزية لا نستثني منها غير الجامعات السورية التى فرضت التعليم الجامعي بالعربية في هذه العلوم وفي سواها. وهو أمر عجب، وقد أثبت ضعف التحصيل في مقارنة التعلم بالعربية، والذي يدعو إلى العجب تمسك الأساتذة أنفسهم باللغات الأجنبية بالرغم من كونهم يعلمون طلابًا عربًا في بيئة عربية، والمستفيد من العملية كلها عربي، وليس من تفسير للإلحاح على تعلم الطب – مثلاً – باللغة الإنجليزية إلا الهزيمة الداخلية التي تعاني منها المجتمعات العربية أو الشعور بالفوقية الأجنبية، دعك من التبريرات التي يلجؤون إليها، فالتحصيل بالعربية يكون أسرع وأجدى وأسهل، وادّعاء السيطرة على المصطلحات الأجنبية في التعليم، ومتابعة مستجدات العلوم واختراعاتها، كل هذه الأمور في مقدور الجامعات السيطرة عليها عن طريق تنظيم دراسات مكثفة في اللغة الأجنبية لهذه الفئات بعد اكتمال دراستها، أو في أثنائها، لا أن تكون على حساب المعرفة الحقيقية أو على حساب اللغة القومية.
ولو نظرنا إلى الشعوب ذات الشخصية القومية التي لم تعصف بها عاصفة "التغريب" لكفانا واعظًا، فهاك اليابانيون والصينيون، أتراهم يعلمون الطب بالإنجليزية؟! ثم الألمان والفرنسيون، أيعلمونه بالإنجليزية أيضاً؟! الأطباء الصينيون العاملون في البلاد العربية لا يقرؤون لغة غير لغتهم الصينية، ويلزمون الجهات الطبية المحتاجة لخدماتهم بإحضار مترجمين ليتم التفاهم بينهم وبين المرضى. ترى أيريد الطبيب العربي مترجمًا مثله وهو يعالج إخوته وبني جلدته؟!(/13)
... ومن الأمثلة التي تدعونا للتفكر في قيمة الاعتزاز بالهوية والخروج من الوضع الانهزامي للنفس الإنسانية، ما نلحظه في الدولة العبرية، فهل تراها تعلم بلغة غير العبرية؟! ثم أين العبرية من العربية؟! إنها لغة أحياها أفراد بعد فناء وعادت للحياة حينما أرادت نفوس أبنائها ذلك.
وإذا كانت النفوس كبارًا
تعبت في مرادها الأجساد
إن توطين العلم في مجتمعنا العربي لن يتحقق إلا إذا كان بلغة هذا المجتمع، وهذا يعني تعريب العلوم كلها، أما الخضوع للتعلم باللغات الأجنبية فسوف يبقي العلم محصورًا في نخبة محدَّدة قليلة، غير قادرة وحدها على النهوض بأعباء ثقافة عصرية فعالة. واللغة العربية أهل للاستقلالية بشخصيتها والسيطرة على المعارف بما أوتيت من مقومات، لا ندعيها نحن العرب، ولكن بإقرار العالم كله عالميتها. واعتمادها لغة رسمية من لغات الأمم المتحدة الست، ولكي تكون عالميتها حقيقية لا ادعاء كان على سدنتها والغُير من أبنائها المداومة على متابعة المستجدات العلمية والاختراعات بتعريب قوانينها وتقريب مفاهيمها لمتكلمي هذه اللغة، عن طريق الترجمة إليها تارة، ومنها تارة أخرى [انظر: ممدوح محمد خسارة: قضايا لغوية معاصرة، ص12 – 13]
... ... وبعد : "فإن مكونات الثقافة جميعها، من قيم ومعتقدات، ومن إنتاج علمي وأدبي، لا يمكن أن تكون عربية وفعالة ومبدعة إلا إذا كتبت ونشرت وأنجزت باللغة العربية، الأمر الذي لا يتحقق إلا بتعريب تلك الجبهة المنسية من جبهات نزالنا مع الثقافات الأخرى "[المصدر السابق، ص 14].
"وإن مطلب المباشرة في تطبيق التعريب قد أصبح مطلبًا ملحًّا غير قابل للتأجيل بعد كل تلك الأبحاث والندوات، وفي ضوء اعتماد الأمم كبيرها وصغيرها اللغات القومية في تدريس العلوم الحديثة بجامعاتها دون تردد أو
تسويف " [محمد جابر الأنصاري:
التعريب الجامعي وحتمية المقارنة
الميدانية، مجلة رسالة الخليج العربي،(/14)
العدد 24، ص 151 نقلاً عن المصدر السابق، ص 14].
... ... ثم إن الغيرة على العربية والحماسة للتعريب لا تعني كراهة اللغات الأجنبية أو الدعوة إلى هجرها ومقاطعتها، فنحن من هذا الكون ولا نعيش بمعزل عن الآخرين، فكان علينا إذن مجاراته في علومه ومخترعاته، ومتابعة كل جديد من حولنا فى عالم كثرت تقنياته، وتضاعفت إنجازته العلمية والمعرفية، وألا نكون عالة على موائد القوم، خاضعين لسيطرة العولمة الثقافية.
والله من وراء القصد.
عوض بن حمد القوزي
عضو المجمع المراسل
من السعودية(/15)
المجامع اللغوية العلمية العربية والتنمية اللغوية(*)
للأستاذ الدكتور عبد الكريم خليفة
أيها العلماء الأفاضل:
سيداتي وسادتي:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد؛
... فأود أن أوجه تحية الاحترام والاعتزاز، إلى مجمعنا العتيد بالقاهرة. فقد أحسن ـ كما هو شأنه ـ اختيار موضوع "التنمية اللغوية"، محورًا لمؤتمر المجمع في دورته السبعين (2003م-2004م) الموافق (1424هـ ـ1425هـ).
... فقد أدركت نخبة من المفكِّرين الطلائع في المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أهمية اللغة العربية الفصيحة في الحفاظ على هوية الأمة العربية ووحدتها والتضامن بين أقطارها، وأن العربية هي السبيل الوحيد لرقي الأمة، وتوطين العلوم والفنون والتقنيات الحديثة، وإنتاجها وتوظيفها في جميع مجالات الحياة
العامة، في مختلف الأقطار العربية. وإن جعل اللغة العربية الفصيحة لغة التدريس في جميع مستوياته واختصاصاته، ولغة البحث العلمي والتقنيات الحديثة، وبناء مجتمع المعرفة، هو السبيل الوحيد الذي يؤدي إلى نهضة علمية أصيلة ومبدعة. فإنَّ النمو الحضاري والعلمي ينبثق من داخل الأمة، ومن ذاتها، ولا يمكن أن يستورد بلغات أجنبية، وبقوالب جاهزة، تفرض من الخارج، مهما كانت الأشكال التي تتغلف بها، والألوان التي تتزين بها. فإن الفرق شاسع بين مفهوم "النمو" ومفهوم "التضخم التراكمي". فالنمو حياة، والتراكم تضخم، لا حياة فيه، وهو جمود وعقم.
... ونحن عندما ننادي بسيادة اللغة العربية في أوطانها، وبأن تكون لغة التعبير والتواصل والتعليم في جميع
المؤسسات العلمية والتقنية العامة والخاصة، وفي جميع دوائر الدولة ومنشآتها، إنما نؤمن بالتنمية اللغوية، سبيلاً وحيدًا لتحقيق هذه الأهداف السامية. وإن الاهتمام باللغات الأجنبية، باعتبارها لغات مصادر العلوم والتقنيات الحديثة ومصادر المعلوماتية، في عصر تَفَجُّرِ المعرفة، يكوِّن ركنًا مهمًّا من أركان التنمية.(/1)
وإن نظرة شاملة على الظروف التي تحيط بلغتنا العربية، منذ أواخر القرن العشرين، وبداية القرن الواحد والعشرين، ترسم صورة قاتمة لفوضى المصطلحات والمفاهيم التي تتناول أزمة اللغة العربية، والتحديات المصيرية التي تواجهها على مدارج القرن الحادي والعشرين. وإن عدم تحديد معاني هذه المفاهيم والمصطلحات، يؤدي في كثيرٍ من الأحيان إلى اللبس، وعدم وضوح الأفكار والآراء؛ بل وإلى اختلافات وصراعات في الرأي والاتجاهات، تثير الغبار الكثيف حول حقائق ما تصبو إليه النهضة العلمية اللغوية العربية.
فقد استعملت مفاهيم واصطلاحات مختلفة في هذه الأجواء التي تعبق بها اختلاف الأفكار والاتجاهات، ومنها مثلاً اصطلاحات: "تطوير اللغة العربية" و"تنمية اللغة العربية" و"النهوض باللغة العربية"، و"تطوير أساليب تعليم اللغة العربية"، و"تطوير النحو" و" تيسير النحو" و"تيسير تعليم النحو" وتيسير اللغة العربية"، "وتيسير الكتابة والإملاء العربي" و" إنقاذ اللغة العربية " و"إحياء اللغة العربية" و"حماية اللغة العربية" وغير ذلك من التراكيب والاصطلاحات التي تتداخل في كثير من الأحيان، دلالاتها ومفاهيمها. وقد يستعمل بعضهم اصطلاح "تطوير اللغة العربية" واصطلاح "النهوض باللغة العربية"، في الصفحة ذاتها… وهذا ينطبق على استعمال اصطلاحات "التيسير" و"التنمية" و"الإنقاذ.." إلخ.
... فإن اشتداد الخلاف ينتجُ أحيانًا عن الاختلاف في تحديد المفاهيم والمدلولات. وإن أكثر هذه المفاهيم
مثارًا للجدل، مفهوم "تطوير اللغة العربية" وعدم تحديد مفهومه تحديدًا واضحًا ودقيقًا. فالتطوير قد يخفي وراء جاذبيته العقلانية التغيير، أشدَّ الآراء عداءً للهوية العربية، متمثلة بوحدة لغتها والمحافظة على تراثها. وقد يلتقي مفهوم "التطوير" هذا، عند الآخرين مع مفهوم "النهوض باللغة العربية ومفهوم"التنمية اللغوية..".(/2)
... وربما كان من المفيد في خضم هذه الآراء المختلفة، وغياب الوضوح والدقة في هذه الاصطلاحات، أن نعود قليلاً إلى الوراء، إلى عصر تجدد النهضة العربية، وبدء تماسها من جديد مع لغات الحضارات العالمية المتقدمة في العصر الحديث، ولا سيما تماسها مع اللغتين الإنجليزية والفرنسية. ولكن هذا الاتصال اللغوي الحديث، يختلف اختلافًا جوهريًّا عن اتصال اللغة العربية التاريخي بلغات الحضارات القديمة؛ إذ كانت العربية تمثل لغة الدعوة الإسلامية الظافرة، تحمل إلى بني البشر مبادئ التحرر من العبودية ومبادئ العدل والمساواة. فهي لغة القرآن الكريم ولغة الحديث النبوي الشريف. وهي أيضًا لغة الدولة الإسلامية بدواوينها ومؤسساتها المختلفة.
إن الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أحاطت باللغة العربية، في تجربتها الأولى لاستيعاب حصيلة المعارف الإنسانية، تختلف اختلافًا جوهريًّا عن تجربتها في العصر الحديث. فقد جاءت هذه التجربة الأخيرة، في أعقاب عصر التراجع والتشتت للحضارة العربية الإسلامية، وتغلُّب اللغات التركية والفارسية والسنسكريتية على مؤسسات الدولة، ولكن اللغة العربية الفصيحة، وفي جميع الظروف السالفة، بقيت لغة العقيدة والعلوم الإسلامية، ترعاها الدولة في أعلى مؤسساتها. وعندما جرى اتصالها في العصر الحديث باللغات الأوربية، لاسيما الإنجليزية والفرنسية، جاء الاتصال في ميادين الحروب الاستعمارية والتبشير. فقد كان من أولويات الاستعمار الحديث فرض لغاته، من خلال مؤسساته السياسية والاقتصادية والتعليمية، ومن خلال إرساليَّات التبشير، والاحتلال العسكري المباشر، كما هو الشأن في الشمال الأفريقي، وفي الجزائر بخاصة. وأصبحت اللغة العربية، لغة الأمة التي ترزح تحت نير الاحتلال والاستعمار، رمز شعارها من أجل التحرر الوطني، واستعادة سيادتها في أوطانها.(/3)
... كانت اللغة العربية الفصيحة، وما زالت، هدف هذه الموجات العدائية التي يشنها الاستعمار الأوربي، والاستعمار الأمريكي، بوجوهه وأشكاله المختلفة، ابتداءً من حملة نابليون الفرنسية سنة 1798م. ومرورًا بالهجمة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية بفلسطين، وانتهاءً بتيار العولمة، في مفهومها الحديث، واجتياح الجيوش الأمريكية وحليفاتها القطر العراقي الشقيق، وسقوط بغداد في العاشر من نيسان سنة 2003م، وما صاحبها من نهب وسلب وتدمير للمكتبات العامة والمخطوطات الثمينة والمتاحف والجامعات والمؤسسات العلمية والثقافية، والمجمع العلمي اللغوي، وكل ما له صلة بالحضارة العربية الإسلامية، مما يذكرنا بسقوط بغداد واستباحة مؤسساتها الثقافية والعلمية وتدميرها على أيدي التتار سنة 656هـ.
... فاللغة العربية، لغة الأمة الجامعة، ولغة تراثها على امتداد القرون، هدف أساسي من أهداف هذه الموجات التي يشنها الاستعمار، في العصر الحديث على الأمة العربية، بأساليب وأقنعة مختلفة وتحت شعارات مزيفة. واللغة العربية في جميع المراحل والأحوال، ترتبط ارتباطاً جوهريًّا وروحيًّا، بالنضال الدامي الذي خاضته وتخوضه أمتنا العربية من أجل تحررها من التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية. وفي هذه الأجواء، بادرت نخبة من المفكرين والعلماء الغيورين على لغة أمتهم وتراثها الحضاري، إلى تلمُّس الطرق والوسائل للنهوض باللغة العربية، كي تواكب العصر، وتطوي الزمن للحاق بركب الحضارة العالمية، والمشاركة الأصلية المبدعة في بنائها وتطورها. فبدأت تظهر منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أندية وجمعيات وبالتالي مؤسسات مجمعية، أخذت على عاتقها العمل على النهوض باللغة العربية والعمل على أن تصبح قادرة على الوفاء بجميع المتطلبات العلمية والفنية والحياتية، وأن تكون العربية لغة العلوم والفنون والتقنيات الحديثة.(/4)
... وإذا استعرضنا الأهداف التي حددتها قوانين ومراسيم إنشاء المجامع اللغوية العلمية العربية، نجدها جميعًا، تجعل من أهدافها الأولى المحافظة على سلامة اللغة العربية، وجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون، في تقدمها، وملائمة للتعبير عن حاجات الحياة ومستلزماتها في العصر الحاضر.
بدأت المجامع اللغوية العلمية العربية،
منذ إنشائها، بالتصدي للقضايا والتحديات التي تواجهها اللغة العربية الفصيحة. وإن النظرة الفاحصة للأعمال التي قامت بها هذه المجامع، تقودنا إلى تصنيفها على الوجه الآتي:
1.الحفاظ على سلامة اللغة العربية الفصيحة.
2.توسُّع واجتهادات من أجل إغناء اللغة العربية، وجعلها مواكبة لمتطلبات العصر.
3.وضع المصطلحات في جميع مجالات العلوم والآداب والفنون والتقنيات الحديثة والعمل على نشرها وإشاعتها وتوحيدها.
4.الترجمة، ولاسيما من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، والإسهام بعملية التعريب الشامل في المؤسسات العامة وفي التعليم الجامعي والبحث العلمي .
5.وضع المعجمات العامة والمتخصصة.
6.إقامة الندوات والمؤتمرات من أجل
تيسير اللغة العربية، نحوًا وصرفًا وكتابة.
7.إحياء التراث العربي والإسلامي في العلوم والآداب والفنون.
وبقيت هذه الجهود محدودة في إطار الإمكانات المالية وفي إطار غياب سياسة لغوية رسمية تعنى بالعربية، تنظيرًا وتطبيقًا، وفي الانعزالية التي فرضت على هذه المجامع بصورة أوبأخرى، وبقاء إنتاجها العلمي واللغوي حبيس المستودعات، وبقاء قراراتها اللغوية على الرفوف وفي الأدراج يعلوها الإهمال والغبار، لا تجد طريقها للتنفيذ ولا إلى الوصول إلى مستعمليها.(/5)
... وقد تجاوزت المجامع اللغوية العلمية العربية، من حيث فلسفتها وأهدافها، الحدود القطرية والكيانات السياسية، إلى فلسفة وحدة اللغة العربية، التي حفظ قواعدها وأصولها النصُّ القرآني، منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا. وأصبح كل مجمع للغة العربية يرى من واجبه الأساسي الحفاظ على سلامة اللغة العربية والنهوض بها .وانفتحت المجامع اللغوية، في عضويتها على جميع الأقطار العربية والإسلامية والأجنبية، فأصبحت تضم بين أعضائها العاملين والمراسلين والمؤازرين والشرف، عددًا من كبار العلماء في العالم، من مختلف الجنسيات، يحدوهم هدف واحد، خدمة اللغة العربية وتنميتها والنهوض بها. وفي إطار وحدة اللغة العربية، وفي أجواء شعور الأمة العربية، بوحدة المشاعر والمصالح والمصير، نبتت منذ حوالي منتصف القرن العشرين، فكرة إنشاء "اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية".(/6)
... وسنتوقف في هذا البحث عند قضيتين أساسيتين، مما أجمعت عليها أهداف المجامع العلمية العربية وهما: المحافظة على سلامة اللغة العربية. والتوسع والاجتهاد من أجل إغناء العربية وتنميتها، ومدها بأسباب الحياة كي تواكب متطلبات العصر الحديث. ونحن عندما نتحدث عن "سلامة اللغة العربية"، فإنما نعني سلامة اللغة العربية الفصيحة. فقد سارت العربية الفصيحة، منذ أن أصبحت لغة الوحي الإلهي، في مسارين متوازيين: أحدهما في مجال التوسع والنمو والازدهار، مستوعبة حصيلة ما وصل إليه الفكر الإنساني في جميع حقول المعرفة. والآخر يتمثل بمسار العربية الفصيحة وفي بقائها موحِّدة، ثابتة الأصول من حيث بنيتُها الصرفية ونحوها والنطق بها، كما أخذت عن أهلها الأولين الذين يحتج بلغتهم. فثوابت اللغة هي الأصول التي تحفظ بقاءها، وبدون هذه الثوابت تتغير اللغة، وتصبح لغةً أخرى. فالعربية الفصيحة ثابتة من حيث أصولها، ولكنها نامية ومتطورة من حيث مفرداتها ومصطلحاتها ودلالاتها وأساليبها.فقد مدَّتها خصائصها الذاتية في الاشتقاق والنحت والإبدال والنقل والمجاز والافتراض والتوليد والتعريب، بأسباب الحياة والنمو والقدرة المستمرة على استيعاب كل ما هو جديد، في عالم المعرفة التي ينتجها الفكر الإنساني. فهذه الخصائص من ثوابت اللغة العربية، ولكن الألفاظ والمصطلحات والمعاني التي يمكن أن تنشأ عنها، تتطور وتتغير بحسب الحاجة إليها، وعلى وفق جميع أشكال التنمية العلمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فأشكال التنمية هذه هي الأساس الذي يقوم عليه تقدم المجتمعات، وهي في الوقت ذاته تتطلب تنمية لغوية تواكبها. فاللغة ليست وسيلة للتعبير فحسب بل هي متصلة بالفكر اتصالاً جوهريًّا. وتجمع البحوث العلمية على أهمية دور اللغة في نظرية المعرفة، وأنه ليس ثمة تفكير بدون لغة. وإن وضوح الصورة ودقتها في الفكر شرط أساسي في التعبير عنها بسهولة ويسر، وأن آية الفكر(/7)
الدقيق تعبير واضح يؤديه. إن وسائل التنمية اللغوية العربية، وطرائقها، تكمن في خصائص العربية من حيث جوهر كيانها، فهي التي تمدها بالحياة والنمو السليم والقدرة على استيعاب ما يصل إليه الفكر الإنساني من معارف، وعلى مواكبة التقدم العلمي والحضاري في عالمنا الحديث، عالم تفجر المعرفة.
... وقد أدركت جميع الأمم المتقدمة، ضرورة تنمية لغاتها والعمل على ترقيتها وتهذيبها وإشاعتها صحيحة سليمة، في جميع مؤسساتها العامة والخاصة، العلمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وأن ترتفع اللغة المحكية بين مواطنيها على اختلاف طبقاتهم، إلى مستوى أكثر تهذيبًا وسلامة. ولا شك أن السياسة اللغوية الرشيدة التي تعتمدها الدولة في جميع مؤسساتها هي وحدها التي تكفل تضييق الفجوة بين الفصيحة والعامية. فالتنمية اللغوية العربية عامل أساسي من عوامل التقدم العلمي والحضاري، وتوحيد الأفكار والمشاعر بين شعوب الأمة العربية.
... وتجد حركة تطور اللغة العربية، بالمفهوم الذي أشرنا إليه، وحركة تنميتها وترقيتها، فضاءً فسيحًا في خصائص العربية، سواء أكان ذلك فيما يخصُّ المفردات والمصطلحات، أم كان ما يخص التراكيب والأساليب، وما يصاحبها من نشاط فكري. ونجد أنفسنا مرة أخرى أمام ضرورة تحديد مفاهيم بعض المصطلحات التي تتحدث عن خصائص العربية، مثل المولَّد والمعرَّب والدخيل. فقد تتداخل مثلاً مفاهيم "المعرَّب" و"التعريب" حديثًا وقديمًا، وكذلك معاني "المولَّد" و"التوليد" ومفاهيم" الاقتراض" و"الدخيل"…إلخ.(/8)
إن تحديد المفاهيم ومعاني المصطلحات، وتوحيدها قضية أساسية، كي يتحدث العلماء في جميع الأقطار العربية بلغة علمية واحدة. فإن لكل اصطلاح سمات خاصة تميزه في تحديد معناه وإيحائه، عن غيره من الاصطلاحات..فإذا فهمنا من "المولَّد" مثًلا: أنه اللفظ العربي الأصيل الذى نقلت دلالته إلى معنى لم يعرفه العرب القدماء. وفهمنا من" اللفظ المعرَّب" أنه: اللفظ الذي اقترض من اللغات الأجنبية، ووضع في صيغ وقوالب عربية.وأن "الدخيل" :هو اللفظ الذي دخل العربية من اللغات الأجنبية بلفظه أو بتحريف طفيف في نطقه، نجدها تشكل روافد أساسية في مسار النهوض باللغة العربية وتنميتها في الوقت الحاضر. وغني عن القول، إن جميع خصائص العربية هي روافد ذاتية تَمُدُّ العربية بالحياة والنماء. فقد أثرى المولَّد ـ على سبيل المثال ـ اللغة العربية في المفردات والتراكيب، إثراءً كبيرًا في الماضي والحاضر. وإن الدارس اللغوي للعربية في العصر الحديث، سيجد كثيرًا من التراكيب والأساليب والطرائق الخاصة بالإنجليزية أو الفرنسية، قد وجدت سبيلها إلى لغتنا العربية المكتوبة، فطبعتها بطابع الجدة من حيث دلالاتها. وقد كان لوسائل الاتصال الحديثة دور مهم في دخول المفردات والتراكيب والأساليب الأجنبية المعاصرة في اللغة العربية الفصيحة، وشيوعها في جميع المحافل العربية…
... ونعود مرة أخرى إلى ما نواجهه أيضًا من غموض في المفاهيم حول مصطلحات مثل :" اللغة العربية الحديثة "، و"اللغة العربية الجديدة" و"اللغة العربية الوسطى" و"اللغة العربية السليمة" و"اللغة العربية الفصيحة"… ولا شك أن هذه المصطلحات تتداخل مفاهيمها، وإن عدم تحديد المفاهيم وتعريفها بوضوح ودقة، يؤدي إلى هذا الفهم الخاطئ لدور اللغة العربية في رقي الأمة العربية ونهضتها في العصر الحاضر.(/9)
... فالأمة العربية تمرـ مع الأسف في الوقت الحاضر ـ بمرحلة قاسية من التشرذم والتفتت والتردي في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. فهي مرحلة أقصيت فيها اللغة العربية عن مجالاتها الحيوية، في المؤسسات العلمية والبحث العلمي، وفي كثيرٍ من المؤسسات العامة والخاصة، وأصبح دورها هامشيًّا، بل وينظر إليه في كثيرٍ من الأوساط الرسمية والعلمية، نظرة يعوزها الاحترام والحب والاعتزاز.
وعلى الرغم مما يثار من غبار حول هذه " المصطلحات" و"التسميات" التي باتت تملأ أجواء المثقفين في الساحة العربية، بجميع أقطارها، فإنَّ ما نعنيه بتنمية اللغة العربية، العمل على جعلها قادرة على استيعاب العلوم والتقنيات الحديثة، وكل ما يقتضيه مجتمع المعرفة، وطيِّ المسافات البعيدة التي تفصل الأمة العربية في جميع أقطارها، عن الأمم المتقدمة في سباق المعرفة. وإن توطين العلم والتقنيات الحديثة في الوطن العربي، وتأسيس نموذج معرفي عربي أصيل، ومستنير يجعل الاجتهاد منهجًا في استنباط الحلول للمسائل المستجدة والمشكلات المتولدة، لا يمكن أن يتم وأن تكتب له الحياة المستمرة والمبدعة، إلا من خلال اللغة العربية الفصيحة، اللغة الجامعة للأمة العربية في مختلف أقطارها، وفي عمقها التراثي.
... وقد أدركت المجامع اللغوية العلمية العربية هذه الحقائق، فتوجهت جهودها إلى اجتهادات تجعل من العربية الفصحية أغزر مادة وأيسر تعلمًا. فأصدر مجمع اللغة العربية بالقاهرة، مجموعة من القرارات اللغوية، تناولت تيسير العربية في أبنيتها ورسم أصواتها ونحوها، وأقام ذلك كله على ثوابت العربية وأصولها. فنأى بهذه القواعد الميسرة، عن اختلافات النحاة، وجدلهم وتفريعاتهم وعللهم، والضياع في متاهات مسميات ومصطلحات بعيدة كل البعد عن العلم اللغوي.(/10)
... إن حركة تيسير العربية وتيسير النحو وتعلمه بصورة خاصة، حاضرة في جهود كثيٍر من الباحثين في الأقطار العربية. ولم يكن تيسير العربية، وتيسير النحو، مقصورًا على الباحثين في العصر الحاضر، ولكن جذوره تمتد بعيدًا إلى أوائل القرن الرابع الهجري. وآية ذلك كله، أنه يجب أن نفرِّق بين النحو الضروري لإقامة القلم واللسان، وبين ما هو علم يتخصص بدقائقه العلماء والباحثون. فالنحو الذي نقصده هنا هو النحو الذي يلزم المثقفين وطلبة العلم والمتعلمين والإعلاميين في الصحافة والإذاعة والتلفاز ووسائل الاتصال الجماهيرية.
... اتجه تيسير النحو فى العصر الحديث ـ بصورة عامة ـ إلى دراسته من خلال منهج جديد يقوم على وصف الظواهر اللغوية، والابتعاد عن التأويل والتقدير والتعليل… وهو في ذلك يستنير باجتهادات التيسير عند النحاة الأقدمين، مثل ابن جني، والزُّبيدي الأشبيلي، وابن مضاء القرطبي.، وأبواب الاجتهاد في جميع الأحوال مشرعة على متغيرات العربية، وعلى كل ما يؤدي إلى تنميتها وترقيتها.(/11)
... وفي إطار التنمية اللغوية، شغل اختيار المصطلحات العلمية ووضعها، جانبًا مهمًّا من جهود المجامع اللغوية العلمية العربية في العصر الحاضر. وكان لمجمعنا العتيد بالقاهرة الدور الرئيس في اختيار ووضع الآلاف من المصطلحات في مختلف العلوم والفنون والتقنيات الحديثة. ووضع تعريفات دقيقة ومحددة لكل مصطلح. وقد وجد في خصائص العربية المجال الفسيح للاجتهاد، فكان يلجأ كثيرًا إلى ترجمة معنى المصطلح الأعجمي، فيضع مقابًلا له بالعربية، وكثيرًا ما يلجأ إلى التوليد والاشتقاق والمجاز، وقد يبني من المصطلح الأعجمي مصطلحًا جديدًا بعد أن يضفي عليه شيئًا من رونق العربية. فكانت هذه الممارسة الغنية، بوضع المصطلحات تعريبًا أو ترجمة، تتم إلى جانب تقديم البحوث اللغوية التي تجعل من الاجتهاد منهجًا لتنمية اللغة العربية وجعلها قادرة على استيعاب كل ما يجد في عالم المعرفة من علوم وفنون وتقنيات…
... وكان لمجمع اللغة العربية الأردني جهد مهم في نقل العلوم الحديثة إلى اللغة العربية. وكان هدفه أن تستعمل اللغة العربية الفصيحة للتعبير عن العلم الحديث، مستعينًا بما أنتجته المجامع اللغوية العربية في القاهرة ودمشق وبغداد، من مصطلحات، والاحتفاظ بباب الاجتهاد مفتوحًا أمام العلماء المتخصصين الذين تولوا الترجمة، شريطة أن توضع المصطلحات الأجنبية ومقابلاتها العربية في مسردٍ خاص، في نهاية الكتاب المترجم، والحرص أيضًا على وضعها في النصوص أينما وردت.(/12)
... ونحن في هذا العرض الشامل لوسائل تنمية اللغة العربية، من الضروري أن نقرر حقيقة لا يجوز الاختلاف حولها، عندما يكون موضوع البحث"التنمية اللغوية العربية". وهذه الحقيقة مفادها أننا نتحدث عن اللغة العربية الفصيحة. فهي اللغة الجامعة، وهي اللغة الواحدة والموحِّدة لأمتنا العربية عبر تاريخها الحضاري خلال خمسة عشر قرنًا، وكذلك على امتدادها الجغرافي من المحيط الأطلسي غربًا إلى الخليج العربي شرقًا، وكذلك بامتدادها الإسلامي إلى الشرق الأقصى في الهند والصين، بل وفى القارات الخمس. فاللغة العربية الفصيحة، قد حفظ ثوابتها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. فهي لغة ثابتة من حيث نحوها وصرفها ونطقها، وهى لغة نامية ومتطورة من حيث مفرداتها وتراكيبها وأساليبها ومصطلحاتها. إن باب الاجتهاد في متغيرات اللغة، مفتوح على مصراعيه، قديمًا وحديثًا، من أجل التنمية، وإمداد العربية بوسائل الحياة المستمرة. وإن تأخر الأمة العربية العلمي والحضاري، لا شأن له باللغة العربية، من حيث كونها لغة.
... لقد أنشئت المجامع اللغوية العلمية العربية، في العصر الحديث، منذ بداية القرن العشرين، للنهوض باللغة العربية، وتنميتها، وهي مدعوة بحكم الأهداف التي أنشئت من أجلها، أن تتصدى للتحديات التي تواجهها اللغة العربية في القرن الحادي والعشرين. وهي تحديات صعبة ومصيرية بعضها ذاتية تخص اللغة العربية في متغيراتها، وبعضها الآخر خارجية.(/13)
... إن مجامعنا اللغوية العلمية العربية، مدعوة للاجتهاد وإعادة النظر بمناهجها ووسائلها وطرائقها في العمل، وهي تخطو على مدارج القرن الحادى والعشرين. فالعمل اللغوي المشترك بين المجامع اللغوية، يكون ركيزة أساسية، لإنجاز المشروعات اللغوية العربية الكبيرة.وقد أصبح من الضرورات العلمية واللغوية والقومية أيضًا، أن يتجاوز اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية حالة العجز والركود التي فرضت عليه، وأن يقوم بواجباته نحو العربية، لغة الأمة الجامعة. فقد بات من الضروري أن يتحول هذا الاتحاد إلى المجمع الوحيد للغة العربية، وذلك بقرار من "مؤتمر القمة".
فاللغة العربية تواجه في عصر العولمة والحملات العسكرية الاستعمارية والاستيطانية الحاضرة، تحديات خارجية تتمثل في غياب سياسة لغوية عربية ملتزمة، تجعل العربية لغة العلم والتقنيات الحديثة، ولغة التدريس الجامعي والبحث العلمي، ولغة التعليم الأساسي والثانوى في جميع المؤسسات التعليمية الخاصة والعامة.
... إن غياب هذه الاستراتيجية اللغوية العربية، قد صاحبها أحداث عالمية كبرى، ومنها" العولمة" فى مفهومها الحاضر، فقد بدأت رياحها تهبُّ عاتية على جميع الأقطار العربية، منذ العقد الأخير من القرن العشرين. و" العولمة " في مفهومها الحديث، تحمل في ثناياها، إسقاط الحواجز اللغوية، تمهيدًا لفرض سيادة اللغة الإنجليزية، لغة الدولة التي تحاول التفرد بالهيمنة على العالم ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا. وإن الحملات العسكرية فى بداية القرن الحادي والعشرين، تعيد إلى الأذهان الحملات العسكرية الاستعمارية فى القرون الخوالي… وإن فرض اللغة الإنجليزية، لغة عالمية، كان حُلمًا يراود الدوائر الاستعمارية البريطانية وبعض اللغويين الإنجليز، منذ القرن الثامن عشر.(/14)
... وتهدف هذه الدولة التي هيمنت على العالم، منذ نهاية القرن العشرين، إلى فرض لغتها الإنجليزية وثقافتها وقيمها وأسلوب حياتها على الأمم الأخرى. فقد تحدث تقرير التنمية الإنسانية العربية للعالم سنة (2002)، الذي نشره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، عن ما تواجهه اللغات بصورة عامة في عصر العولمة، إذ يقول: " لقد بات واضحًا، أن العالم يواجه على جبهة اللغة موقفًا مصيريًّا: إمَّا أن يتمسك بتعدد لغاته، وما ينطوي عليه ذلك من صعوبة التواصل، وإعاقة تبادل المعلومات والمعارف، وإما أن تتوحد لغات العالم في لغةٍ قياسية واحدة، الإنجليزية في أغلب الظن، وساعتها تكون قد حلَّت بالبشرية الطَّامَّة الكبرى، على حدِّ تعبير مدير منظمة اليونسكو في لقاءٍ في "دافور"، مؤخرًا(*).
... فالحملة الاستعمارية الشرسة، التي تشنها القوى الاستعمارية، والقوى
الصهيونية، على الإسلام عقيدة، وعلى العرب على وجه الخصوص، تستهدف فيما تستهدفه اللغة العربية الفصيحة، اللغة الجامعة للأمة العربية في جميع أقطارها.
... والعربية من حيث هي لغة أمةٍ من الأمم، تتأثر بالأحداث العالمية وتؤثر فيها، وينطبق عليها، من حيث متغيراتها، ما ينطبق على جميع اللغات من قوانين النمو والتطور والترقيّ والتراجع والجمود. إنها تواجه الآن في عصر العولمة والثورة المعلوماتية تحديات ذاتية خطيرة. فالتقنيات الحديثة في مجال المعلوماتية والاتصالات، وبناء مجتمع المعرفة، تشكل تحديًا كبيرًا للغة العربية، فقد بات معروفًا لدى العلماء في مجال نظم الحواسيب ونظم شبكة المعلومات (الإنترنت)، ونظم ما سيأتي به المستقبل القريب والبعيد، أن للغة في عصر المعلومات واقتصاد المعرفة الصدارة. وأن علاقة شبكة المعلومات(/15)
(الإنترنت) باللغة علاقة وثيقة، في مجال تبادل المعلومات، بين الأشخاص والمؤسسات. وأن اللغة هي ركيزة التخاطب مع الشبكة، لطلب الخدمات ولصياغة الأسئلة الموجهة إلى نظم الذكاء الاصطناعي المتوافرة، مثل الحاسوب وشبكة المعلومات (الإنترنت).
... ويرى علماء المعلوماتية في مجال البحوث اللغوية، أن قضية معالجة اللغات الطبيعية آليًّا قضية شديدة التعقيد. وهذا يتطلب دراسة نظرية معمَّقة حول كيفية تمثُّل المعارف اللغوية من قواعد ومعاجم، واستنباط طرق ناجحة لتحليل الجمل على المستوى الصرفي والنحوي والدِّلالي. ولا شك أن هذه القضية المحورية تشكل تحديًا أساسيًّا للغة العربية في هذا العصر(1).
... وقد نجد فيما توصل إليه العالم الحاسوبي، الدكتور نبيل علي، إجابة
من حيث المبدأ عن بعض هذه التساؤلات، إذ يقول: "إن العربية، لغويًّا وحاسوبيًّا، يمكن النظر إليها بلغة الرياضيات الحديثة، على أنها فئة عليا
(super set)،تندرج في إطارها كثير من اللغات الأخرى، كحالة خاصة من هذه الفئة."(2)
... وقد أجمعت الدراسات العلمية اللغوية الجادة، على أنه بات من الواجب تحديد معالم استراتيجية لغوية على مستوى الوطن العربي. وأن تكون اللغة العربية الفصيحة على وفق مقاييسها الحديثة في الفصاحة والسلامة، هي اللغة التي يتعامل بها المواطن العربي مع التقنيات الحديثة. وأن معالجة اللغة العربية حاسوبيًّا. تشكل نقطة الانطلاق الأساسية للمدخل الثقافي لصياغة المعلومات. ويجمع علماؤنا ذوو الريادة في خدمة اللغة العربية حاسوبيًّا، على وجوب بناء
أجهزة حاسوبية خاصة باللغة العربية. فيجب إخضاع تكنولوجيا المعلومات لخدمة اللغة العربية، وليس بأن تخضع
اللغة العربية قسرًا لضغوط هذه التكنولوجيا الساحقة. فقد بنيت هذه الأجهزة الحاسوبية والطباعية المتقدمة، لخدمة لغات لها خصوصياتها، من حيث حروفها وبنيتها الصرفية وقواعد نظمها وأساليبها البيانية.(/16)
... إن هذه التحديات العلمية واللغوية، تضع على كاهل الأمة العربية، ومجامعها اللغوية والعلمية بصورة خاصة، مسؤوليات كبارًا، للدخول في عصر المعلوماتية، واللحاق بركب الأمم المتقدمة، في حلبة سباق المعرفة.
... وربما لا نعدو الصواب، إذا قلنا: إن التعاون الوثيق والدراسات المشتركة بين المجامع اللغوية العلمية العربية وبين علماء الحاسوب والمتخصصين بأنظمة الذكاء الاصطناعي، يشكل الأساس في إقامة البحوث والدراسات في مجال التقنيات اللغوية، وربما كان من أهم هذه القضايا ما يأتي:
أولاًـ التحليل الآلي للغة العربية على المستوى الصرفي والنحوي والدلالي.
ثانياًـ الاستعانة بالحاسوب، لتعليم الصرف، والتدقيق الإملائي، ومعالجة قضية الشكل في الكتابة العربية. فالشكل جزء أساسي من بنية الحرف في الكلمة العربية، سواء أكان ذلك من حيث النطق أم كان من حيث المعنى ونظام الجملة والإعراب. وإن غياب الشكل من الكتابة العربية، يعني غياب نصف الرموز التي نستعملها في القراءة والكتابة. وقد كان دخول الشكل والنقط التاريخي في مسيرة تطور الكتابة العربية ثورة لغوية. وإذا استطعنا، بصورة أو بأخرى أن نزيل العقبات بحيث يكون كل ما يكتب باللغة العربية، وكل ما ينشر في الكتب والمجلات والصحف والإعلانات والاصدارات، مشكولاً شكلاً تامًّا، نكون قد ارتقينا باللغة العربية إلى حالة يصبح تعلم العربية الفصيحة وإتقانها سهلاً ميسورًا. فاللغة تكتسب اكتسابًا، من خلال الممارسة، كتابة ومحادثة.
ثالثاًـ دراسة القضايا اللغوية والتقنية التي تطرحها الترجمة الآلية، من اللغة العربية إلى اللغات الأجنبية، ومن اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية.(/17)
هذه قضايا لغوية تقنية، تشير بوضوح إلى دور اللغة العربية في بناء مجتمع المعرفة العربي، في القرن الحادي والعشرين، قرن تفجر المعرفة وثورة المعلوماتية. وهناك مشروعات لغوية مصيرية، تنصُّ على تنفيذها قوانين المجامع اللغوية العربية ومراسيم إنشائها ولكنها مع الأسف ما زالت تراوح مكانها. ومن أهم هذه المشروعات اللغوية، ما يأتي:
أولاًـ وضع المعجم التاريخي للغة العربية، فإنه يشكل حدثًا تاريخيًّا في مسيرة اللغة العربية، يتناول تاريخ اللفظة العربية ومعانيها، من خلال أقدم النصوص حتى الوقت الحاضر، وقد جعله مرسوم إنشاء مجمع اللغة العربية بمصر سنة 1931م، هدفًا رئيسيًّا من أهدافه. وطرح هذا المشروع على حدِّ علمنا منذ أربعينيات القرن العشرين، ولكنه ما زال يراوح مكانه. وإن تنفيذ هذا المشروع يحتاج إلى عمل قومي جماعي، تجنَّد له الكفاءات العلمية اللغوية العربية وما تحتاجه من دعم مالي ومعنوي.
ثانيًاـ وضع المعجم العربي الموحِّد لألفاظ الحياة العامة، وذلك بالقيام بعملية جمع الألفاظ التي يستعملها المواطن في جميع الأقطار العربية، ببيئاتها المختلفة من حضرية وريفية وبدوية، وفي جميع الشرائح الاجتماعية. وتعريفها وتهذيبها وفق مقاييس الفصاحة المتطورة.
ثالثًاـ وضع المعاجم العربية المدرسية الموجهة إلى مراحل التعليم المختلفة.
رابعًا: وضع المعاجم العلمية العربية المتخصصة في مختلف العلوم والآداب والفنون، ومعاجم أصحاب المهن.
خامسًاـ وضع المعجم العربي الحديث الشامل على غرار معاجم لغات الأمم الأجنبية الحديثة المتقدمة. وبعبارة أخرى وضع معجم حديث يستجيب لحاجات العصر، ويفيد منه الناس على اختلاف مستوياتهم الثقافية.(/18)
سادسًاـ حوسبة التراث العربي، ونقصد بالتراث العربي كل ما كتب باللغة العربية منذ أقدم العصور حتى الوقت الحاضر، ويشمل المخطوطات والنقوش وما كتب على ورق البردي، وجميع ما نشر. فهذا التراث هو تاريخ أمتنا العربية الإسلامية، الثقافي والفكري والعلمي والسياسي والعقائدي. وإن الواجب العلمي والقومي واللغوي، ليقضي بتحقيق هذا التراث ونشره وجعله سائغًا بين أيدي الباحثين والدارسين.
... وجملة القول: إنَّ مجامع اللغة العربية، مدعوة للقيام بدورها التاريخي، في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ أمتنا، من خلال العمل الجماعي المنظم، على مستوى المؤسسات اللغوية والجامعية والعلمية العربية. وأن تعمل هذه المجامع على تطوير العمل في اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية من حيث الجوهر، وأن تكون قراراتها ملزمة للتنفيذ. فالعربية في الوقت الحاضر، تحيا في مستويات مختلفة في البيت والمدرسة وعند أصحاب المهن وفي المؤسسات العامة والخاصة، وكذلك في لغة الصحافة والإذاعة والتلفاز والمسرح، وانتهاء بلغة العلماء والأدباء والشعراء، وتتعدد هذه المستويات، من العاميات الجلفة إلى الدارجات بأنواعها ومستوياتها المختلفة، إلى اللغة الفصيحة الراقية.
... ويلف الأوساط الثقافية، مصطلحات وتسميات غائمة،تتداخل مفاهيمها في كثير من الأحيان، مثل عبارات: العاميات واللغات الدارجة، والشعر النبطي… واللهجات … إلى جانب مصطلحات وتسميات أشرنا إليها سابقاً. وهذه المصطلحات جميعها تنتظر التعريف والتحديد والتوحيد.
... إن هذه المهمات الكبيرة لتوجب إنشاء مراكز للبحوث والدراسات اللغوية وأن تتبنى المجامع اللغوية العلمية العربية مبدأ مشاركة علماء اللغة وأهل الاختصاصات العلمية والتقنية، من أجل تنمية اللغة العربية وترقيتها، لاستيعاب المعارف والعلوم والتقنيات في العصر الحديث، للحاق بركب الأمم المتقدمة، والمشاركة
الأصيلة والمبدعة في بناء الحضارة العالمية الحديثة.(/19)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
عبد الكريم خليفة
عضو المجمع من الأردن
1- إبراهيم السامرائي، تنمية اللغة العربية في العصر الحديث، القاهرة، سنة 1973.
2- أندريه مارتينيه، مبادئ اللسانيات العامة، ترجمة: أحمد الحمو، دمشق،1404هـ ـ1405هـ/1984م -1985م.
3- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام (2002م)، المملكة الأردنية الهاشمية.
4- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية الإنسانية العربية، للعام سنة 2003م، نحو إقامة مجتمع المعرفة، المملكة الأردنية الهاشمية.
5- رمضان عبد التواب، التطور اللغوي - مظاهره وعلله وقوانينه، القاهرة.
6- عبد العزيز شرف، اللغة العربية والفكر المستقبلي، بيروت،1411هـ - 1991م،
7- عبد الكريم خليفة، اللغة العربية والتعريب في العصر الحديث، عمان، الطبعة الثانية 1408هـ-1988م.
8- عبد الكريم خليفة، اللغة العربية على مدارج القرن الواحد والعشرين، بيروت، 1424هـ-2003م.
9- علي عبد الواحد وافي، علم اللغة ، القاهرة.
10- فهمى حجازي علم اللغة العربية، الكويت، 1973م.
11- اللسان العربي، المجلد السابع، المكتب الدائم لتنسيق التعريب في العالم العربي، الرباط.
12- م.م.لويس، اللغة في المجتمع، ترجمة: تمام حسان، ومرجعه: إبراهيم أنيس، القاهرة، 1959م.
13- ماجد الصايغ، الأخطاء الشائعة وأثرها في تطور اللغة العربية بيروت، سنة 1990م.
14- محمود السعران، علم اللغة، بيروت.
15- ممدوح خسارة، التعريب والتنمية اللغوية، دمشق، 1994م.
...(/20)
وسائل الإعلام بين العامية والعجمة(*)
للأستاذ الدكتور يوسف عز الدين
أولاً:الخطاب الإعلامى وأثره السلبي في التنمية اللغوية المعاصرة:
تتهم اللغة العربية بالجمود والعقم وعدم استيعابها للعلوم الصرفة الحديثة والفلسفة الغربية ومصطلحات الاختراعات والاكتشافات المتطورة التي تغمر العالم.
اتهاماتهم يكذبها واقع العربية في ماضيها الطويل وحاضرها المتطور، فقد استوعبت ثقافات متعددة وحضارات متباينة وصهرتها في أساليبها المرنة وقابليتها الكبيرة، فقد احتوت حضارة اليونان والفرس والرومان والهند، وها هي اليوم لاتعجز عن احتواء العلوم الحديثة وفنونها ومصطلحاتها بكل يسر وسهولة مع قصر عمر تطورها الحضاري؛ إذ إنها بدأت بصورة جادة في زمن محمد علي باشا فقد ترجمت
عددًا كبيرًا من كتب الغرب، ووضعت المصطلحات الكثيرة فهو عمر قصير في هذا المضمار الحضاري، وقد وضع عدد من المعجمات في مختلف العلوم والفنون، وكانت مصر الرائدة، ولم تقف المجامع في الشام والعراق والأردن والمغرب وتونس عن هذا التطور اللغوي، والحس الحضاري، فقد طبع في القاهرة أول معجم للطلاب بعدة لغات باسم (كتاب أنيس المشرحين في علم الطب) (**) لتسهيل فهم اللغات الأجنبية على الطلاب بل إن القائمين على التدريس استوردوا المعجم من الهند قبل أن تعود البعوث من أوربا؛ إذ كانت فيها كلية طب تدرس باللغة العربية في مدينة كلكتة.
ولولا غزو نابليون ثم الاستعمار
الإنجليزي الذي فرض فيه كرومر(/1)
اللغة الإنجليزية لكانت مصر قد قطعت شوطًا كبيرًا في نموها وتطورها التقني والعلمي والحضاري، وقد ثبت أن مصر أول من اعتنت بالتنمية اللغوية وإثرائها وبخاصة بعد البعوث من أوربا(1) وكانت حركة الترجمة أهم ينابيع التنمية اللغوية، يساعدها على النشر مجلة (روضة المدارس) و(يعسوب الطب) التي كانت تختار أهم المقالات في الطب، وتترجمها إلى اللغة العربية بأسلوب سهل وعبارة عربية سليمة ولأن المشرفين على هذه الحركة كانوا من علماء الأزهر.
وبالرغم من فرض الفرنسية والإنجليزية فقد نمت اللغة العربية وتطورت تطورًا كبيرًا في شعر الشعراء ونثر الكتاب، وابتعدت عن المحسنات اللفظية كالجناس والتورية والمجاز، ورد الصدر على العجز والسجع الذي كان حلية الكتاب التي
يفاخرون بها ويتألمون إذا لم يفهم هذا
السجع، فقد قال أبو الثناء الألوسي عند سفره إلى أستانبول ومروره بديار بكر:
وإني مللت السجعَ من أجلِ أنه
لمعظم أهل الروم قد كسد السجعُ
وكم فقرةٍ قد أحكَمَتْهَا قريحتي
تلوت بأرجاها فما ساغها سمعُ
ولم نعد نرى كلمات ذات جرس أو وجود ألفاظ غير مأنوسة بل سخر الشعراء من هذه الكلمات، فقد قال صفي الدين الحلى:
إنَّمَا الحَيْزَبونُ والدَّرْدبيسُ
والطَّخا والنّقَاخُ والعَطْلَبيسُ
لُغَةٌ تَنْفِرُ المَسَامِعُ مِنْها
... حينَ تُرْوَى وتَشْمَئِزُّ النّفوسُ(2)
لأن أدباء هذا العصر طوروا اللغة باستعمال الكلمات المأنوسة، ويمكن البرهنة على ذلك بمقارنة أدب الأدباء مثل محمد عثمان جلال، وعلي مبارك، وعبد الله أبي المسعود
مع شعر البارودي وشوقي وإسماعيل(/2)
صبري، ثم بعدهم جيل طه حسين والزيات والمنفلوطي والرافعي في مصر، والرصافي والشبيبي والكاظمي في العراق، ومقارنة نثر صحيفة الأهرام في القاهرة، ونثر صحيفة الزوراء في بغداد، وبعدها الهلال والمقتطف، نجد اليسر والسهولة في العبارة التي تعنى بالمعاني قبل العناية بالألفاظ أي العناية بالمضمون أكثر من العناية بالإطار اللغوي، وكانت المحاضرات تلقى في الأزهر ودار العلوم ثم الجامعة الأهلية والندوات العامة بالعربية الفصحى ولما جاءت المخترعات الحديثة كالقطار والحافلة (الترام) والساعة دخلت في شعرهم، وبعضهم استعمل الكلمات الأجنبية، إذ لم تكن قد عربت هذه المخترعات. فقد قال البارودي:
لقد نعَب (الوابور) بالبين بينهمْ
فساروا ولا زمُّوا جِمالاً ولا شَدُّوا
كما دخلت في الشعر كلمات أجنبية مثل (أفندي) و(التنك) و(براندي)، وقد استعمل شوقي بعض هذه الكلمات بمثل قوله:
بطل البداوة لم يكن يغزو على
(تنك) ولم يك يركب الأجواء
واستعمل في شعره (افرلند) و(البايب) والبرلمان وغيرها مما تحتاج إليه المناسبة وتفرضها الدقة.
وفي العراق استعمل معروف الرصافي كلمة (أوتوموبيل) قبل أن تعرب إلى سيارة و(عربية) في القاهرة فقال:
(بتوموبيل) جرى في الأرض منسرحًا
كما جرى الماءُ في سفِح الأهاضيبِ
ينسابُ مثل انسيابِ الأيمِ تحملُهُ
عواملُ عجلات في دواليبِ
كأنها وهي بالمطاط منعلة
تسعى بأخفاف أنواق مطاليب
وله قصيدة في الساعة والقطار وذكر الشعر (التلغراف) .ونظم الزهاوي في علم الفلك إضافة إلى أحمد الكاشف وحافظ إبراهيم، وتسربت الفلسفة الجديدة والآراء العلمية مثل نظرية أنشتاين، وجميس جيز، وديكارت، وسمي العصر عصر البخار عندما حرك القطار والمراكب البخارية حتى قال الرصافي:
تعاليت يا عصر البخار مفضلاً
على كل عصر أهله قد قضى نحبا
واندهش إبراهيم الطبطبائي عندما رأى الحافلة (الترام) فقال:
كيف تنقاد قلعة من حديد
أو حديد ينساب فوق حديد؟!(/3)
لأن وسائل الإعلام كانت تنشر أخبار هذه المخترعات والاكتشافات وتنشر الآراء العلمية والفلسفية الجديدة في الصحف والمجلات وتصفها.
وقد تعددت الآن وسائل الإعلام وتنوعت وأخذت تدخل في كل زاوية من زوايا المجتمع بعد أن جاء الإنترنت وتطور التلفاز والمجلات والصحف بعد أن كانت وسائل الإعلام محدودة المساحة الاجتماعية والفكرية والآن لوسائل الإعلام دراسات جادة في علم النفس والهندسة وعلم الاجتماع والسياسة العامة والاقتصاد وقد خصص لها كليات متعددة ثم بنيت لها مدينة واسعة لتكون أكثر بعدًا وأعمق أثرًا في حياة المجتمع المعاصر وتوجهه
كما يريد القائمون عليها.
ثانيًا: تسرب العامية إلى وسائل الإعلام:(/4)
أما الخطر الثاني الذي يهدد اللغة الفصحى ويتحداها فهو استعمال العامية بصورة ظاهرة ومستمرة ليلاً ونهارًا وفي جميع وسائل الإعلام العربية وأبرزها المسرحيات والمسلسلات، وزاد الطين بلة ما تنشره الصحف والمجلات من صفحات بالعامية وقد تسربت هذه الظاهرة إلى مجلات الأطفال التي تصدرها وزارة الثقافة وكان حريًّا بها وهي في بلد يحرس العربية ويحافظ عليها أن تصدر بالفصحى السليمة، ومما يؤسف له أن بعض وسائل الإعلام تصر على التحدث بها حتى في الأخبار وتعمد الإمالة وكسر اللفظ وتحريفه فيقول عن القدس (الأدس) وعن الأرقام (الأرآم)، وقلب التاء إلى سين وغير ذلك من الكلمات التي تسمعونها كل يوم، وكان العرب قبل ذلك يؤلمهم اللحن في الكلمة الواحدة. وقد عدّ الرسول الكريم اللحن ضلالاً عندما سمع رجلاً يلحن فقال صلوات الله عليه: "أرشدوا أخاكم فقد ضل"، وحرصًا على الفصحى تتبع العلماء اللحن عند العامة وسجلوه لكي يكون محدودًا ومعروفًا مثل علي بن حمزة الكسائي في كتابه (ما تلحن به العامة)، وألف الزبيدي في لحن العامة، وفي الأندلس ألف ابن هشام اللخمي عن لحن العامة، ولما انتشرت في العصر الحديث ظاهرة الابتعاد عن العربية ألف اليازجي وكمال إبراهيم عن الأغلاط، وألف مصطفى جواد كتابًا باسم (قل ولا تقل) , وغيرهم من الكتاب الأفاضل.(/5)
إن الدعوة إلى العامية يراد بها صرف العرب عن لغتهم، وجعل الفصحى لغات متعددة وقد وضعوا نصب أعينهم ما يقوله الأجانب عن اللغة اللاتينية وتفرعها إلى لغات متعددة، ولهذا عندما سيطر الغرب على مقدرات الوطن العربي أراد تطبيق ذلك ففي مصر فرض كرومر الإنجليزية، وماقام به وليم ولكوكس مثله؛ فقد وادعى أن الفصحى هي السبب المؤثر في تأخر المصريين وكان يغري الناس بالكتابة بالعامية فقد نشر في مجلة الأزهر إعلانًا قال فيه: "من قدّم لنا هذه الخطبة باللغة المصرية الدارجة وكانت موافقة جدًّا يكافأ بأربعة جنيهات إفرنكية" ويدلل على ترجيح العامية بما حدث في بلاده، وقال إن اللغة الإنجليزية أجهزت على اللاتينية فيجب أن تقضي العامية المصرية على الفصحى حتى يقدر المصريون على الاختراع، وادعى أن الهكسوس هم الذين جاؤوا بالعربية لأن العربية لاتعرف النفي المزدوج مثل ما عملتش. ولقطع الصلة بين تراث الأمة وحاضرها ألف (وليم سبيتا) الألماني كتابًا سماه (اللهجة العامية الحديثة في مصر)، وكان يكتب رسائله بها ولا لوم عليهم؛ لأن العربية تجمع العرب وتهدد خططهم الاستعمارية؛ ولكن الغريب مساندتها من كتاب في العالم العربي مثل: سلامة موسى، ويعقوب صروف صاحب المقتطف، وأحمد لطفي السيد الذي زعم أن الفصحى فقيرة في المعارف والمصطلحات، وأن استعمال العامية سيخرج الفصحى من الضعف ونسي أن العامية أصلها الفصحى، وقد برهن الزميل الفاضل الدكتور أمين السيد في بحوثه المستمرة التي يقدمها كل سنة في اجتماع المجمع السنوي على ذلك عندما أحصى الكلمات العامية الموجودة في المعجم الوسيط وكانت من الكثرة التي دعت أستاذنا محمد عبد السلام هارون إلى التخلص من جزء منها كما قال لي ـ رحمه الله ـ وبالفعل وجدت هناك كلمات عامية مصرية لا تستعمل عندنا مثل : كتكوت نسميه في العراق (فرخ)، وتقاوي ونسميها (البذور)، وقلاوز وتسمى بالعامية العراقية (برغي)، والقماش ونسميه في(/6)
العراق (البزاز)، وغيرها من الكلمات وهي كثيرة، وفات هؤلاء الكتاب العرب أن العامية سوف تقسم العرب إلى لغات، وسوف يخسر هؤلاء الكثير عندما يكتبون بها، وسوف تكون كتبهم محدودة بمصر، إضافة إلى ضياع تراث عمره أربعة عشر قرنًا وهل سوف يؤلفون كتبًا بلهجة الصعيد وأخرى بلهجة أهل القاهرة؟ ورحم الله حافظ إبراهيم فقد شعر بذلك الخطر فقال عن قابلية اللغة العربية واستيعابها الحضارة القديمة ومسايرتها للاختراعات الجديدة فقال:
وَسِعْتُ كتابَ الله لفظًا غاية
وما ضِقْتُ عن آيٍ بِهِ وَعِظات
فكيفَ أضيقُ اليومَ عن وصفِ آلةٍ
وتنسيق أسماءٍ لِمُخْتَرَعَاتِ
سَرَتْ لَوْثَةُ الإِفِرنجِ فيها كما سَرَتْ
لُعَابُ الأفاعي في مَسيلِ فُرَاتِ
وفات هؤلاء في مقارنتهم اللاتينية باللغة العربية أن هناك هوة بين هاتين اللغتين، واتسعت هذه الهوة حتى بين اللغة التي وضعها جوسر واللغة الإنجليزية اليوم بل الهوة موجودة بين لغة شكسبير وحاضر الإنجليزية وليست هذه المسافة كبيرة بين لغة العرب قبل الإسلام ولغتنا الحاضرة برغم مرور أربعة عشر قرنًا على العربية، وقيل ذلك في اللغات الأوربية في لغة جوته، وراسين، وبدولير، ولغاتهم المعاصرة.
إن الجهود التي يبذلها المجمع والأزهر والجامعات في سبيل الفصحى مهددة اليوم بحرص أولياء الطلاب العرب على دفع أولادهم إلى اللغات الأجنبية وهو عمل يضيع الهوية العربية الإسلامية.
إن استعمال العامية يراد به تحول العقلية العربية المشتركة إلى عقلية قطرية وقتل الوعي الإسلامي، لأن تهميش الفصحى سوف يبعد العرب عن تراثهم الأصيل وحضارتهم العريقة .
ليست العربية الفصحى لغة حديث وكتابة فقط وإنما هي لغة حضارة وأدب وماضٍ تقف عليها كل الشعوب العربية، وتوثق الشعوب الإسلامية برباط قوي من التراث والحضارة، وهم يريدون التفرقة لخلق شعوب وأمم متعددة لا أمة واحدة تزحم حضارتهم وتفوقهم.
ثالثاـ تسرب اللغة الأجنبية إلى وسائل الإعلام :(/7)
إن تنافذ الحضارة ضرورة حتمية ومعنى التنافذ كما قال الفيروز آبادي: النفاذ: جواز الشيء والخلوص منه، ونفذ القوم: صار منهم، والوسيط يقول: أَنْفَذَ القَومَ: خرقهم ومشى وسطهم. لهذا فاللغات والثقافات والحضارات المختلفة لا يمكن إلا أن تتأثر بالعالم وما فيه من تطور وتجديد. بيد أن الأمم العريقة في حضارتها الواعية بالثوابت الفكرية والجذور الأصلية هي التي تحتوي الجديد وتحافظ على أصالتها ومتانة جذورها، فقد استعمرت الدول الأوربية الوطن العربي ونشرت لغاتها ورعت المتكلمين بها بعناية كبيرة، لكن اللغة العربية بقيت حية ولم تندثر كما اندثرت لغات كثيرة.
ثم جاء العصر الحديث ومعه الاستثمار والاقتصاد وبراعة الآلات وقوة الشركات التي وفدت إلى بلادنا واحتاجت إلى أيدٍ عاملة وإدارة فاعلة لهذه الشركات، وكان شبابنا بحاجة إلى العمل فيها فسارعوا إلى تعلم اللغة الأجنبية للاستفادة من فرص العمل المتاحة التي تفرضها متطلبات العمل فيها بعد أن سيطرت الرأسمالية بقوة على السوق، ولست ضد تعلم اللغات الأجنبية، وقد درسناها وعايشناها واحتويناها دون أن نبهر بتطورها وحياتها المادية؛ لأننا تعلمناها بعد أن استوت لغتنا على سوقها وقويت الثوابت بجذورها في عقولنا.(/8)
إن بعض الدول تحافظ على لغتها وتسن القوانين لمنع استعمال غير لغتها، ومنها فرنسا التي تمارس التطهير العرقي بصراحة. فإن وزير الثقافة الفرنسي جاك توبون والدولة الفرنسية، حذرت وسائل الإعلام من استعمال غير الفرنسية ووضعت غرامات لمن لا يتقيد بهذا الأمر، والعرب عاكفون على ترجيح اللغة الأجنبية. فالمرأة لاترضى أن تقول إنها ذهبت إلى الحلاق أو المزين، وتقول إنها ذهبت إلى الكوافير، إنه شعور بالنقص واستعلاء على اللغة. إن الأمة الحية المعتزة بنفسها تستعمل لغتها، فقد قيض لي أن أجلس مع شون لاى رئيس وزراء الصين في بكين، وكان يتحدث معي باللغة الصينية: فقلت له يا سيادة الرئيس أنت تعرف الفرنسية والإنجليزية فلماذا لا تتحدث بها؟ فضحك واستمر يحدثنى باللغة الصينية إنه إنسان يحس بمكانة لغته ويعتز بها ويثق بنفسه، وها نحن اليوم لم نكتف باستعمال اللغات الأجنبية في القضايا التي تفرض علينا الحديث بها، إنما للشعور بالنقص صرنا نستعملها في أمور تافهة، ومن الطريف أن أحد العراقيين أراد أن يشعر الجالسين بعلو مكانته فقال: لقد كنا في لندن نشرب الشاي مع الملك (MILK) .(/9)
لا ضير أن تتحدث باللغة الأجنبية إذا كان الحضور أجانب ولكن الخطر أن تستعمل هذه اللغة في وسائل الإعلام وبخاصة إذا أهملت الكلمات العربية التي تعطي المعنى نفسه، فقد أرى وأسمع في وسائل الإعلام (مِرْسِى، وطابور، وباي باي، وأوكي، والمارثون) وهل هناك أجمل من (شكرًا، وصف، ومع السلامة، وحسنًا، وسباق الضاحية)، وأشد من هذا مرارة انتشار الإنجليزية في لعبة كرة القدم، فالزاوية كورنر، والهدف جول، والمبارة ماتش وغيرها مما نعرف، ولعل الغريب أننا نستعمل كلمة (كَبْل) للسلك وهي كلمة عربية أصلها الحبل، وقد أراد أهل العراق تعريبها فقالوا (قابلو) وجمعها قابلوات مع أن كلمة الأسلاك أجمل وأخف ولعل من المؤسف أن تنتشر اللغات الأجنبية في كل مكان مثل: التليفون للهاتف واليوبيل للعيد والبوسطة للبريد، والراديو للمذياع، والجورنال للجريدة، والأرشيف للسجلات أو الوثائق، ولوكندة للفندق، والكوبري للجسر.
وقد بذل المجمع جهدًا كبيرًا وعرب مثل هذه الألفاظ، كما استوعبت الفصحى بعض الكلمات الأجنبية مثل: القرصان والطماطم والأوطة وقفطان وغيرها، وقد أحصاها الزميل الفاضل الدكتور أمين السيد في البحوث التي يقدمها كل سنة في المؤتمرات عندما درس العامية الموجودة في الوسيط. لكن الظاهرة المؤسفة والمؤلمة كتابة الأسماء الأجنبية والعناوين الغربية بالحروف العربية، فقد سألني سائل قائلاً: ما معنى (استرن بك ليمتد بصره) ولما سألته أين وجد هذه العبارة؟ فقال على المصرف. فقد وضع اسمه بالإنجليزية ورسمه بالحرف العربي، فقلت له إنه (استرن بنك ليمتد – بصرة) Eastern Bank Limited - Basra
وقد انتشرت هذه الأيام في جميع أنحاء الوطن العربي فهو يضع المضاف إليه قبل المضاف في أسماء الفنادق الغربية وهو يكتبها باللغة العربية.(/10)
أخيرًا إن الجهود التي تبذلها المجامع العربية وما يبذله مجمع اللغة العربية في القاهرة بكل إخلاص برئاسته ولجانه وموظفيه تهدر؛ لأنها لا تعمم على الناس ولا تخرج إلى حيز التنفيذ لقلة الموارد المالية، فمن الضروري أن ترسل هذه الأبحاث والتوصيات إلى جميع أنحاء الوطن
العربي ليطَّلِع عليها آلاف الناس ولكن القدرة المالية المحدودة لا تقدر على إرسالها حتى للأعضاء، وتلك عوائق ليست سهلة، يعاني منها كل المجامع في الوطن العربي ولهذا تحفظ في الأدراج ولعدد محدود؛ بذلك تكون فائدتها محدودة الأثر.
يوسف عز الدين
عضو المجمع من العراق
بعض المصادر والمراجع
الكتب
ـ البارودي رائد الشعر الحديث: شوقي ضيف.
ـ تاريخ الترجمة والحركة الفكرية في عهد محمد علي : جمال الدين الشيال.
ـ الحركة الفكرية في العراق: يوسف عز الدين.
ـ ديوان حافظ إبراهيم.
ـ ديوان الحلي: صفي الدين.
ـ ديوان الرصافي: معروف عبد الغني.
ـ ديوان الطباطبائي: إبراهيم.
ـ ديوان شوقي( الشوقيات ) : أحمد شوقي.
ـ غرائب الاغتراب: أبو الثناء الألوسي.
ـ فصول في الأدب العربي الحديث والنقد : يوسف عز الدين.
ـ الفصحى في مواجهة التحديات: نذير محمود كتبي.
ـ معجم ( أنيس المشرحين ) : خليفة عبد اللطيف.
الدوريات
ـ جريدة الأهرام.
ـ روضة المدارس.
ـ جريدة الزوراء.
ـ يعسوب الطب.
البحوث
ـ العامي والفصيح في المعجم الوسيط: أ.د أمين علي السيد – الدورة 69 من دورات المجمع.(/11)
حركة التأويل النسوي للقرآن والدين
وخطرها على البيان العربي وتراثه(*)
للأستاذ الدكتور حسن الشافعي
ا ... الحمد الله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
... تمهيد:
... هذه الورقة تستهدف لفت النظر وتوجيه الاهتمام. على صعيد فكري بحت إلى حركة ثقافية وفكرية تكاد تعم العالم الإسلامي المعاصر، تعمل على تبني منهج "الهرمنيوطيقا " الغربي Hermeneutics) ) وتطبيقه على القرآن الكريم، والنصوص الدينية الإسلامية بوجه عام، مع إغفال تام لأصول التفسير وقوانين التأويل، في تراثنا الإسلامي العربي، للقرآن الكريم وما يتصل به من بيان نبوي في السنة الموثقة، بل لوقائع التاريخ والتجربة الإسلامية كلها، انطلاقًا من فرض مستبق لكل نظر علمي يقضي بأن التراث الإسلامي نظرًا وعملاً كان
رجوليًّا منحازًا ضد المرأة، وقد آن
الأوان للقطيعة الفكرية مع هذا التراث، وإعادة تأويل القرآن والدين على أساس من هذا الفرض، وفي ضوء "الهرمنيوطيقا" المسيحية الغربية.
... ينهض بهذه الحركة في عصرنا هذا، وبالأخص خلال النصف الثاني من القرن الماضي، طائفة من الباحثين المثقفين ثقافة غربية، تكاد تخلو من تكوين علمي أصلي رصين في إطار الثقافة الإسلامية وعلومها الشرعية، ويقيم أكثرهم في الغرب حيث نشؤوا وتعلموا واحتلوا مواقع بحثية وتعليمية في مؤسسات غربية، وبخاصة في بريطانيا والولايات المتحدة، على حين يقيم القليل منهم في بعض بلاد العالم الإسلامي بعد أن تلقوا تعليمهم في الجامعات الغربية، يبثون التوجيه
الفكري ذاته، ويمارسون هذا العمل الفكري التأويلي، الذي لا يمثل تيارًا(/1)
عامًّا حتى الآن، ولكنه يعبر عن حركة نشطة على الصعيد الثقافي والبحثي يمكن أن تكون لها نتائجها وآثارها على حياة المجتمعات الإسلامية، وعلاقتها بتراثها الحضاري في المستقبل، ليس إلى حد القطيعة المبتغاة ولكن إلى حد التشويش على علاقة هذه المجتمعات بتراثها الثقافي والحضاري، مما قد يعوق مسيرتها نحو نهضة منشودة راشدة تضعها من جديد على درب التاريخ.
... لهذه الحركة جانب لغوي يتهدد في نظرنا سلامة اللسان العربي وبيانه، فضلاً عن تراثه الديني والحضاري، وهذا ما دعانا إلى إثارة هذا الموضوع بين يدي حراس العربية وسدنة تراثها الفكري والحضاري، في مؤتمرهم السنوي للدورة السبعين من حياة هذا المجمع العريق، لا لنوقظ فتنة نائمةـ معاذ الله - ولا لنعيدها جذعة بعد أن كادت تكتهل أو تشيخ، فما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، بعرض الموقف عرضًا موضوعيًّا، في إطار المحور العاشر من محاور هذا المؤتمر المعني بالتنمية اللغوية، أعني "أثر الثقافات المعاصرة في اللغة العربية"، والأثر في حالتنا هذه للأسف غير حميد، لأنه يجافي قواعد المثاقفة الرشيدة، والتواصل الحضاري البناء كما سنبين بعد قليل، من خلال خطوات ثلاث: أولاها ـ عن أصول هذه "الهرمنيوطيقا" وأطوارها حتى الصيغة الحديثة والمعاصرة. والثانية ـ عن أثر هذه "الهرمنيوطيقا" على بعض رجالنا ونسائنا، ومحاولاتهم تطبيقها على التراث الإسلامي والعربي على نحو مسرف في الذاتية والانحياز، والمتابعة الكاملة لتجربة ثقافية نمت في بيئة غريبة عنا، دون أية روح نقدية أو محاولة تطويعية بما قد يتلاءم مع طبيعة تراثنا ولغتنا وحضارتنا. والأخيرة ـ عن المتطلبات اللغوية المنهجية والفكرية "لهرمنيوطيقا" إسلامية إن جاز هذا التعبير، تتناسب مع تراثنا الحضاري ولغتنا العربية وتجربتنا التاريخية المتميزة بطبيعة الحال، وأحسب أننا لسنا بحاجة إلى هذا المصطلح، وإنما استخدمناه لمجرد المقابلة قاصدين: "أصول التأويل(/2)
العلمية للنصوص العربية الدينية" كما نمت وتشكلت في إطار ثقافتنا وعلومنا الشرعية، مع لمحة من النظر إلى مقابلاتها في التطور العلمي والفكري المعاصر.
"الهرمنيوطيقا" الغربية:
نود قبل أن نتعرض لهذه النقطة الأساس من بحثنا هذا، باعتبارها الأصل الذي تولدت منه حركة التأويل النسوي لنصوصنا الدينية والحضارية، أن نقرر الاقتناع التام بأن التواصل بين الثقافات وخصوصًا الثقافة العربية المعاصرة والثقافات الأخرى، بما فيها الثقافة الغربية المعاصرة، أمر محمود ومطلب منشود: فضلاً عن أنه يكاد يكون في الظروف الراهنة حتمًا لازمًا
وأمرًا واقعًا لا مفرَّ منه:
(أ) وذلك لأن التواصل الثقافي
الرشيد يتجاوب مع طبيعة هذه الثقافة العربية الإسلامية؛ فهي تؤمن بوحدة الإنسانية وصدورها عن أصل واحد(1)، وأن تعدد الشعوب وتنوعها مدعاة للتعارف والتواصل لا للصراع والتدابر(2)، وتلك قيم بناءة جديرة بأن تؤسس لتواصل ثقافي وتبادل حضاري على مستوى إنساني.
(ب) وهي قد مارست هذا التواصل فعلاً دون عنصرية أو جمود، وأفادت منه في فترات ازدهارها – دون تردد أو صدود – يقول أبو يعقوب الكندي في صدر هذه التجربة الحضارية: " ينبغي أن يعظم شكرنا للآتين بيسير الحق فضلاً عمن أتى بكثير من الحق؛ إذ أشركونا في ثمار فكرهم، وسهلوا لنا المطالب …، وينبغي ألا نستحيي من استحسان الحق، واقتفاء الحق من أين أتى، من الأجناس
القاصية والأمم المباينة لنا؛ فإنه
لا شيء أولى بطالب الحق من الحق.
ويقول ابن رشد بعد قرون من ازدهار هذه التجربة الحضارية: "يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا، وسواء أكان ذلك الغير مشاركًا لنا في الملة أم غير مشارك.. وأعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام، فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم، فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان كله صوابًا قبلنا منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه (*).(/3)
(ج) وأما أن هذا التواصل أمر واقع وحتم لازم؛ فإن ثورة المعلومات منذ أخريات القرن الماضي، وتدفقها الدائم عبر وسائل الاتصال المتنوعة، جعلا من التقوقع والانغلاق في عالم اليوم أمرًا مستحيلاً، ولكن يبقى السؤال: هل التجربة التي نحن بصددها تتسق مع هذه الروح التي عبر عنها كل من الكندي وابن رشد، أم أن الأمر جرى على نحو آخر؟ هذا ما قد يتبين من العرض التاريخي الموجز فيما يلي:
يعنى بالهرمينيوطيقا Hermeneutics
قواعد التأويل والفهم للنصوص الدينية، وهو مصطلح قديم التصق بالثيولوجيات المسيحية، وتعرض لتطورات عدة في مدلوله ضيقًا وسعة حسب تطور الفكر الديني والفلسفي في سياق الحضارة الغربية ودراسات الكتاب المقدس، ويمكن أن نلخص هذه الأطوار المتفاوتة للمصطلح ودلالاته كما يلي:
1.الهرمينيوطيقا: الأصول النظرية التي تعنى بتفسير النصوص الثيولوجية.
2.أو أسس تفسير الكتاب المقدس وتطبيقاتها.
3.أو العلم النظري والفن العملي المتعلقان بتفسير النصوص القديمة.
4.أو نظرية فهم النصوص الدينية والفلسفية والأدبية وتأويلها.
5.أو نظرية فهم النصوص الأدبية وغيرها وتطبيقاتها.
6.أو أصول تأويل المدونات .
7.أو فهم صور الوجود الإنساني وتأويلها: وهو أوسع الدلالات التي انتهت إليها الفلسفة المعاصرة على يد "هيد جر"، بحيث تشمل كل الدراسات الإنسانية والاجتماعية، والواقع أن أكثر الفلاسفة المحدثين تأثيرًا في إحياء هذا المصطلح وتجديد أسسه الفكرية هو "هوشرل" صاحب الظاهريات، ببحوثه في تجنب الانحياز في الأحكام، ولحقه مزيد من التطور والتأصيل المعرفي على يد شلير "ماخروديلثي"، مع الفيلسوف هيدجر كما أسلفنا، حتى قيل: إن التأويل (الهيرمينيوطيقا) وضعه الثيولوجيون ونماه الفلاسفة(1).
(أ) والقصة طويلة؛ فقد بدأ النص مع الإغريق وغلبت عليه عندئذٍ السمات الرمزية.(/4)
(ب) ثم انتقلت الهرمنيوطيقا إلى العبرانيين وكان لفيلون الإسكندري دور في صبغها بصبغة مزدوجة تجمع بين الاتجاه الرمزي Allegory والفلسفة الإغريقية. ويتضمن "التلمود" شروح العهد القديم التي تمت على امتداد ثمانية قرون فيما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن السادس الميلادي، حتى عرفوا بأنهم أهل الكتاب والتأويل، واهتموا بوضع قواعد للتأويل حتى ظهر بينهم ظاهريون حرفيون كالصدوقيين والقرائيين، ولكن بقي التفسير الرمزي هو السائد، ثم عمل الربانيون على تطوير منهج وسط، وكان للمدرسة المصرية في القديم، والأندلسية في العهد الإسلامي دور بارز في هذا الصدد، وكما عمل "فيلون" على تقريب التأويل من الفلسفة الإغريقية، عمل "ابن ميمون" على تقريبه من الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام(2).
(ج) ثم انتقلت إلى الكنيسة المسيحية، حيث غلبت عليها النزعة "الليجورية" الرمزية، ولكن حاول الآباء وضع قواعد لفهم الكتاب المقدس وتأويله عرفت بالقواعد الأوغسطينية الأربع، وهي:
1.التفسير بالمأثور أو تفسير النص بالنص ما أمكن؛ فهو لا يمكن أن يتناقض أو يختلف.
2.التفسير المجازي ولكن حسب قواعد وملابسات أسلوبية تسوغ التعمق في الدلالة وراء الوجه الظاهري للمعنى.
3.التفسير حسب القواعد اللغوية لتعيين المعنى الدقيق للكلمة والتركيب.
4.التفسير حسب الظروف التاريخية، والأحداث المقارنة للنص.
وقد كانت هذه القواعد خطوة جيدة لضبط عملية التأويل وتقنينها إلى حد ما، ولكن الغلبة ظلت للطريقة "الليجورية الرمزية"، وذلك لتأثير(/5)
الغنوص على البوادر التأويلية المبكرة للعهد الجديد، وقد ظهرت عند القوم - كما سبق لدى اليهود – الاتجاهات الثلاثة التي لا يخلو منها فكر ديني: النصيون الظاهريون، والرمزيون الصوفيون، والمعتدلون الوسطيون، وكان للأب كلينمت السكندري، ومدرسة إنطاكية دور في تطوير المنهج الوسط أوالتكاملي بين نصية خالصة ورمزية مسرفة، ثم جاء "أوغسطين" فصاغ القواعد الأربع السالفة(*)، وكانت الكنيسة تعتبر الكتاب المقدس ملكًا لها، ولها سلطة تأويله، حتى نزع الكاثوليك – لضبط التأويل وتجنب اضطرابه. إلى حصر هذه السلطة التأويلية في البابا وحده، مما كان سببًا في الحركات الاحتجاجية، بل الإلحادية الحديثة، مع أسباب أخرى مقترنة قرابة منتصف القرن الخامس عشر.
(د) ومن ثم ظهرت تأويلات متحررة من سلطة الكنيسة وإن لم تتحرر من قواعد التأويل نفسه(Hermeneutics) وأدت الثورة على التشدد الكاثوليكي، إلى أن ظهرت التأويلات البروتوتستانتية على يد "لوثر وكالفن" أوائل القرن السادس عشر، ويمكن أن نفرق بين الرجلين من حيث التأويل بأن لوثر:
1.يرفض سلطة البابا والكنيسة على التأويل.
2.ويرفض غلبة التأويل الرمزي الليجوري غير المنضبط.
3.ويرى ضرورة استعانة المفسر على الفهم بالبعد التاريخي.
4.والرابع وهو الأهم أن يفسر النص نفسه بنفسه – أي بالتحليل اللغوي، وهداية الروح القدس.
... أما كالفن فيتفق مع قرينه مع مزيد تحفظ من الناحية الرمزية الإلهامية، على النحو التالي:
1. رفض سلطة البابا.
2. مراعاة السياق التاريخي للنصوص.
3. مراعاة القواعد اللغوية.
4. رفض الأليجورية الرمزية.(/6)
(هـ) وهذه المحاولات المتعاقبة تمت لضبط التأويل، أو جعل الهيرمينيوطيقا فنًّا مقننًا وليس عملاً سائبًا بلا ضفاف ولا حدود، ولكن ليس إلى حد غلق باب التأويل على غير البابا كما فعل الكاثوليك الذين اضطروا أخيرًا أن يقولوا: إن التأويل الفردي ممكن ولكن لابد أن يكون متسقًا مع التأويل الرسمي المعتمد لدى الكنيسة.
... ثم جاء العصر الحديث، وانطلقت العقول من عقالها، وبالغ المفكرون في إخضاع نص الكتاب المقدس للنقد التاريخي والتحليل اللغوي الحر خلال القرن السابع عشر، والثامن عشر، وكان لفلسفة التنوير Enlightenment أثر كبير كاد يعصف بقداسة النص ومحتوياته، كما ساعدت على ذلك حركة إحياء التراث الإغريقي التي بدأت قبل ذلك واستمرت بمناهجها في تحقيق النصوص وتأويلها، وكان للنزعة العقلية الديكارتية Rationalism على يد هوبز وسبينوزا دور في حركة التأويل الحر للنصوص الدينية، كما كان للفلسفة الإنسانية Humanism التي نادت بإخضاع النصوص الدينية لمقاييس النقد ذاتها التي تطبق على كل نص قديم أثر سلبي، فنجم عن ذلك ضروب من الإلحاد Deism والتمرد على الكنيسة بل على التدين خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وظهرت آراء قوية تدعو إلى تجنب الذاتية في التأويل والتزام العقلانية والموضوعية(1).
... وفي القرنين التاسع عشر والعشرين تطورت الهيرمينيوطيقا على النحو الذي أجملناه فيما سبق، ولئن غلبت روح التحرر على المفكرين الغربيين عندئذٍ فإن بعضهم أسرف على نفسه في ذلك إلى حد الإلحاد وإنكار كل شيء ديني أو مقدس، فقد ولدت الهيرمينيوطيقا الحديثة في
حجر الفلسفات العقلية والتنويرية والإنسانية.
... وقد أسهم شليرماخر(القرن
الثامن عشر) في وضع نظرية الهيرمينيوطيقا على أسس معرفية(/7)
مؤصلة، كما كان لهوسرل وجهوده في توقي التحيز في الأحكام وفي الاستماع المخلص لصوت الواقع ونبضه، وكذا جهود هيدجر (1889 – 1967م) تلميذ هوسرل وعديد غيرهم من المفكرين الفلاسفة المعاصرين، أثر واضح في نظرية الهيرمينيوطيقا وتعميمها على سائر الدراسات الإنسانية والفلسفية(2).
... ويتضح مما سبق كيف نشأت الهيرمينيوطيقا في الفكر الغربي وتطورت منذ الإغريق إلى الوقت الحاضر، استجابة لعوامل حقيقية داخل هذا الفكر، وأهمها متطلبات فهم الكتاب المقدس وتأويله، وما صحب ذلك من تعقيدات يرجع بعضها إلى طبيعة
الموضوع ومشكلات التوثيق والفهم، ويرجع البعض الآخر إلى مواقف الكنيسة والسلطة.
ولا يمكن أن يدعي أحد أنه لابد
أن تطبق المناهج بعينها على
موضوعات متفاوتة وظروف مختلفة لمجرد التقليد، وأن نصطنع الهيرمينيوطيقا لمجرد أنهم فعلوا قبلنا(*)
على أن حركة التوثيق والنقد قد بدأت لدينا منذ الصدر الأول في جو مفتوح وبأسلوب علمي يشهد له المختصون من غير المسلمين، فإن كان ولابد من التقليد فليكن في إطار ثقافتنا وبمواد وعناصر من تجربتنا العلمية، وبأسلوب موضوعي مقنن يتجنب سلبيات هذه التجربة التي لا بد أن تحوي عيوبًا كسائر الأعمال الإنسانية، لكن هذا ينقلنا إلى النقطة الثانية من هذا البحث:
2-حركة التأويل النسوي للنصوص الإسلامية:
... كما ذكرنا في التمهيد فإن أكثر عناصر هذه الحركة نشاطًا مجموعة
من النساء الكاتبات نشأن في بيئة غربية، وتلقين تعليمهن في المؤسسات(/8)
الغربية، ومازلن يشغلن مواقع في تلك المؤسسات، وإن كان بعض منهن قد عاد إلى موطنه الأصلي وشارك في هذه الحركة أيضًا. ونضيف هنا أن بعض الباحثين المسلمين قد أسهم في ذلك اللون من الإنتاج الفكري أو مهد له على نحو أو آخر، في مناطق عدة من أنحاء العالم الإسلامي، ولعله من المناسب، بل من الواجب علينا، أن نذكر هنا أيضًا أن هناك تفاوتًا نسبيًّا في طبيعة الخطاب أو محتوى المقولات التي تعلنها هذه الحركة الفكرية، وتؤكدها بإعادة قراءة النصوص الدينية وتأويلها في ضوء المنهج الهرمنيوطيقي: فمنهن المعتدلات – نسبيًّا كما أسلفت – اللاتي سلمن بالنص القرآني ويشتغلن بتأويله أو تفسيره حسب الاتجاه المذكور، ويرفضن من السنة ما يعتبرنه مضادًا لحقوق المرأة، ويعلن الالتزام بالإسلام بوجه عام،
ومنهن من بلغ بهن الغلو إلى رفض
الأحاديث النبوية جملة، بل مناقشة النص القرآني نفسه من حيث الثبوت أو المصدر الإلهي لبعض آياته، وإعلان الدعوة إلى إسلام جديد أو "ثيولوجيا إسلامية" جديدة من خلال إخضاع النصوص القرآنية والنبوية وكل المحتوى الحضاري للتجربة الإسلامية إلى النقد التاريخي والفكري أسوة بما حدث في تاريخ الثقافة الغربية"(1).
... ومن ثم فإن النماذج التي سنتعرض لها فيما يلي ليست كلها سواء فيما تعلن من فكر أو تبلغه من مدى في نطاق التأويل الهرمنيوطيقي، ولا في طبيعة الخلفية الثقافية التي تمد هذا التأويل أو التحليل.
أ-ومن النماذج التي نوردها الأستاذ هرون ناسوتيون (1919م): الذي نشأ في إندونيسيا في أقصى الشرق من العالم الإسلامي، حيث(/9)
تسود الشافعية فقهيًّا، والصوفية روحيًّا، والأشعرية فكريًّا وعقائديًّا. وتم في هذا الإطار تكوينه الأولي، ثم بعثه والده إلى الأزهر بمصر حيث نال الليسانس في الفلسفة والعقيدة، ثم رحل إلى الولايات المتحدة حيث حصل على ليسانس آخر في التربية، وبعد فترة عمل في "الدبلوماسية" الأندونيسية سافر إلى كندا (ماكجل) حيث حصل على الدكتوراه، وعاد ليعمل على تحديث الفكر الإسلامي سعيًا إلى تحديث الحياة الإسلامية في بلده، حيث آثر الاشتغال بالتربية وإعداد الباحثين في ضوء الحداثة الغربية، وأسهم كغيره من التحديثيين في حركة "البانشا سيلا" (المبادئ الخمس للديموقراطية الإندونيسية)؛ كمنهج وسط بينالأصولية والعلمانية، ومارس من خلال عمله التربوي تأثيرًا واضحًا على الفكر الإسلامي في بلده بمنهج تحديثي نقدي(2).
... كان الأستاذ هرون يدعو في البداية إلى إحياء النسق الاعتزالي العقلاني في التفكير الإسلامي، ثم نزع إلى ضرب من الاجتهاد الحر، وكان في هذين مساس واضح باثنين من عمد التفكير التقليدي بإندونيسيا، أعني الأشعرية والشافعية ولكن في إطار من الالتزام الإسلامي العام، ولكنه لم يلبث أن أضاف إليهما نزوعًا باطنيًّا من وحي نظرية الفيض لدى الفلاسفة المسلمين مما لا يتسق مع توجهه العقلاني، ولا مع التراث التقليدي للتصوف الإسلامي السني، بل هو إلى الأفلاطونية المحدثة أقرب، وبذا اكتمل النقد العلمي للمنظومة الفكرية التقليدية بعمدها الثلاثة، لصالح الفكر التحديثي الملائم للتنمية والموالي للثوابت الإسلامية من القرآن والسنة دون سائر عناصر التراث الإسلامي القابلة بل الواجبة التغيير(*) فيما يزعمون.
... والغريب أن صاحب الوجهة
الاعتزالية العقلانية لم يكتفِ بالنزوع(/10)
الفيضي الأفلاطوني المحدث، وتسويغه بأنه ـ مع المناهج العقلية ـ سيؤدي إلى تنوع في المدارس الفكرية الاعتقادية والفقهية، مما يثري المجتمع ويتفق مع "ديناميكية" الإسلام، بل إنه أخذ يتبنى أيضًا المنهج الهرمنيوطيقي الذي تلقاه على يدي أستاذه "توشيكيو إيزوتسو" في "ماكجل" وزميله الباكستاني الأستاذ فضل الرحمن في تفسير القرآن الكريم تفسيرًا موضوعيًّا على خلاف النهج التقليدي، وإن لم يتخلَّ الرجل عن طابعه العقلاني الغالب عليه طوال حياته العلمية، مع قبول تام للحضارة الغربية المعاصرة بلا تحفظ أو نقد، ولكن مع استيعاب وتمثل دقيق لروح البحث العلمي في تلك الحضارة، ومحاولة توريثها لطلابه في مجال الدراسات العليا، وللصفوة من قادة المجتمع بأسلوب هادئ يتقبل كل التأويلات والمواقف، ويمهد الأرض للتحول في أناة وصبر، مما أفضى بعد ذلك إلى أطوار أكثر غلوًّا في الاتجاه
الليبرالي التحديثي، تنسى الأصول الاعتزالية وتسرف في إعادة قراءة التراث الديني من منظور غربي علماني خالص(1).
ب-السيدة رفعت حسن (نموذج آخر من باكستان):
... ولدت في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي لأسرة شيعية، وكان جدها شاعرًا وكاتبًا مسرحيًّا، وتعرف الأسرة بميولها الفنية لرعاية الموسيقا والرقص، وهي تحمل الآن الجنسية الأمريكية، وتعمل أستاذة للدراسات الدينية بجامعة لويسفيل بالولايات المتحدة، تلقت تعليمها قبل الجامعي في مدرسة لإرسالية مسيحية بلاهور العاصمة الثقافية لباكستان، وتوجهت إلى جامعة درم بإنجلترا فحصلت على ليسانس الشرف في الإنجليزية والفلسفة عام 1964م، وعلى " الدكتوراه" عام 1968م عن فلسفة إقبال، محافظة على تفوقها طوال حياتها الدراسية. وربما(/11)
كان من المناسب قبل عرض طرف من أفكارها التأويلية التي عبرت عنها في عديد من المقالات التي تؤسس فيها ـ كما تقول ـ "ثيولوجيا نسوية" والثيولوجيا هنا بمعناها المسيحي العام غير المقتصر على العقيدة، بل الفكر الديني المتصل بالمرأة، بجانب كتب ثلاثة عن محمد إقبال. تقول: ربما كان من المناسب إيراد شيء هنا عن مفكر باكستاني أوردنا ذكره آنفا كأستاذ في ماكجل بكندا؛ وهو الأستاذ فضل الرحمن (1919-1989م) الذي مهد الأرض للأستاذة رفعت والمتأثرين بها ولو بدون قصد(2)، وقد تلقى المنهج الهرمنيوطيقي على الأستاذ توشيكوأيزوتسو بماكجل، وعارض التعريف التقليدي للقرآن، والتصور التقليدى للوحي تلاوة من الملك على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزعم أن في الوحي جانبًا ذاتيًّا للنبي المتلقي – صلى الله عليه وسلم – وادعى أن
هذا هو الجانب الآخر الذى فشل البحث العلمي لدى المسلمين في اكتشافه والاعتراف به، وقد قضى الرجل حياة نشطة على الصعيد العلمي، وقد اضطر لمغادرة باكستان بعد أن رأس مجمع البحوث الإسلامية فيها، وكان ينظر إليه باعتباره حجة في الدراسات الإسلامية والقرآنية في الغرب، برغم نقده للكثير من المستشرقين هناك(1).
ولعل الأستاذ فضل الرحمن هو أول من طبق المنهج الهرمنيوطيقي على القرآن، وانتهى إلى فكرة الذاتية المحمدية، أو الغيرية والازدواجية في مفهوم الوحي، وإن لم يذهب إلى المدى الذي طبقه محمد أركون من خلال المنهج نفسه فيما بعد.
... أما رفعت حسن فإنها انطلاقًا من فرض مسلّم لديها عن انحطاط مكانة المرأة في الفكر الإسلامي التقليدي، تحاول تفسير القرآن بالمنهج(/12)
الهرمنيوطيقي،من منظور نسوي بحت، لاكتشاف أحكامه المتصلة بالمرأة. ولتعيد صياغة النظرة الإسلامية للمرأة اعتمادًا على مصدر الإسلام الأول، بفهم متحرر يخلص النص من آثار الأحاديث التي تنتقدها بطريقتها وتنتهي إلى رفضها، لأنها تمس مكانة المرأة وحقها في المساواة الكاملة بالرجل؛ كحديث " الضلع الأعوج" الذي تعتبره أخذًا من جانب المسلمين بالنظرة التوراتية لا القرآنية، وهي تكاد تنفض يدها في "الثيولوجيا النسوية" من كل الأحاديث النبوية، حتى لو كان بعضها يوصي بالمرأة ويخضّ على إكرامها، وقالت بأن الفكر الديني والمرويات في ديانات الوحي الثلاث تتصور الخلق مبدئيًّا للرجل ثم تأتي المرأة من ضلعه، وأنها خلقت منه وله، وأنها سبب الهبوط من الجنة والمسؤولة عنه (2).
ويبدو أنها – وقد أجيزت أكثر من مرة في الثيولوجيا المسيحية – تجهل
ما يعرفه كل طلاب الدراسات الإسلامية – حتى المبتدئين منهم – من
أن هذه الأفكار الثلاثة غريبة على الإسلام، وهي تجهد نفسها بالحرب في غير ميدان بمحاولة متعسفة لتأويل الآية الأولى من (سورة النساء) منتهية إلى أن آدم ليس شخصًا بل هو الجنس البشري، وأن "زوج" في الآية لفظ مذكر لا يعبر عن المرأة، مستخدمة – بطريقة استشراقية – بعض المراجع اللغوية، وبالتالي فلا أولية في الخلق، وكلا الأصلين – للجنس البشري – متساويان. وتواصل هذا الجهد المضني في غير طائل؛ لأن المشكلة وهمية بالنسبة للنصوص الإسلامية، لتقرر أنها باطلة النسبة لنبي عرف بإنصاف المرأة والاعتراف بحقوقها(*)، وهذا الجهد يكشف عن معرفة بالغة الضحالة باللغة العربية، وضعف بادٍ في الإلمام بالعلوم الإسلامية والحقائق الشرعية، وبخاصة في أصول الحديث، وأصول التفسير، وأصول الفقه.
ج-ونموذج آخر من جنوب أفريقيا:
... هي السيدة أمنية ودود التي(/13)
تنتمي إلى دولة جنوب أفريقيا وتقيم فيها، وقد اعتنقت الإسلام 1970م، وعملت بهمة – وما تزال – في حركة التأويل النسوي للنصوص الإسلامية عن اقتناع كامل بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة، وقد أقامت عامًا بالقاهرة مدرسة للغة الإنجليزية خلال السبعينيات بعد حصولها على الليسانس 1975م من جنوب أفريقيا، ثم حصلت على"الماجستير" في دراسات الشرق الأدنى من جامعة "بنسلفانيا"، ثم حصلت على الدكتوراه 1988م من جامعة ميتشجان بالولايات المتحدة في الدراسات الإسلامية واللغة العربية، وعملت أستاذة مساعدة بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، وأستاذة زائرة بهرفرد ثم أستاذة للدراسات الدينية بجامعة الكومونولث "فرجينيا" بعد ذلك.
... تمارس أمينة نشاطها من خلال
عملها الجامعي كمحاضرة ناجحة، وقد
نالت العديد من الجوائز، وأصدرت
كتابها الوحيد (القرآن والمرأة) الذي ترجم إلى كثير من اللغات، وهي تتابع جهود رفعت حسن في التركيز على القرآن والنصوص النبوية وتأويلها من منظور نسوي هرمنيوطيقي، على حين تركز أخريات - من الناشطات في إطار هذه الحركة – على العرض التاريخي وتأويل التجربة الإسلامية كلها تأويلاً نقديًّا، كما أنها – على غلوها في أمر المساواة المطلقة – تعلن الالتزام بالإسلام بوجه عام في حدود المفهوم الذي تعتنقه.
... وفي كتابها المشار إليه تعلن اعتمادها على القرآن وحده، فإذا خالفت السنة فهمها له فهي ترفضها، ومن خلال فهمها التقدمي للقرآن – كما تسميه – ترفض إباحة الطلاق وتعدد الزوجات، وتعتبرهما من قبيل الفهم المرجعي الخاطئ للإسلام والقرآن. وهي تنادي بالقطيعة الثقافية مع
هذا التفسيرات الرجعية ولا تعمتد في مناقشاتها إلا على "الكشاف"(/14)
للزمخشري – دون أن تتبين سببًا لذلك، وإن كان إلمامها بالعربية – وهي مجازة فيها – لا يختلف عن مستوى رفعت حسن، وتعيد – مثل رفعت – مناقشة مسألة الخلق "والزوج" من جديد، لإثبات المساواة التامة بين أصلي البشرية، وما يتصل بذلك من قوامة وأفضلية ونشوز، مغفلة مقتضيات السياق القرآني والدلالة اللغوية(*).
د-ومن الشمال الأفريقي:
... نقدم الآن نموذجين من هذه المنطقة في قلب العالم الإسلامي لسيدتين تنتمي إحداهما إلى مصر أصلاً؛ وإنْ كانت قد تعلمت وعاشت حتى الآن في الولايات المتحدة، وهي السيدة ليلى أحمد. والأخرى بعد أن تعلمت في تلك البلاد أيضًا عادت إلى موطنها مراكش، وهي السيدة فاطمة المرنيسي:
1-وقد نشأت مرنيسي نشأة تقليدية في
بلدها، ونالت الليسانس من جامعة
محمد الخامس بالرباط في العلوم السياسية، ثم سافرت إلى الولايات المتحدة حيث حصلت على الدكتوراه من جامعة برانديز، وعملت أستاذة لعلم الاجتماع بالرباط، والآن هي متفرغة للبحث العلمي وتحظى بتقدير خاص في الأوساط الغربية في مجال الدراسات القرآنية والإسلامية، وقد منحت جائزة عالمية لنشاطها البارز في الحركة النسوية عام 2003م. ... لها العديد من المطبوعات البحثية عن الحجاب، والإسلام والديموقراطية، وبعض جوانب التاريخ الإسلامي، والنساء والإسلام وغيرها.
... وقبل أن نلخص أفكار هذه السيدة وإسهاماتها في الحركة النسوية التأويلية نود أن نشير إلى اسمين معروفين في هذا الإطار الهرمنيوطيقي في البيئة المغربية أو المغاربية بوجه عام: أولهما ـ الأستاذ أركون الذي
أشرنا إلى موقفه من قبل، في تطبيق
المنهج التفكيكي على آيات القرآن(/15)
الكريم بحثًا عن القرآن الحقيقي الذي اختلط نصه – فيما يزعم – بأساطير وأوشاب ينبغي تخليصه منها، داعيًا إلى تسليط نور البحث على عملية الجمع القرآني المعيبة في نظره، متحررًا مما أضفى على النص من قداسة تاريخية أسطورية، وقطعية ثبوت موهومة، لتخليص النص الأصيل من العناصر الأسطورية التي يضمها "المصحف" المتداول بين المسلمين(*).
... وهذه هي أشد الدعاوى جرأة فيما يتصل بالنص القرآن المتواتر على مدى القرون وفي مختلف مناطق العالم الإسلامي لفظًا وأداء، بين العوام والعلماء، والصغار والكبار،والنساء والرجال، لكنها تتكرر على استحياء وبدون تصريح لدى الكاتب المغربي الآخر الأستاذ عبد الهادي عبد الرحمن، وبخاصة في كتابه (سلطة النص) الذي
يتحدث في مقدمته عن "التاريخانية" في حادثة ظهور الإسلام وفي محتواه
وفي توظيفه(1). ويحاول تحديد منهج
لدراسة النصوص الدينية الإسلامية بما فيها القرآن الكريم على أساس من القطيعة الثقافية مع المناهج التراثية(2)، التي ينبغي هدمها لإعادة بنائها بمنهج التفكيك والتركيب، وتطبيق مقاييس نقد التراث الإغريقي(3)، ويعترف بأن من سمات هذا المنهج "الذاتية" التي لا فكاك منها(4)، ثم ينادي بأنه لا بد من أداة لغوية لتحليل النص القرآني، لكن "هذه الأداة قد تكون بنوية أو فيلولوجية أو بيانية أو نحوية أو مزيجًا من هذا كله"(5)، وينتقل من التحليل الشومسكي إلى التحليل الجابري معترضًا عليه في تحليله الحديث المشهور (كل محدثة بدعة .. إلخ) فيقول هو: إن بدعة مضاف إليه، وكذا لفظ ضلالة، وأن الخبر أو النتيجة – كما يعبر – هي كل
ضلالة في النار(6)، ولا ندري أي منهج تحليلي هذا أو أية قواعد(/16)
لغوية يعرفها ويطبقها الباحث الذي ينادي بمراعاة الجانب النفسي في القرآن؟، إذ القرآن لغة إنسانية بعد رفع القداسة عنه واستخدام كل منهج "لغويًّا كان أو نفسيًّا أو تاريخيًّا أو جدليًّا" (7). ويطبق منهج أسباب النزول على سورة النساء مفككًا ومؤولاً لينتهي إلى لا شيء إلا التشكيك في دلالة النص، والإيحاء بظلمه للمرأة إما في محتواه أو في طريقه تطبيق النبي – صلى الله عليه وسلم –له(8) .
... في هذا الجو نمت أفكار السيدة مرنيسي، فكتبت كتبها العديدة، وقدمت أفكارها الجريئة، على أساس المنظور النسوي من خلال منهج التحليل الموضوعي والتاريخي ليس فقط للنصوص الدينية بل للتجربة التاريخية الإسلامية كلها. وفي كتابها عن "المرأة
والإسلام" تنتقد الأحاديث النبوية متنًا وسندًا بالنقد الذي يتأسس على عجز
البحث التقليدي عن اتخاذ الموقف الصحيح من المرأة ووجوب تصحيحه. وهي ترى أن السياسة أثرت على النصوص الدينية وبخاصة الأحاديث النبوية فتناقشها تحت عنوان (توظيف النصوص الدينية كسلاح سياسي)، وذلك سر ما تحتويه من نظرة عدائية للمرأة.
ثم تتناول في الجزء الثاني من الكتاب السنين الثلاث الأولى لدولة المدينة من الناحية التاريخية لتستنتج أن الإجراءات التي اتخذت بشأن المرأة وفصلها (الحجاب) كانت ذات طبيعة مؤقتة فهي تاريخية آنية لا مطلقة دائمة، وتنتهي في الفصل الأخير إلى أن الظلم الذي تعاني منه المرأة المسلمة لا يرجع إلى الإسلام ولا إلى القرآن ولا إلى السنة وإنما إلى المجتمع ومصالح رجاله(*) .
... وفي كتابها عن "الحجاب"
تواصل التحليل التاريخي مولية أهمية
قصوى للسياسة ومتطلباتها، مقررة أن
الأحاديث المتصلة بالمرأة، ومنها ما(/17)
رواه البخاري في صحيحه عن أبي بكرة بشأن ولاية المرأة عندما بلغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر الفرس وتولية ملكهم إحدى الأميرات، إنما كان سلاحًا في موقف سياسي من الراوي لتسويغ موقفه المعتزل للفتنة، وتتهم الصحابي نفسه بشأن حديث (إصلاح الحسن بين الطائفتين من الأمة) بأنه صاحب ذاكرة تتحرك عند المناسبات – وهي سخرية فجة، ولا يقل عنها فجاجة حديثها عن شخصية أبي هريرة المعادية للمرأة وأن ذلك يرجع إلى لقبه المشهور أبى هريرة لا أبى هر، وحقده على المرأة لحقده على هذه الكنية. وبمثل هذا التفكير "العلمي" ترفض الأحاديث وتقبل في حركة التأويل النسوية. غير أن مرنيسي تواصل عملها النقدي المبني على تقصي الظروف التاريخية لفرض مؤقت
للحجاب في المدينة. فإن تم لها
ذلك في الحديث فماذا عن آية
الأحزاب (رقم 58)؛ إنه الجواب نفسه؛ وهو الظروف التاريخية، والتهديد العسكري في العام الخامس للهجرة وإثقال الزائرين على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيته الذي استدعى ذلك الحكم الذي يشبه في نظرها "الخطيئة الأزلية" في المسيحية، ومن ثم فهو ذو طبيعة مؤقتة واستجابة لظروف آنية غير دائمة؛ أي تاريخانية الأحكام والنصوص القرآنية في مدلولاتها ومجال تطبيقاتها(1).
... وتواصل مرنيسي مناقشة أحكام
الميراث على أساس من الملابسات التاريخية أيضًا وبأسلوب لا يخلو من
سخرية(2). كذلك. وتستمر في مناقشاتها لمختلف الآيات القرآنيةعلى أساس من السبب (الظرف التاريخي) والنتيجة (الوحي) بلغة لا تخلو من شكوى أو نقد للصحابة وللنبي نفسه بل
للوحي المنزل في غير مصلحة المرأة
كما تراه(3) .(/18)
ب- غير أن مرنيسي لكثرة إنتاجها وطول نفسها في المناقشة كانت شبه رائدة لهذا الضرب من التحليل التاريخي، فجاءت السيدة ليلى أحمد لتتبع خطاها؛ بعد أن تلقت كل تعليمها الجامعي من الليسانس إلى الدكتوراه في بريطانيا، من جامعة كمبردج، وصارت أستاذة في جامعة هارفرد بالولايات المتحدة.
... وأصدرت عدة كتب بعضها يتعلق بالمرأة وبعضها يتناول اهتمامات جامعية(4) حرفية أو شؤونًا شخصية. ولكن كتابها الأساسي هو(المرأة والإسلام) وفيه تتعرض بمنهج تاريخي للأصول التاريخية للصراع المعاصر حول هذه الأمور الثلاثة، وتتعرض لمركز المرأة منذ فجر الإسلام، حتى العصور الوسطى الإسلامية، ثم الخطاب النسوي في
العصر الحديث، وفي عديد من الأقطار
الإسلامية ومن بينها مصر، وما يتضمنه من قضايا الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات ونحوها(1). وهي تكاد تتفق تمامًا مع مرنيسي في آرائها وفي الحجج التي تسوقها أيضًا ولكن مع نزعة مقارنة واهتمام بالمؤثرات الثقافية. وهي تتعرض "للضلع الأعوج" وترى فيه تأثرًا بالثقافة البيزنطية، وتقارن بين التحفظ الأفريقي والتحرر المصري بشأن المرأة، وتهاجم مصطلح " الجاهلية " وأثره السلبي، وتقرر أن الإسلام حد من الحرية الجنسية للمرأة العربية (2). وهي تفرق بين الفهم الفني أو الفقهي للتوجيهات النبوية الذي يحولها إلى أحكام دائمة بالمباح والممنوع، وبين الفهم الخلقي الذي يعطي القيمة ويخاطب الضمير، وترى أن الأول هو أكبر خطأ وقع فيه الفقه المحافظ (الأرثوذكسي) للإسلام.
وتنتقل السيدة ليلى إلى القرآن الكريم فتتحدى الاعتقاد الخاطئ لدى المسلمين بثبوته القطعي عن طريق التواتر وتعتقد أن ما بأيدي الناس يختلف عن ذلك الذي أنزل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (3).
... ولا أدري ما سر حماستها لهذا الموضوع الذي تتحدى به سيدة مسلمة
مثقفة مشاعر كل المسلمين.(/19)
... والآن – وقد استعرضنا تلك النماذج التي انتشرت في أقطار العالم الإسلامي من قلبه إلى أطرافه، ومن شرقه إلى غربه، يمكن استخلاص القضايا الرئيسة التي يتضمنها خطاب هذه الحركة، وإن تفاوت أفرادها في تبني كل هذه المقولات أو بعضها من حالة إلى أخرى؛ وأهمها ما يلي:
1-تاريخانية النصوص الدينية، بما في ذلك النصوص القرآنية، وإخضاعها
للظروف التاريخية، مما قد يفضي
إلى نسخها أو استبدالها، أو بقائها قيمًا خلقية خالصة، بل التشكيك في اكتمال النص القرآني وثبوته.
2- ذاتية التحليل وتجاهله لطبيعة النصوص العربية، وإغفاله لقواعدها اللغوية، وسياقاتها وأساليبها البيانية، وتجاهل مغزى الإلحاح على عربية النص القرآني في القرآن نفسه، وما انتهت إليه الدراسات اللغوية المعاصرة وخاصة علم الدلالة من مقررات علمية بشأن التأويل .
3-عدم الأهلية الكافية للتأويل، والإقبال على النص القرآني بآراء سابقة التشكيل، بناء على منهج نشأ ـ وساد في ثقافة أخرى مخالفة، ولدواعٍ قد لا توجد في البيئة الإسلامية.
4-استبعاد العلوم الشرعية، التي دونت وأنضجت لخدمة النصوص الدينية وتوثيقها وفهمها، واستنباط الدلالات منها، مع أنها هي التي يمكن أن تشكل مع الدراسات الأدبية واللغوية والبلاغية ما يمكن اعتباره "هرمينيوطيقا" أصيلة، أو منهجًا ملائمًا لتأويل النصوص العربية تأويلاً علميًّا موضوعيًّا مقننًا؛ بحجة أن هذه العلوم تراث رجعي ينبغي إعلان القطعية معه.
3- نحو بناء هرمينيوطيقا عربية:(/20)
... نحن بحاجة الآن – فيما أعتقد – إلى بناء نظرية أو نسق فكري متكامل للتعامل مع النصوص العربية وتأويلها على نحو يحترم خصوصيتها ويتناسب مع طبيعتها، بما في ذلك النصوص القرآنية – والنبوية، لكي نرد عن تراثنا ولغتنا ووجودنا الحضاري والفكري، ريح السموم التي تهب علينا من الغرب، وتجد من أذكياء رجالنا ونسائنا من يسهم فيها ويدمر صرح قومه ليقف بعد ذلك عاريًا محرومًا من كل عناصر الوجود الحضاري من لغة وتراث وثقافة ودين.
... ولن نخترع شيئا مختلقًا لكي نجاري الآخرين، بل هو تجميع عناصر التعامل مع التراث وظواهره العلمية والثقافية، في علومنا الأصلية، وتجربتنا التاريخية والثقافية، لكي تواصل خدماتها لهذا التراث، وتحمل الذين يرغبون في دراسته وتقييمه و"تأويله" على تحصيلها وإتقانها، ثم التدرب على تطبيقها واستخدامها، ثم المضي في إجراء البحوث على نهجها الموضوعي المرسوم بدلاً من التهويم في التيه بحجة الذاتية الحتمية التي لا مفر منها، وما هي إلا الإفساد والكسل العلمي والتقليد البغيص.
... إن أهلية الباحث شرط أساسي وقبلي للشروع في أي بحث، وقد رأينا كيف يعرف بعض الناس بما لا يعرفون في شؤون من أخطر شؤون الحياة والوجود، وما هو إلا التخمين والاسترسال فيه دون حدود أو قيود، وخطر ذلك قد لا يتبدى واضحًا اليوم، ولكن عندما يكثر ذلك الإنتاج "الفكري" كما يقولون وتغص البيئة الثقافية بآثاره وأوضاره لن تجد أجيال قادمة فرصة التنفس في فضاء صحي، ولن يكون طلب العلم والبحث عن الحقيقة في أمر وجودنا الحضاري أمرًا ميسرًا أو سبيلاً قاصدًا ، بل ستتعقد الأمور لا قدر الله.(/21)
... كنت أود أن ألقي الضوء على جهود الأصوليين خاصة في مواجهة هذه الموجة العاتية، وفي تنمية اللغة، وإثرائها، وقد بدأ البحث اللغوي المعاصر– وكان غافلاً عن هذا الجانب حينًا– يعتد بها في درس اللغة وإثراء علومها ومناهجها بل مادتها ومحتواها أيضًا، وهو أمر حشدت له– علم الله – وسائل وأدوات، وبقي أن يسلط عليه النظر المتأني والفحص الدقيق، ومن ثم سأكتفي الآن بمجرد الإشارة إلى العناصر التي يمكن أن تبنى منها نظرية التأويل العربية "المنشودة"، أملاً في فرصة أخرى يتاح فيها النظر الفاحص في تلك العناصر كلها، وبخاصة جهود الأصوليين:
1-علوم اللغة العربية، بفروعها التقليدية من نحو وصرف وبلاغة وعروض ونقد وأدب، مع نظائرها من فروع الدراسات اللغوية الحديثة وخاصة علم المعنى أو علم الدلالة.
2- أصول التفسير وقواعده، وأنواعه ونماذجه، وطرقه ومناهجه، وجهود أسلافنا في خدمة النص القرآني، والتعرف على معانيه ومقاصده، وما يتصل بذلك من علوم القرآن الكريم ودراساته.
3-أصول الحديث، وأساليب التوثيق، ومناهج نقد المتون والأسانيد، مشفوعة بمناهج نقد النصوص وتحقيقها، ومناهج النقد التاريخي داخلية وخارجية في النظر الحديث.
4-أصول الفقه، والوسائل التي يستثمر بها الفقيه الأحكام من مصادرها، والقواعد اللغوية والشرعية لذلك العمل، وما يتصل بذلك من مصادر الأحكام وطبيعتها ومقاصدها، مشفوعة بأساليب النظر في فلسفات القانون
المعاصرة، وأساليب الصياغة القانونية وقواعدها.
... وهذه هي الأصول والأمهات، وقد تحتاج إلى فروع مكملات، وإلى إلمام بالمجال العلمي الذي يدور فيه النص، حتى يمكن التعامل معه على بينة، وتحريره، ثم شرحه وتأويله. وإني لأتوجه إلى العلي القدير أن يعيد هذه العقول الشاردة إلى رحاب حضارتها وطريق ثقافتها، وأصل وجودها وحقيقتها؛ فهو ولي ذلك والقادر عليه.
... وشكرًا لكم – سادتي – على حسن الاستماع.
حسن الشافعي
عضو المجمع(/22)
اكتشاف غير مسبوق حول رحلة ابن بطوطة(*)
للأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي
أعلن الأستاذ عبد الهادي التازي عضو أكاديمية المملكة المغربية وعضو المجامع العربية والمعهد العربي الأرجنتيني عن اكتشاف تراثيّ يتعلق بالرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة.
ويتعلق الأمر بغياب فصل مهم من الرحلة، قد يكون الكاتب ابن جُزَي نسيه عندما كتب الرحلة بفاس بأمر من السلطان أبي عنان عام757م=1356هـ.
كان هذا الفصل يتعلق بزيارة ثانية لابن بطوطة إلى دمشق عام 727هـ =1327م، وقد عوضها ابن جُزَي ربما سهوًا بزيارة لاحقة لابن بطوطة إلى بلاد فارس! الأمر الذي أحدث تساؤلات الباحثين من أمثال البروفيسور الإنجليزي السير هاميلتون كيب H.Gibb والمستشرق التشيكي
إيفان هربك E.Hrbek ، وقد ردد هذه التساؤلات الأستاذ الفرنسي فانسان مونطي V.Monteil عام 1968 والأستاذ صطيفان ييرازيموس
S.Yerasimosعام 1990 اللذان كانا يعلقان على ترجمة الرحلة إلى الفرنسية، المنجزة منذ 1854– قبل مئة وخمسين سنة – من قبل ديفريمري Defr-emery وصانكينيتي Sanguinetti .
وقد اعتمد د. التازي في هذا الاستكشاف، على مخطوط لأبي العباس أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى(656هـ=1358م) نسخة ابن بطوطة بخط يده في "المدرسة العزيزية" بدمشق منتصف عام 727هـ=1327م على ما ينص عليه هو نفسه، ولاشك أن هذا سيساعد على إزالة الشكوك التي كان المؤرخون يثيرونها حول مصداقية رحلة ابن بطوطة وضبط تواريخها...
الأستاذ التازي سيبعث بدراسته الكاملة لسائر الجهات المعنية برحلة ابن بطوطة وخاصة المؤسسات الجامعية والهيئات الثقافية والأكاديمية وكذا الموسوعات العالمية التي تهتم بالدراسات الإسلامية والعربية.
يجدر التذكير بهذه المناسبة، أن منظمة اليونسكو ونظيراتها الأيسيسكو والأليسكو، وكذلك معظم الجامعات
العربية جعلت من يوم 24 من فبراير
2004م يومًا للاحتفال بمرور سبعمئة سنة على ميلاد ابن بطوطة، الذي(/1)
تعتبر رحلته اليوم أهم وأعظم رحلة في تاريخ البشرية جمعاء...
كان أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم محمد بن أحمد بن جُزَي الكلبي رابع أربعة من الذين كانوا وراء ظهور
رحلة ابن بطوطة على الساحة المغربية
أولاً ثم الساحة الدولية ثانيًا بعد تشجيع الوزير الأول ابن أودرار، وبعد أمر العاهل المغربي السلطان أبي عنان...
وقد ولد بغرناطة سنة 721هـ =1321م وأدركه أجله بفاس يوم 29 شوال 1357هـ عن عمرٍ لا يتجاوز ستًا وثلاثين سنة...
وقد قُدر لهذا الرجل أن يجتمع
بابن بطوطة في غرناطة وكان يصغره
عمرًا بنحو ثماني عشرة سنة، عندما زار الرحالة المغربي عاصمة بني نصر عام 752=1351(ج17،ص 371 )(*).
... وتم ذلك في بستان الفقيه أبي القاسم محمد بن عاصم حيث انتظمت نزهة جمعت عددًا من وجوه العاصمة الأندلسية، ووجدنا أن ابن جزي يعرب عن ارتياحه كشابٍّ للاستمتاع بالأخبار التي كان يرويها الرحالة الشيخ، ولم يتردد في الاعتراف بأنه قيد عن ابن
بطوطة، في ذلك البستان، أسماء بعض الأعلام الذين لقيهم الرحالة أثناء سفره وأنه استفاد منه فوائد عجيبة.
... وبهذه المناسبة سأل الشاب ابن
جزي الرحالة عن مولده فأخبره بأنه
ولد بطنجة يوم الاثنين(1) 17من رجب 703هـ=24 من فبراير 1304م.
... كان ابنُ جزي على هذا العهد في خدمة أبي الحجاج يوسف بن الأحمر من بني نصر، ملك غرناطة الذي كان ألحق ابن جزي ببلاطه منذ عام 741هـ=1341م في أعقاب استشهاد والده في وقعة طريف في نفس العام حيث كان يطرب لأدب الكاتب وفكاهته(2).
... وإذا أراد الله أمرًا هيأ له أسبابه كما يقولون، فقد حدث أن تعرض
الكاتب ابن جزي لظلمٍ لحقه من ملكه أبي الحجاج في أعقاب وشايةٍ آثمة،
ولم يتحمل ابنُ جزي إهانةَ الضرب
بالسوط، فالتجأ إلى فاس "مستقر الغرباء ومأوى الخائفين" على حد تعبيره (ج11، ص 138) وذلك في آخر عام ثلاثة وخمسين 1353م حيث وجد أبو عنان ما كان يرجوه.(/2)
... ويذكر أنه شرع – وهو بحضرة السلطان – في تأليفٍ حول تاريخ غرناطة، وأن لسان الدين ابن الخطيب، تلميذ والده، وقف على بعض الكراريس منه عام 755هـ=1354م بمناسبة سفارته لدى السلطان أبي عنان عن ملك غرناطة(3)…
... وعندما قرَّر هذا السلطان استنساخ رحلة ابن بطوطة وجعلها في
متناول الناس ضاربًا عرض الحائط برأي بعض الحسدة والمنافسين، لم يجد في مجلسه أفضل من الكاتب ابن جزي
صاحب الخط الرفيع، خط ابن مُقْلة، كما نعته لسان الدين، لا سيما وأنه (ابن جزي) سبق له ـ على ما قلنا ـ أنه(ابن بطوطة) وتعرف على مذكراته عندما تم اللقاء في بستان غرناطة(1).
... وامتثل ابن جزي أمرَ سيده وهكذا كتب له، أي لابن جزي أن يستمر ذكره عبر الأرجاء رغم عمره القصير على ما أسلفنا…
... كان ابنُ جزي – على ما ذكره مترجموه أديبًا رائعًا، ولذلك فقد كان خير من يختار لمهمةٍ مثل هذه، على ما كان يحيط بها من مصاعب ومتاعب.
... ونحن نعلم أن التأليف أيَّ تأليف إذا اشترك فيه اثنان، وتوزعت فيه المسؤولية بين حاكٍ وكاتب أصبح تأليفًا يحتاج إلى الحيطة… لا سيما إذا كان
التأليف مثل هذه الرحلة التي قام بها
شيخ جال في أطراف المعمورة، والتي سجل تقييداتهِ حولها شابٌّ يعتمد على
الحكاية والنقل ويصوغ التقاييد بأسلوبه، ولو أنه أسلوب جميل رفيع، لكنه تنقصه المشاهدة والمعايشة، علاوة على ما يثبت لنا مراجعة ابن بطوطة للعمل والتدقيق مع ابن جزي حول ما كتب، الأمر الذي لا أعتقد أنه حصل، فقد كان العمل أحاديًّا ولم يكن تعاقديًّا كما يقولون.
... ومن هنا توالت بعض الانتقادات على ما روى عن الرحالة… ابتدأت من عصره كما نعرف: ابن الخطيب الذي نقل عن شيخه أبي البركات البلفيقي ما لفَّقَه على ابن بطوطة… وابن خلدون الذي سعى، على جلالة قدره، إلى الوزير ابن أودرار لينقل إليه تناجي الناس بأكاذيب ابن بطوطة، آملاً في إتلاف الرحلة!!(2).(/3)
... ابتدأ الانتقاد من ذلك العصر إلى أن ظهرت حركة المستشرقين الذين يرجع لهم الفضل أولاً في اكتشاف
مخطوطات الرحلة، قبل أن ينتبه إليها علماء المشرق والمغرب، وهكذا اجتذبوا زمام الفكر من مشرقٍ حائرٍ ومغرب منشغل بما كان يتهدده من أطماع أجنبية!
... ثم إنهم أي المسشرقين أخذوا ثانيًا يبحثون في تمحيص تواريخ الرحلة ويومياتها: ما يمكن منها وما لا يمكن. وهل إن الرحالة عند ما يتحدث عن حالة القيظ في فصل الصيف أو حالة القر في فصل الشتاء فهل كان يصادف فعلاً فصل الصيف فصل الشتاء؟ وهلْ إِن الرحالة عندما يذكر يوم الاثنين مثلاً كان يتحدث عن يوم اثنين أم إنه كان يتحدث عن يوم جمعة؟ وعندما يذكر الرحالة حاكمًا لبلد زاره، هل إن ذلك الحاكم كان فعلاً هو القائم بالأمر في ذلك البلد في ذلك التاريخ؟ وهل إن ركوب ابن بطوطة البحر تم لأول مرةٍ عندما أخذ المركب إلى بلاد فارس عام 727هـ=1327م، كما تزعم الرواية، (ج1، ص 18)، أو إنما تمَّ عام 730هـ=1330م على ما يؤكده هو باللفظ الصَّريح الفصيح (ج11، ص 158). وهل إن الفترة التي ذكرها لزيارة بقعة معينة، بمشاهدها المذكورة، ورجالها المعدودين… كانت بالفعل فترةً كافية لقضاء كل تلك الأغراض التي يذكرها؟ وهل كانت تصادف وجود أولئك الأشخاص الذين لقيهم هناك؟ مما يعود فيه أولئك الباحثون إلى المؤلفاتِ المعاصرة لتلك الحقبة لاستجلاء الحقيقة؟. إلى آخر ما نحس به ونحن نتوفر اليوم على المصادر والمراجع!.
... من أجل كل هذا خصصت في مقدمة تحقيقي للرحلة فصلاً بعنوان الدراسات النقدية للرحلة، قصدت به أن أحمل جمهور الناس على قراءةٍ جديدةٍ للرحلة.
... وقد كان مما جاء في آخر هذا الفصل، تعليقًا على "تلخيص التقييد"(/4)
– كما يسمي ذلك ابنُ جُزي – هذه الكلمات: ذلك التقييد الذي جمعها ابن بطوطة قرابة ثلاثين سنة، وقام ابن جُزَي بتلخيصه في أقل من ثلاثة شهور(*)… ! ومتى كانت هذه الفترة كافيةً لتغطية تلك الأعوام الطوال، واستيعاب ذلك العدد الكبير من الأسماء الجغرافية والأعلام الشخصية التي مرت بذاكرة الرحالة واستطاع اختزانها عبر تلك الأحقاب؟!
... يقوم أحدنا في العصر الحديث برحلتِه في أمدٍ معروف البداية والنهاية، ثم لا نذكر بعد مرور بضعة أسابيع أو أيام من رحلتنا، بعض الأسماء التي مرت بنا فنأخذ في الاستنجاد برفاقنا في الرحلة، لا فرق بين صغير وكبير، ولا ينبئك مثل خبير!!
... أعتقد – كما أشرت – أن ابن جزي كان مستعجلاً أكثر مما ينبغي في أداء هذه المهمة الدقيقة، وربما كان
– كما أعتقد أيضًا – منشغًلا بمشكل
صحي قد يكون " قرحة في المعدة "، وهو ما عبر عنه مترجموه بقولهم:
"مات مبطونًا "، وقد يكون سرطانًا أصابه في أعقاب الإهانة التي ظل يتذكرها وهو يجلد بالسياط من لدن ملكٍ كان إلى الأمس القريب يضحك في وجهه، ويعطف عليه ويستأنس به!!
... كان مما ينسب إليه وهو في حالة مرضه ما رواه الوليد بن الأحمر:
إِنْ يَأْخُذِ السّقْمُ مِنْ جِسْمي مَآخِذَهُ
وَأَصْبَحَ القومُ مِنْ أَمْرِي على خَطَرِ
فإنَّ قلبي بِحَمْدِ اللهِ مُرْتَبِطٌ
بالصبرِ والشكرِ، والتسليم للقَدَرِ
فَالْمَرْءُ فِي قَبْضَةِ الأقدارِ، مَصْرِفُهُ
للبُرْءِ والسّقمِ أو للنّفْعِ والضّرَرِ!!
... ربما كانت تلك الظروف والصروف وراء تسرعه وبعثرته للمعلومات التي "أمليت" عليه أو "التقييدات" التي قدمت إليه… بل وفي الاستغناء كليةً عن بعض " التقاييد"،
ولا ندري – كما أسلفنا – هل كان ابن
بطوطة يجلس إلى جانب ابن جزي
ليراجع هذا "التلخيص" بعد تحريره ليعطي رأيه فيه؟ مهما يكن، فإن الظرف القصير الذي حدد للقيام بالمهمة كان فيه إجحاف بالمشروع…(/5)
... ولْنضِفْ إلى "انشغال" ابن جُزَي بأمر صحته عنصرًا ثانيًا قرأناه في أثناء الرحلة، وهو الحسرة البالغة التي ظلت تجرح ابنَ بطوطة وهو يتحدث عن السطو الذي تعرض له في جزيرةٍ تقع في المحيط الهندي بين هُنَور (HONAVAR) وفاكَّنْور (BACCANORE) في ذي الحجة 745 أبريل 1345( ج. 17، ص 206) حيث سلبه القراصنة جميع ما كان يملك من جواهر ويواقيت حتى الثياب و"الزوادات" كما يقول!
... ومن المهم أن نذكر هنا أنه بالرغم من القيمة المادية الهائلة لما افتقده رحالتنا في هذه الحادثة المروعة
التي استحقت من أحد الرَسامين الأوربيين المهرةِ في القرن الماضي أن
يقوم بوضع لوحة لها معبرة(*) …
بالرغم من ذلك فإنه نسي كل تلك الثروات، وكل تلك التحف ولم يبق عالقًا بذاكرته إلا "التقييدات" التي كان يُودع فيها معلوماتٍ عن الشخصيات العلمية التي تعرف عليها وعن التصانيف التي ألفتها تلك الشخصيات.
... والطريف في هذا الحادث الكارثي بالنسبة لابن بطوطة أنه لم ينتظر التعبير عن شعوره بالمضاضة على ضياع تلك المذكرات حتى وصوله للحديث عن تلك الجزر التي وقع فيها الحادث، ولكن ـ والمذكرات أمر ذو بال بالنسبة إليه ـ تعجل بذكر هذه المأساة للناسخ ابن جزي عندما كان يتحدث عن علماء بخارى وهو ما يزال في طريقه إلى الهند (ج 111، ص28 – 99– 448؛ ج 711، ص 206).
... والمزعج (في دراستي هذه) أنه لم يبق لدينا بعد كتابة الرحلة في صفر عام سبعة وخمسين وسبعمئة (فبراير
1356)(1)، أقول لم يبق لنا بعد هذا، وبعد رحيل كلّ من يهمه أمر الرحلة، لم يبق بين ظهرانينا من نسأله!!. فابن جزي قتلته "الإهانة" التي كان يشعر بها ولم تتجاوز به شوال عام 757 هـ أكتوبر 1356م، مات وهو يذكر السياط التي كانت تصب عليه ظلمًا وعدوانًا كما قالوا(2)…(/6)
... والوزير ابن أودرار الذي أسكت ابن خلدون فشجع ابن بطوطة على عمله، هو بدوره لقي مصرعه عندما هاجمتْه زبانية السلطان أبي عنان فصفوه في أعقاب مؤامرةٍ يعلم الله وحده مدى صحتها…
... والسلطان أبو عنان نفسُه امتدت إليه أيادي وزيره حسن بن عمر الذي خنق سيدَه في ذي الحجة 759هـ = ديسمبر 1358!!.
... ماتوا جميعًا هكذا تباعًا، الواحد بعد الآخر في فترةٍ واحدةٍ تقريبًا كما ترى، ولم يبق معنا إلا ابن بطوطة
الذي كان في حكم الأموات أيضًا! لا نعرف عنه وعن أسرته أي شيء! هل تزوج؟ وهل أنجب أولادًا جُدُدًا؟ لقد كان المغرب يعيش فترة الفتن بعد تصفية الحسابات، وكلّ الناس أصبحوا يلوذون ببيوتهم…!
... ولم يبق ممن نعرفه غير الخطيب ابن مرزوق الذي تمكن من الفرار بنفسه إلى مصر… وعن طريقه وصلتنا – من مصر – آخر أخبار ابن بطوطة الطنجي… فهو الذي بقي مصدرًا لنا حول الموضوع … وهو الذي وقف الحافظ ابن حجر (تـ 852هـ =1448م) على تقييدٍ بخط ابن مرزوق يقول فيه بالحروف على ما يرويه ابن حجر في الدرر الكامنة:
... "وقرأت بخط ابن مرزوق أن أبا عبد الله بن جزَي نمَّقها أي الرحلة
وحررها بأمر السلطان أبي عنان، وكان البلفيقي رماه بالكذب فبرأه ابن مرزوق، وقال: إنه أي ابن بطوطة
بقي إلى سنة سبعين، ومات وهو متولٍّ للقضاء في بعض البلاد، قال ابن مرزوق: ولاأعلم أحدًا جال البلاد كرحلته وكان مع ذلك جوادًا محسنًا(1).
... وبالعودة إلى (نفاضة الجراب) للسان الدين ابن الخطيب، نجد أن القصد ببعض البلاد إلى تامسنا وكانت عاصمتها هي (آنفا)، الدار البيضاء الحالية(2) …
... قلنا إن الأربعة: ابن جزي وابن
أودرار وأبا عنان ومعهم ابن بطوطة قضوا جميعهم من غير أن يترك أحد لنا أثرًا ولا صدى حول ظروف كتابة الرحلة سوى ما قرأنا…
مات المداوي، والمداوَى، والذي
صَنع الدواء، ومن باعه ومَن اشترى!!
... وأمام المصير الذي ينتظرنا، نحن الباقين! رأيت من واجبي أن أعلن(/7)
عن هذا الاكتشاف غير المسبوق – على ما أعتقد – إضافةً إلى ما سبق أن نبهت إليه في تعليقاتي على تحقيق الرحلة وخاصةً في "المستدركات"(3) .
... هذا "الاكتشاف" الذي رأيت أنه لا يجوز السكوت عنه بحال من الأحوال، لا سيما بعد أن فُرضت علينا تساؤلات ملحة حول ما جرى وكيف
جرى، ولا سيما أيضًا بعد أن وقفنا وقوف عَيْنٍ على ما يدعمه ويعززه من وثائق مخطوطة…
... كلَّ الذين تتبعوا زيارة ابن بطوطة الأولى لسورية لاحظوا أنه – حسب حكايته – زار عددًا من المدن والجهات والمعالم والمشاهد، سواء خارج دمشق بحَلَب مثلاً أو داخلها، حيث جالس فيها عددًا من العلماء والعالمات كذلك، ونال إجازاتٍ مكتوبةً
منهم ومنهن… وقرأنا فيها أصداء عن
"طاعون العصر"… أكثر من هذا سنعرف أنه تزوج بدمشق من سيدة تركها هناك حاملاً، وهي التي عَلِم، وهو بالهند، أنها ولدت ولدًا ذكرًا حيث بعث إلى جده للأم، وكان من مكناسة
المغرب، بعث له أربعين دينارًا ذهبيًّا هنديًّا (ج17، ص315-316)(1)…
... وكلنا نعلم عن تلك الحركات … ونعلم، إلى جانب هذا، من خلال "تلخيص" ابن جزي "لتقييد" ابن بطوطة، أنه أي ابن بطوطة إنما قضى بدمشق عام 726هـ=1326م سوى نحو من عشرين يومًا من شهر الصوم: فهل كانت هذه الأيام المعدودة كافيةً للقيام بكل تلك الحركات؟ دخل دمشق في تاسع رمضان وخرج منها في فاتح شوال…؟
... إلى جانب هذا الإشكال، فإن الذين كانوا يناقشونه الحساب لم يقبلوا إطلاقًا أن يزور كل تلك المواقع التي تصل إلى نحو العشرين موقعًا قبل أن يصل إلى دمشق … إنهم يقولون إن زيارة ابن بطوطة لحلَب لم تتم إطلاقًا عام 726هـ لأن الأمير أرغون(2) الذي ذكره ابن بطوطة لم يتول الحكم بحلب إلا عام 727هـ .
... فهل لم يقم ابن بطوطة بزيارة(/8)
ثانية لدمشق أتاحت له القيام بكل تلك النشاطات علاوةً على ما كان يقتضيه حال الزواج؟ صحيح أنه زارها عام 748 هـ=1348م وهو في طريق العودة للمغرب بعد غياب عشرين سنة، حيث بحث عن ابنه من زوجته التي تحدثنا عنها قبل قليل… لكنَّه وجد أن
جميع المشايخ الذين تعرف عليهم من
ذي قبل، صاروا إلى عفو الله جميعًا باستثناء الشيخ السخاوي الذي لم يعرف ابن بطوطة إلا بعد أن قدَّم له نفسه وأمعن فيه النظر!!(ج 17، ص316).
... لقد صاحبنا جميعًا ابن بطوطة بعد قضائه الحجة الأولى وانفصاله عن مكة يوم عشرين لذي الحجة 726 هـ = (17 نوفمبر 1326م)…
... صاحبناه محطةً محطةً، يومًا عن يوم وهو يسير بصحبه أمير ركب عراق العرب الملقب: البهْلَوان (كلمة تعني البطل المغوار).
صاحبناه إلى أن وصل مدينة النجف الأشرف حيث تحدَّث عن روضتها وقبورها ونقيب الأشراف بها: نظام الدين حسين بن تاج الدين…
وهنا – في النجف – افترق ابن بطوطة مع الركب العراقي حيث أخذ هذا الركب بغداد بينما أخذ ابن بطوطة طريق البصرة (ج11، ص16).
وهو في البصرة قريب من المدينة التاريخية (الأيلة)، على عشرة
أميال، نراه يغتنم الفرصة ويزور الأيلة(ج1، ص404) على متن قارب صغير في بساتين متصلة ونخيل مظلة
عن اليمين واليسار، والباعةُ في ظلال
الأشجار يبيعون الخبز والسمك واللبن والفواكه على ما تحكيه الرحلة (ج1، ص404)…
* ... * ... *
هنا تفاجئنا رواية الرحلة على ما "ينمقه ويحرره" ابن جزي بأن ابن
بطوطة كان يعتزم أن يلتحق بمدينة
بغداد التي راح إليها الركب العراقي… لكن بعض أهل البصرة ، أشاروا عليه بالسفر إلى (عراق العجم): فارس، قبل أن يزور – عراق العرب (بغداد)، فعمل بمقتضى إشارتهم، تقول رواية ابن جزي.
وهكذا، نقرأ أن ابن بطوطة ركب
البحر(*)، هذا العام 727 هـ =1327م
(11، ص18) وعبر إلى تَسْتَر في زمان الحر حيث أصابته حمى، كما يعرض لزائر دمشق إذا زارها الإنسان(/9)
زمن الحر (ح11، ص24)، ثم إلى إيذج التي يؤكد أنه وصلها أيام القيظ، الأمر الذي ينكره المعلقون وخاصة عميد الاستشراق التشيكي إيفان هربك (1. HRBEK )(1).
... وبعد هذا، يدَّعي الراوي أن ملك إيذَج كان في عهد دخوله إليها كان هو (السلطان) أتابك أفْرَسْياب، الأمر الذي دعا المترجمين الناشرين الفرنسيين
الأولين (D.S) إلى اختراق الخط على الراوي، أثناء ترجمتهما، ليطلبا إلى القراء: أن يقرؤوا : نُصْرت الدين شاه
أحمد، عوض أفْرَاسياب الذي لم يصعد كرسي الحكم إلا عام 1339(2)…
... ثم إلى مدينة أصفهان. وهنا تقول الرواية: خلع قطب الدين حسين
شيخ زاوية ابن سهل تلميذ الجنيد، على ابن بطوطة جبةً وقلنسوةً ظلتا محل اعتزاز ابن بطوطة (ج11، ص 49)، وكان اليوم يصادف الرابع عشر لجمادى الآخرة سنة سبع
وعشرين وسبعمئة (7مايو 1327م). الأمر الذي سنراه يصطدم مع المعلومة المهمة التي وقفنا عليها بخط يد ابن بطوطة وهو في دمشق في هذا التاريخ بالضبط على ما سنرى وما كان حديثًا يفترى(1)…
ومن أصفهان قصد شيراز التي
يقارنها بدمشق… وبعد أن يحكي عن بعض مشاهدها ينتقل إلى كازرون والزيدين والحويزاء (ج11، ص93) ثم حينئذٍ مدينة الحلة(2) ثم إلى كربلاء حيث مشهدُ الحسين بن علي… ثم إلى بغداد التي يأخذ في وصفها (ج11، ص100) مقتبسًا من ابن جبير الذي كان زارها قبل اجتياح المغول لها (656هـ=1258م) على ما أشار إليه ابن بطوطة،
الذي أخبرنا بخراب المدارس (ج11، ص105)، وأخبرنا كذلك بأنه لقي بها مسند العراق سراج الدين
القزويني الذي أخذ عن الشيخة فاطمة بنت الملوك وتم هذا اللقاء في شهر رجب عام سبعة وعشرين وسبعمئة (يونيه 1327م)، وذلك في جامع الخلفاء(3).
... وبعد هذا الحديث عن تاريخ بغداد وسلطان بغداد يعود الرحالة إلى(/10)
ما كان بسبيله فيذكر – حسب الكاتب ابن جزي – أن نفسه تعلقت بالسفر مع مَحَلة السلطان أبى سعيد بهادور إلى عراق العجم ليقف على "الترتيبات" التي تجري بمناسبة حركة السلطان(4)… ولكن من غير أن يذكر تاريخًا للقيام بهذه الحركة ومن غير أن يذكر محطةً
من المراحل التي عودنا على ذكرها وكأنه أخذ طائرةً على ما قلته في تعليقاتي!!!
... وكل ما عرفناه عن هذه الرحلة مع السلطان أبي سعيد أن ابن بطوطة اغتنم هذه الفرصة فتقدم، بمساعدة الأمير علاء الدين، إلى السلطان الذي سأله عن بلاده المغرب… حيث أعلم الأميرُ علاء الدين السلطان أبا سعيد بعزم ابن بطوطة على الحج مرة أخرى فأمر له السلطان بالزاد والمركوب،
وكتب إلى أمير بغداد، حيث نرى أنَّ ابن بطوطة يعود على التوِّ إلى بغداد ليستوفي ما أمر به السلطان، وقعد ينتظر موعد تحريك الركب العراقي إلى الحجاز.
... وهنا يقول الرحالة: "وكان قد بقي لأوان سفر الركب أزيد من شهرين فظهر لي أن أسافر إلى الموصل وديار بكر لأشاهد تلك البلاد وأعود إلى بغداد عند سفر الركب…"
... ويذكر أنه خرج من بغداد … حيث نراه – وهو مُولَع بتقليد ابن جبير واتباع خطواته، نراه يحذو حذوه مارًّا
بسامراء، وتكريت، إلى الموصل ومن الموصل إلى مدينة نصيبيين، ثم مدينة سنجار… ثم دارا ثم ماردين(1)… قبل أن يفاجئنا بوجوده في بغداد حيث كان ركب الحاج العراقي على أهبة الرحيل…
... وهنا نلاحظ أيضًا على نحو ما لا حظناه في رحلته إلى تبرير مع السلطان، أنه أي ابن بطوطة لم يكن حريصًا على ذكر تاريخ للوصول إلى هذا الموقع أو ذاك مما كان مدعاة أيضًا لتساؤل الذين يتتبعون سير الرحلة زمانًا ومكانًا، حيث سنقف أيضًا مع أحد الباحثين من أبناء الموصل أ. جزيل الجومرد ممن كانوا يتطلعون إلى "جديد" ابن بطوطة عن الموصل(2)…
... وقد أحسن زميلنا الراحل(/11)
العلامة خليل الله خليلي سفير أفغانستان في بغداد في كتابه (ابن بطوطة في أفغانستان) عندما استوقفته طفرة رحالتنا من مدينة بِسْطام في إيران إلى قندوز وبغلان في أفغانستان طاويًا يوميته لمدة تفوق الشهر(1)..!
... ولي بعد هذا تساؤلاتنا حول رحلة ابن بطوطة إلى جنوب فارس.
... ماذا عن أيام القيظ التي تحدثت عنها الرحلة وهي أيام قَر؟! وماذا عن أتابك أفراسياب الذي تحدثت عنه الرحلة مع أنه لم يحكم البلاد إلا بعد عشرين سنة؟! وماذا عن الحديث عن الجبة والقلنسوة اللتين جعلتا على ابن بطوطة في أصفهان في تاريخ يصطدم مع تاريخٍ مكتوبٍ بخط يد ابن بطوطة يثبت أنه كان في دمشق؟
... ثم ماذا عن تاريخ أول ركوب له للبحر؟ هل عام 727 هـ أو عام 730هـ؟ هذه الأسئلة التي حيرت
الباحثين والمعلقين وحيرتْنا معهم طوال بضع سنوات ظللت أعيش مع المتابعات ومع التقصيات إلى أن بلغ إلى علمي وجود خط الرحالة
ابن بطوطة على ورقةٍ من تأليف يتعلق بالحديث النبوي موجود بمكتبة الأزهر(2)… وكنت فعلاً أبحث عن خط
ابن بطوطة لأقارن بينه وبين خط ابن جزي الذي وقع عليه الاختيار لنسخ الرحلة.
... واغتنمت فرصةً بوجودي بالقاهرة لحضور أعمال مجمع اللغة العربية يوم 30/3/2002م، حيث حصلت على المخطوطة المتعلقة بالحديث النبوي، وكانت لأبي العباس أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي دفين الإسكندرية عام 656هـ=1358م، وهي بعنوان (الكتاب المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم).
... وهو يحتوي على وثيقتين اثنتين
كُتبتا بذات يد الرحالة ابن بطوطة، أولاهما بآخر المجلد الثاني، وأخراهما بآخر المجلد الثالث والأخير… وهما معًا تثبتان – كما أشرنا – أنه كان
مقيمًا بدمشق على الأقل في شهر ربيع الآخر جمادى الأولى وجمادى الآخرة من عام سبعة وعشرين وسبعمئة…(/12)
هذه المخطوطة كتبها – كما قلنا – الرحالة المغربي ابن بطوطة الطنجي بخطه. ويتأكد لي أن كانت وثيقة ثالثة في آخر المجلد الأول لكنها ضاعت معه!… وهكذا وقفتُ على أواخر المجلد الثاني من المخطوطة، وعلى معظم المجلد الثالث وخاصةً على آخر المجلد… وهما مما نسخه ابن بطوطة تحت سماء دمشق وفي إحدى مدارسها العلمية، (المدرسة العزيزية) ولفائدة الشيخ السخاوي(*) الذي كانت تربطه بابن بطوطة علاقات متميزة على ما ذكره هو في الرحلة (ج1، ص241).
... يحمل آخر المجلد الثاني من المخطوطة تاريخ أول شهر جمادى الأولى (26 مارس 1327) ويحمل الثالث تاريخ 18 جمادى الآخرة من
عام سبعة وعشرين وسبعمئة (727)هـ= 11مايو 1327م …
... وقبل أن أورد نص الوثيقتين
أذكّر بأن هذا الرحالة أخبرنا في رحلته (ج1، ص222) بأنه وقف في كتاب: (المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم) للإمام القرطبي على معلومةٍ تتعلق بأوَيس القَرَني الأمر الذي يؤكد الصلة بين ابن بطوطة وبين المخطوطة موضوع الحديث. وهذا هو النص الموجود في الرحلة:
... " ووجدت في كتاب المفهم في شرح صحيح مسلم للقرطبي أن جماعةً من الصحابة صحبهم أوَيس القَرَني من المدينة إلى الشام فتوفي في أثناء الطريق في برية لا عمارة ولا ماء، فتحيروا في أمره، فنزلوا فوجدوا حنوطًا وكفنًا وماءً فعجبوا من ذلك
وغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه، ثم ركبوا، فقال بعضهم: كيف نترك قبره بغير علامة؟ فعادوا للموضع فلم يجدوا للقبر من أثر…! (ج11، ص.222-223)(1).
... فلنعد بعد هذه المعلومة إلى
الوثيقتين المكتوبتين بخط ابن بطوطة الطنجي.
... لقد وردت الوثيقة الأولى في آخر المجلدة الثانية، ووردت الثانية بتفصيل أكثر في آخر المجلدة التالية… وهذا نص الوثيقة الأولى:(/13)
" أنجزت المجلدة الثانية من الكتاب "المفهم لشرح تلخيص كتاب مسلم " بحمد الله وحسن عونه وتأييده ونصره، يتلوه في أول المجلدة إن شاء الله كتاب اللباس، وكان الفراغ منه في يوم الجمعة ثاني جمادى الأولى من عام سبعة وعشرين وسبعمئة(2) على يد الفقير إلى رحمة مولاه، الراجي عفوه وغفرانه محمد بن عبد الله بن محمد بن
إبراهيم الطنجي، وفقه الله ولطف به بمنه وكرمه، وجبر حاله، وأوصله أهله
وجمع شمله على أفضل حال عن قريب، إنه سميع مجيب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وأزواجه وذريته وسلم تسليمًا".
... الورقة 93 من مخطوطة الأزهر (المفهم) التي كتبها الرحالة الطنجي ابن بطوطة بخط يده عام 727هـ= 1327م.
وهذا نص الوثيقة الثانية:
"أنجزت المجلدة الثالثة من الكتاب: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"، وبتمامها تم جميع الديوان، والله المستعان، وذلك يوم الاثنين الثامن عشر من جمادى الآخرة من عام سبعة وعشرين وسبعمئة(3)، وذلك بمدرسة العزيزية من مدينة دمشق المحروسة، والحمد الله الذي هدانا للإسلام، ووفقنا لكتابة سنة حبيبه وخليله سيد الأنام،
والله المسؤول أن يخلص أعمالنا ونياتنا وضمائرنا لوجهه الكريم، وأن يبقي علينا أسماعنا وأبصارنا وقوتنا في سبيله، وأن يعطف علينا وعلى والدينا ومشايخنا وأحيائنا وأمواتنا، وجميع المسلمين برحمته ورضوانه ورأفته، وأن يجعلنا ممن ينظر إلى وجهه الكريم في جنته، آمين يا رب العالمين، كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه المستغفر من زلته وذنبه الراجي رحمة ربه، محمد ابن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن بطوطة الجرازي الطنجي(*) وهو بحال غربة عن بلاده، جمع الله أموره وأحواله حامدًا لله تعالى ومصليًا على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسليمًا.(/14)
... نسخه لمالكه الشيخ الفقيه الأجل، المدرس الأوحد، الأسنى الأسعد، الأتقى الأصعد، الأشهر، الأمجد، الأظهر الأوحد، المحقق، الورع، المتقن،
الصالح القاضي، العدل، الرضي،
الأرضى، نور الإسلام. سيد القضاة والحكام أبي الحسن علي السخاوي المالكي، أبقى الله عزته، ومكن رفعته، وأطال إسعاده، وبلغه في الدنيا والآخرة مراده، آمين يارب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا رب سواه، ولا خير إلا خيره.
... الصفحة 336 من مخطوطة (المفهم) التي كتبها الرحالة المغربي ابن بطوطة الطنجي بخط يده في دمشق عام 727هـ=1327م.
... فكيف يفسر لنا ابن جُزَي بعد هذا إهمالَه لذكر وجود ابن بطوطة في دمشق هذه السنة 727هـ=1327م، وصنيعَه في أن ينقلنا إلى رحلةٍ لجنوب بلاد فارس؟
... هاتان وثيقتان خطتهما يد الرحالة نفسه، شهادتان معروفتان بالمكان، محدودتان بالزمان كما رأينا. علاوةً على وثيقة ثالثة كانت بآخر
المجلدة الأولى التي لم نعثر عليها.
... لقد خلق صنيع ابن جزَي طائفةً من المشاكل للباحثين والمتعقبين الذين وجدوا، على ما أسلفنا، أن الأشخاص المذكورين من لدن ابن بطوطة عام 727هـ=1327م لم يكونوا على أرض الواقع آنئذٍ ! وإنما أتوا فيما بعد!! مشاكلهم وهم يشعرون أن شكوى ابن بطوطة من حالة القيظ لم يكن لها ما يبررها؛ لأن الفصل كان فصل قُرّ وبرد !! ...
مشاكل الناشرَيْن الأولين للرحلة منذ عام 1853، عندما كانا مضطرين لكي يخترقا ترجمة النص ويطلبا إلى القارئ أن يصحح الخطأ ويقرأ (نُصْرَت) عوض (أَفْرَاسْيَاب) على ما أسلفنا…
... مشاكل الباحثين، وفي صدرهم (هرْبك)، الذي وجد أن حديث الرحلة عن الصحراء التي قطعها ابن بطوطة
في المنطقة حديث يحتاج إلى تفسير لأنها، أي الرحلة، كانت على أرضٍ تزدان بالمروج.!!(/15)
... لقد وجدنا أنفسنا أمام حديث ابن بطوطة عن ركوبه البحر لأول مرة عام 730=1330 وليس عام 727هـ=1327م ، وهكذا ازددنا اقتناعًا بأن رحلته لفارس كانت من تأليف ابن جزي رحمه الله!!.
... لقد اقتنعتُ ولا سيما بعد وقوفي على المخطوطة التي كتبها
بيده بدمشق عام 727 هـ 1327م بأن الوقائع التي جرى ذكرها إنما عرفتها سنة لاحقة أتت بعد عشرين عامًا(1)..!
... لقد كنتُ من الذين نشروا منذ عشرين عامًا (1984)، أن ابن بطوطة زار (عِراق العجم) خمس مرات وعددت منها هذه الزيارة عام 727هـ موضوع الحديث(2). لكني بعد أنْ وقفْت
على مخطوطة (المفهم) بخط يده في دمشق اقتنعتُ بأن صنيع ابن جُزَي كانت تطبعه العجلة وعدم التثبت!.
... وهكذا نستطيع تبديد الشكوك التي كانت تحوم حول مصداقية بعضِ معلومات الرحلة، وخاصةً ما أثير عن رحلته الأولى لدمشق، ورحلته إلى جنوب فارس…
... ولقد حاولتُ أن أتصور مع نفسي ظروف تلخيص الرحلة على الشكل التالي:
... بعد أن صدر أمرُ السلطان أبي عنان وبعد أن أملى الشيخ ابن بطوطة ما أملى من مذكراته، قام بتسليم " تقاييده" إلى الكاتب ابن جُزَي… وكان في "التقاييد" ما يتعلق ببلاد الحجاز، وفيها ما يتعلق ببلاد الشام ومنها ما يتعلق بالهند، إلخ… فأخذ ابن جُزَي يجمع معلومات مكة على حدة من غير بحث في ترتيب تواريخ الزيارات السبْع، ومن ثم وجدنا أنه يذكر في الحجة الأولى ما رآه أو سمعه في الحجات اللاحقة!!.
... وكذا كان في بلاد الشام، جَمَع الكاتبُ ابن جُزَي كل ما يتعلق بالشام ودمشق دفعةً واحدة، ولو أنَّ بعض ذلك وقع فيما بعد… وهكذا اختلطت بعضُ الملفات على ابن جُزَي وأخذ بآخرِها عوضَ أولها…
... اقتراحى أخيرًا… أن نؤجل تحرك ابن بطوطة إلى بلاد فارس عام 727 هـ=1327م، ونجعل عوض ذلك أنه عاد من البصرة إلى بغداد حيث قام، بعد وصفه لعاصمة العباسيين، بالرحلة لدمشق التي كان يبرّرها أكثرُ من سبب بالنسبة إليه…(/16)
أولاًـ لما علمناه من أن ابن بطوطة له زوجة بدمشق ستأتي له بولدٍ كان يبعث له بمساعداتٍ ماليةٍ من الهند على ما يقوله الرحالة نفسه(ج17، ص316).
... ثانيًا ـ لما علمناه من نشاطه العريضِ الطويل في دمشق، حيث أخذ على الشيوخ والشيخات وحصل على الإجازات المكتوبة.
... ثالثاً ـ وهذا بيتُ القصيد أنه حرر بذات يده – وبدون شك أو ريب – مخطوطة عظيمةً ألفها رجلٌ عظيم، ورغب في نسخها رجل عظيم، في مكانٍ معروفٍ ووقتٍ محدود… وهي ما تزال ـ لحسن الحظ ـ حيةً داخل رفوف الأزهر الشريف بالقاهرة المُعِزّية!.
... وحتى يقوم ابن بطوطة بالزيارة الثانية إلى دمشق… وحتى يرضي رغبته في أن يظل مقتديًا بسلفه ابن جبيرٍ في خطواته السابقة، سواء عندما كان يريد أن يقلده في عبوره لجدة عن طريق البحر الأحمر، أو عندما كان يعتمد على وصْفه للمشاهد والأماكن… حتى يبقى مقتديًا بابن جبير سلك نفس الطريق التي سلكها سلفُه بالأمس للوصول إلى دمشق، وهكذا أَفترضُ أنه أخذ الطريق عبْر الموصل… إلى مارِدين … إلى حَلَب… إلى المعَرة… إلى حماة إلى حمص… إلى دمشق قبل أن نسمع به في بغداد يأخذ طريقَه مع الركب العراقي للمرة الثانية إلى حج بيت الله.
... لقد كانت مآخذي على الكاتب ابنِ جُزَي ـ رحمه الله ـ تقف عند عدم بذل جهده في أن يتجنب استطرادات الشيخ، ويضم ما يتعلق بالهند إلى الحديث عن الهند( ج1، ص.422-426)، ويذكر ما يتعلق بسيلان في سيلان (ج2 ، ص80)، كان مأخذي على ابن جُزَي في أنه كان مختصِرًا بل مستعجلاً أكثر من اللازم، فقد نسي الحديث عن الأمير هَرْيب الذي وَعَدنا بذكره(ج4، ص.68).
... لقد كان مأخذي عليه أنه نقل عن رحلةِ العبدري الحِيحِي بالحرف ولكنه لم يذكره…! لكن المأخذ الكبير والخطير تَجلَّى لي عندما وجدنا أن رحلةً بكاملها لجهةٍ معروفةٍ هامةٍ بالنسبة للرحالة، تُحذف لتعوضها رحلة أخرى إلى جهةٍ لم يصدقْها الواقع…(/17)
... ومع كل ذلك، فإن عمل الكاتب ابن جُزَي سيظلّ شاخصًا أمامنا. وسيظل جهد الرجل، بالرغم من ظروفه الشخصية… جَهدًا شامخًا يذكر على الدوام… ولعل ما أشرنا إليه في بداية الحديث من الازدواجية فى التأليف: مؤلّفين اثنين يختلفان عمرًا وتكوينًا وتجربةً وممارسةً… هي التي كانت وراء الخَللَ الذي ظهر في بعض الرحلة… ومع كل ذلك، فقد حفظ ابنُ جُزَي عمل ابن بطوطة تراثًا إنسانيًّا
محميًّا من كل زيف منذ الأيام التي سُجل فيها بمدينة فاس إلى يومنا هذا، وتلك مزية كبيرة لرحلةٍ واسعة الأرجاء، فسيحة الفضاء، متنوعة العطاء لا يوجد لها على وجه الأرض نظير ولا مثيل.
عبد الهادى التازي
عضو المجمع من المغرب(/18)
طرق تنمية وتحديث متن اللغة العربية في العصر الحديث(*)
للأستاذ الدكتور نيقولا دوبريشان
... إن اللغة بوصفها ظاهرة اجتماعية تتطور في ارتباط وثيق بالتغيرات والتحولات التي تجري في الحياة المادية والروحية للمتكلمين، غير أن هذه التغيرات تحصل بسرعة أكبر أو أصغر في مختلف ميادين اللغة، ويمكن ملاحظتها بسهولة أكبر أو أصغر لكنها تحدث دون انقطاع في جميع قطاعات اللغة (مارتينه، 1963، 178).
... لكن علينا ألا يذهب من أذهاننا أن التغيرات الجارية على مستوى النظام اللغوي كله بطيئة جدًّا بحيث لا تُحدث اختلالات في تشغيله، أي أن اللغة تتحول دون توقف تشغيلها من جراء ذلك أو بسبب ذلك. وبصرف النظر عن قطاع اللغة التي تحدث فيها" تعتبر التغيرات اللغوية دائمًا مسببة ومحكومة أو على الأقل موجهة بضرورة استمرار استخدام اللغة كوسيلة
للاتصال بين الناس الذين يستخدمونها (مارتينه، 1975، 7). يلاحظ أيضًا أنه"على مدار تاريخ لغة ما تجري تحولات دون انقطاع، ويمكن تمييز مراحل مختلفة لكن بنيتها الأساسية ثابتة نسبيًّا"(هييلمسليف،1966 ،161).
... ومعروف عمومًا أن التغيرات تحدث في متن اللغة بكثرة وبسرعة هائلة، ويمكن ملاحظتها بسهولة في هذا القطاع. ونجد تفسير هذه التغيرات في أسباب غير لغوية بصورة عامة، وفي أسباب لغوية محضة في عدد صغير من الحالات. وتجري التغيرات باستمرار في معجم أو متن كل لغة نتيجة للتغيرات التي تحدث في الحياة المادية والروحية من جراء تطور العلم والتقنية والتقدم الصناعي والتحولات الدائرة في أسلوب التفكير الذي يتميز به الناس، وفي العصر
الحديث ازدادت بصورة ملحوظة(/1)
سرعة هذه التغيرات والتحولات جميعًا بالمقارنة إلى المراحل السابقة. وقد أدى التطور السريع في بعض ميادين العلم والتقنية مثل وسائل النقل والطيران والعلم الكوني والإلكترونيات والمعلوماتية جنبًا إلى جنب مع التغيرات الحاصلة في العلاقات الاجتماعية ضمن الأمم والشعوب والمتغيرات والترابطات الناشئة في الحياة الدولية إلى اغتناء متن اللغات عامة بصورة سريعة غير معتادة في العصور السابقة من ناحية، وإلى ظهور تعاملات وترابطات لغوية غير معروفة سابقًا بفضل تطور وسائل الاتصال والإعلام من ناحية أخرى.
... إن اللغة وبخاصة ألفاظها تتطور وتتغير باستمرار تماشيًا مع التطورات الحاصلة في المجتمع وتجاوبًا معها واستجابة لها. "إن اللغة المثالية هي اللغة التي تنبع من روح عصرها والتي تستجيب لمقتضياتها على أتم صورة " (مدكور، 1953، 15).(/2)
... وطوال تاريخ اللغة العربية ظلت الصوتيات وصرف اللغة ثابتة غير متغيرة على وجه التقريب بينما حصلت تغيرات باستمرار في معجمها أي في مخزونها من الألفاظ. كان معجم اللغة العربية غنيًّا إلى حد ما قبل ظهور الإسلام فيما يخص الألفاظ التي كانت تسمى الحقائق المحسوسة، وكان يتميز بكثرة المترادفات، لكن مع ازدهار الحضارة العربية ابتداء من صدر الإسلام اغتنى المعجم العربي بصورة مدهشة، ونشأت معاجم المصطلحات لمختلف ميادين العلوم مثل: الكيمياء والطب والفيزياء وعلم الفلك والهندسة وعلم النبات وعلم الحيوان وعلم الزراعة وغيرها من الميادين العلمية. كما اقترن تطور الفلسفة العربية كذلك بظهور مصطلحات وألفاظ مناسبة. وقد تطور متن اللغة العربية عن طريق الاشتقاق أساسًا لكن عددًا لا بأس به من الألفاظ الأجنبية دخلت إلى اللغة العربية في هذه الفترة أيضًا. وفي القرن الرابع الهجري الذي يصادف القرن العاشر المسيحي تقريبًا كانت اللغة العربية تمتاز بسمعة طيبة؛ فقد كانت لغة كبرى من لغات الحضارة في الشرق مثل اللغة اللاتينية في أوربا في العصر نفسه والعصور التالية. معلوم أن جملة من الألفاظ العربية دخلت إلى العديد من اللغات الشرقية وبخاصة التركية والفارسية منها بل ومن جراء ترجمة عدد من الأعمال العربية في ميادين الفلسفة والطب والرياضيات والكيمياء وعلم الفلك دخلت إلى اللغة اللاتينية العديد من المفردات العربية الأصل ثم إلى اللغات الرومانسية المتحدرة منها وغيرها من اللغات الأوربية وأصبحت بذلك مصطلحات للمعجم الدولي ولاتزال تستخدم إلى يومنا هذا بصفتها هذه.(/3)
وبعد فترة من الركود والسبات سجل القرن التاسع عشر بداية صحوة الوعي القومي العربي من جديد وبداية النهضة الروحية الحضارية العربية. وقد لعب التعليم دورًا مهمًّا جدًّا في تطوير الثقافة العربية واللغة العربية. أما في القرن العشرين فقد ظهر وتطور أدب جديد أثّر هو الآخر تأثيرًا إيجابيًّا على تهذيب اللغة العربية وتحديثها. وخلال النصف الأول من القرن العشرين أسست المجامع العربية الثلاثة في دمشق (1918) ثم القاهرة (1934) ثم بغداد (1947) والتي حددت بين أهدافها الأساسية وضع معاجم من المصطلحات العلمية والحضارية تتلاءم مع متطلبات العصر الحديث.
وقد وافق الباحثون العرب في مجال اللغويات وسائر الميادين العلمية اجتماعيًّا على استخدام الطرق التالية لإغناء متن اللغة العربية وتحديثه في العصر الحديث:
أولاـ إحياء التراث القديم واستثماره قدر المستطاع ثم الاشتقاق ثم النحت ثم تعريب الألفاظ الأجنبية مع تغيير معاني المفردات الموجودة وإغنائها بمعانٍ جديدة، ولا شك أن إغناء معاني الألفاظ العربية عن طريق اقتراض المعاني الجديدة والتراكيب الأجنبية بالترجمة، والتعبير عن معاني العديد من السوابق واللواحق الأوربية قد لعب دورًا مهمًّا في تحديث المعجم العربي.(/4)
ومن الصعاب التي واجهتها اللغة العربية – مثلها في ذلك مثل غيرها من لغات الأمم النامية – أنها كانت مجبرة على وضع معاجمها العلمية والتقنية خلال فترة قصيرة جدًّا من الزمن؛ فيما تكونت معاجم المصطلحات في دول العالم المتقدمة اقتصاديًّا تدريجيًّا على امتداد فترات طويلة من الزمن دامت في بعض الأحيان قرونًا متلاحقة في نفس الوقت مع تطور العلوم والتقنية. أما في حالة اللغة العربية وغيرها من لغات الأمم التي تمتعت مؤخرًا بمكتسبات العلم والتكنولوجيا، فقد تم إعداد معاجم المصطلحات في ظروف مختلفة تمامًا وكان على الإخصائيين واللغويين والمؤسسات المعجمية أن تعد معاجم كاملة خلال فترة قصيرة جدًّا ولم يكن ذلك أمرًا سهلاً إطلاقًا. وبالإضافة إلى ذلك فقد كان لوجود عديد من مراكز البحث العلمي واللغوي في الدول العربية دون تنسيق بينها زمنًا طويلاً –مع إمكانيات محدودة للاتصال فيما بينها بالإضافة إلى أنها تقع تحت تأثيرات ثقافية متباينة – أثر كبير على الصعيد اللغوي؛ إذ ظهر أكثر من مصطلح لتعيين نفس الحقيقة العلمية وامتاز بعض المصطلحات بانتشار محلي أو إقليمي في بلد واحد أو في مجموعة من البلدان فقط. صحيح أن الباحثين والمؤسسات العلمية واللغوية بذلوا جهودًا دؤوبة خلال الحقب الأخيرة وحققوا نتائج مرضية مشجعة في تنسيق نشاط وضع المصطلحات وتم بالنتيجة إعداد العديد من المعاجم والقواميس الخاصة بشتى ميادين العلم والحضارة الحديثة. وقد وافق جميع المخططين اللغويين من مؤسسات وأشخاص على ضرورة وأهمية توحيد هذه المصطلحات، لكن تحقيق هذا الهدف لا يزال صعبًا من الناحية العملية.(/5)
أشرنا إلى بعض الطرق الرئيسة لتطوير متن اللغة العربية في العصر الحديث لكن فيما يلي سنحاول إبراز مدى إسهام كل طريقة من الطرق الرئيسة المذكورة في تطوير المعجم خلال العقود الأخيرة. ويمكن تقسيم هذه الطرق إلى وسائل داخلية – مثل الاشتقاق والنحت – ووسائل خارجية مثل اقتراض المعاني واقتباس أو استعارة الألفاظ الأجنبية وتعريبها.
دور الاشتقاق في تحديث متن اللغة العربية:
كان الاشتقاق في العصور القديمة ولا يزال الطريقة الرئيسة لإغناء متن اللغة العربية. معروف أن نتيجة تعديل المواد الثلاثية الأحرف والرباعية الأحرف عن طريق تغيير الحركات وإضافة السوابق واللواحق تتمثل في نشوء عدد كبير من الصيغ أو الأوزان، وأن هناك نوعين من الألفاظ المشتقة يتم الحصول عليهما عن طريق إضافة اللواحق إلى أسماء أصلية أو مشتقة ألا وهما النسبة المحصول عليها عن طريق إضافة ياء النسبة المشددة إلى الأسماء، والمصدر الصناعي المحصول عليه عن طريق إضافة التاء المربوطة إلى صيغة النسبة (أي بـ – يّة).
نتطرق فيما يلي لبعض الاتجاهات في تحديث نظام الأفعال والأسماء المشتقة في العصر الحديث وحتى أيامنا هذه:
1- في النظام الفعلي يلاحظ ازدياد عدد الأفعال المشتقة من الأسماء وبخاصة على الأوزان التالية:
أ- الوزن فعّل: موَّل< مال، علّب< علبة، توّج < تاج، زيّت < زيت، جيّش < جيش، جير الاسم الإيطالي الأصل جيرو (giro)، حيّن < حين، ثمّن < ثمن، قوّم و قيّم < قيمة.
ب ـ الوزن تفَعَّل الذي ينبغي النظر إليه في كثير من الأحيان في ارتباط بالوزن فعّل:
تصحَّر < صحراء، تكتَّل < كتلة،
تسلَّح < سلاح.
وتقابل أكثر الأفعال التي على وزن " تفعّل" أفعالاً على وزن "فعّل" والأرجح أن عددًا من هذه الأفعال اشتق منها للتعبير عن المعنى اللازم لكنها ترتبط بصورة مباشرة في بعض الحالات بالأسماء المقابلة أيضًا.
ج ـ فاعل: عاين< عين، ساعر< سعر، عاصر< عصر، زامن< زمن، جايل< جيل.(/6)
د ـ تفاعل: تكاتف < كتف، تنادر< نادرة.
هـ ـ أفعل: أثمر< ثمر،أسهم< سهم، أبرد < بريد، أبرق < برق وبرقية.
وـ استفعل: استشرق < شرق، استجاش< جيش، استثمر< ثمر.
ز- فعلل – على الأخص مشتقة من أسماء معربة: تلفن < تلفون (fr.Téléphone)، تلفز< تلفزيون (fr.Télévision)، مكنن < ماكنة (it. mechina).
ح- تفعلل – أفعال مشتقة من أسماء مشتقة من مواد ثلاثية الأحرف: (تمركز < مركز، تمحور< محور) ومن ألفاظ معربة: (تبلور< بلور، تأقلم < إقليم، تأمرك < أمريكا وأمريكان، تفرنس < فرنسا).
كما اشتقت أفعال من أسماء بلدان وشعوب عربية وغير عربية قياسًا على صيغ قديمة من هذا النوع. وتعبر هذه الأفعال عن فكرة الاندماج في البلد أو الشعب المعني. وقد أخذت هذه الأفعال إما صيغة الفعل الثلاثي الأحرف على وزن " فعّل" وتفعل أو صيغة الفعل الرباعي الأحرف على وزن فعلل و تفعلل حسب عدد الحروف التي تتألف منها أسماء البلدان والشعوب المعنية: مصر وتمصر < مصر، تهود < يهود، سودن < السودان، جزأر < الجزائر، سعود < السعودية، فرنس < فرنسا.
ويلاحظ أيضًا الميل نحو التعبير عن المعاني المتعدية لأفعال فرنسية تنتهي باللواحق" iser -، ifier -" عن طريق استخدام صيغتي فعّل وفعلل ذلك لخلق مصطلحات سياسية واجتماعية وعلمية تقابل الأفعال الفرنسية التي تنتهي باللواحق المذكورة:
صنّع < صناعة (or. fr.Industrialise)
أمّم < أمة (of. fr. Etatiser)
سمّد< سماد(of. fr. Fertiliser )
جنّس< جنس وجنسية
(of. fr .naturaliser)
نوّع< نوع (of. fr. diversifier)
تلفز< تلفزيون (of. fr. téléviser)
مكنن < ماكنة (of. fr. mecaniser )
أتمت < أوتوماتيك
(of. fr. Automatiser )(/7)
خصخص< خاص (of. fr. privatiser) كهرب < كهرباء (of. fr. éléctrifier) وجدير بالذكر أن مجمع اللغة العربية في القاهرة أصدر عدة قرارات متتالية بصدد اشتقاق الأفعال من الأسماء"عند ضرورة "(الشهابي، 1957، 587 و601 وعبد الله أمين، 1956، 14).
2- أما في نظام الأسماء العربي
فنلاحظ أيضًا تطورات عديدة في العصر الحديث:
أ- إن الحاجة إلى أسماء المعاني أو المصطلحات المجردة في مختلف ميادين العلوم تجعل من الضروري أحيانًا اشتقاق مصدر من اسم جنس أو اسم معنى مباشرة دون وجود صيغة فعلية وسيطة. ونميز أولاً وجود عدد من المصادر على وزن" تفعيل" دون وجود أفعال مقابلة على وزن " فعّل " أمثال: تعصير < عصر وعصرى، تأطير< إطار وأطر، تحييد < حياد، تطبيع< طبيعة، تفعيل < فاعلية وفعالية، تثوير< ثورة، وتحضير < حضر وحاضرة ( إبراهيم الترزي، 1999 ،11).
كما اشتق عدد من المصادر الرباعية الأحرف على وزن " فعللة "، إما من ألفاظ عربية أو من ألفاظ معربة، مثل: خصخصة < خاص (إبراهيم الترزى، 1999 ،11)، أنسنة < إنسان، أسلمة < إسلام، فبركة < فبريكة، نرفزة، فرملة، كلونة ...إلخ.
كما توجد سلسلة من المصادر التي تقابلها أفعال لكنها مرتبطة بالأسماء المقابلة أكثر من ارتباطها بالأفعال المعنية بحيث يمكن القول إن هذه الأسماء لعبت دورًا مهمًّا في ظهور واستعمال هذه المصادر: تمويل < مال ومول، تدويل < دول ودوَّل، تلفزة ؛ تلفزيون وتلفز، تحزَّب < حزب وتحزب، استقطاب < قطب واستقطب.(/8)
ب- وفي التنمية التقنية تحل الآلة محل الإنسان أكثر وأكثر بالأخص في عملية الإنتاج ولذلك يصبح اسم الفاعل في بعض الأحيان اسم أداة وآلة (ديوبواه،1962،40)، وتنطبق هذه الملاحظة على الحالة القائمة في اللغة العربية؛ إذ إن العديد من أسماء الفاعل المشتقة على الأخص من الأفعال المتعدية أصبحت تعيين أدوات وآلات وأجهزة، مثل رافع ورافعة، طائرة، حافلة، حاسبة، مولِّد، مكبِّر، محرِّك، مكيِّف، محوِّل، مدمِّرة، مفاعل، مبرق، مذبذب إلخ.
ج- كما ازداد عدد أسماء المكان وتخصصت معانيها في مختلف ميادين النشاط، مثل الصناعة والاقتصاد والزراعة (مصنع ومعمل ومقلع ومنجم ومصرف ومزرعة) والنشاط العسكري (موقع ومخبأ ومسكن ومرقب ومعتقل ومعسكر) والنشاط السياسي(مجلس ومكتب ومقر ومبدأ وموقف ومنطق) والجغرافيا(مسقط ومدار وموقع ومجاز وممر ومضيق ومنخفض ومنحدر
ومرتفع) وميدان الصحة( مصح ومصحة ومستشفى ومشفى ومستوصف) وفي مجال التعليم والثقافة (مكتبة ومعهد ومرجع ومجمع ومتحف) ... إلخ.
د- كما شهد اسم الآلة تطورًا متميزًا في عملية التصنيع.
فقد تم اللجوء إلى أوزان جديدة وطرق أخرى لاستحداث أسماء أدوات وبخاصة أسماء الآلات ومنها الوزن "فعّال" (جرار وخلاط وعداد ورشاش وسخان) والوزن " فعّالة " (سماعة وبدالة وثلاجة) وقد تخصصت الصيغة الثانية لتسمية الآلات ووسائل النقل والآلات العسكرية (دراجة، وطيارة، وكسارة، ونقالة، ورشاشة، وقذافة، ودراعة، وطرادة، ونسافة، وغواصة) إلخ… كما سبق وذكرنا استعمال وزن اسم الفاعل لتسمية الآلات والأجهزة لكن مما استرعى انتباهنا كذلك أن صيغة قديمة جدًّا مثل "فاعول" تم إحياؤها واستخدامها لتسمية آلة حديثة جدًّا مثل " الحاسوب ".(/9)
هـ- توجد في اللغة العربية جملة من المشتقات المحصول عليها عن طريق إضافة لاحقة إلى اسم ونقصد من ناحية " النسبة " ومن ناحية أخرى "المصدر الصناعى" وإذا ما اشتقت النسبة في العصر القديم من فئات معينة من الأسماء فقط نجد أنها أصبحت تشتق في العصر الحديث من جميع أنواع الأسماء – بما فيها جموعها – بل ومن الضمائر وأسماء العدد والحروف، مثل: أناني< أنا، وثلاثي< ثلاث، وثنائي< ثناء، وتحتي < تحت، وفوقي < فوق إلخ… وانطلاقًا من عدة نسب قديمة مشتقة من مجموع المؤنث السالم استحدثت في العصر الحديث نسب أخرى على هذا المنوال، مثل: حشراتي، وتشريفاتي، ومعلوماتي وخدماتي، وعملاتي، واستخباراتي إلخ…
وبينما وجدت في العصر القديم بعض القيود فيما يخص أنواع الأسماء التي اشتق منها النسب نجد أنها اشتقت في العصر الحديث من جميع أنواع الأسماء: الأسماء غير المشتقة والمشتقة على حد سواء وأسماء الذات والأسماء المجردة والأعلام والمفرد والجموع المختلفة. كما نلاحظ ازدياد عدد النسب التي تعين الحرفيين انطلاقًا من أسماء الأدوات التي يرتبط بها نشاطهم، ومن أسماء مؤسسات وحقول عملية أيضًا مثل: صحفي < صحف، وصحافي < صحافة، أحيائى < أحياء (جمع الحي)، آثاري< آثار (جمع أثر)، بريدي < بريد، شرطي < شرطة، نباتي < نبات إلى آخره كما تشتق نسب تُعيِّن مجموعةٌ منها حِرَفًا انطلاقًا من مصادر عدد من الأفعال (اقتصادي وإحصائي) ومن ألفاظ معربة – جيولوجي، وسينمائى). ومن المشتقات الغريبة في العصر الحديث النسبة "حياتي" المشتقة من الاسم "حياة " دون حذف التاء المربوطة قبل إضافة الياء المشددة حسب القاعدة القديمة، جنبًا إلى جنب مع النسبة"حيوي"لكن بمعنى آخر.(/10)
وتغطي لاحقة النسبة، أي الياء المشددة، جملة من اللواحق الأوربية مثل“-ique ” و“-al ” و “-ar ”و“-iv ” و“-ist ” و“-ez ” إلخ . وهذا مما يفسر الواقع أن اللغة العربية لم تكن مجبرة على ايجاد طرق وأساليب للتعبير عن معاني هذه اللواحق خلافًا لما حدث في حالة السوابق الأخرى كما سنرى أدناه.
تعتبر جميع النسب في الأساس نعوتًا لكن الكثير منها– ومن بينها جميع النسب التي تتعلق بالكائنات البشرية – ينتقل إلى استخدام اسمي مثل: اقتصادي، جيولوجي، صحفي ...إلخ.
وقد أصبحت الحاجة إلى المصطلحات المجردة ماسة في العصر الحديث واغتنى معجم الأسماء المجردة أساسًا عن طريق اشتقاق المصدر الصناعي من مختلف أنواع الأسماء عن طريق إضافة اللاحقة (- ئية) إليها وتتطابق صيغة المصدر الصناعي مع صيغة مؤنث النسبة، والجدير بالذكر أن مجمع اللغة العربية في القاهرة أصدر قرارًا بصدد اشتقاق المصدر الصناعي منذ بداية نشاطه في عام 1934(مجلة المجمع العدد 1،1934،211). ويشتق المصدر الصناعي مثله في ذلك مثل النسبة من جميع أنواع الأسماء بما فيها صيغة التكبير والصفة على وزن" فعّال" (أسبقية، أكثرية، أغلبية وشفافية، حساسية) ومن الضمير (أنانية) ومن أسماء العدد (ثنائية، ثلاثية) ومن الأعلام (ساداتية، ناصرية، ماركسية، برغسونية، هملتية) ومن الألفاظ المعربة (وقد دخل بعضها إلى اللغة العربية بشكل المصدر (الصناعي): إمبريالية، دكتاتورية، ديمقراطية ... إلخ.
وتعبر المصادر الصناعية عن معانٍ مجردة تتعلق بالحالات والأوضاع والصفات (إنسانية، حيوانية، سائلية) ووظائف الأشخاص (أستاذية، أسقفية)،والمؤسسات (سكرتارية، ممثلية، مديرية، قنصلية)، والمذاهب والاتجاهات والتيارات الدينية، والفلسفية، والسياسية، والفنية، والأدبية، (مسيحية، تحريفية، إصلاحية، إقليمية، انطباعية، واقعية، سريالية).(/11)
وقد وجدنا أن المصادر الصناعية تقابل بصورة عامة أسماء مجردة من اللغات الأوربية تنتهي بلواحق مثل“- été ” ،“- ité ”، “-isme”
2-النحت ودوره في تنمية متن اللغة العربية:
يمثل النحت الطريقة الداخلية الثانية لتطوير المعجم العربي. وقد ظهر في العصور القديمة عدد محدود جدًّا من الألفاظ عن طريق النحت لكن بمعناه القديم المتمثل في تحويل جملة أو عبارة مؤلفة من عدة ألفاظ إلى مفرد واحد أصبح غير منتج إطلاقًا في العصر الحديث.
وبالمقابل ظهر في العصر الحديث عدد من الألفاظ المنحوتة عن طريق مزج لفظين أو اختصارهما ودمجهما، كما انتشرت طريقة تركيب الألفاظ من جراء التعبير عن معاني عدد من اللواحق في اللغات الأوربية. وقد أبدى الباحثون في العصر الحديث تحفظًا تجاه طريقة النحت لكنهم اعترفوا في نهاية الأمر بفوائد النحت لاستحداث مصطلحات ضرورية لعلوم مثل: الكيمياء، والطب، والعلوم الطبيعية. كما وضعوا عددًا من القواعد التي ينبغي الاعتماد عليها عند خلق الألفاظ المركبة المنحوتة وأصروا على ضرورة سهولة هذه الألفاظ والتشابه بينها وبين المفردات العربية عمومًا (مصطفى جواد، 1955 ،101). بل اشترط باحثون آخرون أن يكون التركيب والنحت بإدخال الألفاظ الناتجة عن هذه العملية في أوزان عربية وبعدم وجود حروف ذات مخارج متقاربة فيها (عبد الله أمين، 1956، 431). أما مجمع اللغة العربية في القاهرة فقد أصدر في عام 1948 قرارًا اعتبر فيه النحت قياسيًّا وحدد عددًا من القواعد التي ينبغي الأخذ بها عند استحداث ألفاظ مركبة (مجلة اللغة العربية في القاهرة، العدد (7،1953،158).
وقد ظهر في اللغة العربية في العصر الحديث نوعان من الألفاظ المنحوتة المركبة:(/12)
أولا –مصطلحات علمية تنتمي إلى المعاجم التخصصية (وهي مخصصة للعاملين في ميادين الطب والصيدلة، والكيمياء، والفيزياء) على وزن الفعل الرباعي الأحرف "فعْلل" ومصدره " فعْللة " وهي مصطلحات اقترحها المجمع على سبيل المثال للتعبير عن معانى لواحق يونانية الأصل ectomie” “-،“-alergie”،tomie” - “، “-stomie”(رمسيس جرجيس، 1961، 61 – 68).
ثانيًا–عدة أنواع من الألفاظ المركبة والمنحوتة التي دخلت المعجم العام ويعرفها ويستخدمها العديد من القراء والمتكلمين: منها بعض الصفات المركبة من لفظين مع الاختصار المحتمل لأحدهما (مثل: برماني، كهرمائي، كهرحراري، كهرنووي، ماورائي، فحميات) ومنها بعض الأسماء المركبة (مثل اليانصيب، والرأسمالي). ولا شك أن اللفظ "رأسمالي" يعتبر أصح لفظ مركب في اللغة العربية الحديثة إذ يستخدم في المعجم الاقتصادي المالي لكنه أصبح منتشرًا ومستخدمًا في المعجم المشترك العام أيضًا (إلى جانب الصيغة "رسمال" التي دخلت في وزن رباعي وجمعت على "رساميل" ثم اشتق منها الفعل "رسمل" مع مشتقاته التي نجدها في عبارات مثل "رسملة الفوائد" أو "الأرباح المرسملة ").
لكن بالإضافة إلى النوعين المذكورين من الألفاظ المركبة نجد في اللغة العربية الحديثة عدة أنواع أخرى من الكلمات المركبة مثل:
أ- الصيغ المركبة التي تترجم صيغًا بلواحق من اللغات الأوربية، تمثل الصيغ التي يوجد فيها حرف النفي "لا" أوضح مثال من هذا النوع، علمًا بأن هذا الحرف يقابل مختلف سوابق النفي والحرمان في اللغات الأوربية (دوبريشان،1999). كما سبق أن لفتنا النظر في بحث سابق إلى الميل نحو اختصار ألفاظ أخرى تعبر عن معاني مختلف السوابق في اللغات الأوربية، مثل : شبه وقبل وتحت ودون وفوق.
ب- الصفات المزدوجة التي تحاكي ألفاظًا فرنسية تنتهي الصفة الأولى فيها بالصائت"- o” : fr. angto – saxon > أنجلوسكسوني،fr. Afro – asiatique > أفروأسيوي.(/13)
كما استعارت اللغة العربية ألفاظًا مركبة من اللغتين الإغريقية واللاتينية (فليش، 1968،123 ) ومنها المصطلحات المركبة التي تظهر فيها مفردات "لوجيا" (it.fr.Logie,-iogia) وأسماء عدد من وحدات القياس (كيلومتر، كيلو جرام، كيلوواط إلخ ..) ومصطلحات خاصة بالميادين العلمية المختلفة (مثل: جيوفيزيائى، جيوبوليتيقي (وجيوسياسي)، بيتروكيماوي إلخ..).
ووجدنا في الصحف والمجلات العربية ألفاظًا مركبة يمكن اعتبارها عرضية غير أنها انتشرت وتكررت في وسائل الإعلام. وخلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي انتشر في الصحافة العربية اللفظ المركب "شرقأ وسطي" في عبارات مثل:
دولة شرقأ وسطية" أو "المعادلة الشرقأوسطية" أو "وساطة شرقأ وسطية" إلخ. كما وجدنا خلال الحقب الأخيرة صيغًا مركبة أخرى مثل: "زمكاني"(< الزمان والمكان) و"قروسطى"( < القرون الوسطى ).
يمكن أن نستخلص أن طريقة النحت والتركيب ليست جزءًا من روح اللغة العربية مما يمثل عقبة كبيرة أمام تطوير المعاجم التقنية العلمية، لكن اللجان التابعة لمجمع اللغة العربية بالقاهرة أدرجت في قوائم المصطلحات والمعاجم التي أصدرتها العديد من الألفاظ المركبة والمنحوتة، ووجدت الوسائل اللازمة لتذليل هذه العقبة.
وبالإضافة إلى الطرق الداخلية اعتمدت اللغة العربية كذلك على طريقتين خارجيتين في تنمية وتحديث معجمها: استعارة الألفاظ وتعريبها واقتراض المعاني بالترجمة (calque ).
3- الألفاظ المعربة ودورها في تحديث متن اللغة العربية:(/14)
خلال القرن الماضي بذل مجمع اللغة العربية بالقاهرة جنبًا إلى جنب مع سائر المؤسسات المعجمية والتعليمية والثقافية والباحثين جميعًا جهودًا دؤوبة حميدة من أجل تحديث المعجم العربي وسجلت خُطًى مرموقة في هذا الاتجاه. ولا شك أن الاحتكاك بين اللغات، بين اللغة العربية من ناحية وبين اللغتين الإيطالية والفرنسية في المرحلة الأولى ثم الإنجليزية أيضًا في المرحلة اللاحقة، لعب دورًا مهمًّا في إنجاح ونجاح هذه الجهود. وبعد أن أعطت اللغة العربية الكثير إلى مختلف اللغات – بما فيها اللغات الأوربية – أصبحت في العصر الحديث تأخذ القليل منها من أجل إغناء معجمها وتحديثه.
وقد سبق لنا أن أشرنا في بحث سابق إلى أن الألفاظ التي استعارتها العربية والتي تم تعريبها بوسائل مختلفة تنتمي إلى جميع حقول الحياة المادية والروحية (دوبريشان،1974، 127)، مثل السياسة والعلوم والتجارة والملاحة والتعليم والثقافة ووحدات القياس والملابس والمواد والنبات والحيوان والمأكولات والمشروبات وتنظيم القوات المسلحة والأسلحة والعدد والأجهزة والمعدات والآلات والطب والصيدلة ... إلخ.
ودخل عدد من الألفاظ العربية الأصل إلى المعجم الدولي ولا يزال جزءًا من التراث المعجمي الدولي. واستعارت بدورها في العصر الحديث عددًا من الألفاظ التي تعتبر جزءًا من المعجم الدولي الحديث، وهذا مما يدل على مدى التعامل والترابط بين اللغات المختلفة، وعلى قدرة اللغة العربية على دمج ألفاظ ومصطلحات من شتى الميادين بحيث تتلاءم مع سائر اللغات الحديثة، ونذكر هنا على سبيل المثال فقط عدة ألفاظ حديثة جدًّا أصبحت معروفة في أوساط جميع المثقفين بل وعامة الناس: بنك وبورصة وتلكس وفاكس وإنترنت والفيديو كليب.(/15)
وتفترض عملية تعريب الألفاظ العربية المرور بعدة مراحل وأولها – وربما هي المرحلة الحاسمة في أحيان كثيرة – تعريب المادة الصوتية وفق الأصوات العربية (صبحي صالح، 1968، 319 ). وإذا ما استخدمنا تعبير (هييلمسليف) فإننا نفهم باللفظ المستعار نقل كلمة من لغة إلى لغة أخرى، مما يفترض نقل الدلالة والجانب الصوتي في آن واحد (هييلمسليف،1966،87). ويميز الباحث نفسه بين الألفاظ التي لا تندمج من الناحية الصوتية والتي يحتفظ شكلها بصورة غريبة تختلف عن صور سائر ألفاظ المعجم والتي يسميها بـ" كلمات أجنبية "( mots etrangers) وبين الألفاظ التي تندمج والتي يسميها بـ "كلمات مستعارة "(mots d'émprunt)، ولو سمح شكلها الخارجي دائمًا بالاعتراف بأصلها الأجنبي (هييلمسليف،1966 ،90). وتنطبق هذه الملاحظة على اللغة العربية؛ إذ نجد فيها طائفة من الألفاظ التي لم تندمج تمامًا في اللغة العربية من الناحية الصوتية مثل الكلمات المنتهية بهاء السكت (باليه، كليشيه إلخ) والكلمات المنتهية بالصائت“-o” الذي يتحول في اللغة العربية إلى واو المد (راديو، استوديو، سيناريو) والكلمات المنتهية بياء المد (بينالي، جليري، تاكسي) وباعتبارها غير معربة تمامًا من الناحية الصوتية أصبحت بعض الألفاظ من هذا النوع مهجورة وتم استبدال ألفاظ عربية بها (مسرح بدلاً من" تياترو"، محامٍ بدلاً من "أفوكاتو" عَقد بدلاً من" كونتراتو" مكتب بدلاً من " بيرو") أو استمرت عملية تعريبها حتى أخذت صيغة عربية مضبوطة (نمرة < " نوميرو " وقنصلية بدلاً من " قنصولاتو" وبيان بدلاً من "بيانو").
وتكمن المرحلة الثانية لعملية تعريب الألفاظ الأجنبية المستعارة في تعريبها من الناحية الصرفية والنحوية.(/16)
وعندما كان ممكنًا أخذت الألفاظ الأجنبية الصيغ العربية أو صيغت على الأوزان العربية وبذلك أصبحت مستساغة وعولجت معالجة المفردات العربية الأصيلة. وعلى العموم عوملت هذه المعاملة الألفاظ الأجنبية المؤلفة من ثلاثة أو أربعة أحرف وصيغت على أوزان عربية، وقياسًا إلى الألفاظ العربية جمعت الألفاظ المعربة على صيغ جموع التكسير المقابلة، مثل:
فَعْل: بنك (ج) بنوك، يخت (ج) يخوت.
فِعْل: فلم (ج) أفلام، متر (ج) أمتار، ميل (ج) أميال.
فُعل: طن (ج) أطنان، فلت، دوش.
فَعْلة: ورشة (ج) ورش، صلصة، صالة.
فِعلة : نمرة (ج) نمر، فلة (ج) فلل، بيرة.
فِعال: بيان.
فاعول: بابور، صالون.
فعولة: فتورة (ج) فواتير.
مفعول: مليون (ج) ملايين.
مِفعال: مليار، تلفاز.
فَعْلُل: دينم.
فُعْلُل: قنصل (ج) قناصل.
فَعْلال: رادار.
فُعْلال: قبطان، جرنال، دولار.
فَعْلول: كرتون (ج) كراتين، بلون (ج) بلايين، بليون، غالون.
فِعْلول: فيروس، مكروب، دبلوم.
فُعْليل: تربين، كوليس (ج) كواليس، بوليس.
فُعْلول: دكتور (ج) دكاترة.
تَفعيل: تكتيك، تكنيك.
مُفَاعلة: مناورة.
فَعْللة: تلفزة، فرملة (ج) فرامل.
فاعِل: كادر (ج) كوادر، كابل (ج) كوابل.
فاعِلة: ماكنة (ج) مكائن، ماكنات.(/17)
أما الألفاظ التي لم تدخل في أوزان عربية فقد عربت من خلال استلام إحدى العلامات العربية في نهايتها، مثل علامة المصدر الصناعي (برجوازيَّة، ليبراليَّة راديكاليَّة، سرياليَّة، أكاديميَّة) أو ياء النسبة (بيروقراطِيّ، إمبريالِيّ، راديكالِيّ، دكتاتوريّ إلخ). وبالنتيجة أخذت هذه الألفاظ علامات الجمع المؤنث السالم في حالة الأسماء (برجوازيات، دكتاتوريات) والجمع المذكر السالم في حالة النسبة (بيروقراطيون، دكتاتوريون). والحقيقة أن معظم الألفاظ المعربة أخذت علامة الجمع المؤنث السالم بصرف النظر عن جنسها وصيغة مفردها: أوبيرا (ج) أوبيرات، جنرال (ج) جنرالات، لورد (ج) لوردات، كونفرانس (ج) كونفرانسات، مونولوج (ج) مونولوجات، تكتيك (ج) تكتيكات، سيناريو (ج) سيناريوهات، استوديو (ج) استوديوهات، راديو (ج) راديوات ...إلخ.
كما يفترض التعريب الصرفي والنحوي للألفاظ المعربة اندماجها من ناحية الجنس؛ إذ أصبحت مذكرة أو مؤنثة، وفق معانيها وصيغها. وعلى العموم احتفظت الألفاظ الفرنسية الأصل والإيطالية الأصل بجنسها في اللغة الأصلية لكن ذلك الأمر ليس بقاعدة حيث لم تصبح مؤنثة إلزاميًّا إلا الأسماء التي اتسمت بعلامات المؤنث أي التاء المربوطة وألف المد.(/18)
معروف أن حماية اللغة العربية الأصيلة كانت سببًا من أسباب تأسيس المجامع اللغوية، لكن من الجدير بالذكر أن مجمع اللغة العربية في القاهرة أصدر منذ مؤتمره الثاني قرارًا بصدد قبول الألفاظ المستعارة عند الضرورة (مجلة المجمع، العدد 2، 1935،7). كما أصدر المجمع لاحقًا قرارات أخرى بخصوص تعريب الألفاظ المستعارة، وبخصوص مختلف أنواع الألفاظ التي يمكن استعارتها. كما وقف مجمع دمشق موقفًا مماثلاً لكن الأهم أن المجمعين أدرجا في قوائم المصطلحات التي أقرها العديد من الألفاظ المستعارة. أما في أيامنا هذه فإن المجامع اللغوية واللغويين والباحثين عمومًا يجمعون على الاعتراف بفوائد الألفاظ المستعارة وعلى قبولها. وأصبحت الألفاظ المعربة تعامل معاملة الألفاظ العربية الأصيلة من الناحية الصرفية والنحوية ولم يعد يشك أحد في دورها في إغناء وتحديث المعجم العربي.
4-اقتراض معاني الألفاظ والتراكيب الأجنبية:
يمثل اقتراض معاني الألفاظ والتراكيب الأجنبية (calque) الطريقة الخارجية الثانية التي تسهم في تنمية وتحديث المعجم العربي.(/19)
وتجدر الإشارة في بداية الحديث عن هذه القضية إلى أن اكتشاف المعاني المستعارة من ألفاظ أجنبية أصعب من اكتشاف الألفاظ المستعارة بنفسها، وذلك أن هذه الظاهرة عبارة عن استعارة غير مرئية إذ لا يجري الحديث هذه المرة عن انتقال المادة الصوتية من لغة إلى لغة أخرى بل عن انتقال معاني الألفاظ من ناحية وأساليب تركيبها من ناحية ثانية، وتعتبر هذه الطريقة مهمة لتنمية المعجم وبالتحديد معاني الألفاظ الموجودة في اللغة وتركيب الألفاظ والنحو وحتى الصرف إلى حد ما. وقد سبق لنا أن قدمنا قبل بضع سنوات بحثًا تحت عنوان " محاولة لتصنيف أنواع اقتراض معاني الألفاظ والتراكيب الأجنبية بالترجمة(calque)" وصدر هذا البحث في العدد 84 من مجلة المجمع الموقر (دوبريشان، 1999). وقد توقفت في هذا البحث بصورة خاصة عند اقتراض معاني الألفاظ والتراكيب الأجنبية. وأعتقد أن هذين النوعين يعتبران أهم الأنواع في معرض الحديث عن تنمية وتحديث متن اللغة العربية، علاوة على محاكاة التركيب الداخلي للألفاظ الأجنبية (ديروا، 1956، 216).(/20)
وقد أشرت فيما تقدم إلى أن بعض الألفاظ المركبة المنحوتة من اللغة العربية تحاكي التركيبة الداخلية للألفاظ الفرنسية المقابلة: كهرحراري (cf.fr. éléctrothérmique) كهرمائي (cf fr hydroéléctrique )، قروسطى (cf. fr.médieval). غير أن الألفاظ التي تحاكي نماذج فرنسية ذات سوابق تعتبر أكثر أهمية لتنمية المعجم العربي. وقد سمحت هذه الطريقة للغة العربية بأن تنشئ نظامًا متكاملاً للتعبير عن معاني كافة السوابق الأوربية تقريبًا. وقد سبق أن قدمت أربعة بحوث حول طرق التعبير عن معاني السوابق الأوربية في المؤتمرات السابقة للمجمع الموقر؛ ولذلك لن أتوقف في هذا البحث إلا لاستعراض أهم جوانب القضية. ونقصد أساسًا المفردات التي تلتصق بأسماء ونحوت للتعبير عن معاني هذه السوابق، والحالة في هذا الخصوص هي حالة الحرف "لا" الذي أصبح السابقة الوحيدة في اللغة العربية، وذلك في العصر الكلاسيكي عندما تحولت العبارة الفعلية " لا أدري "إلى النسبة " لا أدرِيّ " وإلى المصدر الصناعي " لا أدريَّة " تحت تأثير التراجم من اللغة الإغريقية، غير أن استخدام هذا الحرف توسع في العصر الحديث وأصبح يعادل عدة سوابق للنفي والحرمان ( دوبريشان، 2000 ) لا معقول (cf. fr. irraisonable)، لا أخلاقية (cf. fr. immoralité)، لا سامية (cf. fr. antisémitisne ) …إلخ .
كما أشرنا إلى الميل في العصر الحديث نحو اختصار غير ذلك من الحروف والأسماء والتصاقها باسم أو صفة بمثابة سابقة محاكاة لصيغ أوربية بسوابق كما أشرنا إلى أن مثل هذه الصيغ أصبحت تدرج على الأخص في المعاجم الاختصاصية وفي القواميس الثنائية اللغة مثل المورد والمنهل والمفصل وغيرها، ونذكر على سبيل المثال الصيغ التالية المدرجة في هذه القواميس:
فرصوتي(< فرط صوتي)( cf. engl. hypersonic )
شبطفيلي(< شبه طفيلي)(cf. engl. semiparasitic )
فوبنفسجى(< فوق بنفسجي)( cf. fr. ultraviolet )(/21)
فوواقعية (< فوق واقعية)(cf. fr. surréalisme )
تجلدي(< تحت جلدي)(cf. fr. souscutané )
دوذري (< دون ذري )(cf. engl. subatomic )
قبتاريخي(< قبل التاريخي )(cf. fr. préhistorique )
ونود أن نؤكد مرة أخرى على أن اللغة العربية وجدت طرقًا ووسائل كافية للتعبير عن معاني جميع السوابق وأشباه السوابق من اللغات الأوربية مما يدلل على الإمكانيات اللامتناهية المتوافرة للغة العربية بغية تنمية معجمها.
أما تقليد التعبيرات عن طريق الترجمة فقد لعب هو الآخر دورًا مهمًّا في إغناء الأساليب والتراكيب اللغوية والتعابير وفي تحرير النحو العربي من القيود القديمة وأخيرًا في تحديث المعجم العربي إذ جعلت المعجم العربي قادرًا على معادلة التعابير الأوربية وكان هذا النوع من اقتراض المعاني أول نوع استرعى انتباه الباحثين العرب المعنيين بقضية الاحتكاك بين اللغات، ابتداء من جرجى زيدان (86) وصولاً إلى أستاذنا الجليل كمال محمد بشر(1969، 139) الذين تحدثوا عن التراكيب الأعجمية وتعريب الأساليب وطوروا ووضحوا هذه المفاهيم.
وقد استوعبت اللغة العربية طرق التعبير عن معاني السوابق وبخاصة سوابق النفي والحرمان – التي أصبحت مادة عربية وفي كثير من الحالات لم تعد تنطلق العربية من نماذج وصيغ أوربية بل في بعض الأحيان لا توجد مثل هذه النماذج في اللغات الأجنبية.
ولا شك أن الصحف وسائر وسائل الإعلام لعبت ولا تزال تلعب دورًا خاصًّا في إغناء معاني الألفاظ العربية، وفي تطوير نظام التراكيب والتعابير العربية، وبواسطتها تنتقل المعاني والتراكيب المقلدة إلى المعجم العادي وتستخدمها جميع فئات المتكلمين. وأصدر مجمع القاهرة بدوره عددًا من القرارات بصدد التعبير عن معاني عدد من السوابق واللواحق (الحمزاوي، 1975).(/22)
خاتمة : يمكن القول ختامًا أن الطرق الداخلية الخاصة باللغة العربية – وبالدرجة الأولى الاشتقاق – لا تزال الوسيلة الرئيسة لتنمية متن اللغة العربية، لكن تعريب الألفاظ والتراكيب الأجنبية، واقتراض المعاني الجديدة تلعب أيضًا دورًا مهمًّا في تحديث متن اللغة العربية وتقدم كلها أسطع دليل على إمكانيات اللغة العربية غير المحدودة للتنمية والتحديث، بحيث تتماشى اللغة العربية، حفظًا لهويتها وأصالتها، مع أحدث المستجدات العلمية والتقنية جنبًا إلى جنب مع اللغات الأوربية الحديثة وكبريات لغات
الحضارة التي تعد العربية من بينها.
... وقد أتاحت لنا المشاركة في مؤتمرات مجمع اللغة العربية بالقاهرة فرصة الاطلاع على الجهود التي يبذلها جميع الباحثين واللغويين المصريين بل والعرب عامة لتنمية معجم اللغة العربية وسائر فروعها. وأصدر مجمع القاهرة منذ إنشائه إلى الآن العديد من القرارات بصدد مختلف القضايا اللغوية وتجدر الإشارة إلى أن هذه القرارات تجاوبت مع التطورات الطبيعية الدائرة في اللغة؛ ومن ثم استوعبها المتخصصون والعامة من الناس. إن التطورات التي حصلت في المعجم العربي في العصر الحديث تثبت الحقيقة العامة أن اللغة تتطور وفق القوانين الموضوعية الملازمة لنظامها الذاتي، وأن المخططين اللغويين يمكن بل ينبغي أن يتدخلوا لتنظيم هذه التطورات وتقنيتها، وأن مدى نجاحهم كان في ارتباط وثيق بمدى ملاحظة التطورات الطبيعية الجارية في النظام اللغوي، والوقوف إلى جانب هذا
الاتجاه الطبيعي.
... وعلى ذلك، هل يمكن اعتبار العربية الفصحى لغة ميتة أو كلاسيكية
مثل الإغريقية واللاتينية والعبرية – على ما يدعي البعض؟ لا أبدًا! وأخيرًا وليس آخرًا، هل تعتبر اللغة العربية لغة حضارة كبرى؟ لا يمكن أن يكون
الجواب على هذا السؤال إلا إيجابًا
وذلك أن اللغة العربية كانت حاملة(/23)
تراث علمي وحضاري ضخم، وأنها أصبحت في العصر الحديث تعبر من جديد عن حضارة أمة عظيمة واحدة موحدة ذات ماضٍ وحاضر مجيدين وذات مستقبل في تطور وتقدم مستمرين.
نيقولا دوبريشان
عضو المجمع المراسل
من رومانيا
1- بشر، كمال محمد، دراسات في علوم اللغة، 1969م(= بشر، 1969م)
2- البعلبكي، منير، المورد (قاموس إنجليزي – عربي) بيروت، 1978م
3- الترزي، إبراهيم، كلمة الأستاذ إبراهيم الترزي، مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء84، 1999م (= الترزي، 1999م)
4- جبور عبد النور وسهيل إدريس، المنهل الوسيط ( فرنسي – عربي )، بيروت، 1977م.
5- صبور عبد النور وأ. ك. عبد النور عواد، المفصل (فرنسى – عربي)
6- جرجى زيدان، اللغة العربية كائن حي، دار الهلال، (= جرجى زيدان)
7- دوبريشان، نيقولا، ملاحظات حول أنواع الألفاظ المعربة في اللغة العربية المعاصرة، في مجلة مجمع
اللغة العربية، القاهرة، العدد 33، 1974م (= دوبريشان، 1974م)
8- دوبريشان، نيقولا، المعرب في العصر الحديث، في مجلة مجمع اللغة العربية، القاهرة، العدد 37، 1976م (= دوبريشان، 1976م)
9- دوبريشان، نيقولا، محاولة لتصنيف أنواع اقتراض معاني الألفاظ والتراكيب الأجنبية بالترجمة، مجلة مجمع اللغة العربية، القاهرة، العدد 84،1999م (= دوبريشان 1999م)
10- رمسيس، جرجس البحث في العربية، في مجلة مجمع اللغة العربية، العدد 13، 1961 م (= رمسيس جرجس، 1961)
11- الشهابي، مصطفى، أهم القرارات العلمية في مجلة مجمع اللغة العربية، في مجلة مجمع دمشق العلمي، العدد 32، 1957م (= الشهابي، 1957م)
12- شوقي ضيف، مجمع اللغة العربية في خمسين عامًا (1934 – 1984م)، القاهرة، 1984م (= شوقي ضيف، 1984م)
13- صبحي صالح، في فقه اللغة، بيروت، 1968م (= صبحي صالح، 1968م)
14- عبد الله أمين، الاشتقاق، القاهرة، 1956م (= عبد الله أمين، 1956م)
15- مجلة مجمع اللغة العربية في القاهرة الأعداد1 – 84، 1935م- 1999م.(/24)
16- مدكور، إبراهيم، اللغة المثالية، في مجلة مجمع اللغة العربية، العدد 7، 1953م ( = مدكور، 1953م).
17- مصطفى جواد، المصطلحات العلمية والفنية الحديثة، في مجلة المجمع العلمي العراقي، العدد 2، 1952م (= مصطفى جواد، 1952م).
المراجع الأجنبية
1-Deroy,L.,L’émprun linguistique.
paris, 1956 1956م=) (ديروا،
2- Dubois, Jean, Etude sur ladériv-
ation sufixale en fran-cais moderne et contemporain, paris, 1962 =1962م،، ديوبواه)
3-Fleisch, Henri, l,arabe classique. Esquise d’une structue Linguistique, Beirouth, 1968 (=1968م فليش،)
4-Hamzaoui, Rashed, L’Academie de Langue Arabe du caire, Tunis,1975 (الحمزاوي، 1975م)
5- Hjelmslev, Louis, Le language, Paris, 1966 (هيلمسليف، 1966م)
6- Martinet, André, Eléments de linguistique generale, Paris, 1963 (مارتينيه، 1963م )
7-Martinet, André, Evolution des Langues et reconstruction, paris, 1975 (1975م،مارتينيه=)
8-Monteil, Vincent, L’arabe moderne, paris,1956 (مونتيل،1956م).(/25)
حاجتنا إلى تنمية لغوية تستجيب لحياتنا اليومية(*)
للأستاذ الدكتور عبد الهادي التازي
... منذ القرن الثاني للهجرة – بعد أن أصبحت اللغة العربية تعايش أقوامًا رحلوا إليها ورحلت إليهم – منذ ذلك التاريخ شعر أسلافنا الأعلام من رجال اللغة بضرورة وضع معاجم تحفظ للغة العربية أصولها من جهة، وتوفر لها الطريق لمواكبتها للمجال الواسع الذي أمست عليه وقتئذٍ.
... ومن هنا سمعنا عن كتاب (العين) للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175هـ=786م)، وسمعنا عن كتاب (اللغات) لأبي عمرو إسحاق الشيباني( ت206هـ = 821م )، و(الألفاظ) ليعقوب ابن السكيت (ت244هـ = 858م)، و(الجمهرة) لأبي دريد(ت321هـ = 933م)، و(البارع) و(الأضداد) لأبي علي إسماعيل القالي (ت356هـ= 967م)،
و( تهذيب اللغة ) للأزهري ( ت370= 981)، ومقاييس اللغة والمجمل لأحمد ابن فارس( ت395هـ=1004م )،
و(الصحاح) لإسماعيل الجوهرى ( ت393هـ= 1003م )، كما وصل إلينا كتاب ( الماء )، أول معجم طبي لغوي للأزدي الصحاري المتوفى ببلنسية سنة 456 هـ= 1064م(**)، وكتاب المحكم و(المخصص) لعلي بن إسماعيل ابن سيده ( ت458=106م )، و( العباب ) للصاغانى ( ت650هـ=1252م )، و( لسان العرب ) لمحمد ابن منظور( ت711 = 1311م ، و( القاموس المحيط ) لمحمد بن يعقوب الفيروز آبادي( 817 هـ= 1415م )، و(تاج العروس) لمرتضى الزبيدي (ت1205هـ=1790م) الذي لا ننسى ـ بهذه المناسبة ـ إشادته العطرة
بمساعدة العالم اللغوي المغربي ابن الطيب الشركي الفاسي المتوفى
بالمدينة المنورة عام 1170هـ = 1757م) كما نذكر (محيط المحيط)
لبطرس البستاني (ت1300هـ = 1883م)، و(أقرب الموارد) لسعيد الشرتوني(ت1330 هـ= 1912م)، و(المنجد) للأب لويس معلوف (ت1365هـ= 1946م) بما تبع طبعته الأولى عام ( 1326هـ= 1908م)، من طبعات منقحة متطورة مصورة.(/1)
... وقد كان لمجمع اللغة العربية بالقاهرة إسهام جيد في هذه الصناعة عندما قام بإصدار (المعجم الوسيط)، بجزأيه، في طبعته الأولى، قبل أن يطبع ثانية عام 1392 هـ= 1972م، وثالثة عام 1405 هـ= 1985م، الأمر الذي يدل على مدى تطلع الجمهور لمثل هذه المعاجم.
... وأخيرًا ظهر (المعجم العربي الأساسي) الذي صدر عام 1408 هـ= 1988 م عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تأليف جماعةٍ من كبار العلماء المتمكنين من اللغة العربية، بتكليف من المنظمة المذكورة.
... ونحن إذْ ننوه بجهود أساتذتنا الذين قدموا، لنا إلى الآن، هذه الحصيلة الثمينة الرفيعة، نذكر أن تلك الجهود على مختلف العصور، مما ذكرنا ومما لم نذكر، كانت تعبر عن الحاجة الماسة، دومًا إلى ضرورة السهر على حماية اللغة العربية، والعمل باستمرار على أن تظل حيةً معطاءةً، فاتحةً الصدرَ في ذات الوقت، لكل المستجدات التي تظهر على الساحة… كل تلك الجهود كانت تستحث منا السير لمواصلة القيام بالواجب الذي تفرضه علينا هذه اللغةُ التي نظل مدينين لها في احتفاظ الأجيال بهُويتهم، بل وتظل البشرية جمعاء مدينةً لهذه اللغة فيما أسهمت به من عطاءٍ معْرفيٍّ متميزٍ أمكن معه تقدم الإنسان وإثراء اللسان.
وإنها لظاهرة صحية أن يخصص مؤتمر المجمع في دورته الحالية، حديثَه حول: التنمية اللغوية، وكأنه يقوم بعملية مراجعةٍ ومحاسبةٍ، في نفس الوقت الذي يستشرف فيه المجمع للخطوات المستقبلية بالرغم مما تقاطر ويتقاطر علينا إلى الآن من معاجم، فيها المطول والمتوسط والموجز، والمحلي والإقليمي، والمتخصص والمصور(1).(/2)
... وأعتقد أن هذه المبادرة من مجمعنا الموقر جاءت لتعبر عما يشعر به المجمع أكثر من غيره، من تبعةٍ عظيمة، ولا سيما في عصرنا الحاضر الذي أخذ الزاد اللغوي العربي فيه بحاجةٍ قوية إلى إمداده بكل ما يجدد الحياة فيه لكي يظل قائم الذات صلب الأعضاء. إن كل ما يرد علينا يوميًّا من كلمات وتعبيراتٍ ومصطلحاتٍ في شتى أنواع الحقول، وعلى مختلف الصُّعُد كان مما يحفز بل يفرض متابعةَ الحديث عن الموضوع.
... إن اللغة العربية لم يُعرف عنها في حياتها الطويلةِ العريضةِ أنها كانت منطوية محتشمة أبدًا، فقد كانت حاضرة بجرأة في كل ميدان، موجودة في شؤون المرأة، في تأثيث البيت، في ترتيب المطبخ، في اهتمامات الطفل، في ميدان المعمار، في ازدهار الحِرَف
والمِهَن، في مادة الصّناعة البحرية وقطع الأسطول، في العناصر المتساكنة، في العادات والمعتقدات، في الصحة والمرض، في الموسيقا، في التعليم(2)… في المصطلح السياسي والدبلوماسي… كانت معاجمنا لا تضيق حوْصلتها بالمصطلحات المستجدة عندما وجدت دار الإسلام نفسها تعيش بجوار الآخرين، وكان عليها أن تتأثر وتؤثر، حيث وجدنا عشرات الألفاظ تتبادل الرحيل من جهة إلى أخرى(3)…
ومن هنا يصح القول: أن معاجمنا كانت إلى جانب وظيفتها اللغوية سجلات تاريخيةً وحضاريةً واجتماعية وسياسية…
... ومايزال يرن في أذني صوت الدكتور طه حسين وهو يلقي محاضرته بمدينة الرباط يوم الخميس ثامن ذي الحجة(26من يونيو 1958م) عندما ذَكَر أمام جمهور المثقفين المغاربة أن اللسان العربي لم يكن
عاكفًا على نفسه(*)…(/3)
... وحول التأكيد على عدم انعكاف معاجمنا على نفسها، والتأكيد كذلك على أن معجمنا يسير في هذا الاتجاه نذكّر بظاهرة نراها اليوم في كل دولةٍ من الدول العربية، بل ربما في معظم القواعد والعواصم… وهي الظاهرة التي تتجلى فى إنشاء معاهد عليا رسميةٍ وحرةٍ للترجمة تشرف عليها الدولة أو مؤسسات أهلية تعمل على تلقيح اللغة العربية بما يجد…
... لقد كانت هذه الظاهرة في نظرنا تعبيرًا صارخًا عن الحاجة إلى تحديث معاجمنا وتنمية لغتنا وتهيئتها وملاءمتها لما يصل أسماعنا – كما قلت – في كلّ مطلع شمس.
... ولقد أصبحت هذه المؤسسات تنظم الندوات إثر الندوات. وأمست لها نشرات منتظمة وإصدارات تتحدث عن نشاطها، كما أصبحت لها علاقات واسعة مع مثيلاتها في مختلف جهات العالم، وغدت تكون عنصرًا مهمًّا فيما
يتصل بازدهار اللغة العربية وإغنائها وإثرائها وتنميتها، الأمر الذي سييسر لنا النظر إلى آفاق المستقبل ونحن نتحدث عن معاجمنا اللغوية في الغدِ القريب وما يتطلبه من تطورات جديدة نعتقد أن أجيالنا في حاجةٍ حثيثةٍ إليها.
... يلذ لي أحيانًا عندما تسألني حفيدة لي أو سبط عن معنى كلمة عربية، يلذ لي – قبل أن أجيب – أن أطلب إليهم أن يبحثوا عنها في معجم
من معاجمنا المتداولة، لا أطلب إليهم طبعاً أن يرجعوا إلى لسان العرب مثلاً لأني أحفظ الحكمة القائلة: " إذا أردت أن تطاع فاطلب مايستطاع"، ولكني أطلب إليهم أن يبحثوا عن الكلمة في (المنجد) مثلاً… وأشد ما يكون استغرابي من عجز هذا أو ذاك عن وجود الضالة المنشودة بسهولة… في حين، يكون الأمر على العكس إذا طلبت إليهم أن يبحثوا عن الكلمة في المعاجم الفرنسية والإسبانية، والإنجليزية والألمانية…
... هذا بالنسبة للمعنى اللغوي، أما عن سرد هؤلاء من الوجهة النحوية فسيكون على أذني أن تتحمل سماع ما يرجّ رفاتَ سيبويه(ت80هـ=796م) في قبره بشيراز!.(/4)
... وهناك المشكلة الأخرى التي تقف أمام الجيل – الذي أعيشه… إذا حدث أنْ قرأنا في نشرةٍ أجنبيةٍ حديثة، مثلاً كلمة(Langue de bois)، وأردنا
أن نَعرف مرادفها في المعجم العربي الموجود بين أيدينا اليوم، فإنه هنا "يقف حمارَ الشيخ في العقبة" كما يقول الفقهاء… نشعر جميعًا بأن الذين ألفوا هذا المعجم العربي لم يصلوا بعدُ إلى ترجمة ذلك اللفظ حتى يدرجوه ضمن معاجمهم، فما داموا غائبين هم، فإن على التلميذِ المسكينِ أن ينتظر ظهور الكلمة في تصريح وزيرٍ أو سفيرٍ أو غيرهما على عمود جريدة !!.
... ونسمع اليوم كذلك كلمة (فاكس) و(إنترنت)، فهل ننتظر لمعرفة
ترجمتها آمادًا أخرى؟
... مع العلم أن أسلافنا منذ القرن الثالث الهجري: (التاسع الميلادي) كانوا يرخصون للمعربين "أن يتركوا الأسماء بلغاتها حتى يبعث الله من يعرف أسماءها بالعربية" على حد رواية ابن أبي أصيبعة(*)…
... شيء ثالث يطرح عليّ وأنا أحاول أن أعيش مع هذا الجيل الجديد
الذي يحيط بنا… يلقى علي السؤال أحيانًا عن تاريخ استعمال هذا اللفظ أو ذاك في المعجم العربي، فإنهم يعرفون أن القاموس الأجنبي كثيرًا ما يذكر للكلمة "بطاقتها الوطنية" كما نقول بتعبيرنا اليوم، متى وجدت؟ وكيف دخلت؟ وكم يكون لهذا من فوائد جليلةٍ تساعدنا على تصحيح بعض المحطات من تاريخنا؟. إن المعاجم – كما أسلفنا – لها بُعد تاريخي، إلى جانب فائدتها اللغوية…
... أذكر هذا وأنا أفكر في كلمة
(الأوكسجين) التي تحدث الفقيه المغربي ابن عثمان المسطاسي المكناسي(في رحلته إلى أوربا) تحدث عن مضمونها إذ إن الكلمة لم تكن عرفت الحياة بعد(1).
ولا يفوتنا بهذه المناسبة أن نشيد بتفكير مجمعنا منذ إنشائه عام(/5)
1351هـ= 1932م في أن يجعل من أهم أغراضه أن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية. كما نشيد بالجهد المبذول منذ ذلك التاريخ من لدن المجمع انطلاقًا من مشروع العالم الألماني المستعرب فيشر، وانتهاءً بتبني اتحاد المجامع اللغوية العلمية إخراج هذا المعجم إلى حيز الوجود(2).
... لقد مرت اللغة العربية خلال حياتها الطويلة، بعدة طفرات وأحداث تاريخية كبرى غيرت من ملامحها
وتركت آثارًا واضحةً فيها، وإن من أبرز تلك الأحداث ما سماه الدكتور طه
حسين بالمعجزة الكبرى: الإسلام، ثم الحركات الثقافية العظيمة التي أحدثها عصر الترجمة والازدهار العلمي فى العصرالعباسي…ثم الصحوة التي عرفها النصف الثاني من القرن الثالث عشر
الهجري = منتصف القرن التاسع عشر الميلادي في أعقاب الاتصال المباشر بالغرب.
... في كل مرحلةٍ من هذه المراحل البارزة كانت اللغة العربية تبرز إلينا بوجه جديد، وملامح متغيرةٍ في مفرداتها ودلالة ألفاظها وتراكيبها واستعمالاتها، وهكذا ففي الإمكان التوصل إلى وضع تصنيفاتٍ للتمييز بين تلك المراحل في تطور اللغة عبر هذا التاريخ الطويل(*).
وإضافةً إلى ما سبق أن ذكرته
من حالات، أذكر أن أبناءنا في المغرب، وأكرر أنني أتحدث عن تجربتنا في المغرب، أذكر أن التلميذ
المغربي واسمحوا لي أن أتجاوز التلميذ المغربي إلى التلميذ في المشرق الذي يعيش من صُبحه إلى مسائه مع التلفزة في الكتاب الوارد عليه من شتى جهات العالم، شرقه وغربه، يعيش مع(/6)
أرقام كوْنيةٍ تحمل في سائر أطراف العالم من خط جرينيش إلى خط التاريخ الدولي، تحمل اسم الأرقام العربية (ARAB. NUMB ):1-2-3-4-5-6-7-8-9، ولكنه يجد عوض هذه الأرقام العربية أرقامًا أخرى لا تتعدى مساحةُ استعمالها اثنين بالمائة من مساحات استعمال الأرقام العربية… بمعنى أننا نمْلأ الفضاء العِلمي بأرقامٍ محنَّطةٍ كانت تحمل في الماضي اسم الأرقام الهندية مع العلم أن الهنود رفضوها وقاطعوها! مع العلم أيضًا أن
بعض صحفنا اليومية ودورياتنا التي تستعملها أخذت تشعر بأنها مضطرة إلى كتابة الرقم الكوني إلى جانبها لأنها أمست عند جمهور القراء لغزًا من الألغاز!! طرأت علينا وغزتْنا مع الأتراك وعوضت كتابة الأرقام بالكلمات التي كانت معروفة في تراثنا العربي الأصيل كأن
نقول مثلاً: سنة ثمانٍ وأربعين وخمسمئة.
... ليس في نيتي اليوم أن أتحدث عن خلفية ذلك النمط من الأرقام أو هذا، فهذا موضوع له وقت آخر(*)، ولكن القصد إلى ما نطمح إليه من العمل بجدٍ على تنمية لغوية شاملة لملاحقة الركب، أي العمل على خلق معجم حداثي حضاري يتخلص من الرواسبِ المعوقة ويختصر الطريق لأبنائنا ولا يكررها.
... أريد بعد كل هذا أن أخلص ونحن ننشد التنمية اللغوية إلى نظرات أخرى في رؤيتي لمعجم الألفية الثالثة
الذي نتوق إليه خدمةً للغة العربية وتيسيرًا على مريديها من الذين يتأججون غيرة على مستقبلها.
... وهنا أذكر النعت الأول الذي نلح عليه في هذا المعجم، نعت المعجم (المحرَّك) بفتح الراء مشددة، آتٍ من التحريك، بمعنى جعل الحركة على
الحرف، وقد فضلت كلمة المحرك على المشكول لأن كلمة الحركة بالنسبة إليَّ أوقع من الشكل.(/7)
... وأريد في بداية هذه الفقرة من حديثي أن أشيد إشادةً بالغة بالمتقدمين الأوائل الذين حركوا كلمات المصحف الشريف، لقد أسدوا للغة العربية عطاءً لا يقدر بثمن، وبفضله سهل حفظ القرآن واستظهارُه طوال القرون الخالية، وبفضله أيضًا سهل ضبط قواعد النحو كذلك.
... في عالمنا اليوم، وقد كادت "القاعدة النحوية" أن تغيب عن الخاصة بَلهَ العامة، أعتقد أن من واجبنا أن نعد
العدة لتحريك سائر كلمات المعجم،
وليس فقط مدخل المادة، على نحو ما نجده فيْ المعجم الوسيط "والمعجم العربي الأساسي" ولكن في كل المادة ينبغي أن نعد العدة المادية والتقنية لتحقيق هذا الهدف الأسمى حتى نساعد الذين يضطرون لكتابة لغاتهم المحلية
بحروفٍ لاتينيةٍ بحجة أن هذه حروف تحمل تحريكها معها. عكس الكلمات العربية التي تبقى كلماتٍ عاريةً، تحتمل أي نطق يخطر على البال..!
... أذكر أن العالم الفرنسي المعروف البارون دوسلان ذكر في مقدمته لنشر وترجمة كتاب (المغرب في بلاد إفريقية والمغرب) لأبي عبيد البكري، ذكر وهو يعدد مشاكل التَّحْريك، كلمة تتألف من أربعة حروف هكذا: (يعرف) وافترض لقراءتها أكثر من ثلاثمئة احتمال إذا لم تكن هناك قرينة، أو بعبارةٍ أخرى إذا لم يكن لنا علم بما يسبقها وما يتبعها من كلمات،
والأمثلة كثيرة فى هذا الباب(*).
... لهذا فإن توفرنا على معاجم
محركةٍ مما ييسر عملنا في ترويج العربية ترويجًا واسعًا ودون أية صعوبة أو عرقلة تذكر.
... وأحب أن أذكّر في ختام هذه الفقرة من بحثي بما وقع في إيران
أيام الشاه الأول، عندما فكر في كتابة
الحروف الفارسية بالحروف اللاتينية، على نحو ما قامت به جارته تركيا.(/8)
... لقد استَدعى الشاه البروفيسور لوي ماسينيون من باريس إلى طهران ليستمزج رأيه، نذكر بالمناسبة أن ماسينيون كان عضوًا بمجمعنا هذا بل من المعتزين بالانتساب إليه… وقد كان الشاه الكبير يتوقع من العالم الفرنسي الأكاديمي أنه سيزكي فكرته في تغيير الحرف العربي ليكون بالحرف اللاتيني… لكن الشاه فوجئ وهو يسمع أن رأي ماسينون، كان ضد هذا الاختيار، مؤكدًا، وقد عاش حياته مع الحرف العربي، مؤكدًا أنه لا يرى مبررًا للانتقال من هذا الحرف الأصيل الجميل إلى مجرد أشكال وخطوطٍ عادية لا تحتوي على أدنى قسط من الجمال علاوة على ما في ذلك من تنكّر إيران لحضارة عاشتْها قرونًا طويلة،
وارتمائها في أحضان فضاء آخر غريب عنها!!
... وهنا أخذ الشاه يحاول أن يذْكر مزايا مشروعه، وذكر في صدر تلك المزايا أن الحرف اللاتيني يحمل تحريكه معه كما قلنا… بينما الحركات العربية تنفصل عن الحرف، وتجعل فوقه أو تحته، فأجابه ماسينيون بأن هذا الوضع مما يزيد في تأثيث الحرف العربي، وإكسابه الأنس والدفء والروعة، أكثر من هذا حذَّر ماسينيون الشاه بمغبة إثارة الفتن عليه إذا هو أقدم على هذه المبادرة المارقة..!
... ويدخل في قضية التحريك عندي سعي معاجم الغد أيضًا في أن تعمل على توحيد ترتيب الحروف الهجائية لتسهيل البحث عن الكلمات، وجعل فترة البحث سواسيةً بين الطالب المشرقي والمغربي.
... وإضافة إلى توحيد ترتيب الحروف الهجائية يسعى معجم الغد إلى توحيد ترتيب الحروف الأبجدية بين أهل المشرق والمغرب للوصول إلى وحدة أدائها الرقمي، وإلا فإن أهل المغرب قد يعتمدون على تاريخٍ ليس هو نفس التاريخ الصحيح الذي يقصده المشارقة، والعكس صحيح أيضًا، أي أن يعتمد المشارقة على تاريخٍ ليس هو نفس التاريخ المقصود عند المؤرخ المغربي بالحروف الأبجدية(1).(/9)
وقد أدرك ابن خلدون ما يؤدي إليه هذا الفرق في الترتيب من ثغراتٍ، فنبه إليه، ليكون القارئ على بصيرة(2) من الفرق بين المصطلح عليه في المشرق والمصطلح عليه بالمغرب.
ولننتقلْ بعد هذا إلى النعت الآخر الذي أتوق إليه في معاجم الغد
وهو أن يكون المعجم عصريًّا، وأقصد
به إلى أن يكون حديثًا مواكبًا مُحَيَّنًا:
(up to date)، (jour (?، بمعنى أن يطلع فيه الباحث على ما جدَّ وما ظهر بالنسبة للمعلومات المطلوبة، وهذا يتطلب منا أن نَصدّر المعجمَ سنويًّا، على نحو ما هو عليه الحال في المعاجم الأجنبية التي تطالعنا كل سنة بمعجم جديد قد لا يختلف عما سبقه في العام الماضي ولكنه يضيف إلى الحصيلة ما ظهر وجدَّ من كلماتٍ وتعابير ومصطلحات.
ويدخل عندي في معنى المعجم المحَيَّن ألا يضيق صدرنا بذكر أسماء بعض الشخصيات التي كان لها دور في صنع التاريخ الإنساني لاسيما ونحن نعلم أن هناك اليوم مجلسًا عالميًّا تابعًا للأمم المتحدة يعنى
بالأعلام الشخصية، وهذا المجلس هو المعروف تحت اسم:
International Council of onomastic Sciences
... وحبذا لو تعمل معاجم الغد كذلك على التعريف بأهم المواقع الجغرافية التي كما نعلم لها أيضًا مؤسسة دولية أخرى تابعة للأمم المتحدة ولها من العمر أزيد من ثلاثين سنة، وتعرف تحت اسم المؤتمر العالمي لتنميط الأسماء الجغرافية:
United nations Conference on the Standardization of Geographical Names
... إن الأسماء الجغرافية، تعتبر عاملاً قويًّا في تحديد المسافات ومعرفة الهويات وازدهار الثقافات والتاريخ السياسي للشعوب. والحديث عنها يتجدد كل مطلع شمس.
... وإلى جانب هذين العنصرين الاثنين: هناك العنصر الثالث الذي تطرب له المثاني والمثالث. وأعني به الخرائط والرسوم والصور التي لا نجهل دورها في التعرُّفِ على حيوانٍ أونبتةٍ أو أي شيء آخر…(/10)
... أعتقد أن الاهتمام بهذه الجوانب من شأنه أن يُسهم في التنمية اللغوية، من شأنه كذلك أن يقرب الذين يرجعون إلى (معجم الغد): يُقربهم إلى الحقيقة، ثم إنه يجعل القراء يشعرون بأن الساهرين على المعاجم يحرصون أشد الحرص على أن يجعلوا "زبونهم" في نفس الصورة التي يقدمها لهم المعجم المكتوب باللغات الأخرى.
... أرجو في الختام أن أنقل هذه الفقرات من التاريخ الدَّولي للأمة العربية وهي تتعلق بشهادة عن اللغة العربية قدمها سفير "أندلسي" مغربي عاش أوائل القرن الحادي عشر الهجري = أوائل القرن السابع عشر الميلادي، وهو يحمل اسم أحمد بن قاسم الحَجَري ويلقب بأفوقاي…
... لقد جاء في مذكرات هذا العالم الكبير، وهو في الأراضي المنخفضة(هولاندا) أنه بعد زيارته لأمستردام اجتمع في ليدن (Leide ) ببعض المستعربين الذين تحدثوا له عن مخطوطٍ عربي وسألوه: هل ما إذا كان يستطيع قراءته، فأجابهم: نعم وبأنه يستطيع كذلك ترجمته لهم بالأعجمية ! فأخذهم العجب وقالوا: إنهم حصلوا على هذا المخطوط من جزيرةٍ نائيةٍ من جزر الهند الشرقية التي تفصلها عن العرب مسافة بعيدة وزمن طويل، فكيف يدعي أنه يستطيع قراءته؟!…(/11)
... وقد أطلعهم الحَجَري – بالفعل – على محتوى المخطوط، الأمر الذي تعجب منه القوم واقتنعوا بأن اللغة العربية لسان واحد عام في سائر البلاد العربية، بينما كانت لغة الهولانديين تختلف من جهة إلى أخرى… على نحو ما هو الأمر في بلاد الإنجليز التي لها لغة أخرى، والحالة كذلك بالنسبة لأهل فرنسا، وفي بلاد الأندلس أعجمية أخرى وفي إيطاليا وألمانيا وشقوبية، كلّ لسان مختلف عن غيره، أما العربية فإنها واحدة في الدنيا كلها كما قال الحَجَري الذي نسخ لعلماء ليدن كتاب المستعيني في المفردات الطبية، وقد ختم رسالةً موجهةً إليهم بتاريخ 15من ربيع 1022=10من يونيه 1613 ختمها بخطه الذي يقول فيه: "…إن الحرف العربي له بركة مشهورة ولاتَرى من يكرم تلك الحروف إلا مكرمًا عزيزًا".
... هكذا قال الحجري قبل أربعة قرون أو تزيد، ونرى أن من تكريم تلك الحروف اليوم أن نعمل على تفعيلها وإشاعتها وتنميتها، وأعتقد أنه لن تتم لنا تنمية لغوية دون العمل على الاندماج في المحيط الكوني. بمعنى أن نتفاعل مع ما نشاهده أمامنا يوميًّا من تطورات على مختلف الصعُد لنعيش حاضرنا… ابن بطوطة وهو ينقل عن ابن جبير معلوماتٍ حول مستغلات جامع دمشق لم يتمسك بنفس عُمْلة بني عبد المؤمن التي ذكرها سلفه، ولكنه ذكر عملة بني مرين: خمسة عشر ألف دينار أمست خمسة وعشرين… وهو ينقل عن ابن جُبَير حول خطبة الجمعة لم يذكر الدعاء للخلفاء ولكن للمماليك! أريد القول أن الناس كانوا يتأثرون بمَن وبما حواليهم…!(/12)
لقد غنيت اللغة العربية بكل المقومات التي تحميها وتساعدها على مسايرة الركب الحضاري، ومن واجب مجمعنا-وهو قدوةُ المجامع – أن يُصيخ بأسماعه لما يظهر يوميًّا في الساحة الإعلامية على الخصوص من كلماتٍ وتعابيرَ وأشكالٍ تفرض نفسها على مكتبتنا ولا نلبث أن نجد مبررًا في حقها في أن تنتسب إلى اللغة العربية وتزيد في مخزونها الذي يتجدد وينمو كلَّ يوم… وليس بالعار، ولا بالعيب أن نلتفت إلى المعاجم التي تصدر عن الضفة الأخرى لنستفيد من طريقةِ تعاملها مع ما يطالعنا كلَّ يوم…
... لقد سعدت اليوم بسماع الحديث
عن فتح باب الاجتهاد فيما يتصل بالكائن اللغوي الذي هو وسيلتنا للحياة… كانت هذه محطة مهمة تعبر عن "الشفافية" التي كانت تنقصنا في جهادنا ونضالنا من أجل التنمية اللغوية… إن حماية ذلك الرصيد وإن حماية ذلك التراث يعني أن نلتفت جيدًا لشتى أشكال المستجدات التي تمر أمامنا لا أقول كل يوم، بل كل لحظة، عبر هذه الفضاءات التي لم تترك لنا مجالاً للاعتذار عن الاستفادة من حاضر عالمنا من كسب ساحات ذلك العالمِ لصالح لغتنا الحيةِ المحمية أبدًا. وقد صدق كوت Goethe عندما قال:
"إِن مَن لم يعرف من اللغات إلا لغته فقد جهل حتَّى لغته!".
د.عبد الهادي التازي
عضو المجمع من المغرب(/13)