بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله أجمعين
أعلم أن الكلام هو الذي يعطي العلوم منازلها ويبين مراتبها ويكشف عن صورها ويجني صنوف ثمرها ويدل على سرائرها ويبرز مكنون ضمائرها وبه أبان الله تعالى الإنسان من سائر الحيوان ونبه فيه على عظم الامتنان فقال عز من قائل ( ^ الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ) فلولاه لم تكن لتتعدى فوائد العلم عالمه ولا صح من العاقل أن يفتق عن أزاهير العقل كمائمه ولتعطلت قوى الخواطر والأفكار من معانيها واستوت القضية في موجودها وفانيها نعم ولوقع الحي الحساس في مرتبة الجماد ولكان الإدراك كالذي ينافيه من الأضداد ولبقيت القلوب مقفلة على ودائعها والمعاني مسجونة في مواضعها ولصارت القرائح عن تصرفها معقولة والأذهان عن سلطانها معزولة ولما عرف كفر من إيمان وإساءة من إحسان ولما ظهر فرق بين مدح وتزيين وذم وتهجين ثم إن الوصف الخاص به والمعنى
____________________
(1/1)
النت لنسبه أنه يريك المعلومات بأوصافها التي وجدها العلم عليها ويقرر كيفياتها التي تناولها المعرفة إذا سمت إليها
وإذا كان هذا الوصف مقوم ذاته وأخص صفاته كان أشرف أنواعه ما كان فيه أجلى وأظهر وبه أولى وأجدر ومن ههنا يبين للمحصل ويتقرر في نفس المتأمل كيف ينبغي أن يحكم في تفاضل الأقوال إذا أراد أن يقسم بينها حظوظها من الاستحسان ويعدل القسمة بصائب القسطاس والميزان ومن البين الجلي أن التباين في هذه الفضيلة والتباعد عنها إلى ما ينافيها من الرذيلة ليس بمجرد اللفظ كيف والألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضرباً خاصاً من التأليف ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب فلو أنك عمدت إلى بيت شعر أو فصل نثر فعددت كلماته عداً كيف جاء واتفق وأبطلت نضده ونظامه الذي عليه بنى وفيه أفرغ المعنى وأجرى وغيرت ترتيبه الذي بخصوصيته أفاد كما أفاد وبنسقه المخصوص أبان المراد نحو أن تقول في
( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ** )
( منزل قفا ذكرى من نبك حبيب ** ) أخرجته من كمال البيان إلى محال الهذيان نعم وأسقطت نسبته من صاحبه وقطعت الرحم بينه وبين منشئه بل أحلت أن يكون له إضافة إلى قائل ونسب يختص بمتكلم وفي ثبوت هذا الأصل ما تعلم به أن المعنى الذي له كانت هذه الكلم بيت شعر أو فصل خطاب هو ترتيبها على طريقة معلومة وحصولها على صورة من التأليف مخصوصة وهذا الحكم أعنى الاختصاص
____________________
(1/2)
في الترتيب يقع في الألفاظ مرتباً على المعاني المرتبة في النفس المنتظمة فيها على قضية العقل ولن يتصور في الألفاظ وجوب تقديم وتأخير وتخصيص في ترتيب وتنزيل وعلى ذلك وضعت المراتب والمنازل في الجمل المركبة وأقسام الكلام المدونة فقيل من حق هذا أن يسبق ذلك ومن حكم ما ها هنا أن يقع هنالك كما قيل في المبتدأ والخبر والمفعول والفاعل حتى حظر في جنس من الكلم بعينه أن يقع إلا سابقاً وفي آخر أن يوجد إلا مبنياً على غيره وبه لاحقاً كقولنا إن الاستفهام له صدر الكلام وإن الصفة لا تتقدم على الموصوف إلا أن تزال عن الوصفية إلى غيرها من الأحكام فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعراً أو يستجيد نثراً ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ فيقول حلو رشيق وحسن أنيق وعذب سائغ وخلوب رائع فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف وإلى ظاهر الوضع اللغوي بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده وفضل يقتدحه العقل من زناده
وأما رجوع الاستحسان إلى اللفظ من غير شرك من المعنى فيه وكونه من أسبابه ودواعيه فلا يكاد يعد نمطاً واحداً وهو أن تكون اللفظة مما يتعارفه الناس في استعمالهم ويتداولونه في زمانهم ولا يكون وحشياً غريباً أو عامياً سخيفاً سخفه بإزالته عن موضوع اللغة وإخراجه عما فرضته من الحكم والصفة كقول العامة أشغلت وانفسد وإنما شرطت هذا الشرط فإنه ربما استسخف اللفظ بأمر يرجع إلى المعنى دون مجرد اللفظ كما يحكى من قول
____________________
(1/3)
عبيد الله بن زياد لما دهش افتحوا لي سيفي وذلك أن الفتح خلاف الاغلاق فحقه أن يتناول شيئاً هو في حكم المغلق والمسدود وليس السيف بمسدود وأقصى أحواله أن يكون كونه في الغمد بمنزلة كون الثوب في العكم والدرهم في الكيس والمتاع في الصندوق والفتح في هذا الجنس يتعدى أبداً إلى الوعاء المسدود على الشيء الحاوي له لا إلى ما فيه فلا يقال افتح الثوب وإنما يقال افتح العكم وأخراج الثوب وافتح الكيس
وههنا أقسام قد يتوهم في بدء الفكرة وقبل إتمام العبرة أن الحسن والقبح فيهالا يتعدى اللفظ والجرس إلى ما يناجى فيه العقل والنفس ولها إذا حقق النظر مرجع إلى ذلك ومنصرف فيما هنا لك منها التجنيس والحشو القول في التجنيس
أما النجنيس فإنك لا تستحسن تجانس اللفظتين إلا إذا كان موقع معنيهما من العقل موقعاً حميداً ولم يكن مرمى الجامع بينهما مرمى بعيداً أتراك استضعفت تجنيس أبى تمام في قوله
( ذهبت بمذهبه السماحه فالتوت ** فيه الظنون أمذهب أم مذهب )
واستحسنت تجنيس القائل
( حتى نجا من خوفه وما بحا ** )
وقول المحدث
( ناظراه فيما جنى ناظراه ** أو دعائى أمت بما أودعانى )
____________________
(1/4)
لأمر يرجع إلى اللفظ أم لأنك رأيت الفائده ضعفت عن الأول وقويت في الثاني ورأيتك لم يزدك بمذهب ومذهب على أن أسمعك حروفاً مكررة تروم لها فائدة فلا تجدها إلا مجهولة مفكره ورأيت الأخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك عن الفائده وقد أعطاها ويوهمك كأنه لم يزدك وقد أحسن الزياده ووفاها فبهذه السريرة صار التجنيس وخصوصاً المستوفي منه المتفق في الصورة من حلى الشعر ومذكوا في أقسام البديع
فقد تبين لك أن ما يعطى التجنيس من الفضيله أمر لم يتم إلا بنصرة المعنى إذ لو كان باللفظ وحده لما كان فيه مستحسن ولما وجد فيه إلا معيب مستهجن ولذلك ذم الاستكثار منه والولوع به وذلك أن المعاني لا تدين في كل موضع لما يجذبها التجنيس إليه إذ الألفاظ خدم المعانى والمصرفه في حكمها وكانت المعانى هى المالكه سياستها المستحقه طاعتها فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشىء عن جهته وأحاله عن طبيعته وذلك مظنه من الاستكراه وفيه فتح أبواب العيب والتعرض للشين ولهذه الحالة كان كلام المتقدمين الذين تركوا فضل العناية بالسجع ولزموا سجية الطبع أمكن في العقول وأبعد من القلق وأوضح للمراد وأفضل عند ذوى التحصيل وأسلم من التفاوت وأكشف عن الأغراض وأنصر للجهه التى تنحو نحو العقل وأبعد من التعمد الذي هو ضرب من الخداع بالتزويق والرضى بأن تقع النقيصه في نفس الصورة وذات الخلقة
____________________
(1/5)
إذا أكثر فيها عن الوشم والنقش وأثقل صاحبها بالحلى والوشى قياس الحلى على السيف الددان والتوسع في الدعوى بغير برهان كما قال
( إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ** وأعضائها فالحسن عنك مغيب )
وقد تجد في كلام المتأخرين الآن كلاماً حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ماله اسم في البديع إلى أن ينسى أنه يتكلم ليفهم ويقول ليبين ويخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء وأن يوقع السامع من طلبه في خبط عشواء وربما طمس بكثرة ما يتكلفه على المعنى وأفسده كمن ثقل العروس بأصناف الحلى حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسها فإن أردت أن تعرف مثالا فيما ذكرت لك من أن العارفين بجواهر الكلام لا يعرجون على هذا الفن إلا بعد الثقه بسلامة المعنى وصحته وإلا حيث يأمنون جنايه منه عليه وانتقاصاً له وتعويقاً دونه فانظر إلى خطب الجاحظ في أوائل كتبه هذا والخطب من شأنها أن يعتمد فيها الأوزان والأسجاع فإنها تروى وتتناقل تناقل الأشعار ومحلها محل النسيب والتشبيب من الشعر الذي هو كأنه لا يراد منه
____________________
(1/6)
إلا الاحتفال في الصنعه والدلاله على مقدار شوط القريحه والأخبار عن فضل القوة والاقتدار على التفنن في الصفة قال في أول كتاب الحيوان
جنبك الله الشبهة وعصمك من الحيرة وجعل بينك وبين المعرفة سبباً وبين الصدق نسباً وحبب إليك التثبت وزين في عينك الإنصاف وأذاقك حلاوة التقوى وأشعر قلبك عز الحق وأودع صدرك برد اليقين وطرد عنك ذل اليأس وعرفك ما في الباطل من الزلة وما في الجهل من القلة
فقد ترك أولا أن يوفق بين الشبهة والحيرة في الإعراب ولم ير أن يقرن الخلاف إلى الإنصاف ويشفع الحق بالصدق ولم يعن بأن يطلب لليأس قرينة تصل جناحه وشيئاً يكون رديفاً له لأنه رأى التوفيق بين المعانى أحق والموازنه فيها أحسن ورأى العناية بها حتى تكون أخوه من أب وأم ويذرها على ذلك تتفق بالوداد على حسب اتفاقها بالميلاد أولى من ان يدعها لنصرة السجع وطلب الوزن أولاد علة عسى أن لا يوجد بينها وفاق إلا في الظواهر فأما أن يتعدى ذلك إلى الضمائر ويخلص إلى العقائد والسرائر ففي الأقل النادر وعلى الجملة فإنك لا تجد تجنيساً مقبولا ولا سجعاً حسناً حتى يكون المعنى هو الذى طلبه واستدعاه وساق نحوه وحتى تجده لا تبتغى به بدلا ولا تجد عنه حولا ومن ههنا كان أحلى تجنيس تسمعه وأعلاه وأحقه بالحسن واولاه ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلابه وتأهب لطلبه أو ما هو لحسن ملاءمته وإن كان مطلوباً بهذه المنزلة وفي هذه الصورة وذلك كما يمثلون به أبداً من قول
____________________
(1/7)
الشافعي رحمة الله تعالى وقد سئل عن النبيذ فقال أجمع أهل الحرمين على تحريمه ومما نجده كذلك قول البحتري
( يعشى عن المجد الغبي ولن ترى ** في سؤدد أربا لغير اريب )
وقوله
( فقد أصبحت أغلب تغليبا ** على أيدي العشيرة والقلوب )
ومما هو شبية به قوله
( وهوى هوى بدموعه فتبادرت ** نسفا يطأن تجلدا مغلوبا )
وقوله
( ما زلت تقرع باب بابل بالقنا ** وتزوره في غارة شعواء )
وقوله
( ذهب الاعالى حيث تذهب مقلة ** فيه بناظرها حديد الاسفل )
ومثال ما جاء من السجع هذا المجىء وجرى هذا المجرى في لين مقادته وحل
____________________
(1/8)
هذا المحل من القبول قول القائل اللهم هب لي حمدا وهب لي مجدا فلا مجد إلا بفعال ولا فعال إلا بمال وقول ابن العميد فإن الابقاء على خدم السلطان عدل الابقاء على ماله والاشفاق على حاشيته وحشمه عدل الاشفاق على ديناره ودرهمه
ولست تجد هذا الضرب يكثر في شىء ويستمر كثرته واستمراره في كلام القدماء كقول خالد ما الانسان لولا اللسان إلا صورة ممثله وبهيمه مهملة
وقول الفضل بن عيسى الرقاشى سل الارض فقل من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا وإن انت تتبعته من الاثر وكلام النبي تثق كل الثقه بوجودك له على الصفة التي قدمت وذلك كقول النبي الظلم ظلمات يوم القيامه وقوله لا تزال أمتي بخير ما لم تر الغنى مغنما والصدقة مغرما وقوله يا ايها الناس افشوا السلام واطعموا الطعام وصلوا الارحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام فأنت لا تجد في جميع ما ذكرت لفظا اجتلب من أجل السجع وترك له ما هو أحق بالمعنى منه وأبر به وأهدى إلى مذهبه ولذلك أنكر الأعرابي حين شكا إلى عامل الما بقوله حلات ركابي وشققت ثيابي وضربت صحابي فقال له العامل ويسجع أيضا إنكار العامل السجع حتى قال فكيف أقول وذاك انه لم يعلم أصلح لما أراد
____________________
(1/9)
من هذه الألفاظ ولم يره بالسجع مخلا بمعنى أو محدثا في الكلام استكراها أو خارجا إلى تكلف واستعمال لما ليس بمعتاد في غرضه وقال الجاحظ لانه لو قال حلات إبلى أو جمالي أو نوقى أو بعراني أو صرمتي لكان لم يعبر عن خفي معناه وإنما حلئت ركابه فكيف يدع الركاب إلى غير الركاب وكذلك قوله وشققت ثيابي وضربت صحابي
فقد نبين من هذة الجملة أن المعنى المقتضى اختصاص هذا النحو بالقبول هو ان المتكلم لم يقد المعنى نحو التجنيس والسجع بل قادة المعنى إليهما وعبر به الفرق عليهما حتى إنه لو رام تركهما إلى خلافهما مما لا تجنيس فيه ولا سجع لدخل من عقوق المعنى وإدخال الوحشة عليه في شبيه بما ينسب إليه المتكلف للتجنيس المستكره والسجع النافر
ولن تجد ايمن طائرا وأحسن أولا وأخرا وأهدى إلى الاحسان وأجلب للإستحسان من أن ترسل المعاني على سجيتها وتدعها تطلب لانفسها الالفاظ
فانها إذا تركت وما تريد لم تكنس إلا ما يليق بها ولم تلبس من المعارض إلا ما يزينها فأما أن تضع في نفسك أنه لا بد من أن تجنس او تسجع بلفظين مخصوصين فهو الذي انت منه بعرض الاستكراه وعلى خطر من الخطأ والوقوع في الذم فإن ساعدك الجد كما ساعد في قوله أودعاني امت بما اودعاني وكما ساعد أبا تمام في نحو قوله
( وأنجدتم من بعد إتهام داركم ** فيا دمع أنجدني على ساكني نجد )
____________________
(1/10)
وقوله
( هن الحمام فإن كسرت عيافة ** من حائهن فإنهن حمام )
فذاك وإلا أطلقت ألسنة العيب وافضى بك طلب الاحسان من حيث لم يحسن الطلب إلى أفحش الاساءه وأكبر الذنب ووقعت فيما ترى من ينصرك لا يرى أحسن من أن لا يرويه لك ويود لو قدر على نفيه عنك وذلك كما تجده لأبي تمام إذ أسلم نفسه للتكلف ويرى انه إن مر على اسم موضع يحتاج إلى ذكره أو يتصل بقصة يذكرها في شعره من دون ان يشتق منه تجنيسا أو يعمل فيه بديعا فقد باء بإثم وأخل بفرض حتم من نحو قوله
( سيف الأنام الذي سمته هيبته ** لما تخرم أهل الارض مخترما )
( إن الخليفة لما صال كنت له ** حليفة الموت فيمن جار أو ظلما )
( قرت بقران عين الدين واشتترت ** بالأشترين عيون الشرك فاصطلما )
وكقول بعض المتأخرين
( البس جلابيب القناعة ** إنها أوقى رداء )
( ينجيك من داء الحريص ** معاً ومن أوقار داء )
____________________
(1/11)
وكقول أبي الفتح البستي
( جفوا فما في طينهم للذي ** يعصره من بلة بالله )
وقوله
( أخ لي لفظه در ** وكل فعاله بر )
( تلقاني فحياني ** بوجه بشره بشر )
لم يساعدهما حسن التوفيق كما ساعد في نحو قوله
( وكل غنىً يتيه به غنى ** فمرتجع بموت أو زوال )
( وهب جدى طوى لى الأرض طراً ** أليس الموت يزوى ما زوى لى )
ونحوه
( منزلتى تحفظ من ذلتي ** وباحتي تكرم ديباجتي )
وأعلم أن النكته التى ذكرتها في التجنيس وجعلتها العلة في استيجابه الفضيله وهي حسن الإفادة مع ان الصورة صورة التكرير والإعادة وإن كانت لا تظهر الظهور التام الذي لا يمكن دفعه إلا في المستوفي المتفق الصورة منه كقوله
( ما مات من كرم الزمان فإنه ** يحيا لدى يحيى بن عبد الله )
أو المرفوَ الجاري هذا المجرى كقوله
( اودعاني أمت بما أودعاني ** ) فقد يتصور في غير ذلك من أقسامه أيضاً فمما يظهر ذاك فيه ما كان نحو قول ابي تمام
____________________
(1/12)
( يمدون من ايد عواص عواصم ** تصول بأسياف قواض قواضب )
وقول البحتري
( لئن صدفت عنا فرُبَتَ أنفسٍ ** صوادٍ إلى تلك الوجوه الصوادف )
وذلك انك تتوهم قبل ان يرد عليك آخر الكلمة كالميم من عواصم والباء من قواضب أنها هي التي مضت وقد أرادت أن تجيئك ثانية وتعود إليك مؤكدة حتى إذا تمكن في نفسك تمامها ووعى سمعك آخرها انصرفت عن ظنك الأول وزلت عن الذي سبق من التخيل وفي ذلك ما ذكرت لك من طلوع الفائدة بعد أن يخالطك اليأس منها وحصول الربح بعد أن تغالط فيه حتى ترى أنه رأس المال
فاما ما يقع التجالس فيه على العكس من هذا وذلك أن تختلف الكلمات من أولها كقول البحترى
( بسيوف إيماضها أوجال ** للأعادي ووقعها آجال )
وكذا قول المتأحر
( وكم سبقت منه إلىَ عوارف ** ثنائى من تلك العوارف وارف )
( وكم غٌ رر من بره ولطائف ** لشكرى على تلك اللطائف طائف )
وذلك أن زيادة عوارف على وارف بحرف اختلاف من مبدأ الكلمة في الجملة فانه لا يبعد كل البعد عن اعتراض طرف من هذا التخيل فيه وإن كان لا يقوى تلك القوة كانك ترى ان اللفظة اعيدت عليك مبدلاً
____________________
(1/13)
من بعض حروفها غيره او محذوفها منها ويبقى في تتبع هذا الموضع كلام حقه غير هذا الفصل وذلك حيث يوضع فصل في قسمة التجنيس وتنويعه
فالذي يجب عليه الاعتماد في هذا الفن أن التوهم على ضر بين ضرب يستحكم حتى يبلغ ان يصير اعتقاداً وضرب لا يبلغ ذلك المبلغ ولكنه شىء يجري في الخاطر وانت تعرف ذلك وتتصور وزنه إذا نظرت إلى الفرق بين الشيئين يشتبهان الشبه التام والشيئين يشبه احدهما بالآخر على ضرب من التقريب فاعرفه
وأما الحشو فإنما كره وذم وأنكر ورد لأنه خلا من الفائدة ولم يحل منه بعائدة ولو أفاد لم يكن حشواً ولم يدع لغواً وقد تراه مع إطلاق هذا الإسم عليه واقعاً من القبول أحسن موقع ومدركا من الرضى أجزل حظ ذاك لإفادته إياك على مجيئه مجىء ما لا يعول في الإفادة عليه ولا طائل للسامع لديه فيكون مثله مثل الحسنة تأتيك من حيث لم ترقبها والنافعة أتتك ولم تحتسبها وربما رزق الطفيلي ظرفاً يحظى به حتى يحل محل الأضياف الذين وقع الاحتشاد لهم والأحباب الذين وثق بالأنس منهم وبهم
واما التطبيق والاستعارة وسائر أقسام البديع فلا شبهة أن الحسن
____________________
(1/14)
والقبح لا يعترض الكلام بهما إلا من جهة المعاني خاصة من غير أن يكون للالفاظ في ذلك نصيب أو يكون لها في التحسين أو خلاف التحسين تصعيد وتصويب
أما الاستعارة فهي ضرب من التشبيه ونمط من التمثيل والتشبيه قياس والقياس يجري فيما تعيه القلوب وتدركه العقول وتستفتى فيه الأفهام والأذهان لا الأسماع والآذان
وأما التطبيق فأمره أبين وكونه معنوياً أجلى وأظهر فهو مقابلة الشىء بضده والتضاد بين الألفاظ المركبة محال وليس لأحكام المقابلة ثم مجال فخذ إليك الآن بيت الفرزدق الذي يضرب به المثل في تعسف اللفظ
( وما مثله في الناس إلا مملكا ** أبو أمه حيُ أبوه يقاربه )
فانظر أتتصور أن يكون ذلك للفظه من حيث أنك أنكرت شيئا من حروفه أو صادفت وحشياً غريباً أو سوقياً ضعيفاً ام ليس إلا لأنه لم يرتب الألفاظ في الذكر على موجب ترتيب المعاني في الفكر فكد وكدر ومنع السامع أن يفهم الغرض إلا بأن يقدم ويؤخر ثم أسرف في إبطال النظام وإبعاد المرام وصار كمن رمى بأجزاء تتألف منها صورة ولكن بعد ان يراجع فيها باباً من الهندسة لفرط ما عادى بين اشكالها وشدة ما خالف بين أوضاعها
وإذا وجدت ذلك امراٍ بيناً لايعارضك فيه شك ولا يملكك معه امتراء فانظر إلى الأشعار التى اثنوا عليها من جهة الالفاظ ووصفوها بالسلاسة ونسبوها إلى الدماثة وقالوا كأنها الماء جرياناً والهواء لطفاً
____________________
(1/15)
والرياض حسناً وكأنها النسيم وكأنها الرحيق مزاجها التسنيم وكأنها الديباج الخسرواني في مرامي الأبصار ووشى اليمن منشوراً على أذرع التجار كقوله
( ولما قضينا من منىً كل حاجة ** ومسح بالأركان من هو ماسح )
( وشدت على دهم المهارى رحالنا ** ولم ينظر الغادي الذي هو رائح )
( أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ** وسالت بأعناق المطى الأباطح )
ثم راجع فكرتك واشحذ بصيرتك وأحسن التأمل ودع عنك التجوز في الرأي ثم أنظر هل تجد لاستحسانهم وحمدهم وثنائهم ومدحهم منصرفاً إلا إلى استعارة وقعت موقعها وأصابت غرضها أو حسن ترتيب تكامل معه البيان حتى وصل المعنى إلى القلب مع وصول اللفظ إلى السمع واستقر في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن وإلا إلى سلامة الكلام من الحشو غير المفيد والفضل الذي هو كالزيادة في التحديد وشىء داخل المعاني المقصودة مداخلة الطفيلي الذي يستثقل مكانه والأجنبي الذي يكره حضوره وسلامته من التقصير الذي يفتقر معه السامع إلى تطلب زيادة بقيت في نفس المتكلم فلم يدل عليها بلفظها الخاص بها واعتمد دليل حال غير مفصح أو نيابة مذكور ليس لتلك النيابة بمستصلح وذلك أن أول ما يتلقاك من محاسن هذا الشعر أنه قال
( ولما قضينا من منى كل حاجة ** ) فعبر عن قضاء المناسك بأجمعها والخروج من فروضها وسننها من طريق أمكنة أن يقصر معه اللفظ وهو طريقة العموم ثم نبه بقوله
( ومسح بالأركان من ** )
____________________
(1/16)
هو ماسح ** ) على طواف الوداع الذي هو آخر الأمر ودليل المسير الذي هو مقصوده من الشعر ثم قال
( أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ** ) فوصل بذكر مسح الأركان ما وليه من زم الركاب وركوب الركبان ثم دل بلفظه الأطراف على الصفة التي يختص بها الرفاق في السفر من التصرف في فنون القول وشجون الحديث أو ما هو عادة المتطرفين من الإشارة والتلويح والرمز والإيماء وأنبأ بذلك عن طيب النفوس وقوة النشاط وفضل الاغتباط كما توجبه ألفة الأصحاب وأنسة الأحباب وكما يليق بحال من وفق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حسن الإياب وتنسم روائح الأحبة والأوطان واستماع التهاني والتحايا من الخلان والإخوان ثم زان ذلك كله بإستعارة لطيفة طبق فيها مفصل التشبيه وأفاد كثيراً من الفوائد بلطف الوحى والتنبيه فصرح أولا بما أومأ إليه في الأخذ بأطراف الأحاديث من انهم تنازعوا أحاديثهم على ظهور الرواحل وفي حال التوجه إلى المنازل وأخبر بعد بسرعة السير ووطاءة الظهرإذ جعل سلاسة سيرها بهم كالماء تسيل به الأباطح وكان في ذلك ما يؤكد ما قبله لأن الظهور إذا كانت وطيئة وكان سيرها السير السهل السريع زاد ذلك في نشاط الركبان ومع ازدياد النشاط يزداد الحديث طيباً ثم قال بأعناق المطى ولم يقل بالمطي لأن السرعة والبطء يظهران غالباً في أعناقها ويبين أمرهما من هواديها وصدورها وسائر أجزائها تستند إليها في الحركة وتتبعها في الثقل والخفة ويعبر عن المرح والنشاط إذا كانا في أنفسها بأفاعيل لها خاصة في العنق والرأس ويدل عليهما بشمائل مخصوصة في المقاديم فقل الآن هل بقيت عليك حسنة تحيل فيها على لفظة من ألفاظها حتى إن فضل الحسنة يبقي لتلك اللفظة ولو ذكرت على الإنفراد
____________________
(1/17)
وأزيلت عن موقعها من نظم الشاعر ونسجه وتأليفه وترصيفه وحتى تكون في ذلك كالجوهرة التي هي وإن ازدادت حسناً بمصاحبة أخواتها واكتست رونقاً بمضامة أترابها فإنها إذا جليت للعين فردة وتركت في الخيط فذة لم تعدم الفضيلة الذاتية والبهجة التي في ذاتها مطوية والشذرة من الذهب تراها بصحبة الجواهر لها في القلادة واكتنافها لها في عنق الغادة وصلتها بريق حمرتها والتهاب جوهرها بانوار تلك الدور التي تجاورها ولألاء اللآلىء التي تناظرها تزداد جمالا في العين ولطف موقع من حقيقة الزين ثم هي إن حرمت صحبة تلك العقائل وفرق الدهر الخثون بينها وبين هاتيك النفائس لم تعر من بهجتها الأصلية ولم تذهب عنها فضيلة الذهبية ليس هذا بقياس الشعر الموصوف بحسن اللفظ وإن كان لا يبعد أن يتخيله من لا ينعم النظر ولا يتم التدبر بل حق هذا المثل أن يوضع في نصرة بعض المعاني الحكمية والتشبيهية بعضاً وازدياد الحسن منها بأن يجامع شكل منها شكلا وأن يصل الذكر بين متدانيات في ولادة العقول إياها ومتجاورات في تنزيل الأفهام لها
وأعلم أن هذا الفصول التي قدمتها وإن كانت قصاياً لا يكاد يخالف فيها من به طرق فإنه قد يذكر الأمر المتفق عليه ليبنى عليه المختلف فيه هذا ورب وفاق من موافق قد بقيت عليه زيادات أغفل النظر فيها وضروب من التلخيص والتهذيب لم يبحث عن أوائلها وثوانيها وطريقة
____________________
(1/18)
في العبارة عن المغزى في تلك الموافقة لم يمهدها ودقيقة في الكشف عن الحجة على مخالف لو عرض من المتكلفين لم يجدها حتى تراه يطلق في عرض كلامه ما برز منه وفاقاً في معرض خلاف ويعطيك إنكاراً وقد هم باعتراف ورب صديق والاك قلبه وعاداك فعله فتركك مكدوداً لا تشتفي من دائك بعلاج وتبقى منه في سوء مزاج المقصد
وأعلم أن غرضي في هذا الكلام الذي أبتدأته والأساس الذي وضعته أن أتوصل إلى بيان أمر المعاني كيف تتفق وتختلف ومن أين تجتمع وتفترق وأفصل أجناسها وأنواعها وأتتبع خاصها ومشاعها وأبين أحوالها في كرم منصبها من العقل وتمكنها في نصابه و قرب رحمها منه أو بعدها حين تنسب عنه وكونها كالحليف الجاري مجرى النسب أو الزنيم الملصق بالقوم لا يقبلونه ولا يمتعضون له ولا يذبون دونه وإن من الكلام ما هو كما هو شريف في جوهرة كالذهب الأبريز الذي تختلف عليه الصور وتتعاقب عليه الصناعات وجل المعول في شرفه على ذاته وإن كان التصوير قد يزيد في قيمته ويرفع في قدره ومنه ما هو كالمصنوعات العجيبة من مواد غير شريفه فلها ما دامت الصورة محفوظة عليها لم تنتقض وأثر الصنعة باقياً معها لم يبطل قيمة تغلوا ومنزلة تعلوا
____________________
(1/19)
وللرغبة إليها انصباب وللنفوس بها إعجاب حتى إذا خانت الأيام فيها أصحابها وضامت الحادثات أربابها وفجعتهم فيها بما يسلب حسنها المكتسب بالصنعة وجمالها المستفاد من طريق العرض فلم يبق إلا المادة العارية من التصوير والطينة الخالية من التشكيل سقطت قيمتها وانحطت رتبتها وعادت الرغبات التي كانت فيها زهداً وأوسعتها عيون كانت تطمح إليها إعراضاً دونها وصداً وصارت كمن أحظاه الجد بغير فضل كان يرجع إليه في نفسه وقدمه البخت من غير معنى يقضى بتقدمه ثم أفاق فيه الدهر عن رقدته وتنبه لغلطته فأعاده إلى دقة أصله وقلة فضله وهذا غرض لا ينال على وجهه وطلبة لا تدرك كما ينبغي إلا بعد مقدمات تقدم وأصول تمهد وأشياء هي كالأدوات فيه حقها أن تجمع وضروب من القول هي كالمسافات دونه يجب أن يسار فيها بالفكر وتقطع
وأول ذلك وأولاه وأحقه بأن يستوفيه النظر ويتقصاه القول على التشبيه والتمثيل والاستعارة فإن هذه أصول كثيرة كان جل محاسن الكلام إن لم نقل كلها متفرعة عنها وراجعة إليها وكأنها أقطاب تدور عليها المعاني في متصرفاتها وأقطار تحيط بها من جهاتها ولا مثل قولهم الفكرة فخ العمل وقوله
( وعرى أفراس الصبا ورواحله ** ) وقوله السفر ميزان القوم وقول الأعرابي
( كانوا إذا اصطفوا سفرت بينهم السهام ** وإذا تصافحوا بالسيوف قفز الحمام ) والتمثيل كقوله
( فانك كالليل الذي هو مدركي ** ) ويؤتى بأمثلة إذا حقق النظر في الأشياء يجمعها الاسم الأعم وينفرد كل منها بخاصةٍ من لم يقف عليها كان قصير الهمة في طلب
____________________
(1/20)
الحقائق ضعيف المنة في البحث عن الدقائق قليل التوق إلى معرفة اللطائف يرضى بالجمل والظواهر ويرى أن لا يطيل سفر الخاطر ولعمري إن ذلك أروح للنفس وأقل للشغل إلا أن من طلب الراحة ما يعقب تعباً ومن اختيار ما تقل معه الكلفة ما يفضي إلى أشد الكلفة وذلك أن الأمور التي تلتقي عند الجملة وتتباين لدى التفصيل وتجتمع في وحدة ثم يذهب بها التشعب ويقسمها قبيلا بعد قبيل إذا لم تعرف حقيقة الحال في تلاقيها حيث التقت وافتراقها حيث افترقت كان قياس من يحكم فيها إذا توسط الأمر قياس من أراد الحكم بين رجلين في شرفهما وكرم أصلهما وذهاب عرقهما في الفضل ليعلم أيهما اقعد في السؤدد وأحق بالفخر وأرسخ في أرومة المجد وهو لا يعرف من نسبتهما أكثر من ولادة الأب الأعلى والجد الأكبر لجواز أن يكون واحد منهما قرشياً أو تميمياً فيكون في العجز عن أن يبرم قضية في معناهما ويبين فضلا أو نقصاً في منتماها في حكم من لا يعلم أكثر من أن كل واحد منهما آدمي ذكر أو خلق مصور
واعلم أن الذي يوجبه ظاهر الأمر وما يسبق إليه الفكر أن نبدأ بجملة من القول في الحقيقة والمجاز ونتبع ذلك القول في التشبيه والتمثيل ثم ننسق ذكر الاستعارة عليهما ونأتي بها في أثرهما وذلك أن المجاز
____________________
(1/21)
أعم من الاستعارة والواجب في قضايا المراتب أن نبدأ بالعام قبل الخاص والتشبيه كالأصل في الاستعارة وهي شبيه بالفرع له أو صورة مقتضية من صوره إلا أن ههنا أموراً اقتضت أن تقع البداية بالاستعارة وبيان صدر منها والتنبيه على طريق الانقسام فيها حتى إذا عرف بعض ما يكشف عن حالها ويقف على سعة مجالها عطف عنان الشرح إلى الفصلين الآخرين فوفي حقوقهما وبين فروقهما ثم ننصرف إلى استقصاء القول في الاستعارة تعريف الاستعارة
اعلم أن الاستعارة في الجملة أن يكون لفظ الأصل في الوضع اللغوي معروفاً تدل الشواهد على أنه اختص به حين وضع ثم يستعمله الشاعر أو غير الشاعر في غير ذلك الأصل وينقله إليه نقلا غير لازم فيكون هناك كالعارية تقسيم الاستعارة
ثم إنها تنقسم أولا قسمين أحدهما أن لا يكون لنقله فائدة والثاني أن يكون له فائدة
وأنا أبدأ بذكر غير المفيد فإنه قصير الباع قليل الانساع ثم أتكلم على المفيد الذي هو المقصود وموضع هذا الذي لا يفيد نقله حيث يكون اختصاص الاسم بما وضع له من طريق أريد به التوسع في أوضاع اللغة والتنوق في
____________________
(1/22)
مراعاة دقائق في الفروق في المعاني المدلول عليها كوضعهم للعضو الواحد أسامي كثيرة بحسب اختلاف أجناس الحيوان نحو وضع الشفة للإنسان والمشفر للبعير والجحفلة للفرس وما شاكل ذلك من فروق ربما وجدت في غير لغة العرب وربما لم توجد فإذا استعمل الشاعر شيئاً منها في غير الجنس الذي وضع له فقد استعاره منه ونقله عن أصله وجاز به موضعه كقول العجاج وفاحماً ومر سناً مسرجاً يعنى أنفاً برق كالسراج والمرسن في الأصل للحيوان لأنه الموضع الذي يقع عليه الرسن وقال الآخر يصف إبلاً
( تسمع للماء كصوت المسحل ** بين وريدها وبين الجحفل )
وقال آخر والحشو من حفانها كالحنظل فأجرى الحفان على صغار الإبل وهو موضوع لصغار النعام وقال أخر
( فبتنا جلوساً لدى مهرنا ** ننزع من شفتيه الصفارا )
فاستعمل الشفة في الفرس وهي موضوعة للإنسان فهذا ونحوه لا يفيدك شيئاً لو لزمت الأصلي لم يحصل لك فلا فرق من جهة المعنى بين قوله من شفتيه وقوله من جحفلتيه لو قاله إنما يعطيك كلا الاسمين العضو المعلوم فحسب بل الاستعارة ههنا بأن تنقصك جزءاً من الفائدة أشبه وذلك أن الاسم في هذا النحو إذا نفيت عن نفسك دخول الاشتراك عليه بالاستعارة دل
____________________
(1/23)
ذكره على العضو وما هو منه فإذا قلت الشفة دلت على الإنسان أعنى تدل على أنك قصدت هذا العضو من الإنسان دون غيره فإذا توهمت جرى الاستعارة في الاسم زالت عنها هذه الدلالة بانقلاب اختصاصها إلى الاشتراك فإذا قلت الشفة في موضع قد جرى فيه ذكر الإنسان والفرس دخل على السامع بعض الشبهة لتجويزه أن تكون استعرت الاسم للفرس ولو فرضنا أن تعدم هذه الاستعارة من أصلها وتحظر لما كان لهذه الشبه طريق على المخاطب فاعرفه
وأما المفيد فقد بان لك باستعارته فائدة ومعنى من المعاني وغرض من الأغراض لولا مكان تلك الاستعارة لم يحصل لك وجملة تلك الفائدة وذلك الغرض التشبيه إلا أن طرقه تختلف حتى تفوت النهاية ومذاهبه تتشعب حتى لا غاية ولا يمكن الانفصال منه إلا بفصول جمة وقسمة بعد قسمة وأنا أرى أن اقتصر الآن على إشارة تعرف صورته على الجملة بقدر ما تراه وقد قابل خلافه الذي هو غير المفيد فيتم تصورك للغرض والمراد فإن الأشياء تزداد بياناً بالأضداد ومثاله قولنا رأيت أسداً وأنت تعنى رجلا شجاعاً وبحراً تريد رجلا جواداً وبدراً وشمسا تريد إنساناً مضيء الوجه متهللا وسللت سيفاً على العدو تريد رجلا ماضياً في نصرتك أو رأياً نافذاً وما شاكل ذلك فقد استعرت اسم الأسد للرجل ومعلوم أنك أفدت بهذه الاستعارة ما لولاها لم يحصل لك وهو المبالغة في وصف المقصود بالشجاعة وإيقاعك منه في نفس السامع صورة الأسد في بطشه وإقدامه وبأسه
____________________
(1/24)
وشدته وسائر المعاني المركوزة في طبيعته مما يعود إلى الجراة وهكذا أفدت باستعارة البحر سعته في الجود وفيض الكف وبالشمس والبدر ما لهما من الجمال والبهاء والحسن المالىء للعيون والباهر للنواظر
وإذ قد عرفت المثال في كون الاستعارة مفيدة على الجملة وتبين لك مخالفة هذا الضرب للضرب الأول الذي هو غير المفيد فإني اذكر بقية قول مما يتعلق به أعنى بغير المفيد ثم اعطف على أقسام المفيد وأنواعه وما يتصل به ويدخل في جملة من فنون القول بتوفيق الله عز وجل وأساله عز اسمه المعونة وأبرأ إليه من الحول والقوة وارغب إليه في أن يجعل كل ما ينصرف فيه منصرفا إلى ما يتصل برضاه ومصروفا عما يؤدي إلى سخطه
اعلم أنه إذا ثبت أن اختصاص المرسن بغير الآدمي لا يفيد أكثر مما يفيده الأنف في الآدمي وهو فصل هذا العضو من غيره ولم يكن باستعارته للآدمي مفيدا ما لا يفيد بالأنف لم يتصور أن يكون استعارة من جهة المعنى وإذا كان مدار أمره على اللفظ لم يتصور أن يكون في غير لغة العرب بلى إن وجد في لغة الفرس مراعاة نحو هذه الفروق ثم نقلوا الشيء من الجنس المخصوص به إلى جنس آخر كانوا قد سلكوا في لغتهم مسلك العرب في لغتها وليس كذلك المفيد فإن الكثير منه تراه في عداد ما يشترك فيه أجيال الناس ويجرى به العرف في جميع اللغات فقولك رأيت أسدا تريد وصف رجل بالشجاعة وتشبيهه بالأسد على المبالغة أمر يستوي فيه العربي والعجمي وتجده في كل جيل وتسمعه
____________________
(1/25)
من كل قبيل كما أن قولنا زيد كالأسد على التصريح بالتشبيه كذلك فلا يمكن أن يدعى أننا إذا استعملنا هذا النحو من الاستعارة فقد عمدنا إلى طريقة في المعقولات لا يعرفها غير العرب أو لم تتفق لمن سواهم لأن ذلك بمنزلة أن تقول إن تركيب الكلام من الاسمين أو من الاسم والفعل يختص بلغة العرب وإن الحقائق التي تذكر في أقسام الخبر ونحوه مما لا نعقله إلا من لغة العرب وذلك مما لا يخفي فساده
فإذا ذكر المجاز وأريد أن يعد هذا النحو من الاستعارة فيه فالوجه أن يضاف إلى العقلاء جملة ولا تستعمل لفظة توهم أنه من عرف هذه اللغة وطرقها الخاصة بها كما تقول مثلا فيما يختص باللغة العربية من الأحكام نحو الإعراب بالحركات والصرف ومنع الصرف ووضع المصدر مثلا موضع اسم الفاعل نحو رجل صوم وضيف وجمع الاسم على ضروب نحو جمع السلامة والتكسير وجمع الجمع وإعطاء الاسم الواحد في التكسير عدة أمثلة نحو فرخ وأفرخ وفراخ وفروخ وكالفرق بين المذكر والمؤنث في الخطاب وجملة الضمائر وما شاكل ذلك ولإغفال هذا الموضع والتجوز في العبارة عنه دخل الغلط على من جعل الشيء من هذا الباب سرقة وأخذا حتى نعى عليه وبين أنه من المعاني العامية والأمور المشتركة التي لا فضل فيها للعربي على العجمي ولا اختصاص له بجيل دون جيل على ما ترى القول فيه إن شاء الله تعالى في موضعه وهو تعالى ولى المن بالتوفيق له بفضله وجوده
ولو أن مترجما ترجم قوله وإلا النعام وحفانه ففسر الحفان باللفظ المشترك الذي هو كالأولاد والصغار لأنه لا يجد في اللغة التي بها يترجم
____________________
(1/26)
لفظاً خاصاً لكان مصيباً ومؤدياً للكلام كما هو ولو انه ترجم قولنا رأيت أسداً يريد رجلا شجاعا فذكر ما معناه معنى قولك شجاعا شديداً وترك أن يذكر الاسم الخاص في تلك اللغة بالأسد على هذه الصورة لم يكن مترجما للكلام بل كان مستأنفا من عند نفسه كلاما وهذا باب من الاعتبار يحتاج إليه فحقه أن يحفظ وعسى أن يجىء له زيادة بسط فيما يستقبل
فاعلم انك قد تجد الشيء يخلط بالضرب الأول الذي هو استعارة من طريق اللفظ ويعد في قبيله وهو إذا حققت ناظر إلى الضرب الآخر فهو مستعار من جهة المعنى وجار في سبيله فمن ذلك قولهم إنه لغليظ الجحافل وغليظ المشافر وذلك أنه كلام يصدر عنهم في مواضع الذم فصار بمنزلة أن يقال كأن شفته في الغلظ مشفر البعير وجحفة الفرس وعلى ذلك قول الفرزدق
( فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ** ولكن زنجيا غليظ المشافر )
فهذا يتضمن معنى قولك ولكن زنجيا كأنه جمل لا يعرفني ولا يهتدي لشرفي وهكذا ينبغي أن يكون القول في قولهم أنشب فيه مخالبه لأن المعنى على أن يجعل له في التعلق بالشيء والاستيلاء عليه حالة كحاله الأسد مع فريسته والبازي مع صيده وكذا قول الحطيئة
( قروا جارك العيمان لما جفوته ** وقلص عن برد الشراب مشافره )
حقة إذا حققت أن يكون في القبيل المعنوي وذلك أنه وإن كان عنى نفسه بالجار فقد يجوز أن يقصد إلى وصف نفسه بنوع من سوء
____________________
(1/27)
الحال ويعطيها صفة من صفات النقص ليزيد بذلك في التهكم بالزبرقان ويؤكد ما قصده من رميه بإضاعة الضيف واطراحه وإسلامه للضر والبؤس ولبس ببعيد من هذه الطريقة من ابتدأ شعرا في ذم نفسه ولم يرض في نفسه ولم يرض في وصف وجهه بالتقبيح والتشويه إلا بالتصريح الصريح دون الإشارة والتنبيه
وأما قول مزرد
( فما رقد الولدان حتى رأيته ** على المكر يمريه بساق وحافر )
فقد قالوا إنه أراد أن يقول بساق وقدم فلما لم تطاوعه القافية وضع الحافر موضع القدم وهو وإن كان قد قال بعد هذا البيت ما يدل على قصده أن يحسن القول في الضيف وتباعده من أن يكون قصد الزراية عليه أو يحول حول الهزء به والاحتقار له وذلك قوله
( فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا ** بهذا المحيا من محي وزائر )
فليس بالبعيد أن يكون فيه شوب مما مضى وان يكون الذي أفضى به إلى ذكر الحافر قصده أن يصفه بسوء الحال في مسيره وتقاذف نواحي الأرض به وان يبالغ في ذكره بشدة الحرص على تحريك بكرة واستفراغ مجهوده في نفسه ويؤنس بذلك أن تنظر إلى قوله قبل
____________________
(1/28)
( وأشعث مسترخي العلابي طوحت ** به الأرض من باد عريض وحاضر )
( فابصر ناري وهي شقراء أوقدت ** بعلياء نشز للعيون النواظر )
وبعده فما رقد الولدان فإذا جعله أشعث مسترخي العلابي فقد قربت المسافة بينه وبين أن يجعل قدمه حافرا ليعطيه من الصلابة وشده الوقع على جنب البكر حظا وافرا وهكذا قول الآخر
( سأمنعها وسوف اجعل أمرها ** إلى ملك أظلافه لم تشقق )
هو في حد التشبيه والاستعارة لأن المعنى على أن الأظلاف لمن تزيى بالملك عن مشابهة كأنه قال اجعل أمرها إلى ملك لا إلى عبد جاف متشقق الأظلاف ويدل على ذلك أن أبا بكر بن دريد قال في أول الباب الذي وضعه للاستعارة يقولون للرجل إذا عابوه جاءنا حافيا متشقق الأظلاف ثم انشد البيت فإذا كان من شروط هذه الاستعارة أن يؤتى بها في موضع العيب والنقص فلا شك في أنها معنوية وكذا قوله
( وذات هدم عار نواشرها ** تصمت بالماء تولبا جدعا )
فأجرى التولب على ولد المرأة وهو لولد الحمار في الأصل وذلك لأنه يصف حال ضر وبؤس ويذكر أمراه بائسة فقيرة والعادة في مثل ذلك الصفة بأوصاف البهائم ليكون ابلغ في سوء الحالة وشدة الاختلال ومثله سواء قول الآخر
____________________
(1/29)
( وذكرت أهلي بالعراق ** وحاجة الشعث التوالب )
كأنه قال الشعث التي لو رأيتها حسبتها توالب لما بها من الغبرة وبذاذة الهيئة والجدع في البيت بالدال غير معجمة حكى شيخنا رحمه الله قال انشد المفضل تصمت بالماء تولبا جذعا بالذال المعجمة فأنكره الأصمعي وقال إنما هو تصمت بالماء تولبا جدعا وهو السيء الغذاء قال فجعل المفضل يصيح فقال الأصمعي لو نفخت في الشبور ما نفعك تكلم بكلام الحكل واصب
وأما قول الأعرابي كيف الطلا وأمه فمن جنس المفيد أيضا لأنه أشار إلى شيء من تشبيه المولود بولد الظبي ألا تراه قال بعد أن انصرف عن السخط إلى الرضي وبعد أن سكن عنه فورة الجوع الذي دعاه إلى أن قال ما أصنع به آكله أم أشربه حتى قالت المرأة غرثان فار بكوا له وأما قوله
____________________
(1/30)
( إذا اصبح الديك يدعو بعض أسرته ** عند الصباح وهم قوم معازيل )
فاستعارة القوم ههنا وإن كانت في الظاهر لا تفيد اكثر من معنى الجمع فإنها مفيدة من حيث أراد أن يعطيها شبهاً مما يعقل على أن هذا إذا حققنا في غير ما نحن فيه وبصدده في هذا الفصل وذلك انه لم يجتلب الاسم المخصوص بالآدميين حتى قدم تتزيلها منزلتهم فقال هم فأتى بضمير من يعقل وإذا كان الأمر كذلك كان القوم جارياً مجرى الحقيقة ونظيره أنك تقول أين الأسود الضارية وأنت تعنى قوماً من الشجعان فيلزم في الصفة حكم ما لا يعقل فتقول الضارية ولا تقول الضارون البتة لأنك وضعت كلامك على انك كأنك تحدث عن الأسود في الحقيقة وعلى هذه الطريقة ينبغي أن يجرى بيت المتنبي
( زحل على أن الكواكب قومه ** لو كان منك لكان أكرم معشراً )
وإن لم يكن معنا اسم آخر سابق يثبت حكم ما يعقل للكواكب كالضمير في قوله هم قوم وذلك أن ما يفصح به الحال من قصده أن يدعى للكواكب هذه المنزلة يجرى مجرى التصريح بذلك ألا ترى انه لا يتضح وجه المدح فيه إلا بدعوى أحوال الآدميين ومعارفهم للكواكب لأنه يفاضل بينه وبينها في الأوصاف العقلية بدلالة قوله لكان اكرم معشراً ولن يتحصل ثبوت وصف شريف معقول لها ولا الكرم على الوجه الذي يتعارف في الناس حتى تجعل كأنها تعقل وتميز ولو كانت المفاضلة في النور والبهاء وعلو المحل ومشاكل
____________________
(1/31)
ذلك لكان لا يلزم حينئذ ما ذكرت وحق القول في هذا القبيل أعنى ما يدعى فيه لما لا يعقل العقل فصل يفرد به ولعله يجىء في موضعه بمشيئة الله وتوفيقه القول في الأستعاره المفيدة
اعلم أن الاستعارة في الحقيقة هي هذا الضرب دون الأول وهى أمد ميداناً وأشد افتناناً وأكثر جرياناً وأعجب حسناً وإحساناً وأوسع سعة وأبعد غوراً وأذهب نجداً في الصناعة وغوراً من أن تجمع شعبها وشعوبها وتحصر فنونها وضروبها نعم وأسحر سحراً وأملأ بكل ما يملأ صدراً ويمتع عقلا ويؤنس نفساً ويوفر انساً وأهدى إلى أن تهدى إليك عذارى قد تخير لها الجمال وعنى بها الكمال وأن تخرج لك من بحرها جواهر إن باهتها الجواهر مدت في الشرف والفصيلة باعاً لا يقصر وأبدت من الأوصاف الجليلة محاسن لا تنكر وردت تلك بصفرة الخجل ووكلتها إلى نسبتها من الحجر وأن تثير من معدتها تبراً لم ترى مثله ثم تصوغ فيها صياغات تعطل الحلى وتريك الحلى الحقيقي وان تأتيك على الجملة بعقائل يأنس إليها الدين والدنيا وشرائف لها من الشرف الرتبة العليا وهى أجل من أن تأتى الصفة على حقيقة حالها وتستوفي جملة جمالها
ومن الفضيلة الجامعة فيها أنها تبرز هذا البيان أبداً في صورة مستجدة
____________________
(1/32)
تزيد قدره نبلا وتوجب له بعد الفضل فضلا وإنك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت فيها فوائد حتى تراها مكررة في مواضع ولها في كل واحد من تلك المواضع شأن مفرد وشرف منفرد وفضيلة مرموقة وخلابة مرموقة ومن خصائصها التي تذكر بها وهى عنوان مناقبها أنها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة من الدرر وتجنى من الغصن الواحد أنواعا من الثمر وإذا تأملت أقسام الصنعة التي بها يكون الكلام في حد البلاغة ومعها يستحق وصف البراعة وجدتها تفتقر إلى أن تعيرها حلاها وتقصر عن أن تنازعها مداها وصادفتها نجوماً هي بدرها وروضا هي زهرها وعرائس ما لم تعرها حليها فهي عواطل وكواعب ما لم تحسنها فليس لها في الحسن حظ كامل فإنك لترى بها الجماد حيا ناطقا والأعجم فصيحا والأجسام الخرس مبينة والمعاني الخفية بادية جلية وإذا نظرت في أمر المقاييس وجدتها ولا ناصر لها أعز منها ولا رونق لها ما لم تزنها وتجد التشبيهات على الجملة غير معجبة ما لم تكنها إن شئت أرتك المعاني اللطيفة التي هي من خبايا العقل كأنها قد جسمت حتى رأتها العيون وإن شئت لطفت الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها إلا الظنون وهذه إشارات وتلويحات في بدائعها وإنما ينجلي الغرض منها ويبين إذا تكلم على التفاصيل وأفرد كل فن بالتمثيل وسترى ذلك إن شاء الله وإليه الرغبة في أن نوفق للبلوغ إليه والتوفر عليه
وإذ قد عرفتك أن لها هذا المجال الفسيح والشأو البعيد فأني أضع لك فصلا بعد فصل وأجتهد بقدر الطاقة في الكشف والبحث
____________________
(1/33)
فصل
وهذا فصل قسمتها فيه قسمة عامية ومعنى العامية أنك لا تجد في هذه الاستعارة قسمة إلا أخص من هذه القسمة وأنها قسمة الاستعارة من حيث المعقول المتعارف في طبقات الناس وأصناف اللغات وما تجد وتسمع أبداً نظيره من عوامهم كما تسمع من خواصهم
أعلم أن كل لفظة دخلتها الاستعارة المفيدة فإنها لا تخلو من أن تكون اسما أو فعلا فإذا كانت اسماً فأنه يقع مستعاراً على قسمين أحدهما أن تنقله عن مسماه الأصلي إلى شىء آخر ثابت معلوم فتجريه عليه وتجعله متناولا له تناول الصفة مثلا للموصوف وذلك قولك رأيت أسداً وأنت تعنى رجلا شجاعاً ورنت لنا ظبية وأنت تعنى أمرأة وأبديت نورا تعنى هدى وبياناً وحجة وما شاكل ذلك فالاسم في هذا كله كما تراه متناولا شيئاً معلوماً يمكن أن ينص عليه فيقال أنه عنى بالاسم وكنى به عنه ونقل عن مسماه الأصلي فجعل اسما له على سبيل الاستعارة والمبالغة في التشبيه
والثاني أن يؤخذ الاسم عن حقيقته ويوضع موضعاً لا يبين فيه شىء يشار إليه فيقال هذا هو المراد بالاسم والذي استعير له وجعل خليفة لاسمه الأصلي ونائباً منابه ومثاله قول لبيد
( وغداة ريح قد كشفت وقرة ** إذ أصبحت بيد الشمال زمامها )
وذلك أنه جعل للشمال يداً ومعلوم أنه ليس هناك مشار إليه يمكن أن تجرى اليد عليه كاجراء الأسد والسيف على الرجل في قولك انبرى لي أسد يزأر وسللت سيفاً على العدو لا يفل والظباء على النساء في قوله من الظباء الغيد والنور على الهدى والبيان في قولك أبديت
____________________
(1/34)
نوراً ساطعاً وكاجراء اليد نفسها على من يعز مكانه كقولك أتنازعنى في يد بها أبطش وعين بها أبصر يريد إنسانا له حكم اليد وفعلها وغناؤها ودفعها وخاصة العين وفائدتها وعزة موقعها ولطف موضعها لأن معك في هذا كله ذاتا ينص عليها وترى مكانها في النفس إذا لم تجد ذكرها في اللفظ وليس لك شىء من ذلك في بيت لبيد بل ليس أكثر من أن تخيل إلى نفسك أن الشمال في تصريف الغداة على حكم طبيعتها كالمدبر المصرف لما زمامه بيده ومقادته في كفه وذلك كله لا يتعدى التخيل والوهم والتقدير في النفس من غير أن يكون هناك شىء يحس وذات تتحصل ولا سبيل لك إلى أن تقول كنى باليد عن كذا وأراد باليد هذا الشيء أو جعل الشيء الفلاني يداً كما تقول كنى بالأسد عن زيد وعنى به زيداً وجعل زيداً أسداً وإنما غايتك التي لا مطلع وراءها أن تقول أراد أن يثبت للشمال في الغداة تصرفا كتصرف الإنسان في الشيء بقلبه فاستعار لها اليد حتى يبالغ في تحقيق التشبيه وحكم الزمام في استعارته للغداة حكم اليد في استعارتها للشمال إذ ليس هناك مشار إليه يكون الزمام كناية عنه ولكنه وفي المبالغة شرطها من الطرفين فجعل على الغداة زماما يكون أتم في إثباتها مصرفة كما جعل للشمال يداً ليكون أبلغ في تصييرها مصرفة ويفصل بين القسمين أنك إذا رجعت في القسم الأول إلى التشبيه الذي هو المغزى من كل استعارة تفيد وجدته يأتيك عفواً كقولك في رأيت أسداً رأيت رجلا كالأسد ورأيت مثل الأسد أو شبيها بالأسد وإن رمته في القسم الثاني وجدته لا يواتيك تلك المواتاة إذ لا وجه لأن يقول إذ أصبح شىء مثل اليد للشمال أو حصل شبيه باليد للشمال وإنما يتراءى لك التشبيه بعد أن تخرق إليه ستراً وتعمل تأملا
____________________
(1/35)
وفكرا وبعد أن تغير الطريقة وتخرج عن الحد الأول كقولك إذ أصبحت الشمال ولها في قرة تأثيرها في الغداة شبه المالك تصريف الشيء بيده وإجراؤه على موافقته وجذبه نحو الجهة التي تقتضيها طبيعته وتنحوها إرادته فأنت كما ترى تجد الشبه المنزع ههنا إذا رجعت إلى الحقيقة ووضعت الاسم المستعار في موضعه الأصلي لا يلقاك من المستعار نفسه بل مما يضاف إليه ألا ترى انك لم ترد أن تجعل الشمال كاليد ومشبهة باليد كما جعلت الرجل كالأسد ومشبها بالأسد ولكنك أردت أن تجعل الشمال كذي اليد من الأحياء فأنت تجعل في هذا الضرب المستعار له وهو نحو الشمال ذا شىء وغرضك أن تثبت له حكم من يكون له ذلك الشىء في فعل أو غيره لا نفس ذلك الشىء فاعرفه
وهكذا قول زهير
( وعرى أفراس الصبا ورواحله ) لا تستطيع أن تثبت ذواتا أو شبه الذوات تتناولها الأفراس والرواحل في البيت على حد تناول الأسد الرجل الموصوف بالشجاعة والبدر الموصوف بالحسن أو البهاء والسحاب المذكور بالسخاء والسماحة والنور العلم والهدى والبيان وليس ألا انك أردت أن الصبا قد ترك واهمل وفقد نزاع النفس اليه وبطل فصار كالأمر ينصرف عنه فتعطل الآته وتطرح أداته وكالجهة من جهات المسير نحو الحج أو الغزو أو التجارة يقضى منها الوطر فتحط عن الخيل التي كانت تركب إليها لبودها وتلقى عن الإبل التي كانت تحمل لها قتودها وقد يجىء وإن كان كالتكلف أن تقول إن الأفراس عبارة
____________________
(1/36)
عن دواعي النفوس وشهواتها وقواها في لذاتها أو الأسباب التي تفتل في حبل الصبا وتنصر جانب الهوى وتلهب أريحيه النشاط وتحرك مرح الشباب كما قال
( ونعم مطيه الجهل الشباب ) وقال
( كأن الشباب مطية الجهل ) وليس من حقك أن تتكلف هذا في كل موضع فانه ربما خرج بك إلى ما يضر المعنى وينبو عنه طبع الشعر وقد يتعاطاه من يخالطه شىء من طباع التعمق فتجد ما يفسد أكثر مما يصلح ولو انك تطلبت للمطية في بيت الفرزدق
( لعمري لئن قيدت نفسي لطالما ** سعيت واوضعت المطية في الجهل )
مثل هذا التأول تباعدت عن الصواب وعدلت عما يسبق إلى القلب وذلك أن المعنى على قولك لطالما سعيت في الباطل وقديما كنت في الإسراع إلى الجهل بصورة من يوضع المطية في سقرة وهذا الموضع يتجلى تمام التجلي إذا تكلم على الفرق بين التشبيه والتمثيل وسيأتيك ذلك إن شاء الله تعالى وكذا قولهم هو مرخى العنان وملقى الزمام لا وجه لأن تتوقع إلا وأن تجرى العنان عليه ويتناوله المعنى على انتزاع الشبه من الفرس في حال ما يرخى عنانه وإن ينظر إلى الصورة التي توجد من حاله تلك في العقل ثم يجاء بها فيعار لها الرجل ويتصور بمقتضاها في النفس ويتمثل ولو قلت إن العنان ههنا بمعنى النهى وإن المراد أن النهى قد أبعد عنه ونحو ذلك دخلت في ظاهر من التكلف وأتعبت نفسك في غير جدوى وعادت زيادتك نقصانا وطلبك الإحسان إساءة
واعلم أن إغفال هذا الأصل الذي عرفتك من أن الاستعارة لا تكون على هذا الوجه الثاني كما تكون على الأول مما يدعو إلى مثل هذا التعمق
____________________
(1/37)
وانه نفسه قد يصير سببا إلى أن يقع قوم في التشبيه وذلك أنهم إذا وضعوا في أنفسهم أن كل اسم يستعار فلا بد أن يكون هناك شىء يمكن الإشارة إليه بتناوله في حال المجاز كما يتناول مسماة في حال الحقيقة ثم نظروا في مخرج قوله تعالى ( ^ ولتصنع على عيني واصنع الفلك بأعيننا ) فلم يجدوا للفظه العين ما يتناوله على حد تناول النور مثلا للهدى والبيان ارتبكوا في الشك وحاموا حول الظاهر وحملوا أنفسهم على لزومه حتى يفضي بهم إلى الضلال البعيد وارتكاب ما يقدح في التوحيد ونعوذ بالله من الخذلان
وطريقه أخرى في بيان الفرق بين القسمين وهو أن الشبه في القسم الأول الذي هو نحو رأيت أسدا تريد رجلا شجاعا وصف موجود في الشيء الذي له استعرت واليد ليست توصف بالشبه ولكنه صفة تكسبها اليد صاحبها وتحصل له بها وهي التصرف على وجه مخصوص وكذا قولك أفراس الصبا ليس الشبه الذي استعرت له الأفراس موجودا في الأفراس بل هو شبه يحصل لما يضاف إليه الأفراس حيث يراد الحقيقة نحو قولنا عرى أفراس الغزو وأجمعت خيل الجهاد وذلك ما يوجبه الفعل الواقع على الأفراس نحو إن وقوع الفعل الذي هو عرى على أفراس الغزو يوجب الإمساك عن الغزو والترك له وعلى هذا القياس
وإذا تقرر أمر الاسم في كون استعارته على هذين القسمين فمن حقنا أن ننظر في الفعل هل يحتمل هذا الانقسام والذي يجب العمل عليه أن الفعل لا يتصور فيه أن يتناول ذات شيء كما يتصور في الاسم ولكن شأن الفعل أن يثبت المعنى الذي اشتق منه للشيء في الزمان الذي تدل صيغته عليه فإذا قلت ضرب زيد أثبت الضرب لزيد في زمان ماض وإذا
____________________
(1/38)
كان كذلك فإذا استعير الفعل لما ليس له في الأصل فانه يثبت باستعارته له وصفا هو شبيه بالمعنى الذي ذلك الفعل مشتق منه
بيان ذلك أن تقول نطقت الحال بكذا وأخبرتني اسارير وجهه بما في ضميره وكلمتني عيناه بما يحوي قلبه فتجد في الحال وصفا هو شبيه بالنطق من الإنسان وذلك أن الحال تدل على الأمر ويكون فيها امارات يعرف بها الشيء كما أن النطق كذلك وكذلك العين فيها وصف شبيه بالكلام وهو دلالتها بالعلامات التي تظهر فيها وفي نظرها وخواص أوصاف يتحدد بها ما في القلوب من الإنكار والقبول ألا ترى إلى حديث الجمحي
حكى عن بعضهم قال أتيت الجمحي استشيره في امرأة أردت التزوج بها فقال اقصيرة هي أم غير قصيرة قال فلم افهم ذلك فقال لي كأنك لم تفهم ما قلت إني لأعرف في عين الرجل إذا عرف واعرف فيها إذا أنكر واعرف إذا لم يعرف ولم ينكر أما إذا عرف فإنها تخاوص وإذا لم يعرف ولم ينكر فإنها تسجو وإذا أنكر فإنها تجحظ أردت بقولي قصيره أي هي قصيره النسب تعرف بابيها أو جدها قال الشيخ أبو الحسن وهذا من قول النسابة البكري لرؤبة بن العجاج لما آتاه فقال له من أنت قال رؤبة بن العجاج فقال قصرت وعرفت
قال وعلى هذا المعنى قول رؤبة
( قد رفع العجاج ذكرى فادعني ** باسم إذا الأنساب طالت يكفني )
وامر العين اظهر من أن تحتاج فيه إلى دليل ولكن إذا جرى الشيء في
____________________
(1/39)
الكلام هو دعوى في الجملة كان الآنس للقارىء أن يقترن به ما هو شاهد فيه فلم ير شيء احسن من إيصال دعوى ببرهان
وإذا كان أمر الفعل في الاستعارة على هذه الجملة رجع بنا التحقيق إلى أن وصف الفعل بأنه مستعار حكم يرجع إلى مصدره الذي اشتق منه فإذا قلنا في قولهم نطقت الحال أن نطق مستعار فالمعنى أن النطق مستعار وإذا كانت الاستعارة تنصرف إلى المصدر كان الكلام فيه على ما مضى
ومما تجب مراعاته أن الفعل يكون استعارة مره من جهة فاعلة الذي رفع به ومثاله ما مضى ويكون أخرى استعاره من جهة مفعولة وذلك نحو قول ابن المعتز
( جمع الحق لنا في إمام ** قتل البخل واحيا السماحا )
فقتل واحيا إنما صارا مستعارين بان عديا إلى البخل والسماح ولو قال قتل الأعداء واحيا لم يكن قتل استعارة بوجه ولم يكن احيا استعارة على هذا الوجه وكذا قوله
( واقرى الهموم الطارقات حزامة ** )
هو استعارة من جهة المفعولين جميعا فأما من جهة الفاعل فهو محتمل للحقيقة وذلك أن تقول اقرى الاضياف النازلين اللحم العبيط ومثله قوله قرى الهم إذ ضاف الزماع وقد يكون الذي يعطيه حكم الاستعارة أحد المفعولين دون الآخر كقوله
( نقريهم لهذميات نقد بها ** ما كان خاط عليهم كل زراد )
____________________
(1/40)
فصل
اعلم أن الاستعارة كما علمت تعتمد التشبيه ابدا وقد قلت أن طرقة تختلف ووعدتك الكلام فيه وهذا الفصل يعطى بعض القول في ذلك بإذن الله تعالى وأنا أريد أن أدرجها من الضعف إلى القوة وأبدا في تنزيلها ثم بما يزيد في الارتفاع لأن التقسيم إذا ارتفع في خارج من الأصل فالواجب أن يبدأ بما كان أقل خروجا منه وادنى مدى في مفارقته وإذا كان الأمر كذلك فالذي يستحق بحكم هذه الجملة أن يكون أولا من ضروب الاستعارة أن يرى معنى الكلمة المستعارة موجودا في المستعار له من حيث عموم جنسه على الحقيقة إلا أن لذلك الجنس خصائص ومراتب في الفضيلة والنقص والقوة والضعف فأنت تستعير لفظ الأفضل لما هو دونه ومثاله استعارة الطيران لغير ذي الجناح إذا أردت السرعة وانقضاض الكواكب للفرس إذا أسرع في حركته من علو والسباحة له إذا عدا عدوا كان حاله فيه شبيها بحالة السابح في الماء ومعلوم أن الطيران والانقضاض والسباحة والعدو كلها جنس واحد من حيث الحركة على الإطلاق إلا انهم نظروا إلى خصائص الأجسام في حركتها فافردوا حركة كل نوع منها باسم ثم انهم إذا وجدوا في الشئ في بعض الأحوال شبها من حركة غير جنسه استعاروا له العبارة من ذلك الجنس فقالوا في غير ذي الجناح طار كقوله
( وطرت بمنصلى في يعملات ** )
____________________
(1/41)
وكما جاء في الخبر كلما سمع هيعة طار إليها وكما قال
( لو يشا طار به ذو ميعة ** لاحق الآطال نهد ذو خصل )
ومن ذلك أن فاض موضوع لحركة الماء على وجه مخصوص وذلك أن يفارق مكانه دفعه فينبسط ثم انه استعير للفجر كقوله
( كالفجر فاض على نجوم الغيهب ** )
لأن للفجر انبساطا وحالة شبيهة بانبساط الماء وحركته في فيضه
فأما استعارة فاض بمعنى الجود فنوع آخر غير ما هو المقصود ههنا لأن القصد الآن إلى المستعار الذي توجد حقيقة معناه من حيث الجنس في المستعار له وكذلك قول أبي تمام
( وقد نثرتهم روعة ثم احدقوا ** به مثلما ألفت عقدا منظما )
وقول المتنبي
( نثرتهم فوق الاحيدب نثرة ** كما نثرت فوق العروس الدراهم )
استعارة لأن النثر في الأصل للأجسام الصغار كالدراهم والدنانير والجواهر والحبوب ونحوها لان لها هيئة مخصوصة في التفرق لا تأنى في الأجسام الكبار ولآن القصد بالنثر أن تجتمع أشياء في كف أو وعاء ثم يقع فعل تتفرق معه دفعه واحدة والأجسام الكبار لا يكون فيها ذلك لكنه لما اتفق في الحرب تساقط المنهزمين على غير ترتيب ونظام كما يكون
____________________
(1/42)
في الشيء المنثور عبر عنه بالنثر ونسب ذلك إلى الممدوح إذ كان هو سبب ذلك الانتثار فالتفرق الذي هو حقيقة النثر من حيث جنس المعنى وعمومه موجود في المستعار له بلا شبهة ويبينه أن النظم في الأصل لجمع الجواهر وما كان مثلها في السلوك ثم لما حصل في الشخصين من الرجال أن يجمعهما الحاذق المبدع في الطعن في رمح واحد ذلك الضرب من الجمع عبر عنه بالنظم كقولهم انتظمهما برمحه وكقوله
( قالوا أينظم فارسين بطعنة ** )
وكان ذلك استعارة لان اللفظة وقعت في الأصل لما يجمع في السلوك من الحبوب والأجسام الصغار إذ كانت تلك الهيئة في الجمع تخصها في الغالب وكان حصولها في أشخاص الرجال من النادر الذي لا يكاد يقع وإلا فلو فرضنا أن يكثر وجوده في الأشخاص الكبيرة لكان لفظ النظم أصلا وحقيقة فيها كما يكون حقيقه في نحو الحبوب وهذا النحو لشدة الشبه فيه يكاد يلحق بالحقيقة ومن هذا الحد قوله
( وفي يدك السيف الذي امتنعت به ** صفاة الهدى من أن ترق فتخرقا ) وذلك أن أصل الخرق أن يكون في الثوب وهو في الصفاة استعارة لأنه لما قال ترق قربت حالها من حال الثوب وعلى ذلك فإنا نعلم أن الشق والصدع حقيقة في الصفاة ونعلم أن الخرق يجامعها في الجنس لأن الكل تفريق وقطع ولو لم يكن الخرق والشق واحداً لما قلت شققت الثوب والشق عيب في الثوب وتشقق الثوب قول من لا يستعير ولكن لو قلت خرق الحشمة لم يكن من الحقيقة في شىء وكان خارجاً من هذا الفن الذي
____________________
(1/43)
نحن فيه لأنه ليس هناك شق ولو جاء شق الحشمة أو صدع مثلا كان كذلك أعني لا يكون له أصل في الحقيقة ولا شبه بها
ومن هذا الضرب قوله تعالى ( ^ ومزقناهم كل ممزق ) يعد استعارة من حيث إن التمزيق للثوب في أصل اللغة إلا أنه على ذلك راجع إلى الحقيقة من حيث إنه تفريق على كل حال ولبس يحسن غيره إلا أنهم خصوا ما كان مثل الثوب بالتمزيق كما خصوه بالخرق وإلا فأنت تعلم أن تمزيق الثوب تفريق بعضه من بعض ومثله أن القطع إذا أطلق فهو لإزالة الأنصال من الأجسام التي تلتزق أجزاؤها وإذا جاء في تفريق الجماعة وإبعاد بعضهم من بعض كقوله تعالى ( ^ وقطعناهم في الأرض أمماً ) كان شبه الاستعارة وإن كان المعنى في الموضعين على إزالة الاجتماع ونفيه فإن قلت قطع عليه كلامه أو قلت تقطع الوقت بكذا كان نوعاً آخر
ومن الاستعارة القريبة من الحقيقة قولهم أثرى فلان من المجد وأفلس من المروءة وكقوله
( إن كان أغناها السلو فإننى ** أمسيت من كبدي ومنها معدما )
وذلك أن حقيقة الإثراء من الشيء كثرته عندك ووصف الرجل بأنه كثير المجد أو قليل المروءة كوصفه بأنه كثير العلم أو قليل المعرفة في كونه حقيقة وكذلك إذا قلت أثرى من الشوق أو الوجد أو الحزن كما قال
( وفي الركاب حريب ** من الغرام ومثرى )
فهو كقولك كثر شوقه وحزنه وغرامه وإذا كان كذلك فهو في أنه نقل إلى شىء جنسه جنس الذي هو حقيقة فيه بمنزلة طار أو طر
____________________
(1/44)
أمراً منه وكذا معنى أعدم من المال انه خلا منه وأن المال يزول عنه فإذا أخبر أن كبده قد ذهبت عنه فهو في حقيقة من ذهب ماله وعدمه والعدم في المال وفي غير المال بمنزلة واحدة لا تتغير له فائدة والمعدم موضوع لمن عدم ما يحتاج إليه فالكبد مما يحتاج إليه وكذلك المحبوبة فإنما تقع هذه العبارة في نفسك موقع الغريب من حيث إن العرف جرى في الإعدام بأن يطلق على من عدم ما جنسه جنس المال ويؤنسك بما قلت انك لو قلت عدم كبده لم يكن مجازاً ولم تجد بينه وبين خلا من كبده وزالت عنه كبده كبير فرق ألا تراك تقول الفرس عادم للطحال تريد ليس له طحال وهذا كلام لا استعارة فيه كما أنك لو قلت الطحال معدوم في الفرس كان كذلك
ومن اللائق بهذا الباب البين أمره ما أنشده أبو العباس في الكامل من قول الشاعر
( لم تلق قوماً هم شر لإخوتهم ** منا عشية يجرى بالدم الوادي )
( نقريهم لهذميات نقد بها ** ما كان خاط عليهم كل زراد )
قال لأن الخياطة تضم خرق القميص والزراد يضم حلق الدرع أفلا تراه بين أن جنسهما واحد وأن كلا منهما ضم ووصل وإنما يقع الفرق
____________________
(1/45)
من حيث إن الخياطة ضم أطراف الخرق بخيط يسلك فيها على الوجه المعلوم والزرد ضم حلق الدرع بمداخلة توجد بينها إلا أن الشكاك الذي يلزم أحد طرفي الحلقة الآخر بدخوله في ثقبتيهما في صورة الخيط الذي يذهب في منافذ الإبرة واستقصاء القول في هذا الضرب والبحث عن أسراره لا يمكن إلا بعد أن تقرر الضروب المخالفة له من الاستعارة فاقتصر منه على القدر المذكور وأعود إلى القسمة
ضرب ثان يشبه هذا الضرب الذي مضى وإن لم يكن إياه وذلك أن يكون الشبه مأخوذاً من صفة هي موجودة في كل واحد من المستعار له والمستعار منه على الحقيقة وذلك قولك رأيت شمساً تريد إنساناً يتهلل وجهه كالشمس فهذا له شبه باستعارة طار لغير ذي الجناح وذلك أن الشبه مراعى في التلألؤ وهو كما يعلم موجود في نفس الإنسان المتهلل لأن رونق الوجه الحسن من حس البصر مجانس لضوء الأجسام النيرة وكذلك إذا قلت رأيت أسداً تريد رجلا فالوصف الجامع بينهما هو الشجاعة وهى على حقيقتها موجودة في الإنسان وإنما يقع الفرق بينه وبين السبع الذي استعرت اسمه له فيها من جهة القوة والضعف والزيادة والنقصان وربما ادعى لبعض الكماة والبهم مساواة الأسد في
____________________
(1/46)
حقيقة الشجاعة التي عمود صورتها انتفاء المخافة عن القلب حتى لا تخامره وتفرق خواطره وتحلل عزيمته في الأقدام على الذي يباطشه ويريد قهره وربما كف الشجاع عن الإقدام على العدو لا لخوف يملك قلبه ويسلبه قواه ولكن كما يكف المنهي عن الفعل لا تخونه في تعاطيه قوة وذلك أن العاقل من حيث الشرع منهي عن أن يهلك نفسه ألا ترى أن البطل الكمي إذا عدم سلاحاً يقاتل به فلم ينهض إلى العدو كان فاقداً شجاعته وبأسه ومتبرئاً من النجدة التي يعرف بها
ثم إن الفرق بين هذا الضرب وبين الأول أن الاشتراك ههنا في صفة توجد في جنسين مختلفين مثل أن جنس الإنسان غير جنس الشمس وكذلك جنسه غير جنس الأسد وليس كذلك الطيران وجرى الفرس فإنهما جنس واحد بلا شبه وكلاهما مرور وقطع للمسافة وإنما يقع الاختلاف بالسرعة وحقيقة السرعة قلة تخلل السكون للحركات وذلك لا يوجب اختلافاً في الجنس فإن قلت فإذن لا فرق بين استعارة طار للفرس
____________________
(1/47)
وبين استعارة الشفة للفرس فهلا عددت هذا في القسم اللفظي غير المفيد ثم إنك إن اعتذرت بأن في طار خصوص وصف ليس في عدا وجرى فكذلك في الشفة خصوص وصف ليس في الجحفلة فالجواب أنى لم أعده في ذلك القسم لأجل أن خصوص الوصف الكائن في طار يراعى في استعارته للفرس ألا تراك لا تقوله في كل حال بل في حال مخصوصة وكذا السباحة لأنك لا تستعيرها للفرس في كل أحوال جريه نعم وتأبى أن تعطيها كل فرس فالقطوف البليد لا يوصف بأنه سابح وأما استعارة اسم لعضو نحو الشفة والأنف فلم يراع فيه خصوص الوصف ألا ترى أن العجاج لم يرد بقوله ومرسنا مسرجا أن يشبه أنف المرأة بأنف نوع من الحيوان لأن هذا العضو من غير الإنسان لا يوصف بالحسن كما يكون ذلك في العين والجيد وهكذا استعارة الفرسن للشاة في قول عائشة رضى الله عنها ولو فرسن شاة وهو للبعير في الأصل ليس
____________________
(1/48)
لان يشبه هذا العضو من الشاة به من البعير كيف ولا شبه هناك وليس إذن في مجىء الفرسن بدل الظلف أمر أكثر من العضو نفسه
ضرب ثالث وهو الصميم الخالص من الاستعارة وحده أن يكون الشبه مأخوذاً من الصور العقلية وذلك كاستعارة النور للبيان والحجة الكاشفة عن الحق المزيلة للشك النافية للريب كما جاء في التنزيل من نحو قوله عز وجل ( ^ واتبعوا النور الذي أنزل معه ) وكاستعارة الصراط للدين في قوله تعالى ( ^ اهدنا الصراط المستقيم وانك لتهدى إلى صراط مستقيم ) فأنت لا تشك في أنه ليس بين النور والحجة ما بين طيران الطائر وجرى الفرس من الاشتراك في عموم الجنس لان النور صفة من صفات الأجسام محسوسة والحجة كلام وكذا ليس بينهما ما بين الرجل والأسد من الاشتراك في طبيعة معلومة تكون في الحيوان كالشجاعة فليس الشبه الحاصل من النور في البيان والحجة ونحوهما إلا أن القلب إذا وردت عليه الحجة صار في حالة شبيهة بحال البصر إذا صادف النور ووجهت طلائعه نحوه وجال في معارفه وانتشر وانبث في المسافة
____________________
(1/49)
التي يسافر طرف الإنسان فيها وهذا كما تعلم شبه لست تحصل منه على جنس ولا على طبيعة وغريزة ولا على هيئة وصورة تدخل في الخلقة وإنما هو صورة عقلية
واعلم أن هذا الضرب هو المنزلة التي تبلغ عندها الاستعارة غاية شرفها ويتسع لها كيف شاءت المجال في تفننها وتصرفها وههنا تخلص لطيفة روحانية فلا يبصرها إلا ذوو الأذهان الصافية والعقول النافذة والطباع السليمة والنفوس المستعدة لان تعي الحكمة وتعرف فصل الخطاب ولها ههنا أساليب كثيرة ومسالك دقيقة مختلفة والقول الذي يجرى مجرى القانون والقسمة يغمض فيها إلا أن ما يجب أن تعلم في معنى التقسيم لها أنها على أصول
أحدها إن يؤخذ الشبه من الأشياء المشاهدة والمدركة بالحواس على الجملة للمعاني المعقولة والثاني أن يؤخذ الشبه من الأشياء المحسوسة لمثلها إلا أن الشبه مع ذلك عقلي والأصل الثالث أن يؤخذ الشبه من المعقول للمعقول فمثال ما يجرى على الأصل الأول ما ذكرت لك من استعارة النور للبيان والحجة فهذا شبه أخذ من محسوس لمعقول ألا ترى أن النور مشاهد محسوس بالبصر والبيان والحجة مما يؤديه إليك العقل من غير واسطة من العين أو غيرها من الحواس وذلك أن الشبه ينصرف إلى المفهوم من الحروف والأصوات ومدلول الألفاظ هو الذي ينور القلب لا الألفاظ هذا والنور يستعار للعلم نفسه أيضاً والإيمان
____________________
(1/50)
وكذلك حكم الظلمة إذا استعيرت للشبهة والجهل والكفر لأنه لا شبهة في أن الشبهة والشكوك من المعقول ووجه التشبيه أن القلب يحصل بالشبهة والجهل في صفة البصر إذا قيده دجى الليل فلم يجد منصرفا وان استعيرت للضلالة والكفر فلأن صاحبهما كمن يسعى في الظلمة فيذهب في غير الطريق وربما دفع إلى هلك وتردى في اهوية ومن ذلك استعارة القسطاس للعدل ونحو ذلك من المعاني المعقولة التي تعطى غيرها صفة الاستقامة والسداد كما استعارة الجاحظ في فصل يذكر فيه علم الكلام فقال وهو العيار على كل صناعة والزمام على كل عبارة والقسطاس الذي به يستبان نقصان كل شىء ورجحانه والراووق الذي به يعرف صفاء كل شىء وكدره وهكذا إذا قيل في النحو انه ميزان الكلام ومعياره فهو اخذ شبه من شىء هو جسم يحس ويشاهد لمعنى يعلم ويعقل ولا يدخل في الحاسة وذلك اظهر وابين من أن يحتاج فيه إلى فضل بيان وأما تفننه وسعته وتصرفه من مرضى ومسخوط ومقبول ومرذول فحق الكلام فيه بعد أن يقع الفراغ من تقرير الأصول
ومثال الأصل الثاني وهو أخذ الشبه من المحسوس للمحسوس ثم الشبه عقلي قول النبي إياكم وخضراء الدمن الشبه مأخوذ للمرأة
____________________
(1/51)
من النبات كما لا يخفي وكلاهما جسم إلا أنه لم يقصد بالتشبيه لون النبات وخضرته ولا طعمه ولا رائحته ولا شكله وصورته ولا ما شاكل ذلك ولا ما يسمى طبعا كالحرارة والبرودة المنسوبتين في العادة إلى العقاقير وغيرها مما يسخن بدن الحيوان ويبرد بحصوله فيه ولا شىء من هذا الباب بل القصد شبه عقلي بين المرأة الحسناء في المنبت السوء وبين تلك النابتة على الدمنة وهو حسن الظاهر في رأى العين مع فساد الباطن وطيب الفرع مع خبث الأصل كما أنهم إذا قالوا
( هو عسل إذا ياسرته ** وإن عاسرته فهو صاب ) كما قال
( عسل الأخلاق ما ياسرته ** فإذا عاسرت ذقت السلعا )
فالتشبيه عقلي إذ ليس الغرض الحلاوة والمرارة اللتين تصفهما لك المذاقة ويحسهما الفم واللسان وإنما المعنى انك تجد منه في حالة الرضى والموافقة ما يملؤك سرورا وبهجة حسب ما يجد ذائق العسل من لذة الحلاوة ويهجم عليك في حالة السخط والإباء ما يشدد كراهتك ويكسبك كربا ويجعلك في حال من يذوق المر الشديد المرارة وهذا أظهر من أن يخفي
ومن هذا الأصل استعارة الشمس للرجل تصفه بالنباهة والرفعة والشرف والشهرة وما شاكل ذلك من الأوصاف العقلية المحضة التي لا تلابسها إلا بغريزة العقل ولا تعلقها إلا بنظر القلب
ويظهر من ههنا اصل آخر وهو أن اللفظة الواحدة تستعار على
____________________
(1/52)
طريقين مختلفين ويذهب بها في القياس والتشبيه مذهبين أحدهما يفضى إلى ما تناله العيون والآخر يومىء إلى ما تمثله الظنون ومثال ذلك قولك نجوم الهدى تعنى أصحاب رسول الله ورضى الله عنهم فانه استعارة توجب شبها عقليا لأن المعنى أن الخلق بعد رسول الله اهتدوا بهم في الدين كما يهتدي السارون بالنجوم وهذا الشبه باق لهم إلى يوم القيامة فبالرجوع إلى علومهم وآثارهم وفعالهم وهديهم تنال النجاة من الضلالة ومن لم يطلب الهدى من جهتهم فقد حرم الهدى ووقع في الضلال كما أن من لم ينظر إلى النجوم في ظلام الليل ولم يتلق دلالتها على المسالك التي تفضي إلى العمارة ومعادن السلامة وخالفها وقع في غير الطريق
وصار بتركه الاهتداء بها إلى الضلال البعيد والهلك المبيد فالقياس على النجوم في هذا ليس على حد تشبيه المصابيح بالنجوم أو النيران في الأماكن المتفرقة لأن الشبه هناك من حيث الحس والمشاهدة لأن القصد إلى نفس الضوء واللمعان والشبه ههنا من حيث العقل لأن القصد إلى مقتضى ضوء النجوم وحكمه وعائدته ثم ما فيها من الدلالة على المنهاج والأمن من الزيغ عنه والاعوجاج والوصول بهذه الجملة منها إلى دار القرار ومحل الكرامة نسأل الله تعالى أن يرزقنا ذلك ويديم توفيقنا للزوم ذلك الاهتداء والتصرف في هذا الضياء إنه عز وجل ولى ذلك والقادر عليه
ومما لا يكون الشبه فيه إلا عقليا قولنا في أصحاب رسول الله ملح الألنام وهو مأخوذ من قوله عليه السلام مثل أصحابي كمثل الملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح قالوا فكان
____________________
(1/53)
الحسن رحمة الله عليه يقول فقد ذهب ملحنا فكيف نصنع فأنت تعلم أن لا وجه ههنا للتشبيه إلا من طريق الصورة العقلية وهو أن الناس يصلحون بهم كما يصلح الطعام بالملح والشبه بين صلاح العامة بالخاصة وبين صلاح الطعام بالملح لا يتصور أن يكون محسوسا وينطوي هذا التشبيه على وجوب موالاة الصحابة رضى الله عنهم وان تمزج محبتهم بالقلوب والأرواح كما يمزج الملح بالطعام فباتحاده به ومداخلته لأجزائه يطيب طعمه وتذهب عنه وخامته ويصير نافعا مغذيا كذلك بمحبة الصحابة رضى الله عنهم تصلح الاعتقادات وتنتفي عنها الأوصاف المذمومة وتطيب وتغذو القلوب وتنمى حياتها وتحفظ صحتها وسلامتها وتقيها الزيغ والضلال والشك والشبهة والحيرة وأما حكمة في حال القلب من حيث العقل فحكم الفساد الذي يعرض لمزاج البدن من أكل الطعام الذي لم يصلح بالملح ولم تنتف عنه المضار التي من شأن الملح أن يزيلها وعلى ذلك جاء في صفتهم أن حبهم إيمان وبغضهم نفاق هذا ولا معنى لصلاح الرجل بالرجل إلا صلاح نيته واعتقاده ومحال أن تصلح نيتك واعتقادك بصاحبك وأنت لا تراه معدن الخير ومعانه وموضع الرشد ومكانه ومن علمته كذلك مازجتك محبته لا محالة وسيط وده بلحمك ودمك وهل تحصل من المحبة إلا على الطاعة والموافقة في الإرادة والاعتقاد وقياسه قياس الممازجة بين الأجسام ألا تراك تقول
____________________
(1/54)
فلان قريب من قلبي تريد الوفاق والمحبة وعلى هذه الطريقة جرى تمثيلهم النحو بالملح في قولهم النحو في الكلام كالملح في الطعام إذ المعنى أن الكلام لا يستقيم ولا تحصل منافعه التي هي الدلالات على المقاصد إلا بمراعاة أحكام النحو فيه من الإعراب والترتيب الخاص كما لا يجدي الطعام ولا تحصل المنفعة المطلوبة منه وهي التغذية ما لم يصلح بالملح
فأما ما يتخيلونه من أن معنى ذلك أن القليل من النحو يغنى وان الكثير منه يفسد الكلام كما يفسد الملح الطعام إذا كثر فيه فتحريف وقول بما لا يتحصل على البحث وذلك انه لا تتصور الزيادة والنقصان في جريان أحكام النحو في الكلام ألا ترى انه إذا كان من حكمه في قولنا كان زيد ذاهبا أن يرفع الإسم وينصب الخبر لم يخل هذا الحكم من أن يوجد أولا يوجد فإن وجد فقد حصل النحو في الكلام وعدل مزاجه به ونفى عنه الفساد وأن يكون كالطعام الذي لا يغذو البدن وإن لم يوجد فيه فهو فاسد كائن بمنزلة طعام لم يصلح بالملح فسامعه لا ينتفع به بل يستضر لوقوعه في عمياء وهجوم الوحشة عليه كما يوجبه الكلام الفاسد العاري من الفائدة وليس بين هاتين المنزلتين واسطة يكون استعمال النحو فيها مذموما وهكذا القول في كل كلام وذلك أن إصلاح الكلام الأول بإجرائه على حكم النحو لا يغنى عنه في الكلام الثاني والثالث حتى يتوهم أن حصول النحو في جملة واحدة من قصيدة أو رسالة يصلح سائر الجمل وحتى يكون أفراد كل جملة بحكمها منه تكريرا له وتكثيرا لأجزائه فيكون مثله مثل زيادة أجزاء الملح على قدر الكفاية وكذلك لا يتصور
____________________
(1/55)
في قولنا كان زيد منطلقا أن يتكرر هذا الحكم ويتكثر على هذا الكلام فيصير النحو كذلك موصوفا بان له كثيرا هو مذموم وأن المحمود منه القليل وإنما وزانه في الكلام وزان وقوف لسان الميزان حتى ينبىء عن مساواة ما في إحدى الكفتين الأخرى فكما لا يتصور في تلك الصفة زيادة ونقصان حتى يكون كثيرها مذموما وقليلها محمودا كذلك الحكم في الصفة التي تحصل للكلام بإجرائه على حكم النحو ووزنه بميزانه فقول أبي بكر الخوارزمي والبغض عندي كثرة الإعراب كلام لا نحصل منه عل طائل لأن الإعراب لا يقع فيه قلة وكثرة إن اعتبرنا الكلام الواحد والجملة الواحدة وإن اعتبرنا الجمل الكثيرة وجعلنا إعراب هذه الجملة مضموما إلى إعراب تلك فهي الكثرة التي لا بد منها ولا صلاح مع تركها والخليق بالبغض من ذمها وإن كان أراد نحو قول الفرزدق
( وما مثله في الناس إلا مملكا ** أبو أمة حي أبوه يقاربه )
وما كان من الكلام معقدا موضوعا على التأويلات المتكلفة فليس ذلك بكثرة وزيادة في الإعراب بل هو بأن يكون نقصا له ونقصا أولى لأن الإعراب هو أن يعرب المتكلم عما في نفسه ويبينه ويوضح الغرض ويكشف اللبس والواضع كلامه على المجازفة في التقديم والتأخير زائل عن الإعراب زائغ عن الصواب متعرض للتلبيس والتعمية فكيف يكون ذلك كثرة في الإعراب إنما هو كثرة عناء على من رام أن يرده إلى الإعراب لا لكثرة الإعراب وهذا هو كالاعتراض على طريق شجون الحديث ويحتاج إليه في اصل كبير وهو أن من حق العاقل أن لا يتعدى
____________________
(1/56)
بالتشبيه الجهة المقصودة ولا سيما في العقليات وارجع إلى النسق
مثال الأصل الثالث وهو أخذ الشبه من المعقول للمعقول أول ذلك وأعمه تشبيه الوجود من الشىء مرة بالعدم والعدم مرة بالوجود أما الأول فعلى معنى أنه لما قل في المعاني التي بها يظهر للشىء قدر ويصير له ذكر صار وجوده كلا وجود وأما الثاني فعلى معنى أن الفاعل كان موجودا ثم فقد وعدم إلا أنه لما خلف آثارا جميلة تحيى ذكره وتديم في الناس اسمه صار لذلك كأنه لم يعدم وأما ما عداهما من الأوصاف فيجىء فيها طريقان أحدهما هذا وذلك في كل موضع كان موضوع التشبيه فيه على ترك الاعتداد بالصفة وإن كانت موجودة لخلوها مما هو ثمرتها والمقصود منها والذي إذا خلت منه لم تستحق الشرف والفضل
تفسير هذا انك وصفت الجاهل بأنه ميت وجعلت الجهل كأنه موت على معنى أن فائدة الحياة والمقصود منها هو العلم والإحساس فمتى عدمهما الحي فكأنه قد خرج عن حكم الحي ولذلك جعل النوم موتا إذ كان النائم لا يشعر بما بحضرته كما لا يشعر الميت
والدرجة الأولى في هذا أن يقال فلان لا يعقل وهو بهيمة وحمار وما أشبه ذلك مما تحطه عن معاني المعرفة الشريفة ثم أن يقال فلان لا يعلم ولا يفقه ولا يحس فينفي عنه العلم والإحساس جملة لضعف أمره فيه وغلبة
____________________
(1/57)
الجهل عليه ثم تجعل التعريض تصريحا فيقال هو ميت خارج من الحياة وهو جماد توكيدا وتناهيا في إبعاده عن العلم والمعرفة وتشددا في الحكم بان لا مطمع في انحسار غياية الجهل عنه وإفاقته مما به من سكرة الغي والغفلة وان يؤثر فيه الوعظ والتنبيه
ثم لما كان هذا مستقرى في العادة أعنى جعل الجاهل ميتا خرج منه أن يكون المستحق لصفة الحياة هو العالم المتيقظ لوجه الرشد ثم لما لم يكن علم أشرف وأعلى من العلم بوحدانية الله تعالى وبما نزله على النبي جعل من حصل له العلم بعد أن لم يكن كأنه إنما وجد الحياة وصارت صفة له مع وجود نور الإيمان في قلبه وجعل حالته السابقة التي خلا فيها من الإيمان كحالة الموت التي تعدم معه الحياة وذلك قوله تعالى ( ^ أو من كان ميتا فأحييناه ) وأشباه ذلك
ومن هذا الباب قولهم فلان حي القلب يريدون أنه ثاقب الفهم جيد النظر مستعد لتمييز الحق من الباطل فيما يرد عليه بعيد من الغفلة التي كالموت ويذهبون به في وجه آخر وهو انه حرك نافذ في الأمور غير بطىء النهوض وذلك أن هذه الأوصاف من أمارات الصحة واعتدال المزاج وتوقد نار الحياة وهذا يصلح في الإنسان والبهائم لأنه تعريض بالقدرة والقوة والمذهب الأول إشارة إلى العلم والعقل وكلتا الصفتين أعنى القدرة والعلم مما يشرف به الحي ومما يضاده الموت وينافيه ولما كان الأمر كذلك صار إطلاق الحياة مرة عبارة عن العلم وأخرى عن القدرة وإطلاق الموت
____________________
(1/58)
إشارة إلى عدم القدرة وضعفها تارة وإلى عدم العلم وضعفه أخرى
والقول الجامع في هذا أن تنزيل الوجود منزلة العدم إذا أريد المبالغة في حط الشىء والوضع منه وخروجه عن أن يعتد به كقولهم هو والعدم سواء معروف متمكن في العادات وربما دعاهم الإيغال وحب السرف إلى أن يطلبوا بعد العدم منزلة هي أدون منه حتى يقعوا في ضرب من التهوس كقول أبي تمام
( وأنت انزر من لا شىء في العدد ** )
وقول ابن نباته
( ما زلت اعطف أيامي فتمنحني ** نيلا أدق من المعدوم في العدم )
ويتفرع على هذا إثبات الفضيلة للمذكور بإثبات اسم الشىء له ويكون ذلك على وجهين أحدهما أن يريد المدح واثبات المزية والفضل على غاية المبالغة حتى لا يحصل عليه مزيدا فإذا أردت ذلك جعلت الإثبات كأنه مقصور عليه لا يشارك فيه وذلك قولك هذا هو الشىء وما عداه فليس
____________________
(1/59)
بشىء أي أن ما عداه إذا قيس إليه صغر وحقر حتى لا يدخل في اعتداد وحتى يكون وجدانه كفقدانه فقد نزلت الوجود فيمن عدا المذكور منزلة العدم وأما أن يكون التفضيل على توسط ويكون القصد الأخبار بأنه غير ناقص على الجملة ولا ملغى منزل منزلة المعدوم قولك هذا شىء أي داخل في الاعتداد وفي هذه الطريقة أيضا تفاوت فانك تقول مرة هذا إما لا شىء تريد إن تقول أن الآخر ليس بشىء ولا اعتداد به أصلا وتقول أخرى هذا شىء تريد شيء له قدر وخطر وتجرى لك هذه الوجوه في أسماء الأجناس كلها تقول هذا هو الرجل ومن عداه فليس من الرجولية في شىء وهذا هو الشعر فحسب تبالغ في التفضيل وتجعل حقيقة الجنسية مقصورة على المذكور وتقول هذا رجل تريد كامل من الرجال لا أن من عداه فليس برجل على الكمال وقد تقول هذا إما لا رجل تريد يستحق أن يعد في الرجال ويكون قصدك أن تشير إلى أن هناك واحدا آخر لا يدخل في الاعتداد أصلا ولا يستحق اسم الرجل
وإذ كان هذا هو الطريق المهيع في الوضع من الشيء وترك الاعتداد به والتفضيل له والمبالغة في الاعتداد به فكل صفتين تضادتا ثم أريد نقص الفاضلة منهما عبر عن نقصها باسم ضدها فجعلت الحياة العارية من فضيلة العلم والقدرة موتا والبصر والسمع إذا لم ينتفع صاحبهما بما يسمع ويبصر فلم يفهم معنى المسموع ولم يعتبر بالمبصر أو لم يعرف حقيقته عمى وصمما وقيل للرجل هو أعمى أصم يراد انه لا يستفيد شيئا مما يسمع
____________________
(1/60)
ويبصر فكأنه لم يسمع ولم يبصر وسواء عبرت عن نقص الصفة بوجود ضدها أو وصفها بمجرد العدم وذلك أن في إثبات أحد الضدين وصفا للشيء ونفيا للضد الآخر لاستحالة أن يوجدا معاً فيه فيكون الشخص حيا ميتا معا أصم سميعا في حالة واحدة فقولك في الجاهل هو ميت بمنزلة قولك ليس بحي وان الوجود في حياته بمنزلة العدم هذا هو ظاهر المذهب في الأمر والحكم إذا أطلق القول فاما إذا قيد كقوله أصم عما ساءة سميع فتثبت له الصفتان معا على الجملة إلا أن مرجع ذلك إلى أن يقال انه كان يفقد السمع في حال ويعود إليه في حال أو انه في حق هذا الجنس فاقد الإدراك مسلوبه وفيما عداه كائن على حكم السميع فلم يثبت له الصم على الجملة إلا للحكم بان وجود سمعة كالعدم إلا أن ذلك في شيء دون شيء وعلى التقييد دون الإطلاق
فقد تبين إذن أن اصل هذا الباب تنزيل الموجود منزلة المعدوم لكونه بحيث لا يعتد به وخلوه من الفضيلة
والطريق الثاني في شبه المعقول من المعقول أن لا يكون على تنزيل الوجود منزلة العدم ولكن على اعتبار صفة معقولة يتصور وجودها مع ضد ما استعرت اسمه فمن ذلك أن يراد وصف الأمر بالشدة والصعوبة والبلوغ في كونه مكروها إلى الغاية القصوى فيقال لقى الموت يريدون لقي الأمر الأشد الصعب الذي هو في كراهة النفس له كالموت
____________________
(1/61)
ومعلوم أن كون الشيء شديدا صعبا مكروها صفة معلومة لا تنافي الحياة ولا يمنع وجودها معه كما يمنع وجود الموت مع الحياة ألا ترى أن كراهة الموت موجودة في الإنسان قبل حصوله كيف واكره ما يكون الموت إذا صفت مشارع الحياة وخصبت مسارح اللذات فكلما كانت الحياة أمكن واتم كانت الكراهة للموت أقوى واشد ولم تخف كراهته على العارفين إلا لرغبتهم في الحياة الدائمة الصافية من الشوائب بعد أن تزول عنهم هذه الحياة الفانية ويدركهم الموت فيها فتصورهم لذة الأمن منه قلل كراهتهم له كما أن ثقة العالم بما يعقبه الدواء من الصحة يهون عليه مرارته فقد عبرت ههنا عن شدة الأمر بالموت واستعرته له من اجلها والشدة ومحصولها الكراهة موجودة في كل واحد من المستعار له والمستعار منه فليس التشبيه إذن من طريق الحكم على الوجود بالعدم وتنزيل ما هو موجود كأنه قد خلع صفة الوجود وذلك أن هذا الحكم إنما جرى في تشبيه الجهل بالموت وجعل الجاهل ميتا من حيث كان للجهل ضد ينافي الموت ويضاده وهو العلم فلما أردت أن تبالغ في نفي العلم الذي يجب مع نفيه الجهل جعلت الجهل موتا لتؤيس من حصول العلم للمذكور وليس لك هذا في وصف الأمر الشديد المكروه بأنه موت ألا ترى أن قوله
( لا تحسبن الموت موت البلى ** وإنما الموت سؤال الرجال )
لا يفيد أن للسؤال ضدا ينافي الموت أو يضاده على الحقيقة وان هذا القائل قصد بجعل السؤال موتا نفي ذلك الضد وان يؤيس من وجوده وحصوله بل أراد أن في السؤال كراهة ومرارة مثل ما في الموت وان نفس الحر
____________________
(1/62)
تنفر منه كما تنفر نفوس الحيوان جملة من الموت وتطلب الحياة ما أمكن في الخلاص منه
فان قلت المعنى فيه أن السؤال يكسب الذل وينفي العز والذليل كالميت لفقد القدرة والتصرف فصار كتسميتهم خمول الذكر موتا والذكر بعد الموت حياة كما قال أمير المؤمنين علي رضى الله عنه مات خزان المال والعلماء باقون ما بقى الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة قلت إني آنس انهم لم يقصدوا هذا المعنى في السؤال وإنما أرادوا الكراهة ولذلك قال بعد البيت الذي كتبته
( كلاهما موت ولكن ذا ** اشد من ذاك لذل السؤال )
هذا وليس كل ما يعبر عنه بالموت لأنه يكره ويصعب ولا يستسلم له العاقل إلا بعد أن تعوزه الحيل فانه يحمل هذا المحمل وينقاد لهذا التأويل أترى المتنبي في قوله
( وقدمت أمس بها موته ** ولا يشتهى الموت من ذاقه )
أراد شيئا غير انه لقى شدة وأما العبارة عن خمول الذكر بالموت فانه وان كان يدخل في تنزيل الوجود منزلة العدم من حيث يقال أن الخامل لما لم
____________________
(1/63)
يذكر ولم بين منه ما يتحدث به صار كالميت الذي لا يكون منه قول بل ولا فعل يدل على وجوده فليس دخوله فيه ذلك الدخول وذلك أن الجهل ينافي العلم ويضاده كما لا يخفي والعلم إذا وجد فقد وجدت الحياة حتما واجبا وليس كذلك خمول الذكر والذكر لأنه ليس إذا وجد الذكر فقد وجدت الحياة لأنك تحدث عن الميت بأفعاله التي كانت منه في حال الحياة فيتصور الذكر ولا حياة على الحقيقة ولا يتصور العلم ولا حياة على الحقيقة وهكذا القول في الطرف الأخر وهو تسمية من لا يعلم ميتا وذلك أن الموت ها هنا عبارة عن عدم العلم وانتفائه وعدم العلم على الإطلاق حتى لا يوجد منه شىء أصلا وحتى لا يصح وجوده يقتضي وجود الموت على الحقيقة ولا يمكن أن يقال إن خمول الذكر يوجب الموت على الحقيقة فأنت إذن في هذا تنزل الوجود منزلة العدم على وجه لا ينصرف إلى الحقيقة ولا يصير إليها وإنما يمثل ويخيل وأما في الضرب الأول وهو جعل من لا يعلم ميتا ومن يعلم هو الحي فإنك تلاحظ الحقيقة وتشير إليها وتحطب في حبلها فاعرفه
وأما قولهم في الغنى إذا كان بخيلا لا ينتفع بماله إن غناء فقر فهو في الضرب الأول أعنى تنزيل الوجود منزلة العدم لمعرى الوجود مما هو المقصود منه وذلك أن المال لا يراد لذاته وإنما يراد للانتفاع به في الوجوه التي تعدها العقلاء انتفاعا فإذا حرم مالكه هذه الجدوى وهذه الفائدة فملكه له وعدم الملك سواء والغنى إذا صرف إلى المال فلا معنى له سوى ملك الإنسان الشيء الكثير منه ألا تراه يذكر مع الثروة فيقال
____________________
(1/64)
غنى مثر مكثر فإذا تبين بالعلة التي مضت أنه لا يستفيد بملكه هذا المال معنى وأن لا طائل له فيه فقد ثبت أن غناه والفقر سواء لأن الفقر أن لا يملك المال الكثير وأما قول اللؤماء إن انتفاعه في اعتقاده أنه متى شاء انتفع به وما يجد في نفسه من عزة الاستظهار وأنه يهان ويكرم من أجله فمن أضاليل المنى وقد يهان ويذل ويعذب بسببه حتى تنزع الروح دونه
ثم إن هذا الكلام وضعه العقلاء الذين عرفوا ما الانتفاع وهذا المخالف لا ينكر أن الانتفاع لو عدم كان ملكه الآن لمال وعدم ملكه سواء وإنما جاء يتطلب عذرا ويرخي دون لؤمه سترا ونظير هذا انك ترى الظالم المجترىء على الأفعال القبيحة يدعى لنفسه الفضيلة بأنه مديد الباع طويل اليد وأنه قادر على أن يلجىء غيره إلى التطامن له ثم لا يزيده احتجاجه إلا خزيا وذلا عند الله وعند الناس وترى المصدق له في دعواه أذم له وأهجى من المكذب لأن الذى صدقه أيس من أن ينزع إلى الإنسانية بحال والذى كذب رجا أن ينزع عند التنبيه والكشف عن القبيح
وأما قولهم في القناعة إنها الغنى كقوله إن القنوع الغنى لا كثرة المال يريد القناعة وكما قال الآخر
( إن القناعة فاعلمن غنى ** والحرص يورث أهله الفقرا )
____________________
(1/65)
وجعلهم الكثير المال إذا كان شرها حريصا على الازدياد فقيرا
فما يرجع إلى الحقيقة المحضة وان كان في ظاهر الكلام كالتشبيه والتمثيل
وذلك أن حقيقة الغنى هو انتفاء الحاجة والحاجة أن تريد الشيء ولا تجده والكثير المال إذا كان الحرص عليه غالبا والشره له أبدا صاحبا وكان حاله كحل من به كلب الجوع يأكل ولا يشبع أو من به البغر يشرب ولا يروى فكما أن إصابته من الطعام والشراب القدر الذي يشبع ويروى إذا كان المزاج معتدلا والصحة صحيحة لا تنفي عنه صفة الجائع والظمآن لوجود الشهوة ودوام مطالبة النفس وبقاء لهيب الظمأ وجهد العطش وكذلك الكثير المال له لا تحصل صفة الغنى ولا تزول عنه صفة الفقر مع بقاء حرصه الذي يديم له الفرم والشهوة والحاجة والطلب والضجر حين يفقد الزيادة التي يريدها وحين يفوته الربح من تجاراته وسائر متصرفاته حتى لا يكاد يفصل بين حاله وقد فاته ما طلب وبينها وقد أخذ بعض ماله وغصب ومن أين تحصل حقيقة الغنى لذي المال الكثير وقد تراه من بخله وشحه كالمقيد دون ما ملكه والمغلول اليد يموت صبرا ويعانى بؤسا ولا تمتد يده إلى ما يزعم انه يملكه فينفقه في لذة نفس أو فيما يكسب حمدا اليوم واجرا غدا ذاك لأنه عدم كرما يبسط أنامله وجودا ينصر آمله وعقلا ينصره وهمة تمكنه مما لديه وتسلطه عليه كما قال البحتري
( وواجد مال اعوزته سجيه ** تسلطه يوما على ذلك الوجد )
____________________
(1/66)
فقولهم إذن أن القناعة هي الغنى لا كثرة المال إخبار عن حقيقة نفذت بها قضايا العقول وصححتها الخبرة والعبرة ولكن رب قضية من العقل نافذة قد صارت كأنها من الأمور المتجوز فيها أو دون ذلك في الصحة لغلبة الجهل والسفه على الطباع وذهاب من يعمل بالعقل ويذعن له ويطرح الهوى ويصبو إلى الجميل ويأنف من القبيح ولذهاب الحياء وبطلانه وخروج الناس من سلطانه ويأس العاقل من أن يصادف عندهم أن نبه أو ذكر سمعا يعي وعقلا يراعي فجرى الغنى على كثرة المال والفقر على قلته مما يزيله العرف عن حقيقته في اللغة ولما كان الظاهر من حال الكثير المال انه لا يعجز عن شىء يريده من لذاته وسائر مطالبه سمى المال الكثير غنى وكذلك لما كان من قل ماله عجز عن أرادته سمى قلة المال فقرا فهو من جنس تسمية السبب باسم المسبب وإلا فحقيقة الغنى انتفاء الاحتياج وحقيقة الفقر الاحتياج والله تعالى الغنى على الحقيقة لاستحالة الاحتياج عليه جل وتعالى عن صفات المخلوقين وعلى ذاك ما جاء في الخبر من أن رسول الله قال أتدرون ما المفلس قالوا المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع قال المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وزكاته وصيامه فيأتي وقد شتم هذا واكل مال هذا وقذف هذا وضرب هذا وسفك دم هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فان فنيت حسناته قبل أن يفنى ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار وذاك انه بين الحكم في الآخرة فلما كان الإنسان إنما يعد غنيا في الدنيا بماله لأنه يجتلب به المسرة ويدفع المضرة وكان هذا الحكم في الآخرة للعمل الصالح ثبت لا محالة أن يكون
____________________
(1/67)
الخالي نعوذ بالله من ذلك هو المفلس إذ قد عرى مما لأجله يسمى الخالي من المال في الدنيا مفلسا وهو ما يوصله إلى الخير والنعيم ويقيه الشر والعذاب نسأل الله التوفيق لما يؤمن من عقابه
وإذا كان البحث والنظر يقتضي أن الغنى والفقر في هذا الوجه دالان على حقيقة هذا التركيب في اللغة كقولك غنيت عن الشىء واستغنيت عنه إذا لم تحتج إليه وافتقرت إلى كذا إذا احتجت إليه وجب أن لا يعدواها ههنا في المستعار والمنقول عن أصله فصل
إن قال قائل أن تنزيل الوجود منزلة العدم أو العدم منزلة الوجود ليس من حديث التشبيه في شىء لأن التشبيه أن يثبت لهذا معنى من معاني ذاك أو حكما من أحكامه كإثباتك للرجل شجاعة الأسد وللحجة حكم النور في انك تفصل بها بين الحق والباطل كما تفصل بالنور بين الأشياء وإذا قلت في الرجل القليل المعاني هو معدوم أو قلت هو والعدم سواء فلست تأخذ له شبها شىء من ولكنك تنفيه وتبطل وجوده كما انك إذا قلت ليس هو بشيء أو ليس برجل كان كذلك وكما لا يسمى أحد نحو قولنا ليس بشيء تشبيها كذلك ينبغي أن لا يكون قولك وأنت تقلل الشيء أخبرت عنه معدوم تشبيها وكذلك إذا جعلت المعدوم موجودا كقولك مثلا للمال يذهب ويفنى ويثمر صاحبه ذكرا جميلا وثناء حسنا
____________________
(1/68)
إنه باق لك موجود لم يكن ذلك تشبيها بل إنكارا لقول من نفي عنه الوجود حتى كأنك تقول عينه باقية كما كانت وإنما استبدل بصورة صورة فصار جمالا بعد ما كان مالا ومكارم بعد أن كان دراهم وإذا ثبت هذا في نفس الوجود والعدم ثبت في كل ما كان على طريق تنزيل الصفة الموجودة كأنها غير موجودة نحو ما ذكرت من جعل الموت عبارة عن الجهل فلم يكن ذلك تشبيها لأنه إذا كان لا يراد بجعل الجاهل ميتا إلا نفي الحياة عنه مبالغة ونفي العلم والتمييز والإحساس الذي لا يكون إلا مع الحياة كان محصوله أنك لم تعتد بحياته وترك الاعتداد بالصفة لا يكون تشبيها إنما هو نفي لها وإنكار لقول من أثبتها
فالجواب أن الأمر كما ذكرت ولكن تتبعت فيما وضعته ظاهر الحال ونظرت إلى قولهم موجود كالمعدوم وشىء كلا شىء ووجود شبيه بالعدم فان أبيت أن تعمل على هذا الظاهر لم أضايق فيه ألا أن من حقك أن تعلم أنه لا غنى بك عن حفظ الترتيب الذي رتبته في إعطاء المعقول اسم معقول آخر أعنى لا بد من أن تعلم انه يجيء على طريقين أحدهما تنزيل الوجود منزلة العدم كما مضى من أن جعل الموت عبارة عن الجهل وإيقاع اسمه عليه يرجع إلى تنزيل حياته الموجودة كأنها معدومة والثاني أن لا يكون هذا المعنى ولكن على أن لأحد المعنيين شبها بالآخر نحو أن السؤال يشبه في كراهته وصعوبته على نفس الحر الموت
وأعلم أني ذكرت لك في تمثيل هذه الأصول الواضح الظاهر القريب المتناول الكائن من قبيل المتعارف في كل لسان وما تجد اعترافا به وموافقة عليه من كل إنسان أو ما يشابه هذا الحد ويشاكله
____________________
(1/69)
ويداخل هذا الضرب ويشاركه ولم اذكر ما يدق ويغمض ويلطف ويغرب وما هو من الأسرار التي أثارتها الصنعة وغاصت عليها فكرة الأفراد من ذوي البراعة في الشعر لأن القصد إذا كان لتمهيد الأساس ووضع قواعد للقياس كان الأولى أن يعمد إلى ما هو اظهر وأجلى من الأمثلة لتكون الحجة بها عامة لا يصرف وجهها بحال والشهادة تامة لا تجد من السامعين غير قبول وإقبال حتى إذا تمهدت القواعد وأحكمت العرى والمعاقد اخذ حينئذ في تتبع ما اخترعته القرائح وعمد إلى حل المشكلات عن ثقة بأن هيئت المفاتح
هذا وفي الاستعارة بعد من جهة القوانين والأصول شغل الفكر ومذهب القول وخفايا ولطائف تبرز من حجبها بالرفق والتدريج والتلطف والتاني ولكني أظن أن الصواب أن أنقل الكلام إلى القول على التشبيه والتمثيل وحقيقتهما والمراد منهما خصوصا في كلام من يتكلم على الشعر ونتعرف أهما متساويان في المعنى أو مختلفان أم جنسهما واحد ألا أن أحدهما أخص من الآخر وأنا أضع لك جملة من القول نبين بها هذه الأمور التشبيه والتمثيل التشبيه وأقسامه
اعلم أن الشيئين إذا شبه أحدهما بالآخر كان ذلك على ضر بين أحدهما أن يكون من جهة أمر بين لا يحتاج فيه إلى تأول
____________________
(1/70)
والآخر أن يكون الشبه محصلا بضرب من التأول فمثال الأول تشبيه الشيء بالشيء من جهة الصورة والشكل نحو أن يشبه الشيء إذا استدار بالكرة في وجه وبالحلقة في وجه آخر وكالتشبيه من جهة اللون كتشبيه الخدود بالورد والشعر بالليل والوجه بالنهار وتشبيه سقط النار بعين الديك وما جرى في هذا الطريق أو جمع الصورة واللون كتشبيه الثريا بعنقود الكرم المنثور والنرجس بمداهن در حشوهن عقيق وكذلك التشبيه من جهة الهيئة نحو انه مستو منتصب مديد كتشبيه القامة بالرمح والقد اللطيف بالغصن ويدخل في الهيئة حل الحركات في أجسامها كتشبيه الذاهب على الاستقامة بالسهم السديد ومن تأخذه الأريحية فيهتز بالغصن تحت البارح ونحو ذلك وكذلك كل تشبيه جمع بين شيئين فيما يدخل تحت الحواس نحو تشبيهك صوت بعض الأشياء بصوت غيره كتشبيه اطيط الرحل بأصوات الفراريج كما قال
( كان أصوات من إيغالهن بنا ** أواخر الميس ايقاض الفراريج )
تقدير البيت كان أصوات أواخر الميس أصوات الفراريج من إيغالهن بنا ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله من إيغالهن وكتشبيه صريف أنياب البعير بصياح البوازي كما قال
____________________
(1/71)
( كأن على أنيابها كل سحرة ** صياح البوازي من صريف اللوائك )
وأشباه ذلك من الأصوات المشبهة له وكتشبيه بعض الفواكه الحلوة بالعسل والسكر وتشبيه اللين الناعم بالخز والخشن بالمسح أو رائحة بعض الرياحين برائحة الكافور أو رائحة بعضها ببعض كما لا يخفي وهكذا التشبيه من جهة الغريزة والطباع كتشبيه الرجل بالأسد في الشجاعة والذئب في النكر والأخلاق كلها تدخل في الغريزة نحو السخاء والكرم واللؤم وكذلك تشبيه الرجل بالرجل في الشدة والقوة وما يتصل بها
فالشبه في هذا كله بين لا يجرى فيه التأول ولا يفتقر إليه في تحصيله وأي تأول يجرى في مشابهة الخد للورد في الحمرة وأنت تراها ههنا كما تراها هناك وكذلك تعلم الشجاعة في الأسد كما تعلمها في الرجل
ومثال الثاني وهو الشبه الذي يحصل بضرب من التأول كقولك هذه حجة كالشمس في الظهور وقد شبهت الحجة بالشمس من جهة ظهورها كما شبهت فيما مضى الشيء بالشيء من جهة ما أردت من لون أو صورة أو غيرهما إلا أنك تعلم أن هذا التشبيه لا يتم لك إلا بتأول وذلك أن تقول حقيقة ظهور الشمس وغيرها من الأجسام أن لا يكون دونها حجاب ونحوه مما يحول بين
____________________
(1/72)
العين وبين رؤيتها ولذلك يظهر الشيء لك ولا يظهر لك إذا كنت من وراء حجاب أو لم يكن بينك وبينه ذلك الحجاب
ثم تقول أن الشبهة نظير الحجاب فيما يدرك بالعقول لأنها تمنع القلب رؤية ما هي شبهة فيه كما يمنع الحجاب العين أن ترى ما هو من ورائه
ولذلك توصف الشبهة بأنها اعترضت دون الذي يروم القلب إدراكه ويصرف فكره للوصول إليه من صحة حكم أو فساده فإذا ارتفعت الشبهة وحصل العلم بمعنى الكلام الذي هو الحجة على صحة ما أدى من الحكم قيل هذا ظاهر كالشمس أي ليس ههنا مانع عن العلم به ولا للتوقف والشك فيه مساغ وان المنكر له إما مدخول في عقله أو جاحد مباهت ومسرف في العناد كما أن الشمس الطالعة لا يشك فيها ذو بصر ولا ينكرها إلا من لا عذر له في إنكاره فقد احتجت في تحصيل الشبه الذي أثبته بين الحجة والشمس إلى مثل هذا التأويل كما ترى
ثم أن ما طريقة التأول يتفاوت تفاوتا شديدا فمنه ما يقرب مأخذه ويسهل الوصول إليه ويعطى المقادة طوعا حتى انه يكاد يداخل الضرب الأول الذي ليس من التأول في شىء وهو ما ذكرته لك ومنه ما يحتاج فيه إلى قدر من التأمل ومنه ما يدق ويغمض حتى يحتاج في استخراجه إلى فضل روية ولطف فكره
فما يشبه الذي بدأت به في قرب المأخذ وسهولة المأتى قولهم في صفة الكلام ألفاظه كالماء في السلاسة وكالنسيم في الرقة وكالعسل في الحلاوة يريدون أن اللفظ لا يستغلق ولا يشتبه معناه ولا يصعب الوقوف عليه وليس هو بغريب وحشى يستنكره لكونه غير مألوف
____________________
(1/73)
أو ما ليس في حروفه تكرير وتنافر يكد اللسان من اجلهما فصارت لذلك كالماء الذي يسوغ في الحلق والنسيم الذي يسرى في البدن ويتخلل المسالك اللطيفة منه ويهدى إلى القلب روحا ويوجد في الصدر انشراحا ويفيد النفس نشاطا وكالعسل الذي يلذ طعمه وتهش النفس له ويميل الطبع إليه ويحب وروده عليه فهذا كله تأول ورد شىء إلى شىء بضرب من التلطف وهو ادخل قليلا في حقيقة التأول وأقوى حالا في الحاجة إليه من تشبيه الحجة بالشمس
وأما ما تقوى فيه الحاجة إلى التأول حتى لا يعرف المقصود من التشبيه فيه ببديهة السماع فنحو قول كعب الاشقري وقد أوفده المهلب على الحجاج فوصف له بنيه وذكر مكانهم من الفضل والبأس فسأله في آخر القصة قال فكيف كان بنو المهلب فيهم قال كانوا حماة السرح نهارا فإذا اليلوا ففرسان البيات قال فأيهم كان انجد قال كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها فهذا كما ترى ظاهر الأمر في فقرة إلى فضل الرفق به والنظر ألا ترى أنه لا يفهمه حق فهمه إلا من له ذهن ونظر
____________________
(1/74)
يرتفع به عن طبقة العامة وليس كذلك تشبيه الحجة بالشمس فانه كالمشترك البين الاشتراك حتى يستوي في فعرفته اللبيب اليقظ والمضعوف المغفل
وهكذا تشبيه الألفاظ بما ذكرت قد تجده في كلام العامي فأما ما كان مذهبه اللطف مذهب قوله هم كالحلقة فلا تراه إلا في الآداب والحكم المأثورة عن الفضلاء وذوى العقول الكاملة الفرق بين التشبيه والتمثيل
وإذ قد عرفت الفرق بين الضربين فاعلم أن التشبيه عام والتمثيل أخص منه فكل تمثيل تشبيه وليس كل تشبيه تمثيلا فأنت تقول في قول قيس ابن الخطيم
( وقد لاح في الصبح الثريا لمن رأى ** كعنقود ملاحية حين نورا )
انه تشبيه حسن ولا تقول هو تمثيل وكذلك تقول ابن المعتز حسن التشبيهات بديعها لأنك تعنى تشبيهه المبصرات بعضها ببعض وكل ما لا يوجد التشبيه فيه من طريق التأول كقوله
( كان عيون النرجس الغض حولها ** مداهن در حشوهن عقيق ) وقوله
( وارى الثريا في السماء كأنها ** قدم تبدد من ثياب حداد )
وقوله
( وتروم الثريا ** في الغروب مراما )
( كانكباب طمر ** كاد يلقى اللجاما )
____________________
(1/75)
وقوله
( قد انقضت دولة الصيام وقد ** بشر سقم الهلال بالعيد )
( يتلو الثريا كفاغر شره ** يفتح فاه لأكل عنقود )
وقوله
( لما تعرى أفق الضياء ** مثل ابتسام الشفة اللمياء )
( وشمطت ذوائب الظلماء ** قدنا لعين الوحش والظباء )
( داهية محذورة اللقاء ** ويعرف الزجر من الدعاء )
( بإذن ساقطة الأرجاء ** كورد السوسنه الشهباء )
( ذا برثن كمثقب الحذاء ** ومقلة قليلة الأقذاء )
( صافية كقطرة من ماء ** )
____________________
(1/76)
وما كان من هذا الجنس ولا تريد نحو قوله
( اصبر على مضض الحسو ** د فان صبرك قاتلة )
( فالنار تأكل نفسها ** إن لم تجد ما تأكله )
وذلك إن إحسانه في النوع الأول أكثر وهو به أشهر وكل ما لا يصح أن يسمى تمثيلا فلفظ المثل لا يستعمل فيه أيضا فلا يقال ابن المعتز حسن الأمثال تريد به نحو الأبيات التي قدمتها وإنما يقال صالح بن عبد القدوس كثير الأمثال في شعره يراد نحو قوله
( وان من أدبته في الصبا ** كالعود يسقى الماء في غرسه )
( حتى تراه مورقا نادرا ** بعد الذي أبصرت من يبسه )
____________________
(1/77)
وما أشبهه مما الشبه فيه من قبيل ما يجرى فيه التأول ولكن إن قلت في قول ابن المعتز
( فالنار تأكل نفسها ** إن لم تجد ما تأكله )
إنه تمثيل فمثل الذي قلت ينبغي أن يقال لأن تشبيه الحسود إذا صبر عليه وسكت عنه وترك غيظه يتردد فيه بالنار التي لا تمد بالحطب حتى يأكل بعضها بعضا مما حاجته إلى التأول ظاهرة بينة
فقد تبين بهذه الجملة وجه الفرق بين التشبيه والتمثيل وفي تتبع ما أجملت من أمرهما وسلوك طريق التحقيق فيهما ضرب من القول ينشط له من يأنس بالحقائق فصل
اعلم أن الذي أوجب أن يكون في التشبيه هذا الانقسام أن الاشتراك في الصفة يقع مرة في نفسها وحقيقة جنسها ومرة في حكم لها ومقتضى فالخد يشارك الورد في الحمرة نفسها ويجدها في الموضعين بحقيقتها واللفظ يشارك العسل في الحلاوة لا من حيث جنسه بل من جهة حكم وامر يقتضيه وهو ما يجده الذائق في نفسه من اللذة والحالة التي تحصل في النفس إذا صادفت بحاسة الذوق ما يميل إليه الطبع ويقع منه بالموافقة فلما كان كذلك احتيج لا محالة إذا شبه اللفظ بالعمل في الحلاوة أن يبين أن هذا التشبيه ليس من جهة الحلاوة نفسها وجنسها ولكن من مقتضى لها وصفة تتجدد في النفس بسببها وأن القصد أن يخبر بأن السامع يجد عند وقوع هذا اللفظ في سمعه حالة في نفسه شبيهه بالحالة التي يجدها
____________________
(1/78)
الذائق للحلاوة من العسل حتى لو تمثلت الحالتان للعيون لكانتا تريان على صورة واحدة ولوجدتا من التناسب على حد الحمرة من الخد والحمرة من الورد وليس ههنا عبارة أخص بهذا البيان من التأول لأن حقيقة قولنا تأولت الشيء أنك تطلبت ما يؤول إليه من الحقيقة أو الوضع الذي يؤول إليه من العقل لأن أولت وتأولت فعلت وتفعلت من آل الأمر إلى كذا يؤول إذا انتهى إليه والمآل المرجع وليس قول من جعل أولت وتأولت من أول بشيء لأن ما فاؤة وعينه من موضع واحد ككوكب وددن لا يصرف منه فعل وأول أفعل بدلالة قولنا أول منه كقولنا اسبق منه وأقدم فالواو الأولى فاء والثانية عين وليس هذا موضع الكلام في ذلك فيستقصي
وأما الضرب الأول فإذا كان المثبت من المشبه في الفرع من جنس المثبت في الأصل كان أصلا بنفسه وكان ظاهر أمره وباطنه واحدا وكان حاصل جمعك بين الورد والخد انك وجدت في هذا وذاك حمرة والجنس لا تتغير حقيقته بان يوجد في شيئين وإنما يتصور فيه التفاوت بالكثرة والقلة والضعف والقوة نحو أن حمرة هذا الشيء أكثر واشد من حمرة ذاك
وإذا تقررت هذه الجملة حصل من العلم بها أن التشبيه الحقيقي الأصلي هو الضرب الأول وأن هذا الضرب فرع له ومرتب عليه ويزيد ذلك بيانا أن مدار التشبيه على أنه يقتضي ضربا من الاشتراك ومعلوم أن الاشتراك في نفس الصفة اسبق في التصور من الاشتراك في مقتضى
____________________
(1/79)
الصفة كما أن الصفة نفسها مقدمة في الوهم على مقتضاها فالحلاوة أولا ثم إنها تقتضي اللذة في نفس الذائق لها وإذا تأملنا متصرف تركيبه وجدناه يقتضي أن يكون الشيئان من الاتفاق والاشتراك في الوصف بحيث يجوز أن يتوهم أن أحدهما الآخر وهكذا تراه في العرف والمعقول فان العقلاء يؤكدون أبدا أمر المشابهة بان يقولوا لا يمكنك أن تفرق بينهما ولو رأيت هذا بعد أن رأيت ذاك لم تعلم انك رأيت شيئا غير الأول حتى تستدل بأمر خارج عن الصورة ومعلوم أن هذه القضية إنما توجد على الإطلاق والوجود الحقيقي في الضرب الأول وأما الضرب الثاني فإنما يجيء فيه على سبيل التقدير والتنزيل فأما أن لا تجد فصلا بين ما يقتضيه العسل في نفس الذائق وما يحصل باللفظ المرضى والكلام المقبول في نفس السامع فمما لا يمكن ادعاؤه إلا على نوع من المقاربة أو المجازفة فإما على التحقيق والقطع فلا فالمشابهات المتأولة التي ينتزعها العقل من الشيء للشيء لا تكون في حد المشابهات الاصليه الظاهرة بل الشبه العقلي كان الشيء به يكون شبيها بالمشبه به فصل
ثم إن هذا الشبه العقلي ربما انتزع من شىء واحد كما مضى من انتزاع الشبه للفظ من حلاوة العسل وربما انتزع من عدة أمور يجمع بعضها إلى بعض ثم يستخرج من مجموعها الشبه فيكون سبيله سبيل الشيئين يمزج أحدهما بالآخر حتى تحدث صورة غير ما كان لهما في حال الأفراد لا سبيل
____________________
(1/80)
الشيئين يجمع بينهما وتحفظ صورتهما ومثل ذلك قوله عز وجل ( ^ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ) الشبه منتزع من أحوال الحمار وهو أنه يحمل الأسفار التي هي أوعيه العلوم ومستودع ثمر العقول ثم لا يحس بما فيها ولا يشعر بمضمونها ولا يفرق بينها وبين سائر الأحمال التي ليست من العلم في شىء ولا من الدلالة عليه بسبيل فليس له مما يحمل حظ سوى انه يثقل عليه ويكد جنبيه فهو كما ترى مقتضى أمور مجموعه ونتيجة لأشياء الفت وقرن بعضها إلى بعض
بيان ذلك انه احتيج إلى أن يراعى من الحمار فعل مخصوص وهو الحمل وان يكون المحمول شيئا مخصوصا وهو الأسفار التي فيها إمارات تدل على العلوم وان يثلث ذلك بجهل الحمار ما فيها حتى يحصل الشبه المقصود ثم إنه لا يحصل من كل واحد من هذه الأمور على الانفراد ولا يتصور أن يقال انه تشبيه بعد تشبيه من غير أن يقف الأول على الثاني ويدخل الثاني في الأول لأن الشبه لا يتعلق بالحمل حتى يكون من الحمار ثم لا يتعلق أيضا بحمل الحمار حتى يكون المحمول الأسفار ثم لا يتعلق بهذا كله حتى يقترن به جهل الحمار بالأسفار المحمولة على ظهره فما لم تجعله كالخيط الممدود ولم يمزج حتى يكون القياس قياس أشياء يبالغ في مزاجها حتى تتحد وتخرج عن أن تعرف صورة كل واحد منها على الانفراد بل تبطل صورها المفردة التى كانت قبل المزاج وتحدث صورة خاصة غير اللواتي عهدت ويحصل مذاقها حتى لو فرضت حصولها لك في تلك الأشياء من غير امتزاج فرضت مالا يكون لم يتم المقصود ولم تحصل النتيجة المطلوبة وهي الذم بالشقاء في شىء
____________________
(1/81)
يتعلق به غرض جليل وفائدة شريفة مع حرمان ذلك الغرض وعدم الوصول إلى تلك الفائدة واستصحاب ما يتضمن المنافع العظيمة والنعم الخطيرة من غير أن يكون ذلك الاستصحاب سببا إلى نيل شىء من تلك المنافع والنعم
ومثال ما يجيء فيه التشبيه معقودا على أمرين الا انهما لا يتشابكان هذا التشابك قولهم هو يصفو ويكدر ويمر ويحلو ويشج ويأسو ويسرج ويلجم لأنك وإن كنت أردت ان تجمع له الصفتين فليست إحداهما ممتزجه بالأخرى لأنك لو قلت هو يصفو ولم تتعرض لذكر الكدر أو قلت يحلو ولم يسبق ذكر يمر وجدت المعنى في تشبيهك له بالماء في الصفاء وبالعسل في الحلاوة بحالة وعلى حقيقته وليس كذلك الآمر في الآية لأنك لو قلت كالحمار يحمل اسفارا ولم تعتبر ان يكون جهل الحمار مقرونا بحمله وان يكون متعديا إلى مت تعدى إليه الحمل لم يتحصل لك المغزى منه وكذلك لو قلت هم كالحمار في أنه يجهل الأسفار ولم تشترط أن يكون حمله الاسفار مقرونا بجهله لها لكان كذلك وكذلك لو ذكرت الحمل والجهل مطلقين ولم تجعل لهما المفعول المخصوص الذي هو الأسفار فقلت هو كالحمار في انه يحمل ويجهل وقعت من التشبيه المقصود في الآية بأبعد البعد والنكته أن التشبيه بالحمل للأسفار إنما كان بشرط أن يقترن به الجهل ولم يكن الوصف بالصفاء والتشبيه بالماء فيه بشرط أن يقترن به الكدر
____________________
(1/82)
ولذلك لو قلت يصفو ولا يكدر لم تزدد في صميم التشبيه وحقيقته شيئا وانما استدمت الصفة كقولك يصفو ابدا وعلى كل حال فصل
اعلم أن الشبه إذا انتزع من الوصف لم يخل من وجهين أحدهما أن يكون لأمر لا يرجع إلى نفسه والآخر أن يكون لأمر لا يرجع إلى نفسه فالأول ما مضى في نحو تشبيه الكلام بالعسل في الحلاوة وذلك أن وجه التشبيه هناك أن كل واحد منهما يوجب في النفس لذة وحالة محمودة ويصادف منها قبولا وهذا حكم واجب للحلاوة من حيث هي حلاوة أو للعسل من حيث هو عسل
واما الثاني وهو ما ينتزع منه التشبيه لأمر لا يرجع إلى نفسه فمثالة أن يتعدى الفعل إلى شىء مخصوص يكون له من اجله حكم خاص نحو كونه واقعا في موقعه وعلى الصواب أو واقعا غير موقعه كقولهم هو كالقابض على الماء والراقم في الماء فالشبه ههنا منتزع مما بين القبض والماء وليس بمنتزع من القبض نفسه وذلك أن فائدة قبض اليد على الشىء أن يحصل فيها فإذا كان الشىء مما لا يتماسك ففعلك القبض في اليد لغو وكذلك القصد في الرقم أن يبقى اثر في الشىء إذا فعلته فيمالا يقبله كان فعلك كلا فعل وكذلك قولهم يضرب في حديد بارد وينفخ في غير فحم
وإذا ثبت هذا فكل شبه كان هذا سبيله فانك لا تجد بين المعنى المذكور وبين المشبه إذا أفردته ملابسه البتة ألا تراك تضرب الرقم في الماء والقبض عليه لأمور لاشبه بينهما وبينها البتة من حيث هما رقم وقبض
وإذ قد عرفت هذا فالحمل في الآية من هذا القبيل أيضا لأنه تضمن
____________________
(1/83)
الشبه من اليهود لا لأمر يرجع إلى حقيقة المحل بل لأمرين آخرين أحدهما تعدية إلى الأسفار والآخر اقتران الجهل للأسفار به وإذا كان الأمر كذلك كان قطعك الحمل عن هذين الأمرين في البعد من الغرض كقطعك القبض والرقم عن الماء في استحالة أن يعقل منهما ما يعقل بعد تعديهما إلى الماء بوجه من الوجوه فاعرفه
فان قلت ففي اليهود شبه من الحمل من حيث هو حمل على حال وذلك أن الحافظ للشىء بقلبه يشبه الحامل للشىء على ظهره وعلى ذلك يقال حملة الحديث وحملة العلم كما جاء في الأثر يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ورب حامل فقه إلى من هو افقه منه فالجواب أن الأمر وان كان كذلك فان هذا الشبه لم يقصد ههنا وانما قصد ما يوجبه تعدى الحمل إلى الأسفار مع اقتران الجهل بهابه وهو العناء بلا منفعة يبين ذلك أنك قد تقول للرجل يحمل في كمه أبدا دفاتر علم وهو بليد لا يفهم أو كسلان لا يتعلم إن كان يحمل كتب العلم فالحمار أيضا قد يحمل تريد أن تبطل دعواه آن له في حملة فائدة وان تسوي بينه وبين الحمار في فقد الفائدة مما يحمل فالحمل ههنا نفسه موجود في المشبه بالحمار ثم التشبيه لا ينصرف
____________________
(1/84)
إليه من حيث هو حمل وانما ينصرف إلى ما ذكرت لك من عدم الجدوى والفائدة وانما يتصور آن يكون الشبه راجعا إلى الحمل من حيث هو حمل حيث يوصف الرجل مثلا بكثرة الحفظ للوظائف آو جهد النفس في الأشغال المتراكمة وذلك خارج عن الغرض مما نحن فيه
ومن هذا الباب قولهم أخذ القوس باريها وذلك أن المعنى على وقوع الأخذ في موقعه ووجوده من أهله فلست تشبه من حيث الأخذ نفسه وجنسه ولكن من حيث الحكم الحاصل له بوقوعه من بارى القوس على القوس وكذلك قولهم ما زال يفتل منه في الذروة والغارب الشبه مأخوذ بين الفتل وما تعدى إليه من الذروة والغارب ولو أفردته لم تجد شبها بينه وبين ما يضرب هذا الكلام مثلا له لأنه يضرب في الفعل أو القول يصرف به الإنسان عن الامتناع إلى الإجابة وعن الإباء عليك في مرادك إلى موافقتك والمصير إلى ما تريد منه وهذا لا يوجد في الفتل من حيث هو فتل وانما يوجد في الفتل إذا وقع في الشعر من ذروة البعير وغاربه
واعلم آن هذا الشبه حكمه واحد سواء أخذته ما بين الفعل والمفعول الصريح أو ما يجرى مجرى المفعول فالمفعول كالقوس في قولك أخذ القوس باريها وما يجرى مجرى المفعول الجار مع المجرور كقولك كالرقم
____________________
(1/85)
في الماء وهو كمن يخط في الماء وكذلك الحال كقولهم كالحادي وليس له بعير فقولك وليس له بعير جملة من الحال وقد احتاج الشبه إليها لأنه مأخوذ ما بين المعنى الذي هو الحدو وبين هذه الحال كما كان مأخوذا بين الرقم والماء وما بين الفتل والذروة والغارب وقد تجد بك حاجة إلى مفعول وإلى الجار مع المجرور كقولك وهل يجمع السيفان في الغمد وآنت كمن يجمع السيفين في غمد آلا ترى آن الجمع فيه لا يغنى بتعديه إلى السيفين حتى يشترط كونه جمعا لهما في الغمد فمجموع ذلك كله يحصل الغرض وهكذا نحو قول العامة هو كثير الجور على إلفه وقولهم كمبتغى الصيد في عريسه الأسد لأن الصيد مفعول وفي عريسه جار مع المجرور
فإذا ثبت هذا ظهر منه أنه لا بدد لك في هذا الضرب من الشبه من جملة صريحة أو حكم الجملة فالجملة الصريحة قولك أخذ القوس باريها وحكم الجملة أن تقول هذا منك كالرقم في الماء والقبض على الماء فتأتى بالمصدر أو تقول كالراقم في الماء وكالقابض على الماء فتأتى باسم الفاعل
وذاك آن المصدر واسم الفاعل ليسا بجملتين صريحا ولكن حكم الجملة قائم فيهما وهو أنك أعملتهما عمل الفعل ألا ترى انك عديتهما على حسب ما تعدى الفعل وخصائص هذا النوع من التمثيل اكثر من أن تضبط وقد وقفتك على الطريقه
فهذا أحد الوجوه التى يكون الشبه العقلى بها حاصلا لك من جملة من الكلام وأظنه من أقوى الأسباب والعلل فيه
____________________
(1/86)
وعلى الجملة فينبغى أن تعلم آن المثل الحقيقي والتشبيه الذي هو الأولى بأن يسمى تمثيلا لبعده عن التشبيه الظاهر الصريح ما تجده لا يحصل لك إلا من جملة من الكلام او جملتين أو أكثر حتى إن التشبيه كلما كان اوغل في كونه عقليا محضا كانت الحاجة إلى الجملة اكثر الا ترى إلى نحو قوله عز وجل ( ^ انما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها انهم قادرون عليها أتاها امرنا ليلا او نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ) كيف كثرت الجمل فيه حتى إنك ترى في هذه الآية عشر جمل إذا فصلت وهي وإن كان قد دخل بعضها في بعض حتى كأنها جملة واحدة فإن ذلك لا يمنع من أن تكون صورة الجمل معنا حاصلة تشير إليها واحدة واحدة ثم إن الشبه منتزع من مجموعها من غير ان يمكن فصل بعضها عن بعض وإفراد شطر من شطر حتى إنك لو حذفت منها جملة واحدة من أى موضع كان أخل ذلك بالمغزى من التشبيه
ولا ينبغى آن تعد الجمل في هذا النحو بعد التشبيهات التى يضم بعضها إلى بعض والأعراض الكثيرة التى كل واحد منها منفرد بنفسه بل بعد جمل تنسق ثانيه منها على أولة وثالثة على ثانية وهكذا فإن ما كان من هذا الجنس لم تترتب فيه الجمل ترتيبا محصوصا حتى يجب أن تكون هذه سابقة وتلك تالية لها والثالثة بعدهما الا ترى انك إذا قلت زيد كالأسد بأسا والبحر جودا والسيف مضاء والبدر بهاء لم يجب عليك أن تحفظ في هذه التشبيهات نظاما مخصوصا بل لو بدأت بالبدر وتشبيهه به في الحسن وأخرت تشبيهه في بالأسد في الشجاعة كان المعنى بحاله وقوله
____________________
(1/87)
( النشر مسك والوجوه دنا ** نير واطراف الأكف عنم )
إنما يجب حفظ هذا الترتيب فيها لأجل الشعر فأما أن تكون هذه الجمل متداخلة كتداخل الجمل في الآية وواجبا فيها أن يكون لها نسق مخصوص كالنسق في الأشياء إذا رتبت ترتيبا مخصوصا كان لمجموعها صورة خاصة فلا
وقد يجىء الشىء من هذا القبيل يتوهم فيه أن إحدى الجملتين أو الجمل تنفرد وتستعمل بنفسها تشبيها وتمثيلا ثم لا يكون كذلك عند حسن التأمل مثال ذلك قوله
( كما أبرقت قوما عطاشا غمامه ** فلما رأوها أقشعت وتجلت )
هذا مثل في أن يظهر للمضطر إلى الشىء الشديد الحاجة إليه أمارة وجوده ثم يفوته ويبقى لذلك بحسرة وزيادة ترح وقد يمكن أن يقال إن قولك أبرقت قوما عطاشا غمامه تشبيه مستقل بنفسه لا حاجة به إلى ما بعده من تمام البيت في إفادة المقصود الذي هو ظهور أمر مطمع لمن هو شديد الحاجة إلا أنه وإن كان كذلك فإن حقنا أن ننظر في مغزى المتكلم في تشبيهه ونحن نعلم أن المغزى أن يصل ابتداءا مطمعا بانتهاء مؤيس وذلك يقتضى وقوف الجملة الأولة على ما بعدها من تمام البيت ووزان هذا أن الشرط والجزاء جملتان ولكنا نقول إن حكمهما حكم جملة واحدة
____________________
(1/88)
من حيث دخل في الكلام معنى يربط إحداهما بالأخرى حتى صارت الجملة لذلك بمنزلة الإسم المفرد في امتناع أن تحصل به الفائدة فلو قلت إن تأتنى وسكت لم يفد كما لا يفيد إذا قلت زيد وسكت فلم تذكر اسما آخر ولا فعلا ولا كان منويا في النفس معلوما من دليل الحال ثم إن الأمر وإن كان كذلك فقد يجوز أن يخرج الكلام عن الجزاء فتقول تأتيني فتعود الجملة على الإفادة لإغنائك لها عن أن ترتبط بأخرى وإزالتك المعنى الذى أوجب فقرها إلى صاحبة لها إلا أن الغرض الأول يبطل والمعنى يتبدل فكذلك الاقتصار على الجملة التى هي أبرقت قوما عطاشا غمامه تخرج عن غرض الشاعر
فإن قلت فهذا يلزمك في قولك هو يصفو ويكدر وذلك أن الاقتصار على أحد الأمرين يبطل غرض القائل وقصده آن يصف الرجل بأنه يجمع الصفتين وأن الصفاء لا يدوم فالجواب أن بين الموضعين فرقا وإن كان يغمض قليلا وهو أن الغرض في البيت أن يثبت ابتداء مطمعا مؤنسا أدى إلى انتهاء مؤيس موحش وكون الشىء ابتداء لآخر هو له انتهاء معنى زائد على الجمع بين الأمرين والوصف بأن كل واحد منهما يوجد في المقصود وليس لك في قولك يصفو ويكدر أكثر من الجمع بين الوصفين ونظير هذا أن تقول هو كالصفو بعد الكدر في حصول معنى يجب معه ربط أحد الوصفين بالآخر في الذكر ويتعين به العرض حتى لو قلت يكدر ثم يصفو فجئت بثم التي توجب الثاني مرتبا على الأول وأن أحدهما مبتدأ والآخر بعده صرت بالجملة إلى حد ما نحن عليه
____________________
(1/89)
من الارتباط ووجوب أن يتعلق الحكم بمجموعهما ويوجب الشبه إن شبهت ما بينهما على التشابك والتداخل دون التباين والتزايل
ومن الواضح في كون الشبه معلقا بمجموع الجملتين حتى لا يقع في الوهم تميز إحداهما على الأخرى قوله بلغني أنك تقدم رجلا وتؤخر أخرى فإذا آتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام وذلك أن المقصود من هذا الكلام التردد بين الأمرين وترجيح الرأي فيهما ولا يتصور التردد والترجيح في الشىء الواحد فلو جهدت وهمك أن تتصور لقولك تقدم رجلا معنى وفائدة ما لم تقل وتؤخر أخرى آو تنوه في قلبك كلفت نفسك شططا
وذكر آبو أحمد العسكرى أن هذا النحو من الكلام يسمى المماثلة وهذه التسميه توهم أنه شىء غير المراد بالمثل والتمثيل وليس الامر كذلك كيف وأنت تقول مثلك مثل من يقدم رجلا ويؤخر أخرى ووزان هذا أنك تقول زيد الأسد فيكون تشبيها على الحقيقة وإن كنت لم تصرح بحرف التشبيه ومثله أنك تقول أنت ترقم في الماء وتضرب في حديد بارد وتنفخ في غير فحم فلاتذكر ما يدل صريحا على أنك تشبه ولكنك تعلم أن المعنى على قولك أنت كمن يرقم في الماء وكمن يضرب في حديد بارد وكمن ينفخ في غير فحم وما أشبه ذلك مما تجىء فيه بمشبه به ظاهر تقع هذه الأفعال في صفة اسمه أو صفته
____________________
(1/90)
واعلم آن المثل قد يضرب بجمل لا بد فيها من أن يتقدمها مذكور يكون مشبها به ولا يمكن حذف المشبه به والاقتصار على ذكر المشبه ونقل الكلام اليه حتى كأنه صاحب الجملة إلا انه مشبه بمن صفته وحكمه مضمون تلك الجملة
بيان هذا آن قول النبي الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة لا بد فيه من المحافظة على ذكر المشبه به الذي هو الإبل فلو قلت الناس لا تجد فيهم راحلة أو لا تجد في الناس راحلة كان ظاهر التعسف
وههنا ما هو أشد اقتضاء للمحافظة على ذكر ما تعلق الجملة به وتسند إليه وذلك مثل قوله عز وجل ( ^ إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ) الأيه
لو أردت أن تحذف الماء الذي هو المشبه به وتنقل الكلام إلى المشبه الذي هو الحياة أردت ما لا تحصل منه على كلام يعقل لأن الأفعال المذكورة المحدث بها عن الماء لا يصح إجراؤها على الحياة فاحفظ هذا الأصل فإنك تحتاج إليه وخصوصا في الاستعارة على ما يجىء القول فيه آن شاء الله تعالى
والجملة إذا جاءت بعد المشبه به لم تخل من ثلاثة أوجه أحدها أن يكون المشبه به معبرا عنه بلفظ موصول وتكون الجملة صلة كقولك أنت الذي من شأنه كيت وكيت كقوله تعالى ( ^ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله )
____________________
(1/91)
والثاني أن يكون المشبه به نكرة تقع الجملة صفة له كقولنا أنت كرجل أمره من كذا وكذا وقول النبي الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة وأشباه ذلك
والثالث آن تجىء الجملة مبتدأة وذلك إذا كان المشبه به معرفة ولم يكن هناك الذي كقوله تعالى ( ^ كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ) فصل في مواقع التمثيل وتأثيره
واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعانى أو برزت هي بإختصار في معرضه ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته كساها
____________________
(1/92)
أبهة وكسبها منقبة ورفع من أقدارها وشب من نارها وضاعف قواها في تحريك النفوس لها ودعا القلوب إليها واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفا وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفا
فإن كان مدحا كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس وأعظم وأهز للعطف وأسرع للإلف وأجلب للفرح وأغلب على الممتدح وأوجب شفاعة للمادح وأقضى له بغر المواهب والمنائح وأسير على الألسن وأذكر وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر
وإن كان ذما كان مسه اوجع وميسمه ألذع ووقعه أشد وحده أحد
____________________
(1/93)
وإن كان حجاجا كان برهانه أنور وسلطانه أقهر وبيانه أبهر
وان كان افتخارا كان شأوه أبعد وشرفه أجد ولسانه ألد
وان كان اعتذارا كان إلى القبول أقرب وللقلوب أخلب وللسخائم أسل ولغرب الغضب أفل وفي عقد العقود أنفث وعلى حسن الرجوع ابعث
____________________
(1/94)
وإن كان وعظا كان اشفي للصدر وادعى إلى الفكر وأبلغ في التنبيه والزجر واجدر بأن يجلى الغياية ويبصر الغاية ويبرىء
____________________
(1/95)
العليل ويشفي الغليل
وهكذا الحكم إذا استقريت فنون القول وضروبه وتتبعت أبوابه وشعوبه وإن أردت أن تعرف ذلك وإن كان تقل الحاجة فيه
____________________
(1/96)
إلى التعريف ويستغنى في الوقوف عليه عن التوقيف فانظر إلى نحو قول البحتري
____________________
(1/97)
( دان على أيدى العفاة وشاسع ** عن كل ند في الندى وضريب )
( كالبدر افرط في العلو وضوءه ** للعصبة السارين جد قريب )
وفكر في حالك وحال المعنى معك وأنت في البيت الأول لم تنته إلى الثاني ولم تتدبر نصرته إياه وتمثيله له فيما يملي على الإنسان عيناه ويؤدي إليه ناظراه ثم قسمهما على الحال وقد وقفت عليه وتأملت طرفيه فإنك تعلم بعد ما بين حالتيك وشدة تفاوتهما في تمكن المعنى لديك وتحببه إليك ونبله في نفسك وتوفيره لأنسك وتحكم لى بالصدق فيما قلت
____________________
(1/98)
والحق فيما ادعيت
وكذلك فتعهد الفرق بين أن تقول فلان يكد نفسه في قراءة الكتب ولا يفهم منها شيئا وتسكت وبين آن تتلو الآية وتنشد قول الشاعر
( زوامل للاشعارلاعلم عندهم ** بجيدها إلا كعلم الأباعر )
( لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ** باوساقه او راح ما في الغرائر )
والفصل بين آن تقول أرى قوما لهم بهاء ومنظر وليس هناك مخبر بل في الأخلاق دقة وفي الكرم ضعف وقلة وتقطع الكلام وبين أن تتبعه نحو قول الحكيم أما البيت فحسن واما الساكن فردىء
وقول ابن لنكك
( في شجر السرو منهم مثل ** له رواء وماله ثمر )
وقول ابن الرومي
( فغدا كالخلاف يورق للعين ** ويأبى الإثمار كل الإباء )
وقول الآخر
( فإن طرة راقتك فانظر فربما ** أمر مذاق العود والعود أخضر )
وانظر إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يورق شجره ويثمر ويفتر ثغره ويبسم وكيف تشتار الأرى من مذاقته كما ترى الحسن في شارته وأنشد قول ابن لنكك
____________________
(1/99)
( إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا ** رأيت صورته من أقبح الصور )
وتبين المعنى واعرف مقداره ثم أنشد البيت بعده
( وهبك كالشمس في حسن ألم ترنا ** نفر منها إذا مالت إلى الضرر )
وانظر كيف يزيد شرفة عندك وهكذا فتأمل بيت أبي تمام
( وإذا أراد الله نشر فضيلة ** طويت أتاح لها لسان حسود )
مقطوعا عن البيت الذي يليه والتمثيل الذي يؤديه واستقص في تعرف قيمته على وضوح معناه وحسن مزيته ثم أتبعه إياه
( لولا اشتعال النار فيما جاورت ** ما كان يعرف طيب عرف العود )
وانظر هل نشر المعنى تمام حلته وأظهر المكنون من حسنة وزينته وعطرك بعرف عوده وأراك النضرة في عوده وطلع عليك من مطلع سعوده واستكمل فضله في النفس ونبله واستحق التقديم كله إلا بالبيت الأخير وما فيه من التمثيل والتصوير
وكذلك فرق في بيت المتنبي
( ومن يك ذا فم مر مريض ** يجد مرا به الماء الزلالا )
لو كان سلك بالمعنى الظاهر من العبارة كقولك إن الجاهل الفاسد الطبع يتصور المعنى بغير صورته ويخيل إليه في الصواب انه خطأ هل كنت تجد هذه الروعة وهل كان يبلغ من وقم الجاهل ووقذه وقمعه وردعه والتهجين له والكشف عن نقصه ما بلغ التمثيل في البيت وينتهى إلى حيث ينتهى
____________________
(1/100)
وإن اردت اعتبار ذلك في الفن الذي هو اكرم وأشرف فقابل بين أن تقول إن الذي يعظ ولا يتعظ يضر بنفسه من حيث ينفع غيره وتقتصر عليه وبين أن تذكر المثل فيه على ما جاء في الخبر من ان النبي قال مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به مثل السراج الذي يضىء للناس ويحرق نفسه ويروى مثل الفتيلة تضىء للناس وتحرق نفسها وكذا فوازن بين قولك للرجل وأنت تعظه إنك لا تجزى على السيئة حسنه فلا تغر نفسك وتمسك وبين أن تقول في أثره إنك لا تجنى من الشوك العنب وانما تحصد ما تزرع وأشباه ذلك وكذا بين أن تقول لا تكلم الجاهل بما لا يعرفه ونحوه وبين أن تقول لا تنثر الدر قدام الخنازير أولا تجعل الدر في أفواه الكلاب وتنشد نحو قول الشافعي رحمه الله أأنثر درا بين سارحة الغنم وكذا بين أن تقول الدنيا لا تدوم ولا تبقى وبين آن تقول هي ظل زائل وعارية تسترد ووديعة تسترجع وتذكر قول النبي من في الدنيا ضيف وما في يديه عارية والضيف مرتحل والعارية مؤداة وتنشد قول لبيد
( وما المال والأهلون إلا ودائع ** ولا بد يوما أن ترد الودائع )
وقول الآخر
( إنما نعمة قوم متعه ** وحياة المرء ثوب مستعار )
____________________
(1/101)
فهذه جملة من القول تخبر عن صيغ التمثيل وتخبر عن حال المعنى معه فأما القول في العلة والسبب لم كان للتمثيل هذا التأثير وبيان جهته ومأتاه وما الذي أوجبه واقتضاه فغيرها وإذا بحثنا عن ذلك وجدنا له أسبابا وعللا كل منها يقتضي أن يفخم المعنى بالتمثيل وينبل ويشرف ويكمل فأول ذلك وأظهره أن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلى وتأتيها بصريح بعد مكنى وان تردها في الشىء تعلمها إياه إلى شىء آخر هي بشأنه اعلم وثقتها به في المعرفة احكم نحو آن تنقلها عن العقل إلى الإحساس وعما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع لأن العلم المستفاد من طرق الحواس أو المركوز فيها من جهة الطبع وعلى حد الضرورة يفضل المستفاد من جهة النظر والفكر في القوة والاستحكام وبلوغ الثقة فيه غاية التمام كما قالوا ليس الخبر كالمعاينة ولا الظن كاليقين فلهذا يحصل بهذا العلم هذا الأنس أعنى الأنس من جهة الاستحكام والقوة وضرب آخر من الأنس وهو ما يوجبه تقدم الألف كما قيل
( ما الحب إلا للحبيب الأول ** )
ومعلوم آن العلم الأول آتى النفس أولا من طريق الحواس والطباع ثم من جهة النظر والرويه فهو إذن أمس بها رحما وأقوى لديها ذمما واقدم لها صحبة وآكد عندها حرمة وإذا نقلتها في الشىء بمثله عن
____________________
(1/102)
المدرك بالعقل المحض وبالفكرة في القلب إلى ما يدرك بالحواس أو يعلم بالطبع وعلى حد الضرورة فأنت كمن يتوسل إليها للغريب بالحميم وللجديد الصحبة بالحبيب القديم فأنت إذن مع الشاعر وغير الشاعر إذا وقع المعنى في نفسك غير ممثل ثم مثله كمن يخبر عن شىء من وراء حجاب ثم يكشف عنه الحجاب ويقول ها هو ذا فأبصره تجده على ما وصفت
فإن قلت إن الأنس بالمشاهدة بعد الصفة والخبر إنما يكون لزوال الريب والشك في الأكثر أفتقول إن التمثيل إنما أنس به لأنه يصحح المذكور والصفة السابقة ويثبت أن كونها جائز ووجودها صحيح غير مستحيل حتى لا يكون تمثيل إلا كذلك فالجواب أن المعانى التى يجىء التمثيل في عقبها على ضربين غريب بديع يمكن أن يخالف فيه ويدعى امتناعه واستحالة وجوده وذلك نحو قوله
( فإن تفق الأنام وأنت منهم ** فإن المسك بعض دم الغزال )
وذلك أنه أراد أنه فاق الأنام وفاتهم إلى حد بطل معه آن يكون بينه وبينهم مشابهة ومقاربة بل صار كأنه أصل بنفسه وجنس برأسه وهذا أمر غريب وهو أن يتناهى بعض أجزاء الجنس في الفضائل الخاصة به إلى أن يصير كأنه ليس من ذلك الجنس وبالمدعى له حاجة إلى آن يصحح دعواه في جواز وجوده على الجملة إلى أن يجىء إلى وجوده في الممدوح فإذا قال فإن المسك بعض دم الغزال فقد احتج لدعواه وأبان أن لما ادعاه أصلا في الوجود وبرأ نفسه من صفة الكذب وباعدها من سفه المقدم على غير بصيرة والمتوسع في الدعوى من غير البينه وذلك أن المسك قد خرج عن صفة الدم وحقيقته حتى لا يعد في جنسه
____________________
(1/103)
إذ لا يوجد في الدم شىء من أوصافه الشريفة الخاصة بوجه من الوجوه لا ما قل ولا ما كثر ولا في المسك شيء من الأوصاف التي كان لها الدم دما البتة
والضرب الثاني أن لا يكون المعنى الممثل غريبا نادرا يحتاج في دعوى كونه على الجملة إلى بينة وحجة واثبات نظير ذلك أن ينفي عن فعل من الأفعال التي يفعلها الإنسان الفائدة ويدعى أنه لا يحصل منه على طائل ثم يمثله في ذلك بالقابض على الماء والراقم فيه فالذي مثلت ليس بمنكر مستبدع إذ لا ينكر خطأ الإنسان في فعله أو ظنه وأمله وطلبه ألا ترى أن المغزى من قوله
( فأصبحت من ليلى الغداة كقابض ** على الماء خانته فروج الأصابع )
أنه قد خاب في ظنه أنه يتمتع بها ويسعد بوصلها وليس بمنكر ولا عجيب ولا ممتنع في الوجود خارج من المعروف المعهود أن يخيب ظن الإنسان في أشباه هذا من الأمور حتى يستشهد على إمكانه وتقام البينه على صدق المدعى لوجدانه
وإذا ثبت أن المعاني الممثلة تكون على هذين الضربين فإن فائدة التمثيل وسبب الأنس في الضرب الأول بين لائح لأنه يفيد فيه الصحة وينفي الريب والشك ويؤمن صاحبه من تكذيب المخالف وتهجم المنكر وتهكم المعترض وموازنته بحالة كشف الحجاب عن الموصوف المخبر عنه حتى يرى ويبصر ويعلم كونه على ما أثبته عليه موازنة ظاهرة صحيحة
وأما الضرب الثاني فإن التمثيل وإن كان لا يفيد فيه هذا الضرب من الفائدة فهو يفيد أمرا آخر يجرى مجراه وذلك أن الوصف كما يحتاج إلى
____________________
(1/104)
إقامة الحجة على صحة وجوده في نفسه وزيادة التثبيت والتقرير في ذاته وأصله فقد يحتاج إلى بيان المقدار فيه ووضع قياس من غيره يكشف عن حده ومبلغه في القوة والضعف والزيادة والنقصان وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر أولا إلى التشبيه الضريح الذي ليس بتمثيل كقياس الشيء على الشيء في اللون مثلا كحنك الغراب تريد أن تعرف مقدار الشدة لا أن تعرف نفس السواد على الإطلاق
وإذا تقرر هذا الأصل فإن الأوصاف التي ترد السامع فيها بالتمثيل من العقل إلى العيان والحس وهي في أنفسها معروفة مشهورة صحيحة لا تحتاج إلى الدلالة على أنها هل هي ممكنة موجودة أم لا فإنها وإن غنيت من هذه الجهة عن التمثيل بالمشاهدات والمحسوسات فإنها تفتقر إليه من جهة المقدار لأن مقاديرها في العقل تختلف وتتفاوت فقد يقال في الفعل انه من حال الفائدة على حدود مختلفة في المبالغة والتوسط فإذا رجعت إلى ما تبصر وتحس عرفت ذلك بحقيقته وكما يوزن بالقسطاس فالشاعر لما قال كقابض على الماء خانته فروج الأصابع أراك رؤية لا تشك معها ولا ترتاب انه بلغ في خيبه ظنه وبوار سعيه إلى أقصى المبالغ وانتهى فيه إلى ابعد الغايات حتى لم يحظ لا بما قل ولا ما كثر
فهذا هو الجواب ونحن بنوع من التسهيل والتسامح نقع على أن الأنس الحاصل بانتقالك في الشىء عن الصفة والخبر إلى العيان ورؤية البصر ليس له سبب سوى زوال الشك والريب
فأما إذا رجعنا إلى التحقيق فإنا نعلم أن المشاهدة تؤثر في النفوس مع
____________________
(1/105)
العلم بصدق الخبر كما اخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله ( ^ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) والشواهد في ذلك كثيرة والأمر فيه ظاهر ولولا أن الأمر كذلك لما كان لنحو قول أبى التمام
( وطول مقام المرء في الحى مخلق ** لديباجتيه فاغترب تتجدد )
( فإنى رأيت الشمس زيدت محبه ** إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد )
معنى وذلك أن هذا التجدد لا معنى له إن كانت الرؤية لا تفيد أنسا من حيث هي رؤية وكان الأنس لنفيها الشك والريب أو لوقوع العلم بأمر زائد لم يعلم من قبل وإذا كان الأمر كذلك فأنت إذا قلت للرجل أنت مضيع للحزم في سعيك ومخطىء وجه الرشاد وطالب لما لا تناله إذا كان الطلب على هذه الصفة ومن هذه الجهة ثم عقبته بقولك وهل يحصل في كف القابض على الماء شىء مما يقبض عليه فلو تركنا حديث تعريف المقدار في الشدة والمبالغة ونفي الفائدة من أصلها جانبا بقى لنا ما تقتضيه الرؤيه للموصوف على ما وصف عليه من الحالة المتجددة مع العلم بصدق الصفة يبين ذلك أنه لو كان الرجل مثلا على طرف نهر في وقت مخاطبة صاحبه وإخباره له بأنه لا يحصل من سعيه على شىء فادخل يده في الماء وقال انظر هل حصل في كفي من الماء شىء فكذلك أنت في أمرك كان لذلك ضرب من التأثير زائد على القول والنطق بذلك دون الفعل ولو أن رجلا أراد أن يضرب لك مثلا في تنافي الشيئين فقال هذا وذاك هل يجتمعان وأشار إلى ماء ونار حاضرين وجدت لتمثيله من التأثير مالا تجده إذا أخبرك بالقول فقال هل يجتمع الماء والنار وذلك الذي تفعل
____________________
(1/106)
المشاهدة من التحريك للنفس والذي يجب بها من تمكن المعنى في القلب إذا كانت مستفادة من العيان ومتصرفة حيث تتصرف العينان وإلا فلا حاجة بنا في أن الماء والنار لا يجتمعان إلى ما يؤكده من رجوع إلى مشاهدة واستيثاق بتجربة
ومما يدلك على أن التمثيل بالمشاهدة يزيد أنسا وإن لم يكن بك حاجة إلى تصحيح المعنى أو بيان لمقدار المبالغة فيه انك قد تعبر عن المعنى بالعبارة التي تؤديه وتبالغ وتجتهد حتى لا تدع في النفوس منزعا نحو أن تقول وأنت تصف اليوم بالطول يوم كأطول ما يتوهم وكأنه لا آخر له وما شاكل ذلك من نحو قوله
( في ليل صول تناهى العرض والطول ** كأنما ليله بالحشر موصول )
فلا تجد له من الأنس ما تجده لقوله
( ويوم كظل الرمح قصر طوله ** ) على أن عبارتك الأولى أشد وأقوى في المبالغة من هذا فظل الرمح على كل حال متناه تدرك العين نهايته وأنت قد أخبرت عن اليوم بأنه كأنه لا آخر له وكذلك تقول يوم كأقصر ما يتصور وكأنه ساعة وكلمح البصر كلا ولا فتجد هذا مع كونه تمثيلا لا يؤنسك إيناس قولهم أيام كأباهيم القطا وقول ابن المعتز
____________________
(1/107)
( بدلت من يوم كظل حصاة ** ليلا كظل الرمح غير موات )
وقول آخر
( ظللنا عند باب أبي نعيم ** بيوم مثل سالفة الذباب )
وكذا تقول فلان إذا هم بالشىء لم يزل ذاك عن ذكره وقلبه وقصر خواطره على إمضاء عزمه ولم يشغله شىء عنه فتحتاط للمعنى بأبلغ ما يمكن ثم لا ترى في نفسك له هزة ولا تصادف لما تسمعه أريحية وإنما تسمع حديثا ساذجا وخبرا غفلا حتى إذا قلت
( إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ** )
امتلأت نفسك سرورا وأدركتك طربة كما يقول القاضي أبو الحسن لا تملك دفعها عنك ولا تقل إن ذلك لمكان الإيجاز فإنه وإن كان يوجب شيئا منه فليس الأصل له بل لأن أراك العزم واقفا بين العينين وفتح إلى مكان المعقول من قلبك بابا من العين
وههنا إذا تأملنا مذهب آخر في بيان السبب الموجب لذلك هو ألطف مأخذا وأمكن في التحقيق واولى بان يحيط بأطراف الباب وهو أن لتصور الشبه من الشيء في غير جنسه وشكله والتقاط ذلك له من
____________________
(1/108)
غير محلته واجتلابه إليه من النيق البعيد بابا آخر من الظرف واللطف ومذهبا من مذاهب الإحسان لا يخفي موضعه من العقل واحضر شاهدا لك على هذا أن تنظر إلى تشبيه المشاهدات بعضها ببعض فإن التشبيهات سواء كانت عاميه مشتركة أم خاصية مقصورة على قائل دون قائل تراها لا يقع بها اعتداد ولا يكون لها موقع من السامعين ولا تهز ولا تحرك حتى يكون الشبه مقررا بين شيئين مختلفين في الجنس فتشبيه العين بالنرجس عامي مشترك معروف في أجيال الناس جار في جميع العادات وأنت تنظر إلى بعد ما بين العينين وبينه من حيث الجنس وتشبيه الثريا بما شبهت به من عنقود الكرم المنور واللجام المفضض والوشاح المفصل وأشباه ذلك خاصي والتباين بين المشبه والمشبه به في الجنس على مالا يحفى
وهكذا إذا استقريت التشبيهات وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشد كانت إلى النفوس أعجب وكانت النفوس لها أطرب وكان مكانها إلى أن تحدث الأريحية اقرب وذلك أن موضع الاستحسان ومكان الاستظراف والمثير للدفين من الارتياح والمتألف للنافر من المسرة والمؤلف لأطراف البهجة انك ترى بها الشيئين مثلين متباينين ومؤتلفين مختلفين وترى الصورة الواحدة في السماء والأرض وفي خلقة الإنسان وخلال الروض وهكذا طرائف تنثال عليك إذا فصلت هذه الجملة وتتبعت هذه اللمحة ولذلك تجد تشبيه البنفسج
____________________
(1/109)
في قوله
( ولازوردية تزهو بزرقتها ** بين الرياض على حمر اليواقيت )
( كأنها فوق قامات ضعفن بها ** أوائل النار في أطراف كبريت )
أغرب وأعجب وأحق بالولوع وأجدر من تشبيه النرجس بمداهن در حشوهن عقيق لأنه إذ ذاك مشبه لنبات غض يرف وأوراق رطبة ترى الماء منها يشف بلهب نار مستول عليه اليبس وباد فيه الكلف ومبنى الطباع وموضوع الجبلة على ان الشىء إذا ظهر من مكانه لم يعهد ظهوره منه وخرج من موضع ليس بمعدن له كانت صبابة النفوس به أكثر وكان بالشغف منها أجدر فسواء في إثارة التعجب وإخراجك إلى روعة المستغرب وجودك الشىء في مكان ليس من امكنته ووجود شىء لم يوجد ولم يعرف من أصله في ذاته وصفته ولو أنه شبه البنفسج ببعض النبات او صادف له شبها في شىء من المتلونات لم تجد له هذه الغرابة ولم ينل من الحسن هذا الحظ
____________________
(1/110)
وإذا ثبت هذا الأصل وهو أن تصوير الشبه بين المختلفين في الجنس مما يحرك قوى الاستحسان ويثير الكامن من الاستظراف فإن التمثيل أخص شىء بهذا الشان وأسبق جار في هذا الرهان وهذا الصنيع صناعته التي هو الإمام فيها والبادىء لها والهادي إلى كيفيتها وأمره في ذلك انك إذا قصدت ذكر ظرائفه وعد محاسنه في هذا المعنى والبدع التي يخترعها بحذقه والتأليفات التي يصل إليها برفقة ازدحمت عليك وغمرت جانبيك فلم تدر أيها تذكر ولا عن أيها تعبر كما قال
( إذا أتاها طالب يستامها ** تكاثرت في عينه كرامها )
وهل تشك في انه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر بعد ما بين المشرق والمغرب ويجمع ما بين المشئم والمعرق وهو يريك للمعانى الممثلة بالأوهام شبها في الأشخاص الماثلة والأشباح القائمة وينطق لك الأخرس ويعطيك البيان من الأعجم ويريك الحياة في الجماد ويريك التئام عين الأضداد فيأتيك بالحياة والموت مجموعين والماء والنار مجتمعين كما يقال في الممدوح هو حياة لأوليائه موت لأعدائه ويجعل الشيء من جهة ماء ومن أخرى نارا كما قال
( أنا نار في مرتقى نظر الحاسد ** ماء جار مع الإخوان )
وكما يجعل الشىء حلوا مرا وصابا عسلا وقبيحا حسنا كما قال
( حسن في عيون أعدائه أقبح ** من ضيفه رأته السوام )
____________________
(1/111)
ويجعل الشىء أسود أبيض في حال كنحو قوله
( له منظر في العين أبيض ناصع ** ولكنه في القلب أسود أسفع )
ويجعل الشىء كالمقلوب إلى حقيقة ضده كما قال
( غرة بهمة ألا إنما كن ** ت أغرا أيام كنت بهيما )
ويجعل الشىء قريبا بعيدا معا كقوله دان على أيدي العفاة وشاسع وحاضرا وغائبا كما قال
( أيا غائبا حاضرا في الفؤاد ** سلام على الحاضر الغائب )
ومشرقا مغربا كقوله
( له إليكم نفس مشرقة ** إن غاب عنكم مغربا بدنه )
وسائرا مقيما كما يجىء في وصف الشعر الحسن الذي يتداوله الرواة وتتهاداة الألسن كما قال القاضي أبو الحسن
( وجوابه الأفق موقوفة ** تسير ولم تبرح الحضرة )
____________________
(1/112)
وهل يخفي تقريبه المتباعدين وتوفيقه بين المختلفين وأنت تجد إصابة الرجل في الحجة وحسن تخليصه للكلام وقد مثلت تارة بالهناء ومعالجة الإبل الجربي به وأخرى بحز القصاب اللحم وإعماله السكين في تقطيعه وتفريقه في قولهم يضع الهناء مواضع النقب وهو الجرب ويطبق المفصل فانظر هل ترى مزيدا في التناكر والتنافر على ما بين طلا القطران وجنس القول والبيان ثم كرر النظر وتأمل كيف حصل الائتلاف وكيف جاء من جمع أحدهما إلى الآخر ما يأنس إليه العقل ويحمده الطبع حتى إنك لربما وجدت لهذا المثل إذا أورد عليك في أثناء الفصول وحين تبين الفاضل في البيان من المفضول قبولا ولا ما تجد عند فوح المسك ونشر الغالية وقد وقع ذكر الحز والتطبيق منك موقع ما ينفي الحزازات عن القلب ويزيل أطباق الوحشة عن النفس
وتكلف القول في أن للتمثيل في هذا المعنى المدى الذي لا يجارى إليه والباع الذي لا يطاول فيه كالاحتجاج للضروريات وكفى دليلا على تصرفه فيه باليد الصناع وإيفائه على غايات الابتداع انه يريك العدم وجودا والوجود عدما والميت حيا والحي ميتا أعنى جعلهم الرجل إذا بقى له ذكر جميل وثناء حسن بعد موته كأنه لم يمت وجعل الذكر حياة له
____________________
(1/113)
كما قال ذكرة الفتى عمره الثاني وحكمهم على الخامل الساقط القدر الجاهل الدنىء بالموت وتصييرهم إياه حين لم يكن ما يؤثر عنه ويعرف به كأنه خارج عن الوجود إلى العدم أو كأنه لم يدخل في الوجود
ولطيفة أخرى له في هذا المعنى هي إذا نظرت اعجب والتعجب بها أحق ومنها أوجب وذلك جعل الموت نفسه حياة مستأنفة حتى يقال إنه بالموت استكمل الحياة في قولهم فلان عاش حين مات يراد الرجل تحمله النفس الأبية وكرم النفس والأنفة من العار على أن يسخو بنفسه في الجود والبأس ففعل ما فعل كعب بن مامة في الإتيان على نفسه أو ما يفعله الشجاع المذكور من القتال دون حريمة والصبر في مواطن الاباء والتصميم في قتال الأعداء حتى يكون له يوم لا يزال يذكر وحديث يعاد على مر الدهور ويشهر كما قال ابن نباتة
( بأبى وأمي كل ذي ** نفس تعاف الضيم مرة )
( يرضى بان يرد الردى ** فيميتها ويعيش ذكره )
وانه ليأتيك من الشىء الواحد بأشباه عدة ويشتق من الأصل
____________________
(1/114)
الواحد أغصانا في كل غصن ثمر على حدة نحو أن الزند بإيرائه يعطيك شبه الجواد والذكى الفطن وشبه النجح في الأمور والظفر بالمراد وباصلاده شبه البخيل الذي لا يعطيك شيئا والبليد الذي لا يكون له خاطر ينتج فائدة ويخرج معنى وشبه من يخيب سعيه ونحو ذلك ويعطيك من القمر الشهرة في الرجل والنباهة والعز والرفعة ويعطيك الكمال عن النقصان والنقصان بعد الكمال كقولهم هلال نما فعاد بدرا يراد بلوغ النجل الكريم المبلغ الذي يشبه أصله من الفضل والعقل وسائر معانى الشرف كما قال أبو تمام
( لهفي على تلك الشو 4 اهد منهما ** لو أمهلت حتى تصير شمائلا )
( لغدا سكونهما حجى وصباهما ** كرما وتلك الأريحية نائلا )
( إن الهلال إذا رأيت نموه ** أيقنت أن سيصير بدرا كاملا )
وعلى هذا المثل بعينه يضرب مثلا في ارتفاع الرجل في الشرف والعز من طبقة إلى أعلى منها كما قال البحترى
( شرف تزيد بالعراق إلى الذي ** عهدوه بالبيضاء أو ببلنجرا )
____________________
(1/115)
( مثل الهلال بدا فلم يبرح به ** صوغ الليالى فيه حتى أقمرا )
ويعطيك شبه الإنسان في نشأته ونمائه إلى أن يبلغ حد التمام ثم تراجعه إذا انقضت مدة الشباب كما قال
( المرء مثل هلال حين تبصره ** يبدو ضئيلا ضعيفا ثم يتسق )
( يزداد حتى إذا ما تم أعقبه ** كر الجديدين نقصا ثم ينمحق )
وكذلك يتفرع من حالتي تمامه ونقصانه فروع لطيفة فمن ذلك قول ابن بابك
( وأعرت شطر الملك شطر كماله ** والبدر في شطر المسافة يكمل )
قاله في الأستاذ أبي على وقد استوزره فخر الدولة بعد وفاة الصاحب وأبا العباس الضبي وخلع عليهما وقول أبى بكر الخوارزمي
( أراك إذا أيسرت خيمت عندنا ** مقيما وإن أعسرت زرت لماما )
( فما أنت إلا البدر إن قل ضوءة ** اغب وإن زاد الضياء أقاما )
المعنى لطيف وإن كانت العبارة لم تساعده على الوجه الذي يحب فإن الأغباب أن يتخلل وقتي الحضور وقت يخلو منه وإنما يصلح لأن يراد أن القمر إذا نقص نوره لم يوال الطلوع كل ليلة بل يظهر في بعض الليالي
____________________
(1/116)
ويمتنع من الظهور في بعض وليس الأمر كذلك لأنه على نقصانه يظهر كل ليلة حتى يكون السرار وقال ابن بابك في نحوه
( كذا البدر يسفر في تمة ** فإن خاف نقص المحاق انتقب )
وهكذا ينظر إلى مقابلته الشمس واستمداده من نورها وإلى كون ذلك سبب زيادته ونقصه وامتلائه من النور والائتلاق وحصوله في المحاق وتفاوت حاله في ذلك فيصاغ منه أمثال ويبين أشباه ومقاييس فمن لطيف ذلك قول ابن نباتة
( قد سمعنا بالغر من آل ساسان ** ويونان في العصور الخوالي )
( والملوك الأولى إذا ضاع ذكر ** وجدوا في سوائر الأمثال )
( مكرمات إذا البليغ تعاطى ** وصفها لم يجده في الأقوال )
( وإذا نحن لم نضفها إلى مد ** حك كانت نهاية في الكمال )
( إن جمعناهما اضر بها الجمع ** وضاعت فيه ضياع المحال )
( فهو كالشمس بعدها يملأ البدر ** وفي قربها محاق الهلال )
وغير ذلك من أحواله كنحو ما خرج من الشبه من بعده وارتفاعه وقرب ضوئه وشعاعه في نحو ما مضى من قول البحترى دان على أيدي العفاة البيتين ومن ظهوره بكل مكان ورؤيته في كل موضع كقوله
( كالبدر من حيث التفت رايته ** يهدي إلى عينيك نورا ساطعا )
في أمثال كذلك تكثر ولم اعرض لما يشبه به من حيث المنظر وما تدركه العين نحو تشبيه الشىء بتقويس الهلال ودقته والوجه بنوره وبهجته فإنا في ذكر ما كان تمثيلا وكان الشبه فيه معنويا
____________________
(1/117)
فصل آخر
وإن كان مما مضى إلا أن الأسلوب غيرة وهو أن المعنى إذا أتاك ممثلا فهو في الأكثر ينجلى لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة وتحريك الخاطر له والهمة في طلبه وما كان منه ألطف كان امتناعه عليك اكثر وإباؤه اظهر واحتجابه أشد
ومن المركوز في الطبع أن الشىء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه كان نيله أحلى وبالميزة أولى فكان موقعه من النفس اجل وألطف وكانت به أضن واشغف وكذلك ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظمأ كما قال
( وهن ينبذن من قول يصبن به ** مواقع الماء من ذي الغلة الصادي )
وأشباه ذلك مما ينال بعد مكابدة الحاجة إليه وتقدم المطالبة من النفس به فإن قلت فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية وتعمد ما يكسب المعنى غموضا مشرفا له وزائدا في فضله وهذا خلاف ما عليه الناس ألا تراهم قالوا إن خير الكلام ما كان معناه إلى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك فالجواب أنى لم أرد هذا الحد من الفكر والتعب وإنما أردت القدر الذي يحتاج إليه في نحو قوله
( فإن المسك بعض دم الغزال )
وقوله
( وما التأنيث لاسم الشمس عيب ** ولا التذكير فخر للهلال )
وقوله
( رأيتك في الذين أرى ملوكا ** كأنك مستقيم في محال )
____________________
(1/118)
وقول النابغة
( فانك كالليل الذي هو مدركي ** وإن خلت أن المنتأى عنك واسع )
وقوله
( فانك شمس والملوك كواكب ** إذا طلعت لم يبد منهن كوكب )
وقول البحتري
( ضحوك إلى الأبطال وهو يروعهم ** وللسيف حد حين يسطو ورونق )
وقول امرىء القيس
( بمنجرد قيد الأوابد هيكل ** )
وقوله
( ثم انصرفت وقد أصبت ولم اصب ** جذع البصيرة قارح الأقدام )
فانك تعلم على كل حال أن هذا الضرب من المعنى كالجوهر في الصدف لا يبرز لك إلا أن تشقه عنه وكالعزيز المحتجب لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه ثم ما كل فكر يهتدى إلى وجه الكشف عما اشتمل عليه ولا كل خاطر يؤذن له في الوصول إليه فما كل أحد يفلح في شق الصدفة
____________________
(1/119)
ويكون في ذلك من أهل المعرفة كما ليس كل من دنا من أبواب الملوك فتحت له وكان
( من النفر البيض الذين إذا اعتزوا ** وهاب رجال حلقة الباب قعقعوا )
أو كما قال
( تفتح أبواب الملوك لوجهه ** بغير حجاب دونه أو تملق )
وأما التعقيد فإنما كان مذموما لأجل أن اللفظ لم يرتب الترتيب الذي يمثله تحصل الدلالة على الغرض حتى احتاج السامع أن يطلب المعنى بالحيلة ويسعى إليه من غير الطريق كقوله
( وكذا اسم أغطية العيون جفونها ** من أنها عمل السيوف عوامل )
وانما ذم هذا الجنس لأنه أحوجك إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله وكدك بسوء الدلالة وأودع المعنى لك في قالب غير مستور ولا مملس بل خشن مضرس حتى إذا رمت إخراجه منك عسر عليك وإذا خرج خرج مشوه الصورة ناقص الحسن
هذا وانما يزيدالطلب فرحاً بالمعنى وأنساً به وسروراً بالوقوف عليه إذا كان لذلك أهلا فأما إذا كنت معه كالغائص في البحر يحتمل المشقة العظيمة ويخاطر بالروح ثم يخرج الخرز فالأمر بالضد مما بدأت به ولذلك كان أحق أصناف التعقيد بالذم ما يتعبك ثم لا يجدي عليك ويؤرقك ثم لا يروق لك وما سبيله إلا سبيل البخيل الذي يدعوه لؤم
____________________
(1/120)
في نفسه وفساد في حسه إلى أن لا يرضى بضعته في بخله وحرمان فضله حتى يأبى التواضع ولين القول فيتيه ويشمخ بأنفه ويسوم المتعرض له باباً ثانياً من الإحتمال تناهياً في سخفه أو كالذى لا يؤيسك من خيره في أول الأمر فتستريح إلى اليأس ولكنه يطمعك ويسحب على المواعيد الكاذبة حتى إذا طال العناء وكثر الجهد تكشف عن غير طائل وحصلت منه على ندم لتعبك في غير حاصل وذلك مثل ما تجده لأبى تمام من تعسفه في اللفظ وذهابه به في نحو من التركيب لا يهتدى النحو إلى إصلاحه وإغراب في الترتيب يعمى الإعراب في طريقه ويصل في تعريفه كقوله
( ثانية في كبد السماء ولم يكن ** لاثنين ثان إذ هما في الغار )
وقوله
( يدي لمن شاء رهن من يذق جرعا ** من راحتيك درى ما الصاب والعسل )
____________________
(1/121)
ولو كان الجنس الذي يوصف من المعاني باللطافة ويعد في وسائط العقود لا يحوجك إلى الفكر ولا يحرك من حرصك على طلبه بمنع جانبه وببعض الادلال عليك واعطائك الوصل بعد الصد والقرب بعد البعد لكان باقلي حاز وبيت معنى هو عين القلادة وواسطة العقد واحدا ولسقط تفاضل السامعين في الفهم والتصور والتبيين وكان كل من روى الشعر عالما به وكل من حفظه إذا كان يعرف اللغة على الجملة ناقدا في تمييز جيده من رديئة وكان قول من قال
( زوامل للأشعار لا علم عندهم ** يجيدها إلا كعلم الأباعر )
وكقول ابن الرومي
( قلت لمن قال لي عرضت على الأخفش ** ما قلته فما حمده )
( قصرت بالشعر حين تعرضه ** على مبين العمى إذا انتقده )
( ما قال شعرا ولا رواه فلا ** ثعلبة كان لا ولا أسده )
( فإن يقل إننى رويت فكالدف ** تر جهلا بكل ما اعتقده )
وما أشبه ذلك دعوى غير مسموعة ولا مؤهلة للقبول فإنما أرادوا بقولهم ما كان معناه إلى قلبك اسبق من لفظه إلى سمعك أن يجتهد المتكلم
____________________
(1/122)
في ترتيب اللفظ وتهذيبه وصيانته من كل ما أخل بالدلالة وعاق دون الإبانه ولم يريدوا أن خير الكلام ما كان غفلا مثل ما يتراجعه الصبيان ويتكلم به العامة في السوق
هذا وليس إذا كان الكلام في غاية البيان وعلى أبلغ ما يكون من الوضوح أغناك ذاك عن الفكرة إذا كان المعنى لطيفا فان المعانى الشريفة اللطيفة لا بد فيها من بناء ثان على أول ورد تال إلى سابق أفلست تحتاج في الوقوف على الغرض من قوله
( كالبدر أفرط في العلو ** ) إلى أن تعرف البيت الأول فتتصور حقيقة المراد منه ووجه المجاز في كونه دانياً شاسعاً وترقم ذلك في قلبك ثم تعود إلى ما يعرض البيت الثاني عليك من حال البدر ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى وترد البصر من هذه إلى تلك وتنظر إليه كيف شرط في العلو الإفراط ليشا كل قوله شاسع لأن الشسوع هو الشديد من البعد ثم قابله بما لا يشا كله من مراعاة التناهي في القرب فقال جد قريب فهذا هو الذي أردت بالحاجة إلى الفكر وبأن المعنى لا يحصل لك إلا بعد انبعاث منك في طلبة واجتهاد في نيله
هذا وإن توقفت في حاجتك أيها السامع للمعنى إلى الفكر في تحصيله فهل تشك في أن الشاعر الذي أداه إليك ونشر بزه لديك قد تحمل فيه المشقة الشديدة وقطع إليه الشقة البعيدة وانه لم يصل إلى درة حتى غاص وانه لم ينل المطلوب حتى كابد منه الامتناع والاعتياص ومعلوم أن الشىء إذا علم انه لم ينل في اصله ألا بعد التعب ولم يدرك ألا باحتمال النصب كان للعلم بذلك من أمره من الدعاء إلى تعظيمه وأخذ الناس بتفخيمه ما يكون لمباشرة الجهد فيه وملاقاة الكرب دونه وإذا عثرت بالهوينا
____________________
(1/123)
على كنز من الذهب لم تخرجك سهولة وجوده إلى أن تنسى جملة انه الذي كد الطالب وحمل المتاعب حتى إن لم تكن فيك طبيعة من الجود تتحكم عليك ومحبة للثناء تستخرج النفيس من يديك كان من أقوى حجج الضن الذي يخامر الإنسان أن تقول إن لم يكدنى فقد كد غيري كما يقول الوارث للمال المجموع عفوا إذا ليم على بخله به وفرط شحه عليه إن لم يكن كسبي وكدي فهو كسب والدي وجدي ولئن لم الق فيه عناء لقد عانى سلفي فيه الشدائد ولقوا في جمعه الأمرين أفأضيع ما ثمروه وأفرق ما جمعوه وأكون كالهادم لما أنفقت الأعمار في بنائه والمبيد لما قصرت الهمم على إيمائه
وإنك لا تكاد تجد شاعرا يعطيك في المعانى الدقيقة من التسهيل والتقريب ورد البعيد الغريب إلى المألوف القريب ما يعطى البحتري ويبلغ في هذا مبلغه فإنه ليروض لك المهر الارن رياضه الماهر حتى يعنق من تحتك اعناق القارح المذلل وينزع من شماس الصعب الجامع حتى يلين لك لين المنقاد المطيع ثم لا يمكن ادعاء أن جميع شعره في قلة الحاجة إلى الفكر والغنى عن فضل النظر كقوله
( فؤادي منك ملآن ** وسرى فيك إعلان )
وقوله
( عن أي ثغر تبتسم ** )
____________________
(1/124)
وهل ثقل على المتوكل قصائده الجياد حتى قل نشاطه لها واعتناؤه بها إلا لأنه لم يفهم معانيها كما فهم معاني النوع النازل الذي انحط له إليه أتراك تستجيز أن تقول إن قوله منى النفس في أسماء لو تستطيعها من جنس المعقد الذي لا يحمد وإن هذه الضعيفة الأسر الواصلة إلى القلوب من غير فكر أولى بالحمد وأحق بالفضل
هذا والمعقد من الشعر والكلام لم يذم لأنه مما تقع حاجة فيه إلى الفكر على الجملة بل لأن صاحبه يعثر فكرك في متصرفه ويشيك طريقك إلى المعنى
____________________
(1/125)
ويوعر مذهبك نحوه بل ربما قسم فكرك وشعب ظنك حتى لا تدرى من أين تتوصل وكيف تطلب
وأما الملخص فيفتح لفكرتك الطريق المستوى ويمهده وإن كان فيه تعاطف أقام عليه المنار وأوقد فيه الأنوار حتى تسلكه سلوك المتبين لوجهته وتقطعه قطع الواثق بالنجح في طيته فترد الشريعة زرقاء والروضة غناء فتنال الرى وتقطف الزهر الجنى وهل شىء أحلى من الفكرة إذا استمرت وصادفت نهجا مستقيما ومذهبا قويما وطريقة تنقاد وتبينت لها الغاية فيما ترتاد فقد قيل قرة العين وسعة الصدر وروح القلب وطيب النفس من أربعة أمور الاستبانة للحجة والأنس بالأحبة والثقة بالعدة والمعاينة للغاية وقال الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في الفكر والنظر من الفضيلة وأين تقع لذة البهيمة بالعلوفة ولذة السبع بلطم الدم واكل اللحم من سرور الظفر بالأعداء ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعه وبعد فإذا أعدت
____________________
(1/126)
الحلبات لجرى الجياد ونصبت الأهداف ليعرف فضل الرماة في الإبعاد والسداد فرهان العقول التي تستبق ونضالها الذي تمتحن قواها في تعاطيه هو الفكر والروية والقياس والاستنباط
ولن يبعد المدى في ذلك ولا يدق المرمى إلا بما تقدم من تقرير الشبه بين الأشياء المختلفة فإن الأشياء المشتركة في الجنس المتفقة في النوع تستغنى بثبوت الشبه بينها وقيام الاتفاق فيها عن تعمل وتأمل في إيجاب ذلك لها وتثبيته فيها وأنها لصنعة تستدعى جودة القريحة والحذق الذي يلطف ويدق في أن يجمع أعناق المتنافرات المتباينات في ربقه ويعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكة وما شرفت صنعة ولا ذكر بالفضيلة عمل إلا لأنهما يحتاجان من دقة الفكر ولطف النظر ونفاذ الخاطر إلى مالا يحتاج إليه غيرهما ويحتكمان على من زاولهما والطالب لهما في هذا المعنى ما لا يحتكم ما عداهما ولا يقتضيان ذلك إلا من جهة إيجاد الائتلاف في المختلفات وذلك بين لك فيما تراه من الصناعات وسائر الأعمال التى تنسب إلى الدقة فإنك تجد الصورة المعمولة فيها كلما كانت أجزاؤها أشد اختلافا في الشكل والهيئة ثم كان التلاؤم بينها مع ذلك أتم والائتلاف أبين كان شأنها اعجب والحذق لمصورها أوجب
____________________
(1/127)
وإذا كان هذا ثابتا موجودا ومعلوما معهودا من حال الصور المصنوعة والأشكال المؤلفة فاعلم أنها القضية في التمثيل واعمل عليها واعتقد صحة ما ذكرت لك من أخذ الشبه للشيء مما يخالفه في الجنس وينفصل عنه من حيث ظاهر الحال حتى يكون هذا شخصا يملأ المكان وذاك معنى لا يتعدى الأفهام والأذهان وحتى أن هذا إنسان يعقل وذاك جماد أو موات لا يتصف بأنه يعلم أو يجهل وهذا نور شمس يبدو في السماء ويطلع وذاك معنى كلام يوعى ويسمع وهذا روح يحيى به الجسد وذاك فضل ومكرمة تؤثر وتحمد كما قال
( إن المكارم أرواح يكون لها ** آل المهلب دون الناس أجسادا )
وهذا مقال متعصب منكر للفضل حسود وذاك نار تلتهب في عود وهذا مخلاف وذاك ورق خلاف كما قال ابن الرومي
( بذل الوعد للإخلاء سمحا ** وأبى بعد ذاك بذل العطاء )
( فغدا كالخلاف يورق للعين ** ويأبى الإثمار كل الإباء )
وهذا رجل يروم العدو تصغيره والأزراء به فيأبى فضله إلا ظهورا وقدره إلا سموا وذاك شهاب من نار تصوب وهي تعلو وتخفض وهى ترتفع كما قال أيضا
( ثم حاولت بالمثيقيل تصغيري ** فما زدتنى سوى التعظيم )
( كالذي طأطأ الشهاب ليخفي ** وهو أدنى له إلى التضريم )
وأخذ هذا المعنى من كلام في حكم الهند وهو أن الرجل ذا المروءة والفضل
____________________
(1/128)
ليكون خامل المنزلة غامض الأمر فما تبرح به مروءته وعقله حتى يستبين ويعرف كالشعله من النار التى يصوبها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعا
هذا هو الموجب للفضيلة والداعى إلى الاستحسان والشفيع الذي أحظى التمثيل عند السامعين واستدعى له الشغف والولوع من قلوب العقلاء الراجحين ولم تأتلف هذه الأجناس المختلفة للمتمثل ولم تتصادف هذه الأشياء المتعاديه على حكم المشبه إلا لأنه لم يراع ما يحضر العين ولكن ما يستحضر العقل ولم يعن بما تنال الرؤبة بل بما تعلق الروية ولم ينظر إلى الأشياء من حيث توعى فتحويها الأمكنة بل من حيث تعيها القلوب الفطنة ثم على حسب دقة المسلك إلى ما استخرج من الشبه ولطف المذهب وبعد التصعد إلى ما حصل من الوفاق استحق مدرك ذلك المدح واستوجب التقديم واقتضاك العقل أن تنوه بذكره وتقضى بالجنى في نتائج فكره نعم وعلى حسب المراتب في ذلك وأعطيته في بعض منزلة الحاذق الصنع والملهم المؤيد والألمعي المحدث الذي سبق إلى اختراع نوع من الصنعة حتى يصير إماما ويكون من بعده
____________________
(1/129)
تبعا له وعيالا عليه وحتى تعرف تلك الصنعة بالنسبة إليه فيقال صنعة فلان وعمل فلان ووضعته في بعض موضع المتعلم الذكى والمقتدي المصيب في إقتدائه الذي يحسن التشبه بمن أخذ عنه ويجيد حكاية العمل الذي استفاد ويجتهد أن يزداد
واعلم أنى لست أقول لك انك متى ألفت الشىء ببعيد عنه في الجنس على الحملة فقد أصبت وأحسنت ولكن أقوله بعد تقييد وبعد شرط وهو أن تصيب بين المختلفين في الجنس وفي ظاهر الأمر شبها صحيحا معقولا وتجد للملائمة والتأليف السوى بينهما مذهبا وإليهما سبيلا وحتى يكون ائتلافهما الذي يوجب تشبيهك من حيث العقل والحدس في وضوح اختلافهما من حيث العين والحس فإما أن تستكره الوصف وتروم أن تصوره حيث لا يتصور فلا لأنك تكون في ذلك بمنزلة الصانع الأخرف يضع في تأليفه وصوغه الشكل بين شكلين لا يلائمانه ولا يقبلانه حتى تخرج الصورة مضطربة وتجىء فيها نتو ويكون للعين عنها من تفاوتها نبو وإنما قيل شبهت ولا تعنى في كونك مشبها أن تذكر حرف التشبيه أو تستعير إنما تكون مشبها بالحقيقة بأن ترى الشبه وتبينه ولا يمكنك بيان ما لا يكون وتمثيل ما لا تتمثله الأوهام والظنون
ولم أرد بقولى إن الحذق في إيجاد الائتلاف بين المختلفات في الأجناس أنك تقدر أن تحدث هناك مشابهة ليس لها أصل في العقل وإنما المعنى أن هناك مشابهات خفية بدق المسلك إليها فإذا تغلغل فكرك فأدركها فقد
____________________
(1/130)
استحققت الفضل ولذلك يشبه المدقق في المعانى كالغائص على الدر ووزان ذلك أن القطع التى يجىء من مجموعها صورة الشنف والخاتم أو غيرهما من الصور المركبة من أجزاء مختلفة الشكل لو لم يكن بينها تناسب أمكن ذلك التناسب أن يلائم بينها الملائمة المخصوصة ويوصل الوصل الخاص لم يكن ليحصل لك من تأليفها الصورة المقصودة
ألا ترى انك لو جئت بأجزاء مخالفة لها في الشكل ثم أردتها على أن تصير إلى الصورة التي كانت من تلك الأولى طلبت ما يستحيل فإنما استحققت الأجرة على الغوص وإخراج الدر لا أن الدر كان بك واكتسى شرفة من جهتك ولكن لما كان الوصول إليه صعبا وطلبه عسيرا ثم رزقت ذلك وجب أن يجزل لك ويكبر صنيعك
ألا ترى أن التشبيه الصريح إذا وقع بين شيئين متباعدين في الجنس ثم لطف وحسن لم يكن ذلك اللطف وذلك الحسن إلا لاتفاق كان ثابتا بين المشبه والمشبه به من الجهة التى بها شبهت إلا أنه كان خفيا لا ينجلى إلا بعد التألق في استحضار الصور وتذكرها وعرض بعضها على بعض والتقاط النكتة المقصودة منها وتجريدها من سائر ما يتصل بها نحو أن يشبه الشىء بالشىء في هيئة الحركة فتطلب الوفاق بين الهيئة والهيئة والهيئة مجردة من الجسم وسائر ما فيه من اللون وغيره من الأوصاف كما فعل ابن المعتز في تشبيه البرق حيث قال
( وكأن البرق مصحف قار ** فانطباقا مرة وانفتاحا )
____________________
(1/131)
لم ينظر من جميع أوصاف البرق ومعانيه إلا إلى الهيئة التى تجدها العين له عن انبساط يعقبه انقباض وانتشار يتلوه انضمام ثم فكر في نفسه عن هيآت الحركات لينظر أيها أشبه بها فأصاب ذلك فيما يفعله القارىء من الحركة الخاصة في المصحف إذا جعل يفتحه مرة ويطبقه أخرى ولم يكن إعجاب هذا التشبيه لك وإيناسه إياك لأن الشيئين مختلفان في الجنس أشد الاختلاف فقط بل لأن حصل بإزاء الاختلاف اتفاق كأحسن ما يكون واتمه فبمجموع الأمرين شدة ائتلاف في شدة اختلاف حلا وحسن وراق وفتن
ويدخل في هذا الموضع الحكاية المعروفة في حديث عدى بن الرقاع قال جرير انشدنى عدى عرف الديار توهما فاعتادها فلما بلغ إلى قوله تزجى أغن كان ابرة روقة رحمته وقلت قد وقع ما عساه يقول وهو أعرابي جلف جاف فلما قال قلم أصاب من الدواة مدادها استحالت الرحمة حسدا فهل كانت الرحمة في الأولى والحسد في الثانية
____________________
(1/132)
إلا أنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أول الفكر وبديهة الخاطر وفي القريب من محل الظن شبه وحين أتم التشبيه وأداه صادفة قد ظفر بأقرب صفة من أبعد موصوف وعثر على خبىء مكانه غير معروف وعلى ذلك استحسنوا قول الخليل في انقباض كف البخيل
( كفاك لم تخلقا للندى ** ولم يك بخلهما بدعه )
( فكف عن الخير مقبوضة ** كما نقصت مائة سبعة )
( وكف ثلاثة آلافها ** وتسع مئيها لها منعه )
وذلك انه أراك شكلا واحدا في اليدين مع اختلاف العددين ومع اختلاف المرتبتين في العدد أيضا لأن أحدهما من مرتبة العشرات والآحاد والآخر من مرتبة المئين والألوف فلما حصل الاتفاق كأشد ما يكون في شكل اليد مع الاختلاف كأبلغ ما يوجد في المقدار والمرتبة من العدد كان التشبيه
____________________
(1/133)
بديعا قال المرزبانى وهذا مما أبدع فيه الخليل لأنه وصف انقباض اليدين بحالين من الحساب مختلفين في العدد متشاكلين في الصورة وقوله هذا إجمال ما فصلته
ومما ينظر إلى هذا الفصل ويداخله ويرجع إليه حين تحصيله الجنس الذي يراد فيه كون الشىء من الأفعال سببا لضده كقولنا أحسن من حيث قصد الإساءة ونفع من حيث أراد الضر إذا لم يقنع التشاغل بالعبارة الظاهرة والطريقة المعروفة وصور في نفس الإساءة الإحسان وفي البخل الجود وفي المنع العطاء وفي موجب الذم موجب الحمد وفي الحالة التي حقها أن تعد على الرجل حكم ما يعتد له والفعل الذي هو بصفة ما يعاب وينكر صفة ما يقبل المنة ويشكر فيدل ذلك بما يكون فيه من الوفاق الحسن مع الخلاف البين على حذق شاعرة وعلى جودة طبعه وحدة خاطره وعلو مصعده وبعد غوصه إذا لم يفسده بسوء العبارة ولم يخطئه التوفيق في تلخيص الدلالة وكشف تمام الكشف عن سرو المعنى وسره بحسن البيان وسحره مثال ما كان من الشعر بهذه الصفة قول أبي العتاهية
( جزى البخيل على صالحة ** عنى لخفته على ظهرى )
( أعلى وأكرم عن يديه يدى ** فعلت ونزه قدره قدرى )
( ورزقت من جدواه عافية ** أن لا يضيق لشكره صدري )
( وغنيت خلوا من تفضله ** أحنو عليه بأحسن العذر )
( ما فاتنى خير امرىء وضعت ** عني يداه مؤنة الشكر )
____________________
(1/134)
ومن اللطيف مما يشبه هذا قول الآخر
( اعتقني سوء ما صنعت من الر ** مق فيا بردها على كبدي )
( فصرت عبدا للسوء فيك وما ** احسن سوء قبلي إلى أحد ) فصل هذا فن آخر من القول يجمع التشبيه والتمثيل جميعا
اعلم أن معرفة الشىء من طريق الجملة غير معرفته من طريق التفصيل فنحن وإن كنا لا يشكل علينا الفرق بين التشبيه الغريب وغير الغريب إذا سمعنا بهما فإن لوضع القوانين وبيان التقسيم في كل شىء وتهيئة العبارة في الفروق فائدة لا ينكرها المميز ولا يخفي أن ذلك أتم للغرض وأشفى للنفس والمعنى الجامع في سبب الغرابة أن يكون الشبه المقصود من الشىء مما لا ينزع إليه الخاطر ولا يقع في الوهم عند بديهة النظر إلى نظيره الذي يشبه به بل بعد تثبت وتذكر وفكر للنفس في الصور التي تعرفها وتحريك الوهم في استعراض ذلك واستحضار ما غاب منه
بيان ذلك انك كما ترى الشمس ويجرى في خاطرك استدارتها ونورها تقع في قلبك المرآة المجلوة ويتراءى لك الشبه منها فيها وكذلك إذا نظرت إلى الوشى منشورا وتطلبت لحسنه ونقشه واختلاف الأصباغ فيه شبها حضرك ذكر الروض ممطورا مفترا عن أزهاره متبسما عن أنواره وكذلك إذا نظرت إلى السيف الصقيل عند سلة وبريق متنه لم يتباعد عنك أن تذكر انعقاق البرق وإن كان هذا أقل ظهورا من الأول
____________________
(1/135)
وعلى هذا القياس ولكنك تعلم أن خاطرك لا يسرع إلى تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل كقوله
( والشمس كالمرآة في كف الأشل ** ) هذا الإسراع ولا قريبا منه ولا إلى تشبيه البرق بإصبع السارق كقول كشاجم
( أرقت أم نمت لضوء بارق ** مؤتلق مثل فؤاد العاشق )
( كأنه إصبع كف السارق ** )
وكقول ابن بابك
( ونضنض في حصنى سحائل بارق ** له جذوة من زبرج اللاذ لامعه )
( تعوج في أعلى السحاب كأنها ** بنان يد من كلة اللاذ ضارعه )
ولا إلى تشبيه البرق في انبساطه وانقباضه والتماعه وائتلاقه بانفتاح المصحف وانطباقه فيما مضى من قول ابن المعتز
( وكأن البرق مصحف قار ** فانطباقا مرة وانفتاحا )
ولا إلى تشبيه سطور الكتاب بأغصان الشوك في قوله
( بلفظ يأخذ الحرف المحلى ** كأن سطوره أغصان شوك )
ولا إلى تشبيه الشقيق بأعلام ياقوت على رماح زبرجد كقول الصنوبري
( وكأن محمر الشقيق ** إذا تصوب أو تصعد )
____________________
(1/136)
( أعلام ياقوت نشر ** ن على رماح من زبرجد )
ولا إلى تشبيه النجوم طالعات في السماء مفترقات مؤتلفات في أديمها وقد مازجت زرقة لونها بياض نورها بدر منثور على بساط أزرق كقول أبي طالب الرقى
( وكأن أجرام النجوم لوامعا ** درر نثرن على بساط أزرق )
ولا ما جرى في هذا السبيل وكان من هذا القبيل بل تعلم أن الذي سبقك إلى أشباه هذه التشبيهات لم يسبق إلى مدى قريب بل أحرز غاية لا ينالها غير الجواد وقرطس في هدف لا يصاب إلا بعد الاحتفال والاجتهاد
واعلم انك إن أردت أن تبحث بحثا ثانيا حتى تعلم لم وجب أن يكون بعض الشبه على الذكر أبدا وبعضه كالغائب عنه وبعضه كالبعيد عن الحضرة لا ينال إلا بعد قطع مسافة إليه وفضل تعطف بالفكر عليه فإن ههنا ضربين من العبرة يجب أن تضبطهما أولا ثم ترجع في أمر التشبيه فإنك حينئذ تعلم السبب في سرعة بعضه إلى الفكر وإباء بعض أن يكون له ذلك الإسراع فإحدى العبرتين أنا نعلم أن الجملة أبدا أسبق إلى النفوس من التفصيل وإنك تجد الرؤية نفسها لا تصل بالبديهة
____________________
(1/137)
إلى التفصيل ولكنك ترى بالنظر الأول والوصف على الجملة ثم ترى التفصيل عند إعادة النظر ولذلك قالوا النظرة الأولى حمقاء وقالوا لم ينعم النظر ولم يستقص التأمل وهكذا الحكم في السمع وغيرة من الحواس فإنك تتبين من تفاصيل الصوت بأن يعاد عليك حتى تسمعه مرة ثانية ما لم تتبينه بالسماع الأول وتدرك من تفصيل طعم الذوق بأن تعيده إلى اللسان ما لم تعرفه في الذوقة الأولى وبإدراك التفصيل يقع التفاضل بين راء وراء وسامع وسامع وهكذا فأما الجمل فتستوى فيها الأقدام ثم تعلم أنك في إدراك تفصيل ما تراه وتسمعه أو تذوقه كمن ينتقى الشىء من بين جملة وكمن يميز الشىء مما قد اختلط به فأنك حين لا يهمك التفصيل كمن يأخذ الشىء جزافا وجرفا
وإذا كانت هذه العبرة ثابتة في المشاهدة وما يجرى مجراها مما تناله الحاسة فالأمر في القلب كذلك تجد الجمل أبدا هي التى تسبق إلى الأوهام وتقع في الخاطر أولا وتجد التفاصيل مغمورة فيما بينها وتراها لا تحضر إلا يعد إعمال الروية واستعانة بالتذكر ويتفاوت الحال في الحاجة إلى الفكر بحسب مكان الوصف ومرتبته من حد الجملة وحد التفصيل وكلما كان أوغل في التفصيل كانت الحاجة إلى التوقف والتذكر أكثر والفقر إلى التأمل والتمهل أشد
____________________
(1/138)
وإذ قد عرفت هذه العبرة فالاشتراك في الصفة إذا كان من جهة الجملة على الإطلاق بحيث لا يشوبه شىء من التفصيل نحو أن كلا الشيئين أسود أو أحمر فهو يقل عن أن يحاج فيه إلى قياس وتشبيه فإن دخل في التفصيل شيئا نحو إن هذا السواد صاف براق والحمرة رقيقة ناصعة احتجت بقدر ذلك إلى إدارة الفكر وذلك مثل تشبيه حمرة الخد بحمرة التفاح والورد فإن زاد تفصيله بخصوص تدق العبارة عنه ويتعرف بفضل تأمل ازداد الأمر قوة في اقتضاء الفكر وذلك نحو تشبيه سقط النار بعين الديك في قوله
( وسقط كعين الديك عاورت صحبتى ** )
____________________
(1/139)
وذلك أن ما في عينه من تفصيل وخصوص يزيد على كون الحمرة رقيقة ناصعة والسواد صافياً براقاً وعلى هذا تجد هذا الحد من المرتبة التي لا يستوي فيها البليد و والذكي والمهمل نفسه والمتقيقظ المستعد للفكر والتصور
فقوله
( كأن على أنيابها كل سحرة ** صياح البوازي من صريف اللوائك )
أرفع طبقة من قوله
( كأن صليل المرو حين تشذه ** صليل زيوف ينتقدون بعبقراً )
لأن التفصيل والخصوص في صوت البازي أبين وأظهر منه في صليل الزيوف وكما أن قوله يصف الفرس
( و للفؤاد وجيب تحت أبهره ** لدم الغلام وراء الغيب بالحجر )
____________________
(1/140)
لا يستوي بتشبيه وقع الحوافر بهزمة الرعد وتشبيه الصوت الذي يكون لغليان القدر بنحو ذلك كقوله
( لها لغط جنح الظلام كأنه ** عجارف غيث رائح متهزم )
لأن هناك من التفصيل الحسن ما تراه وليس في كون الصوت من جنس اللغط تفصيل يعتد به وإنما هو كالزيادة والشدة في الوصف ومثال ذلك مثال أن يكون جسم اعظم من جسم في انه لا يتجاوز مرتبة الجمل كبير تجاوز فإذا رأى الرجل شخصاً قد زاد على المعتاد في العظم والضخامة لم يحتج في تشبيهه بالفيل أو الجبل أو نحو ذلك إلى شىء من الفكر بل يحضره ذلك حضور ما يعرف بالبديهة
والمقابلات التي تريك الفرق بين الجملة والتفصيل كثيرة ومن اللطيف في ذلك أن تنظر إلى قوله
( يتابع لا يبتغي غيره ** بأبيض كالقبس الملتهب )
____________________
(1/141)
ثم تقابل به قوله
( جمعت ردينيا كأن سنانه ** سنا لهب لم يتصل بدخان )
فإنك ترى بينهما من التفاوت في الفضل ما تراه مع أن المشبه به في الموضعين شىء واحد وهو شعلة النار و ما ذاك إلا من جهة أن الثاني قصد إلى تفصيل لطيف ومر الأول على حكم الجمل ومعلوم أن هذا التفصيل لا يقع في الوهم في أول وهلة بل لا بد فيه من أن تتثبت وتتوقف وتروى وتنظر في حال كل واحد من الفرع والأصل حتى يقوم حينئذ في نفسك أن في الأصل شيئا يقدح في حقيقة الشبه وهو الدخان الذي يعلو رأس الشعلة وأنه ليس في رأس السنان ما يشبه ذلك وأنه إذا كان كذلك كان التحقيق وما يؤدي الشيء كما هو أن تستثنى الدخان وتنقى اتصاله باللهب وتقصر التشبيه على مجرد السنا وتصور السنان فيه مقطوعا عن الدخان
____________________
(1/142)
ولو فرضت أن يقع هذا كله على حد البديهة من غير أن يخطر ببالك ما ذكرت لك قدرت محالا لا يتصور كما أنك لو قدرت أن يكون تشبيه الثريا بعنقود ملاحية حين نور بمنزله تشبيهها بالنور على الإطلاق أو تفتح نور فقط كما قال
( كأن الثريا في أواخر ليلها ** تفتح نور )
حتى ترى حاجتهما إلى التأمل على مقدار واحد وحتى لا يحوج أحدهما من الرجوع إلى النفس وبحثها عن الصور التي تعرفها إلا إلى مثل ما يحوج إليه الآخر أسرفت في المجازفة ونقصت يداً بالصواب والتحقيق
والعبرة الثانية أن مما يقتضى كون الشىء على الذكر وثبوت صورته في النفس أن يكثر دورانه على العيون ويدوم تردده في مواقع الأبصار وأن تدركه الحواس في كل وقت أو في أغلب الأوقات وبالعكس وهو أن من سبب بعد ذلك الشىء عن أن يقع ذكره بالخاطر وتعرض صورته في النفس قلة رؤيته وأنه مما يحس بالفيئة بعد الفيئة وفي الفرط بعد الفرط وعلى طريق الندرة وذلك أن العيون هي التي تحفظ صورة الأشياء على النفوس وتجدد عهدها بها وتحرسها من أن تدثر وتمنعها أن تزول ولذلك قالوا من غاب عن العين فقد غاب عن القلب وعلى المعنى كانت المدارسة والمناظرة في العلوم وكرورها على الاسماع سبب سلامتها من النسيان والمانع لها من التفلت والذهاب
____________________
(1/143)
وإذا كان هذا أمراً لا يشك فيه بان منه أن كل شبه رجع إلى وصف أو صورة أو هيئة من شأنها أن ترى وتبصر أبداً فالتشبيه المعقود عليه نازل مبتذل وما كان بالضد من هذا وفي الغاية القصوى من مخالفته فالتشبيه المردود إليه غريب نادر بديع ثم تتفاضل التشبيهات التي تجىء واسطة لهذين الطرفين بحسب حالها منهما فما كان منها إلى الطرف الأول أقرب فهو أدنى وأنزل وما كان إلى الطرف الثاني أذهب فهو أعلى وأفضل وبوصف الغريب أجدر
واعلم أن قولنا التفصيل عبارة جامعة ومحصولها على الجملة أن معك وصفين أو أوصافاً فأنت تنظر فيها واحداً واحداً وتفصل بالتأمل بعضها من بعض وقد أرتك في الجملة حاجة إلى أن تنظر في أكثر من شىء واحد وأن تنظر في الشىء الواحد إلى أكثر من جهة واحدة ثم إنه يقع على أوجه أحدها وهو الأول والأحق بهذه العبارة أن تفصل بان تأخذ بعضاً وتدع بعضا كما فعل في اللهب حين عزل الدخان عن السنا وجرده وكما فعل الآخر حين فصل الحدق عن الجفون وأثبتها مفردة فيما شبه وذلك قوله
( لها حدق لم تتصل بجفون ** )
ويقع في هذا الوجه من التفصيل لطائف فمنها قول أبن المعتز
( يطارح النظرة في كل أفق ** ذى منسر أقنى إذا شك خرق )
( ومقلة تصدقه إذا رمق ** كأنها نرجسة بلا ورق )
____________________
(1/144)
وقوله
( تكتب فيه أيدي المزاج لنا ** ميمات سطر بغير تعريق )
والثاني أن تفصل بأن تنظر من المشبه في أموره لتعتبرها كلها وتطلبها فيما يشبه به وذلك كاعتبارك في تشبيه الثريا بالعنقود الأنجم نفسها والشكل منها واللون وكونها مجتمعة على مقدار في القرب والبعد فقد نظرت في الأمور واحداً واحدا وجعلتها بتأملك فصلاً فصلا ثم جمعتها في تشبيهك وطلبك للهيئة الحاصلة من عدة أشخاص الأنجم والأصناف التي ذكرت لك من الشكل واللون والتقارب على وجه مخصوص هيئة أخرى شبيهة بها فأصبتها في العنقود المنور من الملاحية ولم يقع لك التشبيه بينهما إلا بأن فصلت أيضاً أجزاء العنقود بالنظر وعلمت أنها خصل بيض وأن فيها شكل استدارة النجم ثم الشكل إلى الصغر ما هو كما أن شكل أنجم الثريا كذلك وأن هذه الخصل لا مجتمعة اجتماع النظام والتلاصق ولا هي شديدة الافتراق بل لها مقادير في التقارب والتباعد على نسبة قريبة مما تجده في رأى العين بين تلك الأنجم بذلك على أن
____________________
(1/145)
التشبيه موضوع على مجموع هذه الأوصاف حتى أنا لو فرضنا في تلك الكواكب أن تفترق وتتباعد تباعداً أكثر مما هي عليه الآن أو قدر في العنقود أن ينثر لم يكن التشبيه بحاله
وكذلك الحكم في تشبيه الثريا باللجام المفضض لأنك راعيت الهيئة الخاصة من وقوع تلك القطع والأطراف بين اتصال وانفصال وعلى الشكل الذي يوجبه موضوع اللجام ولو فرضت أن تركب مثلاً على سنن واحد طولا في سير واحد مثلا ويلصق بعضها ببعض بطل التشبيه وكذا قوله
( تعرض أثناء الوشاح المفصل ** )
وقد اعتبر فيه هيئة التفصيل في الوشاح والشكل الذى يكون عليه الخرز المنظوم في الوشاح فصار اعتبار التفصيل اعجب تفصيل في التشبيه
( والوجه الثالث ) أن تفصل بأن تنظر إلى خاصة بعض الجنس كآلتي تجدها في صوت البازى وعين الديك فأنت تأبى أن تمر على جمله أن هذا صوت وذاك حمرة ولكن تفصل فتقول فيهما ما ليس في كل صوت وكل حمره
واعلم أن هذه القسمة في التفصيل موضوعه على الأغلب الأعرف وإلا فدقائقه لا تكاد تضبط فمما يكثر فيه التفصيل ويقوى معناه فيه ما كان
____________________
(1/146)
من التشبيه مركباً بين شيئين أو اكثر وهو ينقسم قسمين
أحدهما أن يكون شيئا بقدر المشبه وبصفته أولا يكون ومثال ذلك تشبيه النرجس بمداهن در حشوهن عقيق وتشبيه الشقيق بأعلام ياقوت نشرت على رماح من زبرجد لأنك في هذا النحو تحصل الشبه بين شيئين يقدر اجتماعهما على وجه مخصوص وبشرط معلوم فقد حصله في النرجس من شكل المداهن والعقيق بشرط أن تكون المداهن من الدر وأن يكون العقيق في الحشو منها وكذلك أشترط هيئة الأعلام وأن تكون من الياقوت وأن تكون منشورة على رماح من زبرجد فبك حاجة في ذلك إلى مجموع أمور لو أخللت بواحد منها لم يحصل الشبه وكذلك لو خالفت الوجه المخصوص في الإجتماع والاتصال بطل الغرض فكما بك حاجة إلى أن يكون الشكل شكل المدهن وأن يكون من الدر وأن يكون معه العقيق فبك أيضاً فقر إلى أن يكون العقيق في حشو المداهن وعلى هذا القياس
والقسم الثاني أن تعتبر في التشبيه هيئة تحصل من اقتران شيئين وذلك الاقتران مما يوجد ويكون ومثاله قوله
( غدا والصبح تحت الليل باد ** كطرف أشهب ملقى الجلال )
قصد الشبه الحاصل لك إذا نظرت إلى الصبح والليل جميعاً وتأملت حالهما معاً وأراد أن يأتي بنظير للهيئة المشاهدة من مقارنة أحدهما الآخر ولم يرد أن يشبه الصبح على الإنفراد والليل على الإنفراد كما لم يقصد الأول أن يشبه الدائرة البيضاء من النرجس بمدهن الدر ثم يستأنف تشبيها للثانية بالعقيق بل أراد أن يشبه الهيئة الحاصلة من مجموع الشكلين من غير أن يكون بين في البين ثم إن هذا الاقتران الذي وضع عليه التشبيه مما يوجد
____________________
(1/147)
ويعهد إذ ليس وجود الفرس الأشهب قد ألقى الجل من المعوز فيقال أنه مقصور على التقدير والوهم
فأما الأول فلا يتعدى التوهم وتقدير أن يصنع ويعمل فليس في العادة أن تتخذ صورة أعلاها ياقوت على مقدار العلم وتحت ذلك الياقوت قطع مطاولة من الزبرجد كهيئة الأرماح والقامات وكذلك لا يكون ههنا مداهن تصنع من الدر ثم يوضع في أجوافها عقيق وفي تشبيه الشقيق زيادة معنى تباعد الصورة من الوجود وهو شرطة أن تكون أعلاماً منشورة والنشر في الياقوت وهو حجر لا يتصور موجوداً
وبقى أن تعلم أن الوجه في إلقاء الجل أن تريد أنه أداره عن ظهره وأزاله عن مكانه حتى تكشف أكثر جسده لا أنه رمى به جملة حتى أنفصل منه لأنه إذا أراد ذلك كان قد قصد إلى تشبيه الصبح وحده من غير أن يفكر في الليل ولم يشاكل قوله في أول البيت ( ^ والصبح تحت الليل باد ** )
وأما قوله
( إذا تبدى البرق منها خلته ** بطن شجاع في كئيب يضطرب )
( وتارة تبصره كأنه ** أبلق مال جله حين وثب )
فلا شبه فيه أن يكون القصد إلى تشبيه البرق وحده ببياض البلق دون أن يدخل لون الجل في التشبيه حتى كأنه يريد أن يريك بياض البرق في سواد الغمام بل ينبغي أن يكون الغرض بذكر الجل أن البرق
____________________
(1/148)
يلمع بغتة ويلوح للعين فجأة فصار لذلك كبياض الأبلق إذا ظهر عند وثوبه وميل جله عنه وقد قال ابن بابك في هذا المعنى
( للبرق فيها لهب طائش ** كما يعرى الفرس الأبلق )
إلا أن لقول ابن المعتز حين وثب من الفائدة مالا يخفي وقد عنى المتقدمون أيضاً بمثل هذا الاحتياط ألا تراه قال
( وترى البرق عارضاً مستطيلاً ** مرح البلق جلن في الإجلال )
فجعلها تمرح وتجول ليكون قد راعى ما به يتم الشبه وهو معظم الغرض من تشبيهه وهو هيئة حركته وكيفية لمعه
ثم اعلم أن هذا القسم الثاني الذي يدخل في الوجود يتفاوت حاله فمنه ما يتسع وجوده ومنه ما يوجد في النادر ويبين ذلك بالمقابلة فأنت إذا قابلت قوله
( وكأن أجرام النجوم لوامعا ** درر نثرن على بساط أزرق )
بقول ذي الرمة ( ^ كأنها فضة قد مسها ذهب ** ) علمت فضل الثاني على الأول في سعة الوجود وتقدم الأول على الثاني في غربته وقلته وكونه نادر الوجود فإن الناس يرون أبدا في الصياغات فضة قد أجرى فيها ذهب وطليت به ولا يكاد يتفق لأن يوجد در قد نثر على بساط أزرق
فإذا عرفت أنقسام المركب من التشبيه إلى هذين القسمين فاعتبر
____________________
(1/149)
موضعهما من العبرتين المذكورتين فإنك تراهما بحسب نسبتهما منهما وتحققهما بهما قد أعطتاهما لطف الغرابة ونفضتا عليهما صبغ الحسن وكستاهما روع الإعجاب فتجد المقدر الذي لا يباشر الوجود نحو قوله
( أعلام ياقوت نشر ** ن على رماح من زبرجد )
وكقوله في النيلوفر
( كلنا باسط اليد ** نحو نيلوفر ندى )
( كدبابيس عسجد ** قضبها من زبرجد )
قد اجتمع فيه العبرتان جميعا وتجد العبرة الثانية قد أتت فيه على غاية القوة لأنه لا مزيد في بعد الشىء عن العيون على أن يكون وجوده ممتنعا أصلا حتى لا يتصور ألا في الوهم وإذا تركت هذا القسم ونظرت إلى القسم الثاني الذي يدخل في الوجود نحو قوله
( درر نثرن على بساط أزرق ** )
وجدت العبرة الثانية لا تقوى فيه تلك القوة لأنه إذا كان مما يعلم انه يوجد ويعهد بحال وإن كان لا يتسع بل يندر ويقل فقد دنا من الوقوع في الفكر والتعرض للذكر دنوالا لا يدنوه الأول الذي لا يطمع أن يدخل تحت الرؤية للزومه العدم وامتناعه أن يجوز عليه إلا التوهم ولا جرم لما كان الأمر كذلك كان للضرب الأول من الروعة والحسن ولصاحبه من الفضل في قوة الذهن ما لم يكن ذلك في الثاني وقوى الحكم بحسب قوة العلة وكثر الوصف الذي هو الغرابة بحسب الجالب له
____________________
(1/150)
وفي هذا التقرير ما تعلم به الطريق إلى التشبيه من أين تفاوت في كونه غريبا ولم تفاضل في مجيئه عجيبا وبأي سبب وجدت عند شىء منه من الهزة ما لم تجده عند غيره علما يخرجك عن نقيصة التقليد ويرفعك عن طبقة المقتصر على الإشارة دون البيان والإفصاح بالعبارة
واعلم أن العبرة الثانية التي هي مرور الشىء على العيون هو معنى واحد لا يتكثر ولكنه يقوى ويضعف كما مضى وأما العبرة الأولى وهى التفصيل فإنها في حكم الشىء يتكثر وينضم فيه الشىء إلى الشىء ألا ترى أن احد التفصيلين يفضل الآخر بأن تكون قد نظرت في أحدهما إلى ثلاثة أشياء أو ثلاث جهات وفي الآخر إلى شيئين أو جهتين والمثال في ذلك قول الشاعر
( كأن مثار النقع فوق رؤسنا ** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه )
مع قول المتنبي
( يزور الأعادى في سماء عجاجه ** أسنته في جانبيها الكواكب )
أو قول عمر بن كلثوم
( تبنى سنابكها من فوق أرؤسهم ** سقفا كواكبه البيض المباتير )
التفصيل في الأبيات الثلاثة كأنه شىء واحد لأن كل واحد منهم يشبه لمعان السيوف في الغبار بالكواكب في الليل إلا أنك تجد لبيت بشار من الفضل ومن كوم الموقع ولطف التأثير في النفس مالا يقل مقداره
____________________
(1/151)
ولا يمكن إنكاره وذلك لأنه راعى ما لم يراعه غيره وهو أن جعل الكواكب تهاوى فاتم الشبه وعبر عن هيئة السيوف وقد سلت من الأغماد وهى تعلو وترسب وتجىء وتذهب ولم يقتصر على أن يريك لمعانها في أثناء العجاجة كما فعل الآخران وكان لهذه الزيادة التى زادها حظ من الدقة تجعلها في حكم تفصيل بعد تفصيل وذلك أنا وإن قلنا إن هذه الزيادة وهي إفادة هيئة السيوف في حركاتها إنما أتت في جملة لا تفصيل فيها فإن حقيقة تلك الهيئة لا تقوم في النفس إلا بالنظر إلى أكثر من جهة واحدة وذلك أن تعلم أن لها في حال احتدام الحرب واختلاف الأيدى بها في الضرب اضطرابا شديدا وحركات بسرعة ثم إن لتلك الحركات جهات مختلفة وأحوالا تنقسم تنقسم بين الاعوجاج والاستقامة والارتفاع والانخفاض وإن السيوف باختلاف هذه الأمور تتلاقى وتتداخل ويقع بعضها في بعض ويصدم بعضها بعضا ثم إن أشكال السيوف مستطيلة فقد نظم هذه الدقائق كلها في نفسه ثم احضرك صورها بلفظة واحدة ونبه عليها بأحسن التنبيه وأكمله بكلمة وهي قوله تهاوى لأن الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركاتها وكان لها في تهاويها تواقع وتداخل ثم إنها بالتهاوى تستطيل أشكالها فأما إذا لم تزل عن أماكنها فهي على صورة الاستدارة
ويشبه هذا الموضع في زيادة أحد التشبيهين مع أن جنسهما جنس واحد وتركيبهما على حقيقة واحدة بأن في أحدهما فضل استقصاء ليس في الآخر قول ابن المعتز
( وطاف بها ساق أديب بمنزل ** كخنجر عيار صناعته الفتك )
____________________
(1/152)
( وحمل آذريونة فوق أذنة ** ككأس عقيق في قرارتها مسك )
مع قوله
( مداهن من ذهب ** فيها بقايا غاليه )
الأول ينقص عن الثاني شيئا وذلك أن السواد الذي في باطن الآذريونة الموضوع بإزاء الغالية والمسك فيه أمران أحدهما أنه ليس بشامل لها والثاني أن هذا السواد ليس صورته صورة الدرهم في قعرها أعنى أنه لم يستدر هناك بل ارتفع من قعر الدائرة حتى أخذ شيئا من سمكها من كل الجهات وله في منقطعة هيئة تشبه آثار الغالية في جوانب المدهن إذا كانت
____________________
(1/153)
بقية بقيت عن الأصابع وقوله في قرارتها مسك يبين الأمر الأول ويؤمن من دخول النقص عليه كما كان يدخل لو قال ككأس عقيق فيها مسك ولم يشترط أن يكون في القرارة
وأما الثاني من الأمرين فلا يدل عليه كما يدل قوله بقايا غالية وذاك من شأن المسك والشىء اليابس إذا حصل في شىء مستدير في القعر لا يرتفع في الجوانب الارتفاع الذي تراه في سواد الآذريونة وأما الغاليه فهي رطبة ثم هي تؤخذ بالأصابع وإذا كان كذلك فلابد في البقية منها من أن تكون قد ارتفعت عن القرارة وحصلت بقية شبيهة بذلك السواد ثم هي لنعومتها ترق فتكون كالصبغ الذي لا جرم له يملك المكان وذلك أصدق للتشبيه ومن أبلغ الاستقصاء وعجيبه قول ابن المعتز
( كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ** نطير غرابا ذا قوادم جون )
شبه ظلام الليل حين يظهر فيه الصبح بأشخاص الغربان ثم شرط أن تكون قوادم ريشها بيضا لأن تلك الفرق من الظلمة تقع في حواشيها من حيث يلي معظم الصبح وعموده لمع نور يتخيل منها في العين كشكل قوادم إذا كانت بيضاء وتمام التدقيق والسحر في هذا التشبيه في شىء آخر وهو أن جعل ضوء الصبح لقوة ظهوره ودفعه لظلام الليل كأنه يحفز الدجى
____________________
(1/154)
ويستعجلها ولا يرضى منها بأن تتمهل في حركتها ثم لما بدأ بذلك أولا اعتبره في التشبيه آخرا فقال نظير غرابا ولم يقل غراب يطير مثلا وذلك أن الغراب وكل طائر إذا كان واقعا هادئا في مكان فأزعج وأخيف وأطير منه أو كان قد حبس في يد أو قفص فأرسل كان ذلك لا محالة أسرع لطيرانه واعجل وأمد له وأبعد لأمده فإن تلك الفزعة التى تعرض له من تنفيره أو الفرحة التي تدركه وتحدث فيه من خلاصة وانفلاته مما دعته إلى أن يستمر حتى يغيب عن الأفق ويصير إلى حيث لا تراه العيون وليس كذلك إذا طار عن اختيار لأنه يجوز حينئذ أن يصير إلى مكان قريب من مكانه الأول وان لا يسرع في طيرانه بل يمشي على هينة ويتحرك حركة غير المستعجل فاعرفه
ومما حقه أن يكون على فرط الاستقصاء في التشبيه وفضل العناية بتأكيد ما بدا به قول ابن فارس في صفة البازي
( كأن عينيه إذا ما أثارا ** فصان قيضا من عقيق أحمرا )
( في هامة غلباء تهدي منسرا ** كعطفة الجيم بكف اعسرا )
أراد أن يشبه المنقار بالجيم والجيم خطان الأول الذي مبدأه وهو الأعلى والثاني وهو الذي يذهب إلى اليسار وإذا لم توصل فلها تعريق كما لا يخفى والمنقار إنما يشبه الخط الأعلى فقط فلما كان كذلك قال كعطفه
____________________
(1/155)
الجيم ولم يقل كالجيم ثم دقق بان جعلها بكف اعسر لأن جيم الأعسر قالوا أشبه بالمنقار من جيم الأيمن ثم إنه اراد ان يؤكد ان الشبه مقصور على الخط الأعلى من شكل الجيم فقال
( يقول من فيها بعقل فكرا ** لو زادها عينا إلى فاء ورا )
( فاتصلت بالجيم صارت جعفرا ** )
فأراك عيانا أنه عمد في التشبيه إلى الخط الأول من الجيم دون تعريقها ودون الخط الأسفل أما أمر التعريق وإخراجه من التشبيه فواضح لأن الوصل يسقط التعريق أصلا وأما الخط الثاني فهو وإن كان لا بد منه مع الوصل فإنه إذا قال لو زادها عينا إلى فاء ورا ثم قال فاتصلت بالجيم فقد بين أن هذا الخط الثاني خارج أيضا من قصده في التشبيه من حيث كانت زيادة هذه الحروف ووصلها هي السبب في حدوثه وينبغي أن يكون قوله بالجيم يعنى بالعطفة المذكورة من الجيم ولأجل هذه الدقة قال يقول من فيها بعقل فكرا فمهد لما أراد أن يقول ونبه على أن بالمشبه حاجة إلى فضل فكر وأن يكون فكره فكرة من يراجع عقله ويستعينه على تمام البيان
وجملة القول أنك متى زدت في التشبيه على مراعاة وصف واحد أو جهة واحدة فقد دخلت في التفصيل والتركيب وفتحت باب التفاصيل ثم تختلف المنازل في الفضل بحسب الصورة في استنفادك قوة الاستقصاء أو رضاك بالعفو دون الجهد
____________________
(1/156)
فصل
اعلم أن مما يزداد به التشبيه دقه وسحرا أن يجىء في الهيآت التى تقع عليها الحركات والهيئة المقصودة في التشبيه على وجهين أحدهما أن تقترن بغيرها من الأوصاف كالشكل واللون ونحوهما والثاني أن تجرد هيئة الحركة حتى لا يراد غيرها فمن الأول قوله
( والشمس كالمرآة في كف الأشل ** )
أراد أن يريك مع الشكل الذي هو الاستدارة ومع الإشراق والتلألؤ على الجملة الحركة التى تراها للشمس إذا أنعمت التأمل ثم ما يحصل في نورها من أجل تلك الحركة وذاك أن للشمس حركة متصلة دائمة في غاية السرعة ولنورها بسبب تلك الحركة تموج واضطراب عجب ولا يتحصل هذا الشبه إلا بان تكون المرآة في يد الأشل لأن حركته تدور وتتصل ويكون فيها سرعة وقلق شديد حتى ترى المرآة لا تقر في العين وبدوام الحركة وشدة القلق فيها يتموج نور المرآة ويقع الاضطراب الذي كأنه يسحر الطرف وتلك حال الشمس بعينها حين تحد النظر وتنفذ البصر حتى تتبين الحركة العجيبة في جرمها وضوئها فإنك ترى شعاعها كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانبها ثم يبدو له فيرجع من الانبساط الذي بدأه إلى انقباض كأنه يجمعه من جوانب الدائرة إلى الوسط وحقيقة حالها في ذلك مما لا يكمل البصر لتقريره وتصويره في النفس فضلا عن أن تكمل العبارة لتأديته ويبلغ البيان كنه صورته
ومثل هذا التشبيه وإن صور في غير المرآة قول المهلبى الوزير
( الشمس من مشرقها قد بدت ** مشرقة ليس لها حاجب )
____________________
(1/157)
( كأنها بوتقة أحميت ** يجول فيها ذهب ذائب )
وذلك أن الذهب الذائب يتشكل بأشكال البوتقة على النار فإنه يتحرك فيها حركة على الحد الذي وصفت لك وما في طبع الذهب من النعومة وفي أجزائه من شدة الاتصال والتلاحم يمنعه أن يقع فيه غليان على الصفة التى تكون في الماء ونحوه مما يتخلله الهواء فيرتفع وسطه ارتفاعا شديدا ولكن جملته كأنها تتحرك بحركة واحدة ويكون فيها ما ذكرت من انبساط إلى الجوانب ثم انقباض إلى الوسط فاعرفه
ومن عجيب ما جمع فيه بين الشكل وهيئه الحركة قول الصنوبرى
( كأن في غدرانها ** حواجبا ظلت تمط )
أراد ما يبدو في صفحة الماء من أشكال كأنصاف دوائر صغار ثم إنك تراها تمتد امتدادا ينقص من انحنائها وتحدبها كما تباعد بين طرفي القوس وتثنيهما إلى ناحية الظهر كأنك تقربها من الاستواء وتسلبها بعض شكل التقوس الذي هو إقبال أحد طرفيها على الآخر ومتى حدثت هذه الصفة في تلك الأشكال الظاهرة على متون الغدران كانت أشبه شىء بالحواجب إذا مدت لأن الحاجب لا يخفى تقويسه ومده ينقص من تقويسه
ومن لطيف ذلك أيضا أعنى الجمع بين الشكل وهيئه الحركة قول ابن المعتز يصف وقوع القطر على الأرض
____________________
(1/158)
( بكرت تعير الأرض ثوب شباب ** رحبية محمودة الإسكاب )
( نثرت أوائلها حيا فكأنه ** نقط على عجل ببطن كتاب )
وأما هيئه الحركة مجردة من كل وصف يكون في الجسم فيقع فيها نوع من التركيب بان يكون للجسم حركات في جهات مختلفة نحو أن بعضها يتحرك إلى يمين والبعض إلى شمال وبعض إلى فوق وبعض إلى قدام ونحو ذلك وكلما كان التفاوت في الجهات التى تتحرك أبعاض الجسم إليها أشد كان التركيب في هيئة المتحرك اكثر فحركه الرحا والدولاب وحركة السهم لا تركيب فيها لأن الجهة واحدة ولكن في حركه المصحف في قوله فانطباقا مرة وانفتاحا تركيب لأنه في إحدى الحالتين يتحرك إلى جهة غير جهته في الحالة الأخرى فمما جاء في التشبيه معقودا على تجريد هيئة الحركة ثم لطف وعرف لما فيه من التفصيل والتركيب قول الأعشى يصف السفينة في البحر وتقاذف الأمواج بها
( تقص السفين بجانبيه كما ** ينزو الرباح خلاله كرع )
الرباح الفصيل وقيل القرد والكرع ماء السماء شبه السفينة في انحدارها
____________________
(1/159)
وارتفاعها بحركات الفصيل في نزوه وذلك أن الفصيل إذا نزا ولا سيما في الماء وحين يعتريه ما يعترى المهر ونحوه من الحيوانات التى هي في أول النشء كانت له حركات 5 متفاوتة تصير لها أعضاؤه في جهات مختلفة ويكون هناك تسفل وتصعد على غير ترتيب وبحيث تكاد تدخل إحدى الحركتين في الأخرى فلا يثبته الطرف مرتفعا حتى يراه منحطا متسفلا ويهوى مرة نحو الرأس ومرة نحو الذنب وذلك أشبه شيىء بحال السفينة وهيئة حركاتها حين يتدافعها الموج
ونظيره قول الآخر يصف الفصيل وهو يثب على الناقة ويعلوها ويلقى نفسه عليها لأنها قد بركت فلا يتمكن من أن يرتضع فهو يفعل ذلك لتثور الناقه
( يقتاعها كل فصيل مكرم ** كالحبشى يرتقى في السلم )
يقتاعها يفثعل من قولهم قاع البعير الناقه إذا ضربها يقوعها قوعا أراد يعلوها ويثب عليها وشبه بالحبشي في هذه الحالة المخصوصة لما يكون له عند ارتفاعه في السلم من تصعد بعض أعضائه وتسفل بعض على اضطراب مفرط وغثارة شديدة وذلك كما ترى في أنه اختلاف في جهات أبعاض الجسم على غير نظام مضبوط كحركات الفصيل في الماء وقد خلاله وقد عرفتك أن الاختلاف في جهات الحركات الواقعة في أبعاض الجسم كالتركيب بين أوصاف مختلفة ليحصل من مجموعها شبه خاص
____________________
(1/160)
واعلم أن هذه الجهات يغلب عليها الحكم المستفاد من العبرة الثانية وذلك أن كل هيئة من هيئات الجسم في حركاته إذا لم يتحرك في جهة واحده فمن شأنها أن تقل وتعز في الوجود فيباعدها ذلك أيضا من أن تقع في الفكر بسرعة زيادة مباعدة مضمونه إلى ما يوجب حديث التركيب والتفصيل فيها ألا ترى أن الهيئة التى اعتمدها في تشبيه البرق بالمصحف ليست تكون إلا في النادر من الأحوال وبعد عمد من الإنسان وخروج عن العادة ومقصد خاص أو عيب غالب على النفس غير معتاد وهكذا حال الفصيل في وثوبه على أمه ليثيرها وانسيابه في الماء ولزوه كما توجبه رؤيته الماء خاليا وطباع الصغير والفصيلة مما لا ترى إلا نادرا وليس الأمر في هذا النحو كالأمر في حركة الدولاب والرحا والسهم ونحو ذلك من الحركات المعتادة التى تقع في مصارف العيون كثيرا
ومما يقوى فيه أن يكون سبب غرابته قلة رؤية العيون له ما مضى من تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل وذلك أن الهيئة التى تراها في حركة المرآة إذا كانت في كف الأشل مما ترى نادرا في الأقل فربما قضى الرجل دهره ولا يتفق له أن يرى مرآة في يد مرتعش هذا وليس موضع الغرابة من التشبيه دوام حركة المرآة في يد الأشل فقط بل النكته المقصودة فيما يتولد من دوام تلك الحركة من الالتماع وتموج الشعاع وكونه في صورة حركات من جوانب الدائرة إلى وسطها وهذه صفة لا تقوم في نفس الرائي المرآة الدائمة الاضطراب إلا أن يستأنف تأملا وينظر متثبتا في نظره متمهلا فكأن ههنا هيئتين كلتاهما من هيآت الحركة إحداهما حركة المرآة على الخصوص الذي يوجه ارتعاش اليد
____________________
(1/161)
والثانية حركة الشعاع واضطرابه الحادث من تلك الحركة وإذا كان كون المرآة في يد الأشل مما ترى نادرا ثم كانت هذه الصفة التى هي كائنه في الشعاع إنما ترى وتدرك في حال رؤية حركة المرآة بجهد وبعد استئناف إعمال للبصر فقد بعدت عن حد ما يعتاد رؤيته مرتين ودخلت في النادر الذي لا تألفه العيون من جهتين فاعرفه
واعلم أنه كما تعتبر هيئة الحركة في التشبيه فكذلك تعتبر هيئة السكون على الجملة وبحسب اختلافه نحو هيئة المضطجع وهيئة الجالس ونحو ذلك فإذا وقع في شىء من هيئات الجسم في سكونه تركيب وتفصيل لطف التشبيه وحسن فمن ذلك قول ابن المعتز يصف سيلا
( فلما طغا ماؤه في البلاد ** وغص به كل واد صد )
( نرى الثور في متنه طافيا ** كضجعة ذي التاج في المرقد )
وكقول المتنبي في صفة الكلب يقعى جلوس البدوي المصطلى فقد فقد اختص هيئة البدوي المصطلى في تشبيه هيئة سكون أعضاء الكلب ومواقعها فيها ولم ينل التشبيه حظا من الحسن إلا بأن فيه تفصيلا من حيث كان لكل عضو من الكلب في إقعائه موقع خاص وكان مجموع تلك الجهات في حكم أشكال مختلفة تؤلف فتجىء منها صورة خاصة
____________________
(1/162)
ومن لطيف هذا الجنس قوله في صفة المصلوب
( كأنه عاشق قد مد صفحته ** يوم الوداع إلى توديع مرتحل )
( أو قائم من نعاس فيه لوثته ** مواصل لتمطيه من الكسل )
ولم يلطف إلا لكثرة ما فيه من التفصيل ولو قال كأنه متمط من نعاس واقتصر عليه كان قريبا من المتناول لأن الشبه إلى هذا القدر يقع في نفس الرائي المصلوب لكونه من حد الجملة فأما بهذا القيد وعلى هذا التقييد الذي يفيد به استدامة تلك الهيئة فلا يحضر إلا مع سفر من الخاطر وقوة من التأمل وذلك لحاجته أن ينظر إلى غير جهة فيقول هو كالمتمطى ثم يقول المتمطى يمد ظهره ويده مدة ثم يعود إلى حالته فيزيد فيه أنه مواصل لذلك ثم إذا أراد ذلك طلب علته وهي قيام اللوثة والكسل في القائم من النعاس وهذا أصل فيما يزيد به التفصيل وهو أن يثبت في الوصف أمر زائد على المعلوم المتعارف ثم يطلب له علة وسبب
ويشبه التشبيه في البيت قول الآخر وهو مذكور معه في الكتب
( لم أرصفا مثل صف الزط ** تسعين منهم صلبوا في خط )
____________________
(1/163)
( من كل عال جذعه بالشط ** كأنه في جذعه المشتط )
( أخو نعاس جد في التمطي ** قد خامر النوم ولم يغط )
فقوله جد في التمطي شرط يتم التشبيه كما أن قوله مواصل كذلك إلا أن في اشتراط المواصلة من الفائدة ما ليس في هذا وذاك أنه يجوز أن يبالغ ويجتهد ويجد في تمطيه ثم يدع ذلك في الوقت ويعود إلى الحالة التى يكون عليها في السلامة مما يدعو إلى التمدد وإذا كان كذلك كان المستفاد من هذه العبارة صورة التمطى وهيئته الخاصة وزيادة معنى وهو بلوغ الصفة غاية ما يمكن أن يكون عليها وهذا كله مستفاد من الأول ثم فيه زيادة أخرى وهو أخص ما يقصد من صفة المصلوب وهي الاستمرار على الهيئة والاستدامة لها فأما قوله بعد قد خامر النوم ولم يغط فهو إن كان كأنة يحاول أن يرينا هذه الزيادة من حيث يقال إنه إذا أخذه النعاس فتمطى ثم خامر النوم فإن الهيئة الحاصلة له من جده في التمطى تبقى له فليس ببالغ مبلغ قوله مواصل لتمطيه وتقييده من بعد بأنه من الكسل واحتياطه قبل بقوله فيه لوثته
وشبيه بالأول في الاستقصاء قول ابن الرومي
( كأن له في الجو حبلا يبوعه ** إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل )
( يعانق أنفاس الرياح مودعا ** وداع رحيل لا يحط له رحل )
فاشتراطه أن يكون له بعد الحبل الذي ينتهى ذرعه حبل آخر يخرج من بوع الأول إليه كقوله مواصل لتمطيه من الكسل في استيفاء
____________________
(1/164)
الشبه والتنبيه على استدامته لأنه إذا كان لا يزال يبوع حيلا لم يقبض باعه ولم يرسل يده وفي ذلك بقاء شبه المصلوب على الاتصال فاعرفه
واعلم أن من حقك أن لا تضع الموازنة بين الشبهين في حاجه أحدهما إلى زيادة من التأمل على وقتنا هذا ولكن تنظر إلى حالهما في قوى العقل ولم تسمع بواحد منهما فتعلم أن لو أرادهما مريد واتفقا له جميعا ولم يكن قد سمع بواحد منهما أيهما كان بكون أسهل عليه وأسرع إليه وأعطى بيديه وأيهما تجده أدل على ذكاء من يسمعه منه وارجي ليخرج من تقوله وذلك أن تقابل بين تشبيه النجوم بالمصابيح والمصابيح بها وبين تشبيه سل السيوف بعقائق البرق وتشبيهها بسل السيوف فإنك تعلم أن الأول يقع في نفس الصبي أول ما يحس بنفسه وأن الثاني لا يجيب إجابته ولا يبذل طاعته وكذلك تعلم أن تشبيه الثريا بنور العنقود لا يكون في قرب تشبيهها بتفتح النور وأن تشبيه الشمس بالمرآة المجلوة كما مضى يقع في نفس الغر العامي والصبي ولا يقع تشبيهها بالمرآة في كف الأشل إلا في قلب الحصيف وتشبيهها في حركتها تلك بمرآة تضطرب على الجملة من غير أن تجعل في كف الأشل قد يقع لمن لا يقع له بهذا التقييد وذلك لما مضى من حاجته إلى الفكرة في حال الشمس وأن حركتها دائمة متصلة ثم طلب متحرك حركة غير اختياريه وجعل المرآة صادرة عن تلك الحركة ومأسورة في حكمها دائما وإنما اشترط عليك هذا الشرط لأنه لا يمتنع أن يسبق الأول إلى تشبيه لطيف يحسن تأمله ويدل على ذكائه وحدة خاطره ثم يشيع ويتسع
____________________
(1/165)
ويذكر ويشهر حتى يخرج إلى حد المبتذل وإلى المشترك في أصله وحتى يجرى مع دقة تفصيل فيه مجرى المجمل الذي تقوله الوليدة الصغيرة والعجوز الورهاء فإنك تعلم أن قولنا لا يشق غباره الآن في الابتذال كقولنا لا يلحق ولا يدرك وهو كالبرق ونحو ذلك إلا أنا إذا رجعنا إلى أنفسنا علمنا أنه لم يكن كذلك من أصله وان هذا الابتذال أتاه بعد أن قضى زمانا بطراءة الشباب وجدة الفتاء وبعزة المنيع ولو قد منعك جانبه وطوى عنك نفسه لعرفت كيف يشق مطلبه ويصعب تناوله ومثل هذا وأظهر منه أمرا أن قولنا أما بعد منسوب في الأصل إلى واحد بعينه وإن كان الآن في البذلة كقولنا هذا بعد ذاك مثلا
وهكذا الحكم في الطرق التى ابتدأ بها الأولون والعبارات التي لخصها المتقدمون والقوانين التي وضعوها حتى صارت في الاشتراك كالشىء المشترك من أوله والمبتذل الذي لم يكن الصون من شانه والمبذول الذي لم يعترض دونه المنع في شىء من زمانه ورب نفيس جلب إليك من الأمكنة الشاسعة وركب فيه النوى الشطون وقطع به عرض الفيافي ثم أخفي عنك فضله حتى جهلت قدرة أن سهل مرامه واتسع وجوده ولو انقطع مدده عنك حتى تحتاج إلى طلبه من مظنته لعلمت إحسان الجائي به إليك والجالب المقرب نيله عليك ولأكثرت من شكره بعد أن أقللت وأخذت نفسك بتلافي ما أهملت وكذلك
____________________
(1/166)
رب شىء نال فوق ما يستحقه من شغف النفوس به وأكثر مما توجبه المنافع الراجعة إليه لأنه لا يتسع اتساع الأول الذي فوائده أعم وأكثر ووجود العوض عنه عند الفقد أعسر فكسبت عزة الوجود هذا عزا لم يستحقه بفضله كما منعت سعه الآخر فضلا هو ثابت له في أصله
ويتصل بهذا الموضع حديث عبد الرحمن بن حسان وذلك أنه رجع إلى أبيه حسان وهو صبي يبكي ويقول لسعنى طائر فقال حسان صفه يا بني فقال كأنه ملتف في بردى حبرة وكان لسعه زنبور فقال حسان قال ابني الشعر ورب الكعبة أفلا تراه جعل هذا التشبيه مما يستدل به على مقدار قوة الطبع ويجعل عيارا في الفرق بين الذهن المستعد للشعر وغير المستعد له وسره ذلك من ابنه كما سره نفس الشعر حين قال في وقت آخر
( الله يعلم أنى كنت منتبذا ** في دار حسان اصطاد اليعاسيبا )
فإن قلت إن التشبيه يتصور في مكان الصبغ والنقش العجيب ولم يعجب حسان هذا وإنما أعجبه قوله ملتف وحسن هذه العبارة إذ لو قال طائر فيه كوشى الحبرة لم يكن له هذا الموقع فهو إن يكن مشبها ما أنت فيه فمن حيث دلالته على الفطنة في الجملة قيل مسلم لك أن نكته الحسن في
____________________
(1/167)
قوله ملتف ولكن لا يسلم أنه خارج من الغرض بل هو عين المراد من التشبيه وتمامه فيه وذلك انه يفيد الهيئة الخاصة في ذلك الوشى والصبغ وصورة الرنبور في اكتسائه بهما ويؤدى الشبه كما مضى من طريق التفصيل دون الجملة فما ظننت انه يبعده عما نحن بصدده هو الذي يدنيه منه ولقد نفيت العيب من حيث أردت إثباتة فصل في التشبيه المتعدد والفرق بينه وبين المركب
اعلم أنى قد قدمت بيان المركب من التشبيه وههنا ما يذكر مع الذي عرفتك أنه مركب ويقرن إليه في الكتب وهو على الحقيقة لا يستحق صفة التركيب ولا يشارك الذي مضى ذكره في الوصف الذي كان له تشبيها مركبا وذلك أن يكون الكلام معقودا على تشبيه شيئين بشيئين ضربة واحدة إلا أن أحدهما لا يداخل الآخر في الشبه ومثاله قول امرئ القيس
( كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ** لدى وكرها العناب والحشف البالى )
وذلك انه لم يقصد إلى أن يجعل بين الشيئين اتصالا وإنما أراد اجتماعا في مكان فقط كيف ولا يكون لمضامة الرطب من القلوب إلى اليابس هيئة يقصد ذكرها أو يعنى بأمرها كما يكون ذلك لتباشير الصبح في أثناء الظلماء وكون الشقيقة على قامتها الخضراء فيؤدي ذلك الشبه الحاصل من مداخلة أحد المذكورين الآخر واتصاله به اجتماع الحشف البالى والعناب كيف ولا فائدة لأن ترى العناب مع الحشف أكثر من كونهما في مكان
____________________
(1/168)
واحد ولو أن اليابسة من القلوب كانت مجموعه ناحية والرطبة كذلك في ناحية أخرى لكان التشبيه بحاله ولذلك لو فرقت التشبيه ههنا فقلت كأن الرطب من القلوب عناب وكأن اليابس حشف بال لم تر أحد التشبيهين موقوفا في الفائدة على الآخر وليس كذلك الحكم في المركبات التي تقدمت
وقد يكون في التشبيه المركب ما إذا فضضت تركيبه وجدت أحد طرفيه يخرج عن أن يصلح تشبيها لما كان جاء في مقابلته مع التركيب بيان ذلك أن الجلال في قوله كطرف أشهب ملقى الجلال في مقابلة الليل وأنت لو قلت كأن الليل جلال وسكت لم يكن شيئا
وقد يكون الشىء منه إذا فض تركيبه استوى التشبيه في طرفيه إلا أن الحال تتغير ومثال ذلك قوله
( وكأن أجرام النجوم لوامعا ** درر نثرن على بساط أزرق )
فأنت وإن كنت إذا قلت كأن النجوم درر وكأن السماء بساط أزرق وجدت التشبيه مقبولا معتادا مع التفريق فإنك تعلم بعد ما بين الحالتين ومقدار الإحسان الذي يذهب من البين وذلك أن المقصود من التشبيه أن يريك الهيئة التى تملأالنواظر عجبا وتستوقف العيون وتستنطق القلوب بذكر الله تعالى من طلوع النجوم مؤتلقة مفترقة في أديم السماء وهي زرقاء وزرقتها الصافية التى تخدع العين والنجوم تلألأ وتبرق في أثناء تلك الزرقة ومن لك بهذه الصورة إذا فرقت التشبيه وأزلت عنه الجمع والتركيب وهذا أظهر من أن يخفى
وإذ قد عرفت هذه التفاصيل فاعلم أن ما كان من التركيب في صورة بيت امرىء القيس فإنما يستحق الفضيلة من حيث اختصار اللفظ
____________________
(1/169)
وحسن الترتيب فيه لا لأن للجمع فائدة في عين التشبيه ونظيرة أن للجمع بين عدة تشبيهات في بيت كقوله
( بدت قمرا وماست خوط بان ** وفاحت عنبرا ورنت غزالا )
مكانا من الفضيلة مرموقا وشأوا ترى فيه سابقا ومسبوقا لا أن حقائق التشبيهات تتغير بهذا الجمع أو أن الصور تتداخل وتتركب وتأتلف ائتلاف الشكلين يصيران إلى شكل ثالث فكون قدها كخوط البان لا يزيد ولا ينقص في شبه الغزال حين ترنو منه العينان وهكذا الحكم في أنها تفوح فوح العنبر ويلوح وجهها كالقمر وليس كذلك بيت بشار كأن مثار النقع لأن التشبيه هناك كما مضى مركب وموضوع على أن يريك الهيئة التى ترى عليها النقع المظلم والسيوف في أثنائه تبرق وتومض وتعلو وتنخفض وترى لها حركات من جهات مختلفة كما يوجبه الحال حين يحمى الجلاد وترتكض بفرسانها الجياد كما أن قول رؤبة مثلا
( فيها خطوط من سواد وبلق ** كأنها في الجلد توليع البهق )
ليس القصد فيه أن يريك كل لون على الانفراد وإنما القصد أن يرى الشبه من اجتماع اللونين وقول البحترى
( ترى احجاله يصعدن فيه ** صعود البرق في الغيم الجهام )
لا يريد به تشبيه بياض الحجول على الانفراد بالبرق بل المقصود الهيئة
____________________
(1/170)
الخاصة الحاصلة من مخالطة أحد اللونين الآخر كذلك اللون المقصود في بيت بشار بتشبيه النقع بالليل من جانب والسيوف بالكواكب من جانب ولذلك وجب الحكم كما كنت ذكرت في موضع بأن الكلام إلى قوله وأسيافنا في حكم الصلة للمصدر وجار مجرى الأسم الواحد لئلا يقع في التشبيه تفريق ويتوهم انه كقولنا كأن مثار النقع ليل وكأن السيوف كواكب ونصب الأسياف لا يمنع من تقدير الاتصال ولا يوجب أن يكون في تقدير الإستئناف لأن الواو فيها بمعنى مع كقوله فإني وقيار بها لغريب وقوله كل رجل وضيعته وهي إذا كانت بمعنى مع لم يكن في معطوفها الأنقطاع وأن يكون الكلام في حكم جملتين ألا ترى أن قولهم لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها لا يكون بمنزلة أن تقول لو تركت الناقة ولو ترك فصيلها فتجعل الكلام جملتين وكذا لا يمكنك أن تقول كل رجل كذا وضيعته كذا فتفرق الخبز عنهما كما يجوز في قولك زيد وعمرو كريمان أن تقول زيد كريم وعمرو كريم و هذا موضع غامض وللكلام فيه موضع آخر
وإن أردت أن تزداد تبيينا لأن التشبيه إذا كان معقوداً على الجمع دون التفريق كان حال أحد الشيئين مع الآخر حال الشيء في صلة الشيء وتابعا له و مبنياً عليه حتى لا يتصور إفراده بالذكر فالذي يفضي بك إلى معرفة ذلك أنك تجد في هذا الباب ما إذا فرق لم يصلح للتشبيه بوجه كقوله
( كأنما المريخ والمشتري ** قدامه في شامخ الرفعة )
( منصرف بالليل عن دعوة ** قد أسرجت قدامه شمعة )
____________________
(1/171)
لو قلت كان المريخ منصرف بالليل عن دعوة وتركت حديث المشتري والشمعة كان خلفاً من القول وذاك أن التشبيه لم يكن للمريخ من حيث هو نفسه ولكن من حيث الحالة الحاصلة له من كون المشتري أمامه وأنت وإن كنت تقول المشتري شمعة على التشبيه العامي الساذج في قولهم كأن النجوم مصابيح وشموع فإنه لم يضع التشبيه على هذا و وإنما قصد الهيئة التي يكتسبها المريخ من كون المشتري أمامه وهكذا قول إبن المعتز
( كأنه وكأن الكأس في فمه ** هلال أول شهر غاب في شفق )
لم يقصد أن أن يشبه الكأس على الأنفراد بالهلال والشفة بالشفق بل أراد أن يشبه مجموع الصورتين ألا ترى أنك لو فرقت لم تحك من التشبيه بطائل إذ لا معنى لأن تقول كان الشفقة شفق وتسكت ألا ترى أن قوله
( بياض في جوانبه احمرار ** كما احمرت من الخجل الخدود )
لم يستوجب الفضل والخروج من التشبيه العامي وأن يقال قد زاد زيادة لم يسبق إليها إلا بالتركيب والجمع وبأن ترك أن يراعي الحمرة وحدها
وقال القاضي أبو الحسن رحمه الله لو أتفق له أن يقول احمرار في جوانبه بياض لكان قد أستوفى الحسن وذلك لأن خد الخجل هكذا يحدق البياض فيه بالحمرة لا الحمرة بالبياض إلا انه لعله وجد الأمر كذلك في الوردة فشبه على طريق العكس فقال هذا البياض حوله الحمرة كالحمرة حولها البياض هناك فأنظر الآن إن فرقت كيف يتفرق عنك الحسن والإحسان ويحضر العى ويذهب البيان لأن تشبيه البياض على الإنفراد لا معنى له
____________________
(1/172)
وأما تشبيه الحمرة وإن كانت تصح على الطريقة الساذجة أعنى تشبيه الورد الأحمر بالخد فإنه يفسد من حيث إن المصد إلى جنس من الورد مخصوص وهو ما فيه بياض يحدق به حمرة فيجب أن يكون وصف المشبه به على هذا الشرط أيضا
وبهذا الاختصاص وكما ذكرت لك تجد أحد المشبهين في الأمر الأعم الأكثر وقد ذكر في صلة الآخر ولم يعطف عليه كقوله
( والشيب ينهض في الشباب ** وبياض في جوانبه احمراراً )
وأشباه ذلك فإن جاءت الواو كانت واو حال كقوله
( كأنما المريخ والمشتري ** قدامه في شامخ الرفعة )
و هي إذا كانت حالية فهي كالصفة في كونها تابعة وبحيث لا ينفرد بالذكر بل يذكر في ضمن الأول وعلى أنه من تبعة وحاشيته
وهكذا الحكم في الطرف الآخر ألا ترى قوله ليل تهاوي كواكبه فتهاوى كواكبه جمله من الصفة لليل و إذا كان كذلك فالكواكب مذكورة على سبيل التبع لليل ولو كانت مستبدة بشأنها لقلت ليل و كواكب و كذلك قوله
( ليل يصيح بجانبيه نهار ** )
وأشد من ذلك أن يجىء كما في الطرف الثاني كقوله كما احمرت من الخجل الخدود وبيت امرئ القيس على خلاف هذه الطريقة لأن أحد الشيئين فيه في الطرفين معطوف على الآخر أما في طرف الخبر وهو
____________________
(1/173)
طرف المشبه به فبين وهو قوله العناب والحشف البالي وأما في طرف المخبر عنه وهو المشبه فإنك وإن كنت ترى اسما واحدا وهو القلوب فإن الجمع الذي تفيده الصيغة في المتفق يجرى مجرى العطف في المختلف فاجتماع شيئين أو أشياء في لفظة تثنية أو جمع لا يوجب أن أحدهما في حكم التابع للآخر كما يكون ذلك إذا جرى الثاني في صفة الأول أو حاله أو ما أشبه ذلك
هذا وقد صرح بالعطف في البدل وهو المقصود فقال رطبا ويابسا
واعلم انه قد يجئ في هذا الباب شىء له حد آخر وهو نحو قوله
( إنى وتزيينى بمدحى معشرا ** كمعلق درا على خنزير )
هو على الجملة جمع بين شيئين في عقد تشبيه إلا أن التشبيه في الحقيقة لأحدهما ألا ترى أن المعنى على أن فعله في التزيين بالمدح كفعل الآخر في محاولته تزيين الخنزير بتعليق الدر عليه ووجه الجمع أن كل واحد منهما يضع الزينة حيث لا يظهر لها أثر لأن الشيء غير قابل للتحسين ومتى كان المشبه به كمعلق في البيت فلا شك أن التشبيه لا يرجع إلى ذات الشيء بل إلى المعنى المشتق منه الصفة وإذا رجع إليه مقرونا بصفته على نحو ما مضى في نحو ما زال يفتل في الذروة والغارب فقد شبه تزيينه بالمدح من ليس من أهله بتعلق الدر على الخنزير هكذا بجملته لا بالتعليق غير معدى إلى الدر والخنزير فالشبه مأخوذ من مجموع المصدر وما في صلته ولا بد للواو في هذا النحو أن تكون بمعنى مع وأمرها فيه أبين إذ لا يمكن أن يقال إنى كذا وأن تزيينى كذا لأنه ليس معنا شيئان يكون أحدهما خبرا عن ضمير المتكلم في إني الذي هو المعطوف عليه والآخر عن تزيينى المعطوف كما يكون في نحو بيت بشار شيئان يمكن في ظاهر
____________________
(1/174)
اللفظ أن يجعل أحدهما خبرا عن النقع والآخر عن الأسياف إلى أن تجىء إلى فساده من جهة المعنى فأنت في نحو إنى وتزيينى ملجأ إلى جعل الواو بمعنى مع من كل وجه حتى لا تقدر على إخراج الكلام إلى صورة تكون فيها الواو عارية من معنى مع ويكون تشبيها بعد تشبيه
فإن قلت إن في معلق معنى الذات والصفة معا فيمكن أن يكون أراد أن يشبه نفسه بذات الفاعل وتزيينه بالفعل نفسه أقول لو أريد إني كمعلق درا على خنزير وإن تزيينى بمدحى معشرا كتعليق درة على خنزير كان قولا ظاهر السقوط لما ذكرت من انه لا يتصور أن يشبه المتكلم نفسه من حيث هو زيد مثلا بمعلق الدر على الخنزير من حيث هو عمرو وإنما يشبه الفعل بالفعل فاعرفه
فإن قلت فما تقول في قوله
( وحتى الليل حسبت الصبح إذ بدا ** حصانين مختالين جونا وأشقرا )
فإن ظاهرة أنه من جنس المفرق أقول نعم إلا أن ثمة شيئا من الحسن وهو أن لاقتران الحصانين الجون والأشقر في الاختيال ضربا من الخصوصية في الهيئة لكنه لا يبلغ مبلغ ليل تهاوى كواكبه ولا يبلغ قوله والصبح مثل غرة في ادهم كما أن قوله
( دون التعانق ناحلين كشكلتي ** نصب أدقهما وضم الشاكل )
لا يكون كقوله
____________________
(1/175)
( إني رأيتك في نومى تعانقنى ** كما تعانق لام الكاتب الألفا )
فإن هذا قد أدى إليك شكلا مخصوصا لا يتصور في كل واحد من المذكورين على الانفراد بوجه وصورة لا تكون مع التفريق وأما المتنبي فأراك الشيئين في مكان واحد وشدد في الفرق بينهما وذاك انه لم يعرض لهيئة العناق ومخالفتها صورة الافتراق وإنما عمد إلى المبالغة في فرط النحول واقتصر من بيان حال المعانقة على ذكر الضم مطلقا والأول لم يعن بحديث الدقة والنحول وإنما عنى بأمر الهيئة التى تحصل في العناق خاصة من انعطاف أحد الشكلين على صاحبه والتفاف الحبيب بمحبه كما قال
( لف الصبا بقضيب قضيبا ** )
وأجاد وأصاب الشبه أحسن إصابة لأن خطى اللام والألف في لا ترى رأسيهما في جهتين وتراهما قد تماسا من الوسط وهذه هيئة المعتنقين على الأمر المعروف فأما قصد المتنبي فليس بصفة عناق على الحقيقة وإنما هو تضام وتلاصق وهو بنحو قوله
( ضممته ضمة عدنا بها واحداً ** فلو رأتنا عيون ما خشيناها )
أشبه لأن القصد في مثله شدة الالتصاق من غير تعريج على هيئة الاعتناق وذهب القاضي في بيت المتنبي إلى أنه كأنه معنى مفرد غير ماخوذ من قوله كما تعانق لام الكاتب الألفا وقال ولئن كان أخذه كما يقولون فليس عليه بعتب لأن التعب في نقله ليس بأقل من التعب في ابتدائه
____________________
(1/176)
وهذا التفضيل والتفصيل من قول القاضي ليس قادحا في غرضى لأنى أردت أن أريك مثالا في وضع التشبيه على الجمع والتفريق واجعل البيتين معيارا فيما أردت ولئن كان المتنبي قد زاد على الأول فليس تلك الزيادة من حيث وضع الشبه على تركيب شكلين ولكن من جهة أخرى وهى الإغراق في الوصف بالنحول وجمع ذلك للخلين معا ثم إصابة مثال له ونظير من الخط فاعرف ذلك ولا تظن أن قصدى المفاضلة بين البيتين من حيث القول بين السابق والمسبوق والأخذ والسرقة فتحسب أنى خالفت القاضي فيما حكم به فصل هذا فن غير ما تقدم في الموازنة بين التشبيه والتمثيل
اعلم أنى قد عرفتك أن كل تمثيل تشبيه وليس كل تشبيه تمثيلا وثبت وجه الفرق بينهما وهذا أصل إذا اعتبرته وعرضت كل واحد منهما عليه فوجدته يجئ في التشبيه مجيئا حسنا وينقاد القياس فيه انقيادا لا تعسف فيه ثم صادفته لا يطاوعك في التمثيل تلك المطاوعة ولا يجرى في عنان مرادك ذلك الجرى ظهر لك نوع من الفرق والفصل بينهما غير ما عرفت وانفتح منه باب إلى دقائق وحقائق وذلك جعل الفرع أصلا والأصل فرعا وهو إذا استقريت التشبيهات الصريحة وجدته يكثر فيها وذلك نحو أنهم يشبهون الشىء فيها بالشىء في حال ثم يعطفون على الثاني فيشبهونه بالأول فترى الشىء مشبها مرة ومشبها به أخرى
فمن اظهر ذلك أنك تقول في النجوم كأنها مصابيح ثم تقول في حالة أخرى في المصابيح كأنها نجوم ومثله في الظهور والكثرة تشبيه الخد بالورد والورد بالخد وتشبيه الروض المنور بالوشى المنمنم ونحو ذلك ثم تشبيه النقش
____________________
(1/177)
والوشى في الحلل بأنوار الرياض وتشبيه العيون بالنرجس ثم تشبيه النرجس بالعيون كقول أبي نواس
( لدى نرجس غض القطاف كأنه ** إذا ما منحناه العيون عيون )
وكذلك تشبيه الثغر بالأقاحي ثم تشبيهها بالثغر كقول ابن المعتز
( وألا قحوان كالثنايا الغر ** قد صقلت أنواره بالقطر )
وقول التنوخى
( أقحوان معانق لشقيق ** كثغور تعض ورد الخدود )
وبعده وهو تشبيه النرجس بالعيون
( وعيون من نرجس تتراءى ** كعيون موصولة التسهيد ) وكما يشبهون السيوف عند الانتضاء بعقائق البروق كما قال ثم يعودون فيشبهون البرق بالسيوف المنتضاة كما قال ابن المعتز يصف سحابة
( وسارية لا تمل البكا ** جرى دمعها في خدود الثرى )
( سرت تقدح الصبح في ليلها ** ببرق كهندية تنتضى )
وكقول الآخر يصف نار السذق
( وما زال يعلو عجاج الدخان ** إلى أن تكون منه زحل )
( وكنا نرى الموج من فضة ** مذهبة النور حين اشتعل )
( شرارا يحاكى انقضاض النجوم ** وبرقا كإيماض بيض تسل )
____________________
(1/178)
ومن لطيفة قول على بن محمد بن جعفر
( دمن كأن رياضها ** تسكين أعلام المطارف )
( وكأنما غدرانها ** فيها عشور من مصاحف )
( وكأنما أنوارها ** تهتز في نكباء عاصف )
( طرر الوصائف يلتقي ** ن بها إلى طرر الوصائف )
( وكان لمع بروقها ** في الجو أسياف المثاقف )
المقصود البيت الأخير ولكن البيت إذا قطع عن القطعة كان كالكعاب تفرد عن الأتراب فيظهر فيها ذل الاغتراب والجوهرة الثمينة مع أخواتها في العقد أبهى في العين واملا بالزين منها إذا أفردت عن النظائر وبدت فذة للناظر
ويشبهون الجواشن والدروع بالغدير يضرب الريح متنه فيتكسر ويقع فيه ذلك الشنج المعلوم كقوله
____________________
(1/179)
( وبيضاء زغف نثله سلميه ** لها رفرف فوق الأنامل من عل )
( واشبرنيها الهالكى كأنها ** غدير جرت في متنه الريح سلسل )
وقال
( وسابغة من جياد الدرو ** ع تسمع للسيف فيها صليلا )
( كمتن الغدير زهته الدبور ** يجر المدجج منها فضولا )
وقال البحترى
( يمشون في زغف كان متونها ** في كل معركة متون نهاء )
وهو من الشهرة بحيث لا يخفى ثم إنهم يعكسون هذا التشبيه فيشبهون الغدران والبرك بالدروع والجواشن كقول البحترى يصف البركة
( إذا زهتها الصبا أبدت لها حبكا ** مثل الجواشن مصقولا حواشيها )
ومن فاتن ذلك وفاخرة لاستواء أوله في الحسن وآخره قول أبى فراس الحمدانى
( انظر إلى زهر الربيع ** والماء في البرك البديع )
____________________
(1/180)
( وإذا الرياح جرت علي ** هـ في الذهاب وفي الرجوع )
( نثرت على بيض الصفا ** ئح بيننا حلق الدروع )
وتشبه أنوار الرياض بالنجوم كقوله
( بكت السماء بها رذاذ دموعها ** فغدت تبسم عن نجوم سماء )
ثم تشبيه النجوم بالنور كقوله
( قد أقذف العيس في ليل كان به ** وشيا من النور أو روضا من العشب )
وكقول ابن المعتز
( كأن الثريا في أواخر ليلها ** تفتح نور أو لجام مفضض )
وقال
( وتوقد المريخ بين نجومها ** كبهارة في روضة من نرجس )
وكذلك تشبيه غرة الفرس الأدهم بالنجم أو الصبح ويجعل جسمه كالليل كما قال ابن المعتز
( جاء سليلا من أب وأم ** أدهم مصقول ظلام الجسم )
( قد سمرت جبهته بنجم ** )
وكما قال كاتب المأمون يصف فرسا
____________________
(1/181)
( قد بعثنا بجواد ** مثله ليس يرام )
( فرس يزهى به لل ** حسن سرج ولجام )
( وجهه صبح ولكن ** سائر الجسم ظلام )
( والذي يصلح للمو ** لى على العبد حرام )
وقال ابن نباتة
( وادهم يستمد الليل منه ** وتطلع بين عينيه الثريا )
ثم يعكس فيشبه النجم أو الصبح بالغرة في الفرس كقول ابن المعتز
( والصبح في طرة ليل مسفر ** كأنه غرة مهر أشقر )
وتشبه الجوارى في قدودهن بالسرو تشبيها عاميا مبتذلا ثم إنهم قد جعلوا فيه الفرع أصلا فشبهوا السرو بهن كقوله
( حفت بسرو كالقيان ولحفت ** خضر الحرير على قوام معتدل )
( فكأنها والريح حين تميلها ** تبغى التعانق ثم يمنعها الخجل )
المقصود من البيت الأول ظاهر وفي البيت الثاني تشبيه من جنس الهيئة المجردة من هيئات الحركة وفيه تفصيل ظريف فاتن فقد راعى الحركتين حركة التهيؤ للدنو والعناق وحركة الرجوع إلى أصل الافتراق وأدى ما يكون في الحركة الثانية من سرعة زائدة تأدية تحسب معها السمع بصرا تبينا للتشبيه كما هو وتصويرا لأن حركة الشجرة المعتدلة في حال رجوعها إلى اعتدالها أسرع لا محالة من حركتها في خروجها من مكانها من الاعتدال
____________________
(1/182)
وكذلك حركة من يدركه الخجل فيرتدع أسرع أبدا من حركته إذا هم بالدنو فإزعاج الخوف والوجل أبدا أقوى من إزعاج الرجاء والأمل فمع الأول تمهل الاختبار وسعة الحوار ومع الثاني حفز الاضطرار وسلطان الوجوب
وأعود إلى الغرض
ومن تشبيه السرور بالنساء قول ابن المعتز
( ظللت بملهى خير يوم وليلة ** تدور علينا الكأس في فتية زهر )
( بكف غزال ذى عذار وطرة ** وصدغين كالقافين في طرفي سطر )
( لدى نرجس غض وسرو كأنه ** قدود جوار ملن في أزر خضر )
وتشبيه ثدي الكواعب بالرمان كقوله
( ربما تبيت أناملي ** يجنين رمان النحور )
وقال المتنبي
( وقابلني رمانتا غصن بانة ** يميل به بدر ويمسكه حقف )
وقوله يخطن بالعيدان في كل منزل ** ويجنين رمان الثدى النواهد )
ثم يقلب فيشبه الرمان بالثدى كقول القائل
( ورمانة شبهتها إذ رأيتها ** بثدى كعاب أو بحقة مرمر )
____________________
(1/183)
( منمنمة صفراء نضد حولها ** يواقيت حمر في ملاء معصفر )
____________________
(1/184)
وتشبه الجداول والأنهار بالسيوف يراد بياض الماء الصافي وبصيصه مع شكل الاستطالة الذي هو شكل السيف كقول ابن المعتز
( أعددت للجار وللعفاة ** كوم الأعالى متساميات )
( روازقا في المحل مطعمات ** )
يعنى نخلا ثم قال بعد أبيات
( تسقى بأنهار مفجرات ** على حصى الكافور فائضات )
( مثل السيوف المتفريات ** )
وقول ابن بابك
( فما سيل تخلصه المحاني ** كما سلت من الخلل المناصل )
أبو فراس
( والماء يفصل بين زهر ** الروض في الشطين فصلا )
( كبساط وشى جردت ** أيدى العيون عليه نصلا )
( كشاجم وترى الجداول كالسيو ** ف لها سواق كالمبارد )
____________________
(1/185)
آخر
( وفي الجداول أسياف محادثة ** والطير تسجع إهزاجا وإرمالا )
وقال ذو الرمة
( فما انشق ضوء الصبح حتى تبينت ** جداول أمثال السيوف القواطع )
ابن الرومي
( على حفافي جدول مسجور ** أبيض مثل المهرق المنشور )
( أو مثل متن الصارم المشهور )
ثم يقلبون أحد طرفي التشبيه على الآخر فيشبهون السيوف بالجداول كقوله
( وتخال ما ضربوا بهن جداولا ** وتخال ما طعنوا به أشطانا )
ابن بابك
( وأهدى إلى الغارات عزما مشيعا ** وبأساً وباعاً في اللقاء ومقصلا )
( سفيه مقط الطرتين أشيمه ** فيوحى إلى الأعضاء أن تترتلا )
____________________
(1/186)
أغر كأني حين أخضب خده ** خرقت به في ملتقى الروض جدولا )
السرى
( وكم خرق الحجاب إلى مقام ** توارى الشمس فيه بالحجاب )
( كان سيوفه بين العوالى ** جداول يطردن خلال غاب )
وله أيضا
( كأن سيوف الهند بين رماحه ** جداول في غاب سما وتأشبا )
وتشبه الأسنة كما لا يخفي بالنجوم كما قال
( وأسنة زرقا تخال نجوما ** )
وقال البحتري
( وتراه في ظلم الوغى فتخاله ** قمراً يكر على الرجال بكوكب )
يعني السنان وقال ابن المعتز
( وتراه يصغي في القناة بكفه ** نجماً ونجماً في القناة يجره )
ومثله سواء قوله
( كأنما الحربة في كفه ** نجم دجى شيعه البدر )
ثم قد شبهوا الكواكب بالسنان كقول الصنوبري
( بشر بالصبح كوكب الصبح ** فاض وجنح الدجى كلا جنح )
( فهو على الفجر كالسنان هوى ** للعين كما هوى على رمح )
____________________
(1/187)
ابن المعتز
( شربتها والديك لم ينتبه ** سكران من نومته طافح )
( ولاحت الشعرى وجوزاؤها ** كمثل زج جره رامح )
وهذه إن أردت الحق قضية قد سبقت وقدمت فقد قالوا السماك الرامح على معنى أن كوكباً يتقدمه وهو رمحه ولا شك أن جل الغرض في جعل ذلك الكوكب رمحاً أن يقدروه سناناً فالرمح رمح بالسنان وإذا لم يكن السنان فهو قناة ولذلك قال
( ورمحا طويل القناة عسولا )
ومن ذلك أن الدموع تشبه إذا قطرت على خدود النساء بالطل والقطر على ما يشبه الخدود من الرياحين كقول الناشىء
( بكت للحبيب وقد راعها ** بكاء الحبيب لبعد الديار )
( كأن الدموع على خدها ** بقية طل على جلنار )
وشبيه به قول ابن الرومي
( لو كنت يوم الوداع حاضرنا ** وهن يطفين غلة الوجد )
( لم تر إلا الدموع ساكبة ** تقطر من مقلة على خد )
( كأن تلك الدموع قطر ندى ** يقطر من نرجس على ورد )
ثم يعكس كقول البحترى
( شقائق يحملن الندى فكأنه ** دموع التصابي في خدود الخرائد )
ومثله قول ابن المعتز بعد قوله في النرجس
( كأن عيون النرجس الغض حولها ** مداهن در حشوهن عقوق )
( إذا بلهن القطن خلت دموعها ** بكاء عيون كحلهن خلوق )
____________________
(1/188)
وفي فن آخر منه خارج عن جنس ما مضى يشبه الشيخ إذا أفناه الهرم وحناه القدم حتى يدخل رأسه في منكبيه بالفرخ كما قال
( ثلاث مئين قد مضين كواملا ** وها أنا هذا أرتجى مر أربع )
( فأصبحت مثل الفرخ في العين ثاويا ** إذا رام تطيارا يقال له قع )
وهو كثير ثم يعكس فيشبه الفرخ بالشيخ كما قال أبو نواس يرثى خلف الأحمر
( لو كان حي وائلا من التلف ** لوئلت شغواء في أعلى شعف )
( أم فريخ أحرزته في لحف ** مزغب الألغاد لم يأكل بكف )
( كأنه مستقعد من الخرف ** )
وأعاده في قصيدة أخرى في مرثيته
( لا تئل العصم في الهضاب ولا ** شغواء تغذو فرخين في لحف )
( تحنو بجؤشوشها على ضرم ** كقعدة المنحنى من الخرف )
____________________
(1/189)
ويشبه الظليم في حركة جناحيه مع إرسال لهما بالخباء المقوض أنشد أبو العباس لعلقمة
( صعل كأن جناحيه وجؤجؤه ** بيت أطافت به خرقاء مهجوم )
اشترط أن يتعاطى تقويضه خرقاء ليكون أشد لتفاوت حركاته وخروج اضطرابه عن الوزن وقال ذو الرمة
( وبيض رفعنا بالضحى عن متونها ** سماوة جون كالخباء المقوض )
( هجوم عليها نفسه غير أنه ** متى يرم في عينيه بالشبح ينهض )
قالوا في تفسيره يعنى بالبيض بيض النعام ورفعنا أي أثرنا عن ظهورها وسماوة جون أى شخص نعام جون وسماوة الشىء شخصه والجون الأسود ههنا لأنه قابل بين البياض والسواد ثم شبه النعام في حال إثارته عن البيض بالخباء المقوض وهو الذي نزعت اطنابه للتحويل والبيت الثاني من أبيات الكتاب أنشده شاهدا على إعمال فعول عمل الفعل وذلك قوله هجوم عليها نفسه فنفسه منصوب بهجوم على انه من هجم متعديا هجم نحو عليها نفسه اى طرحها عليها كأنه أراد أن يصف الظليم في خوفه بأمرين متضادين بان يبالغ في الانكباب على البيض فعل من شأنه اللزوم والثبات وأن يثيره عنها الشىء اليسير نحو أن يقع بصره
____________________
(1/190)
على الشخص من بعد فعل من كان مستوفزاً في مكانه غير مطمئن ولا موطن نفسه على السكون وقوله يرم في عينيه بالشبح كلام ليس لحسنه نهاية
وقد قال ابن المعتز فعكس هذا التشبيه فشبه حركة الخباء بالطائر إلا أنه راعى أن يكون هناك صفة مخصوصة فشرط في الطائر أن يكون مقصوصا وذلك قوله
( ورفعنا خباءنا تضرب الر ** ح حشاه كالجاذف المقصوص )
وأخرجه إلى هذا الشرط انه أراد حركة خباء ثابت غير مقوض إلا أن الريح تقع في جوفه فتحرك في جانبيه على توال كما يفعل المقصوص إذا جذف وذلك أن يرد جناحيه إلى خلفه فيتحرك جانباه فحصل له أمران أحدهما أن الموفور الجناح يبسط جناحيه في الأكثر وذلك إذا صف في طيرانه فلا يدوم ضربه بجناحيه والمقصوص لقصوره عن البسط يديم ضربهما والثاني تحريك الجناحين إلى خلف وهذا كثير جدا وتتبعه في كل باب ونوع من التشبيه يشغل عن الغرض من هذه الموازنة وإنما يمتنع هذا القلب في طرفي التشبيه لسبب يعرض في البين فيمنع منه ولا يكون من صميم الوصف المشترك بين الشيئين المشبه أحدهما بالآخر
فمن ذلك وهو أقواه فيما أظن أن يكون بين الشيئين تفاوت شديد في الوصف الذي لأجله يشبه ثم قصدت أن تلحق الناقص منهما بالزائد مبالغة ودلالة على انه يفضل أمثاله فيه
بيان هذا أن ههنا أشياء هي أصول في شدة السواد كخافية الغراب
____________________
(1/191)
والقار ونحو ذلك فإذا شبهت شيئا بها كان طلب العكس في ذاك عكسا لما يوجبه العقل ونقضا للعادة لأن الواجب أن يثبت المشكوك فيه بالقياس على المعروف لا أن يتكلف في المعروف تعريف بقياسه على المجهول وما ليس بموجود على الحقيقة فأنت إذا قلت في شئ هو كخافية الغراب فقد أردت أن تثبت له سوادا زائدا على ما يعهد في جنسه وأن تصحح زيادة مجهولة له وإذا لم يكن ههنا ما يزيد على خافية الغراب في السواد فليت شعرى ما الذي تريد من قياسه على غيره فيه ولهذا المعنى ضعف بيت البحترى
( على باب قنسرين والليل لاطخ ** جوانبه من ظلمة بمداد )
وذاك أن المداد ليس من الأشياء التي لا مزيد عليها في السواد كيف ورب مداد فاقد اللون والليل بالسود وشدته أحق وأحرى أن يكون مثلا ألا ترى إلى ابن الرومي حيث قال
( حبر أبى حفص لعاب الليل ** يسيل للإخوان أى سيل )
فبالغ في وصف الحبر بالسواد حين شبهه بالليل وكأن البحترى نظر إلى قول العامة في الشىء الأسود هو كالنقس ثم تركه للقافية
____________________
(1/192)
فإن قلت فينبغى على هذا أن لا يجوز تشبيه الصبح بغرة الفرس لأجل أن الصبح بالوصف الذي لأجله شبه الغرة به أخص وهو فيه أظهر وأبلغ والتفاوت بينهما كالتفاوت بين خافية الغراب والقار وبين ما يشبه بهما فالجواب أن الأمر وإن كان كذلك فإن تشبيه غرة الفرس بالصبح حيث ذكرت لم يقع من جهة المبالغة في وصفها بالضياء والانبساط وفرط التلألؤ وإنما قصد أمر آخر وهو وقوع منير في مظلم وحصول بياض في سواد ثم البياض صغير قليل بالإضافة إلى السواد وأنت تجد هذا التشبيه على هذا الحد في الأصل فإذا عكست فقلت كان الصبح عند ظهور أوله في الليل غرة في فرس أدهم لم تقع في مناقضة كما انك لو شبهت الصبح في الظلام بعلم بياض على ديباج اسود لم تخرج عن الصواب وعلى نحو من ذلك قول ابن المعتز
( فخلت الدجى والفجر قد مد خيطه ** رداء موشى بالكواكب معلما )
فالعلم في هذا الرداء هو الفجر بلا شبهة وله وهو صريح ما أردت
( والليل كالحلة السوداء لاح به ** من الصباح طراز غير مرقوم )
وإن كان التفاوت في المقدار بين الصبح والطراز في الامتداد والانبساط شديدا وكذلك تشبيه الشمس بالمرآة المجلوة وبالدينار الخارج من السكة كما قال ابن المعتز
( وكأن الشمس المنيرة دينا ** ر جلته حدائق الضراب )
حسن مقبول وإن عظم التفاوت بين نور الشمس ونور المرآة والدينار أو الجرم لأنك لم تضع التشبيه على مجرد النور والائتلاف وإنما قصدت إلى
____________________
(1/193)
مستدير يتلألأ ويلمع ثم خصوص في جنس اللون يوجد في المرآة المجلوة والدينار المتخلص من حمى السكة كما يوجد في الشمس فأما مقدار النور وانه زائد أو ناقص ومتناه أو متقاصر وللجرم أعظيم هو أم صغير فلم تعرض له ويستقيم لك العكس في هذا كله نحو أن تشبه المرآة بالشمس وكذلك لو قلت في الدينار كأنه شمس أو قلت كأن الدنانير المنثورة شموس صغار لم تتعد
وجملة القول أنه متى لم يقصد ضرب من المبالغة في إثبات الصفة للشىء والقصد إلى إيهام في الناقص انه كالزائد واقتصر على الجمع بين الشيئين في مطلق الصورة والشكل واللون أو جمع وصفين على وجه يوجد في الفرع على حد ويوجد هو أو قريب منه في الأصل فإن العكس يستقيم في التشبيه ومتى أريد شىء من ذلك لم يستقم
وقد يقصد الشاعر على عادة التخييل أن يوهم في الشىء هو قاصر عن نظيره في الصفة أنه زائد عليه في استحقاقها واستيجاب أن يجعل أصلا فيها فيصح على موجب دعواه وشوقه إلى أن يجعل الفرع أصلا وإن كنا إذا رجعنا إلى التحقيق لم نجد الأمر يستقيم على ظاهر ما يضع اللفظ عليه ومثاله قول محمد بن وهيب
( وبدا الصباح كان غرته ** وجه الخليفة حين يمتدح )
فهذا على انه جعل وجه الخليفة كأنه أعرف واشهر وأتم واكمل في النور والضياء من الصباح فاستقام له بحكم هذه النية أن يجعل الصباح
____________________
(1/194)
فرعا ووجه الخليفة أصلا
واعلم أن هذه الدعوى وإن كنت تراها تشبه قولهم لا يدرى أوجهه أنور أم الصبح وغرته أضوأ أم البدر وقولهم إذا أفرطوا نور الصباح يخفي في ضوء وجهه أو نور الشمس مسروق في جبينه وما جرى في هذا الأسلوب من وجوه الإغراق والمبالغة فإن في الطريقة الأولى خلابة وشيئا من السحر وهو انه كان يستكثر للصباح أن يشبهه بوجه الخليفة ويوهم انه قد احتشد له واجتهد في طلب تشبيه يفهم به أمره وجهته الساحرة أنه يوقع المبالغة في نفسك من حيث لا تشعر ويفيد كها من غير أن يظهر ادعاؤه لها لأنه وضع كلامه وضع من يقيس على أصل متفق عليه ويزجى الخبر عن أمر مسلم لا حاجة فيه إلى دعوى ولا إشفاق من خلاف مخالف وإنكار ر منكر وتجهم معترض وتهكم قائل لم ومن أين لك ذلك والمعانى إذا وردت على النفس هذا المورد كان لها ضرب من السرور خاص وحدث بها نوع من الفرح عجيب فكانت كالنعمة لم تكدرها المنة والصنيعة لم ينغصها اعتداد المصطنع لها
وفي هذا الموضع تشبيه بالنكتة التى ذكرتها في التجنيس لأنك في الموضعين تنال الربح في صورة رأس المال وترى الفائدة قد ملأت يدك من حيث حسبتها قد جازتك وأضلتك وتجد على الجملة الوجود من حيث توهمت العدم
ولطيفة أخرى وهى أن من شأن المدح إذا ورد على العاقل أن يقفه بين أمرين يصعب الجمع بينهما وتوفيه حقهما معرفة حق المادح على ما احتشد له من تزيينه وقصده من تفخيم شأنه في عيون الناس بالإصفاء
____________________
(1/195)
إليه والارتياح له والدلالة بالبشر والطلاقة على حسن موقعه عنده وملك النفس حتى لا يقلبها السرور عليه ويخرج بها إلى العجب المذموم وإلى أن يقول أنا فيقع في ضعة الكبر من حيث لا يشعر ويظهر عليه من إمارته ما يذم لأجله ويحقر فما كبر أحد في نفسه إلا أغان الكبر عقله وفسخ عقده من أجله وهذا موقف نزل فيه الأقدام بل تخف عنده الحلوم حتى لا يسلم من جزع النفس هناك إلا أفراد الرجال وإلا من أدام التوفيق صحبته ومن أين ذلك وأنى فإذا كان المدح على صورة قوله وجه الخليفة حين يمتدح خف عنه الشطر من تكاليف هذه الخصلة
وإذا قد تبين كيف يكون جعل الفرع أصلا والأصل فرعا في التشبيه الصريح فارجع إلى التمثيل وانظر هل تجىء فيه هذه الطريقة على هذه السعه والقوة ثم تأمل ما حمل من التمثيل عليها كيف حكمه وهل هو مساو لما رأيت في التشبيه الصريح وحاذ حذوه على التحقيق أم الحال على خلاف ذلك والمثال فيما جاء من التمثيل مردودا فيه الفرع إلى موضع الأصل والأصل إلى محل الفرع قوله
( وكأن النجوم بين دجاه ** سنن لاح بينهن ابتداع )
وذلك أن تشبيه السنن بالنجوم تمثيل والشبه عقلى وكذلك تشبيه خلافها من البدعة والضلالة بالظلمة ثم إنه عكس فشبه النجوم بالسنن كما يفعل فيما مضى من المشاهدات إلا أنا نعلم انه لا يجرى مجرى قولنا كأن النجوم مصابيح تارة وكأن المصابيح نجوم أخرى ولا يجرى مجرى قولك كأن السيوف برق تنعق وكأن البروق سيوف تسل من أغمادها فتبرق ونظائر ذلك
____________________
(1/196)
فيما مضى وذلك أن الوصف هناك لا يختلف من حيث الجنس والحقيقة وتجده العين في الموضعين وليس هو في هذا مشاهدا محسوسا وفي الآخر معقولا متصورا بالقلب ممتنعا فيه الإحساس فأنت تجد في السيوف لمعانا على هيئة مخصوصة من الاستطالة وسرعة الحركة تجده بعينه أو قريبا منه في البروق وكذلك تجد في المداهن من الدر حشوهن عقيق من الشكل واللون والصورة ما تجده في النرجس حتى يتطرق أن يشتبه الحال في الشىء من خلل فيظن أن أحدهما الآخر فلو أن رجلا رأى من بعيد بريق سيوف تنتضى من الغمود لم يبعد أن يغلط فيحسب أن بروقا انعقت وما لم يقع فيه الغلط كان حاله قريبا مما يجوز وقوع الغلط فيه ومحال أن يكون الأمر كذلك في التمثيل لأن السنن ليست بشىء يتراءى في العين فيشتبه بالنجوم ولا ههنا وصف من الأوصاف المشاهدة يجمع السنن والنجوم وإنما يقصد بالتشبيه في هذا الضرب ما تقدم من الأحكام المتأولة من طريق المقتضى فلما كانت الضلالة والبدعة وكل ما هو جهل تجعل صاحبها في حكم من يمشى في الظلمة فلا يهتدى إلى الطريق ولا يفصل الشىء من غيره حتى يتردى في مهواة ويعثر على عدو قاتل وآفة مهلكة لزم من ذلك أن تشبه بالظلمة ولزم على عكس ذلك أن تشبه السنة والهدى والشريعة وكل ما هو علم بالنور
وإذا كان الأمر كذلك علمت أن طريقة العكس لا تجىء في التمثيل على حدها في التشبيه الصريح وإنها إذا سلكت فيه كان مبنيا على ضرب من التأول والتخيل يخرج عن الظاهر خروجا ويبعد عنه بعدا شديدا فالتأويل في البيت انه لما شاع وتعورف وشهر وصف السنة ونحوها
____________________
(1/197)
بالبياض وإلاشراق والبدعة بخلاف ذلك كما قال النبي أتيتكم بالحنيفية البيضاء ليلها كنهارها وقيل هذه حجة بيضاء وقيل للشبهة وكل ما ليس بحق أنه مظلم وقيل سواد الكفر وظلمة الجهل يخيل أن السنن كلها جنس من الأجناس التى لها إشراق ونور وابيضاض في العين وأن البدعة نوع من الأنواع وأن لها فضل اختصاص بسواد اللون فصار تشبيهه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع على قياس تشبيههم النجوم في الظلام ببياض الشيب في سواد الشباب أو بالأنوار وائتلاقها بين النبات الشديد الخضرة فهذا ههنا كأنه ينظر إلى طريقة قوله وبدا الصباح كان غرته في بناء التشبيه على تأويل هو غير الظاهر إلا أن التأويل هناك انه جعل في وجه الخليفة زيادة من النور والضياء يبلغ بها حال الصباح أو يزيد والتأويل ههنا أته خيل ما ليس بمتلون كأنه متلون ثم بنى على ذلك
ومن هذا الباب قول الآخر
( ولقد ذكرتك والزمان كأنه ** يوم النوى وفؤاد من لم يعشق )
لما كانت الأوقات التي تحدث فيها المكاره توصف بالسواد فيقال اسود النهار في عينى وأظلمت الدنيا على جعل يوم النوى كأنه اعرف وأشهر بالسواد من الظلام فشبه به ثم عطف عليه فؤاد من لم يعشق تظرفا وإتماما للصفة وذلك أن الغزل يدعى القسوة على من لم يعرف العشق والقلب القاسي يوصف بشدة السواد فصار هذا القلب عنده أصلا في الكدرة
____________________
(1/198)
والسواد فقاس عليه وعلى ذلك قول العامة ليل كقلب المنافق أو الكافر إلا أن في هذا شوبا من الحقيقة من حيث يتصور في القلب أصل السواد ثم يدعى الإفراط ولا يدعى في البدعة نفس السواد لأنها ليس مما يتلون لأن اللون من صفات الجسم فالذي يساويه في الشبه المساواة الثابتة قولهم أظلم من الكفر كما قال ابن العميد في كتاب يداعب فيه ويظهر التظلم من هلال الصوم ويدعو على القمر فقال وارغب إلى الله تعالى في أن يقرب على القمر دورة وينقص مسافة فلكه ثم قال بعد فصل ويسمعنى النعرة في قفا شهر رمضان ويعرض على هلاله اخفى من السحر واظلم من الكفر
وإن تأولت في قوله سنن لاح بينهن ابتداع أنه أراد معنى قولهم إن سواد الظلام يزيد النجوم حسنا وبهاء كان له مذهب وذلك أنه لما كان وقوف العاقل على بطلان الباطل وإطلاعه على عوار البدعة وخرقه الستر عن فضيحة الشبهة يزيد الحق نبلا في نفسه وحسنا في مرآة عقله جعل هذا الأصل من المعقول مثالا للمشاهد المبصر هناك إلا أنه على ذلك لا يخرج من أن يكون خارجا عن الظاهر أن يمثل المعقول في ذلك بالمحسوس كما فعل البحترى في قوله
____________________
(1/199)
( وقد زادها إفراط حسن جوارها ** خلائق أصفار من المجد خيب )
( وحسن درارى النجوم بان ترى ** طوالع في داج من الليل غيهب )
فبك مع هذا الوجه حاجة إلى مثل ما مضى تنزيل السنة والبدعة منزلة ما يقبل اللون ويكون له في رأى العين منظر المشرق المبتسم والأسود الأقتم حتى يراد أن لون هذا يزيد في بريق ذاك وبهائه وحسنه وجماله وفي القطعة التى هذا البيت منها غيرها مما مذهبه المذهب الأول وهو
( رب ليل قطعته كالصدود ** وفراق ما كان فيه وداع )
( موحش كالثقيل تقذى به العين ** وتأبى حديثه الأسماع )
وكأن النجوم البيت وبعده
( مشرقا كأنهن حجاج ** يقطع الخصم والظلام انقطاع )
ومما حقه أن يعد في هذا الباب قول القائل
( كأن انتضاء البدر من تحت غيمه ** نجاء من البأساء بعد وقوع )
وذلك أن العادة أن يشبه المتخلص من البأساء بالبدر الذي ينحسر عنه الغمام والشبه بين البأساء والغمام والظلماء من طريق العقل لا من طريق الحس وأوضح منه في هذا القول ابن طباطبا
( صحو وغيم وضياء وظلم ** مثل سرور شابه عارض غم )
ومن حد ما يقع في هذا الباب قول التنوخي في قطعة وهى قوله
( أما ترى البرد قد وافت عساكره ** وعسكر الحر كيف انصاع منطلقا )
____________________
(1/200)
( فالأرض تحت ضريب الثلج تحسبها ** قد ألبست حبكا أو غشيت ورقا )
( فانهض بنار إلى فحم كأنهما ** في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا )
( جاءت ونحن كقلب الصب حين سلا ** بردا فصرنا كقلب الصب إذ عشقا )
المقصود فانهض بنار إلي فحم فإنه لما كان يقال في الحق إنه منير واضح لائح فتستعار له أوصاف الأجسام المنيرة وفي الظلم خلاف ذلك تخيلهما شيئين لهما ابيضاض واسوداد وإنارة وإظلام فشبه النار الفحم بهما
ومن هذا الباب قول ابن بابك
( وأرض كأخلاق الكريم قطعتها ** وقد كحل الليل السماك فأبصرا ) لما كانت الأخلاق توصف بالسعة والضيق وكثر ذلك واستمر توهمه حقيقة فقابل بين سعة الأرض التي هي سعة حقيقة وأخلاق الكريم
ومثله قول أبى طالب المامونى
( وفلا كآمال يضيق بها الفتى ** لا تصدق الأوهام فيها قيلا )
( أقريتها بشملة تقرى الفلا ** عنقا وتقريها الفلاة نحولا )
قاس الفلا في السعة وهى حقيقة فيها على الآمال وهى إذا وصفت بالسعة
____________________
(1/201)
كان مجازا بلا شبهة ولكن لما كان يقال آمال طوال وآمال لا نهاية لها واتسعت آماله وأشباه ذلك صارت هذه الأوصاف كأنها موجودة فيها من طريق الحس والعيان وعلى ذكر الأمل فمن لطيف ما جاء في التشبيه به على هذا الحد وإن لم يكن في معنى السعة والامتداد ولكن في الظلمة والاسوداد قول ابن طباطبا
( رب ليل كأنه أملى فيك ** وقد رحت عنك بالحرمان )
( جبته والنجوم تنعش في الأفق ** وتطرفن كالعيون الزوانى )
( هاربا من ظلام فعلك في نحو ** ضياء الفتى الأغر الهجان )
لما كان يقال في الأمر لا يرجى له نجاح قد اظلم علينا هذا الأمر وهذا أمر فيه ظلمة ثم أراد أن يبالغ في التباس وجه النجح عليه في امله تخيل كأن أمله شخص شديد السواد فقاس ليله به كأنه يقول تفكرت فيما اعلمه من الأشياء السود فرأيت صورة أملى فيك زائدة على جميعها في شدة السواد فجعلته قياسا في ظلمة ليلى الذي جبته
ومن الباب وهو حسن قول ابن المعتز
( لا تخلطوا الدوشاب في قدح ** بصفاء ماء طيب البرد )
( لا تجمعوا بالله ويحكم ** غلظ الوعيد ورقة الوعد )
لما كان يقال اغلظ له القول ويوصف الجافي وكل من أساء وقال ما يكره بالغلظ ويوصف كلام المحسن ومن يعمد إلى الجميل باللطافة جعل الوعيد
____________________
(1/202)
والوعد أصلا في الصفتين وقاس عليهما فأما قول الآخر ( شربت على سلامة فتكين ** شراباً صفوه صفو اليقين )
فهو على الحقيقة لا يدخل في تشبيه الحقيقة بالمجاز لأن الصفاء خلوص الشىء وخلوه من شئ يغيره عن صفته إلا أنه من حيث يقع في الأكثر لما له بريق وبصيص كان كأنه حقيقة في المحسوسات ومجاز في المعقولات وأما قولهم هواء أرق من تشاكي الأحباب فمن الباب لأن الرقة في الهواء حقيقة وفي التشاكي مجاز وهكذا قول أبي نواس في خلاعته حتى هي في رقة ديني لأن الرقة من صفات الأجسام فهي في الدين مجاز
( تيرشفن من فمى رشفات ** هن فيه أحلى من التوحيد ) وأبعد ما يكون الشاعر من التوفيق إذا دعته شهوة الأغراب إلى أن يستعير للهزل والعبث من الجد ويتغزل بهذا الجنس
ومما هو حسن جميل من هذا الباب قول الصاحب كتب به إلى القاضي أبي الحسن روى عن القاضي أنه قال انصرفت عن دار الصاحب قبيل العيد فجاءني رسوله بعطر الفطر ومعه رقعة فيها هذان البيتان
( يا أيها القاضي الذي نفسي له ** مع قرب عهد لقائه مشتاقة )
( أهديت عطراً مثل طيب ثنائه ** فكأنما أهدي له أخلاقه )
وكون هذا التشبيه مما نحن فيه من الترجيح أوضح ما يكون فليس بخاف أن العادة أن يشبه الثناء بالعطر ونحوه ويشتق منه وقد عكس كما ترى وذلك على ادعاء أن ثناءه أحق بصفة العطر وطيبه من العطر وأخص
____________________
(1/203)
به وأنه قد صار أصلا حتى إذا قيس نوع العطر عليه فقد بولغ في صفته بالطيب وجعل له في الشرف والفضل على جنسه أوفر نصيب
وإذ قد عرفت الطريقة في جعل الفرع أصلا في التمثيل فارجع وقابل بينه وبين التشبيه الظاهر تعلم أن حاله في الحقيقة مخالفة للحال ثم وذلك أنك لا تحتاج في تشبيه البرق بالسيوف والسيوف بالبرق إلى تأويل أكثر من أن العين تؤدي إليك من حيث الشكل واللون وكيفية اللمعان صورة خاصة تجدها في كل واحد من الشيئين على الحقيقة ولا يمكننا أن نقول إن الثريا شبهت باللجام المفضض وبعنقود الكرم المنور وبالوشاح المفصل لتأويل كذا بل ليس بأكثر من أن أنجم الثريا لونها لون الفضة ثم إن أجرامها في الصغر قريبة من تلك الأطراف المركبة على سيور اللجام ثم إنها في الاجتماع والأفتراق على مقدار من مواقع تلك وكذا القول في العنقود فإن تلك الأنوار مشاكلة في البياض وفي أنها ليست متضامة تضام التلاصق ولا هي شديدة التباين حتى يبعد الفصل بين بعضها وبعض بل مقاديرها في القرب والبعد على صفة قريبة مما يتراءى في العين من مواقع تلك الأنجم
وإذا كان مدار الأمر على أن العين تصف من هذا ما تصف من ذاك لم يكن تشبيه اللجام المفضض بالثريا إلا كتشبيه الثريا به والحكم على أحدهما بأنه فرع أو أصل يتعلق بقصد المتكلم فما بدأنه في الذكر فقد جعله فرعاً وجعل الآخر أصلاً وليس كذلك قولنا له خلق كالمسك وهو في دنوه بعطائه وبعده بعزة وعلائه كالبدر في ارتفاعه مع نزول شعاعه لأن كون الخلق فرعا والمسك أصلا أمر واجب من حيث كان المعلوم من طريق الإحساس والعيان متقدماً على المعلوم من طريق الروية وهاجس الفكر
____________________
(1/204)
وحكم هذا في أن الفرع لا يخرج عن كونه فرعاً على الحقيقة حكم ما طريق التشبيه فيه المبالغة من المشاهدات والمحسوسات كقولك هو كحلك الغراب في السواد لما هو دونه فيه وقولك في الشىء من الفواكه مثلا هو كالعسل فكما لا يصح أن يعكس فيشبه حلك الغراب بما هو دونه في السواد والعسل بما لا يساويه في صدق الحلاوة كذلك لا يصح أن تقول هذا مسك كخلق فلان إلا على ما قدمت من التخييل ألا ترى أنه كلام لا يقوله إلا من يريد مدح المذكور فأما أن يكون القصد بيان حال المسك على حد قصدك أن تبين حال الشىء المشبه بحلك الغراب في السواد والمشبه بالعسل في الحلاوة فما لا يكون كيف ولولا سبق المعرفة من طريق الحس بحال المسك ثم جريان العرف بما جرى من تشبيه الأخلاق به واستعارة الطيب لها منه لم يتصور هذا الذي تريد تخييله من أنا نبالغ في وصف المسك بالطيب تشبيها بخلق الممدوح وعلى ذلك قولهم كأنما سرق المسك عرفة من خلقك والعسل حلاوته من لفظك هو مبنى على العرف السابق من تشبيه الخلق بالمسك واللفظ بالعسل ولو لم يتقدم ذلك ولم يتعارف ولم يستقر في العادات لم يعقل لهذا النحو من الكلام معنى لأن كل مبالغة ومجاز فلا بد من أن يكون له استناد إلى حقيقة
وإذا ثبتت هذه الفروق والمقابلات بين والتشبيه الصريح الواقع في العيان وما يدركه الحس وبين التمثيل الذي هو تشبيه من طريق العقل والمقاييس التى تجمع بين الشيئين في حكم تقتضيه الصفة المحسوسة لا في نفس الصفة كما بينت لك في أول قول ابتدأته في الفرق بين التشبيه الصريح
____________________
(1/205)
وبين التمثيل من انك تشبه اللفظ بالعسل على أنك تجمع بينهما في حكم توجيه الحلاوة دون الحلاوة نفسها فتههنا لطيفة أخرى تعطيك للتمثيل مثالا من طريق المشاهدة وذاك انك بالتمثيل في حكم من يرى صورة واحدة إلا انه يراها تارة في المرآة وتارة على ظاهر الأمر
وأما في التشبيه الصريح فإنك ترى صورتين على الحقيقة يبين ذلك أنا لو فرضنا أن تزول عن أوهامنا ونفوسنا صور الأجسام في القرب والبعد وغيرهما من الأوصاف الخاصة بالأشياء المحسوسة لم يمكنا تخيل شىء من تلك الأوصاف في الأشياء المعقولة فلا يتصور معنى كون الرجل بعيدا من حيث العزة والسلطان قريبا من حيث الجود والإحسان حتى يخطر ببالك وتطمح بفكرك إلى صورة البدر وبعد جرمه عنك وقرب نوره منك وليس كذلك الحال في الشيئين يشبه أحدهما الآخر من جهة اللون والصورة والقدر فإنك لا تفتقر في معرفة كون النرجس وخرطه واستدارته وتوسط أحمره لأبيضه إلى تشبيهه بمداهن در حشوهن عقيق كيف وهو شىء تعرضه عليك العين وتضعه في قليل المشاهدة وإنما يزيدك التشبيه صورة ثانية مثل هذه التى معك ويجتلبها لكن من مكان بعيد تراهما معا وتجدهما جميعا
وأما في الأولى فإنك لا تجد في الفرع نفس ما في الأصل من الصفة وجنسه وحقيقته ولا يحضرك تمثيل الأصل على التعيين والتحقيق وإنما يخيل إليك انه يحضرك ذلك فإنه يعطيك من الممدوح بدرا ثانيا فصار وزان أن المرآة تخيل إليك أن فيها شخصا ثانيا على صورة ما هي مقابلة له ومتى ارتفعت المقابلة ذهب عنك ما كنت تتخيله فلا تجد إلى وجوده سبيلا ولا تستطيع له تحصيلا لا جملة ولا تفصيلا
____________________
(1/206)
فصل في الفرق بين الاستعارة والتمثيل
اعلم أن من المقاصد التى تقع العناية بها أن تبين حال الاستعارة مع التمثيل أهي هو على الإطلاق حتى لا فرق بين العبارتين أم حدها غير حده إلا أنها تتضمنه وتتصل به فيجب أن نفرد جملة من القول في حالها مع التمثيل
قد مضى في الاستعارة أن حدها أن يكون للفظ اللغوي أصل ثم بنقل عن ذلك الأصل على الشرط المتقدم وهذا الحد لا يجىء في معنى التمثيل الذي تقدم من أن الأصل في كونه مثلا وتمثيلا هو التشبيه المنتزع من مجموع امور والذي لا يحصله لك إلا جملة من الكلام أو أكثر لأنك قد تجد الألفاظ في الجمل التى يعقد منها جارية على أصولها وحقائقها في اللغة
وإذا كان الأمر كذلك بان أن الاستعارة يجب أن تفيد حكما زائدا على المراد بالتمثيل إذ لو كان مرادنا بالاستعارة هوالمراد بالتمثيل لوجب أن يصح إطلاقها في كل شىء يقال فيه إنه تمثيل ومثل والقول فيها إنها دلالة على حكم ثبت للفظ وهو نقله عن الاصل اللغوي وإجراؤه على مالم يوضع له ثم إن هذا النقل يكون في الغالب من أجل شبه بين ما نقل أليه وما نقل عنه
وبيان ذلك ما مضى من انك تقول رأيت أسدا تريد رجلا شبيها به في الشجاعة وظبيه تريد امرأة شبيهة بالظبية فالتشبيه ليس هو الاستعارة ولكن الاستعارة كانت من أجل التشبيه وهو كالغرض فيها أو كالعلة والسبب في فعلها فإن قلت كيف تكون الاستعارة من أجل التشبيه
____________________
(1/207)
والتشبيه يكون ولا استعارة وذلك إذا جئت بحرفه الظاهر فقلت زيد كالأسد فالجواب أن الأمر كما قلت ولكن التشبيه يحصل بالأستعارة على وجه خاص وهو المبالغة فقولي من أجل التشبيه أردت من أجل التشبيه على هذا الشرط وكما أن التشبيه الكائن على وجه المبالغة غرض فيها وعلة كذلك الإختصار والإيجاز غرض من أغراضها ألا ترى أنك تفيد بالاسم الواحد الموصوف والصفة والتشبيه والمبالغة لأنك تفيد بقولك رايت أسداً أنك رأيت شجاعاً شبيهاً بالأسد وأن شبهه به في الشجاعة على اتم ما يكون وأبلغه حتى إنه لا ينقض عن الأسد فيها وإذا ثبت ذلك فكما لا يصح أن يقال إن الاستعارة هي الاختصار والإيجاز على الحقيقة وأن حقيقتها وحقيقتهما واحدة ولكن يقال إن الاختصار والايجاز يحصلان بها أو هما غرضان فيها ومن جملة ما دعا إلى فعلها كذلك حكم التشبيه معها فإذا ثبت أنها ليست التشبيه على الحقيقة كذلك لا تكون التمثيل على الحقيقة لأن التمثيل تشبيه إلا أنه تشبيه خاص فكل تمثيل تشبيه وليس كل تشبيه تمثيلاً
وإذ قد تقرر هذه الجملة فإذا كان المشبه بين المستعار منه والمستعار له من المحسوس والغرائز والطباع وما يجري مجراهاً من الأوصاف المعروفة كان حقها أن يقال إنها تتضمن التشبيه ولا يقال إن فيها تمثيلا وضرب مثل وإذا كان الشبه عقلياً جاز إطلاق التمثيل فيها وأن يقال ضرب الاسم مثلا لكذا كقولنا ضرب النور مثلا للقرآن والحياة مثلا للعلم فقد حصلنا من هذه الجملة على أن المستعير يعمد إلى نقل اللفظ عن أصله في اللغة إلى غيره ويجوز به مكانه الأصلي إلى مكان آخر لأجل الأغراض التي ذكرنا من
____________________
(1/208)
التشبيه والمبالغة والاختصار والضارب للمثل لا يفعل ذلك ولا يقصده ولكنه يقصد إلى تقرير الشبه بين الشيئين من الوجه الذي مضى ثم إن وقع في أثناء ما يعقد به المثل من الجملة والجملتين والثلاث لفظة منقولة عن أصلها فذاك شىء لم يعتمده من جهة المثل الذي هو ضاربه وهكذا كل متعاط لتشبيه صريح لا يكون نقل اللفظ من شأنه ولا من مقتضى غرضه فإذا قلت زيد كالأسد وهذا الخبر كالشمس في الشهرة وله رأى كالسيف في المضاء لم يكن منك نقل للفظ عن موضوعه ولو كان الأمر على خلاف ذلك لوجب أن لا يكون في الدنيا تشبيه إلا وهو مجاز وهذا محال لأن التشبيه معنى من المعاني وله حروف وأسماء تدل عليه فإذا صرح بذكر ما هو موضوع للدلالة عليه كان الكلام حقيقة كالحكم في سائر المعاني فأعرفه
واعلم أن اللفظة المستعارة لا تخلو من أن تكون اسما أو فعلا فإذا كانت اسما كان اسم جنس أوصفة فإذا كان اسم جنس فإنك تراه في أكثر الأحوال التي تنقل فيها محتملا متكفئا بين أن يكون للاصل وبين أن يكون للفرع الذي من شأنه أن ينقل إليه فإذا قلت رأيت أسداً صلح هذا الكلام لأن تريد به أنك رأيت واحدا من جنس السبع المعلوم وجاز أن تريد أنك رأيت شجاعاً باسلا شديد الجرأة وأنما يفصل لك أحد الغرضين من الآخر شاهد الحال وما يتصل به من الكلام من قبل وبعد وإن كان فعلاً أو صفة كان فيهما هذا الإحتمال في بعض الأحوال وذلك إذا اسندت الفعل وأجريت الصفة على أسم مبهم يقع على ما يكون اصلا في تلك الصفة وذاك الفعل وما يكون فرعا فيهما نحو أن تقول أنار لي منيره
____________________
(1/209)
فهذا الكلام يحتمل أن يكون أنار ومنير فيه واقعين على الحقيقة بأن يعنى بالشيء بعض الأجسام ذوات النور وأن يكونا واقعين على المجاز بأن تريد بالشىء نوعاً من العلم والرأى وما اشبه ذلك من المعانى التى لا يصح وجود النور فيها حقيقة وإنما توصف به على سبيل التشبيه وفي الفعل والصفه شىء آخر وهو أنك كأنك تدعى معنى اللفظ المستعار له فإذا قلت قد أنارت حجته وهذة حجه منيرة فقد ادعيت للحجه النور ولذلك تجىء فتضيفه إليه كما تضاف المعانى التى يشتق منها الفعل والصفة إلى الفاعل والموصوف فتقول نور هذه الحجة جلا بصري وشرح صدري كما تقول نور الشمس والمثل لا يوجب شيئاً من هذه الأحكام فلا هو يقتضى تردد اللفظ بين احتمال شيئين ولا أن يدعى معناه للشىء ولكنه يدع اللفظ مستقراً على أصله
وإذ قد ثبت هذا الأصل فاعلم أن ههنا أصلا آخر يبنى عليه وهو أن الاستعارة وإن كانت تعتمد التشبيه والتمثيل وكان التشبيه يقتضى شيئين مشبهاً ومشبهاً به وكذلك التمثيل لأنه كما عرفت تشبيه إلا أنه عقلى فإن الاستعارة من شأنها أن تسقط ذكر المشبه من البين وتطرحه وتدعى له الاسم الموضوع للمشبه به كما مضى من قولك رأيت أسداً تريد رجلا شجاعا ووردت بحراً زاخراً تريد رجلا كثير الجود فائض الكف وأبديت نوراً تريد علماً وما شاكل ذلك فالاسم الذى هو المشبه غير مذكور بوجه من الوجوه كما ترى وقد نقلت الحديث إلى اسم المشبه به لقصدك أن تبالغ فيه فتضع اللفظ بحيث تخيل أن معك نفس الأسد والبحر والنور كى تقوي أمر المشابهة وتشدده ويكون لها هذا الصنيع
____________________
(1/210)
حيث يقع الاسم المستعار فاعلا أو مفعولا أو مجروراً بحرف الجر أو مضافا إليه فالفاعل كقولك بدا لى أسد وانبرى لى ليث وبدا نور وظهرت شمس ساطعة وفاض لى بالمواهب بحر وكقوله
وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة ** غزال كحيل المقلتين )
ربيب والمفعول كما ذكرت من قولك رأيت أسداً والمجرور نحو قولك لاعار إن فرسن أسد يزأر والمضاف إليه كقوله ( ياابن الكواكب من أئمة هاشم ** والرجح الأحساب والأحلام )
وإذا جاوزت هذه الأحوال كان اسم المشبه مذكوراً وكان مبتدأ واسم المشبه به واقعا في موضع الخبر كقولك زيد أسد أو على هذا الحد وهل يستحق الاسمً في هذه الحاله أن يوصف بالاستعاره أم لا فيه شبهة وكلام سيأتيك إن شاء الله تعالى
وإذ قد عرفت هذه الجملة فينبغى أن تعلم أنه ليس كل شيء يجيء مشبهاً به بكاف أو بإضافة مثل إليه يجوز أن تسلط عليه الاستعاره وينفذ حكمها فيه حتى تنقله عن صاحبه وتدعيه للمشبه على حد قولك أبديت نوراً تريد علماً وسللت سيفا صارماً تريد رأياً نافذاً وإنما يجوز ذلك إذا كان الشبه بين الشيئين مما يقرب مأخذه ويسهل متناوله ويكون في الحال دليل عليه حرف وفي العرف شاهد له حتى يمكن المخاطب إذا أطلقت له الاسم أن يعرف الغرض ويعلم ما أردت فكل شيء كان من الضرب الأول الذى ذكرت أنك تكتفي فيه بإطلاق الأسم داخلا عليه التشبيه نحو قولهم هو كالأسد فإنك إذا أدخلت عليه حكم الاستعارة
____________________
(1/211)
وجدت في دليل الحال وفي العرف ما يبين غرضك إذا يعلم إذا قلت رأيت أسد وأنت تريد الممدوح أنك قصدت وصفه بالشجاعة وإذا قلت طلعت شمس وأنت تريد امرأة علم بأنك تريد وصفها بالحسن وإن أردت الممدوح علم أنك تقصد وصفه بالنباهة والشرف
فأما إذاكان من الضرب الثاني لا سبيل إلى معرفة المقصود من الشبه فيه إلا بعد ذكر الجمل التى يعقد بها التمثيل فإن الأستعارة لا تدخله لأن وجه الشبه إذا كان غامضاً لم يجز أن تقتسر الاسم وتغصب عليه موضعه وتنقله إلى غير ما هو أهله من غير أن يكون معك شاهد ينبىء عن الشبه فلو حاولت في قوله فإنك كالليل الذى هو مدركى أن تعامل الليل معاملة الأسد في قولك رأيت أسداً أعنى أن تسقط ذكر الممدوح من البين لم تجد له مذهباً في الكلام ولا صادفت طريقة توصلك إليه لأنك لاتخلو من أحد أمرين إما أن تحذف الصفه وتقتصر على ذكر الليل مجرداً فتقول إن فررت أظلنى الليل وهذا محال لأنه ليس في الليل دليل على النكتة التى قصدها من أنه لا يفوته وإن أبعد في الهرب وصار إلى أقصى الأرض لسعة ملكه وطول يده وأن له في جميع الآفاق عاملا وصاحب حبس ومطيعاً لأوامره يرد الهارب عليه ويسوقه إليه وغاية ما يتأتى في ذلك أنه يريد إن هرب عنه اظلمت عليه الدنيا وتحير ولم يهتد فصار كمن يحصل في ظلمة الليل وهذا شىء خارج عن الغرض وكلامنا على أن تستعير الاسم لتؤدى به التشبيه الذى قصد في البيت ولم أرد أنه لا تمكن استعارته على معنى ما ولا يصلح في غرض من الأغراض وإن لم تحذف الصفة وجدت طريق الاستعارة فيه يؤدى إلى تعسف إذ لو قلت إن
____________________
(1/212)
فررت منك وجدت ليلا يدركنى وإن ظننت أن المنتأى واسع والمهرب بعيد قلت مالا تقبله الطباع وسلكت طريقة مجهولة لأن العرف لم يجر بأن تجعل الممدوح ليلا هكذا
فأما قولهم إن التشبيه بالليل يتضمن الدلالة على سخطه فإنه لا يفسح في أن يجرى اسم الليل على الممدوح جرى الأسد والشمس ونحوهما وإنما تصلح استعارة الليل لمن يقصد وصفه بالسواد والظلمة كما قال ابن طباطبا
( بعثت معى قطعاً من الليل مظلماً ** ) يعنى زنجياً قد أنقذه المخاطب معه حين انصرف عنه إلى منزله هذا ويماثله كلما وجدت ما إن رمت فيه طريقة الاستعارة لم تجد فيه هذا القدر من التمحل والتكلف أيضاً وهو كقول النبي الناس كإبل مائة لا تجد فيها فيها راحلة قل الآن من أى جهة تصل إلى الاستعارة ههنا وبأى ذريعة تتذرع إليها هل تقدر أن تقول رأيت إبلا مائة لا تجد فيها راحلة في معنى رأيت ناساً والإبل المائة التى لا تجد فيها راحلة تريد الناس كما قلت رأيت أسداً على معنى رجلا كالأسد وأطلقت عليه الأسد على معنى الذى هو الأسد وكذا قول النبي مثل المؤمن كمثل النخلة أو مثل الخامة لا تستطيع أن تتعاطى الاستعارة في شىء منه فتقول رأيت نخلة أو خامة على معنى رأيت مؤمنا إن من رام مثل هذا كا كما قال صاحب الكتاب ملغزاً تاركا لكلام الناس الذى يسبق إلى أفئدتهم وقد قدمت طرفاً من هذا الفصل فيما مضى ولكننى أعدته ههنا لاتصاله بما نريد ذكره
____________________
(1/213)
فقد ظهر أنه ليس كل شىء يجىء فيه التشبيه الصريح بذكر الكاف ونحوها يستقيم نقل الكلام فيه إلى طريقة الاستعارة وإسقاط ذكر المشبه جملة والاقتصار على المشبه به وبقى أن يتعرف الحكم في الحالة الأخرى وهى التى يكون كل واحد من المشبه والمشبه به مذكوراً فيها نحو زيد أسد ووجدته أسداً هل تساوق صريح التشبيه حتى يجوز في كل شيئين قصد تشبيه أحدهما بالآخر أن تحذف الكاف من الثانى وتجعله خبراً عن الأول أو بنزلة الخبر والقول في ذلك أن التشبيه إذا كان صريحاً بالكاف ومثل كان الأعرف الأشهر في المشبه به أن يكون معرفة كقولك هو كالأسد وهو كالشمس وهو كالبحر وكليث العرين وكالصبح وكالنجم وما شا كل ذلك ولا يكاد يجىء نكرة مجيئاً يرتضى نحو هو كأسد وكبحر وكغيث إلاأن يخصص بصفة نحو كبحر زاخر فإذا جعلت الاسم المجرور بالكاف معرباً بالإعراب الذى يستحقه الخبر من الرفع والنصب كان كلا الأمرين التعريف والتنكير فيه حسناً جميلا تقول زيد الأسد والشمس والبحر وزيد أسد وشمس وبدر وبحر
وإذ قد عرفت هذا فارجع إلى نحو فإنك كالليل الذى هو مدركى واعلم أنه قد يجوز فيه أن تحذف الكاف وتجعل المجرور الليل خبرا فتقول فإنك الليل الذى هو مدركى أو أنت الليل الذى هو مدركى وتقول في قول النبى مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع المؤمن الخامة من الزرع وفي قوله الناس كإبل مائة الناس إبل مائة ويكون تقديره على أنك قدرت مضافاً محذوفاً على حد واسئل القرية تجعل الأصل فإنك مثل الليل ثم تحذف مثلا
____________________
(1/214)
والنكته في الفرق بين هذا الضرب الذي لا بد للمجرور بالكاف ونحوها من وصفه بجملة من الكلام أو نحوها وبين الضرب الأول الذي هو نحو زيد كالأسد أنك إذا حذفت الكاف هناك فقلت زيد الأسد فائقصد أن تبالغ في التشبيه فتجعل المذكور كأنه الأسد وتشير إلى مثل ما يحصل لك من المعنى إذا حذفت ذكر المشبه أصلا فقلت رأيت أسداً أو الأسد فأما في نحو فإنك كالليل الذي هو مدركي فلا يجوز أن تقصد جعل الممدوح الليل ولكنك تنوى أنك أردت أن تقول فإنك مثل الليل ثم حذفت المضاف من اللفظ وأبقيت المعنى على حاله إذا لم تحذف وأما هناك فإنه وإن كان يقال أيضاً إن الأصل زيد مثل الأسد ثم تحذف فليس الحذف فيه على هذا الحد بل على أنه جعل كان لم يكن لقصد المبالغة ألا تراهم يقولون جعله الأسد وبعيد أن تقول جعله الليل لأن القصد لم يقع إلى وصف في الليل كالظلمة ونحوها وإنما قصد الحكم الذي له من تعميمه الآفاق وامتناع أن يصير الإنسان إلى مكان لا يدركه الليل فيه
وإن أردت أن تزداد علماً بأن الأمر كذلك أعنى أن ههنا ما يصلح فيه التشبيه الظاهر ولا تصلح فيه المبالغة وجعل الأول الثاني فاعمد إلى ما تجد الاسم الذي افتتح به المثل فيه غير محتمل لضرب من التشبيه إذا أفرد وقطع عن الكلام بعده كقوله تعالى ( ^ إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ) الآية لو قلت إنما الحياة الدنيا ماء أنزلناه من السماء أو الماء ينزل من السماء فتخضر منه الأرض لم يكن للكلام وجه غير أن تقدر حذف مثل نحو إنما الحياة الدنيا مثل ماء ينزل من السماء فيكون كيت
____________________
(1/215)
وكيت إذ لا يتصور بين الحياة الدنيا والماء شبه يصح قصده وقد أفرد كما قد يتخيل في البيت أنه قصد تشبيه الممدوح بالليل في السخط وهذا موضع في الجملة مشكل ولا يمكن القطع فيه بحكم على التفصيل ولكن لا سبيل إلى جحد أنك تجد الاسم في الكثير وقد يوضع موضعاً في التشبيه بالكاف لو حاولت أن تخرجه في ذلك الموضع بعينه إلى حد الاستعارة والمبالغة وجعل هذا ذاك لم ينقد لك كالنكرة التي هي ماء في الآية وفي الآى الأخر نحو قوله تعالى ( ^ أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ) ولو قلت هم صيب ولا تضمر مثلا ألبتة على حد هو أسد لم يجز لأنه لا معنى لجعلهم صيباً في هذا الموضع وإن كان لا يمتنع أن يقع صيب في موضع آخر ليس من هذا الغرض في شىء استعارة ومبالغة كقولك فاض صيب منه تريد جوده وهو صيب يفيض تريد يتدفق في الجود فلسنا نقول إن ههنا اسم جنس واسما صفة لا يصلح للاستعارة في حال من الأحوال
وهذا شعب من القول يحتاج إلى كلام أكثر من هذا ويدخل فيه مسائل ولكن استقصاءه يقطع عن الغرض فإن قلت فلابد من أصل يرجع إليه في الفرق بين ما يحسن أن يصرف وجهه إلى الاستعارة والمبالغة ومالا يحسن ذلك فيه ولا يجيبك المعنى إليه بل يصد بوجهه عنك متى أردته عليه فالجواب أنه لا يمكن أن يقال فيه قول قاطع ولكن ههنا
____________________
(1/216)
نكته يجب الاعتماد عليها والنظر إليها وهى أن الشبه إذا كان وصفا معروفا في الشيء قد جرى العرف بأن يشبه من أجله به وتعورف كونه أصلا فيه يقاس عليه كالنور والحسن في الشمس أو الاشتهار والظهور وأنها لا تخفي فيها أيضاً وكالطيب في المسك والحلاوة في العسل والمرارة في الصاب والشجاعة في الأسد والفيض في البحر والغيث والمضاء والقطع والحدة في السيف والنفاذ في السنان وسرعة المرور في السهم وسرعة الحركة في شعلة النار وما شاكل ذلك من ألاوصاف التي لكل وصف منها جنس هو أصل فيه ومقدم في معانيه فاستعارة الاسم للشيء على معنى ذلك الشبه تجيء سهلة منقادة وتقع مألوفة معتادة وذلك أن هذه الأوصاف من هذه الأسماء قد تعورف كونها أصولا فيها وأنها أخص ما توجد فيه بها فكل أحد يعلم أن أخص المنيرات بالنور الشمس فإذا أطلقت ودلت الحال على التشبيه لم يخف المراد ولو أنك أردت من الشمس الاستدارة لم يجز أن تدل عليه بالاستعارة ولكن إن أردتها من الفلك جاز فإن قصدتها من الكرة كان أبين لأن الاستدارة من الكرة أشهر وصف فيها ومتى صلحت الاستعارة في شيء فالمبالغة فيه أصلح وطريقها أوضح ولسان الحال بها أفصح أعني أنك إذ قلت يا ابن الكواكب من أئمة هاشم و يا ابن الليوث الغر فأجريت الاسم على المشبه إجراءه على أصله الذي وضع له وأدعيته له كان قولك هم الكواكب وهم
____________________
(1/217)
الليوث أو هم كواكب وليوث أحرى أن تقوله وأخف مؤنة على السامع في وقوع العلم له به
واعلم أن المعنى في المبالغة وتفسيرنا لها بقولنا جعل هذا وذاك وجعله الأسد وادعى أنه الأسد حقيقة أن المشبه الشيء بالشيء من شأنه أن ينظر إلى الوصف الذي به يجمع بين الشيئين وينفي عن نفسه الفكر فيما سواه جملة فإذا شبه بالأسد ألقى صورة الشجاعة بين عينيه وألقى ما عداها فلم ينظر إليه فإن هو قال زيد كالأسد كان قد أثبت له حظا ظاهرا في الشجاعة ولم يخرج عن الاقتصاد وإذ قال هو الأسد تناهى في الدعوى إما قريبا من المحق لفرط بسالة الرجل وإما متجوزاً في القول فجعله بحيث لا تنقص شجاعته عن شجاعة الأسد ولا يعدم منها شيئاً وإذا كان بحكم التشبيه وبأنه مقصوده من ذكر الأسد في حكم من يعتقد أن الاسم لم يوضع على ذلك السبع إلا للشجاعة التي فيه وان ماعداها من صورته وسائر صفاته عيال عليها وتبع لها في استحقاقه هذا الاسم ثم أثبت لهذا الذي يشبهه به تلك الشجاعة بعينها حتى لا اختلاف ولا تفاوت فقد جعل الأسد له لا محالة لأن قولنا هو هو على معنيين أحدهما أن يكون للشيء اسمان يعرفه المخاطب بأحدهما دون الآخر فإذا ذكر باسمه الآخر توهم أن معك شيئين فإذا قلت زيد هو أبو عبد الله عرفت أن هذا الذى تذكر الآن هو الذى عرفه بأبى عبد الله والثاني أن يراد تحقيق التشابه بين الشيئين وتكميله لهما ونفي الاختلاف والتفاوت عنهما فيقال وهو أي لا يمكن الفرق بينهما لأن الفرق يقع إذا اختص
____________________
(1/218)
أحدهما بصفة لا تكون في الآخر وهذا المعنى الثاني فرع على الأول وذلك أن المتشابهين التشابه التام لما كان يحسب أحدهما الآخر ويتوهم الرائي لهما في حالين أنه رأى شيئاً واحداً صاروا إذا حققوا التشبيه بين الشيئين يقولون وهو والمشبه إذا وقف وهمه كما عرفتك على الشجاعة دون سائر الأمور ثم لم يثبت بين شجاعة صاحبه وشجاعة الأسد فرقاً فقد صار إلى معنى قولنا وهو بلا شبهه
وإذا تقررت هذه الجملة فقولنا فإنك كالليل الذي هو مدركي إن حاولت فيه طريقة المبالغة فقلت فإنك الليل الذي هو مدركي لزمك لا محالة أن تعمد إلى صفة من أجلها تجعله الليل كالشجاعة التي من أجلها جعلت الرجل الأسد فإن قلت تلك الصفة الظلمة وأنه قصد شدة سخطه وراعى حال المسخوط عليه وتوهم أن الدنيا تظلم في عينيه حسب الحال في المستوحش الشديد الوحشه كما قال أعيدوا صباحي فهو عند الكواعب قيل لك هذا التقدير إن استجزناه وعملنا عليه فإنا نحتمله والكلام على ظاهره وحرف التشبيه مذكورً داخل على الليل كما تراه في البيت فأما وأنت تريد المبالغة فلا يجىء لك ذلك لأن الصفات المذكورة لا يواجه بها الممدوحون ولا تستعار الأسماء الدالة عليها لهم إلا بعد أن تتدارك وتقرن إليها أضدادها من الأوصاف المحبوبة كقوله أنت الصاب والعسل ولا تقول وأنت مادح أنت الصاب وتسكت وحتى أن الحاذق لا يرضى بهذا الاحتراز وحده حتى يزيد ويحتال في دفع ما يغشى النفس من الكراهة بإطلاق الصفة التي ليست من الصفات المحبوبة فيصل بالكلام ما يخرج به إلى نوع من المدح كقول المتنبي
____________________
(1/219)
حسن في وجوه أعدائه أقبح من ضيفه رأته السوام
بدأ فجعله حسناً على الإطلاق ثم أراد أن يجعله قبيحاً في عيون أعدائه على العادة في مدح الرجل بأن عدوه يكرهه فلم يقنعه ما سبق من تمهيده وتقدم من احترازه في تلافي ما يجنيه إطلاق صفة القبح حتى وصل به هذه الزيادة من المدح وهي كراهة سوامه لرؤية أضيافه وحتى حصل ذكر القبح مغموراً بين حسنين فصار كما يقول المنجمون يقع النحس مضغوطاً بين سعدين فيبطل فعله وينمحق أثره وقد عرفت ما جناه التهاون بهذا النحو من الاحتراز على أبي تمام حتى صار ما ينعى عليه منه أبلغ شيء في بسط لسان القادح فيه والمنكر لفضله وأخصر حجة للمتعصب عليه وذلك أنه لم يبال في كثير من مخاطبات الممدوح بتحسين ظاهر اللفظ واقتصر على صميم التشبيه وأطلق اسم الجنس الخسيس كإطلاق الشريف النبيه كقوله
( وإذا ما أردت كنت رشاء ** وإذا ما أردت كنت قليبا )
فصك وجه الممدوح كما ترى بأنه رشاء وقليب ولم يحتشم أن قال
( ما زال يهذي بالمكارم والعلى ** حتى ظننا أنه محموم )
فجعله يهذي وجعل عليه الحمى وظن أنه إذا حصل له المبالغة في إثبات المكارم له وجعلها مستبدة بأفكاره وخواطره حتى لا يصدر عنه غيرها فلا ضير أن يتلقاه بمثل هذا الخطاب الجافي والمدح المتنافي فكذلك
____________________
(1/220)
أنت هذه قصتك وهذه قضيتك في اقتراحك علينا أن نسلك بالليل في البيت طريق المبالغة على تأويل السخط
فإن قلت افترى أن تأبى هذا التقدير في البيت أيضاً حتى يقصر التشبيه على ما تفيده الجملة الجارية في صلة الذي قلت فإن ذلك الوجه فيما أظنه فقد جاء في الخبر عن النبي ليدخلن هذا الدين ما دخل عليه الليل فكما تجرد المعنى ههنا للحكم الذي هو الليل من الوصول إلى كل مكان ولم يكن لاعتبار ما اعتبروه من شبه ظلمته وجه كذلك يجوز أن يتجرد في البيت له ويكون ما ادعوه من الإشارة بظلمة الليل إلى إدراكه له ساخطاً ضرباً من التعمق والتطلب لما لعل الشاعر لم يقصده وأحسن ما يمكن أن ينتصر به لهذا التقدير أن يقال إن النهار بمنزلة الليل في وصوله إلى كل مكان فما من موضع من الأرض إلا ويدركه كل واحد منهما فكما أن الكائن في النهار لا يمكنه أن يصير إلى مكان لا يكون به ليل كذلك الكائن في الليل لا يجد موضعاً لا يلحقه فيه نهار فاختصاصه الليل دليل على أنه قد روى في نفسه فلما علم أن حالة إدراكه وقد هرب منه حالة سخط رأى التمثيل بالليل أولى ويمكن أن يزاد في نصرته بقوله
( نعمة كالشمس لما طلعت ** بثت الإشراق في كل بلد )
وذاك أنه قصد ههنا نفس ما قصده النابغة في تعميم الأقطار والوصول إلى كل مكان إلا أن النعمة لما كانت تسر وتؤنس أخذ المثل لها من الشمس ولو أنه ضرب المثل لوصول النعمة إلى أقاصي البلاد وانتشارها في العباد بالليل ووصوله إلى كل بلد وبلوغه كل أحد لكان قد أخطأ خطأ
____________________
(1/221)
فاحشاً إلا أن هذا وإن كان يجىء مستوياً في الموازنة ففرق بين ما تكره من الشبه وما تحب لأن الصفة المحبوبة إذا اتصلت بالغرض من التشبيه نالت من العناية بها والمحافظة عليها قريباً مما يناله الغرض نفسه وأما ما ليس بمحبوب فيحسن أن تعرض عنها صفحاً وتدع الفكر فيها
وأما تركه أن يمثل بالنهار وإن كان بمنزلة الليل فيما أراده فيمكن أن يجاب عنه بأن هذا الخطاب من النابغة كان بالنهار لا محالة وإذا كان يكلمه وهو في النهار بعد أن يضرب المثل بإدراك النهار له وكان الظاهر أن يمثل بإدراك الليل الذي إقباله منتظر وطريانه على النهار متوقع فكأنه قال وهو في صدر النهار أو آخره لو سرت عنك لم أجد مكاناً يقيني الطلب منك ولكان إدراكك لي وإن بعدت واجباً كإدراك هذا الليل المقبل في عقب نهاري هذا إياي ووصوله إلى أي موضع بلغت من الأرض
وههنا شىء آخر وهو أن تشبيه النعمة في البيت بالشمس وإن كان من حيث الغرض الخاص وهو الدلالة على العموم فكان الشبه الآخر من كونها مؤنسة للقلوب وملبسة العالم البهجة والبهاء كما تفعل الشمس حاصلا على سبيل العرض وبضرب من التطفل فإن تجريد التشبيه لهذا الوجه الذي هو الآن تابع وجعله أصلا ومقصوداً على الانفراد مألوف معروف كقولنا نعمتك شمس طالعة وليس كذلك الحكم في الليل لأن تجريده لوصف الممدوح بالسخط مستكره حتى لو قلت أنت في حال السخط ليل وفي الرضى نهار فطفقت هكذا تجعله بسخطه لم يحسن وإنما الواجب أن يقول النهار ليل على من يغضب عليه والليل نهار لمن يرضى عنه وزمان عدوك ليل كله وأوقات وليك نهار كلها كما قال
____________________
(1/222)
( أيامنا مصقولة أطرافها ** بك والليالي كلها أسحار )
وقد يقول الرجل لمحبوبه أنت ليلي ونهاري أي بك تضئ الدنيا وتظلم فإذا رضيت فدهري نهار وإذا غضبت فليل كما تقول أنت دائي ودوائي وبرئي وسقامي ولا تكاد تجد أحداً يقول أنت ليل على معنى أن سخطك تظلم به الدنيا لأن هذه العبارة بالذم وبالوصف بالظلمة وسواد الجلد وتجهم الوجه أخص وبأن يراد بها أخلق وهذا المعنى منها إلى القلب أسبق فاعرفه فصل
أعلم أنك تجد الاسم وقد وقع من نظم الكلام الموقع الذي يقتضي كونه مستعاراً ثم لا يكون مستعاراً وذاك لأن التشبيه المقصود منوط به مع غيره وليس له شبه ينفرد به على ما قدمت لك من أن الشبه يجىء منتزعاً من مجموع جملة من الكلام فمن ذلك قول داود بن علي حين خطب فقال
شكراً شكراً إنا والله ما خرجنا لنحفر فيكم نهراً ولا لنبني فيكم قصراً أظن عدو الله أن لن نظفر به أرخى له في زمامه حتى عثر في فضل خطامه فالآن عاد الأمر في نصابه وطلعت الشمس من مطلعها والآن قد أخذ القوس باريها وعاد النبل إلى النزعة ورجع الأمر إلى مستقره في أهل بيت الرأفة والرحمة
____________________
(1/223)
فقوله الآن أخذ القوس باريها وإن كان القوس يقع كناية عن الخلافة والباري عن المستحق لها فإنه لا يجوز أن يقال إن القوس مستعار للخلافة على حد استعارة النور والشمس لأجل أنه لا يتصور أن يخرج للخلافة شبه من القوس على الانفراد وأن يقال هي قوس كما يقال هي نور وشمس وإنما الشبه مؤلف بحال الخلافة مع القائم بها ومن حال القوس مع الذي براها وهو أن الباري للقوس أعرف بخيرها وشرها وأهدى إلى توتيرها وتصريفها إذ كان العامل لها فكذلك الكائن على الأوصاف المعتبرة في الإمامة والجامع لها يكون أهدى إلى توفية الخلافة وأعرف بما بحفظ مصارفها عن الخلل وأن يراعى في سياسة الخلق بالأمر والنهي التي هي المقصود منها ترتيباً ووزنا تقع به الأفعال مواقعها من الصواب كما أن العارف بالقوس يراعي في تسوية جوانبها وإقامة وترها وكيفية نزعتها ووضع السهم الموضع الخاص منها ما يوجب في سهامه أن تصيب الأغراض وتقرطس في الأهداف وتقع في المقاتل وتصيب شاكلة الرمى
وهكذا قول القائل وقد سمع كلاماً حسناً من رجل دميم عسل طيب في ظرف سوء ليس عسل ههنا على حده في قولك ألفاظه عسل لأجل أنه لم يقصد إلى بيان حال اللفظ الحسن وتشبيهه بالعسل في
____________________
(1/224)
هذا الكلام الحسن من المتكلم المشنوء في منظره وإنما قصد إلى قياس اجتماع فضل المخبر مع نقص المنظر بالشبه المؤلف من العسل والظرف ألا ترى أن الذي يقابل الرجل هو ظرف سوء وظرف سوء لا يصلح تشبيه الرجل به على الانفراد لأن الدمامة لا تعطيه صفة الظرف من حيث هي دمامة ما لم يتقدم شئ يشبه ما في الظرف من الكلام الحسن أو الخلق الجميل أو سائر المعاني التي تجعل الأشخاص أوعية لها
فمن حقك أن تحافظ على هذا الأصل وهو أن الشبه إذا كان موجوداً في الشيء على الأنفراد من غير أن تكون نتيجة بينه وبين شئ آخر فالاسم مستعار لما أخذ الشبه منه كالنور للعلم والظلمة للجهل والشمس للوجه الجميل أو الرجل النبيه الجليل وإذا لم تكن نسبة الشبه إلى الشيء على الانفراد وكان مركباً من حاله مع غيره فليس الاسم بمستعار ولكن مجموع الكلام مثل
وأعلم أن هذه الأمور التي قصدت البحث عنها أمور كأنها معروفة مجهولة وذلك أنها معروفة على الجملة لا ينكر بيانها في نفوس العارفين ذوق الكلام والمتمهرين في فصل جيده من رديئه ومجهوله من حيث لم تتفق فيها أوضاع تجرى مجرى القوانين التي يرجع إليها فتستخرج منها العلل في حسن ما استحسن وقبح ما استهجن حتى تعلم علم اليقين غير الموهوم ويضبط ضبط المزموم المخطوم ولعل الملال إن عرض
____________________
(1/225)
لك أو النشاط إن فتر عنك قلت ما الحاجة إلى كل هذه الإطالة وإنما يكفي أن يقال الاستعارة مثل كذا ثم تعقد كلمات وتنشد أبيات وهكذا يكفينا المؤنة في التشبيه والتمثيل يسير من القول فإنك تعلم أن قائلا لو قال الخبر مثل قولنا زيد منطلق ورضي به وقنع ولم تطالبه نفسه بأن يعرف حداً للخبر إذا عرفه تميز في نفسه من سائر الكلام حتى يمكنه أن يعلم أن ههنا كلاماً لفظه لفظ الخبر وليس هو بخبر ولكنه دعاء كقولنا رحمة الله عليه وغفر الله له ولم يجد في نفسه طلبا لأن يعرف أن الخبر هل ينقسم أو لا ينقسم وأن أول أمره في القسمة أنه ينقسم إلى جملة من الفعل والفاعل وجملة من مبتدأ وخبر وأن ما عدا هذا من الكلام لا يأتلف بفم ولم يحب أن يعلم أن هذه الجملة يدخل عليها حروف بعضها يؤكد كونها خبراً وبعضها يحدث فيها معاني تخرج بها عن الخبرية واحتمال الصدق والكذب وهكذا يقول إذا قيل له الاسم مثل زيد وعمرو اكتفيت ولا أحتاج إلى وصف أو حد يميزه من الفعل والحرف أو حد لهما إذا عرفتهما عرفت أن ما خالفهما هو الاسم على طريقة الكتاب ويقول لا احتاج إلى أن أعرف أن الاسم ينقسم فيكون متمكناً أو غير متمكن والمتمكن يكون منصرفاً وغير منصرف ولا إلى أن أعلم شرح غير المنصرف والأسباب التسعة التي يقف هذا الحكم على اجتماع سببين منها أو تكرر سبب في الاسم ولا أنه ينقسم إلى المعرفة والنكرة وأن النكرة ما عم شيئين فأكثر وما أريد به واحد من الجنس لا بعينه والمعرفة ما أريد
____________________
(1/226)
به واحد بعينه أو جنس بعينه على الإطلاق ولا إلى أن أعلم شيئاً من الانقسامات التي تجئ في الاسم كان قد أساء الاختيار وأسرف في دعوى الاستغناء عما هو محتاج إليه إن أراد هذا النوع من العلم
ولئن كان الذي يتكلف شرحه لا يزيد على مؤدي ثلاثة أسماء وهي التمثيل والتشبيه والاستعارة فإن ذلك يستدعي جملا من القول يصعب استقصاؤها وشعباً من الكلام لا تستبين لأول النظر أنحاؤها إذ قلنا شىء يحتوي على ثلاثة أحرف ولكنك إذا مددت يداً إلى القسمة وأخذت في بيان ما تحويه هذه اللفظة احتجت إلى أن تقرأ أوراقاً لا تحصى وتتجشم من المشقة والنظر والتفكير ما ليس بالقليل النزر والجزء الذي لا يتجزأ يفوت العين ويدق عن البصر والكلام عليه يملأ أجلاداً عظيمة الحجم فهذا مثلك إن أنكرت ما عنيت به من هذا التتبع ورأيته من البحث وآثرته من تجشم الفكرة وسومها أن تدخل في جوانب هذه المسائل وزواياها وتستثير كوامنها وخفاياها فإن كنت ممن رضي لنفسه أن يكون هذا مثله وههنا محله فعب كيف شئت وقل ما هويت وثق بأن الزمان عونك على ما ابتغيت وشاهدك فيما ادعيت وأنك واجد من يصوب رأيك ويحسن مذهبك ويخاصم عنك ويعادي المخالف لك
____________________
(1/227)
فصل في الأخذ والسرقة وما في ذلك من التعليل وضروب الحقيقة والتخييل القسم العقلي
اعلم أن الحكم على الشاعر بأنه أخذ من غيره وسرق واقتدى بمن تقدم وسبق لا يخلو من أن يكون في المعنى صريحاً أو في صيغة تتعلق بالعبارة ويجب أن نتكلم أولا على المعاني وهي تنقسم أولا قسمين عقلي وتخيبلي وكل واحد منهما يتنوع فالذي هو العقلي على أنواع أولها عقلي صحيح مجراه في الشعر والكتابة والبيان والخطابة مجرى الأدلة التي تستنبطها العقلاء والفوائد التي تثيرها الحكماء ولذلك تجد الأكثر من هذا الجنس منتزعا من أحاديث النبي وكلام الصحابة رضي الله عنهم ومنقولاً من آثار السلف الذين شأنهم الصدق وقصدهم الحق أو ترى له أصلا في الأمثال القديمة والحكم المأثورة عن القدماء فقوله
( وما الحسب الموروث لا دردره ** بمحتسب إلا بآخر مكتسب )
ونظائره كقوله
( إني وإن كنت إبن سيد عامر ** وفي السر منها والصريح المهذب )
( فما سودتني عامر عن وراثة ** أبى الله أن أسمو بأم ولا أب )
( معنى صريح محض يشهد له العقل بالصحة ويعطيه من نفسه )
____________________
(1/228)
أكرم النسبة وتتفق العقلاء على الأخذ به والحكم بموجبه في كل جيل وأمة ويوجد له أصل في كل لسان ولغة وأعلى مناسبة وأنورها وأجلها وأفخرها قول الله تعالى ( ^ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وقول النبي من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه وقوله عليه السلام يا بني هاشم لا تجيئني الناس بالأعمال وتجيئوني بالأنساب وذلك أنه لو كانت القضية على ظاهر يغتر به الجاهل ويعتمده المنقوص لأدى ذلك إلى إبطال النسب أيضاً وإحالة التكثر به والرجوع إلى شرفه فإن الأول لو عدم الفضائل المكتسبة والمساعي الشريفة ولم يبن من أهل زمانه بأفعال تؤثر ومناقب تدون وتسطر لما كان أولاً ولكان العلم من أمره مجهلا ولما تصور افتخار الثاني بالانتماء إليه وتعويله في المفاضلة عليه ولكان لا يتصور فرق بين أن يقول هذا أبي ومنه نسبي وبين أن ينسب إلى الطين الذي هو أصل الخلق أجمعين ولذلك قال كلكم لآدم وآدم من التراب وقال محمد ابن الربيع الموصلي
( الناس في صورة التشبيه أكفاء ** أبوهم آدم والأم حواء )
( فإن لم يكن لهم في أصلهم شرف ** يفاخرون به فالطين والماء )
( ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم ** على الهدى لمن استهدى أدلاء )
( ووزن كل امرىء ما كان يحسنه ** والجاهلون لأهل العلم أعداء )
فهذا كما ترى باب من المعاني التي تجمع فيها النظائر وتذكر الأبيات
____________________
(1/229)
الدالة عليها فإنها تتلاقى وتتناظر وتتشابه وتتشاكل ومكانه من العقل ما ظهر لك واستبان ووضح واستنار وكذلك قوله
( وكل امرىء يولي الجميل محبب ** )
صريح معنى ليس للشعر في جوهره وذاته نصيب وإنما له ما يلبسه من اللفظ ويكسوه من العبارة وكيفية التأدية من الاختصار وخلافه والكشف أو ضده وأصله قول النبي جبلت القلوب على حب من أحسن إليها بل قول الله عز وجل ( ^ إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) وكذا قوله
( لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ** حتى يراق على جوانبه الدم ) معنى معقول لم يزل العقلاء يقضون بصحته ويرى العارفون بالسياسة الأخذ بسنته وبه جاءت أوامر الله سبحانه وعليه جرت الأحكام الشرعية والسنن النبوية وبه استقام لأهل الدين دينهم وانتفى عنهم أذى من يفتنهم ويضرهم إذ كان موضوع الجبلة على أن لا تخلو الدنيا من الطغاة الماردين والغواة المعاندين الذين لا يعون الحكمة فتردعهم ولا يتصورون الرشد فيكفهم النصح ويمنعهم ولا يحسون بنقائص الغي والضلال وما في الجور والظلم من الضعة والخبال فيجدوا لذلك مس ألم يحبسهم على الأمر ويقف بهم عند الزجر بل كانوا كالبهائم والسباع لا يوجعهم إلا ما يخرق الأبشار من حد الحديد وسطو البأس الشديد فلو لم تطبع
____________________
(1/230)
لأمثالهم السيوف ولم تطلق فيهم الحتوف لما استقام دين ولا دنيا ولا نال أهل الشرف ما نالوه من الرتبة العليا فلا يطيب الشرب من منهل لم تنف عنه الأقذاء ولا تقر الروح في بدن لم تدفع عنه الأدواء وكذلك قوله
( إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا )
( ووضع الندى في موضع السيف بالعلي ** مضر كوضع السيف في موضع الندى ) القسم التخييلي
واما القسم التخييلي فهو الذي لا يمكن أن يقال إنه صدق وإن ما أثبته ثابت وما نفاه منفى وهو مفتن المذاهب كثير المسالك لا يكاد يحصر إلا تقريباً ولا يحاط به تقسيماً وتبويباً ثم أنه يجيء طبقات ويأتي على درجات فمنه ما يجيء مصنوعاً قد تلطف فيه واستعين عليه بالرفق والحذق حتى أعطى شبهاً من الحق وغشى رونقاً من الصدق باحتجاج يخيل وقياس يصنع فيه ويعمل ومثاله قول أبي تمام
( لا تنكري عطل الكريم من الغنى ** فالسيل حرب للمكان العالي ) فهذا قد خيل إلى السامع أن الكريم إذا كان موصوفاً بالعلو والرفعة في قدره وكان الغني كالغيث في حاجة الخلق إليه وعظم نفعه وجب بالقياس أن ينزل عن الكريم نزول ذلك السيل عن الطود العظيم ومعلوم أنه قياس تخييل وإيهام لا تحصيل وإحكام فالعلة أن السيل لا يستقر على الأمكنة العالية أن الماء سيال لا يثبت إلا إذا حصل في موضع له جوانب تدفعه عن الإنصباب وتمنعنه عن الانسياب وليس في الكريم والمال شيء من هذه الخلال
____________________
(1/231)
واقوى من هذا في أن يظن حقاً وصدقاً وهو على التخيل قوله
( الشيب كره وكره أن يفارقني ** أعجب بشيء على البغضاء مودود ) هو من حيث الظاهر صدق وحقيقة لأن الإنسان لا يعجبه أن يدركه الشيب فإذا هو أدركه كره أن يفارقه فتراه لذلك ينكره ويكرهه على أن إرادته أن يدوم له إلا أنك إذا رجعت إلى التحقيق كانت الكراهة والبغضاء لاحقة للشيب على الحقيقة فأما كونه مراداً ومودوداً فمتخيل فيه وليس بالحق والصدق بل المودود الحياة والبقاء إلا أنه لما كانت العادة جارية بأن في زوال رؤية الإنسان للشيب زواله عن الدنيا وخروجه منها وكان العيش فيها محببا إلى النفوس صارت محبته لما لا يبقى له حتى يبقى الشيب كأنها محبة للشيب
ومن ذلك صنيعهم إذا أرادوا تفضيل شيء أو نقصه أو مدحه أو ذمه فتعلقوا ببعض ما يشاركه في أوصاف ليست هي سبب الفضيلة والنقيصة وظواهر أمور لا تصحح ما قصدوه من التهجين والتزيين على الحقيقة كما تراه في باب الشيب والشباب كقول البحتري
( وبياض البازي أصدق حسناً ** أن تأملت من سواد الغراب ) وليس إذا كان البياض في البازي آنق في العين واخلق بالحسن من السواد في الغراب وجب لذلك كله ان لا يذم الشيب ولا تنفر منه طباع ذوي الألباب لأنه ليس الذنب كله لتحول الصبغ وتبدل اللون ولا أتت الغواي ما أتت من الصد والإعراض لمجرد البياض فإنهن يرينه في قباطي
____________________
(1/232)
مصر فيأنسن وفي أنوار الروض وأوراق النرجس الغض فلا يعبسن فما أنكرن ابيضاض شعر الفتى لنفس اللون وذاته بل لذهاب بهجاته وادباره في حياته وإنك لترى الصفرة الخالصة في أوراق الأشجار المتناثرة عند الخريف وإقبال الشتاء وهبوب الشمال فتكرهها وتنفر منها وتراها بعينها في إقبال الربيع في الزهر المتفتق وفيما ينشئه ويشيه من الديباج المونق فتجد نفسك على خلاف تلك القضية وتمتلىء من الأريحية ذاك لأنك رأيت اللون حيث النماء والزيادة والحياة المستفادة وحيث أبشرت أرواح الرياحين وبشرت أنواع التحاسين ورأيته في الوقت الآخر حين ولت السعود وأقشر العود وذهبت البشاشة والبشر وجاء العبوس والعسر هذا ولو عدم البازي فضيلة انه جارح وأنه من عتيق الطير لم تجد لبياضه الحسن الذي تراه ولم يكن للمحتج به على
____________________
(1/233)
من ينكر الشبب ويذمه ما تراه من الإستظهار كما أنه لولا ما يهدي إليك المسك من رياه التي تتطلع إليها الأرواح وتهش لها النفوس وترتاح لضعفت حجة المتعلق به في تفضيل الشباب وكما لم تكن العلة في كراهة الشيب بياضه ولم يكن هو الذي غض عنه الأبصار ومنحه العيب والإنكار كذلك لم يحسن سواد الشعر في العيون لكونه سواداً فقط بل لأنك رأيت رونق الشباب ونضارته وبهجته وطلاوته ورأيت بريقه وبصيصه يعدانك الإقبال ويريانك الاقتبال ويحضرانك الثقة بالبقاء ويبعدان عنك الخوف من الفناء وإنك لترى الرجل وقد طعن في السن وشعره لم يبيض ولكنه على ذاك قد عدم إبهاجه الذي كان وعاد لا يزين كما زان وظهر فيه من الكمود والجمود ما يريكه غير محمود
وهكذا قوله
( والصارم المصقول أحسن حالة ** يوم الوغى من صارم لم يصقل ) احتجاج على فضيلة الشيب وأنه أحسن منظراً من جهة التعلق باللون وإشارة إلى أن السواد كالصدأ على صفحة السيف فكما أن السيف إذا صقل وجلي وأزيل عنه الصدأ ونقى كان أبهى واحسن وأعجب إلى الرائى وفي عينه أزين كذلك يجب أن يكون حكم الشعر في إنجلاء صدأ السواد عنه وظهور بياض الصقال فيه وقد ترك أن يفكر فيما عدا ذلك من المعاني التي يكره لها الشيب ويناط بها العيب
____________________
(1/234)
وعلى هذا موضوع الشعر والخطابة أن يجعلوا اجتماع الشيئين في وصف علة الحكم يريدونه وإن لم يكن في المعقول ومقتضيات العقول ولا يؤخذ الشاعر بان يصحح كون ما جعله أصلا وعلة كما ادعاه فيما يبرم أو ينقض من قضية وأن يأتي على ما صيره قاعدة وأساسا ببينة عقلية بل تسلم مقدمته التي اعتمدها بينة كتسليمنا أن عائب الشيب لم ينكر منه إلا لونه وتناسينا سائر المعاني التي لها كره ومن اجلها عيب وكذلك قول البحتري
( كلفتمونا حدود منطقكم ** في الشعر يكفي عن صدقة كذبه )
أراد كلفتمونا أن نجرى مقاييس الشعر على حدود المنطق ونأخذ نفوسنا فيه بالقول المحقق حتى لا ندعى إلا ما يقوم عليه من العقل برهان يقطع به ويلجىء إلى موجبه مع أن الشعر يكفى فيه التخييل والذهاب بالنفس إلى ما ترتاح إليه من التعليل ولا شك انه إلى هذا النحو قصد وإياه عمد إذ يبعد أن يريد بالكذب إعطاء الممدوح حظا من الفضل والسؤدد ليس له ويبلغه بالصفة حظا من التعظيم يجاوز به من الإكثار محله لأن هذا الكذب لا يبين بالحجج المنطقية والقوانين العقلية وإنما يكذب فيه القائل بالرجوع
____________________
(1/235)
إلى حال المذكور واختباره فيما وصف به والكشف عن قدره وخسته ورفعته أوضعته ومعرفة محله ومرتبته
وكذلك قول من قال خير الشعر اكذبه فهذا مراده لأن الشعر لا يكتسب من حيث هو شعر فضلا ونقصا وانحطاطا وارتفاعا بان ينحل الوضيع من الرفعة ما هو منه عار أو يصف الشريف بنقص وعار فكم جواد بخله الشعر وبخيل سخاه وشجاع وسمه بالجبن وجبان ساوى به الليث وذي ضعة أوطأه قمة العيوق وغبى قضى له بالفهم وطائش ادعى له طبيعة الحكم ثم لم يعتبر ذلك في الشعر نفسه حيث تنتقد دنانيره وتنشر ديابيجه ويفتق مسكة فيضوع أريجه وأما من قال في معارضة هذا القول خير الشعر أصدقه كما قال
( وإن أحسن بيت أنت قائله ** بيت يقال إذا أنشدته صدقا ) فقد يجوز أن يراد به أن خير الشعر ما دل على حكمة يقبلها العقل وادب يجب به الفضل وموعظة تروض جماح الهوى وتبعث على التقوى وتبين موضع القبح والحسن في الأفعال وتفصل بين المحمود والمذموم من الخصال وقد ينحى بها نحو الصدق في مدح الرجال كما قيل كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه
والأول أولى لأنهما قولان يتعارضان في اختيار نوعى الشعر فمن قال خيره اصدقه كان ترك الإغراق والمبالغة والتجوز إلى التحقيق والتصحيح واعتماد ما يجرى من العقل على أصل صحيح أحب إليه وآثر عنده إذ كان ثمره أحلى وأثره أبقى وفائدته أظهر وحاصله أكثر ومن قال اكذبه ذهب إلى أن الصنعة إنما يمد باعها وينشر
____________________
(1/236)
شعاعها ويتسع ميدانها وتتفرع أفنانها حيث يعتمد الاتساع والتخييل ويدعى الحقيقة فيما أصله التقريب والتمثيل وحيث يقصد التلطف والتأويل ويذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق في المدح والذم والوصف والبث والفخر والمباهاة وسائر المقاصد والأغراض وهناك يجد الشاعر سبيلا إلى أن يبدع ويزيد ويبدىء في اختراع الصور ويعيد ويصادف مضطربا كيف شاء واسعا ومددا من المعاني متتابعا ويكون كالمغترف من غدير لا ينقطع والمستخرج من معدن لا ينتهي
واما القبيل الأول فهو فيه كالمقصور المدانى قيده والذي لا تتسع كيف شاء يده وأيده ثم هو في الأكثر يورد على السامعين معاني معروفة وصورا مشهورة ويتصرف في أصول هي وإن كانت شريفة فإنها كالجواهر تحفظ اعداداها ولا يرجى ازديادها وكالأعيان الجامدة التي لا تنمى ولا تزيد ولا تربح ولا تفيد وكالحسناء العقيم والشجرة الرائعة لا تمتع بجني كريم
هذا ونحوه يمكن أن يتعلق به في نصرة التخييل وتفضيله والعقل بعد على تفضيل القبيل الأول وتقديمه وتفخيم قدره وتعظيمه وما كان العقل ناصره والتحقيق شاهده فهو العزيز جانبه والمنيع مناكبه وقد قيل الباطل مخصوم وإن قضى له والحق مفلج وإن قضى عليه هذا ومن سلم أن المعاني المعرقة في الصدق المستخرجة من معدن
____________________
(1/237)
في حكم الجامد الذي لا ينمى والمحصور الذي لا يزيد وإن أردت ان تعرف بطلان هذه الدعوى فانظر إلى قول أبى فراس
( وكنا كالسهام إذا أصابت ** مراميها فراميها اصابا )
الست تراه عقليا عريقا في نسبه معترفا بقوة سببه وهو على ذلك من فوائد أبى فراس التي هو أبو عذرها والسابق إلى إثارة سرها
واعلم أن الاستعارة لا تدخل في قبيل التخييل لأن المستعير لا يقصد إلى إثبات معنى اللفظة المستعارة وإنما يعمد إلى إثبات شبه هناك فلا يكون مخبره على خلاف خبره وكيف يعرض الشك في أن لا مدخل للاستعارة في هذا الفن وهى كثيرة في التنزيل على ما لا يخفى كقوله عز وجل واشتعل الرأس شيبا ثم لا شبهة في أن ليس المعنى على إثبات الاشتعال ظاهرا وإنما المراد إثبات شبهه وكذلك قول النبي المؤمن مرآة المؤمن ليس على إثبات المرآة من حيث الجسم الصقيل لكن من حيث الشبه المعقول وهو كونها سببا للعلم بما لولاها لم يعلم لأن ذلك العلم طريقة الرؤية ولا سبيل إلى أن يرى الإنسان وجهه إلا بالمرآة وما جرى مجراها من الأجسام الصقيلة فقد جمع بين المؤمن والمرآة في صفة معقولة وهي أن المؤمن ينصح أخاه ويريه الحسن من القبيح كما ترى المرآة الناظر فيها ما يكون بوجهه من الحسن وخلافه وكذا قوله إياكم وخضراء الدمن معلوم أن ليس القصد
____________________
(1/238)
إثبات معنى ظاهر اللفظين ولكن الشبه الحاصل من مجموعهما وذلك حسن الظاهر مع خبث الأصل
وإذا كان هذا كذلك بان منه أيضا أن لك مع لزوم الصدق والثبوت على محض الحق الميدان الفسيح والمجال الواسع وان ليس الأمر على ما ظنه ناصر الإغراق والتخييل الخارج على أن يكون الخبر على خلاف المخبر من انه إنما يتسع المقال ويفتن وتكثر موارد الصنعة ويغزر ينبوعها وتكثر اغصانها وتتشعب فروعها إذا بسط من عنان الدعوى فادعى ما لا يصح دعواه وأثبت ما ينفيه العقل ويأباه
وجملة الحديث الذي اريده بالتخييل ههنا ما يثبت فيه الشاعر امرا هو غير ثابت أصلا ويدعى دعوى لا طريق إلى تحصيلها ويقول قولا يخدع فيه نفسه ويريها ما لا ترى أما الاستعارة فإن سبيلها سبيل الكلام المحذوف في انك إذا رجعت إلى أصله وجدت قائله وهو يثبت أمرا عقليا صحيحا ويدعى دعوى لها شبح في العقل وستمر بك ضروب من التخييل هي أظهر أمرا في البعد عن الحقيقة تكشف وجهه في أنه خداع للعقل وضرب من التزويق فتزداد استبانه الغرض بهذا الفصل وأزيدك حينئذ إن شاء الله كلاما في الفرق بين ما يدخل في حيز قولهم خير الشعر اكذبه وبين ما لا يدخل فيه مما يشاركه في أنه اتساع وتجوز فاعرفه
وكيف دار المر فإنهم لم يقولوا خير الشعر أكذبه وهم يريدون كلاما غفلا ساذجا يكذب فيه صاحبه ويفرط نحو أن يصف الحارس بأوصاف الخليفة
____________________
(1/239)
ويقول للبائس المسكين إنك أمير العراقين ولكن ما فيه صنعة يتعمل لها وتدقيق في المعاني يحتاج معه إلى فطنة لطيفة وفهم ثاقب وغوص شديد والله الموفق للصواب
واعود إلى ما كنت فيه من الفصل بين المعنى الحقيقي وغير الحقيقي
واعلم أن ما شانه التخييل امره في عظم شجرته إذ تؤمل نسبه وعرفت شعوبه وشعبه على ما أشرت إليه قبيل لا يكاد تجيء فيه قسمة تستوعبه وتفصيل يستغرقه وإنما الطريق فيه أن يتتبع الشيء بعد الشيء ويجمع ما يحصره الاستقراء فالذي بدأت به من دعوى أصل وعلة في حكم من الأحكام هما كذلك ما تركت المضايقة وأخذ بالمسامحة ونظر إلى الظاهر ولم ينقر عن السرائر وهو النمط العدل والنمرقة الوسطى وهو شئ تراه كثيرا بالآداب والحكم البريئة من الكذب ومن الأمثلة فيه قول أبى تمام
( إن ريب الزمان يحسن أن يه ** دى الرزايا إلى ذوى الأحساب )
( فلهذا يجف بعد اهتزاز ** قبل روض الوهاد روض الروابي )
وكذا قوله يذكر الممدوح قد زاده مع بعده عنه وغيبته في العطايا على الحاضرين عنده اللازمين خدمته
( لزموا مركز الندى وذراه ** وعدتنا عن مثل ذاك العوادى )
( غير أن الربى إلى سبل الأنو ** اء أدنى والحظ حظ الوهاد )
لم يقصد من الربى إلى العلو ولكن إلى الدنو فقط وكذلك لم يرد بذكر الوهاد الضعة والتسفل والهبوط كما أشار إليه في قوله والسيل حرب للمكان العالي وإنما أراد أن الوهاد ليس لها قرب الربى من فيض الأنواء
____________________
(1/240)
ثم أنها تتجاوز الربى التي هي دانية قريبة إليها إلى الوهاد التي ليس لها ذلك القرب
ومن هذا النمط في أنه تخيل شبيه بالحقيقة لإعتدال أمره وان ما تعلق به من العلة موجود على ظاهر ما ادعى قوله
( ليس الحجاب بمقص عنك لي أملاً ** إن السماء ترجى حين تحتجب
فإستتار السماء بالغيم هو سبب رجاء الغيث الذي يعد في مجرى العادة جوداً منها ونعمة صادرة عنها كما قال إبن المعتز
( ما ترى نعمة السماء على الأر ** ض وشكر الرياض للأمطار )
وهذا نوع آخر وهو دعواهم في الوصف هو خلقة في الشيء وطبيعة أو واجب على الجملة من حيث هو أن ذلك الوصف حصل له من الممدوح ومنه استفاده
وأصل هذا التشبيه ثم يتزايد فيبلغ هذا الحد ولهم فيه عبارات منها قولهم إن الشمس تستعير منه النور وتستفيده أو تتعلم منه الإشراق وتكتسب منه الإضاءة
وألطف ذلك أن يقال تسرق وأن نورها مسروق من الممدوح وكذلك يقال المسك يسرق من عرفه وأن طيبه مسترق منه ومن أخلاقه قال إبن بابك
( ألا يا رياض الحزن من أبرق الحمى ** نسيمك مسروق ووصفك منتحل )
( حكيت أبا سعد فنشرك نشره ** ولكن له صدق الهوى ولك الملل )
ونوع آخر وهو أن يدعي في الصفة الثابتة للشيء أنه إنما كان لعلة يضعها الشاعر ويختلقها إما لأمر يرجع إلى تعظيم الممدوح أو تعظيم أمر من الأمور فمن الغريب في ذلك معنى بيت فارسي ترجمته
( لو لم تكن نية الجوزاء خدمته ** لما رأيت عليها عقد منتطق )
فهذا ليس من جنس ما مضى أعنى ما أصله التشبيه ثم أريد التناهي في المبالغة
____________________
(1/241)
والإغراق والإغراء ويدخل في هذا الفن قول المتنبي
( لم يحك نائلك السحاب وإنما ** حمت به فصبيبها الرحضاء )
لأنه وإن كان أصله التشبيه من حيث يشبه الجواد بالغيث فإنه وضع المعنى وضعاً وصوره في صورة خرج معها إلى ما لا أصل له في التشبيه فهو كالواقع بين الضربين وقريب منه في أن أصل التشبيه ثم باعده بالصنعة في تشبيهه وخلع عنه صورته خلعاً قوله
( وما ريح الرياض لها ولكن ** كساها دفنهم في التراب طيبا ) ومن لطيف هذا النوع قول أبي العباس الضبي
( لا تركنن إلى الفرا ** ق وإن سكنت إلى العناق )
( فالشمس عند غروبها ** تصفر من فرق الفراق ) أدعى لتعظيم الفراق أن ما يرى من الصفرة في الشمس حين يرق نورها بدنوها من الأرض إنما هو لأنها تفارق الأفق الذي كانت فيه أو الناس الذين طلعت عليهم وانست بهم وانسوا بها وسرتهم رؤيتها ونوع آخر منه قول الآخر
( قضيب الكرم نقطعه فتبكي ** ولا تبكي وقد قطع الحبيب ) وهو منسوب إلى إنشاد الشبلي ويقال أيضاً إن أبا البأس أخذ معناه في بيته من قول بعض الصوفية وقيل له لم تصفر الشمس عند الغروب
____________________
(1/242)
فقال من حذر الفراق ومن لطيف هذا الجنس قول الصولي
( الريح تحسدني عليك ** ولم أخلها في العدا )
( لما هممت بقبلة ** ردت على الوجه الردا ) وذلك أن الريح إذا كان وجهها نحو الوجه فواجب في طباعها أن ترد الرداء عليه وأن تلف من طرفيه وقد ادعى أن ذلك منها لحسدها وغيره لمحبوبة وهي من أجل ما في نفسها تحول بينه وبين أن ينال من وجهها وفي هذه الطريقة قوله
( وحاربني فيه ريب الزمان ** كأن الزمان له عاشق ) إلا انه لم يضع علة ومعلولا من طريق النص على شيء بل أثبت محاربة من الزمان في معنى الحبيب ثم جعل دليلاً عليها جواز أن يكون شريكاً في عشقه وإذا حققنا لم يجب لأجل أن جعل العشق علة للمحاربة وجمع بين الزمان والريح في إدعاء العداوة لهما أن يتناسب البيتان من طريق الخصوص والتفصيل وذاك أن الكلام في وضع الشاعر للأمر الواجب علة غير معقول كونها علةً لذلك الأمر وكون العشق علة للمعاداة في المحبوب معقول معروف غير بدع ولا منكر فإذا بدأ فادعى أن الزمان يعاديه ويحاربه فيه فقد أعطاك أن ذلك لمثل هذه العلة وليس إذا أردت الريح الرداء فقد وجب أن يكون لذلك لعلة الحسد أو لغيرها لأن رد الرداء شأنها فاعرفه فإن من حكم المحصل أن لا ينظر في تلاقي المعاني وتناظرها إلى جمل الأمور وإلى الإطلاق والعموم بل ينبغي أن يدقق النظر في ذلك ويراعي التناسب من طريق الخصوص والتفاصيل فأنت في نحو بيت إبن وهيب وحاربني الخ تدعى صفة غير ثابتة إذا هي ثبتت اقتضت مثل العلة التي
____________________
(1/243)
ذكرها وفي نحو بيت الريح تذكر صفة ثابتة حاصلة على الحقيقة ثم تدعى لها علة من عند نفسك وضعا واختراعاً وهكذا قول المتنبي
( ملامى النوى في ظلمها غاية الظلم ** لعل بها مثل الذي بي من السقم )
( فلو لم تغر لم تزو عني لقاكم ** ولو لم ترد كم لم تكن فيكم خصمي ) الدعوى في إثبات الخصومة وجعل النوى كالشيء الذي يعقل ويميز ويريد ويختار وحديث الغيرة والمشاركة في هوى الحبيب يثبت بثبوت ذلك من غير أن يفتقر منك إلى وضع واختراع
ومما يلحق بالفن الذي بدأت به قوله
( بنفسي ما يشكوه من راح طرفه ** ونرجسه مما دها حسنه ورد )
( أراقت دمي عمداً محاسن وجههه ** فأضحى وفي عينيه آثاره تبدو ) لأنه قد أتى بحمرة العين وهي تعرض لها من حيث هي عين معلة واتى بإراقة الدم في صورة العلة وهو يعلم أنها مخترعة موضوعة فليس ثم إراقة دم واصل هذا القول إبن المعتز
( قالوا اشتكت عينه فقلت لهم ** من كثرة القتل نالها الوصب )
( حمرتها من دماء من قتلت ** والدم في النصل شاهد عجب
____________________
(1/244)
وبين هذا الجنس وبين نحو الريح تحسدني فرق وذلك أن لك هناك فعلا هو ثابت واجب في الريح وهو رد الرداء على الوجه ثم أحببت أن تتطرف فادعيت لذلك الفعل علة من عند نفسك واما ههنا فنظرت إلى صفة موجودة فتأولت فيها أنها صارت إلى العين من غيرها وليست هي من شأنها أن تكون في العين فليس معك هنا إلا معنى واحد واما هناك فعندك معنيان احدهما موجود معلوم والآخر مدعى موهوم فاعرفه
ومما يشبه هذا الفن الذي هو تأول في الصفة فقط من غير أن يكون معلول وعلة ما تراه من تأولهم في الأمراض والحميات انها ليست بأمراض ولكنها فطن ثاقبة واذهان متوقدة وعزمات كقوله
( وحوشت أن تضرى بجسمك علة ** إلا أنها تلك العزوم الثواقب )
وقال ابن بابك
( فترت وما وجدت أبا العلاء ** سوى فرط التوقد والذكاء )
ولكشاجم بقوله في على بن سليمان الأخفش
( ولقد أخطأ قوم زعموا ** انها من فضل برد في العضب )
( هو ذاك الذهن اذكى ناره ** والمزاج المفرط الحر التهب )
ولا يكون قول المتنبي
( ومنازل الحمى الجسوم فقل لنا ** ما عذرها في تركها خيراتها )
( أعجبتها شرفا فطال وقوفها ** لتأمل الأعضاء لا لأذاتها )
____________________
(1/245)
من هذا في شيء بأكثر من أن كلا القولين في ذكر الحمى وفي تطيب النفس عنها فهو اشتراك في العرض والجنس فأما في عمود المعنى وصورته الخاصة فلا لأن المتنبي لم ينكر أن ما يجده الممدوح حمى كما انكره الآخر ولكنه كأنه سال نفسه كيف اجترأت الحمى على الممدوح مع جلالته وهيبته أم كيف جاز أن يقصد شيء إلى أذاه مع كرمه ونبله وأن المحبة من النفوس مقصورة عليه فتحمل لذلك جوابا ووضع للحمى فيما فعلته من الأذى عذرا وهو تصريح ما اقتصر فيه على التعجب في قوله
( أيدرى ما أرابك من يريب ** وهل ترقى إلى الفلك الخطوب )
( وجسمك فوق همة كل داء ** فقرب أقلها منه عجيب )
الا أن ذلك الإيهام أحسن من هذا البيان وذلك التعجب موقوفا غير مجاب اولى بالإعجاب وليس كل زيادة تفلح وكل استقصاء يملح
ومن واضح هذا النوع وجيده قول ابن المعتز
( صدت سرير وأزمعت هجرى ** وصغت ضمائرها إلى الغدر )
( قالت كبرت وشبت قلت لها ** هذا غبار وقائع الدهر )
ألا تراه أنكر أن يكون الذي بدأ به شيبا ورأى الاعتصام بالجحد أخصر طريقا إلى نفى العيب وقطع الخصومة ولم يسلك الطريقة العامية فيثبت المشيب ثم يمنع العائب أن يعيب ويريه الخطأ في عيبه به ويلزمه المناقضة في مذهبه كنحو ما مضى اعنى كقول البحتري وبياض البازى وهكذا
____________________
(1/246)
إذا تأولوا في الشيب أنه ليس بابيضاض الشعر الكائن في مجرى العادة وموضوع الخلقة ولكنه نور العقل والأدب قد إنتشر وبان من وجهه وظهر كقول الطائي الكبير
( ولا يروعك إيماض القتير به ** فإن ذاك إبتسام الرأي والأدب )
وينبغي أن باب التشبيهات قد حظي من هذه الطريقة بضرب من السحر لا تأتي الصفة على غرابته ولا يبلغ البيان كنه ما ناله من اللطف والظرف فإنه قد بلغ حداً يبز المعروف في طباع الغزل ويلهي الثكلان وينفث في عقد الوحشة وينشد ما ضل عنك من المسرة ويشهد للشعر بما يطيل لسانه في الفخر ويبين جملة ما للبيان من القدرة والقدر فمن ذلك قول ابن الرومي
( خجلت خدود الورد من تفضيله ** خجلاً توردها عليه شاهد )
( لم يخجل الورد المورد لونه ** إلا وناحله الفضيلة عاند )
( للنرجس الفضل المبين وإن أبى ** آب وحاد عن الطريقة حائد )
( فصل القضية أن هذا قائد ** زهر الرياض وان هذا طارد )
( شتان بين إثنين هذا موعد ** بتسلب الدنيا وهذا واعد )
( ينهى النديم عن القبيح بلحظه ** وعلى المدامة والسماع مساعد )
____________________
(1/247)
( اطلب بعقلك في الملاح سميه ** أبداً فإنك لا محالة واجد )
( والورد إن فكرت فرد في إسمه ** ما في الملاح له سمي واحد )
( هذي النجوم هي التي ربتهما ** بحيا السحاب كما يربي الوالد )
( فانظر إلى الأخوين من أدناهما ** شبهاً بوالده فذاك الماجد )
( أين الخدود من العيون نفاسة ** ورياسة لولا القياس الفاسد )
وترتيب الصنعة في القطعة أنه عمل أولا على قلب طرفي التشبيه كما مضى في فصل التشبيهات فشبه حمرة الورد بحمرة الخجل ثم تناسى ذلك وخدع عنه نفسه وحملها على أن تعتقد أنه خجل على الحقيقة ثم لما اطمأن ذلك في قلبه واستحكمت صورته طلب لذلك الخجل علة فجعل علته أن فضل على النرجس ووضع في منزلة ليس يرى نفسه اهلاً لها فصار يثوب من ذلك ويتخوف عيب العائب وغميزة المستهزىء ويجد ما يجد من مدح مدحة يظهر الكذب فيها ويفرط حتى تصير كالهزء بمن قصد بها ثم زادته الفطنة الثاقبة والطبع المثمر في سحر البيان ما رأيت من وضع حجاج في شأن النرجس وجهة استحقاقه الفضل على الورد فجاء بحسن وإحسان لا تكاد تجد مثله إلا له
ومما هو خليق أن يوضع في منزلة هذه القطعة ويلحق بها في لطف الصنعة قول أبي هلال العسكري
( زعم البنفسج انه كعذاره ** حسناً فسلوا من قفاه لسانه )
( لم يظلموا في الحكم إذ مثلوا به ** فلشد ما رفع البنفسج شانه )
وقد اتفق للمتأخرين من المحدثين في هذا الفن نكت ولطف وبدع وظرائف لا يستكثر لها الكثير من الثناء ولا يضيق مكانها من الفضل عن سعة
____________________
(1/248)
الإطراء فمن ذلك قول ابن نباتة في صفة الفرس
( وأدهم يستمد الليل منه ** وتطلع بين عينيه الثريا )
( سرى خلف الصباح يطير مشيا ** ويطوى خلفه الأفلاك طيا )
( فلما خاف وشك الفوت منه ** تشبث بالقوائم والمحيا )
وأحسن من هذا واحكم صنعة قوله في قطعة أخرى
( فكأنما لطم الصباح جبينه ** فاقتص منه وخاض في أحشائه )
واول القطعة
( قد جاءنا الطرف الذي اهديته ** هاديه يعقد أرضه بسمائه )
( أولاية وليتنا فبعثته ** رمحا سبيب العرف عقد لوائه )
( نختال منه على اغر محجل ** ماء الدياجى قطرة من مائه )
( فكأنما لطم الصباح جبينه ** فاقتص منه وخاض في احشائه )
( متمهلا والبرق من أسمائه ** متبرقعا والحسن من اكفائه )
( ما كانت النيران تكمن حرها ** لو كان للنيران بعض ذكائه )
____________________
(1/249)
( لا تعلق الألحاظ في أعطافه ** إلا إذا كفكفت من غلوائه )
( لا يكمل الطرف المحاسن كلها ** حتى يكون الطرف من أسرائه )
ومما له في هذا التفضيل الفضل الظاهر لحسن الإيداع مع السلامة من التكلف قوله
( وماذا على الرضراض يجرى )
( كأن بها من شدة الجرى جنة ** وقد البستهن الرياح سلاسلا )
وإنما ساعده التوفيق من حيث وطىء له من قبل الطريق فسبق العرف بتشبيه الحبك على صفحات الغدران بحلق الدروع فتدرج من ذلك إلى أن جعلها سلاسل كما فعل ابن المعتز في قوله
( وانهار ماء كالسلاسل فجرت ** لترضع اولاد الرياحين والزهر )
ثم أتم الحذق بأن جعل للماء صفة تقتضي أن يسلسل وقرب مأخذ ما حاول عليه فإن شدة الحركة وفرط سرعتها من صفات الجنون كما أن التمهل فيها والتأنى من أوصاف العقل
____________________
(1/250)
ومن هذا الجنس قول ابن المعتز في السيف في أبيات قالها في الموفق وهى
( وفارس أغمد في جنة ** يقطع السيف إذا ما ورد )
( كأنه ماء عليه جرى ** حتى إذا ما غاب فيه جمد )
( في كفه عضب إذا هزه ** حسبته من خوفه يرتعد )
فقد أراد أن يخترع لهزة السيف علة فجعلها رعدة تناله من خوف الممدوح وهيبته ويشبه أن يكون ابن بابك نظر إلى هذا البيت وعلق منه الرعدة في قوله
( فإن عجمتني نيوب الخطوب ** وأوهى الزمان قوى منتى )
( فما اضطرب السيف من خيفة ** ولا أرعد الرمح من قرة )
( إلا أنه ذهب بها في أسلوب آخر وقصد إلى أن يقول إن كون حركات الرمح في ظاهر حركة المرتعد لا يوجب أن يكون ذلك من ألم عارض وكأنه عكس القضية فأبى أن تكون صفة المرتعد في الرمح للعلل التي لمثلها تكون في الحيوان واما ابن المعتز فحقق كونها في السيف على حقيقة العلة التي لها تكون في الحيوان فاعرفه وقد أعاد هذا الارتعاد على الجملة التي وصفت لك فقال
____________________
(1/251)
( قالوا طواه حزنه فانحنى ** فقلت والشك عدو اليقين )
( ما هيف النرجس من صبوة ** ولا الضنى في صفرة الياسمين )
( ولا ارتعاد السيف من قرة ** ولا انعطاف الرمح من فرط لين )
ومما حقه أن يكون طرازا في هذا النوع قول البحتري
( يتعثرن في النحور وفي الأو ** جه سكرا لما شربن الدماء 9
جعل فعل الطاعن بالرماح تعثرا منها كما جعل ابن المعتز تحريكه للسيف وهزه له ارتعادا ثم طلب للتعثر علة كما طلب هو للارتعاد فاعرفه
ومن هذا الباب قول علبة
( وكأن السماء صاهرت الأر ** ض فصار النثار من كافور )
وقول ابي تمام
( كأن السحاب الغر غيبن تحتها ** حبيبا فما ترقى لهن مدامع )
وقال السرى يصف الهلال
( جاءك شهر السرور شوال ** وغال شهر الصيام مغتال )
ثم قال
( كأنه قيد فضة حرج ** فض عن الصائمين فاختالوا )
كل واحد من هؤلاء خدع نفسه عن التشبيه وغالطها واوهم أن الذي جرى العرف بان يؤخذ منه الشبه قد حضر وحصل بحضرتهم على الحقيقة
____________________
(1/252)
ولم يقتصر على دعوى حصوله حتى يصيب له علة وأقام عليه شاهدا فاثبت علبة زفافا بين السماء والأرض وجعل أبو تمام للسحاب حبيبا قد غيب في التراب وادعى السرى أن الصائمين كانوا في قيد وانه كان حرجا فلما فض عنهم انكسر بنصفين أو اتسع فصار على شكل الهلال والفرق بين بيت السرى وبيتي الطائيين أن تشبيه الثلج بالكافور معتاد عامي جار على الألسن وجعل القطر الذي ينزل من السحاب دموعا ووصف السحاب والسماء بأنها تبكى كذلك فأما تشبيه الهلال بالقيد فغير معتاد نفسه إلا أن نظيره معتاد ومعناه من حيث الصورة موجود واعنى بالنظير ما مضى من تشبيه الهلال بالسوار المنفصم كما قال
( حاكيا نصف سوار ** من نضار يتوقد )
وكما قال السرى نفسه
( ولاح لنا الهلال كشطر طوق ** على لبات زرقاء اللباس )
إلا أنه ساذج لا تعليل فيه يجب من أجله أن يكون سوارا وطوقا فاعرفه
ورأيت بعضهم ذكر بيت السرى الذي هو كأنه قيد فضه حرج مع أبيات شعر جمعه إليها وأنشد قطعة ابن الحجاج
( با صاحب البيت الذي ** قد مات فيه الصيف جوعا )
( مالي أرى فلك الرغيف ** لديك مشترفا رفيعا )
( كالبدر لا نرجو إلى ** وقت المساء له طلوعا )
____________________
(1/253)
قال إنه شبه الرغيف بالبدر لعلتين إحداهما الاستدارة والثاني طلوعه مساء قال وخير التشبيه ما جمع معنيين كقول ابن الرومى
( يا شبيه البدر في الحسن ** وفي بعد المنال )
( جد فقد تنفجر الصخرة ** بالماء الزلال )
وانشد أيضا لإبراهيم بن المهدي
( ورحمت افراخا كأفراخ القطا ** وحنين والهة كقوس النازع )
ثم قال ومثله قول السرى كأنه قيد فضة حرج وهو لا يشبه ما ذكره إلا أن يذهب إلى حديث أنه افاد شكل الهلال بالقيد المفضوض ولونه بالفضة فأما إن قصد النكته التي هي موضع الإغراب فلا يستقيم الجمع بينه وبين ما أنشد لأن شيئا من تلك الأبيات لا يتضمن تعليلا وليس فيها أكثر من ضم شبه إلى شبه كالحنين والانحناء من القوس والاستدارة والطلوع مساء من البدر وليس احد المعنيين بعلة للآخر كيف ولا حاجة بواحد من الشبهين المذكورين إلى تصحيح غيره له
ومما هو نظير لبيت السرى وعلى طريقة قول ابن المعتز
( سقاني وقد سل سيف الصبا ** ح والليل من خوفه قد هرب )
لم يقنع ههنا بالتشبيه الظاهر والقول المرسل كما اقتصر في قوله
( حتى بدا الصباح من نقاب ** كما بدا المنصل من قراب )
وقوله
( أما الظلام فحين رق قميصه ** واتى بياض الصبح كالسيف الصدى )
ولكنه احب أن يحقق دعواه أن هناك سيفا مسلولا ويجعل نفسه كأنها لا تعلم أن ههنا تشبيها وان القصد إلى لون البياض في الشكل المستطيل
____________________
(1/254)
فتوصل إلى ذلك بأن جعل الظلام كالعدو المنهزم الذي سل السيف في قفاه فهو يهرب مخافة أن يضرب به
ومثل هذا في أن جعل الليل يخاف الصبح لا في الصنعة التي أنا في سياقها قوله
( سبقنا إليها الصبح وهو مقنع ** كمين وقلب الليل منه على حذر )
وقد أخذ الخالدى بيته الأول أخذا فقال
( والصبح قد جردت صوارمه ** والليل قد هم منه بالهرب )
وهذه قطعة لابن المعتز بيت منها هو المقصود
( وانظر إلى دنيا ربيع أقبلت ** مثل البغي تتوجت لزناة )
( جاءتك زائرة كعام أول ** وتلبست وتعطرت بنبات )
( وإذا تعرى الصبح من كافوره ** نطقت صنوف طيورها بلغات )
( والورد يضحك من نواظر نرجس ** قذيت وآذن حيها بممات )
هذا البيت الأخير هو المراد وذلك أن الضحك في الورد وكل ريحان ونور يتفتح مشهور معروف وقد قاله في هذا البيت وجعل الورد كأنه يعقل ويميز فهو يشمت بالنرجس لانقضاء مدته وإبار دولته وبدو أمارات الفناء فيه وأعاد هذا الضحك من الورد فقال
( ضحك الورد في قفا المنثور ** واسترحنا من رعدة المقرور )
أراد إقبال الصيف وحر الهواء ألا تراه قال بعده
____________________
(1/255)
( واستطبنا المقيل في برد ظل ** وشممنا الريحان بالكافور )
( فالرحيل الرحيل يا عسكر الل ** ذات عن كل روضة وغدير )
فهذا من شأن الورد الذي عابه به ابن الرومي في قوله
( فصل القضية أن هذا قائد ** زهر الرياض وإن هذا طارد )
وقد جعله ابن المعتز لهذا الطرد ضاحكا ضحك من استولى وظفر وابتز غيره ولاية الزمان واستبد بها
ومما يشوب الضحك فيه شيء من التعليل قوله أيضا
( مات الهوى منى وضاع شبابي ** وقضيت من لذاته أرابي )
( وإذا أردت تصابيا في مجلس ** فالشيب يضحك بي مع الأحباب )
لا شك أن لهذا الضحك زيادة معنى على الضحك في نحو قول دعبل
( ضحك المشيب براسه فبكى ** )
وما تلك الزيادة إلا انه جعل المشيب يضحك ضحك المتعجب من تعاطى الرجل ما لا يليق به وتكلفه الشيء ليس هو من أهله وفي ذلك ما ذكرت من إخفاء صورة التشبيه وأخذ النفس بتناسيه وهكذا قوله
( لما رأونا في خميس يلتهب ** في شارق يضحك من غير عجب )
( كأنه صب على الأرض ذهب ** وقد بدت اسيافنا في القرب )
( حتى تكون لمناياهم سبب ** نرفل في الحديد والأرض تجب )
____________________
(1/256)
( وحن شريان ونبع فاصطخب ** تترسوا من القتال بالهرب )
المقصود قوله يضحك من غير عجب وذاك أن نفيه العلة إشارة إلى انه من جنس ما يعلل وانه ضحك قطعا وحقيقة الا ترى انك لو رجعت إلى صريح التشبيه فقلت هيئته في تلالؤه كهيئة الضاحك ثم قلت من غير عجب قلت قولا غير مقبول واعلم انك إن عددت قول بعض العرب
( ونثرة تهزأ بالنصال ** كأن فيها حدق الهلال )
الهلال الحية ههنا والام للجنس في هذا القبيل لم يكن لك ذلك فصل وهذا نوع آخر في التعليل
وهو أن يكون للمعنى من المعاني والفعل من الأفعال علة مشهورة من طريق العادات والطباع ثم يجىء الشاعر فيمنع أن يكون لتلك المعروفة ويضع له علة أخرى مثاله قول المتنبي
( ما به قتل أعاديه ولكن ** يتقى إخلاف ما ترجو الذئاب )
الذي يتعارفه الناس أن الرجل إذا قتل اعاديه فلا رادته هلا كهم وأن يدفع مضارهم عن نفسه وليسلم ملكه ويصفو من منازعاتهم وقد ادعى المتنبي كما ترى أن العلة في قتل هذا الممدوح لأعدائه غير ذلك
واعلم أن هذا لا يكون حتى يكون في استئناف هذه العلة المدعاة فائدة شريفة فيما يتصل بالممدوح أو يكون لها تأثير في الذم كقصد المتنبي
____________________
(1/257)
ههنا في أن يبالغ في وصفه بالسخاء والجود وأن طبيعة الكرم قد غلبت عليه ومحبته أن يصدق رجاء الراجين وأن يجنبهم الخيبة في آمالهم قد بلغت به هذا الحد فلما علم إذا غدا للحرب غدت الذئاب تتوقع أن يتسع عليها الرزق ويخصب لها الوقت من قتلى عداه كره أن يخلفها وأن يخيب رجاءها ولا يسعفها وفيه نوع آخر من المدح وهو يهزم العدا ويكسرهم كسرا لا يطمعون بعده في المعاودة فيستغنى بذلك عن قتلهم وإراقة دمائهم وأنه ليس ممن يسرف في القتل طاعة للغيظ والحنق ولا يعفوا إذا قدر وما يشبه هذه الأوصاف الحميدة فاعرفه
ومن الغريب في هذا الجنس على تعمق فيه قول أبى طالب المامونى في قصيدة يمدح بها بعض الوزراء ببخارى
( مغرم بالثناء صب بكسب الم ** جد يهتز للسماح ارتياحا )
( لا يذوق الإغفاء إلا رجاء ** أن يرى طيف مستميح رواحا )
وكأنه شرط الرواح على معنى أن العفاة والراجين إنما يحضرونه في صدر النهار على عادة السلاطين فإذا كان الرواح ونحوه من الأوقات التي ليست من أوقات الإذن قلوا فهو يشتاق إليهم فينام ليأنس برؤية طيفهم والإفراط في التعمق ربما أخل بالمعنى من حيث يراد تأكيده به ألا ترى أن هذا الكلام قد يوهم أنه يحتج له أنه ممن لا يرغب كل واحد في أخذ عطائه وأنه ليس في طبقة من قيل فيه
( عطاؤك زين لامرىء إن أصبته ** بخير وما كل العطاء يزين )
____________________
(1/258)
ومما يدفع عنه الاعتراض ويوجب قلة الاحتفال به أى بالاعتراض أن الشاعر يهمه أبدا إثبات ممدوحه جوادا أو تواقا إلى السؤال فرحا بهم وأن يبرئه من عبوس البخل وقطوب المتكلف في البذل الذي يقاتل نفسه عن ماله حتى يقال جواد ومن يهوى الثناء والثراء معا ولا يتمكن في نفسه معنى قول أبى تمام
( ولم يجتمع شرق وغرب لقاصد ** ولا المجد في كف امرىء والدراهم )
فهو يسرع إلى استماع المدائح ولا يبطىء عن صلة المادح نعم فإذا سلم للشاعر هذا الغرض لم يفكر في خطرات الظنون وقد يجوز بشيء من الوهم الذي ذكرته على قول المتنبي
( يعطى المبشر بالقصاد قبلهم ** كمن يبشره بالماء عطشانا )
وهذا شيء عرض ولاستقصائه موضع آخر إن وفق الله
وأصل بيت الطيف المستميح من نحو قوله
( وأني لأستغشى وما بي نعسه ** لعل خيالا منك يلقى خياليا )
وهذا الأصل غير بعيد أن يكون أيضا من باب ما استؤنف له علة غير معروفة إلا أنه لا يبلغ في القوة ذلك المبلغ في الغرابة والبعد من العادة وذلك أنه قد يتصور أن يريد المغرم المتيم إذا بعد عهده بحبيبه أن يراه في المنام وإذا أراد ذلك جاز أن يريد النوم له خاصة فاعرفه
ومما يلحق بهذا الفصل قوله
____________________
(1/259)
( رحل العزاء برحلتي فكأنني ** اتبعته الأنفاس للتشييع )
وذلك أنه علل تصعد الأنفاس من صدره بهذه العلة الغريبة وترك ما هو المعلوم المشهور من السبب والعلة فيه وهو التحسر والتأسف والمعنى رحل عنى العزاء بارتحالي عنكم أي عنده ومعه أو به وبسببه فكأنه لما كان محل الصبر الصدر وكانت الأنفاس تصعد منه أيضا صار العزاء وتنفس الصعداء كأنهما نزيلان ورفيقان فلما رحل ذاك كان حق هذا أن يشيعه قضاء لحق الصحبة
ومما يلاحظ هذا النوع ويجرى في مسلكه وينتظم في سلكه قول ابن المعتز
( عاقبت عيني بالدمع والسهر ** إذ غار قلبي عليك من بصري )
واحتملت ذاك وهى رابحة ** فيك وفازت بلذة النظر )
وذاك أن العادة في دمع العين وسهرها أن يكون السبب فيه إعراض الحبيب أو اعتراض الرقيب ونحو ذلك من الأسباب الموجبة للاكتئاب وقد تزك ذلك كله كما ترى وادعى أن العلة ما ذكره من غيرة القلب منها على الحبيب وإيثاره أن يتفرد برؤيته وأنه بطاعة القلب وامتثال رسمه رام للعين عقوبة فجعل ذاك أن أبكاها ومنعها النوم وحماها وله أيضا في عقوبة العين بالدمع والسهر من قصيدة أولها
____________________
(1/260)
( قل لأحلى العباد شكلا وقدا ** ابجدا ذا الهجر أم ليس جدا )
( ما بذا كانت المنى حدثتني ** لهف نفسي أراك قد خنت ودا )
( ما ترى في متيم بك صب ** خاضع لا يرى من الذل بدا )
( إن زنت عينه بغيرك فاضرب ** ها بطول السهاد والدمع حدا )
قد جعل البكاء والسهاد عقوبة على ذنب اثبته للعين كما فعل في البيت الأول إلا أن صورة الذنب ههنا غير صورته هناك فالذنب ههنا نظرها إلى غير الحبيب واستجازتها من ذلك ما هو محرم محظور والذنب هناك نظرها إلى الحبيب نفسه ومزاحمتها القلب في رؤيته وغيره القلب من العين سبب العقوبة هناك فأما ههنا فالغيرة كائنه بين الحبيب وبين شخص آخر فاعرفه
ولا شبهة في قصور البيت الثاني عن الأول وأن للأول عليه فضلا كبيرا وذلك بان جعل بعضه يغار من بعض وجعل الخصومة في الحبيب بين عينيه وقلبه وهو تمام الظرف واللطف فأما الغيرة في البيت الأخير فعلى ما يكون أبدا هذا ولفظ زنت وإن كان ما يتلوها من إحكام الصنعة يحسنها وورودها في الخبر العين تزنى يؤنس بها فليست تدع ما هو حكمها من إدخال نفرة على النفس
وإن أردت أن ترى هذا المعنى بهذه الصنعة في أعجب صورة
____________________
(1/261)
أظرفها فانظر إلى قول القائل
( آتتني تؤنبني بالبكا ** فأهلا بها وبتأنيبها )
( تقول وفى قولها حشمة ** أتبكى بعين تراني بها )
( فقلت إذا استحسنت غيركم ** أمرت الدموع بتأديبها )
أعطاك بلفظة التأديب حسن أدب اللبيب في صيانة اللفظ عما يحوج إلى الاعتذار ويؤدى إلى النفار إلا أن الأستاذيه تعد ظاهرة في بيت ابن المعتز
وليس كل فضيلة تبدو مع البديهة بل تعقب النظر والروية وبأن يفكر في أول الحديث وآخره وأنت تعلم أنه لا يكون أبلغ في الذي أراد من تعظيم شان الذنب من ذكر الحد وإن ذلك لا يتم إلا بلفظة زنت
ومن هذه الجهة يلحق الضيم كثيرا من شانه وطريقة طريق أبي تمام ولم يكن من المطبوعين وموضع البسط في ذلك غير هذا فغرضي الآن أن اريك انواعا من التخييل وأضع شبه القوانين ليستعان بها على ما يراد من التفصيل والتبيين فصل في تخييل بغير تعليل
وهذا نوع آخر من التخييل وهو يرجع إلى ما مضى من تناسى التشبيه وصرف النفس عن توهمه إلا أن ما مضى معلل بيان ذلك أنهم يستعيرون الصفة المحسوسة من صفات الأشخاص للأوصاف المعقولة ثم تراهم كأنهم
____________________
(1/262)
قد وجدوا تلك الصفة بعينها وادركوها بأعينهم على حقيقتها وكان حديث الاستعارة والقياس لم يجر منهم على بال ولم يروه ولا طيف خيال ومثاله استعارتهم العلو لزيادة الرجل على غيره في الفضل والقدر والسلطان ثم وضعهم الكلام وضع من يذكر علوا من طريق المكان الا ترى إلى قول أبي تمام
( ويصعد حتى يظن الجهول ** بأن له حاجة في السما )
فلولا قصده أن ينسى التشبيه ويرفعه بجهده ويصمم على إنكاره وجحده بجعله صاعدا في السماء من حيث المسافة الكائنة لما كان لهذا الكلام وجه
ومن أبلغ ما يكون في هذا المعنى قول ابن الرومي
( اعلم الناس بالنجوم بنونو ** بخت علما لم يأتهم بالحساب )
( بل بأن شاهدوا السماء سمرا ** بترق في المكرمات الصعاب )
( مبلغا لم يكن ليبلغه الطا ** لب إلا بتلكم الأسباب )
واعاده في موضع آخر فزاد الدعوى قوة ومر فيها مرور من يقول صدقا يذكر حقا
( يا آل نوبخت لاعدمتكم ** ولا تبدلت بعدكم بدلا )
( إن صح علم النجوم كان لكم ** حقا إذا ما سواكم انتحلا )
( كم عالم فيكم وليس بأن ** قاس ولكن بان رقى فعلا )
( أعلاكم في السماء مجدكم ** فلستم تجهلون ما جهلا )
( شافهتم البدر بالسؤال عن ** الأمر إلى أن بلغتم زحلا )
وهذا الحكم إذا استعاروا اسم الشيء بعينه من نحو شمس او بدر أو بحر أو أسد فإنهم يبلغون به هذا الحد ويصوغون الكلام صياغات تقضى
____________________
(1/263)
بأن لا تشبيه هناك ولا استعارة ومثاله قوله
( قامت تظللني من الشمس ** نفس أعز على من نفسي )
( قامت تظللني ومن عجب ** شمس تظللني من الشمس )
فلولا أنه أنس نفسه أن ههنا استعارة ومجازا من القول وعمل على دعوى شمس على الحقيقة لما كان لهذا التعجب معنى فليس ببدع ولا منكر أن يظل إنسان حسن الوجه إنسانا ويقيه وهجا بشخصه وهكذا قول البحتري
( طلعت لهم وقت الشروق فعاينوا ** سنا الشمس من أفق ووجهك من أفق )
( وما عاينوا شمسين قبلهما التقى ** ضياؤهما وفقا من الغرب والشرق )
معلوم أن القصد أن يخرج السامعين إلى التعجب لرؤية ما لم يروه قط ولم تجر العادة به ولن يتم للتعجب معناه الذي عناه ولا تظهر صورته على وضعها الخاص حتى يجترىء على الدعوى جراءة من لا يتوقف ولا يخشى إنكار منكر ولا يحفل بتكذيب الظاهر له ويسوم النفس شاءت أم أبت تصور شمس ثابتة طلعت من حيث تغرب الشمس فالتقتا وفقا وصار غرب تلك القديمة لهذه المتجددة شرقا ومدار هذا النوع الطالب على التعجب وهو والى أمره وصانع سحره وصاحب سره وتراه ابدا وقد افضى بك إلى خلابة لم تكن عندك وبرز لك في صورة ما حسبتها تظهر لك ألا ترى أن صورة قوله شمس تظللني من الشمس غير صورة قوله وما عاينوا شمسين وإن اتفق الشعران في انهما يتعجبان من وجود الشيء على خلاف ما يعقل ويعرف
وهكذا قول المتنبي
____________________
(1/264)
( كبرت حول ديارهم لما بدت ** منها الشموس وليس فيها المشرق )
له صورة غير صورة الأولين وكذا قوله
( ولم أر قبلي من مشى البدر نحوه ** ولا رجلا قامت تعانقه الأسد )
تعرض تلك الصور كلها والاشتراك بينها عامي لا يدخل في السرقة إذ لا اتفاق بأكثر من أن أثبت الشيء في جميع ذلك على خلاف ما يعرفه الناس
فأما إذا جئت إلى خصوص ما يخرج به عن المتعارف فلا اتفاق ولا تناسب لأن مكان الأعجوبة مرة أن تظلل الشمس من الشمس وأخرى أن ترى الشمس مثلا لها تطلع من الغرب عند طلوعها من الشرق وثالثة أن ترى الشمس طالعة من ديارهم وعلى هذا الحد قوله ولم أر قبلي من مشى البدر نحوه العجب من أن يمشى البدر إلى آدمي وتعانق الأسد رجلا
واعلم أن في هذا النوع مذهبا هو كأنه عكس مذهب التعجب ونقيضه وهو لطيف جدا وذلك أن تنظر إلى خاصية ومعنى دقيق يكون في المشبه به ثم تثبت تلك الخاصية وذلك المعنى للمشبه وتتوصل بذلك إلى إيهام أن التشبيه قد خرج من البين وزال عن الوهم والعين احسن توصل وألطفه ويقام منه شبه الحجة على أن لا تشبيه ولا مجاز
ومثاله قوله
( لا تعجبوا من بلى غلالته ** قد زر أزراره على القمر )
قد عمد كما ترى إلى شيء هو خاصية في طبيعة القمر وأمر غريب من تأثيره ثم جعل يرى أن قوما انكروا بلى الكتان بسرعة وأنه قد اخذ ينهاهم عن التعجب من ذلك ويقول أما ترونه قد زر أزراره على القمر والقمر
____________________
(1/265)
من شأنه أن يسرع بلى الكتان وغرضه بهذا كله أن يعلم أن لا شك ولا مرية في أن المعاملة مع القمر نفسه وأن الحديث عنه بعينه وليس في البين شيء من غيره وأن التشبيه قد نسى وانسى وصار كما يقول الشيخ أبو على فيما يتعلق به الطرف إنه شريعة منسوخة وهذا موضع في غاية اللطف لا يبين إلا إذا كان المتصفح للكلام حساسا يعرف وحى طبع الشعر وخفى حركته التي هي كالهمس وكمسرى النفس في النفس وإن أردت أن تظهر لك صحة عزيمتهم في هذا النحو على إخفاء التشبيه ومحو صورته من الوهم فابرز صفحة التشبيه واكشف عن وجهه وقل لا تعجبوا من بلى غلالته فقد زر أزراره على من حسنه حسن القمر ثم انظر هل ترى إلا كلاما فاترا ومعنى نازلا واخبر نفسك هل تجد ما كنت تجده من الأريحيه وانظر في اعين السامعين هل ترى ما كنت تراه من ترجمة عن المسرة ودلالة على الإعجاب ومن أين ذلك وأني وأنت بإظهار التشبيه تبطل على نفسك ما له وضع البيت من الاحتجاج على وجوب البلى في الغلالة والمنع من العجب فيه بتقرير الدلالة
وقد قال آخر في هذا المعنى بعينه إلا أن لفظة لا ينبىء عن القوة التي لهذا البيت في دعوى القمر وهو قوله
( ترى الثياب من الكتان يلمحها ** نور من البدر أحيانا فيبليها )
( فكيف تنكر أن تبلى معاجرها ** والبدر في كل وقت طالع فيها )
ومما ينظر إلى قوله قد زر أزراره على القمر في أنه بلغ في دعواه في المجاز حقيقة مبلغ الاحتجاج به كما يحتج بالحقيقة قول العباس بن الأحنف
____________________
(1/266)
( هي الشمس مسكنها في السماء ** فعز الفؤاد عزاء جميلا )
( فلن تستطيع إليها الصعود ** ولن تستطيع إليك النزولا )
صورة هذا الكلام ونصبته والقالب الذي فيه أفرغ يقتضي أن التشبيه لم يجر في خلده وانه معه كما يقال لست منه وليس منى وأن الأمر في ذلك قد بلغ مبلغا لا حاجة معه إلى إقامة دليل وتصحيح دعوى بل هو في الصحة والصدق بحيث تصحح به دعوى ثابتة ألا تراه كأنه يقول للنفس ما وجه الطمع في الوصول وقد علمت أن حديثك مع الشمس ومسكن السماء افلا تراه قد جعل كونها الشمس حجة على نفسه يصدفها بها عن أن ترجو الوصول إليها ويلجئها إلى العزاء وردها في ذلك إلى مالا تشك فيه وهو مستقر ثابت كما تقول أو ما علمت ذلك وأليس قد علمت ويبين لك هذا التفسير والتقرير فضل بيان بان تقابل هذا البيت بقول الآخر
( فقلت لأصحابي هي الشمس ضوءها ** قريب ولكن في تناولها بعد )
وتتأمل أمر التشبيه فيه فإنك تجده على خلاف ما وصفت لك وذلك انه لم يجعل كونها الشمس حجة على ما ذكر بعد من قرب شخصها ومثالها في العين مع بعد منالها بل قال هي الشمس كذا قولا مرسلا يومىء فيه بل يفصح بالتشبيه ولم يرد أن يقول لا تعجبوا أن تقرب وتبعد بعد أن علمتم أنها الشمس حتى كأنه يقول ما وجه شككم في ذلك ولم يشك عاقل في أن الشمس كذلك كما أراد العباس أن يقول كيف الطمع في
____________________
(1/267)
الوصول إليها مع علمك بأنها الشمس وأن الشمس مسكنها السماء فبيت ابن أبي عيينه في أن لم ينصرف عن التشبيه جملة ولم يبرز في صورة الجاحد له والمتبرىء منه كبيت بشار الذي صرح فيه بالتشبيه وهو
( أو كبدر السماء غير قريب ** حين يوفى والضوء فيه اقتراب ) وكبيت المتنبى
( كأنها الشمس يعيى كف قابضه ** شعاعها ويراه الطرف مقتربا )
فإن قلت فهذا من قولك يؤدى إلى أن يكون الغرض من ذكر الشمس بيان حال المرأة في القرب من وجه والبعد من وجه آخر دون المبالغة في وصفها بالحسن وإشراق الوجه وهو خلاف المعتاد لأن الذي يسبق إلى القلوب أو يقصد من نحو قولنا هي كالشمس أو هي شمس الجمال والحسن والبهاء فالجواب أن الأمر وإن كان على ما قلت فإنه في نحو هذه الأحوال التي يقصد فيها إلى بيان أمر غير الحسن يصير كالشىء الذي يعقل من طريق العرف وعلى سبيل التبع فأما أن يكون الغرض الذي له وضع الكلام فلا وإذا تأملت قوله
( فقلت لأصحابي هي الشمس ضوءها )
وقول بشار أو كبدر السماء وقول المتنبي كأنها الشمس علمت أنهم جعلوا جل غرضهم أن يصيبوا لها شبها في كونها قريبة بعيدة وهو القياس أيضا فأما حديث الحسن فدخل في القصد على الحد الذي مضى في قوله
( نعمة كالشمس لما طلعت ** بثت الإشراق في كل بلد )
فكما أن هذا لم يضع كلامه لجعل النعمة كالشمس في الضياء والإشراق ولكنها عمت كما تعم الشمس بإشراقها كذلك لم يضع هؤلاء أبياتهم
____________________
(1/268)
على أن يجعلوا المرأة كالشمس والبدر في الحسن ونور الوجه بل أموانحو المعنى الآخر ثم حصل هذا لهم من غير ان احتاجوا فيه إلى تجشم وإذا كان الأمر كذلك فلم يقل إن النعمة إنما عمت لأنها شمس ولكن أراك لعمومها وشمولها قياسا تحرى أن يكون ذلك القياس من شيء شريف له بالنعمة شبه من جهة اوصافه الخاصة فاختار الشمس وكذلك لم يرد ابن أبى عيينه أن يقول إنها إنما دنت ونأت لأنها شمس أو لأنها الشمس بل قاس أمرها في ذلك كما عرفتك وأما العباس فإنه قال إنها إنما كانت بحيث لا تنال ووجب اليأس من الوصول إليها لأجل أنها الشمس فاعرفه فرقا واضحا
ومما هو على طريقة بيت العباس في الاحتجاج وإن خالفه فيما أذكره لك قول الصابىء في بعض الوزراء يهنئه بالتخلص من الاستتار
( صح أن الوزير بدر منير ** إذ توارى كما توارى البدور )
( غاب لا غاب ثم عاد كما كان ** على الأفق طالعا يستنير )
( لا تسلني عن الوزير فقد بينت ** بالوصف أنه سابور )
( لا خلا منه صدر دست إذا ما قر ** فيه تقر منه الصدور )
فهو كما تراه يحتج أن لا مجاز في البين فإن ذكر البدر وتسمية الممدوح به حقيقة واحتجاجه صريح لقوله صح أنه كذلك واما احتجاج العباس وصاحبه في قوله قد زر أزراره على القمر فعلى طريق الفحوى فهذا وجه الموافقة وأما وجه المخالفة فهو انهما ادعيا الشمس والقمر بانفسهما
____________________
(1/269)
وادعى الصابىء بدرا لا البدر على الإطلاق ومن ادعاء الشمس على الإطلاق قول بشار
( بعثت بذكرها شعري ** وقدمت الهوى شركا )
( فلما شاقها قولي ** وشب الحب فاحتنكا )
( اتتنى الشمس زائرة ** ولم تك تبرح الفلكا 9
( وجدت العيش في سعدى ** وكان العيش قد هلكا )
فقوله ولم تك تبرح الفلكا يريك أنه ادعى الشمس نفسها
وقال أشجع يرثى الرشيد فبدأ بالتعريف ثم نكر فخلط إحدى الطريقتين بالأخرى وذلك قوله
( غربت بالمشرق الش / ** س فقل للعين تدمع )
( ما رأينا قط شمسا ** غربت من حيث تطلع )
فقوله غربت بالمشرق الشمس على حد قول بشار أتتنى الشمس زائرة في أنه خيل إليك شمس السماء وقوله بعد ما رأينا قط شمسا يفتر أمر هذا التخييل ويميل بك إلى أن تكون الشمس في قوله غربت بالمشرق الشمس غير شمس السماء أعنى غير مدعى أنها هي وذلك مما يضطرب عليه المعنى ويقلق لأنه إذا لم يدع الشمس نفسها لم يجب أن تكون جهة خراسان شرقا لها وإذا لم يجب ذلك لم يحصل ما أراده من الغرابة في غروبها من حيث تطلع وأظن الوجه فيه أن تتأول تنكيره للشمس في الثاني على قولهم خرجنا في شمس حارة يريدون في يوم كان للشمس فيه حرارة وفضل توقد فيصير كأنه قال ما عهدنا يوما غربت فيه
____________________
(1/270)
الشمس من حيث تطلع وهوت في جانب المشرق وكثيرا ما يتفق في كلام الناس ما يوهم ضربا من التنكير في الشمس كقولهم شمس صيفية وكقوله
( والله لا طلعت شمس ولا غربت ** ) ولا فرق بين هذا وبين قول المتنبي
( لم يرقرن الشمس في شرقة ** فشكت الأنفس في غربة )
ويجىء التنكير في القمر والهلال على هذا الحد فمنه قول بشار
( أملى لا تأت في قمر ** بحديث واتق الدرعا )
( وتوق الطيب ليلتنا ** إنه واش إذا سطعا )
فهذا بمعنى لا تأت في وقت قد طلع فيه القمر وهكذا قول عمر بن أبي ربيعة
( وغاب قمير كنت أرجو غيوبه ** وروح رعيان ونوم سمر )
ظاهرة يوهم أنه كقولك جاءنى رجل وليس كذلك في الحقيقة لأن الاسم لا يكون نكرة حتى يعم شيئين وأكثر وليس هنا شيئان يعمهما اسم القمر وهكذا قول أبى العتاهية
____________________
(1/271)
( تسر إذا نظرت إلى هلال ** ونقصك إذ نظرت إلى الهلال )
ليس المنكر غير المعرف على أن للهلال في هذا التنكير فضل تمكن ليس للقمر ألا تراه قد جمع في قوله تعالى ( ^ يسألونك عن الأهلة ) ولم يجمع القمر على هذا الحد
ومن لطيف هذا التنكير قول البحتري
( وبدرين أنضيناهما بعد ثالث ** أكلناه بالايجاف حتى تمحقا ) ومما أتى مستكرها نابيا يتظلم منه المعنى وينكره قول أبى تمام
( قريب الندى نأئى المحل كأنه ** هلال قريب النور ناء منازله )
سبب الاستكراه وأن المعنى ينبو عنه انه يوهم بظاهره أن ههنا أهلة ليس لها هذا الحكم أعنى أنه يتناءى مكانه ويدنو نوره وذلك محال فالذي يستقيم عليه الكلام أن يؤتى به معرفا على حده في بيت البحتري
( كالبدر أفرط في العلو وضوءه ** للعصبة السارين جد قريب )
فإن قلت أقطع واستأنف فأقول كأنه هلال وأسكت ثم أبتدىء وآخذ في الحديث عن شأن الهلال بقولي قريب النور ناء منازله أمكنك ولكنك تعلم ما يشكوه إليه المعنى من نبو اللفظ وسوء ملاءمة العبارة واستقصاء هذا الموضع يقطع عن الغرض وحقه أن يفرد له فصل
واعود إلى حديث المجاز وإخفائه ودعوى الحقيقة وحمل النفس على تخيلها فما يدخل في هذا الفن ويجب أن يوازن بينه وبين ما مضى قول سعيد بن حميد
____________________
(1/272)
( وعد البدر بالزيارة ليلا ** فإذا ما وفى قضيت نذورى )
( قلت يا سيدى ولم تؤثر اللي ** يل على بهجة النهار المنير )
( قال لي لا احب تغيير رسمي ** هكذا الرسم في طلوع البدور )
قالوا وله في ضده
( قلت زوري فأرسلت ** أنا آتيك سحره )
( قلت فالليل كان أخ ** في وأدنى مسره )
( فأجابت بحجة ** زادت القلب حسره )
( أنا شمس وإنما ** تطلع الشمس بكره
وينبغي أن تعلم أن هذه القطعة ضد الأولى من حيث اختار النهار وقتا للزيارة في تلك والليل في هذه فأما من حيث يختلف جوهر الشعر ويتفق خصوصا من حيث ينظر الآن فمثل وشبيه وليس بصد ولا نقيض
ثم اعلم أنا إن وازنا بين هاتين القطعتين وبين ما تقدم من بيت العباس هي الشمس مسكنها في السماء وما هو في صورته وجدناهما امرا بين أمرين بين ادعاء البدر والشمس انفسهما وبين إثبات بدر ثان وشمس ثانية وراينا الشاعر قد شاب في ذلك الإنكار بالإعتراف وصادفت صورة المجاز تعرض عنك مرة وتعرض لك أخرى فقوله البدر بالتعريف مع قوله لا أحب تغيير رسمي وتركه أن يقول رسم مثلى يخيل إليك البدر نفسه وقوله في طلوع البدور بالجمع دون أن يفرد فيقول هكذا الرسم في طلوع البدور يلتفت بك إلى بدر ثان ويعطيك الاعتراف بالمجاز على وجه وهكذا القول في القطعة الثانية لأن قولك أنا شمس بالتنكير اعتراف بشمس ثانيه أو كالاعتراف
____________________
(1/273)
ومما يدل دلالة واضحة على دعوى الحقيقة ولا يستقيم إلا عليها قول المتنبي
( واستقبلت قمر السماء بوجهها ** فأرتني القمرين في وقت معا )
أراد فأرتني الشمس والقمر ثم غلب اسم القمر كقول الفرزدق
( أخذنا بآفاق السماء عليكم ** لنا قمراها والنجوم الطوالع )
لولا تخيل أنها الشمس نفسها لم يكن لتغليب اسم القمر والتعريف بالألف واللام معنى وكذلك لولا ضبطة نفسه حتى لا يجرى المجاز والتشبيه في وهمه لكان قوله في وقت معا لغوا من القول فليس بعجيب أن يتراءى لك وجه غادة حسناء في وقت طلوع القمر وتوسطه السماء وهذا أظهر من أن يخفى واما تشبيه أبي الفتح لهذا البيت بقول القائل
( وإذا الغزالة في السماء ترفعت ** وبدا النهار لوقته يترجل )
( أبدت لوجه الشمس وجها مثله ** تلقى السماء بمثل ما تستقبل )
فتشبيه على الجملة ومن حيث أصل المعنى وصورته في المعقول فاما الصورة الخاصة التي تحدث له بالصنعة فلم يعرض لها
ومما له طبقة عاليه في هذا القبيل وشكل يدل على شدة الشكيمة وعلو المأخذ قول الفرزدق
( أبي أحمد الغيثين صعصعه الذي ** متى تخلف الجوزاء والدلو يمطر )
( أجاز بنات الوائدين ومن يجر ** على الموت تعلم أنه غير مخفر )
____________________
(1/274)
أفلا تراه كيف ادعى لأبيه اسم الغيث ادعاء من سلم له ذلك ومن لا يخطر بباله أنه مجاز فيه ومتناول له من طريق التشبيه وحتى كأن الأمر في هذه الشهرة بحيث يقال أي الغيثين أجود فيقال صعصعه وحتى بلغ تمكن ذلك في العرف إلى أن يتوقف السامع عند إطلاق الاسم فإذا قيل اتاك الغيث لم تعلم أيراد صعصعه أم المطر وإن أردت أن تعرف مقدار ماله من القوة في هذا التخييل وأن مصدره مصدر الشيء المتعارف الذي لا حاجة به إلى مقدمة يبنى عليها نحو أن تبدأ فتقول أبي نظير الغيث ثان وغيث وثان ثم تقول وهو خير الغيثين لأنه لا يختلف إذا اختلفت الأنواء فانظر إلى موقع الاسم فإنك تراه واقعا موقعا لا سبيل لك فيه إلى حل عقد التثنيه وتفريق المذكورين بالاسم وذلك أن أفعل لا تصح إضافته إلى اسمين معطوف أحدهما على الآخر فلا يقال جاءني أفضل زيد وعمرو ولا أتى اعلم بكر وخالد عندي بل ليس إلا أن تضيف إلى اسم مثنى أو مجموع في نفسه نحو أفضل الرجلين وأفضل الرجال وذلك أن أفعل التفضيل بعض ما يضاف إليه أبدا فحقه أن يضاف إلى اسم يحويه وغيره وإذا كان الأمر كذلك علمت أن اللفظ بالتشبيه والخروج عن صريح جعل اللفظ للحقيقة متعذر عليك إذ لا يمكنك أن تقول أبى أحمد الغيث والثاني له والشبيه به ولا شيئا من هذا النحو لأنك تقع بذلك في إضافة أفعل إلى اسمين معطوف أحدهما على الآخر
وإذ قد عرفت هذا فانظر إلى قول الآخر
____________________
(1/275)
( قد قحط الناس في زمانهم ** حتى إذا جئت جئت بالدرر )
( غيثان في ساعة لنا اتفقا ** فمرحبا بالأمير والمطر )
فإنك تراه لا يبلغ هذه المنزلة وذلك أنه كلام من يثبته الآن غيثا ولا يدعى فيه عرفا جاريا وأمرا مشهورا متعارفا يعلم كل واحد منه ما يعلمه وليس بمتعذر أن يقول عيث وثان للغيث اتفقا أو يقول الأمير ثاني الغيث والغيث اتفقا فقد حصل من هذا الباب أن الاسم المستعار كلما كان قدمه أثبت في مكانه وكان موضعه من الكلام أضن به وأشد محاماة عليه وامنع لك من أن تتركه وترجع إلى الظاهر وتصرح بالتشبيه فأمر التخييل فيه أقوى ودعوى المتكلم له أظهر وأتم
واعلم أن قول البحتري
( غيثان إن جدب تتابع أقبلا ** وهما ربيع مؤمل وخريفه )
لا يكون مما نحن بصدده في شيء لأن كل واحد من الغيثين في هذا البيت مجاز لأنه أراد أن يشبه كل واحد من الممدوحين بالغيث والذي نحن بصدده هو أن يضم المجاز إلى الحقيقة في عقد التثنية ولكن إن ضممت إليه قوله
( فلم أر ضرغامين أصدق منكما ** عراكا إذا الهيابة النكس كذبا )
كان لك ذلك لأن أحد الضرغامين حقيقة والآخر مجاز فإن قلت فههنا شيء يردك إلى ما أبينه من بقاء حكم التشبيه في جعله إياه الغيث وذلك
____________________
(1/276)
أن تقدير الحقيقة في المجاز إنما يتصور في نحو بيت البحتري فلم أر ضرغامين من حيث عمد إلى واحد من الأسود ثم جعل الممدوح أسدا على الحقيقة قد قارنه وضامه ولا سبيل للفرزدق إلى ذلك لأن الذي يقرنه إلى أبيه هو الغيث على الإطلاق وإذا كان الغيث على الإطلاق لم يبق شيء يستحق هذا الاسم ويدخل تحته وإذا كان كذلك حصل منه أن لا يكون أبو الفرزدق غيثا على الحقيقة فالجواب أن مذهب ذلك ليس على ما تتوهمه ولكن على أصل في التشبيه وهو أن يقصد إلى المعنى الذي من أجله يشبه الفرع بالأصل كالشجاعة في الأسد والمضاء في السيف وينحى سائر الأوصاف جانبا وذلك المعنى في الغيث هو النفع العام وإذا قدر هذا التقدير صار جنس الغيث كأنه عين واحدة وشىء واحد وإذا عاد بك الأمر إلى أن تتصوره تصور العين الواحده دون الجنس كان ضم أبي الفرزدق إليه بمنزلة ضمك إلى الشمس رجلا أو إمرأة تريد أن تبالغ في وصفهما بأوصاف الشمس وتنزيلهما منزلتها كما تجده في نحو قوله
( فليت طالعة الشمسين غائبة ** وليت غائبة الشمسين لم تغب )
____________________
(1/277)
فصل في الفرق بين التشبيه والاستعارة
إن الاسم إذا قصد إجراؤه على غير ما هو له لمشابهة بينهما كان ذلك على ما مضى من الوجهين أحدهما أن يسقط ذكر المشبه من البين حتى لا يعلم من ظاهر الحال انك أردته وذلك أن تقول عنت لنا ظبية وأنت تريد امرأة ووردنا بحرا وأنت تريد الممدوح فأنت في هذا النحو من الكلام إنما تعرف أن المتكلم لم يرد ما الاسم موضوع له في أصل اللغة بدليل الحال أو إفصاح المقال بعد السؤال أو بفحوى الكلام وما يتلوه من الأوصاف مثال ذلك أنك إذا سمعت قوله
( ترنح الشرب واغتالت حلومهم ** شمس ترجل فيهم ثم ترتحل )
استدللت بذكر الشرب واغتيال الحلوم والارتحال أنه أراد قينة ولو قال ترجلت شمس ولم يذكر شيئا غيره من أحوال الآدميين لم يعقل قط أنه أراد امرأة إلا بإخبار مستأنف او شاهد آخر من الشواهد
ولذلك تجد الشيء يلتبس منه حتى على أهل المعرفة كما روى أن عدى ابن حاتم اشتبه عليه المراد بلفظ الخيط في قوله تعالى ( ^ حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) وحمله على ظاهره فقد روى أنه قال لما نزلت هذه الآية أخذت عقالا أسود وعقالا أبيض فوضعتهما تحت وسادتي فنظرت فلم أتبين فذكرت ذلك النبيَ وسلم فقال إن وسادك لطويل عريض إنما هو الليل والنهار
____________________
(1/278)
والوجه الثاني أن يذكر كل واحد من المشبه والمشبه به فتقول زيد أسد وهند بدر وهذا الرجل الذي تراه سيف صارم على أعدائك وقد كنت ذكرت فيما تقدم أن في إطلاق الاستعارة على هذا الضرب الثاني بعض الشبهة ووعدتك بكلام يجيء في ذلك وهذا موضعه
اعلم أن الوجه الذي يقتضيه القياس وعليه يدل كلام القاضي في الوساطة أن لا تطلق الاستعارة على نحو قولنا زيد أسد وهند بدر ولكن نقول هو تشبيه فإذا قال هو أسد لم تقل استعار له اسم الأسد ولكن تقول شبهه بالأسد وتقول في الأول إنه استعارة لا تتوقف فيه ولا تتحاشى البته وإن قلت في القسم الأول إنه تشبيه كنت مصيبا من حيث تخبر عما في نفس المتكلم وعن أصل الغرض وإن أردت تمام البيان قلت أراد أن يشبه المرأة بالظبية فاستعار لها اسمها مبالغة فإن قلت فكذلك فقل في قولك زيد أسد إنه أراد تشبيهه بالأسد فأجرى اسمه عليه ألا ترى أنك ذكرته بلفظ التنكير فقلت زيد أسد كما تقول زيد واحد من الأسود فما الفرق بين الحالين وقد جرى الاسم في كل واحد منهما على المشبه فالجواب أن الفرق بين وهو أنك عزلت في القسم الأول الاسم الأصلي عنه واطرحته وجعلته كأن ليس باسم له وجعلت الثاني هو الواقع عليه والمتناول له فصار قصدك التشبيه أمرا مطويا في نفسك مكنونا في ضميرك وصار في ظاهر الحال وصورة الكلام وقضيته كأنه الشيء الذي وضع له
____________________
(1/279)
الاسم في اللغة وتصور أن تعلقه الوهم كذلك وليس كذلك القسم الثاني لأنك قد صرحت فيه بالمشبه وذكرك له صريحا يأبى أن تتوهم كونه من جنس المشبه به وإذا سمع السامع قولك زيد اسد وهذا الرجل سيف صارم على الأعداء استحال أن يظن وقد صرحت له بذكر زيد أنك قصدت اسدا وسيفا وأكثر ما يمكن أن يدعى تخيله في هذا أن يقع في نفسه من قولك زيد اسد حال الأسد في جراءته وإقدامه وبطشه فأما أن يقع في وهمه أنه رجل وأسد معا بالصورة والشخص فمحال
ولما كان كذلك كان قصد التشبيه من هذا النحو بينا لائحا وكائنا من مقتضى الكلام وواجبا من حيث موضوعه حتى إن لم يحمل عليه كان محالا فالشيء الواحد لا يكون رجلا واسدا وغنما يكون رجلا وبصفة الأسد فيما يرجع إلى غرائز النفوس وألأخلاق أو خصوص في الهيئة كالكراهة في الوجه وليس كذلك الأول لأنه يحتمل الحمل على الظاهر على الصحة فلست بممنوع من أن تقول عنت لنا ظبية وانت تريد الحيوان وطلعت شمس وأنت تريد الشمس كقولك طلعت اليوم شمس حارة وكذلك تقول هززت على الأعداء سيفا وأنت تريد السيف كما تقوله وأنت تريد رجلا باسلا استعنت به او رأيا وفقت ماضيا فيه وأصبت به من العدو فأرهبته واثرت فيه
وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يفصل بين القسمين فيسمى الأول استعارة على الإطلاق ويقال في الثاني إنه تشبيه فاما تسمية الأول تشبيها فغير ممنوع ولا غريب إلا انه على انك تخبر عن الغرض وتنبىء عن مضمون الحال فأما أن يكون موضوع الكلام وظاهره موجبا له صريحا فلا فإن قلت فكذلك قولك هو اسد ليس في ظاهره تشبيه لأن التشبيه
____________________
(1/280)
يحصل بذكر الكاف أو مثل او نحوهما فالجواب أن الأمر وإن كان كذلك فإن موضوعه من حيث الصورة يوجب قصدك التشبيه لاستحالة أن يكون له معنى وهو على ظاهره وله مثال من طريق العادة وهو أن مثل الاسم مثل الهيئة التي يستدل بها على الأجناس كزى الملوك وزي السوقة فكما أنك لو خلعت من الرجل أثواب السوقة ونفيت عنه كل شيء يختص بالسوقة وألبسته زي الملوك فأبديته للناس في صورة الملوك حتى يتوهموه ملكا وحتى لا يصلوا إلى معرفة حاله إلا بإخبار أو اختبار واستدلال من غير الظاهر كنت قد اعرته هيئة الملك وزيه على الحقيقة ولو انك القيت عليه بعض ما يلبسه الملك من غير أن تعريه من المعاني التي تدل على كونه سوقة لم تكن قد اعرته بالحقيقة هيئة الملك لأن المقصود من هيئة الملك أن يحصل بها المهابة في النفس وأن يتوهم العظمة ولا يحصل ذلك مع وجود الأوصاف الدالة على أن الرجل سوقة
افرض هذه الموازنة في الشيء الواحد كالثوب الواحد يعاره الرجل فيلبسه على ثوبه أو منفردا وإنما اعتبر الهيئة وهي تحصل بمجموع أشياء وذلك أن الهيئة هي التي يشبه حالها حال الاسم لأن الهيئه تخص جنسا كما أن الاسم كذلك والثوب على الإطلاق لا يفعل ذلك إلا بخصائص تقترن به وتراعى معه فإذا كان السامع قولك زيد أسد لا يتوهم أنك قصدت أسدا على الحقيقة لم يكن الاسم قد لحقه ولم تكن قد أعرته إياه إعارة صحيحة كما انك لم تعر الرجل هيئة الملك حين لم تزل عنه ما يعلم به انه ليس بملك
هذا وإذا تأملنا حقيقة الاستعارة في اللغة والعادة كان في ذلك أيضا بيان لصحة هذه الطريقة ووجوب الفرق بين القسمين وذاك أن من
____________________
(1/281)
شرط المستعار أن يحصل للمستعير منافعه على الحد الذي يحصل للمالك فإن كان ثوبا لبسه كما لبسه وإن كان اداة استعملها في الشيء تصلح له حتى إن الرائي إذا رآه معه لم تنفصل حاله عنده من حال ما هو ملك يد ليس بغارية وإنما يفضله المالك في أن له أن يتلف الشيء جملة أو يدخل التلف على بعض أجزائه قصدا وليس للمستعير ذلك ومعلوم أن ما هو كالمنفعة من الاسم أن يوجب ذكره القصد إلى الشيء في نفسه فإذا قلت زيد علم أنك أردت أن تخبر عن الشخص المعلوم وإذا قلت لقيت أسدا علم أنك علقت اللقاء بواحد من هذا الجنس وإذا كان الأمر كذلك ثم وجدنا الاسم في قولك عنت ظبية يعقل من إطلاقه أنك قصدت الجنس المعلوم ولا يعلم انك قصدت امرأة فقد وقع من المرأة في هذا الكلام موقعه من ذلك الحيوان على الصحة فكان ذلك بمنزلة أن المستعير ينتفع بالمستعار انتفاع مالكه فيلبسه لبسه ويتجمل به تجمله ويكون مكانه عنده مكان الشيء المملوك حتى يعتقد من ينظر إلى الظاهر انه له ولما وجدنا الاسم في قولك زيد أسد لا يقع من زيد ذلك الموقع من حيث أن ذكره باسمه يمنع من أن يصير الاسم مطلقا عليه ومتناولا له على حد تناوله ما وضع له وزان ذلك وزان أن يضع الرجل عند الرجل ثوبا ويمنعه أن يلبسه أو بمنزلة أن تطرح عليه طرف ثوب كان عليك فلا يكون ذلك عارية صحيحة لأنك لم تدخله في جملته ولم تعطه صورة ما يختص به ويصير إليه ويخفى كونه لك دونه فاعرفه
وههنا فصل آخر من طريق موضوع الكلام يبين وجوب الفرق
____________________
(1/282)
بين القسمين وهو أن الحالة التي يختلف في الاسم إذا وقع فيها أيسمى استعارة أم لا يسمى هي الحالة التي يكون الاسم فيها خبر مبتدأ او متنزلا منزلته أعنى أن يكون خبر كان ومفعولا ثانيا لباب علمت لأن هذه الأبواب كلها أصلها مبتدأ وخبر ويكون حالا لأن الحال عندهم زيادة في الخبر فحكمها حكم الخبر فيما قصدته ههنا خصوصا والاسم إذا وقع في هذه المواضع فأنت واضع كلامك لإثبات معناه وإن أدخلت النفي على كلامك تعلق النفي بمعناه
تفسير هذه الجملة انك إذا قلت زيد منطلق فقد وضعت كلامك لإثبات الانطلاق لزيد ولو نفيت فقلت ما زيد منطلقا كنت نفيت الانطلاق عن زيد وكذلك كان زيد منطلقا وعلمت منطلقا ورأيت زيدا منطلقا انت في ذلك كله واضع كلامك ومزج له لتثبيت الانطلاق لزيد ولو خولفت فيه انصرف الخلاف إلى ثبوته وإذا كان الأمر كذلك فأنت إذا قلت زيد أسد ورأيت أسدا فقد جعلت اسم المشبه به خبرا عن المشبه والاسم إذا كان خبرا عن الشىء كان خبرا عنه إما لإثبات وصف هو مشتق منه لذلك الشىء كالانطلاق في قولك زيد منطلق او إثبات جنسية هو موضوع لها كقولك هذا رجل فإذا امتنع في قولنا زيد أسد أن تثبت شبه الجنسية لزيد على الحقيقة كان لإثبات شبه من الجنس له وإذا كنا إنما نثبت شبه الجنس فقد اجتلبنا الاسم لنحدث به التشبيه الآن ونقرره وندخله في حين الحصول والثبوت وإذا كان كذلك كان خليقا بأن نسميه تشبيها إذا كان إنما جاء ليفيده ويوجبه
وأما الحالة الأخرى التي قلنا إن الاسم فيها يكون استعارة من غير
____________________
(1/283)
خلاف فهي حالة إذا وقع الاسم فيها لم يكن الاسم مجتلبا لإثبات معناه للشيء ولا الكلام موضوعا لذلك لأن هذا حكم لا يكون إلا إذا كان الاسم في منزلة الخبر من المبتدأ فأما إذا لم يكن وكان مبتدأ بنفسه أو فاعلا أو مفعولا أو مضافا إليه فأنت واضع كلامك لإثبات امر آخر غير ما هو معنى الاسم
بيان ذلك أنك إذا قلت جاءني أسد ورأيت أسدا ومررت بأسد فقد وضعت الكلام لإثبات المجيء واقعا من الأسد والرؤية والمرور واقعين منك عليه وكذلك إن قلت الأسد مقبل فالكلام موضوع لإثبات الإقبال للأسد لا لإثبات معنى الأسد وإذا كان الأمر كذلك ثم قلت عنت لنا ظبية وهززت سيفا صارما على الأعداء وأنت تعنى بالظبية امراة وبالسيف رجلا لم يكن ذكرك للاسمين في كلامك هذا لإثبات الشبه المقصود الآن وكيف يتصور أن يقصد إلى إثبات الشبه منهما لشيء وأنت لم تذكر قبلهما شيئا ينصرف أثبات الشبه إليه وإنما يثبت الشبه من طريق الرجوع إلى الحال والبحث عن خبىء في نفس المتكلم إذا كان كذلك بان الاسم في قولك زيد أسد مقصود به إيقاع التشبيه في الحال وإيجابه
واما في قولك عنت لنا ظبية وسللت سيفا على العدو فوضع الاسم هكذا انتهازا واقتضابا على المقصود وادعاء انه من الجنس الذي وضع له الاسم في اصل اللغة وإذا افترقا هذا الافتراق وجب أن يفرق بينهما في الاصطلاح والعبارة كما أنا نفصل بين الخبر والصفة في العبارة لاختلاف الحكم فيهما بان الخبر إثبات في الوقت للمعنى والصفة تبيين وتوضيح وتخصيص
____________________
(1/284)
بأمر قد ثبت واستقر وعرف فكما لم نرض لاتفاق الغرض في الخبر والصفة على الجملة واشتراكهما إذا قلت زيد ظريف وجاءني زيد الظريف في التباس زيد في الظرف واكتسائه له أن نجعلهما في الوضع الاصطلاحي شيئا واحدا ولا نفرق بتسميتنا هذا خبرا وذاك صفة كذلك ينبغي أن لا يدعونا اتفاق قولنا جاءني أسد وهززت سيفا صارما وقولنا زيد أسد وسيف صارم في مطلق التشبيه إلى التسوية بينهما وترك الفرق من طريق العبارة بل وجب أن نفرق فنسمى ذالا استعارة وهذا تشبيها فإن أبيت إلا أن تطلق الاستعارة على هذا القسم الثاني فينبغي أن تعلم أن إطلاقها لا يجوز في كل موضع يحسن دخول حرف التشبيه عليه بسهولة وذلك نحو قولك هو كالأسد وهو شمس النهار وهو البدر حسنا وبهجة والقضيب عطفا وهكذا كل موضع ذكر فيه المشبه به بلفظ التعريف فإن قلت هو بحر وهو ليث ووجدته بحرا وأردت أن تقول إنه استعارة كنت أعذر أشبه بأن تكون على جانب من القياس ومتشبثا بطرف من الصواب وذلك أن الاسم قد خرج بالتنكير عن أن يحسن إدخال حرف التشبيه عليه فلو قلت هو الأسد وهو كبحر كان كلاما نازلا غير مقبول كما يكون قولك هو كالأسد إلا أنه وإن كان لا تحسن فيه الكاف فإنه يحسن فيه كأن كقولك كأنه أسد أو ما يجرى مجرى كأن في نحو تحسبه أسدا وتخاله سيفا فإن غمض مكان الكاف وكأن بأن يوصف الاسم الذي فيه
____________________
(1/285)
التشبيه بصفة لا تكون في ذلك الجنس وأمر خاص غريب فقيل هو بحر من البلاغة وهو بدر يسكن الأرض وهو شمس لا تغيب وكقوله
( شمس تألق والفراق غروبها ** عنا وبدر والصدود كسوفه ) فهو اقرب إلى أن تسمية إستعارة لأنه قد غمض تقدير حرف التشبيه فيه إذ لا تصل إلى الكاف حتى تبطل بنية الكلام وتبدل صورته فتقول هو كالشمس المتألقة إلا أن فراقها هو الغروب وكالبدر إلا أن صدوده الكسوف
وقد يكون في الصفات التي تجيء في هذا النحو والصلات التي توصل بها ما يختل به تقدير التشبيه فيقرب حينئذ من القبيل الذي تطلق عليه الإستعارة من بعض الوجوه وذلك مثل قوله
( أسد دم الأسد الهزبر خضابه ** موت فريص الموت منه ترعد ) لا سبيل لك إلى أن تقول هو كالأسد وهو كالموت لما يكون في ذلك من التناقض لانك إذا قلت هو كالأسد فقد شبهته بجنس السبع المعروف ومحال أن تجعله محمولاً في الشبه على هذا الجنس أولاً ثم تجعل دم الهزبر الذي هو اقوى الجنس خضاب يده لأن حملك له عليه في الشبه دليل على انه دونه وقولك بعد دم الهزبر من الأسود خضابه دليل على أنه فوقها وكذلك محال أن تشبهه بالموت المعروف ثم تجعله يخافه وترتعد منه اكتافه وكذا قوله
( سحاب عداني سيله وهو مسبل ** وبحر عداني فيضه وهو مفعم )
( وبدر اضاء الأرض شرقاً ومغرباً ** وموضع رحلي منه اسود مظلم )
____________________
(1/286)
إن رجعت فيه إلى التشبيه الساذج فقلت هو كالبدر ثم جئت تقول اضاء الأرض شرقاً ومغربا وموضع رحلي مظلم لم يضيء به كنت كأنك تجعل البدر المعروف يلبس الأرض الضياء ويمنعه رحلك وذلك محال وإنما أردت أن تثبت من الممدوح بدراً مفرداً له هذه الخاصة العجيبة التي لم تعرف للبدر وهذا إنما يأتي بكلام بعيد من هذا النظم وهو أن يقال هل سمعت بأن البدر يطلع في أفق ثم يمنع ضوءه موضعاً من المواضع التي هي معرضه له وكائنه في مقابلته حتى ترى الأرض الفضاء قد أضاءت بنوره وفيما بينها قدر رحل مظلم يتجافى عنه ضوءه ومعلوم بعد هذا من طريقة البيت فهذا النحو موضوع على تخييل انه زاد في جنس البدر واحد له حكم وخاصة لم تعرف وإذا كان الأمر كذلك صار كلامك موضوعاً لا لإثبات الشبه بينه وبين البدر ولكن لإثبات الصفة فى واحد متجدد حادث من جنس البدر لم تعرف تلك الصفة للبدر فيصير بمنزلة قولك زيد رجل يقري الضيوف ويفعل كيت وكيت فلا يكون قصدك إثبات الصفة التي ذكرتها له فإذا خرج الاسم الذي يتعلق به التشبيه من أن يكون مقصوداً بالإثبات تبين انه خارج عن الأصل الذي تقدم من كون الاسم لإثبات الشبه فالبحتري في قوله وبدر اضاء الأرض قد بنى كلامه على أن كون الممدوح بدراً أمر قد استقر وثبت وإنما يعمل في إثبات الصفة الغريبة والحاله التي هي موضع التعجب وكما يمتنع دخول الكاف في هذا النحو كذلك يمتنع دخول كأن وتحسب وتخال فلو قلت كأنه بدر أضاء الأرض شرقاً ومغرباً وموضع رحلي منه مظلم كان خلفاً من القول وكذلك إن قلت تحسبه بدراً أضاء الأرض ورحلي منه مظلم كان كالأول في الضعف
____________________
(1/287)
ووجه بعده من القبول بين وهو أن كان وحسبت وخلت وظننت تدخل إذا كان الخبر والمفعول الثاني امراً معقولاً ثابتاً في الجملة إلا انه في كونه متعلقاً بما هو اسم كأن أو المفعول الأول من حسبت مشكوك فيه كقولنا كان زيداً منطلق أو مجاز يقصد به خلاف ظاهره نحو كأن زيداً أسد فالأول على الجملة ثابت معروف والغريب هو كون زيد إياه ومن جنسه والنكرة في نحو هذه الأبيات موصوفة بأوصاف تدل على انك تخبر بظهور شيء لا يعرف ولا يتصور وإذا كان كذلك كان إدخال كان وحسبت عليه كالقياس على المجهول
وتأمل هذه النكته فإنه يضعف ثانياً إطلاق الاستعارة على هذا النحو أيضاً لان موضوع الاستعارة كيف دارت القضية على التشبيه وإذا بان بما ذكرت أن هذا الجنس إذا قلبت عن سره ونقرت عن خبيئه فمحصوله أنك تدعى حدوث شيء هو من الجنس المذكور إلا انه اختص بصفة غريبة وخاصية بعيدة لم يكن يتوهم جوازها على ذلك الجنس كأنك تقول ما كنا نعلم أن ههنا بدراً هذه صفته كان تقدير التشبيه فيه نقضاً لهذا الغرض لأنه لا معنى لقولك اشبه ببدر حدث خلاف البدور ما كان يعرف
وهذا موضع لطيف جدا لا تنتصف منه إلا باستعانة الطبع عليه ولا يمكن توفية الكشف فيه حقه بالعبارة لدقة مسلكه ويتصل به أن في الاستعارة الصحيحة مالا يحسن دخول كلم التشبيه عليه وذلك إذا قوى الشبه بين الأصل والفرع حتى يتمكن الفرع في النفس بمداخله ذلك الأصل والاتحاد به وكونه إياه وذلك في نحو النور إذا استعير للعلم والإيمان
____________________
(1/288)
والظلمة للكفر والجهل فهذا النحو لتمكنه وقوة شبهه ومتانة سببه قد صار كأنه حقيقة ولا يحسن لذلك أن تقول في العلم كأنه نور وفي الجهل كأنه ظلمة ولا تكاد تقول للرجل في هذا الجنس كأنك قد أوقعتني في ظلمة بل تقول أوقعتنى في ظلمة وكذلك الأكثر على الألسن والأسبق إلى القلوب أن تقول فهمت المسالة فانشرح صدري وحصل في قلبي نور ولا تقول كان نورا حصل في قلبي ولكن إذا تجاوزت هذا النوع إلى نحو قولك سللت منه سيفاً على الأعداء وجدت كأن حسنة هناك كثيراً كقولك بعثته إلى العدو فكأني سللت سيفا وكذلك في نحو زيد اسد كان زيداً أسد وهكذا يتدرج الحكم فيه حتى كلما كان مكان الشبه بين الشيئين أخفى واغمض وابعد من العرف كان الإتيان بكلمة التشبيه أبين وأحسن واكثر في الاستعمال
ومما يجب أن تجعله على ذكر منك ابدا وفيه البيان الشافي أن بين القسمين تبايناً شديداً أعنى بين قولك زيد اسد وقولك رأيت أسدا وهو ما قدمته لك من انك قد تجد الشيء يصلح في نحو زيد أسد حيث يذكر المشبه باسمه أولا ثم يجري اسم المشبه به عليه ولا يصلح في القسم الآخر الذي لا يذكر فيه المشبه أصلاً وتطرحه ومن الامثلة البينه في ذلك قول ابي تمام
( وكان المطل في بدء وعود ** دخاناً للصنيعة وهي نار ) قد شبه المطل بالدخان والصنيعة بالنار ولكنه صرح بذكر المشبه وأوقع
____________________
(1/289)
المشبه به خبراً عنه وهو كلام مستقيم ولو سلكت به طريقة ما يسقط فيه ذكر المشبه فقلت مثلا أقبستني ناراً لها دخان كان ساقطاً ولو قلت أقبستني نوراً أضاء أفقي به تريد علماً كان حسناً حسنه إذا قلت علمك نور في افقي والسبب في ذلك أن اطراح ذكر المشبه والاقتصار على اسم المشبه به وتنزيله منزلته وإعطاءه الخلافة على المقصود إنما يصح إذا تقرر الشبه بين المقصود وبين ما تستعير اسمه له وتستنيبه في الدلالة وقد تقرر في العرف الشبه بين النور والعلم وظهر واشتهر كما تقرر الشبه بين المرأة والظبية وبينها وبين الشمس ولم يتقرر في العرف شبه بين الصنيعة والنار وإنما هو شىء يضعه الآن أبو تمام ويتحمله ويعمل في تصويره فلابد له من ذكر المشبه والمشبه به جميعاً حتى يعقل عندما يريده ويبين الغرض الذي يقصده وإلا كان بمنزلة من يريد إعلام السامع أن عنده رجلا هو مثل زيد في العلم مثلا فيقول له عندى زيد ويسومه أن يعقل من كلامه أنه أراد أن يقول عندي رجل مثل زيد أو غيره من المعاني وذلك تكليف علم الغيب فاعرف هذا الأصل وتبينه فإنك تزداد به بصيرة في وجوب الفرق بين الضربين وذلك انهما لو كانا يجريان مجرى واحداً في حقيقة الاستعارة لوجب أن يستويا في القضية حتى إذا استقام وضع الاسم في احدهما استقام وضعه في الآخر فاعرفه
____________________
(1/290)
فإن قلت فما تقول في نحو قولهم لقيت به أسداً ورأيت به ليثاً فإنه مما لا وجه لتسميته استعارة ألا تراهم قالوا لئن لقيت فلاناً ليلقينك منه الأسد فأتوا به معرفة على حده إذا قالوا احذر الأسد وقد جاء على هذه الطريقة مالا يتصور فيه التشبيه فيظن أنه استعارة وهو قوله عز وجل ( ^ لهم فيها دار الخلد ) والمعنى والله أعلم أن النار هي دار الخلد وأنت تعلم أن لا معنى ههنا لأن يقال إن النار شبهت بدار الخلد إذ ليس المعنى على تشبيه النار بشىء يسمى دار الخلد كما تقول في زيد إنه مثل الأسد ثم تقول هو الأسد وإنما هو كقولك النار منزلهم ومسكنهم نعوذ بالله منها وكذا قوله
( بأبي الظلامة منه النوفل الزفر ** )
المعنى على أنه النوفل الزفر وليس النوفل الزفر باسم لجنس غير جنس الممدوح كالأسد فيقال إنه شبه الممدوح به وإنما هو صفة كقولك هو الشجاع وهو السيد وهو النهاض بأعباء السيادة وكذا قوله
( يا خير من يركب المطى ولا ** يشرب كأسا بكف من بخلا )
لا يتصور فيه التشبيه وإنما المعنى أنه ليس ببخيل
هذا وإنما يتصور الحكم على الاسم بالاستعارة إذا جرى بوجه على ما يدعى أنه مستعار له والاسم في قولك لقيت به أسداً ولقبني منه الأسد لا يتصور جريه على المذكور بوجه لأنه ليس بخبر عنه ولا صفة له ولا حال وإنما هو بنفسه مفعول لقيت وفاعل لقيني ولو جاز أن يجرى الاسم ههنا مجرى الاستعارة المتناولة المستعار له لوجب أن يقول في قوله
____________________
(1/291)
( حتى إذا جن الظلام واختلط ** جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط )
إنه استعار اسم الذئب للمذق وذلك بين الفساد وكذا نحو قوله
( نبئت أن أبا قابوس اوعدني ** ولا قرار على زأر من الأسد )
لا يكون استعارة وإن كنت تجد من يفهم البيت قد يقول أراد بالأسد النعمان أو شبهه بالأسد لأن ذلك بيان للغرض فأما القضية الصحيحة وما يقع في نفس العارف ويوحيه نقد الصيرف فإن الأسد واقع على حقيقته حتى كأنه قال ولا قرار على زأر هذا الأسد وأشار إلى الأسد خارجا من عرينه مهددا موعدا بزئيره وأي وجه للشك في ذلك وهو يؤدى إلى أن يكون الكلام على حد قولك ولا قرار على زأر من هو كالأسد وفيه من إلعى والفجاجة شيء غير قليل
هذا ومن حق غالط غلط في نحو ما ذكرت على قلة عذره أن لا يغلط في قول الفرزدق
( هذا ومن حق غالط غلط في نحو ما ذكرت على قلة عذرة أن لا يغلط في قول الفرزدق
( قياماً ينظرون إلى سعيد ** كأنهم يرون به هلالاً )
ولا يتوهم أن هلالاً إستعارة لسعيد لأن الحكم على الأسم بالإستعارة مع وجود التشبيه الصريح محال جار مجرى أن يكون كل إسم دخل عليه كافٍ التشبيه مستعاراً وإذا لم يغلط في هذا فالباقي بمنزلته فاعرفه
____________________
(1/292)
فصل في الاتفاق في الأخذ والسرقة والاستمداد والاستعانة اعلم أن الشاعرين إذا اتفقا لم يخل ذلك من أن يكون في الغرض على الجملة والعموم أو في وجه الدلالة على الغرض والاشتراك في الغرض على العموم أن يقصد كل واحد منهما وصف ممدوحه بالشجاعة والسخاء أو حسن الوجه والبهاء او وصف فرسه بالسرعة أو ما جرى هذا المجرى وأما وجه الدلالة على الغرض فهو أن يذكر ما يستدل به على اثباته له الشجاعة والسخاء مثلا وذلك ينقسم أقساماً منها التشبيه بما يوجد هذا الوصف فيه على الوجه البليغ والغاية البعيدة كالتشبيه بالأسد وبالبحر في البأس والجود وبالبدر والشمس في الحسن والبهاء والإنارة والإشراق ومنها ذكر هيآت تدل على الصفة من حيث كانت لا تكون إلا فيمن له الصفة كوصف الرجل في حال الحرب بالابتسام وسكون الجوارح وقلة الفكر كقوله
( كأن دنانيراً على قسماتهم ** وإن كان قد شف الوجوه لقاء )
وكذلك الجواد يوصف بالتهلل عند ورود العفاة والارتياح لرؤية المحتدين والبخيل بالعبوس والقطوب وقلة البشر مع سعة ذات اليد ومساعدة الدهر
____________________
(1/293)
فأما الاتفاق في عموم الغرض فما لا يكون الاشتراك فيه داخلا في الأخذ والسرقة والاستمداد والاستعانة لا ترى من به حس يدعى ذلك ويأبى الحكم بأنه لا يدخل في باب الآخذ وإنما يقع الغلط من بعض من لا يحسن التحصيل ولا ينعم التأمل فيما يؤدى إلى ذلك حتى يدعى عليه في المحاجة انه بما قاله قد دخل في حكم من يجعل أحد الشاعرين عيالا على الآخر في تصور معنى الشجاعة وأنها مما يمدح به وان الجهل مما يذم به فأما أن يقوله صريحا ويرتكبه قصداً فلا
وأما الاتفاق في وجه الدلالة على الغرض فيجب أن ينظر فإن كان مما اشتراك الناس في معرفته وكان مستقرا في العقول والعادات فإن حكم ذلك وإن كان خصوصا في المعنى حكم العموم الذي تقدم ذكره من ذلك التشبيه بالأسد في الشجاعة وبالبحر في السخاء وبالبدر في النور والبهاء وبالصبح في الظهور والجلاء ونفى الالتباس عنه والخفاء وكذلك قياس الواحد في خصلة من الخصال على المذكور بذلك والمشهور به والمشار إليه سواء كان ذلك ممن حضرك في زمانك أو كان ممن سبق في الأزمنة الماضية والقرون الخالية لأن هذا مما لا يختص بمعرفته قوم دون قوم ولا يحتاج في العلم به إلى روية واستنباط وتدبر وتأمل وإنما هو في حكم الغرائز المركوزة في النفوس والقضايا التي وضع العلم بها في القلوب
وإن كان مما ينتهي إليه المتكلم بنظر وتدبر ويناله بطلب واجتهاد ولم يكن كالأول في حضوره إياه وكونه في حكم ما يقابله الذي لا معاناة عليه فيه ولا حاجة به إلى المحاولة والمزاولة والقياس والمباحثة والاستنباط
____________________
(1/294)
والاستنارة بل كان من دونه حجاب يحتاج إلى خرقة بالنظر وعليه كم يفتقر إلى شقة بالتفكر وكان دراً في قعر بحر لا بد له من تكلف الغوص لليه وممتنعا في شاهق لا يناله إلا بتجشم الصعود إليه وكامناً كالنار في الزند لا يظهر حتى يقتدحه ومشابكا لغيره كعروق الذهب التي لا تبدى صفحتها بالهوينا بل تنال بالحفر عنها وبعرق الجبين في طلب التمكن منها نعم إذا كان هذا شأنه وههنا مكانه وبهذا الشرط يكون امكانه فهو الذي يجوز أن يدعى فيه الاختصاص والسبق والتقدم والأولية وان يجعل فيه سلف وخلف ومفيد ومستفيد وأن يقضى بين القائلين فيه بالتفاضل والتباين وان أحدهما فيه أكمل من الآخر وأن الثاني زاد على الأول ونقص عنه وترقى إلى غاية أبعد من غايته او انحط إلى منزلة هي دون منزلته
واعلم أن ذلك الأول وهو المشترك العامي والظاهر الجلي والذي قلت إن التفاضل لا يدخله والتفاوت لا يصح فيه إنما يكون كذلك منه ما كان صريحاً ظاهراً لم تلحقه صنعة وساذجاً لم يعمل فيه نقش فأما إذا ركب عليه معنى ووصل به لطيفة ودخل إليه من باب الكناية والتعريض والرمز والتلويح فقد صار بما غير من طريقته واستؤنف من صورته واستجد له من المعرض وكسى من ذلك التعرض داخلا في قبيل الخاص الذي يملك بالفكرة والتعمل ويتوصل إليه بالتدبر والتأمل
____________________
(1/295)
وذلك كقولهم وهم يريدون التشبيه سلبن الظباء العيون كقول بعض العرب
( سلبن ظباء ذى نفر طلاها ** ونجل الأعين البقر الصوارا )
وكقوله
( إن السحاب لتستحي إذا نظرت ** إلى نداك فقاسته بما فيها )
وكقوله
( لم تلق هذا الوجه شمس نهارها ** إلا بوجه ليس فيه حياء )
وكقوله
( واهتز في درع الندى فتحركت ** حركات غصن البانة المتأود )
وكقوله
( فأقصيت من قرب إلى ذي مهابة ** اقابل بدر الأفق حين أقابله )
( إلى مسرف في الجود لو أن حاتما ** لديه لأمسى حاتم وهو عاذله )
فهذا كله في أصله ومغزاه وحقيقة معناه تشبيه ولكن كنى لك عنه وخودعت فيه وأتيت به من طريق الخلابة في مسلك السحر ومذهب التخييل فصار لذلك غريب الشكل بديع الفن منيع الجانب لا يدين لكل أحد يأبى العطف لا يدين به إلا للمروى المجتهد وإذا حققت النظر فالخصوص الذي تراه والحالة التي تراها تنفى الاشتراك وتاباه إنما هما من أجل انهم جعلوا التشبيه مدلولا عليه بأمر آخر ليس هو من قبيل الظاهر المعروف بل هو في حد لحن القول والتعمية اللذين يتعمد فيهما
____________________
(1/296)
إلى إخفاء المقصود حتى يصير المعلوم اضطراراً يعرف امتحاناً واختباراً كقوله
( مررت بباب هند فكل متنى ** فلا والله ما نطقت بحرف )
فكما يوهمك باتفاق اللظ أنه أراد الكلام وان الميم موصولة باللام كذلك المشبه إذا قال سرقن الظباء العيون فقد أوهم ان ثم سرقة وأن العيون منقولة إليها من الظباء وإن كنت تعلم إذا نظرت أنه يريد أن يقول إن عيونها كعيون الظباء في الحسن والهيئة وفترة النظر وكذلك يوهمك بقوله إن السحاب لتستحيى إن السحاب حي يعرف ويعقل وأنه يقيس فيضه بفيض كف الممدوح فيخزى ويخجل فالاحتفال والصنعة في التصويرات التي تروق السامعين وتروعهم والتخيلات التي تهز الممدوحين وتحركهم وتفعل فعلا شبيها بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير التي يشكلها الحذاق بالتخطيط والنقش او بالنحت والنقر فكما أن تلك تعجب وتخلب وتروق وتونق وتدخل النفس من مشاهدتها حالة غريبة لم تكن قبل رؤيتها ويغشاها ضرب من الفتنة لا ينكر مكانه ولا يخفى شأنه فقد عرفت قضية الأصنام وما عليه أصحابها من الافتتان بها والإعظام لها كذلك حكم الشعر فيما يصنعه من الصور ويشكله من البدع ويوقعه في النفوس من المعاني التي يتوهم بها الجامد الصامت في صورة الحي الناطق والموات الأخرس في قضية الفصيح المعرب والمبين المميز والمعدوم المفقود في حكم الموجود المشاهد كما قدمت القول عليه في باب التمثيل حتى يكسب الدنى رفعة والغامض القدر نباهة
وعلى العكس يغض من شرف الشريف ويطأ من قدر ذي العزة
____________________
(1/297)
المنيف ويظلم الفضل ويتهضمه ويخدش وجه الجمال ويتخونه ويعطى الشبهة سلطان الحجة ويرد الحجة إلى صيغة الشبهة ويصنع من المادة الخسيسة بدعاً يغلو في القيمة ويعلو ويفعل من قلب الجواهر وتبديل الطبائع ما ترى به الكيمياء وقد صحت ودعوى الإكسير وقد وضحت إلا انها روحانيه تتلبس بالأوهام والأفهام دون الإجسام والأجرام وكذلك قال
( يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة ** ويقضى بما يقضى به وهو ظالم )
وقال
( عليم بإبدال الحروف وقامع ** لكل خطيب يقمع الحق باطلة )
وقال ابن سكرة فأحسن
( والشعر نار بلا دخان ** وللقوافي رقى لطيفة )
( لو هجى المسك وهو أهل ** لكل مدح لصار جيفة )
( كم من معتل في المحل سام ** هوت به احرف خفيفة )
وقد عرفت ما كان سبيله من أهي القبيلة الذين كانوا يعيرون بأنف الناقة حين قال الحطيئة
( قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ** ومن يسوى بأنف الناقة الذنبا )
فنفى العار ووضح الافتخار وجعل ما كان نقصاً وشيناً فضلاً وزينا وما كان لقباً ونبزاً يسوء السمع شرفاً وعزاً يرفع الطرف وما ذاك إلا بحسن الانتزاع ولطف القريحة الصناع والذهن الناقد في دقائق
____________________
(1/298)
الإحسان والإبداع كما كساهم الجمال من حيث كانوا عروا منه وأثبتهم في نصاب الفضل من حيث نفوا عنه فلرب أنف سليم قد وضع الشعر عليه حده فجدعه واسم رفيع قلب معناه حتى حط به صاحبه ووضعه كما قال
( يا حاجب الوزراء إنك عندهم ** سعد ولكن أنت سعد الذابح )
ومن العجب في ذلك قول القائل في كثير بن أحمد
( لو علم الله فيه خيراً ** ما قال لا خير في كثير )
فانظر من إي مدخل دخل عليه وكيف بالهوينا هدى البلاء إليه وكثير هذا هو الذي يقول فيه الصاحب ومثل كثير في الزمان قليل فقد صار الاسم الواحد وسيلة إلى الهدم والبناء والمدح والهجاء وذريعة إلى التزيين والتهجين
ومن عجيب ما اتفق في هذا الباب قول ابن المعتز في ذم القمر واجتراؤه بقدرة البيان على تقبيحه وهو الأصل والمثل وعليه الاعتماد والمعول في تحسين كل حسن وتزيين كل مزين وأول ما يقع في النفوس إذ أريد المبالغة في الوصف بالجمال والبلوغ فيه غاية الكمال فيقال وجه كأنه القمر وكأنه فلقة قمر ذلك لثقته بأن هذا القول إذا شاء سحر وقلب الصور وأنه لا يهاب أن يخرق الإجماع ويسحر العقول ويقتسر الطباع وهو
( يا سارق الأنوار من شمس الضحى ** يا مشكلي طيب الكرى ومنغصي )
( أما ضياء الشمس فيك فناقص ** وأرى حرارة نارها لم تنقص )
( لم يظفر التشبيه منك بطائل ** متسلخ بهقاً كلون الأبرص )
____________________
(1/299)
وقد علم أنه ليس في الدنيا مثله أخزى وأشنع ونكال أبلغ وأفظع ومنظر أحق بأن يملأ النفوس إنكاراً وتنزعج القلوب استفظاعاً له واستنكاراً ويغرى الألسنة بالاستعاذة من سوء القضاء ودرك الشقاء من أن يصلب المقتول ويشبح في الجذع ثم قد ترى مرثية أبي الحسن لابن بقية حين صلب وما صنع فيها من السحر حتى قلب جملة ما يستنكر من أحوال المصلوب إلى خلافها وتأول فيها تأويلات أراك فيها وبها ما يقضى منه العجب
( علو في الحياة وفي الممات ** بحق أنت إحدى المعجزات )
( كأن الناس حولك حين قاموا ** وفود ندك أيام الصلات )
( كأنك قائم فيهم خطيب ** وكلهم قيام للصلاة )
( مددت يديك نحوهم احتفاء ** كمدهما إليهم بالهبات )
( ولما ضاق بطن الأرض عن أن ** يضم علاك من بعد الممات )
( اصاروا الجو قترك واستنابوا ** عن الاكفان ثوب السافيات )
( لعظمك في النفوس تبيت ترعى ** بحراس وحفاظ ثقات )
( وتشعل عندك النيران ليلا ** كذلك كنت أيام الحياة )
( ركبت مطية من قبل زيد ** علاها في السنين الماضيات )
( وتلك فضيلة فيها تأس ** تباعد عنك تعيير العداة )
( أسأت إلى الحوادث فاستثارت ** فأنت قتيل ثأر النائبات )
____________________
(1/300)
( ولو أنى قدرت على قيامي ** بفرضك والحقوق والواجبات )
( ملأت الأرض من نظم القوافي ** ونحت بها خلال النائحات )
( ولكنى أصبر عنك نفسي ** مخافة أن أعد من الجناة )
( وما لك تربة فأقول تسقى ** لأنك نصب هطل الهاطلات )
( عليك تحية الرحمن تترى ** برحمات غواد رائحات )
ومما هو من هذا الباب إلا أنه مع ذلك احتجاج عقلي صحيح قول المتنبي
( وما التأنيث لاسم الشمس عيب ** ولا التذكير فخر للهلال )
فحق هذا أن يكون عنوان هذا الجنس وفي صدر صحيفته وطرازا لديباجته لأنه دفع النقص وإبطال له من حيث يشهد العقل للحجة التي نطق بها بالصحة وذلك أن الصفات الشريفة شريفة بأنفسها وليس شرفها من حيث الموصوف وكيف والأوصاف سبب التفاضل بين الموصوفات فكان الموصوف شريفا أو غير شريف من حيث الصفة ولم تكن الصفة شريفة أو خسيسة من حيث الموصوف وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يعترض على الصفات الشريفة بشيء إن كان نقصا فهو في خارج منها وفيما لا يرجع إليها أنفسها ولا حقيقتها وذلك الخارج ههنا هو كون الشخص على صورة دون صورة وإذا كان كذلك كان الأمر فمقدار ضرر التأنيث إذا وجد في الخلقة على الأوصاف الشريفة مقداره إذا وجد في الاسم الموضوع للشيء الشريف لأنه في أن لا تأثير له من طريق العقل في تلك الأوصاف في الحالين على صورة واحدة لأن الفضائل التي بها فضل الرجل على المرأة لم تكن فضائل لأنها قارنت صورة التذكير وخلقته ولا أوجبت ما أوجبت من التعظيم لاقترانها بهذه الخلقة دون تلك بل
____________________
(1/301)
إنما أوجبته لأنفسها ومن حيث هي كما ان الشيء لم يكن شريفا أو غير شريف من حيث أنث اسمه أو ذكر بل يثبت الشرف وغير الشرف للمسميات من حيث أنفسها وأوصافها لا من حيث أسماؤها لاستحالة أن يتعدى من لفظ هو صوت مسموع نقص أو فضل إلى ما جعل علامة له فاعرفه
واعلم أن هذا هو الصحيح في تفسير هذا البيت والطريقة المستقيمة في الموازنة بين تأنيث الخلقة وتأنيث الاسم لا أن يقال إن المعنى أن المرأة إذا كانت في كمال الرجل من حيث العقل والفضل وسائر الخلال الممدوحة كانت من حيث المعنى رجلا وان عدت في الظاهر امرأة لأجل أنه يفسد من وجهين أحدهما أنه قال ولا التذكير فخر للهلال ومعلوم أنه لا يريد أن يقول أن الهلال وأن ذكر في لفظه فهو مؤنث في المعنى لفساد ذلك ولأجل أنه إن كان يريد أن يضرب تأنيث اسم الشمس مثلا لتأنيث المؤنثة على معنى أنها في المعنى رجل وان يثبت لها تذكيراً فأى معنى لأن يعود فينحنى على التذكير ويغض منه ويقول إنه ليس بفخر للهلال هذا بين التناقض
____________________
(1/302)
فصل في حدى الحقيقة والمجاز
واعلم ان كل واحد من وصفي المجاز والحقيقة إذا كان الموصوف به الفرد غير حده إذا كان موصوفاً به الجملة وإنا نحدهما في المفرد كل كلمة أريد بها ما وقعت له في وضع واضع وإن شئت قلت في مواضعه وقوعاً لا يستند فيه إلى غيره فهي حقيقة وهذه عبارة تنتظم الوضع الأول وما تأخر عنه كلغة تحدث في قبيلة من العرب أو في جميع العرب أو في جميع الناس مثلا أو تحدث اليوم ويدخل فيها الأعلام منقولة كانت كزيد وعمرو أو مرتجلة كغطفان وكل كلمة استؤنف بها على الجملة مواضعة أو ادعى الاستئناف فيها
وإنما اشترطت هذا كله لأن وصف اللفظه بأنها حقيقة أو مجاز حكم فيها من حيث أن لها دلالة على الجملة لا من حيث هي عربية أو فارسية أو سابقة في الوضع أو محدثة مولدة فمن حق الحد أن يكون بحيث يجرى في جميع الألفاظ الدالة ونظير هذا نظير أن تضع حداً للاسم والصفة في أنك تضعه بحيث لو اعتبرت به لغة غير لغة العرب وجدته يجرى فيها جريانه في العربية لأنك تحد من جهة لا اختصاص لها بلغة دون لغة ألا ترى أن حدك الخبر بأنه ما احتمل الصدق والكذب مما لا يخص لساناً دون لسان ونظائر ذلك كثيرة وهو أحد ما غفل عنه الناس ودخل عليهم اللبس فيه حتى ظنوا أنه ليس لهذا العلم قوانين عقليه وأن مسائلة كلها مشبهة باللغة في كونها اصطلاحاً يتوهم عليها النقل والتبديل ولقد فحش غلطهم فيه وليس هذا موضع القول في ذلك
وإن أردت أن تمتحن هذا الحد فانظر إلى قولك الأسد تريد به
____________________
(1/303)
السبع فإنك تراه يؤدى جميع شرائطه لأنك قد أردت به ما يعلم أنه وقع له في وضع واضع اللغة وكذلك تعلم أنه غير مستند في هذا الوقوع إلى شيء غير السبع أي لا يحتاج أن يتصور له أصل أداة إلى السبع من أجل التباس بينهما وملاحظة وهذا الحكم إذا كانت الكلمة حادثة ولو وضعت اليوم متى كان وضعها كذلك وكذلك الأعلام وذلك أنى قلت ما وقعت له في وضع واضع أو مواضعة على التنكير ولم أقل في وضع الواضع الذي ابتدأى اللغة أو في المواضعة اللغوية فيتوهم أن الأعلام أو غيرها مما تأخر وضعه عن أصل اللغة يخرج عنه ومعلوم أن الرجل يواضع قومه في اسم ابنه فإذا سماه زيداً فحاله الآن فيه كحال واضع اللغة حين جعله مصدراً لزاد يزيد وسبق واضع اللغة في وضعه للمصدر المعلوم لا يقدح في اعتبارنا لأنه يقع عند تسميته به ابنه وقوعاً باتاً ولا تستند حاله هذه إلى السابق من حاله بوجه من الوجوه
وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول فهي مجاز وإن شئت قلت كل كلمة جزت بها ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعاً لملاحظة بين ما تجوز بها إليه وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها فهي مجاز ومعنى الملاحظة هو أنها تستند في الجملة إلى غير هذا الذي تريده بها الآن إلا أن هذا الاستناد يقوى ويضعف بيانه ما مضى من أنك إذا قلت رأيت أسداً تريد رجلاً شبيها بالأسد لم يشتبه عليك الأمر في حاجة الثاني إلى الأول إذ لا يتصور أن يقع الأسد للرجل على هذا المعنى الذي أردته على التشبيه على حد المبالغة وإيهام أن معنى من الأسد
____________________
(1/304)
حصل فيه إلا بعد أن تجعل كونه اسماً للسبع إزاء عينيك فهذا استناد تعلمه ضرورة ولو حاولت دفعه عن وهمك حاولت محالا فمتى عقل فرع من غير أصل ومشبه من غير مشبه به وكل ما طريقه التشبيه فهذا سبيله أعنى كل اسم جرى على الشيء للاستعارة فالإسناد فيه قائم ضرورة
وأما ما عدا ذلك فلا يقوى استناده هذه القوة حتى لو حاول محاول أن ينكره أمكنه في ظاهر الحال ولم يلزمه به خروج إلى المحال وذلك كاليد للنعمة لو تكلف متكلف فزعم أنه وضع مستأنف أو في حكم لغة مفردة لم يمكن دفعه إلا برفق وباعتبار خفي وهو ما قدمت من أنا رأيناهم لا يوقعون هذه اللفظة على ما ليس بينه وبين هذه الجارحة التباس واختصاص ودليل آخر وهو أن اليد لا تكاد تقع للنعمة إلا وفى الكلام إشارة إلى مصدر تلك النعمة وإلى المولى لها ولا تصلح حيث تراد النعمة مجردة من إضافة لها إلى المنعم أو تلويح به بيان ذلك أن تقول اتسعت النعمة في البلد ولا تقول اتسعت اليد في البلد وتقول اقتنى نعمه ولا تقول اقتنى يداً وأمثال ذلك تكثر إذا تأملت وإنما يقال جلت يده عندي وكثرت أياديه لدى فتعلم أن الأصل صنائع يده وفوائده الصادرة عن يده وآثار يده ومحال أن تكون اليد اسماً للنعمة هكذا على الإطلاق ثم لا تقع موقع النعمة لو جاز ذلك لجاز أن يكون المترجم للنعمة باسم لها في لغة أخرى واضعاً اسمها من تلك اللغة في مواضع لا تقع النعمة فيها من لغة العرب وذلك محال
ونظير هذا قولهم في صفة راعى الإبل إن له عليها أصبعاً أي أثراً حسناً وأنشدوا
____________________
(1/305)
( ضعيف العصا بادي العروق ترى له ** عليها إذا ما أجدب الناس أصبعاً )
وأنشد شيخنا رحمه الله مع هذا البيت قول الآخر صلب العصا بالضرب قد دماها أي جعلها كالدمى في الحسن وكأن قوله صلب العصا وإن كان ضد قول الآخر ضعيف العصا فإنهما يرجعان إلى غرض واحد وهو حسن الرعية والعمل بما يصلحها ويحسن أثره عليها فأراد الأول يجعله ضعيف العصا أنه رفيق بها مشفق عليها لا يقصد من حمل العصا ان يوجعها بالضرب من غير فائدة فهو يتخير ما لان من العصى وأراد الثاني أنه جيد الضبط لها عارف بسياستها في الرعي يزجرها عن المراعى التي لا تحمد ويتوخى بها ما تسمن عليه ويتضمن أيضاً أنه يمنعها عن التشرد والتبدد وأنها لما عرفت من شدة شكيمته وقوة عزيمته تنساق وتستوثق في الجهة التي يريدها من غير أن يجدد لها في كل حال ضرباً وقال آخر صلب العصا جاف عن التغزل فهذا لم يبين ما بينه الآخر وأعود إلى الغرض
فأنت الآن لا تشك أن الأصبع مشار بها إلى أصبع اليد وأن وقوعها بمعنى الأثر الحسن ليس على أنه وضع مستأنف في إحدى اللغتين ألا تراهم لا يقولون رأيت أصابع الدار بمعنى آثار الدار وله أصبع حسنة وأصبع قبيحة على معنى أثر حسن وأثر قبيح ونحو ذلك وإنما أرادوا أن يقولوا له عليها أثر حذق فدلوا عليه بالأصبع لأن الأعمال الدقيقة لها اختصاص بالأصابع وما من حذق في عمل يد إلا وهو مستفاد من حسن تصريف الأصابع
____________________
(1/306)
واللطف في رفعها ووضعها كما يعلم في الخط والنقش وكل عمل دقيق وعلى ذلك قالوا في تفسير قوله عز وجل ( ^ بلى قادرين على أن نسوى بنانه ) أي نجعلها كخف البعير فلا تتمكن من الأعمال اللطيفة فكما علمت ملاحظة الأصبع لأصلها وامتناع أن تكون مستأنفة بأنك رأيتها لا يصح استعمالها حيث يراد الأثر على الإطلاق ولا يقصد الإشارة إلى حذق في الصنعة وأن تجعل أثر الأصبع أصبعاً كذلك ينبغي أن تعلم ذلك في اليد لقيام هذه العلة فيها أعنى إن لم تجعل أثر اليد يداً لم تقع للنعمة مجردة من هذه الإشارات وحيث لا يتصور ذلك كقولنا اقتنى نعمة فاعرفه
ويشبه هذا في أن عبر عن أثر اليد والأصبع باسمهما وضعهم الخاتم موضع الختم كقولهم عليه خاتم الملك وعليه طابع من الكرم والمحصول أثر الخاتم والطابع قال
( وقلن حرام قد أحل بربنا ** وتترك أموال عليها الخواتم )
وكذا قول الآخر
( إذا فضت خواتمها وفكت ** يقال لها دم الودج الذبيح )
وأما تقدير الشيخ أبى على في هذين البيتين حذف المضاف وتأويله على معنى وتترك أموال عليها نقش الخواتم وإذا فض ختم خواتمها فبيان لما يقتضيه الكلام في أصله دون أن يكون الأمر على خلاف ما ذكرت من جعل أثر الخاتم خاتماً وأنت إذا نظرت إلى الشعر من جهته الخاصة به وذقته بالحاسة المهيأة لمعرفة طعمه لم تشك في ان الأمر على ما أشرت لك إليه ويدل على أن المضاف قد وقع في المنسأة وصار كالشريعة المنسوخة تأنيث الفعل في قوله
____________________
(1/307)
إذا فضت خواتما ولو كان حكمه باقيا لذكرت الفعل كما تذكره مع الإظهار ولاستقصاء هذا موضع آخر
وينظر إلى هذا المكان قولهم ضربته سوطا لأنهم عبروا عن الضربة التي هي واقعة بالسوط باسمه وجعلوا أثر السوط سوطا ويعلم على ذلك أن تفسيرهم له بقولهم إن المعنى ضربته ضربه بسوط بيان لما كان عليه الكلام في أصله وأن ذلك قد نسى ونسخ وجعل كأن لم يكن فاعرفه
وأما إذا أريد باليد القدرة فهي إذن أحن إلى موضعها الذي بدئت منه واضبت بأصلها لأنك لا تكاد تجدها تراد معها القدرة إلا والكلام مثل صريح ومعنى القدرة منتزع من اليد مع غيرها أو هناك تلويح بالمثل فمن الصريح قولهم فلان طويل اليد يراد فضل القدرة فأنت لو وضعت القدرة ههنا في موضع اليد أحلت كما أنك لو حاولت في قول النبي وقد قالت له نساؤه أيتنا أسرع لحاقا بك يا رسول الله فقال أطولكن يدا يريد السخاء والجود وبسط اليد بالبذل إن تضع موضع اليد شيئا مما أريد بهذا الكلام خرجت عن المعقول وذلك أن الشبه مأخوذ من مجموع الطول واليد مضافا ذلك إلى هذه وطلبه من اليد وحدها طلب الشيء على غير وجهه
ومن الظاهر في كون الشبه مأخوذا ما بين اليد وغيرها قوله تعالى ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) المعنى على أنهم
____________________
(1/308)
أمروا باتباع الأمر فلما كان المتقدم بين يدي الرجل خارجاً عن صفة المتابع له ضرب له جملة هذا الكلام مثلا للأتباع في الأمر فصار النهى عن التقدم متعلقا باليد نهيا عن ترك الأتباع فهذا مما لا يخفى على ذي عقل أنه لا تكون فيه اليد بانفرارها عبارة عن شىء كما يتوهم أنها عبارة عن النعمة ومتناولة لها كالوضع المستأنف حتى عن كأن لو لم تكن قط اسم جارحة وهكذا قول النبي المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم ادناهم وهم يد على من سواهم المعنى وإن كان على قولك وهم عون على من سواهم فلا تقول إن اليد بمعنى العون حقيقة بل المعنى أن مثلهم مع كثرتهم في وجوب الاتفاق بينهم مثل اليد الواحدة فكما لا يتصور أن يخذل بعض أجزاء اليد بعضاً وأن تختلف بها الجهة في التصرف كذلك سبيل المؤمنين في تعاضدهم عل المشركين لأن كلمة التوحيد جامعة لهم فلذلك كانوا كنفس واحدة فهذا كله مما يعترف لك كل أحد فيه بأن اليد على انفرادها لا تقع على شئ فيتوهم لها نقل من معنى إلى معنى على حد وضع الاسم واستئنافه
فأما ما تكون اليد فيه للقدرة على سبيل التلويح بالمثل دون التصريح حتى ترى كثيراً من الناس يطلق القول أنها بمعنى القدرة ويجريها مجرى اللفظ يقع لمعنيين فكقوله تعالى ( ^ والسموات مطويات بيمينه ) تراهم يطلقون أن اليمين بمعنى القدرة ويصلون إليه قول الشماخ
( إذا ما راية رفعت لمجد ** تلقاها عرابة باليمين )
____________________
(1/309)
كما فعل أبو العباس في الكامل فإنه أنشد البيت ثم قال قال أصحاب المعاني معناه بالقوة وقالوا مثل ذلك في قوله تعالى ( ^ والسموات مطويات بيمينه ) وهذا منهم تفسير على الجملة وقصد إلى نفى الجارحة بسرعة خوفاً على السامع من خطرات تقع للجهال وأهل التشبيه جل الله وتعالى عن شبه المخلوقين ولم يقصدوا إلى بيان الطريقة والجهة التي منها يحصل على القدرة والقوة وإذا تأملت علمت أنه على طريقة المثل وكما أنا نعلم في صدر هذه الآية وهو قوله عز وجل ( ^ والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ) أن محصول المعنى على القدرة ثم لا نستجيز ان نجعل القبضة اسماً للقدرة بل نصير إلى القدرة من طريق التأويل والمثل فنقول إن المعنى والله أعلم أن مثل الأرض في تصرفها تحت أمر الله وقدرته وأنه لا يشذ شيء مما فيها عن سلطانه عز وجل مثل الشيء يكون في قبضة الآخذ له مناو الجامع يده عليه كذلك حقنا أن نسلك بقوله ( ^ مطويات بيمينه ) هذا المسلك فكان المعنى والله أعلم انه عز وجل يخلق فيها صفة الطي حتى ترى كالكتاب المطوي بيمين الواحد منكم وخص اليمين لتكون أغلى وأفخم للمثل وإذا كنت تقول الأمر كله لله فتعلم انه على سبيل أن لا سلطان لاحد دونه ولا استبداد وكذلك إذا قلت للمخلوق الأمر بيدك أردت المثل وأن الأمر كالشيء يحصل في يده من حيث لا يمتنع عليه فما معنى التوقف في أن اليمين مثل وليست باسم للقدرة وكاللغة المستأنفة ومن أين يتصور ذلك وأنت لا تراها تصلح حيث لا وجه للمثل والتشبيه فلا يقال هو عظيم اليمين بمعنى عظيم القدرة وقد عرفت يمينك على هذا كما نقول عرفت قدرتك وهكذا شأن البيت إذا حسنت النظر وجدته إذا لم تأخذه من طريق المثل
____________________
(1/310)
ولم تأخذ مجموع المعنى من مجموع التلقي واليمين على حسد قولهم تقبله بكلتا اليدين وكقوله
( ولكن تلقت باليدين ضمانتي ** وحل بفلج والقنافذ عودي )
وقبل هذا البيت
( لعمرك ما ملت ثواء ثويها ** دليجة إذ ألقى مراسى مقعد )
وهو يشكوك إلى طبع الشعر ورأيت المعنى يتألم ويتظلم وإن أردت ان تختبر ذلك فقل
( إذا ما راية رفعت لمجد ** تناولها عرابة باليمين )
ثم انظر هل تجد ما كنت تجد إن كنت ممن يعرف طبع الشعر ويفرق بين التفه الذي لا يكون له طعم وبين الحلو اللذيذ ومما يبين ذلك من جهة العبارة أن الشعر كما تعلم لمدح الرجل بالجود والسخاء لأنه سأل الشماخ عما أقدمه فقال جئت لامتار فأوقر رواحله تمراً وبراً وأتحفه بغير ذلك
وإذا كان كذلك كان المجد الذي تطاول له ومد إليه يده من المجد الذي أراده أبو تمام بقوله
( توجع ان رأت جسمي نحيفا ** كان المجد يدرك بالصراع )
ولو كان في ذكر البأس والبطش وحيث تراد القوة والشدة لكان حمل اليمين على صريح القوة أشبه وبان يقع منه في القلب معنى يتماسك اجدر فإن قال أراد تلقاها بجد وقوة رغبة قيل فينبغي أن يضع اليمين في مثل هذه
____________________
(1/311)
المواضع ومن التزم ذلك فالسكوت عنه أحسن وما زال الناس يقولون للرجل إذا أرادوا حثه على الأمر وان يأخذ فيه بالجد أخرج يدك اليمنى وذاك أنها أشرف اليدين وأقواهما والتي لا غناء للأخرى دونها فلا عنى إنسان بشيء إلا بدأ بيمينه فهيأها لنيله ومتى ما قصدوا جعل الشيء في جهة العناية جعلوه في اليد اليمنى وعلى ذلك قول البحتري
( وإن يدي وقد أسندت أمري ** إليه اليوم في يدك اليمين )
أليه يعنى إلى يونس بن بغا وكان حظياً عند الممدوح وهو المعتز بالله ولو ان قائلا قال
( إذا ما راية رفعت لمجد ** ومكرمة مددت لها اليمينا )
لم تره عادلا باليمين عن الموضع الذي وضعها الشماخ فيه ولو أن هذا التأويل منهم كان في قول سليمان بن قته العدوى
( بنى تيم بن مرة إن ربى ** كفاني أمركم وكفاكمونى )
( فحيوا ما بدا لكم فإنى ** شديد الفرس للضغن الحرون )
( يعانى فقدكم أسد مدل ** شديد الأسر يضبث باليمين )
لكانوا أعذر فيه لأن المدح مدح بالقوة والشدة وعلى ذلك فإن اعتبار الأصل الذي قدمت وهو أنك لا ترى اليمين حيث لا معنى لليد يقف بنا
____________________
(1/312)
على الظاهر كأنه قال إذا ضبث ضبث باليمين
ومما يبين موضع بيت الشماخ إذا اعتبرت به قول الخنساء
( إذا القوم مدوا بأيديهم ** إلى المجد مد إليه يداً )
( فنال الذي فوق أيديهم ** من المجد ثم مضى مصعداً )
إذا رجعت إلى نفسك لم تجد فرقاً بين أن يمد إلى المجد يداً وبين أن يتلقى رايته باليمين وهذا إن أردت الحق أبين من أن تحتاج فيه إلى فضل قول إلا أن هذا الضرب من الغلط كالداء الدوي حقه أن يستقصي في الكي عليه والعلاج منه فجنايته على معاني ما شرف من الكلام عظيمة وهو مادة للمتكلفين في التأويلات البعيدة والأقوال الشنيعة
ومثل من توقف في التفات هذه الأسامى إلى معانيها الأول وظن أنها مقطوعة عنها قطعاً يرفع الصلة بينها وبين ما جازت إليه مثل من إذا نظر في قوله تعالى ( ^ ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ) فرأى المعنى على الفهم والعقل أخذه ساذجا وقلبه غفلا وقال القلب ههنا بمعنى العقل وترك أن يأخذه من جهته ويدخل إلى المعنى من طريق المثل فيقول انه حين لم ينتفع بقلبه ولم يفهم بعد أن كان القلب للفهم جعل كأنه قد عدم القلب جملة وخلع من صدره خلعا كما جعل الذي لا يعي الحكمة ولا يعمل الفكر فيما تدركه عينه وتسمعه أذنه كأنه عادم للسمع والبصر وداخل في العمى والصمم ويذهب عن أن الرجل إذا قال قد غاب عنى قلبي وليس يحضرني قلبي فإنه يريد أن يخيل إلى السامع انه قد فقد قلبه دون أن يقول
____________________
(1/313)
غاب عنى علمي وعزب عقل وإن كان المرجع عند التحصيل إلى ذلك كما انه إذا قال لم أكن ههنا يريد شدة غفلته عن الشيء فهو يضع كلامه على تخييل أنه كان غاب هكذا بجملته وبذاته دون أن يريد الرجل الأخبار بان علمه لم يكن هناك
وغرضي بهذا أن أعلمك أن من عدل عن الطريقة في الخفي أفضى به الأمر إلى أن ينكر الجلي وصار من دقيق الخطأ إلى الجليل ومن بعض الانحراف إلى ترك السبيل والذي جلب التخليط والخبط الذي تراه في هذا الفن أن الفرق بين أن يكون التشبيه مأخوذاً من الشيء وحده وبين أن يؤخذ ما بين شيئين وينتزع من مجموع كلام هو كما عرفتك في الفرق بين الاستعارة والتمثيل من أن من القول ما تدخل فيه الشبهة على الإنسان من حيث لا يعلم وهو من السهل الممتنع يريك أن قد انقاد وبه اباء ويوهمك أن قد أثرت فيه رياضتك وبه بقية شماس
ومن خاصيته أنك لا تفرق فيه بين الموافق والمخالف والمعترف به والمنكر له فانك ترى الرجل يوافقك في الشىء منه ويقر بأنه مثل حتى إذا صار إلى نظير له خلط إما في أصل المعنى وإما في العبارة فالتخليط في المعنى كما مضى من تأول اليمين على القوة وكذكرهم أن القلب في الآية بمعنى العقل ثم عدهم ذلك وجهاً ثانيا والتخليط في العبارة كنحو ما ذكره بعضهم في قوله
( هون عليك فإن الأمور ** بكف الإله مقاديرها )
فإنه استشهد به في تأويل خبر جاء في عظم الثواب على الزكاة إذا كانت
____________________
(1/314)
من الطيب ثم قال الكف ههنا بمعنى السلطان والملك والقدرة قال وقيل الكف ههنا بمعنى النعمة والخبر هو ما رواه أبو هريره عن النبي إن أحدكم إذا تصدق بالتمرة من الطيب ولا يقبل الله إلا الطيب جعل الله ذلك في كفه فيربيها كما يربى أحدكم فلوه حتى يبلغ بالتمرة مثل احد ما يظن بمن نظر في العربية يوماً ان يتوهم أن الكف تكون على هذا الإطلاق وعلى الإنفراد بمعنى السلطان والقدرة والنعمة ولكنه أراد المثل فأساء العبارة إلا أن من سوء العبارة ما أثر التقصير فيه أظهر وضرره على الكلام أبين فاستقصاء هذا الباب لا يتم حتى يفرد بكلام والوجه الرجوع إلى الغرض ويجب أن يعلم قبل ذلك أن خلاف من خالف في اليد واليمين وسائر ما هو مجاز لا من طريق التشبيه الصريح او التمثيل لا يقدح فيما قدمت من حد الحقيقة والمجاز لأنه لا يخرج في خلافه عن واحد من الاعتبارين فمتى جعل اليمين على انفرادها تفيد القوة فقد جعلها حقيقة وأغناها عن أن تستند في دلالتها إلى شيء وإن اعترف بضرب من المجاز إلى الحاجة والنظر إليها فقد وافق في أنها مجاز وكذا القياس في الباب كله فاعرفه
____________________
(1/315)
فصل في المجاز العقلي والمجاز اللغوي والفرق بينهما
والذي ينبغي أن يذكر الآن حد الكلمة في الحقيقة والمجاز إلا أنك تحتاج أن تعرف في صدر القول عليها ومقدمته أصلا وهو المعنى الذي من أجله اختصت الفائدة بالجملة ولم تجز حصولها بالكلمة الواحدة كالاسم الواحد والفعل من غير اسم يضم إليه والعلة في ذلك أن مدار الفائدة في الحقيقة على الإثبات والنفي ألا ترى أن الخبر أول معاني الكلام وأقدمها والذي تستند سائر المعاني إليه وتترتب عليه وهو ينقسم إلى هذين الحكمين وإذا ثبت ذلك فإن الإثبات يقتضي مثبتاً ومثبتا لهً ونحو أنك إذا قلت ضرب زيد أو زيد ضارب فقد أثبت الضرب فعلا أو وصفاً وكذلك النفي يقتضي منفياً ومنفياً عنه فإذا قلت ما ضرب زيد ما زيد ضارب فقد نفيت الضرب عن زيد وأخرجته عن أن يكون فعلا له فلما كان الأمر كذلك احتيج إلى شيئين يتعلق الإثبات والنفي بهما فيكون احدهما مثبتاً والآخر مثبتا له وكذلك يكون أحدهما منفياً والآخر منفياً عنه فكان ذانك الشيئان المبتدأ والخبر والفعل والفاعل وقيل للمثبت وللمنفى مسند وحديث وللمثبت له والمنفى عنه مسند إليه ومحدث عنه وإذا رمت الفائدة أن تحصل لك من الاسم الواحد أو الفعل وحده صرت كأنك تطلب أن يكون الشيء الواحد مثبتا ومثبتاً له ومنفياً ومنفياً عنه وذلك محال
فقد حصل من هذا أن لكل واحد من حكمى الإثبات والنفي حاجة إلى تقييده مرتين وتعلقه بشيئين تفسير ذلك أنك إذا قلت ضرب
____________________
(1/316)
زيد فقد قصدت إثبات الضرب لزيد فقولك إثبات الضرب تقييد للإثبات بإضافته إلى الضرب ثم لا يكفيك هذا التقييد حتى تقيده مرة أخرى فتقول إثبات الضرب لزيد فقولك لزيد تقييد ثان وفى حكم إضافه ثانية وكما لا يتصور أن يكون ههنا إثبات مطلق غير مقيد بوجه أعنى أن يكون إثباتاً ولا مثبت له ولا شىء يقصد بذلك الإثبات إليه لا صفة ولا حكم ولا موهوم بوجه من الوجوه كذلك لا يتصور أن يكون ههنا إثبات مقيد تقييداً واحداً نحو إثبات شىء فقط دون أن تقول إثبات شىء لشيء كما مضى من إثبات الضرب لزيد والنفي بهذه المنزلة فلا يتصور نفى مطلق ولا نفى شيء فقط بل يحتاج إلى قيدين كقولك نفى شيء عن شيء
فهذه هي القضية المبرمة الثابتة التي تزول الراسيات ولا تزول ولا تنظر إلى قولهم فلان يثبت كذا أي يدعى أنه موجود وينفى كذا أي يقضى بعدمه كقولنا أبو الحسن يثبت مثال جحدب بفتح الدال وصاحب الكتاب ينفيه لأن الذي قصدته هو الإثبات والنفي في الكلام
ثم اعلم أن في الإثبات والنفي بعد هذين التقييدين حكما آخر هو كتقييد ثالث وذلك أن للإثبات جهة وكذلك النفي ومعنى ذلك أنك تثبت الشيء للشيء مرة من جهة وأخرى من جهة غير تلك الأولى وتفسيره أنك تقول ضرب زيد فتثبت الضرب فعلا لزيد وتقول مرض زيد فتثبت المرض وصفا له وهكذا سائر ما كان من أفعال الغرائز والطباع وذلك في الجملة على مالا يوصف الإنسان بالقدرة عليه نحو كرم وظرف وحسن وقبح وطال وقصر وقد يتصور في الشيء الواحد أن تثبته من الجهتين
____________________
(1/317)
جميعاً وذلك في كل فعل دل على معنى يفعله الإنسان في نفسه نحو قام وقعد إذا قلت قام زيد فقد أثبت القيام فعلا له من حيث تقول فعل القيام وأمرته بأن يفعل القيام وأثبته أيضا وصفاً له من حيث إن تلك الهيئه موجودة فيه وهو في اكتسابه لها كالشخص المنتصب والشجرة القائمة على ساقها التي توصف بالقيام لا من حيث كانت فاعلة له بل من حيث كان وصفاً موجودا فيهاً
وإذ قد عرفت هذا الأصل فههنا أصل آخر يدخل في غرضنا وهو أن الأفعال على ضربين متعد وغير متعد فالمتعدى على ضربين ضرب يتعدى إلى شيء هو مفعول به كقولك ضربت زيداً زيدا مفعول به لأنك فعلت به الضرب ولم يفعله بنفسه وضرب يتعدى إلى شيء هو مفعول على الإطلاق وهو في الحقيقة كفعل وكل ما كان مثله في كونه عاماً غير مشتق من معنى خاص كصنع وعمل وأوجد وأنشأ ومعنى قولي من معنى خاص انه ليس كضرب الذي هو مشتق من الضرب أو أعلم الذي هو مأخوذ من العلم وهكذا كل ما كان له مصدر ذلك المصدر في حكم جنس من المعاني فهذا الضرب إذا أسند إلى شيء كان المنصوب له مفعول لذلك الشيء على الإطلاق كقولك فعل زيد القيام فالقيام مفعول في نفسه وليس بمفعول به وأحق من ذلك أن تقول خلق الله الأناسى وأنشأ العالم وخلق الموت والحياة المنصوب في هذا كله مفعول مطلق لا تقييد فيه إذ من المحال أن يكون معنى خلق العالم
____________________
(1/318)
فعل الخلق به كما تقول في ضربت زيداً فعلت الضرب بزيد لأن الخلق من خلق كالفعل من فعل فلو جاز أن يكون المخلوق كالمضروب لجاز أن يكون المفعول نفسه كذلك حتى يكون معنى فعل القيام فعل شيئاً بالقيام وذلك من شنيع المحال
وإذ قد عرفت هذا فاعلم أن الإثبات في جميع هذا الضرب أعنى فيما منصوبة مفعول وليس مفعولا به يتعلق بنفس المفعول فإذا قلت فعل زيد الضرب كنت أثبت الضرب فعلا لزيد وكذلك تثبت العالم في قولك خلق الله العالم خلقا لله تعالى ولا يصح في شيء من هذا الباب أن تثبت المفعول وصفا البته وتوهم ذلك خطأ عظيم وجهل نعوذ بالله منه
وأما الضرب الآخر وهو الذي منصوبة مفعول به فإنك تثبت فيه المعنى الذي اشتق منه فعل فعلا للشيء كإثباتك الضرب لنفسك في قولك ضربت زيداً فلا يتصور أن يلحق الإثبات مفعوله لأنه إذا كان مفعولا به ولم يكن فعلا لك استحال أن تثبته فعلا وإثباته وصفا أبعد في الإحالة فأما قولنا في نحو ضربت زيداً أنك أثبت زيداً مضروباً فإن ذلك يرجع إلى انك تثبت الضرب واقعاً به منك فأما أن تثبت ذات زيد لك فلا يتصور لأن الإثبات معنى لا بد له من جهة ولا جهة ههنا وهكذا إذا قلت أحيا الله زيداً كنت في هذا الكلام مثبتاً الحياة فعلا لله تعالى في زيد فأما ذات زيد فلم تثبتها فعلا لله بهذا الكلام وإنما يتأتى لك ذلك بكلام آخر نحو أن تقول خلق الله زيداً وأوجده وما شاكله كله مما لا يشتق
____________________
(1/319)
من معنى خاص كالحياة والموت ونحوهما من المعاني
وإذ قد تقررت هذه المسائل فينبغي أن تعلم أن من حقك إذا أردت أن تقضى في الجملة بمجاز أو حقيقة أن تنظر إليها من جهتين
إحداهما أن تنظر إلى ما وقع بها من الإثبات أهو في حقه وموضعه أم قد زال عن الموضع الذي ينبغي أن يكون فيه
والثانية أن تنظر إلى المعنى المثبت أعنى ما وقع عليه الإثبات كالحياة في قولك أحيا الله زيداً والشيب في قولك أشاب الله رأسي أثابت هو على الحقيقة أم قد عدل به عنها وإذا مثل لك دخول المجاز على الجملة من الطريقين عرفت إثباتها على الحقيقة منها
فمثال ما دخله المجاز من جهة الإثبات دون المثبت قوله
( وشيب أيام الفراق مفارقي ** وأنشرن نفسي فوق حيث تكون )
وقوله
( أشاب الصغير وأفنى الكبير ** كر الغداة ومر العشى )
( المجاز واقع في اثبات الشيب فعلا للأيام ولكر الليالي وهو الذي أزيل عن موضعه الذي ينبغي أن يكون فيه لأن من حق هذا الإثبات أعنى إثبات الشيب فعلا أن لا يكون إلا مع أسماء الله تعالى فليس يصح وجود الشيب فعلا لغير القديم سبحانه وقد وجه في البيتين كما ترى إلى الأيام والليالي وذلك مالا يثبت له فعل بوجه لا الشيب ولا غير الشيب وأما المثبت فلم يقع فيه مجاز لأنه الشيب وهو موجود كما ترى وهكذا إذا قلت سرني الخبر وسرني لقاؤك فالمجاز في الإثبات دون المثبت لان المثبت هو السرور وهو حاصل على حقيقته
ومثال ما دخل المجاز في مثبته دون إثباته قوله عز وجل ( ^ أو من
____________________
(1/320)
كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به في الناس ) وذاك أن المعنى والله أعلم على أن جعل العلم والهدى والحكمة حياة للقلوب على حد قوله ( ^ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) فالمجاز في المثبت وهو الحياة فأما الإثبات فواقع على حقيقته لأنه ينصرف إلى أن الهدى والعلم والحكمة فضل من الله وكائن من عنده ومن الواضح في ذلك قوله عز وجل ( ^ فأحيينا به الأرض بعد موتها ) وقوله ( ^ إن الذي أحياها لمحيى الموتى ) جعل خضرة الأرض ونضرتها وبهجتها بما يظهره الله تعالى فيها من النبات والأنوار والأزهار وعجائب الصنع حياة لها فكان ذلك مجازاً في المثبت من حيث جعل ما ليس بحياة حياة على التشبيه فأما نفس الإثبات فمحض الحقيقة لأنه إثبات لما ضرب الحياة مثلا له فعلا لله تعالى ولا حقيقة أحق من ذلك
وقد يتصور أن يدخل المجاز للجملة من الطريقين جميعا وذلك أن يشبه معنى بمعنى وصفة بصفة فيستعار لهذه اسم تلك ثم تثبت فعلا لما لا يصح الفعل منه أو فعل تلك الصفة فيكون أيضاً في كل واحد من الإثبات والمثبت مجاز كقول الرجل لصاحبه أحيتني رؤيتك يريد آنستني وسرتني ونحوه فقد جعل الأنس والمسرة الحاصلة بالرؤية حياة أولا ثم جعل الرؤية فاعلة لتلك الحياة وشبيه به قول المتنبي
( وتحيى له المال الصوارم والقنا ** ويقتل ما يحيى التبسم والجدا )
جعل الزيادة والوفور حياة في المال وتفريقه في العطاء قتلا ثم أثبت الحياة فعلا للصوارم والقتل فعلا للتبسم مع العلم بأن الفعل لا يصح منهما ونوع منه أهلك الناس الدينار والدرهم جعل الفتنة هلاكا على المجاز ثم أثبت الهلاك فعلا للدينار والدرهم وليسا مما يفعلان فاعرفه
____________________
(1/321)
وإذ قد تبين لك المنهاج في الفرق بين دخول المجاز في الإثبات وبين دخوله في المثبت وبين أن ينتظمهما وعرفت الصورة في الجميع فاعلم أنه إذا وقع في الإثبات فهو متلقي من العقل فإذا عرض في المثبت فهو متلقي من اللغة فإن طلبت الحجة على صحة هذه الدعوى فإن فيما قدمت من القول ما بينها لك ويختصر لك الطريق إلى معرفتها وذلك أن الإثبات إذا كان من شرطه أن يقيد مرتين كقولك إثبات شيء لشيء ولزم من ذلك أن لا يحصل إلا بالجملة التي هي تأليف بين حديث ومحدث عنه ومسند ومسند إليه علمت أن مأخذه العقل وأنه القاضي فيه دون اللغة لأن اللغة لم تأت لتحكم بحكم أو لتثبت وتنفى وتنقض وتبرم فالحكم بأن الضرب فعل لزيد أو ليس بفعل له وأن المرض صفة له أو ليس بصفة له شيء يضعه المتكلم ودعوى يدعيها وما يعترض على هذه الدعوى من تصديق أو تكذيب أو اعتراف أو إنكار وتصحيح أو إفساد فهو اعتراض على المتكلم وليس اللغة في ذلك بسبيل ولا منه في قليل ولا كثير
وإذا كان كذلك كان كل وصف يستحقه هذا الحكم من صحة وفساد وحقيقة ومجاز واحتمال واستحالة فالمرجع فيه والوجه إلى العقل المحض وليس للغة فيه حظ فلا تحلى ولا تمر والعربي فيه كالعجمي والعجمي كالتركي لأن قضايا العقول هن القواعد والأسس التي يبنى غيرها عليها والأصول التي يرد ما سواها إليها
فأما إذا كان المجاز في المثبت كنحو قوله تعالى ( ^ فأحيينا به الأرض ) فإنما كان مأخذه اللغة لأجل أن طريقه المجاز بأن أجرى اسم الحياة على ما ليس بحياة تشبيهاً وتمثيلاً ثم اشتق منها وهى في هذا التقدير الفعل الذي
____________________
(1/322)
هو أحيا واللغة هي التي اقتضت أن تكون الحياة اسماً للصفة التي هي ضد الموت فإذا تجوز في الاسم فأجرى على غيرها فالحديث مع اللغة فاعرفه
إن قال قائل في أصل الكلام الذي وضعته على أن المجاز يقع تارة في الإثبات وتارة في المثبت وأنه إذا وقع في الإثبات فهو طالع عليك من جهة العقل وبادلك من أفقه وإذا عرض في المثبت فهو آتيك من ناحية اللغة ما قولكم إن سويت بين المسألتين وادعيت أن المجاز بينهما جميعاً في المثبت وأنزل هكذا فأقول الفعل الذي هو مصدر فعل قد وضع في اللغة للتأثير في وجود الحادث كما أن الحياة موضوعة للصفة المعلومة فإذا قيل فعل الربيع النور جعل تعلق النور في الوجود بالربيع من طريق السبب والعادة فعلا كما تجعل خضرة الأرض وبهجتها حياة والعلم في قلب المؤمن نوراً وحياة وإذا كان كذلك كان المجاز في أن جعل ما ليس بفعل فعلا وأطلق اسم الفعل على غير ما وضع له في اللغة كما جعل ما ليس بحياة حياة وأجرى اسمها عليه فإذا كان ذلك مجازاً لغوياً فينبغي أن يكون هذا كذلك
فالجواب أن الذي يدفع هذه الشبهة أن تنظر إلى مدخل المجاز في المسألتين فإن كان مدخلهما من جانب واحد فالأمر كما ظننت وإن لم يكن كذلك استبان لك الخطأ في ظنك والذي يبين اختلاف دخوله فيهما أنك تحصل على المجاز في مسألة الفعل بالإضافة لا بنفس الاسم فلو قلت اثبت النور فعلا لم تقع في مجاز لانه فعل لله تعالى وإنما تصير إلى المجاز إذا قلت اثبت النور فعلا للربيع وأما في مسألة الحياة فإنك تحصل على المجاز بإطلاق الاسم فحسب من غير إضافة
____________________
(1/323)
وذلك قولك اثبت بهجة الأرض حياة أو جعلها حياة أفلا ترى المجاز قد ظهر لك في الحياة من غير أن أضفتها إلى شيء أي من غير أن قلت لكذا وهكذا إذا عبرت بالنفي تقول في مسألة الفعل جعل ما ليس بفعل للربيع فعلا له وتقول في هذه جعل ما ليس بحياة حياة وتسكت ولا تحتاج أن تقول جعلت ما ليس بحياة للأرض حياة للأرض بل لا معنى لهذا الكلام لأنه يقتضي أنك أضفت حياة حقيقة إلى الأرض وجعلتها مثلا تحيا بحياة غيرها وذلك بين الإحالة ومن حق المسائل الدقيقة أن تتأمل فيها العبارات التي تجرى بين السائل والمجيب وتحقق فإن ذلك يكشف عن الغرض ويبين جهة الغلط وقولك جعل ما ليس بفعل فعلا احتذاءاً لقولنا جعل ما ليس بحياة حياة لا يصح لأن معنى هذه العبارة أن يراد بالاسم غير معناه لشبه يدعى أو شيء كالشبه لا أن يعطل الاسم من الفائدة فيراد بها ما ليس بمعقول فنحن إذا تجوزنا في الحياة فأردنا بها العلم فقد اودعنا الاسم معنى وأردنا به صفة معقولة كالحياة نفسها ولا يمكنك أن تشير في قولك فعل الربيع النور إلى معنى تزعم أن لفظ الفعل ينقل عن معناه إليه فيراد به حتى يكون ذلك المعنى معقولا منه كما عقل التأثير في الوجود وحتى تقول لم أرد به التأثير في الوجود ولكن أردت المعنى الفلانى الذي هو شبيه به أو كالشبيه أو ليس بشبيه مثلا إلا انه معنى خلف معنى آخر على الاسم إذ ليس وجود النور بعقب المطر أو في زمان دون زمان فما يعطيك معنى في المطر أو في الزمان فتؤديه بلفظ الفعل فليس إلا أن نقول لما كان النور لا يوجد إلا بوجود الربيع توهم للربيع تأثير في وجوده فاثبت له ذلك اثبات الحكم أو الوصف لما ليس له قضية عقلية لا تعلق لها في صحة وفساد باللغة فاعرفه
____________________
(1/324)
ومما يجب ضبطه في هذا الباب أن كل حكم يجب في العقل وجوبا حتى لا يجوز خلافه فإضافته إلى دلالة اللغة وجعله مشروطاً فيها محال لأن اللغة تجرى مجرى العلامات والسمات ولا معنى للعلامة والسمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلا عليه وخلافه فإنما كانت ما مثلا علما للنفي لأن ههنا نقيضاً له وهو الإثبات وهكذا إنما كانت من لما يعقل لأن ههنا مالا يعقل فمن ذهب يدعى أن في قولنا فعل وصنع ونحوه دلالة من جهة اللغة على القادر فقد أساء من حيث قصد الإحسان لأنه والعياذ بالله يقتضي جواز أن يكون ههنا تأثير في وجود الحادث لغير القادر حتى يحتاج إلى تضمين اللفظ الدلالة على اختصاصه بالقادر وذلك خطأ عظيم فالواجب أن يقال الفعل موضوع للتأثير في وجود الحادث في اللغة والعقل قد قضى وبت الحكم بأن لا حظ في هذا التأثير لغير القادر وما يقوله أهل النظر من أن من لم يعلم الحادث موجوداً من جهة القادر عليه فهو لم يعلمه فعلا لا يخالف هذه الجملة بل لا يصح حق صحته إلا مع اعتبارها وذلك أن الفعل إذا كان موضوعاً للتأثير في وجود الحادث وكان العقل قد بين بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة استحالة أن يكون لغير القادر تأثير في وجود الحادث وأن يقع شيء مما ليس له صفة القادر فمن ظن الشىء واقعا من غير القادر فهو لم يعلمه فعلا لأنه لا يكون مستحقاً هذا الاسم حتى يكون واقعاً من غيره ومن نسب وقوعه إلى مالا يصح وقوعه منه ولا يتصور أن يكون له تأثير في وجوده وخروجه من العدم فلم يعلمه واقعاً من شيء البتة وإذا لم يعلمه واقعاً من شيء لم يعلمه فعلا كما أنه إذا لم يعلمه كائناً بعد إن لم يكن لم يعلمه واقعاً ولا حادثاً فاعرفه
____________________
(1/325)
واعلم أنك إن أردت أن ترى المجاز وقد وقع في نفس الفعل والخلق ولحقهما من حيث هما لا اثباتهما وإضافتهما فالمثال في ذلك قولهم في الرجل يشفى على هلكة ثم يتخلص منها هو إنما خلق الآن وإنما أنشىء اليوم وقد عدم ثم انشىء نشأة ثانية وذلك أنك تثبت ههنا خلقاً وإنشاء من غير أن يعقل ثابتاً على الحقيقة بل على تأويل وتنزيل وهو إن جعلت حالة اشفائه على الهلكة عدماً وفناء وخروجاً من الوجود حتى أنتج هذا التقدير أن يكون خلاصه منها ابتداء وجود وخلقا وإنشاء أفيمكنك أن تقول في نحو فعل الربيع النور بمثل هذا التأويل فتزعم أنك أثبت فعلا وقع على النور من غير أن كان ثم فعل ومن غير أن يكون النور مفعولا أو هو مما يتعوذ بالله منه وتقول الفعل واقع على النور حقيقة وهو مفعول مجهول على الصحة إلا أن حق الفعل فيه أن يثبت لله تعالى وقد تجوز بإثباته للربيع أفليس قد بان أن التجوز ههنا في إثبات الفعل للربيع لا في الفعل نفسه فإن التجوز في مسئله المتخلص من الهلكة حيث قلت إنه خلق مرة ثانية في الفعل لا في إثباته فلك كيف نظرت فرق بين المجاز في الإثبات وبينه في المثبت وينبغى أن تعلم أن قولى في المثبت مجاز ليس مرادي أن فيه مجازاً من حيث هو مثبت ولكن المعنى أن المجاز في نفس الشيء الذي تناوله الإثبات نحو إنك أثبت الحياة صفة للأرض في قوله تعالى ( ^ يحيى الأرض بعد موتها ) والمراد غيرها فكان المجاز في نفس الحياة لا في إثباتها هذا وإذا كان لا يتصور إثبات شيء لا لشيء استحال أن يوصف المثبت من حيث هو مثبت بأنه مجاز أو حقيقة
ومما ينتهي في البيان إلى الغاية أن يقال للسائل هبك تغالطنا بان
____________________
(1/326)
مصدر فعل نقل أولا عن موضوعة في اللغة ثم اشتق منه فقل لنا ما نصنع بالأفعال المشتقة من معاني خاصة كنسج وصاغ ووشى ونقش أتقول إذا قيل نسج الربيع وصاغ الربيع ووشى أن المجاز في مصادر هذه الأفعال التي هي النسج والوشى والصوغ أم تعرف أنه في إثباتها فعلا للربيع وكيف تقول إن في أنفسها مجازاً وهى موجودة بحقيقتها بل ماذا يغنى عنك دعوى المجاز فيها لو أمكنك ولا يمكنك أن تقتصر عليها في كون الكلام مجازاً أعنى لا تملك أن تقول إن الكلام مجاز من حيث لم يكن إئتلاف تلك الأنوار نسجاً ووشياً وتدع حديث نسبتها إلى الربيع جانباً هذا وههنا مالا وجه لك لدعوى المجاز في صدور الفعل كقولك سرني الخبر فإن السرور بحقيقته موجود والكلام مع ذلك مجاز وإذا كان كذلك علمنا ضرورة أن ليس المجاز إلا في إثبات السرور فعلا للخير وإيهام أنه اثر في حدوثه وحصوله ويعلم كل عاقل أن المجاز لو كان من طريق اللغة لجعل ما ليس بالسرور سرورا فأما الحكم بأنه فعل للخير فلا يجرى في وهم أنه يكون من اللغة بسبيل فاعرفه
فإن قال النسج فعل معنى وهو المضامة بين الأشياء وكذلك الصوغ فعل الصورة في الفضة ونحوها وإذا كان كذلك قدرت أن لفظ الصوغ مجاز من حيث دل على الفعل والتأثير في الوجود حقيقة من حيث دل على الصورة كما قدرت حيا الله الأرض أن أحيا من حيث دل على معنى فعل حقيقة ومن حيث دل على الحياة مجاز قيل ليس لك أن تجيء إلى لفظ امرين فتفرق دلالته وتجعله منقولا عن أصله في احدهما دون الآخر لو جاز هذا لجاز أن تقول في اللطم الذي هو ضرب باليد أن
____________________
(1/327)
يجعل مجازاً من حيث هو ضرب وحقيقة من حيث هو باليد وذلك محال لأن كون الضرب باليد لا ينفصل عن الضرب فكذلك كون الفعل فعل للصورة لا ينفصل عن الصورة وليس الأمر كذلك في قولنا احيا الله الأرض لأن معنا هناك لفظين أحدهما مشتق وهو أحيا والآخر مشتق منه وهو الحياة فنحن نقدر في المشتق منه أنه نقل عن معناه الأصلي في اللغة إلى معنى آخر ثم اشتق منه أحيا بعد هذا التقدير ومعه وهو مثل لفظ اليد ينقل إلى النعمة ثم يشتق منه يديت فاعرفه
ومما يجب أن يعلم في هذا الباب أن الإضافة في الاسم كالإسناد في الفعل فكل حكم يجب في إضافة المصدر من حقيقة أو مجاز فهو واجب في إسناد الفعل فانظر الآن إلى قولك أعجبني وشى الربيع الرياض وصوغه تبرها وحوكه ديباجها هل تعلم لك سبيلا في هذه الإضافات إلى التعلق باللغة وأخذ الحكم عليها منها أم تعلم امتناع ذلك عليك وكيف والإضافة لا تكون حتى تستقر اللغة ويستحيل أن يكون للغة حكم في الإضافة ورسم حتى يعلم بها أن حق الاسم أن يضاف إلى هذا دون ذلك وإذا عرفت ذلك في هذه المصادر التي هي الصوغ والوشى والحوك فضع مصدر فعل الذي هو عمدتك في سؤالك وأصل شبهتك موضعها وقل ما ترى إلى فعل الربيع لهذه المحاسن ثم تأمل هل تجد فصلا بين إضافته وإضافة تلك فإذا لم تجد الفصل البتة فاعلم صحة قضيتنا وانفض يدك بمسئلتك ودع النزاع عنك وإلى الله تعالى الرغبة في التوفيق
____________________
(1/328)
فصل
قال أبو القاسم الآمدى في قول البحتري
( فصاغ ما صاغ من تبر ومن ورق ** وحاك ما حاك من وشى وديباج )
صوغ الغيث وحوكه النبات ليس باستعارة بل هو حقيقة ولذلك لا يقال هو صائغ ولا كأنه صائغ وكذلك لا يقال حائك وكأنه حائك على أن لفظة حائك خاصة في غاية الركاكة إذا أخرج على ما أخرجه عليه أبو تمام في قوله
( إذا الغيث غادى نسجه خلت أنه ** خلت حقب حرس له وهو حائك )
وهذا قبيح جداً والذي قاله البحتري وحاك ما حاك حسن مستعمل فانظر ما بين الكلامين لتعلم ما بين الرجلين
قد كتبت هذا الفصل على وجهه والمقصود منه منعه أن تطلق الاستعارة على الصوغ والحوك وقد جعلا فعلا للربيع واستدلاله على ذلك بامتناع أن يقال وكأنه صائغ حائك اعلم أن هذا الاستدلال كأحسن ما يكون إلا أن الفائدة تتم بأن تبين جهته ومن أين كان كذلك
____________________
(1/329)
والقول فيه أن التشبيه كما لا يخفى يقتضي شيئين مشبها ومشبها به ثم ينقسم إلى الصريح وغير الصريح فالصريح أن تقول كان زيداً الأسد فتذكر كل واحد من المشبه والمشبه به باسمه وغير الصريح أن تسقط المشبه به من الذكر وتجرى اسمه على المشبه كقولك رأيت اسداً تريد رجلا شبيها بالأسد إلا أنك تغير اسمه مبالغة وإيهاما أن لا تصل بينه وبين الأسد وأنه قد استحال إلى الأسديه فإذا كان الأمر كذلك وأنت تشبه شخصاً بشخص فإنك إذا شبهت فعلا بفعل كان هذا حكمه فأنت تقول مرة كان تزيينه لكلامه نظم در فتصرح بالمشبهه والمشبه به وتقول اخرى إنما ينظم دراً تجعله كأنه ناظم درا على الحقيقة وتقول في وصف الفرس كان سيره سباحة وكأن جريه طيران طائر هذا إذا صرحت وإذا أخفيت واستعرت قلت يسبح براكبه ويطير بفارسه فتجعل حركته سباحة وطيرانا
ومن لطيف ذلك ما كان كقول أبى دلامة يصف بغلته
( أرى الشهباء تعجن إذ غدونا ** برجليها وتخبز باليمين )
شبه حركة رجليها حين لم تثبتا على موضع تعتمد بهما عليه وهوتا ذاهبين نحو يديها بحركة يدي العاجن فإنه لا يثبت اليد في موضع بل نزلها إلى قدام وتزول من عند نفسها لرخاوة العجين وشبه حركة يديها بحركة يد الخابز من حيث كان الخابز يثنى يده نحو بطنه ويحدث فيها ضرباً من التقويس كما يجد في يد الدابة إذا اضطربت في سيرها ولم تقف على ضبط يديها وأن ترمى بها إلى قدام وان تشد اعتمادها حتى تثبت في الموضع الذي تقع عليه فلا تزل عنه ولا تنثني واعود إلى المقصود
____________________
(1/330)
فإذا كان لا تشبيه حتى يكون معك شيئان وكان معنى الاستعارة أن تغير لفظ المشبه بلفظ المشبه به ولم يكن معنا في صاغ الربيع أو حاك الربيع إلا شيء واحد وهو الصوغ أو الحوك كان تقدير الاستعارة فيه محالا جاريا مجرى أن يشبه الشيء بنفسه وتجعل اسمه عارية فيه وذلك بين الفساد فإن قلت أليس الكلام على الجملة معقوداً على تشبيه الربيع بالقادر في تعلق وجود الصوغ والنسج به فكيف لم يجز دخول كأن في الكلام من هذه الجهة فإن هذا التشبيه ليس هو التشبيه الذي يعقد في الكلام ويفاد بكأن والكاف ونحوهما وإنما هو عبارة عن الجهة التي راعاها المتكلم حين أعطى الربيع حكم القادر في إسناد الفعل إليه ووزانه وزان قولنا إنهم يشبهون ما بليس فيرفعون بها المبتدأ وينصبون بها الخبر فيقولون ما زيد منطلقا فنخبر عن تقدير قدروه في نفوسهم وجهة راعوها في إعطاء ما حكم ليس في العمل فكما لا يتصور أن يكون قولنا ما زيد منطلقا تشبيها على حد كأن زيدا الأسد كذلك لا يكون صاغ الربيع من التشبيه فكلامنا إذن في تشبيه منقول منطوق به وأنت في تشبيه معقول غير داخل في النطق هذا وإن يكن ههنا تشبيه فهو في الربيع لا في الفعل المسند إليه واختلافنا في صاغ وحاك هل يكون تشبيهاً واستعارة أم لا فلا يلتقي التشبيهان أو يلتقي المشئم والمعرق
وهذا هو القول على الجملة إذا كانت حقيقة او مجازا وكيف وجه الحد فيها فكل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل وواقع موقعه فهي حقيقة ولن تكون كذلك حتى تعرى من التأول ولا فصل
____________________
(1/331)
بين أن تكون مصيباً فيما أفدت بها من الحكم أو مخطئاً وصادقاً أو غير صادق فمثال وقوع الحكم المفاد موقعه من العقل على الصحة واليقين والقطع قولنا خلق الله تعالى الخلق وانشأ العالم واوجد كل موجود سواه فهذه من أحق الحقائق وأرسخها في العقول واقعدها نسباً في المعقول والتي إن رمت أن تغيب عنها غبت عن عقلك ومتى هممت بالتوقف في ثبوتها استولى النفي على معقولك ووجدتك كالمرمى به من حالق إلى جيث لا مقر لقدم ولا مساغ لتأخر وتقدم كما قال اصدق القائلين جلت اسماؤه وعظمت كبرياؤه ( ^ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق )
واما مثال ان توضع الجماة على أن الحكم المفاد بها واقع موقعه من العقل وليس كذلك إلا انه صادر عن اعتقاد فاسد وظن كاذب فمثل ما يجيء في التنزيل من الحكاية عن الكفار نحو ( ^ وما يهلكنا إلا الدهر ) فهذا ونحوه من حيث لم يتكلم به قائله على انه متاول بل اطلقه بجهله وعماه إطلاق من يضع الصفة في موضعها لا يوصف بالمجاز ولكن يقال عند قائله إنه حقيقة وهو كذب وباطل وإثبات لما ليس بثابت أو نفى لما ليس بمنتف وحكم لا يصححه العقل في الجملة بل يرده ويدفعه إلا أن قائله جهل مكان الكذب والبطلان فيه أو جحد وباهت
ولا يتخلص لك الفصل بين الباطل وبين المجاز حتى تعرف حد المجاز وحده أن كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه في العقل لضرب من التأول فهي مجاز ومثاله ما مضى من قولهم فعل الربيع وكما جاء في الخبر
____________________
(1/332)
إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم قد أثبت الانبات للربيع
____________________
(1/333)
وذلك خارج عن موضعه من العقل لأن إثبات الفعل لغير القادر لا يصح
____________________
(1/334)
في قضايا العقول إلا أن ذلك على سبيل التأول وعلى العرف الجاري بين الناس ان يجعلوا الشيء إذا كان سبباً أو كالسبب في وجود الفعل من فاعله كأنه فاعل فلما أجرى الله سبحانه العادة وانفذ القضية أن تورق الأشجار وتظهر الأنوار وتلبس الأرض ثوب شبابها في زمان الربيع صار يتوهم في ظاهر الأمر ومجرى العادة كأن لوجود هذه الأشياء حاجة إلى الربيع فأسند الفعل إليه على هذا التأويل والتنزيل
وهذا الضرب من المجاز كثير في القرآن فمنه قوله تعالى ( ^ تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ) وقوله عز اسمه ( ^ وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ) وفى الأخرى ( ^ فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً ) وقوله ( ^ وأخرجت الأرض أثقالها ) وقوله عز وجل ( ^ حتى إذا أقلت سحاباً ثقالا سقناه لبلد ميت ) أثبت الفعل في جميع ذلك لما لا يثبت له فعل إذا رجعنا إلى المعقول على معنى السبب وإلا فمعلوم أن النخلة ليست تحدث الأكل ولا الآيات توجد العلم في قلب السامع لها ولا الأرض تخرج الكامن في بطنها من الأثقال ولكن إذا حدثت فيها الحركة بقدرة الله ظهر ما كنز فيها واودع جوفها وإذا ثبت ذلك فالمبطل والكاذب لا يتأول في إخراج الحكم عن موضعه واعطائه غير المستحق ولا يشبه كون المقصود سبباً بكون الفاعل فاعلا بل يثبت القضية من غير أن ينظر فيها من شيء إلى شيء ويرد فرعا إلى أصل وتراه أعمى أكمه يظن مالا يصح صحيحا وما لا يثبت ثابتاً وما ليس في موضعه من الحكم موضوعاً موضعه وهكذا المتعمد للكذب يدعى أن الأمر على ما وضعه تلبيساً وتمويهاً وليس هو من التأول
والنكتة أن المجاز لم يكن مجازاً لأنه إثبات الحكم لغير مستحقه بل لأنه
____________________
(1/335)
أثبث لما لا يستحق تشبيهاً ورداً له إلى ما يستحق وانه ينظر من هذا إلى ذاك وإثباته ما أثبت للفرع الذي ليس بمستحق يتضمن الإثبات للأصل الذي هو المستحق فلا يتصور الجمع بين شيئين في وصف أو حكم من طريق التشبيه والتأويل حتى يبدأ بالأصل في إثبات ذلك الوصف والحكم له
ألا تراك لا تقدر على أن تشبه الرجل بالأسد في الشجاعة ما لم تجعل كونها من أخص اوصاف الأسد وأغلبها عليه نصب عينيك وكذلك لا يتصور أن يثبت المثبت الفعل للشيء على انه سبب ما لم ينظر إلى ما هو راسخ في العقل من أن لا فعل على الحقيقة إلا للقادر لأنه لو كان نسب الفعل إلى هذا السبب نسبة مطلقة لا يرجع فيها إلى حكم القادر والجمع بينهما من حيث تعلق وجوده بهذا السبب من طريق العادة كما يتعلق بالقادر من طريق الوجوب لما اعترف بأنه سبب ولا ادعى انه أصل بنفسه مؤثر في وجود الحادث كالقادر وإن تجاهل متجاهل فقال بذلك على ظهور الفضيحة وإسراعها إلى مدعيه كان الكلام عنده حقيقة ولم يكن من مسئلتنا في شىء ولحق بنحو قول الكفار وما يهلكنا إلا الدهر وليس ذلك المقصود في مسئلتنا لأن الغرض ههنا ما وضع فيه الحكم واضعه على طريق التأول فاعرفه
ومن أوضح ما يدل على أن إثبات الفعل للشيء لأنه سبب يتضمن إثباته للمسبب من حيث لا يتصور دون تصوره ان تنظر إلى الأفعال المسندة إلى الأدوات والآلات كقولك قطع السكين وقتل السيف فإنك تعلم انه لا يقع في النفس من هذا الإثبات صورة ما لم تنظر إلى إثبات الفعل لمعمل الأداة والفاعل بها فلو فرضت أن لا يكون ههنا قاطع بالسكين
____________________
(1/336)
ومصرف لها أعناك أن تعقل من قولك قطع السكين معنى بوجه من الوجوه وهذا من الوضوح بحيث لا يشك عاقل فيه و هذه الأفعال المسندة إلى من تقع تلك الأفعال بأمره كقولك ضرب الأمير الدراهم و بنى السور لا تقوم في نفسك صورة لإثبات الضرب والبناء فعلا للأمير بمعنى الأمر به حتى تنظر إلى ثبوتهما للمباشر لهما على الحقيقة والأمثلة في هذا المعنى كثيرة تتلقاك من كل جهة وتجدها أنى شئت
واعلم انه لا يجوز الحكم على الجملة بأنها مجاز إلا بأحد أمرين فأما أن يكون الشيء الذي أثبت له الفعل مما لا يدعى أحد من المحقين والمبطلين أنه مما يصح أن يكون له تأثير في وجود المعنى الذي أثبت له وذلك نحو قول الرجل محبتك جاءت بي إليك وكقول عمرو بن العاص في ذكر الكلمات التي استحسنها هن مخرجاتي من الشام فهذا مالا يشتبه على أحد انه مجاز واما أنه يكون قد علم من اعتقاد المتكلم أنه لا يثبت الفعل إلا للقادر وأنه ممن لا يعتقد الاعتقادات الفاسدة كنحو ما قاله المشركون وظنوه من ثبوت الهلاك فعلا للدهر فإذا سمعنا نحو قوله
( أشاب الصغير وأفنى الكبي ** ر كر الغداة ومر العشى )
وقول أبي الأصبع
( اهلكنا الليل والنهار معاً ** والدهر يغدو مصمماً جذعا )
كان طريق الحكم عليه بالمجاز أن تعلم اعتقاد التوحيد إما بمعرفة أحوالهم
____________________
(1/337)
السابقة أو بان تجد في كلامهم من بعد إطلاق هذا النحو ما يكشف عن قصد المجاز فيه كنحو ما صنع أبو النجم فإنه قال أولا
( قد أصبحت أم الخيار تدعى ** على ذنباً كله لم أصنع )
( من أن رأت رأسي كرأس الأصلع ** ميز عنه قنزعاً عن قنزع )
( مر الليالي ابطىء او أسرعي ** )
فهذا على المجاز وجعل الفعل لليالي ومرورها إلا أنه خفي غير بادى الصفحة ثم فسر وكشف عن وجه التأول وأفاد أنه بنى أول كلامه على التخيل فقال
( أفناه قيل الله للشمس أطلعي ** حتى إذا وأراك أفق فأرجعي )
فبين أن الفعل لله وانه المعيد والمبدىء والمنشىء والمفنى لأن المعنى في قيل الله أمر الله وإذ جعل الفناء بأمره فقد صرح بالحقيقة وبين ما كان عليه من الطريقة
واعلم أنه لا يصح أن يكون قول الكفار وما يهلكنا إلا الدهر من باب التأويل والمجاز وان يكون الإنكار عليهم من جهة ظاهر اللفظ وان فيه إيهاماً للخطأ كيف وقد قال تعالى بعقب الحكاية عنهم ( ^ وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ) والمتجوز أو المخطىء في العبارة لا يوصف بالظن إنما الظان من يعتقد أن الأمر على ما قاله وكما يوجبه ظاهر كلامه وكيف يجوز أن يكون الإنكار من طريق إطلاق اللفظ دون إثبات الدهر فاعلاً للهلاك وأنت ترى في نص القرآن ما جرى فيه اللفظ على إضافة فعل
____________________
(1/338)
الهلاك إلى الريح مع استحالة أن تكون فاعلة وذلك قوله عز وجل ( ^ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته ) وأمثال ذلك كثير
ومن قدح في المجاز وهم أن يصفه بغير الصدق فقد خبط خبطاً عظما وتهدف لما لا يخفى ولو لم يجب البحث عن حقيقة المجاز والعناية به حتى تحصل ضروبه وتضبط أقسامه إلا للسلامة من مثل هذه المقالة والخلاص مما نحا نحو هذه الشبهة لكان من حق العاقل أن يتوفر عليه ويصرف العناية إليه فكيف وبطالب الدين حاجة ماسة إليه من جهات يطول عدها وللشيطان من جانب الجهل به مداخل خفية يأتيهم منها فيسرق دينهم من حيث لا يشعرون ويلقيهم في الضلالة من حيث ظنوا انهم يهتدون وقد اقتسمه البلاء فيه من جانبي الإفراط والتفريط فمن مغرور مغرى بنفيه دفعة والبراءة منه جملة يشمئز من ذكره وينبو عن اسمه يرى أن لزوم الظواهر فرض لازم وضرب الخيام حولها حتم واجب وآخر يغلو فيه ويفرط ويتجاوز حده ويخبط فيعدل عن الظاهر والمعنى عليه ويسوم نفسه التعمق في التأويل ولا سبب يدعو إليه
أما التفريط فما تجد عليه قوماً نحو قوله تعالى ( ^ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ) وقوله ( ^ وجاء ربك والرحمن على العرش استوى ) وأشباه ذلك من النبو عن أقوال أهل التحقيق فإذا قيل لهم إن الإتيان والمجيء انتقال من مكان إلى مكان وصفة من صفات الأجسام وأن الاستواء إن حمل على ظاهره لم يصح إلا في جسم يشغل حيزاً ويأخذ مكاناً والله عز وجل خالق الأماكن والأزمنة ومنشىء كل ما تصح عليه الحركة والنقلة
____________________
(1/339)
والتمكن والسكون والانفصال والاتصال والمماسة والمحاذاة وان المعنى على ( ^ إلا أن يأتيهم أمر الله وجاء أمر ربك ) وأن حقه أن يعبر بقوله تعالى ( ^ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ) وقول الرجل آتيك من حيث لا تشعر يريد أنزل بك المكروه وأفعل ما يكون جزاء لسوء صنيعك في حال غفلة منك ومن حيث تأمن حلوله بك وعلى ذلك قوله
( أتيناهم من أيمن الشق عندهم ** ويأتي الشقي الحين من حيث لا يدرى ) جنبيه
نعم إذا قلت ذلك للواحد منهم رأيته إن أعطاك الوفاق بلسانه فبين جنبيه قلب يتردد في الحيرة ويتقلب ونفس تفر من الصواب وتهرب وفكر واقف لا يجيء ولا يذهب يحضره الطبيب بما يبرئه من دائه ويريه المرشد وجه الخلاص من عنائه ويأبى إلا نفاراً عن العقل ورجوعاً إلى الجهل لا يحضره التوفيق بقدر ما يعلم به أنه إذا كان لا يجرى في قوله تعالى ( ^ واسئل القرية ) على الظاهر لأجل علمه أن الجماد لا يسأل مع أنه لو تجاهل متجاهل فادعى أن الله تعالى خلق الحياة في تلك القرية حتى عقلت السؤال وأجابت عنه ونطقت لم يكن قال قولا يكفر به ولم يزد على شيء يعلم كذبه فيه فمن حقه أن لا يجثم ههنا على الظاهر ولا يضرب الحجاب دون سمعة وبصره حتى لا يعى ولا يراعى مع ما فيه إذا أخذ على ظاهره من التعرض للهلاك والوقوع في الشرك
فأما الإفراط فيما يتعاطاه قوم يحبون الإعراب في التأويل ويحرصون
____________________
(1/340)
على تكثير الوجوه وينسون أن احتمال اللفظ شرط في كل ما يعدل به عن الظاهر فهم يستكرهون الألفاظ على الأمثلة من المعاني يدعون السليم من المعنى إلى السقيم ويرون الفائدة حاضرة وقد ابدت صفحتها وكشفت قناعها فيعرضون عنها حباً للتشوف وقصداً إلى التمويه وذهاباً في الضلالة
وليس القصد ههنا بيان ذلك فأذكر أمثلته على أن كثيراً من هذا الفن يرغب عن ذكره لسخفه وإنما غرضي بما ذكرت أن أريك عظم الآفة على الجهل بحقيقة المجاز وتحصيله وإن الخطأ فيه مورط صاحبه وفاضح له ومسقط قدره وجاعله ضحكة يتفكه به وكاسيه عاراً يبقى على وجه الدهر وفي مثل هذا قال رسول الله يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وليس حمله روايته وسرد ألفاظه بل العلم بمعانيه ومخارجه وطرقه ومناهجه والفرق بين الجائز والممتنع والمنقاد المصحب والنافي النافر
وأقل ما كان ينبغي أن تعرفه الطائفة الأولى وهم المنكرون للمجاز أن التنزيل كما لم يقلب اللغة في اوضاعها المفردة عن أصولها ولم يخرج الألفاظ عن دلالتها وان شيئاً من ذلك إن زيد إليه ما لم يكن قبل الشرع يدل عليه أو ضمن ما لم يتضمنه أتبع ببيان من عند النبي وذلك كبيانه
____________________
(1/341)
للصلاة والحج والزكاة والصوم كذلك لم يقض بتبديل عادات أهلها ولم ينقلهم عن أساليبهم وطرقهم ولم يمنعهم ما يتعارفونه من التشبيه والتمثيل والحذف والاتساع وكذلك كان من حق الطائفة الأخرى أن تعلم أنه عز وجل لم يرض لنظم كتابه الذي سماه هدى وشفاء ونوراً وضياء وحياة تحيا بها القلوب وروحاً تنشرح عنه الصدور ما هو عند القوم الذين خوطبوا به خلاف البيان وفى حد الإغلاق والبعد من التبيان وأنه تعالى لم يكن ليعجز بكتابه من طريق الإلباس والتعمية كما يتعاطاه الملغز من الشعراء والمحاجي من الناس كيف وقد وصفه بأنه عربي مبين
هذا وليس التعسف الذي يرتكبه بعض من يجهل التأويل من جنس ما يقصده أصحاب الألغاز والأحاجي بل هو شيء يخرج عن كل طريق ويباين كل مذهب وإنما هو سوء نظر منهم ووضع الشيء في غير موضعه وإخلال بالشريطة وخروج عن القانون وتوهم أن المعنى إذا دار في نفوسهم وعقل من تفسيرهم فقد فهم من لفظ المفسر وحتى كان الألفاظ تنقلب عن سجيتها وتزول عن موضوعها فتحمل ما ليس من شأنها أن تحتمله وتؤدى مالا يوجب حكمها ان تؤديه ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ( هذا كلام في ذكر المجاز وفى بيان معناه وحقيقته ) وفيه بيان المنقول والمشترك والمجاز المرسل وعلاقته
المجاز مفعل من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه وإذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة وصف بأنه مجاز على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولا
____________________
(1/342)
ثم اعلم بعد أن في إطلاق المجاز على اللفظ المنقول عن أصله شرطاً وهو أن يقع نقله على وجه لا يعرى معه من ملاحظة الأصل ومعنى الملاحظة أن الاسم يقع لما تقول انه مجاز فيه بسبب بينه وبين الذي تجعله حقيقة فيه نحو أن اليد تقع للنعمة وأصلها الجارحة لأجل أن الاعتبارات اللغوية تتبع أحوال المخلوقين وعاداتهم وما يقتضيه ظاهر البنية وموضوع الجبلة ومن شان النعمة أن تصدر عن اليد ومنها تصل إلى المقصود بها والموهونة هي منه وكذلك الحكم إذا أريد باليد القوة والقدرة لأن القدرة أكثر ما يظهر سلطانها في اليد وبها يكون البطش والأخذ والدفع والمنع والجذب والضرب والقطع وغير ذلك من الأفاعيل التي تخبر فضل اخبار عن وجوه القدرة وتنبىء عن مكانها ولذلك تجدهم لا يريدون باليد شيئاً لا ملابسة بينه وبين هذه الجارحة بوجه
ولوجوب اعتبار هذه النكتة في وصف اللفظ بأنه مجاز لم يجز استعماله في الألفاظ التي يقع فيها اشتراك من غير سبب يكون بين المشتركين كبعض الأسماء المجموعة في الملاحن مثل أن الثور يكون اسماً للقطعة الكبيرة من الاقط والنهار اسم لفرخ الحبارى والليل لولد الكروان كما قال
( أكلت النهار بنصف النهار ** وليلا أكلت بليل بهيم )
____________________
(1/343)
وذلك أن اسم الثور لم يقع على الاقط لأمر بينه وبين الحيوان المعلوم ولا النهار على الفرخ لأمر بينه وبين ضوء الشمس أداه إليه وساقه نحوه
والغرض المقصود بهذه العبارة أعنى قولنا المجاز أن تبين أن للفظ أصلا مبدوءا به في الوضع ومقصوداً وإن جريه على الثاني إنما هو على سبيل النقل إلى الشيء من غيره وكما يعبق الشيء برائحة ما يجاوره وينصبغ بلون ما يدانيه ولذلك تراهم لا يطلقون المجاز في الأعلام اطلاقهم لفظ النقل فيها حيث قالوا العلم على ضربين منقول ومرتجل وإن المنقول منها يكون منقولا عن اسم جنس كأسد وثور وزيد وعمرو او صفة كعاصم وحارث أو فعل كيزيد ويشكر أو صوت كببه فاثبتوا لهذا كله النقل من غير العلمية إلى العلمية ولم يروا أن يصفوه بالمجاز فيقولوا مثلا إن يشكر حقيقة في مضارع شكر ومجاز في كونه اسم رجل وإن حجراً حقيقة في الجماد ومجاز في اسم الرجل وذلك أن الحجر لم يقع اسماً للرجل لالتباس كان بينه وبين الصخر على حسب ما كان بين اليد والنعمة وبينها وبين القدرة ولا كما كان بين الظهر الحامل وبين المحمول في نحو تسميتهم المزادة راوية وهى اسم للبعير الذي يحملها في الأصل وكتسميتهم البعير حفضاً وهو اسم لمتاع البيت الذي يحمل عليه ولا كنحو ما بين الجزء من الشخص وبين جملة الشخص كتسميتهم الرجل عيناً إذا كان ربيئة والناقة نابا ولا كما بين النبت والغيث وبين السماء والمطر حيث قالوا رعينا الغيث يريدون النبت الذي الغيث سبب في كونه وقالوا أصابنا السماء يريدون المطر وقال تلقه الأرواح والسمى وذلك ان في هذا كله تأولا
____________________
(1/344)
وهو الذي أفضى بالإسم إلى ما ليس بأصل فيه فالعين لما كانت المقصودة في كون الرجل ربيئة صارت كأنها الشخص كله إذ كان لولا هداها لا يغى شيئاً مع فقدها والغيث لما كان النبت يكون عنه صار كانه هو والمطر لما كان ينزل من السماء عبروا عنه باسمها
واعلم أن هذه الأسباب الكائنة بين المنقول والمنقول عنه تختلف في القوة والضعف والظهور وخلافه فهذه الأسماء التي ذكرتها إذا نظرت إلى المعاني التي وصلت بين ما هي له وبين ما ردت إليه وجدتها أقوى من نحو ما تراه في تسميتهم الشاة التي تذبح عن الصبي إذا حلقت عقيقته عقيقة وتجد حالها بعد أقوى من حال العقيرة في وقوعها للصوت في قولهم رفع عقيرته وذلك أنه شيء جرى اتفاقاً ولا معنى يصل بين الصوت وبين الرجل المعقورة على أن القياس يقتضي أن لا يسمى مجازاً ولكن يجرى مجرى الشيء يحكم فيه بعد وقوعه كالمثل إذا حكى فيه كلام صدر عن قائله من غير قصد إلى قياس وتشبيه بل الأخبار عن أمر من قصده بالخطاب كقولهم الصيف ضيعت اللبن
ولهذا الموضع تحقيق لا يتم إلا بان يوضع له فصل مفرد والمقصود الآن غير ذلك لأن قصدي في هذا الفصل ان أبين أن المجاز أعم من الاستعارة وان
____________________
(1/345)
الصحيح من القضية في ذلك أن كل استعارة مجاز وليس كل مجاز استعارة وذلك أنا نرى كلام العارفين بهذا الشأن اعنى علم الخطابة ونقد الشعر والذين وضعوا الكتب في أقسام البديع يجرى على ان الاستعارة نقل الاسم عن أصله إلى غيره للتشبيه على حد المبالغة
قال القاضي أبو الحسن في أثناء فصل ذكرها فيه وملاك الاستعارة تقريب الشبه ومناسبة المستعار للمستعار منه وهكذا تراهم يعدونها في أقسام البديع حيث يذكر التجنيس والتطبيق والتوشيح ورد العجز على الصدر وغير ذلك من غير ان يشترطوا شرطاً ويعقبوا ذكرها بتقييد فيقولوا ومن البديع الاستعارة التي من شأنها كذا فلولا أنها عندهم لنقل الاسم بشرط التشبيه على المبالغة إما قطعاً وإما قريبا من المقطوع عليه لما استجازوا ذكرها مطلقة غير مقيدة يبين ذلك أنها إن كانت تسارق
____________________
(1/346)
المحاز وتجرى مجراه حتى تصلح لكل ما تصلح له فذكرها في أقسام البديع يقتضي أن كل موصوف بأنه مجاز فهو بديع عندهم حتى يكون إجراء اليد على النعمة بديعاً وتسمية البعير حفضا والناقة نابا والربيئة عينا والشاة عقيقة بديعا كله وذلك بين الفساد
واما ما نجده في كتب اللغة من إدخال ما ليس طريق نقله التشبيه في الاستعارة كما صنع أبو بكر بن دريد في الجمهرة فإنه ابتدأ بابا فقال باب الاستعارات ثم ذكر فيه أن الوغى اختلاط الأصوات في الحرب ثم كثرت وصارت الحرب وغى وأنشد
( أضمامه من دونها الثلاثين ** لها وغى مثل وغى الثمانين )
يعنى اختلاط أصواتها وذكر قولهم رعينا الغيث والسماء يعنى المطر وذكر ما هو أبعد من ذلك فقال الخرس ما تطعمه النفساء ثم صارت
____________________
(1/347)
الدعوة للولادة خرسا والأعذار الختان وسمى الطعام للختان إعذاراً وأن الظعينه أصلها المرأة في الهودج ثم صار البعير والهودج ظعينه والخطر ضرب البعير بذنبه جانبي وركيه ثم صار ما لصق من البول بالوركين خطراً وذكر أيضا الراوية بمعنى المزادة والعقيقة وذكر فيما بين ذكره لهذه الكلم أشياء هي استعارة على الحقيقة على طريقة أهل الخطابة ونقد الشعر لأنه قال الظمأ العطش وشهوة الماء ثم كثر ذلك حتى قالوا ظمئت إلى لقائك وقال الوجور ما اوجره الإنسان من دواء او غيره ثم قالوا اوجره الرمح إذا ظعنه في فيه
فالوجه في هذا الذي رواه من إطلاق الاستعارة على ما هو تشبيه كما هو شرط أهل العلم بالشعر وعلى ما ليس من التشبيه في شيء ولكنه نقل اللفظ عن الشيء إلى الشيء بسبب اختصاص وضرب من الملابسة بينهما وخلط احدهما بالآخر أنهم كانوا نظروا إلى ما يتعارفه الناس في معنى العارية وأنها شيء حول عن مالكه ونقل عن مقره الذي هو أصل في استحقاقه إلى ما ليس بأصل ولم يراعوا عرف القوم ووزانهم في ذلك وزان من يترك عرف النحويين في التمييز واختصاصهم له بما احتمل أجناسا مختلفة كالمقادير والأعداد وما شاركها في ان الإبهام الذي يراد كشفه منه هو احتماله الأجناس فيسمى الحال مثلا تمييزاً من حيث أنك إذا قلت راكبا فقد ميزت المقصود وبينته كما فعلت ذلك في قولك عشرون
____________________
(1/348)
درهما ومنوان سمناً وقفيزان براً ولى مثله رجلا ولله دره رجلا وليس هذا المذهب بالمذهب المرضى بل الصواب ان تقصر الاستعارة على ما نقله نقل التشبيه للمبالغة لأن هذا نقل بطرد على حد واحد وله فوائد عظيمة ونتائج شريفة فالتطفل به على غيره في الذكر وتركه مغموراً فيما بين أشياء ليس لها في نقلها مثل نظامه ولا أمثال فوائده ضعف من الرأي وتقصير في النظر
وربما وقع في كلام العلماء بهذا الشأن الاستعارة على تلك الطريقة العامية إلا انه لا يكون عند ذكر القوانين وحيث تقرر الأصول ومثاله أن أبا القاسم الآمدى قال في أثناء فصل يبحث عن شيء اعترض به على البحتري في قوله
____________________
(1/349)
( فكأن مجلسه المحجب محفل ** وكأن خلوته الخفية مشهد )
إن المكان لا يسمى مجلساً إلا وفيه قوم ثم قال ألا ترى إلى قوم المهلهل واستب بعدك يا كليب المجلس على الاستعارة فاطلق لفظ الاستعارة على وقوع المجلس هنا بمعنى القوم الذين يجتمعون في الأمور وليس المجلس إذا وقع على القوم من طريق التشبيه بل على وجه وقوع الشيء على ما يتصل به وتكثر ملابسته إياه وأي شبه يكون بين القوم ومكانهم الذي يجتمعون فيه إلا أنه لا يعتد بمثل هذا فإن ذلك قد يتفق حيث ترسل العبارة
وقال الآمدى نفسه ثم قد يأتي في الشعر ثلاثة أنواع أخر يكتسي المعنى العام بها بهاء وحسناً حتى يخرج بعد عمومه إلى أن يصير مخصوصاً ثم قال وهذه الأنواع هي التي وقع عليها اسم البديع وهى الاستعارة والطباق والتجنيس فهذا نص في موضع القوانين على ان الاستعارة من أقسام البديع ولن يكون النقل بديعاً حتى يكون من أجل التشبيه على المبالغة كما بينت لك وإذا كان كذلك ثم جعل الاستعارة على الإطلاق بديعاً فقد أعلمك أنها اسم للضرب المخصوص من النقل دون كل نقل فاعرفه
واعلم أنا إذا أنعمنا النظر وجدنا المنقول من أصل التشبيه على المبالغة أحق بان يوصف بالاستعارة من طريق المعنى بيان ذلك أن ملك المعير لا يزول عن المستعار واستحقاقه إياه لا يرتفع فالعارية إنما كانت عارية لأن يد المستمير يد عليها ما دامت يد المعير باقية وملكه غير زائل فلا يتصور
____________________
(1/350)
أن يكون للمستعير تصرف لم يستفده من المالك الذي أعاره ولا أن تستقر يده مع زوال اليد المنقول عنها وهذه جملة لا تراها إلا في المنقول نقل التشبيه لأنك لا تستطيع أن تتصور جرى الاسم على الفرع من غير أن تخرجه إلى الأصل كيف ولا يعقل تشبيه حتى يكون ههنا مشبه ومشبه به هذا والتشبيه ساذج مرسل فكيف إذا كان على معنى المبالغة وعلى أن تجعل الثاني كأنه انقلب مثلا إلى جنس الأول فصار الرجل أسداً وبحراً وبدراً والعلم نوراً والجهل ظلمة لأنه إذا كان على هذا الوجه كانت حاجتك إلى أن تنظر به إلى الأصل أمس لأنه إذا لم يتصور أن يكون هنا سبع من شأنه الجراءة العظيمة والبطش الشديد كان تقديرك شيئاً آخر يتحول إلى صفته ويصير في حكمه من أبعد المحال
وأما ما كان منقولاً لا لأجل التشبيه كاليد في نقلها إلى النعمة فلا يوجد ذلك فيه لأنك لا تثبت للنعمة بإجراء اسم اليد عليها شيئاً من صفات الجارحة المعلومة ولا تروم تشبيهاً بها البتة لا مبالغاً ولا غير مبالغ فلو فرضنا أن تكون اليد اسما وضع للنعمة ابتداء ثم نقلت إلى الجارحة لم يكن ذلك مستحيلا وكذلك لو ادعى مدع أن جرى اليد على النعمة أصل ولغة على حدتها وليست مجازاً لم يكن مدعياً شيئاً يحيله العقل ولو حاول أن يقول في مسئلتنا قولا شبيهاً بهذا فرام تقدير شئ يجرى عليه اسم الأسد على المعنى الذي يريده بالاستعارة مع فقد السبع المعلوم ومن غير أن يثبت استحقاقه لهذا الاسم في وضع اللغة رام شيئاً في غاية البعد
وعبارة أخرى العارية من شانها أن تكون عند المستعير على صفة شبيهة بصفتها هي عند المالك ولسنا نجد هذه الصورة إلا فيما نقل نقل
____________________
(1/351)
التشبيه للمبالغة دون ما سواه ألا ترى أن الاسم المستعار يتناول المستعار له ليدل على مشاركته المستعار منه في صفة هي أخص الصفات التي من أجلها وضع الاسم الأول أعني أن الشجاعة أقوى المعاني التي من أجلها سمى الأسد أسداً وأنت تستعير الاسم للشيء على معنى إثباتها له على حدها في الأسد فأما اليد ونقلها إلى النعمة فليست من هذا في شيء لأنها لم تتناول النعمة لتدل على صفة من أوصاف اليد بحال ويحرر ذلك نكتة وهى أنك تريد بقولك رأيت أسداً أن تثبت للرجل الأسدية ولست تريد بقولك له عندي يد أن تثبت للنعمة اليدية وهذا واضح جداً
واعلم أن الواجب كان أن لا أعد وضع الشفة موضع الجحفلة والجحفلة في مكان المشفر ونظائره التي قدمت ذكرها في الاستعارة وأضن باسمها أن يقع عليه ولكنى رأيتهم قد خلطوه بالاستعارات وعدوه معدها فكرهت التشدد في الخلاف واعتددت به في الجملة ونبهت على ضعف أمره بأن سميته استعارة غير مفيدة وكان وزان ذلك أن يقال المفعول على ضربين مفعول صحيح ومشبه بالمفعول فيتجوز باعتداد المشبه بالمفعول في الجملة ثم يفصل بالوصف ووجه شبه هذا النحو الذي هو نقل الشفة إلى موضع الجحفلة بالاستعارة الحقيقية لأنك تنقل الاسم إلى مجانس له ألا ترى أن المراد بالشفة والجحفلة عضو واحد وإنما الفرق أن هذا من الفرس وذاك من الإنسان والمجانسة والمشابهة من واد واحد فأنت تقول أعير الشيء اسم الموضوع له هنالك أي في الإنسان ههنا أي في الفرس
____________________
(1/352)
لأن أحدهما مثل صاحبه وشريكه في جنسه كما أعرت الرجل اسم الأسد لأنه شاركه في صفته الخاصة به وهى الشجاعة البليغة وليس لليد مع النعمة هذا الشبه إذ لا مجانسة بين الجارحة وبين النعمة وكذا لا شبه ولا جنسية بين البعير ومتاع البيت وبين المزادة وبين البعير ولا بين العين وبين جملة الشخص فإطلاق اسم الاستعارة عليه بعيد ولو كان اللفظ يستحق الوصف بالاستعارة بمجرد النقل لجاز أن توصف الأسماء المنقولة من الأجناس إلى الأعلام بأنها مستعارة فيقال حجر مستعار في اسم الرجل ولزم لذلك في الفعل المنقول نحو يزيد ويشكر وفي الصوت نحو ببه في قوله
( لأنكحن ببه ** جارية خدبه )
( مكرمة محببه ** تحب أهل الكعبة )
وذلك ارتكاب قبيح وفرط تعصب على الصواب ويلوح ههنا شيء وهو أنا وإن جعلنا الاستعارة من صفة اللفظ فقلنا اسم مستعار وهذا اللفظ استعارة ههنا وحقيقة هناك فإنا على ذلك نشير بها إلى المعنى من حيث قصدنا باستعارة الاسم أن نثبت أخص معانيه للمستعار له يدلك على ذلك قولنا جعله أسداً وجعله بدراً وجعل للشمال يداً فلولا أن استعارة الاسم للشيء تتضمن استعارة معناه له لما كان لهذا الكلام معنى لأن جعل لا يصلح إلا حيث يراد إثبات صفة للشيء كقولنا جعلته أميراً وجعلته لصاً تريد أنه أثبت له الإمارة واللصوصية وحكم جعل إذا تعدى إلى مفعولين حكم صير فكما لا تقول صيرته أميراً إلا على معنى انك أثبت له صفة الإمارة
____________________
(1/353)
كذلك لم يقل جعلته أسداً إلا على انه أثبت له معنى من معاني الأسود ولا يقال جعلته زيداً بمعنى سميته زيداً ولا يقال للرجل اجعل ابنك زيداً بمعنى سمه زيداً ولا يقال لفلان ابن فجعله زيداً أي سماه زيداً وإنما يدخل الغلط في ذلك على من لا يحصل هذا الشأن
فأما قوله تعالى ( ^ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ) فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتها وذلك انهم اثبتوا للملائكة صفة الإناث واعتقدوا وجودها فيهم وهذا الاعتقاد صدر عنهم لتمثلها في أذهانهم بصور الإناث وما صدر من الاسم أعنى إطلاق اسم البنات وليس المعنى انهم وضعوا لها لفظ الإناث أو لفظ البنات اسما من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة هذا محال لا يقوله عاقل أو ما يسمعون قول الله عز وجل ( ^ أشهدوا خلقهم ? ستكتب شهادتهم ويسئلون ) فإن كانوا لم يزيدوا على إجراء الاسم على الملائكة ولم يعتقدوا إثبات صفة ومعنى فأي معنى لأن يقال ( ^ أشهدوا خلقهم ) وهذا ولو كانوا لم يقصدوا إثبات صفة ولم يفعلوا اكثر من أن وضعوا اسما لما استحقوا إلا اليسير من الذم ولما كان هذا القول كفراً منهم والأمر في ذلك أظهر من أن يخفى ولكن قد يكون للشيء المستحيل وجوه في الاستحالة فتذكر كلها وإن كان في الواحد منها ما يزيل الشبهة ويتم الحجة
____________________
(1/354)
فصل في تقسيم المجاز إلى اللغوي والعقلي واللغوي إلى الاستعارة وغيرها
واعلم أن المجاز على ضربين مجاز من طريق اللغة ومجاز من طريق المعنى والمعقول فإذا وصفنا بالمجاز الكلمة المفردة كقولنا اليد مجاز في النعمة والأسد مجاز في الإنسان وكل ما ليس بالسبع المعروف كان حكما أجريناه على ما جرى عليه من طريق اللغة لأنا أردنا أن المتكلم قد جاز باللفظة أصلها الذي وقعت له ابتداء في اللغة وأوقعها على غير ذلك إما تشبيهاً وإما لصلة وملابسة بين ما نقلها إليه وما نقلها عنه
ومتى وصفنا بالمجاز الجملة من الكلام كان مجازاً من طريق المعقول دون اللغة وذلك أن الأوصاف اللاحقة للجمل من حيث هي جمل لا يصح ردها إلى اللغة ولا وجه لنسبتها إلى واضعها لأن التأليف هو إسناد فعل إلى اسم أو اسم إلى اسم وذلك شئ يحصل بقصد المتكلم فلا يصير ضرب خبراً عن زيد بوضع اللغة بل بمن قصد إثبات الضرب فعلا له
وهكذا ليضرب زيد لا يكون أمراً لزيد باللغة ولا اضرب أمراً للرجل الذي تخاطبه وتقبل عليه من بين كل من يصح خطابه باللغة بل بك أيها المتكلم فالذي يعود إلى واضع اللغة أن ضرب لإثبات الضرب وليس لإثبات الخروج وانه لإثباته في زمان ماض وليس لإثباته في زمان مستقبل فأما تعين من يثبت له فيتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين والمعبرين عن ودائع الصدور والكاشفين عن المقاصد والدعاوى صادقة كانت تلك الدعاوى
____________________
(1/355)
أو كاذبة ومجراة على صحتها أو مزالة عن مكانها من الحقيقة وجهتها ومطلقة بحسب ما تأذن فيه العقول وترسمه أو معدولا بها عن مراسمها نظما لها في سلك التخييل وسلوكا بها في مذهب التأويل
فإذا قلنا مثلا خط أحسن مما وشاة الربيع أو صنعه الربيع كنا قد ادعينا في ظاهر اللفظ أن للربيع فعلا أو صنعاً وانه شارك الحي القادر في صحة الفعل منه وذلك تجوز به من حيث المعقول لا من حيث اللغة لأنه إن قلنا إنه مجاز من حيث اللغة صرنا كأنا نقول إن اللغة هي التي أوجبت أن يختص الفعل بالحي القادر دون الجماد وإنها لو حكمت بان الجماد يصح منه الفعل والصنع والوشى والتزيين والصبغ والتحسين لكان ما هو مجاز الآن حقيقة ولعاد ما هو الآن يتأول معدوداً فيما هو حق محصل وذلك محال وإنما يتصور مثل هذا القول في الكلم المفردة نحو اليد للنعمة وذاك أنه يصح أن يقال لو كان واضح اللغة وضع اليد أولا للنعمة ثم عداها إلى الجارحة لكان حقيقة فيما هو الآن مجاز ومجازاً فيما هو حقيقة فلم يكن بواجب من حيث المعقول أن يكون لفظ اليد اسما للجارحة دون النعمة ولا في العقل أن شيئاً بلفظ أن يكون دليلا عليه أولى منه بلفظ لا سيما في الأسماء الأول التي ليست بمشتقة وإنما وزان ذلك وزان أشكال الخط التي جعلت أمارات لأجراس الحروف المسموعة في أنه لا يتصور أن يكون العقل اقتضى اختصاص كل شكل منها بما اختص به دون أن يكون ذلك لاصطلاح وقع وتواضع اتفق ولو كان كذلك لم تختلف المواضعات في الألفاظ والخطوط ولكانت اللغات واحدة كما وجب في عقل كل عاقل يحصل ما يقول أن لا يثبت الفعل على الحقيقة إلا للحى القادر
فإن قلت فإن اللغة رسمت أن يكون فعل لإثبات الفعل للشيء
____________________
(1/356)
كما زعمت ولكنا إذا قلنا فعل الربيع الوشى أو وشى الربيع فإننا نريد بذلك معنى معقولا وهو أن الربيع سبب في كون الأنوار التي تشبه الوشى فقد نقلنا الفعل عن حكم معقول وضع له إلى حكم آخر معقول شبيه بذلك الحكم فصار ذلك كنقل الأسد عن السبع إلى الرجل الشبيه به في الشجاعة أفتقول الأسد على الرجل مجاز من حيث المعقول لا من حيث اللغة كما قلت في صيغة فعل إذا أسندت إلى مالا يصح أن يكون له فعل إنها مجاز من جهة العقل لا من جهة اللغة فالجواب أن بينهما فرقاً وإن ظننتهما متساويين وذلك أن فعل موضوع لإثبات الفعل للشيء على الإطلاق والحكم في بيان من يستحق هذا الإثبات وتعيينه إلى العقل وأما الأسد فموضوع للسبع قطعاً واللغة هى التي عينت المستحق بها وبرسمها وحكمها ثبت هذا الاستحقاق والاختصاص ولولا نصها لم يتصور أن يكون هذا السبع بهذا الاسم أولى من غيره فأما استحقاق الحي القادر أن يثبت الفعل له واختصاصه بهذا الإثبات دون كل شيء سواه فبفرض العقل ونصه لا باللغة فقد نقلت الأسد عن شيء هو أصل فيه باللغة لا بالعقل وأما فعل فلم تنقله عن الموضع الذي وضعته اللغة فيه لأنه كما مضى موضوع لإثبات الفعل للشيء في زمان ماض وهو في قولك فعل الربيع باق على هذه الحقيقة غير زائل عنها ولن يستحق اللفظ الوصف بأنه مجاز حتى يجرى على شيء لم يوضع له في الأصل وإثبات الفعل لغير مستحقه ولما ليس بفاعل على الحقيقة لا يخرج فعل عن أصله ولا يجعله جارياً على شيء لم يوضع له لأن الذي وضع له فعل هو إثبات الفعل للشيء فقط فأما وصف
____________________
(1/357)
ذلك الشيء الذي يقع هذا الإثبات له فخارج عن دلالته وغير داخل في الموضع اللغوي بل لا يجوز دخوله فيه لما قدمت من استحالة أن يقال إن اللغة هي التي أوجبت أن يختص الفعل بالحي القادر دون الجماد وما في ذلك من الفساد العظيم فأعرفه فرقاً واضحاً وبرهاناً قاطعاً
وههنا نكتة جامعة وهي أن المجاز في مقابلة الحقيقة فما كان طريقاً في أحدهما من لغة أو عقل فهو طريق في الآخر ولست تشك في أن طريق كون الأسد حقيقة في السبع اللغة دون العقل وإذا كانت اللغة طريقاً للحقيقة فيه وجب أن تكون هي أيضاً الطريق في كونه مجازاً في المشبه بالسبع إذا أنت أجريت اسم الأسد عليه فقلت رأيت أسداً تريد رجلاً لا تميزه عن الأسد في بسالته وإقدامه وبطشه وكذلك إذا علمت أن طريق الحقيقة في إثبات الفعل للشيء هو العقل فينبغي أن تعلم أنه أيضاً الطريق إلى المجاز فيه فكما أن العقل هو الذي دلك حين قلت فعل الحي القادر انك لم تتجوز وأنك واضع قدمك على محض الحقيقة كذلك ينبغي أن يكون هو الدال والمقتضي إذا قلت فعل الربيع أنك قد تجوزت وزلت عن الحقيقة فاعرفه
فإن قال قائل كان سياق هذا الكلام وتقريره يقتضي أن طريق المجاز كله العقل وأن لا حظ للغة فيه وذاك أنا لا يجري اسم الأسد على المشبه بالأسد حتى ندعي له الأسدية وحتى نوهم أنه حين أعطاك من البسالة والبأس والبطش ما تجده عند الأسد صار كأنه واحد من الأسود قد استبدل بصورته صورة الإنسان وقد قدمت أنت فيما مضى ما بين انك لا تتجوز في إجراء اسم المشبه به على المشبه حتى تخيل إلى نفسك أنه هو بعينه
____________________
(1/358)
فإذا كان الأمر كذلك فأنت في قولك رأيت أسداً متجوز من طريق المعقول كما أنك كذلك في فعل الربيع وإذا كان كذلك عاد الحديث إلى أن المجاز فيهما جميعاً عقلي فكيف قسمته قسمين لغوي وعقلي
فالجواب أن هذا الذي زعمت من أنك لا تجري اسم المشبه به على المشبه حتى تدعي أنه قد صار من ذلك الجنس نحو أن نجعل الرجل كأنه في حقيقة الأسد صحيح كما زعمت لا يدفعه أحد وكيف السبيل إلى دفعه وعليه المعول في كون التشبيه على حد المبالغة وهو الفرق بين الإستعارة وبين التشبيه المرسل إلا أن ههنا نكتة أخرى قد أغفلتها وهي أن تجوزك هذا الذي طريقه العقل يفضي بك إلى أن تجري الأسم على شئ لم يوضع له في اللغة على كل حال فتجوز بالأسم على الجملة الشيء الذي وضع له فمن ههنا جعلنا اللغة طريقاً فيه
فإن قلت لا أسلم أنه جرى على شئ لم يوضع له في اللغة لأنك إذا قلت لا تجربه على الرجل حتى تدعي له أنه في معنى الأسد لم تكن قد أجريته على ما لم يوضع له وإنما كان يكون جارياً على غير ما وضع له أن لو أجريته على شئ لتفيد به معنى غير الأسدية وذلك ما لا يعقل لأنك لا تفيد بالأسد في التشبيه أنه رجل مثلاً أو عاقل أو على وصف لم يوضع هذا الإسم للدلالة عليه البتة قيل لك قصارى حديثك هذا أنا أجرينا اسم الأسد على الرجل المشبه بالأسد على طريق التأويل والتخيل أفليس على كل حال قد أجريناه على ما ليس بأسد على الحقيقة وألسنا قد
____________________
(1/359)
جعلنا له مذهباً لم يكن له في أصل الوضع وهنا قد إدعينا للرجل الأسدية حتى استحق بذلك أن نجري عليه اسم الأسد أترانا نتجاوز في هذه الدعوى حديث الشجاعة حتى يدعي الرجل صورة الأسد وهيئته وعبالة عنقه ومخالبه وسائر أوصافه الظاهرة البادية للعيون ولئن كانت الشجاعة من أخص أوصاف الأسد وأمكنها فإن اللغة لم تضع الإسم لها وحدها بل لها في مثل تلك الجثة وهاتيك الصورة والهيبة وتلك الأنياب والمخالب إلى سائر ما يعلم من الصورة الخاصة في جوارحه كلها ولو كانت وضعته لتلك الشجاعة التي تعرفها وحدها لكان صفة لا اسما ولكان كل شئ يفضي في شجاعته إلى ذلك الحد مستحقاً للإسم استحقاقاً حقيقياً لا على طريق التشبيه والتأويل
وإذا كان كذلك فأنا وإن كنا لم ندل به على معنى لم يتضمنه اسم الأسد في أصل وضعه فقد سلبناه بعض ما وضع له وجعلناه للمعاني التي هي باطنة في الأسد وغريزة وطبع به وخلق مجردة عن المعاني الظاهرة التي هي جئة وهيئة وخلق وفي ذلك كفاية في إزالته عن أصل وضع له في اللغة ونقله عن حد جرية فيه إلى حد آخر مخالف له وليس في فعل إذا تجوز فيه شئ من ذلك لأنا لم نسلبه لا بالتأويل ولا غير التأويل شيئاً وضعته اللغة لأنه كما ذكرت غير مرة لإثبات الفعل للشيء من غير أن يتعرض لذلك الشيء ما هو وأهو مستحق لأن يثبت له الفعل أو غير مستحق وإذا كان كذلك كان الذي أرادت اللغة به موجوداً فيه ثابتاً له في قولك فعل الربيع ثبوته إذا قلت فعل الحي القادر لم تتغير له صورة ولم ينقص منه شئ ولم يزل عن حد إلى حد فأعرفه
فإن قلت قد علمنا أن طريق المجاز ينقسم إلى ما ذكرت من اللغة
____________________
(1/360)
والمعقول وإن فعل في نحو فعل الربيع مما طريقة المعقول وأن نحو الأسد إذا قصد به التشبيه واستعير لغير السبع طريق مجازه اللغة وبقي أن تعلم لم خصصت المجاز إذا كان طريقة العقل بأن توصف به الجملة من الكلام دون الكلمة الواحدة وهلا جوزت أن يكون فعل على الانفراد موصوفا به فإن سبب ذلك أن المعنى الذي له وضع فعل لا يتصور الحكم عليه بمجاز أو حقيقة حتى يسند إلى الاسم وهكذا كل مثال من أمثلة الفعل لأنه موضوع لإثبات الفعل للشيء فما لم يبين ذلك الشيء الذي نثبته له ونذكره لم يعقل أن الإثبات واقع موقعه الذي نجده مرسوماً به في صحف العقول أم قد زال عنه وجازه إلى غيره هذا وقولك هلا جوزت أن يكون فعل على الانفراد موصوفاً به ومحال بعد أن نثبت أن لا مجاز في دلالة اللفظ وإنما المجاز في أمر خارج عنه
فإن قلت أردت هلا جوزت أن تنسب المجاز إلى معناه وحده وهو إثبات الفعل فيقال هو إثبات فعل على سبيل المجاز فإن ذلك لا يتأتى أيضاً إلا بعد ذكر الفاعل لأن المجاز أو الحقيقة إنما يظهر ويتصور من المثبت والمثبت له والإثبات وإثبات الفعل من غير أن يقيد بما وقع الإثبات له لا يصح الحكم عليه بمجاز أو حقيقة فلا يمكنك أن تقول إثبات الفعل مجاز أو حقيقة هكذا مرسلا وإنما تقول إثبات الفعل للربيع مجاز وإثباته للحي القادر حقيقة
وإذا كان الأمر كذلك علمت أن لا سبيل إلى الحكم بأن ههنا مجازاً وحقيقة من طريق العقل إلا في جملة من الكلام وكيف يتصور خلاف ذلك ووزان الحقيقة والمجاز العقليين وزان الصدق والكذب فكما يستحيل
____________________
(1/361)
وصف الكلم المفردة بالصدق والكذب وأن يجري ذلك في معانيها مفرقة غير مؤلفة فيقال رجل على الانفراد كذب أو صدق كذلك يستحيل أن يكون ههنا حكم بالمجاز أو الحقيقة وأنت تنحو نحو العقل إلا في الجملة المفيدة فاعرفه أصلا كبيراً والله الموفق للصواب والمسئول أن يعصم من الزلل بمنه وفضله فصل في الحذف والزيادة وهل هما من المجاز أم لا
واعلم أن الكلمة كما توصف بالمجاز لنقلك لها عن معناها كما مضى فقد توصف به لنقلها عن حكم كان لها إلى حكم ليس هو بحقيقة فيها ومثال ذلك أن المضاف إليه يكتسي إعراب المضاف في نحو ( ^ واسأل القرية ) والأصل واسأل أهل القرية فالحكم الذي يجب للقرية في الأصل وعلى الحقيقة هو الجر والنصب فيها مجاز وهكذا قولهم بنو فلان تطؤهم الطريق يريدون أهل الطريق الرفع في الطريق مجاز لأنه منقول إليه عن المضاف المحذوف الذي هو الأهل والذي يستحقه في أصله هو الجر
ولا ينبغي أن يقال إن وجه المجاز في هذا الحذف فإن الحذف إذا تجرد عن تغيير حكم من أحكام ما بقي بعد الحذف لم يسم مجازاً ألا ترى أنك تقول زيد منطلق وعمرو فتحذف الخبر ثم لا توصف جملة الكلام من أجل ذلك بأنه مجاز وذلك لأنه لم يؤد إلى تغيير حكم فيما بقي من الكلام ويزيده تقريراً أن المجاز إذا كان معناه أن تجوز بالشيء موضعه وأصله فالحذف بمجرده لا يستحق الوصف به لان ترك الذكر وإسقاط
____________________
(1/362)
الكلمة من الكلام لا يكون نقلا لها عن أصلها إنما يتصور النقل فيما دخل تحت النطق
وإذا امتنع أن يوصف المحذوف بالمجاز نقي القول فيما لم يحذف وما لم يحذف ودخل تحت الذكر لا يزول عن أصله ومكانه حتى يغير حكم من أحكامه أو يغير عن معانيه فأما وهو على حاله والمحذوف مذكور فتوهم ذلك فيه من أبعد المحال فاعرفه 0
وإذا صح امتناع أن يكون مجرد الحذف مجازاً أو تحق صفة باقي الكلام بالمجاز من أجل حذف كان على الإطلاق دون أن يحدث هناك بسبب ذلك الحذف تغير حكم على وجه من الوجوه علمت منه أن الزيادة في هذه القضية كالحذف فلا يجوز أن يقال إن زيادة ما في نحو فيما رحمة مجاز أو أن جملة الكلام تصير مجازاً من أجل زيادته فيه وذلك أن حقيقة الزيادة في الكلمة أن تعرى من معناها وتذكر ولا فائدة لها سوى الصلة ويكون سقوطها وثبوتها سواء ومحال أن يكون ذلك مجازاً لأن المجاز أن يراد بالكلمة غير ما ضعت له في الأصل أو يزاد فهيا أو يوهم شئ ليس من شأنها كإيهامك بظاهر النصب في القرية أن السؤال واقع عليها والزائد الذي سقوطه كثبوته لا يتصور فيه ذلك
فأما غير الزائد من أجزاء الكلام الذي زيد فيه فيجب أن ينظر فيه فإن حدث هناك بسبب ذلك الزائد حكم تزول به الكلمة عن أصلها جاز حينئذ أن يوصف ذلك الحكم أو ما وقع فيه بأنه مجاز كقولك في نحو قوله تعالى ليس كمثله شئ إن الجر في المثل مجاز لأن أصله النصب
____________________
(1/363)
والجر حكم عرض من أجل زيادة الكاف ولو كانوا إذ جعلوا الكاف مزيدة لم يعملوها لما كان لحديث المجاز سبيل على هذا الكلام ويزيده وضوحا أن الزيادة على الإطلاق لو كانت تستحق الوصف بأنها مجاز ينبغي أن يكون كل ما ليس بمزيد من الكلم مستحقاً الوصف بأنه حقيقة حتى يكون الأسد في قولك رأيت أسداً وأنت تريد رجلاً حقيقة فإن قلت المجاز على أقسام والزيادة من أحدها قيل هذا لك إذا حددت المجاز بحد تدخل الزيادة فيه ولا سبيل لك إلى ذلك لأن قولنا المجاز يفيد أن تجوز بالكلمة موضعها في أصل الوضع وتنقلها عن دلالة إلى دلالة أو ما قارب ذلك
وعلى الجملة فإنه لا يعقل من المجاز أن تسلب الكلمة دلالتها ثم لا تعطيها دلالة أخرى وأن تخليها من أن يراد بها شئ على وجه من الوجوه ووصف اللفظ بالزيادة يفيد أن لا يراد بها معنى وأن يجعل كأن لم يكن لها دلالة قط
فأن قلت أو ليس يقال إن الكلمة لا تعرى من فائدة ما ولا تصير لغواً على الإطلاق حتى قالوا إن نحو ما في نحو فيما رحمة من الله تفيد التوكيد فأنا أقول إن كون ما تأكيدا نقل لها عن أصلها ومجاز فيها وكذلك أقول إن كون الباء المزيدة في ليس زيد بخارج لتأكيد النفي مجاز في الكلمة لأن أصلها أن تكون للإلصاق فإن ذلك على بعده لا يقدح فيما أردت تصحيحه لأنه لا يتصور أن تصف الكلمة من حيث جعلت زائدة بأنها مجاز ومتى ادعينا لها شنئا من المعنى فأننا نجعلها من تلك الجهة غير مزيدة ولذلك يقول الشيخ أبو علي في الكلمة إذا كانت تزول عن أصلها من وجه ولا تزول من آخر معتد بها من
____________________
(1/364)
وجه غير معتد بها من وجه كما قال في اللام من قولهم لا أبا لزيد جعلها من حيث منعت أن يتعرف الأب بزيد معتداً بها ومن حيث عارضها لام الفعل من الأب التي لا تعود إلا في الإضافة نحو أبو زيد وأبا زيد غير معتد بها وفي حكم المقحمة الزائدة وكذلك توصف لا في قولنا مررت برجل لا طويل ولا قصير بأنها مزيدة ولكن على هذا الحد فيقال هي مزيدة غير معتد بها من حيث الإعراب ومعتد بها من حيث أوجبت نفى الطول والقصر عن الرجل ولولاها لكانا ثابتين له وتطلق الزيادة على لا في نحو قوله تعالى ( لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون ^ ) لأنها لا تفيد النفي فيما دخلت عليه ولا يستقيم المعنى إلا على إسقاطها ثم إن قلنا إن لا هذه المزيدة تفيد تأكيد النفي الذي يجيء من بعد في قوله ( أن لا يقدرون ^ ) وتؤذن به فإنا نجعلها من حيث أفادت هذا التأكيد غير مزيدة وإنما نجعلها مزيدة من حيث لم تفد النفي الصريح فيما دخلت عليه كما أفادته في المسألة
وإذا ثبت أن وصف الكلمة بالزيادة نقيض وصفها بالإفادة علمت إن الزيادة من حيث هي زيادة لا توجب الوصف بالمجاز فإن قلت تكون سبباً لنقل الكلمة عن معنى هو أصل فيها إلى معنى ليس بأصل كدت تقول قولاً يجوز الإصغاء إليه وذلك إن صح نظير ما قدمت من أن الحذف
____________________
(1/365)
أو الزيادة قد تكون سبباً لحدوث حكم في الكلمة تدخل من أجله في المجاز كنصب القرية الآية في وجر المثل في الأخرى فاعرفه
واعلم أن من أصول هذا الباب أن من حق المحذوف أو المزيد أن ينسب إلى جملة الكلام لا إلى الكلمة المجاورة له فأنت تقول إذا سئلت عن القرية في الكلام حذف والأصل أهل القرية ثم حذف الأهل يعنى حذف من بين الكلام وكذلك تقول الكاف زائدة في الكلام والأصل ليس مثله شىء ولا تقل هي زائدة في مثل إذ لو جاز ذلك لجاز أن يقال إن ما في فبما رحمة مزيدة في الرحمة أو في الباء وإن لا مزيدة في يعلم وذلك بين الفساد لأن هذه العبارة إنما تصلح حيث يراد أن حرفا زيد في صيغة اسم أو فعل على أن لا يكون لذلك الحرف على الانفراد معنى ولا تعده وحده كلمة كقولك زيدت الياء للتصغير في قولك رجيل والتاء للتأنيث في ضاربة ولو جاز غير ذلك لجاز أن يكون خبر المبتدأ إذا حذف في نحو زيد منطلق وعمرو محذوفا من المبتدأ نفسه على حد حذف اللام من يد ودم وذلك ما لا يقوله عاقل فنحن إذا قلنا إن الكاف مزيدة في مثل فإنما نعنى أنها لما زيدت في الجملة وضعت في هذا الموضع منها والأصح في العبارة أن يقال الكاف في مثل مزيدة يعنى الكاف الكائنة في مثل مزيدة كما تقول الكاف التي تراها في مثل مزيدة ولذلك تقول حذف المضاف من الكلام ولا تقول حذف المضاف من المضاف إليه وهذا أوضح من أن يخفى ولكنى استقصيته لأني رأيت في بعض العبارات المستعملة في المجاز والحقيقة ما يوهم ذلك فاعرفه ومما يجب ضبطه هنا أيضا أن الكلام إذا امتنع حمله على ظاهره حتى
____________________
(1/366)
يدعو إلى تقدير حذف أو إسقاط مذكور كان على وجهين أحدهما أن يكون امتناع تركه على ظاهره لأمر يرجع إلى غرض المتكلم ومثله الآيتان المتقدم تلاوتهما ألا ترى أنك لو رأيت سل القرية في غير التنزيل لم تقطع بأن ههنا محذوفاً لجواز أن يكون كلام رجل مر بقرية قد خربت وباد أهلها فاراد أن يقول لصاحبه واعظاً ومذكراً أو لنفسه متعظاً معتبراً سل القرية عن أهلها وقل لها ما صنعوا على حد قولهم سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك فإنها إن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً وكذلك إن سمعت الرجل يقول ليس كمثل زيد أحد لم تقطع بزيادة الكاف وجوزت أن يريد ليس كالرجل المعروف بمماثلة زيد أحد
والوجه الثاني أن يكون امتناع ترك الكلام على ظاهره ولزوم الحكم بحذف أو بزيادة من اجل الكلام نفسه لا من حيث غرض المتكلم به وذلك مثل أن يكون المحذوف أحد جزئي الجملة كالمبتدأ في نحو قوله تعالى فصبر جميل وقوله متاع قليل لا بد من تقدير محذوف ولا سبيل إلى أن يكون له معنى دونه سواء كان في التنزيل أو في غيره فإذا نظرت إلى صبر جميل في قول الشاعر
( يشكو إلى جملي طول السرى ** صبر جميل فكلانا مبتلى ) وجدته يقتضى تقدير محذوف كما اقتضاه في التنزيل وذلك أن الداعي إلى تقدير المحذوف ههنا هو أن الاسم الواحد لا يفيد والصفة والموصوف حكمهما حكم الاسم الواحد وجميل صفة للصبر وتقول للرجل من هذا فيقول زيد يريد هو زيد فتجد هذا الإضمار واجباً لأن الاسم الواحد
____________________
(1/367)
لا يفيد وكيف يتصور أن يفيد الاسم الواحد ومدار الفائدة على إثبات أو نفي وكلاهما يقتضي شيئين مثبت ومثبت له ومنفى ومنفى عنه وأما وجوب الحكم بالزيادة لهذه الجهة فكنحو قولهم بحسبك أن تفعل وكفى بالله إن لم تقض بزيادة الباء لم تجد للكلام وجهاً تصرفه إليه وتأويلا تتأوله عليه البتة فلا بد لك من أن تقول إن الأصل حسبك أن تفعل وكفى الله وذلك أن الباء إذا كانت غير مزيدة كانت لتعديه الفعل إلى الاسم وليس في بحسبك أن تفعل تعديه بالباء إلى حسبك ومن أين أن يتصور أن يتعدى إلى المبتدأ فعل والمبتدأ هو المعرى من العوامل اللفظية وهكذا الأمر في كفى أو أقوى وذلك أن الاسم الداخل عليه الباء في نحو كفى بزيد فاعل كفى ومحال أن تعدى الفعل إلى الفاعل بالباء أو غير الباء ففي الفعل من الاقتضاء للفاعل ما لا حاجة معه إلى متوسط وموصل ومعد فاعرفه والله أعلم بالصواب ( تم الكتاب والحمد لله )ُُُُ
____________________
(1/368)